تحقیق الاصول

اشارة

سرشناسه:حسینی میلانی، سیدعلی، 1326 -

عنوان و نام پدیدآور:تحقیق الاصول علی ضوء ابحاث شیخناالفقیه المحقق والاصولی المدقق آیةالله العظمی الوحیدالخراسانی/ تالیف علی الحسینی المیلانی.

مشخصات نشر:قم: مرکزالحقائق الاسلامیه، 1432 ق.= 1390 -

مشخصات ظاهری:ج.

شابک:دوره 978-964-2501-52-6 : ؛ ج.1 978-964-2501-93-9 : ؛ ج.2 978-964-2501-94-6 : ؛ ج.3 978-964-2501-39-7 : ؛ ج. 4 978-964-2501-54-0 : ؛ 70000 ریال : ج.5 978-964-2501-55-7 : ؛ 130000 ریال: ج.6 978-600-5348-78-1 : ؛ ج.7: 978-600-5348-91-0 ؛ ج.8 978-600-8518-02-0 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج. 2- 4 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) .

یادداشت:ج.5 (چاپ اول: 1431ق.= 1389).

یادداشت:ج.6 (چاپ اول: 1435ق. = 1393).

یادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1436ق. = 1393).

یادداشت:ج.8 (چاپ اول: 1437ق. = 1395) (فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:وحیدخراسانی، حسین، 1299 -

شناسه افزوده:مرکز الحقائق الاسلامیه

رده بندی کنگره:BP159/8/ح56ت3 1390

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:1093921

ص :1

المجلد 1

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

کلمة المؤلّف

الحمد للّٰه ربّ العالمین و الصلاة و السلام علیٰ محمّد و آله الطاهرین ، و لعنة اللّٰه علی أعدائهم أجمعین من الأولین و الآخرین .. و بعد

فقد کان من منن اللّٰه علیَّ أنْ حبّب إلیّ العلم و رغّبنی فیه و جعلنی من طلّابه ، و یسّر لی سبل تحصیله و طرق الوصول إلیه و هیّأ لی المهم من أسبابه ، فلمّا صرفت فیه عمری و أعطیته کلّی أنالنی بعضه و لم یخیّب سعیی .

و کان لی فی کلّ مرحلةٍ دراسیة أساتذة محقّقون أعلام ، حضرت علیهم بحوثهم و عطف اللّٰه علیَّ قلوبهم ، فاعتنوا بی أشدّ عنایة و اهتمّوا بشأنی أبلغ اهتمام ، حتی بلغت المرحلة النهائیة التی استفدت فیها من أفذاذ الاُمّة و کبار الأئمّة ، فکان أوّلهم سیدنا الجد الأعظم آیة اللّٰه العظمیٰ السید محمّد هادی المیلانی قدّس سرّه ، فی مدینة مشهد المقدّسة ، ثم نزلت قم حیث الحوزة العلمیّة الکبریٰ ، فأخذت من أشهر أعیان علمائها فی الفقه و الاصول ، و لازمت غیر واحدٍ منهم ، و دوّنت ما تلقّیته من وافر علومهم ، و أخصّ بالذکر سیّدنا الاستاذ آیة اللّٰه العظمیٰ السید محمد رضا الگلپایگانی قدّس سرّه ، إذ لازمته فی

ص:5

دروسه الفقهیّة ، و طبعت عدّة مجلّدات ممّا حرّرته منها بأمرٍ منه . و شیخنا الاستاذ آیة اللّٰه العظمیٰ الوحید الخراسانی دام ظلّه ، الذی لازمته فی الفقه و الاصول ، و حرّرت إفاداته کلّها .

لقد حضرت علیٰ شیخنا فی علم الاصول دورةً کاملةً ، و تقرّر إعدادها للنشر لکثرة الطلب لها من الأفاضل ، بعد قراءتها علیه ، لیبدی ملاحظاته حولها و لیضیف إلیها من المطالب ما لم یتّسع الوقت لإلقائه فی مجلس الدرس ، إلّا أنّه قد توقّف العمل ، لقلّة الفرص ، بسبب قیامه بأعباء المرجعیّة ، و لتبدّل جملةٍ من آرائه فی الدورة اللاحقة التی لم اوفّق لحضورها لکثرة الأشغال .

و لمّا راجعنی بعض الفضلاء یطلبون منّی الدرس ، و أذن شیخنا بذلک ، جعلتُ موضوع البحث و عنوانه بیان ما قرّرته من إفاداته فی الدورة السابقة ، و ما حرّرته من أشرطة بحثه فی الدورة اللاحقة ، مضیفاً إلی ذلک فوائد من سیّدنا الاستاذ آیة اللّٰه العظمیٰ السید محمد الروحانی قدّس سرّه من کتاب منتقی الاصول ، و فوائد اخریٰ من غیره .

و جاء هذا الکتاب حاویاً لأهمّ ما طرحته فی الدرس ، و کان ما ذکرته هو السبب فی تسمیته ب ( تحقیق الاصول علی ضوء بحوث شیخنا الاستاذ ... ) و قد عزمت علی نشره بعد الاستخارة عند بیت اللّٰه الحرام فی الحج عام 1422 ه .

فإنْ کان فیه نقص أو سهو فهو منّی .

و اللّٰه أسأل أن ینفع به أهل الفضل ، و أن یحفظنا من الخطأ و الزلل ، إنه سمیع مجیب .

علی الحسینی المیلانی

ص:6

تمهیدات

اشارة

ص:7

اعتاد الأساتذة الأعلام کصاحب ( الکفایة ) قدّس سرّه و جماعة ، علی الابتداء بالبحث عن أمور ، کموضوع علم الاُصول ، و المائز بینه و بین غیره من العلوم ، و ضابط المسألة الاُصولیّة ، و غیر ذلک ، و تعرّضوا بهذه المناسبة لموضوع کلّ علم ، و المائز بین العلوم علی وجه الإطلاق ، و قضایا أخریٰ .

فمنهم من أطنب فی البحث عن تلک الاُمور ، و منهم من اقتصر علی قدر الحاجة ، و منهم من أعرض عن الدخول فی ذلک لعدم الفائدة العملیّة .

لکنّا رأینا من الأفضل التعرّض لها بقدر الحاجة ، لئلّا یخلو بحثنا عن تلک الفوائد العلمیّة ... فنقول و باللّٰه التوفیق :

ص:8

موضوع العلم

اشارة

قال فی ( الکفایة ) :

« موضوع کلّ علم - و هو الذی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ، أی بلا واسطة فی العروض - هو نفس موضوعات مسائله عیناً و ما یتّحد معها خارجاً ، و إنْ کان یغایرها مفهوماً ، تغایر الکلّی و مصادیقه و الطبیعی و أفراده » .

فهنا مطالب :

الأوّل : هل لکلّ علم موضوع ؟
اشارة

أقوال ، فعن المشهور القول بذلک ، و ظاهر عبارة ( الکفایة ) أنه مفروغ عنه بین العلماء .

و قد استدلّ القائلون به بوجهین :

أحدهما : إنّ فی کلّ علمٍ غرضاً ، و الغرض أمر واحد هو معلولٌ لمسائله المختلفة ، لکنّ الموضوعات المتعدّدة المتباینة لا تؤثر أثراً واحداً ، فلا بد من وجود جامعٍ بینها ، لیکون هو العلة و المؤثر فی حصول الغرض الواحد ، لأنّ الواحد لا یصدر إلّا عن الواحد .

ص:9

و قد حاول فی ( المحاضرات ) إبطال هذا الاستدلال بما لا یخلو بعضه عن النظر .

و الثانی : إنّ تمایز العلوم بتمایز موضوعاتها ، فلو لم یکن لکلّ علم موضوع واحد لتداخلت العلوم فیما بینها .

و هذا الوجه یبتنی علی کون تمایزها بالموضوعات ، لا بالأغراض و لا المحمولات ، و هذا أوّل الکلام ، و سیأتی توضیح ذلک .

و لما أشرنا إلیه من الکلام فی الدلیلین المذکورین لقول المشهور ، ذهب فی ( المحاضرات ) إلی أنّه لا دلیل علی اقتضاء کلّ علمٍ وجود الموضوع ، و أنّه لا حاجة إلی ذلک .

رأی الاستاذ

و الذی اختاره شیخنا هو أنّه إنْ ارید من قولهم : « لکلّ علم موضوع » ضرورة وجوده لکلّ علمٍ ، بنحو القضیّة الحقیقیّة - أی : کلّما وجد و تعنون بعنوان العلم فلا بدّ و أن یکون له موضوع - فهذا ما لا دلیل علیه . و إنْ ارید منه القضیّة الخارجیّة ، بمعنیٰ أن العلوم المدوّنة - کعلمی الطب و الهندسة و غیرهما لها موضوعات تجمع بین مسائلها ، فهذا حق ... لکنّ هذا إنّما هو فی العلوم ذات المحمولات الحقیقیّة ، و أما العلوم الاعتباریّة کعلم الفقه فلا ، و لذا خصّ الشیخ فی ( الشفاء ) و کذا تلمیذه بهمنیار و الخواجه و غیرهم هذا البحث بالعلوم الحقیقیّة .

أقول :

فی کلامه - دام ظلّه - أمران ، أحدهما : التردید المذکور فی المراد من قول المشهور « لکلّ علم موضوع » ، و الآخر : الموافقة علی ضرورة وجود

ص:10

الموضوع فی العلوم المدوّنة الحقیقیّة دون الاعتباریّة منها .

و لعلّ السبب فی ذلک هو التسلیم للإشکال الرابع من إشکالات ( المحاضرات ) ، حیث نقض قول المشهور ببعض العلوم ، کعلم الفقه ، إذ لا یعقل وجود موضوع واحد یجمع بین موضوعات مسائله ، لکونها قضایا اعتباریّة ، و لا یعقل الجامع الحقیقی بین القضایا الاعتباریة ، أو لکون موضوعاتها من مقولات متباینة بل متنافرة ، فکیف یکون بینها جامع ذاتی ؟ فقال شیخنا : هذا الإشکال حق ، إلّا أنه یرد علی صاحب ( الکفایة ) القائل بأنّ الموضوع الجامع یتّحد مع موضوعات المسائل اتّحاد الطبیعی مع أفراده ، أمّا المشهور فلا یقولون بهذا کما أشرنا .

و قد اجیب عن الإشکال المذکور بأنّ الأحکام الشرعیّة ، و إنْ کانت قضایا اعتباریّة بلحاظ المعتبَر و المنشأ ، إلّا أنها حقیقیّة بلحاظ نفس الاعتبار و مبادئ الحکم ، لکونها من مقولة الکیف النفسانی ، و هی بهذا الاعتبار تکون مورداً لحکم العقل بحقّ الطّاعة و العبودیّة الذی هو الغرض الملحوظ فی علم الفقه . و أمّا تباین موضوعات المسائل الفقهیّة فجوابه : إنّه لا بدّ و أن یراد بالموضوع الواحد لکلّ علمٍ وجود محور واحدٍ تدور حوله کلّ بحوث العلم الواحد ، و هذا قد لا یتطابق مع ما یجعل موضوعاً للمسائل بحسب التدوین خارجاً ... فالمقصود من الموضوع الواحد هو المحور الواحد للبحوث فی المسائل لا ما جعل موضوعاً لها فی مرحلة التدوین ، و هذا المحور لا یلزم أنْ یکون موضوعاً فی تلک المرحلة ، فقد تتطابق الموضوعیّة - أی المحوریّة - مع الموضوعیّة فی مرحلة التألیف ، و قد لا تتطابق ، و التطابق بینهما غیر لازم (1) .

فإنْ کان ما ذکر نظریّةً جدیدة ، فقد یمکن المساعدة علیها ، لأنّ وجود

ص:11


1- (1)) بحوث فی علم الاصول ، مباحث الدلیل اللفظی 41/1 .

محورٍ لکلّ علمٍ تدور علیه بحوثه أمر ارتکازی غیر قابل للإنکار ، و أمّا إن کان شرحاً و توجیهاً لقول صاحب ( الکفایة ) و المشهور ، ففیه تأمّل لأنه لا یتحمَّل هذا التوجیه و التفسیر ، و أمّا کلمات أعلام المعقول فی المقام ، فلا بدّ من مراجعتها ... و اللّٰه العالم .

المطلب الثانی : ما هی حقیقة موضوع العلم ؟
اشارة

قالوا : هو ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ، ثم اختلفوا فی المراد من « العرض الذاتی » هنا ، فأمّا « العرض » فالمراد منه : ما کان خارج عن الذات و محمولاً علیه و ان کان جوهراً کالذات ، کالناطق بالنسبة إلی الحیوان ، حیث یحمل علیه و هو خارج عنه ، و هو نفسه جوهر .

رأی المشهور

أمّا « الذاتی » منه ، فالمشهور علی أنّه ما کان خارجاً عن الذات ، لکنه لاحق للذات و ثابت له باقتضاء جوهر الذات . و ذهب جماعة من المتأخّرین - و تبعهم المحقق صاحب ( الکفایة ) - إلیٰ أنّ العرض الذاتی ما لا واسطة له فی العروض ، فی مقابل ما له واسطة فیه ، ففی قوله رحمه اللّٰه « أی بلا واسطة فی العروض » إشارة إلی اختیار هذا القول خلافاً للمشهور .

ثم إنّ المشهور قسّموا ما کان باقتضاء جوهر الذات إلی قسمین :

أحدهما : ما کان باقتضاء جوهر الذات بلا واسطة فی العروض ، و سمّوه بالعارض الذاتی الأوّلی ، کعروض الناطق علی الحیوان ، حیث أنه خارج عن ذات الحیوان محمول علیه ، و لا واسطة فی هذا الحمل و العروض و اللحوق ، اذ علّة لحوق الفصل للجنس لیس إلّا الجنس ، و علّة لحوق الجنس للفصل

ص:12

لیس إلّا الفصل .

و ثانیهما : ما کان باقتضاء جوهر الذات لکن مع الواسطة فی العروض ، و الواسطة :

تارةً : أمر مساوٍ للموضوع داخلی ، و هذا منحصر بالفصل ، مثاله :

التعجّب العارض علی الإنسان بواسطة أمرٍ مساوٍ داخلی و هو الناطق ، لأن الإنسان متعجّب بعلّة کونه ذا نفس ناطقة .

و اخریٰ : أمر مساوٍ له خارجی ، و مثاله : الضاحک العارض علی الإنسان بواسطة التعجّب ، و التعجّب واسطة خارجیة مساویة للإنسان .

قالوا : و ما کان غیر ذلک فهو عرض غریب ، فالأعراض الغریبة ثلاثة :

ما کان خارجاً عن الذات عارضاً علیه بواسطة أمر أعم ، و هو تارةً :

داخل فی الذات ، مثل « الحیوان » یکون واسطة لعروض الإرادة علی الإنسان ، و الحیوان أعم من الإنسان ، و اخری : خارج عن الذات ، « کالجسم » یکون واسطة لعروض التحیّز علی الأبیض ، و الجسم أعم من الأبیض . فهذا قسمان .

و ما کان خارجاً عن الذات عارضاً علیه بواسطة أمر خارجی أخص .

و هذا هو القسم الثالث من أقسام العرض الغریب ، کالتعجّب العارض علی الحیوان بواسطة الإنسان ، و الإنسان أخص من الحیوان .

و علی الجملة ، فهنا تعریفان ، أحدهما للمشهور ، و هو أن موضوع کلّ علم ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة ، أی عمّا یلحق الموضوع باقتضاء ذاته ، إمّا بلا واسطة و إمّا بواسطة أمرٍ مساوٍ ، سواء کان المساوی داخلیّاً أو خارجیاً .

و الثانی : ما اختاره صاحب ( الکفایة ) من أنّ موضوع کلّ علمٍ ما یبحث فیه عن عوارضه العارضة علیه بلا واسطة .

ص:13

و یظهر الفرق بین المسلکین فی علم الاصول فی کثیر من المسائل ، فمثلاً نقول : هل الأمر بالشیء ، الوارد فی الکتاب و السنّة ، یقتضی النهی عن ضدّه الخاص أو العام ؟ فاقتضاء النهی أو استلزامه یعرض علی الأمر ، فعلی مسلک المحقق الخراسانی یکون هذا العروض بلا واسطة ، و یکون الاقتضاء حقیقیّاً و بلا عنایة ، أما علی مسلک المشهور ، فإنّ هذا العروض إنما هو بواسطة أمر أعم ، لأنّ ذلک لا یختص بالأمر الکتابی بل کلّ أمر کذلک - بناءً علی القول به - سواء وقع فی الکتاب أو لا ؛ و کذا فی السنّة ، فهناک عروض بواسطة أمر أعم ، و العارض علی الشیء بواسطة الأمر الأعم من العوارض الغریبة عندهم کما تقدّم .

و أیضاً : لا یلزم بناءً علی مذهب صاحب ( الکفایة ) أنْ یکون العروض باقتضاء ذات المعروض ، إذ الملاک عندهم هو أن لا تکون واسطة فی العروض ، وعلیه ، فالحجیّة تثبت للخبر مثلاً ، لعدم الواسطة فی عروضها علیه ، مع أنها لیست باقتضاء ذاته .

السبب فی عدول الکفایة

ثم إنّ السبب فی عدول أصحاب هذا القول - کصاحب ( الکفایة ) - عمّا قاله المشهور ، هو التخلص من اشکالٍ یلزم علیه ، و توضیح ذلک هو : إنّ المحمولات فی مسائل العلوم تعرض علی موضوعاتها ، و تلک الموضوعات هی الواسطة لعروضها علی موضوع العلم ، فمثلاً - فی علم النحو - یعرض الرفع علی الفاعل ، و بواسطته یعرض علی الکلمة التی هی موضوع علم النحو ، لکنّ « الفاعل » أخص من « الکلمة » فیلزم أن یکون هذا البحث فی علم النحو بحثاً عن العرض الغریب . و کذا فی غیره من العلوم ، کالفقه مثلاً ،

ص:14

فبناءً علی أن موضوعه « فعل المکلَّف » یکون الوجوب عارضاً علی الصّلاة ، و بتوسّط الصلاة یعرض علی موضوع العلم الذی هو فعل المکلَّف و هو أعم من الصّلاة . و کما یکون موضوع المسألة أخص من موضوع العلم - کما فی علمی النحو و الفقه کما ذکرنا - کذلک قد یکون أعم ، و ذلک کما فی علم الاصول ، فیکون العروض بواسطة أمر أعم ، لأن الموضوع فیه - علی المشهور - الأدلّة الأربعة ، لکن البحث عن وجوب المقدمة و عدمه - مثلاً - غیر مختص بالخطابات الشرعیّة ، و کذا فی مسألة اقتضاء الأمر للنهی عن الضد ، أو ظهور الأمر فی الوجوب ، و نحو ذلک .

أمّا بناءً علی تفسیر العرض الذاتی بما لا واسطة له فی العروض ، فالإشکال مندفع ، إذ المناط عدم الواسطة فی العروض ، و هو حاصل ، لکون موضوع العلم متحداً وجوداً مع موضوع المسألة ، لأن « الفاعل » متّحد وجوداً مع « الکلمة » ، و کذا « الصّلاة » مع « فعل المکلّف » ، و إنْ اختلفا مفهوماً ، و لذا قال فی ( الکفایة ) : « هو نفس موضوعات مسائله عیناً و ما یتّحد معها خارجاً ، و إنْ کان یغایرها مفهوماً ... » .

یعنی : إن نسبة موضوع المسألة إلی موضوع العلم نسبة النوع إلی الجنس ، فموضوع العلم إنْ لوحظ لا بشرط بالنسبة إلی موضوعات المسائل ، کان العرض فیها عرضاً ذاتیّاً لموضوع العلم ، و إنْ لوحظ بشرط لا ، صار عرضاً غریباً . مثاله : « الحیوان » فإنّه إن لوحظ بشرط لا بالنسبة إلی الناطق و الصاهل ، کان التعجّب العارض علیه عرضاً غریباً و إسناد التعجّب إلیه مجازیّاً ، و إنْ لوحظ متّحداً مع الناطق و کان وجودهما واحداً ، کان التعجّب العارض بواسطة الناطق عرضاً ذاتیّاً بالنسبة إلی الناطق و بالنسبة إلی الإنسان .

ص:15

کان هذا بیان الإشکال و شرح طریق المحقّق الخراسانی لدفعه .

و قد حقّق شیخنا دام ظلّه هذا الطریق و فصّل فی المقام بما حاصله : أنّ هذا الطّریق إنّما یفید فی الواسطة التی هی أعم ، و علم الاصول من هذا القبیل کما تقدّم ، إذ العروض و إنْ کان بواسطة أمر أعم ، لکنّ الصّدق حقیقی عرفاً و لیس مجازیّاً . أمّا فی سائر العلوم التی یکون موضوع المسألة فیها أخص ، فالإسناد لیس حقیقیّاً لا عقلاً و لا عرفاً ، فیکون الإشکال فیها باقیاً علی حاله .

کما أنّ جواب صدر المتألّهین - و المحقق الأصفهانی - عن الإشکال ، إنما یفید فیما إذا کانت الواسطة و العارض موجودین بوجودٍ واحدٍ ، کالجوهریة و الجسمیّة ، فإنّهما موجودان بوجودٍ واحدٍ و مجعولان بجعل واحد ، الجوهر یوجد بنفس تعلّق الجعل بالجسم ، فالجسم و إنْ عرض علی « موجود » بتوسط « جوهر » لکنّ « جوهر » واسطة للعروض بحسب الترتیب العقلی ، إذ الموجود عقلاً یکون ممکناً و الممکن یصیر جوهراً ، و الجوهر یصیر جسماً ، لکنّ الإمکان و الجوهریّة و الجسمیّة کلّها موجودة بوجود واحد .

فنفس هذه الجسمیّة تصیر من العوارض الذاتیّة للموجود بتوسط الجوهریّة التی هی عارضة بتوسط الإمکان - أی الإمکان الفقری - إلاّ أنّ کلّ ذلک عروض ذاتی ، لأنها جمیعاً موجودة بوجودٍ واحد .

بخلاف ما إذا کانت الواسطة و العارض موجودین بوجودین ، کالتعجّب العارض علی الحیوان بواسطة الإنسان ، فالعارض غریب لا ذاتی ... و الإشکال حینئذٍ باق .

و المحقق النائینی حاول دفع الإشکال بالنزاع فی الصغری ، فأنکر أنْ یکون العارض علی الجنس بواسطة النوع عرضاً غریباً .

ص:16

لکنّ ما ذکره قدّس سرّه لا ینسجم مع تصریحات أکابر الفلاسفة ، کالشیخ و الخواجه و غیرهما ، فی تعریف العرض الذاتی ، و کلّهم یجعلون ما ذکر من العرض الغریب لا الذاتی .

رأی السید الخوئی

و فی ( المحاضرات ) ما ملخّصه : إن أساس الإشکال أمران هما : الالتزام بأنّ البحث فی العلوم لا بدّ و أن یکون من الأعراض الذاتیّة لموضوع العلم .

و الالتزام بأن العارض علی الشیء بواسطة الخارج الأخص أو الداخل الأعم ، من الأعراض الغریبة لا الذاتیّة .

قال : و یمکننا منع کلا الأمرین علی سبیل منع الخلو ، بأنْ یقال : کلّ مسألة ترتّب علیها الغرض الذی لأجله دوّن العلم فهی من مسائل ذاک العلم ، سواء کان المحمول فیها من العوارض الذاتیّة لموضوع العلم أو لا ، و الاختصاص فی البحث عن الذاتی فقط لا دلیل علیه بالخصوص .

قال : و لو سلّمنا لزوم ذلک ، لأمکن دعوی أنّ العارض بواسطة الخارج الأخص أو الداخل الأعم ، من العوارض الذاتیّة .

قال الاستاذ :

أمّا منع الأمر الثانی فکما تری ، لأنه ینافی ما اصطلحوا علیه .

و أمّا منع الأمر الأول ، فقد سبقه إلی ذلک المحقق الأصفهانی ، حیث ذکر أنّ کثیراً من مسائل العلوم یشتمل علی البحث عمّا لا یکون عرضاً ذاتیاً لموضوع العلم ، من أجل دخله فی الغرض المطلوب من تدوین ذاک العلم و بحوثه .

و قد قرّر شیخنا الاستاذ هذا الإشکال ، حیث ذکر أن أدلّة القوم علی تلک

ص:17

الدعوی أربعة :

الأول : إن لم یکن کذلک ، لم تکن العلوم متباینة .

و الثانی : إن لم یکن کذلک ، لا یکون للعلم موضوع خاص به .

و الثالث : أنه إذا بحث فی العلم عن العرض الغریب ، لزم أن یکون العلم الجزئی کلیّاً .

و الرابع : أنّه إذا بحث فی العلم عن العرض الغریب ، لزم تداخل العلمین .

ثم ناقش هذه الأدلّة ، و أوضح عدم وفاء شیء منها لإثبات الدعوی المذکورة .

و هذا تمام الکلام فی المطلب الثانی .

المطلب الثالث : فی الاتحاد و التغایر بین موضوع العلم و موضوعات المسائل

ذکر المحقق صاحب ( الکفایة ) : أن موضوع العلم متّحد مع موضوعات مسائله خارجاً ، و إن کان بینهما تغایر مفهوماً ، کتغایر الکلّی و مصادیقه و الطبیعی و أفراده .

و قد اورد علی الاتّحاد الذی ذکره ، بوجوهٍ لا جواب عن بعضها ، کالإشکال بأنّ موضوع علم الطب هو بدن الإنسان ، و نسبته إلی موضوعات مسائله نسبة الکلّ إلی الأجزاء لا الکلّی إلی المصادیق .

ص:18

تمایز العلوم

اشارة

و اختلف الأعلام فی الجامع بین موضوعات مسائل العلم الواحد و المائز بین العلوم ، فقیل : الوحدة الاعتباریة ، و قیل : الموضوعات ، و قیل :

المحمولات ، و قیل : الأغراض .

و هذا الأخیر هو مختار صاحب ( الکفایة ) حیث قال : « و المسائل عبارة عن جملةٍ من قضایا متشتّتة جمعها اشتراکها فی الدخل فی الغرض الذی لأجله دُوّن هذا العلم ... و قد انقدح بما ذکرنا أن تمایز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعیة إلی التدوین ، لا الموضوعات و لا المحمولات ... و إلّا کان ... » .

فنقول : کلّ علمٍ مدوّن فله موضوع یبحث عنه فیه ، فی مسائل متشتّتة متکوّنة من موضوعات و محمولات ، و هذا التشتّت قد یکون من جهة الموضوع ، و قد یکون من جهة المحمول ، و قد یکون من جهة الموضوع و المحمول معاً ، فما هو الجامع بین هذه المسائل المتشتتة ؟ و ما هو المائز بین هذا العلم و غیره من العلوم ؟

الآراء فی المقام :

مذهب المشهور هو أنّ التمایز بالموضوعات ، لأنّ هناک بین مسائل کلّ علمٍ من العلوم جهة اتّحاد ، عبّر عنها الشیخ ابن سینا و غیره بالتناسب ، و هذا التناسب غیر حاصل بالمحمولات ، لأنّها إنّما تکون ملحوظة بالعرض ، و کلّ ما بالعرض ینتهی إلیٰ ما بالذّات ، و کذا الأغراض ، فلا بدّ و أن یکون

ص:19

بالموضوعات ، فهی الجامعة و المائزة .

و اختار المحقق البروجردی أنه بالمحمولات ، و نسبه إلی مشهور القدماء .

و بما ذکرنا یظهر ما فیه و فی النسبة إلیهم .

و قد خالفهم المحقق الخراسانی ، مع قوله بأنّ موضوع کلّ علمٍ ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ، و مقتضاه : أن تکون الموضوعات هی الجامعة بین شتات المسائل ، لأمرین :

أحدهما : إن فی علم الاصول مسائل کثیرة هی من مسائل علوم اخری ، فجعل الغرض هو الجامع فراراً من هذا المشکل ، لأن المسائل - و إنْ تداخلت بین العلوم - تختلف من ناحیة الغرض الداعی إلی تدوینها ، فلا مانع من کون المسألة الواحدة من مسائل علمین ، و هما متمایزان لاختلاف الغرض .

و الثانی : إنّه و إنْ کان لکلّ علمٍ موضوعاً یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ، إلّا أنّ لازم القول بتمایز العلوم بالموضوعات أنْ یکون کلّ بابٍ من کلّ علمٍ علماً علی حده ، و کذا بناءً علیٰ کونه بالمحمولات ، فجعل الغرض هو الجامع فراراً من هذا المشکل .

و فصّل المحقق الخوئی فی المقام ، فوافق صاحب ( الکفایة ) - من کون المائز هو الغرض لیس إلّا- فی بعض الصور و خالفه فی البعض الآخر ، فقال :

بأنّه تارةً یراد من التمایز مرحلة الإثبات لمن یجهل العلوم ، و اخری یراد منه التمایز فی مرحلة الثبوت و فی مقام التدوین .

أما المقام الأول : فحقیقته أن کلّ شخص إذا کان جاهلاً بحقیقة علمٍ من العلوم و أراد الإحاطة به و لو بصورة إجمالیة ، فللعالم بذاک العلم أنْ یمیّزه له

ص:20

عن غیره من العلوم بما شاء من التمییز ، بالموضوع أو المحمول أو الغرض ، کأن یقول له فی مقام تعریف علم النحو : إن موضوعه الکلمة و الکلام ، أو یقول : غایته حفظ اللسان عن الخطأ من المقال ، أو یقول : محموله الإعراب و البناء .

و أما المقام الثانی : فلأن المؤلّف و المدوّن للعلم یختلف تمییزه له عن غیره باختلاف الدواعی .

فتارة : یکون هناک غرض خارجی یترتب علی العلم و المعرفة بتلک المسائل التی دوّنها ، فلا بدَّ من البحث عن کلّ مسألةٍ اشتملت علی ذلک الغرض ، کما أن التمییز حینئذٍ لا بدّ و أن یکون بالغرض ، و لیس له التمییز بالموضوعات ، إذ لا عبرة - فی الغرض - بوحدة الموضوع و تعدّده ، علی أنه یقتضی أن یکون کلّ باب بل کلّ مسألة علماً علی حدة ، کما ذکر صاحب ( الکفایة ) .

و أخری : یکون الداعی إلی التدوین نفس العلم و المعرفة ، دون أنْ یکون هناک غرض خارجی یدعوه إلی تدوین المسائل . و هذا یکون علی نحوین ، فتارةً هناک موضوع یرید أن یبحث عن أحواله ، کما فی علم الطب ، فلا بدّ من التمییز بالموضوع ، و اخری هناک محمول یرید أن یبحث عمّا یعرض علیه ذلک المحمول ، کالحرکة و السکون ، فلا بدّ من التمییز بالمحمول فقط (1) .

و حاصله : الموافقة مع صاحب ( الکفایة ) فی خصوص ما إذا کان الغرض من التدوین هو غرض خاص ، کالصحّة و المرض فی علم الطب ،

ص:21


1- (1)) تعلیقة أجود التقریرات 11/1 مؤسّسة صاحب العصر علیه السلام ، مصابیح الاصول 19 - 20 .

و حفظ اللّسان فی علم النحو ، و صیانة الفکر فی علم المنطق ، و المخالفة فیما إذا لم یکن الغرض من التدوین إلّا المعرفة .

مناقشة الاستاذ

و أورد شیخنا الاستاذ علی دلیل مائزیّة الغرض بنحو الإطلاق - کما علیه فی ( الکفایة ) ، أو موجبةً جزئیّة کما علیه المحقق الخوئی - بأنّ ما ذکر من :

لزوم کون کلّ باب علماً علی حده لو کان التمایز بالموضوع ، لازم القول بمائزیّة الغرض کذلک ، لأنّ الغرض الحاصل من حجیّة الاستصحاب مغایر للغرض الحاصل من مسألة منجّزیة العلم الإجمالی ، هذا فی علم الاصول ، و فی المنطق کذلک ، إذ الغرض الحاصل من مباحث المعرّف مغایر للغرض الحاصل من مباحث القضایا ، فهما غرضان ، و هکذا .

فإن قیل : الأغراض المترتبة علی المباحث و الأبواب لها جامع ، و ذلک الغرض الجامع غیر داخل تحت غرض جامع آخر ، فالأغراض المترتّبة علی الأبواب فی علم الاصول و إن کانت مختلفة ، لکنّها کلّها تجتمع تحت غرضٍ واحدٍ جامعٍ لها ، و هو التمکّن من استنباط الوظیفة الشرعیة - بالمعنی الأعم ، من العلم و العلمی و الأصل العملی - و لیس هناک غرض فوقه .

و کذا الأمر فی علم المنطق و غیره .

قلنا : القائل بکون التمایز بالموضوعات أیضاً یقول نظیر هذا ، فهو یقول بأنّ هناک موضوعاً جامعاً بین موضوعات المسائل و الأبواب ، یبحث فی العلم عن العوارض الذاتیّة لذلک الموضوع ، فالافتراق بین العلوم یکون باختلاف الموضوعات فی العوارض الذاتیّة ، حیث أنّ فی کلّ أبواب هذا العلم یبحث عن العوارض الذاتیة للموضوع الجامع بین الموضوعات ، ذلک الموضوع

ص:22

الذی لا یبحث فی غیر هذا العلم عن عوارضه ... و بالجملة : فإنّه لا یقع فی علم آخر بحث عن العوارض الذاتیة للموضوع المبحوث عن عوارضه فی هذا العلم ، و هذا الملاک موجود فی موضوعات العلوم ، و لا یوجد فی موضوعات الأبواب .

فما ذکره صاحب ( الکفایة ) - و وافقه فی ( المحاضرات ) موجبةً جزئیة - مخدوش نقضاً و حلّاً .

آراء الاستاذ

ثم إن شیخنا الاستاذ اختلفت کلماته فی هذا المقام ، فقد اختار فی الدورة الاولی : أن الفرق بین الأبواب و المسائل ، و بین العلوم ، بأن العلوم یمکن أنْ تتعدّد بتعدّد الموضوعات ، لعدم الجامع المشترک بین الموضوعات الموجبة لتعدّد العلوم ، بخلاف الأبواب و المسائل ، فقولهم - فی علم النحو مثلاً - الفاعل مرفوع ، و المفعول منصوب ، و المضاف إلیه مجرور ، یمکن تصویر جامع بینها و هو الکلمة و الکلام ، لصدقه علی کلٍّ من الموضوعات الثلاثة علی حدٍّ سواء .

ثم إنّه عدل عن هذا ، لکونه إنّما یتمّ فی بعض العلوم دون الجمیع ، فقد تکون النسبة بین موضوعی علمین نسبة العموم و الخصوص کالطب و الطبیعی ، فبینهما جامع مشترک کالجامع بین البابین من العلم الواحد أو المسألتین ، فلیس الموضوع ما به التمایز فی مثل ذلک .

و اختار فی الدورة الثانیة - التی حضرناها : أنّ التمایز یمکن أن یکون بالموضوعات ، کما ذکر المشهور ، أمّا فی المسائل و الأبواب من العلم الواحد فالمحمولات فیها عوارض ذاتیّة للموضوع دائماً ، فلا یلزم من کون الموضوع

ص:23

ملاکاً للتمایز أنْ تکون الأبواب و المسائل من کلّ علمٍ علوماً علی حده ، کما ذکر صاحب ( الکفایة ) .

لکنّ هذا إنّما یتم علی مبنی المشهور فی حقیقة موضوع کلّ علم .

و أفاد فی الدورة المتأخّرة - فی مقام المناقشة مع مبنی صاحب (الکفایة) - أن هناک - بالضرورة - ارتباطاً بین الأغراض المختلفة و المسائل المختلفة ، و هذا الارتباط فی العلوم الاعتباریة - کعلم النحو - اعتباری ، و فی العلوم غیر الاعتباریة کعلم الطب ذاتی ، و الذاتی إمّا هو من ارتباط الشیء بمقتضیه و إمّا من ارتباط الشیء بشرطه ، فالغرض الحاصل من العلم یحصل من ترتّب المحمولات علی الموضوعات ، و هذا الترتّب إنما یکون لأجل الارتباط ، کما أنّ حصول الغرض لا یکون إلّا بارتباطٍ بینه و بین الموضوع .

و مقتضی القاعدة أنْ یکون التمایز فی الدرجة الأولی بما هو متقدّم علی الغرض ، و هو المنشأ فی تمایز الأغراض ، و هو المسائل .

أقول : فیکون ما ذهب إلیه أخیراً قولاً آخر فی البحث ، و حاصله : أنّه إن کان للعلم موضوع - کعلم الطبیعی الذی موضوعه الجسم من حیث الحرکة و السّکون - فالتمایز بینه و بین غیره یکون بموضوعه الجامع بین موضوعات مسائله ، و إن لا یکون له موضوع بسبب اختلاف مسائله اختلافاً لا جامع ذاتی بینها ینطبق علی موضوعات مسائله ، فالتمایز یکون بالمسائل .

ثم ذکر إشکال المحقق الخراسانی فی ( الکفایة ) بأنّه لو کان الامتیاز بالمسائل لم یبق أیّ تداخل لعلم الاصول مع بعض العلوم فی بعض المسائل ، مع وجود هذا التداخل بالضّرورة و کونها مشترکة بینه و بینها ... فاضطرّ إلی إنکار الاشتراک قائلاً ما حاصله : بأنّ المسألة المطروحة فی علم الاصول و غیره

ص:24

و إنْ کانت متّحدةً فی ظاهر لفظها و عنوانها ، إلّا أن الجهة المبحوث عنها فی کلّ علم تختلف عن الجهة المبحوث عنها فی غیره ، و مثّل لذلک بمسألة جواز اجتماع الأمر و النهی المطروحة فی الاصول و الفقه و الکلام معاً ، و أفاد بأنّها و إنْ کانت بهذه الصیغة إلّا أنها فی الحقیقة تعدّ فی کلّ علمٍ مسألة مستقلّة عنها فی غیره .

أقول : لکنْ یمکن المناقشة فیه : بأنّ المسألة تتشکّل من الموضوع و المحمول و النسبة ، و کما أنّ المسألة متقدّمة علی الغرض ، و ما به الامتیاز یکون قبل الغرض ، کذلک الموضوع فهو متقدّم علی المحمول و علی المسألة المتشکّلة منهما ، فلولا الموضوع لم یکن المحمول و لا المسألة ، و بالجملة ، فالذی ذکره فی جواب مسلک صاحب ( الکفایة ) ینفی ذلک المسلک و لا یثبت ما ذهب إلیه ، بل یقوّی مبنی التمایز بالموضوعات کما اختاره فی الدورة الثانیة ، و فی بعض العلوم فی الدورة المتأخّرة ...

و أمّا ابتناء ذلک علی مسلک المشهور من ضرورة وجود الموضوع لکلّ علم ، فواضحٌ أنّ جمیع هذه البحوث إنما هی علی أساس ذاک المبنی ، و إلّا فقد تقدم منه دام ظلّه أنْ لا برهان علی ضرورة وجود موضوع جامع بین موضوعات المسائل ، و علی أن البحث فی العلوم لا بدَّ و أنْ یکون عن الأعراض الذاتیّة .

القول بالوحدة الاعتباریّة :

و أمّا القول بالوحدة الاعتباریّة ، فقد جاء فی ( نهایة الدرایة ) - لدی الجواب عن إشکال صاحب ( الکفایة ) علی قول المشهور بلزوم کون کلّ باب من أبواب علم واحدٍ بل کلّ مسألة منه علماً برأسه لتمایز موضوعاتها - ما

ص:25

حاصله : إن تمایز العلوم یمکن أن یکون بالموضوع الجامع بین المسائل ، لأن العلم عبارة عن مرکّب اعتباری من قضایا متعدّدة بینها وحدة اعتباریة ، و الموضوع الجامع بین مسائله هو المائز بینه و بین غیره من العلوم ، و لا یلزم من ذلک أن یکون کلّ بابٍ أو کل مسألةٍ علماً علی حدة ، لوجود نوع سنخیّة بین أبواب کلّ علم ، بالإضافة إلی اشتراکها جمیعاً فی تحصیل الغرض الواحد .

و قد أجاب عنه شیخنا الاستاذ بأنّه - فی الحقیقة - التزام بما جاء فی ( الکفایة ) و لیس جواباً عنه ، إذ اللّازم حینئذٍ هو التحقیق عن منشأ تلک الوحدة و التعدّد ، و أنها لوحدة الموضوع و تعدّده أو لوحدة الغرض و تعدّده .

القول بالتمایز بالمحمولات :

و أمّا القول بکون التمایز بالمحمولات ، فقد اختاره السید البروجردی ، وعلیه حمل کلام القدماء ، قال : « الحق مع القدماء حیث قالوا : إن تمایز العلوم بتمایز الموضوعات ، إذ المراد بموضوع العلم هو ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة ، و لیس هو إلّا عبارة عن جامع محمولات المسائل الذی یکون تمایز العلوم بتمایزه » (1) .

و قد مهّد لتوضیح هذا القول خمس مقدمات ، و لعلَّ عمدة کلامه فی بیان مرامه هو : « إن جامع محمولات المسائل فی کلّ علمٍ هو الذی ینسبق أوّلاً إلی الذهن و یکون معلوماً عنده ، فیوضع فی وعاء الذهن ، و یطلب فی العلم تعیّناته و تشخّصاته التی تعرض له ، مثلاً : فی علم الإلهی بالمعنی الأعم یکون نفس الوجود معلوماً لنا و حاضراً فی ذهننا ، فنطلب فی العلم تعیّناته

ص:26


1- (1)) نهایة الاصول : 8 .

و انقساماته اللاحقة له ، من الوجوب و الإمکان ... فصورة القضیّة و إنْ کان هو قولنا : الجسم موجود مثلاً ، و لکن الموضوع حقیقةً هو عنوان الموجودیة ، و کذلک فی علم النحو ، فإنّ أوّل ما ینسبق إلی ذهن المتتبّع لاستعمالات العرب إنما هو إعراب آخر الکلمة ، فیطلب فی علم النحو الخصوصیات التی بسببها یتحقّق الإعراب و اختلافاته ، فالموضوع حقیقةً فی « الفاعل مرفوع » هو وصف المرفوعیة ، و کذا فی غیر هذا المثال .

فالحاصل : إن تمایز العلوم بتمایز الموضوعات ، أعنی بها جامع محمولات المسائل ، و تمایز المسائل بتمایز الموضوعات فیها » .

و هذا الذی ذکرناه عنه هو عمدة کلامه رحمه اللّٰه و ربما یوجد بین هذا الکلام ، و ما ذکره فی المقدّمة الأولی - حول موضوع علم الإلهیات بالمعنی الأعم - منافاة ، و من هنا أشکل الشیخ الاستاذ علی المقدّمة الأولی ، فراجع ، و لکنّ هذا الکلام إنّما یتمّ فی علم الاصول فقط ، حیث أنّ المتبادر إلی الذهن فیه و الذی یبحث عن تعیناته هو « الحجّة » ، إلّا أنّ الواقع فی سائر العلوم هو أخذهم الشیء موضوعاً ثمّ بحثهم عن خصوصیاته و تعیّناته ، فالموضوع فی علم الحساب هو « العدد » و فی علم النحو « الکلمة و الکلام » و فی الإلهیّات بالمعنی الأعم هو « الوجود » باتّفاق الفلاسفة ، فلم یکن « الوجود » عندهم محمولاً أصلاً ، و نسبة القول بکون الموضوع هو الجامع بین المحمولات إلی القدماء غیر تامّة کما ذکر شیخنا الاستاذ دام ظلّه .

ص:27

موضوع علم الاصول

اشارة

لا یشترط أن یکون لکلّ علمٍ موضوع ، لعدم الدلیل التام علی ذلک ، مؤیّداً بما حکاه شیخنا عن الشفاء و شرح الإشارات و أساس الاقتباس و الجوهر النضید ، من أن العلوم تارةً تتشکّل من موضوع واحدٍ و اخری من موضوعات .

و علی هذا ، فلا یعتبر أن یکون لعلم الاُصول موضوع خاص ، بل لا یکون له موضوع لأمرین :

أحدهما : إن علم الاصول لیس من العلوم المطلوب منها المعرفة فقط ، بل الغرض منه هو التمکّن من استنباط الأحکام الکلیّة الإلهیّة ، و کلّ علمٍ یدوَّن لغرضٍ ، فالمقصود تحصیل الغرض و الوصول إلیه ، سواء کان له موضوع أو لم یکن .

و الآخر : إنَّ موضوعات مسائل هذا العلم مختلفة و غیر قابلة لتصویر جامع بینها ، إذ یستحیل تصویر جامع بین الخبر و الشهرة و الیقین - و هو موضوع الاستصحاب - و الوجوب ، و هو موضوع مسألة مقدمة الواجب ...

و هکذا ..

رأی صاحب الکفایة

و من هنا أیضاً یظهر ما فی مختار ( الکفایة ) من وجود الجامع ، و أنّ نسبته إلی موضوعات المسائل نسبة الکلّی إلی المصادیق ، و إنْ لم یکن له عنوان خاص و اسم مخصوص ... . فَجَعَلَ موضوع علم الاصول : الکلّی المنطبق علی موضوعات مسائله المتشتّتة .

ص:28

رأی المشهور

و منه أیضاً یظهر ما فی القول المعروف من جعله « الأدلّة الأربعة » ، علی الوجوه الأربعة و هی : احتمال أن تکون هی الموضوع بوصف الدلیلیّة ، و أنْ تکون هی الموضوع لا بوصف الدلیلیّة ، فالدلیلیّة علی الأول جزء من الموضوع و علی الثانی من أحواله ، و احتمال أن یکون المراد من « السنّة » منها هو المحکی بها ، و هو قول المعصوم و فعله و تقریره ، و یکون المراد منها الأعم من المحکی و الحاکی ، و هو الخبر .

مضافاً إلی وجود الإشکال فی کلٍّ من هذه الوجوه الأربعة .

و توضیح الإشکال فی ذلک هو أنّه :

إن کانت الأدلّة الأربعة موضوع العلم بوصف دلیلیّتها ، بمعنی أن البحث یکون عمّا یعرض الدلیل بعد الفراغ عن دلیلیّته ، کما عن المحقق القمّی ، ففیه : أنّه لا یتناسب مع قولهم : لکلّ علم موضوع جامع بین موضوعات مسائله ، یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ، إذ لا جامع بین العقل و الإجماع ، کما أن « السنّة » عنوان مشیر إلی « القول و الفعل و التقریر » و لیس جامعاً ، إذ لا جامع بین الثلاثة .

فهذا الوجه ینافی قولهم بذلک ، لکن صاحب ( الحاشیة ) جمع بین هذین المتنافیین .

و أیضاً : فإن لازم هذا الوجه خروج أکثر مسائل علم الاصول ، عدا مباحث الألفاظ ، إذ البحث عن الخبر و الشهرة و الاستصحاب و غیرها إنّما هو عن أصل الدلیلیّة و الحجیّة .

و إنْ کانت هی الموضوع لکنْ لا بوصف الدلیلیّة ، کما علیه صاحب

ص:29

( الفصول ) ، ارتفع الإشکال الثانی ، بناءً علی کون المراد من « السنّة » هو الأعم من الحاکی ، بالنسبة إلی قسم من المسائل ، و هی التی یکون البحث فیها عن أصل الدلیلیّة ، لکن مباحث الاستلزامات العقلیة ، و مباحث الإطلاق و التقیید ، و العموم و الخصوص ، و نحوها من مباحث الألفاظ ، کلّها تخرج ، لأنّ البحث لیس عن عوارض الأدلة الأربعة ، فیکون من العوارض الغریبة ، لکون الموضوع فی کل هذه المباحث أعمّ من الکتاب و السنّة ، کما أنّ الشهرة أیضاً تخرج ، إلّا أن تدخل فی السنّة ، لکونها - کالخبر - حاکیة .

و أمّا بناءً علی کون المراد من « السنّة » خصوص المحکی ، و هو « القول و الفعل و التقریر » فیضاف الإشکال بخروج مباحث حجیّة الخبر ، و مباحث باب التعارض ، لأنّ البحث هناک إنما هو عن حجیّة الخبر الحاکی ، و المفروض عدم کونه سنّةً ، فلا یکون البحث بحثاً عن عوارض الأدلة الأربعة .

و قد حاول الشیخ الأعظم دفع هذا الإشکال بإرجاع البحث عن خبر الواحد إلی البحث عن ثبوت السنّة ، بأنّ البحث فی الحقیقة : أنّه هل السنّة - التی هی عبارة عن قول المعصوم و فعله و تقریره - کما تثبت بالخبر المتواتر و بالقرینة القطعیة ، تثبت بخبر الواحد الثقة أو لا تثبت ؟ فیکون بحثاً عن عوارض السنّة .

لکنّ هذه المحاولة غیر مفیدة ، لأنّه إنْ ارید بالثبوت : الثبوت الواقعی الخارجی ، فقد أورد علیه شیخنا - تبعاً للمحقق الخوئی - بأن الخبر حینئذٍ حاک و کاشف عن السنّة ، و الکاشف عن الشیء فی رتبةٍ متأخرة عنه ، و یستحیل أن یکون علةً له .

ص:30

و أمّا ما أجاب فی ( الکفایة ) - و تبعه المیرزا و العراقی - من أنّه حینئذٍ بحث عن الثبوت بمفاد کان التامة و لیس بحثاً عن عوارض السنّة ، الذی هو بحث عن العوارض بمفاد کان الناقصة ، فقد أجاب عنه شیخنا بإمکان إرجاعه إلی العوارض ، لأنّ البحث لیس عن الوجود الخارجی للشیء ، بل هو عن وجوده بعلّةٍ خاصّة ، و أنّه هل توجد السنّة و تثبت خارجاً بالخبر أو لا ؟ فهو بحث بمفاد کان الناقصة .

و إن ارید بالثبوت : الثبوت العلمی ، بأنْ یکون الخبر واسطةً فی الإثبات ، أی علةً للعلم بالسنّة - لا لوجودها - فیکون بحثاً عن العوارض ، و عن مفاد کان الناقصة . ففیه : إنّ المبحوث عن حجیّته و هو خبر الواحد - یقبل الصّدق و الکذب ، و لا یوجب العلم کما فی المتواتر و المحفوف بالقرینة .

و إنْ ارید بالثبوت : الثبوت التعبّدی ، بمعنی أنّ الشارع هل جعل خبر الواحد حجةً کاشفةً عن ثبوت السنّة ؟ کان البحث بحثاً عن العوارض ، لکن عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنّة التی هی الموضوع .

قاله فی ( الکفایة ) و تبعه غیره .

و أجاب المیرزا : بأنْ عنوان کون السنّة محکیّة یعرض لها بواسطة الخبر الذی هو مباین لها ، فیکون من العوارض الغریبة (1) .

قال شیخنا دام ظلّه : أمّا جواب ( الکفایة ) عن کلام الشیخ فوارد ، لکنْ بناءً علی أن مدلول أدلّة اعتبار خبر الثقة هو إنشاء الحکم المماثل . فهو جوابٌ مبنائی . و أمّا جواب المیرزا ففیه : إنّ حجیة الخبر علی مسلکه اعتبار الشارع الخبر علماً ، لکنّ حصول هذه الصفة للخبر - أی : صفة العلمیة الاعتباریة له -

ص:31


1- (1)) أجود التقریرات 1 / 9 - 10 .

إنما کان باعتبار الشارع ، فکان اعتبار الشارع واسطة فی ثبوته ، وعلیه ، فإن هذا المعتبر یکون عرضاً غریباً للخبر .

ثم إنّ المحقق الأصفهانی حاول توجیه کلام الشیخ - علی فرض إرادة الثبوت التعبّدی - علی المسلکین : إنشاء الحکم المماثل ، و المنجزیّة و المعذریّة ، أمّا علی الأول : فبأنّ الحکم الذی یجعل من قبل الشارع علی طبق الحکم الذی أتی به المخبر کقول زرارة : صلاة الجمعة واجبة ، له وجود حقیقی ، فالحکم و إنْ کان اعتباریاً ، إلّا أن الوجوب الصادر طبق قول زرارة وجوب حقیقی للحکم الظاهری الذی أخبر به زرارة ، و هذا الوجود الحقیقی وجود تنزیلی للسنّة ، فالبحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد بحث عن الثبوت التنزیلی لها بخبر الواحد ، أی : هل السنّة تثبت تنزیلاً بالخبر أو لا ؟

و أمّا علی الثانی ، فإنّ المنجزیّة و المتنجزیّة متضایفتان ، فجعل الخبر منجزاً یلازم جعل السنّة متنجّزة ، فیصحّ البحث عن کلٍّ منهما ، بل الثبوت التعبّدی أکثر مساساً بالسنّة من التنجّز ، حیث أن اعتبار الثبوت هو اعتبار کون الخبر وجوداً للسنّة (1) ، و الحاصل : إنّ المسألة تکون اصولیّة ، لأن البحث یقع عن أنه هل السنّة تصیر متنجّزة بالخبر أو لا ؟

لکن لا یخفی أنّ ما ذکره طاب ثراه إخراجٌ لعناوین المسائل المطروحة فی العلم عن ظواهرها ، و إرجاعٌ لها إلی قضایا و معانٍ اخری ، لأنّ موضوع العلم - کما هو مفروض - هو « السنّة » و المسألة هی : هل خبر الواحد حجة أو لا ؟ فالحجیّة محمولة علی الخبر ، و هو حاکٍ عن السنّة و لیس بمصداقٍ لها ...

و لو أنّا أردنا إرجاع صور القضایا فی العلم إلی قضایا اخری ، للزم خروج کثیر

ص:32


1- (1)) نهایة الدرایة 1 / 37 .

من مسائله عنه ، فلو أرجعنا قولنا فی الاصول : هل وجوب ذی المقدّمة یستلزم وجوب المقدّمة أو لا ؟ إلی قولنا : هل مقدمة الواجب واجبة أو لا ؟ لخرجت المسألة عن الاصول و دخلت فی الفقه .

قال الاستاذ :

و التحقیق : إن الإشکال لا یندفع علی أیّ المسالک الموجودة فی باب حجیّة خبر الثقة ، و هی أربعة :

أحدها : ما ذهب إلیه المشهور ، و هو إنشاء الشارع الحکم فی مورد الخبر و غیره من الأمارات ، کما قال العلّامة : ظنّیة الطریق لا تنافی قطعیّة الحکم ، و اختاره المحقق الخراسانی و المحقق العراقی فی باب المجعول فی الاستصحاب .

و الثانی : انّ المجعول فی مورد الأمارات هو المنجزیّة و المعذریّة . و هو ما یستفاد من بعض کلمات المحقق الخراسانی .

و الثالث : إن مدلول أدلّة اعتبار الخبر مثلاً جعله علماً و کاشفاً عن الواقع ، و هو ما یعبّر عنه بمسلک تتمیم الکشف ، و هو مختار المیرزا .

و الرابع : تنزیل المؤدّیٰ منزلة الواقع .

و البحث عن حجیّة الخبر - علی جمیع هذه المسالک - بحث عن عوارضه لا عن عوارض السنّة ... و هذا هو مقتضیٰ الأدلة أیضاً ، کقوله علیه السلام : « لا عذر لأحدٍ من موالینا فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا » (1) و قوله علیه السلام : « العمری ثقتی ، فما أدّیٰ إلیک عنّی فعنّی یؤدّی و ما قال لک عنّی

ص:33


1- (1)) وسائل الشیعة 150/27 ط مؤسّسة آل البیت ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی رقم : 40 .

فعنّی یقول » (1) و التشکیک من عوارض الخبر لا من عوارض السنّة ، و مقتضی الخبر الثانی هو تنزیل کلام الراوی منزلة کلامه ، لا أنّ کلامه یثبت بکلام الرّاوی .

و تلخص : عدم تمامیة القول بموضوعیّة الأدلّة الأربعة للاصول ، مطلقاً .

هذا ، و لا یخفی أن هذا ما استقرّ علیه رأی شیخنا أخیراً ، أمّا فی الدورة السابقة التی حضرناها ، فقد اختار أنّ الموضوع ذوات الأدلة مع أعمیّة السنّة ، و أجاب عن الإشکال بخروج عدّةٍ من المباحث المهمة کالشهرة و مباحث الألفاظ و الاستلزامات العقلیّة ، بأنّه یبتنی علی القول بکون العرض الداخلی غریباً لا ذاتیّاً ، و هو خلاف التحقیق ، لعدم الواسطة فی العروض فی هذه المسائل ، و عدم صحّة السّلب .

لکنّ هذا الجواب إنما یتمُّ فی مباحث الألفاظ و نحوها ، أمّا فی الشهرة مثلاً فلا ، و لذا التزم بکون البحث عنها فی علم الاُصول استطرادیّاً ، و هو کما تری .

و أما ما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) - و تبعه المیرزا - من أنه کلّی منطبق علی جمیع موضوعات مسائله ... فغیر صحیح أیضاً ، لما عرفت من أن الصحیح أنْ لا جامع بین موضوعات مسائل علم الاصول .

رأی السید البروجردی و المحقق الأصفهانی و الکلام حولهما

و ذهب المحقق البروجردی إلی أنّ الموضوع هو « الحجّة فی الفقه »

ص:34


1- (1)) وسائل الشیعة 138/27 ط مؤسّسة آل البیت ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی رقم : 4 .

و تلقّاه بعضهم بالقبول و تعبیره : « ما هو الدلیل علی الحکم الشرعی » ، و سیأتی ذکر رأی المحقق الأصفهانی .

و تقریب الاستدلال کما فی تقریر بحثه (1) هو : إنا نعلم بوجود الحجج الشرعیّة علی الأحکام الشرعیّة ، فلکلّ حکم من الأحکام دلیلٌ ، غیر أنّا نجهل بتعیّنات تلک الأدلة و الحجج ، و قد جعل علم الاصول للبحث عنها ، و أنّه هل الدلیل و الحجة علی الأحکام الفقهیة العملیة هو خبر الواحد أو لا ؟ ظاهر الکتاب أو لا ؟ الشهرة أو لا ؟ و هکذا . فالموضوع فی الحقیقة هو ما یکون عندنا معلوماً ، و المحمول ما یکون مجهولاً و نرید رفع الجهل عنه ، مع لحاظ أن المراد من « العارض » هنا هو العارض المنطقی لا الفلسفی ، فالمقصود ما کان خارجاً عن الشیء و محمولاً علیه ، أی : فکما یکون الوجود خارجاً عن ذات الجوهر و محمولاً علیه کذلک نقول : الخبر حجة ، بمعنی أن الحجیّة خارجة عن ذات الخبر و محمولة علیه .

و الکلام علی هذا الرأی یقع فی جهتین ، جهة الکبری و أصل المبنی فی موضوع کلّ علمٍ ، وجهة التطبیق علی علم الاُصول ، أمّا الجهة الأولی ، فقد تقدّم الکلام علیها . و أمّا فی الجهة الثانیة ، فقد طبق رحمه اللّٰه ما ذکره علی الخبر و الشهرة و الإجماع ، و هذا لا کلام فیه .

أمّا علی القطع ، فیرد علیه أنّ القطع بالحکم الشرعی إنّما هو نتیجة المسألة الاصولیّة ، أی : إن المسائل فی هذا العلم مبادی تحصیل القطع بالحکم الشرعی و انکشافه ، و النتیجة دائماً متأخرة ، فلا یصح جعل حجیّة القطع مبحثاً من مباحث علم الاصول .

و کذا علی المفاهیم ، فإنه یرد علیه بأنّ المراد من « الحجة » فی باب

ص:35


1- (1)) نهایة الاصول : 11 .

المفاهیم هو أصل وجود المفهوم لا حجیّته - بعد وجوده - کما فی باب الأخبار مثلاً .

ثم إنه یرد علی ما أفاده خروج مباحث الألفاظ من الأوامر و النواهی ، و العام و الخاص ، و المطلق و المقیّد ، و المشتق ، و الصحیح و الأعم ... لأنّ البحث فی هذه المسائل لیس عن تعیّنات الحجّة .

و النکتة المهمّة الجدیرة بالذکر هی : جعله تحصیل الحجّة علی الحکم الشرعی هو الغرض من علم الاُصول ، فیکون الموضوع لهذا العلم هو « الحجة » لأنه الموافق للغرض ، مع أنّ شأن علم الاصول ، بالنسبة إلی الأحکام الفقهیّة ، شأن علم المنطق بالنسبة إلی الفکر الصحیح و الاستدلال المتین فی سائر العلوم ، فعلم الاصول کالآلة بالنسبة إلی علم الفقه ، و لذا عبّر المحقق الخراسانی بالصّناعة ، کما سیأتی ... فعلم الاصول - بالنظر الدقیق - هو المبادئ التصدیقیّة لمحمولات موضوعات الفقه ، ففی الاصول یتمّ وجه صحّة حمل « الوجوب » علی « الصلاة » مثلاً ... و هناک تقوم الحجة علی ثبوته لها ...

و هکذا .

فالحق فی المسألة : إنّ لموضوع علم الاصول خصوصیّة الصّلاحیّة للاتّصاف بالحجیّة للحکم الشرعی ، و کلّ مسألةٍ یکون لموضوعها هذه الخصوصیّة فهی مسألة اصولیّة ، و الجامع بین هذه الموضوعات عرضی و لیس بذاتی ، و حینئذٍ لا یرد الإشکال الثالث بخروج کثیر من المباحث ، لأن الموضوع فی مسألة « الإجزاء » هو إتیان المأمور به ، فإذا ثبت کونه مجزیاً کان حجةً علی صحّة العمل و سقوط القضاء ، فکان الموضوع المذکور صالحاً لانطباق عنوان الحجة علیه ، و الموضوع فی مسألة المقدّمة یصلح - بعد ثبوت

ص:36

الاستلزام - لأنْ یکون حجةً ، علی القول بوجوب المقدمة ، و الخبر موضوع یصلح - بعد ثبوت حجیّته - لأن یکون حجةً علی الحکم الشرعی .

و علی هذا الأساس قال المحقق الأصفهانی بأنه لیس لعلم الاصول موضوع معیَّن ، بل هو موضوعات مختلفة لها جامع عرضی ، و هو کونها منسوبة إلی غرض واحدٍ هو إقامة الحجّة علی الحکم الشّرعی ، نظیر علم الطب الذی لا جامع ذاتی بین موضوعات مسائله ، و إنّما یجمعها عنوان عرضی ، و هو ما یعبّر عنه بما یکون منسوباً إلی الصحّة .

و لا یرد علی هذا البیان شیء مما ذکر ، و إن کان فی التنظیر بین الاصول و الطب نظر ، نظراً إلی أن ما ذکره یتم فی علم الطب ، فکلّ ما یکون له علاقة بصحّة البدن فهو من مسائله ، لکنْ لیس کلّ ما له علاقة بإقامة الحجّة یعدّ من مسائل علم الاُصول ، فعلم الرجال - مثلاً - له نسبة و علاقة بإقامة الحجة علی حکم العمل ، مع أنّه علم مستقل عن الاصول .

إنما الکلام فی کیفیّة هذه العلاقة و الدخل ، فإنا إذا قلنا بأنْ المعتبر أنْ تکون العلاقة مباشرة و الدخل بلا واسطة ، لزم خروج عمدة المباحث الاصولیة ، لکون دخلها فی إقامة الحجة مع الواسطة ، فلا یبقی تحت التعریف إلّا مثل الخبر و الشّهرة مما یکون دخله بالمباشرة ، و تحمل « الحجیّة » علیه بلا واسطة ، أمّا مثل مباحث العام و الخاص و الإطلاق و التّقیید و ظهورات الأوامر و النواهی ، فلا یکون شیء منها حجةً ما لم تنطبق علیها و یضمّ إلیها حجیّة الظاهر ، فعندئذٍ یمکن إقامة الحجّة علی الحکم الشرعی بها ... نظیر علم الرّجال فإنّه إذا ثبت وثاقة زید احتیج إلی کبری حجیّة خبر الثقة ، فیکون دخیلاً فی إقامة الحجّة علی الحکم الشرعی .

ص:37

ثم لا یخفی الفرق بینه و بین مسلک المحقق البروجردی ، فإنه اتّخذ عنوان الحجّة فی الفقه جامعاً بین محمولات المسائل و جعل المحمول الکلّی موضوعاً ، أمّا المحقق الأصفهانی ، فقد جعل الموضوع جامعاً بین موضوعات المسائل ، فهو من هذه الجهة موافق للمشهور غیر أنه جعله عرضیاً لا ذاتیّاً خلافاً لصاحب ( الکفایة ) .

و الحاصل : إنه و إنْ لم یقم برهان علی ضرورة وجود الموضوع الجامع بین موضوعات العلم ، إلّا أن البیان المذکور غایة ما یمکن أنْ یقال .

أقول :

هذا ما أفاده مدّ ظلّه ، لکنّ ما أورده فی الدورة السابقة باق علی حاله ، و حاصله : إن الجامع العنوانی لا یتّحد مع معنونه فی الخارج ، لأن موطنه الذهن دائماً ، فجعله موضوعاً - و الحال هذه - یؤول إلی إنکار الموضوع ، فلیتدبّر .

ص:38

تعریفُ علم الاُصول

اشارة

و اختلفت کلماتهم فی تعریف علم الاصول :

فقال المشهور : هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحکام الشرعیّة .

و قال فی ( الکفایة ) : صناعة یعرف بها القواعد التی یمکن أنْ تقع فی طریق الاستنباط أو التی ینتهی إلیها فی مقام العمل .

و قال الشیخ الأعظم : هو القواعد التی تطبیقها بید المجتهد .

و قال المیرزا : هو العلم بالقواعد التی إذا انضمّت إلیها صغریاتها أنتجت نتیجةً فقهیة .

و قال المحقق الأصفهانی : هو العلم بالقواعد التی تقع فی طریق إقامة الحجّة علی حکم العمل .

و قال المحقق العراقی : هو العلم بالقواعد التی تقع فی طریق تعیین الوظیفة العملیّة .

تعریف المشهور

و قد أشکل علی تعریف المشهور بزیادة لفظة « العلم » ، لأنّ هذه القواعد علم سواء علم بها أولا ، و بزیادة « الممهّدة » ، لعدم دخل التمهید فی العلم ، فهی العلم سواء کانت ممهّدة للاستنباط أو لا ، و فی جملة « لاستنباط الأحکام الشرعیة » بأنها مستلزمة لخروج کثیر من الأدلة الدالة علیه ، یطبّق فی

ص:39

موارده الخاصة به ، و تخرج الاُصول العملیة العقلیّة ، کقبح العقاب بلا بیان ، و کالتخییر عند دوران الأمر بین المحذورین ، و کالظنّ الانسدادی بناءً علی الحکومة لا الکشف ، فإنّها أحکام عقلیّة تطبَّق فی مواردها .

تعریف الکفایة

و لهذه الاُمور عدل صاحب ( الکفایة ) إلی التعریف الذی ذکره ، فیکون جامعاً بالقید الذی أضافه لما کان یخرج من تعریف المشهور ، و لا یرد علیه شیء مما ورد علیه ... لکن یرد علی تعریفه : أوّلاً : إنه قال « صناعة » لإفادة آلیّة علم الاُصول کما أشرنا سابقاً ، لکنّ علم الاصول هو نفس القواعد لا أنّه صناعة تعرف بها القواعد . و ثانیاً : ان ما یعرف به القواعد ، یکون من المبادی التصدیقیّة ، و هی خارجة عن مسائل العلم . أورده السید الحکیم (1) .

ثمّ إنّ المحقق الأصفهانی [ بعد أنْ بیّن وجه الأولویّة فی قول (الکفایة) :

« الأولی تعریفه بأنه صناعة یعرف بها القواعد .. » - بأنّ من وجوه الأولویّة تبدیل تخصیص القواعد بکونها واسطة فی الاستنباط - کما عن القوم - بتعمیمها لما لا یقع فی طریق الاستنباط ، بل ینتهی إلیه الأمر فی مقام العمل ، و ذکر أن وجه الأولویّة استلزام التخصیص خروج جملة من المسائل المدوّنة فی الاصول ، لأنه لا ینتهی إلی حکم شرعی ، بل ظن به أبداً ، و إنما یستحق العقاب علی مخالفته عقلاً کالقطع ، و مثل الاصول العملیّة فی الشبهات الحکمیّة ، لکون مضامینها بأنفسها أحکاماً شرعیّة و لیست واسطةً فی استنباطها فی الشرعیة منها . و أما العقلیّة فلا تنتهی إلی حکم شرعی أبداً ] أجری الإشکال الذی یستلزمه التخصیص - کما عن القوم - فی جلّ مسائل الاصول ،

ص:40


1- (1)) حقائق الاصول 16/1 .

فذکر الأمارات غیر العلمیّة سنداً کخبر الواحد ، أو دلالةً کظواهر الألفاظ ، و قال بأنّ مرجع حجیّة الأمارات غیر العلمیة مطلقاً إمّا إلی الحکم الشرعی ، أو غیر منتهیة إلیه أبداً ، و علی أی تقدیر لیس فیها توسیط للاستنباط .

فالحاصل : إن عدول صاحب ( الکفایة ) عن تعریف القوم لیس لأجل خروج الاصول فقط ، بل لأجل خروج الأمارات أیضاً .... فیکون تعریفه أولی من تعریفهم لدخول ذلک کلّه به فی علم الاصول .

لکنّه بعد أن أوضح کیفیة لزوم خروج الأمارات عن تعریف القوم ، استدرک قائلاً :

« إلّا أن یوجّه مباحث الأمارات غیر العلمیّة .

أمّا بناءً علی إنشاء الحکم المماثل ، بأنّ الأمر بتصدیق العادل مثلاً لیس عین وجوب ما أخبر بوجوبه العادل ، بل لازمه ذلک ، و المبحوث عنه فی الاصول بیان هذا المعنی الذی لازمه الحکم المماثل ، و هذا القدر کاف فی التوسیط فی مرحلة الاستنباط .

و أمّا بناءً علی کون الحجیّة بمعنی تنجیز الواقع ، بدعوی أن الاستنباط لا یتوقّف علی إحراز الحکم الشرعی ، بل تکفی الحجیّة علیه فی استنباطه ، إذ لیس حقیقة الاستنباط و الاجتهاد إلّا تحصیل الحجّة علی الحکم الشرعی . و من الواضح دخل حجیّة الامارات - بأی معنیً کان - فی إقامة الحجّة علی حکم العمل فی علم الفقه » .

قال : « وعلیه ، فعلم الاصول : ما یبحث فیه عن القواعد الممهّدة لتحصیل الحجة علی الحکم الشرعی . من دون لزوم التعمیم ، إلّا بالإضافة إلی ما لا بأس بخروجه ، کالبراءة الشرعیة التی معناها حلیّة مشکوک الحرمة

ص:41

و الحلیّة ، لا ملزومها ، و لا المعذّر عن الحرمة الواقعیة » (1) .

ثم إنه أشکل علی تعریف ( الکفایة ) باستلزامه محذورین :

أحدهما : لزوم فرض غرضٍ جامع بین الغرضین ، لئلّا یکون فن الاصول فنّین .

ثانیهما : إن مباحث حجیّة الخبر و أمثاله لیست مما یرجع إلیها بعد الفحص و الیأس عن الدلیل علی حکم العمل ، و أما جعلها مرجعاً من دون تقیید بالفحص و الیأس فیُدخل فیها جمیع القواعد العامّة الفقهیّة ، فإنّها المرجع فی جزئیّاتها .

و قد ذکر شیخنا الاستاذ دام ظلّه هذین المحذورین و قرّبهما .

أقول : لکن فی ( المنتقی ) ما ملخّصه عدم لزوم شیء من المحذورین .

أمّا الثانی : فبأنه یلتزم بإضافة القید المذکور - و هو قول صاحب ( الکفایة ) : أو التی ینتهی الیها فی مقام العمل - و الأمارات و إنْ کانت خارجة عن القید ، أی ذیل التعریف ، فهی داخلة فی صدره ، بناءً علی أنّ المراد من الاستنباط هو تحصیل الحجة علی الواقع . و المحذور إنّما کان یلزم لو فسّر الاستنباط بإحراز الحکم الشرعی و استخراجه بحیث لا یشمل تحصیل الحجّة علیه ، لأن المجعول فی الأمارات ، إمّا المنجزیّة و المعذریّة ، و إما الحکم المماثل ، و هی بکلا المسلکین لا تقع فی طریق استنباط الأحکام ، فیلزم خروجها عن علم الاصول .

و أمّا الأول : فهو یرتفع بتصوّر غرضٍ خارجی جامعٍ بین الغرضین ، و یترتّب علی جمیع مسائل علم الاصول ، و ذلک الغرض هو ارتفاع التردّد

ص:42


1- (1)) نهایة الدرایة 1 / 42 ط مؤسّسة آل البیت ، بتصرف قلیل .

و التحیّر الحاصل للمکلَّف من احتمال الحکم ، فمسائل الاصول کلّها تنتهی إلی غایة واحدة ، و هی ارتفاع التردّد الحاصل من احتمال الحکم الشرعی ، سواء کانت نتیجتها الاستنباط أو لم تکن کذلک . و بذلک یرتفع المحذور المذکور .

ثم أوضح شمول هذا التعریف لجمیع المسائل الاصولیّة ، من الاصول و الأمارات و غیرها .

ثم قال : « نعم یبقی هاهنا سؤال و هو : لم عدل صاحب ( الکفایة ) إلی هذا التعریف المفصل و ذکر کلا القیدین ، مع أن نظره لو کان إلی هذه الجهة المذکورة لکان یکفی فی تعریف علم الاصول أن یقول : هو القواعد التی یرتفع بها التحیّر الحاصل للمکلّف من احتمال الحکم الشرعی ، إلّا أن الأمر فی ذلک سهل ، فإنّه لا یعدو کونه إشکالاً لفظیّاً . و لعلّ نظره قدّس سرّه إلی الإشارة إلی قصور تعریف المشهور و أنه یحتاج إلی إضافة قید ، لا إلی بطلانه ، کما قد یشعر به تبدیله و تغییره » (1) .

لکن لا یخفی أنّ لفظیّة هذا الإشکال إنّما هی علی فرض تمامیّة إرجاع تعریفه إلی ما ذکره و أتعب نفسه الشریفة ، و هذا أوّل الکلام .

و أمّا تعریفه دام ظلّه ، فإنّما أفاد دخول الاُصول الجاریة فی الشبهات الموضوعیّة ، لکونها رافعة للتحیّر و التردّد فی مقام العمل . و أمّا الأمارات فهی جاریة و متّبعة سواء قلنا بالمنجزیّة و المعذریّة ، أو جعل الحکم المماثل ، أو الطریقیّة ، بلا أیّ تردّد و تحیّر فی مقام العمل ، فتأمّل . هذا أوّلاً . و ثانیاً : إنه یستلزم خروج عدّةٍ من المسائل عن علم الاصول ، کما سیجیء الاعتراف منه و الالتزام بذلک .

ص:43


1- (1)) منتقی الاصول 1 / 27 - 29 .
تعریف المحقق الأصفهانی

تقدّم أنّه عرّف علم الاصول بالقواعد الممهّدة لتحصیل الحجّة علی الحکم الشّرعی ، و هو تعریف یدخل به ما کان خارجاً عن تعریف صاحب ( الکفایة ) ، کما أنه یصلح لأن یکون جامعاً بین الغرضین ، فلا یلزم تعدّد علم الاصول .

لکنّه صرّح فی ( نهایة الدرایة ) و فی ( الاصول علی النهج الحدیث ) بخروج البراءة الشرعیة و أصالة الحلّ عن تعریفه ، فلا بدّ من جعلها بحوثاً استطرادیة ، لکون مفادها بنفسها أحکاماً شرعیّة . لکنّ ینقض علیه بالاستصحاب - بناءً علی أن مدرکه هو الأخبار - فهو أیضاً حکم شرعی ، و الملاک فی الاصول العملیة أنْ تکون حجّة علی الحکم الشرعی ، فما کان حجةً فهو من مسائل الاصول ، و ما لا فلا ، فالبراءة الشرعیّة داخلة ، لکونها حجّة شرعیّة ، فلا وجه للاستطراد ... و کذا قاعدة الحلّ .

ثم إنّ الإشکال المهمّ المتوجّه علی هذا التعریف هو : أنّه إنْ أرید من إقامة الحجّة علی حکم العمل إقامتها بلا واسطة ، و أنّه بمجرّد الوصول إلی تلک القاعدة تحصل الحجّة و تقام علی الحکم ، لزم خروج کثیر من المسائل ، ففی بحث دلالة ألفاظ العموم مثلاً لا تکون النتیجة إقامة الحجّة بلا واسطة ، و کذا نتیجة مباحث حجیّة الظهور . و إنْ ارید من ذلک إقامتها علی الحکم ، أعمّ من أن تکون مع الواسطة أو بلا واسطة ، لزم دخول بعض العلوم کعلم الرّجال - مثلاً - فی علم الاصول .

تعریف المحقق العراقی

بل إنّ هذا الإشکال یتوجّه علی تعریف المحقق العراقی بأنّه القواعد

ص:44

الخاصّة التی تعمل فی استخراج الأحکام الکلیّة الإلهیّة أو الوظائف العملیة الفعلیة ، عقلیّة کانت أم شرعیّة (1) .

و لذا تعرّض له المحقق المذکور ، و أجاب بما حاصله : أنا نختار الشق الثانی ، و مع ذلک نلتزم بخروج الامور المزبورة عن مسائل الاصول . و ذلک :

أمّا أولاً : فلوضوح أن المهم و المقصود فی العلوم الأدبیة کالنحو و الصرف لیس هو إثبات الظهور للکلمة و الکلام ، بل المهمّ فیها هو إثبات کون الفاعل مرفوعاً و المفعول منصوباً ، بخلاف مباحث الأمر و النهی و العام و الخاص ... فی علم الاصول ، فإنها تتکفّل إحراز الظهور فی الکلمة و الکلام .

و أمّا ثانیاً : علی فرض أن المقصود فی العلوم الأدبیّة أیضاً إحراز الظهور فی شیء کظهور المرفوع فی الفاعلیة ، و المنصوب فی المفعولیة ، فإنّ غایة ما یقتضیه ذلک حینئذٍ إنّما هو وقوع نتیجتها فی طریق استنباط موضوعات الأحکام ، لا نفسها ، و المسائل الاصولیة إنما کانت عبارة عن القواعد الواقعة فی طریق استنباط نفس الأحکام الشرعیّة العملیة . و توهّم استلزامه خروج مثل مباحث العام و الخاص أیضاً ، مدفوع بأنّها و إنْ لم تکن واقعةً فی طریق استنباط ذات الحکم الشرعی ، إلّا أنها باعتبار تکفّلها لإثبات کیفیة تعلّق الحکم بموضوعه کانت دخیلةً فی مسائل الاصول ، کما هو الشأن أیضاً فی مبحث المفهوم و المنطوق ، حیث أن دخوله باعتبار تکفّله لبیان إناطة سنخ الحکم بشیء ، الذی هو فی الحقیقة من أنحاء وجود الحکم و ثبوته . و هذا بخلاف المسائل الأدبیة ، فإنّها ممحّضة لإثبات موضوع الحکم ، بلا نظر فیها إلی کیفیّة تعلّق الحکم أصلاً .

ص:45


1- (1)) نهایة الافکار 1 / 20 .

و بهذا البیان یظهر الوجه فی خروج مباحث المشتق ، لأنّها لا تتکفّل الحکم لا بنفسه و لا بکیفیّة تعلّقه بموضوعه .

هذا کلّه لدفع الإشکال بالنسبة إلی سائر العلوم . أمّا علم الرجال، فقد التزم بدخوله فی مسائل علم الاصول ، غیر أنّه بحث عنه علی حده .

لکن یرد علی جوابه بالنسبة إلی العلوم الأدبیّة ، بأنه لا فرق - بناءً علی ما ذکره - بین البحث عن مفاد لفظ « کلّ » و البحث عن مفاد لفظ « الصعید » مثلاً ، ففی الثانی أیضاً یبحث عن کیفیّة تعلّق حکم التیمّم بموضوعه ، و أنّه هل هو خصوص التراب أو مطلق وجه الأرض ؟ فلما ذا یکون البحث عن مفاد « کلّ » من الاصول ، دون البحث عن مفاد « الصّعید » ؟ قاله شیخنا الاستاذ دام بقاه .

أقول : و فیه تأمّل ، لأنّ البحث عن مفاد « کلّ » مثلاً ، بحث عن کیفیّة تعلّق الحکم بموضوعه من حیث کونه عامّاً ، أمّا البحث عن مفاد « الصعید » فهو بحث عن المعنی الموضوع له هذا اللّفظ ، و أنّه التراب أو وجه الأرض ، و لم یلحظ فی هذا البحث حیثیة سعة المفهوم أو ضیقه ، و إنّما توجد هذه الحیثیّة عندنا ، فعند ما ننظر إلی المعنیین نجد بینهما هذا التفاوت .

تعریف المحقق الخوئی

و عرّف المحقق الخوئی علم الاصول : بالعلم بالقواعد المحصّلة للعلم بالوظیفة الفعلیة فی مقام العمل ، و قصد « بالقواعد » القواعد التی تقع نفسها فی طریق الاستنباط ، فیکون قد اختار الشق الأول - خلافاً للمحقق العراقی - و بذلک تخرج بقیّة العلوم ، لکونها إنّما تقع فی طریق الاستنباط بضمّ قاعدةٍ اصولیّة ، قال :

ص:46

« و الفارق بین القواعد الاصولیّة و غیرها هو : إنّ القواعد الاصولیّة ما کانت صالحةً وحدها - و لو فی موردٍ واحد - لأنْ تقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی ، من دون توقّف علی مسألةٍ اخری من مسائل علم الاصول نفسه أو مسائل سائر العلوم ، و هذا بخلاف سائر العلوم ، إذ لا یترتب علیها وحدها حکم کبروی شرعی ، و لا توصل إلی وظیفةٍ فعلیة و لو فی موردٍ واحد ، بل دائماً تحتاج إلی ضم مسألةٍ اصولیة إلیها . فمثل العلم بالصعید و أنه عبارة عن مطلق وجه الأرض أو غیره لا یترتب علیه العلم بالحکم ، و إنما یستنبط الحکم من الأمر أو النهی و ما یضاهیهما » (1) .

و حیث اختار الشق الأوّل ، اضطرّ إلی الالتزام بخروج کثیر من مباحث الألفاظ ، قال : « إنّما هی مسائل لغویّة ، لعدم إمکان وقوعها فی طریق الاستنباط وحدها ، و بما أنّ القوم لم یعنونوها فی اللّغة فقد تعرض لها فی فن الاصول تفصیلاً » (2) .

تعریف المحقق النائینی

و المحقق المیرزا بتعریفه العلم بأنّه العلم بالکبریات التی لو انضمّت إلیها صغریاتها استنتج منها حکم فرعی کلّی (3) ، أخرج المسائل غیر الاصولیة ، لکونها لا تقع کبری قیاس الاستنباط ، فعلم الرجال الباحث عن أحوال الرجال من حیث الوثاقة و عدمها ، یقول : زید ثقة مثلاً ، فیقع هذا صغری للقیاس فی قولنا : هذا ما أخبر بوجوبه زید الثقة ، و کلّ ما أخبر الثقة بوجوبه فهو واجب ، فهذا واجب .

ص:47


1- (1)) مصابیح الاصول : 8 - 9 .
2- (2)) مصابیح الاصول : 10 .
3- (3)) فوائد الاصول 1 / 2 .

قال شیخنا :

لکنّه قد اعترف فی ( فوائد الاصول ) ، فی الأمر الثّانی من مبحث الاستصحاب ، بأن لازم هذا التعریف خروج مباحث ظهور الأمر و النهی فی الوجوب و الحرمة عن علم الاصول ، و التزم بکونها استطرادیّة . (1)

قال شیخنا دام بقاه : بل یستلزم خروج مباحث ظهور الأمر فی الفور أو التراخی ، و المرّة أو التکرار ، و کذا مباحث العمومات و المفاهیم ، لأنّ البحث فی هذه کلّها فی الصغریات ، بل یسری الإشکال إلی مباحث الإطلاق و التقیید بناءً علی کون الإطلاق بدلالة اللّفظ لا بحکم العقل .

و أضاف شیخنا إشکالاً آخر علی القیاس الذی یشکّله المیرزا ، و هو أنّه باطل لا یتلائم مع مبناه فی حجیة الخبر ، لأنّه یکون علی مبناه - و هو الطریقیة - علی الشکل التالی : هذا ما قام علی وجوبه الخبر ، و کلّ ما قام علی وجوبه الخبر فهو معلوم الوجوب ، فهذا معلوم الوجوب ، فتکون النتیجة کون المخبر به معلوماً وجوبه شرعاً ، لکنّ هذا مقتضی مبنی جعل الحکم المماثل لا مبنی الطریقیّة ، و هذا مطلب مهم ، و من هنا أیضاً یقع الإشکال علی مبنی التنجیز و التعذیر فی وجه الفتوی بالوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو الکراهة .

و علی الجملة ، فهذا التعریف و إنْ أخرج علم الرّجال و غیره من العلوم ، إلّا أنه یستلزم خروج مسائل کثیرة عن علم الاصول .

التحقیق فی المقام

و بعد ، فلم نجد التعریف المانع عن دخول علم الرجال و غیره ، و الجامع

ص:48


1- (1)) فوائد الاصول 4 / 308 .

لجمیع المسائل ، بین التعریفات المذکورة ، إذ منها ما یکون مانعاً عن دخول علم الرجال مثلاً ، مع الالتزام بالاستطراد فی جملة من المسائل المطروحة فی علم الاصول ، و منها ما یکون جامعاً لجمیع المسائل تقریباً ، مع الالتزام بکون علم الرجال من مسائل العلم .

و بالجملة ، یدور الأمر بین اعتبار قید عدم الواسطة بین المسألة و استنباط الحکم الشرعی منها ، و هذا یستلزم خروج بعض المسائل ، و بین إلغاء هذا القید فتدخل المسائل لکنّه یستلزم دخول غیر المسائل الوصولیة أیضاً فی علم الأصول .

أمّا سیّدنا الاستاذ دام ظلّه فحاول إرجاع تعریف ( الکفایة ) إلی مختاره - مع فارق واحدٍ ، و هو شمول تعریفه للاصول و الأمارات الجاریة فی الشبهات الموضوعیّة أیضاً ، و خروجها عن تعریف ( الکفایة ) - و اختار الشق الأوّل ، أعنی اعتبار القید المذکور ، ثم التزم بخروج مسألتی الصحیح و الأعم ، و المشتق ، و حاول إدخال غیرهما من مسائل الألفاظ ، لأنَّ الواسطة المعتبر عدمها فی اصولیّة المسألة هی الواسطة النظریة ، أمّا فی هذه المسائل فترتب الحکم علیها هو بواسطة کبری ارتکازیة مسلّمة . کما حاول إدخال مسألة اجتماع الأمر و النهی - مع اعترافه بأنّها علی اثنین من المذاهب الثلاثة فیها ، و هما الامتناع من جهة اجتماع الضدین ، و الامتناع من جهة التزاحم ، لا تنتهی إلی رفع التردّد فی مقام العمل ، بل تحقّق موضوع المسألتین - بأنّ الدخول و لو علی مذهبٍ واحدٍ کاف لشمول التعریف لها ، و هی بناءً علی المذهب الأول - و هو الجواز مطلقاً - داخلة .

و أمّا شیخنا الاستاذ دام ظلّه ، فقد اختار فی الدورة السابقة تعریف

ص:49

صاحب ( الکفایة ) ، ثم عدل عنه فاختار فی المتأخّرة تعریف المحقق العراقی و هو : الالتزام بالشق الثانی ، الذی لازمه دخول مباحث علم الرّجال ، أما بقیّة العلوم فلا تدخل لکونها باحثة عن موضوعات الأحکام الشرعیة ، کما یخرج مبحث المشتق لکونه بحثاً عن الموضوع کذلک .

إلّا أن شیخنا أخرج مباحث العام و الخاص و نحوهما ، ممّا وصفه العراقی بما یبحث فیه عن کیفیة تعلّق الحکم بالموضوع ، بعد ورود النقض علیه بمثل « الصعید » ، إلّا أن لنا تأملاً فی ذلک کما تقدّم .

فظهر أنّ تعریف المحقق العراقی ، و تعریف المحقق الأصفهانی ، و کذا تعریف المحقق صاحب ( الکفایة ) - علی ما فسّره السید الاستاذ - کلّها تصبُّ فی مصبٍّ واحدٍ ، و أنْ لا اختلاف بینها تقریباً إلّا فی اللّفظ و التعبیر ، لکن الأقرب هو الالتزام بالشرط المذکور و اعتباره کی یخرج علم الرجال و نحوه ، کما فعل السیّد الاستاذ دام علاه ، و اللّٰه العالم .

ص:50

الفرق بین القواعد الفقهیّة و القواعد الاصولیّة

اشارة

بقی الکلام فی الفرق بین القواعد الفقهیة و القواعد الاصولیّة ، و کیفیة إخراج الفقهیة عن علم الأصول ، علی ضوء التعاریف المذکورة .

لا یخفی أن القواعد الفقهیة تنقسم إلی قسمین ، منها ما یجری فی الشبهات الموضوعیة ، و تکون نتیجته الحکم الفرعی الجزئی ، کقاعدة الفراغ و التجاوز ، المتخذة من قوله علیه السلام : « کلّما شککت فیه ممّا قد مضی فامضه کما هو » (1) و تفید مضیّ هذه الصلاة المشکوک فی ابتلائها بمانع عن الصحة . و منها : ما یجری فی الشبهات الحکمیة ، و تکون نتیجته الحکم الکلّی الإلهی ، کقاعدة : ما یضمن بصحیحة یضمن بفاسده ، حیث تفید مثلاً ضمان فاسد القرض ، لأنّ صحیحه موجب له . و هذه القواعد منها ما یکون مفاده حکماً بالعنوان الأوّلی ، کالقاعدة المذکورة ، و منها : ما یکون مفاده حکماً بالعنوان الثانوی کقاعدة نفی الضرر ، بناءً علی نوعیّة الضرر المنفی ، و أمّا بناءً علی شخصیّته فتدخل القاعدة فیما یجری فی الشبهات الموضوعیّة .

و من الواضح أیضاً : انقسام الأصول العملیّة إلی : ما یجری فی الشبهات الموضوعیّة فقط ، و إلی ما یجری فی الشبهات الحکمیّة فقط ، و إلی ما یجری فی کلتیهما کالاستصحاب .

ص:51


1- (1)) وسائل الشیعة 237/8 ط مؤسّسة آل البیت ، الباب 23 من أبواب الخلل رقم : 3 .

أمّا ما یجری فی الشبهات الموضوعیّة ، و ینتج حکماً جزئیّاً [ مثل الاستصحاب الجاری فی کریّة هذا الماء ، من الاصول العملیة ، و مثل قاعدة الفراغ من القواعد الفقهیّة ، الجاریة فی هذه الصلاة مثلاً ]فهو خارج عن المسائل الاصولیّة ، لأنّ کلّ أحدٍ یمکنه تطبیق القاعدة أو الأصل علی المورد المشکوک فیه ، و استنتاج الحکم الشرعی المتعلّق به ، من غیر فرقٍ بین الفقیه و العامی ... فهذا القسم من القواعد و الاصول خارج .

و أمّا ما یجری فی الشبهات الحکمیة ، فالأصل العملی الجاری فی الحکم الأصولی لا ریب فی اصولیّته ، کاستصحاب حجیّة العام بعد التخصیص ، أو استصحاب عدم تحقّق المعارِض للروایة ، فهذا القسم من الاصول العملیّة الجاریة فی الشبهات الحکمیّة خارج عن البحث .

إنّما الکلام فی الاُصول العملیّة و القواعد الفقهیّة التی یتشارکان فی التطبیق علی الموارد و استخراج الأحکام الکلیّة الفرعیّة منها ، فما الفارق بینهما ؟ و کیف تخرج الثانیة عن المسائل الاصولیّة ؟

و لک أنْ تقول : إن تعریف علم الفقه - و هو : العلم بالأحکام الشرعیّة الفرعیّة عن أدلّتها التفصیلیّة - کما ینطبق علی القواعد الفقهیة فتکون من مسائله ، کذلک ینطبق علی الاصول العملیة الجاریة فی الشبهات الحکمیّة ، إذ الحکم بنجاسة الماء المتغیّر بالنجاسة الزائل تغیّره ، حکم شرعی فرعی ، أنتجه الاستصحاب المستفاد عن دلیلٍ تفصیلی ، و هو صحیحة زرارة مثلاً ، الدالّ علی بقاء الحکم السابق فی الماء المذکور ، و علی الجملة : فکما أن قاعدة ما لا یضمن حکم فرعی ، کذلک الحکم ببقاء نجاسة الماء ، و کما أنها مستنبطة من الدلیل التفصیلی و هو الإجماع ، کذلک الحکم المذکور مستنبط من الدلیل

ص:52

التفصیلی و هو الأخبار . فانطبق علیها تعریف علم الفقه ، فتکون هذه الاصول العملیة خارجة عن علم الاُصول و داخلة فی علم الفقه ، فما هو الجواب ؟

جواب الشیخ الأعظم و المیرزا

أجاب الشیخ الأعظم بأنّ إجراء الاصول العملیة فی الأحکام الکلیّة الفرعیة من عمل المجتهد و وظیفته ، بخلاف القواعد الفقهیة . و هذا هو الفرق (1) ، و عن المیرزا النائینی موافقته فی ذلک (2) .

و قد أشکلوا علیه بأنّ القواعد الفقهیة - کالاصولیّة - لا یمکن إلقاؤها إلی العامّی ، فأیّ عامی یمکنه تشخیص الشرط المخالف للکتاب من غیره ، کی یطبق قاعدة : کلّ شرط خالف الکتاب و السنّة فهو باطل ؟ و هکذا القواعد الاخری .

جواب المحقق العراقی

و أجاب المحقق العراقی بأنّ کلّ قاعدةٍ تُعمل فی استخراج الأحکام الکلیّة الإلهیّة من دون اختصاصٍ لها ببابٍ دون بابٍ من أبواب الفقه ، فهی مسألة اصولیّة ، فیخرج مثل قاعدة الطهارة بلحاظ عدم سریانها فی جمیع أبواب الفقه (3) .

و أشکل علیه شیخنا دام بقاه بعدم الدلیل ، و بالنقض ببعض المسائل الاصولیّة من جهة کونها مختصّةً ببعض الأبواب ، کمسألة الملازمة بین النهی و الفساد ، لوضوح اختصاصها بأبواب العبادات فقط .

ص:53


1- (1)) الرسائل 319 - 320 . أوّل رسالة الاستصحاب ، و لیلحظ کلامه فإنه طویل مفید .
2- (2)) محاضرات فی اصول الفقه 11/1 .
3- (3)) نهایة الأفکار 1 / 20 - 21 . و یلاحظ أنّه أرجع الیه جواب الشیخ ، من جهة اشتراط تطبیق قاعدة الطّهارة بالفحص ، و اشتراط تطبیق قاعدة الشروط بمعرفة الکتاب و السنّة ، و من الواضح أن لا سبیل فی ذلک للعامی الذی لا یتمکن من الفحص و لا یعرف ظواهر الکتاب و السنّة .
جواب المحقق الخوئی

و أجاب المحقق الخوئی بأنّ الفرق أمّا بین القواعد الفقهیة الجاریة فی الشبهات الموضوعیة ، و بین القواعد الأصولیّة ، فبأنّ القواعد الفقهیّة تنتج فی تلک الشبهات الأحکام الجزئیّة الشخصیّة ، کقاعدتی الفراغ و التجاوز ، و قاعدة الید ، و نفی الضرر ... فقاعدة الفراغ مثلاً تفید عدم الاعتناء بالشک بعد الفراغ من العمل ، و هذه الکبری إذا انضمّت إلی صغراها و هو عمل الشخص المشکوک فی صحّته ، أنتجت صحّة ذاک العمل . هذا حال هذا القسم من القواعد الفقهیة . و أمّا المسائل الاصولیّة ، فالناتج منها حکم کلّی عام ثابت لجمیع المکلّفین ، کمسألة حجیّة خبر الواحد .

و أمّا القواعد الفقهیّة الجاریة فی الشبهات الحکمیة ، کقاعدة ما لا یضمن ، فإنّها و إنْ انتجت حکماً کلیّاً - کالقواعد الاصولیة - إلّا أن الفرق عدم وقوعها فی طریق الاستنباط ، و إنّما هی أحکام مستنبطة تطبّق فی مواردها ، بخلاف القواعد الاصولیّة ، فإنّها تقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی أو تکون مرجعاً للفقیه فی تعیین الوظیفة العملیّة . فهذا هو الفرق (1) .

أقول : و قد أورد علیه تلامذته ، کالسید الصدر و شیخنا الاستاذ بالنقض و الحلّ .

و حاصل الکلام عدم تمامیّة هذا الجواب ، لکون بعض القواعد الفقهیّة الجاریة فی الشبهات الموضوعیّة تفید حکماً کلیّاً لا جزئیّاً (2) ، کما أنّ من

ص:54


1- (1)) مصابیح الاصول 11 - 13 .
2- (2)) قد وقع الخلاف بین الأعلام فی مفاد أدلة قاعدتی نفی الضرر و الحرج ، فی أن الحرج و الضرر المنفیّین شخصیّان أو نوعیّان، فالسیّد الخوئی مثّل بهما لإفادة الحکم الشخصی بناءً علی کونهما شخصیین ، و المستشکل علیه یشکل بأنهما یفیدان الحکم الکلی بناءً علی کونهما نوعیّین . فالحاصل کون الاستدلال و الإشکال کلیهما علی المبنی .

المسائل الاُصولیّة ما یطبّق فی مورده و لیس واسطةً فی الاستنباط ، و من ذلک الاستصحاب و البراءة و الاحتیاط ، و هذه من أهم المسائل ، ففی الاحتیاط مثلاً نستنبط من « احتط لدینک » و « قف عند الشبهة » حکماً شرعیّاً ثم نطبّقه علی مورده و مصداقه .

جواب المحقق الأصفهانی

و أجاب المحقق الأصفهانی عن السؤال علی ضوء ما ذهب إلیه فی تعریف علم الاصول و علم الفقه ، فعلم الفقه عنده : إقامة الحجّة علی الحکم الشّرعی . و علم الاصول عنده : هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الاحکام الشرعیّة ، بمعنی : إن القواعد الاصولیّة واسطة فی إثبات التنجیز للأحکام الشرعیة ، و الإعذار للعبد أمام الشارع المقدّس [ لا بمعنی کونها واسطة فی إثبات الحکم الشرعی ، المستلزم لخروج کثیر من المسائل عن علم الاصول ، لعدم کونها واسطةً کذلک ، کقاعدة الاشتغال مثلاً ] .

و علی الجملة ، فعلم الاصول تحصیل الحجّة ، و علم الفقه تطبیق الحجّة و إقامتها . و هکذا یظهر الفرق بوضوح ، ففی الاستصحاب مثلاً : جعل الشارع الیقین السابق منجّزاً للبقاء ، فیکون البحث عن المنجزیّة و المعذریّة .

نعم ، یبقی حدیث الرفع ، فهناک لا تنجیز و لا تعذیر ، بل رفع للحکم .

و کذا أصالة الحلّ ، حیث جعل الشارع هناک الحلیّة ، فلا تنجیز و لا تعذیر .

و لذا یلتزم قدّس سرّه بکون البراءة الشرعیة و أصالة الحلّ من المسائل الفقهیة لا أنهما من المسائل الاصولیة .

هذا مطلب المحقق الأصفهانی .

ص:55

اختاره شیخنا الاستاذ مع تعدیل

و هذا مختار شیخنا الاستاذ مع تعدیل لما ذکره ، بحیث تدخل البراءة و قاعدة الحلّ ، إذ المختار عنده أن علم الاصول هو کلّ المسائل التی لها دخل فی تشکیل و تحقیق النّسبة بین الموضوع و المحمول فی صغری قیاس الاستنباط و کبراه ، و إنْ بحث عن بعض ذلک فی خارج علم الاصول .

و أمّا ما ذکره المحقق الأصفهانی فی تعریف الفقه فلم یناقشه فیه .

فکان مختاره فی الفرق بین القواعد الاصولیة و القواعد الفقهیّة - فی کلتا الدورتین - :

إن کلّ قاعدة ذات خلفیّة تکون حجّةً للّٰه علی العبد أو للعبد أمام اللّٰه ، فهی قاعدة أصولیّة ، و کلّ قاعدة لیست کذلک ، فهی قاعدة فقهیّة .

أقول :

لکنّ لازم هذا المبنی أن یکون إجراء القواعد الفقهیّة و القواعد الاصولیّة معاً بید المجتهد فقط ، إذ لا سبیل للعامی للفحص عن « ما وراء » القاعدة ، و تشخیص ما یکون له « ما وراء » ممّا لا یکون ، ثم معرفة « ما وراء » القاعدة ...

و الحال أنّ بعض القواعد الفقهیّة یجریها العوام بلا توقّف . فتدبّر .

ص:56

فائدة علم الاصول

لا یخفی أن لعلم الاصول جهة آلیّة ، و أنّه لیس البحث عن المسألة الاصولیّة إلّا وسیلةً ، فمعرفة مسائل هذا العلم لیست بمطلوبٍ نفسی ، بل مطلوب غیری ، و ذلک المطلوب هو تحصیل الحجّة علی الحکم الشرعی ، ففائدة هذا العلم و نتیجته تتعلّق بعلم الفقه و معرفة الأحکام الشرعیّة ، لأن الفقه - کما عرّفوه - هو العلم بالأحکام الشرعیة الفرعیة عن أدلّتها التفصیلیّة .

إلّا أن الفقه فی اصطلاح الکتاب و السنّة هو أعمّ من الأحکام الشرعیّة ، و یشمل المعارف الدینیّة و الأخلاق أیضاً .

فی علم الاصول یبحث عن النسب الواقعة بین الأحکام الشرعیّة ، و النصوص المتعلّقة بها فی الکتاب و السنّة ، لتفهم تلک النسبة فهماً تحقیقیّاً لا تقلیدیاً .

فعلم الاصول وسیلة لفهم نصف الدین ، و هو الفقه .

فهذه فائدة هذا العلم .

و هذا تمام الکلام فی التمهیدات .

ص:57

ص:58

حقیقة الوضع

اشارة

ص:59

ص:60

اختلفت کلمات المحقّقین فی حقیقة الوضع علی ستة أقوال أو أکثر ، و نحن نذکرها و نتکلّم علیها ، فنقول :

صاحب الکفایة

أمّا صاحب ( الکفایة ) قدّس سرّه فلا یظهر من کلامه شیء عن حقیقة الوضع ، و إنما قال :

« الوضع هو نحو اختصاصٍ للّفظ بالمعنی و ارتباط خاص بینهما ، ناشٍ من تخصیصه به تارةً و من کثرة استعماله فیه أخری ، و بهذا المعنی صحّ تقسیمه إلی التعیینی و التعیّنی » (1) .

فهذا الکلام - کما لا یخفی - لیس فیه بیانٌ لحقیقة الوضع ، و لهذا قد لا یذکر کلامه فی هذا المبحث إلّا للإشارة إلی الخصوصیّات التی لحظها فیه ...

کالسرّ فی عدوله عن « التخصیص » إلی « الاختصاص » ، و أنّه لما ذا قال : « نحو اختصاص » ؟ أمّا العدول المذکور فلأنّه و إن کان الوضع التعیینی « تخصیصاً » من الواضع ، لکنّ الوضع التعیّنی یحصل علی أثر کثرة استعمال اللّفظ فی المعنی ، فهو « اختصاص » لعدم المعنی للتّخصیص التعیّنی . و أمّا التعبیر ب « نحو اختصاص » فلأنّ الاختصاص علی نحوین ، فتارةً : یوجد أثر تکوینی فی

ص:61


1- (1)) کفایة الاصول : 9 .

المختصّ و المختصّ به ، کالاختصاصات الواقعیّة ، و اخری : لا یوجد ، و من هذا القبیل وضع الألفاظ ، فهو « نحو اختصاص » .

هذا ، و الکلام فی المقام حول حقیقة هذا الاختصاص ، لأنه علقة بین اللّفظ و المعنی موجودة بلا ریب ، و لیست من سنخ الجواهر و الأعراض ، لأنّها امور موجودة ، و العلقة بین اللّفظ و المعنی - کلفظ الماء و ذاک الجسم البارد بالطبع السیّال - غیر قائمة بالوجود ، فإنّها موجودة سواء وجد المعنی أو لا ...

إلّا أنّ وجودها یکون بالاعتبار کما لا یخفی ، لکن لا من سنخ الاعتبارات الشرعیّة و العقلائیّة لکون موضوعها هو الوجود الخارجی للبیع مثلاً فی اعتبار الملکیّة و لزید عند اعتبار الزوجیّة ، لما تقدّم من عدم تقوّم العلقة الوضعیّة بین اللّفظ و المعنی بالوجود ، لا ذهناً و لا خارجاً ... و لعلّ هذه الاُمور مقصودة لصاحب ( الکفایة ) فی قوله : « نحو اختصاص » (1) .

المحقق النائینی

و ذهب المحقق المیرزا إلی أنّ حقیقة الوضع : تخصیص الخالق الألفاظ بالمعانی ، و هذا التخصیص أمر متوسّط بین التکوین و التشریع .

و توضیحه : إن الألفاظ و المعانی غیر متناهیة ، لکنّ الوضع للامور غیر المتناهیة غیر ممکن ، هذا من جهةٍ ، و من جهةٍ اخریٰ : المناسبة الموجودة بین اللّفظ و المعنی ، کلفظ الماء و معناه لیست بذاتیّة - کالمناسبة الذاتیة بین النار و الحرارة - بل هی جعلیّة ، لکنّ أفراد الإنسان و أهل اللسان لا یعلمون بتلک المناسبة ، فلا بدّ و أن یکون الجاعل هو اللّٰه سبحانه ، فإنّه الملهِم لأن یعیّنوا اللّفظ الکذائی للمعنیٰ الکذائی ، و هذا معنی کونه وسطاً بین التکوین

ص:62


1- (1)) أجود التقریرات 1 / 11 .

و التشریع .

و لا یخفی ما فیه ، فإنّه - بغض النظر عن عدم قابلیّة التخصیص للتعیین و التعیّن معاً - لیس الامور الواقعیّة إلّا ما یوجد فی الخارج بإزائها شیء ، کالجواهر و الأعراض - عدا الإضافة - أو ما لا یوجد ذلک ، بل یوجد المنشأ للانتزاع کالفوقیّة و التحتیّة و نحوهما . و أمّا وجود أمر ثالثٍ یکون وسطاً بین الامور الخارجیة الواقعیة و بین التشریعیة فهو غیر معقول . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ الوضع یتبع احتیاج البشر فی إفادة أغراضه و مقاصده ، فهو فی الحقیقة یحلُّ محلّ الإشارة المفهمة ، فإذا ولد له مولود وضع له اسماً کی ینادیه به متی أراده ، و کذا لو اخترع جهازاً ، و هکذا ... فلیس الواضع هو اللّٰه و لا أحد معیّن من أفراد البشر . اللّهم إلّا أن یثبت بدلیلٍ یقینی أنّ المراد من قوله تعالی : «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء کُلَّهَا » (1)هو أسماء الکائنات ، و لکن دون إثبات ذلک خرط القتاد .

المحقق العراقی

و المحقّق العراقی ذهب إلی أنّ الوضع عبارة عن : نحو إضافة و اختصاص خاص یوجب قالبیّة اللّفظ للمعنی و فنائه فیه فناء المرآة فی المرئی ، بحیث یصیر اللّفظ مغفولاً عنه و بإلقائه کأنّ المعنی هو الملقی ، بلا توسیط أمرٍ فی البین ، قال : و من جهة شدّة العلاقة و الارتباط بین اللّفظ و المعنی و فناء الأول فی الثانی تری سرایة التعقید من اللّفظ إلی المعنی ، و سرایة الحسن و القبح من المعنی إلی اللّفظ .

و أورد علیه فی ( المحاضرات ) بما حاصله : إنّ هذه الملازمة المجعولة

ص:63


1- (1)) سورة البقرة : 31 .

إمّا هی مطلقة للعالم و الجاهل بها ، أو أنها مختصّة بالعالم بها ، فإن کانت مطلقة لزم أنْ یدرکها الجاهل باللغة أیضاً ، و إنْ کانت لخصوص العالم بالوضع ، فإنّ العلم بالوضع متأخر عن الوضع ، فجعل العلقة الوضعیّة للعالم بها محال ، بل لا بدّ من أن یتحقق الوضع ، ثم یحصل العلم به ، ثم تجعل الملازمة لخصوص العالم .

و أجاب شیخنا دام ظلّه : بأنّ هذا الإیراد بعد الدقّة فی کلام العراقی غیر وارد ، لأنّه یری أن الجعل هنا هو کسائر المجعولات الأدبیّة ، فکما أن الجاعل یضع المرفوعیة للفاعل و المنصوبیّة للمفعول ، کذلک یجعل اللّفظ مبرزاً للمعنی ، و علی هذا ، فکما أنّ القواعد فی العلوم الأدبیّة قابلة لتعلّق العلم و الجهل فکذا الاختصاص الوضعی بین اللّفظ و المعنی ، و کما لا معنی للسؤال عن أن تلک القواعد مجعولة لمطلق الناس أو لخصوص العالمین ، فکذلک اختصاص اللّفظ بالمعنی ، و علی الجملة ، فإنّ هنا اعتباراً خاصّاً بین طبیعیّ اللّفظ و المعنی ، بغضّ النظر عن العلم و الجهل . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن حلّ المطلب أنّه لا مانع من القول بکون المجعول فی باب الوضع هو : اختصاص اللّفظ بالمعنی من باب الملازمة ، بأن تکون هذه الملازمة نظیر الملازمات الخارجیّة ، کالتی بین النار و الحرارة ، فإنها موجودة سواء علم بها أولا ، و هنا یجعل الجاعل الملازمة بین اللّفظ و المعنی ، و هو جعل مهمل بالنسبة إلی العالم و الجاهل ، و السرّ فی ذلک هو : إن الاهمال لیس بغیر معقول علی الإطلاق ، بل کلّ انقسامٍ کان من خصوصیّات نفس الجاعل فالإهمال فیه غیر معقول ، مثلاً : الرقبة تنقسم إلی المؤمنة و الکافرة و اعتبار وجوب العتق تعود کیفیّته إلی المعتبر ، فتارةً یجعله مع لحاظ الرقبة لا بشرط

ص:64

من الخصوصیّتین و اخری یجعله بشرط ، فهنا الإهمال غیر معقول ، لأنّ المجعول المنقسم موضوعه إلی قسمین مثلاً لا بدّ و أن یلحظ فی مرحلة الجعل . لکن هذه القاعدة لیست مطّردة فی جمیع الموارد ، فالماهیّات مثلاً بالنسبة إلی الوجود و العدم لا هی مطلقة ، و لا هی مشروطة ، بل الماهیّة بالنسبة إلی الوجود مهملة .

و علی الجملة ، فإن الجاعل للملازمة یعتبر تلک الملازمة - الثابتة بین اللوازم و ملزوماتها - بین اللّفظ و المعنی ، و هذا الشیء المعتبر تارة یکون معلوماً و اخری مجهولاً .

فما ذکره فی المحاضرات غیر وارد علی المحقق العراقی ، عند شیخنا الاستاذ ، و کذا عند سیدنا الاستاذ ، لکنْ ببیان آخر ، فراجع ( المنتقی ) .

و أورد شیخنا دام بقاه فی الدورة السابقة - التی حضرناها بأنّ عملیّة الوضع من الامور المألوفة عند کلّ فردٍ ، فإن الشخص عند ما یضع اسماً علی ولده ، فإنّه لا یعتبر هذا الاسم ملازماً لذات الولد ، بل إنها - أی الملازمة - لا تخطر بباله أبداً ، غیر أن أثر هذه التسمیة هو تبادر المسمّی إلی ذهن السّامع عند سماع الاسم بعد العلم بالتّسمیة ، فتکون الملازمة حینئذٍ موجودة لکنها غیر مقصودة لا للواضع و لا لغیره .

ثم عدل عن هذا الإشکال فی الدورة المتأخّرة بعد التأمّل فی کلام المحقق العراقی فی ( المقالات ) تحت عنوان « إیقاظ فیه إرشاد » فذکر أنّه و إنْ تکرّرت کلمة « الملازمة » فی کلامه ، إلّا أنه قد أوضح تحت العنوان المزبور أنّ حقیقة الوضع : تعلّق الإرادة بنحو اختصاص ، و بهذا النحو من الاختصاص تتم مبرزیّة اللّفظ للمعنی و قالبیّته له ، فالمعتبر عنده هو هذه

ص:65

المبرزیّة لا الملازمة بین اللّفظ و المعنی . إذن : فالاعتبار متعلِّق بجعل اللّفظ مبرزاً للمعنی لا بالملازمة ، ثم قال : و القائل بالتعهّد إنْ کان مراده هذا فنعم الوفاق (1) .

لکنّه أورد علیه فی کلتا الدورتین فی قوله بأنّ هذا الاختصاص بعد تحقّقه بالاعتبار یصبح مستغنیاً عن الاعتبار و تکون له واقعیّة و خارجیّة . بعدم معقولیّة حصول الخارجیّة للشیء المعتبر بعد اعتباره ، بحیث لا یزول بزوال الاعتبار أو باعتبار العدم ، لأنّه یعنی الانقلاب ، و هو محال .

أقول :

و قد دافع السید الاستاذ فی ( المنتقی ) (2) عن نظریّة المحقق العراقی ، فی قبال ما جاء فی ( المحاضرات ) ، و قد اشتمل کلامه علی الالتزام بالأمرین ، أعنی :

أوّلاً : إن المجعول فی نظر المحقق العراقی هو « الملازمة » .

و ثانیاً : إن ما یتعلق به الاعتبار یتحقق له واقع و یتقرّر له ثبوت واقعی کسائر الامور الواقعیّة .

و قال فی آخر کلامه : إن هذه الدعوی لا محذور فیها ثبوتاً و لا إثباتاً .

أقول :

لکنّی أجد اضطراباً فی کلامه فیما یرتبط بالأمر الثانی - و لا بدّ و أنه من المقرر رحمه اللّٰه - و ذلک لأنّه فی أوّل البحث یقول ما لفظه : « إن الإنصاف یقضی بأن نظر المحقق العراقی یمکن أن یکون إلی جهةٍ اخری ، و هی أن

ص:66


1- (1)) مقالات الاصول 47/1 .
2- (2)) منتقی الاصول 47/1 .

الوضع أمر اعتباری إلّا أنّه یختلف عن الامور الاعتباریة الاخری بأنّ ما تعلّق به الاعتبار یتحقق له واقع و یتقرّر له ثبوت واقعی ، کسائر الامور الواقعیّة ، فهو یختلف عن الامور الواقعیّة ، من جهة أنه عبارة عن جعل العلقة و اعتبارها ، و یختلف عن الامور الاعتباریة ، بأن ما یتعلّق به الاعتبار لا ینحصر وجوده بعالم الاعتبار ، بل یثبت له واقع فی الخارج .

و یقول فی أثناء البحث ما نصّه : « فالمدعی : إن الجاعل اعتبر مفهوم الملازمة و العلقة بین اللّفظ و المعنی ، و قد نشأ من اعتبار هذه الملازمة ملازمة حقیقیة واقعیة بین طبیعی اللّفظ و طبیعی المعنی ، بلحاظ أن ذلک الاعتبار أوجب عدم انفکاک العلم بالمعنی و تصوّره عن العلم باللّفظ و تصوره ، و تلازم الانتقال إلی المعنی مع الانتقال إلی اللّفظ ، و هذا یعنی حدوث ملازمة واقعیة بین اللّفظ و المعنی ... » .

فکم فرق بین العبارتین ؟

إنه علی الأولی یتوجّه إشکال شیخنا الاستاذ ، أمّا علی الثانیة فلا ، بل یکون الوضع حاله حال التبادر ، کما تقدّم فی کلام شیخنا .

و یبقی الإشکال علی المحقق العراقی و السید الاستاذ فی تعلّق الجعل بالملازمة ، بل إنّ هذا الإشکال یقوی بناءً علی العبارة الثانیة من أن تلک العلقة الواقعیّة تنشأ من العلقة الاعتباریة ، لوضوح أنّها حینئذٍ غیر مقصودة للواضع ، و لا مستندة إلیه ، فکیف تکون الملازمة من فعله ؟

المحقق الفشارکی و جماعة

قال المحقق الحائری فی ( درر الاصول ) :

« الذی یمکن تعقّله : أنْ یلتزم الواضع أنه متی أراد معنیً و تعقّله و أراد

ص:67

إفهام الغیر ، تکلَّم بلفظ کذا ، فإذا التفت المخاطب بهذا الالتزام ینتقل إلی ذلک المعنی عند استماع ذلک اللّفظ منه ، فالعلاقة بین اللّفظ و المعنی تکون نتیجة لذلک الالتزام ، و لیکن منک علی ذکر ...

الدالّ علی التعهّد تارةً یکون تصریح الواضع ، و اخری : کثرة الاستعمال ، و لا مشاحة فی تسمیة الأول وضعاً تعیینیّاً و الثانی تعینیّاً » (1) .

و قد استدلّ لهذا القول - الذی اختاره جمع من المحققین ، کالنهاوندی و الخوئی - بوجوه هی :

أوّلاً : مساعدة الوجدان .

و ثانیاً : إن الوضع مساوق للجعل لغةً ، و من هذا الباب وضع القانون مثلاً .

و ثالثاً : إن الغرض من الوضع هو قصد التفهیم ، و هو - أی هذا القصد - من اللّوازم الذاتیّة للالتزام ، و هذا الارتباط بین الغرض و عمل الإنسان - أعنی قصده - یوجب القول بکون الوضع عبارة عن الالتزام .

هذا ، و لا یخفی أنّ الوضع بناءً علی هذا أمر تکوینی ، لأنّ الالتزام من أفعال النفس و له واقعیّة ، فلیس الوضع من الامور الاعتباریة .

و أیضاً : فإنّ هذا المبنی إنما یتمشّی علی القول بأنّ کلّ مستعملٍ واضع ، لأنّ المستعمل کلّما قصد تفهیم معنیً أبرزه باللّفظ الموضوع له ، فلا محالة لا یتعلّق الالتزام من الإنسان إلّا بما یکون تحت اختیاره ، و یستحیل تعلّق الالتزام بفعل الغیر ، بأنْ یلتزم الواضع مثلاً أنَّ کلّ من أراد الجسم البارد السیّال فهو یبرز قصده و مراده بلفظ الماء .

ص:68


1- (1)) درر الاصول 35/1 ط جامعة المدرّسین .

و أیضاً : مما ذکره فی کیفیّة تقسیم الوضع إلی التعیینی و التعیّنی یظهر أنّ کلّ من لم یکن تعهّده مسبوقاً بالغیر فهو الواضع الأوّل للّفظ ، و هذا لا ینفی أن یکون المستعملون کلّهم واضعین کما ذکرنا من قبل .

هذا هو المهمّ من الکلام فی أدلّة هذا القول و مزایاه .

ثم إنّه قد أورد علی هذا المبنی بأن الالتزام باستعمال اللّفظ عند إرادة تفهیم المعنی فرعٌ للعلم بالوضع ، فلا بدَّ أولاً من العلم بالوضع ثم الالتزام بالاستعمال کذلک ، فإنْ کان الوضع هو الالتزام نفسه لزم الدور ، لأن الالتزام موقوف علی العلم بالوضع ، و هو موقوف علی الالتزام .

و قد أوضح شیخنا دام ظلّه الجواب عن هذا الایراد بأنّ الالتزام تارةً کلّی و اخری شخصی ، و الوضع من قبیل الأول ، بمعنی أنّ الواضع یلتزم التزاماً کلیّاً بأنّه متی أراد المعنی الکذائی استعمل اللّفظ الکذائی ، و للشخص فی نفس الوقت التزام شخصی أیضاً ، لکونه أحد المستعملین ، و الذی یتوقف علی العلم بالوضع هو الالتزام الشخصی دون الکلّی .

نقد نظریة التعهّد

هذا ، و قد ردّ شیخنا الاستاذ فی کلتا الدورتین ، و کذا سیّدنا الاستاذ فی ( المنتقی ) - بعد أنْ کان یوافق علیه من قبل - علی مبنی الالتزام و التعهّد ، و أبطلاه بالتفصیل .

أمّا شیخنا فقد ناقش فی الأدلّة واحداً واحداً :

فأجاب عن الدلیل الأول - و هو مساعدة الوجدان - بأنّ المستعمل للّفظ فی معناه له علم بالوضع ، و له إرادة للمعنی ، و له قصد لتفهیم المخاطب بمراده ، فهذه الامور موجودة عند کلّ مستعمل ، و منها التزامه باستعمال اللّفظ

ص:69

الخاص عند إرادة معناه الخاص ، و لکن ما الدلیل علی أن الوضع هو نفس هذا الالتزام و لیس شیئاً آخر غیره ؟

إنه بعد أن سمّی ولده بالحسن مثلاً ، یلتزم باستعمال هذا الاسم متی أراد ولده ، و لکن هل هذا الالتزام هو الوضع أو أنه شیء آخر و الالتزام المزبور من مقارناته ؟

و أجاب عن الدلیل الثانی - و هو کون الوضع فی اللّغة : الجعل - بأن الضابط فی کون لفظ بمعنی لفظ صحّة استعمال أحدهما فی مکان الآخر ، فلنلاحظ هل یمکن استبدال کلمة « الوضع » بکلمة « الجعل » فی موارد استعمالها ، کما فی قوله تعالی : «فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّی وَضَعْتُهَا أُنثَی وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ » (1)و نحو ذلک ؟ هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن « الوضع » یقابله « الرفع » و هما ضدّان ، و « الجعل » یقابله « التقریر » و هما نقیضان ... و هذا برهان آخر علی اختلاف المعنی .

و من هنا یظهر أن کلّ مورد جاز فیه استبدال أحدهما بالآخر فهو بالعنایة ، ...

و مما یشهد بالمغایرة بحث العلماء فی حدیث الرفع بأن الرفع یقابل الوضع ، فلِمَ استعمل الرفع و ارید به عدم الجعل ؟

و أجاب عن الدلیل الثالث بما حاصله : قبول وجود الالتزام ، و التسلیم بتحقق العلقة بین اللّفظ و المعنی ، و لکنْ لا دلیل علی أنّ المحصّل لتلک العلقة الوضعیة هو الالتزام بالخصوص لا شیء آخر .

و من هنا ذکر فی ( المحاضرات ) فی أدلّة هذا القول : بطلان الأقوال

ص:70


1- (1)) سورة آل عمران : 36 .

الاخری ، و من الواضح أنّ هذا غیر تام ، لوجود غیر تلک الأقوال فی المسألة .

و أمّا السید الاستاذ (1) فقد قال : إنّ المراد من التعهّد یتصوّر بأنحاء ، فذکر ثلاثة أنحاء و أبطلها ، النحو الأول : أن یراد به التعهّد و البناء علی ذکر اللّفظ بمجرّد تصوّر المعنی و الانتقال إلیه ، فمتعلَّق التعهّد هو ذکر اللّفظ .

و النحو الثانی : أن یراد به التعهّد و البناء علی ذکر اللّفظ عند إرادة تفهیم المعنی . و النحو الثالث : أن یراد به التعهد و البناء علی تفهیم المعنی باللّفظ عند إرادة تفهیمه ، فیکون متعلَّق التعهّد هو نفس التفهیم لا ذکر اللّفظ .

أقول : و الثالث هو ظاهر عبارة ( الدرر ) المتقدّمة ، و عبارة ( المحاضرات ) الذی قال : بأنّه التعهّد بإبراز المعنی باللّفظ عند إرادة تفهیمه .

فأشکل علیه :

أوّلاً : بأنّه یستلزم اللغویّة ، لأنّ المفروض أنْ لا مفهم للمعنی إلّا اللّفظ الخاص ، فالتفهیم به حاصل قهراً ، سواء کان هناک تعهّد أو لم یکن .

و ثانیاً : بأنّه یستلزم الدور ، لأن التعهّد یتوقف علی کون متعلَّقه - و هو التفهیم - مقدوراً ، و القدرة علی تفهیم المعنی بهذا اللّفظ إنما تحصل بالتعهّد - بناءً علی هذا القول - فالقدرة المذکورة متوقّفة علی التعهّد ، و التعهّد متوقّف علی القدرة .

أقول :

أمّا إشکال اللغویة ، فالظّاهر عدم لغویّة التعهّد ، فصحیحٌ أنْ المفهم للمعنی هو اللّفظ الخاص لا لفظ آخر ، لکنّ متعلّق التعهّد هو إبراز هذا اللّفظ الخاص متی ارید تفهیم معناه .

ص:71


1- (1)) منتقی الاصول 61/1 .

و أمّا إشکال الدور ، فقد ذکر شیخنا جوابه بتعدّد متعلّق التعهّد و البناء ، فأحدهما : البناء الکلّی ، و هو التعهّد بنحو القضیة الحقیقیّة بأنه کلّما أراد تفهیم المعنی و قصد ذلک أظهر قصد التفهیم باللّفظ الخاص الموضوع لذاک المعنی ، و بهذا البناء یصیر اللّفظ مقدمةً لإبراز قصد تفهیم المعنی ، ثم إنه فی الاستعمالات الخاصّة یکون ذلک اللّفظ الذی کان مقدمةً بسبب التعهّد الکلّی متعلَّقاً للإرادة المقدمیّة و التوصلیّة ، و بهذا البیان یندفع إشکال الدور ، فکلّ واضع لا بدّ و أنْ یکون عنده إرادة و تعهّد کلّی ، و ذلک البناء الکلّی یستتبع البناءات و الإرادات الجزئیّة ، إذ له عند کلّ استعمال إرادة جزئیّة .

لکنّه دام بقاه أورد علیه بالنقض : بأنّ الأطفال و المجانین و حتی بعض الحیوانات لهم وضعٌ أیضاً ، و لا تتمشّی من هؤلاء الإرادة و التعهّد الکلّی .

و أورد علیه أیضاً : بأنّ کون کلّ مستعمل واضعاً - کما صرّح به فی ( المحاضرات ) - خلاف العرف و اللّغة ، و ما ذکره من أنّ عنوان « الواضع » ینصرف عن سائر المستعملین إلی المستعمل الأوّل لکونه السّابق ، یخالف مبناه فی الانصراف ، فإنّه لا یری - فی جمیع بحوثه فی الفقه و الاصول - للانصراف منشأً إلّا التشکیک فی الصّدق ، فلا تکون الأسبقیّة منشأً له .

هذا ، و فی ( المحاضرات ) فی نهایة المطلب :

إن مذهبنا هذا ینحلّ إلی نقطتین ، النقطة الاُولی : إن کلّ متکلّم واضع حقیقة ، و تلک نتیجة ضروریّة لمسلکنا بأن حقیقة الوضع : التعهّد و الالتزام النفسانی . النقطة الثانیة : إنّ العلقة الوضعیّة مختصة بصورةٍ خاصّة ، و هی ما إذا قصد المتکلّم تفهیم المعنی باللّفظ ، و هی أیضاً نتیجة حتمیة للقول بالتعهد ، بل و فی الحقیقة هذه هی النقطة الرئیسیة لمسلکنا هذا ، فإنّ علیها یترتب نتائج ستأتی فیما بعد .

ص:72

قال : و أما ما ربما یتوهّم هنا من أن العلقة الوضعیّة لو لم تکن بین الألفاظ و المعانی علی وجه الاطلاق ، فلا یتبادر شیء من المعانی منها إذا صدرت عن شخصٍ بلا قصد التفهیم ، أو عن شخص بلا شعور و اختیار ، مع أنّه لا شبهة فی تبادر المعنی منها .

فأجاب : بأن هذا التبادر غیر مستند إلی العلقة الوضعیة ، بل إنما هو من جهة الانس الحاصل بینهما بکثرة الاستعمال أو بغیرها (1) .

أقول :

أمّا النقطة الاولی ، فقد عرفت ما فیها من کلام شیخنا .

و أمّا النقطة الثانیة ، فیظهر ما فیها من کلامه أیضاً ، مضافاً إلی أنّ دعوی کون الانتقال من اللّفظ إلی معناه عند سماعه - حتی من الأطفال و المجانین الذین لا یقصدون التفهیم - إنما هو علی أثر الأُنس الحاصل بین اللّفظ و المعنی بکثرة الاستعمال أو غیرها أوّل الکلام .

و تلخّص :

أنه لا دلیل علیٰ هذا القول ، بل الدلیل علی خلافه .

الفلاسفة

و هو مبنی : الوجود التنزیلی ، أی : اعتبار اللّفظ وجوداً للمعنی .

و حاصله : إن للشیء أربعة أنحاء من الوجود ، اثنان منها تکوینیّان ، و هما الوجود الخارجی و الوجود الذهنی ، و اثنان اعتباریّان ، و هما الوجود الکتبی و الوجود اللّفظی .

فحقیقة الوضع عبارة عن اعتبار اللّفظ وجوداً للمعنی ، فإنّه و إنْ کان

ص:73


1- (1)) محاضرات فی علم الاصول 51/1 .

وجود اللّفظ من مقولة الکیف المسموع ، و وجود المعنی وجوداً جوهریّاً ، لکنّ اعتبارهما واحداً ممکن ، لکون الاعتبار و التنزیل خفیف المئونة .

و قد أورد علی هذا القول : بأنّ التنزیل لا بدّ و أنْ یکون لأجل أثرٍ یترتب علیه ، ففی مثل « الطواف بالبیت صلاة » حیث ینزّل الطواف بمنزلة الصلاة ، یوجد الأثر ، و هو اشتراط الطهارة فی الطواف کما هی شرط فی الصلاة ، أمّا فی الوضع فلا یمکن دعوی التنزیل بلحاظ الأثر ، فأثر « النار » الخارجیّة هو « الإحراق » فإذا نزّلنا « ن ا ر » بمنزلتها لم یترتب الأثر المذکور علی اللّفظ .

فأجاب عنه شیخنا دام ظلّه : بأنّ القوم یرون « الوجود » مظهراً ل « الماهیّة » فإذا اعتبر اللّفظ مثل « الشمس » وجوداً للمعنی ، حصلت للفظ تلک المظهریّة ، فکما کان وجودها الخارجی مظهراً لماهیّتها ، کذلک یکون لفظ الشمس ... و هذا الأثر کاف لصحّة التنزیل و الاعتبار .

و الإشکال الوارد عند شیخنا - تبعاً ( للمحاضرات ) - هو أن التنزیل و الاعتبار أمر عقلی دقیق ، لا یتأتّی من کلّ أحدٍ ، مع أن الوضع یتحقّق حتی من الأطفال .

المحقق الأصفهانی

و یقول المحقق الأصفهانی : إن حقیقة الوضع هو الوضع الاعتباری لا غیر ... و توضیح ذلک :

إن العلقة الوضعیة بین اللّفظ و المعنی لیست من الامور الواقعیة التی یوجد بإزائها شیء فی الخارج کالجواهر و الأعراض ، و لا من الامور الواقعیّة التی لیس بإزائها فی الخارج شیء ، کالامور الانتزاعیة - کالفوقیة ، فإنّها لیست فی الخارج ، و إنما منشأ الانتزاع موجود و هو السقف - و الدلیل علی مغایرة

ص:74

العلقة الوضعیة للامور الواقعیة بقسمیها هو أن تلک الامور لا تختلف باختلاف الأنظار بخلاف العلقة الوضعیّة ، و أیضاً : فإنّ لوجود أو عدم تلک الامور أثراً ، فوجود السواد علی الجدار و عدم وجوده ذو أثر ، کما أنّ السقف مثلاً إذا عدمت فوقیّته و سلبت عنه صار تحتاً ، بخلاف العلقة الوضعیّة ، فإنّ وجودها و عدم وجودها بالنسبة إلی طرفیها سواء .

و علی الجملة ، فإن العلقة الوضعیّة لیست من الامور الواقعیّة ، بل هی من الامور الاعتباریّة .

ثم إن المحقق الأصفهانی یستعین علی مدّعاه بمطلبین :

الأوّل : إن سنخ دلالة اللّفظ علی المعنی سنخ دلالة الأعلام و العلائم الموضوعة علی الطرق لتحدید المسافات ، فکما توضع العلامة علی رأس الفرسخ للدّلالة علی ذلک ، کذلک وضع اللّفظ علی المعنی ، فهو للدلالة علیه .

و الثانی : إنّه کما أنّ الکلمة المستعملة لذلک العمل التکوینی هو « الوضع » کذلک هذه الکلمة هی التی تستعمل للدّلالة علی هذا العمل الاعتباری ، فیقال : هذا اللّفظ « موضوع » للمعنی الکذائی ، و الذی جعله دالّاً علیه یسمی ب « الواضع » .

فظهر :

1 - إن العلقة الوضعیّة أمر اعتباری .

2 - إن هذا الأمر الاعتباری من سنخ وضع الدلالات و العلائم و الأعلام ، فکما أنّ هناک وضعاً لکنه تکوینی ، فهنا أیضاً وضع لکنه اعتباری .

فحقیقة الوضع : جعل اللّفظ و نصبه و وضعه علی المعنی فی عالم الاعتبار .

ص:75

مختار شیخنا الاستاذ

و ذهب شیخنا دام بقاه فی الدورتین إلی أن حقیقة الوضع هی العَلامیَّة و الدلیلیّة .

قال : بأن الإنسان فی بادئ الأمر کان یبرز مقاصد النفسانیة و أغراضه القلبیة و الباطنیة بواسطة الإشارة ، و حتی الآن أیضاً قد یلتجئ إلی ذلک إذا لم یتمکن من التلفّظ ، فکانت الإشارة هی الوسیلة و السبب و العلامة لتفهیم مقاصده ، فلما وجد اللّفظ ، کان دوره نفس دور الإشارة ، و قام مقامها فی الوسیلیّة ، فکان اللّفظ هو العلامة و الوسیلة لإفادة المعنی المتعلق به الغرض ، فکان وضع لفظ علی معنیً علامةً له و وسیلةً لإفهامه ، و کان اسماً لذلک المعنی یُطلق عند إرادته ، و العلامیة و الدلیلیّة و التسمیة - ما شئت فعبّر - عنوان عام یشمل الوضع للاسم و للفعل و للحرف .

هذا وجداناً .

و یدلّ علیه من الکتاب ، قوله تعالی : «لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِیّاً » (1)أی :

لم یکن فی الوجود قبل « یحیی » أحد یُعرف بهذا الاسم . و کذا قوله تعالی :

« هُوَ سَمَّاکُمُ الْمُسْلِمینَ » (2)أی : هو الذی وضع علیکم هذا الاسم ، هذه العلامة.

و من الأخبار ، ما رواه الشیخ الصدوق بسند معتبرٍ فی ( العیون ) و (التوحید) و ( معانی الأخبار ) عن ابن فضّال عن الرضا علیه السلام عن بسم اللّٰه . قال : معنی قول القائل بسم اللّٰه ، أی اسمّی نفسی بسمةٍ من سمات اللّٰه عز و جلّ و هی العبادة ، فقلت : و ما السمة ؟ قال : العلامة (3) .

ص:76


1- (1)) سورة مریم : 7 .
2- (2)) سورة الحج : 78 .
3- (3)) معانی الأخبار : 3 ط مکتبة الصدوق .

إن العلامة علی قسمین ، تارة : هی ذاتیة مثل «وَبِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ » (1)و اخری : هی جعلیة مثل الصّبح الصّادق حیث جعل علامة شرعیّةً للصّلاة .

فواقع التسمیة - و هو الذی یسأل عنه ابن فضّال ، لا مفهوم التسمیة - هو العلامة .

و من کلمات اللغویین ، ما جاء فی ( القاموس ) و ( لسان العرب ) من أنّ الألفاظ علامة للمعانی و الاسم علامة للمسمّی .

و من هنا ، فقد قُسمت الدلالة إلی العقلیّة و الطبعیّة و اللفظیّة ، فکما أن « ا ح ا ح» علامة - بالطبع - علی وجع الصدر ، کذلک لفظ « الحسن » علامة - بالوضع علی المسمّی بهذا الاسم .

فحقیقة الوضع : جعل العلامة و الاسم التسمیة و العَلامیّة ...

و الفرق بین هذا المبنی و مبنی المحقق العراقی قابلیّة مختارنا للتقسیم إلی التّعیینی و التعیّنی ، و أن الجعل بناءً علیه أمر اعتباری و لیس من سنخ الجعل التکوینی ، و إنما هو امتداد للإشارة کما ذکرنا .

ص:77


1- (1)) سورة النحل : 16 .

ص:78

أقسام الوضع: و المعنی الحرفی

اشارة

ص:79

ص:80

قُسّم الوضع من حیث اللّفظ إلی : الوضع الشخصی و الوضع النوعی .

و قُسّم من حیث المعنی إلی : الوضع العام و الموضوع له العام ، و الوضع الخاص و الموضوع له الخاص ، و الوضع العام و الموضوع له الخاص .

ثم وقع الکلام فی المعنی الحرفی .

و الأصل فی التّقسیم المذکور هو : إن الوضع یتعلّق باللّفظ و المعنی ، و هو - علی جمیع الآراء فی حقیقته - عمل اختیاری ، و کلّ عمل اختیاری فإنّه یتصوَّر هو إنْ کان وحده ، و هو و أطرافه إن کان ذا أطراف .

و اللّفظ عند ما یتصوَّر ، فتارةً : یکون موضوعاً للمعنی بمادّته و هیئته ، و أخری : یکون موضوعاً له بمادّته دون هیئته ، و ثالثةً : یکون موضوعاً له بهیئته دون مادّته .

فالأول : کزید و غیره من الأعلام الشخصیّة ، و کأسماءِ الأجناس .

و الثانی : کالضربْ مثلاً ، الدالّ علی الحدث المعلوم ، فإنّه موضوع لذاک المعنی بمادّته فقط .

و الثالث : کالضارب مثلاً ، فإنّ مادّته لا تدلّ علی معناه الموضوع له ، و إلّا لزم دلالة مثل یضرب علیه أیضاً .

هذا ، و قال المحقّقون بأنّ وضع الألفاظ فی أسماء الأجناس ، و فی

ص:81

الأعلام ، و کذا فی الموادّ شخصیٌّ ، أمّا فی الهیئات - کهیئة فاعل مثلاً - فهو نوعی ، فإنّ هذه الهیئة موضوعة لکلّ من قام به الفعل و صدر عنه .

فوقع الإشکال فی المواد ، و أنّه کیف یکون الوضع فیها شخصیّاً ؟ لأنّه إنْ کانت المادّة موضوعة لکلّ من یقوم المعنی به فیکون الوضع شخصیّاً ، لزم أنْ یکون الوضع فی الهیئات - کضارب و مضروب مثلاً - کذلک ، لأنها موضوعة لذلک أیضاً ، مع أنْ الوضع فیها نوعی لا شخصی .

توضیحه : إنهم قالوا فی المادّة بأنّ وضعها شخصی ، یعنی : کما أن لفظ « زید » موضوع لهذه الذات ، کذلک المادة ، کمادّة الضرب و نحوها . و لیس المراد من الشخص هنا هو الفرد ، بل المراد نفس المادة و لو بطبیعتها ، فی ضمن أیّ هیئَةٍ کانت ، فهذه الخصوصیّة أینما وجدت فهی موضوعة لهذا الحدث . و قالوا فی الهیئات مثل هیئة الفاعل و المفعول و غیرهما بأن الوضع نوعی ، و المراد من ذلک أنّ الواضع عند ما یجد هیئة « ضارب » مندکّة فی مادة « الضرب » فمن هذه الهیئة المندکّة فی المادّة ینتقل إلی عنوانٍ انتزاعی یکون هو الموضوع من قبل الواضع عند لحاظ الهیئات ، فهو یلحظ هیئة ضارب فینتقل إلی عنوانٍ کلّی هو : کلّ ما کان علی زنة الفاعل فهو موضوع لهذه النسبة ، و یلحظ هیئة المفعول فینتقل إلی عنوانٍ انتزاعی کلّی هو : کلّ ما کان علی زنة المفعول فهو موضوع لهذه النسبة .

فالملحوظ فی وضع المادّة هو المادة « ض ، ر ، ب » علی الترتیب بین هذه الحروف ، یلحظها و یضعها للحدث الخاص ، الذی هو المعنی لها فی اللّغة ، فیکون حال الوضع فیها حال الوضع فی مثل زید . أمّا فی وضع الهیئات فالملحوظ الموضوع له هو العنوان الانتزاعی الجامع : « کلّ ما کان علی زنة

ص:82

فاعل » أو « علی زنة مفعول » و هکذا .

فالإشکال هو : لما ذا یمکن لحاظ المادّة بنفسها و وضع اللّفظ للحدث الخاص ، و لا یمکن لحاظ الهیئة بنفسها ، و ما هو الفارق بینهما ؟

جواب المحقق الأصفهانی

و الوجه الذی ذکره المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه - و هو خیر ما قیل فی المقام لبیان الفرق هو : إن الامور الواقعیّة منها الجوهر و منها العرض ، و الجوهر غیر محتاج فی وجوده إلی العرض و إنْ کان غیر منفک عنه ، إذ لا وجود للجسم فی العالم بلا شکل ، بخلاف العرض فإنّه فی وجوده محتاج إلی الجوهر ، فبین الوجودین تلازم ، لکن الجوهر فی حدّ ذاته لا یحتاج إلی العرض بخلافه فإنه محتاج إلی الجوهر .

و کذلک المعانی .. فقسم منها غیر محتاجٍ فی ذاته إلی الغیر ، کالمعانی الاسمیّة ، و قسم منها محتاج إلی الغیر فی حدّ ذاته ، و هو المعنی الحرفی .

إذا اتضح هذا ، فإنّ الهیئة مثل ضارب محتاجة إلی المادّة و هو الضرب ، کما أنَّ معناها - و هو النسبة الصدوریة - محتاج إلیها کذلک ، فضاربٌ هیئة مندکّة هی و معناها فی المادة و هی الضرب ، و لأجل هذا الاندکاک و الفناء الذاتی لا یکون للهیئة قابلیة اللّحاظ الاستقلالی ، فلا محیص فی ناحیة لفظها أنْ یکون الملحوظ و المتصوَّر عنوان « کلّ ما کان علی هیئة فاعل » أو « علی هیئة مفعول » و هکذا .

و علی الجملة ، فإنّ المادّة غیر مندکّة فی الهیئة ، لذا کانت قابلة للّحاظ ، لذا کان الوضع شخصیّاً ، و أمّا الهیئة فإنها مندکّة فی المادّة ، فهی غیر قابلة للّحاظ ، لذا یکون الوضع نوعیّاً .

ص:83

مناقشة الاستاذ

هذا غایة ما أمکن ذکره فی بیان الفرق بین المواد و الهیئات ، من حیث قابلیّة المواد للوضع الشخصی دون الهیئات .

و قد أورد علیه شیخنا فی کلتا الدورتین بما حاصله : أنّ الهیئة إن کانت قابلة للّحاظ کانت قابلةً للوضع الشخصی و إلّا فلا ... ثم أکّد علی قابلیّتها لذلک بأنّ حقیقة الهیئة هو الشکل ، فکما أنّ هیئة الدار مثلاً شکل طارئ علی المواد الإنشائیّة و البنائیة ، کذلک هیئة ضارب و مضروب مثلاً شکل طارئ علی « ض ر ب » و إذا تحقّق کونها شکلاً ، فالشکل من الأعراض ، و الأعراض إنما تحتاج إلی المادة فی وجوداتها ، أمّا فی اللّحاظ و التصوّر فلا .

ثم أوضح دام ظلّه ذلک : بأن ملاک القابلیّة للّحاظ الاستقلالی و عدمها هو الصلاحیّة للوقوع طرفاً للنّسبة ، فما لا یصلح لأن یقع طرفاً للنسبة لا یصلح لأن یلحظ باللّحاظ الاستقلالی - کما هو الحال فی واقع الرَّبط ، فلا یقع طرفاً لها و لا یمکن لحاظه إلّا بطرفیه - و الهیئات صالحة لوقوعها طرفاً للنسبة ، لصحّة قولنا : « هیئة مقتول عارضة علی مادة القتل » و « هیئة ضارب عارضة علی مادة الضرب » و هکذا . و أیضاً ، فإنّا نلحظ هیئة فاعل مثلاً فی قبال سائر الهیئات و نقول : هذه غیر تلک ! و هذا هو ملاک شخصیّة الوضع ، و یؤیّد ذلک أیضاً قولهم : کلّما کان علی زنة فاعل ... و کلّ ما کان علی زنة مفعول ... فإنّه لا ریب فی لحاظهم المادّة ثم الحکم بأنها إن وجدت فی هیئة کذا دلَّت علی کذا ...

و تلخّص ، إمکان اللّحاظ الاستقلالی فی الهیئات ، و بهذا ظهر أن حکمها یختلف عن المعانی الحرفیّة .

ص:84

و إن کان الدلیل علی نوعیّة الوضع فی الهیئات : عدم انفکاکها عن المادّة - بخلاف المادّة فتنفکّ عن الهیئة ، فلذا کان الوضع فیها شخصیّاً - فقد ذکر شیخنا أنه لا حاجّة أشد من احتیاج الماهیّة إلی الوجود ، فتقوّمها به أشدّ بمراتب من تقوّم العرض بالجوهر ، لأنّ الماهیّة أینما وجدت لا یمکن ظهورها إلّا بالوجود ، و لذا قالوا : تخلیتها تحلیتها ، و مع ذلک کلّه ، فللعقل القدرة علی تجرید الماهیّة من الوجود ، و أن یحکم بأنّ الماهیة غیر الوجود ...

و تلخّص :

أن التفریق بین الهیئات و المواد غیر صحیح ، و أن حکمها واحد ، و الحقّ أن الوضع فی کلیهما شخصی .

و البحث فی أقسام الوضع فی جهات :

الجهة الاولی

أقسام الوضع بلحاظ المعنی الملحوظ حین وضع اللّفظ أربعة ، و الحصر عقلی ، إذ المعنی الملحوظ إمّا أنْ یکون عامّاً أو خاصّاً ، فإنْ کان عامّاً فإمّا یکون الموضوع له نفس ذلک العام أو جزئیّاته ، و إنْ کان خاصّاً فإمّا یکون الموضوع له نفس ذلک الخاص أو کلّی ذلک الخاص .

فالأقسام فی مقام الثبوت أربعة .

الجهة الثانیة

لا إشکال فی قسمین من الأقسام الأربعة ، و هما : الوضع الخاص و الموضوع له الخاص ، و هو وضع الأعلام الشخصیّة . و الوضع العام و الموضوع له العام ، و هو وضع أسماءِ الأجناس کالفرس و الأسد و غیرهما .

إلّا أن هناک بحثاً فی المراد من الوضع العام و الموضوع له العام ، فقد

ص:85

یلحظ المعنی القابل للوجود و العدم ، و الإطلاق و التقیید ، و یوضع اللّفظ لذاته المعرّاة عن کلّ ذلک ، و یعبَّر عن هذا بالماهیّة المهملة . و قد یلحظ المعنی مع تلک الخصوصیّات ، و یوضع للماهیّة اللّابشرط عنها ، و یعبَّر عن هذا بالماهیة المطلقة ، و یسمّی هذا العام بالعام الفعلی ، کما یسمّی ذاک بالعام الشأنی .

إنّ کلّاً من العامّین یقبَل الوضع و یمکن تحقّقه ، لکنّ مذهب المشهور هو العموم الفعلی ، و مذهب سلطان المحققین هو العموم الشأنی .

ثم إنه إن کان اللّفظ فی العام موضوعاً للماهیّة القابلة للصّدق علی کثیرین مع لحاظ اللّابشرطیة بالنسبة إلی الخصوصیّات ، دَخَلَ الإطلاق و اللّابشرط فی حیّز الموضوع له ، و حینئذٍ فلو ارید تقیید الماهیّة کالرقبة بالإیمان مثلاً ، لزم تجریدها عن خصوصیة اللّابشرطیّة ، فکان التقیید مجازاً .

أمّا بناءً علی الوضع للعموم الشأنی فلا تلزم هذه المجازیّة .

و أیضاً : إذا کانت اللّابشرطیّة داخلةً فی حیّز المعنی الموضوع له ، کانت الدّلالة علی الإطلاق و الشمول بالوضع ، بخلاف مبنی السّلطان ، فإنها ستکون بمقدّمات الحکمة .

قال الاستاذ

قد ذکرنا إمکان الوضع علی کلٍّ من النحوین ، إلّا أنّ الحق مع السّلطان فی أن الذی صدر من الواضع هو الوضع بنحو الماهیّة المهملة ، لأنّا نحمل علی تلک الماهیّة کلّاً من التقیید و الإطلاق ، و نقسّم الماهیّة إلی المهملة و المطلقة و المقیَّدة .

هذا ، و لا یخفی أنه إن کان الموضوع له هو الماهیّة المهملة - الماهیّة من حیث هی هی - فإنّها غیر قابلة للّحاظ ، و الإهمال فی الموضوع فی مرحلة

ص:86

الجعل غیر معقول عندهم ، فلا محیص عن القول بأنها تلحظ بواسطة الماهیّة اللّابشرط القسمی ، أمّا الماهیّة اللّابشرط فلا تحتاج فی لحاظها إلی واسطة ، و قد أشار المحقق العراقی إلی هذا الفرق .

الجهة الثّالثة

فی الوضع العام و الموضوع له الخاص ، بأنْ یکون المعنی الملحوظ عامّاً یقبل الصّدق علی کثیرین ، فیوضع اللّفظ بواسطته علی کلّ فردٍ فرد .

قالوا : بإمکانه ، لأن العام وجه للخاص ، و معرفة وجه الشیء معرفة الشیء بوجه ، إذْ لا یلزم فی الوضع معرفة المعنی بالکنه .

قال الاستاذ

فی هذا الاستدلال نقاط ، أمّا أنّ معرفة المعنی علی الإجمال تکفی لصحّة الوضع ، و لا یلزم المعرفة التفصیلیة و الوقوف علی کنه المعنی ، فهذا صحیح . و أمّا أنّ معرفة وجه الشیء معرفة للشیء بوجهٍ ، فهذا أیضاً صحیح .

إنما الکلام فی أنّ العام وجه للخاص ، و توضیح الإشکال هو :

إنّ للعام مفهوماً ، و للخاص مفهوم ، فمفهوم « الإنسان » غیر مفهوم « زید » ، و هذه المغایرة مغایرة تباین ، و إذا کانت المفاهیم متباینات ، استحال أنْ یکون بعضها حاکیاً عن الآخر ، و مع عدم الحکایة کیف تحصل المعرفة و لو بوجه ؟

و أیضاً ، فإنّ مفهوم العام هو الصّدق علی کثیرین ، و مفهوم الخاص هو الإباء عن الصّدق علی کثیرین ، فکیف یکون الصدق علی کثیرین حاکیاً عن الإباء عن الصدق ؟

فما ذکره صاحب ( الکفایة ) غیر وافٍ بحلّ المشکلة .

ص:87

فقال المحقق العراقی بأن المفاهیم العامة علی قسمین ، أحدهما :

المفاهیم العامّة التی لیس لها قابلیّة الحکایة عن المصادیق ، مثل « الإنسان » ، فإنه إنما یحکی عن ذات الإنسان و هو الحیوان الناطق ، و لا یحکی عن زید و عمرو ... و القسم الآخر : المفاهیم العامة المنتزعة من نفس الخصوصیّات ، فهذا القسم یکون وجهاً لها ، مثل : مفهوم مصداق الإنسان ، و فرد الإنسان ، و شخص الإنسان . فداعی هذا القسم من المفاهیم من حیث انتزاعه عن الفردیّة هو الحکایة عن الفرد ، و حینئذٍ أمکن الوضع العام و الموضوع له الخاص .

و أشکل علیه شیخنا بأن « مصداق الإنسان » إن کان عین مفهوم « زید » و « عمرو » و « بکر » فلا یصحّ صدقه علیه ، کما لا یصحّ صدق مفهوم « زید » علی « عمر » و إنْ کان غیره فکیف یحکی مفهوم عن مفهوم ؟ و مفهوم « مصداق الإنسان » إنما یحکی عن « زید » من حیث أنه مصداق الإنسان ، و لا یحکی عنه من حیث أنه زید ، و کلّ جامع فإنه یحکی عن الأفراد من حیث انطباقه علیها و لا یحکی عنها من جهة کونها أفراداً .

و ذکر المحقق الشیخ علی القوچانی ، و تبعه المحقق المشکینی فی ( حاشیة الکفایة ) ما حاصله :

إنه إنْ ارید وضع اللّفظ بواسطة العام علی الأفراد بما لها من الخصوصیات ، فهذا غیر ممکن ، لکون مفهوم العام مبایناً لمفهوم الخصوصیة ، و لا یکون المباین وجهاً لمباینه ، و لکن الموضوع له هو مفاهیم الجزئیات بلحاظ وجوداتها ، فالمفهوم الخاص هو الموضوع له بلحاظ وجوده لا بلحاظ مفهومه ، و حینئذٍ ، فلمّا کان الکلّی متّحداً وجوداً مع الفرد صار

ص:88

عنواناً له ، و کانت معرفة المعنون بالعنوان .

و أورد علیه شیخنا :

أوّلاً : بأن کون الموضوع له هو الوجودات لا المفاهیم ، غیر معقول ، إذ الموضوع له هو ما یکون قابلاً لأنْ تتعلّق به الإرادة الاستعمالیّة ، فالموضوع له لا بدّ و أنْ یکون قابلاً للتفهیم ، و الوجودات غیر قابلة لذلک ، بل القابل للتفهیم ما یقبل الدخول فی الذهن و هو المفهوم .

علی أنّ معانی الألفاظ قابلة للوجود و العدم ، فکیف تکون الألفاظ موضوعةً للوجودات الخاصّة ؟

و ثانیاً : إنّ المقصود أنْ نری الجزئیّات و الخصوصیّات بتوسط المعنی العام الکلّی الملحوظ لدی الوضع ، و الاتحاد فی الوجود لا یعقل أن یصیر منشأً للعنوانیّة ، بأنْ یکون أحد المتحدین مرآة لرؤیة الآخر و لحاظه ، و من هنا ، فإن الجنس و الفصل الموجودین بوجودٍ واحدٍ ، لا یکون الاتحاد الوجودی بینهما مصحّحاً لحکایة أحدهما عن الآخر ، و أوضح من ذلک مقولة الإضافة ، فإنها متّحدة مع المضاف فی الوجود ، مع أنه لا یعقل أن یحکی أحدهما عن الآخر ، فلا تعقل حکایة الفوقیة عن السقف و الابوّة عن الأب .

طریق آخر ذکره بعض الفلاسفة :

و لا یخفی أن مورد الکلام هو الوضع لخصوصیّات الماهیّة القابلة للصدق علی الکثیرین ، لا الخصوصیات مع أمارات التشخّص ، فالبحث هو أن یکون الإنسان مرآة ینظر به حصص الإنسان من زیدٍ و عمرو و بکر ، لا تلک الحصص مع مشخّصاتها و أعراضها ، بأنْ یحکی الإنسان عن زید مع ما له من الکم و الکیف ، فإنّه لیس للعام هذه الصلاحیّة أصلاً ... فنقول :

ص:89

إن المفاهیم علی أقسام :

فمنها : ما هو کلّی و هو مصداق لمفهوم الکلّی أیضاً ، مثل : « الإنسان » و سائر أسماء الأجناس ، فإنه مفهوم قابل للصّدق علی کثیرین ، و هو مصداق لمفهوم الکلّی أیضاً .

و منها : ما هو جزئی مفهوماً ، فلا یقبل الصّدق علی کثیرین ، و هو مصداق لمفهوم الجزئی أیضاً ، مثل الأعلام الشخصیّة .

و منها : ما هو جزئیٌ مفهوماً ، لکنه مصداق لمفهوم الکلّی ، مثل « الشخص » و « الفرد » فهذا السنخ من المفاهیم مفاهیم جزئیة و شخصیّة من حیث المفهومیّة ، و لکنها مصادیق لمفهوم الکلّی ، لذلک نقول : الجزئی جزئی مفهوماً و کلّی مصداقاً ، فهی جزئیّة بالحمل الأوّلی و کلیّة بالحمل الشائع .

فهذا القسم الثالث له صلاحیّة الحکایة و الکشف عن الحصص ، و ذلک لأنّ هذه المفاهیم و إنْ کانت کلیّةً من حیث الوجود ، إلّا أن الوضع إنما هو للمفاهیم لا للوجودات ، و حینئذٍ تری الاتحاد المفهومی بین مفهوم الفرد و واقع الفرد ، و بین مفهوم الشخص و واقع الشخص ، و لأجل هذا الاتحاد المفهومی تکون صالحةً للحکایة .

و هذا هو الأساس فی صحة الأحکام علی المفاهیم التی لها حکم بالحمل الأوّلی ، و لها حکم آخر بالحمل الشائع ، مثل قولنا : شریک الباری ممتنع ، فما لم یکن للموضوع وجود ذهنی لا یحمل علیه « ممتنع » فشریک الباری موجود بالحمل الشائع ، و الامتناع حکم واقع شریک الباری لا شریک الباری المتصوَّر ذهناً . و کذا مثل قولنا : اجتماع النقیضین محال ، المعدوم غیر موجود ، و هکذا . فکما أن مفهوم اجتماع النقیضین له الصلاحیّة لأنْ یحکی

ص:90

عن اجتماع النقیضین الذی هو موضوعٌ لقولنا « محالٌ » فکذا عنوان « مصداق الإنسان » و کذلک « الفرد » و « الشخص » ... فله الصلاحیّة لأنْ یحکی عن الحصّة الواقعیة للإنسان التی هی مصداق جزئی حقیقی .

و تلخّص : إمکان الوضع العام و الموضوع له الخاص ، عن طریق التفصیل المذکور بین المفاهیم العامّة ، و تحقّق الوحدة المفهومیّة فی قسمٍ منها ، فإنّه بالوحدة المفهومیة و بالحمل الأوّلی تصیر منشأً للحکایة عن الحصّة .

أقول :

هذا ما استقرّ علیه رأیه فی الدورة المتأخّرة .

إلّا أنه فی الدورة السابقة أشکل علی هذا الوجه بما حاصله : وجود الفرق بین مفاهیم « الفرد » و « الشخص » و « الجزئی » و مصادیقها ، لأن مفهوم الفرد مثلاً من حیث أنّه مفهوم الفرد یحکی عن جمیع الأفراد واحداً واحداً ، أما واقع الفرد و مصداقه فلا حکایة له عن هذا و ذاک من الأفراد ، و الذی نحن بصدده هو الوصول إلی الواقع عن طریق المفهوم ، فالإشکال یعود ، لأنّ حیثیّة الواقع حیثیة الإباء عن الصدق علی کثیرین ، و مفهوم الفرد حیثیّته القبول للصدق علی کثیرین ، فبینهما تناقض ، و النقیض لا یحکی عن نقیضه .

فإنْ قیل :

إنا إذا لم نتمکّن من لحاظ الجزئیات ، یلزم بطلان القضایا الحقیقیّة ، لأن الأفراد الحقیقیة غیر متناهیة ، و لو لا لحاظها بواسطة العام - و هو العنوان الکلّی المتناهی - لم یمکن الوضع لها ، فلا تتحقق القضیة الحقیقیة .

قلنا :

ص:91

لیس الحکم فی القضایا الحقیقیة بلحاظ الخصوصیات دائماً ، فلا یلزم فی مثل : « کلّ من کان مستطیعاً فیجب علیه الحج » لحاظ أفراد المستطیع ، بل الحکم یتوجّه إلی کلّ مستطیع من حیث أنه مستطیع ، لا من حیث أنه زید و عمرو و بکر ... و هذا القدر کاف فی صحّة القضیّة الحقیقیّة .

لکنّ الکلام فی المقام فی لحاظ الخصوصیّة - بما هی خصوصیّة - بواسطة العام ، فبین المقام و مسألة القضیة الحقیقیّة فرق ، و إنکار الوضع العام و الموضوع له الخاص لا یضرّ بتلک المسألة .

الجهة الرابعة

فی الوضع الخاص و الموضوع له العام ، بأنْ یکون المعنی الملحوظ حین الوضع خاصّاً ، فیوضع اللّفظ بواسطته علی العام القابل للصّدق علی کثیرین .

و قد أنکر الکلّ هذا القسم إلّا المیرزا الرشتی فی ( بدائع الاصول ) (1)و حاصل کلامه :

إنه کما أن الجزئی یری بواسطة الکلّی ، کذلک الکلّی یری بواسطة الجزئی ، فإنّ « الإنسان » یری مع « زید » غیر أنّه تارةً یوضع اللّفظ علیه من حیث أنه «زید» ، و اخری یوضع علیه اللّفظ من حیث أنه « إنسان » .

و قد أوضح ذلک بأن من یصنع معجوناً مرکّباً من أجزاء ، تارة یلحظ المعجون بلحاظ کونه معجوناً خاصّاً ، و اخری یلحظه بلحاظ الخاصیّة التی فیه ، فالوضع باللّحاظ الثانی خاص و الموضوع له عام ، فالفرق بین الوضع العام و الموضوع له العام ، و بین الوضع الخاص و الموضوع له العام ، هو الفرق

ص:92


1- (1)) بدائع الاصول : 39 .

بین قولنا : کلّ مسکر حرام ، و قولنا : الخمر حرام لإسکاره ، فوزان القضیّة الاولی وزان العام و الموضوع له العام ، لأنه یلحظ العام المسکر و یجعل الحرمة لهذا العام ، أما فی القضیّة الثانیة فالموضوع الملحوظ هو إسکار الخمر ، لکنْ لا یضع الحکم للإسکار المختص بالخمر ، بل إنّه یری بإسکار الخمر عموم الإسکار و یضع الحکم لهذا العام .

و أشکل علیه شیخنا الاستاذ :

بأن الخاص و العام متقابلان متعاندان ، و کاشفیّة المعاند و المباین لمباینه محال .

و أمّا ما ذکره من المثال ، فجوابه - کما ذکر صاحب ( الکفایة ) - أنه لو کان الملحوظ فی : « الخمر حرام لإسکاره » هو إسکار الخمر فقط ، فإن الحکم لن یتجاوز هذا الموضوع ، أی الخمر المسکر ، و إنْ ارید مِن « الخمر حرام لإسکاره » أن یکون إسکار الخمر وجهاً للإسکار ، فهذا غیر معقول ، لأن إسکار الخمر لا یصیر مرآة للإسکار ، کما أن إنسانیة زید لا تصیر مرآة للإنسان . و إنْ أرید أنّا نلحظ إسکار الخمر و من لحاظه ننتقل إلی طبیعة الإسکار و نجعل الحکم لهذه الطبیعة ، أو نضع اللّفظ للطبیعة التی انتقلنا إلیها بسبب هذه الخصوصیّة ، فهذا لیس من قبیل الوضع الخاص و الموضوع له العام ، بل هو من قبیل الوضع العام و الموضوع له العام .

إذن ، الخصُوصیّة - سواء فی الأحکام أو الأوضاع - لا تصیر مرآةً و حاکیةً عن العام .

غایة ما هناک : إن الخصوصیّة تصیر وسیلةً للانتقال ، و منشأ للّحاظ ، فیکون العموم فی الوضع و الموضوع له کلیهما ، بأن یُلحظ الفرد و تُلحظ بذلک

ص:93

الإنسانیّة الموجودة فیه ، و تصیر الإنسانیة الموجودة فی هذا الفرد منشأً للانتقال إلی مفهوم الإنسان ، مثاله : أنْ یلحظ الشخص الذی فی المسجد ، و ینتقل إلی « الشخص » و إلی « مَن فی المسجد » و یصیر « مَن فی المسجد » جامعاً انتزاعیّاً ، و هذا انتقال من الخصوصیّة إلی الجامع ، و هو أمر ، و الحکایة و المرآتیّة أمر آخر ، إلّا أنه قد وقع الخلط بین الأمرین فی کلام المحقّق المذکور .

ص:94

المعنی الحرفی

اشارة

ثم إنه قد وقع البحث بینهم فی وقوع الوضع العام و الموضوع له الخاص بناءً علی إمکانه ، فقال جماعة بأن وضع الحروف من هذا القبیل ، و قال المحقق صاحب ( الکفایة ) بأن الوضع فیها عام و الموضوع له فیها عام کذلک .

فالکلام فی جهتین ، إحداهما : حقیقة المعنی الحرفی ، و الاخری : وضع المعنی الحرفی .

الجهة الاولی
اشارة

قد ذکرت أقوال فی معنی الحروف :

فقیل : إنها لا معنی لها أصلاً .

و قال الأکثر : إنها ذات معان .

فقال صاحب ( الکفایة ) : إن معنی الحروف و معنی الاسم واحد ذاتاً .

و قال الآخرون : بالاختلاف الجوهری بین الاسم و الحرف .

ثم اختلفوا فی ذلک ، علی أقوال .

و إلیک التفصیل :

القول الأول :

أمّا القول الأول ، فهو مردود عند الکلّ ، إنه یجعل الحروف کعلامات الإعراب و حرکات الکلمات ، فلا تفید إلّا خصوصیات المعانی .

ص:95

فیرد علیه : بأن تلک الخصوصیة هی المعنی لا محالة .

القول الثانی :

و المهمّ نظریّة صاحب ( الکفایة ) ، و الکلام حولها یکون بذکر مقدمات ، ثم بیان المدّعی ، و الدّلیل ، ثم الإشکالات علی هذه النظریّة الوارد منها و غیر الوارد .

أمّا المقدمات فهی :

أوّلاً : إن المعانی علی قسمین ، فمنها ما لا یختلف باختلاف اللحاظ کمفهوم الانسان و الحجر ، و منها ما یقبل الاختلاف باختلاف اللحاظ ، مثل من و الابتداء ، فی و الظرفیة ... و هکذا . و مورد البحث هذا القسم .

و ثانیاً : إن ذات المعنی لا یختلف باختلاف اللحاظ ، فهو کالمرآة ، فإنها لا تختلف سواء لوحظت بما ینظر أو لوحظت بما به ینظر ، و المثال الدقیق هو الأعراض ، فالبیاض علی الجدار تارةً ینظر وصفاً للجدار ، و اخری ینظر إلیه فی مقابل الجدار ، و هو فی کلتا الحالتین هو البیاض ، و لا تختلف حقیقته .

و ثالثاً : إن کلّ ماهیّة ما لم توجد لم تتشخّص ، إذ الخصوصیّة مساوقة للوجود ، کما أنها ما لم تتشخّص لم توجد .

و رابعاً : إن عمل الواضع هو لحاظ المعنی و وضع اللّفظ علیه ، و عمل المستعمِل هو لحاظ المعنی و استعمال اللّفظ الموضوع له فیه ، فتکون مرحلة الاستعمال متأخرة عن مرحلة الوضع ، کما أنّ الوضع متأخّر رتبةً عن المعنی الموضوع له اللّفظ ، وعلیه ، فلا یمکن أن یتجاوز لحاظ المعنی فی مرحلة الاستعمال إلی مرحلة الوضع ، و یستحیل أن یصیر لحاظ المستعمِل عند الاستعمال جزءاً من المعنی الموضوع له اللّفظ .

ص:96

و خامساً : إن لحاظ المعنی فی مرحلة الاستعمال من المستعمل ، یعنی وجود المعنی فی ذهن المستعمل ، و هذا الوجود لا یمکن أن یرد علی المعنی الموجود ، بل یرد علی المعنی ، لأن الماهیّة الواحدة لا تقبل الوجود مرّتین ، و الموجود لا یقبل الوجود بموجودٍ آخر .

هذه هی المقدمات .

و المدّعی هو :

إن کلّ ما یأتی إلی الذهن من لفظ « من » هو الآتی إلیه من لفظ « الابتداء » و کذا « فی » و « الظرفیة » و « علی » و « الاستعلاء » و هکذا .

و توضیحه مع إقامة الدلیل علیه : إن الموضوع له إنما هو ذات المعنی ، و لیس اللّحاظ داخلاً فی حیّز المعنی ، فلا یمکن أن یکون اللّفظ موضوعاً للمعنی الملحوظ ، لأنه یستلزم أن یکون کلّ معنیً ملحوظاً عند الاستعمال ، و الحال أنّ الملحوظ لا یصح أن یلحظ مرةً اخری .

إن الواضع یضع لفظ « الابتداء » و لفظ « من » لذات المعنی ، غیر أن المستعمل تارةً ینظر إلی المعنی شأناً و صفةً لغیره فیستعمل « مِن » و اخری ینظر إلی المعنی بالنظر الاستقلالی فی مقابل المعانی الاخری فیستعمل « الابتداء » تماماً کما هو الحال فی المرآة و « البیاض » کما تقدم .

فکون المعنی معنیً اسمیاً أو حرفیّاً یرجع إلی مرحلة الاستعمال و کیفیّة لحاظ المستعمل فی ظرف الاستعمال ، أمّا فی مرحلة الوضع فلا اختلاف جوهری بینهما ، بل الموضوع له واحد و هو ذات المعنی .

فالآلیّة الموضوع لها الحرف ، التی تخصّص المعنی ، هذه الآلیّة إنما جاءت من ناحیة اللّحاظ ، و اللّفظ لیس موضوعاً لا للحصّة الخارجیّة و لا

ص:97

للحصّة الذهنیّة .

أمّا أنه غیر موضوع للحصّة الذهنیّة ، فلأن الدلالة علی هذه الحصّة إنما تکون نتیجة اللّحاظ باللّحاظ الآلی ، و اللّحاظ الآلی إنما یکون فی ظرف الاستعمال ، و هذا یستحیل أن یکون هو الموضوع له ، لکونه متأخّراً رتبةً کما تقدَّم ، فالحرف غیر موضوع للمعنی الخاص الملحوظ الآلی الذهنی .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إذا کان اللّحاظ الآلی جزءاً للمعنی الموضوع له ، فإنه یستلزم أن یکون اللّحاظ الاستقلالی فی وضع الأسماء أیضاً جزءاً للموضوع له ، و التالی باطل لعدم التزام أحدٍ به ، فالمقدّم مثله .

و ثالثاً : إذا کان اللّحاظ الآلی و الجزئیّة الذهنیّة داخلةً فی وضع الحرف ، لزم أنْ یکون جمیع استعمالاتنا مجازیّة ، و ذلک لأنا نجرّد المعانی لدی استعمالها عن تلک الجزئیّة ، فیکون استعمالاً فی غیر ما وضع له .

و أما أنه غیر موضوع للحصّة الخارجیّة ، فلأنّ کثیراً ما تستعمل الحروف فی المعنی الجزئی الحقیقی ، لا الخارجی . ففی قولنا مثلاً : سرت من البصرة إلی الکوفة ، لیس المستعمل فیه لفظة « من » النقطة الخارجیّة . و لذا جعله بعض الفحول - و هو المحقق صاحب ( الحاشیة ) علی المعالم - جزئیّاً إضافیّاً فقال صاحب الکفایة : « و هو کما تری » أی : لأن الجزئی الإضافی کلّی لا جزئی .

و تتلخّص نظریة صاحب ( الکفایة ) فی :

1 - الحروف لها معان .

2 - إنها متّفقة مع الأسماء المستعملة فی معانیها . خلافاً للمشهور .

ص:98

3 - إن الاختلاف إنما یأتی فی الاستعمال من جهة لحاظ المستعمِل فی ظرف الاستعمال ، و هذا لا یوجد اختلافاً جوهریّاً بین الاسم و الحرف .

4 - إنه لیس الموضوع له فی الحروف المعنی الجزئی و الخصوصیة ، لا ذهناً و لا خارجاً ، فالوضع فیها عام و الموضوع له عام .

هذا ، و الجدیر بالذکر : إن المحقّق الخراسانی یجعل الآلیّة و الاستقلالیّة عبارةً عن الآلیّة و الاستقلالیّة فی المفهومیّة ، یعنی : کما أنّ الجواهر مستقلّة فی الوجود خارجاً و لا تحتاج إلی شیء فی تحقّقها ، و أن الأعراض بخلافها ، کذلک الاسم و الحرف فی التعقّل ، فالاسم یتعقّل مستقلّاً ، أی : یأتی مفهوم « الابتداء » إلی الذهن غیر قائم بشیء ، بخلاف الحرف ، فإنّه لا یأتی إلی الذهن إلّا إذا کان معه « السیر » مثلاً .

هذا تمام الکلام فی بیان هذه النظریّة .

ما لا یرد علیه من الإشکال :

و إذا تبیّن واقع نظریة صاحب ( الکفایة ) ، فلا یرد علیه :

1 - أنه إذا کان بین الآلیّة و الاستقلالیّة فرق ، فمن المفاهیم الاسمیّة ما یلحظ فی الذهن آلةً للغیر ، فیلزم أنْ یکون حرفاً ، کالتبیّن فی قوله تعالی :

« وَکُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ » (1)فإنّه ملحوظ آلةً و مرآةً للفجر ، مع أنه اسم .

وجه عدم الورود : أن مراده من الآلیّة - کما تقدّم - عدم الاستقلالیّة فی المفهومیّة ، و « التبیّن » فی الآیة الکریمة و إنْ کان طریقاً لمعرفة الفجر ، إلّا أنه مستقلّ فی التعقّل عن « الفجر » و لا یحتاج فی ذلک إلیه و لا إلی غیره ، فهو

ص:99


1- (1)) سورة البقرة : 187 .

اسم و لیس بحرف .

2 - إنّه تارةً یکون المعنی الحرفی ملحوظاً بالاستقلال ، کما لو علم بمجیء زید ثم شک فی أنه وحده أو معه أحد ، فیقال : مع عمرو . فإن هذه المعیّة أصبحت ملحوظة بالاستقلال و مقصودة بالتفهیم .

وجه عدم الورود : أن معنی « مع » أی الحرف ، غیر مستقلّ فی التعقّل ، فلو ارید مجیؤه إلی الذهن ، فلا بدّ من کونه قائماً بغیره من « مجیء » و نحوه ، أمّا حیث یراد إفادة معناه و هو المعیّة فهو اسم و لیس بحرف .

3 - قوله : بأن المعنی یتغیّر بحسب تعدّد اللّحاظ ، فیه : إن حقیقة اللّحاظ لیس بشیءٍ غیر الوجود الذهنی ، فإذا کان المعنی قابلاً لوجودین ذهنیّین - الوجود الآلی و الوجود الاستقلالی - لزم أنْ یوجدا فی الخارج کذلک ، أی یلزم أن تکون ذات المعنی خارجاً قابلةً للتقسیم إلی القسمین ، فإذا وجد المعنی الحرفی خارجاً بالوجود الاستقلالی ، احتاج إلی معنیً حرفی لیکون رابطاً ، و هکذا .

و لکنّ اللّازم و التالی باطل ، فالملزوم و المقدّم مثله .

أورده المحقق الأصفهانی .

و أجاب شیخنا الاستاذ بعدم الملازمة بین البابین ، فقد یکون المعنی قابلاً للنوعین من الوجود فی الذهن ، لکنه لا یکون فی الخارج کذلک ، فالأعراض مثلاً لا تقبل فی الخارج إلّا الوجود بالغیر ، لکنّها فی الوجود الذهنی تقبل النوعین ، و کالإنسان ، فإن الماهیّة واحدة ، و هی تقبل الوجود الذهنی بنحوین : القابل للصّدق علی کثیرین ، و غیر القابل له ، فهی تقبل الوجود فی الذهن بوجود الفرد الذهنی ، و تقبل الوجود فی الذهن بوجود الکلّی الطبیعی ،

ص:100

لکنها فی الخارج لا تقبل الوجود إلّا بنحو الصدق علی کثیرین .

ما یرد علیه من الإشکال

أوّلاً : فی قوله : الآلیّة و الاستقلالیة تأتی من ناحیة اللّحاظ ، و إلّا فلا فرق جوهری بینهما .

فإنّ اللّحاظ لیس إلّا الوجود الذهنی ، فإذا لم یکن فی حاقّ المعنی و ذاته لا آلیّة و لا استقلالیّة ، فإنّ لحاظه - أی وجوده - لا یغیّره عمّا هو علیه .

و بعبارةٍ اخری : لیس الوجود إلّا أن ینقلب النقیض إلی النقیض ، بأنْ یکون الشیء موجوداً بعد أنْ کان معدوماً ، فالوجود لا یغیّر الماهیّة و الحقیقة بل یُظهرها بعد أنْ لم یکن لها ظهور .

و إذا کان اللّحاظ - سواء من الواضع أو المستعمِل - لیس إلّا وجود المعنی ، فکیف یکون المعنی باللّحاظ آلیّاً تارةً و استقلالیّاً اخری ؟

و ثانیاً : إنْ کان الموضوع له اللّفظ ذات المعنی ، و کان الاستقلال و عدم الاستقلال خارجین عنه ، غیر أنْ الواضع اشترط علی المستعمل استعمال الاسم إن کان المعنی ملحوظاً بالاستقلال ، و الحرف إنْ لم یکن .

ففیه : أنه إذا کان المعنی الموضوع له اللّفظ مطلقاً غیر متقیَّد لا بالآلیّة و لا بالاستقلالیّة ، فکیف یصبح بالاستعمال مقیّداً بهذا تارةً و بذاک اخری ؟

و ثالثاً : إذا کان الموضوع له هو ذات المعنی فقط ، لصحّ استعمال الحرف فی محلّ الاسم و بالعکس ، و من عدم صحّة هذا الاستعمال یستکشف وجود الفرق الجوهری بینهما .

قال صاحب ( الکفایة ) : وجه عدم الصحّة هو : إنّ هذا الاستعمال و إنْ کان فی الموضوع له ، إلّا أنه بغیر ما وضع علیه .

ص:101

فقالوا فی شرح هذا الکلام : إن مراده تقیید الواضع للعلقة الوضعیّة .

قلنا : إنْ ارید أنّ الوضع مقیَّد ، فلیس من المعقول کون الوضع مقیّداً و الموضوع له غیر مقیَّد ، لأن الوضع من مقولة الإضافة ، فیکون التقیید فی ناحیة الإضافة موجباً للتقیید فی متعلَّقها ، فتقیید الموضوع مع عدم تقیید الموضوع له غیر ممکن .

و إنْ کانت العلقة الوضعیّة مطلقة غیر مقیَّدة ، فلا بدّ من کون الموضوع و الموضوع له کلیهما مطلقین ، و حینئذٍ جاز استعمال کلٍّ فی مکان الآخر ، و بطل منع ذلک بناء علی تقیید الوضع .

فلا یندفع هذا الإشکال ، اللهم إلّا بأنْ یقال : إن الواضع شرط علی المستعملین لدی الاستعمال لحاظ الاسم مستقلاًّ و لحاظ الحرف آلةً . و یردّه :

عدم وجود الموجب لاتّباع شرط الواضع و الالتزام به .

القول الثالث :
اشارة

إنّ المعنی الحرفی یختلف و المعنی الاسمی اختلافاً جوهریّاً ، و إلیه ذهب جمهور المحققین ، غیر أنهم اختلفوا فی تصویر هذا الاختلاف و بیان حقیقته :

* رأی المیرزا

فقال المحقق النائینی : إنّ المعنی الحرفی یباین المعنی الاسمی ، و التباین بینهما هو بالإیجادیّة و الإخطاریّة ، فالمفاهیم الاسمیّة إخطاریّة ، و المفاهیم الحرفیّة إیجادیّة .

و قد ذکر لإثبات مدّعاه خمس مقدّمات ، و بناه علی أربعة أرکان :

و ملخّص کلامه هو :

ص:102

إن المعانی علی قسمین ، منها : إخطاریّة ، و منها : غیر إخطاریّة ، فما یکون صالحاً لأنْ یخطر فی الذهن بنفسه فهو معنًی اسمی ، و ما لا یصلح لذلک بل لا بدَّ من کونه ضمن کلامٍ مرتّب بترتیب معیّن فهو معنی حرفی .

و المعانی غیر الإخطاریة إیجادیّة ، غیر أنّ هذه المعانی الإیجادیّة تنقسم إلی قسمین ، فمن الحروف ما یوجد مصداق لمعناه فی الخارج ، کحروف النداء و التشبیه و نحوها ، فإنّه لمّا یستعمل حرف النداء و یقال : یا زید ، یوجد مصداقٌ للنداء خارجاً ، و کذا فی : زید کالأسد ، و من الحروف ما لا یوجد مصداق لمعناه فی الخارج مثل « من » و « علی » و « إلی » ، فهی حروف نسبیّة ، أی أن معناها لیس إلّا إیجاد النسبة و الربط بین المعانی المتباینة التی لا ربط بینها ، کما فی : سرت من البصرة إلی الکوفة .

فالحروف کلّها إیجادیّة ، غیر أنْ بعضها لمعناه مصداق فی الخارج و بعضها لا ، بل هی لإیجاد الربط و النسبة فقط ، فما فی کلام صاحب (الحاشیة) من تقسیم الحروف إلی إیجادیة و غیر إیجادیة غیر صحیح .

و بالجملة ، فلا شیء من الحروف بإخطاری .

ثم قال : إن النسبة بین المعنی الاسمی و المعنی الحرفی هی النسبة بین المفهوم و المصداق ، فالمعنی الاسمی له خاصیّة المفهوم ، و المعنی الحرفی له خاصیّة المصداق ، فالتفاوت بین « النداء » الذی هو معنی اسمی ، و بین « یا زید » الذی هو معنی حرفی ، هو التفاوت بین « مفهوم الماء » و « مصداق الماء » ، مع الالتفات إلی أنا بواسطة الحرف نوجد المعنی ، و لا ظرف لمعناه إلّا ظرف الاستعمال ، و هو موطن تحقّقه ، بخلاف مثل صیغ العقود و الإیقاعات التی موطن تحقّق المنشأ فیها هو وعاء الاعتبار .

ص:103

فظهر أن الاختلاف بین المعنیین - الاسمی و الحرفی - جوهری ، إذ المعنی الاسمی إخطاری مستقل فی التعقّل غیر محتاج إلی شیء ، و المعنی الحرفی إیجادی غیر مستقل و هو یفید الربط بین المعانی الإخطاریة المتباینة ، فهو غیر إخطاری ، إذ لیس إلّا فی عالم الاستعمال ، فالمعانی الاسمیّة دائماً مقصودة بالاستقلال ، و المعانی الحرفیّة دائماً آلیّة و ینظر إلیها بالتبع ، بل إنها حین الاستعمال فانیة فناء اللّفظ فی المعنی ، و هی توجد الربط بین الأسماء - کربط « علیٰ » بین « زید » و « السطح » - فی مقام التکلّم ، لا فی الخارج ، و هذا الربط و النسبة من قبیل النسبة بین الظلّ وذی الظل ، و لذا قد تطابق و قد تخالف - و لیس من قبیل النسبة فی الخارج ، التی هی النسبة بین الدّال و المدلول و حقیقة هذه النسبة فی الحروف عبارة عمّا یؤخذ من قیام احدی المقولات التسع بموضوعاتها ، فإنْ لم تؤخذ هذه الخصوصیّة فی المقولات التسع لم تکن هناک نسبة ، فالعرض لو لم یکن فیه جهة قیام بالجوهر فلا نسبة ، کما هو الحال بین جوهرٍ و جوهرٍ آخر ، إذ حقیقة النسبة ناشئة من قیام احدی المقولات التسع بموضوعاتها (1) .

مناقشات الشیخ الاستاذ

و ذکر شیخنا الاستاذ علی هذا القول إشکالات ، فقال :

1 - أمّا قوله : إن حقیقة النسبة لیست إلّا قیام احدی المقولات التسع بموضوعاتها ، فإن معناه انحصار النسبة بین المقولات العرضیّة ، و یلزم منه انکارها فی مثل « شریک الباری ممتنع » لعدم وجود المقولة فیه ، و لا یخفی ما فیه .

ص:104


1- (1)) أجود التقریرات 25/1 - 32 ط مؤسّسة صاحب الأمر (عج) .

2 - و أمّا قوله بأنّ جمیع الحروف إیجادیّة ، و لیس فیها جهة الحکایة أصلاً ، إذ لیس لها ما وراء کی تحکی عنه ، فما معنی الصّدق و الکذب فی مثل : زید علی السطح ، عمرو فی الدار ... ؟

أجاب رحمه اللّٰه : بأنّ مناط الصّدق و الکذب هو وجود و عدم وجود المطابق .

و فیه : إن موضوع الصّدق و الکذب هو الخبر ، و حیث لا یکون خبرٌ فلا یکون صدق و کذبٌ ، و لازم کلامه انتفاء الخبر فی مثل زید فی الدار ، لأن الخبر إن کان له مطابَق فهو صدق و إلّا فهو کذب . و توضیح ذلک : إن فی الجملة الخبریة مسلکین : أحدهما : إنّها تدل علی ثبوت أو عدم ثبوت النسبة ، و هذا هو المشهور - و ربّما ادّعی علیه الاتفاق کما عن التفتازانی - و الآخر : إن الجملة الخبریة دالّة علی قصد الحکایة . و سوف نوضح الفرق بین المسلکین فی مسألة الإنشاء و الإخبار .

و کیف کان ، فإن قوام الإخبار هو الإعلام و الإنباء ، قال تعالی : «إِن جَاءکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ » (1)فإذا لم یکن هناک منبأ عنه ، و مدلول ، و محکی ، فلا موضوع للإعلام و الإنباء و الإخبار ... و هذا هو المهمّ ، و إذا کان شأن الحروف هو الربط و أنه لیس للحروف ما وراء ، فعن أیّ شیء یخبر و ینبئ ... و العجیب أنه قد ناقض نفسه فی ضمن کلامه ، عند ما ذکر انقسام الألفاظ إلی المستقل و غیر المستقل ، و غیر المستقل إلی قسمین ، حیث عبَّر عن بعض الهیئات و الحروف بأنّها تفید کذا و تدل علی کذا ، فإذا لم یکن للحروف معنیً مطلقاً ، فما معنی الإفادة و الدلالة ؟

ص:105


1- (1)) سورة الحجرات : 6 .

3 - و أمّا قوله بأنّ النسبة بین المعنی الاسمی و الحروف نسبة المفهوم إلی المصداق ، فغیر صحیح ، لأن المصداق و المفهوم لا اختلاف بینهما إلّا فی الوجود ، و إلّا فالذات واحدة ، کزید و الإنسان ، فکلاهما حیوان ناطق و النسبة نسبة الکلّی و الفرد ، فالنسبة المذکورة تختص فی وحدة الذات ، و لا تجتمع مع الاختلاف الذاتی بین مفهوم الاسم و مفهوم الحرف ، کما هو الحق الذی اختاره فی مقابل مبنی صاحب ( الکفایة ) ، بل علی هذا المبنی تکون النسبة هی النسبة بین العنوان و المعنون ، کمفهوم الوجود و المصادیق الخارجیّة للوجود .

4 - و أمّا قوله بأن المعنی الحرفی فانٍ فی مقام الاستعمال و غیر ملحوظ أصلاً . ففیه : أنه خلاف الوجدان ، فقد یکون تمام النظر فی موردٍ إلی إفادة معنی حرف من الحروف ، کلفظة «من » فی « سرت من البصرة إلی الکوفة » .

و هذا الإشکال من المحقق الخوئی فی ( حاشیة أجود التقریرات ) .

5 - إنه لا ریب فی أن الحروف موجدة للربط بین المفاهیم الاسمیّة ، فالسیر بما له من المفهوم مغایر للبصرة بما له من المفهوم ، لکنّها بدلالتها علی معانیها توجد الربط ، لا أنها توجده من غیر أنْ تدل علی معنی .

و علی الجملة ، فإن دعواه بأنّ الحروف إیجادیّة فقط ، دعوی بلا دلیل ، بل الدلیل قائم علی بطلانها . أمّا وجداناً ، فلأن قولنا زید فی الدار ، یشتمل علی « زید » الحاکی عن الجوهر و هو المکین ، و علی « الدار » الحاکی عن الجوهر و هو المکان ، و علی « فی » المفید للظرفیّة الحاکی عن الربط ، فکلّ من الاسمین یفید معناه الخاص ، و « فی » یفید الربط بینهما ، و لو لا هذا الحرف لما انتقل إلی الذهن الربط بین الاسمین المذکورین . و أمّا برهاناً ، فلأن

ص:106

حکمة الوضع التی اقتضت أنْ یفاد معنی « زید » بهذا اللّفظ ، و معنی « الدار » بهذا اللّفظ ، کذلک هی تقتضی إفادة النسبة و الربط بینهما بحاکٍ ، إذْ لا وجه لأنْ یکون لذینک المعنیین حاک و لا یکون هناک حاکٍ عن معنی الربط ، فلا محالة ، توجد فی الأسماء و الحروف جهة الحکایة ، غیر أنّ الأسماء تحکی عن معانٍ مستقلّة ، و الحروف تحکی عن معانٍ غیر مستقلّة و هذا هو الفرق .

فالأسماء و الحروف مشترکة فی الإخطاریّة و الحکایة ، و الاختلاف فی الاستقلال و عدم الاستقلال .

إشکال المحقق العراقی و دفعه

و أمّا ما أورده المحقّق العراقی علی المیرزا من أنه : إنْ کان المراد من إیجاد الحرف الربط بین المفهومین إیجاده بین مفهومین مرتبطین فهو تحصیل للحاصل ، و إنْ کانا غیر مرتبطین فإیجاده للربط بین غیر مرتبطین محال .

فقد أجاب عنه الاستاذ بأن مراد المیرزا أن الحروف توجد الربط بین المفاهیم ، بمعنی أنه لو لا الحروف لما وجد الارتباط بینها .

* رأی المحقق العراقی

إن الحروف موضوعة للأعراض النسبیّة الإضافیّة (1) ، کمقولة الأین و الإضافة و نحوهما . و توضیح کلامه هو :

إن المعانی علی أقسام :

1 - المعانی الموجودة فی نفسها لنفسها ، و هی الجواهر ، کزید .

2 - المعانی الموجودة فی نفسها لغیرها ، و هی الأعراض ، کالبیاض .

3 - المعانی التی لا نفسیّة لها مطلقاً ، لا فی نفسها و لا لنفسها ، بل فی

ص:107


1- (1)) نهایة الأفکار 42/1 - 52 ط جامعة المدرّسین .

غیرها لغیرها بغیرها ، مثاله : وجود الرابط ، کالرابط بین زید و قائم ، و هو المعبَّر عنه ب « است » بالفارسیّة .

ثم إنّ القسم الثانی ینقسم إلی قسمین : الأعراض النسبیّة ، و الأعراض غیر النسبیّة .

العرض لا یکون بغیر نسبة ، لأنه لغیره ، لکن بعض الأعراض لیس له إلّا نسبة واحدة ، و هی النسبة إلی الموضوع ، کالبیاض القائم بالجدار ، و بعضها ذو نسبتین ، کمقولة الأین ، فمثل « فی » له نسبة إلی المکین و هو « زید » ، و إلی المکان و هو « الدار » فیسمّی القسم الأول بالعرض غیر النسبی ، و الثانی بالعرض النسبی .

فالأسماء موضوعة للجواهر کلفظ الجسم ، و للأعراض غیر النسبیّة کلفظ البیاض .

و الحروف موضوعة للأعراض النسبیّة ، ک « من » و « علی » و « فی » و «إلی» ...

و الهیئات موضوعة للرابط ، و هو « است » .

فالموضوع له الحرف عبارة عن العرض النسبی ، و عن الوجود الرابطی ، و الموضوع له الهیئة عبارة عن وجود الرابط ، فالحروف مثل « من » و « إلی » و« فی » هی لأقسام الأین ، الأین الظرفی « فی » و الأین الابتدائی « من » و الأین الانتهائی « إلی » .

قال : و من الحروف ما لا نتمکّن من تصوّر معناه الموضوع له مثل « اللام » فلا ندری هو من أیّ مقولةٍ ، لکن هذا لا یضرّ بالنظریة ، و لا یوجب بطلانها .

ص:108

و علی الجملة ، فالهیئات موضوعة لوجود الرابط ، مفاد « است » .

و الحروف علی قسمین : منها ما هو موضوع للنسبة ، مثل حروف التمنّی و الترجّی ، فهی موضوعة لنسبة تشوّق المترجّی إلی المترجّی ، و المتمنّی إلی المتمنّی ، مثل لیت و لعل . و منها الحروف الاخری ، فهی موضوعة للأعراض النسبیّة مثل « من » و « إلی » و « فی » .

قال : و معانی الحروف متعلّقة بالغیر ، فلا استقلالیّة لها ، لا فی ذواتها و لا فی وجوداتها .

المناقشات

قبل کلّ شیء ، لم یذکر هذا المحقق دلیلاً علی ما ادّعاه من کون المعنی الحرفی عبارةً عن العرض النسبی .

ثم :

1 - إذا کان معنی الحرف عبارةً عن العرض النسبی ، فأین الأعراض النسبیة لحروف التشبیه و العطف و النداء ؟ و قوله بوجود هذا المعنی إلّا أنّا لا نعرفه بالضّبط ، غیر مفید ، لأنّ الأعراض النسبیّة کمقولة الأین و الإضافة و الجدة ... معروفة ، فلما ذا لا نعلم بالعرض النسبی فی مثل کأنّ زیداً أسد ، و مثل : یا زید ... ؟

إن الحقیقة أن هذه الحروف لیس معناها هو العرض النسبی .

2 - ما ذکره من أنّ المعنی الحرفی متقوّم ماهیّةً و وجوداً بالغیر ، فیه : إن کلّ عرض مستقل ماهیّةً و محتاج إلی الغیر وجوداً ، من غیر فرق بین النسبی و غیره .

3 - إنّ العرض النسبی نفسه معنیً اسمی ، ففی ( الأسفار ) (1) فی مبحث

ص:109


1- (1)) الأسفار 215/4 ط مکتبة المصطفوی .

الأین ، فی نقض تعریف هذه المقولة بنسبة الشیء إلی المکان ، قال ما معناه :

ینبغی أنْ نقول بأنّ مقولة الأین هی الهیئة الحاصلة للشیء ، و الهیئة معنی اسمی ، ثم قال : فمقولة الأین عبارة عن الهیئة الحاصلة بالاضافة .

فجمیع الأعراض النسبیة من مقولة الجدة و الوضع ... هیئات حاصلة ، و الهیئات معانٍ مستقلة ، و الحال أن المعنی الحرفی غیر مستقل .

4 - ما ذکره فی لیت و لعلّ ، فیه : إن التشوق صفة نفسانیّة و لیس بنسبة ، غایة الأمر ، هو صفة نفسانیة ذات تعلّق و إضافة إلی الغیر ، مثل الحب و البغض .

5 - و ما ذکره فی « الأین الابتدائی » و « الأین الانتهائی » مخدوش ، لأنّ « الأین » هی الهیئة الحاصلة للشیء من الإضافة إلی المکان ، فلا ابتداء لها و لا انتهاء ، نعم ، لکلّ « أین » إضافة اخری ، ففی « من » إضافة ابتدائیة ، و فی « إلی » إضافة انتهائیة ، لکنّ کلیهما من مقولة الأین ... فجعل « من » للأین الابتدائی ، و « إلی » للأین الانتهائی غیر معقول .

قال شیخنا الاستاذ :

هذا کلّه بناءً علی أن مسلکه فی معنی الحرف هو العرض النسبی .

لکن کلماته مشوّشة ...

* رأی السید الخوئی

قال طاب ثراه فی تعلیقة ( أجود التقریرات ) :

« و التحقیق أن یقال : إن الحروف بأجمعها وضعت لتضییقات المعانی الاسمیّة و تقییداتها بقیودٍ خارجةٍ عن حقائقها ، و مع ذلک لا نظر لها إلی النسب الخارجیة ، بل التضییق إنما هو فی عالم المفهومیّة و فی نفس المعانی ، کان له

ص:110

وجود فی الخارج أو لم یکن ، فمفاهیمها فی حدّ ذاتها متعلّقات بغیرها و متدلّیات بها ، قبال مفاهیم الأسماء التی هی مستقلّات فی أنفسها .

توضیح ذلک : إن کلّ مفهومٍ اسمی له سعة و إطلاق بالإضافة إلی الحصص التی تحته ، و سواء کان الإطلاق بالقیاس إلی الخصوصیات المنوّعة أو المصنّفة أو المشخّصة ، أو بالقیاس إلی حالات شخصٍ واحد ، و من الضروری أن غرض المتکلّم کما یتعلّق بإفادة المفهوم علی إطلاقه وسعته ، کذلک قد یتعلَّق بإفادة حصّةٍ خاصّةٍ منه ، کما فی قولک : الصلاة فی المسجد حکمها کذا . و حیث أنّ حصص المعنی الواحد فضلاً عن المعانی الکثیرة غیر متناهیة ، فلا بدّ للواضع الحکیم من وضع ما یوجب تخصّص المعنی و تقیّده ، و لیس ذلک إلّا الحروف و الهیئات الدالّة علی النسب الناقصة ، کهیئات المشتقات ، و هیئة الإضافة أو التوصیف ، فکلمة « فی » فی قولنا : الصلاة فی المسجد ، لا تدل إلّا علی أنّ المراد من الصلاة لیس هی الطبیعة الساریة إلی کلّ فردٍ ، بل خصوص حصّة منها ، سواء کانت تلک الحصّة موجودةً فی الخارج أم معدومة ، ممکنة کانت أم ممتنعة ، و من هنا یکون استعمال الحروف فی الممکن و الواجب و الممتنع علی نسقٍ واحدٍ و بلا عنایة فی شیء منها ، فنقول :

ثبوت القیام لزیدٍ ممکن ، و ثبوت العلم للّٰه تعالی ضروری ، و ثبوت الجهل له تعالی مستحیل . فکلمة « اللّام » فی جمیع ذلک یوجب تخصّص مدلوله ، فیحکم علیه بالإمکان مرة ، و بالضرورة اخری ، و بالاستحالة ثالثة .

فما یستعمل فی الحرف لیس إلّا تضییق المعنی الاسمی ، من دون لحاظ نسبة خارجیة ، حتی فی الموارد الممکنة ، فضلاً عما یستحیل فیه تحقّق

ص:111

نسبته ، کما فی الممتنعات و فی أوصاف الواجب تعالی ، و نحوهما » (1) .

هذا ، و الأدلّة علی هذا المبنی - کما فی ( المحاضرات ) - هی :

أولاً : بطلان سائر الأقوال .

و ثانیاً : إن المعنی المذکور یشترک فیه جمیع موارد استعمال الحرف ، من الواجب و الممتنع و الممکن ، علی نسقٍ واحد ، و لیس فی المعانی ما یکون کذلک .

و ثالثاً : إنه نتیجة المختار فی حقیقة الواضع ، أی التعهّد ، ضرورة أن المتکلّم إذا قصد تفهیم حصةٍ خاصة فتفهیمه منحصر بواسطة الحرف و نحوه .

و رابعاً : موافقة ذلک للوجدان ، و الارتکاز العرفی (2) .

أقول :

لقد أوضح الاستاذ رأی هذا المحقق فی الدورة السابقة و قرّبه علی البیان التالی :

إن الحروف علی قسمین :

القسم الأول ، الحروف التی وزانها وزان الإنشاء .

یعنی : کما أن صیغة « بعت » مبرزة لاعتبار الملکیة ، و « أنکحت » مبرزة لاعتبار الزوجیّة ، کذلک قسم من الحروف ، فإنها مبرزة ، فمثل « لیت » و « لعلّ » وضعت لإبراز الصفة النفسانیة ، و هی التمنّی و الترجّی .

و القسم الثانی ، الحروف الموضوعة لتضییق المعانی الاسمیة . و کذا الهیئات ، و الجمل التامّة ، الاسمیة منها کزید قائم ، و الفعلیّة منها کقام زید ،

ص:112


1- (1)) أجود التقریرات 27/1 - الهامش ط مؤسّسة صاحب الأمر (عج) .
2- (2)) محاضرات فی اصول الفقه 84/1 .

و الجمل الناقصة کغلام زید ، فهذه کلّها موضوعة لإفادة التضییق .

و توضیحه : إنه قد تتعلَّق إرادة المتکلِّم لأنْ یفید معنیً علی إطلاقه ، و قد تتعلَّق لأنْ یفید حصّةً من المعنی بإیجاد ضیقٍ فیه ، فمرةً یقول : الصلاة ، و اخری یقول :الصلاة فی المسجد ، فأوجد بواسطة « فی » حصّة من الصلاة و أفادها . هذا بحسب الحصص .

و کذا الحال بحسب الحالات ، فهو تارةً : یقول : زید ، و اخری : یرید إفادة زید فی حالةٍ مخصوصة ، فیأتی بحرفٍ أو بهیئةٍ للدّلالة علی ذلک ، کأنْ یقول جاء زید راکباً ، فبذلک یحصل نوع من التضییق فی المعنی .

و کذا الکلام فی الجمل التامّة ، فقد یدلّل علی الجلوس و یفیده ، و قد یرید إفادة حصّةٍ من الجلوس ، فیقول : جلس زید ، أو زید جالس .

و هکذا یتحقق بالحروف التضییق فی المعانی الاسمیة ، و لکلّ حرفٍ معناه الخاص ، و به یتحقق التضیق بحسب معناه .

لا یقال : التضییق معنًی اسمی ، فإذا کان المعنی الموضوع له الحرف هو التضییق ، کان معنی الحرف معنًی اسمیّاً .

لأنا نقول : الموضوع له الحرف لیس مفهوم التضییق ، بل هو واقعه و مصداقه ، فما یأتی إلی الذهن من لفظ التضییق هو مفهوم التضییق ، و لکن التضییق الآتی إلی الذهن من « فی » و « إلی » و « من » و غیرها هو مصداق التضییق .

مناقشات شیخنا الاستاذ

ثم ذکر الاستاذ دام بقاه بأنه : لا ریب فی وجود التضییق و تحقّقه فی

ص:113

الموارد المذکورة ، و لکنْ لا دلیل علی أن ذلک هو الموضوع له الحرف ، بأنْ یکون مدلول الحرف وضعاً هو التضییق ، فلعلّ التضییق هو لازم المعنی الموضوع له الحرف ، و علی الجملة ، فإنّ المدّعی أعم من الدلیل .

ثم إنه لا یمکن أنْ یکون المعنی واقع التضییق ، لأن التضییق قدر مشترک بین الابتداء و الانتهاء و الظرفیّة ، و إلی جانبه یوجد فی کلّ واحدٍ من هذه الموارد تضییق یختصُّ به ، و لذا لا یوجد جامع بین المعنیین الاختصاصیّین لحرفین من الحروف .

مثلاً : کلّ من « من » و « إلی » یفید التضییق ، فهما یشترکان فی هذه الجهة ، لکنْ فی کلٍّ منهما جهة امتیاز ، فهل المعنی الموضوع له فی هذین الحرفین هو الجهة المشترکة بینهما أو الجهة التی یمتاز بها کلّ منهما عن الآخر ؟ إن المدلول هو المعنی الذی فی جهة الامتیاز ، أما التضییق فذاک هو المدلول الأعمّ الذی یشترک فیه الحرفان ، و لا یمکن أن یکون هو الموضوع له ، لأنه الجامع لتلک الموارد کلّها ، فمدلول « فی » لیس تلک الحیثیّة التی بها یکون مصداقاً للقدر المشترک ، بل مدلوله و مفهومه الموضوع له هو حیثیّته المعاندة لحیثیّة « من » ، أعنی تلک الحیثیة الخاصّة ، و إلّا ، فالتضییق موجود فی کلیهما و لا تعاند لهما فیه ، فجعل هذه الحیثیة المشترکة التی هی اللّازم الأعم فی الحروف غیر صحیح .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إذا کانت الحروف موضوعة لواقع التضییق لا مفهومه ، فمن المستحیل أن تکون مضیّقةً لواقع التضییق ، لأن المضیَّق لا یطرأ علیه تضییق ، لأن المماثل لا یقبل المماثل ، هذا من جهة . و من جهةٍ اخری : إن التضیّق إنما

ص:114

یطرق علی ما لیس فیه ضیق ، و کذا التوسعة . و علی ما ذکرنا نقول : إن القضایا علی قسمین ، منها : الشرطیة الإنشائیة ، کقولنا : إذا زالت الشمس فصل ، و منها : الشرطیة الخبریة ، کقولنا : إذا طلعت الشمس فالنهار موجود ، و لا ریب أن الشرط فی القسم الثانی یرد علی مدلول الهیئة - و هو مختار المحققین ، خلافاً للشیخ رحمه اللّٰه القائل برجوع القید فی الواجب المشروط إلی المادّة - فقید : « إذا طلعت » یرجع إلی مدلول الجملة الجوابیة و النسبة الموجودة بین النهار و الوجود .

و حینئذٍ ، فلو کانت الحروف موضوعة لواقع التضییق ، لزم أن یکون التضیق بسبب « إذا » الشرطیة ، وارداً علی مدلول الهیئة و هو الضیّق ، و معنی ذلک أن یضیَّق المضیَّق مرّة اخری ، و هو محال ، لأن التقیید لا یقبل الإطلاق و التقیید ، کما أنّ الإطلاق کذلک ، لأن المقابل لا یقبل المقابل ، و المماثل لا یقبل المماثل .

هذا ما أورده فی الدورة السابقة .

أما فی الدورة اللّاحقة ، فذکر أن أساس هذا المبنی هو دعوی بطلان القول بوضع الحروف للنسب ، لکنْ سیأتی صحّة هذا القول ، فلا أساس لمبنی التضییق . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن الموضوع له الحرف هو ملزوم التضییق ، و قد وقع الخلط فی هذا المبنی بین اللّازم و الملزوم ، و هذا ما أشار إلیه فی تلک الدورة ، أما فی المتأخّرة فأوضح قائلاً : بأنّ « فی » الذی هو « دریت » بالفارسیة یُصیّر « الصّلاة » حصة فی قولنا : الصلاة فی المسجد کذا . و کذا« من » و « إلی » یصیّران « السیر » حصّةً فی قولنا : سرت من البصرة إلی الکوفة ، فهی حروفٌ

ص:115

تخرج المفاهیم و المعانی عن إطلاقها ، و تحصّصها ، لکن لیس معانی هی الحروف هذه التحصیصات و التضییقات ، بل هی النسب ، فمعنی « فی » النسبة الظرفیة ، و معنی « من » النسبة الابتدائیة ، و معنی « إلی » النسبة الانتهائیة ، و هذه المعانی لازمها التضییق . و سیأتی تفصیل ذلک فی بیان الرأی المختار .

* مناقشات السیّد الاستاذ

و تکلّم السید الاستاذ فی ( المنتقی ) (1) علی نظریة التضییق فی جهاتٍ نلخّصها کما یلی :

1 - إنّ التضییق من الأفعال التسبّبیة التولیدیة التی تتحقق بأسبابها ، بلا توسیط الإرادة و الاختیار فی تحقّقها ، و هو مسبّب عن الربط بین المفهومین بلا اختیار ، فهو مسبب و الربط و النسبة سبب ، و لو لا حصول الربط و النسبة بینهما کالربط بین زید و الدار لا یتحقق التضییق فی مفهوم زید .

فإنْ أراد من وضع الحروف لتضییق المعانی الاسمیّة وضعها للمسبَّب ، أی نفس التضییق دون السبب ، فهو غیر معقول ، لأنّ الحرف إمّا أن یوضع لمفهوم التضییق ، أو لمصداقه و واقعه ، لکن الأوّل باطل ، للتباین بین مفهوم التضییق و مفهوم الحرف ، عند العرف ، مع استلزام الوضع له الترادف بین اللّفظین فی المعنی ، مضافاً إلی أن التضییق من المفاهیم الاسمیّة .

و الثانی یبطل بوجوه :

الأول : إن الوضع بإزاء الوجود ممتنع ، لکون الغرض من الوضع هو انتقال المعنی عند إلقاء اللّفظ ، و الوجود سواء الخارجی أو الذهنی ، لا یقبل الانتقال ، و یأبی الوجود الذهنی ، لأن المقابل لا یقبل المقابل ، أو أن المماثل لا

ص:116


1- (1)) منتقی الاصول 114/1 .

یقبل المماثل .

و الثانی : إن مقتضی حکمة الوضع وضع الحروف لنفس الخصوصیة الموجبة للتضییق ، کی یحصل تفهیم الحصّة الخاصة من مجموع الکلام و بضمیمة الاسم إلی الحرف ، لا الوضع لنفس التضییق ، فإنه خارج عن دائرة الغرض من الوضع .

و الثالث : إنه لو کان الموضوع له الحرف نفس المصداق ، لزم الترادف بین لفظ الحرف و بین الألفاظ الاسمیة الدالّة علی مصداق التضییق ، فیکون لفظ « فی » مرادفاً للفظ « مصداق التضییق » و حصّةً منه ، و الوجدان قاض بعدم الترادف .

و إنْ أراد وضع الحروف للسّبب ، أعنی نفس الرّبط و النّسبة - کما قد یظهر من بعض عبارة التقریرات - فهو عبارة اخری عن مبنی المیرزا .

2 - إن ما ادّعاه من صحّة استعمال الحروف حتی فی الموارد غیر القابلة للنسبة و الربط کصفات الباری ، غیر تام ، لأنه بناءً علی کون الموضوع له الحرف هو التضییق ، لیس المراد کلّی التضییق الشامل لجمیع الأفراد ، بل الموضوع له کلّ حرفٍ تضییق من جهةٍ خاصّةٍ للمفهوم ، و الموضوع له لفظ « فی » تضییق المفهوم الاسمی من جهة الظّرفیّة ، و الموضوع له لفظ « من » تضییقه من جهة خاصّة و هی الابتداء ، و هکذا . و ظاهرٌ أنّ التضییق الخاص یتوقّف علی ثبوت خصوصیّةٍ و ارتباطٍ بین المفهومین الاسمیین ، بحیث ینشأ منه التضییق الخاص ، فیصحّ استعمال الحرف فیه ، فلا یحصل تضییق مفهوم زید بکونه فی الدار إلّا بتحقّق الارتباط و النسبة الخاصّة بینه و بین الدار ، فیعبَّر عن ذلک التضییق بالحرف ، وعلیه ، فاستعمال الحرف فی صفات الباری

ص:117

یتوقف علی ثبوت النسبة و الارتباط بین الصفة و الذات ، کی یتحقق التّضییق المعبَّر عنه بالحرف ، فیرجع الإشکال کما هو .

3 - ثم إنه بناءً علی أنْ یکون الموضوع له فی الحروف هو التضییق ، یکون معنی الحرف من المعانی الإیجادیّة ، و هو الأمر الذی فرَّ منه ، و الوجه فی کونه إیجادیّاً : إن المفروض وضع الحروف لواقع التضییق ، لکنّه مسبّب عن النسبة و الربط ، و قد عرفت إیجادیّة الربط و النسبة ، و أنها تحصل فی ذهن السامع بنفس اللّفظ ، فکذلک التضییق یکون إیجادیّاً یحصل فی ذهن السامع بواسطة اللّفظ باعتبار تبعیّة وجوده لوجود النسبة ، و هی معنی إیجادی .

4 - و أمّا ما ذکره فی ( المحاضرات ) من الوجوه المعتَمدة لهذا المبنی ، فکلّها مردودة . فبطلان الوجوه الاخری لا یعنی صحّة هذا الوجه و تعیّنه .

و اختیار التعهّد فی حقیقة الوضع لا یقتضی کون الموضوع له فی الحروف هو التضییق ، بل هذا المبنی فی وضع الحروف - بناءً علی تمامیّته - یصلح علی جمیع المبانی فی حقیقة الوضع . و القول بهذا المبنی لا یصحّح استعمال الحرف فی جمیع الموارد ، بل الإشکال الذی وجّهه علی مبنی المحقق الأصفهانی و المحقق النائینی من عدم صحة استعمال الحرف فی صفات الباری یتوجّه علی هذا المبنی أیضاً . و دعوی الارتکاز مجازفة .

* رأی المحقق البروجردی

و قال السیّد البروجردی طاب ثراه : إنه لا بدّ من البحث عن حقیقة المعنی الحرفی علی ضوء الأمر الواقع ، فما هو واقع الحال فی مثل : سرت من البصرة إلی الکوفة ؟

إن الواقع فی هذا المثال وجود امور فی الخارج ، و وجود معانٍ لا فی

ص:118

الخارج .

أمّا الامور الموجودة فی الخارج فهی :

1 - السیر .

2 - الفاعل .

3 - البصرة .

4 - الکوفة .

فأمّا الامور الاخری ، التی هی معانی غیر موجودة فی الخارج ، بل هی موجودة بالوجود الاندکاکی فهی :

أ - إن السیر الموجود فی الخارج لیس هو مطلق السیر ، بل هو سیر صادر من هذا الفاعل الخاص المعیّن ، و هذا حیث صدوری ، لا یمکن انکاره ، لکنه مندک فی الکلام و لا خارجیّة له .

ب - إن السیر الموجود فی الخارج له جهة ابتداء ، فإنه من البصرة ، و هذا حیث شروعی .

ج - إنّ السیر الموجود فی الخارج له جهة انتهاء ، فإنه إلی الکوفة ، و هذا حیث انتهائی .

فظهر أن فی مثالنا سبعة معان ، أربعة منها خارجیّة و ثلاثة اندکاکیّة ، و الخارج ظرف وجود کلّ هذه المعانی علی هذا الشکل و الترتیب الخاص .

لکنّ ما یتصوَّر و یأتی إلی الذهن من هذا الکلام تارةً یکون علی طبق الموجود فی الخارج ، و اخری یری الذهن کلّ واحدٍ من تلک المعانی الخارجیّة و الاندکاکیّة مستقلّاً عن غیره . فإنْ رآها علی النحو الأوّل فقد رآها مرتبطة ، و إنْ رآها علی النحو الثانی فلا ارتباط بینها ، و لو لا ما یُوجد بینها

ص:119

الارتباط بفعل الذهن ، فإنه یری « سیراً » و « فاعلاً » و « بصرة » و « کوفة » و« حیث شروع » ... و هکذا .

و علی الجملة ، إن هذه المعانی تارةً : تأتی إلیٰ الذهن کما هی مرتبطة فی الخارج ، و اخری : تأتی إلی الذهن متفرقة مستقلّة بلا ارتباط فیما بینها ، فهی بحاجة إلی ما یحقّق الارتباط فیما بینها .

قال : فما کان بحسب اللّحاظ الأوّل [ یعنی اللّحاظ المطابق للخارج ] رابطةً بالحمل الشائع ، یصیر بحسب اللّحاظ الثانی مفهوماً مستقلّاً یحتاج فی ارتباطه بالغیر إلی رابط .

و قال : إن وجدت فی الذهن علی وزان وجودها الخارجی یکون معنیً أدویاً ، و إنْ انتزع عنها مفهوم مستقل ملحوظ بحیاله فی قبال مفهومی الطرفین ، یصیر مفهوماً اسمیّاً (1) .

نقد الشیخ الاستاذ

ذکر شیخنا الاستاذ دام بقاه معلِّقاً علی قول السید البروجردی : بأن ما کان بحسب اللّحاظ الأول رابطةً ، یکون باللّحاظ الثانی معنًی اسمیاً ، فقال :

هل المراد أنّه هو نفسه یصیر معنیً اسمیّاً أو غیره ؟ ظاهر الکلام أنه نفسه ...

و حینئذٍ یستلزم القول بأن الذات الواحدة تصیر بلحاظٍ شیئاً و بلحاظٍ آخر شیئاً آخر ، و هذا معناه ورود الاستقلال و عدمه علی الشیء واحد ، و هو عین مبنی المحقق الخراسانی صاحب ( الکفایة ) .

فکان علی السید البروجردی أن یوافق علی مبنی صاحب ( الکفایة ) ، لکنّه یری الاختلاف الجوهری بین المعنی الاسمی و المعنی الحرفی .

ص:120


1- (1)) نهایة الاصول 16 - 17 .
* رأی المحقق الأصفهانی

إن المعنی الحرفی عبارة عن النسبة الخاصة الموجودة فی مورد تحقّقها ، فالحروف و الهیئات موضوعة للروابط و النسب الخاصة الموجودة فی أنحاء المنسوبات المختلفة و المرتبطة المختلفة (1) .

توضیحه : إن الوجود ینقسم إلی :

1 - الوجود الجامع لجمیع النفسیّات ، و هو اللّٰه عزّ و جلّ ، فإنهم یقولون بأنّه وجود فی نفسه بنفسه لنفسه .

2 - الوجود فی نفسه لنفسه بغیره ، و هو الجوهر .

3 - الوجود فی غیره لغیره بغیره ، و هو العرض .

و فی مقابلها : الوجود الذی لا نفسیّة له أصلاً ، و جمیع أنحاء النفسیّات مسلوبة عنه ، بل نفسیّته بالطرفین و وجوده فی الغیر ، و هذا الوجود غیر محمول علی شیء من الماهیّات ، و إنما هو وجود شیء لشیء ، بخلاف وجود الجوهر ، و وجود العرض ، فإنه وجود محمولی ، نقول : العقل موجود ، القیام موجود ، أما مفاد کان الناقصة : کزید کان قائماً ، فإنه وجود غیر قابل للحمل علی موضوع ، إنه لیس بکون شیء ، بل هو کون شیء - أی القیام - لشیء و هو زید ، فهو کون رابط ، و وجود قائم بوجودین .

و علی الجملة ، ففی الوجودات الخارجیّة وجود شیء ، وجود شیء لشیء ، و الأوّل وجود محمولی دون الثانی .

و کذلک الحال فی المعانی ، فإن هناک معنیً قائماً بنفسه ، و معنیً غیر قائم بنفسه بل ذاته التعلّق بالغیر و القیام بالطرفین ، و هذا القسم هو حقیقة

ص:121


1- (1)) نهایة الدرایة 51/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .

النسبة ، إذ النسب فی جمیع القضایا ذاتها التعلّق و القیام بالمنتسبین ، إذ بمجرد فرض وجود للنسبة فی قبال المنتسبین یلزم احتیاجها إلی النسبة ، و هذا الثالث یحتاج إلی نسبة ، و هکذا .

فوزان حقیقة النسبة وزان الوجود الرابط ، فکما أنّ فی ذات الوجود الرابط التعلُّق و عدم النفسیّة ، فکذا قد وقع التعلّق و عدم الاستقلال فی ذات النسبة . و معانی الحروف من هذا القبیل .

إنّ النسبة التی تحصل بین زید و القیام فی زید القائم - الذی هو مرکّب ناقص - هی مدلول هیئة زید القائم .

و النسبة الحاصلة فی زید قائم - التی هی جملة خبریّة - مدلول هیئة الجملة الاسمیّة .

و النسبة الحاصلة بین السیر و بین المتکلّم هی مدلول هیئة سرت .

و النسبة الحاصلة بین السیر و البصرة - نسبةً ابتدائیةً - هی مدلول کلمة « من » الموجودة فی الکلام .

و النسبة الحاصلة بین زید و الدار - نسبة الظرفیة - مدلول لفظة « فی » .

إذن ، جمیع النسب إما هی مدلولات الحروف أو هی مدالیل الهیئات .

و اتّضح أن المعنی الحرفی هو الواقع الذی یتحقّق به الربط بین أجنبیین ، فهذا الواقع هو معنی الحرف ، و هو غیر مفهوم لفظ النسبة ، و غیر مفهوم لفظ الربط ، بل بین مفهوم الربط و واقعه و مصداقه تباین ، لأن مفهوم الربط مفهوم اسمی ، محتاج إلی الربط ، مستقل فی التعقّل ، بخلاف واقع الربط و مصداقه ، فهو معنی حرفی .

إن هذه النسبة موجودة فی جمیع القضایا ، کقولنا : زید موجود ، و هی

ص:122

مفاد کان التامّة ، و کان زید موجوداً ، و هی مفاد کان الناقصة ، فلا یقال لا نسبة فی مفاد کان التامّة ، ففی کلتا القضیّتین المعنی الحرفی - و هو النسبة - موجود ، لأن المعنی : زید له القیام ، و زید کان له القیام ، فهذه اللّام تجعل زیداً منسوباً إلی القیام .

الکلام علی الاشکالات

و الإشکالات التی أوردت علی هذا المبنی هی :

أوّلاً : إنّه دائماً توضع الألفاظ علی المعانی ، لأن المعانی هی التی تدخل الذهن ، و إذا کانت الحروف موضوعة للوجودات الرابطة ، لزم انتقال الوجود إلی الذهن ، و قد تقرّر فی محلّه أنّ الوجود لا یدخل الذهن ، فلیس معنی الحروف هو الوجود الرابط . و بعبارة اخری : الألفاظ موضوعة للماهیّات ، و الوجود الرابط لا ماهیّة له ، فلا ینتقل إلی الذهن بواسطة الاستعمال معنیً ، لأن الماهیة ما یقال فی جواب ما هو ؟ و هذا لا بدّ و أنْ یکون معنیً مستقلّاً فی المفهومیّة متعقَّلاً ، و لیس الوجود الرابط مستقلّاً فی التعقل ، فهو فاقد للماهیّة ، فلا یقبل الإحضار فی الذهن ، إذن ، لیس هو الموضوع له الحرف .

و فیه : لیس الموضوع له الحرف وجود الرابط ، بل واقع الربط ، و واقع الشیء غیر وجود الشیء ، فالموضوع له « من » - مثلاً - واقع النسبة الابتدائیة لا وجودها .

و ثانیاً : إذا کان الموضوع له واقع النسبة ، فإنه یلزم فی جمیع موارد عدم وجود النسبة أن یکون الاستعمال فی غیر الموضوع له ، و الحال أنّا لا نجد أیّة عنایة فی تلک الموارد ، فینکشف أنه لیس الموضوع له واقع النسبة . مثلاً : فی « وجود الباری فی نفسه واجب » توجد لفظة « فی » و لا فرق بینها [ فی هذا

ص:123

المورد ، الذی لا توجد فیه نسبة ، إذ لا نسبة بین الباری و الظرفیة ] و بین المورد الذی توجد فیه النسبة ، مثل « زید فی الدار » .

و فیه : إنه فی مثل « وجود الباری فی نفسه واجب » لا توجد نسبة فی الخارج ، لکنْ هی موجودة فی الذهن ، و إلّا لم یصح القول بأنّ العلم ثابت للّٰه، فالذهن هو الذی یُوجد النسبة ، و کذلک الحال فی مثل « الإنسان إنسان » حیث أن الذهن یجرّد الإنسان من الإنسانیّة ثم یحمل الإنسان علیه ، و إلّا فلیس یصحّ الحمل ، لأنه فی الخارج إلّا الإنسان .

أقول :

هذا الذی ذکرناه هو خلاصة ما ذکره شیخنا فی الدورة السابقة إشکالاً و جواباً .

لکنه فی الدورة اللّاحقة ، تعرض للإشکالین و أجاب عنهما بتفصیل أکثر و بیانٍ أوسع ، و لإشکال ثالث موجود فی ( المحاضرات ) أیضاً ، و أجاب عنه بالتفصیل کذلک ... و نحن نذکر عمدة المطالب بنحو الإیجاز .

* إشکال ( المحاضرات )

إنه لا دلیل علی نظریّة وجود الرابط سوی البرهان الذی یقولون بأنّ وجود الجوهر معلوم متیقّن ، و کذا وجود العرض ، و لکن وجود العرض للجوهر مشکوک فیه ، و تعلّق الیقین و الشک بشیء واحدٍ فی آنٍ واحدٍ من جهةٍ واحدة محال ، إذن ، متعلّق الیقین هو وجود الطّرفین و متعلّق الشک وجود العرض للجوهر ، فهذا وجود ثالث ، إذن ، تحقّق « الوجود فی نفسه » و هو الجوهر و العرض ، و « الوجود لا فی نفسه » و هو الوجود الرابط ، فی قبال وجود الجوهر و العرض .

ص:124

فأورد علیه فی ( المحاضرات ) بأنّ تحقّق الیقین و الشک فی الذهن لا یکشف عن تعدّد متعلَّقهما فی الخارج ، فإن الطبیعی عین فرده و متّحد معه خارجاً ، و مع ذلک یمکن أن یکون أحدهما متعلَّقاً لصفة الیقین و الآخر متعلَّقاً لصفة الشک ، کما إذا علم إجمالاً بوجود إنسان فی الدار و شکّ فی أنه زید أو عمرو ، فلا یکشف تضادّهما عن تعدّد متعلّقیهما بحسب الوجود الخارجی ، فإنهما موجودان بوجود واحدٍ حقیقة ، و ذلک الوجود الواحد من جهة انتسابه إلی الطبیعی متعلَّق للیقین ، و من جهة انتسابه إلی الفرد متعلَّق للشک .

و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فإن متعلَّق الیقین هو ثبوت طبیعیّ البیاض للجدار ، و متعلَّق الشک هو ثبوت حصّةٍ خاصّةٍ من البیاض للجدار ، فلیس هنا وجودان تعلَّق الیقین بأحدهما و الشک بالآخر ، بل وجود واحد حقیقة ، مشکوک فیه من جهةٍ و متیقَّن من جهة اخری .

و تلخّص : إن الممکن فی الخارج إما جوهر أو عرض ، و کلّ منهما زوج ترکیبی ، أی مرکّب من ماهیّة و وجود ، و لا ثالث لهما . و المفروض أن الوجود الرابط سنخ وجود لا ماهیّة له ، فلا یکون لا من الجوهر و لا من العرض ، و لیس فی الخارج إلّا الجوهر و العرض .

مناقشة الاستاذ

قال شیخنا دام بقاه : إن هذا الإشکال ناشئ من عدم ملاحظة کلمات أهل الفن .

إن کان المقصود أنهم یقولون بأنّ هناک فی الخارج للعرض وجوداً غیر وجوده للجوهر - کما فی کلمات البعض - فالإشکال وارد ، لکنّ أعیان أهل الفن لا یقولون مثل هذا الکلام ، و لا حاجة لنقل کلماتهم بالتفصیل ، و إنما

ص:125

نقتصر علی کلمتین من ( الأسفار ) ، ففی مبحث الوجود الرابط ، فی الردّ علی المحقق الدوانی یقول : « فإن الأسود فی قولنا : الجسم أسود ، من حیث کونه وقع محمولاً فی الهلیّة المرکبة ، لا وجود له إلّا بمعنی کونه ثبوتاً للجسم ، و هذا ممّا لا یأبی أن یکون للأسود باعتبار آخر غیر اعتبار کونه محمولاً فی الهلیّة المرکبة وجود ، و إنْ کان وجوده الثابت فی نفسه هو بعینه وجوده للجسم » (1) .

یعنی : إنه لیس فی الخارج إلّا وجود واحد ، و لکنّ هذا الوجود الواحد یتعدّد بالاعتبار ، و هذا الاعتبار الذی یسبب التعدّد یکون فی قضیّتین نحن نشکّلهما .

إحداهما : قضیّة هل البسیطة التی یُسئل فیها عن وجود البیاض ، فهذا اعتبارٌ ، و یقال فی الجواب : البیاض موجود .

و الثانیة : قضیّة هل المرکّبة ، حیث یُسئل فیها عن ثبوت البیاض للجدار و یقال مثلاً : هل الجدار أبیض ؟ فهنا قد جعلنا الوجود محمولاً ، فنقول فی الجواب : الجدار موجود له البیاض .

فالتعدّد إنما جاء من ناحیة الاعتبار ، و إلّا ففی الخارج لیس إلّا وجود واحد ، هذا الوجود الواحد الذی کان قابلاً لأن یکون باعتبار منّا محمولاً علی ماهیّة العرض ، کما فی قولنا : البیاض موجود ، و لأن یکون باعتبارٍ منّا رابطاً فی القضیّة التی نشکّلها نحن و نقول : الجدار موجود له البیاض ، و لأن یقع مفاداً لأحد الأفعال الناقصة ، کأن نقول : الجدار کان له البیاض ، أو یکون له البیاض . و هکذا .

ص:126


1- (1)) الأسفار 331/1 ط مکتبة المصطفوی .

و فی ( الأسفار ) فی فصلٍ قبل الموادّ الثلاث یقول :

« و أمّا الوجود الرابطی الذی هو احدی الرابطتین فی الهلیّة المرکّبة ، فنفس مفهومه یباین وجود الشیء فی نفسه . و فی قولنا : « البیاض موجود فی الجسم » اعتباران ، اعتبار تحقّق البیاض فی نفسه و إنْ کان فی الجسم ، و هو بذلک الاعتبار محمول بهل البسیطة ، و الآخر إنه هو بعینه فی الجسم ، و هذا مفهوم آخر غیر تحقّق البیاض فی نفسه ، و إنْ کان هو بعینه تحقّق البیاض فی نفسه ملحوظاً بهذه الحیثیة ، و إنما یصح أن یکون محمولاً فی هل المرکّبة » (1).

و فی هذا الکلام أیضاً تصریح بما تقدَّم ، فإنه یقول بأن الوجود الرابط یکون فی الهلیّة المرکّبة . و الهلیّة المرکّبة لیست فی الخارج .

و علی الجملة ، فإن المستشکل لو لاحظ هذه الکلمات و تأمّل فیها لما أشکل بما ذکر .

و کذلک کلمات المحقق اللّاهیجی ، الصریحة فی أن الوجود الرابط إنما هو فی التصدیقات المرکبة الإیجابیّة ، فموطن الوجود الرابط لا علاقة له بالخارج ... فإنّه لیس الکلام عن تعدّد الوجود فی الخارج ، نعم صرّح بذلک بعضهم ، لکن هؤلاء لیسوا ممّن یعتمد علی کلامهم فی الفلسفة .

و تحصل :

إن الوجود الرابط فی القضایا و النسب الموجودة فی القضایا هو مدلول الحرف .

فالإشکال مندفع .

و بعد :

ص:127


1- (1)) الأسفار 81/1 ط مکتبة المصطفوی .

فلو فرضنا عدم وجود الوجود الرابط فی عالَمٍ من العوالم أصلاً ، فهل ینهدم بذلک أساس هذه النظریّة ، أعنی نظریّة کون الحروف موضوعةً للنسب ؟

کلّا ...

إنما کان ینهدم لو قال المحقق الأصفهانی بأنّ معانی الحروف هی النسب ، و النسب لیست إلّا الوجود الرابط . لکن هذا المحقق و غیره یقولون بأنّ الوجود الرابط أحد أقسام النسبة ، و إنّه یتحقق فی الهلیّة المرکّبة فقط ، فلو افترضنا أن الوجود الرابط غیر موجود أصلاً ، فإن انتفاء وجوده لا یستلزم انتفاء النسبة .

لقد صرّح فی ( الأسفار ) بأن الوجود الرابط غیر متحقق فی تمام العقود . و الحال أنَّ النسبة متحققة فی تمام العقود . و علی هذا ، فالنسبة بین « الوجود الرابط » و بین « النسبة » هی العموم و الخصوص المطلق .

و کذا صرّح المحقق السبزواری فی ( حاشیة الأسفار ) حیث قال :

« الوجود الرابط إنما یکون فی القضایا الموجبة المرکبة فقط ، و لیس متحقّقاً فی کلّ القضایا » .

فظهر سقوط الإشکال المتقدّم .

* و أمّا الإشکالان الآخران ، فقد تکلَّم علیهما الاستاذ فی الدورة اللّاحقة ، و أجاب عنهما کذلک ، إلّا أنه فصّل الکلام علیٰ الأول منهما ، و هذه خلاصة ما أفاده دام بقاه :

مناقشة الاستاذ

قال : لقد قسّم المحقق الأصفهانی فی ( نهایة الدرایة ) النسبة إلی ثلاثة

ص:128

أقسام : الأول : النسبة التی تکون فی القضایا التی هی مفاد هل البسیطة ، و الثانی : النسبة التی تکون فی القضایا التی هی مفاد هل المرکّبة ، قال : و هذا هو الوجود الرابط ، و منه یظهر أن الوجود الرابط لیس عین النسبة کما جاء فی کلمات بعضهم . و الثالث : النسبة التی تکون من لوازم و مقوّمات الأعراض النسبیّة ، مثل مقولة الأین التی مقوّمها النسبة التی بین زید و الدار ، و هو یری وجود هذه النسبة فی الخارج .

فموطن الوجود الرابط هو القضایا و العقود و الموجبات الحملیّة المرکّبة .

فظهر أن للنسبة أنحاء ثلاثة ، منها : ما یوجد فی الذهن ، و هو النسبة فی جواب هل البسیطة ، و منها : ما یوجد فی الخارج و هو المقوّم للأعراض النسبیّة ، و منها : ما یکون بالاعتبار ، و هو الوجود الرابط ، و هو ما یقال فی جواب هل المرکّبة ، فوجود الوجودات الثلاثة : الجوهر و العرض و النسبة ، إنما هو فی نحوین من الأنحاء الثلاثة ، مع الفرق فی موطن الوجود فیهما ، ففی أحدهما هو الذهن ، و هو ما یقال فی جواب هل البسیطة ، و فی الآخر هو الخارج ، و هو الذی فی الأعراض النسبیة .

ثم نقول : هل للوجود الرابط ماهیّة أو لا ؟

یقول المستشکل : لا ماهیّة له .

و فیه : إن الوجود الرابط وجود إمکانی ، و الوجود الإمکانی یستحیل أن ینفکَّ عن الحدّ ، و إذا استحال انفکاکه عن الحدّ استحال انفکاکه عن الماهیّة .

لکن المهمّ هو : إن الوجود الرابط کما أنّه متقوّم بالغیر وجوداً و لا استقلال له فی الوجود ، کذلک هو غیر مستقل فی حدّ ذاته ، فالوجود الرابط ذات غیر مستقلّة ، ماهیّة غیر مستقلّة ، فله ذات و ماهیّة ، لکنْ بلا استقلال ،

ص:129

و فی کلمات القوم إشارة إلی هذا أیضاً ، و کلام المحقق الأصفهانی فی مواضع عدیدة من کتابه یثبت هذا الذی ذکرناه :

یقول فی ( نهایة الدرایة ) رادّاً علی صاحب ( الکفایة ) : « المعنی الحرفی - کأنحاء النسب و الروابط - لا یوجد فی الخارج إلّا علی نحو واحدٍ ، و هو الوجود لا فی نفسه ، و لا یعقل أنْ یوجد معنی النسبة فی الخارج بوجودٍ نفسی ، فإن القابل لهذا النحو من الوجود ما کان له ماهیّة تامة ملحوظة فی العقل ، کالجواهر و الأعراض » (1) .

فهذا الکلام صریح فی أن النسبة موجودة بالوجود الرابط ، فلو کانت النسبة نفس الوجود الرابط ، فنفس الوجود غیر قابل لأنْ یوجد ، فالمعنی الحرفی معنی قابل لأن یوجد لکنْ لا بالوجود النفسی ، و الوجه فی ذلک : إن ما یقبل الوجود النفسی هو ما یقبل الماهیة التامة .

فهو رحمه اللّٰه ینفی الماهیّة التامّة و یثبت الماهیّة الناقصة ، و المراد من الماهیّة الناقصة هو الماهیّة المتقوّمة بالطرفین .

و یقول : « و الصحیح تنظیرهما بالوجود المحمولی و الوجود الرابط » .

فهو جعل المعنی الاسمی نظیر الوجود المحمولی ، و المعنی الحرفی نظیر الوجود الرابط ، فلو کان المعنی الحرفی نفس الوجود الرابط فما معنی تنظیره به .

و یقول : « مع أن من البدیهی أن حقیقة النسبة لا توجد فی الخارج إلّا بتبع وجود المنتسبین من دون نفسیّة و استقلال أصلاً ، فهی متقوّمة فی ذاتها بالمنتسبین لا فی وجودها فقط » .

ص:130


1- (1)) نهایة الدرایة 51/1 - 52 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .

فمن هذا الکلام أیضاً یظهر أن النسبة لیست الوجود و إلّا فلا معنی لقوله : فی ذاتها ، لا فی وجودها فقط .

و یقول : « و أما حقیقة المعنی الحرفی و المفهوم الأدوی فهو ما کان فی حدّ ذاته غیر استقلالی بأیّ وجود فرض » .

أی : الذات - سواء فرضت بالوجود الذهنی أو الخارجی - غیر استقلالیّة ، و قد تصوّر المستشکل أن معنی الحرف منحصر بالوجود و الوجود غیر مستقل ، و بین هذا و کلام المحقّق الأصفهانی فرق کبیر .

و تلخّص : إن معنی الحرف ذات غیر مستقلّة فی وجودها ، سواء فی وعاء الذهن أو وعاء الخارج ، و المستشکل تصوّر أن المعنی هو الوجود غیر المستقل ذهناً و خارجاً .

ثم إن المحقّق الأصفهانی ملتفت إلی الإشکال بأن الالتزام بکون وضع الحروف للنسب یتنافی مع المبنی ، و هو أن الألفاظ غیر موضوعة للوجودات ، و لذا یقول فی کتاب ( الاصول علی النهج الحدیث ) : « و لا یخفی علیک : إن ما ذکرنا فی حقیقة المعنی الحرفی لا ینافی ما قدّمناه فی الوضع ، من أن طرفی العلقة الوضعیّة طبیعیّ اللّفظ و طبیعیّ المعنی ، فإن المراد هناک عدم دخل الوجود العینی و الوجود الذهنی فی الموضوع و فی الموضوع له ، و إنْ کان الموضوع له ماهیّة شخصیّة کما فی الأعلام » .

أی : لا یتوهّم أن ألفاظ الحروف إن کانت موضوعة للنسب ، فهو ینافی المبنی فی وضع الألفاظ . قال : « فالنسبة الحقیقیّة و إنْ کانت متقوّمة بطرفیها الموجودین عیناً أو ذهناً ، إلّا أن الموضوع له ذات تلک النسبة المتقوّمة بهما ، من دون دخلٍ لوجود طرفیها فی کونها طرفاً للعلقة الوضعیّة ، و إنْ کان لهما

ص:131

دخل فی ثبوتها ... » (1) .

و تلخّص :

إن معانی الحروف لیس هو الوجود الرابط ، بل الموجود بالوجود الرابط ، و قد وقع الخلط بینهما فی کلمات المستشکل ، و اتّضح بطلان القول بأن الوجود الرابط لا ماهیّة له و لا ذات .

بل للحرف ماهیّة ، لکنها ناقصة ، بمعنی أنها متقوّمة بالطرفین ، فلا تکون قابلة للإحضار فی الذهن إلّا مع الطرفین .

إن الذی یدخل الذهن هو الماهیّة و لیس الوجود ، إذ الوجود إما ذهنی أو خارجی ، فدخول الوجود الذهنی یستلزم اجتماع المثلین ، و دخول الوجود الخارجی یستلزم اجتماع المتقابلین ، فالوجود غیر قابل لدخول الذهن ، و هذا ما صار سبباً للإشکال المتقدم ، إذ جعل المعنی الحرفی الوجود الرابط ، فوقع الإشکال .

إن الذی یدخل فی الذهن هو الماهیّة ، و الماهیّة تارة تکون بحیث تدخل بنفسها ، و تارة تدخل مع غیرها ، فالنسبة بین زید و الدار ، و کونه فیها المدلول بلفظ « فی » هذا المعنی لیس هو الوجود بالوجدان ، لکن دخوله فی الذهن لا یکون إلّا بوجود زید و الدار معه .

فهذا هو مطلب القوم ، و الإشکال المذکور غیر وارد علیه .

تنبیه

قد تقدّم أن ظاهر کلماتهم أو صریحها أن النسبة بین « النسبة »

ص:132


1- (1)) الاصول علی النهج الحدیث (بحوث فی الاصول) : 26 ط جامعة المدرّسین .

و« الوجود الرابط » هو نسبة العام و الخاص ، و أنّ الوجود الرابط مختص بالهلیّات المرکّبة .

لکن المحقق الأصفهانی یصرّح فی موضع آخر بأنّ النسب و الروابط موجودة بوجود رابط ، فکیف الجمع بین الاختصاص المذکور و بین کون النسب موجودة ؟

قال الاستاذ : بأنّ هذا الاختلاف موجود فی کلمات صاحب الأسفار و السبزواری أیضاً ، و هذا هو الموجب لاختلاف کلمات الاصولیین .

فمثلاً : یقول السبزواری فی حاشیة ( الأسفار ) تعلیقاً علی قول الماتن بأن إطلاق الوجود علی الوجود فی نفسه و الوجود الرابط هو بنحو المشترک اللّفظی ، یقول هناک (1) : لو لم یکن للنسبة وجود لانعدم التمییز بین القضیّة الصّادقة و الکاذبة ، حیث یقال فی التمییز بینهما إن الخبر لو کان له مطابق فهو صادق و إلّا فکاذب ، و المطابق و غیر المطابق إنما هو للنسبة ، فالنسبة موجودة لا محالة .

و یقول السبزواری فی مبحث الجواهر و الأعراض ، فی مقولة الأین ، فی حاشیة ( شرح المنظومة ) ردّاً علی اللاهیجی و غیره القائلین بأن الأین عبارة عن نسبة الشیء إلی المکان ، یقول : إن هذا باطل ، لأن النسبة من الاعتباریّات ، فلو کان الأین هو نسبة الشیء إلی المکان ، لزم أن تکون مقولة الأین اعتباریةً (2) .

فظهر أنّ بین کلماتهم تهافتاً واضحاً .

ص:133


1- (1)) الأسفار 80/1 ط مکتبة المصطفوی .
2- (2)) شرح المنظومة : 391 ط دار المرتضی .

و قد یمکن رفع هذا التناقض و التهافت بأنْ یقال :

إنّ قولهم بعدم وجود الوجود الرابط فی الخارج ، ناظرٌ إلی غیر الأعراض النسبیّة ، کما بین الجدار و البیاض ، فإنه لا نسبة بین ذاک الجوهر و هذا العرض ، إلّا أنه فی الاعتبار یربط بینهما و یقال : الجدار أبیض ، أی :

کائن له البیاض ، أمّا فی الخارج فالوجود واحد ، إذ الوجود الذی هو وجود البیاض هو وجود للجدار أیضاً .

و قولهم بالوجود الخارجی للنسبة بالوجود الرابط ، یقصدون منه الأعراض النسبیّة ، حیث أن النسبة مقوّمة للعرض ، و إذا کان العرض موجوداً خارجاً استحال أنْ لا تکون النسبة موجودةً خارجاً .

و لیرجع إلی کلام صاحب ( الأسفار ) بضمیمة کلام ملّا إسماعیل فی ( حاشیة الشوارق ) .

إشکال الاستاذ علی نظریّة المحقق الأصفهانی

أفاد شیخنا الاستاذ بعد ردّ ما ذکره عن ( المحاضرات ) بأنّ نظریّة المحقق الأصفهانی هی أحسن ما قیل فی المقام .

ثم ذکر تأمّلاً فیه فقال : إذا کان الموضوع له الحرف هو حقیقة النسبة ، فکلّ نسبة جزئیة هی موضوع له الحرف ، و کان هناک معنیً اسمی تفهم تلک الجزئیّات بواسطته ، فکیف یمکن وجود جامعٍ بین حیثیّات متباینة ؟

و أیضاً : إذا کان الموضوع له « فی » - مثلاً - حقیقة النسبة ، و أن الذی یدخل الذهن من هذا اللّفظ معنی واحد فی أیّ استعمال ، و الاختلاف إنما هو من ناحیة الطرفین ، کما نقول : زید فی الدار ، و عمرو فی المدرسة ، فما معنی قولهم : الموضوع له واقع کلّ نسبةٍ نسبةٍ منفردةً ؟

ص:134

قال : فهذان إشکالان لا ینحلّان .

هذا فی الدورة السّابقة .

و أمّا فی الدّورة اللّاحقة ، فقد تکلّم علی هذه النظریة بالتفصیل ، و سیتّضح ذلک من خلال بیان مختاره دام ظلّه ، و موارد الافتراق بینه و بین أنظار الأعلام .

رأی شیخنا الاستاذ فی معانی الحروف

قال دام ظلّه : لیس مختارنا مبنی المحقق الأصفهانی علی إطلاقه ، و لا مبنی المیرزا علی إطلاقه ، و بیان ذلک :

إن الحروف تنقسم إلی أقسام ، ( فمنها ) الحروف التی تستعمل فی موارد الأعراض النسبیة ، کقولنا : زید فی الدار و عمرو علی السطح ، و هکذا ...

فإن هذه الجمل تشتمل علی مفاد « است » بالفارسیة ، هو مدلول هیئة الجملة الاسمیة ، و علی معنیً واقعی ، و هو ظرفیّة الدار لزید مثلاً ، یحکی عنه « فی » فإن الظرفیة ، و کذا الفوقیة ، و هکذا - أمر واقعی موجود ، و لیس ممّا یصنعه أو یعتبره الذهن ، غیر أنّ « فی » تدلّ علی تحقّق هذا الأمر الواقعی فی مورد « زید » و « الدار » و تفید الربط بینهما ، ذلک الربط الخاص الذی هو ظرفیّة الدار لزید ، کما هو الحال تماماً فی مثل عمرو علی السطح ، فی معنی الفوقیّة ، و غیر ذلک .

فهذا القسم من الحروف موجدة بهذا المعنی ، أی : موجدة للربط بین المفاهیم بما لها من الحکایة عن الواقع ، فالنسبة موجودة حقیقة ، و لیست بأمرٍ اعتباری ، و قد کان هذا منشأ الإشکالات المذکورة فی ( المحاضرات ) و التی أوضحنا اندفاعها کلّها .

ص:135

و تلخّص : إن قسماً من النسب فی المعانی الحرفیّة متحققة ، و الحروف فی هذا القسم تکون حاکیةً عن النسب ، مثل نسبة الظرفیّة بین الدار و زیدٍ ، و الاستعلائیة بین عمرو و السطح ، و الابتدائیة بین السیر و الکوفة ، و هکذا .

و قد تکون هذه الحروف مفیدةً للنسب ، و لکن لا تحقّق لتلک النسب فی الخارج ، و إنما فی الذهن فقط ، کما فی قولنا : « شریک الباری فی نفسه ممتنع » فإن « فی » هذه مفیدة لمعنی الظرفیّة أیضاً ، لکنها ظرفیّة تعملیّة و بتصرف من الذهن ، فلها مفاهیم ، لکن موطنها الذهن فقد توجد هناک و قد لا توجد .

و بما ذکرنا فی معنی هذا القسم ظهر : أنّ مدالیل هذه الحروف - فی مثل زید فی الدار و نحوه - لیست محصورةً باُفق الاستعمال - کما نقله بعض تلامذة المیرزا النائینی عنه - بل هی امور خارجیّة ، و تلک الحروف حاکیة عنها .

( و منها ) الحروف غیر الحاکیة عن نسبةٍ ، مثل حرف النداء ، فإنه لا نسبة بین المنادی و المنادیٰ تحکی عنها کلمة « یا » بل هی موجدة للنسبة وفاقاً للمحقق النائینی ، فما ذکره حق فی هذا القسم من الحروف ، و یصح تسمیتها بالإیجادیّة بهذا الاعتبار ، فلفظة « یا » - مثلاً - توجد النسبة الندائیّة بین المنادی و المنادیٰ .

( و منها ) الحروف التی لا تدلّ علی النسبة ، لا حکایةً و لا إیجاداً ، مثل « اللّام » التی للعهد الذهنی ، فإنه لا استقلال لمعنی « أل » بل هو قائم بالغیر ، و ذلک المعنی هو التعریف ، و هذا ما نصّ علیه الخواجة فی ( أساس الاقتباس ) . و علی الجملة ، فمدلول هذا الحرف هو الخصوصیّة التی توجد الذهن لمدخوله ، و هی کونه معرفةً فی قبال النکرة .

ص:136

فظهر أن المختار لدی الاستاذ دام بقاه هو التفصیل بین الحروف ، فلا هی إخطاریّة مطلقاً ، و لا هی إیجادیّة مطلقاً .

إلّا أن الذی لا بدّ من التنبیه علیه و الالتفات إلیه هو : أنه هل یوجد فی کلّ موردٍ یکون الحرف إخطاریّاً و لمعناه خارجیةً أمران ، أحدهما : العرض النسبی ، و الآخر النسبة ، و کلّ منهما موجود فی الخارج ، بأنْ یکون فی « زید فی الدار » مثلاً ظرفیّة قائمة بالدار و مظروفیّة قائمة بزید ، و إلی جنب ذلک توجد نسبة بین « الدار » و « زید » هی مدلول « فی » ؟

قیل : نعم . و هو للمحقق الأصفهانی و نسبه إلی أهل التحقیق .

و قیل : الموجود فی الخارج لیس إلّا الظرفیّة و المظروفیّة ، و أما النسبة فهی من صنع الذهن ، و هذا هو المستفاد من کلمات صاحب ( الکفایة ) .

و قیل : إن الموجود فی الخارج هو النسبة فقط ، و هو المستفاد من کلمات الخواجة فی تعریف الأین .

و توضیح کلام المحقق الأصفهانی هو : أنه فی الأعراض النسبیّة یوجد سنخان من المعنی ، أحدهما : الهیئة الحاصلة من کون الشیء فی المکان ، فی مقولة « الأین » و من کونه فی الزمان ، فی مقولة « متی » و هکذا . و الآخر : هو معنی الحرف الموجود بوجودٍ لا فی نفسه - و قد ذهب هذا المحقق إلی أن للوجود درجات ، أقواها وجود الجوهر ، ثم وجود الأعراض غیر النسبیة مثل « الکیف » ثم وجود الأعراض النسبیة مثل « الأین » و « متی » ثم وجود الإضافة ، و أضعف منها وجود النسبة - و بناءً علی ما ذکره ، ففی مثل « زید فی الدار » یوجد :

الجوهر : زید و الدار . و أعراض غیر نسبیّة قائمة بالدار و بزید ، و عرضان

ص:137

نسبیّان ، و نسبة .

و کلّ هذه لها وجود فی الخارج .

لقد حصلت من کون زید فی الدار هیئة لزید هی من مقولة الأین ، و حصلت إضافة هی مظروفیّة زید بالنسبة إلی الدار ، و ظرفیة الدار بالنسبة إلی زید . فتحقّق « أین » و « إضافة » و هناک أیضاً « نسبة » هی نسبة زید إلی الدار .

و یضیف المحقق المذکور أن بین « الظرفیّة » و بین « النسبة » التی هی معنی « فی » - الموجودین خارجاً - تبایناً ، لأن الظرفیّة من مقولة الإضافة ، و هذه المقولة فی ذاتها و حدّها و تعریفها مستقلّة ، و کذا فی وجودها و إن کان قائماً بالغیر ، لأنه وجود محمولی و نفسی . أمّا « النسبة » التی هی مدلول « فی » فهی غیر مستقلّة لا فی ذاتها و لا فی وجودها .

و علی هذا ، فلیست النسبة بین « الظرفیّة » و بین « النسبة » نسبة الکلّی إلی الفرد ، و لا العنوان إلی المعنون ، و ذلک : لأن فرد « الإضافة » له وجود محمولی ، و لکن أنحاء النسب فوجودها وجود رابط و وجود لا فی نفسه ، و لأنّ العنوان یکون دائماً حاکیاً عن المعنون ، و الظرفیّة لا حکایة لها عن النسبة .

فلیست النسبة بینهما نسبة العنوان إلی المعنون و لا الکلیّ إلی الفرد .

و بما ذکرنا ظهر أیضاً : إن المعانی الحرفیّة وجودات هی أضعف جمیع الوجودات ، لأنه وجود فی الغیر ، و لا یقبل الحمل بالاستقلال علی معنی ، و إنه لا معنی له بدون طرفیه ، و ما یکون کذلک یکون ناقصاً فی معنویّته ؛ بخلاف الإضافة ، فإنها فی حدّ معنویّتها لیست ناقصةً .

ص:138

هذا تمام کلام هذا المحقق .

النظر فی کلام المحقق الأصفهانی

و أفاد شیخنا الاستاذ - بعد أن ذکر کلام المحقق الأصفهانی - فی بیان مختاره فی المقام : بأنه لا یوجد فی مورد الحروف التی مدالیلها الأعراض النسبیّة مثل «فی» و « إلی » و « علی » إلّا معنی واحد ، فلا یتبادر إلی الذهن من لفظة « من » - مثلاً - معنیان متباینان أحدهما الابتداء و الآخر معنی « من » ، و لا یتبادر من « فی » معنیان متباینان أحدهما الظرفیّة و الآخر مدلول « فی » و هکذا ، بل لیس هناک إلّا معنی واحد ، هو فی مورد استعمال الحرف آلی و فی مورد استعمال الاسم استقلالی ، و المعنی فی « علی » و « الاستعلاء » و فی « من » و « الابتداء » واحد ، و کذا فی أمثالهما ، و لا تغایر فضلاً عن التباین .

فما ذکره مخدوش بالوجدان .

إنه لا ریب فی إفادة « فی » فی قولنا : زید فی الدار : کون زید فی هذا المکان الخاص ، فهو معنی زائد علی الکون العام و المکان المطلق ، فبواسطة هذا الحرف تحقّق الظرفیّة و المظروفیّة بالاعتبار من الذهن ، و إلّا فالموجود فی الخارج لیس إلّا معنی واحد و هو مدلول الحرف . و یشهد بذلک کلام الخواجة فی مدلول اللّام التی هی للتعریف ، فلیس فی قولنا : « العالم » معنیان متباینان أحدهما التعریف و الآخر مدلول اللّام .

و یدلّ علی ذلک - مضافاً إلی الوجدان - أنا یمکننا إفادة المعنی الواحد بالإتیان بالاسم بدلاً عن الحرف ، و لو کان تغایر بین الاسم و الحرف فی المعنی لتفاوت المعنی ، و الحال أنْ لا تفاوت ، فلنا أن نقول : ابتداء سیری من البصرة إلی الکوفة ، کما نقول : سرت من البصرة إلی الکوفة ، و لا یتغیّر المعنی أصلاً ،

ص:139

کما یصحّ أن یقال : الإناء ظرف للماء ، بدلاً عن : الماء فی الإناء ، بلا فرقٍ فی المعنی أصلاً ، و بکلٍّ منهما یصح الجواب عن السؤال : ما ذا فی الإناء ؟ و لو کان ثمَّ اختلاف فی المعنی لما صحّ الجواب بکلٍّ منهما علی السّواء .

و علی الجملة ، فإنه مضافاً إلی عدم البرهان علی ما ذکره المحقق الأصفهانی ، فالبرهان قائم بالإضافة إلی الوجدان علی خلافه .

و تلخص : إن معانی الحروف فی الحقیقة هی النسب فقط [ و المعانی الاسمیّة المساوقة لها - مثل : الظرفیّة ، الابتداء ، الاستعلاء ، الانتهاء ... - لا وجود لها فی الخارج ] و هی معانی متقوّمة بالغیر .

و هذا التقوّم دخیل فی المعنی خلافاً لصاحب الکفایة إذ قال بعدم دخل التقوّم بالغیر فی المعنی .

و لیس کلّها إیجادیّة خلافاً للمیرزا .

و لیس کلّها إخطاریّة خلافاً للأصفهانی .

و لیس الأعراض النسبیّة خلافاً للعراقی ، علی ما یستفاد من تقریرات بحثه .

و أیضاً : مدالیل الحروف هی النسب فقط وفاقاً للعراقی ، علی ما استفدناه من ( المقالات ) .

و لا یوجد فی مثل « زید فی الدار » إلّا معنی واحد ، و هو النسبة التی هی مدلول « فی » ، خلافاً للأصفهانی ، کما تقدّم .

و نسبة الأصفهانی ما ذهب إلیه إلی المحققین غیر واضحة ، فالشیخ فی إلهیّات ( الشفاء ) یحاول فی بحث المضاف أن یثبت للإضافة وجوداً ، و لا یظهر منه أن یرید إثبات وجودٍ للنسبة ، و بهمنیار فی کتابه ( التحصیل ) - و هو

ص:140

تقریر درس الشیخ - فی تحلیل الوضع ، یصرّح بأن الوضع عبارة عن نسبة الأجزاء بعضها إلی بعض (1) ، و أیضاً ، یصرّح بأنّ الإضافة نسبة ، لکن لیس کلّ نسبة إضافة ، فالإضافة نسبة متکرّرة (2) . و لا دلالة فی کلامه علی تحقّق هیئة للمتضایفین من النسبة المتکرّرة .

ثم إنه بما ذکرنا - من صحّة وضع الحروف للنسب - ینهدم أساس ما ذهب إلیه المحقق الخوئی من أن المعنی الموضوع له الحرف هو التضییق فی المعنی الاسمی ، لأنّ النسبة وجود رابط ، و اللّفظ لا یمکن وضعه للوجود .

فقد عرفت أنّ الصحیح هو الوضع للنسب ، علی أنّ التضییق فی المعانی الاسمیّة بواسطة الحروف مسلَّم ، لکنّ کون ذلک هو المعنی الموضوع له الحرف أوّل الکلام ، فما ذکره خلط بین اللازم و الملزوم .

هذا تمام الکلام فی معانی الحروف ( الجهة الاولی ) .

ص:141


1- (1)) کتاب التحصیل : 33 .
2- (2)) کتاب التحصیل : 409 .
الجهة الثّانیة: فی کیفیة وضع الحروف
اشارة

و ذلک یتفرّع علی الأنظار فی الجهة الأولی .

فأمّا علی مبنی المحقق الخراسانی فی المعنی الحرفی ، من أنه الطبیعی ، فلا ریب فی کون الوضع عامّاً و الموضوع له عامّاً کذلک .

و أمّا علی مبنی المحقّق الأصفهانی ، فالموضوع له عبارة عن الخصوصیّات ، فالموضوع له خاص و الوضع عام .

لکنْ یرد علیه : أنّ المنسبق من « فی » فی « زید فی الدار » هو نفس المعنی المنسبق منه فی « الکتاب فی المدرسة » فلا مغایرة بین الخصوصیّة فی هذه النسبة عن تلک ، حتی یکون الموضوع له نفس الخصوصیّة ، و إنما یکون الفرق بین الجملتین باختلاف الطرفین ، و کذلک الحال فی المعنی الاسمی .

فإذن ، لیس الموضوع له فی الحروف تلک الخصوصیّة ، بل إنّ تلک الجهة المشترکة بین الموارد هی المعنی الموضوع له ، و لذا یکون الموضوع له عامّاً کالوضع .

و من هنا ، فإنّ المیرزا - مع قوله بإیجادیّة الحروف ، و تقوّمها بالطرفین ، المستلزم لأنْ یکون معنی الحرف فی کلّ مرّةٍ من استعماله غیر معناه فی المرّة الاخری - یذهب إلی أن الموضوع له عام و لیس بخاص ، و ذلک ، لأنه یری بأنّ

ص:142

المعنی الحرفی و إن کان متقوّماً بالطرفین ، إلّا أن هذا التقوّم خارج عن ذات المعنی ، و کذا الطرفان ، و إذا کان التقوّم و الطرفان خارجةً عن ذات المعنی لم تبق خصوصیّة فی المعنی ، بل إن تلک الوحدة السنخیّة الموجودة فی جمیع موارد استعمال الحرف هی الموضوع له ذلک الحرف ، فیکون عاماً لا خاصّاً .

و الحاکم بما ذکرناه - من خروج التقیّد و الطرفین عن ذات المعنی ، و إن کان التقوّم بهما ضروریّاً بحسب الوجود ، فیکون المعنی هو القدر المشترک و الوحدة السنخیّة - هو الارتکاز ، إذ مفهوم « الظرفیّة » واحد فی جمیع موارد استعمال «فی» و کذا غیره من الحروف ، وعلیه ، فیکون الموضوع له عامّاً .

و المحقق العراقی القائل بأن المعنی الحرفی غیر مستقل وجوداً و مفهوماً ، یری أنّ الموضوع له عام .

و کذا المحقق الحائری ، فهو یقول بذلک مع قوله بآلیّة المعنی الحرفی .

و هؤلاء الأعلام لم یمکنهم تصوّر أنّ معنی « فی » و مدلولها فی « زید فی الدار » یختلف عنه فی « الکتاب فی المدرسة » ، وعلیه یکون الموضوع له تلک الجهة المشترکة و الوحدة السنخیّة ، و هذا هو الحق ، و من الواضح أن تلک الوحدة لا تحتاج إلی الطرفین ، و إنما المحتاج إلیهما هو الحرف عند تفرّده .

و تلخص :

إن الحروف مدالیلها هی النسب ، و الواحد بالسنخ و القدر المشترک بینها هو الموضوع له ، فالوضع عام ، و الموضوع له عام ، و المستعمل فیه عام .

ص:143

ثمرة البَحث
اشارة

و أما ثمرة البحث عن المعنی الحرفی و کیفیّة الوضع فی الحروف :

فالثمرة الاولی :

تقوّم مفهوم الشرط بکلیّة المعنی فی مفاد الهیئات و الحروف .

و توضیح ذلک : إن مفهوم الشرط أهم المفاهیم المعتمدة فی الفقه ، و إنما یتحقق هذا المفهوم - کما سیجیء فی محلّه - بانتفاء سنخ الحکم عند انتفاء الشرط ، لأن الذی یتوقف علی الجعل هو انتفاء سنخ الحکم ، و أما شخص الحکم فانتفاؤه بانتفاء موضوعه غیر محتاجٍ إلی الجعل .

فإن قلنا بکون معانی الحروف جزئیةً و شخصیّة ، کان معنی الهیئة فی « أکرمه » شخصیّاً ، و انتفاء هذا الشخص بانتفاء « مجیء زید » عقلی . و إنْ قلنا بأن معانی الحروف - و کذا الهیئات - کلیّة ، و إنْ کان لها وحدة سنخیّة ، تحقّق المفهوم للجملة الشرطیّة .

و الثمرة الثانیة :

فی رجوع القید إلی المادّة أو الهیئة ؟

إنه إن کان المعنی الحرفی هو الطبیعی کما قاله صاحب ( الکفایة ) ، فالأمر فی باب رجوع القید إلی الهیئة سهل ، لأنّ المعنی الحرفی حینئذٍ یقبل الإطلاق و التقیید ، فیرجع القید فی الواجب المشروط إلی مفاد الهیئة .

و أمّا بناءً علی جزئیة المعنی الحرفی و شخصیّته ، فیشکل الأمر ، لأن الجزئی غیر قابل للتقیید ، و مع عدم حلّ هذه المشکلة لا مناص من الالتزام

ص:144

برجوع القید فی الواجب المشروط إلی المادة و الواجب ، فلا یبقی « مفهوم الشرط » بل تکون تلک الجمل من مفهوم الوصف و القید .

و الثمرة الثالثة :

هل معانی الحروف تقبل الإطلاق و التقیید ؟

قالوا : إن قلنا بأن معانی الحروف معانی استقلالیة ، فهی قابلة للإطلاق و التقیید ، و إنْ قلنا بأنها آلیّة ، فلا تقبل ذلک ، إذ المتکلِّم یجرّد المعنی عن القید ، فإنْ أخذه لا بشرط بالنسبة إلیه فقد جعله مطلقاً ، و إنْ أخذه فیه فقد جعله مقیّداً .

و بعد :

فعلی ما اخترناه فی المعنی الحرفی و کیفیة وضع الحروف ، فإنّ مفهوم الشرط متحقق ، و توجه التقیید إلی مدلول الهیئة فی الجملة الشرطیة لا غبار علیه ، و اللّٰه العالم .

ص:145

ص:146

الإنشاء و الإخبار

اشارة

ص:147

ص:148

هل یوجد فرق جوهری بین الجملة الإنشائیّة و الجملة الإخباریّة ، أو لا؟

فیه قولان ، قال صاحب ( الکفایة ) بالثانی .

رأی المحقق الخراسانی

قال : لا یبعد أن یکون الاختلاف بین الخبر و الإنشاء من قبیل الاختلاف بین الاسم و الحرف ، فکما أن الموضوع له و المستعمل فیه فی الاسم و الحرف واحد ، و التفاوت هو بکیفیة الاستعمال من جهة اللحاظ الآلی و الاستقلالی ، کذلک الإنشاء و الإخبار ، و قد قیّد الواضع و اشترط علی المستعمل أنه متی کان الداعی للاستعمال هو الحکایة ، فیأتی بالجملة الخبریة ، و متی کان الداعی للاستعمال هو الإنشاء ، فإنه یستعمل الجملة الإنشائیة ، فلا اختلاف جوهری ، بل الاختلاف هو باختلاف دواعی الاستعمال .

توضیحه :

إنه لا یخفی أنّ الجملة علی ثلاث أقسام ، فمنها : الجملة المتمحّضة فی الخبریة ، کقولک : قمتُ . و منها : الجملة المتمحّضة بالإنشائیة ، کقولک : قم ، لا تقم ، و منها : الجملة المشترکة بینهما ، کصیغ العقود و الإیقاعات ، مثل : أنت حر ، و بعت ، و کذا مثل : أطلب منک القیام ، فإنّ هذه الجملة تصلح لأن تکون إخباراً ، و لأنْ تکون إنشاءً .

ص:149

و المفاهیم تنقسم إلی قسمین ، فمنها : مفاهیم توجد بأسبابها و لا دخل للجعل و الاعتبار فیها ، لا فی وجودها و لا فی عدمها ، و هی الجواهر و الأعراض ، و منها : المفاهیم التی یتوقف وجودها علی الجعل و الاعتبار ، کالملکیة و الزوجیّة و أمثالهما . فهذا تقسیم .

و تقسیم آخر للمفاهیم هو : إن من المفاهیم ما لیس له إلّا سنخ واحد من المصادیق ، کالکتابة مثلاً ، و منها ما له سنخان من المصادیق ، مصداق من سنخ التکوین ، و مصداق من سنخ الاعتبار ، کالبعث ، فله فرد خارجی و فرد اعتباری یتحقق بهیئة صلّ مثلاً .

و لا یخفی أیضاً : أن النسب علی أقسام : النسبة التحقّقیة مثل ضَرَبَ ، و التلبسیّة مثل ضارب ، و الإیجادیة مثل : ضربتُ ، و التوقّعیة مثل : یضربُ ، و البعثیة مثل : اضرب .

یقول المحقق الخراسانی : إنّ الإخباریة و الإنشائیة من دواعی الاستعمال لا من أجزاء و قیود المعنی المستعمل فیه ، فالموضوع له و المستعمل فیه فی مثل « بعت » شیء واحد ، ففی هذه الصیغة توجد مادّة هی البیع ، و ضمیر المتکلّم : التاء ، و هیئة وردت علی المادة تربطها بالمتکلّم و تفید نسبة المادة - أی البیع - إلی المتکلّم نسبةً إیجادیة ، فإن أراد تفهیم وقوع البیع منه و وجوده منه من قبل ، کان خبراً ، و إنْ أراد تفهیم وقوع البیع منه و إیجاده بنفس هذا الاستعمال ، فی وعاء الاعتبار ، کان إنشاءً .

إذن ، حصل الاختلاف من ناحیة القصد و الداعی لاستعمال الجملة ، و إلّا فمدلول الجملة و المعنی المستعملة فیه لهما واحد ، إذ المستعمل فیه نفس النسبة فقط ، لکن تارةً بهذا القصد و اخری بذاک القصد ، من غیر دخلٍ للقصد

ص:150

و الداعی علی الاستعمال فی المعنی الموضوع له و المستعمل فیه .

هذا تمام الکلام فی توضیح مبنی صاحب ( الکفایة ) .

رأی المشهور

و قال جمهور الاصولیین بتعدّد مدلول الجملتین ، فمدلول هیئة الجملة الخبریّة ثبوت النسبة خارجاً ، مثل ضربتُ ، حیث یحکی عن تحقّق النسبة فی الخارج ، أو ذهناً حیث یحکی عن ثبوتها فی عالم الذهن ، أو عن ثبوتها فی وعاء الاعتبار عند ما یقال بعتُ . و مدلول الجملة الإنشائیة هو عبارة عن الإیجاد بواسطة الهیئة ، و هو علی نحوین ، فتارةً : توجد المادّة بواسطة الهیئة کما فی ألفاظ العقود و الإیقاعات ، فلمّا تقول : بعت ، فإنک توجد مادّة البیع بهذه الهیئة ، و تتحقق المبادلة بین المالین . و اخریٰ : توجد النسبة البعثیّة ، کما فی قم و اضرب ... فلیس مدلول الهیئة فی الإنشاء ثبوت النسبة بل إیجادها ، و هو إمّا إیجاد النسبة کهیئة قم ، و إما إیجاد المادّة کهیئة بعت .

فالتقابل بین مدلولی الجملتین تقابل الثبوت و الإثبات ، و الإیجاد داخل فی ضمن المعنی و جزء له فی الإنشاء ، کما أن ثبوت النسبة کذلک فی الخبر .

و هنا مرکز الاختلاف بین قول الکفایة و قول المشهور ، فالمدلول علی الأول هو النسبة وحدها ، و الثبوت و الإثبات خارجان عن المعنی الموضوع له ، أما علی الثانی فهما داخلان فی ذات المعنی و المدلول ، فثبوت النسبة مدلول الخبر ، و الإنشاء هو إثبات النسبة و إیجادها ، تارةً بإیجاد المادّة کما فی « هی طالق » مثلاً ، و اخری بإیجاد النسبة کما فی اضرب مثلاً ، إذْ توجد النسبة بین الضرب و المخاطَب .

ص:151

رأی بعض المحققین علی ضوء قول المشهور

و للمحقّقین الأصفهانی و الخوئی أنظار فی قول المشهور فی حقیقة معنی الجملة الخبریّة و معنی الجملة الإنشائیة ، و من خلالها یظهر مختارهما فی معنی الجملتین .

رأی المحقق الأصفهانی

و ذهب المحقق الأصفهانی إلی أن حقیقة الإنشاء و الإخبار هو إیجاد الأمر النسبی بالوجود اللّفظی ، فإن کان له ما وراء و قصد الحکایة عنه باللّفظ فهو خبر ، و إنْ لم یکن له ما وراء حتی یکون اللّفظ حاکیاً عنه فهو إنشاء .

فالفرق بین قوله و قول المشهور هو : إنهم یقولون : فی الإنشاء نوجد المعنی باللّفظ ، فاللّفظ علّة لوجوده ، فهیئة « بعت » موجدة للبیع و الملکیة فی عالم الاعتبار ، و هو یقول : إنه یکون للمعنی وجود مجازی باللّفظ ، لا أن المعنی یوجد بسبب اللّفظ ، فإن کان هذا الموجود المجازی الجعلی له ما وراء قصد الحکایة عنه فهو خبر ، و إلّا فهو إنشاء . و بهذا یظهر الفرق بین « بعت » إنشاءً و إخباراً ، و أن التقابل بین الإنشاء و الإیجاد تقابل العدم و الملکة أو السلب و الإیجاب .

و هذا رأیه الذی اختاره فقهاً و اصولاً ، تعرّض له فی باب الطلب و الإرادة (1) ، و فی ( تعلیقة المکاسب ) (2) .

و عمدة الکلام هو فی حقیقة الإنشاء ، و إلیک توضیح مذهبه فیه :

إن ما ذهب إلیه المشهور فی حقیقة الإنشاء مردود بأنّ الوجود إمّا

ص:152


1- (1)) رسالة الطب و الارادة (بحوث فی الاصول) : 14 . ط جامعة المدرّسین .
2- (2)) حاشیة المکاسب 76/1 - 77 الطبعة الحدیثة المحقّقة .

تکوینی و إمّا اعتباری ، و التکوینی إما خارجی و إما ذهنی ، فالاعتباری الجعلی یتبع الجعل و الاعتبار کما هو واضح ، و التکوینی یتحقق علی أثر علله الواقعیّة ، و الاعتباری علی قسمین : الوجود الکتبی و الوجود اللّفظی .

مثلاً : قولنا : « اکتب » یشتمل علی نسبةٍ ، توجد هذه النسبة تارةً فی الخارج بتحریک العبد نحو الکتابة ، فتکون النسبة خارجیةً بین الکاتب و الکتابة ، و قد توجد هذه النسبة فی الذهن فتکون وجوداً ذهنیّاً ، و قد تلفظ الجملة فتأخذ النسبة وجوداً لفظیّاً ، فإن کتبت کان وجودها وجوداً کتبیّاً .

إذا عرفت هذا ، فمن الواضح أن الألفاظ لیست من مقدّمات الوجود التکوینی لشیء من الأشیاء ، بل الوجودات التکوینیّة تابعة لعللها کما ذکرنا ، فإنْ ارید من إیجاد اللّفظ للمعنی الوجود و الإیجاد تکویناً ، فهذا باطل ، و إنْ کان المراد منه هو الإیجاد الاعتباری ، أی إیجاد المعنی فی عالم الاعتبار ، فإنّ الاعتبار نفسه کاف لتحقق الوجود الاعتباری للشیء ، و لا حاجة إلی توسیط اللّفظ و الهیئة ، فالزوجیة و الملکیة و نحوهما امور اعتباریة موجودة بالاعتبار ، و لا علیّة لقولنا : أنکحت ، و زوّجت ، و ملّکت ، لوجود الزوجیّة و الملکیّة و غیرها فی عالم الاعتبار .

فظهر أنْ لا سببیّة للّفظ فی تحقّق المعنی و وجوده ، لا إیجاداً تکوینیاً و لا إیجاداً اعتباریاً مطلقاً ، فما ذکره المشهور باطل .

نعم ، الذی یمکن تعقّله هو أنّ المعنی یوجد بواسطة اللّفظ بوجودٍ جعلی عرضی ، و الجملتان الإخباریة و الإنشائیة مشترکتان فی هذه الجهة ، أی إیجاد المعنی بالوجود العرضی الجعلی ، فإذا قلنا : زید قائم ، أوجدنا النسبة بین القیام و زید ، لکن بالوجود العرضی لا بالوجود الخارجی الحقیقی ، فإنّه

ص:153

یتبع علله التکوینیّة المعیّنة ، ففی کلتا الجملتین یتحقق إیجادٌ للمعنی بوجود اللّفظ لا بسببیّة اللّفظ ، فوجود اللّفظ وجود جعلی عرضی للمعنی .

و تختلف الإخباریة عن الإنشائیة فی إضافة جهة الحکایة فی الاولی دون الثانیة ، فإذا وجد المعنی بالوجود اللّفظی - من غیر تسبّب للّفظ - و لم یکن فی البین حکایة فهو إنشاء ، و إنْ کان هناک حکایة فهو إخبار ، و یکون التقابل بینهما تارةً : تقابل العدم و الملکة ، کما فی هیئة « بعت » فإنّها قابلة لأن تکون إخباراً فإنْ لم تکن فهی إنشاء . و اخری : تقابل السلب و الإیجاب مثل « اضرب » و « أطلب منک الضرب » خبراً ، حیث أنّ « اضرب » غیر قابلة لإفادة معنی « أطلب منک الضرب » إخباراً ، لکنّ هذه الجملة تفید مفاد « اضرب » إن قصد بها الإنشاء .

فبطل قول المشهور فی حقیقة الإنشاء من أنه إیجاد للمعنی بسبب اللّفظ ، و أنه لا بدّ عند إجراء صیغة النکاح مثلاً من قصد إیجاد علقة الزوجیّة ، و ذلک : لأن هذه العلقة لیست معلولة للّفظ ، بل تتحقّق بالاعتبار فقط .

و بطل قول المحقق الخراسانی من أن للطلب وجوداً إنشائیاً یتحقق بصیغة افعل مثلاً . و ذلک : لأن اللّفظ لا علیّة له لوجود المعنی ، فی أیّ وعاءٍ و عالم من العوالم .

مناقشة الاستاذ

و أورد علیه شیخنا الاستاذ دام بقاه فی کلتا الدورتین :

أولاً : إن هذا الذی ذکره یتناسب مع مبنی أهل المعقول فی حقیقة الوضع ، و هو : کون الألفاظ وجودات للمعانی ، و لا یناسب مبنی المحقق الأصفهانی من أن حقیقة الوضع هو جعل اللّفظ علی المعنی و وضعه علیه فی

ص:154

عالم الاعتبار .

و ثانیاً : إنا لو سلّمنا أن الوضع کون اللّفظ وجوداً جعلیّاً للمعنی ، فإن إیجاد المعنی بالوجود الجعلی لیس إلّا الاستعمال ، فلا محالة یکون الإنشاء نفس الاستعمال ، و إذا کان کذلک ، فإن الاستعمال إنما هو بداعی تفهیم المعنی للمخاطب ، و هذا هو حکمة الوضع ، فالوضع یکون مقدّمة للاستعمال ، و الاستعمال مقدّمة لإحضار المعنی فی ذهن المخاطب ، و إذا لم یکن وراء الإیجاد الجعلی - الذی هو عین الاستعمال - معنیً للّفظ ، فأیّ فائدة لهذا الاستعمال الذی لا یفید المخاطب شیئاً ؟

و بعبارة اخری ملخّصة : إنا فی مقام الاستعمال نستخدم اللّفظ لإفهام المعنی ، و لیس اللّفظ موجداً للمعنی ، و إذا لم یکن هناک إلّا الاستعمال ، فأین المعنی المقصود إفهامه ؟

و بعبارة ثالثة : إذا کان الفرق بین الجملتین مجرّد الحکایة و عدمها ، لزم کون الإنشاء مجرّد التلفّظ ، و هذا ما لا یلتزم به أحد !

رأی السید الخوئی

و ذهب المحقق الخوئی إلی أن الجملة الخبریة مبرزة ، و الجملة الإنشائیة مبرزة کذلک ، و کلّ واحدة تبرز أمراً نفسانیّاً ، فالجملة الخبریة مبرزة لقصد الحکایة ، و هو أمر نفسانی ، و الجملة الإنشائیة مبرزة للاعتبار - أی اعتبار لابدیّة الفعل فی ذمّة المکلّف - و هو أمر نفسانی کذلک ، و لمّا کان مدلول الجملة الخبریّة هو الحکایة ، و هی أمر یقبل الصّدق و الکذب ، کانت الجملة الخبریّة متّصفة بأحد الوصفین ، و أمّا الدالّ و هو الخبر فلا یقبل الصّدق و الکذب ، و کذا الاعتبار فإنه لا یقبل شیئاً من ذلک ، فلذا لا یحتمل الصّدق

ص:155

و الکذب فی الجملة الإنشائیة .

و تفصیل الکلام هنا :

أمّا فی الجملة الإخباریة ، فإن قول المشهور بأن الجملة الخبریّة موضوعة لثبوت النسبة أو لنفیها ، باطل ، لأنه لو کان الموضوع له فی هذه الجملة هو ثبوت النسبة أو نفیها ، فلا ریب فی أن مدلول الجملة الخبریّة تصدیقی و لیس بتصوّری ، فالثبوت فی مثل « بعت داری » مثلاً لیس تصوّریاً ، بل المدلول هو المعنی التصدیقی ، إذن ، لا بدّ أن یحصل للمخاطب بمجرَّد إخباره بذلک تصدیق بثبوته و لو ظنّاً ، و الحال أنه لا یحصل له ذلک ، فلیست الجملة الخبریّة بکاشفة عن التصدیق ، فهی غیر موضوعة لذلک .

و أیضاً ، فقد تقدَّم أن حقیقة الوضع هو التعهّد و الالتزام ، و ثبوت النسبة أو نفیها لیس بأمرٍ اختیاری کی یلتزم به المتکلّم .

فلهذا و ذاک ، فإنّ الجملة الخبریة قد وضعت للدلالة علی قصد الحکایة ، فکلّما قصد المتکلّم الحکایة عن معنیً ما فإنّه متعهّد بأنْ یأتی بجملة خبریة ، و لم توضع هذه الجملة لثبوت النسبة أو عدمه کما عن المشهور .

مضافاً إلی أنه یرد علی المشهور : إن هناک موارد یوجد فیها إخبار و لا توجد نسبة ، کقولنا : « شریک الباری ممتنع » و الاستعمال فی هذه الموارد یکشف عن عدم کون ثبوت النسبة هو الموضوع له الجملة الخبریّة .

هذا تمام کلامه فی الجملة الخبریة ، نفیاً لمذهب المشهور و إثباتاً لمختاره .

مناقشة الاستاذ

و قد تکلّم شیخنا الاستاذ علی ما أفاده السیّد الخوئی فی ( تعلیقة أجود

ص:156

التقریرات ) و فی ( المحاضرات ) ، فی هذه المسألة ، بالتفصیل ، و کان العمدة فی إفاداته دام ظلّه هو النظر فی رأیه ، و التحقیق فی رأی المشهور .

أمّا رأی المشهور ، فالمنسوب إلیهم هو أنّ الجملة الخبریّة موضوعة لثبوت النسبة أو نفیها ، و هذا موجود فی کلمات بعضهم ، لکنّ الذی نسبه إلیهم المحقق الأصفهانی فی کتاب ( الاصول علی النهج الحدیث ) هو أنّ مدلول الجملة هو الحکایة ، و لم ینسب إلیهم کونه النسبة ، و قال الشریف الجرجانی فی بعض ( حواشیه ) (1) فی باب النسبة الإنشائیة و الإخباریة : إن النسب الکلامیّة حاکیة عن النسب الذهنیّة ، فیظهر من کلامه إن هناک نسبة ذهنیّة و نسبة خارجیّة ، و هو لا یقول بأن الجملة موضوعة لثبوت النسبة خارجاً .

علی أن المحققین یصرّحون بأنّ الوضع هو للانتقال ، أی : الألفاظ موضوعة لانتقال المعانی بها إلی الذهن ، و الثبوت لا یقبل الدخول فی الذهن .

فما نسب إلی المشهور فی المقام مسامحة ، بل الألفاظ موضوعه للصّور الذهنیّة ، سواء الجمل أو المفردات ، و أما متن الخارج الذی هو ظرف الثبوت و الوجود فلم یوضع له اللّفظ ، و لا قائل بذلک .

إنّ الألفاظ موضوعة - بتعبیر المحقق العراقی - للصور التی یراها الإنسان خارجاً ، أو بتعبیر بعضهم : للصّورة الفانیة فی الخارج ، و بتعبیر ثالث : للصور الموجودة بالوجود التقدیری .

و تلخّص : إن الموضوع له الجملة لیس هو ثبوت النسبة ، بل النسبة المتّصفة بالثبوت و العدم ، فإن ثبوت النسبة و نفیها أمر ، و النسبة التی تتّصف

ص:157


1- (1)) الحاشیة علی شرح المطول : 43 ط ترکیا .

بالثبوت فی الجملة الموجبة و بالنفی فی السّالبة أمر آخر ، و قد وقع الخلط بینهما و هو منشأ الإشکال .

و تحقیق رأی المشهور هنا هو : إنه عندنا حکایتان ، إحداهما : الحکایة الذاتیّة ، و الاخری هی الحکایة الجعلیّة ، فالحکایة الذاتیّة تکون فی حکایة الصّور الذهنیّة عمّا هو فی الخارج ، فالحاکی عن الوجود هو مفهوم الوجود ، و الحاکی عن الماهیّات هو نفس الماهیّة الموجودة بالوجود الذهنی ، فحکایة مفهوم الوجود عن واقع الوجود حکایة العنوان عن المعنون ، و هی حکایة ذاتیّة ، و حکایة مفهوم الإنسان عن ماهیّة الإنسان الموجود بالوجود الخارجی حکایة ذاتیّة ، سواء قلنا إن نسبة الصّور الذهنیّة إلی الخارج نسبة التمثال و الصورة عن ذی الصورة ، أو قلنا بأن الأشیاء بذواتها تدخل إلی الذهن لا بصورها و أشباحها ، کما هو مسلک المتأخرین القائلین بأن للأشیاء کونین :

کون عند الأذهان و کون فی الأعیان .

و بالجملة ، فحکایة الصّور الذهنیّة عمّا فی الخارج حکایة ذاتیّة ، ثم لمّا نقول : زید فی الدار ، یکون فی الذهن نفس ما فی الخارج ، أو صورة مطابقةٌ لما فی الخارج ، و ما فی الذهن انعکاس لما فی الخارج ، و ألفاظ هذه الجملة موضوعة لنقل هذا الذی فی ذهن المتکلّم إلی ذهن المخاطب ، و هذا هو التفهیم و التفاهم بواسطة الألفاظ ، الذی هو الحکمة من الوضع .

وعلیه ، فکما أنّ مدلول لفظ « زید » هو ذات الشخص ، و مدلول لفظ «الدار» هو ذاتها ، و مدلول « فی » هو النسبة بینهما ، فإن مدلول الجملة عبارة عن الوجود المفهومی المتحقق فی مورد هذه القضیة ، و لیس المدلول هو الوجود الخارجی ، لما تقدّم من أنه لا یقبل الدخول إلی الذهن .

ص:158

دفع الإشکال عن رأی المشهور

هذا ، و إذا کان المدلول فی الهیئة عبارة عن ثبوت النسبة ، فإنّه یتوجّه الإشکال الأول ، و هو : إنه لا بدّ حینئذٍ من حصول التصدیق بتلک النسبة و لو ظنّاً ، و الحال أنه لیس کذلک .

فأجاب شیخنا عن ذلک : بأنّ النسبة الذهنیّة التی ینقلها المتکلّم إلی ذهن السامع بواسطة الهیئة ، هی نسبة تصدیقیّة ، و لکن بمعنی القابلیّة للتّصدیق لا فعلیّة التصدیق - فی مقابل ما لا دلالة له إلّا الدلالة التصوریّة ، و هو مدالیل المفردات اللفظیّة ، أو هیئات النسب الناقصة - فإن الألفاظ ذوات النسب التامّة دوالّ جعلیّة ، و وظیفتها نقل المعانی إلی الأذهان ، فقد یصدَّق بها و قد لا یصدَّق ، و أما فعلیّة التصدیق ، فلیس من وظیفة اللّفظ ، بل ذلک یتبع تحقّق الواسطة فی الإثبات و عدم تحقّقه .

فمنشأ الإشکال هو : الخلط بین الحکایة الذاتیّة ، و هی حکایة الصّورة عن ذی الصّورة ، و بین الحکایة الجعلیة للألفاظ عن المعانی ، و الخلط بین التصدیق و بین القابلیّة للتصدیق ، فإن الإنسان لمّا یری شیئاً بعینه ، ینطبع صورة من ذلک الشیء فی ذهنه ، فیکون ما فی ذهنه حاکیاً عن الشیء الخارجی الذی رآه ، و هذه هی الحکایة الذاتیّة ، التی لا دور للّفظ فیها ، ثم إذا أراد نقل هذه الصورة التی فی ذهنه إلی ذهن شخصٍ آخر ، احتاج إلی اللّفظ ، فیستعمِله لنقله ، و هذه هی الحکایة الجعلیّة ، و المخاطب لمّا یسمع الخبر فقد یصدّق به و قد لا یصدّق ، غیر أنّ اللّفظ له القابلیّة لأنْ یصدَّق به ، و هذا هو مذهب المشهور علی التحقیق .

و حاصل مذهبهم : إن الجملة الخبریّة موضوعة للنسب الذهنیّة الفانیة فی

ص:159

الخارج ، لا النسب الخارجیة ، و هی موضوعة لما یکون قابلاً للتصدیق ، لا لما یوجب التصدیق .

فالإشکال الأول مندفع .

و أمّا الإشکال الثانی ، و هو النقض بموارد وجود الإخبار مع عدم وجود النسبة ، کما فی قولنا : شریک الباری ممتنع ، فقد أجاب عنه شیخنا :

أوّلاً : إنه إن کان المراد عدم وجود النسبة مطلقاً ، فهو یرد علی مبناه أیضاً من أن حقیقة الجملة الخبریة هو قصد الحکایة ، لأن متعلق الحکایة هو النسبة ، و إذا لم تکن نسبة فلا حکایة .

و ثانیاً : إنه لیس مراد القائلین بأن مدلول الجملة الخبریة وجود النسبة بین الموضوع و المحمول فی الخارج ، بل المراد هو النسبة فی ما وراء الکلام ، سواء فی الخارج أو الذهن . فالإشکال مندفع .

و لعلّه قد التفت أخیراً إلی اندفاعه ، فلم یتعرّض له فی ( المحاضرات ) ، و إنما هو مذکور فی ( تعلیقة أجود التقریرات ) .

و أمّا ما ذکره ثالثاً : من أن ثبوت النسبة و نفیها خارج عن الاختیار ، و الحال أن حقیقة الوضع هو التعهّد و الالتزام ، و لا یعقل التعهّد بما هو خارج عن الاختیار .

ففیه : إن مبنی التعهّد فی حقیقة الوضع قد ظهر بطلانه فی محلّه .

و تلخّص : تمامیّة رأی المشهور علی التحقیق المزبور ، و عدم ورود شیء من الإیرادات المذکورة علیه .

فما ذهبوا إلیه هو الحق المختار فی مدلول الجملة الخبریة ، و هو الموافق للارتکاز .

ص:160

نقد مختار المحقق الخوئی فی الجملة الخبریة

ثم إن شیخنا الاستاذ تنظر فی مبنی السید الخوئی فی حقیقة الجملة الخبریة فقال : بأنْ المذکور مکرّراً فی تقریر بحثه و فی تعلیقته هو « إن مدلول الجملة الخبریّة قصد الحکایة » و لا یقول بأن مدلولها هو « الحکایة » و من الواضح أن « قصد الحکایة » غیر « الحکایة » ، فالمدلول هو قصد الحکایة بالدّلالة الوضعیّة - إلّا إذا أقام قرینة علی الخلاف ، کأنْ یکون فی مقام المزاح مثلاً - و قصد الحکایة لا تعلّق له بالخارج ، و ما لا تعلّق له بالخارج لا یوصف بالصّدق و الکذب ، فکیف تتّصف الجملة الخبریّة بالصّدق و الکذب ؟ .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن المناط فی باب الدّلالات اللّفظیة هو التبادر ، و الحق أن المتبادر من قولنا « زید قائم » هو نسبة القیام إلی زید ، لا قصد حکایة المتکلّم عن تلک النسبة . نعم ، المتکلّم الملتفت له قصد ، لکنّ هذا غیر کون مدلول اللّفظ هو القصد .

و ثالثاً : إن قصد الحکایة بدون الحکایة محال ، و الحکایة بدون الحاکی محال أیضاً ، فلو کانت الهیئة دالّةً علی قصد حکایة النسبة ، فأین الدالّ و الحاکی عن ثبوت النسبة ؟

هذا إن کان المدلول قصد الحکایة .

و أمّا لو أراد أنه « الحکایة » نفسها لا قصدها ، فقد تقدَّم أن الحکایة بدون الحاکی محال ، فإن کان الحاکی عن ثبوت النسبة هو الصّورة الذهنیّة ، فهذا هو قول المشهور ، و إلّا فلا حاکی ، لأن مدلول اللّفظ هو نفس النسبة ، فیلزم الحکایة بلا حاکی .

ص:161

فظهر بطلان مبناه حتّی لو کانت اشکالاته علی مبنی المشهور واردةً ، و لکنّک قد عرفت اندفاعها .

هذا تمام الکلام فی الجملة الخبریة .

رأی السیّد الخوئی فی الجملة الانشائیة و موافقة الاستاذ

و أمّا فی الجملة الإنشائیة فالآراء المهمّة هی :

رأی المحقق الأصفهانی

و قد تقدم أنّه لا یمکن المساعدة علیه .

رأی المشهور

و هذا الرأی وجیه ثبوتاً ، فمن الممکن أنْ یجعل و یعتبر الواضع الجملة الإنشائیة وسیلةً و سبباً لتحقق المادّة ، کالبیع فی « بعت » و الصلح فی « صالحت » و الزوجیّة فی « زوّجت » و هکذا ... فی عالم الاعتبار .

إنّ کون الصیغة سبباً اعتباریاً لتحقّق الأمر الاعتباری فی النکاح و البیع ...

أمرٌ معقول ، و لکن لا دلیل إثباتی علیه ، لا من الواضع و لا من العقلاء .

رأی المحقق الخوئی

و هذا هو المختار ، ففی کلّ هذه الموارد اعتبار و إبراز للاعتبار النفسانی .

و المحقّق الأصفهانی - و إنْ اختار الإیجاد کما تقدّم - قد صرّح بذلک فی مبحث الاستصحاب فی الأحکام الوضعیّة ، فی معنی الملکیّة . و لکنّ التحقیق جریانه فی جمیع الموارد و عدم اختصاصه بالملکیّة .

و الدلیل علیه هو الارتکاز العقلائی من المعتبر ، ثم إمضاء العقلاء ، و الشارع قد أمضی ذلک و رضی به ، فللشارع أیضاً اعتبار مماثل .

هذا تمام الکلام فی الإخبار و الإنشاء .

ص:162

أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات

اشارة

ص:163

ص:164

هنا ثلاثة آراء أساسیّة :

الأوّل : رأی المحقق الخراسانی
اشارة

قال : إنه لا اختلاف فی المفهوم و المدلول بین لفظ « هذا » و « المفرد المذکّر » المشار إلیه ، فالمفهوم الموضوع له فیها واحد ، و کذا المفهوم الموضوع له لفظ « أنت » فهو نفس المفهوم و المعنی فی « المفرد المذکّر المخاطب » لکنّ الإشارة فی الأوّل و خصوصیّة الخطاب فی الثانی خارجان عن حدّ ذات المعنی الموضوع له ، غیر أنّ الواضع اشترط أن یستعمل لفظ « هذا » مع الإشارة ، و لفظ « أنت » مع الخطاب ، فالخطاب و الإشارة قیدان من الواضع فی ظرف الاستعمال ، و من الواضح أنّ ما یکون قیداً فی ظرف الاستعمال لیس له دخل فی المعنی الموضوع له .

إلّا أن ظاهر کلامه - حیث بدأ به بکلمة « یمکن » - هو إمکان کون المخاطبیّة و المشاریة جزءاً من المعنی الموضوع له لفظة « هو » و لفظة « أنت »، إلّا أنه لا دلیل علیه فی مقام الإثبات عنده .

و علی الجملة ، فإنّه لا فرق فی المعنی بین « هذا » و « المفرد المذکر » و کذا فی « أنت » ، غیر أنه متی ما أراد هذا المعنی لا مع الإشارة ، استعمل « المفرد المذکّر » و تحقّق مفهومه ، و متی ما أراده مع الإشارة إلیه استعمل

ص:165

« هذا » . تماماً کما فی المعنی الحرفی ، مع فرق أنه لا إمکان هناک لأن یوضع للمعنی الملحوظ باللّحاظ الآلی ، و لذا افتتح کلامه هناک بکلمة « التحقیق » و هنا الإمکان موجود ، فعبّر ب « یمکن » .

و علی هذا ، یکون الموضوع له فی هذه الموارد عاماً کالوضع .

مناقشة الاستاذ

و فیه :

أوّلاً : إن ما ذهب إلیه دعوی بلا دلیل .

و ثانیاً : لو کان المعنی فی « هذا » و « المفرد المذکر » واحداً ، و الخصوصیّة بالإشارة تحصل فی مقام الاستعمال ، کان اللّازم إمکان استعمال کلٍّ من اللّفظین فی مکان الآخر ، و هذا غیر صحیح کما هو واضح .

الثانی : رأی المحقّق الأصفهانی
اشارة

إنّ لفظ « هذا » - مثلاً - موضوع للمعنی مع الإشارة ، فکون الشیء مشاراً إلیه داخل فی المعنی الموضوع له ، و لذا لا تستعمل هذه اللّفظة إلّا توأماً مع الإشارة بالید أو العین أو الرأس أو غیرها . إذن ، فالموضوع له هو حصّة من المعنی ، و هی المشار إلیه ، فالموضوع له خاص لدخل الخصوصیّة .

مناقشة الاستاذ

و فیه : إنه دعوی بلا دلیل ، کسابقه .

الثالث : رأی المحقق البروجردی
اشارة

إنّ هذه الأسماء موضوعة لنفس الإشارة ، فبلفظ « هذا » نشیر ، لا أنه موضوع للمفرد المذکر المشار إلیه الخارجی ، فلفظ « هذا » إشارة لفظیّة ، کما أنّ تحریک الید مثلاً إشارة فعلیّة . نظیر إنشاء المعاملة الذی هو تارة باللّفظ

ص:166

« بعت » و اخری بالفعل و هو « المعاطاة » .

المختار عند الاستاذ

فقد ظهر أنّ الأقوال المهمة فی المقام ثلاثة :

1 - إن الموضوع له هو المفهوم .

2 - إن الموضوع له هو المفهوم المشار إلیه .

3 - إن الموضوع له هو الإشارة .

و المختار هو الثالث ، وعلیه الارتکاز ، و هو الذی نصّ علیه علماء الأدب و العربیة ، کقول ابن مالک :

بذا لمفردٍ مذکّرٍ أشر

فإنه یقول ب « ذا » أشر ، فإنه یقوم مقام الإشارة الفعلیّة ، لا سیّما إشارة الأخرس غیر المتمکّن من التلفّظ .

و قد استدلّ السید البروجردی بروایتین .

ثم إن انضمام الإشارة بالید إلی التلفّظ ب « هذا » إنما هو للتأکید و دفع الالتباس عن المشار إلیه ، فلا یکون قرینةً علی أنْ لا یکون الموضوع له « هذا » هو نفس الإشارة .

و أما الموصولات فموضوعة للإشارة کذلک ، غیر أنها للإشارة إلی المبهم .

ص:167

ص:168

الحقیقة و المجاز

اشارة

ص:169

ص:170

مقدّمات :
اشارة

* ذکر السکاکی فی مبحث الاستعارة من کتابه : إن اللّفظ یستعمل فی المعنی الحقیقی لا غیر ، فلفظ « الأسد » لا فرق بین استعماله فی الحیوان المفترس أو فی الرجل الشجاع ، غیر أنه فی الأول حقیقة واقعاً و فی الثانی حقیقة ادّعاءً ، فکأنّ دائرة المعنی الحقیقی تتوسّع لتشمل الرجل الشجاع کذلک .

و قد وافقه بعض الأعلام کالسید البروجردی . و هو مطلب متین .

و علی هذا ، فإن عملنا فی المجاز هو تعمیم دائرة الموضوع له اللّفظ بالنّسبة إلی فردٍ آخر ، لمناسبةٍ بینه و بین الموضوع له ، کما بین « الرجل الشجاع » و « الحیوان المفترس » فی مفهوم لفظ « الأسد » ، لکنْ مع إقامة القرینة علی هذا الادّعاء علی مذهب السکاکی ، أو علی الاستعمال فی غیر ما وضع له اللّفظ من قبل الواضع ، علی مذهب المشهور .

* إن مورد الکلام فی مبحث الحقیقة و المجاز هو :

1 - ما إذا کان أصل معنی اللّفظ غیر معلوم .

2 - ما إذا کان المعنی معلوماً ، لکن المراد منه غیر معلوم .

ص:171

* و الحقیقة فی مقابل المجاز هی :

تارة : الحقیقة اللّغویة .

و اخری : الحقیقة الشرعیّة .

و ثالثة : الحقیقة العرفیّة .

و الحقیقة العرفیّة تارة : هی الحقیقة العرفیّة العامّة . و أخری : الحقیقة العرفیّة الخاصة .

و کلّ هذه الأقسام مورد حاجةٍ و ابتلاء للفقیه .

و هناک حقیقة متشرعیّة ، یبحث عنها فی مبحث الحقیقة الشرعیّة .

فعلی الفقیه أوّلاً أنْ ینظر فی کلّ موردٍ ، فقد یکون للّفظ حقیقة شرعیّة ، و قد یکون اللّفظ قد استعمل علی أساس حقیقة عرفیّة خاصّة ، فإنه فی هذه الحالة لا یرجع إلی اللّغة و العرف العام ، لأنّ العرف الخاص یتقدّم علی العرف العام فی تشخیص مراد المتکلّم ، فإن لم یوجد العرف الخاص أو لم یقصد ، یرجع إلی الحقیقة العرفیّة العامّة .

* و المهم للفقیه هو تشخیص الحقائق العرفیّة ، و رجوعه إلی اللّغة إنما هو مقدّمة لذلک ، و هو یحتاج إلی ذلک لاستنباط الأحکام الشرعیّة من الأدلّة اللّفظیّة من الکتاب و السنّة ، و من الأدلّة غیر اللّفظیة کالإجماع إنْ کان معقده لفظاً من الألفاظ ، فلا بدّ للفقیه من استکشاف معنی تلک اللّفظة الواردة فی الکتاب و السنّة و الإجماع - علی ما ذکر - لیرتّب الأثر الشرعی علیها ، مثلاً : علیه أن یحقّق عن معنی لفظة « الصعید » هل هو مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ؟ و لفظة « الشرط » هل هو مطلق الالتزام ، أو خصوص الالتزام فی ضمن الالتزام ؟ و لفظة « العقد » هل هو مطلق العقد الأعم من الجائز و اللّازم أو

ص:172

خصوص اللّازم ؟ و «الزنا» یختصُّ بوطی القبل أو یعمّ الدبر ؟ و کذلک الکلام فی « الوطن » و « الکنز » و « المعدن » و مئات الألفاظ من هذا القبیل الواردة فی الأدلّة الشرعیّة .

و یحتاج إلی ذلک أیضاً فی الموضوعات ، فعنوان « المضاربة » الذی هو أحد العقود العرفیّة الممضاة شرعاً ، ما معناه ؟ و من هو المدّعی ؟ و من المنکر ؟ و لهذا بحثوا عن أن العقود تنعقد بالمجازات أو لا ؟ فقال المحقق الثانی فی ذیل قول العلّامة فی ( القواعد ) فی العقد و أنّه لا بدّ و أن یکون بالصیغة ، قال : « أی : المفیدة لذلک بمقتضی الوضع » (1) و قد یظهر من کلمات بعضهم دعوی الإجماع علی أن العقود اللّازمة لا تنعقد بالمجازات .

* و قد ذکر لتشخیص المعانی الحقیقیّة عن المعانی المجازیّة طرق کثیرة ، منها قطعیّة و منها ظنیّة ، اقتصر صاحب ( الکفایة ) من القطعیّة منها علی أربعة هی : التبادر و صحة الحمل و عدم صحة السلب و الاطراد ، و لم یتعرّض للظنیّة التی منها : تنصیص أهل اللّغة ، ذکره المحقق العراقی ، غیر أنه أجاب بأن اللّغوی یذکر موارد الاستعمال لا الحقیقة عن المجاز ، لکنّ مثل المحقق الکاظمی فی کتاب ( المحصول ) یدّعی الإجماع علی ثبوت الحقیقة بتنصیص أهل اللّغة ، و یقول العلّامة فی ( النهایة ) : المعنی الحقیقی یثبت بأخبار الآحاد .

و الحق : إن تجاوز تنصیص أئمة اللّغة علی أنّ اللّفظ الفلانی موضوع لکذا ، مشکل .

ثم إنّ التنصیص علیٰ المعنیٰ الحقیقی قد یکون مبنیّاً علی مسلک

ص:173


1- (1)) جامع المقاصد 57/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .

خاص ، کالقول بعدم وجود المجاز فی لغة العرب ، کما علیه أبو إسحاق الإسفرائنی ، أو القول بأن الأصل هو الحقیقة و أن المجاز خلاف الأصل ، فیکون مقتضی الأصل هو الحکم بکون المعنی حقیقیّاً ، کما علیه التّاج السّبکی ، أو کان التنصیص مستنداً إلی أمارات غیر معتبرة ، کأن یکون مستنداً إلی التبادر مثلاً و هو غیر معتبر عندنا بالفرض ، ففی مثل هذه الموارد لا یکون التنصیص حجةً .

أمّا إنْ کان النصّ من أهل الخبرة ، فاعتباره مبنی علی الشروط المقرّرة فی مسألة حجیة خبر الثقة فی الأحکام ، لأنّ المراد لیس خصوص الأحکام ، بل الأعم ، لیشمل کلّ لفظٍ وقع موضوعاً للأحکام الشرعیّة ، کلفظ « العقد » و« الشرط » و نحوهما ، و الموضوعات من العدالة و التعدّد و الوثاقة .

و المختار : أنه إنْ کان ثقةً کان خبره حجةً ، و لا یعتبر التعدّد و العدالة فضلاً عن الإیمان .

نعم ، دعوی حجیّة قول اللغوی مطلقاً ممنوعة .

و بعد :

فإنّ هناک مراحل ، فالاُولی مرحلة أصل المعنی الموضوع له اللّفظ ، ثم مرحلة الإرادة الاستعمالیّة من اللّفظ ، ثم مرحلة الإرادة الجدیّة ، فإنْ اجتمعت هذه المراحل فلا إشکال ، و أمّا إن تخلّف بعضها ، کأنْ جهل أصل المعنی ، أو وقع الشک فی أصل الإرادة أو الإرادة الجدیّة ، فلا بدّ من قواعد و طرق یرجع إلیها .

و الطرق المطروحة فی ( الکفایة ) و غیرها من کتب الاصول لکشف المعنی الحقیقی فی المرحلة الاولی هی :

ص:174

1 - التبادر
اشارة

و قد ذکروا نحوین من التبادر لمعرفة المعنی الحقیقی :

أ - التبادر عند أهل اللسان .

ب - التبادر عند المستعلم نفسه .

ثم إن المعنی الذی ینسبق إلی الذهن و یتبادر ، لا بدَّ و أنْ یکون تبادره من نفس اللّفظ ، بأنْ نقطع بکون الانسباق منه لا من غیره ، لأنّه قد ینسبق المعنی من اللّفظ بقرینةٍ ، و القرینة إمّا حالیّة و إمّا مقالیّة ، و کلّ منهما : إمّا خاصّة مثل « یرمی » فی : رأیت أسداً یرمی ، و إما عامّة کمقدمات الحکمة .

فالتبادر الکاشف عن المعنی الحقیقی الموضوع له اللّفظ هو ما إذا علمنا بعدم کونه لأجل قرینةٍ من القرائن ، و مجرّد احتمال دخل قرینةٍ فی حصول الانسباق یسقطه عن الدلیلیّة علی الحقیقة .

الدلیل علی دلیلیّة التبادر

و بما ذکرنا ظهر أنّ دلیلیّة التبادر علی المعنی الحقیقی و کاشفیّته عنه هی من قبیل کشف العلّة عن المعلول ، فهی دلالة إنّیة ، فی مقابل الدلالة اللمیّة ، التی هی کشف المعلول عن العلة ، و تسمّی بالبرهان .

فیقال فی وجه دلالة التبادر علی المعنی الحقیقی :

إن انسباق المعنی إلی الذهن هو أحد المعالیل و الحوادث ، فلا بدّ له من

ص:175

علّةٍ ، فی أصل وجوده ، و فی خصوص تبادر هذا المعنی المعیَّن من هذا اللّفظ المعیَّن ، فما هی تلک العلّة ؟

إن العلّة لا تخلو عن الرابطة الذاتیّة بین اللّفظ و المعنی ، أو القرینة ، أو الرابطة الوضعیّة . أمّا الاُولی فغیر معقولة ، لأن دلالة الألفاظ علی معانیها جعلیّة و لیست بعقلیة و لا طبعیّة ، و أمّا الثانیة فمنتفیة ، لأن المفروض عدم دخل القرینة فی الانسباق ، فتبقی الثالثة ، و تکون النتیجة کشف التبادر عن الوضع ، فهو علامة للمعنی الحقیقی للمستعلم .

المناقشة

لقد کان مبنی هذا الوجه هو الکشف الإنّی ، لکنّ التبادر أمر نفسانی ، و العلقة الوضعیّة بین اللّفظ و المعنی أمر اعتباری ، و قد سبق أن حقیقة الوضع هو التعهّد ، أو جعل اللّفظ وجوداً للمعنی ، أو تخصیص اللّفظ بالمعنی ، أو اعتبار الملازمة بین اللّفظ و المعنی ، أو جعل اللّفظ علامة للمعنی .

فالوضع - علی کلّ تقدیر - أمر حاصل فی الخارج ، و هو معلوم تارةً و مجهول اخری ، و إذا کان الوضع علّةً للتبادر لزم أن یکون الأمر الخارجی علّةً للأمر الذهنی ، و قد تقرّر فی محلّه أن الموجود الخارجی لا یمکن أن یکون مؤثّراً فی الوجود الإدراکی .

علی أنه لو کان التبادر معلولاً للوضع ، فإنه لا بدّ من وجوده ، سواء علم بالوضع أو لا ، لأنه أثر الوضع .

فثبت أن التبادر لیس معلولاً للوضع و کاشفاً عنه ، بل هو معلول للعلم بالوضع .

فالذی أفاده التبادر هو العلم بالوضع لا الوضع ، نعم یکون للوضع أثر

ص:176

الإعداد لحصول العلم به .

هذا ، مضافاً إلی أنهم قد ذکروا : إن هذا التبادر المدّعی ینشأ من العلم الارتکازی بالمعنی عند المستعلم ، وعلیه نقول : إذا کان منشأ التبادر هو العلم الارتکازی ، فإن من الممکن حصول هذا العلم من سببٍ فاسدٍ - کالاطراد الذی سیأتی أنه لیس علامةً للحقیقة - کما یمکن حصوله من سببٍ صحیح ، و إذا جاء احتمال استناد التبادر إلی العلم الارتکازی الحاصل من سببٍ فاسد ، سقط التبادر عن کونه علامةً للمعنی الحقیقی .

ثم إنّه قد أشکل علی هذه العلامة باستلزامها للدور ، و ذلک : لأن التبادر لا یتحقق بدون العلم بالوضع ، فمن کان جاهلاً لا یمکن تبادر المعنی إلی ذهنه ، فالتبادر موقوف علی العلم بالوضع ، و لکنّ العلم بالوضع متوقّف علی التبادر ، من باب توقّف ذی العلامة علی العلامة ، و هذا دور .

و قد أجیب : بأن الموقوف علیه فی التبادر عند المستعلم هو علمه الارتکازی الإجمالی ، و الموقوف هو علمه التفصیلی ، فالعلم الذی یتوقّف علیه التبادر غیر العلم الناشئ من التبادر و المعلول له ، و الغیریّة و التفاوت بالإجمال و التفصیل رافع للإشکال (1) .

و الحاصل : أن العلم الذی هو علّة للتبادر هو العلم البسیط الموجود فی خزانة النفس ، و العلم الحاصل من التبادر هو العلم المرکّب التفصیلی ، بأنْ نعلم بأنا عالمون بالمعنی .

ص:177


1- (1)) مصطلح العلم الإجمالی و العلم التفصیلی فی علم الاُصول معروف ، و قد یطلق « العلم الإجمالی » و یراد به العلم الموجود فی الارتکاز بنحو الإجمال ، و یقابله العلم التفصیلی ، کما ذکر فی المتن ، و قد یطلق علی أساس تعقّل الوحدة فی الکثرة و الکثرة فی الوحدة ، و قد یطلق و یراد به العلم بالوجه فی قبال العلم بالکنه .

فالمتعلّم عالم لکنه جاهل بعلمه ، ثم یعلم بکونه عالماً ، و لا مانع من أن یکون الإنسان عالماً بشیء مع الجهل بوجود هذا العلم عنده ، إذ العلم فی ذاته طریق إلی الواقع ، فإذا رأی الإنسان الواقع بسبب العلم لا یلتفت إلی علمه و لا ینظر إلیه بالنظر الموضوعی . و عن بعض الأکابر : إن العلم کالنور ینظر به و لا ینظر إلیه ، لکن فیه : عدم إمکان النظر إلی الأشیاء به مع عدم النظر إلیه .

و التحقیق : إن ما ذکر لا یدفع إشکال الدّور عند المستعلم ، فإنه لا معنی للجهل فی العلوم الارتکازیة و لو بالنسبة إلی العلم نفسه ، لکون العلم الارتکازی علماً إلّا أنه مغفول عنه و غیر ملتفت إلیه ، و من الواضح أن هذا غیر الجهل ، فالمحتاج إلیه فی العلم الارتکازی هو الالتفات إلیه لا تحصیله و الوصول إلیه . و هذا نظیر ما ذهب إلیه المتأخّرون من الفقهاء فی مسألة النیّة - خلافاً للمحقق قدّس سرّه - من عدم وجوب الإرادة التفصیلیة و أنّ الواجب هو الداعی ، و یکفی فی وجوده أنه إنْ سئل عمّا یفعل أجاب بأنّی اغتسل مثلاً ، و هذا الداعی هو الإرادة الارتکازیة التی یلتفت إلیها بأقل مناسبة ، و ما نحن فیه کذلک ، فإن العلم الارتکازی بالوضع موجود ، و هو یکون المنشأ للالتفات و ارتفاع الغفلة عن المعنی الموضوع له .

فالحق : أنه إنْ کان عالماً بالوضع فلا معنی لتحصیله بالتبادر ، بل اللّازم هو الالتفات إلی علمه ، کما أن السائر علی الطریق یعلم ارتکازاً بمقصده ، فلو غفل عن المقصد لا یسأل عنه لیعلم به ، بل لأنْ ترتفع عنه الغفلة .

فالإشکال عند المستعلم لم یندفع .

و هذا الإشکال غیر وارد علی التبادر عند أهل المحاورة العالمین بالوضع ، لوضوح التغایر بین الموقوف و الموقوف علیه ، إذ التبادر عند أهل

ص:178

اللّسان علّة لعلم الفرد الجاهل بالوضع ، فعلمه معلول للتبادر عندهم ، و لیس التبادر عندهم معلولاً لعلم الفرد .

فالحق : إن التبادر حجّة عند أهل المحاورة فقط ، و علی الجاهل بالمعنی أنْ یرجع إلی أهل اللّسان ، و من انسباق المعنی إلی أذهانهم بدون الاستناد إلی قرینةٍ ، یستکشف المعنی الحقیقی للّفظ ، و دلیل اعتباره هو السیرة العقلائیة .

هذا ، و قد ذکر دام ظلّه « السیرة العقلائیة » دلیلاً آخر علی أن التبادر علامة الحقیقة ، و ذکر أنّه عن طریق الاستدلال الأول - و هو کون التبادر أحد المعالیل - یستکشف نفس المعنی الحقیقی ، أما الاستدلال بالسیرة فیفید قیام الحجّة العقلائیة علی المعنی الحقیقی .

و کیف کان ، فلا بدّ من إثبات هذه السیرة و بیان اعتبارها و حدّ دلالتها .

ذکر بعضهم کالمحقّق الأصفهانی : أن التبادر عند أهل اللّسان علامة للجاهل بالمعنی ، و هو یفید العلم بالمعنی الموضوع له ، لأن المفروض عدم وجود قرینةٍ فی البین ، فلا محالة یکون من الحیثیّة المکتسبة من العلقة الوضعیّة ، فهو - إذن - علامة تفید القطع بالمعنی .

و قد أورد علیه شیخنا بوجهین :

أوّلاً : إنه لا ریب فی أن التبادر لدی العارف باللّسان العالم بالوضع ، لیس بحاکٍ عن الوضع التعیینی للّفظ ، فالذی یمکن تصوّره هو أن یکون عالماً بالوضع التعیّنی الناشئ من کثرة الاستعمال ، فیستعمل اللّفظ فی معناه بکثرةٍ حتی یصل إلی حدّ صیرورة اللّفظ قالباً للمعنی . و علی هذا ، فکیف یمکننا إحراز أنّ هذا العارف باللّسان کان انسباق المعنی إلی ذهنه غیر ناشئ عن کثرة الاستعمال ؟ إن هذا الاحتمال لا طریق إلی نفیه .

ص:179

و بعبارةٍ اخری : لقد اشترطنا فی التبادر أن لا یکون مستنداً إلی قرینةٍ ، و القرینة إمّا خاصّة و إمّا عامّة ، و القدر الممکن نفیه من القرائن هو القرائن الخاصّة ، لأنّا نعلم بعدم وجود کلیّةٍ و جزئیّة ، و سببیّة و مسبّبیة ، و کذا غیر ذلک من القرائن الخاصة ، و أمّا القرائن العامّة - کالشهرة فی المجاز المشهور - فلا سبیل لنفیها .

و قول المحقق العراقی بأن الملاک فی مثلها هو الاطراد و عدمه ، بمعنی أنه إنْ کان المعنی ینسبق من اللّفظ فی جمیع موارد استعماله علی حدّ سواء ، فهو المعنی الحقیقی . ففیه : إنه لا یتصوّر الاطّراد و عدمه فی القرائن العامة ، لأنها دائماً موجودة مع اللّفظ ، و لا یمکن تجریده عنها ، فمن الصعب تحقّق صغری التبادر فی موارد احتمال وجود القرینة العامّة ، فیکون الکلام مجملاً ، و أمّا احتمال انسباق المعنی إلی ذهن العارف باللّسان علی أثر کثرة استعمال اللّفظ فیه ، التی هی مقدّمة للوضع التعیّنی ، فلا دافع له .

و ثانیاً : إنه لو تنزّلنا عمّا ذکر ، و سلّمنا انسباق المعنی من حاقّ اللّفظ بلا دخل لکثرة الاستعمال ، لکن السؤال هو : إن انسباقه من حاقّ اللّفظ أمر حادث لا بدّ له من علّة ، و لا علّة لهذا الانسباق إلّا العلم بالوضع ، فالجاهل بالوضع لا یحصل له انسباق ، لکنّ العلم بالوضع یحتمل أن یکون ناشئاً من التبادر الذی قد عرفت الکلام فیه ، فکیف یحصل القطع بالوضع و المعنی الحقیقی ؟

فالبرهان المذکور علی قطعیّة هذه العلامة کما ذکره المحقّق الأصفهانی مردود بهذین الوجهین .

و الذی یمکن الموافقة علیه و إقامة البرهان له هو : إن التبادر عند أهل اللّسان حجّة للجاهل و حجّة علیه ، لأنه مورد السیرة العقلائیة القطعیّة مع عدم

ص:180

ردع الشارع عنها .

فظهر أن التبادر عند أهل اللّسان حجّة علی الوضع ، لا أنه یفید العلم بالوضع .

ثم إن المتبادر هو المعنی الحقیقی حقیقةً عرفیّة ، إذ المفروض تبادره عند أهل اللّسان ، و أمّا الحقیقة اللغویة بأنْ تکون هی الموضوع له ، فلا یثبت ، لإمکان کونه منقولاً لغةً .

و إذا کانت ألفاظ الکتاب و السنّة ملقاة إلی العرف و أهل اللّسان ، و المعانی المنسبقة منها محمولة علی الحقائق العرفیّة ، فکیف یثبت أن هذه المعانی المنسبقة هی نفس ما کان ینسبق من الألفاظ فی زمن الصّدور ؟

قد یتمسّک لإثبات اتّصال الظهور الفعلی بزمن المعصوم ، بالاستصحاب القهقرائی و أصالة عدم النقل .

لکن فیه : إن الاستصحاب الذی هو أصل عملی ، له رکنان ، أحدهما الیقین السابق و الآخر الشک اللّاحق ، و هذا المورد بالعکس ، فلا تشمله أدلّة الاستصحاب .

فقیل : نستصحب الظهور - لا عدم النقل - و نقول : هذا اللّفظ ظاهر الآن فی المعنی الکذائی بحکم التبادر ، فنستصحبه قهقرائیاً حتی زمن الإمام علیه السلام ، فیکون ظاهراً فی معناه تارةً بالوجدان و اخری بالتعبّد .

و فیه : إنّه لا ریب فی أنّ الظهور هو موضوع ترتیب الأثر عند العقلاء ، و أنّ الشارع قد أمضی هذه السیرة العقلائیّة ، إلّا أن المهم هو تشخیص هذا الظهور ، و أنّه الظهور الأعم من الوجدانی و التعبّدی أو الظهور الوجدانی فقط ؟

إنه لا شک فی أن الظهور الذی هو الموضوع فی السیرة العقلائیة لترتیب

ص:181

الآثار هو الظهور الوجدانی ، و هذا هو الذی أمضاه الشارع ، لکن الاستصحاب لا یفید إلّا الظهور التعبّدی ، فلا مجال لجریانه فی المقام .

إذن ، سقط التمسّک بالاستصحاب مطلقاً .

لکنّ الأصل العقلائی فی أصالة عدم النقل ، لا یمکن إنکاره ، أی : أن دیدن العقلاء هو أنهم متی رأوا کلمةً ظاهرةً فی معنی ، حملوها علی هذا المعنی فی سائر الأزمنة ، و لا یحتملون تبدّل المعنی فیه ، و الشارع المقدَّس قد أمضی هذه السّیرة ، و بذلک أمکن دعوی ظهور الکلمة فی ذلک المعنی فی زمان الأئمة علیهم السلام .

إلّا أن المشکلة هی : أنّ هذا الوجه - المعبَّر عنه بأصل تشابه الأزمنة - لإثبات عدم النقل ، أخصّ من المدّعی ، و ذلک لأنه و إن کان مقتضی الأصل عندهم تقدیم الظهور العرفی علی الظهور اللّغوی ، و کذا تقدیم العرف الخاص - کالحقیقة الشرعیّة - علی العرف العام ، و لکن قد یقع التعارض بین المعنی العرفی الثابت عن الطریق المذکور و بین المعنی اللّغوی الثابت عن طریق تنصیص أئمة اللّغة أو عن طریق التتبّع لموارد استعمال الکلمة ، ففی هذه الصورة لا یوجد سیرة علی تقدیم المعنی الحقیقی العرفی استناداً إلی تشابه الأزمنة .

فتنحصر فائدة الأصل العقلائی المذکور بموارد عدم المخالفة بین الظهور العرفی و الظهور اللّغوی .

هذا أوّلاً .

و أمّا ثانیاً : فإن الظاهر أنّ هذه السیرة العقلائیة لیست تعبّدیة ، و إنما قامت السیرة علی حمل الألفاظ علی معانیها الظاهرة فیها - استناداً إلی الأصل

ص:182

المذکور - عند اطمئنانهم بعدم النقل ، و لذا فإنهم یتوقّفون بمجرّد احتمال کون معنی اللّفظ فی بعض الأزمنة السابقة مخالفاً لما هو الآن ظاهر فیه .

هذا ، و التحقیق فی خصوص الروایات الواردة عن الأئمة الطاهرین علیهم السلام جریان أصالة عدم النقل فیها ، لخصوصیةٍ فیها ، و هی إن علماء الاُمة قد نقلوا هذه الروایات فی مختلف الطبقات ، و لم یختلفوا فی المعانی الظاهرة فیها ، و نحن یمکننا التمسّک بأصالة عدم النقل إلی زمن الشیخ الأنصاری مثلاً ، و قد رأینا أنّه یحمل ألفاظ الروایات علی ما هی ظاهرة فیه الآن ، و من زمنه إلی زمن الشیخ المجلسی ، ثم من هذا الزمان إلی زمان العلّامة مثلاً ، و هکذا إلی زمن الشیخ ، و الکلینی ، و حتی زمن الأئمة ، و فی کلّ طبقة نراهم یستظهرون من ألفاظ الأخبار نفس ما نستظهره نحن الآن .

فالمتبادر من هذه الألفاظ فی جمیع القرون و الطبقات واحد .

إذن ، لا توجد عندنا مشکلة فی خصوص الروایات المشتهرة و المنقولة فی الکتب ، عن أئمة العترة الطاهرة .

هذا تمام الکلام علی التبادر .

و هل عدم التبادر علامة للمجاز ؟

قیل : نعم .

و قیل : تبادر الغیر علامة المجاز .

قال شیخنا دام ظلّه : أما عدم التبادر فالصحیح أنه لیس علامة للمجاز ، لعدم تبادر أحد معانی اللّفظ المشترک مع أنه حقیقة فی کلّها . و أما تبادر الغیر فکذلک ، إذ من الممکن أنْ یغلب استعمال اللّفظ المشترک فی أحد المعنیین أو المعانی ، فیتبادر ذلک المعنی منه ، و المفروض کونه مشترکاً قد وضع له

ص:183

و لغیره معاً .

و خلاصة البحث فی التبادر فی خطوط :

1 - إن التبادر عند أهل اللّسان هو العلّة ، لأنه معلول للعلم بالوضع ، و هم عالمون بالوضع .

أما التبادر عند المستعلم فهو مبتلی بإشکال الدور و غیره .

2 - و المتبادر هو المعنی الحقیقی عند العرف العام .

3 - و الدلیل الصحیح علی ذلک هو السیرة العقلائیّة .

4 - فلا کشف إنّی ، بل إن السیرة تکون حجّةً عقلائیّة علی المعنی الحقیقی .

5 - لکنْ المعنی الحقیقی الموضوع له اللّفظ بالوضع التعیّنی لا التعیینی .

6 - و بشرط أنْ لا یحتمل الاستناد إلی القرینة العامّة التی یصعب نفیها ، بخلاف القرینة الخاصة ، فإن نفیها سهل .

7 - إنما الکلام فی اتّصال هذه السیرة إلی زمن المعصوم و عدم ردعه عنها ، فالاستصحاب لا یجری أو لا یفید .

8 - بل الصحیح إنّه أصل عقلائی ، لکنه مشروط بشرطین ، أحدهما :

حصول الاطمئنان بعدم النقل ، و الآخر : عدم المعارضة من ناحیة اللّغة .

9 - و عدم التبادر لیس علامةً للمجاز ، و کذا تبادر الغیر .

10 - و إنّه لا مشکلة عندنا فی خصوص الروایات عن المعصومین علیهم السلام ، من جهة أصالة عدم النقل بالتقریب الذی قدّمناه ، لکن تبقی مشکلة احتمال وجود القرینة ، لسببین :

أحدهما : التقطیع الواقع فی الروایات ، فإنه ربما یورث الشک فی

ص:184

جریان الأصل المذکور ، لأنه قد یؤدّی إلی وقوع الفصل بین القرینة وذی القرینة أو ضیاعها ، و مع وجود هذا الاحتمال فی الروایات کیف یتمّ الظهور فیها و استنباط الحکم الشرعی منها ؟

و الثانی : ضیاع کثیرٍ من روایات أصحابنا عن الأئمة الأطهار ، ککتب ابن أبی عمیر ، فإذا احتملنا اشتمالها علی قرائن لهذه الروایات الموجودة بین أیدینا ، کیف یتمّ ظهور هذه فی معانیها لتکون مستنداً للأحکام الشرعیة ؟

أمّا الأمر الأوّل ، فیمکن حلّ المشکل من جهته ، بأن العلماء قد جمعوا الروایات ، و أرجعوها إلی أحوالها السابقة بضمّ بعضها إلی البعض الآخر .

و یبقی الأمر الثانی ، و لا بدّ من التأمّل فیه !

ص:185

2 - 3 صحّة الحمل و عدم صحّة السّلب

قالوا : إن صحة الحمل و عدم صحة السلب علامتان للحقیقة ، و عدم صحة الحمل و صحة السلب علامتان للمجاز .

و توضیح ذلک :

إن الحمل علی ثلاثة أقسام : حمل هو هو ، حمل ذو هو ، الحمل الاشتقاقی ، مثال الأول : زید إنسان ، و الثانی : الجدار ذو بیاض ، و الثالث :

الجدار أبیض .

و فی تقسیم آخر - و هو المقصود هنا - : ینقسم الحمل إلی قسمین :

1 - الحمل الأوّلی .

2 - الحمل الشائع الصناعی .

و لا بدَّ فی کلّ حملٍ من وحدة بین الموضوع و المحمول من جهةٍ ، و من تغایرٍ بینهما من جهةٍ اخری ، ففی الحمل الأوّلی الذاتی یکون الاتحاد بینهما فی المفهوم و التغایر بالاعتبار ، مثل قولنا : الإنسان حیوان ناطق ، فباللّحاظ الإجمالی هو « الإنسان » و باللّحاظ التفصیلی هو « الحیوان الناطق » . أما فی الحمل الشائع ، فالاتحاد بینهما یکون فی المصداق ، و التغایر فی المفهوم ، کقولنا : زید إنسان .

و الحمل بکلا قسمیه علامة للحقیقة ، أمّا فی الحمل الأوّلی : فإنا إذا جهلنا معنی اللّفظ ، نجعله محمولاً للّفظ الذی نعلم بمعناه ، فإن صحّ الحمل

ص:186

من دون قرینة فی البین ، ظهر کون الموضوع و المحمول فی تلک القضیّة بمعنی واحد ، و تبیّن المعنی الموضوع له المحمول .

و أمّا فی الحمل الشائع فتقریب الاستدلال هو : أنا لمّا علمنا بأنّ « زید » فرد لطبیعةٍ من الطبائع ، و کان جهلنا فی أن تلک الطبیعة هی طبیعة الإنسان أو طبیعة اخری ، فحینئذٍ نحمل « الإنسان » علی « زید » ، فإنْ صحّ الحمل ظهر أن « زید » فرد من هذه الطبیعة .

* و قد أورد فی ( المحاضرات ) أمّا علی الحمل الأوّلی فبما ملخّصه :

إن المستعمل یری قبل الحمل الاتحاد بین الموضوع و المحمول ، لأنه یتصوّرهما بالتفصیل ، فالمعنی الحقیقی منکشف عنده و لا جهل له به لیرتفع بالحمل ، فصحّة الحمل لا تکون من أمارات کشف المعنی الحقیقی .

و أجاب عنه شیخنا فی الدورة السابقة : بأنه إن کان الغرض من الحمل فی « الإنسان حیوان ناطق » هو الإخبار و إفهام الغیر ، فالإشکال وارد ، لأن المخبر لا بدّ و أن یکون عالماً بمعنی کلامه ، و لکنْ قد یکون الغرض من الحمل استکشاف الاتّحاد بین الموضوع و المحمول ، بأنْ تکون فائدة الحمل تبدّل العلم الارتکازی بالوضع الموجود عند المستعلم إلی العلم التفصیلی ، کما کان الحال فی التبادر ، حیث رأی أن المعنی ینسبق إلی ذهنه من حاقّ اللّفظ من غیر استنادٍ إلی قرینةٍ ، فأصبح علمه الارتکازی بالمعنی علماً تفصیلیّاً ، کما ذکر المستشکل نفسه فی مبحث التبادر ، و علی هذا ، فالإشکال غیر وارد .

* و أورد علیه فی ( المحاضرات ) أیضاً : بأن مقام الحمل یکشف عن المفاهیم بما هی مفاهیم ، و عن المصادیق بما هی مصادیق ، و لا ربط له بالمستعمل فیه حتی یکون علامةً علی المعنی الحقیقی ، فالحمل الأوّلی

ص:187

یحمل فیه المفهوم علی المفهوم بما هما مفهومان ، و یشهد بذلک وجود الحمل عند غیر المتمکّن من التلفّظ ، فإن الأخرس یری مفهوم « الحیوان الناطق » و هو مفهوم تفصیلی ، و یری مفهوم « الإنسان » و هو مفهوم إجمالی ، ثم یحمل هذا علی ذاک ویحکم بالاتحاد . فالحمل الأوّلی یکشف عن الاتحاد بین المفهومین ، و بحث الحقیقة و المجاز إنما یکون فی عالم الاستعمال بالنظر إلی المستعمل فیه بما هو مستعمل فیه .

و أما فی الحمل الشائع ، فإن هذا القسم من الحمل ینتج کون هذا مصداقاً لذاک أو لیس بمصداقٍ له ، کقولنا : « زید إنسان » و قولنا : « زید لیس بجماد » ، و هذا لا علاقة له بالمستعمل فیه اللّفظ ، سواء کان حقیقةً أو مجازاً .

و هذا الإشکال قد ذکره الاستاذ فی الدورة السابقة ، و أجاب عنه بما ذکره المحقّق الأصفهانی فی کتاب ( الاصول علی النهج الحدیث ) من أن الحمل یکشف عن الاتحاد المفهومی - کما فی الأوّلی - أو الوجودی - کما فی الشائع و لکنْ ربما یحصل منه المعنی الحقیقی فی حال کون المحمول مجرّداً عن القرینة . و أوضحه شیخنا بأنّا لا ندّعی أن مطلق الحمل یکشف عن المعنی الحقیقی ، بل هو فیما إذا کان اللّفظ فانیاً فی المعنی و محمولاً علی الموضوع بلا قرینةٍ ، فإنّه حینئذٍ یکشف عن المعنی الحقیقی .

أمّا فی الدورة اللّاحقة ، فقد أورده ، و به أسقط صحّة الحمل عن کونه علامةً ، و الظاهر أنّ هذا هو الصحیح ، فإنی لا أریٰ کلامه المزبور وافیاً بالجواب .

و أسقط شیخنا هذه العلامة فی الدورة السابقة - بعد الجواب عمّا أورد علیها - بأن القابل للاستدلال هو الحمل الشائع ، لکنه - کما قال المحقق الأصفهانی - یرجع إلی التبادر ، و لیس علامةً غیره .

ص:188

4 - الاطّراد

و لیس المراد منه کثرة الاستعمال و شیوعه ، فإن ذلک موجود فی المجاز المشهور أیضاً ، بل المراد - کما ذکر المحقق الأصفهانی ، و لعلّه خیر ما قیل فی المقام - هو : إطلاق اللّفظ بلحاظ معنیً کلّی علی مصادیق و اطّراده - أی الإطلاق علیها مع اختلاف أحوالها و تغیّر الخصوصیّات فیها ، فإنه یکشف عن کون المعنی هو الموضوع له اللّفظ حقیقةً ، فمثلاً : لفظ « العالم » یصح اطلاقه علی « زید » بلحاظ کونه متّصفاً بالعلم ، و کذا علی « عمرو » و « بکر » و غیرهما ، مع ما هناک من الاختلاف بین هؤلاء فی الخصوصیّات و الأحوال ، فلما رأینا صحّة هذا الإطلاق و اطّراده فیهم ، علمنا أنّ المعنی الموضوع له لفظ « العالم » هو « من قام به العلم » ، فکان الإطراد علامةً للحقیقة ، بخلاف لفظ « الأسد » فإنّه یتفاوت اطلاقه بین « الحیوان المفترس » و بین « زید » و« عمرو » و « بکر » بلحاظ وجود الأمر الکلّی فیهم و هو « الشجاعة » ، فهو فی الرجل الشجاع مجاز لعلاقة المشابهة .

و علی الجملة ، فإنّ انطباق اللّفظ علی المصادیق علی حدٍّ سواء - المعبَّر عنه بالاطّراد - لا یکون إلّا لعلقةٍ بین اللّفظ و المعنی ، و بما أنه لا توجد علقة مجازیّة مطّردة ، فالصّدق علی الأفراد باطّراد هو من جهة العلقة الوضعیّة ، فهو کاشف عن المعنی الحقیقی .

ص:189

و قد وقع هذا التفسیر للاطّراد و عدمه موقع الإشکال ، من جهة أنّ عدم الاطّراد فی طرف المجاز إنّما هو لقصور المقتضی ، فمثلاً : فی علاقة الکلیّة و الجزئیّة ، لم یرخّص فی استعمال کلّ « کلّ » فی کلّ « جزءٍ » لیصح الاعتماد علیها فی کلّ استعمال ، و فی علاقة السببیّة - مثلاً - لیس کلّ سببیّة و مسبّبیة بمصحّحة للاستعمال ، فالأب سبب لوجود الابن ، إلّا أن إطلاق الأب علی الابن أو بالعکس - اعتماداً علی تلک العلقة الموجودة بینهما - غیر صحیح ...

و هکذا سائر العلائق ... فالعلقة المصحّحة للاستعمال محدودة ، و هذا هو السبب لعدم الاطّراد ، فلیس عدم الاطّراد علامةً للمجاز .

و لرفع هذا الإشکال أضافوا قید « بلا تأویل » أو « علی وجه الحقیقة » فقالوا : بأنَّ شیوع الاستعمال علی وجه الحقیقة و بلا تأویلٍ علامة الحقیقة .

إلّا أنّه مستلزم للدور ، لأنّ الاطّراد علی وجه الحقیقة موقوف علی العلم بالوضع ، و المفروض أنّ العلم بالوضع متوقف علی الإطراد علی وجه الحقیقة .

و لا یندفع ذلک بما تقدّم فی التبادر فی دفع الدور بالاختلاف بالإجمال و التفصیل ، لأنّ العلم الإجمالی بوجود العلامة للحقیقة لا فائدة له للکاشفیّة عن المعنی الحقیقی .

و کیف کان ، فإنه یرد علی تقریب الاطّراد بما ذکر :

أوّلاً : بالنقض بالمجاز المشهور ، فإنه عبارة عن شیوع استعمال اللّفظ و اطّراده فی المعنی المجازی ، بحیث یکون مانعاً عن تبادر المعنی الحقیقی مجرّداً عن القرینة إلی الذهن ، کلفظ « الطهارة » مثلاً فی لسان الشارع . فما ذکر إنما یتم فی سائر المجازات دون المجاز المشهور .

ص:190

و ثانیاً : إن ما ذکر إنما یتمّ فیما لو کان مصحّح الاستعمال عبارة عن العلائق المقرّرة فی فنّ البلاغة ، لکن مسلک المتأخّرین أن صحة الإطلاق المجازی یدور مدار الاستحسان الذّوقی ، و لذا ، فقد لا تطرّد العلاقة و یکون الاستعمال المجازی مطّرداً بحسب الذوق السلیم .

و قال السید البروجردی فی تقریر الإطراد - بناءً علی مسلک السکّاکی - ، بأنّه دلالة اللّفظ علی المعنی و عدم تخلّفه عنها فی أیّ ترکیبٍ وقع و بانضمام أیّ لفظٍ کان ، کما هو حال لفظ « الأسد » بالنسبة إلی « الحیوان المفترس » بخلافه فی « الرجل الشجاع » ، فإنّا نری صحّة قولنا « زید أسد » و ندّعی کونه حقیقةً فیه ، لکن لا یصحّ ذلک فی کلّ مورد ، فلا یقال مثلاً : کُل هذا الطّعام یا أسد .

فملاک الحقیقة فی الإطراد : صحّة استعمال اللّفظ فی کلّ ترکیب و هیئة ، بخلاف المجاز ، فإنّه و إنْ اطّرد استعمال اللّفظ فیه ، لکن لا یصح فی کلّ موردٍ ، کما فی المثال المذکور .

و أورد علیه شیخنا :

أوّلاً : بأنّ مآله إلی کلام المحقّق الأصفهانی ، و ما ذکره المحقق القمی ، من أن علاقة السببیّة مثلاً قد تکون موجودة و لا یصح الاستعمال استناداً إلیها ، کما بین الأب و الابن .

و ثانیاً : بأنّ من الممکن أنْ یقال - بناءً علی ما ذکره - : لفظ « الأسد » موضوع للرجل الشجاع ، لا فی کلّ ترکیبٍ و سیاق ، بل مقیّداً بخصوصیّات ، وعلیه ، فیکون عدم الإطراد ناشئاً من هذا التقیید فی الوضع ، فلا یکون علامةً.

ص:191

خلاصة البحث فی العلائم
اشارة

و تلخّص : إنّ ما یمکن أن یکون علامةً هو التبادر عند أهل اللّسان فقط ، علامة عقلائیة ، و بالسیرة غیر المردوعة شرعیّة ، مع لحاظ النقاط المذکورة فیه .

هذا ، و إنّ الأخذ بعلائم الحقیقة و المجاز و الاستفادة منها عمل اجتهادی للوصول إلی المعنی الحقیقی الموضوع له اللّفظ متی وقع الجهل به ، إلّا أن المطلوب فی هذا البحث هو قالبیّة اللّفظ للمعنی و عدمها ، کما فی لفظ « الأسد » مثلاً ، فإنه لیس قالباً للرجل الشجاع بل للحیوان المفترس ، فإذا قصد المتکلّم منه الرجل الشجاع احتاج إلی إقامة القرینة ، وعلیه :

فإن کان اللّفظ قالباً للمعنی دالّاً علیه منسبَقاً منه بلا قرینة ، فذاک المعنی هو المعنی الحقیقی عند أهل اللّسان ، فلو تکلّم المتکلّم و تردّدنا فی أنه هو المقصود أو غیره ، فلا ریب فی وجوب حمل کلامه علیه ، إذ المفروض کونه المعنی المنسبق منه إلی الذهن بلا قرینة .

و أمّا مع احتمال وجود القرینة ، أو وجود شیء یحتمل القرینیّة ، فهنا مسلکان :

أحدهما : إنّ أصالة الحقیقة حجّة تعبّدیّة ، وعلیه ، فلا یضرّ احتمال وجود القرینة ، بل اللّفظ یحمل علی معناه الحقیقی المنکشف بالتبادر .

و الآخر : إن أصالة الحقیقة حجّة من باب إفادة الظهور العرفی ، و هذا هو

ص:192

المختار ، وعلیه ، فلا مناص من نفی احتمال وجود القرینة أو قرینیّة الموجود ، حتی ینعقد الظهور ، و لا مجال لنفی الاحتمال بالاستصحاب ، بأنْ نتمسّک باستصحاب عدم وجود القرینة أو باستصحاب العدم الأزلی لنفی قرینیّة الموجود ، لأنّ المطلوب هو الظهور العرفی ، و هو موضوع الأثر فی بناء العقلاء غیر المردوع عنه شرعاً ، و هو لازم عقلی لکلا الاستصحابین ، فالأصل مثبت .

و حینئذٍ ، ینحصر الأمر بالرجوع إلی بناء العقلاء ، و هو علی التوقّف فی حال وجود ما یتحمل کونه قرینةً تحفُّ بالکلام ، و علی عدم الاعتناء باحتمال وجود القرینة .

هذا ، و لا یخفی أنّ هذا البحث کلّی . أمّا فی خصوص ألفاظ الروایات فالأمر مشکل جدّاً علی کلا المسلکین ، لعلمنا بضیاع کثیر من الکتب و وقوع التقطیع فی نصوص الأخبار و غیر ذلک من العوارض ، و کذا الکلام فی الأحادیث النبویّة ، إذ لا ریب فی تحریف الیهود و غیرهم لکثیر من الأحادیث و دسّهم فیها ما لیس منها ، و مع هذه الأحوال کیف یستند إلی الأصل المذکور فی فهم معانی الألفاظ الواردة فی تلک النصوص ؟

هذا تمام الکلام فیما یتعلّق بعلائم الحقیقة و المجاز ، و طرق کشف المعنی الحقیقی و تمییزه عن المعنی المجازی .

تتمیمٌ

فإنْ تمیّز المعنی الحقیقی عن المجازی و شک فی الإرادة الاستعمالیّة ، بأنْ دار الأمر فی الکلام بین حمله علی هذا أو ذاک ، فهل من أصلٍ یرجع إلیه ؟ قیل : إن مقتضی الأصل أن یکون الاستعمال علی الحقیقة ، و قیل :

ص:193

الاستعمال أعمّ من الحقیقة ، و هذا هو الصحیح ، فلا یجوز حمل الکلام علی المعنی الحقیقی لمجرّد کونه مستعملاً ، سواء فی ألفاظ الکتاب أو السنّة أو غیرهما .

و إنْ تمیّز أحدهما عن الآخر و شک فی الإرادة الجدیّة ، تمسّکوا بأصالة الجدّ ، و به نفوا احتمال کونه هازلاً أو کونه فی مقام الامتحان و غیر ذلک .

إلّا أنه یتوقف علی نفی احتمال وجود قرینةٍ منفصلةٍ مانعة عن الحمل علی الإرادة الجدیّة ، و نفیه بالاستصحاب لا یجدی ، فالمرجع بناء العقلاء .

و التحقیق : إن بناء العقلاء فی کلام کلّ متکلّمٍ کان من دأبه بیان مقاصده بالتدریج ، هو الفحص عن القرینة المانعة عن الظهور ، فإن لم یعثروا علیها بنوا علی أصالة الجدّ ، و من کان دأبه بیانها دفعةً تمسّکوا فی کلامه بالأصل المذکور بلا فحص عن القرینة .

ص:194

تعارض الأحوال
اشارة

ص:195

ص:196

ذکروا للّفظ أحوالاً : کالاشتراک ، و التجوّز ، و النقل ، و التخصیص ، و الإضمار ، و النسخ ، و الاستخدام ...

و ذلک ، لأن اللّفظ ینقسم إلی أقسامٍ عدیدةٍ ، فمن حیث کون المعنی الموضوع له واحداً أو أکثر ، ینقسم إلی المشترک و غیر المشترک ، و من حیث الاستعمال فی معناه و غیر معناه ، ینقسم إلی الحقیقة و المجاز ، و من حیث الإضمار فی الإسناد و عدم الإضمار ، ینقسم إلی المضمر و غیر المضمر ، و من حیث طروّ النقل علی المعنی ، ینقسم إلی المنقول و غیر المنقول ، و من حیث کون المعنی مقیّداً أو غیر مقیَّد ، ینقسم إلی المطلق و المقیَّد ، و هکذا .

و لدوران الأمر صورتان :

الصورة الاولی :

أنْ یدور أمر اللّفظ بین کلٍّ من المتقابلین ، کأن یدور بین الإطلاق و التقیید ، أو بین الحقیقة و المجاز ، و نحو ذلک ، ففی هذه الصورة لا بدّ من أصلٍ أو قاعدةٍ یرجع إلیها :

فإن دار الأمر بین الاشتراک و عدمه ، بأنْ یکون اللّفظ موضوعاً لمعنیً خاصّةً أو له و لغیره معاً بنحو الاشتراک لیکون حقیقةً فیهما ، فلا مجال لأصالة الحقیقة ، لأنها المرجع لتمییز الحقیقة عن المجاز ، و المفروض أنْ لا مجاز فی البین ، کما لا مجال للأصل العملی کالاستصحاب ، لکونه أصلاً مثبتاً ، بل

ص:197

المرجع هو بناء العقلاء ، فإن قام علی حمل الکلام علی الاختصاص دون الاشتراک فهو ، و إلّا فلا أصل یرجع إلیه . قال المحقق العراقی بوجود هذا البناء عندهم ، و التحقیق خلافه ، بل نجدهم فی مثل ذلک یتوقّفون .

و لو دار الأمر بین الحقیقة و المجاز ، فلا شبهة فی تحکیم أصالة الحقیقة .

و لو دار الأمر بین الإضمار و عدمه ، فلا ریب فی البناء علی عدم الإضمار .

و لو دار الأمر بین الإطلاق و التقیید ، فبناء العقلاء علی الإطلاق بلا کلام ، فإن فرض وجود محتمل القرینیّة لم یضرّ بالتمسّک بالإطلاق بناءً علی حجیّة أصالة الإطلاق من باب التعبّد ، أمّا بناءً علی حجیّة أصالة الإطلاق من باب إفادة الظهور ، فلا یندفع الاحتمال بالتمسّک به لینعقد الظهور ، و حیث أن الحق هو هذا المبنی ، فمع وجود محتمل القرینیّة لا بدّ من التوقّف .

و لو دار الأمر بین النقل و عدمه ، بأنْ یکون اللّفظ ظاهراً فی المعنی الآن و یشک فی ظهوره فیه فی الزمان السابق ، أو یکون بالعکس ، فبناء العقلاء علی عدم النقل ، إمّا علی الإطلاق کما علیه سائر العلماء ، و إمّا مقیّداً بحصول الاطمئنان کما هو المختار عند الاستاذ .

فإنّ علم بوقوع النقل ، فتارةً یجهل بتاریخ الاستعمال و تاریخ النقل معاً ، بأن استعمل اللّفظ فی معنیً و علم بنقله عنه ، ثم لم یعلم أیّهما المقدّم ، و اخری یکون تاریخ الاستعمال معلوماً و تاریخ النقل مجهولاً ، و ثالثة عکس الثانیة .

قال المحقق العراقی فی الصورة الاولی بوجود البناء العقلائی علی عدم

ص:198

النقل ، و فی الثانیة و الثالثة بالتوقّف .

فقال شیخنا بأنّهم یتوقّفون فی جمیع الصور الثلاثة .

الصورة الثانیة :

فی دوران الأمر بین الأحوال .

و قد ذکر العلماء وجوهاً لتقدیم البعض علی الآخر ، لکن الحق - کما ذکر المحقق الخراسانی - أن تلک الوجوه کلّها خطابیّة استحسانیة .

فالتحقیق : متابعة الظهور أینما حصل ، و إلّا فالکلام مجمل .

مثلاً : لو دار الأمر بین الاشتراک و النقل ، کأن یتردّد لفظ « الصلاة » بین الاشتراک ، فیکون حقیقةً فی المعنی اللّغوی و المرکّب الشرعی - بناءً علی الحقیقة الشرعیّة - و بین النقل عن معناه اللّغوی إلی المرکّب الشرعی ، فإنْ کان مشترکاً بین المعنیین کان : « الطواف بالبیت صلاة » و نحوه مجملاً ، و إنْ کان منقولاً ، حکم بلزوم الطهارة للطواف .

أو دار الأمر بین الاشتراک و التخصیص ، کما فی قوله تعالی : «وَلاَ تَنکِحُواْ مَا نَکَحَ آبَاؤُکُم » (1)لو کان لفظ « النکاح » مشترکاً بین « الوطء » و « العقد » أو مختصّاً ب « العقد » ، فعلی الاختصاص تکون معقودة الأب - و لو بدون الدخول موضوعاً للحرمة ، أما علی الاشتراک فیشکّ فی تحقّق موضوع الحرمة .

أو دار الأمر بین الاشتراک و الإضمار فی مثل : « فی خمسٍ من الإبل شاة » فإن کانت « فی » مشترکة بین الظرفیّة و السببیّة ، فإنّه یتردّد الحکم بین « الشاة » أو مقدار الشاة ، لأنه علی الظرفیّة یلزم إضمار کلمة « مقدار » ، أمّا علی السببیّة فلا یلزم ، بل الواجب إعطاء نفس الشّاة .

ص:199


1- (1)) سورة النساء : 22 .

أو دار الأمر بین العموم و الاستخدام کما فی قوله تعالی : «وَالْمُطَلَّقَاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ... وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ » (1).

و علی الجملة ، فما ذکروه من الوجوه للترجیح کلّه ظنّی ، و الظنّ لا یغنی من الحقّ شیئاً ، ما لم یصل اللّفظ إلی حدّ القالبیّة للمعنی .

ص:200


1- (1)) سورة البقرة : 228 .
الحقیقةُ الشرعیّة
اشارة

ص:201

ص:202

مقدّمات

قبل الورود فی البحث :

هل هذا البحث من المسائل الاُصولیّة أو من المبادئ التصدیقیّة لعلم الاصول ؟

قال المحقق الأصفهانی بالثانی .

و التحقیق هو الأوّل ، و ذلک لأن المسألة الاصولیّة عبارة عن المسألة التی تقع نتیجتها فی طریق استنباط الحکم الشرعی ، فإذا ثبتت الحقیقة الشرعیّة فإن الألفاظ تحمل علی المعانی الشرعیّة المستحدثة من قبله لا محالة ، و إلّا فإنّها تحمل علی المعانی اللّغویة کما تقرر عندهم ، فالبحث عن الحقیقة الشرعیّة هو فی الحقیقة بحث عن الظهور ، کما أن البحث عن دلالة الأمر علی الوجوب یرجع إلی البحث عن الظهور ، فیکون من المسائل الاصولیّة .

نعم ، لو کان البحث عن حجیّة الظواهر ، کان البحث عن الحقیقة الشرعیّة من المبادی ، لکن المفروض وقوع البحث عن الحقیقة الشرعیّة بعد الفراغ عن کبری حجیّة الظواهر ؛ فإذا ثبتت الحقیقة الشرعیّة وجب حمل ألفاظ الشارع علی معانیها الشرعیّة - دون اللّغویة - و استنبط الحکم الشرعی منها ، فهی مسألة تقع نتیجتها فی طریق الاستنباط .

ص:203

و یتمّ البحث عن الحقیقة الشرعیّة بالکلام فی جهات ، و قبل الدخول فیه نقول :

أوّلاً : إن موضوعات الأحکام الشرعیة منها : موضوعات خارجیّة ، کالماء و الخمر ، فی « الماء طاهر » ، و « الخمر حرام » ، و نحو ذلک . و منها :

موضوعات اعتباریّة ، مثل الصّلح فی : « الصلح جائز » ، و البیع فی : «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ » (1)، و هکذا . و منها : ما عبَّر عنه الشهید الأوّل - رضوان اللّٰه علیه - بالماهیّات المخترعة ، کالصّلاة و الحج و الصّوم و الاعتکاف ، و أمثال ذلک .

ثانیاً : المقصود فی البحث هو التحقیق عن أنّه هل للشارع وضعٌ و اختراع فی التّسمیة أو لا ، سواء کانت المعانی مخترعة منه أو غیر مخترعة ، فلا یختصّ البحث بالماهیّات المخترعة ، و إن کانت هی مورد البحث و عنوانه عندهم .

و ثالثاً : لا إشکال فی جریان البحث فی ألفاظ العبادات ، إنما الکلام فی جریانه فی ألفاظ المعاملات مع کون الأدلّة الشرعیة فیها إمضاءً لما هو فی بناء العقلاء ، و أنها لیست تأسیسیّةً ، إلّا أنه لمّا کان الشارع قد اعتبر فی المعاملات خصوصیّاتٍ زائدةً علی ما هو المعتبر عند العقلاء ، و أنّ هذه المعانی مع تلک الخصوصیّات قد انسبقت إلی الأذهان فی بعض الأزمنة ، فلا مانع من وقوع البحث حولها من حیث أنّ ألفاظ المعاملات موضوعة لمعانیها بدون الخصوصیّات أو معها .

فالتحقیق جریان البحث فی ألفاظ المعاملات أیضاً .

ص:204


1- (1)) سورة البقرة : 275 .

و بعد :

فإنه و إنْ وقع البحث من عدّةٍ من الأعیان حول القسم الثانی من الموضوعات ، کالبیع و الصلح و نحوهما فی أنه هل للشارع فیها وضع أو لا ، لکن القسم الثالث - و هو الموضوعات المخترعة - هو مطرح البحث عند الکلّ ، فهل له فیها وضع أو لا ؟

و الوضع - کما هو معلوم - إمّا تعیینی و إمّا تعیّنی ، و التعیینی ینقسم إلی القولی و الفعلی .

أمّا أنْ یکون للشارع وضع تعیینی قولی بالنسبة إلی موضوعات الأحکام ، فهذا ممّا نقطع بعدمه ، لأنه لو کان لنقل إلینا متواتراً .

و أمّا أن یکون له وضع تعیینی بالفعل ، کأنْ یولد له ولد فیقول : ائتونی بولدی حسن ، بأنْ یتحقق وضع لفظ « الحسن » اسماً لهذا الولد بنفس هذا الکلام ، و کما فی الحدیث : « صلّوا کما رأیتمونی أصلّی » بأنْ یقال بأنه قد وضع اسم « الصلاة » علی هذه العبادة بنفس هذا الاستعمال ... فهل هو ممکن أو لا ؟ و هل هو واقع ؟ فالکلام فی مقامین :

ص:205

1 - الکلام فی تحقّق الوضع بالاستعمال
اشارة

أمّا فی المقام الأوّل ، فقد ذهب المحقق الخراسانی إلی إمکان تحقّق الوضع بالاستعمال ، إلّا أنه یحتاج إلی قرینةٍ تفید کونه فی مقام الوضع بواسطة الاستعمال ، قال : و هذا الاستعمال لیس بحقیقةٍ و لا مجاز ، أمّا أنه لیس بمجازٍ ، فلأنّ الاستعمال المجازی مسبوقٌ بالوضع للمعنی الحقیقی ، فتقام القرینة لإفادة المعنی المجازی ، و المفروض هنا صیرورة اللّفظ حقیقةً بنفس الاستعمال ، و أمّا أنه لیس بحقیقةٍ ، فکذلک ، لأنّ الاستعمال الحقیقی فرع للوضع ، و المفروض تحقّق الوضع بهذا الاستعمال . هذا ، و لا مانع من أنْ یکون اللّفظ غیر متّصف بالحقیقة و لا بالمجاز ، لوجود نظائر له ، کما فی استعمال اللَّفظ و إرادة شخص اللّفظ .

اشکال المیرزا علی المحقق الخراسانی

فأورد علیه المحقق النائینی بأنّ تحقّق الوضع بالاستعمال غیر ممکن ، لأنّ مقام الوضع یستدعی لحاظ کلٍّ من اللّفظ و المعنی باللّحاظ الاستقلالی حتی توجد العلقة الوضعیّة بینهما ، أمّا مقام الاستعمال فمتقوّم بلحاظ اللّفظ باللّحاظ الآلی ، لکونه فی هذا المقام طریقاً و مرآةً للمعنی ، فالمعنی هو ما ینظر ، و اللّفظ هو ما به ینظر المعنی ، فلو ارید الوضع بالاستعمال لزم اجتماع اللّحاظ الآلی و اللّحاظ الاستقلالی فی اللّفظ ، و اجتماع هذین اللّحاظین فی

ص:206

الشیء الواحد غیر معقول .

رأیُ الاستاذ فی الإشکال

قال الاستاذ دام ظله : إنّ هذا الإشکال یبتنی علی الالتزام بأمرین :

أحدهما : توقّف تحقّق الوضع علی الإبراز ، و الأمر الآخر : کون لحاظ اللَّفظ فی ظرف الاستعمال آلیّاً و أنه لا یمکن کونه استقلالیّاً .

و حیث أنّ المحقق الخراسانی ملتزم بکلا الأمرین ، لأنه یری بأنّ الوضع لا یکون إلّا بالقول أو الفعل ، و أنّ الاستعمال إفناء اللّفظ فی المعنی ، فالإشکال وارد علیه لا محالة .

جواب المحقق الأصفهانی

و أمّا جواب المحقق الأصفهانی من أنّ اللحاظین غیر مجتمعین فی مرتبةٍ واحدة حتی یلزم المحذور ، و ذلک لأنّ الوضع بالاستعمال یکون من قبیل جعل الملزوم بجعل اللّازم ، ففی مرحلة الوضع یلحظ اللّفظ بالاستقلال ، و فی مرحلة الاستعمال یلحظه آلةً ، نظیر جعل « الملکیة » بجعل « السلطنة » فإنّ السلطنة من لوازم الملکیّة ، فإذا قلنا « سلّطتک علی هذا » فقد جعلنا الملکیّة له علیه ، فالاستعمال من لوازم الوضع ، و بتحقّق الاستعمال - و هو اللّازم - یمکن جعل الوضع و هو الملزوم ، فکان اللحاظ الآلی فی مرحلة جعل اللّازم ، و اللّحاظ الاستقلالی فی مرحلة جعل الملزوم .

مناقشة الاستاذ

فقد أورد علیه شیخنا : بأنه إنْ ارید من کون الوضع بالاستعمال من قبیل جعل اللّازم و الملزوم : کون الجعل واحداً و المجعول اثنین . ففیه : أن الجعل و المجعول واحد حقیقةً و اثنان اعتباراً .

ص:207

و إنْ ارید من ذلک أن هنا جعلین و مجعولین ، أحدهما جعل اللّازم و الآخر جعل الملزوم ، و هو الذی صرّح به فی ( الاصول علی النهج الحدیث ) (1) بأنْ یکون لازم الوضع ، هو استعمال اللّفظ فی المعنی بنحوٍ یکون اللّفظ حاکیاً عن المعنی بنفسه - لا بالقرینة - و بجعل هذا اللّازم یتم جعل الملزوم و هو الوضع ، فکان اللّحاظ الآلی فی مرحلة جعل اللّازم ، و اللّحاظ الاستقلالی فی مرحلة جعل الملزوم ، فلم یجتمع اللّحاظان .

ففیه : إن هذا خروج عن البحث ، لأن المفروض فیه اتحاد الوضع و الاستعمال ، و هذا غیر متحققٍ فیما ذکر . هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن نسبة الملزوم إلی اللازم نسبة العلّة إلی المعلول ، فکیف یتصوّر استتباع جعل اللّازم - مع الاحتفاظ علی کونه لازماً - جعل الملزوم ؟ إنّ فرض کونه لازماً هو فرض التأخّر له ، و فرض استتباعه جعل الملزوم هو فرض التقدّم له ، فیلزم اجتماع التقدّم و التأخّر فی الشیء الواحد .

جواب المحقق العراقی

و أجاب المحقق العراقی باختلاف متعلَّق اللّحاظین ، فقال ما حاصله - کما فی آخر بحث الوضع من ( المقالات ) تحت عنوان « تتمیم » (2) - بأنّه فی مرحلة الاستعمال یکون الفانی فی المعنی هو شخص اللّفظ ، فالملحوظ باللّحاظ الآلی هو شخص اللّفظ ، لکن الملحوظ فی مرتبة الوضع هو طبیعة اللّفظ ، لأن الواضع یضع طبیعیّ اللّفظ لطبیعیّ المعنی لا لشخصه ، فما أشکل به المحقق النائینی خلط بین المرتبتین .

ص:208


1- (1)) الاصول علی النهج الحدیث : 32 .
2- (2)) مقالات الاصول 67/1 .
مناقشة الاستاذ

فردّ علیه الاستاذ بکونه خروجاً عن البحث کذلک ، فمورد البحث هو تحقّق الوضع بالاستعمال ، و هو لیس من قبیل استعمال الشخص فی النوع ، بل المدّعی وضع لفظ « الصّلاة » علی العمل المعیّن الشرعی بنفس « صلّوا کما رأیتمونی اصلّی » .

التّحقیق فی الجواب

قال شیخنا دام ظله : و الحقُّ فی الجواب هو إنکار الأمر الثانی من الأمرین المذکورین فی أساس الإشکال ، إذ الاستعمال غیر متقوّم فی کلّ کلامٍ بکون اللّفظ آلةً و فانیاً فی المعنی ، فقد یمکن لحاظه بالاستقلال فی هذه المرتبة أیضاً ، و لذا نری أن کثیراً من الناس عند ما یتکلَّمون یتأمّلون فی الألفاظ التی یستعملونها فی أثناء التکلّم ، و یلتفتون إلی الجهات المحسّنة للألفاظ و یتقیّدون بها.

فالإشکال مندفع .

و الوضع بالاستعمال ممکن .

بقی جواب المحقّق الخوئی

و أجاب السید الخوئی فی ( المحاضرات ) (1) بأنّ الوضع أمر نفسانی ، و الاستعمال عمل جوارحی ، و الوضع یکون دائماً قبل الاستعمال ، فاللّحاظ الاستقلالی یکون فی مرحلة الوضع ، و اللّحاظ الآلی فی مرحلة الاستعمال ، فاختلفت المرتبة ، و لم یجتمع اللّحاظان فی مرتبة واحدةٍ .

ص:209


1- (1)) محاضرات فی اصول الفقه : 135/1 .
رأی الاستاذ فی هذا الجواب

و هذا الجواب إنکار للأمر الأوّل من الأمرین ، و قد قرّبه الشیخ الاستاذ فی الدّورة اللّاحقة بأنّه إذا کان الوضع أمراً غیر إنشائی ، بل یحصل بمجرّد الالتزام النفسی و البناء من المعتبر ، فلو قال « جئنی بولدی محمد » قاصداً تسمیته بهذا الاسم ، فقد حصل الوضع و وقع الاستعمال من بعده ، فلا یبقی مجال للإشکال ، فهذا الجواب یتُم علی مبنی التعهّد ، و کذا علی مبنی المحقق الأصفهانی ، و هو التخصیص النفسانی للّفظ بالمعنی .

و أمّا قیاس السید الحکیم (1) هذا المورد علی مسألة حصول الفسخ للمعاملة بالفعل ، کبیع الشیء المبیع أو وطء الأمة و نحو ذلک ، ففی غیر محلّه ، لأن الفسخ من الإیقاعات ، و الإیقاع متوقّف علی الإنشاء .

لکنّه فی الدورة السابقة أورد علی هذا الجواب بأنّ العلقة الوضعیّة هی قالبیّة اللّفظ للمعنی ، و هل تتحقّق القالبیّة بمجرَّد الاعتبار النفسانی و قبل الإبراز ؟ فهل تتحقّق الزوجیّة بین هند و زید قبل إبرازها بصیغة زوّجت مثلاً ؟ کلّا ، إنّه لا برهان علی هذه الدعوی بل الوجدان و بناء العقلاء علی خلافها ، فإنّ الوضع عندهم کسائر الامور الاعتباریّة المحتاجة إلی الإبراز ، فهم لا یرون تحقّق الوضع بنفس الاعتبار و مجرد البناء .

و إذا احتاج الوضع و تحقّق العلقة الوضعیّة إلی مبرز عاد الإشکال .

أقول :

و عندی أن الحق ما ذهب إلیه فی الدورة السابقة ، و یکون حلّ المشکل منحصراً بإنکار الأمر الثانی من الأمرین .

ص:210


1- (1)) حقائق الاصول 48/1 ط مکتبة البصیرتی .

و تلخّص : إمکان الوضع بالاستعمال ، خلافاً للمحقق النائینی و من تبعه .

و علی الإمکان فهل هو حقیقة أو مجاز ؟

و اختلفوا فی هذا الاستعمال المحقق للوضع ، هل هو استعمال حقیقی أو مجازی ، أو لا حقیقی و لا مجازی ؟ علی أقوال .

قیل : إنه حقیقة ، لأن کون الاستعمال حقیقیاً لا یشترط فیه تحقّق الوضع قبل الاستعمال ، فلو تحقّقا معاً کان الاستعمال حقیقیّاً ، إذ الملاک هو الاستعمال فی المعنی الموضوع له ، و هذا مع مجرد وجود الموضوع له فی ظرف الاستعمال متحقق ، إذ العلة و المعلول یکونان فی ظرفٍ واحدٍ زماناً و إن اختلفا رتبةً ، و المفروض کون الاستعمال علّة للوضع فزمانهما واحد ، و باستعمال اللّفظ فی المعنی الموضوع له تتحقّق الحقیقة ، و لیس الاتحاد فی المرتبة مقوّماً للوضع حتی یکون اختلافهما مضرّاً ، هذا ما جاء فی ( المحاضرات ) .

و فیه : إن الاستعمال متأخّر عن المعنی المستعمل فیه بالتأخّر الطبعی ، إذ لا یتحقق الاستعمال إلّا مع وجود ذلک المعنی المستعمل فیه ، بخلاف المعنی ، فقد یوجد من غیر استعمالٍ له ، فإن کان المعنی السابق فی المرتبة علی الاستعمال قد وضع له لفظ فی تلک المرتبة ، کان استعمال ذاک اللّفظ فیه حقیقیاً ، و إن لم یکن له وضع کان استعمالاً فی المعنی المجازی .

لکن المفروض فی بحثنا تحقّق الوضع بنفس الاستعمال ، فالاستعمال أصبح علّةً للوضع و الوضع معلول له ، فکون المعنی موضوعاً له اللّفظ إنما هو فی رتبةٍ متأخرة عن الاستعمال ، و الاستعمال متقدّم علی کون المعنی موضوعاً له ، و المستعمل فیه مقدَّم علی نفس الاستعمال ، فلا محالة یستحیل کون

ص:211

المعنی موضوعاً له ، لأن کونه کذلک فی رتبة متأخرة عن الاستعمال لأنه معلول للاستعمال ، لکن کون المعنی مستعملاً فیه فی رتبة قبل الاستعمال ، فالمستعمل فیه لیس موضوعاً له ، و حینئذٍ کیف یتّصف الاستعمال بکونه استعمالاً فی المعنی الحقیقی ؟

و العجب ، أن القائل بهذه المقالة یلتزم بکون الوضع معلولاً للاستعمال ، و أن کون المعنی موضوعاً له یتحقق بتحقّق الاستعمال .

فسقط القول بکونه حقیقةً ، و ثبت کونه لا حقیقة و لا مجاز ، کما علیه المحقق الخراسانی .

و الحاصل ممّا تقدّم هو : أنّ الاستعمال الحقیقی هو استعمال اللّفظ فی ما وضع له ، و المفروض هنا تحقّق الوضع بنفس الاستعمال ، فلا معنی حقیقی له فلیس باستعمالٍ حقیقی ، و لیس بمجازی أیضاً ، لأن الاستعمال المجازی هو استعمال اللّفظ فی المعنی المناسب لما وضع له ، و المفروض عدم وجود ما وضع له قبل هذا الاستعمال ، فلیس بمجاز .

و قد اختار شیخنا هذا القول فی الدّورة اللّاحقة .

أمّا فی الدّورة السابقة ، فقد أشکل علیه بأن لفظ « الصلاة » - مثلاً - قد استعمل فی لسان الشارع فی المعنی الشرعی الجدید ، و هذا الاستعمال مجاز ، لأنّ لهذه اللّفظة معنیً حقیقیّاً فی اللّغة قبل المعنی الحادث ، و من المعلوم وجود التناسب بین المعنی الحقیقی اللغوی لهذه اللّفظة و بین المعنی الحادث المستعمل فیه ، فیکون مجازاً .

أقول :

لکن الصحیح ما اختاره فی الدورة المتأخرة ، فإنه لیس مطلق التناسب

ص:212

بین المعنیین بمصحّحٍ للاستعمال المجازی ، إذ المقصود من هذا التناسب هو علاقة الکلّ و الجزء ، لکون « الصلاة » بالمعنی الشرعی مشتملةً علی « الدعاء » و هو معنی الکلمة لغةً ، لکن لیس کلّ علاقة الکلّ و الجزء بمصحّح للاستعمال المجازی ، فالرقبة جزء الإنسان و تستعمل هذه الکلمة فی الإنسان بالعلقة المذکورة ، و لیس سائر أجزاء الإنسان کذلک .

ص:213

2 - الکلام فی وقوع الوضع بالاستعمال

و بعد الفراغ من مقام الثبوت و بیان الإمکان ، فهل هو واقع أو لا ؟

قد تقدم سابقاً أن البحث یدور حول وضع اللّفظ علی المعانی الشرعیّة من قبل الشارع ، سواء کانت معانی الألفاظ موجودةً من قبل أو لا ، وعلیه ، فوجودها قبل شرعنا لا ینفی الحقیقة الشرعیّة ، و فی القرآن الکریم آیات تدلّ علی وجودها کذلک ، و أنها کانت بنفس هذه الألفاظ ، کقوله عزّ و جلّ «وَأَذِّن فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ » (1)و «کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِن قَبْلِکُمْ » (2)و «أَوْصَانِی بِالصَّلاَةِ وَالزَّکَاةِ مَا دُمْتُ حَیّاً » (3)، فهذه الآیات تدل علی وجود هذه المعانی من قبل ، و بنفس هذه الألفاظ ، و یشهد بذلک أنهم لم یسألوا النبی صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم أنه ما ذا کان الصّیام ؟ و ما ذا کان الصّلاة ... ؟

وعلیه ، فلا معنی للوضع ، إلّا إذا کان المعنی حادثاً ، کالأشیاء المخترعة الآن ، أو کانت المعانی لا بهذه الألفاظ ... و نتیجة ذلک أن لا وضع من الشارع فی مقام الإثبات ، بل إنه قد استعمل الألفاظ فی نفس تلک المعانی ، غایة الأمر أنه اعتبر فیها بعض الخصوصیّات ... نعم ، مقتضی قوله تعالی : «وَمَا کَانَ

ص:214


1- (1)) سورة الحج : 27 .
2- (2)) سورة البقرة : 183 .
3- (3)) سورة مریم : 31 .

صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَیْتِ إِلاَّ مُکَاء وَتَصْدِیَةً » (1)هو التغایر بین صلاتهم و صلاتنا تغایراً جوهریّاً ، فللبحث فی مثل هذا مجال ، أمّا أن یدّعی أن المعانی کلّها مستحدثة - کما عن المحقق الخراسانی - فدون إثباتها خرط القتاد .

و ذهب المحقق العراقی - و تبعه السید الخوئی - إلی وقوع الوضع بالاستعمال ، فقال المحقق المذکور : بأن الطریقة العقلائیة قائمة علی أنه لو اخترع أحد شیئاً فإنه یضع علیه اسماً ، و لو أنّ الشارع قد تخلَّف عن هذه الطریق لنبّه و بیّن ، و حیث أنه قد تحقّق منه الوضع التعیینی و لم یکن بالقول ، فهو لا محالة بالاستعمال .

هذا حدّ دلیله ، و لا یخفی ما فیه ، فإن الطریقة العقلائیّة هذه لیست بحیث لو تخلَّف عنها أحد وقع من العقلاء موقع الاستنکار ، بل قد یخترع أحد شیئاً و یستعمل فیه لفظاً مجازیّاً ، ثم یشتهر المجاز فیصیر حقیقة .

و الألفاظ فی شرعنا لمّا استعملت فی معانیها الشرعیّة بکثرةٍ ، أصبحت حقیقةً فیها ، و دلّت علیها بلا قرینة .

فتحصّل : أن وقوع الوضع بالاستعمال فی الشرعیّات لا دلیل علیه ، بل إن الشارع فی بدء أمره استعمل تلک الألفاظ فی معانیها اللغویّة ، ثم إنها علی أثر کثرة الاستعمال فی المعانی الشرعیّة أصبحت حقائق فیها ، حتی فی زمن الشارع ، فلفظ « الصلاة » مثلاً فی اللّغة عبارة عن العطف و التوجّه ، و فی هذا المعنی استعمله الشارع ، ثم بیّن الخصوصیّات المعتبرة فی هذا المعنی بدوال اخر ، فقوله « صلّوا کما رأیتمونی اصلّی » معناه : ادعوا و توجّهوا إلی اللّٰه ، لکنْ

ص:215


1- (1)) سورة الأنفال : 35 .

بالکیفیّة التی رأیتمونی أدعو و أتوجّه إلیه ، ثم بعد فترةٍ غیر طویلة و مع تکرار اللّفظ مراراً فی هذا المعنی ، أصبح المعنی الجدید الخاص هو المتبادر منه ... .

هذه حقیقة الأمر ، و لا ملزم للالتزام بالاستعمال المجازی ، کما لا دلیل علی الوضع الحقیقی منه له بالنسبة إلی المعنی الشرعی ، و الشاهد علی ذلک ما نراه من عمل الرؤساء و کبار الشخصیّات المتنفّذین و أعلام العلماء ، فمثلاً : قد استعمل الشیخ الأنصاری کلمة « الورود » فی معناه الخاص المصطلح فی علم الاصول ، ثم بعد یومین أو ثلاثة - مثلاً - أصبحت هذه الکلمة محمولة علی هذا المعنی الجدید الاصطلاحی کلّما سمعت فی الأوساط العلمیّة .

ص:216

ثمرة البحث
اشارة

و اختلفوا هل لهذا البحث ثمرة أو لا ؟

ذهب المحقق الخراسانی - و تبعه المحقق العراقی - إلیٰ الأوّل ، و حاصل کلام المحقق الخراسانی هو :

إنه إنْ قلنا بثبوت الحقیقة الشرعیّة تظهر ثمرة البحث إذا علمنا بتاریخ وضع اللّفظة و استعمالها ، فنحمل اللّفظة الصادرة عن لسان الشارع قبله علی المعنی اللغوی و الصادرة بعده علی المعنی الشرعی . و إن قلنا بعدم ثبوتها تحمل الألفاظ الصادرة علی المعنی اللغوی . أمّا لو جهلنا تاریخ الاستعمال فمقتضی القاعدة هو التوقّف ، إذ لا طریق لدعوی کون الاستعمال متأخّراً عن زمان الوضع الشرعی إلّا أصالة تأخر الاستعمال ، بتقریب أنه قد صدر الوضع و الاستعمال من الشارع یقیناً ، و الاستعمال أمر حادث ، فنستصحب عدم تحقّق الاستعمال إلی زمان الوضع . و لکن هذا الاستصحاب فیه :

أوّلاً : إنه أصل مثبت ، إذ لیس الاستعمال حکماً شرعیّاً و لا موضوعاً لحکم شرعی ، و لازم عدم الاستعمال إلی زمان تحقّق الوضع هو کون اللّفظ مستعملاً فی المعنی الشرعی ، و هذا لازم عقلی .

و ثانیاً : إنه معارض باستصحاب عدم الوضع إلی زمان الاستعمال ، لأن الوضع أیضاً أمر حادث .

ص:217

و إنْ ارید التمسّک ببناء العقلاء لحمل الاستعمال علی الحقیقة ، بدعوی أنهم مع الشک فی کونه حقیقة أو مجازاً یحملونه علی الأوّل ، ففیه : إن هذا البناء موجود عندهم ، بالإضافة إلی أصل النقل عن المعنی اللّغوی إلی المعنی الشرعی ، أما مع العلم بتحقق النقل و الشک فی تاریخه فلا یوجد هکذا بناء .

ثم إنه أمر بالتأمّل .

و قال السید الحکیم (1) فی وجه التأمّل : لعلّه وجود البناء منهم فی مورد العلم بالنقل و الشک فی تاریخه کما نحن فیه ، فتکون النتیجة الحمل علی المعنی اللّغوی .

قال شیخنا : لا ریب فی توقّف العقلاء فی مثله ، فلیس هذا وجه التأمّل ، بل الأولی أن یقال : لعلّه یتأمّل فی أصل المطلب ، و هو ترتّب الثمرة فی صورة العلم بالتاریخ ، و أنه یحمل علی المعنی الشرعی إذا علم تاریخ الاستعمال ، لإمکان الحمل فی ما صدر قبل الوضع الشرعی علی المجاز المشهور بسبب کثرة الاستعمال لا الحمل علی المعنی الحقیقی اللّغوی .

أو لعلّه أراد التنبیه علی الخلاف بینه و بین الشیخ فی مثل المورد ، حیث أن الشیخ یری تعارض الأصلین فیه ، و هو یقول فی مثله بعدم المقتضی للجریان ، فلا تصل النوبة إلی المعارضة ، إذ مع الجهل بتاریخهما لا یحرز اتّصال المشکوک بالمتیقَّن .

هذا تمام الکلام علی وجه ترتّب الثمرة .

و ذهب المحقّق النائینی و من تبعه إلی نفی الثمرة من أصلها ، و قال بعدم ترتّبها حتّی مع ثبوت الحقیقة الشرعیّة ، و ذلک لعدم الشک عندنا فی کون

ص:218


1- (1)) حقائق الاصول 52/1 ط مکتبة البصیرتی .

المراد بهذه الألفاظ الواردة فی الکتاب و السنّة هو المعانی الشرعیّة ، أمّا الآیات فلا ریب فی کون المراد من « الصلاة » و « الزکاة » و غیرهما هو المعانی الشرعیّة لا اللغویّة و لا المعانی التی اریدت منها فی الشرائع السابقة .و أما الروایات ، فالوارد منها من طرق المخالفین لیس بحجّة عندنا ، و الوارد من طریق الأئمّة فإنّهم قد بیّنوا معانیها ، و قد ثبت لزوم حملها علی المعانی الشرعیّة .

و قد أشکل علی المیرزا : بأنّ « الصلاة » فی قوله تعالی «قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَکَّی * وَذَکَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّی » (1)مرددة بین المعنی اللّغوی و الشرعی ، فالبحث عن الحقیقة الشرعیّة یثمر فیها .

و فیه : إنه قد جاءت روایات عدیدة فی أن المراد منها هی الزکاة بعد صلاة الفطر ، منها صحیحتا زرارة و أبی بصیر (2) ، فلا شبهة فی المراد منها ، و لیس هناک غیرها مورد للشبهة ، فالإشکال یندفع .

و أشکل الاستاذ فی الدورة السابقة : بأنّه لیس کلّ ما ورد عن طریق المخالفین فلیس بحجّة ، إذ الملاک للحجیّة هو الوثوق بالصدور ، فتظهر ثمرة البحث عن الحقیقة الشرعیّة فیها .

و هذا الإشکال لم یذکره فی الدورة اللّاحقة ، و لعلّه لعدم حصول الوثوق بالصّدور من طرقهم ، أو لعلّه لعدم کفایة الوثوق بالصدور ، أو لعلّه لوجود ما ورد عن طرقهم مورداً للوثوق بالصدور فی طرقنا مع تبیین الأئمة له .

هذا ، و قد اختار شیخنا عدم ترتّب الثمرة ، من جهة أن ترتّبها یتوقّف

ص:219


1- (1)) سورة الأعلی : 14 .
2- (2)) وسائل الشیعة 318/9 الباب 1 من أبواب زکاة الفطرة ، رقم : 5 .

علی العلم بالتاریخ کما تقدَّم ، و لا طریق لنا إلی ذلک ، وعلیه ، فمن المحتمل صدورها قبل صیرورتها حقیقةً فی المعنی الشرعی ، و مع وجود هذا الاحتمال - حتی مع القول بثبوت الحقیقة الشرعیّة - لا یمکن حمل الألفاظ علی المعانی الشرعیّة .

نعم ، الألفاظ الصادرة فی أواخر عهد الرسالة کلّها محمولة علی المعانی الشرعیّة قطعاً ، سواء قلنا بثبوت الحقیقة أو لا ، کذلک .

فالحقّ أنه لا ثمرة للبحث .

تتمّة

هناک فی الأبواب الفقهیّة المختلفة روایات أجاب فیها الأئمة علیهم السلام عن السؤال عن معانی ألفاظٍ معیّنة ، کلفظ « الکثیر » و « الجزء » و « السهم » و « الشیء » و « القدیم » .

فلو أوصی بمالٍ کثیرٍ لشخص فما معنی « الکثیر » ؟ فی الخبر أنه « ثمانون » استناداً إلیٰ قوله تعالی : «لَقَدْ نَصَرَکُمُ اللّهُ فِی مَوَاطِنَ کَثِیرَةٍ » (1)بلحاظ أن المراد من « المواطن » هو غزوات رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم ، و قد کانت 80 غزوة .

و لو أوصی بسهمٍ من ماله لفلان ، ففی الخبر أنه یعطی « الثُمن » لقوله تعالی : «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاکِینِ » (2)فالسّهام فی الآیة ثمانیة .

و لو أوصی بجزءٍ من ماله ، ففی خبر إنه « العُشر » و فی آخر « السُّبع » .

و لو أوصی بشیء ، حکم ب « السُّدس » .

ص:220


1- (1)) سورة التوبة : 25 .
2- (2)) سورة التوبة : 60 .

و لو أوصی بعتق کلّ عبد قدیمٍ من عبیده ، اعتق من کان عنده منذ « ستة أشهر » أو أکثر .

و اختلفت کلمات العلماء فی هذه الموارد ، فالسید عبد اللّٰه شبّر حملها علی الحقیقة الشرعیّة ، و بناءً علی ذلک ، فإن هذه الألفاظ تحمل علی المعانی المذکورة أینما جاءت فی لسان الأدلّة . أمّا بناءً علی إنکار الحقیقة الشرعیّة فإنها تکون خاصّة بمواردها و یؤخذ بها من باب التعبّد .

و قال صاحب ( الجواهر ) (1) فی المسألة الخامسة من کتاب العتق - بعد کلام المحقق فی معنی « القدیم » بأنّ هذه النصوص محمولة علی المعانی العرفیّة ، فکأن الإمام عیَّن للّفظ المصداق العرفی ، ( قال ) : و کل لفظٍ شک فی معناه العرفی أوکل الأمر فی معناه إلی اللّٰه و الراسخین فی العلم ، ثم جعل هذه الألفاظ نظیر « الوجه » و « المسافة » و « الرکوع » .

و علی الجملة ، فهو ینفی الحقیقة الشرعیّة فیها ، و یری أن هذه الألفاظ تحمل علی تلک المعانی فی سائر الموارد لأنها المعانی العرفیّة لها .

قال شیخنا : و الحق هو القول بلزوم الأخذ بالخبر إذا صحّ سنده فی خصوص مورده تعبّداً ، فلا یصح التعدّی عنه إلی سائر الموارد ، لعدم الحقیقة الشرعیّة ، و عدم تمامیّة کلام صاحب ( الجواهر ) ، المبنی علی کون الواضع للألفاظ هو اللّٰه تعالی ، و قد تقرّر بطلان هذا المبنیٰ .

ص:221


1- (1)) جواهر الکلام 133/34 .

ص:222

الصَّحیح و الأعم
اشارة

ص:223

ص:224

و یقع البحث فی الصحیح و الأعم فی المقدمات ، و الأدلّة ، و الثمرة .

مقدّمات البحث
اشارة

أما المقدّمات فهی کما یلی :

المقدمة الاُولی

(فی جریان البحث بناءً علی عدم الحقیقة الشرعیّة أیضاً) .

الحقّ : جریان هذا البحث علی جمیع الأقوال فی مسألة الحقیقة الشرعیّة ، لإمکان تصویر الثمرة علی کلّ واحدٍ منها .

أمّا بناءً علی القول بأنّ الألفاظ مستعملة فی معانیها الشرعیّة استعمالاً حقیقیّاً ، و هو القول بثبوت الحقیقة الشرعیّة ، فجریان البحث واضح ، فإنه یقال : هل الشارع قد وضع الألفاظ لخصوص المصادیق الصحیحة من المعانی أو للأعم منها و من الفاسدة ، فإن کان الموضوع له خصوص الصحیح فلا یتمسّک بالإطلاق لدی الشک ، و إنْ کان للأعم تم التمسّک .

و أمّا بناءً علی القول بعدم الحقیقة الشرعیّة ، و أن الألفاظ استعملت فی هذه المعانی استعمالاً مجازیّاً ، فإنّه یقال : أن الشارع الذی استعمل لفظ « الصلاة » مثلاً فی هذا المعنی الجدید مجازاً ، هل استعمله أولاً فی خصوص

ص:225

الحصّة الصحیحة بمعونة القرینة ، و القرینة التی أقامها علی المجاز هی قرینة عامّة بالنسبة إلی الصحیح فقط ، أو أنه استعمله فی الأعم و کانت القرینة عامّة بالنسبة إلی الأعم .

فإن کانت القرینة المصحّحة للاستعمال المجازی فی المعنی الشرعی ، - مع کون اللّفظ موضوعاً للمعنی اللّغوی - قد لوحظت أوّلاً بین المعنی الحقیقی و خصوص الفرد الصحیح ، احتاج استعماله فی الأعم إلی قرینةٍ اخری ، و کذا بالعکس .

فعلی الأوّل - و هو الاستعمال المجازی فی خصوص الصحیح - لا یجوز التمسک بالإطلاق عند الشک ، و علی الثانی یجوز .

و أمّا بناءً علی القول الثالث - و هو قول الباقلّانی - من أنّ الألفاظ مستعملة فی لسان الشارع فی معانیها اللّغویّة ، لا الشرعیّة ، لا حقیقة و لا مجازاً ، إلّا أنه قد أفاد الخصوصیّات الجدیدة المعتبرة من قبله بألفاظٍ أخری ، کما فی أعتق رقبةً مؤمنةً ، حیث استعمل لفظ الرقبة فی معناه ، و لمّا أراد خصوص المؤمنة دلّ علیه بلفظ آخر ، فکان دالّان و مدلولان ، و فی لفظ « الصلاة » کذلک ، فإنه أراد المعنی اللّغوی فقط ، و هو الدعاء ، أما بقیة الأجزاء و الشرائط المعتبرة فقد دلّ علی إرادتها بدوالّ اخر ، فیقال : هل الدوالّ الأخر ارید منها خصوص الأجزاء الصحیحة أو الأعم منها و من الفاسدة ؟ فإن ارید الصحیح لزم الإتیان بدوالٍّ أُخر عند إرادة الأعم ، و هکذا العکس .

إذن ، یجری هذا البحث علی جمیع المبانی فی مسألة الحقیقة الشرعیّة ، و یمکن تصویر الثمرة علی کلّ واحدٍ منها ، و إنْ قیل بانتفائها بناءً علی القول الأخیر ، من جهة أنه إن کانت الدوالّ الأخر مفیدةً لإرادة الأجزاء و الشرائط

ص:226

کلّها ، فلا شک حینئذٍ حتی یتمسّک بالإطلاق ، و إن کانت مجعولة منه بنحو الإهمال فکذلک ، فلا ثمرة للبحث . لأنّا نقول بناءً علی هذا القول : هل الدوالّ التی استخدمها الشارع لإفادة الخصوصیّات الزائدة علی المعنی اللّغوی ، جاءت لتفید تلک الخصوصیّات الملازمة لتمامیّة الأجزاء و الشرائط أو للأعم من الأجزاء و الشرائط التامّة و غیر التامّة ؟ إن کان الأول فلا یتمسک بالإطلاق ، و إن کان الثانی تمّ التمسّک به .

المقدّمة الثّانیة

( فی معنی الصحیح و الفاسد )

اختلفت کلمات العلماء فی معنی « الصحیح » و « الفاسد » .

فعن أهل الحکمة : أن « الصحیح » هو المحصّل للغرض ، و ما لیس بمحصّلٍ له ففاسد .

و عن المتکلّمین : إن « الصحیح » هو الموافق للأمر أو الشریعة ، و الفاسد غیره .

و عن الفقهاء : إن « الصحیح » هو المسقط للإعادة و القضاء ، و الفاسد غیره .

و قال المحقق الأصفهانی : إن « الصحّة » هی : التمامیّة من حیث الأجزاء و الشرائط ، و من حیث إسقاط الإعادة و القضاء ، و من حیث موافقة المأتی به للمأمور به .

قال شیخنا : بل الحقّ هو أنّ « الصحّة » تمامیّة الأجزاء و الشرائط ، فالبحث فی الحقیقة هو : هل الألفاظ موضوعة لتامّ الأجزاء و الشرائط أو للأعم منه و من الفاقد لبعضها ، فالصحیح عندنا هو الواجد لها ، و الفاسد ما فقد جزءاً أو قیداً ، فیکون « الصحة » و « الفساد » أمرین إضافیّین ، فالصلاة قصراً

ص:227

بالإضافة إلی المسافر صحیحة و إلی الحاضر فاسدة .

فالصحّة عبارة عن التمامیّة و الفساد عدم التمامیّة ، و من الواضح أن من آثار التمامیّة و لوازمها : سقوط الإعادة و القضاء ، و موافقة المأتی به للمأمور به ، و محصّلیّة الغرض ، فهذه الامور لوازم و لیست بمقوّمات ، و یشهد بذلک تخلّل الفاء التفریعیّة حیث نقول : کانت هذه العبادة تامّة الأجزاء و الشرائط فهی محصّلة للغرض ، فهی موافقة للمأمور به ، فهی مسقطة للإعادة و القضاء ، و لا یصح أن یقال مثلاً : قد سقط الأمر فالعبادة کانت تامّة الأجزاء و الشرائط ...

المقدمة الثالثة

(1)

( فی عدم دخول ما یتفرّع علی الأمر فی البحث )

لا ریب فی دخول الأجزاء فی محلّ النزاع ، بأن یقال : هل اللّفظ موضوع لواجد جمیع الأجزاء - الذی هو المراد من الصحیح - أو الأعمّ منه و من فاقد بعضها ؟

و کذلک الشرائط ، سواء قلنا بأن التقیّد داخل و القیود خارجة أو قلنا بأن القیود أیضاً داخلة ، إذْ لا فرق بین الأجزاء و الشرائط من هذه الناحیة ، لکون الأجزاء و الشرائط فی مرتبةٍ واحدة و إن اختلفا فی کیفیّة التأثیر ، حیث بالجزء یتمّ المقتضی و بالشرط یتمُّ فاعلیّة المقتضی فی المقتضی ، وعلیه ، فإنه یمکن تصویر النزاع بأن لفظ « الصلاة » موضوع للمرکّب الجامع للأجزاء فقط أو لها بضمیمة الطهور مثلاً ، أو بضمیمة عدم الاستدبار ، مثلاً ؟

إنّما الکلام فی مثل قصد القربة و قصد الوجه - علی مسلک صاحب الجواهر و غیرهما من الامور المتفرّعة علی الأمر ، فهل هذه أیضاً داخلة فی محلّ النزاع ، بأنْ یقال : هل لفظ « الصلاة » موضوع للحصّة الصحیحة ، أی

ص:228


1- (1)) هذه المقدمة لم تذکر فی الدورة السابقة .

الواجدة لقصد القربة أو للأعم منها و الفاقدة ؟

و کذا بالنسبة إلی عدم المزاحم ، فإنه یعتبر فی صحّة الصلاة أن لا تکون مزاحمة بالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد - إلّا أن تصحّح عن طریق الترتّب - فهل عدم المزاحم یدخل فی محل النزاع بأن یقال : هل لفظ الصلاة موضوع للحصّة الصحیحة أی غیر المزاحمة بالأمر بالإزالة أو للأعم منها و من المزاحمة ؟

الحق - وفاقاً للمحقق النائینی - هو عدم الإمکان ، بتقریب : إن الابتلاء بالمزاحم و عدم الابتلاء به متوقّف علی الامتثال ، فهو من انقسامات مقام الامتثال ، و مقام الامتثال فرع وجود الصّلاة و تعلّق الأمر بها ، فإذا کان هناک أمر و تعلّق بالصّلاة و اتّفق وجود مزاحم لها فی مقام الامتثال ، فإنّ رتبة المزاحمة متأخّرة عن الأمر بالصّلاة ، و الأمر بها متأخّر عنها ، فلا یعقل أن یکون عدم الصحّة - الناشئ من وجود المزاحم - مأخوذاً فی معنی الصّلاة .

فظهر أنّه بناءً علی إنکار الترتّب ، و أنّ الأمر بالإزالة یوجب عدم الأمر بالصّلاة أو النّهی عنها ، فالصّلاة فاسدة .

نعم ، یمکن تصویر النزاع فی عدم المزاحم بأن یقال : قد تعلّق بکلٍّ من الرکوع و السجود و القراءة و سائر الأجزاء إلی التسلیم أمرٌ بضمیمة عدم المزاحم ، ثم جعل لفظ « الصلاة » علی هذه المجموعة .

إلّا أن هذا لا واقعیّة له فی الشّریعة ، و بحثنا إنما هو فی دائرة ما هو الواقع فیها .

و تلخّص :

عدم إمکان أخذ الصحّة من ناحیة عدم المزاحم ، کما علیه المیرزا ، و لا

ص:229

یرد علیه شیء .

المقدمة الرابعة

( فی تصویر الجامع )

إنّه - سواء قلنا بالوضع لخصوص الصحیح أو الأعم - لا بدّ من تصویر جامع بین الأفراد ، و ذلک ، لأن الوضع الخاص و الموضوع له العام غیر معقول ، و کذلک الوضع الخاص و الموضوع له الخاص ، لأنّ الالتزام بوضع لفظ « الصّلاة » لکلّ حصّةٍ حصّةٍ من الصلاة ، یستلزم أوضاعاً کثیرة و یلزم الاشتراک اللّفظی ، و هذا لا یلتزم به أحد ؛ بقی الوضع العام و الموضوع له العام ، و الوضع العام و الموضوع له الخاص ، و إذا کان الوضع عامّاً لزم تصویر الجامع بین الأفراد لیکون هو الموضوع له لفظ « الصلاة » .

فإن قیل - کما ذکر شیخنا فی الدورة السّابقة - : إن الجامع العنوانی کعنوان « الناهی عن الفحشاء و المنکر » یجمع بین مصادیق الصّلاة ، و هی المعنون له ، و لا حاجة إلی تصویر جامع بین الأفراد لیکون هو الموضوع له لفظ « الصلاة » .

قلنا : المقصود تصویر جامع یکون الموضوع له لفظ « الصلاة » و یمکن تصویر الثمرة معه ، و أمّا الجامع العنوانی کما ذکر فلا ثمرة للبحث معه ، لأنّ اللّفظ إن کان موضوعاً للعنوان لزم القول بعدم الوضع للمعنون ، و إن کان موضوعاً للمعنون بواسطة العنوان أصبح الموضوع له خاصّاً ، فیکون اللّفظ مستعملاً فی الخاص ، و الخاصّ لا إطلاق فیه و لا إجمال ، فلا ثمرة للبحث .

إنّ المهمّ تصویر جامع بحیث یتمکن من التمسّک بالإطلاق معه ، لأنه - علی القول بالصحیح - یکون الخطاب مجملاً ، بخلاف ما إذا قلنا بالوضع للأعم ، فإنه یتمکن من التمسک بالإطلاق ، لکون الموضوع له معلوماً و کذا

ص:230

المستعمل فیه ، فلو شک فی اعتبار جزءٍ أو شرطٍ فی الصلاة فلا ریب فی صدق الطبیعة علی ما عدا المشکوک فیه ، و حینئذٍ أمکن التمسّک بالإطلاق لرفع الشک ، بخلاف ما إذا قلنا بالوضع لخصوص الصحیح ، فإنه یحتمل دخل الجزء أو الشرط المشکوک فیه فی ذات الموضوع له و صحة العمل ، فیکون المعنی مجملاً ، فلا مجال حینئذٍ للتمسک بالإطلاق ، لدفع جزئیّة المشکوک فیه أو شرطیته ، لأنَّ شرط التمسّک به إحراز صدق المعنی .

إذن ، لا بدَّ من تصویر جامع ذاتی لیکون محور البحث فی الصّدق و عدم الصّدق علی کلا القولین ، و الجامع العنوانی لا یصلح لذلک ، لکون الوضع فیه إمّا للعنوان فالمعنون لا اسم له ، و إمّا للمعنون فیکون فرداً فلا جامع له .

و کیف کان ... فلا بدَّ من تصویر الجامع علی کلا المسلکین .

ص:231

تصویر الجامع علی الصّحیح
1 - تصویر المحقق الخراسانی

إنا نری أنه یترتّب علی الصلاة - بعنوان أنها صلاة - أثر واحد ، من غیر فرقٍ بین الحالات و الکیفیّات ، مع عرضها العریض ، من الصلاة التی تقع بتکبیرة واحدةٍ فقط ، حتی الصلاة التامّة الأجزاء و الشرائط ، و ذاک الأثر هو کونها عمود الدین - مثلاً .

فهذه مقدّمة .

و المقدّمة الاخری هی : إنه لا بدّ من السنخیّة بین المقتضی و المقتضیٰ ، و الأثر و المؤثر .

و المقدمة الثالثة هی : أن بین الواحد بما هو واحد ، و الکثیر بما هو کثیر تعاند و تقابل ، للتقابل بین الوحدة و الکثرة ، و معه یستحیل صدور الواحد عن الکثیر ، فیستحیل صدور « عمود الدین » الواحد بالوحدة النوعیّة عن المتکثّرات ، إذن ، لا بدّ و أنْ تنتهی الکثرة إلی وحدة ، کی تتم السنخیّة بین الأثر و المؤثّر .

إذن ، یوجد بین جمیع أشخاص و أصناف الصّلاة الصحیحة جامع یکون هو المنشأ لهذا الواحد النوعی من حیث الأثر ، و هو الموضوع له لفظ « الصلاة » .

ص:232

و اورد علیه :

إنّ القاعدة المقرّرة عند أهل الفن من أن الأثر الواحد لا بدّ و أن ینتهی إلیٰ مؤثّر واحدٍ - ببرهان امتناع صدور الواحد عن الکثیر - إنّما تتعلَّق بالواحد من جمیع الجهات و الحیثیّات ، أی البسیط الحقیقی ، فموردها الواحد الشخصی البسیط ، و أمّا فرض المحقق الخراسانی فهو الواحد النّوعی ، فإن « معراج المؤمن » و « الناهی عن الفحشاء » و نحو ذلک لیس واحداً شخصیّاً .

و فیه :

إن المذکور عند أهل الفن قاعدتان ، إحداهما : القاعدة المذکورة ، و موردها الواحد الشخصی و البسیط من جمیع الجهات و الحیثیات کما ذکر ، و الاخری : قاعدة لزوم السنخیّة بین المعلول و العلّة ، الأثر و المؤثر ، و موردها مطلق الواحد لا خصوص الواحد الشخصی ، فالواحد النوعی مثل « معراج المؤمن » إذا کان أثراً یلزم أن یکون بینه و بین المؤثّر له سنخیّة ، فلا بدّ من وجود وحدة نوعیّة بین أفراد الصّلاة المختلفة ، - من صلاة الحاضر الجامعة بین الأجزاء و الشرائط ، و المسافر التی هی قصر ، و المریض الذی یصلّی من جلوس ، و المحتضر ، و الغریق - تکون تلک الوحدة هی العلّة لهذا المعلول « معراج المؤمن » و المؤثر لهذا الأثر .

فهذا مقصود المحقق الخراسانی ، و لا یرد علیه الإشکال .

و أورد علیه :

بأن الواحد المذکور لیس بواحدٍ نوعی ، بل هو واحد عنوانی ، و البرهان المذکور لا یجری فی الواحد العنوانی ، إذ إن الواحد العنوانی لا یتّحد مع أفراده ، لا فی الوجود و لا فی المفهوم ، فعنوان « الربط » مثلاً لا یقبل الاتحاد

ص:233

مع مصادیق الرّبط و أفراده ، لکونه معنًی اسمیّاً و المصادیق معانٍ حرفیّة ، و مصادیق الواحد النوعی متّحدة حقیقةً ، أما مصادیق الواحد العنوانی کعنوان « الناهی عن الفحشاء » الذی هو من عناوین « الصلاة » مختلفة بالحقیقة ، و منها : الزنا و الکذب و شرب الخمر و الغیبة و السرقة ...

و فیه :

إن الأثر للجامع هو « النهی » فقط ، و هو الزجر ، و هذا أثر نوعی ، إلّا أنّ متعلَّقات النهی مختلفات ، لکنّ الأثر شیء و متعلَّقه شیء آخر ، و ما نحن فیه من قبیل « العلم » ، فإنّه حقیقة واحدة ، لکنّ متعلّقه یختلف فیکون جوهراً تارةً و عرضاً اخری ...

فالإشکال غیر وارد .

و أورد علیه :

بأنّ تأثیر المتکثّرات فی الأثر الواحد الفعلی محال ، أمّا تأثیرها فی القابلیّة فلا مانع منه ، فالنهی عن الفحشاء بالفعل لا یمکن صدوره من متعدّد ، أمّا القابلیة للنهی فیمکن ، بدلیل أن عدم المانع و وجود الشرط أمران متغایران ، إلّا أنهما یؤثّران فی القابلیّة ، بأن یکون المحلّ قابلاً لأنْ یتحقق فیه أثر المقتضی و هو المقتضی . إذن ، یمکن تصویر قابلیّة النهی عن الفحشاء المترتبة علی الصّلاة ، فترتّب الأثر الواحد من المتعدّد .

و فیه :

إن القابلیّة من الامور الإضافیّة ، فهناک قابل و مقبول و قابلیّة ، و مقولة الإضافة من الأعراض الموجودة بعین وجود الموضوع کالفوقیّة و التحتیّة - و من الأعراض ما یوجد بغیر وجود الموضوع لکنه قائم بالموضوع کالبیاض

ص:234

و السواد - و إذا کانت من الأعراض الوجودیة ، فکیف یکون الأمر العدمی ، أعنی عدم المانع ، مولّداً للأثر ؟

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن القابلیّة الحاصلة من الشرط غیر القابلیّة الحاصلة من عدم المانع ، فمن کلٍّ منهما تحصل درجة من الأثر ، فلم یتحقق الواحد من المتعدّد .

الإشکال العمدة

هو ما تعرّض له المحقق الخراسانی و حاول ذبَّه ، و هو فی (تقریرات) (1)الشیخ الأعظم قدّس سرّه :

إن هذا الجامع إما مرکّب و إما بسیط ، و علی الثانی فإمّا هو عنوان « المطلوب » أو عنوان ملزوم لعنوان « المطلوب » . فهو غیر خارج عن هذه الشقوق ، و کلّها باطلة ، فالتصویر باطل .. و ذلک لأنه :

إن کان مرکّباً ، فإن کلّ مرکّب فرض فهو مردّد بین الصحیح و الفاسد ، لأنه بالإضافة إلی حالٍ أو مکلَّف صحیح و بالإضافة إلی آخر فاسد ، فکان جامعاً بین الصحیح و الفاسد لا الصحیح فقط .

و إن کان بسیطاً ، و کان عنوان « المطلوب » فیرد علیه :

أوّلاً : إن هذا العنوان إنما یحصل فی رتبة الطلب ، فلولاه لم تکن مطلوبیّة ، و المعنی و المسمّی دائماً مقدَّم رتبةً علی الطلب و المطلوبیّة ، فکلّما وجدت المطلوبیّة وجد المعنی بتلک المرتبة ، فلو کان الجامع هو عنوان « مطلوب » یلزم تقوّم ذات المعنی بعنوانٍ متأخّر بالذات عن المعنی .

ص:235


1- (1)) مطارح الأنظار : 6 .

و ثانیاً : إنه یلزم الترادف بین لفظ « الصلاة» و لفظ « مطلوب » و هو باطل کما لا یخفی .

و ثالثاً : إنه یرد علیه ما یرد علی الشق الأخیر الآتی .

و إن کان بسیطاً ، و کان عنواناً ملزوماً مساویاً لعنوان « المطلوب » ، فإنّه حینئذٍ یصیر معلوماً ، و لا یقع فیه الشک کی یتمسّک بالبراءة عن وجوب ما شک فی جزئیته أو شرطیّته ، لأن البسیط لیس فیه أقل و أکثر حتی یدور الأمر بینهما فیتمسّک بالبراءة ، و الحال أن القائل بالصحیح یتمسّک بها .

و أیضاً : فإن مجری البراءة هو صورة عدم معلومیّة التکلیف بنحوٍ من الأنحاء ، و مع العلم به بعنوانٍ من العناوین یتنجّز ، فلا موضوع للبراءة .

و هذا ما یرد علی الشق السابق - و هو کون العنوان هو « المطلوب » - لأنّ العنوان المذکور لیس فیه أقل و أکثر .

و کیف کان ، فإنه مع العلم بالعنوان الذی تعلَّق به الأمر ، وجب علی المکلَّف الاحتیاط ، کی یحرز تحقّق ذلک العنوان .

هذا هو الإشکال .

جواب المحقق الخراسانی

فأجاب باختیار الشقّ الأخیر ، لسلامته عن اشکال تقدّم ما هو المتأخّر ، و عن إشکال الترادف ، و یبقی إشکال سقوط البراءة ، فأجاب بجریانها ، لأن العنوان و إن کان فی نفسه بسیطاً لا أقلّ و أکثر له ، إلّا أنه متّحد مع الأجزاء و الشرائط بنحوٍ من الاتحاد ، و لما کانت مردّدة بین الأقل و الأکثر کانت البراءة جاریةً بلا إشکال .

ص:236

قال شیخنا :

إذن ، فمختار المحقق الخراسانی کون الجامع بسیطاً لا مرکّباً ، و یکون المحذور منحصراً بعدم جریان البراءة ، و قد أجاب عنه بما تقدّم . و توضیحه :

إنه إن کانت النسبة بین العنوان البسیط و متعلّق التکلیف نسبة السبب و المسبب ، کالنسبة بین الغسلات و المسحات و بین الطّهارة - بناءً علی أنّ الطهارة و هی عنوان بسیط هی المأمور به - فهنا یرجع الشک إلی المحصّل ، و هو مجری قاعدة الاشتغال . و أمّا إنْ لم یکن العنوان البسیط المأمور به مسبّباً عن أجزاء المرکّب ، بل کان متّحداً معها فلا مناط للاشتغال ، بل مع الشک فی الأکثر تجری البراءة .

و فیما نحن فیه ، یکون عنوان « الصحیح » هو ملزوم « المطلوبیّة » و هذا العنوان لیس نسبته إلی الأجزاء نسبة « الطهارة » إلی « الغسلات و المسحات » بل هو خارجاً متّحد مع أجزاء المرکّب و وجوده عین وجودها ، فمتعلّق الأمر حینئذٍ هو المعنون بعنوان الصحیح ، و هو الموجود فی الخارج ، و یتردّد أمره بین الأقل و الأکثر ، و تجری البراءة بلا إشکال .

فالجامع هو الصحیح ، و هو البسیط الماهوی ، و البراءة أیضاً جاریة .

فهذا حاصل ما ذکره الشیخ و المحقق الخراسانی .

لکنْ یرد علیه :

أوّلاً :

إنه کیف یکون اتّحاد الواحد البسیط مع المرکّبات المختلفة ؟

لقد ذکر أنهما یتّحدان نحو اتّحاد ، لکنّ الاتّحاد لا یخلو إمّا هو اتّحاد الماهیّة مع الوجود ، و هذا لا مورد له هنا ، و إمّا الاتحاد بین الأمر الانتزاعی مع

ص:237

منشأ انتزاعه فی الوجود ، و إمّا الاتّحاد بین الکلّی و الأفراد ، و هذان منتفیان أیضاً هنا ، فلقد صوّر صاحب ( الکفایة ) الاتحاد بین الجامع الواحد البسیط ، و بین المرکّبات المختلفات ، إذْ « الصلاة » مشتملة علی مقولاتٍ مختلفة کالوضع و الکیف و الأین - بناءً علی دخولها فی الصلاة - و هی مرکّبة من أجزاء ، فمقولة الکیف مثلاً فیها هی القراءة و هی مرکّبة من أجزاء .

فمع وجود هذا الاختلاف المقولی ، و مع وجود الترکیب ، فإنّه یلزم إمّا ترکّب البسیط - و هو الجامع المفروض - و إمّا بساطة المرکّب ، إمّا وحدة الکثیر و إمّا کثرة الواحد ، و کلاهما محال ، لأن النسبة بین البساطة و الترکّب و بین الوحدة و التعدّد و الاختلاف ، هی نسبة التقابل ، و اتّحاد المتقابلین محال .

و علی الجملة ، فإن کلامه فی المقام - حیث صوّر الجامع الواحد البسیط بین أفراد الصلاة ، و الاتحاد بینه و بینها بنحوِ اتّحادٍ - یستلزم محالین : اتّحاد البسیط مع المرکّب ، و اتّحاد البسیط الواحد مع المقولات المختلفة .

و ثانیاً :

إن الجامع المحتمل هنا لا یخلو عن أحد أقسامٍ ثلاثة : فإمّا هو الجامع العنوانی ، و إمّا الجامع النوعی ، و إمّا الجامع الجنسی . أمّا الأوّل فغیر مقصود منه ، لأن الجامع العنوانی غیر قابل للاتّحاد مع المعنون ، لأن موطنه هو الذهن فقط ، مثل عنوان « مفهوم النسبة » ل « لواقع النسبة » . و أمّا الثانی و الثالث فکذلک ، لأن أجزاء الصّلاة أنواع من أجناس مختلفة ، فالرّکوع من مقولة الوضع و القراءة من مقولة الکیف ، و المقولات أجناس عالیة ، و إذا کانت أجناساً عالیة فالجامع الجنسی غیر ممکن ، و مع عدم إمکانه لا مورد لاحتمال الجامع النوعی . فما هو الجامع الذی تصوّره جامعاً بسیطاً متّحداً مع المرکّبات

ص:238

نحو اتّحاد ؟

و ثالثاً :

إن المقصود تصویر الجامع بناءً علی الصحیح ، و هذا مستحیل ، لأنّ کونه علی الصحیح یعنی أخذ جمیع الخصوصیّات ، و کونه جامعاً یعنی إلغاء الخصوصیّات ، مثلاً : صلاة المسافر متقوّمة بخصوصیّة « بشرط لا » بالنسبة إلی الرکعتین ، و صلاة الحاضر متقوّمة بخصوصیّة « بشرط شیء » بالنسبة إلیهما ، فکیف یصوَّر الجامع بینهما مع حفظ الصحّة ؟ کیف یجمع بین رفض الخصوصیّات و أخذها ؟

و لا یخفی ورود هذا الإشکال ، سواء کان الجامع ذاتیّاً کما علیه المحقق الخراسانی ، أو عرضیّاً کما علیه الشیخ الحائری و تبعه السید البروجردی .

و سیأتی ذکره .

و رابعاً :

إن الغرض من الوضع هو التفهیم ، فباستعمال اللّفظ یتمّ إحضار المعنی إلی الذهن و یتحقّق التفهیم ، و الوضع لمعنیً مستخرجٍ ببرهانٍ فلسفی لا یصلح لأنْ یکون سبباً لإحضار المعنی فی الذهن و حصول التفهیم ، و کیف یأتی إلی أذهان المتشرّعة معنی « معراج المؤمن » و « الناهی عن الفحشاء » و« عمود الدین » من لفظ « الصّلاة » ؟

إن هذا التصویر لا یناسب عرف المتشرّعة .

و هذا الإشکال یرد علی التصویرات الآتیة أیضاً .

2 - تصویر المحقّق العراقی

و ذهب المحقق العراقی إلی الجامع الوجودی ، فراراً مما ورد علی

ص:239

التّصویر السابق ، فأثبت وجود الجامع بین الأفراد الصحیحة عن طریق الأثر کما ذکر صاحب ( الکفایة ) ، لکن مع إصلاحٍ له ، بإرجاع الآثار المتعددة من « معراج المؤمن » و « قربان کلّ تقی » و « الناهی عن الفحشاء » إلی أمرٍ واحدٍ بسیط ، و هو بلوغ العبد فی الصلاة إلی مرتبةٍ یحصل له فیها جمیع هذه الخصوصیّات ، من القربانیّة و المعراجیّة و غیر ذلک ، فکان الأثر واحداً کالمؤثر .

و أثبت الجامع بین الأفراد الصحیحة بأنه مرتبة من الوجود تجمع بین المقولات المختلفة و الکیفیّات المتشتّتة ، حیث أنّ لکلّ صلاةٍ أفراداً عرضیّة و أفراداً طولیّة ، و کلّ صلاة تشتمل علی مقولات ، لکنّ تلک المرتبة من الوجود یکون صدقها علی الأفراد العرضیة بنحو التواطی ، و علی الأفراد الطولیّة بنحو تشکیکی .

فالجامع بین الأفراد هو مرتبة من الوجود ، بنحو الوجود الساری ، مع إلغاء الخصوصیّات ، فإن لکلّ ماهیّة من الماهیّات الموجودة وجوداً خاصّاً ، فإذا الغیت خصوصیّة موجودٍ و خصوصیّة موجود آخر ، تحقّق وجودٌ جامعٌ بینهما سارٍ فیهما ، فی قبال الموجودات الاُخری .

إن الوجود الخاص فی الحین الذی مع السجود قد تضیَّق بالسجود ، و کذا الذی مع الرکوع ، و القراءة ، و غیرهما ، فإذا الغیت هذه الخصوصیّات ، و لم یکن الرکوع و السجود و القراءة و غیرها قیوداً ، لم تکن داخلةً فی المسمّی ، بل یکون المسمّی بلفظ « الصّلاة » هو ذلک الوجود الواحد المجتمع مع هذه الامور بنحو القضیة الحینیّة ، و هذا صادق علی جمیع الأفراد ، العرضیّة و الطولیّة ، إلّا أن الصّدق علی العرضیّة بنحو التواطی و علی الطولیّة بنحو

ص:240

التشکیک ، و هو - أی الوجود - لا ربط له بالوجود الذی فی العبادات الأخری ، فإنّ المسمّی للفظ الحج مثلاً و إنْ کان هو الوجود کذلک ، إلّا أنه وجود یتخصّص بالطواف و السّعی و غیرهما من أعمال الحج .

و تلخّص : إن الجامع بین الأفراد الصحیحة من الصلاة مثلاً هو الوجود الساری الموجود فیها ، فإنّه یجمع بینها بعد إلغاء الخصوصیّات ، و هذا الوجود هو مسمّی لفظ الصلاة ، و هذا اللّفظ یصدق علی جمیع الأفراد العرضیّة و الطولیّة ، من صلاة الغریق إلی الصلاة الجامعة لجمیع الأجزاء و الشرائط ، فیکون الوجود مأخوذاً بالنسبة إلی الأقل من الأجزاء بشرط شیء و بالنسبة إلی الأکثر لا بشرط ، نظیر « الکلمة » فی علم النحو ، فإنّ المسمّی لهذه اللفظة یتحقق بالحرف الواحد ، و لکنّه بالنسبة إلی الأکثر لا بشرط . و کذا لفظ «الجمع» فإنّ أقلّه الثلاثة ، فهو مشروط بذلک ، إلّا أنه بالنسبة إلی الأکثر لا بشرط .

فالمسمّی الموضوع له لفظ « الصلاة » هو الوجود المنطبق علی جمیع الأفراد ، و الأفراد محقّقة للمأمور به ، بحسب اختلاف حالات المکلّفین .

فالجامع بسیط و لیس بمرکّب ، و لا مشکلة من ناحیة الاتّحاد مع الأفراد ، فإنّه یتّحد مع مختلف الأفراد و الحالات ...

هذا تقریب تصویر المحقّق العراقی و إنْ استدعی بعض التکرار لمزید التوضیح .

اُورد علیه :

أوّلاً : بعدم عرفیّة هذا الجامع .

و فیه :

إن الموضوع له اللّفظ هو الوجود الجامع بنحو الوجود الساری ،

ص:241

و الوجود أمر یعرفه أهل العرف و یفهمه ، فهم کما یعرفون الرکوع و السجود و ... و یفهمونها ، کذلک وجود هذه الأشیاء واضح عندهم بل أوضح و أبین .

و ثانیاً : بأن الألفاظ إنما توضع علی ما هو قابلٌ للوجود ، و حقیقة الوجود لیست من الامور القابلة للوجود .

توضیحه : إنّ الحکمة من الوضع هو الانتقال ، و الانتقال هو وجود الشیء فی الادراک ، و لیس للموجود وجود فی الإدراک - لأن الوجود إما ذهنی و إمّا خارجی ، فالخارجی لا یأتی إلی الذهن ، لأن المقابل لا یقبل المقابل ، و الذهنی لا یأتی کذلک ، لأن المماثل لا یقبل المماثل - وعلیه ، فلیس لحقیقة الوجود لفظ موضوع له .

إذن .. لا یمکن أنْ یکون اللّفظ موضوعاً لواقع الوجود .

و فیه :

إنّ الموضوع له اللّفظ هو واقع الوجود و حقیقته ، و لیس الماهیّة ، و إلّا لزم أن لا یکون لفظ یعبّر عن الباری تعالی ، لأنّه لا ماهیة له . هذا أولاً .

و ثانیاً : إنه لو کان حکمة الوضع هو القابلیّة للانتقال بالکنه ، فللإشکال وجه ، لکنّ المراد هو القابلیّة بالوجه ، و هذا بالوجود حاصل ، ففی الوجود یمکن الانتقال بالوجه ، و لذا کان معرفة الشیء بوجهه معرفة بوجهٍ .

فما أورده المحقق الأصفهانی و تبعه فی ( المحاضرات ) غیر وارد .

و أورد شیخنا بما یلی :

أولاً :

إن هذا ینافی مختار المحقق العراقی فی حقیقة الوضع ، فقد قال هناک بأن الوضع عبارة عن ملازمةٍ بین طبیعی اللّفظ و المعنی ، أو اختصاصٍ بین

ص:242

الطبیعتین ، فلیس اختصاصاً و ملازمةً بین الوجودین .

و ثانیاً :

إن الذی یلغی الخصوصیّات هو الذهن ، فهو موطن إلغائها و لیس الخارج ، فالوجود الساری إنما یکون فی الذهن ، فهو وجود عنوانی لا خارجی ، فهو رحمه اللّٰه قد فرّ من الوجود العنوانی و کرّ علیه .

و ثالثاً :

إن امتیاز صلاة الصبح عن صلاة المغرب - مثلاً - هو بکون الاُولی مقیَّدةً بعدم الثالثة ، فهی بالنسبة إلیها بشرط لا ، و الثانیة - أی المغرب - مقیَّدة بوجود الثالثة ، فهی بالنسبة إلیها بشرط شیء ، فهنا وجود و هناک عدم ، و الجامع بین الوجود و العدم غیر معقول .

فإنْ أراد من الجامع : الجامع اللّابشرط المقسمی ، فهذا جامع ماهوی و لیس بوجودی .

و رابعاً :

إن الصحّة متقوّمة بأخذ الخصوصیّة ، فکیف یکون الجامع - المفروض کونه الموضوع له الصحیح - لا بشرط بالنسبة إلی الزیادة المحتمل دخلها فی الصحة ؟

هذا کلّه فی مرحلة الثبوت .

و أورد علیه شیخنا : بأن هذا التصویر لا یتناسب و مرحلة الإثبات ، فإن ما ذهب إلیه من القول بأنّ الخصوصیّات من الرکوع و السجود و غیرها لا دخل لها فی المسمّی ، و إنما هی مشخّصات فردیّة ، تخالفه النصوص الکثیرة الصریحة فی : أن الصلاة افتتاحها - أو تحریمها - التکبیر و تحلیلها التسلیم ،

ص:243

لأنّ لسانها کون هذه الأمور مقوّمة لحقیقة الصّلاة .

3 - تصویر المحقق الأصفهانی

و ذهب المحقق الأصفهانی إلی أنّ الموضوع له لفظ الصّلاة - بناءً علی الصحیح - هو الجامع الترکیبی الذاتی المبهم .

و الترکیبی ما له جزء ، و یقابله البسیط ، و هو تارةً : یکون جزءاه موجودین بوجود واحدٍ ، کالإنسان المرکّب من الحیوان و الناطق ، و هما موجودان بوجودٍ واحد ، و اخری : یکونان موجودین بوجودین ، أو تکون أجزاء موجودة بوجودات و بینها وحدة اعتباریة ، و ما نحن فیه من هذا القسم .

فالموضوع له « الصلاة » مرکّب من الأجزاء ، و هی عبارة عن التکبیرة و الرکوع و السجود ... فهو جامع ترکیبی و هو ذاتی ، و لیس بعرضی ، کما علیه صاحب ( الدرر ) و غیره ، و هو أیضاً مبهم ، بمعنی أنّ لکلّ جزءٍ من أجزائه عرضاً عریضاً ، فالرکوع مثلاً یعمّ رکوع المختار إلیٰ إیماء المحتضر ، و القراءة تشمل القراءة التامّة الکاملة ... و ما یقوم مقامها ، حتی الإخطار الحاصل فی القلب بدلاً عنها ... و هکذا .

و ذکر لمزیدٍ من التوضیح لمعنی الإبهام : أن الإبهام فی الوجود یختلف عن الإبهام فی الماهیّة ، فهما فیه متعاکسان ، ففی الوجود کلّما ازدادت الشدّة نقصت السّعة و الشمول و الإطلاق ، فکلّما قوی الوجود کان الشمول أقل ، فالإنسان مثلاً وجوده أشدّ من وجود الحیوان ، لکنه لا یصدق علی الحیوان و النبات و الجماد ، بخلاف الماهیّة فإنها بالعکس ، فکلّما ضعفت زادت سعتها ، فالجنس - کالحیوان أضعف من النوع - کالإنسان - ، لوجود التعقّل فی الإنسان دونه ، إلّا أنّ سعة الحیوان أکثر .

ص:244

و علی هذا ، فإن الماهیّة تصلح لشمول جمیع الأفراد علی الرغم من الاختلاف الکثیر فیها کمّاً و کیفاً .

قالوا : و الإبهام فی الماهیّة یکون بالخصوصیّات الخارجة عنها ، فحقیقة الحیوان - مثلاً - معلومة ، لکن الإبهام یقع من جهة العوارض ، و کذا الإنسان فإنه الحیوان الناطق ، إلّا أن الإبهام یکون من حیث الکمّ و الکیف و العوارض ، و کلّما کان الإبهام فی الماهیّة أکثر کان الصدق أوسع .

إلّا أن المحقق الأصفهانی ذکر عن بعض الأکابر - صدر المتألّهین - الإبهام و التشکیک فی نفس الذات ، کأن تکون الشدة و الضعف داخلةً فی ذات ماهیّة البیاض ، لا أن تکون من عوارضها .

قال : فهذا هو الجامع الموضوع له اللّفظ ، و إنْ لم یمکن لنا التعبیر عنه إلّا بخواصّه ، کما لو جعل لفظ « الخمر » لتلک الذات المبهمة من حیث الإسکار و اللون و منشأ الاتخاذ ، إلّا أن تلک الذات مسمّاة بهذا الاسم .

فهو جامع مرکّب لا بسیط ، خلافاً لصاحب ( الکفایة ) و المحقّق العراقی .

و هو جامع ذاتی وفاقاً لصاحب ( الکفایة ) و خلافاً لغیره .

قال شیخنا :

فما أورد علیه من أنه غیر عرفی ، فی غیر محلّه ، فإنّ الموضوع له لفظ « الرکوع » نفس هذا المعنی الذی یفهمه العرف ، غیر أنه مبهمٌ بالمعنی المذکور لیشمل جمیع الأفراد .

و کذا الإیراد بأنه لیس بجامعٍ علی الصحیح ، لأن الصّحیح ما هو الجامع لجمیع الأجزاء و الشرائط المعتبرة ، و ما ذکره غیر منطبق علیه ، نعم ، هذه

ص:245

الصّلاة علی اختلاف مراتبها صالحة للنهی عن الفحشاء ، فالجامع لم یکن علی الصحیح .

و فیه : إن المحقق الأصفهانی یقول بأن مفاد الأدلّة کون الصلاة مقتضیةً للنهی عن الفحشاء لا أنها تنهی عنه بالفعل ، فیکون الموضوع له هو الناهی عن الفحشاء الاقتضائی لا الفعلی ، و هذا ینطبق علی کلا القولین ، الصحیحی و الأعمّی .

و کذا الإیراد باستلزام ما ذکره للفرد المردّد ، و هو باطل .

ففیه : إنه یقول بأن المردّد لا ماهیّة له و لا هویّة ، لکنّ الإبهام فی الماهیّة غیر الإبهام فی الفرد ، نعم لو کان الإبهام فی الماهیّة ملازماً للإبهام فی الوجود فالإشکال وارد ، لکن لا ملازمة ، فالرکوع عبارة عن ذاتٍ لها مراتب ، فإذا وجدت تعیّنت بمرتبةٍ منها ، فتوجد برکوع المختار أو برکوع المضطر ، و هکذا ... و مثله النور و اللّون ...

الحق فی الإشکال

بل الإشکال الوارد هو : إن التشکیک فی الماهیّة عبارة عن الاختلاف فی المرتبة ، کالشدّة و الضّعف ، و خصوصیّة الشدّة - مثلاً - لا تخلو إما أن تکون داخلةً فی الماهیّة أو خارجة عنها .

فعلی الأوّل : یکون البیاض هو الشدید منه فقط ، و لا یصدق هذا الاسم علی البیاض الضعیف ، و یکون رکوع المختار هو الرکوع ، و ذات هذه الرکوع غیر ذات الرکوع من المضطر ، لعدم وجود ذاتٍ واحدةٍ تنطبق علی درجتین .

و علی الثانی : تکون الخصوصیّة خارجةً عن الذّات ، فالماهیّة متعیّنة و لا إبهام فیها .

ص:246

فما ذکره من أنّ الماهیّة کلّما ضعفت کانت أشمل و أعم [ و إنْ کان صحیحاً ، لکون الجنس لا متحصّل ، و النوع متحصّل ، کالإنسان المتحصّل بالناطقیّة فلا یتحصّل بشیء آخر ] إلّا أنها فی أیّ مرتبةٍ کانت غیر مبهمة فی الذات ، فنفس « الإنسان » لا إبهام فیه ، فهو الحیوان الناطق ، و الحیوان و إن کان مبهماً من حیث البقریة و الإنسانیة ، إلّا أنه فی حدّ نفسه غیر مبهم .

و الموضوع له لفظ « الصلاة » إن لم یکن له ذات فلا کلام ، و إن کان للصلاة ذات و هی مرکّبة کما قال ، فلکلّ جزء منه ذات ، و لا إبهام فی حدّ الذات ، فانهدم أساس التصویر .

بقی الکلام فی رأی الشیخ و المیرزا

قد فرغنا من ذکر تصویرات المحققین الخراسانی و العراقی و الأصفهانی بناءً علی الوضع للصحیح .

أمّا المحقق النائینی فلم یتصوَّر الجامع ، لا بناءً علی الصحیح و لا بناءً علی الأعم .

أما علی الصحیح ، فلأن مراتب الصحّة متعدّدة ، فأقلّ مراتب الصّلاة الصّحیحة صلاة الغریق ، و أعلی مراتبها صلاة الحاضر القادر المختار ، و بینهما وسائط کثیرة ، و تصویر الجامع الحقیقی الذی یتعلَّق به الأمر و یجمع تمام المراتب صعب . و أمّا علی الأعم فأصعب ، فإنّ کلّ صلاة فرضت إذا بدّل بعض أجزائها إلی غیرها بقی الصّدق علی حاله .

قال : و یمکن دفع الإشکال عن کلا القولین بالالتزام بأن الموضوع له لفظ الصّلاة هو عبارة عن صلاة العالم العامد القادر ، و أمّا باقی الصلوات فهی أبدالٌ للموضوع له ، و إنّما تسمی بالصلاة ادّعاء أو مسامحة ، نعم ، یمکن

ص:247

تصویر جامعٍ بین القصر و الإتمام فقط .

و لمّا کان الأصل فی کلامه هو ما جاء فی (تقریرات) الشیخ الأعظم قدّس سرّه فلا بدّ من التعرّض لذلک ، و هذا حاصله (1) :

إنّ « الصلاة » معناها عبارة عن الصلاة ذات الأجزاء و الشرائط ، فهل المراد منها خصوص ما یأتی به المکلّف العالم العامد القادر المختار ، أو الأعم منه و من الجاهل و الناسی و العاجز و غیر المختار ؟ فهل الموضوع له هو الأجزاء و الشرائط بالمعنی الأخص ، و قد عبّر عنه بالأجزاء و الشرائط الشخصیّة ، أو بالمعنی الأعم الذی عبّر عنه بالأجزاء و الشرائط النوعیّة ؟

قال الشیخ : فیه وجهان ، أحدهما : القول بأنّ الصلاة هی الواجدة للأجزاء و الشرائط لمن هو عالم قادر مختار ، وعلیه ، فصلاة غیره من المکلَّفین لیست بصلاةٍ بل هی بدل عن الصلاة .

و الوجه الثانی : القول بأن الصّلاة هی الواجدة للأجزاء و الشرائط من سائر المکلَّفین ، وعلیه ، فلا بدّ إمّا من القول بالاشتراک اللفظی ، و إمّا من القول بالاشتراک المعنوی . أمّا الأوّل فباطل ، و أمّا الثانی فالجامع إن کان مرکّباً لزم تداخل الصحیح و الفاسد ، و إن کان بسیطاً فهو إمّا « المطلوب » أو الملزوم المساوی له ، أمّا الأوّل فمحال ، للزوم أخذ ما هو المتأخّر عن المسمّی فی المسمّی ، و أمّا الثانی فهو خلاف الإجماع القائم علی جریان البراءة فی دوران الأمر بین الأقل و الأکثر فی الأجزاء و الشرائط ، و هذا المعنی البسیط لا یتصوَّر فیه ذلک .

و علی الجملة ، فإن لفظ « الصلاة » موضوع لصلاة القادر المتمکن من

ص:248


1- (1)) مطارح الأنظار : 9 .

جمیع الأجزاء و الشرائط ، و هی المرتبة العلیا من مراتب الصلاة ، و تصویر الجامع لجمیع المراتب غیر ممکن ، غیر أنّ المتشرعة لمّا رأوا أن صلاة العاجز مثلاً وافیة أیضاً بالغرض من الصلاة - و هو النهی عن الفحشاء مثلاً - استعملوا هذا اللّفظ فیه ، تنزیلاً لفاقد الجزء مثلاً بمنزلة الواجد له ؛ بلحاظ الاشتراک فی الأثر ، و کان حقیقةً عرفیّة ، و نظیره لفظ « الإجماع » فی الاصول ، فقد ارید منه أوّلاً اتّفاق الکلّ ، ثم لمّا وجدوا اتّفاق البعض الکاشف عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر یشارک المعنی الأصلی فی حصول الغرض منه ، فأطلقوا علیه لفظ الإجماع و کان صادقاً علیه ؛ و کذلک لفظ « الخمر » فی العرف ، فإنه قد وضع أوّلاً للمتّخذ من العنب ، ثم إنه لأجل حصول الأثر من المتّخذ من التمر مثلاً سمّوا هذا أیضاً خمراً ، فکان المعنی الأعم ، للحاظ الأثر و هو الإسکار .

قال شیخنا :

فی کلامه قدّس سرّه نظر من جهتین :

الاولی : إنه جعل الإطلاق الأوّلی للفظ الصلاة ، للصلاة الواجدة للأجزاء و الشرائط من العالم العامد المختار القادر ، فکان الموضوع له هو الأجزاء و الشرائط الشخصیّة حسب تعبیره ، و أمّا غیر هذا الفرد فقد أطلق علیه اللّفظ بسبب حصول الغرض منه - کما فی لفظ الإجماع - و حینئذٍ ، فقد واجه الشیخ إشکالاً فی تعمیم الشرائط ، فدلیل اعتبار الطهارة یتعذر التمسک به لاشتراطها فی صلاة الناسی و العاجز ، و کذا أدلّة الموانع و القواطع ، فالتزم هناک بالتمسّک بالإجماع علی الاشتراط .

لکنْ یرد علیه : إن نفس صلاة العالم القادر المختار لها أفراد ، کصلاة الجمعة المشتملة علی الأجزاء من الخطبتین و غیرهما ، و علی الشرائط کالعدد

ص:249

و السلطان العادل ، و کصلاة الظهر الفاقدة لجمیع هذه الأجزاء و الشرائط ، و کصلاة العیدین المعتبر فیها أجزاء اخری ، و کصلاة الآیات ، و کصلاة المسافر التی هی بشرط لا عن الرکعتین فی مقابل صلاة الحاضر التی هی بشرط شیء ، فکیف یمکن فرض الأجزاء الشخصیّة ؟ فإن قال الشیخ بذلک فی مرتبة العالم القادر المختار فقط ، لزم القول فی غیر هذه المرتبة إمّا بالاشتراک اللّفظی و إمّا بالاشتراک المعنوی ، و الثانی إما بسیط و إما مرکّب . فیعود الإشکال و یرجع ما ذکره علی نفسه .

و الثانیة : إن ما ذکره لا یتناسب مع مقام الإثبات ، فجمیع النصوص تسمّی صلاة العاجز بالصّلاة ، و کذا صلاة الناسی ، تماماً کما فی صلاة العالم القادر المختار ، و لا وجه لتخصیصها بصلاة القادر العالم المختار ، فإن اعتبار الطهارة فی صلاة العاجز مثلاً إنما هو لإطلاق دلیل « لا صلاة إلّا بطهور » و لیس بالإجماع .

و تلخص : أن کلام الشیخ غیر مقبول ، و کلام المیرزا المبتنی علیه أیضاً غیر مقبول .

ثم إنّ المحقق النائینی - بعد أنْ قال بصعوبة تصویر الجامع کما فی ( أجود التقریرات ) و أن لفظ الصلاة موضوع للمرتبة العالیة ، و أنه یستعمل فی غیره ادّعاءً أو مسامحةً - قال : بأن وضع الأسماء للمرکّبات کأسماء المعاجین هو من هذا القبیل ، فإن اللّفظ قد وضع للمرتبة العالیة الکاملة ، و مع ذلک یستعمل فی الفاقد لبعض الأجزاء ، من جهة الاشتراک فی الأثر ، و أما الفاقد للتأثیر فإنّه یستعمل فیه من باب تنزیل الفاقد بمنزلة الواجد ، أو من جهة المشابهة فی الصورة .

ص:250

و فیه :

أوّلاً : إنّ التنظیر المذکور فی غیر محلّه ، فصانع المعجون لا إحاطة له بما یطرأ علی صنعه ، بخلاف الشارع .

و ثانیاً : إنّ تشخیص المرتبة العالیة فی مثل الصلاة غیر ممکن ، لعین ما تقدّم من الاختلاف بین أفراد الصّلاة ، فإنه مع ذلک لا یمکن تصویر مرتبة واحدة من المراتب العالیة لتکون الموضوع له .

4 - تصویر الشیخ الحائری و السید البروجردی

و بعد الفراغ عن صور الجامع البسیط الماهوی ، و الجامع البسیط الوجودی ، و الجامع الذاتی الترکیبی ، تصل النوبة إلی الجامع العَرَضی ، و هو تصویر جماعة منهم : الشیخ الحائری و السید البروجردی ، غیر أنّ الأول جعله « التعظیم » و الثانی : « التخشّع » .

قال السید البروجردی (1) بعد ما نصَّ علی أن لا سبیل لتصویر الجامع الذاتی أصلاً - :

و أمّا الجامع العرضی ... الذی یخطر ببالنا : إنّ حال المرکّبات العبادیّة کالصلاة و الصوم و الزکاة و أمثال ذلک ، حال المرکّبات التّحلیلیة ، کالإنسان و نظائره ، فکما أنّ الإنسان محفوظ فی جمیع أطوار أفراده ، زادت خصوصیّة من الخصوصیّات أو نقصت ، کان فی أقصی مراتب الکمال أو حضیض النقص ، و ذلک لأن شیئیّة الشیء بصورته لا بنقصانه و لا بکماله ، کذلک حال المرکّبات الاعتباریة العبادیّة ، بمعنی أنه یمکن اعتبار صورة واحدة یمتاز بها کلّ واحدٍ من هذه المرکّبات عن غیرها ، و تکون تلک الصّورة ما به الاجتماع

ص:251


1- (1)) الحجة فی الفقه : 57 .

لتمام الأفراد و جمیع المراتب ، و ما به الامتیاز عن غیرها ، و تکون محفوظةً فی جمیع المراحل و المراتب ، و إنْ کان فی غایة الضعف ، مثل صلاة الغریق و العاجز ، أو فی منتهی الکمال مثل صلاة الکامل المختار الواجدة لجمیع الأجزاء و الشرائط ، إذ بعد فرض ما به شیئیة هذه المرکبات الاعتباریّة ، فکلّما کان هذا موجوداً فأصل الشیء کان موجوداً لا محالة .

و هذا الشیء - علی ما یؤدّی إلیه النظر - هو التخشّع الخاص فی الصلاة ، فإنّ التخشّع الخاص هو الذی یکون محصّل شیئیة الصّلاة ، و به تصیر الصلاة صلاةً ، و هو محفوظ فی جمیع أفراد الصلاة و مراتبها المختلفة ، و هذا هو المناسب لمقام عبودیّة العبد بالنسبة إلی مولاه .

و أمّا فی سائر المرکّبات ، فیمکن أیضاً افتراض جامعٍ من قبیل ما فرضناه فی الصلاة ، علی حسب الخصوصیّات و المقامات . و لعلّ هذا هو المراد من الوجه الثالث الذی استدلّ به القائلون بالأعم ، إلّا أن تمثیلهم بالأعلام الشخصیّة مما لا یناسب هذا الکلام .

و حاصل هذا الوجه :

إن الجامع عرضی لا ذاتی ، و هو « التخشّع » ، و هو یتّحد مع جمیع المراتب و الحالات ، و نسبته إلی الأجزاء نسبة الصّورة إلی المادّة ، نظیر إنسانیّة الإنسان الموجودة معه فی جمیع الأحوال و الأطوار .

الإشکال علی هذا التصویر

و أورد علیه شیخنا بوجوه :

أحدها : إن المفروض کون الخصوصیّات مقوّمة للصحّة ، فصلاة الصّبح متقوّمة بعدم الرکعة الثالثة ، و صلاة المغرب متقوّمة بوجودها ، فواقع الصحّة

ص:252

متقوّم بالخصوصیّة ، وعلیه ، فالتخشّع و التوجّه فی صلاة الصبح متقوّم بعدم الثالثة ، و هو فی صلاة المغرب متقوّم بوجودها ، فکیف یمکن أن یکون جامعاً بینهما ؟

و الثانی : إن هذا التصویر لو کان للأعم أو کان مشترکاً بینه و بین الصحیح کان له وجه ، لکن المفروض کونه علی الوضع للصحیح فقط ، و حینئذٍ یرد علیه بأنه جامع متداخل بین الصحیح و الفاسد ، إذ الصلاة ذات الأربع من المسافر فاسدة و هی من الحاضر صحیحة ، و التخشّع موجود فی کلیهما .

و الثالث : إنّ ما ذکره من کون نسبة التخشع إلی الأجزاء نسبة الصّورة إلی المادّة ، فیه : إن الصورة إمّا هی الصورة الجوهریّة ، و هی عبارة عن الفصل ، و إمّا الصورة العرضیّة ، و هی عبارة عن الشکل ، فإنْ أراد « الشکل » فإنّه غیر متّحد مع المتشکّل ، لأنه عرض و هو یقوم بالأجزاء و لا یتّحد معها ، و إنْ أراد الصورة الجوهریّة ، فإنّها تکون جامعاً ذاتیّاً لا عرضیّاً ، و الجامع الذاتی لا یجتمع مع المتقابلات ، فتعود الإشکالات کلّها .

ص:253

تصویر الجامع بناءً علی الأعم
اشارة

و تلخّص عدم معقولیّة الجامع بناءً علی الوضع للصحیح مطلقاً .

و قد ذکرت وجوه لتصویر الجامع بناءً علی الوضع للأعم من الصحیح و الفاسد :

الوجه الأول

و أوّلها و أهمّها تصویر المیرزا القمّی رحمه اللّٰه (1) ، فإنه قال : بأن الموضوع له لفظ الصلاة هو عبارة عن أرکان الصلاة فقط ، و أمّا ما زاد عنها فلیس بداخل فی المسمی الموضوع له ، بل هو من متعلَّق الأمر و الطلب ، و إذا کان الموضوع له هو الأرکان فهی موجودة فی الصلاة الصحیحة و الفاسدة معاً .

الإشکالات

و قد أورد علیه المحقّق الخراسانی بوجهٍ ، و المحقق النائینی بوجهین :

قال المحقق الخراسانی : بأنّ لازم هذا القول أن یصدق « الصلاة » علی الأرکان بوحدها ، و الحال أن الأمر لیس کذلک ، لصحّة سلب « الصلاة » عمّا لا یشتمل إلّا علی الأرکان ، هذا من جهةٍ ، و من جهةٍ اخری ، فإن « الصّلاة » صادقة علی ذات الأجزاء و الشرائط عدا الرکوع مثلاً .

فظهر أنّ الموضوع له لفظ « الصلاة » لیس الأرکان وحدها .

ص:254


1- (1)) قوانین الاصول 44/1 .

و قال المحقق النائینی :

أوّلاً : إن الأرکان لها مراتب متعدّدة ، فیلزم تصویر جامع ذاتی أو عرضی بین جمیعها ، و حینئذٍ تعود الإشکالات .

و ثانیاً : إنّ خروج ما عدا الأرکان لا یخلو من أحد حالین :

إمّا أن تکون خارجة عن حقیقة الصّلاة ، و لازمه أن یکون صدق « الصّلاة » علی تام الأجزاء و الشرائط مجازیّاً ، بعلاقة الکلیّة و الجزئیة ، و هذا خلف ، لأن المفروض تصویر جامع یکون صادقاً علی الصحیح و غیره علی وجه الحقیقة .

و إمّا أن تکون إذا وجدت داخلةً فی حقیقة الصلاة و إذا عدمت خارجة عنها ، و لازمه أن تکون الذات مردّدةً ، و أن یکون شیء عند وجوده مؤثّراً و عند عدمه غیر مؤثّر ، و هذا غیر معقول .

دفاع السیّد الخوئی

و قد تبع السید الخوئی المحقّق القمی فی هذا التصویر و اختار هذا الوجه ، و أجاب عن الإشکالات المذکورة (1) :

الجواب عن إشکال المحقق النائینی

فأجاب عمّا أورده المحقق النائینی : بأنّ الصّلاة مرکّب اعتباری ، و الموضوع له هذا اللّفظ هو الأرکان لا بشرط عن الزیادة ، و الإشکال مندفع ، و ذلک ، لأنّ المرکّب الذی لا تقبل أجزاؤه التغیّر و التبدّل و الزیادة و النقیصة هو المرکّب الحقیقی ، لأنّ جزئیّة کلّ جزءٍ فیه حقیقیّة و غیر مرتبطة باعتبار معتبر .

أمّا المرکّب الاعتباری ، فمنه ما یکون محدوداً بحدٍّ من ناحیة القلّة

ص:255


1- (1)) محاضرات فی اصول الفقه 168/1 .

و الکثرة معاً کالعدد ، فإن الترکیب فیه اعتباری ، و أن عنوان الأربعة - مثلاً - قد وضع لهذه المرتبة المعیّنة من العدد ، فلو زاد أو نقص انتفی . و منه ما یکون محدوداً بحدٍّ من ناحیة القلّة فقط ، أما من ناحیة الکثرة فلیس بمحدودٍ ، کالکلمة و الکلام ، فحدّ الکلام من ناحیة القلّة أنْ یکون مفیداً ، و هو یحصل بالفعل و الفاعل ، لکنه من ناحیة الکثرة فهو لا بشرط ، و کمفهوم « الدار » فإنّه مرکّب اعتباری یتقوّم بقطعةٍ من الأرض و من السقف و الغرفة مثلاً ، لکنّه لا بشرط بالنسبة إلی الزائد ، من الغرف و المرافق و غیر ذلک ، و أیضاً : هو لا بشرط من حیث المواد المصنوع منها الجدار و السّقف ...

و« الصّلاة » من هذا القسم ، فهی مرکّب اعتباری ، و الأمر فیها بید المعتبر ، و قد جعل قوامها الأرکان ، لا بشرط بالنسبة إلی الزائد علیها ، و کلّ ما فیها معها کان جزءاً و إلّا فلیس بجزءٍ ، و هذا مقصود الأعلام - مثل المحقق الأصفهانی ، و السید البروجردی - من فرض التشکیک فی المرکّبات من الصّلاة و الحج ، و من الدار ، و الجَمع ... و أنه لا مانع من الإبهام فی ناحیة الکثرة مع وجود الحدّ فی ناحیة القلّة .

و علی الجملة ، فإنه تسمیة و وضع ، و للواضع أن یضع اللّفظ علی الشیء الذی اعتبره کیفما اعتبره ، فله أنْ یضع اسم « الصلاة » علی أجزاءٍ معیّنةٍ مخصوصةٍ هی الأرکان ، بحیث لو انتفی واحد منها انتفی الموضوع له ، لکنْ لا یحدّد المعنی و الموضوع له من ناحیة الکثرة بحدٍّ ، فإن جاء شیء زائداً علی الأرکان کان جزءاً و إلّا فلا ، و له أن یضع اسم « الدار » علی کذا ، و کلمة « الجمع » علی کذا ، علی ما عرفت .

فاندفع الإشکال الثانی بکلا شقّیه ، فإن الاستعمال فی المشتمل علی

ص:256

الأکثر حقیقی و لیس بمجاز ، و أنّ المحذور المذکور - و هو کون شیء عند وجوده داخلاً فی حقیقة الموضوع له و خارجاً عنها عند عدمه - غیر لازم ، بناءً علی کون الحقیقة بشرط بالنسبة إلی الزائد .

و أمّا إشکاله الأوّل - و هو کون الأرکان کلّ واحدٍ منها ذا مراتب - فیندفع علی ما ذکر ، بأنّ المقوّم للحقیقة هو أحد المراتب علی البدل ، فإمّا الرکوع الحاصل من القادر ، و إمّا الإیماء الحاصل من العاجز ، و کذا القیام و القراءة ... إذْ التردید فی القضایا الاعتباریة ممکن .

هذا تمام الکلام علی ما ذکره المحقق النائینی ، و قد کان یتعلَّق بمقام الثبوت .

الجواب عن إشکال المحقق الخراسانی

و أما إشکال المحقق الخراسانی فیرجع إلی مقام الإثبات ، و یظهر الجواب عنه بالنظر إلی النصوص الواردة فی الصلاة و التأمّل فیها .

فأمّا ما ذکره من صحّة سلب « الصلاة » عمّا لا یشتمل إلّا علی الأرکان ، ففیه : إن مقتضی خبر « لا تعاد الصّلاة إلّا من خمسة » (1) صدق الاسم علی ما اشتمل علی الأرکان ، و عدم صحّة سلبه عنه .

و أمّا ما ذکره من لزوم عدم الصدق علی الفاقد لواحدة من الأرکان فقط ، ففیه : أنه لمّا کانت الصلاة أمراً اعتباریّاً ، فإن الصّدق و عدمه یدور مدار الاعتبار من المعتبر ، فلا بدّ من لحاظ النصوص ، فصحیحة الحلبی « الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور و ثلث رکوع و ثلث سجود » (2) تدلّ علی دخول الثلاثة

ص:257


1- (1)) وسائل الشیعة 371/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام باب 3 من أبواب الوضوء رقم : 8 .
2- (2)) وسائل الشیعة 366/1 . باب 1 من أبواب الوضوء رقم : 8 .

و اعتبارها فی الصّلاة ، و صحیحة زرارة : « عن الرجل ینسی تکبیرة الإحرام ؟ قال : یعید » (1) تدلّ علی رکنیّة التکبیرة .

فحقیقة الصّلاة متقوّمة بهذه الامور .

و الموالاة لا بدّ منها ، و لولاها فالصّلاة منتفیة .

و الاستقبال ، و إنْ ورد « لا صلاة إلّا إلی القبلة » (2) لکن الأظهر عدم اعتباره فی الحقیقة ، و لذا لو وقعت إلی غیر القبلة نسیاناً أو جهلاً فهی صحیحة .

و أمّا التسلیمة ، فالحق عدم دخولها ، فإنّه بالتسلیم یخرج من الصّلاة ، و لعدم ذکرها فی خبر « لا تعاد » . و لا ینتقض بعدم ذکر التکبیرة ، لأن مع عدمها فلا صلاة حتی تصدق الإعادة ، لأن الإعادة هی الوجود الثانی بعد الوجود الأوّل ، فعدم ذکر التکبیرة فی خبر « لا تعاد » یؤکّد رکنیّة التکبیرة .

هذا ، و غیر هذه الامور واجب فی الصلاة و لیس برکن .

إشکالات شیخنا الاستاذ

و قد بحث شیخنا الاستاذ دام ظلّه عن تصویر المحقق القمی و دفاع السید الخوئی عنه ، فی مقامین :

1 - مقام الثبوت

و الإیراد علیه فی مقام الثبوت من وجوه :

( الوجه الأول ) إنه لا ریب فی أنّ أمر الأجزاء و اختیارها فی المرکّب الاعتباری هو بید المعتبر ، فهو الذی یجعل الامور المعیّنة أجزاءً للمرکّب و منها

ص:258


1- (1)) وسائل الشیعة 13/6 . باب 2 من أبواب تکبیرة الاحرام رقم : 1 .
2- (2)) وسائل الشیعة 217/3 ط الاسلامیة ، الباب 2 من أبواب القبلة رقم : 9 .

یتحقق ما اعتبره ، لکنّ النقطة المهمّة هی أنه بعد ما جعل الشیء جزءاً لمرکّبه انطبق علیه قانون الکلیّة و الجزئیّة ، و هو انعدام الکلّ بانعدام الجزء ، و لیس هذا القانون بید المعتبر و لا یمکنه التصرف فیه ، بأنْ یجعله جزءاً لکنْ لا ینعدم الکلّ بانعدامه ، وعلیه ، فإذا کانت القراءة فی ظرف وجودها جزءاً مقوّماً لحقیقة الصّلاة ، فکیف تبقی حقیقة الصّلاة محفوظة فی ظرف انعدام القراءة ؟

( الوجه الثانی ) إن المراد من کون الأرکان لا بشرط بالنسبة إلی الزائد هو اللّابشرط القسمی - لا المقسمی - بأنْ یلحظ وجود القراءة و عدمها و لا یؤخذ شیء منهما فی حقیقة الصّلاة ، فنقول : إن قانون اللّابشرط هو اجتماعه مع الشرط ، لکنْ یستحیل دخول الشرط فی اللّابشرط ، فالرّقبة إن کانت لا بشرط بالنسبة إلی الإیمان و الکفر ، فهی تجتمع مع الإیمان لکن یستحیل تقوّمها بالإیمان ، وعلیه : فإذا کانت الأرکان لا بشرط بالنسبة إلی ما زاد علیها من جهة حقیقة الصّلاة ، استحال دخول الزائد فی حقیقتها فی ظرف وجوده ، و کان لازمه أن یصدق الصّلاة علی مجموع الأرکان و الزائد علیها صِدقاً مجازیّاً ، مع أنّ المدّعی کونه حقیقیّاً ، کصدقه علی الأرکان فقط .

( الوجه الثالث ) لا ریب فی أنّ کون الشیء جزءاً للمعنی بشرط عدم الشیء ، غیر معقول ، و کونه جزءاً له لا بشرط من الوجود و العدم خلف الفرض ، - لأنه افترض کونه جزءاً عند الوجود و خارجاً عند العدم - إذنْ ، کون القراءة جزءاً للصّلاة و مقوّماً لحقیقتها ینحصر بحال وجودها ، فوجودها قد اخذ فی معنی الصلاة الموضوع له هذا اللّفظ ، و هذا یخالف ما تقرّر من أن الألفاظ موضوعة للمعانی الواقعیّة و ذوات الأشیاء ، من غیر دخلٍ للوجود و العدم . فما ذکر من کون القراءة جزءاً للصلاة إذا وجدت و غیر جزءٍ إذا

ص:259

انعدمت ، یخالف القانون المذکور ، مضافاً إلی استحالته من جهة أنّ الموجود لا یقبل الوجود الإدراکی .

( الوجه الرابع ) قد وقع البحث بین الأعلام فی أن التخییر بین الأقل و الأکثر معقول أو لا ؟ و وجه القول الثانی هو : أنّ الأقل إن کان مبایناً لبّاً للأکثر فهو معقول ، کالتخییر بین الرکعتین و الأربع ، فإنه و إنْ کان بین الأقل و الأکثر لکنّ القصر و الإتمام متباینان فی الواقع ، أمّا فی غیر هذه الصورة ، مثل التخییر فی التسبیحات بین المرّة و الثلاثة فغیر معقول ، لأنه بمجرّد الإتیان بالمرّة تحقّق الامتثال و حصل المأمور به الواجب ، لأن الانطباق قهری ، و معه یستحیل أن یکون الزائد علی المرّة جزءاً للمأمور به .

و علی هذا المبنی یبطل کون الزائد عن الأرکان جزءاً .

و أیضاً : فإنّ حقیقة الصلاة لا یتحقّق دفعةً ، بل تدریجاً ، فإذا کبّر و رکع و سجد ، فقد تحققت الأرکان ، و بهذه الرکعة تحقّقت الصلاة ، و المفروض کونها لا بشرط عن الزائد ، فیستحیل أن یکون الزائد جزءاً ... فالبرهان المذکور یجری فی الواجب ، و فی المسمّی الموضوع له اللّفظ ، علی حدٍّ سواء .

( الوجه الخامس ) إن الوجود - سواء الذهنی أو الخارجی أو الاعتباری - یساوق التّعیین ، و لا یجتمع مع التردّد ، إن ذات الرکوع غیر اعتباری فهو متعیّن فی ذاته - و إن کانت جزئیّته للصلاة اعتباریّة - فما معنی أنّ الجزء هو أحد مراتب الرکوع علی البدل ؟ إنّ « أحد الأمرین » إن کان المفهومی ، فهو معقول ، لکنه حینئذٍ جامع مفهومی من صناعة الذهن و لیس بواقعی ، و إن کان المصداقی ، فهو غیر قابل للوجود ، و لا ثالث فی البین . فما ذکر - من أن الجامع بین المراتب هو الأحد علی البدل - باطل .

ص:260

2 - مقام الإثبات

و أمّا فی مقام الإثبات ، فصحیحة الحلبی معارضة بصحیحة زرارة : « إذا دخل الوقت وجب الطّهور و الصّلاة » (1) لکونها صریحة فی خروج الطهارة ، و أخبار التکبیرة فیها صحیحة محمد بن مسلم : « التکبیرة الواحدة فی افتتاح الصلاة تجزی و الثلاث أفضل و السبع أفضل کلّه » (2) و الإجزاء یکون فی مقام الامتثال و لا علاقة له بمرحلة المسمّی و الموضوع له اللّفظ . و أمّا الاستدلال بحدیث « لا تعاد » و کذا کلّ ما اشتمل علی « یعید » و نحوه ، ففیه : أنّها دلیل علی خلاف المطلوب ، لأن الإعادة وجود ثانٍ بعد الوجود الأوّل .

أقول :

قد یناقش فی کلام الاستاذ فی روایة التکبیرة ، بأنّها لا تنافی دخول التکبیرة فی المسمّی ، لظهورها - و بقرینة ذیلها - فی کفایة المرّة الواحدة ، فالرّوایة دالّة علی الأمرین : دخولها فی حقیقة الصّلاة ، و کفایة المرّة ، لکنّ الثلاث و السبع أفضل .

و قد ذکر فی الدورة السابقة أنّ فی بعض الأخبار : إن التکبیرة مفتاح الصّلاة ، فقال : بأنّ ظاهر ذلک خروجها عن حقیقة الصلاة ، لأنّ مفتاح الشیء خارج عنه . لکنْ قد یقال : بأن المراد من المفتاح : ما به یفتح أو یفتتح الشیء ، و هذا قد یکون خارجاً کمفتاح الدار ، و قد یکن داخلاً و منه التکبیرة ، و لذا جاء فی بعض الأخبار : افتتاح الصّلاة ...

و أفاد فی الدورة السابقة أیضاً ما جاء فی الأخبار من أن فرائض الصلاة :

ص:261


1- (1)) وسائل الشیعة 372/1 الباب 4 من أبواب الوضوء ، رقم : 1 .
2- (2)) وسائل الشیعة 10/6 الباب 1 من أبواب تکبیرة الإحرام ، رقم : 4 .

الطهور و القبلة و التوجّه و الدعاء ، قال : فهی فرائض الصّلاة ، و لیست داخلة فی الموضوع له اللَّفظ . لکنْ قد یقال بعدم المنافاة ، لأنّ الإمام علیه السلام لم یکن فی مقام التفصیل بین ما هو داخل فی الحقیقة و ما هو خارج عنها بل هو فرض فیها .

و لعلّه لِما ذکرنا لم یتعرَّض لهذه الأخبار فی الدورة اللّاحقة .

الوجه الثانی

ما نسب إلی المشهور من أنّ الموضوع له لفظ « الصلاة » مثلاً هو :

معظم الأجزاء ، و متی لم یصدق فالمسمّی غیر متحقّق .

و قد ذکر الشیخ الأعظم و المحقق الخراسانی هذا الوجه .

إشکال الشیخ

فأورد علیه الشیخ بأنّه : إن کان الموضوع له هو معظم الأجزاء المفهومی ففیه ، أوّلاً : إن لازمه الترادف بین « الصّلاة » و « معظم الأجزاء » . و ثانیاً : إن الأثر - و هو القابلیّة للمعراجیّة و غیر ذلک - مترتّب علی الموجود الخارجی لا المفهوم الذهنی . و إن کان الموضوع له هو معظم الأجزاء المصداقی ، فإن مصداق معظم الأجزاء متبدّل ، إذ یکون الجزء الواحد داخلاً فی المعنی تارةً و خارجاً عنه اخری ، ففی الفرد ذی العشرة أجزاء مثلاً یکون مصداق المعظم هو سبعة أجزاء ، و فی ذی السبعة یکون خمسة أجزاء ، فکان الجزءان داخلین فی المسمّی عند ما کان مشتملاً علی عشرة أجزاء ، و هما خارجان عنه عند ما یکون ذی سبعة ، فیلزم أن یکون الشیء داخلاً فی المعنی و الکلّ فی صورة ، و غیر داخلٍ فی صورةٍ اخری .

ص:262

إشکال المحقق الخراسانی

و أورد علیه المحقق الخراسانی بوجهین :

أحدهما : أنه إذا کان الموضوع له هو معظم الأجزاء ، فاللّازم أنْ یکون صدق الاسم علی المشتمل علی کلّ الأجزاء مجازیاً ، بعلاقة الکلّ و الجزء .

و الثانی : إن نفس « معظم الأجزاء » لا تعیّن له ، فنحن بحاجةٍ إلی تصویر الجامع بین « معظم الأجزاء » فی الأفراد المختلفة من الصلاة ، فیعود الإشکال .

جواب المحقّق الخوئی

و أجاب المحقق الخوئی کما فی ( المحاضرات ) :

أمّا عن الأوّل ، فبأنّ معظم الأجزاء هو بالنسبة إلی الزائد لا بشرط ، فإن وجد دخل فی المسمّی .

و أمّا عن الثانی ، فبأنّ الجامع المقوّم للمعنی هو المعظم علی البدل .

قال شیخنا :

فی الأوّل : بأنّ المجازیّة لازمة ، کما تقدّم فی التصویر السابق .

و فی الثانی : بأن مراد صاحب ( الکفایة ) هو أن الصلاة التامّة الأجزاء و الشرائط لو فرضت عشرة أجزاء ، فإن المعظم هو سبعة ، لکنّ هذه السبعة غیر متعیّنة ، فهل المراد السبعة من الأوّل ، أو السبعة من الوسط ، أو السبعة من الأخیر ؟ ثم إنّ الأفراد مختلفة کیفیةً أیضاً و متبدّلة ، إذ الرکوع تارةً یکون رکوع القادر المختار ، و اخری یکون بالإیماء ، و بینهما أفراد ، فکیف یتعقّل المعظم مع الاختلاف الکمّی و الکیفی ؟

هذا مراد المحقق الخراسانی ، و الجواب المذکور غیر دافع له .

ص:263

دفاع المحقق النائینی

و قد حاول المحقق النائینی الدفاع عن هذا التصویر بتنظیره ببیع الکلّی فی المعیّن ، کصاعٍ من الصبرة ، فکما أن المبیع إذا کان صاعاً من الصّبرة المعیّنة ینطبق علی کلّ صاعٍ صاعٍ منها و یکون البیع صحیحاً ، کذلک الموضوع له لفظ الصّلاة ، فإنه معظم الأجزاء ، و هو قابل للتطبیق علی أیّ طائفةٍ من الأجزاء یصدق علیها أنها معظمها .

لکن شیخنا لم یرتض هذا الدفاع .

و الجواب

و أجاب : بأنّ حلّ المشکل فی مسألة الکلّی فی المعیّن صعب جدّاً ، و قد أشکل علیه منذ القدیم بأنّه کیف یمکن الجمع بین السلب الکلّی و الإیجاب الجزئی ، حیث أن المشتری لیس بمالکٍ لشیء من أجزاء الصّبرة ، و هو فی نفس الوقت مالک لصاعٍ منها ؟

ثم إنه بغض النظر عن ذلک ، فقیاس ما نحن فیه بتلک المسألة مع الفارق :

أمّا أوّلاً : فلأنّه یحصل التعیین هناک بواسطة البائع ، و لذا لو تصرّف فی الصّبرة ببیعٍ و غیره و لم یبق إلّا صاع واحد ، لم یکن له التصرف فیه لئلّا یفوت حق المشتری ، و علی کلّ تقدیرٍ ، فالتّعیین یحصل هناک ، بخلاف المقام ، إذ لا طریق إلی تعیین المعظم .

و أمّا ثانیاً : إن المبیع هناک کلّیٌّ ، غیر أنه مضاف إلی هذه الصّبرة ، بخلاف ما نحن فیه ، حیث أنّ الموضوع له هو المصداق - لما تقدّم من أنه لیس المفهوم و قد تردّد و لا طریق إلی تعیینه ، و المردّد لا ذات له و لا وجود .

ص:264

الوجه الثالث

إنّ الموضوع له لفظ الصلاة - مثلاً - وزانه وزان الموضوع له فی الأعلام الشخصیّة ، فکما أنّ لفظ « زید » موضوع لهذه الذات ، و هو اسم له فی جمیع حالاته من حین ولادته ، و یصدق علیه بالرغم من تغیّراته کمّاً و کیفاً ، کذلک لفظ « الصلاة » یصدق مع کلّ التبدّلات الحاصلة فی الأجزاء کمّاً و کیفاً .

و الجواب

إنّ المسمّی الموضوع له فی الأعلام الشخصیّة هو ماهیّة شخصیّة ، و شخصیّتها بالصورة لا بالمادّة ، لقولهم : شیئیة الشیء بصورته لا بمادّته ، و صورة زید فی جمیع حالاته و أدوار حیاته محفوظة لا تتغیّر ، و المتغیّر هی المادّة ، فقیاس وضع الأعلام الشخصیّة بما نحن فیه مع الفارق .

و جاء فی جواب صاحب ( الکفایة ) : إن الموضوع له عبارة عن الشخص ، و شخصیّة الشیء بوجوده الخاص .

فهو رحمه اللّٰه یری الصّورة وجوداً ، فیرد علیه : أنّه إذا کان الموضوع له هو الشخص ، و الشخصیّة بالوجود ، فکیف ینتقل الموضوع له إلی الذهن بالاستعمال ، لأنّ الوجود لا یقبل الوجود الذّهنی و لا غیره من الوجودات ؟

و کیف کان ، فالتصویر المذکور مردود .

الوجه الرّابع

إن لفظ « الصّلاة » قد وضع أوّلاً للصّلاة الجامعة لجمیع الأجزاء و الشرائط ، ثم إنه یطلق علی مراتبها الاخری من باب المشاکلة فی الصّورة و المشارکة فی التأثیر و ترتب الأثر المطلوب ، فالإطلاق الأوّل علی المراتب مجازی ، لکنّه بالاستعمال المتکرّر یصیر اللّفظ حقیقةً فیها ، فیکون حال الموضوع له لفظ « الصلاة » حال الاسم الذی یوضع علی المعجون المرکّب

ص:265

من أجزاءٍ معیّنةٍ ، و المصنوع لفائدةٍ معیّنة ، فإنّه الموضوع له أوّلاً ، لکنّ هذا الاسم یطلق مجازاً فیما بعد علی هذا المرکب فی حال تبدّل جزء من أجزائه مثلاً ، فإذا تکرّر إطلاقه علیه مراراً صار حقیقةً فیه .

و علی الجملة ، فلفظ « الصّلاة » وضع للجامع بین الأجزاء ، و للصلاة الصحیحة الفاقدة لبعضها کصلاة العاجز ، ثم یستعمل فی الصلاة الفاسدة أیضاً للمشابهة و المشاکلة فی الصورة ، کما لو صلّاها جامعةً لجمیع الأجزاء لکن ریاءً .

و الجواب

و أجاب المحقق الخراسانی بالفرق بین الصلاة و المعجون ، فالمعجون المصنوع لغرضٍ خاصٍ لا اختلاف فی کیفیّته ، بخلاف الصلاة ، فإنها حتی الصحیح منها تختلف باختلاف الحالات و المراتب و الأشخاص .

الوجه الخامس

إن الوضع فیما نحن فیه نظیر الوضع فی الأوزان و المقادیر ، فإن المثقال و الکرّ مثلاً موضوعان لمقدار خاصٍ معیّن ، لکنهما یطلقان کذلک متی نقص شیء عن المقدار المحدود أو زاد ، فکذا لفظ الصّلاة ، فإنه یصدق مع زیادة جزءٍ أو نقصانه .

و الجواب

أوّلاً : إنّ « المثقال » موضوع ل « 24 » حبّة مثلاً ، فلو نقص حبة واحدة صحّ سلب الاسم عنه ، فما ذکر غیر صحیحٍ فی المقیس علیه .

و ثانیاً : إنه لو سلّم ما ذکر فی المقیس علیه ، ففی المقیس غیر صحیح ، و القیاس مع الفارق ، لأنه مع نقص ثلاث حبّات مثلاً من المثقال ینتفی الموضوع له ، لکنْ فی صلاة العاجز حیث تفقد أکثر الأجزاء یصدق الاسم ، لکونها صلاةً حقیقةً .

ص:266

المختار
اشارة

و استوجه شیخنا الاستاذ دام بقاه فی الدورة السّابقة تصویر السید البروجردی ، لکنْ بجعله جامعاً بناءً علی الأعم ، و هو ظاهر بحثه فی الدورة اللّاحقة ، حیث تعرَّض لهذا الرأی فی نهایة البحث .

و قد قرّبه فی الدورتین ، بأنّه مع کون الجامع هو « التوجّه » أو « الهیئة الخضوعیّة » بناءً علی الأعم ، لا یرد شیء ممّا تقدّم من الإشکالات ، لأنها کانت تتوجّه بناءً علی الوضع للصحیح ، و التوجّه أمر واحدٌ موجودٌ مع جمیع الأفراد ، و سائر الخصوصیّات تکون دخیلة فی متعلَّق الطّلب ، و هو - أی التوجّه - أمر خارجی انتزاعی ، قابل للانطباق علی المتباینات ، فیقوم تارةً بالکیف المسموع و اخری بالوضع ، فالتوجّه و الخضوع یحصل بالتکلّم و بالقیام و بالانحناء ، و هکذا ، و ینتزع من کلّ واحدٍ من هذه الامور ، و یتحقق مع کلّ واحدٍ منها ، نظیر « الغصب » فإنه یتحقّق بالتصرف فی مال الغیر من دون إذنه ، بأی شکلٍ من أشکال التصرف الحاصل من المقولات المتباینة .

هذا بالنسبة إلی مقام الثبوت .

و أمّا إثباتاً ، فإن « الصّلاة » فی اللّغة إما الدّعاء و إمّا العطف و التوجّه ، و علی کلا التفسیرین یتم الجامع المذکور ، لأنّ الدعاء یکون بغیر اللّفظ أیضاً ، و یشهد للمعنی الثانی ما فی بعض الأخبار من أنّ اللّٰه تعالی لمّا علم باندراس

ص:267

الدین شرّع الصلاة حفظاً لها من الاندراس و لیتوجّه الناس إلیه بها .

ثم إن النسبة بین الأذکار الموجودة فی الصّلاة و بین التوجّه لیس النسبة بین المسبب و السبب ، لأن السبب و المسبب موجودان بوجودین لا بوجودٍ واحدٍ ، و الحال أن الموجود خارجاً هو الذکر و لا وجود هناک للتوجّه ، فنسبة التوجّه إلی الذکر نسبة الأمر الانتزاعی إلی منشأ الانتزاع ، لا نسبة السبب إلی المسبب .

و تلخّص : إنه یمکن تصویر الجامع علی الوضع للأعم ، بأنه هو التوجّه و التخشّع و الخضوع ، بالتقریب المذکور .

الإشکال علیه

ثم أورد علیه شیخنا ثبوتاً و إثباتاً :

أمّا ثبوتاً ، فلأن التوجّه إذا کان منتزعاً من هذه الأقوال و الأفعال المتباینة و متّحداً معها وجوداً ، استحال أنْ یکون واحداً . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ « التوجّه » یصدق مع الأجزاء القلیلة ، و هو مع الرکوع غیره مع السجود و القیام و القراءة و هکذا ... و بمجرّد تحقّق الأقل یصدق الصّلاة ، فیکون الزائد علیه خارجاً عن حقیقة الموضوع له المسمی .

و قد کان هذا الإشکال وارداً علی جمیع التصویرات التی اعتبرت الوجود التشکیکی للجامع ، کما تقدّم .

و أمّا إثباتاً : فلأن الصّلاة - بحسب النصوص و ارتکاز المتشرعة - هی نفس الأقوال و الأفعال لا العنوان المنتزع منها کالتوجّه . بل فی خبرٍ صحیحٍ سئل الإمام علیه السلام عن الفرض فی الصّلاة فقال : « الوقت و الطهور و القبلة

ص:268

و التوجّه و الرکوع و السجود و الدعاء » (1) فکان التوجّه من فرائض الصّلاة و لیس الصّلاة .

خاتمة المقدّمة الرّابعة

و التحقیق : أنه لا أثر لتصویر الجامع فی ترتّب الثمرة و عدم ترتّبها ، و ذلک ، لأن الثمرة إمّا جواز أو عدم جواز التمسک بالأصل اللفظی و هو الإطلاق ، و إمّا جواز أو عدم جواز التمسّک بالأصل العملی و هو البراءة ، لرفع ما شک فی جزئیّته أو شرطیّته فی الصّلاة . أمّا الأصل العملی ، فإنّ وجود القدر المتیقّن یکفینا لإجراء الأصل ، و أما الأصل اللّفظی ، فإنّ من النصوص ما یعیِّن الصّلاة بأنّه « ثلاثة أثلاث » فإنْ اعتبر قید آخر بدلیلٍ معتبر أضفناه و إلّا أخذنا بإطلاق النص .

و علی هذا ، فلا حاجة لتصویر الجامع مطلقاً ، لعدم توقف ترتّب الثمرة علی وجوده .

المقدّمة الخامسة( ثمرة البحث )

إنّ أهمّ ما ذکروا فی هذا المقام هو :

1 - جریان البراءة علی الأعم ، و الاشتغال بناءً علی الصحیح .

2 - جواز التمسک بالإطلاق بناءً علی الأعم ، و لزوم الإجمال بناءً علی الصحیح .

ص:269


1- (1)) وسائل الشیعة 365/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام الباب 1 من أبواب الوضوء ، رقم : 3 .
1 - البراءة و الاشتغال

لو شک فی جزئیّة شیء أو شرطیّته فی الصلاة - مثلاً - فهل تجری البراءة عنه أو یحکم العقل بالاشتغال فیجب إتیانه ؟ أو یختلف الأمر حسب المبنی فی وضع لفظ الصّلاة ؟

هنا أقوال :

أحدها : جریان الاشتغال ، سواء قیل بالوضع للصحیح أو قیل بالوضع للأعم .

و الثانی : جریان البراءة ، سواء قیل بالوضع للصحیح أو قیل بالوضع للأعم .

و هذا هو المستفاد من ( التقریرات ) و ( الکفایة ) .

و الثالث : جریان البراءة علی الأعم ، و الاشتغال علی الصحیح .

و هذا هو المستفاد من ( القوانین ) و ( الریاض ) و اختاره المحقق النائینی .

و الرابع : التفصیل بین ما إذا کان البیان لفظیّاً فالاشتغال ، أو حالیّاً أو مقامیّاً فالبراءة .

و الخامس : التفصیل بین الصحیح النوعی فالبراءة ، و الصحیح الشخصی - و هو کون الموضوع له صلاة العالم المختار ، و البواقی أبدال - فالاشتغال .

ص:270

هذه هی الأقوال فی هذا المقام .

و المهمّ أنّ جماعة یرون ترتّب الثمرة علی هذا البحث ، و هم المیرزا القمی و المیرزا النائینی و آخرون ، و جماعة یرون أنْ لا ثمرة للبحث ، و هم الشیخ و المحقق الخراسانی و آخرون .

تقریب الثمرة

إنه إنْ کان الموضوع له لفظ « الصلاة » هو خصوص الصحیح ، کان التکلیف - أی الوجوب - معلوماً ، و کذلک المکلَّف به و هو الصحیح ، و مع الشک فی جزئیّة شیء أو شرطیّته ، یرجع الشک إلی تحقّق الامتثال بدون الشیء المشکوک فیه ، و معه یحکم العقل بالاشتغال . و أمّا بناءً علی الوضع للأعم ، فهو صادق علی فاقد الجزء أو الشرط المشکوک فیه ، و مع الشک یدور أمر المکلَّف به بین الأقل و الأکثر ، و قد تقرّر فی محلّه أن الأقل و الأکثر الارتباطیین مجری البراءة ، لکون الأقل متیقّناً و الشک یرجع إلی أصل التکلیف بالنسبة إلی الأکثر .

إشکال الشیخ و الکفایة

إنه لا أثر للوضع للصحیح أو الأعم فی جریان البراءة أو الاشتغال ، بل الملاک هو انحلال العلم الإجمالی فی الأقل و الأکثر الارتباطیین و عدم الانحلال .

فإن کانت النسبة بین المأمور به و بین الأجزاء و الشرائط نسبة السببیّة ، کان الأصل الجاری فی المورد هو الاشتغال ، لأنه یصیر من قبیل سببیّة الغسل و المسح فی الوضوء للطهارة ، حیث أن التکلیف بالمسبَّب معلوم ، لکنْ لا ندری هل یتحقّق بدون الخصوصیّة المشکوک فیها أو لا ؟ فیرجع الشک إلی

ص:271

المحصّل ، و المرجع فیه هو قاعدة الاشتغال .

و أمّا إن کانت النسبة اتحادیة ، أی : لیس المأمور به إلّا نفس الأجزاء و الشرائط - فنسبة المأمور به إلی الأجزاء و الشرائط نسبة الطبیعة إلی الفرد ، و لا توجد فی البین سببیّة و مسبّبیة - فیقع الشک فی الجامع الذی تعلَّق التکلیف به ، المتّحد مع الأجزاء ، من جهة أنه هل الأجزاء عشرة مثلاً أو أقل ، و إذا دار الأمر بین الأقل و الأکثر ، فالأصل هو البراءة عن الأکثر .

فظهر جریان البراءة علی کلا القولین ، فلا ثمرة للبحث .

جواب المحقق النائینی

و أجاب المحقق النائینی بأنّ الأجزاء لا تتّصف بالصحّة إلّا إذا تعنونت بعنوانٍ من ناحیة العلّة أو من ناحیة المعلول ، فالصحیح من الصّلاة ما تکون ناهیة عن الفحشاء و المنکر ، أو ما یکون مسقطاً للإعادة و القضاء ، أو مسقطاً للأمر ، فمسقطیّة الإعادة و القضاء عنوان و لونٌ من ناحیة معلول الحکم ، لکون ذلک فرعاً للامتثال ، و النهی عن الفحشاء و المنکر لون و عنوان من ناحیة علّة الحکم ، لأنه الغرض من التکلیف ، وعلیه ، فعندنا علم بتعلّق التکلیف ب « ما هو الناهی عن الفحشاء » و « ما هو المسقط للأمر » و مع الشک فی تحقّق العنوان بدون ما شک فی جزئیّته یکون الشک فی المحصّل ، و هو مجری قاعدة الاشتغال .

هذا بناءً علی الوضع لخصوص الصحیح .

و أما بناءً علی الوضع للأعم ، فلیس لمتعلَّق التکلیف عنوان و لونٌ من ناحیة العلّة و لا المعلول ، فعلی القول بالانحلال فی دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الارتباطیین یکون الأصل الجاری هو البراءة .

ص:272

فالثمرة بین القولین محقّقة ، و لا یجتمع القول بالوضع للصحیح مع القول بالبراءة .

مناقشة المحقق الأصفهانی

و ناقشه المحقق الأصفهانی بأنّ العنوان المذکور لیس قیداً لمتعلَّق التکلیف ، بل هو کاشف عنه و مشیر إلیه ، و لمّا کان المکلَّف به متّحداً مع الأجزاء ، و هی مرددة بین الأقل و الأکثر الارتباطیین ، فالأصل هو البراءة ، فلا ثمرة ، و الوجه فی عدم کون عنوان « الناهی عن الفحشاء » قیداً للمعنی المتعلَّق به التکلیف هو : إن النهی عن الفحشاء الحاصل من قصد الأمر فرعٌ للأمر ، و الأمر فرع للمعنی ، فکون النهی عن الفحشاء قیداً للمعنی و الموضوع له اللّفظ مستحیل .

جواب الاستاذ عن هذه المناقشة

و أورد علیه شیخنا الاستاذ دام ظلّه بأنه لا ریب فی أنّ الناهی عن الفحشاء لیس هو المأمور به کما قال المحقق الأصفهانی ، و لکنه عنوانٌ مبیّن للمأمور به ، و مع تبیّنه و زوال الشک عنه ینتفی مناط جریان البراءة ، بل یکون المورد مجری قاعدة الاشتغال ، إذ مع کون المأمور به مبیَّناً لو شُک فی تحقّق الامتثال بإتیان الصّلاة بدون الخصوصیّة المشکوک فیها ، یحکم العقل بلزوم إتیان الخصوصیّة تحصیلاً للیقین بالفراغ بعد الیقین بالاشتغال .

و هو الجواب عن مناقشةٍ اخری

و ما ذکره هو الجواب عن مناقشةٍ اخری و حاصلها : أنه لو کان الصحیحی یرید الصحیح الفعلی فکلام المیرزا تام ، لکنّ الموضوع له لیس الصحیح الفعلی ، و إلّا لکان قصد القربة دخیلاً فی الصلاة ، و کذا عدم المزاحم - بناءً

ص:273

علی بطلان الترتّب ، لعدم تحقّق الصحیح الفعلی بدون قصد القربة و مع وجود المزاحم - بل القائلون بالوضع للصحیح یریدون التام الأجزاء و الشرائط التی فی مرتبة قبل الأمر ، و هذه الحقیقة یکون فیها الأقل و الأکثر ، و تقبل تعلّق الیقین و الشک الذی هو موضوع أصالة البراءة .

أقول :

لقد وافق دام ظلّه علی هذه المناقشة ، فی الدورة اللّاحقة ، و لأجلها ذهب إلی انتفاء الثمرة ، و إجراء البراءة علی القولین ، أمّا فی الدورة السّابقة فقد أجاب عنها بما ذکر ، و حاصله : إنّا قد عرفنا المأمور به نحو معرفةٍ من ناحیة عنوان « الناهی عن الفحشاء » و « المسقط للأمر » و « للإعادة و القضاء » فکان علینا تحصیل المعنون بهذا العنوان ، فهل یحصَّل بإتیان الفاقد للشیء المشکوک جزئیّته أو لا ؟ فمقتضی القاعدة هو الاشتغال علی القول بالصحیح .

و لعلّ هذا هو الأظهر ، و اللّٰه العالم .

مناقشة الشیخ الحائری مع المحقق الخراسانی

و تعرّض شیخنا لإشکال الشیخ الحائری علی صاحب ( الکفایة ) ، و هو : إنّ الذی تعلَّق به التکلیف و دخل تحت الأمر لیس الصّلاة المرکَّب من التکبیرة و الرکوع و السجود و غیرها ، لأن المرکب ینقسم إلی الصحیح و الفاسد ، فلا یستقیم قول الصحیحی کالمحقق الخراسانی ، بل إن الصلاة معنی بسیط ، و هو غیر التکبیر و الرکوع و السجود ، إلّا أنه متّحد معها وجوداً ، و هذا المعنی البسیط هو الداخل تحت الأمر ، و إذا کان بسیطاً کما تقدَّم فلا یعقل فیه الأقل و الأکثر ، فلا مناص علی القول بالوضع للصحیح من الالتزام بالاشتغال .

ص:274

و جوابها

و أجاب دام ظلّه عن ذلک : بأن من البسیط ما هو آنی الوجود ، و هذا لا یعقل فیه الأقل و الأکثر ، و المتیقَّن و المشکوک ، کما ذکر . و من البسیط ما هو تدریجی الوجود ، و هذا هو مراد صاحب ( الکفایة ) ، و هو متّحد مع الأجزاء من التکبیر و غیره ، یتحقق بالتدریج مع کلّ واحدٍ من الأجزاء ، نظیر الخط ، فإنّه و إنْ کان خطّاً واحداً لکنه ممتد بسبب الوجود ، وعلیه یمکن تصویر الأقل و الأکثر ، بأنْ یقال مثلاً : قد علم بتعلّق التکلیف من التکبیرة إلی السجود ، و ما زاد عن ذلک فمشکوک فیه .

ملخّص المختار :

و تلخص : اختلاف نظر الاستاذ فی الدورتین ، و الأوفق بالنظر هو ما ذهب إلیه فی الدورة السابقة من وجود الثمرة .

تتمّةٌ

إنه قد وقع الکلام فی خصوص مسلک الشیخ و المحقق النائینی من أن الموضوع له اسم « الصّلاة » هو صلاة العامد العالم المختار ، و أنّ الأفراد الاخری من الصلاة إنّما هی أبدالٌ عن المسمّی الموضوع له ، فربما یقال : بأنّ مقتضی القاعدة هو الاشتغال ، لأنّا نشک فی بدلیّة المرتبة الناقصة عن تلک المرتبة التی هی الموضوع له ، و الأصل عدم البدلیّة ، فلا بدّ من الإتیان بالجزء المشکوک فیه .

و أجاب المحقق العراقی : بأن الأصل هو البراءة عن اعتبار الجزء المشکوک فی جزئیّته ، فالعمل الفاقد له یکون بدلاً عن المرتبة الکاملة ، لأنّ الشک فی البدلیّة کان مسبّباً عن الشک فی الاعتبار ، فإذا جری الأصل فی

ص:275

السّبب ارتفع الشک فی المسبّب .

فقال شیخنا دام ظلّه : بأنّ لقاعدة تقدیم الشک السببی علی المسببی رکنین ، أحدهما : وجود السببیة و المسببیّة بینهما ، و الآخر ، أن یکون مجری الأصل من الآثار الشرعیّة للسبب .

إنه لا إشکال فی المقام من جهة الرکن الأوّل ، إذ مع الشک فی وجوب الجزء المشکوک الجزئیة یتمسّک بالبراءة ، و یتقدم هذا الأصل علی أصالة عدم البدلیّة فی طرف المسبَّب ، إلّا أن الإشکال فی الرکن الثانی ، من جهة أن صیرورة هذا العمل المأتی به بدلاً عن العمل الکامل هو من اللوازم العقلیّة لهذا المشکوک و لیس من آثاره الشرعیّة ، لأنه لمّا کان المشکوک فیه غیر واجب ، کان لازم عدم وجوبه صیرورة العمل الفاقد له بدلاً عن المرتبة الکاملة ، و هذا لازم عقلی لمجری الأصل ، لأن مجری الأصل کما تقدم عدم الوجوب ، و بدلیّة العمل الفاقد عن التام لازم عدم الوجوب ، إذ لیس فی شیء من الأدلّة الشرعیّة عنوان « البدل » حتی یکون من الآثار الشرعیّة ... و إذا کان من الآثار العقلیّة لا الشرعیّة فإن إثبات هذا العنوان بالبراءة من وجوب الجزء المشکوک فیه أصل مثبت .

فهذا هو الإشکال علی المحقق العراقی .

و الاشتغال هو المحکّم علی مسلک الشیخ و المحقق النائینی .

ص:276

2 - الإطلاق و الإجمال

و « الإطلاق » تارةً مقامی حالی و اخری لفظی .

مناط الإطلاق المقامی هو السکوت و السکون ، لأنّ المقام إذا اقتضی بیان المولی جمیع المطلوب من العبد ، فسکوته عن غیر ما بیَّن کاشف عن عدم مطلوبیّة ذلک الغیر ، و کذا إذا کان فی مقام التعلیم عملاً - کأخبار الوضوءات البیانیّة - فإنّه عند ما انتهی من العمل انکشف عدم جزئیّة ما لم یأت به فیه .

و کثیراً ما یتمسّک بالإطلاق المقامی ، کما فی موارد القیود المأخوذة بعد تعلّق الأمر ، مثل اعتبار قصد القربة فی العمل .

و مناط الإطلاق اللفظی توفّر ثلاثة امور - علی المشهور - :

1 - کون الحکم وارداً علی المقسم ، و کون المفهوم صادقاً فی المورد مع إحراز الصّدق .

2 - کون المتکلّم فی مقام البیان لا التشریع أو الإجمال و الإهمال .

3 - عدم نصب القرینة علی التقیید ، و کذا عدم وجود ما یصلح للصارفیّة .

و اعتبر المحقق الخراسانی مقدّمةً رابعة هی عدم وجود القدر المتیقّن فی مقام التخاطب .

ص:277

الکلام حول الثمرة

قالوا : إنه بناءً علی القول بالصحیح لا یمکن التمسّک بالإطلاق ، لأنه فی جمیع موارد الشک فی اعتبار شیء و دخله فی المسمّی الموضوع له اللَّفظ ، لا یمکن إحراز صدق المفهوم علی الفرد الفاقد لِما شکّ فی اعتباره ، فلا یجوز التمسّک بالإطلاق ، بل یلزم الإجمال . و أمّا بناءً علی الأعم ، فالمفروض صدق عنوان الصّلاة علی فاقد السّورة مثلاً ، فالصدق محرز ، فلو شکّ فی اعتبار شیء زائداً علی ما علم باعتباره تمسّک بالإطلاق لنفی دخل الخصوصیّة المشکوک فیها .

الاشکالات

و قد اشکل علی هذه الثمرة بوجوه :

الوجه الأول

قال الشیخ ما ملخّصه : إنّه لا یمکن التمسّک بإطلاقات الکتاب و السنّة ، لأنّها بصورةٍ عامّة فی مقام التشریع لا البیان ، فالمقدمة الثانیة منتفیة ، فلا ثمرة للبحث فی مسائل العبادات ، کقوله تعالی : «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً » (1)إذ الآیة فی مقام أصل التشریع ، و کذا ما اشتمل علی بعض الآثار کقوله تعالیٰ : «إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنکَرِ » (2)إذ لا بیان فی الآیة الکریمة لحقیقة الصلاة .

الجواب الأول عن الإشکال

و اجیب عن هذا الإشکال أوّلاً : بتمامیة الإطلاق فی قوله تعالی :

ص:278


1- (1)) سورة آل عمران : 97 .
2- (2)) سورة العنکبوت : 45 .

« یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِن قَبْلِکُمْ » (1)لأن الصیام عبارة عن الإمساک عن الأکل و الشرب ، و قد وقع فی الآیة موضوعاً للحکم بالوجوب ، فکلّ ما شککنا فی دخله فی الموضوع زائداً علی طبیعة الصّیام ندفعه بإطلاق الآیة بناءً علی القول بالأعم ، أمّا علی القول بالصحیح فلا إطلاق ، لرجوع الشک إلی أصل تحقّق الصیام بدون الشیء المشکوک فیه .

مناقشة الاستاذ

و أجاب شیخنا عن ذلک بوجوه :

أوّلاً : إن الصیام فی اللّغة کما عن بعضهم هو مطلق الإمساک ، فعن أبی عبیدة أنّ الإمساک عن السیر صیام ، و فی الکتاب «إِنِّی نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُکَلِّمَ الْیَوْمَ إِنسِیّاً » (2)فلا اختصاص له بالأکل و الشرب .

و ثانیاً : إن الآیة فی مقام بیان أن وجوب الصیام لیس مختصّاً بهذه الاُمة ، و أنّه کان فی الشرائع السابقة ، فلیس فی مقام بیان حکم الصیام فی هذه الشریعة کی یتمسّک بإطلاقها متی شک فی دخل شیء .

و ثالثاً : إن التمسّک بالإطلاق موقوف علی إحراز کون المتکلّم فی مقام بیان جمیع المراد ، و إلّا فلا یجوز ، و فی الصیام نری ورود قیود کثیرةٍ ، لأنه إمساک عن تسعة امور لا عن الأکل و الشرب فقط ، و إذا کان للموضوع هذه الکثرة من التقییدات المبیّنة فی مجالس لاحقة و بأدلّة اخری ، کیف یصح القول بکونه فی مقام البیان فی قوله : «کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ » (3)؟

ص:279


1- (1)) سورة البقرة : 183 .
2- (2)) سورة مریم : 26 .
3- (3)) سورة البقرة : 183 .
الجواب الثانی عن الإشکال

و اجیب عن اشکال الشیخ ثانیاً : بأنا فی ترتّب الثمرة لا نرید فعلیّتها ، بل یکفی إمکان ترتّبها ، و هذا حاصل فی المقام .

و فیه : کیف یکفی وجود المقتضی لترتّبها و الحال أنه دائماً مبتلی بالمانع ؟ هذا علی فرض تمامیة المقتضی ... إنه لا بدّ من تحقّق الثمرة فی الفقه و لو فی موردٍ واحد .

التحقیق فی المقام

و التحقیق أن یقال : إنه و إنْ کان قسم من الآیات و الروایات فی مقام التشریع و بصدد التقنین ، لکنّ فی الکتاب ما هو فی مقام البیان ، و لذا یمکن التمسّک بإطلاقه ، کآیة الوضوء : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ » (1)... مضافاً إلی تمسّک الإمام علیه السلام بها للتفصیل بین المسح و الغسل بمجیء « الباء » فی « الرءوس » (2) .

و کآیة نفی الحرج و العسر ، حیث تمسّک بها الإمام علیه السلام فی روایة عبد الأعلی مولی آل سام فی حکم الجبیرة (3) .

و کذلک الحال فی بعض آیات المعاملات ، فقد استدل الإمام علیه السلام بقوله تعالی : «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ » لصحّة بیع المضطرّ ، کما فی صحیحة عمر بن یزید (4) . و لو لا ذلک لقلنا بأن الآیة فی مقام المقابلة بین البیع و الربا ، و أنه حلال و الربا حرام فلا إطلاق لها ، کما نبّه علیه المحقق الأصفهانی .

ص:280


1- (1)) سورة المائدة : 6 .
2- (2)) وسائل الشیعة 413/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام ، الباب 23 من أبواب الوضوء ، رقم : 1 .
3- (3)) وسائل الشیعة 464/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام ، الباب 39 من أبواب الوضوء ، رقم : 5 .
4- (4)) وسائل الشیعة 446/17 ، الباب 40 من أبواب آداب التجارة ، رقم : 1 .

و استدل الإمام علیه السلام لعدم صحّة طلاق العبد بقوله تعالی : «ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوکاً لاَّ یَقْدِرُ عَلَی شَیْءٍ » (1).

فظهر أنّ إشکال الشیخ غیر وارد علی إطلاقه ، ففی الکتاب آیات یمکن التمسّک بإطلاقها ، سواء فی العبادات أو المعاملات ، و أنه لا وجه لتخصیص الإشکال بالعبادات .

علی أنه ینقض علیه بکثرة تمسّکه بإطلاقات الکتاب فی کتبه الفقهیّة ، فقد تمسّک فی ( کتاب الطهارة ) (2) فی مسألة الوضوء الاضطراری بقوله تعالی « إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَکُمْ » لإعادة الوضوء بعد رفع الاضطرار .

و تمسّک فی ( کتاب الصلاة ) (3) فی مسألة تعذّر الإضطجاع علی الطرف الأیمن و أنّه فی هذه الحالة یضطجع علی الطرف الأیسر أو یستلقی ؟ تمسّک بقوله تعالی : «الَّذِینَ یَذْکُرُونَ اللّهَ قِیَاماً وَقُعُوداً وَعَلَیَ جُنُوبِهِمْ » (4).

و هکذا فی غیر هذه الموارد .

و تلخّص : إن فی آیات الکتاب ما هو فی مقام البیان .

و فی السنّة أیضاً کذلک ، فمن السنّة ما جاء فی بدء البعثة ، فهذا القسم من التشریع ، أمّا ما صدر فی أواخره ففی مقام البیان .

و مِمّا ذکرنا یظهر أنْ لا حاجة إلی ما ذکره المحقق الأصفهانی من کفایة ثبوت کون آیةٍ واحدةٍ فی مقام البیان عند مجتهدٍ واحدٍ ، فإنّ هذا الکلام و إنْ کان صحیحاً ، لکن لا تصل النوبة إلیه ، بعد وضوح کون آیاتٍ فی مقام البیان ،

ص:281


1- (1)) وسائل الشیعة 99/22 الباب 43 من أبواب مقدمات الطلاق رقم 2 و الآیة فی سورة النحل : 75 .
2- (2)) کتاب الطهارة للشیخ الأعظم 293/2 ط مجمع الفکر الإسلامی .
3- (3)) کتاب الصلاة للشیخ الأعظم 508/1 ط مجمع الفکر الإسلامی .
4- (4)) سورة آل عمران : 191 .

و أن الأئمة تمسّکوا بها ، و کذا الفقهاء من الشیخ الطوسی إلی الشیخ الأنصاری .

الوجه الثانی

إن الإطلاق و التقیید فی العبادات إنما یلحظان بالنسبة إلی المأمور به و متعلّق الأمر ، لا بالقیاس إلی المسمّی ، ضرورة أن الإطلاق أو التقیید فی کلام الشارع أو غیره إنّما یکون بالقیاس إلی مراده و أنه مطلق أو مقیّد ، لا إلی ما هو أجنبی عنه ، و علی هذا ، فلا فرق بین القولین ، فکما أن الصحیحی لا یمکنه التمسّک بالإطلاق فکذلک الأعمّی ، أمّا الصحیحی فلعدم إحرازه الصّدق علی الفاقد لِما شُک فی اعتباره جزءاً أو شرطاً ، لاحتمال دخله فی المسمّی ، و أمّا الأعمّی فلأجل أنه یعلم بثبوت تقیید المسمّی بالصحة و أنها مأخوذة فی متعلَّق الأمر ، فإن المأمور به حصّة خاصّة من المسمی ، و هی الحصّة الصحیحة ، ضرورة أن الشارع لا یأمر بالحصّة الفاسدة و لا بما هو الجامع بین الصحیح و الفاسد ، وعلیه ، فلا یمکن التمسّک بالإطلاق عند الشکّ فی جزئیّة شیء أو شرطیّته ، للشک حینئذٍ فی صدق المأمور به علی الفاقد للشیء المشکوک فیه کما هو واضح ، فلا فرق بین أنْ تکون الصحّة مأخوذةً فی المسمّیٰ و أن تکون مأخوذةً فی المأمور به ، فعلی کلا التقدیرین لا یمکن التمسّک بالإطلاق ، غایة الأمر ، إن الشک فی الصدق علی الصحیح هو من جهة أخذ الصحّة فی المسمّی ، و علی الأعمّ هو من جهة العلم بتقیید المأمور به بالصحّة لا محالة .

و بعبارة موجزة : إنه بناءً علی الأعم یمکن التمسّک بالإطلاق من حیث الوضع ، و أمّا من حیث الأمر فلا یمکن ، و یکون الکلام مجملاً .

الجواب

و فیه : إنه بناءً علی الأعم ، یکون الموضوع له و المسمّی هو الجامع بین

ص:282

الصحیح و الفاسد ، و من الإطلاق و عدم التقیید لمتعلَّق الأمر بخصوص المشکوک فیه نستکشف أنّ ما تعلَّق به الطلب هو تمام المأمور به ، فنفس الإطلاق رافع للشک فی دخل المشکوک فیه فی متعلَّق الأمر ، و لو لم یرفع الإطلاق هذا الشک لکان الإشکال وارداً ، فالمسمّی و الموضوع له - بناءً علی الأعم - معلوم و المأمور به مجهول ، و متی شکّ فی اعتبار أمرٍ یتمسّک بإطلاق متعلَّق الطلب لإثبات عدم دخل المشکوک فیه فی المأمور به ، و لازم هذا هو أنّ ما تعلَّق به الطلب تمام المأمور به ، و من المعلوم حجیّة مثبتات الاصول اللفظیّة ... و إذا ثبت هذا کلّه بأصالة الإطلاق ، فإنه لا یعامل معاملة المجمل ، بخلاف القول بالصحیح ، فإنه بناءً علیه یکون الشک فی ذلک موجباً للشک فی تحقّق المسمّی ، و لا یوجد عندنا دلیل یحدّد ما هو المسمّی ، و مع الشک فی تحقّقه لا یمکن التمسّک بالإطلاق ، بخلاف القول بالأعم فإنه ممکن ، و بین الأمرین بون بعید .

الوجه الثالث

إنه لا حاجة إلی التمسّک بالإطلاق علی کلا القولین ، بعد أنْ کانت صحیحة حمّاد مبیّنةً لجمیع ما یعتبر فی الصلاة ، فکلّما شک فی اعتبار شیء زائد تمسّکنا بها و زال الشک ، فلا ثمرة للبحث .

الجواب

و اجیب : بأن الإطلاق فی صحیحة حماد مقامی ، و البحث فی الإطلاق اللّفظی .

و فیه : إنه مع فرض وجود الإطلاق المقامی ، لا حاجة إلی تحصیل الإطلاق اللفظی بهذا البحث ، إلّا لأجل ضمّ دلیلٍ إلی دلیل .

ص:283

و الحق فی الجواب :

أوّلاً : إن الصحیحة مختصة بالصلاة ، و بحثنا عام .

و ثانیاً : لا ریب فی اشتمال الصحیحة علی مندوبات إلی جنب واجبات الصلاة ، فلو وقع الشک فی وجوب شیء ممّا اشتملت علیه أو استحبابه ، لم یجز التمسّک بإطلاق الصحیحة لدفع وجوبه ، أمّا إذا تمّ بحث الصحیح و الأعم تمسّکنا بالإطلاق اللّفظی و أسقطنا قسطاً ممّا اشتملت علیه عن الوجوب ، و من هنا أمکن لنا رفع الید عن وجوب الأذکار و الأدعیة التی أتیٰ بها الإمام فی الصحیحة ، و إلّا فلو کنا نحن و الصحیحة لقلنا بوجوبها کذلک .

و علی الجملة ، إنه لو کنّا نحن و الصحیحة لوجب القول بوجوب جمیع ما جاء فیها ، لکنّ التمسّک بالإطلاق بناءً علی الأعم هو طریق القول باستحباب الأدعیة و الأذکار و غیرها من المستحبات المشتمل علیها الصحیحة .

هل بحث الثمرة مسألة اصولیة ؟

لا یخفی أن الملاک فی کون مسألةٍ اصولیّة أمران :

1 - وقوع نتیجتها فی طریق الاستنباط ، بأنْ یکون الحکم الفقهی الکلّی نسبته إلیها نسبة المستنبَط إلیٰ المستنبط منه .

2 - استنباط الحکم الشرعی من نتیجتها ، من دون حاجةٍ إلی مقدمة اخری اصولیّة أو غیر اصولیّة .

و من هنا کان المشهور المعروف کون هذا البحث من مبادئ علم الاصول لا من مسائله ، لأنّ نتیجة البحث فی الثمرة الاولی أنه علی الصحیح تتحقّق صغری قاعدة الاشتغال ، و علی الأعم تتحقّق صغری البراءة .

لکن هذه النتیجة لا تحصل إلّا بعد تمامیّة بحث الانحلال و عدمه ، فی

ص:284

دوران الأمر بین الأقل و الأکثر فی متعلَّق التکلیف .

و کذا الکلام فی الثمرة الثانیة ، فإنّها لا تترتّب إلّا بعد ضمّ مقدّمة حجیّة أصالة الإطلاق التی هی مسألة اصولیّة .

إذن ، لیس البحث عن الثمرة بحثاً عن مسألة اصولیّة ، للاحتیاج إلی ضمّ مقدمة اخری ... نظیر قولنا « فلان ثقة » فإنّه لا ثمرة له إلّا بعد إثبات حجیّة خبر الثقة .

هذا وجه القول المشهور .

و لکنّ التحقیق : أنه إنْ کانت المقدمة الاخری مسلَّمةً لا حاجة فی إثباتها إلی تجشّم مئونة البحث و الإثبات ، فتوقّفها علیها لا یخرجها عن کونها اصولیةً ، و الثمرة الثانیة من هذا القبیل بلا إشکال ، لأنه بحث عن احدی صغریات الظهور ، و حجیّة أصالة الظهور مسلَّمة عند جمیع العقلاء من دون حاجةٍ إلی الإثبات ، فالمقام نظیر البحث عن ظهور صیغة الأمر فی الوجوب ، فإنها مسألة اصولیّة مع أن الحکم الشرعی لا یستفاد منها إلّا بعد انضمام أن « الظاهر حجّة » إلیها ، فکما أن هذه المسألة اصولیّة ، کذلک بحثنا عن الثمرة .

علی أن غرض الاصولی هو الاقتدار علی الاستنباط ، و کلّ مسألةٍ لم یبحث عنها فی غیر علم الاصول ، و توقّف علیها الاستنباط ، فهی مسألة اصولیّة ، و ما نحن فیه من هذا القبیل .

الموضوع له لفظ الصلاة

قد ذکر المحقق الخراسانی أربعة أدلّة للوضع للصحیح هی : التبادر ، عدم صحّة السّلب ، و الروایات مثل « الصوم جُنّة من النار » (1) ، و طریقة العقلاء

ص:285


1- (1)) وسائل الشیعة 395/10 ، الباب 1 من أبواب الصوم المندوب ، رقم : 1 .

فی التسمیة .

و التحقیق أن لا شیء منها بصحیح .

و علی الجملة ، فإنّه لم یتم تصویر الجامع علی القول بالصحیح .

و الممکن ثبوتاً هو الوضع للأعم ، و الدلیل علیه فی مقام الإثبات هو تبادر الجامع بین الصحیح و الفاسد من لفظ « الصلاة » ، فقول الشیخ و المیرزا لا یمکن المساعدة علیه ، و إلّا لزم حمل جمیع إطلاقات الکتاب و السنّة علی المجاز .

فالتبادر دلیل علی الوضع للأعم عند المتشرّعة ، و عند الشارع ، فإنْ قوله علیه الصّلاة و السلام : « لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب » (1) نفی للمعنی ادّعاءً عند العلماء و لیس حقیقةً ، و هذا معناه کون لفظ الصّلاة صادقاً علی الحصّة الفاسدة حقیقةً ، و إلّا لما أمکن نفی کونها صلاةً ادّعاء .

فالموضوع له لفظ « الصّلاة » أعم من الصحیح و الفاسد .

و کما لم یتم مختار الشیخ و المیرزا ، کذلک لم یتم مختار المحقق القمی و من تبعه من أنّ الموضوع له هو الأرکان لا بشرط ...

و قد کان أسلم المبانی مختار السید البروجردی ...

لکن المهمّ هو الرجوع إلی اللّغة و إطلاقات الکتاب و السنّة کما أشرنا .

و المستفاد من کلمات اللّغویین أن « الصلاة » قد اطلقت بمعنیین ، أحدهما : الدعاء و الآخر : التعظیم ، حتی قیل فی : صلیت الحدید بالنار ، انّ المعنی تلیینه ، أی حصول اللینة و الخشوع فی الحدید .

لکن محلّ الکلام هو مادّة « ص ، ل ، و » لا مادّة « ص ، ل ، و هوانه»

ص:286


1- (1)) غوالی اللآلی 196/1 ، رقم : 2 .

فالصّلاة تارة بمعنی الدعاء ، و اخری بمعنی التعظیم . هذا لغةً .

و فی الشّرع یمکن أن یکون هو المعنی ، و أمّا الأجزاء ، فإنّما اعتبرها فی متعلَّق الأمر ، و کذلک لفظ « الصّیام » و « الحج » و غیرهما ، لکنّ المشکلة فی لفظ « الصّلاة » ما جاء فی بعض الروایات من جعل « الدعاء » جزءاً من أجزائها ، فهذا یمنعنا من القول بأنّ الموضوع له شرعاً هو الدعاء أیضاً ، و لو لا ذلک ، فإن إطلاقات الکتاب أیضاً تناسب أن یکون المعنی هو التخشّع و الدعاء کما فی اللّغة ، و أنّ هذا اللّفظ فی الأدیان السابقة أیضاً کان بهذا المعنی .

و قد وقع البحث بین الفقهاء فی حقیقة صلاة المیّت ، و الذی یفیده النظر الدقیق فی الأخبار أنها صلاة حقیقةً ، و من المعلوم اشتمالها علی الدعاء و التخشّع ، و عدم وجود الرکوع و السجود فیها ، ففی الصحیحة : « إنها لیست بصلاةِ رکوعٍ و سجود » (1) فهی صلاةٌ لکن لا صلاة رکوع و سجود .

و من هذه الأخبار أیضاً یظهر أن ذات الأرکان قسمٌ من الصّلاة ، لا أن لفظ الصّلاة موضوع لها فقط ... نعم ، هی معتبرةٌ فی متعلَّق الأمر .

و لو قیل : إنَّ صحیحة الحلبی : « الصلاة ثلاث أثلاث : ثلث طهور ، و ثلث رکوع ، و ثلث سجود » (2) ظاهرة فی دخل الرکوع و السجود فی المسمّیٰ الموضوع له لفظ الصّلاة .

قلنا : فقوله علیه السلام « ثلث طهور » مانعٌ من هذا الاستظهار ، للقطع بعدم کون الطّهور من أجزاء الصّلاة .

فحقیقة الصلاة - بالنظر إلی إطلاقات الکتاب و السنّة - هو التعظیم

ص:287


1- (1)) وسائل الشیعة 90/3 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام ، الباب 8 من أبواب صلاة الجنازة ، رقم : 1 .
2- (2)) وسائل الشیعة 310/6 ، الباب 9 من أبواب الرکوع و السجود ، رقم : 1 .

الجوارحی قولاً و فعلاً ، و حدّها صلاة الخوف .

و لا ینافی ذلک صدق عنوان الصلاة مع وجود ما یزید علی التعظیم و التخشّع ، فإنّ من الماهیّات ما هذا حاله ، کالعدد ، فإنّه یصدق علی الواحد ، فإنْ زاد و صار اثنین صدق أیضاً بلا فرق ، و کذا « الجمع » ، فإنه مفهوم یصدق علی المراتب المختلفة ... و لا یلزم المجاز .

و قد سمّیت صلاة الخوف باسم « الصلاة » فی جمیع الکتب الفقهیّة ، و لا یصح سلب عنوان « الصلاة » عنها ، ممّا یدل علی کونه حقیقةً فیها .

ص:288

الکلام فی ألفاظ المعاملات و التمسّک بالإطلاق فیها
اشارة

و هو فی مقامین

المقام الأول

هل یجری البحث المذکور فی ألفاظ المعاملات کذلک ؟

هل إن ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب أو للمسبّبات ؟

فی هذا المقام أقوال :

1 - قال المشهور : بأنّ نسبة لفظ « بعت » إنشاءً إلی المنشأ ، هی نسبة السبب إلی المسبّب ، یعنی : إن صاحب الإنشاء یرید السبب ، ثم یترتب المسبّب علی السبب ، فالإرادة غیر متعلّقة إلّا بالسبب ، و ترتب المسبّب علیه ضروری کترتّب المسبّبات علی الأسباب التکوینیّة .

و لا فرق فی السببیّة بین قول بعت ، و بین المعاطاة .

2 - و قال المیرزا النائینی : بأنّ النسبة هی نسبة الآلة إلی ذی الآلة ، لا السبب إلی المسبب ، لأن ما یتعلَّق به القصد أوّلاً و بالذات هو معنی التملیک و التملّک ، و یکون اللّفظ أو الفعل آلةً لتحقّقه و حصوله .

3 - و قال السید الخوئی : بأن النسبة هی نسبة المبرِز إلی المبرَز ، فالمعانی المقصودة فی المعاملات اعتبارات مبرَزة ، و من الاعتبار و إبرازه ینتزع عنوان المعاملة ، ففی البیع مثلاً یعتبر البائع ملکیّة المثمن للمشتری بإزاء الثمن

ص:289

المعیَّن ، ثم یبرز الاعتبار بلفظ « بعت » و هکذا .

هذا ، و لا یخفی أنّ صیغة البیع - مثلاً - لیست البیع ، و هی مرکبةٌ من الإیجاب و القبول ، فالسبب أو الآلة أو المبرِز - علی جمیع المبانی - مرکّب ، لکنّ ما یحصل بالصّیغة - و هو المسبب ، أو ذو الآلة ، أو الاعتبار المبرز - أمر بسیط ، و هو البیع ، و کذا الطلاق ، و النکاح و غیرهما من عناوین المعاملات ، فإنها بسائط ، و أمر البسیط یدور بین الوجود و العدم .

و لا یخفی أیضاً : أن المراد من الصحیح هنا هو الأعم من التامّ الأجزاء و الشرائط و مما یترتّب علیه الأثر شرعاً ، فلیس المراد منه خصوص التامّ الأجزاء و الشرائط ، کما أنّ المراد من الفاسد هو الأعم ممّا لیس تامّاً من حیث الأجزاء و الشرائط .

جریان البحث علی جمیع الأقوال

فنقول فی القول الأوّل ، بأن المسبَّبات فی العقود و الإیقاعات من صیغها الخاصّة کالبیع و الطلاق امور اعتباریّة ، و هذا الاعتبار لا یخلو ، إمّا أن یکون اعتبار نفس المنشئ للصّیغة ، أو یکون اعتبار العقلاء ، أو یکون اعتبار الشارع ، و هذه الاعتبارات قد تجتمع و قد لا تجتمع ، فلو باع ما لا مالیّة له عند العقلاء ، فقد تحقّق البیع فی اعتباره ، دون اعتبار العقلاء و الشارع ، و لو باع بیعاً ربویّاً تحقّق البیع فی اعتباره و اعتبار العقلاء دون الشارع ، و قد تجتمع الاعتبارات الثلاثة ، کما فی المعاملة الجامعة للشرائط المؤثرة شرعاً .

فإن قلنا : بأن البیع اسم للمسبّب فی اعتبار المنشئ فقط ، جری فیه بحث الصحیح و الأعم ، لما ذکرنا فی معنی الصحّة و الفساد ، إذ بناءً علیه یکون صحیحاً فیما لو رتّب العقلاء و الشارع الأثر علی اعتبار المنشئ ، و یکون فاسداً

ص:290

فیما إذا لم یرتّبوا الأثر .

و کذا إن قلنا : بأنه اسم للمسبّب فی اعتبار العقلاء ، فإن ترتّب الأثر موقوف علی اعتبار الشارع ، فیکون صحیحاً ، و إلّا فهو فاسد .

فیکون المسبب - و هو البیع - إمّا باعتبار المنشئ و إمّا باعتبار العقلاء ، و أمّا باعتبار الشارع فباطلٌ ، لأن الشارع شأنه شأن الإمضاء ، و لا تأسیس له فی المعاملات .

لکنّ التحقیق أنه باعتبار المنشئ فقط ، لأنه فعله ، و هو البائع ، أو الموجر ، أو المطلِّق ... و هکذا .

و تلخّص : إن البحث علی مبنی المشهور جارٍ فی ألفاظ المعاملات .

و هو أیضاً جارٍ علی القول الثانی ، و هو مبنی المیرزا ، لأن نسبة « بعت » إلی ما یتحقق به - و هو « البیع » - نسبة الآلة إلی ذی الآلة ، وعلیه ، فالمتحقّق بتلک النسبة إمّا یکون فی اعتبار المنشئ للصّیغة و إمّا یکون فی اعتبار العقلاء ، أمّا اعتبار الشارع فلا یوجد ، و کلّ منهما یتّصف بالصحّة و الفساد .

و کذلک الحال علی القول الثالث ، و هو مبنی السید الخوئی ، فإنّه یتّصف بالصحّة و الفساد أیضاً ، لأن ذلک الأمر یکون قائماً باعتبار المنشئ قطعاً ، لأن لفظ « بعت » یصیر بناءً علی ذلک مبرزاً لعمله النفسانی ، و هو الذی یعتبر الزوجیّة بین هند و زید ، ثم یبرز اعتباره بقوله : « زوّجت » ... و هکذا ، ثم هذا الاعتبار یکون نافذاً عند العقلاء تارةً و اخری غیر نافذ ، فإن کان نافذاً عدّ صحیحاً عقلائیّاً ، ثم الشارع تارةً ینفّذه فیکون صحیحاً شرعیّاً ، و إلّا ففاسداً .

فظهر : أنّ البحث یجری فی ألفاظ المعاملات علی جمیع المبانی .

ص:291

المقام الثانی

فی عدم جواز التمسّک بالإطلاق فی ألفاظ المعاملات حتی علی القول بالوضع للأعم .

و ذلک ، لأن الإطلاقات لو کانت إمضاءً للأسباب ، أمکن التمسّک بها ، لأنّ الشارع لمّا أمضی سبب حصول الملکیّة أو الزوجیّة مثلاً ، و لم یقیّده بقیدٍ ، فمقتضی الإطلاق نفی القید لو شکّ فی اعتباره ، لکنّ الأدلّة ناظرة إلی إمضاء المسبّبات دون الأسباب .

إذن ، لا مجال للتمسّک بالإطلاق فی ألفاظ المعاملات ، لکون الأدلّة ناظرة إلی إمضاء المسبّبات لا الأسباب . و توضیح ذلک : إن الأدلّة لسانها لا یوافق إمضاء الأسباب ، فلا معنی لأن یقال فی قوله تعالی «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » (1)بأنه أمر بالوفاء بصیغة « بعت » مثلاً ، بل الوفاء یناسب ما تحقّق بالصیغة و هو المسبب ، و قوله صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم « النکاح سنّتی » لیس معناه إلّا تلک العلقة الحاصلة بقوله : « أنکحت » .

و إذا کانت الأدلّة ناظرة إلی المسبّبات ، فللمسبّبات وجودات مستقلّة عن الأسباب ، و أن إمضاء أحدهما لا یلازم إمضاء الآخر ، لجواز إنفاذ الشارع المسبّب دون السبب ، کأنْ یأمر بالقتل لکنْ لا بسبب المثلة مثلاً ، فالمسبب مطلوب لکنه لا یلازم مطلوبیّة کلّ سبب ، و إذ لا ملازمة ، فاللّازم هو الأخذ بالقدر المتیقّن .

و تلخّص : عدم ترتّب الثمرة علی البحث .

و قد ذکر المیرزا : بأنّ الثمرة تترتب بإمکان التمسّک بالإطلاق ، بناءً علی

ص:292


1- (1)) سورة المائدة : 1 .

مسلکه من کون النسبة نسبة الآلة إلی ذی الآلة ، بدعوی أن الآلة و ذا الآلة موجودان بوجودٍ واحد ، فیکون الإمضاء لذی الآلة إمضاءً للآلة .

و فیه : إن الاتّحاد إمّا تکوینی و إمّا اعتباری ، أمّا الأول فمحال هنا ، لأن الآلة فی البیع هی الصیغة ، و هی أمر تکوینی ، لکونها من مقولة الکیف ، و إنْ کان بالمعاطاة ففعل تکوینی ، أمّا البیع فأمر اعتباری ، و الاتحاد بین الأمر التکوینی و الأمر الاعتباری محال . و أما الثّانی فأمر ممکن ، کاتّحاد التعظیم مع الانحناء أو القیام ، إذ یتحققان بوجودٍ واحد ، فالاتّحاد الاعتباری بین الآلة وذی الآلة ثبوتاً لا إشکال فیه ، إلّا أن مقام الإثبات لا یساعده ، إذ لا یری أحدٌ الاتحاد بین « بعت » و « البیع » و لا یعتبرون « أنکحت » زوجیّةً ...

بل إن الاتّحاد بین الآلة وذی الآلة فی التکوینیات أیضاً غیر ممکن ، فالآلة هی « المفتاح » و ذو الآلة « الفتح » ، و أین الاتحاد بین الفتح و المفتاح ؟

و کذا الحال بین المنشار و النشر ... و هکذا .

و تلخّص : إن مشکلة التمسّک بالإطلاق لم تنحل بمبنی المیرزا .

فلنرجع إلی أصل البحث علی جمیع المبانی ، فنقول :

لقد ذهب صاحب ( الکفایة ) إلی أنّ ألفاظ المعاملات إن کانت موضوعة للمسبّبات ، فلا مجال لبحث الصحیح و الأعم فیها ، و إن کانت موضوعة للأسباب فله مجال ، و قد تبع المحقق صاحب ( الحاشیة ) فی أن ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب المؤثرة واقعاً ، فههنا بحثان .

البحث الأوّل

هل یوجد فی المعاملات سبب واقعی مؤثّر فی الملکیّة ؟

إنه إن کان یوجد ، فإنّ الاختلاف بین العقلاء و الشارع یکون فی التطبیق

ص:293

علی المصادیق فقط ، فهل یوجد ، أو أنه لیس إلّا الاعتبار العرفی ؟

قال صاحب ( الحاشیة ) بالأوّل و تبعه صاحب ( الکفایة ) .

و علی هذا المبنی لا یمکن التمسّک بالإطلاق اللّفظی ، لأنه فی کلّ موردٍ یشکّ فی دخل شیء فی التأثیر فلا بدَّ من الاحتیاط ... إلّا أن المحقق المذکور یری جواز التمسّک بالإطلاق المقامی ، من جهة أن الشارع لمّا قال «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ » (1)فهو فی مقام البیان للسبب المؤثّر ، فلو أنه لا یمضی ما هو المؤثر عند العرف لزم علیه بیان تخطئته للعرف و التصریح بذلک ، و إذ لا بیان ، فهو موافق لهم فی التطبیق .

قال شیخنا الاستاذ :

و فیه : إن أصل المبنی غیر صحیح ، لأن سببیّة إنشاء البیع لیست من الامور الواقعیّة التکوینیّة ، بل هی اعتباریّة ، و لا معنی للتخطئة و التصویب فی الامور الاعتباریّة .

البحث الثانی

إنه بعد التنزّل عن الإشکال فی المبنی ، فهل یمکن التمسّک بالإطلاق أو لا ؟

و الحق : تمامیّة التمسّک بالإطلاق بالبیان المتقدّم ، فإن برهان حفظ الغرض یثبت أن الشارع أمضی طریقة أهل العرف فی التطبیق .

هذا علی مبنی صاحب ( الکفایة ) .

و أمّا علی مبنی المشهور ، فنقول بعد الفراغ عن کون المولی فی مقام البیان :

ص:294


1- (1)) سورة البقرة : 275 .

إنه و إنْ کان لفظ « البیع » موضوعاً للمسبب ، أی للحاصل من الصیغة ، لکنّ کلّ مسبّب قابل للانقسام من ناحیة السبب ، فمع الشک فی اعتبار العربیّة - مثلاً فی السبب ، یکون للمسبب فردان ، و اللّفظ موضوع للجامع بینهما ، فالبیع الحاصل من اللّفظ الفارسی قسم من البیع ، و إذا احرز صدق لفظ البیع علیه و کان سائر مقدمات الحکمة محرزاً متوفّراً ، فلا محالة یتمّ الإطلاق ، و یندفع الشک فی اعتبار العربیّة .

و علی الجملة ، فإن الإمضاء و إن کان متوجّهاً إلی المسبّب ، لکن المسبّب أصبح ذا حصص بتبع الأسباب ، و مع توفّر المقدّمات یتم الإطلاق .

و أما علی مبنی المیرزا ، بعد الفراغ عن التغایر وجوداً بین الآلة وذی الآلة ، فإن نفس الکلام المتقدّم فی المسبب آتٍ ، فقد یشک فی أن المقصود هو الفتح بهذا المفتاح الخاص أو لا ؟ فذو الآلة ینقسم و یتعدّد بتعدّد الآلة ، نعم ، الفرق بین المسلکین هنا هو : إنه لو کان المسمّی هو السبب ، فإن الإطلاق یرفع الشک بالمطابقة فیه رأساً ، أمّا لو کان هو المسبب أو ذو الآلة ، فإنّ الإطلاق یزیل الشک - من حیث اعتبار العربیّة مثلاً - بالالتزام .

و أما علی مبنی الاعتبار و الإبراز ، فقد ذُکر أنّ البیع مرکَّب من الاعتبار و الإبراز ، و الشارع قد أمضی ذلک و لم یقیّده بقیدٍ ، و المفروض صدقه علی الفارسی کالعربی ، و المفروض أیضاً کون الشارع فی مقام البیان ، فلا إشکال فی الإطلاق .

قال شیخنا :

لا إشکال فی الإطلاق کما ذکر .

إلّا أن الإشکال فی أصل المبنی ، إذ المعاملات کلّها إنشائیّات ، فالبیع

ص:295

أمر یتحقق بالإنشاء ، فلو کان الإنشاء - أی الصیغة - جزء للبیع ، کیف یعقل إنشاء البیع - المرکّب من الاعتبار و الصیغة - بالصیغة ؟

و قد کان هذا إشکال الشیخ علی المحقق الکرکی فی تعریف البیع .

و علی الجملة ، فإنه مع غض النظر عمّا فی المبنی ، فالإطلاق تام .

و تلخّص : تمامیّة الإطلاق علی جمیع المبانی ، و هذا ما استقر علیه رأی الاستاذ فی الدورة اللّاحقة .

بقی الکلام فی تفصیل المحقق الأصفهانی .

قال رحمه اللّٰه فی ( حاشیة المکاسب ) ، فی التمسّک بالإطلاق اللفظی فی أسماء المعاملات ، بناءً علی کونها أسماء للمسبّبات (1) ، ما حاصله :

إن الأدلّة الشرعیّة فی أبواب المعاملات علی قسمین ، قسمٌ منها : ما جاء بلسان الإمضاء ، و قسم منها : ما جاء بلسان ترتّب الأثر وضعاً أو تکلیفاً ، فیدلّ علی الإمضاء بالدلالة الالتزامیة .

فما کان من القسم الأول فالتمسّک بإطلاقه ممکن ، و ما کان من القسم الثانی فلا ، بل یتمسّک فیه بالإطلاق المقامی ، و مقتضاه نفوذ جمیع الأسباب و تأثیرها .

توضیح ذلک : إن من الأدلّة ما لسانه لسان الإمضاء ، کقوله تعالی «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ » و ذلک ، لأن المراد من « البیع » فیه هو البیع العرفی ، إذ لا معنی لأن یقال أحلّ اللّٰه البیع الشرعی ، لأنّ ما کان حلالاً فلا یقبل الحلیّة ، فالآیة إنما جاءت إمضاءً لِما هو عند العرف .

لکنّ نفس هذا العنوان ، و إنْ کان مسبّباً ، إلّا أنّه بإضافته إلی الأسباب

ص:296


1- (1)) حاشیة المکاسب 182/1 الطبعة المحقّقة الحدیثة .

یتحصّص ، فالبیع الحاصل بسبب المعاطاة حصّة من البیع ، و الحاصل من الصّیغة حصّة اخری ، فهو عنوان جامع .

فلمّا جاء دلیل الإمضاء علی المسبّب ، کان مقتضی الإطلاق فیه إمضاء المسبب بجمیع حصصه ، و إلّا لقیَّد الدلیل بکونه عن الصیغة مثلاً ، ...

فالتمسّک فی هذا القسم بلا إشکال .

و هذا الذی ذکره فی هذا القسم موجود عند المحقق العراقی و غیره .

و أمّا ما ذکره فی القسم الثانی فلم یقله غیره ، و هو ما إذا کان الدلیل لسانه لسان ترتیب الأثر تکلیفاً أو وضعاً ، کما لو قال : إذا بعت وجب علیک الوفاء بالعقد و تسلیم المبیع - و لا یخفی أن مقتضی مناسبة الحکم و الموضوع أن یکون موضوع الأثر هو البیع الشرعی ، لأن الشارع لا یرتّبه علی البیع أو النکاح أو ... غیر الشرعی - فإنه مع الشک فی دخل شیء فی ترتّب الأثر لا مجال للتمسّک بالإطلاق اللّفظی ، بل تصل النوبة إلی الإطلاق المقامی ، بتقریب : أن الشارع حکم بترتیب الأثر علی البیع ، و قد علم أنه البیع الشرعی ، لکنّه لم یبیّن البیع الشرعی و لم یعرّفه مع کونه فی مقام البیان و تعریف الموضوع المترتب علیه الحکم ، فیظهر أنّ جمیع حصص البیع عنده موضوع لترتّب الأثر الشرعی ، و کلّها ممضاة عنده .

هذا کلامه قدّس سرّه .

و قد تنظّر فیه شیخنا الاستاذ فقال : بأنّ دلیله علی سقوط الإطلاق اللّفظی فی القسم الثانی لیس إلّا قوله : إن اللّسان إذا کان لسان ترتیب الأثر فما یترتّب علیه الأثر هو البیع الشرعی ، و هو دلیل صحیح بحسب لبّ الواقع ، لأنّ ما لم یکن مورداً للإمضاء الشرعی فلا یترتب علیه الأثر ، لکنّ البحث إنما هو

ص:297

بحسب ظاهر لسان الدلیل ، فهل یوجد تقیید بالشرعیّة فیه ؟

إنه لو کان التّضییق الواقعی موجباً لتضییق موضوع القضیّة الشرعیّة ، بأنْ یکون قوله : « إذا بعت متاعک وجب علیک تسلیمه » راجعاً إلی : إذا بعت متاعک بیعاً شرعیّاً وجب علیک تسلیمه ، کان لما ذکره مجال ، و إلّا کان الموضوع فی هذه القضیة کما هو فی «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ ».

و التحقیق هو عدم التضیّق ، لأن « البیع » فی هذه القضیّة هو البیع عند العرف ، و قد دلّ قوله : « یجب التسلیم » بالدلالة المطابقیّة علی ترتیب الأثر علیه ، و بالالتزامیّة علی الإمضاء ، فالإمضاء لیس فی مرتبة الموضوع بل هو لازم المحمول ، و حینئذٍ یکون هذا اللّازم مقیّداً للموضوع بحسب الواقع ، أمّا بحسب الدلیل فلا .

و لمزید التوضیح قال دام بقاه : إن الشارع لمّا قال «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ » لم یرد مطلق « البیع » الصحیح منه و الفاسد بحسب الواقع ، بل یرید الصحیح فقط ، لکن التقیّد الواقعی غیر مقیّد للموضوع فی ظاهر کلامه ، لأن هذا التقیّد إنما جاء من جهة « أحلَّ » و کذلک الحال فی قوله : إذا بعتَ وجب علیک التسلیم ، حیث اللّسان لسان ترتیب الأثر ، فإن المراد هو البیع الصحیح الشرعی دون غیره ، لکن هذا التقیّد إنما جاء من ناحیة « یجب » و هذا التقیّد الآتی من ناحیة المحمول لا یقیّد الموضوع ، سواء فی هذه القضیّة أو تلک ، لأن مدلول الموضوع بما هو موضوع مقدَّم رتبةً ، و مدلول المحمول بما هو محمول فی رتبةٍ متأخّرة ، بلا فرقٍ بین القسمین . فالتفصیل غیر صحیح .

بل المراد من « البیع » فی القسمین هو البیع العرفی .

هذا کلّه حلّاً .

ص:298

و یرد علیه النقض بألفاظ العبادات ، فإن الموضوع فی « صلّ » هو الصلاة ، لکن وجوبها یقیّدها بالصلاة الصحیحة ، لعدم توجّه الوجوب إلی الحصّة الفاسدة أو الجامع بین الفاسدة و الصحیحة ، فمع الشک یلزم سقوط الإطلاق اللّفظی .

ثم علی فرض التنزّل عن الإشکال المذکور ، نقول : هل یمکن التمسّک بالإطلاق المقامی فی القسم الثانی بعد سقوط الإطلاق اللّفظی .

إن مناط الإطلاق المقامی - کما سبق کون المولی فی مقام البیان و عدم نصبه القرینة علی إرادة حصّةٍ معیّنة ، فلو لم یؤخذ بإطلاق کلامه لزمت اللّغویة.

لکنّ هذا موقوف علی عدم وجود القدر المتیقّن ، و فی المعاملات یوجد القدر المتیقَّن ، و هو کون البیع بالعربیّة ، وعلیه یحمل إطلاق : « إذا بعت وجب علیک التسلیم » ، و علی الجملة : فإن مناط الإطلاق المقامی لزوم اللّغویّة ، لکنّها غیر لازمة مع وجود القدر المتیقن و الأخذ به .

و قوله رحمه اللّٰه بأنّ الإمضاء لازم ترتیب الأثر .

فیه : إن اللّازم متأخّر عن الملزوم ، و ترتیب الحکم متأخّر عن الموضوع و متعلَّق الحکم ، و ما کان متأخراً عن الشیء بمرتبتین یستحیل أخذه فی المقدَّم علیه بمرتبتین .

هذا ، و التحقیق : أن المراد من « البیع » فی لسان الأدلّة هو البیع العرفی ، و الموضوع له هذا العنوان هو الجامع بین الصحیح و الفاسد ، بمناط صحّة تقسیمه إلیهما ، وعلیه ، فالتمسّک بالإطلاق اللّفظی - فی موارد الشک فی دخل شیء فی صحّة البیع شرعاً - صحیح ، بالنظر إلی ما أوردناه علی کلام هذا المحقّق .

ص:299

ص:300

الاشتراک
اشارة

ص:301

ص:302

هل الاشتراک ممکن أو لا ؟ أقوال :

قولٌ باستحالة الاشتراک .

و قولٌ بوجوبه .

و قولٌ بإمکانه .

دلیل القول الأوّل

لا شبهة فی الإمکان الذاتی للاشتراک ، فهو لیس کشریک الباری و اجتماع النقیضین مما هو ممتنع بالذات ، بل الکلام فی الاستحالة الوقوعیّة أو الاستحالة من الحکیم .

فالمستفاد من کلام المحقق النهاوندی فی ( تشریح الاصول ) (1) هو : إن الوضع جعل الملازمة بین اللّفظ و المعنی ، فیلزم جعل ملازمتین مستقلّتین عرضیّتین ، إحداهما : بین لفظ القرء و الطهر ، و الاخری : بین لفظ القرء و الحیض ، فیلزم من إطلاق لفظ القرء حضور المعنیین إلی الذهن .

و فیه :

أوّلاً : إنه مبنیّ علی کون حقیقة الوضع جعل الملازمة بین اللّفظ و المعنی ، و أمّا علی سائر المبانی فلا محذور .

ص:303


1- (1)) تشریح الاصول : 47 .

و ثانیاً : أیّ محذور یترتّب حتی علی المبنی المذکور ؟ إنّ الملازمة بین اللّفظ و المعنی لیست فعلیّة ، بل هی اقتضائیة ، کما نبّه علیه المحقق الأصفهانی ، بمعنی أنه لو حصل العلم بالملازمة ، فإن التلازم بین اللّفظ و المعنی یوجب حضور المعنی عند الذهن عند التلفّظ بالکلمة ، و جعل اقتضائین فی لفظٍ واحدٍ لا یترتب علیه أیّ محال ، لأن معنی الامتناع الوقوعی هو لزوم أمر ممتنع من وقوعه ، بل إن حضور المعنیین ممکن بل واقع ، لأن کلّ تصدیقٍ یتوقّف علی حضور الموضوع و المحمول و النسبة و الحکم ، و کلّ هذه الامور تحصل عند النفس فی آن واحد ، إذْ النفس الإنسانیة لیس کالموجودات المادیّة التی لا تقبل صورتین فی آن واحد .

و استدلّ للاستحالة أیضاً : بأنّ الواضع حکیم ، و الغرض من الوضع هو التفهیم ، و الاشتراک ملازم للإجمال ، و هو ینافی التفهیم ، فوقوع المشترک - لکونه نقضاً للغرض - محال من الحکیم .

و قد اجیب عنه بوجهین فی ( الکفایة ) و غیرها :

الأول : إنه لا یلزم نقض الغرض ، لإمکان حصول التفهیم بالقرینة کما فی المجاز .

و أشکل علیه شیخنا : بأنّ الاشتراک بنفسه موجب للإجمال ، و القرینة کما ذکر رافعة له ، إلّا أن الکلام فی حکمة ذلک ، و أنه ما الغرض من إیجاد المنافی للغرض ثم رفع المنافی بإقامة القرینة ... لقد کان لهذا حسنٌ فی باب المجاز ، فما الدلیل علی حسنه فی باب المشترک ؟

و الثانی : إنه قد یتعلَّق الغرض بالإجمال .

و أشکل علیه الاستاذ : بإمکان الإجمال لا بوضع المشترک ، فکما یقول :

ص:304

« رأیت عیناً » له أنْ یقول « رأیت شیئاً » .

و تلخّص : إن القول بالاستحالة العقلائیّة - لا العقلیّة - له وجه وجیه .

دلیل القول الثانی

إن المعانی غیر متناهیة ، بخلاف الألفاظ ، و المتناهی لا یفی باللّامتناهی ، فلا بدَّ من الاشتراک .

أجاب المحقق الخراسانی :

أولاً : إن کلیّات المعانی متناهیة ، و من الممکن وضع الألفاظ بإزاء الکلیّات ، و إفادة الجزئیّات بواسطة الکلیّات ، کما هو الحال فی أسماء الأجناس ، کلفظ « الأسد » الموضوع لجنس هذا الحیوان ، مع إمکان إفادة نوعه و فرده بنفس هذا الاسم ، مع کون أفراده غیر متناهیة .

و أشکل علیه فی ( المحاضرات ) بما حاصله : إن الکلیّات أیضاً غیر متناهیة ، إذا ضمّت إلیها القیود المختلفة ، نظیر الأعداد ، فإن کلّاً من العشرة و الأحد عشر و الثانی عشر ... کلّی ذو أفراد ، و هذه العشرة المضافة إلی شیء غیر تلک العشرة المضافة إلی شیء آخر .

و أورد علیه الاستاذ : بأنّ الکلّیات العددیّة اعتباریّة و لیست بواقعیّة ، فإنّا نعتبر العشرة مثلاً شیئاً واحداً و نطبّقها علی الأشیاء المختلفة ، و البحث إنما هو فی الکلمات الواقعیّة ، کالإنسان و الأسد و الفرس و هکذا .

و أیضاً ، فإنّ ضمّ القید إلی الکلّی لا یجعله غیر متناه ، لأنّ القید کیفما کان متناه ، فما یضاف القید إلیه متناه أیضاً ، و کیف یحصل اللّامتناهی من ضمّ المتناهی إلی المتناهی ؟

ثانیاً : بأنّه فی وضع اللّفظ المشترک نحتاج إلی أوضاع متعدّدة ، بأنْ

ص:305

یجعل اللّفظ مرّة لهذا المعنی ، و مرّة لذاک ، و اخری للثالث ... فلو کانت المعانی غیر متناهیة فالأوضاع کذلک ، لکنّ صدور الوضع غیر المتناهی عن المتناهی محال .

قال فی ( المحاضرات ) عن هذا الجواب بأنه متین جدّاً .

فأشکل شیخنا :

أوّلاً : إن باب الوضع هو باب الجعل ، و إنه لا ریب فی أنّ المجعول فی القضایا الحقیقیّة أحکام غیر متناهیة کما فرضوا ، إذ الجعل و المجعول فی القضایا الحقیقیّة یتعدّدان بعدد الأفراد بإنشاءٍ واحد ، فأیّ محذورٍ لأنْ یوضع اللّفظ بجعلٍ واحدٍ للمعانی المتعدّدة ؟

فهذا إشکال نقضی .

و أیضاً : لازم ما ذکر هو اتحاد العصیان فی موارده ، و الحال أنّ شرب هذا الخمر معصیة ، و شرب ذاک معصیة اخری ، و هکذا الثالث ... و کذلک الإطاعة .

و تلخّص : إن الأحکام متعدّدة بالبرهان ، و باختلاف الإطاعة و العصیان ، و إذا تعدَّد المجعول تعدّد الجعل ، لأن الجعل و المجعول فی الحقیقة واحد .

و ثانیاً : إن صدور الأفعال غیر المتناهیة من النفس الإنسانیّة لا إشکال فیه ، و الدلیل علیه نفس الدلیل علی المجعولات غیر المتناهیة فی القضیّة الحقیقیّة .

و هذا هو الحلّ .

و أجاب المحقق الخراسانی ثالثاً : بأنّ الوضع مقدمة للاستعمال ، و الاستعمال متناه ، لکونه فعلاً خارجیّاً و لیس کالأفعال النفسانیة ، فجعل الألفاظ غیر المتناهیة للاستعمالات المتناهیة باطل .

ص:306

و أجاب رابعاً : بأن المجاز باب واسع ، و معه فلا حاجة إلی الاشتراک .

و قال شیخنا

فی الجواب عن استدلال القائلین بوجوب وضع المشترک : بأنّ أساس الاستدلال هو عدم تناهی المعانی ، و هذه الدعوی أوّل الکلام ، و ما أقاموا علیها من الدلیل لا یفی بها ، فقوله تعالی : «مَّا نَفِدَتْ کَلِمَاتُ اللَّهِ » (1)و «وَمَا یَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّکَ إِلاَّ هُوَ » (2)لا ینافی التناهی ، فعدم تناهی المعانی غیر مسلَّم ، نعم ، هی کثیرة إلی ما شاء اللّٰه .

علی أنّ البحث یدور حول الألفاظ الموجودة ، و الألفاظ المشترکة الموجودة محدودة ، کلفظ العین و القرء ، و هی لا تفی بالغرض - و هو التفهیم - بالنسبة إلی المعانی غیر المتناهیة کما قیل .

فالقول بوجوب الاشتراک باطل قطعاً .

فالحق : إمکان الاشتراک .

تفصیلُ المحقق الخوئی

و أفاد السید الخوئی تفصیلاً فی المقام و هو : استحالة الاشتراک علی مبنی التعهّد فی حقیقة الوضع و إمکانه علی سائر المبانی ، أمّا الإمکان ، فلأن الوضع أمر اعتباری ، و الاعتبار خفیف المئونة ، فلا مانع من أن یعتبر المعتبر أن یکون اللّفظ الواحد علامةً لمعنیین ، أو یکون موضوعاً لهما ، أو تکون ملازمة بینه و بینهما ...

و أمّا الاستحالة علی مبنی التعهّد ، فلأن التعهّد أمر نفسانی واقعی غیر

ص:307


1- (1)) سورة لقمان : 27 .
2- (2)) سورة المدثر : 31 .

اعتباری ، إنه یتعهّد متی تلفّظ باللفظ الکذائی أراد تفهیم المعنی الکذائی ، فلو أراد معنیً آخر لزم العدول عن تعهّده بالنسبة إلی المعنی الأوّل .

و أورد علیه الاستاذ دام بقاه : بأنّ البرهان الذی اقیم فی مبحث الوضع علی هذا المبنی کانت نتیجته التعهّد باستعمال اللّفظ الکذائی عند إرادة المعنی الکذائی ، لا أنّه کلّما تلفّظت باللّفظ الکذائی فإنی أقصد المعنی الکذائی ، و کم فرق بین الأمرین ، فإن الثانی ینافی الاشتراک دون الأوّل ، لأنه لا مانع من استخدام اللّفظ کلفظ « العین » عند إرادة الجاریة و عند إرادة الباصرة و هکذا ...

لعدم المحذور من انضمام تعهّدٍ إلی تعهّد ...

خلاصة البحث

و تلخّص : أنّ الاشتراک ممکن ، لا محال و لا واجب .

إنما الکلام فی وقوعه و منشأ وقوعه ، فأیّ غرض للواضع أنْ یضع اللّفظ الواحد لمعانی عدیدة ؟ و ما الدّلیل علی ذلک ؟

ذکر المحقق الخراسانی وجوهاً ، أحدها : نقل أئمة اللّغة .

و فیه : أنّا نرید الوضع التعیینی للّفظ الواحد لأکثر من معنی ، و نقلهم لا یثبت هذا .

و الثانی و الثالث : التبادر و عدم صحة السّلب .

و فیهما ما تقدَّم ، فإنّهما لا یثبتان الوضع التعیینی ، فلعلّه تعیّنی .

و من جهة اخری ، فقد حکی المیرزا النائینی عن جورجی زیدان - و ارتضاه أنّ منشأ الاشتراک هو اختلاط اللّغات بین القبائل العربیّة ، فلا یرجع الأمر إلی الواضع .

و هذا القول - و إنّ کان عقلائیّاً - إلّا أنه لا دلیل علیه ، نعم ، إذا جاء هذا

ص:308

الاحتمال کفی فی سقوط کلّ الاستدلالات علی القول بالاشتراک فی اللّغة العربیّة .

الاشتراک فی ألفاظ القرآن

بعد أنْ ثبت أن فی اللّغة ألفاظاً مشترکة ، و فی الشعر الفارسی : آن یکی شیر است اندر بادیه و ان یکی شیر است اندر بادیه

فهل یوجد فی ألفاظ القرآن ؟

قیل : لا ، لعدم جوازه ، من جهة أنه إنْ نصبت قرینة علی المعنی لزم التطویل بلا طائل ، و هو مناف لشأن کلام اللّٰه الموجز و المعجز ، و إنْ لم تنصب لزم الإجمال ، و کلام الباری منزّه عنه .

و اجیب : بوجود المجمل فی القرآن و هو المتشابه .

قال الاستاذ :

لا یوجد فی القرآن الکریم لفظ مجملٌ ، و المتشابهات مبیّناتٌ عند الراسخین فی العلم ، فلا مجمل فیه علی الإطلاق ، حتی فواتح السّور .

و وجود اللّفظ المجمل فی القرآن سواء لأجل الاشتراک أو غیره ، بالنسبة إلی کلّ البشر هو المحذور ، و هذا غیر متحقق .

ص:309

ص:310

استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی
اشارة

ص:311

ص:312

مقدّمة :

إنه لا اختصاص لهذا البحث بالألفاظ المشترکة ...

و لیس موضوع البحث و محلّ الخلاف هو المتعدّد الذی اعتبر واحداً و استعمل اللّفظ فیه ، فإن هذا جائز بلا خلاف ، کما لو اعتبر الاثنان أو الجماعة واحداً ، و استعمل اللَّفظ فی ذلک الواحد الاعتباری ، کما هو الحال فی الألفاظ الموضوعة للجماعة مثل « قوم » و « رهط » .

و لیس موضوع البحث أن یکون کلّ واحدٍ من المعانی موضوعاً مستقلاًّ للحکم علیه بالنفی أو الإثبات کما ذکر المحقق الرشتی ، لأن مثل لفظ «العشرة» الموضوع لمعنیً واحد ، و المستعمل فی معنیً واحد ، تارةً : یقع موضوعاً لحکم واحد ، کقولنا : هؤلاء العشرة فعلوا کذا ، أی : کلّهم مجتمعین ، و اخری : یقع موضوعاً لأحکامٍ متعدّدة ، کقولنا : هؤلاء العشرة علماء ... فلیس المراد من استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی هو وجود أحکام متعدّدة .

بل المراد - کما ذکر المحقق الخراسانی - أن یستعمل اللّفظ فی کلٍّ من المعانی ، کما لو کان - أی کلّ واحدٍ منها - هو وحده المستعمل فیه فقط ...

فهل هذا الاستعمال - أی : إعمال جمیع مقوّمات الاستعمال حالکون المعنی واحداً فی مورد تعدّد المعنی - ممکن أو غیر ممکن ؟

ص:313

و الکلام فی جهتین :

الاولی : هل یمکن عقلاً أو لا ؟

و الثانیة : هل یمکن عقلاءً أو لا ؟

الجهة الاولی
اشارة

فیها ثلاثة أقوال :

الأوّل : الاستحالة ، و إلیه ذهب المحققون : الخراسانی و المیرزا و الأصفهانی و العراقی .

و الثانی : الجواز ، و هو مختار شیخنا الاستاذ دام بقاه .

و الثالث : التفصیل بین المفرد فلا یمکن ، و بین التثنیة و الجمع فممکن .

و لعلّ هذا القول یرجع إلی الجهة الثانیة .

فالمهمّ القولان :

دلیل القول بالاستحالة

و اختلفت کلماتهم فی بیان الاستحالة العقلیة لاستعمال اللّفظ فی أکثر من معنی :

1 - المحقّق الخراسانی :

یستفاد من کلام المحقق الخراسانی ثلاثة وجوهٍ للاستحالة :

أحدها : إن الاستعمال إفناء اللّفظ فی المعنی ، و ذلک لأن اللّفظ غیر ملحوظ فی ظرف الاستعمال ، بل اللّفظ فانٍ فی المعنی فناء المرآة فی المرئی ، و لذلک یسری حسن المعنی و قبحه إلی اللّفظ ، و إذا کان هذا حقیقة الاستعمال ، فلا یمکن استعمال اللّفظ الواحد فی أکثر من معنی ، لأن إفناء الواحد فی الاثنین محال ، لأنه یستلزم إمّا وحدة الاثنین و إمّا تعدّد الواحد ،

ص:314

و کلاهما خلف .

و الثانی : إن اللّفظ یکون فی مقام استعماله فی المعنی ملحوظاً باللّحاظ الآلی ، فإن لوحظ کذلک بالنسبة إلی أحد المعانی احتاج استعماله فی المعنی الآخر إلی لحاظه بلحاظٍ آلی آخر ، إذ المفروض إفادته لکلٍّ من المعنیین علی سبیل الانفراد و الاستقلال ، فیلزم اجتماع لحاظین آلیّین علی ملحوظ واحدٍ ، و هو من اجتماع المثلین ، و هو محال .

و الثالث : إنه فی کلّ استعمالٍ یلحظ اللَّفظ ، و لحاظه عین وجوده فی الذهن ، و إذا کان المعنی المستعمل فیه اللّفظ متعدّداً ، لزم وجود الماهیّة الواحدة بوجوداتٍ متعددة ، و هذا محال .

عدم ورود اشکال الدرر

قال شیخنا الاستاذ : و بما ذکرنا یتّضح عدم ورود نقض صاحب (الدرر) (1) علی صاحب (الکفایة) ، فإنه قد نقض بوجهین :

أحدهما : بالعام الاستغراقی ، فإنّه لفظ واحد ، و لکنّه یحتوی علی أحکامٍ کثیرة متوجّهة إلی موضوعات کثیرة .

و ثانیهما : بالوضع العام و الموضوع له الخاص ، فکما صحّ أنْ یکون اللّفظ الموضوع لمعنیً واحد وجهاً لمعانی کثیرة فی عالم الوضع ، فلیکنْ اللّفظ الواحد وجهاً لمعانی کثیرة فی عالم الاستعمال .

وجه عدم الورود : هو الغفلة عن حقیقة الاستعمال ، فإنه إفناء اللّفظ فی المعنی ، کما ذکر المحقق الخراسانی ، و إفناء اللّفظ فی آنٍ واحدٍ فی معنیین مستقلّین محال ، و هذا غیر ما ذکر فی العام الاستغراقی من وجود موضوعات

ص:315


1- (1)) درر الاصول 57/1 ط جامعة المدرّسین .

و أحکام متعدّدة ، أو فی الوضع العام و الموضوع له الخاص ، حیث یکون الشیء الواحد وجهاً للمتکثّرات ... فما ذکره صاحب ( الدرر ) أجنبی عمّا فی ( الکفایة ) .

2 - المحقق النائینی

و الطریق الذی سلکه المحقق النائینی یتلخّص فی : أنّ حقیقة الاستعمال عبارة عن إلقاء المعنی و إیجاده فی الخارج بوجود اللَّفظ ، فلا نظر إلی اللّفظ ، بل ینظر إلیه بالنظر التبعی ، کما عبّر مرةً ، أو أنّ النظر إلی اللّفظ هو کنظر القاطع إلی القطع الطریقی ، حیث لا یری إلّا المعنی ، کما عبّر مرةً اخری ، فلو استعمل اللّفظ فی أکثر من معنی لزم أن یکون للوجود الواحد وجودات کثیرة .

و علی کلّ حالٍ ، فإنّ اللّفظ غیر ملحوظ لدی استعماله فی معناه ، و قد عبَّر تارةً عن الاستعمال بإفناء اللّفظ فی المعنی ، کما ذکر فی ( الکفایة ) ، و إفناء الواحد الواحد فی الکثیر محال .

و علی الجملة ، فإن تحقّق الأکثر من اللّحاظ الاستعمالی الواحد - مع وحدة الاستعمال و المستعمل فیه - محال .

اشتباه من المحاضرات

و قد بدّل فی ( المحاضرات ) کلمة « اللّحاظ الاستعمالی » إلی « اللّحاظ الاستقلالی » فأشکل علی المیرزا بإمکان اللّحاظین الاستقلالیین ، کما فی مقام التصدیق بقضیّةٍ ، فإنه یکون بلحاظ الموضوع و المحمول فی آنٍ واحد لحاظاً استقلالیّاً ، و هذا شیء ممکن و واقع من النفس الإنسانیة بسبب بساطتها (1) .

ص:316


1- (1)) هذا الجواب عن کلام المیرزا ، هو الجواب الذی ذکره الاستاذ فی الدورة السّابقة ، إلّا أنه فی الدورة اللاحقة دقق النظر فی کلام المیرزا ، فرأی أن الجواب اشتباه .

أمّا فی ( أجود التقریرات ) (1) حیث قرّر مبنی المیرزا کما ذکرناه ، فقد أشکل فی التعلیقة علی أساس مختاره فی حقیقة الوضع ، و هو مسلک التعهّد .

لکنّه إشکال مبنائی .

التحقیق فی الجواب عن کلام الآخوند و المیرزا

فقال الشیخ الاستاذ : بأنّ الحق فی الجواب هو عدم التسلیم بأنّ حقیقة الاستعمال إفناء اللّفظ فی المعنی ، و نحن - بالوجدان - عند ما نستعمل الألفاظ لإفادة معانیها لسنا بغافلین عن الألفاظ ، و لا یکون حالها حال القطع الطریقی ، بل نلحظ اللّفظ و نحاول أن نراعی فیه جهات الفصاحة و البلاغة فی نفس ظرف استعماله فی معناه .

إیراد المحقق الأصفهانی و ما فیه

و قد أورد المحقق الأصفهانی علی صاحب ( الکفایة ) بعد التسلیم بما ذکره من حقیقة الاستعمال : بأنّ اللّفظ الصادر من المتکلّم الموجود خارجاً لا یمکن أن یکون مقوّماً للّحاظ ، حتی یلزم إفناء الواحد فی الکثیر أو اجتماع المثلین ، بل المقوّم للحاظ اللّفظ هو الصورة النفسانیة لشخص اللّفظ الموجود خارجاً ، و لا مانع من تحقّق صورتین له فی النفس ، فلم یلزم إفناء شیء واحدٍ فی شیئین .

و قد أجاب عنه شیخنا : بأنّ هذا الذی ذکره المحقق الأصفهانی و إنْ کان معقولاً إلّا أنه خلاف الواقع ، لأن الصورة النفسانیة تابعة للوجود الخارجی و هی ظلٌّ له ، و لمّا کان الموجود خارجاً لفظاً واحداً ، فالمتحقّق فی الذهن صورة واحدة ، فیعود الإشکال .

ص:317


1- (1)) اجود التقریرات 76/1 .
3 - المحقّق العراقی

إنّ حقیقة الوضع جعل اللَّفظ مرآة للمعنی ، ثم الاستعمال لیس إلّا إعمال الوضع . و بعبارة اخری : إن الوضع یعطی اللَّفظ المرآتیَّة للمعنی بالقوّة ، و الاستعمال یعطیه المرآتیة له بالفعل ... هذا ، و البرهان علی المرآتیة سرایة الحسن و القبح من المعنی إلی اللّفظ .

و إذا کان مرآة ، فإنه لا یمکن أن یکون الشیء الواحد مرآةً لشیئین .

المناقشة

فقال شیخنا دام بقاه : بأن کلمات هذا المحقق فی حقیقة الوضع مشوّشة ، فتارةً یقول بأنه جعل الملازمة بین اللّفظ و المعنی ، و اخری یقول :

جعل اللّفظ مرآةً للمعنی ، و هل یمکن الجمع بینهما ؟ اللهم إلّا أن یقال بأنه یرید جعل الملازمة مطابقةً و جعل المرآتیة التزاماً .

لکنْ لیس حقیقة الوضع جعله مرآةً للمعنی ، لأن الوضع من فعل الواضع ، و من یضع الاسم علی ولده لا یجعل المرآتیّة ، و جعل الملازمة بین اللّفظ و المعنی لا یلازم المرآتیّة أبداً ، لوجود الملازمة بین النار و الحرارة ، مع عدم وجود المرآتیّة .

و سرایة الحسن و القبح من المعنی إلی اللّفظ لا یختص بالقول بالمرآتیّة ، فعلی القول بالعلامتیّة - الذی اخترناه - توجد هذه السّرایة أیضاً ، و استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی بناءً علیه ممکن ، لعدم المانع من أن یکون الشیء الواحد علامةً لشیئین .

4 - المحقق الأصفهانی

و سلک المحقق الأصفهانی مسلکاً آخر لبیان استحالة استعمال اللّفظ

ص:318

الواحد فی أکثر من معنی ، و هو مرکّب من أُمور :

الأول : إن للشیء وجودین ، وجود حقیقی و وجود جعلی تنزیلی ، فللمعنی وجود حقیقی فی الخارج ، و وجود جعلی یتحقق باللّفظ الموضوع له ، مع کون اللّفظ من الکیف المسموع ، فعند ما نقول « زید » فإن هذا اللّفظ وجود طبیعة کیف مسموع بالذات ، و وجود جعلی للمسمّی بهذا الاسم .

و الثانی : إن حقیقة الاستعمال إیجاد المعنی باللّفظ ، لکنْ بالوجود الجعلی التنزیلی المذکور .

و الثالث : إنّ الإیجاد و الوجود واحد حقیقةً متعدد اعتباراً ، إذ الحقیقة إنْ اضیفت إلی القابل فهو الوجود ، و إنْ أضیفت إلی الفاعل فهو الإیجاد .

و علی هذه الأسس ، فإنه یستحیل استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی ، حتی مع عدم لحاظ اللّفظ أصلاً ، و وجه الاستحالة : إنه لا یوجد عندنا إلّا لفظ واحد ، و له وجود واحد ، فلما استعمل فی المعنی الأوّل حصل له الوجود بالوجود التنزیلی ، فلو ارید استعماله فی الثانی أیضاً کان إیجاداً آخر کذلک ، فیکون استعماله فی المعنیین محصّلاً للإیجادین ، لکنّ الموجود عندنا واحد لا غیر ، فیلزم وحدة الوجود و تعدّد الإیجاد ، و هذا محال ، لکون الوجود عین الإیجاد کما تقدَّم فی المقدّمة الثالثة .

مناقشة الاستاذ

و أورد علیه شیخنا دام بقاه بوجوه :

أمّا أوّلاً : فإنّ مختار المحقق الأصفهانی فی حقیقة الوضع هو « الوضع فی عالم الاعتبار » فی قِبال الوضع التکوینی ، کوضع العَلَم علی المسافة المعیّنة ، و إذا کان کذلک ، فلا یکون اللّفظ وجوداً تنزیلیّاً للمعنی . نعم ، هذا

ص:319

یتمّ علی مبنی الفلاسفة فی حقیقة الوضع .

و أمّا ثانیاً : فإنّ الوضع هو من فعلنا ، و نحن فی أوضاعنا - کوضع الأسماء علی المسمّیات - لا نجعل اللَّفظ وجوداً تنزیلیّاً للمعنی ، بل إنّ الاسم یوضع علی المسمّی لأنْ یکون علامةً له ، ینتقل الذهن بسببه إلیه .

و أمّا ثالثاً : فإن قاعدة الوحدة الحقیقیّة بین الإیجاد و الوجود من أحکام الموجودات الحقیقیّة ، وعلیه ، یستحیل إیجاد الشیئین الحقیقیّین بوجود واحد ، أمّا إیجاد الشیئین فی عالم الاعتبار بوجود واحدٍ ، فلا مانع عقلی عنه .

المتحصّل من البحث

فتحصّل من جمیع ما تقدَّم : عدم قیام برهان صحیح علی استحالة استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی عقلاً .

بل إنّ المختار فی حقیقة الوضع هو جعل اللّفظ علامة للمعنی ، و علی هذا المبنی لا مانع أصلاً من أن یکون الشیء الواحد علامة لشیئین .

فالحق هو الجواز علی المختار .

و أمّا علی مبنی التعهّد ، فکذلک ، لعدم المانع من أن یتعهّد باستعمال اللّفظ إذا أراد الشیئین ، و ما فی ( المحاضرات ) فی مبحث الاشتراک من عدم إمکان الاشتراک علی هذا المبنی ، تقدَّم ما فیه ، من أنّ نتیجة هذا المبنی هو التعهّد باستعمال اللّفظ الکذائی متی أراد المعنی الکذائی ، و هذا لا ینافی أن یکون المعنی الکذائی المراد متعدّداً .

فالحق

جواز استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی عقلاً .

هذا تمام الکلام فی الجهة الاولی .

ص:320

الجهة الثانیة
اشارة

و بعد الفراغ عن جهة الثبوت ، تصل النوبة إلی جهة الإثبات و الظهور العرفی .

و الحق : إن استعمال اللّفظ الواحد فی أکثر من معنی خلاف الأصل العقلائی ، و إطلاق اللّفظ الواحد و إرادة المعانی المتعددة منه بدون نصب قرینةٍ ، شیء غیر متعارف عند أهل المحاورة ، فإنهم لا یقصدون ذلک حتی فی الألفاظ المشترکة ، بل لا بدّ من نصب قرینةٍ ، یقول الشاعر :

بُز و شمشیر هر دو در کمرند

فکلمة « کمر » و إنْ کانت مشترکة بین « سفح الجبل » و « ظهر الإنسان » لکنّ المعنی ظاهر ، لأن « بز » و هو المعز یکون علی « سفح الجبل » و « شمشیر » و هو السیف یکون علی « ظهر الإنسان » .

فلو لم یکن المعنی ظاهراً مفهوماً لم یجز الاستعمال عقلاءً ، بل یکون مقتضی القاعدة عند عدم القرینة علی التفصیل الآتی :

إن لم یکن اللّفظ مشترکاً بین معانٍ متعددة بالوضع ، فلا شبهة فی حمله علی المعنی الحقیقی الواحد ، بمقتضی أصالة الحقیقة ، فإنْ کان له معنی مجازیّاً مشهوراً ، و المفروض عدم القرینة ، فلا یحمل ، لا علی المعنی الحقیقی و لا علی المجاز المشهور ، بل یکون مجملاً .

و إن کان مشترکاً بین معانٍ عدیدة ، کان محکوماً بالإجمال .

فإن علم بتعدّد المعنی المراد ، لکنْ تردّد الأمر بین إرادة المجموع و إرادة الجمیع ، کما لو کان للمولی عبدان باسم « غانم » و قال : بعت غانماً بدرهمین ،

ص:321

فعلمنا إجمالاً ببیعه کلّ واحدٍ أو بیعه کلیهما معاً ، قال فی ( المحاضرات ) (1) :

لا أصل لفظی یرجع إلیه ، بل المرجع هو الأصل العملی .

فقال الاستاذ : إنه بناءً علی کون حجیّة أصالة الحقیقة من باب التعبّد فالمرجع هو أصالة الحقیقة ، وعلیه ، یحمل الکلام علی العام المجموعی ، لأن المفروض إمکان استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی ، و المفروض کونه حقیقة فی کلا الفردین ، وعلیه یحکم باشتغال ذمّة المشتری بأربعة دراهم .

و أمّا بناءً علی القول بحجیّة أصالة الحقیقة من باب الظهور ، فالمفروض عدم الظّهور ، لکون مثل هذا الاستعمال علی خلاف الأصل العقلائی فی مقام المحاورة .

و إنْ کان اللّفظ حقیقةً فی کلٍّ من الفردین و مجازاً فی المجموع ، فالکلام حینئذٍ مجمل .

إلّا أن هذا التفصیل غیر وارد فی ( المحاضرات ) ، لأنه ذهب إلی استحالة الاشتراک ، علی مسلکه فی الوضع و هو التعهّد ، فلا مورد لأصالة الحقیقة بناءً علیه .

تفصیل صاحب المعالم

و فصّل صاحب ( المعالم ) (2) بین اللّفظ المفرد و التثنیة و الجمع ، فقال بأنّ استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی إن کان مفرداً فمجاز ، و إن کان مثنّیً أو

ص:322


1- (1)) محاضرات فی اصول الفقه 221/1 .
2- (2)) معالم الاصول : 52 ط دار الفکر .

جمعاً فحقیقة .

و الحق : عدم الفرق ، لأن هیئة التثنیة تدلّ علی تعدّد مدلول المفرد ، فإن جاز استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی حقیقةً فلا فرق ، و إنْ لم یجز فلا فرق کذلک ، فلفظ « العیون » یدل علی تعدّد « العَین » المفروض کونه موضوعاً بأصل اللّغة لأکثر من معنی ، لا أنه یدل علی « عَینٍ » و « عین » و « عین » ...

بأن یراد من اللّفظ الأوّل الباصرة ، و من الثانی : الجاریة ، و من الثالث : عین الشمس ... و هکذا ...

ثمرة البحث فی استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی

هذا ، و للبحث عن استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی ثمرات :

منها : ما تقدَّم فی مثال بیع غانم ، و کذا عتقه ، و کذا لو کان له زوجتان باسم هند ، فطلَّق هنداً ، و هکذا فی جمیع الألفاظ المشترکة ، الواقعة فی إنشاءٍ ، من البیع و الوصیّة و الصّلح و الهبة و الطلاق .

و منها : البحث فی مدلول قوله علیه السلام : « کلّ شیء هو لک حلال حتی تعلم أنه حرام » (1) هل یفید جعل الحلیّة فقط ، أو یفید جعلها و جعل استمرارها متی شک فیه ؟

و منها : البحث فی مدلول قوله علیه السلام : « کلّ شیء طاهر حتی تعلم أنه قذر » (2) فالبحث المشار إلیه جارٍ فیه کذلک .

و علی الجملة ، هل الخبران یجعلان الحلّ و الطّهارة فقط ، أو یصلحان لجعلهما و جعل استصحابهما لدی الشک فی بقائهما ؟

و منها : فی قوله علیه السلام : « لا ینقض الیقین بالشک » (3) هل یمکن

ص:323


1- (1)) انظر : وسائل الشیعة 89/17 ، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به ، رقم : 4 .
2- (2)) المستدرک 583/2 ، الباب 30 من أبواب کتابة الطهارة عن المقنع ، و فی وسائل الشیعة ، باب 37 من أبواب النجاسات عن التهذیب ، و فیه « نظیف » بدل « طاهر » .
3- (3)) الکافی 352/3 .

إرادة « قاعدة الیقین » و « الاستصحاب » معاً منه ، بأنْ یکون لفظ « الیقین » مستعملاً فی معناه الحقیقی الکائن فی قاعدة الیقین ، و المسامحی الکائن فی

الاستصحاب ، أو لا یمکن ذلک ؟

قالوا : و من الثمرات : جواز قصد إنشاء الدعاء و القراءة معاً فی «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِیمَ » (1)مثلاً ، بناءً علی جواز استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی عقلاً .

لکنّ الاستاذ ناقش بأنّ : القراءة فی الصّلاة هی حکایة ما نزل علی النبی صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم بعنوان القرآن و استعمال ذاک اللّفظ ، و لیست استعمال لفظٍ فی لفظ القرآن الکریم ، فهذا خارج عن البحث ، و لا یعدّ من ثمراته .

نعم یصح طرح البحث بأنّه هل یمکن التلفّظ بکلام الغیر و إبراز القصد به أیضاً أو لا ؟

الحق : إنه ممکن ، وفاقاً للمحقق الأصفهانی ، فیجوز اجتماع قصد القراءة مع قصد الإنشاء .

الکلام فی بطون القرآن

و تعرّض صاحب ( الکفایة ) إلی ما ورد فی أن لألفاظ القرآن الکریم بطوناً ، و ذلک بمناسبة أنّها تدلُّ علی وقوع استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی فی القرآن الکریم ، و أدلّ دلیلٍ علی إمکان الشیء وقوعه ، و قد ذهب هو إلی الامتناع .

رأی المحقّق الخراسانی

ص:324


1- (1)) سورة الفاتحة : 6 .

و أجاب عن ذلک بوجهین :

الأول : إن مدلول هذه الأخبار ، أنّ اللّٰه تعالی قد أراد - فی ظرف إرادة المعنی الواحد من اللّفظ - معانی اخری غیره ، فلیس اللّفظ مستعملاً فی سبعة معانٍ ، بل استعمل فی معنی واحدٍ و اریدت الستة الاخری مقارنةً لهذا المعنی .

قال شیخنا دام بقاه : و هذا أمر ممکن ، لکنّه لا یتناسب مع مدلول تلک الأخبار ، و هو کون بعض المعانی ظاهر اللّفظ و بعضها باطنه ، و أین هذا ممّا ذکره ؟

و الثانی : إن المعنی المطابقی للّفظ هو معنی واحد ، و سائر المعانی التی اشیر إلیها فی الأخبار إمّا لوازم له و إمّا هی ملزومات له ، فلیس الدّلالة من باب الاستعمال ، بل من باب الدّلالة الالتزامیة ، و لا مانع من أن یکون للّفظ الدالّ علی معناه مطابقةً معان عدیدة یَدل علیها التزاماً .

و قد استحسن جماعة من الأعلام هذا الوجه .

و خالف شیخنا فقال : بأنّه جیّد موجبةً جزئیّة ، و إلّا ففی المعانی التی هی من بطون القرآن - بحسب الروایات - موارد کثرة لیست دلالة اللّفظ علیها من باب الدلالة الالتزامیة .

إن اللوازم علی قسمین ، فمنها : لازم جلیّ ، کالحرارة بالنسبة إلی النار ، فمع استعمال لفظ النار فی معناه و دلالته علیه و هی الذات بالمطابقة ، توجد له دلالة علی الحرارة أیضاً ، و لکنَّ هذه الدلالة لا تسمّی « باطناً » لأنّ الملازمة جلیّة لکلّ أحدٍ .

و منها : لازم خفی ، و فی هذا القسم یمکن قبول کلام صاحب (الکفایة)، إلّا أن أخبار بطون القرآن لا ظهور فیها لکون الدلالة بالالتزام ، ففی قوله تعالی

ص:325

« مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ یَلْتَقِیَانِ » (1)قد ورد أنهما الحسن و الحسین علیهما السلام (2) ، و أین الملازمة بین « البحرین » و « الحسن و الحسین » ، لیدل اللَّفظ علیهما بالدلالة الالتزامیة ؟ و فی قوله تعالی «ثُمَّ لْیَقْضُوا تَفَثَهُمْ » (3)ورد أن المراد هو زیارة الإمام و لقاؤه بعد أعمال الحج (4) ... و أین الملازمة بین ذلک و ما هو المدلول المطابقی للفظ « التفث » أی : أخذ الشارب و قصّ الظفر ؟ .

و تلخّص : إن ما ذکره صاحب ( الکفایة ) لا یحلّ المشکل .

رأی جماعةٍ من المحقّقین

و أجاب المحقق النائینی و المحقق العراقی - و ذکره الفیض الکاشانی فی أوّل ( تفسیره ) - بأنّ المراد من هذه الأخبار هو : أن المعنی المستعمل فیه اللّفظ هو معنیً کلّی ، و أن مصادیقه متعددة ، لکنّها مخفیّة علی غیر أهل الذکر الذین هم الراسخون فی العلم ، العالمون بتأویل القرآن ، فإنّهم یعلمون بتطبیقات تلک الکلیّات .

و علی الجملة ، فإن بطون القرآن من قبیل استعمال اللّفظ الکلّی و إرادة المصادیق ، کلفظ « المیزان » فإنه لم یوضع هذا اللّفظ لهذه الآلة التی توزن بها الأشیاء فی السّوق ، بل الموضوع له هذا اللّفظ هو « ما یوزن به » و حینئذٍ یصدق علی الإمام المعصوم علیه السلام ، لوصفه بالمیزان فی الأخبار ، و علی

ص:326


1- (1)) سورة الرحمن : 19 .
2- (2)) تفسیر الصافی 109/5 ط الأعلمی .
3- (3)) سورة الحج : 29 .
4- (4)) تفسیر الصافی 376/3 ط الأعلمی .

القرآن ، و علی علم المنطق ، و علی العقل ، و علی المیزان المعروف ... و میزان کلّ شیء بحسبه .

و أورد شیخنا : بأنه أیضاً لا ینطبق علی جمیع الموارد ، مثلاً قوله تعالی :

« إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنکَرِ » (1)لا یوجد للفظ « الصلاة » معنیً کلّی ، لینطبق علی هذه « الصلاة » ذات الأقوال و الأفعال ، و علی أمیر المؤمنین علیه السلام ، و لا یوجد جامع بین الأمرین ، اللّهم إلّا الجامع الانتزاعی مثل « ما یتوجَّه به إلی اللّٰه » لکنّه غیر موضوع له لفظ « الصَّلاة » بالوضع الحقیقی ، و إنْ قلنا بجواز استعماله فیه مجازاً ، لزم القول بکونه فی جمیع موارد استعماله فی القرآن مجازاً ، و هذا لا یلتزم به .

رأی السید البروجردی

و ذکر السید البروجردی معنیً آخر ، و هو : إنّ للقرآن مراتب بحسب مراتب النفوس الإنسانیة ، فهی معانٍ طولیّة یدرکها الأشخاص بحسب مراتبهم النفسیّة ، فکلّما تقدّمت النفس فی الکمال تمکّنت من درک و فهم المعنی الأرقیٰ و الأدق ، کلفظ « التقوی » مثلاً ، حیث یفهم الصدّیقون منه ما لا یفهمه غیرهم .

فقال الاستاذ دام ظلّه : هذا الوجه متین ، و النفس کلّما تقدّمت فی الکمال أدرکت المعانی و الحقائق الأدق و الأعمق و الأجل ، لکنّ المشکل هو أنه لا بدَّ من تصحیح و توجیه استعمال الألفاظ القرآنیة فی تلک المعانی المختلفة المتعدّدة ، و تصحیح الاستعمال فیها لا یکون إلّا عن طریق دعوی کون الألفاظ موضوعةً للمعانی الکلیّة ، و یکون کلّ واحد من المعانی مصداقاً له ، أو دعوی کونها موضوعة لمعانیها الحقیقیة المنفردة الواحدة ، و تلک المعانی لوازم ، و صاحب هذا الوجه قد أبطل کلتا الدعویین ، و لم یوافق علی

ص:327


1- (1)) سورة العنکبوت : 45 .

ذینک الوجهین .

رأی السید الحکیم

و علی الجملة ، فإن هذا الوجه لا یحلّ المشکلة من جهة تصحیح الاستعمال ، فإن اللّفظ الدالّ علی تلک المراتب بأیّ وجهة یدل ؟ إن کانت دلالته حقیقیةً ، کان موضوعاً للکلّی و المراتب مصادیق ، و إنْ کانت دلالته مجازیّةً ، فلازمه أنْ تکون ألفاظ القرآن هذه کلّها مجازاً ، و لا یجوز الالتزام به و إنْ التزم به السید الحکیم ، حیث قال (1) بأن بطون القرآن من قبیل استعمال اللّفظ فی مجموع المعانی ، فکلّ واحدٍ منها لیس الموضوع له بل استعماله فیه مجازی .

و هذا الوجه ممنوع جدّاً .

هذه عمدة الوجوه المذکورة فی حلّ المطلب ، و لم یرتض شیخنا شیئاً منها .

فقال شیخنا :

إن لسان الروایات فی بطون القرآن مختلف ، فمنها : ما یفید أنّ الظاهر عبارة عمّن نزل فیه القرآن ، و الباطن عبارة عن الذین یعملون أعمال من نزل فیه ، و منها : ما یفید أن ظاهر بعض الآیات هو القصّة و الباطن هو الموعظة ، و منها : ما یفید أن الظاهر هو التنزیل و الباطن هو التأویل ، و منها : ما یفید أن الباطن عبارة عن التطبیقات العددیة ، و منها : ما یفید أن المراد من البطون هو الوجوه السبعة ، و منها : ما جاء فیه : إن بطون القرآن عجائبه و غرائبه ، و منها :

ما جاء فیه من أنها التخوم ... و منها : ما یستفاد منه غیر ذلک .

ص:328


1- (1)) حقائق الاصول 95/1 ط البصیرتی .

و علی کلّ حالٍ ، فما ذکره الاصولیون فی معنی هذه الروایات الکثیرة الثابتة لا ینطبق إلّا علی بعضها بنحو الموجبة الجزئیّة .

و الحق - بناءً علی المختار فی حقیقة الوضع من أنه العلامتیّة - هو جواز استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی ، إذ لا مانع من أن یکون اللّفظ الواحد علامةً لمعانی عدیدة ، و اسماً لعدّة امور .

أقول : لکن المشکلة هی أنه إذا کان اللّفظ علامةً لعدّةٍ من المعانی فی عرضٍ واحدٍ ، فکیف لم یعلم أهل اللسان إلّا بواحدٍ منها و هو المعنی الظاهر فیه اللَّفظ ، و المعانی الاخری التی هی البواطن لا یعلم بها إلّا الراسخون فی العلم و هو معدودون ؟ و مَن الواضع للّفظ علی تلک المعانی الباطنة التی استعمل فیها ؟

و هذا تمام الکلام فی استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی .

ص:329

ص:330

المشتق

اشارة

ص:331

ص:332

و فی هذا البحث بلحاظ المسائل المطروحة فیه ، أعظم فائدة للفقیه ، کما قال المحقق الرشتی .

مقدّمات البحث
اشارة

و لا بدَّ قبل الورود فیه ، من ذکر مقدمات :

المقدّمة الاولی ( فی أنّ البحث لغوی و کبروی )
اشارة

المشهور هو أنّ هذا البحث بحثٌ لغوی ، لأنّه یبحث من الجهة اللّغویة عن أنّ هیئات المشتقات ، هل هی موضوعة فی اللّغة بأنْ تکون حقائق لغویّة أو فی العرف لحصّة من الذات ، و هی خصوص المتلبّسة بالمبدإ بالفعل ، أو هی موضوعة للأعم منها و من غیرها ؟

وعلیه ، فالمحکّم فی البحث هو العلائم المقرّرة فی باب الحقیقة و المجاز .

أمّا علی ما ذهب إلیه الأکثر من عدم کون الذات مأخوذةً فی مفهوم المشتق ، و أنّ مدلوله هو العرض لا بشرط ، القابل للاتّحاد مع الذات ، فعنوان البحث هو : هل الموضوع له المشتق هو العرض المتّحد بالفعل أو الأعم منه و من غیره ؟

و قد وقع الاتّفاق علی أنّ الإطلاق علی الذات المتلبّسة بالفعل إطلاق

ص:333

حقیقی ، و علی ما تتلبّس فی المستقبل مجازی ، و إنما الخلاف فی الذات التی انقضیٰ عنها التلبّس بالمبدإ .

قول المحقّق الطّهرانی بأن البحث عقلی

و خالف الشیخ هادی الطهرانی فی ( محجة العلماء ) فقال : بأن هذا البحث عقلیّ و لیس لغویّاً ، لاتّفاق الأخصّی و الأعمّی فی مفهوم المشتق ، و إنما الاختلاف فی کیفیة الحمل ، فالأخصّی یراه من قبیل حمل هو هو ، و الأعمّی یراه من قبیل حمل ذو هو ، الذی یکفی فی صحّته وقوع التلبّس بالمبدإ بنحو الموجبة الجزئیّة .

مناقشة الاستاذ

لکنّ البحث عند الاصولیین - کما أشرنا - إنما هو فی أنّ الموضوع له هیئة « فاعلٌ » - مثلاً - عبارة عن خصوص الحصّة المتلبّسة بالفعل بالمبدإ ، أو أن الموضوع له هو الجامع بین المتلبّس و من انقضی عنه التلبّس ... و هذا بحثٌ لغوی .

هذا ، و یرد علیه - کما ذکر المحقق الأصفهانی أیضاً (1) أن کلامه یخالف اصطلاح المناطقة کذلک ، فإنّ الحمل الهوهو عندهم لا یختص بالجوامد مثل : « الجدار جسم » ، بل الحمل فی مثل « الجدار أبیض » و نحوه من قبیل الهوهو ، بلا فرق .

ثم إن الخلاف بین الأخصّی و الأعمّی کبروی و لیس بصغروی ، یقول الأخصّی : بأنّ صحّة إطلاق المشتق تدور مدار اتّصاف الذات و تلبّسها بالمبدإ فی ظرف الإطلاق ، بخلاف الأعمّی القائل بعدم لزوم ذلک ، و أنه یکفی فی

ص:334


1- (1)) نهایة الدرایة 170/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .

صدق المشتق حقیقة تلبّسُ الذات بالمبدإ فی وقتٍ من الأوقات ، و إنْ کان منتفیاً عند الإطلاق .

تجویز المحقق البروجردی کون البحث صغرویّاً

و قد جوّز السید البروجردی أن یکون الخلاف صغرویّاً ، فقال (1) ما حاصله : إن صدق أیّ عنوانٍ علی ذاتٍ من الذوات ، متوقّف علی وجود الملاک المصحّح للحمل ، و هو کون الذات مصداقاً لذلک العنوان المحمول علیها ، فلو فقد الملاک لزم صدق کلّ مفهومٍ علی کلّ ذاتٍ ، أو الترجیح بلا مرجّح ، ففی قولنا : « الجدار أبیض » یعتبر کون « الجدار » مصداقاً لعنوان « الأبیض » و إلّا فلِمَ لا یصدق هذا العنوان علی الجدار غیر الأبیض ؟

و إلی هنا لا خلاف بین الطرفین ، غیر أنّ القائل بأن المشتق أعمّ من المتلبّس فی الحال و من انقضی عنه المبدأ ، یقول : بأنّه یکفی فی تحقّق المِصداقیّة - التی هی المصحّحة للحمل - تلک الحیثیّة الاعتباریة الحاصلة للذات الصادر عنها « الضرب » مثلاً ، بسبب صدوره عنها فی وقتٍ من الأوقات ، و هی حیثیّة باقیة ، کعنوان « من صدر عنه الضرب » علی تلک الذات ، و إنْ لم یکن هناک اتّصاف بالضرب عند الإطلاق . و یقول القائل بوضع المشتق لخصوص المتلبّس : بأنّ المصحّح للحمل و الملاک للمصداقیّة لیس إلّا الاتّصاف بالضاربیّة الفعلیة حین الإطلاق ، و أمّا وصف الذات بلحاظ اتّصافها سابقاً و حمل الضارب علیها فمجاز ...

وعلیه ، فیکون الخلاف صغرویّاً .

ص:335


1- (1)) نهایة الاصول : 58 ط المصطفوی .
مناقشة الاستاذ

و تنظّر الاستاذ دام بقاه فی هذا الکلام : بأنّه ناشئ من الخلط بین الحمل الحقیقی الفلسفی و الحمل الحقیقی العرفی ، فما ذکره یتم بالنظر الفلسفی ، لأنّهم یقولون بمجازیّة : الجدار أبیض ، لأن الحمل الحقیقی عندهم هو :

البیاض أبیض ، لکنّ البحث فی المشتق یدور مدار النظر العرفی و قولنا :

الجدار أبیض ، حقیقة عرفیّة بلا ریب .

و أمّا لزوم الترجیح بلا مرجّح ، أو حمل کلّ شیء علی کلّ شیء ، ففیه :

إنه إنما یلزم ذلک لو لم یکن التلبّس بالمبدإ فی وقتٍ من الأوقات کافیاً للحمل و تحقّق المصداقیّة ، و الحال أنّ هناک فرقاً بین من اتّصف به کذلک و بین من لم یتّصف أصلاً ، فلا ترجیح بلا مرجّح .

و أمّا قوله بضرورة وجود العنوان الانتزاعی بناءً علی القول بالأعم ، ففیه :

أوّلاً : إن اتّصاف الذات بالمبدإ و تلبّسها به فی وقتٍ من الأوقات ، لیس عنواناً انتزاعیّاً ، بل هو عنوان واقعی ، فقد صدر منه الضرب مثلاً سابقاً حقیقةً ، و لیس فی البین اعتبار من أحدٍ - لیدور الاتّصاف به مداره - أصلاً .

و ثانیاً : إن الملاک فی الصّدق هو الصدق العرفی کما تقدّم ، و لفظة « القائم » فی الفارسیّة ترادف « ایستاده » و لیس مفهومها هو الاتصاف بالقیام فی وقتٍ من الأوقات .

و تلخّص :

1 - إنّ البحث لغوی ، و لیس بعقلی .

2 - إنّ البحث کبروی ، و لیس بصغروی .

ص:336

المقدّمة الثانیة ( فی تحریر محلّ النزاع )
اشارة

تارة : یکون لمجموع الهیئة و المادّة - من الألفاظ - وضع واحد .

و اخری : یکون لکلٍّ من الهیئة و المادّة وضع مستقل .

فما یکون من القسم الأوّل ، یسمّی بالجامد ، و الوضع فیه شخصی .

و ما یکون من القسم الثانی ، یسمّی بالمشتق ، و الوضع فی طرف الهیئة نوعی ، و فی المادّة قولان .

و کلّ من القسمین ینقسم إلی قسمین ، فالمشتق ینقسم إلی :

1 - قسم قابلٍ للحمل علی الذات و الاتحاد معها ، کاسم الفاعل و اسم المفعول .

2 - قسم لا یقبل ذلک ، کالأفعال و المصادر و أسماء المصادر .

و لا خلاف بینهم فی أنّ مورد البحث هو القسم الأوّل ، أمّا الثانی فخارج ، فیکون موضوع البحث فی المشتق أخص من العنوان .

إلّا أنّ الظاهر من کلام صاحب ( الفصول ) (1) اختصاص البحث باسم الفاعل و ما یشبهه فقط ، فلا یعمّ کلّ ما هو قابل للحمل ، کأسماء الآلات ، لأن « المفتاح » مثلاً یصدق حتی مع عدم تحقّق الفتح بالفعل ، فالموضوع له فیه أعمّ من المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس . إلّا أن الحق - وفاقاً لصاحب ( الکفایة ) و غیره - عموم البحث لمثله ، لوقوع النزاع فیه ، غیر أن مبادئ المشتقات تختلف ، فقد یکون فعلاً ، و قد یکون حرفةً ، و قد یکون ملکةً ، و قد یکون شأنیّةً ، و یختلف التلبّس و الانقضاء فیها بحسب اختلاف المبدإ .

فإن کان المبدأ هو الحدث ، فالتلبّس یکون تلبّس الفعلیّة و انقضاؤه بانقضائها ، و إنْ کان حرفةً أو ملکة فلیس المبدأ هو الفعلیّة ، فلذا یصدق

ص:337


1- (1)) الفصول الغرویة : 60 .

عنوان « البقّال » علی صاحب هذه الحرفة و إنْ کان نائماً مثلاً ، و کذا یصدق عنوان « المجتهد » علی صاحب تلک الملکة ، و هکذا ...

و الجامد ینقسم إلی :

1 - ما ینتزع من مقام الذّات و الذاتیّات .

2 - ما ینتزع من امورٍ لاحقةٍ متأخّرةٍ عن الذات ، و هذا ینقسم إلی قسمین :

أ - الامور المنتزعة المتأخّرة عن الذات واقعاً ، کالأعراض ، مثل الفوقیّة و التحتیّة .

ب - الامور المنتزعة المتأخّرة عن الذات اعتباراً ، کالزوجیّة و الحریّة و الرقیّة ...

و اتّفقوا علی خروج القسم الأوّل - و أنّ محل البحث هو القسم الثانی بقسمیه (1) - إذْ لا معنی لأنْ یبحث عن صدق « الإنسان » بعد أنْ صار تراباً ،

ص:338


1- (1)) و مراد صاحب (الکفایة) - فی کلامه ص 40 - من « العرض » عبارة عن الأعراض المتأصّلة التی یوجد بإزائها شیء فی الخارج ، مثل البیاض و السواد و غیرهما ، و مراده من « العرضی » لیس الامور الاعتباریة فقط ، بل کلّ ما لا یوجد فی الخارج بإزائه شیء ، أعم من أنْ یکون واقعیاً کالفوقیّة و التحتیّة أو اعتباریّاً کالملکیّة و الزوجیّة . فمراده ما ذکرناه - و هو مقتضی التأمّل فی کلامه حیث مثّل بالزوجیة و الرقیّة و قال فی آخره : من الاعتبارات و الاضافات ، لا ما ذکره بعض المحشّین علی ( الکفایة ) کالمشکینی و السید الحکیم من أن مراده من العرض هو الأمر الواقعی ، و من العرضی الأمر الاعتباری . و لا یتوهّم : أنه بناءً علی کون مقولة الاضافة من الاعتباریات کما هو مسلک بعضهم ، فما ذکراه فی معنی العبارة صحیح ، و ذلک ، لأن صاحب ( الکفایة ) جعل الإضافات مقابلةً للاعتباریات ، فأفاد أن الاضافات غیر داخلة عنده فی الاعتبارات . و علی الجملة ، فمراده من العرض کلّ مبدإ له ما بإزاء خارجاً ، و من العرضی ما لیس له ذلک ، سواء کان اعتباریاً کالزوجیة و الملکیة أو غیر اعتباری کالفوقیة و التحتیّة . و لا یخفی : أنّ هذا اصطلاح من المحقق الخراسانی فی العرض و العرضی ، غیر اصطلاح المناطقة حیث المراد من العرض عندهم هو المبدأ و من العرضی هو المشتق .

لوضوح أنّ البحث إنّما هو عن الهیئة ، من جهة أنها موضوعة لخصوص الذات المتلبّسة أو للأعم منها و من التی انقضی عنها التلبّس ، کما فی مثل « العالم » و « القائم » و نحوهما ، و أمّا فی المثال المذکور و نحوه من العناوین الذاتیّة ، فلیس وراء الإنسانیة أو الکلبیّة شیء حتی یبحث عنها ، نعم ، تبقی الهیولی ، و لیست بذاتٍ ... فالذّات قد زالت ، و ما بقی شیء لکی یبحث عن التلبّس و الانقضاء فیه (1) .

فموضوع البحث کلّ لفظٍ توفّر فیه أمران :

1 - القابلیّة للحمل علی الذات .

2 - الواجدیّة للتلبّس و الانقضاء (2) .

فلا کلّ مشتق بداخلٍ فی البحث ، و لا کلّ جامدٍ بخارج عن البحث .

هذا تحریر محلّ النّزاع .

ص:339


1- (1)) فما فی کلام البعض من أنّ هذا البحث لغویّ ، و لا مجال فیه لمثل هذا الاستدلال العقلی ، و أن من الجائز طرح البحث فی موردٍ لیس التبدّل فیه من قبیل تبدّل الذات ، کالخمر إذا انقلب خلّاً ، بأن یبحث هل هذا خمر أو لا ؟ غیر وارد . لأنّ البحث و إنْ کان لغویّاً ، إلّا أنه یدور حول المفهوم الموضوع له اللّفظ ، و من حیث أنه هو الحصّة الخاصّة من الذات أو مطلق الذات ، فالمورد الذی لا توجد الذات خارج عن البحث موضوعاً ، سواء کانت حقیقة الشیء بصورته أو بمادّته . و أمّا الجواب عن النقض بمثل الخلّ و الخمر ، فإنهما و إنْ کان شیئاً واحداً عقلاً ، إلّا أن الخمر و الخلّ من الحیثیة النوعیّة أمران متغایران .
2- (2)) بالنظر إلی الهیئة لا المادّة ، بأنْ تکون الهیئة قابلةً لأن یبحث عن أنها موضوعة لخصوص المتلبّس أو للأعم ، کهیئة « فاعل » و « مفعول » و « مفعَل » و إنْ کانت الهیئة فی مادّةٍ لیس لها انقضاء مثل « الناطق » حیث المادة هنا نفس الذات ، فلا یخرج مثله عن النزاع ، خلافاً للمحقق النائینی ، کما لم یخرج هیئة « مفعل » ، خلافاً لصاحب الفصول . و علی الجملة ، فمورد البحث هو الهیئة مطلقاً ، سواء کانت المادّة المشتملة علیها من قبیل « القائم » أو من قبیل « الناطق » .
مطالب متعلّقة بتحریر محلّ النزاع

و هنا مطالب متعلّقة بتحریر محلّ النزاع :

1 - الفرع الفقهی الذی استشهد به صاحب الکفایة لعموم البحث

ثم إن صاحب ( الکفایة ) استشهد لعموم بحث المشتق بالنسبة إلی بعض الجوامد ، و تأکیداً لسقوط القول بعدم دخول الجوامد مطلقاً ، بکلام فخر المحققین فی ( إیضاح الفوائد ) (1) فی شرح أحد فروع الرّضاع ، و هو ما لو کان لرجلٍ زوجتان کبیرتان و اخری صغیرة ترضع ، فأرضعتها إحدی الکبیرتین الرضاع الکامل ، فقال الأصحاب بحرمة الکبیرة و الصغیرة کلتیهما علی الزوج ، لأنّ الصغیرة حینئذٍ ابنته من الرّضاع ، و إنه یحرم من الرّضاع ما یحرم من النسب ، و الکبیرة امّ زوجته ، أو تحرم الصغیرة لکونها ربیبته .

ثم لو أرضعت الکبیرة الاخری بعد ذلک هذه الصغیرة ، بنی القول بحرمة الکبیرة الثانیة علی الزوج علی المختار فی مسألة المشتق ، فإن کان حقیقةً فی خصوص المتلبّس ، لم تحرم بسبب الرّضاع ، لأنها قد أرضعت من کانت زوجةً للرجل ، و هی حین الرضاع ابنته أو ربیبته ، و إنْ کان حقیقةً فی الأعمّ من المتلبّس و من انقضی عنه التلبّس ، حرمت ، لأنّها أصبحت أمّ الزوجة ، کما کانت الکبیرة الاولی .

ص:340


1- (1)) إیضاح الفوائد فی شرح القواعد 52/3 .

فهذه المسألة احدی الثمرات الفقهیة للنزاع ، و قد ظهر جریانه فی مثل « الزوجیّة » من الجوامد .

و تفصیل الکلام فی هذه المسألة هو :

إن الأصل فی المسألة هو الشیخ فی ( المبسوط ) و ( النهایة ) ، و قد اختلفت فتیاه فی الکتابین ، و تبعه علی کلٍّ منهما طائفة من الفقهاء ، و هی احدی الفروع الأربعة التی ذکرها :

1 - لو کانت له زوجة کبیرة و اخری صغیرة .

2 - لو کانت له زوجتان کبیرتان و صغیرة .

3 - لو کانت له زوجة کبیرة مع زوجتین صغیرتین .

4 - لو کانت له زوجتان کبیرتان مع زوجتین صغیرتین .

ثم إنّ اللبن تارةً یکون لبن الفحل و هو الزوج ، و أخری لبن غیره .

و أیضاً : تارةً یکون الرضاع مع الدخول بالکبیرة ، و اخری مع عدم الدخول بها (1) .

أدلّة القولین

قال العلّامة و جماعة بحرمة الکبیرة الثانیة ، لأن المشتق حقیقة فی الأعمّ ، و قال آخرون بعدم الحرمة ، لکون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس ، و قد ادّعی الإجماع علی حرمة الاولی ، و لا خلاف فی ذلک إلّا من بعض متأخّری المتأخّرین .

و قد استدلّ للقول بعدم الحرمة بروایة علی بن مهزیار ، و هی نصٌّ فی ذلک .

ص:341


1- (1)) و ما فی نسخ ( الکفایة ) : « مع الدخول بالکبیرتین » غلط من النسّاخ ، و الصحیح : مع الدخول بإحدیٰ الکبیرتین .

و أجاب الفخر و المحقق الثانی و غیرهما عنها بضعف السند .

و هذه هی الروایة : محمد بن یعقوب ، عن علی بن محمد ، عن صالح بن أبی حماد ، عن علی بن مهزیار ، عن أبی جعفر علیه السلام قال :

قیل له : إن رجلاً تزوّج بجاریةٍ صغیرة فأرضعتها امرأته ، ثم أرضعتها امرأة له اخری . فقال ابن شبرمة : حرمت علیه الجاریة و امرأتاه ، فقال أبو جعفر علیه السلام : « أخطأ ابن شبرمة ، تحرم علیه الجاریة و امرأته التی أرضعتها ، فأما الأخیرة فلم تحرم علیه ، کأنها أرضعت ابنته » (1) .

التحقیق فی سند روایة ابن مهزیار

و قد اورد علی سند هذه الروایة بوجهین :

الأول : الإرسال . فذکر لإثبات إرسالها وجوه :

1 - إن المراد ب « أبی جعفر » - متی أُطلق - هو الإمام الباقر علیه السلام ، و ابن مهزیار من أصحاب الرضا و الجواد علیهما السلام ، و لو کان المراد هو الإمام الجواد لقیَّد ب « الثانی » .

2 - إن ذکر ابن شبرمة فی الروایة قرینة علی أن المراد من أبی جعفر فیها هو الباقر علیه السلام ، لأن ابن شبرمة کان معاصراً له لا للإمام الجواد ، فتکون الروایة مرسلة ، لسقوط الواسطة المجهول حالها بینه و بین الإمام علیه السلام .

3 - لو کان المراد هو الإمام الجواد علیه السلام - لأنه من أصحابه - لما جاءت الروایة - کما فی ( الکافی ) - بلفظ « رواه عن أبی جعفر » الظاهر فی النقل مع الواسطة ، و إلّا فلا حاجة إلی هذا اللّفظ ، کما هو الحال فی سائر

ص:342


1- (1)) وسائل الشیعة 14 : 305 . الباب 14 من أبواب ما یحرم بالرّضاع .

الروایات المسندة .

4 - کلمة « قیل له » ظاهرة فی عدم سماع ابن مهزیار من الإمام علیه السلام ، و إلّا لقال : عن أبی جعفر .

و یمکن الذبّ عن الروایة بالجواب عن کلّ ذلک :

أمّا عن الأول ، فإنّ التقیید ب « الثانی » متی کان المقصود من أبی جعفر هو الإمام الجواد علیه السلام ، إنما جاء فی الأعصار المتأخّرة ، أمّا لزوم ذلک علی الرّواة أنفسهم ، فلا دلیل علیه .

و أما عن الثانی - و هو أتقن الوجوه - فإن ابن شبرمة ، المتوفّی سنة 144 ، و إنْ کان معاصراً للصّادقین علیهما السلام ، إلّا أنه کان من القضاة الکبار ، و له تلامذة ، فما المانع من أنْ یقال فی مجلس الإمام الجواد علیه السلام : قال ابن شبرمة کذا ... ؟ لقد ظنّ الشهید الثانی قدّس سرّه و من تبعه أن هذه الکلمة تعنی حضور ابن شبرمة فی المجلس و تکلّمه عند الإمام ... بل الظاهر : وقوع القضیّة فی زمن ابن شبرمة ، ثمّ السؤال عنها و عن رأیه فیها من الإمام الجواد علیه السلام الذی قال فی الجواب : أخطأ ابن شبرمة ...

و أمّا عن الثالث - و هو الذی اعتمده فی ( المحاضرات ) - فإن ظهور « روی » فی النقل مع الواسطة أوّل الکلام ، أمّا لغةً فواضح ، و أمّا اصطلاحاً ، فإنّ عدم قولهم « روی فلانٌ » فی مورد النقل بلا واسطة ، لا یکفی لأنْ یحمل ذلک علی النقل مع الواسطة ... هذا أوّلاً .

و ثانیاً : هذه الروایة فی نقل صاحب ( الوسائل ) بلفظ « عن أبی جعفر » إلّا أنْ یدّعی التعارض بین النقلین ، فیکون المقدَّم لفظ الکافی ، لأصالة عدم الزیادة .

ص:343

و ثالثاً : قد وجدنا فی أخبار الشیخ طاب ثراه أنّه قد یروی الخبر المسند بلفظ « روی » ... قال رحمه اللّٰه : « فأمّا الذی رواه علی بن الحسن ، عن محمد بن الحسن ، عن محمد بن أبی عمیر ، عن بعض أصحابنا ، رواه عن أبی عبد الله علیه السلام ... » (1) ثم إنّه قد أورد نفس هذا السند بلا کلمة « رواه » فقال : « علی ، عن أبیه ، عن ابن أبی عمیر عن بعض أصحابنا ، عن أبی عبد اللّٰه علیه السلام ... » (2) .

و تلخّص : إن کلمة « رواه » لا تنافی الاتّصال .

و أما عن الرابع ، فالجواب واضح ، بأنْ یکون ابن مهزیار حاضراً ، و قد سأل أحد الحضور الإمام علیه السلام عن المسألة ، و نظائره کثیرة جدّاً .

الثانی : الضعف ب « صالح بن أبی حمّاد » ، فقد قال النجاشی : یعرف و ینکر ، و عن ابن الغضائری : ضعیف ، و توقّف فیه العلّامة .

و قد ذکرت وجوه للاعتماد علیه :

1 - روایة أجلّاء الأصحاب عنه .

2 - عدم استثناء ابن الولید و الصّدوق له من مشایخ محمد بن أحمد بن یحیی ، فقد روی الصّدوق عن محمد بن أحمد بن یحیی عن صالح بن أبی حمّاد ، فی کتاب ( عیون أخبار الرضا ) ، فهو مقبول لدی ابن الولید و الصدوق تبعاً له . و قد اعتمد الوحید البهبهانی هذا الوجه .

3 - إنه من رجال تفسیر القمّی .

4 - فی الکشی عن علی بن محمد بن قتیبة : أن الفضل بن شاذان کان

ص:344


1- (1)) تهذیب الأخبار 316/7 ، الباب 27 ، رقم : 14 .
2- (2)) تهذیب الأخبار 336/7 ، الباب 30 ، رقم : 7 .

یرتضیه و یمدحه (1) .

قال شیخنا : و أقواها هو الوجه الرّابع ، لکنّ الاعتماد علیه مشکل :

أمّا من جهة السند ، ففیه : علی بن محمد بن قتیبة ، و لم یرد فی حقّه توثیق ... إلّا أن یدفع ذلک باعتماد الکشی علیه و کثرة النقل عنه ، و قد قال الشهید فی ( الذکری ) (2) فی رجلٍ : إنه و إنْ لم یرد فیه توثیق ، فإن نقل الکشی عنه یفید الاعتماد علیه .

و أمّا من جهة المدلول ، فإنّ ارتضاء الفضل له إنْ کان ارتضاءً لِما ینقل و یرویه ، کان دلیلاً علی وثاقته عندنا ، لا علی مجرَّد الحسن ، خلافاً لعلماء الرجال ، لکنّ من المحتمل أن یکون ارتضاءً منه لعقائده ، بأنْ یراه مستقیم العقیدة ، أو یکون ارتضاءً منه لعقله ، فی قِبال عدم ارتضائه لأبی سعید سهل ابن زیاد الآدمی لکونه أحمق کما قال ، و إذا جاء الاحتمال وقع الإجمال و بطل الاستدلال .

و بعد ، فإنّ المشهور بین الأصحاب - کما فی ( الریاض ) (3) هو القول بعدم الحرمة ، وعلیه الکلینی و الإسکافی و الشیخ ، و لا خلاف من المتقدمین إلّا من ابن إدریس ، بل فی ( الشرائع ) نسبة القول بالحرمة إلی « القیل » (4) ، فالشّهرة مطابقة للروایة ، لکنّ دعوی انجبار ضعفها بعمل المشهور مردودة من جهة الکبری و الصغری .

ص:345


1- (1)) رجال الکشی : 473 ط الأعلمی .
2- (2)) قال فی الذکری 108/4 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام : « الحکم ذکره الکشی و لم یعرض له بذم » ، و هو : الحکم بن مسکین و انظر : اختیار معرفة الرجال ، بتعالیق السید الداماد 758/2 .
3- (3)) ریاض المسائل 92/2 ط القدیمة .
4- (4)) شرائع الاسلام 286/2 ط البقّال .

هذا تمام الکلام فی الاستدلال بالخبر للقول بعدم الحرمة فی الکبیرة الثانیة .

و یبقی الاستدلال بمقتضی القاعدة من کلا الطّرفین .

الکلام فی حکم الکبیرة الأولی

و قد تقدّم أنّ ظاهر الأصحاب هو التسالم علی حرمتها ، بل هو صریح الفخر رحمه اللّٰه ، و قد أذعن صاحب الجواهر (1) و غیره بهذا الإجماع ، و لم ینقل الخلاف إلّا عن ابن إدریس .

و قد تنظّر الاستاذ دام بقاه فی ذلک لوجود شبهة انقضاء المبدإ فیها ، کالکبیرة الثانیة بلا فرق ، ثم أوضح ذلک بالتحقیق فی مدارک هذه الفتوی بأنّه :

1 - روایة ابن مهزیار

إن کان الدلیل هو روایة علی بن مهزیار المتقدّمة سابقاً ، فقد عرفت حالها سنداً .

2 - صدق «أُمَّهَاتُ نِسَائِکُمْ »

و إنْ کان دعوی صدق قوله تعالی «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ ... أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » (2)علیها ، فهو أوّل الکلام ، و ذلک لعدم الریب فی أنّ « الاُمیّة » و « البنتیّة » متضایفتان ، و المتضایفان متکافئان قوّةً و فعلاً . و لا ریب أیضاً فی أنّ « البنتیّة » و « الزوجیّة » متضادّتان ، و بالنظر إلی هاتین المقدّمتین : إنه إذا استکملت شرائط الرّضاع و تحقّقت « الأُمیّة » للکبیرة ، تحقّقت « البنتیّة » للصغیرة بملاک التضایف ، و حینئذٍ ترتفع « الزوجیّة » بملاک التضاد ، فتکون هذه المرأة « امّاً »

ص:346


1- (1)) جواهر الکلام 331/29 .
2- (2)) سورة النساء : 23 .

لمن کانت « زوجة » ، فإنْ قلنا : بأن المشتق حقیقة فی الأعم تمّ الاستدلال بالآیة ، لعدم الشک فی الصّدق ، و إنْ قلنا : بأنّه حقیقة فی خصوص المتلبّس و مجازٌ فی من انقضی عنه ، فإنّ أصالة الحقیقة تقتضی عدم الحرمة ، لانقضاء المبدإ .

فلا فرق بین الکبیرتین ، إلّا من جهة طول الفاصل الزمانی و قصره ، ففی الکبیرة الثانیة خرجت الصغیرة عن الزوجیّة من زمانٍ سابق ، أمّا فی الاُولی فبعد زمنٍ قصیر .

وجوه التخلّص من الإشکال

و قد ذکرت وجوه للتخلّص من هذا الإشکال ، و توجیه قول الأصحاب بحرمة الاولی علی القاعدة :

الوجه الأول

إنه و إنْ لم تکن الکبیرة الاولی « امّ زوجة » الرجل ، من الناحیة العقلیّة ، للبرهان المتقدم ، إلّا أنه یصدق علیها العنوان المذکور عرفاً ، و المناط فی الأحکام الشرعیّة هو الصّدق العرفی .

ذکره جماعة ، منهم صاحب ( الجواهر ) ، و نقله المحقق الخراسانی صاحب ( الکفایة ) فی رسالته ( فی الرضاع ) ، ثم أمر بالتأمّل .

قال الاستاذ : وجه التأمّل هو عدم وضوح کون هذا الصّدق العرفی حقیقةً عرفیّة ، فلعلّهم یطلقون علیها العنوان المذکور من باب المسامحة ، فیکون مجازاً ، و مجرَّد هذا الشک کاف .

الوجه الثانی

إنه لا ریب فی أنّ الأُمومة و البنتیّة مزیلة للزوجیّة ، فزوال الزوجیّة معلول

ص:347

لوصفی الأُمومة و البنتیّة ، و کلّ معلولٍ متأخر رتبةً عن العلّة ، فلا بدَّ و أنْ یفرض وصف الزوجیّة مع الوصفین فی رتبةٍ واحدة حتی یمکن عروض الإزالة مستنداً إلی وصف البنتیّة علی الزوجیّة ، فالزوجیّة مع الأُمومة و البنتیّة مفروضة کلّها فی مرتبةٍ واحدة ، وعلیه ، فإنه تتّصف الأم المرضعة فی هذه المرتبة بأُمّ الزوجة ، فالنزاع یختص بالزوجة الثانیة دون الاولی .

قاله السید البروجردی طاب ثراه (1) .

و قال شیخنا : هذا خیر ما قیل فی المقام ، و حاصله : إن الکبیرة الاولی امّ الزوجة حقیقةً ، و متلبّسة بالمبدإ ، غایة الأمر أن اجتماع الاُمیّة مع الزوجیّة کان فی الرتبة لا فی الزمان .

مناقشة المحاضرات

و ناقشه فی ( المحاضرات ) (2) بأنّ الاتحاد الرّتبی بین الشیئین أو اختلافهما فی المرتبة لا یکون بلا ملاک ، أمّا بین « البنتیّة » و « ارتفاع الزوجیّة » فالملاک للتقدّم و التأخّر الرتبی موجود ، لأن « البنتیّة » علّة زوال « الزوجیّة » و من المعلوم تقدّم العلّة علی المعلول ، فلا إشکال فی تقدم البنتیّة علی عدم الزوجیّة ، أمّا تقدّم « الأُمیّة » علی « عدم الزوجیّة » فلا ملاک له ، لعدم العلیّة ، فلا یتم القول بکون « الأُمیّة » و « الزوجیّة » فی مرتبةٍ واحدة .

و هذا نظیر : أنّ وجود العلّة متقدّم فی الرتبة علی وجود المعلول ، و وجود العلّة و عدم وجودها فی مرتبةٍ واحدة ، لکنّ عدم العلّة غیر متقدّم فی المرتبة علی وجود المعلول ، إذ التقدّم موقوف علی الملاک ، و لیس لعدم العلّة ربط بوجود المعلول .

ص:348


1- (1)) الحجة فی الفقه : 80 .
2- (2)) محاضرات فی اصول الفقه 235/1 .
نقد المناقشة

و أورد علیه شیخنا دام بقاه : بأنّه لا خلاف فی أنّ الاختلاف فی المرتبة یحتاج إلی ملاک ، و هل الاتّحاد فیها أیضاً کذلک أو لا ؟ قال المحقق الأصفهانی فی ( نهایة الدرایة ) و ( الاصول علی النهج الحدیث ) بالأوّل ، و قال السیّد الخوئی فی حاشیة ( أجود التقریرات ) بالثانی ، و علی هذا المبنی نقول : إذا کان عدم الملاک الموجب للاختلاف فی الرتبة - کأنْ لا تکون بین الشیئین نسبة العلیّة و المعلولیّة ، و لا یکون أحدهما موضوعاً و الآخر محمولاً له کافیاً للاتحاد الرتبی بینهما ، لم یکن وجه لإشکاله علی التقریب المذکور ، لأنّ « الامومة » و « الزوجیّة » لمّا لم یکن ملاک الاختلاف الرتبی بینهما ، لعدم کون إحداهما علّة و لا موضوعاً للاخری ، فهما فی مرتبةٍ واحدة ، و حینئذٍ أمکن اجتماعهما إنْ دلّ دلیلٌ علی ذلک ، و أمکن ارتفاع « الزوجیّة » مع بقاء « الامومة » إنْ دلّ دلیل ، لأنّ المفروض کونهما فی مرتبةٍ واحدة ، و إذا تحقّقت « الامیّة » و « الزوجیّة » انطبق دلیل الحرمة بلا إشکال .

فما ذکر فی ( المحاضرات ) ردّاً علی الاستدلال غیر تام .

الحق فی الجواب

بل الحق فی الجواب عن الاستدلال : أنه مبنیّ علی أنّ « البنتیّة » علّة لعدم « الزوجیّة » و هذا باطل ، لأن « البنتیّة » و « الزوجیّة » ضدّان ، و لا تعقل العلیّة و المعلولیّة بین الضدّین ، و لا یمکن أنْ یکون أحدهما علّة لارتفاع الآخر ، بل العلّة هنا هی الرّضاع ، و البنتیّة و ارتفاع الزوجیّة کلاهما معلولان للرّضاع ، فهو العلّة لصیرورة الصغیرة بنتاً للرجل ، و لارتفاع الزوجیّة بینه و بین المرضعة لها ... فما أسّس علیه الاستدلال باطل ، و بذلک یبطل البناء .

ص:349

و هذا الإیراد یتوجّه علی ( المحاضرات ) أیضاً ، لأنَّ ظاهره التسلیم بهذه العلیّة و المعلولیّة .

الوجه الثالث

إن قوله تعالی : «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » ظاهر فی « امّ الزوجة » بالفعل ظهوراً إطلاقیّاً لا وضعیّاً ، لأن الدّلالة علی الفعلیّة إنما جاءت من ناحیة الإضافة ، و هی لیس موضوعةً للتلبّس الفعلی ، فعند الإطلاق و عدم القرینة یحمل الکلام علی الفعلیّة .

إلّا أن المراد هنا هو الأعمّ من الفعلی قطعاً ، لقرینة السیاق ، فإنّ قوله تعالی : «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » ورد فی سیاق قوله «وَرَبَائِبُکُمُ اللاَّتِی فِی حُجُورِکُم » و من المسلّم به أن المراد من « الربیبة » هنا هو الأعمّ من بنت الزوجة الفعلیّة المدخول بها ، و التی انسلخت عنها الزوجیّة ، و مقتضی وحدة السّیاق إرادة الأعمّ فی طرف «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » فتندرج الکبیرة تحت هذا العنوان ، فتحرم علی الزوج .

أقول :

هنا بحثان ، أحدهما صغروی و الآخر کبروی .

أمّا البحث الصغروی ، فقد زعم بعضهم عدم وجود السیاق هنا ، بدلیل أنّ حرمة الربیبة إنّما ثبتت بدلیلٍ خارج .

قال شیخنا : و فیه : أنه قد ورد فی الصحیح أن الإمام علیه السلام قد أخذ بعموم الآیة المبارکة ، و بذلک تتحقّق وحدة السیاق ، فعن محمد بن مسلم قال : « سألت أحدهما علیهما السلام عن رجلٍ کانت له جاریة فأُعتقت ، فتزوّجت ، فولدت ، أ یصلح لمولاها الأوّل أن یتزوّج ابنتها ؟ قال : لا ، هی

ص:350

حرام ، و هی ابنته ، و الحرّة و المملوکة فی هذا سواء .

... و عن صفوان ، عن العلاء بن رزین ، مثله و زاد : « ثم قرأ هذه الآیة :

« وَرَبَائِبُکُمُ اللاَّتِی فِی حُجُورِکُم » ... » (1) .

فقد قرأ علیه السلام الآیة للدّلالة علی أن هذه البنت ربیبة للرجل ، و هی حرام ، و إذا کان المراد من « الربائب » هذا المعنی الوسیع ، فکذلک فی « امّهات النساء » .

فما ذکره فی ( المحاضرات ) لا یمکن المساعدة علیه .

و أما البحث الکبروی ، و هو فی حدّ تأثیر وحدة السیاق ، و قد اختلفت الأنظار فی ذلک ، فقیل : إن أصالة الظّهور محکّمة فی کلّ جملةٍ من الکلام بالاستقلال ، و لا تأثیر لوحدة السیاق ، فقیام القرینة فی جملةٍ علی کون المراد فیها هو العموم لا یؤثر فی مدلول الجملة الاخری . و قیل : بأنّ وحدة السیاق من جملة القرائن الموجبة لحمل اللَّفظ علی غیر معناه الظاهر فیه . و قیل :

بالتفصیل بین الظهور الإطلاقی و الظهور الوضعی .

و اختار شیخنا دام ظلّه القول الأوّل ، اللّهم إلّا إذا کان ظهور اللّفظ فی معناه ظهوراً ، إطلاقیّاً ، فلکونه أضعف من الظهور الوضعی یسقط بمجرّد احتفافه بما یحتمل القرینیّة ، و السیاق إن لم یکن قرینة فإنه یحتمل القرینیّة ، فالقول الثالث - الذی هو مختار الأکثر - غیر بعید .

و إنّ مورد البحث من موارد الظهور الإطلاقی ... وعلیه ، یلزم الإجمال فی « امّهات نسائکم » .

ص:351


1- (1)) وسائل الشیعة 458/20 ، الباب 18 من أبواب ما یحرم بالمصاهرة ، رقم : 2 .
الوجه الرابع

ما ذکره المحقق النائینی (1) فی توجیه فتوی الفخر بحرمة الثانیة ، من أنه یکفی لترتب الحرمة التلبّس بعنوان أمّ الزوجة موجبةً جزئیة ، و لا یشترط صیرورتها أمّ الزوجة بالفعل ، فیکون من قبیل ما نذکره فی معنی قوله تعالی :

« لاَ یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ » (2)من أنّ مجرَّد التلبّس بالظلم - و لو آناً ما - مانع عن حصول الإمامة .

و هذا الوجه یجری فی الکبیرة الاولی أیضاً .

و أورد علیه شیخنا : بأن العناوین المأخوذة فی الأدلّة ظاهرة فی الفعلیّة ، إلّا إذا دلّ الدلیل علی عدمها ، کما هو الحال فی الآیة المذکورة ، و سیأتی توضیح ذلک .

الوجه الخامس

ما ذکره المحقق النائینی فی توجیه فتوی الفخر أیضاً ، من أنّه لو خرجت المرأة عن الزوجیّة للرجل ثمّ ولدت بنتاً من غیره ، فلا ریب فی حرمة البنت علی الزوج الأوّل ، هذا فی البنت بالنسب ، و کذلک الحکم فی البنت بالرضاع ، فلو أرضعتها بعد خروجها عن الزوجیّة کانت البنت محرَّمة علی الزوج ، إذ یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب ، و کما أن البنت الرضاعیّة تحرم ، فکذا امّ الزوجة الرضاعیّة بعد زوال الزوجیّة ، فإنّها تصیر امّاً و تحرم علی الرجل .

فأورد علیه شیخنا : بأنّ حرمة البنت إنما کان بدلیلٍ ، کصحیحة محمد ابن مسلم المتقدّمة - فی الوجه الثالث - فإنّها نصّ فی الحکم المذکور ، مضافاً

ص:352


1- (1)) أجود التقریرات 82/1 .
2- (2)) سورة البقرة : 124 .

إلی صحیحة البزنطی الدالّة علیه بالإطلاق (1) .

أما بالنسبة إلی « أمّ الزوجة » فالدلیل هو عنوان «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » فیعود البحث و الکلام فی صدق هذا العنوان علی المرأة التی انقضی عنها التلبّس بالزّوجیّة ... و هذا هو الفرق .

الوجه السادس

إن الدلیل علی حرمة الاولی هو النص و الإجماع ، و استدلال الفخر بالقاعدة فی المشتق یختص بالثّانیة .

و أورد علیه شیخنا : بعدم النصّ علی حرمة الاولی ، و الروایات الواردة فی أنّ رجلاً تزوّج جاریةً فأرضعتها امرأته فسد النکاح (2) ، ظاهرة فی فساد نکاح الصغیرة دون الکبیرة المرضعة ، و مع التنزّل عن هذا ، فإنّها تفید فساد النکاح و انفساخه ، و مدّعی الفخر تبعاً لوالده هو الحرمة الأبدیّة خاصةً .

بقی الاستدلال بالجماع ، و هو :

الوجه السابع

فقد ادّعاه الفخر ، و فی ( جامع المقاصد ) بکلمة « لا نزاع » (3) و فی (الجواهر) (4) : « لا خلاف أجده » بل « الظاهر الاتفاق علیه » .

فالظاهر عدم الإشکال فی الصغری .

إلّا أنّ من المحتمل قویّاً استنادهم إلی الآیة المبارکة «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ ».

هذا تمام الکلام فی الوجوه المستدل بها لحرمة الکبیرة الاولی ، و قد

ص:353


1- (1)) وسائل الشیعة 457/20 ، الباب 18 من أبواب ما یحرم بالمصاهرة ، رقم : 1 .
2- (2)) وسائل الشیعة 399/20 ، الباب 10 من أبواب الرضاع .
3- (3)) جامع المقاصد فی شرح القواعد 238/12 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .
4- (4)) جواهر الکلام 329/29 .

ظهر أن أقواها هو الأخیر ، لکنّ شبهة الاستناد باقیة .

قال الاستاذ : و حینئذٍ تصل النوبة إلی الاستدلال لعدم الحرمة بقوله تعالی : «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » (1)فإن مقتضاه - بعد الإجمال فی قوله : «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » بالنسبة إلی المورد - وجوب الوفاء بالعقد علیها و بقاء زوجیّتها .

فإنْ نوقش فی ذلک ، فمقتضی الاستصحاب بقاء الزوجیّة ، بناءً علی جریانه فی الشبهات الحکمیّة ، إلّا أنه ینبغی ملاحظة النسبة بینه و بین عمومات الاحتیاط فی الفروج ، و بقیّة الکلام فی الفقه ، و اللّٰه العالم .

2 - هل یجری النزاع فی اسم الزّمان ؟

ثم إنه - بالنظر إلی ما تقدّم فی تحریر محلّ النزاع - یقع الکلام فی دخول اسم الزّمان فی بحث المشتق ، لأن هیئة « مفعل » لیس لها فردان ، أحدهما المتلبّس و الآخر ما انقضی عنه التلبّس ، بل هو بین المتلبّس و غیر المتلبّس أبداً ، لکون الذات فیه - أعنی الزمان - متصرّمة لا بقاء لها ، فأیّ فعلٍ وقع فی أیّ زمانٍ ، فإن ذلک الزمان قد تلبّس بذلک الفعل و انصرم معه ، بخلاف « الضارب » و « الناصر » و ما شاکل ذلک .

فیکون اسم الزمان خارجاً عن البحث .

الوجوه المذکورة لإدخال اسم الزمان

و قد حاول المحقّقون إدخال اسم الزمان فی محلّ النزاع ، و هذه هی الوجوه التی ذکروها مع التأمّل و النظر فیها :

الوجه الأول

إن الهیئة فی اسم الزمان موضوعة لمفهومٍ عامٍ - بناءً علی أنّ الموضوع

ص:354


1- (1)) سورة المائدة : 1 .

له هو الأعم من المتلبّس و ما انقضی عنه - إلّا أنّ هذا المفهوم العام لیس له إلّا مصداق واحد ، نظیر لفظ « واجب الوجود » فهو غیر موضوع للشخص ، بل الموضوع له هو الموجود المستغنی عن الغیر ، لکنْ لیس له فی الخارج إلّا مصداق واحد . و نظیر لفظ « اللّٰه » بناءً علی أنه موضوع لمفهوم المعبود بالحق و لیس علماً للذات المقدسة ، و لکنّ المصداق واحد .

قاله المحقق الخراسانی فی ( الکفایة ) .

فقال الاستاذ :

إنّه واضح الضعف ، أمّا أوّلاً : فلأن لفظ « الواجب » معناه الثابت ، و هو مطلق ، و قد اضیف إلی « الوجود » فی « واجب الوجود » فکان معناه : الوجود المستغنی عن الغیر ، فلیس لهیئة الإضافة هذه وضع علی حده ، للدلالة علی المعنی المذکور ، و لفظ « اللّٰه » لا یتأتّی فیه بحث المشتق ، و کأنه اختلط علیه هذا اللّفظ بلفظ « الإله » و یشهد بذلک التدبّر فی کلمة « لا إله إلّا اللّٰه » .

و أمّا ثانیاً : فإن الغرض من الوضع هو التفهیم ، فلو سلّمنا أن للفظ « واجب الوجود » وضعاً علی حدة ، غیر وضع لفظة « الواجب » و لفظة « الوجود » ، کان جائزاً تعلّقُ غرض الواضع لأن یفهم بهذا اللّفظ - و کذا لفظ « الجلالة » - مفهوماً عامّاً ، و إنْ ثبت بالبرهان العقلی أنْ لا مصداق له إلّا الذات المقدّسة ، و لکنّ وضع « مفعل » للزمان الأعم الجامع بین المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس لغو محض ، و لا یترتب علیه أیّ أثرٍ عقلائی .

فهذا الوجه لا یرجع إلی محصَّل .

الوجه الثانی

إنه کما أن « الشهر » و « السنة » و کذا « السبت » و « الأحد » و نحوها

ص:355

موضوعات لمعانی کلیّة ، فللشهر مصادیق ، و للسبت مصادیق ... و هکذا ، و المصادیق هی التی تتعدّد ، أمّا الأسماء هذه فهی موضوعة للمعانی الکلیّة لا لهذه المصادیق ، کذلک الحال فی أسماء الزمان ، فهی موضوعة للمعانی الکلیّة الباقیة مع زوال الأفراد ، فإن « مقتل الحسین علیه السلام » اسم للیوم العاشر من المحرم ، و عاشر محرَّم غیر موضوع لخصوص الیوم الذی وقعت فیه الواقعة ، أی الیوم المتلبِّس بالقتل ، بل هو موضوعٌ لمفهوم باق بعد انقضاء التلبّس .

قاله المحقق النائینی .

فقال شیخنا دام ظلّه :

أوّلاً : إن قیاس ما نحن فیه بأسماء کلیّات قطعات الزمان ، قیاس مع الفارق ، فمن الواضح أنّ الشهر أو السبت لیس اسماً لهذا الشهر أو ذاک ، أو لهذا السبت أو ذاک ، بل اسم للکلّی و للطبیعی ، کما هو الحال فی وضع « الإنسان » الصادق علی « زید » و « عمرو » و غیرهما ... و کذلک عاشر المحرَّم ...

لکنّ « مقتل الحسین » اسم للزمان الخاص الذی کان ظرفاً لذلک الوصف ، و لتلک الحصّة الخاصة من الزمان ، فلیس « العاشر من المحرم » هو « مقتل الحسین » .

و ثانیاً : إن الأوصاف التی هی المبادئ فی اسم الزمان ، کالقتل فی « المقتل » و البعث فی « المبعث » و الولادة فی « المولد » و أمثال ذلک ، إنما یتحقّق فی الأفراد و المصادیق ، و لیس ظرفها هو الکلّی ، و إن کان وجوده بوجود الفرد ، و کذلک الأمر فی « عاشر محرَّم » فالذی کان ظرفاً للحادثة هو

ص:356

العاشر من المحرم المتخصص بتلک الخصوصیّة ، و أمّا الکلّی بدون التخصّص فلا یعقل أنْ یکون ظرفاً لمکانٍ أو لزمان ، فالقتل قائم بهذه القطعة الخاصّة من الزمان ، لا کلّی العاشر من المحرَّم ، فإن کان الکلّی باقیاً بعد زوال التخصّص لزم وجود الکلّی مع زوال الفرد ، و هذه مقالة الرجل الهمدانی ، و إنْ کان موجوداً بوجود الفرد ، و الفرد ظرفٌ للواقعة ، فلا محالة تزول الذات بزوال الخصوصیّة . فالوجه المذکور غیر مفید .

الوجه الثالث

إنّ الأزمنة و الآنات و إنْ کانت وجوداتٍ متعدّدة متعاقبة متّحدة بالسنخ ، و لکنّه حیثما لا یتخلّل بینها سکون ، فالمجموع یعدّ عند العرف موجوداً واحداً مستمرّاً ، نظیر الخطّ الطویل من نقطةٍ إلی نقطة معیّنة ، فبهذا الاعتبار یکون أمراً واحداً شخصیّاً مستمرّاً من أوّله إلی آخره ، فیصدق علیه کلّما شک فیه : إنه شک فی بقاء ما علم بحدوثه ، فیشمله دلیل حرمة النقض .

و حینئذٍ ، فبعین هذا الجواب نجیب عن إشکال المقام أیضاً ، حیث أمکن لنا تصوّر أمر قارٍ وحدانی ، یتصوَّر فیه الانقضاء ، بمثل البیان المزبور ، و إنْ بلغ تلک الأفراد المتعاقبة ما بلغ ، إلی انقضاء الدهر .

فإنّ مناط الوحدانیّة حینئذٍ إنما هو بعدم تخلّل السکون ، فیما بین تلک الأفراد ، فما لم یتخلَّل عدمٌ بینها یکون المجموع موجوداً واحداً شخصیّاً مستمرّاً .

نعم ، ذلک إنما هو فیما إذا لم تکن تلک القطعات المتعاقبة من الزمان مأخوذةً موضوعاً للأثر فی لسان الدلیل ، معنونةً بعنوانٍ خاص ، کالسنة و الشهر و الیوم و الساعة ، و نحوها ، و إلّا فلا بدَّ من لحاظ جهة الوحدانیّة فی خصوص

ص:357

ما عنون بعنوانٍ خاص من القطعات ، فیلاحظ جهة المقتلیّة مثلاً فی السنة أو الشهر أو الیوم أو الساعة ، بجعل مجموع الآنات التی فیما بین طلوع الشمس مثلاً و غروبها أمراً واحداً مستمراً ، فیضاف المقتلیّة إلی الیوم و الشهر و السنة .

فتدبّر .

قاله المحقق العراقی (1) .

قال شیخنا دام ظلّه :

أوّلاً : کیف یعقل الوجودات فی الزمان ؟ إن القول بأن للزمان أجزاء و وجودات یستلزم القول بالآن فی الخارج ، و بالجزء الذی لا یتجزّأ ، و بطلان الجوهر الفرد ، و الجزء الذی لا یتجزأ ، ضروری عند أهله ، بل الزمان وجود واحد لکنّه متصرّم فی ذاته .

و ثانیاً : إنّ الزمان و إنْ کان واحداً ، إلّا أن هذه الوحدة لا تنفع فی اسم الزمان ، لأنه لو کان الزمان باقیاً کما قال ، إمّا عرفاً و إمّا عقلاً ، لعدم تخلل العدم ، کان یومنا هذا مقتل الحسین ، مبعث الرسول ، لأن المفروض بقاء الذات و هو واحد شخصی ، فیلزم صدق هذه العناوین علی کلّ یومٍ من الأیام ، و هو باطل ، لما تقدّم من أن « مقتل الحسین » - مثلاً - هو تلک الحصّة الخاصّة من الزمان ، فالزمان و إنْ کان واحداً مستمرّاً ، لکنْ لیس کلّ قطعةٍ منه یسمّی باسم مقتل الحسین ، و من الواضح تصرّم تلک القطعة و زوال تلک الحصّة ، و لا أثر لوجود أصل الزمان .

و ثالثاً : إن فی کلامه تناقضاً ، فهو من جهةٍ یقول : الزمان وجودات و أفراد ، و من جهةٍ اخری یقول : هو واحد شخصی .

و تلخّص : إن هذا الجواب أیضاً غیر مفید .

ص:358


1- (1)) نهایة الأفکار 1 - 2 : 129 ط جامعة المدرّسین .
الوجه الرابع

إن هیئة « مفعل » موضوعة للجامع بین ظرف الزمان و ظرف المکان ، فالمقتل وضع للجامع بین زمان القتل و مکان القتل ، و انحصار المفهوم العام بالمصداق الواحد لا ینافی الوضع لذلک المفهوم و لا یضرُّ بصحّته کما تقدَّم ، و من الواضح أن اسم المکان ینقسم إلی المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس ، و بذلک یتمّ دخول « مفعل » فی محلّ البحث و مورد النزاع فی بحث المشتق .

قاله المحقق الأصفهانی ، و تبعه السید البروجردی ، و هو مختار ( المحاضرات ) (1) .

قال الاستاذ دام ظلّه :

إن هذا الوجه یرفع الإشکال ثبوتاً ، لما تقدّم من أن هذا البحث هیوی لا مادّی ، فإذا کانت هیئة « مفعل » موضوعة لوعاء الفعل ، الأعمّ من الزمان و المکان ، لا لخصوص الزمان و للمکان المتلبس بالمبدإ و المنقضی عنه التلبّس ، و إنْ لم یکن للزمان ذلک ، صحَّ أن یجری النزاع فی تلک الهیئة کسائر الهیئات المطروحة فی البحث .

ردّ الایراد الثبوتی

و ما قیل : من أنَّ مفهوم اسم الزمان لیس ظرفاً لوقوع الفعل و وعاءً له فی الخارج ، بل الزمان أمر ینتزع أو یتولّد من تصرّم الطبیعة و تجدّدها ، کما حقّق فی محلّه ، فقد أجاب عنه شیخنا دام بقاه فقال :

إنّ ما ذکره فی حقیقة الزمان یبتنی علی قول أصحاب الحرکة الجوهریة من أنه مقدار تجدّد طبیعة الفلک ، لکن دعوی تولّده بمعنی کون نسبة الحرکة

ص:359


1- (1)) محاضرات فی اصول الفقه 245/1 .

إلی الزمان نسبة العلّة إلی المعلول ، باطلة قطعاً ، لعدم تولّد شیء فی الخارج اسمه الزمان من الحرکة و التجدّد . و أمّا دعوی کونه منتزعاً - و الأمر الانتزاعی عبارة عن الحیثیّة الوجودیّة لما کان له مطابق فی عالم الأین ، کالفوقیّة ، إذ أنها حیثیّة موجودة بوجود ذات ، و لیس لها وجود فی قبالها ، نعم هی مغایرة مفهوماً لذات الفوق کالسقف مثلاً ، و قد حقق المحقق الأصفهانی هذا المطلب فی ( رسالة الحق ) (1) فیردّها :

إنه قد وقع الاتّفاق علی أنّ الزمان مقدار الحرکة القطعیّة ، و علی أنه یقبل القسمة إلی أقسام کثیرة ، من السنة و الشهر و الیوم و الساعة ، و أن لکلّ واحدٍ من الأقسام أقساماً ، فهذا من جهة ، و من جهة اخری ، فقد اتّفقوا علی أنّ تجدّد الطبیعة أمر بسیط ، و انتزاع المرکّب من البسیط محال .

هذا کلّه من الناحیة العقلیّة .

و أمّا من الناحیة العرفیّة ، و من المعلوم أن بحثنا عرفی لا فلسفی ، فإنّ أهل العرف یرون الزمان ظرفاً للزمانیّات ، و تشهد بذلک إطلاقاتهم فی الکلمات الفصیحة ، حیث یجعلون الزمان ظرفاً للحادثة کما یجعلون المکان ظرف لها ، و قال ابن مالک فی ( ألفیّته ) :

« الظّرف وقت أو مکان ... » .

ثم إنّ مرادنا من « الذات » المأخوذة فی المشتق هو الذات المبهمة من جمیع الجهات إلّا من حیثیة انتساب المبدإ إلیها ، فعند ما نقول « المفتاح » فالذات المأخوذة فیه مبهمة من جمیع الجهات إلّا من جهة نسبة الفتح ، و لذا ینطبق هذا العنوان علی تلک الآلة ، سواء کانت من حدیدٍ أو خشب أو غیرها ،

ص:360


1- (1)) حاشیة المکاسب 26/1 - 27 .

و کذا علی من فتح عقدةً أو حلّ مشکلة . و عند ما نقول « الحادث » فالذات المأخوذة فیه مفهوم مبهم من جمیع الجهات إلّا من جهة نسبة الحدوث إلیها ، فهی حادثة سواء کانت عقلاً أو إنساناً أو ناراً أو بیاضاً ... فإن صدق الحادث علی کلّ واحدٍ من ذلک حقیقی .

فظهر أنْ لا محذور من أخذ مفهومٍ جامعٍ بین الزمان و المکان ، بأن یکون الموضوع له « المفعل » هو « ما وقع فیه الفعل » و یکون المصداق تارةً هو الزمان و لیس له ما انقضی عنه التلبّس ، و اخری المکان ، و له المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس بالمبدإ .

فما ذهب إلیه المحقّق الأصفهانی و أتباعه سالم عن الإشکال الثبوتی .

ورود الإیراد الاثباتی

إلّا أنه ممنوع إثباتاً ، لعدم الدلیل علی ما ذکروه ، إذ لا نصَّ علیه من أئمة اللّغة - إن کان قولهم مثبتاً للوضع - و لا أنّ علائم الحقیقة کالتبادر قائمة علیه .

و علی الجملة ، فلا دلیل علی أن هیئة « مفعل » موضوعة للزمان و المکان معاً بنحو الاشتراک المعنوی .

فهذا الوجه أیضاً لا یرفع الإشکال .

و تلخّص : إن اسم الزمان خارج عن البحث .

3 - هل یجری النزاع فی الأفعال و المصادر المزیدة ؟

و وقع الکلام أیضاً فی المصادر المزیدة و الأفعال .

فصرّح المحقق الخراسانی بعدم جریان البحث فیهما و قال : بأن المصادر المزید فیها - کالمجرّدة - مدلولها عبارة عمّا یقوم بالذات ، و أمّا الأفعال فتدلّ علی النسب الخاصّة ، من النسبة القیامیّة و الحلولیّة و الصدوریّة

ص:361

و الوقوعیّة ، و لا المادّة فیها قابلة للحمل ، و لا الهیئة ، فتکون خارجة عن البحث .

قال شیخنا دام ظله :

و لعلّ الوجه فی تخصیصه البحث بالمصادر المزید فیها : ما قیل فی المجرَّد من أنه الأصل فی الاشتقاق ، فیکون خروجه تخصصیّاً ، لأنه إذا کان مبدأ الاشتقاق فهو غیر مشتق ، ثم إنه أشار إلی المصدر المجرَّد أیضاً للدّلالة علی مسلک التحقیق من أنّه أیضاً مشتق ، لأنّ المشتق ما اخذ من المادّة البسیطة « ض ، ر ، ب » و نحوه ، و کان تحت هیئةٍ من الهیئات ، و المصدر کذلک ، إذ مدلوله النسبة الناقصة ، و له هیئة .

فالصحیح : إن المصادر مطلقاً مشتقّة ، و الأصل فی الاشتقاق هی تلک الهیئة المجرّدة عن المادّة ، و التی نسبتها إلی المادّة نسبة الهیولی إلی الصّورة النوعیّة ، فکما أنّ الهیولی تتخلّی عن صورةٍ لتأخذ صورة اخری ، فکذلک مادة « ض ، ر ، ب » إذا کانت فی هیئةٍ لا یمکن أن تأخذ هیئةً اخری ، فقولهم :

المصدر أصل الکلام لا أصل له .

و قد یقال : بأنّ هیئة اسم المصدر لمّا کانت لا تدلّ علی شیء سوی أنها للتلفّظ ، فهی الأصل فی الکلام ، بخلاف المصدر فإن له نسبة ناقصة ، فإنْ لوحظ بحیثیّته الصدوریّة کان مصدراً ، و إنْ لوحظ بدونها فهو اسم مصدر ، و یقابلهما الفعل ، فإنّ هیئته تامّة یصحّ السکوت علیها ، و المدلول فیه هو النسبة التامّة .

و أمّا الاستدلال علی خروج الأفعال بأنها مشتملة علی النسبة الصدوریّة و الحلولیّة ، فهی غیر قابلة للحمل ، فینقض بهیئة اسم الفاعل مثل « ضارب »

ص:362

الذی نسبته صدوریّة ، و « حلو » الذی نسبته حلولیّة ، بل التحقیق أن المناط هو الصلاحیّة للاتحاد مع الذات ، و هذا موجود فی سائر المشتقات غیر المصادر و الأفعال .

هل فی الفعل دلالة علی الزمان ؟

المشهور بین النحاة ذلک ، و قد نصّ صاحب ( الکفایة ) و جماعة علی أنه اشتباه ، لأنّه لا بدّ لکلّ مدلولٍ من دالٍّ یدلّ علیه ، و الأفعال لیست إلّا الموادّ و الهیئات ، أمّا المادّة فتدلّ علی الحدث فقط ، و أما الهیئة فهی عبارة عن معنیً حرفی ، و هو واقع النسبة الخاصّة ، فلا دالّ علی دخول الزمان فی مدالیل الأفعال .

و ربما یقال : بأن الزمان مدلولٌ التزامی للفعل ، لا مطابقی و تضمّنی .

و فیه : إن الأفعال تستعمل فی موارد کثیرة لا تلازم لها مع الزمان و لا تقارن ، ففی قولنا « مضی الزمان » مثلاً لا توجد ملازمة و مقارنة بین المضیّ و الزمان .

و أیضاً : لا ریب فی إطلاق هذه الهیئات علی اللّٰه و علی المجرَّدات ، فنقول : « علم اللّٰه » ، و علم اللّٰه سبحانه فوق الزمان ، و المجرَّد لا زمان فیه .

فإمّا أنْ یلتزم بالمجاز فی جمیع هذه الاستعمالات ، لکنّها من فعل الإنسان ، و هو لا یری - بالوجدان - فرقاً فی الاستعمال و الإسناد بین « علم اللّٰه » و « علم زید » ، فلا وجه للالتزام بالمجاز ، و لا دلیل علی الدلالة الالتزامیة بل الدلیل دالّ علی عدمها .

و علی الجملة ، فإن هذه الصیغ تستعمل فی جملٍ لا دخل للزمان فی معانیها ، و لیس فی استعمالها فیها أیّة عنایةٍ .

و کلّ ذلک دلیلٌ علی بطلان ما اشتهر علی ألسنة النّحاة .

ص:363

الإشکال المهم

لکنّ الإشکال المهمّ - و قد أشار إلیه فی ( الکفایة ) أیضاً - هو وجود الفرق الواضح بین الفعل الماضی و الفعل المضارع ، فإنّ مدلول الأوّل مشتمل علی قبلیّةٍ ، و مدلول الثانی مشتمل علی بعدیّةٍ ، لأنه إنْ کان موضوعاً للحال و المستقبل معاً ، فمدلوله ما یقابل البعدیّة ، و إن کان موضوعاً للمستقبل فقط ، ففیه دلالة علی البعدیّة .

و هذا کاف لإثبات دلالة الأفعال علی الزّمان ... فما هو الجواب ؟

الأجوبة عن الإشکال

1 - أجاب فی ( الکفایة ) بأنه لا یبعد أنْ یکون لکلٍّ من الماضی و المضارع بحسب المعنی خصوصیّة اخری توجب الدلالة علی المضیّ فی الماضی ، و علی الحال و الاستقبال فی المضارع .

لکنْ ما المراد من الخصوصیّة ؟

ذکر السید الحکیم (1) ما حاصله : أنّها خروج المبدإ من القوّة إلی الفعل فی هیئة الفعل الماضی ، و عدم خروجه فی هیئة الفعل المضارع .

و هذا یرجع إلی ما ذکره المحقق المشکینی من أن هیئة الماضی موضوعة للنسبة التحقّقیة ، و هیئة المضارع موضوعة للنسبة التوقعیّة .

فهذه هی الخصوصیة فی کلٍّ منهما .

و هذا الجواب - کما ذکر شیخنا دام ظلّه - إنّما یفید فی الزمانیّات فقط ، و فیها یتصوّر القوّة و الفعل ، أما بالنسبة إلی ذات الباری سبحانه ، و کذا سائر المجرّدات ، فلا یعقل الخروج من القوّة إلی الفعل ، إذ المجرّد حقیقته الفعل

ص:364


1- (1)) حقائق الاصول 102/1 ط البصیرتی .

و لا تشوبها القوّة أصلاً ، فما ذکرا فی توجیه جواب المحقق الخراسانی یستلزم الالتزام بالمجاز فی جمیع موارد إطلاق صیغ الماضی و المضارع فی کافّة المجرّدات . و هذا هو المحذور المتوجّه علی کلام النحاة .

2 - و أجاب فی ( نهایة الدرایة ) (1) أمّا بالنسبة إلی الزمان و الزمانیّات ، فبأنّ هیئة الماضی موضوعة للنسبة المتّصفة بالتقدّم ، و هیئة المضارع موضوعة للنسبة المتّصفة بالحالیّة أو المستقبلیّة ، و التقدّم و التأخّر فی الزمانیّات یکون بالعرض ، و فی نفس الزمان بالذات ، و قولنا : مضی الزمان الفلانی ، و یأتی الزمان الفلانی و نحو ذلک ، کلّه حمل حقیقی و لیس بمجاز أصلاً .

و أمّا بالنسبة إلی ذات البارئ سبحانه ، فإن إطلاق الماضی و المضارع إنّما هو من جهة أن معیّة الحق سبحانه مع الموجودات معیّة القیومیّة ، و هذه المعیّة مع الموجود السابق سابقة ، و مع اللّاحق لاحقة ، فالسّبق و اللّحوق غیر مضافین إلیه تعالی ، بل هما مضافان إلی ما یقوم به ، فکان إطلاق الماضی و المضارع بالنسبة إلیه بلحاظ هذا السبق و اللّحوق .

و أورد علیه شیخنا : بأنا لمّا نقول « علم اللّٰه » و « یعلم اللّٰه » و نحو ذلک ، نستعمل الهیئة فی نفس الذات المقدّسة ، لا فی السابق أو اللاحق الذی کان مع اللّٰه ، فلا مناص له إلّا الالتزام بالمجاز و العنایة ، و هو کرّ علی ما فرّ منه .

3 - و أجاب فی ( درر الاصول ) (2) بما حاصله :

أوّلاً : إن الفعل الماضی موضوع لمضیّ المادّة التی تحت هیئة الماضی ، بالنسبة إلی حال الإطلاق ، بدلیل قولهم : مضی الزمان .

ص:365


1- (1)) نهایة الدرایة 181/1 .
2- (2)) درر الاصول 60/1 ط جامعة المدرّسین .

و فیه : إن « مضی » فعل ماضٍ ، و المبدأ فیه : « م ، ض ، و هوانه» فإذا کانت الهیئة فی الماضی دالّةً علی المضی ، کان الکلام : مضیٰ المضی ، و هذا غلط .

و ثانیاً : إن الفعل المضارع موضوع للمستقبل و لا دلالة له علی الحال .

و فیه : إن لازم هذا الکلام الالتزام بالمجاز فی قوله تعالی : «یَعْلَمُ مَا یَلِجُ فِی الْأَرْضِ وَمَا یَخْرُجُ مِنْهَا » (1)و قوله : «یَعْلَمُ مَا فِی السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ » (2)و نحوهما من الآیات و غیرها المراد فیها الحال لا المستقبل .

علی أن ما ذکره خلاف المشهور من أن المضارع موضوع للجامع بین الحال و المستقبل .

4 - و أجاب فی ( المحاضرات ) (3) بأنّ مدلول هیئة الفعل الماضی هو قصد المتکلّم وقوع المادة فی الزمان السابق علی التکلّم ، و مدلول هیئة الفعل المضارع قصده وقوعها بعد زمان التکلّم ، اللهم إلّا إذا قامت قرینة علی الخلاف ... فلیس معنی الهیئة وقوع المادّة قبل زمان التکلّم أو بعده ، نعم ، فی الزمانیّات لا بدّ من وقوع المادّة قبله أو بعده ، لکنَّ هذا من لوازم الموجودات الزمانیّة ، و لیس مدلول الهیئة . و علی ذلک ، فلیس مدلول قول القائل « علم اللّٰه » مثلاً تحقّق علمه سبحانه قبل زمان التکلّم ، بل إخبار المتکلّم عن قصده علم اللّٰه قبل زمان تکلّمه ، بداهة أن علمه تعالیٰ لا ینقسم إلی قبل و بعد زمان التکلّم .

و أورد شیخنا دام ظلّه علی هذا الجواب : بأنّه یبتنی علی مسلک صاحبه فی المعنی الحرفی ، من أن الحروف - و کذا الهیئات - موضوعة لإیجاد

ص:366


1- (1)) سورة سبأ : 2 .
2- (2)) سورة التغابن : 4 .
3- (3)) محاضرات فی اصول الفقه 247/1 .

التضییقات فی المعانی الاسمیة ، فإذا أخبر المتکلّم عن علم اللّٰه سبحانه و قصد تضییق إخباره أبرز قصده بهیئة الفعل الماضی أو بهیئة الفعل المضارع ... و قد تقدّم الکلام علی هذا القول فی محلّه ، لکن الإشکال هنا هو : إنه لا ریب أن معانی الهیئات معانٍ حرفیّة ، و المعانی الحرفیّة - تختلف سنخاً و جوهراً عن المعانی الاسمیّة - و إن اختلفوا فی کیفیة هذا الاختلاف و حقیقته - وعلیه ، فلا یعقل أن یکون « القصد » هو المعنی الذی تدلُّ علیه الهیئة ، لأنه - أی القصد - معنیً اسمی ، کما لا یخفی .

المختار فی الجواب لدی الشیخ الاستاذ

و بعد أنْ فرغ شیخنا دام ظلّه من تحقیق الوجوه التی ذکرها الأعلام ، أفاد بلحاظها و بالنظر إلی کلام النحاة :

إنّ هیئة الماضی موضوعة للنسبة الموصوفة بالتقدّم علی زمان النطق ، و هیئة المضارع موضوعة للنسبة الموصوفة بالتأخّر عنه ، من غیر دخلٍ للتقدّم و التأخّر فی مفهومیهما ، فمفهوم « علم » لیس إلّا المعنی الذی هو مدلول المادّة ، أمّا کونه « فی الزمان الماضی » فهذه ضمیمة من عندنا ، نعم ، هذا العلم یقع مقترناً بذاک الزمان ، أو مقترناً مع زمان الحال أو المستقبل فی « یعلم » .

فلیس فی مفهوم الفعل و الهیئة الموضوعة له الدلالة علی الزمان ، و لا الخروج من القوّة إلی الفعل ، أو العدم إلی الوجود ، و إنما المدلول مجرّد تحقّق المادّة قبل أو بعد زمان النطق ، و هذه هی الخصوصیّة المشار إلیها فی کلام ( الکفایة ) ... و من هنا صحّ قولنا علم اللّٰه ، یعلم اللّٰه ، إذ لیس المعنی إلّا وجود علمه تعالی قبلُ و فی الحال و المستقبل .

ص:367

نعم ، لازم ذلک فی المادیّات مثل « وجد زید » ، و « یوجد زید » هو الخروج من القوة إلی الفعل ، و من العدم إلی الوجود ، و هذا لا ینافی ما ذکرناه فی المفهوم الموضوع له الهیئة .

کما أنّ « الاقتران » بالزمان أمرٌ ، و کون الزمان دخیلاً فی المعنی أمرٌ آخر ، و قد جاء فی کلام ابن الحاجب و نجم الأئمة الرضی الأسترآبادی و غیرهما أن الفعل کلمة مدلولها الحدث المقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، و هکذا جاء فی کلام ابن هشام ، إلّا أنّه خالف فقال کبعضهم فی ( شذور الذهب ) (1)بدلالة الفعل علی الزمان ، و لذا ورد الإشکال .

و الحاصل : إن الوقوع فی الزمان و الاقتران به فی الوجود یعتبر قیداً للمفهوم و لیس جزءاً له ، فصحّ إطلاق الهیئة فی الزمانیّات ، و فی المجرّدات ، و بالنسبة إلی الباری سبحانه و تعالی ، فتدبّر .

4 - هل یجری النزاع فی اسم الآلة و اسم المفعول ؟

قد عرفت موضع النزاع فی بحث المشتق ، و أنه بحثٌ هیوی و لیس بمادّی ، فلا دخل لاختلاف المواد فیه ، من کون المبدإ أمراً فعلیّاً ، أو أمراً شأنیّاً ، أو ملکةً من الملکات ، أو حرفةً من الحرف .

ففی مثل « القیام » یکون التلبّس هو التلبّس الفعلی بالمبدإ ، فإذا انقضت الفعلیّة فقد انقضی عنه المبدأ .

و فی مثل « المجتهد » یتحقق التلبّس بتحقق الملکة ، و یکون انقضاؤه بانقضاءِ الملکة ، و لذا یصح إطلاق المجتهد علی صاحب الملکة و إن کان فی حال النوم مثلاً .

ص:368


1- (1)) شرح الکافیة : 218 ط القدیمة .

و فی مثل « البقّال » کذلک .

و کذلک الکلام فی مثل « المفتاح » و نحوه من أسماء الآلات ، فإنّ هیئة « المِفعال » دالّة علی التلبّس حقیقةً ، لأن المناط فی مثله هو التلبس بالشأنیّة للفتح فی « المفتاح » و للکنس فی « المکنسة » مثلاً ... و هکذا ، لا التلبّس بالفتح و الکنس فعلاً ، فأسماء الآلات داخلة فی البحث ، لانطباق الضابط علیها ، خلافاً لمن استشکل فی ذلک .

کما أنّ استدلال المحقق النائینی علی خروج « اسم المفعول » بأنه موضوع لمن وقعت علیه المادّة ، و من وقع علیه المادة لا ینقلب عمّا هو علیه ، فلا مِصداقیة ل « من انقضی عنه التلبّس بالمبدإ » فیه ، فلا یشمله الضابط ، مردود :

أمّا نقضاً ، فباسم الفاعل ، فهو موضوع لمن صدر منه المبدأ ، و من صدر منه المبدأ لا ینقلب عمّا هو علیه ، و قد وافق علی دخوله فی البحث .

و أمّا حلّاً ، فبأنّ البحث هو : هل هذه الهیئة موضوعة لتلک الذات فی حال وقوع المادّة علیها فقط ، أو هی موضوعة لها بِصِرف أنها تلبّست بذلک و انقضی عنها ، کما أنّ اسم الفاعل کذلک ؟

المقدمة الثالثة ( فی المراد من « الحال » فی عنوان البحث)

هل أن « الحال » فی عنوان البحث فی کلام الأعلام - و قولهم : هل المشتق حقیقة فی المتلبّس بالمبدإ فی الحال أو أنه حقیقة فی الأعم ؟ - عبارة عن حال التلبّس بالمبدإ ، أو عبارة عن حال الجری و التطبیق علی المصداق الخارجی ، أو عبارة عن حال النطق و النسبة الکلامیّة ؟

ص:369

قد کرّرنا أن هذا البحث مفهومی ، فهو یدور حول أنّ مفهوم الهیئة هل هو عبارة عن خصوص الحصّة المتلبّسة بالمبدإ من الذات أو أنّه أعمّ من المتلبّسة و التی انقضیٰ عنها التلبّس ، فهو بحث مفهومی مردّد بین الأقل و الأکثر ، أو بین المتباینین .

فالمراد من « الحال » هو حال التلبّس لا محالة ، لا حال النطق و لا حال الحمل و الإسناد ، و مما یوضّح أنْ لیس المراد حال النطق قولنا : زید کان ضارباً بالأمس و سیکون ضارباً فی الغد ، فإنّه إطلاق حقیقی ، مع أنه لیس المراد حال النطق ، کما یوضّح أنّ المراد لیس حال الإسناد صحّة إطلاق المشتقّات فی المجرّدات و هی لا موضوع للزمان فیها .

و تلخّص : إن المراد حال التلبّس ، إلّا أن فعلیّة کلّ مادّةٍ بحسبها ، کما ظهر من المقدمة السابقة .

هذا تمام الکلام فی المقدّمات ...

فما هو مقتضی الأدلّة و الاصول ...

ص:370

مقتضی الأدلّة و الاُصول
فی معنی المشتق

و یقع البحث فی مقامین :

الأول : فی مقتضی الأدلَّة .

و الثانی : فی مقتضی الاصول ، بعد الیأس عن الأدلَّة .

و الکلام فی المقام الثانی فی جهتین :

الاولی : فیما یقتضیه الأصل من الجهة الاصولیّة ، فیبحث عمّا هو مقتضی الأصل فی تنقیح و تعیین المفهوم الموضوع له المشتق .

و الثانیة : فیما یقتضیه الأصل من الجهة الفقهیّة ، فإن لم یقم أصلٌ یوضّح و ینقّح الموضوع له ، فما هو الأصل الذی یرجع إلیه الفقیه فی مقام الفتوی ؟

ص:371

المقام الثانی
اشارة

و قد قدّم فی ( الکفایة ) البحث فی المقام الثانی ، و نحن أیضاً نتبعه فی ذلک :

تأسیس الأصل من الجهة الاصولیّة

و الأصل فی هذه الجهة إمّا عقلائی و إمّا تعبّدی ، و هو - علی کلّ تقدیر - مفقود ، کما سیأتی ، و لنذکر قبل الورود فی بیان ذلک ، ما یلی :

إن المفروض هو الجهل بسعة مفهوم الهیئة و أنه أعمّ من المتلبّس و ما انقضی عنه ، أو ضیقه و أنه خصوص حال التلبّس ، فهل یکون هذا التردّد من قبیل دوران الأمر بین الأقل و الأکثر أو من قبیل المتباینین ؟

قالوا : بأنه من قبیل الأوّل .

فقال الاستاذ دام بقاه : بأنّ النسبة بین العام و الخاص ، و کذا المطلق و المقیّد ، فی مرحلة الصّدق علی الخارج ، هی النسبة بین الأقل و الأکثر ، لأنّ کلّ خاصّ فهو العام مع خصوصیّة إضافیّة فیه ، کما فی أعتق رقبةً مؤمنة ، أمّا النسبة بینهما فی مرحلة اللّحاظ و التصوّر فهی التباین ، و من هنا قال المحقق الأصفهانی بأن التقابل بین الإطلاق و التقیید هو تقابل التّضاد ، فهما بحسب الوجود الخارجی مجتمعان ، أما بحسب اللّحاظ فلا یجتمعان .

و بناءً علی هذا ، فلمّا کان بحث المشتق یدور حول المعنی الموضوع له

ص:372

الهیئة ، و هذا ممّا یتعلَّق بمرحلة التصوّر لا مرحلة الصدق الخارجی ، فالنّسبة بین الأخصّ و الأعم من قبیل المتباینین .

و فائدة هذا المطلب هی : أنه إنْ کان من الأقل و الأکثر ، فالجامع بین المتلبّس و من انقضی عنه التلبس ملحوظ لا محالة ، و یرجع الشک حینئذٍ إلی الزائد ، فیکون خصوص التلبّس مجری الأصل ... إلّا أن القوم قالوا بجریان الأصل فی کلا الطرفین ، و هذا مما یشهد بکون مورد البحث من المتباینین لا من الأقل و الأکثر .

فالبحث من الجهة الاصولیّة شبهة مفهومیّة مردّدةٌ بین متباینین ، لأن کلّاً من المتلبّس و الأعمّ یلحظ بلحاظٍ مستقل . أمّا من الجهة الفقهیّة ، فشبهة مفهومیّة مردّدة بین الأقل و الأکثر ، کما سیأتی .

فهل هناک أصل لیرجع إلیه فی هذه الجهة ؟ إن صورة المسألة هی : إن المشتق إن کان موضوعاً للأعم فهو مشترک معنوی ، و إنْ کان موضوعاً لخصوص المتلبّس ، فاستعماله فی الأعم مجاز ، فیعود الأمر إلی الدوران بین الاشتراک و المجاز ، فهل من أصلٍ عقلائی ؟

کلّا ، لا یوجد عند العقلاء أصل یرجعون إلیه فی مثل هذه المسألة ، إلّا أن یقال بأنّ الغلبة مع الاشتراک ، و الشیء یلحق بالأعمّ الأغلب فی السیرة العقلائیة .

لکن الغلبة غیر ثابتة ، و السّیرة غیر مسلّمة .

هذا ، بغض النظر عن أنّا بصدد تأسیس الأصل ، و الترجیح بالغلبة الذی هو من مرجّحات باب تعارض الأحوال یعدُّ من الأدلّة .

و هل من أصلٍ تعبّدی ؟ و المراد أصالة عدم لحاظ الواضع لدی الوضع

ص:373

خصوص المتلبّس و حال التلبّس مثلاً ، و لکن فیه :

أوّلاً : إنّ موضوع الأثر هو الظهور ، و أمّا اللّحاظ فلیس موضوعاً للأثر ، فلا یجری فیه الاستصحاب .

و ثانیاً : إن استصحاب عدم لحاظ خصوص المتلبّس لازمه لحاظ الأعمّ منه و من انقضی عنه التلبّس ، فلا یثبت الوضع للأعمّ إلّا علی القول بالأصل المثبت .

و ثالثاً : إذا کانت أرکان الاستصحاب فی طرف عدم لحاظ خصوص المتلبّس تامّةً ، فهی فی طرف عدم لحاظ الأعمّ تامّة کذلک ، فیقع التعارض بینهما و یسقطان بالمعارضة .

تأسیس الأصل من الجهة الفقهیّة

أی : إذا لم تفِ الأدلّة فی بحث المشتق لإثبات أحد القولین ، فبأیّ أصلٍ من الاصول یأخذ الفقیه ؟ و ما هی وظیفته بالنسبة إلی المشتق الواقع موضوعاً لحکم من الأحکام الشرعیّة ؟

إن مورد البحث هو الشبهة المفهومیّة ، أی الشبهة الحکمیّة الناشئة من إجمال مفهوم موضوع الدّلیل ، من جهة کونه مشتقاً ، و أنّه لا یعلم أنه وضع لخصوص المتلبّس بالمبدإ أو للأعم منه و من انقضی عنه ، و له فی الفقه أمثلة کثیرة ، کمسألة أمّ الزوجة التی بحثنا عنها بالتفصیل ، و کمسألة کراهة البول تحت الشجرة المثمرة ، و کمسألة کراهة استعمال الماء المسخّن بالشمس ...

و غیرها .

لکن المشتق المجمل قد جاء فی بعض هذه الموارد موضوعاً لدلیلٍ مخصّصٍ لعام ، کما فی مثال ام الزّوجة ، فإنه موضوع لدلیلٍ مخصّصٍ

ص:374

لعمومات حلیّة النکاح ، ففی مثل هذا المورد ، إنْ جاء المخصّص متّصلاً بالعام ، فلا ریب فی سرایة إجماله إلی العام ، و إنْ جاء منفصلاً ، کما فی المثال المذکور ، فإن مقتضی القاعدة هو التمسّک بعموم العام بالنسبة إلی الزائد عن القدر المتیقّن من المخصّص ، و هو فی المثال خصوص المتلبّس ، فیبقی العام حجةً بالنسبة إلی الأعم .

إلّا أن المهمّ فی المقام هو تأسیس الأصل بالنسبة إلی الموارد التی لا یوجد عام فی البین ، أو کان المخصّص متّصلاً به ، فما هو الأصل المحکّم فیها ؟

مثلاً : لو قال المولی : « أکرم العلماء » و شک فی مفهوم « العالم » من حیث أنه حقیقة فی خصوص المتلبّس بالعلم فقط أو فی الأعمّ منه و من انقضی عنه ، فهنا ثلاثة أقوال :

1 - جریان الاستصحاب فی الشبهات المفهومیة مطلقاً .

2 - عدم جریانه کذلک .

3 - التفصیل بین الموضوع فلا یجری ، و الحکم فیجری .

فإنْ قلنا بجریان الاستصحاب فی الشبهات المفهومیّة ، أمکن إجراؤه فی موضوع المثال ، لسبق الاتّصاف و التلبّس بالعلم یقیناً ، و مع الشک فی بقائه یستصحب ، و یترتّب علیه الحکم بوجوب الإکرام ، فلا تصل النوبة إلی إجراء الاستصحاب فی الحکم ، فضلاً عن التمسّک بالبراءة أو الاشتغال .

و کذا لو نهیٰ المولی عن هتک العالم ، فشک فی بقاء تلبّس زیدٍ بالعلم مع الیقین بذلک سابقاً ، فإنّه یستصحب بقاء العلم - کما ذکر المحقق الخراسانی - و لا یجوز هتکه .

ص:375

و إن قلنا بعدم جریان الاستصحاب فی الشبهة المفهومیّة إلّا فی الحکم ، فإنه مع الشک فی بقاء الحکم بوجوب الإکرام - بعد الیقین به سابقاً - ، یجری الاستصحاب ، و لا تصل النوبة إلی البراءة أو الاشتغال .

و إنْ قلنا بعدم جریان الاستصحاب فی الشبهة المفهومیّة مطلقاً ، کما هو المختار - أمّا فی الموضوع ، فلأنه یعتبر فی الموضوع المستصحب أن یکون ذا أثر شرعی ، و المفاهیم لا أثر لها ، و أمّا فی الحکم ، فلأنه یعتبر فی الاستصحاب وحدة الموضوع فی القضیّتین ، و هی هنا مفقودة (1) - .

فتصل النوبة إلی البراءة أو الاشتغال .

ص:376


1- (1)) إن المفاهیم - بما هی مفاهیم و مدالیل للألفاظ - لیست بموضوعات لآثار شرعیّة ، فمفهوم « الخمر » لیس بحرامٍ ، بل الحرام هو الخمر الموجود خارجاً ، و مفهوم « الکر » لیس بذی أثر بل الأثر الشرعی یترتب علی المصداق الخارجی ، و حینئذٍ لا بدّ من توفّر أرکان الاستصحاب - الیقین السابق و الشک اللّاحق - فی المصداق الخارجی ، و کذا « العالم » فی المثال ، فإنه لیس مفهوم هذه اللفظة بما هو موضوعاً للأثر بل واقع العلم ، و مع الشک یدور أمره بین ما انقضی عنه التلبس و هو منتف یقیناً ، و بین کونه حقیقة فی الأعم فیکون باقیاً یقیناً ، فالشک فی البقاء منتفٍ ، فلا یجری الاستصحاب فی طرف الموضوع . هذا بالنسبة إلی الموضوع . و کذلک الحال بالنسبة إلی الحکم . و ذلک ، لعدم صدق نقض الیقین بالشک فی حال اختلاف موضوع القضیّة المشکوکة مع موضوع القضیة المتیقّنة ، فلا بدّ من وحدة الموضوع ، و هی فی الشبهات الحکمیّة منتفیة ، لأن أمر الموضوع فیها یدور بین الزوال تماماً و البقاء یقیناً ، لأن تلک الذات إن کانت متلبّسةً بالعلم ، فإنه مع زوال التلبس یزول موضوع الاستصحاب ، لان المفروض کون التلبّس جزءاً للموضوع ، و بناء علی الأعمّ یکون الموضوع باقیاً یقیناً ، و فی مثله لا یجری الاستصحاب . و بما ذکرنا یظهر أن الدّلیل علی عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة هو قصور المقتضی ، أی عدم شمول أدلّة الاستصحاب لمثل هذه الشبهات ، لا المعارضة بین استصحاب عدم المجعول و استصحاب عدم الجعل ، لأنّ التعارض فرع وجود المقتضی لشمول الأدلَّة للطّرفین ، و تفصیل الکلام فی محلّه .

و هاهنا صور :

1 - أن یرد الحکم علی الموضوع ، و بعد وروده ینقضی المبدأ ، کأن یحکم بإکرام العالم العادل ، و تنقضی العدالة عن الذات بعد ثبوت الحکم .

2 - أن ینقضی المبدأ عن الموضوع ، ثم یرد الحکم .

فبناءً علی عدم جریان الاستصحاب الحکمی فی الشبهات المفهومیّة ، یکون الأصل الجاری هو البراءة ، لکون المورد - فی کلتا الصورتین - من موارد الشک فی التکلیف الزائد ، لرجوع الشک إلی أصل وجوب الإکرام .

3 - أن یتوجَّه الحکم بوجوب الإکرام علی عنوان « العالم العادل » و لم یمتثل بعد ، فإنْ امتثل فی مورد المتلبّس یقیناً سقط التکلیف ، و إنْ اکرم من انقضی عنه التلبس یشک فی حصول الامتثال و سقوط التکلیف ، و بذلک یتّضح أنّ هذه الصورة من صغریات دوران الأمر بین التعیین و التخییر ، فإنْ قلنا بالاشتغال ، حکمنا بوجوب إکرام خصوص المتلبّس ، و به قال المحقق العراقی ، مع قوله بالبراءة فی الصورة الاولی تبعاً لصاحب ( الکفایة ) ، و فی الثانیة بالاستصحاب ، لأنّه یری جریانه فی الشبهات المفهومیّة .

لکنّ المختار فی دوران الأمر بین التعیین و التخییر هو البراءة ، إلّا أن موارد دوران الأمر کذلک مختلفة ، فتارةً : یکون التکلیف غیر معلومٍ تماماً ، کأنْ یکون الإجماع دلیل الوجوب ، و هو دلیل لبّی ، فمثله من صغریات دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، و الأصل هو البراءة . و اخری : یکون التکلیف معلوماً بوجهٍ من الوجوه ، و معه یصح للمولی الاحتجاج علی العبد ، فلا مجال لأصل البراءة ، و موردنا من هذا القبیل ، إذ التکلیف معلوم ، و التحیّر یعود إلی مقام الامتثال و التطبیق ، و مع الشک فی صدق « العالم العادل » علی من انقضی عنه التلبّس ، لا یجوز الاکتفاء به ، بل المرجع هو الاشتغال .

هذا تمام الکلام فی المقام الثانی .

ص:377

المقام الأوّل
اشارة

و البحث فی جهتین کذلک :

1 - جهة الثبوت .

2 - جهة الإثبات .

و لا یخفی ترتّب الجهة الثانیة علی الاُولی ، ضرورة أن البحث عن دلالة الأدلَّة علی کلّ واحدٍ من القولین ، متفرّع علی إمکان وضع اللّفظ لخصوص المتلبّس أو للأعم ، فلو لم یمکن إلّا وضعه علی هذه الحصّة أو تلک ، لم تصل النوبة إلی البحث الإثباتی ، کما سیتّضح .

الجهة الأولی
اشارة

ذهب المحقّقان النائینی و الأصفهانی إلی عدم إمکان وضع اللّفظ للأعمّ ، و أنه یتعیَّن أنْ یوضع للمتلبّس خاصّة :

الإشکال الثبوتی ببیان المیرزا

قال (1) رحمه اللّٰه ، ما ملخّصه : إمّا أنْ نقول ببساطة المشتق أو نقول بترکّبه .

أمّا علی الأول ، فلا یمکن الوضع للأعم ، لأنّ معنی بساطة المشتق أنْ یکون الموضوع له اللّفظ نفس المبدإ فقط ، مع لحاظه بنحو اللّابشرط ، أی :

ص:378


1- (1)) أجود التقریرات 112/1 .

حالکونه قابلاً للحمل علی الذات و الاتّحاد معها ، و هو اسم الفاعل و اسم المفعول و نحوهما ... لا بنحو البشرطلا ، الذی لا یقبل الحمل و الاتّحاد مع الذات ، و هو المصدر و اسم المصدر ... کالبیاض مثلاً إذا لوحظ وجوداً فی قبال وجود الذات ، فإنّه حینئذٍ لا یحمل علیها ، فلا یقال : الجدار البیاض ، بخلاف ما إذا لوحظ مرتبةً من وجود الجدار ، فیحمل علیه و یتّحد معه و یقال :

الجدار أبیض .

و علی الجملة ، فإنّ القول ببساطة المشتق مع لحاظه لا بشرط ، معناه أن مدلول العالم مثلاً لیس إلّا العلم فقط ، و أن الذات غیر مأخوذة فیه أصلاً ، فلیس هناک من یتلبَّس بالعلم أو ینقضی عنه التلبّس ، بل المدلول هو مبدأ العلم ، و أمره دائر بین الوجود و العدم .

وعلیه ، فاللّفظ موضوع للمتلبّس ، و یستحیل أن یکون موضوعاً لما انقضی عنه التلبّس ، فیصیر وضع المشتقات کوضع الجوامد ، فإذا زال المبدأ لم یبق شیء ، کما لو زالت الإنسانیة فلا شیء یصدق علیه عنوان الإنسان ، بل المشتق أسوأ حالاً ، لبقاء المادّة بعد زوال الصّورة النوعیّة فی الإنسان ، و عدم بقاء شیء بعد زوال المبدإ فی المشتق ، کما تقدّم .

و بما أنّ الحق عند المحقق النائینی هو بساطة المشتق ، فوضع المشتق للأعمّ غیر ممکن ثبوتاً .

و أمّا علی الثانی ، بأنْ یقال بترکّب المشتقّ من المبدإ و الذات المبهمة من جمیع الجهات إلّا اتّصافها بالمبدإ ، فکذلک ، لعدم إمکان تصویر الجامع بین المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس غیر الزمان ، و لو لا أخذه فی المشتق لم یتحقّق الانقضاء ، لکنْ قد تقرّر - کما تقدّم - أنّ الزمان غیر مأخوذٍ فی

ص:379

المشتقات ، و لو فرض اشتمال الهیئة علی الزمان فی الأفعال ، فلا ریب فی عدم أخذه فی أسماء الأفعال و المفاعیل .

هذا ، و لا ینتقض هذا الذی ذکره هنا بما تقدّم عنه فی مدلول هیئة الفعل الماضی من أنه النسبة التحقّقیّة ، و أنّ هذه النسبة تجمع بین المتلبس و ما انقضیٰ ، فلتکن هی الجامع بین جمیع المشتقات . و وجه عدم ورود النقض هو أنه رحمه اللّٰه یریٰ التلازم بین هذه النسبة مع الزمان الماضی فی الزمانیّات ، فلا معنی لوجودها فی اسم الفاعل و اسم المفعول و نحوهما .

فظهر عدم إمکان الوضع للأعم ثبوتاً علی کلا التقدیرین .

الإشکال الثبوتی ببیان المحقق الأصفهانی

أمّا علی القول بالبساطة ، فمطلبه نفس ما ذکره المیرزا ، لکن بتقریب آخر ، قال (1) :

إنّه لا تتصوّر البساطة فی المشتق - و هو مبنی المحقق الدوانی - إلّا بأنْ یلحظ المبدأ فیه من شئون الذات و أحد مراتب وجودها - و ذلک ما ذکرناه من قبل ، من أن المبدأ تارةً : یلحظ فی قبال الذات ، فیکون المصدر کالضرب ، و لا یقبل الحمل علیها ، و اخری : یلحظ من شئون الذات و أطوارها و مراتب وجودها فیکون اسم الفاعل کالضارب ، و یقبل الحمل علیها و یتّحد معها ، فلا فرق بین « الضرب » و « الضارب » إلّا باللّحاظ ، فإنْ لوحظ علی النحو الأوّل فهو المبدأ ، و إنْ لوحظ علی النحو الثانی فهو المشتق - و إذا لوحظ کذلک ، دار أمره بین الوجود و العدم ، و لا جامع بینهما ، فلا یمکن وجود الجامع بین المتلبّس و من انقضی عنه التلبّس .

ص:380


1- (1)) نهایة الدرایة 131/1 .

و أمّا علی القول بالترکّب ، فاستدلاله یختلف عمّا ذکره المحقق النائینی ، قال :

إنّ مدلول المشتق بناءً علیه إمّا « مَن حَصَلَ منه الفعل » کما علیه العلّامة فی ( تهذیب الاصول ) ، و إمّا « من کان له الفعل » کما علیه صاحب ( الفصول ) ، مع إهمال النسبة بین المبدإ و الذات ، و کیف کان ، فیرد علیه :

أوّلاً : إن لازم ذلک صدق المشتق علی من سیتلبّس بالمبدإ حقیقةً ، لأن النسبة المهملة تصدق علی الجمیع ، مع اتّفاقهم علی أنه مجاز و لیس بحقیقة .

و ثانیاً : إن حقیقة النسبة لیس إلّا الخروج من العدم إلی الوجود ، فخروج المبدإ من العدم إلی الوجود هو النسبة ، و هو عین الفعلیّة ، فلا یتصوَّر وجود جامعٍ و لا یعقل الوضع للأعم .

النظر فی مناقشة السیّد الخوئی

و قد أجاب فی ( المحاضرات ) (1) عن استدلال استاذه النائینی ، لأجل إثبات الإمکان بناءً علی الترکّب ، بما حاصله : إنه لا حاجة إلی کون الجامع بین المتلبّس و من انقضی عنه المبدأ جامعاً حقیقیّاً ، لیرد علیه ما ذکر ، بل یکفی الجامع الانتزاعی ، کعنوان « أحدهما » ، فإنه ممکن ، بأنْ یلحظ الواضع الذات المتلبّسة بالمبدإ ، و الذات التی انقضی عنها المبدأ ، و ینتزع منهما جامعاً هو « أحدهما » و یکون کلٌّ منهما مصداقاً له ، و ذلک ، لأن حقیقة الوضع هی الحکم و هو اعتبارٌ لا غیر ، فکما یمکن جعل الوجوب مثلاً للجامع الانتزاعی ، بأن یکون الواجب « أحد الامور الثلاثة » ، فکذا وضع اللّفظ للجامع الانتزاعی بین المتلبس و ما انقضی عنه التلبس بالمبدإ .

ص:381


1- (1)) محاضرات فی اصول الفقه 264/1 .

و أمّا بناءً علی البساطة ، فإن أصل المبنی باطل ، إذ المشتق مرکّب لا بسیط .

و إلی هذا یعود ما أجاب به فی ( المحاضرات ) عن بیان المحقق الأصفهانی .

و أورد علیه شیخنا دام ظلّه :

بأنَّ هذا الجواب غیر صحیح ، لأن المیرزا و إنْ جوّز - فی بحث الواجب التخییری - جعل الوجوب علی أحد الامور ، کما فی خصال الکفّارة ، إلّا أنه قال بأنه خلاف ظواهر الأدلَّة .

أمّا هنا ، فله أن یقول : إنّ حکمة الوضع هی الدّلالة علی المعانی و التفهیم بإحضار المعانی بواسطة الألفاظ عند الأذهان ، فلو کان المشتق موضوعاً حقیقةً لعنوان « أحدهما » الجامع بین الحصّتین ، لکان هذا المعنی هو الآتی إلی الذهن ، إذ من المحال أنْ یوضع المشتق لهذا المعنی من دون أن یکون له حکایة عنه ، مع أنّ هذا العنوان لا یحضر إلی الذهن من المشتق ، کالعالم و الضارب و غیرهما .

فإن قیل : إن الموضوع هو مصداق أحدهما و واقعه ، لا المفهوم .

قلنا : هذا خلاف نصّ کلام المستشکل ، لأنه یقول بالجامع الانتزاعی ، و لیس فیه ذکرٌ لواقع الجامع الانتزاعی ، و أیضاً ، هذا خلف ، لأنّ مورد البحث عند کافّة العلماء هو : هل الموضوع له الحصّة أو الأعم ؟ فالموضوع له عامّ ، و « واقع أحدهما » فردٌ ، فیکون الموضوع له خاصّاً .

التحقیق فی الجواب

قال شیخنا دام بقاه : و التحقیق فی الجواب أن یقال : أمّا علی البساطة

ص:382

فغیر ممکن کما قالا ، لأنَّ الموضوع له بناءً علیه هو نفس المبدإ و المادّة ، فلا یتصوّر فیه المتلبّس و ما انقضی عنه ، و تصویر المحقق العراقی بأن الموضوع له هو المادّة المنتسبة ، مخدوش بأنه خروج عن البساطة و رجوع إلی الترکّب .

إذاً ، لا یجری النزاع فی المشتق بناءً علی هذا القول .

و أمّا بناءً علی القول بالترکّب ، فتارةً : نقول بأنه یوجد لمدلول هیئة المشتق - الذی هو عبارة عن النسبة - له قدر مشترک و جامع ، و اخری : نقول بأنه معنیً حرفی ، و المعنی الحرفی لا جامع له إلّا الجامع العنوانی ، و موطنه الذهن .

فبناءً علی الثانی ، لا یمکن تصویر الجامع ، لأن الموضوع له حینئذٍ خاص ، و لا یعقل أن یصیر جامعاً بین النسبتین ، إذن ، یسقط البحث .

أمّا بناءً علی الأوّل - و القول بأنّ الوضع فی الحروف عام و الموضوع له عام کذلک - فإنّه یصوَّر وضع هیئة المشتق للأعم ، وعلیه ، یمکن تصویر الجامع ، لأنا فی هذا المقام لا نحتاج إلّا إلی ذاتٍ تنطبق علی کلتا الحصّتین - المتلبّس و ما انقضی عنه - ، و هو الذات المبهمة من جمیع الجهات إلّا من حیث الاتّصاف بالمبدإ ، أی الاتّصاف به الموصوف بالوجود ، فی قبال الذات التی لم تتّصف بالمبدإ أصلاً ، لوضوح أن هناک ذاتاً لم تتّصف بالعلم أصلاً ، و ذاتاً اتّصفت و زال عنها العلم ، و ذاتاً اتّصفت به و ما زالت متلبّسةً به ، فالذات التی تنطبق علی الحصّتین - الثانیة و الثالثة - هی الجامع الموضوع له المشتق ، أی : الذات التی هی فی قبال التی لم تتّصف أصلاً .

إن تصویر هذا بمکانٍ من الإمکان ، و لا یترتب علیه أیّ محذور ثبوتی .

و قوله : إنه لیس الجامع إلّا الزمان ، فی غیر محلّه ، لعدم الحاجة إلی

ص:383

الزمان بالنظر إلی ما ذکرناه .

هذا فیما یتعلَّق بکلام المیرزا رحمه اللّٰه .

و العمدة ما ذکره المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه .

فأمّا إشکاله الأوّل ، و هو أنّه إذا کانت النسبة مهملة وجب الصدق علی من سیتلبّس بالمبدإ فی المستقبل . فیجاب عنه : بأنّ النسبة متعیّنة من تلک الجهة ، و إهمالها هو من الجهتین الاخریین ، و لیس الإهمال من جمیع الجهات .

و أمّا إشکاله الثانی ، و هو أن حقیقة النسبة هو الخروج من العدم إلی الوجود ، و هذا عین الفعلیّة . فیجاب عنه : إنه لا ریب فی وجود النسبة فی « الممتنع » و « المعدوم » و ما شابه ذلک ، مع أنّ الامتناع و العدم و نحوهما یستحیل خروجها إلی الوجود ، کما أنّ الخروج من العدم إلی الوجود لا معنی له فی المجرّدات ، مع وجود النسبة فیها کما هو واضح ، و لا وجه للالتزام فی هذه الموارد بالمجاز ...

فظهر بما ذکرنا ... أن المقتضی ثبوتاً موجود .

الجهة الثانیة

و یقع الکلام فی الإثبات :

بعد تصویر الجامع فی مقام الثبوت ، و المراد منه هو الجامع القابل للإثبات العرفی ، فإنْ قام الدلیل فی مقام الإثبات علی الوضع لخصوص الصحیح أو الأعم فهو ، و إلّا کان الکلام مجملاً و المرجع هو الأصل .

و فی هذه الجهة أقوال ، و عمدتها قولان :

1 - الوضع لخصوص المتلبّس مطلقاً .

ص:384

2 - الوضع للأعم من المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس مطلقاً .

و سائر الأقوال تفصیلات :

کالتفصیل بین ما إذا کان المشتق محکوماً به أو محکوماً علیه .

و التفصیل بین ما إذا کان المبدأ فیه الملکة أو الحرفة أو الشأنیّة و ما لیس من هذا القبیل .

و لم یتعرّض المحقّق صاحب ( الکفایة ) للتفصیلات ، و هذا هو الصحیح ، لأنّها ناظرة إلی مبدإ الاشتقاق ، و موضوع البحث - کما تقرّر سابقاً - هو الهیئة ، و لا أثر لاختلاف المواد .

و إلیک أدلّة القولین و التحقیق حولها :

أدلّة القول بالوضع للمتلبّس
اشارة

و احتجّ للقول بوضع المشتق لخصوص المتلبّس - و هو قول المشهور - بوجوهٍ ، ذکر فی ( الکفایة ) ثلاثة منها :

1 - التبادر

بدعوی أنَّ المتبادر و المنسبق إلی الذهن من المشتقّ ، هو عبارة عن الحصّة المتلبّسة و الصّورة التلبّسیة ، و لا دخل فی تبادر هذا المعنی منه لشیءٍ من خارج حاقّ اللّفظ ، و هذا هو علامة الحقیقة .

و تقریب ذلک : أمّا من ناحیة الصّغری ، فلأنّا نری انسباق هذا المعنی خاصّةً من المشتق ، علی جمیع المبانی فی الموضوع له فیه ، من أنّه الحدث لا بشرط ، أو الحدث مع النسبة ، أو الذات مع النسبة ، أو الثلاثة معاً ...

و نری أیضاً انسباقه منه فی جمیع صور استعمالاته ، کأن یکون مفرداً

ص:385

مثل « ضارب » أو یکون مضافاً إلی لفظٍ آخر ، فی نسبةٍ تامّة مثل « زید ضارب » أو ناقصة مثل « ضارب زید » .

فعلی جمیع الأقوال ، و فی مختلف الترکیبات ، لا یفید المشتق إلّا معنی واحداً ، و هو خصوص المتلبّس ، و لا یتبادر إلی الذهن منه غیره ... فیکون هو الموضوع له حقیقةً .

و أمّا من ناحیة الکبری ، فمناط دلیلیّة التبادر هو : أن انسباق المعنی من اللَّفظ أمر حادث ، فلا یکون بلا علّةٍ ، فإنْ کانت العلّة هی القرینة ، فالمفروض عدمها ، و إن کان الوضع الواقعی ، فالوضع کذلک لیس بعلّةٍ و إلّا لزم حصول التبادر عند الجاهل بالوضع ، و بعد بطلان کلا الشقین ، ینحصر الأمر بالعلم بالوضع ، و لا فرض آخر .

و الحاصل : أنا کلّما غیّرنا موقع استعمال المشتق ، وجدنا تبادر المعنیٰ منه ، بلا فرق ، ممّا یدلّ علی عدم استناد الانسباق إلی أمرٍ خارجٍ من قرینةٍ أو غیرها ... و إنما یستند إلی الوضع فقط .

هذا تقریب الاستدلال بالتبادر ، و إنّ مراجعة الکتب اللّغویّة فی اللّغات المختلفة لتؤیّد هذا المعنی ، لأن مدالیل الهیئات لا تختلف فی اللغات ، و المتبادر من « العالم » فی سائر اللّغات هو خصوص المتلبّس بالعلم ، و هکذا غیره من المشتقات ...

لکنْ لا بدَّ من إثبات کون هذا الانسباق من حاق اللَّفظ ، و لا یتم ذلک إلّا بدفع شبهتین :

( الشبهة الاولی ) هی : إن المطلوب هو تبادر المعنی و انسباقه من حاقّ اللّفظ ، و ذلک علامة الحقیقة ، و لکنه قد ینشأ من الإطلاق ، بمعنی أنه کلّما

ص:386

یستعمل اللّفظ الفلانی خالیاً عن القیود یستفاد منه المعنی الفلانی ، أو بمعنی أنّ کثرة استعماله فی ذاک المعنی یوجب انسباقه منه ، و هذا هو المستفاد من کلام المحقق صاحب ( الکفایة ) (1) ، فلعلّ کثرة استعمال المشتق فی المتلبّس هی السبب فی انسباق خصوص هذا المعنی منه إلی الذهن ، فی کلّ موردٍ اطلق فیه المشتق .

و إذا جاء احتمال استناد الانسباق إلی أمرٍ خارجٍ ، سقط الاستدلال بالتبادر علی المدّعی .

و قد أجاب فی ( الکفایة ) عن هذه الشّبهة بأنّ استعمال المشتق فی الأعمّ ، إن لم یکن أکثر منه فی المتلبّس ، فلیس بأقل ، فالتبادر هنا من حاقّ اللّفظ لا من الإطلاق ، لأنّ التبادر الإطلاقی إنما هو حیث یکون الاستعمال فی أحد المعنیین کثیراً و فی الآخر نادراً .

فوقع فی إشکال آخر ، و ذلک أن ما اعترف به من کثرة استعمال المشتق فی المعنی المجازی ، أی الأعم ، علی حدّ استعماله فی المعنی الحقیقی - إنْ لم یکن أکثر - لا یتلائم مع حکمة الوضع المقتضیة لاستعمال اللَّفظ فی المعنی الحقیقی الموضوع له ، و بالمنافاة بین کثرة المجاز کذلک و بین حکمة الوضع ، یستکشف عدم وجود کثرة استعمال المشتق فی الأعم ، بل هی فی خصوص المتلبّس ، و حینئذٍ یعود احتمال استناد التبادر و الانسباق إلی کثرة الاستعمال هذه ، فیرجع الإشکال و یسقط الاستدلال .

فأجاب أوّلاً : إن مجرَّد الاستبعاد غیر ضائر بالمراد ، أی الوضع

ص:387


1- (1)) کفایة الاصول : 47 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام ، ذیل ارتکازیة التضاد ، و هو الوجه الثالث من وجوه الاستدلال للقول الأوّل .

لخصوص المتلبّس .

و ثانیاً : إنما یلزم غلبة المجاز ، لو لم یکن استعماله فیما انقضی بلحاظ حال التلبّس ، مع أنه بمکانٍ من الإمکان ، فیراد من « جاء الضارب » - و قد انقضی عنه الضرب - : جاء الذی کان ضارباً قبل مجیئه حال التلبس بالمبدإ ، لا حینه بعد الانقضاء لکی یکون الاستعمال بلحاظ هذا الحال و جعله معنوناً بهذا العنوان فعلاً بمجرّد تلبّسه قبل مجیئه ، ضرورة أنه لو کان للأعم لصحّ استعماله بلحاظ کلا الحالین ...

و أفاد الاستاذ دام ظله بعد أن شرح هذا الکلام : بأنه علی هذا أیضاً یعود الإشکال ، لأنّه لمّا صار الاستعمال فیما انقضی بلحاظ التلبّس قلیلاً ، و فی المتلبّس کثیراً ، رجع احتمال کون التبادر و الانسباق ناشئاً من کثرة الاستعمال فی المتلبّس ، و من هنا ذکر المحققون من المحشّین علی ( الکفایة ) من تلامذته أن حاصل کلامه تسجیل الإشکال علی نفسه .

و أمّا ما ذکره من أنّ کثرة الاستعمالات المجازیّة غیر ضائر ، ففیه : إنّه إذا کان اللّفظ یستعمل فی معانی مجازیة متعددة ، فهذا لا إشکال فیه و لا ینافی حکمة الوضع ، لکنّ کثرة الاستعمال المجازی فی مقابل المعنی الحقیقی ، کأنْ یوضع لفظ « الأسد » للحیوان المفترس ثم یستعمل - فی الأکثر - فی الرجل الشجاع ، فهذا ینافی حکمة الوضع ، و ما نحن فیه من هذا القبیل .

ثم قال الاستاذ :

و التحقیق فی المقام : إن التبادر علی قسمین : التبادر عند المستعلم ، و التبادر عند أهل اللّسان ، فإن کان المعیار هو القسم الأوّل ، فإن مجرَّد احتمال کونه ناشئاً من کثرة الاستعمال یسقطه عن الاعتبار ، إلّا أن یحصل القطع بعدم

ص:388

دخل کثرة الاستعمال فی التبادر ، لکنّ حصول مثل هذا القطع بعید ، و لو ارید التمسّک بأصالة عدم استناد التبادر إلی کثرة الاستعمال ، و لازمه کونه مستنداً إلی حاقّ اللّفظ ، کان من الأصل المثبت ، علی أنه معارض بأصالة عدم استناده إلی حاقّ اللّفظ .

و أما إن کان المعیار هو التبادر بالمعنی الثانی ، و هو الصحیح ، کما ذکرنا فی محلّه ، فالإشکال مندفع ، لسقوط احتمال استناد التبادر عند أهل اللّسان إلی کثرة الاستعمال ، لأنَّ سیرة العقلاء - فی استکشاف المعانی الحقیقیّة للألفاظ - قائمة علی الرجوع إلی أهل اللّسان و أخذ المعانی منهم ، فیرجعون إلی استعمالاتهم للَّفظ فی الموارد المختلفة و الترکیبات المتفاوتة ، فإذا رأوا ثبوت المعنی و اطّراده و عدم تغیّره بتغیّر الاستعمالات و الحالات ، و أنه هو الذی ینسبق إلی أذهانهم فی جمیع المقامات ، حصل لهم الیقین باستناد المعنی إلی حاقّ اللّفظ لا إلی شیء آخر .

فحلّ الإشکال یتمّ بأمرین :

أحدهما : أن الحجّة من التبادر ما کان عند أهل اللّسان ، لا ما کان عند المستعلم .

و الثانی : إن بناء العقلاء علی الرجوع إلی أهل اللّسان فی استکشاف المعانی الحقیقیّة للألفاظ ، لا إلی المستعلمین .

فهذا هو الحلّ للإشکال ، لا ما ذکره صاحب ( الکفایة ) و من تبعه ، فافهم و اغتنم .

( الشبهة الثانیة ) هی : شبهة الأولویّة العقلیّة ، و بیانها : إن الواضع لو کان قد وضع المشتق للأعم ، فإنّ مناط وضعه له هو جهة التلبّس ، إذ لولاه لم یکن

ص:389

وضع ، غایة الأمر هو أن الأخصی یقول بأن الوضع لخصوص المتلبّس ، و الأعمی یقول : ذاک أصبح مناطاً و الوضع للأعم منه ، إذن ، یکون لصدق المشتق علی المتلبّس أولویّة عقلیّة بالنسبة إلی الأعم ، و لعلّ هذه الأولویّة هی السّبب فی انسباق المتلبّس خاصّةً ، و معه لا یقین بکونه مستنداً إلی حاقّ اللّفظ ، لیکون حجةً .

قال شیخنا دام ظلّه :

و هذا الاحتمال لا دافع له ، إلّا بأنْ یقال : بأن المهمّ - کما تقدّم - هو الرجوع إلی أهل اللّسان ، لا إلی المستعلم ، و إنه لیس فی ارتکازات أهل اللّسان مثل هذه الأولویّة العقلیّة فی دلالات الألفاظ .

فیکون التبادر ناشئاً من حاقّ اللّفظ لا من غیره .

2 - صحّة السّلب
اشارة

قال فی ( الکفایة ) بعد التبادر : و صحّة السلب مطلقاً عما انقضی عنه ، کالمتلبّس به فی الاستقبال ، و ذلک ، لوضوح أن مثل « القائم » و « الضارب » و« العالم » و ما یرادفها من سائر اللّغات ، لا یصدق علی من لم یکن متلبّساً بالمبادئ و إنْ کان متلبّساً بها قبل الجری و الانتساب ، و یصحّ سلبها عنه ، کیف ؟ و ما یضادّها - بحسب ما ارتکز من معناها فی الأذهان - یصدق علیه ، ضرورة صدق « القاعد » علیه فی حال تلبّسه بالقعود بعد انقضاء تلبّسه بالقیام ، مع وضوح التضادّ بین « القاعد » و « القائم » بحسب ما ارتکز لهما من المعنی ، کما لا یخفی .

و هذا الاستدلال لا یخلو من إبهام ، فإنّ صحّة الحمل و صحة السّلب علی قسمین : صحّة الحمل و السّلب المفهومی ، و صحّة الحمل و السّلب

ص:390

المصداقی . فصحّة الحمل المفهومی بالحمل الأوّلی علامة الحقیقة ، و صحة السّلب کذلک علامة المجاز ، و صحّة الحمل المصداقی بالحمل الشائع علامة الحقیقة ، و یقابله صحة السلب کذلک ، فإنه علامة المجاز ، و التقریر المذکور فی ( الکفایة ) و غیرها إنما هو صحة السّلب بالحمل الشائع الصناعی ، لأنّ « زیداً » الذی انقضی عنه « الضرب » نسلب عنه ذلک بماله من المعنی ، ثم نقول : لو کان الموضوع له « الضارب » هو الأعم ، لکان زید المنقضی عنه التلبس بالضرب مصداقاً له ، إلّا أن صحّة سلب ذلک عنه دلیلٌ علی أنّ هذا الفرد لیس مصداقاً لکلّی « الضارب » فیثبت أن الطبیعة غیر متحققة فیه ، و یثبت أنه غیر موضوع له ، بل هو المتلبّس فقط .

هذا توضیح الاستدلال ، و سیأتی تحقیق الحال فی ذلک عند النظر فی کلام المحقق الأصفهانی .

إشکال المحقق الرشتی و جواب الکفایة

ثم إنّ صاحب ( الکفایة ) تعرّض لإشکال المحقق الرشتی قائلاً : ثم إنه ربما أورد علی الاستدلال بصحة السلب بما حاصله : إنه إنْ ارید بصحّة السلب صحّته مطلقاً فغیر سدید ، و إنْ ارید مقیَّداً فغیر مفید ، لأنَّ علامة المجاز هی صحة السّلب المطلق .

توضیح الإشکال : إن الإهمال فی مقام الحمل و السلب غیر معقول ، فإمّا أن نسلب المطلق ، أو نسلب المقیّد ، مثلاً : لمّا نقول : « زید لیس بضاربٍ الآن » إن کان المسلوب هو « الضارب » المقیَّد ب « الآن » کان السلب المقیَّد غیر مفیدٍ للسلب المطلق ، فلا یثبت الوضع لخصوص المتلبّس ، فلعلّه لیس بضاربٍ الآن ، لکنه ضارب ، فهذا غیر مفید . و إن کان المسلوب هو

ص:391

« الضارب » المطلق ، فهذا أوّل الکلام ، لأنّا لا نسلب « الضارب » بقولٍ مطلق عن « زید » فی ظرف الانقضاء ، فهی دعوی بلا برهان ، و هی غیر سدیدة .

و ملخّصه : إنْ قلنا : زید غیر ضاربٍ مطلقاً ، فهذا غلط ، لأنه ضارب موجبةً جزئیة ، و إنْ قلنا : إنه الآن لیس بضاربٍ ، فهذا نفی للأخص ، و هو لا ینفی الأعم فلا ینتفی الوضع له .

و قد أجاب المحقّق صاحب ( الکفایة ) بما توضیحه : إن قید « الآن » فی قضیّة « زید لیس بضاربٍ الآن » لا یخرج عن ثلاثة أحوال ، فإمّا هو قیدُ المسلوب و هو « الضارب » أی : لیس زید ضارباً الآن . و إمّا هو قید المسلوب عنه و هو « زید » أی : زید الذی هو فی الآن غیر ضارب . و إمّا هو قید السلب ، أی : زید لیس الآن بضارب .

فعلی التقدیر الأوّل ، تسقط صحة السّلب عن کونها علامةً ، و یتوجّه إشکال المحقق الرشتی ، لأنه لیس بسلبٍ للضّارب المطلق عن زید .

أمّا علی التقدیرین - الثانی و الثالث - فلا یرد إشکاله ، بل یکون الحمل فیهما أمارةً علی أنّ « الضارب » غیر موضوع للأعم .

کلام المحقق الأصفهانی

و للمحقق الأصفهانی فی هذا المقام کلام دقیق ، و حاصله : إنّ السّلب یعتبر تارةً : بالحمل الأوّلی الذّاتی ، و هو السّلب المفهومی ، و اخری : یعتبر بالحمل الشائع . فإنْ اعتبر بالحمل الأوّلی ، کان اللّازم سلب ما ارتکز فی الأذهان أو تعارف فی عرف أهل اللّسان من المعنی الجامع - لا من خصوص ما انقضی عنه المبدأ ، فإنّ سلبه لا یستدعی السلب عن الجامع - و یکون هذا السّلب علامة المجاز ، و حیث أنه بلحاظ المفهومین ، فلا حاجة فیه إلی التقیید

ص:392

بالزمان ، کی یورد علیه بما ذکره المحقق الرشتی .

و إنْ اعتبر السّلب بالحمل الشّائع ، فتارةً : یلحظ الزمان قیداً للسّلب ، و هو علامة عدم الوضع للجامع ، و إلّا لما صحَّ سلبه عن مصداقه فی حینٍ من الأحیان ، و اخری : یلحظ المسلوب عنه فی حال الانقضاء و یسلب عنه مطلقاً مطلق الوصف ، و ثالثة : یلحظ المسلوب فی حال الانقضاء فیسلب عن الذات مطلقاً ، فإن ما لا أماریّة لصحّة سلبه هی المادّة المقیّدة ، فإن عدم کونه ضارباً بضرب الیوم لا ینافی کونه فعلاً ضارباً بضرب الأمس ، بخلاف الهیئة المقیَّدة ، فإنّ عدم کونه ضاربَ الیوم - و لو بضرب الأمس - ینافی الوضع للأعم .

فإذن ، تصحُّ أماریّة صحة السلب مقیّداً للمجازیّة ، سواء کان القید قیداً للسلب أو المسلوب أو المسلوب عنه .

و أمّا ما ذکره المحقّق الرشتی - و سلّم به المحقق الخراسانی - من أن القید إنْ رجع إلی المسلوب - أی الضارب - فلا أماریّة ، فإنّما یسلّم به فیما إذا کان للوصف بلحاظ حال الانقضاء فردان ، فإنّ سلب أحد الفردین لا یستلزم سلب المطلق ، لإمکان وجوده فی الفرد الآخر ، مع أنّ المدّعی کون الوصف فی حال الانقضاء فرداً فی قبال حال التلبّس ، فإنْ صحّ سلبه فی حال الانقضاء فقد صحَّ سلبه بقولٍ مطلق ، لانحصاره فیه .

فیسقط إشکال المحقق الرشتی ، و کذا تسلیم المحقق الخراسانی .

ثم جعل یردُّ علی المحقق صاحب ( الکفایة ) قائلاً :

و التحقیق : عدم خلوص کلّ ذلک عن شوب الإشکال ، لأنّه أفاد أن قید « الآن » یمکن إرجاعه إلی المسلوب عنه « زید » و یکون أمارةً علی المجازیّة فی الأعم ، و کذا إنْ رجع إلی نفس السّلب ، فقال المحقّق الأصفهانی : بأنّ

ص:393

« زیداً » المسلوب عنه غیر قابل للتقیّد بالزّمان ، لعدم معنیً لتقیّد الثابت و تحدّده بالزمان ، فإنه مقدَّر الحرکات و المتحرّکات ، و أما الثوابت و الجوامد فلا تقدَّر به حتی بناءً علی القول بالتجدّد فی الجوهر .

قال : و أمّا تقیید السلب ، فغیر سدید ، لأنّ العدم غیر واقع فی الزمان و لو کان مضافاً إلی شیء ، لأنّ الزمان لیس مقداراً لکلّ موجودٍ مهما کان ، بل هو مقدار للموجودات التی فیها الحرکة و التصرّم ، فلا یصحُّ جعل « الآن » قیداً ل « لیس » (1) .

رأی الشیخ الاستاذ

هذا ما حقّقه المحقق الأصفهانی ، فقال الاستاذ دام بقاه بعد تقریبه : لکن الإشکال فی أصل المبنی .

فأمّا الحمل الأوّلی فهو عبارة عن الاتّحاد بین الموضوع و المحمول مفهوماً ، فهو إنما یوجب اتّحادهما فی المفهوم و إنْ کان بینهما تغایر بالإجمال و التفصیل مثلاً ، و لا یتکفّل کون اللّفظ فی المعنی حقیقیّاً أو مجازیّاً ، و بعبارة اخری : إنه لا یرتبط بعالم اللّغة و کیفیّة الوضع أصلاً ، و إنّما یکون فی عالم المفاهیم و المعانی و الموجودات ، سواء کان هناک لفظٌ أو لا .

و أمّا الحمل الشائع ، فهو ناظر إلی الاتّحاد الوجودی بین مفهومی الموضوع و المحمول ، سواء وجد لفظٌ فی البین أو لا ، کذلک .

و علی الجملة ، فإنّه صحّة الحمل و صحّة السلب یرتبطان بالمفاهیم بما هی مفاهیم ، و الحقیقة و المجاز یرتبطان بالمفاهیم بما هی مدالیل للألفاظ ، و ما یرتبط بالمفاهیم بما هی لا یکون دلیلاً علی ما یرتبط بالمعانی بما هی

ص:394


1- (1)) نهایة الدرایة 1 : 197 - 199 .

مدالیل للألفاظ .

و الحاصل : إن الحمل یعطینا نتیجةً عقلیّةً لا لغویّة و وضعیّة .

وعلیه ، یسقط هذا الوجه من الأساس .

3 - التضادُّ بین المفاهیم

و هذا الوجه ذکره صاحب ( الکفایة ) کتتمّة للوجه الثانی ، ثم قال : « و قد یقرَّر هذا وجهاً علی حده و یقال : لا ریب فی مضادّة الصّفات المتقابلة المأخوذة من المبادی المتضادّة علی ما ارتکز لها من المعانی ، فلو کان المشتق حقیقةً فی الأعمّ ، لما کان بینها مضادّة بل مخالفة ، لتصادقها فیما انقضی عنه المبدأ و تلبَّس بالمبدإ الآخر . فزید الذی کان قائماً ثم قعد یصدق علیه الآن عنوان « القاعد » ، فلو کان المشتق حقیقةً فی الأعم لصدق علیه الآن عنوان « القائم » أیضاً ، و کونه قائماً و قاعداً فی الآن الواحد اجتماعٌ للضدّین ارتکازاً ، فهذا التضادّ الارتکازی یکشف عن أن صدق المشتق علی من انقضی عنه التلبس مجاز و لیس بحقیقةٍ .

و فیه :

إن غایة ما یدلّ علیه هذا الوجه وقوع التضادّ علی أثر تبادر خصوص المتلبّس من المشتق ، و لو لا تبادره منه لما وقع ، فلا یکون هذا الوجه دلیلاً علی حدة ، و إنما یتفرّع علی الوجه الأوّل .

هذه هی الوجوه التی احتجّ بها صاحب ( الکفایة ) و غیره من القائلین بالقول الأوّل ، و عمدتها هو الوجه الأوّل ، و قد عرفت اندفاع الشبهات عنه ، فالقول الأوّل هو المختار .

ص:395

أدلّة القول بالوضع للأعم
اشارة

و احتجَّ للقول الثانی ، و هو أن المشتق موضوع للأعم من المتلبس و ما انقضی عنه ، بوجوه کذلک :

الأوّل : التبادر

فالمنسبق إلی الذهن من المشتق هو المعنی الأعم .

و فیه :

إن هذه الدعوی مردودة ، إذ لا ریب فی انسباق القائم بالفعل من لفظ « القائم » و هکذا غیره من المشتقات ، نعم لهم أنْ ینکروا ذلک ، و ینتهی الأمر إلی الإجمال ، أمّا دعوی تبادر الأعم ، فغیر مسموعة أصلاً .

الثانی : عدم صحة السّلب

فلا یصح السّلب فی مثل « مقتول » و « مضروب » و نحوهما من أسماء المفاعیل ، عمّن انقضی عنه المبدأ ، و إذا لم یصح فی اسم المفعول ، فلا یصح فی غیره من الهیئات .

و الجواب :

إنه لا شبهة فی أنّ النسبة بین حیثیّة الصدور و حیثیّة الوقوع هی نسبة التضایف ، فلا یمکن الانفکاک بین صدور القتل من القاتل و وقوعه علی المقتول ، فإذا کان « المقتول » مثلاً صادقاً علی من انقضی عنه التلبّس بالقتل وقوعاً علیه ، لزم صدق « القاتل » حقیقةً علی من انقضی عنه التلبّس بالقتل صدوراً منه ، لکن « القاتل » لا یصدق إلّا علی المتلبّس بالقتل بالفعل .

فإن کان « المقتول » صادقاً علی من انقضی عنه التلبس ، فذلک لأنّ المراد من المبدإ فیه ، أی القتل ، معنیً آخر - غیر معناه الحقیقی - یکون

ص:396

التلبّس به باقیاً فی الحال و لو مجازاً ، بأنْ یراد منه زهوق الرّوح ، فعدم صحّة السلب فی « المقتول » هو لأجل بقاء التلبّس بالمبدإ بالمعنی المذکور فعلاً .

أقول : قد یقال : إن هذا مصادرة بالمطلوب ، لأن دعوی عدم صدق اسم الفاعل علی غیر المتلبّس حقیقةً ، موقوفة علی تبادر المتلبّس خاصّةً من المشتق ، و هذا أوّل الکلام .

الثالث : قوله تعالی : «لاَ یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ »

و الوجه الثالث : استدلال الإمام علیه السلام بقوله تعالی : «لاَ یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ » علی عدم لیاقة من عبد صنماً أو وثناً لمنصب الإمامة و الخلافة ، تعریضاً بمن تصدّی لها ممّن عبد الصّنم ، و من الواضح توقّف ذلک علی کون المشتق موضوعاً للأعم ، و إلّا لما صحَّ التعریض ، لانقضاء تلبّسهم بالظلم و عبادتهم للصنم ، حین التصدّی للخلافة .

قاله صاحب ( الکفایة ) قدّس سرّه .

جواب صاحب الکفایة

و أجاب عنه بما ملخَّصه : إنّ العناوین الواقعة موضوعاتٍ للأحکام الشرعیّة علی ثلاثة أقسام :

( أحدها ) أنْ یکون أخذ العنوان لمجرّد الإشارة إلی ما هو فی الحقیقة موضوع الحکم ، لمعهودیّته بهذا العنوان ، من دون دخلٍ لاتّصافه به فی الحکم أصلاً ، کأن یقول : أکرم من فی المسجد ، إذا کان موضوع الحکم ذوات الأشخاص ، و کان عنوان « الکون فی المسجد » عنواناً مشیراً إلیهم .

( ثانیها ) أنْ یکون لأجل الإشارة إلی علیّة المبدإ للحکم ، مع کفایة

ص:397

مجرّد صحّة جری المشتق علیه ، و لو فیما مضی ، کما فی قوله تعالی :

« السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَیْدِیَهُمَا » (1)و قوله تعالی : «الزَّانِیَةُ وَالزَّانِی فَاجْلِدُوا » (2)حیث أنّ نفس حدوث السّرقة و الزنا علّة لترتّب الحکم ، و لا دخل لبقائهما فیه .

( ثالثها ) أنْ یکون لأجل الإشارة إلی علیّة المبدإ للحکم ، مع عدم کفایة مجرّد صحّة جری المشتق فیما مضی ، بل یکون الحکم دائراً مدار صحّة الجری علیه و اتّصافه به حدوثاً و بقاءً ، کما فی دوران حکم وجوب التقلید مدار وجود الاجتهاد - مثلاً - حدوثاً و بقاءً ، و عدم کفایة وجوده حدوثاً فی بقاء الحکم .

قال فی ( الکفایة ) : إذا عرفت هذا فنقول : إن الاستدلال بهذا الوجه ، إنما یتم لو کان أخذ العنوان فی الآیة الشریفة علی النحو الأخیر ، ضرورة أنه لو لم یکن المشتق للأعمّ لما تمّ بعد عدم التلبّس بالمبدإ ظاهراً حین التصدّی ، فلا بدّ أن یکون للأعمّ لیکون حین التصدّی حقیقةً من الظالمین و لو انقضی عنه التلبس بالظلم . و أما إذا کان علی النحو الثانی فلا ، کما لا یخفی ، و لا قرینة علی أنه علی النحو الأوّل ، لو لم نقل بنهوضها علی النحو الثانی ...

قال شیخنا الاستاذ : فقد وافق صاحب الکفایة علی ابتناء الاستدلال بالآیة علی بحث المشتق ، لو کان أخذ العنوان فیها علی النحو الثالث .

جواب المیرزا النائینی

لکنّ جواب المحقق النائینی أدقّ من الجواب المزبور و هو : إن عنوان

ص:398


1- (1)) سورة المائدة : 38 .
2- (2)) سورة النور : 2 .

« الظالم » المأخوذ فی الآیة المبارکة ، قد أخذ فی الموضوع بنحو القضیّة الحقیقیّة ، فهو علّة للحکم و لیس بعنوانٍ مشیر ، و یکون تحقّقه دخیلاً فی الحکم ، فکلّ من تحقّق منه الظلم و تلبّس به فلا یکون أهلاً لأنْ تناله الإمامة ، فلا ارتباط لاستدلال الإمام علیه السلام بالآیة بالنزاع فی المشتق ، و إنما یبتنی علی کیفیّة دخل العنوان و علیّته للحکم ، و أنه هل یکفی حدوث التلبّس بالظلم لعدم النیل أو یعتبر معه بقاء التلبّس ؟

نعم ، لو کانت القضیّة خارجیّة لا حقیقیّة ، کان للنزاع حول المشتق مجال فیها ، لأن الحکم فی القضیّة الخارجیّة یتوجّه إلی الأفراد المحقّقة الوجود ، فإن کان المشتق حقیقةً فی الأعم وقع النزاع فی شمول الحکم لمن انقضی عنه التلبس بالمبدإ ، فمن انقضیٰ عنه التلبّس بالعلم ، یبتنی شمول الحکم بوجوب إکرام العلماء و عدم شموله له ، علی النزاع فی مسألة المشتق .

و لو تردّد الأمر فی القضیّة الحقیقیّة بین کفایة حدوث التلبّس و عدم کفایته بل یعتبر البقاء أیضاً ، فمقتضی الأصل الأوّلی هو أن حدوث العنوان دخیل فی حدوث الحکم و بقاءه دخیل فی بقائه ، إلّا إذا قامت القرینة علی خلافه ، و قد دلَّت القرینة فی آیة السرقة ، و آیة الزنا ، و نحوهما ، علی کفایة حدوث التلبّس بالمبدإ فی ترتّب الحکم و هو الحدّ .

و الأمر فی قوله تعالی : «لاَ یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ » کذلک ، و القرینة فی هذه الآیة هی مناسبة الحکم و الموضوع ، و ذلک عظمة مقام الإمامة و جلالة قدرها ، و رفعة محلّها ، فمن تلبّس بالشرک و عبادة الأوثان و لو آناً ما فهو ظالم ، و «إِنَّ الشِّرْکَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ » و هو غیر لائق لتصدّی الإمامة ، حتّی لو لم نقل

ص:399

باشتراط العصمة فی الإمام ، لتنفّر الناس منه ، و استهانتهم به (1) .

ردّ الاعتراض علی الاستدلال بالآیة

ثم إنّه قد أورد علی الاستدلال بالآیة المبارکة علی عدم لیاقة من تقمّص الإمامة و الخلافة بعد رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم لها ، بروایة :

« الإسلام یجبُّ ما قبله » ، لکنه مردود سنداً و دلالةً .

أمّا سنداً ، فلأنّ الأصل فی روایة هذا الحدیث هو أحمد بن حنبل ، فی قضیّة عمرو بن العاص ، حیث قال عند ما أسلم : فما الذی یعصمنی من کفری ؟ فقال صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم الإسلام یجبّ ما قبله (2) .

و فی هذا الحدیث أیضاً : « الهجرة تجبّ ما قبلها » .

و دعوی انجبار ضعف السند بعمل الفریقین بهذا الخبر فی عدّة أبوابٍ من الفقه ، کما تری ، لأنَّ عمل العامّة لا یؤثّر فی خروج الروایة عن الضعف ، و أمّا عمل أصحابنا ، فقد ذهب صاحب ( الجواهر ) و المحقق الهمدانی و آخرون إلی أنه یجبر الضعف ، إلّا أن التحقیق خلافه کما یُقرّر فی محلّه (3) ، علی أنَّ الکلام هنا فی الصغری ، إذ یعتبر فی الجبر إحراز عملهم بالخبر و استنادهم فی الفتوی إلیه ، و ذاک أوّل الکلام ، لوجود أخبار و أدلّة اخری فی تلک الأبواب .

ص:400


1- (1)) أجود التقریرات 121/1 - 122 .
2- (2)) مسند أحمد بن حنبل 198/4 - 199 .
3- (3)) و سیأتی - إن شاء اللّٰه - أن الأقوال فی المسألة ثلاثة : أحدها : إن عمل الأصحاب جابر و کاسر ، و هو المشهور وعلیه بعض مشایخنا ، و الثانی : إنه لا یجبر و لا یکسر ، وعلیه السید الخوئی و بعض مشایخنا من تلامذته ، و الثالث : التفصیل فهو یکسر و لا یجبر ، وعلیه الشیخ الاستاذ دام بقاه .

و أمّا دلالةً فبوجوه :

أوّلاً : إنّ ما یرفعه هذا الحدیث هو الحکم التکلیفی ، و أمّا الحکم الوضعی فلا یرتفع ، و لذا قال صاحب ( الجواهر ) بأن إسلام الکافر لا یرفع الجنابة ، بل یجب علیه الغسل من الجنابة ، لأنها أمر وضعی ، و الحدیث لا یعمّ الوضعیّات ، و هذا خیر شاهد علی ما ذکرناه ، و لا یخفی أنّ شرطیّة عدم الظلم للتصدّی للإمامة ، أو مانعیّة الظلم عن التصدّی لها ، من الامور الوضعیّة .

و ثانیاً : إنه علی فرض شمول حدیث الجب للوضعیّات ، فلا ریب فی عدم شموله للتکوینیّات ، و ظاهر الآیة المبارکة أن عدم نیل الإمامة الظالمَ أمر تکوینی ، فمدلولها : أنّ الظالم قاصر ذاتاً عن أن تناله الإمامة و الخلافة ، فکأنّ اللّٰه یقول لسیّدنا إبراهیم علیه السلام إن دعائک لا یستجاب ، لأنه یتنافی مع سنّة تکوینیّة ، کأنْ یدعو الإنسان أنْ تنال یده الشمس ... فالآیة المبارکة ترجع إلی أمرٍ عقلی ، لا علاقة لها بالقضایا الاعتباریّة ، فهی - من هذه الجهة - نظیر قوله تعالی : «لَن یَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَکِن یَنَالُهُ التَّقْوَی مِنکُمْ » (1)فعدم نیل لحم اضحیّة المشرک لیس أمراً اعتباریاً ، بل هو للقصور الذاتی فیه .

و ثالثاً : إنه - بغض النظر عن کلّ ما ذکر - یستحیل جریان قاعدة الجبّ فی هذا المورد ، لأن إبراهیم علیه السلام کان عالماً بما جاء فی قضیّة نوحٍ علیه السلام من قوله تعالی له : «وَلاَ تُخَاطِبْنِی فِی الَّذِینَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ » (2)و بعد ذلک یستحیل أن یطلب من اللّٰه تعالی أن یجعل الإمامة فی المشرک الذی بقی علی شرکه ، فیکون طلبه لخصوص من أسلم من ذریّته و خرج عن الشرک ،

ص:401


1- (1)) سورة الحج : 37 .
2- (2)) سورة المؤمنون : 27 .

و حینئذٍ فلو خصّص لما بقی للآیة مورد ، خذ فاغتنم .

هذا تمام الکلام فی أدلَّة القولین .

المختار

و قد ظهر من مطاوی البحث أنّ المختار هو القول الأوّل ، و الدلیل الصحیح علیه هو التبادر ، فإنّ خصوص المتلبِّس هو المنسبق إلی الذهن من اللّفظ حیث یطلق و توجد قرینة صارفة .

ثمرة البحث

کما ظهر من مطاوی البحث أنْ لا ثمرة لهذا النزاع ، لکون القضایا هذه حقیقیةً لا خارجیّة ، فقضیّة النهی عن البول تحت الشجرة المثمرة - مثلاً قضیّة حقیقیّة ، و البحث فیها راجع إلی أنَّ کلَّ شجرٍ وجد و اتّصف بأنه مثمر ، فالبول تحته منهی عنه ، فما لم یتحقّق وصف الإثمار فلا یترتّب الحکم ، فیرجع الأمر إلی نزاع آخر و هو أنّه : هل حدوث وصف الإثمار کاف لترتّب الحکم أو یشترط لترتّبه بقاء الوصف أیضاً ؟ و هذا غیر النزاع فی المشتق .

و آخر دعوانا أن الحمد للّٰه رب العالمین ، و صلّی اللّٰه علیه محمّد و آله الطاهرین .

تم الجزء الأوّل و یلیه الجزء الثانی بعون اللّٰه .

ص:402

المجلد 2

اشارة

ص :1

ص :2

ص :3

ص :4

ص :5

الأوامر

اشارة

البحوث السابقة کانت مقدمات . و المهم هو المقاصد و الخاتمة .

و المقصدُ الأول فی الأوامر ، و هی مورد الابتلاء فی الفقه من أوّله إلی آخره ، و هی کثیرة جدّاً ، إمّا تعییناً و إمّا تخییراً ، معلَّقاً أو منجّزاً ، عینیّاً أو کفائیّاً ، توصّلیاً أو تعبّدیاً ...

فی هذا المقصد بحوث مهمّة ، کمباحث الإجزاء و اقتضاء الأمر للنهی عن الضدّ و أمثال ذلک ممّا له الأثر العلمی و العملی .

و هذا المقصد موضوعه الأمر مادّةً و صیغةً .

و البحث أوّلاً عن مادّة الأمر .

ثم عن الصّیغة .

ص:6

مادّة الأمر

اشارة

و فیه بحوث :

1 - ما معنی مادّة الأمر ؟

2 - هل المادّة تدلّ علی الوجوب ؟

3 - هل یعتبر فی مفهوم الأمر : العلوّ ، أو الاستعلاء ، أو لا هذا و لا ذاک ؟

ما معنیٰ مادّة الأمر ؟

قال تعالیٰ : «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ... » (1)و فی الحدیث : « إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم » (2) و نحو ذلک - کتاباً و سنّةً - کثیر ، فما هو مدلول هذه المادّة ؟ و هل المعنیٰ واحد أو متعدّد ؟

قیل : المعنی الموضوع له مادّة الأمر واحد و لیس بمتعدّد ، وعلیه المحقّقان المیرزا و الأصفهانی .

و قیل : لمادّة الأمر معانٍ متعدّدة ، فعدّ فی (الکفایة) سبعة ، و ذکر بعض أکثر من عشرین معنیٰ .

ثم أرجعوا تلک المعانی الکثیرة إلی معنیین ، لکنّهم اختلفوا فی

ص:7


1- 1) سورة النحل : 92 .
2- 2) غوالی اللآلی 58/4 برقم 206 .

تعیینهما :

قال صاحب (الفصول) هما : الطلب و الشأن ، و قوّی فی (الکفایة) القول بأنّهما : الطلب و الشیء ، و قال السید البروجردی : الطلب و الفعل ، و قیل :

الطلب و معنی أخص من الشیء و أعمّ من الفعل ، و قیل بدل الطلب : إبراز الاعتبار النفسانی .

هذه أهمّ الآراء فی هذا المقام .

التحقیق فی الآراء بناءً علیٰ تعدّد المعنی

فأمّا بناءً علی تعدّد المعنی للفظ « الأمر » ، فأقوی الأقوال المذکورة هو القول الرابع ، و یظهر ذلک من النظر فیها :

أمّا رأی صاحب (الفصول) (1) فواضح الضّعف ، إذ لا حکایة للفظ « الأمر » عن « الشأن » و لا ینسبق منه إلی الذهن .

و أمّا رأی صاحب (الکفایة) (2) من أن المعنی الحقیقی للفظ « الأمر » هو « الطلب » و « الشیء » و أنّ استعماله فی مثل « الغرض » و « الحادثة » و « الفعل » ، و نحوها هو من باب اشتباه المصداق بالمفهوم ، لأنّ « الشیء » مصداق « الغرض » مثلاً ، و لکونه مصداقاً له تخیّل أن مفهوم « الأمر » هو « الغرض » ، فقولک : « جئتک للأمر الفلانی » لیس معناه : جئتک للغرض الفلانی ، بل المعنی جئتک للشیء الفلانی ، إلّا أنه مصداقٌ للغرض ، کما یکون مصداقاً للحادثة و للفعل ... و هکذا ...

فهذا رأی المحقق الخراسانی ، لکنْ فیه :

ص:8


1- 1) الفصول الغرویة : 62 ، حجری .
2- 2) کفایة الأصول : 62 ط مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث .

إنّ « الشیء » یطلق علی : الجوهر ، و العرض ، من الفعل و غیره ، و علی ذات الباری عزّ و جلّ ، لکنّ « الأمر » لا یصحّ إطلاقه علی هذه الموارد ، فلا یقال فی زید : إنه أمرٌ ، و فی الأخبار إنه یقال للّٰه« شیء » لکنّه « شیء بخلاف الأشیاء » (1) فیطلق علیه « الشیء » و لکنْ لا یطلق « الأمر » .

و قد استشکل المحقق الأصفهانی تعبیر صاحب (الکفایة) عن الاشتباه المزبور بأنه من اشتباه المفهوم بالمصداق ، ببیان : إن اشتباه المفهوم بالمصداق إنما یکون فی موردٍ یوضع اللفظ للمصداق بما أنه مصداق و بما هو کذلک و یستعمل فیه مع هذا اللّحاظ ، فیدّعی وضعه للمفهوم ، کما لو وضع اللفظ للغرض بالحمل الشائع ، فیدّعی وضعه للغرض بالحمل الأوّلی . أما مع عدم الوضع للمصداق فلا یکون ادّعاء وضعه للمفهوم من باب الخلط بین المفهوم و المصداق ، و الحال فی المعانی المذکورة کذلک ، إذ لم یوضع اللّفظ لمصادیقها جزماً ، فالمتّجه علیٰ هذا التعبیر بالاشتباه ، لا غیر (2) .

قال السید الاستاذ بعد إیراده : و أنت خبیر بأنَّ هذا التعبیر کما یمکن أن یراد به ما ذکره المحقق الأصفهانی ، یمکن أنْ یراد به ما قصده المحقق الخراسانی ، إذ یصحّ التعبیر به عن دعوی الوضع للمفهوم مع استعماله فی المصداق لتخیّل استعماله فی المفهوم ، و یکون من باب اشتباه المفهوم بالمصداق فی مقام الاستعمال الذی لوحظ طریقاً لمعرفة الوضع (3) .

و أمّا رأی السید البروجردی (4) ، فقد ظهر ما فیه ممّا تقدّم ، لأنه قد

ص:9


1- 1) الکافی 82/1 باب إطلاق القول بأنه شیء .
2- 2) نهایة الدرایة 249/1 .
3- 3) منتقی الاصول 370/1 .
4- 4) الحجة فی الفقه : 97 .

خصّ « الأمر » ب « الفعل » مع کونه یطلق علی غیر الفعل أیضاً . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : فإنّ « الفعل » لا ینسبق إلی الذهن من لفظ « الأمر » .

فظهر أن الحق کون مفهوم « الأمر » أوسع دائرة من « الفعل » و أضیق من « الشیء » .

و أمّا رأی القائل بأن مدلول « الأمر » هو الاعتبار النفسانی و إبرازه (1) ، فإنّ المولیٰ یجعل - فی عالم الاعتبار - علی ذمّة المکلَّف الحکم و یبرز اعتباره ب « الأمر » ، ففیه :

صحیح أن هناک ألفاظاً و صیغاً موضوعة لإبراز الاعتبار النفسانی ، مثل صیغ العقود ، حیث تعتبر الملکیّة - مثلاً - و یبرز هذا الاعتبار بلفظ « بعتُ » ، لکنَّ هذا مطلبٌ و کون مدلول هذه الصیغة هو ذاک الاعتبار و إبرازه مطلبٌ آخر .

فالحقّ هو القول الرابع من الأقوال المذکورة .

النظر فی القول بوحدة المعنی

هذا ، و ذهب المحقّقان المیرزا و الأصفهانی إلی أن مفهوم لفظ « الأمر » هو المعنی الواحد الجامع بین المعانی بنحو الاشتراک المعنوی .

أمّا المیرزا فقال : بأنه موضوع لِما هو عبارة عن « واقعة لها أهمیّة » (2)و فیه :

أوّلاً : إن هذا لا ینسبق من لفظ « الأمر » إلی الذهن .

ص:10


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 9/2 .
2- 2) أجود التقریرات 131/1 ط مؤسّسة صاحب الأمر علیه السلام .

و ثانیاً : إنه یستلزم مجیء « الأهمیّة » إلی الذهن من قولنا « الأمر » المهم ، فیکون الکلام : الواقعة ذات الأهمیة مهمّة ، و هو کما تریٰ . کما یستلزم تجرید لفظ « الأمر » من « الأهمیّة » فی قولنا : أمر غیر مهم .

و أمّا الأصفهانی فقال (1) : إن مفهوم « الأمر » عبارة عن الإرادة البالغة حدّ الفعلیّة ، سواء کانت تشریعیّة أو تکوینیّة ، فیطلق « الأمر » فی جمیع الموارد بلحاظ کونها قابلةً لتعلّق الطلب و الإرادة ... قال السید الاستاذ : و ما ذکره لا أریٰ فیه خدشاً فلا ضیر فی الالتزام به (2) ، لکن شیخنا الاستاذ أورد علیه :

أوّلاً : أین انسباق الإرادة و الطلب من مثل : «ألا إِلَی اللَّهِ تَصِیرُ الأمُورُ » (3)؟

و ثانیاً : إنه فی مورد التشریع یصدق الأمر ، و لکنه أعم من الحقیقة ، و أمّا فی مورد التکوین فلا صدق أصلاً ، فإن اللّٰه تعالیٰ یرید مثلاً خلق فلانٍ ، لا أنه یأمر بخلقه ، فلا یصدق الأمر علی الإرادة لا لغةً و لا عرفاً .

و ثالثاً : قیاس ما نحن فیه علی « المقصد » و « المطلب » - بأن « الأمر » یطلق علی الفعل بلحاظ قابلیّته لتعلّق الإرادة تکویناً و تشریعاً ، نظیر إطلاق « المقصد » و « المطلب » علی بلحاظ تلک القابلیّة - فیه : إنه قیاس مع الفارق ، لأنه متی اطلق « المطلب » علی فعلٍ فإنه یتبادر إلی الذهن معنی الطلب من نفس الإطلاق ، أمّا إذا قیل : هل فَعَل فلانٌ الأمر الکذائی ؟ فلا ینسبق من لفظ « الأمر » مفهوم « الطّلب » .

المختار عند الشیخ الاستاذ

و بعد التحقیق فی الأقوال و النظر فی أدلّتها ، فقد اختار شیخنا دام بقاه ،

ص:11


1- 1) نهایة الدرایة 250/1 .
2- 2) منتقی الاصول 373/1 .
3- 3) سورة الشوری : 53 .

أن الاشتراک لفظی ، و لیس بمعنوی ، و أن للفظ « الأمر » معنیین مختلفین ، لوجوه :

الأوّل : التبادر ، فإن المتبادر فی مثل « هل تعلّق أمر زید بکذا » ؟ غیر ما یتبادر من مثل « هل زید فعل الأمر الکذائی » ؟

و الثانی : إن جمع « الأمر » بمعنی « الطلب » هو « الأوامر » و بالمعنی الآخر هو « الاُمور » . و اختلاف صیغة الجمع دلیل اختلاف المعنی فی المفرد .

و الثالث : إن « الأمر » بالمعنی الأول یقبل الاشتقاق ، و بالمعنی الثانی جامد .

و تلخّص :

إن المعنی مختلف ، و لا یتم إرجاعهما إلی معنیً واحد ، و الاشتراک بینهما لفظی .

و قد تقدَّم إن المعنی الأول هو « الطلب » و المعنی الثانی هو معنیً أعم من الفعل و أخص من « الشیء » و هذا القول للمحقّق العراقی (1) و قد ذکر السید الاستاذ أنّه لا یرد علیه ما ورد علیٰ صاحب (الکفایة) کما لا یرد علیه ما ورد علیٰ المحقق النائینی (2) .

هذا تمام الکلام فی البحث الأول .

و لا یخفی ، أنْ لا ثمرة لهذا النزاع ، لأن مقتضی الأصل فی حال تردّد المفهوم هو - علی کلّ تقدیرٍ - أصالة البراءة .

ص:12


1- 1) نهایة الأفکار 156/1 .
2- 2) منتقی الاصول 372/1 .
هل یعتبر العلوّ أو الاستعلاء فی مفهوم مادّة الأمر ؟

و الحق : إنه یعتبر فی « الأمر » العلوّ ، و أنه لا أثر لأمر المستعلی ، لأن الأمر مفهوماً و عقلاءً من شئون العالی ، و لا أمر للدانی المستعلی ... و لا فرق فی العالی بین أنْ یکون علوّه بحقٍّ أو یکون بغیر حق .

و من الواضح أن جمیع الأوامر الشرعیّة صادرة عن العالی ، و علوّه تعالیٰ بالحق ، بل کلّ علوٍّ بالحق فإنّه من علوّه .

هل تدل مادّة الأمر علی الوجوب ؟

قبل الورود فی البحث نقول : هل مفهوم الأمر عبارة عن الطلب ، أو الطلب الخاص المبرز ، أو المجموع المرکب هو الأمر ، أو أنه ینتزع الأمر من الطلب المبرز للطلب النفسانی ؟

الظاهر هو الأخیر ، و الشاهد علیه انتزاع الأمر من قولک « آمرک » المقترن بالطلب النفسانی واقعاً .

فهل « الأمر » الذی هو عبارة عما ذکر یدل علی الوجوب ؟

فیه خلاف .

فقیل : إن مادّة الأمر حقیقة فی الندب .

و قیل : إنها مشترکة بین الوجوب و الندب ، و الاشتراک معنوی .

و قیل : لمادّة الأمر ظهور وضعی فی الوجوب .

و قیل : بل ظهور إطلاقی .

و قیل : دلالتها علی الوجوب إنما هی بحکم العقل .

و قیل : بل بالسّیرة العقلائیّة .

ص:13

دلیل القول بالدلالة علی الجامع المشترک

و استدلّ للقول بدلالة مادّة الأمر علی الجامع المشترک بین الوجوب و الندب :

أوّلاً : بصحّة التقسیم ، لأن الأمر ینقسم إلی الأمر الوجوبی و الأمر الندبی ، و صحّة التقسیم لا یکون إلّا إذا کان القسمان داخلین فی المقسم ، فمعنی الأمر هو المقسم .

و فیه : إن هذا التقسیم صحیح ، لکنّه لیس بما للمادّة من المعنی الحقیقی ، بل هو بالمعنیٰ المستعمل فیه ، و هذا لا یثبت المعنی الحقیقی الموضوع له .

و ثانیاً : باستعمال المادّة فی موارد الندب .

و فیه : إن الاستعمال أعمّ من المعنی الحقیقی و المعنی المجازی .

دلیل القول بالدلالة علی الندب

و مستند القول بوضع مادّة الأمر للندب هو قولهم : فعل المندوب طاعة ، و کلّ طاعة مأمور بها ، فالمندوب مأمور به .

و فیه : أوّلاً : هذا القیاس إنْ تم فیدلّ علی استعمال المادّة فی الندب ، أما کون الندب هو الموضوع له فلا یثبته ، لأن الأعمّ لا یدلّ علی الأخص ، لاحتمال الوضع للمشترک المعنوی بین الوجوب و الندب .

و ثانیاً : القیاس المذکور یشتمل علی مصادرة ، فقولهم ، « کلّ طاعة مأمور بها » أوّل الکلام .

دلیل القول بالوضع للوجوب

و استدلّ للقول بوضع مادّة الأمر للوجوب بوجوه :

الأوّل : قوله تعالی : «فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ

ص:14

یُصِیبَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ » (1). فاللّٰه سبحانه قد رتّب ما یلزمه الطلب الوجوبی و هو :

1 - الحذر عن المخالفة ، فإنّ مخالفة الأمر الندبی لا حذر فیها

2 - الفتنة و العذاب الألیم ، فإنّه لا یترتب علی مخالفة الأمر الندبی العذاب الألیم .

و من الواضح : أنّ الأثرین المذکورین یترتّبان علی مخالفة أمر الإمام علیه السلام أیضاً ، فالأوامر الواردة فی الکتاب و المرویّة عن النبی و الأئمة ظاهرة فی الوجوب .

و الثانی : قوله صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم : « لو لا أنْ أشقّ علی امّتی لأمرتهم بالسواک » (2) .

و تقریب الاستدلال :

1 - إن فی « الأمر » مشقة ، و هذا دلیل علی أنّه للوجوب ، إذ لیس فی الندب مشقة .

2 - إن من المسلَّم به کون السواک مندوباً ، و مفاد الحدیث عدم کون المندوب مأموراً به ، و معنی ذلک أنه فی مورد الندب لا یأتی الوجوب .

الأجوبة عن الاستدلال بالآیة و الحدیث

* أجاب المحقّق الخراسانی عن الاستدلال بالآیة و نظائرها و بالحدیث المزبور :

بأنّ غایة ما یستفاد منها استعمال مادّة الأمر فی الوجوب ، و الاستعمال أعم من الحقیقة .

ص:15


1- 1) سورة النور : 63 .
2- 2) غوالی اللآلی 12/2 .

و أورد الاستاذ دام بقاه : بأن دلالة الآیة علی ترتب العذاب علی مخالفة الأمر - بما هو أمر - ظاهرة من دون أیّة قرینةٍ أو عنایة ، و لذا استفاد الشیخ و الطبرسی (1) فی تفسیریهما ، و کذا کبار الاصولیین ، دلالة الآیة علی الوجوب ...

و هکذا الکلام فی الحدیث ، و کلامنا فی دلالة أوامر الکتاب و السنّة .

فإن قلت : فقد ورد أن الأمر منه ما هو فرض و منه ما هو نفل .

قلت : لکنّ الکلام فی ثبوته .

و الحاصل : عدم تمامیة جواب صاحب (الکفایة) .

* و أجاب المحقّق العراقی رحمه اللّٰه (2) : بأنّ الاستدلال بالآیة و الروایة موقوف علی القول بتقدّم التخصّص فی مورد دوران الأمر بین التخصیص و التخصّص ، و هو باطلٌ ، لعدم وجود أصل فی المقام المزبور یقتضی ذلک .

و ما قیل من أنّه مقتضی أصالة العموم ، ففیه : إن مدرک جریان الأصل المذکور هو السیرة العقلائیّة ، و هی هنا منتفیة و مفقودة .

و أمّا انطباق تلک الکبریٰ علی ما نحن فیه ، فهو من جهة أنّ عدم ترتّب العذاب و الفتنة علی مخالفة الأمر الندبی ، لا یُعلم هل هو من جهة عدم وجود الأمر فی مورد الاستحباب فالخروج موضوعی ، أو أنه یوجد الأمر لکنّه مخصّص .

قال شیخنا دام بقاه : إنّ هذا الجواب و إنْ کان دقیقاً و قد ارتضاه بعضهم ، لکن لا یمکن المساعدة علیه .

فأجاب فی الدورة السّابقة بعدم ابتناء الاستدلال بالآیة و الروایة علی

ص:16


1- 1) التبیان فی تفسیر القرآن 466/7 . مجمع البیان فی تفسیر القرآن 208/7 الأعلمی .
2- 2) نهایة الأفکار 161/1 - 162 .

القاعدة المذکورة حتی یجاب عنه بما قال ، لأنّ وجه الاستدلال هو إن حدود مفاهیم الألفاظ یرجع فیها إلی أهل اللّسان ، سواء کانت تلک القاعدة موجودةً أو لا ، و قد رأینا أن النبیّ صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم - و هو أفصح الناس - یفید کلامه أنّ الطلب الندبی غیر داخلٍ فی مفهوم الأمر . هذا بالنسبة إلی الحدیث .

و کذا بالنسبة إلی الآیة ، فإنّ اللّٰه سبحانه قد رتّب علی الأمر - بما هو أمر شیئاً لا یترتَّب علی الطلب الندبی ، و هو الفتنة و العذاب الألیم ، و بذلک یظهر حدّ المعنی و مفهوم اللّفظ ، بغضّ النظر عن القاعدة ، و لذا نری أنّ من الاصولیین من لا یلتفت إلی القاعدة أو یلتفت إلیها و لکنّ مبناه أن مقتضی الأصل لیس هو تقدّم التخصّص ، و مع ذلک یستدل بالآیة و الروایة ، و هذا من شواهد ما ذکرناه .

و أجاب دام بقاه فی الدورة اللّاحقة بما هو أدق فقال :

إنه یعتبر فی مورد دوران الأمر بین التخصیص و التخصّص أنْ یکون قابلاً لهما ، کخروج زید عن « أکرم العلماء » ، أمّا المورد الذی لا یکون الحکم فیه قابلاً للتخصیص ، فلیس بموضوع لکبری تلک القاعدة ، و الآیة الکریمة من هذا القبیل ، لأنّ ترتّب العذاب بلا استحقاقٍ له محال ، کما فی قوله تعالی :

« وَمَا کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولاً » (1)، و استحقاق العذاب من الأحکام العقلیّة ، و الأحکام العقلیّة لا یدور أمرها بین التخصیص و التخصّص ، فمورد عدم استحقاق العقاب - و هو الأمر الندبیّ - خارج خروجاً تخصّصیاً ، فالکبریٰ غیر منطبقة علی الآیة المبارکة .

* و قد یجاب : بأنّ « الأمر » یقابل « النهی » أی الزجر ، و کما أنّ الزجر

ص:17


1- 1) سورة الإسراء : 16 .

ینقسم إلی الزجر التنزیهی و الزجر التحریمی ، فکذلک الأمر - بقرینة التقابل - ینقسم إلی الوجوبی و الندبی .

و فیه : إن انقسام النهی إلی القسمین أوّل الکلام ، و علی فرض التسلیم فهل هو تقسیم علی الحقیقة أو الأعمّ من الحقیقة و المجاز ؟

الحقُّ فی الجواب

ثم قال شیخنا دام ظلّه : بأن الحق فی الجواب عن الاستدلال بالآیة و الروایة و أمثالهما هو :

إن الأمر کما اطلق فی الکتاب و السنّة و دلّ علی الوجوب ، کذلک قد اطلق فی موارد لا یمکن حمل الأمر فیها علی الوجوب ، کما فی قوله تعالی :

« إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ » (1)لوضوح أنّ مطلق العدل و مطلق الإحسان لیسا بواجبین ، مع تعلّق الأمر بهما ، و یؤیّد ذلک : الروایات الواردة فی أنّ الأوامر الواردة عن الشارع منها : ما قام الدلیل علیٰ الرخصة فیها ، و منها : ما ورد فی النفل ، و منها : ما کان عزیمة .

و أضاف فی الدورة اللّاحقة : أنّ الآیة الکریمة - بالخصوص - قد طبّقها الإمام علیه السلام فی غیر مورد الوجوب ، و ذلک فی روایةٍ صحیحة :

قال الکلینی رحمه اللّٰه : محمد بن یحیی ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن الحسین بن عمر بن یزید ، عن أبیه قال :

اشتریت إبلاً و أنا بالمدینة مقیم ، فأعجبتنی إعجاباً شدیداً ، فدخلت علی أبی الحسن الأوّل ، فذکرتها له ، فقال : ما لک و للإبل ؟ أما علمت أنها کثیرة المصائب ؟ قال : فمن إعجابی بها أکریتها ، و بعثت بها مع غلمانٍ لی إلی

ص:18


1- 1) سورة النحل : 92 .

الکوفة ، فسقطت کلّها ، ثم دخلت علیه فأخبرته بذلک ، فقال : «فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ » (1).

فمن الواضح : أن شراء الإبل لم یکن بحرامٍ ، و لکنّ الإمام نهاه ، فخالف الرجل النهی ، ثم ابتلی بذهاب ماله ، و هنا قرأ الإمام الآیة المبارکة مستشهداً بها ، لیدلّ علی ترتّب الفتنة - أی البلیّة الدنیویة - علی المخالفة مع الإمام المعصوم فی مورد غیر الوجوب و الحرمة ، کما أنّ العذاب الألیم الأُخروی یترتب علی مخالفة الوجوب و الحرمة .

و بذلک یظهر سقوط الاستدلال بالآیة للقول بدلالة الأمر علی الوجوب .

دلیل القول بالدلالة علی الوجوب بالظهور الإطلاقی

و بعد وضوح عدم تمامیّة القول بالدلالة اللّفظیّة علی الوجوب ، فهل تدلّ المادّة - و کذا الصیغة - علی الوجوب بالدلالة الإطلاقیّة ؟

إنّ أحسن ما استدلّ به لهذا القول تقریبان :

أحدهما : للمحقّق العراقی قدّس سرّه ، فقال ما حاصله (2) : إنّ الأمر موضوع للطلب ، و الطلب حقیقة تشکیکیّة ، ذات شدّةٍ و ضعف ، و الأمر التشکیکی مرتبته الشدیدة الکاملة لیس إلّا الحقیقة ، فهی بسیطة لا مرکّبة ، أمّا مرتبته الضعیفة الناقصة فمرکّبة من الحقیقة و من عدم المرتبة التامّة الکاملة .

هذا فی مقام الثبوت ، و بناءً علیه ، فإنّه فی مقام الإثبات ، إذا أراد المرتبة الناقصة و هو الندب - لزم بیان زائدٌ یدلّ علی ذلک - بخلاف المرتبة التامّة الکاملة و هو الوجوب ، فلکونها نفس الحقیقة فقط فلا یحتاج إرادتها إلی مئونةٍ

ص:19


1- 1) الکافی 543/6 ، کتاب الدواجن باب اتخاذ الابل . و انظر : کنز الدقائق 207/8 - 209 و الآیة فی سورة النور : 63 .
2- 2) نهایة الأفکار 162/1 - 163 .

زائدة - . و حینئذٍ ، ففی کلّ موردٍ لا یوجد فیه البیان الزائد لإفادة المرتبة الناقصة ، کان مقتضی أصالة الإطلاق إرادة الحقیقة التامّة للطلب ، و هو المرتبة الشدیدة ، أی الوجوب .

هذا ، و قد قرَّب الإطلاق بوجهٍ آخر أیضاً لکنّه یرجع إلی الوجه المذکور .

الجواب عمّا ذکره المحقق العراقی :

قال شیخنا دام بقاه فی الدورتین جواباً عن هذا الوجه : بأنّ الحقیقة التشکیکیة کالحقیقة المتواطیة فی عدم کفایتها لإفادة الحقیقة ، فکما أنَّ لفظ « الأسد » - مثلاً - الموضوع للحیوان المفترس ، لا یمکن أنْ یدل علیٰ إرادة فردٍ بخصوصه ، بل یحتاج إلی بیانٍ زائد ، کذلک لفظ « النور » - مثلاً - بالنسبة إلی مرتبةٍ من المراتب ، سواء کانت الشدیدة أو الضعیفة ، لأن اللّفظ الموضوع لمرتبتین من الحقیقة ، لا یکفی مجرّد استعماله للدلالة علی إحداهما و إنْ کانت القویّة و الشدیدة ، و ما ذکره من أنّ المرتبة التامّة غیر محتاجة إلی مئونةٍ زائدة ، ممنوع .

و علی الجملة ، فإنّ لفظ « الأمر » موضوع للطلب الذی هو حقیقة تشکیکیّة مثل النور ، و هو موجود فی الطلب الشدید و الطلب الضعیف علی السواء ، و کما لا یمکنه إفادة الشدید بلا مئونة بیانٍ ، کذلک إفادة الضّعیف ، و إنما یفید أصل الطلب فقط ... هذا کلّه أوّلاً .

و ثانیاً : - و قد أفاده فی الدورة اللّاحقة - إنّ الخطابات الشرعیّة کلّها ملقاة إلی العرف العام ، و منها ما یشتمل علی الأمر - مادةً أو صیغةً - فلا بدّ و أنْ یکون الإطلاق و التقیید فیه بضابطةٍ یدرکها العرف العام ، لیتمکّنوا من التفهیم و التفهّم

ص:20

علی أساسها ، و ما ذکره المحقق العراقی قدّس سرّه من الضابط - و هو کون المرتبة العلیا الشدیدة غیر محتاجة إلی البیان الزائد ، و أنّ المرتبة الدانیة و الضعیفة هی المحتاجة إلیه ، فمتی لم یکن بیانٌ حمل علی العلیا - أمر لا یدرکه العرف العام و لا یفهمه ، و لذا لا یمکن للشارع أنْ یحتجّ علی المکلَّفین علی أساسها فی أوامره فی الکتاب و السنّة ...

و ثانیهما : للسید البروجردی قدّس سرّه فقال (1) : إن مدلول مادّة الأمر - و کذا صیغته - و المعنی المستعمل فیه ، إنشائی و لیس بإخباری ، فلمّا یقول :

أمرتک بکذا ، أو یقول : صلّ ، فهو ینشئ و یُوجد الطلب بذلک فی عالم الاعتبار .

و هذا الطلب الإنشائی غیر قابلٍ للتشکیک ، لکونه اعتباریّاً ، و الامور الاعتباریة بسیطة لا حرکة فیها ، إذ التشکیک إنما یکون فی الامور التی فیها الشدّة و الضعف و تجری فیها الحرکة ، إلّا أن الطلب الإنشائی یقع فیه التشکیک بالعرض - أی من خارج ذاته - ، لأن الطلب کذلک ینقسم إلی ثلاثة أقسام ، فهو طلب إنشائی مع مقارنات شدیدة ، و طلب إنشائی مع مقارنات ضعیفة ، و طلب إنشائی بلا مقارنات مطلقاً ، فالأول : کأنْ یطلب منه المشی و یدفعه بیده ، أو یطلب منه الضرب و یصیح علیه ، و الثانی : کأنْ یطلب منه الکتابة و یومی إلیه بیده ، و الثالث : أن یطلب منه أحد الأفعال مجرَّد طلب ... فیکون الأول کاشفاً عن شدّة الطلب و قوة الإرادة النفسانیة ، و الثانی : کاشفاً عن الطلب النفسانی الضعیف ، و الثالث بلا شدّةٍ و لا ضعف ... إذنْ ، قد یتّصف الطلب الإنشائی بالشدّة و الضعف لکن من خارج ذاته .

ص:21


1- 1) نهایة الأصول : 86 .

و من الطلب الإنشائی غیر المقارَن بشیء ینتزع الوجوب ... و الدلیل علیه هو السیرة العقلائیة ، و علی أساسه یترتّب استحقاق العقاب بین الموالی و العبید .

هذا ، و لا یخفیٰ اختلاف کلامه رحمه اللّٰه ، ففی أوّله قال بأنّ الوجوب ینتزع من الطلب الإنشائی المقترن بالمقارنات الشدیدة ، و الندب ینتزع من المقترن بالمقارنات الضعیفة ، أمّا فی آخره فیذکر أن نفس الطلب منشأ لانتزاع الوجوب . بل یذهب إلی جواز أن یقال بعدم وجود انشاء طلب فی موارد الندب ، و أن المندوبات لیست إلّا إرشاداً إلی الملاکات و المناطات ، فینحصر الطلب بموارد الواجبات فقط .

هذا حاصل کلامه مع التوضیح .

و الفرق بینه و بین تقریب المحقّق العراقی : أن العراقی یری أن مادّة الأمر و کذا الصیغة - مبرزة للصّفة النفسانیة ، و البروجردی یری أن الطلب الإنشائی إیجاد و لیس بإبراز .

مناقشات الاستاذ مع السیّد البروجردی

و قد تکلّم شیخنا دام بقاه علی هذا التقریب بعد توضیحه بوجوه :

أحدها : إن السید البروجردی ذکر أنّ الطلب المقترن بالمقارنات الشدیدة هو الوجوب ، و هو کاشف عن الإرادة الشدیدة ، و المقترن بالمقارنات کاشف عن الإرادة الضعیفة ، و غیر المقترن بأحدهما طلب متوسّط .

و فیه : إن الطلب إمّا وجوبی و إمّا ندبی ، و أمّا المتوسط بینهما - غیر المتّصف بالوجوب أو الندب - فغیر قابل للتصوّر ، نعم ، نفس الإرادة تقبل المراتب کما هو الحال فی کلّ أمرٍ تشکیکی ، لکن المفروض کون الطلب أمراً

ص:22

إنشائیاً ، و الأمر الإنشائی متّصف بأحد الأمرین و لا یتصوّر برزخ بینهما .

و ثانیها : قوله بالتشکیک العرضی فی الطلب بعد نفی التشکیک الذاتی عنه .

نقول : ما المراد من التشکیک العرضی و الذاتی هنا ؟ تارةً یقال :

الخصوصیّة الکذائیة موجودة فی الشیء الفلانی بالذات ، أو إنها موجودة فیه لا بالذات بل بسبب أمر خارج . و اخریٰ : یکون المراد من العرضی فی مقابل الذاتی هو المجاز فی مقابل الحقیقة .

إنْ کان مراده : أن الشدّة و الضعف وصفان للمقارن للطلب ، أما الطلب فیتّصف بهما بالعرض کاتّصاف الجالس فی السفینة بالحرکة .

فهذا کلام متین ، لکن البحث لیس فی المجاز ، و المقصود إسناد الشدّة و الضعف إلی الطلب علی نحو الحقیقة .

و إنْ کان مراده : أن الطلب الإنشائی یتّصف حقیقةً بالشدّة و الضعف ، لکنَّ المقارنات کانت السبب فی هذا الاتّصاف ، کاتّصاف البیاض بالضعف بسبب اختلاطه بالسواد .

فهذا غیر صحیح ، إذ لا یکون اقتران الطلب بالصّیاح مثلاً - فی مثال الشدید - سبباً لأنْ یوصف الطلب حقیقةً بالوجوب ، و لا یکون اقترانه بالترخیص فی الترک مثلاً - فی مثال الضعیف - سبباً لأن یتصف الطلب حقیقةً بالضعف و الندب ... و قیاس ذلک باختلاط البیاض بالسواد فی غیر محلّه ...

لوضوح الفرق بین الاختلاط و فی الموجودات الخارجیة ، و بین الاقتران و فی الامور الاعتباریة .

و ثالثها : قوله فی آخر التقریب : بأنّ من عدم الاقتران بالمقارنات

ص:23

الضعیفة ینتزع الوجوب ، و العقلاء یرون استحقاق العقاب علی المخالفة فی ما یکون من هذا القبیل .

و هذا کلامٌ متین قوی ، و سنؤکّد علیه .

و رابعها : إنه یقول فی نهایة المطلب : إنّ البعث لا یتحقّق بدون الوجوب ، و هو فی المندوبات إرشاد إلی المصالح ، فقوله « صلّ » یقوم مقام التحریک الخارجی و البعث التکوینی ، و هو ینافی الترخیص فی الترک .

و هذا معناه أن الأحکام الشرعیّة منحصرة بالوجوب و الحرمة فقط - و أن الزجر التنزیهی إرشاد إلی المفاسد ، کالأوامر الندبیّة التی هی إرشاد إلی المصالح - و لا یُظنّ الالتزام به من أحدٍ من الفقهاء ، و حتی السیّد البروجردی نفسه لا یلتزم به ، و إلّا فکیف یفتی بالاستحباب الشرعی فی المستحبات ، و بالکراهة الشرعیّة فی المکروهات ؟

و أیضاً ، فهو کلام مخالف لصریح النصوص فی تقسیم الأمر إلی الواجب و المندوب .

و الحقیقة هی : دعوی إن التنافی بین البعث و التحریک و بین الترخیص فی الترک ، صحیحة فی التکوینیات ، و کلامنا فی البعث و الطلب الاعتباری ، و قیاسه علی التکوینی غیر صحیح .

و تلخّص : عدم تمامیّة هذا التقریب أیضاً .

دلالة الأمر علی الوجوب بالعقل و السّیرة

و بعد أنْ ظهر ضعف الأقوال المتقدّمة فی دلالة الأمر علی الوجوب ، و أنّه لا یدل - لا مادّةً و لا صیغةً - علی الوجوب ، لا بالوضع و لا بالإطلاق ، فالمبنی الباقی هو الدلالة علی الوجوب بحکم العقل ، و هو مسلک المحقق

ص:24

النائینی ، و تبعه المحققون من تلامذته (1) ، و حاصله :

إن الحاکم فی باب وظیفة العبد تجاه المولیٰ و أوامره و نواهیه إنما هو العقل ، فإنّه یحکم بأنّ المولی إذا أمر عبده بشیء فمقتضی وظیفة العبودیّة هو أنْ یمتثل الأمر و یلبّی الطلب ، إلّا إذا جاء من المولیٰ الترخیص و الإذن فی الترک ، و لذا لو لم یمتثل ثم اعتذر بعدم نصب المولی القرینة علی الإلزام ، فلا یقبل عذره و لم یقبح عقابه .

و علی الجملة ، فلما لم تکن الدلالة علی الوجوب لا بالوضع و لا بالإطلاق ، فهی بحکم العقل من باب حقّ الطاعة .

و فیه إشکال : و هو أنه إذا کانت الدلالة عقلیّة ، و لا دور للّفظ فیها ، فما معنی جمع المیرزا نفسه و سائر الفقهاء بین الأمر ، و بین « لا بأس بالترک » بالجمع الدلالی ؟ إنهم فی مثل هذین الدلیلین یقولون بأنّ الأمر ظاهر فی الوجوب ، و قوله « لا بأس » نصٌّ فی جواز الترک ، فترفع الید عن ظهور الأمر بالنصّ علی جواز الترک ، مع أنّ المفروض أنّ الدلالة علی الوجوب لیست من ناحیة اللّفظ أصلاً ، بل هی من العقل ، فلا معنی لظهور الأمر فی الوجوب ، و لتقدیم النصّ علیه .

و کذلک الکلام فی باب الإطلاق و التقیید ، و العام و الخاص ، فإنّ المیرزا و أتباعه یقولون بأنَّ المقیّد و المخصِّص قرینة للمطلق و للعام ، و بها ترفع الید عن ظهورهما فی العموم و الإطلاق ، لأنّ الأمر - فی مثل « أعتق رقبةً » - قد تعلَّق بصرف الوجود بنحو الإطلاق ، ثم فی قوله « أعتق رقبةً مؤمنة » یتعلَّق الأمر بالرقبة بنحو التقیید ، فإمّا ترفع الید عن ظهور القید فی القیدیّة ، فلا

ص:25


1- 1) أجود التقریرات 144/1 ، محاضرات فی أصول الفقه 131/2 .

یجب عتق الرقبة المؤمنة ، و إمّا ترفع الید عن إطلاق « أعتق رقبةً » فلا یکفی عتق الکافرة ، فبین الخطابین منافاة ، و عند دوران الأمر یقولون بلزوم الأخذ بالدلیل المقیِّد ، لکون الأمر بعتق المؤمنة ظاهراً فی عتق خصوص هذا الفرد من الرقبة ، و نسبته إلی الأمر المطلق نسبة القرینة إلی ذی القرینة ، و القرینة ظهورها مقدَّم علی ظهور ذی القرینة .

فیرد علیهم : إنَّ القرینة و ذا القرینة و غیر ذلک من شئون اللَّفظ ، فما ذکروه إنّما یتمُّ علی مبنی قرینیّة المقیَّد و المخصِّص .

و کذا یتمّ ُ تقدیم المقیِّد و المخصِّص بمناط أظهریّتهما من المطلق و العام ، و هو مسلک الشیخ الأعظم ، کالجمع بین لفظی « الأسد » و « یرمی » حیث أن ظهور الأسد فی الحیوان المفترس لفظی ، و ظهور یرمی فی رمی السهم إطلاقی ، و یتقدَّم الظهور للفظ « یرمی » - مع کونه اطلاقیاً - علی ظهور « الأسد » مع کونه وضعیّاً .

أمّا بناءً علی ما ذهبوا إلیه من أنّ دلالة الأمر علی الوجوب بحکم العقل ، فإنَّ مقتضی القاعدة هو الورود لا التقیید ، لأنّ حکم العقل بالوجوب تعلیقی لا تنجیزی ، من جهة کونه معلَّقاً علی عدم الرخصة فی الترک ، فهو یقول : کلّما جاء الأمر و لا دلیل علی الرخصة فهو للوجوب ، فإنْ قام الدلیل علی الرخصة تقدَّم من باب الورود ، لأنه یرفع موضوع حکم العقل .

فظهر وجود التنافی بین کلماتهم فی المقام ، و کلماتهم فی باب الإطلاق و التقیید و باب العام و الخاص .

و تلخَّص : أن دلالة الأمر علی الوجوب لا تتم بحکم العقل ، ما لم یرجع الوجوب إلی اللّفظ ، و ذلک بأحد امور ثلاثة :

ص:26

إمّا دعوی التبادر . و هی مردودة ، لأنّ المفروض عدم انسباق الوجوب من حاق لفظ مادّة الأمر أو صیغته .

و إمّا دعوی الظهور الإطلاقی . أی انصراف المادّة أو الصیغة إلی الوجوب ، و قد ظهر عدم تمامیّة هذه الدعوی عند الکلام علی تقریب المحقق العراقی .

أقول : و بذلک یظهر التأمّل فی کلام السیّد الاستاذ ، فإنّه - بعد أنْ ذکر أن صحّة تقسیم الأمر إلیٰ الإیجاب و الندب دلیل علیٰ کون اللفظ موضوعاً للأعم من الطلب الوجوبی و الندبی ، و أنّ صحة مؤاخذة العبد بمجرَّد مخالفة الأمر ظاهرة فی ظهور الأمر فی الوجوب - قال : « و یمکن الجمع بالالتزام بوضع لفظ الأمر للأعمّ مع الالتزام بأنه ینصرف مع عدم القرینة إلیٰ الطلب الوجوبی و الإلزامی و ینسبق إلیه ، فیتحفَّظ علیٰ ظهور کلا الأمرین المزبورین - أعنی التقسیم و المؤاخذة - و تکون النتیجة موافقة لمدّعی صاحب (الکفایة) و إنْ خالفناه فی المدّعی و الموضوع له » (1) .

و إمّا دعوی السیرة العقلائیّة ، بأنها قائمة علی استفادة الوجوب عند عدم القرینة علی الرخصة ... و لا ریب فی وجود هذه السیرة ، فإنّهم یحملون أوامر المولی - مع عدم القرینة علی الرخصة - علی الوجوب ، و یرون استحقاق العقاب علی المخالفة ... و قد ذکر المحقق الأصفهانی فی المعاملات أن منشأ هذه السیرة هو حفظ الاُمور المعاشیّة ، و یبقی إمضاء الشارع المقدس لهذه السیرة ، و ذلک ثابت بوضوح من الروایة التالیة :

الصدوق قدّس سرّه بإسناده عن زرارة و محمّد بن مسلم قالا : « قلنا

ص:27


1- 1) منتقی الاصول 376/1 .

لأبی جعفر علیه السلام : ما تقول فی الصلاة فی السّفر ؟ کیف هی ؟ و کم هی ؟ فقال : إن اللّٰه عزّ و جلّ یقول : «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِی الأَرْضِ فَلَیْسَ عَلَیْکُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ » فصار التقصیر فی السفر واجباً کوجوب التمام فی الحضر . قالا : قلنا : إنما قال اللّٰه عزّ و جل «فَلَیْسَ عَلَیْکُمْ جُنَاحٌ » و لم یقل :

افعلوا ، فکیف أوجب ذلک کما أوجب التمام فی الحضر ؟ فقال علیه السلام :

أ و لیس قد قال اللّٰه عزّ و جلّ فی الصفا و المروة : «فَمَنْ حَجَّ الْبَیْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَیْهِ أَن یَطَّوَّفَ بِهِمَا » ... » (1) .

فهما یسألان الإمام علیه السلام أنه لو قال : « افعلوا » لدلّ علی الوجوب ، و لم یقل ؟ فدلالة الصّیغة علی الوجوب من المرتکزات فی الأذهان ، و الإمام علیه السلام لم ینف هذا الارتکاز العقلائی ، بل أمضاه بسکوته .

فالروایة تدل علی المدّعی بوضوح ، و طریق الشیخ الصّدوق إلی زرارة صحیح .

فالمختار

رجوع القضیّة إلی السیرة العقلائیّة .

أمّا الوجوه السابقة ، فقد عرفت ما فیها .

و أمّا حکم العقل ، فقد عرفت أن هذا المسلک منهم لا یلائم الجمع الدلالی ، علی أنه أخص من المدّعی ، لاختصاصه بأحکام المولی الحقیقی ، فهناک یحکم العقل بحق الطاعة ، و لکنّ المدّعی هو دلالة المادّة و الصیغة علی الوجوب فی مطلق الصادر من العالی إلی الدانی .

ص:28


1- 1) من لا یحضره الفقیه 434/1 باب الصلاة فی السفر .

و علی الجملة ، فالدلیل الصحیح - فی صیغة الأمر - هو السیرة ، و علی المختار ، فلا إشکال فی الجمع الدلالی ، و هذه السیرة ممضاة ، و قد ذکرنا النص الدالّ علی الإمضاء ، و یوجد فی الأخبار ما یدل علی ذلک أیضاً غیره کالروایة التالیة :

عن معاویة بن عمّار عن أبی عبد الله علیه السلام قال : « العمرة واجبة علی الخلق بمنزلة الحج علی من استطاع » .

فقد نزّل العمرة بمنزلة الحج الذی قال اللّٰه فیه «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً » و لسانه لسان الإیجاب ، فتکون العمرة واجبة کذلک ، و علّل الوجوب بقوله : « لأن اللّٰه یقول : «وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ » » (1) فکان الاستدلال بصیغة الأمر و هو « أتمّوا » .

و سند الروایة معتبر بلا إشکال .

و إذا کانت السّیرة علی دلالة الصیغة علی الوجوب ممضاة ، فهی فی دلالة المادّة علیه ممضاة بالأولویّة القطعیّة ، و إنْ کانت النصوص مختلفة :

فعن أبی بصیر قال : « سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول : إن الناس أکلوا لحوم دوابّهم یوم خیبر ، فأمر رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم بإکفاء قدورهم و نهاهم عنها و لم یحرّمها » (2) .

فقد یستظهر من هذه الروایة عدم دلالة مادّة الأمر علی الوجوب فتأمّل ، و السند صحیح .

ص:29


1- 1) وسائل الشیعة 234/10 الباب 1 من أبواب العمرة رقم 8 .
2- 2) التهذیب 41/9 .

و فی المقابل ما یدلّ علی کونها للوجوب :

فعن أبی عبد الله علیه السلام قال : « رکعتان بالسّواک أفضل من سبعین رکعة بغیر سواک ، قال رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم : لو لا أنْ أشقّ علی امّتی لأمرتهم بالسّواک » (1) .

فهی تفید أن الأمر للوجوب بلا شک ، لأنّ السّواک مستحب ، و لو أمر لزمت المشقّة علی الاُمّة ، و من الواضح أن المشقة فی الإیجاب ... و فی سند هذا الخبر إشکال من جهة اشتماله علی « جعفر بن محمد الأشعری » إلاّ بناء علی اعتبار رجال کتاب کامل الزیارات ، و عدم الاستثناء من رجال نوادر الحکمة ، مضافاً إلی اعتماد الأصحاب علیه .

و هذا تمام الکلام فی دلالة مادّة الأمر و صیغته علی الوجوب .

ص:30


1- 1) الکافی 22/3 باب السواک رقم 1 .

صیغة الأمر

اشارة

إنه و إنْ تعرضنا لصیغة الأمر بتبع البحث عن المادّة ، لکن ینبغی تفصیل الکلام فی جهتین :

الجهة الاُولیٰ : فی معنی صیغة الأمر .

فقد وقع الخلاف بین الأعلام فی معنی صیغة الأمر .

فقیل : إن للصیغة معانٍ عدیدة ، أحدها هو الطلب ، و المعانی الاخری هی : التهدید ، و التعجیز ، و الإهانة ، و الاختبار ... و هکذا ، فقولک : « صلّ » معناه الطلب الإنشائی ، و فی قوله تعالی «کُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِینَ » (1)تدلّ الصیغة علی التعجیز ، و معناها فی «تَمَتَّعُواْ فِی دَارِکُمْ ثَلاَثَةَ أَیَّامٍ » (2)هو التهدید ، و هکذا ...

و القول الآخر : هو وحدة معنی الصیغة فی جمیع الاستعمالات ، و هو الطلب الإنشائی ، غایة الأمر أنه تارةً : یکون الداعی لاستعمال الصیغة فی الطلب الإنشائی هو الطلب الجدّی ، و اخری : یکون الداعی لاستعمالها فیه هو التهدید أو غیره مما ذکر .

و القول الثانی هو مختار صاحب (الکفایة) (3) ... فهو یری وقوع الاشتباه

ص:31


1- 1) سورة البقرة : 61 .
2- 2) سورة هود : 68 .
3- 3) قال (فی الفصل الثانی فیما یتعلَّق بصیغة الأمر و فیه مباحث) ص69 ط مؤسسة آل البیت : « ربما یذکر للصیغة معانٍ قد استعملت فیها ، و قد عُد منها : الترجی و التمنی و التهدید و الانذار و الاهانة و الاحتقار و التعجیز و التخیر ، إلی غیر ذلک . و هذا کما تری ، ضرورة أن الصیغة ما استعملت فی واحدٍ منها بل لم تستعمل الا فی انشاء الطلب إلا أن الداعی الی ذلک ... یکون أحد هذه الامور .

هنا بین المفهوم و الداعی ، کما قال بوقوع الاشتباه بین المفهوم و المصداق فی مدلول مادّة الأمر ، کما تقدّم .

مختار الاستاذ

و قد اختار الاستاذ - فی هذه الجهة - قول المحقق الخراسانی ، قال :

و الارتکاز ، و الوجدان ، و الاستعمالات ، کلّها تثبت هذا القول ، و قصاری ما یمکن أن یقال هو : إن الصیغة فی الطلب الإنشائی حقیقة ، و فی غیره مجاز .

إشکال السیّد الاستاذ

أقول : و کما وقع الإشکال فیما ذکره من الاشتباه بین المصداق و المفهوم کما تقدّم ، کذلک فیما ذکره من الاشتباه بین المفهوم و الداعی ، فقد أفاد السید الاستاذ بأنّ ما ذهب إلیه من کون الصیغة مستعملة لإیجاد الطلب إنشاءً و إنما یختلف الداعی إلیه ، غیر معقول ثبوتاً « فإنّ الداعی - بحسب ما یصطلح علیه - هو العلّة الغائیّة ، بمعنیٰ ما یکون فی تصوّره سابقاً علیٰ الشیء و فی وجوده الخارجی مترتّباً عنه ، فیقال : « أکل » بداعی تحصیل الشبع ، فإن الشبع تصوّراً سابق علیٰ الأکل و بلحاظ ترتّبه علیٰ الأکل ینبعث الشخص إلیٰ الأکل ، و لکنه وجوداً یترتب علیٰ الأکل و یتأخّر عنه ، وعلیه : فصلاحیّة الأمور المذکورة - من تمنٍّ و ترجٍّ و تعجیز و تهدید و امتحان و سخریة - لأنْ تکون داعیاً للإنشاء فی الموارد المختلفة ، یصحّ فی فرض ترتّب هذه الأمور علیٰ الإنشاء وجوداً و أسبقیّتها علیه تصوّراً ، و لیس الأمر فیها کذلک ... » .

ثم قال - بعد أن أوضح وجه عدم کون الأمر فیها کذلک - « فالأولیٰ : أن

ص:32

یقال فی هذه الموارد : إنّ الصیغة مستعملة فیها فی معناها الحقیقی و بداعی البعث و التحریک ، إلّا أنّ موضوع التکلیف مقیَّد ، فالتکلیف وارد علیٰ الموضوع الخاص لا مطلق المکلَّف ، ففی مورد التعجیز یکون التکلیف الحقیقی معلَّقاً علیٰ قدرة المکلَّف بناءً علیٰ ادّعائه ، فیقال له فی الحقیقة : إنْ کنت قادراً علیٰ ذلک فأت به ، فحیث أنه لا یستطیع ذلک و لا یقدر علیه لا یکون مکلَّفاً ، لا بلحاظ عدم کون التکلیف حقیقیّاً بل بلحاظ انکشاف عدم توفّر شرط التکلیف فیه و عدم کونه مصداقاً لموضوع الحکم ، فموضوع الحکم هاهنا هو القادر لا مطلق المکلَّف ، و هکذا یقال فی التهدید ... » (1)انتهی .

لکنّ منشأ هذا الإیراد هو الجمود علیٰ لفظ « الداعی » و أخذه بالمعنیٰ الفلسفی ، و هو یندفع بإمکان أن یکون المراد من الداعی معنیً آخر غیره ، کما ذکر هو - دام ظله - فی بحث شرطیّة القدرة للتّکلیف (2) من أن الشرط قد یطلق و یراد به معناه الفلسفی و هو العلة الغائیة ، و قد یطلق و یراد به معنی غیر ذلک ، و إنّ شرطیة القدرة للتکلیف لیس المقصود بها المعنیٰ الفلسفی للشرطیّة ، بل المقصود بها المعنیٰ الآخر ... بل لقد ذکر فی معنیٰ « الغرض » أنه قد یطلق و یراد منه ما یساوق العلّة الغائیّة ، و هو المعنیٰ الاصطلاحی للغرض و الداعی ، و قد یطلق و لا یراد منه هذا المعنیٰ ، بل یراد منه معنیً عرفی یساوق المقصود .

و من العجیب ذکره مثال الأکل من أجل الشبع هنا للدلالة علیٰ جواز

ص:33


1- 1) منتقی الأصول 397/1 - 398 .
2- 2) منتقی الاصول 416/1 - 417 .

إرادة غیر المعنیٰ الفلسفی من « الغرض » قال : و هو بهذا المعنیٰ قابل للانفکاک عن العمل و إنْ عبّر عنه بالغرض فیقال : غرضی من هذا العمل و مقصودی کذا مع عدم ترتّبه علیه ، بل یمکن أن یترتب و یمکن أن لا یترتب ، کأکل الخبز بغرض الشبع ... » (1) .

الجهة الثانیة : فی معنی « نفس الأمر » فی کلام الکفایة .

قال صاحب (الکفایة) - فی بحث الطلب و الإرادة (2) - : الإنشاء قول یقصد به ثبوت المعنیٰ فی نفس الأمر ، و قد سبقه فی هذا القول الشهید الأول قدّس سرّه ، و إنْ اختلف مرادهما :

فالمحقّق الخراسانی یری أن الإنشاء قول یتحقّق به مفاد کان التامّة ، فی قبال الإخبار فإنه قول یحکی عن مفاد کان الناقصة ، فالإنشاء عنده موجد للمعنیٰ ، غیر أنه یوجد بوجود منشأ انتزاعه ، و مراده من « نفس الأمر » هو أن ذلک المعنی یخرج بواسطة الإنشاء عن حدّ فرض الفارض ، أما قبله فهو علی حدّ فرض الفارض ، فلمّا یقال : ملّکتک الدار مثلاً ، تکون ملکیّة الدار للطرف الآخر قبل الإنشاء من قبیل افتراض کون الإنسان حجراً ، أمّا بعده ، فالملکیّة تخرج عن هذا الحدّ ، و یصبح الطرف مالکاً للدار ، لکنْ لیس فی الخارج بإزاء الدار و صاحبها شیء ، و إنما یتحقّق الوجود للملکیّة بوجود منشأ انتزاعها و هو الإنشاء .

فهذا معنیٰ : إن الإنشاء قول یقصد به ثبوت المعنیٰ فی نفس الأمر ...

ص:34


1- 1) منتقی الأصول 462/1 .
2- 2) قال فی ص66 : و أما الصیغ الانشائیة فهی موجدة لمعانیها فی نفس الأمر ، أی قصد ثبوت معانیها و تحققها بها و هذا نحو من الوجود ، و ربما یکون هذا منشأ لانتزاع اعتبارٍ مترتب علیه شرعاً و عرفاً آثار ، کما هو الحال فی صیغ العقود و الایقاعات .

و قد ظهر أیضاً الفرق عنده قدّس سرّه بین الإنشاء و الإخبار . و ظهر أن مراده من « نفس الأمر » هو ما یقابل فرض الفارض .

و هذا غیر ما هو المصطلح عند الفلاسفة ، حیث یجعلون وعاء « نفس الأمر » وعاءً فی قبال وعاء الذهن ، و وعاء الخارج ، فوعاء الخارج و وعاء الذهن ظرفان لوجود الماهیّة ، و للماهیة ظرف فی عالم التصوّر هو نفس الأمر .

کما أنّه غیر مصطلح الاصولیین ، فهم یریدون من « وعاء الأمر » ثبوت الشیء ثبوتاً غیر قائم بالاعتبار ، کالملازمة بین « تعدّد الآلهة » و بین « الفساد » المستفادة من الآیة المبارکة ، فإنها موجودة فی وعاء نفس الأمر ، و لا تدور مدار الاعتبار ، بخلاف ملکیّة زید للدار ، فإنَّ قوامها الاعتبار ، و لیس لها واقعیّة کواقعیة الملازمة المذکورة .

و أما الشهید الأوّل ، فقد ذکرنا أنه قد استعمل هذا المصطلح ، و لکنّه أراد من قوله « نفس الأمر » - فی العبارة المذکورة - الاحتراز عن الإنشاء المکرَّر ، فقول المنشئ : ملّکتک الدار قول قصد به ثبوت الملکیّة للمشتری ، فإذا قاله ثبت ذلک ، فلو قاله مرةً اخری فلا یحصل به المعنیٰ ، لأنه لو حصل لکان من تحصیل الحاصل .

و یقول المحقق الخراسانی : کلّما تکرّر القول حصل فرد من ذلک المعنی الإنشائی ، إلاّ أنه یکون تأکیداً ، لا أنّ الصیغة - فی المرّة الثانیة - خارجة عن الإنشائیّة .

و الحاصل :

إنه فی الصیغة الإنشائیّة یُقصد ثبوت و وجود المعنی بنفس الصّیغة ،

ص:35

بدون أیّة حکایةٍ ، و الثبوت هو بنحو مفاد کان التامّة ، بخلاف الإخبار ، فإنه بنحو مفاد کان الناقصة و هو حکایة عن الثبوت .

هذا فی الصیغة ، أی صیغة افعل ، الدالّة علی الطلب .

و کذلک الحال فی بقیّة المعانی الإنشائیّة ، فالمعنی فی جمیعها هو إیجاد الطلب ، غیر أن الدواعی تختلف .

و کذلک الحال فی الاستفهام و الترجّی و التمنّی ، فهو إیجاد الاستفهام بالوجود الإنشائی بداعی الاستفهام الحقیقی ، أو بداعی الإنکار ، و إیجاد للترجّی إنشاءً - و هو فی حق الباری تعالی جائز کما فی قوله : «لَّعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشَی » (1)و لیس حقیقةً ، لامتناعه فی حقّه لاستلزامه الجهل و العجز - و هکذا إیجاد للتمنّی إنشاءً ...

و هذا توضیح مبنی صاحب (الکفایة) فی الصیغة الإنشائیّة .

رأی الأصفهانی فی الصیغ الإنشائیة و حمله کلام الکفایة علیه

و خالف المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه (2) ، و ذکر أنّ ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی من کون اللّفظ فی الصّیغ الإنشائیّة موجداً للمعنیٰ ، غیر معقول ، فقال فی مقام الإشکال علیه ما توضیحه :

إنّه لا یتصوّر لأیّ معنیً من المعانی إلاّ نحوان من الوجود ، فهو إمّا وجود بالذات ، و إمّا وجود بالجعل و الاعتبار .

و الأوّل : إمّا الوجود الذهنی ، و إمّا الوجود الخارجی الواقعی ، لکنّ إیجاد المعنی فی عالم الذهن لا یمکن بسبب اللّفظ ، بل العلّة للوجود الذهنی هو

ص:36


1- 1) سورة طه : 46 .
2- 2) نهایة الدرایة 274/1 - 275 .

التصوّر فقط ، و کذلک إیجاده فی الخارج ، لأنّ الوجود الخارجی معلولٌ لعلّته ، فإنْ وجدت وجد و إلّا فلا .

و الثانی : فإنَّ الوجود الجعلی عبارة عن وجود المعنیٰ بوجود اللّفظ ، فاللّفظ یکون وجوداً للمعنی فی عالم الاعتبار ، و هو کما یکون باللّفظ یکون بالکتابة أیضاً .

فما ذهب إلیه المحقق الخراسانی غیر صحیح ، إذ لا یعقل إیجاد المعنی باللّفظ لا ذهناً و لا خارجاً .

بل المعقول و المتصوَّر هو أنّا نوجد المعنی وجوداً جعلیّاً ، أیْ نعتبر وجود اللّفظ وجوداً له ، لا أنّ اللّفظ یکون واسطةً و سبباً لوجود المعنی کما قال المحقّق الخراسانی ، ففی الحقیقة لمّا نقول : « افعل » فهو من مقولة الکیف المسموع ، فإذا تلفّظنا به وجد فی الخارج بوجودٍ بالذات ، و تکون هذه الصیغة وجوداً جعلیّاً اعتباریّاً للبعث و الطلب ، لا أن الطلب و البعث یوجد بتوسّط هذا اللّفظ و هذه الصیغة .

قال : فهذه حقیقة الإنشاء ، و لا بدّ أنْ یحمل علیه کلام المحقّق الخراسانی .

إشکال الاستاذ

قال شیخنا دام بقاه :

أمّا حمله کلام المحقّق الخراسانی علی مسلکه ففیه : إن فی عبارة (الکفایة) ما یمنع عن الحمل المذکور ، و ذلک أنه مثَّل - لکون الإنشاء موجداً للملکیّة و مخرجاً لها عن فرض الفارض - بإیجاد الملکیّة فی مورد الحیازة ، فإنّه قد ورد فی مباحث کتاب إحیاء الموات أنَّ « من حاز ملک » ، و هو ظاهر

ص:37

فی کون الحیازة سبباً لوجود الملکیّة ، و لیس وجودها بالوجود اللّفظی و الجعلی . و أیضاً : فقد تقرّر فی کتاب الإرث أنّ « ما ترک المیّت من مالٍ أو حقٍّ فلوارثه » فالملکیّة الحاصلة قهراً للوارث بموت مورّثه لیست بالوجود الجعلی و الاعتباری ...

و مع وجود هذه الجملة فی کلام المحقّق الخراسانی کیف یحمل کلامه علی ما ذهب إلیه ؟

و أیضاً ، فقد صرَّح المحقّق الخراسانی ، فی مقام بیان حقیقة الإنشاء فی الترجّی و التمنّی ... بأنّ المعنی المنشأ بالصیغة فی ظرف الإنشاء وجود جزئی ، لأنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد ، و الوجود مساوق للتشخّص ، إلاّ أنه - أی المعنیٰ - فی نفس الوقت کلّی .

و لا ریب أنّ هذا مطلب معقول ، کما لو تصوّرنا الإنسان النوعی ، و الحیوان الجنسی ، فإنه من حیث وجوده شخصی ، للقاعدة المذکورة ، مع أنّ النوع و الجنس کلیّان ، و صیغة الإنشاء کذلک ، فقولک : « ملّکتک » أو قولک :

« صلّ » یدلّ علی معنی جزئی هو المنشأ لک بهذا اللّفظ ، لکنّه کلّی أیضاً ، لأن القضایا الحقیقیّة تنحلّ و تتعدّد بعدد الموضوعات ... مع کون الإنشاء واحداً .

و هکذا ، فمن الممکن إیجاد الملکیّة الکلیّة بإنشاء واحدٍ ، فإنّه معنی کلّی ، مع أنه من حیث وجود الإنشاء جزئی ، کما فی قوله تعالیٰ : «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَیْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ » (1)حیث أن ملکیّة الخمس من جهة هذا الإنشاء جزئیّة ، لکن الملکیّة معنیً کلّی ، و المالک هو طبیعی المسکین من بنی هاشم .

ص:38


1- 1) سورة الأنفال : 42 .

و إذا کان المحقق الخراسانی یصرِّح بما ذکرناه ، فکیف یحمل کلامه علی مبنی المحقق الأصفهانی من أن الإنشاء إیجاد المعنی بعین وجود اللّفظ ، إذ یستحیل تصوّر کلیّة المنشأ حینئذٍ ، لأن وجود اللّفظ حقیقی شخصی ، فهو جزئی .

و تلخّص : إن کلامه غیر قابلٍ للتنزیل علی مسلک المحقّق الأصفهانی .

و أمّا إشکاله علیه : بأن إیجاد المعنی بالوجود الخارجی أو الذهنی غیر مسببٍ عن وجود اللّفظ ، لعدم کون اللّفظ فی سلسلة علل الوجود الذهنی و لا فی سلسلة علل الوجود الخارجی ، فالتحقیق عدم وروده علیه ، لأنّه یقول بوجود المعانی الإنشائیة وجوداً اعتباریّاً ، و من المعقول ثبوتاً أنْ یعتبر العقلاء سببیّة اللّفظ للوجود الاعتباری ، فیمکن أن یقع فی سلسلة علل وجوده ، فصحیح أنّ وجود الطلب فی عالم الذهن یرجع إلی التصوّر ، و وجوده خارجاً یرجع إلی المصلحة و الغرض ، و یکون العلم بالغرض علةً للوجود الخارجی التکوینی للطلب فی النفس ، لکنّ الکلام فی الوجود الاعتباری ، و لا مانع من أن یعتبر العقلاء اللّفظ - مثل بعت - سبباً للمعنی و هو الملکیّة الاعتباریة ، بحیث تدور الملکیّة فی عالم الاعتبار وجوداً و عدماً مدار وجود الصیغة و عدمها .

فما ذکره المحقق الخراسانی أمر معقول ، و لا یرد علیه ما ذکر .

نعم ، إنّ هذا الاعتبار بحاجةٍ إلی دلیلٍ فی مقام الإثبات .

و تلخّص : إن البحث مع صاحب (الکفایة) یرجع إلی مقام الإثبات ، فالقول بأنّ ما ذهب إلیه غیر معقول ، غیر صحیح ، فلا یمکن المساعدة علی

ص:39

ما جاء فی (نهایة الدرایة) و فی (المحاضرات) (1) .

و أمّا مختار المحقق الأصفهانی من أنّ حقیقة الإنشاء إیجاد المعنی بعین وجود اللّفظ ، فسیأتی الکلام علیه .

هذا تمام الکلام علی مبنی المحقّق الخراسانی .

رأی المحاضرات فی الصّیغ الانشائیّة

و ذهب السیّد الخوئی فی (المحاضرات) (2) إلی أنّ صیغة « افعل » مبرزة للاعتبار النفسانی ، لا أنها موجدة له فی وعاء الاعتبار - و هذا متّخذ من برهان المحقق الأصفهانی من أنّ الصیغة لا یمکن أن تکون سبباً للوجود مطلقاً - و أیضاً : فإن معانی الصّیغة مختلفة ، لا أنها موضوعة لمعنی واحدٍ و الدواعی مختلفة ... فالمعنی هو الامتحان ، و التهدید ، و الطّلب ... فهو مخالف (للکفایة) فی کلتا الجهتین ...

و حاصل کلامه : إن صیغة افعل حقیقةٌ فی إبراز اعتبار الشیء فی الذمّة ، و استعمالها فی موارد التعجّب و التهدید و غیر ذلک ، مجازی ، و معناها مختلفٌ و لیس بواحدٍ .

و خلاصة وجه هذا الرأی :

أوّلاً : إنّ الامور الاعتباریة تحصل بمجرّد الاعتبار و من دون حاجةٍ إلی سبب ، مع أنّ الألفاظ لا یمکن أن تکون أسباباً لمثل هذه الاُمور .

و ثانیاً : إنّ حقیقة الوضع هی « التعهّد » کما تقدَّم فی محلّه ، فکأنّ

ص:40


1- 1) نهایة الدرایة 274/1 - 275 ، محاضرات فی أصول الفقه 125/2 .
2- 2) محاضرات فی أصول الفقه 130/2 - 131 .

الشارع قد تعهّد - مثلاً - أن یبرز اعتباره للصّلاة فی ذمّة المکلّف بلفظ « صلّ » ، و کذلک کلّ أمر بشیءٍ ، فإنّه متعهّد باستعمال صیغة « افعل » لإبراز أمره و طلبه ... و هذا هو المرتکز فی الأذهان .

مناقشة الاستاذ

فقال الاستاذ دام بقاه بعد تقریر هذه النظریّة ما حاصله :

أمّا أن حقیقة الوضع هو التعهّد ، فقد تقدّم فی محلّه ما فیه .

و أمّا أنّ المعنی الحقیقی لصیغة الإنشاء هو إبراز اعتبار ثبوت الشیء ، فغایة ما استدلّ لهذه الدعویٰ هو وجود هذا المعنیٰ - أی إبراز اعتبار ثبوت الشیء فی الذمّة - فی مثل قول المولیٰ : « صلّ » و نحوه ... و فیه : إن هذا لا یکفی لأنْ یکون دلیلاً للمدّعیٰ ، ففی موارد استعمال صیغة الأمر ، حیث یکون الداعی بعث العبد نحو الفعل ، توجد الإرادة لتحقّق الفعل ، و العقلاء یرون فی تلک الموارد أن المولی قد وضع الفعل علی ذمّة المکلّف ، و أنها مشغولة یقیناً به ، فلما ذا لا تکون الإرادة هی المعنی للصّیغة ؟ و لما ذا لا یکون المعنی : اعتبار ثبوت المادّة فی ذمّة الطرف المقابل ؟

و الحاصل : إنه فی مورد استعمال صیغة الأمر ، یوجد اعتبار ثبوت الفعل فی الذمّة بلا ریب ، لکن کون هذا المعنی هو الموضوع له الصیغة من أین ؟ فالدلیل أعمّ من المدّعی .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : قوله بتعدّد المعنی فی الصّیغ الإنشائیّة ، غیر موافقٍ للارتکاز العرفی ، و ذلک لأنّ أهل اللّسان لا یفرّقون فی معنی « اعملوا » بین مورد استعماله فی التهدید و مورد غیر التهدید مثلاً .

و ثالثاً : إن المصداقیّة من شئون الحمل الشائع ، و المناط فیه هو الاتحاد

ص:41

الوجودی ، و حینئذٍ ، کیف یتّحد التعجّب - الذی هو صفة نفسانیّة - مع صیغة افعل ، لتکون الصیغة مصداقاً لمفهوم التعجّب ؟ فقوله بأن الصیغة تارةً یکون المبرَز بها التعجّب إذا استعمل فیه ، لا یمکن تعقّله .

و رابعاً : إن اعتبار ثبوت الشیء فی الذمّة ، معنی اسمی ، و هذا ینافی مسلک (المحاضرات) فی المعنی الحرفی و الهیئة من أنه عبارة عن التضییق فی المعانی الاسمیة ... فإذا کان هذا معنی هیئة افعل ، فکیف یکون موضوعاً لإبراز الاعتبار ، و وجوب الشیء ؟

مناقشة رأی المحقق الخراسانی

هذا ، و قد وافق الاستاذ المحقق الخراسانی فی وحدة المعنی فی الصیغ الإنشائیّة .

و أمّا قوله بأنها موجدة ، فقد أشکل علیه :

أوّلاً : بأن الإرادة فی نظر هذا المحقق نفس الطلب ، و مفهومهما واحد ، و الاختلاف فی المصداق ، لکنْ لا یُفهم « الإرادة » من صیغة افعل ، و مقتضی الاتّحاد بین الإرادة و الطلب أنْ لا تکون موضوعة للطلب .

و ثانیاً : إنّ الإرادة لیست من الامور القابلة للإنشاء ، أی لا تقبل أنْ توجد باللّفظ ، کما هو الحال فی الجواهر مثلاً .

و ثالثاً : إن الإرادة مفهوم اسمی ، و لم نجد فی الهیئات هیئة مدلولها معنیً اسمی .

مناقشة رأی المحقق الاصفهانی

و أمّا مبنی المحقق الأصفهانی من أنّ مدلول الصیغة وجود المعنی بالوجود اللّفظی ، فالألفاظ عین وجود المعانی لکن بالوجود الاعتباری

ص:42

للمعنی ، و هذا معناه أنْ لا یکون فی مورد الصّیغة وضع و موضوع و موضوع علیه ...

ففیه : إنّ مبناه فی حقیقة الوضع هو أنّ اللّفظ یوضع علی المعنی کوضع العلم علی رأس الفرسخ مثلاً ، فما ذهب إلیه فی وضع الصیغة ینافی مختاره فی حقیقة الوضع بصورةٍ عامّة ؛ لأنه یقتضی المغایرة و التعدّد بین الموضوع و الموضوع علیه ... و لو لا هذا التنافی فإنّ مسلکه قریب من الواقع .

رأی الشیخ الاستاذ

و بعد ذکر المبانی المطروحة فی معنی الصیغة و النظر و المناقشة فیها ، قال شیخنا دام بقاه ، و بالنظر إلی مختاره فی حقیقة الوضع من أنها « العلامتیّة » :

إن الألفاظ إنما هی للوصول إلی المعانی و إبراز الأغراض و المقاصد ، فالصبیّ الذی لا یمکنه التلفّظ إذا أراد شیئاً من الأشیاء تحرّک نحوه - إن أمکنه التحرّک - و أخذه ، و إلّا فیلجأ إلی غیره ، کأنْ یأخذ بید أبیه و یمدّها نحو الشیء أو یضعها علیه ، و هذا هو المقصود من « البعث النسبی » فی کلام المحقق الأصفهانی ، و « النسبة الإرسالیّة » فی کلام المحقق العراقی ، لکنّ هذا الطفل عند ما یمکنه الإشارة نحو الشیء الذی یریده ، فإنّه یستخدمها بدل الأخذ بید أبیه مثلاً ، فإنْ یتمکن من التلفّظ فلا شک أنه یستخدم اللّفظ للدلالة علی أنّه یرید الشیء الفلانی ، فیقول لأبیه مثلاً : أعطنی کذا ...

فالألفاظ دوالّ و کواشف و علائم ... و هذا هو الأصل فیها .

وعلیه ، فإنه مع التمکّن من التلفّظ ، یتحقّق بیان المراد و إبرازه بواسطة اللّفظ ، و تکون الألفاظ مبیّنات و مبرزات للمرادات ، و هذا معنی «عَلَّمَهُ

ص:43

الْبَیَانَ » (1)، فمن تمکّن من اللّفظ و أمکنه إفهام مقصوده به ، لا یحتاج إلی الإشارة ، و لا إلی البعث و التحریک التکوینی الخارجی ، و لذا تکون الإشارة أو التحریک الخارجی هی الدالّة علی المقصود حیث لا یمکن اللّفظ .

و سواء کان الدالّ علی المقصود هو اللّفظ أو التحریک الخارجی ، فإنّه لا ینظر إلیه إلّا بالنظر غیر الاستقلالی ، بل إنّه - فی هذه الحالة - یکون النظر الاستقلالی نحو المبعوث و المبعوث إلیه ، أمّا اللّفظ أو التحریک الخارجی الذی تحقق به البعث ، فإنّه مغفول عنه ، و وجوده وجود حرفی لا استقلالی ...

و هذا البعث هو « البعث النسبی » فی اصطلاح المحقّق الأصفهانی ، إنه یقول بأنّ نفس هذا البعث الخارجی التکوینی یوجد و یتحقّق بکلمة « افعل » .

و المحقق العراقی یشبّه الطلب بالصیغة بإرسال الطیور الجارحة نحو الصید ، فکأنّ الآمر یرسل المأمور بأمره « افعل » نحو تحصیل الشیء الذی یریده منه ، فالمدلول عنده رحمه اللّٰه - هو الإرسال و لازم ذلک هو الطلب .

و الحاصل : إن هذا أمر ارتکازی لا یمکن إنکاره ، و عباراتهم - و إنْ اختلفت فی بیانه - مشیرة إلی هذا الأمر .

لکنّ التحقیق : أن هذه النسبة البعثیّة التکوینیّة التی تقوم الصیغة مقامها لا توجد بالصیغة ، بل إنها تکون مبرزة لها ، فالباعث یظهر و یبرز مقصوده باللّفظ بدلاً عن التحریک الفعلی نحوه ... فلیس « افعل » هو « البعث » کما قال المحقق الأصفهانی ، بل إنه دالٌّ علی البعث و مبرز له ، لکنّه مبرز للبعث - کما قلنا - لا لثبوت الشیء فی ذمّة الطرف المقابل کما قال المحقق الخوئی ... فإنْ لوحظ هذا البعث النسبی باللّحاظ الاستقلالی أصبح مدلول لفظ « أبعثک » ،

ص:44


1- 1) سورة الرحمن : 3 .

و لذا قال السید البروجردی : إن الطلب إن لوحظ باللّحاظ الاسمی الاستقلالی استعمل لفظ البعث و الأمر فیقول : آمرک ، و إن لوحظ باللّحاظ الآلی استعملت صیغة « افعل » ... لکنّ التحقیق أنه « البعث » و لیس « الطلب » .

و بما ذکرنا ظهر التحقیق فی المقام ، و اختلافات الأنظار فیه .

دلالةُ الصّیغة علی الوجوب

لقد تقدّم طرف من هذا البحث فی مبحث دلالة مادّة الأمر علی الوجوب ، و هنا نقول :

کلام الکفایة

إنه قد نفی المحقق الخراسانی (1) البُعد عن أن تکون صیغة الأمر دالّة علی الوجوب بالدلالة الوضعیّة ، و استدلّ علی ذلک بالتبادر ، و أیّده بسیرة العقلاء ، و أنهم لا یقبلون اعتذار العبد إذا خالف الأمر عند ما لا توجد قرینة .

ثم ناقش صاحب (المعالم) قدّس سرّه فی قوله (2) بأنّ الصّیغة مستعملة فی أخبارنا فی الندب بکثرة ، و ذلک یمنع من التمسّک بأصالة الحقیقة للحمل علی الوجوب ، بل یکون من المجاز المشهور ، و مقتضی القاعدة فی مثله هو التوقّف ... فأجاب المحقق الخراسانی :

أوّلاً : إن استعمال الصّیغة فی الوجوب أیضاً کثیر ، فکثرة استعمالها فی الندب لا توجب نقلها عن الوجوب أو حملها علی الندب .

و ثانیاً : إنّ کثرة الاستعمال إنما توجب الحمل أو تستلزم التوقّف فیما إذا کانت بدون قرینة ، و أمّا إذا کانت موارد استعمالها مصحوبة بالقرینة ، فمثل هذا

ص:45


1- 1) کفایة الأصول : 70 .
2- 2) معالم الدین : 48 .

الاستعمال و إنْ کثر فلا یثبت المجاز المشهور ، لیلزم التوقّف عن حمل الصیغة المجرّدة عن القرینة علی الوجوب ... و من المعلوم أنّ الصیغة فی الأدلّة الشرعیّة متی دلّت علی الاستحباب فهی مقرونة بالقرینة اللّفظیّة أو الحالیّة علی الندب .

و ثالثاً : إنّ ما ذکره صاحب (المعالم) قدّس سرّه منقوضٌ بکثرة تخصیص العمومات حتی قیل : ما من عامٍ إلاّ و قد خُص ، فلو کانت کثرة الاستعمال فی غیر المعنی الموضوع له اللّفظ موجبةً لنقل اللّفظ عن معناه الحقیقی ، أو حمله علی غیر معناه ، أو التوقّف ، لزم سقوط أصالة العموم ، و هو کما تریٰ ... فما نحن فیه کذلک .

الإیرادات علی الکفایة و مناقشتها

هذا ، و قد أورد علیه السیّد البروجردی (1) :

بالفرق بین کلامه و کلام (المعالم) ، فذاک یقول : أخبار الأئمة ، و هو یقول السنّة ، و المراد منها فی الاصطلاح الحدیث النبوی .

و فیه : المراد من السنّة فی لسان الفقهاء و الاصولیین : قول المعصوم أو فعله أو تقریره .

و بأنّ کثرة استعمال اللّفظ فی غیر الموضوع له - و لو مع القرینة - یوجب انس الذهن بالمعنیٰ ، و ینتهی إلی المجاز المشهور .

و فیه : إنه لیس کذلک ، فلفظ « القمر » یستعمل فی استعمالات الناس فی غیر الموضوع له بکثرةٍ مع القرینة ، و لکنْ لا یصل إلی حدّ الاستغناء عن القرینة فیکون مجازاً مشهوراً یوجب التوقّف .

ص:46


1- 1) نهایة الاصول : 93 ، الحجّة فی الفقه : 114 .

و أورد علیه فی (المحاضرات) (1) :

بالفرق بین المقام و باب الخاص و العام ، فهناک ألفاظ موضوعة للدلالة علی العموم ، و لا یکون استعمالها فی غیره موجباً للمجاز ، و أمّا فیما نحن فیه فیوجد معنیان : الوجوب و الندب ، و قد استعمل اللّفظ - أی الصیغة - فی غیر الموضوع له إلی حدٍّ کثیر یوجب التوقف .

و فیه : إن صاحب (الکفایة) لا یقول بأن کثرة استعمال العام فی الخاص یوجب أن یکون مجازاً مشهوراً ، بل یقول : تخصیص العام بکثرةٍ لا یوجب خروجه عن الدلالة علی العموم بحیث یسقط أصالة العموم ، فکذلک ما نحن فیه ، فلا یوجب کثرة استعمال الصیغة فی الندب خروجها عن کونها موضوعةً للوجوب بحیث یسقط أصالة الحقیقة .

مناقشة الاستاذ

قال الاستاذ : بل الحقّ - فی الإشکال علی المحقق الخراسانی فی هذا المقام - أن یقال :

أمّا دعوی التبادر ، فإنه یعتبر أن یکون التبادر من حاقّ اللّفظ لا من خارجه من إطلاقٍ أو سیرة ، و تحقّقه هنا أوّل الکلام ، لأن تبادر الوجوب :

إمّا هو من المادّة ، فهی لیست إلاّ المعنی الحدثی .

و إمّا من الهیئة ، و مدلول الهیئة عنده عبارة عن الطلب ، و هو غیر الوجوب ، أو عن البعث النسبی کما قال المحقق الأصفهانی ، و هو غیر الوجوب .

و إمّا عن المرکَّب من المادّة و الهیئة ، و هو لیس له وضع علی حدة .

ص:47


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 125/2 .

علی أنّ الصیغة تستعمل فی الندب - و بدون أیّ عنایةٍ - کاستعمالها فی الوجوب ، کأن نقول : اغتسل للجنابة ، و نقول : اغتسل للجمعة .

هذا بالنسبة إلی استدلاله بالتبادر .

و أمّا مناقشته لصاحب (المعالم) فالإنصاف : أنّ استعمال الصیغة فی غیر الوجوب کثیر جدّاً ، و لعلّه الغالب علی استعمالها فی الوجوب ، و دعوی اقتران تلک الاستعمالات بالقرینة مقبولة ، لکن إنکار وصولها إلی حدّ المجاز المشهور مشکل .

و تنظیره ما نحن فیه بقضیّة ما من عامٍّ إلّا و قد خص . فیه : إنه خلاف مبناه فی باب العامّ و الخاص ، فإنّه یری أن العام مستعمل فی معناه و هو العموم ، إلاّ أن الخصوص یستفاد من دالٍّ آخر ، فتعدّد الدالّ هو الدلیل علی التخصیص ، لا أن العام قد استعمل فی غیر ما وضع له ... و حینئذٍ ، فلصاحب (المعالم) أنْ یقول بالفرق بین المقامین ، و أن استعمال الصّیغة فی الندب مجاز .

أدلّة القول بالدّلالة علی الوجوب و نقدها

و علی الجملة ، فقد ظهر سقوط الاستدلال بالتبادر للقول بدلالة الصیغة علی الوجوب ، و کان هذا هو الوجه الأوّل .

الثانی : الکتاب و السنّة . فقد ذکر أصحاب ( المعالم ) و(البدائع) و(هدایة المسترشدین) (1) آیاتٍ و روایات من الکتاب و السنّة دالّةً علی الوجوب ، کقوله تعالی : «مَا مَنَعَکَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ » (2)فإنّه یدلُّ علی کون الصیغة دالّة علی

ص:48


1- 1) معالم الاصول : 66 ، بدائع الاصول : 251 ط حجری ، هدایة المسترشدین : 144 حجری .
2- 2) سورة الأعراف : 12 .

الوجوب ، لکونه ذمّاً و توبیخاً علی المخالفة لقوله عزّ و جلّ «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِکَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ » (1)و «... فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِینَ » (2).

و فیه :

أوّلاً : هل کانت هذه الاستعمالات عاریةً عن القرینة ؟

و ثانیاً : سلّمنا ، لکنّه استعمالٌ ، و هو أعمّ من الحقیقة .

نعم ، مثل قوله تعالیٰ «وَأَتِمُّوا ... » (3)- بضمیمة کلام الإمام علیه السلام - یدلُّ علی الوجوب ، و لکنْ هل هذه الدلالة وضعیّة أو إطلاقیّة ؟

الثالث : العقل . و هذا طریق المحقق النائینی (4) الذی سلکه المتأخرون أیضاً ، و حاصله : إنّه إذا صدر أمر من المولی الحقیقی ، فإنّ العقل یحکم علی العبد بمقتضی قانون حکم الطّاعة - بلزوم الإطاعة و باستحقاقه العقاب إذا خالف .

و قد تکلّمنا علی هذا الوجه سابقاً . و حاصل الکلام هنا :

إن هذا الوجه أخصّ من المدّعی ، لأن المدّعی هو أعمّ من أن یکون الأمر صادراً عن المولی الحقیقی ، و لا یختص بمورد استدلاله ... فالأمر یدلّ علی الوجوب فی أوامر الناس بعضهم بعضاً ، مع عدم وجود حکم عقلی مستند إلی حق الطاعة ، إلّا مع القرینة علی الرخصة ، هذا أولاً .

و ثانیاً : إنّ الأحکام العقلیّة - سواء فی موارد المولی الحقیقی أو العرفی - تنتهی إلی حسن العدل و قبح الظلم ، و هما حکمان کلّیان ، فالعقل یری

ص:49


1- 1) سورة البقرة : 34 .
2- 2) سورة ص : 72 .
3- 3) سورة البقرة : 196 .
4- 4) أجود التقریرات 144/1 .

ضرورة إطاعة العبد لمولاه لأنها عدل ، و عدم عصیانه لأنه ظلم ، و الظلم إنما یتحقق حیث یصدق العصیان ، و إذ لا عصیان - کما لو لم یکن أمر المولی إلزامیّاً - فلا ظلم ... و هذه هی کبری حکم العقل .

و الحاصل : إنه لا حکم للعقل إلّا بقبح الظلم بمعصیة أوامر المولی ، أمّا مع الشک فی دلالة أمره علی الوجوب و الإلزام ، فلا یحکم العقل بقبح مخالفته ، إلّا أن یقال بأنّ للعقل حکماً ظاهریّاً مفاده : کلّما شککت فی أمر أنه إلزامی أو لا ، لزم علیک امتثاله و إلّا فأنت ظالم ، ... و من الواضح عدم وجود هکذا حکم ظاهری احتیاطی من العقل .

و بعبارة أخریٰ - کما فی (المنتقی) (1) - إنه بعد إدراک العقل أن إنشاء الطلب یمکن أن یکون عن إرادة حتمیّة کما یمکن أن یکون عن إرادة غیر حتمیّة ، و أن المنشأ عن إرادة غیر حتمیة لا یلزم امتثاله ، کیف یحکم بلزوم الامتثال بمجرّد الإنشاء ما لم یدّع ظهور الصیغة فی کون الإنشاء عن إرادة حتمیة ، و هو خلاف المفروض ؟ و هل یجد الإنسان فی نفسه ذلک ؟ ذلک ما لا نستطیع الجزم به بل یمکن الجزم بخلافه .

و علی الجملة ، فإنّ مطلب المیرزا إنما یتمُّ لو ثبت أنّ للعقل هکذا حکم کما توجد فی الشریعة أحکام ظاهریّة إلی جنب الأحکام الواقعیّة ، أو تقوم سیرة عقلائیّة علی أنّه متی وردت الصیغة المجرّدة عن المرخّص فی الترک فالطلب إلزامی ، و إلّا ، فإنّ المرجع هو البراءة عقلاً و شرعاً ، و عدم کفایة قانون حقّ الطاعة علی التحقیق .

الرابع : الظهور الإطلاقی فی الوجوب .

ص:50


1- 1) منتقی الأصول 403/1 .

ذهب صاحب (الکفایة) (1) إلی أن الوجوب عبارة عن الطلب بلا تقیید ، و أن الاستحباب عبارة عن الطلب المقیَّد بالترخیص فی الترک ، فهو المحتاج إلی البیان ، و الوجوب غیر محتاج إلیه .

و قال المحقق الأصفهانی (2) : إن الوجوب عبارة عن البعث الأکید ، و الاستحباب عبارة عن البعث غیر الأکید ، و لازم الأوّل عدم الترخیص فی الترک ، و الثانی لازمه الترخیص فیه ، و حینئذٍ یحتاج إلی البیان ، بخلاف الوجوب ، فإن نفس الصّیغة کافیة فی إفادته ، لأن الأمر العدمی - و هو هنا عدم الترخیص - لا یحتاج إلی بیان .

وعلیه ، فکلّما جاءت الصیغة مجرّدة عن البیان فی الترخیص ، کان مقتضی إطلاقها هو الوجوب .

قال الاستاذ فی الدورة السابقة :

و هذا ثبوتاً صحیح ، إلّا أن الکلام فی مقام الإثبات ، إذ العقلاء لا یرون وجود مرتبتین للبعث ، إحداهما أکیدة ، و الاخری غیر أکیدة ، فصیغة « اغتسل » سواء فی غسل الجنابة و الجمعة ، و لا فرق عندهم فیها ... هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه لیس لهیئة افعل وضعان ، بل الوضع الواحد ، و هی موضوعة للنسبة البعثیّة ، و التأکّد و عدمه أمران زائدان علی حقیقة البعث ، و خارجان عن مدلول الهیئة ، فلو کان التأکّد مدلول الهیئة - وضعاً أو ظهوراً - لزم أن یکون استعمالها فی غیر الأکید مجازاً .

و للمحقّق العراقی تقریب آخر (3) . قال :

ص:51


1- 1) کفایة الأصول : 70 .
2- 2) نهایة الدرایة : 315/1 .
3- 3) نهایة الأفکار 162/1 - 163 .

إن الوجوب عبارة عن نفس الطلب المعبَّر عنه بالطّلب التام ، و هو غیر محدودٍ بحدّ ، بخلاف الندب ، فإنه محدود بحدّ النقص ، فالندب محتاج إلی بیانٍ زائد ، و حیث لا بیان ، فمقتضی الإطلاق هو الوجوب .

قال الاستاذ : و فیه :

أوّلاً : إنّه سواء کان الإرادة ، أو الفعل النفسانی ، أو الطلب الإنشائی ، أو الطلب الاعتباری ، فهو - بأیّ معنیً أخذ - محدود .

و ثانیاً : إن المفروض وضع الهیئة لنفس الطلب ، لا الطلب غیر المحدود - بأن یکون عدم المحدودیّة داخلاً فی المفهوم - فلا مرتبة فی مفهومه ، وعلیه ، فکما أن المرتبة النازلة من الطلب محتاجة إلی البیان ، کذلک المرتبة العالیة .

هذا ، و إلی ما ذکر من الکلمات یرجع کلام مثل الشیخ الیزدی الحائری (1) القائل بأنّ الندب عبارة عن الإرادة مع الإذن فی الترک ، و الوجوب هو الإرادة بلا إذنٍ فی الترک ... فإنّه بعد إرجاعه إلی ما تقدّم یرد علیه ما ورد علیه ، و إلّا فظاهر کلامه غیر صحیح ، لأن الإرادة من الامور التکوینیة ، و الوجوب و الندب من الأمور الاعتباریّة التشریعیّة .

و أیضاً ، فالإرادة من مقدّمات الطلب و لیست نفس الطلب .

و تلخّص : عدم تمامیة الاستدلال - لدلالة الصیغة علی الوجوب - بالآیة و الروایة و بالعقل و بالتبادر و بالظهور الإطلاقی .

مختار الاستاذ و دلیله

الخامس : السیرة العقلائیة .

ص:52


1- 1) درر الأصول 74/1 .

فإنّ السیرة العقلائیّة قائمة علی ترتیب الأثر إلزاماً علی صیغة افعل ، و هی سیرة عامّة ، غیر مختصّة بالموالی و العبید ... کما تقدّم فی مادّة الأمر .

و قد کان هذا هو المرتکز بین أصحاب الأئمة علیهم السلام ، و تشهد به ضروراتٌ من الفقه .

فالوجوب لیس لفظیّاً و لا عقلیّاً ، بل هو عقلائی .

و مما یشهد به فی الفقه مسألة خیار الغبن ، فإن المستند العمدة علی ثبوت هذا الخیار هو تخلّف الشّرط ، إذ الشرط الارتکازی بین العقلاء فی المعاملة هو المساواة بین الثمن و المثمن ، فبناء العقلاء فی سائر معاملاتهم علی المساواة بینهما کاشف عن وجود هذا الشرط فی کلّ معاملة ، و لو مع عدم التلفّظ به فی متن العقد .

فکما یکون البناء العقلائی هناک ذا أثر من هذا القبیل ، و لدی التخلّف یستند إلی ذلک ، کذلک البناء العقلائی فیما نحن فیه ، علی ترتیب أثر الوجوب و الإلزام علی صیغة افعل ، کاشف عن دلالتها علی الوجوب .

و هذا هو التحقیق عند الاستاذ فی الدورة اللّاحقة .

أقول :

و لکن ، هل لهذه السیرة ملاک أو لا ؟ و کیف تحقق مع العلم باستعمال الصیغة فی الندب بقدر استعمالها فی الوجوب إن لم یکن أکثر ؟

و من هنا یرجع المطلب إلی الإطلاق ، بالبیان الذی ذکره فی الدّورة السابقة . من أن الوجوب - فی الحقیقة - أمر اعتباری منتزع من البعث و عدم الترخیص فی الترک ، و أنّ الندب أمر اعتباری منتزع من البعث و الترخیص فی الترک ، فلیس الوجوب و الندب إلّا أمرین منتزعین ، هذا فی الواقع ، و کذلک

ص:53

الحال فی مقام الإثبات عند العقلاء ، فإنّهم یرون البعث من المولیٰ و عدم ترخیصه فی الترک منشأً لانتزاع الوجوب بلا حالةٍ منتظرة ، وعلیه ، فإن الندب هو المحتاج إلیٰ البیان الزائد ، أمّا الوجوب فلا ، و مع الشک ، یکون مقتضی الاطلاق هو الوجوب ، فکان هذا الإطلاق هو الملاک لبناء العقلاء فی حمل الکلام علیٰ الوجوب .

ص:54

الجملة الخبریّة

اشارة

ص:55

ص:56

فیها قولان :

ذهب صاحب (الکفایة) (1) قدّس سرّه : إلی أنّ الجملة الخبریّة مستعملة فی نفس مدلولها ، و هو النسبة ، ففی الماضی : النسبة التحقّقیة ، و فی المضارع : النسبة الترقّبیة ، ففی قوله علیه السلام « یعید » و « أعاد » - مثلاً - قد استعملت الجملة - فی حال الإنشاء - فی نفس المعنی المستعملة فیه فی حال الإخبار ، غیر أنّ الداعی یختلف ، فهو هنا عبارة عن الطلب ، و فی الإخبار عبارة عن الحکایة .

و الحاصل : إن الفرق بین الجملتین و اختلافهما إنّما هو بداعی الاستعمال ، و الفرق بین صیغة الأمر و الجملة الخبریّة هو : إن المستعمل فیه فی الصیغة عبارة عن الطلب الإنشائی ، و فی الجملة هو النسبة ، فبها یُنشأ النسبة البعثیّة ، أو البعث النسبی .

و ذهب السید الخوئی (2) : إلی أنّ الاختلاف بین الاخبار و الإنشاء لیس من ناحیة الداعی إلی الاستعمال ، بل إن المستعمل فیه فی مثل « یعید » فی کلام الامام علیه السلام هو اعتبار الإعادة فی ذمّة المکلّف ، فتکون الجملة الإخباریة فی مقام الإنشاء مبرزةً للاعتبار .

و هذان القولان هما العمدة فی المقام .

ص:57


1- 1) کفایة الأصول : 70 .
2- 2) محاضرات فی أصول الفقه 135/2 .

مختار الاستاذ :

و قال الاستاذ دام بقاه فی الدورة اللّاحقة : بأنّ الحق مع المحقّق الخراسانی ، لعدم مجیء مدّعیٰ القول الثانی إلی ذهن أحدٍ ممن سمع قول الإمام علیه السلام « یعید الصلاة » و نحوه ، أو رواه ، بل إن مفاد هذه الجملة - فی قول الإمام ذلک کما فی الخبر ، جواباً عن السؤال عن حکم الصّلاة الواقع فیها الخلل الکذائی - نفس مفادها فی مقام الإخبار ، و المستعمل فیه فی کلا المقامین هو الإعادة ، غیر أنّ القرائن الحالیّة أو المقامیّة أفادت أنّ الداعی للاستعمال فی مثل مورد الجواب عن السؤال المزبور مثلاً هو الطلب ، و لمّا کان استعمال الجملة بهذا الداعی ، فلا مجال لتوهّم لزوم الکذب .

و یبقی الکلام فی وجه دلالة الجملة الخبریّة فی مقام الطلب مثل « یعید » ، علی الوجوب ، فإنّ ما ذکره المحقق الخراسانی من أن نفس الإتیان بالجملة یکفی للدلالة علی کون الطلب لزومیّاً لا یرضی المولی بمخالفته ، غیر وافٍ بالمدّعی ، بل الحق أنّ الدلالة إنما هی بالسیرة العقلائیّة ، القائمة علی الطلب الجدّی اللّزومی ، ما لم تقم قرینة علی الخلاف ... و توضیح ذلک :

إنه و إنْ کان الأصل فی السیرة العقلائیّة عدم التعبّد ، لکنّ المفروض أنّ مدلول الجملة هو النسبة البعثیّة - إمّا بنحو الإیجاد أو بنحو الإبراز ، علی الخلاف - و حینئذٍ ، فإنّ الوجود الاعتباری للبعث لا بدّ و أنْ یکون واجداً لآثار الوجود التکوینی له ، لکونه نازلاً منزلته ، کما هو الحال فی جمیع التنزیلات ، و لا أقل من وجود الآثار الظاهرة ، و إلّا لم یکن للتنزیل معنی ، فمثلاً : عند ما جعل اللّٰه سبحانه فی آیة المباهلة (1) علیّاً علیه السلام نفس الرسول صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم - و هو جعل اعتباری بلا تردید - فإنّه یقتضی وجود الآثار

ص:58


1- 1) سورة آل عمران : 61 .

المتحقّقة فی النفس النبویّة فی نفس الإمام علیه السلام إلّا ما خرج عقلاً أو نقلاً ، لأنّ النفس الولویّة أصبحت بمنزلة النفس النبویّة ، و کذا الحال فی مثل « الطواف بالبیت صلاة » ... و هکذا ، فإن الآثار - خاصّةً البیّنة منها - لا بدّ و أنْ تترتّب ، إلّا مع قیام القرینة علی العدم ، ...

و علی هذا ، فإنّ من أظهر آثار البعث التکوینی هو الانبعاث ، للتلازم الواضح بینهما ، و هذا الأثر لا بدّ من أن یترتّب علی البعث الاعتباری ، سواء کان بالصّیغة أو بالجملة ، سواء علی مبنی المشهور من أن صیغة افعل مثلاً تدل علی الإیجاد - أی إیجاد الطلب - ، أو علی مبنی المحقق الأصفهانی من أنها بعثٌ بالجعل و المواضعة ، أو علی المختار من أنها مبرزة للبعث الاعتباری - و لیست موجدة - ... و الحاصل : إن أظهر آثار البعث التکوینی هو التلازم بینه و بین الانبعاث من ناحیة الباعث ، فلا یمکن أنْ یکون بعثٌ بدون انبعاث من ناحیة الباعث ، فیکون الحال فی البعث الاعتباری کذلک ، لکونه قائماً مقام التکوینی و منزّلاً بمنزلته ... إلّا إذا جاء من قبله المرخّص للترک ، و هذا خلاف الأصل .

فظهر : أن الدالّ علی الوجوب هو السیرة العقلائیّة ، و السرّ فی ذلک هو عدم التفکیک و الانفکاک بین البعث و الانبعاث من ناحیة الباعث ... و هذا عین الوجوب ... خذ و اغتنم .

تتمّةٌ

، فی النظر فی کلامٍ للسید البروجردی فی هذا المقام :

و ملخّص ما ذکره رحمه اللّٰه کما جاء فی تقریر بحثه تحت عنوان :

هاهنا نکتة لطیفة یعجبنا ذکرها :

إنّ الأوامر و النواهی الصادرة عن النبی و الأئمة - علیهم الصلاة و السلام -

ص:59

علیٰ قسمین ، فمنها : ما صدر عنهم بعنوان إظهار السلطنة و الحاکمیّة و إعمال المولویّة ، نظیر الأوامر الصادرة عن الموالی العرفیّة بالنسبة إلیٰ عبیدهم ، کما فی الأوامر و النواهی الواردة عنهم فی الجهاد و میادین القتال . و منها : ما صدر عنهم لبیان الأحکام الإلهیّة ، نظیر إفتاء المفتی الفقیه .

فأمّا القسم الأوّل ، فیجب إطاعته و یحرم مخالفته ، و أمّا القسم الثانی فلا تکون مخالفته حراماً موجباً للفسق بما هی مخالفة تلک الأوامر و النواهی ، بل بما هی مخالفة أحکام اللّٰه تعالیٰ ، لکون هذا القسم من أوامرهم و نواهیهم ارشادیّاً لا مولویّاً ... .

ثم قال : و الأوامر و النواهی المنقولة عن أئمّتنا بل عن رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله جلّها ارشادیة بالمعنیٰ المذکور ، و لیست بمولویّة (1) .

أقول (2)

لکنَّ مقتضی الأدلّة هو : إنّ الأوامر و النواهی الصادرة عن المعصومین کلّها مولویة ، و هذا هو الأصل فیها إلّا ما قام الدلیل علیٰ إرشادیّته ، بل إنّ مفاد الأدلّة أنّ کلّ ما یصدر عنهم تجب إطاعتهم فیه ، لأنّ الأحکام مفوّضة إلیهم ، و لهم الولایة المطلقة ، فلا فرق بین قول اللّٰه عز و جل فی القرآن الکریم و قولهم الثابت عنهم ، فی أن کلیهما حکم إلهی یجب امتثاله .

أمّا بالنسبة إلیٰ أوامر النبی صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم ، فما ذکرناه موضع وفاقٍ بین الخاصّة و العامّة ، و یدل علیٰ ذلک قوله تعالیٰ : «مَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا » (3)ففی الصحیح عن أبی عبد اللّٰه علیه السلام :

ص:60


1- 1) نهایة الاصول : 97 ، الحجة فی الفقه : 116 - 117 .
2- 2) هذا المطلب ملخّص من الباب الأوّل من کتابنا (عموم ولایة المعصوم) .
3- 3) سورة الحشر : 7 .

« إنّ اللّٰه أدّب نبیّه فأحسن أدبه ، فلمّا أکمل له الأدب قال : «وَإِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ » ثم فوّض إلیه أمر الدین و الأُمّة لیسوس عباده فقال عزّ و جلّ «مَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا » . و إنّ رسول اللّٰه - صلّی اللّٰه علیه و آله - کان مسدّداً موفّقاً مؤیّداً بروح القدس ، لا یزلُّ و لا یخطئ فی شیء ممّا یسوس به الخلق ، فتأدّب بآداب اللّٰه . ثم إنّ اللّٰه عز و جل فرض الصلاة ... فأضاف رسول اللّٰه ... فأجاز اللّٰه عز و جل له ذلک ... » .

و مثله غیره فی « باب التفویض إلیٰ رسول اللّٰه و إلی الأئمة فی أمر الدین » من کتاب الکافی (1) و غیره ، ممّا جاء التصریح فیه بثبوت هذه المنزلة للنبی صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم ، و اشتمل علیٰ موارد من الأحکام التی وضعها فی الأبواب المختلفة ... و کذلک کلمات المفسرین من الفریقین بذیل الآیة المبارکة ، فإنّهم قالوا بأنها تدل علیٰ أنّ کلّ ما أمر به النبی فهو أمرٌ من اللّٰه ، و کلّ ما نهیٰ عنه فهو نهی منه (2) .

و أمّا بالنسبة إلیٰ الأئمة - علیهم السلام - فیدلُّ علیه النصوص العامّة فی أنّهم بمنزلة النبی صلّی اللّٰه علیه و آله (3) و أنهم الورثة له (4) و أن طاعتهم مفروضة کطاعته (5) ، و النصوص الخاصّة الکثیرة کما قال غیر واحدٍ من الأکابر ، أو

ص:61


1- 1) الکافی 265/1 .
2- 2) انظر : منهج الصادقین 226/9 ، مجمع البیان ، الصافی 156/5 ، المیزان 204/19 ، الکشاف 503/4 ، القرطبی 17/18 ، الرازی 286/29 ، النیسابوری - هامش الطبری - 39/28 .
3- 3) من ذلک : حدیث المنزلة المتواتر بین المسلمین .
4- 4) انظر : بصائر الدرجات ج3 باب 3 .
5- 5) انظر : بصائر الدرجات ج3 باب 5 .

المستفیضة کما قال الشیخ المجلسی کما سیأتی ، کالصحیح عن أبی عبد اللّٰه علیه السلام : « إنّ اللّٰه عزوجلّ أدّب نبیّه علیٰ محبّته فقال : « وَإِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ» ثم فوّض إلیه فقال عزّ و جل : « مَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا » و قال عز و جل : «مَّنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ » . و إنّ نبی اللّٰه فوّض إلیٰ علی و ائتمنه ، فسلّم و جحد الناس » (1) .

و بثبوت هذه المنزلة لهم صرّح جماعة من الأساطین من الفقهاء و المحدّثین :

قال الوحید البهبهانی - فی معانی التفویض الذی رمی به بعض الرواة - :

« الرابع : تفویض الأحکام و الأفعال ، بأنْ یثبت ما رآه حسناً و یردّ ما رآه قبیحاً ، فیجیز اللّٰه إثباته و ردّه ، مثل : إطعام الجدّ السّدس ، و إضافة الرکعتین فی الرّباعیّات ، و الواحدة فی المغرب ، و النوافل أربعاً و ثلاثین ، و تحریم کلّ مسکر ... » ثم نصّ علی کثرة الأخبار الواردة فی هذا المعنیٰ (2) .

و قال أیضاً : « و قد حقّقنا فی تعلیقتنا علیٰ رجال المیرزا ، ضعف تضعیفات القمیین ، فإنهم کانوا یعتقدون بسبب اجتهادهم اعتقاداتٍ من تعدّی عنها نسبوه إلیٰ الغلو ، مثل نفی السّهو عن النبی ، أو إلیٰ التفویض مثل تفویض بعض الأحکام إلیه صلّی اللّٰه علیه و آله » (3) .

و قال صاحب ( الحدائق ) فی بحثه عن اختلاف الأخبار فی منزوحات البئر : « و احتمل بعض محققی المحدّثین من المتأخّرین کون هذا الاختلاف من باب تفویض الخصوصیّات لهم علیهم السلام ، لتضمّن کثیرٍ من الأخبار أنّ

ص:62


1- 1) الکافی 265/1 .
2- 2) الفوائد الرجالیة : 39 .
3- 3) الحاشیة علیٰ مجمع الفائدة : 700 .

خصوصیّات کثیر من الأحکام مفوّضة إلیهم ، کما کانت مفوّضةً إلیه صلی اللّٰه علیه و آله » (1) .

و قال السید عبد اللّٰه شبّر : « و الأخبار بهذا المضمون کثیرة ، رواها المحدّثون فی کتبهم ، کالکلینی فی الکافی و الصفّار فی البصائر و غیرهما ، و حاصلها : إنّ اللّٰه سبحانه فوّض أحکام الشریعة إلیٰ نبیّه بعد أنْ أیّده و اجتباه و سدّده و أکمل له محامده و أبلغه إلیٰ غایة الکمال . و التفویض بهذا المعنیٰ غیر التفویض الذی أجمعت الفرقة المحقّة علیٰ بطلانه » (2) .

و قال صاحب ( الجواهر ) : « قال فی المسالک : رویٰ العامّة و الخاصّة إنّ النبی صلّی اللّٰه علیه و آله کان یضرب الشارب بالأیدی و النعال ، و لم یقدّره بعدد ، فلمّا کان فی زمن عمر ، استشار أمیر المؤمنین علیه السلام فی حدّه ، فأشار علیه بأنْ یضرب ثمانین جلدة ، معلّلاً بأنه إذا شرب سکر ، و إذا سکر هذی ، و إذا هذی افتریٰ .

و کان التقدیر المزبور عن أمیر المؤمنین من التفویض الجائز لهم » (3) .

و قال الشیخ التقی المجلسی : « ... کما یظهر من الأخبار الکثیرة الواردة فی التفویض إلیٰ النبی و الأئمة صلوات اللّٰه علیهم » (4) .

و قال الشیخ المجلسی : « و ألزم علیٰ جمیع الأشیاء طاعتهم حتی الجمادات ، من السماویات و الأرضیّات ، کشقّ القمر ... و فوّض أمورها إلیهم

ص:63


1- 1) الحدائق الناضرة 365/1 .
2- 2) مصابیح الأنوار فی حلّ مشکلات الأخبار 369/1 .
3- 3) جواهر الکلام 457/41 .
4- 4) روضة المتقین 480/5 .

من التحلیل و التحریم و العطاء و المنع ، و إنْ کان ظاهرها تفویض تدبیرها إلیهم ، « فهم یحلّلون ما یشاءون » ظاهره تفویض الأحکام ، کما سیأتی تحقیقه » (1) .

ص:64


1- 1) بحار الأنوار 342/25 .

التعبّدی و التوصّلی

اشارة

ص:65

ص:66

الواجبات الشرعیّة هی بالضّرورة علی قسمین ، قسم : لا یحصل الغرض منه إلّا إذا اتی به بقصد القربة ، و هذا هو التعبّدی ، و قسم : یحصل منه الغرض بأیّ داعٍ اتی به ، و هو التوصّلی . فمن الأوّل : الصلاة مثلاً ، و من الثانی : دفن المیت المؤمن مثلاً .

فتارةً : نحرز کون الواجب من هذا القبیل أو ذاک ، و اخری : یقع الإشکال فیه ، کما فی العتق فی الکفّارات مثلاً ، حیث یقع الکلام فی سقوط الأمر به بمجرّد الإتیان به ، أو أنه لا بدّ فیه من قصد القربة ... و لأجل وجود هذا القسم من الواجبات فی الشریعة المقدّسة ، عقد هذا البحث ، لأن المفروض عدم وضوح حاله من جهة الأدلّة ، فتصل النوبة إلی مقتضی الاصول .

و الأصل فی هذا المقام : إمّا الأصل اللّفظی ، و إمّا الأصل العملی ، و الأصل اللّفظی ، إمّا داخلی و إمّا خارجی ، کما أن الأصل العملی إمّا شرعی و إمّا عقلی ... و المقصود من الأصل اللّفظی الداخلی هو إطلاق الصیغة ، و من الأصل اللّفظی الخارجی هو الأدلّة اللّفظیة من الکتاب قوله تعالی : «قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّینَ » (1)أو السنّة مثل قوله علیه الصّلاة و السلام :

« لا عمل إلّا بنیّة » (2) .

ص:67


1- 1) سورة الزمر : 11 .
2- 2) وسائل الشیعة الجزء الأول ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات .

فیقع البحث فی جهات :

1 - الإطلاقُ الداخلی

اشارة

و المقصود من ذلک هو البحث عن مقتضی الأصل اللّفظی الداخلی ، بأنْ ننظر هل للصیغة إطلاقٌ یصحّ لأن یکون رافعاً للشبهة و یوضّح حال الواجب من حیث التعبدیّة و التوصلیّة أو لا ؟

و لا بدّ من تحقیق حال الأصل اللّفظی الداخلی فی مرحلتین ، فی مرحلة الثبوت ، و أنه هل یمکن الإطلاق و التقیید أو لا ، ثم فی مرحلة الإثبات .

فإن حصلنا علی أصل لفظی من الداخل فهو ، و إلّا فمن الخارج ، و إلّا فالأصل العملی ، فنقول :

لو شککنا فی واجبٍ من الواجبات أنه توصّلی أو تعبّدی ، فهل من إطلاقٍ یثبت التوصّلیة أو لا ؟

و قبل الإجابة علی ذلک ، لا بدّ من البحث فی مقام الثبوت ، و أنّه هل من الممکن وجود الإطلاق بالنسبة إلی قصد القربة أو لا ؟

إن إمکان الإطلاق موقوف علی إمکان التقیید ، بناءً علی أن التقابل بینهما من قبیل العدم و الملکة ، فکلّ موردٍ لا یمکن فیه التقیید فلا یمکن الإطلاق ، کما فی البصر ، فالمورد الذی لا یمکن فیه البصر لا یمکن فیه العمیٰ و هو عدم البصر فی المورد القابل له - و علی هذا المبنی طرح المحقّق الخراسانی البحث ، لکنّ البحث ینقسم إلی قسمین ، هما : الإطلاق و التقیید بالأمر الأوّل ، و الإطلاق و التقیید بالأمر الثانی ، هذا من جهةٍ .

و من جهةٍ اخریٰ ، فالتقیید تارةً یکون بنحو القید و اخری بنحو الجزء ، بأنْ یکون قصد القربة فی العمل قیداً له أو یکن جزءاً له ، و هذا مقصود (الکفایة) من الشرطیّة و الشطریّة .

ص:68

هل یمکن تقیید المتعلَّق بقصد القربة بالأمر الأول ؟
اشارة

فالکلام الآن فی إمکان تقیید متعلّق الأمر بقصد القربة بنفس الأمر الأوّل .

و قد تعرّض صاحب (الکفایة) (1) هنا لاُمورٍ :

الأمر الأوّل
اشارة

(فی بیان التمییز بین الوجوب التوصّلی و الوجوب التعبّدی) .

فقال رحمه اللّٰه : الوجوب التعبّدی هو الوجوب الذی لا یحصل الغرض من الوجوب فیه إلّا بالإتیان بمتعلَّق الأمر علی الوجه القربی ، و الوجوب التوصّلی هو الوجوب الذی یحصل الغرض من الوجوب فیه بالإتیان بالمتعلَّق بأیّ داعٍ کان .

فالفرق بینهما یکون من ناحیة اختلاف الغرض .

إیراد المحقّق الأصفهانی

و قد أورد علیه المحقّق الأصفهانی (2) بإشکالین تصریحاً و تلویحاً :

أحدهما : إنه لا یوجد أیّ اختلاف و افتراق بین الوجوبین أصلاً ، بل الافتراق هو فی طرف الواجبین ، لأنّ الوجوب - علی أیّ حال - إنما هو لجعل الداعی ، فسواء کان الخطاب : « صلّ » أو « اغسل ثوبک » فقد جاء الوجوب لجعل الداعی لحصول متعلَّق الأمر ، و أنه لیس الغرض من الوجوب إلّا جعل الداعی ، لکنَّ الغرض من أحدهما لا یحصل إلّا مع قصد القربة دون الآخر فإنه مطلق ، فالاختلاف من ناحیة الواجب لا الوجوب .

ص:69


1- 1) کفایة الأصول : 72 .
2- 2) نهایة الدرایة 320/1 .

و الثانی - و هو یظهر من الأوّل - فإنه بناءً علی ما ذکر ، لا وجه لجعل البحث من مباحث الصیغة ، إذ المادّة فی الواجب التوصّلی مطلقة ، و فی التعبّدی مقیّدة ، فیکون الإطلاق هنا من إطلاق الواجب و المادّة ، و لا علاقة للبحث بالصیغة ، فقول (الکفایة) : إطلاق الصیغة هل یقتضی التعبّدیة أو التوصّلیة ؟ بلا وجه .

مناقشة الاستاذ

و قد دفع الاستاذ کلا الإیرادین :

أمّا الأوّل : فبأنّ الوجوب التعبّدی و إن کان لا یختلف عن الوجوب التوصّلی ذاتاً ، لأنّ الوجوب کیفما کان فمعناه واحد ، و لا یختلفان کذلک من ناحیة الغرض الأوّلی للوجوب ، و هو جعل الداعی ، لکنهما مختلفان من جهة الغرض النهائی ، لأن الغرض من جعل الوجوب هو جعل الداعی ، و الغرض من جعل الداعی هو حصول المتعلَّق ، و الغرض من حصول المتعلَّق حصول المصلحة المترتبة علی المتعلَّق ، فلو کانت المصلحة مقیَّدة - أی کانت قائمة بالعمل المأتی به مع قصد القربة - کان الغرض من جعل الداعی هذا العمل المقیَّد ، فما لم یحصل لم یتحقّق الغرض ، و متی لم یحصل جعل الداعی بهذا الغرض لم یتحقق الوجوب ، فلا محالة لا یتحقق الغرض من الوجوب المجعول علی الصلاة - مثلاً - إلّا بالإتیان بها بقصد القربة . فقول صاحب (الکفایة) : بأن التعبّدی هو الذی لا یسقط الأمر فیه - أو لا یتحقق الغرض منه - إلّا إذا أتی به متقرّباً به ، بخلاف التوصّلی الذی هو مطلقٌ من هذه الجهة ، کلام صحیح ... و لا یرد علیه الإشکال ، لوجود الفرق بینهما فی الغرض النهائی و هو المصلحة ، و إن لم یفترقا فی الغرض الأوّلی و هو جعل الداعی .

ص:70

و أما الثانی ، فإنه غفلة منه قدّس سرّه عن مطلبین :

أحدهما : إن الصیغة مرکّبة من المادة و الهیئة ، فقولهم : « إطلاق الصیغة » مشترک ، و لذا یأتی السؤال : هل المراد إطلاق المادّة أو الهیئة ؟

و الثانی : لقد ذکر فی (الکفایة) فی الأمر الأوّل « إطلاق الصیغة » لکنه قال فی الأمر الثالث « إطلاق الصیغة یقتضی التوصّلیة » فلو التفت المحقق الأصفهانی إلی المطلبین لم یشکل علی (الکفایة) بما ذکر .

هذا کلّه فی الأمر الأوّل من الامور التی تعرّض لها فی (الکفایة) .

الأمر الثانی

(فی إمکان أخذ داعی الأمر فی المتعلَّق و عدم إمکانه) .

فذهب المحقق الخراسانی إلی استحالة أخذ داعی الأمر - و هو قصد القربة - فی متعلَّق الأمر ، و تقییده به ، و ذلک لأنه إذا اخذ قصد الأمر فی المأمور به ، لم یکن للمکلَّف القدرة علی الامتثال ، فالمأمور به هو الحصّة الخاصّة من الصّلاة ، و هی المقیَّدة بداعی الأمر ، و حینئذٍ لا یتحقّق الامتثال .

قال شیخنا دام ظلّه :

إنه لم یبیّن وجه استحالة الأخذ ، ثم إنّه قد خلط بین الأخذ من ناحیة المولی و الامتثال من ناحیة المکلّف ، و جعل هذا متفرّعاً علی ذاک ، إذ قال بالنسبة إلی المحذور فی مقام الجعل « لا یمکن الأخذ » و بالنسبة إلی المحذور فی مقام الامتثال « لا یمکن امتثالها » مع تفریع هذا علی ذاک .

قال الاستاذ : و الصحیح أن یقع البحث فی مقامات :

1 - هل یمکن تقیید متعلَّق الأمر بقصد الأمر فی مرحلة تصوّر الآمر ؟

2 - هل یمکن تقیید متعلَّق الأمر بقصد الأمر فی مرحلة الإنشاء ؟

ص:71

3 - هل یمکن تقیید متعلَّق الأمر بقصد الأمر فی مرحلة فعلیّة الأمر ؟

4 - هل یمکن تقیید متعلَّق الأمر بقصد الأمر فی مرحلة الامتثال ؟

المقام الأوّل
اشارة

لا ریب أنّ المولی عند ما یرید أن یأمر بشیء ، فإنّه لا بدّ من أن یتصوّر الأمر و متعلَّق الأمر ، فهل یمکن تصوّر ذلک مع أخذ قصد الأمر فی متعلَّقه أو لا یمکن ؟

حاصل الإشکال هو : إنّ « الأمر » من المفاهیم ذات التعلّق ، و الأمر بالشیء لا یتصوَّر إلّا مع تصوّر الشیء ، فالأمر بالصّلاة لا یمکن تصوّره إلّا مع تصوّر الصّلاة ، و لکن المفروض أن متعلَّق الأمر هو الصّلاة التی تعلَّق الأمر بها مع قصد القربة ، فتصوّر الأمر موقوف علی تصوّر الأمر ، و هذا هو الدور .

و بعبارة اخریٰ : إن متعلّق الأمر هو الصّلاة ، و هی مقیَّدة بقصد الأمر ، فیکون الأمر متعلَّق المتعلَّق ، أی : إن متعلَّق الأمر - الذی هو الصلاة المقیّدة بقصد الأمر - أصبح متعلَّق الأمر ، و لمّا کان الأمر متعلَّق متعلَّق الأمر ، فلا بدَّ من تصوُّره قبل الأمر کما ذکرنا ، فتوقف الأمر علی تصوّر الأمر ، و تصوّر الأمر موقوف علی تصوّر متعلّق الأمر المفروض أخذه - الأمر - فی المتعلَّق .

و هذا الإشکال إنما یلزم فی التعبّدی . أما فی التوصّلی - کالأمر بدفن المیّت مثلاً - فلا ، لأن الأمر به یتوقّف علی تصوّر الأمر ، و تصوّر الأمر یتوقّف علی تصوّر دفن المیّت ، فکان الموقوف هو الأمر ، و الموقوف علیه دفن المیت ، فلا دور .

جواب المشکینی عن إشکال الدور

و لعلّ خیر ما قیل فی حلّ مشکلة الدور هنا جواب المحقق

ص:72

المشکینی (1) ، فإنّه حاول إثبات التغایر بین الموقوف و الموقوف علیه فقال :

بأنّ المأخوذ فی متعلَّق الأمر هو طبیعی الأمر ، و لکن المتصوَّر فی طرف المتعلَّق هو شخص الأمر ، و ذلک ، لأنّ المتعلّق هو الصّلاة المقیَّدة بقصد الأمر ، لکنْ طبیعی الأمر لا شخصه و فرده ، أمّا الأمر المتعلِّق بنفس الصّلاة فهو شخص الأمر و فرده ، و هذا المقدار من الاختلاف کان لرفع الدور .

قال : و نظیر ذلک قول القائل : « کلّ خبری صادق » فإنّه تحلُّ فیه مشکلة الدور من جهة أن شخص هذا الخبر - و هو قوله : کلّ خبری صادق - موقوف علی الحکم و هو « صادق » و أمّا الحکم « صادق » فموقوف علی طبیعة الخبر لا شخص هذا الخبر ، و هنا کذلک ، إذ أنّ تصوّر شخص الأمر المتوجّه إلی الصّلاة موقوف علی تصوّر الصلاة بقصد الأمر ، لکن طبیعی الأمر لا شخصه .

نقد الاستاذ

و أورد علیه الاستاذ بالفرق بین المقامین ، فإن الموضوع فی تلک القضیّة هو طبیعة الخبر ، و شخص هذا الخبر - و هو قوله : کلّ خبری صادق - غیر طبیعة الخبر ، هذا صحیح . أمّا فی مقامنا هذا ، فإنّه - بعد استحالة الإهمال من الحاکم إمّا الإطلاق و إمّا التقیید ، فإنه لمّا یقول « صلّ » بقصد الأمر بالصّلاة ، لا یرید الإتیان بها بقصد مطلق الأمر بنحو اللّابشرط ، حتی الأمر المتوجّه إلی الصیام و الحج مثلاً ، فلیس المراد الصّلاة بقصد الأمر المطلق - کما لم یکن الصّلاة بقصد الأمر المهمل بالنسبة إلی خصوصیات الأمر - فتعیّن أنْ یکون المقصود الإتیان بالصّلاة بقصد شخص هذا الأمر و هو « صلّ » ، فکان شخص الأمر هو المتعلّق ، و هو نفسه متعلَّق المتعلَّق .

ص:73


1- 1) الحاشیة علیٰ کفایة الاصول 107/1 .
حلّ المشکل

ثم إنّ الاستاذ ذکر فی حلّ الإشکال : أنه إنما یلزم الدور لو کان الوجود الواحد موقوفاً و موقوفاً علیه ، أمّا مع تعدّدهما ، بأنْ یکون الموقوف - فی مرحلة التصوّر - شخصاً من الطبیعة ، و الموقوف علیه شخصاً آخر منها فلا ...

و فی مرحلة اللّحاظ و التصوّر ، فإنّ الآمر یتصوَّر أمره الذی هو فعل من أفعاله الاختیاریّة ، فالأمر الصّادر مسبوق بالتصوّر ، و لمّا کان من الامور ذات التعلُّق ، فإنّه یتصوّر متعلَّقه معه ، و المفروض أن متعلَّق المتعلَّق نفس هذا الأمر ، فلا بدَّ من تصوّره أیضاً ، فالشیء الواحد - و هو الأمر - قد تُصوُّر مرّتین ، لکن فی رتبتین ، رتبة المتعلَّق و رتبة متعلَّق المتعلَّق ، فکان الموقوف علیه شخص صورة الأمر ، و الموقوف شخص آخر من صورة الأمر ... فحصل التغایر ، إذ قد حصل للأمر بالصّلاة وجودان تصوّریان ، وجود تصوّری مقوّم للمتعلّق ، و وجود تصوّری محقّق لنفس الفعل الذی هو الأمر فی ظرف إصدار الأمر ، لأنّه یتصوّر الأمر الذی یرید إصداره ، فهو یتصوّر الصّلاة بکلّ حدودها و قیودها مع قصد الأمر بها ، ثم عند ما یرید إصدار الأمر و إیجاد هذا الفعل - أی الأمر ، فإنه من أفعال المولی کما تقدّم - یتصوّر الصّلاة بحدودها - و منها الأمر - فیتصوّر الأمر مرّتین ، و لا محذور فیه ، و لا دور .

قال : و بما ذکرنا یندفع اشکال اجتماع اللّحاظین - الآلی و الاستقلالی - فی الشیء الواحد ، من جهة أن « الأمر » بالشیء ملحوظ باللّحاظ الآلی ، فالأمر فی قوله « صلّ » إنّما یُلحظ باللّحاظ الآلی ، لأن المقصود هو البعث نحو الصّلاة ، لکنَّ المتعلَّق یلحظ دائماً باللّحاظ الاستقلالی ، و المفروض تقیّد الصّلاة بقصد الأمر ، فاجتمع اللّحاظان فی الأمر ، من جهة کونه متعلِّقاً

ص:74

و متعلَّقاً ، و هو محال .

وجه الاندفاع ، إن الملحوظ بالاستقلال هو الأمر الواقع بنحو متعلَّق المتعلَّق ، و الملحوظ بالآلیّة هو الأمر المتعلّق ، کما تقدَّم ، فلا إشکال .

المقام الثانی
اشارة

قال فی (الکفایة) : لاستحالة أخذ ما لا یتأتی إلّا من قبل الأمر فی متعلّقه (1) .

و توضیح وجه الاستحالة هو : إن الأمر یحتاج إلی المتعلَّق ، و نسبته إلیه نسبة العرض إلی الموضوع ، فکما أن العرض محتاج إلی موضوع یقوم به ، کذلک الأمر ، فهو محتاج إلی ما یتعلَّق به ، وعلیه ، فیکون الأمر متأخّراً رتبةً عن المتعلّق کما هو الحال فی العرض بالنسبة إلی موضوعه ، فلو ارید فی مرحلة الجعل و الإنشاء أن یؤخذ الأمر فی متعلَّقه ، لزم کونه فی مرتبته ، فیصیر المتأخر متقدّماً و المتقدّم متأخّراً ، و هما متقابلان ، و اجتماع المتقابلین محال .

هذا من جهة .

و من جهة اخریٰ : إن الأمر موقوف علی متعلَّقه توقّف العرض علی معروضه ، و لکنْ لو اخذ الأمر فی المتعلَّق - کما هو المفروض - توقّف المتعلَّق علی الأمر ، و هذا هو الدور .

جواب المشهور عن الدور

و قد أجاب المحقّقون عن ذلک بالمغایرة بین الموقوف و الموقوف علیه ، بأنّ الموقوف هو الأمر بوجوده الخارجی ، و الموقوف علیه هو الأمر بوجوده التصوّری ، و ذلک ، لأنّ المحقّق للبعث هو الوجود الخارجی للأمر ،

ص:75


1- 1) کفایة الأصول : 72 .

أمّا الأمر الذی أخذ فی المتعلَّق کالصّلاة مثلاً و جعلت مقیَّدة بقصده ، فهو الأمر الذی یتصوّره المولی لا الأمر الخارجی .

إشکال المحقق الأصفهانی علی المشهور

و أورد علیه المحقق الأصفهانی (1) بأنّه لیس للأمر وجود غیر وجود المتعلَّق ، حتی یقال بأنّ هذا غیر ذاک ، بل إنَّ الأمر موجود بعین وجود متعلَّقه فی مرحلة الجعل و الإنشاء ، و ذلک لأنَّ « الأمر » من الامور ذات الإضافة و التعلّق کالإرادة ، و الحبّ ، و البغض ، و الشوق ، و العلم ، و البعث ... - فلا یعقل الأمر بدون المأمور به ، کما لا یعقل الإرادة بلا مراد ... و هکذا ... ففی جمیع هذه الحقائق لا بدَّ من وجود الطرف ، و کلٌّ منها موجود بوجوده ، فالمراد بالذات - الذی موطنه النفس - هو المقوِّم للإرادة ، و هکذا الحال فی الاشتیاق و نحوه ... و حیث أنّ الوجود النفسانی للطَّرف - لا الوجود الخارجی له هو المقوّم للأمر ، فإنَّ الأمر و متعلَّقه وجودهما واحد ، و یستحیل أن یکون لهما وجودان ، لأنّ حقیقة الأمر هو البعث ، و لا یعقل البعث بلا مبعوث إلیه ، بل المبعوث إلیه الذی هو فی النفس و وجوده بالذات - و له وجودٌ بالعرض ، و هو المبعوث إلیه الذی یتحقق فی الخارج ، المسقط للأمر - موجود مع البعث بوجودٍ واحد ... فجواب القوم - من أنّ وجود الأمر موقوف علی وجود المتعلّق ، و الأمر الموجود فی المتعلَّق غیر الأمر الذی یتعلَّق بالمتعلَّق - غیر صحیح ، لأنّه یبتنی علی ثبوت وجودین ، و هو باطل .

جواب الدور من الأصفهانی

فالجواب الصحیح عن إشکال الدور ، قد ظهر ممّا ذکره هذا المحقق عن

ص:76


1- 1) نهایة الدرایة 324/1 .

جواب القوم ، و ذلک لأنه لیس هنا وجودان أحدهما موقوف و الآخر موقوف علیه ، بل وجود واحدٌ ، فلا دور .

رأی الاستاذ فی الجواب

و قد ارتضی شیخنا هذا الجواب فی الدّورة السابقة . أمّا فی الدّورة اللّاحقة ، فذکر أن له تأمّلاً فیه ، لأنّ فی الأخبار الواردة عن أهل العصمة إنّ اللّٰه تعالیٰ عالم إذ لا معلوم ، و قادر إذ لا مقدور . (1) فتأمّل .

جواب المحقق الأصفهانی عن لزوم اجتماع المتقابلین

و أمّا الإشکال بلزوم اجتماع المتقابلین - التقدّم و التأخّر - المطروح من المحقق الأصفهانی ، فتوضیحه :

أوّلاً : إن المفاهیم الإضافیة علی قسمین ، فمنها : ما لا تقابل بینهما ، و من الممکن اجتماعهما ، کالحبّ و المحبوب ، فإنهما متضایفان ، و یمکن وجودهما فی مکانٍ واحدٍ ، بأن یکون الشیء الواحد محبّاً و محبوباً معاً ، و منها :

ما یکون بینهما تقابل و لا یجتمعان فی الوجود ، و التقدّم و التأخر من هذا القبیل .

و ثانیاً : إن للتقدّم و التأخّر أقساماً ، و منها : التقدّم و التأخّر الطبعی ، و المراد منه أنْ یکون المتأخّر موقوفاً بالطبع علی المتقدّم و لولاه لم یوجد ، و المتقدّم مستغنٍ فی الوجود عن المتأخّر ، کالواحد و الاثنین .

فالإشکال فیما نحن فیه هو : أنه إذا اخذ قصد الأمر فی المتعلَّق لزم اجتماع المتقابلین بالطبع ... کما تقدَّم .

و قد أجاب عنه المحقق المذکور - و إلیه ترجع سائر الأجوبة فی المقام -

ص:77


1- 1) الکافی 107/1 کتاب التوحید ، باب صفات الذات .

و حاصله : إن ما هو المتقدّم طبعاً غیر ما هو المتأخّر طبعاً ، و توضیحه :

إنّ الأمر لا یکون داعیاً بوجوده الخارجی أبداً ، و الداعویّة منه محال ، إذ الداعی لا بدَّ و أن یکون مؤثّراً فی إرادة العبد کی یتحرّک نحو الامتثال ، و لا یکون کذلک إلّا إذا حصل الداعی فی وعاء النفس ، و الوجود الخارجی لا یأتی إلی عالم النفس حتی یؤثّر فی الإرادة ، بل المؤثّر فیها هو الوجود العلمی للشیء ، فإذا علم الإنسان بوجود الماء - و هو عطشان - تحرّک نحوه ، و أما إذا کان بجنبه و هو لا یعلم به فلا یتحرّک إلیه ، فالمؤثر فی الإرادة و یکون له داعویّة هو الوجود العلمی لا الخارجی .

وعلیه ، فالداعویّة هی شأن الوجود العلمی للأمر ، و لا تتحقّق الصّلاة بقصد الأمر إلّا من ناحیة الأمر الموجود بالوجود الذهنی ، فالأمر الذی اخذ فی المتعلَّق و وجب علی المکلَّف قصده هو الأمر العلمی ... بخلاف الأمر الذی یصدر من المولی متعلِّقاً بالصّلاة مثلاً ، فإنه أمر بوجوده الخارجی الواقعی .

فالوجود الخارجی للأمر هو المتعلِّق بالصّلاة ، و الذی جاء قیداً للصّلاة و وجب قصده هو الوجود العلمی للأمر ، فاندفع اشکال اجتماع المتقدّم و المتأخّر ، لأن المتقدّم غیر المتأخّر ، و لیس بینهما تقدّم و تأخّر طبعی .

نقد الجواب

و أشکل علیه شیخنا دام بقاه - تبعاً للمحقق العراقی (1) - : بأنه غیر رافع للإشکال ، لأنه إن کان المأخوذ فی متعلَّق الأمر - و هو الصّلاة - هو الصّورة العلمیّة للأمر مطلقاً ، أی و إنْ لم تکن الصورة العلمیّة مطابقة للواقع ، بأن یکون جهلاً مرکَّباً ، فما ذکره تام ... لأن الأمر بوجوده الخارجی - و هو حکم المولی

ص:78


1- 1) بدائع الأفکار 229/1 .

و بعثه نحو الصّلاة - متأخّر طبعاً عن الصّلاة المقیّدة بقصد الأمر بوجوده العلمی غیر المعتبر مطابقته للواقع . و أمّا إن کان المأخوذ هو الصّورة العلمیّة المطابقة للواقع ، بأنْ یکون الصورة العلمیة لنفس ذاک الأمر الصّادر من المولی هی المحرّک و الباعث ، فالإشکال باق ، لأنّ الواقع غیر محتاجٍ إلی صورةٍ علمیّة مطابقة إلیه ، لکنَّ الصورة العلمیّة المطابقة له محتاجة له ، فما لم یتحقق أمر واقعی فلا تحصل صورة علمیّة له فی الذهن ، إذن ، فالصّورة العلمیّة متأخرة بالطبع عن الواقع ، و هو الأمر الصادر ، فهی موقوفة علیه ، لکنَّها بما أنها مأخوذة فی متعلَّق الأمر الصّادر - و المتعلَّق مقدَّم رتبةً علی الأمر - فهی متقدّمة ، فلزم اجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد .

دفاع السید الاستاذ عن جواب المحقق الأصفهانی

لکنّ السیّد الاستاذ - دام ظله - نصَّ (1) علیٰ أن الإنصاف تمامیّة جواب المحقق الأصفهانی عن محذور اجتماع المتقابلین و عدم صحّة الإشکال المذکور ، فقال ما حاصله : إن ما یؤخذ فی متعلَّق الأحکام هو المفاهیم و الطبائع لا المصادیق الخارجیّة ، و العلم الذی یکون فانیاً فی متعلَّقه هو مصداق العلم و الفرد الخارجی منه ، و أما مفهوم العلم و طبیعته فلیس کذلک ، فإن العلم الطریقی بحسب مفهومه لیس فانیاً فی المعلوم و مرآةً له بل یکون متعلَّقاً للنظر الاستقلالی ، وعلیه ، فقصد الأمر إذا ثبت أنه معلول للأمر بوجوده العلمی فیکون مأخوذاً فی المتعلَّق بهذه الخصوصیة ، فالمتعلَّق یکون هو الفعل بقصد الأمر المعلوم ، و لا یخفیٰ أن العلم المأخوذ فی المتعلَّق لیس مصداق العلم کی یقال إنه فانٍ فی متعلّقه ، بل المأخوذ مفهومه و هو لا یفنی فی متعلَّقه

ص:79


1- 1) منتقی الاصول 440/1 .

کما عرفت ، فالقصد متفرّع فی مرحلة موضوعیّته عن الأمر المعلوم لا الأمر الخارجی ، فلا خلف . فالإشکال علیه ناشئ عن الخلط بین مفهوم العلم و مصداقه . فما أفاده المحقق الأصفهانی فی دفع المحذور لا نری فیه إشکالاً و لا نعلم له جواباً .

أقول :

إلّا أنّ الظاهر عدم ورود ما أفاده علیٰ التقریب المتقدّم عن شیخنا الاستاذ للإشکال علیٰ المحقّق الأصفهانی ، لأنّ محور الکلام فیه ضرورة وجود أمر واقعی لتحصل الصورة الذهنیّة عنه ، فیکون متقدّماً بالطبع و هی متأخرة عنه کذلک ، و حینئذٍ یلزم المحذور . فتأمّل .

لزوم الدور بتقریب المیرزا

و قد سلک المحقّق النائینی طریقاً آخر لبیان لزوم الدور من أخذ قصد الأمر فی المتعلَّق ، سواء فی مرحلة التصوّر و الإنشاء و الامتثال ... و حاصل کلامه (1) هو :

إن الأحکام الشرعیّة کلّها قضایا حقیقیّة ، و معنی القضیّة الحقیقیّة کون موضوع الحکم مفروض الوجود ، فلا بدّ من فرض وجود « العقد » حتی یتوجّه الأمر بالوفاء به ، کما هو الحال فی قوله تعالیٰ «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » (2)حیث الأمر بالوفاء حکم ، و متعلَّقه « الوفاء » و موضوعه هو « العقد » فیکون متعلَّق الوجوب هو « الوفاء » و « العقد » متعلَّق المتعلَّق ...

فالعقد و هو الموضوع - لا بدّ فی مرحلة الإنشاء من فرض وجوده فرضاً مطابقاً

ص:80


1- 1) أجود التقریرات 158/1 - 159 .
2- 2) سورة المائدة : 1 .

للواقع ، و علی هذا ، فإنّ القضیّة - کما فی الآیة المبارکة - تؤول إلی قضیّة شرطیّة مفادها : إذا تحقق عقد و حصل فی الخارج فالوفاء به واجب ... فأصبح الموضوع شرطاً ، و الشرط موضوعاً .

و علی هذا الأساس ، فإنّ الصّلاة بقصد الأمر هی متعلَّق الأمر ، و الأمر متعلَّق المتعلَّق ، فهو الموضوع ، و إذا کان موضوعاً ، لزم فرض وجوده بفرضٍ مطابقٍ للواقع کی یتوجَّه الحکم علیه ، بأن یکون قبل الحکم ، فیلزم أنْ یکون وجود الأمر مفروغاً عنه ثم جعل الحکم علیه ، و کون وجود الشیء مفروغاً عنه قبل وجوده محال .

و علی الجملة ، فمن الناحیة الکبرویّة : لا یکون فی متن الواقع وجودٌ مفروغاً عنه قبل وجوده ، و نحن فی القضایا الحقیقیّة لا بدّ و أن نری الموضوع و متعلَّق المتعلَّق مفروغاً عنه وجوده ، حتی یأتی الحکم و التکلیف علیه .

و هنا ، فإنّ الشارع یرید الأمر بالصّلاة مع قصد الأمر ، بأن یکون قصد الأمر جزءاً للصّلاة أو شرطاً ، فنفس الأمر متعلَّق هذا المتعلَّق للتکلیف ، فیجب أن یکون وجود الأمر مفروغاً عنه عند الشارع حتی یجعل الأمر ، و هذا یستلزم أن یکون الشیء قبل وجوده مفروغاً عن وجوده ، و هو محال .

جواب المحاضرات

و أجاب فی (المحاضرات) (1) عمّا ذکره المیرزا - رحمه اللّٰه - بما حاصله إنکار الکبریٰ ، و توضیح ذلک :

إن ملاک أخذ الموضوع مفروض الوجود فی القضیّة الحقیقیة ، المستلزم لکونه شرطاً لفعلیّة التکلیف ، إمّا هو الظهور العرفی و إمّا هو حکم العقل بذلک .

ص:81


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 2:158 .

أمّا الظهور العرفی فبأنْ یفهم العرف من القضیّة أن الموضوع قد اخذ مفروض الوجود ، کما فی «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » حیث یفهم أن العقد موضوع للحکم الذی رتّبه الشارع علی فرض وجوده ، و هو وجوب الوفاء به ، لا أنه قد ترتّب الحکم علی موضوع یجب علی المکلّف تحصیله .

و أمّا الحکم العقلی ، فهو حیث یکون القید المأخوذ فی الواجب غیر اختیاری ، و بما أنه لا یعقل تعلّق التکلیف بغیر المقدور ، فلا محالة یکون مأخوذاً علی نحو مفروض الوجود .

ففی الموردین المذکورین یوجد الملاک لأخذ الموضوع مفروض الوجود .

و أما فیما عداهما ، فلا دلیل علی أن التکلیف لا یکون فعلیّاً إلّا بعد فرض وجود الموضوع ، و لذا قلنا بفعلیّة الأحکام التحریمیة قبل وجود موضوعاتها ، بمجرّد تمکّن العبد علی الإیجاد ، کالتحریم الوارد علی شرب الخمر ، فإنه فعلی و إنْ لم یوجد الخمر خارجاً ، إنْ کان المکلّف قادراً علی إیجاده بإیجاد مقدماته ، و لذا یتوجّه التکلیف علیه ، بخلاف الزوال فی « صلّ صلاة الظهر » مثلاً ، فإن المکلّف لا یتمکّن من إیجاده و لا بالشروع بمقدّماته .

(قال) : و ما نحن فیه من القسم الثالث الذی لا دلیل علی ضرورة فرض الموضوع ، لأنّه لا ربط للعرف بهذه الناحیة ، و لا ملزم من العقل بذلک ، فإنّ الأمر الذی کان متعلّقاً للداعی یحصل بمجرّد إنشاء المولی تکلیفه ، و إذا حصل أمکن الامتثال بداعیه و لا حاجة بعد ذلک إلی أخذه مفروض الوجود ، وعلیه ، فالمکلَّف حین الامتثال یجد أمراً موجوداً قد حصل من إنشاء التکلیف ، فیأتی بالفعل بداعی ذلک الأمر ، و لا داعی إلی فرض وجود الأمر حین الإنشاء ، کما

ص:82

کان الأمر کذلک فی سائر القیود غیر الاختیاریة .

و علی هذا ، فلا یلزم من أخذ قصد الأمر فی متعلَّق الأمر المحذور الذی ذکره المیرزا رحمه اللّٰه .

نقد الاستاذ هذا الجواب

و قد تکلّم الاستاذ دام بقاه علی هذا الجواب :

فأجاب عنه فی الدّورة اللّاحقة : بأنه إنما یتمشّی مع إنکار رجوع القضیّة الحقیقیّة إلی القضیّة الشّرطیة ، وعلیه یمکن للمولی أن یأمر بالصّلاة بقصد الأمر مع عدم وجود الأمر الذی کان جزءاً للموضوع أو شرطاً ، و لکنّ التسلیم بذلک ، ثم القول بعدم لزوم المحذور ، جمعٌ بین المتنافیین ، و قد جاء فی (المحاضرات) (1) التصریح بکون القضیّة الحقیقیّة قضیّة شرطیّة ، و أن الموضوع مقدَّم و الحکم تال ، و یستحیل أن یتکفّل الجزاء الشرطَ وضعاً و رفعاً ، و لیس التالی إلّا مترتّباً علی المقدَّم ، و علی هذا الأساس رفع - رحمه اللّٰه التنافی بین الدلیل الحاکم و الدلیل المحکوم ، بمناط أنّ الحاکم ناظرٌ للموضوع فی المحکوم ، و یستحیل أن یکون المحکوم ناظراً لموضوع نفسه ، لوقوع المحکوم فی رتبة الجزاء ، و هی متأخرة عن رتبة الشرط و المقدَّم .

فإذا کانت القضیّة الحقیقیة شرطیّةً ، و الموضوع فی القضیة شرط ، فکیف یعقل وجود المشروط و فعلیّته قبل وجود الشرط ، و فعلیة الجزاء قبل فعلیّة المقدَّم ؟

إن المفروض - هنا - وقوع الأمر موضوعاً فی الأمر بالصّلاة بقصد الأمر ، و المفروض أن الأمر المتعلّق مشروط ، فکیف یعقل وجود الشرط و المشروط

ص:83


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 119/3 بحث الترتب .

بوجود واحد ؟

و أمّا فی مرحلة الفعلیّة ، فإشکال المیرزا وارد ، فلا یمکن أن یکون الأمر فعلیّاً مع أخذ قصد الأمر فی المتعلّق ، لأن نسبة الموضوع إلی الحکم نسبة الشرط إلی المشروط ، و یستحیل تحقق الفعلیّة للحکم بدون تحقق الفعلیّة للموضوع ، و فعلیّة الموضوع - بما أنه شرط - مقدّمة علی فعلیّة المشروط ، فیلزم من أخذ قصد الأمر فی المتعلَّق وجود الشیء قبل وجود الشیء ، و فعلیّته قبل فعلیّته ، و هذا و إنْ لم یکن دوراً ، لکنْ فیه ملاک الدور ... و جواب (المحاضرات) عنه قد عرفت ما فیه .

و أجاب عنه فی الدورة السّابقة : بأنّ هناک ملاکاً ثالثاً لجعل الموضوع مفروض الوجود ... و توضیحه :

إن الحکم یترتب فی مقام الجعل علی الوجود التقدیری للمتعلَّق ، لا علی وجوده الخارجی ، و نسبة الحکم إلی المتعلَّق هی نسبة المحمول إلی الموضوع ، و من غیر الممکن أن یلحظ الحاکم الحکمَ فی ظرف لحاظه للموضوع ، فهو فی قوله «زید قائم» قد لحظ زیداً مجرّداً عن القیام ، و بلا لحاظٍ للقیام فی تلک المرتبة ، ثم حمل علیه القیام بعد لحاظه فی المرتبة التالیة ، إذن ، الحاکم یری الصّلاة مجرّدةً عن الحکم ، ثم یرتّب الحکم علیها و یقول : الصّلاة واجبة .

و علی الجملة ، فإنه یستحیل وجود الحکم فی مرتبة المتعلَّق ... فإذا کان الحکم متعلّق المتعلَّق ، فلا محالة یستحیل وجوده فی مرتبة المتعلَّق ، فلو أخذ فی المتعلّق کان مفروض الوجود لا محالة ... فلمّا نقول : الصّلاة بقصد الأمر مأمور بها ، کان قولنا «مأمور بها» هو المحمول فی القضیّة ، و هو لیس فی

ص:84

مرتبة «الصّلاة بقصد الأمر» فإنّه لا بدّ و أنْ یکون مفروض الوجود ، فالمناط فی فرض الوجود غیر منحصر بما ذکره ، بل له مناط ثالث .

و بعبارة أخری : عند ما یأمر بالصّلاة بقصد الأمر ، فإنّ « الصلاة بقصد الأمر» هو المتعلّق ، فیلزم أن یراه و یلحظه المولی قبل ترتیب الحکم علیه ، و لکنّه لمّا یلحظ المتعلَّق «الصلاة» یلحظ معه متعلَّقه «الأمر» ، مع أنّ الأمر لم یرتَّب بعدُ ، فلا بدّ و أنْ یکون الملحوظ هو وجوده الفرضی التقدیری .

فالمناط لفرض الوجود :

1 - الفهم العرفی

2 - الحکم العقلی

3 - إن فی کلّ موردٍ یکون القید المأخوذ فی الموضوع غیر موجودٍ حقیقةً فی رتبة الموضوع ، و کان أخذه فی الموضوع لازماً ، فلا یکون أخذه إلّا بنحو فرض الوجود ...

و ما نحن فیه من القسم الثالث ... فالإشکال یعود .

و تلخّص : عدم تمامیّة جواب (المحاضرات) .

جواب المحقق الأصفهانی عن تقریب المیرزا

و أجاب المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه (1) عن تقریب المیرزا ، بأن الأمر المأخوذ فی المتعلّق أی الصَّلاة ، المعبَّر عنه ب «متعلَّق المتعلَّق» لیس هو الأمر و الحکم المترتّب علی المتعلَّق ، بل الذی اخذ فی المتعلَّق هو الصّورة العلمیّة للأمر ، و المترتب علی المتعلَّق هو نفس الأمر ، و لا محذور فی حصول العلم بالأمر قبل حصول الأمر .

ص:85


1- 1) نهایة الدرایة 324/1 .
نقد هذا الجواب

و مما ذکرنا سابقاً من ضرورة المطابقة بین الصّورة العلمیّة و بین الواقع ، یظهر سقوط هذا الجواب ، لأنّ الصّورة العلمیّة للأمر إن طابقت الواقع - و هو الأمر الخارجی - لزم تقدّم الأمر الخارجی الواقعی علی الصّورة العلمیّة ، و المفروض عدم ترتّبه بعدُ ، فیعود إشکال اجتماع التقدّم و التأخر بالطبع فی الشیء الواحد .

المقام الثالث
اشارة

و فی مرحلة الفعلیّة أیضاً یوجد المحذور :

فأوّلاً : ما ذکره المیرزا

من أنّ فعلیّة کلّ حکم تتوقّف علی فعلیّة موضوعه « متعلَّق المتعلَّق » و ما لم یصر فعلیّاً فلا یصیر الحکم فعلیّاً ، و الحاصل : إن فعلیّة الموضوع شرط لفعلیّة الحکم ، فلو قال : یجب شرب الماء ، توقّف فعلیّة التکلیف بالشرب علی فعلیة الماء و وجوده .

فلو أخذ الحکم فی الموضوع لزم کون الشیء شرطاً لفعلیة نفسه ، فتوقّف فعلیّة الشیء علی فعلیّة نفسه .

جواب المحقق الأصفهانی عن کلام المیرزا غیر مفید

و کان محصّل جواب المحقق الأصفهانی : إن المأخوذ فی المتعلّق هو الوجود العلمی ...

و قد ظهر عدم تمامیّة هذا الجواب .

إلّا أن یقال : بأنَّ فعلیّة الحکم موقوفة علی فعلیّة موضوعه فی جمیع الموارد إلّا إذا کان الموضوع نفس الحکم ، مثل ما نحن فیه ، فإنّه فی هذه

ص:86

الصّورة لا ضرورة لفعلیّة الموضوع قبل الحکم کی یلزم فعلیّته قبل فعلیّة نفسه .

و ثانیاً : ما یستفاد من کلام المحقّق الخراسانی

و أوضحه المحقّق الأصفهانی : إن العلّة إنّما تکون علّةً للمعلول ، و یستحیل أن تکون علّةً لعلیّة نفسها ، فلو أخذ قصد الأمر فی متعلَّقه لزم المحذور المذکور . توضیح الملازمة : إن تعلّق الأمر بالصّلاة مع قصد القربة معناه : تعلّقه بها و بداعویّة الأمر إلیها ، و ذلک ، لأنّ کلّ أمرٍ یدعو إلی متعلّقه ، فلو ترتّب الأمر و الحکم علی الصّلاة مع داعویّة الأمر إلی الصّلاة ، فقد تعلّق الأمر بداعویّة نفسه و یلزم أن یکون علّةً لعلیّة نفسه .

و قد ذکر المحقق الأصفهانی هذا المحذور فی المقام الثانی ، و أشار إلی تعرّض صاحب الکفایة له فی المقام الثالث . فهو یرد علی کلا المقامین .

جواب المحقق الأصفهانی عن کلام الکفایة

ثم أجاب رحمه اللّٰه عنه : بأنّ قصد الأمر إنْ اخذ علی نحو الشرطیّة أو الجزئیّة فالإشکال لا دافع له ، أمّا إذا کان المتعلّق حصّةً ملازمةً لقصد الأمر ، فهو مندفع ، و من الواضح أن للصّلاة حصصاً ، منها : الصّلاة الفاقدة لقصد الأمر ، و منها : الصلاة فی ظرف وجود قصد الأمر ، و هذه هی المتعلّق للأمر ، و إذ لا تقیّد فلا علیّة فالإشکال یندفع (1) .

و هذا هو الذی یعبِّر عنه المحقّق العراقی بالحصّة التوأمة ، فالحصّة التی کانت توأماً لقصد الأمر هی التی قد أمر بها المولی ، فلم یدخل قصد الأمر تحت الأمر لیرد الإشکال ...

ص:87


1- 1) نهایة الدرایة 324/1 - 325 .
نقد الاستاذ

و تنظّر الاستاذ فی هذا الجواب ، بأنّ المفروض أنّا لا ندری هل المورد من الواجب التعبّدی أو التوصّلی ، فإنْ کان التقیید بقصد الأمر ممکناً تمّ الإطلاق عند الشکّ ، و أمّا مع المحذور المذکور فأصل التقیید غیر ممکن ، فکیف یتمسّک بالإطلاق ؟

فإنْ تمّ حلّ المشکل عن طریق الحصّة التوأمة ، و أنه لا تقیید فی البین ، کان للإطلاق مجال .

لکن المشکلة هی : إن المولی فی مقام البیان و لیس بمهملٍ لأمره و خصوصیات متعلَّق أمره ، فإن کانت انقسامات المأمور به و خصوصیّاته دخیلةً کان التقیید قهریّاً و إلّا فالإطلاق محکّم ، و هنا : إن کان لقصد الأمر فی المتعلَّق دخلٌ فی الغرض لزم أخذه - کما أن الإیمان إن کان له دخل فی الغرض من العتق لزم أخذه - و إلّا فلا . لکنّ المفروض أنه له دخلٌ ، فلا بدَّ من أخذه علی وجه التقیید . فما ذکره هذا المحقق لا ینفع .

و حاصل ما ذکره : إن قصد الأمر لیس شرطاً و لا شطراً ، بل إنّ متعلَّق الأمر هو الحصّة .

و حاصل إشکالنا علیه : إن قصد الأمر من الانقسامات ، و الإهمال محال ، فإنْ اخذ فهو التقیید و إنْ رفض فالإطلاق ... فالإشکال باق .

المقام الرّابع
اشارة

و هو مرحلة الامتثال ، و فیها وجوه من المحذور :

الأول : ما جاء فی کلام صاحب (الکفایة) و المحقق النائینی (1) و هو :

ص:88


1- 1) کفایة الأصول : 72 - 73 ، أجود التقریرات 159/1 .

إن قصد الأمر متأخّر عن أجزاء الصّلاة و شرائطها ، فهو متوقّف علیها ، فلو کان «الامتثال» أحد أجزاء الصّلاة و شرائطها ، لزم اجتماع التقدّم و التأخّر فیه ، إذن ، یستحیل إطاعة مثل هذا الأمر فی مرحلة الامتثال .

و الثانی : إنه لا قدرة علی امتثال الأمر « بالصّلاة بقصد الأمر» ، و ذلک لعدم تعلّق أمرٍ بالصّلاة ، و کلّ ما لم یتعلَّق به أمر فلا قدرة علی الإتیان به بقصد الأمر ، و توضیح ذلک هو : إنه لو فرض کون متعلَّق الأمر هو الصّلاة بقصد الأمر ، فلا محالة لا أمر بالنسبة إلیٰ نفس الصّلاة ، و کذلک الحال فی کلّ مرکّب ، فإنه إذا تعلَّق الأمر بالمرکّب فقد تعلَّق بمجموعة الأجزاء ، فلا یکون هناک لکلّ جزءٍ جزءٍ منها أمر علی حدة ، وعلیه فالصلاة وحدها لا أمر بها ، و الصّلاة مع قصد الامتثال لا یمکن الإتیان بها ، لعدم إمکان الإتیان بقصد الامتثال المأخوذ فیها - بقصد الامتثال .

و الثالث : إن قصد الأمر إمّا هو قید للصّلاة ، و إمّا هو جزء من أجزائها .

فإنْ کانت الصّلاة المقیَّدة متعلَّق الأمر ، کانت ذات الصّلاة غیر مأمورٍ بها کی یمکن للمکلَّف الإتیان بها بقصد أمرها ، و إنْ کانت الصَّلاة مرکّبةً من قصد الامتثال و غیره من الأجزاء ، فالامتثال محال کذلک ، لأنّ الأمر دائماً محرّک و داعٍ نحو متعلَّقه ، و لا یعقل تحریک الأمر و داعویّته لداعویّة نفسه ، إذ معنیٰ ذلک أن یصیر الشیء علّةً لعلیّة نفسه .

حلّ الاشکالات من المحقّق العراقی

و قد ذکر فی (المحاضرات) (1) تبعاً للمحقق العراقی طریقاً لرفع جمیع هذه المحاذیر ، و حاصل کلامه :

ص:89


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 164/2 .

أوّلاً : إنّه لا محذور فی أنْ یکون بعض أجزاء الواجب تعبّدیاً و بعضها الآخر توصّلیّاً ، و إنْ لم یکن الواجب واجباً بأصل الشرع - إذ لا یوجد فی الشریعة هکذا واجب - بل بوجوبٍ عرضی کالنذر ، بأن یکون مجموع الصّلاة و إعطاء المال للمسکین متعلّق النذر .

نعم ، قد وقع فی الشرع کون الأجزاء کلّها تعبّدیة ، لکنّ قسماً من الشرائط توصّلی ، کالصّلاة ، فأجزاؤها تعبدیّة کلّها ، و شرائطها بعضها توصّلی کالطّهارة من الخبث ، و بعضها تعبّدی کالطّهارة من الحدث .

و ثانیاً : إنّ الأمر المتعلّق بالمرکّب ینحلُّ بحسب التحلیل إلی الأمر بأجزائه ، فیکون کلّ جزءٍ من أجزائه التعبدیّة قد اتّخذ حصّةً من ذلک الأمر المتعلِّق بالمجموع ، و أصبح مأموراً به بأمرٍ ضمنی .

و بعد هذا ، فإذا لحظنا الصَّلاة بقصد الأمر وجدناها مرکّبةً من أجزاء ، أحدها : قصد الأمر ، لکنّ هذا الجزء منها توصّلی و بقیّة الأجزاء تعبدیّة ، فکان الأمر الضمنی بتلک الأجزاء بنحو التعبدیّة و یعتبر الإتیان بها بقصد الامتثال ، و أمّا قصد الامتثال ، فلیس بتعبّدی بل هو توصّلی ، و لا یحتاج سقوط الأمر به إلی قصد امتثاله .

فبهذا البیان تندفع جمیع الإشکالات :

(أمّا الأوّل) فوجه اندفاعه هو : إن قصد الامتثال إنما یکون متأخّراً عن الأجزاء و الشرائط إذا ارید منه قصد امتثال المجموع ، أمّا لو أرید منه قصد امتثال الأمر الضمنی کما ذکر ، فذلک لا یقتضی تأخّره - أی قصد امتثال الأمر - عن جمیع الأجزاء و الشّرائط ، لأنّ قصد امتثال کلّ جزءٍ بخصوصه یکون متأخّراً عن ذلک الجزء فقط دون بقیّة الأجزاء ، و لا مانع من لحاظ شیئین -

ص:90

أحدهما متقدّم علی الآخر - شیئاً واحداً ، ثمّ توجّه الأمر النفسی الواحد إلیهما ، کما تقدَّم فی بحث الصحیح و الأعم .

(و أمّا الثانی) فلأن عدم القدرة علی الامتثال إنما هو لو أراد المکلَّف الامتثال للأمر بالصّلاة بداعی أمرها النفسی الاستقلالی ، و أمّا لو أراد الامتثال لها بداعی أمرها الضمنی فهو مقدور له بعد الأمر ، و القدرة المعتبرة فی متعلّقات الأحکام إنما هی القدرة حین امتثال الأمر و إطاعته ، لا حین صدور الأمر و جعله .

(و أمّا الثالث) فإنه إنما یلزم لو کان الإتیان بالصّلاة بقصد الأمر المتعلّق بها کلّها ، لکنْ قد تقدَّم أنّ المکلَّف یأتی بالتکبیرة و القراءة و الرکوع و السجود ... بمحرکیّة الأوامر الضمنیّة المتعلّقة بها - إذ قد توجّه إلی کلّ منها أمرٌ یخصّه فکان دعوة الأمر و المأخوذة فی الصَّلاة - و هی متعلّق الأمر النفسی - داعویّة الأمر الضمنی ، فأصبح الأمر النفسی داعیاً إلی إیجاد متعلّقه و هو ذات الصّلاة ، مع داعویّة أمرها الضمنی ، فلا تحصل دعوة الأمر إلی داعویّة نفسه .

نظر الأستاذ

و تنظّر شیخنا الاستاذ فی هذا الطّریق الذی حاصله تعدّد الأمر بانحلاله إلی الأوامر الضمنیّة ، فقال دام ظلّه : إن هذا الانحلال اعتبار عقلی محض ، و لا واقعیّة له ، کی تنحلّ المشکلات عن هذا الطریق ، و ذلک : إنّه لا توجد أغراض متعدّدة فی المرکّب الارتباطی ، بل الغرض واحد ، و إذا کان الغرض واحداً ، فالإرادة أیضاً واحدة - لأن وحدتها أو تعدّدها تابع لوحدة الغرض و تعدّده - و إذا اتّحدت الإرادة استحال تعدّد الأمر ، لأن نسبته إلیها نسبة المعلول إلی العلّة .

ص:91

و هذا هو الإشکال الأوّل .

ثم إنّ المحقّق العراقی - و کذا فی (المحاضرات) - قد التفت إلی أن بعض هذه الأوامر الضمنیّة التی ذکرها متقدّم علی البعض الآخر رتبةً ، فلمّا یقول : کبّر بقصد الامتثال ، الامتثال لأیّ شیء ؟ و هکذا غیره ، و جمیع هذه الأوامر الضمنیّة هی بحکم الموضوع بالنسبة إلی الأمر الضّمنی بالإتیان بالصّلاة بقصد الأمر ، فهی متقدّمة علیه فی الرتبة ، لکنّ تلک الأوامر الضّمنیّة المختلفة رتبةً موجودة بوجودٍ واحدٍ ، و کیف یعقل ذلک ؟

لقد اکتفی فی (المحاضرات) بالقول بتقدّم هذه الدعوی فی مبحث الصحیح و الأعم ، لکنّ الذی ذکره هناک هو معقولیّة الوضع لأمرین مختلفین فی المرتبة ، و هو غیر ما نحن فیه ، لأن الوضع یصح حتی للمتناقضین ، أمّا کیف یوجد الموجودان المختلفان فی الرتبة بوجود واحدٍ ؟

و لذا وقع الإشکال فی شمول دلیل الاستصحاب لقاعدة الیقین ، من جهة أنَّ القاعدة متأخّرة رتبةً عن الاستصحاب ، فکیف یجعلان بجعلٍ واحدٍ و هما طولیّان ؟

إنه لا مورد لذلک إلّا الاختلاف بالطبع ، فلو تقدّم وجود علی وجودٍ تقدّماً طبعیّاً أمکن وجودهما بالوجود الواحد ، إلّا أنّ الوجود بالذات هو للمتأخر منهما ، و المتقدّم یکون وجوده بالعرض ، و لا یعقل غیر هذا ، مثلاً :

المراد بالذات ، أی الشیء المقوّم للإرادة القائم بالنفس ، متقدّم تقدّماً طبعیّاً علی الإرادة ، و هی متأخرة بالطبع عن المراد ، لکنّ وجود المراد بالذات بوجود الإرادة وجود بالعرض ، و الوجود بالذّات هو للإرادة ، و کذا المعلوم بالذات - و هو الصّورة الذهنیّة - فإنه متقدّم بالطبع علی العلم ، إذ قد یکون و لا

ص:92

یکون علمٌ به ، و العلم متأخّر عنه .

و فیما نحن فیه ، قد أصبح الأمر الضّمنی بالرکوع و السجود و ...

موضوعاً للأمر الضّمنی بقصد الامتثال ، و کلّ موضوع متقدّم طبعاً ، و الوجود بالذات هو للأمر الضّمنی بقصد الامتثال ، و من المحال وجودهما بوجودٍ واحدٍ ، لکون أجزاء المرکّب فی عرضٍ واحدٍ ، فلا یعقل وجود الأمر الضّمنی بوجود الأمر الضّمنی الآخر .

و هذا هو الإشکال الثانی علی حلّ السیّد المحقّق الخوئی تبعاً للعراقی المحقق ....

و یرد علیه ثالثاً : إن ما ذکره هنا یناقض کلماته فی موارد عدیدة من مختاراته فی الاصول و الفقه ، فهنا یلتزم بتحقّق وجودین واجبین بإیجاد و جعلٍ واحدٍ من الشارع ، أمّا فی تلک الموارد فیصرّح بما هو الصحیح من اتّحاد الجعل و المجعول ، و أنه إذا کان الجعل و الإیجاد واحداً فالمجعول و الموجد واحد أیضاً ، إنما الاختلاف بالاعتبار فقط ، فلیلاحظ کلامه فی الشرط المتأخّر ، و فی التنبیه الأوّل من تنبیهات الاستصحاب ، بل جاء فی الاستصحاب بعد استدلال المیرزا بأخبار الحلّ قوله : لا یمکن إیجاد طولیین بالإیجاد الواحد .

قول المحقق العراقی بالاستحالة

لکن المحقق العراقی قال (1) باستحالة أخذ قصد الأمر فی المتعلَّق بوجهٍ آخر - قال : و لو لا هذا الوجه من الإشکالات ، فلا استحالة ، لارتفاع الإشکالات عن الطریق المذکور - و حاصل کلامه : إن المولی إذا أراد أخذ قصد

ص:93


1- 1) نهایة الأفکار 188/1 .

الأمر فی متعلَّقه ، فإنه فی مرتبة الأمر یری القرب الحاصل من قصد الأمر معلولاً لهذا الأمر ، فیری القرب فی مرتبةٍ متأخرة عن الأمر ، فلو أراد فی نفس الوقت أن یأخذ القرب فی المتعلّق لزم أن یلحظه فی مرتبةٍ متقدّمة ، فیلزم أن یجتمع فی نفسه لحاظان متباینان فی آنٍ واحد .

إشکال الاستاذ علی الوجه المذکور

لکن أوْرد علیه الاستاذ : بأن الملحوظ متأخّراً هو القرب الخارجی ، و الملحوظ فی الرتبة المتقدّمة المأخوذ فی المتعلَّق هو الوجود العلمی للأمر ، و لا محذور فی اجتماعهما کما ذکر المحقّق الأصفهانی ... إنما الإشکال ما ذکرناه هناک .

هذا تمام الکلام فی أخذ قصد الأمر فی المتعلّق بالأمر الأوّل ، و قد ظهر أنه محال .

هل یمکن إطلاق متعلَّق الأمر ؟
اشارة

و بعد الفراغ عن مبحث تقیید متعلّق الأمر بأخذ قصده فیه ، تصل النوبة إلی الإطلاق فی متعلّق الأمر ، فإنّ من الواضح أنه إنْ أمکن التقیید بذلک ، أمکن الإطلاق أیضاً ، و یکون الإطلاق مقتضیاً للتوصّلیّة .

أمّا بناءً علی استحالة التقیید - کما تقدّم - فهل الإطلاق أیضاً محال ؟

هنا بحثان :

الأوّل : ما هی النسبة بین الإطلاق و التقیید ؟
اشارة

ذهب المیرزا إلیٰ أنّ النسبة بینهما هی نسبة العدم و الملکة ، فإذا استحالت الملکة کان عدمها محالاً ، وعلیه ، إذا استحال التقیید استحال الإطلاق .

ص:94

یقول المیرزا : إن الإطلاق عدم التقیید فی المورد القابل للتقیید ، کما فی العمی و البصر ، حیث یلحظ قابلیّة المحلّ ، و لذا لا یحملان علی الحجر مثلاً ، فکلّ موردٍ غیر قابل للتقیید فهو غیر قابل للإطلاق .

و ذهب المحقّق الأصفهانی : إلیٰ أنّ التقابل بینهما من قبیل التّضاد ، لکن فی مقام الثبوت ، أما فی مقام الإثبات فالعدم و الملکة ... أمّا فی مقام الثبوت ، فلأنَّ الإطلاق هو أن یلحظَ المتعلَّق مع رفض القیود عنه ، و التقیید لحاظه مع أخذ القیود ، فکلاهما وجودی ، و بین «الأخذ» و «الرفض» تضاد . و علی هذا ، فاستحالة التقیید لا تستلزم استحالة الإطلاق .

و أمّا القول بکون النّسبة بینهما هو التضایف ، فباطل ، لأنّه و إنْ کان بین عنوانی «الإطلاق» و «التقیید» نسبة التضایف ، لکنّ الکلام لیس فی العنوان بل فی المعنون ، کما هو الحال فی النسبة بین العلّة و المعلول ، فإنّها التضایف فی العنوان ، لکن هما فی الواقع متضادّان أو نسبتهما العدم و الملکة .

مختار الاستاذ

هذا ، و قد اختار الاستاذ فی الدّورة السّابقة ابتداءً قول المحقق الأصفهانی ، ثم عدل عنه للإشکال التالی ، و هو : عدم جواز أخذ خصوصیّة المقسم - و هو اللّحاظ - فی القسم ، ببیان أنه بعد عدم إمکان الإهمال ، فإنّ الحاکم ، إمّا یلحظ القید و یأخذه فی الذات ، فتکون الذات بشرط شیء ، و إمّا یلحظها و یلحظ القید و یأخذ عدمه فیها ، فیکون بشرط لا ، و إمّا یلحظهما و لا یأخذ وجود القید و لا عدمه ، فیکون لا بشرط و هو الإطلاق ، فاللّحاظ قدر مشترک بین الثلاثة ، وجهة الاختصاص هی فی التقیّد و هو أخذ القید ، أو الإطلاق و هو عدم أخذه ، فیکون الإطلاق أمراً عدمیّاً لا وجودیّاً ، فإنّ الرقبة -

ص:95

مثلاً موضوع للحکم فی «أعتق رقبةً» ، و لا یعقل أن یکون الحاکم مهملاً بالنسبة إلی انقسامها إلی المؤمنة و الکافرة ، بل إنه عند الحکم یلحظها مع القید بأحد الأنحاء الثلاثة ، فاللّحاظ موجود ، و الجهة المشخّصة هی وجود القید أو عدمه ، فیکون المقیّد بشرطٍ و الإطلاق لا بشرط ، فکان الإطلاق لحاظ الماهیّة و القید مع رفض القید ، و التقیید لحاظهما مع أخذ القید ، فمن الرفض ینتزع الإطلاق ، کما أن من الأخذ ینتزع التقیید .

فما ذهب إلیه المحقق النائینی هو الصحیح من أن التقابل من قبیل العدم و الملکة علی ما سنذکره فی المراد من القابلیّة .

الثانی : هل إذا استحال التقیید استحال الإطلاق ؟

أمّا علی القول بتقابل العدم و الملکة ، فإنّ استحالة التقیید یستلزم استحالة الإطلاق ، فما ذهب إلیه المیرزا ینتج عدم امکان القول بتوصلیّة الواجب المشکوک فی کونه تعبدیّاً أو توصلیّاً .

لکنَّ هذا إنما یتمُّ لو کانت القابلیّة المعتبرة فی نسبة العدم و الملکة هی القابلیّة الشّخصیّة ، إلّا أنّ التحقیق هو اعتبار القابلیّة النوعیّة و الجنسیّة ، فمثلاً :

قولنا : «العقرب أعمی» صادقٌ مع أن شخص هذا الحیوان و صنفه لا یقبل البصر ، إلّا أن الجنس - و هو الحیوان - لمّا کان قابلاً للبصر صحّ اتّصاف العقرب بالعمی ، و أیضاً ، فإن النسبة قد تکون العدم و الملکة فی موارد لیست القابلیّة فیها شخصیةً ، فبین القدرة و العجز عدم و ملکة ، و الإنسان یتّصف بالعجز عن الطیران مع عدم قابلیّته له ، و لیس ذلک إلّا لأن جنسه - و هو الحیوان قابل له ، و کذا النسبة بین العلم و الجهل ، فالحجر لا یتّصف بهما لعدم القابلیّة ، أمّا الإنسان فیتّصف ، و لا شبهة فی جهله بذات الباری تعالی مع

ص:96

استحالة علمه بها ، فالعلم بذاته عزّ و جل محال ، و الجهل به صادق ، و بینهما تقابل العدم و الملکة .

إذن ، بناءً علی العدم و الملکة ، لیس فی کلّ موردٍ استحال الملکة یستحیل عدمها ، بل قد یجب ، کما فی الأمثلة المذکورة ... فإذا کانت القابلیّة المعتبرة هی القابلیّة النوعیّة أو الجنسیّة ، فلا تلازم بین الملکة و عدمها فی الاستحالة .

و تلخّص : إنه علی القول الأوّل - فی النسبة بین الإطلاق و التقیید - یکون الإطلاق واجباً ، مع استحالة التقیید ، بناءً علی اعتبار القابلیّة النوعیّة أو الجنسیّة ، لا الشخصیّة .

و أمّا علی القول بتقابل التضاد ، فإذا استحال التقیید ، فإنّ الإطلاق غیر مستحیل ، لعدم الملازمة بینهما .

و تلخّص : إمکان التقیید علی القول بالتضاد ، و علی القول باعتبار القابلیّة النوعیّة أو الجنسیّة ، فی العدم و الملکة ... و هذا هو الصحیح .

هذا تمام الکلام فی مقام الثبوت .

إنما الکلام فی مقام الإثبات ، فسواء قلنا بهذا القول أو ذاک ، فإنّ الإطلاق فی مقام الإثبات إنّما یکون مع التمکّن من التقیید ؛ و مع عدم التمکّن منه فلا إطلاق ... و توضیحه :

إنه دائماً یکون الإطلاق فی مقام الإثبات کاشفاً عن الإطلاق فی مقام الثبوت ، فمن مقام الإثبات یستکشف مقام الثبوت ، و هذه الکاشفیّة إنّما تتحقّق و یکون الإطلاق حجةً علی المراد فیما إذا تمکّن الحاکم من التقیید فی مقامی الثبوت و الإثبات ، و مع انتفاء التمکّن منه فی أحد المقامین لا یتحقّق

ص:97

الإطلاق الکاشف عن المراد ... و فیما نحن فیه : الحاکم و إنْ کان قادراً علی بیان القید فی مقام الإثبات ، إلّا أنه غیر قادر علی تقیید متعلَّق الأمر بقصد القربة فی مقام الثبوت ، فلا یکون إطلاقه فی مقام الإثبات کاشفاً عن إطلاقه فی مقام الثبوت .

و تلخّص : إنه حتی لو قلنا بإمکان الإطلاق - کما هو مبنی التضاد - أو وجوبه - علی اعتبار القابلیة النوعیّة أو الجنسیّة علی مبنی العدم و الملکة - فهو لیس بالإطلاق الکاشف عن المراد و الحجة علیه .

فظهر : استحالة أخذ القید بالأمر الأوّل فی المتعلَّق . و علی فرض إمکان الإطلاق - مع استحالة التقیید أو عدم استحالته - فلیس الإطلاق الحجّة الکاشفة عن المراد ، لأن الکاشفیّة إنما تکون حیث یمکن أخذ القید و یتمکّن من التقیید ثبوتاً .

هذا تمام الکلام فیما یتعلَّق بأخذ قصد الأمر فی المتعلَّق بالأمر الأوّل .

هل یمکن أخذ قصد الأمر بالأمر الثانی ؟
اشارة

و بعد أن ظهر عدم إمکان أخذ قصد الأمر فی متعلَّقه کالصّلاة مثلاً بالأمر الأوّل ، فهل هو ممکن بالأمر الثانی أو لا ؟

لا یخفی أن المقصود من المتعلَّق هو «الصّلاة» ، و من الحکم هو «الوجوب» و من الموضوع هو «البالغ العاقل» ، و لکلّ واحدٍ من الثلاثة انقسامات أوّلیّة و ثانویة .

و المراد من الانقسام الأوّلی هو : الانقسام من دون لحاظ الحکم ، و من الانقسام الثانوی هو : الانقسام مع لحاظ الحکم . فالصّلاة - مثلاً - تنقسم إلی ما فی الوقت و ما فی خارج الوقت ، و فی المسجد و ما فی خارج المسجد ، فهذا

ص:98

انقسام مع قطع النظر عن الحکم ، فیسمّی بالانقسام الأوّلی . و أمّا مثل الصّلاة مع قصد الأمر ، و بدون قصد الأمر ، فهو انقسام بلحاظ الحکم ، فیکون ثانویاً .

و المکلّف ینقسم إلی المستطیع و غیر المستطیع مثلاً ، و هذا انقسام أوّلی ، لأنه بقطع النظر عن الحکم ، و ینقسم إلی العالم بوجوب الحج و الجاهل بوجوبه ، و هذا ثانوی ، لأنه بلحاظ الحکم الشرعی المترتّب علی الحج .

إن الانقسامات الأوّلیة تقبل الإطلاق و التقیید ، لأنّ للمتکلّم - فی مقام لحاظ الموضوع أو الحکم أو المتعلَّق - أن یأخذ الخصوصیّة فیکون مقیِّداً ، و أنْ لا یأخذها فیکون مطلقاً .

لکنّ الکلام فی قبول الانقسامات الثانویة للإطلاق و التقیید ... فهل یمکن للمولی أن یُقیّد متعلَّق حکمه بالأمر الثانوی - بعد عدم إمکانه بالأوّلی - بأنْ یقول أوّلاً : «صلّ» ، ثم یقول بعد ذلک : الصّلاة التی أمرتک بها یجب علیک الإتیان بها بداعی الأمر ، أو لا یمکن ؟

إنه إنْ أمکنه ذلک ، کان عدم أخذه القید دلیلاً علی الإطلاق ، و بذلک یحکم بتوصلیّة الواجب المشکوک کونه تعبدیّاً أو توصلیّاً .

و بالجملة ، فإنّ المحاذیر التی کانت تمنع من أخذ هذا القید فی المتعلّق ، من الدور ، و من اجتماع المتقدّم و المتأخر ، و من استلزام عدم القدرة علی التکلیف ، و من داعویّة الأمر إلی نفسه ... کلّها منتفیة ، لأنّ الأمر متعدّد و المتعلّق متعدّد .

إشکال صاحب الکفایة

و ذکر المحقق الخراسانی قدّس سرّه إشکالاً آخر ، و حاصله (1) :

ص:99


1- 1) کفایة الأصول : 74 .

إن أخذ قصد الأمر هنا أیضاً غیر ممکن ، لأن حصول الامتثال و سقوط الأمر بإتیان المتعلَّق بقصد الأمر الأوّل إن کان ممکناً ، فالأمر الثانی یکون لغواً ، و إنْ لم یتحقق الامتثال ، فالأمر الأوّل باق ، و السبب فی بقائه هو عدم تحقّق الغرض منه ، لأن الأمر معلول للغرض ثبوتاً و سقوطاً ، و ما لم یحصل فهو باق ، و إذا کان المنشأ ذلک ، فإنّ حکم العقل بلزوم تحصیل غرض المولی - مع الشک فی محصّله ، فکیف مع العلم - یکفی لأنْ یؤتی بالمتعلَّق بقصد الأمر الأوّل ، فیکون الأمر الثانی لغواً کذلک .

و تلخّص : إن الأمر الثانی لیس بمحالٍ لشیء من المحاذیر المتقدمة ، إلّا أنه محال للزوم اللّغویة ، إلّا أن یحمل علی الإرشادیّة إلی حکم العقل .

و إذ لا یمکن أخذ قصد الأمر بالأمر الثانوی ، فلا یمکن الإطلاق ، حتی یؤخذ بنتیجة الإطلاق ، و یترتب الأثر المقصود .

الکلام حول الإشکال

قال السیّد الاستاذ : و قد استشکل الأعلام فیما أفاده صاحب الکفایة ، و هم ما بین من أغفل الشقّ الأول من التردید و اقتصر فی الإیراد علی الشقّ الثانی ، و ما بین من تصدّی فی إشکاله إلی کلا شقّی التردید و هو المحقق الأصفهانی .

ثم إنه ذکر کلماتهم و ناقشها و انتهی إلی القول : بأنّ ما ذکره صاحب الکفایة فی منع تعدّد الأمر و أخذ قصد القربة فی متعلّق الأمر الثانی ، بالتقریب الذی ذکرناه ، لا نری فیه إشکالاً ، فالالتزام به متّجه ، و بذلک یتبیّن أنّ أخذ قصد القربة فی متعلّق الأمر ممنوع عقلاً (1) .

ص:100


1- 1) منتقی الاصول 443/1 - 451 .

و أمّا شیخنا الاستاذ ، فقد أجاب عن کلا الشقّین ، و أفاد ما حاصله :

أمّا الشق الأوّل ففیه : إنّ من الغرض اللّازم تحصیله ما لا یحصل إلّا بالإتیان بالعمل بقصد القربة ، و منه ما یحصل بدونه ، فمثلاً : ذکر اللّٰه تعالی بدون قصد القربة له أثر یترتّب علیه و غرض یحصل منه ، و لذکره تعالی أیضاً مرتبة أخری لا یحصل الغرض منه إلّا إذا کان مع قصد القربة ، فالغرض کما یحصل من الأمر الأوّل کذلک یحصل من الأمر الثانی ، فلا لغویّة .

و أمّا الشق الثانی ، فإن کلامه مبنی علی القول بأصالة الاشتغال فیما نحن فیه ، و لکنْ سیأتی - فی مبحث مقتضی الأصل العملی - أن فی المقام قولین :

أحدهما : البراءة ، و الآخر : هو الاشتغال ، و علی الأوّل ، لا یکون الأمر الثانی لغواً . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : حکم العقل بالاشتغال إنما هو فی فرض الشک فی حصول الغرض ، لکنّ الأمر الثانی المفید للتقیید - کما هو المفروض - یکون کاشفاً عن الغرض ، فیکون عدمه کاشفاً عن إطلاق الغرض .

و ثالثاً : إن وصول النوبة إلی حکم العقل بالاشتغال ، إنما یکون مع عدم جریان الأصل اللّفظی ، فلو جری لم یبق موضوع لحکم العقل ، لأنه إمّا وارد علیه - کما هو الصحیح - أو حاکم علیه .

و رابعاً : إنّه قد ثبت فی محلّه جریان البراءة الشّرعیة مع وجود البراءة العقلیّة ، فلا یکون حکم الشرع بالبراءة هناک لغواً ، فکذا هنا لا لغویّة لحکم الشرع بالاشتغال مع وجود حکم العقل به .

و تلخص : أنْ لا محذور عن التقیید بالأمر الثانوی .

ص:101

إشکال السید البروجردی

و ذکر السید البروجردی (1) الإشکال فی أخذ قصد الأمر الثانوی بوجهٍ آخر ، و هو : إن الأمر الأوّل قد تعلَّق بالصّلاة بلا قصد القربة ، و من المعلوم أنها بلا قصدٍ للقربة لا یترتب علیها الغرض منها ، کما أن من الواضح أنّ هکذا عملٍ لا مصلحة فیه و لا ملاک ، فلا یکون الأمر به أمراً حقیقیّاً بل هو صورة الأمر ، وعلیه ، فتعدّد الأمر لا یحلُّ المشکلة .

جواب الاستاذ

و أجاب الاستاذ دام بقاه عمّا ذکره بالنقض و الحلّ .

أمّا النقض ، فإنه لا ریب فی أنْ الأمر بالصّلاة لیس أمراً بالوضوء ، بل مطلوبیّة الوضوء فی الصّلاة إنما هی بأمرٍ آخر غیر الأمر المتوجّه إلی الصّلاة ، فدلیل الصّلاة قوله تعالی - مثلاً - : «أَقِمِ الصَّلاَةَ» (2)و دلیل اعتبار الوضوء فیها قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَکُمْ ...» (3)لکنّ الصّلاة ذات المصلحة و الملاک هی الواجدة للوضوء ، فیکون لازم کلامه قدّس سرّه أنْ یکون الأمر المتعلّق بالصّلاة أمراً صوریّاً ، لأنّ اعتبار الوضوء فیها بأمرٍ آخر ... لکن لا یُظنُّ به الالتزام بصوریّة الأمر المتعلّق بالصّلاة .

و أمّا الحلُّ ، فإنّ صوریّة الأمر إنما هی فیما إذا کان متعلَّق الأمر أجنبیّاً عن الغرض ، أمّا إذا کانت نسبة المتعلَّق إلی الغرض نسبة المقتضی إلی المقتضی فالأمر حقیقی لا صوری .

إنّ الأمر بالصّلاة أمر بمقتضی الغرض ، غایة الأمر کون قصد الأمر متمّماً

ص:102


1- 1) الحجة فی الفقه : 124 .
2- 2) سورة الإسراء : 78 .
3- 3) سورة المائدة : 6 .

لهذا الاقتضاء ، کما أنّ الصّلاة لها اقتضاء حصول الغرض ، إلّا أنّ الوضوء متمّم لهذا الاقتضاء ... هذا من الجهة العقلیّة ... و من الجهة العرفیّة کذلک ، فإن أهل العرف یبعثون نحو الذات بأمرٍ و نحو قیدها بأمرٍ آخر ، فیکون للمقیَّد أمر و للقید أمر ، و لا یرون الأمر المتوجّه نحو الذات أمراً صوریّاً ، بل هو عندهم أمر حقیقةً ، و السرّ فی ذلک هو : أنّ متعلَّق الأمر إذا کان واجداً للملاک و محصّلاً للغرض و لو بنحو الجزئیة أو علی نسبة المقتضی إلی المقتضی ، فالأمر عندهم أمر حقیقی لا صوری .

و علی الجملة ، فإنّ هذا الوجه أیضاً مندفع ...

و الحق : صحّة أخذ قصد الأمر فی المتعلَّق بتعدّد الأمر .

هل یمکن أخذ سائر الدواعی ؟
اشارة

و بعد ، فإذا فرضنا عدم إمکان أخذ قصد الأمر ، لا فی متعلَّق الأمر الأوّل و لا فی متعلّق الأمر الثانوی ، فهل یمکن التقیید بوجهٍ آخر حتی یتمّ الإطلاق لعدم التقیید مع التمکّن منه ؟

إن هناک جملة من الدواعی للعمل ، کقصد محبوبیّة العمل للّٰه، أو الإتیان بالعمل بداعی أنّ اللّٰه أهل للعبادة ، أو بقصد مصلحة العمل ، أو کونه حسناً ؟

قال الشیخ الأعظم (1) بالإمکان ، فوسّع دائرة التقرّب إلی اللّٰه فی العمل العبادی ، و أنه یحصل القرب و المقرّبیة بشیء من هذه الدواعی أیضاً ، و حینئذٍ ، فلمّا کان المولی فی مقام البیان ، و کان خطابه مجرّداً عن کلّ قرینةٍ دالّة علی اعتبار شیء من ذلک ، أمکن التمسّک بالإطلاق ، و بذلک یتمّ الأصل اللّفظی لتوصّلیّة العمل المردّد بین التوصّلیّة و التعبدیّة .

ص:103


1- 1) مطارح الأنظار : 64 .

و الإشکالات ، علی ذلک ثلاثة :

1 - المحقق الخراسانی :
اشارة

(1)

قال : إنه و إنْ أمکن تعلّق الأمر بشیء من هذه الدواعی و جعله جزءاً من العمل المأمور به ، لکنّا نعلم قطعاً بعدم کونه کذلک شرعاً ، لأنّ العمل لو اتی به بداعی الأمر و من دون التفاتٍ إلی أحد تلک الدواعی ، فلا ریب فی تحقّق الغرض و حصول الامتثال و سقوط التکلیف عن المکلَّف ، و لو کان شیء منها مأخوذاً من قبل المولی و دخیلاً فی المأمور به ، لم یحکم بتحقّق الامتثال و سقوط الأمر .

جواب المحاضرات

و أجاب عنه فی (المحاضرات) (2) : بأن المأخوذ فی متعلَّق الأمر لیس أحد الدواعی بعنوانه ، لیرد الإشکال المذکور ، بل المأخوذ هو الجامع بینها الملغی عنه القیود - إذ الإطلاق لیس بمعنی الجمع بین القیود ، بل حقیقته رفض القیود و لحاظ عدم مدخلیّة شیء منها فی المأمور به - کما لو قال المولی : علیک الإتیان بالعمل مضافاً إلیَّ و منسوباً إلیّ ، و هذا یتحقّق بأیّ واحدٍ من العناوین المذکورة ، کأنْ یؤتی بالعمل بداعی المحبوبیة أو الحسن أو وجود المصلحة فیه ، و هکذا ... و إمکان الإتیان بأحد هذه الدواعی یکفی لإمکان الإتیان بالعنوان الجامع ، لأنّ القدرة علی حصّةٍ من الطبیعة تکفی لأنْ یأمر المولی بالطبیعة ، و لا یکون استحالة احدی الحصص - مثلاً - سبباً للعجز عن الطبیعة ... وعلیه ، فبأیّ عنوان من العناوین المزبورة وقع العمل ، فقد

ص:104


1- 1) کفایة الأصول : 74 .
2- 2) محاضرات فی أصول الفقه 180/2 .

انطبق العنوان الجامع قهراً ، و کان الإجزاء عقلیّاً .

أقول :

و هذا الجواب قد ارتضاه الاستاذ فی الدورة اللّاحقة ، لکنّ الظاهر توقّف صحّته علی تمامیّة الجواب عن الإشکال الثالث الآتی عن السیّد البروجردی .

2 - المیرزا النائینی :
اشارة

(1)

قال : تقیید المتعلَّق بهذه الدواعی غیر ممکن ، و ذلک : لأنَّ وزان الإرادة التشریعیّة وزان الإرادة التکوینیّة ، و کما یستحیل تعلّق الإرادة التکوینیّة بهذه الدواعی ، فکذلک الإرادة التشریعیّة .

و وجه الاستحالة فی التکوینیّة هو : إن حقیقة الداعی هو ما تنبعث عنه الإرادة فی نفس المکلَّف للقیام بالعمل ، و تکون الإرادة متأخّرة فی الرتبة عن الداعی ، لکونها معلولة له و هو بمنزلة العلّة لها ، و کلّ علّة فهی متقدّمة علی معلولها ، وعلیه ، فلا یمکن تعلّق الإرادة بالدّاعی ، لاستلزامه تقدّم الشیء علی نفسه ، و هو باطل .

و إذا استحال هذا فی الإرادة التکوینیّة ، استحال فی التشریعیّة ، لکونها علی وزانها.

إذن ، لا یمکن تعلّق الأمر بالعبادة مع داعی المحبوبیة و المصلحة و غیر ذلک من الدّواعی .

جواب المحاضرات

و أجاب فی (المحاضرات) (2) عن هذا الإشکال بجوابین - قال الاستاذ :

ص:105


1- 1) أجود التقریرات 163/1 - 164 .
2- 2) محاضرات فی أصول الفقه 182/2 .

کلاهما متین - :

أحدهما : النقض بما ذهب إلیه المیرزا من جواز أخذ أحد هذه الدواعی فی المتعلَّق بالأمر الثانوی ، المعبّر عنه بمتمّم الجعل ... لأنّ الوجه المذکور فی تقریب الاستحالة لا یفرّق فیه بین أخذ الدواعی تلک ، فی متعلَّق الطلب الأوّل أو الثانی .

و الجواب الآخر هو الحلّ ، و ذلک : إن ما ذکره المیرزا إنما یستلزم استحالة تعلّق خصوص الإرادة الناشئة عن أحد تلک الدواعی بنفس ذاک الدّاعی ، من جهة أن الإرادة الناشئة عن داع یستحیل أن تتعلَّق بالداعی نفسه ، لکونها متأخرةً عنه ، فلا یعقل تقدّمها علیه ، و أما تعلّق إرادة اخری بذلک الدّاعی غیر الإرادة الناشئة عنه ، فلا استحالة فیه ، و نحن نقول : إنّ الواجب مرکّب من العمل الخارجی و أحد الدواعی المذکورة ، فکانت الإرادة المتعلّقة بالعمل الخارجی ناشئة عن أحد الدواعی ، لکنّ ذلک الداعی منبعث عن إرادة أخری ، فلا یلزم الدور .

و علی الجملة ، فإنّه قد تعلّقت الإرادة التشریعیّة من الشّارع بالصّلاة بداعی المصلحة ، فإنْ کان الداعی لهذه الإرادة نفس المصلحة ، لزم المحال ، لکنّ داعی المولی للإرادة التشریعیة لیس هو المصلحة ، بل محبوبیّة الصّلاة مثلاً ... و إذا اختلف الداعیان ارتفع محذور الدور .

3 - السید البروجردی :
اشارة

(1)

قال : محذور الدور و عدم القدرة علی الامتثال ، الواردان علی أخذ داعی الأمر فی المتعلَّق ، یردان فی أخذ داعی المصلحة . فکما ترد الإشکالات فیما

ص:106


1- 1) نهایة الأصول : 101 .

إذا تعلَّق الأمر بالصّلاة بداعی الأمر ، فهی واردة أیضاً فیما إذا تعلَّق بالصّلاة بداعی حسنها أو محبوبیّتها أو کونها ذات مصلحة ، إذ الأمر بعد تعلّقه بالفعل المقیَّد بإتیانه بداعی الحسن أو المحبوبیّة أو کونه ذا مصلحة ، یستکشف منه أن الحسن و المحبوبیة و المصلحة إنما هی للفعل المقیَّد ، لا لذات الفعل ، لعدم جواز تعلّق الأمر إلّا بما یشتمل علیٰ المصلحة و یکون حسناً و محبوباً ، و لا یجوز تعلّقه بالأعمّ من ذلک ، و حینئذٍ ، فترد الإشکالات بعینها . أمّا الدور :

فلأنّ داعویّة حسن الفعل أو محبوبیته أو کونه ذا مصلحة یتوقف علیٰ کونه حسناً أو محبوباً أو کونه ذا مصلحة ، و کونه کذلک یتوقف علیٰ داعویة الحسن أو المحبوبیّة أو کونه ذا مصلحة ، فیدور . و أمّا عدم القدرة فی مقام الامتثال :

فلأن الإتیان بالصّلاة بداعی حسنها - مثلاً - یتوقف علیٰ کون الذات حسنة ، و المفروض أن الحسن إنما هو للفعل المقیَّد . و بذلک یظهر تقریر التسلسل أیضاً .

الجواب

أوّلاً : بالنقض ، بمثل التوهین و التعظیم و نحوهما من العناوین الانتزاعیّة القصدیّة ، فإنّ القیام لا یصدق علیه التعظیم إلّا إذا کان بقصد ذلک ، لکن قصد التعظیم بالقیام موقوف علی کون القیام من مصادیقه .

و ثانیاً : بالحلّ ، و هو الفرق بین الاقتضاء و الفعلیّة ، إذ الموقوف علی المصلحة فی العمل - و علی القصد فی التعظیم مثلاً - هو فعلیّة القصد و المصلحة ، لکنَّ الموقوف علیه المصلحة و القصد هو عبارة عن الفعل الذی فیه اقتضاء المصلحة أو التعظیم ... فلا دور .

ص:107

هل یمکن التقیید بلازم قصد الأمر ؟

و هذا طریقٌ ثالث لتقیید المتعلَّق بعد فرض العجز عن تقییده بقصد الأمر الأول أو الثانی ، و عن تقییده بسائر الدواعی ، فهل یمکن للمولی أنْ یتوصّل إلی غرضه فی الواجبات العبادیّة بتقیید متعلَّق أمره بلازم قصد الأمر أو لا ؟

توضیحه : إن الأعمال التی یقوم بها المکلَّف ، إمّا هی بالدّواعی النفسانیّة الباعثة علیها ، و إمّا هی بالدّواعی الإلهیّة ، فلو قال المولی لعبده : افعل کذا لکنْ لا بداعٍ من الدّواعی النفسانیّة ، فقد أمره بالإتیان به بداعٍ إلهی ، فیکون قد أخذ فی متعلَّق المأمور به هذا القید العدمی ، لیکون مضافاً إلی المولی .

و لمّا کان المولی فی مقام البیان ، و کان بإمکانه أخذ هذا القید ، کان عدم أخذه له کاشفاً عن الإطلاق .

... هذا تمام الکلام فی مقتضی الأصل اللّفظی الداخلی ، و هو الجهة الاولی من جهات بحث التعبّدی و التوصّلی .

2 - الإطلاقُ الخارجی

اشارة

و المقصود هو الأدلة اللّفظیة ، فقد استدلّ بالکتاب و السنّة للدلالة علی أنّ الأصل فی الواجبات هو التعبدیّة لا التوصلیّة ، و أنّ ذلک مقتضی آیتین من القرآن الکریم ، و روایات کثیرة .

الاستدلال من الکتاب :

قوله تعالی : «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ » (1)

و قوله تعالی : «أَطِیعُواْ اللّهَ وَأَطِیعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِی الأَمْرِ مِنکُمْ » (2)

ص:108


1- 1) سورة البیّنة : 5 .
2- 2) سورة النساء : 59 .

و تقریب الاستدلال - کما ذکر المحقق الرشتی (1) - أمّا الآیة الاُولی ، فلأن اللّام فیها للغایة و الآیة دالّة علی الحصر ، فتفید أنّ تمام الأمر و امتثاله إنما هو بالغایة من العبادة .

ثم أشکل أوّلاً : بأنّ مدلول الآیة لیس التعبدیّة ، و إلّا لزم التخصیص المستهجن لأغلبیّة الواجبات التوصّلیّة من التعبدیّة فی الفقه . و ثانیاً : بأن سیاق الآیة قرینة علی أن المراد من الذین «امروا» هم «أهل الکتاب» .

و قد اجیب عن هذا الإشکال بوجهین ، أحدهما : استصحاب الشرائع السابقة . و الآخر : بأنّ فی ذیلها «ذَلِکَ دِینُ الْقَیِّمَةِ » (2)و هذا الجواب أدق ، و هو للمحقق الخونساری فی (مشارق الشموس) (3) .

و أمّا الآیة الثانیة ، فتقریب الاستدلال بها هو : إن الإطاعة لیس إلّا الامتثال ، و هو لا یحصل إلّا بقصد الامتثال .

و فیه : إن الطاعة تقابل المعصیة ، و هی عبارة عن مخالفة الأمر ، فالطّاعة موافقة الأمر ، و لیس الموافقة مقیَّدة بقصد الأمر . و أیضاً : فالتوصّلیات أیضاً یقع فیها الطّاعة و العصیان ، مع عدم اعتبار قصد الأمر فی الإطاعة فیها .

الاستدلال من السنّة :

و استدلّ من السنّة : بالأخبار الکثیرة الواردة فی أنْ لا عمل إلّا بالنیّة ، و إنّما الأعمال بالنیّات ... و نحو ذلک (4) ...

و الجواب : إنّها أجنبیة عن اعتبار قصد القربة ، بل إنها ظاهرة فی أنّ الثواب و الأجر من اللّٰه یدور مدار النیّة ...

ص:109


1- 1) بدائع الاصول : 291 - 292 .
2- 2) سورة البیّنة : 5 .
3- 3) مشارق الشموس فی شرح الدروس : 97 .
4- 4) ذکرها صاحب الوسائل فی المجلّد الاول ، فی الباب الخامس من أبواب مقدمات العبادات .

3 - الأصلُ العملی

اشارة

إن الأصل العملی المطروح أوّلاً فی هذا المقام هو الاستصحاب ، ببیان :

أنه قد کان العمل واجباً ، و مع الإتیان به بلا قصدٍ للأمر یشک فی سقوط التکلیف ، فیکون باقیاً بحکم الاستصحاب .

الاستصحاب و إشکال المحقق الأصفهانی

و قد أورد علیه المحقق الأصفهانی (1) : بعدم جریانه ، لکونه بلا أثر شرعی ، لأنّ استصحاب الوجوب لإثبات وجوب قصد الامتثال أصل مثبت ، لأنّ قصد الامتثال لیس من الآثار الشرعیة لبقاء الوجوب ، نعم هو من آثاره العقلیة .

و إنْ ارید من إجراء الاستصحاب إثبات دخل قصد الامتثال فی الغرض من الوجوب ، ففیه : إن الدخل فی الغرض و عدمه من الامور الواقعیّة ، و لیس أمراً مجعولاً من قبل الشارع کی یثبت بالتعبّد الشرعی .

و إنْ ارید من الاستصحاب إثبات موضوع حکم العقل بلزوم الطاعة ، بمعنی أنه إذا ثبت الوجوب بقاءً حکم العقل بلزوم الإطاعة کی یحصل غرض المولی من الأمر ، ففیه : إن استصحاب بقاء الوجوب لا یثبت موضوع حکم العقل بلزوم تحصیل الغرض ، لأن المفروض عدم قیام الحجّة علی غرضه من جهة التعبدیة .

فظهر سقوط هذا الاستصحاب بجمیع الوجوه .

نقد الإشکال

قال الاستاذ دام بقاه : إن ما ذکره المحقق المذکور فی الإیراد علی

ص:110


1- 1) نهایة الدرایة 347/1 .

الاستصحاب إنما یتم لو ارید ترتیب أثر شرعی علی الاستصحاب ، و لکنّ المستصحب فیما نحن فیه هو نفسه حکم شرعی ، و باستصحابه یثبت الموضوع للحکم العقلی ، لأنّ المستصحب هو «الوجوب» ، و إذا ثبت بقاءً تمّ اشتغال الذمّة ، و العقل یحکم بضرورة العمل لفراغها ، و لا شکّ فی عدم اختصاص حکم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التکلیف بالوجوب الواقعی ، بل یشمل الوجوب التعبّدی الثابت بالاستصحاب أیضاً ...

الاشکال الحق

بل الحق فی الإشکال - و الذی غفل عنه المحقق الأصفهانی - هو عدم المقتضی للاستصحاب فیما نحن فیه ، و ذلک : لأن الوجوب إنما ینتزع من الأمر و الحکم ، فإنْ کان أمر کان الوجوب و إلّا فلا ، و هنا لا یوجد أمرٌ ، إذ الأمر الشخصی المتعلّق بالصّلاة التی هی عبارة عن الأجزاء قد سقط بالإتیان بالأجزاء ، فلا تبقی داعویّة للأمر ، إذ الأمر لا یدعو إلّا إلی متعلّقه ، فإذا تحقق سقط الأمر ، فهو غیر موجود حتی یستصحب .

الاشتغال أو البراءة ؟

و إذْ سقط الاستصحاب ، تصل النوبة إلی الأصل المحکوم به ، فهل المقام مجری البراءة أو الاشتغال ؟

إن مسألتنا من صغریات دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الارتباطیین ، فإنْ کان قصد القربة واجباً فالواجب هو الأکثر و إلّا فالأقل ... مع العِلم بالتلازم بین التکلیف و الغرض ، فی الثبوت و السقوط .

و قد ذهب المحقق الخراسانی هنا إلی الاشتغال و عدم جریان البراءة مطلقاً - و إن کان مختاره فی دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الارتباطیین جریان

ص:111

البراءة الشرعیّة دون العقلیّة - و السبب فی ذلک :

أمّا فی البراءة العقلیّة ، فلأنّ المفروض عنده عدم تمکّن المولی من أخذ قصد الأمر مطلقاً فی المتعلَّق ، فلمّا تعلَّق الأمر بالصّلاة مثلاً ، حصل الیقین بوجود غرض للمولی من هذا الأمر ، و مع العلم الإجمالی بقیام الغرض إمّا بالأقل ، و هو الصّلاة بلا قصد القربة ، و إمّا بالأکثر و هو الصّلاة معه ، کان مقتضی القاعدة هو الاشتغال ، إذ لا یحصل الیقین بحصول الغرض إلّا بالإتیان بالصّلاة مع قصد القربة .

و الحاصل : إنه مع وجود المنجّز بالنسبة إلی الغرض ، و هو العلم الإجمالی ، و الشک فی حصوله بدون القصد ، یکون العقل حاکماً بالاشتغال لا محالة .

و أما البراءة الشرعیّة ، فهی غیر جاریة کذلک ، لأن المفروض عدم تمکّن المولی من وضع قصد القربة ، و کلّما لم یکن الوضع بیده فلا یکون الرفع بیده ، فلا موضوع لحدیث الرفع ، بخلاف مورد دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الارتباطیین ، فقد کان مقدوراً للمولی أن یجعل السورة - مثلاً - جزءاً من المتعلَّق ، و مع الشک فی أخذه و وضعه ، یجری حدیث الرفع .

فظهر أن العمدة فی وجه نظره هو عدم إمکان أخذ القصد فی المتعلَّق مطلقاً ، أی لا بالأمر الأوّل و لا بالأمر الثانوی ، مع کون القصد دخیلاً فی الغرض .

و مما ذکرنا ظهر : أنّ الأصل یختلف باختلاف المبنی فی البحوث المتقدّمة ، فی إمکان أخذ القصد فی المتعلَّق و عدم إمکانه ، بالأمر الأوّل أو بالأمر الثانوی أو بغیرهما ، و قد تقدّم إمکانه بالأمر الثانوی ، فهو یقبل الوضع ،

ص:112

فیکون قابلاً للرفع ، فلا یبقی ریب فی جریان البراءة الشرعیّة .

و أمّا البراءة العقلیّة ، فهی تجری أیضاً ، بناءً علی التحقیق من أنّ وظیفة العبد حفظ أغراض المولی و تحصیلها ، کتکالیفه ، نعم ، کلّ غرضٍ و تکلیف قامت علیه الحجّة ، و هنا لمّا کان المولی متمکّناً من البیان ، و المفروض عدم البیان ، فموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان متحقّق .

فالتحقیق : إن الأصل فی المقام هو البراءة عقلاً و نقلاً .

ثم إنه یرد علی صاحب (الکفایة) بأنه - و إنْ أنکر فی المقام الإطلاق اللّفظی بعدم القدرة علی التقیید - یری جریان الإطلاق المقامی ، فإذا کان المولی فی مقام بیان غرضه التام ، و کان قادراً علی أخذ کلّ خصوصیةٍ لها دخل فی غرضه ، و کانت الخصوصیّة مما یغفل عنها العامّة ، فلو لم یفعل أمکن التمسّک بالإطلاق و الحکم بالبراءة ...

و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فکان علیه قدّس سرّه بمقتضی ذلک أن یقول بالبراءة لا الاشتغال .

هذا تمام الکلام فی التعبّدی و التوصّلی .

ص:113

ص:114

اقتضاء إطلاق الصّیغة

النّفسیة و العینیّة و التعیینیّة

اشارة

ص:115

ص:116

لو وقع الفقیه فی شک بالنسبة إلی واجبٍ من الواجبات هل هو نفسی أو غیری ؟ أو هل هو تعیینی أو تخییری ؟ أو هل هو عینی أو کفائی ؟ فما هو مقتضی القاعدة ؟

المرجع عند الشک هو الأصل اللّفظی ثم الأصل العملی ... أمّا الأصل العملی الجاری فی هذا المقام - فی فرض عدم الأصل اللّفظی - فسیأتی فی مبحث مقدّمة الواجب .

التمسّک بالإطلاق

و أمّا الأصل اللّفظی ، فقد قال فی (الکفایة) (1) : إطلاق الصّیغة یقتضی النفسیة و العینیة و التّعیینیة ...

و مراده رحمه اللّٰه من هذا الإطلاق هو : إن الثلاثة المقابلة لهذه الثلاثة تحتاج ثبوتاً و إثباتاً إلی بیانٍ زائد ، لأنّ الوجوب الغیری وجوب له ارتباطٌ ثبوتی بوجوبٍ آخر ، کالوضوء بالنسبة إلی الصّلاة ، ففی الوجوب الغیری تقییدٌ و اشتراط ، و کذا فی الوجوب الکفائی ، لأنه یرتبط بعدم إتیان الغیر للعمل ، فلو صدر العمل من أحدٍ فلا وجوب علیه ، و فی الوجوب التخییری تقیّد بعدم إتیان العدل ، فلو أطعم الستّین مسکیناً فلا وجوب لعتق الرقبة مثلاً ... فظهر : إن الثلاثة فی عالم الثبوت فیها تقیّد و ارتباط و اشتراط ، و هذا التقیّد بحاجةٍ إلی بیانٍ زائدٍ فی عالم الإثبات ، و لذا نری الآیة الکریمة فی

ص:117


1- 1) کفایة الأصول : 76 .

الوضوء فیها کلمة «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ » (1)و کذا فی التخییری ، یؤتی ب «أو» و فی الکفائی کذلک .

فهذا مراد المحقق الخراسانی من الإطلاق .

ثم إنّ هذا الإطلاق یمکن أن یکون إطلاق الهیئة ، و یمکن أن یکون إطلاق المادّة .

بیان الأوّل : عند ما نشکّ فی وجوب الطهارة فی حال القراءة - مثلاً - أنه وجوب نفسی أو غیری ، لا نشک فی أصل الوجوب ، بل الشک فی أن هذا الوجوب هل هو مشروط و مقیّد بوجوب الصّلاة أو لا ؟ فإذا رجع الشک إلی اشتراط الوجوب ، فمعناه : کون مفاد الهیئة مقیداً و مشروطاً ، و مقتضی إطلاق الصیغة من جهة الهیئة هو الوجوب غیر المقیَّد بالغیر .

فهذا بیان إطلاق الهیئة لنفی الغیریّة .

و بیان الثانی : أنْ یرجع الشک - فی نفس المثال المذکور - إلی تقیّد الواجب - لا تقیّد الوجوب - فعندنا دلیلٌ علی وجوب الطهارة ، و نشک فی أنّ وجوبها هو للصّلاة ، بأنْ تکون الصلاة مقیدةً بالطهارة ، أو لا تقیّد ؟ إذ من المعلوم أنّ کلّ واجب مشروط بشرطٍ ، فالشرط یکون دخیلاً فیه ، فتکون المادّة مقیَّدةً ، و مع الشک فی التقیّد یتمسّک بإطلاق الواجب - المادّة - و تکون الصّلاة مثلاً - غیر مشروطة بالطهارة ، فلیس وجوب الطهارة غیریّاً .

هذا ، و لمّا کانت الاصول اللّفظیّة لوازمها حجةً ، فلازم إطلاق الهیئة أو المادّة هو نفسیّة الوجوب أو الواجب ، و عدم دخل القید و الشرط فیه ...

هذا توضیح مطلب صاحب (الکفایة) ، حیث تمسّک بإطلاق الصّیغة

ص:118


1- 1) سورة المائدة : 6 .

لإخراج ما ثبت وجوبه عن التردّد بین النفسیة و الغیریة ، و العینیة و الکفائیّة و التَعیینیة و التخییریة .

بیان المحقق الأصفهانی

و المحقق الأصفهانی له تقریبٌ آخر للإطلاق ، یقول (1) : لیس المراد من النفسیّة أنْ یکون الشیء واجباً غیر مرتبطٍ وجوبه بشیءٍ آخر ، بل إن تقریب الإطلاق هو أنه إن کان أمران لأحدهما قید وجودی و للآخر قید عدمی ، فإنّ عدم القید الوجودی یکفی لإثبات الطرف الآخر المقیَّد بالعدم ، و تطبیق ذلک هنا هو : إنّ الواجب الغیری - کالوضوء - مقید بقیدٍ وجودیّ هو : کونه واجباً لواجبٍ آخر ، فالوضوء یجب للصّلاة ، أمّا الواجب النفسی - الصّلاة - فلیس له هذا القید ، لأنه واجبٌ لا لواجبٍ آخر ، و «لا لواجبٍ آخر» قید عدمی ، و حینئذٍ ، فعدم القید الوجودی «لواجبٍ آخر» یکفی لأنْ یکون الواجب نفسیّاً ... و هذا معنی الإطلاق ، لأنّ الذی یحتاج إلی بیانٍ زائد هو القید الوجودی «لواجب آخر» ، أمّا الذی هو واجب لنفسه فقیده «لا لواجب آخر» ، فنفس عدم التقیید بالقید الوجودی یکفی لأنْ یکون الواجب نفسیّاً لا غیریّاً .

رأی الاستاذ فی بیان الأصفهانی و دفاعه عنه

هذا ، و قد صرَّح الاستاذ فی الدورة السابقة بمتانة بیان المحقق الأصفهانی ، و أجاب عمّا أورد علیه من أنّ العدم الذی هو فی الواجب النفسی «لا لوجوبٍ آخر» ...

إنْ کان بنحو السالبة المحصَّلة ، فإنها تصدق مع عدم الموضوع أیضاً ، فقولک : زید لیس بقائمٍ یصدق مع عدم زید ، و کذلک هنا ، فإنّ «لا لوجوبٍ

ص:119


1- 1) نهایة الدرایة 353/1 .

آخر» یکون صادقاً مع انتفاء الوجوب الآخر رأساً ، و هذا باطل .

و إن کان بنحو العدم و الملکة ، أو بنحو السالبة بانتفاء المحمول ، أی : لو کان وجوب آخر لکان هذا متّصفاً بعدم کونه لواجب آخر ، فهذا فی ذاته قید یحتاج إلی بیان زائد ، فیعود إلی کلام المحقق الخراسانی .

فقال الاستاذ : إنه لا وجه لأنْ ینسب إلیه القول بکون المورد من السّالبة المحصّلة ، لأنّ «لا» النافیة فی «لا لوجوبٍ آخر» هی وصف للوجوب ، فالوجوب النفسی عبارة عن الوجوب الذی تعلَّق بشیءٍ لا لواجبٍ آخر .

و أمّا القول بأنّه بناءً علی العدم و الملکة أو السالبة بانتفاء المحمول یکون قیداً ، فیحتاج إلی بیان .

ففیه : إنّ المحقق الأصفهانی یری أن القیود العدمیّة غیر محتاجة إلی بیانٍ زائد ، و إن کانت هی قیوداً فی مقام الثبوت ، و إنّما القیود الوجودیة هی التی تحتاج إلیه ، فعدم البیان علی کونه واجباً لواجب آخر ، یکفی للدلالة علی نفسیّة الوجوب .

تأیید الاستاذ بیان الکفایة

و فی نفس الوقت ، فقد دافع الاستاذ عن بیان صاحب (الکفایة) أیضاً ، فإنّه بعد أنْ قرَّبه فی أوّل البحث ، أوضحه مرّةً أخری لیندفع عنه إشکال المحقّق الأصفهانی ، فأفاد : بأنّ مراد المحقق الخراسانی هو : إنّ الوجوب فی الواجبات الثلاثة - الغیری ، التخییری ، الکفائی - مضیَّق ، و التضییق تقیید واقعی فی الوجوب ، فهو یرید أن الغرض فی الواجب النفسی مطلق و لا ضیق فیه ، بخلافه فی الواجب الغیری ، فإنه مضیَّق ، مثلاً : الغرض من الوضوء مضیَّق بصورة وجوب الصّلاة ، و مع تضیّق الغرض یتضیَّق الوجوب ، فیرجع

ص:120

الوجوب الغیری إلی التّضیق و التقیید فی مقام الثبوت ، و یحتاج إلی بیان زائدٍ فی مقام الإثبات ... بخلاف الوجوب النفسی ، حیث تکون الطهارة مطلوبةً سواء وجبت الصّلاة أو لا .

و کذا الکلام فی التخییری و الکفائی ، فوجوب الأول مضیَّق بعدم تحقّق العدل ، و الثانی وجوبه مضیَّق بعدم قیام المکلَّف الآخر بالعمل ، بمعنی أنه یجب فی ظرف عدم قیام الغیر به لا أنه مشروط بعدمه .

فإذن ، لا یرد علیه ما ذکره المحقق الأصفهانی .

نظریّة السید الحکیم و ضعفها

و قال السید الحکیم (1) بعدم الحاجة إلی الإطلاق أصلاً ، أمّا فی الوجوب النفسی و الغیری ، فالدلیل علی النفسیة هو السیرة العقلائیة - و لیس الدلیل ظهور اللّفظ و الإطلاق - و أمّا فی الوجوب التعیینی و التخییری ، و العینی و الکفائی ، فالدلیل علی التعیینیة و العینیة هو ظهور اللَّفظ ، و لیس الإطلاق .

أما فی الوجوب النفسی و الغیری ، فإنّ کون الغرض من النفسی ناشئاً من نفس المتعلَّق و بلا ارتباطٍ بواجبٍ آخر ، لا یستفاد من ظهور اللّفظ و لا الإطلاق یدلّ علیه ، بل إنَّ بناء العقلاء و سیرتهم علی أنّه إذا تعلَّق التکلیف بشیءٍ حملوا الوجوب فیه علی النفسیّة و لا یُقبل العذر فیه ، کما لو اعتذر لعدم امتثاله باحتمال کونه وجوباً غیریّاً و أنه کان عاجزاً عن ذلک الغیر ، فهذا العذر لا یقبل منه .

و أمّا فی القسمین الآخرین ، فظاهر اللّفظ هو الدلیل ، لأنه إذا قال المولی : «یجب علی زیدٍ أنْ یقوم» دلّ علی خصوصیةٍ اقتضت توجّه الخطاب

ص:121


1- 1) حقائق الاصول 180/1 ط البصیرتی .

إلی زید دون غیره ، فکان ظاهراً فی الوجوب العینی ، و دلَّ علی خصوصیةٍ اقتضت وجوب القیام دون غیره من الأفعال ، فکان ظاهراً فی الوجوب التعیینی ... فهذا الظهور اللّفظی موجود ، سواء تمّت مقدمات الإطلاق أو لا .

قال الاستاذ :

و فیه : إنّ السیرة العقلائیة لا بد و أنْ ترجع إلی شیء ، إذ لا تعبّد فی السیرة ، و مع عدم الدلالة اللّفظیة ، و عدم الإطلاق المفید للنفسیّة ، فلا حجّة أصلاً ، إذْ الحجة هی البیان ، و هو إمّا الظهور اللّفظی و إمّا الإطلاق و إمّا الأصل المثبت للتکلیف ، و کلّها منتف ، فتکون السیرة بلا حجة ، و هی لا تکون بلا حجة ، إذ لا تعبّد فیها .

و أمّا الظهور اللّفظی فی القسمین الآخرین ، فلا یخفی أنْ لا فرق بین الکفائی و التخییری من حیث أنّ کلّاً منهما له عدل ، إلّا أنه فی الکفائی فی طرف الموضوع ، و فی التخییری فی طرف متعلَّق الحکم ، فلمّا قال : «یجب علی زیدٍ أنْ یقوم» کان قوله ظاهراً فیما ذکره من أخذ الخصوصیّة فی طرف الموضوع و هو «زید» و فی طرف متعلّق الحکم و هو «القیام» ، فالخصوصیّة اخذت فی الطرفین ، و لکنْ هل لها بدیل أو لا ؟ إن ظاهر الکلام لیس فیه دلالة علی عدم أخذ البدل أو کفایته ، فیحتاج إلی الإطلاق ، لیدلّ علی التعیینیّة و العینیّة ...

و هذا تمام الکلام فی هذه المسألة .

و قد ظهر أنّ الحق مع (الکفایة) .

ص:122

الأمر عقیب الحظر

اشارة

ص:123

ص:124

قد وقع الخلاف بینهم فی مدلول الأمر الواقع عقیب الحظر - أو توهّم الحظر - و فی المسألة أقوال :

فقیل : إنه یفید الوجوب ، و هو عن السید المرتضی .

و قیل : إنه یفید الإباحة ، و إلیه ذهب جمع من الفقهاء .

و قیل : إنه تابع لما قبل الحظر .

و المختار هو : الإجمال - کما علیه صاحب (الکفایة) - فیرجع إلی مقتضی الأصل و القاعدة .

و هذه أهمّ الأقوال فی المسألة .

ابتناء البحث علی المختار فی مسألة دلالة الأمر علی الوجوب

لکن مقتضی التحقیق فی هذه المسألة ابتناؤها علی المختار فی مسألة دلالة الأمر علی الوجوب ، حیث قیل هناک بدلالته علیه من باب الظهور الوضعی ، و قیل : بدلالته من باب الظهور الإطلاقی ، و قیل : من جهة حکم العقل ، و قیل : من جهة السیرة العقلائیة .

و الوجه فی ذلک هو : أنّ وقوع الأمر عقیب الحظر لا یوجب انعقاد ظهور فی اللّفظ غیر ما کان ظاهراً فیه ، إذ لا مناط للقول بظهوره فی هذه الحالة فی الوجوب ، و لا للقول بظهوره فی الإباحة ، فإمّا یبقی علی ظهوره السّابق ، و إمّا یکون مجملاً .

أمّا علی القول بأن الأمر حقیقة فی الوجوب ، فإنّه یبقی دالّاً علی ذلک ،

ص:125

لأنّه لو شک فی دلالته علی ذلک فی حال وقوعه عقیب الحظر فأصالة الحقیقة تقتضی حمل الکلام علی معناه الحقیقی ، و المفروض کونه حقیقةً فی الوجوب ... اللهم إلّا أن یقال بأنّ الحمل علی ذلک هو مع الشک فی وجود القرینة الصّارفة ، أمّا مع الشک فی صارفیّة الموجود - کما نحن فیه ، حیث وقع الأمر بعد الحظر - فلا یحکَّم الأصل المذکور ... فتأمّل .

و أمّا علی القول بدلالته علی الوجوب من باب الإطلاق ، فقد یُشکل بأنّ وقوع الأمر عقیب الحظر یحتمل الصارفیّة و القرینیّة ، و مع احتمالها فلا ینعقد الإطلاق ، بل یکون مجملاً .

و قد ذکر الاستاذ هذا الإشکال فی الدّورة السّابقة و اعتمده ... إلّا أنه عدل عنه فی الدّورة اللّاحقة ، و جعل السرّ فی عدم انعقاد الإطلاق : إن الأمر لمّا کان دالّاً علی الإرادة ، و الوجوب إرادة ، و لیس مع الإرادة فی الوجوب شیء آخر - بخلاف غیره من الأحکام ، حیث یوجد مع الإرادة فیها شیء عدمی ، أی عدم المرتبة العالیة من الإرادة - و الدالّ علی أصل الشیء فی الأمر التشکیکی یکون عند الإطلاق ظاهراً فی المرتبة العالیة منه ، فیکون الأمر ظاهراً فی الوجوب من باب الإطلاق . لکن مع کونه بعد الحظر ، یُشک فی أصل الإرادة ، و یحتمل الإباحة مثلاً ، فلا یمکنُ التمسّک بالإطلاق .

و أمّا علی القول بدلالة الأمر علی الوجوب ببناء العقلاء ، فإن بناء العقلاء دلیل لبّی ، و هل مع وقوعه بعد الحظر و احتمال قرینیة الموجود یتحقق الظهور للکلام ؟ و هل البناء المذکور موجود فی هذه الحالة ؟ إنه یؤخذ بالقدر المتیقّن ، و هو المورد الذی لیس واقعاً عقیب الحظر .

و أمّا علی القول بالدلالة بحکم العقل ، فالحق فی الإشکال هو ما ذکرناه

ص:126

من أن أصل تحقّق الإرادة فی مثل هذه الحالة مشکوک فیه ، فلا تصل النوبة إلی الإشکال - کما فی (المحاضرات) (1) - بأنّ حکم العقل بالوجوب موقوف علی عدم القرینة علی الترخیص من ناحیة المولی ، و وقوع الأمر عقیب الحظر یحتمل کونه قرینة .

و تلخَّص :

إنه علی جمیع المبانی ، لا طریق لإثبات دلالة الأمر فی المقام علی الوجوب ، إلّا علی القول بأن أصالة الحقیقة أصل تعبدی ، بضمیمة عدم صارفیّة الموجود .

و أمّا الأقوال الاخری ، من دلالته حینئذٍ علی الإباحة ، أو تبعیّته لما قبل الحظر ، و غیر ذلک ، فلا دلیل علیٰ شیء منها أصلاً . و ما ذهب إلیه السید الأستاذ دام بقاه - من أن الصیغة ظاهرة فی رفع التحریم و الترخیص فی العمل و تجویزه ، فلم یقم علیه دلیلاً إلّا ما أفاده بقوله : « کما یظهر من ملاحظة استعمالات العرف » (2) و أنت خبیر بما فیه ، لأنّ الاستعمالات الفصیحة أعمّ من الحقیقة ، و لو سلّم فخلّوه من القرینة غیر ثابت .

القول بالإجمال

و لمّا کان المختار عند الاستاذ هو الإجمال ، فالنوبة تصل إلی البراءة شرعاً ، ثمّ عقلاً .

أقول :

و هلّا جری الاستصحاب - کما ذکر فی الدورة السابقة - ، أی :

ص:127


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 205/2 .
2- 2) منتقی الاصول 513/1 .

استصحاب حکم الشیء الواقع مورداً للأمر عقیب توهّم الحظر ، من الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة ؟ اللهم إلّا علی القول بعدم جریانه فی الشبهات الحکمیّة ، للتعارض بین الجعل و المجعول ، لکنّ الاستاذ لیس من القائلین بعدم جریانه فیها ، فتدبر .

ص:128

المرّة و التکرار

اشارة

ص:129

ص:130

هل الأمر یدل علی المرّة أو التکرار ؟ أو هل یدل علی الدفعة أو الدفعات ؟

هنا مقدّمات :

المقدّمة الاولی : ما هو المراد من المرّة و التکرار

و الدفعة و الدفعات ؟

قیل : المراد بالمرّة هو الفرد ، و بالتکرار هو الأفراد .

و قیل : المراد بالمرّة هو الوجود الواحد ، و بالتکرار هو الوجودات .

و قیل : المراد بالمرّة هو الدفعة ، و بالتکرار الدفعات .

و الدّفعة تجمع مع وحدة الوجود و تعدّده ، فهی أعمّ من الفرد ، إذ الوجود الواحد المستمر یصدق علیه عنوان الدفعة ، مع اشتماله علی أکثر من فرد ، فهی أعم منه ، و هو أخص من الدفعة ، و النسبة العموم المطلق .

و الصحیح فی عنوان البحث أنْ یقال :

هل الأمر یدل علی الوجود الواحد أو علی الوجودات ... بأنْ یفسّر المرّة بالوجود و التکرار بالوجودات ، لأنّ الأمر بالطبیعة لا یسری إلی الخصوصیّات .

المقدمة الثانیة : إنه لا فرق بین الأمر و النّهی فی المتعلَّق
اشارة

لأنه «الفعل» سواء فی «افعل» و «لا تفعل» ، لکنّ امتثال الأمر یحصل بصرف وجود المتعلَّق ، أمّا امتثال النهی ، فلا یحصل إلّا بترک جمیع الوجودات ، فما هو السرّ فی ذلک ؟

إن أحسن ما یقال فی ذلک هو : إنّه لا قدرة علی الإتیان بجمیع متعلَّقات

ص:131

الأمر ، فلا یمکن البعث نحو جمیع وجودات الطبیعة ، و حینئذٍ ، فتحدیده بمرتبةٍ دون اخری یحتاج إلی بیانٍ ، و عدم البیان بالنسبة إلی مراتب المأمور به یکفی للقول بأنَّ المتعلَّق هو صرف وجود الطبیعة ، و أن الامتثال یتحقق بالإتیان بفردٍ منها .

أمّا النهی ، فالحال فیه علی العکس تماماً ، لأنّ صرف الترک حاصل مع عدم النهی ، فصدور النهی لأجل صرف الترک تحصیلٌ للحاصل ، ثم تحدیده بمرتبةٍ من مراتب النهی دون غیرها یحتاج إلی بیان کذلک ، فالإطلاق یقتضی إرادة جمیع مراتب الترک .

المقدمة الثالثة : إن الأحکام الشرعیّة قضایا حقیقیّة ، فالحکم یتعدَّد علی عدد المکلَّفین ، فقوله تعالی : «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ » (1)یتعدّد الحکم فیه علی عدد المستطیع ... هذا بالنسبة إلی الحکم ، و هل الأمر بالنسبة إلی الموضوع کذلک ، بأنْ یتعدَّد الحکم إذا تعدّد الموضوع ، کأنْ یقال بتعدّد الحکم بالصّلاة بعدد الزوال ، فی قوله : تجب الصلاة عند الزوال ؟

الحق : أنه لا ظهور لقوله «یجب الصلاة عند زوال الشمس» فی وجوب الصّلاة کلّما حصل الزوال ، فتکون واجبةً علی عدد ما یتحقق من الزوال ، إذ لا دلیل عقلی و لا وضعی علی ذلک ، بل المرجع فی مثله هو القرائن ، فإنْ کانت قرینة من مناسبة الحکم و الموضوع أو شیء من القرائن الخارجیة فهو ، و إلّا فالکلام ساکت عن الوحدة و التعدد ...

فما فی (المحاضرات) (2) من دعوی الظهور العرفی فی التعدّد فی المثال

ص:132


1- 1) سورة آل عمران : 97 .
2- 2) محاضرات فی أصول الفقه 206/2 .

و نحوه ، و الظهور العرفی فی الوحدة فی الآیة و نحوها ، لا یمکن المساعدة علیه ، بل یشهد بعدم الظهور سؤال السائل عن المقصود من الآیة المبارکة قائلاً : أ فی کلّ عام (1) ؟

الدلالة الوضعیّة منتفیة

إنّه من حیث الدلالة الوضعیّة ، لا یدلّ الأمر لا علی الوحدة و لا علی التکرار ، و لا الدفعة و لا الدفعات ، و ذلک : لأن صیغة الأمر مرکّبة من المادّة و الهیئة ، أمّا المادّة ، فلا تدلّ إلّا علی المعنی الحدثی ، و أمّا الهیئة - سواء کانت موضوعة للبعث النسبی ، أو النسبة الإیقاعیة ، أو الطلب الإنشائی ، أو لإبراز الاعتبار النفسانی - فلیس فی مدلولها المرّة و لا التکرار و لا الدفعة و الدفعات ، هذا ، و لیس لمجموع الهیئة و المادّة وضع آخر .

إذن ، لا دلالة وضعیّة للصیغة علی شیء من المرّة و التکرار و الدفعة و الدفعات ... فلو أراد المتکلّم شیئاً زائداً عن الطبیعة کان علیه البیان ...

و الطبیعة کما تقدَّمَ - تتحقّق بالمرّة و تصدق بصرف الوجود ، فیحکم العقل فی مقام الامتثال بفراغ الذمة بالإتیان بفردٍ من أفراد الطبیعة ، لکنَّ تحقّق الامتثال به أمر ، و دلالة الأمر علی ذلک أمر آخر ، کما هو واضح .

التمسّک بالإطلاق

أمّا مع الشک فی اعتبار المرّة أو التکرار ، فیشکل الأمر ، لأنّ الماهیّة من حیث هی هی لا یتعلَّق بها الغرض ، و أیضاً : لیس الغرض قائماً بالوجود الخارجی للماهیّة ، لأنّ الوجود الخارجی هو المحقِّق للغرض و المسقط للأمر ، فما هو متعلَّق الأمر حتی یکون هو الواجب ؟

ص:133


1- 1) جامع أحادیث الشیعة 225/10 باب وجوب الحج و العمرة .

إنه سیأتی فی محلّه أن المتعلَّق هو الطبیعة ، لکنْ إمّا الطبیعة الملحوظة خارجاً کما علیه المحقق العراقی ، و إمّا الطبیعة الموجودة بالوجود التقدیری ، کما علیه المحقق الأصفهانی ، فالمتعلَّق - علی أی حال - هو الطبیعة منضمّاً إلیها الوجود ، لکنّ الوحدة و التکرار خارجان عن حقیقة المتعلَّق ، و لذا یُقیَّد المتعلَّق - و هو الطبیعة - تارة بهذا و اخری بذاک و ثالثة لا بهذا و لا بذاک ...

و حینئذٍ ، یتحقق موضوع الإطلاق ، و المفروض تمامیّة مقدّماته و إحرازها .

فإنْ فرض عدم إحراز مقدّمات الحکمة سقط الإطلاق ، و تصل النوبة إلی الأصل العملی .

مقتضی الأصل العملی

و مقتضی القاعدة هو الرجوع أوّلاً إلی الاستصحاب ، لأنّ کلّاً من التکلیف بالوجود الواحد و التکلیف بالوجودات مسبوق بالعدم ، فیکون قید الوحدة أو التعدّد - و هو قیدٌ زائد علی أصل الوجود - خصوصیة زائدة لا یعلم بدخولها تحت الأمر أو عدم دخولها تحته ، و الأصل العدم .

و مع المناقشة فی هذا الاستصحاب ، تصل النوبة إلی البراءة ، و هی جاریة عقلاً و نقلاً عند الشک فی تعدّد الوجود و التکرار . أمّا بالنسبة إلی المرّة ، فتارةً : یحتمل کون المطلوب هو صرف الوجود بشرط لا عن بقیّة الوجودات ، فیکون المتعلَّق مقیّداً بعدم البقیّة و إتیانها مضرّاً بتحقق الامتثال ، و لمّا کان هذا القید قیداً زائداً و کلفةً إضافیّةً فمع الشک تجری البراءة الشرعیّة و العقلیة . و اخری : یحتمل المرّة غیر المقیّدة بعدم التکرار ، ففی جریان البراءة الشرعیة بحث ، فهی جاریة بناءً علی أن موضوعها هو «کلّ ما کان وضعه بید الشارع فله رفعه» ، لأنّ للشارع أخذ القید المذکور ، و أمّا بناءً علی أن

ص:134

موضوعها «کلّ ما کان فی وضعه کلفة» فلا تجری ، لأن المفروض عدمها هنا ، و سیأتی أن ظاهر «رفع عن امّتی ...» هو الثانی ، لکون لسانه لسان الامتنان ، و هو یکون حیث ترفع کلفة عن المکلفین ...

أمّا البراءة العقلیة فلا تجری ، لأن المفروض عدم احتمال العقاب .

و یبقی الکلام فی امتثال الأمر فی الأفراد الطولیّة فیها لو أتیٰ بها بدفعةٍ واحدةٍ ، فهل کلّها امتثال ؟ أو أنه یحصل بواحدٍ منها ؟ أو لا هذا و لا ذاک ؟ و تفصیل الکلام فی بحث الإجزاء .

ص:135

ص:136

الفور و التراخی

اشارة

ص:137

ص:138

هناک فی الشریعة المقدّسة واجبات قام الدلیل علی کونها موسّعةً ، و اخری قام الدلیل علی کونها فوریّة ، و من الفوریّة ما قام الدلیل علیٰ سقوطه إنْ لم یمتثل ، فهو علی سبیل وحدة المطلوب ، و منه ما قام الدلیل علی عدم سقوطه بعدم الامتثال ، فالمطلوب فیه متعدّد ، و هذا علی قسمین ، فتارةً : هو واجب فوراً ففوراً ، و اخری : لو فاتت الفوریّة انقلب إلی واجب موسّع .

لکنّ الکلام الآن فی دلالة نفس الأمر علی الفور أو التراخی ، فهل یدلّ علی ذلک دلالة وضعیّة أو لا ؟ و علی الثانی هل من دلیلٍ عامٍّ یدل أو لا ؟ و علی الأوّل هل هو عقلی أو نقلی ؟

هل تدل الصیغة علی الفور أو التراخی ؟

و الحق : أنه لا دلالة للصّیغة علی الفور و لا علی التراخی ، تماماً کما تقدّم فی مبحث الوحدة و التکرار ، لأنها مرکّبة من المادّة و الهیئة ، و لا دلالة لأحدهما علی أحد الأمرین ... و لا نعید ... فالدلالة الوضعیة منتفیة .

هل من دلیل عقلی ؟

و قد حکی عن الشیخ الحائری الیزدی (1) القول بدلالة الهیئة دلالةً عقلیةً علی الفور ، ببیان : إن وزان الإرادة التشریعیة وزان العلّة التکوینیّة ، و الأمر علّة تشریعیّة لحصول المتعلَّق ، و کما أن التکوینیة لا تنفک عن المعلول ، فالتشریعیّة کذلک ، و نتیجة عدم الانفکاک هو الفوریّة .

ص:139


1- 1) کتاب الصّلاة ، قضاء الفوائت : 573 .

قال الاستاذ :

و لا یتوهّم أن مراده أن الفوریّة مدلول الأمر ، بل هی لازم الإرادة التشریعیّة .

إذن ، ففی ناحیة الهیئة من الصّیغة خصوصیة توجب حکم العقل بالفوریّة .

ثمّ أورد علیه الاستاذ بما یلی :

أولاً : لقد أنکر بعضهم علیّة الأمر للمتعلَّق ، لکنّا نقول بها ، غیر أنّ هذه العلیّة ناقصة - بل إنّ علم المأمور بالأمر هو العلّة و عدم انفکاک المعلول عن العلّة إنما هو فی العلّة التامّة .

و ثانیاً : لو سلّمنا العلیّة ، فهو علّة تامّة لقابلیّة المتعلَّق للتحقّق لا لفعلیّته .

و اکتفی فی الدّورة اللّاحقة فی الجواب : بأن قیاس الإرادة التشریعیّة علی الإرادة التکوینیة فی غیر محلّه ، لأن نسبة الإرادة التشریعیة إلی المراد هی نسبة المقتضی إلی المقتضی ، لا العلّة إلی المعلول کما فی التکوینیّات .

و أمّا ما قیل فی الجواب من أنّ : الوجوب و الإیجاب متلازمان ، و الخصوصیّات الزمانیّة و المکانیة لا تدخل تحت شیء منهما ، و الفوریّة خصوصیّة زمانیّة کما هو واضح ، فلا معنی لأنْ یتعلَّق الإیجاب بها .

فقد ضعّفه الاستاذ دام بقاه :

أوّلاً : بأنَّ الإیجاب و الوجوب واحد حقیقةً ، و لیس هما أمرین بینهما تلازم .

و ثانیاً : بأنّ الشیخ الحائری قد أخذ الفوریّة من علیّة الأمر لا من جهة الإیجاب ، حتی یقال بأنّها لا توجد لا فی جهة الإیجاب و لا فی جهة الوجوب .

ص:140

و ذکر للحکم العقلی فی المقام بیان آخر ، و هو : إن الأمر بعث ، و البعث و الانبعاث متضایفان ، و المتضایفان متکافئان قوّةً و فعلاً ، فلا یعقل وجود البعث و عدم وجود الانبعاث ، فالفوریة ثابتة .

و فیه :

إن هذا القانون إنما هو فی المتضایفین التکوینیین ، لا الأمرین الحاصل بینهما التضایف بالاعتبار ، فما ذکر یتمّ بین الابوّة و البنوّة الواقعیین ، أمّا لو اعتبر شخص أباً لشخصٍ ، فهذه الابوّة الاعتباریة لا یجری فیها القانون المذکور .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن الأمر بعثٌ إمکانی و لیس بعثاً فعلیّاً ، فهو ما یمکن أن یکون باعثاً إذا تعلَّق العلم به و کانت النفس مستعدة ... و إذا کان إمکانیّاً ، فالانبعاث أیضاً إمکانی ، فلا فوریّة .

الإطلاق

ثم إنّ مقتضی الإطلاق هو عدم الدلالة علیٰ الفور أو التراخی ، کما تقدَّم فی الوحدة و التکرار تماماً ، فلا نعید ... لکنْ لا بأس بالتنبیه علی نکتةٍ و هی : إنّ هذا الإطلاق تام هنا ، سواء قلنا بحجیّة مثبتات الاصول اللّفظیّة أو لم نقل .

و توضیحه : إنّ اللّوازم العقلیّة تارةً : تکون لوازم للحکم الواقعی فقط ، و اخری : تکون لوازم للحکم الواقعی و الحکم الظّاهری معاً ، فإنْ کانت من الاولی ، فلا بدّ من إثبات حجیّة مثبتات الاصول اللّفظیة و إلّا لم یتم الإطلاق ، و إنْ کانت من الثانیة ، فالإطلاق حجّة سواء کانت المثبتات للاصول اللّفظیة حجّة أو لا .

ص:141

و فیما نحن فیه : یکون جواز التأخیر عقلاً فی الإتیان بالمأمور به من لوازم الإطلاق ، سواء کان ظاهریّاً أو واقعیّاً ، و لذا لو تمّ الإطلاق بالأصل العملی لا بالدلیل الاجتهادی کان ظاهریاً و لازمه عقلاً جواز التراخی ، فجواز التراخی لیس بلازمٍ للحکم الواقعی فقط ، فلا فرق بین القولین فی مثبتات الاصول اللفظیّة من هذه الناحیة .

فما جاء فی (المحاضرات) (1) من ابتناء تمامیّة الإطلاق علی البحث المذکور غفلة عجیبة .

الدلیل الخارجی علی الفور : الکتاب

و استدلّ للقول بدلالة الأمر علی الفور بآیتین من الکتاب :

1 - قوله تعالی «وَسَارِعُواْ إِلَی مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّکُمْ ...» (2) .

2 - قوله تعالی : «فَاسْتَبِقُوا الخَیْرَاتِ ...» (3) .

بتقریب : إنّ المغفرة فعل اللّٰه ، فلا معنی لأن یسارعَ إلیها ، فلا بدّ من تقدیرٍ مثل کلمة «السبب» أی : سارعوا إلی سبب مغفرة اللّٰه ، کی یصحّ الأمر بالمسارعة إلیه ، لأنه من فعلنا و تحت اختیارنا ، و الإتیان بالواجبات من أظهر مصادیق أسباب المغفرة ، فالواجبات یجب المسارعة إلیها ... فالفور واجب .

و دلالة الآیة الثانیة أوضح ، فإن القیام بالواجبات من أظهر مصادیق الخیرات ، فیجب السبق إلی الواجبات بإتیانها مع الفوریة .

ص:142


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 213/2 .
2- 2) سورة آل عمران : 133 .
3- 3) سورة البقرة : 148 .

وجوه الجواب

و قد أجابوا عن الاستدلال بالآیتین بوجوه :

الوجه الأول : إن سیاق الآیتین یفید أن الأمر فیهما للاستحباب ، إذ لو کان وجوبیّاً لجاء فیها التحذیر من الترک . قاله صاحب (الکفایة) (1) .

و فیه : ما لا یخفی ، إذ لو کان عدم التحذیر من الترک دلیلاً علی الاستحباب ، لزم حمل کثیرٍ من الأوامر أو أکثرها علی الاستحباب . علی أنّ هیئة «افعل» تدلّ علی الوجوب بأیّة مادّةٍ من المواد کانت ، و لا فرق بین «استبقوا» و«صلّوا» .

الوجه الثانی : إن الأمر بالاستباق و المسارعة لیس مولویّاً بل هو إرشاد إلی حکم العقل بحسن المسارعة إلی تفریغ الذمّة و الخروج من عهدة الأمر المتوجّه إلی المکلَّف . قاله صاحب الکفایة و المحقق العراقی و السیّدان الخوئی و الحکیم (2) .

و أجاب العراقی : بأن للاستباق إلی الخیر و المسارعة نحوه حسناً عقلیّاً فی موردین فقط ، أحدهما : أن یکون للاستباق و المسارعة خصوصیّة کالصّلاة فی أول الوقت . و الآخر : أن یکون فی التأخیر آفة .

و بحثنا هنا فی نفس المسارعة و الاستباق ... و لیس فیهما حسن عقلی .

و لکنّه مخدوش : بأنّ فی نفس المسارعة إلی القیام بما أمر به المولی حسناً لکونه انقیاداً له ، و إنْ لم یکن فی التأخیر آفة .

بل الحق فی الجواب : إن الأمر الشرعی إنما یحمل علی الإرشاد - حیث

ص:143


1- 1) کفایة الأصول : 80 .
2- 2) کفایة الأصول : 80 ، نهایة الأفکار 219/1 ، المحاضرات 215/2 ، حقائق الأصول 189/1 .

یکون فی المورد حکم عقلی - إذا لزم فیه اللّغویة ، و المسارعة إلی الخیرات - و إن کان من شئون الطاعة - یترتب علیه الأثر ، و هو الأجر و الثواب ، فلیس لغواً ، فلیس إرشادیّاً . و أیضاً : فمن الناس من لا ینبعث نحو أوامر المولی بحکم العقل و لا یتّبعون إلّا الأوامر المولویّة ، فیکون لأمره بالمسارعة نحو الخیر و الطّاعة أثر ، فلیس إرشادیّاً .

الوجه الثالث : إن ظاهر «فَاسْتَبِقُوا الخَیْرَاتِ » تعدّد الخیر لأنه صیغة جمع ، و إذا کانت خیراتٌ فیقع التزاحم فیما بینها ، و إذا وقع التزاحم خرجت الأفراد عن الخیریة إلّا واحداً منها ، لأن المفروض کون العمل واجباً ، لکون الأمر للوجوب و البقیّة مزاحمات للفرد الواجب ، و إذا کانت مزاحمةً خرجت عن الخیریّة ، فلازم حمل الآیة علی الوجوب هو انحصار الخیرات بخیر واحدٍ ، و هذا خلاف الآیة المبارکة ، فلا مناص من حملها علی الاستحباب ، لأن المستحبات لا تخرج عن الاستحباب بالتزاحم ... . نقله الأستاذ فی الدورة السابقة عن المحقق العراقی ثم أورد علیه :

أوّلاً : إن معنی الآیة هو الاستباق إلی أعمال الخیر و إنْ کان واحداً ، فهو کما لو قیل : فاستبقوا الواجبات ، فإنه لا یلزم تعدّد الواجب .

و ثانیاً : لو کان التزاحم فی الواجبات یخرج المزاحم عن الخیریّة تمّ ما ذکره ، و لکن المفروض أن التزاحم لا یؤدّی إلی سقوط الملاک و انعدامه ، فالمهمّ یبقی علی الخیریة بعد سقوط وجوبه بالمزاحمة مع الواجب الأهم ، و لذا لو عصی الأمر بالأهم وجب الإتیان بالمهم بناءً علی الترتّب .

و الحاصل : إن التزاحم لا یخرج العمل عن الخیریّة إلی الشرّ ، بل التزاحم وقع بالنسبة إلی وجوبه لا خیریّته . نعم ، إنما یتمُّ ما ذکره بناءً علی

ص:144

اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه الخاص ، و القائل بهذا الوجه لا یقول بالاقتضاء المذکور .

الوجه الرابع : إنّ الآیة « فَاسْتَبِقُوا الخَیْرَاتِ »لا علاقة لها بالبحث ، إذ هی خطاب لعامّة الناس و ترغیب لأن یتسابقوا ، فیسبق بعضهم البعض الآخر إلی الخیرات ، و محلّ الکلام ما لو کان الإنسان مکلَّفاً بواجبٍ فهل یجب المبادرة أو لا ، سواء کان هناک مکلَّف آخر بهذا العمل أم لم یکن .

و فیه : إن المطلب بلحاظ مادّة الاستباق کما ذکره ، لکنْ فی التفاسیر کمجمع البیان (1) من الخاصّة و الرازی من العامّة (2) فی معنی الآیة : إئتوا بالطّاعات علی الفوریّة ، فهی تدل علی الإسراع نحو الطّاعات ...

و مع الغض عمّا ذکروا بتفسیر الآیة ، فلو فرض کون المدلول هو التسابق و وجود المکلَّفین و تعدّد مورد التکلیف ، فإنّ أهل العرف فی مثل هذا المورد لا یفرّقون بین صورة تعدّد المکلّف و مورد التکلیف و صورة عدم التعدّد فیهما .

الوجه الخامس : إن هذا الأمر استحبابی و لیس بوجوبی ، فقد جاء لحمل المکلّف علی السعی لتحصیل الثواب ، إذ لو حمل علی الوجوب و الإلزام لزم تخصیص الأکثر المستهجن ، و ذلک لخروج المستحبّات التی لا ریب فی کونها خیراً موجباً للمغفرة ، مع أن المسارعة إلیها لیس بواجب .

و هذا هو الجواب الصحیح عن الاحتجاج بالآیتین و یختلف عن الوجه الأول فی کیفیة الاستدلال فلا تغفل .

ص:145


1- 1) مجمع البیان 296/1 ط الأعلمی .
2- 2) تفسیر الرازی 133/4 .

ص:146

الإجزاء

اشارة

ص:147

ص:148

و بحث الإجزاء من المباحث المهمّة علماً و عملاً ، إنه یترتّب علی القول بالإجزاء عدم وجوب الإعادة و القضاء ، و علی القول بعدمه وجوبهما أو التفصیل کما سیأتی .

و قد اختلفت کلماتهم فی عنوان البحث :

فالقدماء و صاحب (الفصول) یقولون فی العنوان :إن الأمر بالشّیء هل یقتضی الإجزاء أو لا ؟ و المتأخّرون قالوا : هل إتیان المأمور به ... وعلیه المحققون : الخراسانی و الأعلام الثلاثة .

فالموضوع علی الأوّل هو «الأمر» ، و أما علی الثانی فهو «إتیان المأمور به» .

و العنوان عند المتأخرین مقیداً بقیودٍ ، سیأتی الکلام علیها بالتفصیل فی المقدّمات .

هل الإجزاء من مسائل علم الاصول ؟

اشارة

و قبل الورود فی البحث و مقدّماته ، فلا ریب فی أنّ هذا البحث من المباحث الاصولیّة ، لأن نتیجته تقع فی طریق استنباط الحکم الکلّی الشرعی ، و إنْ اختلف فی کیفیة وقوعه فی طریق الاستنباط ، إذ لا خلاف فی ترتّب الأثر علی البحث ، سواء قلنا بالإجزاء أو قلنا بعدمه ، بخلاف قسم من المسائل ، کمسألة حجیّة خبر الواحد ، فإنه لا أثر للقول بعدم حجیّته .

ص:149

و هل هو من مباحث الألفاظ ؟

ثمّ إنه إنْ کانت الواسطة فی الإثبات من الأحکام العقلیّة ، کانت المسألة عقلیّة ، و إنْ کانت أمراً لفظیّاً ، فهی مسألة لفظیّة کما هو واضح ...

فبناءً علی عنوان (الفصول) یکون البحث لفظیّاً ، لارتباطه بالدلالة اللّفظیة ، لأن اقتضاء الأمر إمّا مطابقی و إمّا تضمّنی و إمّا التزامی ، فالواسطة فی الإثبات من الدلیل اللّفظی ، و بناءً علی عنوان الجماعة ، یکون البحث عقلیّاً ، إذْ لا ارتباط لإتیان المأمور به بعالم الألفاظ .

و قد عدل القوم عن عنوان القدماء ، لعدم دلالة الأمر بالشّیء - و هو مدلول الکتاب و السنّة اللّذین هما الموضوع لعلم الاصول - علی الإجزاء .

أمّا مطابقةً فواضح .

و أمّا تضمّناً ، فکذلک ، فلا دلالة للأمر - بأیّ معنیً کان - علی الإجزاء ، لا مطابقةً و لا تضمّناً .

و أمّا التزاماً ، فقد تقرّب الدلالة بأنّ الأمر معلول للغرض القائم بالمأمور به ، فهو دالٌّ علی الغرض ، فإذا تحقق المأمور به تحقّق الغرض ، و حینئذٍ یحکم بالإجزاء ، فکان الأمر الکاشف عن الغرض دالّاً بالدلالة الالتزامیّة العقلیّة علی سقوط الغرض عند إتیان المأمور به ، و بسقوط الغرض یتحقق الإجزاء .

هذا ، و لا یعتبر فی الدلالة الالتزامیة أن یکون لزوم اللازم بلا واسطة ، بل یکفی أن یکون لازماً و لو بواسطة أو أکثر .

لکنْ فیه : إن هذا التقریب موقوف علی إثبات کون الأمر معلولاً للغرض ، و هذا فیه کلام ، و قد أنکره جماعة ، و إذا کان ذلک محتاجاً إلی الإثبات ، خرج اللّزوم عن اللزوم البیّن بالمعنی الأخص ، و حینئذٍ یحتاج إلی

ص:150

دلیل ، و إذا احتاج إلی الدلیل ، خرج عن الدلالة الالتزامیة .

و یمکن تقریب الدلالة الالتزامیة ببیانٍ آخر بأن یقال : بأنّ البعث هو المدلول المطابقی للأمر ، و لازم البعث إلی شیء - باللّزوم العقلی البیّن غیر المحتاج إلی الاستدلال - سقوطه بتحقّق المبعوث إلیه ، لعدم تعقّل بقاء البعث و الطلب مع حصول المطلوب و المبعوث إلیه ...

و بهذا البیان یصلح بحث الإجزاء لأنْ یکون من مباحث الألفاظ ، و لکنْ لا فی جمیع مسائله و إنّما فی مسألة إجزاء الأمر بالنسبة إلی نفسه ، أمّا بالنسبة إلی إجزاء المأمور به الاضطراری أو الظاهری عن الأمر الواقعی فلا .

فالصحیح هو التفصیل فی المقام ، خلافاً لمن قال بعدم کون بحث الإجزاء من مباحث الألفاظ مطلقاً ، کالمحقّق الأصفهانی رحمه اللّٰه .

لکنّ التحقیق أن یقال : إنه إن کان النظر فی عنوان البحث إلی حکم الإتیان بالمأمور به - بنفسه أو ببدله - من حیث الإجزاء ، فالبحث عقلی بلا إشکال فی جمیع مسائله ، لأن کون الإتیان بالشّیء أو بدله - الذی ثبتت بدلیّته - مسقطاً للأمر أو غیر مسقطٍ ، إنما یکون بحکم العقل ، و لا علاقة له بعالم الألفاظ .

و أمّا إنْ کان النّظر فی حدّ دلالة الأدلّة فی المسقطیّة ، بأنْ یراد البحث عن أن الأمر الاضطراری هل تدلّ أدلّته علی إجزائه عن الأمر الاختیاری أو لا ؟ و أنّ مقتضی أدلّة الأمر الظاهری هو الإجزاء عن الأمر الواقعی أو لا ؟ فإن البحث حینئذٍ یکون لفظیّاً ، لرجوعه إلی إطلاق أدلّة الأمر الاضطراری أو الأمر الظّاهری ، و عدم إطلاق تلک الأدلّة .

ص:151

عنوان البحث فی الکفایة

و کیف کان ، فالذی فی (الکفایة) : الإتیان بالمأمور به علی وجهه یقتضی الإجزاء فی الجملة بلا شبهة .

فما المراد من «علی وجهه» ؟ و من «الاقتضاء» ؟ و من «الإجزاء» ؟

المراد من «علی وجهه»

أمّا قید «علی وجهه» ففیه وجوه ، أحدها : قصد الوجوب فی الواجبات و الاستحباب فی المستحبات . و الثانی : الإتیان بالمأمور به بالکیفیّة التی تعلّق الأمر بها . و الثالث : الإتیان به علی الوجه المعتبر فیه عقلاً .

و قد ذهب المحقق الخراسانی و من تبعه - کالمحقق العراقی - إلی المعنی الثالث ، لأنّ اعتبار قیدٍ فی المأمور به تارةً یکون من ناحیة الشّرع ، بأنْ یأخذ شیئاً فیه علی نحو الشرطیّة أو الجزئیّة ، و لإفادة هذا المعنی یکفی عنوان «المأمور به» ، لأنّه إنْ فقد قیداً أو شرطاً خرج عن کونه مأموراً به ، لکنّ هناک قیوداً لیس أخذها من ناحیة الشارع ، مثل قصد القربة ، فإن اعتباره فی العبادات من ناحیة الشارع مستحیل - علی القول باستحالة أخذه فی متعلَّق الأمر ، کما تقدم بالتفصیل - لکنْ لا بدّ من أخذه و اعتباره ، لعدم تحقق غرض المولی من التکلیف العبادی بدونه ، فکان المعتبر له هو العقل .

فهذا هو المراد من «علی وجهه» ، و لیس قیداً توضیحیّاً کما قیل ، علی أن الأصل فی القیود هو الاحترازیة .

و تلخَّص : إن مختار (الکفایة) هو أنّ القیود المعتبرة فی المأمور به یکفی فی اعتبار الشرعیّة منها کلمة «المأمور به» ، فلزم مجیء قیدٍ آخر لإفادة اعتبار القیود العقلیّة أیضاً ، و هو کلمة «علی وجهه» .

ص:152

و بما ذکرنا ظهر أنّ تعبیر (الکفایة) أتقن من تعبیر صاحب (المفاتیح) حیث قال : «إذا أتی المکلَّف بالمأمور به علی الوجه المعتبر شرعاً ... » (1) لأنّ من القیود ما لا یمکن للشارع اعتباره ، بل المعتبر له هو العقل .

فمراد (الکفایة) - بعبارةٍ اخری - هو : إتیان المأمور به علی النهج الذی لا بدّ من أن یؤتی به ، لیکون أعمّ من التقیید الشرعی و التقیید العقلی .

و أمّا القول بأن المراد هو قصد الوجه من الوجوب و الاستحباب ، ففیه :

أوّلاً : إن الأکثر غیر قائلین باعتبار قصد الوجه فی العبادات . و ثانیاً : إنّ البحث فی الأعم من الواجبات التعبدیّة و التوصلیّة ، و ثالثاً : إن هناک خصوصیّات أخری معتبرة فی العبادات کالبلوغ و العقل و غیرهما ، و لا وجه لاختصاص هذا القید و الخصوصیّة بالذکر فی عنوان البحث .

و الحاصل : إن ما ذکره المحقق الخراسانی هو الصحیح .

و لا یرد علیه ما ذکره السیّد البروجردی (2) من أنّ عدم إمکان أخذ قصد القربة فی المتعلَّق شرعاً ، و أنَّ المعتبر له هو العقل ، هو من الأنظار الحادثة بعد الشّیخ الأعظم ، و عنوان البحث بقید «علی وجهه» مما ذکر فی الکتب قبل الشیخ ، فلا یکون الغرض من أخذه إفادة أخذ قصد الأمر بحکم العقل لا الشرع .

و ذلک : لأن «قصد الأمر» هو واحد من القیود التی لم یمکن للشارع أخذها ، فکان المعتبر لها هو العقل ، کما أشرنا إلی ذلک ، فالمعتبرات العقلیّة متعدّدة ، کعدم ابتلاء متعلَّق الأمر بالمزاحم کما ذکر بعضهم ، و کالفوریّة حیث

ص:153


1- 1) مفاتیح الاصول للسید المجاهد الطباطبائی : 125 ط حجری .
2- 2) نهایة الأصول : 112 .

قبل بأنها معتبرة بحکم العقل فی المتعلَّق ... إلی غیر ذلک ... فما ذکره رحمه اللّٰه فی الإشکال علی صاحب (الکفایة) غیر وارد.

کما أنه لیس المراد من أخذ القید المذکور هو الردّ علی القاضی عبد الجبار (1) ، إذ یکفی فی ردّه أن الصّلاة مع الطّهارة المستصحبة مأمور بها بالأمر الظاهری الشرعی ، فلا حاجة إلی قید علی وجهه ، و لو ارید من الطهارة :

الطهارة الواقعیّة ، فهی - أی الصّلاة - فاقدة لها ، و المأمور به غیر متحقّق ، فلا حاجة إلی قید «علی وجهه» کذلک .

و علی الجملة ، فالحق مع المحقق الخراسانی ، فی القید المذکور .

المراد من «الاقتضاء»

إنه بناءً علی التعبیر بالأمر بالشیء هل یقتضی ... یکون «الاقتضاء» بمعنی الدلالة ، أی : هل الأمر یدلّ علی الإجزاء أو لا ؟ ، و أما بناءً علی تعبیر (الکفایة) و من تبعه ، فلا محالة یکون «الاقتضاء» بمعنی العلیّة ، لأن «الإتیان» فعل ، و الفعل لا دلالة له علی شیء ، فعلی القول بالإجزاء یکون الإتیان علةً لسقوط الأمر ، و علی القول بعدمه فلا یکون علةً له .

و البحث علی الأوّل لفظی ، و علی الثانی عقلی .

لکنّ کون بحث الإجزاء عقلیّاً ، إنما هو بالنظر إلی کبری البحث ، حیث نقول : هل الإتیان بالمأمور به - بأیّ أمرٍ - یجزی عن ذلک الأمر أو لا ؟ لکنْ بالنظر إلی صغری البحث فی إجزاء الأمر الظاهری عن الأمر الواقعی ، و إجزاء الأمر الاضطراری عن الأمر الاختیاری ، فالبحث لفظی ، لأنّه یعود إلی حدّ دلالة أدلّة الحکم الظاهری و أدلّة الحکم الاضطراری .

ص:154


1- 1) حیث استشکل علی الإجزاء بما إذا صلّی مع الطهارة المستصحبة ثم انکشف کونه محدثاً ، فإن صلاته باطلة غیر مجزیة ، مع کونه ممتثلاً للأمر الاستصحابی .

فما ذهب إلیه صاحب (الکفایة) من جعل المسألة عقلیّة ، و أن الاقتضاء بمعنی العلیّة ، إنما یتم فی الکبری ، لا فی الصغری ، و لا یخفی أن المهمّ فی مسألة الإجزاء هو البحث الصغروی فی الموردین ، فلا وجه لجعل البحث عنهما تطفلیّاً ، و لعلّه قدّس سرّه إلی هذا الإشکال أشار بقوله «فافهم» .

إذن ، لا بدّ من التفصیل ، وعلیه یکون «الاقتضاء» بمعنی العلّیة بالنظر إلی کبری البحث ، و بمعنی الدلالة بالنظر إلی البحثین الصغرویّین .

هذا ، و قد أشکل المحقق الأصفهانی بأنّ الأمر لا یمکن أن یکون علةً لسقوط الأمر ، لأن المفروض هو أن الأمر علّة للإتیان بالمأمور به ، و الإتیان به إن کان علّةً لعدم الأمر یلزم کون الشیء علةً لعدم علّة نفسه ، و هذا محال .

و بعبارة اخری : العلّة منشأ للثبوت فکیف یکون منشأ للسقوط ؟

و أجاب المحقق العراقی : بأنّ الذی کان علّةً للثبوت هو الوجود العلمی للأمر ، و الذی هو منشأ سقوط الأمر هو الإتیان بالمأمور به بوجوده الخارجی .

و قال شیخنا دام بقاه : بأنّ إشکال المحقق الأصفهانی هذا یناقض مبناه فی بحث التعبّدی و التوصّلی ، حیث ذهب هناک إلی أنّ الأمر الخارجی لیس بعلّةٍ للإتیان ، بل العلّة و الداعی للامتثال هو الوجود العلمی للأمر ، و الوجود العلمی غیر متوقّف علی الوجود الخارجی ، فمن الممکن أنْ یحصل للإنسان علم من غیر أنْ یکون له مطابَق فی الخارج .

ثم قال المحقق الأصفهانی :

إن الحق سقوط الأمر لعدم وجود علّته ، لأنّ علّة الأمر هی الغرض ، و مع تحقّقه لا تبقی علّة للأمر ، و مع انتفاء العلّة لا یبقی الأمر ، و إلّا لزم وجود المعلول بلا علّةٍ .

ص:155

أقول :

و قد وافق الاستاذ فی الدورة اللّاحقة علی هذا ، و لعلّه لذا فسّر الاقتضاء فی الدورة بالسّابقة بانتهاء أمد العلیّة ، و أوضحه بأن مناط علیّة کلّ علةٍ عبارة عن تحقق المعلول ، و بمجرّد تحقّقه لا یبقی مناط للعلیّة ، و الإتیان بالمأمور به یوجب انتهاء أمد علیّة العلّة ، لأن علیّتها هی لتحقق المعلول ، و مع تحقّقه فلیس لبقاء العلّة مجال .

إلّا أنّ هذا الجواب الذی وافق علیه الاستاذ ، إنّما یتم بناءً علی تبعیّة الأوامر للأغراض ، و هذا مذهب العدلیّة فقط .

المراد من « الإجزاء »

و قال صاحب (الکفایة) إن المراد من الإجزاء فی عنوان البحث هو نفس معناه اللّغوی ، أی الاکتفاء ، فلیس المراد منه سقوط الإعادة و القضاء ، نعم لازمه ذلک ، أی سقوط کلیهما أو أحدهما و هو القضاء ، کما لو صلّی فی الثوب المتنجّس عن نسیان ، فإن المشهور علی الإعادة ، فإن خرج الوقت فلا قضاء .

و الحاصل : إن المراد کفایة المأتی به عن المأمور به ، فقد یسقط الإعادة و القضاء ، و قد یسقط القضاء دون الإعادة ، علی اختلاف الموارد بحسب الأدلّة .

و ما ذکره متینٌ مقبول عند الاستاذ دام بقاه .

الفرق بین الإجزاء و بین المرة و التکرار و بین تبعیة القضاء للأداء

و تعرّض صاحب (الکفایة) لبیان الفرق بین مسألة الإجزاء و مسألة المرّة و التکرار و مسألة تبعیّة القضاء للأداء ، فقال ما حاصله فی الفرق بین الإجزاء

ص:156

و المرّة و التکرار : إن البحث هناک هو فی حدّ المأمور به ، و أن متعلّق الأمر هو الوجود الواحد من الطّبیعة أو الوجودات العدیدة منها ، و البحث هنا هو بعد الفراغ من تلک الناحیة ، و أنه کلّما کان المأمور به - الإتیان به مرّةً أو تکراراً - یکون مجزیاً أو لا ؟

فلا یتوهَّم عدم الفرق بین المسألتین ...

کما أن التفریق بینهما ، بأن مسألة المرّة و التکرار لفظیّة و مسألة الإجزاء عقلیّة ، لازمه أنْ لا یکون بین المسألتین فرق علی مسلک القدماء و صاحب (الفصول) .

و أمّا الفرق بین المسألة و مسألة تبعیّة القضاء للأداء ، فإن تلک المسألة معناها کفایة الأمر الأوّل لإثبات وجوب قضاء الواجب الفائت ، فالقضاء تابع للأداء ، أو عدم کفایته بل یحتاج القضاء لأمرٍ جدید ؟ فالبحث هناک عن متعلَّق الأمر من حیث وحدة المطلوب أو تعدّده . أما هنا ، فالبحث یأتی عن إجزاء الإتیان بالمأمور به و عدم إجزائه بعد الفراغ عن تحدیده و تعیّنه . هذا أولاً .

و ثانیاً : إن الموضوع للقضاء هو عدم الإتیان بالمأمور به ، و الموضوع للإجزاء هو الإتیان بالمأمور به ، فاختلف الموضوعان .

و البحث فی الإجزاء فی مسائل :

ص:157

المسألة الأولی: هل الإتیان بالمأمور به بصورةٍ عامّةٍ یقتضی الإجزاء ؟
اشارة

إن الأمر قد تعلَّق بالصّورة الملحوظة خارجاً ، و المأتی به هو نفس ذاک الذی أوجد فی الخارج ، فهل إیجاده کذلک یکفی عمّا تعلَّق به ، و یسقط الأمرُ بذلک ، أو أنه لا یجزی و لا یکفی عنه ، و الأمر باق ، فالإعادة و القضاء واجب ؟

قال الاستاذ : إن الصحیح فی عنوان البحث فی هذه المسألة أنْ یقال :

هل الإتیان بالمأمور به بنفسه أو ببدله یقتضی الإجزاء أو لا ؟ و الوجه فی ذلک تعمیم البحث للمسألتین الآتیتین ، حیث البحث فیهما صغروی ، و البحث هنا کبروی .

و علی الجملة ، فقد ذکر فی (الکفایة) أنّ العقل مستقل بالإجزاء .

و قد أوضح صاحب (الدرر) و المشکینی (1) و غیرهما کلام (الکفایة) بأن عدم الإجزاء یستلزم تحصیل الحاصل ، و هو محال ، و ذلک ، لأنّ الأمر إذا تعلَّق بشیء ، و امتثل الأمر و اتی بالشیء ، کان بقاء الأمر بعد ذلک - و هو یقتضی الامتثال و الإتیان بالمأمور به - مستلزماً لطلب الحاصل .

و قد تبع الاستاذ المحققین الأصفهانی و العراقی فی الخدشة فی هذا التقریب ، بأنّ عدم الإجزاء لیس تحصیلاً للحاصل ، بل هو إیجادٌ للوجود

ص:158


1- 1) درر الأصول 77/1 ، الحاشیة علیٰ الکفایة 124/1 .

الثانی ، کما أن الإجزاء هو الاکتفاء بالوجود الأوّل ، و إیجاد الوجود الثانی و الفرد الآخر لیس بإیجاد ما تحقّق و حصل وجوده .

بل الصحیح أنْ یقال : إنه عند ما یتعلَّق الأمر بشیء و یؤتی بذلک الشیء امتثالاً للأمر بجمیع حدود الشیء و قیوده ، فبقاء الأمر بعد ذلک یستلزم وجود المعلول بلا علّة ، إذ الأمر معلول للغرض ، و لا یعقل عدم تحقّقه مع الإتیان بالمأمور به بجمیع حدوده و قیوده ، و مع تحقق الغرض من الأمر لا بقاء للأمر ، و إلّا کان معلولاً بلا علّة ... و هذا ما ذکره المحققان المذکوران ، علی مسلک المتأخرین من جعل المسألة عقلیةً کما تقدّم .

أمّا علی مسلک القدماء و صاحب (الفصول) ، فإن الأمر نفسه یدلّ علی الإجزاء ، بالدلالة اللّفظیّة اللزومیّة ، بناءً علی عموم الدلالة الالتزامیّة اللّفظیة للّزوم البیّن بالمعنی الأخص و بالمعنی الأعم معاً ، کما هو التحقیق (1) .

الکلام فی الامتثال بعد الامتثال و تبدیل الامتثال

و علی کلّ تقدیرٍ ، فإن الامتثال حاصل و الأمر یسقط .

و لکن هل یمکن الامتثال بعد الامتثال ؟ و هل یمکن تبدیل الامتثال ؟ هذا ما تعرَّض له المحققون ، بالنظر إلی الروایات الواردة فی أکثر من موردٍ ، الظاهرة فی الامتثال بعد الامتثال ، کالإتیان بالصّلاة جماعةً بعد الإتیان بها مفرداً .

نظریّة المحقق الخراسانی و المحقق النائینی

فمنهم من یصوّر المطلب - فی مقام الثبوت - عن طریق تصویر الغرض

ص:159


1- 1) قد أوضح الاستاذ هذا المطلب فی مقدمةٍ للبحث فی هذه المسألة ، فی الدورة السابقة .

الأقصی من الأمر ، کالمحقّق الخراسانی و المحقق النائینی (1) . و حاصل کلامهما هو : إن الغرض من کلّ أمرٍ من الأوامر غرضان ، أحدهما : قائم بنفس متعلَّق الأمر ، و الثانی : هو الغرض الأقصی من الأمر ، فإنْ تحقّق الغرض الأقصی فلا مورد لتبدیل الامتثال ، و لکن قد یکون المتعلَّق هو الإتیان بالشیء فقط ، و الغرض الأقصی غیر حاصل منه ، فمع عدم حصوله یکون ملاک الأمر باقیاً ، و حینئذٍ یمکن تبدیل الامتثال بامتثال آخر .

و مثال ذلک : لو أمر المولی بالإتیان بالماء ، فإن الغرض المترتّب من ذلک أوّلاً هو تمکّن المولی من شرب الماء ، و الغرض الأقصی من ذلک هو رفع عطشه ، فلو جاء العبد بالماء و أراقه فی حلق المولی حصل الغرض الأقصی و لم یبق مجال لتبدیل الامتثال ، أمّا لو جاء به و لم یشربه المولی بعدُ لرفع عطشه ، أمکن للعبد تبدیل هذا الفرد من الماء بفردٍ آخر یتحقّق به الامتثال و یترتّب علیه الغرض الأقصی و هو رفع العطش .

و علی هذا تحمل روایات إعادة الصّلاة جماعةً ، فإنّه یبدّل الصّلاة المأتی بها فرادی بصلاةٍ أتی بها جماعةً ، و یقدّمهما بین یدی المولیٰ ، و هو یختار أحبَّهما إلیه کما فی الروایة .

إشکال الاستاذ

و قال الاستاذ دام بقاه بفساد الامتثال بعد الامتثال ، و أن تبدیل الامتثال أفسد منه .

أمّا الامتثال بعد الامتثال ، ففیه : إن المفروض تعلّق الأمر بطبیعی المأمور

ص:160


1- 1) کفایة الأصول : 83 ، أجود التقریرات 282/1 .

به ، و المفروض اتّحاد الطبیعی مع الفرد و وجوده بوجوده ، فیکون انطباق المأمور به علی المأتی به قهریّاً ، و معه یتحقق الامتثال ، و إذا تحقق سقط الأمر ، و إذا سقط فلا موضوع للامتثال ، لوضوح تقوّمه بالأمر ، و مع عدم الأمر ، کیف یکون الوجود الثانی امتثالاً ؟

و أمّا تبدیل الامتثال ، ففیه - مضافاً إلی ما تقدّم - إنه مع تحقق الامتثال یکون تبدیله بامتثالٍ آخر انقلاباً للموجود ، و انقلاب الموجود محال ...

و به یظهر ما فی کلام بعضهم من إمکان تبدیل الفرد المأتی به بمصداقٍ آخر من الطبیعة بما أنه فرد من الطبیعة - لا بعنوان الامتثال - غیر أنّ المولی یحصّل غرضه من هذا الفرد الثانی .

فإنه لا یرفع اشکال الانقلاب ، للزومه ، سواء اتی به بعنوان الامتثال أو بعنوان الفردیّة للطبیعة .

و إن أراد القائل من التبدیل إعدام الفرد الأول و جعل الثانی بدلاً له .

فهذا خارج عن البحث ، و لا یصدق علیه عنوان التبدیل .

و إن أراد رفع الید عن الأول .

ففیه : إنْ رفع الید عن فردیة الأوّل للطبیعة ، غیر ممکن ، لأنه لیس تحت اختیار المکلّف .

و إنْ أراد رفع الید عن فردیّته من حیث الامتثال .

فهذا غیر ممکن ، و هو خلاف فرض القائل .

و أمّا ما فی (الدرر) (1) من أن له إبطال فردٍ و الإتیان بفرد آخر .

ففیه : إن إبطال الفرد بعد الإتیان به غیر معقول ، و أمّا فی أثنائه فخارج عمّا نحن فیه .

ص:161


1- 1) درر الأصول 78/1 .
نظریة المحقق العراقی
اشارة

و منهم من یصوّر المطلب - ثبوتاً - علی أساس المقدّمة الموصلة ، و هو المحقّق العراقی (1) ، قال رحمه اللّٰه تعالی : إنه لمّا أمر المولی بالماء یأتی العبد بفردین من الماء حتی یختار المولی منهما ما أحبّ ، و هذا لیس تبدیلاً للامتثال بالامتثال ، و لا الفرد بفردٍ آخر، بل هو الإتیان بفردین مقدمةً لأنْ یختار المولی ما أحبَّ منهما ، و هذا ممکن ثبوتاً ، و أمّا إثباتاً فهو مقتضی الرّوایة .

إشکال الاستاذ

قال شیخنا : و فیه وجوه من النظر :

أوّلاً - إنه لا وجه لتنظیر المقام بمسألة المقدّمة الموصلة ، فإنّ موردها ما إذا کان ذو المقدمة واجباً علی العبد ، و له مقدمة موصلة و اخری غیر موصلة ، أمّا هنا ، فإنّ الفرد الذی یختاره المولی غیر قابل للإیجاب علی العبد بقید اختیار المولی ، لأنه بهذا القید خارج عن اختیار العبد ، فکیف یکون واجباً علیه ؟ ، فکبری المقدمة الموصلة للواجب غیر منطبقة هنا ، نعم ، یمکن أنْ یکون مقدمةً للغرض ، بأنْ یقال بإتیان العبد بفردین مقدمةً موصلةً لتحقق الغرض من الأمر ، فیکون الإتیان بالماء الموصل للغرض الأقصی هو الواجب ، لکنّ المقدمة الموصلة للغرض وجوبها نفسی - لأن کلَّ واجب فهو مقدمةٌ للغرض نفساً ، و إلّا لزم أن تصیر الواجبات النفسیة کلّها غیریة - و الواجب النفسی فی الفردین واحد ، و لا یمکن کونهما معاً واجبین نفسیین .

إذن ، فالمقدّمة الموصلة للواجب غیر معقول هنا ، و للغرض معقول ، لکنه واجب نفسی ، و إذا کان کذلک ، فأیّ الفردین هو الواجب نفساً ؟ إن کان

ص:162


1- 1) نهایة الأفکار 225/1 .

الذی یختاره المولی ، فهذا خارج عن قدرة العبد فکیف یتعلّق به التکلیف ؟ و إن کان بلا قید اختیار المولی ، فأحدهما فقط هو الواجب .

و ثانیاً - إنه لا یتحقق فی المقام عنوان المقدّمة أصلاً ، لأن الفردین أحدهما واجب و الآخر مستحب أو مباح ، فأحد الفردین لا هو واجب و لا هو مقدمة للواجب ، و الآخر الذی کان مختار المولی واجب و لیس بمقدمة ، فأین المقدّمة الموصلة ؟

و ثالثاً - إن ما ذکره إنما هو بلحاظ ما ورد فی بعض الأخبار ، و سیأتی الکلام علیٰ ذلک فی مقام الاثبات .

نظریة المحقق الأصفهانی
اشارة

و منهم من یصوّر المطلب ثبوتاً علی أساس الحصّة الملازمة للغرض القائم بفعل المولی ، و هو المحقق الأصفهانی (1) ، و توضیح کلامه هو : إن الحاکم بحصول الامتثال فی باب الإطاعة هو العقل ، فتارةً : یقال بدوران الامتثال مدار موافقة الأمر ، و اخری : یقال بدورانه مدار حصول الغرض من الأمر . فبناءً علی الأوّل ، فلا ریب فی أنّ الأمر یسقط بامتثاله بالاتیان بالمأمور به بجمیع خصوصیّاته ، و علی الثانی ، فقد یکون الغرض مترتّباً علی فعل العبد و قد یکون مترتّباً علی فعل المولی .

أمّا الأوّل - کما لو قال المولی : « صلّ لأن الصلاة تنهی عن الفحشاء و المنکر » فجاء بالغرض بنحو الحیثیة التعلیلیّة ، أو قال : « الصّلاة الناهیة عن الفحشاء و المنکر واجبة » ، فجاء بالغرض بنحو الحیثیة التقییدیة - فإنّه بمجرَّد امتثال العبد یحصل الغرض ، و إذا حصل فلا معنی للامتثال الثانی .

ص:163


1- 1) نهایة الدرایة 380/1 - 381 .

و إنْ کان الثانی ، کما لو کان الغرض رفع العطش ، و هو موقوف علی فعل المولی ، أی شربه للماء ، فهذا لا یکون بنحو الحیثیة التقییدیّة قطعاً ، فلا یعقل أنْ یقیِّد المولی فعل العبد بشربه هو للماء ، لأن شرب المولی للماء خارج عن قدرة العبد فیستحیل تقیید تکلیفه به ، و لا یکون بنحو الحیثیة التعلیلیّة ، بأن یکون ارتفاع العطش ، المترتب علی شرب المولی للماء ، علّةً لتعلّق الأمر بمجیء العبد بالماء ، لأن رفع العطش قائم بفعل المولی ، و إرادة إتیان العبد بالماء لا یمکن أن تنشأ من الغرض القائم بفعل المولی .

و تلخّص : أنّ جمیع الأقسام غیر ممکن ثبوتاً .

بل الممکن ثبوتاً هو : أن یکون متعلَّق الأمر حصّةً من المأمور به ملازمةً لغرض المولی ، فالمأمور به هو الإتیان بالماء الذی یکون ملازماً لاختیار المولی له ... و هذا هو المعقول الممکن ثبوتاً . و تبقی مرحلة الإثبات فهل من دلیلٍ علی هذا التقریب ؟

إشکال الاستاذ

فقال شیخنا الاستاذ بعد تقریب هذه النظریّة کما تقدّم : بأنَّ هذا البیان لا یفترق عن تقریب المحقّق العراقی فی حقیقته و جوهره ، فقد عبَّر بالحصّة الملازمة عمّا عبَّر عنه العراقی بالمقدّمة الموصلة ، أو بالحصّة التوأمة .

نعم ، هذا التقریب لا یرد علیه اشکال استلزام صیرورة الواجبات النفسیّة واجبات غیریة .

لکنْ یبقی الإشکال بأنَّ تکلیف العبد بما هو خارج عن قدرته غیر معقول ، و ذلک : لأنّ الحصّة الملازمة لاختیار المولی المحققة لغرضه ، من انقسامات المتعلَّق ، إذ الإتیان بالماء ینقسم إلی ما یقع اختیار المولی علیه و ما

ص:164

لا یقع ، سواء کان هناک طلبٌ أو لا ، فإنه انقسام متقدّم علی الخطاب ، کما أن هذا الانقسام موجود بعد الخطاب و الطلب من المولی ، و إذا کان هذا الانقسام موجوداً ، فلا ریب فی أنَّ المطلوب غیر مهملٍ ، لأن الإهمال فی مرحلة قیام الغرض و تعلّق الطلب محال ، فالمطلوب إمّا مطلق ، و هو - سواء کان جمعَ القیود أو رفضَ القیود - محال کذلک ، و إمّا مقیَّد باختیار المولی - إذْ لو کان غیر مقیَّد بذلک و کان لا بشرط لزم التوسّع إلی الحصّة غیر الملازمة لاختیاره و استیفاء غرضه - و إذا کان مقیداً باختیاره ، فإنّ هذا القید خارج عن قدرة العبد ، و لا یعقل أن یدخل تحت التکلیف المتوجّه إلیه .

هذا تمام الکلام فی مرحلة الثبوت ، و قد ظهر أنْ لا طریق صحیح إلیه .

مرحلة الإثبات

و أمّا فی مرحلة الإثبات ، فالروایات هی فی عدّة أبواب :

1 - باب صلاة الآیات .

2 - باب الصّلاة مع المخالفین .

3 - صلاة الجماعة .

و العمدة فی المقام روایات باب صلاة الجماعة ، لأنّ فیها ما یدلُّ علی اختیار اللّٰه للعمل ، و أمّا روایات باب صلاة الآیات فلیس فیها إلّا الإتیان بالصّلاة قبل انجلاء القرص و تکرارها مرّات .

و المهمّ فی روایات باب الصّلاة جماعةً هی : روایة أبی بصیر ، حیث جعلها صاحب (الکفایة) و المحقق العراقی الدلیل علی ما ذکراه فی مقام الثبوت ، مع وضوح الفرق بین مسلکیهما ، حیث أن صاحب (الکفایة) قائل بتبدیل الامتثال ، و یجعل الروایة مؤیدةً بل یجعلها دلیلاً علی ذلک ، و العراقی

ص:165

لا یری تبدیل الامتثال و لا تعدّده ، بل عنده أنْ الامتثال یتقیّد أحیاناً بالحصّة التی یختارها اللّٰه ، کما هو ظاهر الروایة کما قال ، و الحاصل إنهما مختلفان فی الاستظهار من الروایة ، بالإضافة إلی اختلافهما فی مقام الثبوت .

النظر فی الأخبار

لکنّ الأخبار الواردة فی باب صلاة الجماعة (1) علی طوائف :

1 - فی روایة هشام بن سالم و روایة حفص : «یصلّی معهم و یجعلها الفریضة ان شاء» .

و ظاهرها کون اختیار الامتثال بید العبد ، فهی تؤید أو تدل علی قول (الکفایة) بتبدیل الامتثال .

2 - فی روایة زرارة : «إن کان قد صلّی فإنّ له صلاة اخری» .

و ظاهرها أنها مطلوب آخر ، فهی دالة علی خلاف کلام (الکفایة) و العراقی .

3 - فی روایة الحلبی : «فصلّ معهم و اجعلها تسبیحاً» .

و ظاهرها أن الثانیة نافلة ، فلیس من تبدیل الامتثال و لا الامتثال بعد الامتثال ، فهی علی خلاف کلامهما .

4 - فی روایة إسحاق بن عمار : «صلّ و اجعلها لما فات» .

و ظاهرها أن الثانیة أیضاً واجبة ، لکنْ قضاءً لما فات .

5 - فی روایة أبی بصیر : «قلت لأبی عبد اللّٰه علیه السلام : اصلّی ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة و قد صلّیت . فقال : صلّ معهم ، یختار اللّٰه أحبّهما إلیه» .

ص:166


1- 1) وسائل الشیعة ، ج8 ، الباب 45 و55 من أبواب صلاة الجماعة .

و هذه مستند المحقق العراقی .

6 - فی روایة الصدوق : «یحسب له أفضلهما و أتمّهما» .

قال الاستاذ :

أمّا من ناحیة السند ، فالأخبار الأربعة الاولی معتبرة ، و الخامس فی سنده کلام سیأتی ، و السادس : مرسل الصّدوق ، و مراسیله محلّ کلام ، فقیل باعتبارها مطلقاً ، و قیل بعدم اعتبارها مطلقاً ، و قیل بالتفصیل باعتبار ما أرسله مسنداً إلی المعصوم بعنوان «قال» ... و هذا الخبر لیس من ذلک .

أمّا من حیث الدلالة :

فالخبر الدالّ علی مسلک (الکفایة) هو : «یصلّی معهم و یجعلها الفریضة إنْ شاء» و لکنْ ینافیه الخبر : «صلّ و اجلعها لِما فات» ، و هو یصلح لأن یکون قرینة علی «یجعلها الفریضة» فیکون المعنی : یجعلها الفریضة الفائتة إن شاء .

هذا کلامه فی الدورة اللاحقة وفاقاً للمحاضرات . أما فی السابقة فخالفه بشدة ، لأن الفریضة تطلق علی ما یقابل النافلة ، و حاصل کلامه القول باستحباب الإعادة مخیّراً ، بأنْ یجعلها نافلةً أو فریضة أداءً أو قضاءً .

أقول :

فلا موضع للاستدلال للکفایة و العراقی فی الروایات الأربع .

التحقیق عن سهل بن زیاد
اشارة

و المهمّ روایة أبی بصیر ، و فی سندها کلام طویل ، لأن فی طریقها « سهل بن زیاد » و قد اختلفت کلمات القوم فیه :

1 - الوثاقة و التوثیق

فمن جهةٍ نری أن « سهل بن زیاد » :

ص:167

1 - من رجال تفسیر القمی رحمه اللّٰه .

2 - من رجال ابن قولویه رحمه اللّٰه .

3 - روی عنه الکلینی رحمه اللّٰه فی الکافی - الذی ألّفه لیکون حجةً فی الاصول و الفروع کما قال - أکثر من 2300 روایة ، و قد ذکر المحقق الخراسانی فی (حاشیة الرسائل) بأن أخبار الکافی و أمثاله مفروغ عن اعتبارها ، و قال المحقق النائینی بأن المناقشة فی أسانید الکافی دیدن من لا خبرة له .

4 - و لذا قال الحرّ العاملی و الوحید البهبهانی - رحمهما اللّٰه - عنه : ثقة .

5 - الشهید و المحقق الثانیان أخذا بروایاته ، و قال صاحب الجواهر و الشیخ الأعظم : الأمر فی سهلٍ سهل .

6 - و السید بحر العلوم و بعضهم تردّدوا فی الشهادة بضعفه .

2 - الضعف و التضعیف

و من جهةٍ أخری نری :

1 - إن ابن الولید و ابن بابویه استثنیاه من کتاب نوادر الحکمة .

2 - قال النجاشی : ضعیف فی الحدیث غیر معتمد علیه ، و إن أحمد بن محمد بن عیسی شهد علیه بالغلوّ و الکذب .

3 - إن الشیخ فی الفهرست ضعّفه ، و فی الإستبصار قال : ضعیف عند نقّاد الأخبار .

و التحقیق بالنظر إلی ما تقدَّم و یأتی هو التوقّف و الاحتیاط ، فالرجل لم تثبت وثاقته و لم یثبت له جرح ، و بیان ذلک یتم فی نقاط :

1 - اعتماد الکلینی علیه .

2 - معنی کلام النجاشی .

ص:168

3 - التعارض فی کلمات شیخ الطائفة .

فنقول : أمّا کونه من رجال (کامل الزیارات) و (تفسیر القمی) ، فبناءً علی إفادة ذلک للوثاقة ، فهما توثیقان عامّان یصلحان للتخصیص . و أمّا استثناء ابن الولید و ابن بابویه فغیر واضح دلالته علی الجرح ، لأن استثناء روایات الراوی لا یدل علی ضعف الراوی نفسه ، علی أن الصدوق یروی عن سهل فی (الفقیه) و قد التزم بالفتوی بما فیه .

و أمّا شهادة أحمد بن محمّد بن عیسی ، فیشکل الاعتماد علیها ، فقد ذکروا أنه کان متسرّعاً فی رمی الأشخاص ، و قضیّته مع محمّد بن عیسی بن عبید مشهورة ، علی أنّ فی نقل النجاشی أنه کان یرمی الرجل بالغلوّ ، و هذا یرجع إلی عقیدة أحمد بن محمد بن عیسی فی مفهوم الغلوّ و مصداقه .

و تبقی کلمة النجاشی : «ضعیف فی الحدیث غیر معتمد علیه» .

أمّا «ضعیف فی الحدیث» فلا یدلّ علی ضعف الرجل نفسه ، فلو کانت هذه الجملة وحدها فلا إشکال ، لکنّ قوله «غیر معتمد علیه» یمنعنا من الجزم برجوع التضعیف إلی روایاته دون نفسه .

و الشیخ و إنْ ضعَّف الرجل فی (الفهرست) و (الإستبصار) فقد وثقه فی (رجاله) ، فمن جهةٍ یتقدّم توثیقه ، لکونه فی الکتاب المعدّ للجرح و التوثیق ، و من جهةٍ نراه فی الاستبصار یقول : ضعیف عند نقّاد الأخبار ، فلیس ضعیفاً عنده فقط ، لکنْ ، لقائل أنْ یقول بأنْ الکلمة تشعر برجوع التضعیف منهم إلی أخباره لا إلی نفسه ، فتأمّل .

و اعتماد الکلینی علیه بکثرةٍ ، و فی الکتاب الموصوف بما تقدَّم ، یمنعنا من الجزم بضعفه .

ص:169

فالحق هو التوقّف ، و القول بالاحتیاط الوجوبی فی روایاته فی الأحکام الشرعیّة .

و أمّا دلالة روایة أبی بصیر - بعد أنْ ظهر عدم دلالة غیرها علی الامتثال بعد الامتثال - فقد ذکر المحقّق الأصفهانی فی (الاصول علی النهج الحدیث) (1) أنها محمولة علی الصّلاة تقیّةً ، لأن موضوعها الصّلاة فی المسجد جماعة ، و المساجد کانت فی ذلک الزمان کلّها بید العامّة و أئمتها منهم ، فکان المراد من « یختار اللّٰه أحبّهما» هو الصّلاة الاولی التی أتی بها منفرداً ، إذ الثانیة التی أتی بها تقیةً لیست بصلاةٍ ، و قد یمکن کونها محبوبةً لجهةٍ من الجهات .

و أشکل علیه الاستاذ :

أوّلاً : بأنّ فی الروایات ما یدلّ علی کون الإمام فی بعض المساجد من أصحابنا .

و ثانیاً : بأن مقتضی بعض الروایات الآمرة بالصّلاة مع القوم أحبّیّتها من التی صلّاها منفرداً .

إلّا أنه دام بقاه ذکر أنّ الروایة لا تدلّ علی مسلک العراقی ، لأنه ذهب إلی لغویّة الصّلاة الثانیة ، و الحال أنّ ظاهر لفظ «الأحب» کون التی اختارها أحبّ من الاخری ، فتلک أیضاً محبوبة .

نعم ، هناک وجه آخر لِما ذکره ، و هو أنّ فی أخبار الصّلاة معهم ما هو نصٌّ فی أنّ الصّلاة معهم کالصّلاة خلف الجدار (2) ، و هی تصلح لأنْ تکون

ص:170


1- 1) الاصول علیٰ النهج الحدیث (بحوثٌ فی الاصول) 113 .
2- 2) وسائل الشیعة 309/8 الباب 10 من أبواب صلاة الجماعة .

قرینةً علی تعیّن الصّلاة الّتی أدّاها منفرداً للامتثال .

فبالنظر إلی ما ورد فی ثواب الصّلاة معهم ، تکون التی صلّاها جماعةً محقّقةً للامتثال ، و بالنظر إلی ما ورد من أن الصّلاة معهم کالصّلاة خلف الجدار ، تکون التی صلّاها منفرداً هی المحقّقة للامتثال ، فینتهی أمر روایة أبی بصیر إلی الإجمال ، فلا تبقی دلالة علی ما ذهب إلیه المحققان الخراسانی و العراقی ، و اللّٰه العالم .

ص:171

المسألة الثانیة: فی إجزاء الأمر الاضطراری عن الاختیاری و عدمه
اشارة

أنه بعد الفراغ عن کبری الإجزاء فی المسألة الاولی ، یأتی دور هذه المسألة الصغرویّة ، فإنه إذا قام الدلیل فیها علی وفاء المأتیّ به بالأمر الاضطراری لمصلحة الأمر الواقعی ، انطبقت الکبری ، و تمّ الإجزاء ... فیکون البحث هنا فی الثبوت و الإثبات کذلک ، و یقسّم إلی الإجزاء فی الوقت و سقوط الإعادة ، و الإجزاء فی خارجه و سقوط القضاء .

صور مقام الثبوت کما فی الکفایة

و قد ذکر فی (الکفایة) لمقام الثبوت أربع صور ، و حاصل کلامه :

إن العمل الاضطراری یکون تارةً وافیاً بتمام مصلحة الاختیاری ، و اخری لا یکون کذلک ، و علی الثانی تارةً : یمکن استیفاء ما فات من المصلحة ، و اخری : لا یمکن ، و علی الأوّل : تکون المصلحة تارةً لزومیّة و اخری غیر لزومیّة .

فإن کان العمل الاضطراری وافیاً بمصلحة الاختیاری تماماً ، فلا إشکال فی الإجزاء ، و إلّا ، فإنْ کانت المصلحة الفائتة لزومیّة و لا یمکن تدارکها ، فلا یمکن للمولی الأمر بهکذا عملٍ فضلاً عن أن یکون مجزیاً ، و لا یمکن للمکلَّف البدار إلیه ، و إن کان یمکن تدارکها ، فإن کانت غیر لزومیّة فلا شبهة فی جواز البدار إلی العمل و لا إشکال فی الإجزاء ، و تلک المصلحة إن کانت

ص:172

قابلة للتحصیل بالعمل ثانیاً ، فإنه یأتی به من أجل استیفائها ، و أمّا إذا کانت المصلحة لزومیّة و یمکن استیفاؤها بالعمل عن اختیارٍ ، فقد قال فی (الکفایة) بالتخییر بین الإتیان بالعمل الاضطراری فی أوّل الوقت ، و بالاختیاری المستوفی للمصلحة فی آخره ، أو ینتظر إلی آخر الوقت فیأتی بالاختیاری فقط .

و فی هذا المقام وجوه من الإشکال ، إمّا علی أصل الإجزاء فی المسألة ، و إمّا علی کلام الکفایة .

إشکال المحاضرات علی مختار الکفایة
اشارة

فقد أورد فی (المحاضرات) (1) علی المحقق الخراسانی - فی القسم الأخیر من کلامه ، حیث قال بالتخییر - باستحالة التخییر الذی ذکره ، لأنه من صغریات التخییر بین الأقل و الأکثر ، و هو محال ، لأن غرض المولی یتحقّق بالإتیان بالأقل ، الذی هو أحد العِدلین ، فیکون الإتیان بالأکثر - و هو العدل الآخر - معه بلا ملاک . هذا من جهة ، و من جهةٍ أخری : إنه یلزم أن یکون وجوب العمل الاضطراری الواقع فی أوّل الوقت دائراً مدار الإتیان به - بمعنی أنه لو اتی به فهو واجب و إلّا فلیس بواجب - و هذا محال ، لأن الوجوب إنّما یتحقّق بالداعی إلی الإتیان ، فلا یعقل تقیّده بالإتیان .

و الحاصل : إن ما ذکره من صغریات التخییر بین الأقل و الأکثر ، و هو محال ، للوجهین المذکورین .

جواب الاستاذ

و أجاب شیخنا : أوّلاً : بأن هذا الإشکال مبنائی ، لأن صاحب (الکفایة)

ص:173


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 232/2 .

یقول بالتخییر بین الأقل و الأکثر .

و ثانیاً : إن مناط استحالة التخییر بین الأقل و الأکثر هو حصول الغرض بالأقل و سقوط الأمر بذلک ، کما أشار إلیه ، و هذا حاصل فیما إذا اتی بالأقل قبل الأکثر ، کما فی التسبیحات الأربع ، أمّا فیما نحن فیه ، فإنّ الأکثر مقدَّم فی الإتیان علی الأقل ، لأن الأقل هو الصّلاة الاختیاریة المأتیّ بها فی آخر الوقت ، فلو انتظر المکلَّف حتی آخر الوقت من غیر أن یأتی بالأکثر ، فقد استوفی تمام المصلحة بالأقل ، فیکون هذا العِدل من الواجب التخییری - و هو الصّلاة الاختیاریة فی آخر الوقت - بشرط لا عن الصّلاة الاضطراریة فی أوّله ، فهی واجبة علیه بشرط أن لا یأتی بالاضطراریّة قبلها ، لا أنّها لا بشرط عن ذلک ، و المستشکل نفسه أیضاً یری أن موارد البشرطلا و البشرطشیء لیست من دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، بل هما من المتباینین ، بأن یکون الغرض مترتّباً إمّا علی الصّلاة الاختیاریة بشرط عدم تقدّم الاضطراریة ، و إمّا علی الاضطراریة فی أول الوقت و الاختیاریّة فی آخره .

و إذا کان هذا مفروض کلام (الکفایة) ، فالإشکال غیر وارد علیه ، لأن حاصل کلامه : أنّ الاختیاریّة فی آخر الوقت - بشرط عدم الإتیان بالاضطراریة فی أوّله - وافیة بتمام الغرض ، و أمّا لو أتی بالاضطراریّة فی أوّله فقد استوفی حصّةً من الغرض ، فلا محالة یجب الإتیان بالاختیاریة فی آخره لیستوفی الغرض .

و بما ذکرنا یظهر اندفاع توهّم لغویّة تشریع الصّلاة الاضطراریّة فی أوّل الوقت ، لأنَّ مفروض کلام صاحب (الکفایة) فی کیفیّة التشریع ثبوتاً هو أنّ الصّلاة الاضطراریّة فی أوّله واجدة لقسطٍ من الغرض ، و یکون کماله و تمامه

ص:174

بالإتیان بالاختیاریة فی آخره ، أمّا لو انتظر حتی آخره بدون سبق الاضطراریة و أتی بالاختیاریّة ، فقد استوفی الغرض کاملاً ، فلا لغویّة أبداً .

الاشکال علی الإجزاء ثبوتاً
اشارة

و أمّا الإشکال علی أصل الإجزاء فی هذه المسألة ، فالأصل فیه هو المحقق الحلّی ، و الفقیه الهمدانی فی بعض کلماته ، و إلیه ذهب السید البروجردی فقال ما حاصله (1) :

إنّ الأحکام الشرعیّة الاختیاریة موضوعها هو المکلَّف المختار ، و الأحکام الشرعیة الاضطراریّة موضوعها هو المکلَّف المضطرّ ، فوظیفة المضطرّ هو العمل الاضطراری فقط ، و هو غیر مکلَّف بتکلیفین ، کی یقال هل عمله الاضطراری یجزی عن امتثال الأمر الاختیاری أو لا یجزی ؟

فمن کان متمکّناً من الصّلاة مع الطهارة المائیّة ، فالخطاب من الأوّل متوجّه إلیه بالصّلاة کذلک ، و من کان عاجزاً عن ذلک ، فالخطاب من الأوّل متوجّه إلیه بالإتیان بها مع الطهارة الترابیّة ، و یشهد بذلک التقسیم فی قوله تعالی : «فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَیَمَّمُواْ صَعِیداً طَیِّباً » و هو قاطع للشرکة .

وعلیه ، فالصّلاة الاضطراریة - مثلاً - لیست بدلاً عن الاختیاریة - خلافاً للمشهور - و إلیه أشار الفقیه الهمدانی فی مسألة قراءة غیر المتمکّن من القراءة الصحیحة کالأخرس (2) ، کما أنّ القدرة شرط لأصل التکلیف ، لا لفعلیّته ، لأنّ العاجز غیر مکلَّف عقلاً و شرعاً ، أمّا عقلاً ، فلأنّ جعل الداعی لغیر المتمکن من الامتثال لغو ، و أمّا شرعاً ، فلحدیث الرفع ، و هو رفع واقعی لا ظاهری .

ص:175


1- 1) نهایة الأصول : 115 ، الحجة فی الفقه : 142 .
2- 2) مصباح الفقیه کتاب الصّلاة : 278 ط حجری .

فلا مجال للجواب عن هذا الإشکال بالقول بکون الأحکام الاضطراریّة أبدالاً عن الأحکام الاختیاریّة ، أو القول بأن القدرة شرط للفعلیة ، و لا فعلیّة للحکم بالنسبة إلی العاجز .

و علی الجملة ، فالصّلاة بالنسبة إلی القادر و العاجز ، کالصّلاة بالنسبة إلی المسافر و الحاضر ، فکما أنّ کلّاً من المسافر و الحاضر مکلَّف بتکلیفه الخاص به ، و لا بدلیّة بینهما ، کذلک القادر و العاجز ، فلکلٍّ حکمه بحسب حاله فی عرضٍ واحد .

فلا موضوع للإجزاء فی المسألة ، لا ثبوتاً و لا إثباتاً .

جواب الاستاذ

و أجاب الاستاذ دام بقاه عن ذلک : بأنْ القول بعرضیّة الفعل الاضطراری مع الفعل الاختیاری - خلافاً للمشهور - لا یجتمع مع القول ببدلیّة التیمّم عن الوضوء تارةً و عن الغسل اخری .

إنه لا بدَّ من الالتزام بکون الواجب الأصلی هو الطهارة المائیّة ، حتی یصحّ القول بکون التیمّم بدلاً عن هذا و ذاک ، و إذا کان التیمّم بدلاً عن الوضوء کانت الصّلاة المأتی بها معه بدلاً عن الصّلاة مع الوضوء ، لأن بدلیّة قیدٍ عن آخر تقتضی بدلیّة المقیَّد عن مقیَّد آخر .

ثم عند ما نرجع إلی فتاوی السیّد البروجردی نفسه ، نجده فی حواشی (العروة الوثقی) ، و فی مسائل التیمّم ، یصرّح بما ذکرناه أو یوافق الماتن علی ما ذهب إلیه ممّا هو صریح فیما ذکرناه ، ففی المسألة رقم (24) یقول : «لا یترک الاحتیاط بهذا حتی فیما هو بدل عن غسل الجنابة» و فی المسألة رقم (10) : «لم یثبت بدلیّة التیمّم عن الوضوء و الغسل غیر الرافعین للحدث

ص:176

للحائض» و فی المسألة رقم (30) من کتاب الصّلاة : «الأقوی حینئذٍ وجوب الإیماء بدلاً عن السجود» .

و الحاصل : إن الأفعال الاضطراریّة أبدال عن الاختیاریة ، و لیست مجعولةً للمضطرّ إلی جنب جعل الاختیاریة للمختار ، کجعل الصّلاة المقصورة للمسافر و التمام للحاضر .

و ظاهر النصوص هو البدلیّة کذلک ، کما فی باب (وجوب الضربتین فی التیمّم سواء کان عن وضوء أم عن غسل) (1) فأی معنی لکلمة «عن وضوء» و «عن غسل» إنْ لم تکن بدلیّة ؟

ففی الصحیح عن زرارة : «هو ضرب واحد للوضوء و الغسل من الجنابة» أی الکیفیة لا تختلف ، فسواء کان بدلاً عن الوضوء أو الغسل «تضرب بیدیک مرّتین» فأیّ معنی لکلمة «للوضوء و الغسل من الجنابة» غیر البدلیة ؟

و فی موثقة عمّار : «سألته عن التیمم من الوضوء و الجنابة و من الحیض للنساء» و هو ظاهر فی البدلیّة کذلک ...

و عن (تفسیر النعمانی) : «الفریضة : الصلاة مع الوضوء ، و إن الصّلاة مع التیمّم رخصة» و هذا نصٌّ فی المطلب .

و تلخص : سقوط ما ذکره السید البروجردی .

و کذلک کلام المحقق الهمدانی ، فإنّه و إنْ قال فی (طهارته) (2) بما استشهد به السید البروجردی ، لکنّه فی (صلاته) صریح فی البدلیّة ، کما فی بحث القیام ، حیث صرّح ببدلیّة الجلوس عنه للمضطر ، و ببدلیّة الإضطجاع

ص:177


1- 1) وسائل الشیعة 3 : 361 الباب 12 من أبواب التیمّم .
2- 2) مصباح الفقیه کتاب الطهارة 87/6 الطبعة الحدیثة .

عن الجلوس للعاجز ، و الإیماء عن السجود ، بل صرّح بالبدلیّة فی آخر البحث فی مسألة : لو صلّی مضطجعاً هل علیه قصد البدلیّة أو لا ؟ و کذا لو صلّی جالساً ... (1) ؟

هذا تمام الکلام فی مقام الثبوت ، و قد ظهر اندفاع الإشکالات .

مقام الإثبات

و مرجع البحث فی هذا المقام إلی أنّه هل من دلیلٍ أو أصلٍ عملی یقتضی وفاء البدل بتمام مصلحة المبدل أو لا ؟ و قد جعل فی (الکفایة) البحث تارةً فی الدلیل ، و اخری فی الأصل العملی ، فقال ما حاصله : إن مقتضی إطلاق دلیل التیمّم کقوله تعالی «فَتَیَمَّمُواْ صَعِیداً طَیِّباً » (2)و قوله علیه السلام : «التیمّم أحد الطهورین» (3) هو الإجزاء فی کلّ موردٍ دلّ الدلیل فیه علی البدار و لم یُشترط الانتظار ، أو اشترط و جاء البدار عند الیأس ... و مع عدم الإطلاق فمقتضی أصالة البراءة عدم وجوب الإعادة ، لأنه بعد الإتیان بالعمل الاضطراری یشک فی حال التمکّن من الاختیاری فی وجود الأمر بالإعادة ، و هو شک فی أصل التکلیف ، و هو مجری البراءة . قال : و فی القضاء بطریقٍ أولی .

فمقتضی الدلیل ثم الأصل - فی نظر صاحب (الکفایة) - هو الإجزاء ، سواء فی الوقت و خارجه ، و إنْ علّق بعض المحققین المحشّین کالمشکینی علی الأولویّة (4) فقال لم نفهم معناها ، و الأصفهانی (5) ذکر لها وجوهاً .

ص:178


1- 1) مصباح الفقیه کتاب الصلاة : 266 ط حجری .
2- 2) سورة النساء : 43 .
3- 3) وسائل الشیعة 381/3 الباب 21 من أبواب التیمّم برقم 1 .
4- 4) الحاشیة علیٰ الکفایة 131/1 .
5- 5) نهایة الدرایة 391/1 .
بیان الإطلاق
اشارة

و قد أوضح المحقّق الأصفهانی (1) هذا الإطلاق ، و قرّره الاستاذ دام ظلّه بأنّه :

أوّلاً : إطلاقٌ فی مقابل «الواو» لا «أو» ، لأنّه لو کان الواجب هو الإتیان بالصّلاة مع الطهارة المائیّة بالإضافة إلیها مع الطّهارة الترابیّة لقال مثلاً : صلّ مع الطهارة الترابیة . و اخری مع الطهارة المائیّة إن ارتفع العذر ، فلمّا قال : افعل هذا العمل الاضطراری بلا ضمّ الاختیاری إلیه ، کان الکلام مطلقاً یدل علی إجزاء الاضطراری عن الاختیاری ، فلا تجب الإعادة و القضاء .

و ثانیاً : هذا الإطلاق مقامی لا لفظی ، و ذلک : لأن الإطلاق یقابله التقیید تقابل العدم و الملکة - کما تقدّم فی التعبّدی و التوصّلی - و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق ، لکنّ التقیید هنا محال أو غیر صحیح .

إن المدّعی هو إطلاق «فَتَیَمَّمُواْ »، فإنْ ارید تقیید هیئة اللّفظ و أعنی «الوجوب» ، بأنْ یکون وجوب التیمّم مشروطاً بالإتیان بالوضوء فی آخر الوقت ، فهذا غیر ممکن ، لأنّ التیمّم بدل عن الوضوء ، فکیف یتقیّد وجوب البدل بإتیان المبدل منه ؟ فإنه مع تحصیل المبدل للمصلحة لا یعقل الأمر بالبدل ... و إذا استحال تقیید الهیئة استحال الإطلاق . و إنْ ارید تقیید المادّة و هو «الواجب» ، بأنْ یکون نفس الواجب - أعنی التیمّم - مشروطاً بالإتیان بالوضوء ، کما أن الصّلاة مشروطة بالطهارة ، فهذا التقیید ممکن و لکنه غیر صحیح ، لأن معنی ذلک بطلان الصّلاة مع التیمّم ، و المفروض صحّتها فی أول الوقت ، غیر أنها غیر مستوفیة لتمام الغرض ... و إذا بطل التقیید بطل الإطلاق .

ص:179


1- 1) الاصول علی النهج الحدیث : (بحوث فی علم الأصول) : 116 .

فظهر أن هذا الإطلاق لیس بلفظی ، بل هو مقامی ، ببیان أن المولی فی مقام البیان لتمام غرضه ، و مع ذلک قد اکتفی بالصّلاة مع التیمّم ، و أوجبها علی المکلَّف سواء تمکّن من الوضوء فیما بعد أو لا ، فیکشف ذلک عن حصول غرضه بالعمل الاضطراری ، و هذا هو الإجزاء .

أقول :

ذکر الاستاذ فی الدورة السابقة : إمکان التقیید فی هیئة «فَتَیَمَّمُواْ » ببیان أن القید لیس هو الإتیان بالمبدل عنه لیکون محالاً ، بل هو إمکان الإتیان به ، و المفروض هو الإمکان ، إذ لا مانع من القول : إن کنت متمکّناً من الصّلاة بالطهارة المائیّة فی آخر الوقت فعلیک بها مع الطهارة الترابیّة فی أوّله ، و إذا أمکن هذا ، کان الإطلاق هو الإتیان بها مع الترابیة سواء أمکن الإتیان بها مع الوضوء أو لا ؟

و لا یخفی أن الثمرة مع الإطلاق اللّفظی جواز التمسّک بأصالة البیان عند الشک فی التقیید ، أمّا الإطلاق المقامی فلا یجری معه الأصل المذکور ، بل یتوقّف ثبوته علی إحراز کون المولی فی مقام البیان .

الإشکال علی الإطلاق

و قد أورد علی التمسّک بالإطلاق فی الآیة و الروایة المذکورتین بأنه : مع القدرة علی الطهارة المائیّة - و لو فی طول الطهارة الترابیة - ینتفی الموضوع فی الآیة و الروایة ، إذْ لا ریب فی أن المکلَّف به هو طبیعة الصّلاة المقیّدة بالطهارة المائیّة ، و بمجرّد التمکّن من فردٍ ما منها - سواءً کان فرداً عرضیّاً أو طولیّاً - یتبدّل عنوان عدم الوجدان إلی الوجدان ، فلا تیمّم ، فلا إجزاء .

إذنْ ، لا بدّ من دلیلٍ خاصٍّ یدلّ علی جواز البدار إلی الصّلاة فی أوّل

ص:180

الوقت فی حال الاضطرار ، و هذا الدلیل موجود فی مورد التقیّة ، أمّا فی محلّ الکلام فلا ... و قد ظهر عدم نهوض الآیة و الروایة و غیرهما من الأدلّة العامّة لإفادة جواز البدار فی المقام .

و هذا الإشکال یتوجّه علی صاحب (العروة) و سائر الفقهاء القائلین بجواز البدار حینئذٍ .

دفاع الاستاذ عن المحقق الخراسانی

فذکر الاستاذ دام بقاه : أن المحقق الخراسانی قد استدلّ لعدم الإعادة و القضاء فی (شرح التبصرة) (1) بدلیلٍ خاصٍ ، و هو صحیحة ابن سنان (2) ، الدالّة علی عدم وجوب القضاء ، و بروایاتٍ معتبرة لعدم وجوب الإعادة فی الوقت ، و قد جمع بینها و بین ما عارضها من الأخبار بالحمل علی الاستحباب ، و قد أشکل هناک علی التمسّک بقاعدة الإجزاء ، بأنّه یتوقّف علی إحراز کون العمل الاضطراری وافیاً بتمام المصلحة ، أو إحراز عدم التمکّن من استیفاء ما فات منها بعد العمل الاضطراری ، و ما لم یحرز أحد الأمرین یکون إطلاق أدلّة وجوب العمل الاختیاری محکّماً ، و إلّا وصلت النوبة إلی البراءة .

قال الاستاذ : و مع غضّ النظر عمّا ذهب إلیه و استدلّ به فی (شرح التبصرة) فإنه یمکن تقریب الاستدلال بالآیة و الروایة بما یندفع به الإشکال ، بأنْ یقال : إن مقتضی «لا صلاة إلّا بطهور» (3) تقیید طبیعی الصّلاة بالطّهور ، لکنّ : «التیمّم أحد الطهورین» (4) یتقدّم علیه بالحکومة ، و مقتضی ذلک کون

ص:181


1- 1) اللّمعات النیّرة فی شرح التبصرة : 97 (ضمن رسائل فقهیّة) .
2- 2) وسائل الشیعة 368/3 ، أبواب التیمّم ، الباب 14 رقم 7 .
3- 3) وسائل الشیعة ، الباب الأول و الثانی من أبواب الوضوء .
4- 4) وسائل الشیعة 381/3 .

الطهارة الترابیّة فی عرض الطّهارة المائیّة ... هذا بالنسبة إلی الروایة . و أمّا الآیة :

فإن عدم الوجدان فیها ظاهر فی الإطلاق بحسب الأزمنة ، فإذا کانت الآیة معناها - کما فی الخبر (1) - : إذا قمتم إلی الصّلاة من النوم ، ففی هذا الظرف إذا لم تجدوا ماءً وجب التیمّم ، و تقیید عدم وجدان الماء بتمام الوقت یحتاج إلی مئونةٍ زائدة ، و لم یقم دلیل معناه : و إن لم تجدوا ماءً فی تمام الوقت فتیمّموا ، و مع عدمه ، فمقتضی الإطلاق وجوب التیمّم سواء وجد الماء بعده أو لا .

و الحاصل :

أوّلاً : إنه یمکن تقریب الاستدلال بالآیة و الروایة بما ذکر ، و المستشکل لم یتعرّض لذلک .

و ثانیاً : إن المحقّق الخراسانی استدلّ فی فقهه بأدلّةٍ خاصّة .

بیان المحقق النائینی

و قال المیرزا رحمه اللّٰه بعدم وجوب الإعادة للمتمکّن من الطهارة المائیة بعد الإتیان بالصّلاة مع الطهارة الترابیّة ، بأن المفروض قیام الدلیل علی صحّة الصلاة مع التیمم فی أوّل الوقت ، و حینئذٍ یکون الإجزاء ضروریّاً ، لقیام النص و الإجماع و الضرورة علی عدم تعدّد الفریضة فی الوقت الواحد .

الإشکال علیه

و تعقّبه شیخنا و السید الأستاذ (2) بما حاصله : إن هذا الوجه أخصّ من المدّعی ، إذ یتمّ فی الصّلاة فقط ، لقیام الإجماع بل الضرورة فیها علی عدم

ص:182


1- 1) وسائل الشیعة الباب الثالث من أبواب نواقض الوضوء ، رقم 7 .
2- 2) منتقی الأصول 35/2 .

التعدّد کما ذکر ، و البحث یعمّ کلّ الأعمال الاضطراریّة .

و أما بالنسبة إلی القضاء فقال المیرزا : بأنّ القید کالإتیان بالصلاة بالطهارة المائیّة ، إنْ کان قیداً للصّلاة مطلقاً ، أی هی مقیدة بها سواء فی حال التمکن و العجز ، فهذا مخالف لمسلک العدلیّة ، للزوم کون الأمر بالصلاة مع التیمّم تکلیفاً بلا ملاک ، و المفروض وجود الأمر بها ، فلا محالة یکون الأمر بالصّلاة مع الطهارة المائیّة مقیَّداً بحال التمکن منها ، و هذا یقتضی إجزاء الترابیّة ، لأن دخل المائیّة فی الملاک هو فی حال التمکّن فقط ، و مع العجز عنها فلا دخل لها . اللهم إلّا أن تکون الطّهارة المائیّة دخیلةً فی مرتبة مصلحة الصّلاة ، بأنْ تکون الترابیّة وافیة بأصل مصلحتها ، و المائیّة یحصل بها شدّة المصلحة ، لکنّ هذا لا یمنع من القول بالإجزاء ، فالصّلاة مع الطهارة الترابیّة وافیة بالمصلحة الصّلاتیة ، و شدة المصلحة أمرٌ غیر قابلٍ للتدارک ...

و الحاصل : إن الشارع قد أمر بالإتیان بالصّلاة مع الطهارة الترابیّة ، و هذا یکشف عن عدم دخل خصوص المائیّة فی المصلحة مطلقاً ، فیجوز البدار إلی الصّلاة ، و لا یبقی حینئذٍ موضوع للإعادة و القضاء لها .

إشکال الأصفهانی و الخوئی

و أورد علیه المحقق الأصفهانی (1) - و تبعه المحقق الخوئی (2) فی (المحاضرات) و تعلیقة (أجود التقریرات) (3) ، بإمکان أن تکون المصلحة الواحدة ذات مرتبتین ، إحداهما : للصلاة مع الطهارة المائیّة ، و الاخری :

للصّلاة مع الترابیة ، أو یکون فی المورد مصلحتان ، لکلٍ من الصّلاتین مصلحة ...

ص:183


1- 1) نهایة الدرایة 385/1 - 386 .
2- 2) محاضرات فی أصول الفقه 240/2 .
3- 3) أجود التقریرات 283/1 الهامش .

أمّا علی الفرض الأوّل : فالطهارة المائیّة دخیلة فی شدّة المصلحة ، فالصّلاة فی الوقت مع الترابیة ذات مصلحة ، و لذا امر بها ، لکنَّ مع فوت المرتبة الشدیدة من المصلحة فی الوقت ، یؤمر بالقضاء فی خارجه ، استیفاءً لتلک المرتبة الفائتة من المصلحة .

و أمّا علی الفرض الثانی ، فالطهارة المائیّة محصِّلة لمصلحةٍ ملزمةٍ قائمةٍ بالصّلاة مع الطهارة المائیة ، ففی الوقت یأتی الأمر بالصّلاة مع الترابیة لدرک مصلحتها ، لکنّ المصلحة الاخری الفائتة تستوجب الأمر بالصّلاة مع المائیة فی خارج الوقت قضاءً ، تحصیلاً للمصلحة القائمة بها .

فما ذکره المیرزا من عدم دخل المائیّة فی المصلحة إلّا فی حال التمکّن غیر صحیح ، بل أمکن تصویر دخلها بالصورتین المذکورتین أیضاً .

جواب الاستاذ

و قد أجاب الاستاذ : بأنَّ الصّورة الاولی ، و هی فرض دخل المائیة فی مرتبة المصلحة و الغرض ، مذکورة فی کلام المیرزا ، کما قرّرناه ، و أمّا الصورة الثانیة ، فمن الناحیة الثبوتیة لا مانع منها ، إلّا أن کلامنا فی الصّلاة مع التیمم ، و الصّلاة مع الوضوء ، و کیف یتصوّر لکلٍّ منها مصلحة مباینة لمصلحة الاخری ؟ إن المصلحة و الغرض من الصّلاة أنها «قربان کلّ تقی» (1) و «إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنکَرِ » (2)و «معراج المؤمن» (3) و نحو ذلک ... و هذه لیست بحیث تتحقق مع الصّلاة بالمائیة و لا تحقق معها بالترابیّة ، بل کلّ واحدٍ منهما معراج و قربان و تنهی عن الفحشاء و المنکر ... و لو کان فرقٌ فهو من

ص:184


1- 1) وسائل الشیعة 43/4 الباب 12 من أبواب استحباب ابتداء النوافل .
2- 2) سورة العنکبوت : 45 .
3- 3) علیٰ ما فی بعض الکتب .

حیث المرتبة ، و قد ذکر المیرزا أن المرتبة إذا فاتت فلا یمکن استیفاؤها .

بیان المحقق العراقی

و قال المحقق العراقی - فی بیان الإجزاء فی مقام الاثبات - بأنْ قوله علیه السلام : «التیمّم أحد الطهورین» یدل بالمطابقة علی کون التراب فرداً من الطهارة المعتبرة فی الصّلاة ، فیکون حاکماً علی قوله «لا صلاة إلّا بطهور» بتوسعة موضوعه لیشمل الماء و التراب معاً ... مع جعل الطهارة الترابیة فی طول الطهارة المائیّة .

هذا مدلول الروایة مطابقةً ، و هو یدل بالدلالة الالتزامیّة علی الإجزاء ، لأنه مقتضی التنزیل المذکور .

فإن قیل : المدلول المطابقی المذکور معارض بقوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ ...» الظاهر فی تقیّد الصّلاة بالطهارة المائیّة بالخصوص ، فدلّ علی دخل هذه الخصوصیّة و لو فی المرتبة ... فلو صلّی بالترابیّة وجب علیه المائیّة ، و الحال أنّ مقتضی الروایة عدم وجوب الإعادة أو القضاء ، و فی هذا الفرض یتقدم دلالة الآیة علی دلالة الروایة ، لا لکونها بالإطلاق ، و دلالة الآیة بالوضع ، و مع الدلالة الوضعیة لا تنعقد الدلالة الإطلاقیّة ، لأن المحقق العراقی یری أن الإطلاق ینعقد إذا عدم البیان المتّصل ، و هنا کذلک ، بل لأن حجیّة هذا الإطلاق فی الروایة تنعدم بمجیء الآیة ، لکونها بیاناً منفصلاً للروایة ، و مع سقوط إطلاق الروایة عن الحجیّة بالآیة المبارکة لم یبق دلیلٌ علی الإجزاء .

قلنا : کلّ هذا صحیح علی المبنی عند المحقق العراقی ، لکنّ هنا نکتةً لأجلها یقول بالإجزاء ، و هی :

ص:185

إن الآیة المبارکة و إن دلَّت علی خصوصیةٍ و دخلٍ للطّهارة المائیّة فی الصّلاة ، لکن مع عدم امکان استیفاء مصلحتها - بعد الإتیان بالصلاة مع الطهارة الترابیّة حسب الأمر الشرعی - لا یبقی الأمر بالإعادة و القضاء .

و تلخّص : إن غایة ما تستوجبه المعارضة بین الآیة و الروایة و تقدّم الآیة هو : عدم استیفاء الطهارة الترابیة لتمام المصلحة ، لکنّ المدلول الالتزامی للروایة هو الاجزاء ، من جهة أن الطهارة الترابیة قد فوّتت المصلحة ، و لا یمکن بعد الإتیان بها استیفاء تمام المصلحة ...

إشکالات الاستاذ

و قد أورد علیه الاستاذ دام بقاه بوجوه :

الأول : إنه و إن کان دلالة الآیة المبارکة علی دخل الطهارة المائیة بالوضع کما قال ، لکنّ دلالتها فی مورد الاضطرار و الصّلاة مع الترابیة هی بالإطلاق و لیس بالوضع ، لأنها تدلّ علی وجوب الطهارة المائیة و اعتبارها ، سواء اضطرّ المکلَّف فی بعض الوقت إلی الطهارة الترابیة أو لا ... و الروایة الشّریفة تدلُّ علی إجزاء الطّهارة الترابیة بالإطلاق کذلک ، لکنَّ إطلاق الدلیل الحاکم - و هو الروایة - مقدَّم علی إطلاق الدلیل المحکوم و هو الآیة الکریمة ، فلا تصل النوبة إلی المعارضة .

و الثانی : إنّ تمسّکه بالدلالة الالتزامیّة للروایة علی الإجزاء ، بعد سقوط دلالتها المطابقیّة بالمعارضة مع الآیة علی الفرض ، موقوفٌ علی تمامیّة القول ببقاء المدلول الالتزامی للدلیل بعد سقوط مدلوله المطابقی ، و أمّا علی مبنی تبعیّة الدلالة الالتزامیة للدلالة المطابقیة فلا یتم .

و الثالث : - و هو العمدة فی المقام - إنّ الدلیل علی عدم الإجزاء لیس

ص:186

الآیة المبارکة - أو لیس الآیة بوحدها - بل صحیحة زرارة : «إذا لم یجد المسافر الماء فلیطلب ما دام فی الوقت فإذا خاف أنْ یفوته الوقت فلیتمّم و لیصلّ» (1)و مدلولها : إنه ما دام الوقت باقیاً فلا تصل النوبة إلی التیمّم ، و هذه الصحیحة توضّح معنی الآیة : أی : و إنْ لم تجدوا ماءً فی تمام الوقت فتیمّموا ... و لیس معناها : و إنْ لم تجدوا ماءً فی زمانٍ و إنْ کان الوقت باقیاً ... فلا إطلاق للآیة ...

فسقط استدلال المحقق الخراسانی و من تبعه کالسیّد الحکیم فی (شرح العروة) (2) .

و بذلک یظهر معنی الروایة أیضاً ، فإنّ التراب نزّل بمنزلة الماء و جعل مصداقاً للطهارة ، فی حال عدم التمکّن من الماء فی تمام الوقت ... فلا معنی للحکومة ...

و تلخّص : إن الحق عدم الإجزاء لمن عجز عن الماء فی قسمٍ من الوقت ... فإنّه لو صلّی بالتیمّم وجب علیه الإعادة ... بل إنّ وظیفته الصبر حتی آخر الوقت ، و الصّلاة مع الطهارة المائیة ... وفاقاً للقائلین بعدم جواز البدار .

هذا ، و قد بحث الاستاذ فی الدورة السابقة عن دلالة الأدلَّة العامّة مثل «کلّ شیء یضطرّ إلیه ابن آدم فقد أحلّه اللّٰه» (3) و مثل «حدیث الرفع» (4) و مثل «قاعدة المیسور» (5) ... و ثمّ ذکر فی الدورة اللّاحقة أنْ لا مجال لطرح تلک الأدلّة مع وجود صحیحة زرارة ، و کان حاصلها عدم جواز البدار ... هذا بالنسبة

ص:187


1- 1) وسائل الشیعة 366/3 الباب 14 رقم 3 .
2- 2) مستمسک العروة الوثقیٰ 442/4 .
3- 3) وسائل الشیعة 214/16 بلفظ : التقیّة فی کلّ شیء ... .
4- 4) کتاب التوحید : 353 رقم 24 .
5- 5) غوالی اللآلی 58/4 برقم 206 .

إلی التیمّم .

و أمّا بالنسبة إلی غیر التیمّم من الأفعال الاضطراریة ، فلا بدَّ من النظر الدقیق فی أدلَّتها الخاصّة ، فإنْ فقد الدلیل الخاص علی الحکم فیها وصلت النوبة إلی الأدلَّة العامة . و اللّٰه العالم .

الأصل العملی
اشارة

قد تقدَّم أنّ الإطلاق الذی تمسّک به فی (الکفایة) ، و کذا المعارضة التی ادّعاها المحقق العراقی ، ممنوعان ، بل المرجع هو النصّ الخاص .

و مع التنزّل عن کلّ ذلک و وصول الأمر إلی الأصل العملی ، فهل المقام مجری البراءة أو الاشتغال ؟ و هل عندنا هنا أصل مقدّم علیهما ؟

قال بعض المحققین : مقتضی استصحاب وجوب الصّلاة مع الطّهارة المائیّة ، إعادة الصلاة ، فلا تصل النوبة إلی البراءة .

و ذهب صاحب (الکفایة) (1) و من تبعه کالأصفهانی و المیرزا (2) إلی البراءة . لکون المورد من صغریات الشک فی التکلیف ، و قال العراقی بالاشتغال (3) ، لکونه من دوران الأمر بین التعیین و التخییر .

فالکلام فی مرحلتین :

1 - الاستصحاب

المرحلة الاولی : فی تقریب الاستصحاب ، لمن صلّی مع التیمّم ثم تمکّن فی بعض الوقت من الماء ، کما قال المحقق الإیروانی فی (تعلیقته)

ص:188


1- 1) کفایة الأصول : 85 .
2- 2) نهایة الدرایة 392/1 ، أجود التقریرات 285/1 .
3- 3) نهایة الأفکار 230/1 .

علی الکفایة (1) ، إن الخطاب بالصّلاة مع الطهارة المائیّة متوجّه إلی المکلَّف بمجرّد دخول الوقت ، و هو موجود إلی آخره ، فهو وجوب واحد مستمر ، غیر أنّه یکون لمن عجز عن الماء فی أول الوقت معلَّقاً علی وجدانه و التمکّن منه ، و یکون الوجوب فی حقّه فعلیّاً و الواجب استقبالیّاً ، هذا من جهة الطهارة المائیّة . و من جهة الطهارة الترابیّة ، فإنّ دلیله کالروایة : «التیمّم أحد الطهورین» یجعل الطهارة الترابیة للعاجز عن الماء ، فالنتیجة هی التخییر ، و مع فرض عدم الإطلاق الدالّ علی وفاء الصّلاة مع الطهارة الترابیة بتمام المصلحة ، یشک فی سقوط الواجب المعلَّق بإتیان الصّلاة معها ، و إذا عاد الشک إلی سقوط الواجب ، جری استصحاب بقاء وجوب الصّلاة مع الطهارة المائیة ، و هو استصحاب تنجیزی ... و معه لا مجال لغیره من الاصول .

إشکال الاستاذ

و أورد علیه شیخنا دام بقاه :

أوّلاً : إنه من جهة یصرِّح بالوجوب التخییری لمن کان فاقداً للماء فی بعض الوقت و واجداً له فی البعض الآخر ، بین الطهارة المائیة و الطهارة الترابیّة ، و من جهةٍ اخری یقول باحتمال التعیین المقوّم للاستصحاب ، و کیف یمکن الجمع بین هذین الحکمین ؟

و ثانیاً : إن وجوب الصّلاة مع الطهارة المائیّة علی من أتی بها مع الطهارة الترابیّة ، إنْ کان مطلقاً ، - بمعنی وجود هذا الوجوب سواء أتی بها مع الترابیّة أو لا ؟ - فهو لا یجامع التخییر کما تقدم ، و إنْ کان مقیّداً بعدم الإتیان

ص:189


1- 1) نهایة النهایة 126/1 .

بها مع الترابیة ، کان موضوع وجوبها مع المائیة مقیّداً بمن لم یصلّ مع التیمّم ، و حینئذٍ ، فالمکلّف الذی صلّاها مع التیمم ثم تمکّن من الماء خارج عن هذا الموضوع ، و الشرط فی الاستصحاب وحدة الموضوع .

و تلخّص : إن الصحیح عدم جریان الاستصحاب ، لعدم الیقین بوجوب الصّلاة مع الطهارة المائیّة بالنسبة للمکلَّف فی أوّل الوقت بالتیمّم ، و مع عدم الیقین السابق بالتکلیف لا یجری الاستصحاب .

أقول :

هذا کلامه فی الدورة اللّاحقة ، أمّا فی السابقة فقد صحّح جریان الاستصحاب التعلیقی - لا التنجیزی - ثم عدل عنه کما سیأتی .

2 - البراءة أو الاشتغال

و بناءً علیٰ سقوط الاستصحاب تصل النوبة إلی البراءة أو الاشتغال ، قال المحقق العراقی فی بیان الاشتغال ما هذا توضیحه :

إنّ المفروض قیام مرتبةٍ من الغرض بالصّلاة مع الطهارة المائیة ، فإنْ کانت الصّلاة المأتی بها بالترابیة مفوتةً للغرض و لا یبقی مجال لتحصیله ، فلا أمر بالإعادة ، أمّا مع الشک فی تفویتها ذلک ، و احتمال القدرة علی تحصیل الغرض ، فإن العقل حاکم بالاحتیاط ... نظیر ما إذا امر بدفن المیّت ، و شکّ فی قابلیّة الأرض للحفر ، فإنّ مقتضی القاعدة هو الاحتیاط .

و بهذا البیان یندفع ما اورد علیه من أنه متی کان الشک فی التّکلیف - من جهة فقد الدلیل أو إجماله أو الشک فی القدرة - جری أصل البراءة ، و ما نحن فیه مورد للشک فی القدرة . وجه الاندفاع هو : إن هذا المحقق قد فرض المسألة فی صورة العلم بالغرض و الشک فی القدرة علی الامتثال ، لا الشک فی التکلیف .

ص:190

قال المحقق العراقی : و لو شک فی أنّ الصّلاة هذه مع الطهارة الترابیّة کانت وافیة بتمام مصلحتها مع المائیّة ، فالحکم هو الاحتیاط ، من جهة المبنی فی صورة دوران الأمر بین التعیین و التخییر ، و ما نحن فیه حینئذٍ من صغریات تلک الصّورة ، لدوران أمر المصلحة بین قیامها بالجامع بین التیمّم و الوضوء ، فهو مخیَّر ، و قیامها بخصوص الصّلاة مع الوضوء ، فعلیه ذلک علی وجه التعیین ... و المختار فی مثله هو الاشتغال .

قال الاستاذ

أمّا من النّاحیة الکبرویّة ، فالمختار وفاقاً لجماعةٍ هو البراءة لا الاشتغال .

و أمّا من الناحیة الصغرویّة ، فإنّ ما نحن فیه لیس من صغریات دوران الأمر بین التعیین و التخییر - و لذا قال فی (الکفایة) هنا بالبراءة مع ذهابه فی الکبری إلی الاشتغال - و ذلک : لما تقدَّم فی کلام المحقق الخراسانی من أنّ الأمر هنا دائر بین الصّلاة مع التیمم فی أوّل الوقت ثم الإتیان بها مرّةً اخری مع الوضوء فی آخره ، و بین الانتظار و الصّلاة مع الوضوء فی آخره ... إذن ، عندنا یقینٌ بوجوب الصّلاة مع التیمّم فی أول الوقت ، و الشک فی أنّه هل یجب علیه بالإضافة إلی ذلک - الإتیان بالصّلاة فی آخر الوقت بالطهارة المائیة أو لا ؟ فإن وجب ضمّ ذلک ، کانت الصلاتان معاً عِدلاً للصّلاة مع الطهارة المائیّة المأتیّ بها منفردةً فی آخر الوقت ... فیرجع الشک حینئذٍ إلی وجوب هذه الإضافة بعد الصّلاة مع التیمّم ، و هذا من الشک فی أصل التکلیف ، و هو مجری البراءة .

فظهر : أن الصحیح هو أن المقام - وفاقاً لصاحب (الکفایة) و أتباعه - من موارد الشک فی التکلیف ... و الأصل الجاری فیه هو البراءة . و لیس من موارد

ص:191

دوران الأمر بین التعیین و التخییر لیجری الاشتغال کما علیه العراقی أو البراءة کما علیه فی (المحاضرات) .

و أمّا ما ذکره المحقق العراقی من إرجاع المقام إلی صورة الشک فی القدرة ، و حکم العقل فیها بلزوم الاحتیاط ، نظیر مسألة دفن المیت و الشک فی القدرة علی حفر الأرض ، ففیه :

إنّ حکم العقل بلزوم الاحتیاط تحصیلاً للغرض ، إنما هو حیث یُعلم بالغرض ، بحیث لو فات لکان المکلَّف مقصّراً ، کما فی مسألة دفن المیت ، و لکنّ کلّ موردٍ علم فیه بعدم ارتباط فوت الغرض بالعبد ، بل علم باستناد فوته إلی المولی ، فلا حکم للعقل بلزوم الاحتیاط فیه ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنّ المفروض تجویز المولی البدار إلی الصّلاة مع الطهارة الترابیّة ، حتّی مع وجود المصلحة الزائدة فی الطهارة المائیّة المحتمل فوتها بالإتیان بالصّلاة مع التیمّم ، و لمّا کان هذا الفوت مستنداً إلی تجویز المولی ، فلا حکم للعقل بلزوم الاحتیاط .

و تلخّص : إنه لا مانع من جریان البراءة ، فالمورد لیس من موارد حکم العقل بالاحتیاط ، کما لیس من موارد دوران الأمر بین التعیین و التخییر ، بقطع النظر عن المبنی فی الکبری .

و هل البراءة محکومة بالاستصحاب التعلیقی ؟

و تبقی نظریّة السید الحکیم ، فإنه قال بجریان الاستصحاب التعلیقی فی المقام (1) ، و بحکومته علی البراءة ، و تقریب ذلک :

إنّ هذا المکلَّف لو لم یأت بالصّلاة مع التیمّم فی أوّل الوقت ، لوجب

ص:192


1- 1) حقائق الأصول 201/1 .

علیه الإتیان بها مع الوضوء عند التمکن من الماء ، و هذه قضیّة تعلیقیّة ، و حیث أتی بالصّلاة مع التیمّم ، و شککنا فی سقوط وجوبها مع الوضوء بها عنه ، جری استصحاب بقاء الوجوب ، کالمثال المعروف فی الاستصحاب التعلیقی و هو : العنب إذا غلی یحرم ، حیث الحرمة معلّقة علی غلیان العنب ، فلو زالت العنبیّة و حصل الغلیان و شککنا فی بقاء الحکم المعلّق ، استصحب و أصبح فعلیّاً بتحقّق الغلیان .

قال الاستاذ

و فیه بحث ، أمّا من جهة الکبری ، فالاستصحاب التعلیقی محلّ کلامٍ بین الأعلام .

و المهم جهة الصغری ، و ما نحن فیه لیس من صغریات هذا الاستصحاب ، لأنّ المناط فیه أن یکون التغیّر الحاصل قبل الشرط فی حالةٍ من حالات الموضوع المستصحب لا فی مقوّماته ، و فی المثال المعروف قد تبدّلت حالة الموضوع من العنبیّة إلی الزبیبیّة . أمّا فی المقام ، فوجوب الصّلاة مع الطهارة المائیّة له شرطان ، أحدهما : التمکّن من الماء فی الوقت ، و الآخر :

عدم الإتیان بالصّلاة مع التیمّم ، ففی ناحیة الموضوع المستصحب - و هو وجوب الصّلاة کذلک - یعتبر هذان الشرطان ، وعلیه ، فلو صلّی مع التیمم - کما هو المفروض - فقد انتفی أحد الشرطین ، فلم یحرز بقاء الموضوع ...

و تلخّص : إن أصل الموضوع و وجوده غیر محرز ، بخلاف المثال ، فهناک الموضوع موجود و قد زال وصف العنبیّة عنه ، فهو حینئذٍ مجری الاستصحاب التعلیقی علی المبنی ، و موردنا لیس من موارده ، لعدم تمامیّة أرکانه .

ص:193

خلاصة البحث

إن الصلاة مع التیمّم بدل عن الصّلاة مع الطهارة المائیة ، - و لیسا فی العرض کالصّلاة قصراً أو تماماً - و إذا کانت بدلاً ، فالمعتبر فقدان الماء فی تمام الوقت ، لا الاضطرار فی بعضه ، و بمجرَّد التمکّن من الماء فی بعضه یمتنع وصول النوبة إلی البدل ، شرعاً و عقلاً ... و المشهور بین الفقهاء هو عدم جواز البدارِ ، و عدم الإجزاء .

و جمع بعضهم بین النصوص المختلفة بحمل الإعادة علی الاستحباب ، غیر تام ، إذ لیس الجمع بین «یعید» و «لا یعید» جمعاً عرفیّاً ، و مع استقرار المعارضة ، فالمرجّح أخبار عدم الإجزاء ، لأنّها مخالفة للعامّة ، لکون معظمهم علی الإجزاء .

هذا تمام الکلام علی الإعادة .

و أمّا حکم القضاء بالنسبة إلی من أتی بالعمل الاضطراری ، کالصّلاة مع التیمّم ، ثم تمکّن من العمل الاختیاری بعد انقضاء الوقت ، فمقتضی الأدلّة العامّة اللّفظیة - کالآیة المبارکة : «فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء ...» و الرّوایة : «التیمّم أحد الطهورین» - هو الإجزاء .

فإنْ وصلت النوبة إلی الأصل العملی ، فهل هو البراءة أو الاشتغال ؟

تفصیل للمحقق الأصفهانی

قال المحقق الأصفهانی بالتفصیل ، بأنّ وجوب القضاء إنْ کان بأمر جدید - لکون موضوع الدلیل هو «الفوت» - فالأصل هو البراءة ، لأنْ المفروض عدم القدرة علی الطّهارة المائیّة فی الوقت کلّه ، فلا یصدق عنوان «فوت الفریضة» . و کذا بناءً علی القول بأن المراد من «الفوت» هو «فوت ملاک

ص:194

الفریضة» فإن فوته مشکوک فیه ، و حینئذٍ یکون التمسّک ب «من فاتته الفریضة فلیقضها کما فاتته» تمسّکاً بالدّلیل فی الشبهة الموضوعیة .

و إنْ کان وجوب القضاء بالأمر الأوّل ، فالأصل هو الاشتغال ، لجریان الاستصحاب هنا - بخلاف ما لو کان بأمر جدید ، فإنّه لا یجری استصحاب عدم الإتیان بالواجب فی الوقت ، لأنه بالنسبة إلی عنوان «الفوت» أصل مثبت ، لکونه عنواناً وجودیّاً - لأنَّ الأمر الأوّل لم یمتثل ، و لو شکّ فی امتثال الواجب بالإتیان بالصّلاة مع التیمم ، استصحب عدم تحقّق الامتثال .

لکنّ القول بأن القضاء هو بالأمر الأوّل خلاف التحقیق .

نقد الاستاذ

و أشکل الاستاذ : بأنْ هذا الاستصحاب کیف یجری مع الیقین بعدم الإتیان بالصّلاة مع الطهارة المائیّة فی الوقت ؟ ، و أین الشک کی یتمسّک بالاستصحاب ؟ بل إن صورة المسألة مع عدم الشک فی عدم الإتیان هی :

الشک فی وفاء هذا العمل الاضطراری بتمام مصلحة العمل الاختیاری ، لکنْ لا یجری أصالة عدم الوفاء به ، لأنه أصل مثبت ، لأن وجوب القضاء لازم عقلی له .

و الحاصل : إن الحکم فی القضاء لا یکون أشدّ من الحکم فی الإعادة ، و قد قال المحقق الأصفهانی هناک بالبراءة ، لدوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، و إذا کان القضاء بالأمر الأوّل فلا یعقل الاشتغال ، لأن المفروض عدم اشتغال ذمّته بالصّلاة مع الوضوء بل مع التیمم ، و قد أتی بالواجب . نعم لو فرض کونه مکلَّفاً بالصّلاة مع الوضوء ، و لم یأت بها مع التیمّم حتی خرج الوقت ، ثم شک فی إتیانه بالواجب ، کان القضاء بالأمر الأوّل ، و جری الاستصحاب ، لکنّ

ص:195

هذا خارج عن البحث .

و علی الجملة ، فقوله بجریان أصالة عدم الإتیان بالعمل الاختیاری غیر تام .

و أمّا أن موضوع القضاء هو «الفوت» ففیه : إن موضوع القضاء هو «عدم الإتیان» و لیس «الفوت» و إنْ اشتهر بین المتأخرین من الأعیان ، و التفصیل فی الفقه .

فالأصل الجاری فی المقام هو البراءة ، لو وصل الأمر إلی الأصل العملی .

هذا تمام الکلام فی المسألة الثانیة .

ص:196

المسألة الثالثة: فی إجزاء الأمر الظاهری عن الواقعی و عدمه
اشارة

إذا وقع الامتثال لأمرٍ ظاهری ثم انکشف الخلاف ، فهل العمل المأتی به مجزٍ عن الواقع أو لا ؟

فی هذا المقام أقوال عدیدة :

1 - الإجزاء مطلقاً .

2 - عدم الإجزاء مطلقاً .

3 - التفاصیل ، و المهمّ منها تفصیل (الکفایة) بین الاصول فالإجزاء و الأمارات فعدم الإجزاء .

و اعلم أنه :

تارةً : الشبهة موضوعیة ، سواء کان موضوع الحکم شیئاً خارجیّاً ، کالصعید بالنسبة إلی التیمّم ، أو حکماً شرعیّاً کالطهارة بالنسبة إلی الصّلاة .

و اخری : الشبهة حکمیّة .

و أیضاً : تارةً : یکون الحکم الظاهری بأصل - محرز أو غیر محرز - و اخری : بأمارة ، و ثالثة : بالقطع .

و أیضاً : تارةً : یکون کشف الخلاف بالقطع ، و اخری : بالأصل ، و ثالثة :

بالأمارة .

ص:197

و لا بدَّ من البحث فی جمیع هذه الشقوق بمقتضی الأدلّة الأولیّة ، ثمّ بمقتضی الأدلّة الثانویة ، لنعرف حدّ دلالة الدلیل الظاهری ، و أنّه إذا قام - مثلاً - علی الطّهارة ، فهل یترتَّب علیه الأثر فی ظرف الشک أو الجهل بالحکم الواقعی فقط ، بحیث یکون مجزیاً إن لم ینکشف وقوع العمل علی خلاف الواقع ، فلو انکشف ذلک وجب إعادته ، فهو محدود بهذا الحد ، أو أنه لیس بمحدودٍ به ، بمعنی أنه یکون مجزیاً و لا تجب إعادته ، نعم ، یجب العمل طبق الواقع المنکشف من حین انکشافه فی الصّلوات الآتیة مثلاً ؟

رأی المحقق الخراسانی

و عمدة الکلام هو مورد قیام الأصل أو القاعدة ، و قیام الأمارة ، علی الموضوع أو الحکم ، ثم انکشاف الخلاف ، و لذا جعل صاحب (الکفایة) البحث أوّلاً : فی قیام الأصل ، ثم فی قیام الأمارة ، فقال ما حاصله :

لو قام الأصل علی موضوع التکلیف لیفید تحقّق ما هو شرط التکلیف أو جزء التکلیف ، کقاعدة الطهارة أو قاعدة الحلّ أو استصحابهما فی وجهٍ قوی (1) ، کان مجزیاً عن الواقع ، فلو صلّی فی ثوبٍ مشکوک الطهارة استناداً إلی القاعدة ، أو مشکوک فی کونه حلالاً استناداً إلی أصالة الحلّ ، أو استصحابهما - فی وجهٍ قوی - ثم انکشف نجاسة الثوب أو عدم حلیّته ، فالصّلاة صحیحة مجزیة عن الواقع ، لکنْ لا یصلّی فیه فیما بعد .

و استدلّ علی الإجزاء هنا بحکومة الدلیل القائم علیٰ الأصل و القاعدة علی دلیل الاشتراط ، یعنی : إن قوله علیه السلام : «کلّ شیء نظیف حتی تعلم

ص:198


1- 1) قوله «فی وجه قوی» إشارة إلی وجود الخلاف فی الاستصحاب بأنه أصلٌ أو أمارةٌ ، و علی الأوّل هل یفید حکماً بعنوان جعل المماثل أو لا یفید إلّا المنجزیة . فعلی أنه أصلٌ و جعل للحکم المماثل یدخل فی البحث .

أنه قذر» (1) و «کلّ شیء لک حلال» (2) و عموم قوله «لا تنقض الیقین بالشک» (3)بناءً علی جریانه هنا ، یکون حاکماً علی دلیل اشتراط الطهارة أو الحلیّة فی لباس المصلّی ، أی یکون موسّعاً لدائرة الشرط ، فیکون الثوب واجداً للطهارة أو الحلیّة ، لأن المقصود منهما هو الأعم من الطهارة و الحلیّة الواقعیة و الظاهریة . (قال) : فانکشاف الخلاف فیه لا یکون موجباً لانکشاف فقدان العمل لشرطه .

فیکون حال ما نحن فیه حال «التیمّم أحد الطهورین» بالنسبة إلی «لا صلاة إلّا بطهور» ، حیث أنّ الروایة تقول بأن «الطهور» أعمّ من الماء و التراب ، و لذا تکون الصّلاة مع التیمم مجزیةً تماماً کالصّلاة مع الوضوء ، و لو انکشف الخلاف حکم بصحّة الصّلاة .

و هذا مسلک الخراسانی و من تبعه کالعراقی و البروجردی فی معنی «التیمّم أحد الطهورین» ، فهم یقولون بأنَّ تبدّل حال المکلَّف من «فقدان الماء» إلی «وجدان الماء» لا یوجب إعادة الصّلاة ، کما لا یوجب إعادتها لو تبدّل حاله من «المسافر» إلی «الحاضر» .

هذا کلامه فی الاصول الجاریة فی الموضوعات ، سواء کانت الموضوعات أشیاء تکوینیة ، کالصعید و نحوه ، أو أحکام شرعیة ، کالطهارة و نحوها .

أمّا فی الأمارات ، فقد قال بالتفصیل بین القول بالطریقیّة و القول بالسببیّة .

ص:199


1- 1) وسائل الشیعة 467/3 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، رقم 4 .
2- 2) وسائل الشیعة : 89/17 ، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به ، رقم 4 .
3- 3) وسائل الشیعة 245/1 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، رقم 1 .

أمّا علی الطریقیّة (1) فقال بعدم الإجزاء . (قال) : فإنّ دلیل حجیّته حیث کان بلسان أنه واجد لِما هو شرطه الواقعی ، فبارتفاع الجهل ینکشف أنه لم یکن کذلک ، بل کان لشرطه فاقداً . یعنی : إن دلیل اعتبار خبر الواحد - مثلاً - لا یفید الجعل ، و کذا البیّنة ، فلو قامت البینة - مثلاً - علی طهارة الثوب أو جاء خبر ثقة ، کان مقتضی قوله علیه السلام «لا عذر لأحدٍ من موالینا فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا» (2) أو أدلّة اعتبار البیّنة : أنّ هذا طریق کاشف عن الطهارة ، و لا دلالة فیه علی جعلٍ من قبل الشارع للطّهارة - بخلاف قاعدة الطهارة مثلاً ، فهناک جعل شرعی للطّهارة - فبارتفاع الجهل و انکشاف الواقع یظهر أنه لم یکن الثوب طاهراً بل کان فاقداً للطهارة ، فلا إجزاء (3) .

و أمّا علی السببیّة ، فقد ذکر أربع صور - کصور الأمر الاضطراری - لأنه بناءً علی هذا القول تحصل المصلحة فی المتعلَّق - بخلاف الطریقیة حیث لا مصلحة فیه - و حینئذٍ فتارةً : تکون المصلحة المتحقّقة بقیام الأمارة وافیةً بتمام مصلحة الواقع ، و اخری : لا تکون وافیة . و علی الثانی : تارة یکون المقدار الباقی من المصلحة ممکن الاستیفاء ، و اخری : لا یمکن استیفاؤه ، و علی الأوّل : تارةً المصلحة لزومیّة ، و اخری ندبیّة . (فقال) رحمه اللّٰه : فیجزی لو کان الفاقد معه فی هذا الحال کالواجد فی کونه وافیاً بتمام الغرض ، و لا یجزی لو لم یکن کذلک ، و یجب الإتیان بالواجد لاستیفاء الباقی إن وجب و إلّا لاستحبّ ، هذا مع امکان استیفائه و إلّا فلا مجال لإتیانه .

و أمّا لو شک - و لم یحرز أنّ حجیة الأمارة علی وجه الطریقیّة أو

ص:200


1- 1) و هذا هو مختاره هنا و فی مواضع أُخر ، و إنْ اشتهر عنه القول بالمنجّزیة و المعذّریة .
2- 2) وسائل الشیعة 150/27 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم 40 .
3- 3) قال الاستاذ : و بناءً علی المنجزیة أیضاً لا إجزاء ، لأنّ المجعول هو المنجزیة و المعذریة فقط .

السببیّة ، فمقتضی القاعدة عدم الإجزاء (قال) : فأصالة عدم الإتیان بما یسقط معه التکلیف مقتضیة للإعادة فی الوقت .

فإنْ قیل : هذا الأصل معارض باستصحاب عدم کون التکلیف بالواقع - و هو النجاسة - فعلیّاً عند قیام الأمارة علی الطهارة ، و حینئذٍ یحکم بالإجزاء .

(قال) : هذا لا یجری ، و لا یثبت کون ما أتی به مسقطاً إلّا علی القول بالأصل المثبت ، و قد علم اشتغال ذمّته بما یشک فی فراغها عنه بذلک المأتی .

هذا بالنسبة إلی الإعادة فی الوقت .

و أمّا القضاء ، فلا یجب ، بناءً علی أنه فرض جدید ... و إلّا فهو واجب ...

هذا ما ذهب إلیه صاحب الکفایة رحمه اللّٰه فی هذه المسألة .

اندفاع إشکال الإیروانی

و بما ذکرنا فی توضیح التفصیل المذکور عن صاحب (الکفایة) ، یتّضح اندفاع إیراد المحقق الإیروانی فی (التعلیقة) (1) بعدم الوجه فی التفصیل بین مقتضی الاصول و مقتضی القول بالسببیّة فی الأمارات ، و أنه کان علی (الکفایة) أن یذکر الصّور الأربع فی الاصول کما ذکرها بناءً علی السببیّة ، و ذلک : لما تقدَّم من أن الأصل إذا جری فلا یُوجد مصلحةً فی المتعلَّق ، بخلاف الأمارة - بناءً علی السببیّة - فهی تأتی بالمصلحة فیه ، إذ الأصل لا مصلحة فیه إلّا فی جعله ، و تلک المصلحة هی التسهیل علی المکلَّفین کما فی قاعدة الطهارة ، أو التضییق کما فی أصالة الاحتیاط ، فإنّ ملاکه هو التحفّظ علی الواقع بالإتیان بالمحتملات ، و لا توجد مصلحة فی نفس المحتملات ، و کذلک البراءة ، فإنّها توسعة و تسهیل علی المکلّفین .

ص:201


1- 1) نهایة النهایة 127/1 .

و الحاصل : إن الاصول إذا قامت لا تصیّر المتعلَّق ذا مصلحةٍ و ملاک ، بخلاف الأمارة - بناءً علی السببیّة - فإنّها إذا قامت ، کان المتعلَّق ذا مصلحة ، و حتی بناءً علی المصلحة السلوکیّة التی صوّرها الشیخ الأعظم ، لا یکون المؤدی ذا مصلحة ، فکیف بمسلک الأشاعرة ؟

فما ذکره - رحمه اللّٰه - لا یتوجّه علی تفصیل (الکفایة) .

إشکالات المیرزا و الکلام حولها
اشارة

و نقل الاستاذ دام بقاه عن المیرزا (1) خمسة إشکالات علی (الکفایة) ، فیما ذهب إلیه من الإجزاء ، فأجاب عن ثلاثةٍ منها ، و أثبت اثنین ، و ناقش المحقق الأصفهانی فیما ذکره جواباً عنهما :

الإشکال الأوّل

إن صاحب (الکفایة) لا یری حکومة أدلّة الاصول علی أدلّة الأحکام الأوّلیّة ، فهو لا یری تقدّم أدلّة «لا ضرر» مثلاً علی أدلّة الأحکام و العناوین الأوّلیّة ، کما لا یری حکومة الأمارات علی الاصول العملیّة ، و السرّ فی قوله بعدم الحکومة فی تلک الموارد هو : أنه یری ضرورة شارحیّة الدلیل الحاکم بالنسبة إلی المحکوم ، و لا شارحیّة لأدلّة لا ضرر و لا لأدلّة الأمارات ... و إذا کان هذا هو المناط ، فإنّه لا شارحیّة لدلیل قاعدة الطهارة بالنسبة إلی الأدلّة التی اعتبرت الطهارة و الحلیّة فی لباس المصلّی ، و حینئذٍ ، کیف تتم الحکومة التی استند إلیها هنا ؟

أجاب الاستاذ

بأنّه کان ینبغی الدقّة فی سائر کلمات المحقق الخراسانی فی (الکفایة) و

ص:202


1- 1) أجود التقریرات 287/1 - 289 .

(حاشیة الرسائل) ، فهو و إنْ خالف الشیخ الأعظم فی حقیقة الحکومة ، إلّا أنه فی تعلیقته علی کلام الشیخ فی باب التعادل و التراجیح ، حیث ذکر الشیخ کون الحکومة بنحو الشرح و التفسیر ، مثل «أی» و «أعنی» و نحو ذلک ، قال رحمه اللّٰه : الحکومة تتحقّق بکون الدلیل الحاکم معمّماً لموضوع الدلیل المحکوم أو مضیّقاً لدائرته ، و قد صرّح هناک بتقدّم أدلّة الأمارات بالحکومة علی أدلّة الاصول من جهة رفعها لموضوعها و هو الشک و الجهل ، لأن الجهل مأخوذ فی موضوع أدلّة الاصول و أدلّة الأمارات تفید الإحراز ، و لا یلزم فی الحکومة انعدام موضوع المحکوم من جمیع الجهات .

و أیضاً : فقد قال فی مبحث الاستصحاب بحکومة الأمارات علیه ، و صرّح بأنَّ الأمارات حاکمة علی جمیع الاصول (1) .

و بالنسبة إلی حکومة «لا ضرر» ، فإنّه - فی بحث التعادل و التراجیح من (الکفایة) فی کلامٍ له ناظرٍ إلی کلام الشیخ فی معنی الحکومة - یصرّح بحکومة لا ضرر علی أدلَّة الأحکام . و کذلک فی آخر مبحث البراءة من (الحاشیة) حیث یورد کلام الفاضل التونی ، فهناک أیضاً یصرّح بأنّ وزان «لا ضرر» وزان « فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِی الْحَجِّ » (2)، فالإشکال المذکور من المیرزا فی غیر محلّه .

الإشکال الثانی

إن الحکومة إنما تتحقّق لو جعلت الطهارة و الحلیّة من قبل ، ثم جاء الدلیل علی کونهما أعمّ من الواقعیّة و الظاهریة ، و لکنّ قاعدتی الطهارة و الحلّ

ص:203


1- 1) الحاشیة علیٰ الرسائل : 236 ، 257 .
2- 2) سورة البقرة : 197 .

لا یفیدان الأعمیّة بل فیهما جعلٌ للطهارة و الحلّ ، و إذا کان لسانهما ذلک فلا حکومة .

أجاب الاستاذ

بأنّ هذا أیضاً ناشئ من عدم التأمّل فی کلماته فی (الکفایة) و فی (الحاشیة) ! و معنی کلامه فی (الکفایة) فی هذا المقام هو : إن الدلیل الأوّلی لفظه : «لا صلاة إلّا بطهور» ، و مفاد قاعدة الطهارة : إن مشکوک الطهارة طاهر .

و یقول رحمه اللّٰه فی (الحاشیة) فی مباحث الاستصحاب و التعادل و التراجیح - خلافاً للشیخ - بأنّ مناط الحکومة لیس الشرح و التفسیر للدلیل المحکوم ، بل جعل الفرد لموضوع ذاک الدلیل ، فإذا أفاد الدلیل الأوّلی شرطیة الطهارة للصلاة ؛ فالقاعدة مفادها أن الشیء المشکوک فی طهارته طاهر ، فتصح الصلاة فیه ، فکان وزانهما وزان «أکرم العلماء» و «ولد العالم عالم» ... فصاحب (الکفایة) یری أن لسان دلیل القاعدة لسان التعمیم .

الإشکال الثالث

إن ما ذکره وجهاً للإجزاء فی مورد الاصول یجری فی مورد الأمارات بالأولویّة ، لأن فی مورد الاصول لیس إلّا التعبّد بالعمل ، أمّا فی الأمارات ، فالشارع یجعل الإحراز و الطریقیة إلی الواقع ، فیکون المصلّی مع الثوب المشکوک فی طهارته - القائم علی طهارته الأمارة - قد صلّی مع الطهارة المحرزة ، و مقتضی ذلک هو الإجزاء ، فلا وجه للتفصیل بین الاصول و الأمارات .

أجاب الاستاذ

بأنّ مفاد دلیل القاعدة جعل الشرط و هو الطهارة و الحلیّة ، و إذا جعل

ص:204

بالأصل الشرطُ کان الإجزاء علی القاعدة ، لأن العمل أصبح واجداً للشرط ببرکة «کلّ شیء لک طاهر» أو «حلال» ، بخلاف الأمارة ، فلو قامت البیّنة علی الطهارة ، لم یکن مفادها جعل الطهارة فی الثوب ، فالأصل یفید الطهارة و الأمارة تفید إحراز الطهارة لا نفس الطهارة ... و الإحراز ینعدم بکشف الخلاف کما هو واضح ، فالأصل یثبت الشرط و الأمارة لا تثبته ... و هذا هو الفرق ، و التفصیل سالمٌ عن هذا الإیراد .

هذا تمام الکلام فی الإشکالات الثلاثة .

الإشکال الرابع

إن موضوع الأصل قد اخذ فیه الشک فی الواقع ، فقاعدة الطهارة جاعلةٌ للطهارة للشیء ، لکنّ موضوع هذه القاعدة هو الشک فی الطهارة الواقعیّة ، و کذا الحال فی أصالة الحلّ ، و من الواضح أنّ کلّ حکمٍ مجعول فهو فی مرتبة متأخّرة عن موضوعه ، فتکون الطّهارة و الحلیّة متأخّرتین رتبةً عن الشکّ فی الحلیّة و الطهارة الواقعیّتین ، ثم إنّ هذا الشک متأخّر عن نفس الطهارة و الحلیّة الواقعیّتین .

و علی هذا ، فالمجعول فی الاصول - و هو التوسعة فی الواقع و کون الطهارة أعم من الواقعیّة و الظاهریة - متأخّر عن الواقع بمرتبتین ، و مع هذا التأخّر ، کیف تتحقق التوسعة و الحکومة ؟

و بعبارة أخری : إن من الشروط التی اعتبرها الشارع فی لباس المصلّی هو الطهارة ، فإذا تحقّق هذا الشرط تمّ الإجزاء و إلّا فلا ، و تحقّقه بالحکومة - کما ذکر فی (الکفایة) - یتوقّف علی کون الدلیل الحاکم فی مرتبة الدلیل المحکوم . و حینئذٍ ، یتحقّق الشرط بالتعمیم و التوسعة الحاصلة بالحکومة ، کما

ص:205

هو الحال فی مثل «الطواف بالبیت صلاة» ، لکن دلیل قاعدة الطهارة لیس فی عَرض دلیل اعتبار الطهارة ، بل هما فی الطول کما تقدَّم ، و مع الطولیّة یستحیل الحکومة ، و الإجزاء محال .

دفاع المحقق الأصفهانی عن الکفایة

و حاول المحقق الأصفهانی (1) الدفاع عن رأی (الکفایة) فقال : بأنّ هذا الإشکال إنما یرد لو ارید الواقع واقعاً ، لکنّ ذلک لیس بلازمٍ ، بل یکفی تعمیمه عنواناً ، و هذا مفاد قاعدة الطهارة ، فإن مفادها جعل الطّهارة العنوانیة ، و حینئذٍ ، تترتّب علی هذه الطهارة آثار الطهارة الواقعیّة ، و منها صحة الصّلاة ، فتصحّ الصّلاة معها کما تصحّ مع الطهارة الواقعیّة .

جواب الاستاذ عن الدفاع

و أورد علیه الاستاذ : بأنّ عنوان الشیء غیر الشیء ، فالطهارة العنوانیّة مغایرة للطّهارة ، و إذا کان الأثر یترتب علی الطهارة العنوانیّة فإنّما هو إلی زمان وجودها المتفرّع علی الشک فی الطّهارة الواقعیة ، و بمجرّد زوال الشک فلا یبقی موضوع للطهارة العنوانیّة ، و إذ لا موضوع فلا حکم ، لاستحالة بقاء الحکم بعد زوال الموضوع ، و حینئذٍ یبقی إطلاق دلیل الطّهارة الواقعیة بوحده .

و حاصل إشکال المیرزا هو : إن الحکومة و ترتّب الأثر علی الطهارة الظّاهریة - أو العنوانیة کما یقول المحقّق الأصفهانی - إنما یکون ما دام الشک موجوداً ، أمّا مع زواله و انقضاء ظرف الشک و انکشاف الخلاف ، فلا دلیل علی کفایة العمل بالأمر الظاهری .

ص:206


1- 1) نهایة الدرایة 393/1 .

فما ذکره المحقق الأصفهانی غیر دافع للإشکال .

الإشکال الخامس

إنه لو تمّت هذه الحکومة - کما یقول صاحب (الکفایة) - لترتّب الأثر فی جمیع الأبواب و المسائل ، لا فی خصوص الصّلاة فی الثوب المشکوک فی طهارته ، فلا بدّ من إجراء قاعدة الطهارة فی المغسول بالماء الطاهر ظاهراً بحکم القاعدة ، و القول بطهارته بعد انکشاف الخلاف ، و الحال أنه لا یلتزم بهذا !

و أیضاً : فی قاعدة الحلّ فی الموارد المشابهة ، و کذلک فی الاستصحاب مثلاً ، فلو شک فی بقاء ملکیّة زید للکتاب ، و استصحبت الملکیة ، ثم اشتری منه و انکشف الخلاف ، فهل یقول صاحب (الکفایة) ببقاء المعاملة ؟

و الحاصل : إنْ کانت الحکومة هذه واقعیّةً ، فهی تجری فی کلّ باب و فی کلّ مسألةٍ ، و التخصیص لا وجه له ، و لکنّه لا یلتزم بذلک و لا غیره من الفقهاء ، و هذا یکشف عن کونها ظاهریةً ، و الحکومة الظاهریّة تزول بزوال الشک و انکشاف الخلاف .

دفاع المحقّق الأصفهانی

و أجاب المحقّق الأصفهانی رحمه اللّٰه : بأنّ الاعتبارات علی قسمین ، منها : ما یکون فعلیّته منوطاً بالوصول ، و ما لم یصل الاعتبار إلی المکلَّف أمکن للمعتبر أن یعتبر علی خلاف ذاک الاعتبار ، و من ذلک : البعث مثلاً ، فإنه ، و کذا الزجر ، إنما یکون فعلیّاً إذا وَصَل ، و إلّا فلا باعثیّة و زاجریّة ، ففعلیّة ذلک تدور مدار الوصول ، لذا یمکن للمولی أنْ یأمر بشیء و یجعل - فی ظرف شک العبد فی الأمر - حکماً علی خلافه ، لأنه فی ظرف الشک فی

ص:207

الأمر ، لا باعثیّة لذلک الأمر حتی لو کان واقعیّاً ، لأنه غیر واصل إلی العبد و مشکوک فیه .

و منها : ما لیس فعلیّته دائراً مدار الوصول ، کالملکیّة و النجاسة مثلاً ، و لذا لا یعقل اعتبار ملکیّة الدار لزید ، و اعتبارها مع الجهل بذلک لعمر و ...

و کذا النجاسة ...

(قال) و بهذا یندفع ما أورده المیرزا علی (الکفایة) من النقض : بأنّ لازم حکومة قاعدة الطّهارة هو طهارة الملاقی للنجس حتّی بعد انکشاف الخلاف ، و ذلک : لأنَّه لمّا لم تکن فعلیّة النجاسة متقوّمةً بالوصول ، کان معنی القاعدة هو ترتیب آثار الطّهارة کالصّلاة فی هذا الثوب ، أمّا أن یقال بطهارة الملاقی للنجس فلا ، لأنَّ الشارع لا یجعل الطهارة فی النجس کی یکون ملاقیه طاهراً ، لأنّ النجاسة لیست من الأحکام المتقومة بالوصول ، بل هی حکم واقعی سواء علم به أو لا .

و الحاصل : إن مفاد القاعدة ترتیب آثار الطهارة علی الثوب بالقدر غیر المخالف لأثر النّجاسة الواقعیة ، لذا یلزم التفکیک فی ترتیب الآثار بین صحّة الصّلاة فی الثوب مثلاً ، و بین حکم الملاقی للنجس .

جواب الاستاذ

و أجاب الاستاذ دام بقاه : بأنّ ظاهر قاعدة الطّهارة - و کذا قاعدة الحلّ - هو جعل نفس الطّهارة و الحلیّة ، لا جعل الأحکام و الآثار ، حتی یفصَّل بینها کما ذکر . و ما نصَّ علیه من امتناع جعل الطّهارة مع وجود النجاسة الواقعیّة معناه رفع الید عن الدلیل و ما هو ظاهر فیه فی مقام الإثبات ، و هذا غیر جائز إلّا ببرهانٍ عقلیّ یقتضی ذلک ، و لا برهان من العقل ، لأنَّ المحقق الأصفهانی

ص:208

من القائلین بعدم التضاد بین الأحکام ، لکونها جمیعاً وجودات اعتباریّة ، و التضاد من لوازم الامور الواقعیّة ، و لقد نصّ فی الجمع بین الحکمین الظاهری و الواقعی علی أنْ لا تضاد بین الأحکام أنفسها ، بل التضادّ یکون إمّا بین مبادئ الأحکام و عللها ، أو بین المعلولات ، فهو إمّا فی المبدإ - أی مرحلة الملاک - و إمّا فی المنتهی - أی مرحلة الامتثال - ، و فیما نحن فیه لا یوجد التضاد أصلاً ، أمّا فی المبدإ ، فلأنّ النجاسة الواقعیّة ملاکها وجود المفسدة فی نفس الموضوع ، و الطّهارة الظاهریة ملاکها المصلحة فی الجعل و الاعتبار ، فلم تجتمع المصلحة و المفسدة فی شیء واحدٍ فلا یلزم التضاد .

و أمّا فی المنتهی فکذلک ، لأنّه ما دام الشک موجوداً فالنجاسة الواقعیة غیر محرزة ، فلا یترتب علیها وجوب الاجتناب ، و إذا زال الشک فلا موضوع للحکم الظاهری ، و وجب الاجتناب الذی هو أثر النجاسة الواقعیّة .

إذن لا تضاد ، لا فی مرحلة الملاک ، و فی مقام الامتثال .

وعلیه ، فلا مانع من الحکم الظاهری فی مقام العمل و الامتثال ما دام موضوعه موجوداً .

نعم ، إنما یتم الدفاع علی مبنی المحقق الخراسانی القائل بوجود التضاد بین الأحکام أنفسها ، و یکون الإشکال علیه بما ذکر إشکالاً مبنائیّاً .

إشکال المحاضرات

و فی (المحاضرات) (1) الإشکال علیه حلّاً ، بعد النقض بما تقدَّم : إنّ قاعدتی الطّهارة و الحلیّة و إنْ کانتا تفیدان جعل الحکم الظاهری فی مورد الشک فی الواقع و الجهل به ، من دون نظر إلیه ، إلّا أن ذلک مع المحافظة علی

ص:209


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 255/2 .

الواقع ، بدون أنْ یوجب جعله فی موردهما انقلاباً و تبدیلاً له أصلاً .

(قال) و السبب فی ذلک : ما حققناه فی مورده من أنه لا تنافی و لا تضاد بین الأحکام فی أنفسها ، ضرورة أن المضادّة إنما تکون بین الامور التکوینیّة الموجودة فی الخارج ...

قال الاستاذ

قد ظهر أنّ هذا مسلک المحقق الأصفهانی ، و أنه هو الأصل فی هذا التحقیق ، لکنَّ صاحب (الکفایة) یذهب إلی وجود التضادّ بین الأحکام فالإشکال علیه بعدمه إشکال مبنائی کما عرفت .

و أمّا قوله فی ذیل کلامه : «فالأحکام الظّاهریة فی الحقیقة أحکام عذریّة فحسب ، و لیست أحکاماً حقیقیّة فی قبال الأحکام الظاهریّة ...» (1) .

ففیه - مع احتمال کون الکلمة من المقرّر لا منه - أنه منافٍ لما ذهب إلیه فی مسألة الجمع بین الحکم الواقعی و الحکم الظاهری ، من وجود الحکم المجعول من ناحیة الشارع فی مورد الحکم الظاهری ، و علی هذا ، فلا معنی لأنْ یکون الحکم الظّاهری مجرّد عذرٍ للمکلَّف .

و تلخّص :

ورود الإشکالین علی المحقق الخراسانی ، و بذلک یظهر أن الحق عدم الإجزاء فی موارد الاصول .

هذا تمام الکلام فی هذه الجهة .

الکلام عن الأمارات

و أمّا الأمارات ، فقد بحث عنها فی (الکفایة) من حیث إفادتها الإجزاء

ص:210


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 257/2 .

و عدم إفادتها له ، تارةً بناءً علی الطریقیة ، و اخری بناء علی السببیّة ، و ثالثة :

فیما لو شک فی السببیّة و الطریقیّة .

و لا یخفی : أنهم أخرجوا من البحث ما لو قطع بالحکم ثم انکشف الخلاف ، و کذا لو قطع بالخلاف ، و کذا ما لو قامت البیّنة علی الموضوع کالطهارة مثلاً و انکشف الخلاف بحجّة شرعیة علی النجاسة . و کذا ما لو تخیّل الفقیه حکماً ظاهریّاً و انکشف عدمه ، کما لو تخیّل ظهور لفظٍ فی معنیً و أفتی علی طبقه ثم تبیّن له عدم الظهور . (قالوا) : و الذی یدخل فی البحث ما لو کان اللّفظ ظاهراً - کالظهور فی العموم مثلاً - و أفتی علی طبقه و عمل ، ثم ظهر المخصّص له ، أو رأی أنّ «ابن سنان» فی الروایة هو «عبد اللّٰه» فأفتی بالاستناد إلیها و عمل بها لوثاقته ، ثم تبیّن أنه «محمد» علی القول بضعفه .

قال الاستاذ

لکن الظاهر دخول ما لو عمل بأمارةٍ ثم انکشف الخلاف بالقطع ، و کذا دخول ما قامت الأمارة - کالبیّنة - علی موضوعٍ کالطّهارة .

و کیف کان ، أمّا بناءً علی الطریقیّة ، فالمشهور بین المحققین عدم الإجزاء . و قیل بالإجزاء .

وجوه القول بالإجزاء علی الطریقیة
اشارة

و قد ذکر الاستاذ فی الدّورة السابقة ثلاثة ، و فی اللّاحقة خمسة وجوه ، و قد أجاب عنها کلّها :

الوجه الأول :

إن الأمارة الاولی حجّة ، و الأمارة الثانیة أیضاً حجّة ، و القول بعدم الإجزاء مبناه تقدیم الثانیة ، و هذا ترجیح لإحدی الحجّتین علی الاخری بلا مرجّح .

ص:211

و فیه : إنه واضح الفساد ، لأنه مع قیام الثانیة لا حجیّة للاولی ، فالأخذ بالثانیة هو الأخذ بالحجّة ، و علی فرض التنزّل ، فإن الأمارتین تتعارضان و تتساقطان ، فلا یبقی للإجزاء وجه .

الوجه الثانی :

إن العمل علی طبق الأمارة السّابقة قد وقع ، و ذلک الظرف قد مضی ، و لا یمکن أن یکون للحجّة اللّاحقة أثر بالنسبة إلی ذاک العمل ، بأنْ یکون منجّزاً له ، فلا بدّ و أنْ یکون الأمارة السّابقة هی الحجّة علی العمل ، و مقتضی القاعدة حینئذٍ هو الإجزاء .

و فیه : إنّ الحجة الثانیة غیر منجّزة للعمل السابق و غیر مؤثرة فیه فی الظرف السابق ، لکن لها أثر فی التنجیز بالنسبة إلیه بقاءً ، إمّا إعادةً و إمّا قضاءً ، لأنه أثر باق ، و هذا الأثر قابل للتنجیز .

الوجه الثالث :

إن الحجّة الثانیة فی ظرف العمل السابق لم تکن واصلةً إلی المکلَّف کی تکون حجةً ، و قد تقرّر أن الحجیّة تدور مدار الوصول ، بل کان الواصل هو الحجّة الاولی و قد وقع العمل علی طبق الحجّة ، و مقتضی القاعدة إجزاؤه .

و فیه : إنه عند ما تقوم الحجّة الثانیة و تصل إلی المکلَّف ، تکون طریقاً إلی الواقع بالنسبة إلی جمیع الأعمال ، فإذا تبدّل رأی المجتهد من فتوی إلی اخری ، أفادت الثانیة أنّ الحکم الإلهی فی المسألة کذا ، و أن العمل السابق قد وقع علی خلاف الشریعة المقدَّسة ، إذنْ ، تجب إعادته أو قضاؤه و لا إجزاء .

الوجه الرابع :

إنّ القضیّة الواحدة لا تتحمَّل اجتهادین ، فحکم العمل یکون علی الاجتهاد الذی وقع علی طبقه ، و هذا هو الإجزاء .

و فیه : قد تکون القضیّة الواقعة طبق الاجتهاد السابق باقیةً إلی زمان

ص:212

الاجتهاد اللّاحق ، کما لو ذبح حیوان بغیر الحدید ، فأُکل من لحمه ، و کانت بقیة اللّحم موجودةً حین الاجتهاد الثانی بأنّه یشترط فی الذبح أن یکون بالحدید ، فلا یجوز أکل هذا اللّحم ... فإذا کان الموضوع باقیاً تحمّل اجتهادین .

و أیضاً : فإنْ الصّلاة - مثلاً - و إنْ وقعت علی طبق الاجتهاد السابق بتسبیحةٍ واحدةٍ - مثلاً - لکنّ أثرها باق ، فهی مورد للإعادة و القضاء بثلاثة تسبیحات ، فهی تتحمّل الاجتهادین بلحاظ الأثر .

الوجه الخامس :

لزوم العسر و الحرج و الضرر من القول بعدم الإجزاء .

و فیه : هذا اللّزوم تام لو کان الموضوع فی هذه القواعد هو الحرج و العسر و الضرر النوعیین ، و لکنه شخصی .

هذا تمام الکلام فی الوجوه المقامة علی الإجزاء .

أقول :

و الصحیح أنّها ثلاثة کما ذکر فی الدورة السابقة ، لان الوجهین الثانی و الثالث یرجعان إلی وجهٍ واحد . و الخامس یرجع إلی الأدلَّة الثانویة و کلامنا فی الأولیّة .

لکن مقتضی الصناعة إقامة البرهان علی عدم الإجزاء :

دلیل عدم الإجزاء بناءً علی الطریقیّة

إن الدلیل القائم علی التکلیف الواقعی أو علی موضوعه الواقعی ، ذو جهتین علی مسلک العدلیة ، فهو من جهةٍ یقتضی الامتثال و الإطاعة ، فإذا قام الدلیل علی وجوب صلاة الظهر - مثلاً - کان علّةً لامتثال هذا الحکم ، فهذه جهة إنّیة . و من جهةٍ : یکون کاشفاً عن الملاک و الغرض للمولی من هذا

ص:213

الحکم ، فهو معلول للملاک ، و هذه جهة لمّیة - ینکرها الأشاعرة - .

و علی هذا ، فإنّ إجزاء صلاة الجمعة عن صلاة الظهر إنّما یتمُّ بتصرّف الدلیل القائم علیها - و هو الأمارة - فی احدی الجهتین ، و إلّا ، فإنّ دلیل الواقع یقتضی الامتثال و العقل یحکم بذلک - تحصیلاً لغرض المولی من الجهة الأولی ، و خروجاً عن اشتغال الذمّة من الجهة الثانیة - حتی یأتی البدل عن الحکم الواقعی ، کما فی قاعدة الفراغ مثلاً ، الدالّة علی قبول العمل بدلاً عن الواقع فی مرحلة الامتثال .

و الحاصل : إنه لا بدَّ و أنْ تتصرّف الأمارة فی إحدی الجهتین ، لأنه إذا تصرَّف فی مرحلة الامتثال سقط الاشتغال بالواقع ، لأن موضوع حکم العقل هنا أعمّ من الامتثال الظاهری و الواقعی ، و کذلک إذا تصرّف فی مرحلة الملاک ، لأن الحکم إنما یؤثّر فی الامتثال فیما إذا بقیت العلّة له ، و بتصرف الأمارة لا تبقی العلّة فلا یجب امتثال ذاک الحکم .

هذه کبری القضیّة .

فهل دلیل الحکم الظاهری یتمکن من التصرّف فی إحدی الجهتین المذکورتین حتی یتم الإجزاء ، أو لا ؟

مثلاً : لو أفتی المجتهد بکفایة التسبیحة الواحدة ، و عمل المقلِّد بذلک ، ثم تبدّل رأیه أو قلَّد مجتهداً آخر یفتی بوجوب الثلاث ... هذا بالنسبة إلی المقلِّد . و کذا المجتهد نفسه ، فلو أفتی طبق عامٍ لم یظفر بمخصّصٍ له ، فکان حجةً عنده ، ثم ظفر بالخاص و أفتی علی طبقه لکونه الحجة الفعلیّة ، فما هو حکم الأعمال السابقة ؟

أمّا فی مرحلة الملاک ، فلا یمکن التصحیح ، لأن الملاک کان علةً للحکم

ص:214

الأوّل ، و لا یعقل أن یصیر ملاکاً للحکم الثانی الذی قامت علیه الأمارة ، فلا الأمارة نفسها و لا دلیل اعتبارها یتکفّل تحقّق الواقع بالعمل علی طبق الأمارة ، إذْ لم تکن الأمارة إلّا کاشفةً عن الواقع ، و دلیل اعتبارها لا یفید إلّا جعل الطریقیّة لها ، و لا یوجد فی مورد قیام الأمارة أکثر من هذا ، و حال الأمارة لیس بأحسن من حال القطع ، فلو قطع بتحقّق الطهارة - مثلاً - لم یثبت الشرط الواقعی فی لباس المصلّی ، و لا یفید القطع ثبوت ملاک الطهارة الواقعیّة فیه ...

و کذا لو قطع بوجوب صلاة الجمعة .

إذن ، لا یمکن للأمارة نفسها و لا دلیل اعتبارها التصرف لا فی الملاک ، و لا فی مرحلة الامتثال ، لأنَّ حال الأمارة لیس بأقوی من حال القطع ، فکما أنه بعد انکشاف الخلاف یسقط القطع عن التأثیر و یقال ببقاء الغرض و عدم حصول الامتثال ، کذلک عند انکشاف مخالفة الأمارة للواقع .

هذا کلّه بناءً علی مسلک الطریقیّة بمعنی الکاشفیة عن الواقع ... و إذا لم یمکن ذلک ثبوتاً ، فلا تصل النوبة إلی البحث الإثباتی .

أمّا علی مسلک جعل الحکم المماثل ، أی إنه بقیام الأمارة علی وجوب الجمعة - مثلاً - یتحقّق جعلٌ من الشارع بوجوبها ، ففی المورد جعلٌ من الشارع ، و هذا الجعل لیس بلا ملاک ، فإذا امتثل العبد هذا الحکم سقط التکلیف ، لأنه حکمٌ ذو ملاک ، فلا بدٌ من القول بالإجزاء علی هذا المسلک .

لکنْ لیس الأمر کذلک ، لأن الحکم المماثل إنما یکون مجعولاً ما دام موضوعه موجوداً ، إذ لا یعقل بقاؤه بعد زوال موضوعه ، و لا ریب أن الموضوع للأمارة هو الشک ، و إنْ لم یکن الشک مأخوذاً فی لسان أدلّتها فی مقام الإثبات ، نعم ، قد قیل بکون الشک مأخوذاً فی آیة السؤال ، و هو من

ص:215

جملة أدلّة اعتبار الأمارة . لکن تقرّر فی محلّه عدم تمامیة الاستدلال بالآیة .

و علی الجملة ، فالعقل کاشف بکون الموضوع هو الشک . و حینئذٍ : ما الدلیل علی إطلاق هذا الحکم الظاهری المستفاد من الأمارة علی هذا المسلک ، بأنْ یکون باقیاً حتی بعد زوال الشک ؟

إنه لا یعقل بقاء الحکم بعد زوال موضوعه ، فإذا قامت أمارة علی خلاف الحکم السابق ، لا یبقی شک ، و حینئذٍ لا یبقی حکم مماثل للحکم الواقعی ، إذْ بقیام الأمارة علی الخلاف یکون الواقع قد انکشف ، و ظهر وقوع العمل علی خلاف الواقع ، لأن المفروض دلالة الأمارة الثانیة علی کون الواجب فی الشریعة هو صلاة الظهر لا صلاة الجمعة ... فملاک صلاة الظهر باق علی حاله ، و هو یستدعی الامتثال ، و قد وصل بالأمارة الثانیة ، و العقل یحکم بلزوم تحصیله .

و أمّا علی مسلک جعل المؤدّی ، فأمّا علی أن المراد هو جعل الشارع مؤدّی خبر زرارة - مثلاً - فی ظرف قیامه ، فلا فرق بینه و بین جعل الحکم المماثل . و أما علی أنّه لمّا یقوم خبر زرارة یکون المخبر به حکماً واقعیّاً ، بمعنی أن الإمام یعتبر قول زرارة قوله واقعاً - کما جاء فی الصحیحة فی العمری «فما أدّی إلیک عنّی فعنّی یؤدّی و ما قال لک فعنّی یقول» (1) - فإنه علی هذا یکون قد وسّع الإمام علیه السلام الواقع ، و جعل مفاد روایة زرارة مصداقاً له ، فإذا عمل المکلَّف علی طبقه لم یفت عنه شیء من الواقع ، و حینئذٍ یشکل القول بعدم الإجزاء .

لکنّ الجواب عنه هو : إن هذه التوسعة - علی أیّ حال - ظاهریّة و لیست

ص:216


1- 1) وسائل الشیعة 138/27 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم 4 .

بواقعیة ، و إلّا لزم التصویب الباطل ، و إذا کانت ظاهریّة فهی ما دام موضوعها - و هو الشک - موجوداً ، و بعد زواله ینتفی اعتبار الشارع للمؤدّی ، فتقول الأمارة اللّاحقة بوجوب صلاة الظهر ، لکون الواجب فی الشریعة هذه الصلاة لا صلاة الجمعة .

هذا کلّه بناءً علی الطریقیّة و سائر المبانی فی قبال السببیّة .

الکلام فی الإجزاء بناءً علی السببیّة
اشارة

و أمّا بناءً علی السببیّة ، فقد فصّل المحقق الخراسانی بین الأمارة القائمة علی الموضوع و القائمة علی الحکم ، فقال بالإجزاء فی الاولی دون الثانیة .

علی مسلک الأشاعرة

أمّا السببیّة علی مسلک الأشاعرة - بناءً علی صحة النسبة إلیهم - ، و هو کون الحکم تابعاً للأمارة من البیّنة و الخبر و قول المجتهد ... و أنه لولاها فلا حکم فی الواقع ... فلا محیص عن الإجزاء ، لأن المفروض عدم وجود واقعٍ سوی ما قامت الأمارة علیه ، و إذْ لا واقع ، فلا موضوع للبحث عن الإجزاء و عدمه ، لأن المقصود من هذا البحث هو کفایة المأتی به أو عدم کفایته عن الواقع ...

لکنّ السببیّة بالمعنی المذکور محال ثبوتاً ، لأن الأمارة یعنی العَلامة ، فلا بدَّ و أنْ تقوم علی شیءٍ یکون هو ذا العلامة ، و إذا لم یکن هناک واقع فلا مفهوم للأمارة و لا معنی لأن تکون حاکیةً .

أقول :

و لا یرد علیه أنه إن کان هذا هو الإشکال ، فالعمدة فیه و المحور له عنوان «الأمارة» و هو لیس إلّا اصطلاحاً ، فلهم أن یصطلحوا شیئاً آخر یکون له

ص:217

مفهومٌ علی مسلکهم ... لأنّ المقصود لیس اللفظ بل واقع الأمر هو المقصود بأیّ لفظ کان ، و هو أنه لا بدَّ و أنْ یکون هناک شیء وراء الأمارة . و قد فصّل الاستاذ دام بقاه الکلام علیه فی الدورة السّابقة ، فذکر الإشکال عن المحققین کالعراقی و (المحاضرات) من أنّ الامارة لا بدّ و أنْ تکون حاکیة و کاشفة عن شیء ، و لا یعقل الکشف من دون مکشوف ، و الحکایة من دون محکی ، فلو توقّف ثبوته علی قیام الأمارة علیه لزم الدّور أو الخلف .

ثم أورد جواب بعض المحققین عن هذا الإشکال :

نقضاً : بأنَّ الأمارة قد تکون و لا کاشفیّة عن حکمٍ واقعی ، و الأحکام العقلیة لا تقبل التخصیص ، فلا توقّف لوجود الأمارة علی الحکم .

و حلّاً : بأنّ توقف الأمارة علی وجود المحکی و المکشوف ، لا یستلزم کون وجود المحکی و المکشوف وجوداً واقعیّاً بل هو بالوجود العنوانی ، و کذلک العلم فإنه کاشف عن وجود المعلوم العنوانی ، ففرق بین الأمارة المطابقة للواقع ، حیث لا بدّ من کون المحکی واقعیّاً ، و بین ذات الأمارة ، حیث المحکی بها هو الوجود العنوانی للمتعلَّق ، و قد وقع الخلط بینهما ، و للقائل بعدم وجود الأحکام فی متن الواقع و أن الحکم یوجد بقیام الأمارة أن یقول بکون وزان الأمارة وزان الجهل المرکّب ، فکما أن الجهل المرکّب لا واقع له ، کذلک الأمارة القائمة علی حکمٍ صوری ، فإنّها تقوم علی الوجود العنوانی للحکم . إذن ، الأمارة موقوفة علی الوجود العنوانی للحکم ، و أما الحکم الواقعی فمتوقّف علی وجود الأمارة ، فتغایر الموقوف و الموقوف علیه .

قال الاستاذ : و هذا تحقیق رشیق ، یندفع به الإشکال العقلی المذکور ،

ص:218

أعنی لزوم الدور .

لکن لا ریب فی سقوط المسلک المنسوب للأشاعرة ، لأنه خلاف الضرورة من الشرع ، إذ لازمه بطلان بعث الرسل و إنزال الکتب ، و أیضاً : لازمه اختصاص الأحکام الشرعیة بمن قامت عنده الأمارة ، و هذا خلاف المذهب ، إذ الأحکام ثابتة فی الواقع سواء علم بها أو جهلت .

علی مسلک المعتزلة

و أمّا علی السببیّة بالمعنی الذی تقول به المعتزلة ، و هو وجود الواقع ، لکنّه فرع للأمارة ، فمتی قامت علی خلافه انقلب عمّا هو علیه و أصبح تابعاً لمفادها ... فلا محیص عن الإجزاء کذلک ، و هو واضح .

لکنّ السببیّة بهذا المعنی - و إن کانت معقولةً ، إذ من الممکن أن یقول بوجود الحکم ما لم تقم أمارة علی خلافه ، فلا مانع ثبوتاً - باطلة إثباتاً ، لقیام الإجماع بل الضّرورة من العدلیّة علی إطلاق أدلَّة الأحکام الواقعیّة ، و أنّها محفوظة سواء طابقتها الأمارة أو خالفتها !!

و أمّا علی السببیّة (1) ، بمعنی القول بوجود الواقع ، لکنّ الأمارة تکون مزاحمةً له ، فتکون مانعةً عنه ، مقدَّمةً علیه من باب التزاحم ... فالإجزاء واضح کذلک .

و هذا - و إنْ کان جائزاً ثبوتاً و ممکناً عقلاً - باطل شرعاً ، لبطلان التزاحم بین الأمارة و الواقع .

علی مسلک المصلحة السلوکیّة

و أمّا علی السببیّة ، بمعنی : إن الأحکام الشرعیّة موجودة فی الواقع ،

ص:219


1- 1) أفاده فی الدورة السابقة فقط .

و هی غیر مقیَّدة بعدم قیام الأمارة علی خلافها ، و هی غیر مزاحمة ، إلّا أنّ مقتضی القاعدة عند العدلیّة : أنْ یکون أمر الشّارع بالعمل طبق الأمارة القائمة علی خلاف الواقع من أجل مصلحةٍ فیه تکون بدلاً عن مصلحة الواقع التی فاتت بسبب قیام الأمارة و العمل و السلوک علی طبقها ، فلو قامت الأمارة علی وجوب صلاة الجمعة ، و کان الواجب فی الواقع صلاة الظهر ، فالحکم الواقعی باقٍ علی حاله ، غیر أنّ الأمارة صارت سبباً لحدوث مصلحةٍ فی العمل و السلوک علی طبقها ، و یتدارک بها ما فات من مصلحة الواقع .

و هذه هی المصلحة السلوکیة التی ذکرها الشیخ الأعظم قدّس سرّه .

فقد ذکر الاستاذ : أوّلاً : توضیح مسلک الشیخ لفهم مراده تماماً . و ثانیاً :

الکلام علیه ثبوتاً و إثباتاً . و ثالثاً : هل یفید الإجزاء أو لا ؟ فهنا جهات ثلاثة :

1 - توضیح المصلحة السلوکیة

إن کلمات الشیخ فی هذا المقام مضطربة جدّاً ، غیر أنّ المتحصّل من مجموعها أنّه رحمه اللّٰه یرید الجواب عن إشکال ابن قبة بأنّ فی جعل الأمارات تفویتاً للمصالح الواقعیّة ، و هو قبیح . و أیضاً : یرید الجمع بین الطریقیّة للأمارات و السببیّة ، بمعنی : أنّ الأوامر الدالّة علی حجیّة الأمارات إنما هی أوامر طریقیة ، أی : أوامر ناشئة عن مصلحة التحفّظ علی الواقع ، فلمّا یقول : صدّق العادل ، فهذا الأمر الدالّ علی حجیّة قول العادل ، إنما نشأ - لا لمصلحةٍ فی متعلَّقه - بل عن مصلحة التحفّظ علی الواقع ، لکنْ فی حال فوت مصلحة الواقع ، فإنّ بمصلحة التسهیل علی المکلَّفین - بالعمل علی طبق الأمارة تتدارک تلک المصلحة الفائتة . فإذا قامت الأمارة علی وجوب صلاة الجمعة و الواقع صلاة الظهر - کانت المصلحة فی تطبیق العمل علی الأمارة و ترتیب

ص:220

الأثر علیها ، و هی مصلحة التسهیل علی المکلَّفین ، جابرةً لِما فات من مصلحة صلاة الظهر .

فما دلَّ علی حجیّة الأمارة - مثل صدّق العادل - إنما جاء طریقاً لحفظ الواقع ، و لیس فی متعلَّقه - و هو تصدیق العادل - مصلحة . هذا أوّلاً . و ثانیاً :

إن المجعول بذلک هو وجوب ترتیب الأثر ، إنْ کان حکماً شرعیّاً ، و معنی ترتیب الأثر هو : تطبیق العمل علی الأمارة .

و تلخّص : إنه لیست الأمارة دالّة علی وجود المصلحة فی نفس صلاة الجمعة ، بل هی فی ترتیب الأثر و تطبیق العمل علیها ، و هی مصلحة التسهیل ، و بها یتدارک المصلحة الفائتة .

2 - الکلام علیها ثبوتاً و إثباتاً

أمّا ثبوتاً ، فلا یلزم محالٌ من هذا الوجه ، و لا محذور عقلی فی أنْ یجعل الشارع وجوب ترتیب الأثر علی الأمارة لمصلحة التسهیل ، و یتدارک بها ما فات عن المکلَّف من مصلحة الواقع .

و أمّا إثباتاً ، فلا ملزم به ، و قد تقدَّم أن غرض الشیخ منه دفع إشکال ابن قبة ... لکنّ المهم هو الإشکال الذی طرح فی مجلس درس الشیخ علی هذه النظریّة ثم اعتمده المتأخرون ، و ذکره فی (المحاضرات) (1) و حاصله : إن هذا الوجه یستلزم التصویب و أنْ یتغیّر الحکم الواقعی ظهر یوم الجمعة - مثلاً - من الوجوب التعیینی إلی التخییری ، و توضیحه :

إنه إذا کان الحکم الواقعی هو صلاة الظهر ، ثمّ قامت الأمارة علی وجوب الجمعة ، فطبّق المکلّف عمله علیها ، فأدّیٰ صلاة الجمعة و لم

ص:221


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 272/2 .

ینکشف الخلاف بتاتاً ، و کان عمله وافیاً بتمام مصلحة الواقع ، کان اللّازم أنْ یکون الواجب ظهر یوم الجمعة واجباً تخییریّاً بین صلاة الظهر و صلاة الجمعة ، و هذا یعنی انقلاب الواقع و تبدّله ، و هو باطل .

و قد دفع المحقق الأصفهانی (1) هذا الإشکال : بأنّه یعتبر فی الوجوب التخییری کون العدلین - مثلاً - فعلیّین ، و إلّا فهو لیس بوجوب تخییری ، و فیما نحن فیه لا تتحقّق الفعلیّة للظهر و الجمعة فی وقتٍ واحد ، لأنه ما لم تقم الأمارة علی وجوب الجمعة لم یتحقّق الموضوع و لا فعلیّة للوجوب ، و حینما تقوم الأمارة علیه فالتکلیف غیر فعلی بالنسبة إلی وجوب الظهر ، فلا فعلیّة للوجوب فیهما ، فلا یکون الوجوب تخییریّاً .

قال الاستاذ : لکنّ الوجوب التعیینی أیضاً غیر ممکنٍ هنا علی مسلک المصلحة السلوکیّة ، لأنه کما أنّ أصل الحکم تابع للملاک ، کذلک الخصوصیّة فیه تابعة للملاک ، إذن ، خصوصیة الوجوب التعیینی لا بدّ لها من الملاک کأصل الوجوب ، أمّا فی مقام الثبوت ، فبأنْ یکون الشیء ذا ملاکٍ مع خصوصیّة أن شیئاً آخر لا یقوم مقامه ، و أمّا فی مقام الإثبات ، فیحتاج إلی دلیلٍ مطلق فیدلّ علی وجوبه بنحو الإطلاق ... و علی هذا : إن کانت المصلحة السّلوکیة القائمة بصلاة الجمعة وافیةً بمصلحة الواقع - صلاة الظهر - تماماً ، فجعل الوجوب لصلاة الظهر بنحو الإطلاق محال ، لما تقدَّم من أن معنی الوجوب التعیینی لشیء أنْ لا یقوم شیء آخر مقامه و لا یسدّ مسدّه ، و المفروض أنّ صلاة الجمعة یترتّب علیها ما کان مترتّباً علی صلاة الظهر من المصلحة .

فإذا کان من المحال جعل الوجوب التخییری هنا ، بالبیان الذی ذکره

ص:222


1- 1) نهایة الدرایة 405/1 .

المحقق الأصفهانی ، فکذلک جعل الوجوب التعیینی للظهر بالبیان المزبور ، لأنه حینئذٍ ترجیح بلا مرجّح .

و بهذا یسقط تصویر المحقق الأصفهانی أیضاً للسببیّة (1) ، فإنّه قال بإمکان تصویرها مع عدم لزوم التصویب ، بأنْ تکون مصلحة صلاة الجمعة مغایرةً لمصلحة صلاة الظهر و بدلاً عنها ، إذ البدلیّة مؤکّدة لوجود الواقع فضلاً عن أنْ تکون منافیة له ، و حینئذٍ لا یلزم التصویب .

و وجه سقوط هذا التصویر هو : أنّ هذا البدل ، إنْ کان غیر وافٍ لتمام مصلحة الواقع فلا بدلیّة ، و إنْ کان وافیاً ، فلا ملاک لوجوب الواقع المبدل منه علی وجه التعیین ، و یلزم الترجیح بلا مرجّح .

3 - الإجزاء و عدمه علی المصلحة السّلوکیّة

قال المیرزا (2) : إن مقتضی مسلک المصلحة السلوکیّة هو القول بعدم الإجزاء .

و قال الاستاذ : بأنّ هذا هو الحق ، لأنه مع انکشاف الخلاف فی الوقت أو خارجه ، ینکشف عدم إجزاء العمل المأتی به عن مصلحة الواقع ، لما تقدَّم سابقاً من أنّ وفاء العمل علی طبق الأمارة بمصلحة الواقع موقوف علی دلیلٍ یدلّ علی الإجزاء فی مقام الملاک أو فی مقام الامتثال ، و مع عدمه یکون مقتضی دلیل الحکم الواقعی عدم الإجزاء ، و هنا لا دلیل علی الإجزاء .

و قال فی (المحاضرات) (3) : بأن القول بعدم الإجزاء علی هذا المسلک إنما یتمّ بناءً علی تبعیّة الأداء للقضاء ، و هذا ما لا یمکن إتمامه بدلیل ، إذن

ص:223


1- 1) نهایة الدرایة 410/1 .
2- 2) أجود التقریرات 295/1 .
3- 3) محاضرات فی علم أصول الفقه 274/2 .

لا بدّ من القول بالإجزاء علی هذا المسلک .

و توضیحه : إن فی باب القضاء قولین ، أحدهما : إن القضاء تابع للأداء ، یعنی : إن نفس الأمر بالصّلاة فی الوقت یثبت وجوبها فی خارجه بلا حاجةٍ إلی أمر جدید . و القول الآخر : عدم کفایته لذلک و أن القضاء لیس إلّا بأمر جدید ، لأنّ الأمر بالصّلاة فی الوقت أمر واحد و له متعلَّق واحد ، و لیس بنحو تعدّد المطلوب ، حتی إذا فات الوقت کان المطلوب الثانی بالأمر الإتیان بالصّلاة فی خارج الوقت ، بل الأمر قد تعلَّق بالصّلاة المقیّدة بالوقت ، فإذا خرج الوقت لم یبق الأمر بالصّلاة ، لزوال المقیَّد بزوال قیده ... و إذا کان القول بالتبعیّة باطلاً ، فالقول بعدم الإجزاء علی المصلحة السلوکیة یبطل .

و فیه : إنه لو کان القول بعدم الإجزاء متوقّفاً علی القول بالتبعیّة فالإشکال وارد ، لکنّه موقوف علی تعدّد المطلوب لا علی التبعیّة ، و تعدّد المطلوب غیر مختص بالقول بالتبعیّة ، بل هو أعم ، و ذلک : لأن المطلوب إنْ کان متّحداً ، بأنْ کان الغرض قائماً علی الصّلاة فی الوقت ، کانت الصّلاة بما هی بلا ملاک ، فإذا انتفت الحصّة الخاصّة منها ، و هی الصّلاة فی الوقت ، لم یبقَ لأصل الصّلاة وجوب ، و هذا باطلٌ ، سواء قلنا بالتبعیة أم بکون القضاء بأمر جدید .

إذنْ ، تکون ذات الصّلاة مطلوبةً ، و کونها فی الوقت مطلوب آخر ، و لکلٍّ مصلحة و ملاک ، فإذا انکشف الخلاف ظهر عدم استیفاء مصلحة الصلاة ، و هذا یعنی عدم الإجزاء ، و أنّ الإعادة أو القضاء واجب .

هذا تمام الکلام علی السببیّة بجمیع تصویراتها .

لو شک بین السببیّة و الطریقیة

هذا ، و لو شک فی الأمارات ، و لم یظهر للمجتهد أنّ حجیّتها هی من

ص:224

باب الطریقیة أو السببیّة ، فما هو مقتضی القاعدة بالنسبة إلی الإجزاء ؟

قال المحقق الخراسانی (1) ما حاصله : وجوب الإعادة إذا انکشف الخلاف فی الوقت ، لأنه قد أتی بالعمل مع الشک بین الطریقیّة و السّببیّة ، فیشک فی وقوع الامتثال و تحقّقه ، و مقتضی قاعدة الاشتغال وجوب الإعادة .

أمّا القضاء ، فبما أنه بأمرٍ جدیدٍ ، و هو معلَّق علی صدق عنوان «الفوت» لکونه مأخوذاً فی موضوعه ، و صدقه غیر محرزٍ هنا ، فلا یجب ... و لا یتم صدق العنوان باستصحاب عدم الإتیان بالواجب ، لأنه أصل مثبت .

إشکال المحاضرات علی الکفایة

و أورد علیه فی (المحاضرات) (2) فی التمسّک بقاعدة الاشتغال لوجوب الإعادة إن انکشف الخلاف فی الوقت ، بأنّ المقام مجری البراءة لا الاشتغال .

و حاصل کلامه : إن مقتضی القاعدة علی القول بالسببیّة هو الإجزاء ، إذ معنی هذا القول کون الواقع هو مؤدّی الأمارة ، و مقتضی القول بالطریقیّة هو عدم الإجزاء ، و معناه أن الواقع مغایر لمؤدّی الأمارة ، فلو أتی بالعمل مع دوران الأمر ، و انکشف کونه علی خلاف الواقع ، لم تکن ذمّته مشغولةً یقیناً قبل العمل بالواقع حتی یقال بأن الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیّة ، و مع الشک فی اشتغال الذمّة تجری البراءة .

(قال) و بکلمةٍ أخری : لقد أوجد الشکّ بین الطریقیّة و السببیّة علماً إجمالیّاً بوجود تکلیفٍ مردّدٍ بین تعلّقه فعلاً بالعمل بالمأتی به و بین تعلّقه بالواقع الذی لم یؤت به ، إلّا أنه لا أثر لهذا العلم الإجمالی ، و لا یوجب

ص:225


1- 1) کفایة الأصول : 87 .
2- 2) محاضرات فی أصول الفقه 278/2 .

الاحتیاط ، لأن هذا العلم قد تحقّق بعد الصّلاة فی ثوبٍ حکم بطهارته بالبیّنة ، فبعد الإتیان بها و انکشاف الخلاف بالأمارة مثلاً حصل العلم باشتغال الذمّة ، إمّا بما قامت علیه البیّنة و هو الطهارة ، و إمّا بما دلّت علیه الأمارة فعلاً و هو النجاسة ، لکنّ هذا العلم بالنسبة إلی مقتضی البیّنة غیر مؤثر ، و تبقی الأمارة ، لکنّه بالنّسبة إلی مقتضاها شک بدوی ، فتجری البراءة ، لأن المورد صغری لما تقرّر من أن أحد طرفی العلم الاجمالی أو أطرافه إذا کان فاقداً للأثر فلا مانع من الرجوع إلی الأصل فی الطرف الآخر ، کما لو علم بوجوب صوم یوم الخمیس علیه فصام ، ثم یوم الجمعة شک فی أنه هل کان الواجب علیه صوم الخمیس أو هذا الیوم - الجمعة - ، فإن العلم الإجمالی حینئذٍ غیر مؤثر لیوم الخمیس ، لفرض أنه قد أتی بالصوم فیه ، فلا مانع من الرجوع إلی البراءة بالنسبة إلی الجمعة .

تحقیق الاستاذ

قال الاستاذ : إن تقریب المحقق الأصفهانی مبنی (الکفایة) فی (الاصول علی النهج الحدیث) بأنّه من «حیث علم عدم موافقة المأتی به للمأمور به واقعاً ، و یشک فی کونه محصّلاً لغرضه من حیث کونه ذا مصلحة بدلیّة» (1) .

فیه : إنه مع الشکّ بین السببیّة و الطریقیة لا یعلم بعدم الموافقة ، بل یحتمل الموافقة ، فلا تکون النتیجة وجوب الإعادة .

أقول :

کأن المحقق ینظر إلی حال بعد الانکشاف ، فالمکلَّف عالم بعدم الموافقة ، و الاستاذ ینظر إلی حال قبله فهو شاک . فتدبّر .

ص:226


1- 1) الأصول علیٰ النهج الحدیث : 129 (بحوث فی علم الأصول) .

و أمّا القول بالإجزاء - عملاً بالبراءة - کما علیه فی (المحاضرات) فلا بدّ من النّظر فی کلام (الکفایة) و أنه علی أی مسلکٍ فی السببیّة ؟

أمّا علی مسلک الأشاعرة و المعتزلة ، فإنّه لیس الحکم إلّا مفاد الأمارة ، و مع الشکّ فی أنّ مفاد أدلّة حجیّتها هو جعل الطّریقیة لها أو الموضوعیّة ، یکون أصالة عدم جعل الطریقیة معارضاً لأصالة عدم جعل الموضوعیّة ، و إذا تعارضا تساقطا ، هذا بالنسبة إلی الأصل فی المسألة الاصولیّة ، و تصل النوبة إلی الأصل فی المسألة الفقهیّة ، فإنّه - بعد أن أتی بالعمل ثمّ ظهر الخلاف - یشک فی حدوث تکلیف بالإعادة ، و حینئذٍ تجری البراءة .

لکنّ کلام (الکفایة) مبنی علی مسلک الشیخ - و هو المستفاد ممّا تقدّم عن (الاصول علی النهج الحدیث) - من أنّ العمل علی طبق الأمارة فیه مصلحة الواقع ، و أن هذه المصلحة بدل عن تلک المصلحة ، فإذا انکشف الخلاف یشک فی تحقّق البدلیّة و الوفاء بالمصلحة و عدمها ، فالشکّ حینئذٍ یرجع إلی الفراغ ، و مقتضی القاعدة هو الاشتغال لا البراءة ، و ما ذکره فی (المحاضرات) ناشئ من عدم الدقّة فی کلام (الکفایة) أو أنه اجتهاد فی مقابل النص .

هذا کلامه دام بقاه فی الدورة اللّاحقة .

و أمّا فی الدورة السابقة ، فقد وافق (الکفایة) فی القول بعدم الإجزاء من باب الاستصحاب ، ببیان : أنه بعد انکشاف الخلاف فی الوقت ، یعلم إجمالاً بأنّ الواجب علیه من أوّل الوقت کان العمل الذی أتیٰ به ، أو الحکم الذی قامت علیه الأمارة ، فیدور الأمر بین الزائل و الباقی ، فإن کان الواقع - مثلاً - مؤدی قول زرارة عن الصّادق علیه السلام بوجوب الجمعة ، فقد تحقق ، و إنْ

ص:227

کان مؤدّی قول محمد بن مسلم عنه بوجوب الظهر فهو باق فی الذمّة ، إذن ، یعلم إجمالاً بواقع مردّدٍ بین مؤدّی القولین ، فیُستصحب بقاؤه علی الذمة بوصف المعلومیة ، و نتیجة ذلک عدم الإجزاء ... و الحاصل : إن العلم الإجمالی أفاد تحقیق موضوع الاستصحاب .

و هذا الاستصحاب من قبیل القسم الثانی من أقسام الکلّی .

هذا کلّه بالنسبة إلی الإعادة .

و أمّا القضاء ، فقد وافق المحقق الخوئی صاحب (الکفایة) فی الإجزاء ، لکون «الفوت» أمراً وجودیّاً . لکنّ الصحیح أنه أمر عدمی فی الموضوع القابل ، فلا إشکال فی استصحاب عدم الإتیان بالواقع .

فتلخّص : إن فی المقام ثلاثة أقوال :

الأول : الإجزاء مطلقاً . و هو مختار (المحاضرات) .

و الثانی : عدم الإجزاء مطلقاً . و هو مختار الاستاذ .

و الثالث : التفصیل بین الإعادة و القضاء . و هو مختار (الکفایة) و المحقق الأصفهانی .

هذا تمام الکلام فی مقتضی الأدلّة الأوّلیة .

الأدلّة الثانویة للقول بالإجزاء
اشارة

و استدل للقول بالإجزاء بوجوهٍ من الأدلّة الثانویّة ، عمدتها ما یلی :

1 و 2 - قاعدة لا حرج و لا ضرر

فإنّه لا شک فی کثرة تبدّل الرأی عند الفقهاء ، علی أثر الاختیارات و المختارات فی المبانی و القواعد ، و فی علم الرجال ، و غیر ذلک ، و لا شک أنه إذا قیل بوجوب الإعادة علی المکلّفین أو القضاء ، فی حصول الضرر و الحرج علی نوع المکلّفین ، و هما مرفوعان فی

ص:228

الشریعة .

و لذا قال صاحب الجواهر ما حاصله : إنه مع کثرة تبدّل الآراء عند الفقهاء حتی فی الکتاب الواحد ، لم یکن من دأبهم محو ما کانوا أفتوا به من قبل أو کتبوه سابقاً ، و إعلام المقلّدین بالخطإ فی الفتاوی المتقدّمة منهم ، إلّا إذا رجعوا عنها بأدلّة قطعیّةٍ تثبت بطلان الفتوی السابقة .

و فیه :

أوّلاً : إنه قد تقرّر فی محلّه أن أدلّة رفع الحرج و الضرر نافیة و رافعة للتکلیف ، لا أنها تجعل و تضع التکلیف ، و الحاصل : إنها ترفع عدم الإجزاء لا أنها تضع الإجزاء .

و ثانیاً : إنه قد تقرّر فی محلّه کذلک ، أن المرفوع هو الضرر و الحرج الشخصیّین ، نعم ، بناءً علی کون المرفوع هو الحرج و الضّرر النوعیین ، فلا ریب فی تحقّقهما من الفتوی بعدم إجزاء الأعمال السابقة الواقعة علی طبق الفتوی السابقة .

و قد یضمُّ إلی الاستدلال بالقاعدتین ما دلَّ علی سهولة الشریعة و سماحتها ، و أنّ نفس التقلید جاء تسهیلاً علی المکلَّفین ، و إلّا فإنّ الحکم الأوّلی هو وجوب الاحتیاط علیهم فی الأحکام الشرعیّة ، فالقول بعدم الاجزاء ینافی حکمة التسهیل علی المکلفین .

و لکنْ فیه ما عرفت ...

3 - الإجماع

علی الإجزاء ، و هو ظاهر کلام صاحب الجواهر ردّاً علی کلام العضدی فی دعوی الإجماع علی عدم الإجزاء ، و قد ادّعی المیرزا هذا

ص:229

الاجماع صریحاً (1) ، لکن عن العلامة (2) الإجماع علی عدم الإجزاء ، و الشیخ (3)کلامه صریح فی عدم الإجماع ، بل یقول بأنّ دعواها علی الإجزاء هی ممّن لا تحقیق له ، و عن صاحب (الفصول) (4) التفصیل بین ما إذا کان الموضوع باقیاً فالإجماع علی عدم الإجزاء ، و ما إذا کان غیر باق فالإجزاء .

و الحاصل : إن کلماتهم فی الإجماع مختلفة ... بل المیرزا أیضاً إنما یدّعیه فی باب العبادات ، سواء فی الصلاة و غیرها ، ففی الصّوم مثلاً إذا کان المجتهد یجوّز الارتماس علی الصائم ثم تبدّل رأیه فلا یجب قضاء الصوم ، و کذا فی الحج ، کما لو اعتمد علی فتوی فقیه العامّة و قاضی الجماعة بالهلال و عمل ، و کان یری جواز العمل علی حکم القاضی منهم ، ثم تبدّل رأیه إلی عدم الجواز ، فلا تجب الإعادة ... ففی مثل هذه الموارد لا یتردّد المیرزا فی الإجزاء . لکنه یقطع بعدم الإجزاء فی المعاملات مع بقاء الموضوع ، کما لو تزوَّج أو باع بالعقد الفارسی ، فإن المرأة إذا کانت باقیةً و تبدّل رأی المجتهد إلی اشتراط العربیّة ترتّب أثر الفساد ، و کذا فی حال بقاء الثمن و المثمن فی المعاملة ، و إن أمکن وجود الموضوع للضمان .

و الحاصل : إن المیرزا یفرّق بین العبادات و المعاملات ، و فی المعاملات بین صورة بقاء الموضوع و عدم بقائه .

ص:230


1- 1) أجود التقریرات 299/1 .
2- 2) انظر : مفاتیح الاصول : 126 ، المستمسک 81/1 .
3- 3) مطارح الأنظار : 17 .
4- 4) الفصول الغرویة فی علم الأصول : 409 ط الحجریة .

و قد أوضح المحقّق الأصفهانی فی کتاب (الاجتهاد و التقلید) (1) و فی (الاصول علی النهج الحدیث) (2) رأی صاحب (الفصول) بأنّ الواقعة قد تقع و تنقضی کما لو صلّی طبق الفتوی و تبدّل الرأی ، و قد تقع و هی غیر منقضیة کما لو قال بتحقّق التذکیة و اللّحم لا یزال باقیاً ثمّ تبدّل رأیه إلی عدمها ، ففی الصورة الاولی قال بالإجزاء ، أمّا فی الثانیة فلا .

و علی هذا ، ففی العبادات أیضاً لا بدَّ من التفصیل ، فلو کانت الواقعة غیر منقضیة و تبدّل الرأی ، وجب ترتیب أثر الفتوی اللّاحقة علی مسلک (الفصول) ، ، کما لو توضّأ بماءٍ حکم بطهارته بالفتوی الأولیٰ ، لکنّه کان باقیاً بعدُ و تبدّل الرأی ، فالصّلاة تلک صحیحة ، إلّا أن الماء لا یجوز الوضوء به مرةً أخری ، بل یجب الاجتناب عنه ، و کذا یجب تطهیر مواضع الوضوء .

و علی الجملة ، فإنّ دعوی الإجماع من المیرزا علی الإجزاء ، فی قبال دعوی العلّامة و الشیخ الأعظم قدّس سرّهما الإجماع علی العدم ، عجیبة ، و کذا کلامه فی العبادات مع تفصیل (الفصول) .

و کیف کان ، فإنّ صغری الإجماع هنا فیها ما عرفت .

و أمّا الکبری ، فلا یخفی الاحتمال بل الظنّ بکونها مستندةً إلی احدی الوجوه المُقامة فی المسألة .

هذا ... و لا بدَّ من التتبّع فی کلمات قدماء الفقهاء ، لنری هل المسألة معنونة عندهم أو لا ، لأن العمدة فی صغری الإجماع هو إجماع القدماء .

4 - السیرة

و هل المراد سیرة الفقهاء أو سیرة أهل الشرع أو سیرة العقلاء ؟

إنْ أرادوا السیرة العقلائیة ، فلا ریب فی أنّ سیرتهم علی عدم الإجزاء ،

ص:231


1- 1) الاجتهاد و التقلید : 9 (بحوثٌ فی الاصول) .
2- 2) الأصول علیٰ النهج الحدیث : 131 - 132 .

سواء ما کان بین الموالی و العبید بالخُصوص ، أو بین سائر العقلاء ، أمّا بین الموالی و العبید ، فواضح ، و أمّا بین غیرهم ، فإن جمیع الأخبار عند العقلاء طریق إلی الواقع ، و إذا انکشف الخلاف فهم یقولون بعدم الإجزاء .

و إنْ أرادوا سیرة المتشرّعة خاصّةً ، فهی قائمة علی الإجزاء ، لکنّ من المحتمل قریباً استنادها إلی الفتاوی .

و إنْ أرادوا سیرة الفقهاء أنفسهم ، فسیرة الفقهاء - عملاً - هو الإجزاء ، لما تقدّم عن صاحب (الجواهر) من عدم تنبیههم المقلّدین و العوام علی تبدّل آرائهم ، لأنها کانت مستندةً إلی أدلّة و حجج ، اللهم إلّا إذا قام دلیل قطعی علی خلاف الفتوی السابقة .

و هذه السیرة أیضاً مدرکیّة .

و تلخّص :

إنه لا دلیل علی الإجزاء من الأدلّة الثانویة .

تنبیهات
اشارة

بقی الکلام فی أمور نذکرها بنحو الاختصار :

الأول :

قد نسب فی (التنقیح) (1) إلی المحقق الأصفهانی القول بالإجزاء فی التکلیفیّات و هی العبادات ، و فی الوضعیّات و هی المعاملات . أمّا فی المعاملات ، فلأن الملاک فیها هو المصلحة فی نفس جعل الحکم ، لا فی فعل المکلّف ، فالمصلحة قائمة بنفس جعل الحلیّة - کما فی الخل و غیره - من المحلّلات ، و الحرمة فی المحرمات - کما فی الخمر و المیتة و غیرهما - و جعل الملکیّة - مثلاً - فی المعاطاة ، و هکذا . أمّا فی العبادات فهی قائمة بالفعل -

ص:232


1- 1) التنقیح فی شرح العروة الوثقی 54/1 .

کالصّلاة - لا فی وجوبها .

و لمّا کانت المصلحة فی الوضعیّات فی نفس الاعتبار و الجعل ، فإنّ الاعتبار لا یتصوّر فیه کشف الخلاف ، بل إذا قامت الأمارة علی الفساد و البطلان أو بالعکس ، فإنه مع قیامها ینتهی أمد الجعل الأول و یتبدّل الموضوع ، و حینئذٍ لا معنی لعدم الإجزاء .

و کذلک الحال فی التکلیفیات ، فإنّه و إنْ کانت المصلحة فی المتعلَّق ، لکنّ الحجّة اللّاحقة لا یمکنها التأثیر فی الأعمال السّابقة الواقعة طبق الحجّة السّابقة ، إذ لا معنی لقیام المنجز أو المعذّر بالنسبة إلی ما سبق ، و إنما یکون بالنسبة إلی ما بیده من العمل ... فلا وجه لعدم الإجزاء .

هذا ما جاء فی (التنقیح) عن المحقق الأصفهانی فی (حاشیة المکاسب) ، و فی (الاجتهاد و التقلید) .

قال الأستاذ :

قد اختلف کلام المحقّق الأصفهانی فی کتبه ، و بالنّظر إلی المبنی فی الأمارات .

أمّا فی آخر کتبه - و هو : (الاصول علی النهج الحدیث) (1) - فقد ذکر أن حجیّة الأمارات ، إمّا من باب المنجّزیة و المعذّریة ، و إمّا من باب جعل الحکم المماثل ، و علی کلا القولین ، ففی العبادات لا مجال للإجزاء ، أمّا فی المعاملات ، فیمکن القول به بمناط أن المصلحة فی الوضعیّات فی نفس الجعل .

إذن ، هو قائل بالتفصیل فی هذا الکتاب علی کلا المسلکین فی حجیّة

ص:233


1- 1) الأصول علی النهج الحدیث : 120 .

الأمارات .

و أمّا فی (نهایة الدرایة) (1) فاختار الطّریقیّة ، و ذهب علی أساسها إلی عدم الإجزاء فی المعاملات و العبادات معاً .

و أما فی (حاشیة المکاسب) (2) فی مبحث اختلاف المتعاملین اجتهاداً أو تقلیداً ، و کذا فی (رسالة الاجتهاد و التقلید) (3) فقد قال بعدم الإجزاء مطلقاً ، بناءً علی المنجزیّة و المعذّریة ، لأنّ معنی ذلک أن یکون مفاد الأمارة السابقة حجةً ما لم تقم أمارة أخری علی خلافها ، لأنّها عذر للمکلَّف ، فإذا قامت الاخری علی الخلاف سقطت عن المعذریّة ، کما لو کان عنده علم ، فإنه حجة ما دام موجوداً ، فإذا زال فلا حجیّة ، بل الحجّة هو الدلیل الجدید القائم علی خلافه . فهذا مقتضی هذا المسلک ، سواء للمجتهد أو المقلّد ، و سواء فی العبادات أو المعاملات .

و أمّا بناءً علی جعل الحکم المماثل ، فالتفصیل بین العبادات و المعاملات ، لأنّ الحکم المماثل فی العبادات إنّما ینشأ عن المصلحة فی المتعلَّق ، ففی صلاة الظهر - مثلاً - مصلحة ، و هذه المصلحة یجب أن تستوفی - لأنّ المصالح فی العبادات استیفائیة بخلاف المعاملات - و إذا انکشف الخلاف ظهر عدم استیفاء مصلحتها و الغرض من جعل الحکم فیها ، إذ المفروض أن صلاة الجمعة لم تستوف مصلحة صلاة الظهر ، و لا أنّ مصلحتها بدل عن مصلحة الظهر ، و حینئذٍ تجب الإعادة بمقتضی إطلاق دلیل الواقع ، و بمقتضی قاعدة الاشتغال ، و بمقتضی الاستصحاب . هذا فی العبادات .

ص:234


1- 1) نهایة الدرایة 400/1 - 401 .
2- 2) حاشیة المکاسب 295/1 الطبعة المحققة .
3- 3) الاجتهاد و التقلید : 13 (بحوث فی الاصول) .

أمّا فی المعاملات ، فلو قامت الأمارة علی کفایة العقد بالفارسیّة مثلاً ، و المفروض جعل الشارع الحکم المماثل علی طبقها ، فإنّه تعتبر الزّوجیة أو الملکیة إذا اجری العقد ، و لیس هناک مصلحة اخری حتی إذا انکشف الخلاف یکون الواجب استیفاؤها ، بل المصلحة فی نفس جعل الحکم المماثل ، و هذه المصلحة یستحیل انقلابها بانکشاف الخلاف .

قال الاستاذ :

إنه بناءً علی جعل الحکم المماثل - و بغض النظر عن البحث المبنائی - فعند ما تقوم الأمارة اللّاحقة علی الخلاف ، ینکشف أنّ الحکم الشرعی من أوّل الأمر هو مقتضی هذه الأمارة اللّاحقة ، فهی تقول بأنّ المعاطاة فی الشرع غیر مفیدةٍ للملکیّة ، فکلّ معاملة معاطاتیّة تقع - علی نحو القضیّة الحقیقیة - فهی غیر مفیدة للملکیّة ، و حینئذٍ ، فمقتضی القاعدة عدم الإجزاء ، و لو لا قیام الأمارة اللّاحقة علی عدم إفادتها الملکیّة ، لبقی الحکم بإفادتها الملکیّة - طبق الأمارة السّابقة - علی حاله ، لأن المفروض وجود الحکم المماثل من الشارع هناک ، لکنّ قیام الأمارة اللّاحقة یکشف عن کون الحکم الشرعی عدم الملکیّة ... نظیر الکشف الانقلابی فی باب الفضولی عند المحققین المتأخرین ، إذ معناه : إنه ما دام لم یُجز المالک فالشارع یعتبر ملکیّة الدار لمالکها ، فإذا أجاز المالک بیع الفضولی لها کشفت الإجازة الآن عن اعتبار الشارع الملکیة للمشتری من حین العقد الواقع قبل سنةٍ مثلاً ...

و بهذا یسقط التفصیل بین العبادات و المعاملات علی هذا المبنی ، و الحق عدم الإجزاء مطلقاً .

الثانی :

یقع البحث فی الإجزاء و عدمه ، تارةً : علی أثر تبدّل رأی

ص:235

المجتهد ، و اخری : علی أثر تبدّل تقلید المقلّد ، و عن الشیخ - رحمه اللّٰه - إن الموردین من بابٍ واحد ، فلو تبدّل رأی المجتهد ، فإنْ أمکن التوفیق بین الأعمال الواقعة طبق الفتوی السابقة و بین مقتضی الفتوی اللّاحقة فهو ، و إلّا فیجب الإعادة ، کذلک لو عدل المقلِّد عن تقلید مجتهدٍ إلی آخر ، فإنْ وافقت أعماله التی کانت علی التقلید الأوّل للتقلید الثانی فهو ، و إلّا فالإعادة .

و قد ذهب المحقق الأصفهانی إلی الفرق بین الموردین ، فاختار عدم الإجزاء فی الأوّل - و إنْ استثنی المعاملات فی (الاصول علی النهج الحدیث) - و الإجزاء فی الثانی .

توضیح رأی الشیخ

أمّا رأی الشیخ ، فمبنی علی الطّریقیّة فی الأمارات ، و أن فتوی المجتهد أمارة للمقلِّد ، و قد تقدّم أن مقتضی القاعدة علی هذا المبنی هو عدم الإجزاء .

فإذا رجع المقلِّد إلی مجتهدٍ آخر ، فقد قامت عنده أمارة علی خلاف الأمارة السّابقة ، و هی قول المجتهد السّابق ، و کشفت عن عدم موافقة الأعمال السّابقة للواقع ، فعلیه الإعادة .

توضیح رأی الأصفهانی

و أما رأی المحقق الأصفهانی فیبتنی علی أمرین :

أحدهما : إن المجتهد عند ما یتبدَّل رأیه ، فإن حجیّة الفتوی الثانیة لیست من حین اختیارها ، بل إنها کانت حجّةً من أوّل الأمر ، مثلاً : إنه قد أفتی علی طبق روایةٍ عامّةٍ فحص عن المخصّص لها و یأس عن العثور علیه ، فکانت الفتوی طبق العام ، ثم بعد مدّةٍ رجع عن تلک الفتوی لعثوره علی المخصّص ، و حینئذٍ : هذا المخصّص کان موجوداً من أوّل الأمر و کانت

ص:236

وظیفته الفتوی علی طبقها ، غیر أنه لم یعثر علیها و ما کانت واصلة إلیه ، و الآن - لمّا عثر علیها - انکشف له عدم مطابقة عمله السّابق و فتواه للواقع الذی یُؤدی إلیه المخصّص ، فمقتضی القاعدة عدم الإجزاء ، إذ لو عثر علیه فی السابق لما أفتی طبق العام .

بخلاف المقلّد ، فإنّ فتوی المرجع الثانی فی حال حیاة المرجع الأوّل لم تکن حجةً بالنسیة إلیه ، لأن المفروض کونه مفضولاً بالنسبة إلی الأوّل لأعلمیّة الأول منه ، فیکون فتوی الثانی حجةً له من حین تقلیده ، و تقع أعماله السّابقة مجزیّةً ، و کذا لو قلَّد الأعلم ، ثم لفقده بعض الشرائط - کالعدالة - رجع إلی غیر الأعلم ، فإنّ فتوی هذا لم تکن حجةً قبل فقد الأعلم للعدالة مثلاً ، بل هی حجة من الآن .

و الأمر الثانی : الإشکال علی الشیخ فیما ذکره من جعل باب الاجتهاد و التقلید من قبیل الطّریقیّة ، بأنّ المستفاد من الأدلّة فی هذا الباب هو تنزیل المجتهد بمنزلة المقلّد و کونه نائباً عن مقلّده فی استنباط الأحکام الشرعیّة ، فهو نائب عنه فی الفحص عن الأدلة و النظر فیها و استخراج الحکم منها ...

و لیس فتوی المجتهد طریقاً و أمارةً للمقلِّد حتّی یقال بعدم الإجزاء فی تبدّل التقلید .

نعم ، لو کان من باب الطریقیّة أمکن القول بعدم الإجزاء ، من جهة أنّه لمّا مات المجتهد الأوّل سقطت فتواه عن الحجیّة ، و کان الحجّة علیه فتوی الثانی ، و هو یقول ببطلان فتوی الأوّل و الأعمال الواقعة علی طبقها .

لکنّ مفاد الأدلّة فی الاجتهاد و التقلید لیس الطّریقیّة .

ص:237

تحقیق الاستاذ

و تنظّر الاستاذ فی الأمرین المذکورین :

أمّا الأول ، فذکر أنّه مبنیّ علی الرجوع من الأعلم المیّت إلی غیر الأعلم الحی ، لکنّ المبنی غیر صحیح ، لأنه مع اختلاف المیّت مع الحی فی الفتوی تسقط الأدلة اللّفظیّة عن الشمول لهما ، لفرض التعارض بینهما ، لأنها إن شملت أحدهما المعیَّن دون الآخر لزم الترجیح بلا مرجح ، و اللّامعیّن لا مصداق له ، و شمولها لهما معاً غیر معقول ، و إذا سقطت تصل النوبة إلی الدلیل غیر اللّفظی و هو هنا السیرة العقلائیة ، فإنها قائمة علی تقلید الأعلم ، و القدر المتیقّن خروج تقلید المیّت ابتداءً بالإجماع ، و یبقی الاستمراری ، إذن ... إذا کان المیت أعلم فلا یجوز الرجوع إلی الحیّ حتی یقال بأنّ الحجیّة تبدأ من الآن .

و أمّا الثانی ، فذکر أن الحق مع الشیخ ، و هو الطریقیّة ، فقول المجتهد حجّة من باب الطّریقیة إلی الواقع لا من باب التنزیل و النیابة .

أمّا بناءً علی أنّ دلیل التقلید هو السیرة ، فواضح ، لأن العقلاء لا یرون فی رأی أهل الخبرة فی کلّ علم و فنٍ إلّا الطّریقیة ، و یجعلون الرأی کاشفاً عن الواقع . و أمّا إنْ کان الدلیل هو الأدلّة اللفظیّة من الکتاب و الأخبار ، فلا آیة النفر تدلّ علی النیابة و التنزیل ، و لا مثل ما ورد فی «عبد العزیز ابن المهتدی» و «یونس بن عبد الرحمن» و «زکریا بن آدم» و نحوهم الذین وردت الأخبار فی الرجوع إلیهم لأخذ معالم الدین ... فإنّها جمیعاً دلیل علی الطریقیة ، و أمّا التنزیل فلا دلیل علیه فیها .

و علی هذا ، یکون الحقّ عدم تمامیّة التفصیل المذکور ، بل هو عدم الإجزاء مطلقاً .

ص:238

أقول :

قد یقال : مفاد هذه الروایات هو طریقیّة روایات من ذکر و أمثالهم من أصحاب الأئمة علیهم السلام ، و کلامنا فی الفتوی . و قد أجبنا عن ذلک - فی بحوثنا الفقهیّة ، فی مسائل الاجتهاد و التقلید - بما حاصله : إنّ ظاهر الأخبار هو أنّ الأئمة علیهم السلام کانوا یرجعون إلیهم فی أخذ الأحکام منهم لا فی نقل الروایات عنهم فقط .

إلّا أنّ لدعوی نیابة الفقیه عن المقلِّد فی استنباط الأحکام وجهاً ، و لنا هنا بیانٌ لطیف یتعلَّق بأصل تأسیس الحوزة العلمیة ، ذکرناه فی الدرس .

الثالث :

قال السید فی (العروة الوثقی) : « إذا قلّد من یکتفی بالمرّة مثلاً - فی التسبیحات الأربع و اکتفی بها ، أو قلّد من یکتفی فی التیمّم بضربةٍ واحدةٍ ، ثم مات ذلک المجتهد ، فقلّد من یقول بوجوب التعدّد ، لا یجب علیه إعادة الأعمال السابقة » (1) .

فذکر فی (المستمسک) (2) - بعد الکلام علی أدلّة الإجزاء - بالتفصیل - أنّه فی صورة تبدّل رأی المجتهد مقتضی القاعدة هو عدم الإجزاء . و أمّا فی صورة تبدّل التقلید کما هو مفروض المسألة :

فتارةً : یرجع إلی الأعلم ، و هنا یجب لحاظ الأعمال السّابقة مع فتاویٰ هذا الأعلم ، فإنْ کانت موافقة فهو و إلّا فعدم الإجزاء ، لأدلّة وجوب تقلید الأعلم ، سواء فی الأعمال السابقة أو اللّاحقة .

و أخری : یکون المرجوع إلیه غیر الأعلم ، فإنّ الأعمال السابقة لا تجب

ص:239


1- 1) مستمسک العروة الوثقی 81/1 .
2- 2) مستمسک العروة الوثقی .

الإعادة فیها ، بل یرتّب علیها آثار الصحّة ، لأنّ الدلیل علی الرجوع إلی غیر الأعلم إن کان هو الإجماع فالقدر المتیقّن منه حجیّة قوله فی الأعمال اللّاحقة ، و إن کان الأصل - و هو التعیین فی دوران الأمر بین التعیین و التخییر - ، فإنّ الاصول العقلیّة محکومة بالاصول الشرعیّة ، و مقتضی الاستصحاب هو الإجزاء ، لأنّ المفروض وجود الحکم الظاهری فی حقّ المقلّد فی حال حیاة المجتهد الأوّل ، فلمّا مات یقع الشکّ فی ارتفاع ذاک الحکم الظاهری فیستصحب بقاؤه ، و یکون حاکماً أو وارداً علی أصالة التعیین المقتضیة حجیّة رأی المجتهد الحی و الرجوع إلیه ، و حینئذٍ ، یکون رأی الحی حجةً بالنسبة إلی الأعمال اللّاحقة فقط ، و الأعمال السابقة مجزیة .

قال الاستاذ :

إنّ الصحیح هو : أن فتاوی المجتهدین لها طریقیة لا موضوعیّة .

و أن المجعول فیها - کسائر الأمارات - نفس الطّریقیّة ، لأنها حکم وضعی یقبل الجعل ، لا أنّ المجعول هو الحکم الظاهری و ینتزع منه الطّریقیّة ، خلافاً لصاحب (المستمسک) القائل بأن الطریقیة لا تقبل الجعل .

أمّا فی الاستصحاب ، فلا خلاف فی أنه یعتبر أنْ یکون التغیّر الحاصل فی الموضوع من حالاته لا من المقوّمات .

و حینئذٍ نقول :

أمّا بالنسبة إلی المقلِّد فهل یجب علیه العدول إلی الحی تعییناً أو هو مخیَّر بین ذلک و البقاء علی تقلید المیت ؟ مقتضی القاعدة هو التعیین ، لکن «الحیاة» إنْ کانت مقوّمةً ، فلا یستصحب حجیّة رأی المیت ، و لا بدّ من الرجوع إلی الحی علی القاعدة المذکورة ، و یکون قوله حجة حتی بالنسبة إلی ما تقدّم

ص:240

فلا إجزاء ، فلا مانع من استصحاب حجیّة رأی المیت ، و المفروض کونه طریقاً لا یفرّق فیه بین الأعمال السابقة و اللّاحقة ، لکون طریقیّته بنحو القضیّة الحقیقیّة ، فالاستصحاب یجری ، و یکون حاکماً علی القاعدة العقلیة المذکورة ، وعلیه ، فلا مورد للرجوع إلی الحی .

و أمّا بالنسبة إلی المجتهد ، فإنْ تبدّل رأیه قد یکون علی أثر حصوله علی خبرٍ معارضٍ ، فإنْ کان یری الرجوع إلی المرجّحات ، و کان الراجح هو الخبر الثانی ، فلا محالة ینکشف له بطلان الفتاوی السابقة ، لسقوط الخبر الأوّل من أصله ، و إن لم یکن فی البین مرجّح ، فإمّا یقول بالتساقط ، فلا یبقی حکم سابق حتی یستصحب ، و إما بالتخییر فیکون صغری دوران الأمر بین التعیین و التخییر .

فما ذکره من التفصیل ، فی غیر محلّه .

أقول : ظاهره فی الدورتین المناقشة فی التفصیل ، أمّا نتیجته من حیث الإجزاء و عدمه ، و الجواب عمّا إذا کان مفیداً للإجزاء و لو فی بعض الصّور - لکون الإجزاء باطلاً عند الاستاذ مطلقاً - فلم نجده .

خلاصة الکلام فی مسألة الإجزاء :

هو القول بعدم الإجزاء مطلقاً .

إلّا فی موارد جریان «لا تعاد» ، و إلّا فی موارد لزوم (العسر و الحرج) الشخصیین .

ص:241

ص:242

مقدّمة الواجب

اشارة

ص:243

ص:244

مقدمات :

اشارة

قبل الخوض فی البحث تذکر أُمور :

الأمر الأول (فی عدم اختصاص البحث بالواجب)

إنه لا اختصاص للبحث بالواجب ، بل هو أعمّ من مقدّمة الواجب و الحرام و المستحب و المکروه .

الأمر الثانی (فی المراد من الوجوب)

المراد من الوجوب هنا هو : الوجوب الشرعی الغیری ، فهل یوجد وجوب شرعی متعلّق بالمقدّمة بالإضافة إلیٰ وجوب ذی المقدّمة أو لا ؟ إذن :

لیس المراد : اللّابدیة العقلیّة للمقدّمة ، فإنها مسلّمة عند الکلّ .

و لیس المراد : الوجوب الإرشادی ، لأنه إرشاد إلیٰ حکم العقل و إخبارٌ عنه ، و إن کان فی الصورة بعثاً مولویّاً ، کقوله تعالیٰ : «وأَطِیعُواْ اللّهَ » (1).

و لیس المراد : هو الوجوب الشرعی الطریقی ، أی الوجوب الذی یجعله الشارع لتنجیز الواقع ، کالاحتیاط ، لأنّ وجوب المقدّمة لیس من هذا القبیل .

و لیس وجوب المقدمة وجوباً نفسیّاً ، لأن الوجوب النفسی ینشأ من الملاک ، و وجوب المقدّمة لا ینشأ من ملاکٍ و غرض فی نفس المقدّمة ، بل من الغرض فی ذی المقدّمة .

و تلخّص : إن وجوب المقدّمة وجوب غیری تبعی ، بمعنیٰ أن هناک

ص:245


1- 1) سورة المائدة : 92 .

إرادةً أصلیّة متوجّهةً إلیٰ ذی المقدّمة ، و بتبعها توجد إرادة تبعیّة بالنّسبة إلیٰ المقدّمة حین تکون المقدّمة مورداً للالتفات ، أی ، فلا یلزم أن یکون وجوبها فعلیّاً ، لأنّ الآمر قد یکون غافلاً عن المقدّمة ، فهی واجبة ، بمعنیٰ أنه إذا التفت إلیها جعل لها الوجوب .

الأمر الثالث (فی أن بحث المقدّمة من المبادئ أو المسائل)

هل البحث عن وجوب المقدّمة من المبادئ الأحکامیّة کما علیه السیّد البروجردی ، أو من المسائل ؟ و إذا کان من المسائل ، فهل هو من المسائل الاصولیّة أو من المسائل الفقهیّة أو المسائل الکلامیّة ؟ و إذا کان من مسائل علم الاصول ، فهل هو من المسائل العقلیّة ، کما علیه صاحب (الکفایة) ، أو من مباحث الألفاظ کما علیه صاحب (المعالم) (1) ؟

أمّا القول بأنه من المبادئ الأحکامیّة فوجهه : إن المبادئ الأحکامیّة هی عبارة عن العوارض الطارئة علیٰ الأحکام الخمسة ، کقولنا : هل وجوب الشیء یستلزم النهی عن ضدّه أو لا ؟ إذ معنیٰ هذا العنوان : هل یوجد للوجوب هذه الخاصیّة أو لا ؟ و معنی قولنا : هل یجتمع الأمر و النهی فی الشیء الواحد ذی العنوانین أو لا ؟ هو أنّه هل للوجوب هکذا خاصیّة تمنع من اجتماعه مع النهی أو لا ؟ و هنا کذلک ، نقول : هل للوجوب الثابت لذی المقدمة هذا الأثر ، أی وجوب المقدّمة ، أو لا ؟

و فیه : إنّ کون مورد البحث من عوارض الحکم ، لا یوجب أنْ یکون من المبادئ ، و لا یخرجه عن المسائل ، ما دام تعریف المسألة الاصولیّة منطبقاً علیه .

ص:246


1- 1) معالم الاصول : 84 .

و کذلک کون البحث هنا عقلیّاً لا یوجب اندراجه فی مسائل علم الکلام ، لأنّ المسائل الکلامیّة مسائل عقلیّة بالمعنیٰ الأخص ، إذ هی المسائل الباحثة عن أحوال المبدإ و المعاد فقط .

فإمّا أن یکون بحثنا من المسائل الفقهیّة ، و إمّا أن یکون من المسائل الاصولیة ، فقد حکی عن بعضٍ القول بکون بحث مقدّمة الواجب من المباحث الفقهیّة ، لأنه یبحث فیه عن الحکم الشرعی للمقدّمة ، و إمّا أن یکون من المسائل الاصولیّة ، کما سیأتی .

لکنْ یردّ القول الأوّل : إن البحث هنا إنما هو عن ثبوت الملازمة بین المقدّمة وذی المقدمة من حیث الحکم ، و البحث عن هذه الحیثیة لیس بحثاً فقهیّاً .

و أجاب المیرزا (1) عن القول المذکور : بأنّ الأحکام الفقهیّة مجعولة للعناوین الخاصّة و الموضوعات الواحدة بالوحدة النوعیّة ، کالصّلاة ، و الخمر مثلاً ، و المقدّمة تصدق فی الخارج علیٰ العناوین المتعددة و الحقائق المختلفة ، و لیست عنواناً لفعل واحدٍ ، فلیست من مسائل الفقه .

و فیه : إن المسألة الفقهیّة هی الأحکام الکلیّة الإلهیّة المجعولة للموضوعات و العناوین الخاصّة ، من دون فرقٍ بین کونها منطبقةً خارجاً علیٰ حقیقة واحدة کالصّلاة و الخمر ، أو علیٰ حقائق متعدّدة ، کعنوان النذر و العهد و الیمین و نحو ذلک ، فلیس من شرط المسألة الفقهیّة عدم انطباقها إلّا علی الحقیقة الواحدة .

ص:247


1- 1) أجود التقریرات 310/1 .

و أجاب المحقق العراقی (1) عن القول المذکور : من جهة أن الملاک فی المسألة الفقهیّة هو أنْ یکون ملاک الحکم الکلّی متّحداً ، سواء کان للموضوع مصادیق مختلفة أو لا ، نظیر ضمان الید ، فإنّه حکم فقهی مع اختلاف موضوعه و تعدّده ، لکون الملاک واحداً و هو « الید » فنقول : المأخوذ بالعقد الفاسد فیه ضمان ، و العقد الفاسد تارةً هو البیع ، و أخریٰ الإجارة ، و ثالثة الصّلح ، و هکذا ...

و کلّ موردٍ تعدّد فیه الملاک ، فالمسألة لیست فقهیّة ، و مسألة المقدّمة من هذا القبیل ، لأن ملاک وجوب مقدمة الحج غیر ملاک وجوب مقدّمة الصّوم ... و هکذا ... فإنّه و إن کان حکماً کلّیاً إلهیّاً ، لکنه لیس بمسألةٍ فقهیّة .

قال الاستاذ : هذا جیّد ، لکنْ لا برهان علیٰ خروج ما تعدّد ملاکه من الأحکام الکلّیة عن الفقه ، لأن ضابط المسألة الفقهیة لیس إلّا کون الحکم المستنبط حکماً کلّیاً إلهیّاً سواء تعدّد ملاکه أو اتّحد .

و للسیّد الاستاذ جواب آخر و هو : إنّ وجوب المقدّمة بعنوان أنّها مقدّمة یکون بملاک واحدٍ و هو ملاک المقدّمیة ، فإنه هو الذی یوجب ترشّح الوجوب علی المقدّمة فی کلّ الموارد ، و لیس له ملاک آخر غیره (2) .

أقول :

ظاهره أنّ « المقدمیّة » هی « الملاک » لکن الکلام فی ملاک المقدمیّة :

فتأمّل .

و تلخّص : تعیّن کون المسألة من مسائل علم الاصول ، و یکفی فی ذلک

ص:248


1- 1) نهایة الأفکار 259/1 .
2- 2) منتقی الاصول 99/2 .

- بعد ثبوت عدم کونها من مسائل غیره من العلوم - انطباق تعریف العلم علیها ، فإنّه یمکن وقوع مسألة مقدّمة الواجب فی طریق الاستنباط .

و أمّا إشکال السیّد الاستاذ من أنّ ضابط المسألة الاصولیّة هو أنْ تکون نتیجتها رافعةً لتحیّر المکلَّف فی مقام العمل ، و لا یخفی أنّ هذه المسألة لا تتکفّل هذه الجهة ، فمبنیّ علی نظره فی الضّابط ، و قد تقدّم الکلام علیه فی محلّه ، فراجع .

و بما ذکرنا فی تحریر محلّ النزاع - من أن البحث فی هذه المسألة یدور حول الملازمة ، فإن ثبتت فالمقدّمة واجبة ، و إلّا فوجوبها یحتاج إلیٰ دلیل آخر - ظهر الفرق بین کون مسألة المقدّمة من مسائل الفقه و کونها من مسائل الاصول ، فإنّه إذا ثبت الملازمة ثبت الوجوب و هو الحکم الشرعی الفرعی ، و إلّا فلا .. .

فقول المحقق الإیروانی (1) بعدم الفرق ، و أن الکلام فی ذلک تطویل بلا طائل ، فی غیر محلّه .

و إذا کانت المسألة مسألةً أُصولیّةً ، فالمحقق الخراسانی و الجماعة قائلون بکونها مسألة اصولیّة عقلیّة ، فترجع إلیٰ مقام الثبوت ، و اختاره الاستاذ ، خلافاً لمن قال بأنّها مسألة لفظیّة ، و قد نسب إلی ظاهر (المعالم) فترجع إلیٰ مقام الإثبات .

قال الأستاذ : إن البحث اللّفظی یرجع إلیٰ مقام الإثبات و عالم الدّلالة ، و دلالة اللّفظ لا تخلو : إمّا أنْ تکون مطابقیّة ، و إمّا أن تکون تضمنیّة ، و إمّا أنْ تکون التزامیّة . أمّا الأولیٰ ، فإنّ وجوب ذی المقدّمة لا یدلّ علی وجوب

ص:249


1- 1) نهایة النهایة 132/1 .

المقدّمة مطابقةً ، و هذا واضح ، و أمّا الثانیة ، فإن وجوب المقدّمة لیس جزءاً من وجوب ذی المقدّمة لیدلّ علیه بالتضمّن ، بقی الثالثة ، و هی الدلالة الالتزامیّة ، و هذه یعتبر فیها کون اللّزوم - بین اللّازم و الملزوم - لزوماً بیّناً ، بأنْ یکون تصوّرهما کافیاً فی ثبوت الملازمة ، فلو کانت الملازمة محتاجةً إلیٰ برهانٍ لإثباتها ، خرجت الدّلالة عن کونها دلالة اللّفظ ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فلیست المسألة لفظیّة ، فهی مسألة عقلیّة .

و لوجود الحکم الشرعی فی هذه المسألة ، فهی من المسائل العقلیّة غیر المستقلّة .

ص:250

انقسامات المقدمة

اشارة

لقد قسّموا المقدّمة إلیٰ أقسامٍ عدیدة ، و فی کلّ قسمٍ أقسام و أحکام :

التقسیم إلیٰ الداخلیة و الخارجیّة :
اشارة

فمنها : إن المقدّمة إمّا داخلیة و إمّا خارجیّة ، أمّا الخارجیّة - و هی أجزاء العلّة التامّة : المقتضی و الشرط و عدم المانع - فهی داخلة فی بحث المقدّمة ، لکون ذی المقدّمة - و هو المعلول - موقوفاً علیها و محتاجاً إلیها .

إنّما الکلام فی المقدّمة الداخلیّة ، و المقصود منها أجزاء المرکّب ، فهل هی واجبة بالوجوب الغیری أو لا ؟

هل المقدّمة الداخلیة واجبة بالوجوب الغیری ؟
اشارة

هنا مطالب مترتّبة ، فالأول : هل أجزاء المرکّب مقدّمات داخلیّة للمرکّب أو لا ؟ و الثانی : بناءً علیٰ کونها مقدمات ، هل یجری فیها ملاک الوجوب ، أی وجوب المقدمة ؟ و الثالث : إنه علیٰ الجریان ، هل من مانعٍ یمنع عن الوجوب ؟

المطلب الأول :

تارةً یراد من « المقدّمة » ما له دخل فی وجود الشیء ، و أخریٰ یراد منها : ما یتوقّف علیه الشیء .

أمّا بالإطلاق الأول ، فالأجزاء الداخلیّة خارجة عن البحث ، لأنها حینئذٍ لیست بمقدّمات ، من جهة أنها موجودة بنفس وجود المرکّب ، فتکون

ص:251

المقدّمة بهذا الإطلاق منحصرةً بأجزاء العلّة التامّة .

و أمّا بالإطلاق الثانی ، فیصدق علیٰ الأجزاء عنوان « المقدّمة » ، لکنّ الکلام لیس فی عنوان « الجزء » و عنوان « الکلّ » ، لعدم وجود التوقّف بین العنوانین المذکورین ، بل هما فی مرتبةٍ واحدةٍ ، و لا تأخّر و تقدّم بینهما ، لکونهما متضایفین ، و المتضایفان متکافئان بالقوّة و الفعل ، فلو تقدّم أحدهما علیٰ الآخر لزم المحال ، و هو تحقق الإضافة من طرفٍ واحد . بل المراد هو الاحتیاج و التوقّف فی الذات و الوجود ، و توضیح ذلک :

إن الوجود لا بدَّ و أنْ ینتهی إلیٰ الواجب ، و هذا ما لا اختلاف فیه بین العقلاء ، حتی المادیّون قائلون به ، غیر أنّ الاختلاف فی الصغری ، فهم یقولون بانتهاء الوجود إلیٰ مرکّب من أجزاء مادیّة خارجیّة ، و الإلهیّون قائلون بأنه ینتهی إلیٰ ذاتٍ لا ترکیب فیها ، لا من الأجزاء الخارجیّة و لا العقلیّة و لا الوهمیّة و لا الخیالیّة ، فهو واحد أحدی ، و هذا معنیٰ کلام أمیر المؤمنین و الأئمّة الطاهرین علیهم السّلام فی نفی الترکیب عن الذات المقدّسة کما فی نهج البلاغة ، و کتاب التوحید للشیخ الصّدوق رحمه اللّٰه و الکافی ، و هو من جملة البراهین المستخرجة من الروایات ، و حاصله : إن کلّ ما کان مرکّباً ، کان محتاجاً إلیٰ الأجزاء و موقوفاً علیها - حتی لو کان مرکّباً خیالیّاً ، و هو المجرّد عن المادّة دون الصّورة ، أو وهمیّاً حیث یتجرّد من کلیهما - لأنّ المرکّب بما هو مرکّب لا یتحقّق ذاتاً إلّا بعد وجود الجزء فی مرحلة الذات ، فجوهریّة المرکّب متوقّفة علیٰ جوهریّة الجزء ، و فی مرحلة الوجود ، فإنّ المرکّب متوقف وجوده علیٰ وجود الجزء بالتوقّف الطبعی ، فإذن : « الکلّ » متوقّف ذاتاً و وجوداً علیٰ « الجزء » .

ص:252

و قد استدلّ للقول بعدم المقدّمیة ، بأن الأجزاء عین الکلّ ، فلا احتیاج ، فلا مقدّمیة . .

و أجاب عنه المحقق الخراسانی (1) : بأنّ الجزء عبارة عمّا یلحظ لا بشرط من الانضمام إلیٰ سائر الأجزاء ، و الکلّ یلحظ بشرط الانضمام ، فبینهما فرق من هذه الجهة ، و هو یکفی للتغایر بین « الکلّ » و « الجزء » و عدم العینیّة ، فیکون الجزء مقدمةً و الکلّ ذو المقدمة ، و اللّابشرط بشرط موقوفاً علیه و البشرط موقوف علیه ، فلا عینیّة من جمیع الجهات حتی یقال بأن الشیء لا یحتاج إلیٰ نفسه .

و قد أوضح الاستاذ ذلک : بأنّ الجزء إنْ لوحظ بشرط لا عن الانضمام إلیٰ سائر الأجزاء ، أصبح مبایناً للکلّ ، کأنْ یلحظ الرکوع « بشرط » لا عن بقیة أجزاء الصّلاة ، فإنه حینئذٍ مباین للصّلاة و لیس بجزءٍ لها ، و إنْ لوحظ « لا بشرط » صار جزءاً ، و إنْ لوحظ « بشرط » الانضمام فهو « الکلّ » .

و الحاصل : إن الأجزاء مقدّمة للکلّ ، إذ هو محتاج إلیها فی ذاته و هی مستغنیة عنه ذاتاً ، سواء فی الاعتباریات کما تقدم أو التکوینیّات ، و لذا تریٰ أنّ ذات « الحیوان » و هو جزء « الإنسان » - مع قطع النظر عن الوجود - مستغنیة عن الإنسان ، لکن « الإنسان » فی مرحلة الذات متقوّم ب « الحیوان » ، فإنّه لو لا الحیوان لا یوجد الإنسان .

فالحال فی الاعتباریات ، کالرّکوع بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، و التکوینیّات - کالمثال المذکور - واحد ، فلا فرق بین المرکّبات التکوینیّة و المرکّبات الاعتباریة فی ذلک .

ص:253


1- 1) کفایة الاصول : 90 .

هذا فی مرحلة الذات .

أمّا فی مرحلة الوجود ، فإنّ « الجزء » یمکن أن یتحقّق و یوجد ، و لکن « الکلّ » لا یتحقّق إلّا و « الجزء » متحقّق ، فلا یلزم عدم الجزء لو فرض عدم الأجزاء الاخریٰ ، لکنّ الکلّ ینعدم بانعدام أحد أجزائه ... فالجزء مستغن عن الکلّ بمناط التقدّم و التأخّر الطبعی ، إلّا أنه لا ینافی وحدة المرتبة فی مرحلة الوجود ، و لذا قالوا : التقدّم و التأخّر طبعاً لا ینافی المعیّة وجوداً .

هذا تمام الکلام فی المطلب الأوّل .

المطلب الثانی :

بعد ثبوت المقدمیّة للأجزاء الداخلیّة ، فهل یوجد فیها اقتضاء الحکم بالوجوب الغیری أو لا ؟

إن کان الملاک للوجوب الغیری أنْ یکون للشیء الواجب وجود مستقل ، فهذا الملاک غیر موجود فیما نحن فیه ، لأن الأجزاء لیس لها وجود مستقلّ عن الکلّ ، بل هی موجودة بعین وجوده ، و إن کان ملاکه هو التوقّف ، فلا ریب فی وجوده فی الأجزاء ، لتوقّف الکلّ علیٰ وجودها .

إذن ، لا بدّ من التحقیق فی ملاک الوجوب الغیری .

هذا ، و فی (المحاضرات) (1) نفی وجود المقتضی و الملاک للوجوب ، للزوم اللّغویة ، لأن المفروض وجوب الکلّ ، فوجوب الأجزاء مع ذلک لغو ، إلّا أن یقال بالاندکاک بین الوجوبین لیتحقق وجوب مؤکّد .

و فیه : إنه خلط بین مرحلة المطلب الثانی - المقتضی - و مرحلة المانع ، و هو :

المطلب الثالث :

فإنّه إذا کانت الأجزاء واجبةً بالوجوب الغیری ، فإن

ص:254


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 299/2 .

المفروض وجوب الکلّ بالوجوب النفسی ، و هو لیس إلّا الأجزاء ، فاجتمع فی الأجزاء وجوبان ، و هو محال ، لأنه إمّا لغوٌ و إمّا اجتماعٌ للمثلین .

فمع تسلیم وجود المقتضی لاتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری ، فإنه ممنوع ، و المانع هو الإشکال المذکور .

کلام المحقق الخراسانی

و قد وقع النزاع بین الأکابر فی هذا المقام ، إذ قرّر صاحب (الکفایة) (1)الإشکال بما توضیحه : إنّ المحکوم بحکم الوجوب هو واقع المقدّمة لا عنوانها ، و عنوان المقدّمة حیثیّة تعلیلیّة للوجوب و لیس بحیثیّة تقییدیّة ، لأنّ متعلَّق الوجوب فی الوضوء - مثلاً - هو واقع الوضوء لا عنوان المقدّمة ، و فی أجزاء الصّلاة یکون واقع الرّکوع و السّجود و غیرهما متعلّق الوجوب لا عنوان مقدمیّتها للصّلاة ، و إذا کان الواقع ، فإنّ الرکوع و السّجود و غیرهما هی الصّلاة ، و لا مغایرة بین واقع الصّلاة و واقع هذه الأجزاء ، بل هی عین الکلّ المسمّی بالصّلاة ، و لا اختلاف بین الصّلاة و أجزائها إلّا اعتباراً ، فلو کانت الأجزاء متصفةً بالوجوب الغیری و وجوب الصّلاة نفسی ، کانت الأجزاء محکومة بحکمین وجوبیّین ، و کانت ذات فردین من الوجوب ، و بذلک یلزم اجتماع المثلین فی الشیء الواحد و هو محال .

و بما تقدَّم من کون الحیثیّة تعلیلیّة لا تقییدیّة ، یندفع توهّم کون ما نحن فیه نظیر باب اجتماع الأمر و النهی ، و کون الشیء الواحد واجباً من حیث و محرّماً من حیث آخر ، کالصّلاة فی الدار المغصوبة ، فیقال هنا کذلک ، بأن الرکوع - مثلاً - واجب نفسی من حیث کونه صلاة و غیری من حیث کونه مقدّمة .

ص:255


1- 1) کفایة الاصول : 90 .

وجه الاندفاع هو : إن المقدّمیّة فیما نحن فیه علّة للوجوب ، و لیست بموضوعٍ للوجوب .

و بهذا البیان یتحقق المانع عن وجوب المقدّمة الداخلیّة .

جواب المحقّق النائینی

و ذکر المحقق النائینی (1) : أنّ الوجوب النفسی غیر الوجوب الغیری ، کما هو واضح ، و التغایر بینهما لا ینکر ، لکنْ لا نسلّم لزوم اجتماع المثلین ، و ذلک : لتعدّد الملاک ، ثم اندکاک أحدهما فی الآخر .

و توضیحه : إن کلّاً من أجزاء الصّلاة یتوفَّر فیه ملاکان للوجوب ، أحدهما : ملاک الناهویّة عن الفحشاء و المنکر ، و هذا ملاک وجوب الصّلاة بالوجوب النفسی ، و الآخر : ملاک المقدمیّة لتحقّق الصّلاة ، و هذا ملاک الوجوب الغیری ، لأنّ تحقّق الصّلاة موقوف علیٰ تحقّق الرکوع و السجود و غیرهما ، فتکون الأجزاء مطلوبةً بالطلب النفسی و بالطلب الغیری ، و یکون الملاکان منشأً لتحقّق وجوبٍ أکید بعد اندکاک أحدهما فی الآخر ، و لا مانع من اتصاف الوجوب بالشدّة و التأکد .

و نظیره فی الفقه : وجوب صلاة الظهر و مطلوبیّتها بملاکین هما : فریضة الظهر و وجوبها نفساً بملاکه ، و أنّه لو لم یصلّ الظهر فصلاة العصر باطلة ، و هذان الملاکان یندک أحدهما فی الآخر ، و تکون النتیجة شدّة مطلوبیّة صلاة الظهر .

و کذلک الحال فی موارد تعدّد العنوان و وحدة المعنون ، کالعلم و الهاشمیّة فی وجوب الإکرام ، عند ما یجتمع العنوانان فی الشخص الواحد ، إذ

ص:256


1- 1) أجود التقریرات 317/1 .

یجتمع فیه ملاکان لوجوب الإکرام ، لکنّ الطلب واحد مؤکّد یتحقق من اندکاک العنوانین .

فارتفع المانع و المحذور بهذا البیان .

جواب المحقق العراقی عن بیان المیرزا

و أشکل المحقق العراقی علیٰ البیان المذکور (1) : بعدم امکان تحقّق الاندکاک مع اختلاف المرتبة ، لأنه فرع الاجتماع ، و لا اجتماع مع اختلاف المرتبة ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنّ الموضوع هنا واحدٌ لا تعدّد له فی الوجود ، و مرتبة الحکم بالوجوب النفسی متقدّمة علیٰ مرتبة الوجوب الغیری ، لأنّ الوجوب الغیری ترشّح من الوجوب النفسی ، فهو بمثابة المعلول للعلّة ، و بین العلّة و المعلول اختلاف فی المرتبة کما لا یخفی ، و إذا کانا فی مرتبتین فلا یجتمعان ، و مع عدم الاجتماع فلا اندکاک .

نعم ، تارةً یکون الموضوع متعدّداً و تختلف المرتبة بینهما ، کما هو الحال فی مسألة اجتماع الحکم الواقعی و الظاهری ، فهناک موضوعان مترتّبان ، و لکلٍّ منهما حکم ، کأنْ یکون موضوع الحکم الواقعی هو الخمر بما هو خمر ، و حکمه الحرمة ، و موضوع الحکم الظاهری هو الخمر بما هو مشکوک الخمریّة ، و حکمه الحلیّة ، ففی فرض تعدّد الموضوع و وجود الطولیّة بینهما ، یمکن الجمع بین الحکمین .

لکنّ ما نحن فیه لیس من هذا القبیل ، بل الموضوع وجود واحد .

و قد یشکل علیٰ قوله بوحدة الموضوع هنا ، بناءً علیٰ ما أسّسه من أنّ الموضوع المتعلِّق به الحکم لیس الخارج ، بل هو الصّورة القائمة فی ذهن

ص:257


1- 1) نهایة الأفکار 268/1 .

الحاکم و بالنظر الذی تُری خارجیّةً ، وعلیه : فإنّ الصور متباینات و یستحیل الوحدة بین صورةٍ و أخریٰ ، و إذا تعدّدت الصّورة فیما نحن فیه ، کانت صورة السجود و الرکوع و غیرهما من الأجزاء ، غیر صورة الکلّ المحقق منها و هو الصّلاة ، و مع التعدّد ، فلا اجتماع للمثلین حتی یبحث عن الاندکاک .

فأجاب : بأنّ هذا التعدّد غیر مؤثّر ، لأنه إنما یحصل فی مرحلة تعلّق الحکم ، لکنّ ذا الصورة - و هو المطابَق الخارجی - واحد لا تعدّد فیه .

و علی أیّ حالٍ ، فإنّ اجتماع المثلین لازم ، و الاندکاک محال .

جواب المحقق الأصفهانی عن بیان العراقی

فناقشه المحقق الأصفهانی (1) - و تبعه فی (المحاضرات) (2) - بأنّه صحیحٌ أنهما فی مرتبتین ، لکنْ بینهما معیّة فی الوجود ، و بهذا یتمّ الاندکاک ، لأنه فی ظرف الوجود لا فی المرتبة .

و حاصل کلام المحاضرات : إن الاندکاک بین الحکمین إنّما لا یتصوّر فیما إذا کانا مختلفین زماناً ، و أمّا إذا کانا مقارنین ، فلا مناص من الاندکاک و لا مانعیّة لاختلاف المرتبة ، کما لو کان بیاض شیء علةً لبیاضٍ آخر ، فهنا لا یقع علیٰ الجدار بیاضان بل بیاض واحد شدید . هذا فی التکوینیّات . و فی الشرعیّات کذلک ، کما لو نذر الصّلاة فی المسجد ، فإنه لا ریب فی اندکاک الوجوب النذری فی الوجوب أو الاستحباب النفسی ، مع أنّ ملاک النذر - و هو رجحان المتعلّق - متأخّر رتبةً عن ملاک الحکم النفسی ، إلّا أنهما فی عرض واحدٍ فی الزمان .

ص:258


1- 1) نهایة الدرایة 24/2 .
2- 2) محاضرات فی أصول الفقه 300/2 .
نظر الأستاذ

و تنظّر الاستاذ دام بقاه فیما ذکره المحقق الأصفهانی هنا بالنقض و الحلّ : أمّا نقضاً ، فبما قاله رحمة اللّٰه تعالی علیه فی (تعلیقة المکاسب) عند کلام الشیخ الأعظم فی مسألة بیع الحق علیٰ من هو علیه ، حیث ذهب قدّس سرّه إلیٰ عدم إمکانه ، معلّلاً بلزوم الاتّحاد بین المسلَّط و المسلَّط علیه ، و هو غیر معقول ، فأشکل علیه المحقّق الأصفهانی (1) : بأنّ المتقابلین اللّذین لا یقبلان الاتّحاد فی الوجود هما العلّة و المعلول ، و أمّا المتضایفان ، فبعض الموارد منهما یقبل الاتحاد و الاجتماع فی وجود واحدٍ کالحبّ ، حیث أنّ النفس الإنسانیّة تحبّ نفسها ، فیجتمع المحبّ و المحبوب ... و السّلطنة من هذا القبیل ، و لا مانع من تسلّط الإنسان علیٰ نفسه ، و حدیث : « الناس مسلّطون علیٰ أنفسهم » و إنْ لم یکن له أصل عن رسول اللّٰه ، لکنّ معناه صحیح .

و علی هذا ، فبناءً علیٰ ترشّح الوجوب الغیری من الوجوب النفسی ، یکون الوجوب النفسی علّةً للوجوب الغیری ، و لا یعقل الاندکاک و التأکّد ، لعدم تعقّل الوحدة بینهما ... فیتمّ ما ذکره المحقق العراقی بالنظر إلیٰ کلام المحقق الأصفهانی فی حاشیة المکاسب ، و لا یرد علیه إشکاله هنا .

و أمّا حلّاً ، فلقد اختلط الأمر علیٰ هذا المحقق ، بین الوجوبین و بین متعلّقی الوجوبین ، فمتعلّق الوجوب الغیری هو الجزء ، و متعلَّق الوجوب النفسی هو الکلّ ، و التقدّم و التأخّر بینهما طبعی و لیس من قبیل العلّة و المعلول ، و فی التقدّم و التأخّر الطبعی یمکن الوجود بوجود واحدٍ مثل

ص:259


1- 1) الحاشیة علیٰ المکاسب 55/1 .

الواحد و الاثنین ... أمّا المورد الذی یکون فیه أحد الوجودین ناشئاً من الوجود الآخر ، فلا یعقل الاتّحاد فی الوجود ، لأنّ أحدهما هو المؤثّر و الآخر هو الأثر ، و الوحدة بین الأثر و المؤثّر و الظل وذی الظل ، فی الوجود ، محال ، و لا یعقل الاندکاک .

و بهذا البیان یتّضح ما فی کلام (المحاضرات) من النظر و الإشکال ، ففی مثال البیاض الذی ذکره : إن کان بینهما نسبة العلیّة و المعلولیّة کما هو مفروض بحوثهم فی المقام ، فلا یعقل الاتحاد ... و لکنَّ الحق عدم وجود هذه النسبة بین الوجوب الغیری و الوجوب النفسی ، کما سیأتی تحقیق ذلک .

نفی الاندکاک بوجهین آخرین

لکنّ للمحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه طریقین آخرین لنفی الاندکاک :

أحدهما :

إنّ الأحکام أُمور اعتباریّة ، و الامور الاعتباریّة لا تقبل الشدّة و الضّعف ، و إنما الامور التکوینیّة هی التی تقبل ذلک ، لأنّ التأکّد یستلزم الحرکة من المرتبة الضعیفة إلیٰ المرتبة الشدیدة ، و الحرکة إنما تعقل فی التکوینیّات ، کالفاکهة ، تتحرّک فی لونها و طعمها ... و إذا انتفی التأکّد فی الحکم ، فلا یعقل وجود الحکم الواحد الأکید علیٰ أثر الاندکاک بین الحکمین . نعم ، یعقل ذلک فی مبدإ الحکم و هو الإرادة ، فإنها قابلة للصعود من الضعف إلیٰ الشدّة ، و حصول التأکّد فیها .

مناقشة الأستاذ الوجه الأوّل

و ناقشه شیخنا دام بقاه بالنقض و الحلّ . أمّا نقضاً : فأورد کلام المحقق

ص:260

الأصفهانی فی رسالة الحق و الحکم (1) ، حیث ذکر هناک - فی بحثٍ له مع السیّد قدس سره ، القائل بکون الحق هو الملک (2) و المیرزا القائل بکونه مرتبةً ضعیفةً من الملک (3) إن الامور الواقعیّة علیٰ قسمین ، فمنها : الامور الواقعیّة التی لا مرتبة لها فی الخارج ، و منها : الامور الواقعیّة ذات المرتبة فی الخارج و القابلة للشدّة و الضعف ، (قال) و الاعتباریّات هی نفس الواقعیّات ، لکنّ المعتبر یعطیها الوجود الاعتباری ، فلا مانع من قبولها للشدّة و الضعف إن کانت ذات مرتبة . (قال) غیر أنّ « الملکیّة » لیست من هذا القبیل ، فلا یعقل فیها الشدّة و الضعف ، فجعل « الحق » مرتبة من « الملکیّة » غیر صحیح .

فتلخّص : إنه یوافق علیٰ الکبری ، غیر أن بحثه مع السیّد صغروی ، لکون « الملکیّة » إمّا من مقولة الجدة ، و إمّا من مقولة الإضافة ، و علی کلّ تقدیر ، فلا یعقل أن یکون لها المرتبة .

و إذا کان یریٰ صحّة الکبری ، فإنّها منطبقة فیما نحن فیه ، لأنّ الوجوب علیٰ مسلکه - عبارة عن النسبة البعثیّة ، و إذا کان البعث الاعتباری فی الحقیقة اعتباراً للبعث و التحریک الخارجی ، فمن الواضح أن البعث الخارجی ذو مراتب و یقبل الشدّة و الضعف ، فیکون ما یأخذه المعتبر فی عالم الاعتبار کذلک .

ص:261


1- 1) حاشیة المکاسب 42/1 - 43 .
2- 2) الحاشیة علیٰ المکاسب للسید الیزدی : 57 .
3- 3) منیة الطالب فی الحاشیة علی المکاسب 111/1 .

إنه لیس معنیٰ الاندکاک أن یوجد وجوب ضعیف ثم یتحرّک نحو الشدّة ، بل القائل بالاندکاک یقول بوجود الملاکین ، و أن الملاکین یوجبان علیٰ المعتبر أنْ یعتبر المرتبة الشدیدة الأکیدة من البعث .

فما ذکره طریقاً لبطلان الاندکاک مردود .

الوجه الثانی و الموافقة علیه

إنه لا یعقل الإهمال فی متعلَّق البعث بل لا بدَّ من تعیّنه بالضرورة ، و حینئذٍ ، فلا یخلو أن یتعلَّق البعث الأکید الحاصل من الاندکاک ، إمّا بالأجزاء ، یعنی بکلّ واحدٍ لا بشرط عن الانضمام إلیٰ سائر الأجزاء ، و إمّا بکلّها ، أی کلّ الأجزاء أو کلّ واحدٍ بشرط الانضمام . فإنْ کانَ المتعلَّق هو الجزء ، فالمفروض أنّ الجزء لم یجب بالوجوب النفسی ، و تعلّق البعث الأکید به یکون من تعلّق الحکم بشیء لا ملاک له ، لأنّ ملاک وجوب الجزء هو الملاک الغیری ، و ملاک الوجوب الغیری لا یقتضی أزید من الطلب الغیری ... فلیس متعلَّق البعث الأکید هو الجزء ، و لا الأجزاء لا بشرط عن الانضمام .

و إنْ کان المتعلَّق له هو الکلّ ، فإنّ الکلّ لیس له إلّا ملاک الوجوب النفسی ، و البعث الأکید تابع لکلا الملاکین .

و بهذا یظهر : إنه لو اتّصفت الأجزاء بالوجوب النفسی و الغیری معاً ، و هی موجودة بوجود الکلّ ، یلزم اجتماع المثلین ، و لو ارید حلّ مشکلة الاجتماع بالاندکاک ، فإنّه - و إن کان قابلاً للتصوّر ، و هو واقع فی مثل إکرام العالم الهاشمی - غیر منطبق هنا ، لأن الحکم تابع للملاک ، و حدّ الملاک معلوم ، و لا یمکن زیادة الحکم علیٰ الملاک .

و تلخّص : إنّ هنا وجوباً واحداً فقط ، فإمّا النفسی و إمّا الغیری ، فقال المحقق الخراسانی : لیس هنا إلّا الوجوب النفسی - و إن کان ملاک الوجوب الغیری بالنسبة إلیٰ الأجزاء موجوداً - لسبق الوجوب النفسی . ثم أمر رحمه اللّٰه بالتأمّل .

ص:262

و أوضح - فی (حاشیة الکفایة) - وجه التأمّل ، بالإشکال فیما ذکره فی المتن من تعدّد الملاک ، بأنه لمّا کانت الأجزاء الداخلیّة وجودها بعین وجود الکلّ ، فلیس لها وجود منحاز عن الکلّ ، حتی یکون لها ملاک یقتضی المطلوبیّة الغیریّة لها ، و إنّما التعدّد بین الأجزاء و الکلّ اعتباری فقط ، و إذ لیس فی المقام ملاک للوجوب الغیری ، فلا وجه للقول بأنّ الوجوب النفسی هو الواقع ، لسبقه ، بل هو موجود لوجود الملاک له ، و الغیری غیر موجود لعدم وجود الملاک له .

هذا ، و فی قوله « لسبقه » أیضاً إشکال ، لأنه علیٰ فرض وجود الملاک للوجوب الغیری ، فالتعلیل المذکور غیر صحیح ، لعدم تعقّل السبق بلا لحوق ، لکونهما متضایفین ، فسبق الوجوب النفسی مستلزم للحوق الوجوب الغیری ، و الحال أنّ الوجوب الغیری محال ، للزوم اجتماع المثلین ... و هذا الإشکال وارد علیه و لا جواب عنه .

بل الصحیح أنْ یقال بوجود وجوبٍ واحدٍ و هو النفسی ، لوجود المقتضی له و عدم المانع عنه ، أمّا المقتضی فالملاک ، و أمّا عدم المانع ، فلأنّه لا یوجد ما یصح لأنْ یکون مانعاً عن تأثیر الملاک النفسی فی الوجوب ، و أمّا الوجوب الغیری فإنّ لزوم اجتماع المثلین یمنع عن تحقّقه .

لا یقال : لا محذور فی اجتماع المثلین فی الامور الاعتباریّة .

لأنّا نقول : بأنّ لزوم المحال فی المنتهی واضح جدّاً ، لأن البعث یقتضی الانبعاث ، و تحقّق الانبعاثین نحو الشیء الواحد غیر معقول ، فوجود الوجوبین محال ، و حصول الوجوب الواحد المؤکّد محال .

هذا تمام الکلام فی هذا المقام ... و یبقی الکلام فی ثمرة هذا البحث :

ص:263

ثمرة البحث عن اتصاف الأجزاء الداخلیة بالوجوب الغیری

قالوا : إن ثمرة البحث عن أنّ الأجزاء الداخلیّة تتّصف بالوجوب الغیری أو لا ، تظهر فی مسألة انحلال العلم الإجمالی و عدمه . ففی موارد العلم الإجمالی - حیث یکون وجوب الأقل معلوماً و وجوب الأکثر مشکوک فیه - تجری البراءة عن الأکثر ، و هنا ، إنْ قلنا بوجوب الأجزاء بالوجوب الغیری ، تکون هی الأقل المتیقّن ، لأنّها تجب ، إمّا بالوجوب النفسی المتعلّق بالکلّ ، و إمّا بالوجوب الغیری المتعلّق بها ، و أمّا إن قلنا بعدم وجوبها بالوجوب الغیری ، فلا ینعقد العلم الإجمالی بالبیان المذکور .

فهل هذه الثمرة مترتّبة أو لا ؟

لقد ذکر الشیخ الأعظم قدّس سرّه - لانحلال العلم الإجمالی بین وجوب الأقلّ و وجوب الأکثر الارتباطیین - تقریبین : أحدهما : هو التقریب المتقدّم ، و حاصله : کون الأقلّ معلوم الوجوب بالعلم التفصیلی الجامع بین الوجوبین ، و یکون الشک فی الأکثر - الزائد - بدویّاً . و الثانی : إن نفس الوجوب النفسی المعلوم بالإجمال یشتمل علیٰ ما هو معلوم بالتفصیل و هو الأقل ، لکونه فی ضمن الأکثر ، و یکون الأکثر الزائد علیه مشکوکاً فیه .

فعلیٰ التقریب الأوّل یتصوّر الثمرة فی المقام .

لکنّ المحقق العراقی (1) جعل مرکز ترتّب الثمرة علیٰ عکس التقریب الأوّل ، فقال بالاشتغال بناءً علیٰ القول بوجوب الأجزاء بالوجوب الغیری ، لأنّه بناءً علیه لا ینحلّ العلم ، مثلاً : إنّا نعلم إجمالاً بوجوب الصّلاة إمّا مع السّورة و إمّا بدونها ، و من هذا العلم یتولَّد علم آخر ، و هو وجوب الأقل - أی

ص:264


1- 1) نهایة الافکار 269/1 .

الصّلاة بلا سورة - إمّا بالوجوب النفسی و إمّا بالوجوب الغیری ، و ذلک لأنّ الوجوب الغیری للأقل مترشّح من الوجوب النفسی المتعلّق بالأکثر ، و أن تعلّقه بالأکثر علّة لوجوب الأقل وجوباً غیریّاً ، فکان هذا العلم الإجمالی معلولاً للعلم الإجمالی الأوّل ، و إذا تنجّز التکلیف بالنسبة إلیٰ الأکثر بالعلم السّابق ، فلا یعقل انحلاله بعد ذلک بالعلم اللّاحق المتولّد منه . و بعبارة أُخریٰ ، فإنه لا یعقل زوال العلّة بالمعلول .

و الحاصل ، إنه بناءً علیٰ القول بوجوب الأجزاء بالوجوب الغیری ، لا ینحلّ العلم ، و تکون النتیجة الاحتیاط لا البراءة .

و هذا الذی ذکرناه هو مقصود المحقّق العراقی ، لا ما نسب إلیه فی (المحاضرات) (1) .

رأی الأستاذ

و بعد أن ذکر الاستاذ کلام القوم قال : بأنّ الحق عدم ترتّب الثمرة ، لأنّ مناط تنجیز العلم الإجمالی للأطراف هو جریان الاصول فیها و تساقطها بالمعارضة ، فلو جریٰ الأصل فی طرفٍ بلا معارض له فی غیره ، فلا موضوع للعلم الإجمالی ، و علمنا فی دوران الأمر بین الأقل و الأکثر یعود - فی الحقیقة - إلیٰ أنّه هل الواجب هو الأجزاء التسعة لا بشرط الجزء العاشر و هو السورة حسب الفرض ، أو أنها تجب بشرط السّورة ، فیدور أمر الأجزاء التسعة بین أنْ تکون مطلقةً عن السورة أو مقیَّدة بها ، لکنّ جریان أصالة البراءة عن الإطلاق لا موضوع له ، لأنّ الإطلاق لیس بکلفةٍ حتی یُرفع بحدیث الرفع امتناناً ، بل التقیید فیه الکلفة علیٰ المکلَّف و فی رفعها الامتنان علیه ... إذن ،

ص:265


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 301/2 .

فلا مجریٰ للأصل فی أحد الطرفین ، و یکون جاریاً فی الطرف الآخر بلا معارض .

(قال) غایة ما یمکن أن یقال : إنّ القول بوجوب الأجزاء وجوباً غیریّاً شرعیّاً ، یجوّز للفقیه أن یفتی بذلک ، و یجوز حینئذٍ قصد وجوبها علیٰ المبنیٰ ، و أمّا علیٰ القول بالعدم ، فلا یجوز الفتویٰ بذلک ، و یکون الإتیان بها بقصد الوجوب تشریعاً .

هذا تمام الکلام فی المقدّمات الداخلیّة ، و قد ظهر أنها غیر داخلة فی البحث .

ص:266

تقسیم آخر

و تنقسم المقدّمة إلیٰ : مقدّمة الوجوب ، و مقدّمة الوجود ، و مقدّمة الصحّة ، و مقدّمة العلم أو : المقدّمة العلمیّة .

أمّا مقدّمة الوجوب ، فهی شرط التکلیف ، کالاستطاعة بالنّسبة إلیٰ وجوب الحج ، و هذا القسم خارج عن البحث ، لأنه ما لم یجب ذو المقدّمة فلا وجوب للمقدّمة ، فإذا وجب ذو المقدمة ، کان وجودها حاصلاً من قبل ، فلا یعقل تعلّق الوجوب بها .

و أمّا المقدّمة العلمیّة ، فهی المقدّمة الموجبة لعلم المکلَّف بحصول الامتثال و فراغ الذمة عن التکلیف ، کالصّلاة إلیٰ الجهات الأربع ، و وجوبها عقلی من باب قاعدة الفراغ ، و لیس شرعیّاً ، و بحثنا فی مقدمة الواجب إنما هو عن وجوبها شرعاً ، و مما یؤکّد ذلک : أن المقدّمة العلمیة ، یدور أمرها بین الواجب النفسی و غیر الواجب ، لأن احدی الصّلوات هی الواجب النفسی ، و الثلاثة البقیّة لیست بواجبة أصلاً ، لا نفساً و لا غیریّاً .

و مقدّمة الوجوب داخلة فی البحث ، کما هو واضح ، لأن بحثنا عن الوجوب الغیری المترتب علیه المطلوب النفسی .

و مقدّمة الصحّة ترجع إلیٰ مقدّمة الوجود ، لأنّ معنیٰ مقدمة الصحّة مقدمة تحقق المأمور به .. فهی داخلة کذلک .

ص:267

تقسیم آخر

و تنقسم المقدّمة إلیٰ : المقدّمة العقلیّة ، و المقدّمة الشرعیّة ، و المقدّمة العادیّة .

أمّا العقلیّة فداخلة فی البحث ، کطیّ المسافة للحج ، فإنّه یتوقّف علیٰ طیّ المسافة و السفر ، و حینئذٍ یبحث عن وجوبها شرعاً وجوباً غیریّاً .

و أمّا الشرعیّة ، فهی المقدّمة لحصول المأمور به و تحقّقه بأخذٍ من الشارع ، کالطهارة بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، لکنْ بعد أخذه و حکمه بامتناع الصّلاة بلا طهارةٍ تصیر هذه المقدّمة عقلیّةً ، إذ العقل یحکم بلزوم الإتیان بها ، تحصیلاً للامتثال و خروجاً عن الاشتغال .

و أمّا العادیّة ، فإنْ کان المراد منها ما جریٰ علیه العرف و العادة فی کونه طریقاً و مقدّمةً للوصول إلیٰ ذی المقدّمة ، فهی غیر داخلة فی البحث ، و إنْ کان المراد ما لا یمکن الوصول إلیٰ ذی المقدّمة عادة إلّا به ، کنصْب السلّم للصعود إلیٰ السطح ، حیث أنّ الطیران محالٌ عادةً - و إنْ لم یکن بمحالٍ عقلاً - فهی راجعة إلیٰ المقدّمة العقلیّة ، لأنّ الطیران غیر ممکنٍ من المکلَّف ... فتکون حینئذٍ داخلةً فی البحث .

ص:268

تقسیم آخر

و تنقسم إلیٰ : المقدّمة السابقة ، و المقدّمة اللّاحقة ، و المقدّمة المقارنة .

و کلّ واحد من الأقسام ، تارةً مقدّمة لمتعلّق الحکم ، و أخریٰ مقدّمة للحکم .

و الحکم ، تارةً : تکلیفی ، و أخریٰ : وضعی .

أمّا المقدّمة السابقة ، کالإیجاب و القبول بالنسبة إلیٰ الملکیّة ، و کالطّهور بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، بناءً علیٰ أنه نفس الغسَلات و المسحات .

و أمّا المقدّمة المقارنة ، کالطّهور بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، بناءً علیٰ أنه الأثر الحاصل من الغسلات و المسحات .

و أمّا المقدّمة السابقة ، فسیتّضح الکلام حولها من خلال البحث عن المقدّمة المتأخّرة .

و أمّا المقدّمة المقارنة ، فلا کلام فی دخولها فی البحث .

و أمّا المقدّمة المتأخّرة ، کالإجازة فی عقد الفضولی بناءً علیٰ الکشف ، و هی المعبَّر عنها بالشرط المتأخر ، فقد عقدنا لها فصلاً مستقلّاً ، لأهمیّتها و آثارها علماً و عملاً ، و هذا تفصیل الکلام علیها :

ص:269

ص:270

الشّرط المتأخّر

اشارة

ص:271

ص:272

و لا بدَّ من تنقیح مورد النزاع أوّلاً ، ثم البحث ثبوتاً و إثباتاً .

إنّ الإشکال فی الشرط المتأخّر جارٍ فی شرط الحکم التکلیفی ، و شرط الحکم الوضعی ، و شرط المأمور به ، فهو إشکال عام ، و تقریبه :

إن العلّة - سواء کانت بسیطة أو مرکّبة - فی مرتبةٍ سابقةٍ علیٰ المعلول ، و هما مقترنان فی الزّمان ... .

و إن العلّة لا بدّ و أنْ تکون مؤثّرة فی المعلول ، و إلّا یلزم الخلف ، و تأثیرها فیه موقوف علیٰ وجودها ، و إلّا فالمعدوم غیر مؤثر ، فلا یعقل حصول الأثر و هو المعلول ، قبل حصول المؤثر و الشرط فی تأثیره .

و بناءً علیٰ ما ذکر ، فإنّه فی حال تأخّر الشرط و سبق المعلول علیٰ العلّة ، لا بدّ من الالتزام بأحد أمرین ، إمّا نفی نسبة العلیّة و المعلولیّة بینهما ، و هذا خلف ، و إمّا أنْ یکون المعدوم مؤثراً فی الوجود ، و هذا محال .

و إذا کان الإشکال بهذه الصّورة ، فإنّه یعمّ الشرط المتقدّم أیضاً ، لأنّ المفروض تأثیره فی وقتٍ لیس المشروط و ذو المقدمة متحقّقاً بعدُ ، فإمّا أنْ تنفی العلّیة و المقدمیّة بینهما ، و هذا خلف ، و إمّا یقال بالتأثیر فی المعدوم ، و هذا محال ... .

و لذا قال المحقق الخراسانی بعموم الإشکال للمقدّمة السابقة أیضاً .

و من هنا أیضاً : أورد السیّد الطباطبائی الیزدی فی بحث الشروط الشرعیّة ، بتوضیح کلام الجواهر - علیٰ المنکرین للشرط المتأخر ، بأنّ إنکاره

ص:273

یستلزم إنکار الشرط المتقدّم أیضاً ، لکنّ إنکاره باطل ، لوجود الشرط المتقدّم فی التکوینیّات و الشرعیّات ، فلا مناص من قبول الشرط المتأخّر ، لوحدة المطلب بینهما ... و قد سلّم صاحب الکفایة بهذا النقض .

هذا هو الإشکال العام .

و أمّا الإشکال الخاص ، فقد قرّره المحقق النائینی (1) ، و هو :

إن القضایا الشرعیّة کلّها قضایا حقیقیّة لا خارجیّة ، إذ الشارع یفترض الموضوع موجوداً ، و یجعل الحکم للموضوع المفروض الوجود ، و إنّ الأساس لهذا الفرض من الشارع هو الواقع و هو تابع للواقع ، و النسبة بینهما نسبة المعلول إلیٰ العلّة ، و إذا کان کذلک ، کان کلّ شرط موضوعاً ، و کان کلّ موضوع شرطاً ، و علی هذا ، ترجع الشروط إلیٰ کونها موضوعات للأحکام ، سواء التکلیفیّة أو الوضعیّة .

وعلیه ، فالحکم لا بدَّ و أن یتوجّه علیٰ الموضوع المفروض الوجود بالفرض المتأثر بالواقع ، لا بالفرض اللّابشرط من الواقع ، وعلیه ، فیکون الشرط المتأخّر محالاً ، لأنّ المفروض کونه فی رتبة الموضوع ، یلحظه الحاکم و یوجّه إلیه الحکم ، و إذا کان متأخّراً لا یتحقّق الرؤیة له و الموضوعیّة للحکم .

آراء الأعلام فی الشرط المتأخّر

اشارة

و قد ذکرت وجوه لحلّ هذه المشکلة ، و تصحیح الشرط المتأخّر :

رأی الشیخ الأعظم

ما حکاه المحقّق الخراسانی عن الشیخ الأعظم قدّس سرّه : من أنّ الشرط المتأخّر غیر معقول ، و هنا لیس الشرط متأخّراً ، و إنما یکون الشیء

ص:274


1- 1) أجود التقریرات 188/1 .

بوصف التأخّر شرطاً .

و فیه :

إنّ المستفاد من کلمات الشیخ بل صریحها ، هو عدم الموافقة علیٰ الشرط المتأخّر بأیّ شکلٍ کان ، قال : و لذا قلنا بالإجازة و أنکرنا الکشف مطلقاً ، و أکّد علیٰ أن هذه قاعدة عقلیّة ، و لا یسعنا أن نؤمن بما لا نتعقّله .

علیٰ أن ما نسبه صاحب الکفایة إلیه غیر رافع للإشکال ، للزوم تأثیر المعدوم فی الموجود کذلک ، فالإشکال یعود .

رأی السید الشیرازی

ما حکاه المحقق الخراسانی و السیّد فی (حاشیة المکاسب) عن المیرزا الشیرازی (1) من أنّ الشرط المتأخّر فی الشرعیّات - کالإجازة فی عقد الفضول ، و غسل المستحاضة باللّیل لصومها - إن کان بوجوده الزمانی شرطاً للحکم أو متعلّق الحکم ، فالإشکال وارد ، لکن الشرط فی هذه الموارد هو الشرط بوجوده الدهری ، و الوجود الدهری العقلی مقارن للمشروط و لیس بمتأخّر .

و توضیحه : إن الموجودات کلّها مجتمعة فی عالم التجرّد ، و هو عالم ما فوق الزمان ، المعبّر عنه أیضاً بعالم العقل و بوعاء الدهریات و وعاء المجرَّدات ، و حینئذٍ ، یکون بینها التقارن و لیس التقدّم و التأخّر .

و فیه :

إن الخطابات الشّرعیة ملقاة إلیٰ العرف ، فعلی فرض التسلیم بما ذکر من حیث أصل المطلب - و کلّه مخدوش - فإنّ العرف لا یفهم الوجود الدهری

ص:275


1- 1) و نقل المحقق العراقی عمّن سمع السید الشیرازی أنه ذکر ذلک علیٰ وجه الاحتمال .

أصلاً ، بل یری الموجود الزمانی ، فالإجازة الموجودة فی الزمان و فی عالم التحقّق ، هی المؤثّرة عند العرف العام . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه یعتبر فی الشرط أن یکون مقدوراً للمکلَّف ، فالغسل من المرأة مقدور إن وجب علیها إیجاده فی الزمان و هو اللیل ، و أمّا الموجود فی دعاء الدهر ، فأیّ قدرة لها علیه کی تکون مخاطبةً به ؟

رأی المحقق النراقی

ما ذکره المحقق النراقی (1) ، من أنّ الشرط لا بدّ و أنْ یتحقّق ، فلا ریب فی لزومه ، أما اشتراط کونه مقارناً للمشروط فغیر لازم .

و فیه :

إن هذا التزام بالإشکال ، لأن البحث هو فی أن المتأخّر شرط أو لا ؟ إن لم یکن جائزاً کونه شرطاً ، فلا یعقل أخذه من قبل الحاکم ، لکنّ أخذه له دلیلٌ علیٰ دخله فی حکمه و تأثیره فی اتّصاف الصّوم من المرأة بالصّحة ، فکیف تحقّق الصحّة للصّوم الآن ، و شرطه - و هو الغسل - یأتی فی اللّیل ؟ کیف یحصل الأثر قبل مجیء المؤثّر و تحقّقه ؟

رأی السید الیزدی

ما ذکره السیّد فی (حاشیة المکاسب) (2) من أنّ الشرط السابق و کذا الشرط المتأخّر ، موجود فی التکوینیّات و فی الشرعیّات ، مثلاً نقول : هذا الیوم أوّل الشهر ، فیوصف بالأوّلیة و تحقق له بالفعل ، مع أنّ کلّ أوّلٍ فله آخر ، و آخر الشهر لم یوجد بعدُ ، و مع کونه معدوماً فالأوّل موجود . و کذا فی

ص:276


1- 1) مناهج الأصول و الأحکام : 50 .
2- 2) حاشیة المکاسب 173/2 ، الطبعة المحققة .

المرکّبات الخارجیّة ، نری أنّ الجزء الأخیر دخیل فی صحة الجزء الأوّل و ترتّب أثره علیه ، مع أنه غیر موجود حین وجود الأوّل ... هذا فی العقلیّات و التکوینیّات ، و کذلک الحال فی الشرعیّات ، حیث یکون الإیجاب مقدمةً لترتّب الملکیّة علیٰ القبول المتأخّر عن الإیجاب ... .

و حلّ المطلب هو : إن المستحیل کون المعدوم مؤثّراً ، و أمّا کونه دخیلاً فی التأثیر ، فلا استحالة فیه ، بأنْ یکون الأثر من المقارن ، و یکون المتأخّر دخیلاً فی تأثیر المقارن ، فصیغة « بعت » هی المؤثّرة فی الملکیّة ، لکنَّ تأثیر « الباء » موقوف علیٰ مجیء « التاء » ، و تأثیر « التاء » موقوف علیٰ تقدّم « الباء » علیها ، فکان المتقدّم دخیلاً فی تأثیر المتأخر و کذا العکس ... فهو دخلٌ فی التأثیر ، و لیس هناک علیّة و معلولیّة .

و فیه :

کیف یکون المعدوم دخیلاً فی تأثیر الموجود غیر إخراجه الأثر من المؤثّر من القوّة إلیٰ الفعل ، أ لیس للخروج من القوّة إلیٰ الفعل منشأ ؟ إن قلتم :

لا ، لزم صدور المعلول من غیر علّة ، و هو محال ، و إن قلتم : نعم ، فکیف یکون الخروج من القوّة إلیٰ الفعلیّة فی زمانٍ سابق علیٰ وجود المخرج من القوّة إلیٰ الفعلیّة ؟ کیف یکون حصول الموجود من المعدوم ؟

رأی صاحب الکفایة

ما ذکره المحقق الخراسانی - بعد أنْ عمّم الإشکال للمقدّمة السّابقة أیضاً ، ببیان : أنّ الإشکال فی المتأخّر هو تأخّر جزء العلّة عن المعلول ، و تقدّم جزئها کذلک ، لأن العلّة و المعلول متقارنان .

و قد أشکل علیه الاستاذ - کما جاء فی (المحاضرات) أیضاً : بأنّ

ص:277

المقدّمة السابقة مُعدّة و لیست بعلّة و لا جزءاً للعلّة ، حتی تکون مؤثّرة ، و تقدّم المُعدّ لا محذور فیه ، فالإشکال یختصّ بالشرط المتأخّر - و لرأیه تقریبات :

التقریب الأوّل : إن الحکم أمر نفسانی ، و لیس بخارج عن افق النفس ، - سواء کان الإرادة المبرزة کما علیه المحقق العراقی ، أو الاعتبار الناشئ من الإرادة کما هو مسلک المحقق الخراسانی - و مقتضی البرهان العقلی القائم علیٰ ضرورة السنخیّة بین العلّة و المعلول و المقتضی و المقتضیٰ ، هو أن تکون مبادئ الحکم نفسانیّة أیضاً ، و إذا کانت کذلک ، فلیس مقدّماته و مبادؤه إلّا لحاظ الموضوع و المحمول و قیود الموضوع ، و التصدیق بالغایة ، و لا ریب فی أنّ هذه کلّها مقترنة بالحکم و متحققة فی ظرفه ، و لیست بمقدّمة علیه و لا متأخرة عنه .

إذن ، رجع الشرط المتأخّر إلیٰ المقارن ، و ارتفع الإشکال فی مثل الإجازة و نحوها .

التقریب الثانی : إنه لا شکّ فی أن الباعث و المحرّک فی الإرادة هو العلم و الإدراک ، و أمّا الخارج فلیس بمؤثّر یقیناً ، و لذا لو کان الماء موجوداً فی الخارج و لا یعلم به الإنسان - و هو عطشان - لم یتحرّک نحوه و مات عطشاً ، فالمؤثّر بالوجدان للتحرّک هو الصّورة العلمیّة و الوجود اللّحاظی ، وعلیه ، فالمؤثّر فی الملکیّة هو الوجود العلمی للإجازة و لیس الوجود الخارجی ، و المفروض تحقّق الوجود العلمی فی ظرف المعاملة .

التقریب الثالث : إن الحکم لیس له مادّة و صورة ، فهو یتحقّق بمجرّد تحقق العلّة له ، و هو الفاعل و الغایة - بخلاف الموجودات الخارجیّة المادّیة ، فإنّ تحقّقها یکون بالمادّة و الصّورة و الفاعل و الغایة - و إذا کان المحقّق للحکم

ص:278

هو العلّة الفاعلیّة و العلّة الغائیّة فقط ، فمن المعلوم أنّ الغایة تتصوّر من الفاعل حین الحکم ... .

إشکال المیرزا علیٰ صاحب الکفایة

و قد أشکل المیرزا (1) علیٰ صاحب (الکفایة) فیما ذکره فی حلّ مشکل الشرط المتأخّر ، و یعتمد إشکاله علیٰ مقدّمتین :

(المقدمة الأولیٰ) فی الفرق بین القضیّة الحقیقیّة و القضیّة الخارجیّة ، و أنّ القیود المأخوذة فی موضوع القضیّة الخارجیّة ترجع إلیٰ علّة التشریع و الحکم ، دون القضیّة الحقیقیّة .

و توضیح ذلک : إن العنوان المأخوذ فی القضیّة الخارجیّة إنما هو عنوان مشیر و لیس هو الموضوع للحکم ، بل الموضوع هو الفرد المشار إلیه بالعنوان ، فلمّا یقال : أکرم من فی المدرسة ، أو یقال : قتل من فی العسکر ، فإنّه لا موضوعیّة للعنوان المذکور ، بل لزید و عمرو و هکذا غیرهما من الأشخاص ، فکان الحکم متوجّهاً إلیهم ، و علّة الحکم هو العنوان ، مثل الکون فی المدرسة و العسکر . أمّا فی القضیّة الحقیقیة ، فإن موضوع الحکم نفس العنوان ، فإذا قال : أکرم من کان صدیقی ، ترتّب الحکم علیٰ عنوان « الصداقة » و کان تطبیقه علیٰ المصادیق بید المکلّف ... بخلاف القضیّة الخارجیّة حیث یکون تطبیقه بید الحاکم .

و علی هذا ، فکلّ القیود المأخوذة فی طرف الموضوع فی القضیّة الخارجیّة ترجع إلیٰ العلّة للحکم ، و حینئذٍ ، یکون ظرف فعلیّة الحکم متّحداً مع ظرف الإنشاء ، بخلاف الحال فی القضیّة الحقیقیّة ، إذ یکون ظرف فعلیّة

ص:279


1- 1) أجود التقریرات 325/1 - 326 .

الحکم متأخّراً عن ظرف الإنشاء ، لأن القید - کالاستطاعة فی الحج - قد لا یکون عند الإنشاء متحقّقاً .

(المقدمة الثانیة) فی مراتب الحکم ، و هی عند صاحب (الکفایة) أربع :

الملاک ، و الإنشاء ، و الفعلیّة ، و التنجیز ، و أمّا عند المیرزا فاثنتان فقط ، لأنه یری أنّ الملاک علّة للحکم ، و علّة الشیء خارجة عن الشیء ، و أن التنجیز إنما هو حکم العقل باستحقاق العقاب علیٰ المخالفة ، فلیس من مراتب الحکم ...

و یبقی الإنشاء و الفعلیّة ، أمّا الإنشاء ، فهو مرحلة الجعل ، و أمّا الفعلیّة فهو مرحلة فرض وجود الموضوع و قیوده ، ففی قوله تعالی : «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ ... » (1)یجعل الحکم علیٰ الموضوع المفروض وجوده و هو المستطیع ، و إن لم یکن موجوداً عند الإنشاء أصلاً ... هذا فی مرحلة الإنشاء . و أمّا مرحلة الفعلیّة ، فلا بدّ من وجوده فی وعائه المناسب له من الخارج أو الاعتبار .

(و بعد المقدّمتین) یظهر أنّ الشرط فی القضیّة الحقیقیّة لیس إلّا شرط الحکم و الجعل ، لما تقدّم من اتّحاد الظّرف فیها بین الإنشاء و الفعلیّة ، لکن القضایا الشرعیّة کلّها حقیقیّة ، و فی الحقیقیّة شرائط للجعل و شرائط للمجعول ، لاختلاف الظرف کما تقدّم ، و لذا نری أن الحکم مجعول قبل البلوغ ، لکنّ فعلیّته هی بعد البلوغ ، و علی هذا ، فیرد علیٰ المحقق الخراسانی الإشکال بأنه :

قد خلط بین شرائط الجعل و شرائط المجعول ، و بین القضیّة الخارجیّة و القضیّة الحقیقیّة ، فإنّ الذی ذکره إنما یتمّ فی مرحلة الجعل و الإنشاء ، فهناک یتحقّق لحاظ الموضوع و قیوده و لحاظ الحکم و یتحقق الإنشاء ، و ذلک شرط

ص:280


1- 1) سورة آل عمران : 97 .

حصول الجعل ، و لیس فی القضیّة الخارجیّة شیء سوی ذلک ، إلّا أنّ فی القضیّة الحقیقیّة طائفتین من الشرائط ، فشرائط الجعل و الإنشاء غیر شرائط المجعول و مرحلة فعلیّة الحکم ، فإنّ شرط فعلیّة الحکم هو الوجود الخارجی للموضوع المتصوّر بقیوده ، و إذا کان کذلک ، صار الشرط موضوعاً ، و حینئذٍ ، فلو تأخّر الشرط لزم تقدّم الحکم علیٰ موضوعه ، و هذا محال .

و الحاصل : إن کلامنا فی شرائط الحکم ، أی فی شرائط فعلیّته ، لا فی شرائط الإنشاء و الجعل له ... و الوجود النفسانی علّة للجعل ، و لیس بعلّةٍ للفعلیّة ، بل العلّة للفعلیّة هی الوجود الخارجی الواقعی للموضوع فی افق الاعتبار .

إشکال المحاضرات علیٰ المیرزا

و قد أورد علیه فی (المحاضرات) بما حاصله (1) : إن الأحکام الشرعیّة أمور اعتباریّة ، و لا تخضع إلّا لاعتبار من بیده الاعتبار ، فلا تخضع لقوانین الموجودات التکوینیّة ، و علی هذا ، فما یسمّی بالسبب أو الشرط - کالاستطاعة بالنسبة إلیٰ الحج ، و البلوغ بالنسبة إلیٰ التکلیف ، و نحو ذلک - لیس بسببٍ أو شرط للحکم ، و إنما هو الاعتبار فقط ... و إذا کان کذلک ، دار الأمر مدار کیفیّة الاعتبار ، فکما یمکن للشارع جعل الحکم علیٰ موضوع مقیَّد بقیدٍ فرض وجوده فی زمان فعلیّة الحکم و مقترناً لها ، کذلک یمکن له أن یجعل الحکم علیٰ موضوع مقیّدٍ بقیدٍ فرض وجوده ، متقدّماً علیٰ فعلیّة الحکم أو متأخراً عنها .

و علی الجملة ، فإنّ اللّازم فی القضیّة الحقیقیّة کون الموضوع مفروض

ص:281


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 314/2 - 315 .

الوجود بالفعل خارجاً بجمیع قیوده و شرائطه ، أمّا أن یکون الموجود المفروض کذلک مقارناً فی الزمان لفعلیّة الحکم ، فلا دلیل علیه ، و لیس بلازم ، لأن الحکم أمر اعتباری یدور مدار کیفیّة الاعتبار ، و مثاله فی العرفیّات هو الحال فی الحمّامات العمومیّة ، فإنّ الحمّامی یرضی الآن بدخول الشخص إلیٰ الحمّام و استحمامه فیه ، بشرط أنْ یدفع الاُجرة لدی الخروج ، فکان الرّضا منه فعلیّاً و الشرط متأخّر ... و تأثیر الإجازة فی بیع الفضول من هذا القبیل ، فإنّ الشارع یرضی بترتّب الأثر علیٰ هذه المعاملة ، لکن بشرط مجیء الإجازة ، فتکون الإجازة اللّاحقة محقّقة لهذه الحصّة من الملکیّة ، لأن الشرط أثره تحقق طرف الإضافة فی الملکیّة .

توضیح الأستاذ رأی الکفایة

إن الکلام المذکور سابقاً من صاحب (الکفایة) ، هو فی الأصل لحلّ مشکلة الشّرط المتأخر للمأمور به ، أی الواجب ، فأخذه المحقق العراقی ، و جعله حلّاً للمشکلة فی الواجب و فی الوجوب ... ثم أصبح هذا الطریق أساس مبنی المتأخرین فی حلّ مشکلة الشرط المتأخّر ... و نحن نوضّح کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه فی نقاط :

الأولیٰ : إن العناوین منها ذاتیّة و منها غیر ذاتیّة ، فالذاتی ما لا یقبل التغیر ، کإنسانیّة الإنسان ، فهی لا تتغیّر بتغیّر الاعتبار و لا تختلف ، و غیر الذاتی یقبل ذلک ، کالتعظیم ، فقد تعتبر الحرکة الکذائیّة تعظیماً ، و قد لا تعتبر بل تعتبر هتکاً .

الثانیة : تارةً : یکون للشیء دخل فی التأثیر ، و اخریٰ : یکون له دخل فی التحدید ، فما کان من القسم الثانی یمکن أن یکون حین دخله فی التحدید

ص:282

معدوماً ، بخلاف القسم الأوّل ... مثلاً : یتکلّم الإنسان بکلامٍ یکون محدّداً لکلامٍ سابقٍ علیه لغیره ، و یعطیه عنوان « السؤال » ، فالکلام الذی جاء متأخّراً و اتّصف ب « الجواب » قد أثّر فی الکلام السّابق فکان « سؤالاً » ، فی وقت لم یکن « الجواب » موجوداً .

الثالثة : إنّ الحسن و القبح یختلفان بالوجوه و الاعتبارات ، فقد یتّصف الانحناء من الإنسان بالحسن ، إذا کان تواضعاً ، و قد یتّصف بالقبح إذا کان تملّقاً ، و قد لا یتّصف بشیء منهما ، کما إذا کان لرفع شیء من الأرض مثلاً .

و نتیجة هذه النقاط هی : إن المؤثّر فی الملاک لیس هو الشرط أصلاً ، و إنما دخله فیه حصول الإضافة و تخصیص العنوان المطلق به ، فکما أنّ الإذن السّابق یحصّص البیع اللّاحق و یحدّده ، و بذلک یکون البیع الصّادر لاحقاً من المأذون حصّةً من البیع ، و یصیر مضافاً إلیٰ المالک الآذن ، مع أنّ الإذن معدوم عند ترتّب الأثر علیٰ البیع ، کذلک الإذن اللّاحق ، فإنه محدّد و موجد للحصّة و محقّق للإضافة ، فکما یضاف البیع إلیٰ الإجازة السّابقة و صاحبها ، کذلک یضاف إلیٰ الإجازة اللّاحقة و صاحبها ... و کذلک الحال فی الغسل ، فإنّ أثره تحدید طبیعة الصوم بتلک الحصّة التی کانت موضوع الوجوب .

و مثال إفادة الشرط للتحدید و التحصیص فی العرفیّات ، هو المثال المذکور فی التکلّم ، و أیضاً مثل الاستقبال ، فإنّ الخروج إلیٰ خارج البلد مثلاً یختلف بالوجوه و الاعتبارات و الأسباب ، و أحدها أن یکون تکریماً للقادم ، فالخروج بهذا القصد حصّة من الخروج - فی مقابل الخروج بقصد التجارة مثلاً قد تعنون بعنوان الاستقبال ، لکونه قد اضیف إلیٰ قدوم الشخص مع أنه غیر قادم بعدُ ، فکان الذهاب إلیٰ خارج البلد - الذی هو عنوان عرضی لا ذاتی

ص:283

- معنوناً بعنوان الاستقبال بسبب ذاک الأمر المتأخّر ، و هو قدوم الشخص ...

فأصبح الأمر المتأخّر غیر الحاصل فعلاً ، محصّصاً و محدّداً للعنوان المتقدّم - و هو الذهاب - و موجباً لحسنه ، و محقّقاً للإضافة بینهما .

و هذا شرح لقول المحقّق الخراسانی بأن الشروط أطراف الإضافة فی الشروط الشرعیّة ، و لکلام المحقق العراقی من أن المؤثر محدود و الشروط وظیفتها التحدید ، و لیست بنفسها مؤثّرةً کی یقال بأن المعدوم لا یؤثّر فی الموجود .

إشکال الاستاذ

ثم أورد علیه الاستاذ : بأنّ الإضافة لیست بأمر اعتباری کی یقال بأنه یختلف بالوجوه و الاعتبارات ، بل هی أمر واقعی ، و المتضایفان متکافئان فی القوّة و الفعل ، و لا یعقل وجود الإضافة و المضاف فی وقتٍ یکون طرف الإضافة معدوماً ، فالإضافة بلا طرفٍ خلف .

و النقض بالزمان ، من الأمس و الیوم و الغد ، حیث یضاف الیوم إلیٰ الغد و إلی الأمس مع انعدامهما .

قد أجاب عنه الشیخ الرئیس فی الشفاء (1) ، بأنّ تلک الإضافة ذهنیّة ، و فی الذّهن یجتمع السّابق و اللّاحق .

لکنّ المشکلة هی : أن هذه الإضافة خارجیّة .

فقیل : بأنّ الزمان وجود واحد متصرّم .

و فیه : و إنْ ذکره المحقق الاصفهانی (2) ساکتاً علیه : إن الحرکة وجود

ص:284


1- 1) الشفاء ، الطبیعیّات 148/1 - 150 ، الفصل العاشر ، فی الزمان .
2- 2) نهایة الدرایة 46/2 .

واحد ، لکنّ الإنسان عند ما یتحرّک من مکانٍ إلیٰ مکان ، فهو متوسّط بین موجودٍ و معدوم ، فکیف یتحقق إضافة الموجود إلیٰ المعدوم ؟

و علی الجملة ، فإن الحلّ الذی ذکره المحقق الخراسانی - و عمّمه المحقق العراقی - لا یجدی نفعاً لمشکلة الشرط المتأخّر ، لأنّ الإضافة بلا طرفٍ محال .

الإشکال علیٰ کلام الحکیم

و بما ذکرنا یتضح الإشکال فیما ذکره السیّد الحکیم فی (حاشیة الکفایة) (1) و هو ما ذهب إلیه فی (حاشیة المکاسب) (2) فی الکشف ، فقال بأن تصویر الإضافة و المضاف مع عدم تحقّق المضاف إلیه غیر معقول ، لکنّ المهمّ أنّه قد وقع الخلط بین الشرط المقصود هنا ، و الشرط الذی هو جزء من أجزاء العلّة ، فالشرط هناک مؤثر إمّا فی فاعلیّة الفاعل و إمّا فی قابلیّة القابل ، و هکذا شرط یستحیل تأخّره . لکن المراد من الشرط هنا لیس بهذا المعنی ، بل بمعنی القید ، و التقیید یمکن بالأمر السّابق و اللّاحق و المقارن .

توضیح النظر : إنّ التقیید یقابل الإطلاق ، و هو لا یکون بلا ملاک علیٰ مسلک العدلیّة ، و إذا کان بملاکٍ فهو ذا دخلٍ و أثرٍ ، فإمّا یکون دخیلاً فی الملاک ، و إمّا یکون دخیلاً فی فعلیّة الملاک و حصول الغرض .

إذن : إما یکون بلا دخل أصلاً ، فهذا خلف ، لأنه قید ، و إمّا یکون ذا دخلٍ و أثر ، فکیف یکون مؤثّراً فی الموجود و هو معدوم ؟ فیعود الإشکال .

مثلاً : الزّوال قید لوجوب صلاة الظهر ، فما لم یتحقق لا ملاک للصّلاة

ص:285


1- 1) حقائق الأصول 229/1 .
2- 2) نهج الفقاهة : 230 .

و لا غرض متعلِّق بها ، و الطّهارة قید للواجب ، و هو الصّلاة ، فما لم تتحقّق الطّهارة لم تتحقّق فعلیّة الغرض من الصّلاة و إنْ کانت ذا ملاک .

فإن أراد السیّد الحکیم من کون الشرط المتأخر قیداً : إنه قید للحکم ، کأنْ یترتب الأثر علی عقد الفضول من حینه بالإجازة اللّاحقة من المالک ، فهو دخیل فی الملاک ، فکیف یکون الشرط المتأخّر دخیلاً فی الملاک و هو متقدّم ؟ و إنْ أراد منه کونه قیداً للواجب ، کما فی الغسل بالنّسبة إلیٰ صوم المستحاضة - فإنّه قید للصّوم نفسه لا لوجوبه ، لأن وجوبه متحقّق بدلیله ، غیر أن الصوم لا یؤثر إلّا مع الغسل ، ففعلیّة الأثر علیه متوقّفة علیٰ الغسل - فیکون دخیلاً أیضاً ، و دخل المعدوم فی الموجود محال .

الإشکال علیٰ المحاضرات

و أمّا ما فی (المحاضرات) تبعاً للمحقق العراقی ، من القول بأنّ أثر الشرط المتأخّر هو بیان الحصّة و بیان الحصّة کما یکون من المقارن و المتقدّم ، کذلک یمکن من المتأخر أیضاً ، کما فی هذین المحقّقین و حاصل الکلام : کون الشرط المتأخر کاشفاً و بیاناً ، و لیس دخیلاً فی تحقق مقتضی العقد ، لیرد اشکال تأثیر المعدوم فی الموجود .

ففیه : إن هذا ینافی مختاره فی الفقه ، من أن الإجازة اللّاحقة دخیلة لا کاشفة فقط (1) . علیٰ أنَّ التخصّص أمر واقعی و لیس باعتباری ، فالإیمان یحصّص الرقبة واقعاً ، و الغسل المتأخر یحصّص الصّوم المتقدّم واقعاً ، و التحصّص أثرٌ ، فکیف یؤثّر المعدوم هذا الأثر ؟

ص:286


1- 1) مصباح الفقاهة 134/4 .
رأی السید البروجردی
اشارة

و قال السیّد البروجردی (1) بأنّ الشرائط علیٰ قسمین ، فمن الشرائط : ما له دخل فی المأمور به ، بأنْ یکون قیداً له بما هو مأمور به ، کالوضوء بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، فإنّها لولاه لیست مورداً للأمر ، مع أنه غیر دخیل فی ذاتها . و حلّ المشکلة فی هذا القسم هو : إنّ اشتراط الصّلاة و تقیّدها بالوضوء مقارنٌ للصّلاة و لیس متأخّراً ، و لمّا کان التقیّد و الاشتراط من الامور الانتزاعیّة ، فإن الواجب هو نفس القید ، و لازم ذلک هو القول بالوجوب النفسی للقیود و الشروط ، سواء تقدّمت أو تأخّرت .

قال الأستاذ :

إنه فی هذا القسم لم یأتِ بشیء جدید ، فالمطلب نفس مطلب المیرزا ، و قد تقدّم ما فیه من کون الشروط أجزاءً ، و بحثنا فی الشرط المتأخّر لا الجزء المتأخّر .

(قال البروجردی) القسم الثانی من الشرائط : ما له دخل فی انطباق عنوان المأمور به علیٰ معنونه ، حیث یکون المأمور به من العناوین الانتزاعیّة لا فی تحقق عنوان المأمور به ، و لا مانع من أن یکون الشیء المتأخّر دخیلاً فی ذلک .

قال الأستاذ :

و فی هذا القسم أیضاً لم یأتِ بشیء جدید ، فالمطلب نفس مطلب المحقق الخراسانی ، و مثاله الاستقبال ، و قد تقدّم أنه لا یحلّ المشکل فی اعتبار الغسل بالنسبة إلیٰ صوم المستحاضة ، فإنّ عنوان الصّوم حاصل له و لا

ص:287


1- 1) نهایة الأصول : 152 - 153 .

دخل للغسل ، إنما الکلام فی توقف صحّته علیٰ الغسل ، فکیف یکون دخیلاً فیها و هو معدوم ؟

رأی المحقق الاصفهانی و تبعه المحاضرات
اشارة

و فی (المحاضرات) إضافةً إلیٰ ما تقدّم : إن الشروط فی الاعتباریّات تختلف عنها فی التکوینیّات ، کالإحراق مثلاً ، فإنها فی الاعتباریّات قیودٌ و تقیّدات ، و التقیّد کما یکون بالسّابق و المقارن ، کذلک یکون باللّاحق ، و مثاله رضا الحمامی ، کما تقدّم .

قال الأستاذ :

أصل المطلب من المحقق الأصفهانی ، فإنّه جعل الامور ثلاثة :

العینیّات ، و الانتزاعیّات ، و الجعلیّات ، و قال : دخل المتأخّر المعدوم فی الاولی و الثانیة غیر معقول ، أمّا فی الثالثة ، فمعقول .

لکن فی (المحاضرات) خلط الاعتباریات بمثل رضا الحمّامی ، فإنّ رضا الحمّامی لیس من الامور الاعتباریة ، بل هو صفة نفسانیّة ، و سیأتی وجه التأثیر فیه .

و أمّا قوله : بأنّه قید و تقیّد .

فنقول : هل یوجد تأثیر و دخلٌ للقید أو لا ؟ إن کون الشیء قیداً لا یکون بلا ملاک ، فلا بدّ و أنْ یکون له خصوصیّة حتی یکون قیداً ، کالإیمان بالنسبة إلیٰ الرّقبة ، فإنْ کان بملاک ، وقع البحث فی التقیید ، هل أنه قید للحکم أو قید للمأمور به ؟ و حینئذٍ یعود الإشکال ، لأنه - سواء کان الأول ، کالإجازة بالنسبة إلیٰ البیع ، أو الثانی ، کالوضوء بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، و الغسل بالنسبة إلیٰ الصّوم من دخل المعدوم فی الموجود .

ص:288

و أمّا رضا الحمامی بغسل الشخص فی الحمّام ، فلیس مشروطاً بدفع الاجرة فیما بعد ، و إنما هو صفة نفسانیّة تحصل من علم الحمامی بتحقّق دفع الشخص الاُجرة فیما بعد .. فهی منبعثة من العلم المقارن لها ، و لذا لو لم یکن عنده هذا الرضا لما سمح بالاغتسال إلّا مع أخذ الاجرة من قبل ... فمثال رضا الحمّامی من صغریات ما ذکره المحقّق الخراسانی من أن الشرط فی الامور النفسانیة هو العلم المقارن بها ، و إنْ کان المعلوم متأخّراً .

و أمّا معقولیّة دخل المعدوم فی الموجود فی الجعلیّات - کما ذکر المحقّق الأصفهانی - بأنْ یکون الأمر المتأخّر دخیلاً فی حصول التخضّع و التخشّع للمولی ... فنعم ، فالاحترامات و نحوها من الامور الاعتباریّة یعقل دخل الأمر المتأخّر فی الأمر السّابق فیها ، و حصول عنوان الخضوع و الخشوع له ، بل إنه واقع إثباتاً ، و قد سبقه إلیٰ ذلک المحقق الخراسانی ، و مثّل له بالاستقبال کما تقدّم .

لکنّ الکلام مع المحقق الأصفهانی فی تطبیق الکبری المذکورة علیٰ مثل الغسل للمستحاضة ، إذ کیف یکون الصّوم منها - و هی علیٰ حال القذارة - متعنوناً بعنوان الخضوع و الخشوع من جهة تعقّبه بالغسل ... فإنّ العقلاء لا یرون ذلک ، بل الشارع نفسه یأمر بالتطهّر ثمّ العبادة و الخضوع و الخشوع للّٰه...

و هذا مورد البحث ، و أنه کیف یکون الغسل المتأخّر سبباً للطّهارة حین الإتیان بالعمل المتقدّم ؟

فما ذکره المحقق الأصفهانی لا یحلّ المشکلة .

هذا تمام الکلام فی الطرق المذکورة لحلّ المشکلة ، و قد عرفت أنّ شیئاً منها لا یحلّ مشکلة الشرط المتأخّر ، بل جاء عن السیّد الاستاذ أنّه قال : « و ما

ص:289

قیل فی تصحیحه من الوجوه التی عرفتها لا تغنی و لا تسمن من جوع » (1) .

تحقیق الاستاذ فی الشّرط المتأخّر

و من هنا ، فقد سلک شیخنا الاستاذ مسلکاً آخر فی مسألة الشّرط المتأخّر ، فقال دام بقاه : أمّا فی غسل المستحاضة فلا مشکلة ... لأنّ الفتوی باشتراط صومها بالغسل فی اللیلة الآتیة لا مستند لها أصلاً ، لأنّ صحیحة ابن مهزیار :

« کتبت إلیه : امرأة طهرت من حیضها أو دم نفاسها فی أول یوم من شهر رمضان ، ثم استحاضت فصلَّت و صامت شهر رمضان کلّه ، من غیر أن تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لکلّ صلاتین ، هل یجوز صومها و صلاتها أم لا ؟ فکتب علیه السلام : تقضی صومها و لا تقضی صلاتها ، لأن رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله کان یأمر المؤمنات من نسائه بذلک » (2) .

غیر واضحة الدلالة علیٰ اعتبار الغسل و اشتراط صحّة الصوم به ، بأن یؤتی به فی اللّیلة اللّاحقة للصوم .

و أمّا الإشکال فیها بالمنافاة لما دلّ من الأخبار و غیرها علیٰ کون الزهراء الطاهرة علیها السلام بتولاً ، و بأنها تدلّ علیٰ التفصیل بین الصّوم و الصّلاة ، و هو خلاف الإجماع القطعی ، فیمکن دفعه بالتفکیک فی الحجیّة .

إنما الکلام فی قضیة إجازة المالک فی المعاملة الفضولیّة ، و لا بدّ فیها من لحاظ الأدلّة .

إنّه لا ریب فی أن مقتضی الظهور الإطلاقی للتقیید بأیّ قیدٍ ، و الاشتراط

ص:290


1- 1) منتقی الاصول 127/2 .
2- 2) وسائل الشیعة 349/2 الباب 41 من أبواب الحیض ، رقم 7 .

بأیّ شرطٍ من الشروط ، هو المقارنة بین المقیَّد و القید ، و الشرط و المشروط ... و لذا لا بدّ من إقامة دلیلٍ خاصٍّ علیٰ تأثیر الإجازة اللّاحقة فی البیع الواقع قبلُ من طرف الفضول .

فإن ارید تصحیح ذلک بالحقیقة العقلیّة الفلسفیة ، فهذا غیر ممکن ، لکنّ الفرق بین الحقیقة العرفیّة و الحقیقة العقلیّة واضح ، و لذا نری أنّ البخار - مثلاً - مباین للماء عرفاً مع أنه ماء بالحقیقة العقلیّة ، هذا من جهة ، و من جهةٍ أخریٰ ، فإنّ المدار فی الامور الاعتباریة ، کالزوجیّة و الملکیّة و غیرها من سائر أبواب العقود و الإیقاعات ، علیٰ الحقیقة العرفیّة العقلائیّة ، و حینئذٍ ، فإنْ أمکن تصویر الإضافة بین الإجازة اللّاحقة و البیع السّابق ، إضافةً حقیقیةً عقلائیةً ، انحلّت المشکلة ... فنقول :

تارة : یراد من الإجازة اللّاحقة أن تکون مؤثّرةً فی الملکیّة - التی هی الغرض من المعاملة - فهذا غیر معقول ، و اخریٰ : یراد منها تحصیص البیع و تحقیق الإضافة بینه و بین الإجازة اللّاحقة ... فهذا من الجهة العقلائیّة ممکن ، و الإشکالات إنما نشأت من جعل الإضافة حقیقةً عقلیّة ، و کذا جعل المضاف حقیقةً عقلیّة ، أمّا لو جعلنا المضاف حقیقةً عقلائیّة ، و کذا الإضافة فلا مانع ...

و المرجع فی مثله هو الارتکازات العقلائیّة .

إنه و إنْ کان المتضائفان متکافئین فی القوة و الفعل حقیقةً عقلیّةً ، لکنّ العقلاء یرون « السؤال » متّصفاً بهذا العنوان قبل مجیء « الجواب » حقیقیّةً عرفیّة ، مع کونهما متضایفین .

و أیضاً ، فإنّهم یضیفون « المجیء » إلیٰ « الغروب » إضافة حقیقةً عرفیّة ، مع أن الغروب مثلاً غیر متحقق ، و فی القرآن الکریم : «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ

ص:291

رَبِّکَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ » (1).

إنه لا مانع عقلاً من أنْ تحقق الإضافة و المضاف الآن ، و یکون مجیء المضاف إلیه فیما بعد ، بأنْ تکون الإجازة اللّاحقة طرفاً للمعاملة الواقعة الآن ، و المؤثر هذه الحصّة من المعاملة ... و هذا یرجع إلیٰ نظر صاحب (الفصول) من أنّ العقد المؤثّر هو العقد المتعقّب بالإجازة ، أی العقد بوصف تعقّبه بالإجازة منشأ للأثر ... و لکنّه مخالفٌ لظواهر الأدلّة الشرعیّة و للسیرة العقلائیة ، حیث یری العرف و العقلاء کون الأثر للإجازة و الرّضا اللّاحق ، لا للعقد المتّصف بوصف التعقّب بالرّضا و الإجازة ... فالشارع یقول «إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ » (2)و وجوب الوفاء إنّما یکون حیث یضاف العقد إلیٰ الشخص ، لأن معنیٰ « أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » (3)هو أوفوا بعقودکم .. فمشکلة النظر المذکور ترجع إلیٰ مقام الإثبات من هذه الجهة .

و فی مقام الثبوت أیضاً إشکال و هو : أنه کیف یمکن تحقق وصف « التعقب » للعقد قبل حصول الإجازة و تحقّقها ؟ لأن التعقب عنوان إضافی ، و تحققه موقوف علیٰ تحقق طرفه ... .

إذن ، فطریق صاحب الفصول و إن کان وجهاً من وجوه حلّ المشکلة من جهة الشرط المتأخر ، لکنْ لا یمکن المساعدة علیه ، لما یرد علیه من الإشکال ثبوتاً و إثباتاً ، فلا یصلح لتصحیح معاملة الفضول بالإجازة اللّاحقة ، علیٰ أساس أن تکون کاشفةً و طریقاً إلیٰ تحقّق الملکیّة للمشتری ... .

و التحقیق أنْ یقال :

ص:292


1- 1) سورة طه : 130 .
2- 2) سورة النساء : 29 .
3- 3) سورة المائدة : 1 .

إن الإجازة اللّاحقة لها دخل فی تحقق الملکیّة للمشتری ، لکنْ لا فی اعتبارها له ، لأنّ الاعتبار مقارن للإجازة ، بل إنها دخیلة فی المعتبر ، بأنْ تتحقّق الملکیة للمشتری ، فیکون مالکاً من حین العقد ، لکنّ الکاشف عن تحقّقها له هو الإجازة الواقعة فیما بعد ، فیکون اعتبار الملکیّة من حین الإجازة ، و المعتبر و هو الملکیّة - من حین العقد .

و توضیح ذلک : إنه ما لم تأتِ الإجازة ، فالعقد غیر منتسب إلیٰ المالک ، فإذا أجاز انتسب العقد إلیه ، و معنی إجازته للعقد : قبوله له علیٰ ما وقع علیه ، و المفروض وقوعه علیٰ أن تکون الدار مثلاً ملکاً من حین العقد للمشتری ، فالإجازة تتوجّه إلیٰ مقتضی العقد الواقع من قبل ... ثم إنّ الشّارع یمضی هذه الإجازة علیٰ نفس الخصوصیّة ، بأنْ یکون اعتبار الملکیّة للمشتری الآن و حین الإجازة ، و الملکیّة - و هی المتعلَّق للاعتبار - واقعةً حین العقد ... فلم یکن من تأثیر المعدوم فی الموجود ، و انحلّت مشکلة الشرط المتأخّر .. بناءً علیٰ الکشف .

و تبقی مشکلة اخریٰ : و هی أنّ مقتضی قاعدة السّلطنة و غیرها من أدلّة الملکیّة الاختیاریّة و القهریّة ، کون الدار ملکاً للمالک المجیز إلیٰ حین الإجازة ، لکنْ مقتضی «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » أن تکون الدّار ملکاً للمشتری من حین العقد ، بالبیان المذکور ، و حینئذٍ ، تجتمع ملکیّتان علیٰ المملوک الواحد فی الحدّ الفاصل بین العقد و الإجازة ، و لمن تکون النّماءات ؟

هنا تحیّر مثل المیرزا ، و جعل المقام من قبیل مسألة الخروج من الدار المغصوبة ، حیث قال بعدم امکان القول باجتماع الوجوب و الحرمة فی الخروج ، لأن کلّاً منهما تصرّف ، بل یجب الخروج للتخلّص من الغصب ...

ص:293

و نقض بذلک علیٰ مسلک المحقق الخراسانی .

لکنّ التحقیق هو الفرق بین الموردین ، للفرق بین الأحکام التکلیفیّة و الأحکام الوضعیّة ، إذ الأولیٰ تابعة للمصالح و المفاسد فی المتعلّقات ، و الثانیة تابعة للمصالح و المفاسد فی نفس الاعتبار ، فللخروج من الدار المغصوبة مصلحة تستلزم الوجوب و مفسدة تستلزم الحرمة ، زمانهما واحد ، و المتعلّق واحد ، فیلزم اجتماع الضدّین و هو محال ... فلا مناص من القول بوجوب الخروج و عدم حرمته ، لأنّ المرکب للحکمین واحد ، و هو غیر ممکن .

أمّا فیما نحن فیه ، فالمرکب - و هو الاعتبار - متعدّد ، فالاعتبار کان لملکیّة المشتری من السّابق إلیٰ الآن ، و هو اعتبار الفضول ، و لکنّ اعتبار المالک المجیز هو الملکیّة للمشتری من الآن ، أی حین الإجازة حتی وقت العقد .

هذا ... و المهمّ حلّ مشکلة الشرط المتأخّر ، و قد تحقق ذلک .

أمّا مورد الغسل لصوم المستحاضة - و لیس فی الفقه مورد آخر غیره یکون ما هو المتأخر شرطاً للمکلَّف به - فلا یساعده مقام الإثبات ، کما تقدّم .

قال الأستاذ فی الدورة السابقة :

و کلّ موردٍ فی الفقه قام الدلیل علیه إثباتاً ، فلا بدَّ من رفع الإشکال الثبوتی فیه بلحاظ الحقیقة العرفیّة و البناء علیها ، کما لو تزوّج المریض فی مرضٍ لا یبرأ منه ، فإنْ دخل صحّ النکاح و إلّا فلا ، فالدخول متوقّف علیٰ النکاح ، و النکاح علیٰ الدخول ، و هذا دور . و حلّ المشکلة هو : أنّ الدخول شرط متأخّر ، و من حین تحقق النکاح مع الدخول المتأخر تعتبر الزوجیّة ، فکان الدخول دخیلاً فی تحصّص الحصّة .

ص:294

و أیضاً : إذا مات المیّت غیر المسلم ، و ترک ابناً صغیراً له و وارث مسلم کبیر ، وجب علیٰ الکبیر الإنفاق علیٰ الصغیر حتی یسلم عند البلوغ ، فإذا أسلم حینذاک ، کان مالکاً لما ترکه المیّت من حین الموت ، و إن لم یکن هذا الولد الوارث مسلماً من ذلک الحین ... و إنْ لم یسلم عند البلوغ ، انتقل الإرث إلیٰ الوارث المسلم .

ص:295

ص:296

انقسام الواجب إلیٰ : المطلق و المشروط

اشارة

ص:297

ص:298

مقدّمات :

اشارة

لمّا فرغ صاحب (الکفایة) من تقسیمات مقدّمة الواجب ، شرع فی تقسیمات الواجب ، و جعل أوّلها : انقسامه إلیٰ المطلق و المشروط .

قال الأستاذ : فی هذا التقسیم مسامحة ، فإنّ کلّاً من الواجب و الوجوب ینقسم إلیٰ المطلق و المشروط ، مثال الأوّل : اشتراط الصّلاة أو إطلاقها بالنسبة إلیٰ الطهارة . و مثال الثانی : اشتراط وجوب الصّلاة أو اطلاقه بالنسبة إلیٰ زوال الشمس ... .

لکنْ بحسب الظهور الإثباتی یکون الشرط عائداً إلیٰ الوجوب ، و الانقسام حینئذٍ من انقسامات الوجوب لا الواجب .

و علی أی حالٍ ، فههنا مقدّمات :

المقدمة الأولیٰ : (المراد من المطلق و المشروط هو المعنیٰ اللّغوی)

المراد من « المطلق » و « المشروط » فی عنوان البحث هو المعنی اللّغوی للکلمتین ، أی : الاشتراط هو الارتباط ، کارتباط الصّلاة بالزوال مثلاً ، و الإطلاق عبارة عن عدم الارتباط و الإناطة و التقیید ، ، کما فی الصّلاة بالنسبة إلیٰ الإحرام مثلاً .

و أمّا ما ذکروه من التعاریف للإطلاق و الاشتراط فکلّه مخدوش ، و المقصود منها توضیح المعنی اللّغوی و العرفی ... .

ص:299

المقدمة الثانیة : (فی أنّ الإطلاق و الاشتراط إضافیّان)

إن الإطلاق و الاشتراط أمران إضافیّان و لیسا بحقیقیّین ، إذ المطلق الحقیقی لا وجود له ، و کذا المشروط بکلّ شرطٍ ... و الحاصل : إنّ الواجبات کلّها مشروطة ، سواء العقلیّة ، کوجوب معرفة الباری تعالی ، فإنّه حکم عقلی مشروط بالقدرة ، أو الشرعیّة ، کوجوب الصّلاة و الصّوم ... فإنها مشروطة بالبلوغ و العقل و غیرهما من الشروط العامّة .

فالمراد من الواجب أو الوجوب المطلق أو المشروط کونه مطلقاً أو مشروطاً بالنسبة إلیٰ شیء ... .

المقدمة الثالثة : (هل المراد إطلاق الهیئة أو المادة ؟)
اشارة

تارةً یطلق « الإطلاق » ، و یراد منه « إطلاق المادّة » ، و مرادهم منها « الواجب » . و أخریٰ : یطلق « الإطلاق » ، و یراد منه « إطلاق الهیئة » ، و مرادهم منها « الوجوب » .

إن مثل « صلّ » مرکّب من مادّةٍ هی « الصّلاة » و من هیئةٍ هی « هیئة افعل » . و الشرط یرجع تارةً : إلیٰ طرف الهیئة فیقال : الوجوب مقیداً و مشروط بکذا . و اخریٰ : یرجع إلیٰ المادّة فیقال : هذا الواجب مشروط بکذا ... لکنْ لا یخفی : أنه متیٰ تقیّدت الهیئة ، و کان الوجوب مشروطاً بشرطٍ ، تقیّد الواجب بتبعه قهراً ، فاشتراط وجوب صلاة الظهر بالزوال یخرج الصّلاة - أی : الواجب - عن الإطلاق بالنسبة إلیٰ الزوال ، فلا تقع صلاة الظهر قبله بعد تقیید وجوبها به ... و هذا ما یحصل قهراً ... أمّا فی حال العکس فلا ، فلو اشترط المولی فی الواجب شرطاً و قیّده بقیدٍ ، فذلک لا یوجب التقیید و التضییق فی الوجوب ، کاشتراط الصّلاة بالطهارة ، فإنّه لا یخرج وجوبها عن التوسعة .

ص:300

مقتضی القاعدة رجوع القید إلیٰ الهیئة

و بعد الفراغ من المقدّمات و التمهیدات ، نقول :

إنّه لا ریب فی أن ظواهر الألفاظ و مقتضی القواعد النحویّة : رجوع القید إلیٰ الهیئة أی الوجوب ، فمعنیٰ قوله : إن جاءک زید فأکرمه ، هو اشتراط وجوب إکرامه و تقیّده بمجیئه ، و کذا فی : إذا زالت الشمس فصلّ ، و فی «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً » ، فإن فی جمیع هذه الموارد یکون القید عائداً علیٰ الهیئة و مضیّقاً لمدلولها ، سواء قلنا بأن مدلولها البعث أو الطلب أو اعتبار اللّابدیّة ... هذا هو مقتضی معنی الکلام بحسب مقام الإثبات .

الأقوال فی المسألة

لکنَّ الشیخ الأعظم - رحمه اللّٰه - مع إقراره بذلک ، یریٰ استحالة رجوع القید إلیٰ الهیئة ، و ضرورة رجوعه إلیٰ المادّة ، و أنه لا بدّ من رفع الید عن مقتضی مقام الإثبات بمقتضی البرهان العقلی .

و خالفه المحقّق الخراسانی و أتباعه .

و ذهب المیرزا إلیٰ رجوعه إلیٰ المادّة المنتسبة .

فالأقوال ثلاثة .

قول الشیخ بامتناع رجوع القید إلیٰ الهیئة
اشارة

ثم إنّ الشیخ أقام علیٰ عدم رجوع القید إلیٰ الهیئة برهاناً ، و أقام علیٰ ضرورة رجوعه إلیٰ المادّة برهاناً ، لیدلّ علیٰ کلا الأمرین بدلیلٍ مطابقی ، و إلّا ، فإن الدلیل علیٰ عدم رجوعه إلیٰ الهیئة یدلّ بالالتزام علیٰ رجوعه إلیٰ المادّة ...

و أیضاً ، فإنّ بین برهانیه فرقاً ، سیأتی بیانه .

هذا ، و إذا کانت القیود کلّها ترجع إلیٰ المادّة کما یقول الشّیخ ، فإنه

ص:301

یتوجّه إلیه السؤال عن الفرق بین قیود المادّة و قیود الهیئة ، مع أنّ قیود الهیئة لها دخل فی أصل مصلحة الشیء ، و إذا انتفت القیود لم یکن فی الشیء مصلحة ، بخلاف قیود المادّة ، فإنّها دخیلة فی فعلیّة المصلحة لا فی أصل وجودها .

مثلاً : الزّوال قید لوجوب الصّلاة ، و معنی ذلک : أنْ لا مصلحة للصّلاة قبل الزّوال ، و إنما تتحقّق بعده ، بخلاف الطّهارة التی هی قید للواجب ، فإنّ الصّلاة ذات مصلحة بدون الطّهارة ، إلّا أن المصلحة لا تتحقّق فی الخارج و لا تحصل إلّا بتحقق الطهارة مع الصّلاة ، و کونها مع الطهارة .

فلو رجعت القیود کلّها إلیٰ المادة فما الفرق ؟

فهذا السؤال متوجّه علیٰ الشیخ ، و انتظر الجواب !!

الدلیل الأوّل لقول الشیخ
اشارة

فاستدلّ الشیخ رحمه اللّٰه لامتناع رجوع القید إلیٰ الهیئة (1) بأنّ :

مفاد الهیئة معنیً حرفی ، و المعنی الحرفی جزئی ، و الإطلاق إنّما یرد علیٰ أمرٍ قابلٍ للتضییق ، و لا تضییق أکثر و أشدّ من الجزئیة ، و الشیء الجزئی لا سعة فیه حتی یضیَّق ، فهو - إذن - غیر قابل للتقیید ، سواء قلنا بأنّ التقابل بین الإطلاق و التقیید من قبیل العدم و الملکة أو لا ... لأنه بناءً علیٰ کونه من هذا القبیل : إذا کان الجزئی غیر قابل للتقیید فالإطلاق محال ، و إذا استحال الإطلاق فی الجزئی کان التقیید محالاً .

هذا ، و لا یخفیٰ أن الأساس فی هذا الوجه کون مفاد الهیئة معنیً حرفیّاً ، و أمّا إذا کان معنیً اسمیّاً کما لو قال : « إن جاءک زید فیجب إکرامه » ، فهذا الوجه غیر جارٍ .

ص:302


1- 1) مطارح الأنظار : 45 - 46 .
الأجوبة عن هذا الدلیل

و الوجوه التی ذکرها القوم فی الجواب عن الدلیل المذکور ، کلّها مبنائیة :

فقال المحقق الخراسانی :

(1)

لقد تقدَّم فی محلّه أن معانی الحروف لیست بجزئیّة ، لا جزئیة خارجیّة و لا جزئیّة ذهنیّة ، أما عدم کونها جزئیّة خارجیّة فواضح ، و أما عدم کونها جزئیّة ذهنیّة ، فلأنَّ الجزئیّة تکون باللّحاظ ، و اللّحاظ یکون فی الاستعمال ، و معانی الحروف موطنها قبل الاستعمال .

و إذْ لا جزئیّة فی معانی الحروف ، فالاستدلال یسقط .

لکن هذا الجواب مبنائی .

و قال المحقق الاصفهانی :

(2)

لیس المراد من الجزئیّة هی الجزئیّة الخارجیّة أو الذهنیّة ، بل المراد منها هی التعلّق و التقوّم بالطرفین ، و المعنی الحرفی فی ذاته متقوّم بالطرفین ، و الهیئة معنیً حرفی ، فمفادها النسبة البعثیّة - کما فی « فصلِّ » فی : « إذا زالت الشمس فصلّ » - و هذه النسبة ذات طرفین : المنسوب و المنسوب إلیه ... و کما فی « إن جاءک زید فأکرمه » ... و إذا کان هذا معنی الجزئیّة ، فإنّ الجزئیّة بهذا المعنی تقبل التّضییق ، بأنْ یُزاد فی الأطراف ، فتکون ثلاثة أو أربعة ... و هکذا .

و قال السید الخوئی :

(3)

إن حقیقة المعنی الحرفی هو التضییق فی المعنی الاسمی ، کما تقدّم فی

ص:303


1- 1) کفایة الأصول : 96 .
2- 2) نهایة الدرایة 59/2 .
3- 3) محاضرات فی أصول الفقه 320/2 .

محلّه بالتفصیل ، وعلیه ، فلا مانع من وقوع التضییق بعد تضییق ، لأنّه بعد أن قال : « صلّ فی المسجد » و حصل ب « فی » فرد من التضییق ، یمکنه أن یقول : « إن کنت متطهّرا » فیدخل علیه تضییقاً ثانیاً ... و هکذا ... إذن ، لا مانع من رجوع القید إلیٰ الهیئة بناءً علیٰ هذا المسلک .

لکن هذا الجواب أیضاً مبنائی . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : لو سلَّمنا المبنی ، فإنّ التضییق الثانی إنما یرد علیٰ أصل الصّلاة لا علیٰ تضییقها الواقع من قبل ... إذن ، لم یرجع القید إلیٰ الهیئة و مفادها - و هو الحکم - فیتم کلام الشیخ القائل بعدم رجوع القید إلیٰ الهیئة .

و تلخَّص إلیٰ الآن کون الأجوبة مبنائیة .

بقی جوابان :

أحدهما للمحقق الخراسانی ، و الآخر للمحقق الأصفهانی .

أمّا جواب المحقق الخراسانی فهو : إنه لیس المقصود إنشاء الطلب ثم تقییده بقیدٍ ؛ حتی یلزم ما ذکره الشیخ قدس سره ، بل المقصود : إنشاء الطلب المقیَّد ، و لا محذور فی هذا أصلاً .

و فیه :

إنما یتمّ إنشاء الطلب المقیَّد فی مورد یکون الطلب قبل الإنشاء کذلک قابلاً للإطلاق و التقیید ، کما فی الرقبة قبل تقییدها بالإیمان ، و بناءً علیٰ کلام الشیخ ، فإنّ الطلب النسبی هو مفاد الهیئة ، و الطلب النسبی معنی حرفی ، و المعنی الحرفی جزئی ، فلا یعقل إنشاء الطلب المقیّد ... لأنّ التقیّد و الجزئیّة موجود فی ذات الطلب .

و أمّا جواب المحقق الأصفهانی فهو : إنه لو کان تقیید مفاد الهیئة تخصیصاً للطلب ، لتمّ کلام الشیخ ، لکن اشتراط مفاد الهیئة و تقییده لیس

ص:304

تخصیصاً ، و إنما هو تعلیق ، و لا مانع من تعلیق الجزئی .

و تبعه فی (المحاضرات) فقال : بأنّ طلب إکرام زید لیس مقیَّداً بمجیء زید ، و إنما هذا الطلب منوط بمجیئه ، و فرق بین باب الإطلاق و التقیید ، و باب التعلیق و التنجیز .

و فیه :

إنما یکون التعلیق حیث یعقل أن یکون للشیء حصّتان من الوجود ، کالبیع ، فإنه فی حدّ ذاته ذو فردین : البیع المنجّز ، و البیع المعلّق علیٰ قدوم الحاج مثلاً . و حینئذٍ ، یکون التعلیق محصّصاً للمعلَّق ، و ما نحن فیه کذلک ، إذ لو لا وجود التقدیرین ، من مجیء زید و عدم مجیئه ، لم یکن لقوله « إن جاءک زید فأکرمه » معنیً ... إذن ، فإنّ التعلیق یلازم الإطلاق دائماً ، و هو یستلزم التقیید کذلک ، فیبقی کلام الشیخ علیٰ حاله .

جواب الأستاذ

فظهر أن جمیع الأجوبة مردودة ، و کلام الشیخ علیٰ قوَّته ، لکنّ خلاصة کلامه کون الوضع فی الحروف عامّاً و الموضوع له خاصّاً جزئیّاً ، فمن یعترف بهذا فلا یمکنه حلّ الاشکال ، إلّا أنّ الحق هو أن الموضوع له فی الحروف عام کذلک ؛ فإنّ معنی الحرف یقبل العموم و السّعة ، فکما یأتی إلیٰ الذهن من کلمة « الظرفیّة » معنیً عام مستقل قابل للانطباق علی الموارد الکثیرة ، کذلک یأتی من کلمة « فی » معنی له سنخ عموم قابل للانطباق علی الموارد الکثیرة ، لکنه غیر مستقل ، فالإشکال مندفع .

لکنّه جواب مبنائی کذلک .

و تلخّص : إن جمیع ما ذکروه جواباً عن برهان الشیخ علی امتناع رجوع

ص:305

القید إلیٰ الهیئة ، غیر مفید ، بعد الاعتراف بکون الموضوع له الحروف خاصّاً ، لأنّ الخاص لا یقبل الإطلاق و التقیید کما هو واضح ، فلا سبیل إلّا إنکار هذه الجهة و القول - کما هو المختار - بأن المعانی الحرفیّة فیها سنخ عمومٍ ، فکما یأتی إلیٰ الذهن معنی مستقل من « الابتداء » قابل للانطباق علی کثیرین ، کذلک یأتی إلیٰ الذهن معنی غیر مستقل من « مِن » قابل للانطباق علی الموارد الکثیرة .

و هکذا یندفع برهان الشیخ ، الذی کان الدلیل الأوّل لامتناع رجوع القید إلیٰ الهیئة .

الدلیل الثانی لقول الشیخ
اشارة

و هو ما ذکره المیرزا : من أنّ المعنی الحرفی لا یقبل اللّحاظ الاستقلالی ، و کلّ ما لا یقبل اللّحاظ الاستقلالی ، فهو لا یقبل الإطلاق و التقیید ... فالقید لا یرجع إلیٰ الهیئة و معناها حرفی .

فالمانع آلیّة المعنی الحرفی ، لا جزئیّته کما ذکر الشیخ .

قال الأستاذ

إن هذا الدلیل إنما یتوجّه ، فیما إذا کان الوجوب مستفاداً من الهیئة ، أمّا فی الجملة الاسمیة الدالّة علیٰ الوجوب فلا موضوع له ، لأنّ الوجوب حینئذٍ مدلول اسمی ، و لیس الدالّ علیه معنیً حرفیّاً .

و لذا جاء الشیخ - لما ذهب إلیه من رجوع القید إلیٰ المادّة - ببرهانین ، أحدهما : البرهان علی امتناع رجوعه إلیٰ الهیئة ، و هو ما تقدّم ، و الآخر :

البرهان علیٰ ضرورة رجوعه إلیٰ المادّة ، لیشمل ما إذا کان الدالّ علیٰ الوجوب معنیً اسمیّاً و هذا ما وعدنا سابقاً ببیانه .

ص:306

إشکال المحاضرات

و أورد فی (المحاضرات) (1) علی هذا الدلیل بوجهین :

أحدهما : إنَّ المعنی الحرفی قد یلحظ باللّحاظ الاستقلالی ، و إذا کان یتعلّق به اللّحاظ الاستقلالی ، فالاستدلال المذکور باطل ، و قد مثّل له بما إذا علم بوجود زید فی البلد و بسکناه فی مکانٍ ، و جهل المکان بخصوصه ، فإنّ تلک الخصوصیّة تکون مورداً للالتفات و السؤال ، مع کونها معنیً حرفیّاً .

و الثانی : إن ما ذکر ، إنما یمنع عن طروّ التقیید علیٰ المعنیٰ الحرفی حین لحاظه آلیّاً ، و أمّا إذا قیّد المعنی أوّلاً بقیدٍ ، ثم لوحظ المقیّد آلیّاً ، فلا محذور فیه ، إذاً ، لا مانع من ورود اللّحاظ الآلی علیٰ الطلب المقیَّد فی رتبةٍ سابقةٍ علیه .

نظر الأستاذ

و تنظّر الاستاذ فی الإشکالین : بأن الأوّل و إن کان وارداً إلّا أنه مبنائی ، و أن الثانی غیر واردٍ ، لأنّ مقتضی الدقّة فی کلام المیرزا هو : أن المعنی الحرفی لا موطن له إلّا ظرف الاستعمال ، و أمّا قبل ذلک فلا وجود للمعنی الحرفی ، و بعبارة أخریٰ .... یقول المیرزا : بأنّ ذات المعنی الحرفی متقوّمة بالآلیّة ، و الاختلاف بینه و بین المعنی الاسمی جوهری ، - خلافاً للمحقّق الخراسانی - فلو قبل اللّحاظ الاستقلالی خرج عن الحرفیّة ، و هذا خلف .

الدلیل الثالث لقول الشیخ
اشارة

قال فی (المحاضرات) : و هو العمدة فی المقام (2) و هو ما ذکره المحقق

ص:307


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 231/2 .
2- 2) محاضرات فی أصول الفقه 321/2 .

الخراسانی قدس سره فی (الکفایة) بعنوان « إنْ قلت » ، و تقریره :

إنّ رجوع القید إلیٰ مفاد الهیئة یستلزم التفکیک بین الإنشاء و المنشأ ، و الإیجاب و الوجوب ، لکنّ التفکیک بین الإیجاب و الوجوب غیر معقول فی التشریعیّات ، کما أن التفکیک بینهما فی التکوینیّات غیر معقول ... و کلّما استلزم المحال محال .

و الحاصل : إن رجوع القید إلیٰ الهیئة یوجب تحقّق الإیجاب دون الوجوب ، فیقع التفکیک المحال ... لأنه إن رجع القید فی « إذا زالت الشمس فصلّ » إلیٰ الهیئة ، جاء السؤال : هل وجد الوجوب بهذا الإنشاء عند الزوال أو لا ؟ فإن کان الجواب : لم یوجد الوجوب عنده ، وقعت الحاجة إلیٰ إنشاء آخر لوجوب الصّلاة عند الزوال ، و إنْ اجیب بوجود الوجوب عند الزوال - و المفروض تحقّق الإنشاء قبل الزوال بمدّة - لزم الانفکاک بین الإنشاء و المنشأ ، و هو الإشکال .

وجوه الجواب

و قد اجیب عن هذا الدلیل بوجوهٍ :

أحدها : جواب (الکفایة) (1) بالنقض بالإخبار ، فإنه یمکن الإخبار عن الشیء الآن مع کون وجود المخبر به فیما بعد ، کقولک لشخص : أزورک فی یوم الجمعة ... و وزان الإنشاء وزان الإخبار .

و فیه :

إنه قیاس مع الفارق ، لأن النّسبة بین الإنشاء و المنشأ هی نسبة الإیجاد و الوجود ، و أمّا فی الإخبار ، فهی نسبة الحاکی و المحکی ، و هذا معقول ، بخلاف ذاک .

ص:308


1- 1) کفایة الأصول : 97 .
الوجه الثانی

الفرق بین التکوینیّات و الاعتباریّات ، بدعوی أنّ عدم تخلّف الوجود عن الإیجاد إنما هو فی التکوینیّات کالکسر و الانکسار ، و أمّا فی الاعتباریّات ، فلا محذور فیه (1) .

و فیه :

إنّ الأحکام ، منها هو مختص بالوجود الاعتباری ، و منها ما هو مختص بالوجوه التکوینی ، و منها ما لا یختصّ بأحدهما بل هو حکم الوجود ، و عدم الانفکاک بین الإیجاد و الوجود من أحکام الوجود ، فإنّه - سواء فی عالم الذهن أو عالم الخارج أو عالم الاعتبار - لا یتخلّف الوجود عن الإیجاد ، فکلّ وجود له نسبتان ، أحدهما إلیٰ الفاعل و الاخری إلیٰ القابل ، و الملکیّة - و هی أمر اعتباری یوجد لها هاتان النسبتان ... .

الوجه الثالث

إن الانفکاک الواقع هنا لیس بین الإنشاء و المنشأ لیرد الإشکال ، بل هو بین الإنشاء و الإرادة الحقیقیّة منه ... فقبل الزوال یوجد الإنشاء ، لکنّ الإرادة الحقیقیة بالنسبة إلیٰ الصّلاة هی فی وقت الزوال ، و الانفکاک بین الإنشاء و الإرادة الحقیقیة لا محذور فیه .

و هذا الجواب اعتمده المحقّق الإیروانی (2) .

و فیه :

إنه إذا لم تکن إرادة حقیقیّة بالنسبة إلیٰ الصّلاة قبل الزوال ، و إنه لا

ص:309


1- 1) نهایة النهایة 141/1 - 142 .
2- 2) نهایة النهایة 142/1 .

وجوب ، بل هو عند الزوال ، یتوجّه السؤال بأنّه کیف یتحقق الإرادة الحقیقیّة و الوجوب للصّلاة عنده ، و المفروض عدم وجود إنشاء آخر ؟

و الحاصل : إنه إن لم یکن عند الزوال للصّلاة وجوب ، فهذا معناه إنکار الوجود الفعلی للحکم ، و إن کان لها وجوبٌ عنده ، فإنْ کان بالإنشاء السّابق رجع إشکال الانفکاک ، و إن کان بغیره ، فالمفروض أنْ لا إنشاء آخر .

الوجه الرابع

إن فی مثل : « إذا زالت الشمس فصلّ » اموراً : أحدها : الاستعمال ، و الثانی : البعث الفرضی ، و الثالث : البعث التحقیقی .

لقد استعملت هیئة « فصلّ » بعد الفاء فی البعث ، و المادّة هی الصّلاة ، و هنا : بعث له ثبوتان و إثباتان ، ثبوت فرضیٌ للبعث ، علیٰ أثر کون القید و الشرط مفروضاً ، فکان المشروط ثابتاً بالثبوت الفرضی ، و هذا الثبوت الفرضی متّحد مع الإثبات الفرضی ، بحکم الاتّحاد بین الوجود و الإیجاد ، و ثبوت تحقیقی یکون فی حال فعلیّة القید و الشرط - أی الزوال - و هذا الثبوت غیر منفک عن الإثبات التحقیقی .

فتلخّص : إن الاستعمال غیر منفک عن المستعمل فیه ، و الإثبات و الثبوت الفرضی غیر منفک أحدهما عن الآخر ، و الإثبات و الثبوت التحقیقی کذلک ، فأین الانفکاک ؟

و هذا توضیح ما جاء فی (نهایة الدرایة) (1) حیث قال : « إن الإنشاء إذا ارید به ما هو من وجوه الاستعمال ، فتخلّفه عن المستعمل فیه محال ، وجد البعث الحقیقی أم لا ، و إذا ارید به إیجاد البعث الحقیقی ... » .

ص:310


1- 1) نهایة الدرایة 64/2 .

و فیه :

إن الإنشاء إمّا مبرز للمعنی و إمّا موجد ، و لا ثالث ، و علی الثانی : إمّا یوجد المعنی بعین وجود اللّفظ ، و إمّا یوجد المعنی بغیر وجود اللّفظ ، و لا ثالث .

فإن کانت الهیئة کاشفة عن المعنی و مبرزةً له ، فلا إنشاء علیٰ مسلک المشهور ، فالإنشاء إذاً موجد للمعنی ... فهل وجوده بعین وجود اللَّفظ ؟ التحقیق : إن لکلّ مفهوم و ماهیّة وجودین حقیقةً لا أکثر ، أحدهما : الوجود الذهنی ، و الآخر : الوجود الخارجی ، و أمّا غیر هذین الوجودین فلا یکون إلّا بالاعتبار ، لکنّ الواضع لیس عنده هذا الاعتبار ، فإنّه لا یعتبر الاسم وجوداً لذات المسمّی ، و ما اشتهر من وجود : الوجود اللّفظی و الوجود الکتبی ، إلیٰ جنب الذهنی و الحقیقی ، فلا أصل له : هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن المحقق الأصفهانی یریٰ أنّ حقیقة الوضع عبارة عن اعتبار الوضع ، فإیجاد المعنی بعین وجود اللّفظ مردود ، علیٰ مسلکه فی تعریف الوضع أیضاً .

وعلیه ، فینحصر وجود المعنیٰ بأنْ یکون بغیر وجود اللَّفظ ، فإنْ کان ذاک الوجود فی ظرف وجود الهیئة و الإنشاء ، لزم الوجود الفعلی للمشروط قبل تحقّق شرطه ، و إن کان بعده ، لزم الانفکاک بین الإیجاد و الوجود .

الوجه الخامس

ما ذکره المحقق العراقی (1) و یتمّ توضیحه ضمن الامور التالیة :

1 - إنّ حقیقة الحکم عند المحقّق العراقی عبارة عن الإرادة التشریعیّة

ص:311


1- 1) نهایة الأفکار 295/1 .

المبرزة ، بأنْ یراد صدور الفعل من الغیر و تبرَز هذه الإرادة ، کقولک لغیرک :

« صُم » ، « صلّ » و نحو ذلک ، فمن هذه الإرادة المبرزة ینتزع عنوان الحکم .

2 - إن القیود علیٰ قسمین ، فمنها ما له دخل فی أصل المصلحة و الغرض ، و منها ما له دخل فی فعلیّة المصلحة و الغرض ... فالمرض - مثلاً - له دخل فی مصلحة استعمال الدواء ، إذْ لا مصلحة لاستعماله فی حال السّلامة ، لکنْ قد لا یتحقق الغرض فعلاً و لا تحصل المصلحة إلّا بإضافة عمل آخر إلیٰ شرب الدواء ، فیکون ذاک العمل - کالاستراحة مثلاً - دخیلاً فی فعلیّة المصلحة .

و شروط الوجوب - و هو مفاد الهیئة - ترجع کلّها إلیٰ أصل المصلحة ، و شروط الواجب ترجع إلیٰ ما یکون دخیلاً فی فعلیّة الغرض و المصلحة .

3 - الإرادة تارةً مطلقة ، و أخریٰ منوطة ، فقد یکون الشیء مطلوباً علیٰ کلّ تقدیر ، و یتقوّم به الغرض کذلک ، و قد یکون مطلوباً علیٰ بعض التقادیر ، و الغرض یترتب علیٰ حصول الشیء مقیّداً و منوطاً بذاک التقدیر ، کأنْ تکون إرادة الصّلاة منوطةً بالزوال ، فیکون حصول الغرض متقوّماً به .

4 - هناک فرق بین القید الدخیل فی تحقق الغرض ، و القید الدخیل فی تحقّق الإرادة ، فإن الدخیل فی تحقّق المصلحة دخیل بوجوده الخارجی ، و الدخیل فی تحقق الإرادة دخیل بوجوده اللّحاظی ... و علی هذا ، فإنه قبل الزوال لا توجد مصلحة للصّلاة ، لکنّ الوجود اللّحاظی للزوال موجود ، و بوجوده تتحقق الإرادة للصّلاة عند الزوال ، فتکون إرادةٌ منوطة ... فالإرادة تحصل لکنّها منوطة ، و إناطتها بالزوال لا ینافی تحقّقها قبله ... فیکون وجوب الصّلاة مشروطاً بالزوال سواء قبل الزوال أو بعده ، و إنْ کان قید الوجوب

ص:312

یتحقّق إذا زالت الشّمس ، لکنّ تحقّقه لا یخرج الحکم عن کونه وجوباً مشروطاً .

و بهذا البیان یظهر بطلان دعوی الانفکاک ... لأنّ حقیقة الحکم هی الإرادة المبرزة ، و لو لا الإبراز فلا حکم ، و إذا کانت إرادة الصّلاة منوطةً بالزوال ، فإنّ الزوال ملحوظ قبل تحقّقه ، و وجوده اللّحاظی هو المؤثّر فی الإرادة ، و بذلک یکون الحکم فعلیّاً ، و تلخّص : أنه لا انفکاک بین الوجوب و الایجاب ... نعم ، قد وقع الانفکاک بین فعلیّة الحکم و الإرادة الحاصلة قبل القید ، و بین فاعلیة الإرادة و الحکم ، لکونها منوطةً بالقید ، و هذا الانفکاک لا محذور فیه .

و لهذه الامور ، ذهب المحقق العراقی إلیٰ أن کلّ واجب مشروط ، فالوجوب و الإیجاب فیه فعلیّان ، غیر أن الفرق بین الوجوب المطلق و الوجوب المشروط فی جهتین :

الأولیٰ : إن الإرادة فی الوجوب المطلق مطلقة غیر منوطة ، بخلاف الوجوب المشروط .

و الثانیة : إنّه فی الوجوب المطلق ، توجد فعلیّة الحکم و فاعلیّة الحکم معاً ، بخلاف الواجب المشروط ، حیث فعلیّة الحکم موجودة ، أمّا فاعلیّته فلا .

و فیه :

أوّلاً : إنهم قالوا بأنّ الإرادة هی الشوق الأکید ، فالإرادة التشریعیّة هی الشوق الأکید إلیٰ صدور الفعل عن الغیر عن اختیار ، و من المعلوم أن الشوق الأکید أمر تکوینی و إبرازه تکوینی و مبرزه تکوینی ، و أمّا الحکم فأمر جعلی

ص:313

اعتباری و لیس بتکوینی ، فکیف تکون الإرادة التشریعیة المبرزة هی الحکم ؟

و ثانیاً : کیف تکون الإرادة فی الواجبات المنوطة فعلیّةً ، مع عدم تحقّق القید بعدُ ؟ إن کان المراد من « الإرادة » هو « الشوق الأکید » ففعلیّته قبل تحقق القید معقول ، و قد ظهر أن الشوق لیس الحکم ، بل الإرادة المبرزة هی الحکم ، و تحقّقها یستلزم تحقق المراد و لا یمکن الانفکاک ، لکنّ التحقق لا یعقل مع فرض الإناطة .

و ثالثاً : کیف تکون الإرادة فعلیةً و فاعلیّتها غیر متحقّقة ؟ إن هذا خلف ، لأنها إن کانت فعلیةً ، فلا یعقل تخلّفها عن فاعلیّتها ، فإذا کان الزوال دخیلاً فی المصلحة و هو غیر حاصل ، کیف یتعلّق الإرادة الفعلیّة بالمراد ؟ و کانت الإرادة الفعلیّة حاصلة ، بأنْ علم المکلَّف أنّ المولی تعلّقت إرادته قبل الزوال بالصّلاة و قد أبرز هذه الإرادة ، فلا محالة تتحقّق الفاعلیّة أیضاً ... و لا یعقل الانفکاک .

الوجه السادس

قال فی (المحاضرات) (1) : الصّحیح أن یقال : لا مدفع لهذا الإشکال بناءً علیٰ نظریّة المشهور من أنَّ الإنشاء عبارة عن إیجاد المعنی باللّفظ ، ضرورة عدم امکان تخلّف الوجود عن الإیجاد ، و أمّا بناءً علیٰ نظریّتنا : من أن الإنشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباری فی الخارج بمبرزٍ ، من قول أو فعل ، فیندفع الإشکال من أصله .

قال : و السّبب فی ذلک هو : إنّ المراد من « الإیجاب » إمّا إبراز الأمر الاعتباری النّفسانی ، و إمّا نفس ذاک الأمر الاعتباری ، و علی کلا التقدیرین ، لا محذور من رجوع القید إلیٰ مفاد الهیئة . أمّا علیٰ الأوّل ، فلأنّ کلّاً من الإبراز

ص:314


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 323/2 .

و المبرز و البروز فعلی ، فلیس شیء منها معلَّقاً علیٰ أمر متأخّر ، و هذا ظاهر .

و أمّا علیٰ الثانی ، فلأنّ الاعتبار من الامور النفسانیّة ذات التعلّق کالعلم و الشّوق ، و کما یتعلق بأمرٍ حالی کذلک یتعلّق بأمر متأخّر ، فلا محذور من أنْ یکون الاعتبار فعلیّاً و المعتبر متأخّراً ، و التفکیک بینهما جائز .

و الحاصل : إنه بناءً علیٰ مسلک المشهور لا یجوز التفکیک ، لأنه من الإیجاد و الوجود ، و أمّا علیٰ مسلکه ، فإنه لا یقاس بالتفکیک بین الإیجاد و الوجود أصلاً .

و قال فی (حاشیة أجود التقریرات) : « و یردّه : أن الإیجاب ، إنْ ارید به إبراز المولی لاعتباره النفسانی ، فالإبراز و البروز و المبرَز کلّها فعلیّة ، من دون أنْ یکون شیء منها متوقّفاً علیٰ حصول أمرٍ فی الخارج ، و إنْ ارید به الاعتبار النفسانی ، فبما أنفذه من الصفات ذات الإضافة - کالعلم و الشوق و نحوهما - فلا مانع من تعلّقه بأمرٍ متأخّر ، فکما أنه یمکن اعتبار الملکیّة أو الوجوب الفعلیین ، یمکن اعتبار الملکیّة أو الوجوب علیٰ تقدیر ، و أین هذا من تخلّف الإیجاد عن الوجود ؟

و غیر خفی أنّ أساس هذا الإشکال یبتنی علیٰ تخیّل أن الجمل الإنسانیّة موجدة لمعانیها فی نفس الأمر ، مع الغفلة عمّا حقَّقناه من أنه لا یوجد بها شیء أصلاً ، و إنما هی مبرزات للأمور القائمة بالنفس الممکن تعلّقها بأمر متأخر ، و لأجله ذکرنا فی محلّه أنّ امتناع التعلیق فی العقود و الإیقاعات إنما هو من جهة الإجماع ، و لو قطع النظر عنه لما کان مانع عن التعلیق أصلاً » (1) .

ص:315


1- 1) أجود التقریرات - الهامش - 193/1 .

قال الأستاذ

فی الدورة السابقة :

لا ریب فی أنّ السیّد الخوئی یریٰ أن نسبة الإیجاب و الوجوب عین نسبة الإیجاد و الوجود ، و قد نصّ علیٰ ذلک فی (مصباح الفقاهة) حیث اعترض علیٰ الشیخ التفریق بین الإیجاب و الوجوب و بین الکسر و الانکسار فقال : « إنه لا وجه صحیح لتفرقة المصنف بین الإیجاب و الوجوب ، و بین الکسر و الانکسار ، بدیهة أن الفعل الصّادر أمر وحدانی لا تعدّد فیه بوجه ، و إنّما التعدد فیه بحسب الاعتبار فقط ، کالإیجاد و الوجود ، فإنّهما شیء واحد ... » (1) .

و لا ریب أیضاً فی قبوله لعدم جواز التفکیک بین الإیجاد و الوجود حیث قال فی نصّ کلامه السابق « و أین هذا من تخلّف الإیجاد عن الوجود » أی إنه یریٰ استحالة التخلّف بینهما .

ثمّ إنّ قوله « و غیر خفی أنّ أساس هذا الإشکال ... » إشارة إلیٰ کلام المحقق الخراسانی حیث قال : إن الإنشاءات موجدة للمعانی فی نفس الأمر ... .

و هو - أی السید الخوئی - یریٰ ورود الإشکال علیٰ مبنی الإیجاد ، و اندفاعه علیٰ مبنی الاعتبار و الإبراز .

لکنّه فی مبنی الاعتبار و الإبراز - و هو المختار عنده - قال : بأنّ المراد إن کان إبراز الاعتبار ، فالإبراز و البروز و المبرز کلّها فعلیّة ... .

فنقول : هذا متین ، إلّا أن حاصله هو الوجوب المطلق ، لأنّ لازم فعلیّة

ص:316


1- 1) مصباح الفقاهة : 73/2 .

کلّ ذلک هو عدم الوجوب التقدیری ، و هذا یساوق انکار الوجوب المشروط ... .

قال : و إن کان المراد الاعتبار النفسانی ، فتعلّقه بأمرٍ متأخّر ممکن .

فنقول : المفروض أن الاعتبار النفسانی هو الإیجاب بنفسه ، و تعلّقه بأمرٍ متأخّر ، یعنی أنْ یکون الوجوب علیٰ تقدیر ، و هذا لیس إلّا انفکاک الوجوب عن الإیجاب ، و لمّا کان یقول بأن وزان الإیجاب و الوجوب وزان الإیجاد و الوجود ، فمعنیٰ کلامه الانفکاک بین الوجود و الإیجاد ، فیعود الاشکال . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : صریح کلامه ، أن یکون الإیجاب عین الاعتبار ، و الحال أنَّ الاعتبار النفسانی أمر تکوینی لکونه من الصفات ، و الإیجاب أمر اعتباری ، هذا .

قال الأستاذ

إن منشأ الإشکال هو الخلط - بناءً علیٰ القول بالإیجاد - بین أن یکون الإنشاء موجداً للمعنیٰ حقیقةً ، و أن یکون سبباً ، لأن تخلّف الإیجاد عن الوجود محال ، و أما تخلّف السبب عن المسبّب فممکن .

و المشهور یقولون بأنّ الإنشاء سبب ، و أن نسبة الصّیغة الإنشائیة إلیٰ المعانی المنشأة نسبة الأسباب إلیٰ المسبّبات ، أو نسبة الآلة إلیٰ ذی الآلة ، کما قال المیرزا ... .

و الحاصل : إنه لا إشکال فی العینیّة بین الوجود و الإیجاد - أی بین المصدر و اسم المصدر مطلقاً - فالنسبة بینهما هی العینیة ، بخلاف النسبة بین الأسباب و المسبّبات ، فإنها التقابل ، سواء فی التکوینیات ، حیث النار سبب

ص:317

للاحتراق ، أو فی الاعتباریّات ، إذ المشهور أن التّزویج و الزوجیّة عنوان حاصل من « أنکحت » ، و الملکیّة تحصل من الفعل فی « المعاطاة » و الصّیغة فی المعاملة الإنشائیة ... و هکذا ... .

فهذا هو الفرق ، و قد وقع الخلط بینهما ، فکان الإشکال .

و الدلیل علیٰ ما ذکرنا من أنّ القوم یقولون بکون النسبة هی نسبة السبب إلیٰ المسبب ، لا الموجد إلیٰ الموجَد هو : ما جاء فی (الخلاف) و (المبسوط) (1) من تعریف البیع : بأنه انتقال عین مملوکة من شخصٍ إلی غیره بعوضٍ مقدّر علی وجه التراضی فکان العقد سبباً و ناقلاً ... و من الواضح أن هذه السببیّة سببیّة جعلیّة عقلائیة ... کما أنهم فی الطّلاق - مثلاً جعلوا « هی طالق » سبباً للبینونة ، و فی النکاح جعلوا « أنکحت » سبباً له ، و فی الملکیة « بعت » .

و قد عرّف ابن حمزة البیع بأنه عقد یدل علی انتقال عینٍ إلی آخر (2)فقال فخر المحققین و الشهید بأنّ هذا تعریف السبب بالمسبب ، لأن العقد سبب ، و إطلاق السبب علیٰ المسبب مجاز (3) .

و بمثل ما ذکر ، تجد التصریح فی کلام العلّامة فی (القواعد) و(التذکرة) فی مسألة الوصیّة ، و کذا الشهید و الفخر فی الإیضاح ... قال العلامة فی الوصیّة : إذا کانت الملکیّة حاصلةً قبل القبول ، فالقبول إما جزء للسبب و إما شرط للملکیّة (4) .

ص:318


1- 1) کتاب الخلاف 7/3 ط جامعة المدرسین . المبسوط فی فقه الإمامیّة 76/2 .
2- 2) الوسیلة : 270 .
3- 3) انظر : جامع المقاصد 55/4 .
4- 4) قواعد الأحکام : 291 حجری . تذکرة الفقهاء 453/2 حجری .

و فی (المسالک) فی تعریف البیع ما حاصله : إن الملکیة مسببة ، و العقد سبب لها (1) .

و فی (جامع المقاصد) : إن البیع هو نقل الملک من مالک إلی آخر بصیغةٍ مخصوصة (2) .

و ذلک صریح (المستند) حیث قال : « العقد سبب النقل ، کما أنَّ النقل سبب الانتقال . عرّفه جماعة بالعقد ، و هو غیر جیّد ... » (3) .

و الحاصل : إن الإنشاءات أسباب .

و قال المیرزا فی بحث الصحیح و الأعم : بکون الإنشاءات آلات ، و نصَّ علیٰ أنَّ المشهور کونها أسباباً (4) .

و إذا کانت الإنشاءات أسباباً لا موجدةً لمعانیها ، فلا یأتی الإشکال ، لأنّ الواقع فی الوصیّة - مثلاً - هو جعلُ السبب ، فلا یقال کیف یکون إیجاد الملکیّة الآن و وجودها بعد الموت ... بل إنه سببٌ ، و المسبّب إنْ کان مقیَّداً بقیدٍ کان السبب سبباً ناقصاً ، و لا محذور فی انفکاک السبب عن المسبب ...

نعم ، لو کان غیر مقیَّد کان الانفکاک غیر معقول ، بحکم عدم انفکاک العلّة التّامة عن المعلول ، لا بحکم عدم انفکاک الإیجاد عن الوجود ... لذا کان الانفکاک غیر معقول فی الوجوب المطلق ، و کذا فی الملکیات المنجَّزة .

هذا حلّ المشکل بناءً علیٰ قول المشهور .

و أمّا حلّه بناءً علیٰ مسلک الاعتبار و الإبراز ، فإنّ الاعتبار أمر نفسانی

ص:319


1- 1) مسالک الأفهام فی شرح شرائع الإسلام 160/2 حجری .
2- 2) جامع المقاصد فی شرح القواعد 55/4 ط مؤسّسة آل البیت « ع » .
3- 3) مستند الشیعة 243/14 ط مؤسّسة آل البیت « ع » .
4- 4) أجود التقریرات 74/1 .

تکوینی فعلی ، و لا مانع من أن یکون المعبَّر متأخّراً عنه ... و إن من خاصیّة الاعتبار امکان تعلّقه بالأمر المعدوم فعلاً الموجود فی عالم الفرض کما فی الوصیة ، حیث یفرض الآن الملکیة بعد الموت و یحقّقه فی عالم الاعتبار .

هذا تمام الکلام علیٰ هذه المشکلة ، و باللّٰه التوفیق .

دلیل الشیخ علیٰ لزوم رجوع القید إلیٰ المادّة
اشارة

و بعد الفراغ عن البحث حول ما استدلّ به علیٰ امتناع رجوع القید إلیٰ الهیئة ، الدالّ بالالتزام علیٰ رجوعه إلیٰ المادّة ، نتعرّض للدلیل الذی أقامه الشیخ الأعظم رحمه اللّٰه علیٰ ضرورة رجوعه إلیٰ المادّة ، و هو برهان وجدانی ، فقال ما حاصله (1) :

إن العاقل إذا التفت إلیٰ شیء ، فإمّا یطلب ذلک الشیء أو لا ، و الثانی خارج عن البحث ، و علی الأوّل : فإمّا یطلبه علیٰ جمیع تقادیر وجوده أو یطلبه علیٰ بعض التقادیر ، و الأوّل خارج عن البحث ، و علی الثانی : فالتقدیر إمّا غیر اختیاری ، کمطلوبیّة الصلاة علیٰ تقدیر تحقق الزوال ، و إمّا اختیاری کمطلوبیّة الحج علیٰ تقدیر الاستطاعة ، و فی الاختیاری تارة : یکون القید داخلاً تحت الطلب ، کالطّهارة بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، و أخریٰ : لا یکون ، کالاستطاعة بالنسبة إلیٰ الحج .

یقول الشیخ : ففی جمیع صور مطلوبیّة الشیء علیٰ تقدیر حصول أمر اختیاری ، یکون الطلب فعلیّاً و المطلوب غیر فعلی ، فیکون القید دائماً قیداً للمادّة دون الهیئة ، إذ المطلوب معلَّق علیٰ شیء دون الطلب ، سواء قلنا بتبعیّة الأحکام للمصالح و المفاسد کما هو الحق ، أو بعدم التبعیة کما علیه الأشاعرة ،

ص:320


1- 1) مطارح الأنظار : 45 - 46 .

فبناءً علیٰ الأول : عند ما یتوجّه الإنسان إلیٰ الصّلاة المشروطة مصلحتها بالزوال ، فهو بالفعل ذو شوق إلیٰ الصّلاة حتی قبل الزوال ، لکنّ ظرف الصّلاة إنما هو بعده ، و کذا الحجّ علیٰ تقدیر الاستطاعة ، فإن الشوق إلیه موجود فعلاً و لا قید له ، إلّا أن الحج یکون بعد الاستطاعة ، و کذا الحال فی الصّلاة و الطهارة .

و الجواب :

هو : إنه لا ریب فی أنّ الإیجاب من الأفعال الاختیاریّة ، و المفروض صدوره عن فاعل مختار ، فلا بدّ و أن تکون هناک مصلحة و ملاک لهذا الوجوب کما علیه أهل العدل ، فإنْ کان للتقدیر دخل فی الملاک و المصلحة ، کان الوجوب هو المقیَّد و المشروط ، و إنْ لم یکن له دخل ، فالوجوب مطلق غیر مشروط ... فالقید راجع إلیٰ الوجوب لا الواجب .

أمّا علیٰ مسلک الأشعری ، فلا بدَّ من تمامیّة الغرض الذی لأجله یصدر الحکم ، فإنّ کان القید دخیلاً فیه ، فتحقّقه بدونه مستحیل ، و مع عدم تحقّق الغرض یستحیل جعل الوجوب .

خلاصة البحث :

هذا تمام الکلام علیٰ رجوع القید إلیٰ الهیئة أو المادّة .

و قد تبیَّن أنّ المقتضی إثباتاً لرجوعه إلیٰ الهیئة تام ، و أن ما ذکروه مانعاً عن ذلک فی مقام الثبوت مندفع ... فالحق رجوعه إلیٰ الهیئة .

و لا یخفی ما یترتب علیٰ هذا البحث من الثمرة ... فإنّه إن رجع إلیٰ الهیئة ، لم یلزم تحصیل القید ، بل یکون الوجوب ثابتاً کلّما تحقق القید ، و أمّا إن رجع إلیٰ المادّة ، فالوجوب مطلق ، و لا بدّ من تحصیل القید ... .

ص:321

مقتضی الأصل مع الشک
اشارة

بعد أنْ تعرّضنا للقولین الأوّل و الثانی ، حیث کان الأوّل للشیخ الأعظم ، و القول الثانی لمنتقدی نظریّته من الأعلام ، القائلین برجوع القید إلیٰ الهیئة ، و هو مختار الاستاذ دام بقاه ، تصل النوبة إلیٰ الکلام فی صورة الشک فی رجوعه إلیٰ الهیئة أو المادّة ، فما هو مقتضی الأصل ... و تحقیق ذلک فی مقامین :

1 - الأصل اللفظی :

لقد ذکروا وجهین لکون الأصل اللّفظی و هو الإطلاق یقتضی رجوع القید إلیٰ المادّة ، و أنّ الهیئة تبقیٰ مطلقة :

الوجه الأول :

و هو یتألّف من صغری : إن إطلاق الهیئة شمولی و إطلاق المادّة بدلی ، و من کبری : إنه إذا دار الأمر بین رفع الید عن أحد الإطلاقین المذکورین ، فإنّ مقتضی القاعدة أن یسقط الإطلاق البدلی و یبقی الشمولی (1) .

أمّا الکبری ، فمسلّمة عند الشیخ و المیرزا ، فهما یقولون بتقدّم الشمولی البدلی تقدَّم العام علیٰ المطلق .

ص:322


1- 1) و قد طرح المحقق الخراسانی هنا مسألة ما إذا دار الأمر بین رفع الید عن العموم أو الاطلاق ، فاختار تبعاً للشیخ الأعظم سقوط الاطلاق ، لکونه لا ینعقد إلّا بمقدماتٍ منها عدم البیان ، و العام بیان ، و معه لا ینعقد الاطلاق ، و الشیخ الاستاذ لا یرتضی ذلک ، و یقول بأنّ أهل العرف لا یرون البیانیّة للعام دائماً بالنسبة إلیٰ المطلق بل یتوقّفون .

و أمّا الصغریٰ ، فلأن إطلاق الوجوب شمولی ، من جهة أن لقولنا « صلّ » إطلاقان ، أحدهما : الإطلاق المستفاد من نفس الهیئة ، و الآخر :

إطلاق الصّلاة بالنسبة إلیٰ الطهارة ... و کلّما کان الحکم فیه ثابتاً علیٰ التقدیرین - تقدیر وجود الطّهارة و تقدیر عدم وجودها - کان الإطلاق شمولیّاً ، و أمّا إطلاق المادّة الواجب - فهو بدلی ، لأن المطلوب صرف وجود الحج - مثلاً - فهو یرید حجّاً ما ... فهو إطلاق بدلی .

و إذا ضممنا الصغری إلیٰ الکبری ، حصلت النتیجة المذکورة .

و للمحقق الخراسانی بیان آخر (1) ، فإنّه قال : إن الإطلاق الشمولی یثبت الحکم لجمیع الأفراد فی جمیع الحالات ، کما فی « لا تکرم الفاسق » فإنه یشمل زیداً و عمراً و بکراً ، و یشمل کلّ واحدٍ منهم فی حال الانفراد و فی حال الانضمام إلیٰ الغیر ... و هکذا ... أمّا الإطلاق البدلی ، فإنه یثبت الحکم لکلّ فردٍ ، لکنْ فی حالةٍ واحدةٍ ، کما فی « أکرم عالماً » ، فزید العالم یجب إکرامه فی حال انفراده عن غیره ، أی منفرداً .

وعلیه ، فإنّ الحکم فی المطلق الشمولی یکون أقوی منه فی المطلق البدلی .

إشکال المحقق الخراسانی علیٰ الشیخ

قال رحمه اللّٰه : لکنّ ملاک التقدّم لیس هذه الأقوائیّة ، بل إنه الأظهریّة ، و قد کان تقدّم العام علیٰ المطلق بالأظهریّة ، لکون ظهور العام بالوضع ، فکان أظهر من ظهور المطلق فی الإطلاق ... .

و تلخّص : أن المحقق الخراسانی غیر موافق مع الشیخ فی الکبری .

ص:323


1- 1) کفایة الأصول : 106 .

و أیضاً : فإنّ المحقق الخراسانی قائل بالتفصیل فی مسألة تقدّم العامّ علیٰ المطلق ، لأنه یریٰ أنّ من مقدّمات انعقاد الإطلاق عدم القدر المتیقّن فی مقام التخاطب ، فیقول بأنّ العام قد یکون بیاناً فی مقام التخاطب ، و قد لا یکون .

أقول :

لکنّ کون المبنی و الملاک فی التقدَّم عند التعارض هو : الأقوائیّة فی الظهور هو من الشیخ فی باب التعادل و التراجیح ... فالإشکال غیر وارد علیٰ الشیخ ، نعم ، یرد علیه الإشکال بأن یقال له : بأنّ کلامکم فی الأصل فی مسألة دوران الأمر بین المطلق الشمولی و المطلق البدلی یتناقض مع کلامکم فی باب التعادل و التراجیح ، حیث جعلتم الملاک هو الأقوائیة فی الظهور .

هذا تمام الکلام علیٰ ما ذکره المحقق الخراسانی إشکالاً علیٰ الشیخ .

إشکال السید الخوئی علیٰ الشیخ

(1)

و أشکل فی (المحاضرات) علیٰ الشّیخ فی ناحیة صغری الاستدلال بما حاصله :

إن الإطلاق الشّمولی موجود فی مثل « أکرم عالماً » أیضاً ، فالکبری تامّة و الصّغری غیر تامة ، لأنّه فی المثال و إنْ کانت الدلالة المطابقیّة مطلوبیة إکرام صرف العالم ، لکنّ الدلالة الالتزامیة فیه هی الترخیص فی التطبیق علیٰ کلّ فرد فرد من الأفراد ، و هذا حال الإطلاق الشمولی ، إذ العقل یریٰ فی مثله تجویز الشارع تطبیق عنوان « العالم » علیٰ هذا و ذاک و ذاک ... .

فلو ارید ترجیح « لا تکرم الفاسق » فی مقام الاجتماع ، زال الترخیص

ص:324


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 338/2 - 339 .

المذکور عن « أکرم عالماً » و هذا غیر صحیح .

و أجاب الأستاذ

عن هذا الإشکال بمنع وجود الترخیص الشرعی فی التطبیق بین الأفراد فی مثل « أکرم عالماً » ، و بإنکار الدلالة الالتزامیة المذکورة ، بل إنه إذا تعلّق التکلیف بصرف الوجود ، فإنّ العقل یریٰ عدم المنع فی التطبیق علیٰ أیّ فرد شاء ... و عدم المنع عن التطبیق شیء ، و الدلالة الالتزامیّة علیٰ الترخیص فی التطبیق شیء آخر ... فالدلالة عقلیّة ، و حدّ دلالة العقل هو ما ذکرناه .

فجواب (المحاضرات) عن استدلال الشیخ غیر تام .

و الصحیح ما أجاب به المحقق الخراسانی ، من کون الملاک فی التقدّم هو الأظهریّة .

استدلال المیرزا علیٰ تقدّم الإطلاق الشمولی بوجوه

و المیرزا - رحمه اللّٰه - وافق الشیخ فی تقدیم الإطلاق الشمولی ، و استدلّ له بوجوه (1) :

أحدها :

إن الإطلاق - سواء فی الشمولی أو البدلی - یتوقّف علیٰ مقدّمات الحکمة ، لکنّه فی البدلی یتوقّف علیٰ مقدّمةٍ زائدة لیست فی الشمولی ، و هی : إحراز المساواة بین أفراد الطبیعة فی الوفاء بغرض المولی من الأمر ، بلا تفاوت بینها أصلاً ، و مع وجود الإطلاق الشمولی علیٰ خلافه ، و الذی مفاده ثبوت الحکم لجمیع أفراد الطّبیعة علیٰ السواء ، و إنْ اختلف الملاک فیها شدّةً و ضعفاً - حیث أن النهی عن مرتکب الکبیرة من الفسّاق أشدّ منه عن مرتکب الصغیرة ... - لا یمکن إحراز الاستواء ، فلا ینعقد الإطلاق

ص:325


1- 1) أجود التقریرات 236/1 - 240 .

البدلی ، لصلاحیّة الإطلاق الشمولی لأنْ یکون بیاناً للتعیین فی بعض الأفراد دون البعض الآخر ، لأشدیّة الملاک فیه ، کما فی المثال المتقدّم .

و الحاصل : إنه لا بدَّ فی الإطلاق البدلی من إحراز التساوی بین جمیع المصادیق حتی یمکن الامتثال بأیٍّ منها علیٰ سبیل البدلیّة ، و إلّا لزم الامتثال بالفرد الذی یتیقّن باستیفاء الملاک به ، و مع وجود الإطلاق الشمولی فی المقابل فلا یمکن الإحراز ، لأنه فی الفرد الذی یجتمع فیه الإطلاقان - و هو العالم الفاسق - لا یتحقق احرازٍ مساواته للعالم غیر الفاسق ... فیترجّح الإطلاق الشمولی علیٰ البدلی ، لکونه مانعاً عن انعقاد مقدّمات الحکمة فیه .

إشکال الاستاذ

و أورد علیه الاستاذ : بأنّه فی کلّ مطلق أو عام ، لا بدَّ من إحراز وفاء المتعلّق بتمام ملاک الحکم ، و إنْ کانت الأفراد غیر متساویة ، و مع عدم الإحراز و الشک فی حصول الامتثال ، فلا بدَّ من الإتیان بالقدر المتیقَّن ، و الحاصل : إنه لا ریب فی ضرورة إحراز وفاء إکرام هذا الفرد المعیّن بغرض المولی من إیجاب إکرام العالم ، و کذا إحراز أنّه بترک إکرام ذلک الفرد قد تحقّق غرض المولی من نهیه عن إکرام الفاسق ... فإحراز الوفاء بالغرض لازم ، سواء فی الإطلاق الشمولی و الإطلاق البدلی .

لکنَّ الإطلاق فی کلّ خطابٍ مطلقٍ یکون محرزاً للملاک ، إذ الحکم دائماً معلول للملاک ، و إطلاقه أیضاً معلول لإطلاق الملاک ، و حینئذٍ ، فإن الإطلاق فی « أکرم عالماً » یعمّ الفاسق و العادل علیٰ حدّ سواء ، فالمقتضی لشموله للفاسق تام .

وعلیه ، فتقع المعارضة بینه و بین دلیل النهی عن إکرام الفاسق ، و لا

ص:326

مرجّح لأحدهما علیٰ الآخر ، فیسقط الأصل اللفظی الذی ادّعاه المیرزا لتقدّم الشمولی علیٰ البدلی .

الثانی :

إنه لو دار الأمر بین امتثال أحد التکلیفین و امتثال کلیهما ، تقدَّم الثانی . و فیما نحن فیه : إنْ أکرمنا العالم العادل دون الفاسق ، فقد حصل الامتثال لقوله « أکرم عالماً » و قوله « لا تکرم فاسقاً » بخلاف ما لو أکرمنا عالماً فاسقاً - عملاً بإطلاق أکرم عالماً - فإنه لم یمتثل التکلیف ب « لا تکرم فاسقاً » المنطبق علیٰ هذا العالم الذی أکرمناه بإطلاقه الشمولی ... إذنْ ، یترجّح الإطلاق الشمولی علیٰ البدلی .

الثالث :

إنّ الملاک فی الإطلاق البدلی ملاک تخییری ، و الملاک فی الشمولی تعیینی ، و من المعلوم أن الملاک التخییری لا یزاحم التعیینی ، بل التعیینی هو المقدَّم .

أجاب الاستاذ

عن الوجهین : بأنه قد وقع الخلط بین التزاحم و التعارض ، ففی فرض وجود الحکمین و دوران الأمر بین امتثالهما معاً أو أحدهما ، فلا ریب فی تقدّم امتثالهما کلیهما ، إلّا أن الکلام فی أصل وجود الحکمین ، و أنّه هل یوجد الحکم ب « لا تکرم الفاسق » مع وجود إطلاق « أکرم عالماً » ؟

إنه لا یخفی اقتضاء البدلیّة فی « أکرم عالماً » لأنْ یکون العالم الفاسق مصداقاً له ، لکن « لا تکرم الفاسق » بمقتضی شمولیّته یدلّ علیٰ حرمة إکرامه ، فالمورد صغری التعارض لا التزاحم ، و المرجع هنا هو المرجّح فی باب التعارض و هو الأظهریّة ، و أظهریّة الإطلاق الشمولی من البدلی أوّل الکلام .

ص:327

قال الأستاذ :

و مع التنزّل عمّا فی هذه الوجوه ، و التسلیم باقتضائها تقدّم الإطلاق الشمولی ، فإنّ تقدّمه إنما یکون فیما لو کان التعارض بین الإطلاقین الشمولی و البدلی تعارضاً بالذات ، بأنْ یکون الدلیلان متنافیین ، کما فی « لا تکرم الفاسق » و « أکرم عالماً » حین یقع التعارض بینهما فی العالم الفاسق ، أمّا لو کان التعارض بالعرض - کما لو کان هناک علم إجمالی بسقوط أحدهما فی مورد الاجتماع ، مثلاً : لو ورد دلیل فی وجوب صلاة الجمعة ، و دلیل آخر فی وجوب صلاة الظهر یوم الجمعة ، فإنّ الدلیل القائم علیٰ عدم وجوب الصّلاتین فی ظهر یوم الجمعة ، یفید العلم الإجمالی بسقوط أحد الدلیلین - فلا تجری القاعدة المذکورة ، و هی الرجوع إلیٰ الأظهریّة .

و مورد البحث هنا من هذا القبیل ، لأنه لا تنافی بالذات بین إطلاق المادّة و إطلاق الهیئة ، فی مثل « صلّ » ، لکنّ العلم الإجمالی بتقیّد أحد الإطلاقین یمنع من الأخذ بهما أو بأحدهما ، بل الإطلاقان کلاهما ساقطان .

و الحاصل : إنه علیٰ فرض تمامیّة الکبری ، فإنّها إنما تجری فی حال کون التعارض بالذات ، أمّا مع التعارض بالعرض فلا تجری ، فالإشکال حینئذٍ یعود إلیٰ الصغری ، فلو تمّت الوجوه المذکورة لإثبات أقوائیة الإطلاق الشمولی من البدلی ، بأنْ یکون « لا تکرم الفاسق » أقوی من « أکرم عالماً » ، فلا محصّل لذلک فیما نحن فیه ، بل إنّه مع العلم الإجمالی لا یتقدّم الأقوی حتی لو کان هو الحاکم ، فإنّ الحاکم أقوی من المحکوم بحیث لا یصلح المحکوم للمعارضة معه ، و مع ذلک ، فمقتضی العلم الإجمالی بسقوط أحد الدلیلین فی مورد الاجتماع هو سقوط کلیهما .

ص:328

فتلخّص : أنه مع العلم الإجمالی بتقیّد الوجوب أو الواجب ، یخرج المورد عن قاعدة تعارض الإطلاق الشمولی و الإطلاق البدلی ، و تقدّم الأظهر منهما علیٰ الآخر .

هذا تمام الکلام علیٰ الوجوه التی أقامها المیرزا ، لتشیید الوجه الأوّل من وجهی اقتضاء الأصل اللّفظی رجوع القید إلیٰ المادّة .

الوجه الثانی :

(1)

و هو مبنی علیٰ قاعدة أنه لو دار الأمر بین سقوط إطلاقین أو سقوط أحدهما و بقاء الآخر ، لزم الاقتصار علیٰ الأقل ... و تقریب ذلک :

إنه لو قیّدت المادّة - أی الصّلاة - فإنّ تقییدها لا یستلزم التقیید و التضییق فی الهیئة - و هو الوجوب - ، فلو قیّدت الصّلاة بالطهارة بقی وجوبها علیٰ إطلاقه ، فهی واجبة سواء وجدت الطهارة أو لم توجد . أمّا لو قیّدت الهیئة ، کأنْ قیّد وجوب الصّلاة بالزوال ، حصل التقیید و التضییق فی المادّة و هی الصّلاة ، و لا یبقی محلّ للإطلاق فیها کما عبّر الشیخ الأعظم قدّس سرّه ... فظهر أنّ تقیید المادّة لا یستلزم تقیید الهیئة ، بخلاف العکس ، و إذا دار الأمر بین الأمرین رجع القید إلیٰ المادّة دون الهیئة ، للقاعدة المذکورة .

تفصیل المحقق الخراسانی

و قد فصّل المحقق الخراسانی فی هذه القاعدة ، بین ما إذا کان المقیِّد منفصلاً عن المطلق أو متّصلاً به ، فإن کان منفصلاً انعقد الإطلاق و تمّ الظهور ، فلو کان فی أحد الطرفین إطلاقان و فی الآخر إطلاق واحد ، و دار أمر المقیّد بین إسقاط الواحد أو الاثنین ، فمقتضی القاعدة هو الاکتفاء بالأقل و الاقتصار

ص:329


1- 1) نهایة الدرایة 99/2 . و الأصل فیه هدایة المسترشدین : 196 ، و نقّحه الشیخ الأعظم .

بقدر الضرورة فی إسقاط الحجة ، و أمّا إذا کان القید متّصلاً ، و دار الأمر بین أن یمنع عن انعقاد الإطلاق فی طرفٍ أو طرفین ، فلا دلیل علیٰ تقدّم الأقلّ ، لأنه مع کونه متّصلاً لم یتم الظهور و لم یتحقق الحجّة ، لیکون رفع الید عن أصالة الظهور فی الأقل مقدّماً علیه فی الأکثر .

تقریب الوجه ببیان المحقق الایروانی

قال رحمه اللّٰه - معلّقاً علیٰ قول الکفایة : إنّ تقیید الهیئة یوجب بطلان محلّ الإطلاق فی المادّة و یرتفع به مورده ، بخلاف العکس ، و کلّما دار الأمر بین تقییدین کذلک ، کان التقیید الذی لا یوجب بطلان الآخر أولی - : « یمکن تقریر هذا الوجه بنحو أحسن و أبعد عن الإشکال ، و هو : إنه لا مجال لمقدّمات الحکمة فی جانب المادّة ، لتمامیّة البیان بالنسبة إلیها ، و ذلک : إمّا لتوجّه القید إلیها ابتداءً ، أو لتوجّهه إلیٰ الهیئة الموجب ذلک لتقیّد المادّة أیضاً بالتبع ، و علی کلّ حالٍ ، لا یبقیٰ مجال للإطلاق فی جانبها ، فتبقیٰ المقدّمات فی جانب الهیئة سلیمةً عن المعارض ، و بذلک ینعقد لها الإطلاق » (1) .

تحقیق المحاضرات و الشیخ الاستاذ

و ذهب المحقّق الخوئی (2) - و وافقه الشیخ الاستاذ - إلیٰ أنّ ما نحن فیه لیس من قبیل دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، لیکون مورداً لانطباق القاعدة المذکورة ، بل إنه من قبیل دوران الأمر بین المتباینین ، و النسبة بین تقیید المادّة و تقیید الهیئة هی العموم من وجه ، فقال ما ملخّصه :

إنّ القید إن کان قیداً للهیئة واقعاً ، فمردّه إلیٰ أخذه مفروض الوجود فی

ص:330


1- 1) نهایة النهایة 152/1 .
2- 2) محاضرات فی أصول الفقه 343/2 .

مقام الجعل و الاعتبار ، من دون فرقٍ فی ذلک بین کون القید اختیاریاً أو غیر اختیاری . و إن کان قیداً للمادّة واقعاً ، فمردّه إلیٰ اعتبار تقیّد المادّة به فی مقام الجعل و الإنشاء ، من دون فرقٍ فی ذلک أیضاً بین کون القید اختیاریّاً أو غیر اختیاری ، غایة الأمر : إنه إن کان غیر اختیاری فلا بدَّ من أخذه مفروض الوجود ، و ذلک لما تقدَّم من أن کون القید غیر اختیاری لا یستلزم کون الفعل المقیَّد به أیضاً کذلک ، ضرورة أنّ القدرة علیه لا تتوقّف علیٰ القدرة علیٰ قیده ، فإنَّ الصّلاة المتقیّدة بالزوال مثلاً مقدورة ، مع أن قیدها و هو الزوال خارج عن القدرة .

فالنتیجة : إن تقیید کلٍّ من المادّة و الهیئة یشتمل علیٰ خصوصیّة مباینة لما اشتمل علیه الآخر من الخصوصیّة ، لأنّ تقیید الهیئة مستلزم لأخذ القید مفروض الوجود ، و تقیید المادّة مستلزم لکون التقیّد به مطلوباً للمولی ، و علی هذا ، فلیس فی البین قدر متیقّن یؤخذ به و یدفع الزائد علیه بالإطلاق .

و من هنا یظهر : إن النسبة بین تقیید المادّة و تقیید الهیئة هی العموم من وجه ، فیمکن أن یکون شیء قیداً لمفاد الهیئة دون المادّة ، کالاستطاعة بالنسبة إلیٰ وجوب الحج ، و لذا لو استطاع المکلّف و وجب الحج علیه ثمّ زالت الاستطاعة عن اختیار منه ، بقی الحج علیٰ وجوبه ، وعلیه الحج و لو متسکعاً ، أمّا لو کانت الاستطاعة قیداً للحج فزالت لما صحَّ حجه متسکّعاً ، لفرض زوال القید . و یمکن أنْ یکون شیء قیداً لمفاد المادّة دون الهیئة ، کتقیّد الصّلاة بالطّهارة و الاستقبال و غیر ذلک . و یمکن أن یکون شیء قیداً لکلتیهما کالزّوال مثلاً بالنسبة إلیٰ صلاة الظّهر ، فإنه قید للواجب و الوجوب معاً .

و علی هذا ، فإن کان القید - المردّد أمره بین الرجوع إلیٰ المادّة أو الهیئة

ص:331

- متّصلاً ، فهو مانع عن انعقاد الظّهور من أصله ، و إن کان منفصلاً ، فالظهور منعقد فی الطّرفین ، إلّا أن العلم الإجمالی برجوعه إلیٰ أحدهما یوجب سقوط کلیهما عن الاعتبار ، لأنّ المکلَّف إن علم بأنّ المولی قد أراد منه - بدلیلٍ منفصل - احدی الحصّتین فقط ، لم یمکنه التمسّک بالإطلاق ، لدفع کون الوجوب حصّةً خاصّةً ، أو لدفع کون الواجب حصّة خاصّة .

و تلخّص : عدم تمامیّة أصل الوجه - کما عن الشیخ و من تبعه - و لا التفصیل فیه بین القید المتّصل و القید المنفصل ، کما ذهب إلیه فی (الکفایة) .

وعلیه ، فالصحیح أنْ لا أصل لفظی فی المقام .

و المرجع هو :

2 - الأصل العملی :

و لا ریب أنه هو البراءة ، لأنّ احتمال رجوع القید إلیٰ الوجوب ، یوجب الشک فی أصل الوجوب ، و مع الشک فی أصل التکلیف ، فالأصل هو البراءة بلا کلام .

قول المیرزا برجوع القید إلیٰ المادّة المنتسبة
اشارة

ثم إن المیرزا نفی أن یکون القید راجعاً إلیٰ المادة أو الهیئة ، و ذهب (1)إلیٰ أنّه یرجع إلیٰ المادة المنتسبة إلیٰ الهیئة ، و أکّد (2) علیٰ أنّ هذا هو مراد الشیخ فی هذا المقام ، و هذا هو القول الثالث فی المسألة .

و توضیح مراده من المادّة المنتسبة إلیٰ الهیئة هو : أنّ المادّة معنیً أفرادی - فی مقابل الترکیبی - و المفرد لا یصلح للتعلیق و التقیید ، بل الذی یصلح

ص:332


1- 1) أجود التقریرات 240/1 - 241 .
2- 2) أجود التقریرات 194/1 .

لذلک هو مفاد الجملة ، فلمّا نقول : إذا زالت الشمس فصلِّ ، أو نقول : إذا زالت الشمس فالصّلاة واجبة ، لیس المعلَّق علیٰ الزّوال هو « الصّلاة » ، و إنما مفاد الجملة الإنشائیة أعنی : « فصلّ » أو الخبریة و هی : « فالصّلاة واجبة » هو الذی یمکن تعلیقه و إناطته ، فالقید - و هو الزوال - یرجع إلیٰ المادّة - و هی الصّلاة - لکنْ بانتسابها و إضافتها إلیٰ الهیئة - و هو الوجوب - ، فالصّلاة الواجبة هی المشروطة و المنوطة بالزوال ... لا « الصّلاة » وحدها ، و لا « الوجوب » وحده ... أمّا « الصّلاة » فلأنّها معنیٰ أفرادی کما ذکر ، و أمّا « الوجوب » فلأنه معنیً حرفی ، کما تقدّم سابقاً .

هذا توضیح مرامه و إنْ اختلفت کلمات المقرّر لبحثه .

إشکال المحقق الأصفهانی

و لا یرد علیٰ المیرزا ما أشکل به المحقّق الأصفهانی (1) من أنّ المحذور الموجب لاتّخاذ هذا المبنی هو عدم امکان تقیید مفاد الهیئة ، لأنه معنی حرفی ، و هو معنیٰ آلی ، و لا یقبل التقیید إلّا المعنی الاستقلالی ، لکنّ هذا المحذور لا مجال له ، لأنّ المعنیٰ الحرفی لیس بحیث لا یلحظ ، بل یلحظ لکنْ باللّحاظ الآلی ، و هذا القدر من اللّحاظ یصحّح التقیید .

وجه عدم الورود هو : أنه غفلة عن مسلک المیرزا فی المعنیٰ الحرفی ، فإنّه یقول بأنّ المعنیٰ الحرفی غیر قابل للّحاظ أصلاً ، و أنّ حکمه حکم القطع الطریقی من هذه الجهة ، فکما أن القطع الطریقی غیر ملحوظٍ للقاطع أصلاً ، و إنما یلحظ المقطوع به فقط ، کذلک المعنیٰ الحرفی .

فکان إشکال المحقق الأصفهانی غیر واردٍ ، لأنه مبنائی .

ص:333


1- 1) نهایة الدرایة 108/2 .
کلام السید الخوئی

و أورد علیه السیّد الخوئی (1) :

أولاً : بأن ما ذکره لیس فی الحقیقة إلّا رجوع القید إلیٰ الهیئة ، و إنما الاختلاف فی اللّفظ ، إذ لا فرق بین مفاد الهیئة و هو الوجوب ، و اتّصاف المادّة و إضافتها إلیٰ الوجوب .

و ثانیاً : بأنه کما لا یمکن تقیید مفاد الهیئة ، کذلک لا یمکن تقیید المادّة المضافة إلیٰ الوجوب .

فقال الأستاذ :

بأنْ ما ذکره من کونه تغییراً فی اللّفظ فقط ، عجیب جدّاً ، لأنّ من تأمّل فی کلام المیرزا و دقّق النّظر ، علم أنّ المیرزا یریٰ أنّ إضافة المادّة إلیٰ الوجوب معنیً اسمی ، و لذا أمکن تقییده ، بخلاف مفاد الهیئة ، فإنه معنیً حرفی ، فکیف یکون المادّة المنتسبة متّحداً فی الحقیقة مع مفاد الهیئة ؟

ثم إنه جاء فی تقریر بحثه فی الدورة الثانیة التعبیر ب « نتیجة الجملة » بدلاً عن « مفاد الجملة » ، و من الواضح أنه لیس تغییراً فی التعبیر فقط ، لکون « نتیجة الجملة » غیر « الجملة » .

و أیضاً ، فإن المیرزا یقول بأنّه إنْ ارید تقیید المادّة قبل ورود نسبة الوجوب علیها ، فهی لا تصلح لذلک ، لأنها معنیً أفرادی کما تقدّم ، و إنْ ارید تقییدها فی رتبة ورود النسبة علیها ، فهی مفهوم أفرادی و لا تقبل التقیید ، و تبقی الصّورة الثالثة بأنْ یرد القید علیٰ المادة بعد انتسابها إلیٰ الوجوب - و هذه البعدیة رتبیّة لا زمانیة ، و إلّا لزم النسخ - فتکون الصّلاة مقیَّدة بالزوال فی

ص:334


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 345/2 .

مرتبة بعد وقوع النسبة ، و حینئذٍ ، تکون المادّة فرعاً لو ورد النّسبة ، و فی هذه الحالة یکون معنیً اسمیّاً ... و مع هذه الخصوصیّات کیف یقال بأنّ ما ذکره المیرزا تغییر فی التعبیر فقط ؟

و هذه نصوص عباراته (1) :

« فالمعلّق فی الحقیقة هی المادّة بعد الانتساب ، لا بمعنیٰ البعدیّة الزمانیّة حتی یکون ملازماً للنسخ ، بل بمعنیٰ البعدیّة الرتبیّة » : أی لیکون معنیً اسمیاً ، أمّا فی الرتبة القبلیة فالمعنیٰ حرفی .

یقول : « فإنّ اتّصاف المادّة بالوجوب فرع وقوع النسبة الطّلبیة علیها » .

و هل یمکن إنکار الفرق بین الفرع و الأصل ؟

و علی الجملة ، فما زعم من أن الاختلاف فی اللفظ فقط ، فی غیر محلّه ، فالإشکالان مندفعان . و کذا یندفع الإشکال : بأنّ المادّة المنتسبة لیس بشیء ثالث ، فإمّا المادّة و إمّا مفاد الهیئة ، فهی ترجع إلیٰ أحدهما .

و ذلک ، لأنّ المیرزا ذکر أنّ اتصاف الإکرام بالوجوب فرع علیٰ النسبة و یتحقق بعدها ، و من الواضح أن الفرع غیر الأصل .

و الإشکال الآخر : بأنّ المادّة المنتسبة إنما انتسبت إلیٰ معنیً آلی - و هو مفاد الهیئة - فإذن ، یکون لها حکم المعنیٰ الآلی ، فلا یمکن تقییدها .

و فیه : هذا أول الکلام . ثمّ إنه قد تقدم أنّ المیرزا یقول بأن القید یرجع إلیٰ المادّة المتّصفة بالوجوب ، و هذا معنیٰ اسمی لا آلی .

ما یرد علیٰ المیرزا

ثم قال الاستاذ دام بقاه : بأنه یمکن الإیراد علیٰ المیرزا بوجوه :

ص:335


1- 1) فوائد الأصول 180/1 ط الاُولی .

الأول : إنّ جعل مرجع القید عنوان « الإکرام الواجب » أو « وجوب الإکرام » موقوف علیٰ وجود هذه الجملة فی لفظ الکلام ، و هی غیر موجودة ، و کونها مستنبطةً لا یکفی لصحّة التقیید .

الثانی : إنه إذا کان المقیّد نتیجة الجملة ، فإنّ نتیجة الجملة لم تأتِ فی جواب الشرط بعد الفاء ، ففی : إذا زالت الشمس فصلّ ، نری أن المشروط المعلَّق هو « صلّ » و هو جملة ، و کذا فی : إذا طلعت الشمس فالنهار موجود ، إذ المعلّق هو « النهار موجود » لا « وجود النهار » الذی هو مرکّب ناقص .

الثالث : إن هذا الذی بنیٰ علیه المیرزا هنا ینافی مبناه فی « الوجوب » ، لأنه یذهب إلیٰ أن دلالة الأمر علیٰ الوجوب إنما هی بحکم العقل ، و لیست بدلالة لفظیة أو شرعیة ، و لازم کلامه هنا أن یکون الشارع قد علّق حکمه علیٰ الدرک العقلی ، أو أن العقل یعلّق حکمه علیٰ أمرٍ ، و هذا غیر معقول .

أقول :

قد یقال فی الجواب عن الإشکال الأوّل : بأنّ حکم المشروط الذی یرجع إلیه القید حکم المرجع للضمیر ، و حکم الخبر للمبتدإ ، فکما یمکن أن یکون مرجع الضمیر أو الخبر لفظاً مأوّلاً غیر مذکور فی الکلام ، کالمصدر المؤوّل من أنْ و الفعل المضارع ، کما فی قوله تعالیٰ «اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَی » (1)و نحوه ... کذلک یمکن أن یکون المشروط للشرط مؤوّلاً غیر مذکور لفظاً .

و عن الثانی : بأنّه تعبیرٌ وقع فی بعض التقریرات من بعض التلامذة .

و العمدة هو الإشکال الثالث . لکنّه اشکال مبنائی ، و للمیرزا أن یقول أنا

ص:336


1- 1) سورة المائدة : 8 .

فی کلّ یومٍ رجل !

و علی الجملة ، فلا بدّ من التحقیق الأکثر حول نظریّة المادّة المنتسبة .

تتمّة ذکر المحقق الخراسانی
اشارة

(1)

أنه بناءً علیٰ وجوب المقدّمة بحکم العقل بالملازمة : لا فرق بین الواجب المطلق و الواجب المشروط ، و أنّ مقدّمة کلا الواجبین تجب بالملازمة ، إلّا أنّ مقدّمة الواجب المطلق تکون واجبةً بالوجوب الغیری المطلق ، و مقدّمة الواجب المشروط بالوجوب الغیری المشروط ... وعلیه ، فالمقدّمة الوجودیّة للواجب المشروط واجبة ، بخلاف المقدّمة الوجوبیّة ، أی المقدّمة التی کانت شرط الوجوب ، فهذه لا یتعلّق بها الوجوب ، لا علیٰ مبنی الشیخ و لا علیٰ المبنیٰ المقابل له .

أمّا علیٰ المبنیٰ المقابل - و هو رجوع القید فی الواجب المشروط إلیٰ الهیئة - فلأنَّ ما یکون شرطاً للوجوب لا یعقل اتّصافه بالوجوب الغیری ، لأنه ما لم یتحقّق هذا الشرط فلا وجوب لذی المقدّمة ، لأنّ وجوبه موقوف علیٰ الشرط ، و المفروض عدم تحقّقه ، و إذا لم یتحقق الوجوب النفسی لذی المقدمة ، کیف یتحقق الوجوب الغیری للمقدّمة ؟

و فی ظرف تحقّق الوجوب لذی المقدّمة ، یکون الشرط متحقّقاً و الوجوب الغیری له ثابتاً ، فجعل الوجوب له - حتی یکون داعیاً لتحصیله - تحصیل للحاصل .

و أمّا علیٰ مبنی الشیخ - و هو رجوع القید إلیٰ المادّة - فالصّحیح أن یقال فی وجه عدم اتّصاف المقدّمة بالوجوب : إن قید الواجب ، تارةً : یکون قیداً

ص:337


1- 1) کفایة الأصول : 99 .

له ، بحیث تحقق القیدیّة بالوجوب الغیری الناشئ من وجوب ذی المقدّمة ، کالطّهارة بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، و فی هذا القسم ، یدخل التقیید تحت الطلب ، و یجب تحصیل الطّهارة للصّلاة . و أخریٰ : یکون قیداً للواجب لکن بحیث لو حصل ، و فی هذا القسم ، لا یدخل القید تحت الطلب ، کالاستطاعة بالنسبة إلیٰ الحج .

ففی مثل الاستطاعة ، لا فرق بین المسلکین ، أمّا علیٰ المسلک المقابل فللبرهان المذکور ، و أمّا علیٰ مسلک الشیخ ، فإنّها جعلت شرطاً للواجب بالکیفیّة المذکورة ، أی بحیث لو حصلت لا بداعویّة إیجاب المولی ... فلیست واجباً غیریّاً .

و تحصّل : إنّ مثل هذه القیود لا یتعلّق بها الوجوب .

ثم إنّ صاحب (الکفایة) ذکر أنّ قسماً من المقدّمات الوجودیّة للواجب المشروط یجب تحصیله ، و هذا القسم هو العلم بالحکم ، فإنّ تحصیله لازم بحکم العقل بمنجزیّة احتمال الحکم الشرعی ، کما هو الحال فی الشّبهات الحکمیّة قبل الفحص ، فتحصیل العلم بالحکم واجب و إنْ لم یتحقق بعدُ شرط الوجوب .

و أشکل علیه الاستاذ :

بأنّ هذا الحکم العقلی إنما هو بلحاظ حفظ الواقع المحتمل ، و الخروج عن عهدة الواقع یتحقّق بالاحتیاط ، و لا یلزم تحصیل العلم .

(قال) : و الحق فی المقام : تقسیم العلم إلیٰ ما ینجرّ ترکه إلیٰ تفویت القدرة علیٰ الامتثال و الطّاعة ، و إلی ما لا ینجر ، أمّا فی القسم الأوّل ، فلا بدّ من العلم اجتهاداً أو تقلیداً ، کأحکام الحجّ و الصّلاة و نحوهما ، فمن لم یتعلَّم

ص:338

أحکام الصّلاة قبل الوقت لا یتمکّن من تعلّمها و لا من الاحتیاط بعد دخوله ، فترک التعلّم یوجب مخالفة الواقع یقیناً ، لا أنه یوجب عدم إحرازه ... و حینئذٍ یجب التعلّم دفعاً للضرر ... .

و هنا بحوثٌ أخریٰ موضعها مباحث القطع و مباحث شرائط جریان الاصول .

ص:339

ص:340

انقسام الواجب إلیٰ : المعلّق و المنجَّز

اشارة

ص:341

ص:342

تمهید :

قسَّم صاحب (الفصول) (1) الواجب إلیٰ المعلَّق و المنجَّز ، بعد تقسیمه إلیٰ المطلق و المشروط ، و ذکر أنه تارةً : یکون الواجب و الوجوب غیر معلَّقین علیٰ شیء غیر حاصل ، و أخریٰ : یکون الوجوب غیر معلّق ، و الواجب معلقاً علیٰ أمر غیر حاصل ، فسمّی الواجب فی الأوّل بالمنجَّز و فی الثانی بالمعلَّق ، و الوجوب مطلق فی کلیهما .

و التقسیم إلیٰ المعلّق و المنجّز من انقسامات الواجب ، کما أن التقسیم إلیٰ المطلق و المشروط من انقسامات الوجوب ، و توصیف الواجب بالمطلق و المشروط إنما هو من باب الوصف بحال المتعلَّق ، فهما یرجعان فی الواقع إلیٰ الوجوب .

و علی الجملة ، الواجب إنْ کان مقیّداً بأمرٍ متأخّر فمعلّق و إلّا فمنجَّز ، فالحجّ - مثلاً - واجب مقیّد بأمرٍ متأخّر ، و هو وقوعه فی یوم عرفة ، و هو قید غیر مقدور للمکلَّف ، و قد جعل القید فی (الفصول) أمراً متأخّراً غیر مقدور ، لکنّه فی نهایة البحث جعله أعم من المقدور و غیر المقدور .

و أشکل الشیخ (2) علیٰ صاحب (الفصول) هذا التقسیم ، لأنّ « المعلّق » لیس إلّا« المشروط » فکان یکفی التقسیم إلیٰ المطلق و المشروط ، و السبب

ص:343


1- 1) الفصول : 79 .
2- 2) مطارح الأنظار : 51 - 52 .

فی ذلک هو : إنَّ القیود کلَّها ترجع عند الشیخ إلیٰ الواجب ، فکان الواجب إمّا مقیّداً بشیء و إمّا غیر مقیَّد .

و اعترضه فی (الکفایة) (1) بأنّ هذا الإشکال غیر متوجّه إلیٰ (الفصول) ، بل یتوجّه علیٰ المشهور القائلین برجوع القیود إلیٰ الهیئات ، و أمّا تقسیم (الفصول) فالشیخ موافق علیه ، لأنّ القیود ترجع عنده إلیٰ المواد ، فینقسم الواجب إلیٰ المنجّز و المعلَّق کما فی (الفصول) و إنْ اختلفا فی التسمیة ، فذاک یسمّی بالمنجّز و المعلّق ، و الشیخ یسمّی بالمطلق و المشروط .

ثم أورد فی (الکفایة) علیٰ (الفصول) بعدم ترتّب الفائدة علیٰ هذا التقسیم - و إنْ کان صحیحاً - و کلّ تقسیم لا بدّ و أنْ یکون ذا ثمرة ، و إلّا فالتقسیمات بحسب الخصوصیّات کثیرة ، و ذلک ، لأن المقصود هو الحکم بوجوب المقدّمة ، کمقدّمات الحج قبل یوم عرفة ، و الحال أنّ خصوصیّة کون الواجب حالیّاً أو استقبالیاً ، لا یوجب تقسیم الواجب إلیٰ القسمین المذکورین ، لأنّ الأثر المقصود - و هو وجوب المقدّمة - أثر إطلاق الوجوب و حالیّته ، لا استقبالیة الواجب التی هی خاصیّة الواجب المعلّق .

و الحاصل : إنه إنْ کان الوجوب مطلقاً و فعلیّاً ، کانت المقدّمة واجبةً ، و أمّا استقبالیّة الواجب ، فلا دخل لها فی وجوب تحصیل المقدمة .

و قد دافع المحقّق الأصفهانی - و تبعه فی (المحاضرات) (2) - بأنّ تقسیم (الفصول) إنما هو للتفصّی عن الإشکال الذی أورد علیٰ وجوب تحصیل المقدمات قبل زمان الواجب ، کمقدّمات الحج ، إذْ الحکم بوجوبها کذلک

ص:344


1- 1) کفایة الأصول : 101 .
2- 2) نهایة الدرایة 72/2 ، محاضرات فی أصول الفقه 348/2 .

لیس من آثار إطلاق الوجوب و فعلیّته ، فیحتاج إلیٰ تقسیم الواجب إلیٰ المعلّق و المنجز . و لعلّ هذا مراد (الکفایة) من « فافهم » ، و إنْ احتمل أنْ یکون إشارةً إلیٰ أنّ هذا التقسیم له أثر آخر - لا یترتَّب علیٰ تقسیم الواجب إلیٰ المطلق و المشروط - إذْ ما عُلّق علیه الواجب فی الواجب المعلَّق ، یمکن أن یکون من غیر المقدور للمکلّف ، بأنْ یکون وجوب الحج فعلیّاً ، و الواجب - و هو الحج معلّقاً علیٰ یوم عرفة ، الخارج عن قدرة المکلَّف .

و تلخّص : إن تقسیم (الفصول) له فائدة ، و عمدتها هو الحکم بوجوب تحصیل المقدّمات قبل مجیء زمان الواجب .

ثم أورد علیه فی (المحاضرات) :

بأنّ الواجب المعلَّق لیس قسماً من الواجب المطلق فی مقابل المشروط ، بل هو قسم منه ، لأنَّ وجوب الحج فی أوّل الأشهر الحرم بالنسبة إلیٰ یوم عرفة لیس بمهملٍ ، لأن الاهمال محال ، فهو إمّا مطلق أو مقیَّد به ، قال : لا شبهة فی أن ذات الفعل - و هو الحج - مقدور للمکلَّف ، فلا مانع من تعلّق التکلیف به ، و کذا إیقاعه فی یوم عرفة ، و أمّا نفس وجود الزمان - یوم عرفة - فهو غیر مقدور له ، فلا یمکن وقوعه تحت التکلیف ، و بما أنّ التکلیف لم یتعلَّق بذات الفعل علیٰ الإطلاق ، و إنما تعلَّق بإیقاعه فی الزمان الخاص ، فعلم أن لذلک الزمان دخلاً فی ملاک الحکم ، فیکون مشروطاً به ، إلّا أنه علیٰ نحو الشرط المتأخّر ... فظهر أنّ هذا قسم من الواجب المشروط بالشّرط المتأخّر ، لا من الواجب المطلق ... .

و قد ردّ علیه الاستاذ فی کلتا الدورتین بما حاصله :

إن قید الوجوب یفترق عن قید الواجب ، لأنه فی الأوّل دخیلٌ فی أصل

ص:345

ملاک الحکم ، کالزّوال بالنسبة إلیٰ صلاة الظهر ، إذ لا ملاک و مصلحة لها قبله ، و فی الثانی دخیل فی فعلیّة المصلحة ، کالطّهارة بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، و علی هذا ، فإنّ مرتبة قید الواجب تکون متأخرةً عن مرتبة قید الوجوب ... و کلّ هذا ثابت عند السیّد الخوئی أیضاً ، و حینئذٍ یقال له : کیف یکون الشرط المتأخّر قیداً للواجب ، و مع ذلک یکون دخیلاً فی ملاک الحکم ، فیکون الشیء الواحد موجوداً فی مرتبتین ؟

الشروع فی أصل البحث

إنه إنْ أمکن الواجب المعلَّق لزم تحصیل المقدّمات التی لو لم یحصّلها المکلَّف فات عنه الواجب فی ظرفه ، و لذا عبّروا عنها بالمقدّمات المفوّتة ، کما لو لم یتعلَّم المکلَّف کیفیّة القراءة قبل وقت الصّلاة فاتته الصّلاة ... فعلیٰ القول بالواجب المعلَّق ، یکون الوجوب محقّقاً و الواجب معلّقاً علیٰ القید و یجب تحصیل المقدّمة ، و علی القول بعدم الواجب المعلَّق ، فلا یوجد وجوب قبل زمان الواجب ، و لا دلیل علیٰ وجوب تحصیل المقدّمة .

و من الواضح ، أن ثبوت الوجوب و عدم ثبوته یدوران مدار تحقّق الملاک و عدم تحقّقه ، فیکون البحث فی مرحلتین ، مرحلة الثبوت و مرحلة الإثبات ... فلسان الآیة : «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً » (1)لسان الواجب المعلَّق ، لأنه قد علّق الحج علیٰ الاستطاعة ، و معنی ذلک :

وجوب الحج عند تحقّقها ، فإذا تحقّق الزاد و الرّاحلة له قبل أشهر الحج ، وجب علیه الحج فی زمانه ... فکان الوجوب الآن و الواجب بعدُ ... و إذا وجب لزم تحصیل المقدّمات ... .

ص:346


1- 1) سورة آل عمران : 97 .

و الکلام الآن فی مقام الثبوت .

أدلّة القول باستحالة الواجب المعلَّق

اشارة

و قد ذکرت وجوهٌ للمنع :

الوجه الأول
اشارة

ما ذکره فی (الکفایة) (1) عن بعض معاصریه و هو المحقق النهاوندی صاحب (تشریح الاصول) و ینسب إلیٰ المحقّق الفشارکی أیضاً : و ملخّصه : إن الإرادة - سواء التکوینیّة أو التشریعیّة - لا یمکن أن تتعلّق بأمرٍ متأخّر ، فکما أنّ الإرادة التکوینیة - و هی متعلقة بفعل المرید نفسه - لا تنفک عن المراد زماناً ، لأنها غیر منفکة عن التحریک ، و هو لا ینفک عن الحرکة خارجاً ، کذلک الإرادة التشریعیّة - و هی متعلقة بفعل الغیر - لا تنفکّ عن الإیجاب زماناً ، و هو غیر منفک عن تحریک العبد خارجاً ، و لازم ذلک استحالة تعلّق الإیجاب بأمر استقبالی ، لاستلزامه وقوع الانفکاک بین الإیجاب و التحریک ، و هو مستحیل ، و حیث أن القول بالواجب المعلّق یستلزم الانفکاک المذکور ، فهو محال .

جواب الکفایة

و أجاب صاحب (الکفایة) عن هذا الوجه بجوابٍ ینحلُّ إلیٰ ما یلی :

أوّلاً : إنّ الإرادة کما تتعلَّق بأمر حالی ، کذلک تتعلَّق بأمر استقبالی ، ضرورة أن تحمّل المشاقّ فی تحصیل المقدّمات ، فیما إذا کان المقصد بعید المسافة و کثیر المئونة ، کالکون فی مکّة - مثلاً - لیس إلّا لأجل تعلّق الإرادة به ، و هو الباعث علیٰ تحمّل المشاق . و قولهم فی تعریف الإرادة بأنّها الشّوق المؤکّد المحرّک للعضلات نحو المراد ، لا ینافی ذلک ، لأن کونه محرّکاً

ص:347


1- 1) کفایة الاصول : 102 .

للعضلات نحو المراد یختلف حسب اختلاف المراد من حیث القرب و البعد ، و من حیث کونه محتاجاً إلیٰ مئونة و مقدّمات قلیلة أو کثیرة ، أو غیر محتاج .

و ثانیاً : إنّه لا یشترط فی الإرادة التحریک الفعلی للعضلات ، فقولهم کذلک فی تعریف الإرادة ، إنما هو لبیان مرتبة الشوق ، إذ المراد قد یکون أمراً مستقبلاً غیر محتاج فعلاً إلیٰ تهیئة مئونة أو تمهید مقدّمة .

و ثالثاً : إنّ الإرادة التشریعیّة هی : البعثُ لإحداث الداعی للمکلَّف علیٰ المکلَّف به ، و هذا لا یکاد یتعلّق إلّا بأمرٍ متأخرٍ عن زمان البعث ، لأنّ إحداث الداعی له لا یکون إلّا بعد تصوّر المکلّف للمأمور به و ما یترتّب علیٰ فعله و ترکه ، و لا یکاد یکون هذا إلّا بعد البعث بزمان ، فلا محالة یکون البعث نحو أمرٍ متأخرٍ عن البعث بالزمان .

إشکال الاستاذ

و أورد الاستاذ علیٰ صاحب (الکفایة) بأنّ الإرادة - سواء کانت بمعنیٰ الاختیار أو بمعنیٰ الشّوق الأکید ... - لا تنفک عن المراد ، و المورد الذی ذکره لا إرادة فیه نحو المقصود ، فالقاصد للکون فی مکة و المتحرّک الآن نحوها ، لا إرادة له بالنسبة إلیٰ مکّة ، لأنّ تلک الإرادة هی الکون بمکة . و قوله : بأنّه لو لا الإرادة لذی المقدّمة لم تحصل الإرادة للمقدّمة ، ففیه : أنّه لا برهان علیٰ نشوء الإرادة بالمقدّمة عن الإرادة لذی المقدّمة ، بل البرهان قائم علیٰ الخلاف ، لأنّ إرادة المقدّمة موقوفة علیٰ تحقّق المقدّمة قبل ذی المقدّمة ، و تحقّق ذی المقدّمة بدون المقدّمة محال ، فکیف تنشأ الإرادة للمقدّمة من إرادة ذی المقدّمة ؟

و أمّا قوله بضرورة الانفکاک فی الإرادة التشریعیّة ، فسیأتی الکلام علیه

ص:348

عند التعرّض لکلام المحقق الأصفهانی .

جواب الأستاذ عن الوجه الأول

ثم أجاب الاستاذ عن الوجه الأوّل : بأنّ قیاس الإرادة التشریعیّة علیٰ الإرادة التکوینیّة فی غیر محلّه ، إذ المراد فی التکوینیّة لا ینفک عن الإرادة ، بخلاف التشریعیّة ، و إلّا لما وقع العصیان أبداً ، فالانفکاک فی الإرادة التشریعیّة واقع و حاصل ، فلا مانع من الواجب المعلَّق من ناحیة لزوم الانفکاک .

علیٰ أنَّ الواقع فی الإرادة التشریعیّة هو : الإرادة من المولیٰ ، ثم نفس الطلب من العبد ... و لا شیء آخر فیها ، أمّا الإرادة المتعلّقة بالطّلب من المولی ، فهی غیر منفکّة من الطلب ، و سیأتی فی کلام المحقق الأصفهانی أنّ هذه الإرادة تکوینیّة و إنْ کان متعلّقها تشریعیّاً و هو الطلب ، فلما أراد « الصّلاة » من العبد أنشأ قائلاً « صلّ » . و أمّا نفس الطلب ، فإنّه قد ینفکّ عن المطلوب ، إذ العبد قد یطیع و یُوجد الصّلاة و قد لا یطیع ، و قدّ تقدّم أن قیاس الإرادة التّشریعیة علیٰ الإرادة التکوینیّة باطل ... و بعبارةٍ اخری :

إن النسبة بین الإرادة التّکوینیّة و المراد ، نسبة العلّة التامّة إلیٰ المعلول ، و لا یعقل الانفکاک بینهما ، لکن النّسبة بین الإرادة التّشریعیّة و المراد هی نسبة المقتضی إلیٰ المقتضی ، و الانفکاک و التخلّف بینهما کثیر ، کما هو معلوم .

الوجه الثانی

ذکره المحقق الخراسانی أیضاً (1) ، و حاصله : إن التکلیف مشروط بالقدرة ، و بانتفائها ینتفی ، سواء قلنا إنّ ذات الخطاب ، مع قطع النظر عن حکم العقل ، یقتضی البعث إلیٰ الحصّة المقدورة ، کما هو مسلک المیرزا ، أو

ص:349


1- 1) کفایة الأصول : 103 .

أن مقتضی حکم العقل قبح تکلیف العاجز کما هو مسلک المحقّق الثانی و من تبعه ، و إذا کانت القدرة دخیلةً فی التکلیف ، ففی الواجب المعلَّق لا قدرة علیٰ المکلَّف به فی ظرف التکلیف ، فالتکلیف غیر ممکن .

و فیه :

إنّ القدرة شرط علیٰ کلّ حالٍ ، لکنْ فی ظرف العمل بالتکلیف لا فی ظرف الحکم و الخطاب ، و إلّا یلزم بطلان کثیر من التکالیف ، کالتکالیف التدریجیة کالحج مثلاً ، و المفروض فی الواجب المعلّق وجودها فی ظرف الامتثال ... فهذا الوجه مردود حلاً و نقضاً .

أقول : و بهذا یتبیَّن أنّ الأقوال فی اعتبار القدرة فی التکلیف ثلاثة ، و ما ذکره الاستاذ فی الجواب عن الوجه الثانی هو القول الثالث ، و هو للسیّد المحقّق الخوئی ، و سیأتی الکلام علیٰ ذلک بالتفصیل فی محلّه .

الوجه الثالث :

ما ذکره المیرزا (1) ، من أنّ الحکم لمّا کان منوطاً بأمرٍ خارج عن القدرة ، فإنه لا بدّ و أنْ یکون مفروض الوجود لدی إنشاء الحکم و جعله ، فما لم یفترض الحاکم وجوده لم یمکنه إنشاء الحکم ... و توضیحه :

إن المیرزا یریٰ أن المجعول فی القضیّة الحقیقیّة هو الحکم علیٰ فرض وجود الموضوع ، و مراده من الموضوع هو کلّ ما له دخل فی تحقق إرادة الحاکم بالنسبة إلیٰ الحکم ، فتکون جمیع القیود المُناط بها الحکم دخیلةً فی الموضوع ، فلذا عبَّر بأن کلّ شرط موضوع و کلّ موضوع شرط ، فإنْ کان الحکم مفترضاً لزم افتراض الموضوع بجمیع قیوده ، و إن کان فعلیّاً لزم فعلیّة

ص:350


1- 1) أجود التقریرات 196/1 .

الموضوع بجمیع قیوده .

هذه هی الکبریٰ ، و علی ضوئها یظهر بطلان الواجب المعلَّق ، لأنَّ الزمان الآتی خارج الآن عن القدرة ، فلا بدّ من فرض وجوده الآن حتی یفرض وجوده الحکم ، إلّا أن المدعی فی الواجب المعلَّق فعلیّة الحکم مع فرض وجود الزمان الذی هو من قیود الموضوع ، لکنّ فعلیّة الحکم مع کون الموضوع مفروض الوجود و غیر فعلی محال ، لأنه یستلزم - مثلاً - کون الحج واجباً الآن ، سواء وجد یوم عرفة فیما بعد أو لا ، و هذا تکلیف بغیر المقدور .

و فیه :

إن هذا الوجه یبتنی علیٰ إنکار الشرط المتأخّر ، و قد تقدّم امکانه .

و موجز الکلام هنا : إنّه لا شک فی ضرورة فرض وجود یوم عرفة حتی یصدر الحکم بوجوب الحج ، و لکنْ لمّا کان دخله فی الحکم فی المستقبل ، فإن اللّازم فرض وجوده فی ذاک الظرف ، إلّا أن فرض وجوده فی ذلک الظرف لا یستلزم أن یکون الحکم غیر فعلی الآن ، بل الحکم فعلی و تحقّق الواجب یکون فیما بعد عند ما یتحقّق قیده ، إذ لا مانع برهاناً من التقدّم الزمانی لما هو المتأخّر رتبةً ... و هذا معنیٰ کلامه (الکفایة) من أن الزمان المتأخّر مأخوذ بنحو الشّرط المتأخّر .

الوجه الرابع
اشارة

ما ذکره المحقّق الأصفهانی (1) - قال الأستاذ : و هو المهمّ - و توضیحه :

أوّلاً : إن المراد فی الإرادة التشریعیّة صدور الفعل من العبد بما هو عبد عن اختیارٍ منه ، و فی هذه الحالة یلزم علیٰ المولیٰ إنشاء الحکم بداعی جعل

ص:351


1- 1) نهایة الدرایة 76/2 - 79 .

الداعی للعبد ، لیتحرّک نحو الامتثال و تحقیق غرض المولی ... و هذه حقیقة الإرادة التشریعیّة ، فی قبال الإرادة التکوینیّة ، التی هی إرادة صدور الفعل من النفس لا من الغیر ، فکان الفرق بین الإرادتین : أن متعلَّق الإرادة فی التکوینیّة هو الفعل ، و متعلَّقها فی التّشریعیّة هو الإنشاء و البعث بداعی جعل الداعی ...

فکلتا الإرادتین تکوینیّة ، غیر أنَّ المتعلَّق فی التکوینیّة هو فعل النفس ، من القیام و القعود و الأکل و الشرب ، و فی التشریعیّة هو الإنشاء المحرّک للعبد ، و الطلب منه بداعی جعل الداعی للتحرّک ... لأن « الإرادة » هی « الشوق » غیر أنّ المتعلَّق تارةً تکوینی و هو « الفعل » و اخریٰ غیر تکوینی و هو « البعث » .

و ثانیاً : إنه بصدور « البعث » یتحقّق الحکم ، غیر أنّ « البعث » من المولی ، و « الانبعاث » من العبد ، أمران متضایفان ، و المتضایفان متکافئان قوةً و فعلاً ، و علی هذا ، فإن کان البعث فعلیّاً فالانبعاث فعلی ، و إن کان إمکانیّاً فالانبعاث إمکانی ، و لا یعقل أن یکون البعث فعلیّاً و الانبعاث إمکانی ... و هذا مقتضی قانون التضایف .

و النتیجة هی : إنه إذا کان المبعوث إلیه مقیّداً بالزمان المتأخّر ، فلا امکان للانبعاث إلیه الآن ، و حینئذٍ لا یعقل وجود البعث الإمکانی نحوه ... و إلّا یلزم الانفکاک بین المتضائفین ... و إذْ لا بعث فلا حکم ... فالواجب المعلَّق - بأنْ یکون الوجوب الآن و لکنّ الواجب متعلَّق علیٰ أمر متأخّرٍ غیر حاصلٍ الآن - محال .

ثم إنه - رحمه اللّٰه - نقض علیٰ ما ذکره : بما إذا کان الفعل ذا مقدّمات ، فهو قبل حصولها غیر ممکن ، و لازم ما ذکر عدم الحکم به إلّا بعد حصولها ، فزیارة الإمام الحسین علیه السلام یتوقّف علیٰ طیّ الطّریق و المسافة ، فلا

ص:352

یحکم بوجوبها أو استحبابها قبله ، لعدم امکان الانبعاث إلیٰ الزیارة الآن ، و کذا الحج ، فلا یحکم بوجوبه الآن لعدم امکان الانبعاث ... و هکذا .

و ینتقض أیضاً : بالواجب المرکّب من أجزاء ، کالصّلاة مثلاً ، فإنه لا یوجب امکان الانبعاث إلیٰ جمیع الأجزاء من حین التکبیر ، فیلزم أنْ لا یکون بعث إلیها ، و کذا غیرها من الواجبات التدریجیّة .

و قد استقرّ رأیه فی الحاشیة : بأنّ الملاک هو البعث الإمکانی کما تقدّم ، لکنّ البعث الإمکانی یدور مدار الإمکان الاستعدادی ، فمتیٰ کان العمل المبعوث إلیه مستعدّاً و لو امکاناً ، فإمکان الانبعاث موجود فالبعث موجود ، و فی الواجب المقیّد بالزمان المتأخّر لا یوجد الآن الإمکان الاستعدادی بالنسبة إلیه ، بخلاف الواجب ذی المقدّمة ، فإنه یوجد الآن استعداد الامتثال بالنسبة إلیه ، لوجود الحرکة فی العضلات نحو المقدمة وذی المقدمة ... فالنقض غیر وارد .

فقال الاستاذ

بورود النقض ، و ذلک ، لأنّ معنیٰ الإمکان الاستعدادی هو قابلیّة الفعل للوجود فی وقته ، ففی الصّلاة عند التکبیر ، أو الصّوم عند الفجر ، هل یوجد استعداد بالنسبة إلیٰ الإمساک فی أوّل الفجر و فی العصر ، منذ أول الفجر ، و بالنسبة إلیٰ التکبیر و التشهد من حین التکبیر ؟ إنّه لا یمکن اجتماع الزّمانی المتأخّر مع الزمانی المتقدّم ، بملاک عدم امکان اجتماع الزمان المتقدّم مع الزمان المتأخر ، فإنّه لمّا کان المفروض کون الامساک مقیّداً بالعصر ، فلا یعقل امکانه الاستعدادی فی آن أوّل الفجر ، فلا یعقل البعث الإمکانی إلیه ، و کذلک فی مثال الصّلاة ، و هکذا ... .

بل التأمّل فی کلماته و ضمّ بعضها إلیٰ البعض ، یفید التزامه بالواجب

ص:353

المعلَّق ، لأنه قال فی المرکّب التدریجی أو الواجب المستمر بأنّ الإنشاء بداعی جعل الداعی یکون فی الزمان السّابق ، أما اقتضاؤه ، ففی الزمان اللّاحق ...

قال : « فهو لیس مقتضیاً بالفعل لتمام ذلک الأمر المستمر ، بل یقتضی شیئاً فشیئاً » و یقول : « فله اقتضاءات متعاقبة ، بکلّ اقتضاءٍ یکون بعثٌ بالحقیقة » (1) ، فکذلک الواجب المعلَّق ، فإنه فی الزمان السّابق یکون البعث ، و یکون اقتضاؤه فی الزمان اللّاحق .

و حلّ المطلب :

إنّه فی حقیقة الحکم قولان ، أحدهما : أنه أمرٌ قابلٌ للجعل الاعتباری بالاستقلال ، بأنْ یعتبر الشارع اللّابدیّة و الحرمان . و الآخر : أنه أمر انتزاعی ، و منشأ الانتزاع له هو الإنشاء بداعی جعل الداعی .

و علی الثانی ، فإن الإنشاء قد یکون فیه امکان البعث ، و هذا واضح ، و قد لا یکون ، و فی الثانی : قد یکون السبب فی عدم امکان الباعثیّة هو القُصور فی الإنشاء نفسه ، کما فی إذا زالت الشمس فصلّ ، فإذا کان کذلک ، لم یصلح لأنْ یکون منشأً لانتزاع الحکم ، و قد یکون السّبب فیه هو القصور فی المتعلّق ، کما لو کان مقیّداً بالزمان المتأخّر ، فإنّ عدم إمکان الانبعاث لیس لقصورٍ فی الإنشاء ، حتی لا ینتزع منه الحکم ، بل الحکم متحقّق الآن یقیناً ، غیر أنّ الفعل غیر قابلٍ للانبعاث نحوه فعلاً .

و تلخّص : إن القصور إذا کان فی ناحیة متعلّق الحکم - بأنْ لم یمکن الانبعاث نحوه فعلاً - فهذا لا یضرّ بانتزاع عنوان « الحکم » من الإنشاء ، عند العقلاء ... و واقع الحال فی الواجبات التدریجیّة هکذا ... و کذا فی الواجب

ص:354


1- 1) نهایة الدرایة 79/2 .

المعلَّق .

و علی الأول ، فإنّ الحکم نفس المعتبر - اللّابدیة ، أو ثبوت الفعل علیٰ الذمّة - فإذا کان الملاک تامّاً ، و تحقّق الاعتبار و المعتبر ، تمّ الحکم و تحقّق ، غیر أنّ داعویّة الحکم تتحقّق فی الزمان اللّاحق ، و من المعلوم عدم تقوّم الحکم بالدّاعویة ، فیمکن الانفکاک بینهما ... فیصبح الاعتبار و المعتبر فعلیّاً ، و الفعل استقبالیّاً ، و یتم تصویر الواجب المعلّق علیٰ هذا المسلک کذلک .

و هذا تمام الکلام علیٰ مقام الثبوت ... و قد تحقّق تمامیّة الواجب المعلّق ثبوتاً ... و اللّٰه العالم .

ثمرة البحث فی الواجب المعلَّق

و إنّ نتیجة البحث عن الواجب المعلّق و ثمرته ، تظهر فی وجوب المقدّمة و عدم وجوبها ، من حیث التحصیل و من حیث الحفظ إن کانت حاصلةً ... لأنه إذا ثبت الوجوب قبل الواجب ، و کان للواجب مقدمةٌ وجودیة ، بحیث لولاها فلا وجود للواجب ، فلا بدّ من تحصیلها ، أو حفظها ... لکنْ بأیّ دلیل ؟

و تظهر الثمرة أیضاً فی العلم الإجمالی فی الواجبات التدریجیّة کما سیأتی .

أمّا علیٰ القول بالملازمة بین المقدّمة وذی المقدمة ، فإنه بناءً علیٰ ثبوت الواجب المعلّق ، و علی کون وجوب ذی المقدّمة فعلیّاً ، فلا مناص من القول بوجوب المقدّمة ، لیصیر فعلیّاً ، و هذا الوجوب حکم شرعی ، فإنْ کانت المقدّمة غیر حاصلة وجب تحصیلها ، و إن کانت حاصلةً وجب حفظها .

و أمّا بناءً علیٰ إنکار الملازمة الشّرعیة بین المقدمة وذی المقدّمة ،

ص:355

فالوجه فی وجوب المقدّمة هو حکم العقل ، فإنّ العقل حاکم بلابدیّة تحصیل المقدّمة أو حفظها ... لأنّ المفروض وجوب ذی المقدّمة وجوباً فعلیّاً ، فإذا توقّف علیٰ مقدمةٍ فاللّابدیّة العقلیّة موجودة .

فتحصیل المقدّمات واجب شرعاً و عقلاً علیٰ القول بالملازمة ، و عقلاً علیٰ القول بعدم ثبوتها .

و علی هذا ، فإنّ الغسل من الجنابة و من الحیض واجب فی اللّیل مقدّمةً لصوم الغد ، لأن وجوب الصّوم فعلی و إن کان الصوم استقبالیاً ، و المقدّمة - و هی الطهارة قبل الفجر - یجب تحصیلها ، و فی الاستطاعة للحج ، عند ما تحقّقت یجب حفظها لأجل الحج ، و لا یجوز تفویتها و إنْ کان حصولها قبل أشهر الحج ، لأن وجوب الحج فعلی فحفظ مقدّمته واجب ، و کذا تهیئة المقدّمات ، لأنّ الحج وجوبه فعلی .

و علی هذا أیضاً ، یجب تعلّم المسائل التی سیبتلی بها المکلّف ، بأنْ یتعلّمها قبل البلوغ ، کی لا یؤدّی ترک التعلّم إلیٰ فوت الواجب .

و فی الواجبات التدریجیة

و أمّا فی الواجبات التدریجیّة ... فإنّ العلم الإجمالی فی الواجبات التدریجیّة له صور :

1 - التدریجیّة باختیار المکلَّف ، مثل أن یعلم بأنّ أحد الثوبین مغصوب فیلبس کلیهما بالتدریج ... فالعلم الإجمالی هنا منجّز عند الکلّ .

2 - التدریجیة علیٰ أثر عدم تمکّن المکلّف من الجمع بین الطرفین ، لکن التکلیف فی کلیهما فعلی ، کأنْ یعلم بالإجمال فی ظهر یوم الجمعة بوجوب احدی الصّلاتین ، من الجمعة أو الظهر ، فالتدریجیّة هی علیٰ أثر عدم

ص:356

التمکن من الجمع ، لکنْ کلتا الصّلاتین وجوبه فعلی ... و هذا العلم الإجمالی أیضاً منجّز عند الکلّ .

3 - التدریجیّة علیٰ أثر تقیّد الواجب بمتأخّر زماناً أو زمانیّاً ، فعلیٰ القول بالواجب المعلّق ؛ بأنْ یکون الوجوب فعلیّاً و الواجب استقبالیاً ، یکون العلم الإجمالی منجّزاً ، و علی القول بعدمه ، فمحلّ خلاف ، لأنّا إنْ قلنا بدوران التنجیز مدار الفعلیة للتکلیف ، کما علیه الشیخ و صاحب (الکفایة) فالوجوب لیس فعلیّاً عندهما ، فلا تنجیز .

و تلخّص : إنه بناءً علیٰ الواجب المعلّق ، فالعلم الإجمالی منجّز و إلّا فلا ، و لذا أفتی صاحب (الکفایة) فی المضطربة الناسیة للوقت و الفاقدة للتمییز ، - و هی تعلم بتحقق الحیض لها فی الشهر - بالبراءة ، من جهة الدخول فی المسجد و الصّلاة و الوطی ، و ذلک ، لأنها لا علم لها الآن بالتکلیف الفعلی ، و علمها بتحقّقه - إمّا الآن و إمّا فی الأیام الآتیة - لیس بمنجّز ، لعدم کون المحتملین طرفین للتکلیف الفعلیّ .

توضیح المقام و تفصیل الکلام

اشارة

إنه بناءً علیٰ إنکار الواجب المعلَّق ، یقع الإشکال فی وجوب تحصیل المقدّمات أو حفظها فی مسائل کثیرة ، مع قیام الدلیل فی مقام الإثبات ، کمسألة وجوب التعلّم للأحکام الشرعیّة قبل الابتلاء بها ، و مسألة وجوب الغسل من الجنابة قبل الفجر ، و مسألة وجوب التهیُّؤ للحج قبل أشهر الحج ...

و هکذا ... .

أمّا فی المقدّمة غیر التعلّم

فتارة : القدرة غیر دخیلة فی الملاک و الغرض ، فالتحقیق : إنّ العقل

ص:357

یحکم بلزوم حفظ الأغراض اللّزومیة للمولی و عدم جواز تفویتها ، بحیث أنّ تفویتها یستتبع استحقاق العقاب عقلاً ، إلّا أنّ لهذا الحکم مقدّمات :

(المقدّمة الأولی) - و هی صغرویّة - کون القدرة علیٰ العلم غیر دخیلةٍ فی ملاک الحکم الشرعی و الغرض عنه ، فلو کانت دخیلةً فیه فی ظرف العمل ، لم یکن تحصیل القدرة علیه أو حفظها واجباً ، لأن القدرة تکون حینئذٍ موضوعاً للحکم ، و تحصیل الموضوع أو حفظه غیر لازم .

(المقدّمة الثانیة) - و هی کبرویّة - إنه کما یحکم العقل بلزوم حفظ أحکام المولی و عدم تفویتها ، کذلک یحکم بلزوم حفظ أغراضه ، و کما أن مخالفة الحکم تستتبع العقاب ، کذلک مخالفة علة الحکم و هی الغرض منه .

بل قیل : إن هذا الحکم فطری ، و قد طرحت هذه المسألة فی مباحث الاجتهاد و التقلید بمناسبة قولهم : إنه یجب علیٰ کلّ مکلّف أنْ یکون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً ، فبحثوا عن حقیقة هذا الوجوب و أنه عقلی أو شرعی ، فقیل - کما فی (المستمسک) (1) - بأنه فطری ، بملاک لزوم دفع الضرر المحتمل ، بمناط وجوب شکر المنعم ، فکان وجوب أحد الامور - علیٰ نحو التخییر - وجوباً عقلیّاً فطریّاً ، فبالنظر إلیٰ حکم العقل بشکر المنعم فهو حکم عقلی ، و بالنظر إلیٰ ملاکه - و هو الفرار من الضرر المحتمل - فهو فطری ، و لذا یوجد عند الحیوانات أیضاً .

قال الاستاذ : و فیه تأمّل ، لأنّه لو کان فطریّاً لما عصی الإنسان المکلّف ، لأنّه عاقل و یحتمل العقاب و الضرر ، فلو کان الفرار منه فطریّاً لما تحقق منه المعصیة ، لکون الأمر الفطری لا یقبل التخلّف ، فتأمّل .

ص:358


1- 1) مستمسک العروة الوثقی 6/1 .

و علی الجملة ، فهو حکم عقلی ، و العقل لا یفرّق فی وجوب الحفظ بین الحکم و ملاکه ، خاصةً مع فعلیّة الغرض و تمامیّته (1) ... وعلیه ، فیجب تحصیل المقدّمة أو حفظها .

(المقدّمة الثالثة) - و هی کبرویّة أیضاً - القول بأن الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار عقاباً - و إن کان ینافیه خطاباً - فلو انتفت القدرة علیٰ الامتثال و امتنع الاطاعة باختیار من المکلّف - کما لو ألقی نفسه من شاهق مثلاً - فإنه و إن یمتنع التکلیف ، إلّا أنّ استحقاق العقاب موجود - خلافاً لمن یقول بعدم العقاب أیضاً ، و لمن یقول بإمکان الخطاب أیضاً - لأنّ الخطاب إنما هو للتأثیر فی إرادة العبد ، و فی ظرف الامتناع بالغیر ، حیث الامتناع فعلی و لو کان باختیارٍ منه ، لا یعقل الانبعاث و الانزجار ، فالخطاب لغو ، لکن موضوع استحقاق العقاب عند العقل هو مطلق الفعل المقدور و الممکن ، سواء کان مقدوراً بنفسه أو بالواسطة ، أو غیر مقدور فی ظرفٍ من الظروف .

حکم العقل

و إذا تحققت هذه المقدّمات ، بأنْ لم تکن القدرة دخیلةً فی الملاک ، و کان حکم العقل بلزوم حفظ الملاک کحکمه بلزوم حفظ الحکم من المولیٰ ، و کان الامتناع بالاختیار لا ینافی العقاب ، کان العقاب علیٰ ترک الواجب الذی امتنع لعدم تحصیل مقدماته صحیحاً ، و إذا صحّ العقاب عقلاً ، وجب تحصیل المقدّمات أو حفظها .

ص:359


1- 1) هذا إشارة إلیٰ أنّ هذا الحکم یختص بصورة فعلیّة الغرض ، أو یعمّ ما إذا کان الغرض و الملاک غیر فعلی بل یکون تامّاً فعلیّاً حین العمل ؟ قولان ، ذهب الشیخ إلیٰ الأول ، و المیرزا إلیٰ الثانی ، و هو المختار ، وعلیه ، فیکون هذا الحکم العقلی فی الواجب المعلّق - حیث الملاک تام فعلی - و فی الواجب المشروط ، حیث یتحقّق الملاک فی ظرف العمل .
و هل للشرع أیضاً حکم ؟

و حینئذٍ ، یبحث عن الوجوب الشرعی بقاعدة الملازمة ، بأنْ یکون هذا الحکم العقلی کاشفاً عن الحکم الشرعی بتلک القاعدة أو لا ؟

رأی المحقق النائینی

فقال المیرزا رحمه اللّٰه بالأوّل (1) بدعوی أنّ حکم العقل باللّزوم دلیل علیٰ إیجاب الشارع المقدّمة حفظاً للغرض من الحکم ، فیکون حکماً شرعیّاً متمّماً للحکم الشرعی الأوّل ... بتقریب : إن المفروض حکم العقل بلزوم حفظ الغرض ، و فی موارد الإرادة التکوینیّة ، نجد أنّ الإنسان یحفظ المقدّمة أو یسعی وراء تحصیلها لمراده التکوینی المقیّد بزمانٍ متأخّر ، فمثلاً : إذا کان یعلم بأنّه سیمرض فی الغد ، فإن الغرض بالنسبة إلیٰ النجاة من المرض موجود الآن بالفعل ، فتتحقق الإرادة التکوینیّة منه من الآن لتحصیل الدّواء اللّازم أو حفظه ... و وزان الإرادة التشریعیّة وزان التکوینیّة ، و حینئذٍ ، تتعلّق الإرادة التشریعیّة لتتمیم الجعل بالنسبة إلیٰ ذی المقدّمة ، فیکون حکماً شرعیّاً .

و فیه :

إن المفروض أنه لا قصور فی حکم العقل و کفایته لحفظ المقدّمة أو تحصیلها ، فلا حاجة إلیٰ جعل المولیٰ ، علیٰ أنّ هذا القول یبتنی علیٰ قیاس الإرادة التشریعیة علیٰ التکوینیّة دائماً ، و هذا أوّل الکلام ، ففی الإرادة التکوینیّة إذا تعلّقت بذی المقدّمة ، فإنّها تتعلّق بالمقدّمة أیضاً ، و لکن الوجوب الشرعی إذا تعلَّق بذی المقدّمة ، فوجوب مقدمته شرعاً أوّل الکلام .

ص:360


1- 1) أجود التقریرات 221/1 .
رأی المحقق الخوئی

و قال السیّد الخوئی (1) ما حاصله : عدم الملازمة ، لأنّ استحقاق العقاب علیٰ ترک تحصیل المقدّمة أو حفظها ثابت بحکم العقل بلزوم حفظ غرض المولی ، فلا حاجة إلیٰ جعلٍ من الشّارع لکونه بلا أثرٍ فهو لغو ، نظیر باب الإطاعة و المعصیة ، حیث أنّ الحاکم فیه هو العقل ، و حکم الشرع فیه بوجوب الإطاعة لغو ، لعدم الأثر .

و فیه :

إنّه قیاس مع الفارق ، فإنّ الحاصل هنا و المتحقّق إنّما هو درک العقل استحقاق العقاب ، و لا أمر من الشارع ، و من الناس من لا ینبعث من مجرّد الدرک المذکور ، فلا هم یخافون العقاب و لا یطمعون فی الثواب ، بل یریدون ما أراده المولیٰ فعلاً و ترکاً ، فإذا لم یکن منه أمر أو زجر فلا یتحرّکون ، فجعل الوجوب الشرعی أو الحرمة یکون ذا أثر لهؤلاء ، و علی أثره سیتحرّکون ، فلا لغویّة فی الجعل ، بخلاف باب الإطاعة و المعصیة ، فإن المحرّک الشّرعی نحو الصّلاة موجود بقوله « صلّ » ، فلا معنی لجعل « أطیعوا » أیضاً ، لأن التأثیر فی النفس یحصل به و یتحرّک العبد نحو الامتثال ، فالأمر بإطاعة الأمر بالصّلاة لغو .

رأی الأستاذ

فذهب الاستاذ - بعد الإشکال فی القولین - إلیٰ أنّ الحکم الشرعی ممکن و لیس بلغوٍ ، لترتّب الثمرة علیه کما تقدَّم ، و لذا قال المحقّق الأردبیلی و من تبعه فی المقدمات المفوّتة باحتمال الوجوب الشرعی النفسی التهیّئی ،

ص:361


1- 1) محاضرات فی أصول الفقه 361/2 .

و لو لا الإمکان لما قالوا بذلک ... فالوجوب الشرعی بالنسبة إلیٰ المقدّمات المفوّتة - مع وجود حکم العقل - لا لغویّة فیه ، لأنّ منشأ الأمر أعم من جعل مصحّح العقاب ، و لکنّ هذا الإمکان لا یکفی للوقوع ، بل لا بدّ من الدلیل ، فالحق : إنه ممکن ، و لکنْ لا یوجد کاشف عن هذا الوجوب ، إذ الکاشف إمّا شرعی و إمّا عقلی ، أمّا الأوّل ، فلا یوجد دلیل من الشرع علیٰ وجوب المقدّمات المفوّتة ، و أمّا الثانی ، فلأنّ الملازمة لم تتم .

و تلخّص : إن المقدّمات المفوّتة واجبة بالوجوب الشرعی الغیری بناءً علیٰ القول بالواجب المعلّق ثبوتاً و قیام الدلیل إثباتاً ، بمناط اللّابدیة العقلیّة فی کلّ مورد یکون ذو المقدّمة واجباً ، و أمّا بناءً علیٰ القول بعدم ثبوت الواجب المعلّق أو استحالته ، فالمقدّمات المذکورة واجبة - تحصیلاً و حفظاً - عن طریق لزوم حفظ الغرض ، و هو حکم عقلی غیر مستتبع للحکم الشرعی ، من جهة عدم تمامیّة مقام الإثبات ... و ما تقدّم من القولین خلط بین المحذور فی مقام الثبوت و عدم المقتضی فی عالم الإثبات .

وجوه اخریٰ لوجوب المقدّمة المفوّتة

هذا ، و هناک وجوه اخریٰ للقول بوجوب المقدّمة المفوتة غیر التعلّم :

أحدها : القول بوجوب المقدمات بنحو الوجوب المشروط بالشرط المتأخّر ، و به قال المحقّق الخراسانی و السید البروجردی (1) .

و فیه : إنّ الواجب المعلّق لیس إلّا الوجوب المشروط بالشرط المتأخّر ، فکلّ واجب عُلّق فیه الوجوب بشرطٍ متأخّر - و هو الزمان الآتی - فهو واجب معلّق . فهذا الوجه لیس إلّا الالتزام بالواجب المعلّق .

ص:362


1- 1) کفایة الأصول : 99 ، نهایة الأصول : 166 .

الثانی : القول بوجوبها بالوجوب النفسی التهیّئی ، فیجب تحصیلها أو حفظها . قاله السیّد البروجردی أیضاً (1) .

و فیه : المقدمة الواجبة کذلک هی التعلّم ، کما سیأتی . و أمّا غیره من المقدمات فلم یقم دلیل شرعی تامٌّ علیٰ وجوبه .

الثالث : القول بأنّ تفویت غرض المولی قبیح عقلاً ، بمعنیٰ أنه تعجیز للمولی من أن یجعل ما یتعلّق به غرضه من الأحکام ، و هذا متحقق فی صورة عدم تحصیل أو حفظ المقدّمة ، فهو قبیح . حکاه المحقق الأصفهانی (2) .

و فیه :

کما ذکر المحقق الأصفهانی : إنه موقوف علیٰ ثبوت استقلال العقل بلزوم تمکین المولی من أغراضه القائمة بتشریعاته و جعله للأحکام ، فیکون تعجیزه قبیحاً ، و هذا غیر ثابت ، نعم ، العقل حاکم بقبح عدم تمکینه من أغراضه القائمة بأفعال المکلَّفین ، فیمکن بذلک تعجیزه من أصل الحکم و الاعتبار ، لکنّ هذا حکم عرضی و لیس باستقلالی .

الرابع : القول بکون وجوب المقدّمة ناشئاً من الشوق ، لا من وجوب ذی المقدمة ، و لمّا کان هذا الشوق حاصلاً قبل ذی المقدّمة ، فیجب تحصیل المقدّمة أو حفظها قبله ... قاله المحقق الأصفهانی .

و توضیحه : إن إرادة المقدّمة لیست ناشئةً عن إرادة ذی المقدمة ، و إلّا یلزم إمّا انفکاک العلّة عن المعلول ، و إمّا تقدّم المعلول علیٰ العلّة ، و کلاهما محال ، و السرّ فی ذلک هو : إنّه إذا وجبت المقدّمة ، فذو المقدمة واجب

ص:363


1- 1) نهایة الأصول : 166 .
2- 2) نهایة الدرایة 88/2 - الهامش .

أیضاً ، لکنْ لا برهان علیٰ أن یکون وجوب ذی المقدمة مقارناً لوجوبها ...

فقد یکون وجوب المقدمة الآن و وجوب ذی المقدمة فیما بعد . و علی هذا ، فلو قلنا بأن الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة ناشئة من الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة ، لزم أحد المحذورین .

بل إرادة المقدّمة ناشئة من الشوق إلیٰ ذی المقدّمة ، فمن أراد الدرس و اشتاق إلیه ، خرج من بیته و تحرَّک نحو المدرسة ... هذا فی القضایا التکوینیّة ، و کذلک فی التشریعیّة ، فإنّ الشوق لفعل الغیر یوجب البعث إلیه ، فإنْ رأیٰ المولی توقّفه علیٰ مقدّمةٍ اشتاق إلیها و بعث نحوها ، و إنْ لم یکن البعث إلیٰ ذی المقدّمة حاصلاً فی هذا الوقت ، لکون ظرفه هو الزمان اللّاحق .

فکان الشوق کافیاً فی إیجاب المقدّمة الآن ، و إنْ لم یکن ذو المقدمة واجباً ، و وجوب المقدّمة یعنی تحصیلها أو حفظها إن کانت حاصلةً .

و فیه :

إنّ هذا الوجه لا یفید لوجوب تحصیل أو حفظ المقدّمة ، لأنَّ البعث نحو المقدّمة یکون بالوجوب الغیری ، و هو موقوف علیٰ ثبوت الملازمة بین الوجوب الشرعی لذی المقدّمة و الوجوب الشرعی للمقدّمة . و هذا غیر ثابت ، بل التلازم بین الوجوب الشرعی لذی المقدّمة و اللابدیة العقلیة للمقدّمة ، هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه بناء علیٰ تمامیّة التلازم المذکور ، تکون المقدّمة واجبةً بالوجوب الغیری ، لکن الوجوب الغیری لا یستتبع استحقاق العقاب حتی یکون التحصیل أو الحفظ واجباً ، إلّا أن یرجع إلیٰ لزوم حفظ غرض المولی

ص:364

و عدم جواز تفویته ، و هو الوجه الذی اخترناه .

هذا کلّه ، فیما لیست القدرة فیه دخیلةً فی الملاک و الغرض .

و تارة : القدرة دخیلة فی الملاک .

و قد قسّموا دخل القدرة فیه إلیٰ قسمین : أحدهما : أن تکون القدرة الدخیلة مطلقةً ، سواء کانت بالنسبة إلیٰ ذی المقدمة أو المقدمة ، قبل العمل أو فی ظرفه ، کالحکم بوجوب حفظ الإسلام و قوانینه مثلاً . و الثانی : أن تکون قدرةً خاصّة ، کأن یقول الشارع : إن کنت قادراً علیٰ کذا فهو واجب علیک ، أو یحکم العقل بلزوم القدرة علیٰ الفعل المأمور به الخاص ، من باب عدم جواز تکلیف العاجز .

فإنْ کان من قبیل الأوّل ، فالتحصیل أو الحفظ لازم کالأوّل ، لقبح تفویت غرض المولی ، و إن کان من قبیل الثانی ، فإنه یتبع کیفیّة أخذ القدرة الخاصّة ، فإنه إذا کان دخلها فی الملاک بعد الوجوب فلا یجب التحصیل أو الحفظ ، و إن کان فی وقت العمل ، جاز التفویت حتی فی ذلک الوقت .

فالأمر یرجع إلیٰ ظواهر الأدلّة فی مقام الإثبات .

فأدلّة وجوب حفظ الإسلام و نحو ذلک ، ظاهرة فی إطلاق القدرة المعتبرة ، و أمّا مثل الطّهارة بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، فیتبع کیفیة الاستظهار من قوله تعالیٰ «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ » و نحوه ، فهذه الآیة بضمیمة «فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء » ظاهرة فی اشتراط الصّلاة بالطّهارة بالقدرة علیها فی ظرف الصّلاة و القیام إلیها ، فلا یجب تحصیلها أو حفظها قبل الوقت ... لأنّه لا یلزم تحقیق الموضوع للحکم .

هذا ، و لو شک فی أصل دخل القدرة أو فی کیفیة دخلها ، بأنْ تکون

ص:365

شبهة موضوعیّة لحکم العقل بلزوم تحصیل المقدّمة أو حفظها ، فما هو مقتضیٰ القاعدة ؟

إن کان للأحکام العقلیّة و العقلائیّة حکم طولی أخذ به ، کحکم العقلاء بقاعدة الإمکان بعد حکمهم بحجّیة الظواهر ، فالظواهر عند العقلاء حجّة ، فإنْ شکّ فی موردٍ فی إمکان التعبّد بمدلول اللفظ ، أخذوا بقاعدة الإمکان و قالوا بحجّیة الظهور ما لم یثبت استحالة التعبّد به ... و کحکم العقل باشتراط التکلیف بالقدرة ، و مع الشک فی وجودها فی مورد یحکم بلزوم الاحتیاط .

و إنْ لم یکن له حکم طولی ، وصلت النوبة إلیٰ الأصل العملی ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، و المرجع فیه هو البراءة العقلیّة .

بحث التعلّم

اشارة

و أمّا فی التعلّم - و إنّما بحثوا عنه علیٰ حدة ، لأنّه کما یکون وجودیّة ، کذلک یکون مقدمة علمیّة ، بخلاف سائر المقدّمات المفوّتة ، فإنها مقدّمة وجودیّة فقط ، إذ هی مقدّمات لامتثال التکلیف ، و التعلّم مقدّمة للامتثال تارةً و لإحراز الامتثال اخری . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : التعلّم یجب تحصیله أو حفظه علیٰ کلّ تقدیر - بخلاف سائر المقدّمات ، فإن ذلک یدور مدار کیفیّة أخذ القدرة إطلاقاً و خصوصیّةً - فإنّ معرفة اللّٰه تعالیٰ غایة الغایات ، و لیست مقدّمةً لشیء ، و معرفة النبیّ و الوصی علیهما السلام لها الجهتان ، جهة الموضوعیّة وجهة الطریقیّة ، و معرفة الأحکام الشّرعیة تختلف جهاتها ، فالحکم یجب أن یعرف و متعلّقه کذلک ، و متعلّق المتعلّق إنْ کان ... و هکذا ... و طریق تحصیل الأحکام أو حفظها ، إمّا الاجتهاد و إمّا التقلید و إمّا الاحتیاط ... إلّا علی مسلک الأردبیلی و من تبعه من القول

ص:366

بوجوب التعلّم وجوباً نفسیاً تهیّئیاً .

تفصیل الکلام بذکر الأقوال

فإنّه قد ذهب المحقّق الأردبیلی و صاحب المدارک (1) إلیٰ أنّ التعلّم واجب بالوجوب النفسی إلّا أنه واجب للغیر ، و هذا معنیٰ قولهم بوجوبه النفسی التهیّئی ، فهو واجب ، لکنْ لأنْ یتهیّأ المکلّف لحفظ الواقع عملاً .

و قال المشهور بعدم وجوبه بالوجوب الشّرعی ، بل هو لزوم عقلی ، فقیل : بمناط قاعدة الامتناع ، فمن ترک التعلّم ، فقد فوّت الواقع و امتنع علیه لکنْ باختیارٍ منه ، و قد تقدَّم أنه لا ینافی العقاب . و هذا رأی الشّیخ الأعظم (2) .

و قیل : بل بمناط لزوم دفع الضرر المحتمل . و هذا مختار المیرزا (3) .

و قیل بالتفصیل ، و أنّه تارة بذاک المناط ، و اخریٰ بهذا . و هذا ما ذهب إلیه السیّد الخوئی (4) .

توضیح المقام :

إذا استطاع المکلّف للحج ، ثمّ فوّت الاستطاعة ، تسلب منه القدرة علیٰ الحج ، فعلیه أن یحافظ علیٰ الاستطاعة لیتمکّن من الحج الواجب علیه ، و إلّا استحق العقاب ، بمقتضیٰ قاعدة : الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار ، فیستحقّ العقاب ، لأن امتناع الامتثال کان باختیارٍ منه .

فیقول الشیخ الأعظم : إنّ ترک التعلّم من هذا القبیل ، و القاعدة المذکورة هی المستند للحکم باستحقاق العقاب .

ص:367


1- 1) مجمع الفائدة و البرهان 110/2 ، مدارک الأحکام 219/3 .
2- 2) مطارح الأنظار : 44 .
3- 3) أجود التقریرات 154 - 157 ط 1 .
4- 4) محاضرات فی أصول الفقه 367/2 .

و یقول المیرزا : إن العلم لا یوجب القدرة علیٰ الامتثال ، و لا الجهل بموجب للعجز عنه ، لأنّ الأحکام الشرعیّة مشترکة بین العالمین و الجاهلین بلا فرق ... فلو کان الجهل موجباً للعجز ، لاستحال تکلیف الجاهل و اختصّت الأحکام بالعالمین ... بل المیرزا یریٰ أنّ الجاهلین أیضاً مخاطبون بالأحکام الشرعیّة ، و الخطابات الشرعیّة مطلقة تعمّ الفریقین - لکنْ لا بالإطلاق ، لأنّ مخاطبة الجاهل قبیحة ، فلا بدّ من العلم ، و تقیید الخطاب بالعلم یستلزم الدّور ، فیسقط الإطلاق - و یتمّ الشمول للفریقین بنتیجة الإطلاق ، علیٰ ما تقدَّم فی مبحث التعبّدی و التوصّلی .

هذا بالنسبة إلیٰ مطلق المقدّمات المفوّتة .

أمّا فی خصوص التعلّم ، فالمیرزا لا یریٰ أنه من المقدّمات المفوّتة ، بل یقول - وفاقاً لصاحب (الکفایة) - بلزوم التعلّم ، من جهة أنّ مجرَّد احتمال التکلیف من ناحیة المولی منجّز عقلاً ، فیجب علیه الفحص عن أحکام المولی ، دفعاً للضّرر المحتمل اللّازم دفعه بحکم العقل .

التحقیق هو التفصیل

و حینئذٍ نقول : إنّه لا بدَّ من التفصیل بین الموارد :

تارةً : یکون ترک التعلّم مع القدرة علیه موجباً لمخالفة الواقع ، و اخریٰ :

یکون موجباً لعدم إحراز الواقع ، بناءً علیٰ وجوب إحرازه و عدم کفایة الامتثال الإجمالی بالاحتیاط ، مع التمکّن من الامتثال التفصیلی ، أو بناءً علیٰ القول باعتبار قصد التمییز .

فإنْ کان یوجب عدم التعلّم سلب القدرة علیٰ فعل الواجب ، کان مجریٰ قاعدة الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار ، کما علیه الشیخ ، و لیس صغری

ص:368

قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل .

فالموارد تختلف ، فتارةً : یکون ترک التعلّم قبل الوقت موجباً لفوات أصل وجود الواجب ، کما لو لم یتعلَّم القراءة قبل الدخول فی الصّلاة ، فإنه سوف لا یکون قادراً علیٰ التعلّم ، فیفوت الواجب ، و أُخری : یکون ترک التعلّم موجباً لعدم تمکّنه من إحراز الموافقة الفضلیة مع التکلیف ، کما لو لم یتعلّم أحکام القصر و التمام و تردّد حکمه بینهما ، فهنا القدرة علیٰ أصل التکلیف موجودة ، لأنّ المختار - کما ثبت فی محلّه - أنّ الامتثال الإجمالی فی عرض الامتثال التفصیلی ، و أنّ تکرار العبادة لا یضرّ ، و أنّ قصد التمییز غیر لازم ، فإذا کانت القدرة علیٰ الواجب موجودةً ، و هو متمکّن من الاحتیاط بالصّلاة ، مرّة قصراً و مرّة تماماً ... فلا یجب التعلّم ، إذ لا ضرر محتمل حتی یلزم دفعه .

هذا کلّه مع العلم بالابتلاء مستقبلاً .

الکلام فی استصحاب عدم الابتلاء مستقبلاً
اشارة

و أمّا لو شک فی ابتلائه بالحکم الشرعی فی المستقبل ، کأنْ لا یدری هل سیکون مستطیعاً ، فیجب علیه تعلّم أحکام الحج لیتمکّن من العمل فی ظرفه ، أو لا یکون ، فلا یجب علیه التعلّم ؟

إن مقتضی القاعدة العقلیّة - و هو لزوم حفظ غرض المولی علیٰ العبد ، عملاً بوظیفة العبودیّة - هو تحصیل القدرة علیٰ الامتثال و حفظ القدرة علیه ، حتی تحصل البراءة الیقینیّة ، لکنّ هذا الحکم العقلی - کسائر الأحکام العقلیّة - معلّق علیٰ عدم وجود المؤمّن من قبل المولی ، و المؤمّن هنا هو الاستصحاب ، لأنّ المفروض عدم ابتلائه الآن یقیناً ، و أنه شاک فی الابتلاء

ص:369

مستقبلاً ، فیستصحب عدم الابتلاء بالاستصحاب الاستقبالی ، و به یرتفع موضوع الحکم العقلی المذکور .

و قد نوقش فی هذا الاستصحاب بوجوه :

الوجه الأوّل :

عدم شمول أدلّة الاستصحاب لهذا القسم من أقسامه . ذهب إلیه الفقیه صاحب الجواهر (1) . لکنّه إشکال مبنائی ، و قد تقرّر فی محلّه عموم أدلّة « لا تنقض » له ، و عدم انصرافها عنه ، بل إطلاقها محکَّم ، تشمل المتیقّن السّابق و الحالی و اللّاحق بلا فرق .

الوجه الثانی :

إنه یعتبر فی الاستصحاب أنْ یکون المستصحب إمّا حکماً شرعیّاً ، و إمّا موضوعاً لحکم شرعی ، و « عدم الابتلاء » لیس حکماً و لا موضوعاً ، و لا یترتّب علیٰ استصحاب عدم الابتلاء أیّ أثر . قاله المیرزا (2) .

جواب السید الخوئی

و أجاب فی (المحاضرات) (3) بما ملخّصه : إن الحکم العقلی غیر قابل للتخصیص لکنّه قابل للتخصّص ، بأنْ یتصرَّف الشارع فی موضوعه و یرفعه بجعل الترخیص ، و هنا احتمال الابتلاء فی المستقبل هو الموضوع للأثر ، و هو و إنْ کان موجوداً بالوجدان ، لکنَّ الاستصحاب إذا جریٰ کان رافعاً للابتلاء الواقعی تعبّداً ، فلا یبقیٰ لقاعدة دفع الضرر المحتمل موضوع ... نظیر حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ، و مجیء البیان من ناحیة الشارع ، الرافع لموضوع

ص:370


1- 1) کما فی أجود التقریرات 231/1 .
2- 2) أجود التقریرات 231/1 .
3- 3) محاضرات فی أصول الفقه 367/2 .

الحکم العقلی ، و کذلک هنا ، فإنّه بجریان الاستصحاب یرتفع الموضوع لقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل .

قال الأستاذ :

و فیه : إن المیرزا یقول بعدم جریان هذا الاستصحاب ، لعدم توفّر الشرط فی المستصحب ، و هو کونه حکماً شرعیّاً أو موضوعاً لحکمٍ شرعی ...

نعم ، لو جریٰ لارتفع به موضوع الحکم العقلی .

بل الصّحیح فی الجواب أن یقال : لیس الشرط فی الاستصحاب أن یکون المستصحب کذلک ، بل إن قابلیّة التعبّد للأمر المستصحب و ترتب الأثر علیه تکفی للجریان ، و فیما نحن فیه ، لمّا کان التعبّد بهذا الاستصحاب موجباً لسقوط الحکم العقلی و حصول التوسعة من ناحیة الشارع علیٰ العبد ، کان الاستصحاب ذا أثر ، و لا تلزم اللّغویة فیه .

و بعبارة أخریٰ : إن الشک فی الابتلاء الذی هو موضوع حکم العقل لیس مطلقاً و لا مهملاً ، بل هو مقیَّد بصورة عدم حکم الشارع بعدم الابتلاء فیها ، و قد أفاد الاستصحاب حکمه بعدم الابتلاء ، فارتفع الموضوع ، فلا حکم عقلی بلزوم دفع الضرر المحتمل .

الوجه الثالث :

و هو إشکال إثباتی و حاصله : إنّا نعلم إجمالاً بأنه سنبتلی بأغراض المولیٰ فی المستقبل ، و مع وجود هذا العلم الإجمالی تصبح جمیع موارد احتمال الابتلاء أطرافاً للعلم الإجمالی ، و حینئذٍ تکون أدلّة الاستصحاب قاصرةً عن الشمول ، إذ الاصول النافیة لا تجری فی أطراف العلم ، بسبب وقوع التنافی ، فدلیل الاستصحاب یقول : لا تنقض الیقین بالشک ، أی : سواء

ص:371

کان شکّاً ابتدائیاً أو فی أطراف العلم ، بل انقضه بیقینٍ آخر ، أی سواء کان یقیناً تفصیلیّاً أو إجمالیّاً ، فیقع التعارض بین صدر الدلیل و ذیله فی مورد العلم الإجمالی ، فلا یجری دلیل الاستصحاب فیه .

أجاب الأستاذ

إن هذا إنّما یتمّ فی صورة کون الذیل معارضاً للصّدر و لسائر أدلّة الاستصحاب حتی ما لا ذیل له منها ، و هذا غیر ممکن ، لأن فی قوله : « بل انقضه بیقینٍ آخر » أصلاً و إطلاقاً ، أمّا الأصل فهو : لا تنقض الیقین بصرف وجود الیقین ، و أمّا الإطلاق ، فإنّه شامل للیقین التفصیلی و الیقین الإجمالی ، فهذا مدلول الذیل ، وعلیه ، فأصل الذیل لیس طرفاً لسائر أدلّة الاستصحاب الدالّة علیٰ عدم نقض الیقین بالشک ، بل طرف المعارضة هو إطلاق الذیل ، لکنّ الإطلاق إنّما ینعقد لو لم یکن مانع عنه و لو احتمالاً ، و مع وجود ما یحتمل المانعیّة عنه فهو غیر منعقد ، فلا معارضة بین الذیل و أدلّة الاستصحاب ، بل هی باقیة علیٰ إطلاقها شاملةً لأطراف العلم الإجمالی ، و منها ما نحن فیه ... .

الوجه الرابع :

هو المانع الثبوتی ، و هو لزوم المخالفة القطعیّة للمعلوم بالإجمال . لأنّا نعلم إجمالاً بالابتلاء بغرضٍ من أغراض المولی ، فإذا جری الاستصحاب فی جمیع الأطراف لزمت المخالفة القطعیّة ، و إجراؤه فی بعضها المعیّن ترجیح بلا مرجح ، و غیر المعیّن لا حقیقة له ، فلا یجری الاستصحاب ثبوتاً ، لاستلزامه الترخیص فی المخالفة القطعیّة .

قال الاستاذ

هذا متین ، و هو دلیل صاحب (الکفایة) فی الشبهات الحکمیّة ، لکنه

ص:372

أخصّ من المدّعی ، إذ هو منجّز فیما إذا لم ینحل العلم الإجمالی .

الوجه الخامس :

ورود أدلَّة وجوب المعرفة و التعلّم فی مورد هذا الاستصحاب ، مثل آیة السؤال (1) و الحدیث : « طلب العلم فریضة » (2) و الخبر : « هلّا تعلّمت ... » (3) ، لأن فی غالب الموارد لا یقین بل لا اطمینان بالابتلاء ، فلو جریٰ الاستصحاب فی موارد احتمال الابتلاء لزم اختصاص الأدلّة بمورد الیقین بالغرض ، و هو فرد نادر ، و تخصیص الأکثر مستهجن ، فلا بدّ من رفع الید عن الاستصحاب .

الجواب

و فیه : إن موارد العلم الإجمالی ، و کذا موارد القطع التفصیلی ، کثیرة ، و فی جمیعها تتقدّم أدلّة التعلّم ، نعم ، یتقدّم الاستصحاب علیٰ تلک الأدلّة فی الشبهات البدویّة ، و لا یلزم من ذلک التخصیص المستهجن .

هذا ، و لا یخفی أن التعارض هنا بین أدلّة التعلّم و أدلّة الاستصحاب ، فلا یقال بأنها أمارات و الاستصحاب أصل ، فکیف التعارض ؟

و تلخص :

تمامیّة الاستصحاب المذکور .

لکنّ مخالفة الأصحاب مشکلة .

الکلام فی تعلّم غیر البالغین
اشارة

و هل یجب التعلّم علیٰ غیر البالغ ؟

قیل : لا یجب علیه تعلّم الأحکام الشرعیة التی سیبتلی بها عند البلوغ ،

ص:373


1- 1) سورة النحل : 43 .
2- 2) الکافی 30/1 کتاب فضل العلم .
3- 3) تفسیر الصافی 169/2 .

و إنْ علم بفوات الواجب أو فوات إحراز الواجب عنه ، علیٰ أثر عدم التعلّم .

و قیل : یجب علیه التعلّم کما یجب علیٰ البالغین المکلَّفین .

وجه القول الثانی

إنّ العقل حاکم بلزوم حفظ أغراض المولی و ملاکات أحکامه ، و الصبیّ إنْ لم یتعلَّم الأحکام قبل البلوغ ، فإنّ ذلک سیؤدّی إلیٰ ترک الواجبات عند بلوغه بسبب الجهل ، و بذلک تفوت أغراض المولی ، و هذا الحکم العقلی عام ، فهو موجود فی مورد البالغ و غیره ، و غیر قابلٍ للتخصیص .

و وجه القول الأول

إنّ المقتضی لوجوب التعلّم علیٰ الصبیّ موجود ، و هو الحکم العقلی المذکور ، و لکنّ المانع أیضاً موجود ، و هو حدیث رفع القلم (1) ... و توضیح ذلک :

إنّ الحکم العقلی منه تنجیزی ، و هو ما لا یقبل التصرّف من الشارع ، و منه تعلیقی ، و هو الحکم الثابت ما لم یتصرَّف الشارع ، و ما نحن فیه من قبیل القسم الثانی ، إذ قد تصرَّف الشّارع فیه بواسطة حدیث رفع القلم ، و حینئذٍ یکون الصّبی معذوراً فی فوت بعض الأحکام و الملاکات ، لعدم القدرة .

رأی الأستاذ

و بعد توضیح القول بوجوب التعلّم و هو للمیرزا (2) ، و القول بعدم وجوبه ، و هو للمحاضرات (3) .

فإنّ شیخنا رأیٰ - فی الدورتین - أنّ الصحیح هو القول بالوجوب ، و أن

ص:374


1- 1) کتاب الخصال 46/1 .
2- 2) أجود التقریرات 229/1 .
3- 3) محاضرات فی أصول الفقه 374/2 .

الحکم العقلی عام و لا یرتفع عمومه بحدیث رفع القلم ، و ذلک :

لأنّ وجوب التعلّم لیس شرعیّاً ، بدلیل أنه لمّا یقال للعبد : « هلّا تعلَّمت » فإنّه یسکت ، و لو کان وجوبه شرعیّاً لأجاب بعدم ثبوت الدلیل علیٰ وجوبه من قبل المولی ، و أنّه کان بحاجةٍ إلیٰ تحصیله إنْ کان ثابتاً ... فسکوته أمام الحجّة دلیل علیٰ أن وجوب التعلّم غیر تحصیلی ، أی هو وجوب عقلی ، و علی هذا ، فلا یعقل جعل الوجوب الشرعی فی مورده ، للزوم اللّغویة ... و إذا کان وجوب التعلّم غیر شرعی ، استحال أن یکون مورداً لحدیث رفع القلم ... .

هذا حلّاً .

و أمّا نقضاً ، فإنّه إذا کان حدیث رفع القلم رافعاً للحکم العقلی بوجوب تعلّم الأحکام ، فلیکن رافعاً لغیر الأحکام أیضاً ، کوجوب الإیمان باللّٰه و بالنّبی ، فالصبیّ قبل البلوغ لا یجب علیه النظر فی المعجزة مثلاً لیحصل له الإیمان ، و بعد البلوغ ، و المفروض أنّه لم ینظر فی المعجزة ، یکون معذوراً فی عدم إیمانه باللّٰه و بالرسول مدّةً من الزمن ، و هذا ما لا نظنّ التزام القائل به .

فظهر أن الحق مع المیرزا فیما ذهب إلیه .

و یبقی الکلام فی معنی حدیث رفع القلم فنقول :

أمّا أن یخصّص الحکم العقلی فغیر صحیح لما تقدَّم ، و کذلک استحقاق العقاب ، لأن المفروض تحقّق موضوع الاستحقاق عند العقل ، فلا یمکن للشارع أن یرفع الحکم ، و کذا تخصیصه المؤاخذة خاصّة ، بأن یقال باستحقاقه للعقاب غیر أنّ المؤاخذة مرتفعة بالحدیث لطفاً و امتناناً .

لکنّا نقول : بأن « القلم » فی الحدیث ، أعمّ من قلم التکلیف و قلم

ص:375

المؤاخذة ، و لا مانع من رفع قلم المؤاخذة عن الصبی علیٰ أثر التخلّف عن حکم العقل بلزوم التعلّم ، و لمّا کان الجزاء بید الحاکم - بخلاف الاستحقاق - فله إعطاء الجزاء و له عدم الإعطاء ، إذن ، یمکن رفع المؤاخذة مع کونه مستحقّاً لها ، لکونها بید المولی وضعاً و رفعاً ، و کأنّ منشأ الاشتباه هو الخلط بین « الاستحقاق » و « المؤاخذة » ، و الحال أن الأوّل لیس للمولی دور فیه ، بخلاف الثانی ، فله الوضع و الرفع فیه .

الأقوال فی وجوب التعلّم

و هل وجوب التعلّم إرشادی أو مولوی ، و علی الثانی ، هل هو نفسی أو غیری ؟

تارةً : یُنشأ الحکم لمصلحةٍ فی نفسه ، فالوجوب نفسی ، و أخریٰ : یُنشأ لمصلحةٍ فی متعلِّقه ، فهو وجوب غیری شرعی ، و ثالثة : یُنشأ لمصلحة التحفّظ علیٰ الواقع ، فهو وجوب طریقی .

و یقابلها : الوجوب الإرشادی ، فهو لیس بوجوبٍ شرعی ، بل إرشاد إلیٰ حکم العقل .

الوجوب النفسی

فهل فی نفس التعلّم مصلحة ؟ لا شک فی قیامها فی معرفة أصول الدین ، أمّا الأحکام الشرعیّة فوجد انها للمصلحة النفسیّة ممکن ثبوتاً ، بل الاعتبار یساعده ، لأنه کمال فی نفسه ، و إن کان للعلم حیثیّة المقدّمیّة للعمل أیضاً ، إلّا أنه قد اقیمت أدلّة فی مقام الإثبات علیٰ أنْ لا مصلحة للتعلّم إلّا المقدمیّة للعمل ، فلا نفسیّة ، و الأدلّة هی :

1 - إن ظاهر السؤال عن الشیء هو وجود المصلحة فی الشیء لا فی

ص:376

نفس السؤال عنه ، فمن یسأل عن الطریق یرید الوصول إلیٰ المقصد ، و لیس فی نفس سؤاله عنه مصلحة .

و فیه : إنّ قیاس وجوب التعلّم علیٰ السؤال عن الطریق قیاس مع الفارق ، لوضوح أنّ العلم بالأحکام کمال ، و لیس الاطّلاع علیٰ الطریق کمالاً .

2 - الخبر : « هلّا تعلّمت » فإنه ظاهر فی أن وجوبه من أجل العمل .

و فیه : إن معنیٰ الروایة أن العمل لا یکون بلا علم ، و لیس معناها أنّ العلم لا فائدة فیه إلّا العمل .

3 - إنه لو عمل بلا علمٍ فوقع فی خلاف الواقع ، لم یؤاخذ إلّا علی ترک الواقع ، فلو کان التعلّم واجباً نفساً ثبت مؤاخذتان ، و هو باطل .

قال الاستاذ

إن المطلوبیّة النفسیّة للتعلّم هو حکم العقل و ظاهر الأدلّة ، فیکون وزان العلم وزان العقل ، فی کونه کمالاً و وسیلةً معاً ، فقد اجتمع فی مطلوبیّة العلم حیثیة النفسیّة و حیثیّة الطریقیّة ، و لا مانع من اجتماعهما فیه بل هو واقع ، یقول تعالی : «قُلْ هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لاَ یَعْلَمُونَ » (1)و یقول :

وَمَا یَسْتَوِی الأَعْمیٰ وَالْبَصِیر وَلا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ » (2)و فی الأخبار عن رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله أنه قال : « العلم ودیعة اللّٰه فی أرضه » (3) و « لیس العلم بکثرة التعلّم ، إنما هو نور یقذفه اللّٰه فی قلب من یرید » (4) و لا یخفی أن کون الإنسان حاملاً لنور اللّٰه عزّ و جلّ و ودیعته شیء مطلوب بنفسه ، و کذا ظاهر

ص:377


1- 1) « سورة الزمر : 9 .
2- 2) سورة فاطر : 19 .
3- 3) بحار الأنوار 36/2 .
4- 4) بحار الأنوار 140/67 .

أخبار « فضل العالم علیٰ العابد » (1) .

لکنّ الوجه الثالث - من الوجوه المتقدّمة - یمنعنا عن القول بالوجوب النفسی .

أقول :

ما هو الدلیل علیٰ بطلان ثبوت المؤاخذتین و استحقاق العقابین ؟ الظاهر : أنْ لا دلیل علیٰ البطلان لا عقلاً و لا نقلاً ، بل إنّ العقل و الاعتبار یساعدان علیٰ التعدّد ، و یبقی التسالم بین الفقهاء فقط ، فتأمّل .

الوجوب الغیری

إنْ کان العلم مقدّمة وجودیّة لحصول ذی المقدّمة ، أمکن القول بوجوب التعلّم وجوباً غیریّاً ، لکنّ العلم لیس مقدّمة وجودیّة ، بل هو مقدّمة علمیّة لذی المقدّمة ، و هذا ظاهر الأخبار ، فلا یمکن الالتزام بالوجوب الغیری الشرعی .

بین الوجوب الارشادی و الطریقی ؟

فیدور الأمر بین الوجوب الإرشادی و الوجوب الطریقی ؟

قال فی (المحاضرات) (2) : أمّا الوجوب الإرشادی بأنْ یکون ما دلَّ علیه من الکتاب و السنّة إرشاداً إلیٰ ما استقلّ به العقل من وجوب تعلّم الأحکام ...

فیرد علیه : إنه لو کان وجوبه إرشادیّاً ، لم یکن مانع من جریان البراءة الشرعیّة فی الشبهات الحکمیّة قبل الفحص ، و ذلک : لأن المقتضی له - و هو إطلاق أدلّتها - موجود علیٰ الفرض ، و عمدة المانع عنه إنّما هی وجود تلک الأدلّة ،

ص:378


1- 1) الکافی 33/1 ، 34 .
2- 2) محاضرات فی أصول الفقه 376/2 .

و المفروض أنها علیٰ هذا التفسیر حالها حال حکم العقل ، فهی غیر صالحة للمانعیّة ، فإن موضوعها یرتفع عند جریانها ، کحکم العقل .

فالنتیجة : إنه یتعیّن الاحتمال الأخیر ، و هو کون وجوب التعلّم وجوباً طریقیّاً ، و یترتّب علیه تنجیز الواقع عند الإصابة ، لأنه أثر الوجوب الطریقی ، کما هو شأن وجوب الاحتیاط و وجوب العمل بالأمارات ، و ما شاکل ذلک ، وعلیه ، فتکون هذه الأدلّة مانعةً عن جریان البراءة فیها قبل الفحص ، و توجب تقیید إطلاق أدلّتها بما بعده .

و حاصل هذا الإشکال : إنه إذا لم یکن وجوب التعلّم شرعیّاً ، و الأوامر تحمل علیٰ الإرشاد إلیٰ حکم العقل ، فلازمه إمکان جریان البراءة الشرعیّة فی موارد احتمال الابتلاء بالحکم ، لأنه إذا کان الأمر إرشادیّاً کان وزانه وزان حکم العقل ، و حکم العقل یزول مع ترخیص الشارع ، و أدلّة البراءة الشرعیّة مرخّصة ، فالأخبار الواردة فی التعلّم کذلک لا تدلّ علیٰ الوجوب ، لحدیث الرفع و نحوه من أدلّة البراءة .

قال شیخنا :

إن هذا الإشکال لا یجتمع مع القول بقصور أدلّة البراءة الشرعیّة اقتضاءً ، و من قال بکونها غیر مطلقة - لأنها محفوفة بالقرائن العقلیّة ، فلا تشمل موارد الشبهة الحکمیّة قبل الفحص - فلا یمکنه إیراد هذا الإشکال .

إن هذا الإشکال لا یجتمع مع القول فی شرائط جریان الاصول : « و أمّا الاصول النقلیّة فأدلّتها و إنْ کانت مطلقة فی نفسها ، إلّا أنها مقیَّدة بما بعد الفحص ، بالقرینة العقلیّة المتّصلة و النقلیة المنفصلة » (1) .

ص:379


1- 1) مصباح الاصول 494/2 .

إذن ، فقد وقع الجمع فی (المحاضرات) بین المتهافتین ... و بناءً علیٰ کون أدلّة الاصول مقیَّدةً - کما ذکر - یتمّ القول بالوجوب الإرشادی ، لوجود المقتضی و عدم المانع .

لکنّه اختار الوجوب الطریقی ، و هو لا یمکنه الالتزام به ، لأن مبناه فی الوجوب الطریقی أنه یعتبر فیه أن لا یکون قبله احتمال العقاب ، بل الوجوب هو المنجّز للواقع ، و علی هذا ، فلا یمکن الالتزام بالوجوب الطریقی ، لوجود احتمال العقاب بالعقل ... و قد صرَّح بالمبنی المذکور فی أوائل مباحث البراءة ، عند دفع شبهة وجوب دفع الضرر المحتمل ، حیث قال : « و بعبارة اخریٰ : إن احتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع الضرر المحتمل ، فجعل وجوب دفع الضرر المحتمل لغو ، إذ الأثر المترتّب علیه هو احتمال العقاب المتحقق مع قطع النظر عنه علیٰ الفرض ... فتعیّن أن یکون وجوب دفع الضرر المحتمل إرشادیّاً ... و الفرق بینه و بین الوجوب الطریقی : إن الوجوب الطریقی هو المنشأ لاحتمال العقاب ، و لولاه لما کان العقاب محتملاً ، علیٰ ما تقدّم بیانه ، بخلاف الوجوب الإرشادی ، فإنه فی رتبة لاحقة عن احتمال العقاب ... » (1) .

فظهر أنه قد جمع بین المتهافتین ، بل علیٰ هذا المبنی یتعیّن القول بالوجوب الإرشادی لا الطریقی .

فالحق : هو الوجوب الإرشادی ، إلّا إذا قلنا بإمکان جعل المنجّزین فیصحّ الطریقی .

تمّ الجزء الثانی ، و یلیه الجزء الثالث بعون اللّٰه .

ص:380


1- 1) مصباح الاصول 286/2 .

المجلد 3

اشارة

ص :1

ص :2

ص :3

ص :4

الواجب النفسی و الغیری

اشارة

ص:5

ص:6

و ینقسم الواجب إلی النفسی و الغیری .

و قد اختلف فی تعریفهما و بیان حقیقتهما :

تعریف الواجب النفسی و الغیری

فقد اشتهر تعریف الواجب النفسی ب« ما أُمر به لأجل نفسه » و الغیری ب« ما أُمر به لأجل غیره » .

فأشکل علیه الشیخ الأعظم : بأنّ هذا التعریف للواجب الغیری ینطبق علی کلّ الواجبات الشرعیة ، لکونها مأموراً بها لأغراض تترتّب علیها ، لأنْ الأحکام تابعة للأغراض المولویّة .

تعریف الشیخ الأعظم و الکلام حوله :

و لهذا فقد غیَّر الشیخ (1) التعریف فقال : بأنّ الواجب النفسی هو ما وجب لا للتوصّل إلی واجبٍ آخر ، و الغیری ما وجب للتوصّل إلی واجب آخر ، أی: إن النفسی ما لم یکن الداعی لإیجابه التوصّل إلی واجب آخر ، و الغیری هو ما کان الداعی لإیجابه التوصّل إلی واجب آخر .

توضیحه : إنّ الإیجاب عمل کسائر الأعمال الاختیاریّة ، و کلّ عمل اختیاری فلا یصدر إلّا عن الداعی ، فإنْ کان الداعی لإیجاب الشیء التوصّل به إلی

ص:7


1- 1) مطارح الأنظار : 67 .

شیءٍ آخر ، فهو الواجب الغیری ، و إنْ لم یکن ذلک هو الداعی لإیجابه فهو الواجب النفسی ، و هذا الواجب منه ما یکون مطلوباً لذاته ، و هو معرفة اللّٰه ، فإنّها واجبة و مطلوبیتها ذاتیّة ، و منه ما یکون مطلوباً و لیست مطلوبیّته للوصول إلی واجب آخر ، بل من أجل حصول غرضٍ یترتّب علیه ، و العبادات أکثرها من هذا القبیل ، و کذا التوصّلیات کلّها ... لأنّ الأغراض لیست بواجبات .

و أورد علی الشیخ : بأنّ المفروض کون وجوب الصلاة - مثلاً - ناشئاً من الغرض ، فهو الداعی لإیجابها ، و حینئذٍ ، فلا بدّ و أنْ یکون الغرض الداعی لزومیّاً و إلّا لم یصلح لأنْ یکون علّةً لجعل الطلب الوجوبی ، و إذا کان لزومیّاً کانت الواجبات - غیر معرفة اللّٰه - واجبةً لواجبٍ آخر ، فیعود الإشکال .

و قد أُجیب عن الإشکال : بأن الأغراض لیست بواجبة ، لکونها غیر مقدورة للمکلّف ، و کلّ ما لیس بمقدورٍ فلا یتعلّق به الوجوب .

و اعترضه صاحب ( الکفایة ) و تبعه السیّد الأُستاذ (1) : بأنّها و إنْ کانت غیر مقدورة ، إلّا أنّها مقدورة بالواسطة ، و هی الواجبات الناشئة عنها ، فلمّا کان الأمر الواجب مقدوراً للمکلّف فالغرض الداعی لإیجابه مقدور ، و لا یعتبر فی المقدوریّة أنْ تکون بلا واسطة ، فالطهارة مقدورة علی سببها و هو الوضوء ، و الملکیّة مقدورة للقدرة علی سببها و هو العقد ، و کذلک العتق مثلاً و هو الإیقاع .

فقال شیخنا : لکنّ هذا إنّما یتمُّ فی مورد الأسباب التولیدیّة کما مثّل ، إذ لا یوجد فیها إلّا واجب واحد ، فلا یوجد أمرٌ بالطهارة و أمر آخر بالوضوء ، بل هو أمر بالطهارة ، و هو المحرّک للعبد نحو السبب التولیدی لها و هو الوضوء مثلاً ، و للمستشکل علی الشیخ بأن الأغراض غیر مقدورة أن یطرح الاشکال حیث

ص:8


1- 1) کفایة الأُصول : 108 ، منتقی الأُصول 2 : 212 .

یتصوّر وجوبان ، إذ الوجوب الغیری عنده ما وجب لواجبٍ آخر .

و أجاب المحقّق الخراسانی عن الإشکال : بأنّ من العناوین ما یکون حسناً فی نفسه ، و إنْ أمکن کونه مقدّمةً لأمر مطلوبٍ واقعاً ، و منها ما لا یکون حسناً فی نفسه و إنّما یکون وجوبه لکونه مقدمةً لواجب نفسی و إن اتّصف بعنوانٍ حسن فی نفسه . مثلاً : التأدیب عنوان متّصف بالحسن ، أمّا الضرب فلا یتّصف بنفسه بالحسن و إنّما یکون حسناً فی حال وقوعه مقدمةً للتأدیب .

فکلّ ما کان من قبیل الأوّل فهو واجب نفسی ، إذ قد لوحظ حسنه و قد أُمر به بالنظر إلی ذلک ، و ما کان من قبیل الثانی ، أی لم یکن له حسن فی نفسه ، و إنّما تعلّق به الأمر من أجل التوصّل به إلی أمرٍ حسن ، أو کان ذا حسن فی نفسه لکنّه لم یکن الأمر به بالنظر إلی ذلک ، فهو واجب غیری . فنصب السلّم لیس له حسن فی نفسه ، و إنما یؤمر به من أجل الصعود إلی السطح - المفروض حسنه - فهو واجب غیری ، بخلاف الوضوء ، فله جهة حسنٍ ، لأنّ اللّٰه تعالی یقول «إِنَّ اللّٰهَ یُحِبُّ التَّوّٰابینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرینَ » (1)و الإمام علیه السلام یقول : « الوضوء نور » (2) .

فإنْ تعلّق به الأمر بالنظر إلی هذه الجهة کان مطلوباً نفسیّاً . أمّا إذا کان الأمر به لا بلحاظ ما ذکر بل بالنظر إلی شرطیّته للصّلاة و أنّه « لا صلاة إلّا بطهور » (3) کان واجباً غیریّاً .

قال : و لعلّه مراد من فسّرهما بما أُمر به لنفسه و ما أُمر به لأجل غیره .

تعریف الکفایة و الکلام حوله :

فکان تعریفه له : إنّ الواجب النفسی : ما وجب لحسنه ، و الواجب الغیری :

ص:9


1- 1) سورة البقرة : 222 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 377 الباب 8 من أبواب الوضوء .
3- 3) وسائل الشیعة 1 / 365 الباب الأول من أبواب الوضوء .

ما وجب للتوصّل إلی ما هو حسن بنفسه (1) .

و ما ذهب إلیه و إنْ سلم من الإشکال الوارد علی تعریف الشیخ ، و لکنْ قد أورد علیه بوجوه :

الأول : إنّ أکثر الواجبات الشرعیّة غیر متّصفة بالحسن العقلی حتّی یقال بأنّها قد وجبت لحسنها ، فإن کان حسنها من أجل ترتّب المصلحة علیها ، عاد إشکال کونها غیریّةً لا نفسیّة . فما ذکره - من أنّ الواجب النفسی ما وجب لحسنٍ فی نفسه - غیر صادقٍ علی عمدة الأحکام الشرعیّة .

و الثانی : کلّ شیء تعنون بعنوان ، فإمّا یکون عنواناً ذاتیّاً له ، و إمّا یکون عنوان عرضیّاً له ، لکنّ کلّ ما بالعرض فلا بدّ و أنْ ینتهی إلی ما بالذات ... و حینئذٍ نقول :

إنّ العنوان الحسن بالذات عقلاً لیس إلّا العدل ، کما أنّ العنوان القبیح بالذات عقلاً هو الظلم ، و لذا لا یزول الحسن عن العدل أبداً کما لا ینفصل القبح عن الظلم أبداً ، بخلاف مثل حسن الصّدق و قبح الکذب کما هو معلوم ، و علی هذا ، فلا بدّ و أن ینتهی حسن الواجبات الشرعیّة إلی « العدل » فینحصر الواجب الشرعی بهذا العنوان فقط ، و لا واجب آخر غیره ، و هذا ما لا یلتزم به صاحب الکفایة .

و الثالث : إنّه بناءً علی ما ذکره من مقدوریّة الأغراض مع الواسطة ، یلزم أنْ یجتمع عنوان « النفسیة » و عنوان « الغیریة » فی کلّ واجبٍ من الواجبات . أمّا الأوّل ، فلفرض وجود الحسن فیه . و أمّا الثانی ، فلکونه مقدّمة لحصول الغرض منه ، فلم یتمحّض واجب من الواجبات الشرعیّة فی النفسیّة .

ص:10


1- 1) کفایة الأُصول : 108 .

و لورود هذه الإشکالات علی تعریف المحقّق الخراسانی ، سلک المحقّقون المتأخّرون طرقاً أُخری لدفع الإشکال الوارد علی تعریف الشیخ .

طریق المیرزا

قال : إنّ الأغراض المترتّبة علی الواجبات تنقسم إلی ثلاثة أصناف :

1 - فمن الأغراض ما یترتّب علی الفعل الخارجی المأمور به من دون توسّط أمر بینهما ، سواء کان اختیاریّاً أو غیر اختیاری ، کما هو الحال فی الأفعال التولیدیة ، کالغسلات و المسحات بالنسبة إلی الطهارة ، و العقد بالنسبة إلی الزوجیّة ، و الإیقاع بالنسبة إلی الطلاق مثلاً .

و فی هذا القسم من الأغراض ، لا مانع من تعلّق التکلیف بها ، لکونها مقدورةً بالقدرة علی أسبابها .

2 - و منها ما یترتّب علی الفعل الخارجی المأمور به ، لکنْ بواسطة أمرٍ اختیاری من المکلّف ، کالصعود علی السطح مثلاً ، و فی هذا القسم من الأغراض أیضاً لا مانع من تعلّق التکلیف بها ، لکونها مقدورةً کذلک .

3 - و منها ما یترتّب علی الفعل الخارجی المأمور به ، لکن بواسطة أمر غیر اختیاری ، بل تکون النسبة بینهما نسبة المعدّ إلی المعدّ له ، کحصول الثمرة من الزرع ، المتوقّف علی أُمورٍ خارجة عن قدرة الزارع و إرادته .

فیقول المیرزا : و الواجبات الشّرعیّة بالنسبة إلی الأغراض الواقعیّة من هذا القبیل ، فالغرض من الصّلاة هو الانتهاء عن الفحشاء و المنکر ، و ترتّبه علیها موقوف علی أُمور بعضها خارج عن قدرة المکلّف ... فالغرض غیر مقدورٍ للعبد فلا یعقل تعلّق التکلیف به .

فتلخّص : إنّه صحیح أنّ الواجبات الشرعیّة تابعة لمصالح لزومیّة ، لکنْ

ص:11

لیس کلّ غرض لزومی قابلاً لأن یتعلّق الوجوب به ، بل القابل لذلک هو الاختیاری . فتعریف الشیخ صحیح لا یرد علیه الإشکال .

إشکال المحاضرات

و أورد علیه فی ( المحاضرات ) (1) : بأنّ ما أفاده إنّما یتمّ بالإضافة إلی الغرض الأقصی من التکلیف ، لوضوح أنّ الأفعال الواجبة بالنسبة إلیها من قبیل العلل المعدّة ، لفرض کونها خارجةً عن اختیار المکلّف و قدرته ، کما فی النهی عن الفحشاء الذی هو الغایة القصوی من الصّلاة کما تقدّم . لکنّه لا یتم بالإضافة إلی الغرض القریب ، و هو حیثیّة الإعداد للوصول إلی الغرض الأقصی ، حیث أنّه لا یتخلَّف عنها ، فیکون ترتّبه علیها من ترتّب المعلول علی العلّة التامّة و المسبّب علی السبب . و بما أنّ السبب مقدور للمکلّف فلا مانع من تعلّق التکلیف بالمسبّب ، فیکون نظیر الأمر بزرع الحبّ فی الأرض ، فإنّ الغرض الأقصی منه - و هو حصول الثمرة - و إنْ کان خارجاً عن الاختیار ، إلّا أنّ الغرض القریب - و هو إعداد الأرض للثمرة - مقدور بالقدرة علی سببه . هذا من ناحیة . و من ناحیة أُخری : بما أنّ هذا الغرض المترتّب علی تلک الأفعال ترتّب المسبّب علی السبب لزومی علی الفرض ، فبطبیعة الحال یتعیّن تعلّق التکلیف به ، لکونه مقدوراً من جهة القدرة علی سببه . و علی ذلک یبقی إشکال دخول الواجبات النفسیة فی تعریف الواجب الغیری علی حاله .

قال الأُستاذ

و یضاف إلی ما ذکر ناحیة أُخری ، و هی إنّ المیرزا یری أنّ المسبّب قابل لتعلّق الأمر کالسبب ، لأنّ وزان الإرادة التشریعیّة عنده وزان الإرادة التکوینیّة ،

ص:12


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 217 الطبعة الحدیثة .

فکما تتعلّق الإرادة فی التکوینیّات بالمسبّب و منها تتحقّق الإرادة بالنسبة إلی السبب ، فهما إرادتان ، کذلک الحال فی الإرادة التشریعیّة ، و یکون فیها إرادتان نفسیّة و غیریة .

فیتوجّه الإشکال علی المیرزا ، لأنّه صحیح أنّ ترتّب النهی عن الفحشاء علی الصّلاة موقوف علی أُمور غیر اختیاریّة ، لکنّ نفس الصّلاة توجد فی النفس الإنسانیّة استعداداً ، و نسبة هذا الاستعداد إلی الغرض الأقصی نسبة السبب إلی المسبّب ، فلا محالة تصیر الصّلاة واجباً غیریّاً ، فما انحلّت المشکلة بطریق المیرزا .

هذا ، لکن الإشکال فیما ذکر هو : إنّ الإهمال فی الغرض غیر معقول ، فإمّا یکون الغرض من الصّلاة هو الاستعداد بشرط لا عن الوصول إلی الغرض الأقصی أو یکون لا بشرط عن الوصول إلیه أو یکون بشرط الوصول . أمّا أنْ یکون الغرض هو الاستعداد لا بشرط ، أی سواء وصل إلی الغرض الأقصی أو لا ، فهذا باطل ، لأنّه خلف لفرض کون غرضاً أقصی ، و أمّا أن یکون الغرض هو الاستعداد بشرط لا ، فکذلک ، فتعیَّن کون الغرض من الصّلاة حصول الاستعداد فی النفس بشرط الوصول ، و إذا کان کذلک سقط الإشکال علی المیرزا ، لأنّ الاستعداد بشرط الوصول غیر اختیاری .

إلّا أنّه یمکن الجواب : بأنّ الغرض المترتّب علی متعلّق الأمر لا یمکن أن یکون أخصّ من المتعلّق و لا أعمّ منه ، سواء فی المراد التکوینی أو التشریعی ، لأنّه إن کان أخصّ لزم أن تکون الحصّة الزائدة بلا غرض ، و هو محال ، و کذلک إن کان أعم ، لأنّ الإرادة المتعلِّقة بالمأمور به هی فرع الغرض و معلول له ، فلا یعقل أن یکون الغرض أعم أو أخص ، و علی هذا ، فالإرادة المتعلّقة بالصّلاة تنشأ من

ص:13

الغرض الاستعدادی فیها و هو حصول الاستعداد فیها ، لا الاستعداد الموصل للغرض الأقصی ، فإنّه أخصّ من الصّلاة ، و قد تبیّن استحالته بناءً علی ما ذکر .

و الحاصل : إنّ متعلّق الأمر هو طبیعی الصّلاة ، و لیس الغرض منه بحسب الآیة المبارکة إلّا استعداد النفس الإنسانیّة .

فإشکال المحاضرات علی المیرزا قوی .

طریق المحاضرات

ثمّ قال : فالصحیح فی المقام أن یقال - بناءً علی نظریّة المشهور ، کما هی الحق ، و هی إن حال السبب حال سائر المقدّمات ، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة أصلاً - إنّ المصالح و الغایات المترتّبة علی الواجبات لیست بقابلةٍ لأنْ یتعلّق بها التکلیف ، لأنّ تعلّق التکلیف بشیء یتقوّم بأمرین ، أحدهما : أن یکون مقدوراً للمکلّف . و الآخر : أنْ یکون أمراً عرفیّاً و قابلاً لأنْ یقع فی حیّز التکلیف بحسب أنظار أهل العرف ، و المصالح و الأغراض و إنْ کانت مقدورةً بالقدرة علی أسبابها ، إلّا أنّها لیست ممّا یفهمه العرف العام ، لأنّها من الأُمور المجهولة عندهم ، و خارجة عن أذهان عامّة الناس ، فلا یحسن من المولی توجّه التکلیف إلیها ، ضرورة أن العرف لا یری حسناً فی توجّه التکلیف بالانتهاء عن الفحشاء و المنکر أو بإعداد النفس للانتهاء عن الفحشاء و المنکر ، فلا مناص من الالتزام بأنّ الغایات و الأغراض غیر متعلّق بها التکلیف ، و إنّما هو متعلّق بنفس الأفعال ، و یصدق علیها حینئذٍ أنّها واجبة لا لأجل واجب آخر ، فلا إشکال علی الشیخ .

و فیه : إنّ فی الأخبار و الخطب المرویّة عن الشارع إشارات کثیرة إلی الأغراض و الغایات المترتّبة علی الأحکام الشرعیّة ، فقد جاء فیها ذکر الغرض من الجهاد بأنّ الجهاد عزّ للإسلام قال علیه السلام : « فمن ترکه رغبةً عنه ألبسه

ص:14

الذلّ ... » (1) ، و أنّ الزکاة تطهیر للنفس و توفیر للمال (2) ، و فی القرآن الکریم «إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهیٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَالْمُنْکَرِ » (3)فهل خاطب الشارع الناس بما لا یفهمون ؟

إذا قال الشارع للناس : یجب علیکم العمل من أجل عزّ الإسلام و المحافظة علی عظمة الدین ، و ذلک یحصل بالجهاد فی سبیل اللّٰه ، أ لا یفهم العرف هذا المعنی ؟ و إذا قال : علیکم بالمحافظة علی المصالح العامّة للمجتمع الإسلامی ، و طریق ذلک هو الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر ، أ لا یفهمون مراد الشارع ؟

نعم ، العرف العام بل الخاص یجهلون کیفیّة ترتّب الأغراض علی الأفعال ، و السرّ فی حصول الانتهاء عن الفحشاء و المنکر بإقامة الصّلاة - مثلاً - لکنّ هذا الجهل لا یضرّ بالمطلب و لا یمنع من توجّه التکلیف بالغرض .

و الحاصل : إنّ هذا الطریق غیر دافع للإشکال .

طریق المحقّق الأصفهانی

و طریق المحقّق الأصفهانی (4) ناظر إلی قاعدة إنّ کلّ ما بالعرض لا بدّ و أن ینتهی إلی ما بالذات ، و من ذلک مطلوبیّة الشیء ، فإنّها إن کانت بالعرض لا بدّ و أن تنتهی إلی مطلوبٍ بالذات ، سواء عند الإنسان و الحیوان ، فإنّ الحیوان لمّا یطلب القوت ، فإنّه طلب بالعرض ، و المطلوب الذاتی هو البقاء و الحیاة ، فانتهی الأمر إلی حبّ الذات ... و فی القضایا المعنویة نری أنّ جمیع مرادات الإنسان ترجع إلی مرادٍ بالذات هو معرفة اللّٰه عزّ و جلّ . و فی التشریعیّات کذلک ، فإنّه عند ما یأمر بشراء اللحم ، فإن هذا مطلوب بالعرض ، و المطلوب بالذات هو طبخ اللحم

ص:15


1- 1) وسائل الشیعة 15 / 18 الباب الأول من أبواب جهاد العدو .
2- 2) وسائل الشیعة 9 / 9 الباب الأول من أبواب الزکاة .
3- 3) سورة العنکبوت : 45 .
4- 4) نهایة الدرایة 2 / 101 .

و أکله .

و فی التشریعیّات ، تارةً : یتوجّه الخطاب بالمطلوب بالعرض و الخطاب بالمطلوب بالذات ، یتوجّه کلاهما إلی شخصٍ واحدٍ ، و أُخری : یکون متعلّق الإرادة التشریعیّة - أی المطلوب بالعرض - فعل شخص ، و یکون متعلّق الغرض القائم بذلک الفعل - أی المطلوب بالذات - فعل شخصٍ آخر ، فیأمر زیداً بشراء اللحم ، و یأمر عمراً بطبخه .

فالمناط فی النفسی و الغیری هو : إنّه إن کان المطلوب الذاتی مطلوباً من نفس الشخص - الذی طلب منه المطلوب بالعرض - جاء البحث عن أنّ هذا الغرض حینئذٍ مطلوب لزومی أو لا ؟ فإن کان لزومیّاً ، صار شراء اللحم واجباً غیریّاً . و إن کان المطلوب الذاتی قائماً بشخصٍ آخر ، کان شراء اللحم من الأوّل مطلوباً نفسیّاً لا غیریّاً ، إذ لم یطلب منه شیء آخر سواه و إنْ کان شراء اللحم مقدّمةً لطبخه .

و تلخّص : إنّه إن کان المراد بالذات و المراد بالعرض قائمین بشخصٍ واحد ، کان المراد بالعرض واجباً غیریّاً و المراد بالذات واجباً نفسیّاً ، و إن کان المراد بالذات قائماً بشخصٍ غیر من قام به المراد بالعرض ، کان المطلوب من الشخص الأوّل واجباً نفسیّاً .

قال الأُستاذ

و هذا الطریق لا یجدی حلّاً للمشکلة ، إذ لا ریب فی أنّ المبحوث عنه فی علم الأُصول هو الأعمّ من الواجبات الشرعیّة و العرفیّة ، کما فی مسألة حجیّة خبر الواحد ، و حجیّة الظواهر ، لکنّ الغرض من هذه المباحث هو التحقیق عن حال الأخبار الواردة عن الشارع و ظواهر ألفاظه فی الکتاب و السنّة ... و هکذا فی

ص:16

المسائل الأُخری .

و هنا ، لمّا نقسّم الواجبات إلی النفسیّة و الغیریّة ، فالبحث أعمّ من الخطابات الشرعیّة و العرفیّة ، و حلّ المشکل فی الخطابات العرفیة لا یجدی نفعاً بالنسبة إلی الخطابات الشرعیّة ... و الطریق المذکور قد حلّ المشکل فی العرفیّات ، أمّا فی الشرعیّات فلا ... لأنّ المولی یأمر زیداً بشراء اللحم و عمراً بطبخه ، و هذا فی الأوامر العرفیّة کثیر ، أمّا فی الشرعیّات ، فإن الغرض مطلوب من نفس المخاطب بالعمل ، کالانتهاء من الفحشاء و المنکر ، فإنّه مطلوب من نفس من أُمر بالصّلاة ، و لا معنی لأنْ یؤمر مکلَّف بالصّلاة و یترتّب الأثر علیها عند مکلّف آخر .

و الحاصل : إن کان الغرض - کالانتهاء عن الفحشاء و المنکر - لزومیّاً ، فالواجب أی الصّلاة غیری ، و إنْ لم یکن لزومیّاً فلا وجوب للصّلاة .

فإن قال : الغرض خارج عن قدرة المکلّف و اختیاره .

قلنا : هذا هو طریق المیرزا .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ ما ذکره لا یحلّ المشکلة فی العرفیّات أیضاً ، ففی المثال الذی ذکره نقول : إن لم یکن للمولی غرض من الأمر بشراء اللّحم لم یعقل صدور الأمر منه به ، فلا بدّ من الغرض ، و هو هنا تمکّن عمرو من طبخ اللحم ، ثمّ تمکّن الآمر من الأکل ، فإنْ کان هذا التمکّن غرضاً لزومیّاً ، فالمفروض وجود القدرة علیه ، و حینئذٍ ، جاز تعلّق الأمر به .

طریق المحقّق العراقی

و ذکر المحقّق العراقی (1) إنّ الشیخ قد عرّف الواجب الغیری بأنّه « ما وجب

ص:17


1- 1) نهایة الأفکار المجلّد الأول (1 - 2) 331 .

لواجب آخر » و هناک فی کلّ واجب مقامان ، أحدهما : مقام التکلیف ، و الآخر مقام روح التکلیف و سرّه . أمّا بالنظر إلی سرّ التکلیف ، إذ للصلاة أسرار ، و للحج أسرار و هکذا ... فالواجبات الشرعیّة کلّها غیریّة ، لأنّها إنّما وجبت لترتّب تلک الأسرار و الآثار ، لکنّ هذه الغیریّة هی بحسب مقام إرادة المولی و بلحاظ أسرار التکلیف ، و بحثنا فی الواجبات الغیریّة لیس من هذه الجهة ، بل هو من جهة مقام التکلیف ، و فی هذا المقام إنْ کان الشیء الموضوع علی الذمّة و المکلّف به طریقاً للوصول إلی شیء آخر کذلک فهذا الواجب غیری ، و إنْ لم یکن فهو واجب نفسی .

و الحاصل : إنّ الشیخ قال : الغیری ما وجب لواجب آخر ، أی: لتکلیفٍ آخر موضوع علی الذمّة ، مطلوب من المکلَّف کسائر التکالیف ، کما هو الحال فی الوضوء بالنسبة إلی الصّلاة ... و لیس الانتهاء من الفحشاء و المنکر من هذا القبیل ، بل هو سرّ الصّلاة و لبّ الإرادة المتعلّقة بها ... .

نعم ، لو قال الشیخ : « ما وجب لغیره » توجّه إلیه الإشکال .

و بعبارة أُخری : المراد من « الواجب الآخر » هو الواجب الشرعی ، کما فی الوضوء ، فإنّه واجب شرعی قد وجب لواجب شرعی آخر هو الصّلاة ، و لیس المراد من « الواجب الآخر » هو الواجب العقلی ... .

أقول :

و هذا الطریق هو المختار عند الشیخ الأُستاذ .

.لو تردّد واجب بین کونه نفسیّاً أو غیریّاً

اشارة

فما هو مقتضی القاعدة ؟

إنّه الرجوع إلی الأصل ، و هو تارةً : لفظی ، و أُخری : عملی ، فإنْ وجد الأصل

ص:18

اللفظی فهو المرجع ، و إلّا فالأصل العملی .

.1 - مقتضی الأصل اللفظی
اشارة

لو تردّد أمر الوضوء بین أن یکون واجباً نفسیّاً فیجب الإتیان به سواء کانت الصّلاة واجبةً وجوباً فعلیّاً أو لا ، أو یکون واجباً غیریّاً ، فیکون واجباً فی حال کون الصّلاة واجبةً و کون وجوبها فعلیّاً ... فهل یمکن التمسّک بالإطلاق لإثبات النفسیّة ؟ و هل هو من إطلاق المادّة أو الهیئة ؟

اتّفق الشیخ و صاحب الکفایة علی إمکان الرجوع إلی الإطلاق لإثبات کون الواجب نفسیّاً لا غیریّاً ، إلّا أنّ الشیخ یقول بإطلاق المادّة ، و صاحب الکفایة بإطلاق الهیئة .

توضیح رأی الشیخ

(1)

إنّ مفاد هیئة افعل الواردة علی الوضوء « توضّأ » هو الطلب الحقیقی للوضوء - و لیس الطلب المفهومی - . أی: إنّ مادة « الوضوء » بمجرّد اندراجها تحت هذه الهیئة تتّصف بالمطلوبیّة حقیقةً ، و هذا الاتّصاف إنّما یکون بالطلب الحقیقی ، إذ لا یعقل الانفکاک بین المطلوب الحقیقی و الطلب الحقیقی ، و قد حصل الطلب الحقیقی من الهیئة ، فکان مفادها واقع الطّلب و مصداقه ، لأنّ الشیء لا یصیر مطلوباً حقیقةً بمفهوم الطلب .

إلّا أنّ المشکلة هی : إن واقع الطلب و مصداقه هو الفرد ، و الفرد لا یقبل التقیید و الإطلاق ، لأنّهما عبارة عن التضییق و التوسعة ، و هما یجریان فی المفهوم لا المصداق ... فسقط إطلاق الهیئة .

لکنّ الإطلاق فی المادّة جارٍ ، إذ الوضوء دخل تحت الطلب سواء قبل

ص:19


1- 1) مطارح الأنظار : 67 .

الوقت أو بعده ، و سواء وجدت الصّلاة أو لا ، و مطلوبیّته کذلک یعنی المطلوبیّة النفسیّة .

و تلخّص : إنّه مع التردّد بین النفسیّة و الغیریّة ، یکون مقتضی تمامیّة مقدّمات الحکمة و توفّرها جریان الاطلاق فی طرف « الواجب » - و هو الوضوء فی المثال - لا فی طرف « الوجوب » أی: هیئة توضّأ .

توضیح رأی المحقّق الخراسانی

و قد أنکر المحقّق الخراسانی (1) برهان الشیخ علی عدم جریان الإطلاق فی هیئة الوضوء ، من جهة أنّ مدلول الهیئة لو کان هو الطلب الحقیقی کما قال الشیخ ، فإنّ الطلب الحقیقی قائم بالنفس ، و صیغة « افعل » إنشاء لا إخبار ، و الأمر القائم بالنفس لا یقبل الإنشاء ، فلیس الطلب الحقیقی هو مدلول الهیئة ، وعلیه ، فلا یکون مدلولها الفرد و المصداق حتّی یرد الإشکال بأن الفرد لا یقبل التقیید فلا یقبل الإطلاق .

فإنْ قیل : إذا لم یکن مدلول الهیئة هو الطلب الحقیقی ، فکیف صار الوضوء مطلوباً حقیقیّاً ؟

قلنا : إنّ اتّصاف المادّة - أی الوضوء - بالمطلوبیّة الحقیقیّة إنّما یأتی من حیث أنّ الداعی للإنشاء هو الطلب النفسانی ، لأنّ المفروض أنّ الداعی له لم یکن الامتحان أو الاستهزاء أو غیرهما ، و إنّما کان الطلب الحقیقی ، فالمطلوبیّة له إنّما جاءت من ناحیة الداعی للإنشاء لا من ناحیة هیئة افعل .

و هذا بیان إشکال المحقّق الخراسانی علی برهان الشیخ لعدم جریان الإطلاق فی الهیئة .

ص:20


1- 1) کفایة الأُصول : 108 .

فکان المختار عنده جریان الإطلاق فی طرفها ، فما معنی هذا الإطلاق ؟ و هل هو صحیح ؟

قال المحقّق الأصفهانی :

(1)

إنّ مقتضی مقدّمات الحکمة هنا عدم تقیید الوجوب و هو مفاد الهیئة لا إطلاقه ، أی: إنّها تقتضی حیثیّة عدمیّة ، و لیست مقتضیةً لإطلاق الوجوب بمعنی اللّابشرطیّة ... و توضیح ذلک :

إنّ الوجوب النفسی و الغیری قسمان من الوجوب ، و قد تقدّم أنّ النفسی هو الواجب لا لواجبٍ آخر ، و الغیری هو الواجب لواجبٍ آخر ، فکان أحدهما مقیّداً بأمرِ عدمی و الآخر مقیّداً بأمرٍ وجودی ، فالواجب النفسی مقیَّد بعدم کونه لواجب آخر ، و الغیری مقیَّد بکونه لواجبٍ آخر ... فکلاهما مقیَّد ، و کلّ قیدٍ - سواء کان وجودیاً أو عدمیّاً - فهو محتاج إلی بیان .

و علی الجملة ، فکما أنّ کون الشیء « بشرط شیء » قید له ، کذلک کونه « بشرط لا » ، و لا بدّ لکلّ قیدٍ من بیانٍ و مئونةٍ زائدة ... و هذا مقتضی القاعدة .

لکنّ هناک موارد یری العرف فیها استغناء القید العدمی عن البیان ، بمعنی أنّ مجرّد عدم البیان بالنسبة إلی القید الوجودی ، یکفی لأنْ یکون بیاناً علی القید العدمی ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، و ذلک : لأنّ الواجب النفسی ما کان واجباً لا لواجبٍ آخر ، و الغیری ما وجب لواجبٍ ، فکان الغیری مقیّداً بکونه للغیر ، و حینئذٍ ، فلو تعلّق الطلب بشیءٍ و لم یکن معه بیانٌ لکون هذا الطلب لشیء آخر ، کان نفس عدم البیان لذلک کافیاً عند أهل العرف فی إفادة أنّ هذا المطلوب لیس لواجبٍ آخر ... .

ص:21


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 107 .

و علی هذا ، لیس الطریق إلی تعیین حال الفرد المحقّق خارجاً من الوجوب المتعلّق بالوضوء ، من حیث النفسیّة و الغیریّة ، هو التمسّک بالأصل اللفظی فی مفهوم الوجوب ، کما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی ، بل الصّحیح إثبات إطلاق الفرد الواقع عن طریق عدم التقیید بکونه للغیر ، فإنّه یفید کونه لا للغیر ، فهذا هو المراد من الاطلاق هنا ، و هذا طریق إثباته .

و تلخّص : إنّه لیس الطریق هو التمسّک بإطلاق مفهوم الطّلب ، فإنّه لا یحلّ المشکلة و لا یخرج الفرد الواقع من التردّد بین النفسیّة و الغیریّة ، لأنّ ذلک لا یحصل عن طریق إطلاق مفهوم الوجوب ، إذ الإطلاق المفهومی لا یعیّن حال الفرد الواقع ، بل الطریق الذی سلکناه هو الذی یعیّن حاله و یرفع التردّد و الشک ، لأنّه أفاد عدم التقیید بالغیریّة .

أقول :

و بهذا التقریب الذی استفدناه من شیخنا الأُستاذ دام بقاه تندفع خدشة سیدنا الأُستاذ ، حیث أنه أورد کلام المحقّق الأصفهانی و ذکر اشتماله علی ثلاثة إیرادات علی الکفایة ، ثم قال : و الإنصاف أنّ هذه الوجوه مخدوشة کلّها ، و وجه الاندفاع هو أنّ مناقشته للکلام المذکور إنما جاءت علی مقتضی القاعدة ، من جهة أنّ النفسیّة یحتاج إلی بیان کالعدمیّة ، لأنّ کلّاً منهما قید زائد علی أصل الوجوب ، و لا وجه لدعوی أنّه لا یحتاج إلی بیانٍ زائد بعد أن کان قیداً کسائر القیود الوجودیّة أو العدمیّة (1) .

لکنّ الارتکاز العرفی الذی أشار إلیه المحقق الأصفهانی بقوله : « فما یحتاج إلی التنبیه عرفاً کون الوجوب لداعٍ آخر غیر الواجب » هو الوجه للدعوی

ص:22


1- 1) منتقی الأُصول 2 : 217 .

المذکورة ، و قد وقع الغفلة عنه .

فما أفاده المحقق الأصفهانی لا محذور فیه ، لکنه - کما قال شیخنا - متّخذ من کلام صاحب الکفایة فی مبحث الإطلاق و التقیید (1) ... و بیان مطلبه هناک هو :

إنّ الإطلاق یفید تارة : الشمول و العموم الاستیعابی ، و أخری : العموم البدلی ، و ثالثة : خصوصیّة أُخری ، غیر الشمولیّة و البدلیّة .

مثال الأوّل : قوله تعالی «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (2)، فإنّه یفید حلیّة البیع عامّة .

و مثال الثانی : قولک : بع دارک ، فإنّه أمر ببیع داره و یفید جواز البیع بأیّ نحوٍ من الأنحاء اختار هو ، علی البدلیّة ، و لیس یفید العموم الاستیعابی ، فإنّه غیر ممکن کما لا یخفی .

و مثال الثالث : قول المولی : « توضّأ » من غیر أنْ یعلّق الوجوب علی شیء ... فهنا لیس الإطلاق من قبیل الأوّلین ، و إنّما هو لإفادة خصوصیة أنّ وجوبه لیس لغیره ، لأن خصوصیّة الغیریّة هی المحتاجة إلی البیان ، و أمّا النفسیّة فیکفی فیها عدم البیان علی الغیریّة ، فکان الإطلاق - بمعنی عدم إقامة القرینة علی إرادة الغیریة - یقتضی النفسیّة .

القول بالإطلاق الأحوالی

و قال المحقّق الإیروانی (3) بالإطلاق الأحوالی فی الفرد المردّد بین النفسیّة و الغیریّة ، لأنّ الإطلاق قد یکون أفرادیاً ، و قد یکون أحوالیّاً . فالأفرادی موضوعه الطبیعة و هی ذات فردین أو أفراد ، و حینئذٍ یصلح لأنْ یکون مطلقاً ، أی لا بشرط بالنسبة إلی خصوصیّة هذا الفرد أو ذاک ... کما هو الحال فی « الرقبة » مثلاً ، حیث

ص:23


1- 1) کفایة الأُصول : 252 تحت عنوان : تبصرة لا تخلو من تذکرة .
2- 2) سورة البقرة : الآیة 275 .
3- 3) نهایة النهایة 1 / 156 .

أنّها طبیعة ذات حصّتین ، و هی قابلة لأنْ تکون هی المراد و المورد للحکم .

و أمّا الإطلاق الأحوالی ، فإنّه یجری فی الفرد أیضاً ... و کلّما کانت طبیعة ذات حصّة و لکن المورد لا یصلح لأن تکون الطبیعة هی المراد ، فإنّه یجری فیه الإطلاق الأحوالی .

و علی هذا ، فإنّ الشیخ رحمه اللّٰه لمّا قال بأنّ مدلول الهیئة هو الفرد ، و الفرد لا یقبل الإطلاق و التقیید ، یتوجّه علیه : إنّه لا یقبل الإطلاق الأفرادی ، لکنّه یقبل الإطلاق الأحوالی .

و المحقّق الخراسانی ذهب إلی الإطلاق المفهومی ، فیرد علیه الإشکال : بأنّ الإطلاق المفهومی لا مورد له فی المقام ، لأن مجراه مثل « الرقبة » حیث أنّ الطبیعة تکون مورداً للحکم و الإرادة و یتعلّق بها التکلیف ، فیعمّ کلتا الحصّتین المؤمنة و الکافرة ، بخلاف المقام ، فإنّه لا یعقل أن یکون المراد هو الأعم من النفسیّة و الغیریّة ، بل إن حال الفرد الواقع خارجاً مردّد بین الأمرین ، و المقصود بیان حاله و إخراجه من حالة التردّد ، و لا یعقل الإطلاق المفهومی فی الفرد ... بل یتعیّن الإطلاق الأحوالی ، فإذا کان الوجوب المتعلّق بالوضوء فرداً ، فإنّه ذو حالین ، حال وجوب الصّلاة و حال عدم وجوبها ، و مقتضی الإطلاق هو التوسعة بالنسبة إلی الحالین لهذا الفرد ، فهو توسعة فی الحال لا فی المفهوم .

فظهر جریان الإطلاق الأحوالی بناءً علی مسلک المحقّق الخراسانی من أنّ مدلول الهیئة هو مفهوم الطلب ، و هو أیضاً جار بناءً علی کون مدلولها : النسبة البعثیّة أو البعث النسبی . أمّا الإطلاق الأفرادی فلا یجری ، لأن مدلول الهیئة معنیً حرفیّ و المعنی الحرفیّ جزئی ... .

هذا کلّه فی التمسّک بإطلاق مفاد الهیئة .

ص:24

و أمّا التمسّک بإطلاق المادّة ، فقد أفاد فی ( المحاضرات ) (1) : بأنّه بناءً علی نظریة الشّیخ من لزوم رجوع القید إلی المادّة ، یمکن تقریب التمسّک بالإطلاق بوجهین :

الأوّل : فیما إذا کان الوجوب مستفاداً من الجملة الاسمیّة ، کقوله علیه السلام : « غسل الجمعة فریضة من فرائض اللّٰه » فإنّه لا مانع من التمسّک فی مثله بالإطلاق لإثبات النفسیّة ، إذ لو کان غیریّاً لزم علی المولی إقامة القرینة .

و الثانی : التمسّک بإطلاق دلیل الواجب - کدلیل الصّلاة مثلاً - لدفع ما یحتمل أن یکون قیداً له کالوضوء مثلاً ، و لازم ذلک عدم کون الوضوء واجباً غیریّاً ، و قد تقرّر حجیّة مثبتات الأُصول اللفظیّة .

قال الأُستاذ : إنّه لا وجه للحصر بوجهین ، بل الإطلاق الأحوالی جارٍ أیضاً کما تقدّم ... هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ الوجه الثانی - من الوجهین المذکورین - لا یقول به الشیخ ، و إن کان وجهاً صحیحاً فی نفسه .

و تلخّص : تمامیة الإطلاق بوجوهٍ ثلاثة :

1 - الإطلاق الأحوالی فی مفاد الهیئة .

2 - إطلاق المادّة ، أی مادّة الوضوء فی « توضّأ » .

3 - إطلاق دلیل الواجب .

.2 - مقتضی الأصل العملی
اشارة

و اختلف الأنظار فی مقتضی الأصل العملی بعد فرض عدم تمامیّة الأصل اللفظی :

ص:25


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 221 .
رأی المحقق الخراسانی :

ذکر المحقّق الخراسانی (1) لمقتضی الأصل العملی - فی دوران أمر الفرد الواقع من الوجوب بین النفسیّة و الغیریّة - صورتین ، لأنّ وجوب ذلک الغیر - الذی شککنا فی کون هذا الشیء مقدّمةً له ، أو أنّه واجب نفسی و لیس بمقدّمةٍ له - تارةً فعلی و أُخری غیر فعلی .

فإن کان فعلیّاً ، کان الشیء المشکوک النفسیّة و الغیریّة مجری قاعدة الاشتغال ، لأنّ المفروض هو العلم بوجوبه ، إنّما الجهل فی وجه هذا الوجوب .

مثلاً : الوضوء واجب علی تقدیر النفسیّة و علی تقدیر الشرطیّة للصّلاة الواجبة بالوجوب النفسی الفعلی ، فلو تُرک الوضوء فقد تُرک واجب نفسی ، و هو الوضوء إن کان واجباً نفسیّاً أو الصّلاة المشروطة به ، فکان العلم الإجمالی المتعلّق بالمردّد بین النفسیّة و الغیریّة موجباً للعلم باستحقاق العقاب فی حال ترک الوضوء ، فلا محالة یکون هذا العلم الإجمالی منجزاً .

و إنْ لم یکن وجوب الغیر فعلیّاً ، کان مشکوکُ النفسیّة و الغیریّة مجری أصالة البراءة ، لأنّ المناط فی منجزیّة العلم الإجمالی هو تعلّق العلم بالتکلیف الفعلی ، و المفروض عدمه ، إذ الوضوء علی تقدیر کونه واجباً نفسیّاً فعلی ، و علی تقدیر کونه واجباً غیریّاً ، فهو شرط لواجب غیر فعلی ، و مع عدم فعلیّة المشروط لا یکون الشرط فعلیّاً ، فلا یکون العلم حینئذٍ منجّزاً ، فالمرجع البراءة .

هذا کلام المحقّق الخراسانی .

تفصیل الإیروانی

لکن الصّورة الثانیة یتصوَّر فیها صورتان ، لأنّ ذاک الغیر المفروض عدم

ص:26


1- 1) کفایة الأُصول : 110 .

فعلیّته ، قد یکون واجباً من قبل ثم ارتفع وجوبه ، و قد لا یکون کذلک ، فإنْ لم یکن مسبوقاً بالوجوب فالأصل الجاری هو البراءة کما ذکر . و أمّا إن کان مسبوقاً بوجوب مرتفع عنه فعلاً ، حصل لنا العلم بأنّ الواجب المشکوک فی نفسیّته و غیریّته کان من قبل واجباً غیریّاً ، فالحالة المتیقّنة السابقة لهذا المشکوک فیه هو الوجوب الغیری ، و بزوال فعلیّة وجوب ذلک الغیر یصیر هذا الوجوب الغیری مقطوع الزوال ، لأنّه بزوال وجوب المشروط بقاءً یزول وجوب الشرط کذلک ...

فیکون وجوب المشکوک النفسیّة و الغیریّة فرداً مردّداً بین مقطوع الزوال و مقطوع البقاء ، لأنّ هذا الوضوء - المشکوک کذلک - فی کون وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً - إنْ کان واجباً غیریّاً فقد زال عنه الوجوب یقیناً و إنْ کان واجباً نفسیّاً فوجوبه باق ...

وعلیه ، فیکون صغری للقسم الثانی من أقسام استصحاب الکلّی ... .

فعلی القول بعدم جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من أقسام الکلّی - لا فی الفرد و لا فی الکلّی - فالمرجع أصالة البراءة ، و أمّا علی القول بجریانه فیه - کما هو الصحیح - فهو أصل حاکم علی البراءة ، فکانت الصورة الثانیة من صورتی المحقّق الخراسانی تنقسم إلی صورتین ، و الحکم یختلف ... و قد نبّه علی هذا المحقّق الإیروانی (1) .

إشکال الأُستاذ

و أشکل علیه الأُستاذ : بأنّ المعتبر فی المستصحب أن یکون حکماً شرعیّاً أو موضوعاً لحکمٍ شرعی مجعول أو موضوعاً للحکم العقلی بمناط عدم لغویّة التعبّد فإنّه - و إن لم یکن المستصحب حکماً أو موضوعاً لحکم - یکفی لأن یکون للاستصحاب أثر فی الاشتغال أو الفراغ ، فلا یکون التعبّد به لغواً .

ص:27


1- 1) نهایة النهایة 1 / 158 .

لکن استصحاب الکلّی هنا لا تتوفّر فیه هذه الضابطة ، لأنّ هذا الکلّی الذی یراد إجراء الاستصحاب فیه - و هو الجامع الانتزاعی بین الوجوب النفسی و الوجوب الغیری - لیس بمجعولٍ شرعی ، إذ المجعول من قبل الشارع إمّا الوجوب النفسی أو الوجوب الغیری (1) ، و لا هو موضوع لحکم شرعی کما لا یخفی ، و هل هو موضوع للحکم العقلی علی ما ذکر ؟ کلّا ... و ذلک : لأنّ الحکم العقلی إنّما یتحقّق فی الجامع بین الواجبین النفسیّین و إنْ کان جامعاً انتزاعیّاً ، لأنّ موضوع حکمه هو استحقاق العقاب علی المخالفة ، فلو کان واجبان نفسیّان تردّد أمرهما بین مقطوع الزوال و مقطوع البقاء ، جری استصحاب الکلّی الجامع بینهما ، و أفاد وجوب الإتیان بالجامع و ترتیب الأثر علیه ، لحکم العقل باستحقاق العقاب علی المعصیة .

أمّا فی محلّ البحث ، فأحد الوجوبین نفسی و الآخر غیری ، و الواجب الغیری لا یحکم العقل باستحقاق العقاب علی ترکه ، فإحدی الحصّتین من الکلّی غیر محکومة بحکم العقل باستحقاق العقاب علی ترکها ، فکیف یتمّ إجراء الاستصحاب فی الجامع لتحقیق الحکم العقلی ؟

فتلخّص : عدم تمامیّة الاستصحاب فی الکلّی الانتزاعی أی: الوجوب الجامع بین النفسی و الغیری . نعم ، لو صحّ جریانه فی الفرد المردّد لتمّ ما ذکره المحقّق الإیروانی ، لکنّه أجلّ شأناً من أن یقول بذلک .

ص:28


1- 1) و الفرق بین الأمر الخارجی الواقعی و الأمر الاعتباری هو : إنّ الکلّی قابل للجعل بتبع جعل الفرد له ، فجعل زید هو جعلٌ للإنسان أیضاً ، إذ الکلّی الخارجی موجود بوجود فرده . أمّا الاعتباری فلیس له طبیعی أی الجنس ، و لیس له فرد أی النوع ، حتی یجعل له الکلّی ، بل الجامع فی الاعتبارات هو الجامع الانتزاعی العقلی .
رأی المیرزا

و ذهب المیرزا (1) إلی أنّ المردّد واجب بالوجوب النفسی ، و أنّ الصّلاة مجری البراءة . و توضیح ذلک : إنّه إذا تردّد أمر الوضوء بین النفسیّة و الغیریّة ، و کان علی تقدیر الغیریّة شرطاً لواجبٍ غیر فعلی ، کما لو تیقّن بالنذر و تردّد بین أن یکون قد نذر الصّلاة أو نذر الوضوء ، فإنْ کان متعلّق نذره هو الوضوء فهو واجب نفسی ، و إن کان الصّلاة کان الوضوء واجباً غیریّاً . إذن ، لا فعلیّة لوجوب الصّلاة ، بل إنّه فعلی علی تقدیر کون الوضوء واجباً غیریّاً لا نفسیّاً . فیقول المیرزا : بأنّ الوضوء واجب قطعاً ، بالوجوب النفسی أو الغیری ، و أمّا الصّلاة فهی مجری البراءة ، لجریانها فیها بلا معارض ، و ذلک : لأنّ معنی دوران أمر الوضوء بین النفسیّة و الغیریّة هو تحقّق علم إجمالی بأنّ الواجب علیه بالوجوب النفسی إمّا هو الصّلاة و إمّا هو الوضوء ، و هذا العلم مؤثر فی التنجیز ، و لا بدّ من الإتیان بالوضوء و الصّلاة معاً ، غیر أنّ الوضوء یؤتی به قبل الصّلاة ، حاله حال الواجب الغیری ...

لکنّ هذا العلم منحل ... لأنّ أحد الطرفین - و هو الوضوء - یقطع باستحقاق العقاب علی ترکه ، إمّا لکونه واجباً نفسیّاً و إمّا لأن ترکه یؤدّی إلی ترک الواجب المشروط به ، و مع القطع باستحقاق العقاب علی ترکه لا تجری البراءة فیه ، و یبقی الطرف الآخر محتمل الوجوبیّة ، فالشبهة فیه بدویّة ، و تجری البراءة فیه بقسمیها .

ثمّ ذکر فی نهایة الکلام أنّ المقام من صغریات التفکیک و التوسّط فی التنجیز .

و توضیح المراد من ذلک هو : إنّ الوقائع منها هو منجّز علی کلّ تقدیر ، و منها ما هو غیر منجّز علی کل تقدیر . و الأوّل : هو الحکم المعلوم بالإجمال ،

ص:29


1- 1) أجود التقریرات 1 / 250 .

و الثانی : هو الحکم المشکوک فیه شبهةً بدویة . و هذا القسمان واضحان . و الثالث منها هو : ما إذا کان العلم الإجمالی مردّداً بین الأقل و الأکثر ، و هذا مورد التوسّط فی التنجیز ، کما لو حصل العلم بوجوب مرکب تردّدت أجزاؤه بین کونها عشرة أو أحد عشر مثلاً ، فإنّه مع ترک الجزء الحادی عشر لا یقین باستحقاق العقاب ، بخلاف الأجزاء العشرة ، فلو ترکها استحق العقاب ... إذن ، فالواجب الواحد و الوجوب الواحد قابل للتفکیک من حیث استحقاق العقاب و عدمه ... و هذا مراده من التوسّط و التفکیک فی التنجیز .

الإشکال علی رأی المیرزا

إنّما الکلام فی اختصاص ذلک بمورد المرکّب ذی الأجزاء الخارجیّة - کما ذکر - أو أنّه ینطبق علی المرکّب ذی الأجزاء التحلیلیّة أیضاً ؟

إن حال المرکّب من الأجزاء الخارجیّة هو أنّ وجوده بتحقّق أجزاءه کلّها ، فهو وجود واحد ، أمّا عدمه فیتعدّد بعدد الأجزاء ، و یتّصف بالعدم إذا عدم الجزء الأوّل ، و بعدمٍ آخر إذا عدم الجزء الثانی ، و هکذا ... فإذا دار أمره بین الأقل و الأکثر ، فأیّ مقدارٍ من الأعدام بقی تحت العلم کان العلم منجّزاً بالنسبة إلیه .

و هل هذا الحال موجود فی الأجزاء التحلیلیّة کما فی محلّ البحث ؟

مقتضی الدقّة فی کلام المیرزا : جریان التوسیط فی التنجیز فی الأجزاء التحلیلیّة أیضاً ، لأنّه کما یحصل للمرکب من الأجزاء أعدام بعدد أجزائه ، کترک الصّلاة بترک القراءة ، و ترکها بترک الرکوع ... و هکذا ... فإنّه یحصل له ذلک بترک کلٍّ من قیوده و شروطه ، فالصّلاة المقیَّدة بالطهارة و الاستقبال و ... یحصل لها تروک بعدد تلک الأُمور ، فکما ینتفی المرکب بانتفاء جزئه ، کذلک ینتفی بانتفاء قیده ... و لیس تعدّد الترک منحصراً بالأجزاء الخارجیّة المحقّقة للمرکّب ... .

ص:30

و علی هذا ، فترک الصّلاة من ناحیة ترک الوضوء منجّز ، لأنّ المفروض تحقّق العلم بوجوب الوضوء سواء کان نفسیّاً أو غیریّاً ، و إذا تعلّق العلم بالوضوء کان ترک الصّلاة من جهة ترک الوضوء مورداً للمؤاخذة ، لقیام الحجة من ناحیة المولی علیه ، بخلاف ما لو ترکت الصّلاة من جهة غیر الوضوء ، لعدم وجود البیان و الحجّة منه ، و علی الجملة ، فقد تحقّق التنجیز بالنسبة إلی الصّلاة من حیث الوضوء ، أمّا بالنسبة إلی الصّلاة فلا ، بل الشبهة فیها بدویّة ، فالبراءة جاریة فی الصّلاة ، لکن وجوب الوضوء نفسی .

و تحصّل : أنّ التفکیک فی التنجّز یجری فی أجزاء المرکب ، و یجری فی القیود و الشرائط ، و لا یختص بالأجزاء .

فلا یرد علی المیرزا الإشکال بذلک (1) .

و أورد علیه : بأن موردنا من قبیل دوران الأمر بین المتباینین ، و لیس من الأقلّ و الأکثر ، لأن طرفی العلم الإجمالی هما الوضوء و الصّلاة ، و النسبة بینهما هو التباین .

و فیه : إنّه منقوض بالموارد التی تکون نسبة الجزء إلی الکلّ بحیث لا یطلق علی الجزء عنوان الکلّ - کما هو فی الإنسان و الرقبة مثلاً - فلو علمنا بمقدارٍ من الأجزاء هی فی العرف فی مقابل المرکب لا بعضه ، و تردّد الأمر بینه و بین سائر الأجزاء ، کان لازم ما ذکر عدم جریان البراءة . مثلاً : الصّلاة مرکّبة من أجزاء أوّلها التکبیر و آخرها التسلیم ، فلو تعلّق العلم بالتکبیر وحده و شکّ فی الزائد تجری البراءة عنه ، مع أنّ النسبة بین التکبیر و الصّلاة هو التغایر و التباین ، إذ لا یصدق عنوان الصّلاة علی التکبیر وحده .

ص:31


1- 1) منتقی الأُصول2 / 231 .

و أمّا حلّ المطلب فهو : أنّ ملاک انحلال العلم لیس خصوصیّة الأقل و الأکثر ، حتی لا ینحل و لا تجری البراءة إذا کانت النسبة التباین ، بل الملاک علی التحقیق - وعلیه المیرزا - هو کون أحد الطرفین مجری الأصل دون الطرف الآخر ، فإذا کان أحد الطرفین فقط مجری الأصل - سواء کانا متباینین أو أقل و أکثر - جرت البراءة . و فیما نحن فیه : الوضوء و إنْ لم یکن جزءاً من الصّلاة بل هو شرط لها ، إلّا أنّ الأصل لا یجری فی الوضوء و هو جارٍ فی الصّلاة ، لأنّ الوضوء معلوم الوجوب علی کلّ تقدیر ، دون الصّلاة فإنّها مشکوکة الوجوب .

و أورد علیه : بأنّه یعتبر فی انحلال العلم الإجمالی وجود السنخیّة بین المعلوم بالإجمال و المعلوم بالتفصیل ، و ذلک کما فی مثال أجزاء الصّلاة ، فلو علم إجمالاً بالوجوب النفسی ، و تردّد بین أن یکون عشرة أجزاء من المرکب أو أحد عشر ، فإن عنوان « الوجوب النفسی » ینطبق علی العشرة ، الذی أصبح المعلوم بالتفصیل .

أمّا فیما نحن فیه ، فلا توجد هذه المسانخة ، لأنّ المعلوم بالإجمال أوّلاً هو « الوجوب النفسی » إذ تردّد بین الصّلاة و الوضوء ، لکن المعلوم بالتفصیل فی طرف الوضوء هو الجامع بین النفسیّة و الغیریّة ، فهو غیر المعلوم بالإجمال الأوّلی .

و فیه : إنّه لیس الملاک ذلک ، بل الملاک ما ذکرناه من کون أحد الطرفین موضوعاً للأصل دون الطرف الآخر .

و أورد علیه : بأنّ المفروض هو العلم الإجمالی بوجوب الوضوء ، مردّداً بین کونه نفسیّاً أو غیریّاً ، فإن کان فی الواقع نفسیّاً استحقّ العقاب علی ترکه ، و أمّا إن کان وجوبه غیریّاً فلا یستحقّه ، لکنّ انحلال العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی

ص:32

فی طرف و شک بدوی فی طرف آخر ، إنّما هو حیث یکون العلم التفصیلی متعلّقاً بتکلیفٍ منجّز موجبٍ لاستحقاق العقاب ، و قد تقدّم أنّ الوضوء علی تقدیر کون وجوبه غیریّاً لا یستحق العقاب علی ترکه ، فالعلم الإجمالی المردّد بین النفسیّة و الغیریّة باقٍ علی حاله ، لعدم استلزام مخالفته لاستحقاق العقاب علی کلّ تقدیر .

و فیه : إنّه إن کان المقصود إثبات استحقاق العقاب علی ترک الوضوء نفسه فالإشکال وارد ، للشک فی کونه واجباً نفسیّاً ، و الوجوب الغیری لا تستتبع مخالفته استحقاق العقاب . لکنّ المقصود من إجراء البراءة هو رفع التکلیف و التوسعة علی المکلّف ، و هذه التوسعة لا تکون فی طرف الوضوء للعلم التفصیلی بوجوبه ، فلا یمکن الترخیص فی ترکه ، لکون وجوبه إمّا نفسیّاً فلا یجوز ترکه ، و إمّا غیریّاً فکذلک لأنّه یؤدی إلی ترک الصلاة ، أمّا فی طرف الصّلاة فهی حاصلة بأصالة البراءة .

و الحاصل : إنّ المهم کون المورد مجری لأصالة البراءة و ترتّب أثر هذا الأصل ، أعنی التوسعة و المرخصیّة للمکلّف ، و هذا حاصل ، لوجود مناط الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی ، و هو جریان البراءة فی طرف و هو الصّلاة ، لوجود المقتضی لجریانه و عدم المانع عنه ، دون الآخر و هو الوضوء للعلم التفصیلی المتعلّق به .

الإشکال الأخیر :

إنّ هذا العلم الإجمالی لا ینحلّ ، لأنّه یلزم من انحلاله عدم الانحلال . و هو الإشکال الذی اعتمده الأُستاذ فی الدّورة السابقة فی ردّ رأی المیرزا فی المقام .

و توضیح ذلک : إنّ الغرض هو حلّ مشکلة دوران أمر الوضوء بین النفسیّة و الغیریّة ، و نتیجة انحلال هذا العلم الإجمالی هو الاشتغال بالنسبة إلی الوضوء

ص:33

و البراءة عن الصّلاة . لکنّ البراءة إنّما تجری حیث یقطع بجریانها - و إلّا فالظن بجریانها لا یفید فضلاً عن الشک فیه - و القطع بجریان البراءة فی الصّلاة یستلزم القطع بعدم المؤاخذة علی ترک الوضوء ، لکونه مقدّمةً لها ، لأنّ القطع بعدم المؤاخذة علی ترک ذی المقدّمة یستلزم القطع بعدمها علی ترک مقدّمته ، و إذا حصل القطع بعدم المؤاخذة علی ترک الوضوء ، حصل العلم بتعلّق التکلیف به علی تقدیر ، و العلم بعدم المؤاخذة به علی تقدیر ، فلم یحصل العلم التفصیلی بالنسبة إلیه ، فلا تجری قاعدة الاشتغال ، بل یکون الوضوء مجری أصالة البراءة .

و فیه : إن کان المقصود من الانحلال هو الانحلال العقلی ، فالإشکال وارد ، لکن المقصود هو انحلال العلم الإجمالی بحکم الشارع ، و الحکم العقلی هنا معلّق علی عدم الانحلال الشرعی ، فإنّ العقل حاکمٌ بضرورة ترتیب الأثر علی العلم الإجمالی بین الوضوء و الصّلاة ما دام لم یصل مؤمّن من قبل الشارع ، و مع وصوله یرتفع موضوع حکم العقل ، و المؤمّن هنا حدیث الرفع ، إذ المقتضی لجریانه موجود و المانع عنه مفقود ، و هذا المعنی متحقّق فی طرف الصّلاة إذ شک فی وجوبها النفسی ، فتمّ المقتضی لجریان أصل البراءة ، و مع وجود العلم التفصیلی فی طرف الوضوء لا موضوع لجریان الأصل فیه ، فلا معارض لأصالة البراءة فی الصّلاة .

أقول :

کان هذا ملخّص ما استفدناه من کلامه دام بقاه فی الدّورة اللّاحقة . و لکنّ الاستدلال بحدیث الرفع هنا یبتنی علی أن یکون المرفوع فیه هو المؤاخذة من جهة العمل نفسه أو من جهة غیره المترتّب علیه ، فإنّه علی هذا المبنی یکون الوضوء مشمولاً لحدیث الرفع ، إذ بترکه یترتّب العقابُ علی ترک الصّلاة لکونه

ص:34

مقدمةً لها .

و أمّا علی القول بأنّ المرفوع هو المؤاخذة علی خصوص العمل - کما هو مختار السید الأُستاذ - فلا یتم الاستدلال به ، فراجع (1) .

رأی السید الخوئی

و ذکر السید الخوئی فی مقام الأصل العملی (2) أربعة صور :

( الصورة الأُولی ) ما إذا علم المکلّف بوجوب شیء إجمالاً فی الشریعة و تردّد بین کونه نفسیّاً أو غیریّاً ، و هو یعلم بأنّه لو کان غیریّاً لم یکن وجوب ذلک الغیر بفعلی ، کما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء علیها و شکّت فی أنّ وجوبه علیها نفسی أو غیری ، و أنّه فی حال الغیریّة للصّلاة فلا فعلیّة لوجوبها لکونها حائض .

( الصورة الثانیة ) ما إذا علم المکلّف بوجوب شیء فعلاً و تردّد بین کون وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً ، و هو یعلم أنّه لو کان غیریّاً ففعلیّة وجوب الغیر یتوقّف علی تحقق ذلک الشیء خارجاً . کما إذا علم بتحقّق النذر و لکنْ تردّد بین الوضوء و الصّلاة ... کما تقدّم .

و قد ذهب قدّس سرّه إلی البراءة فی کلتا الصورتین ، أمّا فی الأولی ، فهی جاریة فی الشیء المشکوک فیه ، لعدم العلم بوجوبٍ فعلی علی کلّ تقدیر ، إذ علی تقدیر الغیریّة لا یکون فعلیّاً لعدم فعلیّة وجوب ذی المقدمة . و أمّا فی الثانیة ، فهی جاریة فی الصّلاة علی ما تقدّم بیانه .

( الصورة الثالثة ) ما إذا علم المکلّف بوجوب کلٍّ من الفعلین فی الخارج ،

ص:35


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 226 - 227 .
2- 2) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 222 .

و شک فی أنّ وجود أحدهما مقیّد بوجود الآخر مع علمه بتماثل وجوبیهما من حیث الاطلاق و الاشتراط من بقیة الجهات ، أی إنهما متساویان إطلاقاً و تقییداً ، کوجوب الوضوء و الصّلاة مثلاً .

فذکر عن المیرزا القولَ بالبراءة ، و اختار هو الاحتیاط ، ( قال ) : قد أفاد شیخنا قدّس سرّه : أنّ الشک حیث أنّه متمحّض فی تقیید ما علم کونه واجباً نفسیّاً کالصلاة بواجب آخر و هو الوضوء - مثلاً - فلا مانع من الرجوع إلی البراءة عن ذلک التقیید ، لفرض أن وجوب الصّلاة و الوضوء معلوم ، و متعلّق الشک خصوص تقیید الصّلاة به أی خصوصیّة الغیریّة ، فالبراءة تجری عن التقیید .

( فأجاب ) بأنّ أصالة البراءة عن التقیید المذکور معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء بوجوب نفسی ، و ذلک لأنّ المعلوم تفصیلاً وجوبه الجامع بین النفسی و الغیری ، و أمّا الخصوصیّة فمشکوک فیها ، فلا مانع من جریان الأصل فی الخصوصیّة فی کلا الطرفین ، و یتعارض الأصلان ، و یکون المرجع قاعدة الاحتیاط ، فیجب الإتیان بالوضوء أوّلاً ، ثمّ بالصّلاة .

أقول :

و قد قرّب الأُستاذ دام بقاه رأی السید الخوئی فی هذه الصّورة و أوضح الفرق بینها و بین الصّورة السابقة التی قال فیها بالبراءة عن الصّلاة ... بأنّ صورة المسألة السابقة هی : إمّا الصّلاة واجبة بالوجوب النفسی و إمّا الوضوء ، و معنی ذلک أنّه إن کان الواجب النفسی هو الصّلاة فالوضوء وجوبه غیری ، و لذا تحقّق العلم التفصیلی فی وجوب الوضوء ، و الشک البدوی فی وجوب الصّلاة . أمّا الصّورة الثالثة هذه ، فلا شکّ فی وجوب الصّلاة - و وجوبها نفسی - بل الشک فی ناحیة الوضوء ، و للعلم الإجمالی طرفان ، أحدهما : الوجوب النفسی للوضوء ،

ص:36

و الآخر : الوجوب الغیری له ... و مقتضی العلم الإجمالی هو الاحتیاط .

فالحقّ مع المحاضرات خلافاً للمیرزا .

( الصّورة الرابعة ) ما إذا علم المکلّف بوجوب کلٍّ من الفعلین و شکّ فی تقیید أحدهما بالآخر ، مع عدم العلم بالتماثل بینهما من حیث الإطلاق و التقیید ، و ذلک : کما إذا علم باشتراط الصّلاة بالوقت و شک فی اشتراط الوضوء به من ناحیة الشک فی أنّ وجوبه نفسی أو غیری ، و أنّه علی الأوّل غیر مشروط و علی الثانی مشروط ، لتبعیّة الوجوب الغیری للنفسی فی الإطلاق و الاشتراط .

( قال ) : و قد أفاد شیخنا الأُستاذ أن البراءة جاریة من جهات ( الأُولی ) :

الشک فی تقیید الصّلاة بالوضوء ، و هو مجری البراءة ، فتصحّ بلا وضوء .

( الثانیة ) : الشک فی وجوب الوضوء قبل الوقت الذی هو شرط لوجوب الصّلاة ، و المرجع البراءة ، و نتیجة ذلک نتیجة الغیریّة من ناحیة عدم ثبوت وجوبه قبل الوقت فی المثال ( الثالثة ) : الشک فی وجوب الوضوء بعد الوقت بالإضافة إلی من أتیٰ به قبله ، و مرجع هذا الشک إلی أنّ وجوبه قبل الوقت مطلق أو مشروط بما إذا لم یؤت به قبله ، و بما أنّ ذلک مشکوک فیه بالإضافة إلی من أتی به قبله ، فلا مانع من الرجوع إلی البراءة ، و النتیجة تخییر المکلّف بین الإتیان بالوضوء قبل الوقت و بعده ، قبل الصّلاة و بعدها .

( قال ) و لنأخذ بالنظر فی هذه الجهات ، بیان ذلک : إن وجوب الوضوء فی مفروض المثال ، المردّد بین النفسی و الغیری ، إن کان نفسیّاً ، فلا یخلو من أنْ یکون مقیّداً بإیقاعه قبل الوقت أو یکون مطلقاً ، و إن کان غیریّاً ، فهو مقیَّد بما بعد الوقت علی کلّ تقدیر .

و علی الأوّل ، فلا یمکن جریان البراءة عن تقیید الصّلاة بالوضوء ،

ص:37

لمعارضته بجریانها عن وجوبه النفسی قبل الوقت ، للعلم الإجمالی بأنّه إمّا واجب نفسی أو واجب غیری ، و جریان البراءة عن کلیهما مستلزم للمخالفة القطعیّة العملیّة؛ فلا بدّ من الاحتیاط و الوضوء قبل الوقت ، فإن بقی إلی ما بعده أجزأ عن الوضوء بعده و لا تجب الإعادة ، و إلّا وجبت لحکم العقل بالاحتیاط .

و علی الثانی : فلا معنی لإجراء البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت ، لعدم احتمال تقیّده به ، لأنّ مفاد أصالة البراءة رفع الضّیق عن المکلّف لا رفع السّعة ، و أمّا بعد الوقت فیحکم العقل بوجوب الوضوء ، للعلم الإجمالی بوجوبه إمّا نفسیّاً و إمّا غیریّاً ، و لا یمکن إجراء البراءة عنهما معاً ، و معه یکون العلم الإجمالی مؤثّراً و یجب الاحتیاط .

نعم ، لو شککنا فی وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت علی تقدیر کونه غیریّاً ، أمکن رفعه بأصالة البراءة ، لأنّ تقییده بما بعد الوقت علی تقدیر کون وجوبه غیریّاً مجهول ، فلا مانع من الأصل ، لأنّ وجوبه إنْ کان نفسیّاً فهو غیر مقیّد بذلک ، و إن کان غیریّاً ، فالقدر المعلوم تقیّد الصّلاة به و أمّا تقیّدها بخصوصیّة بعد الوقت فشیء زائد مجهول ، فیدفع بالأصل .

فالبراءة لا تجری إلّا فی الجهة الأخیرة .

رأی الشیخ الأُستاذ

و خالف الشیخ الأُستاذ المیرزا القائل بالبراءة فی الصّورة ، و السید الخوئی القائل بالتفصیل فیها کما تقدَّم ، و اختار الاحتیاط فی الجهات الثلاثة ، أی: وجوب الإتیان بالوضوء قبل الصّلاة ... و خلاصة کلامه هو :

إنّ جریان أصالة البراءة فی أطراف العلم الإجمالی موقوف علی إخراج مورد الشّبهة عن الطرفیّة للعلم و کون الشک فیه بدویّاً ، و إلّا لم یجر الأصل . هذا

ص:38

بناءً علی مسلک العلیّة . و أمّا بناءً علی مسلک الاقتضاء ، فالانحلال لا یحصل إلّا بخروج مورد الشّبهة عن الطرفیّة للمعارضة . و من الواضح أنّ وقوع المعارضة فرع وجود المقتضی للجریان فی کلّ طرفٍ ، فیکون الأصل جاریاً فیهما و یسقطان بسبب المعارضة .

و علی هذا ، فإنّ معنی الشک بتقیُّد أحدهما بالآخر - فی عنوان الصورة الرابعة - بأن تکون الصّلاة مقیّدةً بالوضوء ، هو کون وجوب الصّلاة نفسیّاً و وجوب الوضوء غیریّاً ، فیحصل لنا علم إجمالی فی الوضوء بین أن یکون وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً ، لکنّ حصول العلم الإجمالی بالوجوب النفسی أو الغیری للوضوء مسبوق بعلم إجمالی مردّد بین الوجوب النفسی للوضوء و الوجوب النفسی للصّلاة ، - و العلم الإجمالی المذکور فی الوضوء تابع لهذا العلم الإجمالی السّابق - و من المحال تحقّق العلم الإجمالی بین النفسیّة و الغیریّة للوضوء بدون العلم الإجمالی بالوجوب النفسی للوضوء أو الوجوب النفسی للصّلاة ... وعلیه ، فکما أنّ المقتضی لجریان الأصل موجود فی طرف الوضوء ، کذلک هو موجود فی طرف الصّلاة ، و الأصلان یجریان و یتعارضان ، و یتنجّز العلم الإجمالی و یجب الاحتیاط .

و الحاصل : إنّ العلم الإجمالی فی الوضوء - و أنّه إن کان نفسیّاً فکذا و إنْ کان غیریّاً فکذا - تابع للعلم الإجمالی بالوجوب النفسی للصّلاة أو الوضوء - سواء کان فی الطول کما هو الصحیح أو فی العرض - و إذا تساقط الأصلان فی العلم المتبوع وجب الاحتیاط .

ص:39

تذنیبٌ و فیه أمران الأمر الأول

فی حکم الواجب الغیری من حیث الثواب و العقاب

اشارة

إنّه هل یترتّب الثواب و العقاب علی امتثال و مخالفة الواجب الغیری کما یترتّب ذلک علی الواجب النفسی ، أو بین الواجبین فرق من هذه الجهة ؟

أمّا الواجب النفسی ، فلا إشکال فی ترتّبهما علی امتثاله و مخالفته .

کلام المحقّق الأصفهانی فی الواجب النفسی

و قد ذکر المحقق الأصفهانی لذلک وجوهاً ثلاثة :

أحدها : قاعدة اللطف ، فإنها تقتضی تکلیف العباد لغرض إیصالهم إلی المصالح المترتّبة علی التکالیف و إبعادهم عن المفاسد المترتّبة علی ترکها أو إتیان المحرّمات ، و هذا لطف عظیم ، إلّا أنّ للوعد و الوعید دخلاً فی تحقّق الامتثال و قبول البشارة و النذارة ، و لا ریب فی وجوب الوفاء بالوعد ، فیکون ترتّب الثواب علی الأعمال واجباً شرعاً ، و کذا استحقاق العقاب علی المخالفة و المعصیة .

و الثانی : تجسّم العمل ، فإنّ هناک ملازمةً بین الأعمال و بین الصّور المناسبة لها ، فالعمل إن کان حسناً تحقّقت صورة حسنة مناسبة له ، و إن کان سیّئاً تحقّقت صورة مناسبة له ... و هذا وجه آخر لترتّب الثواب و العقاب علی الإطاعة

ص:40

و المعصیة ، و أنّهما من لوازم الأعمال ، کالملازمة بین النار و الحرارة و غیرهما من التکوینیّات .

و الثالث : حکم العقل ، بیانه : إنّ حفظ النظام غرض من أغراض العقلاء بالضرورة ، و هم یرون ضرورة تحقّق کلّ ما یؤدّی إلی حفظ النظام ، و من ذلک المدح و الجزاء علی العمل الحسن و الذم و المؤاخذة علی العمل السیّئ ، فالأوامر و النواهی المولویّة - سواء المولی الحقیقی أو العرفی - لها مصالح و مفاسد و لها دخل فی حفظ النظام ، و العمل الحسن یستتبع استحقاق الجزاء الحسن و العمل السّیئ یستتبع استحقاق العقوبة ، فإذا أعطی المولی الجزاء أو عاقب علی المعصیة وقع فی محلّه ، لا أنّه واجبٌ علی المولی ذلک و أنّ للعبد المطالبة بالثواب علی عمله ، فإنّ هذا لا برهان علیه (1) .

أقول :

و قد تکلّم الأُستاذ دام بقاه علی الوجه الثالث من هذه الوجوه و محصّله : أن الحکم بترتّب الثواب و العقاب عقلائی ، و هو حکم عرضی بلحاظ حفظ النظام ، و لیس ذاتیّاً ، و أنّ هناک کبری واحدة تجری فی المولی الحقیقی و المولی العرفی ...

فناقشه : بأنّ الأحکام العقلائیة هی قضایا توافقت علیها آراؤهم حفظاً للنظام ، لکنّ الحاکم باستحقاق الثواب و العقاب علی موافقة حکم المولی الحقیقی أو مخالفته هو العقل لا العقلاء ، لأنّ الأحکام العقلائیّة تدور مدار النظام و حفظه ، أمّا حکم العقل بقبح مخالفة المولی الحقیقی فموجود سواء کان هناک عقلاء و نظام أو لم یکن ... فإنّ العقل یری قبح معصیة المولی الحقیقی علی کلّ حال ، و لو کان هذا الحکم عقلائیّاً لجازت المعصیة حیث لا یوجد نظام أو عقلاء ، أو حیث لا یلزم

ص:41


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 110 .

اختلال للنظام ، و هذا باطل .

و الحاصل : إنّ کلام هذا المحقّق یستلزم جواز مخالفة المولی الحقیقی حیث لا یترتّب علی المخالفة اختلال للنظام العقلائی ، و أنّه فی حال عدم لزوم الاختلال فلا دلیل علی وجوب إطاعة أوامر الباری و حرمة معصیته ، و هذا اللازم باطل ، لأنّ العقل مستقل بلزوم إطاعة المولی الحقیقی فی جمیع الأحوال و علی کلّ التقادیر .

المختار عند الأُستاذ

و المختار عند الأُستاذ : أمّا استحقاق العقاب ، فلا ریب فی ترتّبه علی المخالفة و المعصیة للمولی الحقیقی . و أمّا استحقاق الثواب علی الطاعة ، بمعنی أن یکون للعبد حق المطالبة ، فهذا باطل ، لأنّ القدرة علی الطاعة و تحقّقها من العبد تفضّل منه ، و هذه خصوصیّة المولی الحقیقی هذا أولاً . و ثانیاً : إنّ أوامر المولی و نواهیه کلّها ألطاف ، لأنه بالامتثال لها یحصل له القرب من المولی ، و هذا نفع للعبد المکلّف .

( قال ) : لکنّ المهمّ هو معرفة المولی الحقیقی حق معرفته ، و ما عرفناه ! کما قال تعالی «وَمٰا قَدَرُوا اللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ » (1)و من عرفه کذلک کان مصداقاً لقوله «یٰا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ » (2)إذن ، لا بدّ أوّلاً من معرفة المولی معرفةً کاملةً ، و من حصلت له تلک المعرفة حصل عنده تقوی اللّٰه حقّ تقاته ، أی أداء حق العبودیّة و القیام بالوظیفة علی نحو الکمال .

و من معرفته تعالی هو : أنْ نعرف أنّ عدم إعطائه الثواب علی الأعمال

ص:42


1- 1) سورة الأنعام : 91 .
2- 2) سورة آل عمران : 102 .

الصالحة و الطاعات لیس بلائق بشأنه ... و توضیح ذلک :

إنّا لا نقول بوجوب الثواب علی الطاعة من حیث أنّها طاعة و لکون العبد مطیعاً ، لأنّ العبد مملوک للمولی و طاعته إنّما کانت بحوله و قوّته و هی لطف منه و منّة علی العبد ، و لا جزاء علیه حینئذٍ ، بل نقول بوجوب الثواب من جهة المطاع ، بمعنی أنّ عدم ترتّب الثواب علی الطاعة غیر لائق بهذا المولی ، فالطاعة - من حیث أنّها طاعة - لا تستتبع وجوب الثواب ، لکنّ عدم ترتّب الثواب علیها غیر لائق بالمولی ... .

و الدلیل علی هذا - قبل کلّ شیء - هو کلامه تعالی ، ففی الکتاب آیات مبدوّة بکلمة « ما کان » و معناها : عدم لیاقة هذا الشیء لأن یتحقّق و یکون ، سواء کان من اللّٰه أو الرسول أو سائر الناس ... فمثلاً یقول تعالی : «وَمٰا کٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَلٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَی اللّٰهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ » (1)أی: إن هذا غیر لائق بالمؤمنین و لیس من شأنهم ، بل إنّ المؤمنین یتّبعون ما أراده اللّٰه تعالی لهم و قضی فی حقّهم ، إذ لا یکون قضاؤه فیهم إلّا حقّاً و مصلحةً لهم .

و یقول تعالی : «وَمٰا کٰانَ لِنَبِیٍّ أَنْ یَغُلَّ » (2)أی: إن هذا لا ینبغی و غیر صالح صدوره منه .

و یقول تعالی : «وَمٰا کُنّٰا مُهْلِکِی الْقُریٰ بظلم ... » (3)فالظلم لا یلیق بذاته المقدّسة ، و کذا العذاب بلا بیان ، إذ قال : «وَمٰا کُنّٰا مُعَذِّبینَ حَتّٰی نَبْعَثَ رَسُولاً » (4).

و قد وردت الکلمة فی آیةٍ تتعلّق بالبحث و هی «وَمٰا کٰانَ اللّٰهُ لِیُضیعَ

ص:43


1- 1) سورة الأحزاب : 36 .
2- 2) سورة آل عمران : 161 .
3- 3) سورة القصص : 59 .
4- 4) سورة الإسراء : 15 .

إیمٰانَکُمْ » (1)فالآیة دالّة علی أنّ اللّٰه تعالی لیس من شأنه أن یضیع أعمال المؤمنین ، و لا یلیق به ذلک ، و لذا قال بعد هذا : «إِنَّ اللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَءُوفٌ رَحیمٌ » و هو بمثابة التعلیل ، بمعنی أنّ الرءوف الرحیم علی الإطلاق - و لعموم الناس - لا یلیق به أن یضیع إیمان المؤمنین و یترک أعمالهم بلا ثوابٍ و أجر .

و الحاصل : إنّه لیس للعبد أن یطالب المولی الحقیقی بشیءٍ من عمله ، فإنّه إذا صلّی إطاعةً لأمر اللّٰه ، فقد أتی بها بحول اللّٰه و قوته «مٰا شٰاءَ اللّٰهُ لٰاقُوَّةَ إِلّا بِاللّٰهِ » (2)و إذا صلّی حصلت له التزکیة «إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهیٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَالْمُنْکَرِ » (3)و تلک منّة من اللّٰه علیه ... فلیس للعبد أن یحتج بشیء علی اللّٰه ، لا من ناحیة نفسه و لا من ناحیة عمله ... لکنّ مقتضی شأن ربوبیّته و أُلوهیّته التی أشار إلیها ب « هو » فی «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ » (4)و « شَهِدَ اللّٰهُ أَنَّهُ لٰاإِلٰهَ إِلّا هُوَ » (5)أن لا یجعل العمل بلا أجر ، و کذا مقتضی صفاته «وهو الرؤف الرحیم » فللعبد أن یقول له : « أنت کما وصفت نفسک » (6) « اللّٰهمّ إن لم أکن أهلاً لأنْ أُبلغ رحمتک فرحمتک أهل أن تبلغنی و تسعنی » (7) فیطلب منه الأجر و الثواب من هذا الباب .

هذا تمام الکلام علی ترتّب الأثر علی الواجبات و المحرّمات النفسیة .

و أمّا الواجب الغیری ، فقد ذهب المحقّقان الخراسانی و الأصفهانی إلی عدم استحقاق الثواب علی موافقة الأمر الغیری و العقاب علی مخالفته .

ص:44


1- 1) سورة البقرة : 143 .
2- 2) سورة الکهف : 39 .
3- 3) سورة العنکبوت: 45.
4- 4) سورة التوحید : 2 .
5- 5) سورة آل عمران : 18 .
6- 6) مصباح المتهجد ، دعاء صلاة الحاجة : 331 .
7- 7) مفاتیح الجنان : فی التعقیبات العامة للصلوات .
.الدلیل علی عدم ترتّب الثواب و العقاب علی الواجب الغیری

و استدلّ فی ( الکفایة ) (1) علی عدم ترتّب الثواب و العقاب علی الواجب الغیری بوجهین ، أحدهما : حکم العقل بعدم الاستحقاق و استقلاله بذلک .

و الآخر : إنّ الثواب و العقاب من آثار القرب و البعد عن المولی ، و الواجب الغیری لا یؤثّر قرباً أو بُعداً عن اللّٰه ، بل المؤثّر فی ذلک هو الواجب النفسی ... نعم لو کان لواجب نفسی مقدّمات کثیرة ، فإنّه یثاب علی الإتیان بتلک المقدّمات من باب « أفضل الأعمال أحمزها » (2) .

و قال المحقّق الأصفهانی ما محصّله :

إنّ هذا الوجوب بما أنه مقدّمة للوجوب النفسی و لا غرض منه إلّا التوصّل إلیه ، فهو معلول له ، و الانبعاث إنّما یکون من الأمر النفسی المتعلّق به الغرض الاستقلالی ، و أمّا تحرّک الإنسان نحو المقدّمة فهو بالارتکاز ، و لذا یکون الواجب المقدّمی مغفولاً عنه ، و تحرک الإنسان نحوه یکون بالارتکاز ، فکلّ الآثار مترتّبة علی الواجب النفسی (3) .

أقول :

و الإنصاف : إن ما ذکر لا یکفی لأن یکون وجهاً لعدم استحقاق الثواب علی امتثال الواجب الغیری ، بل قال السید الأُستاذ : بأنه لا یخرج عن کونه وجهاً صوریّاً (4) .

و أشکل علیه شیخنا دام بقاه : بأن مورد البحث هو حیث یکون المکلّف

ص:45


1- 1) کفایة الأُصول : 110 .
2- 2) خبر مشهور بین الخاصّة و العامة کما فی البحار 79 / 229 .
3- 3) نهایة الدرایة 2 / 113 .
4- 4) منتقی الأُصول 2 / 237 .

حین العمل ملتفتاً ، کما هو الحال فی الوضوء من أجل الصّلاة مثلاً ، فإنّ المتوضّئ لیس بغافل عمّا یفعل . فلیس المقدّمة مغفولاً عنه . و الحاصل : إنّ المقدمیّة لا تمنع من الالتفات و التوجّه إلی العمل ، و هو ظاهر قوله علیه السلام : « طوبی لعبدٍ تطهّر فی بیته ثمّ زارنی فی بیتی » (1) .

و علی الجملة ، فإنّ المقدّمة قد تعلّق بها الطلب و أصبحت واجبةً ، و قد أتی بها امتثالاً للأمر ، و هی ملتفت إلیها ، و إنْ کان الغرض الأصلی مترتّباً علی ذی المقدّمة .

و ذکر سیّدنا الأُستاذ قدّس سرّه برهاناً آخر قال : و محصّل ما نرید أن نقوله بیاناً لهذا الوجه هو : إن الثواب إنما ینشأ عن إتیان العمل مرتبطاً بالمولی بالاتیان به بداعی الأمر - الذی هو معنی الامتثال - ، فترتب الثواب علی موافقة الأمر الغیری انما تتصور بالإتیان بالمقدمة بداعی الأمر الغیری ، و من الواضح أن الأمر الغیری لا یصلح للداعویّة و التحریک أصلاً ، فلا یمکن الاتیان بالعمل بداعی الامتثال الأمر الغیری . أما أنه لا یصلح للداعویّة و التحریک ، فلأن المکلف عند الاتیان بالمقدمة إمّا ان یکون مصمماً و عازماً علی الاتیان بذی المقدمة أو یکون عازماً علی عدم الإتیان به ، فإن کان عازماً علی الإتیان به ، فإتیانه المقدمة - مع التفاته إلی مقدمیتها کما هو المفروض - قهری لتوقف ذی المقدمة علیها ، سواء تعلق بها الأمر الغیری کی یدعی دعوته إلیها أو لا فالاتیان بالمقدمة فی هذا التقدیر لا ینشأ عن تحریک الأمر الغیری ، بل هو أمر قهری ضروری و مما لا محیص عنه . و ان کان عازماً علی عدم الاتیان بذی المقدمة ، فلا یمکنه قصد الأمر الغیری بالاتیان بالمقدمة ، إذ ملاک تعلق الأمر الغیری بالمقدمة هو جهة مقدمیتها و الوصول بها إلی الواجب النفسی ،

ص:46


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 381 الباب 10 من أبواب الوضوء .

لو لم نقل - إذ وقع الکلام فی أن المقدمیّة جهة تعلیلیة للوجوب الغیری أو جهة تقییدیة - : بان موضوع الأمر الغیری هو المقدمة بما هی مقدمة لا ذات المقدمة .

و من الواضح أنه مع قصد عدم الاتیان بذی المقدمة لا تکون جهة المقدمیة و توقف الواجب علیها ملحوظة عند الاتیان بالمقدمة ، و معه لا معنی لقصد امتثال الأمر الغیری بالعمل ، إذ جهة تعلق الأمر الغیری غیر ملحوظة أصلاً .

و یتضح هذا الأمر علی القول بکون الأمر الغیری متعلقاً بالمقدمة الموصلة ، فانه مع القصد إلی ترک الواجب النفسی لا یکون المأتی به واجباً بالوجوب الغیری ، فلا معنی لقصد امتثاله فیه لانه لیس بمتعلق الوجوب (1) .

أقول :

إن الکلام - الآن - فی ترتّب الثواب علی إطاعة الأمر الغیری ، فمع فرض کون المکلّف ملتفتاً إلی مقدّمیة الواجب الغیری و کونه عازماً علی إطاعة أمر الواجب النفسی ، هل یعتبر فی ترتب الثواب وجود أمرٍ بالمقدّمة و الانبعاث منه کی یقال بعدم الترتّب ، لعدم داعویة الأمر الغیری ، أو یکفی لترتّبه الرجحان الذاتی أو الانقیاد للمولی المتمشّی منه مع الالتفات إلی ما ذکر ؟

الظاهر هو الثانی ، و هو الذی نصّ علیه السید الأُستاذ نفسه فی مسألة الطّهارات الثلاث ، فتأمّل .

و أمّا العقاب علی معصیة الواجب الغیری ، فقد یقال بترتّبه کالثواب ، لأنه أمرٌ و قد عصی ، قال المحقق الإیروانی : إنّ المفروض وجوب المقدّمة ، و أثر الوجوب هو الثواب علی الإطاعة و العقاب علی المعصیة (2) .

ص:47


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 238 .
2- 2) نهایة النهایة 1 / 161 .

لکنّ الحقّ - کما علیه المحققون و مشایخنا - أنّ هذا خلاف الارتکاز العقلائی ، فإنّ العقلاء لا یرون استحقاق العقاب إلّا علی ترک ذی المقدّمة ، و هم یرون قبح ترک المقدمة لأنه یؤدّی إلی ذلک .

قال شیخنا : اللّهم إلّا إذا خولف الأمر الغیری عصیاناً لنفس الأمر الغیری .

لکنّ مثل هذه الحالة قلیل جدّاً ، و لذا کان الارتکاز العقلائی - علی وجه العموم و بالنظر إلی عامّة الناس - قائماً علی عدم استحقاق العقاب لمخالفة الأمر الغیری .

الأمر الثانی

کیفیّة عبادیّة الطّهارات الثلاث

اشارة

ثم إنه بناءً علی أن الأمر الغیری لا یستحقُّ علی امتثاله الثواب ، فقد وقع الکلام بین الأعلام فی الطهارات الثلاث ، لأنّ الأوامر المتعلّقة بها غیریّة ، مع أنها یترتّب علیه الثواب بلا إشکال ؟

و أیضاً : الأوامر المتعلّقة بالمقدّمات توصّلیة و لیست بعبادیّة ، لأنّ الغرض من المقدّمة هو التوصّل إلی ذی المقدّمة و لیس یترتّب علیها غرض آخر ، وعلیه فهی غیر منوطة بقصد القربة ، لکن الإتیان بالطهارات بلا قصد القربة باطلٌ ، فکیف الجمع ؟

رفع المحقّق الخراسانی الإشکال فیها

أجاب المحقّق الخراسانی (1) عن الإشکال الأوّل : بأنّ ترتّب الثواب علی الطهارات إنّها هو من جهة المطلوبیّة النفسیّة لها کما فی قوله تعالی : «إِنَّ اللّٰهَ یُحِبُّ

ص:48


1- 1) کفایة الأُصول : 111 .

التَّوّٰابینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرینَ » (1)فالطهارة بنفسها محبوبة للّٰه ، و الثواب مترتّب علی هذه المحبوبیّة و المطلوبیّة ، لا من جهة الأمر الغیری المتعلّق بها کی یرد الإشکال .

و أجاب عن الثانی : بأنّ کلّ أمرٍ إنّما یدعو إلی متعلّقه ، و الأمر الغیری کذلک ، فإنّه یدعو إلی متعلَّقه و هو المقدّمة . لکن المقدّمة قد لا تکون عبادیّة کنصب السّلم للصعود إلی السطح ، فیتحقّق التوصّل إلی ذی المقدّمة بمجرّد حصول المقدّمة . أمّا فی الطهارات فقد تعلّق الأمر بها لا بذواتها ، بل مقیّدة بقصد القربة ، فکان الأمر - مع کونه غیریّاً - قد تعلّق بمقدّمة عبادیّة ، و علی هذا فلا یسقط إلّا بالامتثال له و الإتیان به مع هذا القید .

الأصل فیه هو الشیخ الأعظم

و هذا الذی ذکره المحقّق الخراسانی فی دفع الاشکال متّخذ من الشیخ قدّس اللّٰه روحه ، و الأفضل هو الرجوع إلی کلامه و التعرّض لما قاله الأعلام فی نقضه أو إبرامه .

فلقد طرح الشیخ فی مسألة الطهارات ثلاث إشکالات ، ذکر اثنین منها فی الأُصول (2) و الثالث فی مبحث نیّة الوضوء من ( کتاب الطهارة ) (3) فیقول الشیخ فی بیان الاشکال الأوّل :

إنّ مقتضی القاعدة العقلیّة هو أنّ الأمر الغیری من شئون الأمر النفسی و لیس فی قباله ، و کذلک إطاعة الأمر الغیری ، فهو من شئون إطاعة الأمر النفسی ، فالأمر الغیری تابع للأمر النفسی فی ذاته و فی ترتّب الأثر علیه قرباً و بعداً و فی إطاعته و معصیته . لکنّ هذا مخالف للأخبار المستفیضة فی الطهارات و الإجماع القائم

ص:49


1- 1) سورة البقرة : 222 .
2- 2) مطارح الانظار : 71 .
3- 3) کتاب الطهارة 2 / 54 الطبعة المحققة ، التنبیه الأول من تنبیهات نیّة الوضوء .

علی ترتّب الثواب علی نفس الطهارة ، فإنّ الثواب یترتّب علی الوضوء للصّلاة ، لا للصّلاة عن وضوء ... فکان الإشکال الأوّل : المخالفة بین القاعدة العقلیّة و مقتضی النصوص و الإجماعات .

فأجاب الشیخ :

بأنّ الثواب فی الطهارات مترتّب علی ذواتها ، لکونها محبوبةً بالمطلوبیّة و المحبوبیّة النفسیّة ، و لیس ترتّب الثواب بمناط الأمر الغیری لیتوجّه الإشکال ، بل إنّها محبوبة بأنفسها و لها الاستحباب النفسی .

و هذا ما ذکره صاحب الکفایة .

و لکن الشیخ قدّس سره قد نصّ علی أنّه جواب غیر مفید ، و الوجه فی ذلک هو : أنّ تصویر الاستحباب النفسی للطّهارة لا یجتمع مع الوجوب الغیری الثابت لها ، لأنّ الوجوب و الاستحباب لا یجتمعان فی المتعلّق الواحد ، و إلّا لزم اجتماع المثلین ، و لو قلنا بأنّه مع الوجوب الغیری لا یبقی الاستحباب النفسی ، عاد الإشکال ... .

إلّا أن یوجّه : بأنّه مع الوجوب الغیری ینعدم الاستحباب النفسی بذاته ، بل یزول حدّه و یندک فی الوجوب ، کاندکاک المرتبة الضعیفة من النور فی المرتبة القویّة منه ، فإنه لا ینعدم بل یندک ، و ذاته محفوظة ... فلا مانع من أن یترتّب الأثر علی المطلوبیّة النفسیّة الاستحبابیّة الموجودة هنا مندکّةً فی الوجوب الغیری ... .

لکنّ هذا التوجیه أیضاً لا یرفع المشکلة إلّا فی الوضوء و الغسل ، لقیام الدلیل فیهما علی المطلوبیّة النفسیّة کذلک ، أمّا فی التیمّم فلا دلیل ، و إنْ حاول بعضهم الاستدلال له ببعض الأخبار ، لکنّه لا یفید .

علی أنّه یرد علی تصویر الاستحباب النفسی أیضاً : إنّ المستفاد من کلمات

ص:50

الأصحاب کفایة الإتیان بالطهارات بداعی الأمر الغیری حتّی مع الغفلة عن المطلوبیّة النفسیّة المذکورة ، و هذا لا یجتمع مع عبادیّتها - و لو بالاستحباب - لأنّها موقوفة علی الالتفات و القصد .

ثم قال الشیخ : بأنّ الأولی هو القول بأنّ الثواب علی الطهارات تفضّل من اللّٰه .

ثمّ أمر بالتأمّل .

و أخذ صاحب الکفایة هذا الجواب إذ قال : بأنّ الأمر یدعو إلی متعلّقه و هو « المقدّمة » و هی الطهارات بقصد القربة ، فیکون الاستحباب النفسی مقصوداً بقصد الأمر الغیری . ثمّ أمر بالفهم .

و الوجه فی ذلک واضح ، لأنّه مع الجهل و الغفلة یکون القصد محالاً ، و مع عدمه لا یمکن تحقّق عنوان العبادیّة .

هذا کلّه بالنسبة إلی الإشکال الأوّل ، و هو کیفیّة ترتّب الثواب علی الأمر الغیری .

و أمّا الإشکال الثانی - و هو أنّه إذا کان الوضوء مثلاً للتوصّل إلی الغیر فوجوبه توصّلی مع أنّه عبادة یعتبر فیه قصد القربة - فقد ذکره الشیخ ، و حاصله : إنّ الطهارات الثلاث لا یحصل الغرض منها بأیّ صورةٍ اتّفقت ، بل یعتبر فیها قصد القربة ، فکیف یکون وجوبها غیریّاً و الغرض منها التوصّل إلی الصّلاة مثلاً ؟

و أجاب الشیخ - و تبعه فی الکفایة - بأنّ الأمر هنا إنّما تعلّق بالحصّة العبادیّة من المقدّمة .

لکنّ هذا یتوقّف علی حلّ المشکلة السابقة ، إذ الإتیان بالمقدّمة مع الجهل و الغفلة عن استحبابها النفسی لا یحصل الغرض منها و هو التوصّل إلی

ص:51

ذی المقدّمة ، فقد اعتبر فیها قصد القربة و المفروض انتفاؤه ، قاله شیخنا دام بقاه .

و أمّا الإشکال الثالث - الذی تعرّض له فی کتاب الطهارة فی کیفیّة نیّة الوضوء - فهو : إنّ الأمر الغیری قد تعلّق بالمقدّمة المتحقّقة خارجاً ، لا بعنوان المقدّمة ، فالوضوء الواقع مقدّمة للصّلاة - سواء قلنا بأنّ الطهارة رافعة للحدث المانع من الدخول فی الصلاة أو قلنا بأنّها شرط للصّلاة - فهو رافع أو شرط إن أُتی به و تحقّق مع قصد القربة ... فالأمر الغیری یتوقّف تحقّقه علی کون متعلّقه مقدّمةً قبل أن یتوجّه إلیه الأمر و یتعلّق به ، و ثبوت مقدّمیة المتعلّق موقوفٌ علی کونه مأتیاً به عبادةً ، لکنّ عبادیّته إنّما تحصل بتعلّق الأمر الغیری به ، و هذا دور .

و أورد علیه المیرزا (1) : بأنّ هذا الدور لا یتوقّف علی تحقّق المتعلّق و الإتیان به علی وجه العبادیّة ، بل هو حاصل فی مرحلة جعل المتعلّق و توجّه التکلیف به ، ففی تلک المرحلة لا بدّ لإرادة الشارع جعل الأمر الغیری من متعلّق ، و لا بدّ من أن یکون عبادةً - و إلّا لا یکون رافعاً للحدث أو شرطاً للدخول فی الصّلاة - فجعل الأمر الغیری موقوف علی عبادیّة الوضوء مثلاً ، و عبادیّته موقوفة علی جعل الأمر الغیری ... فالدور حاصل ، سواء وصل الأمر إلی مرحلة التحقّق خارجاً أو لا .

ثمّ أجاب عن الدور : بأنّ عبادیّة الوضوء لیست من ناحیة الأمر الغیری ، بل من جهة استحبابه النفسی الموجود قبل تعلّق الأمر الغیری به .

فقال الأُستاذ : لکنّ الإشکال فی مورد الجاهل و الغافل باقٍ علی حال ، فإمّا أن ترفع الید عن عبادیّة الطهارات فی حقّهما ، و إمّا یقال بأنّ عبادیّتها جاءت من ناحیة الأمر الغیری ، فیعود محذور الدور .

و لکنْ لا یبعد أن یکون نظر الشیخ فی تقریب الدور إلی لزومه فی مرحلة

ص:52


1- 1) أجود التقریرات 1 / 257 .

العمل مضافاً إلی مرحلة الجعل ، فهو یرید إضافة إشکال ، و أنّ الدور لازم فی المرحلتین ، لا أنّه ینفی لزومه فی مرحلة الجعل . بل إنّ مقتضی الدقّة هو أنّ إثبات الدور فی مرحلة الامتثال و فعلیة الأمر یستوجب اثباته فی مرحلة الجعل ، و لا عکس ... و کأنّ المیرزا قد غفل عن هذه النکتة ... فبیان الشیخ أمتن من بیان المیرزا ، فتدبّر .

و أشکل المیرزا فی الطّهارات الثلاث ، بإشکال الدور ، و بالنقض بالتیمّم لأنّه لیس بمستحبٍ نفسی ... و قد تقدّم ذکرهما عن الشیخ .

ثمّ أجاب المیرزا عن الإشکال - باستحالة القصد مع الجهل و الغفلة ، و أنّه إذا استحال القصد استحالت العبادیة للطهارات - بأنّه یمکن تحقّق العبادیّة فیها بوجهٍ آخر ، و هو أنّ الأمر بالمشروط ینبسط علی الشرط کانبساط الأمر بالمرکّب علی أجزائه ، و کما أنّ الإتیان بالأجزاء بقصد الأمر بالمرکّب یحقّق لها العبادیّة ، کذلک الأمر المتوجّه إلی المشروط ، فإنّه یتحقّق العبادیّة للشرط ، فالوضوء یؤتی به بداعویّة الأمر المتوجّه إلی الصّلاة ، کما أنّ الرکوع - مثلاً - یؤتی به بداعویّة الأمر بالصّلاة .

فأورد شیخنا الأُستاذ علیه : بأنّ المبنی المذکور غیر مقبول و لا یحلّ المشکل ، فأمّا تعلّق الأمر فی المرکب بالأجزاء فهو أوّل الکلام ، ثمّ إنّ الفرق بین الجزء و الشرط واضح تماماً ، لأنّ الأجزاء داخلة تحت الأمر علی المبنی ، لکنّ الشروط خارجة عنه ، إذ الداخل تحته فیها هو الاشتراط لا الشّرط ، فلیس الوضوء بمطلوب بالأمر بالصّلاة بل المطلوب به تقیّدها و اشتراطها به .

و کذا سیّدنا الأُستاذ و أضاف : بأنه لو سلّم ما ذکر ، فالشرط فیما نحن فیه هو الطهارة لا نفس الوضوء ، و هی مسبّبة عن الوضوء ، و الاشکال فی تصحیح عبادیّة

ص:53

نفس الأعمال المأتی بها ، و هی لا تکون متعلّقةً للأمر الضمنی لأنها لیست شرطاً ... (1) .

فما ذکره لا یحلّ المشکلة .

و أمّا الجواب عن النقض بالتیمّم : بأنّه مستحبٌّ بالاستحباب النفسی ، بالنّظر إلی طائفتین من النصوص ، أفادت الأولی مطلوبیّة الطّهور فی جمیع الأحوال ، و الثانیة کون التیمّم أحد الطهورین ، و محصّلهما کون التیمّم مطلوباً للمولی . فقد ذکره الشیخ قدّس سرّه ، إلّا أنّه قال بعد ذلک ما حاصله : أن أحداً من الفقهاء لم یذهب إلی الاستحباب النفسی للتیمّم .

لکنّ الحق تمامیّة الجواب المذکور ، إذ المستفاد من الصحیحة : « الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا » (2) هو المطلوبیّة النفسیّة للطهارة ، و روی الصدوق مرسلاً : « من تطهّر ثمّ آوی إلی فراشه بات و فراشه کمسجده ... » (3) و فی الخبر أیضاً : « إنّ التیمّم أحد الطهورین » (4) و من جمیع هذه الأخبار یستفاد المطلوبیّة النفسیة للتیمّم ، و مقتضی القاعدة هو الأخذ بظواهر هذه النصوص إلّا أن یثبت إعراض الأصحاب عنها ، لکنّها دعوی ممنوعة ، بل إنّ ظواهر کلمات بعضهم فی بدلیّة التیمّم عن الوضوء ترتّب جمیع آثار الوضوء علی التیمّم .

هذا ، و قد یقال : باستحباب التیمّم نفساً عن طریق الإجماع القائم علی أن رافعیّة الطهارات الثلاث للحدث أو مبیحیّتها للدخول فی الصّلاة متوقفة علی کونها - أی الطهارات - عبادةً ، و ذلک : لأنّه إذا لم یکن الأمر الغیری موجباً لعبادیّتها

ص:54


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 260 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 378 الباب 8 من أبواب الوضوء .
3- 3) وسائل الشیعة 1 / 378 الباب 9 من أبواب الوضوء .
4- 4) وسائل الشیعة 3 / 386 الباب 23 من أبواب التیمّم .

کان الإجماع المذکور دلیلاً علی الاستحباب النفسی لها ، و إلّا لم یتحقّق العبادیّة للتیمّم .

و أشکل علیه الأُستاذ : بأنّ الإجماع علی مقدمیّة الطهارات للصّلاة و کونها عبادةً لا یثبت الاستحباب النفسی للتیمّم ، لاحتمال استناد المجمعین إلی الروایات التی أشرنا إلیها ، أو لقولهم بأنّ الإتیان بالمقدّمة بداعویّة الأمر الغیری أو التوصّل إلی الصّلاة مقرّب . و مع وجود هذه الاحتمالات لا یکون هذا الإجماع کاشفاً عن رأی المعصوم أو عن دلیل معتبر ... .

و تحصّل اندفاع الاشکال بالنظر إلی الروایات و استظهار الاستحباب النفسی منها .

و أشکل المیرزا أیضاً : بأنّ الطّهارات الثلاث - لکونها مقدّمةً للصّلاة - متّصفة بالوجوب الغیری ، و معه لا یمکن بقاء الأمر النفسی المتعلّق بها بحاله ، للتضادّ بین الأحکام ، وعلیه ، فلا بدّ من الالتزام باندکاک الأمر النفسی الاستحبابی فی الوجوب ، و حینئذٍ ، کیف یمکن أن یکون منشأً للعبادیّة ؟

قال الأُستاذ : و هذا الإشکال أیضاً قد تعرّض له الشیخ و أجاب عنه : بأن زوال الطلب قد یکون بطروّ مفسدة ، و قد یکون بطروّ مصلحةٍ أُخری للطلب ، فإنْ کان الطارئ هو المفسدة فلا مطلوبیة نفسیة ، و إنْ کان هو المصلحة ، فإنّ حدّ المطلوبیّة یزول بعروضها و أمّا أصل المطلوبیة فباق ، و حینئذٍ ، یمکن الإتیان بالطهارة بداعی أصل المطلوبیّة النفسیّة .

و قد أوضح المحقّق الأصفهانی هذا الجواب (1) : بأنّ الوجوب الغیری إن کان الإرادة الشدیدة فلا کلام ، کأن یکون الوضوء - مثلاً - مطلوباً نفسیّاً قبل الوقت

ص:55


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 119 .

و متعلّقاً للإرادة ، ثمّ بعد الوقت تشتدّ الإرادة نفسها فیکون واجباً ... لأنّ الإرادة قابلة للشدّة کما هو معلوم ، نظیر النور ، فإنّه مع مجیء النور الشدید لا ینعدم النور الضعیف السابق علیه . و إن کان الأمر ، بمعنی أنّ الوجوب الغیری أمر آخر غیر الأمر الاستحبابی النفسی ، فلا ریب فی زوال الأمر النفسی بمجیئه ، لاستحالة اجتماع المثلین ، لکنّ ملاکه باق و لا مانع من التقرّب بملاک الأمر النفسی .

و قد تنظّر فیه الاستاذ بما حاصله : أنّه ینافی مسلکه فی الإرادة الغیریّة و الأمر الغیری ، و ذلک لأنّه قد ذهب فیما سبق إلی أنّ الإرادة الغیریّة و الأمر الغیری لا یقبل اللّحاظ الاستقلالی ، لکونه کالمعنی الحرفی ، فلا یصلح للباعثیة ، لأنّه غیر قابل للالتفات النفسی ، نعم ، یتم هذا الجواب علی مسلکنا من أنّ هذه الإرادة و هذا الأمر ملحوظ بالاستقلال ، و یمکن تعلّق القصد به و إنْ کان فی ضمن الإرادة الشدیدة .

هذا تمام الکلام علی إشکال التیمّم ، و مشکلة انقلاب الاستحباب النفسی إلی الطلب الغیری .

أمّا الأول ، فقد اندفع بإثبات استحبابه استحباباً نفسیّاً من الروایات ، و أمّا الثانی ، فقد اندفع بناءً علی أنّ المطلوب بالطلب الغیری ملحوظ باللحاظ الاستقلالی کما اخترناه .

بقی الکلام فی الإشکال : بأن الجاهل أو الغافل غیر الملتفت إلی الاستحباب النفسی ، إنّما یأتی بالطهارات بقصد الأمر الغیری ، و المفروض أنّ الأمر الغیری توصّلی و لیس بعبادی ... فإنّ هذا الإشکال باقٍ بعد ما تقدّم من سقوط جواب المیرزا بدعوی عبادیّتها بنفس الطلب المتعلّق بالصّلاة ، فلنرجع إلی الوجوه الأُخری المطروحة فی حلّ هذا الإشکال ، فقد قال فی الکفایة « و قد تفصّی عن

ص:56

الاشکال بوجهین آخرین ... » (1) و لکنّ الأولی هو التعرّض لکلام الشیخ نقلاً عن التقریرات مباشرةً ، فإلیک محصّل کلامه أعلی اللّٰه فی علوّ مقامه (2) :

إنّ من المقدّمات ما ندرک توقّف ذی المقدّمة علیه ، و منها ما لا ندرکه ، فالأوّل کتوقف الصعود علی السطح علی نصب السلّم ، فإنّ هذا واضح عند کلّ عاقل سواء جاء بیان فیه من الشارع أو لا ، لکنّ توقّف الصّلاة علی الطهارة من القسم الثانی ، فإنّا لا ندرک کیفیّة توقف أفعال الصّلاة من الحرکات و السکنات علی الوضوء مثلاً ، فلا بدّ من الرجوع إلی الشارع ، و من أمره بالوضوء عند القیام إلی الصّلاة نستکشف توقّفها علیه .

ثمّ إنّ الأفعال أیضاً مختلفة ، فمنها : ما یکون حسنه معلوماً ، و منها : ما لا نعلم جهة الحسن فیه ، و منها : ما یختلف بالوجوه فهو من وجهٍ حسن و من وجهٍ قبیح ، کالقیام مثلاً عند دخول الشخص ، فقد یکون تعظیماً و إکراماً له و قد یکون إهانةً ...

و أمر الوضوء من هذا الحیث أیضاً مجهول ، فإنّا لا ندرک أنّ الوضوء فی أیّة حالةٍ یتّصف بالحسن حتی یکون مقدّمةً للصّلاة .

و علی الجملة ، فإنّا جاهلون بالعنوان الذی به یتّصف الوضوء بالحسن و المقدمیّة للصّلاة ، و لکنّ الشارع لمّا أمر بالوضوء أمراً غیریّاً ، کان أمره بذلک طریقاً لأنْ نأتی بالوضوء بعنوانه ، و إنْ کان العنوان علی حقیقته مجهولاً عندنا .

و حاصل هذا الوجه :

أوّلاً : لیس الحسن و المقدمیّة للوضوء بالنسبة إلی الصّلاة حاصلاً من جهة نفس الأمر الغیری حتی یلزم الدور ، بل ذلک یحصل من عنوانٍ یکون الأمر

ص:57


1- 1) کفایة الأُصول : 111 .
2- 2) مطارح الانظار : 71 .

الغیری طریقاً إلیه .

و ثانیاً : إنّ الأمر الغیری لا یوجب القرب و الثواب کما تقدّم ، لکنّ العمل قد تعنون بعنوانٍ ، فکان الإتیان به مقرّباً لذلک العنوان ، غایة الأمر هو مجهول ، و لا ضیر فی ذلک .

و ثالثاً : صحیح أنّ الأمر الغیری المتعلّق بالوضوء توصّلی ، و لا یمکن أن یکون تعبّدیاً - و الحال أنّ الوضوء عبادة - لکنّ عبادیّة الوضوء لم تنشأ من ناحیة هذا الأمر حتی یرد الإشکال ، و إنّما هی من ناحیة ذلک العنوان المجهول الذی کان الأمر الغیری طریقاً إلیه ، فاندفع الإشکال . لکنّ عبادیّة العمل منوطة بالقصد ، و مع الجهل بالعنوان الموجب للعبادیّة کیف یقصد ؟ فأجاب الشیخ : بکفایة قصد الأمر الغیری ، لأنّه یدعو إلی الإتیان بالوضوء بذلک العنوان ، فصار العنوان مقصوداً عن طریق الأمر الغیری .

هذا ، و لا یخفی أنّ بهذا الوجه تنحلّ مشکلة التیمّم أیضاً - لأنّ الشیخ قد أشکل علی استحبابه النفسی لظاهر الأخبار ، بعدم ذهاب الأصحاب إلی ذلک - فإنّه یتم استحبابه و یکون مقدّمةً للصلاة بعنوانٍ یکون الأمر الغیری طریقاً إلیه و کاشفاً عنه .

لکن یرد علی هذا الوجه :

أوّلاً : ما ذکره الشیخ نفسه من أنّ عدم درکنا لکیفیّة توقف ذی المقدّمة علی المقدّمة و ترتّبه علیها ، غیر منحصر بالطهارات الثلاث ، فإنّ للصّلاة مقدّمات أُخری أیضاً قد اعتبرها الشارع مقدّمةً لها و نحن نجهل کیفیة توقّفها علیها ، فلو کانت المقدمیّة المأخوذة شرعاً توجب عبادیّة المقدّمة و لزوم الإتیان بها بعنوان العبادة ، فلا بدّ من القول بذلک فی تلک المقدّمات أیضاً ، مع أنّ وجوب

ص:58

الإتیان بقصد القربة و بالوجه الحسن یختصُّ بالطهارات الثلاث فقط .

و ثانیاً : ما ذکره المحقّق الخراسانی من أنّه کما یمکن قصد ذلک العنوان - الموجب لحسن العمل و المجهول عندنا - بطریقیّة الأمر الغیری ، کذلک یمکن قصده بنحو التوصیف ، کأن یقصد الوضوء بوصف کونه مأموراً به ، فلا یکون إتیانه بالوضوء بداعویّة الأمر و طریقیّته ، و إذا أمکن قصد تلک الخصوصیّة المجهولة بالتوصیف - لا بمحرکیّة الأمر الغیری - أمکن أنْ یکون الداعی شیئاً آخر غیر أخذ الشارع ، فمن أین تحصل العبادیّة ؟

هذا ، و ذکر المحقّق الخراسانی وجهاً آخر و هو : إنّه لا ریب فی عبادیّة نفس الصّلاة ، و أنّها یؤتی بها بالوجه القربی - سواء بالأمر الأوّل أو بالأمر الثانی - و کما أنّ الأمر قد اقتضی الإتیان بذی المقدّمة - أی الصّلاة - بوجهٍ قربی ، کذلک یقتضی أن یؤتی بمقدّماته علی الوجه المزبور . إذن ، لم یکن الإتیان بالطّهارات بالأمر الغیری ، لیرد الإشکال بأنّه لا یوجب العبادیّة ، بل إنّه باقتضاء الأمر بالصّلاة نفسه .

قال الأُستاذ : حاصله : لزوم الاتیان بالطهارات بقصد القربة باقتضاء نفس الأمر المتوجّه إلی الصّلاة ، لکنّ هذا الوجه لم یوضّح کیفیّة تأثیر الأمر المتعلّق بالصّلاة فی مقدّمات الصّلاة و هی الطهارات الثلاث .

و ذکر المحقّق الخراسانی وجهاً آخر و حاصله : أنّه کما تمّت العبادیّة للصّلاة بمجموع أمرین ، تعلّق الأوّل بالأقوال و الأفعال و الثانی بوجوب الإتیان بها بقصد القربة ، کذلک تتمّ العبادیة للطّهارات بأمرین ، أفاد أحدهما وجوب الإتیان بالغسلات و المسحات - فی الوضوء مثلاً - و الثانی وجوب الإتیان بها بقصد القربة وداعی الأمر الشرعی ... فلا تکون عبادیّتها بالأمر الغیری .

ص:59

قال الأُستاذ :

و فیه : الفرق الواضح بین الصّلاة و الطهارات ، لأنّ الأمر الأوّل المتعلّق بأجزاء الصّلاة کان أمراً نفسیّاً ، و هو مقرّب ، و الامتثال له موجب للثواب ، بخلاف الأمر فی الطهارات ، فإنّ الأمر الأوّل فیها غیری ، فلو جاء أمر آخر یقول بلزوم الإتیان بها بداعی الأمر ، فأیّ أمر هو المقصود ؟ إن کان الأمر الأوّل فهو غیری ، و الأمر الغیری لا یستتبع ثواباً و عقاباً ، و إنْ کان غیره فما هو ؟

و تلخص :

إن مشکلة عدم استتباع الأمر الغیری للثواب و العقاب باقیة علی المبنی ، و أنّه کیف یکون ممتثلاً من أتی بالطهارة مع الغفلة عن الاستحباب النفسی لها ؟

و ذکر المحقّق الایروانی : أنّ الاشکال المهم فی المقام هو : عدم إمکان عبادیّة المقدّمة التی تعلّق بها الأمر الغیری ، لأنّها إنّما جعلت مقدّمة من أجل التوصّل بها إلی ذیها ، فبنفس الغسلات و المسحات یتحقّق المقدّمة و لا یعتبر فیه قصد القربة .

فأجاب : بأنّ توقّف الصّلاة علی الطهارة لیس من قبیل توقّف الکون علی السطح علی نصب السلّم ، إذ الأمر بذلک غیر مقیّد بنصبه ، بخلاف بنصبه ، لکنّ الأمر بالصّلاة فإنه مقیَّد بالطهارة ، فیکون تقیّدها بها داخلاً فی المأمور به ، فکانت الصّلاة مرکّبةً من الأجزاء الواقعیّة کالتکبیر و الرکوع و السجود ... و من جزءٍ عقلی هو تقیّدها بالطّهارة ... و لمّا کانت الصّلاة عبادة مقیّدةً بهذه القیود ، فإنّ مقتضی عبادیّتها أن یؤتی بجمیع القیود علی الوجه القربی و منها التقید المذکور ، لکن الإتیان ب« التقیّد » علی الوجه المذکور لا یتحقّق إلّا بالإتیان ب« القید » و هو « الوضوء » مثلاً علی ذلک الوجه ... فتحقّق العبادیّة للطهارات الثلاث و لزوم

ص:60

الإتیان بها علی الوجه القربی .

إشکال الأُستاذ

و أورد علیه الأُستاذ بوجهین : أحدهما فی قوله فی طرح الاشکال بعدم امکان کون الأمر الغیری عبادیّاً ، و أنّه غیر معقول . فإنّ فیه : أنّ المقدّمة هی ما یتوقّف علیه الشیء ، و هو قد یکون عبادةً تتقوّم بالقصد ، و قد لا یکون کذلک .

و الثانی فی قوله فی تقیّد الصّلاة بالطهارة بأنّه عبادی . ففیه : أن کونه عبادة یحتاج إلی دلیلٍ ، فإنْ کان الدلیل علیه هو نفس الدلیل علی وجوب الإتیان بالصّلاة بقصد القربة ، بتقریب أنّ الصّلاة فی هذه الحال مرکّبة من التقیّد و من الأجزاء ، فإن هذا یتوقّف علی دخول التقیّد المذکور فی ماهیّة الصّلاة بحیث لا یصدق عنوان الصّلاة إنْ جرّدت عنه ، و الحال أنه لیس کذلک ، بل یصدق عنوان الصّلاة علی الفاقدة للتقیّد .

و علی فرض دخول التقیّد فی الصّلاة کذلک ، فما الدلیل علی ضرورة کون القید - کالوضوء مثلاً - عملاً عبادیّاً حتی یتحقّق التقیّد ؟ بل إنّ الصّلاة مقیّدة بعدم الخبث فی لباس المصلّی ، فکان التقیّد داخلاً ، مع أنّ غسل الثوب المحصّل له لیس بعملٍ عبادی .

و ذکر بعضهم : إنّ منشأ العبادیّة للطهارات هو قابلیّتها للتقرّب إلی المولی ، و هذا کاف لترتّب الآثار کالثواب ... و یشهد بکفایة القابلیّة ارتکاز المتشرعة ، فإنّهم لا یأتون بالوضوء - مثلاً - بداعی استحبابه النفسی ، بل یأتون به بعنوان أنه بنفسه قابل للتقرّب به إلی المولی .

اشکال الأُستاذ

فأورد علیه الأُستاذ : بأنْ الأُمور ثلاثة ، فمنها : ما لا یصلح للمقربیّة لأنّه

ص:61

لا یقبل الإضافة إلی المولی أصلاً کالظلم ، لقبحه الذاتی . و منها : ما یصلح لذلک لأنّه یقبل الإضافة إلیه کالعدل ، لحسنه الذاتی ، و منها : ما لا یصلح لذلک إلّا بعد الإضافة و أمّا قبلها فلا ، و الحاکم فی صلوحه لذلک هو العقل ، و العقل یری المقربیّة فی أحد أمرین إمّا أن یکون مقرّباً بالذات کالتعظیم ، و إمّا أن یکون مقرّباً بالعرض ... و الطهارات الثلاث لیست عبادةً بالذات ، و عبادیتها بالعرض موقوف علی إضافتها إلی المولی ، بأنْ یؤتی بها بداعی الأمر أو المحبوبیّة ، فلا یکفی مجرّد القابلیّة فیها للعبادیّة .

و قال السید الخوئی : « و الصحیح فی المقام أن یقال : إنّ منشأ عبادیّة الطّهارات الثلاث أحد أمرین علی سبیل منع الخلو أحدهما : قصد امتثال الأمر النفسی المتعلّق بها مع غفلة المکلّف عن کونها مقدمة لواجب أو مع بنائه علی عدم الإتیان به ، کاغتسال الجنب - مثلاً - مع غفلته عن إتیان الصلاة بعده أو قاصد بعدم الإتیان بها ، و هذا یتوقّف علی وجود الأمر النفسی ، و قد عرفت أنّه موجود .

و ثانیهما : قصد التوصّل بها إلی الواجب ، فإنّه أیضاً موجب لوقوع المقدّمة عبادة و لو لم نقل بوجوبها شرعاً ، لما عرفت فی بحث التعبّدی و التوصّلی من أنّه یکفی فی تحقّق قصد القربة إتیان الفعل . مضافاً به إلی المولی و إن لم یکن أمر فی البین » (1) .

إذن ، ارتفع الإشکال ، لأنّ عبادیّة العمل أصبحت منوطةً بإضافته إلی المولی و هی متحقّقة ، کما یرتفع اشکال ترتّب الثواب ، لأنّه قد أتی بالعمل بقصد التوصّل إلی الواجب النفسی لا بداعی الأمر الغیری .

ص:62


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 229 .

قال الأُستاذ

إنّ هذه النظریّة متّخذة من کلام الشیخ الأعظم رحمه اللّٰه فی باب التعبّدی و التوصّلی ، و من کلام له فی باب المقدّمة .

قال الشیخ فی الفرق بین التعبّدی و التوصّلی کما فی ( التقریرات ) (1) : بأنّ الفرق بینهما لیس من ناحیة الأمر ، بل من ناحیة الغرض و المصلحة القائمة بمتعلّق الأمر ، ففی التوصّلی تتحقّق المصلحة بالإتیان بالمتعلّق ، أمّا فی التعبّدی فلا ، بل لا بدّ من الإتیان بقصد الامتثال ، فیکون فی التوصّلی أمر واحد ، و فی التعبدی أمران ، یتعلّق الأول منهما بالعمل کقوله صلّ ، و الثانی یقول : أقم الصلاة بقصد الامتثال وداعی الإطاعة ، و هذا ما أخذه المیرزا و اصطلح علیه ب« متمم الجعل » .

و قال الشیخ فی باب المقدّمة (2) : بأنّ التوصّل إلی ذی المقدمة تارةً : یکون بصرف وجود الأمر الغیری بلا دخلٍ لأمرٍ آخر ، و أُخری : لا یتحقّق التوصّل إلی ذی المقدّمة إلّا بالإتیان بالمقدّمة بداعی التوصّل إلی ذیها ، إذن ، لا بدّ من أمرٍ آخر لإفادة هذا المعنی و تحقیق الغرض من الأمر ، کما هو الحال فی التعبّدی و التوصّلی ، مع فرق بینهما هو أنّ الأمرین هناک کلاهما نفسی ، بخلاف المقام فإنّ الأمرین کلیهما غیریّان ، لتعلّق الأول بالوضوء و هو مقدمة للصّلاة فهو غیری ، و کذلک الثانی الذی أفاد الإتیان بالوضوء بداعی التوصّل إلی الصّلاة کما لا یخفی .

طریقة الأُستاذ لحلّ الاشکال

و قال الأُستاذ دام بقاه : بأنّ الإتیان بالعمل بداعی الأمر الغیری یرفع جمیع المشاکل ، فإنّه یرفع مشکلة ترتّب الثواب و یرفع مشکلة عبادیة الطهارات

ص:63


1- 1) مطارح الانظار : 58 .
2- 2) المصدر : 78 .

الثلاث ، و علی الجملة ، فإنّ العبادیّة تتحقّق بالأمر الغیری و تترتّب علیه جمیع الآثار .

أمّا ترتّب الثواب ، فیکفی فیه الإتیان بالعمل مضافاً إلی المولی ، فإذا أُضیف إلیه صلح لأنْ یکون مقرّباً إلیه و لأن یترتّب علیه الأجر و الثواب ، بل العقل حاکم بکفایة الإتیان به بمجرّد کون المحرّک نحوه مطلوبیّته للمولی ، فلا خصوصیّة لإضافته إلیه ، بل إنّ حصوله بداعٍ إلهی یجعله مورداً للثواب ، و الإتیان بالطهارات کذلک ، و إنْ کان الطلب الدّاعی له غیریّاً لا نفسیّاً .

و کذلک عبادیّة العمل ، فإنّها تتحقّق بإضافته إلی المولی و إنْ کان الطلب المتوجّه إلیه غیریّاً ، لعدم الفرق فی تحقّق الإضافة بین الطلب النفسی و الغیری ، و الأمر فی الطهارات الثلاث من هذا القبیل ، فالعبادیّة متحقّقة فیها بالأمر الغیری و لا إشکال فی ذلک ، إلّا مشکلة الدور التی ذکرها الشیخ ، لأن متعلّق الأمر فیها لیس هو الأفعال من الغسل و المسح ، بل الأفعال بوصف العبادیّة ، فلو تحقّقت العبادیّة لها من ناحیة الأمر الغیری لزم الدور .

و قد تقدّم منّا حلّ هذه المشکلة : بأنها تبتنی علی أنْ تؤخذ فی متعلّق الأمر الغیری خصوصیّة الإتیان به بقصده ، إذْ یلزم تقدم المتأخّر و تأخّر المتقدّم ، أو لا تؤخذ و لکنّ الإطلاق یکون بنحو جمع الخصوصیّات ، فتکون الخصوصیّة المذکورة مأخوذةً فی ضمنها ، و أمّا إذا کان المتعلّق و هو الغسل و المسح فی الوضوء مطلقاً بنحو رفض القیود ، کان المأخوذ فیه طبیعة العبادیّة ، و یکون الإتیان به بقصد الأمر الغیری من مصادیق الطبیعة ، فالأمران مختلفان و الدور غیر لازم .

و تلخّص : إنّ منشأ عبادیّة الطهارات الثلاث أحد أُمور ثلاثة :

1 - قصد امتثال الأمر الاستحبابی النفسی ، فالعمل مضاف إلی المولی . ذکره

ص:64

المحقّق الخراسانی .

2 - قصد التوصّل بها إلی الواجب النفسی ، لأنّه یتحقّق لها بذلک إضافة إلی المولی . ذکره الشیخ .

3 - قصد الأمر الغیری ، لأنّه یضاف العمل للمولی ، و إشکال الدور مرتفع بما ذکرناه ، و إن کان من الشیخ و ارتضاه الآخرون ، و قال فی ( المحاضرات ) : بأنّ الأمر الغیری لا یعقل أن یکون منشأً لعبادیّتها (1) . فقد ظهر أنّه معقول ، لأنّ الدور إنّما یلزم لو أُخذ خصوص الأمر الغیری فیها ، أمّا مع أخذ العبادیّة مطلقاً أی بنحو رفض القیود فلا یلزم .

و هذا تمام الکلام فی الطهارات الثلاث .

ص:65


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 232.

ص:66

هل الوجوب الغیری یتعلّق بمطلق المقدّمة أو حصّةٍ معیّنةٍ منها ؟

اشارة

ص:67

ص:68

ثم إنّه قد وقع الخلاف بین الأعلام فی متعلّق الوجوب الغیری ، فهل هو مطلق المقدمة أو خصوص حصّة معیّنة منها ؟ أقوال :

أحدها : ما نسب إلی صاحب المعالم : من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم و الإرادة علی الإتیان بذیها ... فیکون قیداً للوجوب .

و الثانی : ما نسب إلی الشیخ من أنّ متعلّق الوجوب : المقدّمة التی قصد بها التوصّل إلی الواجب ... فیکون قیداً للواجب .

و الثالث : ما اختاره صاحب الفصول : من أنّ متعلّق الوجوب هو المقدّمة الموصلة إلی ذی المقدّمة .

و الرابع : ما نسب إلی المشهور : من أنّ متعلّق الوجوب هو المقدّمة .

.النظر فی القول الأوّل

إنّ کلمات صاحب ( المعالم ) مضطربة مختلفة ، فله کلام یحتمل أنّه یرید کون الوجوب مشروطاً بإرادة ذی المقدّمة بنحو القضیّة الشرطیة ، و أن یرید أنّها واجبة حین إرادة ذی المقدّمة بنحو القضیّة الحینیّة .

و کلامه علی کلّ تقدیر غیر مقبول ، لأنّه بناءً علی وجوب المقدّمة ، فإنّ المبنی فیه هو الملازمة بین مطلوبیّة ذی المقدمة بالطلب النفسی و مطلوبیّة المقدمة بالطلب الغیری ، وعلیه یکون وجوبها تابعاً لوجوبه و لا تفکیک بینهما ،

ص:69

و حینئذٍ ، یستحیل تقیّد وجوب المقدمة بإرادة ذیها ، لأنّ الوجوب إنما هو من أجل أن یؤثّر فی الإرادة ، فاشتراطه بها تحصیل للحاصل ... و وجوب شیء فی حال أو حین إرادة ذلک الشیء ، فإنّه تحصیل للحاصل کذلک .

إذن ، لیس وجوب المقدّمة مشروطاً بإرادة ذی المقدّمة ، و لا هو فی حال إرادته .

و الحاصل ، إنّه بعد ثبوت التبعیة ، یستحیل الاشتراط بالإرادة أو التقیید بحالها ، و إلّا یلزم التفکیک بین الوجوبین الغیری و النفسی .

.النظر فی القول الثانی

اشارة

و هو القول المنسوب إلی الشیخ ( التقریرات ) (1) ، بأنّ المقدّمة مقیّدة بداعی التوصّل ، و هو قید اختیاری ، بخلافه فی القول الثالث ، فإنّه قید قهری کما سیأتی ، ... و أیضاً ، هو قیدٌ للواجب لا للوجوب .

و قد استدلّ لهذا القول :

بأنّ ما یتوقّف علیه الشیء معنون بعناوین ، لکنّ العنوان الذی یدخل تحت الأمر الغیری بحکم العقل هو عنوان المقدمیّة لذی المقدّمة ، فنصب السلّم مثلاً یتصوّر له أکثر من عنوان ، إلّا أنّ متعلّق الأمر الغیری فیه عنوان المقدمیّة للصعود إلی السطح ، إذ الأمر لم یتعلّق به بعنوان نصب السلّم بما أنّه کذلک بل بما أنّه مقدّمة ... و إذا کان هذا هو المتعلّق للأمر ، فلا ریب أنّ الأمر لا یدعو إلّا إلی متعلّقه ، و داعویّته لغیر المتعلّق مستحیلة ، فإذا لم یؤت به بهذه الخصوصیّة لم یتحقّق الامتثال .

و علی هذا ، فإن مصداق الواجب - سواء فی المقدّمات العبادیّة أو غیرها -

ص:70


1- 1) مطارح الأنظار : 72 - 73 .

هو ما أُتی به بقصد المقدّمة لذیها ، و إنّ ما یُحقّق عنوان المقدمیّة هو الإتیان بداعی التوصّل ، غیر أنّه فی العبادیّات یعتبر قصد القربة أیضاً .

و قد أیّد الشیخ مطلبه بما فی الأوامر العرفیّة ، فلو أمر المولی عبده بتحصیل الثمن و شراء اللّحم به ، ثم حصل الثمن لا بقصد شراء اللّحم ، لم یکن تحصیله عند العرف امتثالاً للأمر ، لأنّه قد أمر بتحصیل الثمن لاشتراء اللّحم .

و فرّع الشیخ علی مسلکه مسألتین :

أحدهما : إنّه لو کان علی المکلّف صلاة قضاءٍ ، فتوضّأ قبل الوقت لا بداعی الصّلاة الفائتة و لا بقصد غایةٍ من الغایات للوضوء ، فلا یجوز له الصّلاة به ، لأنّ المتعلّق للوجوب هو المقدّمة المأتی بها بداعی التوصّل لذی المقدّمة .

و ثانیهما : إنّه لو اشتبهت القبلة فصلّی المکلّف إلی جهةٍ من الجهات من غیر أن یقصد بها التوصّل إلی الاحتیاط الواجب ، - کأن لم یُرد الصلاة إلی الجهات الأُخری - بطلت صلاته . و لذا لو عزم علی الاحتیاط بالصّلاة إلی الجهات وجب علیه إعادة تلک الصّلاة ، أمّا لو قلنا بعدم اعتبار قصد التوصّل ، فإنّه لو قصد الصّلاة إلی جهةٍ واحدةٍ فقط ، ثمّ بدا له و أراد الصّلاة إلی جمیعها عملاً بالاحتیاط ، لم تجب علیه إعادة الصّلاة الأولی .

و أورد علیه المیرزا - و تبعه الأُستاذان (1) - بخروج هذه الثمرة عن البحث ، لأنّ البحث فی المقدّمة الوجودیة لا العلمیّة .

هذا فی العبادات .

و أمّا فی غیرها ، فمن المقدّمات ما لا یعتبر فیه قصد التوصّل ، فلا فرق بین رأی الشیخ و رأی المشهور ، مثل غسل الثیاب لا بداعی التوصّل إلی الصّلاة . و منها

ص:71


1- 1) أجود التقریرات 1 / 261 ، منتقی الأُصول 2 / 283 .

ما یعتبر فیه ذلک ، و تتحقّق الثمرة بین القولین فیما لو أمر بإنقاذ الغریق و توقف ذلک علی التصرّف فی ملک الغیر ، فیقول الشیخ : بأنّه لو تصرّف بداعی إنقاذ الغریق فلا حرمة ، لأنّ متعلّق الوجوب هو التصرّف بداعی التوصّل به إلی الإنقاذ ، و لمّا کان الإنقاذ أهمّ فلا تبقی الحرمة ، أمّا لو تصرّف لا بداعی التوصّل به للإنقاذ فالحرمة باقیة و إن حصل الإنقاذ .

کلام المحقّق الاصفهانی فی توجیه مراد الشیخ
اشارة

و قد تصدّی المحقّق الاصفهانی (1) لتوجیه کلام الشیخ بما تقریبه :

1 - إنّ الأحکام العقلیّة منها نظریّة و منها عملیّة ، فمن أحکام العقل النظری :

استحالة اجتماع النقیضین و ارتفاعهما ، بل هذا هو أُمّ القضایا فیها . و من أحکام العقل العملی : حسن العدل و قبح الظلم ، بل هذا هو أُمّ القضایا فیها .

أمّا الأحکام الشرعیّة ، فإنّ الغایات منها - و هی متأخّرة وجوداً و متقدّمة فی اللّحاظ - هی العلل لجعل تلک الأحکام ، فالحکم یتوجّه إلی ذات العمل و لیس فی متعلّقه قید « کونه ذا مصلحة » بل إنّ کونه کذلک علّة للحکم ، فالمصلحة المترتّبة علی العمل خارجاً متأخّرة عن العمل ، لکنّها فی الحقیقة هی العلّة للحکم ، بخلاف الأحکام العقلیّة - مطلقاً - فإنّ متعلّق الحکم فیها هو المصلحة و هی الموضوع ، فنقول فی الأحکام الشرعیّة : هذا واجب لأنّه ذو مصلحة . و فی الأحکام العقلیّة نقول : ذو المصلحة واجب ، فیکون اللزوم و الوجوب متعلّقاً ب« ذو المصلحة » و هو الموضوع للحکم ... فالعقل یدرک استحالة الدور - فی الأحکام الشرعیّة - و هذه الکبری تطبّق علی مواردها ، مثل ما تقدّم فی محلّه : من أنّ أخذ قصد الأمر فی المتعلّق محال ... فهو لا یدرک استحالة أخذه کذلک ، بل

ص:72


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 113 - 134 .

یدرک الکبری التی هذا المورد من صغریاتها .

و فی الأحکام العملیّة کذلک ، فهو لا یدرک أنّ ضرب الیتیم تأدیباً حسن بل یدرک : التأدیب حسن ، ثم الکبری تطبّق علی هذه الصغری ، فهو یحکم بحسن ضرب الیتیم لکونه مصداقاً لکبری حسن العدل .

فعلی هذا ، فإن القیود فی الأحکام العقلیة تدخل تحت الطلب ، أی کون العمل ذا مصلحةٍ ، أو کونه عدلاً ، بخلاف الأحکام الشرعیّة ، فإن کون صلاة الظهر ذات مصلحةٍ ثابت ، لکنّ هذا القید غیر داخلٍ تحت الأمر بل هو العلّة له .

هذا ، و البرهان علی رجوع أحکام العقل النظری کلّها إلی اجتماع النقیضین و ارتفاعهما هو : أنّ کلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات . و علی هذا الأساس أیضاً ترجع أحکام العقل العملی إلی حسن العدل و قبح الظلم .

هذا ... فیقول الأصفهانی : إنّ ما ذکره الشیخ صحیح علی القاعدة ، لأنّ المفروض کون وجوب المقدمة من باب الملازمة بینها و بین ذیها ، و الملازمة حکم عقلی ، و إذا کان کذلک ، فلیس نصب السلّم بموضوعٍ للوجوب ، بل موضوعه هو الصعود علی السطح ، فنصب السلّم المقصود بالعرض ، المنتهی إلی ما بالذات هو المقدّمة ... و هذا العنوان لا یتحقّق بدون الداعی للتوصّل إلی ذی المقدّمة .

إشکال الأُستاذ

إنّ هذا الذی ذکره المحقّق الاصفهانی إنّما یتمّ فی الأحکام العقلیّة ، فالتأدیب مثلاً هو موضوع الحکم لا خصوص ضرب الیتیم ... أمّا فی الأحکام الشرعیّة فلا ، و مقامنا من الأحکام الشرعیّة و إن کان الکاشف عنه هو العقل ... لأنّ وجوب المقدّمة شرعاً - علی القول به - حکم غیری ، من جهة أنّ من یطلب شیئاً

ص:73

فهو طالب لمقدّمته أیضاً ، للتلازم بین إرادته و إرادتها ، فهذا ثابت فی عالم الثبوت ، غیر أنّ الکاشف عنه فی عالم الإثبات هو حکم العقل . فکون الحیثیات التعلیلیّة - مثل کون العمل ذا مصلحةٍ کما تقدّم - حیثیّات تقییدیّة و موضوعات للأحکام العقلیّة ، صحیح فی الأحکام العقلیّة ، لکنّ وجوب المقدّمة حکم شرعی کما هو المفروض ، فلا تنطبق علیه القاعدة المذکورة ... بل إنّ موضوع الحکم الشرعی فی المقام هو ذات المقدّمة فقط ... وفاقاً للمحقّق الخراسانی .

2 - إنّه دائماً یتعلّق الأمر بالحصّة المقدورة ، و ما کان خارجاً عن الاختیار فلا یتعلّق الأمر به ، وعلیه ، فالمتعلّق للأمر الغیری هو الحصّة المقدورة ، الاختیاریة ، و هی ما قصد به المقدمیّة و التوصّل به إلی الغیر .

اشکال المحاضرات

و أورد علیه فی ( المحاضرات ) (1) : بأنّ هذا إنّما یتمّ فیما إذا کانت القدرة علی المتعلّق مأخوذةً فیه شرعاً و واردة فی لسان الدلیل ، کما فی آیة الحج ، بناءً علی تفسیر « الاستطاعة » ب« القدرة » ، و کذا فی آیة التیمّم ، بناءً علی أنّ المراد من « الوجدان » هو « القدرة » علی الاستعمال شرعاً ... لأنّه لا یمکن کشف الملاک فی أمثال هذه الموارد إلّا فی خصوص الحصّة المقدورة . و أمّا الحصّة الخارجة عن القدرة ، فلا طریق للکشف عنه فیها .

و أمّا إذا کانت القدرة معتبرة فی المتعلّق بحکم العقل ، فلا یتم ما ذکر ، لأنّ القدرة علی بعض أفراد الطبیعة یکفی لتحقّقها علی الطبیعة .

و لمّا کان اعتبار القدرة علی المقدّمة حکماً عقلیّاً ، لأنه الحاکم بأنّه لو لا القدرة علیها فلا وجوب ، فلا محالة لا یکون وجوبها مختصّاً بما یصدر من

ص:74


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 245 .

المکلّف عن اختیار ، بل یعمّه و غیره ، و إذا کان الواجب هو الطبیعی الجامع بین المقدور و غیره ، کان الإتیان به لا بقصد التوصّل مصداقاً للطبیعی ، فلا موجب لتخصیصه بالحصّة المقدورة .

نقد الأُستاذ

قال الأُستاذ : قد تقدّم أنّ مراد الشیخ هو أنّ متعلّق الوجوب لیس هو ذات المقدّمة بما هی ذات ، و لا بما هی معنونة بعنوانٍ من العناوین ، بل المتعلّق هو الذات المعنونة بعنوان المقدمیّة ، فلو أتی بها بدون قصد المقدمیّة کأن یصلّی صلاة الظهر لا بقصد عنوان الظهر ، فلا یتحقق الامتثال و لا یسقط الأمر .

و إذا کان هذا مراده ، فلا ربط لکلام المحقّق الأصفهانی به ، و لا لجواب المحاضرات و إن کان صحیحاً فی حدّ ذاته .

و تلخّص : إنّ الاشکال الوارد علی الشیخ هو : أنّ ما ذکره إنّما یتم فی الأحکام العقلیّة ، ففیها یدخل العنوان تحت الطلب ، أمّا فی الأحکام الشرعیّة المستکشفة بالعقل فلا ... .

مختار الکفایة و ردّه علی الشیخ

و تعرّض المحقّق الخراسانی (1) لمسلک الشیخ بالنقض و الحلّ ... فذکر أُموراً :

1 - إنّ الأمر معلول للغرض ، و لا یعقل أن یکون أخصّ من الغرض . و هذا مراده من أنّ کلام الشیخ یستلزم التخصیص بلا مخصّص ... و توضیحه :

إنّ الغرض من الأمر بالمقدّمة هو تحقّق ذیها ، لأنّه یتوقّف علیها ، و هذا الغرض یتحقّق سواء أُتی بالمقدّمة بداعی التوصّل إلی ذی المقدّمة أو لا بهذا

ص:75


1- 1) کفایة الأُصول : 114 .

الداعی ، فتخصیص متعلّق الأمر الغیری بالحصّة التی یؤتی بها بهذا الداعی بلا مخصّص .

2 - إنّه لو أتی بالمقدّمة لا بداعی التوصّل ، ثمّ بدا له أن یأتی بذی المقدّمة ، لم یجب إعادة المقدّمة ، و هذا دلیلٌ علی عدم تقیّد متعلّق الأمر الغیری بالإتیان به بداعی التوصّل ، و عدم دخول عنوان المقدمیّة تحت الطلب ، بل الأمر یسقط و یتحقّق الامتثال بلا قصدٍ للتوصّل .

3 - إنّ الشیخ أشکل علی صاحب الفصول القائل بالمقدّمة الموصلة : « بأنّ مناط المقدمیّة هو ما یلزم من عدمها عدم ذی المقدّمة » فکلّ ما کان کذلک فیدخل تحت الطلب دون غیره ، و قید « الموصلیّة » لا یلزم من عدمه عدم ذی المقدمة .

فقال المحقّق الخراسانی : بأنّ هذا الاشکال یرد علی الشیخ نفسه القائل بتقیّد المقدّمة : بالمأتی بها بداعی التوصّل إلی ذیها .

هذا ، و قد ذهب المحقّق الخراسانی إلی عدم اعتبار قصد التوصّل ، و عدم اعتبار الموصلیّة ، قال : « فهل یعتبر فی وقوعها علی صفة الوجوب أن یکون الإتیان بها بداعی التوصّل ... أو ترتّب ذی المقدّمة علیها ... أو لا یعتبر فی وقوعها کذلک شیء منهما ؟ الظاهر عدم الاعتبار » .

ثمّ قال بعد المناقشة مع الشیخ : « نعم ، إنّما اعتبر ذلک فی الامتثال ، لما عرفت من أنّه لما یکاد یکون الآتی بها بدونه ممتثلاً لأمرها و آخذاً فی امتثال الأمر بذیها فیثاب بثواب أشق الأعمال » .

و حاصل کلامه : عدم دخل قصد التوصّل فی متعلّق الأمر الغیری ، نعم له دخل فی عبادیّة المقدّمة .

و قد فرّع علی ذلک فی مسألة الدخول فی ملک الغیر لإنقاذ الغریق ، بناءً

ص:76

علی مختاره من أنّ الغرض هو تحقّق ذی المقدّمة فیؤتی بالمقدّمة لتوقّفه علیها :

بأنّ التوقف موجود سواء دخل لقصد التوصّل أو لا ، فترتفع الحرمة حیث یکون الإنقاذ موقوفاً علی الدخول ، غیر أنّه یختلف باختلاف حال المکلّف من حیث الالتفات إلی التوقّف و عدمه ، فتارةً : لا یکون ملتفتاً إلی توقف ذی المقدّمة - و هو الإنقاذ - علی الدخول ، ففی هذه الحالة یکون دخوله فی تلک الأرض مع اعتقاد الحرمة تجرّیاً ، لأنّه قد أتی بما هو واجب علیه واقعاً مع اعتقاد حرمته . و أُخری :

یکون ملتفتاً إلی المقدمیّة و التوقف ، فیکون دخوله حینئذٍ تجرّیاً بالنسبة إلی ذی المقدّمة ، لأنّ المفروض عدم قصده التوصّل إلیه مع وجوبه علیه . و ثالثة :

یکون ملتفتاً و یقصد التوصّل ، لکن هذا القصد ناشئ من داعٍ آخر ، فیکون دخوله واجباً ، فلا معصیة و لا تجرّی أصلاً .

موافقة الأُستاذ مع صاحب الکفایة فی الاشکال علی الشیخ

ثمّ إنّ الأُستاذ وافق علی الإیراد علی الشیخ بذلک - و إن کان له نظر فی کلام الکفایة - و سیأتی فیما بعد .

و حاصل الاشکال علی الشیخ : إنّه لا مانع ثبوتاً من أخذ قصد التوصّل فی امتثال الأمر الغیری المتعلّق بالمقدّمة ، و لکنّ الاشکال فی مقام الإثبات ، لأنّ الدلیل الإثباتی إن کان عن طریق الملاک ، فلا وجه لحصر الملاک فی هذه الحصّة بل هو أعمّ . و إن کان أخذ الشارع فی لسان الدلیل ، فهو غیر موجود . و إن کان الارتکاز العرفی ، فالحقّ عدم وجود هکذا ارتکاز عند العرف و العقلاء .

کلام المیرزا
اشارة

ثمّ إنّ المیرزا (1) احتمل فی رأی الشیخ أوّلاً : أن یکون مراده أنّ القصد

ص:77


1- 1) أجود التقریرات 1 / 341 - 342 .

المذکور محقّق لعبادیّة المقدّمة ، لا أنّه مأخوذ قیداً لمتعلّق الأمر الغیری . و احتمل ثانیاً : أن یکون مراده اعتبار القید المذکور فی مقام التزاحم بین حکم المقدّمة و حکم ذیها ، کما إذا کانت المقدّمة محرّمة ، کالدخول فی ملک الغیر و ذو المقدّمة واجب کإنقاذ الغریق ، ففی هذه الصورة ترتفع الحرمة عن المقدّمة لأهمیّة ذیها منها ... ثمّ ذکر أنّه لو عصی و لم ینقذ الغریق ثبتت حرمة التصرّف فی ملک الغیر ، من باب الترتّب .

تعلیق الأُستاذ

و عقب الأُستاذ علی کلام المیرزا : بأن لا اضطراب فی کلام التقریرات ، فإنّه صریح فی نسبة القول بأخذ القید المذکور فی المتعلّق .

و أمّا ما ذکره المیرزا من صورة المزاحمة ، فإنّها بین الحرمة النفسیّة للمقدّمة و بین الوجوب النفسی لذیها ، سواء قیل بوجوبها أو لا . و الحاصل : إنّه لا یتوقّف التزاحم فی المثال المذکور علی القول بوجوب المقدّمة مطلقاً ، أو بقید التوصّل کما عن الشیخ ، أو بقید الموصلیّة کما عن صاحب الفصول .

و أمّا بقاء الحرمة للدخول فی صورة معصیة ذی المقدّمة ، بناءً علی الترتّب ، فسیأتی ما فیه فی مبحث الضد .

هذا تمام الکلام علی مسلک الشیخ فی المقام .

مسلک صاحب الفصول

اشارة

و قال صاحب ( الفصول ) بالمقدّمة الموصلة (1) ، فجعل متعلّق الوجوب الغیری هو الحصّة الموصلة من المقدّمة ، أی إنّه جعل ترتّب ذی المقدّمة علیها شرطاً لاتّصافها بالوجوب .

ص:78


1- 1) الفصول الغرویّة : 86 .

و قد استدلّ لما ذهب إلیه بوجوه :

الأوّل : إنّ وجوب المقدّمة لمّا کان من باب الملازمة العقلیّة ، فالعقل لا یدلّ علیه زائداً علی القدر المذکور .

و الثانی : إنّه لا یأبی العقل أنْ یقول الآمر الحکیم : أرید الحج و أرید المسیر الذی یتوصّل به إلی فعل الواجب دون ما لم یتوصّل إلیه ، بل الضرورة قاضیة بجواز تصریح الآمر بمثل ذلک ، کما أنّها قاضیة بقبح التصریح بعدم مطلوبیّتها له مطلقاً أو علی تقدیر التوصّل بها إلیه ، و ذلک آیة عدم الملازمة بین وجوبه و وجوب مقدّماته علی تقدیر عدم التوصّل بها إلیه .

و الثالث : إنّ الأمر تابع للغرض الداعی إلیه ، و لا یمکن أن یکون الأمر أضیق أو أوسع من الغرض ، و الذی یدرکه العقل هو أنّ الغرض من إیجاب المقدّمة لیس إلّا التوصّل بها إلی الواجب ، فالأمر لیس إلّا فی خصوص المقدّمة الموصلة .

اشکالات الکفایة

و قد أورد المحقّق الخراسانی علی نظریّة الفصول وجوهاً من الإشکال (1) :

1 - إنّه تارةً : یکون بین المقدّمة و ذیها واسطة اختیاریّة . و أُخری : تکون النسبة بینهما نسبة الفعل التولیدی إلی السبب التولیدی کالإلقاء فی النار و حصول الاحتراق ... و لازم مبنی الفصول خروج القسم الأوّل من المقدّمات من تحت قاعدة الملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها ، و التالی باطل ، فالمقدّم مثله .

بیان الملازمة :

إنّ ترتّب ذی المقدّمة علی المقدّمة فی التولیدیّات واضح ، لأنّه بمجرّد الإلقاء فی النار یحصل الاحتراق . أمّا فی مثل الحج و غیره من الواجبات الشرعیّة ،

ص:79


1- 1) کفایة الأُصول : 115 .

فلا یترتّب ذو المقدّمة حتّی بعد توفّر جمیع المقدّمات ، فقد یعصی المکلّف و لا یأتی بالواجب ، فکیف یترتّب علی تحقّق کلّ فردٍ من أفراد المقدّمات ؟

فقول صاحب الفصول بأنّه : لمّا کان الغرض هو ترتّب ذی المقدّمة ، فالواجب من المقدّمة ما یترتّب علیه ذو المقدّمة ، یستلزم خروج جمیع الأفعال الاختیاریة ، و هذا باطل قطعاً .

ثمّ ذکر اعتراضاً علی هذا الاشکال و أجاب عنه .

2 - إنّه لو کان ترتّب ذی المقدّمة علی المقدّمة شرطاً فی وجوبها ، لما کان الأمر الغیری المتعلّق بالمقدّمة ساقطاً بمجرّد الإتیان بها ، و الحال أنّه یسقط و یکشف ذلک عن تحقّق الغرض منه ، و ذلک یکشف عن أنّه لیس وجوب المقدّمة مشروطاً بترتّب ذی المقدّمة علیها ، بل الغرض هو التمکّن من ذی المقدّمة ، إذ لو کان الترتّب فالمفروض عدم حصوله فکیف سقط الأمر ؟

و تعرّض المحقّق الخراسانی لاعتراضٍ علی هذا الإشکال و أجاب عنه ، و حاصل الاعتراض هو : أنّ سقوط الأمر لا یکشف دائماً عن تحقّق الامتثال و حصول الغرض منه ، فقد یسقط الأمر بانتفاء الموضوع ، کما لو قال أکرم العالم فمات العالم ، و قد یسقط بالعصیان ، و قد یسقط بقیام الغیر بالعمل ، کما لو أُمر بدفن میّت ، فقام غیره بذلک .

فأجاب : بعدم تحقّق شیء من المسقطات فی المقام إلّا الامتثال ، أمّا الموضوع ، فالمفروض تحقّقه من قبل المکلّف لا تفویته ، و کذا المعصیة ، فإنّها غیر حاصلة ، و کذا قیام الغیر بالفعل .

3 - إنّ مراده من المقدّمة الموصلة هو الذات التی یترتّب علیها وجود ذی المقدّمة ، فیکون وجوبها مقیّداً و مشروطاً بالموصلیّة ، لکنّ المقیّد هو

ص:80

ذو المقدّمة ، فیکون مقدّمة ، فاجتمع فی ذی المقدّمة وجوبان : الوجوب النفسی لکونه ذا المقدّمة ، و الوجوب الغیری لکونه مقدمةً لحصول المقدّمة الموصلة ، و هذا محال .

اشکال المحاضرات علی الکفایة

و أورد فی ( المحاضرات ) (1) علی المحقّق الخراسانی - فی قوله : بأنّ الغرض من المقدّمة هو التمکّن من ذی المقدّمة - : بأنّ التمکّن منه لیس من آثار وجود المقدّمة ، بل هو من آثار التمکّن منها ، فلا یکون الأثر مترتّباً علی مطلق المقدّمة کی یکون وجوبها تابعاً لهذا الأمر . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّه لو کان وجوب المقدّمة من أجل التمکّن من ذیها ، فإنّه تنتفی القدرة علی ذی المقدّمة بانتفائها علی المقدّمة ، و مع انتفاء القدرة علیه فلا وجوب له ، فلو کان وجوب ذی المقدّمة منوطاً بالتمکّن المترتّب من وجود المقدّمة ، کانت القدرة شرطاً للوجوب ، مع أنّ تحصیل القدرة غیر لازم ، فیجوز حینئذٍ تفویت ذی المقدّمة ، و هذا باطل . فالقول بأنّ الغرض من المقدّمة هو التمکّن من ذیها باطل .

قال الأُستاذ

إنّه لمّا کان الأصل فی هذا التحقیق هو المحقّق الاصفهانی ، فالأولی التعرّض لکلامه ، فإنّه قال فی ( نهایة الدرایة ) (2) ما حاصله : إنّ المقصود من « المقدّمة » فی کلمات القوم لا یخلو عن أحد وجوه ثلاثة :

أحدها : أن یکون المراد ما کان عدمه مستلزماً لعدم ذی المقدّمة ، فیکون

ص:81


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 255 .
2- 2) نهایة الدرایة 2 / 137 .

وجودها متعلّقاً للغرض .

و الثانی : أن یکون الغرض منها ترتّب إمکان ذی المقدّمة علی وجودها .

و الثالث : إنّ الغرض هو التمکّن من ذی المقدّمة .

( قال ) : و الاحتمالات کلّها مردودة :

أمّا استلزام عدم المقدّمة لعدم ذیها ، ففیه : إنّ الأمر العدمی لا یمکن أن یکون غرضاً للوجود ، بل الأمر العدمی من لوازم الغرض ، و لازم الغرض غیر الغرض ، فلا یصحّ القول بأنّ الغرض من المقدّمة أن لا یلزم من عدمها عدم ذی المقدّمة .

و أمّا أنّ الغرض من المقدّمة إمکان ذی المقدّمة ، ففیه : إنّ الإمکان إمّا ذاتی و إمّا وقوعی و إمّا استعدادی . أمّا الإمکان الذاتی الثابت لذی المقدّمة ، فإنّه لا یتوقّف علی وجود المقدّمة ، لأنّه استواء نسبة الماهیّة إلی الوجود و العدم ، و هذا المعنی حاصل لذی المقدّمة بلا توقّف علی المقدّمة .

و أمّا الإمکان الوقوعی ، أی ما لا یلزم من وجوده محال ، فهذا أیضاً حاصل لذی المقدّمة بلا توقّف علی وجودها .

و أمّا الإمکان الاستعدادی لذی المقدّمة ، فهو منوط بالقدرة ، فإنْ وجدت عند الإنسان تمکّن و إلّا فلا ... علی أنّ القدرة و القوّة علی الفعل مقدّمة لوجوبه لا لوجوده ، و کلامنا فی المقدّمة الوجودیّة .

و أمّا أنّ الغرض هو التمکّن من ذی المقدّمة ، بأن یکون التمکّن منه موقوفاً علی وجودها ، فهذا أیضاً مردود ، لأن المراد من التمکّن - سواء کان العقلی أو العرفی - هو القدرة علی ذی المقدّمة ، لکنّ القدرة علیه موقوفة علی التمکّن من المقدّمة لا علی وجودها .

ص:82

و إذا بطلت الاحتمالات ، بطل القول بأنّ الغرض من المقدّمة هو التمکّن من ذی المقدّمة .

تحقیق الأُستاذ

قال الأُستاذ : إنّ المهمّ فی کلمات الکفایة قوله بأنّ الغرض من المقدّمة هو التوقّف و المقدمیّة ، و من الواضح أنّ هذا غیر التمکّن من ذی المقدّمة ، کی یرد علیه اشکال المحاضرات من أنّ التمکّن منه أثر التمکّن من المقدّمة و لیس بأثرٍ لوجودها ... کما أنّ التوقّف لیس بأمرٍ عدمی ، کی یرد علیه إشکال المحقّق الأصفهانی ... و توضیح مراد المحقّق الخراسانی من « المقدمیّة » هو أنّ المقدّمة لها دخل فی وجود ذی المقدّمة دخل المقتضی فی المقتضی أو دخل الشرط بالنسبة إلی المشروط . فالمقدّمة إمّا مقتضٍ أو شرط ، و من الواضح : إنّ الاقتضاء و الشرطیّة من خواصّ وجود المقتضی و وجود الشرط ، فإذا فقد فلا اقتضاء . ثمّ إنّ الاقتضاء أثر لمطلق وجود المقتضی و الشرط ، لا خصوص الشرط أو المقتضی الفعلیین .

فظهر عدم ورود شیء ممّا ذکر علی المحقّق الخراسانی ، فهو یری أنّ المراد من المقدّمة هو الاقتضاء ، و هو یتحقّق بنفس وجودها - لا أنّه الاقتضاء الفعلی المنتهی إلی حصول ذی المقدّمة کما یقول صاحب الفصول - غیر أنّ حصول کلّ واحدة من المقدمات تغلق أحد أبواب عدم ذی المقدّمة ، و إذا حصلت المقدّمات کلّها أوصلت إلی ذی المقدّمة .

و تلخّص : تمامیّة مبنی الکفایة ثبوتاً .

الکلام علی اشکالات الکفایة علی الفصول

ثمّ إنّ الأُستاذ تکلّم علی إشکالات الکفایة علی الفصول ، ( فأمّا الأوّل ) و هو انحصار الواجب من المقدّمات بما یکون من قبیل الأسباب التولیدیّة ، و أمّا ما

ص:83

یکون الاختیار واسطة بینها و بین ذی المقدّمة فلیس بواجب ، لأنّ الإرادة من أجزاء السّبب ، و هی غیر قابلة لتعلّق الوجوب ( ففیه ) :

إنّه إن کانت اختیاریّة الشیء بکونه مسبوقاً بالإرادة ، فالإشکال وارد ، لأنّ الإرادة قد لا تتعلّق بها الإرادة فلا تکون اختیاریّة ، و استلزام کلّ إرادة لإرادة أُخری مستلزم للتسلسل کما قال المحقّق الخراسانی . و لکنّ المناط فی تعلّق التکلیف هو اختیاریّة المکلّف به ، سواء کانت بالذات أو بالعرض ، و الاختیار فی الارادة هو بالذات ، و اختیاریّة الأفعال بالعرض ، أی إنّها اختیاریّة بسبب تعلّق الاختیار بها ، و إذا کانت الاختیاریّة بالعرض مصحّحة للتکلیف ، فالاختیاریّة بالذات کذلک بطریقٍ أولی ، فکما یصحّ أن یقال : صلّ ، یصح أن یقال : اختر الصّلاة ، لأنّ الاختیار مقدور بالذات و به یصحّ تعلّق التکلیف .

و علی الجملة ، فإنّ الاختیار أمر اختیاری بالذات ، فیصحُّ تعلّق التکلیف به ، کسائر الأجزاء إن کان المکلّف به ذا أجزاء .

( و أمّا الثانی ) و هو سقوط الأمر الغیری بالإتیان بالمقدّمة ، و منشأ السقوط هو الإطاعة فقط ، فدلّ ذلک علی أنّ متعلّق الأمر مطلق المقدّمة ( ففیه ) :

إنّ هذا أشبه بالمصادرة ، لأنّ الواجب إن کان طبیعی المقدّمة فلا محالة یکون وجه سقوط الأمر حصول الإطاعة و الامتثال ، لکنّ للقائل بخصوص المقدّمة الموصلة أن یقول : إنّه بعد أن جاء بالمقدّمة إمّا یأتی بذی المقدّمة أو لا یأتی ، فإنْ جاء به ، فقد سقط الأمر بذی المقدّمة بالإتیان به و سقط الأمر بالمقدّمة لکونها أوصلت إلیه ، و إنْ لم یأت بذی المقدّمة ، فقد عصی الأمر النفسی المتعلّق به و کان سقوطه بالعصیان ، و کذا الأمر الغیری المتعلّق بالمقدّمة ، فقد عصی ، لأنّ المفروض تعلّقه بالحصّة الموصلة إلی ذی المقدّمة ، و المفروض عدم تحقّق

ص:84

الإیصال إلیه .

و الحاصل : إنّ سقوط الأمر الغیری لا یکون إلّا إذا کان المتعلّق مطلق المقدّمة ، و هذا أوّل الکلام .

( و أمّا الثالث ) و هو لزوم اجتماع النفسیّة و الغیریّة فی ذی المقدّمة ( ففیه ) :

إنّه مردود بما یجاب به عن دلیل المیرزا علی بطلان المقدّمة الموصلة ، و لنتعرّض لذلک ثمّ نذکر الجواب :

اشکالات المیرزا علی الفصول

إنّ تخصیص وجوب المقدّمة بخصوص الحصّة الموصلة یستلزم إمّا الدور فی الوجود أو الوجوب ، و إمّا الخلف أو التسلسل .

و توضیح ذلک : إنّ المقسّم للشیء تارةً : یکون فی رتبة وجود الشیء و أُخری : فی رتبةٍ متأخرة عن وجوده ، فالأوّل مثل تقسیم الأجناس إلی الأنواع ، حیث أنّ الجنس یقسّم إلیها بواسطة الفصل و هو فی مرتبة الجنس ، و کتقسیم النوع إلی الأصناف کالانسان إلی الزنجی و الرومی ... و ما نحن فیه من القسم الثانی ، حیث أنّ المقدّمة تنقسم إلی الموصلة و غیر الموصلة ، لکنّ عنوان « الموصلة » منتزع من شیء متقدّم و هو « وجود » ذی المقدّمة ، إذ المقدّمة بذاتها لا تنقسم إلی ذلک ، و إنّما تنقسم إلی القسمین المذکورین إذا وُجد ذو المقدّمة بعد وجودها ، فوصف المقدّمة بالموصلیّة یکون بعد وجودها و وجود ذی المقدّمة بعدها ، و أمّا قبل وجود ذی المقدّمة فلا یوجد إلّا ذات المقدّمة .

و علی هذا ، فلو کان متعلّق الأمر الغیری هو المقدّمة الموصوفة بالموصلیّة لزم الدور ، لأنّ وصفها بالموصلیّة موقوف علی وجود ذی المقدّمة ، و وجوده موقوف علی وجود المقدّمة .

ص:85

و هذا هو الدّور فی الوجود ، و هو بیانه فی الدّورة الأُولی (1) .

و أمّا بیان الدور فی الوجوب - و هو ما یستفاد من کلامه فی الدورة الثانیة (2) - فهو : إنّه قد تقدّم کون عنوان الموصلیّة منتزعاً من وجود ذی المقدّمة ، وعلیه ، فذو المقدّمة من قیود المقدّمة الموصلة و من مقوّماتها ، فیقع الدور فی الوجوب ، من جهة أنّ وجوب ذی المقدّمة علةُ لوجوب المقدّمة ، إلّا أنّه لو لا وجوب المقدّمة لما وجب ذو المقدّمة ، لکونه من قیودها کما تقدّم .

و أمّا الخلف أو التسلسل ، فلأنّ الواجب لو کان خصوص المقدّمة الموصلة کانت ذات المقدّمة من مقدّمات تحقّق المقدّمة خارجاً ، فإنْ کان الواجب هو الذات فقط بلا تقیّد بالایصال ، لزم الخلف ، و إن کان الذات المقیَّدة بالإیصال هو الواجب ، کان نسبة « الذات » إلی « الإیصال » نسبة « المقدّمة » إلی « ذی المقدّمة » ، و حینئذٍ ، ینتقل إلی الذات و أنّها واجبة مطلقاً أو مقیَّدة بالإیصال . و الأوّل خلف و الثانی مستلزم للتسلسل .

و الجواب :

و قد أجاب السید الأُستاذ عن هذه المحاذیر (3) و کذا شیخنا دام بقاه ، فأفاد ما ملخّصه :

أمّا عن لزوم الدور فی الوجود ، فلأنّ وجود ذی المقدّمة غیر متوقّف علی المقدّمة بوصف الوجود ، إذ لا دخل لوصفها بالوجود فی تحقّق ذیها ، بل إنّه موقوف علی ذاتها .

و أمّا عن لزوم الدور فی الوجوب ، فلأن الوجوب النفسی لذی المقدّمة

ص:86


1- 1) فوائد الأُصول (1 - 2) 290 ط جماعة المدرّسین .
2- 2) أجود التقریرات 1 / 345 - 346 .
3- 3) منتقی الأُصول 2 / 296 .

یکون منشأً للوجوب الغیری للمقدّمة ، لکن ذا المقدّمة یتّصف بالوجوب الغیری أیضاً من حیث أنّه لولاه لما اتّصفت المقدمة به ، فلا یلزم الدور فی الوجوب ، و إنّما اللازم هو اجتماع الوجوب النفسی و الغیری فی شیء واحد و هو ذو المقدّمة ، و هذا لا مانع منه ، لأنّه یؤول إلی الاندکاک و تحقّق وجوب واحدٍ مؤکّد علی مبنی المیرزا ، فلا دور .

و أمّا عن لزوم الخلف أو التسلسل ، فلأنّ هذا المحذور إنّما یترتّب بناءً علی وجوب أجزاء المرکّب بالوجوب الغیری ... لأنّ المقدّمة الموصلة مرکّبة من جزءین هما ذات المقدّمة و تقیّدها بالإیصال ، و حینئذٍ ، فلو قلنا بأنّ الأجزاء متّصفة بالوجوب الغیری لزم المحذور ، لأنّ الذات مقدّمة لهذا المرکب ، فتکون واجبةً بالوجوب الغیری أیضاً ، لکن الأجزاء غیر واجبة بالوجوب الغیری لذی المقدّمة ، بل المقدّمة هو المرکّب ، فأصل الاستدلال باطل .

قال الأُستاذ

لکن یمکن تقریب الاشکال بوجهٍ آخر بأن یقال : إنّ المفروض علی مبنی الفصول کون الإیصال منتزعاً من وجود ذی المقدّمة ، فلو کان متعلّق الوجوب الغیری هو المقدّمة الموصلة ، لزم وجود الوجوب الغیری بعد وجود الوجوب النفسی ، لتقدّم منشأ الانتزاع فی الوجود علی الأمر الانتزاعی ، فیلزم اجتماع التقدّم و التأخّر فی الشیء الواحد .

و هنا لا بدّ من التعرّض لکلام المحقّق الاصفهانی فی تقریب مبنی الفصول ، و به تنحلّ المشکلات .

تحقیق المحقّق الاصفهانی

و العمدة هو فهم کیفیة أخذ « الإیصال » فی المقدّمة ، إذ لا ریب فی أن متعلّق

ص:87

الوجوب هو ما دخل تحت الطلب من طرف المولی ، فهل هو عبارة عن المقدّمة بوصف الموصلیّة إلی ذی المقدّمة المنتزع من ذی المقدّمة ، أی المقدّمة المقیّدة بوجود ذیها ، أو أنّ المراد منها عبارة عن الحصّة التوأمة مع وجود ذی المقدّمة کما هو المستفاد من کلام المحقّق العراقی ، أو المراد منها العلّة التامّة ، أو الحصّة - من المقدّمة - الملازمة لوجود ذی المقدّمة - لا المقیَّدة بوجوده - کما هو المستفاد من کلام المحقّق الأصفهانی ؟

و الحاصل : إنّ المحقّق الاصفهانی یری أنّ المراد من المقدّمة هی الحصّة منها الملازمة لوجود ذیها ، هذا فی تقریب . و فی تقریب آخر : أنّ المراد هو العلّة التامّة . و علی کلٍّ منهما فإشکال الکفایة من اجتماع المثلین ، و کذا ما طرحناه أخیراً من اجتماع المتأخّر و المتقدّم فی الشیء الواحد ... یرتفع ... .

قال قدّس اللّٰه روحه (1) :

إنّ المراد من المقدّمة ما یکون مقدّمةً لذیها بالفعل لا بالقوّة ، فالحطب مقدّمة للطبخ ، لکنه تارةً : مقدّمة بالقوّة و هو ما کان قبل الاشتعال ، و أُخری : بالفعل و هو ما کان مشتعلاً ، و هاتان حصّتان من وجود الحطب ، و کذا الکلام فی اشتراط الشیء بشرطٍ ، فإنّه تارة یکون شرطاً بالقوّة و أُخری بالفعل ، فإنْ کان المقتضی بالفعل فسیکون الشرط أیضاً فعلیّاً ، کما فی یبوسة الحطب و مماسّته للنار من أجل الاحتراق ، فلا یمکن تمامیّة الاقتضاء إلّا مع فعلیّة الشرط ، و إذا تمّ الأمران ، أصبح المشروط و المقتضیٰ فعلیّاً ... .

و علی الجملة ، فإنّه یوجد تلازم بین أجزاء العلّة ، و یوجد تلازم بین أجزاء العلّة - المقدّمة - مع المعلول ، و هو ذوها .

ص:88


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 138 - 139 .

و من الواضح : إنّ التلازم غیر التوقّف ... و لذا یکون بین « الابوّة » و« البنوّة » تلازم ، لکنْ لا توقف لأحدهما علی الآخر .

و علی هذا ، فإنّ المراد من المقدّمة الموصلة هو المقدّمة الملازمة - أو التوأمة - مع وجود ذیها ، لا أنّ وجوده موقوف علی وجودها ، بل إنّ فعلیّتهما تکون فی عرضٍ واحد و لیستا فی الطول لیرد علیه الإشکال .

و ملخّص هذا البیان :

أوّلاً : إنّ المطلوب من المقدّمة هو الحصّة الموجودة بالفعل منها لا بالقوّة .

و ثانیاً : إنّ بین المقدّمة و ذیها تلازماً من قبیل التلازم بین أجزاء المقدّمة و العلّة التامّة ، و لیس بینهما توقّف .

و ثالثاً : إنّه لمّا کان الغرض قائماً بوجود ذی المقدّمة ، و هو لا یتحقّق إلّا بالمقدّمة ، فالإرادة تتعلّق بنفس ذی المقدّمة ، و یحصل منها إرادة تبعیّة غیریّة متعلّقة بالمقدّمة ، و لا یمکن أن یکون متعلّقاً بالقوّة کما تقدّم .

فظهر بذلک أنّ المراد من الموصلیّة لیس الإناطة و التقیید ، فکلّ الإشکالات المتقدّمة من المیرزا و الکفایة و غیرهما مندفعة .

أقول :

هذا البیان فی المحقّق الأصفهانی هو أحد التقریبین منه لمبنی صاحب الفصول .

و أمّا التقریب الآخر له ، فهو علی أساس کون المراد من المقدّمة هو العلّة التامّة ، و قد تعرّض له شیخنا کذلک ، ثمّ أورد علیه اشکالات ، کلّها ترجع إلی خصوصیّاتٍ و جزئیّات فی کلام المحقّق الاصفهانی . أمّا بالنسبة إلی ما یتعلّق بدفع الإشکالات المزبورة ، فقد وافق الأُستاذ علی ما ذکره من أنّ : متعلّق الإرادة الغیریّة

ص:89

هو الحصّة الملازمة مع وجود ذی المقدّمة لا الحصّة المقیّدة بالإیصال إلیه ...

و الفرق بین المسلکین واضح ، فإنّه علی مسلک المحقّق الأصفهانی تکون المقدّمة هو ما ینتهی إلی وجود ذیها ، و علی مسلک صاحب الفصول قد یقع التخلّف بینهما ، لأنّه قید و مقیّد . و الصحیح هو الأوّل ، لأن ما ینتهی إلی ذی المقدّمة یکون دائماً متعلّقاً للإرادة الغیریّة و الشوق الغیری ، و أمّا علی الثانی فالإشکالات ترد ، لأنّ التقیّد بوجوده لا یکون إلّا بنحو الاشتراط به بنحو الشرط المتأخّر ، فیقع البحث عن کیفیّة هذا الاشتراط ، و أنّه فی الواجب أو الوجوب ، بخلاف المسلک الأوّل ، فإنّه لا اشتراط - بناءً علیه - لا فی الواجب و لا فی الوجوب ، بل الواجب من المقدّمة عبارة عن الحصّة منها الملازمة مع وجود ذیها ، و وجود أحد المتلازمین لیس مشروطاً بوجوب الملازم الآخر حتّی یبحث فیه عن أنّه شرط للوجوب أو الواجب .

و هذا هو الحق ، و هو تامّ ثبوتاً ، و کذا إثباتاً ، و الوجدان قائم علی أنّه إذا تعلّق الشوق بشیء ، فکلّ ما یکون فی طریقه فهو مشتاق إلیه دون ما لیس کذلک .

هذا تمام الکلام فی المقام ، و یبقی التحقیق عن ثمرة البحث .

.ثمرة النّزاع بین المشهور و الفصول

اشارة

ذکر صاحب الفصول فی بیان ترتّب الثمرة علی مختاره ما ملخّصه (1) : إنّ الأمر بالشیء یقتضی إیجابه لنفسه و إیجاب ما یتوقّف علیه من المقدّمات للتوصّل إلیه ، و من جملة المقدّمات ترک الأضداد المنافیة للفعل ، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة .

و توضیحه : إنّ هذه الثمرة تترتّب علی النزاع فیما لو أُمر - مثلاً - بإنقاذ

ص:90


1- 1) الفصول الغرویّة : 86 .

الغریق و توقّف ذلک علی ترک الصّلاة ، بناءً علی المقدّمات التالیة :

1 - أن یکون ترک أحد الضدّین مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ، کأن یکون ترک الصّلاة مقدّمة لفعل الإنقاذ .

2 - أن یکون الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن ضدّه ، فإذا وجب الإنقاذ کان الصّلاة مورداً للنهی .

3 - أن یکون النهی عن العبادة مقتضیاً للفساد ، فتکون الصّلاة باطلة فی المثال .

فبناءً علی أنّ الواجب مطلق المقدّمة - کما علیه المشهور - فالصّلاة باطلة ، للمقدّمات المذکورة ، و أما بناءً علی أنّه خصوص المقدّمة الموصلة - کما علیه صاحب الفصول - فصحیحة ، لأنّ الإتیان بالصّلاة لیس نقیضاً لترکها الموصل إلی الإنقاذ حتی تکون مورداً للنهی فتبطل ، بل نقیض ترک الصّلاة الموصل إلی الإنقاذ هو عدم هذا الترک الموصل ، و هو - أی ترک الصّلاة کذلک - لیس عین الصّلاة لیتوجّه النهی إلیها فتبطل ، بل إن عدم ترکها یمکن أن یتحقّق بفعلها و أن یتحقّق بفعلٍ آخر کالنوم مثلاً . فهذه هی الثمرة ، ذکرها فی الفصول و قرّرها المحقّق الخراسانی فی الکفایة .

إشکال الشیخ

ثمّ ذکر فی ( الکفایة ) (1) إشکال الشیخ الأعظم علی الثمرة ، و أنّ مقتضی القاعدة هو البطلان علی کلا القولین ، بتقریب : إن نقیض ترک الصّلاة الموصل إلی الإنقاذ له فردان : فعل الصّلاة أو ترکها المجرّد عن الإیصال إلی الإنقاذ ، و بناءً علی اقتضاء الأمر بالشیء لحرمة نقیضه ، فإنّه تسری الحرمة إلی کلٍّ من الفردین ،

ص:91


1- 1) کفایة الأُصول : 121 .

فتبطل الصّلاة علی القولین .

جواب الکفایة

و أجاب عنه صاحب الکفایة : بالفرق بین نقیض الترک الموصل و الترک المطلق ، و حاصله : إنّ نقیض ترک الصّلاة المطلق هو الصّلاة ، فترک الترک هو فعلها ، و إذا کان الانقاذ واجباً و الصّلاة نقیضه ، فإنّ الإتیان بها منهیٌّ عنه ، فتبطل ...

أمّا بناءً علی مسلک الفصول و أنّ المقدّمة لتحقّق الإنقاذ هو ترک الصّلاة الموصل ، فإنّ النقیض عدم هذا الترک ، وعلیه ، فیکون فعل الصّلاة مقارناً لهذا الترک - إذ أنّه یتحقّق بفعلٍ آخر کالنوم مثلاً - و إذا کان مقارناً ، فإنّ حرمة الشیء لا تسری إلی مقارنه ، فلا تکون الصّلاة باطلة .

أقول :

ملخّص إشکال الشیخ : أمّا علی المشهور ، فإنّ فعل الصّلاة و إنْ لم یکن نقیض المقدّمة فهو مصداق لنقیضها أو لازمٌ له ، فالنقیض لترک الإنقاذ هو ترک ترک الإنقاذ ، و هذا منطبق علی نفس فعل الصّلاة ، فتکون فاسدة . أمّا علی مبنی الفصول ، فإنّ هذا العنوان منطبقٌ ، لکن مورد الانطباق أمران أحدهما فعل الصّلاة و الآخر مجرّد الترک ، فکلاهما مورد انطباق النقیض ... فالصّلاة فاسدة کذلک .

و ملخّص جواب الکفایة : عدم انطباق النقیض علی فعل الصّلاة ، بل هو ملازم للنقیض ، و حرمة الملازم لا یوجب حرمة الملازم الآخر ، فالثمرة مترتّبة .

بیان المحقّق الاصفهانی لانتفاء الثمرة ردّاً علی الکفایة

و ذهب المحقّق الاصفهانی (1) إلی عدم الفرق بین القولین فی النتیجة ، و هی بطلان الصّلاة . أمّا علی قول الفصول : فإنّ المقدّمة الموصلة - بناءً علی کون ترک

ص:92


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 150 .

الضدّ مقدّمةً للضدّ الآخر - إمّا هی العلّة التامّة و إمّا هی المقدّمة التی لا تنفک عن ذیها .

أمّا بناءً علی کونها العلّة تامّةً ، فإنّ المقدّمة هی ترک الصّلاة و إرادة الإنقاذ ، فالعلّة مرکّبة من هذین الجزءین ، و نقیض ترک الصّلاة هو فعلها ، کما أنّ نقیض إرادة الإنقاذ هو عدم إرادته ، فالعلّة التامّة مجموع الجزءین - ترک الصّلاة و إرادة الإنقاذ - و هذا المجموع واحد اعتباری و النقیض هو : وجود الصّلاة و عدم إرادة الإنقاذ ، و هذا المجموع أیضاً واحد اعتباری ، لکنّ الذی هو مقدّمة حقیقةً هو ترک الصّلاة خارجاً و وجود الإرادة خارجاً ، أمّا مجموعهما فلیس بموجودٍ فی الخارج بل هو أمر اعتباری کما تقدّم ، و إذا کان متعلّق الأمر الوجوبی الغیری ترک الصّلاة و وجود الإرادة ، فإنّه یستلزم النهی عن نقیضهما و هما فعل الصلاة و عدم إرادة الإنقاذ ، فیحرم هذان حرمةً واحدة ، کما وجب ترک الصّلاة و وجود الإرادة بوجوبٍ واحد ... و إذا تعلّقت الحرمة بالصّلاة بطلت .

و حاصل هذا هو أنّ الصّلاة بنفسها تکون نقیضاً للمقدّمة .

و أمّا بناءً علی أن المقدّمة هی المقدّمة التی لا تنفک عن ذیها و یترتّب علیها ذو المقدّمة ، فإنّها مرکّب من الشیء - و هو الترک - . و تقییده بقیدٍ و هو الموصلیّة ، و الترک أمر عدمی و الموصلیّة أمر وجودی ، و نقیض ذلک العدمی هو فعل الصّلاة ، و نقیض ذلک الوجودی هو عدم الموصلیّة ، و کما کانت المقدّمة کذلک متعلّق الوجوب ، فنقیضها أیضاً یکون متعلّق النهی ، فتکون الصّلاة محرمة ، فهی باطلة .

إشکال الأُستاذ

و أورد علیه الأُستاذ :

أوّلاً : إنّ تعدّد النقیض ظرفه هو الخارج ، و لکن الوجود الخارجی لفعل الصّلاة و عدم إرادة الإنقاذ مسقط للتکلیف ، و لیس وجود التکلیف حتّی یکون

ص:93

محکوماً بالحرمة فالفساد .

و ثانیاً : هذا الجواب بظاهره غیر کاف ، لأنّه یتکفّل الجواب عن الشق الأوّل و هو کون المقدّمة الموصلة هی العلّة التامّة . و أمّا الشق الثانی و هو کونها المقدّمة التی لا تنفک عن ذیها ، فلم یذکر جوابه ، و لعلّ الجواب هو : أنّکم قد اعترفتم أن لا نقیض للترک الخاص بما هو ، لأنّه لیس رفعاً لشیء و لا هو مرفوع بشیء ، ثمّ قلتم : بل نقیض الترک المرفوع به الفعل و نقیض خصوصیّته عدمها الرافع لها .

فیکون الفعل محرّماً لوجوب نقیضه .

فأقول : إذا لم یکن نقیضاً فهو ملازم أو مقارن کما قال صاحب الکفایة . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ متعلّق الوجوب هو الترک الخاص کما ذکرتم ، و الفعل لیس نقیضاً للترک الخاص لوجود فرد آخر و هو النوم أو أیّ فعل وجودی آخر ... .

و علی الجملة ، فإنّ النقیض - کما ذکر هذا المحقّق - إمّا الرفع للشیء و إمّا المرفوع بالشیء ، و المقصود من رفع الشیء عدمه ، و من المرفوع به الوجود الذی به یرتفع العدم ، و علی هذا ، فإنّه لما کان العلّة التامّة هنا هی ترک الصّلاة الموصل و إرادة الإنقاذ ، کان نقیض الترک المذکور هو فعل الصّلاة لأنّه المرفوع بترکها ، لکنّ کون فعل الصّلاة نقیضاً للعلّة التامّة محال ، لأنّها لیست برفعٍ للعلّة التامّة لأنّها وجودیّة و الرفع عدم ، و لا هی مرفوع بالعلّة التامّة ، لأنّ المفروض کون العلّة التامّة مرکّبة من وجود إرادة الإنقاذ و من عدم الصّلاة ، و إذا لم تکن رفعاً للعلّة و لا مرفوعاً بها ، استحال أن تکون نقیضاً ، فلا یتعلّق بها النهی فلا فساد . فالحقّ مع الکفایة .

و تلخّص : إنّه بناءً علی تمامیّة المقدّمات الثلاث فالثمرة مترتّبة ، و لکنّ الکلام فی تمامیّتها لا سیّما الأُولی منها .

و هذا تمام الکلام فی النفسی و الغیری ، و الحمد للّٰه .

ص:94

هل المقدّمة واجبةٌ شرعاً ؟

اشارة

ص:95

ص:96

و قد وقع الکلام بین الأعلام فی المقدّمة ، هل هی واجبة بالوجوب الشرعی أو إنها لابدیّة عقلیة ؟

و الأقوال المهمّة فی المسألة أربعة ، قد ذکرها صاحب الکفایة أیضاً .

1 - الوجوب مطلقاً .

2 - عدم الوجوب مطلقاً .

3 - التفصیل بین السبب و غیره .

4 - التفصیل بین المقدّمة الشرعیّة و غیرها .

.مقتضی الأصل العملی

اشارة

إلّا أنّ المحقّق الخراسانی قدّم البحث عن مقتضی الأصل فی المقام علی ذکر الأدلّة ، و تبعه علی ذلک غیره ، قال (1) :

اعلم أنّه لا أصل فی محلّ البحث فی المسألة ، فإن الملازمة بین وجوب المقدمة و وجوب ذی المقدّمة و عدمها ، لیست لها حالة سابقة ، بل تکون الملازمة أو عدمها أزلیّةً ، نعم ، نفس وجوب المقدّمة یکون مسبوقاً بالعدم ، حیث یکون حادثاً بحدوث وجوب ذی المقدّمة ، فالأصل عدم وجوبها .

و الحاصل : إن هنا مسألتین ، مسألة أُصولیّة ، و هی هل وجوب ذی المقدّمة

ص:97


1- 1) کفایة الأُصول : 125 .

یلازم وجوب المقدّمة أو لا ؟ فهذه مسألة کبرویة أُصولیة تقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی ، فإذا ثبتت الملازمة أفتی الفقیه بوجوب المقدّمة وجوباً شرعیّاً ، و إلّا فلا .

و مسألة فقهیّة فرعیّة ، هل المقدّمة واجبة أو لا ؟

إذا علم هذا ، فإنّ الأصل المطروح فی المقام هو الاستصحاب ، و صاحب الکفایة یری جریانه فی المسألة الفقهیّة دون المسألة الأُصولیّة ، فمن قوله « اعلم ... » یرید الأُصولیّة ، و من قوله : « نعم ... » یرید الفقهیّة ، فالکلام فی مقامین :

المقام الأوّل ( مقتضی الأصل فی المسألة الأُصولیة )

إنّه یمکن طرح الاستصحاب فی الأُصولیّة فی الجعل ، بأن یکون الأصل عدم جعل الملازمة ، و یمکن طرحه فی المجعول ، بأن یکون الأصل عدم الملازمة نفسها ... .

یقول المحقّق الخراسانی بعدم جریان الاستصحاب فی المسألة الأُصولیّة لعدم تمامیّة أرکانه فیها ، لعدم الحالة السابقة ، بل تکون الملازمة أو عدمها أزلیةً .

و توضیح ذلک : قالوا إنّ هناک أُموراً تلازم الماهیّة و لا تنفکُّ عنها ، سواء کانت الماهیّة موجودةً أو لا ، کالزوجیّة بالنسبة إلی الأربعة کما یقولون . و إنّ هناک أُموراً تلازم وجود الماهیّة کالحرارة الملازمة لماهیّة النار الموجودة خارجاً ... .

و علی هذا ، فإنّ لوازم الماهیّة لا تکون مسبوقة بالعدم ، بخلاف لوازم الوجود فلها حالة سابقة ، لأنّها قبل أن تکون الماهیّة کانت معدومة و بوجودها وجدت .

ثمّ إنه یقول بأنّ الملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها هی من قبیل لوازم الماهیّة لا من قبیل لوازم وجودها ، فإنّ وجوب المقدّمة لا ینفک عن وجود

ص:98

ذیها کما لا تنفکّ الزوجیّة عن الأربعة ، إنّها ملازمة موجودة عند العقل ... فلیس لها حالة سابقة حتی تکون مجری الاستصحاب .

قال الأُستاذ :

أوّلاً : إنّ کلام المحقّق الخراسانی مبنی علی أن تکون الملازمة من لوازم الماهیّة ، و أمّا بناءً علی أنّها من لوازم الوجود ، فإنّه کلّما وجد وجوب ذی المقدّمة استلزم وجود وجوب المقدّمة ، فالملازمة بین الوجودین ، و قد تقرّر أن الوجودین مسبوقان بالعدم فکذا لازمهما ، فالملازمة لها حالة سابقة .

و ثانیاً : إنّه یعتبر فی المستصحب أن یکون إمّا حکماً شرعیّاً و إمّا موضوعاً لحکم شرعی ، لکنّ الملازمة بین الوجوبین لیست بحکم شرعی بل هی من الموضوعات التکوینیّة ، و لا هی موضوع لحکم شرعی لعدم ترتّب شیء من الأحکام الشرعیّة علیها ، وعلیه ، فإنّه لو أجری الاستصحاب فی الملازمة ، کان لازم هذا الاستصحاب هو وجوب المقدّمة شرعاً وجوباً غیریّاً ، فکان وجوبها أثراً عقلیّاً للاستصحاب ، و هو أصل مثبت .

و تلخّص : إنّ الملازمة إن کانت من لوازم الوجود لا الماهیّة ، فلها حالة سابقة خلافاً لصاحب الکفایة ، لکنّ الاستصحاب لا یجری إلّا بناءً علی القول بالأصل المثبت ، فظهر الفرق علماً و عملاً . أمّا علماً ، فالملازمة هی بین وجودی الماهیّتین لا نفس الماهیّتین . و أمّا عملاً ، فإنّ الاستصحاب یکون جاریاً عند من یقول بحجیّة الأصل المثبت .

قال الأُستاذ :

لکنّ التحقیق عدم معقولیّة أنْ یکون للماهیّة لوازم ، و عدّهم الزوجیّة من لوازم الأربعة غیر صحیح ، لأنّ الزوجیّة ماهیّة و الأربعة ماهیّة ، و لا یعقل استلزام

ص:99

ماهیّةٍ لماهیّةٍ أُخری ، لکون الماهیّات متباینات بالذات . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّه لا یتصوّر أنْ یکون للماهیّة - بقطع النظر عن الوجود - استلزام ، لأن کون الشیء ذا لزوم أمر وجودی ، و الملازمة من الأُمور الوجودیّة ، فکیف تستلزم الماهیّة من حیث هی هی أمراً وجودیّاً ؟

نعم ، الزوجیّة تلازم الأربعة ، لکنْ بوجودها الذهنی أو الخارجی .

المقام الثانی ( مقتضی الأصل فی المسألة الفقهیّة )

و أمّا فی المسألة الفقهیّة ، فالأصل المطروح هو الاستصحاب و البراءة بقسمیها ، کما أنّ الاستصحاب یطرح فی عدم الجعل و هو الوجوب ، و عدم المجعول ، أی عدم الوجوب ، فهی أربعة أُصول فی هذا المقام .

قال صاحب الکفایة : بجریان الاستصحاب فی الوجوب ، و قال جماعة :

بعدم جریانه ، وعلیه فی المحاضرات ... و تحقیق ذلک فی جهتین :

الجهة الأُولی : هل للاستصحاب مقتضٍ فی هذا المقام ؟

قال جماعة : بعدم وجود المقتضی للاستصحاب بالنسبة إلی عدم الوجوب خلافاً للخراسانی صاحب الکفایة ، لأنّ الوجوب حادث ، فأرکان الاستصحاب فیه تامّة . أمّا وجه عدم الجریان فهو : أنّ وجوب المقدّمة لا یقبل الجعل ، فلا معنی لاستصحاب العدم فیه ، و الدلیل علی عدم قبول وجوب المقدّمة للجعل هو : أنّ وجوبها من لوازم وجوب ذیها کما تقدّم ، و اللّوازم غیر قابلة للجعل ، لا الجعل البسیط - و هو مفاد کان التامّة - و لا الجعل التألیفی الذی هو مفاد کان الناقصة .

و قد أجاب المحقّق الخراسانی : بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذیها ، و هو آبٍ عن الجعل البسیط و التألیفی کما ذکر ، لکنّه لا یأبی عن الجعل التبعی ، إذ اللزوم فی لوازم الماهیّة هو بمعنی التبعیّة ، لأنّ جعل الماهیّة یکفی

ص:100

لانتزاع لوازمها منها ، فیکون اللّازم مجعولاً بتبع جعل الماهیّة ... و إذا کان قابلاً للجعل کان مجریً للاستصحاب (1) .

قال الأُستاذ

إن أراد من الجعل التبعی أنّ وجوب المقدّمة مجعول بجعل مستقل غیر أنّه لا ینفک عن وجوب ذیها ، فهو مجعولٌ بالجعل البسیط ، فهذا ینافی نفیه للجعل البسیط .

و إن أراد أنّ الجعل یتعلّق بوجوب المقدّمة بالعرض ، کما أنّ الزوجیّة مجعولة بجعل الأربعة ، و الفوقیّة مجعولة بجعل الفوق ، ففیه : إنّه لیس کذلک ، لأنّ هناک إرادة متعلّقة بالمقدّمة و إرادة أُخری متعلّقة بذی المقدّمة ، فتلک غیریّة و هذه نفسیّة ، و لکلٍّ جعل علی حده ، و لیس المقدّمة مجعولةً بجعل عرضی .

فالحق : إنّ المقدّمة قابلة لتعلّق الجعل بالجعل البسیط ، فلجریان الأصل فیها مجال ، بالبیان الذی ذکرناه .

و قال آخرون - منهم السیّد البروجردی (2) - بعدم جریان الأصل ، من جهة أنّ وجوب المقدّمة فی حال وجوب ذیها قهری ذاتی ، و ما کان کذلک فلا یقبل الجعل ، و ما لا یقبله فلا یجری فیه الأصل .

قال الأُستاذ

ما المراد من أنّ « وجوب المقدّمة ذاتی و قهری بالنسبة إلی ذی المقدّمة » ؟

إن کان المراد أنّه إذا تحقّق الوجوب لذی المقدّمة ، ثبت للمقدّمة بصورةٍ قهریّة ، فإنّ هذا یتم فی الإرادة دون الوجوب ، إذ الإرادة إذا تحقّقت بالنسبة إلی

ص:101


1- 1) کفایة الأُصول : 124 - 125 .
2- 2) نهایة الأُصول : 181 .

ذی المقدّمة تتحقّق قهراً بالنسبة إلی مقدّمته ، لکنّ الإرادة من الصفات ، و الوجوب من الأفعال ، فتلک الحالة بالنسبة إلی الإرادة متصوّرة و واقعة ، أمّا الوجوب فیحتاج إلی موجب ، و هو فعل اختیاری للمولی ، یمکن أن یجعله و أن لا یجعله ، بخلاف الإرادة .

و أشکل علی الاستصحاب هنا - و اعتمده فی المحاضرات (1) - بأنّه لا أثر له ، بعد استقلال العقل بلزوم الإتیان بالمقدّمة ، فلا معنی لجریانه .

و أجاب المحقّق الأصفهانی : بأنّ اعتبار الأثر للاستصحاب إنّما هو حیث لا یکون المستصحب نفسه حکماً مجعولاً شرعیّاً ، و إلّا فلا حاجة إلی اشتراط الأثر .

قال الأُستاذ : لکنّ أثر جعل الحکم هو تحریک العبد ، فیجعل الوجوب مثلاً لأن یکون داعیاً له للفعل ، و مع وجود الداعی - و هو اللّابدیة العقلیّة - لا یبقی للوجوب داعویّة للعبد من أجل التعبّد ، فإنْ کان للوجوب أثر آخر فهو و إلّا فلا حاجة إلیه .

هذا تمام الکلام فی الاستصحاب .

و أمّا البراءة :

فإنّ العقلیّة غیر جاریة ، لأنّ مجراها هی الشبهات الحکمیّة للتکالیف الإلزامیّة ، و علی القول بوجوب المقدّمة ، فإنّ ترکها لا یستتبع استحقاق العقاب ، فلا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان .

و أمّا الشرعیّة ، فإن قلنا : بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم الماهیّة ، و هی غیر قابلة للجعل ، فلا یجری حدیث الرفع فی المقدّمة ، إذ ما لا یقبل الجعل لا یقبل

ص:102


1- 1) محاضراتٌ فی أُصول الفقه : 2 / 278 .

الرفع .

و إن قلنا : بقابلیّته للجعل تبعاً - کما علیه المحقّق الخراسانی - فیقبل الرفع ، إذ لا فرق بین الاستقلالیة و التبعیة هنا .

و علی المختار من کون وجوب المقدّمة قابلاً للجعل البسیط الاستقلالی ، فالبراءة جاریة .

هذا ، و لا تجری البراءة الشرعیة - علی القول بکون وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذیها - من جهةٍ أُخری أیضاً ، و هی : أنّ لازم هذا القول أن یکون وضع وجوب المقدّمة بوضع وجوب ذی المقدّمة ، و ما کان وضعه بوضع غیره فلا یقبل الرفع إلّا برفع ذلک الغیر ، و لذا قالوا بأن حدیث الرفع لا یرفع الجزئیّة - مثلاً - لکونها مجعولةً بجعل الأمر المتعلّق بالمرکّب الذی هو منشأ انتزاعها ، إذ لیس لها وضع استقلالی ، فلا رفع کذلک .

لکنّ التحقیق أنّه لیس وجوب المقدّمة من لوازم ماهیّة وجوب ذیها ، بل له وجود مستقل .

و أورد فی المحاضرات : بأنّه لا أثر لأصالة البراءة الشرعیّة بعد حکم العقل بلابدّیة الإتیان بالمقدّمة ، لتوقف الواجب النفسی علیها .

فأفاد الأُستاذ : بأنّ هذا الإشکال یبتنی علی عدم ترتّب ثمرةٍ من الثمرات المذکورة سابقاً علی الإتیان بالمقدّمة ، لکنّ تصویر الثمرة ممکن ، فمثلاً : بناءً علی عدم جواز أخذ الأُجرة علی الواجب الشرعی ، فإنّه إنْ جرت البراءة الشرعیّة عن وجوب المقدّمة سقطت عن الوجوب ، و لا یبقی إشکال فی جواز أخذ الأُجرة علیها ... .

هذا تمام الکلام فی مرحلة المقتضی لجریان الأصل فی المقام .

ص:103

و أمّا المانع ، فقد ذکر فی الکفایة : إنّ استصحاب عدم الوجوب الشرعی للمقدّمة یستلزم التفکیک بین المتلازمین فی صورة الشک ، قال رحمه اللّٰه : « نعم لو کانت الدعوی هی الملازمة المطلقة حتی فی مرتبة الفعلیة لما صح التمسّک بالأصل » (1) هکذا فی نسخةٍ . و فی أُخری « صحّ التمسّک » و عن بعض تلامذته أنّ « لما صحّ » کانت فی الدّورة السابقة ، و« صحّ » فی الدورة اللّاحقة .

و حاصل الکلام : وجود المانع عن جریان الأصل - بعد تمامیّة المقتضی له - و هو لزوم التفکیک بین الوجوبین .

فأجاب رحمه اللّٰه عن الإشکال : أمّا بناءً علی کلمة « لما صح » بأنّ الإشکال إنّما یرد لو کانت الملازمة بین الوجوبین ظاهراً و واقعاً ، أمّا لو قلنا بأنّها فی الواقع فقط ، دون مقام جریان الأصل ، فلا ملازمة بین الوجوبین ، إذ للشارع أن یتصرّف فی مرتبة الظاهر و یرخّص بالنسبة إلی المقدّمة بجریان أصالة عدم وجوبها فیها .

و أمّا بناءً علی کلمة « صحّ » فتقریب الإشکال هو : إنّ إجراء البراءة عن وجوب المقدّمة یعنی الشک فی الملازمة و وقوع التفکیک بین المتلازمین احتمالاً ، و هذا محال کالتفکیک بینهما قطعاً .

فأجاب رحمه اللّٰه - فیما حکاه المحقّق القوچانی - بأنّه فی کلّ موردٍ یوجد دلیلٌ یستلزم الأخذ به محالاً من المحالات ، فإنّ ظهور ذلک الدلیل یکون حجةً علی أنْ لا موضوع لذلک اللازم المحال ... و یؤخذ بالدلیل ... و هذا هو البیان الذی مشوا علیه فی جواب شبهة ابن قبة فی حجیّة خبر الواحد باحتمال لزوم تحلیل الحرام و تحریم الحلال من العمل بخبر الواحد ، و احتمال لزوم اجتماع الضدّین أو النقیضین من جهة تعذّر الجمع بین الحکمین الظاهری و الواقعی .

ص:104


1- 1) کفایة الأُصول : 126 .

و قد استفاد المحقّق الخراسانی من هذا المطلب لیعطی الجواب عن إشکال لزوم التفکیک فی المقام ، فهو یقول بأنّ عمومات أدلّة الاستصحاب و أدلّة البراءة الشرعیّة حجّة علی عدم الملازمة ، فلا موضوع للّازم المحال و هو التفکیک بین المتلازمین ... .

و الحاصل : إنّ التعبّد بالأدلّة یثبت عدم وجود الملازمة ، فصحّ جریان الأصل و تمّ عدم وجوب المقدّمة .

هذا تمام الکلام فی مقتضی الأصل فی وجوب المقدّمة .

.أدلّة الأقوال فی مقدّمة الواجب

اشارة

قد ذکرنا الأقوال ، و نتعرّض هنا لأدلّتها :

.دلیل القول بالوجوب مطلقاً :
اشارة

و قد استدل للقول بالوجوب مطلقاً بوجوه :

الأوّل

إنّ الإرادة التشریعیّة علی وزان الإرادة التکوینیّة ، فکما أنّ التکوینیّة إذا تعلّقت بشیء تعلّقت بمقدّمته المتوقّف علیها ، غیر أنّ تلک إرادة نفسیّة و هذه غیریّة ، کذلک التشریعیّة ... و إن کان فرق بین الإرادتین من حیث أنّ التکوینیّة متعلّقها فعل النفس ، و التشریعیّة متعلّقها فعل الغیر عن اختیار . و هذا ما اعتمده فی ( الکفایة ) (1) .

و هو أقوی الوجوه ، إذ لا ریب فی شیء من مقدّماته . إلّا أنّ تمامیّة هذا الوجه متوقّفة علی معرفة حقیقة الحکم ، لأنّ الدلیل أفاد أنّه إن حصل الشوق الواصل إلی حدّ النصاب بالنسبة إلی المقدّمة تحقّق الوجوب الغیری لها ، فهل هذا

ص:105


1- 1) کفایة الأُصول : 126 .

صحیح ؟

قیل : إنّ الحکم فعل اختیاری .

و قیل : إنّه الإنشاء بداعی جعل الداعی .

و قیل : إنّه اعتبار لابدّیة شیء أو حرمان المکلّف من شیء .

و القدر المشترک بین هذه الأقوال هو إنّ الحکم فعل اختیاری .

و فی المقابل قول المحقّق العراقی من أنّ الحکم هو الإرادة المبرزة و الکراهة المبرزة .

فعلی القول بأنّه فعل اختیاری ، فلا محالة تکون الإرادة التشریعیّة - و هی الشوق البالغ حدّ النصاب - أجنبیّة عن الفعل . أمّا علی القول بأنّه الإرادة المبرزة ، فلا تکون الإرادة التشریعیّة بلا إبراز حکماً ، اللّهم إلّا أن یبرز الإرادة بالنسبة إلی المقدّمة ، کأن یقول : ادخل السوق و اشتر اللّحم .

نعم ، یتم الاستدلال لو قیل بأن حقیقة الحکم نفس الإرادة و الکراهة .

الثانی

وقوع الأمر بالمقدّمة فی القضایا التکوینیّة کقوله : ادخل السوق و اشتر اللحم ، و فی القضایا الشرعیّة کما فی الخبر : « اغسل ثوبک من أبوال ما لا یؤکل لحمه ... » (1) و الأصل فی الاستعمال هو الحقیقة ، و الأمر ظاهر فی الوجوب . و هذا الوجوب الثابت للمقدّمة غیری بالاستقراء ، لأنّ الوجوب إمّا إرشادی و إمّا مولوی طریقی و إمّا مولوی نفسی و إمّا غیری . أمّا الإرشادی ، فهو إرشاد إلی حکم العقل فی المورد کما فی «أَطیعُوا اللّٰهَ وَأَطیعُوا الرَّسُولَ ... » (2)فهنا یوجد الحکم العقلی

ص:106


1- 1) وسائل الشیعة 3 / 405 الباب 8 من أبواب النجاسات .
2- 2) سورة النساء : 59 .

و لا یمکن أن یکون الأمر بالإطاعة حکماً شرعیّاً مولویاً ، فیحمل علی الإرشادیة ، لکنْ لیس فی مقامنا حکم من العقل ، فهو لا یقول بلزوم الإتیان بالمقدّمة ، بل یقول بلابدّیته و هو غیر اللزوم و الوجوب ، و أیضاً ، ففیما نحن فیه یمکن الحکم المولوی .

و أمّا المولوی الطریقی ، فلا معنی له هنا ، إذ الحکم المولوی الطریقی ما یجعل للتحفّظ علی الواقع ، و فیما نحن فیه لا جهل بالواقع حتّی یجعل حکم الوجوب للاحتفاظ علیه .

و أمّا المولوی النفسی ، فالمفروض أنّ بحثنا فی المقدّمة .

فانحصر کون الوجوب هنا غیریّاً ... فیکون الأمر بغسل الثوب واجباً غیریّاً .

و الجواب :

و قد أجاب الأکابر عن هذا الاستدلال : بأنّ هناک شقّاً آخر و هو : الإرشادیّة إلی الشرطیّة ، بأن یکون الأمر بغسل الثوب إرشاداً إلی شرطیّة الطهارة من الخبث فی صحّة الصّلاة .

قال الأُستاذ

و هذا الجواب الذی ارتضاه فی المحاضرات أیضاً (1) ، إنّما یتمّ فیما إذا کان الشیء شرطاً ، کاشتراط الصّلاة بطهارة اللباس ، و بالطهارة من الحدث کما فی «یٰا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا ... » (2)، أمّا فی مثل : اذهب إلی السوق و اشتر اللحم ، فلیس دخول السّوق شرطاً و لا مقدّمةً لشراء اللحم ، و إنّما هو مقدّمة وجودیّة .

ص:107


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 280 .
2- 2) سورة المائدة : 6 .

و کذا الحمل علی الارشاد إلی المقدمیّة ، ففیه : إنّه من الواضح فی مثل :

ادخل السّوق و اشتر اللحم ، کون الدخول مقدمةً للشراء ، و لا حاجة إلی التنبیه و الإرشاد إلیه .

( قال ) و الذی یمکن أن یقال فی الجواب : إنّ لابدّیة الإتیان بمتعلّق الأمر هی لترتّب ذی المقدّمة علیه ، و هذه الخصوصیّة تمنع من انعقاد الظهور العرفی للأوامر الشرعیّة المتعلّقة بالمقدّمات فی الطلب المولوی .

لا یقال : إنّه بعد ثبوت حکم العقل بلابدیّة المقدّمة ، من باب الملازمة العقلیة بین المقدمة و ذیها ، یکون المقام من صغریات قاعدة الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع ، فیتم الحکم الشرعی ، أعنی وجوب المقدّمة شرعاً .

لأنّ الأصحاب قد نفوا الوجوب الشرعی هنا مع قولهم بقانون الملازمة .

و بیان ذلک بحیث یکون نافعاً فی سائر الموارد هو :

إن العقل ، سواء قلنا بأنه حاکم أو مدرک فقط ، إنما یحرّک المکلّف و یحمله علی امتثال حکم المولی حتی یخرج عن عهدة التکلیف ، فیما إذا لم یکن قبله حکم من الشرع ، لأنّ حکم الشرع السابق علی حکم العقل یکون کافیاً لداعویّة العبد ، و فی مثل هذه الحالة لا أثر للحکم العقلی لیکون مورداً لقاعدة الملازمة ، علی أنّه یستلزم التسلسل ، لأنّ الحکم العقلی لو استتبع حکماً شرعیّاً ، کان الحکم الشرعی موضوعاً لوجوب الإطاعة عقلاً ، و وجوب الإطاعة لو استتبع حکماً شرعیّاً ، کان موضوعاً لوجوب الإطاعة کذلک ، و هکذا فیتسلسل . و من هنا قالوا :

الأحکام العقلیّة التی هی فی طول الأحکام الشرعیّة لیست مورداً لقاعدة کلّ ما حکم به العقل حکم به الشرع .

بل الأحکام العقلیّة التی هی مورد القاعدة هی الأحکام العقلیّة الواقعة فی

ص:108

سلسلة علل الأحکام الشرعیّة ، بمعنی أنّ العقل إذا أدرک المصلحة الملزمة غیر المزاحمة بالمفسدة ، أو المفسدة الملزمة غیر المزاحمة بالمصلحة ، فإنّ تلک المصلحة أو المفسدة تکون علّةً للوجوب أو الحرمة ، لکون الأحکام الشرعیّة تابعة للمصالح و المفاسد ، فمثل هذه الأحکام تکون مورداً للقاعدة .

و الحاصل : إنّ الأحکام العقلیّة علی قسمین ، فما کان منها فی طول الأحکام الشرعیّة فلا یکون مورداً للقاعدة ، و ما کان منها فی سلسلة العلل لها فهی مورد للقاعدة .

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ مورد بحثنا خارج خروجاً موضوعیّاً عن مورد القاعدة ، لأنّه لیس فی مقامنا إلّا درک العقل التلازم فی الإرادة و الاشتیاق بین المقدّمة وذی المقدّمة ، و هذا التلازم أمر تکوینی و لیس وظیفةً للعبد ، فالعقل یری هذه اللّابدّیة لکن لا بعنوان کونها وظیفةً من وظائف العبودیّة ... .

و تلخّص : عدم تمامیّة القول بالوجوب الشرعی للمقدّمة عن طریق قانون الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع .

الثالث

ما نقله فی الکفایة عن أبی الحسین البصری (1) و هو أنّه : لو لم تجب المقدّمة لجاز ترکها ، و إذا تحقّق الترک ، فلا یخلو حال ذی المقدّمة من أنْ یبقی علی وجوبه فیلزم التکلیف بما لا یطاق ، أو یخرج عن الوجوب المطلق و یکون مشروطاً بوجود المقدّمة ، و هذا خلف .

أجاب فی الکفایة : بعدم لزوم شیء من المحذورین ، بعد حکم العقل

ص:109


1- 1) مع اصلاح الاستدلال بأن یکون المراد من « جواز الترک » : عدم المنع لا الاباحة ، و انّ الموجب للتکلیف بما لا یطاق هو الترک لا جواز الترک .

بلابدّیة الإتیان بالمقدّمة ، فلو ترک المقدّمة - مع ذلک - لزم سقوط الأمر بذی المقدّمة بالعصیان ، فالأمر غیر باقٍ حتی یلزم التکلیف بما لا یطاق .

و أشکل المحقّق الإیروانی (1) علی الکفایة : بأنّ هذا الجواب یتم علی القول بجواز خلوّ الواقعة عن الحکم الشرعی . و أمّا بناءً علی أنّ لکل واقعة حکماً شرعیاً ، فإنّه إن لم تجب المقدّمة فهی مباحة شرعاً ، و مع الإباحة تکون موضوعاً لحکم العقل بالرخصة ، و إذا جاء الترخیص بالنسبة إلی المقدّمة أمکن ترک ذی المقدّمة أیضاً ، فینقلب وجوبه عن الإطلاق إلی الاشتراط بالإتیان بالمقدّمة .

و هذا هو الخلف .

و الحاصل : إنّ جواب الکفایة عن الاستدلال مبنائی .

و الأُستاذ وافق علی إشکال المحقّق الإیروانی ، لکنّه ذکر أنّ المبنی الصحیح ما ذهب إلیه فی الکفایة ، إذ لا دلیل علی ضرورة وجود حکم شرعی فی کلّ واقعة ، بل الحکم العقلی أیضاً وظیفة مخرجة للعبد من الحیرة . و بعبارة أُخری : لا بدّ من تعیین الوظیفة فی کلّ واقعةٍ سواء کانت من ناحیة العقل أو الشرع .

.دلیل القول بعدم وجوب المقدّمة

و استدلّ للقول بعدم وجوب المقدّمة شرعاً ، باستحالة الوجوب بلا ملاک ، و ملاک جعل الوجوب فی المقدّمة إمّا تحریک العبد نحو العمل ، و إمّا إسناد العمل إلی أمر المولی إن کان العبد متحرّکاً و منبعثاً (2) . و لیس فی وجوب المقدّمة شیء من الملاکین .

أمّا أن یکون لأجل تحریکه ، فقد تقدّم کفایة اللابدّیة العقلیة .

ص:110


1- 1) نهایة النهایة 1 / 183 .
2- 2) إن کان العبد منبعثاً و متحرّکاً نحو العمل ، فجعل الوجوب من أجل تحریکه تحصیل للحاصل و هو محال ، بل جعله لأجل إسناد العمل و اضافته إلی المولی لیکون مقرّباً إلیه .

و أمّا أن یکون لأجل الإضافة إلی المولی فیکون مقرّباً ، فإنْ قلنا : بأن المقدّمة معنی حرفی و لیس لها وجود مستقل ، فلا موضوع للوجوب ، و إن قلنا - کما هو الصحیح - بأنّها قابلة للنظر الاستقلالی و توجّه الأمر إلیها ، فإنّ مقربیّة الإتیان بالمقدّمة حاصلة بالإتیان بذی المقدّمة ، لأنّه إنّما یأتی بالمقدّمة بداعی التوصّل إلی ذیها ، فالمقربیّة حاصلة و لا أثر لجعل الوجوب للمقدّمة من هذه الجهة .

و مع انتفاء کلٍّ من الملاکین ، یکون جعل الوجوب للمقدّمة لغواً اللّهمّ إلّا أن یقال : بأنّ جعله لها یؤثّر أثر التأکید ، بأن یأتی بها بداعیین ، أحدهما الوجوب الغیری و الآخر التوصّل إلی ذی المقدّمة . فلا لغویّة . فیکون وجه عدم الوجوب للمقدّمة حینئذ عدم الدلیل علی وجوبها لا عدم الملاک و لزوم اللغویّة ، إذ لا دلیل شرعی علی وجوب المقدّمة ، و قد عرفت أنّ العقل غیر کاشف هنا إلّا عن التلازم بین المقدّمة و ذیها فی الشوق و الإرادة ، أمّا أن یکشف عن حکم شرعی فلا ...

و قانون الملازمة أیضاً لم یثبت حکماً شرعیّاً للمقدّمة .

فالحقّ : عدم وجوب مقدّمة الواجب شرعاً .

.دلیل التفصیل بین المقدّمات السببیّة و غیرها

فإن کانت سبباً فهی واجبة ، و إنْ کانت شرطاً فلا ، و ذلک : لأنّ القدرة علی المتعلّق شرط ، و المسبّب خارج عن القدرة ، فلا یتعلّق التکلیف به ، لکنّ السبب المتوقّف علیه مقدور ، فلا بدّ من صرف الأمر المتعلّق بالمسبّب إلی السبب ، وعلیه ، فلو أمر بالطّهارة من الحدث ، فإنّه یتوجّه إلی السبب المحصّل لها ، لأنّه المقدور دون نفس الطّهارة .

ص:111

أجاب فی الکفایة (1)

أوّلاً : إن هذا الذی ذکر لیس بدلیلٍ علی التفصیل ، بل إنّه دلیل علی أنّ الأمر النفسی إنّما یکون متعلّقاً بالسبب دون المسبّب ، فیکون السبب واجباً نفسیّاً . و هذا شیء خارج عن محلّ البحث ، و هو وجوب المقدّمة بالوجوب الغیری و عدمه .

و ثانیاً : إنّ ما ذکر من أنّ المسبّب غیر مقدور غیر صحیح ، لأنّ الشیء یکون مقدوراً بالقدرة علی سببه ، و القدرة المعتبرة فی التکالیف أعم من القدرة بالمباشرة أو بالتسبیب ، فلو أمر بالإحراق - و هو المسبّب - مع القدرة علی الإلقاء فی النار کان صحیحاً ، و لا وجه لصرفه إلی الإلقاء ، أی السبب .

و قال المیرزا (2) :

إن کان وجود العلّة غیر وجود المعلول صحّ وجوب العلّة بالوجوب الغیری ، و إن کانا موجودین بوجودٍ واحدٍ - کالإلقاء و الإحراق ، و الغسل و الطهارة من الخبث و نحوهما - فلا معنی لأنْ یکون وجوب العلّة غیریّاً و المعلول نفسیّاً .

أشکل الأُستاذ

أوّلاً : بأنّه لا یعقل وجود العلّة و المعلول بوجودٍ واحدٍ ، إذ العلّة و المعلول متقابلان ، العلّة مؤثرة و المعلول أثر ، و المتقابلان لا یوجدان بوجود واحدٍ .

و ثانیاً : ما ذکره من تعدّد الوجود فی الإلقاء و الاحتراق غیر صحیح ، لأنّ الإلقاء لا ینفک عن الإحراق ، لکنّ عدم الانفکاک أمرٌ و وجودهما بوجودٍ واحدٍ أمر آخر .

.دلیل التفصیل بین الشرط الشرعی و غیره

فإنْ کانت المقدّمة شرطاً شرعیّاً کالوضوء بالنسبة إلی الصلاة فهی واجبة ،

ص:112


1- 1) کفایة الأُصول : 128 .
2- 2) أجود التقریرات 1 / 253 .

و إنْ کانت شرطاً غیر شرعی کنصب السلّم للصعود إلی السطح الواجب فلا ، و هو قول ابن الحاجب فی ( المختصر ) و شارحه العضدی (1) ، فهو :

أنّه لو لا وجوب الشرط الشرعی شرعاً لما کان شرطاً ، حیث إنّه لیس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادةً .

و الحاصل : إنّ المقدّمة إن کانت عقلیّة کطیّ الطریق للحج أو عادیّة کنصب السلّم للصعود ، فلا حاجة إلی جعل الوجوب الشرعی ، لأنّ جعله إنّما هو بداعی بعث المکلّف ، و المفروض انبعاثه عقلاً أو عادةً نحو المتعلّق ، و أمّا إن کانت المقدّمیّة شرعیّة ، فإنّ العقل لا یدرک لابدیّتها ، کلابدّیة الوضوء للصّلاة ، و هذا معنی قوله : لو لا وجوبه شرعاً لما کان شرطاً .

جواب المحقّق الخراسانی

و أجاب المحقّق الخراسانی (2) : أوّلاً : إنّ الشرط مطلقاً - شرعیّاً کان أو عقلیّاً أو عادیّاً - هو ما ینتفی المشروط بانتفائه ، وعلیه ، فالشروط الشرعیّة ترجع إلی العقلیّة .

قال الأُستاذ

و فیه : إنّه فرقٌ بین الشروط الشرعیّة و غیرها ، لأنّ غیر الشرعیّة واضحة لدی العقل ، بخلاف الشرعیّة ، إذ العقل لا یدرک لابدّیتها إلّا بعد وجوبها شرعاً ، کما تقدّم .

و أجاب ثانیاً : بأنّه لا یتعلّق الأمر الغیری إلّا بما هو مقدّمة ، فلا بدّ من إثبات مقدمیّة المقدّمة قبل تعلّق الأمر فلو کانت مقدمیّته متوقّفة علی تعلّق الأمر بها لزم الدور .

ص:113


1- 1) شرح المختصر 1 / 244 .
2- 2) کفایة الأُصول : 128 .

قال الأُستاذ

و یمکن الجواب : بأنّ الوضوء کما هو شرط و قید للصّلاة بما هی واجبة ، کذلک هو قید للصّلاة بما هی قربان کلّ تقی - مثلاً - فله دخلٌ فی وجوبها و فی الغرض منها ، لکنّ دخله فی الغرض منها غیر موقوف علی وجوبه الغیری ، بل الوجوب الغیری موقوف علی ذلک ، إذ لو لم یکن الوضوء قیداً للغرض من الصّلاة لم یتعلّق به الوجوب الغیری . وعلیه ، فقد أصبح الوجوب الغیری للوضوء موقوفاً علی دخله فی الغرض من الصّلاة ، و لیس دخله فیه موقوفاً علی وجوبه الغیری .

نعم ، مقدمیّة الوضوء للصّلاة - من حیث أنّها واجبة - موقوفة علی الوجوب الغیری . و الحاصل : إنّه قد وقع الخلط بین مقدمیّة الوضوء للواجب و مقدمیّته للغرض من الواجب .

و علی الجملة : فإن کون الوضوء شرطاً و قیداً للواجب موقوف علی مصحّح انتزاع هذه الشرطیّة و هو الوجوب الغیری ، لکنّ الوجوب الغیری موقوف علی شرطیّته للقربانیّة و غیرها من الأغراض ، فاختلف الموقوف و الموقوف علیه ، فلا دور .

الحق فی الجواب

ما ذکره المحقّق الخراسانی بالتالی ، من أنّ المصحّح لاتّصاف المقدّمة الشرعیّة بالمقدمیّة هو : الأمر النفسی المتعلّق بذی المقدّمة مقیّداً بالمقدّمة ، کقوله :

صلّ مع الطّهارة ، فإنّ مثل هذا الخطاب یکون منشأً لانتزاع المقدمیّة و الشرطیّة للوضوء بالنسبة إلی الصّلاة ، فلا یکون واجباً غیریّاً شرعاً .

هذا تمام الکلام فی مقدمة الواجب .

ص:114

ثمرة القول بوجوب المقدّمة

ذکر فی الکفایة و غیرها (1) ثمرات للبحث عن وجوب المقدّمة :

( منها ) إنّ نتیجة البحث عن ثبوت الملازمة بین وجوب شیء و وجوب مقدّماته هی الوجوب الشرعی للمقدّمة بناءً علی ثبوتها ، قال المحقّق الخراسانی رحمه اللّٰه : لو قیل بالملازمة فی المسألة فإنّه بضمیمة مقدّمة کون شیء مقدّمةً لواجب یستنتج أنّه واجب .

یعنی : إذا علمنا مثلاً : أنّ الوضوء مقدّمة لواجبٍ ، فجعلنا ذلک مقدّمةً للکبری الأُصولیّة بأنّ : کلّ ما هو مقدّمة لواجب فإنّه یلزم وجوب المقدّمة من وجوب ذی المقدّمة ، و یستنتج من هذا القیاس وجوب الوضوء ، أمّا بناءً علی عدم ثبوت الکبری الأُصولیّة المذکورة ، فلا تتم هذه النتیجة و یبقی اللّابدّیة العقلیّة .

و فی المحاضرات : إنّ ما ذکر لا یصلح لأن یکون ثمرةً فقهیة للمسألة الأُصولیّة ، لعدم ترتّب أثر عملی بعد حکم العقل بلابدّیة الإتیان بالمقدّمة .

فأجاب الأُستاذ : بأنّه یکفی لتحقّق الثمرة الفقهیّة جواز فتوی الفقیه بوجوب الوضوء فی المثال ، فکان للقیاس المزبور هذا الأثر الفقهی العملی لبعض المکلّفین و هم الفقهاء .

( و منها ) إنّ المقدّمة إذا کانت عبادةً ، فعلی القول بوجوبها فإنّه یؤتی بها بقصد التقرّب ، و إلّا فلا کما هو واضح .

ص:115


1- 1) کفایة الأُصول : 123 ، محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 266 .

و فی المحاضرات : إنّ عبادیّة المقدّمة لا تتوقّف علی وجوبها ، فإنّ منشأ العبادیّة لها أحد أمرین ، إمّا الإتیان بها بقصد التوصّل إلی الواجب النفسی و امتثال الأمر المتعلّق به ، و إمّا الإتیان بها بداعی الأمر النفسی المتعلّق بها کما فی الطهارات الثلاث ، فالوجوب الغیری لا یکون منشأ لعبادیّتها أصلاً .

فأجاب الأُستاذ : بأنه اشکال مبنائی ، و لا یعتبر فی الثمرة أن تکون مترتّبةً علی جمیع المبانی ، فعلی القول بأنّ العمل بداعی الأمر الغیری غیر مقرّب بل العبادیّة إنّما تحصل بأحد الأمرین المذکورین ، فلا ثمرة . أمّا علی القول بأنّ الإتیان به مضافاً إلی المولی کافٍ للعبادیّة و المقربیّة ، فإنّ الإتیان به بداعی الأمر الغیری یکون مقرّباً و تترتّب الثمرة .

( و منها ) إنه إنْ کانت المقدّمة واجبةً بالوجوب الشرعی ، کانت موضوعاً للبحث عن أخذ الأُجرة علی الواجبات ، و إلّا فلا مانع من ذلک .

قال فی المحاضرات : و فیه أوّلاً : إنّ الوجوب - بما هو وجوب - لا یکون مانعاً من أخذ الأُجرة علی الواجب ، إلّا إذا قام دلیل علی لزوم الإتیان به مجّاناً کدفن المیّت ، و إذ لا دلیل علی لزوم الإتیان بالمقدّمة مجّاناً ، فلا مانع من أخذ الأُجرة علیها و إنْ قلنا بوجوبها . و ثانیاً : إنّه لا ملازمة بین وجوب شیء و عدم جواز أخذ الأُجرة علیه ، بل النسبة بینهما عموم من وجه ، فقد یکون العمل واجباً و أخذ الأُجرة علیه جائز کما لو کان واجباً توصلیاً ، و قد یکون غیر واجب و لا یجوز أخذ الأُجرة علیه کالأذان ، فإنْ کان واجباً عبادیاً حرم أخذ الأُجرة علیه علی القول بالحرمة ... إذن ، لا بدّ من التفصیل فی هذه الثمرة .

قال الأُستاذ : إنّه یکفی ترتّب الثمرة علی بعض الأقوال فی المسألة ، فعلی القول بأنّ کل واجب فهو للّٰه ، و ما کان للّٰه فلا تؤخذ الأُجرة علیه - لأن وجوب

ص:116

العمل علی العبد منافٍ لملکیّة العبد لعمله - فالثمرة مترتّبة .

( و منها ) برّ النذر بالإتیان بالمقدّمة علی القول بوجوبها لو نذر الإتیان بفعل واجب ، و عدم حصول البرّ بذلک علی القول بعدم وجوبها .

و قد أشکل فی الکفایة و المحاضرات و غیرهما علی هذه الثمرة : بأنّ الوفاء بالنذر یتبع قصد الناذر ، فإن کان قاصداً من لفظ « الواجب » خصوص الواجب النفسی ، لم یکف الإتیان بالمقدّمة ، لأن وجوبها غیری علی القول بوجوبها ، و إن کان قاصداً منه ما یلزم الإتیان به و لو بحکم العقل ، وجب الإتیان بالمقدّمة ، حتّی علی القول بعدم وجوبها شرعاً . نعم لو قصد من الوجوب الأعم من النفسی و الغیری ، حصل البرّ بإتیان المقدّمة علی القول بوجوبها دون القول بعدم وجوبها .

( و منها ) إنّه بناءً علی وجوب المقدّمة شرعاً ، فقد یکون لواجب نفسی مقدّمات کثیرة ، و حینئذٍ ، فلو ترک الواجب النفسی مع مقدّماته حکم بفسقه ، أمّا بناءً علی عدم وجوبها فلا ، لأنّه لم یفوّت إلّا واجباً واحداً و هو النفسی ذو المقدّمة ، و لا یصدق عنوان الإصرار علی المعصیة بذلک إلّا إذا کان ترک ذی المقدّمة کبیرةً من الکبائر .

و أشکل فی المحاضرات بما حاصله : ترتّب الثمرة علی بعض المبانی فی معنی « العدالة » و فی معنی « الإصرار علی الصغیرة » علی مسلک التفصیل بین الصغیرة و الکبیرة .

قال : و لو تنزّلنا عن جمیع ذلک ، فإنّه لا معصیة فی ترک المقدّمة بما هی مقدّمة حتی علی القول بوجوبها کی یحصل الإصرار علی المعصیة ، لأنّ ما یحقّق عنوان المعصیة هو مخالفة الأمر النفسی ، و أمّا مخالفة الأمر الغیری فلا تحقّق بها المعصیة .

ص:117

و قد أورد علیه الأُستاذ :

أوّلاً : بکفایة ترتّب الثمرة علی بعض المبانی ، کما تقدّم .

و ثانیاً : إن عنوان « المعصیة » یتحقّق بمخالفة الأمر ، سواء کان نفسیّاً أو غیریّاً ... .

و ثالثاً : إن قیل إنّ عنوان « الإصرار » علی المعصیة یتحقّق بکثرة المخالفة کما یتحقّق بتکرّر المخالفة للحکم الواحد ، فإنّه یتحقّق فیما نحن فیه بترک جمیع المقدّمات .

( و منها ) إنّ المقدّمة إن کانت محرّمة ، فعلی القول بوجوب المقدّمة شرعاً یلزم اجتماع الأمر و النهی فیها ، و علی القول بعدم وجوبها فلا یلزم .

أجاب فی الکفایة

أوّلاً : إنّ المقدّمة المحرّمة علی قسمین ، منحصرة و غیر منحصرة ، فإن کانت منحصرةً فلا یلزم الاجتماع ، بل یترجّح أحد الأمرین - الوجوب و الحرمة - علی الآخر . و إن کانت غیر منحصرة ، فإنّ مصب الوجوب - علی القول به فی بحث مقدّمة الواجب - هو المقدّمة المباحة ، لأنّ الحاکم بوجوب المقدّمة هو العقل ، عن طریق الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و وجوب المقدّمة ، و هو لا یری الملازمة إلّا بین الواجب و مقدّمته المباحة ، فلا تکون المحرّمة محلّ الاجتماع .

فأشکل فی المحاضرات فی صورة عدم الانحصار : بعدم الدلیل علی اعتبار إباحة المقدّمة ، لأنّ الملاک فی المقدّمیة توقف ذی المقدّمة الواجب علی المقدّمة ، و کما أنّ المقدّمة المباحة واجدة لهذا الملاک فکذلک المقدّمة المحرمة ، و مجرّد انطباق عنوان المحرّم علیها لا یخرجها عن واجدیّتها للملاک ... فتکون

ص:118

محلّاً للاجتماع .

و أجاب الأُستاذ دام ظلّه : بأنّ وجوب المقدّمة شرعاً - علی القول به - إنّما اکتشف عن طریق حکم العقل بالملازمة بین وجوب ذی المقدّمة شرعاً و وجوب المقدّمة ، فالعقل لا یری انفکاکاً بین مطلوبیّة ذی المقدّمة و مطلوبیّة المقدّمة ، لکنّ هذه المطلوبیّة من أوّل الأمر إنّما تکون بین ذی المقدّمة و مقدّمته المباحة لا مقدّمته المبغوضة للمولی ، فهو لا یری الملازمة إذا کانت مبغوضة له ، وعلیه ، فإنّ الوجوب یتوجّه إلی المقدّمة المباحة ، فلا یلزم الاجتماع .

و ثانیاً : إنّه لیس المورد من قبیل اجتماع الأمر و النهی ، بل من قبیل النهی عن العبادة ، لأنّ موضوع الوجوب هو « ذات المقدّمة » کالوضوء ، و موضوع الحرمة هو « الغصب » ، فتعلّق الأمر و النهی بما هو مصداق فعلاً للمقدّمة ، فیکون من مسائل النهی عن العبادة .

و الجواب : صحیح أنّ عنوان « المقدّمة » خارج عن متعلّق الأمر ، إلّا أنّ الأمر قد تعلّق بطبیعی الوضوء الجامع بین الفردین الحلال و الحرام ، و النهی قد تعلّق بخصوص الفرد المغصوب ، فکان متعلّق الأمر غیر متعلّق النهی ، ثمّ انطبقا علی هذا الوضوء الغصبی فکان مجمعاً لهما .

و ثالثاً : إنّ الغرض من المقدّمة هو التوصّل بها إلی ذی المقدّمة الواجب بالوجوب النفسی ، و هی لا تخلو إمّا أن تکون توصلیّة أو تعبدیّة ، فإن کانت توصلیّة فهی توصل إلی ذی المقدّمة و إن کانت محرّمةً ، کالحج علی الدابّة المغصوبة ، و إن کانت تعبدیّة - کالوضوء مثلاً - وقع البحث فی جواز اجتماع الأمر و النهی و عدم جوازه ، فإنْ قلنا بالجواز صحّت العبادة سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل ، و إن قلنا بالعدم و تقدیم جانب النهی بطلت سواء قلنا بوجوب المقدّمة

ص:119

أم لم نقل ، فلا ثمرة للبحث .

و فیه :

إنّه بناءً علی عدم الفرق فی المقربیّة بین الواجب النفسی و الواجب الغیری ، فإنّ المقدّمة إن کانت تعبّدیة فإنّه یعتبر فیها قصد القربة ، فإنْ اتّفق کونها محرمةً کالوضوء الغصبی امتنع التقرّب بها إلّا علی القول بوجوب المقدّمة ، بناءً علی جواز اجتماع الأمر و النهی ، فالثمرة مترتبة .

ص:120

تتمّة

مقدّمة المستحب

قال المحقّق الخراسانی :

مقدّمة المستحب کمقدّمة الواجب فتکون مستحبةً لو قیل بالملازمة .

أقول :

إنّه بناءً علی الملازمة بین المقدّمة و ذیها ، لا یری العقل فرقاً بین الطلب الإلزامی و الطلب غیر الإلزامی ، فبمجرّد وجود المقدمیّة و توقّف ذی المقدّمة علیها ، یکون مقدّمة المستحب مستحبّاً ، کما یکون مقدّمة الواجب واجباً .

مقدّمة الحرام و المکروه

قال المحقّق الخراسانی :

و أمّا مقدّمة الحرام و المکروه ، فلا تکاد تتّصف بالحرمة أو الکراهة ، إذ منها ما یتمکّن معه من ترک الحرام أو المکروه اختیاراً ... (1) .

أقول :

حاصل کلامه قدّس سرّه هو التفصیل ، لأنّ المقدّمة علی قسمین :

أحدهما : المقدّمة التی یتمکّن المکلّف مع فعلها من ترک الحرام أو المکروه ، لعدم کونها علّةً تامّةً و لا جزءاً أخیراً للعلّة التامّة .

ص:121


1- 1) کفایة الأُصول : 128 .

الثانی : المقدّمة التی لا یتمکّن المکلّف معها من ذلک ، لکونها علّةً تامّة أو جزءاً أخیراً لها .

ففی القسم الأول لا تکون المقدّمة حراماً أو مکروهاً ، إذ مع الفرض المذکور لا وجه لذلک ، لعدم کونها واجدةً لملاک المقدّمیّة و هو التوقّف ، بل یکون إتیانه لذی المقدّمة المحرَّم مستنداً إلی سوء اختیاره ، بخلاف القسم الثانی .

و بعبارة أُخری : إنّه فی کلّ موردٍ تتوسّط الإرادة بین المقدّمة و ذیها ، فلا تترشّح الحرمة أو الکراهة إلی المقدّمة ، و فی کلّ موردٍ لا توسط للإرادة بینهما ، کما فی الأفعال التولیدیّة ، حیث النسبة بین المقدّمة و ذیها نسبة العلّة التامّة و المعلول ، فالمقدّمة تکون محرّمة أو مکروهةً کذلک .

و قال المحقّق النائینی (1)

بأنّ المکلّف تارةً : عنده صارف یصرفه عن ارتکاب الحرام و أُخری :

لا صارف عنده . فإنْ کان عنده صارف عن الحرام ، فلا تتّصف المقدّمة بالحرمة ، لعدم ترتّب أثر علیها .

و أمّا إن لم یکن عنده صارف فهنا صور :

( الصورة الأُولی ) : أن یتعدّد المقدّمة و ذو المقدّمة عنواناً و یتّحدا وجوداً ، کصبّ الماء للوضوء حالکون الماء مغصوباً ، فقد تحقّق عنوانان أحدهما : صبّ الماء و حکمه الوجوب و الآخر : الغصب و حکمه الحرمة ، لکنّهما متّحدان وجوداً ، فالمورد من صغریات اجتماع الأمر و النهی ، و تکون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسیّة - لا الغیریّة - لأنّ النهی حینئذٍ یتوجّه إلی نفس الفعل التولیدی .

( الصورة الثانیة ) أن یتعدّد المقدّمة و ذو المقدّمة عنواناً و وجوداً :

ص:122


1- 1) أجود التقریرات 1 / 361 .

فإنْ کانت النسبة بین المقدّمة و ذیها نسبة العلّة التامّة إلی المعلول و لا توسّط للإرادة ، فالمقدّمة محرّمة حرمةً نفسیّة - مع کونها مقدّمة - لأنّها هی متعلّق القدرة و الاختیار من المکلّف ، و أمّا ذو المقدّمة فلا قدرة علی ترکه فلا تتعلّق به حرمة .

و إنْ لم تکن النسبة بینهما کذلک ، فهنا صورتان :

1 - أن یأتی بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلی الحرام ، فیکون القول بحرمتها مبنیّاً علی القول بحرمة التجرّی ، فعلی القول بذلک تکون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسیّة ، و إلّا فهی حرام بالحرمة الغیریّة .

2 - أن یأتی بها لا بقصد ذلک ، فلا تکون صغری للتجرّی ، و لا وجه للحرمة حینئذٍ ، لبقاء الاختیار و القدرة علی ترک الحرام کما هو المفروض .

تحقیق الأُستاذ فی هذا المقام

فقال الأُستاذ دام بقاه : إنّ مقتضی القاعدة - قبل کلّ شیء - تعیین المبنی فی حقیقة النهی ، و أنّه هل طلب الترک أو أنّه الزجر عن الفعل ؟

فعلی القول بوحدة الحقیقة فی الأمر و النهی ، و أن کلیهما طلب ، غیر أنّ الأوّل طلب للفعل و الثانی طلب للترک - کما هو مختار صاحب الکفایة - یتم التفصیل الذی ذهب إلیه ، لأنّ ما لیس علّةً تامّةً و لا جزءاً أخیراً لها لا یتعلّق به طلب الترک ، فلا یکون محرّماً بالحرمة الغیریّة ، لأنّه غیر واجد للملاک و هو المقدمیة و التوقّف ، لأنّ ما له دخل فی ترک الحرام هو الجزء الأخیر من العلّة التامّة ، أمّا غیره من الأجزاء فلا دخل له فی تحقّق الحرام .

و بهذا البیان یظهر الفرق بین مقدّمة الواجب و مقدّمة الحرام - مع کون کلیهما طلباً علی المبنی - فإن مقدّمات الواجب کلّ واحدة منها دخیل فی تحقّق الواجب ، فکلّ خطوة خطوة من طی الطریق للحج واجب ، بخلاف مقدّمات الحرام إذ الدخیل لیس إلّا الجزء الأخیر .

ص:123

و هنا یواجه المحقّق الخراسانی مشکلةً یتعرّض لها بعنوان « إن قلت » و حاصلها : إنّ الإرادة علّة تامّة للحرام ، فلا بدّ و أن تکون منهیّةً عنها فهی محرمة . ثمّ یجیب بأنّ الإرادة غیر إرادیة ، فلا یتعلّق بها التکلیف لا النفسی و لا الغیری ، و إلّا لتسلسل .

فهذا توضیح مختار الکفایة .

فأشکل علیه الأُستاذ بإشکالین :

أحدهما : إنّ حقیقة النهی هو الزجر و لیس طلب الترک .

و الثانی : إنّ الإرادة یتعلّق بها التکلیف ، لکون أفعالنا اختیاریّةً بالعرض .

أقول :

لکنّهما اشکالان مبنائیّان کما لا یخفی .

هذا بالنسبة إلی کلام المحقّق الخراسانی .

و أمّا بالنسبة إلی کلام المیرزا ، فقد أفاد الأُستاذ :

أمّا ما ذکره فی الصّورة الأُولی - و هی ما إذا کان للمکلّف صارف عن الحرام - ففیه نظر ، لأنّ مقتضی قانون الملازمة - بناءً علی القول به - هو الحکم بحرمة المقدّمة الموقوف علیها فعل الحرام حرمةً غیریّة ، سواء وجد الصّارف عن الحرام أو لا .

و أمّا ما ذکره فی الصّورة الثانیة - من سرایة الحرمة إلی متعلّق الأمر فیما إذا کان العنوانان موجودین بوجودٍ واحد - فتامٌ من حیث الکبری ، إلّا أنّ المورد لیس من صغریاتها ، لأنّ إجراء الماء علی الید غیر متّحد وجوداً مع جریانه علی الأرض المغصوبة ، بل الجریان علیها أثر لإراقة الماء علی الید بعنوان الغسل .

و أمّا ما ذکره فی الصّورة الثالثة - من عدم سرایة الحرمة من ذی المقدّمة إلی المقدّمة ، لکون ذی المقدّمة خارجاً عن القدرة فی حال عدم توسط الإرادة بینهما -

ص:124

ففیه : بعد غضّ النظر عن اختلاف کلماته فی هذا المورد ، إنّ القدرة علی المسبّب موجودة ، لوجود القدرة علی سببها الذی هو مقدّمة وجودیّة لذی المقدّمة ، و حینئذٍ ، فالذی یحرم بالحرمة النفسیّة هو ذو المقدّمة ، أمّا المقدّمة فلا مفسدة ذاتیة لها و إنْ کانت جزءاً أخیراً للعلّة التامّة ، فتکون محرّمةً حرمة غیریّة .

و أمّا ما ذکره فی الصّورة الرابعة - و هی المورد الذی لا تکون المقدّمة فیه علّةً تامّةً ، و قد أتی بها بقصد التوصّل إلی الحرام فهی علی القول بحرمة التجرّی حرام نفسی ، و علی القول بعدم حرمته فهی حرامٌ حرمةً غیریة - ففیه :

أمّا التجرّی ، فلا حرمة شرعیّة له ، و إنّما یستتبع استحقاق العقاب بمناط أنّه خروج علی المولی . و أمّا القول بالحرمة الغیریّة بناءً علی عدم حرمة التجرّی ، فالمفروض هنا هو القدرة علی ترک الحرام مع الإتیان بالمقدّمة ، فلا یتحقّق مناط الحرمة الغیریّة و هو التوقّف أو المقدمیّة .

و أمّا ما ذکره فی الصّورة الخامسة - من عدم حرمة المقدّمة ، إنْ لم تکن علةً تامةً و لم یؤت بها بقصد التوصّل للحرام - فتام بلا کلام .

فالحق فی المسألة

هو التفصیل بین مقدّمة الواجب - بناءً علی القول بوجوبها - و مقدّمة الحرام ، فإن مقدّمات الواجب تتّصف کلّها بالوجوب ، لواجدیة کلّ واحدة منها لملاک الوجوب الغیری ، و هو توقف ذی المقدّمة علیها ، بخلاف مقدّمة الحرام ، فإنّ ذا المقدّمة إنّما یتحقّق بتحقّق المقدّمة الأخیرة ، و أمّا غیرها من المقدّمات فلا أثر لها ، لأنّ ملاک المقدمیة غیر متوفّر إلّا فی الأخیرة ، فتکون هی وحدها المحرّمة بالحرمة الغیریّة ، بناءً علی ثبوت الملازمة .

هذا تمام الکلام فی مبحث المقدّمة بجمیع أقسامها .

و یقع الکلام فی مبحث الضد .

ص:125

ص:126

مبحثُ الضدّ

اشارة

ص:127

ص:128

.مقدّمة فی بیان المراد من ألفاظ العنوان

اشارة

إنّ عنوان البحث هو : الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه أو لا ؟

فی هذا العنوان ألفاظ ، فما المراد منها :

( الأمر ) لیس المراد به مادّة الأمر و لا صیغته ، بل المراد هو الطلب المبرز ، بأیّ مبرز لفظی أو فعلی کالتحریک عملاً ، أو الإشارة بالید و غیرها ... .

فهذا هو المراد ، لأنّه إنْ أرید خصوص مادّة الأمر أو صیغته ، کان البحث لفظیّاً ، و تکون دلالة الأمر علی النهی لفظیّة ، مطابقیة أو تضمّنیّة أو التزامیّة ، و لکنّ البحث أعم ، و یدخل فیه الدلالة العقلیّة أیضاً ، فیکون المراد من الأمر هو الأعمّ من الطلب اللّفظی و غیره .

و ( الاقتضاء ) لفظی تارةً و عقلی أُخری ، و العقلی ینشأ تارةً : من مقدمیّة ترک أحد الضدّین لوجود الآخر ، و أُخری : من الملازمة بین وجود أحدهما و عدم الآخر ... و الاقتضاء اللفظی هو الدلالة اللفظیّة بأقسامها الثلاثة .

و المراد من الاقتضاء هو الأعمّ من اللفظی و العقلی بأقسامهما .

و سیأتی توضیحٌ لهذا قریباً .

و ( النهی ) ما یقابل الأمر ، فإذا کان المراد من الأمر هو الطلب المبرز الأعمّ من اللفظی و غیره ، فکذلک النّهی یکون أعم ، سواء کان حقیقته طلب الترک أو

ص:129

الزجر عن الفعل .

و ( الضد ) اصطلاحان ، فلسفی و أُصولی ، أمّا فی الفلسفة ، فالمراد منه الأمران الوجودیان اللذان لا یقبلان الاجتماع ، فبینهما تقابل التضاد . توضیحه : کلّ شیئین إن اشترکا فی النوع القریب فهما متماثلان ، و إلّا فإنْ لم یکونا آبیین عن الاجتماع فی الوجود فهما متخالفان ، و إنْ أبیا فهما متقابلان ، فإنْ کانا وجودیین فهما ضدّان ، و إنْ کان أحدهما وجودیّاً و الآخر عدمیّاً فهما متناقضان . و الحاصل :

إنْ کان المتقابلان وجودیین و لا تلازم بینهما فی التصوّر ، فهما ضدّان فلسفةً .

و أمّا فی الاصطلاح الأُصولی ، فلا یشترط أن یکونا وجودیین ، و لذا یقسّم الضدّ إلی الخاص و العام و هو عبارة عن الترک .

فالمراد من « الضد » هنا هو المصطلح الأُصولی کما عرفت .

بقی أن نوضّح المراد من « الاقتضاء » بالنظر إلی المراد من « الضد » :

و ذلک لأنّ ما تقدّم من أعمیّة الاقتضاء من اللفظی و العقلی ، إنّما هو فیما إذا کان الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن الضدّ العام ، فإنّه فی هذه الحالة یعقل أن یکون الاقتضاء لفظیّاً ، فقیل : بأنّ الأمر بالشیء یدلّ بالمطابقة علی النهی عن ترکه ، و قیل :

بالتضمّن ، و قیل : بالالتزام من جهة الملازمة بینهما باللزوم البیّن بالمعنی الأخص - أیْ صورة عدم انفکاک تصوّر الملزوم عن تصوّر الملازم - فإنّه متی کان اللزوم کذلک فالدلالة التزامیّة لفظیّة .

أمّا إذا کان الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن ضدّه الخاص ، فلا وجه للدلالة اللفظیّة بل هی عقلیّة ، لأنّ القول بأنّ الأمر بالشیء یدلّ علی النهی عن ضدّه بالدلالة المطابقیّة أو التضمّنیّة أو الالتزامیّة ، مبنی علی أنّ الأمر عبارة عن طلب الشیء مع المنع عن ترکه ، و من الواضح أنّ الترک ضدّ عام ، لکنّ الأمر بالإزالة لیس

ص:130

دالّاً علی النهی عن الصّلاة - التی هی ضدّها الخاص - بإحدی الدلالات المذکورة ، إذ لیس الأمر بالإزالة عین النهی عن الصّلاة ، و لا أنّ النهی عن الصّلاة جزء للأمر بالإزالة ، و لا أن بینهما - أی مطلوبیّة الازالة و مبغوضیّة الصّلاة - اللزوم البیّن بالمعنی الأخص ، لوضوح انفکاک تصوّر الصّلاة عن تصوّر الإزالة .

و تلخّص ، أن لا مجال لشیء من الدلالات اللفظیّة فی الضدّ الخاص .

فقد یقال باقتضاء الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه الخاص اقتضاء عقلیّاً ، عن طریق کون ترک الضدّ الخاص مقدّمةً لوجود المأمور به ، بأن یکون وجود الإزالة موقوفاً علی عدم الصّلاة ، بناءً علی وجوب مقدّمة الواجب ، بمعنی : أنّ الشارع لمّا أمر بإزالة النجاسة عن المسجد ، فإن أمره بذلک یقتضی وجوب عدم الصّلاة ، و وجوب عدم الصّلاة یقتضی النهی عنها .

فهذا طریقٌ لاقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه الخاص عقلاً .

و طریق آخر هو : دعوی الملازمة بین وجود الإزالة و عدم الصّلاة ، ببیان : أنّه إذا وجبت الإزالة کان عدم الصّلاة ملازماً لوجود الإزالة ، و لمّا کان المتلازمان متّفقین حکماً کان عدم الصّلاة واجباً .

و تفصیل الکلام فی مقامین :

الأوّل: فی اقتضاء الأمر للنّهی عن الضد الخاص
.1 - عن طریق المقدمیّة
اشارة

و البحث الآن فی الطریق الأوّل ... و فیه أقوال خمسة :

1 - المقدمیّة مطلقاً ، أی: أنّ وجود أحد الضدّین مقدّمة لعدم الآخر ، و عدمه

ص:131

مقدّمة لوجوده .

2 - عدم المقدمیّة مطلقاً ، فلیس وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر و لا عدمه مقدّمة لوجوده .

3 - وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر .

4 - عدم الضدّ مقدّمة لوجود الآخر .

5 - العدم مقدّمة دون الوجود ، فلا مقدمیّة للوجود ، إلّا أنّ الضدّ إن کان موجوداً فهو مقدّمة ، و إن کان معدوماً فلیس بمقدّمة .

و المهم من هذه الأقوال ثلاثة :

الأول : قول المشهور بمقدمیّة عدم أحد الضدّین لوجود الآخر .

و الثانی : قول المتأخّرین بعدم المقدمیّة مطلقاً .

و الثالث : تفصیل المحقّق الخونساری بین الضدّ الموجود و الضدّ المعدوم .

دلیل قول المشهور

إنّ الإزالة و الصّلاة ضدّان متمانعان فی الوجود .

و العلّة التامّة مرکّبة من وجود المقتضی و وجود الشرط و عدم المانع .

فکان عدم الصّلاة - المانع - مقدمةً لوجود الإزالة .

أجاب فی الکفایة

و أجاب المحقّق الخراسانی (1) : بأنّ بین الضدّین معاندة تامّة ، لکنْ بین الضدّ و عدم الضدّ الآخر کمال الملاءمة ، فالسواد و البیاض متنافران ، لکنْ بین البیاض و عدم السواد تلاءم ، وعلیه ، فکما أنّ الضدّین فی مرتبةٍ واحدة ، کذلک

ص:132


1- 1) کفایة الأُصول : 129 .

وجود أحدهما و عدم الآخر فی مرتبةٍ واحدة ، و إذا ثبت الاتحاد فی المرتبة ، انتفی تقدّم أحدهما علی الآخر ، و الحال أنّ المقدّمیّة لا تکون إلّا مع الاختلاف فی المرتبة .

و فیه : إنّه قد یکون بین الشیء و الآخر کمال الملاءمة و لا اتّحاد فی المرتبة ، کما بین العلّة و المعلول ، فإن بین وجودهما کمال الملاءمة و هما مختلفان فی المرتبة .

و الحاصل : إنّ مجرّد الملاءمة بین وجود الضد و عدم الضدّ الآخر لا یوجب اتّحاد المرتبة حتی تنتفی المقدمیّة .

ثمّ قال :

فکما أنّ المنافاة بین المتناقضین لا تقتضی تقدّم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر ، کذلک فی المتضادّین .

أقول :

یحتمل أن یکون تکمیلاً للوجه المذکور : بأنّه کما أنّ عدم السواد - المنافی للسّواد - فی مرتبةٍ واحدة معه ، کذلک السواد و البیاض .

أو یکون کما هو ظاهر السید الأُستاذ (1) برهاناً آخر علی عدم التمانع ، بأنْ یکون جواباً نقضیّاً ، من حیث أنّ المعاندة بین الضدّین لیست بأکثر من المعاندة بین النقیضین ، فکما لا یعقل أن یکون الوجود مقدّمةً للعدم - مع کمال المنافرة بینهما - کذلک السواد و البیاض . فلو کان مجرّد المنافرة موجباً لمقدمیّة أحد الشیئین للآخر ، کان وجود الشیء مقدمةً لعدم الشیء الآخر . و علی الجملة : إنّه لو کان ملاک المقدمیّة کمال المنافرة ، فإنّ وجوده فی المتناقضین أقوی منه فی

ص:133


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 341 .

الضدّین ، و الحال أنّ المقدمیّة بین المتناقضین مستحیلة .

ثمّ قال :

کیف ؟ و لو اقتضی التضادّ توقّف وجود الشیء علی عدم ضدّه - توقّف الشیء علی عدم مانعه - لاقتضی توقّف عدم الضدّ علی وجود الشیء توقّف عدم الشیء علی مانعه ، بداهة ثبوت المانعیّة فی الطرفین و المطاردة من الجانبین ، و هو دور واضح .

أقول

و هذا - مع کونه جواباً عن دلیل المشهور - برهانٌ علی عدم المقدمیّة بین الضدّین کما هو مختار المحقّقین المتأخّرین . و توضیحه : لا ریب أنّ عدم المانع مقدّمة من مقدّمات الممنوع ، فلو کان عدم أحد الضدّین من مقدّمات وجود الضدّ الآخر ، کان وجود الضدّ موقوفاً و عدم الضدّ الآخر موقوفاً علیه ، لکنّ هذه الحالة موجودة من الطرف الآخر أیضاً ، لأنّ التمانع من الطرفین ، فیکون وجود الضدّ مانعاً من عدم الضدّ الآخر ، فعدم الضدّ الآخر موقوفٌ ، و وجود الضدّ موقوف علیه ... فکان عدم الضدّ الآخر موقوفاً و موقوفاً علیه ، غیر أنّ العدم شرط لوجود الضد ، و وجود الضدّ سبب للعدم ، و کون أحد الطرفین شرطاً و الآخر سبباً غیر مانع من لزوم الدور ، لأنّ ملاکه التوقّف ، و هو حاصل سواء کان علی سبیل الشرطیّة أو السببیّة .

جواب المحقّق الخونساری

و عن المحقق الخونساری أنه أجاب عن هذا الدور : بأنّ التوقّف من طرف الوجود فعلی ، بخلاف التوقّف من طرف العدم ، فإنّه یتوقّف علی فرض ثبوت المقتضی له مع شراشر شرائطه غیر عدم وجود ضدّه ، و لعلّه کان محالاً ، لأجل

ص:134

انتهاء عدم وجود أحد الضدّین مع وجود الآخر إلی عدم تعلّق الإرادة الأزلیّة به و تعلّقها بالآخر حسب ما اقتضته الحکمة البالغة ، فیکون العدم دائماً مستنداً إلی عدم المقتضی ، فلا یکاد یکون مستنداً إلی وجود المانع کی یلزم الدور ... ذکره صاحب الکفایة (1) ، و توضیحه :

إنّه لا یلزم الدور ، لکون التوقّف من أحد الطرفین فعلیّاً و من الطرف الآخر تقدیریّاً ، و هذا الاختلاف کافٍ لعدم لزومه ، لأنّ الوجود الفعلی للمعلول متوقّف دائماً علی فعلیّة العلّة التامّة بجمیع أجزائها ، من المقتضی و الشرط و عدم المانع ، فإذا تحقّقت تحقّق المعلول و استند وجوده إلیها ... هذا من جهةٍ . و من جهة أُخری : یعتبر وجود أجزاء العلّة جمیعاً مع وجود المعلول و إن کانت الأجزاء مختلفةً فی المرتبة ، لکنّ وجود المعلول مستند إلی جمیعها ، فإذا وجدت وجد .

أمّا عدم المعلول فیستند فی الدرجة الأُولی إلی عدم المقتضی ثمّ إلی عدم الشرط ثمّ إلی وجود المانع ، لأنّ المراد من الشرط ما یتمّم فاعلیّة الفاعل أی المقتضی ، و من المانع ما یزاحم المقتضی فی التأثیر ، فلا بدّ من وجود المقتضی أوّلاً ثمّ الشرط ثمّ عدم المانع ، فلو فقد المقتضی لاستند عدم المعلول إلی عدم الشرط أو وجود المانع ، و لو فقد الشرط - مع وجود المقتضی - استند عدم المعلول إلی عدم الشرط لا إلی وجود المانع .

فالمراد من فعلیّة التوقّف فی طرف وجود الضدّ هو أنّ العلّة التامّة لوجوده متحقّقة ، إذ المقتضی و الشّرط متحقّقان ، فهو متوقّف علی عدم الضدّ .

لکنّ التوقف من طرف العدم تقدیری ، لأنّ عدم الضدّ لا یسند إلی وجود الضدّ الآخر ، إلّا إذا تحقّق المقتضی و الشرط للعدم ، فکان توقّف عدم الضدّ علی

ص:135


1- 1) کفایة الأُصول : 130 .

وجود الضدّ الآخر تقدیریّاً ، و ذلک ، لأنّ الإرادة إن تعلّقت بالصّلاة استحال تعلّقها بالإزالة ، فکان عدم الإزالة مستنداً إلی عدم المقتضی لها و هو الإرادة ، و لیس مستنداً إلی وجود الصّلاة المانع عن تحقّق الإزالة ... و لو کانت هناک إرادتان تعلّقت احداهما بضدّ و الأُخری بالضدّ الآخر ، کان عدم تحقّق الضدّ الذی تعلّقت به الإرادة المغلوبة غیر مستندٍ إلی وجود المانع أی الإرادة الغالبة ، بل إلی عدم قدرة الإرادة المغلوبة ، فرجع عدم الضدّ إلی عدم المقتضی .

و تلخّص : عدم لزوم الدور و اندفاع الإشکال عن استدلال المشهور للقول بالمقدمیّة .

رأی صاحب الکفایة

و قد سلّم المحقّق الخراسانی للجواب المذکور و وافق علی أنّه رافع للدور ، لکنّه قال : بأنّ هذا الجواب غیر سدید ، لبقاء مشکلة لزوم توقّف الشیء علی ما یصلح أن یتوقّف علیه ، قال : « لاستحالة أن یکون الشیء الصالح لأنْ یکون موقوفاً علیه الشیء موقوفاً علیه ، ضرورة أنّه لو کان فی مرتبةٍ یصلح لأنْ یستند إلیه ، لما کاد یصح أن یستند فعلاً إلیه » (1) .

و حاصله : إنّ مجرّد صلاحیّة عدم الضدّ للمانعیّة عن وجود الضدّ الآخر کافٍ للاستحالة ، لأنّه لمّا کان صالحاً لذلک کان متقدّماً رتبةً ، تقدّم المانع علی الممنوع ، لکنّه فی نفس الوقت متأخّر عن الضدّ الموجود لکونه معلولاً له ، فیلزم فی طرف الوجود اجتماع التقدّم و التأخّر ، و اجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد محال ، فالقول بتوقّف وجود الضدّ علی عدم ضدّه - توقّف الشیء علی مقدّمته - باطل .

ص:136


1- 1) کفایة الأُصول : 131 .

فظهر : إنّ صاحب الکفایة مخالفٌ للمشهور ، و أنّ جوابه عن استدلالهم یرجع إلی أنّه یستلزم اجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد ، و هو محال ، فالدور و إن اندفع بما ذکر ، لکن ملاک الاستحالة موجود .

أدلّة المحقّق النائینی علی عدم المقدمیّة

و أورد المیرزا علی المشهور بوجهٍ آخر هو فی الحقیقة أوّل أدلّته علی عدم المقدمیّة فقال کما فی ( أجود التقریرات ) (1) ما حاصله : إنّ استدلالهم یستلزم انقلاب المحال إلی الممکن ، و هو محال ، فالمقدمیّة محال ... و توضیح کلامه :

إنّه لا ریب فی اختلاف المرتبة بین العلّة و المعلول ، و کذا بین أجزاء العلّة ، و أنّ استناد عدم المعلول إلی کلّ جزءٍ منها مقدّم رتبةً علی استناده إلی الجزء المتأخّر عنه ... کما ذکرنا من قبل . فهذه مقدّمة .

و مقدّمة أُخری هی : إنّ المحال وجوداً محالٌ اقتضاءً أیضاً ، فلا فرق فی الاستحالة بین الفعلیّة و الاقتضاء ، لأنّه إنْ کان المقتضی للضدّین موجوداً حصل لهما إمکان الوجود ، و المفروض أنّه محال .

و علی هذا ، فإنّ عدم الضدّ - کالسّواد - لو کان مقدّمةً لوجود الضدّ الآخر کالبیاض ، فإنّ هذه المقدمیّة لیست إلّا لمانعیّة وجود السّواد ، فکان عدمه شرطاً لوجود البیاض ، و هو شرط عدمی ، لکنّ هذه المانعیّة موقوفة علی أن یکون هناک ما یقتضی وجود البیاض ، فیلزم اقتضاء وجود الضدّین فی آنٍ واحد ، و هو محال بحکم المقدمة الثانیة ، و إلّا یلزم انقلاب المحال إلی الممکن ... .

فظهر أنّ القول بالمقدمیّة مستلزم للمحال ، و کلّ ما یستلزم المحال محالٌ .

ص:137


1- 1) أجود التقریرات 2 / 16 - 17 .
مناقشة الدلیل الأوّل

و قد ناقشه شیخنا الأُستاذ دام بقاه نقضاً و حلّاً :

أمّا نقضاً : فبأن لازم ما ذکره انکار المانعیّة و إبطال الجزء الأخیر من العلّة التامّة .

و توضیحه : إنّه لا تتحقّق المانعیّة إلّا مع التضادّ بین المانع و الممنوع ، بأنْ یکون المانع نفسه أو أثره ضدّاً للممنوع ، و أمّا حیث لا مضادّة بینهما أصلاً فالمنع محال ، فإنْ کان نفس المانع ضدّاً فالمانعیّة متحقّقة لا محالة ، و قد تقدّم مراراً أنّ عدم المانع مقدّمة لوجود الممنوع ، لکونه الجزء الأخیر للعلّة التامّة ، و إنْ کانت المانعیّة بسبب التضاد بین الممنوع و أثر المانع ، کان عدم المانع الذی هو المنشأ للأثر مقدّمة لوجود الممنوع ... و سواء کان الضدّ للممنوع هو المانع نفسه أو أثره ، فلا بدّ و أنْ یکون هناک مقتضٍ لوجوده و إلّا لما وجد و لما تحقّقت المانعیّة ، و قد تقدّم أنّ إسناد عدم الضدّ إلی وجود المانع منوط بتمامیّة المقتضی ، فثبت تحقّق المقتضی للضدّین ، و إلّا یلزم إنکار کون عدم المانع من مقدّمات وجود الضدّ ، و هو خلاف الضرورة العلمیّة .

و أمّا حلّاً ، فإنّ کبری استدلاله مسلّمة ، فاقتضاء المحال - و هو هنا اجتماع الضدّین فی الوجود - محال بلا ریب ، لأنّه لو کان المحال قابلاً للوجود خرج عن المحالیّة الذاتیة ، و هذا محال . إنّما الکلام فی الصغری و هی : أنّه لو کان عدم أحد الضدّین مقدّمة لوجود الآخر ، لزم اقتضاء المحال ... لأنّ الاستحالة الذاتیة إنّما هی فی اجتماع الضدّین فی الوجود ، فوجود هذا مع وجود ذاک محال ، أمّا وجود کلٍّ منهما فلیس بمحال ، و الوجود یحتاج إلی مقتضٍ ، و وجود المقتضیین للضدّین لیس بمحال ... و توضیحه :

ص:138

إنّ لکلّ معلولٍ و أثر و مقتضی وجوداً فعلیّاً و وجوداً بالقوّة ، فإنْ وجد المؤثّر و العلّة و المقتضی حصل له الوجود الفعلی ، و التمانع بین الضدّین إنّما یکون فی الوجود الفعلی لهما لا بالوجود بالقوّة ، إذ التضادّ هو بین البیاض و السّواد لا بین المقتضی للبیاض و المقتضی للسّواد ، و هذه الحقیقة جاریة فی جمیع العلل و المعالیل الطبیعیّة ، أی: إنّ الآثار و المعالیل کلّها موجودة بوجود العلل و المؤثرات الطبیعیة ، مترشّحة عنها ، اللهم إلّا المخلوق بالإرادة ، إذ یقول تعالی «إِذٰا أَرٰادَ شَیْئًا أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ » (1).

و تلخّص : إنّه إذا تحقّق المقتضیان کان الضدّان موجودین بالقوّة ، و لا تضادّ بین الضدّین الموجودین بالقوّة ... فثبت إمکان وجود المقتضی للضدّین ...

و تطبیق المیرزا الکبری علی الصغری غیر صحیح ، فالدلیل الأوّل من أدلّته ساقط .

مناقشة الدلیل الثانی

و الدلیل الثانی : ما تقدّم سابقاً عن المحقّق الخراسانی : من أنّ ملاک مقدمیّة أحد الضدّین للضدّ الآخر هو التمانع فی الوجود ، و إذا کان الضدّان لا یجتمعان لما ذکر ، فالنقیضان کذلک ، فیلزم أن لا یکون النقیض مقدّمة للنقیض الآخر ، لکنّ التالی باطل فالمقدّم مثله .

و أجاب عنه الأُستاذ : بأنّ المقدمیّة لا تکون إلّا مع التعدّد فی الوجود ، و لذا قلنا بأنّ أجزاء الماهیّة لیست مقدمةً لوجودها ، لأنّ الأجزاء عین الکلّ ، لکنّ المهم هو أنّه لا تعدّد فی الوجود فی النقیضین ، إذ العدم نقیض الوجود لکنّه عدم نفس ذلک الوجود ، و کذا العکس ، فلا یعقل أنْ یکون أحد النقیضین و هو الوجود مقدمةً لنقیضه و هو عدم الوجود ، لأنّه یستلزم صیرورة الشیء مقدّمةً لنفسه ، إذ لا تعدّد

ص:139


1- 1) سورة یس : 82 .

هناک لا مفهوماً و لا واقعاً ، و هذا هو الملاک .

و أمّا توقف الوجود علی عدم العدم فکذلک ، لأنّه و إنْ کان الوجود مغایراً لعدم العدم مفهوماً ، لکنّهما فی الواقع شیء واحد ، لتحقّق عدم العدم بالوجود ...

فالمقدمیّة ممنوعة .

و الحاصل : إنّ قیاس النقیضین علی الضدّین مع الفارق ، لوجود التعدّد فی الضدّین ، فالمقدمیّة متصوّرة بینهما ، دون النقیضین ، لأنّهما إمّا واحد مفهوماً و مصداقاً و إمّا واحد مصداقاً و إنْ تعدّدا مفهوماً .

مناقشة الدلیل الثالث

و أقام المیرزا دلیلاً ثالثاً علی امتناع مقدمیّة الضدّ للضدّ الآخر ، و هو یبتنی علی أُمور :

الأوّل : إنّ الضدّین فی مرتبةٍ واحدة ، إذ لا علیّة و معلولیّة بینهما و لا شرطیة و مشروطیّة ، حتی یختلفا فی المرتبة .

و الثانی : إن نقیض الشیء فی مرتبة الشیء ، لأنّ نقیض الوجود هو عدم ذاک الوجود لا مطلق العدم .

و الثالث : إنّ النقیضین و الضدّین لمّا کانا فی رتبةٍ واحدة ، کان العدم المتّحد رتبةً مع وجود الضدّ ، متّحداً رتبةً مع وجود الضدّ الآخر ، فهذا العدم فی رتبة ذلک الضدّ و عدم ذاک الضدّ فی رتبة هذا الضد .

و نتیجة ذلک : استحالة مقدمیّة عدم الضدّ لوجود الآخر ، لتوقّف ذلک علی الاختلاف فی المرتبة ، و قد تبیّن عدمه .

قال الأُستاذ دام ظله : و فی هذه الأُمور نظر :

أمّا الأمر الأوّل ، فدعوی بلا دلیل .

ص:140

تارةً نقول : الضدّان فی مرتبةٍ واحدة ، و أُخری نقول : لیس بین الضدّین اختلاف فی المرتبة . و کلّ واحدٍ من القولین دعوی تحتاج إلی إثبات .

إنّ ملاک الاتحاد فی المرتبة هو کون الشیئین معلولین لعلّةٍ واحدةٍ ، و الضدّان لیسا کذلک ، بل لکلٍّ علّته . و ملاک الاختلاف فی المرتبة کون أحدهما علّةً أو شرطاً للآخر ، و الضدّان لیس بینهما نسبة العلیّة أو الشرطیّة . فالقدر المسلّم هو عدم وجود الاختلاف فی المرتبة بین الضدّین ، لکنّ هذا لا یکفی لاتّحاد المرتبة بینهما ، لأنّ الاتّحاد یحتاج إلی ملاک .

فدعوی أنّ الضدّین فی مرتبةٍ واحدة أوّل الکلام .

و أمّا الأمر الثانی ، فکذلک ، لأنّ التناقض هو بین الوجود و العدم ، فالعدم یرتفع بالوجود و یکون الوجود مرفوعاً به ، و الوجود یرتفع بالعدم ، فیکون العدم رافعاً ، فالنقیض هو الرافع أو المرفوع به ... وعلیه ، فإنّ النقیض للوجود رفع الوجود لا الرفع الواقع فی مرتبة الوجود ، و لو کان کذلک لاعتبر وحدة المرتبة من شرائط التناقض و لیس کذلک ، علی أنّ المرتبة من خواص الوجود و من آثار العلیّة و المعلولیّة ، و العدم لیس ذا مرتبة أصلاً .

و الحاصل : إنّ دعوی وحدة المرتبة بین النقیضین غیر صحیحة .

و أمّا الأمر الثالث ، فکذلک ... لأنّا لو سلّمنا کون الضدّین فی مرتبة واحدة ، و کذا النقیضان ، لکنّ کون نقیض هذا الضدّ متّحداً فی المرتبة مع وجود الضدّ الآخر یحتاج إلی دلیلٍ ... إذ لا یکفی أن یقال : لمّا کان الضدّان فی مرتبةٍ ، و عدم کلّ ضد فی مرتبته ، فعدم هذا الضدّ فی مرتبة وجود ذاک ... لأنّ المفروض وجود الملاک لکون الضدّین فی مرتبةٍ واحدة و کذا النقیضان ، أمّا ضرورة کون نقیض أحدهما فی رتبة وجود الآخر فبأیّ ملاک ؟

ص:141

و تلخّص : إنّ الأُمور التی ذکرها مقدّمةً لدلیله کلّها دعاوی بلا برهان .

رأی المحقّق الاصفهانی

و اختلفت کلمات المحقّق الأصفهانی فی هذا المقام (1) ، ففی أوّل البحث اختار المقدمیّة ، و فی آخره قال : و التحقیق یقتضی طوراً آخر من الکلام ، و انتهی إلی القول بالعدم ... و البرهان الذی ذکره لنفی المقدمیّة هو :

إنّ فی المادیّات أربع علل و شرطین ، بخلاف فی المجرّدات فلیس إلّا العلّة الفاعلیّة و العلّة الغائیّة - :

العلّة الفاعلیّة ، و هی التی یکون منها الوجود .

و العلّة الغائیّة ، و هی التی من أجلها تحقّق الوجود .

و العلّة المادیّة ، و هی الجنس .

و العلّة الصّوریّة ، و هی الفصل .

و الشرطان هما : ما یتمّم فاعلیّة الفاعل ، و ما یتمّم قابلیّة القابل ، و ذلک : لأنّ الوجود فی الأُمور المادیّة بحاجة إلی الفاعل و القابل ، فلو وجد الفاعل و کان ناقصاً لم یؤثّر أثره ، و لو وجد القابل و ابتلی بمانع فالأثر لا یتحقّق ، و بتوفّر الشرط فی الطرفین یتحقّق الأثر .

و حینئذٍ ، ننظر فی الأمر و نقول :

إنّ العلّة المادیّة هی الجنس ، و العلّة الصوریّة هی الفصل ، و عدم الضدّ الآخر لا هو جنس للضدّ الآخر و لا هو فصل له .

و العلّة الغائیة أیضاً غیر متصوّرة للعدم ، لأنّ العلّة الغائیّة هی المنشأ للفاعلیّة ، و لا یعقل أن یکون عدم الضدّ فاعلاً للضدّ الآخر ، لأنّ الفاعل و العلّة

ص:142


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 186 - 187 .

الفاعلیّة للضدّ الآخر هو مقتضی وجود ذاک الضدّ ، فلا یکون عدم أحد الضدّین فاعلاً للضدّ الآخر .

علی أنّ الفاعلیّة - أو تتمیم الفاعلیّة - منوطة بأنْ یکون هناک أثر و منشأ للأثر ، و العدم لا یمکن أن یکون مؤثّراً .

و تلخّص : أنّه لا توجد أیّة نسبة علیّةٍ و معلولیّة بین الضدّ کالبیاض و عدم الضدّ کعدم السّواد .

فانحصر أنْ تکون النّسبة بینهما نسبة الاشتراط ، فعدم السّواد شرط لوجود البیاض ... و قد ظهر أنّ الشرط إمّا هو متمّم لفاعلیّة الفاعل أو متمّم لقابلیّة القابل ...

أی : إمّا یجعل الفاعل المقتضی مؤثّراً ، أو یجعل القابل قابلاً للأثر ، لکنّ عدم الضدّ لا یمکن أن یکون متمّماً لفاعلیّة الضدّ الآخر ، لما تقدّم من أنّ الضدّ الآخر لیس فاعلاً للضدّ ، علی أنّ العدم لا یکون مؤثراً کما تقدّم أیضاً .

بقی صورة أن یکون عدم الضدّ متمّماً لقابلیّة المحلّ لوجود الضدّ الآخر ، و هذا أیضاً محال ، لأنّه إن أُرید من قابلیّة المحلّ أن یکون قابلاً لوجود کلا الضدّین معاً ، فهذا محال ، و إنْ أُرید أن یکون قابلاً لأحدهما ، فإنّ هذه القابلیّة موجودة بالذات و من غیر حاجةٍ إلی المتمّم .

إشکال الأُستاذ

و قد أورد علیه الأُستاذ فی ما ذکر فی الشقّ الأخیر ، من أن عدم أحد الضدّین متمّم لقابلیّة المحلّ للآخر و کونه قابلاً لأحدهما قابلیّةً ذاتیةً : بأنّه إن کان المراد من « أحدهما » هو الأحد المردّد ، فهذا غیر معقول ، لأنّ المردّد لا ذات له و لا وجود ، فالمراد هو « الأحد » الواقعی . أی: إنّ الجدار قابلٌ للبیاض و قابل للسّواد ، لکنّ الإهمال فی الواقعیّات محال ، إذن ، یکون قابلاً للبیاض - مثلاً - إمّا بشرط وجود

ص:143

السّواد ، و هذا محالٌ لاستلزامه اجتماع الضدّین ، و إمّا لا بشرط وجود السّواد ، و هذا أیضاً محالٌ ، لأنّه یجتمع مع وجود السّواد فیلزم اجتماع الضدّین ، و یبقی صورة بشرط لا عن وجود السواد ، فکان عدم الضدّ شرطاً لوجود الضدّ و مقدمةً له .

و قد أجاب طاب ثراه فی التعلیقة : بأنّه لا یمکن أن تکون قابلیّة المحلّ للبیاض المشروط بعدم السّواد ، لأنّ عدمه حین یکون شرطاً یکون مفروض الوجود - لأن کلّ شرط فهو مفروض الوجود للمشروط - فیکون المحلّ قابلاً للبیاض المقیّد بعدم السواد ، و الحال أنّه قابل بالذات للبیاض لا البیاض المقیّد بعدم السّواد .

فقال الأُستاذ : و هذا لا یحلّ المشکلة ، لأنّ عدم السّواد دخیلٌ فی وجود البیاض علی کلّ حالٍ ، لأنّ البیاض إمّا یکون مع وجود السّواد أو مع عدمه ، فإن کان المحلّ قابلاً لکلیهما فهذا محال ، لأنّ القابلیّة للمحال محال ، و إن کان قابلاً للحصّة الکائنة مع عدم السّواد من البیاض ، لزم دخل عدم السّواد فی تحصّص البیاض و قابلیّة المحلّ لتلک الحصّة ، و دخله فی ذلک - سواء قال بتقیّد البیاض بعدم السّواد أو بأنّه مع عدم السواد - هی المشکلة ... .

فالبرهان المذکور لا یدلّ علی عدم مقدمیّة أو دخل عدم الضدّ فی وجود الضدّ الآخر .

البرهان الأخیر

و البرهان الأخیر علی عدم مقدمیّة عدم أحد الضدّین لوجود الضدّ الآخر هو : ما أشار إلیه صاحب الکفایة (1) فی قوله : « و المانع الذی یکون موقوفاً علی

ص:144


1- 1) کفایة الأُصول : 132 .

عدم الوجود هو ما کان ینافی و یزاحم المقتضی فی تأثیره ، لا ما یعاند الشیء و یزاحمه فی وجوده » .

و قد قرّبه المحقّق النائینی (1) و هو أقوی البراهین فی الردّ علی المشهور .

و هذا کلام المیرزا بإیضاح أکثر :

إنّ الضدّین قد لا یکون لهما مقتضٍ و قد یکون لکلیهما و قد یکون لأحدهما دون الآخر ، فالصّلاة و الإزالة ، قد تتعلّق الإرادة بکلیهما - من شخصین - و قد لا تتعلّق بشیء منهما ، و قد تتعلّق بأحدهما فقط ، و السواد و البیاض کذلک ، فقد یکون لوجودهما فی المحل مقتضٍ و قد لا یکون و قد یکون لأحدهما .

هذه هی الصور المتصوّرة .

فإن لم یکن لشیء منهما مقتضٍ فلا مانعیّة ، لما تقدّم من أنّ المانعیّة تأتی فی مرتبةٍ متأخّرة عن المقتضی ، و عدم المعلول یستند حینئذٍ إلی عدم المقتضی لا وجود المانع .

و إن کان لأحدهما مقتضٍ دون الآخر ، فکذلک ، إذ مع عدم وجود المقتضی یستحیل استناد عدم الضدّ إلی وجود المانع .

و إنْ کان کلٌّ منهما ذا مقتضٍ ، قال المیرزا : هذا محال ، لما تقدّم من استحالة وجود المقتضی للضدّین ، لأنّه یستلزم إمکان المحال ، و المحال بالذات یستحیل انقلابه إلی الإمکان .

و إذا ظهر استلزام کلّ صورةٍ للمحال ، فمقدّمیّة عدم الضدّ للضدّ الآخر محال .

قال الأُستاذ : لکنْ قد تقدّم تحقیق أنّ وجود المقتضی للضدّین لیس

ص:145


1- 1) أجود التقریرات 2 / 12 - 13 .

بمحال ، إذ المقتضی للضدّین غیر المقتضی للجمع بینهما ، فالصّورة الثالثة باقیة ...

و الطریق الصحیح هو أن نقول :

إنّه فی هذه الصّورة ، لا یخلو الحال من أن یکون المقتضیان متساویین أو یکون أحدهما أقوی من الآخر .

فإن کانا متساویین ، استند عدم الضدّ إلی عدم تمامیّة المقتضی فی الأثر ، لا إلی وجود المانع ، لأنّ المؤثر لیس مجرّد وجود المقتضی ، بل هو المقتضی الفعلی فی المؤثریّة ، لما تقدّم من تقسیم المقتضی إلی الشأنی و الفعلی ، و أنّ الأثر یکون للمقتضی التام فی المؤثریّة ، فکان عدم الضدّ - فی صورة تساوی المقتضیین - مستنداً إلی عدم الشرط للمقتضی و هو الفعلیّة ، لا إلی وجود المانع ...

وعلیه ، فیستحیل أن یکون وجود الضدّ مانعاً عن الضدّ الآخر ، بل عدم الضدّ الآخر مستند إلی عدم توفّر شرط المقتضی للتأثیر ، لأنّ المفروض تساویه مع المقتضی الآخر و کونهما متزاحمین فی الوجود ... فیکون المانع عن وجود الضدّ هو المقتضی للضدّ الآخر ، لا نفس الضدّ الآخر .

و إن کان أحد المقتضیین أقوی من الآخر ، فإنّ عدم الضدّ یکون مستنداً إلی ضعف المقتضی لوجوده ، لا إلی وجود الضدّ المقابل .

و هذا شرح قول المحقّق الخراسانی من أنّه لیس کلّ معاندة منشأً للمانعیّة .

قال الأُستاذ : و هذا البرهان تام بلا کلام .

و أقول :

فی هذا البرهان فی صورة تساوی المقتضیین نظر ، فإنّه فی هذه الصّورة ما البرهان علی استناد العدم إلی شأنیّة المقتضی لا إلی وجود الضدّ الآخر ؟

و تلخص : بطلان مبنی المشهور ، لما ذکره صاحب الکفایة فی الکلام علی

ص:146

الدور ، من أنّه و إن اندفع لزومه بما ذکره المحقّق الخونساری ، لکنّ ملاک الاستحالة موجود .

و به یبطل التفصیل ، و هو أنّ عدم ذلک الضدّ متوقّف علی وجود الضدّ الآخر ، إذ قد ظهر أنّ عدم الضدّ مستند إلی عدم المقتضی لوجوده لا إلی المانع و هو وجود الضدّ الآخر .

و کذا التفصیل : بأنّ وجود هذا الضدّ متوقّف علی عدم الضدّ الآخر و عدم ذاک موقوف علی وجود هذا .

و بقی :

تفصیل المحقّق الخونساری

و تعرّض صاحب الکفایة لرأی المحقّق الخونساری و الجواب عنه ، و هو القول بالتفصیل بین الضدّ الموجود و الضدّ المعدوم ، و أن عدم الضدّ الموجود مقدّمة لوجود الضدّ غیر الموجود ، بخلاف العکس ، فإنّ عدم الضدّ غیر الموجود لیس بمقدمةٍ للضدّ الموجود .

و توضیحه : إنّ المحلّ حین یکون خالیاً عن الضدّین قابلٌ لکلٍّ منهما ، و هذه القابلیّة ذاتیة لا تحتاج إلی شیء ، و لکنْ عند ما یوجد فیه أحد الضدّین تنتفی قابلیّته للضدّ الآخر ، فلو أُرید للضدّ الآخر غیر الموجود أنْ یتواجد فی هذا المحلّ ، فإنّ رفع الضدّ الموجود فیه یکون مقدمةً لذلک ... فکان عدم الضدّ الموجود مقدّمةً لوجود الضدّ غیر الموجود .

الجواب علی مبنی المیرزا

و جواب هذا التفصیل علی مبنی المحقّق النائینی واضح ، لأنّه - بناءً علی أنّ مناط الحاجة إلی العلّة فی الممکنات هو الحدوث لا الإمکان - یلزم اجتماع

ص:147

المقتضیین للضدّین ، و هو عند المیرزا محال ، لأنّه مع وجود أحدهما فی المحلّ و انتفاء قابلیّته للآخر یکون للموجود مقتضٍ ، فإذا کان هذا الموجود مانعاً عن وجود الضدّ الآخر - کما یقول المحقّق الخونساری - فإنّ مانعیّته عنه هی بعد تمامیّة المقتضی لوجود ذلک الضدّ ، فیکون الضدّ الآخر أیضاً ذا مقتضٍ ، فیلزم اجتماع المقتضیین للضدّین .

لکنّ المبنی المذکور غیر مقبول ، فلا بدّ من جوابٍ آخر عن هذا التفصیل .

قال الأُستاذ :

و التحقیق هو النظر فی مناط حاجة الشیء الممکن إلی العلّة ، و أنّ الحق فی ذلک هو الإمکان لا الحدوث ، و حینئذٍ یبطل التفصیل ، و توضیح ذلک :

إنّه قد ذهب جماعة إلی أنّ مناط حاجة الممکن إلی العلّة هو الحدوث ، فإذا تحقق له الحدوث استغنی عن العلّة لبقائه . و ذهب آخرون إلی أنّ المناط هو الإمکان ، فإذا وجد فالمناط أیضاً - و هو الامکان - موجود ، فهو بحاجةٍ إلی العلّة بقاءً کاحتیاجه إلیها حدوثاً .

أمّا علی الأوّل فیتمّ التفصیل ، لأنّ الضدّ الذی وجد فی المحلّ یزول مقتضیه بمجرّد وجوده و حدوثه ، و الضدّ الآخر غیر الموجود قد فرض له مقتضی الوجود ، فیکون عدم وجوده مستنداً إلی وجود الضدّ الموجود فی المحلّ ، و یکون عدم الموجود مقدمةً لوجود الضدّ غیر الموجود .

و أمّا علی مبنی التحقیق فلا یتم ، لأنّ المقتضی بعد حدوث الشیء موجود ، و هو مؤثّر فی وجوده فی کلّ آن ، فمقتضی الضدّ الموجود فی المحلّ غیر منعدم أصلاً ، و حینئذٍ ، تقع الممانعة بین مقتضی هذا الضدّ و مقتضی الضدّ غیر الموجود ، فلیس نفس وجود الضدّ هو المانع لیکون عدمه مقدّمةً .

ص:148

و بهذا ظهر : إنّه علی القول باستحالة تحقّق المقتضی للضدّین یسقط التفصیل ، سواء کان مناط الحاجة هو الإمکان أو الحدوث ، أمّا علی القول بعدم الاستحالة فینحصر الجواب عن التفصیل بکون المناط هو الإمکان .

هذا ، و لا یتوهّم أنّ المانعیّة إنّما هی للضدّ الموجود ، لأنّه هو السبب فی ارتفاع قابلیّة المحلّ للضدّ الآخر ، و لولاه لشغل ذاک هذا المحلّ ... لأنّ ذلک - و إنْ کان کذلک بنظر العرف - خلاف الواقع بحکم العقل و هو الحاکم فی مثل هذه الأُمور دون العرف ، لأنّ قابلیّة المحلّ مقدّمة رتبةً علی وجود الضدّ غیر الموجود ، و لمّا کان الضدّ الموجود هو الرافع للقابلیّة هذه ، کان الضدّ الموجود مقدّماً برتبتین علی الضدّ غیر الموجود ، فلا تمانع بینهما .

و أیضاً : فإنّ الضدّ غیر الموجود فعلاً له شأنیّة الوجود ، فهو قابلٌ لأنْ یکون علّةً لزوال الضدّ الموجود ، فیکون کلّ واحدٍ منهما قابلاً للعلیّة و قابلاً للمعلولیّة ، فیکون أحدهما متقدّماً بالقوّة و الآخر متأخّراً بالقوّة ، و أحیاناً متقدّماً بالفعل و متأخّراً بالفعل .

فلا یتحقّق التضاد بینهما أبداً .

و قال السیّد الأُستاذ - بعد قوله : الذی یقتضیه الإنصاف هو تسلیم القول بالتفصیل - ما ملخّصه: هذا التفصیل لا ینفع فیما نحن فیه من متعلّقات الأحکام الشرعیّة ، لکونه من الأفعال التدریجیّة الحصول بلا أنْ یکون لها وجود قار ، فهی دائماً تکون من الضدّ المعدوم ، و لا مقدمیّة فی الضدّ المعدوم . فلا یکون للتفصیل ثمرة عملیّة (1) .

ص:149


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 355 .
.2 - عن طریق الملازمة
اشارة

و بعد الفراغ عن بحث مقدمیّة عدم الضدّ لوجود الضدّ الآخر ، تصل النوبة إلی البحث عن الطریق الآخر لدلالة الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه الخاص ، و هو طریق الملازمة ، و توضیحه :

إنّ وجود کلّ ضدّ من الضدّین ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فوجود الحرکة ملازم لعدم السکون ، و وجود البیاض ملازم لعدم السّواد ، و هذه هی الصغری و تنطبق علیها کبری أنّ المتلازمین یستحیل اختلافهما فی الحکم ، فإذا کانت الحرکة واجبةً کان عدم السکون واجباً .

أمّا أنّ وجود الضدّ ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فلأنّه لو جاز وجود الضدّ الآخر لزم اجتماع الضدّین ، و هو محال . و أیضاً : لو جاز - مع وجود أحدهما - عدم انعدام الآخر ، لزم اجتماع النقیضین ، و هو محال .

و أمّا أنّهما متوافقان فی الحکم ، فلأنّ المفروض أنْ یکون لکلٍّ من المتلازمین حکم ، فلو کان أحدهما واجباً و خالفه الآخر فی الحکم ، فإمّا أنْ یکون حکمه هو الحرمة فیلزم طلب المتناقضین ، و التکلیف المحال - فضلاً عن التکلیف بالمحال - ، و إمّا أن یکون حکمه الاستحباب أو الکراهة أو الإباحة ، و هذا محال کذلک ، لأنّه لمّا کان حکم أحدهما الوجوب فالشارع غیر مرخّص فی ترکه ، و العقل حاکم بلابدّیته ، لکنّ الآخر الذی فرض حکمه أحد الأحکام الثلاثة المذکورة ، فهو مرخّص شرعاً فی ترکه و العقل حاکم بجواز الترک ، فیلزم التناقض فی حکم العقل ، بأنْ یحکم بلابدّیة الحرکة و یجوّز السکون فی نفس الوقت ، و هذا محال ... إذن ... لا بدّ و أن یکون المتلازمان متوافقین فی الحکم .

ص:150

قال الأُستاذ :

لکنّ الإشکال فی الکبری . أمّا نقضاً : فلا شکّ أن الأمر لمّا یتعلّق بالطبیعة کالصّلاة مثلاً ، فإنّ الطبیعی لا یتحقّق خارجاً إلّا ملازماً لخصوصیّاتٍ من الزمان و المکان و غیرهما ، لکن متعلّق الحکم - بضرورة الفقه - هو الطبیعی ، و لیس لتلک الخصوصیّات حکم أصلاً ، إذ الواجب علی المکلّف هو صلاة الظهر مثلاً ، لا خصوصیّة هذا الفرد منها الذی أتی به فی الدار فی أوّل الوقت مثلاً .

و أمّا حلّاً ، فصحیحٌ أنّه ما من واقعةٍ إلّا و فیها حکم شرعی ، لکن هذه الکبری لیست بلا ملاک ، و ملاکها لا یخلو : إمّا هو تبعیّة الأحکام الشرعیّة للمصالح و المفاسد غیر المزاحمة ، علی مسلک العدلیّة ، من جهة أنّه إذا رأی العقل المصلحة التامّة یستکشف الحکم الشرعی فی الواقعة بقانون الملازمة . و إمّا هو ضرورة جعل الشارع الدّاعی لتحقّق غرضه ، و الداعی هو الحکم . و إمّا هو لزوم خروج المکلّف من الحیرة فی کلّ واقعة .

لکنْ لا شیء من هذه الأُمور فی المتلازمین .

أمّا الأوّل : فلأنّه لا دلیل علی أنّه لو کان للملازم ملاک فلا بدّ و أن یکون لملازمه ملاک کذلک ، فلو کان القعود واجباً ، فما هو المصلحة لجعل الوجوب لترک القیام ؟

و أمّا الثانی : فلأنّ جعل الحکم للملازم کافٍ للداعویّة إلی تحقّق غرض المولی ، و لا حاجة لجعل الملازم الآخر من هذه الجهة .

و أمّا الثالث : فلأنّه لا حیرة للمکلّف فی مورد المتلازمین فی فرض جعل الحکم لأحدهما ، فإنّه مع جعل الوجوب للقعود ، لا یبقی المکلّف متحیّراً فی حکم القیام حتّی یُحتاج إلی جعل حکم الوجوب لترکه .

ص:151

و تلخّص : أنّه لا ملاک - بعد جعل الحکم لأحد المتلازمین - لجعله للملازم الآخر ... فالکبری غیر منطبقة هنا ... فالاستدلال ساقط .

و بذلک یظهر سقوط الطریق الثانی لإثبات أنّ الأمر بالشیء نهی عن الضدّ الخاص .

تتمّة

.مسألة الضد من مسائل أیّ علم من العلوم ؟

و قد وقع الکلام فی أنّ مسألة الضدّ کلامیّة ؟ أو فقهیّة ؟ أو أُصولیّة ؟ أو هی من المبادئ الأحکامیّة ؟ وجوه .

رأی الأُستاذ

و مختار الأُستاذ : هو أنّها من المسائل الأُصولیّة ، و لیست من مسائل الفقه أو الکلام ، کما أنّها لیست من مبادئ الأحکام .

أمّا عدم کونها من المسائل الکلامیّة ، فلأنّ علم الکلام هو ما یبحث فیه عن أحوال المبدإ و المعاد بالأدلّة العقلیّة و النقلیّة ، و البحث عن اقتضاء الأمر للنهی عن الضدّ الخاص لا یختص بالأوامر الإلهیّة - لتکون المسألة کلامیّة من جهة کونها بحثاً عن عوارض التکلیف و هو فعل اللّٰه - بل هو أعمّ من أوامر اللّٰه و أوامر سائر الناس .

و أمّا عدم کونها من المسائل الفقهیّة ، فلأن البحث فی هذه المسألة لیس عن حرمة الضدّ الخاص و عدم حرمته ، بل هو بحث عن أصل استلزام الأمر للنهی عن الضدّ الخاص ، و هو لیس بمسألةٍ فقهیّة .

و أمّا عدم کونها من المبادئ الأحکامیّة ، فلأنّ مختار القائل بذلک - و هو

ص:152

السید البروجردی (1) - فی موضوع علم الأُصول أنّه الحجّة فی الفقه (2) ، وعلیه ، یکون البحث فیه عن عوارض هذا الموضوع یعدّ من المسائل الأُصولیّة ، و البحث عن اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن الضدّ الخاص لیس بحثاً عن عوارض الحجة فی الفقه ، فلیس من المسائل الأُصولیّة فیکون من المبادی .

و فیه : - بعد غضّ النظر عن المبنی فی موضوع علم الأُصول ، و عن القول بأنّ لکلّ علم مبادئ أحکامیّة علاوةً علی المبادئ التصوریّة و التصدیقیّة - إن کون المسألة من مسائل علم الأُصول یدور مدار انطباق تعریفه علیها ، فإنْ وقعت نتیجة البحث فی طریق استنباط الحکم الشرعی ، فالمسألة أُصولیّة و إلّا فلا ، و هنا عند ما نبحث عن الاستلزام و عدمه ، فإنّ نتیجته حرمة الضدّ بناءً علی الاستلزام و عدم حرمته بناءً علی عدمه ... و إذا ترتّبت هذه الثمرة الفقهیّة فالمسألة أُصولیّة ، لأنّها نتیجة فقهیّة ترتّبت علی البحث مباشرةً .

و أیضاً ، فللبحث ثمرة أُخری لکن مع الواسطة ، و هی فساد العمل إن کان عبادیّاً بناءً علی الحرمة .

و لا یخفی أنّ الحرمة المترتّبة إنّما هی حرمة تبعیّة ، لعدم کون المفسدة فی متعلّقها و هو الصّلاة مثلاً ، بل لأنّ الصّلاة - إذا اقتضی وجوب الإزالة النهی عنها - تکون حینئذ مفوّتة لمصلحة الإزالة ، فکانت حرمة الصّلاة تبعیّة ، و إلّا فلا ریب فی وجود المصلحة فیها نفسها .

ص:153


1- 1) نهایة الأُصول : 189 .
2- 2) نهایة الأُصول : 11 .
المقام الثانی: فی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه العام
اشارة

و المراد من « الضدّ العام » هو « الترک » أی عدم المأمور به ، و هل یتعلّق التکلیف بالعدم حتی یبحث عن دلالة الأمر بالشیء علی النهی عن عدمه و ترکه ؟

إنّ هذا العدم لیس بالعدم المطلق ، بل هو عدم مضافٌ إلی الوجود ، و قد جری علی الألسنة أنّ للعدم المضاف إلی الوجود حظّاً من الوجود ، وعلیه ، فهو قابل لأنْ یتعلّق التکلیف به ... لکنّ الأُستاذ دام بقاه لا یوافق علی ذلک ، و مختاره أنّ العدم لا یقبل الاتّصاف بالوجود عقلاً مطلقاً ... إلّا أنّه یری جریان البحث بالنظر العرفی ، و الخطابات الشرعیّة ملقاة إلی العرف ، لأنّ أهل العرف یرون للعدم القابلیّة لتعلّق التکلیف ، و من هنا کانت تروک الإحرام - و هی أُمور عدمیّة - موضوعات للأحکام الشرعیّة ، و کذا غیرها من الأُمور العدمیّة ، و لا وجه لرفع الید عن أصالة الظهور فیها و تأویلها إلی أُمور وجودیّة .

هذا ، و فی المسألة قولان ، ثم اختلف القائلون بالاقتضاء ، بین قائل بأن الأمر بالشیء عین النهی عن نقیضه ، و هو المستفاد من کلام صاحب ( الفصول ) و قائل بأنه یقتضیه و یدلّ علیه بالدلالة التضمّنیّة ، و هو المستفاد من کلام صاحب ( المعالم ) و قائل بدلالته علیه بالدلالة الالتزامیّة العقلیّة ، وعلیه صاحب ( الکفایة ) .

.أدلّة الأقوال :

و یتلخّص مستند صاحب ( المعالم ) (1) فی : أن الوجوب مرکّب من طلب الفعل و المنع من الترک ، و إذا کان مرکّباً من الجزءین فدلالة الأمر علی المنع من الترک دلالة لفظیّة تضمّنیّة .

ص:154


1- 1) معالم الدین : 63 .

فردّ علیه صاحب الکفایة (1) : بأنّ الوجوب لیس إلّا مرتبةً واحدةً من الطلب ، فالطلب بسیط و لیس بمرکّب ، غیر أنّها مرتبة أکیدة فی قبال الاستحباب ، لأنّ الوجوب إمّا هو أمر اعتباری و إمّا هو الإرادة ، فإنْ کان هو الإرادة ، فإنّها و إنْ کانت تشکیکیّة لکنّها بسیطة لا ترکیب فیها ، و إن کان أمراً اعتباریّاً ، فالأُمور الاعتباریّة کلّها بسائط . و کیفما کان ، فإنّ المبنی باطل ، فما بنی علیه باطل کذلک .

ثم قال : و إذا کان حقیقة الوجوب هی المرتبة الشدیدة من الطلب ، فإنّ الآمر إذا التفت إلی نقیض متعلَّق طلبه ، فلا ریب فی کونه مبغوضاً له و مورداً للنهی منه ...

فکان النهی عن النقیض - و هو الترک - من لوازم المرتبة الأکیدة . و قد أشار بکلمة « الالتفات » إلی أنّ هذا اللزوم عقلی ، و لیس لزوماً بیّناً بالمعنی الأخص .

و هذا دلیل صاحب ( الکفایة ) علی دلالة الأمر بالشیء علی مطلوبیّة ترک ترکه بالملازمة العقلیّة .

ثمّ تعرّض لرأی صاحب ( الفصول ) و أفاد بأنّه إذا ثبتت الملازمة ثبت الاثنینیّة ، فالقول بکون الأمر بالشیء عین النهی عن ترکه باطل .

اعتراض المحقّق الاصفهانی

و للمحقّق الأصفهانی تعلیقة مطوّلة فی هذا الموضع ، و حاصل کلامه (2) هو :

إنّ بحثنا فی الإرادة التشریعیّة ، و وزانها وزان الإرادة التکوینیّة ، فإن کان المراد من قوله : الشوق فی مورد الوجوب أشدّ منه فی مورد الاستحباب ، أنّه یعتبر فی الوجوب وصول المصلحة إلی حدّ اللّزوم ، فهذا صحیح ، سواء فی المراد التکوینی أو التشریعی . و إنْ کان المراد : إنّ الإرادة المؤثرة فی تحقّق المراد هی فی

ص:155


1- 1) کفایة الأُصول : 133 .
2- 2) نهایة الدرایة 2 / 205 .

مورد الواجبات أشدُّ و أقوی منها فی مورد المستحبات ، فهذا باطل ، لأنّ ما به التفاوت بین الواجب و المستحب هو الغرض و لیس الإرادة ... و لا اختلاف فی مرتبة الإرادة .

و علی الجملة ، فإنّه لیس الوجوب المرتبة الشدیدة من الإرادة و المستحب المرتبة الضعیفة منها ، بل إنّ إرادة المرید إن تعلّقت بأمرٍ جائز الترک عنده فهو المستحب ، و إنْ تعلّقت بأمرٍ غیر جائز الترک عنده فهو الواجب ... و من الواضح أنّ جواز ترک الشیء و عدم جوازه یتبع الغرض منه ... و إلّا ، فالإرادة کیفیّة نفسانیّة ، و الکیفیّات النفسانیّة لیس لها مراتب .

مناقشة الأُستاذ

و أورد علیه الأُستاذ : بأنّ الوجوب إن کان من الأُمور الاعتباریّة ، فالمراد أنّ المعتبر فی الوجوب هو المرتبة الأکیدة من الطلب ، کما أنّ المعتبر فی الاستحباب هو المرتبة الضعیفة منه ، فالشدّة و الضعف یرجعان إلی المعتبر لا الاعتبار حتّی یقال بأنّه لا حرکة فی الاعتباریات . و إن کان هو الإرادة و الکیف النفسانی ، فالشدّة و الضعف فی الإرادة و اختلاف المرتبة فیها أمر واضح ... فاعتراضه علی صاحب ( الکفایة ) غیر وجیه .

و أمّا دعواه : بأنّ الاختلاف بین الوجوب و الاستحباب ناشئ من اختلاف الغرض منهما لا من اختلاف المرتبة فی الإرادة ، فمندفعة : بأنّه یستحیل تخلّف الإرادة عن الغرض ، سواء فی أصله و فی مرتبته ، إذ النسبة بینهما نسبة المعلول إلی العلّة ، و علی هذا ، فإذا کان الغرض فی الواجب آکد کانت الإرادة فیه کذلک لا محالة ، فقوله : بأنّ الاختلاف بین الاستحباب و الوجوب هو بالغرض لا باختلاف المرتبة فی الإرادة ، مردود . اللّهمّ إلّا بأن یقال بعدم تبعیّة الإرادات

ص:156

للأغراض ، أو یقال بتبعیّتها لها فی الأصل دون المرتبة ، و کلاهما باطل .

التحقیق فی حقیقة الوجوب

ثمّ قال الأُستاذ : لکنّ التحقیق فی حقیقة الوجوب و الاستحباب هو عدم کونهما مرتبة من الإرادة ، بل هما عنوانان اعتباریان انتزاعیّان ، فصحیح أنّه یوجد فی الوجوب شوق أکید ، إلّا أنّه لیس الوجوب ، و إنّما ینتزع عرفاً منه الوجوب ، و فی الاستحباب یوجد الشوق الضّعیف ، لکنّه المنشأ لانتزاع العرف الاستحباب ، و کذا الحال فی الحرمة و الکراهة ، ففی الحرمة مثلاً توجد المبغوضیّة الشدیدة و لیست هی الحرمة ، بل إنّها منتزعة منها عرفاً .

فما ذهبوا إلیه من أنّ الوجوب هو المرتبة الأکیدة من الإرادة ، غیر صحیح ، و یؤکّد ذلک أنّه لو کان کذلک لجاز حمل الوجوب علی الإرادة ، و هو غیر جائز کما هو واضح .

النظر فی اشکال الکفایة علی الفصول

ثمّ إنّ إیراد المحقّق الخراسانی علی نظریّة العینیّة بین الأمر بالشیء و النهی عن ضدّه العام ، بأنّ بینهما ملازمة و الملازمة تقتضی المغایرة ، فیه :

أوّلاً : إنّه منقوض باعترافه بالعینیّة فی بحوثه المتقدّمة ، و ذلک حیث قال ما نصّه :

« نعم ، لا بدّ أن لا یکون الملازم محکوماً فعلاً بحکم آخر علی خلاف حکمه ، لا أن یکون محکوماً بحکمه ، و هذا بخلاف الفعل الثانی ، فإنّه بنفسه یعاند الترک المطلق و ینافیه لا ملازم لمعانده و منافیه ، فلو لم یکن عین ما یناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً لکنّه متّحد معه عیناً و خارجاً ، فإذا کان الترک واجباً فلا محالة

ص:157

یکون الفعل منهیّاً عنه قطعاً » (1) .

فهو هناک یعترف بأنّ الوجوب عین ترک الترک مصداقاً و إنْ اختلفا مفهوماً ، فکیف ینفی ذلک هنا ؟ و العصمة لأهلها .

و ثانیاً : إنّ بحثنا هو فی المغایرة المصداقیّة لا المفهومیّة ، و إثبات الملازمة لا ینتج المغایرة و الاثنینیّة الواقعیّة ، فیصحّ القول بأنّ الأمر بالشیء یلازم النهی عن الضدّ و هما وجوداً واحد ... و هذا الإشکال من المحقّق الاصفهانی .

مختار المیرزا فی المقام

و تعرّض المیرزا للآراء فی المقام ، ففصّل فی القول بالعینیّة ، و ردّ علی القول بالدلالة التضمّنیّة ، و لم یستبعد القول بالدلالة بالالتزام بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخص ، ثمّ نصّ علی أنّها باللزوم البیّن بالمعنی الأعمّ ممّا لا إشکال فیه و لا کلام .

أمّا التفصیل فی العینیّة فقد قال : ربّما یدّعی أن الأمر بالشیء عین النهی عن ضدّه ، بتقریب : إنّ عدم العدم و إنْ کان مغایراً للوجود مفهوماً إلّا أنّه عینه خارجاً ، لأن نقیض العدم هو الوجود ، و عدم العدم عنوان و مرآة له ، لا أنّه أمر یلازمه ، فطلب ترک الترک عین طلب الفعل ، و الفرق بینهما إنّما هو بحسب المفهوم فقط .

قال : و فیه إنّ محلّ الکلام هو أنّه إذا تعلّق الأمر بشیء فهل هو بعینه نهی عن الترک أو لا ، لا أنّه إذا کان هناک أمر بالفعل و نهی عن الترک فهل هما متّحدان أو لا ؟ و الدلیل إنّما یثبت الاتّحاد فی الفرض الثانی لا الأوّل ، بداهة أنّ الآمر بالشیء ربّما یغفل عن ترک ترکه فضلاً عن أن یأمر به ، فلا یبقی لدعوی الاتّحاد فیما هو محلّ

ص:158


1- 1) کفایة الأُصول : 121 .

الکلام مجال أصلاً .

و أمّا القول بالدّلالة التضمّنیّة ، فقد ردّ علیه ببساطة الوجوب و عدم ترکّبه .

و أمّا القول بالدلالة الالتزامیّة ، فذکر أنّها بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخص ، بأنْ یکون نفس تصوّر الوجوب کافیاً فی تصوّر المنع عن الترک ، لیست ببعیدة ، و علی تقدیر التنزّل عنها فالدلالة الالتزامیّة باللزوم البیّن بالمعنی الأعمّ ممّا لا إشکال فیه و لا کلام (1) .

النظر فیه

و قد أشکل علیه : بأنّ عدم استبعاد الدلالة بنحو اللّزوم البیّن بالمعنی الأخصّ ، و القول بأنّ الآمر قد یغفل عن ترک ترک أمره فضلاً عن أن یأمر به ، تناقض ، لأنّه لو کانت الدلالة کذلک لم یتصوّر غفلة الآمر .

قال الأُستاذ :

و عمدة الإشکال هو التفصیل فی العینیّة ، بأنْ وافق علیها إن وجد أمر بالفعل و نهی عن الترک و إلّا فالملازمة ، و ذلک : لأنّه إن کان ترک الترک عین الفعل و طلبه عین طلبه فهو کذلک دائماً ، و إن کان ملازماً له فهو دائماً کذلک ، إذ حقیقة المعنی الواحد - و هو ترک الترک - لا تختلف ، و لا یعقل أن یکون المعنی الواحد عین المعنی الآخر فی تقدیرٍ و ملازماً له فی تقدیر آخر .

مختار السید الخوئی و الشیخ الأُستاذ :

و ذهب السیّد الخوئی إلی عدم الاقتضاء ، و هو مختار الشیخ الأُستاذ ، و إنْ خالفه فی بعض کلماته فی ردّ العینیّة .

قال الأُستاذ بالنسبة إلی نظریة العینیّة : أمّا بناءً علی أنّ الأمر هو الإرادة المبرزة و النهی هو الکراهة المبرزة ، کما علیه المحقّق العراقی ، فبطلان العینیّة

ص:159


1- 1) أجود التقریرات 2 / 6 - 7 .

واضح ، إذ الإرادة لا تکون عین الکراهة . و کذا بناءً علی أنّ الأمر هو البعث و النهی هو الزجر ، إذ الاتّحاد بینهما غیر معقول .

و أمّا أن یکون طلب الفعل عین طلب ترک الترک ، فالتحقیق : أنّ ترک الترک من المفاهیم التی یصنعها الذهن و لیس لها ما بإزاء فی الخارج و لا منشأ انتزاع ، فقول المحقّق الخوئی : بأنّه عنوان انتزاعی منطبق علی الوجود ، غیر صحیح ، لأنّ الصدق دائماً یکون فی عالم الخارج ، و من هنا قسّموا الحمل إلی الأوّلی المفهومی و إلی الشائع بلحاظ الوجود ، فترک الترک لا مصداقیّة له ، و لو قال بأنّ مصداقه الوجود ، فمن المحال کون المعنی الوجودی مصداقاً للمعنی العدمی ، و دعوی انتزاعیّته أیضاً باطلة ، لأنّ الانتزاع بلا منشأ له محال ، بل لا بدّ للأمر الانتزاعی من منشأ للانتزاع یکون متّحداً معه وجوداً ، کما فی الفوقیّة و السقف ، و قد تقدّم أنّ ترک الترک لا حظّ له من الوجود الخارجی ، بل إنّه من صنع الذهن فقط ... و العجب أنّه قد أشار إلی هذا المعنی فی کلماته حیث قال : « و لیس له واقع فی قبالهما و إلّا لأمکن أن یکون فی الواقع أعدام غیر متناهیة ، فإنّ لکلّ شیء عدماً و لعدمه عدم و هکذا إلی أن یذهب إلی ما لا نهایة له » .

فظهر : أن ترک الترک لیس إلّا من صنع الذهن ، فما ذهب إلیه المیرزا و السید الخوئی غیر تام ، و کذا کلام الکفایة من أنّ بینهما اتّحاداً مصداقیّاً .

و أمّا قول ( المحاضرات ) بعد ما تقدّم : « فالقول بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه فی قوّة القول بأنّ الأمر بالشیء یقتضی الأمر بذلک الشیء ، و هو قول لا معنی له أصلاً » ففیه : إنّه لا یکون کذلک ، لأنّهما - و إن اتّحدا مصداقاً - مختلفان مفهوماً ، و القائل بالعینیّة لا یدّعی العینیّة المفهومیّة ، و السید الخوئی أیضاً یری تعدّد المفهوم ، فلا معنی لکلامه المذکور .

ص:160

هذا کلّه بالنسبة إلی العینیّة .

و أمّا القول بالدّلالة التضمّنیّة ، فبطلانه واضح ، لکون الوجوب أمراً بسیطاً علی جمیع المبانی فی حقیقة الأمر .

و أمّا القول بالدلالة الالتزامیّة ، بأن یکون الأمر بالشیء دالّاً علی النهی عن ترکه بالالتزام ، فإنّ اللزوم - سواء أُرید منه اللّزوم بنحو البیّن بالمعنی الأخصّ ، و هو ما لا ینفک تصوّر أحد المتلازمین عن تصوّر الآخر ، کتصوّر العمی الذی لا ینفک عن تصوّر البصر ، و کذا نحوهما من الملکة و عدمها ، أو بنحو اللّزوم بالمعنی الأعمّ ، و هو ما إذا تصوّر الإنسان کلیهما أذعن بالملازمة بینهما - لا ینطبق علی شیء من الأقوال فی حقیقة الأمر و النهی ، و هی : القول بأنّهما الإرادة و الکراهة ، و القول بأنّهما البعث و الزجر ، و القول بأنّهما طلب الفعل و طلب الترک ، و القول باعتبار اللّابدّیة و اعتبار الحرمان .

نعم ، هناک تلازم بین الحبّ و البغض ، بمعنی أنّه لو أراد شیئاً کره و أبغض ترکه ، و هذا اللّزوم هو بنحو اللّزوم البیّن بالمعنی الأعمّ ، إلّا أنّه لا ربط له بالملازمة بین الأمر و النهی ، إلّا أن یقال بأنّ حقیقة الأمر بالشیء إرادته بالشوق البالغ حدّ النصاب ، و حقیقة النهی کراهیّة الشیء مع البغض الشدید له البالغ حدّ النصاب ، سواء أبرز أو لا ، لکنْ لا قائل بهذا ، لأنّ القائلین بأنّ حقیقة الأمر و النهی هی الإرادة و الکراهة یقولون باعتبار إبرازهما .

و تحصّل : أنّ الدلالة الالتزامیّة ساقطة ، کسقوط التضمّنیّة و العینیّة ، و أنّ القول بدلالة الأمر علی النهی عن ضدّه العام باطل علی جمیع الوجوه .

ص:161

ثمرة البحث
اشارة

ثم إنه قد بحث الأعلام عن ثمرة هذا البحث فذکروا موارد :

منها : مسألة المواسعة و المضایقة ، فقد ذهب المشهور من المتقدّمین إلی المضایقة ، بناءً علی أنّ الأمر بالصّلاة الفائتة یدلّ علی النهی عن الحاضرة ، و هی الضدّ الخاصّ ، وعلیه ، فقد أفتوا بأن من کانت ذمّته مشغولةً بصلاةٍ ، فصلاته الأدائیّة بعد الوقت باطلة ، لأنّ عدم الضدّ الخاص - و هو الصّلاة الحاضرة - یکون مقدّمة لوجود الضدّ الآخر و هو الصّلاة الفائتة .

لکن مقدمیّة عدم أحد الضدّین لوجود الضدّ الآخر أوّل الکلام ، کما تقدّم بالتفصیل .

و منها : مسألة ترتّب العقاب علی المخالفة للنهی بناءً علی الدلالة ، و عدم ترتّبه بناءً علی عدمها .

لکنّ استلزام مخالفة النهی الغیری لاستحقاق العقاب أوّل الکلام .

و منها : ترتّب أثر المعصیة ، فإنّه إذا کان الأمر بالشیء دالّاً علی النهی عن ضدّه ، یکون الضدّ الخاص - کالسّفر - معصیةً ، و یترتّب علی ذلک وجوب إتمام الصلاة .

و لکنْ هذا یتوقّف علی عدم انصراف أدلّة وجوب الإتمام فی سفر المعصیة عن النهی الغیری العرضی .

و منها : فساد العبادة ، لأنّه مع الدلالة علی النّهی تکون العبادة المزاحمة فاسدةً ، لأنّ النهی عنها موجب لفسادها ، أمّا مع عدم الدلالة فهی صحیحة ، و توضیح ذلک :

إنّه إن کان الأمر بالشیء یدلّ علی النهی عن ضدّه من باب أنّ عدم أحد

ص:162

الضدّین مقدّمة للضدّ الآخر ، فیجب عدمه بمقتضی دلالة الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه العام ، فلا ریب فی حرمة فعل الضدّ .

و إن کان الأمر بالشیء یدلّ علی النهی عن ضدّه من باب الاستلزام ، بأنْ یکون عدم ذاک ملازماً لوجود هذا ، کان عدم ذلک الضدّ واجباً لکونه ملازماً للواجب ، و المفروض اتّحاد المتلازمین فی الحکم ، و إذا کان واجباً فوجوبه یدلّ علی النهی عن الضدّ العام ، فیکون فعله محرّماً .

و إذا ثبت حرمة الضدّ - بأحد الطریقین : المقدمیّة أو الملازمة - فإن کان الضدّ عبادةً ، وقعت باطلة ، بناءً علی أنّ النهی فی العبادات یوجب الفساد ... لکنّ هذا النهی تبعی و عرضی ، فلا بدّ من القول بدلالة النهی فی العبادات علی الفساد حتی فی النواهی العرضیّة .

لکنّ الضدّین المتزاحمین ، قد یکونان مضیّقین ، و قد یکون أحدهما مضیّقاً و الآخر موسّعاً ، و علی الأوّل ، فتارةً یکونان متساویین ، و أُخری یکون أحدهما مهمّاً و الآخر أهم .

فإن کانا مضیّقین و أحدهما أهم ، کما لو دار الأمر فی آخر وقت الصّلاة بینها و بین إزالة النجاسة عن المسجد ، فإنّه و إن کان وجوب الإزالة فوریّاً ، فإنّ ضیق وقت الصّلاة یوجب أهمیّتها ، و حینئذٍ ، یکون الأمر بالصّلاة دالّاً علی النهی عن الضدّ فلا تجوز الإزالة .

و إن کان وجوب أحدهما موسّعاً ، کما لو کان وقت الصّلاة موسّعاً و الأمر بالإزالة فوری ، فعلی القول بالدّلالة یکون الأمر بالإزالة دالّاً علی النهی عن الصّلاة .

و لو کانا مضیّقین و کان أحدهما عملاً غیر عبادی لکنْ کان أهمّ من الآخر العبادی ، کما لو دار الأمر فی ضیق الوقت بین أن یصلّی أو ینقذ النفس المحترمة

ص:163

من الغرق ، فالأمر بالإنقاذ الأهم من الصّلاة یدلّ علی النهی عنها بناءً علی الدلالة ، فلو أتی بها حینئذٍ کانت فاسدة ، لکون النهی عن العبادة موجباً للفساد ، أمّا بناءً علی عدم الدلالة ، فلا موجب لفسادها لو أتی بها فی ذلک الوقت و ترک الإنقاذ .

رأی الشیخ البهائی فی الثمرة

و أورد الشیخ البهائی رحمه اللّٰه علی هذه الثمرة - کما عن کتابه ( زبدة الأُصول ) - : بأنّ العبادة باطلة مطلقاً حتی علی القول بعدم دلالة الأمر للنهی عن الضدّ ، فالثمرة منتفیة ، و ذلک لأنّ العبادة تتوقّف علی قصد الأمر ، إذن ، فصحّة العبادة مشروطة بتعلّق الأمر بها فعلاً حتی یُقصد ، و فی صورة الأمر بشیءٍ و وقوع التزاحم بینه و بین ضدّه ، لا یوجد أمرٌ بالضدّ ، لاستحالة تعلّق الأمر بالضّدین معاً ، فالضدّ الآخر غیر مأمور به ، سواء دلّ الأمر بالشیء علی النهی عنه أو لم یدل؛ و مع عدم الأمر به یکون فاسداً ، لکونه عبادةً و صحّة العبادة مشروطة بتعلّق الأمر بها .

الجواب عنه

و أجیب عن ذلک بوجهین :

أحدهما : ما ذکره صاحب ( الکفایة ) و غیره کالمحاضرات (1) ، من أنّ المعتبر فی صحّة العبادة لیس خصوص قصد الأمر بل قصد القربة بأیّ وجهٍ تحقّق ، و الحاصل : إنّه یکفی الإتیان بالعمل مضافاً إلی المولی ، کأن یؤتی به بقصد کونه محبوباً له أو بداعی تحصیل الثواب علیه و القرب منه . و علی هذا فالثمرة مترتّبة .

لکن هذا الجواب مبنائی .

و الثانی : ما یستفاد من کلمات المحقّق الثانی ، و بیان ذلک :

ص:164


1- 1) کفایة الأُصول : 134 ، محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 339 .

أوّلاً : إنّه یعتبر فی التکلیف أن یکون المتعلّق مقدوراً ، و مناط اعتبار القدرة فی المتعلّق هو حکم العقل بذلک - لا اقتضاء الخطاب کما علیه المیرزا - فإن کان متعلّق التکلیف هو طبیعی المأمور به لزم وجود القدرة علیه ، و إن کان الحصّة من الطبیعة لزم وجود القدرة علیه کذلک .

و ثانیاً : إنّه إن کان المتعلّق هو الطبیعة ، فإنّ القدرة علیها تحصل بالقدرة علی فردٍ ما منها ، و انطباق الطبیعة علیه قهری .

و ثالثاً : إنّ الأمر یستحیل أن یتجاوز عن متعلّقه ، فلو کان المتعلّق هو الطبیعة فلا یتجاوز إلی الفرد .

و رابعاً : إنّ الحاکم بالإجزاء و سقوط الأمر هو العقل ، لأنّه فی کلّ موردٍ یکون الانطباق فیه قهریّاً ، فالإجزاء فیه عقلی .

ففی کلّ موردٍ توفّرت هذه المقدّمات ، تکون العبادة صحیحة ، و یندفع اشکال الشیخ البهائی ، و إلّا فالإشکال وارد ، کما فی المضیّقین حیث القدرة منتفیة .

رأی المیرزا النائینی

و ذهب المیرزا (1) إلی إنکار الثمرة بوجهٍ آخر ، و ذلک : لأنّه إن اعتبر قصد الأمر فی عبادیّة العبادة ، فلا ثمرة کما عن الشیخ البهائی ، و إنْ لم یعتبر فیها ذلک فکذلک ، أمّا بناءً علی عدم دلالة الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه فواضحٌ ، إذ الضدّ یؤتی به عبادةً لکونه ذا مصلحةٍ ملزمة یجب استیفاؤها ، فیؤتی به بقصدها و لا إشکال فی صحتها . و أمّا بناءً علی الدلالة ، فإنّ النهی عن الضدّ المزاحم لیس ناشئاً عن مفسدةٍ فی المتعلّق - و هو الصّلاة - و مبغوضیّة ذاتیّة فیه ، بل هو فی الواقع یرجع إلی مطلوبیّة الإزالة ، و إذْ لیس فی نفس الصّلاة مفسدة ، فلا یکون مثل هذا

ص:165


1- 1) أجود التقریرات 2 / 21 - 22 .

النهی بمانعٍ عن المقربیّة .

فالحاصل : إنّ المقتضی للمقربیّة - و هو المصلحة - موجود ، و المانع عنها - و هو النهی - مفقود .

فظهر صحّة الصّلاة علی التقدیرین ، فلا ثمرة .

الدفاع عنه فی قبال المحاضرات و المنتقی

و أورد علیه فی المحاضرات : بأنّ الإتیان بالعمل بقصد الملاک و المصلحة غیر کافٍ فی العبادیّة ، بل لا بدّ من الإتیان به مضافاً إلی المولی ، و الإتیان به بقصد الملاک لا یفید إضافته إلیه .

و الجواب :

فأفاد شیخنا ما حاصله : إنه فرق بین مطلق المصلحة و المصلحة التی هی الغرض من التکلیف ، و قصد المصلحة التی هی الغرض عند المولی - کما لو کان الانتهاء عن الفحشاء و المنکر هو المصلحة فی إیجاب الصلاة - مقرّب إلی المولی و مضیف للعمل إلیه ... نعم ، قد یکون العمل مبتلی بالمزاحم الأهم ، فیکون المکلّف عاجزاً إلّا أنّ العمل واجد للمصلحة اللّازم استیفاؤها .

و الإشکال : بأن هذا إنّما یتمّ إن کانت المصلحة مترتبةً علی ذات العمل ، أمّا بناءً علی ترتّبها علی العمل المأتی به بعنوان العبادیّة ، فالمصلحة متأخّرة رتبةً عن العمل ، و مع تأخّرها عنه کیف تقصد عند الإتیان به ؟

مندفعٌ بالنقض ، لأنّ المستشکل یری صحّة العبادة المأتی بها بقصد المحبوبیّة عند المولی ، لکونها حینئذٍ عبادة مضافة إلیه ، و الحال أنّ المحبوبیّة مترتّبة علی العبادیّة لا علی ذات العمل ، فتکون فی طول العبادیّة و متأخّرة عنها ، فکیف یؤتی بالعمل بقصد المحبوبیّة ؟

ص:166

الإیراد علی المیرزا

لکن الإشکال الوارد علیه قوله بمقرّبیّة العمل و إن کان منهیّاً عنه ... لأنّه و إن کان النهی عن الصّلاة هو من جهة محبوبیّة الإزالة مثلاً لا لمفسدةٍ فیها ، إلّا أنّه زجر عن الصّلاة ، و مع الزجر کیف تکون مقرّبةً ؟ إن العقل یلحظ الزجر بغض النظر عمّا هو المنشأ له ، ویحکم بأنّ ما زجر عنه المولی فهو مبغوض عنده ، و المبغوض لا یکون مقرّباً بل مبعّداً عنه ... و لا أقل من الشکّ فی المقربیّة ، و معه یرجع الشکّ إلی العبادیّة ، و المرجع حینئذٍ قاعدة الاشتغال .

نتیجة البحث

إنّ المیرزا یری - بناءً علی دلالة الأمر علی النهی عن الضدّ الخاصّ - صحّة العبادة ، لکون العمل ذا مصلحة و النهی عنه غیر ذاتی ، فیکفی قصد الملاک بناءً علی عدم اعتبار قصد الأمر .

و الأُستاذ یری أنّ هذا النهی أیضاً یؤثر ، فلا یصلح العمل للمقربیّة ، لکنّ الصّلاة صحیحة لأنّه لا یری دلالة الأمر علی النهی عن الضدّ .

و فی ( المنتقی ) - بعد أنْ قرّبه و أفاد أنّ مقصود المحقق النائینی بالملاک المصحّح للعبادیّة هو المصلحة - یرد علیه :

« أولاً : إن قصد المصلحة لا یمکن تحققه هنا .

و ذلک : لأن العمل إذا فرض کونه عبادیاً کانت المصلحة مما یترتب علی العمل بقید کونه عبادیاً . أما ذات العمل فلا تترتب علیه المصلحة .

وعلیه ، فلا یصلح ترتب المصلحة لأن یکون داعیاً إلی الإتیان بالعمل ، لعدم ترتّبه علیه ، و الداعی ما کان بوجوده العلمی سابقاً و بوجوده العینی لاحقاً .

و بالجملة : لا یمکن أن یؤتی بالعمل بداعی المصلحة ، إذ لا مصلحة فیه ، بل

ص:167

المصلحة تترتب علی العمل العبادی فقصد المصلحة فی طول تحقق العبادیة لا محقق لها ، فهو نظیر الإتیان بالعمل بداعی ترتب الثواب أو الفرار من العقاب ، فإنه فی طول العبادة لا محقق لها ، کما تقدم بیان ذلک فی مبحث التعبدی و التوصلی .

و ثانیاً : لو فرض إمکان تحقق قصد المصلحة ، فهو لا یکون مقرباً ، لما تقدم من أنه یعتبر فی المقربیة ارتباط العمل بالمولی بنحو ارتباط ، و الإتیان بالعمل لأجل ترتب المصلحة علیه لا یرتبط بالمولی، فلا یکون العمل مقرباً لعدم ربطه بالمولی .

و علی هذا، لا یستقیم ما أفاده المحقق النائینی من إنکار الثمرة ، إذ الملاک المصحح لیس إلا المحبوبیة ، و هو لا یتحقق مع تعلق النهی بالعمل .

و لکن الذی یسهل الخطب ما عرفت من الالتزام بعدم اقتضاء الأمر بشیء النهی عن ضده ، إما لأجل إنکار دعوی المقدمیة التی هی عمدة أساس القول بالاقتضاء . و أما من جهة إنکار وجوب المقدمة » (1) .

ص:168


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 362 - 363 .

طرق تصحیح الفرد المزاحم

اشارة

بعد أنْ ظهر أنّ الحق عدم دلالة الأمر علی النهی عن الضدّ الخاصّ ، لا من باب المقدمیّة و لا من باب التلازم ، و أنّ الحق عدم دلالته علی النهی عن الضدّ العام ، لسقوط القول بالعینیّة و الدلالة التضمّنیّة و الالتزامیّة ، لکنّ دلالته علی مبغوضیّته ثابتة ، لأنّه إذا کان الفعل محبوباً للمولی کان ترکه مبغوضاً له یقیناً ، و کذا العکس ، لکن لا بدّ من التنبیه علی أنّ متعلّق البغض - و هو الترک - لا یتجاوز عن متعلّقه ، لیکون لازمه - و هو فعل الضدّ الخاص - مبغوضاً کذلک ، فإذا کان الضدّ الخاصّ أمراً عبادیّاً فلا دلیل علی فساده .

إلّا أنّ عدم الدلیل علی عدم الفساد لا یکفی لعبادیّة العمل ، بل یعتبر أن یؤتی به مضافاً إلی المولی .

أمّا علی القول باشتراط صحّة العبادة بقصد الأمر ، فقد تقدّم أنّه لا أمر بالنسبة إلی المزاحم فی عرض الواجب المأمور به ، لاستحالة طلب الضدّین ، فإمّا أن یدّعی وجود الأمر بالطبیعة - التی یکون الضدّ الخاص فرداً لها - فی عرض الأمر المتوجّه إلی الواجب ، و إمّا أن یدّعی کونه مأموراً به بالأمر الطولی علی أساس الترتّب .

و أمّا علی القول بصحّة العبادة بقصد الملاک ، فلا بدّ أوّلاً من إثبات المبنی بإقامة الدّلیل علیه ، ثمّ تحقیق الصّغری و هو کون العمل واجداً للملاک .

ص:169

.الطریق الأول

اشارة

و تفصیل الکلام علی القول الأوّل هو : إنه بناءً علی ما تقدّم عن المحقق الثانی ، فإنّ الطبیعة هی المتعلّق للأمر و الفرد غیر مأمور به ، إلّا أنّ انطباقها علیه قهری و الإجزاء عقلی ، و بذلک تتم عبادیّة الفرد المزاحم .

.الأقوال فی اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف

و قد تقدّم سابقاً : أنّ طریق المحقّق الثانی مبنیٌّ علی أنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف هو بحکم العقل ، و الکلام الآن حول هذا المبنی ، فإنّ فی المسألة أقوالاً ثلاثة :

فقیل : إنّ القدرة علی المتعلّق غیر معتبرة فی صحّة التکلیف ، فللمولی تکلیف العاجز ، إلّا أنّ المکلّف إن کان قادراً علی الامتثال فواجب ، و إن کان عاجزاً فهو معذور .

و هذا رأی جماعة من المحقّقین ، و منهم السید الخوئی .

و قیل : إنّ القدرة شرط فی التکلیف .

فقال المحقّق الثانی و جماعة : إنّها شرط بحکم العقل .

و قال المیرزا : هی شرط باقتضاء الخطاب .

و القائلون بأنّها بحکم العقل ، اختلفوا بین قائل : بأنّ القدرة علی فردٍ ما من أفراد الطبیعة تکفی لصحّة الأمر بالطبیعة ، و قائل : لا تکفی .

و مذهب المحقّق الثانی هو الکفایة .

قال المیرزا :

الصحیح إنّه باقتضاء التکلیف لا بحکم العقل ، وعلیه ، فکون الفرد المزاحم فرداً للمأمور به محال ... و توضیح ذلک هو :

ص:170

إنّ التکلیف جعل الداعی ، و جمیع التکالیف إنما تُنشأ لأجل أنْ یوجد الدّاعی للامتثال عند المکلّف ، و الداعی یقتضی - بذاته - إمکان المدعوّ إلیه عقلاً و شرعاً ، لأنّ النسبة بینهما هی التضایف ، فلمّا کان الداعی إمکانیّاً فالمدعوّ إلیه کذلک ، إذن ، فمتعلّق التکلیف هو الفرد المقدور ، و أمّا غیر المقدور فخارج عن التکلیف ، و یکفی عدم القدرة الشرعیّة ، لأنّ الممتنع شرعاً کالممتنع عقلاً ... .

و الحاصل : إنّ متعلّق التکلیف هو غیر الضدّ المزاحم .

إشکالات المحاضرات

و أورد علیه فی المحاضرات من جهات :

( الأُولی ) إنّ ما أفاده قدّس سرّه - من التفصیل بین القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتکلیف هو حکم العقل بقبح تکلیف العاجز ، و القول بأنه اقتضاء نفس التکلیف ، فیسلّم ما ذکره المحقّق الثانی علی الأوّل دون الثانی - لا یرجع إلی معنی محصّل ، بناءً علی ما اختاره من استحالة الواجب المعلّق و تعلّق الوجوب بأمر متأخّر مقدور فی ظرفه ، و بیان ذلک باختصار هو :

إنّ الأمر فی الواجب الموسّع و إنْ تعلّق بالطبیعة و بصرف الوجود منها ، إلّا أنّه مشروط بالقدرة علیها ، و ذلک لا یمکن إلّا بأن یکون بعض وجوداتها - و لو کان واحداً منها - مقدوراً للمکلّف ، أمّا لو کان جمیع أفرادها غیر مقدور للمکلّف و لو فی زمان واحدٍ ، فلا یمکن تعلّق التکلیف بنفس الطبیعة فی ذلک الزمان إلّا علی القول بجواز الواجب المعلّق . و حیث أنّ الواجب الموسّع فی ظرف مزاحمته مع الواجب المضیّق غیر مقدور بجمیع أفراده ، فلا یعقل تعلّق التکلیف به ، - لیکون انطباقه علی الفرد المزاحم قهریّاً و إجزاؤه عن المأمور به عقلیّاً - إلّا بناء علی صحة الواجب المعلّق ، حیث یتعلّق الطلب بأمرٍ متأخّر مقدور فی ظرفه . و لا یفرّق فی

ص:171

ذلک بین المسلکین فی منشأ اعتبار القدرة فی المتعلّق .

نعم ، إنما یتمّ کلام المیرزا فیما إذا کان للواجب أفراد عرضیّة ، و کان بعضها - لا کلّها - مزاحماً بواجب مضیّق ، لأنه یصحّ حینئذٍ الإتیان بالفرد المزاحم بداعی امتثال الأمر بالطبیعة المقدورة بالقدرة علی بعض أفرادها ، بناءً علی قول المحقّق الثانی ، کما لو وقعت المزاحمة بین بعض الأفراد العرضیّة للصّلاة و إنقاذ الغریق ، فی أحد مواضع التخییر بین القصر و الإتمام ، حیث أنّ الفرد المزاحم للإنقاذ هو الإتمام ، فیلزم علیه اختیار القصر لیتمکّن من الإنقاذ أیضاً ، فلو اختار التمام و عصی الأمر بالأهم - و هو الإنقاذ - فالصّلاة صحیحة ، لکونها فرداً من الطبیعة المأمور بها ، المقدور علیها بالقدرة علی فردٍ و هو القصر ... أمّا بناءً علی مبنی المیرزا فلا تصحّ ، لأنّ متعلّق التکلیف هو الفرد المقدور و هو القصر ، و هذا الفرد غیر منطبق علی الفرد المزاحم .

لکنّ الکلام فی الأفراد الطولیة .

الجواب

أما سیّدنا الأُستاذ ، فقد ذکر أنّ هذا الإیراد من المحقق الأصفهانی (1) و قد أوضحه السیّد الخوئی مفصّلاً . قال : و هو وجه لطیف لکنه لا یخلو عن مناقشةٍ سیأتی التعرّض لها فی غیر هذا المقام (2). لکنّا لم نوفّق للوقوف علیه . و أمّا شیخنا الأُستاذ، فقد أجاب عن هذا الإشکال : بأنّ تعلّق التکلیف - بناءً علی القول بالواجب المعلّق - و إنْ کان معقولاً ، بأن یتعلّق الأمر بالعبادة الموسّعة کالصّلاة فی حال مزاحمتها بالواجب المضیّق ، علی نحو یکون الوجوب الآن و الواجب فی

ص:172


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 250 .
2- 2) منتقی الأُصول 2 / 371 .

المستقبل ، لاستحالة تعلّق الأمر الآن بالطبیعة من جهة کونها فی حال المزاحمة غیر مقدورة بجمیع أفرادها ، إلّا أن انطباق الواجب علی الفرد المزاحم مورد للإشکال ، لأنّ حقیقة الواجب المعلّق هو أن یکون الوجوب مطلقاً و الواجب معلّقاً علی الزمان الآتی ، فیکون الوجوب الآن و الواجب مقیّداً ، و إذا کان الواجب مقیّداً کذلک کان غیر قابل للتطبیق - بما هو واجب - علی الفرد فی أوّل الوقت ، إذ الفرد فی أوّل الوقت لا یکون فرداً للطبیعة بما هی مأمور بها .

و الحاصل : إنّ الواجب إنْ کان لا بشرط بالنسبة إلی الزمان الآتی ، فانطباقه علی جمیع أفراد الطبیعة ممکن ، لکنّه لیس بواجب معلّق ، و إن کان مشروطاً به ، فهو غیر منطبق الآن علی الفرد بعنوان الواجب .

و لو قیل : بأن تقیّد الواجب بالزمان اللّاحق یکون تارةً من جهة کونه دخیلاً فی الملاک و الغرض ، کما فی الحج حیث أنّ الوجوب الآن و الواجب مقیّد بأیام المناسک ، و هو قید دخیل فی الغرض ، و أُخری من جهة عدم قدرة المکلّف لا لدخله فی الغرض ، فیتقیّد الواجب بزمان بعد زمان المزاحمة مع الأهم ، و ما نحن فیه من قبیل الثانی لا الأوّل ، فهو ذو ملاک .

فإنّه یمکن الجواب : بأنّ الفرق المذکور موجود ، لکن کلیهما شریکان فی عدم إطلاق الواجب ، و مع تضیّق دائرة الواجب المأمور به ، لا یمکن القول بأن هذا الفرد فرد للمأمور به بما هو مأمور به ، فالاشکال باق .

هذا ، علی أنّ احراز واجدیّة الواجب المقیّد بزمان بعد المزاحمة للغرض و أن تقیّده بذلک إنّما هو من جهة عدم القدرة ، أمر مشکل .

( الجهة الثانیة ) قال : إنّه لو تنزّلنا و سلّمنا الفرق بین القولین ، فلا یتم ما أفاده المیرزا کذلک بالنظر إلی مختاره من أنّ التقابل بین الاطلاق و التقیید من تقابل

ص:173

العدم و الملکة ، فکلّ مورد لم یکن فیه التقیید فالإطلاق غیر ممکن . و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنّ تقیید الطبیعة المأمور بها بالفرد المزاحم مستحیل ، فإطلاقها بالنسبة إلیه کذلک حتی علی قول المحقّق الثانی فی اعتبار القدرة فی التکلیف .

و الحاصل : إنّه لا یمکن الحکم بصحة الفرد المزاحم ، لعدم إطلاق المأمور به ، لیکون الإتیان به بداعی الأمر حتی علی القول بصحّة الواجب المعلّق .

نعم ، بناءً علی ما حقّقناه من أنّ التقابل بینهما من قبیل التضادّ ، یصحّ الإتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر بالطبیعة ، بناءً علی جواز تعلّق الوجوب بأمر متأخّر مقدور فی ظرفه کما هو المفروض ، لأنّه إذا استحال التقیید کان الإطلاق ضروریّاً .

جواب الأُستاذ

فأجاب الأُستاذ : بأنّ استحالة التقیید إنّما تستلزم ضرورة الإطلاق فیما إذا کان التقیید ممکناً ، أمّا لو لم یتمکّن المولی من التقیید فلا ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فإنّ المولی - کما یعترف المستشکل - غیر متمکّن من التقیید بالفرد المزاحم ، و حینئذٍ ، فلا یکون الإطلاق کاشفاً عن کون مراده مطلقاً ... .

و الحاصل : إنّه لا اعتبار لمثل هذا الإطلاق .

( الجهة الثالثة ) فی أنّ القدرة غیر معتبرة فی صحّة التکلیف ، و هو القول الثالث من الأقوال فی المسألة ، فلا هی معتبرة بحکم العقل ، و لا هی معتبرة باقتضاء الخطاب ، بل إنّها معتبرة بحکم العقل فی مرحلة امتثال التکلیف . قال :

و ذلک : لأنّ حقیقة الحکم و التکلیف عبارة عن اعتبار المولی کون الفعل علی ذمّة المکلّف و إبرازه فی الخارج بمبرز ، و هذا الاعتبار لا یقتضی اختصاص الفعل بالحصّة المقدورة ، ضرورة أنّه لا مانع من اعتبار الجامع بین المقدور و غیر المقدور .

ص:174

فالحاصل : إنّه لا مقتضی من قبل الخطاب لاعتبار القدرة فی المتعلّق ، و کذا العقل ، فإنّه لا یقتضیه إلّا فی ظرف الامتثال ، فإذا لم یکن المکلّف حین جعل التکلیف قادراً علی الامتثال و أصبح قادراً علیه فی ظرفه ، صحّ التکلیف و لا قبح فیه عقلاً .

جواب الأُستاذ

و قد أجاب عنه الأُستاذ : بأنّ اعتبار المولی الفعل علی ذمّة المکلّف فعل اختیاری له ، و کلّ فعل اختیاری فهو معلول للغرض ، و لیس الغرض إلّا جعل الداعی للعبد نحو الفعل ، و حینئذٍ تعود نظریة المیرزا من أن جعل الداعی یقتضی القدرة علی المدعوّ إلیه ، فلو کان عاجزاً عن الامتثال لم یمکن من المولی جعل الداعی له ، فإنْ کان التکلیف مطلقاً جعل الداعی کذلک ، و إنْ کان مشروطاً بشرطٍ کان الداعی فی ظرف تحقّق الشرط ، و أمّا إن کان معلّقاً - بأنْ یکون الوجوب فعلیّاً و الواجب استقبالیّاً - فإنْ البعث الإمکانی الفعلی نحو الأمر المتأخّر یقتضی إمکان الانبعاث فی الواجب فی ظرفه ، و کذلک الحال بناءً علی إنکار الواجب المعلّق ، فإنّ البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی .

فالحاصل : إنّه علی جمیع التقادیر و الأقوال : البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی .

کلام المحقّق العراقی فی المقام

و ذکر المحقّق العراقی فی ( المقالات ) (1) - مشیراً إلی نظریّة المیرزا بعنوان التوهّم - ما حاصله : إنّ القدرة علی الامتثال من الأُمور الدخیلة فی فاعلیّة الإرادة حتّی لو لم یکن الخطاب فعلیّاً ، و حقیقة الحکم هی الإرادة المبرزة ، فإنْ أُرید

ص:175


1- 1) مقالات الأُصول 1 / 106 .

للإرادة الوصول إلی الفعلیّة اعتبرت القدرة ، فتکون القدرة ممّا یعتبر فی ظرف الامتثال ...

و الحاصل : فاعتبار القدرة متأخّر رتبةً عن الخطاب ، و الخطاب متأخّر رتبةً عن متعلّقه ، و مع تأخّره لا یمکن أن یکون دخیلاً فیه ... فالخطاب لا یقتضی اعتبار القدرة خلافاً للمیرزا .

نقد کلام العراقی و الدفاع عن المیرزا

و قد انتقد الشیخ الأُستاذ کلام المحقّق العراقی بما انتقد به کلام المحاضرات ، و حاصل ما أفاده هو : إنه لا ریب فی أنّ المتأخّر لا یمکن أخذه فی المتقدّم علیه ، و لو أنّ المولی قد أخذ القدرة فی متعلّق حکمه لتمّ کلام هذا المحقّق ، لکنّ تقیّد الخطاب بالقدرة لیس بأخذ المولی بل إنّه تقیّد و تضیّق ذاتی ، لما تقدّم من أنّ الحکم بعث ، و هو یقتضی القدرة علی المبعوث إلیه ، لأنّ المولی الحکیم الملتفت لا یبعث نحو غیر المقدور ، فالبعث من أصله مضیّق و بذلک تتضیّق دائرة المتعلّق ، و یکون الحصّة المقدورة فحسب .

و الحاصل : إنّ کلام المحقّق النائینی قوی ... و لا یصلح ما ذکر للردّ علیه .

الإشکال علی المیرزا

إلّا أنّ فیه - بعد الموافقة علی کبری أنّ البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی - أن تلک الکبری غیر منطبقة هنا حتّی تتم دعوی أنّ البعث نحو الطبیعة یختص دائماً بالحصّة المقدورة منها ، لأنّ المفروض کون البعث نحو الطبیعة ، و هی لا بشرط بالنسبة إلی الخصوصیّات الفردیّة ، و أنّ حقیقة الإطلاق رفض القیود ، و علی ما ذکر ، فإنّ المولی لما یبعث نحو الطبیعة فهو یرید الوجود المضاف إلیها ، و إذا کان البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی ، فإنّ القدرة

ص:176

علی فردٍ ما من أفراد الطبیعة تحقّق إمکان الانبعاث ، فلا محالة تکون الطبیعة بما هی مأمور بها منطبقةً علی الفرد المزاحم ، و إذا تمّ الانطباق القهری تمّ الإجزاء .

و الحاصل : إنّ الخطاب لا یتعلّق بالحصّة المقدورة من الطبیعة ، بل هو متعلّق بالطبیعة المقدورة بالقدرة علی فردٍ ما من أفرادها ، و منها الفرد المزاحم ، خلافاً للمیرزا القائل بخروج الفرد المزاحم غیر المقدور عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها .

.التحقیق فی اعتبار القدرة فی صحّة التکلیف

أمّا علی القول الثالث ، فمشکلة تصحیح العبادة المزاحمة منحلّة ، لأنّه بناءً علیه یکون التکلیف متعلّقاً بالطبیعة ، و هو غیر مشروط بالقدرة ، فیصحُّ الإتیان بالفرد المزاحم بقصد الأمر ، لأن انطباق الطبیعة علیه قهری و الإجزاء عقلی .

و أمّا علی القول باعتبار القدرة بحکم العقل فکذلک ، لأنّ الطبیعة مقدورة بالقدرة علی فردٍ ما من أفرادها ، فیصح الإتیان بالفرد المزاحم بقصد الأمر المتعلّق بالطبیعة .

و أمّا علی القول باعتبارها باقتضاء نفس الخطاب ، فالمشکلة باقیة ، لأنّ المتعلّق - بناءً علیه - هو الحصّة المقدورة من الطبیعة ، لا الجامع بین المقدور و غیر المقدور ، فلا یصحّ الفرد المزاحم بالإتیان به بقصد الأمر ، و تصل النوبة إلی قصد الملاک - و هو الطریق الثانی - .

لکنّ التحقیق عند الأُستاذ قابلیّة الطبیعة لتعلّق الأمر و صحّة العبادة المزاحمة بقصد الأمر ... .

فلا فرق بین الآراء الثلاثة فی حلّ المشکلة .

إلّا أنّ الحق - عنده - بقاء المشکلة علی حالها ، لأنّه لا قدرة علی الطبیعة فی

ص:177

الأفراد الطولیّة فی أوّل الوقت ، فلا بدّ من تصویر الواجب المعلّق ، وعلیه ، فیکون الواجب بعد الفرد المزاحم ، لأنّه - أی الفرد المزاحم - مقیّد بالزمان الآتی ، فلا ینطبق الواجب علیه ... فلا یمکن تصحیحه بقصد الأمر المتعلّق بالطبیعة ، و تصل النوبة إلی طریق قصد الملاک أو طریق الأمر الترتّبی .

.الطریق الثانی

اشارة

و البحث فی الطریق الثانی - و هو تصحیح العبادة بقصد الملاک ، کما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) و المیرزا - یستدعی الکلام فی جهتین :

جهة الکبری ، و هی تصحیح العبادة بقصد الملاک ، و أنّه لا ینحصر تصحیحها بقصد الأمر فقط ... و للتحقیق عن هذه الجهة موضع آخر .

وجهة الصغری ، و هی المهمّة فی المقام ، و هی أنّه کیف یثبت الملاک فی الفرد المزاحم ؟

إنّه لا بدّ من الکشف عن الملاک کی یؤتی بالعمل بقصده ، و المفروض عدم وجود أمر عرضی یکون کاشفاً عنه کشف المعلول عن العلّة - علی مسلک العدلیة - لأنّ وجوده مشروط بالقدرة علی الامتثال و هی منتفیة ، من جهة أنّ الواجب علیه هو الفرد الأهمّ ، فالمکلّف عاجز شرعاً عن امتثال الواجب المزاحم المهم ، فهل یمکن الکشف عنه عن طریق مفاد المادّة بعد سقوط اطلاق الهیئة لکونها مشروطة بالقدرة ؟ هنا وجوه :

[الطریق الاول للکشف عن الملاک]
اشارة

.الوجه الأوّل

یقول المیرزا - کما فی ( أجود التقریرات ) (1) - بعدم تبعیّة إطلاق المادّة لإطلاق الهیئة ، و توضیح هذه الدعوی هو : إنّ قول المولی « صلّ » مشتمل علی

ص:178


1- 1) أجود التقریرات 2 / 25 - 26 .

مادةٍ و هو الواجب الذی تعلّق به الحکم ، و علی هیئةٍ و هو الحکم أی الوجوب ...

و کلٌّ منهما صالحٌ للتقیید بالقدرة أو غیرها من القیود ، و للإطلاق برفض القیود کلّها ، فإن أخذ المولی فی خطابه القدرة علی الواجب ، کأن یقول : إنْ قدرت فصلّ ، فقد اعتبرت القدرة الشرعیّة إلی جنب القدرة العقلیّة - المعتبرة بحکم العقل علی مسلک المحقّق الثانی ، أو باقتضاء الخطاب علی مسلک المیرزا - و کشفت عن دخلها فی الغرض من الصّلاة ، و إنْ لم یأخذها کشف - عدم أخذها - عن عدم دخلها فی الغرض .

و کذلک الحال بالنسبة إلی الوجوب ... .

لکنّ المفروض أنّه مع التزاحم بالأهمّ ، لا وجوب بالنسبة إلی المهمّ و هو الصّلاة ، فلا اطلاق للهیئة ، لکون وجوب الصّلاة مقیّداً بالقدرة ، و حینئذٍ ، یأتی البحث عن أنّه إذا سقط إطلاق الهیئة یسقط بتبعه إطلاق المادّة أو لا ؟

فذهب المیرزا إلی بقاء المادّة علی إطلاقها ، و أنّه کاشف عن أنّ الغرض قائم بالجامع بین المقدور و غیر المقدور ، فیکون الفرد المزاحم - و إن کان غیر مقدور - واجداً للملاک بمقتضی الإطلاق ، و یمکن الإتیان به بقصده .

هکذا قرّب الأُستاذ هذا الوجه .

و فی ( المحاضرات ) : إنّ الفرد المزاحم تام الملاک حتی علی القول بکونه منهیّاً عنه ، لأنّ النهی المانع عن التقرّب بالعبادة ، هو الذی ینشأ من مفسدةٍ فی متعلّقه و هو النهی النفسی ، و أمّا النهی الغیری ، فبما أنّه لا ینشأ من مفسدةٍ فی متعلّقه ، لا یکشف عن عدم وجود الملاک فی المتعلّق . فبضم هذا إلی کبری کفایة قصد الملاک ، تتمّ صحة عبادیّة الفرد المزاحم (1) .

ص:179


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 371 .

اشکالات المیرزا علی نفسه و جوابه عنها

ثمّ إن المیرزا أورد علی نفسه اشکالات أربعة ، و أجاب عنها (1) .

الأوّل : إنه لا إطلاق مع وجود المقیّد العقلی حتی یتمسّک به ، و علی القول باقتضاء ذات الخطاب القدرة فی المتعلّق ، یتقیّد المتعلّق و یخرج عن الإطلاق .

و بعبارة أُخری : صحّة الفرد المزاحم من جهة الملاک ، لا یجتمع مع القول باقتضاء الخطاب القدرة فی المتعلّق ، لأنّه بناءً علیه تکون القدرة دخیلةً فی ملاک الحکم ، و بارتفاعها یرتفع الملاک .

الثانی : إنّه لو سلّمنا عدم القطع بالتقیید باقتضاء الخطاب ، فلا ریب فی أنّ ذلک صالح للقرینیّة ، فیکون المقام من صغریات احتفاف الکلام بما یصلح للقرینیّة ، فلا ینعقد الإطلاق ، لیتم الملاک فیقصد بالفرد المزاحم .

الثالث : إنّه لو سلّمنا عدم الصلاحیّة للتقیید ، إلّا أنّ إطلاق المتعلّق إنّما یکشف عن عدم دخل القید فی الملاک ، فیما إذا لزم نقض الغرض من عدم التقیید فی مقام الإثبات ، مع دخله فی مقام الثبوت ، و أمّا إذا لم یلزم نقض الغرض ، فلا یکون الإطلاق فی مقام الإثبات کاشفاً عن عدم القید فیه ثبوتاً ، فلو کان غرض المولی متعلّقاً بالرقبة المؤمنة - مثلاً - کان علیه البیان فی مقام الإثبات لئلّا یلزم نقض الغرض ، و من عدم البیان نستکشف عدم دخل الإیمان فی الغرض و یتم الإطلاق . و أمّا إذا لم یلزم فی موردٍ نقض الغرض من عدم البیان ، فلا یتم استکشاف الإطلاق .

و ما نحن فیه من هذا القبیل ، و ذلک لأنّا نعلم بأنّ المکلّف عاجز عن الإتیان بالفرد غیر المقدور ، فهو غیر محتاج إلی البیان کی نقول بأنّ عدم البیان عن التقیید

ص:180


1- 1) أجود التقریرات 2 / 26 - 27 .

کاشف عن الإطلاق و إلّا یلزم نقض الغرض ... فالمورد لیس من موارد التمسّک بإطلاق المتعلّق .

الرابع : إنّ أوّل مقدّمات الإطلاق هو کون المتکلّم فی مقام البیان من تلک الجهة التی یراد التمسّک بالإطلاق فیها ، و بدون ذلک فلا یتم الإطلاق ... مثلاً : الآیة المبارکة : «فَکُلُوا مِمّٰا أَمْسَکْنَ علیه » فی مقام بیان حلیّة أکل هذا الصید ، و لیست فی مقام البیان من جهة الطهارة و النجاسة حتی یُتمسّک بإطلاقها فیقال بطهارة هذا الحیوان الذی اصطاده الکلب .

و فیما نحن فیه : المولی فی مقام بیان متعلّق حکمه ، و لیس فی مقام بیان ملاک الحکم ، حتّی یقال بأنّه لم یقیّد بالقدرة ، فالملاک مطلق و المتعلّق للحکم مطلق .

و الجواب :

أمّا عن الإشکال الأوّل ، فبأنّ تقیید المتعلّق عقلاً یکون إمّا باقتضاء الخطاب کما هو مسلک المیرزا ، و إمّا بحکم العقل ، و لا ثالث لهما . و الأوّل تقیید عقلی ذاتی و الثانی تقیید عرضی . و أیضاً : فإنّ الأوّل متحقّق فی کلّ خطابٍ لأنّه باقتضاء نفس الخطاب ، بخلاف الثانی ، فهو یختص بالخطاب الصادر من الحکیم ، لکون خطاباته تابعة للحسن و القبح العقلیین ، فالأوّل یرجع إلی اقتضاء العقل النظری ، و الثانی إلی اقتضاء العقل العملی و هو قبح تکلیف العاجز .

و حینئذٍ : فإنْ کان المدّعی تقیید متعلّق الحکم - و هو المادّة - باقتضاء نفس الخطاب ، فمن الواضح أنّ التقیید متأخّر عن الحکم المتأخّر عن المتعلّق ، فهو متأخّر عن المتعلّق بمرتبتین ، و لا یمکنه أنْ یؤثر فی إطلاقه فی مرحلة قیام الغرض تام بلا کلام .

ص:181

و إن کان المدّعی تقیید المتعلّق بحکم العقل ، فإن حکم العقل متأخّر عن حکم الشرع ، تأخّر الحکم عن موضوعه ، و حکم الشرع فی مرتبةٍ متأخّرةٍ عن المتعلّق ، فالتقیید متأخّر عن المتعلّق بمرتبتین کذلک .

فاندفع الإشکال الأوّل .

و بذلک یندفع الإشکال الثانی ، فإنّه إذا ثبت استحالة التقیید ، لا یبقی احتمالٌ حتی یکون صالحاً للقرینیّة .

و أمّا عن الإشکال الثالث ، فقد ذکر جوابین :

أحدهما : إن هذا إنّما یتم فیما إذا کان الشک فی اعتبار القدرة التکوینیّة فی الملاک ، لاستحالة صدور غیر المقدور ، فلا یلزم من عدم البیان نقض الغرض أصلاً . و أمّا إذا کان الشک فی کون القدرة - و لو کانت شرعیّة - دخیلةً فی الملاک کما هو المفروض فی المقام ، فیلزم نقض الغرض من عدم التقیید ، إذ للمکلّف الإتیان بالواجب الموسّع مع التزاحم بینه و بین المضیّق تمسّکاً بالإطلاق ، إذن ، لا بدّ من البیان ، و مع عدمه یستکشف عدم الدخل و یتم الإطلاق .

و الثانی : إن لزوم نقض الغرض لیس من مقدّمات الإطلاق ، بل إنّ من مقدّماته تبعیّة مقام الإثبات لمقام الثبوت ، فکون المتکلّم فی مقام بیان جمیع ما له دخل فی غرضه یستلزم بیان ذلک کلّه و إلّا لزم الخلف ، فمن الإطلاق و عدم التقیید بقیدٍ یستکشف عدم دخله فی مقام الثبوت ، بلا حاجة إلی ضمّ مقدّمة لزوم نقض الغرض .

و أمّا عن الإشکال الرابع فأجاب :

بأنّه لیس المراد الکشف عن الملاک من جهة کون المولی فی مقام البیان له ، بل المراد هو : إنّه لمّا کان فی مقام بیان متعلّق حکمه ، و الأحکام تابعة للملاکات

ص:182

و معلولة لها ، فتوجّه التکلیف إلی ذات المتعلّق بلا أخذ القید فیه ، یکشف عن کون العلّة - و هو الملاک - مطلقاً کذلک ، فیصحّ حینئذٍ التمسّک بالإطلاق للکشف عن الملاک المطلق .

و إذا اندفعت الإشکالات ، فلا مانع من التمسک بإطلاق المادّة للکشف عن الملاک ، فیؤتی بالصّلاة بقصده .

قال الأُستاذ

و تنظّر الأُستاذ فیما أجاب به المیرزا عن الإشکالات ... فوافق علی الجواب الأول عن الإشکال الثالث . و أبطل الثانی : بأنه و إنْ کان المعروف عدم کون لزوم نقض الغرض من مقدّمات الإطلاق ، لکنّ الحق هو کون المولی فی مقام بیان الغرض ، لأنّ الأمر معلول له و لحاظ المولی له عرضی ، و لکنّ لحاظه للغرض ذاتی ، لأنه هو العلّة للأمر .

و أمّا جوابه عن الإشکالین - الأوّل و الثانی - و ملخّصه : استحالة تقیید ما هو المتأخّر رتبةً لما هو متقدّم فی الرتبة ، ففیه :

إنّ المقیّد هو المولی إنْ أخذ القید فی المتعلّق ، و هو المطلق إنْ رفضه ، و انقسام الصّلاة إلی المقدورة و غیر المقدورة ، أمر واقعی طارئ علی الصّلاة قبل حکم المولی - لا فی مرتبته و لا بعده - سواء وجد الحکم أو لا ... فإنْ کان القید دخیلاً فی غرض المولی الملتفت إلی الانقسام أخذه فی متعلّق حکمه و إلّا رفضه ، فالإطلاق و التقیید بالنسبة إلی القدرة لیس من الانقسامات الحاصلة من ناحیة الخطاب ، بل هو القرینة علی أخذ المولی للقید فی المتعلّق ، و التقیید حاصل فی رتبة المتعلّق ، غیر أنّ القرینة علیه - و هو الخطاب - متأخّر عن ذی القرینة بالتأخّر الطبعی کما حقّق فی محلّه ، و إذا کان التقیید فی مرتبة المتعلّق فلا إطلاق .

ص:183

و بما ذکر یسقط الجواب عن الإشکال الثانی .

و أمّا جوابه عن الإشکال الرابع ففیه :

إنّه قد ورد الأمر بالصّلاة فی مرتبة الاستعمال علی طبیعی الصّلاة ، لکنّه مقیّد عقلاً - باقتضاء الخطاب عند المیرزا - بالحصّة المقدورة ، فالمراد الجدّی من الصّلاة أخصّ من المراد الاستعمالی ، و الکاشف عن الملاک هو المراد الجدّی لا الاستعمالی ، و إذا کان المراد الجدّی هو الحصّة المقدورة من الصّلاة ، فکیف یکون کاشفاً عن وجود الملاک فی الحصّة غیر المقدورة ؟

و بتعبیر السید الأُستاذ : « إنّ الدلیل الدال علی تبعیّة الأحکام للمصالح من إجماعٍ أو عدم اللغویة و الحکمة لا یقتضی سوی توفّر الملاک فیما انبسط علیه الأمر و بعث نحوه ، و إن کان قد تعلّق فی ظاهر الخطاب بالمطلق ، و لا ملازمة بین وجود الملاک و أخذ الشیء فی متعلّق الأمر خطاباً ، و المفروض فیما نحن فیه أن الأمر و إنْ کان یرد علی المطلق لا علی المقیّد ، و لکنْ إنما ینبسط فی مرحلة عروضه علی الحصّة المقدورة دون الأعم » (1) .

فالحق : امتناع التمسّک بالإطلاق ، لوجود القرینة العقلیّة ، بحکم العقل بقبح تکلیف العاجز أو باقتضاء نفس الخطاب لأنْ یتوجّه التکلیف إلی الحصّة المقدورة ، فإنّ هذه القرینة مانعة من انعقاد الإطلاق فی المادّة ، و حینئذٍ ، فلا کاشف عن الغرض .

رأی السید الخوئی

و جوّز السیّد الخوئی التمسّک بالإطلاق بناءً علی مسلکه من أنّ القدرة لم تعتبر فی متعلّق التکلیف ، لا من جهة حکم العقل و لا من جهة اقتضاء التکلیف ،

ص:184


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 380 .

فلا موجب لاعتبارها فیه ، إلّا أنّ الإشکال فی المقتضی لهذا الإطلاق ، لأنّ المتکلّم غالباً بل دائماً لیس فی مقام بیان ما یقوم به ملاک حکمه ، حتی یمکن التمسک بالإطلاق فیما إذا شک فی فردٍ أنّه واجد للملاک أم لا ، و مع قطع النظر عن ذلک و فرض أنّه فی مقام البیان حتی من تلک الجهة ، فلا مانع من التمسّک بالإطلاق ، إذ قد عرفت أنّه لا حکم للعقل و لا اقتضاء للتکلیف لاعتبار القدرة فی المتعلّق ، لیکونا صالحین للبیان و مانعین عن ظهور اللّفظ فی الإطلاق .

و حاصل کلامه : إنّه لا حکم للعقل باشتراط التکلیف بالقدرة ، و لا اقتضاء للتکلیف لذلک ، فلا مانع من التمسّک بالاطلاق ، لأنّه لا یکون الاشتراط إلّا بأحد الأمرین المذکورین ، بل القدرة شرط لتنجّز التکلیف . لکنّ الکلام فی تمامیته الإطلاق ، لأن المولی فی مقام بیان متعلّق الحکم لا ما یقوم به الملاک ، فلا مقتضی لانعقاده . و هذا هو الصحیح فی الإشکال علی الإطلاق .

قال الأُستاذ

و فیه :

أوّلاً : إنّ الکلام فی حکم المولی الحکیم الملتفت و لیس حول غیره ، و لذا قیّد ما ذکره بالموالی العرفیّة حیث قال « بل الغالب فی الموالی العرفیّة غفلتهم عن ذلک فضلاً عن کونهم فی مقام بیانه » (1) ... فالکلام فی الخطابات الشرعیّة الصادرة من الشارع ، و قد تقرّر أنّ تکالیفه معلولة للأغراض ، فکیف لا یکون فی مقام بیان غرضه ؟

و ثانیاً : إن ما ذهب إلیه من أنّ القدرة من شرائط التنجیز ، فلها الدّخل فی استحقاق العقاب فقط ، لا یجتمع مع ما ذهب إلیه من أنّ التکلیف اعتبار مبرَز ، و أنّ

ص:185


1- 1) أجود التقریرات 2 / 30 الهامش .

الأمر مصداق للبعث و النهی مصداق للزجر . و توضیح ذلک :

إنه لا یخفی الفرق بین المفهوم و المصداق ، فکلّما کان الاتّحاد بین الشیئین مفهومیّاً کان الحمل بینهما أوّلیّاً ، و کلّما کان الاتحاد بینهما فی الوجود کان الحمل شائعاً . فالمفهوم - أی الصّورة الذهنیّة - من « زید » غیر ما هو المفهوم من « الإنسان » إلّا أنّهما فی الوجود واحد ، و هذا معنی المصداقیّة . فهذا مطلب .

و مطلب آخر هو : إنّ مفهوم « البعث » لا یستلزم « الانبعاث » لکن مصداقه یستلزمه .

فإذا کان الأمر مصداقاً للبعث ، فللبعث وجودٌ ، و یستلزم وجود الانبعاث ، و وجوده یستلزم القدرة ... وعلیه ، فالبعث الإمکانی - بمعنی وجود المقتضی و عدم موانع الطاعة - یستلزم الانبعاث الإمکانی ... و لو لا القدرة لما تحقّق الانبعاث ... فانفکاک الانبعاث عن القدرة غیر معقول ... فتکون من شرائط التکلیف ، إمّا بحکم العقل و إمّا باقتضاء نفس الخطاب .

فظهر سقوط ما ذهب إلیه السیّد المحقّق الخوئی .

المختار

و أنّ الحق عدم تمامیّة التمسّک بإطلاق المادّة و متعلّق الأمر ، لکون المتعلّق مقیّداً عقلاً بالقدرة ، إذ الحکم العقلی هنا - سواء علی مبنی المحقّق الثانی أو المحقّق النائینی - یصلح لأن یعتمد علیه المولی و یکتفی به إن کان غرضه هو المقیّد ، فلا کاشف عن الملاک .

أقول : و هذا الذی ذکر - أعنی صلاحیّة ذلک لأن یعتمد علیه المولی - موجود فی کلمات السیّد الخوئی أیضاً فی ( تعالیقه ) (1) .

ص:186


1- 1) أجود التقریرات 2 / 30 . الهامش .
.الطریق الثانی للکشف عن الملاک
اشارة

و أمّا الطریق الثانی للکشف عن الملاک ، الذی جاء به صاحب الکفایة ، فهذا توضیحه :

إنّ الشیء قد یکون متعلّقاً للأمر بنفسه و قد یکون متعلّقاً له لکونه مصداقاً للطبیعة المأمور بها ، فالأوّل : کالصّلاة فی المسجد ، فیما لو أُمر بالصّلاة فیه ، و الثانی : کالصّلاة فیما لو قال : « صل » .

و فی المقابل : ما لا یکون متعلّقاً للأمر لا بنفسه و لا بکونه مصداقاً ، و هذا یکون علی ثلاثة أنحاء :

الأوّل : ما خرج عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها بالتخصیص اللفظی ، کقوله لا تکرم الفساق ، المخرج لهم عن عموم أکرم العلماء .

و الثانی : ما خرج عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها بالتخصیص العقلی ، کموارد اجتماع الأمر و النهی ، حیث تخرج الصّلاة فی الدار المغصوبة عن الطبیعة المأمور بها ، بحکم العقل بعدم صلاحیّتها للمقربیّة .

و الثالث : ما خرج عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها مع تمامیّة المقتضی ، لوجود المانع و المزاحم من الفردیّة و المصداقیّة ، کالصّلاة فی وقت الإزالة ، فإنّها تخرج عن الفردیّة للصّلاة المأمور بها ، و المخرج لیس المخصّص اللفظی أو العقلی حتی یکشف عن عدم الملاک ، بل الملاک موجود و المخرج هو عدم القدرة ، فإنّ القدرة دخیلة فی توجّه الخطاب ، و بدونها لا یتوجّه إلی المکلّف ، و علی الجملة ، فإنّ المزاحمة مع الإزالة الواجبة توجب سلب القدرة عن المکلّف ، فیمتنع تکلیفه بالصّلاة مع وجود المقتضی لذلک ، بحیث لو لم یکن النهی الغیری مانعاً عن التکلیف ، و کان الأمر بالشیء غیر مقتضٍ للنهی عن ضدّه

ص:187

الخاص ، جاز الإتیان بالصّلاة بقصد الملاک .

إشکالات المحقّق الإیروانی

و قد أورد علیه المحقّق الإیروانی بوجوه :

الأوّل : إنّ المفروض سقوط الأمر علی أثر المزاحمة مع الواجب الآخر ، فلو کانت المصلحة فی نفس الأمر ، فلا تبقی بعد سقوطه مصلحة حتی یُؤتی بالعمل بقصدها ، فلا یتم ما ذکره من أنّ الشیء قد یکون متعلّقاً للأمر بنفسه .

و الثانی : إن ما ذکره إنما یتم بناءً علی مسلک العدلیّة من تبعیّة الأحکام للملاکات فی الواقعیات .

و الثالث : إنّه مع المزاحمة لا تبقی مصلحة للأمر ، فلو کان هناک مصلحة لما انتفی الأمر من الشارع .

جواب الأُستاذ عن هذه الإشکالات :

أمّا الأوّل ، ففیه : إنّ مورد الکلام هو الضدّ العبادی کالأمر بالصّلاة و الأمر بالإزالة ، فلو سقط الأمر بالصّلاة علی أثر المزاحمة ما انتفت مصلحة الصّلاة . فغایة ما یرد علی المحقّق الخراسانی أن کلامه أخصّ من المدّعی .

و أمّا الثانی ، ففیه : إنّ صاحب الکفایة یتکلّم هنا علی مبنی العدلیّة .

و أمّا الثالث ، ففیه : إنّ المقصود هو وجود المصلحة فی متعلّق الأمر ، و کون الأمر ذا مصلحة هو لوجود المصلحة فی متعلّقه ، إلّا أنّ عدم القدرة هو المانع عن الأمر .

فظهر ، اندفاع هذه الإشکالات إلّا الأوّل کما ذکرنا .

ص:188

تقریر آخر للإشکال و الجواب عنه

و قد یقرّر الإشکال علی ( الکفایة ) بوجهٍ آخر (1) و هو : إنّ الأمر هو الکاشف عن الملاک کشف المعلول علی العلّة ، فإذا سقط علی أثر المزاحمة انتفی الکاشف عن الملاک ، و حینئذٍ ، کما یحتمل أن یکون سقوط الأمر بسبب وجود المانع و هو عدم القدرة ، کذلک یحتمل أن یکون بسبب عدم المقتضی و هو الملاک ، و مع هذا الاحتمال کیف یقطع بوجود الملاک حتی یُقصد فی العبادة ؟

لکنّه یندفع : بأنّ مفروض الکلام عدم وجود المخصّص اللفظی و العقلی فی المقام ، وعلیه ، فإنّه لا مانع من عموم الأمر إلّا الأمر بالأهمّ المزاحم له ... فکان المانع هو المزاحم الموجب لعدم القدرة علی الامتثال ، مع العلم بعدم دخل القدرة فی الملاک ، فمع لحاظ جمیع هذه الجهات ، ینحصر المانع بعدم القدرة علی الامتثال مع وجود الملاک ، فلا مجال لهذا الإشکال .

.الطریق الثالث للکشف عن الملاک
اشارة

و أمّا الطریق الثالث ، فهو طریق الدلالة الالتزامیة ، و تقریب ذلک ضمن أُمور :

الأوّل : إنّ الأحکام تابعة للملاکات و معلولة لها ، کما هو مسلک العدلیّة .

و الثانی : إنّ الأمر إذا تعلّق بشیء کان له مدلولان ، أحدهما : المدلول المطابقی و هو وجوب ذلک الشیء . و الآخر : المدلول الالتزامی ، و هو کون الوجوب ذا ملاک .

و الثالث : إنّه إذا سقط المدلول المطابقی علی أثر وقوع المزاحمة بین هذا الأمر و أمرٍ آخر أهم منه ، فالمدلول الالتزامی - و هو الدلالة علی وجود الملاک - باقٍ .

أمّا الأمر الأوّل ، فهو واضح .

ص:189


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 360 .

و أمّا الأمر الثانی ، فکذلک .

.هل تبقی الدلالة الالتزامیة بعد سقوط المطابقیة ؟

إنّما الکلام فی الأمر الثالث ، و هو بقاء الدلالة الالتزامیّة بعد سقوط المطابقیّة ، باقتضاء الخطاب کما علیه المیرزا ، أو بحکم العقل من قبح تکلیف العاجز کما علیه المشهور ، و قد ذکروا فی بیان بقائها ما حاصله : إنّ ذلک مقتضی التفکیک فی الحجیة و أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها ، فأمّا الدلالة المطابقیّة فقد سقطت لأن امتثالها کان مشروطاً بالقدرة فإذا انتفت سقطت ، و أمّا الملاک فغیر مقیّد بالقدرة و لا دخل لها فیه ، فلا موجب لسقوط الدلالة الالتزامیّة ... .

هذا ، و قد نصّ علی بقاء الدلالة الالتزامیّة مع سقوط المطابقیّة عدّة من الأکابر کصاحب الکفایة و المیرزا و العراقی ، و بنوا علی هذا المبنی و استنتجوا منه فی موارد ... کما فی باب التعارض بین الخبرین حیث قال المیرزا بدلالتهما علی نفی الثالث بالالتزام ، فلو دلّ أحدهما علی الوجوب و الآخر علی الحرمة ، ثبت عدم الاستحباب .

و قال آخرون : بعدم معقولیّة بقاء الدلالة الالتزامیّة بعد سقوط المطابقیّة ، وعلیه فلا کشف عن الملاک بهذا الطریق ... و قد أورد علی المبنی الأوّل بعدّة نقوض :

.نقوض المحاضرات و الجواب عنها

النقض الأوّل : إنّه لو قامت البیّنة علی ملاقاة الشیء للبول مثلاً ، فهنا دلالتان : الملاقاة للبول و هی الدلالة المطابقیّة ، و نجاسة الملاقی و هی الدلالة الالتزامیّة . فإن انکشف کذب البیّنة سقطت الدلالة المطابقیّة کما هو واضح ، فهل تبقی الدلالة الالتزامیّة ؟ مقتضی القول بعدم التبعیّة بقاؤها ، و هو باطل بالضرورة

ص:190

من الفقه .

لکنْ یمکن دفع النقض ، بأنّ الشرط لبقاء الدلالة الالتزامیّة - عند القائلین به - هو بقاء الموضوع لهذه الدّلالة ، و الموضوع فیها فی المثال هو النجاسة و انتفاؤها مقطوع به عندهم ، فمثل هذا المورد خارج عن البحث .

النقض الثانی : لو کانت الدار - مثلاً - فی ید زید ، فقامت بیّنة علی أنّها لعمرو و أُخری علی أنّها لبکر ، وقع التعارض بینهما ، لکنهما متّفقتان علی أنّها لیست لزید ذی الید ، فإن قلنا بالتبعیّة ، سقطت الدلالتان و بقیت الدار لزید ذی الید ، و إن قلنا بعدم التبعیّة ، کانت النتیجة عدم کونها لزید ، فهی مجهولة المالک .

و هذا ما لا یلتزم به أحد .

و فیه : إنّه لا بدّ هنا من مراجعة النصوص الواردة فی المسألة ، وعلیه مشی صاحب النقض فی کتابه مبانی تکملة المنهاج . و الحاصل : إنّ المرجع هنا خبر إسحاق بن عمار و خبر غیاث بن إبراهیم ، و مقتضی الجمع بینهما : إنّ زیداً ذا الید ، إن اعترف لأحدهما المعیّن ، دار أمر الملکیّة بینه - المعترف له - و بین طرفه ، و یقع النزاع بینهما ، و إن اعترف لکلیهما خرج هو عن الملکیّة و تقاسما الدار ، و إن لم یعترف لأحدهما ، فإن حلف أحدهما و نکل الآخر انتقلت الدار إلی الحالف ، و إن حلفا أو نکلا تناصفاها (1) .

و تلخّص : عدم ورود النقض .

النقض الثالث : لو شهد شاهد واحد علی أنّ الدار التی بید زیدٍ هی لعمرو ، و شهد آخر علی أنّها لبکر ، فإنّ الشهادتین ساقطتان علی الحجیّة فی مدلولهما

ص:191


1- 1) و راجع کتاب : القضاء و الشهادات 2 / 645 - 651 الطبعة المحقّقة للمؤلّف ، و هو تقریر أبحاث السید الأُستاذ آیة اللّٰه العظمی الگلپایگانی طاب ثراه .

المطابقی ، بغض النظر عن التعارض بینهما ، فهل یلتزم بمدلولهما الالتزامی و هو عدم کون الدار لزید - لکونهما متوافقین فی ذلک - ؟ کلّا لا یمکن .

و فیه : إنّ أصل المدلول المطابقی هنا لیس بحجّةٍ ، لأن شهادة الواحد فی الأملاک لیس بحجّةٍ بل لا بدّ من ضمّ الیمین إلیها . وعلیه ، فلمّا کان أصل المدلول المطابقی بلا مقتضٍ ، فلا تصل النوبة إلی البحث عن وجود أو عدم المدلول الالتزامی .

النقض الرابع : لو قامت البیّنة علی أنّ الدار التی فی ید زیدٍ هی لعمرو ، فأقرّ عمرو بأنّها لیست له ، فالبیّنة تسقط من جهة إقرار عمرو ، و بذلک تسقط الدلالة المطابقیّة ، فهل یمکن الأخذ بالدلالة الالتزامیّة و هو القول بعدم ملکیة زید ؟ کلّا .

و فیه : إنّ الید أمارة الملکیّة ، و سقوطها یحتاج إلی دلیل ، و البیّنة دلیل تسقط بها أماریّة الید ، و بعبارة أُخری : فإنّ دلیل حجیّة البیّنة یخصّص دلیل حجیّة الید و یتقدّم علیه بالتخصیص ، و لکنْ هل هذا التخصیص و التقدّم مطلق یعمّ صورة تکذیب ذی الید ؟ کلّا . وعلیه ، فلا أثر لهذه البیّنة و لا یثبت بها شیء من الأساس ، فلا تصل النوبة إلی البحث عن مدلولها الالتزامی .

الجواب الحلّی

و ذهب الأُستاذ إلی القول بتبعیّة الدلالة الالتزامیّة للدلالة المطابقیّة فی الثبوت و السقوط ، و ذکر فی مقام حلّ المسألة بعد الإجابة عن النقوض : إنّ لکلّ کلامٍ ثلاث دلالات :

فالدلالة الأُولی : هی الدلالة التصوّریة ، و المقصود منها دلالة اللفظ علی معناه الموضوع له ، سواء التفت المتکلّم إلی ذلک و قصده أو لا .

و الدلالة الثانیة : هی الدلالة التصدیقیّة الأُولی ، و هی دلالة اللفظ علی

ص:192

الإرادة الاستعمالیّة ، بأن یصدّق بأنّ المتکلّم قد استعمل اللفظ فی معناه .

و الدلالة الثالثة : هی الدلالة التصدیقیّة الثانیة ، و هی دلالة اللفظ علی الإرادة الجدیّة ، بأن یکون المعنی مقصوداً للمتکلّم جدّاً .

أمّا الدلالة الأُولی ، فواضحة .

و أمّا الدلالة الثانیة ، فدلیلها تعهّد المتکلّم باستعمال الألفاظ فی معانیها الموضوعة لها فی اللغة .

و أمّا الدلالة الثالثة ، و هی حمل الکلام علی معناه الجدّی و نسبة ذلک إلی المتکلّم ، فدلیلها السیرة العقلائیّة القائمة علی کاشفیة اللّفظ المستعمل فی معناه عن المراد الجدّی للمتکلّم . و لکنّ الکلام فی حدّ هذه السّیرة ، فهل هی قائمة علی کاشفیّة الدلالة الالتزامیّة عن المراد الجدّی حتّی مع سقوط الدلالة المطابقیّة ؟

الظاهر عدم تحقّق هذا البناء من العقلاء ، و لا أقل من الشک ، و مقتضی القاعدة الأخذ بالقدر المتیقن من السیرة - لکونها دلیلاً لبیّاً - و هو صورة عدم سقوط الدلالة المطابقیّة عن الحجیّة .

و تلخّص : عدم تمامیّة هذا الطریق للکشف عن الملاک .

و یقع الکلام فی :

ص:193

الترتّب

اشارة

فبعد الفراغ عن سقوط الأمر بالصّلاة مع وجود الأمر بالإزالة ، لاستحالة الأمر بالضّدین ، و عن عدم إمکان إحراز الملاک بأحد الطرق الثلاثة کی یُقصد و تتمُّ به عبادیّة العمل ، تصل النوبة إلی البحث عن الترتّب ، و أنّه لو عصی الأمر الأهمّ - و هو الأمر بالإزالة - هل یثبت الأمر بالمهمّ و هو الأمر بالصّلاة ، فیؤتیٰ بها بقصده و یکون عبادةً أو لا یثبت ؟

و الکلام تارةً : فی الواجبین الموسّعین ، و لا تزاحم بینهما ، لا فی مقام الجعل و لا فی مقام الامتثال ، لأنّ الوقت یسع کلا الأمرین و یتحقّق امتثالهما معاً ، و أُخری :

فی الواجبین المضیّقین ، کوجوب إنقاذ هذا الغریق و ذاک ، و هو مورد التزاحم ، و ثالثةً : فیما إذا کان أحدهما موسّعاً و الآخر مضیّق ، فهل هما کالمضیّقین ، کما دار أمر المکلّف بین أداء الصّلاة فی أوّل الوقت و إزالة النجاسة عن المسجد ؟

قال فی الکفایة

(1)

بعد کلامٍ له :

فقد ظهر أنّه لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها إلّا ملاک الأمر . نعم ، فیما إذا کانت موسّعةً و کانت مزاحمة بالأهمّ ببعض الوقت - لا فی تمامه - یمکن أن یقال : إنّه حیث کان الأمر بها علی حاله و إن صارت مضیّقةً بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها ، أمکن أن یؤتی بما زوحم منها بداعی ذاک الأمر ، فإنّه و إن کان خارجاً عن تحتها بما هی مأمور بها ، إلّا أنّه لما کان

ص:194


1- 1) کفایة الأُصول : 136 .

وافیاً بغرضها کالباقی تحتها ، کان عقلاً مثله فی الإتیان به فی مقام الامتثال و الإتیان به بداعی ذاک الأمر ، بلا تفاوت فی نظره بینهما أصلاً .

و دعوی : إنّ الأمر لا یکاد یدعو إلّا إلی ما هو من أفراد الطبیعة المأمور بها ، و ما زوحم منها بالأهم و إن کان من أفراد الطبیعة لکنّه لیس من أفرادها بما هی مأمور بها . فاسدة ، فإنّه إنّما یوجب ذلک إذا کان خروجه عنها بما هی کذلک تخصیصاً لا مزاحمة ، فإنّه معها و إن کان لا تعمّه الطبیعة المأمور بها إلّا أنّه لیس لقصور فیه ، بل لعدم إمکان تعلّق الأمر بما تعمّه عقلاً . و علی کلّ حال ، فالعقل لا یری تفاوتاً فی مقام الامتثال و إطاعة الأمر بها بین هذا الفرد و سائر الأفراد أصلاً .

هذا علی القول بکون الأوامر متعلّقة بالطبائع .

و أمّا بناءً علی تعلّقها بالأفراد فکذلک ، و إن کان جریانه علیه أخفی ، کما لا یخفی . فتأمّل .

و حاصل کلامه هو : إنّ الأمر بالصّلاة مثلاً قد تعلّق بالطبیعة ، و الفرد المزاحَم بالأمر بالإزالة خارج من تحت هذا الإطلاق ، لکنّ هذا الخروج تزاحمی و لیس تخصیصیّاً ، فلو کان خروجه کذلک لم یمکن الإتیان به بقصد الأمر بالطبیعة أو بقصد الملاک ، أمّا مع الخروج التزاحمی فالإتیان به بقصد الأمر أو الملاک لا مانع منه ، إذ العقل لا یری تفاوتاً بینه و بین غیره من أفراد الطبیعة فی الوفاء بالغرض .

فالفرد المزاحم خارج عن الطبیعة بما هی مأمور بها ، إلّا أنّ ذلک غیر ضارٍّ ، لأنّه کغیره من الأفراد وافٍ بالغرض من الأمر عند العقل بلا تفاوت .

أشکل الأُستاذ :

بأنّه إذا کان الفرد المزاحَم خارجاً من تحت الطبیعة - کما صرّح بذلک - فإنّ الإطلاق غیر شامل له ، بل یتحدّد بما سواه من الأفراد ، و حینئذٍ ، لا یمکن الإتیان بالفرد المزاحم بقصد الأمر المتعلّق بالطبیعة ، و المفروض أنّ الفرد

ص:195

بنفسه لا أمر له ، فبأیّ أمر یؤتی به فی مقام الامتثال ؟

و بالجملة ، فإنّ نتیجة کلامه أنّ الفرد المزاحم غیر مأمور به حتّی یمکن الإتیان به بقصد الأمر . نعم ، علی القول بانطباق الطبیعة المأمور بها علی الفرد المزاحم ، کما علیه المحقّق الثانی و من تبعه ، یکون مورداً للأمر فیمکن الإتیان به بقصده .

و المحقّق الخراسانی لم یذکر برهاناً علی خروج الفرد المزاحم من تحت الطبیعة .

و أمّا المیرزا ،

فیری التزاحم کذلک ، لکنْ ببیان آخر ، و هو :

إن تقیید خطاب الواجب الموسّع بالفرد المزاحم غیر معقول ، لأنّه یستلزم طلب الضدّین فی آنٍ واحد ، و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق کذلک ، لأنّ النسبة بین الإطلاق و التقیید عنده نسبة العدم و الملکة ، فلا یعقل الأمر بالصّلاة فی أوّل الوقت مع وجود الأمر بالإزالة ، فیقع بینهما التزاحم . هکذا فی ( المحاضرات ) (1) .

و ببیان آخر - و هو الأقرب إلی ما ذهب إلیه من أنّ الإطلاق یتوجّه باقتضاء الخطاب إلی الحصّة المقدورة ، و أنّ اعتبار القدرة باقتضاء نفس الخطاب و لیس بحکم العقل - إنّ الأمر بالصّلاة متوجّه من أصله إلی الحصّة المقدورة منها ، فإطلاق « صلّ » من أوّل الأمر غیر شامل للفرد المزاحم منها للإزالة ، فسواء کانت النسبة بین الإطلاق و التقیید هی العدم و الملکة أو التضاد ، یکون هناک تزاحم بین « صلّ » و« أزل النجاسة عن المسجد » . فإنْ صحّت الصّلاة المزاحمة عن طریق قصد الملاک - المنکشف بإطلاق المادّة أو الدلالة الالتزامیّة - کما ذهب هو إلی ذلک -

ص:196


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 344 .

فهو و إلّا وصلت النوبة إلی بحث الترتّب .

و کیف کان ، فلا بدّ قبل الورود فی البحث من ذکر ما یلی :

.الأصل فی الترتب هو المحقق الثانی

اشارة

إنّ مبتکر بحث الترتّب هو المحقّق الثانی فی ( جامع المقاصد ) ، ثمّ تبعه الشیخ جعفر فی کشف الغطاء ثمّ حقّقه المیرزا الشیرازی ، ثمّ شیّد أرکانه الأعلام الثلاثة .

و ذهب المحقّق الخراسانی إلی استحالة الترتّب ، و نسبه فی المحاضرات إلی الشیخ الأعظم ، إلّا أنّ الأُستاذ ذکر أنّ کلمات الشیخ مختلفة ، و سیأتی .

ثمّ إنّ هذا البحث عقلی محض ، و لا دخل للّفظ فیه ، و هو یدور بین الإمکان و الاستحالة ، و مجرّد الإمکان کافٍ للوقوع بلا حاجةٍ إلی دلیلٍ آخر .

کلام المحقّق الثانی

ذکر العلّامة فی ( القواعد ) : أنّه إن کان مدیناً بدینٍ ، و کان الدّائن یطالبه به و هو فی أوّل الوقت ، فلو صلّی بطلت صلاته . و کذا المدین بالخمس و الزکاة .

فقال المحقّق الثانی بشرحه : مبنی المسألة أنّ أداء الدین بعد الطلب واجب فوری ، و کذا أداء الخمس و الزکاة ، و حینئذٍ ، یکون الأمر بأداء الدّین ناهیاً عن الضدّ و هو الصّلاة ، و النهی عن العبادة موجب للفساد .

ثمّ أشکل : بأن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن الضدّ الخاص ، و الصّلاة ضدّ خاصٌ لأداء الدّین . قال :

فإن قیل : إن الترک ضدّ عامٌّ یتحقّق بالصّلاة التی هی ضد خاصّ . فأجاب عن ذلک ، ثمّ أشکل بإشکال آخر و أجاب عنه ، إلی أن قال :

إن قیل : إنّ الأمر بالصّلاة مع فرض فوریّة أداء الدّین یستلزم التکلیف بما

ص:197

لا یطاق ، لکونهما ضدّین .

فأجاب : بعدم لزوم ذلک ، لأنّ الصّلاة واجب موسّع ، و الأمر بأداء الدین أو الخمس و الزکاة فوریٌ ، و له الأمر بهما معاً ، بأن یکون مأموراً بأداء الدین ، فإن عصی أتی بالصّلاة .

ثمّ نقض بما لو کانت الصّلاة فی آخر الوقت ، فیقع التزاحم بین المضیّقین لکنّ الحکم صحّة الصلاة ، لأن أحد الواجبین مشروط بمعصیة الواجب الآخر .

و نقض علی العلّامة بمن خالف الترتیب فی واجبات الحج ، حیث یحکم بصحّة العمل ، و لا وجه لذلک إلّا الترتّب .

قال : و إنّ هذا الأصل إن لم یتم یبطل کثیر من أعمال الناس ، و إن کان مقتضی الاحتیاط ما ذکره العلّامة من البطلان (1) .

کلام کاشف الغطاء

و تعرّض الشیخ الکبیر فی ( کاشف الغطاء ) للترتّب فقال : إنّه یمکن للشارع و للمولی المطاع أنْ یأمر بواجب ، ثمّ یأمر بآخر علی فرض عصیان الأوّل .

قال : إنّه فی مسألة الجهر و الإخفات ، لو جهر فی موضع الإخفات أو بالعکس ، یصحّ العمل . للقاعدة . قال : و مع عدم الالتزام بهذه القاعدة یلزم بطلان عبادات الناس کثیراً ... (2) .

کلام الشیخ الأعظم

و اختلفت کلمات الشیخ الأعظم ، فالمستفاد من کلامه فی بعض المباحث استحالة الترتّب ، و ظاهر کلامه فی رسالة التعادل و التراجیح من ( فرائد الأُصول ) ،

ص:198


1- 1) جامع المقاصد فی شرح القواعد 5 / 14 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .
2- 2) کشف الغطاء : 27 .

عند البحث عن الأصل فی الخبرین المتعارضین بناءً علی السببیّة هو الإمکان ، فأفاد ما حاصله (1) : أنّه لمّا کان نتیجة القول بالسببیّة تحقّق المصلحة فیما قامت علیه الأمارة ، فإنّه یکون حال الخبرین المتعارضین حال الواجبین المتزاحمین ، فیکونان مجری قاعدة الترتّب حتّی فی صورة أهمیّة أحدهما من الآخر ، قال : إنّ التکلیف واقع بکلیهما و لکلٍّ منهما ملاک الوجوب ، لکنّ القدرة علی امتثال کلٍّ منهما تحقّق فی ظرف ترک الآخر ، و إذا تحقّقت القدرة حکم العقل بالامتثال .

هذا محصّل کلامه ، و من وجود لفظة « القدرة » فی عبارته یستکشف أنّ المانع عن الواجب الآخر هو العجز ، فالعقل حاکم بلزوم الامتثال فی کلّ فردٍ قد تحقّقت القدرة علیه منهما .

ثمّ ذکر : إنّ هذه القاعدة جاریة فی جمیع موارد الواجبین المتزاحمین .

و من الواضح : إنّ مقتضی تعلیقه الأمر علی القدرة ، فإنّه مع ترک الأهمّ تکون القدرة موجودة بالنسبة إلی المهم ، هو الالتزام بالترتّب .

و من هنا قال المیرزا : و من الغریب أنّ العلّامة الأنصاری قدس سره مع إنکاره الترتب و بنائه علی سقوط أصل خطاب المهم دون إطلاقه، ذهب فی تعارض الخبرین - بناءً علی السببیّة - إلی سقوط إطلاق وجوب العمل علی طبق کلٍّ من الخبرین ... (2) .

.استحالة الترتّب ببیان الکفایة

اشارة

و ذکر فی ( الکفایة ) نظریة القائلین بالترتّب بنحوین فقال : « إنّه تصدّی جماعة من الأفاضل لتصحیح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب علی العصیان و عدم إطاعة

ص:199


1- 1) فرائد الأُصول 4 / 36 - 37 ط مجمع الفکر الاسلامی .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 57 .

الأمر بالشیء بنحو الشرط المتأخّر أو البناء علی معصیته بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ، بدعوی أنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدین کذلک ، أی: بأنْ یکون الأمر بالأهمّ مطلقاً و الأمر بغیره معلّقاً علی عصیان ذاک الأمر أو البناء و العزم علیه ، بل هو واقع کثیراً عرفاً » (1) .

لکنّه یری أن لا طریق إلّا علی نحو الشرط المتأخّر ، بأن یکون المعصیة علی هذا النحو ، لأنّ العبادة لا بدّ و أن تنشأ من الأمر ، فلو اشترط معصیة الأهم بنحو الشرط المتقارن ، فلا بدّ و أن تتحقّق بفعل المهم ، فلم ینشأ فعل المهم من الأمر به ، لأن المفروض أن لا أمر به قبل معصیة الأهم ، أمّا لو تأخّرت المعصیة عن الأمر ، کان فعل المهمّ ناشئاً عن الأمر به ، و أمّا العزم فلا تتحقّق به المعصیة .

فقد قرّب صاحب الکفایة النظریّة بأنّه : لو کان الشرط هو العزم علی المعصیة فالمفروض عدم تحقّق المعصیة ، فالأمر بالأهم علی حاله بنحو الإطلاق ، و الأمر بالمهمّ موجود مشروطاً ، و مع اشتراط العزم علی المعصیة و تأخّرها ، یکون فعل الضدّ - و هو المهم - ناشئاً من الأمر المتعلّق به و العزم علی ترک الأهم . أمّا مع الاشتراط بالعصیان ، فیعتبر أن یکون بنحو الشرط المتأخّر ، لأنّه ترک الأهم و ترکه فی مرتبةٍ واحدةٍ مع فعل المهم ، فلمّا کان العصیان شرطاً للأمر بالمهم ، وقع فعل المهم فی مرتبةٍ متقدّمة علی الأمر به ، فیکون فرض العصیان بنحو الشرط المتأخّر .

و علی أیّ حالٍ ، فقد أجاب عن هذا التقریب : بأنّ الأمر بالضدّین و طلبهما محال ، سواء کان التضادّ بالذات أو بالعرض ، لأنّ الطلب هو الإنشاء بداعی جعل الدّاعی ، و مع وجود التضادّ بین الشیئین کیف یتحقّق الداعی بجعل الداعی ؟

ص:200


1- 1) کفایة الأُصول: 134 .

و فیما نحن فیه : کلّ طلبٍ مشروط بالقدرة علی متعلّقه - علی مبنی المشهور أو المیرزا - و إذ لا قدرة علی الضدّین فطلبهما محال .

یقول : « ما هو ملاک استحالة طلب الضدّین فی عرضٍ واحدٍ آتٍ فی طلبهما کذلک ، فإنه و إن لم یکن فی مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما . إلّا أنّه کان فی مرتبة الأمر بغیره اجتماعهما ، بداهة فعلیّة الأمر بالأهم فی هذه المرتبة و عدم سقوطه بعدُ بمجرد المعصیة فیما بعد ما لم یعص أو العزم علیها مع فعلیّة الأمر بغیره أیضاً ، لتحقّق ما هو شرط فعلیّته فرضاً » .

یعنی : إنّه فی صورة التضادّ بالذات ، یطارد کلٌّ من الضدّین الآخر ، و فی صورة التضادّ بالعرض - و هو صورة الاشتراط - تکون المطاردة من طرفٍ واحد ، لأنّ الأمر بالأهم مطلقٌ ، أی إنّه لا بشرط بالنسبة إلی المهم ، و هذا الأمر مقدَّم علی متعلّقه - تقدّم العلّة علی المعلول - فهو مقدّم علی عصیانه ، لأنّ الإطاعة و العصیان فی مرتبةٍ واحدة ، فکان الأمر بالأهمّ مقدّماً علی إطاعة الأهم و عصیانه ، لکن العصیان شرط للأمر بالمهمّ ، و کلّ شرط متقدّم علی المشروط ، فیکون الأمر بالأهمّ و عصیانه مقدّماً علی الأمر بالمهمّ بمرتبتین ، وعلیه ، فلا یمکن للأمر بالمهمّ أن یطارد الأمر بالأهم ، فیکون الأمر بالأهم موجوداً بلا مانع .

و هو أیضاً موجود فی مرتبة إطاعة الأمر بالأهم و عصیانه ، لعدم الاقتضاء للأمر بالمهم فی هذه المرتبة حتی یطارد الأمر بالأهم ، لأنّ المفروض أنّ الأمر بالمهمّ ینشأ بعد مرتبة عصیان الأمر بالأهم .

فإن عصی الأمر بالأهم ، یصیر الأمر بالمهم فعلیّاً ، لتحقّق شرطه ، لکنّ المفروض أنّ الأمر بالأهم مطلق ، فهو بإطلاقه یشمل هذه المرتبة ، فله اقتضاء الامتثال ، و المهمُّ له اقتضاء الامتثال ، فتقع المطاردة فی هذه المرتبة .

ص:201

الترتّب ببیان المیرزا
اشارة

و تصدّی المیرزا لتصحیح الترتّب و الردّ علی إشکال الکفایة ، و ذکر لذلک مقدّمات (1) :

المقدّمة الأُولی

( فی التحقیق عن منشأ الإشکال )

ففی المقدّمة الأُولی حاول التحقیق عن منشأ الإشکال و المحذور فی الأمرین المتضادّین بالعرض ، و أنّه هل هو فی أصل وجودهما أو فی إطلاقهما ؟

إن کان منشأ الاستحالة وجود الأمرین فهو صحیح ، و أمّا إن کان المنشأ هو الإطلاق فیهما ، فالمحذور مرتفع و الترتّب ضروری . و بیان ذلک :

إنّه لو یکن بین الواجبین تضادّ ، کما لو أمر بالصّلاة بنحو الاطلاق و أمر بالصوم کذلک ، کان نتیجة الإطلاقین هو مطلوبیة کلیهما ، و الجمع بینهما ممکن و لا تضاد . أمّا لو قُید أحدهما بأنْ قیل : صلّ فإن لم تصلّ فصُم ، کان نتیجة التقیید عدم مطلوبیّة کلیهما ، فلو صلّی و صام لم یکن ممتثلاً لأمرین ... هذا لو لم یکن تضادّ بین الواجبین .

فإن کانا متضادّین کالصّلاة فی أوّل الوقت و إزالة النجاسة عن المسجد ، فإنّ الإطلاق فیهما یقتضی أن یکون کلاهما مطلوبین . أمّا لو تقیّد أحدهما بترک الآخر و عصیانه ، فوقوعهما علی وجه المطلوبیة محال .

و الحاصل : إن کلّ دلیلٍ یشتمل علی أصل الطلب و علی إطلاق الطلب ، و الاستحالة إنّما تتحقّق من إطلاق الدلیلین لا من أصل وجودهما ، فلو حصل تقیید فی أحد الطرفین لا یکونان مطلوبین ، فلا یتحقّق طلب الضدّین و هو غیر مقدور .

ص:202


1- 1) أجود التقریرات 2 / 55 .

نتائج هذه المقدمة

و نتیجة هذا المطلب أُمور :

1 - إنّه إذا کان المحذور فی إطلاق الدلیلین ، کان مقتضی القاعدة فی سائر موارد التضاد سقوط الإطلاقین - بأن یقیّد الوجوب فی کلّ من الدلیلین بعدم الآخر ، إن لم یکن أحدهما أهم من الآخر - و بقاء أصل الدلیلین ، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها ، و حینئذٍ ، یکون المکلّف مخیّراً بینهما تخییراً عقلیّاً . أمّا فی صورة کون الدلیلین بوجودهما منشأً للمحذور ، کان مقتضی القاعدة سقوط کلیهما من أصلهما ، و حینئذٍ ، یستکشف العقل خطاباً شرعیّاً تخییریاً بین الأمرین .

2 - إنّه عند ما یکون المحذور فی إطلاق کلیهما ، فلا محالة یتقیّدان و یکون شرط کلٍّ منهما ترک الآخر ، فیجب إنقاذ هذا الغریق فی حال ترک الآخر و کذلک العکس ، و حینئذٍ ، فلو ترک کلیهما فقد تحقّق الشرط لوجوبهما معاً ، فیکون قد ارتکب معصیتین و یستحق عقابین ، لأنّه قد خالف خطابین فعلیین ، إذ الخطاب المشروط یکون فعلیّاً بفعلیّة شرطه ، و قد کان الشرط فی کلّ من الخطابین هنا ترک الآخر ، و القدرة علی الجمع بین الترکین حاصلة ، بخلاف ما لو کان المحذور فی أصل وجود الدلیلین و فرض سقوطهما و تحقّق حکم تخییری کما تقدّم ، فإنّه لو ترک کلیهما فقد ترک واجباً واحداً ، فالمعصیة واحدة و العقاب واحد .

اشکال المیرزا علی الشیخ

3 - إنّه بعد تصوّر ما ذکر ، یصیر الأصل عبارةً عن أنّه فی کلّ متزاحمین لا بدّ من رفع الید عن منشأ المحذور ، و قد ظهر أنّه الإطلاق ، وعلیه ، فالأصل فی الخبرین المتعارضین - بناءً علی السببیّة - هو التخییر ، لأنّهما خطابان مشروط کلٌّ

ص:203

منهما بترک الآخر . فیرد الإشکال علی الشّیخ : بأنّه کان علیه الالتزام بسقوط الإطلاقین - لا أصل الخطابین - إن لم یکن بینهما أهم ، و إن کان أحدهما أهم من الآخر سقط الإطلاق فی طرف .

نقد الدفاع عن الشیخ

قال الأُستاذ

و الحق : ورود هذا الإشکال علی الشیخ . و ما قد یقال فی الدفاع عنه : من أنّ کلامه - حیث قال بصرف القدرة فی أحد الضدّین فی حال عدم صرفها فی الآخر - إنّما هو فی مرحلة الامتثال ، و کلامنا - فی الترتّب - یتعلّق بمرحلة الجعل و التشریع ، فقد اختلط الأمر علی المیرزا ، لأن الشیخ قائل بالتزاحم و الترتّب هناک لکونه فی مقام الامتثال ، و لا یقول به هنا لأنّه مقام الجعل . ففیه نظر من وجوه :

الأوّل : إنّ الشیخ و إن ذکر ذلک فی مرحلة الامتثال ، لکنّه أضاف : بأنّ المطلب کذلک فی کلّ متزاحمین شرعیّین ، فالمیرزا قد تدبّر فی کلام الشیخ ، و المستشکل قد غفل عن هذه النکتة .

و الثانی : إنّ مرحلة الامتثال ظلّ مقام الجعل و التشریع ، و الامتثال فرع التکلیف ، فیستحیل أن یتحقّق الترتّب فی مرحلة الامتثال و لا یتحقّق فی مرحلة الجعل ، فلو لم یکن التکلیف ترتّبیاً ، فالامتثال الترتّبی محال .

و الثالث : إنّ القواعد العقلیّة غیر قابلة للتخصیص ، فإذا حکم العقل بالترتّب فی مرحلة الامتثال فهو حاکم به فی مرحلة الجعل .

4 - قد ظهر أنّ إشکال المحقّق الخراسانی ناشئ من مطلوبیّة الجمع بین الضدّین من جهة إطلاق الخطابین ، لکنّ المیرزا یقول : بأنّ الترتّب رافع لهذا الإشکال ، لأنّه ضد الجمع ، بل یستحیل الجمع بناءً علیه ، لأنّه مع حصول الإزالة

ص:204

فالصّلاة غیر مطلوبة ، و إنّما تکون مطلوبةً لو ترک الإزالة ، فترکها بشرط وجوب الصّلاة ، فأین مطلوبیتهما فی آنٍ واحد حتی یلزم التکلیف بالمحال .

نعم ، مع إطلاق الأمر بالأهم یکون الأمر به موجوداً فی ظرف عصیانه ، و هو ظرف وجود الأمر بالمهم ، لکنّ اجتماع الطلبین غیر اجتماع المطلوبین ، و قد کان الإشکال هو لزوم اجتماع المطلوبین لا الطلبین ، و بالترتّب ینتفی لزومه .

هذا تمام الکلام فی المقدّمة الأُولی .

المقدّمة الثانیة

( فی الجواب عن المطاردة )

إنّه یجاب عن إشکال المطاردة بین إطلاق الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ بعد تحقّق شرطه و صیرورته مطلقاً بذلک ، بناءً علی ما صرّح به المیرزا من أنّ کلّ موضوع شرط و کلّ شرط موضوع ، فإنّه یکون للشرط ما کان للموضوع من الأثر ، و کما تتحقّق الفعلیّة للحکم بوجود الموضوع ، فإنّ فعلیّة الشرط فعلیّة الحکم ، فلا فرق بین « المستطیع یجب علیه الحج » و« المکلّف إذا استطاع یجب علیه الحج » و علی هذا ، فکما لا یخرج الموضوع عن الموضوعیّة قبل وجوده و بعد وجوده ، کذلک الشرط لا ینسلخ عن کونه شرطاً بعد تحقّقه ، وعلیه ، لا یخرج المشروط عن الإناطة بالشرط لیکون مطلقاً بعد تحقّقه ، و إذ لا یکون مطلقاً فلا تتحقّق المطاردة بین الحکمین .

الإشکال علی المیرزا

و قد أشکل علی المیرزا هنا بوجوه بعضها ناش من عدم التدبّر فی کلامه و بعضها خارج عن البحث ، إلّا أن الإشکال الوارد من الأُستاذ یرجع إلی المناقشة فی المبنی ، إذ یقول : بأنّ الشرط إمّا متمّم لاقتضاء المقتضی و إمّا متمّم لقابلیّة القابل ، فیستحیل کون الشرط موضوعاً للحکم و رجوع الموضوع إلی الشرط ،

ص:205

و علی الجملة ، فإنّ المقتضی - و هو الموضوع - منشأ للأثر ، و الشرط هو ما یساعد علی تأثیر المقتضی أثره ، فکلّ من الموضوع و الشرط جزء للعلّة التامّة ، و یستحیل رجوع أحد الأجزاء إلی الجزء الآخر ... فهذا هو الإشکال علی المیرزا رحمه اللّٰه .

لکن المیرزا یصرّح : بأنّه لیس حکم الموضوع و الشرط حکم أجزاء العلّة التکوینیّة ، بل الموضوع فی الأحکام الشرعیة هو المکلّف ، و شرط التکلیف هو البلوغ و العقل ، و الحکم إرادة المولی بحسب الملاکات . فلیس البلوغ - مثلاً - متمّماً للاقتضاء أو لقابلیّة المحلّ القابل ، بل الملاکات هی التی تؤثر فی إرادة المولی ، و هو یجعل الحکم و یعتبره عند تحقّق الشرط ... فالإناطة التی کانت قبل تحقق الشرط موجودة بعد تحققه ، و لا یصیر الواجب المشروط بعد تحقق الشرط واجباً مطلقاً ، بل الحکم المشروط بعصیان الأهم یبقی مشروطاً بعد تحقق العصیان أیضاً ... فالإشکال مندفع .

نعم ، لو کان مراده أنّ کلّ شرط موضوع و کلّ موضوع شرط فی جمیع الآثار ، فهذا غیر تام ، ففی باب المفاهیم - مثلاً - لو کان کلّ شرط موضوعاً بلا فرق ، کان معنی قولک : « إن جاءک زید فأکرمه » : زید الجائی إلیک أکرمه ، و معنی الآیة :

« إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا » : الفاسق الجائی إلیکم تبیّنوا عنه ، و حینئذٍ ، ینتفی مفهوم الشرط و یرجع الکلام إلی مفهوم اللقب ، و هذا لیس بمرادٍ للمیرزا . بل المراد هو : إنّ الشرط و الموضوع بمنزلة واحدةٍ فی إناطة الحکم و تعلیقه علیهما ، فکلّ حکم منوط بالموضوع حدوثاً و بقاءً ، و منوط بشرطه حدوثاً و بقاءً کذلک .

المقدمة الثالثة

( فی دفع الإشکال علی المیرزا )

و الغرض منها دفع ما یرد علی المیرزا بناءً علی مبنی الترتب و ذلک :

إنه فی الواجب المضیّق یعتبر وجود الحکم قبل زمان امتثاله ، فوجوب

ص:206

الصّوم لا بدّ من تحقّقه قبل طلوع الفجر ، لأنه لو لم یکن الخطاب متقدّماً علی الإمساک فی أول الفجر آناً ما ، فإمّا أن یکون المکلّف حین توجّه الخطاب إلیه أوّل الفجر متلبّساً بالإمساک أو غیر متلبّس به ، و علی کلا التقدیرین یستحیل توجّهه إلیه ، لأن طلب الإمساک ممّن هو متحقّق منه طلب للحاصل ، کما أنّ طلبه من المتلبس بعدمه طلب للجمع بین النقیضین ، و کلاهما محال . فلا بدّ من تقدّم الخطاب - و لو بآنٍ ما - علی زمان الامتثال و الانبعاث ، لیکون الانبعاث عن ذلک الخطاب المقدّم علیه و امتثالاً له ... فتکون النتیجة فی بحثنا : إن وجوب المهم لا بدّ من حصوله قبل امتثال الأمر بالمهم ، لکن امتثال الأمر بالمهم فی مرتبةٍ واحدة مع عصیان الأمر الأهمّ ، فوجود الأمر بالمهم لا بدّ و أنّ یکون فی رتبة قبل عصیان الأهم .

و توضیح أساس هذا الإشکال هو :

إن البعث لا بدّ و أن یکون مقدّماً علی الانبعاث ، و الأمر لا بدّ من تقدّمه علی الامتثال ، و الدلیل علی ذلک أمران : أحدهما : إن منشأ الامتثال و موجب الانبعاث هو تصوّر ما یترتّب علی مخالفته ثم التصدیق بما تصوّره ، فهنالک یحصل الامتثال ، و لو لا تقدّم الأمر علی الامتثال کیف تتحقّق هذه القضایا ؟ إذن : لا بدّ من تقدّم الأمر علی الامتثال زماناً ... و قد اعتمد علی هذا البیان المحقق الخراسانی .

و الثانی : لو کان الأمر مقارناً فی الزمان للامتثال و لم یکن قبله ، فالمکلّف إمّا تارک و إمّا فاعل ، فإن کان فاعلاً - کما فی مثال الإمساک - کان الأمر طلباً للحاصل ، و إن کان تارکاً ، کان طلباً للفعل فی آن الترک ، و هو طلب النقیض مع وجود النقیض له ، فهو طلب اجتماع النقیضین .

فتلخّص : ضرورة تقدّم الأمر زماناً علی الانبعاث .

ص:207

و نتیجة ذلک :

أولاً : إذا کان الأمر متقدّماً زماناً علی الانبعاث ، کان زمان الوجوب مقدّماً علی زمان الواجب ، فیلزم الالتزام بالواجب المعلّق . و الحال أنّ المیرزا ینکر الواجب المعلّق .

و ثانیاً : إن امتثال الأمر بالمهم متأخّر عن الأمر بالمهم ، و عصیان الأمر الأهم هو فی آن امتثال الأمر بالمهم - لأن عصیان الأهم یتحقق بامتثال المهم ، فهو یعصی الأمر بالإزالة بالإتیان بالصّلاة - و إذا کان کذلک ، لزم الالتزام بالشرط المتأخّر ، و المیرزا ینکر الشرط المتأخّر .

و تلخّص : إن علی المیرزا أنْ یرفع الید ، إمّا عن الترتب و إمّا عن إنکار الواجب المعلّق و الشرط المتأخّر .

جواب المیرزا

و قد أجاب المیرزا عن الإشکال بوجوه :

أولاً : بالنقض ، فقال : لو صحّ ذلک لصحّ فی نظیره ، أعنی به العلّة و المعلول التکوینیین ، بتقریب إن المعلول لو کان موجوداً حین علّته لزم علیّتها للحاصل ، و إلّا لزم کونها علةً للمستحیل ، لأن تأثیر العلّة فی الشیء فی ظرف عدمه اجتماع للنقیضین ، و کلاهما مستحیل ، فالقول بلزوم تقدّم الخطاب علی الامتثال زماناً یستلزم القول بلزوم تقدّم العلّة التکوینیة علی معلولها زماناً أیضاً ، و هو واضح البطلان .

و ثانیاً : بالحلّ فی المقامین : فإن المعلول أو الامتثال ، إنْ کان مفروض الوجود فی نفسه حین وجود العلّة أو الخطاب فیلزم ما ذکر من المحذور ، و أمّا إنْ کان فرض وجوده لا مع قطع النظر عنهما ، بل لفرض وجود علّته أو لتحریک

ص:208

الخطاب إلیه ، فلا یلزم من المقارنة الزمانیّة محذور أصلاً . و بالجملة : الامتثال بالإضافة إلی الخطاب کالمعلول بالإضافة إلی علّته ، فلا مانع من مقارنته إیّاه زماناً ، فلا موجب لفرض وجود الخطاب قبلاً و لو آناً ما .

هذا ، و قد نصّ السید الخوئی علی متانة هذا الجواب .

و ثالثاً : إن المکلّف إن کان عالماً قبل الفجر بوجوب الإمساک علیه عند الفجر ، کفی ذلک فی إمکان تحقق الامتثال منه حین الفجر ، فوجوده قبله لغو محض ، إذ المحرّک له حینئذٍ هو الخطاب المقارن لتحقق متعلّقه ، لا الخطاب المفروض وجوده قبله ، إذ لا یترتب علیه أثر فی تحقق الامتثال أصلاً . و أمّا إذا لم یکن المکلّف عالماً به قبل الفجر ، فوجود الخطاب فی نفس الأمر لا أثر له فی تحقق الامتثال فی ظرف العلم ، فیکون وجوده لغواً أیضاً . و لأجل ما ذکرناه - من عدم کفایة وجود التکلیف واقعاً فی تحقق الامتثال من المکلّف فی ظرفه ، بل لا بدّ فیه من وصول التکلیف إلیه - ذهبنا إلی وجوب تعلّم الأحکام قبل حصول شرائطها الدخیلة فی فعلیّتها ، فالقائل بلزوم تقدّم الخطاب علی الامتثال قد التبس علیه لزوم تقدّم العلم علی الامتثال بلزوم تقدّم الخطاب علیه .

رابعاً : إن تقدّم الخطاب علی الامتثال - و لو آناً ما - یستلزم فعلیّة الخطاب قبل وجود شرطه ، فلا بدّ من الالتزام بالواجب المعلّق ، و کون الفعل المقیّد بالزمان المتأخّر متعلّقاً للخطاب المتقدّم . و قد عرفت استحالته فی محلّه .

خامساً : النقض بالواجبات الموسّعة ، فإنه لا إشکال فی صحّة العبادات الموسّعة کالصّلاة مثلاً إذا وقعت فی أول وقتها تحقیقاً . و القول بلزوم تقدّم الخطاب علی زمان الامتثال آناً ما فی المضیّقات ، یستلزم القول بلزوم تقدّمه علیه فی الموسّعات أیضاً ، إذ لا فرق فی لزوم ذلک بین وجوب مقارنة الامتثال لأوّل

ص:209

الوقت کما فی المضیّقات و جوازها کما فی الموسّعات ، مع أنهم لا یقولون بلزوم التقدّم فیها ، فیکشف ذلک عن بطلان الالتزام به فی المضیّقات أیضاً .

( قال ) و الغرض من هذه المقدمة و إبطال القول بلزوم التقدّم المزبور هو :

إثبات أن زمان شرط الأمر بالأهمّ و زمان فعلیّة خطابه و زمان امتثاله أو عصیانه - الذی هو شرط الأمر بالمهم - کلّها متّحدة ، کما أنه الشأن فی ذلک بالقیاس إلی الأمر بالمهمّ و شرط فعلیّته و امتثاله أو عصیانه ، و لا تقدّم و لا تأخّر فی جمیع ما تقدّم بالزمان ، بل التقدّم و التأخر بینها فی الرتبة . وعلیه یتفرّع دفع جملة من الإشکالات .

اشکال المحقق الأصفهانی

و قد أشکل علیه المحقق الأصفهانی (1) : بأنّ ترتّب السقوط علی فعلیّة التکلیف و توجّهه لا یعقل أن یکون بالرتبة ، لمناقضة الثبوت السقوط ، و أن الإطاعة لیست علةً للسقوط و کذلک المعصیة ، و إلّا لزم علیّة الشیء لعدم نفسه فی الأولی و توقف تأثیر الشیء علی تأثیره فی الثانیة ، بل بالإطاعة ینتهی أمد اقتضاء الأمر ، و بالمعصیة فی الجزء الأول من الزمان یسقط الباقی عن القابلیّة للفعل ، فلا یبقی مجال لتأثیره فیسقط بسقوط علّته الباعثة علی جعله .

دفاع الأُستاذ

و قد دفع الأُستاذ هذا الإشکال : بأنّا لم نجد فی کلام المیرزا ما یفید أنّ ثبوت الأمر متقدّم رتبةً علی السقوط ، نعم ، قال : ثبوته متقدّم رتبةً علی عصیانه ، و من الواضح أنّ العصیان غیر السقوط ، لأن الأمر حال العصیان موجود و هو متقدّم علیه رتبةً کما ذکر ، أمّا سقوطه فهو بعد العصیان .

ص:210


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 213 - 215 .
المقدمة الرابعة

( قال : و هی أهمّ المقدّمات ) :

إن انحفاظ الخطاب فی تقدیرٍ ما إنما یکون بأحد وجوهٍ ثلاثة ... و حاصل کلامه :

إن الإطلاق - و کذا التقیید - ینقسم إلی قسمین : فالأول : ما کان الانقسام فیه سابقاً علی الخطاب ، کالانقسام إلی البالغ و غیر البالغ ، فإنه محفوظ قبل وجود الخطاب . و القسم الثانی : ما کان الانقسام فیه متفرّعاً علی الخطاب ، کالانقسام إلی العالم به و الجاهل به . و لمّا کان الانقسام الأول یقبل اللّحاظ ، - و أنّ الحاکم فی ظرف الحکم یلحظه ، فإمّا یعتبر البلوغ و إمّا لا یعتبر فیطلق - فیسمّی بالإطلاق اللحاظی ، و أمّا الانقسام الثانی فلیس کذلک ، غیر أنّ ملاک الحکم یمکن فیه التقیید بالعلم - مثلاً - و إلّا فالإطلاق ، فیسمّی بالإطلاق الذاتی و الملاکی ، و لمّا کان الخطاب فیه غیر قابل للإطلاق و التقیید احتاج إلی دلیل آخر ، و هذا ما یعبّر عنه بنتیجة الإطلاق ، بخلاف الانقسام الأوّل ، فإن الإطلاق فیه بنفس الدلیل الأوّل .

فهذان وجهان لانحفاظ الخطاب ... و قد وقع الخلاف بین الأکابر هنا ، فالمیرزا یقول بهذین الوجهین ، و منهم من یقول : بأنّ الإطلاق فی جمیع الموارد لحاظی .

و الوجه الثالث :

ما کان الخطاب فیه محفوظاً - لا بالإطلاق اللّحاظی و لا بالإطلاق الملاکی - باقتضاء نفس الخطاب ، مثل : وجود الوجوب فی مرتبة الإطاعة و المعصیة ، فإنّه موجود مع فعل الواجب و مع ترکه ، و هذا مقتضی نفس الخطاب .

و لا بدّ هنا من الالتفات إلی أن فعل الواجب أو ترکه ، یلحظ تارةً : بعنوان الفعل و الترک و أُخری : بعنوان الطاعة و المعصیة ، فإن کان بالعنوان الثانی فهو من

ص:211

الانقسامات اللّاحقة ، و إن کان بالأوّل فلا ، لأن الفعل و الترک غیر متفرّعین علی وجود الواجب ، و لذا نبّه المیرزا علی أن لا یتوهّم قابلیّة الإطاعة و المعصیة للإطلاق الملاکی ، لکونهما من الانقسامات اللّاحقة ، فأفاد أنّه لیس کلّ ما کان من الانقسامات اللّاحقة فهو قابل للإطلاق الملاکی ، بل لا بدّ من التفصیل ...

قال : إن الإطلاق و التقیید بقسمیهما - أعنی بهما الملاکی و اللّحاظی - مستحیلان فی باب الإطاعة و المعصیة .

أمّا استحالة التقیید : فلأن وجوب فعل لو کان مشروطاً بوجوده ، لاختصّ طلبه بتقدیر وجوده خارجاً ، و هو طلب الحاصل ، و لو کان مشروطاً بعدمه ، لاختصّ طلبه بتقدیر ترکه ، و هو طلب الجمع بین النقیضین ، فعلی کلا التقدیرین یکون طلبه محالاً ، فلا یصح له أن یقول : إن صلّیت وجبت علیک ، أو یقول : إن ترکت الصّلاة وجبت علیک ، فلا الطلب أی الوجوب یمکن تقییده و لا المطلوب و هو الواجب . هذا کلامه . لکنّ المحقق الاصفهانی جعل البحث فی تقیید المطلوب ... إلّا أنّ تقیید الطلب فیه محذور ثالث أیضاً ، کما سنوضّحه فیما بعد .

و أمّا استحالة الإطلاق ، فقد ذکر له وجهین ، أحدهما : ما ذهب إلیه من أن التقابل بین الإطلاق و التقیید تقابل العدم و الملکة . و الثانی : ما ذکره من أنّ الإطلاق فی قوّة التصریح بکلا التقدیرین ، فإن قوله : اعتق رقبةً و إن لم یکن معناه : اعتق رقبةً مؤمنة أو کافرة ، لکنّه فی قوّة ذلک ، فلو کان الوجوب مطلقاً بالنسبة إلی الفعل و الترک لزم محذور تحصیل الحاصل أو محذور اجتماع النقیضین .

قال الأُستاذ :

فمن قال بأن التقابل من قبیل التضاد لا یمکنه إثبات الاطلاق ، و کذا بناءً علی أن الاطلاق لیس فی قوّة الجمع بین القیود و الخصوصیات ... فظهر أن أساس هذه

ص:212

المقدمة مبنی علی هذه المبانی ... و إلّا فلا یتم الإطلاق ، و هذا هو إشکال السید الخوئی فی ( التعلیقة ) آخذاً من المحقق الأصفهانی .

ثم قال المیرزا :

و الفرق بین انحفاظ الخطاب فی هذا القسم و انحفاظه فی القسمین السابقین ، إنما هو من جهة أن انحفاظه فی هذا القسم لأجل أنه من لوازم ذاته ، حیث أن تعلّق الخطاب بشیء بذاته یقتضی وضع تقدیرٍ و هدم تقدیر آخر ، سواء کان الخطاب وجوبیّاً أو تحریمیّاً ، لأن الأول یقتضی وضع تقدیر الوجود و هدم تقدیر العدم ، کما أن الثانی یقتضی وضع تقدیر العدم و هدم تقدیر الوجود .

و هذا بخلاف انحفاظ الخطاب فی القسمین السابقین ، فإنه من جهة التقیید بذلک التقدیر أو الإطلاق بالإضافة إلیه ، و إلّا فذات الخطاب بالحجّ أو الصّلاة مثلاً لا یقتضی انحفاظه فی تقدیر الاستطاعة بنفسه .

قال :

و یترتب علی الفرق من هذه الجهة أمران :

الأول : إن نسبة التقدیر المحفوظ فیه الخطاب بالإضافة إلیه فی القسمین الأوّلین ، نسبة العلّة إلی معلولها . أما فی موارد التقیید فهو واضح ، لما ذکرناه من أن مرجع کلّ تقدیر کان الخطاب مشروطاً به إلی کونه مأخوذاً فی موضوعه ، و قد عرفت أنّ رتبة الموضوع من حکمه نظیر رتبة العلّة من معلولها . و أمّا فی موارد الإطلاق ، فلما ذکرناه من اتّحاد مرتبة الإطلاق و التقیید ، إذ الإطلاق عبارة عن عدم التقیید فی موردٍ قابل له ، فإذا کانت مرتبة التقیید سابقة علی مرتبة الحکم المقیّد به ، کانت مرتبة الإطلاق أیضاً کذلک . و أمّا فی هذا القسم ، فنسبة التقدیر المحفوظ فیه الخطاب بالإضافة إلیه نسبة المعلول إلی العلّة ، و ذلک : لما مرّ من أن الخطاب

ص:213

له نحو علیّة بالإضافة إلی الامتثال ، فإذا کانت نسبة الحکم إلی الامتثال نسبة العلّة إلی معلولها ، کان الحال ذلک بالإضافة إلی العصیان أیضاً ، لأن مرتبة العصیان هی بعینها مرتبة الامتثال .

الثانی : إن نسبة التقدیر المحفوظ فیه الخطاب فی القسمین الأوّلین بما أنها نسبة الموضوع إلی حکمه ، فلا محالة لا یکون الخطاب متعرّضاً لحاله أصلاً وضعاً و رفعاً ، مثلاً : خطاب الحج لا یکون متعرّضاً لحال الاستطاعة ، بأن یکون مقتضیاً لوجودها أو عدمها ، و إنما هو یتعرّض لحال الحجّ باقتضاء وجوده علی تقدیر وجود الاستطاعة بأسبابها المقتضیة لها ، فلا نظر له إلی إیجادها و عدم إیجادها ، و هذا بخلاف التقدیر المحفوظ فیه الخطاب فی هذا القسم ، فإنه بنفسه متعرّض لحال ذلک التقدیر وضعاً و رفعاً ، إذ المفروض أنه هو المقتضی لوضع أحد التقدیرین و رفع الآخر .

فتحصل : إن انحفاظ الخطاب فی هذا القسم و فی القسمین الأوّلین من الجهتین المذکورتین علی طرفی النقیض .

نتیجة المقدمة

و تکون نتیجة هذه المقدمة - التی هی أهمّ المقدّمات کما قال - : أنّ انحفاظ خطاب الأهم فی ظرف العصیان ، إنما هو من جهة اقتضائه لرفع هذا التقدیر و هدمه ، من دون أن یکون له نظر إلی شیء آخر علی هذا التقدیر ، بخلاف خطاب المهم ، فإنه لا نظر له إلی وضع هذا التقدیر و رفعه ، لأنه شرطه و موضوعه ، و قد عرفت أنه یستحیل أن یقتضی الحکمُ وجودَ موضوعه أو عدمه ، و إنما هو یقتضی وجود متعلّقه علی تقدیر عصیان خطاب الأهمّ ، فلا الخطاب بالمهم یعقل أن یترقّی و یصعد إلی مرتبة الأهم و یکون فیه اقتضاء لموضوعه ، و لا الخطاب بالأهمّ

ص:214

یعقل أن یتنزل و یقتضی شیئاً آخر غیر رفع موضوع خطاب المهم ، فکلا الخطابین و إن کانا محفوظین فی ظرف العصیان و متّحدین زماناً إلّا أنهما فی مرتبتین طولیّتین .

توضیحه :

إن الأمر بالأهمّ مطلقٌ بالنسبة إلی الأمر بالمهمّ ، لکن الأمر بالمهمّ مقیّد بعصیان الأمر بالأهم ، فلیس للأمر بالأهمّ إلّا الاقتضاء الذاتی لمتعلّقه أعنی الإزالة ، لأنّ کلّ أمرٍ إنّما یدعو إلی متعلّقه ، فهو یقتضی الطاعة بفعل الإزالة و هدم عصیان الأمر بها ، و لا یخفی أنّ الاقتضاء غیر التقیید ، فهو یقتضی الفعل و الطاعة لا أنّه مقیّد بالفعل و الطاعة ، لأنّ تقیید الخطاب بالفعل أو المعصیة محال ، لکونهما متفرّعین علی الخطاب .

أمّا الأمر بالمهم ، فهو مقیّد بعصیان الأمر بالأهم ، فکان عصیانه موضوع الأمر بالمهم ، و قد تقرّر أن الحکم لا یتکفّل موضوعه ، بل یترتّب علیه عند تحقّقه ، فلا اقتضاء للأمر بالمهم لتحقق موضوعه و هو عصیان الأمر بالأهم ، أمّا الأمر بالأهمّ فکان له اقتضاء الطاعة و عدم العصیان ... و بعبارةٍ أُخری :

إن الأمر بالمهم یدعو إلی متعلّقه - و هو الصّلاة - عند تحقق شرطه و هو عصیان الأهم أی الإزالة ، و إذا کان مشروطاً بذلک فهو فی مرتبةٍ متأخرةٍ عن الشرط ، لکنّ الأمر بالأهمّ فی مرتبة متقدّمة و یقتضی عدم العصیان ، ... .

فکان الحاصل : وجود الاختلاف الرتبی بین الأمرین و أنّ الأمر بالأهمّ متقدّم ، و وجود الاختلاف بینهما من حیث المقتضی ، إذ الأمر بالأهم له اقتضاء بالنسبة إلی العصیان و یرید هدمه ، و الأمر بالمهم لا اقتضاء له بالنسبة إلیه ، و إنما هو شرط له و یتحقق - الأمر بالمهم - عند تحقّقه ... .

ص:215

و بعد هذا ... أین یکون التمانع ؟

تلخّص :

إن المحقق الخراسانی یری بأنّ محذور اجتماع الضدّین لا یرتفع بکون أحد الخطابین مطلقاً و الآخر مقیّداً ، فمع التنزّل عن کون عصیان الأمر بالأهم شرطاً للأمر بالمهم بنحو الشرط المتأخّر ، اللّازم منه تحقق التمانع من الطرفین ، یکون الطّرد من طرف الأمر بالأهم کافیاً للزوم المحذور ... .

فأجاب المحقق النائینی : بجعل الشرط شرطاً مقارناً لا متأخّراً ، و ذکر أنّ الأمر بالأهم یدعو إلی امتثال متعلّقه مطلقاً ، أی سواء کان فی قباله أمر بالمهم أو لا ، لکن الأمر بالمهم جاء مقارناً لعصیان الأمر بالأهم و مشروطاً به ، و لا تعرّض له لهذا الشرط لا وضعاً و لا رفعاً ، فالأمر بالمهم غیر طارد للأمر بالأهم ، کما أن الأمر بالأهم لا تعرّض له للمهمّ أصلاً ، و إنما یدعو إلی متعلّقه کما تقدّم .

و الحاصل : إنّ الأمر بالمهمّ لا یتکفّل شرطه - و هو عصیان الأمر بالأهمّ - فلا اقتضاء له بالنسبة إلیه ، و الأمر بالأهم لا یدعو إلّا إلی متعلّقه ، فلا اقتضاء له بالنسبة إلی متعلّق الأمر بالمهم ، و لا نظر له إلیه أبداً ، نعم ، لو کان مفاده أنک إن عصیت الأمر بالأهمّ فلا تأت بمقتضی الأمر بالمهم ، لزم طلب الضدّین ... و لذا قال المیرزا : لا الأمر بالمهم یترقی إلی الأمر بالأهم ، و لا الأمر بالأهم یتنزل إلی الأمر بالمهم .

و بعبارة أُخری : التمانع لیس فی مرتبة الملاک و الغرض من الخطابین ، و لیس فی مرتبة الإرادة و الشوق إلیهما - فإن الإرادة تابعة للملاک و الغرض - و لیس فی مرتبة الإنشاء ، لأنه - سواء کان الاعتبار و الابراز أو إیجاد الطلب - لا محذور فی الإنشاءین ، و تبقی مرحلة اقتضاء الخطابین ، و وجود التمانع فی هذه المرحلة لیس

ص:216

بین نفس الاقتضاءین ، بل هو - إن کان - فی المقتضَیَین ، فإن قال « صلّ » و قال « أزل النجاسة عن المسجد » و طلب تحقّقهما فی آن واحد بلا اشتراطٍ ، لزم محذور الجمع بین الضدّین ، و التکلیف بما لا یطاق ، أمّا لو قال : « أزل النجاسة » ثم قال :

« صلّ إن عصیت الإزالة » کان المقتضی للأمر الأوّل إطاعته و عدم معصیته ، و المقتضی للثانی : وجوب الصّلاة علی تقدیر عصیان الأوّل ، و لا تمانع بین هذین المقتضَیَین ، لأن الأمر بالإزالة إنما ینهی عن عصیانه و لا تعرّض له للصّلاة ، و الأمر بالصّلاة مفاده : وجوب إطاعته علی تقدیر عصیان الأمر بالإزالة ... .

إذن : لا تمانع بینهما فی مرحلةٍ من المراحل .

و ببیان آخر : إن المفروض أن القدرة واحدة ، و القدرة الواحدة لا تکفی لامتثال الخطابین معاً إن کانا مطلقین ، أمّا لو کان أحدهما مشروطاً ، فلا تمانع بین المتعلّقین فی جلب القدرة ، لأنّ الأمر بالأهم یطالب بصرف القدرة فیه ، لکنّه ساکت عمّا لو عصی ، و الأمر بالمهم یطالب بصرف القدرة فیه فی حال عصیان الأمر بالأهم ... فلا مشکلة .

و الشیخ الأعظم لمّا جعل المشکلة فی القدرة ، و أنه لا توجد قدرتان فی المتزاحمین بناءً علی السببیّة ، فمع تقیید کلٍّ منهما بعدم صرفها فی الآخر یتم التخییر . فأشکل علیه المیرزا بأنه : مع عدم صرف القدرة فی الأهم لا بدّ من صرفها فی المهم ، و إلّا یلزم تفویت مصلحة ملزمة مع القدرة علی استیفائها ، و هذا هو الترتب .

إشکال المحقق الأصفهانی

و قد أورد المحقق الأصفهانی (1) علی المقدمة الرابعة بأُمور ، نتعرّض لما

ص:217


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 239 .

یتعلّق منها بالموضوع ، و هو اشکالان :

الإشکال الأول و هو ذو جهتین :

إحداهما : إن المیرزا جعل محذور الترتب لزوم تحصیل الحاصل ، و لزوم الجمع بین النقیضین فی مورد تقیید المطلوب ، و الحال أن البحث فی الترتب هو فی تقیید الطلب لا المطلوب .

قال الأُستاذ :

هذا الإشکال وارد علی المیرزا بالنظر إلی کلامه فی الدورة الأولی کما فی ( فوائد الأُصول ) تقریر المحقق الکاظمی (1) . أمّا فی الثانیة - کما فی ( أجود التقریرات ) - فقد طرح البحث فی تقیید الطلب .

الثانیة : إن المحذور لیس الأمرین المذکورین ، بل هو استلزام الترتّب علیّة الشیء لنفسه ، و تقیید العلّة بعدم معلولها ، فهذان هما المحذوران ، لا ما ذکرهما المیرزا . و توضیحه :

إن المیرزا یقول : بأنّ الطلب إنْ تقیّد بوجود متعلّقه لزم تحصیل الحاصل ، و إن تقیّد بعدمه و ترکه ، کان الطلب مع التقیید بترک المتعلّق جمعاً بین النقیضین .

فقال الأصفهانی : بأنّ القید وجود ناشئ من الطلب نفسه ، فالمحذور هو کون الشیء علّةً لنفسه ، لأنّ کلّ قیدٍ و شرط فهو علّة للمقیّد و المشروط ، فلو کان وجود الصّلاة شرطاً لوجوبها - و الوجوب علّة وجودها و تحققها فی الخارج - کان وجودها معلولاً ، من جهة أن العلّة وجوبها ، و علّةً ، لفرض کونها شرطاً لوجوبها .

إذن ، قد أصبح الشیء علّةً لنفسه ، و هذا محذور التقیید ، لا تحصیل الحاصل . هذا من جهة أخذ الوجود .

ص:218


1- 1) فوائد الأُصول (1 - 2) 348 ط جامعة المدرسین .

و لو کان ترک الصّلاة شرطاً للوجوب - و الوجوب علّة لوجودها - کان عدم الصّلاة عدم المعلول ، لکنّ هذا العدم قد فرض جعله شرطاً للأمر و الوجوب الذی هو علّة لوجود الصّلاة ، فاللّازم أن یکون عدم المعلول علّة و شرطاً لوجود علّة هذا المعلول . ثم أمر المحقق الأصفهانی بالتدبّر فإنه حقیق به .

قال الأُستاذ

لم یکن المیرزا فی مقام استقصاء جمیع المحاذیر ، هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن ما ذکره - من عدم لزوم تحصیل الحاصل هنا ، بل المحذور علیّة الشیء لنفسه ، لأنّ الوجود المأخوذ شرطاً أو قیداً وجود معلول لنفس هذا الوجوب لا وجوب آخر ، لیلزم محذور تحصیل الحاصل - فی غیر محلّه ، لأن المیرزا لم یقل بأنّ قید الوجوب ناشئ من نفس هذا الوجوب ، بل قال : بأنّ تقیید الوجوب و اشتراطه بوجود المتعلّق تحصیل للحاصل ... فلا وجه لحصر الإشکال بما ذکر المحقق الأصفهانی .

و علی الجملة ، فإن مقصود المیرزا هو أن تقیید وجوب الأهم بفعله محال ، و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق ، لکون النسبة بینهما عنده نسبة العدم و الملکة . و المحقق الأصفهانی یری النسبة بینهما نسبة السلب و الإیجاب بوجهٍ و العدم و الملکة بوجه .

و تلخّص عدم ورود هذا الإشکال .

الإشکال الثانی و قد تبعه المحقق الخوئی :

إن محذور لزوم تحصیل الحاصل أو طلب النقیضین موجود فی طرف التقیید بالوجود أو العدم ، أما فی طرف الإطلاق فلا ... لأنّ التقیید لحاظ الخصوصیّة و أخذها ، و الإطلاق عبارة عن لحاظ الخصوصیّة و عدم أخذها ، نعم ،

ص:219

لو کان أخذ الخصوصیّات و جمعها کان اللازم أحد المحذورین المذکورین ...

وعلیه ، فالإطلاق ممکن ، بل هو واجب ، لکون النسبة بینه و بین التقیید نسبة السلب و الإیجاب .

وعلیه ، فإن اقتضاء الأمر بالأهم لفعل الأهم یکون بإطلاقه عند المحقق الأصفهانی ، لا باقتضاء ذاته کما هو عند المیرزا ، و لا یخفی الفرق ، إذ علی الأوّل یکون الاقتضاء مجعولاً للشّارع ، و علی الثانی فهو غیر مستند إلی الشارع بل هو اقتضاء العلیّة و المعلولیّة .

قال الأُستاذ

إن الفعل و الترک إن کانا من الانقسامات المتفرّعة علی الخطاب ، أمکن التقیید بهما أو لحاظهما و جعل الخطاب لا بشرط بالنسبة إلیهما ، و هذا معنی الإطلاق ، و إن لم یکونا من الانقسامات المتفرّعة علیه ، فلا یمکن التقیید بأحدهما ، فالإطلاق ضروری علی مبنی المحقق الأصفهانی ، لکون النسبة هی السلب و الإیجاب .

و لمّا کان حقیقة الإطلاق هو عدم الأخذ للخصوصیّة ، و جعل نفس الذات مرکباً للحکم ، فلا محذور فی الإطلاق هنا ، وفاقاً للمحقق الأصفهانی و خلافاً للمیرزا ... .

و ینبغی الالتفات إلی أن المیرزا قد ذکر أن الأمر بالأهم موجود فی حال العصیان إلّا أنه بلا اقتضاءٍ و داعویّة ، و المحقق الأصفهانی لم یتطرّق إلی هذه النکتة و کأنه موافق علیها .

المقدمة الخامسة

( فی تشخیص محلّ الکلام فی بحث الترتّب )

إن القول بالترتب لا یترتب علیه محذور طلب الجمع بین الضدّین - کما

ص:220

توهّم - فإنه إنما یترتب علی إطلاق الخطابین دون فعلیّتهما . و بیان ذلک :

إن الشرط الذی یترتّب علیه الخطاب ، إمّا أن لا یکون قابلاً للتصرّف الشرعی ، لخروجه عن اختیار المکلّف بالکلیّة ، کالزّوال بالنسبة إلی الصّلاة ، و إمّا أن یکون قابلاً لذلک ، کالاستطاعة بالنسبة إلی الحجّ ، فإن للشارع أن یتصرّف فیه بأن یوجب - مثلاً - أداء الدین ، فیرتفع الاستطاعة بحکم الشارع و یسقط وجوب الحج .

ثم إن الشرط یکون تارةً : شرطاً للحکم بحدوثه و أُخری : ببقائه و ثالثةً :

بوجوده فی برهةٍ من الزمان . مثلاً : فی باب الحضر و السفر قولان ، فقیل : الشرط للقصر هو السّفر ، و یکفی حدوثه فی أوّل الوقت ، فمن کان مسافراً فی أول وقت الصّلاة وجب علیه القصر ، و إن کان حاضراً فی بلده فی آخره . و قیل : لا یکفی الحدوث بل الشرط کونه مسافراً حتی آخر الوقت .

ثم إنّ الموارد تقبل التقسیم إلی قسمین بلحاظ حال المکلّف و اختیاره و ینقلب الحکم بتبع ذلک ، کما لو کان حاضراً فسافر أو العکس ، فإنّ الحکم الشّرعی ینقلب قصراً أو تماماً ، أمّا فی مثل الاستطاعة فلا خیار للمکلّف ، فإنه إذا حصل استقرّ الحج شاء أو أبی .

و الخطاب الشرعی أیضاً ینقسم تارةً : إلی الخطاب الرافع للموضوع بنفسه ، فلا دخل لإطاعة الخطاب ، و أُخری : یکون الرافع له امتثال الخطاب و إطاعته ، کما فی مسألة أرباح المکاسب ، فإن الربح موضوع لوجوب الخمس ، فإن أوجب الشارع علی المکلّف أداء دیون تلک السنة من الأموال الحاصلة فیها - لا السنین الماضیة - فإنّ نفس هذا الخطاب یرفع موضوع الخمس .

هذا ، و المهم فی موارد الترتّب أن یکون رفع الموضوع بامتثال الخطاب ،

ص:221

لا أن یکون أصل وجود الخطاب رافعاً - کما تقدّم - فإن التزاحم ینتفی حینئذٍ و لا یبقی موضوع للترتب ، لأنه فرع التزاحم بین الخطابین ، فلا بدّ من وجوده حتی نری هل یرتفع باشتراط أحدهما بعصیان الآخر أو لا ؟

ثم إن هنا قاعدةً و هی : إنه لو حصل خطاب فی موضوع خطابٍ آخر ، فإمّا أن یمکن اجتماع متعلّقی الخطابین ، فلا بحث ، کما لو جاء فی موضوع وجوب الصّلاة ، - و هو أوّل الفجر - وجوب الصّوم أیضاً ، فیکون أوّل الفجر موضوعاً لکلیهما و لا تمانع بینهما ، و إمّا لا یمکن و یقع التمانع ، فعلی الحاکم لحاظ الملاکین و تقدیم الأهم و إلّا فالتخییر .

فإن کان لکلٍّ من المتعلّقین ملاک تام و وقع الإشکال فی مرحلة الخطاب ، من حیث القدرة و عدمها عند المکلّف علی الامتثال ، کان أحد الحکمین رافعاً لموضوع الآخر بامتثاله ، لفرض عدم القدرة علی امتثالهما معاً ، و بقطع النظر عن الامتثال یکون الموضوع باقیاً ، إلّا أن القدرة الواحدة لا تفی لامتثال الحکمین . فإن لزم من الجمع بینهما طلب الجمع بین الضدین ، فلا مناص من الأخذ بالأهم و ینعدم الخطاب بالمهم ، أما إن کانا متساویین و لا أهم فی البین ، فالخطابان کلاهما ینعدمان و یستکشف خطاب واحد تخییری ، و إن لم یلزم منهما طلب الجمع بین الضدّین - و المفروض وجود الملاک التام لکلّ منهما - وجب وجودهما ... و هذا معنی قولهم : إن إمکان الترتّب مساوق لوجوبه .

إنما الکلام - کلّ الکلام - فی إثبات عدم لزوم الجمع . و قد أقام المیرزا ثلاثة براهین علی ذلک .

و قد ذکر قبل الورود فی المطلب ما هو المنشأ للزوم الجمع بین الضدّین ، فقال : بأنّ المنشأ لهذا المحذور هو أحد أُمورٍ ثلاثة :

ص:222

1 - أن یقیّد کلّ من الخطابین بوجود الآخر ، بتقیید المطلوبین أحدهما بالآخر ، کأن یقول : تجب علیک القراءة المقیّدة بالصّوم ، و یجب علیک الصّوم المقیّد بالقراءة ، أو بتقیید طلب کلٍّ بطلب الآخر ، فوجوب القراءة فی فرض وجود الصّوم و وجوب الصّوم فی فرض وجود القراءة .

فمن الواضح أن تقیید کلٍّ منهما بالآخر یستلزم الجمع بینهما .

2 - أن یقیّد أحدهما بالآخر دون العکس ، کأن یقول : صم . ثم یقول : صلّ إن کنت صائماً . فیلزم الجمع .

3 - أن لا یقیّد شیئاً منهما بل یجعلهما مطلقین ، فیقول : صم ، صلّ ، فکلّ منهما واجب سواء کان الآخر موجوداً أو لا ، فیلزم الجمع فی فرض وجودهما .

و من الواضح استحالة لزوم الجمع لو قیّد أحدهما بعدم الآخر ، کما لو قال :

صم إن لم تقرأ .

و حینئذٍ ، فإن الإشکال علی الترتّب یندفع بإقامة البرهان علی عدم لزوم الجمع ، لأن لزومه یکون إمّا بإیجاب الجمع بعنوانه کأن یقول : اجمع بین کذا و کذا ، و إمّا بإیجاب واقع الجمع ، و ذلک یکون بالأمر بکلیهما علی نحو الإطلاق ، فیلزم الجمع ، أمّا إذا لم یکن هذا و لا ذاک فلا وجه للاستحالة ، و البرهان هو :

أولاً : إنّ المفروض فی الترتب تقیید أحد الخطابین بعصیان الآخر ، فیکون وقوع أحدهما علی صفة المطلوبیّة بنحو القضیّة المنفصلة الحقیقیّة ، لأن الأمر بالأهم إمّا أن یمتثل فی الخارج أو لا ؟ فإن امتثل استحال وقوع المهم علی صفة المطلوبیّة ، و إن لم یمتثل فبما أن متعلّقه لم یوجد فی الخارج ، یستحیل کونه مصداقاً للمطلوب و معنوناً بعنوانه .

و بعبارة أُخری : إن حال الأهم لا یخلو عن أن یوجد خارجاً أو لا یوجد ، فإن

ص:223

وجد ، کان هو الواقع علی صفة المطلوبیّة و لا خطاب بالمهم لانتفاء شرطه أعنی عصیان الأهم ، و إن لم یوجد الأهم و وجد المهم ، کان هو الواقع علی صفة المطلوبیّة ، و إن لم یوجد المهمّ کذلک لم یقع شیء منهما علی صفة المطلوبیة من باب السّالبة بانتفاء الموضوع ... و علی کلّ حال ، یستحیل وقوعهما معاً فی الخارج علی صفة المطلوبیّة ، فیستکشف من ذلک عدم استلزام فعلیّة طلبهما لطلب الجمع .

و توضیحه : إن خطاب المولی ب« صلّ » مشتمل علی نسبتین : نسبة طلبیّة بین المولی و الصّلاة ، و نسبة تلبّسیة هی بین المکلّف و الصّلاة ، و لا تنافی بین هاتین النسبتین ، فکأنه یقول للمکلّف : کن فاعلاً للإزالة أو تجب علیک الصّلاة ، فالمولی آمر بالمهم - و هو الصّلاة - و المکلّف فاعل للأهم - و هو الإزالة - فأین الاجتماع بین النسبتین ؟ بل الاجتماع ضروری الامتناع ! لأنّ واقع الجمع هو فی مطلوبیّة الأهم و المهم - المتضادّین - فی زمانٍ واحد ، لکنّ المفروض فی الترتّب عدم اجتماع فاعلیّة الأهم مع وجوب المهم ، لأنّه لمّا یکون فاعلاً للأهم لا یکون مخاطباً بالمهم ، و عند ما یکون مخاطباً بالمهم و یجب علیه ، لا یکون للأهم فاعلیّة ، فهما لیسا مطلوبین فی وقت واحد لیلزم طلب الجمع بین الضدّین .

و ثانیاً : إن القید یکون تارةً : قیداً للمطلوب کالطهارة بالنسبة إلی الصّلاة و یکون تحصیله واجباً . و أُخری : قیداً للطلب و تحصیله غیر واجب کالاستطاعة فإنه قید لطلب الحجّ لا لنفس الحج .

و قید الطلب لا یکون قیداً للمطلوب .

و هنا : ترک الأهم قید لطلب المهم - و لیس قیداً للمهم نفسه - إذ کان عصیان الأمر بالأهم شرطاً لوجوب المهم و هو الصّلاة ، فهی لیست بواجبة إلّا عند ترک

ص:224

الإزالة ، فالنتیجة ضد إیجاب الجمع ... لأن إیجاب الجمع عبارة عن أن یکون المتضادّان متّصفین بالمطلوبیّة ، و مع الالتفات إلی ما تقدّم یستحیل تحقق المطلوبیّة لهما معاً ، لأن المفروض توقّف اتّصاف المهم بالمطلوبیّة علی ترک الأهم لا علی وجوده ، فشرط مطلوبیّة الصّلاة عدم الإزالة لا وجودها ... و إلّا لزم خلف الشرط ، کما أنه لا یتصف المهم بالمطلوبیّة إلّا مع عدم الأهم ، فلو اتّصف بها مع وجوده ، لزم وجود الأهم و عدمه و هو اجتماع للنقیضین ... فإیجاب الجمع یستلزم الاستحالة من وجهین أحدهما : لزوم الخلف ، و الآخر : لزوم اجتماع النقیضین . و کلّما استلزم المحال فهو محال .

قال الأُستاذ :

فی کلامه نقص لا بدّ من تتمیمه ، إذ للمنکر للترتب أن یقول : حاصل البرهان عدم مطلوبیّة المهم مع وجود الأهم ، لکنّ الأهمّ مع وجود المهم مطلوبٌ ، و ما ذکرتموه لا یثبت استحالة مطلوبیّته . و بعبارة أُخری : إن إطلاق الأهم یقتضی مطلوبیّته مع وجود المهم ، فیلزم اجتماع الضدّین و یعود الإشکال ، و إن کان مندفعاً بالنظر إلی تقیّد المهم بعدم الأهم .

و تتمیم البرهان یکون بالاستفادة ممّا ذکره المیرزا فی المقدمات السابقة ، من أن مطلوبیّة المهم إنّما هی فی حال ترک الأهم ، إذ أصبح ترکه موضوعاً لمطلوبیّة المهم ، و إذا تحقق ترک الأهم تحقق مطلوبیّة المهم فی ظرف عدم الأهم .

هذا تمام الکلام فی مطالب المیرزا فی هذا المقام .

الترتّب ببیان الشیخ الحائری :

و الشیخ عبد الکریم الحائری ذکر فی ( الدرر ) (1) مستفیداً من المحقق السیّد

ص:225


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 140 ط جامعة المدرسین .

الفشارکی أربع مقدّماتٍ ، و قد شارک المیرزا فی بعض الخصوصیّات ، کقولهما بکون الأمر بالمهم مقیّداً - خلافاً للمحقّق العراقی القائل بأنّه مطلق ، کما سیأتی - و نحن نتعرّض للمقدّمتین الأولی و الثانیة ، و حاصل کلامه فیهما :

إن الإرادة المتعلّقة بالعناوین تنقسم إلی قسمین ، فقد تکون مطلقةً لم یؤخذ فیها أیّ تقدیر ، بل الشیء یجب إیجاده بجمیع مقدّماته ، کأن یرید إکرام زید بلا قیدٍ ، فهذه إرادة مطلقة تقتضی تحقّق الموضوع و هو مجیء زید لیترتب علیه إکرامه . و قد تکون الإرادة علی تقدیرٍ ، وجودی أو عدمی ، فتکون منوطةً بذلک التقدیر ، فلو لم یتحقّق التقدیر فلا إرادة بالنسبة إلیه ... و تنقسم هذه الإرادة إلی ثلاثة أقسام بحسب حصول التقدیر الذی أُنیطت به :

فتارةً : تتعلّق بالشیء بعد حصول التقدیر ، کتعلّقها بإکرام زید علی تقدیر مجیئه . و ثانیةً : تتعلّق به عند حصوله ، کتعلّقها بالصوم عند الفجر . و ثالثةً : تتعلّق به قبله ، کتعلّقها بالخروج إلی استقبال زید الذی سیصل إلی البلد بعد ساعات مثلاً .

ففی هذه الأقسام تکون الإرادة منوطة بالتقدیر ، فإذا علم به کان لها الفاعلیّة ، کما لو علم بوقت قدوم المسافر خرج إلی استقباله ، و لو علم بالفجر صام ، و لو علم بالمجیء أکرم ... فکان للعلم بالتقدیر دخل فی فاعلیة الإرادة و تأثیرها .

و هذه هی المقدمة الأولی ... و نتیجتها فی الترتب هو :

إنّ الإرادة المتعلّقة بالأهم مطلقة و لیس فیها تقدیر ، و المتعلّقة بالمهم منوطة غیر منوطة بتقدیر ترک الأهم ، و موجودة قبل حصول التقدیر المذکور ، غیر أنّ فاعلیّتها متوقّفة علی حصوله . و علی هذا ، فمورد الترتب فی طرف الأهم من قبیل الإرادة المطلقة ، و من طرف المهم من قبیل الإرادة المنوطة ، فکما لا فاعلیّة لإرادة الصّوم قبل طلوع الفجر ، کذلک لا فاعلیّة لإرادة الصّلاة قبل ترک إزالة النجاسة من

ص:226

المسجد ، بل عند تحقق ترکها تتحقّق الفاعلیّة بالنسبة إلی الأمر بالمهم .

قال الأُستاذ :

و هذا بیانٌ آخر لمطلب المیرزا ، غیر أنه قال : بأنّ الأمر بالمهم لا تحقّق له ما لم یتحقق الشرط - و هو ترک الأهم - فلا فعلیّة له و لا فاعلیة ، و الحائری یقول بوجود الفعلیّة له ، و إنما الفاعلیّة منوطة بترک الأهم .

و قد خالفا صاحب الکفایة ، إذ جعل الترک شرطاً متأخّراً ، و قد جعلاه مقارناً ، غیر أنّه عند المیرزا هو شرط مقارن للفعلیّة فما لم یتحقق فلا فعلیّة ، و عند الحائری هو شرط مقارن للفاعلیّة فما لم یتحقق فلا فاعلیّة ، أمّا الفعلیّة فهی محققة قبل الشرط للأمر بالمهم کما هی محقّقه للأمر بالأهم .

ثم ذکر الشیخ الحائری فی المقدّمة الثانیة : إنه لمّا کانت الإرادة فی المهم منوطةً بالتقدیر ، فإنه یستحیل تحقق الفاعلیّة لها قبل تحقّقه ، فلیس لها أی تأثیر فی تحرّک العبد إلا بعد تحقق التقدیر ، إذ لو فرض لها فاعلیّة قبله للزم الخلف و هو محال .

قال :

قد توافق الشیخ الحائری و المحقق العراقی علی أن حقیقة الواجب المشروط هی الإرادة المنوطة ، و قد أخذا هذا من فکر السید المحقّق الفشارکی ، و السرّ فی الالتزام بذلک فی الواجب المشروط هو : إنه إذا قال : إذا زالت الشمس فصلّ ، فهل قبل الزوال یوجد إیجابٌ و وجوبٌ أو کلاهما یحصلان عند الزوال ، أو یحصل الإیجاب بهذا الإنشاء و الوجوب عند الزوال ؟

فإن قلنا : بحصولهما عند الزوال ، فالإنشاء قبله لغو . و إن قلنا : بحصول الإیجاب عند الإنشاء و الوجوب عند الزوال ، لزم التفکیک بین الإیجاب

ص:227

و الوجوب .

فتعیّن القول بحصولهما عند الانشاء ... و هذا هو الواجب المشروط . لکن یرد علیه :

أوّلاً : إن هنا إرادة قد أُنیطت بقیدٍ و تقدیرٍ ، و معنی الإناطة هو الابتناء و الاشتراط ، فإن لم یکن للقید دخلٌ فی الإرادة فهی مطلقة و لا إناطة ، و إن جعل دخل القید فی الفاعلیة فقط ، لزم أن تکون الإرادة مطلقةً کذلک . فلیس الواجب مشروطاً بل هو مطلق ... نعم ، للمحقق الحائری أن یقسّم الواجب المطلق إلی قسمین ، أحدهما : ما کانت للإرادة فیه فعلیّة بلا فاعلیّة ، و الآخر : ما کانت للإرادة فیه فعلیّة و فاعلیّة .

و ثانیاً : إنّ شروط الوجوب تختلف عن شروط الواجب ، لأنّ شروط الوجوب لها دخل فی الغرض من الحکم ، فما لم یتحقق الشرط فلا غرض ، کالزوال بالنسبة إلی الصّلاة ، و شروط الواجب لها دخل فی فعلیّة الغرض ، کالطهارة بالنسبة إلی الصّلاة ، إذ الغرض من الصّلاة موجود سواء وجدت الطهارة أو لا ، لکنّ فعلیّة الغرض موقوفة علیها .

و علی ما ذکره من تحقّق الإرادة و فعلیتها فی الواجبات المشروطة قبل حصول الشرط ، یلزم تخلّف الإرادة عن الغرض ، فکیف تتحقّق الإرادة و الغرض غیر حاصل لکونه مشروطاً بشرط غیر حاصل ... و بعبارة أُخری : کیف تتحقّق الإرادة مع العلم بعدم تحقق الغرض و الحال أنّ الإرادة تابعة للغرض ؟

إیراد المحقق الأصفهانی و جوابه :

و أمّا إیراد المحقق الأصفهانی : بأن تخلّف الإرادة عن المراد محال ، سواء کانت الإرادة تکوینیّة أو تشریعیّة ، لأنّ الإرادة التکوینیّة هی الجزء الأخیر للعلّة

ص:228

التامّة ، و التشریعیّة هی الجزء الأخیر لإمکان البعث ، و لا یتخلّف إمکان البعث عن امکان الانبعاث .

فقد أجاب الأُستاذ عنه : بأنه یبتنی علی إنکار الواجب المعلّق و عدم تخلّف البعث التشریعی عن الانبعاث ، و قد تقدّم فی محلّه إثبات الواجب المعلّق و إمکان التخلّف فی التشریعیّات ... فمن الممکن أن یکون الوجوب حالیّاً و الواجب استقبالیّاً .

الترتّب ببیان المحقق العراقی :

و قد جوّز المحقق العراقی (1) طلب الضدّین بنحو العرضیّة مضافاً إلی جواز ذلک بنحو الترتب ، خلافاً للمحققین الآخرین ، إذ خصّوا ذلک بالترتب فقط ، و نحن نذکر محصّل کلامه فی کلتا الجهتین کما فی ( نهایة الأفکار ) :

أمّا تصویره طلب الضدّین علی نحو العرضیّة ، فقد ذکر أنّ الأهم و المهم یُطلبان فی عرض واحدٍ - و بلا تقیید لا فی الطلب و لا فی المطلوب - إلّا أنّ إیجاب الأهمّ تام ، و إیجاب المهمّ ناقص .

و الأصل فی هذه النظریّة هو المحقق صاحب الحاشیة فی تعریف الواجب (2) التخییری ، فقد ذهب إلی أنّه أمر بالشیء مع النهی عن بعض أنحاء التروک ، فی قبال الواجب التعیینی فهو الأمر بالشیء مع اقتضائه للنهی عن جمیع أنحاء التروک ، و ذلک : لأن لکلّ وجوب تروکاً متعددةً بالنظر إلی مقدّماته و أضداده ، فالصّلاة تنتفی بانتفاء الطهارة التی هی من شروطها ، و بوجود المزاحم ، فیکون وجود الصّلاة موقوفاً علی وجود شرائطها و عدم جمیع الموانع لها ،

ص:229


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 375 ط جامعة المدرّسین .
2- 2) هدایة المسترشدین : 247 ط حجری .

و یتعدّد عدمها بعدد کلّ مقدمةٍ مقدمةٍ إذا عدمت ، و بعدد کلّ مزاحم مزاحم إذا وجد ... و علی هذا ، فالواجب المطلق ما انسدّ فیه جمیع الأعدام ، و مقتضی تعلّق الطلب به هو سدّ أبواب الأعدام کلّها . و کذلک الواجب التعیینی ، فهو یقتضی سدّ التروک ، لأنّ ترک العتق یتحقّق بترک الصوم و بفعل الصوم ، فإذا وجب العتق علی نحو التعیین ، کان وجوبه مقتضیاً لانتفاء ترکه مع فعل الصوم و انتفائه مع ترک الصوم . لکنه إذا وجب علی نحو التخییریة یسدّ باب ترکه مع ترک الصوم لا مع فعله ، إذ له أن یصوم و لا یعتق ... فهذا معنی أنّ الواجب التخییری هو الأمر بالشیء مع النهی عن بعض أنحاء ترکه .

و نتیجة هذا التحقیق فی حقیقة الوجوب التخییری هو أن متعلّق الطلب فیه هو الحصّة الملازمة لترک العدل ، فمتعلّق الطلب فی العتق مثلاً هو الحصة الملازمة لترک الصوم و الإطعام ، دون الحصّة الملازمة لفعلهما . و من هنا اتّخذ المحقق العراقی مصطلح الحصّة التوأمة .

و علی ضوء ما تقدم ، قال هنا :

إنّ الضدّین إمّا لا ثالث لهما کالحرکة و السکون ، و إمّا لهما ثالث کالصّلاة و الإزالة .

فإن کانا من قبیل الأول ، فالتخییر الشرعی مستحیل بل هو تخییر عقلی من باب لابدیّة أحد الأمرین ، إذ التخییر الشرعی إنما یکون حیث یمکن ترک کلا الطرفین و لا یکون أحدهما قهری الحصول ، فلیس الحرکة و السکون من موارده .

و إن کانا من قبیل الثانی ، فالمجموع مقدور علی ترکه و لیس شیء منه بقهریّ الحصول ، و حینئذٍ ، فالحکم هو التخییر شرعاً ، لأن المفروض إمکان استیفاء الملاک بکلٍّ من الطرفین ، فمع أن ملاک الصّوم یغایر ملاک العتق ، و بینهما

ص:230

تضاد ، لکن مجموع الملاکات یمکن استیفاؤه کما یمکن تفویته ، فلو لم یجعل الشارع خطاباً تخییریاً لزم انتفاء المجموع ، و جعل الخطاب التعیینی غیر ممکن ، لفرض التضادّ بین الملاکات ، فیجب وجود الخطاب التخییری ... و من هنا یقول هذا المحقق : إن المجعول فی الواجبات التخییریة متمّم الوجود و الوجوب ، لأنّ الوجوب فی کلّ فردٍ من التخییری ناقص - بخلاف الوجوب فی الواجب التعیینی - إذ ینسد باب العدم عن أحد الفردین حیث یترک الفرد الآخر ، أمّا مع فعله فلا یلزم سدّ باب العدم .

و المهم أن نفهم کیفیة الوجوب التخییری ، و أنه کیف یکون أحد الوجوبین فی الأهم و المهم ناقصاً ، و یکون کلاهما تامّاً فی المتساویین ؟

یقول : إن الضدّین إمّا متساویان فی الملاک و إمّا مختلفان ، و الواجبان إمّا مضیّقان و إمّا موسّعان ، و إمّا أحدهما مضیّق و الآخر موسّع .

فإن کانا مضیّقین و تساویا فی الملاک - و لا أهم و مهم - احتمل اشتراط الطلب فی کلّ منهما بترک الآخر ، و احتمل اشتراط المطلوب فی کلّ منهما بترک الآخر ، لکنّ کلیهما مستحیل ، و ینحصر الأمر بکون وجوبهما وجوباً ناقصاً .

و وجه الاستحالة هو : أنه لو کان الغریقان متساویین فی الملاک و لا یمکن انقاذهما معاً ، فإن اشتراط طلب انقاذ هذا بترک انقاذ ذاک محال ، لأنه إن ترک انقاذ کلیهما تحققت المطاردة بین الطلبین ، لحصول شرط وجوب کلٍّ من الطلبین بترک کلیهما ، و یصبح الطلبان فعلیین ، و الطلبان الفعلیّان مع وحدة القدرة محال .

و اشتراط طلب انقاذ کلٍّ منهما بمعصیة الأمر بإنقاذ الآخر محال کذلک ، للزوم تأخّر المتقدّم بمرتبتین ، لأن المفروض کون طلب انقاذ هذا مشروطاً بمعصیة طلب إنقاذ الآخر ، و المعصیة متأخّرة عن الطلب ، و المشروط متأخّر عن الشرط ،

ص:231

فکلّ طلبٍ متأخّر بمرتبتین و متقدّم بمرتبتین ، و هذا محال .

فتحصّل : استحالة اشتراط طلب أحد الضدّین المتساویین ملاکاً بترک الآخر أو بمعصیة الأمر المتعلّق بالآخر .

فلا یمکن أن یکون الطلب مشروطاً .

و أمّا المطلوب فکذلک ، لأن المطلوب - و هو الواجب - متأخّر عن الشرط ، فلو اشترط المطلوب الواجب - و هو إنقاذ هذا الغریق - بترک إنقاذ الآخر ، کان المطلوب متأخّراً عن الترک ، و الترک یتقدّم علی وجود الإنقاذ تقدّم الشرط علی المشروط ، لکن وجود إنقاذ هذا متّحد رتبةً مع ترک إنقاذ الآخر و کذا العکس ، لکون النقیضین فی مرتبةٍ واحدة .

فتکون النتیجة تأخّر وجود هذا الإنقاذ عن وجود انقاذ الآخر ، و قد عرفت تأخّر وجود الآخر عن وجود هذا کذلک ... فیستحیل اشتراط الواجب بترک الواجب الآخر .

و هکذا الحال لو اشتراط الواجب المطلوب بمعصیة الأمر المتعلّق بالمطلوب الآخر ، لما ذکرناه فی اشتراط الطلب بمعصیة طلب الآخر .

و إذا استحال اشتراط الطلب و اشتراط المطلوب ، فلا مناص من الالتزام - فی المضیّقین المتّحدی الملاک - بوجوبین ناقصین ، و المقصود هو : إن کلّاً من الإنقاذین واجب ، بحیث یطرد هذا الوجوب عدم نفسه إلّا من جهة وجود انقاذ الآخر ، فلو أنقذ الغریق الآخر لم یجب انقاذ هذا ، و کذا العکس .

قال : إنّ وجوب شیء علی تقدیر وجود شیء آخر ، - کما لو وجب إکرام زید علی تقدیر مجیئه - هو فی الحقیقة إلزام من جهةٍ و ترخیص من جهة أُخری ، إذ الإکرام یکون واجباً إن جاء ، و یکون مرخّصاً فیه فی فرض عدم مجیئه ، فاجتمع

ص:232

الإلزام مع الترخیص فی الترک ، و کذلک یمکن أن یجتمع الإلزام بفعل شیء مع الإلزام بترک نفس الشیء ، لأنّ کلّ شیء له أضداد و موانع عن وجوده ، فیصح الإلزام بفعل شیء علی تقدیر وجود ضد من أضداده ، و الإلزام بترک الشیء نفسه علی تقدیر وجود ضد آخر ، کأن یلزم بإتیان الصّلاة علی تقدیر النوم ، بمعنی أن النوم لا یرفع وجوب الصّلاة ، و أن یلزم بترک الصّلاة علی تقدیر ضدّ آخر و هو الإزالة ، بمعنی أنه مع الإتیان بالإزالة مأمور بترک الصّلاة .

فظهر إمکان الأمر بالضدّین المتساویین فی الملاک بالوجود و الوجوب الناقص .

و أما إنْ کانا غیر متساویین ، بل کان أحدهما أهم من الآخر فکذلک ... لما تقدّم من أن للشیء أنحاء من العدم بأنحاء الإضافات و الأضداد و المقدّمات ، فلو حصل التمانع بین طلب الإزالة و طلب الصّلاة ، و کانت الإزالة أهم ، تحقق للصّلاة عدم من ناحیة وجود الإزالة ، و عدم من ناحیة وجود غیر الإزالة کالأکل و النوم و غیرهما .

إلّا أنه لمّا کان المفروض کون طلب الصّلاة ناقصاً ، کان المقصود هو عدم مطلوبیّة الصلاة فی حال تحقق الإزالة ، لکنّها مطلوبة من ناحیة وجود غیر الإزالة من الأضداد ، فاجتمع فی طلب الصّلاة جهة الإلزام بفعلها و الإلزام بترکها . أمّا الإلزام بفعل الصّلاة فمن غیر ناحیة وجود الإزالة ، و أما الإلزام بترکها فمن ناحیة وجود الإزالة ... هذا بالنسبة إلی طلب الصّلاة .

و أمّا الإزالة - و هی الأهم - فإن طلبها تام و لیس بناقص ، فهو یریدها من جمیع النواحی ، أی یرید الأعدام کلّها ، عدم الصّلاة ، عدم الأکل ، عدم النوم ... فقد توجّه الأمر بالإزالة بهذا الشکل ... .

ص:233

و بهذا البیان لا یلزم أیّ محذور من أن یجتمع الأمر بالضدّین - الإزالة و الصّلاة - و یکونا فی عرضٍ واحد ... لأن المحذور لا یکون إلّا فی مرحلة الاقتضاء أو فی مرحلة الامتثال و الطاعة ، و مع کون أحد الطلبین تامّاً و الآخر ناقصاً فلا یلزم أیّ محذور ، لأنّ مقتضی الأمر بالأهم إعدام المهم بلحاظ وجود الأهمّ لتمامیّة اقتضاء وجوده من هذه الناحیة ، بخلاف الأمر بالمهم فلیس له هذا الاقتضاء بالنسبة إلی الأهم ، و إنما یقتضی إعدام الأضداد الأُخری ... فلا مطاردة بین الطلبین ... فی مرحلة الاقتضاء . و کذلک فی مرحلة الامتثال ، لأنّه مع امتثال الأمر بالأهمّ لا یبقی الموضوع للأمر بالمهمّ حتی تصل النوبة إلی امتثاله ، لأنّ الأهمّ یقتضی سدّ باب عدمه من ناحیة المهم ، أمّا الأمر بالمهم فقد کان ناقصاً ، لفرض کونه محفوظاً بالنسبة إلی غیر الإزالة من الأضداد ، أمّا بالإضافة إلی الإزالة فلا ...

اللّهم إلّا أن تصل النوبة إلی إطاعته بالتمرّد و المعصیة للأمر بالأهمّ ، و هذا شیء آخر غیر المطاردة بین الأمرین .

فظهر : أن الأمر بالأهمّ لا یطرد إطاعة الأمر بالمهمّ ، بل إنه مع إطاعة الأمر بالأهم لا یبقی موضوع لطاعة الأمر بالمهم ، و إن الأمر بالمهم لا یطرد إطاعة الأمر بالأهم ، لأن الأهم إن لم تتحقّق إطاعته فذلک علی أثر العصیان لا علی أثر الأمر بالمهم ... .

فلا مطاردة بین الأمرین ، لا اقتضاءً و لا امتثالاً .

إشکال المحقق الأصفهانی

و أورد المحقق الأصفهانی (1) علی نظریة المحقق العراقی بما توضیحه :

إنه إن کان المراد من « التام » و« الناقص » أنّ إمکان الترتّب غیر موقوفٍ علی

ص:234


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 222 - 223 .

اشتراط وجوب المهم و ترک الأهم و عصیانه ، و أنه یمکن بنحو الواجب المعلّق ، فلا حاجة إلی هذا التقریب الغریب ، حیث صوّرتم الحصص للعدم و أنّ للشیء - الذی له وجود واحد - أعداماً عدیدة ، بل نقول : إنه من المعقول أن یکون الوجوب فعلیّاً و یکون الواجب مقیّداً بظرف معصیة الأهم ، کما هو الحال فی کلّ واجب معلّق ، حیث الوجوب مطلق و الواجب حصّة خاصة . هذا أولاً . و ثانیاً : إن کان المقصود أن المهمّ غیر مشروط بمعصیة الأهم ، و أنه یصوّر وجوب المهم بنحو الواجب المعلّق ، فیرد علیکم لزوم التفکیک بین فعلیّة الوجوب و فاعلیّته ، و هذا باطل ، إذ الطلب الفعلی یتقوّم بأن یجعل المولی ما یمکن أن یکون محرّکاً و باعثاً للعبد ، فهذا معنی إمکان الباعثیّة ، لأن العبد لو خلّی عن الموانع یکون للطلب إمکان الباعثیّة له ، فقولکم بوجود الأمر و الطلب و بفعلیّته لکن بلا فاعلیة ، یستلزم التفکیک بین البعث و الانبعاث ، و هذا غیر معقول .

و إن کان المراد من تصویر « التام » و« الناقص » رفع المطاردة و التمانع بین الأهم و المهم ، فهذا غیر متحقّق ، لأن المفروض إطلاق الأمر بالأهم ، فهو موجود فی حال وجود المهم و فی حال عدمه ، و حینئذٍ ، فالحصّة من عدم الأهم الملازمة مع وجود المهم مطرودة من قبل الأهم و لا یبقی الاقتضاء للمهم ، و أمّا الحصّة من عدم الأهم الملازمة لعدم المهم ، فیتحقّق فیها المطاردة . مثلاً : لو ترک الأهم مع عدم المهم لوجود بعض الأضداد الأُخری ، کان الأمر بالمهم مقتضیاً لطرد عدمه من ناحیة غیر وجود الأهم ، لأنه یدعو إلی نفسه من غیر ناحیة الأهم من سائر الأضداد ، لکن الأمر بالأهم موجود بإطلاقه ، فهو یقتضی عدم نفسه ، فالطّرد یحصل من طرف الأهم و المهم کلیهما ، إذ الأهم یقول بطرد عدم نفسه و المهم یقول مع وجود بعض الأضداد الأُخری بطرد عدم نفسه ، و المفروض أن القدرة

ص:235

واحدة و الوقت ضیّق .

دفاع الأُستاذ عن المحقق العراقی

و قد أجاب شیخنا الأُستاذ ، أمّا عن الإشکال الأوّل : فبأنّ المحقق العراقی لا یقصد إثبات المطلب عن طریق الواجب المعلّق ، بل یرید أن هنا طلبین بلا اشتراط من طرف المهم ، و أحدهما تام و الآخر ناقص ، فلا علاقة للبحث بالواجب المعلّق . و بعبارة أُخری : إنه لو أنکرنا الواجب المعلّق فما الإیراد علی نظریّة المحقق العراقی ؟

إنه یقول : بأن أحد الطلبین ناقص و الآخر تام ، أمّا فی الواجب المعلّق فالطلب تام و لیس بناقص ، و إنما المتعلّق له هو الحصّة ... فکم الفرق ؟

هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن المحقق العراقی من القائلین بالواجب المعلّق ، فالإشکال علیه من هذا الحیث مبنائی .

و أمّا عن الإشکال الثانی : فبأن معنی « المطاردة » هو « التمانع » و قد بیّن المحقق العراقی عدم حصوله فی مرحلة الاقتضاء و فی مرحلة الامتثال ، فهو یقول باقتضاء الأهم إعدام المهم دون بقیّة أضداد المهم ، إذ لا نظر للأهم إلی الأکل و الشرب و النوم و أمثالها ، و إنما یدعو إلی نفسه و ترک المهم ، و المهم یقتضی الاتیان به من ناحیة بقیّة الأضداد لا من ناحیة وجود الأهم ، فلا تمانع بین الاقتضائین . و کذلک یقول فی مرحلة الإطاعة بمعنی : أن الأهم یدعو إلی نفسه و یرید الإطاعة له ، لکنّ المهمّ لا اقتضاء له للإطاعة مع وجود الأهم ، لأنه مع تأثیر الأهم فی الإطاعة لا یبقی موضوع للأمر بالمهم ، حتی یمکنه طرد الأهم ... و لو فرض سقوط الأمر بالأهمّ علی أثر التمرّد و العصیان له ، فلا فاعلیّة له لیکون طارداً للأمر بالمهم ، لفرض کون الأمر بالأهم منطرداً حینئذٍ - حسب تعبیره - فأین

ص:236

المطاردة ؟

اشکال الأُستاذ

هذا ، و أورد الاستاذ علی المحقق العراقی : بأنّ العمدة فی الفرق بین نظریّته و أنظار المحققین الآخرین هو عدم الاشتراط و التقیید بین الطلبین ، بل إنّ کلاً منهما بالنسبة إلی الآخر مطلق ، غیر أنّ أحد الطلبین تام و الآخر ناقص فالإشکال هو : إنّ الإطلاق و عدم التقیید فی الطلب یرجع إلی المولی ، کما أنّ أصل الطلب یرجع إلیه ، و کما یعتبر فی أصل الخطاب و الطلب أن لا یکون لغواً - لفرض کون المولی حکیماً لا یفعل اللغو - کذلک یعتبر فی الاطلاق وجود الأثر و عدم اللّغویة ، لکنّ وجود الأمر بالمهم مع امتثال الأمر بالأهم لغو ، فلا یمکن أن یکون مطلقاً ، إذ لا أثر لطلبه مع امتثال الأمر بالأهم ، فإمّا یکون الأمر بالمهم مهملاً ، لکن الإهمال أیضاً محال ، و إمّا أن یکون مشروطاً و مقیّداً بترک الأهم ، و هذا هو المعقول و المتعیّن ، فعاد الأمر إلی الترتّب و انتهی الاشتراط الذی هو مبنی المیرزا .

و قد فرغنا - حتی الآن - من طرح نظریّات المیرزا ، و الحائری تبعاً للفشارکی ، و العراقی ... و قد عرفت أن أمتن البیانات هو بیان المیرزا ، و بقی :

الترتب ببیان المحقق الأصفهانی

و قد ذکر تحت عنوان ( و التحقیق الحقیق بالتصدیق ) (1) مقدمتین :

إحداهما : إن ثبوت المقتضیین للضدّین جائز ، و إنما المحال وجود الضدّین ، بل یجب تحقق المقتضیین لهما ، فلو فرض عدم المقتضی لأحدهما لم تصل النوبة فی عدم الضدّ إلی وجود الضدّ الآخر و مانعیّته له ... مضافاً : إلی أن ذلک کذلک فی الوجدان ، إذ الشیء الواحد یمکن أن تتعلّق به إرادة زید و إرادة عمرو

ص:237


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 241 .

فی وقت واحد ، و الجسم الواحد یصلح لأن یکون لونه أسود أو أبیض ... .

و علی الجملة ، فإنه لا تمانع بین المقتضیین ، بل هو بین مقتضی هذا و ذاک .

الثانیة : إن النسبة بین الأمر و إطاعته هی نسبة المقتضی إلی المقتضی ، لا العلّة إلی المعلول ، لأنه لو کان من قبیل العلّة و المعلول لکان منافیاً للاختیار ، و الحال أن اختیار المکلّف محفوظ ، و أمر المولی إنما هو جعلٌ لما یمکن أن یکون داعیاً و محرّکاً للمکلّف نحو الامتثال ، و لذا تتوقّف فعلیّة الامتثال و تحقّقه علی خلوّ نفس العبد من موانع العبودیّة .

و بعد المقدمتین :

فإن أمر المولی بأمرین ، و لم یکن لأحدهما قید ، تحقّق المقتضی التامّ للفعلیّة لإیجاد الدّاعی فی نفس العبد ، فإذا کان العبد مستعدّاً للامتثال صلح کلّ من الأمرین لأن یصل إلی مرحلة الفعلیّة ، و حینئذٍ ، تقع المطاردة بینهما ... أمّا لو کان أحد الأمرین غیر مطلقٍ . بل علی تقدیر ، - و المقصود هو التقدیر فی مرحلة الاقتضاء لا مرحلة الفعلیّة - فیکون الأمر بالمهم مقدّراً و مقیّداً بسقوط الأمر بالأهم عن المؤثّریة ، بمعنی أن أصل الإنشاء بداعی جعل الدّاعی فی طرف المهم مقیّد بأن لا یکون الأمر بالأهم مؤثّراً ، و حینئذٍ ، یکون الاقتضاء فی أحد الأمرین معلّقاً ، و علی هذا تستحیل المطاردة بینهما ، لأن اقتضاء الأمر بالأهم تنجیزی و اقتضاء الأمر بالمهم تعلیقی ... ففی حال تحقّق الأمر بالمهم یکون الأمر بالأهم منطرداً مطروداً ، فلا تصل النوبة لأن یکون الأمر بالمهم طارداً له .

أقول :

إن هذا الوجه هو عین الوجه الذی ذکره المحقق العراقی ، و قد عرفت ما فیه ، فالصحیح ما ذهب إلیه المیرزا .

ص:238

الکلام فی ما أُشکل به علی الترتّب

اشارة

و الکلام الآن فیما أُشکل به علی القول بالترتّب :

الإشکال الأوّل

فقد قال فی ( الکفایة ) : ثم إنه لا أظن أن یلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق فی صورة مخالفة الأمرین لعقوبتین ، ضرورة قبح العقاب علی ما لا یقدر علیه العبد ، و لذا کان سیدنا الأُستاذ - قدّس سرّه - لا یلتزم به علی ما هو ببالی ، و کنّا نورد به علی الترتّب و کان بصدد تصحیحه (1) .

و توضیحه : إنه علی القول بالترتّب ، یکون هناک تکلیفان وجوبیّان ، أحدهما بالأهم و الآخر بالمهم ، و کلّ تکلیف یستتبع استحقاق العقاب علی ترکه ، ففی صورة مخالفة التکلیفین و ترک الواجبین یستحق العقوبتین ، و الحال أن المکلّف لم یکن له القدرة علی امتثال کلیهما ، فکیف یستحق العقاب علی ترک ما لا یقدر علیه ؟

الجواب

و قد أُجیب عن هذا الاشکال بجوابین : أما نقضاً : فبموردین ، أحدهما : فی الواجب الکفائی ، حیث أنه لو تُرک الواجب کفایةً ، یستحق کلّ المکلّفین به العقاب علیه ، مع أن القیام به لم یکن مقدوراً إلّا لواحدٍ منهم . و المورد الآخر : هو صورة تعاقب الأیدی علی مال الغیر ، فلو أنّ أحداً غصب مالاً ثم انتقل المال إلی

ص:239


1- 1) کفایة الأُصول : 135 .

غیره و منه إلی ثالثٍ و هکذا ، فإن الأیدی المتعاقبة هذه تستحق العقاب علی الغصب ، مع أن الغاصب هو واحد منهم و لیس کلّهم ... .

و أمّا حلّاً : فإنّ تعدّد العقاب لا محذور فیه ، إذ العقاب لیس علی الفعل کی یقال بأن الجمع بین الأهم و المهم فی الإتیان غیر مقدور - لکون القدرة علی أحدهما فقط - بل العقاب هو علی الترک للتکلیف ، و الجمع بین التکلیفین - الأهم و المهم - فی الترک مقدور ، فکان العقاب علی أمرٍ مقدورٍ صادر عن اختیار .

و کذلک الحال فی الواجب الکفائی .

و ببیانٍ آخر : إنّه لمّا ترک الأهم و استحق العقاب علی ترکه ، کان بإمکانه الإتیان بالمهم ، فلمّا ترکه استحق عقاباً آخر غیر استحقاقه له علی ترکه للأهم .

و تلخص : اندفاع الإشکال ، و حاصله الالتزام بتعدّد العقاب .

قال الأُستاذ

إن ملاک استحقاق العقاب یکون تارةً هو « ترک الفعل المقدور » و أُخری :

« الترک المقدور » ففی الواجب الکفائی یستحق المکلّفون العقاب لتحقّق « ترک فعلٍ مقدور » کدفن المیت أو الصّلاة علیه مثلاً ، فقد کان فعلاً مقدوراً لم یقم به أحد منهم ، فاستحقّوا العقاب علی ترکهم له .

أمّا فیما نحن فیه ، فإن المقدور لیس الفعل ، أی امتثال الأمرین ، بل هو الترک ، فإنّ ترک هذا و ذاک مقدور ، فهما ترکان مقدوران ... .

وعلیه ، فإن کان مناط استحقاق العقاب هو الجمع بین الترکین المقدورین ، فالجواب صحیح ، و یتمّ الالتزام باستحقاق العقابین . و أمّا إن کان المناط فی استحقاق العقاب هو ترک ما هو المقدور ، فالمفروض عدم کون کلیهما مقدوراً لیتحقق الترکان و یُستحق العقابان ... لکن ما نحن فیه من قبیل الثانی ، لأن

ص:240

المطلوب فیه هو الفعل لا الترک . و بعبارة أُخری : إن بحثنا فی الواجب لا الحرام ، و من المعلوم أنّ العقاب فی الواجبات یکون علی ترک الفعل ، و لا بدّ و أن یکون الفعل مقدوراً حتی یجوز علی ترکه ، لکنّ المقدور فعل واحد ، فلیس إلّا عقاب واحد .

و تلخّص : إن العقاب یتبع کیفیّة التکلیف ، فإذا کان مناطه ترک الفعل المقدور - لا الترک المقدور - فإنّ الفعل المقدور واحد و لیس بمتعدّد ، و ترکه یستتبع عقاباً واحداً ، فکیف یلتزم المیرزا و غیره باستحقاق العقابین ؟

و یؤکّد ذلک : إن لازم کلامهم عدم الفرق بین القادر علی امتثال کلا الأمرین التارک لهما ، کما لو قدر علی إنقاذ الفریقان فلم یفعل لهما ، و القادر علی امتثال أحدهما التارک له ، کما لو تمکّن من إنقاذ أحدهما و ترک ، فهل یفتی المیرزا و أتباعه بتساویهما فی استحقاق العقاب ؟

الإشکال الثانی

إنه لا ریب فی استحالة تعلّق الإرادتین التکوینیّتین العرضیین بالضدّین ، و کذا الطولیّتان ، بأن تکون احداهما مطلقة و الأُخری مشروطة ، و وزان الإرادة التشریعیّة وزان الإرادة التکوینیّة ، فإذا استحال الترتّب فی التکوینیّة فهو فی التشریعیّة کذلک .

و الجواب : هو إنّ الإشکال یبتنی علی عدم الفرق بین الإرادتین فی جمیع الأحکام ، لکن لا برهان علی ذلک ، بل هو علی خلافه ، لأن النسبة بین الإرادة و الفعل فی التکوینیّات نسبة العلّة التامّة إلی المعلول ، و لا یعقل تصویر الترتّب هناک ، بأن تکون علّة مطلقة و أُخری مترتبة علیها ، للزوم الخلف . أمّا فی التشریعیّات ، فإنّ الإرادة بالنسبة إلی الفعل من العبد لیست بعلّةٍ تامّة بل هی

ص:241

مقتضیةٌ له ، و أین الاقتضاء من العلیّة التامّة ؟ إن العلّة التامّة لا حالة منتظرة لها ، بخلاف المقتضی فإنّ شرط تأثیره اختیار العبد للامتثال ، فلو لم یتحقّق بقیت الإرادة التشریعیّة فی مرحلة الاقتضاء ، وعلیه ، یصحّ وجود مقتضیین یکون مؤثریّة أحدهما فی تحقّق الفعل متوقّفة علی عدم مؤثریّة الآخر ، کما تقدّم فی تصویر المحقق الحائری للترتب ، أو یکون أصل فعلیّة أحدهما متوقفاً علی عدم مؤثریّة الآخر ، کما تقدّم فی تصویر الترتب علی مسلک المیرزا و هو المختار ...

فقیاس الإرادة التشریعیّة علی التکوینیّة قیاس مع الفارق .

الإشکال الثالث

إن المتلازمین یستحیل اختلافهما فی الحکم ، کأنْ یکون أحدهما واجباً و الآخر حراماً مثلاً ، لأنه یلزم التکلیف بالمحال ، إذ فعل الفرد الواجب یستلزم فعل الآخر الحرام ، و ترک الحرام یستلزم ترک الفرد الواجب .

و علی هذا ، فإن القول بالترتب یستلزم القول بالتکلیف بالمحال ، لأنّ الأمر بالأهمّ یستلزم النهی عن ضدّه العام و هو ترکه ، فیکون ترکه حراماً ، لکنّ ترک الأهمّ ملازم لفعل المهم و هو واجب ، فکان المتلازمان مختلفین فی الحکم ، و هو محال کما تقدّم .

و الجواب : صحیحٌ أنّ الأمر بالأهم یستلزم النهی عن ضدّه العام و هو الترک ، و وجوب المهم مشروط بترک الأهم ، و بینهما تلازم ، لکن حرمة الترک حکم استلزامی ، فوجوب الأهم قد استلزم حرمة ترکه و کانت هذه الحرمة نتیجة لوجوبه ، فإن کان وجوبه بنحو الاقتضاء قابلاً للاجتماع مع وجوب المهم ، کانت الحرمة - التی هی حکم ترک الأهم - قابلةً للاجتماع مع المهم بنحو الاقتضاء ، و لا محذور فی هذا الاجتماع .

ص:242

و علی الجملة ، فإن اجتماع حرمة ترک الأهم مع وجود المهم ، فرعٌ لإمکان اجتماع وجوب الأهمّ مع وجوب المهم ، فإن أمکن الاجتماع بین وجوبهما أمکن بین حرمة ترک ذاک و وجوب هذا ... لکنّ إمکانه فی الأصل تام بالترتّب ، فلا محذور فیه بین الحرمة و الوجوب کما تقدّم .

الإشکال الرابع

إن الفرد المهمّ من المتزاحمین - کالصّلاة مثلاً - إذا وجب بالترتّب حرم ترکه بناءً علی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن الضدّ العام ، و لا أقلّ من مبغوضیّة الترک ، لکنّ هذا الترک تارةً : هو خصوص ما لا ینتهی إلی فعل الأهم - و هو الإزالة - و تارةً :

یکون أعمّ من الموصل إلی فعل الأهم و غیر الموصل إلیه .

فإن کان المحرّم هو مطلق الترک ففیه :

أوّلاً : إن ذلک ینافی أهمیّة الأهم ، لأن حرمة ترک المهم مطلقاً - حتی المنتهی إلی فعل الأهمّ - معناه رفع الید عن الأهم حتی لا یقع فی ترک الحرام ، و هذا ینافی أهمیّة الأهم .

و ثانیاً : إنه بناءً علی الترتّب ، یکون فعل المهم فی فرض ترک الأهمّ ، فکیف یکون الحرام هو ترک المهم المجامع لفعل الأهم ؟ إذن ... بناءً علی الترتب لا یمکن أن یکون الترک المحرّم للمهمّ هو الترک المطلق .

و إن کان الترک المحرّم هو الترک الذی لا یوصل إلی فعل الأهم ، فهذا أیضاً محال ، لأنّ ترک المهمّ غیر الموصل إلی فعل الأهم إن کان حراماً کان نقیضه واجباً ، و نقیض الترک غیر الموصل هو « ترک الترک غیر الموصل » ، و هذا له لازمان ، أحدهما : فعل المهمّ . و ثانیهما : الترک الموصل لفعل الأهم ، ( قال ) و إنما قلنا بکونهما لازمین و لم نقل بکونهما فردین ، لأنّ « ترک الترک غیر الموصل » أمر

ص:243

عدمی ، و فعل المهم وجودی ، و الوجودی لا یکون مصداقاً للعدم و العدمی ، و إذا کانا من اللّوازم ، فقد ثبت أن حکم الملازم لا یسری إلی الملازم ، فإنّ « ترک الترک غیر الموصل » لمّا کان واجباً ، فإنّ هذا الحکم - و هو الوجوب - لا یسری إلی ملازمه - و هو المهم - فمن المحال أن یکون المهم واجباً . و إذا استحال وجوب المهم بطل الترتب من الأساس .

( قال ) و لو تنزّلنا و قلنا بجواز أن یکون فعل المهمّ مصداقاً « لترک الترک غیر الموصل » فالإشکال موجود کذلک ، لأنّه کما کان فعل المهم مصداقاً فیکون واجباً ، کذلک ترکه الموصل لفعل الأهم مصداق فیکون واجباً ، و إذا تعدّد فرد الواجب کان الوجوب تخییریّاً ، و المفروض فی الترتب کون وجوب المهم تعییناً لا تخییریّاً .

جواب المحقق الأصفهانی

أجاب بأنا نختار کلا الشقّین و لکلٍ ّ جواب .

أمّا الشق الأوّل ، فنسلّم بحرمة نقیض الواجب و وجوب نقیض الحرام ، إلّا أن الواجب هو فعل المهم ، لکن لا فعله علی کلّ تقدیر ، بل علی أحد التقادیر و هو ترک الأهم ، فلا یکون نقیضه الترک المطلق لیشمل الترک المنتهی إلی فعل الأهم ، فکان الحرام هو خصوص ترک المهم الذی هو فی تقدیر ترک الأهم .

جواب الأُستاذ

هذا الذی أفاده المحقق الأصفهانی ناظرٌ إلی الشق الثانی من کلام المیرزا الکبیر ، و الصحیح أن یقال فی الجواب عنه :

أولاً : إنّ الأصل هو وجوب المهم و لیس حرمة النقیض - و إن عکس المیرزا و جعل حرمة النقیض هی الأصل - و وجوبه علی ما تقدّم بالتفصیل مشروط بترک

ص:244

الأهم ، فیقتضی - بناءً علی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن النقیض - حرمة ترک المهم علی تقدیر حرمة الأهم ، و لا یمکن أن یقتضی حرمة الترک المطلق ، لأنّ المفروض کون الواجب خاصّاً غیر مطلق ، و کما کان الأصل - و هو وجوب المهم - ترتبیّاً فحرمة ضدّه أیضاً ترتبیّة لکونها متفرعةً علیه ... فلا یبقی محذور .

و ثانیاً : لو تنزّلنا ، و جعلنا الأصل حرمة ترک المهم ، و یتفرّع علیه وجوب المهم ، فإنّ الأمر لا ینتهی إلی الوجوب التخییری ، لأنّ الحرام علی القول بالترتّب لیس ترک المهم حتی الترک الموصل لفعل الأهم - لأن هذا خلف فرض الترتّب - بل إن الحرام هو ترکه غیر الموصل لفعل الأهم ، و إذا کان کذلک ، فإنّ نقیضه هو ترک الترک غیر الموصل ، و هذا لا یتحقق إلّا بفعل المهم ، و لا یقبل الاجتماع مع الترک الموصل لفعل الأهم ، فتبیّن أن لیس للّازم أو النقیض فردان ، لیرجع الأمر إلی الوجوب التخییری .

فالصحیح أن نختار هذا الشق و نجیب عنه بما ذکرناه ، فإشکاله غیر وارد حتی لو قلنا باقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن الضدّ العام .

الإشکال الخامس

إذا کان شرط وجوب المهم هو عصیان الأمر بالأهم ، فما المقصود من هذا العصیان ؟ إن کان الشرط هو عصیان الأمر بالأهم بنحو الشرط المقارن ، فهو خلف فرض الترتّب ، و إن کان بنحو الشرط المتأخّر ، فهو یستلزم طلب الضدّین ، و إن کان بالعزم ، فیستلزم طلب الضدّین کذلک ، فالترتّب علی جمیع الاحتمالات غیر معقول .

فإن کان المقصود من الشرط هو الشرط المقارن ففیه :

إن الإطاعة و المعصیة لا یکونان إلا مع فرض الأمر ، فلولا الأمر فلا طاعة

ص:245

و لا معصیة .

فقال المیرزا و غیره : بکون العصیان بنحو الشرط المقارن ، فالأمر موجود و إنّما یسقط بعد العصیان .

لکن المشکلة هی : إن الأمر تابع للملاک ، و هو لا یسقط إلّا إذا سقط و تحقق الغرض أو امتنع حصوله فیستحیل وجود الأمر کذلک ، وعلیه ، ففی ظرف العصیان لا یعقل تحصیل الغرض ، إذ لا یعقل وجود الأمر حینئذٍ .

لا یقال : إنّ امتناع الأمر فی هذا الفرض امتناع بالاختیار ، و هو لا ینافی وجود الأمر ، لأن المنافی لوجوده هو الامتناع الذاتی و الوقوعی ، أمّا الامتناع بالغیر الناشئ من عصیان المکلّف للأمر فلا ینافیه .

لأنا نقول : إن الامتناع بالاختیار لا ینافی العقاب ، أمّا الخطاب و الأمر فإنّه ینافیه ، و مع تعذّر الخطاب الناشئ من اختیار العبد ، فالأمر لغو ، لکونه معلولاً للملاک ، و أن الغرض من الأمر هو تحصیله .

و تحصّل : إن الإشکال علی تقدیر کون العصیان شرطاً مقارناً باقٍ علی حاله .

و إن کان المقصود من الشرط هو العزم أو العصیان بنحو الشرط المتأخّر ، بناءً علی وجود الأمر مع العصیان ، فالتحقیق أن یقال :

إن أساس الإشکال فی الترتّب هو مؤثّریة کلا الأمرین معاً ، فإن أمکن تصویر عدم کونهما مؤثّرین فکان المؤثر أحدهما دون الآخر ، ارتفع الإشکال ، فبأیّ طریق أمکن حلّ العقدة یثبت الترتّب ، و علی هذا ، فمن عزم علی معصیة الأمر بالأهم بعد الأمر به ، سقط فی حقّه مؤثریّته و وجب علیه الإتیان بالمهم ، و کذا الحال فی تعقّبه بالعصیان بنحو الشرط المتأخّر .

ص:246

و علی الجملة : فإن العمدة سقوط الأمرین عن التأثیر فی عرض واحد ، و هذا یتحقق بالعزم علی عصیان الأمر بالأهم أو اشتراط تعقّبه بالعصیان ، بل و یسقط باشتراط العصیان بنحو الشرط المقارن .

و تلخّص : إن الإشکال فی الترتّب ثبوتاً و سقوطاً یدور مدار مؤثّریة کلا الأمرین ، فلو انتفت بأیّ طریقٍ من الطرق فلا إشکال ، و المختار عند الأُستاذ تصویر الترتّب باشتراط العزم علی العصیان ، فمن کان مستطیعاً و استقرّ الحج علی ذمّته فعزم علی العصیان و ترک الحج ، یسقط الحج عن ذمته بإتیان النائب عنه به ، و إن کان فی أُجرة النائب إشکال ، و بیانه موکول إلی محلّه .

هذا ، فأمّا أن أساس مشکلة الترتّب هو باعثیّة کلا الأمرین و عدم إمکان الانبعاثین - و لیس طلب الضدّین - فإن سقط أحدهما عن الباعثیّة ارتفعت ... فهذا مذکور فی کلام المیرزا و المحقق الأصفهانی و لیس ممّا انفرد به السید البروجردی کما جاء فی تقریر بحثه و فی حاشیته علی الکفایة .

ثم إنّ هناک بحثاً حول کون الشرط هو « العزم » و قد طرحه الاُستاذ فی الدرس و بیّن وجهة نظره فیه ، ترکنا التعرّض له اختصاراً .

ص:247

تنبیهات الترتب

.التنبیه الأول( فی تسریة کاشف الغطاء الترتّب إلی الجهر و الإخفات )

اشارة

و قبل الورود فی البحث نذکّر بمطلبین :

الأول : إنه بعد الفراغ من إمکان الترتّب لا تبقی حاجة إلی بیان وقوعه ، لکفایة الإمکان ، لأنه بعد رفع الید عن إطلاق أحد الدلیلین و هو المهم و تقییده بعصیان الآخر و هو الأهم ، یکون المقتضی لوجوب المهم موجوداً و المانع مفقوداً ، کسائر الموارد .

و الثانی : إن التضاد الواقع بین متعلّقی الدلیلین فی سائر موارد الترتّب هو تضاد اتّفاقی و لیس بدائمی ، لأنه یکون - مثلاً - علی أثر العجز عن امتثال الأمرین کإنقاذ الغریقین حیث لا قدرة - غالباً - إلّا علی أحدهما ... و لکنّ مسألة الجهر و الإخفات لیست من هذا القبیل ، فالتضادّ بینهما دائمی ، فیقع البحث عن معقولیّة الترتّب فی مثلها ... و تصویر ذلک هو :

إن الجاهل المقصّر یستحق العقاب بلا کلام ، و عباداته محکومة بالبطلان ، فإن انکشف وقوع العمل علی خلاف الواقع فهو غیر مجزٍ ، و عدم الإجزاء حینئذٍ واقعی ، و إن لم ینکشف ذلک کان غیر مجزٍ ظاهراً ، حتی یتبیّن مطابقة عمله للواقع و عدمها ، إن تمشّی منه قصد القربة فی هذه الحالة .

لکنهم حکموا بالإجزاء فی موردین ، أحدهما : الجهر و الإخفات ، و الآخر :

القصر و التمام ، لوجود النصوص بإجزاء الإخفات فیما ینبغی الجهر فیه و بالعکس ، و مع ذلک حکموا باستحقاقه العقاب للتقصیر ، فوقع البحث بینهم فی کیفیة الجمع بین الإجزاء و استحقاق العقاب ، و ذکروا لذلک وجوهاً .

ص:248

منها : ما جاء فی ( کشف الغطاء ) (1) علی أساس قانون الترتّب ، فقال :

إن الخطاب المتوجّه أوّلاً إلی هذا الجاهل المقصّر فی تعلّم الحکم ، هو الجهر فی القراءة فی الصّلاة الجهریّة ، فإن عصی فالواجب علیه هو القراءة إخفاتاً ... و کذا بالعکس فی الصّلاة الإخفاتیة .

و کذا الکلام فی مسألة القصر و الإتمام .

فالصّلاة صحیحة ، لکنه عاصٍ یستحق العقاب ، لأنه قد ترک المأمور به الأهمّ .

قال کاشف الغطاء : بل لا بدّ من تطبیق ذلک علی سائر الفروع فی مختلف الأبواب الفقهیّة ، و إلّا لزم الحکم ببطلان أکثر عبادات المکلّفین . مثلاً : لو کان فی ماله الخمس أو الزکاة ، فلم یؤدّ عصیاناً و صلّی ، صحّت صلاته من باب الترتّب .

و کذا فی الحج و غیره ، و تصویر ذلک هو : إن الواجب علیه أداء الدّین أو دفع الخمس أو الزکاة أو الذهاب للحج أو النفقة ، فإن عزم علی المعصیة فالصّلاة واجبة علیه و مجزیة . و کذا أمثالها . هذا کلامه رحمه اللّٰه ... .

و قد نقله الشیخ فی خاتمة البراءة و الاشتغال ، فی أحکام الجاهل المقصّر ، ثم قال : بأنا لا نعقل الترتّب فی هذه المسائل ، إذ کیف یصدر من المولی الأمر بشیء مشروط بمعصیة أمرٍ آخر ، و المکلّف بعد غیر عاصٍ للأمر الأول ؟

فقال المیرزا رحمه اللّٰه : نحن نعقل الترتّب ... غیر أنّ الإشکال علی کاشف الغطاء فی الصغری .

قال الأُستاذ : الظاهر من الشیخ هو الموافقة علی الصغری ، غیر أنه ینکر هنا الترتّب کبرویّاً .

ص:249


1- 1) البحث رقم (18) من مباحث مقدمة کشف الغطاء .
إشکالات المیرزا علی کاشف الغطاء

و قد أشکل المیرزا من الناحیة الصغرویّة بوجوه (1) :

الأول : إنه قد وقع الخلط علی کاشف الغطاء بین التزاحم و التعارض ، لأنّ بحث الترتب من صغریات التزاحم ، و مسألة الجهر و الإخفات من صغریات التعارض .

تشیید الأُستاذ الإشکال الأوّل

توضیحه : إن قوام باب التزاحم هو أن یکون کلّ من المتعلّقین ذا ملاک و تکون المصلحة تامّةً فیهما ، فلا مشکلة فی مقام الجعل ، و إنما هی فی مقام الامتثال ، من جهة العجز عن تحصیل کلا الملاکین ، فإن کان أحدهما أهم من الآخر تقدّم من باب الترتب . بخلاف باب التعارض ، فإنّه لا یوجد ملاک لأحد الخطابین ... و مسألة الجهر و الإخفات من هذا القبیل ، إذ لا ملاک لإحدی الصّلاتین - القصریّة و التامّة - فی الیوم الواحد ، فإذا انتفی الملاک عن أحد الفردین ، خرجت المسألة عن باب التزاحم و کانت من باب التعارض .

هذا معنی کلام المیرزا . فلا یرد علیه الإشکال (2) : بأن محذور الترتب هو طلب الضدّین ، و کما یرتفع هذا المحذور فی المتضادّین اتفاقاً ، کذلک یرتفع فی المتضادّین دائماً ، عن طریق الترتّب ... .

وجه الاندفاع هو : أن فی کلام المیرزا نکتةً غفل عنها ، و هی أنه قد نصّ علی قیام الضّرورة علی عدم وجوب صلاتین فی یوم واحدٍ و وقت واحدٍ إحداهما قصر و الأُخری تمام . هذا من جهةٍ . و من جهةٍ أُخری : فقد ثبت فی باب

ص:250


1- 1) أجود التقریرات 2 / 91 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 91 الهامش ، محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 468 .

التعارض : أنه قد یکون بالذات و قد یکون بالعرض ، کأن یقوم دلیلٌ علی وجوب صلاة الظهر فی یوم الجمعة و یقوم آخر علی وجوب صلاة الجمعة ، فتجب صلاتان ، و لکن قد قام الإجماع علی عدم وجوب الصّلاتین فی ظهر یوم الجمعة ، فیقع التعارض بین الدلیلین بالعرض ، و یحصل الیقین ببطلان أحدهما ، و مسألة الجهر و الإخفات من هذا القبیل ، فهی من باب التعارض .

ثم ذکر فی ( المحاضرات ) ما حاصله :

إنه کما یتعقّل الترتب فی مقام الامتثال ، کذلک یتعقّل فی مقام الجعل ، و یرتفع المشکل فی مقام الإثبات بالتقیید ، و أمّا فی مقام الثبوت فالنصوص الواردة فی المسألة هی الدلیل علی جعل الحکم بنحو الترتّب ، کصحیحة زرارة فی من جهر فیما لا ینبغی الإخفات فیه أو أخفت فیما ینبغی الجهر فیه (1) .

فأشکل الأُستاذ :

بأن الترتّب فی مقام الجعل فی الضدّین اللذین لهما ثالث معقول ، کأن یقول المولی : تجب علیک الإزالة فإن عصیت وجبت علیک الصّلاة ، إلّا أن مورد البحث من الضدّین اللذین لا ثالث لهما ، فلا یعقل التقیید - مع توقف الترتّب علی التقیید - کأن یقیّد وجوب الحرکة بترک السکون . هذا ثبوتاً .

و أمّا إثباتاً ، فإن نصوص المسألة لا تفی بدعوی کون الجعل بنحو الترتّب ، لأنّ معنی الترتّب فی مرحلة الجعل هو أن یجعل الشارع - بنحو القضیّة الحقیقیّة - وجوب الإخفات لمن وجب علیه الجهر فعصی ، و النصوص و إن احتمل دلالتها علی هذا المعنی ، یحتمل دلالتها علی جعل البدل فی مقام الامتثال کما هو الحال فی قاعدتی الفراغ و التجاوز ، و من الواضح الفرق بین جعل الحکم علی نحو

ص:251


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 482 .

الترتّب مشروطاً بالعصیان ، و جعله من باب بدلیّة العمل الناقص عن التکلیف؛ و لعلّ فی النصوص ما هو ظاهر فی جعل البدل کما فی صحیحة زرارة عن أبی جعفر المذکورة و هذا نصّها : « فی رجل جهر فیما لا ینبغی الجهر فیه أو أخفی فیما لا ینبغی الإخفاء فیه . فقال : أیّ ذلک فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعلیه الإعادة ، و إن فعل ذلک ناسیاً أو ساهیاً فلا شیء علیه و قد تمّت صلاته » (1) فإنّ ظاهر قوله علیه السلام : تمّت صلاته ، هو جعل البدل فی مرحلة الامتثال ، أی لا نقص فی صلاته .

و فی روایة أُخری عن أحدهما علیهما السلام : « إن اللّٰه تبارک و تعالی فرض الرکوع و السجود و القراءة سنّةً ، فمن ترک القراءة متعمّداً أعاد الصّلاة و من نسی فلا شیء علیه » (2) .

و هذه ظاهرة فی جعل البدل کذلک ، و إلّا لزم المستشکل القول بجریان الترتّب فی مورد النسیان أیضاً .

و علی أیّ حالٍ ، فالإشکال من المحقّق السید الخوئی علی المیرزا غیر وارد .

و هذا تمام الکلام علی الإشکال الأوّل .

الوجه الثانی : إن مورد الخطاب الترتبی هو ما إذا کان خطاب المهم مترتّباً علی عصیان الأمر بالأهم ، و هذا لا یکون إلّا فیما إذا لم یکن المهم ضروریّ الوجود عند عصیان الأمر بالأهم ، کما هو الحال فی الضدّین اللذین لهما ثالث .

و أمّا الضدّان اللّذان لا ثالث لهما ، ففرض عصیان الأمر بأحدهما هو فرض وجود

ص:252


1- 1) وسائل الشیعة 6 / 86 الباب 26 من أبواب القراءة فی الصّلاة .
2- 2) وسائل الشیعة 6 / 87 الباب 27 من أبواب القراءة فی الصّلاة .

الآخر لا محالة ، فیکون البعث نحوه تحصیلاً للحاصل .

إشکال السید الخوئی

فأشکل فی التعلیقة : بأنّ إدراج محلّ الکلام فی الضدّین اللذین لیس لهما ثالث ، غیر مطابق للواقع ، لأن المأمور به فی الصّلاة إنما هی القراءة الجهریّة أو الإخفاتیّة ، و من الواضح أن لهما ثالثاً و هو ترک القراءة رأساً ، فلا مانع من الأمر بهما فی زمانٍ واحدٍ مشروطاً أحدهما بعصیان الآخر .

أجاب الأُستاذ

بأنّ ما ذکره خلاف ظواهر النصوص (1) :

« عن أبی جعفر علیه السلام : لا یکتب من القراءة و الدعاء إلّا ما أسمع نفسه » .

« سألته عن قول اللّٰه : «وَلٰا تَجْهَرْ بِصَلٰاتِکَ وَلٰا تُخٰافِتْ بِهٰا » ... المخافتة ما دون سمعک و الجهر أن ترفع صوتک شدیداً » .

« قلت لأبی عبد الله علیه السلام : علی الإمام أن یُسمع من خلفه و إنْ کثروا ؟ قال : لیقرأ قراءةً وسطاً » .

« الجهر بها رفع الصوت و التخافت ما لم تسمع نفسک » .

« الاجهار أن ترفع صوتک تسمعه من بُعد عنک ، و الإخفات أن لا تسمع من معک إلّا یسیراً » .

فالمستفاد من النصوص لیس هو القراءة الجهریّة و الإخفاتیّة ، بل الواجب فی الصّلاة هو الإجهار فی القراءة و الإخفات فیها ... فالإشکال مندفع .

الوجه الثالث : إنّ الخطاب المترتّب علی عصیان خطابٍ آخر ، إنما یکون

ص:253


1- 1) وسائل الشیعة 6 / 96 - 98 ، الباب 33 من أبواب القراءة فی الصّلاة .

فعلیّاً عند تنجّز الخطاب المرتّب علیه و عصیانه ، و بما أنّ المفروض فیما نحن فیه توقف صحّة العبادة الجهریّة - مثلاً - علی الجهل بوجوب الإخفات ، لا یتحقق هناک عصیان للتکلیف بالإخفات لیتحقق موضوع الخطاب بالجهر ، لأن التکلیف الواقعی لا یتنجّز مع الجهل به ، و بدونه لا یتحقق العصیان الذی فرض اشتراط وجوب الجهر به أیضاً .

هذه عبارته .

و بعبارة أُخری : إن شرط التکلیف هو الوصول ، و ما لم یصل لم یصر فعلیّاً ، و الجاهل المقصّر لا یتحقّق فی حقّه هذا الشرط ، فلو کان الخطاب الترتّبی إلیه کأنْ یقول : یجب علیک الإخفات فإن عصیت فعلیک الجهر ، کان وجوب الإخفات علیه فی صورة التفاته إلی العصیان ، و إلّا فالشرط غیر واصل فلا یعقل فعلیّة التکلیف ، و بمجرّد الالتفات منه إلی العصیان صار متعمّداً ، فینعدم موضوع الخطاب الترتّبی .

إشکال السید الخوئی

أجاب السید الخوئی : بأن المدار فی الترتّب علی ترک الأهمّ لا علی عصیانه ، و خطاب الإخفات مشروطاً بترک الجهر قابل للوصول ، إذ الجاهل المقصّر ملتفت إلی کونه تارکاً للجهر .

أجاب الأُستاذ

بأن ما ذکر صحیح کبرویّاً ، فالترتب لا یتوقف علی العصیان ، لکنّ کاشف الغطاء عبّر بالعصیان قال : « کل مولی مطاع یمکنه القول : یجب علیک الجهر فإن عزمت علی المعصیة وجب علیک الإخفات » فإشکال المیرزا وارد من هذه الناحیة ، لأن العزم علی المعصیة یستحیل وصوله و لو التفت صار متعمّداً .

ص:254

لکن لا یخفی أن المیرزا یقول ب« العصیان » و کاشف الغطاء یقول « بالعزم » فنقول :

إنّ القول باشتراط العزم و إن کان هو الصحیح المختار فی الترتّب - کما تقدّم - لکنّ کاشف الغطاء لا یمکنه إجراء الترتب ، لأنه یقول أیضاً باقتضاء الأمر بالشیء النهی عن جمیع الأضداد الوجودیّة للشیء ، فإذا أُمر بالإزالة فقد نهی عن الصّلاة ، و مع النهی عنها کیف تکون مأموراً بها بالعزم علی معصیة الأمر بالإزالة ؟

فتصحیح العبادة عن طریق الترتّب - کما ذکر کاشف الغطاء - موقوف علی أن یرفع الید عن المبنی المذکور ، لأنه لا یتمشّی الترتّب معه ، و هذا هو الإشکال الوارد علیه قدّس سرّه بناءً علی مبناه فی اشتراط العزم علی المعصیة فی الترتّب .

و هذا تمام الکلام علی التنبیه الأوّل .

.التنبیه الثانی( لو اختلف اعتبار القدرة فی الواجبین )

لا یخفی أن القدرة علی الامتثال فی مثل إزالة النجاسة و الصّلاة و نحو ذلک هی القدرة العقلیّة ، و قد أُجری الترتب فی هذه الموارد علی القول به ، کما فی البحوث السابقة .

أمّا إذا کانت القدرة المعتبرة فی الامتثال مختلفة ، بأن یکون أحد الواجبین مشروطاً بالقدرة العقلیّة و الآخر بالقدرة الشرعیّة ، کما لو کان عند المکلّف ماء یکفی إمّا للوضوء و إمّا لرفع العطش عن نفس محترمة ، إذ الأوّل مشروط الشرعیّة ، و الثانی العقلیة ، کما هو معلوم ، فهل یجری الترتّب کذلک أو لا ؟

فعن المیرزا الشیرازی - القائل بالترتّب - الفتوی ببطلان الوضوء إنْ توضّأ

ص:255

بالماء بعد عصیان الأمر بصرفه فی رفع العطش ، و نسب البطلان کذلک إلی الشیخ ، مع أنه غیر قائل بالترتب . قال المیرزا : و أمّا ذهاب السید المحقق الطباطبائی الیزدی قدّس سرّه إلی الصحة فی مفروض الکلام ، فهو ناشئ من الغفلة عن حقیقة الأمر .

و الحاصل : إن المسألة خلافیّة ، و لا بدّ لتحقیق الحال فیها من ذکر مقدّمات .

الأُولی : تارةً : تؤخذ القدرة فی لسان الدلیل کما فی دلیل الحج و الوضوء ، و أُخری : لا تؤخذ کما فی دلیل الصّلاة مثلاً ، فإن أُخذت ، کان مقتضی التطابق بین مقامی الثبوت و الإثبات دخل القدرة فی الملاک و الغرض ، و إن لم تؤخذ فمقتضی ذلک قیام الغرض بنفس ذات المتعلّق .

الثانیة : إنه بمجرّد حصول القدرة العقلیّة بالتمکن من الإتیان بالمادّة کالصّلاة ، یکون المتعلّق واجباً فعلیّاً ، إذ الحاکم هو العقل ، و هو یری کفایة التمکّن من الشیء فی صحّة طلبه ، و حینئذٍ ، فلا یبقی موضوع للواجب الآخر الذی أخذ الشارع القدرة فی لسان الدلیل علیه ... لأن المرجع فی القدرة الشرعیّة هو العرف - لکون الخطابات الشرعیة ملقاةً إلیه - و مع فعلیّة الواجب الآخر ینتفی القدرة العرفیّة العقلائیة .

الثالثة : أخذ القدرة فی الواجب تارة : یکون بالمطابقة مثل آیة الحج ، و أُخری : بالالتزام مثل آیة التیمّم ، و لمّا کان التیمم فی عرض الوضوء ، إذ المکلّف إمّا یکون متیمّماً أو متوضّأً ، فإنه بأخذ العجز عن الماء فی التیمّم یثبت بالالتزام أخذ القدرة فی الوضوء ... و هذه القدرة شرعیّة لا تکوینیّة ، لسقوط الوضوء عن المریض مع قدرته تکویناً علیه .

الرابعة : إن تصحیح العبادة بالأمر الترتّبی موقوف علی أن یکون الأمر ذا

ص:256

ملاک ، لتبعیّة الأحکام الشرعیّة للملاکات عند العدلیّة ، فلولا الملاک فلا أمر . أمّا المنکرون للترتّب فلهم تصحیحها بالإتیان بها بقصد الملاک ، کما علیه صاحب الکفایة قدّس سرّه .

و إذا عرفت هذه المقدّمات ، ظهر الدلیل علی القول ببطلان الوضوء بکلّ وضوح ، و ذلک :

لأنّ وجوب صرف الماء فی رفع العطش عقلی ، و شرط وجوبه هو القدرة التکوینیّة ، بخلاف وجوب الوضوء ، فالقدرة المأخوذة علی الماء فیه شرعیّة ، و إذا صرف فی رفع العطش انتفت القدرة المعتبرة فی الوضوء و تبدّل الحکم إلی التیمّم ، لأنه بمجرّد صرفه فی رفع العطش یکون الوضوء بلا ملاک لانتفاء شرطه و هو القدرة الشرعیّة ، و إذا انتفی الملاک انتفی الأمر ، و بذلک ینتفی الترتّب .

فظهر أنّ وجه فتوی المیرزا القائل بالترتب ، هو عدم الأمر الترتّبی ، لعدم الملاک ، و الشیخ یقول بالبطلان ، مع إنکار الترتب ، لعدم الملاک حتی یصحّح بقصده .

و لا یبقی وجه للقول بصحة هذا الوضوء ، لأنّ طریق تصحیحه إمّا الترتب و إمّا قصد الملاک ، و قد علم أن لا ملاک فیقصد أو یثبت الأمر الترتبی تبعاً له ، و قد نسب المیرزا هذا القول إلی السیّد فی ( العروة ) ، و کلامه فیها - فی السبب السادس من أسباب التیمّم - واضحٌ فی البطلان لا الصحّة ، إذ قال : لو دار الأمر بین الوضوء و بین واجب أهمّ ، یقدّم صرف الماء فی الأهم ، لأنه لا بدل له و الوضوء له بدل (1) .

و فی حاشیته علی نجاة العباد وافق الماتن فی القول بالبطلان .

هذا ، و ذهب السیّدان الحکیم و الخوئی إلی الصحّة من باب الترتّب ، فی

ص:257


1- 1) العروة الوثقی 2 / 178 - 179 ط جامعة المدرسین .

مثال دوران الأمر بین رفع العطش و الوضوء مع عدم کفایة الماء إلّا لواحدٍ منهما .

قال فی ( المحاضرات ) ما ملخّصه بلفظه تقریباً :

إنه لا مانع من الترتّب إلّا توهّم أنّه لا ملاک للوضوء ، فلا یمکن تعلّق الأمر به علی نحو الترتّب ، لاستحالة وجود الأمر بلا ملاک ، لکنه یندفع : بأن القول بجواز تعلّق الأمر بالضدّین علی نحو الترتّب ، لا یتوقّف علی إحراز الملاک فی الواجب المهم ، إذ لا یمکن إحرازه فیه إلّا بتعلّق الأمر به ، فلو توقف تعلّق الأمر به علی إحرازه لدار ، سواء کان الواجب المهم مشروطاً بالقدرة عقلاً أو شرعاً ، لأنّ ملاک الترتّب مشترک بین التقدیرین ، فإذا لم یکن الأمر بالأهمّ مانعاً عن الأمر بالمهم لا عقلاً و لا شرعاً إذا کان فی طوله ، فلا مانع من الالتزام بتعلّق الأمر به علی نحو الترتب و لو کانت القدرة المأخوذة فیه شرعیّة ، وعلیه ، فإذا لم یصرف المکلّف الماء فی الواجب الأهم و عصی الأمر به ، فلا مانع من تعلّق الأمر بالوضوء ، لکونه حینئذٍ واجداً للماء و متمکّناً من صرفه فیه عقلاً و شرعاً .

و قد تحصّل من ذلک : إن دعوی عدم جریان الترتب فیما إذا کانت القدرة المأخوذة فی الواجب المهم شرعاً ، تبتنی علی الالتزام بأمرین :

الأوّل : دعوی أن الترتّب یتوقّف علی أن یکون الواجب المهم واجداً للملاک مطلقاً حتی فی حال المزاحمة ، و إحرازه إنما یکون إذا کانت القدرة المعتبرة عقلیّة ، و أما إذا کانت شرعیّةً ، فبانتفاء القدرة - کما فی المثال - ینتفی الملاک ، و معه لا یجری الترتب .

و الثانی : دعوی أن الأمر بالأهمّ مانع عن الأمر بالمهم و معجّز عنه شرعاً ، حتی فی حال عصیانه و عدم الإتیان بمتعلّقه .

و لکن قد عرفت فساد کلتا الدعویین .

ص:258

أمّا الأُولی ، فلما سبق من أن الترتّب لا یتوقّف علی إحراز الملاک فی الواجب المهم ، فإن إحرازه غیر ممکنٍ مع سقوط الأمر حتی فیما إذا کانت القدرة عقلیّة فضلاً عن کونها شرعیّة ، فلو کان الترتّب متوقفاً علی إحراز الملاک فی المهم لم یمکن الالتزام به علی کلا التقدیرین .

و أمّا الثانیة ، فقد عرفت عدم التنافی بین الأمرین ، إذا کان الأمر بالمهم مشروطاً بعصیان الأمر بالأهم (1) .

جواب الأُستاذ

و قد أجاب الأُستاذ عن ذلک : بأنه کلام غیر مناسب لشأنه ، لأنّ المیرزا إنما یستکشف الملاک عن طریق إطلاق المادّة لا عن طریق الأمر کما علیه المستشکل ، فالمیرزا یقول : بأنه إذا تعلّق الأمر بشیء و لم تؤخذ القدرة فیه فی لسان الدلیل الشّرعی ، فإنّ نفس إطلاق الواجب یکشف عن قیام الملاک بذات المادّة ... فالإشکال أجنبی عن مسلک المیرزا . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : لو سلّمنا أنّ الترتّب لا یتوقّف علی إحراز الملاک فی الواجب المهم - کما قال - فإنّ الواقع فی المسألة هو إحراز عدم الملاک ، فما ذکره خلط بین عدم إحراز الملاک و إحراز عدم الملاک ، و ذلک لأن القدرة المأخوذة فی الواجب قید للواجب ، و کلّ ما یکون قیداً له فهو قید للملاک ، لاستحالة تقیّد الواجب من دون تقیّد الملاک ، وعلیه ، فإنه یستحیل أن تقیّد الصّلاة بالطهارة مع عدم تقیّد المصلحة المترتبة علیها و الغرض منها بالطهارة ، و المفروض اعتبار القدرة الشرعیّة علی الطهارة ، فإذا انتفت هذه القدرة علیها حصل القطع بعدم الملاک ، و القطع بعدمه فی المهم یبطل الترتب ... و قد اعترف المستشکل فی مباحث الضدّ بأنه متی

ص:259


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 394 - 395 .

أُخذت القدرة فی المتعلّق و کانت قیداً للواجب ، فإنّه ینتفی الملاک بانتفاء هذا القید ... و مع قطعاً یستحیل جریان الترتب .

و ثالثاً : کیف الجمع بین قوله هنا فی المحاضرات بعدم لزوم إحراز الملاک و أنّ عدمه لا ینافی الترتّب بین الواجبین ، و قوله فی کتاب الحج بشرح ( العروة ) (1)« لعدم جریان الترتب فی أمثال المقام » و هذا نصّ عبارته :

« الظاهر عدم وجوب متعلّق النذر حتی فی مثل الفرض ، لعدم جریان الترتب فی أمثال المقام ، لأن الترتب إنما یجری فی الواجبین اللذین یشتمل کلّ منهما علی ملاک ملزم ، غایة الأمر لا یتمکن المکلّف من الجمع بینهما فی مقام الامتثال » (2) ؟

فالحق مع المیرزا ، لأنّه قد أُخذ فی لسان أدلّة التیمّم عدم التمکّن من استعمال الماء ، فکان وجوب التیمّم و التکلیف به رافعاً لموضوع حکم الوضوء ، فلو توضّأ - و الحال هذه - بطل .

.التنبیه الثالث( فی ما لو کان أحد الواجبین موسّعاً و الآخر مضیّقاً )

هل یجری الترتب فیما لو کان أحد الواجبین موسّعاً و الآخر مضیّقاً ، کما لو وجب علیه إزالة النجاسة عن المسجد و وجبت الصّلاة فی سعة الوقت ، بعد العلم بأنهما لو کانا مضیّقین فهما داخلان فی البحث ، و لو کانا موسّعین فخارجان یقیناً ؟ وجوه :

ص:260


1- 1) العروة الوثقی 4 / 393 المسألة 32 شرائط وجوب الحج: إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن یزور الحسین علیه السلام فی کلّ عرفة ثم حصلت، لم یجب علیه الحج ...
2- 2) شرح العروة 26 / 119 کتاب الحج ، مسألة تزاحم الحج و النذر .

1 - عدم جریان الترتب مطلقاً .

2 - الجریان مطلقاً .

3 - التفصیل بما إذا کان اعتبار القدرة فی الخطاب بحکم العقل کما علیه المحقق الثانی فلا یجری ، و أمّا بناءً علی اعتبارها باقتضاء الخطاب کما علیه المیرزا النائینی فیجری .

و لا بدّ من النظر فی أصل تحقّق التزاحم فی هذه الصّورة ، فالمیرزا علی أنّ التزاحم موجود بین إطلاق الأمر بالموسّع و أصل الأمر بالمضیّق - بخلاف المضیّقین فهو بین أصل دلیل کلٍّ من الواجبین - و لکنّ هذا إنما یتم علی مسلکه ، أمّا علی مسلک المحقق الثانی ، حیث اعتبرت القدرة فی جواز التکلیف بحکم العقل من باب قبح تکلیف العاجز ، فلا تزاحم أصلاً ، إذ یکفی فی صحّة التکلیف عند العقل تمکّن المکلّف علی فردٍ ما من أفراد الطبیعة ، و علی هذا ، فإن الفرد المزاحم بالمضیّق غیر مقدور ، أمّا غیره من الأفراد فمقدور ، و هذه القدرة تکفی لصحّة الخطاب المتعلّق بالطبیعة ، فلا موضوع للترتب ، لکونه فرع التزاحم ...

و نتیجة ذلک علی مسلک المحقق الثانی اختصاص الترتب بالمضیّقین .

و أمّا علی مبنی المیرزا ، فإنّ مقتضی نفس الخطاب توجّه التکلیف إلی الفرد المقدور من الطبیعة ، لأنّ حقیقة التکلیف هی البعث ، و البعث یقتضی الانبعاث ، و هو لا یتحقق إلّا بالنسبة إلی الفرد المقدور ، فلا محالة یتقیّد المأمور به بذلک ، و یخرج غیر المقدور عن دائرة اطلاق المأمور به ، و یتوقف شموله له علی جواز الترتب ، فإن جوّزناه کان داخلاً فی الإطلاق عند عصیان الأمر بالأهم ، و إلّا کان خارجاً عنه . یعنی : إن شمول الإطلاق للفرد المزاحم غیر ممکن ، لکونه ممتنعاً شرعاً بسبب مزاحمة الأمر بالمضیّق له ، فینصرف الإطلاق عنه ، فلو أُرید جعله

ص:261

مأموراً به فلا مناص من الالتزام بالترتب ، بأن یتقیّد الاطلاق بالعصیان کما لو قال :

أزل النجاسة عن المسجد فإن عصیت تجب علیک الصّلاة .

کلام المحاضرات

و جاء فی المحاضرات - بعد الإیراد علی المیرزا و المحقق الثانی ، بأن القدرة غیر مأخوذة فی متعلّق التکلیف لا من جهة اقتضاء الخطاب و لا من جهة حکم العقل ، بل هی معتبرة فی ظرف الامتثال و الطاعة - إن جریان الترتب فی المقام مبنی علی مسلک المیرزا من أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق ، و بما أنّ تقیید المهم فی المقام بخصوص الفرد المزاحم محال ، لکون هذا الفرد ممتنعاً شرعاً ، و الممتنع الشرعی کالممتنع العقلی ، فالإطلاق أیضاً محال ، لکون النسبة بینهما نسبة العدم و الملکة .

ثم أورد علیه : بأنّ التقابل بین الإطلاق و التقیید من تقابل التضادّ ، فلا یستلزم استحالة أحدهما - فی موردٍ - استحالة الآخر و لمّا کان التقیید بالفرد المزاحم غیر معقول ، و الإهمال کذلک ، کان الإطلاق ضروریّاً ، فیمکن الإتیان بالفرد بداعی امتثال الأمر المتعلّق بالطبیعة .

( قال ) فجریان الترتب هنا مرتکز علی أحد أمرین : الأوّل : دعوی اقتضاء نفس الخطاب اعتبار القدرة فی المتعلّق ، و أنه یوجب تقییده بالحصّة المقدورة .

و الثانی : دعوی أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق . لکنّ الدعویین فاسدتان کما تقدّم .

فالصحیح : أن یقال بخروج المسألة عن کبری التزاحم ، لتمکّن المکلّف فیها من الجمع بین التکلیفین فی مقام الامتثال (1) .

ص:262


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 491 - 492 .

قال الأُستاذ

أمّا ما ذکره من النسبة بین الإطلاق و التقیید فتام ، إذ الصحیح کون الإطلاق رفض القیود لا جمعها ، فبناءً علیه و بالنظر إلی أنّ الحکم یستحیل أن یتجاوز عن متعلّقه ، یثبت وجوب الإطلاق ، و مجیء الحکم علی طبیعی الصّلاة لا علی أفرادها ، فلیس الواجب هذا الفرد أو ذاک ، بل الفرد مصداق للواجب ... فما جاء فی المحاضرات متینٌ ، إلّا أنّ النظر فی إیراده علی المیرزا ، و ذلک :

أوّلاً : إن الذی استند إلیه المیرزا لاستحالة الإطلاق ، لیس کون النسبة بینه و بین التقیید هو العدم و الملکة ، کما لا یخفی علی من راجع ( أجود التقریرات ) و( فوائد الأُصول ) (1) ، بل مستنده هو القصور الذاتی للخطاب ، و لذا جوّز الاطلاق علی مسلک المحقق الثانی ، فلو کان وجه عدم جواز الإطلاق استحالة تقیید التکلیف بالفرد المزاحم ، لما تعقّل المیرزا الإطلاق علی ذاک المسلک ، لأن استحالة تقییده واضحة علی کلا المسلکین .

و ثانیاً : لقد ذکر المیرزا فی وجه نظره : إن البعث إنما یکون نحو الفرد المقدور فالإطلاق محال ، و لذا یقع التزاحم هنا بین إطلاق الواجب الموسّع و أصل وجوب الواجب المضیّق ، أمّا علی مبنی المحقق الثانی فلا تزاحم .

و إذا کان المیرزا یعبّر بالتزاحم ، فلا بدّ و أن یکون وقوعه هنا معقولاً ، أمّا لو کان الاطلاق مستحیلاً - لکونه عدم ملکة - فکیف یصح التعبیر بالتزاحم ؟

فظهر : أن کلامه فی المقام مستند إلی الضیق الذاتی للخطاب ، و لیس مستنداً إلی تقابل العدم و الملکة بین الاطلاق و التقیید ... فالإشکال علیه من هذه الناحیة غیر وارد .

ص:263


1- 1) أجود التقریرات 2 / 97 فوائد الأُصول (1 - 2) 373 - 374 ط جامعة المدرسین .

بل الإشکال الوارد علی المیرزا : أمّا من ناحیة المبنی ، فالصحیح أن اعتبار القدرة فی التکلیف هو بحکم العقل وفاقاً للمحقق الثانی ، لأنّ التکلیف لیس هو البعث - کما ذکر المیرزا - بل هو جعل الشیء فی الذمّة - وفاقاً للسید الخوئی - کما هو ظاهر الأدلّة اللفظیّة من قبیل «کُتِبَ عَلَیْکُمُ ... » و نحوه ، و هو المرتکز عند العرف ، و البعث و الانبعاث من آثار جعله فی الذمّة ... .

و أمّا من ناحیة البناء بعد فرض صحّة المبنی : فقد تقرّر أن متعلّق التکلیف هو الطبیعة ، و الأفراد خارجة ، فلو کان اعتبار القدرة بنفس الخطاب و کان حقیقة التکلیف هو البعث ، فلا بدّ من إمکان الانبعاث نحو المتعلّق ، و من المعلوم أن القدرة علی المتعلّق - و هو الطبیعة - تحصل بالقدرة علی فردٍ ما من أفرادها ، فما أمکن الانبعاث نحوه هو الفرد ، لکنّ الفرد غیر متعلّق للتکلیف ، و ما تعلّق به التکلیف هو الطبیعة ، و هی ملغًی عنها الخصوصیات الفردیة لا یمکن الانبعاث نحوها ، و إذا کان الامتثال یحصل بفردٍ ما من أفرادها فلا یتحقق التزاحم ، فلا مورد للترتب .

.التنبیه الرابع

( فی الترتب فی التدریجیات )

هل تجری مسألة الترتب فی الواجبین التدریجیین أو أحدهما تدریجی و الآخر آنیّ أو لا ؟

و الکلام فی ثلاث صور :

1 - أن یکونا تدریجیین .

2 - أن یکون الأهم آنیّاً و المهم تدریجیّاً .

ص:264

3 - أن یکون المهم آنیّاً و الأهم تدریجیّاً .

فإن کان الأهمّ آنیّاً و المهم تدریجیّاً ، کان الجزء الأوّل من المهم التدریجی مزاحماً للأهم الآنی ، فعلی الترتّب یکون وجوب هذا الجزء مشروطاً بمعصیة الأمر بالأهم الآنیّ ، و تکون معصیته شرطاً مقارناً للوجوب الفعلی للمهم ، فإن عصی الأهم و أتی بالمهم صحّ ... و لا کلام .

و إن کان المهم و الأهم تدریجیّین ، وقع الإشکال و البحث - بالإضافة إلی مسألة الترتب - من جهة لزوم الالتزام بالشرط المتأخّر أو بالواجب المعلّق . إذن ، یتوقّف الفتوی بصحّة العمل - علاوةً علی القول بالترتب - بالالتزام بالشرط المتأخّر .

و ذلک : لأنّ المفروض أن هنا واجبین تدریجیّین کإزالة النجاسة من المسجد فی أوّل الوقت - و هی الأهم - و الصّلاة و هی المهم ، و من الواضح أنّ فعلیّة الأمر بالصّلاة متوقفة علی معصیة الأمر بالإزالة ، لکن معصیتها تدریجیّة ، و تستمرّ إلی آخر الصّلاة ، بأن یُعصی الأمر بالإزالة فی وقت التکبیر و القیام و الرکوع و السجود ... و هکذا إلی التسلیم ، و لو لا معصیة الإزالة فی وقت کلّ جزءٍ فلا فعلیّة للجزء ... وعلیه ، فإنّ فعلیّة الأمر بالتکبیرة مشروطة بعِصیان الأمر بالإزالة فی وقت الأجزاء اللّاحقة لتکبیرة الإحرام ، و هذا معناه الالتزام بالشرط المتأخّر .

کما یلزم الالتزام بالواجب المعلّق ، لأنّ فعلیّة الوجوب للتکبیرة متوقفة علی امکان الواجب المعلّق ، لأنّ وجوب الجزء الآخر للواجب التدریجی استقبالی ، و لو لا وجوبه لما ثبت وجوب لتکبیرة الإحرام .

فظهر أنّ تصویر الترتّب فی هذه الصّورة یتوقّف علی القول بالشرط المتأخّر و القول بالواجب المعلّق ، فمن قال بجوازها کلّها فهو فی راحة ، و من قال

ص:265

بالترتب و أنکر الشرط المتأخّر و الواجب المعلّق - کالمیرزا قدّس سرّه - لم یمکنه إجراء الترتب ، و کان مورد الترتب المتزاحمین الآنیّین فقط ، کإنقاذ الغریقین و ما شابه ذلک .

تفصّی المیرزا

لکن المیرزا قدّس سرّه تفصّی عن هذه المشکلة (1) بأنّ مشکلة التزاحم کانت من ناحیة عدم القدرة علی امتثال کلا الأمرین ، فکان القول بالترتّب - بأن یکون شرط التکلیف بالأمر بالمهم هو عصیان الأمر بالأهم - هو الطریق لحلّ المشکلة ، لأن اشتراط التکلیف بالقدرة حکم عقلی ، و هو یری أن بتحقّق هذا الشرط یتحقّق الامتثال ... .

و علی هذا ، فإنّ الشرط - فی صورة التدریجیّین - هو القدرة علی الجزء الأوّل من أجزاء الواجب التدریجی المتعقّبة بالقدرة علی سائر أجزائه ، فشرط وجوب الصّلاة - مثلاً - هو القدرة علی التکبیرة المتعقّبة بالقدرة علی سائر أجزائها حتی التسلیمة ، و هذا العنوان - عنوان التعقّب - حاصل بالفعل ، فیندفع بهذا البیان محذور الالتزام بالشرط المتأخّر ، فیکون شرط فعلیّة وجوب الأمر بالمهم عصیان الأمر بالأهم فی الآن الأوّل متعقّباً بعصیانه فی بقیّة الآنات ، و قد فرض تحقّق عصیانه فی آن أوّل امتثال الأمر بالمهم المتعقّب بعصیانه فی سائر أزمنة امتثال المهم ، فیکون من الشرط المقارن لا من الشرط المتأخر .

اشکال السید الخوئی

و قد أشکل علیه فی ( المحاضرات ) : بأن لا محصّل لجعل عنوان التعقّب

ص:266


1- 1) أجود التقریرات 2 / 98 - 99 .

هو الشرط ، لعدم الدلیل علیه (1) .

دفاع الأُستاذ عن المیرزا

فقال الأُستاذ : بأن کلام المیرزا دقیق ، و ذلک ، لأن أساس حکم العقل هو استحالة تعلّق الأمر بالضدّین ، للزوم التکلیف بالمحال أو التکلیف المحال ، و أساس ذلک هو عجز المکلّف عن الامتثال ، فکان الحاصل عدم وجود القدرة علی امتثال الأمر بالمهم ، أمّا مع عصیان الأمر بالأهم فالقدرة تحصل ، و إذا حصلت تحقق الشرط لوجوب المهم ، فیجب امتثاله ... و هذا هو الأساس فی نظریة الترتب .

وعلیه ، فإن العصیان للأهم إنما یکون شرطاً للمهم من جهة حصول القدرة علی المهم بذلک ، و إلّا فالمکلّف عاجز عن امتثاله ، ففی المورد الذی یستمرّ فیه الأمر بالأهم إلی آخر جزءٍ من أجزاء المهم ، - کما هو الفرض فی الإزالة بالنسبة إلی الصّلاة - تتحقّق القدرة علی المهم فیما إذا استمرت معصیة الأهمّ إلی الآخر ، و إلّا ، فلا تحصل القدرة التی هی شرط التکلیف بالمهم بحکم العقل ، فیعتبر فی فعلیّة وجوب الصّلاة القدرة المستمرة ، و هی لا تتحقّق إلّا بالعصیان المستمر للأمر بالإزالة ، و مع فرض تعقّب معصیة الجزء الأوّل من الأهم ، أو المعصیة فی الآن الأول من آناته بالمعصیة إلی الآن و الجزء الأخیر ، تکون القدرة علی المهمّ حاصلةً علی الصّلاة ، ویحکم العقل بوجوب الامتثال .

و إن کان الأهم تدریجیاً و المهم آنیّاً ... فالإشکال علی حاله ، لأنّ المفروض استمرار الأهم ، و بالاشتغال به من الآن الأوّل تنتفی القدرة علی المهم الآنی .

ص:267


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 406 فی الدلیل اللّمی علی الترتّب .

.التنبیه الخامس( فی حکم الاطلاع علی الأهم بعد الاشتغال بالمهم)

اشارة

إنه تارةً : یطّلع علی الأهم قبل الاشتغال بالمهم ، و أُخری : بعده . فإن کان الأوّل فالترتّب جارٍ ، و إن کان الثانی فصورتان ، إحداهما : ما إذا لم یکن قطع المهم محرّماً ، فالترتب جارٍ کذلک . و الثانیة : ما إذا کان قطعه حراماً ، فالمیرزا علی أن لا ترتب بل الأمر بالمهم متوجّه و الامتثال له متحقق .

و المثال الواضح هو الإزالة و الصّلاة ... فلو التفت إلی النجاسة فی المسجد و هو فی الصّلاة ، فالصّلاة مأمور بها حتی بناءً علی انکار الترتب ، فإن کان دلیل وجوب الأهم هو الإجماع ، کان المورد خارجاً عن القدر المتیقّن ، و هو صورة الاشتغال بواجبٍ ، و المفروض کونه فی الصّلاة . و إن کان دلیله لفظیّاً و کان مطلقاً ، قطع الصّلاة و عمل بمقتضی الترتب .

إشکال السید الخوئی

فأشکل علیه : بأن دلیل حرمة قطع الصّلاة إن کان هو الأخبار فی أن تحلیلها التسلیم ، فالأمر کما أفاد المیرزا ، لأن القدر المتیقّن من الإجماع علی وجوب إزالة النجاسة عن المسجد فوراً ، إنما هو فی غیر ما دلّ الدلیل اللّفظی بإطلاقه علی وجوب المضیّ فی الصّلاة ، المستلزم لتأخیر الإزالة إلی زمان الفراغ منها . و أمّا إن کان دلیل حرمة قطع الصّلاة هو الإجماع فقط ، لعدم دلالة تلک الأخبار إلّا علی الحکم الوضعی فلا تفید الحرمة التکلیفیّة ، فلا موجب لتقدّم وجوب المضیّ فی الصّلاة علی وجوب الإزالة ، بل مقتضی القاعدة هو الحکم بالتخییر . فقول المیرزا بوجوب المضیّ فی الصّلاة لا دلیل علیه (1) .

ص:268


1- 1) أجود التقریرات 2 / 100 الهامش .
جواب الأُستاذ

و قد أجاب الأُستاذ عن ذلک : بمنافاته لما بنی علیه المستشکل فی الفقه ، فقد ذهب إلی أن معنی کلمة « الحل » لغةً و عرفاً هو « الإرسال » کما أن « الحرمة » هی « الحرمان » و مقتضی ذلک : ظهور اللّفظتین فی الإطلاق الشامل للحکم الوضعی و التکلیفی معاً ، و تخصیصها بأحدهما یحتاج إلی قرینةٍ ، کأن لا یکون المورد قابلاً للحکم الوضعی کما فی «أُحِلَّ لَکُمُ الطَّیِّبٰاتُ » (1)و «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالدَّمُ » (2)و أمّا مع عدم القرینة ، فمقتضی القاعدة هو الحمل علی الجامع بین الحکمین کما هو مختاره فی «وَأَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبٰا » (3).

وعلیه ، فإن المستفاد من الأخبار هو مبطلیّة فعل المنافی للصّلاة و حرمة ذلک تکلیفاً ، إلّا فی النّافلة لقیام الدلیل علی جواز قطعها فیکون مخصّصاً للأخبار المذکورة ، و أمّا الخدشة فی أسانیدها فمردودة ، کما أوضحناه فی محلّه .

و تلخّص : أن الحق مع المیرزا ... و اللّٰه العالم .

و هذا تمام الکلام فی مسألة الضدّ .

ص:269


1- 1) سورة المائدة : 4 .
2- 2) سورة المائدة : 3 .
3- 3) سورة البقرة : 275 .

ص:270

هل الأوامر و النواهی

اشارة

متعلّقة بالطبائع أو الأفراد ؟

ص:271

ص:272

نظریة صاحب الکفایة :

قال : الحق أن الأوامر و النواهی تکون متعلّقة بالطبائع دون الأفراد .

و لا یخفی أن المراد أن متعلّق الطلب فی الأوامر هو صرف الإیجاد ، کما أنّ متعلّقه فی النواهی هو محض الترک . و متعلّقها هو نفس الطبیعة المحدودة بحدود و المقیّدة بقیود تکون بها موافقة للغرض و المقصود ، من دون تعلّق غرض بإحدی الخصوصیّات اللّازمة للوجودات ، بحیث لو کان الانفکاک عنها بأسرها ممکناً لما کان ذلک ممّا یضرّ بالمقصود أصلاً ، کما هو الحال فی القضیّة الطبیعیّة فی غیر الأحکام ، بل فی المحصورة علی ما حقق فی غیر هذا المقام .

و فی مراجعة الوجدان للإنسان غنیً و کفایة عن إقامة البرهان علی ذلک ، حیث یری إذا راجعه أنه لا غرض له فی مطلوباته إلّا نفس الطبائع ، و لا نظر له إلیها من دون نظرٍ إلی خصوصیّاتها الخارجیّة و عوارضها العینیّة ، و إنّ نفس وجودها السّعی - بما هو وجودها - تمام المطلوب ، و إن کان ذاک الوجود لا یکاد ینفکّ فی الخارج عن الخصوصیّة . فانقدح بذلک أن المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد أنها بوجودها السّعی بما هو وجودها قبالاً لخصوص الوجود متعلّقة للطلب ، لا أنها بما هی هی کانت متعلّقة له کما ربما یتوهّم ، فإنها کذلک لیست إلّا

ص:273

هی ، نعم هی کذلک تکون متعلقة للأمر فإنه طلب الوجود . فافهم (1) .

توضیحه

عند ما یتعلّق الأمر بالصّلاة - مثلاً - فإنّها إذا وجدت کان لها لوازم ، من المکان و الزّمان الخاصّین بها ، و من غیر ذلک ، فعلی القول بتعلّق الأمر بالطّبیعة تکون هذه الخصوصیّات اللّازمة للوجود خارجةً من تحت الطلب ، و علی القول بتعلّقه بالفرد داخلة تحته ... هذا ما ذکره أوّلاً . لکنّه غیّر التعبیر فقال : إن الغرض متعلّق بنفس الطبیعة ، و إن نفس وجودها السعی - بما هو وجودها - تمام المطلوب ، من دون نظرٍ إلی خصوصیّاتها الخارجیّة و عوارضها العینیّة ، و إن کان ذاک الوجود لا یکاد ینفکّ فی الخارج عن الخصوصیّة .

و الحاصل : تارةً : ننظر إلی الطبیعة بما هی موجودة فنقول : المطلوب فی ب « أَقِمِ الصَّلٰاةَ » (2)مثلاً هو وجود طبیعة الصّلاة ، لا هذا الوجود منها أو ذاک من الوجودات الخاصة ، و أُخری : ننظر إلیها مجرّدةً عن لوازم وجودها و أمارات تشخّصها و نقول بأن المطلوب هو وجود الطبیعة ، و تلک العوارض و اللوازم غیر داخلة فی الطلب ... و علی کلّ تقدیرٍ ، فإنّ تمام المطلوب هو الطبیعة - لا هذا الفرد أو ذاک - تلک الطبیعة التی هی ملزوم اللّوازم و المشخّصات ، أمّا هی ، فخارجة عن تحت الطلب و إن کانت الطبیعة غیر منفکّة عنها .

هذا ، و قد أشار بأمره بالفهم إلی أنه لا یمکن أن یکون الأمر طلب الوجود ، بل الأمر نفس الطلب ، فالوجود خارج من الأمر .

ص:274


1- 1) کفایة الأُصول : 138 .
2- 2) سورة الإسراء : 78 .

و أمّا دلیله علی ما ذهب إلیه من أن متعلّق الأمر هو الطبیعة ، فالوجدان ، یعنی أنّا لمّا نراجع الوجدان - فی المرادات التکوینیّة ، کإرادتنا للأکل و الشرب و الضّرب ، و التشریعیّة ، کإرادتنا صدور تلک الأفعال من الغیر - نری أن متعلّق الطلب و الإرادة لیس إلّا وجود الطبیعة و لا دخل للزمان و المکان ... غیر أنّ الفرق بین الأمر و النّهی هو أنّ متعلّق الطلب فی الأولی هو صرف الإیجاد و فی الثانی محض الترک ، و لا یخفی وجود الخلاف فی حقیقة الأمر و النهی ، فقیل : الأمر هو البعث نحو المادّة و النهی هو الزجر عنها ... و علی هذا لا دخل للوجود و العدم فی المتعلّق . و قیل - و هو مسلک الکفایة - أن المدلول فی الأمر و النهی لیس إلّا الطلب ، غیر أن متعلّقه فی طرف الأمر هو الوجود و فی طرف النهی هو الترک و العدم .

أمّا صاحب الفصول و المحقق القمی ، فقد استدلّا للمدّعی بالتبادر ، و بأن مادّة المتعلّق - مثل الصّلاة - لیست إلّا الصّلاة ، و الخصوصیّات الزائدة علیها لا دخل لها فی المادّة .

فظهر أنّ الأدلّة للمدعی ثلاثة :

1 - تبادر الطبیعة إلی الذهن .

2 - مادّة متعلّق الأمر .

3 - الوجدان .

الإشکال علی المحقق الخراسانی

ثم إنّ الأُستاذ أورد علی ما تقدّم عن الکفایة بما یلی :

أوّلاً : إنه جعل مدلول الأمر طلب الفعل ، و مدلول النهی طلب الترک . فیرد علیه الإشکال فی الأوامر التی هی هیئات عارضة علی المواد - و هی الأکثر فی الأوامر - بأنّ الهیئات معانی حرفیّة ، و« الطلب » معنی اسمی ، فکیف یصیر المعنی الاسمی مدلولاً للهیئة ؟

ص:275

فإن قیل : إن المحقق الخراسانی لا یفرّق بین المعنی الاسمی و المعنی الحرفی .

قلنا : نعم ، لکنّه یری الاختلاف بینهما باللّحاظ ، و هذا یتمّ فی مثل الابتداء و الانتهاء و نحوهما ، أمّا الطلب فلا یقبل اللّحاظین .

و ثانیاً : إنه جعل الاختلاف بین الأمر و النّهی فی ناحیة المتعلّق ، فکلّ منهما طلب ، لکن الأمر طلب الفعل و النهی طلب الترک . و فیه : إن هذا خلاف الارتکاز العرفی ، إذ العرف العام علی أنهما متغایران بالذات .

و ثالثاً : إنه أدخل الوجود و العدم فی مدلولی الأمر و النهی ، لکنّ کلّاً من الأمر و النهی مرکّب من المادّة و الهیئة ، و لا دلالة لشیءٍ منهما علی الوجود فی طرف الأمر ، و العدم فی طرف النهی ، و قد عرفت أنّ المعنی الاسمی لا یمکن أن یکون مدلولاً للهیئة التی هی معنی حرفی ، و لا یعقل وجود مدلولٍ بلا دالٍ ، فلا یدلّ الأمر علی طلب الوجود و النهی علی طلب الترک و العدم .

و رابعاً : قوله : بأن متعلّق الطلب هو وجود الطبیعة ، لأن الطبیعة من حیث هی لیست إلّا هی ، لا مطلوبة و لا لا مطلوبة . و فیه : إن الطلب علی مسلکه هو طلب الوجود ، و قد طرأ علی الطبیعة - و هو أمر زائد علی ذاتها - فلما ذا لا یطرأ علی الطلب ؟ و علی الجملة ، فإنّ المناط لصحّة تعلّق الطلب بوجود الطبیعة هو المناط لتعلّقه بها ، و إذا کانت الطبیعة من حیث هی لیست متعلّقة للأمر ، فهی غیر متعلّقة للطلب أیضاً .

و خامساً : ما أورده المحقّقان الأصفهانی و العراقی ، و هو یرتبط بجوابه عن الوهم . و توضیح ذلک :

إنه قد ذکر تحت عنوان « دفع وهم » ما حاصله : إن الأمر طلب وجود

ص:276

الطبیعة ، فیرد علیه : أنّه إنْ کان المراد وجودها الذهنی ، ففیه : أن الوجود الذهنی لیس بحاملٍ للغرض حتی یطلب . و أیضاً : یرد علیه ما یرد علی الوجود الخارجی إن کان المراد ، و هو : إن الطلب من المفاهیم ذات التعلّق ، کسائر الصفات النفسانیة من الحبّ و البغض و نحوهما ، فلو تعلّق بالوجود الخارجی ، یلزم أن یصیر هو - أی الطلب - خارجیّاً ، أو یصیر المتعلّق الخارجی نفسانیّاً ، و کلاهما محال .

و أیضاً : فإنّ الخارج ظرف سقوط الطلب ، فکون الوجود الخارجی مقوّماً للطلب محال .

فأجاب فی الکفایة : بأن کون وجود الطبیعة أو الفرد متعلّقاً للطلب هو أن یرید المولی صدور الوجود من العبد و إفاضته بالمعنی الذی هو مفاد کان التامّة ، لا أنه یرید ما هو صادر و ثابت فی الخارج کی یلزم طلب الحاصل کما توهّم ...

فلیس متعلّق الطلب هو الوجود الخارجی ، لأنه مسقط للطلب و لأنّه تحصیل للحاصل ، بل المتعلّق هو الإفاضة .

و الإشکال علی هذا الجواب هو : إن الإفاضة عین المفاض ، و الصدور عین الصادر ، و الإیجاد عین الوجود ، لأنّ اسم المصدر و المصدر واحد حقیقةً و الاختلاف بالاعتبار ، فرجع الأمر إلی الوجود الخارجی ، فالإشکال باق علی حاله .

نظریة المیرزا

و أمّا المیرزا النائینی (1) ، فقد جعل البحث فی المقام من صغریات مبحث أنّ الکلّی الطبیعی موجود فی الخارج أو لا ؟ فعلی القول بعدم وجوده خارجاً ، یکون متعلّق الطلب هو الفرد ، إذ المفروض أنه موجود غیره ، فهو المطلوب و الغرض

ص:277


1- 1) أجود التقریرات 1 / 305 .

قائم به . أمّا علی القول بوجود الکلّی الطبیعی ، فهو متعلّق الغرض بقطع النظر عن مشخّصاته ، بحیث لو تمکّن المکلّف من إیجاده خارجاً بدونها لحصل الغرض .

و علی هذا ، فتظهر الثمرة بین القولین فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، ففی الصّلاة فی الدار المغصوبة - مثلاً - یبقی الطلب علی القول بتعلّقه بالطبیعة علی الصّلاة و لا یتجاوزه إلی متعلّق النهی و هو الغصب ، لکونهما طبیعتین مستقلتین ، غایة الأمر ، أن کلّ واحدةٍ منهما قد أصبحت مشخّصةً للأُخری فی مورد الاجتماع ، و المفروض خروج المشخّصات عن دائرة المتعلّق ، وعلیه ، فیقال بجواز اجتماع الأمر و النهی . و أمّا علی القول بتعلّق الطلب بالفرد ، و هو الصّلاة مع المشخّصات فی المثال ، فقد أصبح الفرد - و هو هذه الصّلاة فی الدار المغصوبة - هو المطلوب ، فیلزم اجتماع الأمر و النهی فی الشیء الواحد ، و هو محال ... و هذه ثمرة مهمّة .

و المختار عند المیرزا هو : تعلّق الأمر بالطبیعة ، و أنّ المشخّصات لها إنما توجد فی عرض وجودها خارجاً ، و لیست من ذات الطبیعة و ماهیّتها قبل وجودها ، لتدخل فی دائرة المتعلّق .

اشکال السید الخوئی

و قد أشکل علیه فی ( المحاضرات ) : بأن هذه النظریة خاطئة ، لأنّ کلّ وجود - سواء کان جوهراً أو عرضاً - یتشخّص فی الخارج بذاته ، فلا یعقل أن یکون متشخّصاً بوجود آخر ، لأن الوجود هو التشخص و تشخّص کلّ شیء بالوجود ، فلا یعقل أن یکون تشخّصه بشیء آخر أو بوجود ثان و إلّا لدار أو تسلسل ، وعلیه ، فتشخّصه - بمقتضی قانون کلّ ما بالغیر وجب أن ینتهی إلی ما بالذات - یکون بنفس ذاته ، و هذا بخلاف الماهیّة فتشخّصها یکون بالوجود .

وعلیه ، فإنّ الأمور المتلازمة مع الطبیعة خارجاً من الکم و الکیف و غیرها ،

ص:278

موجودات أُخری فی عرض وجود الطبیعة و متشخّصات بنفس وجوداتها ، و هی أفراد لطبائع مختلفة ، فلا یعقل أن تکون مشخّصات لوجود الطبیعة ، وعلیه ، ففی إطلاق المشخّصات للطبیعة علیها مسامحة واضحة .

( قال ) و بعد بیان ذلک نقول : إن تلک اللّوازم و الأعراض کما أنها خارجة عن متعلّق الأمر علی القول بتعلّقه بالطبیعة ، کذلک هی خارجة عن متعلّقه علی القول بتعلّقه بالفرد ، بداهة أنه لم یقصد من القول بتعلّقه بالفرد تعلّقه بفردٍ ما من هذه الطبیعة و فردٍ ما من الطبائع الأُخری الملازمة لها فی الوجود الخارجی کالغصب مثلاً .

( قال ) و کیف کان ، فالعجب منه قدّس سرّه کیف غفل عن هذه النقطة الواضحة و هی : أن الأعراض و اللوازم لیست متعلّقة للأمر علی کلا القولین ، و لکنک قد عرفت أن هذا مجرّد خیال لا واقع له ، و إن مثل هذا الخیال من مثله غریب ، لما سبق من أن تلک الأعراض لا تعقل أن تکون مشخّصات الوجود خارجاً ، فإن تشخّص الوجود بنفسه لا بشیء آخر ، بل إنها وجودات أُخری فی قبال ذلک الوجود و ملازمة له فی الخارج (1) .

جواب الأُستاذ عن الاشکال

و أجاب الشیخ الأُستاذ : بأن السیّد قد اشتبه فی تقریب کلام المیرزا فقال ما لا ینبغی أن یقول ، فإنّ المیرزا یصوّر النزاع علی أساس أن التشخّص بالوجود : بأنّه إن کانت المشخّصات عارضةً علی الطبیعة قبل عروض الوجود ، فالوجود لا محالة یکون طارئاً علی الماهیّة المشخّصة ، و تکون العوارض موجودة بعین وجود الفرد ، و إن کانت غیر عارضة علی الطبیعة قبل وجود الفرد ، بل فی نفس

ص:279


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 198 .

تلک المرتبة التی طرأ فیها الوجود علی الفرد ، فالماهیّة حینئذٍ غیر متشخصة بالعوارض بل یکون تشخّصها بالوجود .

فالقائلون بتعلّق الأمر بالفرد یقولون بأن الماهیّة تتشخّص بالعوارض من الکم و الکیف و الأین ، فتکون موجودة . و القائلون بتعلّقه بالطبیعة یقولون بأن متعلّق الأمر هو الماهیّة و التشخّص غیر داخل فیه .

و بهذا تظهر الثمرة فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، فعلی القول بخروج التشخصات عن المتعلّق یکون متعلق النهی غیر متعلق الأمر ، و أمّا علی القول بدخولها کان الأمر و النهی واردین علی الشیء الواحد ، و یلزم الاجتماع و لا بدّ من القول بالامتناع .

و مختار المیرزا هو أن العوارض المشخّصة لیست عارضةً من قبل ، بل إنها تشخّص الماهیّة فی عرض الوجود ، فالمتعلّق هو الطبیعة .

و الحاصل : إن المیرزا یصرّح بأن التشخّص لیس إلّا بالوجود ، و نسبة تشخّص الماهیّة بالعوارض إلیه هو الأمر الغریب .

إلّا أن یشکل علی المبنی ، فینکر أن تکون العوارض و المشخّصات فی عرض الوجود ... و هذا أمر آخر .

نظریّة المحقّق العراقی

و قال المحقق العراقی قدّس سرّه : إن الطلب علی کلّ تقدیر یحتاج إلی متعلّق ، و هو مورد النزاع .

و الطبیعة تلحظ : تارةً بما هی هی ، ففی الانسان - مثلاً - لا یلحظ إلّا الحیوان و الناطق . و أُخری : تلحظ موجودةً بالوجود الذهنی کقولنا : الإنسان نوع . و ثالثةً :

تلحظ بما هی خارجیّة .

ص:280

فیقول : إن متعلّق الطلب فی الأمر هو العنوان ، لکن العنوان المرئیّ خارجاً ، و کذلک الصفات النفسانیّة کالحبّ و الشوق و الإرادة ، فإنها تتعلّق بالعناوین الفانیة فی المعنونات . فمراد القائلین بتعلّق الأمر بالفرد هو أن المتعلّق نفس المعنون الموجود فی الخارج ، و مراد القائلین بتعلّقه بالطبیعة أن المتعلّق هو العنوان - لا المقیّد بالوجود الذهنی ، لأنه لا یقبل الوجود فی الخارج ، و لا بما هو هو ، لأنه لیس بحاملٍ للغرض کی یتعلّق به الغرض و الأمر ، و لا الموجود فی الخارج ، لأنه فرد و هو منشأ لانتزاع عنوان الطبیعة ، - أی العنوان المتّحد مع الخارج ، کالإنسان المتحد مع زید ... فظهر الاختلاف بین القولین ... فالقول الأول : هو تعلّق الأوامر بالأفراد الموجودة خارجاً ، کزید المعنون بعنوان الإنسان . و القول الثانی : هو تعلّقها بالعناوین کعنوان الإنسان الملحوظ فانیاً فی زید .

قال : نظیر الحال فی الجهل المرکب ، حیث توجد الإرادة عند الجاهل کذلک ، لکنّ متعلّق الإرادة عنده هو العنوان و الصورة الفانیة فی الخارج فی ذهنه ، لا الخارج ، لأن الخارج ظرف سقوط الأمر ، فلا یکون متعلّقاً للطلب و الإرادة التی هی صفة نفسانیة .

ثم أورد علی الکفایة قوله : بأن متعلّق الطلب هو إیجاد الطبیعة فقال : إن متعلّق الطلب متقدّم علی الطلب تقدّماً طبعیّاً ، فلا یعقل وجود الطلب بلا متعلّق ، و إن أمکن وجود المتعلّق بلا طلب ، کأن یتعلّق الطلب بالأکل ، فإنه بدون الأکل محال ، لکن قد یوجب الأکل بلا طلب ، فلا ریب فی تقدّم متعلّق الطلب علی الطلب تقدّم الواحد علی الاثنین ، إذ لا یعقل وجود الاثنین بدون الواحد ، لکن یمکن وجوده بدون الاثنین ... هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن إیجاد الطبیعة معلولٌ للطلب فیکون متأخّراً عنه رتبةً ، فلو کان هو

ص:281

المتعلّق کان متقدّماً رتبةً علی الطّلب ، فیلزم تقدّم المتأخّر ، و هو محال .

و أورد علیه أیضاً قوله : بکون المتعلّق هو الوجود السعی للطبیعة : بأنّ هذا غیر ممکن ، لأنه قد تؤخذ مادة الوجود فی الأمر ، فیلزم حضور الوجود فی الذهن قبل الأمر بمرتبتین ، کما لو قال - بدل : « صل » - أوجد الصّلاة ، و هذا ضروری البطلان .

و تلخّص : إنه لیس متعلّق الإرادة هو الخارج ، إذ الخارج ظرف سقوط الطلب و الارادة ، و لیس الوجود الذهنی ، بل إن الحامل للمصلحة و الغرض هو الوجود الخارجی و متعلّق الطلب هو الوجود الزعمی ، کما ذکر ، أی الوجود المرئی خارجاً ، فلمّا یقول : « جئنی بماءٍ » یتصوّر الماء خارجاً ، أمّا لدی التّصدیق فالصّورة غیر خارجیّة و إنما هی مرئیّة خارجاً ، فالصّورة فی النظر التصوّری خارجیّة و فی النظر التّصدیقی غیر خارجیّة ، لأن الخارج ظرف للسقوط ، فهی غیر منعزلة عن الخارج ، کما أن الماهیّة غیر منعزلة عن الوجود ، لکنّ التحلیل العقلی یعزل الماهیّة عن الوجود ، فالصّور کذلک ، هی بالتحلیل العقلی منعزلة عن الخارج ، لکنّ الصورة متّحدة مع الخارج ، فیکون الخارج هو الحامل للغرض ، و لکن الصّورة هی متعلّق الطلب (1) .

نظر الأُستاذ

و تنظّر الأُستاذ فی هذه النظریّة : بأنه صحیحٌ أن الخصوصیّات لا تتعلّق بها الإرادة ، سواء فی الأوامر الشرعیّة أو العرفیّة ، لکنّ القول بأن متعلّق الإرادة هی الصّورة الفانیة فی الخارج بالنظر التصوّری - أمّا بالنظر التصدیقی فخلاف الواقع ، لکون الصورة فی الذهن و لا علاقة لها بالخارج - لا یمکن المساعدة علیه ، لأنه

ص:282


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 383 ط جامعة المدرسین .

خلاف الوجدان ، لأنا لا نجد فی أنفسنا فی مختلف مراداتنا تعلّق الطلب و الإرادة بالصّورة الفانیة فی الخارج ، و کیف یکون للإنسان طلب و إرادة و لا یجد فی نفسه و لا یلتفت إلی متعلّق طلبه ؟ هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ المفروض فی کلامه قدّس سرّه هو : أجنبیّة الصّورة الفانیة فی الخارج عن الخارج الواقعی ، و أنّ ذلک لیس إلّا فی النظر التصوّری أمّا بالنظر التصدیقی فهو باطل . فیرد علیه : أنه کیف یعقل تعلّق الإرادة بعنوانٍ و صورةٍ یراها بالنظر التصدیقی غیر موجودة فی الخارج ؟

و أمّا إیراده علی نظریّة تعلّق الأمر بإیجاد الطبیعة ، فیمکن دفعه بأن : الإیجاد ذهنی تارةً و أُخری هو ذهنی فانٍ فی الخارج ، فکما عندنا وجود خارجی و وجود ذهنی هو مرآة للوجود الخارجی ، کذلک الإیجاد ، لأن الوجود و الایجاد واحد حقیقةً ، فلقائل أن یقول بأن متعلّق الطلب هو الایجاد المفهومی الفانی فی الخارج ... و بذلک یندفع الإشکال و إن کانت عبارة الکفایة قابلةً له .

و أمّا إیراده الثانی من لزوم تصوّر الوجود مرّتین فی مثل : أوجد الصّلاة ، لکون الهیئة مشتملةً علی الوجود علی مسلک الکفایة ، و لکون مادّة الوجود فی حیّز الطلب ... فقد یجاب عنه : بأنّ الوجه فی إشراب الوجود فی الهیئة هو أن العقل یری عدم قابلیّة الطبیعة من حیث هی لتعلّق الطلب بها ، فلا مناص من أخذ الوجود لتصیر قابلةً لذلک ، سواء کانت المادّة هی الوجود أو غیره من المواد ، فإن کانت المادّة هی الوجود فلا ضرورة عقلیّة لإشرابه فی المادّة ، فلا یتکرّر تصوّر الوجود .

ص:283

نظریّة السید البروجردی

و أمّا السیّد البروجردی ، فقد قدّم علی بیان ما ذهب إلیه (1) مقدّماتٍ ، ذکر فی الأولی المراد من الحصّة و الطبیعة و الفرد فقال : بأن المراد من الحصّة تارةً : هو الطبیعة المضافة کقولنا : الانسان الأبیض ، و أُخری : الماهیّة المتشخّصة بالوجود ، أی الإنسانیة الموجودة بوجود زید حصّة من الإنسان ، و کذا فی عمرو و غیره ، فلهم فی الحصّة اطلاقان فی قبال الطبیعة بقطع النظر عن الإضافة ، کقولک الانسان نوع ، الصادق علی الخارج من زید و عمرو ... فیقال : زید إنسان ، و ذلک لأنهم وجدوا فی الأفراد - کقولنا زید موجود - حیثیّتین ، حیثیّة الوجودیّة ، و هی تشمل عمراً و بکراً و السماء و الأرض أیضاً ، و حیثیّة خصوصیّة فی زید ، فهو زید و مع الإنسانیة التی یشارکه فیها عمرو و بکر ، فالطبیعة لها وجود فی القضیّة الذهنیّة - و هی قولنا : الإنسان نوع - یشترک فیها زید و عمرو و بکر من حیث الوجود کما یشترکون من حیث الانسانیة ... و هذه هی الطبیعة .

( قال ) و الماهیّة التی هی عبارة عن الطبیعة موجودة فی الخارج ، و لا یصح القول بعدم وجودها ، غیر أنّ للوجود إضافتین ، احداهما : إلی الفرد ، و الأُخری :

إلی الطبیعة ، فهو یضاف أوّلاً و بالذات إلی الماهیّة المتشخّصة التی هی حصّة من الطبیعة ، ثم إلی الطبیعة فی الرتبة الثانیة ، فبناءً علی أصالة الوجود یکون المتحقق بالذات فی الخارج هو الوجود ، إلّا أنه لیس بغیر حدّ ، بل الحدّ أیضاً موجود حقیقةً ، فالوجود موجود بالذات و الإنسانیّة الموجودة فی زید حدّ لهذا الوجود ، و کذلک الوجود فی عمرو ... و ذلک الحدّ هو الماهیّة الشخصیّة أی الإنسانیة الموجودة بوجود زید المرکّبة من جنس هو « حیوان » و فصل هو « ناطق » . و هکذا

ص:284


1- 1) نهایة الأُصول : 217 .

فی غیره ... لکن الإنسانیة الموجودة بوجود زید غیر الموجودة بوجود عمرو ...

و هکذا ، کما أنّ وجود کلّ منهم یغایر وجود الآخر ... إلّا أن الإنسانیّة - الحیوانیّة الناطقیة - موجودة و وجودها یکون أوّلاً و بالذات ، و یکون وجود الإنسان : زید و عمرو ... ثانیاً و بالعرض ، أی بتبع وجود الإنسانیّة ، و هذا معنی قولهم : « الحق أن الطبیعی موجود بوجود فرده » .

فظهر المراد من الحصّة و الطبیعة و الفرد ، و خلاصة ذلک أن :

الحصّة عبارة عن الإنسانیة الموجودة بوجود خاص :

و الطبیعة عبارة عن الجهة المشترکة بین الإنسانیّات الموجودة ، و وجود هذه الجهة یکون بوجود الأفراد ، کنسبة الآباء إلی الأبناء .

و الفرد قد یطلق و یراد منه الوجود ، بناءً علی أصالة الوجود ، إذ الوجود متفرّد بذاته و هو عین الفردیة ، و قد یطلق و یراد منه الماهیّة ، و هو الفرد بالعَرَض .

و قد ذکروا أن الماهیّة علی قسمین : ما یقبل الصّدق علی کثیرین و هو الطبیعة غیر المتحصّصة ، و ما لا یقبله و هو الماهیّة المتحصّصة أی المتشخّصة . فالإنسانیة تصدق علی کثیرین ، أمّا إنسانیة زید فلا ، کما أن الوجود کذلک ، فلا یقبل الصّدق علی کثیرین لأنه سالبة بانتفاء الموضوع ، بخلاف الماهیّة المتشخّصة ، فهی فی ذاتها تقبل الصّدق علی کثیرین ، لکنّها بإضافتها إلی الوجود سقطت عن القابلیّة لذلک ، فکان عدم القابلیّة للصّدق علی کثیرین فیها بالعرض ، کما کان فی الوجود بالذات .

المقدمة الثانیة : تارةً : نجعل الموضوع فی القضیّة مفهوم الوجود کأن نقول : « مفهوم الوجود من أعرف الأشیاء » ، أی: إنه بدیهی التصوّر ، و هذا من أحکام مفهوم الوجود ، - لا من أحکام واقع الوجود ، لاستحالة تصوّر واقع الوجود

ص:285

حتی یحکم علیه بحکمٍ - بأن یجرّد المفهوم من الوجود و یتصوّر وحده فی الذهن ، ثم یحکم علیه .

و أُخری : نجعل الموضوع واقع الوجود ؟ کأن نقول : « کنه الوجود فی غایة الخفاء » . لکن إذا کان واقعه غیر قابلٍ للتصوّر ، فکیف یجعل موضوعاً ویحکم علیه بحکم من الأحکام ؟

إن غایة ما قیل فی الجواب هو : إن مفهوم الوجود ، إن لوحظ بلحاظ ما فیه ینظر ، کان موضوعاً لأحکام نفس المفهوم ، و إن لوحظ بلحاظ ما به ینظر ، کان موضوعاً لأحکام واقع الوجود ، و فی قولنا : « کنه الوجود فی غایة الخفاء » جعلنا مفهوم الوجود بما فیه ینظر بالنسبة إلی واقع الوجود .

فقال : بأن متعلّق الطلب هو مفهوم وجود الطبیعة ، لکن بلحاظه مرآةً لوجود الطبیعة ، خلافاً لصاحب الکفایة ، إذ قال بأن المتعلّق هو وجود الطبیعة .

المقدمة الثالثة : إن متعلّق الطلب لا بدّ و أن یکون فیه جهة وجدان وجهة فقدان ، و أمّا الفاقد من جمیع الجهات فلا یصلح لأن یتعلّق به الطلب ، لأنه معدوم و المعدوم لا یتقوّم وجود الطلب به ، و کذا لو کان واجداً من جمیع الجهات ، فإن طلب ما کان کذلک طلب للحاصل و هو محال .

و بعد المقدمات : إن متعلّق الطلب و الإرادة هو الوجود الفرضی للموجود التحقیقی الخارجی ، فإنّه فی عالم الفرض یفرض وجود شیء فیتعلّق الإرادة و الطلب و الشوق به لأن یوجد خارجاً ، فالمتعلّق هو ما فی یفرض أنه موجود فی الخارج ... و کذلک الحال فی جمیع الإرادات التکوینیّة ، إذ المتعلّق لها هو الموجود بالحمل الشائع لکن بالوجود الفرضی ، و وزان الإرادة التشریعیّة وزان الإرادة التکوینیّة ، فیکون المتعلّق لها هو الوجود التحقیقی الموجود بالوجود

ص:286

الفرضی ... و أمارات المشخّصات خارجة عن دائرة المتعلّق ... و علی هذا ، یکون تطبیق المکلّف للمتعلّق علی الأفراد بنحو التخییر ... لأنه لیس المتعلّق إلا وجود الطبیعة بالوجود الفرضی بتعبیر المحقق الأصفهانی ، و بتعبیر السید البروجردی :

مفهوم وجود الطبیعة الفانی بوجود الطبیعة ، فیکون التطبیق بید المکلّف ، و هذا تخییر عقلی ، بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الطلب بالأفراد و الماهیّة الشخصیّة ، فإن التخییر یکون شرعیّاً . فظهر ما فی کلام المحاضرات من جعل التخییر عقلیّاً علی کلّ تقدیر .

إشکال الأُستاذ

قال الأُستاذ بعد بیان کلام المحقق الأصفهانی و السید البروجردی : بأن الإشکال السّابق یعود ، لأن مفروض الکلام کون الآمر ملتفتاً إلی أن متعلّق طلبه لیس خارجیّاً و أنه یستحیل ذلک ، لکن غرضه من الطلب قائم بالوجود الخارجی لا الفرضی ... .

و علی الجملة ، فإنّ مشکلة کیفیّة تعلّق الطلب باقیة ، و لم تحل بوجهٍ من الوجوه المذکورة فی المقام فی الکتب الأُصولیّة ... بل إن حلّها موقوف علی فهمنا لکیفیّة علمنا بالأشیاء ، و أنه هل یمکن المعرفة أو لا ؟

و کیف کان ، فعلی القول بتعلّق الأمر بأمارات التشخّص و کونها داخلةً فی المتعلّق ، فلا محالة یلتزم بالامتناع فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، لکون المورد حینئذٍ صغری لباب التعارض ، و علی القول بخروجها ، یکون صغری لباب التزاحم ، و تکون النتیجة هو القول بالجواز .

لکن الحق خروجها عن المتعلّق ، لأن محلّ البحث هو تعلّق الأمر بذات الطبیعة ، المرئیة خارجاً کما علیه المحقق العراقی ، أو الموجودة بالوجود الفرضی

ص:287

کما علیه السید البروجردی ... فالمتعلّق هو القدر المشترک بین الحصص ، لأنّه الذی یقوم به الغرض ، ... وعلیه یکون التخییر عقلیّاً ... خلافاً للعراقی فإنّه - مع ذهابه إلی أن المتعلّق عبارة عن الطبیعة و أن الحصص غیر داخلة فیه - قال بأن التخییر شرعی ، لکون المتعلّق و إن کان الطبیعة ، لکنه الطبیعة بالحدود الطبیعیّة ، کالإنسان مثلاً ، فإنه یمتاز عن غیره من الأنواع بحدودٍ طبیعیّة ، فإذا کان کذلک ، کان التخییر شرعیّاً .

فأورد علیه الأُستاذ : بأنّ الحدود للطبیعة لیست إلّا الجنس و الفصل ، لأنّ الحدّ المضاف إلی الطبیعة المقوّم لها لیس إلّا ذلک ، فعلی القول بتعلّق الأمر بالطبیعة ، یکون المتعلّق هو الطبیعة النوعیّة ، و هی متّحدة مع الحدود ، غیر أنّ الاختلاف یکون بالإجمال و التفصیل ، کالإختلاف بین « الإنسان » و« الحیوان الناطق » فلیست حدود الطبیعة شیئاً زائداً علیها ، و لمّا کان متعلّق الطلب هو الطبیعة و هی الحامل للغرض ، فکیف یکون التخییر شرعیّاً ؟ إنّ التخییر الشرعی یتقوّم بکون الخصوصیّة داخلةً تحت الطلب بنحو علی البدل ، بأن یصلح دخول « أو » علیه ، کما فی : أعتق رقبةً أو صم ستّین یوماً . أمّا حیث یکون متعلّق الطلب هو « الصّلاة » فلا تکون الصّلاة هنا أو هناک داخلةً تحت الطلب .

و تلخّص :

إن الأمر یتعلّق بالعنوان فیما لا طبیعة له ، کعنوان الصّلاة و الصّوم و الحج ، فإن کان للمتعلّق طبیعة قابلة للوجود خارجاً فإنها هی المتعلّق و هی الحاملة للغرض ، و یکون التخییر عقلیّاً .

ص:288

النسخ

اشارة

ص:289

ص:290

.کلام الکفایة :

اشارة

« إذا نسخ الوجوب ، فلا دلالة لدلیل الناسخ و لا المنسوخ علی بقاء الجواز بالمعنی الأعم و لا بالمعنی الأخص ، کما لا دلالة لهما علی ثبوت غیره من الأحکام .

ضرورة أنّ ثبوت کلّ واحدٍ من الأحکام الأربعة الباقیة بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممکن ، و لا دلالة لواحدٍ من دلیلی الناسخ و المنسوخ - بإحدی الدلالات - علی تعیین واحدٍ منها ، کما هو أوضح من أن یخفی ، فلا بدّ للتعیین من دلیلٍ آخر » (1) .

أقول :

للبحث أمثلة کثیرة ، منها : قوله عزّ و جلّ : «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِکینَ حَیْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » حیث قیل إنّ الآیة منسوخة بقوله عز و جلّ «لا إکراهَ فی الدِّین » .

فهل یبقی جواز القتل بعد زوال الوجوب أو لا ؟ فههنا مقامات ، أحدها : بقاء الجواز ثبوتاً ، و الثانی : الجواز إثباتاً ، و الثالث : فی مقتضی الأُصول فی المسألة ... .

و قد أشار المحقق الخراسانی فی کلامه المزبور إلی أنّ للجواز معنیین ، أحدهما : الجواز بالمعنی الأعمّ ، و هو ما یجتمع مع الوجوب و الاستحباب

ص:291


1- 1) کفایة الأُصول : 140 .

و الإباحة ، و الآخر : الجواز بالمعنی الأخص ، و هو الإباحة . و لفظ « البقاء » یقتضی أن یکون المراد من « الجواز » هو المعنی الأعم لا الأخص .

فما ذکره المحقق المذکور من عدم الدلالة علی بقاء الجواز ، لا بالمعنی الأعم و لا بالأخص ، مخدوش ، لأن الجواز بالمعنی الأخص لیس بقائیّاً أصلاً بل هو حدوثی .

.المقام الأوّل
اشارة

إن البحث الثبوتی فی المسألة یبتنی علی تشخیص حقیقة الوجوب ، فهل هو بسیطٌ أو مرکّب ، و علی الثانی هو مرکّب من جواز الفعل مع المنع عن الترک ترکیباً انضمامیّاً ، أو مرکّب منهما ترکیباً اتحادیّاً من قبیل الترکیب بین الجنس و الفصل ، فیکون موجوداً بوجودٍ واحدٍ منحلٍّ إلی جزءین ؟ أقوال .

فعلی القول بالبساطة - و هو الحق - لا بقاء للجواز بعد ارتفاع الوجوب ، لأنّ الحقیقة شیء واحد ، إمّا موجود و إمّا مرتفع ، إذ البسیط لا یتبعّض و الواحد لا یتعدّد .

و کذا علی القول بالترکیب الاتّحادی ، لأن بقاء الجنس بعد زوال الفصل غیر معقول إلّا متفصّلاً بفصلٍ آخر .

و أمّا علی القول بالترکیب الانضمامی ، فیمکن بقاء الجواز ثبوتاً بعد زوال الوجوب ، و هذا واضح .

تصویر المحقق العراقی بقاء الجواز علی القول بالبساطة

و حاول المحقق العراقی رحمه اللّٰه (1) تصویر بقاء الجواز ثبوتاً علی القول بالبساطة ، بأنّ الوجوب عبارة عن الإرادة غیر المحدودة بالحدّ العدمی ، و هذه

ص:292


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 390 - 391 .

الإرادة - مع کونها بسیطة - مشتملة علی ثلاثة أُمور هی : أصل الرجحان ، و الجواز ، و الحدّ الوجوبی و هو شدّة الرجحان ، فلو ارتفع شدّة الرجحان - و هو الوجوب - أمکن بقاء الرجحان و الجواز ، نظیر اشتمال اللّون الأبیض علی : اللّونیة ، و البیاض ، و شدّة البیاض ، فإن ارتفعت الشدّة ، کان اللون و البیاض باقیین .

و یشهد بذلک قولهم بجریان الاستصحاب فی المراتب ، کما فی النور ، فلو کان هناک نور شدید ، ثم علم بارتفاع الشدّة و شکّ فی بقاء أصل النور و الضوء ، فإنّه یستصحب النور .

مناقشته

و قد یورد علیه بناءً علی أنّ الوجوب أمر منتزعٌ من اعتبار الشارع اللّابدیّة علی ذمّة المکلّف ، و الأُمور الانتزاعیة لا مراتب لها و لیست مشکّکة . لکنّه إشکال مبنائی .

فیرد علیه - مع حفظ المبنی - أولاً : إن الإرادة ، و هی الشوق الأکید غیر المحدود ، کیف نفسانی تکوینی ، و الترخیص أمر جعلی اعتباری ، فکیف یکون من أجزاء الأمر التکوینی ؟

و من هنا یظهر أن الإرادة لیست إلّا الشوق و شدّة الشوق ، و لا ثالث .

و ثانیاً : إنه علی فرض کون الترخیص أمراً واقعیّاً ، فإنّ الإرادة عبارة عن الشوق کما تقدّم ، فإن أُبرزت مع الحدّ فهو الاستحباب ، و مع عدمه فهو الوجوب ، فهی متقوّمة بالرجحان ، لکنّ الترخیص هو اللّااقتضاء ، فاجتماع الترخیص مع الإرادة و دخالته فیها غیر معقول ، وعلیه ، فلو نسخ الوجوب أمکن بقاء الاستحباب - علی مبنی المحقق العراقی - لا الجواز بالمعنی الأعم الذی هو مورد البحث .

ص:293

دلیل المحاضرات علی الامتناع الثبوتی

قال : إن الجواز و الوجوب لیسا مجعولین شرعیین ، بل هما أمران انتزاعیّان ، و المجعول الشرعی إنما هو اعتبار المولی لا غیره ، و المفروض أنه قد ارتفع بدلیل الناسخ ، فإذن ، لا موضوع للاستحباب ( قال ) : و لو تنزّلنا عن ذلک و سلّمنا أنّ الوجوب مجعول شرعاً ، فمع ذلک لا دلیل لنا علی بقاء الجواز ، و الوجه فی ذلک :

أمّا أوّلاً : فلأن الوجوب أمر بسیط و لیس مرکّباً من جواز الفعل مع المنع من الترک .

و أمّا ثانیاً : فلو سلّمنا أن الوجوب مرکّب ، إلّا أن النزاع هنا فی بقاء بالجواز بعد نسخ الوجوب و عدم بقائه ، لیس مبنیّاً علی النزاع فی تلک المسألة ، أعنی مسألة إمکان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل و عدم إمکانه ، و ذلک ، لأن النزاع فی تلک المسألة إنما هو فی الإمکان و الاستحالة العقلیین ، و أمّا النزاع فی مسألتنا هذه إنما هو فی الوقوع الخارجی و عدم وقوعه ، بعد الفراغ عن أصل إمکانه (1) .

توضیحه :

إنّ الأمر الواقع بالنسبة إلی الوجوب هو اعتبار ثبوت الفعل فی ذمّة المکلّف ، فإن اعتبر مع الترخیص فی الترک ، کان المنتزع عقلاً هو الاستحباب ، فالوجوب فی الحقیقة أمر منتزع من الاعتبار الشرعی لا مع الترخیص ، فلیس مجعولاً شرعیّاً ، فلا موضوع للبحث عن أنه بعد النسخ هل یبقی الجواز أو لا ؟

و أیضاً : فإنّ حقیقة النسخ لیس الرفع ، لأنه یستلزم الجهل فی الباری ، و إنما هو الدفع ، بمعنی أنّه بیانٌ لانتهاء أمد الحکم ، و هذا مفاد الدلیل الناسخ .

ص:294


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 204 - 205 .
إشکال الأُستاذ

و أورد علیه شیخنا - فی کلتا الدورتین - بأن ما ذکره یناقض ما ذهب إلیه - تبعاً للمحقق العراقی - من عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة الکلیّة الالهیة الإلزامیّة - خلافاً للمشهور بین المحققین - من جهة المعارضة بین استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم الجعل ، کما لو شک فی جواز وطئ المرأة بعد انقطاع الدم و قبل الغسل ، فالأصل بقاء الحکم المجعول و هو حرمة الوطء فی حال الحیض ، لکن هذا الأصل معارض باستصحاب عدم جعل الحرمة لهذه الحال بالخصوص ، فالوجوب و الحرمة أمران مجعولان شرعاً . بینما یقول هنا بأنهما غیر مجعولین من قبل الشارع ، فکیف یقع التعارض ؟

و أمّا قضیّة أن حقیقة النسخ هو الدفع ، بمعنی انتهاء أمد الحکم ، فإنّه لا منافاة بین انتهاء أمد الحکم الوجوبی و بقاء أصل الجواز .

فالمختار فی المقام

هو عدم البقاء ثبوتاً ، من جهة أنّ الوجوب أمر بسیط ، سواء کان انتزاعیّاً أو واقعیّاً . و ما ذکره المحقق العراقی من تصویر المسألة بناءً علی هذا القول ، قد عرفت ما فیه .

هذا تمام الکلام فی المقام الأول .

.المقام الثانی

إنه بناءً علی تمامیّة بقاء الجواز ثبوتاً - کما علیه المحقق العراقی - تصل النوبة إلی مقام الإثبات و البحث عن دلالة الدلیل علی البقاء ، و لا دلیل إلّا الناسخ و المنسوخ . و تقریب الاستدلال هو : إن حکم الدلیل الناسخ بالنسبة إلی الدلیل المنسوخ حکم دلیل الاستحباب بالنسبة إلی دلیل الوجوب ، فکما یقتضی ذاک

ص:295

الدلیل رفع الید عن ظهور ما دلّ علی الوجوب و حمله علی الاستحباب ، کذلک ناسخ الوجوب ، فإنه یزاحم المنسوخ فی دلالته علی الوجوب ، أی شدّة الارادة ، و یبقی دلالته علی أصل الرجحان .

و قد أورد علیه المحقق العراقی (1) : بأن هذا إنما یتمّ فی الدلیلین المتعارضین ، کأن یقوم الدلیل علی الوجوب ثم یأتی دلیل آخر مفاده « لا بأس بالترک » ، فبمقتضی نصوصیّة الثانی أو أقوائیّة ظهوره یتقدّم علی الأوّل ، لا فی دلیلین أحدهما حاکم علی الآخر ، لأنه لا یلحظ فی الحکومة جهة النصوصیّة أو الأقوائیة بل الحاکم یتقدّم علی المحکوم و إن کان أضعف ظهوراً منه . و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فإنّ الدلیل الناسخ ناظر إلی الدلیل المنسوخ ، و هذا معیار الحکومة ، فلا یتم تنظیر محلّ الکلام بالوجوب و الاستحباب .

ثم قال : و بناءً علی الحکومة ، و أن الحاکم یتقدّم علی المحکوم و إن کان أضعف ظهوراً ، فإنّ الظهور العرفی قائم علی کون الناسخ ناظراً إلی المنسوخ بجمیع مراتبه لا بعضها ، و علی هذا ، فإن المنسوخ یرتفع بتمام مدلوله - و هو الإرادة - و حینئذٍ لا یبقی شیء بعد ارتفاع الوجوب .

قال : اللّهم إلّا إذا کان الناسخ مجملاً ، فإنه یقتصر فیه علی القدر المتیقّن ، و هو نسخه لمرتبة الشدّة من الإرادة ، فیبقی أصل الإرادة ، إلّا إذا سری إجمال الناسخ إلی المنسوخ فیسقط من الأساس .

قال الأُستاذ

و لا یرد علی المحقق المذکور : أن ما ذکره إنما یتم فی صورة کون الظهور ذا مراتب ، و هذا أول الکلام ، إذ لا ینبغی الاختلاف فی مراتب الظهور ، و إلّا لما أمکن

ص:296


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 391 .

تقدم النصّ علی الظاهر ، إذ النصوصیّة لیست إلّا الشدّة فی مرتبة الظهور .

لکنّ الإشکال الوارد علیه فی استثنائه صورة إجمال الناسخ ، إذ فیه :

أوّلاً : إن الناسخ دلیل منفصلٌ عن المنسوخ ، فیستحیل سرایة إجماله إلیه ، و إلّا لزم سرایة إجمال کلّ مخصّص منفصل مجمل إلی العام ، و عدم جواز التخصیص ... .

و ثانیاً : إن بقاء الرجحان فی حال عدم سرایة الإجمال - إن کان مجملاً - إلی المنسوخ ، موقوف علی دلالة المنسوخ علی الرجحان ، و هی إمّا بالالتزام و إمّا بالتضمّن - و هو یقول بالثانی لأنه یری أن الرجحان من مراتب الوجوب ، و التحقیق هو الأول - لکنّ الدلالة التضمنیّة و الالتزامیة فرعٌ للدلالة المطابقیّة ، فی الحدوث و الحجیّة ، فلو سقطت فلا تبقی الدلالتان ، و فیما نحن فیه : تقع المزاحمة بین الناسخ و المنسوخ ، إمّا فی أصل مدلول المنسوخ و إمّا فی حجیّته ، و علی کلّ تقدیرٍ ، فإنّه یسقط ، و إذا سقط المدلول المطابقی استحال بقاء شیء .

فالحق ، أنه علی مسلک المحقق العراقی فی حقیقة الوجوب : لا یبقی دلالة علی الرجحان المستلزم للجواز بالمعنی الأعم .

.المقام الثالث

فإنّه - بعد الفراغ عن مرحلة الثبوت ، و عن البحث الإثباتی - هل یجری استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب أو لا ؟

إن المستصحب تارة شخصی و أُخری کلّی ، و قد ذکروا للکلّی أقساماً :

أحدها : الکلّی الموجود فی الفرد المشکوک بقاؤه ، فیصح استصحاب الکلّی و استصحاب الفرد .

الثانی : أن یکون الفرد مردّداً بین مقطوع الزوال و مقطوع البقاء ، و هذا هو

ص:297

القسم الثانی من أقسام الکلّی .

و الثالث : أن یکون الفرد معیّناً ، و هو زائل یقیناً ، لکن یحتمل وجود فردٍ آخر للکلّی مع ذاک الفرد . و هذا هو القسم الأوّل من القسم الثالث .

و الرابع : أن یکون الفرد معیّناً ، و هو زائل یقیناً ، لکن یحتمل حدوث فردٍ آخر للکلّی مقارناً لزوال ذاک الفرد . و هذا هو القسم الثانی من القسم الثالث .

و الخامس : أن یکون المتیقّن حقیقة واحدة لکن ذا مراتب ، فیقطع بزوال مرتبة و یشک بذلک فی بقاء الحقیقة و عدم بقائها .

فهذه مقدمة .

و مقدمة أُخری : إنه یعتبر فی الاستصحاب وحدة القضیة المتیقّنة مع القضیّة المشکوکة ، وحدةً عرفیّة لا عقلیة .

و بعد المقدمتین ، نذکر أوّلاً کلام المحقق الخراسانی فی هذا المقام؛ قال :

« و لا مجال لاستصحاب الجواز إلّا بناءً علی جریانه فی القسم الثالث من أقسام الکلّی ، و هو ما ، إذا شک فی حدوث فرد کلّی مقارناً لارتفاع الحادث الآخر ، و قد حقّقنا فی محله أنه لا یجری الاستصحاب فیه ما لم یکن الحادث المشکوک من المراتب القویّة أو الضعیفة المتّصلة بالمرتفع ، بحیث یعدّ عرفاً - لو کان - أنه باق ، لا أنه أمر حادث غیره . و من المعلوم أن کلّ واحدٍ من الأحکام مع الآخر - عقلاً و عرفاً - من المتباینات و المتضادّات ، غیر الوجوب و الاستحباب ، فإنه و إن کان بینهما التفاوت بالمرتبة و الشدّة و الضعف عقلاً ، إلّا أنهما متباینان عرفاً ، فلا مجال للاستصحاب إذا شکّ فی تبدّل أحدهما بالآخر ، فإن حکم العرف و نظره یکون متّبعاً فی هذا الباب » (1) .

ص:298


1- 1) کفایة الأُصول : 140 .

و حاصل کلامه :

1 - إن المورد من قبیل القسم الثالث من أقسام الکلّی ، و لا یجری فیه الاستصحاب ، إلّا إذا کان الباقی من مراتب الزائل ، کما فی الشدّة و الضّعف مثلاً .

2 - إن الأحکام الخمسة متباینات عقلاً و عرفاً ، إلّا فی الوجوب و الاستحباب ، فإنهما متباینان عرفاً و مختلفان فی المرتبة عقلاً ، فإذا ارتفع الوجوب لا یصح القول ببقاء الاستحباب من باب الاستصحاب ، للتباین العرفی بینهما ، إذ الملاک فی الاستصحاب هو الوحدة العرفیّة فی موضوع القضیّتین .

قال الأُستاذ

و التحقیق هو النظر فی المسألة علی ضوء المبانی (1) فی حقیقة الوجوب :

فإن قلنا : بأنه مرکّب من البعث إلی الفعل مع المنع من الترک ترکیباً انضمامیّاً ، فإنه إذا نسخ الوجوب و شک فی أنّ الزائل هو الجزءان أو خصوص المنع من الترک ، کان هذا الجزء مقطوع الزوال و الآخر - و هو البعث إلی الفعل - مشکوک فیه ، وعلیه فلا إشکال فی جریان الاستصحاب ، و هو استصحاب فرد واحدٍ شخصی .

و بعبارةٍ أُخری : الزائل مردّد بین الأقل و الأکثر ، و قد کان زوال الأقل متیقّناً ، و زوال الأکثر مشکوک فیه ، فیستصحب .

و إن قلنا : بأن الوجوب بسیط لا مرکّب ، فهنا لا یتصوّر إلّا القسم الثانی من القسم الثالث من استصحاب الکلّی الذی اتّفقوا علی عدم جریانه .

و إن قلنا : بمسلک المحقق العراقی ، کان المورد - علی تقدیرٍ - من قبیل القسم الأخیر من أقسام الکلّی ، و هو کون المستصحب ذا مراتب ، و من قبیل القسم

ص:299


1- 1) تقدّم ذکرها فی المقام الأول .

الأوّل علی تقدیر آخر . و توضیحه : إنّه قد استثنی الشیخ الأعظم من أقسام الکلّی ما لو کان الفرد الموجود مرتبةً شدیدةً ، ثم علم بزوال الشدّة و شکّ فی بقاء أصل المرتبة ، فقال بجریان الاستصحاب فیه . و قال المتأخّرون عنه بأن هذا من القسم الأوّل لا من أقسام الکلّی ، لأن الشدّة إن کانت من المقوّمات لم یجر الاستصحاب لکونه من القسم الثالث ، و إن کانت من الحالات جری لبقاء الحقیقة ، کالعدالة الموجودة بالمرتبة العالیة ثم حصل الیقین بزوال تلک المرتبة ، فإنه تستصحب العدالة ، لکون تلک المرتبة من الحالات لا المقوّمات ، فیکون - علی هذا - من القسم الأوّل .

فبناءً علی أن حقیقة الوجوب هی الإرادة ، یکون أصل الإرادة هو المشکوک فیه بعد زوال الحدّ ، فیستصحب بقاؤها ، و لذا قال المحقق العراقی هنا بجریان الاستصحاب ، کما لا أنه لا یری التباین العرفی بین الاستحباب و الوجوب خلافاً لصاحب الکفایة .

و أمّا إن قلنا بالترکیب الاتّحادی ، فإنّه مع زوال الفصل لا یعقل بقاء الجنس ، فلا مجال للاستصحاب ، و ما أفاده المحقق الأصفهانی قدّس سرّه - من أنه مع انعدام الفصل ینعدم الجنس بما هو جنس ، لکنّه بما هو متفصّل بفصلٍ عدمی یکون باقیاً ، فلو قطعت « الشجرة » ینعدم « النامی » فالجهة الجنسیّة و هی حیثیة استعداد الشجر للنمو منعدمة ، إلّا أن تلک الجهة تبقی مع الفصل العدمی ، أی: فإن مادّة الشجر و هی الخشب موجودة مع عدم الاستعداد للنموّ ، فعلی القول بترکّب حقیقة الوجوب یکون الجواز باقیاً - بعد نسخ الوجوب - لکن مع الحیث العدمی ، أی الجواز مع عدم المنع من الترک - فقد عَدَل عنه فی تعلیقته ، و نصّ علی عدم معقولیّته ، قال : « لأن الترکّب الحقیقی من جنس و فصلٍ خارجیین ، لا یتصوّر إلّا فی الأنواع الجوهریّة دون الأعراض التی هی بسائط خارجیة ، فضلاً عن

ص:300

الاعتبارات » (1) .

مختار الأُستاذ

قال الأُستاذ : إنه إن کان الوجوب هو الإرادة ، و کانت الشدّة و الضعف من الحالات ، جری الاستصحاب بلا إشکال ، لکنّ الکلام فی المبنی ، فإنّ الحق هو بساطة الوجوب ، و أنه غیر الإرادة ، لکونها من التکوینیّات ، بل هو إمّا من الأُمور الاعتباریّة و إمّا من الانتزاعیّات ، فلا یجری فیه الاستصحاب ، لکونه من قبیل القسم الثانی من قسمی الثالث من أقسام الکلّی .

نظریّة السید الحکیم فی الاستصحاب

و قال السید الحکیم - معلّقاً علی قول ( الکفایة ) : فلا مجال للاستصحاب - ما نصّه :

« یکفی فی إثبات الجواز استصحاب الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه ، إذ لو ثبت الرّضا به بعد ارتفاع الوجوب لا یکون وجوداً آخر للرضا ، بل یکون الرضا الأوّل باقیاً ، و إذا ثبت الرضا به - و لو بالاستصحاب - کان جائزاً عقلاً ، لأنّ الأحکام التکلیفیّة إنما تکون موضوعاً للعمل فی نظر العقل بمناط حکایتها عن الإرادة و الکراهة و الرضا لا بما هی هی ، و یکفی فی إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانیة ، إذ مجرّد رفع الوجوب لا یدلّ علی ارتفاعها ، و إذا تثبت الإرادة المذکورة ثبت الاستحباب ، لأنه یکفی فیه الإرادة للفعل مع الترخیص فی الترک الثابت قطعاً بنسخ الوجوب » (2) .

و توضیح کلامه :

أوّلاً : إنه قد کان مع الوجوب الرضا بالفعل ، و بعد النسخ یبقی الرّضا السّابق

ص:301


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 263 .
2- 2) حقائق الأُصول 1 / 331 .

بالاستصحاب . لا یقال : الرضا لیس من المجعولات الشرعیّة کی یجری فیه الاستصحاب . لأن الوجوب - کغیره من الأحکام التکلیفیّة - إنما یکون موضوعاً للعمل فی نظر العقل بمناط حکایته عن إرادة المولی ، فکلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات ، و هذا روح الحکم فی نظر العقل .

و ثانیاً : إنه مع بقاء الرضا السابق یتمّ الجواز العقلی .

و ثالثاً : إنه یکفی فی إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانیّة .

و بناءً علی ما ذکر ، فإنه مع بساطة الوجوب یکون رضا المولی متحقّقاً ، فإذا نسخ الوجوب استصحب الرضا ، و یترتّب علیه الأثر ، و هو حکم العقل بلزوم العمل اتّباعاً لإرادة المولی و رضاه ، و یفتی بالاستحباب .

أقول :

العمدة فی هذه النظریّة ، هی أنه قد أجری الاستصحاب فی الإرادة التی هی منشأ الوجوب ، فأثبت بها موضوع حکم العقل ، بخلاف المحقق العراقی ، حیث أجراه فی نفس الوجوب و جعله بمعنی الإرادة ، فلا یرد علی هذه النظریّة ما ورد علی المحقّق المذکور .

لکنّ التأمّل فیها هو : أنّ الوجوب - علی کلّ حالٍ - إمّا بسیط و إمّا مرکّب ، و ظاهر الکلام أوفق بالثّانی ، فإن أراد الترکیب الانضمامی بأنْ یکون الوجوب مرکّباً بالانضمام من الرضا بالفعل مع المنع من الترک ، فقد عرفت تمامیّة الاستصحاب بناءً علیه ، و إن أراد الاتحادی ، فقد عرفت ما فیه . و أمّا علی القول بالبساطة ، فما هو المراد من قوله « الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه » ؟ الظاهر أن « الرضا » حالة نفسانیّة خارجة عن الوجوب لازمة له ، فإذا زال الوجوب زال الرّضا بتبعه ، فلا یبقی شیء لکی یستصحب .

و هذا تمام الکلام فی النسخ .

ص:302

الوجوب التخییری

اشارة

ص:303

ص:304

.مقدمة

اشارة

إنّ هذا البحث مهم علماً و عملاً ... .

إنه لا ریب فی أنّ فی الشریعة واجبات یجوز ترکها إلی بدلٍ کخصال الکفارة ، و واجبات لا یجوز ترکها إلی بدل کالصّلاة ، و تسمّی الأُولی بالواجبات التخییریّة و الثانیة بالواجبات التعیینیّة ، و لکلٍّ من القسمین أحکام و آثار ، ففی الأوّل یستحق العقاب لو ترک جمیع الأفراد ، لکن استحقاق الثواب یکون بالإتیان بواحدٍ منها ، و من ذلک یظهر أن متعلّق الإرادة و حامل الغرض هو أحد الأفراد ، و لذا وقع الکلام فی تصویر هذا التکلیف ، و إذا أمکن ذلک فی الأحکام التکلیفیّة طبّق فی الأحکام الوضعیّة کذلک ، کما فی مسألة الضمان فی تعاقب الأیدی علی الماء المغصوب و المأخوذ بالعقد الفاسد .

و الإشکال العمدة ینشأ من نقطتین :

الأُولی : کیف یمکن أن تتعلّق الإرادة المشخّصة الموجودة ، بأحد الأشیاء أو الشیئین ، لأن الأحد مبهم ، فکیف یُعقل تعلّق المعیّن المتشخّص بالمبهم ؟

و الثانیة : إنه لا ریب فی أن الواجب التخییری بعث مولوی ، فکیف یکون البعث نحو « الأحد » ؟ مضافاً إلی أنه مضایف للانبعاث ، و الانبعاث بالمردّد غیر معقول .

ص:305

فإمّا یصوّر الوجوب التخییری بحیث یتلاءم مع هذه البراهین ، و إمّا یرفع الید عن ظواهر الأدلّة من أجلها و ینکر من أصله !

فلننظر فی الکلمات و الأقوال ... .

کلام المحقق الخراسانی و شرحه
اشارة

قال فی ( الکفایة ) : إذا تعلّق الأمر بأحد الشیئین أو الأشیاء ، ففی وجوب کلّ واحدٍ علی التخییر ، بمعنی عدم جواز ترکه إلّا إلی بدلٍ ، أو وجوب الواحد لا بعینه ، أو وجوب کلّ منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعیّن عند اللّٰه . أقوال .

و التحقیق أن یقال : إنه إن کان الأمر بأحد الشیئین بملاک أنه هناک غرض واحد یقوم به کلّ واحد منهما ، بحیث إذا أتی بأحدهما حصل به تمام الغرض و لذا یسقط به الأمر ، کان الواجب فی الحقیقة هو الجامع بینهما ، و کان التخییر بینهما بحسب الواقع عقلیّاً لا شرعیّاً ... . و إن کان بملاک أنه یکون فی کلّ واحدٍ منهما غرض لا یکاد یحصل مع حصول الغرض فی الآخر بإتیانه ، کان کل واحدٍ واجباًَ بنحوٍ من الوجوب یستکشف عنه تبعاته ، من عدم جواز ترکه إلّا إلی الآخر ، و ترتب الثواب علی فعل الواحد منهما و العقاب علی ترکهما (1) ... .

أقول :

لقد ذکر رحمه اللّٰه أربعة أقوالٍ فقط ، لکنّها فی المسألة أکثر منها ، و اختار منها القول الرابع و حاصله : إن المتعلّق فی الوجوب التخییری لا یختلف عنه فی التعیینی إلّا من جهة سنخ التکلیف ، فإنّ التخییری مشوبٌ بجواز الترک إلی بدلٍ بخلاف التعیینی ، فکانا مشترکین فی عدم جواز الترک ، لأن الواجب ما لا یجوز

ص:306


1- 1) کفایة الأُصول : 140 .

ترکه ، غیر أنّ التخییری یجوز ترک أحد فردیه مثلاً بالإتیان بفردٍ آخر ، و التعیینی لا یوجد له بدیل .

إذن ، لا یرد الإشکال : بأنّ البعث و الإرادة لا یتعلّق بالمردّد ، لأنه لا ماهیّة له و لا وجود . و الإشکال : بأن البعث و الانبعاث متضایفان ، فکیف یکون الانبعاث مردّداً ؟

و یبقی اشکال اختلاف الآثار فأجاب : بأن هذا الاختلاف ینشأ من اختلاف سنخ الوجوب ، فإنّ سنخ الوجوب فی التخییری هو ترتب العقاب علی ترک الکلّ و الثواب علی الإتیان بأحدها ... أما فی التعیینی ، فإنهما یترتبان علی ترک أو فعل نفس ذاک المتعلّق المعیّن .

و قد ذکر أنّه إذا کان هناک غرض واحدٍ یقوم به کلّ واحد من الفردین ، فإنّ التخییر حینئذٍ عقلی لا شرعی ، أی یکون المتعلّق هو الطبیعة ، و البرهان علی ذلک هو قاعدة أن الواحد لا یصدر إلّا من الواحد ، فیکون ذلک الواحد بین تلک الأفراد هو الطبیعة . و إمّا إذا کان هناک غرضان ، بأن یقوم بکلّ من الفردین غرض مستقل عن الآخر ، لکن بینهما تزاحم و لا یمکن اجتماعهما فی الوجود ، فلا محالة تکون الإرادة متعلّقة بکلٍّ من الفردین مع جواز ترکه إلی الفرد الآخر .

ثم إنّه ذکر الأقوال الأُخری و ناقشها .

فأمّا القول : بأنّ المتعلّق للإرادة هو « الأحد لا بعینه » فقد أجاب عنه : بأن هذا « الأحد » لیس مفهومیّاً ، إذ لیس هو متعلّق الغرض حتی تتعلّق به الإرادة ، بل هو « الأحد » المصداقی ، لکنّ « الأحد لا بعینه » لا مصداق له . و قد أوضح هذا فی الحاشیة : بأن « الأحد » یصحّ تعلّق العلم به کما فی موارد العلم الاجمالی ، و کذا یصحّ تعلّق الأمر الانتزاعی به کتعلّق الوجوب بأحد الشیئین ، لکنّ الإرادة لا تتعلّق

ص:307

بالمردّد ، لأنّها علّة الوجود و لا یمکن أن یکون معلولها مبهماً ، و لا یعقل البعث و التحریک نحو المبهم ... فظهر الفرق بین العلم و الوجوب و بین البعث و الإرادة .

و أجاب عن القول بأن الوجوب التخییری هو وجوب کلا الشیئین ، لکن وجوب أحدهما مسقط لوجوب الآخر : بأن الفرضین إن کانا یقبلان الوجود ، فإسقاط أحدهما للآخر مستحیل ، و إن کانا متزاحمین لا یقبلان الوجود معاً ، فأحدهما لا یتحقق و لا تصل النوبة إلی إسقاط الآخر إیّاه .

و عن القول بأن الواجب هو « أحدٌ » معیّن لکن عند اللّٰه ... بأنّ المفروض کون کلّ واحدٍ من الشیئین أو الأشیاء حاملاً للغرض و وافیا به ، فکیف یکون « أحد » معیّن هو الواجب دون الآخر أو الأفراد الأُخری .

هذا بیان کلام ( الکفایة ) فی هذا المقام .

إشکال المحقق الأصفهانی
اشارة

و قد أشکل المحقق الأصفهانی (1) - و تبعه فی ( المحاضرات ) (2)و( المنتقی ) (3) - بأنّ مستند مبنی المحقق الخراسانی هو قاعدة أن الواحد لا یصدر إلّا من الواحد ، و لکنّها إنما تجری فی الواحد الشخصی دون النوعی ... و توضیحه :

إن البرهان علی تلک القاعدة هو : إنّ کلّ معلول حدّ ناقص للعلّة ، و کلّ علّةٍ فهو حدّ کامل للمعلول ( و قد وضع أهل الحکمة هذه القاعدة فی باب صدور العقل الأوّل أو الفیض الأقدس من الباری عز و جلّ . لکنّ الحق جریانها فی الفاعل الطبیعی . أمّا اللّٰه سبحانه و تعالی فیفعل ما یرید و کلّ الأشیاء توجد بإرادته مع تکثرها ... ) وعلیه ، فالمعلول موجود فی رتبة وجود العلّة ، کالحرارة الحاصلة من

ص:308


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 266 .
2- 2) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 216.
3- 3) منتقی الأُصول 2 / 485 .

النار ، فإنها موجودة فی رتبة وجودها ، و إلّا یلزم الترجّح بلا مرجّح ، فیقال : لما ذا وجدت هذه الحرارة و لم توجد تلک الأُخری ... فإذا کان وجود المعلول و وجوبه واحداً ، فلا بدّ و أن تکون علّته کذلک ، لأن العلّة إذا تعدّدت تعدّد وجود المعلول و وجوبه ، و المفروض أنه واحد ، و الواحد لا یتعدّد .

هذه هی القاعدة .

فقال المحقق الأصفهانی : بأنها إنما تجری فی الواحد الشخصی ، أما النوعی ، فیمکن فیه صدور الواحد عن الکثیر مع الاختلاف فی حقیقة الکثیر ، فإن الحرارة قد تحصل من النار و هی من الجواهر ، و قد تحصل من العرض کالحرکة ، فقد صدر الواحد من الکثیر ... و أیضاً ، فإنّ تحقق الأجناس بالفصول ، إذ الفصل علّة لوجود الجنس کالناطقیّة بالنسبة إلی الإنسان ، مع أن الناطقیّة مباینة للفصل الموجد لنوع الفرس مثلاً ، فکانت المتباینات علةً لوجود الشیء الواحد و هو الجنس .

و تلخّص : إن ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی من کون الجامع هو المتعلّق غیر صحیح .

تحقیق الأُستاذ

و أفاد الأُستاذ دام بقاه حول القاعدة بقدر ما یرتبط بعلم الأُصول : أنّ للواحد أنحاءً من الوجود :

1 - الواحد بالشخص ، مثل زید و عمرو ، من حیث کونه زیداً و کونه عمراً .

2 - الواحد بالنوع ، مثل زید و عمرو من حیث الإنسانیّة .

3 - الواحد بالعنوان ، مثل وجود زید و وجود عمرٍو و هکذا ... فإنّ العنوان مفهوم الوجود ، و حقیقة الوجود هو المعنون ، و النسبة بینهما نسبة العنوان

ص:309

و المعنون ، لا الکلّی و الفرد ، و لا الطبیعی و المصداق .

فهذه مقدمة .

و المقدمة الثانیة : إنّ الطبیعی موجود فی الخارج بلا ریب ، فلیس من الأُمور الانتزاعیّة العقلیّة ، و لیس من الاعتباریات کالزوجیّة و الملکیّة ، غیر أنّ وجوده وجود فرده ، کما أن الأُمور الانتزاعیّة موجودة لکن بوجود منشأ الانتزاع ...

و الحاصل : إن الطبیعی کالإنسان موجود فی الخارج ، لکن بوجود زید مثلاً .

و المقدّمة الثالثة : إن « الوحدة » و« التعدد » متقابلان ، و الاجتماع بینهما فی أیّ عالمٍ محال ، فلا یجتمع الواحد بالشخص مع المتعدّد بالشخص ، و کذلک الواحد بالنوع ، و الواحد بالعنوان .

و بعد المقدّمات نقول :

إنّ المحقق الأصفهانی یعترف بوجود الطبیعی خارجاً ، و أنّ نسبته إلی الخارج نسبة الآباء إلی الأبناء - لا نسبة الأب الواحد إلی الأبناء کما قال الرجل الهمدانی - فنقول : هذا الطبیعی إمّا مختص أو مشترک ؟ و الأول خلف الفرض ، و علی الثانی : هل لوجود هذا الطبیعی علّة أو لا ؟ و الثانی محال ، و منافٍ لقوله بأنّ الاجناس موجودة و عللها هی الفصول ، و إذا کان له علّة ، فهل لتلک العلّة حیثیّة غیر حیثیّة الخصوصیّة ؟ إنّه لا بدّ و أن یکون فیها حیثیّة تصلح بها لأن تکون علةً لماهیّةٍ مشترکة ، إذ ما لیس فیه إلّا حیثیّة الخصوصیّة لا یمکن أن یکون علةً لماهیّة ذات حیثیّة مشترکة ... .

إذن ، لا مناص من الالتزام بأنّه : لو حصل غرض و کان فیه حیثیّة القدر المشترک ، فلا بدّ و أن یکون له منشأ هو القدر المشترک ... و هذا معنی کلام المحقق الخراسانی حین یقول باستحالة حصول الأثر الواحد من کلّ واحدٍ من الفردین أو

ص:310

الأفراد و یکون مبدأ الأثر متعدّداً ... لأنّ الأثر موجود فی مرتبة المبدإ ، فإذا کان واحداً و المبدأ متعدّد ، لزم اجتماع الوحدة و التعدّد فی الشیء الواحد ، و هو محال .

و بالجملة ، فإنّ قاعدة الواحد و إن طرحت فی الواحد الشخصی ، لکن الملاک لها موجود فی الواحد النوعی و الواحد العنوانی أیضاً ، فإنّه - علی القول بثبوت الواحد النوعی و الواحد العنوانی - یکون للمعلول وحدة نوعیّة ، فلو لم یکن فی العلّة وحدة نوعیة کذلک ، یلزم عدم السنخیّة بین العلّة و المعلول .

فظهر اندفاع الإشکال علی ( الکفایة ) فی هذا القسم من کلامه .

اشکالات المحاضرات علی الکفایة
اشارة

و أورد فی المحاضرات (1) علی القسم الآخر من کلامه حیث قال : أنه إذا کان هناک غرضان متزاحمان ، فلا بدّ من الالتزام بالوجوبین ، إلّا أن کلّاً منها مشوب بالترک ، بوجوه :

أوّلاً : إن ذلک مخالف لظواهر الأدلّة ، فإن الظاهر من العطف بکلمة « أو » هو أن الواجب أحدهما لا کلاهما .

و ثانیاً : إن فرض کون الغرضین متضادّین فلا یمکن الجمع بینهما فی الخارج ، مع فرض کون المکلّف قادراً علی إیجاد کلا الفعلین ، بعید جداً ، بل هو ملحق بأنیاب الأغوال ، ضرورة أنا لا نعقل التضادّ بین الغرضین مع عدم المضادّة بین الفعلین ، فإذا فرض أن المکلّف متمکّن من الجمع بینهما خارجاً ، فلا مانع من إیجابهما معاً عندئذ .

و ثالثاً : إنا لو سلّمنا ذلک فرضاً و قلنا بالمضادّة بین الغرضین و عدم إمکان

ص:311


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 220 .

الجمع بینهما فی الخارج ، إلّا أن من الواضح جدّاً أنه لا مضادّة بین ترکهما معاً ، فیتمکّن المکلّف من ترک کلیهما بترک الإتیان بکلا الفعلین خارجاً . هذا من ناحیة . و من ناحیة أُخری : إن العقل مستقلّ باستحقاق العقاب علی تفویت الغرض الملزم ، و لا یفرّق بینه و بین تفویت الواجب الفعلی . و من ناحیة ثالثة : إن فیما نحن فیه و إن لم یستحق العقاب علی ترک تحصیل أحد الغرضین عند تحصیل الآخر ، من جهة عدم إمکان الجمع بینهما فی الخارج ، إلّا أنه لا مانع من استحقاق العقاب علیه عند ترکه تحصیل الآخر . فالنتیجة أنه یستحق العقابین عند جمعه بین الترکین .

جواب الأُستاذ

و أجاب الأُستاذ دام بقاه :

أمّا عن الأوّل فبأنه : خلاف القاعدة ، لأن صاحب الکفایة یری أن التکلیف غیر متعلّق بأحدهما ، لا مفهوماً و لا مصداقاً ، لأن الأحد المفهومی غیر حاملٍ للغرض حتی تتعلّق به الإرادة ، و الأحد المصداقی هو المردد ، و المردّد لا یقبل الوجود حتی یتعلّق به التکلیف و الإرادة ، و إذ لم یمکن ثبوتاً تعلّق الإرادة بالأحد ، فلا بدّ من التصرّف فی مقام الإثبات و ظواهر الأدلّة ... فالإشکال غیر وارد علیه .

علی أنّ القول بتعلّق التکلیف بالأحد أیضاً خلاف ظواهر الأدلّة ، لعدم وجود هذا العنوان فیها ، بل الموجود هو العطف ب« أو » و هی فی أمثال المقام للتردید ، و أمّا « الأحد » فانتزاع من العقل و لیس من ظاهر الأدلّة .

و أمّا عن الثانی فبأن : التباین بین الأغراض شائع تکویناً و عقلاءً ، فقد یستعمل دواء لغرض العلاج من مرضٍ فیکون سبباً لحصول مرضٍ آخر .

و أمّا عن الثالث ، فقد تقدّم فی بحث الترتب بأنّه : لو لم تکن قدرة علی

ص:312

الفعلین فلا استحقاق للعقابین ... و هذا کلام المحقق الخراسانی . و لقد أشکل هناک علی السیّد المیرزا الشیرازی بلزوم تعدّد العقاب ، و کان السیّد لا یلتزم بذلک مع قوله بالترتب . أمّا المحقق الخراسانی ، فقد أنکر الترتب و صحّح عبادیّة المهم عن طریق الغرض ، فهو قائل بوجود الغرضین فی الأهم و المهم ، و غیر قائل بتعدّد العقاب بترک الغرضین ، بل یتعدد بمخالفة الأمرین ... فالإشکال علیه خلاف القاعدة کذلک .

الاشکال الوارد علی الکفایة

ثم قال الأُستاذ : بأن الإشکال الوارد علی الکفایة . أمّا فی الشق الأوّل فهو : إنّه لا دلیل علی الوحدة بالنوع فی الأغراض ، فی الواجبات التخییریّة فی الشریعة المقدسة ، فما ذکره موقوف علی تمامیّة الصغری ، و إن تصوّرت الوحدة فهی لیست إلّا الوحدة العنوانیّة .

و أمّا فی الشق الثانی ، فالإشکال علیه - کما فی المحاضرات أخیراً - أنه لا ریب فی سقوط التکلیف فی الواجبات التخییریّة - العقلیّة منها و الشرعیّة - بالإتیان بکلا الطرفین أو کلّ الأطراف ، و حصول الامتثال بذلک ، فلو کان الغرضان متباینین لم یکن الامتثال حاصلاً ، و کان الأمر باقیاً ، و الحال أنه لیس کذلک یقیناً .

فما ذکره غیر صحیح .

کلام المیرزا النائینی
اشارة

و ذهب المحقق النائینی فی تصویر الواجب التخییری ، کما فی ( أجود التقریرات ) (1) إلی أنّ الواجب هو الفرد المردّد و الواحد علی البدل ، أی هو أحد الشیئین أو الأشیاء ، و ذلک ، لأنّه لا مانع من تعلّق الإرادة التشریعیّة بالمردد ،

ص:313


1- 1) أجود التقریرات 1 / 265 .

و توضیحه :

إن الإرادة التکوینیة و التشریعیة تشترکان فی أن کلتیهما إرادة ، لکنهما تفترقان من جهة التکوینیّة و التشریعیّة ، و لکلٍّ منهما أحکام و أقسام . مثلاً : الإرادة من المولی لا فاعلیّة لها ، بل الفاعلیّة هی لإرادة المکلّف ، و الإرادة التشریعیّة تنقسم إلی التعبّدی و التوصّلی ، و هذا غیر معقول فی التکوینیّة .

و من ذلک : إن الإرادة التکوینیّة لا یعقل أن تتعلّق بالکلّی ، بل متعلّقها دائماً هو الجزئی الحقیقی ، لأن الإرادة التکوینیّة علّة للوجود ، و العلّة یستحیل تعلّقها إلّا بالوجود و هو عین التشخّص ، بخلاف الإرادة التشریعیّة ، فإنّها تتعلّق بالکلیّات حتی لو قیّد المتعلّق بقیودٍ کثیرة ، کأن یقال : صلّ فی المسجد یوم الجمعة ظهراً جماعةً فی أوّل الوقت ... و السرّ فی ذلک : أنه ما لم یوجد فی الخارج أو الذهن فلا تتحقّق له الجزئیّة ... .

إذن ... الإرادة التی لا تتعلّق بالمبهم المردّد هی التکوینیّة ، و أما التشریعیّة فإنّها تتعلّق به ، إذ التکوینیّة هی العلّة التامّة للوجود ، و المردّد غیر قابلٍ للوجود أی لا وجود له ، أمّا التشریعیّة فلیست بعلةٍ للوجود ، و إنما أثرها هو إحداث الداعی الإمکانی فی نفس العبد ، فقد یمتثل و قد لا یمتثل ، و من هنا تکون التشریعیّة تابعة للغرض و الملاک ، فإن کان الغرض یحصل بأحد الأفراد جاءت الإرادة متعلّقة به کذلک ، و کان الخطاب علی طبق الإرادة ، إذ یأمر بالعتق أو الإطعام أو الصوم لیدلّ علی أنّ المکلّف به لیس معیّناً ، و لیس هو الجامع ، بل المطلوب خصوصیّة کلّ واحدٍ من الأفراد لکن علی البدل ، و کذلک الحال فی الوصیّة ، إذ یوصی بأحد الشخصین أن یعطی کذا ، أو ینوب عنه فی الحج مثلاً ، أو یُعتق فی سبیل اللّٰه .

إذن ، فما ذهب إلیه المیرزا متوافق مع ظهور الأدلّة فی الواجب التخییری فی

ص:314

مقام الإثبات ... .

فظهر أنْ لا محذور لهذا المبنی حتّی یذکر و یدفع ، فلا یبقی مجالٌ لاستغراب السیّد الأُستاذ من المیرزا قائلاً : « و هذا غریب من مثل المحقق المذکور ، فإنّ اللازم علیه کان بیان ما یحتمل أنْ یکون محذوراً و دفعه ، لا مجرّد عدم وجود المانع لا أکثر من دون بیان وجه ذلک ، فإن ذلک لا یتناسب مع علمیّة البحث » (1) .

و لا یخفی أنه أیضاً قد اختار هذا المبنی فی الواجب التخییری (2) .

الأنظار فی کیفیة تعلّق الإرادة و نحوها بالمردّد

و قد فصّل شیخنا الاستاذ الکلام فی أصل البحث و ذکر الأنظار فیه ، و ذلک لضرورة الوصول إلی منشأ الخلاف فی أنّ المردّد هل یمکن أن یقع متعلّقاً للإرادة أو للاعتبار أو لصفةٍ وجودیّة ، أو لا ؟

لقد ذکر الشیخ فی ( المکاسب ) (3) مسألة ما لو باع صاعا من الصبرة ، فهل یحمل علی الکسر المشاع ، فلو کان عشرة أصوع یکون المبیع هو العشر ، أو یکون کلّیاً معیّناً ، أو یکون فرداً من أفراد الأصوع علی البدل ؟ ثم أشکل علی الوجه الأخیر بوجوه ، منها : إن التردّد یوجب الجهالة ، و أنه یوجب الغرر ، و أنه غیر معقول ، و هذا محلّ الشاهد هنا .

إن تعلّق البیع بفردٍ مرددٍ من أفراد الأصوع غیر معقول ، لأنّ الملکیّة صفة وجودیّة ، و الصفة الوجودیّة لا یعقل أن تتعلّق بالشیء المردد ... و هذا هو الإشکال .

ص:315


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 490 .
2- 2) منتقی الأُصول 2 / 495 .
3- 3) کتاب المکاسب : 195 ط 1 .

و قد أجاب عنه : بأنّ الصفة الوجودیّة علی قسمین : فتارةً : هی صفة وجودیّة خارجیّة ، کالسواد و البیاض ، فهذه لا تقبل التعلّق بالمردد ، لأنها عرض خارجی و هو لا یوجد إلّا فی موضوع ، و المردّد لیس له وجود حتی یتحقّق فیه العرض و یقوم به . و أُخری : هی أمر اعتباری ، و هذه تقبل التعلّق بما لیس له وجود خارجی ، کما فی بیع الکلّی فی الذمة ، و المبیع فی باب السّلم .

فالشیخ یری أن الصّفة الوجودیّة إن کانت اعتباریةً فهی تقبل التعلّق بالمردّد .

و خالفه المحقق الخراسانی (1) ، فذهب إلی أن الصفة الوجودیّة الحقیقیّة أیضاً تقبل التعلّق بالمردّد ، و قد تقدّم کلامه فی حاشیته علی الکفایة ، إذ صرّح بأنّ العلم یمکن تعلّقه بالمردّد کما فی موارد العلم الإجمالی ، بخلاف مثل البعث ، لأنه لیس بصفةٍ بل إنه إیجاد للدّاعی فی نفس العبد ، و إیجاده نحو المردّد محال .

و بعبارة أُخری : کلّما یکون له جهة الباعثیّة و المحرّکیّة ، فلا بدّ و أن یکون متعلّقه مشخصاً ، و أمّا ما یکون - مثل العلم - لا جهة باعثیّة له ، فلا مانع من تعلّقه بالمردّد .

و أمّا المیرزا ، فقد جعل ملاک الافتراق فی الإرادة جهة التکوینیّة و التشریعیّة ، فخالف المحقق الخراسانی القائل بعدم تعلّق ما کان له باعثیة - و إنْ کانت تشریعیّة - بالشیء المردّد .

و لکنّ المحقق الاصفهانی خالف الکلّ ، و أنکر التعلّق بالمردد ، سواء فی الصفة الحقیقیّة أو الاعتباریّة ، و فی الإرادة التکوینیّة أو التشریعیّة ، و سواء فیما له جهة الباعثیّة و غیره ... و له علی هذا المدّعی برهانان :

( الأول ) : إن الوجود عین التشخّص و الواقعیّة ، فکلّ موجود متشخّص ،

ص:316


1- 1) کفایة الأُصول : 141 .

و لا یعقل فیه أیّ إبهامٍ و اجمال ، حتی لو کان الوجود اعتباریّاً ، فلا یعقل أن یکون مردّداً ، لأنّ الوجود هو التعیّن ، و بینه و بین التردد تقابل و لا یمکن اجتماعهما أبداً .

و( الثانی ) : إن المردّد المصداقی محال ، لأنّ التردّد إمّا یکون فی ذات الشیء و إمّا فی وجوده ، أمّا الذات ، فهی متعیّنة و لا یعقل الإبهام و التردد فیها . و أمّا الوجود ، فقد تقدّم .

و بعبارة أُخری : إنه لو کان للمردّد مصداق خارجی ، وقع الإشکال فی الأُمور ذات التعلّق ، کالإرادة و البعث و الحبّ و الملکیّة و أمثالها ، - سواء التکوینیّة منها و الاعتباریة - فهی أُمور لا یحصل لها الوجود إلّا بالمتعلّق ، لکنّ الوجود لا یقبل التردّد ، فلو تعلّقت الإرادة مثلاً بمردّد لزم إمّا تعیّن المردد أو تردّد المعیّن ، و کلاهما محال ، لأنّ الأوّل انقلاب ، و الثانی خلف .

و بالنظر إلی هذین البرهانین نقول - وفاقاً للمحقق الأصفهانی - بعدم صلاحیّة المردّد لأن یکون متعلّقاً للإرادة - ... و تبقی المناقشة بذکر نقوض ، من قبیل الوصیة بعتق أحد العبدین ، و تملیک أحد الولدین ، أو هبة أحد المالین ، أو بیع المعدوم کما فی بیع السلف . و لا بدّ من حلّها فی کتاب البیع .

نظریّة السیّد الاستاذ

لکن السیّد الاستاذ بعد أنْ ذکر آراء الأعلام قال :

هذا محصل الإیرادات علی تعلق التکلیف بالفرد المردّد و هی فی الحقیقة ثلاثة ، إذ الأول یرجع إلی الثالث کما لا یخفی .

و شیء منها لا ینهض مانعاً عن تعلّق التکلیف بالفرد المردد ، و لأجل ذلک یمکننا أن ندّعی أن متعلّق الوجوب التخییری هو أحد الأمرین علی سبیل البدل ، فی الوقت الذی لا ننکر فیه أن الفرد المردد لا واقع له ، و أن کلّ موجود فی الخارج

ص:317

معیّن لا مردّد .

و بتعبیر آخر نقول : إن المدّعی کون متعلّق الحکم مفهوم الفرد علی البدل ، أو فقل هذا أو ذاک ، بمعنی أن کلاً من الأمرین یکون مورد الحکم الواحد ، لکن بنحو البدل فی قبال أحدهما المعین ، و کلاهما معاً بنحو المجموع .

و وضوح ذلک یتوقف علی ذکر مقدمتین :

الأُولی : إن مفهوم الفرد علی البدل أو الفرد المردد الذی یعبّر عنه بالتعبیر العرفی ب : « هذا أو ذاک » من المفاهیم المتعینة فی أنفسها ، فإن المردّد مردّد بالحمل الأوّلی لکنه معیّن بالحمل الشائع ، نظیر مفهوم الجزئی الذی هو جزئی بالحمل الأولی کلّی بالحمل الشائع ، فالفرد علی البدل مفهوم متعین ، و لذا نستطیع التعبیر عنه و الحکم علیه و تصوّره فی الذهن کمفهوم من المفاهیم ، فهو علی هذا قابل لتعلّق الصفات الحقیقیّة و الاعتباریة به کغیره من المفاهیم المتعینة .

الثانیة : إن الصفات النفسیّة کالعلم و نحوه لا تتعلّق بالخیارات ، بل لا بدّ و أن یکون معروضها فی أُفق النفس دون الخارج ، و إلا لزم انقلاب الخارج ذهناً أو الذهن خارجاً و هو خلف ، فمتعلق العلم و نحوه لیس إلا المفاهیم الذهنیة لا الوجودات الخارجیة .

و إذا تمت هاتان المقدّمتان ، تعرف صحّة ما ندّعیه من کون متعلّق العلم الإجمالی فی مورده و الملکیة فی صورة بیع الصاع من صبرة و البعث فی الواجب التخییری هو الفرد علی البدل و مفهوم هذا أو ذاک ، فإنه مفهوم متعین فی نفسه کسائر المفاهیم المتعینة ، و لا یلزم منه انقلاب المعین مردداً ، إذ المتعلق له تعین و تقرر ، کما لا یلزم کون الصفة بلا مقوّم ، إذ المفهوم المذکور له واقع .

یبقی شیء ، و هو : إن الصفات المذکورة و إنْ تعلقت بالمفاهیم ، لکنها

ص:318

مرتبطة بالواقع الخارجی بنحو ارتباط و مأخوذة مرآتاً للواقع ، و المفروض أنه لا واقع لمفهوم الفرد المردد ، فکیف یتعلق به العلم ؟ ! و حلّ هذا الإشکال سهل ، فإن ارتباط المفهوم المعلوم بالذات بالواقع الخارجی لیس ارتباطاً حقیقیاً واقعیاً ، و یشهد له أنه قد لا یکون العلم مطابقاً للواقع ، فکیف یتحقق الربط بین المفهوم و الخارج ؟ إذ لا وجود له کی یکون طرف الربط ، و لأجل ذلک یعبّر عن الخارج بالمعلوم بالعرض . إذن ، فارتباطه بنحو ارتباط لا یستدعی أن یکون له وجود خارجی کی یشکل علی ذلک بعدم الواقع الخارجی لمفهوم الفرد المردد .

و مما یؤیّد ما ذکرناه من امکان طرو الصفات علی الفرد المردد : مورد الإخبار بأحد الأمرین ، کمجیء زید أو مجیء عمرو ، فإنه من الواضح أنه خبرٌ واحدٌ عن المردد ، و لذا لو لم یأت کلّ منهما لا یقال إنه کذب کذبتین ، مع أنه لو رجع إلی الإخبار التعلیقی لزم ذلک و لا تخریج لصحة الإخبار إلا بذلک .

یبقی إشکال صاحب الکفایة و هو : إن التکلیف لتحریک الإرادة ، و الإرادة ترتبط بالخارج ارتباطاً تکوینیاً ، فیمتنع التکلیف بالمردّد ، إذ لا واقع له کی یکون متعلق الإرادة (1) .

و الجواب عنه : إنّه لا ملزم لأن نقول بأن التکلیف لأجل التحریک و البعث و الدعوة نحو متعلّقه بجمیع خصوصیّاته و قیوده ، بل غایة ما هو ثابت إن التکلیف لأجل التحریک نحو ما لا یتحرک العبد نحوه من دون التکلیف المزبور بحیث تکون جهة التحریک و سببه هو التکلیف المعین و إن اختلف عن متعلّقه بالخصوصیّات .

و من الواضح : أن تعلق التکلیف بالفرد المردد یستلزم الحرکة نحو کلّ من

ص:319


1- 1) کفایة الأُصول : 141 .

الفعلین علی سبیل البدل ، فیأتی العبد بأحدهما منبعثاً عن التکلیف المزبور ، و هذا یکفی فی صحة التکلیف و کونه عملاً صادراً من حکیم عاقل .

و نتیجة ما تقدم : إنه لا مانع من تعلّق التکلیف بالفرد علی البدل و بأحدهما لا بعینه ، بمعنی کون کلّ منهما متعلقاً للتکلیف الواحد ، و لکن علی البدل لا أحدهما المردد و لا کلاهما معاً . و بذلک یتعین الالتزام به فیما نحن فیه لفرض ثبوت الغرض فی کل من الفعلین علی حدّ سواء و من دون مرجح ، فلا بدّ من کون الواجب فی کلّ منهما بنحو البدلیة و التردد .

و هذا المعنی لا محیص عنه فی کثیر من الموارد ، و لا وجه للالتزام ببعض الوجوه فی العلم الإجمالی ، کدعوی أن المتعلّق هو الجامع و التردید فی الخصوصیات . و فی مسألة بیع صاع من صبرة ، کدعوی أن المبیع هو الکلّی فی الذمة و لکن مع بعض القیود ، أو دعوی اخری لا ترجع إلی محصل . و تحقیق الکلام فی کلّ منهما موکول إلی محلّه .

فالمختار علی هذا فی الواجب التخییری کون الواجب أحدهما لا بعینه ، کما التزم به المحقق النائینی ، و إن خالفناه فی طریقة إثباته » (1) .

أقول :

أمّا ما ذکر فی المقدمة الأُولی من أن « الفرد علی البدل مفهوم متعیّن ، و لذا نستطیع التعبیر عنه و الحکم علیه و تصوّره فی الذهن کمفهومٍ من المفاهیم » فهذا صحیح ، و لکن التفریع علیه بقوله : « فهو - علی هذا - قابلٌ لتعلّق الصّفات الحقیقیّة و الاعتباریّة به کغیره من المفاهیم المتعیّنة » فیه :

أوّلاً : کیف تتعلّق الصفات الاعتباریّة من البعث و التحریک و نحوهما

ص:320


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 492 - 495 .

بالوجود الذهنی ما لم یکنْ له مطابق فی الخارج ؟

و ثانیاً : کیف یکون المردد متعیّناً کغیره من المفاهیم المتعیّنة ؟ إن أراد المتعیّن خارجاً ، فإن کلّ ما فی الخارج معیّن غیر مردد ، و إنْ أراد التعیّن ذهناً ، فالمفروض أنه مردد غیر معیّن .

و أمّا ما ذکر فی المقدّمة الثانیة من صحّة تعلّق العلم و نحوه بالمردد ، فقد تقدّم أنه رأی صاحب الکفایة ، و ما أجاب به من أنّ الارتباط بین المفهوم و المتعلّق الخارجی لیس ارتباطاً واقعیّاً غریب ، فإنّ الارتباط بین الشّیئین إمّا واقعی و إمّا اعتباری ، و هل الارتباط بین الصورة الذهنیة و مطابقها الخارجی اعتباری لا واقعی ؟

و الاستشهاد لذلک بأنّه « قد لا یکون العلم مطابقاً للواقع » أعجب ، فإنه یتضمّن الاعتراف بلزوم وجود المطابَق و لزوم المطابقة بینهما ، و أمّا عدم المطابقة أحیاناً فمن الخطأ فی التطبیق ، و أین هذا عن المدّعی حتی یستشهد به ؟ و کذلک الاستشهاد بتعبیرهم عن الخارج بالمعلوم بالعرض ، فإنّ هذا التعبیر یفید خلاف المدّعی کما لا یخفی .

و تأیید ذلک بالإخبار عن أحد الأمرین ، واضح الضعف ، للفرق بین الإخبار ، و العلم و البعث و التکلیف ، علی أن المخبر عنه هو « الأحد » الجامع بین الفردین لا الفرد المردد ، و هذا هو المرتکز العقلائی .

الطریق الثالث
اشارة

إنه فی الواجب التخییری یوجد وجوبان ، لکن کلّاً منهما مشروط بترک الآخر ، فالإطعام واجب مشروط بترک الصوم ، و هکذا بالعکس . و الحاصل : إن هنا غرضین قائمین بالعدلین ، لکنّهما متزاحمان و لا یمکن استیفاؤهما معاً ،

ص:321

فیجب استیفاء أحدهما علی النحو المذکور ، و إن کان ظواهر الأدلّة لا تساعد علیه - لعدم دلالتها علی وجود الغرضین و الوجوبین - لکن لا مناص من تصویر الواجب التخییری بهذه الصّورة .

الاشکالات علیه

و قد أورد علیه بوجوه :

الأوّل : إن دعوی التمانع بین الغرضین مع القدرة علی الفعلین و هم محض .

قاله المیرزا و تبعه السیّد الخوئی (1) .

و فیه : لیس الأمر کذلک ، فقد یقدر الإنسان علی استعمال دواءین یکون الغرض من کلٍّ منهما مضادّاً للغرض من الآخر .

و الثانی : إن هذا الطریق یستلزم القول بالترتّب ، و من القائلین بالواجب التخییری من لا یقول بالترتب ، کصاحب الکفایة .

و فیه : أولاً : إن المحقق الخراسانی قد أنکر الترتب بین الأهمّ و المهم . و أما لو کانا متساویین - کما فی الواجب التخییری - فقد لا ینکره .

و ثانیاً : قد صوّر فی الکفایة الواجب التخییری بوجهٍ آخر - کما تقدّم - لأنّ القول بشوب الوجوب بجواز الترک یغایر القول باشتراط وجوب أحدهما بترک الآخر .

و الثالث : إنه فی حال ترک کلا الواجبین ، یتحقّق الشرط لهما معاً فیکونان فعلیین ، فیلزم الإتیان بکلیهما بعنوان الوجوب ، و هذا مناف لحقیقة الواجب التخییری . قاله المحقق الإیروانی (2) .

ص:322


1- 1) أجود التقریرات 1 / 268 .
2- 2) نهایة النهایة 1 / 200 .

و فیه - کما تقدّم سابقاً - إن المفروض کون وجوب کلٍّ منهما مشروطاً بترک الآخر ، فلا یلزم من ترکهما معاً کون کلیهما مطلوباً .

و الرابع : إنه فی صورة ترک کلیهما یلزم تعدّد العقاب ، و هو خلاف الضرورة .

و فیه : إنه إشکال مبنائی ، لأنّ تعدّد العقاب إنما هو فی تعدّد الواجب المنتهی إلی تعدّد الغرض ، و لیس الأمر فی الواجب التخییری کذلک .

الخامس : إن لازم هذا القول أن لا یتحقق الامتثال بالإتیان بکلا الفردین ، مع الیقین بحصول الامتثال بذلک .

و هذا هو الإشکال الصحیح .

و السادس : إن هذا الوجه لا تساعده ظواهر الأدلّة فی مقام الإثبات ، فقد جاءت الأفراد معطوفةً ب« أو » لا مشروطاً بعضها بترک البعض الآخر . و القول بضرورة حمل الأدلّة علی هذا المعنی موقوف علی سقوط جمیع الوجوه . و هذا الإشکال الإثباتی وارد کذلک علی هذا الوجه .

الطریق الرّابع
اشارة

إنّ الواجب التخییری ما کان وجوبه مشوباً بجواز الترک إلی بدلٍ . ذهب إلیه المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه (1) .

إن قیل : فما الفرق بین هذا الطریق و طریق صاحب الکفایة ؟

قلنا : إنّ المحقق الخراسانی قد اختار ذلک علی أساس قوله بتباین الأغراض ، أمّا المحقق الأصفهانی فقد ذهب إلی ما ذکر سواء کانت متباینة أو متسانخة ، فالاختلاف بینهما فی منشأ الجعل ، کما بینهما اختلاف فی التخییر کما

ص:323


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 271 .

سیظهر .

و توضیح هذا الطریق :

أوّلاً : إنه یمکن أن یکون الغرض فی کلّ من العتق و الإطعام و الصّوم من سنخ واحدٍ ، و یکون لزومیّاً ، فالمقتضی لکونه لزومیّاً موجود - و إلّا لما کان هناک وجوب - إلّا أنّ مصلحة الإرفاق و التسهیل علی المکلّفین قد زاحمت هذا الغرض اللّزومی فی حدّ الجمع بین الأُمور لا فی حدّ جمیع الأُمور ، و کان مقتضی الجمع أن لا یجب الإتیان بالجمیع کما لا یجوز ترک الجمیع ... و هذا معنی کون وجوب کلٍّ من الأُمور مشوباً بجواز ترکه إلی البدل . و قد لا یکون الغرض قابلاً للإرفاق فلا یقع التزاحم بین مصلحة التسهیل و مصلحة الأُمور ، فیجب الجمیع کما فی کفارة الجمع ، خلافاً للمحقق الخراسانی القائل بعدم إمکان تحقق الغرضین أو الأغراض فی الخارج ، لکونها متباینة .

و ثانیاً : إنّ الأغراض قد یکون لها وحدة نوعیّة ، کما هو الحال بین الإطعام و العتق ، فإن الغرض الجامع بینهما هو الإحسان ، و قد تکون متباینة کما هو الحال بین العتق و الصّوم ... خلافاً للمحقّق الخراسانی القائل بالتقابل بین الأغراض دائماً .

و ثالثاً : إنه یظهر مما تقدّم عدم توجّه الإشکال الوارد علی المحقق الخراسانی ، من أن لازم کلامه أن لا یکون المکلّف ممتثلاً لو جمع بین الأفراد مع أنه ممتثل یقیناً ، لأنّ المحقق الأصفهانی لم یؤسّس طریقه علی التقابل بین الأغراض ، بل ذهب إلی إمکان تحقّقها ، لأنّ المزاحم لیس إلّا مصلحة التسهیل ، فکان المکلّف مرخّصاً فی ترک الغرضین ، لا ممنوعاً من الجمع بینهما .

ص:324

الإشکالات علی هذا الطریق و النظر فیها

هذا ، و قد أورد علی هذا الطریق بوجوه کلّها مندفعة :

الأول : إنّ الوجوب المشوب بجواز الترک لا یعقل إلّا بنحو الواجب المشروط ، وعلیه ، فلو ترک کلا الفردین فقد تحقق الشرط لها ، فیجب الجمع بینهما ، و هو خلف فرض الواجب التخییری ، قاله المحقق الإیروانی .

و فیه : إنّ هذا الإشکال لا یرد علی صاحب الکفایة ، لقوله بالتقابل بین الأغراض کما تقدم ، و لا یرد أیضاً علی طریق الأصفهانی - و إن کان لا یری التقابل المذکور - لأن المفروض وقوع التزاحم بین الأغراض و بین مصلحة التسهیل ، و مع فرض التزاحم ، لا یبقی الفردان أو الأفراد علی الوجوب ، و الجمع موقوف علی وجوبها کما هو واضح ، فیکون الواجب واحداً من الفردین أو الأفراد فقط ، فأین الجمع ؟

الثانی : إنه فی حال ترک کلا الفردین یلزم تعدّد العقاب .

و فیه : إنه قد عرفت أنّ الباقی بعد التزاحم هو أحد الغرضین أو الأغراض ، فلو ترک الکلّ فات الغرض الملزم الواحد ، فلا یُستحق إلّا عقاب واحد .

و الثالث : إن القول بوجود واجبین یجوز ترک أحدهما إلی بدل ، موقوف علی تعدّد الغرض ، لکنّ الکاشف عن تعدده هو تعدّد الوجوب ، و الحال أنّ الخطاب الشرعی فی الواجب التخییری جاء بکلمة « أو » الدالّة علی کون الواجب هو الجامع الانتزاعی ، و هذا یکشف عن غرض واحدٍ مترتب علی هذا الجامع ، أی : هذه الأُمور ، لا علی کلّ واحد واحد .

و قد أجاب شیخنا - فی الدورتین - عن هذا الاشکال : بأنه لیس المقصود هو الکشف عن الغرض حتی یقال : ما هو الکاشف کذلک ؟ بل المقصود تصویر

ص:325

الوجوب التخییری و حلّ مشکلته فی مقام الثبوت ، و حاصل ذلک : إنّه لیس الحامل للغرض هو الأحد المصداقی ، لعدم معقولیته ، و لا المفهومی ، لأنّه جامع انتزاعی و لیس له وجود فی الخارج ، بل إنّا نکشف من مذاق الشارع و أدلّة الأحکام أن یکون لکلّ من العتق و الصّوم و الإطعام ملاک ، لکن مصلحة التسهیل توجب أن لا یکون المکلّف مأموراً بتحصیل جمیعها ، إلّا المفطر عمداً فلا یقع مورد الإرفاق و التسهیل ... إذن ، الکاشف عن الغرض موجود بهذه الصّورة .

و الرابع : إن هذه المزاحمة إما أن تصل إلی حدّ اللّزوم ، فلا یجب شیء من الخصال ، و إمّا لا ، فلا تزاحم .

و فیه : إن هذه المزاحمة لزومیّة ، لکنّها بین مصلحة التسهیل و تحصیل جمیع الأغراض ، کلّ واحدٍ واحدٍ .

و الخامس : إن سقوط التکلیف یکون إمّا بالامتثال و إمّا العجز و إمّا النسخ ، و الإتیان بالفرد الآخر من الواجبین لیس بواحدٍ من هذه الأُمور .

و فیه : إنّ ما ذکر یتمّ فیما لا یجوز ترکه أصلاً و هو التعیینی ، لا فی الواجبین اللذین یجوز ترک أحدهما إلی بدل .

و یبقی الإشکال الإثباتی ، فقد قال فی الدورة اللّاحقة : إنّ الإشکال الوارد علی هذا الطریق هو الإشکال الإثباتی ، فإن ظواهر الأدلة هو مطلوبیّة « الأحد » لکنّ مقتضی هذا الطریق هو عدم التردید ، فهو یری وجوب کلٍّ من الأفراد .

أمّا فی الدورة السابقة ، فقد أجاب بأنّ المحقق الأصفهانی فی مقام التصویر ثبوتاً و لا یدّعی مطابقة الأدلّة لما ذهب إلیه ، و لعلّ ذلک هو الظاهر من قوله :

« یمکن فرض » أی أنه غیر ملتزم لأن یکون التصویر متطابقاً مع مقام الإثبات ...

فلو انسدّت الطرق کلّها و بقی هذا ، فلا مناص من رفع الید عن الظواهر بحیث

ص:326

تناسب مقام الثبوت .

الطریق الخامس

قال المحقق العراقی (1) : إذا تعلّق الأمر بأحد الشیئین أو الأشیاء علی وجه التخییر ، فالمرجع فیه - کما عرفت - إلی وجوب کلّ واحدٍ لکن بإیجابٍ ناقص ، بنحو لا یقتضی إلّا المنع عن بعض أنحاء تروکه و هو الترک فی حال ترک البقیة ، من غیر فرقٍ فی ذلک بین أن یکون هناک غرض واحد یقوم به کلّ واحد فرد - و لو بملاحظة ما هو القدر الجامع - أو أغراض متعددة ، بحیث کان کلّ واحد تحت غرضٍ مستقل و تکلیف مستقل ، و کان التخییر من جهة عدم إمکان الجمع بین الغرضین ، إما للتضادّ بین متعلّقهما کما فی المتزاحمین أو بین نفس الغرضین فی عالم الوجود ، بحیث لا یبقی مع استیفاء أحد الغرضین فی الخارج مجال لاستیفاء الآخر ، أو فی مرحلة أصل الاتّصاف ، بحیث مع تحقق أحد الموجودات و اتّصافه بالمصلحة لا تتصف البقیّة بالغرض و المصلحة و الحاصل : إن الواجب التخییری ما یکون وجوبه وجوباً ناقصاً .

قال الأُستاذ : لا فرق جوهری بین هذا الطریق و طریق المحقّق الأصفهانی ، لأن الوجوب الناقص - فی الحقیقة - هو الوجوب المشوب بجواز الترک .

نعم ، بینهما فرق من جهة أنه علی القول بالوجوبین المشوبین بجواز الترک ، یکون العقاب المترتب فی حال ترک کلّ الأطراف عقاباً واحداً ، أمّا علی قول المحقق العراقی ، فقد صرّح بلزوم تعدّد العقاب فی بعض الصّور ، فهو یقول بأنه لو ترک الجمیع و کان الغرض منها غرضاً واحداً یقوم بالجامع بینها ، کان العقاب واحداً لا متعدّداً ، و کذا لو کان لکلٍّ غرضٌ ، لکن الغرضین کانا بحیث أنه مع تحقّق

ص:327


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 391 - 392 .

أحد الغرضین أو الأغراض ینتفی الغرض من غیره . أمّا لو کان لکلٍّ من الأطراف غرض مستقل تام فترک جمیع الأطراف ، فالعقاب متعدّد .

و بلحاظ هذا الفرق یصلح لأن یکون طریقاً آخر .

و یرد علیه أنّ تعدّد العقاب خلاف الضرورة الفقهیّة .

الطریق السادس
اشارة

قال المحقق الإیروانی - بعد المناقشة لکلام الکفایة و الطرق المذکورة فیها - ما نصّه : فلا محیص عن الالتزام بأن الواجب هو الواحد الجامع ، و أنّ التخییر فی جمیع الواجبات التخییریة عقلیّ لا شرعی ، أو الالتزام بأن الواجب أحدهما لا بعینه مصداقاً ، مع عدم القول بتبعیّة الأحکام للمصالح فی المتعلّق ، و الالتزام بکفایة المصلحة فی الحکم ، و ذلک لأن توجّه الحکم إلی أحدهما لا بعینه معقول ، کتوجّه التملیک إلی الواحد المردّد ، لکن لا یعقل قیام المصالح التی تکون فی الأغراض المتّصلة بالواحد المردّد ، فلا بدّ أن تکون المصلحة إمّا فی واحدٍ معین أو فی الجمیع ، فإن کان الأوّل ، تعیّن ذلک الواحد للوجوب ، و إن کان الثانی ، وجب الجمیع عیناً (1) .

الإشکال علیه

و أورد علیه الأُستاذ بوجوه :

الأوّل : إن إرجاع موارد الوجوب التخییری فی الشریعة إلی التخییر العقلی بعید کلّ البعد عن ظواهر الأدلّة فی مقام الإثبات ، بأن یکون المراد منها کون متعلّق التکلیف هو القدر المشترک ، ثم العقل یحکم بکون المکلف مخیّراً فیما بین الأفراد ، کالأمر بالصلاة و حکم العقل للمکلّف بالصّلاة فی الدار أو فی المسجد أو

ص:328


1- 1) نهایة النهایة 1 / 201 .

فی المدرسة ، و أنّ واحدةً منها محقّق للامتثال ... وعلیه ، فتکون الأدلّة فی الوجوب التخییری إرشاداً إلی حکم العقل .

و هذا ما لا یمکن المساعدة علیه .

علی أنّه یستلزم القول بکون العقل حاکماً ، و قد تقرّر أنه مدرک فحسب و لا حکم له .

الثانی : إنه یستلزم القول بوجود الواحد المردّد خارجاً . و قد تقرّر أنه محال .

و الثالث : إنّ الالتزام بکفایة المصلحة فی الحکم الوضعی لا إشکال فیه ، بأن تقوم المصلحة فی حکم الشارع بصحّة البیع أو لزومه ، أمّا فی الحکم التکلیفی - کما فیما نحن فیه - فغیر معقول ، لأن معنی قیام المصلحة فی جعل الوجوب حصولها بنفس جعله ، و کذا فی جعل الحرمة ، و الحال أن الغرض فی التکلیفیّات لا یحصل إلّا بالإتیان بالمتعلّق فی الواجب و ترکه فی الحرام .

الطریق السابع

قال السید البروجردی : و أمّا أصحابنا الإمامیّة ، فلما توجّهوا إلی الفرق بین الوجوب التعیینی و التخییری ، و أن الوجوب التعیینی هو تحتّم المولی عبده بإتیان شیء ، و الوجوب التخییری هو تحتّم المولی عبده بإتیان شیئین أو الأشیاء علی سبیل التردید النفس الأمری ، زادوا علی تعریف الواجب التخییری بأنه هو الذی یستحق تارکه لا إلی بدلٍ العقاب .

فالوجوب التخییری حقیقة هو : إیجاب المولی عبده نحو شیئین أو أشیاء علی سبیل التردید النفس الأمری و تعلّقه بالأطراف علی وجه التردید الواقعی ، کتردّد العلم الإجمالی بین الأطراف .

و لیعلم أن تردید الوجوب هاهنا تردید واقعی کما أشرنا إلیه ، و التردید فی

ص:329

المعلوم بالعلم الإجمالی ظاهری ، و إن کان فی نفس العلم واقعیاً أیضاً .

و لا یخفی المراد بقولهم « لا إلی بدلٍ » فی تعریف الوجوب التخییری ، لیس هو البدل فی قبال الأصل کما هو المصطلح فی بعض المقامات الأُخر ، بل معناه هو الفرد التخییری کما هو واضح .

فهذا نظره کما فی تقریر بحثه (1) .

و من هنا نسب إلیه الأُستاذ القول بأن حقیقة الوجوب التخییری عبارة عن تعلّق التکلیف بالمردد ، فی قبال التعیینی حیث یتعلّق بالمعیّن .

و إذا کان هذا رأیه ، فلا یمکن المساعدة علیه أصلاً .

الطریق الثامن
اشارة

قال فی ( المحاضرات ) (2) : الذی ینبغی أن یقال فی هذه المسألة - تحفّظاً علی ظواهر الأدلّة - هو : أن الواجب أحد الفعلین أو الأفعال لا بعینه ، و تطبیقه علی کلٍّ منهما فی الخارج بید المکلّف ، کما هو الحال فی موارد الواجبات التعیینیّة ، غایة الأمر أن متعلّق الوجوب فی الواجبات التعیینیة هو الطبیعة المتأصّلة و الجامع الحقیقی ، و فی الواجبات التخییریة هو الطبیعة المنتزعة و الجامع العنوانی .

( قال ) و لا مانع من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعی ، بل إنه تتعلّق به الصفات الحقیقیة کالعلم - کما فی مورد العلم الإجمالی - ، فضلاً عن الشرعی و هو أمر اعتباری ، فإنّه لا ریب فی تعلّقه بالجامع الاعتباری کتعلّقه بالجامع الذاتی کالإنسان ، فلا مانع من اعتبار الشارع ملکیّة احدی الدارین للمشتری إذا قال البائع :

بعت إحداهما ، بل ذلک واقع فی الشریعة کما فی باب الوصیّة .

ص:330


1- 1) الحجة الفقه 1 : 209 - 210 .
2- 2) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 222 .

إذن ، یکون متعلّق الأمر عنوان « الأحد » ، و مجرّد عدم الواقعیة له لا یمنع من تعلّق الأمر به ، إذ المفروض تعلّقه بالطبیعی الجامع ، و لا فرق بین الجامع المتأصّل و الانتزاعی ... و هذا هو مقتضی ظواهر الأدلّة من جهة اشتمالها علی « أو » ، و حینئذٍ یکون الغرض قائماً بهذا العنوان ، و هو یتحقق بالإتیان بأیٍّ من الفردین أو الأفراد ، بلا دخل خصوصیّة شیء منها ... فالمراد من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعی - لیس تعلّقه به بما هو موجود فی النفس ، و لا یتعدی عن أُفق النفس إلی الخارج ، ضرورة أنه غیر قابل لأن یتعلّق به الأمر و یقوم به الغرض - إنما هو بمعنی تعلّق الأمر به بما هو منطبق علی کلّ واحدٍ من الفعلین أو الأفعال فی الخارج ، و یکون تطبیقه علی الخارج بید المکلّف .

و من هنا یظهر أنه لا فرق بین الوجوب التعیینی و التخییری إلّا فی نقطةٍ واحدة ، و هی کون المتعلّق فی الأول الطبیعة المتأصّلة کالصّلاة مثلاً ، و فی الثانی الطبیعة المنتزعة کعنوان أحدهما .

و هذا ملخّص هذا الطریق .

مناقشة الأُستاذ

إن العمدة فی هذا المسلک کون متعلّق الأمر هو الجامع الانتزاعی ، لکن لا بما هو موجود ذهنی ، بل بما هو ملحوظ مرآة لما فی الخارج ، فنقول :

إذا کان المتعلّق کذلک ، فما معنی قوله : « مرادنا من تعلّق الأمر به بما هو منطبق علی کلّ واحدٍ من الفعلین أو الأفعال فی الخارج و یکون تطبیقه علی ما فی الخارج بید المکلّف » ؟

إن الجامع الانتزاعی موطنه النفس و لیس له خارجیّة - بل ما فی الخارج هو الجامع الحقیقی - فإن أراد سرایة الأمر بتوسّط هذا الجامع إلی الخارج ، فهذا أیضاً

ص:331

محال ، لأنّ الخارج لیس بظرفٍ لثبوت الأمر و تعلّقه بل هو ظرف سقوطه ، و بعبارة أُخری ، فإن الجامع قبل التطبیق أمر ذهنی لا خارجیة له ، و أمّا بعده ، فإنّ الخارج ظرف سقوط الأمر لا تحقّقه .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن هذا الجامع ینتزعه العقل ، فإن کان مصداق هذا الأحد المفهومی فی الخارج هو الأحد المردّد ، فهو یعترف بأن الأحد المردّد لا یتعلّق به التکلیف و لا یقوم به الغرض ، فلا بدّ و أن یکون المصداق و ما بإزائه فی الخارج هو المعیّن ، غیر أن هذا المکلّف یطبّقه علی هذا الفرد ، و المکلّف الآخر یطبّقه علی فردٍ آخر ، فإن کان الغرض قائماً بالقدر المشترک بین الأفراد أصبح التخییر عقلیاً ، و إن کان قائماً بفردٍ معیّن خرج عن التخییریّة و کان الواجب تعیینیّاً ، و إن کان لکلّ واحدٍ واحدٍ منها غرض غیر أن مجموع الأغراض تزاحمها مصلحة التسهیل ، عاد المطلب إلی طریق المحقق الأصفهانی ... و قد تقدّم سلامة طریقه ثبوتاً عن کلّ ما أُورد علیه ، و مع التنزّل عنه ، فإن طریق السید الخوئی یکون أحسن الطرق و المسالک فی الباب .

و تلخّص : إن هذا الطریق و إن کان أحسن الوجوه و أقربها إلی النصوص ، لکنّ الإشکال فیه من جهة الغرض باق ، لأنّ العنوان الانتزاعی لا یحمل الغرض بل المعیّن هو الحامل له ، لکن المفروض أنّ الواجب هنا غیر معیّن . لأنه الأحد الخارجی ، و الأحد المردد خارجاً محال ... فلا مناص من أن یکون الواجب کلّ من الأفراد بخصوصه ، و یکون فی کلّ فردٍ فردٍ مصلحة ، فیقع التزاحم بین تلک الأغراض و المصالح و مصلحة التسهیل ، و هو مبنی المحقق الأصفهانی .

لکن تقدّم أن فی مبنی المحقق الأصفهانی اشکالین :

ص:332

أولاً : إنه غیر متطابق مع الأدلّة فی مقام الإثبات .

و ثانیاً : إنّ الوجوب المشوب بجواز الترک مرجعه إلی الوجوب المشروط ، إلّا أن یرفع بالتحقیق الأتی إن شاء اللّٰه .

تحقیق الأُستاذ

و اختار الشیخ الأُستاذ دام ظلّه الطریق الأخیر فی الدورة السابقة ، و ذکر أنه کان مختاره فی الدورة الأُولی - فی النجف الأشرف ... و کان حاصل ما أفاده : أنّه إذا کان متعلّق التکلیف هو الجامع الانتزاعی ، فلا بدّ و أن یکون هو الحامل للغرض ، و أن یصحّ البعث إلیه ... فهنا ثلاثة مراحل .

أمّا أن الجامع الانتزاعی هو المتعلّق ، فهو مقتضی ظواهر النصوص ، کما أنه سالمٌ من محذور تعدّد العقاب . و أمّا البعث و التحریک نحوه ، فهو بلحاظ تطبیقه علی الفرد ، و هو بید المکلّف ، فلا مشکلة فی هذه المرحلة . و تبقی مرحلة قیام الغرض ، لأنّ الغرض یکون قائماً بما یتعلّق به التکلیف ، و إذا کان المتعلّق هو الجامع الانتزاعی فهل یصلح لأن یقوم به الغرض ؟

قال دام ظلّه : إنّ بیان ( المحاضرات ) غیر وافٍ لحلّ المشکلة فی هذه المرحلة . فلا بدّ من التحقیق فی ملاک ما یقال من ضرورة قیام الغرض بنفس متعلّق التکلیف ، فأفاد - فی کلتا الدورتین - بأن صور المسألة مختلفة :

فقد : یتّحد المتعلّق و الحامل للغرض کما فی الأمر بالصّلاة ، فإنّها هی متعلّق التکلیف و هی حاملة الغرض .

و قد یقع التخلّف ، بأن یکون العنوان متعلّق التکلیف و المعنون هو الحامل للغرض ، کما فی الأمر بإکرام من المسجد ، حیث یکون الغرض قائماً بالفرد المعیّن خارجاً .

ص:333

و قد یکون المتعلّق هو الملازم لعنوانٍ کان الغرض مترتباً علیه ، کما فی التکلیف الناسی ، بناءً علی مسلک المحقق الخراسانی ، إذ لا یعقل توجّه التکلیف إلی « الناسی » لأنه بذلک ینقلب ذاکراً ، بل یتوجّه إلی عنوان « کلاه قرمز » - کما مثّل هو فی الدرس - و هذا العنوان ملازم للناسی و هو موضوع الغرض .

فعلیه ، لا یلزم أن یکون حامل الغرض هو المتعلّق ، و لا برهان علی ذلک ، بل اللّازم أن یکون تعلّق التکلیف بالعنوان منتهیاً إلی التحریک نحو الموضوع الحامل للغرض .

و ما نحن فیه کذلک ، فإنّ التکلیف قد تعلّق بالجامع الانتزاعی ، و موطنه الذهن ، فلیس حاملاً للغرض ، إلّا أن تعلّقه به موجب للتحرک نحو المصداق الخارجی ، و یکون المصداق هو الحامل له .

و بهذا البیان یرتفع الإشکال عن طریق المحقق الخوئی ، و ما ذکره من أن تعلّق التکلیف بالجامع الانتزاعی یکشف عن کون الغرض قائماً به ، فلیس برافعٍ له .

الرأی النهائی

و بعد أن رفع الأُستاذ الإشکال عن مسلک السید الخوئی ، و الذی کان قد اختاره سابقاً ، لکونه الأقرب إلی ظواهر النصوص ، ذکر أنّ مقتضی الدقّة فی النصوص شیء آخر غیر المسلک المزبور ... فأورد بعض النصوص ، و استظهر منها کون المجعول فی موارد الوجوب التخییری - الذی هو مفاد « أو » - هو « التخییر » :

* محمد بن أحمد بن یحیی ، عن أحمد بن محمد ، عن علی بن الحکم ، عن أبی حمزة : عن أبی جعفر علیه السلام قال : سمعته یقول : « إنّ اللّٰه فوّض إلی

ص:334

الناس فی کفارة الیمین ، کما فوّض إلی الإمام فی المحارب أن یصنع ما یشاء .

و قال : کلّ شیء فی القرآن « أو » فصاحبه فیه بالخیار » (1) .

فالخبر ظاهر فی أنّ المجعول فی هذه الموارد هو « تخییر المکلّف » و« تفویض الأمر إلیه » و لا فرق بین لسانه و لسان جعل الخیار فی أبواب الخیارات ، کقوله علیه السلام : « البیّعان بالخیار ما لم یفترقا » (2) و قوله : « صاحب الحیوان بالخیار بثلاثة أیّام » (3) .

فإن قیل : هذا ما یرجع إلیه الوجوب التخییری .

نقول : حمل المبدإ علی النتیجة خلاف الظاهر ، بل مفاد الخبر جعل المکلّف مختاراً کما جعل الإمام علیه السلام مختاراً فی المحارب ، و لسانهما واحد ، و ظاهرهما واحد ... فیکون الحاصل : کما أن البیّعین بالخیار بین الفسخ و عدمه ، کذلک من علیه الکفّارة بالخیار بین العتق و الصیام و الإطعام ، نعم الفرق هو أنّ المجعول هناک هو الخیار الحقّی ، و المجعول هنا هو الخیار الحکمی ، و حکم الأول أنه قابل للإسقاط ، و حکم الثانی أنه مثل الخیار فی الهبة غیر قابلٍ للإسقاط .

و الظاهر تمامیّة سند الروایة ، و« أبو حمزة » هو « الثمالی » .

و عن أبی عبد الله علیه السلام : « فی کفّارة الیمین ، یطعم عشرة مساکین ، لکلّ مسکین مدّ من حنطة أو مدّ من دقیق و حفنة أو کسوتهم لکلّ انسان ثوبان أو عتق رقبة ، و هو فی ذلک بالخیار أی ذلک شاء صنع » (4) .

ص:335


1- 1) وسائل الشیعة 22 / 377 الباب 12 من أبواب الکفارات .
2- 2) وسائل الشیعة 18 / 6 الباب الأول من أبواب الخیار .
3- 3) وسائل الشیعة 18 / 5 الباب 3 من أبواب الخیار .
4- 4) وسائل الشیعة 22 / 375 ، الباب 12 من أبواب الکفارات .

فالمجعول الشرعی کونه بالخیار .

و السند صحیح بلا کلام .

قال الأُستاذ : إن هذا هو الظاهر من الأخبار ، و إذ لا مانع ثبوتاً و إثباتاً من الأخذ به ، فمقتضی الصناعة العلمیّة هو الأخذ بالظهور .

و یبقی الکلام فی ضرورة تصویر الجامع بین الأفراد ... .

و لنرجع إلی الروایات فی ذلک ، فإنّا نری أنّ التخییر فی الوجوب التخییری شرعی - و لیس بعقلی - و قد وجدنا أن مقتضی الظواهر هو « الکفارة » و« الفدیة » و هذا هو الواجب لا « أحد الأُمور » :

و عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : « سألته عن المحرم یصید الصید بجهالةٍ . قال : علیه کفّارة » .

فالمجعول علی ذمة المکلّف هو « الکفارة » ... فکان ما یکفر به الذنب أن « یصوم ستین یوماً » أو « یطعم ستین مسکیناً » أو « یعتق رقبةً » و کلّ واحدٍ من هذه الأُمور مصداق للجامع و هو « الکفارة » ، و قد فوّض الأمر إلی المکلّف فی التطبیق و العمل ، کما فوّض إلی الإمام علیه السلام فی المحارب إذ قال تعالی «إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذینَ یُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ ... » .

ثم قال الراوی :

قلت : إنه أصابه خطأ .

قال : و أیّ شیء الخطأ عندک ؟

قلت : ترمی هذه النخلة فتصیب نخلةً أُخری .

قال : نعم ، هذا الخطأ وعلیه الکفارة » .

فکان ما « علیه » هو « الکفارة » .

ص:336

قلت : إنه أخذ طائراً متعمّداً فذبحه و هو محرم .

قال : علیه الکفارة .

قلت : جعلت فداک ، أ لست قلت إن الخطأ و الجهالة و العمد لیسوا بسواء ... » (1) .

و سندها صحیح .

و عن أبی عبد الله علیه السلام : مرّ رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم علی کعب بن عجرة الأنصاری و القمّل یتناثر من رأسه . فقال : أ تؤذیک هوامک ؟ فقال :

نعم . قال : فأنزلت هذه الآیة «فَمَنْ کٰانَ مِنْکُمْ مَریضًا أَوْ بِهِ أَذًی مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْیَةٌ » .

فالواجب هو عنوان « الفدیة » «مِنْ صِیٰامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُکٍ » و« من » هذه بیانیة .

( قال علیه السلام ) : « فأمره رسول اللّٰه بحلق رأسه و جعل علیه الصیام ثلاثة أیام و الصدقة علی ستة مساکین ، لکلّ مسکین مدّان ، و النسک شاة .

( قال علیه السلام ) : « و کلّ شیء فی القرآن « أو » فصاحبه بالخیار یختار ما شاء » (2) .

و عن أبی عبد الله علیه السلام :

« فی رجلٍ أتی امرأته و هی صائمة و هو صائم . قال : إن کان استکرهها فعلیه کفّارتان ، و إن کانت مطاوعته فعلیه کفارة و علیها کفارة » (3) .

و عن أبی عبد الله علیه السلام : « فی الرجل یلاعب أهله أو جاریته و هو فی قضاء شهر رمضان ، فیسبقه الماء فینزل . قال : علیه من الکفارة مثل ما علی الذی

ص:337


1- 1) وسائل الشیعة 13 / 69 الباب 31 من أبواب کفّارات الصید .
2- 2) وسائل الشیعة 13 / 166 الباب 14 من أبواب بقیة کفّارات الإحرام .
3- 3) وسائل الشیعة 28 / 377 الباب 12 من أبواب بقیّة الحدود و التعزیرات .

یجامع فی رمضان » (1) .

قال الأُستاذ :

و لو تنزلنا عن هذا ، فالمختار من بین الوجوه المتقدمة هو مسلک السید الخوئی .

هذا تمام الکلام فی الواجب التخییری بین المتباینین .

التخییر بین الأقل و الأکثر
اشارة

و قد وقع الکلام بین الأعلام فی جواز التخییر بین الأقل و الأکثر ، و اختلفت کلماتهم فیه ، بین قائل : بالجواز مطلقاً ، و قائل بالاستحالة مطلقاً ، و مفصّل بین ما کان تدریجیّ الحصول فلا یجوز کالتسبیحات ، و ما کان دفعیّ الحصول فیجوز ، کدوران الأمر بین رسم الخط القصیر أو الطویل ، علی أن یوجد الخط دفعةً .

و منشأ الخلاف هو :

أوّلاً : إنه إن وجب الأقل ، فإنّه دائماً موجود فی ضمن الأکثر ، فإذا تحقق حصل الغرض من الأمر ، و یکون الأکثر حینئذٍ بلا غرض ، فلما ذا یکون واجباً ؟

و ثانیاً : إن معنی « الوجوب » و حقیقته : ما لا یجوز ترکه - اللّهم إلّا فی الوجوب التخییری ، حیث یجوز ترک أحد العدلین مثلاً بالإتیان بالعدل الآخر - و لکنّ التخییر بین الأقلّ و الأکثر یستلزم القول بجواز ترک الواجب ، لأنّه مع الإتیان بالأقل یسقط الأکثر عن الوجوب .

و لا یخفی ورود هذین المحذورین سواء فی مورد التدریجی و الدفعی ،

ص:338


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 130 الباب 56 من أبواب ما یمسک عنه الصائم .

فلا وجه لتخصیص المحقق الأصفهانی (1) أحدهما بالتدریجی و الآخر بالدفعی .

رأی المحقق الخراسانی

و ذهب المحقق الخراسانی إلی الجواز مطلقاً ، و حاصل کلامه (2) :

تارةً : یکون الغرض قائماً بالأقل بحدّه ، و بالأکثر بحدّه ، بحیث یکون للحدّ دخلٌ فی الغرض . فهنا لا محیص عن القول بالتخییر .

و أُخری : یکون الغرض قائماً بذات الأقل بلا دخل للحدّ فیه ، و کذا فی الأکثر . فهنا لا یعقل التخییر .

ففی التسبیحات - مثلاً - إن کان الغرض الواحد قائماً بالأقل و بالأکثر بحدّهما ، کانت التسبیحة الواحدة حاملةً للغرض کالتسبیحات الثلاث ، فلو أوجب الأقلّ دون الأکثر لزم الترجیح بلا مرجّح ، فلا محالة یکون المکلّف مخیّراً - بحکم العقل - بین الإتیان بالأقل أو الأکثر ، لأنّ المفروض کون الواجب هو الجامع بینهما ، و کلّ منهما مصداق له بلا فرق .

أمّا لو تعدّد الغرض ، و کان کلٌّ منهما حاملاً لغرضٍ غیر الغرض من الآخر و لا یمکن الجمع بینهما ، کان التخییر شرعیّاً ، إذ یکون کلٌّ منهما واجباً مع جواز ترکه إلی البدل ، کما تقدّم فی المتباینین .

فإن قلت : هذا إنما یتمّ فی الدفعی ، لکون کلٍّ من الأقل و الأکثر طرفاً فیتحقق التخییر ، و أمّا مع الحصول بالتدریج ، بأن یوجد الأقل و یصیر کثیراً حتی یصل إلی الأکثر فلا ، لحصول الامتثال بالأقل .

فأجاب : بعدم الفرق ، لإمکان ترتب الغرض علی التسبیحة بقید الوحدة

ص:339


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 273 .
2- 2) کفایة الأُصول : 142 .

و علیها بقید الثلاثة ، و إذا کان کلّ منهما حاملاً للغرض ، کان تعیین الأقل منهما ترجیحاً بلا مرجّح .

قال الأُستاذ :

و محصّل کلامه هو : إن جمیع موارد التخییر بین الأقل و الأکثر - حیث یکون کلّ منهما مقیّداً بحدّه - ترجع إلی التخییر بین المتباینین ، من قبیل التباین بین البشرطلا مع البشرط شیء ... و علی هذا الأساس قال بالتخییر .

لکنّ هذا خلاف الفرض فی مسألة دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، إذ یکون الأقل موجوداً فی ضمن الأکثر ، فلیس المراد من الأقل هو البشرطلا عن الأکثر ...

حتی یرجع الحال إلی ما ذکره .

فما أفاده لیس حلّاً للإشکال و رافعاً للمحذور المزبور سابقاً .

المختار

فالمختار فی محلّ الکلام هو القول الثانی ، أی استحالة التخییر .

و العجب من السیّد الاستاذ أنه بعد ذکر محصَّل ما جاء فی الکفایة قال ما نصه : « و به یصحّح التخییر بین الأقل و الأکثر و إنْ کانت النتیجة إرجاعه إلی التخییر بین المتباینین ، لإرجاعه إلی التخییر بین المأخوذ بشرط لا و المأخوذ بشرط شیء .

فهو تصحیح للتخییر بین الأقل و الاکثر بتخریجه علی التخییر بین المتباینین ، لا التزام بالتخییر بین الأقل و الاکثر » (1) فتدبر .

تفصیل المحقق الإیروانی

و قال المحقق الإیروانی (2) : بأن محلّ الإشکال هو ما إذا کان نفس الفعل

ص:340


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 496 .
2- 2) نهایة النهایة 1 / 201.

المتعلّق للتکلیف مردّداً بین الأقل و الأکثر ، و کان للأقل فی ضمن الأکثر وجود مستقل ، کرسم خطٍّ طویل تدریجاً ، و إن عدّ المجموع بعد حصول الأکثر فعلاً واحداً ذا وجود واحد .

فیخرج بالقید الأوّل : ما إذا لم یکن الفعل المتعلّق للتکلیف مردداً بین الأقل و الأکثر ، بل کان متعلّق ذلک الفعل مردّداً بینهما ، کما إذا أمر تخییراً بالإتیان بعصا طولها عشرة أذرع ، أو بعصا طولها خمسة أذرع ، أو بإکرام عشرة دفعةً واحدة ، أو إکرام خمسةٍ کذلک ، فإن ذلک من التخییر بین المتباینین ، لتباین الفعلین المتعلّق بهما التکلیف .

و یخرج بالقید الثانی : ما إذا لم یکن للأقل فی ضمن الأکثر وجود مستقل ، کما إذا أمر تخییراً بالمسح بالکف أو بإصبع واحدة ، فإنه أیضاً من التخییر بین المتباینین .

و من ذلک یظهر عدم الفرق بین الکمّ المنفصل و الکمّ المتصل ، فلو أمر تخییراً بین التسبیحة الواحدة و التسبیحات الثلاث ، أو أمر تخییراً بین المشی فرسخاً واحداً أو فراسخ عدیدة ، أو القراءة و التکلّم و سائر الأُمور التدریجیّة ، کان کلّ ذلک من محلّ الکلام .

ثم إنه أورد علی ( الکفایة ) بإشکالین : ( أحدهما ) : ما تقدّم من أن ما ذکره خارج عن محلّ الکلام ، و أنّ لازم کلامه عدم معقولیّة التخییر بین الأقل و الأکثر .

و( الثانی ) هو : إن ما ذکره من التخییر بین الأقل بشرط لا و الأکثر غیر معقولٍ أیضاً ، و إن کان ذلک داخلاً فی المتباینین ، إذ التباین المذکور تباین عقلی لا خارجی ، و الإشکال لا یرتفع بالتباین الخارجی ، و لذا لا یسع المصنف الحکم بعدم وجوب الأکثر بعد الإتیان بالأقل ، لأن ذلک فی معنی إخراج الأکثر عن طرف التخییر ،

ص:341

و لا الحکم بوجوب الأکثر عیناً ، لأن ذلک فی معنی إخراج الأقل عن طرف التخییر ، و حکمه بالتخییر بین الإتیان بالزائد و عدمه فی معنی عدم وجوب الزائد و انحصار الوجوب بالأقل ، لعدم معقولیّة وجوب فعل شیء و ترکه علی سبیل التخییر .

إشکال الأُستاذ

و قد أورد الأُستاذ - فی کلتا الدورتین - علی هذه النظریّة ، بأن ذات الأقل موجود فی ضمن الأکثر فی الوجود الدفعی کذلک ، و المفروض أن الغرض مترتب علی الذات ، فیکون الأکثر زائداً عن الغرض ، لکنّ هذا یستلزم أن لا تکون ذات الأقل حاملةً للغرض إلّا مع الحدّ و کونه بشرط لا ، و حینئذٍ ینقلب إلی التخییر بین المتباینین ، و هو خلف الفرض کما تقدم فی الإشکال علی ( الکفایة ) .

إذن ، فمورد البحث هو ذات الأقل لا بحدّه ، و هو موجود فی ضمن الأکثر ، من دون فرقٍ بین الوجود الدفعی للأکثر أو التدریجی .

و أمّا إشکاله علی المحقق الخراسانی بأن هذه التباین عقلی لا خارجی .

ففیه : إنّ منشأ اعتبار الأقل بشرط لا مغایر خارجاً مع منشأ اعتبار البشرط شیء ، فکان التباین خارجیاً لا ذهنیّاً .

و هذا تمام الکلام فی الوجوب التخییری .

ص:342

الوجوب الکفائی

اشارة

ص:343

ص:344

و الفارق بینه و بین التخییری هو المتعلّق و الموضوع ، ففی التخییری یتردّد متعلّق التکلیف بین الصوم و الإطعام و العتق - مثلاً - أمّا فی الکفائی ، فإنه یتردّد موضوع التکلیف بین زید و عمرو و بکر ... .

فالتکلیف واحد ، لکن الموضوع متعدّد ، و استحقاق العقاب أو الثواب یکون للکلّ ، بخلاف الواجب التخییری حیث الثواب أو العقاب واحد .

و قد اختلفت کلمات الأعلام فی هذا المقام کذلک علی وجوه :

.الوجه الأوّل

اشارة

فقال المحقق الخراسانی (1) : و التحقیق أنه سنخ من الوجوب ، و له تعلّق بکلّ واحد ، بحیث لو أخلّ بامتثاله الکلّ لعوقبوا علی مخالفته جمیعاً ، و إن سقط عنهم لو أتی به بعضهم ، و ذلک قضیّة ما إذا کان هناک غرض واحد حصل بفعل واحدٍ صادر عن الکلّ أو البعض . کما أن الظاهر هو امتثال الجمیع له أتوا به دفعةً و استحقاقهم المثوبة ، و سقوط الغرض بفعل الکل ، کما هو قضیّة توارد العلل المتعدّدة علی معلول واحد .

و حاصل کلامه هو : أنّ حقیقة الوجوب الکفائی عبارة عن الوجوب المشوب بجواز الترک - کما فی التخییری ، غیر أنه هناک جواز الترک إلی بدلٍ فی

ص:345


1- 1) کفایة الأُصول : 143 .

الفعل ، و هنا جواز الترک إلی بدلٍ فی الموضوع - و قد ذکر وجهین لهذه الدعوی :

( أحدهما ) من جهة العلّة للحکم و هو الغرض ، إذ الغرض واحد و الفعل واحد و هو الحامل للغرض ، و حینئذٍ ، یستوی الحال بالنسبة إلی أفراد المکلّفین ، فکلّ من أتی به فقد حصل الغرض و تحقّق الامتثال .

فالحاصل : إنّ موضوع التکلیف هو کلّ الأفراد - لا جمیعهم ، لوحدة الغرض و الفعل ، و لا الأحد المفهومی المردّد منهم ، لأنه غیر حاملٍ للغرض ، و لا الأحد المردد المصداقی ، لأنه لا وجود له - لکن سنخ التکلیف هو أن الوجوب المتوجّه إلی کلّ واحدٍ مشوب بجواز الترک له فی حال قیام غیره به .

و لو أتی الجمیع بالفعل - کأن صلّوا جماعةً علی المیّت - کان الامتثال حاصلاً بفعل الکلّ ، من باب توارد العلل المتعددة علی المعلول الواحد .

و هذا هو ( الوجه الثانی ) .

الاختلاف بین المحقق الأصفهانی و صاحب الکفایة

ثم إنّ المحقق الأصفهانی (1) قد وافق صاحب ( الکفایة ) فی أصل الرأی ، إلّا أنه خالفه فی الوجه الثانی من الوجهین المذکورین ، لبطلان توارد العلل علی المعلول الواحد فی الصّلاة علی المیت و غیره من الواجبات الکفائیة القابلة للتعدّد ، فلو صلّی کلّ واحدٍ من المکلّفین علی المیت ، کانت صلاته ذات مصلحة ، فلم یتحقّق توارد العلل علی المعلول الواحد ، هذا بالنسبة إلی أصل المصلحة . و أمّا المصلحة اللّزومیّة فهی لیست إلّا واحدة ، تتحقّق بقیام أیّ واحدٍ من المکلّفین بالصّلاة علی المیّت ، فنسبتها إلی جمیع المکلّفین علی حدٍّ سواء ، و لذا یحصل الامتثال بفعل أیّ واحدٍ منهم ... فلا توارد للعلل ، لا فی أصل المصلحة

ص:346


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 277 .

و لا فی المصلحة اللزومیّة .

أمّا فی مثل دفن المیت و نحوه ممّا لا یقبل التعدّد ، فالأمر واضح ، إذ مع عدم تعدّد الفعل کیف یتحقّق توارد العلل علی المعلول الواحد ؟

إشکال الأُستاذ

و قد أورد علیه شیخنا بوجوه :

الأوّل : إنّ الوجوب الکفائی وجوب مشوب بجواز الترک فی طرف الموضوع ، أی المکلّف ، فلو ترک کان المکلّفون کلّهم معاقبین ، لأنّ کلّاً منهم قد ترک لا إلی بدلٍ ، فهو یقول بتعدّد العقاب هنا ، و لا یقول به فی الواجب التخییری مع ترک جمیع الأطراف ، و الحال أنّ نفس الدلیل القائم هنا علی تعدّد العقاب یقتضی تعدّده هناک ، لأنّ جواز ترک الإطعام - مثلاً - کان منوطاً بالإتیان بالعتق أو الصوم ، فلو ترک الکلّ لزم تعدّد العقاب کذلک .

و الثانی : لقد جاء فی کلامه فی ( نهایة الدرایة ) عبارة : إن المصلحة اللزومیّة هذه لا متعیّنة . فیرد علیه :

أوّلاً : إنه لا وجود لغیر المتعیّن ، و قد ذکر هو سابقاً إن الوجود مساوق للتعیّن .

و ثانیاً : إنّ المصلحة اللزومیّة متقوّمة بالفعل الحامل لها ، فکیف یکون المعلول متعیّناً و العلّة غیر متعیّنة ؟ و کیف یکون اللّامتعیّن قابلاً للامتثال ؟

و ثالثاً : إن المصلحة اللزومیّة واحدة لا تقبل التعدّد و إلّا لتعدّد الواجب و هو خلاف الفرض فی الواجب الکفائی ، و لذا یکون نسبتها إلی کلٍّ من المکلّفین علی السواء ، و هی نسبة صدوریّة ، فکیف یعقل أن یکون الصّادر واحداً و من صدر عنه الفعل متعدّداً ؟

ص:347

الإشکال الصحیح علی صاحب الکفایة و المحقق الأصفهانی

هذا ، و الإشکال الوارد علی تصویر الوجوب الکفائی بالوجوب المشوب بجواز الترک ، هو عدم مساعدة مقام الإثبات و الارتکازات العقلائیّة علیه ، و أمّا ثبوتاً فلا یرد علیه شیء .

.الوجه الثانی

هو القول بالوجوب المشروط ، بأن یجب الفعل علی کلّ واحدٍ من المکلّفین مشروطاً بعدم قیام غیره منهم به .

و هذا الوجه ساقط ، لأنّه یستلزم عدم حصول الامتثال لو صلّی الکلّ علی المیّت مثلاً ، لأنّ المفروض اشتراط الوجوب علی کلّ واحدٍ منهم بترک الآخر ، و إذا صلّی الجمیع لم یتحقق الشرط و انتفی الوجوب ، فلا امتثال للأمر ... و هذا باطل .

.الوجه الثالث

إن موضوع التکلیف هو الفرد المردّد ، کما أنّ متعلّق التکلیف فی الوجوب التخییری هو المردّد ، فکما تتعلّق الإرادة التشریعیّة بالمراد المردّد - و هو الفعل - کذلک تتعلّق بالمراد منه المردد و هو الموضوع .

و فیه :

ما تقدّم هناک من أن تعلّق التکلیف بالمردّد غیر معقول ، سواء کان التردّد فی الفعل المکلّف به أو فی المکلّف نفسه ، لأنّ التکلیف - سواء علی القول بأنه الإنشاء بداعی جعل الداعی ، أو القول بأنه الطلب الإیقاعی الإنشائی ، أو القول بأنه البعث و التحریک نحو الإتیان بالمتعلّق ، أو القول بأنه اعتبار الفعل فی ذمّة العبد و إبرازه بالصیغة - أمر ذو تعلّق و ارتباط بالغیر ، و التعلّق بالمردّد محال مطلقاً .

ص:348

هذا ، و لا یخفی أن المیرزا - و إن قال بمعقولیّة تعلّق الإرادة التشریعیّة بالمردّد فی الوجوب التخییری ، من جهة أنّ أثرها إحداث الدّاعی فی نفس المکلّف ، و لا مانع من أن یکون المدعوّ إلیه مردّداً - لا یقول فی الوجوب الکفائی بتعلّقها بالموضوع المردّد ، فهو یفرّق بین الموردین ، و لعلّ السرّ فی ذلک هو تعیّن الموضوع فی التخییری و تردّد المتعلّق ، و لا محذور - عنده - فی إحداث الداعی نحو المتعلّق المردّد ، أمّا فی الوجوب الکفائی ، فالموضوع مردّد و لا یعقل إحداث الداعی مع تردّده ... و لذا قال فی تصویر الکفائی بأنّ الموضوع صرف الوجود - لا الفرد المردد - کما سیأتی .

.الوجه الرابع

اشارة

إنّ موضوع التکلیف عبارة عن الکلّی الجامع بین الأفراد ، غیر أنّه فی مقام التشخّص یتشخص الموضوع بقیام أیّ فردٍ من الأفراد بالمکلّف به ، کما هو الحال فی الوضعیّات ، کملکیّة سهم السّادة مثلاً - بناءً علی أنه لکلّی الهاشمی الفقیر - حیث الموضوع عبارة عن الکلّی ، ویتعیّن بالقبض و الإقباض ، فهنا کذلک ، فقد تعلّق التکلیف بالکلّی غیر أنّه یتعیّن بمن یقوم بالعمل من أفراد المکلّفین .

و هذا ما نقله المحقق الأصفهانی عن السید بحر العلوم صاحب بلغة الفقیه (1) فی تصویر أخذ الأُجرة علی الواجبات .

إشکال المحقق الأصفهانی

ثم أشکل علیه : بأنّ البعث و التحریک لا بدّ و أن یتوجّه نحو الشخص ، و لا یعقل أن یکون الکلّی طرفاً للبعث ، لعدم معقولیّة انقداح الإرادة فی نفس

ص:349


1- 1) بلغة الفقیه 2 / 18 .

الکلّی ، لأن الکلّی لا نفس له (1) .

جواب الأُستاذ

و قد أجاب عنه شیخنا : بأن هذا البعث اعتباری و لیس تکوینیّاً ، و غایة ما یقتضیه البرهان هو انقداح الإرادة علی أثر البعث ، و هذا یحصل فی نفس الفرد بالبعث نحو کلّی المکلّف بعثاً اعتباریاً ، لأنّ الکلّی متّحد مع الأفراد . فالإشکال مندفع ... .

و ما جاء فی کلامه من أنّ متعلّق التکلیف هو المکلّف بالحمل الشائع .

مخدوش عقلاً ، لأنّ التکلیف من الأُمور ذات التعلّق ، فهو فی وجوده محتاج إلی الطرف و هو مقوّم له ، لکن التکلیف و البعث من الموجودات النفسانیّة ، و تقوّم الموجود النفسانی بالموجود الخارجی محال ، لاستلزامه صیرورة النفسانی خارجیّاً أو الخارجی نفسانیاً ، و کلاهما محال .

بل إن متعلّق التکلیف لا بدّ و أن یکون من سنخ التکلیف ، فالتکلیف أمر نفسانی و متعلّقه نفسانی أیضاً ، و هو الداعی فی نفس العبد ، غیر أنّ هذا الداعی یصیر علّةً للمراد الخارجی فیکون المبعوث إلیه بالعرض ... فافهم و اغتنم .

الإشکال الوارد

لکنّ الإشکال الوارد علی هذا الوجه هو : عدم معقولیّته فیما نحن فیه ، و تنظیره بالأحکام الوضعیّة کالملکیّة قیاس مع الفارق ، لأنّ الموضوع لملکیّة الخمس هو کلّی الهاشمی الفقیر ، لکنّه فی ظرف التشخّص تتحقّق ملکیّة شخصیّة بمقتضی الأدلّة الشرعیّة فی المسألة ، بخلاف الأحکام التکلیفیّة ، فإنّه لا موضوعیة

ص:350


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 278 - 279 .

فی ظرف التشخّص ، لأنّ ظرف التشخّص فیها هو ظرف التلبّس بالفعل و القیام به ، فما لم یقم أحد المکلّفین بالفعل لم یتشخص الموضوع ، و إذا قام بالعمل خرج عن الموضوعیّة ، فلا معنی لتوجّه التکلیف إلیه و بعثه نحو الفعل .

.الوجه الخامس

اشارة

إنّ موضوع الوجوب فی الکفائی عبارة عن مجموع المکلّفین ، بنحو العام المجموعی ، فی مقابل العام الاستغراقی حیث یکون الواجب عینیّاً و أنّ المکلّف کلّ واحدٍ من أفراد المکلّفین .

الإشکال علیه

و قد أورد علیه بوجهین :

الأوّل : إنّ المجموع أمر اعتباری ذهنی ، إذ الموجود فی الخارج هو الأفراد ، و التکلیف - کما تقرر - إنما هو لإیجاد الداعی فی نفس المکلّف ، و من الواضح أن الأمر الاعتباری غیر صالح للمبعوثیة .

و الثانی : إنه لیس الموضوع فی الوجوب الکفائی هو مجموع المکلّفین ، و إلّا یلزم أن لا یتحقق الامتثال بإتیان البعض بالمأمور به ، و تحقّقه بامتثال البعض کاشف عن أن الموضوع لیس المجموع .

و هذا الإشکال الثانی وارد .

و أمّا الأوّل فیمکن الجواب عنه : بأنّ الأمر الاعتباری و إنّ لم یکن بنفسه موضوعاً للتکلیف لما ذکر ، إلّا أنه یمکن أن یکون وسیلةً لبعث من فی الخارج ، نظیر عنوان « أحدهما » مثلاً ، فإنه أمر انتزاعی لا یتعلّق به التکلیف و لا یقع موضوعاً له ، إلّا أنه لمّا یقول المولی : لیقم أحدکم بالفعل الکذائی ، یصیر هذا العنوان منشأً للانبعاث فی الخارج ، و قد تقدّم - فی تصحیح جعل الکلّی عنواناً للموضوع - أنه لا برهان علی ضرورة کون المکلّف نفسه قابلاً للانبعاث ، بل یکفی أن یکون

ص:351

لجعل العنوان موضوعاً أثر فی الخارج یخرج أخذه کذلک عن اللغویّة ، فهذا الإشکال من المحقق الأصفهانی (1) غیر وارد .

.الوجه السّادس

اشارة

إن الموضوع صِرف وجود المکلّف ، و کما أنّ الغرض من المکلّف به یترتّب علی صرف وجود الطبیعة - کالإکرام مثلاً - حیث یتحقّق الامتثال بإکرام فردٍ واحدٍ أو علی مطلق وجودها الساری ، فینحلّ التکلیف بعدد أفراد تلک الطبیعة ، کذلک فی طرف المکلّف ، فقد یترتّب الغرض علی صدور الفعل من مکلّفٍ ما ، و قد یترتّب علی مطلق وجود المکلّف ، فإن کان الأوّل فهو الکفائی ، و إن کان الثانی فهو العینی ... .

و هذا مختار المحقق النائینی (2) و قال فی المحاضرات : « و هو الصحیح » (3) .

إشکال المحقق الأصفهانی

و قد تعرّض المحقق الأصفهانی لهذا الوجه فی تعالیقه علی ( نهایة الدرایة ) (4) فقال : إن صرف الوجود بمعناه المصطلح علیه فی المعقول لا یطابق (5)له إلّا الواجب تعالی و فعله الإطلاق ، حیث إنه لا حدّ عدمی لهما و إن کان الثانی محدوداً بحدّ الإمکان . و بمعناه المصطلح علیه فی الأُصول : إمّا أن یراد منه ناقض العدم المطلق و ناقض العدم الکلّی کما فی لسان بعض أجلّة العصر (6) ، و إمّا أن یراد

ص:352


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 279 .
2- 2) أجود التقریرات 1 / 270 - 271 .
3- 3) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 240 .
4- 4) نهایة الدرایة 2 / 278 .
5- 5) کذا، و الظاهر «مطابَق».
6- 6) یقصد الشیخ الحائری الیزدی فی درر الأُصول .

المبهم المهمل من حیث الخصوصیّات ، و إمّا أن یراد منه اللّابشرط القسمی المساوق لکونه متعیّناً بالتعیّن الإطلاقی اللازم منه انطباقه علی کلّ فرد .

( قال ) فإن أُرید منه ناقض العدم المطلق و العدم الکلّی .

ففیه : إنّ کلّ وجود ناقض عدمه البدیل له ، و لیس شیء من موجودات العالم ناقض کلّ عدم یفرض فی طبیعته المضاف إلیها الوجود .

و إرجاعه إلی أوّل الوجودات ، باعتبار أنّ عدمه یلازم بقاء سائر الأعدام علی حاله ، فوجوده ناقض للعدم الأزلی المطلق لا کلّ عدم .

فهو لا یستحق إطلاق الصرف علیه ، فإنه وجود خاص من الطبیعة بخصوصیّته الأولیّة ، مع أنه غیر لائقٍ بالمقام ، فإنه من المعقول إرادة أوّل وجودٍ من الفعل ، و لا تصحّ إرادته من أول وجودٍ من عنوان المکلّف ، فإنّ مقتضاه انطباقه علی أسنّ المکلّفین .

کما لا یصحّ إرجاعه إلی أوّل من قام بالفعل .

فإنّ موضوع التکلیف لا بدّ من أن یکون مفروض الثبوت و لا یطلب تحصیله ، فمقتضاه فرض حصول الفعل لا طلب تحصیله .

و إنّ أُرید المبهم المهمل .

فلا إهمال فی الواقعیّات .

و إنّ أُرید اللّابشرط القسمی ، و هی الماهیّة الملحوظة بحیث لا تکون مقترنةً بخصوصیة و لا مقترنةً بعدمها .

فیستحیل شخصیّة الحکم و البعث - مع لحاظ المکلّف بعد الاعتبار الإطلاقی - إذ لا یعقل شخصیّة الحکم و نوعیّة الموضوع وسعته ، فلا بدّ من انحلال الحکم حسب انطباقات الموضوع المطلق علی مطابقاته و مصادیقه ، فیتوجّه

ص:353

حینئذٍ السؤال عن کیفیة هذا الوجوب الوسیع علی الجمیع مع سقوطه بفعل البعض . و سیأتی توضیح الجواب عنه .

جواب الأُستاذ

و أجاب شیخنا عن الإشکال : بأن المراد من « صرف الوجود » هو ما ذکره من نقیض العدم البدیل ، بمعنی أن وجود زید - مثلاً - رافع لعدم زید لا عدم عمرو ، لکنّ وجود زیدٍ فی نفس الوقت رافع لمطلق العدم ، لا للعدم المطلق حتی یرد الإشکال ، إذ الفرق بین مطلق العدم و العدم المطلق کبیر ، و کذلک الفرق بین الوجود الخاص و مطلق الوجود ، فلما یتحقق زید یتحقق أصل الوجود معه ، کما هو الحال بین الأفراد و الطبائع ، إذ یتحقق مع وجود زید أصل الإنسانیة و مطلق الانسانیة لا الإنسانیة المطلقة .

فالمراد من صرف الوجود هو الوجود الناقض للعدم ، و هذا هو الموضوع للتکلیف ، لا الوجود الناقض لجمیع الأعدام أو المهمل أو الطبیعة لا بشرط و لا من یقوم بالفعل و لا أول الوجود ... فالإشکال مندفع و إنْ تعجّب السید الأُستاذ من التزام المحقق النائینی به و موافقة السید الخوئی له ، فلاحظ (1) .

.الوجه السّابع

اشارة

هو : إن الأمر إذا صدر عن المولی متوجّهاً إلی عبده ، فله أنحاء من الإضافات ، إذ له نحو إضافةٍ إلی الآمر و هو بصدوره عنه ، و نحو إضافةٍ أُخری إلی المأمور ، و هو بتحریکه نحو المطلوب ، و نحو إضافة بالفعل الصادر ، و هو بقیامه فیه شبه قیام العرض فی الموضوع لا مثله حقیقةً ، لما عرفت من أن التکلیف لیس من العوارض الخارجیة ، إذ الخارج ظرف السقوط لا ظرف العروض .

ص:354


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 499 .

و معلوم : أنه لا فرق بین الواجبات العینیّة و الکفائیّة من جهة الإضافة الأولی و الثانیة ، إذ فی کلیهما کان الآمر یصدر عنه الطلب و کان المأمور مبعوثاً نحو الفعل ، لکنّ الفرق بین العینی و الکفائی إنما هو فی نحو الإضافة الأخیرة ، حیث أن نحو إضافة التکلیف إلی الفعل فی العینی هو بقید صدوره عن آحاد المکلفین مباشرةً ، فیتعدّد لا محالة بتعدّد المکلّفین بمناسبة هذا القید ، بخلاف الواجبات الکفائیة فلا یتعدّد بتعداد المکلّفین .

فتعلّق التکلیف بالمکلّفین هو علی نحو الاستغراق فی العینی و الکفائی من غیر فرقٍ ، و الفرق بینهما إنما هو بنحو الإضافة الأخیرة ، فکما یمکن أن یکون نحو إضافة التکلیف إلی الفعل المتعلّق بقید أن یکون التعلّق صادراً عن کلّ فردٍ من الأفراد بالمباشرة ، کما فی الصّلاة و الصوم و نظائرهما من الواجبات النفسیّة ، حیث أن المصلحة قائمة فی فعل آحاد المکلّفین بالصّدور المباشری ، کذلک یمکن أن یکون نحو إضافته إلی المتعلّق لا بقید صدوره عن کلّ واحدٍ مباشرة ، بل یکون نحو تعلّقه بصرف الوجود من طبیعة الفعل لا بقید تکثرها بکثرة أفراد المکلفین ، فیسقط الأمر بصرف وجود الطبیعة فی الخارج من أحد المکلفین قهراً ، لأنّ الطبیعة توجد بوجود فردٍ ما . هذا هو حقیقة الوجوب الکفائی فافهم و اغتنم . و هذا مختار السید البروجردی (1) .

و حاصل هذا الوجه هو : أن کلّ التصویرات مردودة ، لأنها کانت متوجّهةً نحو المطلوب منه ، فقیل : هو مجموع الأفراد ، و قیل : الجمیع و یسقط بفعل البعض ، و قیل : الواحد المردّد ... بل الفرق بین العینی و الکفائی هو من ناحیة المطلوب ، إذ هو فی الأول مشروط بصدوره من المکلّف الخاص و الثانی

ص:355


1- 1) الحجة فی الفقه : 216 - 217 .

لا بشرط من ذلک .

وجوه الإشکال

أورد علیه الأُستاذ بوجوه :

الأول : النقض بالواجب التخییری ، حیث ذهب إلی أن الواجب فیه هو الواحد المردّد ... فیقال له : أیّ فرقٍ بین تردید المتعلّق و تردید الموضوع ؟ لوضوح وحدة المناط و هو أنّ المردّد لا وجود له ، و ما کان کذلک فلا یقبل البعث ... و الأحکام العقلیّة لا تقبل التخصیص .

و الثانی : إنّه لا یعقل تقیید المعلول بصدوره عن علّته ، فالحرارة تصدر من النار ، و إذا صدرت لا یعقل تقییدها بالصدور عن النار ، بل إنها تصدر عنها ثم تتّصف بالصّدور . فهذه مقدّمة . و مقدمة أُخری : إنّ الإرادة التشریعیة من المولی إنما تتعلّق بما تتعلّق به الإرادة التکوینیّة من العبد .

و بناءً علی ما ذکر یتّضح عدم إمکان اشتراط الواجب بصدوره عن إرادة المکلّف ، لأن إرادته علّة لتحقق الواجب ، فلو کان الواجب مشروطاً بصدوره عن إرادة المکلّف لزم اشتراط المراد بصدوره عن الإرادة ، و هذا غیر معقول ، فلا یعقل تعلّق الإرادة التشریعیّة به ...

و الحاصل : إن الإرادة تتعلّق بالصّلاة لا بالصّلاة الصادرة عن الإرادة ...

فقوله بأن الواجب العینی عبارة عن الواجب المشروط بصدوره عن فاعل خاص ، یرجع إلی کون الصّلاة الواجبة علی زید هی الصّلاة المقیّدة بصدورها عن إرادته ، و لمّا کان هذا المحقق من القائلین بأن التقابل بین الإطلاق و التقیید من قبیل العدم و الملکة ، فإنه إذا استحال التقیید - کما ذکرنا - یستحیل الإطلاق . فما ذکره فی تصویر الواجب الکفائی و فرقه عن العینی ساقط .

ص:356

و الثالث : إن الغرض فی الواجب الکفائی واحد لا متعدّد ، و قد صرّح بذلک أیضاً ، و مع وحدته یستحیل تعدّد الواجب ، فقوله بتعدّد الوجوب علی عدد أفراد المکلّفین غیر صحیح .

.الوجه الثامن

اشارة

إنه لیس للوجوب حقائق مختلفة متعدّدة ممتازة بذاتیّاتها ، بل هو فی جمیع موارده سنخ واحد ، و یکون تکثّره بالعوارض المصنّفة و الخصوصیّات المشخّصة .

فسنخ الکفائی هو سنخ العینی ، و التکلیف فیه متوجّه إلی الجمیع ، لعدم معقولیّة تکلیف واحدٍ علی البدل ، و الفرض عدم اختصاص التکلیف بواحدٍ معیّن ، و التکلیف المتوجّه إلی الجمیع متعدّد ، لعدم معقولیّة توجّه تکلیفٍ واحدٍ إلی متعدّدین ، فإذا تعدّد التکلیف و المکلّف تعدّد الفعل المکلّف به ، و یکون تکلیف کلّ واحدٍ متعلّقاً بفعل نفسه لا بفعل غیره ... .

فحقیقة الوجوب هنا هی حقیقة الوجوب هناک من غیر تخالف فی الحقیقة الوجوبیّة أصلاً ، فیجب علی کلّ واحدٍ امتثال تکلیف نفسه ، فإذا اجتمع الکلّ علی الامتثال دفعةً واحدة استحق کلّ واحدٍ المثوبة الکاملة ، و إذا اجتمعوا علی المعصیة استحق کلّ واحدٍ عقاباً تامّاً کما فی الواجبات العینیّة .

نعم ، إذا بادر أحدهم إلی الامتثال سقط التکلیف عن الباقین ، علی خلاف الواجبات العینیّة ، و لیس المنشأ لهذا الاختلاف حقیقة الوجوب ، بل الوجه فی ذلک ارتفاع موضوع التکلیف بإتیان واحدٍ ، و ذلک لخصوصیّة أُخذت فی المتعلَّق ، فإنّ متعلّق التکلیف هو الغسل و الکفن و الدفن لمیت لم یغسّل و لم یکفّن و لم یصلّ علیه و لم یدفن . و هذا کلّه ینتفی بإتیان واحد ، فموضوعُ التکلیف

ص:357

غیر باقٍ لیکلّف الباقون .

و حاصل الکلام هو : إن الفرق بین الوجوب العینی و الوجوب الکفائی هو فی طرف موضوع التکلیف ، فهو فی الأول لا بشرط و فی الثانی بشرط ، أی هو المیت الذی لم یغسّل و لم یکفن و لم یصلّ علیه و لم یدفن ، فإذا تحقّق ذلک کلّه فی حقّه من واحد ، فلا موضوع لتکلیف سائر المکلّفین ، و یکون سقوط التکلیف عنهم لانتفاء الموضوع ، خلافاً للسید البروجردی ، إذ جعل العینی مشروطاً بصدوره عن فاعلٍ خاصٍ و الکفائی لا بشرط ... و هذا مختار المحقق الإیروانی (1) .

إشکال الأُستاذ

و قد أورد الشیخ الأُستاذ علی هذا الوجه : بأنّ کلّ موضوع فهو بقیوده مقدّم رتبةً علی الحکم ، و کلّ حکم متأخّر عن موضوعه بالتأخّر الطبعی ، فکان نسبة الموضوع إلی الحکم نسبة العلّة إلی المعلول ، و إن کانت العلّة الواقعیّة هی إرادة المولی .

و أیضاً : فإنّ الرافع للشیء لا بدّ و أن یکون متقدّماً علی الشیء رتبةً ، لأنه العلّة لعدمه ، و إلّا فلا یکون رافعاً له .

و أیضاً : فإنّ الإهمال فی الموضوع و قیوده محال .

و بناءً علی هذه المقدّمات نقول : إذا کان تغسیل المیّت واجباً علی زیدٍ أو عمرو کفایةً ، و کان وجوبه علی کلٍّ منهما مقیّداً بعدم کون المیت مغسّلاً بواسطة الآخر ، کان الرافع للموضوع الموجب لانتفاء تکلیف زید ، هو تغسیل عمرو ، و حینئذٍ یتوجّه السؤال : هل کان تغسیل عمرو - الرافع لموضوع تکلیف زید - مهملاً ، أی هو رافع له سواء کان المأمور به أو لا ؟ لا ریب فی عدم الإهمال بل هو

ص:358


1- 1) نهایة النهایة 1 / 203 .

مقیّد بکونه غسلاً صحیحاً مطابقاً للأمر ، إذن ، کان موضوع الوجوب علی کلٍّ من زید و عمرو هو عدم کون المیت مغسّلاً بالغسل الصحیح بواسطة الآخر ، فیکون الرافع للموضوع هو الغسل الصحیح ، لکنّ قید الصحّة للموضوع متأخّر رتبةً علی الموضوع المتقدم رتبةً علی الحکم .

و نتیجة ذلک هو : أن یکون وجوب التغسیل علی زیدٍ متأخّراً عن الموضوع - و هو عدم تغسیل عمرو الغسل الصحیح - بمرتبتین ، و أن یکون وجوبه علی عمرٍو متأخّراً عن الموضوع - و هو عدم تغسیل زید له کذلک - بمرتبتین ، فیجتمع التأخّر و التقدّم فی وجوبه علی زیدٍ ، و هو محال .

هذا کلّه أوّلاً .

و ثانیاً : إنه قد نصّ علی وحدة الغرض ، و فی نفس الوقت نصّ علی تعدّد التکلیف ، فکیف یکون الغرض واحداً و المکلّف به واحداً ، - و هو الدفن - و التکلیف متعدّداً ؟

رأی الأُستاذ فی الوجوب الکفائی

و اختلف مختار الأُستاذ فی الدورتین . أمّا فی السابقة ، فقد اختار قول المحقّق الخراسانی ، کالمحققین الأصفهانی و العراقی ، مستشکلاً علی قول المیرزا بأن متعلّق الوجوب هو صرف الوجود - بعد أن ذکر تعبیر ( المحاضرات ) عنه بالجامع لا بعینه - بأن تصویر الجامع الانتزاعی - الواحد لا بعینه - و إن أمکن فی الوجوب التخییری ، فهو غیر ممکن فی الکفائی ، للفرق بینهما من جهة استحقاق العقاب الواحد هناک فی صورة المخالفة للکلّ ، بخلاف الوجوب الکفائی ، فلو ترک کلّ أفراد المکلّفین استحقّوا العقاب جمیعاً ... .

و أمّا فی الدورة اللّاحقة ، فقد ناقش فی طریق صاحب الکفایة و من تبعه ،

ص:359

و اختار طریق المیرزا ، مستشکلاً علی ( المحاضرات ) إرجاع النظریّة إلی الجامع الانتزاعی بأنّه لیس المراد عند المحقق النائینی ، و یشهد بذلک قوله فی التخییری بأن الواجب هو الفرد المردّد ، لأنّ الإرادة التشریعیّة تختلف عن الإرادة التکوینیّة ، فلو کان مراده فی الکفائی ذلک أیضاً لصرّح به ، مع وجود الفرق بین الوجوبین ، حیث أن المردّد هناک هو المتعلّق و المردّد هنا هو الموضوع ... لکنّ بیان المیرزا هنا شیء آخر ، إنه یجوّز أن یکون صرف الوجود موضوعاً للحکم ، کما جاز أنْ یکون متعلَّقاً له ، و من الواضح أنّ « صرف الوجود » غیر « الجامع » و غیر « الفرد المردد » .

و الحاصل : إنه کلّما أمکن تصویر الجامع صحّ صرف الوجود ، و کلّما لم یمکن کان التکلیف متوجّهاً إلی عنوان « الأحد » . أمّا فی التخییری فلا جامع بین أفراد المکلّف به من الصوم و العتق و الإطعام فی الکفارة ، أو القتل و الصّلب و النفی فی حدّ المحارب ، و لذا یکون الواجب هو « الأحد » ، بخلاف الکفائی ، فالجامع موجود ، و هو عنوان الصّلاة ، فکان صرف وجود المکلّف هو الموضوع للتکلیف ... .

و هذه هی النکتة فی اختلاف تعبیر المیرزا فی الموردین ، حیث قال فی الوجوب التخییری بأن المتعلّق هو عنوان « الأحد » و فی الوجوب الکفائی جعل الموضوع هو « صرف وجود المکلّف » ... .

و ما ذهب إلیه هنا لا یتوجّه علیه أیّ إشکالٍ ، بعد ظهور اندفاع مناقشات المحقق الأصفهانی .

و هذا تمام الکلام علی الوجوب الکفائی .

ص:360

الوجوب الموسّع و الموقّت

اشارة

ص:361

ص:362

و البحث فی جهاتٍ ثلاثة :

.الجهة الأُولی : فی تصویر الواجب الموسّع و الواجب المضیّق .

اشارة

إنّه لا ریب فی لابدیّة الزمان فی کلّ أمر زمانی ، و إنما الکلام فی کیفیّة دخله فی الغرض ، لأن من الواجب ما لیس بموقّت ، و الموقّت : منه ما یکون الزمان فیه علی قدر الفعل ، و منه ما یکون أوسع منه ، و الأوّل هو المضیَّق ، و الثانی هو الموسّع .

إنما الکلام فی تصویر هذین القسمین .

إشکال العلامة فی الموسّع و جوابه

فعن العلّامة الحلّی رحمه اللّٰه انکار الواجب الموسّع فی الشریعة ، لأن القول به یستلزم القول بجواز ترک الواجب ، لکونه جائز الترک فی أوّل الوقت ، و ترک الواجب غیر جائز .

فأجاب عنه فی ( الکفایة ) (1) بأنّا نلتزم بعدم وجوب الفعل فی أوّل الوقت ، بل الواجب هو الفعل بین الحدّین ، کالصّلاة بین الزوال و الغروب ، و حینئذٍ ، تکون الصّلاة فی أوّل الوقت مصداقاً للواجب ، و مصداق الواجب غیر الواجب ، فلا موضوع للإشکال .

ص:363


1- 1) کفایة الأُصول : 143 .

و أمّا جواب السید الحکیم (1) : بأنّ الإشکال إنما یرد لو ترکت الصّلاة فی أوّل الوقت لا إلی بدلٍ ، لأنه منافٍ للوجوب ، و أمّا مع وجود البدل و هو الصّلاة فی الوقت الثانی - مثلاً - فلا یرد .

ففیه : إن الإشکال هو أنه مع فرض کون الزمان أوسع من الواجب ، فإنّ ترک الواجب فی أول الوقت ینافی أصل الوجوب ، فلو ترک إلی بدلٍ أصبح الوجوب تخییریّاً ، و الکلام فی الواجب التعیینی لا التخییری .

و تلخّص : تصویر الواجب الموسّع .

الإشکال فی الواجب المضیّق و جوابه

و أمّا الإشکال فی الواجب المضیّق فهو : إن کون الزمان علی قدر الفعل غیر معقول ، لأن الوجوب إن کان قبل الزمان لزم تقدّم المشروط علی الشرط ، و إن کان بعده أو مقارناً له ، فمن الضروری تصوّر البعث و تصدیقه حتی یؤثر فی الإرادة ، لأن الانبعاث من الأمر - و هو فعل اختیاری - یتوقف علی التصوّر و التصدیق ، و کلّ ذلک یحتاج إلی زمان ، فیکون زمان الانبعاث متأخّراً عن زمان البعث ، و یلزم أن یکون زمانه أقل من زمان البعث .

و الجواب هو : إن ورود هذا الاشکال یتوقّف علی أن یکون تأخّر الانبعاث عن البعث زمانیّاً ، لکنّه تأخّر رتبی ، و ذلک : لأن الموجب للانبعاث هو - فی الحقیقة - الصّورة العلمیّة للأمر و البعث ، و هی تتحقّق فی آن الانبعاث و الامتثال ، فیحصل البعث و العلم به و العمل علی طبقه فی الزمان الواحد ، فالواجب المضیّق ممکن ... .

ص:364


1- 1) حقائق الأُصول 1 / 339 .

.الجهة الثانیة

اشارة

فی أنّ الدلیل علی وجوب الفعل فی الوقت المعیّن هل یدل علی وجوبه کذلک فی خارج ذلک الوقت ، أو لا بدّ لوجوبه من دلیل آخر ؟ فإن کان الأوّل ، فالقضاء بالأمر الأوّل ، و إن کان الثانی ، فهو بأمر جدید ... أقوال :

منها : عدم الدلالة مطلقاً .

و منها : الدلالة مطلقاً .

و منها : التفصیل بین ما إذا کان الدلیل الدالّ علی التقیید بالزمان منفصلاً أو متّصلاً .

و منها : التفصیل بین ما إذا کان دلیل التقیید مهملاً و دلیل الوجوب مطلقاً فیدلّ ، و إلّا فلا . و هذا مختار المحقق الخراسانی .

قال فی ( الکفایة ) (1) : إنه لا دلالة للأمر بالموقت بوجهٍ علی الأمر به فی خارج الوقت بعد فوته فی الوقت ، لو لم نقل بدلالته علی عدم الأمر به . نعم ، لو کان التوقیت بدلیلٍ منفصلٍ لم یکن له إطلاق علی التقیید بالوقت و کان لدلیل الواجب إطلاق ، لکان قضیّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، و کون التقیید به بحسب تمام المطلوب لا أصله .

أقول : و حاصل کلامه الأوّل : إن نسبة دلیل التوقیت إلی دلیل أصل الوجوب ، هو نسبة المقیّد إلی المطلق ، فکما یکون الدلیل علی اعتبار الإیمان فی الرقبة مقیّداً لدلیل وجوب العتق ، کذلک الدلیل القائم علی مدخلیّة الزمان الکذائی فی الغرض من التکلیف الکذائی ، و حینئذٍ ، فمقتضی القاعدة عدم الدلالة علی الأمر بالفعل فی غیر ذلک الوقت ، لو لم نقل بدلالته علی عدم الأمر به فیه ، من جهة

ص:365


1- 1) کفایة الأُصول : 144 .

مفهوم التحدید .

و أمّا کلامه الثانی فبیانه هو : إن دلیل التقیید بالزمان إنْ کان متّصلاً بدلیل الوجوب ، فهو إمّا مبیّن فیؤثر التقیید کما هو واضح ، و إمّا مجمل ، فیسری إجماله إلی دلیل الوجوب . و إن کان منفصلاً ، فتارةً یکون الدلیلان مطلقین ، و أُخری مهملین ، و ثالثةً یکون دلیل الوجوب مطلقاً و دلیل القید مطلق ، و رابعةً بالعکس .

فإن کانا مهملین ، فهذا خارج من البحث .

و إن کان دلیل الوجوب مهملاً و دلیل التقیید معیّناً ، أُخذ بمقتضی دلیل التقیید .

و إن کان الدلیلان مطلقین ، یؤخذ بدلیل التقیید أیضاً ، لکون نسبته إلی دلیل الوجوب نسبة القرینة إلی ذی القرینة .

و إن کان دلیل الوجوب مطلقاً و دلیل التقیید مجملاً ، فإن کان مجملاً مردداً بین المتباینین ، سقط دلیل التقیید عن الحجیّة ، و إن کان مجملاً مردداً بین الأقل و الأکثر ، رفع الید عن دلیل الوجوب بالمقدار المتیقن و بقی علی حجیّته فی الزائد عنه .

هذه هی الکبری ، و تطبیقها علی المورد هو أنه :

إن کان دلیل التقیید بالزمان المعیّن مطلقاً ، بأن یکون الوقت دخیلاً فی الغرض من المطلوب فی جمیع الأحوال و الأفراد ، کان مقتضاه عدم الوجوب فی خارج الوقت ، لعدم الغرض .

و إن کان دلیل الوجوب مطلقاً و دلیل التقیید غیر مطلق ، بأن یکون الغرض قائماً بالمرتبة العالیة من الصّلاة مثلاً ، و هی الصلاة فی الوقت - أمّا لو اضطرّ و لم یصلّها کذلک ، فالوجوب فی خارج الوقت باق ، لبقاء الغرض ، بعد انتفاء المرتبة

ص:366

العالیة - فلا حاجة إلی دلیلٍ جدید ، لأن المفروض اطلاق دلیل الوجوب ، و أنّ القید فی المرتبة .

و إن کان دلیل التقیید مجملاً مردداً بین کونه مقیّداً لأصل الوجوب أو للمرتبة ، فیؤخذ بالقدر المتیقّن ، و یبقی أصل الوجوب .

رأی الأُستاذ

و قد وافق الأُستاذ المحقق الخراسانی علی النظریّة ، و أنّها خالیة من الإشکال الثبوتی ، غیر أن مقام الإثبات لا یساعد علیها ، لأنّ مقتضی الارتکازات العرفیّة و العقلائیة ورود القید علی أصل الوجوب ، و أنّه فی غیره لا یبقی وجوبٌ ، و القول بأنّه یقیّد مرتبةً من الطلب یحتاج إلی دلیلٍ زائد ، لأنّ التمسّک بإطلاق دلیل الوجوب فرع الشک فی بقائه و عدم بقائه بعد خروج الوقت ، و العقلاء لیس عندهم شک فی عدم البقاء ... اللّهم إلّا حیث یتحقّق الشک أو یقوم دلیل آخر علی بقاء الوجوب .

هذا ما ذکره فی الدورة اللّاحقة .

و أمّا فی الدورة السّابقة ، فقد وافق ( الکفایة ) علی أصل النظریّة کذلک ، إلّا أنه خالفه فی إطلاقها ، فاختار عدم دلالة دلیل الوجوب علی بقائه بعد الوقت بالنسبة إلی المکلّف الفاعل المختار ، و دلالته علی ذلک بالنسبة إلی العاجز .

و هذا ما أفاده الإیروانی . فلیلاحظ (1) .

ثمرة البحث

هذا ، و تظهر ثمرة البحث فی الصّلاة فی کلّ موردٍ لا تجری فیه قاعدة الحیلولة و قاعدة الفراغ ، و بیان ذلک هو : إنه لو شک فی خارج الوقت فی تحقق

ص:367


1- 1) نهایة النهایة 1 / 204 .

الصّلاة فی الوقت ، فتارةً یشک فی أصل وجودها و أُخری یشک فی کیفیة الصّلاة التی صلّاها ، فإن کان الأوّل ، فتجری - فی خصوص الصّلاة - قاعدة الحیلولة ، و لا یعتبر بالشک . و إن کان الثانی ، فقد تجری قاعدة الفراغ و قد لا تجری ، فیکون مورد ثمرة البحث ، کما لو علم أنّه قد صلّی فی الوقت إلی جهةٍ معیّنة ، ثم شک بعد الوقت فی کونها جهة القبلة ، أمّا قاعدة الحیلولة فلا تجری ، لأنّ مجراها هو الشک فی أصل وجود الصّلاة ، فإن قلنا بجریان قاعدة الفراغ فی خصوصیّات العمل ، سواءً کان مورداً للتعلیل بالأذکریّة الوارد فی النصّ أو لم یکن ، فلا ثمرة للبحث ، لجریان هذه القاعدة . و إن قلنا بعدم جریانها إلّا فی حال کونه حین العمل أذکر ، أخذاً بالتعلیل ، - و هذا هو المختار - فلا مجری للقاعدة ، لفرض عدم کونه حینئذٍ أذکر ، ترتّبت الثمرة . فعلی القول بأن القضاء بالأمر الأوّل ، فهو واجب ، لأن مقتضی الأمر الأول هو الاشتغال بالنسبة إلی القبلة ، و المفروض هو الشک فی وقوع الصّلاة إلیها ، فالفراغ مشکوک فیه ، و مقتضی قاعدة أن الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیة هو القضاء . و أمّا علی القول بأنه بأمر جدید ، فیقع الشک فی توجّه أمر جدیدٍ یقتضی القضاء ، لأنه إن کان قد صلّی إلی القبلة فلا أمر ، و إلّا فهو مکلّف بالقضاء ، فهو إذاً شاک فی الاشتغال بأمرٍ جدید ، و هذا مجری البراءة .

.الجهة الثالثة

إنه لو شک فی أنّ دخل الزمان فی الواجب هل هو بنحو وحدة المطلوب أو بنحو تعدّده ، فما هو مقتضی القاعدة ؟

ذهب الشیخ الأعظم و المحقق الخراسانی و أتباعهما إلی البراءة ، لعدم جریان الاستصحاب ، لعدم وحدة الموضوع ، فقد کان مقتضی الدلیل هو الصّلاة فی الوقت و إذا خرج الوقت تغیّر الموضوع .

ص:368

و خالف المحقق الأصفهانی - بعد أن وافق القوم فی متن ( نهایة الدرایة ) فی الحاشیة ، و تبعه السید الحکیم - فقال بجواز استصحاب شخص الموضوع ، إذا کان المستصحب هو الواجب الخاص ، و توضیحه : إن الخصوصیّات قد تکون مقوّمة لحامل الغرض و أُخری تکون ذات دخلٍ فی تأثیر المقتضی کالشرائط مثل المماسّة بین المحرق و المحترق ... و هذا ثبوتاً . و أمّا إثباتاً ، فإن المقتضی للنهی عن الفحشاء هو ذات الصّلاة ، و أمّا خصوصیة الوقت و الطهارة و الساتر و القبلة و نحو ذلک ، فلها دخلٌ فی فعلیّة تأثیر المقتضی ، وعلیه ، فإن الوجوب النفسی متوجّه إلی ذات الصّلاة ، و تلک الخصوصیّات واجبات غیریّة ، فإذا خرج الوقت - و هو من الخصوصیات - أمکن استصحاب وجوب الصّلاة ، و هذه الذات هی نفسها الذات فی داخل الوقت بالنظر العرفی .

و فیه : إن الملاک فی وحدة الموضوع و عدمها فی الاستصحاب هو نظر العرف ، و الموضوع فیما نحن فیه هو الصّلاة مع الطهارة لا ذات الصّلاة ، لأنّ العرف لا یری الإهمال فی الموضوع و لا الإطلاق ، بل یری أنّ متعلّق الوجوب هو الصّلاة المقیّدة بالوقت و بالطهارة ، فکان الوجوب متوجّهاً إلی هذا الموضوع الخاص ، و هو فی خارج الوقت متغیّر عن الذی کان فی الوقت ... .

ثم إنّه بناءً علی أنّ القضاء بأمرٍ جدیدٍ فی الصّلاة و الصیام ، فلو خرج الوقت و شکّ المکلّف فی الإتیان بالواجب فی وقته ، هل یمکن إثبات فوت الفریضة باستصحاب عدم الإتیان بها أم لا ؟ وجهان !

فعلی القول : بأنّ موضوع وجوب القضاء هو « الفوت » و أنه أمر وجودی ، کان استصحابه لإثبات عدم الإتیان بالفریضة أصلاً مثبتاً . أما علی القول : بکونه عدمی ، فلا مانع من جریان الاستصحاب فیه ، لتمامیة أرکانه حینئذٍ .

ص:369

و قد ذهب المیرزا و السید الخوئی إلی الأول ، لکون المتفاهم عرفاً هو أنّ الفوت ذهاب الشیء من الکیس ، و أنه لیس فی نظرهم عین « الترک » ، و لو شکّ فی أنه وجودی أو عدمی ، لم یجر الاستصحاب کذلک ، لکونه حینئذٍ شبهةً مصداقیة لدلیل الاستصحاب .

و ذهب الأُستاذ إلی أنه و إن کان لغةً کذلک ، لکنّ العبرة فی الاستصحاب بنظر العرف ، و کونه وجودیّاً عندهم غیر واضح ، إن لم یکن عدمیّاً .

لکنّ المهمّ هو أنه لیس موضوع وجوب القضاء فی ظواهر النصوص ، فکما جاء فی بعضها عنوان « الفوت » کذلک یوجد عنوان « النسیان » و« الترک » و« عدم الإتیان » أیضاً .

ففی روایة : عن أبی جعفر علیه السلام : أنه سئل عن رجلٍ صلّی بغیر طهور أو نسی صلوات لم یصلّها أو نام عنها . قال : یقضیها ... » (1) .

و فی أُخری : « کل شیء ترکته من صلاتک ... فاقضه ... » (2) .

و فی ثالثة : « إذا أُغمی علیه ثلاثة أیام فعلیه قضاء الصلاة فیهن » (3) .

و فی رابعة : « سألته عن الرجل تکون علیه صلاة فی الحضر هل یقضیها و هو مسافر ؟ قال : نعم ... » (4) .

و فی أبواب الحج :

« سألت أبا جعفر علیه السلام عن رجلٍ مات و لم یحج ... » (5) .

ص:370


1- 1) وسائل الشیعة 8 / 253 الباب الأول من أبواب قضاء الصلوات .
2- 2) وسائل الشیعة 8 / 265 الباب 4 من أبواب قضاء الصلوات .
3- 3) وسائل الشیعة 8 / 265 الباب 4 من أبواب قضاء الصلوات .
4- 4) وسائل الشیعة 8 / 268 الباب 6 من أبواب قضاء الصلوات .
5- 5) وسائل الشیعة 11 / 72 الباب 28 من أبواب وجوب الحج .

و فی أبواب الصوم (1) :

« رجل مات وعلیه قضاء من شهر رمضان . فوقّع علیه السلام : یقضی عنه ... » .

« عن الرجل تکون علیه أیام من شهر رمضان کیف یقضیها ... ؟ » .

و علی الجملة ، فقد قال الأُستاذ بجریان الاستصحاب فی کلّ موردٍ جاء الموضوع فیه عدمیّاً ، و قد ظهر أنه لیس « الفوت » فقط ، لو ثبت کونه وجودیّاً .

إذن ، لا مانع من جریان الاستصحاب فی فرض کون الشک بعد خروج الوقت .

و أمّا لو شک فی الإتیان بالفریضة فی داخل الوقت لا خارجه ، فقد قالوا بوجوب الإتیان ، للاستصحاب و لقاعدة الاشتغال ، فإن مقتضاهما صدق عنوان « الفوت » بالنسبة إلی هذا المکلّف ... و قد جاء فی النصوص « من فاتته الفریضة فلیقضها کما فاتته » و بهذا یظهر الفرق بین هذه الصّورة و الصّورة السّابقة .

و قد أشکل علیه شیخنا : بأنّ قاعدة الاشتغال عقلیّة ، و هی لا تفید الأحکام الظاهریة ، فهی تفید وجوب الإتیان وجوباً عقلیّاً ، و موضوع « من فاتته » هو الفریضة الشرعیّة ، إذن ، القاعدة العقلیّة لا تثبت الفریضة ، و إنّما تدعو إلی السّعی وراء إبراء الذمّة ، و هذا أمر آخر .

و أمّا التمسک بالاستصحاب ، فإنّما یتم بناءً علی مسلک جعل الحکم المماثل ، کما هو مختار صاحب ( الکفایة ) ، فیثبت به وجوب الصّلاة مثلاً و یتحقق موضوع « من فاتته » . أمّا علی القول بأنّ مفاد أدلّة الاستصحاب لیس إلّا التعبّد ببقاء الیقین السابق فی ظرف الشک ، فلا تثبت الفریضة و لا یتحقق موضوع « من فاتته » ،

ص:371


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 340 الباب 26 من أبواب أحکام شهر رمضان .

و هذا مختار المحقق الأصفهانی ، وعلیه السید الخوئی نفسه ، وعلیه ، فمفاد الأدلّة إبقاء الیقین بعدم الإتیان بالصّلاة مثلاً ، و هذا لا یثبت الفریضة إلّا علی الأصل المثبت .

و تلخّص : إن مقتضی الأدلّة الأولیّة هو کون القید لتمام المطلوب ، و مع الشک فی کونه لذلک أو أنه قید لأصل المطلوب ، فلا یجری الاستصحاب الشخصی الذی ذکره المحقق الأصفهانی و تبعه السید الحکیم ، و لا الکلّی - القسم الثالث - لعدم تمامیّته من حیث الکبری ... و أمّا القسم الثانی ، فقد اختلفت کلمات السید الخوئی فی جریانه هنا و عدمه فقهاً و أُصولاً . و المختار : هو جریان استصحاب الکلّی ، القسم الثانی ، وفاقاً له فی أُصوله .

ص:372

الأمرُ بالأمر

اشارة

ص:373

ص:374

هل الأمر بالأمر بشیء أمرٌ بالأمر فقط ، أو أنه أمر بذلک الشیء حقیقة ؟

و لعلّ السبب العمدة فی طرح هذا البحث هو الأخبار الآمرة بأن یأمر الأولیاء صبیانهم بالصّلاة إذا کانوا أبناء سبع ، فإنّه علی القول الأوّل لا تکون عباداتهم شرعیّة و علی الثانی فهی شرعیّة ، و تظهر الثمرة فیما إذا صلّی الصبیّ و بلغ الحلم فی داخل الوقت ، هل تجب علیه إعادة الصّلاة أو لا ؟ قولان :

رأی صاحب الکفایة

قال فی ( الکفایة ) :

« الأمر بالأمر بشیء أمر به لو کان الغرض حصوله و لم یکن له غرض فی توسیط أمر الغیر به إلّا تبلیغ أمره به ، کما هو المتعارف فی أمر الرسل بالأمر و النهی ، و تعلّق غرضه به ، لا مطلقاً بل بعد تعلّق أمره به ، فلا یکون أمراً بذاک الشیء ، کما لا یخفی » (1) .

و قد انقدح بذلک أنه لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر علی کونه أمراً به ، و لا بدّ فی الدلالة علیه من قرینة .

و بیان کلامه : أن المحتمل فی مقام الثبوت ثلاثة وجوه :

أحدها : أن یکون الغرض قائماً بنفس الأمر ، کأن یأمر بالأمر لمصلحة إثبات

ص:375


1- 1) کفایة الأُصول : 144 .

آمریّة الثانی .

و الثانی : أن یکون الغرض قائماً بالفعل المأمور به کما فی قوله تعالی «بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَیْکَ » (1).

و الثالث : أن یکون الغرض قائماً بالفعل الحاصل من المأمور - و هو الثالث - بشخصه المنبعث من أمر هذا الآمر الثانی ، فکان تعلّق الغرض مقیّداً لا مطلقاً .

و أمّا فی مقام الإثبات ، فقد ذکر أنه مع وجود هذه الوجوه ، لا یکون لمجرّد الأمر بالأمر دلالة علی کونه أمراً به إلّا بقرینةٍ .

ففی مثل الصحیحة : « فمروا صبیانکم بالصلاة إذا کانوا بنی سبع سنین » (2)یری المحقق الخراسانی وجود الاحتمالات الثلاثة ، وعلیه ، فلو أمر الصبی بالصّلاة ، فصلّی فی الوقت و اتّفق بلوغه بعدها ، فإن شرعیّتها یتوقّف علی القرینة علی کون هذه الصّلاة حاملةً للغرض ، حتی لا تجب إعادتها ، و إلّا احتمل کون الغرض من الأمر به هو التمرین مثلاً ، فلا تکون مسقطةً لوجوب الإعادة ... هذا رأیه و وافقه سیّدنا الأُستاذ (3) .

رأی المحقق العراقی

و خالفه المحقق العراقی (4) قدّس سرّه - و تبعه تلمیذه السید الحکیم (5) - فذهب إلی شرعیّة عبادات الصبیّ ، مستدلّاً بإطلاقات الخطابات الشرعیّة کقوله

ص:376


1- 1) سورة المائدة : 67 .
2- 2) وسائل الشیعة 4 / 19 الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض.
3- 3) منتقی الأُصول 2 / 515 .
4- 4) نهایة الأفکار (1 - 2) 399 .
5- 5) حقائق الأُصول 1 / 342 .

تعالی «أَقیمُوا الصَّلٰاةَ » (1)فإنّها تعمّ البالغین و الممیّزین الذین یتمشّی منهم القصد ، خاصّةً الممیّز المقارب للبلوغ ، فهذا مقتضی الإطلاقات ، و لیس فی مقابلها إلّا حدیث رفع القلم . فإنْ کان المرفوع به هو خصوص المؤاخذة ، فلا إشکال کما هو واضح ، و أمّا إن کان المرفوع به هو التکلیف أو هو و المؤاخذة ، فإنّ مقتضی کونه فی مقام الامتنان هو رفع الإلزام لا أصل التکلیف و محبوبیّة العمل ، فیکون العمل منه مطلوباً و مشروعاً .

رأی السید الخوئی

و ناقش السید الخوئی (2) الاستدلال المذکور ، و قال بشرعیّة عبادات الصبیّ بوجهٍ آخر ، و هو الدلالة العرفیّة للنصوص علی ذلک ، لأنّ « الأمر » یفارق « العلم » ، من جهة أنّ العلم قد یؤخذ موضوعاً و قد یؤخذ طریقاً و قد یؤخذ جزءاً للموضوع ، فالوجوه التی ذکرها صاحب ( الکفایة ) فی مقام الثبوت تأتی فی « العلم » و نحوه ، لکنّ « الأمر » لیس إلّا طریقاً عرفیّاً إلی مطلوبیّة الشیء ، فإذا أمر الآمر غیره بأن یأمر الثالث بالقیام بعملٍ ، کان تمام النظر إلی ذلک العمل ، و احتمال أن یکون المصلحة فی نفس الأمر لا یقاوم هذا الظهور العرفی و العقلائی ، و بذلک یستدلُّ علی شرعیة عبادات الصبیّ .

رأی الأُستاذ

و أفاد الأُستاذ دام ظلّه : بأنّ مقتضی الظهور الأوّلی کون متعلّق الأمر الأول هو

ص:377


1- 1) سورة البقرة : 43 .
2- 2) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 264 - 266 .

الأمر من الثانی ، و مطلوبیّة الفعل للآمر الأوّل یحتاج إلی مزید بیان ... .

أمّا التمسک بالإطلاقات ففیه : إن الوجوب بسیط لا یتبعّض ، فهو لیس مرکّباً من طلب الفعل مع المنع من الترک ، وعلیه ، فإنّ حدیث الرفع یکون رافعاً لأصل الجعل ، فلا یبقی دلیل علی المشروعیة ، إلّا أن یقال بأنه یرفع المؤاخذة فقط ، لکنّ المبنی باطل .

و أمّا ظهور الأمر عرفاً فی الطریقیّة ، فإنّه - لو سلّم - لا یکفی لترتّب الثمرة و هو شرعیّة عبادات الصبی ، لأن غایة ما یفید ذلک هو تعلّق غرض للآمر الأوّل بذلک بالفعل کالصّلاة ، و لکن هل الغرض هو نفس الغرض فی عبادات البالغین ، أو أن هناک فی أمر الصبی بالصّلاة غرضاً آخر ؟

إنّه لا یستفاد من نصوص المسألة کون الغرض هو نفس الغرض من صلاة البالغین ، بل إنها صریحة فی أنّه « التعوید » ، ففی صحیحة الحلبی المتقدمة عن أبی عبد الله علیه السلام : « إنّا نأمر صبیاننا بالصلاة إذا کانوا بنی خمس سنین ، و مروا صبیانکم بالصلاة إذا کانوا بنی سبع سنین ، و نحن نأمر صبیاننا بالصوم ...

حتی یتعوّدوا ... » .

و کذا فی مرسلة الصدوق ، و لعلّها نفس روایة الحلبی المذکورة .

و علی هذا ، فإنّ الغرض بالفعل متحقّق ، لکنه غرض آخر غیر الغرض القائم بصلاة البالغین من الناهویة عن الفحشاء و المنکر و نحوها .

فالقول بشرعیّة عبادات الصبی مشکل ، و اللّٰه العالم .

ص:378

الأمر بعد الأمر

اشارة

ص:379

ص:380

هل الأمر بعد الأمر یفید التأسیس أو التأکید ؟

کلام الکفایة :

قال : إذا ورد أمر بشیء بعد الأمر به قبل امتثاله ، فهل یوجب تکرار ذاک الشیء أو تأکید الأمر الأول و البعث الحاصل به ؟

قضیّة إطلاق المادّة هو التأکید ، فإنّ الطلب تأسیساً لا یکاد یتعلّق بطبیعةٍ واحدةٍ مرّتین ، من دون أن یجئ تقیید لها فی البین و لو کان بمثل مرة أُخری ، کی یکون متعلّق کلّ منها غیر متعلّق الآخر کما لا یخفی ، و المنساق من إطلاق الهیئة و إن کان هو تأسیس الطلب لا تأکیده ، إلّا أن الظاهر هو انسباق التأکید عنها فیما کانت مسبوقةً بمثلها و لم یذکر هناک سبب أو ذکر سبب واحد (1) .

توضیح ذلک :

أمّا إن کان هناک أمران و موضوعان ، کقوله : إن ظاهرت فاعتق رقبة ، ثم قوله :

إن أفطرت فأعتق رقبةً ، فلا کلام فی التأسیس و التعدّد ، و کذا لو کرّر الخطاب الواحد لکن مع کلمة « مرة أُخری » مثلاً ... فمورد البحث ما لو أمر بشیء و کرّر الأمر قبل امتثال الأمر الأول ، کما لو قال اعتق رقبةً ، ثم قال بعد ذلک و قبل الامتثال :

اعتق رقبةً ... فیقول صاحب ( الکفایة ) أنّ المادّة و الهیئة مطلقان ، لکن مقتضی

ص:381


1- 1) کفایة الأُصول : 145 .

إطلاق المادّة - و هو العتق مثلاً - هو التأکید ، لأن الواجب الذی تعلّق به التکلیف هو صرف وجود العتق ، فلمّا أعاد الأمر بلا قید « مرة أُخری » مثلاً ، توجّه إلی صرف الوجود کذلک ، و هو للطبیعة الواحدة لا یتعدّد ، فلو جعل الأمر الثانی تأسیسیّاً لزم ورود التکلیفین علی صرف الوجود ، و هو غیر معقول ، إذ البعثان یستلزمان الانبعاثین ، و قد تقدم أنه لا یقبل التکرار ، و التعدّد ، فمقتضی إطلاق المادة هو التأکید .

بخلاف إطلاق الهیئة ، و هو الوجوب ، فإن مقتضی الإطلاق الانصرافی فیه هو التأسیس ، لأنّ إنشاء الوجوب إنما یکون بداعی الطلب ، فلو کان الأمر الثانی بداعی التأکید لاحتاج إلی قرینةٍ ، فمقتضی إطلاق الهیئة هو التأسیس .

و حینئذٍ ، یقع التمانع بین الإطلاقین ، فإن إطلاق المادّة کان الطلب تأکیدیاً ، فإنْ رجّح إطلاق الهیئة کان تأسیسیاً ، و إن لم یرجّح أحدهما فالکلام مجمل ، و المرجع هو الأصل العملی .

رأی المحقق العراقی

و فی ( نهایة الأفکار ) (1) : قد یقال بلزوم الحمل علی التأکید ، ترجیحاً لإطلاق المادّة علی الهیئة ، باعتبار کونها معروضة للهیئة و فی رتبةٍ سابقة علیها ، إذ یقال حینئذٍ بجریان أصالة الإطلاق فیها فی رتبة سابقة بلا معارض .

( قال ) : و لکن یدفعه أن المادة کما کانت معروضةً للهیئة و فی رتبة سابقة علیها ، کذلک الهیئة أیضاً ، باعتبار کونها علّة لوجود المادّة فی الخارج کانت فی رتبة سابقة علیها ، فمقتضی تقدّمها الرتبی علیها حینئذٍ هو ترجیح اطلاقها علی إطلاق المادّة » .

ص:382


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 401 .

ثم انّه احتمل ترجیح اطلاق الهیئة بحسب أنظار العرف ، لکون الهیئة علّةً لوجود المادّة ، ثم قال : « لکن مع ذلک لا تخلو المسألة من إشکال » ثم قال بأنّ « مقتضی الأصل هو التأکید ، لأصالة البراءة عن التکلیف الزائد » .

إشکال الأُستاذ علی المحقق العراقی

و قد أورد شیخنا علی کلام المحقق العراقی بوجوهٍ :

الأول : إنه إنّ لیس العلّة لوجود المادّة هو الهیئة أی الوجوب ، بل هو علم المکلّف بالوجوب ، فلا تقدّم بالعلیّة للهیئة ، لکنّ المادّة متقدّمة علی الهیئة بالتقدّم الطبعی .

و الثانی : إنّ الملاک هو التقدّم و التأخّر فی مقام الجعل ، و من الواضح أن المولی یلحظ المتعلّق ثم یجعل الحکم بالنسبة إلیه ، فیکون إطلاقه - إن أُخذ مطلقاً - مقدّماً علی إطلاق الهیئة إن أُخذت کذلک .

و الثالث : إنّ هذه المسألة عرفیّة و التقدّم و التأخر فیها زمانی ، و لیست بعقلیّة حتی یکون المناط فیها هو المرتبة ، و العرف یفهم توجّه الوجوب إلی « عتق الرقبة » و یلحظهما معاً فی آنٍ واحدٍ و یتحرک نحو الامتثال ، و لیس یوجد فی نظر العرف اختلاف المرتبة أصلاً .

قال الأُستاذ

و التحقیق هو : أنّ هذا الکلام له ظهور - و لا وجه للتوقف کما صار إلیه المحقق العراقی - و هو ظهور مقامی ، لأنّ کلّ أمرٍ صادر من المولی فلا بدّ و أن یکون بداعٍ من الدواعی ، کالبعث ، و الاختبار ، و الاستهزاء و غیر ذلک ، فإذا کان الداعی هو البعث ، أی کان إنشاءً بداعی جعل الداعی فی نفس العبد ، و لم یکن هناک أیّة قرینةٍ ، کان مقتضی هذا الإطلاق داعویّة کلّ واحدٍ من الأمرین ، و استلزامه

ص:383

للامتثال ... لکنّ الأمر الثانی لمّا کان قبل امتثال الأمر الأوّل و حصول الغرض منه ، فإنّ العرف یفهم منه التأکید للأمر الأوّل ، و لا یراه صادراً بداعی البعث ، فکان هذا الفهم العرفی هو الوجه لحمل المادّة علی التأکید .

فما ذهب إلیه فی ( الکفایة ) هو الصحیح ، للوجه الذی ذکره ، و للفهم العرفی الذی ذکرناه .

فإن وصلت النوبة إلی الشک ، دار الأمر بین الأقل و الأکثر ، إذ یشک فی وجوب الزائد علی صرف الوجود و عدم وجوبه ، فیجری استصحاب عدم تعلّق الوجوب بالفرد الآخر ، و یجری البراءة الشرعیة و العقلیة عن التکلیف الزائد ...

و اللّٰه العالم .

هذا تمام الکلام فی المقصد الأول : الأوامر .

و تم الجزء الثالث و یلیه الجزء الرابع و أوّله: المقصد الثانی فی النواهی.

ص:384

المجلد 4

اشارة

ص :1

ص :2

ص :3

ص :4

المقصد الثانی النواهی

اشارة

ص:5

ص:6

و الکلام فی جهات :

الجهة الاولی ( فی معنی مادّة النهی و صیغته )

کلام الکفایة

ذهب المحقق الخراسانی (1) و تبعه المیرزا النائینی (2) إلی أن النهی - بمادّته و صیغته - یدلّ علی الطلب ، کالأمر بمادّته و صیغته ، غیر أنّ متعلّق الطلب فی الأمر هو الوجود ، و متعلّقه فی النهی هو العدم ... .

قال : نعم هو : إنّ متعلّق الطلب فیه هل هو الکف أو مجرّد الترک و أن لا یفعل ؟

قال : و الظاهر هو الثانی .

قال : و توهّم أن الترک و مجرّد أن لا یفعل خارج عن تحت الاختیار ، فلا یصح أن یتعلّق به البعث و الطلب ، فاسد . فإنّ الترک أیضاً یکون مقدوراً ، و إلّا لما کان الفعل مقدوراً و صادراً بالإرادة و الاختیار . و کون العدم الأزلی لا بالاختیار ، لا یوجب أن یکون کذلک بحسب البقاء و الاستمرار الذی یکون بحسبه محلّاً للتکلیف .

ص:7


1- 1) کفایة الاصول: 149.
2- 2) أجود التقریرات 2 / 119.

فالمختار عنده ما علیه المشهور - کما قیل - من أن مدلولهما نفس مدلول المادّة و الصیغة فی الأمر ، و هو الطّلب ، غیر أنّ المتعلّق مختلف ، إذ النهی عبارة عن طلب ترک الشیء .

فإن قیل : إن الترک لا یتعلّق به الطلب ، لأنه أمر عدمی و العدم لا یتعلّق به غرض ، بل الصحیح هو القول بأن النهی طلب کفّ النفس .

فالجواب : أمّا علی القول بأن عدم الملکة له حظ من الوجود فواضح ، لتعلّق الغرض به . و أمّا علی القول بأنه لا حظّ له من الوجود عقلاً ، فالجواب : إن الأعدام المضافة إلی الوجود تتعلّق بها الأغراض عقلاءً .

فإن قیل : إنه إذا کان النهی طلب الترک و العدم ، فإنّ العدم غیر مقدور ، و لا یعقل طلب غیر المقدور ... و لذا یکون المتعلّق هو الکفّ لا الترک .

فأجاب : بأن العدم غیر المقدور هو العدم الأزلی لا العدم بحسب البقاء و الاستمرار فهو مقدور ، و التکالیف إنما هی بحسب البقاء و الاستمرار لا بحسب الأزل .

فالإشکالان مندفعان .

ما یرد علی مختار الکفایة

لکن یرد علیه :

أمّا ثبوتاً : فإن الطلب معلول للشوق ، و معلول معلول للمصلحة ، و ما لا تترتب علیه المصلحة لا یتعلّق به الشوق ، و أیّ مصلحة تترتب علی العدم ؟

و الحاصل : إنه لا یعقل بالنسبة إلی الترک إلّا الشوق بالعرض ، بمعنی أنّه لما یکون وجود الشیء غیر مشتاقٍ إلیه فعدمه یکون مطلوباً ، أمّا الترک أوّلاً و بالذات ، فلا یتعلّق به الشوق فلا یتعلّق به الطلب .

هذا أوّلاً .

ص:8

و ثانیاً : إنّ مدلول النهی عند هذا المحقق هو الطلب الإنشائی ، و لا بدّ من صدوره عن الإرادة الجدیّة ، لکن تعلّقها حقیقةً بالعدم غیر معقول ، لأنه - و إن کان مضافاً إلی الوجود - غیر قابلٍ للوجود .

و أمّا إثباتاً : فإن « لا تفعل » الذی هو طلب الترک ، یشتمل علی مادّةٍ و هیئة ، أمّا المادّة فمدلولها الفعل ، و أمّا الهیئة فمدلولها - علی الفرض - هو الطلب ، فأین الدالّ علی الترک ؟ بخلاف الأمر ، فإنّ مدلول الهیئة فی « صلّ » هو الطلب و المتعلّق هو مادّة الصّلاة ، فکان المدلول : طلب الصّلاة ، و هو یقتضی إیجادها .

فما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) مخدوش ثبوتاً و إثباتاً .

الأقوال الأُخری

و قد خالف سائر الأعلام المحقق الخراسانی فی هذا المقام ، و ذهبوا إلی أنّ مدلول النهی یغایر مدلول الأمر لکنّ المتعلّق واحد ، ثم اختلفوا علی أقوال :

القول الأول

إن مدلول النهی هو الکراهة و مدلول الأمر هو الإرادة .

و فیه : إنّ الإرادة و الکراهة هما المبدأ و العلّة للأمر و النهی ، و علّة الشیء لا تکون مدلولاً له .

القول الثانی

إنّ مدلول النهی عبارة عن حرمان المکلّف من الفعل ، و مدلول الأمر عبارة عن ثبوت الشیء فی ذمة المکلّف . و الأساس فی هذا القول هو : أن حقیقة الإنشاء عبارة عن الاعتبار و الإبراز أو إبراز الاعتبار . ( قال ) و نظیر ذلک ما ذکرناه فی بحث الإنشاء و الإخبار من أن العقود و الإیقاعات کالبیع و الإجارة و الطلاق و النکاح أسام لمجموع المرکب الاعتباری النفسانی و إبراز ذلک فی الخارج بمبرز ، فلا یصدق

ص:9

البیع - مثلاً - علی مجرّد ذلک الأمر الاعتباری أو علی مجرد ذلک الإبراز الخارجی .

و ذکر : أن ما ذهب إلیه جماعة من المحققین من أن حقیقة النهی هو الزجر ، من اشتباه المفهوم بالمصداق ، لأنّ « الحرمان » المبرز مصداق « الزجر » (1) .

و فیه : لا إشکال فی وجود « الحرمان » فی موارد « النهی » ، و أنه یصحّ أن یقال بأنّ المکلّف قد حُرم من الفعل الکذائی ، لکنّ محطّ البحث هو تعیین مفاد النهی مجرّداً عن لوازمه ، فنحن نعلم بأن لازم طلوع الشمس هو وجود النهار ، لکنّه خارج عن مدلول لفظ الشمس ... وعلیه ، فإن وجود الحرمان - عقلاءً - فی مورد النهی شیء و کونه مدلول النهی شیء آخر ، و کذلک الکلام فی طرف الأمر ، فثبوت الشیء فی الذمّة لا ینکر ، لکنّ کونه هو المدلول أوّل الکلام .

هذا ، و لو لم یکن لهیئة « لا تفعل » مدلول إلّا« الحرمان » الاعتباری ، کان اللّازم أن ینسبق إلی الذهن منها عین ما ینسبق من مادّة « الحرمان » ، و الحال أنه لیس کذلک کما هو واضح ، بل لا توجد بینهما المساوقة الموجودة بین لفظ « من » و« الابتداء » و نحوهما .

فظهر أن ما ذهب إلیه المحقق الخوئی خلطٌ بین المعنی و لازم المعنی .

الرأی المختار

و قد اختار شیخنا - فی کلتا الدورتین - ما ذهب إلیه جماعة من المحققین ، کالأصفهانی و العراقی و البروجردی ، من أنّ النهی عبارة عن الزجر ، کما أن الأمر عبارة البعث .

و توضیح ذلک : إنه کما فی الإرادة التکوینیّة یلحظ الإنسان الشیء - کالصّلاة مثلاً - فیری فیه المصلحة و یتعلّق به غرضه ، فیشتاق إلیه و یتحرّک نحوه أو یأمر

ص:10


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 276 .

الغیر به فتکون إرادة تشریعیّة ، کذلک فی طرف النهی ، فإنّه یتصوّر الشیء و یری فیه المفسدة و ما ینافی الغرض ، فینزجر عنه تکویناً ، و یزجر غیره عنه تشریعاً ...

و هذا هو واقع الحال فی الأمر و النهی ، فهو لمّا یری وجود المفسدة فی شرب الخمر لا یُقدم علی ذلک ، و إذا أراد زجر الغیر یقول له : « لا تشرب الخمر » أو یشیر إلی هذا المعنی بیده إشارةً مفهمةً له ... فمعنی « النهی » هو « الزجر » عن الشیء المعبّر عنه بالفارسیة « بازداشتن » ، فهیئة « لا تفعل » مدلولها و النسبة الزجریّة ، « النّسبة » معنی حرفی ، کما أنّ مدلول هیئة « افعل » هو « النسبة البعثیّة » .

هذا تمام الکلام فی ... و قد ظهر أن الخلاف یرجع إلی أنّه هل المدلول فی الأمر و النهی واحد و المتعلّق متعدّد ، أو أن المعنی متعدّد و المتعلّق واحد ؟

قال المشهور بالأوّل ، وعلیه المحقق الخراسانی و المحقق النائینی .

و قال الآخرون بالثانی .

و اختلف المشهور علی قولین ، فمنهم من جعل المتعلّق أمراً عدمیّاً و هو الترک وعلیه صاحب ( الکفایة ) و المیرزا ، و منهم من جعله وجودیّاً و هو الکفّ .

و اختلف الآخرون علی أقوال ، و المختار هو « الزجر » وفاقاً للمحقق الأصفهانی و غیره .

هذا ، و فی ( منتقی الاصول ) أنّ التحقیق موافقة صاحب ( الکفایة ) فیما ذهب إلیه ، قال :

و التّحقیق : موافقة صاحب ( الکفایة ) فی ما ذهب إلیه من الرّأی .

و الّذی ندّعیه : أنّ المنشأ فی مورد النّهی لیس إلّا البعث نحو التّرک مع الالتزام بأنّ مفهوم النّهی یساوق عرفاً مفهوم المنع و الزّجر لا البعث و الطّلب .

و الوجه فیما ادّعیناه : هو أنّ التکلیف أعمّ من الوجوب و التّحریم - علی

ص:11

جمیع المبانی فی حقیقته - إنّما هو لجعل الدّاعی و للتحریک نحو المتعلّق بحیث یصدر المتعلّق عن إرادة المکلّف ، و من الواضح أنّ ما یقصد إعمال الارادة فیه فی باب النّهی هو التّرک و عدم الفعل ، و لا نظر إلی إعمال الإرادة فی الفعل کما لا یخفی جدّا ، و هذا یقتضی أن یکون المولی فی مقام تحریک المکلّف نحو ما یَتعلّق به اختیاره و هو التّرک ، و یکون فی مقام جعل ما یکون سبباً لإعمال إرادة المکلّف فی التّرک ، فواقع النّهی لیس إلّا هذا المعنی و هو قصد المولی و إرادته تحریک المکلّف و إعمال إرادته فی التّرک .

و هذا کما یمکن أن ینشأ بمدلوله المطابقی و هو طلب الترک ، کذلک یمکن أن ینشأ بمدلوله الالتزامی و هو الانزجار عن الفعل ، فإنّه لازم ارادة ترک العمل ، و هو فی باب النّهی منشأ بمدلوله الالتزامی بعکسه فی باب الأمر فإنّه منشأ بمدلوله المطابقی ، فالمنشأ فی باب النّهی إرادة الترک بمفهوم المنع و النّهی ، و لیس المنشأ هو نفس المنع عن الفعل ، لأنّه غیر المقصود الأوّلی و أجنبی عمّا علیه واقع المولی .

و أمّا دعوی : أنّه لیس فی الواقع سوی کراهة الفعل تبعاً لوجود المفسدة فیه دون إرادة التّرک ، فهی باطلة ، فإنه کما هناک کراهة للفعل کذلک هناک إرادة و محبوبیّة للتّرک ، و یشهد لذلک الأفعال المبغوضة بالبغض الشّدید ، فإنّ تعلّق المحبوبیّة بترکها ظاهر واضح لا إنکار فیه ، کمحبوبیّة الصحة التی هی فی الحقیقة عدم المرض و نحو ذلک .

و أمّا تمییز الواجب عن الحرام ، فلیس الضّابط فیه ما هو المنشأ و ما هو متعلّق الإرادة أو الکراهة ، بل الضّابط فیه ملاحظة ما فیه المفسدة و المصلحة ، فإن کان الفعل ذا مفسدة کان حراماً و إن کان المنشأ طلب الترک ، و إن کانت المصلحة

ص:12

فی الفعل أو فی الترک کان الفعل أو الترک واجباً ، و مثل الصّوم تکون المصلحة فی نفس التّرک فیکون واجباً (1) .

أقول :

إن موضوع البحث هو مفاد النهی ، و ما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) هو دلالة النهی علی طلب الترک ، و قد عرفت ما فیه . و أمّا ما ذهب إلیه السیّد الأُستاذ من أنّ النهی کما یمکن أن ینشأ بمدلوله المطابقی و هو طلب الترک ، کذلک یمکن أنْ ینشأ بمدلوله الالتزامی و هو الانزجار عن الفعل ، فإنه لازم إرادة ترک العمل ، ففیه : إنّ الانزجار عن الفعل حالة تحدث للمکلَّف عند إرادته ترک العمل امتثالاً للنهی کما ذکر ، لا أنّه مدلولٌ للنهی ، فکون الشیء مدلولاً للنهی - کما هو موضوع البحث - أمرٌ ، و کونه ملازماً للمدلول - کما نصّ علیه فی موضعٍ آخر (2) - أمر آخر ، بل إنّ التعبیر بالانزجار یناسب ما ذهب إلیه الجماعة - و تبعهم شیخنا الأُستاذ - من أن المدلول هو الزّجر ، للتضایف بینهما کما لا یخفی .

فما أفاده ، إمّا یرجع إلی ما ذکروه و إما هو خلط بین المعنی و لازمه ، کما تقدَّم فی الإشکال علی ( المحاضرات ) لو تمّ رأی صاحب ( الکفایة ) .

الجهة الثانی ( فی الفرق بین الأمر و النهی من جهة الاقتضاء )

اشارة

إنَّ الأمر یقتضی الإتیان بصرف وجود الطبیعة ، فلو أمر بالصّلاة حصل الامتثال بصرف وجودها من قبل المکلّف ، بخلاف النهی ، فإنه یقتضی الانزجار عن جمیع أفراد الطبیعة . فما هو المنشأ لهذا الفرق ؟

ص:13


1- 1) منتقی الاصول 3 / 6 - 7 .
2- 2) منتقی الاصول 3 / 11 .
رأی المحقق الخراسانی

قال فی ( الکفایة ) :

ثم إنه لا دلالة لصیغته علی الدوام و التکرار کما لا دلالة لصیغة الأمر ، و إن کان قضیّتهما عقلاً تختلف و لو مع وحدة متعلّقهما ، بأن تکون طبیعة واحدة بذاتها و قیدها تعلّق بها الأمر مرةً و النهی أُخری ، ضرورة أن وجودها یکون بوجود فردٍ واحدٍ ، و عدمها لا یکاد یکون إلّا بعدم الجمیع کما لا یخفی (1) ... .

فمنشأ الفرق عند المحقق الخراسانی هو حکم العقل ، و وافقه المیرزا - و إن کان هناک فرق بین کلامیهما ، و ما ذکره صاحب ( الکفایة ) أتقن - و حاصل هذا الوجه هو : إنّ وجود الطبیعة یتحقق بوجود فردها ، لکنّ عدمها لا یتحقّق إلّا بعدم جمیع الأفراد ، و إن کان فی نسبة التحقق و العدم إلی العدم مسامحة ... .

بیان السید الحکیم

و قد ذکر السید الحکیم برهاناً لهذا الوجه فقال : بأنه لمّا یوجد الفرد من طبیعةٍ ما فبوجوده توجد الطبیعة أیضاً ، فإذا کان المطلوب تتحقّق الطبیعة فإنّها تتحقّق بوجود الحصّة و یحصل الامتثال ، أمّا فی النهی ، فلا یکفی فی عدم الطبیعة عدم فردٍ بل لا بدّ من عدم جمیع الأفراد ، إذ لو وجد بعض أفرادها و عدم البعض الآخر فصدق وجود الطبیعة و عدمها ، لزم اجتماع النقیضین ، فلا بدّ إمّا أن لا یصدق علی وجود الفرد أنه وجود للطبیعة أو یصدق و لا یکون عدمها إلّا بعدم جمیع الأفراد ، و حیث أنه یصدق ضرورةً ، فلا یکون عدم الطبیعة إلّا بعدم تمام أفرادها .

فیکفی فی امتثال الأمر وجود واحد للطبیعة ، و لا یکفی فی امتثال النهی إلّا ترک جمیع الأفراد لیتحقق عدمها (2) .

ص:14


1- 1) کفایة الاصول : 149 .
2- 2) حقائق الأُصول 1 / 346 .
إشکال الأُستاذ

و قد أورد علیه شیخنا : بأنّه یستلزم أن یکون أحد النقیضین أعمّ من النقیض الآخر ، و ذلک : لأنّ وجود الطبیعة و عدمها متناقضان کما هو معلوم ، فإن قلنا بوجودها بوجود فردٍ ما من أفرادها أمّا عدمها فلا یصدق بعدمه بل بعدم تمام أفرادها ، لزم أن تکون دائرة العدم بالنسبة إلی هذه الطبیعة أوسع من دائرة الوجود ، و لازم ذلک ارتفاع النقیضین ، لأنه فی حال وجود الفرد الواحد فقط ، لا یصدق العدم علی الزائد عنه کما لا یصدق الوجود ، و هو محال .

و علی الجملة ، فإنه إذا کان وجود الطبیعة بصرف وجود فردٍ ما ، فإنّ نقیض صرف الوجود هو صِرف العدم لا عدم جمیع أفرادها ... و لو قیل : بأنّ الوجود المضاف إلی الطبیعة یقتضی صرف الوجود ، أما العدم المضاف إلیها فهو عدم صرف الوجود ، و هذا یلازم عدم جمیع الأفراد ، فهو توهم باطل ، لأنه یستلزم تحقّق المعصیة بالفرد الأوّل ، و أنه لا معصیة بارتکاب الأفراد الأُخری ، و هذا خلاف الضرورة ... .

و تلخّص : أن الفرق بین مقتضی الأمر و النهی لیس بحکم العقل .

رأی المحقق الأصفهانی

و ذهب المحقق الأصفهانی : إلی أن الفرق ناشئ من الاختلاف فی الإطلاق ، فإن مقتضاه فی الأمر هو صرف الوجود ، أمّا فی النهی فهو ترک جمیع الوجودات ... و قد أوضح ذلک : بأنه لمّا کان الأمر ناشئاً عن المصلحة ، فإنّها تتحقّق بصرف وجود المتعلّق ، و النهی لمّا کان ناشئاً من المفسدة فی المتعلّق ، فلا محالة یکون الإطلاق فیه مقتضیاً للانزجار عن جمیع وجودات المتعلّق ، لأن المصلحة تترتب تارةً : علی صرف الوجود ، و أُخری : علی مجموع الوجودات

ص:15

بنحو العام المجموعی ، و ثالثة : علی کلّ الوجود بنحو العام الاستغراقی ، و رابعة :

علی المسبب من الوجودات . هذا بحسب مقام الثبوت .

هذا فی الأمر ... و کذلک الحال فی النهی و تبعیّته للمفسدة .

و فی مرحلة الإثبات ، نری فی الأمر فی الصورة الأُولی حیث المصلحة قائمة بصرف الوجود ، لا یحتاج المولی إلی بیانٍ زائد ، فلو قال « صلّ » کفی ، و یتحقق الامتثال بصرف وجود الصّلاة ، بخلاف الصور الباقیة ، فیحتاج إلی بیان زائد ... أمّا فی النهی ، فإن المورد الذی لا یحتاج فیه إلی بیان زائد هو صورة ما إذا کانت المفسدة قائمةً بجمیع وجودات المتعلّق ، فإن مقتضی الإطلاق فیها هو الانزجار عن الجمیع کما فی « لا تشرب الخمر » ... بخلاف الصور الأُخری فهی محتاجة إلی البیان (1) .

إشکال المحاضرات

و أورد علیه فی ( المحاضرات ) :

أولاً : إن هذا الوجه أخصّ من المدّعی ، فإنه مبنی علی مسلک العدلیة - من تبعیّة الأحکام للمصالح و المفاسد - فقط ، و لا یحلّ المشکل علی جمیع المبانی .

و ثانیاً : إن هذا الوجه للفرق - و إن کان صحیحاً فی نفسه - إلّا أنه لا طریق لنا إلی إحراز کیفیة المصلحة و المفسدة ، إذ لا یوجد عندنا إلّا الأمر و النهی ، و هما لا یکشفان عن کیفیة المصلحة و المفسدة اللتین هما تبع لهما (2) .

نظر الأُستاذ فی الرأی و الإشکال علیه

و أفاد الأُستاذ : بأن الأساس فی رأی المحقق الأصفهانی هو الارتکاز ، فإن

ص:16


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 290 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 285 .

المرتکز فی الأذهان کون المصلحة مترتبةً علی صرف الوجود و المفسدة مترتّبة جمیع الوجودات ، و هذا الارتکاز المستند إلی الغلبة هو السبب فی انصراف الإطلاق فی طرف الأمر إلی صرف الوجود و فی طرف النهی إلی مطلق الوجود ...

فالإشکال مندفع و إن کان کلام المحقق المذکور غیر وافٍ بما ذکرناه .

لکنّ الإشکال الوارد هو عدم ثبوت هذه الغلبة ... و یشهد بذلک أن الأوامر الواردة فی المندوبات لیس المطلوب فیها صرف الوجود ، فلمّا یقول : اذکر اللّٰه ، فإنّ المطلوب ذکر اللّٰه بنحو الإطلاق ، و کذا : أکرم العالم ... و نحو ذلک .

رأی المحاضرات

و ذهب المحقق الخوئی إلی أنه لا فرق فی مقام الثبوت ، بل هو فی مقام الإثبات و یتلخّص فی أنه یستحیل تعلّق التکلیف بجمیع وجودات المتعلّق ، لأنّها غیر مقدور علیها ، و إذ لا معیّن و مرجّح لعدد منها بعد ذلک ، فإن الأمر یتنزّل إلی صرف وجود الطبیعة ، و یتحقق الامتثال بالإتیان به .

أمّا فی النهی ، فإن الحال بالعکس ، لأن صرف الترک حاصل بالضرورة ، لعدم القدرة علی ارتکاب کلّ أفراد المتعلَّق و طلبه تحصیل للحاصل ، فلا یعقل الزجر عنه ، و إذ لا معیّن لمرتبةٍ من المراتب ، فإنّ النهی یترقّی إلی مطلق وجود المتعلّق .

الإشکال علیه

و أورد علیه شیخنا بوجوه :

الأول : إنّ کلّ تعیّن محتاجٌ إلی معیّن بلحاظ خصوصیّةٍ ، وعلیه ، فما المعیّن لصرف الوجود عند العجز عن جمیع الوجودات ؟ و ما الدلیل علیه إثباتاً ؟

إن مجرّد عدم القدرة علی الجمیع لا یوجب التعیین ، بل فی هذه الحالة

ص:17

یلزم إجمال الدلیل و المرجع هو الأصل العملی .

و الثانی : إن کلامه منقوض بما ذکره فی الجهة الثانیة من أنّ المصلحة قد تکون فی الفعل و الترک ، و هی فی الترک تتصوّر علی أربعة أنحاء : فتکون المصلحة فی صرف الترک ، و فی تمام التروک بنحو الانحلال ، و فی مجموعها ، و فی المسبب عن جمیعها .

فإذا کانت المصلحة قائمة بصرف الترک ، فهو المتعلّق للطلب ، و الحال أنه ضروری الوجود و طلبه تحصیلٌ للحاصل .

و الثالث : إن معنی القدرة هی أنه إن شاء فعل و إن لم یشأ لم یفعل ، فهی القدرة علی الفعل و الترک ، و فی کلّ موردٍ یکون الفعل غیر مقدور فالترک کذلک ...

وعلیه ، فلو لم تکن قدرة علی جمیع الوجودات ، فلا قدرة علی ترک الجمیع ، و لو کان صرف الترک تحصیلاً للحاصل ، کذلک صرف الفعل ... .

و الحاصل : إنه إن کان أحد النقیضین مقدوراً علیه فالآخر کذلک ، و إن لم یکن فالآخر کذلک ... و قد ذکر المحقق الأصفهانی هذا المطلب ، و اعترف به فی ( المحاضرات ) وعلیه فلا یتم ما ذکره .

منشأ الفرق هو الارتکاز العرفی

و قد ذکر الأُستاذ فی الدّورتین : إنّه لمّا کان وجود الفرق بین مقتضی الأمر و النهی من الأُمور المسلّمة عند العرف ، و لم یمکن إقامة البرهان العقلی الصحیح علی ذلک بما تقدّم من الوجوه ، و لا بناءً علی ما ذهب إلیه المحقق الفشارکی - و تبعه المحقق الحائری (1) - من أن صرف الوجود ناقض للعدم الکلّی ، لأنّ کلّ وجودٍ فهو ناقضٌ لعدم نفسه ، فلا بدّ و أن یکون لفهم العرف منشأ غیر ما ذکر ... .

ص:18


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 76 .

و قد أفاد دام ظلّه ، بأن القضیة فی طرف الأمر و تحقق الامتثال بصرف وجود الطبیعة واضحة عقلاً و عقلاءً ، و أمّا فی طرف النهی ، فإنّ الارتکاز العقلائی منشؤه وجود الملازمة بین عدم صرف الوجود مع عدم الوجودات کلّها ، و هذا هو وجه الفرق .

ثم أجاب عمّا أورده المحقق الأصفهانی : من أنّ هذا من اللّوازم و لیس مقتضی النهی نفسه ، بأن المشکلة کانت فی وجه الفرق ، و لا أحدٌ یدّعی أنّ هذا الافتراق هو من ناحیة نفس النهی ... .

لکن یبقی الإشکال بأنّه : إذا کان النهی عن صرف الوجود فقط لا عن جمیع الوجودات ، فإنه یستلزم أنّه إن خالف النهی و ارتکب المنهیّ عنه ، تتحقق المعصیة مرّةً واحدةً و لا یکون ارتکابه فیما بعده معصیةً .

و سیأتی الجواب عنه - فی الجهة اللّاحقة - من کلام المحقق الخراسانی .

الجهة الثالثة ( هل یسقط النهی بالمعصیة ؟ )

قال فی الکفایة :

ثم إنه لا دلالة للنهی علی إرادة الترک لو خولف أو عدم إرادته ، بل لا بدّ فی تعیین ذلک من دلالة و لو کان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة ، و لا یکفی إطلاقها من سائر الجهات (1) .

و توضیح ذلک : إن النواهی فی الشّریعة المقدّسة علی قسمین : فقد ینهی الشارع عن شیء ، و لا یبقی النهی لو خولف بصرف الوجود ، کما فی النهی عن التکلّم فی الصّلاة مثلاً ، فإنّه - علی مسلک صاحب ( الکفایة ) - طلب الترک ، فإذا تعلّق الغرض بعدم التکلّم فی الصّلاة و جاء النهی عنه ، فإن صرف وجوده فیها

ص:19


1- 1) کفایة الاصول: 150 .

یوجب عدم تحقق الغرض ، و حینئذٍ لا یبقی النهی لیکون التکلّم الثانی و الثالث مضرّاً بالصّلاة ، بل إنها بالأول بطلت .

و قد ینهی الشارع عن شیء و یکون کلّ واحدٍ من أفراد التروک مطلوباً برأسه ، کالمنع عن شرب الخمر ، فإنه بارتکابه مرةً لا یسقط النهی بل یبقی متوجّهاً إلی الأفراد الأُخری من هذا الفعل .

فهذا القسمان من النهی فی عالم الثبوت متحقّقان .

فإن ورد و شک فی أنه من أیّ القسمین فما هو مقتضی القاعدة ؟

ذهب المحقق الخراسانی إلی إنه یؤخذ بإطلاق الکلام من جهة المخالفة و عدمها ، فإنه لمّا لم یقیّد النهی بالمرّة و غیرها ، کان ظاهراً فی بقائه بعد المعصیة ، ( ثم قال ) : إنه لا بدّ من وجود الإطلاق من هذه الجهة ، و لا أثر لإطلاق الکلام من سائر الجهات ، من الزمان و المکان و غیر ذلک .

تقریب المیرزا

و قد اختار المیرزا هذا المبنی بتقریبٍ آخر فقال ما حاصله :

إن المطلوب فی النواهی تارةً : خلوّ صفحة الوجود عن الشیء ، و حینئذٍ یکون المتعلّق هو الطبیعة ، کالتکلّم فی الصّلاة ، فإنه قد لوحظت الطبیعة و تعلّق بها النهی ، أمّا ترک هذا الفرد أو ذاک منها ، فهو من لوازم المطلوب .

و أُخری : یکون علی العکس ، إذ یتعلّق بالفرد ، و خلوّ صفحة الوجود عن الطبیعة لازم المتعلّق ، کالنهی عن شرب الخمر ، فإنه متعلّق بکلّ فردٍ فردٍ ، فلو اطیع لزم خلوّ صفحة الوجود من شرب الخمر .

و غالب النواهی فی الشریعة من قبیل القسم الثانی ... أمّا موارد القسم الأوّل فقلیلة ، و مثاله تروک الإحرام و النهی عن المفطرات فی الصّوم .

ص:20

بیان المحاضرات

و فی ( المحاضرات ) بیان طویلٍ ، و ملخّصه :

إن للنهی - بحسب مقام الثبوت - أقساماً أربعة (1) ، و لا یخفی أنّه ینشأ عن المفسدة ، کما أنّ الأمر ینشأ عن المصلحة ، فالملحوظ هو المفسدة و المصلحة ، و لا یلحظ اللّفظ ، فلو قال « أطلب منک ترک شرب الخمر » کان نهیاً ، للمفسدة فی الشرب ، و لو قال : « لا تترک الصّلاة » کان أمراً بالصّلاة للمصلحة فیها .

فتارةً : المفسدة تکون فی صرف الترک .

و أُخری : فی کلّ واحدٍ واحدٍ من التروک بنحو العام الاستغراقی .

و ثالثة : فی مجموع الأفعال .

و رابعة : فی المسبب عن الأفعال .

( قال ) و کذلک الحال فی طرف الأمر .

( قال ) و تظهر الثمرة فی موردین (2) :

( أحدهما ) مورد الاضطرار ، فلو اضطرّ إلی الفعل أو الترک ، و کانت المصلحة فی صرف الفعل أو الترک ، فإنه بمجرّد حصول فردٍ من الفعل أو الترک ، یسقط الحکم . و أما إذا کان المطلوب بنحو العام الاستغراقی فإن الحکم ینحلُّ ، فإذا خولف فی مورد بقی بالنسبة إلی غیره من الموارد . أمّا إذا کان المطلوب مجموع الأفعال أو مجموع التروک ، فهذا الطلب شخصی - بخلاف الأول ، فإنه ینحلّ بحسب الأفراد - و الطلب الشخصی یسقط بترکٍ واحد ، لأنه قد کان بنحو العام المجموعی حاملاً للغرض ، فإذا عصی فلا یبقی حکم . و أمّا إذا کان متعلّق

ص:21


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 282 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 311 .

الغرض هو الشیء المسبب من الأفعال أو التروک ، فإنه بالمخالفة بموردٍ ینتفی حامل الغرض ، و بذلک یسقط الغرض ، فلا یبقی الحکم .

( و الثانی ) مورد الشک ، فإنه إن کان المطلوب صرف الترک و صدر منه ذلک ، ثم شکّ فی مطلوبیة الطبیعة و عدمها ، فلا أثر لهذا الشک ، لأنّه حتی لو تیقّن بمطلوبیة الطبیعة فإنّها بصرف المخالفة تبقی کما هو واضح .

و إن کان المطلوب کلّ واحدٍ من التروک بنحو العام الاستغراقی ، فإنه مع ارتکاب المخالفة فی موردٍ یشک فی بقاء التکلیف بالنسبة إلی غیره ، فیکون مجری الأصل ، لأنه من موارد دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، و البراءة عقلاً و نقلاً جاریة .

و إن کان المطلوب هو العام المجموعی ، و ارتکب فرداً و شک فی أنه ترک للطبیعة أو لا ، کان من قبیل دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الارتباطیین - کأجزاء الصّلاة مثلاً - فعلی المبنی ، إذ الأقوال هناک ثلاثة ، الاحتیاط ، و البراءة مطلقاً ، و التفصیل بین الشرعیة فتجری و العقلیة فلا تجری ، و هذا الثالث مختار ( الکفایة ) .

و إن کان المطلوب هو الشیء المحصّل من مجموع التروک ، فلو ارتکب فرداً منها و شک فی بقاء التکلیف بالنسبة إلی الطبیعة ، قیل : بالاشتغال و هو المشهور .

مناقشة الأُستاذ و رأیه

و خالف الأُستاذ ، فذکر أنّ الصحیح ثبوتاً صورتان فقط ، و هما أن یکون النهی متعلّقاً بالشیء بنحو العام المجموعی ، و بنحو العام الاستغراقی . و أمّا بحسب مقام الإثبات ، فالموانع فی الصلاة مأخوذة بنحو العام الاستغراقی ، و لا احتمال آخر .

ص:22

هذا مختاره بعد المناقشة مع ( المحاضرات ) ، و النظر فی الأدلة فی مقام الإثبات .

و لقد أورد علی کلام ( المحاضرات ) :

أولاً : قوله بترتب المصلحة علی الترک کترتّبها علی الفعل .

فیه : إن المصلحة أمرٌ وجودی ، و قیام الأمر الوجودی بالأمر العدمی غیر معقول ، فإنّه لا إشکال عقلاً و عقلاءً فی تعلّق التکلیف بالترک ، لکنّ قیام المصلحة بالترک غیر معقول ، بل الموارد التی تعلّق فیها الطلب بالترک تحتمل : أن تکون نهیاً فی صورة الأمر ، فقوله تعالی «وَاتْرُکِ الْبَحْرَ » (1)یمکن أن یکون من جهة وجود المفسدة فی دخول البحر لا وجود المصلحة فی ترک الدخول فی البحر ...

و یحتمل أیضاً : أن تکون المصلحة فی شیء ملازمٍ للترک لا فی نفس الترک ، و إن کنّا لا ندری ما هو الملازم .

و الحاصل : إنه متی قام البرهان علی امتناع ترتب الأمر الوجودی علی العدم ، فکلّ دلیلٍ کان ظاهراً فی الترتب لا بدّ من رفع الید عن ظهوره .

و ثانیاً : جعله « المسبب من الأفعال أو التروک هو المتعلّق للنهی » من « الأقسام الأربعة » .

و فیه نظر ، لأن کون التروک سبباً لوجود شیء غیر معقول .

و ثالثاً : إنه قد ذکر سابقاً بأن « صرف الترک » لا یقبل تعلّق التکلیف ، لأنه ضروری الحصول ، فلو تعلّق به الطلب کان من تحصیل الحاصل ... و لعلّه من هنا جعل الأقسام فی ( أجود التقریرات ) ثلاثة ، فلما ذا عدّ هذا القسم فی الأقسام الأربعة ؟

ص:23


1- 1) سورة الدخان : الآیة 24 .

و رابعاً : قوله بأنه إن کانت المصلحة فی الترک ، فإن الصورة و إن کانت صورة النهی لکنه لبّاً أمر ، و جعله تروک الإحرام من هذا القبیل قائلاً بأن المصلحة فی ترک تلک الأشیاء ، فکان الواجب ترک الصید ، ... لبس المخیط للرجال ...

و هکذا ... ( قال ) و إنّ الفقهاء قد تسامحوا حیث عبّروا عنها بمحرّمات الإحرام ... .

و فیه : إنّ النصوص ظاهرة فی أنها محرّمات ، و الحق مع الفقهاء فی تعبیرهم بذلک ، و رفع الید عن الظهور بلا دلیل غیر صحیح .

قال تعالی : «لا تَقْتُلُوا الصیْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ » (1)فإنها هیئة « لا تفعل » و ظاهرة فی الحرمة .

و قال : «أُحِلَّ لَکُمْ صیْدُ الْبَحْرِ ... وَحُرِّمَ عَلَیْکُمْ صیْدُ الْبرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً » (2)و هذا نصٌّ فی الحرمة .

و فی النصوص :

1 ) عن معاویة بن عمار عن أبی عبد الله علیه السلام : « إذا فرض علی نفسه الحج ثم أتی بالتلبیة فقد حرم علیه الصید و غیره ، و وجب علیه فی فعله ما لم یجب علی المحرم » (3) .

2 ) و عنه عن أبی عبد الله علیه السلام : قال : « لا تأکل شیئاً من الصید و أنت محرم و إنْ صاده حلال » (4).

3 ) عن الحلبی عن أبی عبد الله علیه السلام فی حدیثٍ : « فإذا أحرمت فقد حرم علیک الدهن حتّی تحل » (5) .

ص:24


1- 1) سورة المائدة : الآیة 95 .
2- 2) سورة المائدة : الآیة 96 .
3- 3) وسائل الشیعة 12 / 417 ، الباب 1 من أبواب تروک الإحرام ، رقم 7 .
4- 4) المصدر 12 / 419 ، الباب 2 رقم 2 .
5- 5) وسائل الشیعة 12 / 458 ، الباب 29 ، رقم 1 .

و الحاصل : النصوص جاءت بعنوان « الحرمة » و بهیئة « لا تفعل » و بعنوان جعل « الفِداء » و بعبارة « اجتنب » و کلّ ذلک ظاهراً و نصٌّ فی الحرمة .

و تلخّص : إن الصحیح هو حرمة تلک الأفعال ، و أنها محرّمات الإحرام لا تروک الإحرام ، و دعوی أنها نواهی ناشئة من المصلحة فی الترک ، لا دلیل علیها ... بل مفاد الأدلة کونها ناشئة عن مفسدة فی الفعل ... و لهذا البحث ثمرة مهمة فی الفقه .

ص:25

اجتماع الأمر و النّهی

اشارة

اختلفوا فی جواز اجتماع الأمر و النهی فی الشیء الواحد و امتناعه ، علی أقوال ثلاثة :

1 - الجواز مطلقاً .

2 - الامتناع مطلقاً .

3 - التفصیل ، و هو القول بالجواز عقلاً و الامتناع عرفاً ، لأنّ الحیثیّتین متعدّدان بالنظر العقلی ، و کلٌّ منهما مرکب لأحد الحکمین ، لکنّ العرف یری المجمع بینهما شیئاً واحداً ، و تعلّق الحکمین المختلفین بواحدٍ عرفی ممتنع ...

و هذا هو المحکیّ عن المحقق الأردبیلی فی شرح الإرشاد .

و قد ذکر المحقق الخراسانی قبل الخوض فی المقصود عشر مقدمات ، و المیرزا ذکر تسعاً ، و قد اشترکا فی بعضها ، و لا بدّ قبل التعرّض لها من تحریر محلّ البحث ، فنقول :

تحریر محلّ البحث

إن هنا کبری مسلّم بها ، هی عبارة عن أنّ الأمر و النهی - علی اختلاف الأقوال فی حقیقتهما ، من البعث و الزجر ، أو اعتبار اللابدّیة و الحرمان - ینشآن من الإرادة و الکراهیّة ، علی مذهب العدلیّة و الأشاعرة معاً ، و من المصلحة و المفسدة علی مذهب العدلیّة ، فبلحاظ مبدإ الحکم - و هو الإرادة و الکراهیّة - یمتنع تعلّق الحکمین - الوجوب و الحرمة - من الحاکم الواحد فی الزمان الواحد بالشیء

ص:26

الواحد ... علی جمیع المسالک ، لأنّ طلب الشیء یستلزم عدم الکراهیّة له ، و النهی عنه یستلزم عدم الإرادة له ، فکان تعلّقهما بالشیء الواحد مستلزماً لاجتماع النقیضین ، و کذا الحال بالنظر إلی مسلک العدلیّة من تبعیّة الحکم للمصلحة أو المفسدة ، فإنّ اجتماعهما فی الشیء الواحد محال .

و علی الجملة ، فإنّ القول بالجواز یستلزم المحذور فی ناحیة منشأ الحکم و مبدئه و هو الحبّ للشیء و البغض له ، أو المصلحة و المفسدة فیه ، و کذا فی ناحیة المنتهی ، و هو مقام الامتثال ، لأنّ الأمر یقتضی الانبعاث و النهی یقتضی الانزجار أو الترک ... و لا یجتمعان .

هذا بناءً علی إنکار التضادّ بین الأحکام الخمسة ، کما علیه المحقق الأصفهانی . و أمّا علی القول بوجود التضادّ بینها کما علیه صاحب ( الکفایة ) ، فإن الاستحالة لازمة فی نفس الحکمین أیضاً .

فتلخّص : إنه من الناحیة الکبرویّة ، یستحیل أصل التکلیف بمثل ذلک ، بالنظر إلی المبدإ و المنتهی کما تقدّم ، و یلزم الجمع المحال بین التکلیفین . و أمّا بالنظر إلی خصوص مبنی المحقق الخراسانی من التضادّ بین الأحکام فالاستحالة تکون بالذات . و علی کلّ حالٍ ، فإن التکلیف کذلک محال ، و لیس من التکلیف بالمحال ، لأنّ مورد التکلیف بالمحال هو ما إذا کان هناک تکلیف واحد تعلّق بشیءٍ واحدٍ کالمجموع بین الضدّین ، فلا ینبغی الخلط بین الموردین .

و علی هذا ، فإنّ النزاع فی المسألة صغروی ، لأنه یدور حول لزوم الاجتماع و عدم لزومه ، بعد الوفاق علی الکبری کما تقدّم ، و مرجعه إلی أنّه هل یسری و یتعدّی الأمر من الصّلاة إلی الغصب ، و النهی من الغصب إلی الصّلاة أو لا ؟

ص:27

و قد أوضح المیرزا (1) رحمه اللّٰه أنّ هذا البحث یکون تارةً من صغریات باب التعارض ، و أُخری من صغریات باب التزاحم ، و ذلک لأنّه فی صورة تعدّی الحکم عن موضوعه إلی موضوع الحکم الآخر ، یلزم الاجتماع و یقع التنافی بین مدلولی الدلیلین بحسب مقام الجعل ، إذ الصّلاة إمّا واجبة و إمّا محرّمة ، فأحد الدلیلین علی خلاف الواقع ، و هذا هو التعارض . و أمّا فی صورة عدم التعدّی ، فلا اجتماع و لا مشکلة فی مقام الجعل ، بل لکلٍّ من الحکمین مرکبه و لا ربط له بالآخر ، و إنّما یقع التنافی فی مقام الامتثال ، و هذا هو التزاحم ، إذ لا قدرة علی امتثال کلا التکلیفین .

و هنا تفصیل ، و ذلک : لأنه تارة توجد المندوحة ، أیْ یتمکّن المکلّف من الصّلاة فی غیر المکان المغصوب ، و أُخری لا توجد ، فعلی التقدیر الأول ، إن قلنا بأنّ اعتبار القدرة علی الامتثال فی الخطاب هو بحکم العقل کما علیه المحقق الثانی ، خرج المورد عن التزاحم أیضاً ، لأنّه لمّا کان قادراً علی الصّلاة فی غیر هذا المکان ، صحّ تعلّق التکلیف بها علی نحو الإطلاق ، إذ القدرة علی الطبیعة حاصلة بالقدرة علی الفرد و هی الصّلاة فی غیر الغصب ، فلو صلّی فی المکان المغصوب و الحال هذه ، وقعت صحیحة ، غیر أنه فعل المعصیة بالتصرّف فی ملک الغیر . و إن قلنا بأن اعتبار القدرة علی الامتثال هو باقتضاء الخطاب - کما علیه المحقق النائینی - فالتکلیف من بدء الأمر موجّهٌ نحو الحصّة المقدورة من الصّلاة ، کان المورد من التزاحم ، لدوران الأمر بین صرف القدرة فیها فی المکان المغصوب ، و الخروج منه و الإتیان بها فی غیره ، و حینئذٍ تطبّق قواعد التزاحم ، و تلحظ المبانی فی الترتّب .

ص:28


1- 1) أجود التقریرات 2 / 126 .

أمّا علی التقدیر الثانی - أعنی عدم المندوحة - فالمورد من التزاحم ، سواء قلنا بکون القدرة معتبرةً باقتضاء الخطاب أو بحکم العقل .

مقدّمات البحث
اشارة

ذکر فی ( الکفایة ) لمسألة الاجتماع مقدّماتٍ ، و نحن نتعرّض لها و لما قیل فیها باختصار .

المقدمة الأُولی ( فی المراد بالواحد )
اشارة

إنه لمّا قلنا فی عنوان المسألة : هل یجوز اجتماع الأمر و النهی فی واحدٍ ؟ فما هو المراد من « الواحد » ؟

قال المحقق الخراسانی (1) : المراد بالواحد مطلق ما کان ذا وجهین و مندرجاً تحت عنوانین ، بأحدهما کان مورداً للأمر و بالآخر للنهی ، و إن کان کلیّاً مقولاً علی کثیرین کالصّلاة فی المغصوب .

و إنّما ذکر هذا ، لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر و النهی و لم یجتمعا وجوداً و لو جمعها واحد مفهوماً ، کالسجود للّه تعالی و السجود للصنم مثلاً ، لا لإخراج الواحد الجنسی أو النوعی ، کالحرکة و السکون الکلیّین المعنونین بالصّلاتیّة و الغصبیّة .

و توضیحه :

إن الواحد هنا إمّا هو الواحد الشخصی و إمّا الأعم ، فإن کان الأوّل ، خرج الجنسی و النوعی ، و الحال أن الحرکة المعنونة بعنوان الغصب و الصّلاة لیست واحداً شخصیّاً من الحرکة بل واحد جنسی ، فلو أُرید الشخصی خرج الفرض من دائرة البحث مع کونه وارداً .

ص:29


1- 1) کفایة الاصول: 150 .

و إن کان المراد هو الثانی ، شمل البحث مثل السجود لکونه جامعاً للسجود للّٰه و للصنم ، و الحال أنه لیس مورداً لاجتماع الأمر و النهی ، إذ لا مجمع بین السجود للّٰه و للصنم .

و إن کان هو الثالث ، جاء المحذور المذکور فی الثانی ، لأن الأعمّ مشتمل علی الأخصّ .

فذکر صاحب ( الکفایة ) : أنه لیس المراد من « الواحد » هو المقابل للکلّی لیکون شخصیّاً ، فیرد إشکال خروج الحرکة ، و لیس الجنس لیرد إشکال ورود السجود ، بل المراد من الواحد هو المقابل للمتعدّد وجوداً ، و المقصود أنه تارةً :

یکون لمتعلّق الأمر و النهی تعدّد وجودی ، فهذا خارج عن البحث ، کما فی الصلاة و النظر إلی الاجنبیة فی أثنائها ، و کما فی السجود للّٰه و للصنم ، و أُخری : یکون لمتعلّقهما وحدة وجودیة أعم من الواحد الشخصی أو الجنسی ، فالصلاة فی دار مغصوبة کلّی ، لکنْ فی مقام الوجود لها وجود واحد .

و علی الجملة : إن أمکن الإشارة إلی کلٍّ من العنوانین علی حدة ، خرج الواحد ذو العنوانین عن البحث ، کالصّلاة و النظر إلی الأجنبیة ، و إن کانت الإشارة إلی أحدهما الموجودین بوجود واحد عین الإشارة إلی الآخر ، کان وارداً فی البحث ، کالصّلاة فی الدار المغصوبة ، و حینئذٍ ، إن کانت وحدة الإشارة موجبةً لوحدة الوجود فی الخارج حقیقةً فالامتناع و إلّا فالجواز .

التعریض بصاحب الفصول

ثم إنّ المقصود من هذا الکلام هو التعریض بصاحب ( الفصول ) (1) ، حیث أنه قد خصّ الواحد بالواحد الشخصی ، لئلّا یدخل مثل السجود للّٰه و للصنم ممّا

ص:30


1- 1) الفصول الغرویّة : 123 .

اجتمع فیه الأمر و النهی فی واحدٍ جنسی أو نوعی فی محل البحث ، مع کونه خارجاً عنه قطعاً .

إشکال السید البروجردی

فقال السیّد البروجردی (1) : و فیما ذکره نظر ، فإنّ ضمّ عنوانٍ کلّیٍّ إلی عنوانٍ آخر لا یوجب الوحدة ، إذ الماهیّات و العناوین بأسرها متباینة بالعزلة ، فمفهوم الصّلاة یباین مفهوم الغصب و إن ضممنا أحدهما إلی الآخر ، و ما هو الجامع للشتات عبارة عن حقیقة الوجود التی هی عین التشخّص و الوحدة .

موافقة الإیروانی مع الفصول

أمّا المحقق الإیروانی ، فقد ذکر أنّ الحق مع صاحب ( الفصول ) و أنّه لا یتوجّه علیه ما توهّمه صاحب ( الکفایة ) . و أوضح ذلک (2) بأنه لیس مقصود صاحب ( الفصول ) من الحمل علی الواحد الشخصی أن یکون المجمع منحصراً فی الواحد الشخصی و الجزئی الحقیقی ، لیخرج مورد کون المجمع عنواناً کلیّاً کما فی مثال الصّلاة فی الدار المغصوبة ، بل مقصوده تلاقی العنوانین فی الأشخاص الخارجیة ، فیکون البحث فی اجتماع الأمر و النهی بعنوانین منحصراً بما إذا کان العنوانان متلازمین فی الوجود و التشخّص ، و هذا أعم من أن یکونا متلاقیین قبل الوصول إلی مقام التشخّص و فی مفهوم عام کما فی مثل الصّلاة فی الأرض المغصوبة ، و ما إذا لم یکونا متلاقیین إلّا فی الشخص ابتداءً ، فالصّلاة فی الأرض المغصوبة لا تخرج عن العنوان .

ص:31


1- 1) نهایة الاصول : 226 .
2- 2) نهایة النهایة 1 / 210 .
جواب الأُستاذ

و أجاب الأُستاذ دام بقاه : بأن جواز اجتماع الأمر و النهی فی الشیء الواحد ذی العنوانین و امتناعه ، فرع التزاحم و التعارض ، فإن کان التعارض فالامتناع و إن کان التزاحم فالجواز ، و من الواضح أن التعارض فی الأدلّة الشرعیة لا یکون إلّا فی القضایا الحقیقیّة ، و الموضوع فی هذه القضایا لیس الواحد الشخصی الخارجی ، بل إن الحکم فیها متوجّه إلی الطبیعة ، کقوله تعالی «أَقِیمُوا الصلَاةَ » (1)«وَللّٰهِ عَلی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ » (2)لا إلی الفرد من الصّلاة و الحج و غیرهما ، فالأوامر و النواهی غیر متعلقة بالواحد الشخصی . هذا أولاً .

و ثانیاً : إن الواحد الشخصی لا یعقل أن یکون متعلّقاً للأمر ، بل إنه مسقط له لکونه مصداق المأمور به .

و أمّا القول بأن ضمّ الکلّی إلی الکلّی لا ینتج الواحد . ففیه : إنه خلط بین الوحدة الشخصیة و النوعیة ، لأن الوحدة النوعیة کما فی انضمام الفصل إلی الجنس موجودة مع عدم کونها شخصیة ، إذن ، لا ملازمة بین الوحدة و الشخصیّة ، و المراد من الوحدة هی الوحدة فی مقابل التعدّد .

الأمر الثانی ( فی الفرق بین هذه المسألة و مسألة النهی فی العبادة )

قال فی الکفایة (3) ما ملخّصه : إن الجهة المبحوث عنها هنا هی : هل إن تعدّد العنوان فی الواحد ذی العنوانین ، یوجب تعدّد المتعلَّق بحیث ترتفع مشکلة استحالة الاجتماع أو لا ؟ ( قال ) : فالنزاع فی سرایة کلٍّ من الأمر و النهی إلی متعلّق الآخر لاتّحاد متعلَّقیهما وجوداً و عدم سرایته لتعدّدهما وجهاً .

ص:32


1- 1) سورة البقرة : الآیة 43 .
2- 2) سورة آل عمران : الآیة 97 .
3- 3) کفایة الاصول : 150 .

أمّا فی تلک المسألة ، فإن البحث فی أن النّهی هل یوجب فساد العبادة أو المعاملة بعد الفراغ عن توجّه النهی إلیها أو لا یوجبه ؟

( قال ) نعم ، لو قیل بالامتناع مع ترجیح جانب النهی فی مسألة الاجتماع ، یکون مثل الصّلاة فی الدار المغصوبة من صغریات تلک المسألة .

و حاصله کلامه : إن ما به الامتیاز بین المسألتین هو الجهة المبحوث عنها فی کلٍّ منهما ... و هذا لا ینافی أن یکون مورد البحث فی مسألتنا من صغریات المسألة الاخری ، علی بعض التقادیر ... فالفرق بین المسألتین فی غایة الوضوح .

هذا ، و فی بیان الفرق بین المسألتین أقوال اخری ، تعرّض فی ( الکفایة ) لاثنین منها :

أحدها : إن البحث هنا عقلی ، و هناک فی دلالة النهی لفظاً .

قال فی ( الکفایة ) بفساد هذا القول ، لأنّ البحث هناک أیضاً عقلی ، علی أن النهی فی العبادة غیر مختص باللّفظ .

و الثانی : ما ذهب إلیه المیرزا القمی (1) من أنّ الموضوع فی تلک المسألة هو العام و الخاص المطلق ، کالأمر بالصّلاة ، ثم النهی عن الصّلاة فی الحمام ، فیبحث عن دلالة هذا النهی علی فسادها و عدم دلالته ... أما فی مسألتنا ، فالنسبة هی العموم من وجهٍ ، کما هو الحال بین الأمر بالصّلاة و النهی عن الغصب .

و الثالث : ما ذهب إلیه صاحب ( الفصول ) (2) - بعد الإشکال فی کلام المیرزا القمی - و هو إن الموضوع فی مسألتنا مغایر تماماً للموضوع فی تلک المسألة ، بخلاف مثل الصّلاة و الصّلاة فی الحمام ، فإن الموضوع متّحد و إنْ کان بینهما عموم مطلق .

ص:33


1- 1) قوانین الاصول 1 / 140 .
2- 2) الفصول الغرویة : 140 .

فأجاب المحقق الخراسانی : بأنّ تعدّد الموضوعات أیضاً غیر موجب للتمایز بین المسائل ما لم یکن هناک اختلاف الجهات .

و الحق معه فیما قال .

الأمر الثالث ( هذا البحث من مسائل أیّ علمٍ من العلوم ؟ )

و اختلفت کلماتهم فی أنّ هذا البحث من المسائل أو المبادئ ، و من مسائل أیّ علم ؟

قال فی الکفایة (1) : إنه حیث کانت نتیجة هذه المسألة ممّا تقع فی طریق الاستنباط ، کانت المسألة من المسائل الاصولیة ، لا من مبادئها الأحکامیّة و لا التصدیقیة ، و لا من المسائل الکلامیّة ، و لا من المسائل الفرعیّة ، و إنْ کانت فیها جهاتها ... .

نعم ، یمکن تصویر الجهة الفقهیّة ، لأن العمل العبادی إن کان متعلَّقاً للنهی فهو باطل و إلّا فهو صحیح ، و الصحّة و الفساد من الأحکام الفقهیة . کما یمکن تصویر الجهة الکلامیّة ، بأنْ یبحث فیها عن جواز تکلیف اللّٰه سبحانه و تعالی بعملٍ اجتمع فیه جهة الأمر وجهة للنهی و عدم جوازه . و تصویر جهة اخری تجعلها من المبادئ الأحکامیّة ، لأنّه إذا تعلَّق الأمر و النهی بواحدٍ یقع البحث عن وجود التلازم بینهما فی المورد و عدم وجوده ، لأنّ المبادی الأحکامیة هی لوازم الأحکام و عوارضها و خصوصیّاتها ... .

لکنّ المحقق الخراسانی یری أن المسألة من علم الأصول لانطباق تعریف المسألة الاصولیة علیها ... خلافاً للشیخ ، حیث جعلها من المبادئ الأحکامیة ، کما أن المیرزا خالفه ، فجعلها من المبادئ التصدیقیّة للمسألة الاصولیّة .

ص:34


1- 1) کفایة الاصول : 152 .

و لکنَّ ذلک کلّه یتوقّف علی تغییر عنوان البحث ، حتی یمکن تحقق هذه الجهة أو تلک فیه ، أمّا مع عنوانه کما فی ( الکفایة ) و غیرها من کتب الأعلام ، فلا یصح البحث لأنْ یکون من مسائل هذا العلم أو ذاک ، بل هو من مسائل علم الاصول .

فالحق ما ذهب إلیه و إن کان کلامه مخدوشاً کما ذکرنا ، خلافاً للشیخ الأعظم (1) ، حیث جعلها من المبادئ الأحکامیّة ، لأنّا لا نبحث فی هذه المسألة عن خواص الأمر و النهی ، و عن أنه هل یوجد بینهما التضادّ أو لا لیکون من المبادی ، و إنما نبحث عن أنّ اجتماع الأمر و النهی فی الشیء الواحد ذی العنوانین هل ینتهی إلی اجتماع الضدّین أو لا ؟

و للمیرزا (2) القائل بأنها من المبادئ التصدیقیة للمسألة الاصولیّة ، و ذلک لأنّ المبدأ التصدیقی هو کلّ ما أوجب التصدیق بثبوت المحمول للموضوع ، مثلاً :

عند ما نقول : هل خبر الثقة حجة أو لا ؟ فإنّ ما یعرّف « خبر الثقة » و« الحجیّة » یسمّی ب« المبدإ التصوری » (3) و ما یدلّ علی ثبوت « الحجیة » ل« خبر الثقة » یسمی ب« المبدإ التصدیقی » . و نحن فی هذه المسألة نقول : هل یقع التعارض بین دلیلی الأمر و النهی فیما إذا تعلَّقا بالواحد ذی العنوانین أو لا ؟ و هذا مبدأ تصدیقی لتحقق موضوع المسألة الاصولیة ، و أمّا المبدأ التصدیقی للمسألة الاصولیة فهو الأدلّة علی الترجیح أو التخییر بناءً علی التعارض .

ص:35


1- 1) مطارح الأنظار : 125 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 128 .
3- 3) کفایة الاصول : 152 .
الأمر الرابع ( هل هذه المسألة عقلیة ؟ )

قال فی الکفایة (1) : قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه أن المسألة عقلیّة ... .

أقول :

لا یخفی أن المسائل الاصولیة منها عقلیة و منها لفظیّة ، و لمّا لم یکن البحث فی مسألتنا عن مدلول الأمر و النهی ، فهو لیس من المسائل اللّفظیّة ، فیکون - لا محالة - من المسائل العقلیة .

و الأحکام العقلیّة تنقسم إلی المستقلة ، غیر المستقلة ، و القسم الثانی منه ما یقع فی طریق الاستنباط و منه ما لا یقع .

أمّا ما لا یقع فی طریق الاستنباط ، فمثل درک العقل وجود المصلحة أو المفسدة الملزمة فی شیء ، و لکنّه یفید الحکم الشرعی بضمیمة قاعدة الملازمة .

و أمّا الحکم العقلی غیر المستقل و غیر الواقع فی طریق الاستنباط ، فکحکم العقل بوجوب إطاعة المولی ، فإنه فی مرتبة معلول الحکم الشرعی بوجوب الصّلاة مثلاً ، فإنه یجب إثبات وجوبها شرعاً حتّی یتولّد منه الحکم العقلی بلزوم الإطاعة له .

و أمّا الحکم العقلی غیر المستقل الواقع فی طریق الاستنباط ، فکحکمه باستحالة اجتماع الضدّین .

و بما ذکرنا یتّضح : أنّ بحث الاجتماع من المباحث الاصولیة العقلیة من قبیل القسم الأخیر ، فإنه إذا ضمّ هذا الحکم العقلی إلی صغری اجتماع الأمر و النهی الشرعیین فی الواحد ذی العنوانین ، حصل الحکم الشرعی بصحّة الصّلاة أو فسادها ... .

ص:36


1- 1) کفایة الاصول : 152 .

ثم قال فی ( الکفایة ) :

و ذهاب البعض إلی الجواز عقلاً و الامتناع عرفاً ، لیس بمعنی دلالة اللّفظ ، بل بدعوی أن الواحد بالنظر الدقیق العقلی اثنین و أنه بالنظر المسامحی العرفی واحد ذو وجهین ، و إلّا فلا یبقیٰ معنی للامتناع العرفی .

الأمر الخامس ( فی سعة دائر البحث )
اشارة

قال فی الکفایة (1) : إن ملاک النزاع فی الاجتماع و الامتناع یعمّ جمیع أقسام الإیجاب و التحریم ، کما هو قضیة إطلاق لفظ الأمر و النهی ، و دعوی الانصراف إلی النفسیین التعیینیین العینیین فی مادّتها غیر خالیة عن الاعتساف ، و إنْ سلّم فی صیغتهما مع أنه فیهما ممنوع .

و علی الجملة ، فإن هذا البحث یعمّ الأمر و النهی النفسیین و الغیریین و التعیینیین و التخییریین و العینیین ... لعموم الملاک .

و قد قصد رحمه اللّٰه الردّ علی الشیخ القائل بعدم وجود ملاک البحث فیما لو کان الوجوب و الحرمة تخییریین ، لأن محذور البحث هو لزوم الجمع بین الضدّین ، و هو غیر لازم فیما لو أمره بنکاح احدی الاختین و نهاه عن الاخری ، لعدم اجتماع الحکمین فی موردٍ واحد ... فقال صاحب ( الکفایة ) : إنه لو أمر بالصّلاة و الصوم تخییراً بینهما و نهی عن التصرف فی الدّار و المجالسة مع الأغیار ، فصلّی فی الدار مع مجالستهم ، کان حال الصّلاة فیها حالها کما إذا أمر بها تعییناً و نهی عن التصرف فیها تعییناً فی جریان النزاع ، لوضوح أن النسبة بین أحد عدلی الحرام التخییری مع أحد عدلی الواجب التخییری هی العموم من وجه ، لأنّ الصّلاة ممکنة فی الدار و غیرها ، و الجلوس فی الدار یمکن فی حال الصّلاة و حال

ص:37


1- 1) کفایة الاصول : 152 .

غیرها ، فإذا اجتمعا لزم المحذور کما لو أمر بهما تعییناً .

تحقیق الأُستاذ

هذا ، و قد أوضح الأُستاذ رأی الشیخ و بیّنه بما یظهر به أن الحق معه ، فقال بأنّ الجامع فی الواجب و الحرام التخییری هو « الأحد » ، و من الواضح أنّ هذا العنوان لا یصدق علی کلا الفردین معاً ، و إنما یصدق علی کلٍّ منهما بشرط عدم الآخر ، و کذلک الحال فی جمیع موارد العلم الإجمالی ، فإن موضوع الحکم بنجاسة أحد الآنیة هو « الأحد » ، و لا ینطبق هذا العنوان علی کلّها معاً ، فالنجاسة حکم « أحدها » و إن کان الحکم العقلی بالاجتناب عن جمیعها فی عرضٍ واحدٍ ، لکنّ هذا أمر آخر ... .

و علی هذا ، ففی طرف الواجب ، جاء الحکم بوجوب هذا أو ذاک ، و فی طرف الحرام قد جاء الحکم بحرمة هذا أو ذاک ، و لا یسری الحکم بالوجوب أو الحرمة إلی کلا الفردین ، و لیس کلاهما واجباً أو حراماً ، بل « الأحد » .

و إذا کان متعلَّق الحکم فی کلا الطرفین هو « الأحد » بشرط لا عن الآخر ، و کان المبعوث إلیه فی طرف الوجوب هو « الأحد » و المبغوض فی طرف الحرمة هو « الأحد » ، لم یعقل حصول التمانع بین الأمر و النهی ، و ظهر أن الحق مع الشیخ .

و کلام المحقّق الخراسانی لا ربط له بمورد کلام الشیخ ، فقد جاء فی ( الکفایة ) « فصلّی فیها مع مجالستهم » و هذا معناه الجمع بین عدلی الحرام التخییری ، و فی هذه الصورة یلزم محذور الاجتماع بالضرورة ، لکن محطّ نظر الشیخ هو کون متعلَّق النهی أحد الأمرین ، کما أنّ متعلَّق الأمر أحد الأمرین ... و لذا نری أن کلام صاحب ( الکفایة ) فی حاشیة الرسائل فی ذکر المثال یختلف عن کلامه فیها ، فلیس فی الحاشیة کلمة « مع مجالستهم » .

ص:38

و تلخّص : أن الحق فی المقام مع الشیخ خلافاً للکفایة و المحقق الأصفهانی .

الأمر السادس ( فی اعتبار المندوحة و عدم اعتبارها )

ذهب صاحب ( الفصول ) (1) إلی اعتبار المندوحة فی صحة النزاع فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، فلولا وجودها لا یبقی مجال للبحث ... و قد وافقه المحقق الخراسانی فی حاشیة الرسائل . أمّا فی ( الکفایة ) (2) ، فقد ذهب إلی أن التحقیق عدم اعتبارها فیما هو المهم فی محلّ النزاع من لزوم المحال و هو اجتماع الحکمین المتضادّین .

أمّا وجه اعتبار المندوحة فهو : إنه مع عدم تمکّن المکلّف من الصّلاة فی غیر المکان المغصوب ، یکون تعلّق النهی بها فیه من التکلیف بغیر المقدور و هو محال ، إذن ، لا بدّ و أنْ یکون متمکناً من منها فی غیره حتی نعقل النهی و یصح البحث عن الجواز و الامتناع لو صلّی فیه .

و أمّا وجه عدم اعتبارها فی صحة البحث : فلأنّا نبحث فی مثل الصّلاة فی الدار المغصوبة عن أنه یلزم التکلیف المحال ، أی اجتماع الضدین ، أو لا یلزم ؟ و هذا البحث بهذه الصورة لا علاقة له بوجود المندوحة و عدمها .

و الحاصل : إنه اعتبر فی حاشیة الرسائل - تبعاً للفصول - عدم المندوحة حتی لا یلزم التکلیف بالمحال ، لکنّه فی ( الکفایة ) یقول : بأن البحث لیس فی التکلیف بالمحال ، و إنما فی أنه هل یلزم فی مفروض المسألة المحال - و هو اجتماع الضدین - أو لا ؟ و لا دخل للمندوحة فیه .

ص:39


1- 1) الفصول الغرویّة : 123 .
2- 2) کفایة الاصول : 153 .

و هذا هو الصّحیح ، لأنّا إن قلنا بالامتناع فلا أثر للمندوحة . و ان قلنا بالجواز و عدم لزوم اجتماع الضدّین ، فإن کان له مندوحة فلا مشکلة ، و إنْ لم تکن کان المورد من صغریات باب التزاحم ... فظهر أنّ وجود المندوحة إنّما یؤثر علی القول بالجواز ، و أمّا فی أصل البحث و طرح المسألة فلا دخل لوجود المندوحة و عدمها .

الأمر السابع ( بین هذه المسألة و مسألة تعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد )

ذکر فی الکفایة (1) توهّمین بالنظر إلی بحث تعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد و أجاب عنهما . الأول : إنّ النزاع فی مسألتنا یبتنی علی القول بتعلّق الأحکام بالطبائع ، فإنه علی هذا القول یقع النزاع فی الجواز و الامتناع ، و أمّا علی القول بتعلّقها بالأفراد فلا مجال للنزاع ، إذ لا یکاد یخفی الامتناع ، ضرورة لزوم تعلّق الحکمین بواحدٍ شخصی و لو کان ذا وجهین ، و هذا محال .

و التوهّم الثانی هو : إنّ القول بجواز الاجتماع هنا مبنی علی القول هناک بتعلّق الأوامر بالطبائع ، لکون متعلَّق الحکمین متعدداً ذاتاً و إنْ اتّحدا وجوداً ، و أن القول بامتناع الاجتماع مبنی علی القول بتعلّقها بالأفراد ، لکون متعلَّقهما شخصاً واحداً فی الخارج .

ثم قال فی الجواب :

و أنت خبیر بفساد کلا التوهّمین ، و حاصل کلامه جریان البحث هنا ، سواء قلنا هناک بتعلّق الأمر بالطبیعة أو بالفرد ، لأنه بناءً علی الأول لا یتعیّن القول بالجواز ، لأنه و إنْ تعدّدت الطبیعة ، لکون طبیعة الصّلاة غیر ذات الغصب ، لکنّ الطبیعتین فی مرحلة الوجود واردتان علی شیءٍ واحدٍ ، و حینئذٍ ، یتحقّق ملاک

ص:40


1- 1) کفایة الاصول : 154 .

القول بالامتناع ، لأن مدار البحث وحدة الوجود خارجاً و تعدّده ... و کذا الحال بناءً علی الثانی ، لأن المراد من الفرد هو الحصّة من الماهیّة ، و علی هذا ، فإن الفرد من ماهیّة الصّلاة غیر الفرد من ماهیّة الغصب ، فإذا حصل وجود الحصّتین من الماهیتین المختلفتین بوجودٍ واحدٍ جاء البحث عن الجواز و الامتناع ، لأنّ الترکّب بینهما إن کان اتحادیّاً فالامتناع و إن کان انضمامیّاً فالجواز .

نعم ، لو قلنا بتعلّق الأمر بالفرد بضمیمة أمارات التشخّص - من الزمان و المکان و سائر الخصوصیّات - لزم القول بالامتناع ، للتباین بین الأفراد حینئذٍ بالضرورة . لکنّ المبنی باطل کما تقرّر فی محلّه .

فظهر : أنه لا ارتباط بین هذه المسألة و المختار فی تلک المسألة أصلاً .

الأمر الثامن ( هل المسألة من باب التعارض بناءً علی الامتناع ؟)
اشارة

ربما یتوهّم أنه علی القول بالجواز تصحّ الصّلاة ، لانطباق الطبیعة المأمور بها علی هذا الفرد ، فالإجزاء عقلی و إنْ کان عاصیاً من جهة الغصب ، و أمّا علی القول بالامتناع ، فالبحث من صغریات باب التعارض لا التزاحم ، و یلزم الرجوع إلی قواعد التعارض من الترجیح أو التخییر أو التساقط ثم الرجوع إلی مقتضی الاصول .

فالمقصود هو الجواب عن توهّم کون المسألة - بناءً علی الامتناع - من صغریات التعارض .

و توضیح منشأ التوهّم هو : إن التعارض - کما لا یخفی - یکون تارةً بالتباین کما فی : أکرم العالم و لا تکرم العالم ، و اخری بالعموم من وجهٍ کما فی : أکرم العالم و لا تکرم الفاسق ... فمورد العموم من وجهٍ یعامل معه معاملة التعارض ، و النسبة بین « صلّ » و« لا تغصب » من هذا القبیل ، فلما ذا یرجع فیه إلی التزاحم ؟

ص:41

أجاب المحقق الخراسانی بما حاصله :

أمّا فی مقام الثبوت : بأنّ هذه الصّلاة یمکن أن تکون فاقدةً للملاک ، فلا یوجد فیها لا ملاک الصّلاتیة و لا ملاک الغصبیّة ، و یمکن أن تکون واجدةً لملاک الصّلاتیة فقط ، أو لملاک الغصبیة فقط ، أو للملاکین معاً .

فالوجوه الثبوتیة أربعة :

فإنْ کان کلاهما بلا ملاک ، فلا تعارض و لا تزاحم .

و إنْ کان أحدهما ذا ملاک و الآخر بلا ملاک ، فکذلک ، بل یؤخذ بماله ملاک .

و إن کان کلاهما ذا ملاک ، فإنْ قلنا بجواز الاجتماع أخذنا بکلا الملاکین ، و إن قلنا بالامتناع أخذنا بالأقوی منهما ، و إنْ لم یوجد الأقوی فی البین رجعنا إلی دلیلٍ آخر أو إلی مقتضی الأصل .

و أمّا بحسب مقام الإثبات ، فإنّ مورد التعارض عدم وجود الملاک لأحد الدلیلین ، و مورد اجتماع الأمر و النهی وجوده فی کلیهما ، فالقول بجریان قاعدة التعارض بناءً علی الامتناع غیر صحیح ، بل إن مجرّد احتمال أن یکون کلّ من الدلیلین ذا ملاک یوجب الأخذ بکلا الدلیلین ، فإن کانا فی مقام بیان الحکم الاقتضائی طبّق قاعدة التزاحم ، و إن کانا فی مقام بیان الحکم الفعلی ، فعلی الجواز یؤخذ بهما و علی الامتناع تطبّق قاعدة الامتناع .

فظهر اندفاع التوهّم .

الإشکال علی الکفایة

إنه لمّا جعل صاحب ( الکفایة ) مورد البحث ما إذا کان المجمع واجداً لملاک کلا الحکمین ، کالصّلاة فی الدار المغصوبة ، فقد أورد علیه : بأن بحث الاجتماع مسألة یطرحها الاصولیون العدلیّة القائلون بتبعیّة الأحکام للملاکات ،

ص:42

و الأشاعرة المنکرون لذلک ، فجعل النزاع فی المقام مبتنیاً علی کون المجمع واجداً لملاک الأمر و النهی فی غیر محلّه .

هذا أوّلاً (1) .

و ثانیاً : إن ما ذکره من أن مورد التعارض هو أن یکون لأحد الحکمین ملاک دون الآخر ، غیر صحیح ، لأنّ الأشاعرة المنکرین لتبعیّة الأحکام للملاکات قائلون بالتعارض بین الدلیلین ، لأنّ حقیقته امتناع ثبوتهما فی مقام الجعل و أن ثبوت کلّ منهما فیه ینفی الآخر و یکذّبه ، و حقیقة التزاحم کون المحذور فی مقام الامتثال ، و الحاصل : إنه إن کان المحذور فی مقام الجعل فهو التعارض و إن کان فی مقام الامتثال فهو التزاحم ، علی مسلک العدلیة و الأشاعرة معاً .

و ثالثاً : قوله بأنّه لو کان کلٌّ من الدلیلین متکفّلاً للحکم الفعلی لوقع التعارض بینهما ، فعندئذٍ لا بدّ من الرجوع إلی مرجّحات باب المعارضة ، إلّا إذا جمع بینهما بحمل أحدهما علی الحکم الاقتضائی بمرجّحات باب المزاحمة .

فیه : إن موارد التوفیق العرفی غیر موارد التعارض ، فإذا فرض التعارض بین الدلیلین کان معناه عدم إمکان الجمع العرفی بینهما ، و فیما إذا أمکن ذلک فلا تعارض . ففرض التعارض مع فرض إمکان الجمع العرفی لا یجتمعان . بل یجمع بینهما جمعاً عرفیّاً . أمّا فی مسألة الاجتماع ، فإنّ التنافی عقلی و لیس بعرفی ، و هذا هو الفارق بین المسألتین (2) .

النظر فی الإشکالات

فأمّا الإشکال الأوّل فوارد .

و أمّا الثانی ، فإنّه غیر واردٍ علی المحقق الخراسانی ، لأنّه یری - کما فی باب

ص:43


1- 1) أجود التقریرات 2 / 146 ، محاضرات فی اصول الفقه 3 / 402 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 205 و 206 .

التعادل و التراجیح من ( الکفایة ) (1) - أن التعارض عبارة عن تنافی الدلیلین بالتناقض أو بالتضاد ، إمّا بالذات و إمّا بالعرض .

و التنافی بالذات بالتناقض ، کأن یدلّ أحدهما علی الوجوب و الآخر علی عدم الوجوب .

و التنافی بالتضادّ ، کأن یدلّ أحدهما علی الوجوب و الآخر علی الحرمة .

و التنافی بالعرض ، کأن لا یکون بین الدلیلین أی تنافٍ بالذات ، لکنْ یحصل بینهما من جهة دلیلٍ من خارج ، کما لو دلّ أحدهما علی وجوب صلاة الظهر فی یوم الجمعة و الآخر علی وجوب الجمعة ، فلا تنافی و الجمع ممکن ، لکنّ الإجماع علی عدم الفریضتین ظهر یوم الجمعة یوجب التنافی بینهما .

و الحاصل : إنه إذا کان هذا رأی صاحب ( الکفایة ) فی حقیقة التعارض ، فالإشکال المذکور فی المبنی ... لأنّه لا یری أن قوام مسألة الاجتماع هو وجود الملاک للحکمین فی المجمع ، فلو کان أحدهما فاقداً له دخل فی باب التعارض ، و لیس مقصوده من هذا الکلام عدم وجود الملاک لأحدهما فی جمیع موارد التعارض حتی یرد علیه الإشکال .

و أمّا الثالث : فمندفع کذلک ، لعدم الدلیل علی حصر التعارض بمورد التعارض العرفی ، بل الملاک تنافی الدلیلین ، سواء کان بنظر العرف العام أو بحسب الدقّة العقلیة .

و تلخص : انحصار الإشکال علیٰ ( الکفایة ) بالإشکال الأوّل .

ص:44


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 404 و 405 .
الأمر التاسع ( فی الکاشف عن الملاک )
اشارة

قال فی الکفایة (1) : إنه قد عرفت أن المعتبر فی هذا الباب : أنْ یکون کلّ واحد من الطبیعة المأمور بها و المنهی عنها مشتملةً علی مناط الحکم مطلقاً حتی فی حال الاجتماع .

فلو کان هناک ما دلّ علی ذلک من إجماع أو غیره فلا إشکال ، و لو لم یکن إلّا إطلاق دلیلی الحکمین ففیه تفصیل ، و هو :

إن الإطلاق لو کان فی بیان الحکم الاقتضائی ، لکان دلیلاً علی ثبوت المقتضی و المناط فی مورد الاجتماع فیکون من هذا الباب . و لو کان بصدد الحکم الفعلی فلا إشکال فی استکشاف ثبوت المقتضی فی الحکمین علی القول بالجواز - إلّا إذا علم إجمالاً بکذب أحد الدلیلین ، فیعامل معهما معاملة المتعارضین - و أمّا علی القول بالامتناع ، فالإطلاقان متنافیان ، من غیر دلالة علی ثبوت المقتضی للحکمین فی مورد الاجتماع أصلاً ... .

و توضیح کلامه : إنّ الکاشف عن وجود الملاک تارةً : هو دلیل خارجی من إجماعٍ أو غیره ، و اخری : لا دلیل إلّا إطلاق دلیل وجوب الصّلاة و حرمة الغصب ، فإنهما بإطلاقهما یشملان مورد الاجتماع و یکشفان عن وجود الملاک لهما فیه .

فإن کان الأول ، فلا إشکال فی ثبوت الملاک ، و کون البحث من هذا الباب .

و إن کان الثانی ففیه تفصیل .

و قبل أن نبیّن ذلک ، نذکر رأی المحقق الخراسانی فی مراتب الحکم ، فإنّه یری أن للحکم أربع مراتب :

الاولی : مرتبة المقتضی ، و هی مرتبة وجود الملاک للحکم ، و أنّ الحکم

ص:45


1- 1) کفایة الاصول : 155 .

موجود فی مرتبة ملاکه ، لأنّ کلّ مقتضی فهو موجود فی مرتبة المقتضی له .

الثانیة : مرتبة الإنشاء ، فإنّه لمّا کان الملاک موجوداً ، فإنّ الحاکم ینشئ الحکم - علی طبق الملاک - بالنسبة إلی موضوعه المقدَّر الوجود ، فهذه مرتبة جعل الأحکام بنحو القضیة الحقیقیّة .

الثالثة : مرتبة الفعلیّة ، أی مرتبة وجود الموضوع بجمیع قیوده ، فإنه حینئذٍ تتحقّق الفعلیّة للحکم و یحصل البعث أو الزجر من قبل المولی علی المکلَّف .

الرابعة : مرتبة التنجّز و وصول الحکم إلی المکلّف .

فیقول المحقق الخراسانی : إنه إن کان الإطلاق فی مقام بیان الحکم الاقتضائی ، بأنْ کان کاشفاً عن المرتبة الاولی یعنی وجود الملاک لهذا الحکم فی مورد الاجتماع ، فإذا کشف الإطلاق عن ذلک فلا حالة منتظرة .

و أمّا إنْ کان الإطلاق فی مقام بیان وجود الحکم الفعلی ، یعنی وصول الحکم إلی مرتبة الفعلیّة ، فإنْ قلنا بجواز الاجتماع بین الأمر و النهی ، فلا إشکال فی استکشاف ثبوت الملاک فی الحکمین ، و الصّلاة صحیحة ، لوجود الملاک و قیام الدلیل علی جواز الاجتماع - کما هو المفروض - اللّهم إلّا إذا علم بکذب أحد الدلیلین ، فیعامل معهما معاملة المتعارضین . و إنْ قلنا بالامتناع فالإطلاقان متنافیان - لامتناع صدقهما معاً علی المورد - من غیر دلالةٍ لهما علی ثبوت الملاکین للحکمین ، لأنّ انتفاء أحد المتنافیین کما یمکن أن یکون لأجل المانع مع ثبوت المقتضی له ، کذلک یمکن أن یکون لأجل انتفاء المقتضی ، فلا کاشف عن وجود الملاک حتی یکون من هذا الباب . اللّهم إلّا أن یقال : إن مقتضی التوفیق العرفی بین الدلیلین هو حملهما علی الحکم الاقتضائی لو لم یکن أحدهما أظهر فی الدلالة علی الفعلیة ، و إلّا فخصوص الظاهر منهما ، فتتم الکاشفیة کذلک .

کان هذا توضیح مطلب المحقق الخراسانی فی الأمر التاسع .

ص:46

الإشکال علی المحقق الخراسانی

فأشکل علیه فی المیرزا (1) : بأنّ کون الحکم فی محلّ الاجتماع فعلیّاً تارةً و اقتضائیاً اخری ، غیر معقول ، لأنّ الحکم قبل وجود موضوعه خارجاً یکون إنشائیاً ثابتاً لموضوعه المقدّر الوجود ، و بعد وجود موضوعه یستحیل أنْ لا یکون فعلیّاً . و تبعه المحقق الخوئی و شیخنا الأُستاذ فی هذا الإشکال .

و حاصل الکلام هو : إن بلوغ الحکم إلی مرتبة الفعلیّة - و هی المرتبة الثالثة بناءً علی نظریّة المحقق الخراسانی - یتوقف علی وجود موضوعه خارجاً بجمیع قیوده و شروطه ، وعلیه ، فلا یلازم أن یکون فعلیّاً حین الجعل و الإنشاء الحقیقیّة لما تقرّر من أن الأحکام الشرعیة مجعولة علی نحو القضایا الحقیقیّة ... فما فی ( الکفایة ) من أن إطلاق کلٍّ من الدلیلین قد یکون لبیان الحکم الفعلی ، غیر صحیح .

هذا بالنسبة إلی الدلالة علی الحکم الفعلی .

و أمّا بالنسبة إلی دلالة الدلیل علی الحکم الاقتضائی ، ففیه : إن الحکم الاقتضائی غیر معقول ، لأنّ الحکم - سواء کان مجعولاً اعتباریّاً من الحاکم کما هو التحقیق ، أو کان الإرادة أو الکراهة المبرزة - لا یمکن أن یتکفّل الملاک فی هذه المرتبة ، لأنّ مرتبة الاقتضاء هی مبدأ الحکم ، و مبدأ الشیء لیس من مراتبه ، إلّا فی الامور التکوینیة النار - مثلاً - مبدأ للحرارة و هی موجودة بوجود النار .

و السبب فی ذلک : أن تأثیر الملاک و کون الحکم تابعاً له هو بمعنی أن الصّورة العلمیة للملاک تکون علّةً فاعلیةً للحکم ، فالحاکم عند ما یری أن لهذا الفعل مصلحةً لزومیة ، فالصّورة العلمیّة لها تصیر علّةً للحکم فینشئ الحکم علی

ص:47


1- 1) أجود التقریرات 2 / 146 - 147 .

طبقها ، لا أنّ الحکم یترشح من الملاک حتّی یکون من قبیل المقتضی و المقتضی لیقال بوجود المقتضی مع المقتضی فی مرتبته .

هذا هو الإشکال الثبوتی .

و أمّا إثباتاً ، فلأنه لا دلیل علی کون « صلّ » و« لا تغصب » فی مقام بیان الملاک ، حتی یؤخذ بإطلاق الدلیل . نعم الدلیل الدالّ علی الحکم الفعلی یکشف إنّاً - علی مسلک العدلیّة - عن وجود الملاک ...

فتلخَّص : عدم تمامیّة کلام ( الکفایة ) فی کلا طرفیه .

الأمر العاشر ( فی ثمرة البحث )
اشارة

و قد ذکر فی هذا الأمر الصور المختلفة للبحث و ثمرته فی کلّ منها .

فقال ما ملخّصه:

أمّا علی القول بالجواز : فلا إشکال فی حصول الامتثال و سقوط الأمر بالإتیان بالمجمع بداعی الأمر المتعلّق بالطبیعة ، سواءً فی العبادات و التوصلیات ، أمّا فی التوصلیّات فواضح ، لتحقّق الغرض من الأمر التوصّلی بمجرّد تحقق المأمور به خارجاً ، و أمّا فی التعبدیّات ، فلأن انطباق الطبیعة علی هذا الفرد قهری ، فیکون الإجزاء عقلیّاً ... .

فلا إشکال حینئذٍ فی الصّلاة فی المکان المغصوب ، کما لا إشکال فی ارتکاب الحرام ، لمعصیة النهی عن التصرف فی مال الغیر بدون إذنٍ منه .

و أمّا علی القول بالامتناع :

تارةً یقال : بتقدّم جانب الوجوب . فلا إشکال فی حصول الامتثال و سقوط الأمر و عدم تحقق المعصیة ، لکون العمل مصداقاً للمأمور به دون المنهیّ عنه .

و تارةً یقال : بتقدّم جانب الحرمة ، و هنا صور :

ص:48

1 - أن یکون ملتفتاً إلی الحرمة ، و فی هذه الصورة لا یمتنع قصد القربة ، و لا یکون العمل مصداقاً للمأمور به ، فلا یحصل الامتثال به .

2 - أن یکون جاهلاً عن تقصیر ، و فی هذه الصورة یکون العمل باطلاً ، لأنّه - و إنْ کان المکلَّف یتقرَّب به ، لجهله بالحرمة - عملٌ مبغوضٌ للمولی ، و هو لا یصلح لأن یقع حسناً ویحکم بصحته .

3 - أن یکون جاهلاً عن قصور ، و فی هذه الصّورة یحکم بصحّة الصّلاة ، لکونها واجدةً للملاک ، فتصلح للتقرب ، و هو متمکن من القصد لأن جهله بالحرمة عن قصور لا تقصیر ، فلا یقع الفعل منه قبیحاً ، بل یکون مشتملاً علی المصلحة و محصّلاً لغرض المولی و إنْ لم یکن امتثالاً .

هذا کلّه إن کان العمل عبادیّاً کالصّلاة .

و أمّا إن کان توصلیّاً ، فإن الأمر یسقط بمجرّد حصول المأمور به فی الخارج .

ثم قال رحمه اللّٰه : مع أنه یمکن أن یقال بحصول الامتثال مع ذلک ، فإن العقل لا یری تفاوتاً ... .

و یقصد من ذلک استدراک ما تقدَّم منه من أنّ هذا العمل صحیح من جهة اشتماله علی المصلحة و إنْ لم یکن امتثالاً للأمر ، بناءً علی تبعیّة الأحکام لِما هو الأقوی من جهات المصالح و المفاسد واقعاً ، لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح ، لکونهما تابعین لما علم منهما کما حقق فی محلّه ... فیقول :

إنه یمکن أن یقال بحصول الامتثال - فی فرض الجهل بالحرمة قصوراً - حتی علی القول بتبعیّة الأحکام لجهات المصالح و المفاسد واقعاً ، لأن العقل لا یری تفاوتاً بین هذا الفرد من الفعل و بین سائر الأفراد فی الوفاء بالغرض من

ص:49

الطبیعة المأمور بها ( قال ) : و من هنا انقدح أنه یجزی و لو قیل باعتبار قصد الامتثال فی صحّة العبادة و عدم کفایة الإتیان بها بمجرَّد المحبوبیّة ( قال ) : و بالجملة ، مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً أو حکماً ، یکون الإتیان بالمجمع امتثالاً و بداعی الأمر بالطبیعة لا محالة .

ثم قال :

غایة الأمر ، أنّه لا یکون ممّا تسعه بما هی مأمور بها لو قیل بتزاحم الجهات فی مقام تأثیرها للأحکام الواقعیّة . و أمّا لو قیل بعدم التزاحم إلّا فی مقام فعلیّة الأحکام لکان ممّا تسعه و امتثالاً لأمرها بلا کلام .

و هذا منه استدراک آخر . یعنی : إنّ تصحیح العمل بالإتیان به بداعی الأمر بالطبیعة ، إنما هو علی القول بتزاحم الملاکات فی مقام تأثیرها فی الأحکام و وقوع الکسر و الانکسار فیما بینها ، فإنه بناءً علیه یکون المجمع مورداً للنهی ، لأن المفروض تقدّمه من جهة کون مناطه أقوی من مناط الأمر . و أمّا لو قیل بعدم التزاحم فیما بینهما إلّا فی مقام فعلیّة الأحکام ، لکان ممّا تسعه الطبیعة بما هی مأمور بها ، و لکان الإتیان بالمجمع امتثالاً للأمر المتعلَّق بالطبیعة بلا کلام ، إذ بناءً علیه ، لا تزاحم فی مقام الإنشاء بل هو فی مقام الفعلیّة ، و المفروض عدم فعلیة النهی ، لأنه مع الجهل به قصوراً لا داعویة له ، بل یکون الفعلی هو الأمر .

( قال ) : و قد انقدح بذلک الفرق بین ما إذا کان دلیلا الحرمة و الوجوب متعارضین و قُدّم دلیل الحرمة تخییراً أو ترجیحاً حیث لا یکون معه مجال للصحة أصلاً ، و ما إذا کانا من باب الاجتماع و قیل بالامتناع و تقدیم جانب الحرمة ، حیث یقع صحیحاً فی غیر موردٍ من موارد الجهل و النسیان ، لموافقته للغرض بل للأمر .

و قد أشار بقوله : « للغرض » إلی الوجه الأول . و بقوله : « بل للأمر » إلی الثانی .

ص:50

( قال ) : و من هنا علم أن الثواب علیه من قبیل الثواب علی الإطاعة لا الانقیاد و مجرّد اعتقاد الطاعة .

و الضّمیر علیه یعود إلی الإتیان بالمجمع .

( قال ) : و قد ظهر ممّا ذکرناه وجه حکم الأصحاب بصحّة الصّلاة فی الدّار المغصوبة مع النسیان أو الجهل بالموضوع بل أو الحکم ، إذا کان عن قصور . مع أن الجلّ لو لا الکلّ قائلون بالامتناع و تقدیم الحرمة ، و یحکمون بالبطلان فی غیر موارد العذر . فلتکن من ذلک علی ذکر » .

إشکال السید صاحب العروة علی القائلین بالجواز

و ذهب صاحب ( العروة ) فی رسالته فی ( اجتماع الأمر و النهی ) إلی أنّ بتصحیح العمل بناءً علی الجواز - من باب أن انطباق الکلّی علی الفرد قهری و الإجزاء عقلی - یرتفع التعارض فی مثال البحث بین « صلّ » و« لا تغصب » عقلاً ، لکنه موجود بینهما عرفاً و لا یرتفع بما ذکر .

و لعلّ الوجه فی هذا الإشکال هو : إن إطلاق النهی شمولی و إطلاق الأمر بدلی ، و البدلی مقدَّم فی مورد الاجتماع علی الشمولی ، فالصّلاة منهیٌّ عنها ...

و قد عبَّر فی موضعٍ آخر : بأنْ النهی فی « لا تغصب » تعیینی ، و الأمر فی « صلّ » تخییری ، فیجب الاجتناب فی مورد النهی عن جمیع الأفراد و المصادیق ، أمّا الأمر ، فلا یجب علیه إلّا الإتیان بأحد أفراد المتعلَّق ، و عند العرف یتقدّم الحکم التعیینی علی التخییری .

و هذا مقتضی عدّةٍ من النصوص من قبیل : « لا یطاع اللّٰه من حیث یعصی » و قوله علیه السلام : « لو أنّ الناس أخذوا ما أمرهم اللّٰه به فأنفقوه فیما نهاهم عنه ما قبله منهم ، و لو أنهم أخذوا ما نهاهم اللّٰه عنه و أنفذوه فیما أمرهم اللّٰه به ما قبله

ص:51

حتی یأخذوه من حق و ینفذوه فی حق » (1) و قال : « یا کمیل ، انظر فیمَ تصلّی و علی مَ تصلّی إنْ لم یکن مِن وَجهه و حلِّه فلا قبول »(2) .

جواب الأُستاذ

و قد تنظر الأُستاذ فی هذا الإشکال ، بأنه إن کان مراده : تقدّم الإطلاق الشمولی علی البدلی فی مورد التعارض ، ففیه : إنّه أوّل الکلام ، فمن العلماء من یقول فی مثله بعدم الترجیح بل التساقط ... و هذا علی فرض تحقق التعارض کما هو واضح ، و لکنْ لا تعارض هنا ، لأنه إنّما یکون مع وحدة الموضوع ، کما فی المجمع بین « أکرم عالماً » و« لا تکرم الفاسق » ، أمّا فی هذا المقام ، فإن الموضوع - علی القول بالجواز - متعدّد ، إذ « الصّلاة » غیر « الغصب » ، فلم یرد الإطلاقان علی الموضوع حتی یتحقق التعارض العرفی بینهما .

و إن کان مراده : کون أحدهما تعیینیّاً و الآخر تخییریاً ، و الأوّل هو المقدّم عرفاً . ففیه : إن التخییر فی متعلَّق الأمر أی« الصّلاة » عقلی لا شرعی ، فإنها واجبة بالوجوب التعیینی ، غیر أنّ العقل یری کون المکلَّف مخیّراً فی إیقاع هذا الفرد من الصلاة أو ذاک ، فی المسجد أو فی الدار ، لکون المتعلَّق للأمر هو الطبیعی ، و کلّ واحدٍ من أفراده مصداق له و محقّقٌ للامتثال ... فکبری دوران الأمر بین التعیین و التخییر و تقدّم الأوّل غیر منطبقة علی محلّ البحث ... .

هذا ، مضافاً إلی ما تقدَّم من تعدّد الموضوع بناءً علی الجواز ، و التعارض إنّما یکون مع وحدة الموضوع و المتعلّق لا تعدّده ... لأن المفروض أن الترکیب بین « الصّلاة » و« الغصبیة » انضمامی و لیس اتحادیّاً ... و کون المجمع بنظر العرف

ص:52


1- 1) ( و 2) وسائل الشیعة 5 / 119 ، کتاب الصّلاة ، الباب 2 من أبواب حکم الصّلاة فی المکان و الثوب المغصوب ، رقم 1 و 2 .

شیئاً واحداً مسامحة منه ، و قد تقرّر فی محلّه أنْ لا تسامح فی تطبیق موضوعات الأحکام الشرعیة و أنه لا مرجعیّة للعرف إلّا فی مفاهیم الألفاظ .

و علی الجملة ، فإن التعارض هو تنافی الدلیلین بالتضاد أو التناقض ، و هو فرع وحدة الموضوع ، فإذا تعدّد استحال التنافی .

و بما ذکرنا یظهر ما فی الاستدلال بمثل « لا یطاع اللّٰه من حیث یعصی » ، لأنّ مورده صورة اتّحاد الموضوع لا تعدّده ، و قد عرفت التعدّد بناءً علی القول بالجواز . و أمّا روایة خطاب کمیل فمن أخبار کتاب تحف العقول ، و هی فی کتاب بشارة المصطفی مسندة لکنها ضعیفة السند جدّاً ... .

و روایة الإنفاق مرسلة، أمّا من حیث الدلالة ، فهی دالّة علی مدّعی السیّد لو کان « القبول » بمعنی « الإجزاء » ، أمّا بناءً علی المغایرة بینهما و القول بسقوط الإعادة و القضاء رغم عدم قبول العمل ، فلا یتم استدلاله بها ... و مقتضی التتبّع و الدقة هو هذا الوجه ، لأنّ قوله تعالی «إِنَّمٰا یَتَقَبَّلُ اللّٰهُ مِنَ الْمُتَّقینَ » (1)- مثلاً - لا ینافی صحّة العمل من غیر المتّقی إنْ وقع علی وجه الصحّة ... و کذا فی الأخبار الواردة فی أبواب قواطع الصلاة ، کالخبر الدالّ علی عدم قبول صلاة المرأة الناشزة و العبد الآبق (2) ... مع أن الصّلاة الواجدة للأجزاء و الشرائط منهما صحیحة بلا کلام .

و تلخّص : أن الحقّ عدم ورود الإشکال بناءً علی الجواز کما فی ( الکفایة ) .

إشکال المحاضرات علی الکفایة

و قد أورد فی ( المحاضرات ) علی ( الکفایة ) بعدم صحّة قوله بالصحّة علی

ص:53


1- 1) سورة المائدة : الآیة 27 .
2- 2) وسائل الشیعة 8 / 348 ، الباب 27 باب استحباب تقدیم من یرضی به المأمومون ، الرقم : 1 .

القول بالجواز ، لعدم خلوّ الأمر من حالین ، فإمّا توجد مندوحة و إمّا لا ، فإنْ وجدت صحّت الصّلاة بلا إشکال علی الجواز ، و إنْ فقدت وقع التزاحم ، فإنْ رجّح جانب الأمر فالصحّة ، و إنْ رجّح جانب النهی فالفساد إلّا بناءً علی الترتب ، لکن صاحب ( الکفایة ) لا یری الترتّب ، أو بناءً علی قصد الملاک ، و تصحیح العمل عن هذا الطریق یتوقف علی وجود الأمر لیکشف عن الملاک ، و مع تقدّم النهی لا یوجد أمر فلا کاشف عنه ، فکیف یقصد ؟

إذن ، لا وجه لقول ( الکفایة ) بالصحة بناءً علی الجواز ، بصورةٍ مطلقة ، بل لا بدّ من التفصیل (1) .

جواب الأُستاذ

و قد دفع الأُستاذ الإشکال علی کلا التقدیرین فقال :

لقد أوضح المحقق الخراسانی فی الأمر الخامس - من هذه المقدّمات - أن مبنی البحث فی مسألة الاجتماع هو لزوم التکلیف المحال و عدم لزومه ، لا لزوم التکلیف بالمحال و عدم لزومه ... و اعتبار وجود المندوحة و عدم اعتبارها إنما یکون فیما لو کان المبنی هو الثانی .

و بعبارة اخری ، تارةً : یبحث عن جواز أصل التکلیف و عدم جوازه ، و اخری : یبحث عن فعلیة التکلیف و عدم فعلیّته ، و قضیة وجود المندوحة و عدم وجودها تطرح فی البحث عن الفعلیّة ، لأنّه مع عدم وجودها یکون تکلیفاً بالمحال ، لعدم القدرة علی الامتثال ... لکنّ موضوع البحث فی مسألة الاجتماع هو أصل التکلیف لا فعلیّته ... .

فهذا ما صرَّح به و غفل عنه المستشکل .

ص:54


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 431 .

کما أنّه قد غفل عن کلامه فی لزوم وجود الملاک لکلا الحکمین حتی یندرج البحث فی مسألة الاجتماع ، و أنه لو لا ذلک کان من التعارض ... فهو یؤکّد علی ضرورة وجوده لکلیهما و تطبیق قاعدة التزاحم علیهما ، و حینئذٍ ، فلو قدّم النهی علی الأمر لسقط الأمر علی أثر التزاحم ، لکنَّ مزاحمته للنهی ثم سقوطه لأقوائیة ملاک النهی فرع لوجود الملاک له - أی للأمر - ، فیکون الأمر کاشفاً عن وجود الملاک له ، و هذا لا ینافی سقوطه علی أثر التزاحم .

و علی الجملة ، فقد وقع الخلط علی المستشکل بین السقوط لعدم المقتضی و لوجود المانع ، و کلّما یکون السقوط لوجود المانع فإنه یکشف عن وجود الملاک له ، و إلّا لم تصل النوبة إلی التزاحم و السقوط علی أثر أقوائیة الملاک فی الطرف الآخر .

فظهر سقوط الإشکال علی المحقق الخراسانی .

وجه الفتوی بصحة الصّلاة مع القول بالامتناع
اشارة

ثم إنّ المحقق الخراسانی ، بعد أنْ بیّن الحکم علی القول بالجواز ، قسّم المکلّف - بناء علی الامتناع - إلی أقسامٍ ، و حاول توجیه فتوی المشهور بصحّة الصّلاة فی المکان المغصوب من الجاهل عن قصورٍ إذ قال : و قد ظهر بما ذکرناه وجه حکم الأصحاب بصحّة الصّلاة فی الدار المغصوبة مع النسیان أو الجهل بالموضوع بل أو الحکم ، إذا کان عن قصور ، مع أنّ الجلّ - لو لا الکلّ - قائلون بالامتناع و تقدیم الحرمة ... .

و قد صحّحها بثلاثة وجوه :

أحدها : عن طریق قصد الملاک ، لأن المفروض واجدیّتها ، بناءً علی کفایة قصده فی عبادیة العمل .

ص:55

و الثانی : عن طریق قصد الامتثال و الطاعة ، فإنّه یکفی لعبادیّة العمل و إنْ قیل بعدم کفایة قصد الملاک ، فکلّ عبادةٍ جامعةٍ للأجزاء و الشرائط المعتبرة فیها ، یصحّ التقرّب بها بقصد إطاعة الأمر المتعلّق بها ، و هذا القصد یتمشّی من الجاهل عن قصورٍ بالموضوع و الحکم .

و الثالث : عن طریق القول بأن لوصول الملاک إلی المکلّف دخلاً فی حسن الفعل أو قبحه ، فالمؤثر هو الملاک بوجوده العلمی لا الواقعی ، و علی هذا ، فلمّا کانت مصلحة الصّلاة واصلةً فهی مأمور بها ، أمّا مفسدة الغصب ، فالمفروض عدم وصولها - للجهل القصوری - فلا أثر لها و إنْ قدّم النهی ، لأنّ تقدیمه إنما هو بحسب الواقع ، و هو بلا أثر کما تقدم .

إشکال السید البروجردی علی الکفایة

و قد أشکل السید البروجردی (1) : بأنّ مقتضی التحقیق هو القول بدوران الأمر مدار الجهل و النسیان عن قصور ، فإنه إن کان کذلک حکم بصحة الصّلاة ، علی القول بالجواز و الامتناع معاً ، و إن کان عامداً أو جاهلاً مقصّراً حکم ببطلانها علی القولین معاً ... و ذلک : لأنّ الصّلاة فی المکان المغصوب قد ابتلی ملاکها بالمبغوضیّة ، و کلّ عملٍ مبغوض فهو غیر قابلٍ للمقربیّة ، إلّا إذا کان جاهلاً عن قصورٍ لکون صلاته صالحة للمقرّبیة ، سواء قلنا بالجواز أو بالامتناع ... ( قال ) و یشهد بذلک ذهاب القائلین بالجواز إلی بطلان العمل العبادی إلّا من الجاهل القاصر لأنه معذور .

مناقشة الأُستاذ

إنه لا بدَّ من تعیین الأساس فی وجه القول بالجواز ، فإنْ کان مجرّد تعدّد

ص:56


1- 1) الحاشیة علی الکفایة 1 / 401 .

العنوان و الوجه مع وحدة الوجود و الواقع ، صحّ ما ذکره من الابتلاء بالمبغوضیّة ، أمّا إن کان الأساس فی ذلک تعدّد الوجود ، بمعنی أنّ متعلَّق الأمر غیر متعلّق النهی - کما هو التحقیق - فلا مبغوضیة لمتعلَّق الأمر ، بل یبقی علی محبوبیّته و صلاحیّته للمقربیّة ، غیر أنّه جاء مقارناً للمبغوض و توأماً له ، کما لو وقع النظر إلی الأجنبیة فی أثناء الصّلاة ، و کما لو وقعت الصّلاة ملازمةً لترک الأهم - و هو إنقاذ الغریق مثلاً - فإنّها بناءً علی الترتّب صحیحة و صالحة للمقرّبیة . و الوجه فی جمیع هذه الموارد هو تعدّد الوجود .

هذا بناءً علی الجواز .

و أمّا علی الامتناع ، فإنّ القائلین به ینکرون التعدّد ، فمع تقدیم جانب النهی لا یکون العمل صالحاً للمقرّبیّة ، نعم ، الجاهل عن قصورٍ معذور ، إلّا أن معذوریّته أمر و صلاحیّة العمل للمقربیّة أمر آخر ، و قد تقرّر فی محلّه اشتراک الأحکام بین العالمین و الجاهلین ، و الجهل غیر رافع للمبغوضیة واقعاً بل ظاهراً - بخلاف النسیان ، فإن رفع الحکم معه واقعی ، إلّا أن الکلام لیس فی النسیان - فالمبغوضیّة موجودة ، فکیف یحکم بالصحّة ؟

و أما دعوی أنّ القائلین بالجواز أیضاً یقولون بالبطلان هنا ، فمردودة : بأنها خلاف صریح کلمات الفقهاء ... فلاحظ منها کلام الشهید الثانی فی روض الجنان فی هذه المسألة (1) .

هذا ، و الفرق بین الصّلاة فی المکان و الساتر المغصوب ، هو أنّ من شرائط صحة الصّلاة إباحة اللّباس ، فهی فی اللّباس المغصوب فاقدة للشرط ، أمّا فی المکان المغصوب ، فالتفصیل بین القول بالجواز و القول بالامتناع .

ص:57


1- 1) روض الجنان فی شرح إرشاد الأذهان 2 / 587 .
إشکال السید الخوئی علی الکفایة

و أشکل فی ( المحاضرات ) بعد الإشکال علی ما ذکر فی ( الکفایة ) بناءً علی الجواز ، بعدم تمامیة کلامه بناءً علی الامتناع أیضاً ، لأنه علی القول بذلک و تقدیم جانب النهی ، تدخل المسألة فی کبری باب التعارض و تجری علیه أحکامه و لا تکون من صغریات التزاحم کما ذهب إلیه . ( قال ) : و یمکن المناقشة علی وجهة نظره أیضاً ، لأنه یرید تصحیح العمل بقصد الملاک ، لکنّ قصد الملاک إنّما یکون مقرّباً فیما إذا لم یکن مزاحماً بشیء ، و لا سیّما إذا کان أقوی منه کما هو المفروض فی المقام ، و أما الملاک المزاحم فلا یترتب علیه أیّ أثر و لا یکون قصده مقرباً بناءً علی ما هو الصحیح من تبعیة الأحکام للجهات الواقعیة لا الجهات الواصلة ، و المفروض أن ملاک الوجوب مزاحم بملاک الحرمة فی مورد الاجتماع ، فلا یصلح للمقربیة ... فلا یمکن الحکم بصحة العبادة علی القول بالامتناع ، لا من ناحیة الأمر و انطباق المأمور به علی الفرد المأتی به ، و لا من ناحیة الملاک (1) .

جواب الأُستاذ

و أجاب الأُستاذ : بأنْ دخول المسألة علی الفرض المذکور فی کبری التعارض هو الصحیح وفاقاً للشیخ الأعظم ، کما سیأتی بالتفصیل . لکنّ الإیراد علی صاحب ( الکفایة ) بناءً علی مسلکه من کونها من باب التزاحم ، غیر وارد ، لأنه قد جعل قوام اجتماع الأمر و النهی وجود الملاک لکلٍّ من الدلیلین ، و قوام باب التعارض عدم وجوده فی أحدهما ، و علی هذا لا یتوجّه علیه الإشکال إلا من حیث المبنی .

ص:58


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 436 - 437 .
إشکال آخر

و أشکل فی ( المحاضرات ) ایضاً : بأنّه لمّا کان تصحیح العبادة - علی القول بالامتناع - من طریق قصد الأمر أو الملاک ، فإنّه مع تقدیم جانب النهی یسقط الأمر ، و إذا سقط فلا طریق لإحراز الملاک ، لوضوح أنّ عدم انطباق الطبیعة علی هذا الفرد کما یمکن أنْ یکون من ناحیة وجود المانع مع ثبوت المقتضی له ، یمکن أن یکون من ناحیة عدم المقتضی له ، فالعقل لا یحکم - حینئذٍ - بحصول الامتثال بالإتیان بالمجمع .

و الجواب

لقد تعرّض صاحب ( الکفایة ) فی المقدمة التاسعة لهذا المطلب و أوضحه ، بما حاصله : إنّ باب اجتماع الأمر و النهی متقوّم بوجود الملاک لکلا الدّلیلین ، فإن لم یحرز وجوده لأحدهما کانت المسألة من باب التعارض ، و الکاشف عن الملاک تارة دلیل من خارج و اخری هو الإطلاق ، فإن کان الإطلاقان فی مقام بیان الحکم الاقتضائی احرز الملاک ، و إن کانا فی مقام بیان الحکم الفعلی خرجت المسألة إلی باب التعارض - لعدم إمکان توجّه الحکمین الفعلیین إلی الشیء الواحد - و إذا رجّح طرف النهی و سقط الأمر ، أمکن أن یکون سقوطه من جهة عدم الملاک ، کما أمکن أن یکون من جهة الابتلاء بالمعارض .

فما جاء فی الإشکال مذکور فی ( الکفایة ) ، و لیس بشیء جدید .

إشکال الأُستاذ علی الکفایة

ثم قال الأُستاذ : بأن الصحیح فی الإشکال علی ( الکفایة ) هو أن یقال : إنّه مع تسلیم کون المسألة من باب الاجتماع ، فإنّ ملاک الوجوب - بناءً علی الامتناع و تقدیم النهی علی الأمر - یکون مغلوباً لملاک النهی ، و إذا تغلّب ملاک النهی کان

ص:59

العمل مبغوضاً ، و قد تقدّم أن العمل ما لم یکن محبوباً للمولی لا یصلح للمقربیّة ، و بما ذکرنا یظهر عدم إمکان تصحیحه بالإتیان به بقصد الملاک ، لأنّ مجرّد وجود المصلحة فی الصلاة لا یکفی للمقربیّة ، بل المقرّب هو العمل المأتی به بما هو محقق لغرض المولی ، و مع غلبة جانب الغصبیّة لا یکون ملاک الصّلاتیة المغلوب غرضاً ، لأن الغرض یتبع الملاک الغالب ، و إذا انعدم الغرض فلا ملاک للمقربیّة .

و مع التنزّل عمّا ذکرنا ، تصل النوبة إلی الشک ، فهل مثل هذا الملاک الذی أصبح مغلوباً للمفسدة صالحٌ للمقربیّة أو لا ؟

و أمّا تصحیحه بقصد الأمر ، فهو علی أساس أنّ التزاحم بین الملاکات إنما هو بحسب وصولها إلی المکلَّف و علمه بها و التفاته إلیها ، و المفروض هنا جهل المکلَّف بالنهی عن قصورٍ لا تقصیر ، فیتمشی منه قصد الأمر المتعلِّق بطبیعة الصّلاة ... لکن هذا الأساس باطل ، لأن الأحکام تابعة للملاکات الواقعیة ، و لا دخل لعلم المکلَّف و جهله فی تمامیة الملاک و عدمها ، تمامیّته و إلّا یلزم التصویب ، لأنه لو کانت الفعلیة تابعةً للوصول ، فعلی القول بالامتناع و تقدیم جانب النهی ، غیر و اصلٍ إلی الجاهل ، بل الأمر هو الواصل إلیه ، فالمجمع مأمور به ، و هذا هو التصویب .

و الحاصل : إن الملاکات الواقعیة مؤثرة ، و مع تقدیم جانب النهی - و إنْ لم یکن واصلاً - ینتفی الملاک عن الصّلاة ، و به ینتفی الأمر ، فلا یمکن تصحیحها بقصد الأمر ... و یکون العمل باطلاً .

ص:60

أدلّة القول بالامتناع
مقدّمات صاحب الکفایة
اشارة

إنّ المشهور هو القول بامتناع اجتماع الأمر و النهی ، قال فی ( الکفایة ) و هو الحق ، و قد ذکر لتحقیق هذا القول و إثباته مقدّمات :

المقدمة الاولی ( التضادّ بین الأحکام )

قال : لا ریب فی أنّ الأحکام الخمسة متضادّة فی مرتبة الفعلیّة و مرتبة التنجّز ، أمّا التی قبل التنجّز و الفعلیة فلا تضاد ...

و هو - و إنْ لم یتعرّض هنا إلّا لمرتبتین هما الإنشاء و الفعلیة - یری أنّ لکلٍّ حکمٍ من الأحکام الخمسة أربع مراتب :

1 - مرتبة الملاک ، و هی مرتبة المقتضی للحکم .

2 - مرتبة الإنشاء ، و هی مرتبة جعل الحکم بنحو القانون .

3 - مرتبة التنجّز ، و هی مرتبة البعث و الزجر .

4 - مرتبة الفعلیة ، و هی مرتبة وصول الحکم إلی المکلَّف و ترتب الثواب أو العقاب .

و قد ذکرنا ذلک سابقاً .

فالمقصود من هذه المقدّمة بیانُ وجود التضادّ فی المرتبتین : مرتبة التنجّز ، فهناک تضادّ بین الطلب الجدّی للفعل و الطلب أو الزجر الجدّی للترک ، و مرتبة الفعلیة و وصول الحکم إلی المکلَّف ، فإنه یستحیل فعلیّة کلا الحکمین بالنسبة

ص:61

إلیه ... فالقول بالجواز یستلزم اجتماع الضدّین ... فیکون الحکم کذلک تکلیفاً محالاً و لیس من التکلیف بالمحال ... و لذا یقول : بأن الاجتماع غیر جائز حتّی عند من یقول بجواز التکلیف بغیر المقدور و هم الأشاعرة ، لأنّ الاستحالة ترجع إلی مرحلة التکلیف و لیست فی مرحلة الامتثال ، و هذا هو الفرق بین التکلیف المحال و التکلیف بالمحال .

إشکال المحقق الأصفهانی علی المقدمة الاولی

و قد أشکل علیه المحقق الأصفهانی فقال (1) : إن حدیث تضادّ الأحکام التکلیفیة و إنْ کان مشهوراً لکنّه ممّا لا أصل له ، لما تقرّر فی محلّه من أن التضادّ و التماثل من أوصاف الأحوال الخارجیة للامور العینیّة ، و لیس الحکم بالإضافة إلی متعلّقه کذلک ، سواء ارید به البعث و الزجر الاعتباریّان العقلائیّان أو الإرادة و الکراهة النفسیّان .

ثم أوضح ما ذکره علی المسلکین المذکورین فی حقیقة الأمر و النهی .

و محصّل کلامه هو : إنّ حقیقة التضادّ عبارة عن التمانع بین الشیئین الموجودین المتعاقبین علی الموضوع الواحد ، الواقعین تحت جنسٍ قریب و بینهما غایة الاختلاف ، کالسواد و البیاض المتعاقبین علی المحلّ الواحد ، فإنّهما أمران وجودیان یجتمعان تحت مقولة الکیف المحسوس لکنْ بینهما الاختلاف فی الغایة .

و علی هذا ، فالتضادّ من أوصاف الموجودات الخارجیة ، و هی التی یتصوّر فیها التضادُّ ، دون الأحکام التکلیفیة :

أمّا علی القول : بأن الأمر و النهی هما البعث و الزجر الاعتباریّان ، فلأنّ البعث

ص:62


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 308 .

و الزجر عبارة عن المعنی الاعتباری المنتزع من قول المولی « صلّ » و قوله « لا تغصب » ، و من الواضح أن کلّاً منهما إنشاء خاص مرکّب من کیف مسموع - و هو لفظ « صلّ » و لفظ « لا تغصب » ، و من کیف نفسانی هو قصد ثبوت المعنی باللفظ ، و هما قائمان بالمولی المنشئ لا بالفعل الخارجی القائم بالغیر ، و الأمر الاعتباری المنتزع أیضاً قائم به لا بغیره ، و مقوّم هذا الأمر الاعتباری - و هو طرفه - لا یعقل أنْ یکون الهویة العینیة القائمة بالمکلَّف ، لأن البعث الحقیقی یوجد سواء وجدت الهویّة العینیّة من المکلَّف أو لا ، و یستحیل أن یتقوَّم الموجود و یتشخّص بالمعدوم بل ما لا یوجد أصلاً کما فی البعث إلی العصاة ، و حینئذٍ یکون المتعلَّق المقوِّم لهذا الأمر الاعتباری و المشخّص له هو الفعل بوجوده العنوانی الفرضی الموافق لاُفق الأمر الاعتباری و المسانخ له ( قال ) : فاتضح ممّا ذکرنا : أن البعث و الزجر لیسا من الأحوال الخارجیة ، بل من الامور الاعتباریة ، و أن متعلَّقهما لیس من الموجودات العینیة بل العنوانیة .

و أمّا علی القول : بأنّ الحکم عبارة عن الإرادة فی الوجوب و الکراهة فی الحرمة ، فقد ذکر وجوهاً لعدم التضادّ ، لأن الإرادة و الکراهة - سواء التکوینیة أو التشریعیة - قائمتان بالنفس ، لکنهما من الامور ذات التعلّق ، و المتعلّق لهما عین وجود الإرادة و الکراهة ، وعلیه : فإنّ متعلَّقهما هو الوجود النفسانی للمراد و المکروه ، لا الوجود الخارجی ، و إلّا یلزم وجودهما بلا طرفٍ ، و حینئذٍ ، یکون متعلَّق الإرادة و طرفها موجوداً بوجود الإرادة ، و کذا الکراهة ، و لمّا کانت الإرادة غیر الکراهة و بینهما تغایر ، فکذلک بین المتعلَّقین لهما ، فلا یجتمعان فی واحدٍ ، فلا تضاد ، و هذا هو الوجه الأوّل .

الوجه الثانی : إن الإرادة أمر نفسانی - و کذلک الکراهة - و لا یعقل تعلّقها بالموجود الخارجی و إلّا یلزم انقلاب النفسانی خارجیّاً و الخارجی نفسانیاً ، نعم ،

ص:63

الإرادة علّة لتحقّق الشیء فی الخارج ، و هذا غیر أنْ یکون الخارج متعلّقاً لها ، فلا ینبغی الخلط .

الوجه الثالث : إن طبیعة الشوق - بما هو شوق - لا تتعلَّق إلّا بالحاصل من وجهٍ و المفقود من وجه ، إذ الحاصل من جمیع الجهات لا جهة فقدان له کی یشتاق إلیه النفس ، و المفقود من جمیع الوجوه لا ثبوت له بوجهٍ کی یتعلَّق به الشوق ، فلا بدَّ من حصوله بوجوده العنوانی الفرضی لیتقوم به الشوق ، و لا بدّ من فقدانه بحسب وجوده التحقیقی کی یکون للنفس توقان إلی إخراجه من حدّ الفرض و التقدیر إلی حدّ الفعلیة ... و حاصل هذا : أن الموجود الخارجی یستحیل أن یکون هو المتعلَّق للإرادة و الکراهة ، لکونه موجوداً من جمیع الجهات .

و هذه الوجوه جاریة فی الإرادة التکوینیة و التشریعیة معاً ، غیر أنّ التکوینیة لا واسطة فیها بخلاف التشریعیة ، إذ المراد صدور الفعل من المکلَّف ، و التکوینیة لا تتعلَّق بالمعدوم کما تقدَّم ، بخلاف التشریعیة ، فإنّها تتعلَّق بالفعل الذی یراد صدوره من المکلف .

رأی السید الخوئی

و لِما ذهب إلیه المحقق الاصفهانی ، قال تلمیذه فی ( المحاضرات ) (1) بعدم وجود التضادّ بین الأحکام أنفسها ، بل هو فی مبدأ الحکم و فی منتهاه . أمّا عدم وجوده بینها ، فلأن البعث و الزجر أمران اعتباریان و لا تمانع بین الاعتباریین .

لکنه فی مبدإ الحکم و هو المحبوبیة و المبغوضیة ، فإنهما لا یجتمعان فی الشیء الواحد ، و کذا فی منتهی الحکم و هو مقام الامتثال ، لأن الفعل و الترک لا یجتمعان .

ص:64


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 413 .
نظر الشیخ الأُستاذ

ثم إن الشیخ الأُستاذ بعد أنْ شرح کلام المحقق الاصفهانی رحمه اللّٰه ، أشکل علیه بعد بیان امور :

أولاً : إنه لیس المقصود من التضادّ فی هذه المقدّمة هو التضادّ الفلسفی ، بل المراد التضادّ الاصولی ، أی: إن اجتماع الأمر و النهی فی الواحد ذی العنوانین مستحیل من جهة أنه بنفسه محالٌ ، لا من جهة أنه من باب التکلیف بالمحال ، و لیس البحث فی أن الوجوب و الحرمة هل یمکن اجتماعهما فی الموجود الخارجی أو لا یمکن .

و ثانیاً : إن الأقوال فی حقیقة الحکم مختلفة ، فقیل : الإرادة و الکراهة ، مع قید الإبراز و عدمه . و قیل : الطلب الإنشائی بالفعل أو بالترک ، أو الطلب و النهی الإنشائی ، أو البعث و الزجر الإنشائی ، أو البعث و الزجر الاعتباری ، و قیل : الاعتبار المبرز لثبوت الفعل فی الذمّة و لحرمان المکلّف من الشیء .

و مختار المحقق الأصفهانی : إن حقیقة الحکم عبارة عن الدّاعی و الزّاجر الإمکانی ، فالمولی یحکم بداعی جعل الدّاعی الإمکانی للفعل و بداعی جعل الزّاجر الإمکانی عن الفعل ، بخلاف الإنشاءات الامتحانیة و التعجیزیة و نحوها ، فإنّ مثل «کُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئینَ » (1)لیس بداعی جعل الدّاعی بل هو تعجیز .

فهو یری إن قوله « صلّ » دعوة العبد إلی الصّلاة و تحریک له نحوها ، و قوله « لا تغصب » زاجر له عن ذلک ، و هکذا إنشاء یسمّی بالحکم ، فالصّادر من المولی هو « الإنشاء » و هو فی مرحلة الإمکان ، فإن کانت نفس العبد خالیة من موانع العبودیة ، وصل الحکم إلی مرحلة الفعلیة بالامتثال ، و إلّا بقی فی مرحلة الإمکان و القوة .

ص:65


1- 1) سورة البقرة : الآیة 65 .

و ثالثاً : إنه لا إهمال فی الواقع فی متعلَّقات التکالیف المولویة ، بل المتعلَّق إما مطلق و إما مقیَّد ، نعم ، یمکن الإهمال فی مرحلة البیان و الإثبات ، بأنْ لا یذکر المولی کلّ الخصوصیّات المقصودة فی المتعلَّق .

و بعد المقدّمات نقول بناءً علی مختاره فی حقیقة الحکم :

إن متعلَّق الأمر فی « صلّ » هو صرف وجود الصّلاة ، و متعلَّق النهی فی « لا تغصب » هو مطلق وجود الغصب ، فهل إنّ متعلَّق الأمر - بعد استحالة الإهمال - بالنسبة إلی الغصب مطلق أو مقیّد ؟ لا ریب فی عدم تقیّد الصّلاة بالغصب لا بوجوده و لا بعدمه ، أمّا عدم تقیّدها بوجوده فواضح ، و أمّا عدم تقیّدها بعدمه فلأنه لا بیان عن ذلک فی مقام الإثبات ، إذ لم یقل صلّ فی غیر المکان المغصوب ... فالصّلاة بالضرورة مطلقة بالنسبة إلی الغصب ، و حینئذٍ ، لا بدّ و أن یکون لمثل هذا الأمر المطلق إمکان الداعویة فی نفس المکلَّف ، لینبعث نحو الإطاعة و الامتثال لصرف وجود طبیعة الصّلاة ، و إلّا یلزم الخلف .

هذا فی جهة الأمر .

و کذلک الکلام فی جهة النهی و تحریم الغصب ، فلا بد و أنْ یکون مطلقاً و أن یکون لهذا الإطلاق الشمولی إمکان إیجاد الداعی فی نفس المکلَّف للانزجار ، أی یکون له إمکان الزاجریة عن الغصب .

ثم إنه یقول : إنّ وحدة متعلَّق الأمر و متعلَّق النهی لیست شخصیة بل هی وحدة طبیعیة ، فالصّلاة طبیعة واحدة لا شخص واحد ، و کذلک الغصب ... لکنّ السؤال هو : هل لهذه الطبیعة الواحدة - التی هی لا بشرط بالنسبة إلی الطبیعة الواحدة الاخری - إمکان الداعویّة نحو جمیع مصادیقها أو لا ؟ إنه لا بدّ أنْ یکون للطبیعة المتعلَّق بها الحکم بنحو لا بشرط ، إمکان الداعویّة إلی کلّ واحدٍ من

ص:66

مصادیقها ، و إلّا لم یعقل أن یجعل المطلق داعیاً أو زاجراً ، لکنّ فعلیة إمکان داعویته بالنسبة إلی هذا الفرد - أی الصّلاة فی المکان المغصوب - مستحیلٌ ، و إذا استحالت فعلیّته بسبب وحدة الوجود ، استحال جعله ، لأنّه فی مثل هذه الحالة یستحیل تحقق الداعی للمولی للجعل ... .

و علی الجملة ، فإنه لا مجال للمحقّق الأصفهانی لإنکار الإطلاق، و اشکاله علی ( الکفایة ) مندفع بناءً علی مختاره فی حقیقة الحکم ... و بهذا یظهر أنّ المورد من التکلیف المحال لا التکلیف بالمحال .

و هذا کلّه بناءً علی مختاره ، و أمّا علی سائر المبانی فالأمر سهل .

أمّا علی القول ، بأنَّ حقیقة الحکم هو الاعتبار المبرز و هو مختار ( المحاضرات ) ، فالسؤال هو : هل المراد من الاعتبار المبرز مطلق الاعتبار أو خصوص الاعتبار بداعی تحریک العبد نحو الفعل أو زجره ؟ إن کان الأول ، تمّ ما ذکره فی ( المحاضرات ) ، لا سیّما و أن الاعتبار حفیف المئونة ، لکنّ محلّ الکلام هو الحکم الوجوبی أو التحریمی ، و الحکم لیس مطلق الاعتبار بل إنه الاعتبار المبرز بداعی تحریک المکلّف نحو الامتثال أو بداعی زجره ... و إذا کان کذلک توجّه علیه ما توجّه علی المحقق الاصفهانی .

ثم لا یخفی أنه إذا کان متعلَّق التکلیف صرف وجود الطبیعة ، ففی ترخیص المکلَّف فی علی الفرد قولان ، فقیل : إنه بحکم العقل ، و قیل : إنه بحکم الشرع ، فلمّا قال المولی « صلّ » فقد أفاد أن المطلوب من المکلّف صرف وجود الصّلاة و أنه مخیّر فی الإتیان بأیّ فردٍ من أفرادها ... و السید الخوئی من القائلین بهذا القول ، وعلیه ، فإن الإشکال یکون آکد ... لأنه أصبح مرخّصاً فی تطبیق الأمر بالصّلاة علی الفرد المتّحد منها مع الغصب ، و کذا فی تطبیق النهی عن الغصب ،

ص:67

لکنّ الترخیص فی التطبیق مع النهی عن الغصب محال ... فاستحال أصل التکلیف ، و أنّ التمانع موجود بین الحکمین .

و بما ذکرنا ظهر وجود التضادّ بین الحکمین ، و أنه لیس فی المبدإ و المنتهی فحسب .

إشکال السید البروجردی علی المقدمة الاولی

و قال المحقق البروجردی ما حاصله (1) : إنّه و إنْ تسالموا علی التضاد بین الأحکام الخمسة لکنّ التحقیق خلافه ، لأنّ الوجوب و الحرمة و غیرهما من الأحکام لیست من العوارض لفعل المکلّف ، بل هی بحسب الحقیقة من عوارض المولی ، لقیامها به قیاماً صدوریّاً .

نعم ، للأحکام ثلاث إضافات لا یعقل تحقّقها بدونها ، فإضافة إلی المولی ، بالآمر و الناهی ، و إضافة إلی المکلَّف ، و یتّصف بها بعنوان المأمور و المنهی ، و إضافة إلی المتعلَّق و یتّصف بها بعنوان المکلَّف به ... .

لکنّ الإضافة شیء و العروض شیء آخر ، إذ لیس کلّ إضافة مساوقاً للعروض ، فالحکم من عوارض المولی فقط ، لصدوره عنه و قیامه به قیام العرض بمعروضه ، أمّا إضافته إلی المکلَّف و المتعلَّق فلیس من هذا القبیل ، لعدم کونه ممّا یعرض علیهما خارجاً و عدم کونهما موضوعین للأمر و النهی ، بداهة أن العرض الواحد لیس له إلّا موضوع واحد ... کیف ، و لو کانا من عوارض المتعلَّق - و هو فعل المکلَّف - لم یعقل تحقق العصیان أبداً ، لأنه متوقف علی ثبوت الأمر و النهی ، و لو کانا من عوارض الفعل الخارجی توقف تحقّقهما علی ثبوت الفعل فی الخارج - و لو فی ظرفه لو سلّم کفایة ذلک فی تحقق العروض - و حینئذٍ ، فکیف یعقل

ص:68


1- 1) نهایة الاصول : 228 - 230 .

العصیان ، إذ وجود المأمور به امتثال للأمر لا عصیان ، فمن هنا یعلم أنهما لیسا من عوارض الفعل ، بل من عوارض المولی و قد صدرا عنه متوجّهین إلی الجمیع حتی العصاة ، غایة الأمر أن لهما نحو إضافة إلی الفعل الخارجی أیضاً ، إضافة العلم إلی المعلوم بالعرض .

فتلخّص : إنه لا یکون الوجوب و الحرمة عرضاً للمتعلَّق حتی یلزم بالنسبة إلی الجمع اجتماع الضدّین ، إذ التضاد إنما یکون بین الامور الحقیقیّة ، و العروض إنما یکون فی ناحیة المولی ، و حینئذٍ ، علی القائل بالامتناع إثبات امتناع أن ینقدح فی نفس المولی إرادة البعث بالنسبة إلی حیثیّةٍ حینئذٍ و إرادة الزجر بالنسبة إلی حیثیّة اخری متصادقة مع الاولی فی بعض الأفراد ، و أنّی له بإثبات ذلک .

نظر الشیخ الأُستاذ

و قد تعرّض شیخنا لهذا بعد النظر فی کلام المحقق الأصفهانی و قال : إنه بما ذکرنا یظهر ما فیه ، لأن المقصود هو أن اجتماع الأمر و النهی من التکلیف المحال لا التکلیف بالمحال ، و إذا کان الحکم من عوارض المولی المکلِّف و أنه لا مانع من انقداح إرادة البعث و الزجر فی نفس المولی ، فإنّ « البعث » و« الزجر » من الامور ذات الإضافة ، فلا ینفکّان عن المبعوث و المبعوث إلیه ، و عن المزجور عنه ، و حینئذٍ ، کیف یجتمع الأمر و النهی ؟

مضافاً إلی ما فی قوله من أن الحکم من عوارض المولی فقط ، لکنْ له ثلاث إضافات و أنه یجوز أن یکون طرف الإضافة معدوماً کما فی تکلیف العاصین .

و بیان الإشکال :

أولاً : إنه کما لا یمتنع کون الفعل المعدوم معروضاً للوجوب ، کذلک لا یمکن کونه طرفاً للإضافة ، و لو جاز وقوعه طرفاً لها جاز کونه معروضاً له .

ص:69

و ثانیاً : إن الإضافة متقوّمة بالطرفین ، فإن کان طرف الإضافة هو الفعل بوجوده العنوانی الذی فی الذهن ، ففیه : إنه غیر صالح لأن یکون طرفاً لها ، لأنه موجود بعین وجود الحکم و مقوّم له . و إن کان الفعل الخارجی - کما صرّح به - ففیه : إنّ الخارج ظرف سقوط الحکم فیستحیل أن یکون طرفاً للحکم .

هذا تمام الکلام فی المقدمة الاولی .

المقدمة الثانیة ( فی تعیین متعلَّق الحکم )

قال : إنه لا شبهة فی أنّ متعلّق الحکم هو فعل المکلّف و ما هو فی الخارج یصدر عنه و هو فاعله و جاعله ، لا ما هو اسمه کما هو واضح و لا ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه ، ضرورة أن البعث لیس نحوه و الزجر لا یکون عنه .

و توضیح ذلک :

إن العنوان عبارة عن المفهوم المنتزع من الشیء و المحمول علیه ، و هو علی ثلاثة أقسام ، لأنّه ینتزع تارةً : من الذات کالإنسانیة المنتزعة من ذات الإنسان ذی الجنس و الفصل ، و اخری : ینتزع من خارج الذات ، و هذا علی قسمین ، لأنّه تارةً : من الامور الخارجیة کالبیاض ، فإنه ینتزع منه الأبیض و یحمل علی الشیء ، و اخری : من الامور التی لا خارجیة لها ، کالزوجیة المنتزعة من الزوج و الرقیّة المنتزعة من الرق و المغصوبیة المنتزعة من الغصب ... .

یقول المحقق الخراسانی : إنه لا شیء من هذه الأقسام بمتعلَّق للحکم ، لأنَّ موطنها هو الذهن فقط ، و لیس له وجود خارجی حتی یکون حاملاً للغرض فیکون مطلوباً مبعوثاً إلیه .

کما أنّ متعلَّق الحکم لیس اسم الصّلاة ، لعدم کونه المطلوب المبعوث إلیه ، کما هو واضح .

إذن ... لیس المتعلَّق إلّا الفعل الصادر من المکلَّف ، و هو الصّلاة الخارجیة

ص:70

و الغصب ، هما لا یجتمعان بعد ثبوت التضادّ بینهما .

فظهر أن کلامه یشتمل علی جهة نفی وجهة إثبات .

إشکال المحقق الاصفهانی

فأشکل علیه المحقق الأصفهانی قائلاً (1) : قد مرّ فی مبحث تعلّق الأمر بالطبیعة أن الموجود الخارجی لا یقوم به الطلب ، و الإیجاد عین الوجود ذاتاً و غیره اعتباراً ، فلا فرق بینهما فی استحالة تعلّق الطلب بهما .

یقول رحمه اللّٰه : إن الطلب أمر نفسانی ، و الأمر النفسانی لا یتعلَّق بالخارج ، فما صدر خارجاً لا یتعلَّق به الطلب .

و أیضاً ، فإنّه إذا کان متعلَّق الطلب إیجاد الطبیعة ، فإن الإیجاد و الوجود واحد حقیقةً ، فالموجود الخارجی لا یقوم به الطلب .

و حاصل کلامه : عدم صلاحیّة ما صدر لأنْ یکون متعلَّق الطلب .

ثم بیّن مختاره فی المتعلَّق فقال :

إنّ القوّة العاقلة کما لها قوّة ملاحظة الشیء و تصوّره بالحمل الأوّلی ، بأنْ تدرک مفهوم الإنسان و هو الحیوان الناطق ، کذلک لها قوة ملاحظة الشیء بالحمل الشائع ، فتلاحظ الصّلاة الخارجیة التی حیثیة ذاتها حیثیة طرد العدم و هی التی یترتب علیها الغرض ، فیطلبها و یبعث نحوها .

و حاصل کلامه : إن القوة العاقلة کما لها درک المفاهیم ، کذلک لها درک الوجودات قبل وجودها ، فالصّلاة الملحوظة قبل الوجود هی متعلَّق الأمر ، لا مفهومها و لا الوجود الخارجی لها .

و تلخّص : إن المتعلَّق هو الوجود التقدیری للصّلاة ، و لیس الوجود

ص:71


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 313 .

الخارجی کما ذکر فی ( الکفایة ) ، بل هو معلول للطلب الذی تعلَّق بالوجود التقدیری .

إشکال السید الحکیم

و أشکل السید الحکیم (1) فقال : قد تکرّر بیان أن الأفعال الخارجیّة لیست موضوعةً للأحکام ، فإن ظرف الفعل ظرف سقوط الحکم لا ثبوته ، بل موضوعها الصّور الذهنیة الحاکیة عن الخارج بنحو لا تری إلّا خارجیة ، فلذا یسری إلی کلٍّ منهما ما للاخری ، فتری الصّور الذهنیة موضوعات للغرض مع أن موضوعه حقیقةً هو الخارجی ، و یری الخارجی موضوعاً للحکم و الإرادة و الکراهة مع أنّ موضوعها حقیقةً هو نفس الصّورة .

دفاع الأُستاذ عن الکفایة

و قد دافع الأُستاذ عن کلام صاحب ( الکفایة ) : بأن محطّ الإشکال قوله :

« فعل المکلَّف و ما هو فی الخارج یصدر عنه » حیث توهّم أن المتعلَّق هو الفعل الصّادر ، لکنّ کلامه فی بحث متعلَّق الأوامر و النواهی یوضّح المراد و یرفع الإشکال ، إذ ذکر هناک أنّ المتعلّق لیس : الطبیعة بما هی هی ، لأنها لیست إلّا هی ، فلا یعقل أن یتعلّق بها طلب لتوجد أو تترک ، و لیس المتعلَّق : ما هو صادر و ثابت فی الخارج کی یلزم تحصیل الحاصل کما توهّم ، بل إنه لا بدّ فی تعلّق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم مع الطبیعة ، فیلاحظ وجودها فیطلبه و یبعث إلیه کی یکون و یصدر منه ... .

فما ذکره هناک صریح فی عدم إرادة أنّ المتعلَّق هو الفعل الخارجی الحاصل حتی یرد الإشکال ، بل المتعلَّق هو ما یلحظ قبل الطلب ، فیکون للفعل

ص:72


1- 1) حقائق الاصول 1 / 370 .

وجود لحاظی عند المولی ، ثم یطلب و یراد صدوره من المکلَّف و إیجاده منه خارجاً ... فلا مجال للإشکال المذکور بل مراده نفس مراد المحقق الأصفهانی .

أقول :

بل یمکن أن یقال باندفاع الإشکال بالتأمّل فی نفس کلامه فی المقام ، لأنّه یقول : « هو فعل المکلَّف و ما هو فی الخارج یصدر عنه ... » فإنّ تعبیره بالفعل المضارع ظاهر فی عدم کون المتعلَّق هو الفعل الصّادر و أن المراد طلب صدوره منه فیما بعد ، و ظهور الکلمة فی هذا المعنی یکفی لعدم ورود الإشکال ، و هذا هو الذی نصّ علیه - فی تلک المسألة - بقوله : « بمعنی أن الطالب یرید صدور الوجود من العبد » .

فتحصّل تمامیّة المقدمة الثانیة کذلک .

المقدمة الثالثة ( تعدّد العنوان لا یوجب تعدّد المعنون )

قال: لا یوجب تعدّد الوجه و العنوان تعدّد المعنون و لا ینثلم به وحدته ... .

توضیحه : هناک عنوان و معنون لا یمکن اتّحادهما أبداً ، مثل العلّة و المعلول ، فلا یعقل الاتحاد بین النار و الحرارة ، و لا یعقل صدقهما علی الشیء الواحد ... و هناک تعدّد للعنوان لکن یمکن الاتحاد فی المعنون لهما ، کما فی المحبّ و المحبوب ، فإنّ الإنسان یحبّ نفسه ، فیقع الاتحاد بین العنوانین ، و هناک مورد تکون العناوین متعدّدة لکن المعنون واحد ... و هو الباری عزّ و جلّ ، حیث المفاهیم المتعددة و العناوین الکثیرة تصدق علیه و تحکی عنه و هو بسیط من جمیع الجهات ... .

إذن ... لا یوجب تعدّد العنوان تعدّد المعنون ... فیمکن تعدّد العنوان مع وحدة المعنون .

و هذه المقدمة لا بحث فیها .

ص:73

المقدمة الرابعة ( لکلّ موجود بوجود واحد ماهیّة واحدة)

قال : إنه لا یکاد یکون للوجود بوجود واحد إلّا ماهیّة واحدة و حقیقة فاردة ، فالمجمع و إنْ تصادق علیه متعلَّقا الأمر و النهی إلّا أنه کما یکون واحداً وجوداً یکون واحداً ذاتاً ( قال ) : و لا یتفاوت فیه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهیّة . و منه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز و الامتناع فی المسألة علی القولین فی تلک المسألة کما توهّم فی ( الفصول ) .

قال : کما ظهر عدم الابتناء علی تعدّد وجود الجنس و الفصل فی الخارج و عدم تعدّده ، ضرورة عدم کون العنوانین المتصادقین علیه من قبیل الجنس و الفصل له .

توضیح ذلک : لقد نسب المحقق الخراسانی إلی صاحب ( الفصول ) القولَ بأنّ مقتضی مبنی أصالة الوجود هو الالتزام ، لأنه بناءً علیه یمکن أن توجد ماهیّة الصّلاة و ماهیّة الغصب بوجود واحد ، و إذا کان کذلک لزم أن یکون الشیء الواحد متعلَّقاً للوجوب و الحرمة معاً ، و أما بناءً علی أصالة الماهیّة ، فإنّ وجود کلّ ماهیّة فی الخارج غیر وجود الاخری ، و إذا حصل ماهیّتان جاز أن تکون احداهما متعلَّق الوجوب و الاخری متعلَّق الحرمة و لا یلزم الاجتماع .

فأشکل علیه : بأنّ الوجود الواحد یستحیل أن یکون له ماهیّتان ، و کذا العکس ، فسواء قلنا بأصالة الوجود أو الماهیّة ، فإنّ وحدة الوجود تقتضی وحدة الماهیّة و هکذا بالعکس ، و لا یتوهّم تنظیر ما نحن فیه بوحدة وجود الجنس و الفصل ، لأنّ نسبة الجنس إلی الفصل هو نسبة القوّة إلی الفعل و الماهیّة التامة إلی الناقصة ، بخلاف ما نحن فیه ، حیث الماهیّتان تامّتان و یستحیل تحقّقهما بوجودٍ واحد .

ص:74

( قال ) و لیس الصّلاة و الغصب - مثلاً - من قبیل الجنس و الفصل حتی تبتنی هذه المسألة علی وحدة وجودهما فی الخارج فیقال بالامتناع أو تعدّدهما فیقال بالجواز ، و ذلک : لأنا نمنع القول بتعدّد وجودهما ، لأنهما فی الحقیقة شیء واحد ، و الفرق بینهما لیس إلّا من حیث التحصّل و عدم التحصّل . هذا أوّلاً . و ثانیاً : لو سلّمنا التعدّد فیهما ، فإنّ نسبة الصّلاة إلیٰ الغصب لیس نسبة الجنس إلی الفصل ، و إلّا لزم أنْ لا توجد الصّلاة إلّا مع الغصب کما لا یتحقق الجنس إلّا مع الفصل .

نتیجة المقدمات

قال فی ( الکفایة ) : إذا عرفت ما مهّدناه ، عرفت أنّ المجمع حیث کان واحداً - وجوداً و ذاتاً - کان تعلّق الأمر و النهی به محالاً و لو کان تعلّقهما به بعنوانین ... .

و حاصل کلامه بالنظر إلی المقدّمات المذکورة : إنّ المرکب لکلٍّ من الحکمین هو المعنون لا العنوان ، و هو واحد مع تعدّد العنوان ، و وحدة المعنون هی فی الوجود و الماهیّة معاً ، هذا کلّه مع التضاد بین الأحکام ... فیکون الشیء الواحد ذو الوجود الواحد و الماهیة الواحدة متعلَّقاً للأمر و النهی معاً ، و یلزم اجتماع الضدّین ، و هو محال ، و ما یلزم من المحال محال ، فالاجتماع محال ، و النتیجة هی الامتناع .

نظر الأُستاذ

لکنّ المهمّ فی البحث هو قضیة وحدة المعنون و تعدّده ، و النتیجة المطلوبة - أعنی الامتناع - موقوفة علی وجود الملازمة بین تعدّد العنوان و المعنون ، و قد تقدَّم فی بیان المقدّمات أنْ لا ملازمة ، فقد یتعدّد العنوان و یستحیل تعدّد المعنون کما فی ذات الباری عز و جلّ ، و کما فی الجنس و الفصل حیث أن الحیوان و الناطق

ص:75

مثلاً عنوانان ذاتیّان لکنّ المعنون لهما واحد و هو الإنسان ... و لذا کان الترکیب بین الجنس و الفصل اتحادیاً - علی التحقیق - لا انضمامیّاً ، و قد یکون أحدهما ذاتیّاً و الآخر عرضیّاً ، مثل الأکل و الإفطار ، لکنّ المعنون - و هو ازدراد الشیء - متّحد غیر متعدّد ... و قد یکون العنوانان أمرین انتزاعیین قد انتزعا من أمرین ذاتیین ، کما إذا انطبق عنوان النور علی العلم و الظلمة علی الجهل ... فالمعنون متعدّد ... .

و الحاصل : إن الموارد مختلفة ، فإنْ کان هناک ماهیّتان و وجودان بینهما تلازم اتفاقی لا دائمی و قلنا بعدم سرایة حکم أحد المتلازمین إلی الآخر ، کان القول بعدم الامتناع ضروریّاً .

هذا هو کبریٰ المطلب ، و یبقی الکلام فی الغصب و الصّلاة و أنهما من أیّ قسمٍ من الأقسام ، و سیأتی إن شاء اللّٰه ، بعد ذکر أدلّة الجواز ، تبعاً لشیخنا فی الدورة اللّاحقة .

أدلّة القول بالجواز
اشارة

و قد استدلّ القائلون بالجواز بوجوه منها :

الوجه الأوّل

قال المحقق القمی (1) و الشیخ الأعظم (2) ما حاصله :

إن متعلَّق الأمر هو طبیعی الصّلاة و متعلَّق النهی هو طبیعی الغصب ،

ص:76


1- 1) قوانین الاصول 1 / 141 .
2- 2) مطارح الأنظار : 144 .

و الطبائع متباینة ، و یکون أفرادها مقدمة لتحقّقها . أمّا علی القول بعدم وجوب المقدّمة ، فالأمر واضح ، و أمّا علی القول بوجوبها ، فإنّ وجوب الفرد غیری و لا محذور فی اجتماع الواجب الغیری مع الحرمة الغیریّة .

و فیه :

أوّلاً : إنه سیأتی أن الغَصب عنوان انتزاعی من التصرّف فی مال الغیر بدون إذنه ، فقد ینتزع من نفس الصّلاة حالکونها فی ملک الغیر ، فلم یغایر متعلَّق الأمر متعلَّق النهی .

و ثانیاً : إن نسبة الفرد إلی الطبیعة لیست نسبة المقدّمة إلی ذیها ، بل إن الطبیعی موجود بوجود الفرد .

و ثالثاً : لو سلّمنا ، فإنّ محذور اجتماع الضدّین موجود فی الواجب و الحرام الغیریین کما هو فی النفسیین .

الوجه الثانی

ذکره بعض المتقدمین ، و نقّحه فی ( المحاضرات ) (1) ضمن أربع مقدمات :

الاولی : إنّ الأمر - و کذا النهی - إذا تعلَّق بشیء فإنّه لا یتجاوز عن الشیء إلی ما یقارنه أو یلازمه ، لأن المتعلَّق هو الذی یقوم به الغرض من الأمر و النهی .

الثانیة : إن المتعلَّق هو الطبیعی ، إلّا أن مقتضی ذات الطبیعة هو سرایة الحکم منها إلی الفرد ، و لا علاقة لهذه السرایة بإرادة الآمر أو الناهی ، فلو تعلَّقت إرادته بذلک لزم علیه الإتیان بما یدلّ علیه فی مقام الإثبات ، کأن یقول : أکرم کلّ عالمٍ ، فیأتی بلفظ « کلّ » الدالّ علی عموم الأفراد ، لإفادة أن الحکم متوجّه إلیهم لا إلی طبیعی العالم .

ص:77


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 365 - 366 .

الثالثة : إن الطبیعة اللّابشرط تتّحد مع البشرط ، إلّا أنّ هذا الاتّحاد لا یوجب سرایة الحکم من الطبیعة إلی الشرط و کاشفیّتها عنه ، فالرقبة و هی لا بشرط عن الإیمان و الکفر تتّحد مع الإیمان و لا تکون کاشفةً و حاکیةً عنه ، کما أنّ الحکم المتعلَّق بالرقبة لا یسری إلی الإیمان ، فلا سرایة و لا حکایة ، بل کلّ لفظٍ یکون حاکیاً عن مفهومه فقط ... .

الرابعة : إن متعلّق الحکم هو نفس الطبیعة - لا ما یصدر من المکلّف کما فی ( الکفایة ) - فلا دخل للوجود الذهنی و لا الخارجی فی المتعلَّق ، و الطبائع متباینة کما تقدّم .

و نتیجة هذه الامور :

إنّه لمّا کان المتعلَّق هو ما یقوم به الغرض و لا یتجاوزه إلی غیره ، فالصّلاة متعلَّق الأمر و لا یتجاوز الأمر إلی ما قارنها کالغصب ، و کذا العکس ، و لمّا کان المتعلَّق هو الطبیعی و لا یسری الحکم عنه إلی أفراده ، فإذا أمر بالصّلاة فلا لحاظ لأفرادها حتی یتوجّه إلی منها الواقع فی الدار المغصوبة . نعم ، هذا السریان موجود بحکم العقل ، و ذاک أمر آخر . و لمّا کان الاتّحاد غیر موجب لسرایة الحکم من طبیعةٍ إلی اخری ، و لا للکشف عنها ، فلا حکایة للصّلاة المأمور بها عن الغصب المنهی عنه و بالعکس ... فأین یکون الاجتماع بین متعلَّق الأمر و متعلَّق النهی

و فیه :

إنّه لا یخفی أنّ ملاک الامتناع هو التعارض بین الدلیلین ، و إذا انتفی تحقّق ملاک الاجتماع ، لکنّ التعارض قد یکون بالدلالة المطابقیّة و بالدلالة الالتزامیة ، و اللازم قد یکون عقلیّاً فلا یقبل الانفکاک عن الملزوم ، و إذا ثبتت هذه النقاط ، فإنّ

ص:78

الإطلاق ، و لو فرض عدم لحاظ خصوصیّات الأفراد ، لازمه - عقلاً - الترخیص فی التطبیق علی أیّ فردٍ یکون مصداقاً للطبیعة ، هذا فی جانب الأمر . أمّا فی جانب النهی ، فإنّه الزجر عن جمیع الأفراد ... فالخصوصیّات موردٌ للتعرّض عقلاً و إنْ لم تکن مورداً لتعلّق الأمر و النهی شرعاً ، و حینئذٍ ، یقع التمانع بین المدلولین العقلیین الالتزامیین اللذین لا یمکن الانفکاک بینهما و بین الملزومین لهما ، فیمتنع الاجتماع .

و بعبارةٍ اخری :

صحیح أنّ الإطلاق عبارة عن کون تمام الموضوع هو الطبیعة بلا لحاظٍ للأفراد و الخصوصیّات و أنّه لا کاشفیة لها عنها ، لکنّ جعل الإطلاق البدلی - و هو الذی فی طرف الأمر - لا ینفک عقلاً عن لازمٍ هو الترخیص فی التطبیق ، و جعل الإطلاقی الشمولی ، و هو فی طرف النهی ، لا ینفکّ عقلاً عن لازم ، هو الزجر عن جمیع مصادیق الغصب مثلاً ، و حینئذٍ ، یلزم التمانع بین اللّازمین فی محلّ الاجتماع بینهما ، و ذلک یستلزم التمانع بین الملزومین ، و قد تقدّم استحالة الانفکاک بین اللّوازم و الملزومات العقلیّة ، فلا بدّ من رفع الید عن أحد الإطلاقین أو کلیهما ، و هذا یساوق الامتناع .

و ما ذکر (1) من أنّ الوجوب و الحرمة عرضان قائمان بالنفس ، و أن الخارج لیس بمعروضٍ للإرادة و الکراهة و الوجوب و الحرمة ، نظیر تعلّق العلم و الجهل معاً بالحیثیتین المتصادقین ، فإنه أیضاً ممکن و لا یلزم منه محذور اجتماع الضدّین . فإذا تعلّق العلم بمجیء عالم غداً و الجهل بمجیء عادل ، فاتفق مجیء عالم عادل ، فوجود هذا المجیء من حیث أنه مجیء العالم معلوم ، و من حیث أنه

ص:79


1- 1) نهایة الاصول : 232 .

مجیء العادل مجهول ، و من المعلوم أنّ المعلومیة و المجهولیّة لیستا إلّا کالمحبوبیّة و المبغوضیّة و الوجوب و الحرمة ، فلو کان اجتماع عنوانی الوجوب و الحرام فی مجمع الحیثیّتین موجباً لاجتماع الضدّین ، کان اجتماع عنوانی المعلومیة و المجهولیة فی مجیء العالم العادل أیضاً کذلک . و الحاصل : إن الوجوب و الحرمة لم یجتمعا فی المتعلَّق کی یلزم المحذور ، بل محلّ اجتماعهما هو نفس المولی ، و لا محذور ، کما یجتمع فیها العلم و الجهل ، و قد اضیف الحکمان إلی الخارج کلٌّ إلی جهةٍ کما فی العلم و الجهل ، و مع اختلاف الجهتین لا یلزم محذور اجتماع الضدّین .

فقد تقدّم الإشکال فیه . و أمّا التنظیر بالعلم و الجهل علی ما ذکر ، فیرد علیه النقض : بأن لازمه أن یکون مثل : « أکرم العالم و لا تکرم الفاسق » من باب اجتماع الأمر و النهی ، فیما لو کان الرجل الواحد عالماً و فاسقاً معاً ، لاختلاف متعلّقی الأمر و النهی ، و الحال أنه من باب التعارض .

و أمّا حلّ المطلب فهو : أن العلم و الجهل وصفان لهما متعلَّقان متغایران ، إذْ تعلّق أحدهما بعنوان « العالم » و الآخر بعنوان « العادل » ، أمّا فی باب الأمر و النهی ، فإن المفروض أن السید البروجردی یقول بوحدة المتعلّق ، و هو الوجود الذهنی الحاکی عن الخارج و المرآة له ، فکیف یجتمع فیه الأمر و النّهی ؟ و بعبارة اخری :

إن المفروض فی الأمر و النهی وحدة المتعلَّق و هو الوجود ، بخلاف الحال فی العلم و الجهل ، فإنّ متعلَّق الأوّل حیثیّة علم زید و متعلَّق الثانی حیثیّة عدالته ، فقیاس ما نحن فیه بالعلم و الجهل مع الفارق .

و أمّا ما ذکره (1) من أنّ قضیّة الوجدان کون جواز الاجتماع من أبده

ص:80


1- 1) نهایة الاصول : 233 .

البدیهیات ، فإذا أمرت عبدک بخیاطة ثوبک و نهیته عن التصرّف فی فضاء دار الغیر ، فخاط العبد ثوبک فی فضاء الغیر ، فهل یکون لک أن تقول له : أنت لا تستحق الاجرة لعدم إتیانک بما أمرتک ؟ و لو قلت هذا ، فهل لا تکون مذموماً عند العقلاء ؟ لا و اللّٰه ، بل تراه ممتثلاً من جهة الخیاطة و عاصیاً من جهة التصرّف فی فضاء الغیر ... .

فقد نقله صاحب ( الکفایة ) عن الحاجبی و العضدی (1) فی وجوه الاستدلال للقول بالجواز ، و أجاب عنه - بعد المناقشة بأنه لیس من باب الاجتماع ، ضرورة أن الکون المنهی عنه غیر متّحد مع الخیاطة وجوداً أصلاً - بأنّه لا یصدق إلّا أحد العنوانین ، إمّا الإطاعة و إمّا العصیان ، و دعوی قیام السیرة من العقلاء علی استحقاق الاجرة مع تحقق المعصیة ، أوّل الکلام .

الوجه الثالث
اشارة

و ذهب المیرزا إلی الجواز (2) ، قائلاً بأن الترکیب بین المتعلّقین انضمامی - خلافاً لِما تقدَّم من أنه ترکیب اتحادی ، إذ أنه یلزم الاجتماع بینهما فی الوجود - فهو یری أنّ متعلَّق الأمر یختلف ماهیّة و وجوداً عن متعلَّق النهی ، غیر أنّ أحدهما منضمّ إلی الآخر فی الوجود .

و قد عقد لمسلکه مقدماتٍ ، نتعرّض لما له دخل فی المطلب مع رعایة الاختصار :

الاولی :

ص:81


1- 1) کفایة الاصول : 166 عن شرح المختصر فی الاصول 92 - 93 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 157 - 160 .

إن المعانی التی تفهم من الألفاظ - و بهذا الاعتبار تسمّی بالمفاهیم - تارةً تلحظ بما أنها مدرکات عقلیّة ، و اخری : تلحظ بما أنها منطبقة علی مصادیقها فی الخارج ، فاللّحاظ الأوّل موضوعی و الثانی طریقی ، و هی باعتبار الثانی معروضة لاحدی النسب الأربع .

و المفاهیم علی أربعة أقسام ، لأن منها ما له بإزاء و منها ما یکون انتزاعیّاً ، و الأول : إمّا یکون ما بإزائه فی الخارج کالسّماء و الأرض ، و إمّا یکون فی عالم الاعتبار کالملکیّة و الزوجیّة ، و الثانی : إمّا یکون منشأ انتزاعه فی الخارج کسببیّة النار للحرارة ، و إمّا یکون فی عالم الاعتبار ، کسببیّة الحیازة للملکیّة .

فإن لوحظت هذه المفاهیم باللّحاظ الموضوعی ، کانت النسبة فیما بینهما نسبة التباین ، و إنْ لوحظت باللحاظ الطریقی و بما هی فانیة فی الخارج ، عرضت علیها النسب الأربع .

و المقصود من هذه المقدّمة هو : التعریض بنظریّة المحقق شریف العلماء ، إذ قال بجواز الاجتماع بین الأمر بالصّلاة و النهی عن الغصب اجتماعاً آمریّاً ، لأنَّ الآمر یوجّه الأمر إلی الصّلاة و النهی إلی الغصب ، فلا یلزم أیّ محذور فی مرحلة الأمر ، و إنما الاجتماع یأتی فی عمل المأمور و هناک یحصل المحذور ... فیقول المیرزا : بأنّ الاجتماع الآمری إنما لا یلزم حیث ینظر إلی « الصّلاة » و« الغصب » بالنظر الموضوعی ، أمّا إذا لوحظا باللّحاظ الطریقی ، تحقّق بینهما العموم من وجهٍ فی مرحلة الجعل و کان المحذور آمریّاً .

الثانیة :

إنّ الترکیب بین المبادئ انضمامی و بین المشتقات اتّحادی ، و ذلک لأن مبادئ المشتقات مأخوذة بشرط لا ، و لذلک لا یصح الحمل بینها ، مثلاً : العلم و العدالة لا یصح حمل أحدهما علی الآخر ، و لا علی الذات المعروضة لهما ،

ص:82

فلا یقال زید علم ، بخلاف عنوان العالم و العادل ... إذن ... المشتقات قابلة للحمل و الاتحاد بخلاف المبادئ .

و بعبارة اخری : إنه یشترط فی الترکیب الاتحادی وجود جهة اشتراکٍ وجهة افتراق ، و هذه الخصوصیّة موجودة فی المشتقات دون المبادئ ، و ذلک لوجود العالم غیر الفاسق ، و الفاسق غیر العالم ، و العالم الفاسق ... هذا فی المشتقات ، أمّا فی المبادی فلا ، لکونها مقولات ، و المقولات بسائط و لا یعقل الترکیب فیها حتی یکون فیما بینها جهة اشتراک وجهة افتراق ... بل إنّ العلم مباینٌ بتمام ذاته للعدالة و بالعکس ... و لذا لا یقال : العلم عدل ، لکنْ یقال : العالم عادلٌ ... إذن : لا یصحّ حمل « الصّلاة » علی « الغصب » و بالعکس ، فلا یصح الاتحاد بینهما .

و بعبارةٍ ثالثة : إن ماهیّة کلّ مبدإٍ من المبادی یمکن تحقّقها بتمام ماهیّتها معزولةً عن غیرها ، فماهیّة الصّلاة فی المکان المغصوب نفس الماهیّة فی المکان المباح ، و الغصب فی غیر مورد الصّلاة هو الغصب فی موردها ، فلو کان الاتحاد بین « الصّلاة » و« الغصب » - فی حال الاتیان بها فی المکان المغصوب - اتحادیّاً لما کان للصّلاة تحقّق فی غیر المکان المغصوب ، کما هو الحال فی الحیوان الناطق ، فإنه مع الاتحاد بینهما لا یعقل وجود أحدهما بمعزلٍ عن وجود الآخر ... فإذن ...

لیس الترکیب بین « الصّلاة » و« الغصب » اتحادیّاً بل هو فی الدار المغصوبة انضمامی .

و حاصل الکلام هو أنْ لا اتّحاد بین الصّلاة و الغصب ، بل الترکیب بینهما انضمامی ، و علی هذا ، تخرج المسألة من باب التعارض ، فإنْ عجز عن امتثال کلا الحکمین ، کانت من صغریات باب التزاحم و لزم الرجوع إلی قواعد ذلک الباب .

ص:83

موافقة الأُستاذ فی الکبریٰ

أمّا ما ذکره أوّلاً من أنّ المبدأ مأخوذ بشرط لا و المشتق مأخوذ لا بشرط ، فموضع التحقیق فیه هو مبحث المشتق ... و نحن نتکلَّم هنا علی سائر کلماته فی المقام .

فأمّا أن المبادئ لیس فیما بینها جهة اشتراک و امتیاز ، فالکلام تارةً فی الکبری و اخری فی الصغری .

أما من الناحیة الکبرویّة فلا إشکال ، لأنّه إذا کان هذا المبدأ من مقولةٍ و ذاک من مقولةٍ اخری ، فالاتحاد بینهما محال ، لأن المقولات متباینات بتمام الذات ، فإذا حصلتا ، کان لکلٍّ منهما وجود غیر وجود الاخری ، و الترکیب بینهما انضمامی . بخلاف المشتقّات ، لأن المشتق إن کان هو المبدأ لا بشرط - کما علیه المیرزا - فهو قابل للاتّحاد ، و إن کان الذات و المبدأ ، فمن الجائز قیام المبدءین بذاتٍ واحدةٍ ، کقیام العدل و العلم بزید .

اشکال السید الخوئی

و قد اشکل علی هذه الکبری : بأن الترکیب بین المبادئ قد یکون اتحادیّاً ، لأنَّ المقصود بالبحث فی اجتماع الأمر و النهی هو الأفعال الخارجیة ، لا الأوصاف کالعلم و العدل و نحوهما ، فإن کان الفعل الخارجی من العناوین المنتزعة من ذات خارجیة و کان العنوان ذا معنونٍ هو من المقولات ، مثل الرکوع ، ممّا هو من مقولة الوضع ، و التکلّم ، ممّا هو من مقولة الکیف المحسوس ، فلا یقبل الاتحاد . و أمّا إنْ کان فعلاً لا واقعیّة له خارجاً ، مثل التصرّف فی مال الغیر و نحوه ممّا لیس من المقولات بل هو عنوان منتزعٌ منها ، فلا یتم ما ذکره ، فلو أمر بالتکلّم و نهی عن التصرف فی مال الغیر لکون التکلّم أمراً واقعیّاً و التصرف المنهی عنه منتزع من

ص:84

نفس التکلّم الواقع فی فضاء ملک الغیر ، تحقّق الاتّحاد .

و الحاصل : إن ما ذهب إلیه المیرزا إنما یتمُّ فی ما إذا کان المبدءان مقولتین موجودتین فی الخارج بوجودین . أمّا فیما لو کان أحدهما منتزعاً من الآخر کالمثال المذکور ، فلا یتم ما ذکره ... بل لا بدَّ من التفصیل بین المبادئ .

نظر الأُستاذ

فقال الأُستاذ : بأنْ هذا الإیراد المتّخذ من کلمات المحقق الاصفهانی - علی دقّته - یندفع بالتأمّل فی کلمات المیرزا ، فإنه لمّا قسَّم المفاهیم (1) - فی المقدّمة الثانیة - إلی الأقسام التی ذکرناها عنه ، جَعَلَ المفاهیم الانتزاعیة ممّا لیس له ما بإزاء خارجاً ، و معنی ذلک : قیام الأمر الانتزاعی بمنشإ انتزاعه ، و هذا هو الاتحاد وجوداً .

و أیضاً ، فإنّه قد أخرج (2) من بحث الاجتماع موارد العموم من وجه ، و موارد العنوانین التولیدیین الموجودین بوجودٍ واحد ، کما لو وقف تعظیماً للعادل و الفاسق ، و موارد ما إذا وجد متعلَّق الأمر و النهی بوجود واحد ، کما لو قال اشرب و لا تغصب ، فشرب الماء المغصوب ... .

فالمیرزا غیر قائل بأن مبادئ الأفعال علی الإطلاق لا تقبل الترکیب الاتحادی حتی یرد علیه الإشکال المزبور .

الکلام فی الصغریٰ

أما من ناحیة الصغرویّة ، فلا یمکن المساعدة مع المیرزا ، فإنّ ظاهر کلامه أن الترکیب بین الصّلاة و الغصب انضمامی لکونهما من مقولتین ، و أنّ القول ببطلان تلک الصّلاة مستند إلی کونها مقرونةً بالقبح الفاعلی ، فلا تصلح للتقرّب ، لا إلی المبنی فی مسألة اجتماع الأمر و النهی .

ص:85


1- 1) فوائد الاصول (1 - 2) 401 .
2- 2) فوائد الاصول (1 - 2) 412 .

لکنّ التحقیق هو : أنّ الصّلاة من مقولاتٍ مختلفة ، لأنها مرکّبة من أجزاء بعضها من الکیف النفسانی کالنیّة ، و بعضها من الکیف المحسوس کالتکبیر و القراءة ، و بعضها کالقیام و الرکوع و السجود هیئة حاصلة من نسبة بعض أجزاء البدن إلی البعض الآخر ... و أمّا الهویّ إلی الرکوع و السجود ، فقد وقع الکلام فی کونه من أجزاء الصّلاة أو لا ... هذا بالنسبة إلی الصّلاة .

و أمّا الغصب ، فهو الاستیلاء العدوانی علی ملک الغیر ، و هل « الغصب » و« التصرف فی مال الغیر بلا إذن » - و هما العنوانان الواردان فی الأدلّة - واحد مفهوماً کما هو ظاهر الفقهاء أو لا ؟ فیه بحث لیس هذا محلّه .

و علی هذا ، فإن کان کلّ من « الصّلاة » و« الغصب » مبدأً غیر الآخر ، و الترکیب بینهما انضمامی ، و قلنا بعدم سرایة کلٍّ من الأمر و النهی إلی متعلَّق الآخر ، کانت الصّلاة فی ملک الغیر صحیحةً ، غیر أنه قد عصی من جهة التصرف فی ملک الغیر بدون إذنه ، و هذا هو المقصود من الجواز ... و هو مدّعی المیرزا .

لکن التحقیق خلافه ، لأنّ « الغصب » مفهوم انتزاعی ینشأ من التصرّف فی مال الغیر ، فلیس له ما بإزاء فی الخارج ، و التصرف تارةً یکون بالأکل و اخری بالشرب و ثالثةً بالمشی ، فهو ینتزع من امور مختلفة ، و من المعلوم أنّ المعنی الانتزاعی قائم بمنشإ انتزاعه و متّحد معه ، فإنْ انتزع عنوان « التصرف » من أجزاء « الصّلاة » حصل الاتحاد و کان الحق هو الامتناع ... و قد عرفنا أن الصّلاة مرکّبة من أجزاء هی من مقولات مختلفة .

فأمّا « النیة » فی ملک الغیر ، فلا یصدق علیها عنوان « التصرف » بلا کلام .

و أمّا التکبیر و القراءة و نحوهما فی فضاء ملک الغیر ، فلا ریب فی أنها تصرّف عقلاً ، إنما الکلام فی الصّدق العرفی ، و مع الشک فیه یکون التمسّک بقوله

ص:86

« لا یحلّ لأحدٍ أن یتصرّف ... » تمسّکاً بالدلیل فی الشبهة الموضوعیة لنفس الدلیل ... و مع وصول النوبة إلی الأصل العملی فالمرجع هو البراءة .

و أمّا الرکوع و السجود ، فإنّ التصرّف لا یصدق علی نفس الهیئة ، و صدقه علی « الهوی » إلیهما واضحٌ ، لکنّ کون « الهوی » جزءاً من أجزاء « الصّلاة » أو أنّه مقدّمة لتحقق الرکوع و السجود و هما الجزءان ؟ فیه خلاف .

و بعد ، فإنّ القدر المتیقن من أجزاء الصّلاة الحاصل فی ملک الغیر و الصادق علیه عنوان الغصب هو : الاعتماد علی ملک الغیر فی حال القیام ، فإنّه لولاه لم یتحقق القیام شرعاً ، و الاعتماد علی ملک الغیر فی حال السجود - بناءً علی اعتباره فیه و عدم کفایة مماسّة الجبهة للأرض - فإنّ هذین الاعتمادین تصرّف عرفاً ، و لمّا کان التصرّف عنوان انتزاعیّاً ، فإنّه یتحقق الاتّحاد بینه و بینهما ، و إذا حصل ثبت الامتناع ، و کانت الصّلاة باطلة .

فالنتیجة هی بطلان الصّلاة ... إلّا أن یخدش فی شیء من مقدّماتها .

هذا هو التحقیق من الناحیة الصغرویّة ... و بذلک یتبیّن صحّة صلاة المیّت فی ملک الغیر بدون إذنه ، لأنّها لیست إلّا التکبیرات و الأذکار و الأدعیة ... و کذا صلاة من لا یقدر علی القیام ، إلّا أن یقال بکونه معتمداً علی الأرض فی جلوسه .

و بعد ذلک کلّه ... یرد علی المیرزا النقض بما ذکره (1) من خروج مثل « اشرب الماء و لا تغصب » عن محلّ الکلام ، لوقوع الشرب مصداقاً للغصب ، لعدم الفرق بینه و بین « صلّ و لا تغصب » لوجود الملاک الذی ذکره - و هو استحالة اتّحاد المبادئ - فی « الصلاة » و« الشرب » معاً بلا فرق .

و أیضاً ، فإنّه فی الفقه - فی مسألة الصّلاة فی المغصوب - قال ببطلانها فی

ص:87


1- 1) أجود التقریرات 2 / 141 ، فوائد الاصول (1 - 2) 412 .

اللّباس أو المکان المغصوب ، لتحقّق الاتّحاد فی الحرکة الصّلاتیة فیه بین الصّلاة و الغصب ؛ فکان دلیله علی البطلان مسألة امتناع اجتماع الأمر و النهی ، لا الإجماع و غیره من وجوه الاستدلال ... هذه عبارته هناک :

« السابع ممّا یشترط فی اللّباس : أن لا یکون مغصوباً ... و الذی یدل علی ذلک - مضافاً إلی الإجماع فی الجملة - هو کون المسألة من صغریات باب اجتماع الأمر و النهی ... بمعنی کون الحرکة الخاصة مأموراً بها لکونها من أفعال الصّلاة و منهیّاً عنها لکونها تصرّفاً فی الغصب ... » (1) .

و تلخّص :

إن الترکیب بین المشتقات اتحادی بلا ریب ، و التعارض فی محلّ الاجتماع بین « أکرم العالم » و« لا تکرم الفاسق » موجود بلا إشکال . و أمّا بین المبادئ ، فمتی کان لمبدءین وجود واحد فی الخارج ، فلا مناص من الترکیب الاتحادی و القول بالامتناع .

تنبیه ( فی حقیقة الغصب )

قد اختلفت أنظار الأکابر فی بیان حقیقة الغصب و أنه بأیّ جزءٍ من أجزاء الصّلاة یتحقق ؟

فالمیرزا علی أن الرکوع و السجود من مقولة الوضع ، و الغصب من مقولة الأین ، و إذا اختلفت المقولات کان الترکیب انضمامیاً لا اتحادیاً .

و المحقق العراقی (2) علی أن الغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحلّ الغیر فی حال عدم رضاه لا أنه إشغال ملک الغیر ، و هذا العنوان ینطبق علی الأجزاء

ص:88


1- 1) کتاب الصلاة 1 / 285 ، 318 - 320 .
2- 2) نهایة الأفکار (1 - 2) 417 .

الصّلاتیة لکونها أفعالاً ، فیکون الرکوع فعلاً شاغلاً للمکان و هکذا غیره من الأفعال .

و المحقق الأصفهانی (1) ذهب إلی أن الأجزاء الصّلاتیة من مقولات متعدّدة ، لأنّ الرکوع من مقولة الوضع و لا یصدق علیه التصرف فی ملک الغیر ، لکن السجود وضع الجبهة علی أرض الغیر و بوضعها علیها یصدق عنوان التصرف و یلزم الامتناع ، و کذلک القیام ، لتحقق التصرّف فی أرض الغیر فیه بالاعتماد علیها .

و المحقق الخوئی (2) ، ذهب إلی أنّ مفهوم السّجود لا یتحقق إلّا بالاعتماد و هو تصرّف ، أمّا وضع الجبهة بدون الاعتماد علی الأرض ، فلیس بسجود و لا یصدق علیه التصرف فی ملک الغیر .

و أفاد شیخنا دام ظلّه : بأن هذا القول مخالفٌ لتصریحات أهل اللّغة ، - إذ السجود عندهم وضع الجبهة علی الأرض (3) - و للنصوص ، ففی صحیحة زرارة :

« قلت : الرجل یسجد وعلیه قلنسوة أو عمامة ؟

فقال : إذ مسّ جبهته الأرض فیما بین حاجبه و قصاص شعره فقد أجزأ عنه » (4) .

و کذلک غیرها .

فالصحیح ما ذهب إلیه المحقق الاصفهانی فی مفهوم السجود ، لکنّ صدق التصرّف علی مجرّد وضع الجبهة علی الأرض مشکل ، فالشبهة مفهومیة لو لم

ص:89


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 316 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 491 .
3- 3) انظر: تاج العروس فی شرح القاموس 2 / 371 .
4- 4) وسائل الشیعة 5 / 137 ، الباب 12 ، باب استحباب جعل المصلّی بین یدیه ... .

نقل بانصراف دلیل « لا یحلّ لامرئ أن یتصرّف ... » عنه .

و تلخّص : إن مفهوم السجود غیر متقوّم بالاعتماد خلافاً للسیّد الخوئی بل هو مجرّد وضع الجبهة وفاقاً للمحقق الاصفهانی ، لکنّ الکلام فی صدق التصرف علی ذلک ... .

إلّا أن الشارع اعتبر فی السجود « التمکّن من الأرض » و لا ریب فی صدق التصرّف علیه ، و من هنا اختار الأُستاذ الامتناع ، فوافق القائلین به فی القول و خالفهم فی الدلیل ، و الدلیل عنده هو النصّ :

« عن علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیهما السلام قال : « سألته عن الرجل یسجد علی الحصی فلا یمکّن جبهته من الأرض . قال : یحرّک جبهته حتی یتمکّن فینحّی الحصی عن جبهته و لا یرفع رأسه » (1) .

و أمّا ما ذهب إلیه المحقق العراقی من أن الرکوع و السجود نفس الفعل ، ففیه : إنهما عبارة عن الهیئة الحاصلة من نسبة أجزاء البدن بعضها إلی بعضٍ ، و لا یصدق « التصرف » علی « الهیئة » .

و بقی القیام ، و المستفاد من النصوص کصحیحة ابن سنان (2) أن یکون المصلّی فی حال القیام معتمداً علی رجلیه ، فلا یستند إلی الجدار و نحوه ، و من الواضح أنّ الاعتماد علی الرجل اعتماد علی الأرض ، فیلزم الاجتماع و الامتناع .

الوجه الرابع
اشارة

من أدلّة القائلین بالجواز : وقوع الاجتماع فی الشریعة بین الحکمین من الوجوب و الکراهة ، و الاستحباب و الکراهة ، و الوجوب و الاباحة ، و الاستحباب

ص:90


1- 1) وسائل الشیعة 6 / 353 ، الباب 8 من أبواب السجود ، الرقم 3 .
2- 2) وسائل الشیعة 5 / 500 ، الباب 10 من أبواب القیام ، الرقم 2 .

و الإباحة ... و أدلّ دلیل علی إمکان الشیء وقوعه .

و قد قدّم صاحب ( الکفایة ) (1) هذا الوجه علی غیره فی الذکر ، إذ قال فی تقریره : إنه لو لم یجز اجتماع الأمر و النهی لما وقع نظیره ، و قد وقع ، کما فی العبادات المکروهة ، کالصّلاة فی مواضع التهمة و فی الحمام و الصیام فی السفر و فی بعض الأحکام . بیان الملازمة : إنه لو لم یکن تعدد الجهة مجدیاً فی إمکان اجتماعهما ، لما جاز اجتماع حکمین آخرین فی موردٍ مع تعدّدهما ، لعدم اختصاصهما من بین الأحکام بما یوجب الامتناع من التضاد ، بداهة تضادّها بأسرها . و التالی باطل ، لوقوع اجتماع الکراهة و الایجاب أو الاستحباب فی مثل الصّلاة فی الحمام و الصیام فی السفر و فی عاشوراء و لو فی الحضر ، و اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الاباحة أو الاستحباب فی مثل الصّلاة فی المسجد أو الدار .

الجواب الإجمالی

و قد اجیب فی ( الکفایة ) و غیرها عن هذا الاستدلال بالإجمال ، بوجوه :

الأول : إنه لمّا قام البرهان العقلی علی امتناع شیء ، فلا بدّ من ارتکاب التأویل فیما ظاهره جواز ذلک الشیء ، ضرورة أن الظهور لا یصادم البرهان ، و هنا کذلک ، فإنّ البرهان قام علی امتناع الاجتماع بین الضدّین ، و الأحکام الخمسة متضادّة .

و الثانی : إنّ اجتماع الحکمین فی الموارد المذکورة کما یتوجّه علی الامتناعی کذلک یتوجّه علی الجوازی ، لأن القائل بجواز الاجتماع إنما یقول به حیث یکون الشیء الواحد ذا عنوانین ، أمّا ما یکون بعنوانٍ واحدٍ کالصّلاة فی

ص:91


1- 1) کفایة الاصول : 161 .

الحمّام مثلاً فلا یقول الجوازی أیضاً بالاجتماع فیه .

و ثالثاً : إنّ الموارد المذکورة لا مندوحة فیها ، بخلاف محلّ البحث کالصّلاة فی المکان المغصوب فله مندوحة .

الکلام فی العبادات المکروهة
اشارة

و أجاب المحقق الخراسانی بالتفصیل فقال : إن العبادات المکروهة علی ثلاثة أقسام :

الأول : ما تعلَّق به النهی بعنوانه و ذاته و لا بدل له ، کصوم یوم عاشوراء و النوافل المبتدئة فی بعض الأوقات .

و الثانی : ما تعلَّق به النهی کذلک و یکون له البدل ، کالنهی عن الصلاة فی الحمام .

و الثالث : ما تعلَّق النهی به لا بذاته بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً ، کالصلاة فی مواضع التهمة ، بناءً علی کون النهی عنها لأجل اتّحادها مع الکون فی مواضعها .

القسم الأوّل کصوم عاشوراء :
رأی صاحب الکفایة

ثم أجاب عن الاستدلال فی القسم الأوّل - الذی هو أهمّ الأقسام - بما حاصله :

لقد قام الإجماع علی وقوع صوم یوم عاشوراء صحیحاً ، و مع ذلک یکون

ص:92

ترکه أرجح کما یظهر من مداومة الأئمة - علیهم السلام - علی الترک ، فیکون صوم عاشوراء من قبیل المستحبّین المتزاحمین ، لا من قبیل تعلّق الأمر و النهی بشیء واحد ، و ذلک ، لأن الأمر قد تعلَّق بفعل هذا الصوم ، لکونه عبادةً ، و تعلّق بترکه ، لکونه عملاً قد التزم به بنو امیّة بعد قتل سید الشهداء الحسین علیه السلام ، و إذا کان من صغریات باب التزاحم ، فإنه یحکم بالتخییر بین الفعل و الترک لو لم یکن أهم فی البین ، و إلّا فیتعیّن الأهم و إنْ کان الآخر یقع صحیحاً ، حیث أنه کان راجحاً و واجداً للملاک و موافقاً للغرض .

إذن ، لیس هذا المورد من قبیل اجتماع الاستحباب و الکراهة لیتمّ الاستدلال به للقول بالجواز ، بل من قبیل التزاحم بین المستحبین ، و هما فعل الصوم و ترکه .

هذا ما أفاده صاحب ( الکفایة ) تبعاً للشیخ الأعظم (1) .

إشکال المیرزا

فأشکل علیه المیرزا قائلاً : إن الفعل و الترک إذا کان کلّ منهما مشتملاً علی مقدارٍ من المصلحة ، فبما أنه یستحیل تعلّق الأمر بکلٍّ من النقیضین فی زمانٍ واحدٍ ، یکون المؤثّر فی نظر الآمر احدی المصلحتین علی تقدیر کونها أقوی من الاخری ، و یسقط کلتاهما عن التأثیر علی تقدیر التساوی ، لاستحالة تعلّق الطلب التخییری بالنقیضین ، لأنه من طلب الحاصل ، وعلیه ، یستحیل کون کلٍّ من الفعل و الترک مطلوباً بالفعل .

و بالجملة ، اشتمال کلّ من الفعل و الترک علی المصلحة ، یوجب تزاحم الملاکین فی تأثیرها فی جعل الحکم علی طبق کلٍّ منهما ، لاستحالة تأثیرهما فی

ص:93


1- 1) مطارح الأنظار : 130 ، کفایة الاصول : 163 .

زمانٍ واحدٍ فی طلب النقیضین تعییناً أو تخییراً ، وعلیه یتفرّع وقوع التزاحم فی التأثیر فیما کان کلّ من الضدین اللذین لا ثالث لهما مشتملاً علی المصلحة أو المفسدة الداعیة إلی جعل الحکم علی طبقها ، و فیما إذا کان أحد المتلازمین دائماً مشتملاً علی مصلحة و الآخر مشتملاً علی مفسدة ، فإنه فی جمیع ذلک یستحیل جعل الحکم علی طبق کلٍّ من الملاکین تعییناً أو تخییراً ، لرجوعه إلی طلب النقیضین المفروض استحالته ، فلا بدّ من جعل الحکم علی طبق أحد الملاکین إنْ کان أحدهما أقوی من الآخر ، و إلّا فلا یؤثّر شیء منهما فی حمل الحکم علی طبقه (1) .

و حاصل کلامه : إنه لا یعقل التزاحم ، لأنه إن کان فی مرحلة الامتثال - الراجع إلی عدم قدرة المکلّف علی امتثال کلا التکلیفین - فالفعل و الترک متناقضان ، فجعل الاستحباب لکلیهما تعییناً طلب للنقیضین ، و تخییراً تحصیل للحاصل .

و إن کان فی مرحلة الجعل ، فإنه یقع الکسر و الانکسار بین الملاکین و یصدر الحکم طبق الملاک الغالب منهما ، فإنْ لم یکن فالإباحة ... فأین التزاحم بین استحباب الفعل و استحباب الترک ؟

دفاع السید الخوئی

و قد أجاب السید الخوئی - فی هامش الأجود - بما حاصله : أنه لو کان متعلَّق الأمر حصّة من الطبیعة ، و کان لنقیض تلک الحصّة فردان ، فلا مانع من تعلّق الأمر بالحصّة و بأحد النقیضین لها . و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنَّ الأمر بصوم عاشوراء قد تعلَّق بالإمساک فیه بقصد القربة - لا بمطلق الإمساک - و لنقیض هذا المتعلَّق فردان ، أحدهما : ترک الإمساک رأساً ، و الآخر الإمساک لا بقصد القربة ،

ص:94


1- 1) أجود التقریرات 2 / 173 .

لکنّ ترک الصوم هو المأمور به لمصلحة مخالفة بنی امیّة ، و أما الإمساک بلا قصدٍ فلیس بمأمورٍ به ، فما ذکره المیرزا من استحالة تعلّق الأمر بکلا الطرفین لکونه طلباً للنقیضین ، غیر صحیح ... بل المورد من باب التزاحم - کما هو الحال فی کلّ موردٍ یکون للضدّین ثالث - و حینئذٍ ، یکون المرجع قاعدة باب التزاحم .

جواب الأُستاذ عن هذا الدفاع

و قد أجاب الشیخ الأُستاذ عمّا ذکر بوجهین :

أحدهما : إنه کان بنو امیّة یصومون فی یوم عاشوراء بقصد القربة ، و المخالفة معهم تتحقّق بترکه بقصد القربة و بترکه رأساً ، نعم ، الإفطار إعلانٌ للمخالفة ، و هذا أمر آخر .

و ثانیاً : إنّه - بعد التنزّل عمّا ذکرناه - غیر متناسب مع مقام الإثبات ، لأنّ فی الأخبار ما هو صریحٌ فی استحباب صوم یوم عاشوراء بحیث لا یلائم مداومة أهل البیت علیهم السلام علی الترک ، ففیها : « صام رسول اللّٰه یوم عاشوراء » (1) و فیها أیضاً ما لا یتناسب مع القول بأرجحیّة الترک من الفعل ، کقوله علیهم السلام « فَإنَّه یکفّر ذنوب سنة »(2) .

فما ذکره المیرزا وارد .

هذا تمام الکلام فی جواب الشیخ و المحقق الخراسانی .

رأی المیرزا

ثم إن المیرزا بعد أن أورد علی کلام ( الکفایة ) - تبعاً للشیخ - بما تقدَّم قال :

و التحقیق فی الجواب عن هذا القسم یتّضح برسم مقدّمةٍ نافعة فی جملةٍ من الموارد ، و هی : إنه لا شبهة فی أنّ النذر إذا تعلَّق بعبادةٍ مستحبّة ، فالأمر الناشئ

ص:95


1- 1) ( و 2) وسائل الشیعة 10 / 457 ، الباب 20 ، رقم 1 و 2 .

من النذر یتعلّق بذات العبادة التی کانت متعلّقة للأمر الاستحبابی فی نفسها ، فیندکّ الأمر الاستحبابی فی الأمر الوجوبی و یتّحد به ، فیکتسب الأمر الوجوبی جهة التعبّد من الأمر الاستحبابی ، کما أنّ الأمر الاستحبابی یکتسب جهة اللّزوم من الأمر الوجوبی ، فیتولّد من اندکاک أحد الأمرین فی الآخر أمر واحد وجوبی عبادة ، و السرّ فی ذلک : أنه إذا کان متعلّق کلٍّ من الأمرین عین ما تعلَّق به الآخر ، فلا بدّ من اندکاک أحدهما فی الآخر و إلّا لزم اجتماع الضدّین فی شیء واحد .

و أما إذا کانت العبادة المستحبة متعلَّقة للإجارة فی موارد النیابة عن الغیر ، کان متعلَّق الأمر الاستحبابی مغایراً لما تعلَّق به الأمر الوجوبی ، لأن الأمر الاستحبابی علی الفرض تعلَّق بذات العبادة ، و أما الأمر الناشئ من الإجارة فهو لم یتعلّق بها بل تعلَّق بإتیان العبادة بداعی الأمر المتوجّه إلی المنوب عنه ، و علی ذلک یستحیل تداخل الأمرین باندکاک أحدهما فی الآخر فی موارد الإجارة علی العبادة ، إذ التداخل فرع وحدة المتعلَّق ، و المفروض عدم وحدته فی تلک الموارد ، فلا یلزم اجتماع الضدّین فی شیء واحد .

( ثم قال ) ما حاصله : إن ما نحن فیه من قبیل الإجارة لا من قبیل النذر ، فالأمر بصوم عاشوراء متعلِّق بذات العبادة ، لکنّ النهی متعلِّق بالتعبّد بهذه العبادة لِما فیه من المشابهة للأعداء ، فاختلف المتعلَّق ، لکنّ النهی لمّا کان تنزیهیّاً ، فإنّه لا یکون مانعاً من التعبّد بمتعلّقه ، بل یجوز الإتیان بتلک العبادة بداعی الأمر المتعلّق بذاتها ... فارتفع إشکال اجتماع الضدّین فی هذا القسم من العبادات المکروهة (1) .

ص:96


1- 1) أجود التقریرات 2 / 174 - 177 .
الإشکال علی المیرزا

و یرد علی الجواب المذکور وجوه :

أوّلاً : إنه لا یعقل الاندکاک فی مورد البحث ، لأن الاندکاک یکون فی الحقیقة ذات المرتبة ، فإذا حصلت المرتبة الشدیدة للشیء اندکّت فیها المرتبة الضعیفة منه ، کما فی النور مثلاً ... فما ذکره یتم فی الملاکات و الأغراض حیث المناط الضعیف یندکّ فی القوی ، أمّا فی الأمر أو النهی التابع للملاک فلا یعقل الاندکاک ، لأن الأمر عبارة الإنشاء ، سواء کان حقیقته الإیجاد أو إبراز الاعتبار . و النهی کذلک ، سواء کان طلب الترک کما علیه صاحب ( الکفایة ) و المیرزا أو هو الزجر کما علیه غیرهما - و اندکاک الإنشاء فی إنشاءٍ آخر غیر معقول .

و ثانیاً : لو سلّمنا الاندکاک ، فلا وجه لکون المرتبة الشدیدة عبادةً و واجبة ، لأنّ دلیل الوجوب هو الأمر بالوفاء بالنذر ، و هو وجوب توصّلی لا ینقلب إلی عبادی ، کما أن الاستحباب التعبّدی لا ینقلب إلی التوصّلی ، فمن أین ما ذکره المیرزا ؟

و ثالثاً : إن قیاسه ما نحن فیه علی باب الإجارة ، مخدوش بأنّ متعلّق الأمر فی صوم عاشوراء لیس مطلق الإمساک ، بل هو الإمساک قربةً إلی اللّٰه ، و متعلّق النهی إن کان نفس الصوم کذلک ، فالاجتماع حاصل ، و إن کان هو التعبّد بهذا الصّوم کما ذکر المیرزا ، فإنّ التعبّد یعنی الإتیان به قربة إلی اللّٰه ، فیکون نفس متعلَّق الأمر ، و یلزم الاجتماع .

و رابعاً : إن طریق الحلّ الذی ذکره غیر مناسب لمقام الإثبات ، لأن محصّل کلامه هو تعدّد المتعلّق ، و أنّ متعلّق الأمر هو نفس الصوم و متعلَّق النهی هو التعبّد بهذا الصّوم ، لکنّ الروایات الواردة فی صوم یوم عاشوراء تدلّ علی مبغوضیّة الصوم نفسه :

ص:97

« عن عبد الله بن سنان قال : دخلت علی أبی عبد الله علیه السلام یوم عاشوراء و دموعه تنحدر علی عینیه کاللؤلؤ المتساقط ، فقلت : ممّ بکاؤک ؟ فقال :

أ فی غفلةٍ أنت ! أما علمت أن الحسین - علیه السلام - أصیب فی مثل هذا الیوم ؟ فقلت : ما قولک فی صومه ؟ فقال لی : صمه من غیر تبییت و أفطره من غیر تشمیت ، و لا تجعله یوم صوم کملاً ، و لیکن إفطارک بعد صلاة العصر بساعةٍ علی شربة من ماء ، فإنه فی مثل ذلک الوقت من ذلک الیوم تجلّت الهیجاء عن آل رسول اللّٰه . الحدیث » (1) .

لقد أمر علیه السلام بالإمساک بلا نیّةٍ ، إذنْ ، لا عبادیّة لصوم عاشوراء .

و عن عبد الملک : « سألت أبا عبد الله علیه السلام عن صوم تاسوعاء و عاشوراء من شهر المحرم ... ثم قال :

و أما یوم عاشورا ، فیوم اصیب فیه الحسین صریعاً بین أصحابه و أصحابه صرعی حوله ، أ فصوم یکون فی ذلک الیوم ؟ کلّا و ربّ البیت الحرام ، ما هو یوم صوم ، و ما هو إلّا یوم حزن و مصیبة دخلت علی أهل السماء و أهل الأرض و جمیع المؤمنین ، و یوم فرح و سرور لابن مرجانة و آل زیاد و أهل الشام ... فمن صام أو تبرّک به حشره اللّٰه مع آل زیاد ... »( (2)) .

و عن جعفر بن عیسی قال : « سألت الرضا علیه السلام عن صوم یوم عاشوراء و ما یقول الناس فیه . فقال : عن صوم ابن مرجانة تسألنی ؟ ذلک یوم صامه الأدعیاء من آل زیاد لقتل الحسین ، و هو یوم یتشاءم به آل محمّد و یتشاءم به أهل الاسلام ، و الیوم الذی یتشاءم به أهل الاسلام لا یصام و لا یتبرّک به ... »(3) .

و عن عبید بن زرارة عن أبی عبد الله : « من صامه کان حظّه من صیام ذلک

ص:98


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 458 ، الباب 20 من أبواب الصوم المندوب ، الرقم : 7 .
2- 2) ( و 3) وسائل الشیعة 10 / 459 ، الباب 21 ، رقم 2 و 3 .

الیوم حظّ ابن مرجانة و آل زیاد . قال قلت : و ما کان حظّهم من ذلک الیوم ؟ قال :

النار . أعاذنا اللّٰه من النار و من عمل یقرّب من النار ... » (1) .

فالأخبار صریحةٌ بمبغوضیة صوم عاشوراء . فلا وجه لما ذکره المیرزا .

رأی المحقق العراقی

و أجاب المحقق العراقی عن الاستدلال بالعبادات المکروهة بوجهین :

الأول : إن صوم یوم عاشوراء مستحب ، و النهی عنه یدل علی أقلیّة الثواب .

و الثانی : إن الأمر قد تعلَّق بالصوم ، و النهی متعلَّق بإیقاعه فی هذا الظرف الخاص .

و هذا نصّ کلامه فی العبادات المکروهة : نعم ، فیما لا بدل لها من العبادات ... فلا بدّ فیها إمّا من الحمل علی أقلیة الثواب و الرجحان أو صرف النهی عن ظاهره إلی إیقاع العبادة فی الأوقات المخصوصة ، نظیر النهی عن إیقاع جوهر نفیس فی مکان قذر ، بجعل المبغوض کینونة العبادة فی وقت کذا لا نفسها حتی لا ینافی المبغوضیة مع محبوبیة العمل و رجحانه المقوّم لعبادیته( (2)) .

و فیه :

أما الأول ، فقد عرفت منافاته للنصوص .

و أمّا الثانی ، فإنّ الأمر و النهی کلیهما واردان علی هذه الحصّة من الصّوم أی الصّوم المقیّد بیوم عاشوراء ، فلا وجه لما ذکره . نعم ، لو کان متعلَّق الأمر طبیعی الصّوم و متعلَّق النهی هو الحصّة لتمّ ما ذکره ، لکنّ الروایة جاءت آمرةً بصوم یوم عاشوراء ، و ناهیةً عن صوم یوم عاشوراء .

ص:99


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 461 ، الباب 21 ، رقم 4 .
2- 2) نهایة الأفکار (1 - 2) 428 .
رأی السید الفشارکی کما فی الدرر

و أجاب السید المحقق الفشارکی - علی ما نقل عنه تلمیذه الشیخ الحائری - :

بأن یقال برجحان الفعل من جهة أنه عبادة ، و رجحان الترک من حیث انطباق عنوان راجح علیه ، و لکون رجحان الترک أشدّ من رجحان الفعل ، غلب جانب الکراهة و زال وصف الاستحباب ، و لکنّ الفعل لمّا کان مشتملاً علی الجهة الراجحة لو أتی به یکون عبادة ، إذْ لا یشترط فی صیرورة الفعل عبادةً وجود الأمر بل یکفی تحقق الجهة فیه علی ما هو التحقیق ، فهذا الفعل مکروه فعلاً لکون ترکه أرجح من فعله ، و إذا أتی به یقع عبادةً لاشتماله علی الجهة .

إشکال الشیخ الیزدی

ثم أشکل علیه تلمیذه المحقق فقال : و یشکل بأنّ العنوان الوجودی لا یمکن أن ینطبق علیه العدم ، لأنّ معنی الانطباق هو الاتحاد فی الوجود الخارجی ، و العدم لیس له وجود (1) .

نظر الأُستاذ

فقال شیخنا الأُستاذ : بأنّ کبری کلام المستشکل تامّة ، إذ الانطباق لا یتحقق إلّا مع الاتّحاد ، و الاتحاد بین الوجود و العدم محال - و المسألة عقلیّة لا ینفع فیها النقض بالأمثلة العرفیة کما فی کلام البعض - فما ذکره حق . لکنّ الإشکال فی الصغری ، فإن المجعول عنواناً فی النصوص أمر عدمی مثل « عدم موافقة بنی امیّة » و لا محذور فی اتّحاده مع ترک الصوم . و علی الجملة ، فإن صوم عاشوراء مبغوض لموافقته لآل امیّة ، فیکون ترکه مطلوباً من جهة انطباق عنوان عدم الموافقة معهم له . فالإشکال مندفع .

ص:100


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 169 .

لکن یرد علی السیّد المحقّق بعد أن یکون العنوان عدمیّاً : بأنّ الأمر العدمی لا یتصوّر فیه المصلحة الموجبة للرّجحان ، لأن المصالح امور وجودیّة و الأمر الوجودی لا یقوم بالعدم و العدمی ، فالعنوان الأرجح إذا کان عدمیّاً فإنه لا یکون ذا مصلحة ، و من هنا تکون مطلوبیته بالعرض ، من جهة الحزازة فی الوجود ، و إذا کان الوجود مبغوضاً کان ترکه محبوباً بالمحبوبیّة العرضیة ، و لذا لا یکون ترک صوم عاشوراء مستحبّاً بل الفعل ذو حزازة ، فیکون ترکه محبوباً ، و علی هذا ، فلا مناص من القول بوجود حزازة فی نفس الصّوم ، و حینئذٍ ، لا یجتمع مع الرجحان و الاستحباب . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إذا کان الفعل مستحبّاً و الترک کذلک و الترک أرجح ، فما هو الموجب لکراهة الفعل ؟ إنه لا موجب له إلّا أرجحیّة الترک ، و هذا موقوفٌ علی أنْ یکون الأمر بالشیء مستلزماً للنهی عن ضدّه العام ، لکنّ هذا المبنی باطل .

و ثالثاً : إنه لا مناسبة بین هذا الوجه و روایات المسألة ، فمقام الإثبات غیر مساعدٍ له ، لأن النصوص واضحة الدلالة فی مبغوضیّة هذا الصوم و کونه مبعّداً عن اللّٰه و موجباً لاستحقاق النار ، فکیف یصح الإتیان به عبادةً ؟

الجواب الثانی فی الدرر

ثم جاء فی ( الدرر ) : الثانی أن یقال : إن فعل الصّوم راجح و ترکه مرجوح ، و أرجح منه تحقق عنوانٍ آخر لا یمکن أن یجتمع مع الصوم و یلازم عدمه ، و لمّا کان الشارع عالماً بتلازم ذلک العنوان الأرجح مع عدم الصّوم ، نهی عن الصّوم للوصلة إلی ذلک العنوان ، فالنهی عن هذا لیس إلّا للإرشاد و لا یکون للکراهة ، إذ مجرّد کون الضدّ أرجح لا یوجب تعلّق النهی بضدّه الآخر ، بناءً علی عدم کون ترک الضدّ مقدّمة کما هو التحقیق . و لعلّ السرّ فی الاکتفاء بالنهی عن الصّوم بدلاً

ص:101

عن الأمر بذلک العنوان الأرجح، عدم إمکان إظهار استحباب بذلک العنوان . و مما ذکرنا یظهر الجواب عن النقض بالواجبات التی تعرض علیها جهة الاستحباب ، کالصّلاة فی المسجد و نحوها .

و فیه

أوّلاً : إن هذه الکبری - و إنْ کانت مسلّمةً - غیر منطبقةٍ هنا ، فإن الشارع قد بیَّن ذلک العنوان و صرَّح بسبب النهی عن الصوم و هو المخالفة لبنی امیّة .

و ثانیاً : إنّ النهی إذا حمل علی الإرشاد ، بقی حکم الصوم علی الاستحباب بلا کراهةٍ ، و هذا ینافی النصوص المذکورة و غیرها ، و لفتاوی الفقهاء بکراهة هذا الصّوم .

فما ذکره لا یتناسب مع النصوص و الفتاوی .

رأی الشیخ الأُستاذ

و قد رأی شیخنا أنّ الأفضل هو النظر فی النصوص و حلّ المشکل علی أساس ذلک مع لحاظ الفتاوی ، فمن الفقهاء - کصاحب الحدائق - من یقول بالحرمة ، و منهم من یقول بالکراهة، و منهم من یقول بالاستحباب، إمّا مطلقاً و إمّا علی وجه الحزن کما علیه صاحب ( الجواهر ) .

أمّا القول بالحرمة فللروایة التالیة : « عن صوم یوم عاشوراء . فقال : صوم متروک بنزول شهر رمضان ، و المتروک بدعة » (1) یعنی : إنّ هذا الصوم منسوخ بصوم شهر رمضان فهو غیر مشروع .

و فیه :

أوّلاً : هذه الروایة ضعیفة سنداً .

ص:102


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 461 ، الباب 21 ، رقم 5 .

و ثانیاً : إن کونه متروکاً لا یدل علی النسخ ، فقد یکون المراد متروکیّة أصل الوجوب .

و ثالثاً : إن النسخ لا یتلائم مع الروایة عن الإمام الباقر و التی فیها صدور الأمر بصوم عاشوراء عن أمیر المؤمنین علیه الصّلاة و السلام .

و اختار السید الخوئی الاستحباب بلا کراهیّة ، و طرح جمیع ما دلّ علی المنع بالإشکال فی أسانیدها ، و أمّا روایة عبد الله بن سنان ، فهی فی مصباح المتهجّد عن کتاب ابن سنان ، و نحن لا علم لنا بحال سند الشیخ إلی کتاب عبد الله بن سنان ... و لو کان سنده إلیه صحیحاً لأورد الخبر فی التهذیب و الاستبصار .

فتبقی روایات الاستحباب - کخبر عبد الله بن میمون القداح و نحوه - بلا معارض (1) .

و قد ناقشه الأُستاذ : بأنْ هذا الخبر أسنده الشیخ فی المصباح إلی ابن سنان ، و لو لا ثبوت السند عنده لما أسنده إلیه . هذا أولاً . و ثانیاً : إنه قد عمل بهذه الروایة من لا یعمل بالأخبار الآحاد ، کابن إدریس و ابن زهرة . و ثالثاً : إن للخبر سنداً معتبراً ، فهو عن عماد الدین المشهدی الطبری - صاحب المزار - عن ابن الشیخ عن الشیخ عن المفید عن ابن قولویه عن الصدوق عن الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن عبد الله بن سنان .

و تلخّص : وجود روایة معتبرة مانعة ، و لعلّه لذا أفتی فی رسالته العملیة بالکراهة ، و إنْ کان کتاب ( مستند العروة ) متأخراً عنها ... و ظهر وجود التعارض بین أخبار المسألة ، لأنّ بعضها یأمر و بعضها ینهی .

ص:103


1- 1) مستند العروة الوثقی 22 / 317 .

و أمّا القول بالاستحباب علی وجه الحزن ، فقد ذهب إلیه صاحب (الجواهر ) (1) تبعاً للشیخ و ابن إدریس و المحقق ، جمعاً بین النصوص .

لکنّ هذا الوجه لا یصلح للجمع بل هو تبرّعی ... فالتعارض مستقر .

و مقتضی القاعدة حمل الأخبار الآمرة بالصّوم علی التقیّة ، لکونها موافقةً لنصوص العامّة و فتاواهم ، کما لا یخفی علی من یراجع ( سنن الترمذی ) و( المغنی لابن قدامة ) (2) و تبقی الناهیة بلا معارض . و دعوی الإجماع علی الاستحباب - إن تمّت - لا تضرّ ، لکونه مدرکیّاً ، فالأحوط وجوباً ترک صوم یوم عاشوراء .

القسم الثانی کالصلاة فی الحمام :
اشارة

و أمّا القسم الثانی من العبادات المکروهة کالصّلاة فی الحمام :

رأی صاحب الکفایة

فقد أجاب فی ( الکفایة ) (3) بوجهین :

الأول : إن وجه النهی فیه یمکن أنْ یکون ما ذکر فی القسم الأول طابق النعل بالنعل .

و حاصل ذلک : أن من النهی عن الصّلاة فی الحمام مع الأمر بها ، یستکشف انطباق عنوانٍ علی ترک الصّلاة فی الحمام أو ملازمة لترکها فیه یجعله - أی الترک - أرجح من الفعل .

الثانی : إنّ الأمر بالصّلاة دالٌّ علی الوجوب ، و النهی عن الصّلاة فی الحمام تنزیهی لا تحریمی ، و لمّا کان الأمر بها ملازماً للترخیص العقلی فی تطبیق الصّلاة

ص:104


1- 1) جواهر الکلام 17 / 105 .
2- 2) المغنی فی الفقه الحنبلی 3 / 133 .
3- 3) کفایة الاصول : 164 .

علی أیّة حصّةٍ منها بمقتضی الإطلاق فی « صلّ » ، کانت الصّلاة فی الحمّام مصداقاً للصّلاة الواجبة ، إلّا أنّ النهی عن هذه الصّلاة یفید مرجوحیة تطبیق الطبیعة علی هذه الحصّة ، کما أنَّ الأمر بتطبیقها علی حصّة الکون فی المسجد یفید الرجحان و المحبوبیّة ، و ذلک ، لأنّ الطبیعة المأمور بها فی حدّ نفسها إذا کانت مع تشخصٍ لا یکون له شدّة الملاءمة و لا عدم الملاءمة ، یکون لها مقدار من المصلحة و المزیة ، کالصّلاة فی الدار مثلاً ، و تزداد تلک المزیّة فیما لو کان تشخّصها بماله شدّة الملاءمة ، و تنقص فیما إذا لم تکن له ملاءمة ، و لذلک ینقص ثوابها تارةً و یزید اخری ، و یکون النهی فیه لحدوث نقصانٍ فی مزیّتها فیه إرشاداً إلی ما لا نقصان فیه من سائر الأفراد و یکون أکثر ثواباً منه ، و لیکن هذا مراد من قال إن الکراهة فی العبادة بمعنی أنها تکون أقل ثواباً .

هذا ، و قد وافق شیخنا علی هذین الجوابین .

القسم الثالث کالصلاة فی موضع التهمة :
اشارة

و أمّا القسم الثالث من العبادات المکروهة ، کالصّلاة فی مواضع التهمة :

رأی صاحب الکفایة

فقد أجاب فی ( الکفایة ) : بأنْ حال هذا القسم حال القسم الثانی ، فیحمل علی ما حمل علیه فیه طابق النعل بالنعل ، حیث أنه بالدقّة یرجع إلیه ، إذ علی الامتناع لیس الاتحاد مع العنوان الآخر إلّا من مخصّصاته و مشخّصاته التی تختلف الطبیعة المأمور بها فی المزیّة زیادةً و نقیصةً بحسب اختلافها فی الملاءمة کما عرفت . و حاصل ذلک هو کون النهی ارشاداً إلی أقلیّة الثواب کما تقدّم (1) .

ص:105


1- 1) کفایة الاصول : 165 .
رأی المیرزا

و قد أجاب المیرزا (1) عن هذا القسم - و القسم السابق - بما حاصله : إن العبادة علی القول بالامتناع و إن کانت منهیّاً عنها إلّا أن النهی عن حصّةٍ خاصّةٍ لا یوجب تقیید المأمور به بغیرها ما لم یکن تحریمیّاً أو کان مسوقاً لبیان المانعیّة ...

و من المعلوم أنَّ النهی هنا مولوی تنزیهی لا تحریمی ، و لا هو إرشاد إلی بیان المانعیة ، و هو لا ینافی رخصة تطبیق المأمور به علی تلک الحصّة ، غایة الأمر ، یکون هذا التطبیق مرجوحاً ، فکان الأمر بطبیعة الصّلاة متعلّقاً بصرف وجودها ، و النهی التنزیهی متعلَّقاً بحصّةٍ خاصّة من حصصها ، و لمّا کان تنزیهیّاً فهو متضمّن للترخیص فی هذا التطبیق ، إلّا أنّه یکون مرجوحاً بالإضافة إلی غیر هذه الحصّة .

هذا ، و قد وافقه تلمیذه المحقق فی ( المحاضرات ) و سکت علیه فی هامش ( الأجود ) .

إشکال الأُستاذ

و لکنْ قد أشکل علیه شیخنا : بأن المیرزا قد اعترف فی کلامه بوجود التضادّ بین الأمر الوجوبی و النهی التنزیهی ، فیتوجّه علیه أن الضدّین متقابلان ، فلا یجتمعان ، و لا یکون أحدهما مصداقاً للآخر ... و إذا کانت الطبیعة متعلَّقة للأمر و الحصّة منها متعلَّقة للنهی و کلّ حصّةٍ مصداق للطبیعة ، کان اللّازم کون أحد الضدّین مصداقاً للآخر ، و هو محال .

فالحق مع القائلین بأنّ هذا النهی لیس مولویاً ، بل هو إرشاد إلی أقلیّة الثواب .

ص:106


1- 1) اجود التقریرات 2 / 169 .
و خلاصة البحث

أمّا فی القسم الأول ، فالمختار إسقاط الأخبار الدالّة علی استحباب صوم عاشوراء ، لموافقها للعامّة . و فی النوافل المبتدئة جواب الشیخ و( الکفایة ) هو الصحیح .

و أمّا فی القسمین الثانی و الثالث ، فالمختار حمل النهی علی الإرشاد إلی أقلیّة الثواب .

هذا تمام الکلام فی العبادات المکروهة .

الدلیل الآخر للقول بالجواز

و ذکر فی ( الکفایة ) عن القائلین بالجواز مسألة ما لو أمر بخیاطة الثوب و نهی عن الکون فی ملک الغیر ... و قد تقدّم الکلام علیه فی البحث مع السید البروجردی ، فلا نعید .

ص:107

الاضطرار إلی الحرام
اشارة

إن المکلّف قد لا یکون مضطرّاً إلی الکون فی ملک الغیر بلا إذنٍ منه ، و قد یکون مضطرّاً إلی ذلک ، فإن لم یکن مضطرّاً و أراد الصّلاة هناک ، فإمّا له مندوحة و إمّا لا ، فعلی الأول یندرج فی مسألة جواز الاجتماع و الامتناع ، و علی الثانی کذلک و إنْ قیل بکونه من صغریات باب التزاحم .

و الحاصل : إنه فی صورة عدم الاضطرار مطلقاً ، یدور حکم الصّلاة فی ملک الغیر مدار وحدة المتعلَّق و تعدّده ، علی التفصیل المتقدّم .

و قد یکون مضطراً إلی التصرّف أو الکون فی ملک الغیر ، کما لو حبس هناک ، و لا یمکنه الصّلاة فی خارجه ، و هنا أیضاً صورتان ، لأن هذا الاضطرار قد یکون بسوء الاختیار من المکلّف و قد لا یکون ... و الکلام الآن فی الصورة الثّانیة .

حکم الاضطرار لا بسوء الاختیار و لا یمکنه الخروج
اشارة

أمّا علی القول بجواز الاجتماع ، فالحکم واضح ، لأنّ تصرّفه فی ملک الغیر حاصل بالاضطرار فلا حرمة ، و الصّلاة کانت صحیحةً فی حال عدم الاضطرار ، فهی صحیحة فی حال الاضطرار بالأولویة .

إنما الإشکال فی الحکم بناءً علی القول بالامتناع ، و المشهور هو الصحّة ، و المیرزا علی البطلان .

دلیل المشهور

و دلیل القول المشهور هو أنه فی هذا الفرض یسقط النهی شرعاً و عقلاً .

أمّا عقلاً ، فلأن النهی حینئذٍ تکلیفٌ بما لا یطاق .

ص:108

و أمّا شرعاً ، فلحدیث الرفع ، لأنّ الرفع بالنسبة إلی الاضطرار و الإکراه و النسیان واقعی - و إنْ کان بالنسبة إلی الجهل ظاهریاً لئلّا یلزم التصویب - فالتکلیف مرفوع واقعاً عن المکلَّف المضطر ، و إذا سقط النهی بقی الأمر بالصّلاة علی إطلاقه بلا مانعٍ .

و بعبارة اخری : إطلاق الأمر بالصّلاة بدلی ، و إطلاق النهی عن الغصب شمولی ، لکنّه قاصر عن الشمول لمورد الاضطرار ، فیبقی الإطلاق البدلی للأمر مع حکم العقل بالترخیص فی تطبیقه ، و تکون الصّلاة صحیحة .

دلیل المیرزا

و یقول المیرزا رحمه اللّٰه (1) : بأنّ تقیید متعلَّق الأمر - کالصّلاة - بالقید العدمی یکون علی ثلاثة أنحاء :

الأول : التقیید الحاصل ممّا یکون إرشاداً إلی المانعیة ، کتقییدها بعدم کونها فیما لا یؤکل لحمه ، فإن معنی ذلک أن ما لا یؤکل لحمه مانع عن صحّة الصّلاة ، فصحّتها مشروطة بعدمه ... و هذا التقیید واقعی ، فلو صلّی فیما لا یؤکل لحمه عن جهلٍ أو اضطرار أو نسیانٍ بطلت ، إلّا إذا قام دلیل آخر علی الصحّة ... إذن ، حدیث الرفع لا یرفع الحکم الوضعی فی حال الاضطرار ... إلّا إذا قام دلیل آخر .

الثانی : التقیید الحاصل من التزاحم بین المأمور به و المنهی عنه مع کون النهی أهم ، کأنْ تتقیّد الصّلاة بعدم المنهی عنه ، فلو أتی بها مع المنهیّ عنه عامداً مختاراً بطلت إلّا علی القول بالترتّب أو الإتیان بها بقصد الملاک بناءً علی إنکاره ...

أمّا لو اضطرّ إلی الإتیان بها بالمنهی عنه ، فإن النهی یسقط و تصحّ الصلاة .

الثالث : التقیید الحاصل من النهی النفسی ، کالأمر بالصّلاة و تقییدها بعدم

ص:109


1- 1) أجود التقریرات 2 / 182 - 184 .

کونها فی المغصوب ، للنهی النفسی عن الغصب ... فإنّ هذا النهی یقیّد الإطلاق البدلی فی الأمر بالصّلاة بغیر هذه الحصّة .

و ما نحن فیه من هذا القسم .

إنما الکلام فی أنّه : هل حرمة التصرّف فی مال الغیر هی العلّة لتقیید الصّلاة بغیر المغصوب ، أو أنه لا علیّة و معلولیة بینها و بین التقیید ؟

إن کان الأوّل ، فالحق مع المشهور ، لأنّه فی حال الاضطرار ترتفع الحرمة و المفروض کونها العلّة للتقیید ، فإذا انتفت انتفی المعلول ، و بقی الأمر علی إطلاقه .

لکنّ المیرزا یری أنْ لا علیّة ، و نتیجة ذلک أن الحرمة إذا ارتفعت علی أثر الاضطرار ، بقی التقیید علی حاله و یکون الأمر بالصلاة مقیَّداً بعدم وقوعها فی المغصوب ، فلو صلّی فیه لم یأتِ بمصداق المأمور به ، فهی باطلة .

و وجه عدم العلیّة عنده هو : إنّ منشأ هذا التقیید هو التضادّ بین الوجوب و الحرمة ، و حینئذٍ تکون الحرمة ملازمة لعدم الوجوب ، و لیس بین الضدّین علیّة و معلولیّة لا وجوداً و لا عدماً ، فالطولیّة بین الحرمة و التقیید مستحیلة ، و لیس ارتفاع الحرمة علةً لارتفاع التقیید .

الإشکال علی المیرزا

و قد أورد علی المیرزا : بأنّه و إنْ لم یکن اختلافٌ فی المرتبة بین الحرمة و التقیید ، لکنّ الکاشف - فی مقام الإثبات - عن التقیید لیس إلّا الحرمة ، فقوله صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم : « لا یحلّ لأحدٍ أن یتصرف فی مال غیره بغیر بإذنه » (1)کما یدلّ بالمطابقة علی الحکم الشرعی ، یدلّ بالالتزام علی عدم وجوب الصّلاة

ص:110


1- 1) وسائل الشیعة 24 / 234 الباب 63 رقم : 3 .

فی الدار المغصوبة ، فکان تقیید الأمر بها بغیر هذا المورد مدلولاً التزامیّاً لهذه الحرمة ، و الدلالة الالتزامیة معلولة للمطابقیة ، فإذا سقطت سقطت الالتزامیة .

و الحاصل : إنّه و إنْ لم تکن طولیّة بین المدلولین - أی الحرمة و التقیید - لکنّها بین الدالّین موجودة ، فإذا سقط دلیل حرمة الغصب بسبب الاضطرار ، انتفت الدلالة علی التقیید ، و بقی دلیل الوجوب شاملاً للمورد بإطلاقه ، و یتم رأی المشهور .

نظر الأُستاذ

و قد دفع الأُستاذ هذا الإشکال : بأنّه مبنی علی تبعیّة الدلالة الالتزامیة للمطابقیة فی الحجیّة - کما هو الصحیح - لکنّ المیرزا غیر قائل بذلک ... إذن ، لا بدّ من نقد کلامه من طریقٍ آخر فنقول :

إن حاصل کلامه فی الدورة الثانیة کون النهی علّةً للحرمة و لتقیید الأمر معاً ، و حینئذٍ یرد علیه : بأنْ لا بقاء للنهی فی حال الاضطرار ، و إذا ارتفع انتفی التقیید ، لفرض کونه معلولاً للنهی ، فیثبت رأی المشهور .

و لکنّ المهمّ هو کلامه فی الدورة الاولی (1) إذ قال بأنّ العلّة للنهی و التقیید هی الملاک ، و من الواضح أنّ الاضطرار یرفع النهی ، أمّا الملاک فلا ، لأنه لا یغیّر المصالح و المفاسد ، و إذا کان الملاک باقیاً بقی التقیید و إنْ انتفت الحرمة بالاضطرار .

و یردّه : إنّ الکاشف عن التقیید لا بدّ و أنْ یکون الملاک البالغ إلی حدّ الغرضیة للمولی حتّی یؤثّر فی الحرمة و التقیید ، و أمّا صرف وجود الملاک فلا یترتب علیه ذلک الأثر ، و علی هذا ، ففی صورة الاضطرار - حیث تکون

ص:111


1- 1) فوائد الاصول (1 - 2) 445 .

المفسدة مزاحمةً بالمصلحة کما فی مورد أکل المیتة مثلاً للضرورة - لا تکون تلک المفسدة متعلّقةً لغرض المولی ، فلا تصلح لأنْ تکون منشأً للتقیید ... فالحق مع المشهور .

حکم صلاة المضطرّ لا بسوء الاختیار

نعم ، فی خصوص الصّلاة بحثٌ من جهةٍ اخری ، و ذلک أنّه بناءً علی وجوب الصّلاة علی المضطر غیر المتمکّن من الخروج فی جمیع الوقت ، و صحّة صلاته ، فهل الواجب الإتیان بها صلاةً اختیاریّةً تامّة الأجزاء و الشرائط ، أو یصلّی إیماءً بدلاً عن الرکوع و السجود ؟

قولان ، قال بالأوّل صاحب ( الجواهر ) و تبعه المیرزا (1) . و بالثانی : بعض مشایخ صاحب ( الجواهر ) قدّس سرّهم .

و قد استدلّ للثانی : بأنّ الرکوع و السجود یستلزم الحرکة ، و هی تصرّف فی ملک الغیر ، فلیأت بالصّلاة بالإیماء لئلّا یلزم التصرف الزائد .

للأول : بأنّ من یکون فی ملک الغیر لا ینفکّ عن وضعٍ من الأوضاع ، و الغصب صادق علی کلّ الأوضاع و فی کلّ آن من الآنات ، و اختلاف الأوضاع - بأنْ یرکع أو یسجد مثلاً - لا یعتبر زیادةً فی التصرف حتی تکون معصیةً إضافیّة .

و قد فصّل الشیخ الأُستاذ فی هذا المقام فقال : بأنْ مقتضی القاعدة الأولیّة هو الصّلاة الإیمائیة ، لأن تبدّل الأوضاع یستلزم الحرکة بالضرورة و هی أمر زائد ، علی أنّ فی السجود اعتماداً علی الأرض و هو تصرّف زائد . لکنّ مقتضی القواعد الثانویة من رفع العسر و الحرج و سهولة الشریعة و سماحتها هو ارتفاع الحرمة عن هذا القدر من التصرّف لمن اضطرّ بالصّلاة فی المکان المغصوب کالمحبوس

ص:112


1- 1) فوائد الاصول (1 - 2) 445 - 446 .

فیه ... و هذا هو الجواب الثانی لصاحب (الجواهر ) (1) و هو الصحیح .

غیر أنّ مقتضی القاعدة هو التفصیل علی المبنی فی العسر و الحرج ، فإنه بناءً علی المختار من کونهما شخصیین لا نوعیین ، یختلف الحکم باختلاف الأشخاص ، فمن کان متمکّناً من البقاء علی حالٍ واحدةٍ زمناً طویلاً ، فهذا لا یجوّز له أن یصلّی صلاة المختار ، بل یصلّی ایماءً .

هذا کلّه فیمن لا یمکنه الخروج عن المکان المغصوب أصلاً .

حکمه مع التمکّن من الخروج

و أمّا المتمکّن من الخروج ، فتارةً : هو متمکّن من الأوّل من الإتیان بالصّلاة کاملةً فی خارجه ، فلا ریب فی وجوب ذلک و الإتیان بها فی المکان المباح ، فلو عصی و بقی فی ملک الغیر و صلّی هناک ، کانت صلاة باطلة علی القول بالامتناع ، و صحیحة علی القول بالجواز مع العصیان .

و اخری : هو متمکّن من الخروج فی بعض الوقت ، فلو صلّی هناک فی الوقت المضطرّ إلی الکون فیه ، جاء الخلاف المذکور سابقاً من أنّ الرکوع و السجود منه یعتبر تصرّفاً زائداً فتبطل أو لا ؟ فعلی القول بالعدم و أنّه تبدّل وضعٍ بوضع فالصّلاة صحیحة ، لکونه مضطراً إلی التصرف فلا نهی ، فلا مانع عن إطلاق الدلیل الآمر بالصّلاة و إنْ کان قادراً علی الخروج فی الساعة الآتیة حسب الفرض .

و علی قول المیرزا : هذه الصّلاة باطلة ، لفرض التمکّن من صلاةٍ تامّةٍ ... و هذا هو المختار عندنا ، لعدم انطباق القاعدة الثانویة هنا ، لأن المفروض تمکّنه بعد ساعةٍ من أدائها فی مکان مباحٍ تامّة الأجزاء و الشرائط ، فما ذهب إلیه السید الخوئی من صحّة صلاته هذه حتی بناءً علی الامتناع مخدوش .

ص:113


1- 1) جواهر الکلام 8 / 287 .

و ثالثة : إنه متمکّن من الخروج لکنْ فی آخر الوقت ، بحیث لا یمکنه القیام بصلاة المختار فی الخارج ، فیدور أمره بین الصّلاة التامّة فی المکان المغصوب و غیر التامة فی خارجه .

أمّا علی مسلک المیرزا ، فیأتی بها فی حال الخروج إیماءً ، و کذا علی مسلک صاحب ( الجواهر ) ، و قد وافقهم السیّد الخوئی فی هذه الصورة ، لأنّ السجود تصرّف زائد - لکونه اعتماداً علی الأرض - فیومی بدله ، و الرکوع مستلزم للحرکة فی ملک الغیر و هی تصرّف ، فیکون مورداً للتزاحم بین الأمر و النهی ، و لا ریب فی تقدم النهی فلیس له أن یرکع الرکوع الاختیاری .

فأشکل علیه شیخنا : بأنکم فی الصّورة السّابقة قلتم بجواز الرکوع و السجود الاختیاریین لکونه مضطرّاً ، فما الفرق بین هذه و تلک ؟

إن الأحکام العقلیة لا تقبل التخصیص ، و القاعدة الأوّلیة تقتضی المنع عن کلّ تصرّف فی ملک الغیر ، و إذا کان السجود اعتماداً علی الأرض فهو فی کلتا الصورتین ، و الرکوع إن کان حرکةً ، و الحرکة تصرّفٌ ، فهو فی کلتیهما کذلک ، فلا وجه للفرق فی حکم الرکوع و السجود ، نعم ، بینهما فرق من حیث أنّه فی تلک الصورة کان باقیاً فی ملک الغیر - مع قدرته علی الخروج - فهو عاصٍ ، و فی هذه الصّورة تصدر منه معصیتان ، لأن خروجه من المکان تصرّف آخر ، لکنّ زیادة المعصیة کذلک لا أثر لها فی حکم الرکوع و السجود ، و قد عرفت عدم الفرق بالنسبة إلیهما .

و علی الجملة ، فالصحیح بناءً علی الامتناع و بحسب القاعدة الأولیة هو البطلان ، لکن القاعدة الثانویة تقتضی الصحة و جواز الإتیان بصلاة المختار .

هذا کلّه ، فیما لو لم یکن اضطراره إلی التصرّف فی مال الغیر بسوء الاختیار .

ص:114

حکم الاضطرار بسوء الاختیار
اشارة

أمّا لو کان هو السبب فی هذا الاضطرار ، قال فی (الکفایة) (1) :

إنما الإشکال فیما إذا کان ما اضطرّ إلیه بسوء اختیاره ، مما ینحصر به التخلّص عن محذور الحرام کالخروج عن الدار المغصوبة فیما إذا توسّطها بالاختیار ، فی کونه منهیّاً عنه أو مأموراً به ، مع جریان حکم المعصیة علیه أو بدونه ، فیه أقوال ، هذا علی الامتناع .

و أمّا علی القول بالجواز ، فعن أبی هاشم أنه مأمور به و منهی عنه ، و اختاره الفاضل القمی ناسباً له إلی أکثر المتأخرین و ظاهر الفقهاء .

و الحق : أنه منهی عنه بالنهی السابق الساقط بحدوث الاضطرار إلیه و عصیانه له بسوء الاختیار ، و لا یکاد یکون مأموراً به کما إذا لم یکن هناک توقف علیه أو بلا انحصار به ... .

الأقوال فی هذه الصورة

و الحاصل : أن فی حکم هذا الاضطرار خمسة أقوال ، ذکرها صاحب ( الکفایة ) و تکلّم علیها ، و أثبت مختاره فی المسألة ، و إلیک البیان بقدر الحاجة :

القول الأول : إن خروجه من هذا المکان حرام شرعاً ، لأنّه تصرف فی ملک الغیر .

و فیه : إنّ الکون فیه أیضاً حرام شرعاً ، فلو حرم علیه الخروج ، لزم حکم الشارع بالمتناقضین .

القول الثانی : إن الخروج واجب و حرام ، و کلا الحکمین فعلی . أمّا وجوب الخروج ، فلأنه تخلّص من الغصب ، و هو واجب بنفسه أو مقدمة لواجبٍ هو

ص:115


1- 1) کفایة الاصول: 168 .

الکون فی خارج ملک الغیر ، و أمّا حرمة الخروج ، فلأنه تصرّف ... و قد تقرّر أن الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار عقاباً و خطاباً (1) .

و فیه : أن کلتا المقدّمتین غیر صحیح . أمّا وجوب التخلّص من الحرام ، فأوّل الکلام ، لأنّ الأدلّة أفادت حرمة الغصب ، أمّا وجوب تخلیة المکان المغصوب فیحتاج إلی دلیل ، نظیر شرب الخمر ، فإنه حرام لا أن ترکه واجب . و أمّا صحّة تکلیف هذا المکلّف فکذلک ، لأن الحاکم فی المسألة هو العقل ، و هو یری امتناع أو قبح توجّه الخطاب إلی العاجز عن الامتثال ، فمن ألقی نفسه من شاهق کیف یخاطب فی حال سقوطه بالکفّ عن السّقوط و حفظ النفس و هو غیر قادر ؟

و علی الجملة ، فإنّ المقتضی للحکم بالوجوب هو المصلحة الملزمة ، و للحکم بالحرمة هو المفسدة کذلک ، فکیف یجتمعان فی الشیء الواحد فی الآن الواحد ؟

القول الثالث : إنّ الخروج واجب بالوجوب الفعلی ، و هو حرام لکن بالنهی السابق ، وعلیه صاحب ( الفصول ) (2) ... و الوجه فی ذلک هو : إنه کان قد تعلَّق النهی - قبل الدخول - بالخروج ، لأنه أحد التصرّفات المنهی عنها فی مال الغیر بدون إذنه ، إلّا أن هذا النهی قد سقط بعد الدخول ، و هو الآن مأمور بالخروج و تخلیة المکان ، و هو وجوبٌ فعلیّ نفسیّ أو غیری مقدمةً للکون فی خارج ملک الغیر .

و فیه : أمّا الوجوب النفسی ، فممنوع لعدم الدلیل علی وجوب تخلیة

ص:116


1- 1) هذا أحد الأنظار الثلاثة فی المسألة ، و هذا هو مبنی رأی أبی هاشم الجبائی المذکور ، فیصحّ خطابه و عقابه ، و قال جماعة : لا یصحّ خطابه و عقابه ، و قال آخرون : لا یصح خطابه و یصح عقابه و هو الحق .
2- 2) الفصول الغرویّة : 137 .

الغصب . و أمّا الوجوب المقدّمی ، فموقوفٌ علی وجوب المقدّمة شرعاً و هو أوّل الکلام ، و علی وجوب الکون فی خارج ملک الغیر ، و لا دلیل علیه کما تقدّم .

هذا بالنسبة إلی وجوب الخروج .

و أمّا ما ذکره من شمول دلیل النهی عن التصرّف فی مال الغیر للتصرف الخروجی قبل الدخول فی ملک الغیر ، ففیه : إنّ النهی عن الشیء لا یکون إلّا عن مفسدةٍ فیه غیر مزاحمة بمصلحةٍ ، لکنّ مفسدة التصرّف الخروجی قبل الدخول مزاحمة بالمصلحة الملزمة المترتبة علی الخروج من ملک الغیر بعد الدخول فیه ... و سبق النهی عن التصرف الخروجی علی الأمر بالخروج من ملک الغیر لا یرفع مشکلة اجتماع المتناقضین .

القول الرابع : ما اختاره الشیخ قدّس سره ، من أنّ الخروج واجب بالوجوب الشرعی ، و القول بکون جمیع أنحاء التصرّف حراماً قبل الدخول ممنوع .

و اختار المیرزا هذا القول و جعل یردّ علی رأی صاحب ( الکفایة ) و هو :

القول الخامس : و هو أنّ الخروج منهی عنه بالنهی السابق ، لکنّ هذا النهی قد سقط بحدوث الاضطرار إلیه ، فیکون الخروج معصیةً للنهی السّابق ، لکنّه لازم بحکم العقل من باب الأخذ بأقل المحذورین ... أمّا کونه معصیةً ، فلأنّ الاضطرار - و إنْ أسقط الخطاب - لا یرفع استحقاق العقاب ، لأن الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار عقاباً .

ردّ المیرزا علی الکفایة :

قال : إنّ المقام یندرج فی کبری قاعدة وجوب ردّ المال إلی مالکه ، و لا ربط له بقاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختیار للاختیار من جهة العقاب أو الخطاب أو

ص:117

العقاب فقط ( قال ) نعم ، بناءً علی دخول المقام فی ذیل کبری قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختیار للاختیار ، فالحق ما اختاره صاحب ( الکفایة ) . فلنا دعویان ... .

( ثم قال ) بعد إبطال سائر الأقوال فی الدعوی الاولی : « أما الدعوی الثانیة - أعنی بها دعوی عدم دخول المقام فی کبری قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختیار للاختیار ، فیدلّ علیها امور » . فذکر أربعة امور هذا ملخّصها :

الأول : إن ما یکون داخلاً فی موضوع کبری تلک القاعدة ، لا بدّ من أن یکون قد عرضه الامتناع ، و أن یکون ذلک مستنداً إلی اختیار المکلّف ، کأنْ یترک السیر إلی الحج ، و الخروج من الدار المغصوبة لیس کذلک ، بل هو مقدور له بعد دخوله فیها .

و الثانی : إن محلّ الکلام فی تلک القاعدة إنما هو ما إذا کان ملاک الحکم مطلقاً ، سواء وجدت مقدّمته الإعدادیة أم لم توجد ، و کان الحکم بنفسه مشروطاً بمجیء زمان متعلَّقه ، کخطاب الحج ، فإنّه واجب متوقف علی طیّ الطریق ، فإن ترک امتنع الحج و کان امتناعه بالاختیار ، لکنّ ملاک هذا الحکم قبل السفر تام ، فعلی القول بإمکان الواجب المعلَّق ، یکون الوجوب فعلیّاً قبل أشهر الحج و الواجب استقبالی و موضوعه الاستطاعة ، و علی القول بامتناعه - وعلیه المیرزا - یکون الملاک تامّاً بتحقق الاستطاعة ، فمن ترک المسیر إلی الحج بعدها یستحق العقاب علی ترکه و إنْ امتنع علیه الفعل فی وقته ، لأن الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار ( قال ) : و هذا بخلاف المقام ، فإن التصرف بالدخول من المقدّمات التی لها دخل فی تحقق القدرة علی الخروج و تحقق ملاک الحکم فیه ، فإن الداخل هو الذی یمکن توجیه الخطاب إلیه بفعل الخروج أو بترکه دون غیره ، و إذا کان کذلک امتنع کون الخروج داخلاً فی موضوع تلک القاعدة .

ص:118

الثالث : إنه علی مختار صاحب ( الکفایة ) من أن الخروج من الدار المغصوبة هو بحکم العقل ، من باب الأخذ بأخف المحذورین ، یکون هذا الحکم العقلی کاشفاً عن إمکان الخروج ، فکیف یمکن أن یکون الخروج من صغریات تلک القاعدة ؟

الرابع : إن ما نحن فیه و مورد القاعدة متعاکسان ، لأن موردها ما إذا تحقّقت المقدّمة ثبت الخطاب و کان فعلیّاً ، کما فی الحج ، فإنه إذا سافر و أدرک یوم عرفة صار الحکم بوجوب الحج فعلیّاً ، فلو ترک انطبقت القاعدة ، بخلاف ما نحن فیه ، فإنّه إذ وجدت المقدّمة - و أعنی بها الدخول - یسقط الخطاب بترک الخروج ، أی النهی السابق عن التصرّف الخروجی بعد الدخول .

( قال ) فتبیّن من هذه الأدلّة بطلان دخول المقام تحت قاعدة : الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار ، فلا مناص عن الالتزام بکونه داخلاً تحت قاعدة وجوب ردّ مال الغیر إلی مالکه ، و الخروج بما أنه محقّق لذلک یکون واجباً (1) .

إشکال الأُستاذ

و بالتأمّل فی الامور المذکورة یظهر أنّ وجهة النظر فی ثلاثةٍ منها إلی إنکار صغری قاعدة الامتناع ، إلّا أنه قد وقعت الغفلة عن نکتةٍ هی : إنّ الامتناع عن الانبعاث أو الانزجار قد یکون عقلیّاً ، کما أنه قد یکون تکوینیاً و قد یکون شرعیّاً ، و امتناع انزجار المکلّف فیما نحن فیه عقلی ، و إلّا فإنه بعد الدخول فی ملک الغیر متمکّن من الخروج تکویناً ، کما أنه لا امتناع للانزجار شرعاً ، لأنّ الشارع لیس له هنا أمر و لا نهی - کما علیه صاحب ( الکفایة ) - بل الحاکم بالخروج و الناهی عن البقاء هو العقل ، فإنه یلزمه بالخروج لکونه أخفّ المحذورین ، فقد وقع هذا

ص:119


1- 1) أجود التقریرات 2 / 187 - 193 .

المکلّف فی الامتناع لکنْ بسوء اختیاره و عصیانه للنهی السابق ، فالصغری للقاعدة متحققة ، لأن موضوعها غیر منحصر بالامتناع التکوینی لیتوجه الامور المذکورة .

و یبقی الأمر الثانی منها و هو اعتبار وجود الملاک للحکم ، سواء وجدت المقدمة أو لا ، لکنّ ما نحن فیه لیس کذلک ، لأن الحکم بالخروج قبل الدخول غیر معقول ، و أمّا بعده ، فلا یوجد حکم شرعی بالخروج ، إذ المفروض أنه ملزم به بحکم العقل ، و إذ لا حکم و لا ملاک له ، فلا یکون المورد من موارد قاعدة الامتناع .

و الجواب عن هذا هو :

أمّا إنکاره الملاک ، ففیه : إنّ الخروج من ملک الغیر تصرّف فیه ، فهو مبغوض و ذو مفسدة بلا ریب ، سواء دخل أو لا ، نعم ، مفسدة الخروج کذلک أقلّ من مفسدة البقاء ، فکانت أقلیّة المفسدة هی المنشأ للّابدیّة العقلیة .

و أمّا عدم معقولیة الخطاب بالخروج قبل الدخول ، ففیه : إنّ ذلک غیر معقول لو کان بعنوان « اخرج » و نحوه ، لکنّ النهی لیس کذلک ، بل هو متعلَّق بجمیع أنحاء التصرف فی ملک الغیر ، و هذا صحیح بلا ریب ، و التصرّف الخروجی بعد الدخول أحد المصادیق له ، فلا موضوعیة للخروج ، بل إنه مأمور به و منهی عن البقاء لکونه أحد مصادیق الغصب .

و القول بعدم معقولیة الحکم بالخروج قبل الدخول لکونه غیر مقدورٍ للمکلَّف ، یردّه : أنه مقدورٌ له بالواسطة ، و هذا کافٍ لمعقولیة الخطاب ، فإنّ هذا المکلّف قادر علی ترک التصرف الخروجی بترک الدخول فی ملک الغیر ...

فالخطاب بالنهی عن هذا التصرف معقول .

و تلخّص : عدم تمامیة شیء من وجوه المیرزا رحمه اللّٰه ، بل المورد من

ص:120

موارد قاعدة الامتناع ، و قد اعترف بأنه إذا کان مورداً لها فالحق مع صاحب ( الکفایة ) ، فالمکلّف ملزم بالخروج عقلاً ، و هو مستحق للعقاب لقاعدة الامتناع .

نظریّة للسید البروجردی تبعاً لصاحب الجواهر

و تبقی نظریةٌ : بأنّ هذا المتوسّط فی ملک الغیر بسوء اختیاره ، إنْ ندم من عمله و تاب فإنّ تصرّفه الخروجی حینئذٍ لیس مبغوضاً معاقباً علیه ، لأن التائب من الذنب کمن لا ذنب له ، ذکرها السید البروجردی و قال : و قد أشار إلی هذا المعنی صاحب ( الجواهر ) . و لا یخلو عن وجهٍ قوی (1) .

قال الأُستاذ

قد ذکر صاحب ( الجواهر ) هذا الاحتمال فی مبحث مکان المصلی و لم یوافق علیه ، و الحق معه ، لأن التوبة ترفع العقاب بلا إشکال ، و لکنّ استحقاق العقاب بالمعصیة کترتّب بعض الآثار الوضعیة باقٍ و لا یرتفع بالتوبة ، بل العقل یری الاستحقاق و لذا یقال : عصی و استحق العقاب لکنّ اللّٰه لم یعاقبه لأنه تاب ...

إذن ، لا مانع من انطباق القاعدة العقلیة ، إلّا أن اللّٰه بفضله و کرمه و رحمته لا یعاقب بعد التوبة .

و هذا تمام الکلام فی حکم الاضطرار .

حکم صلاة المضطر بسوء الاختیار

و أمّا صلاة المضطر بسوء الاختیار ، الذی وجب علیه الخروج ، إمّا أخذاً بأخفّ المحذورین کما علیه الشیخ و صاحب ( الکفایة ) ، و إمّا امتثالاً للحکم الشرعی بوجوب الخروج من باب ردّ مال الغیر إلی مالکه ... فلها صور :

الصورة الاولی : أن یکون الوقت ضیّقاً بحیث لا یمکنه الصّلاة فی خارج

ص:121


1- 1) نهایة الاصول : 249 ، الحجة فی الفقه : 261 .

المکان ، لا الاختیاریة و لا الاضطراریّة ، فعلی القول بجواز الاجتماع ، یأتی بالاضطراریّة فی حال الخروج ، و هی صحیحة بلا کلام ، لکون الترکیب انضمامیّاً ، غیر أنها تتّصف بالقبح الفاعلی ، لکون الاضطرار بسوء اختیارٍ منه ، لکنّ مقتضی القول بوجوب الخروج من باب ردّ المال إلی صاحبه هو عدم الاقتران بذلک .

و أمّا علی القول بالامتناع :

فإنَّ قلنا : بعدم شمول قاعدة الامتناع للمقام و أنه من صغریات وجوب ردّ المال إلی مالکه ، کانت الصّلاة صحیحة - و إن کان الترکیب اتحادیّاً - لأنّ المفروض بناءً علی هذا القول وجوب الخروج بحکم الشارع و لا نهی عن هذا التصرّف أصلاً .

و إنْ قلنا : بأنّ الخروج منهیّ عنه بالنهی السّابق ، لکونه تصرّفاً فی مال الغیر ، لکنّ الأجزاء الصّلاتیة لا یصدق علیها عنوان التصرّف عرفاً ، فهی صحیحة کذلک .

و إنْ قلنا : بحرمة التصرف الخروجی ، و أنّ الأجزاء فی هذه الصّلاة الاضطراریة یصدق علیها عنوان الغصب ... کانت باطلة ، لأن المفروض تحقق الترکیب الاتحادی بین الغصب و الصّلاة ، فتکون التصرّفات الصّلاتیة منهیّاً عنها ، و المنهی عنه لا یصلح للمقربیّة ... نعم ، بناءً علی القاعدة الثانویة ، من أن الصّلاة لا تسقط بحالٍ و نحو ذلک ، یحکم بصحّتها .

الصورة الثانیة : أنْ یتمکن من الصّلاة الاضطراریة خارج المکان . فعلی مسلک الشیخ و المیرزا ، یصلّی کذلک فی حال الخروج و تکون صحیحةً ، لأنَّ المفروض وجوب الخروج علیه شرعاً فهو ممتثلٌ للحکم الشرعی ، و إطلاق الأمر بالصّلاة شامل لها ، فالمقتضی للصحّة موجود و المانع مفقود .

و أمّا علی القول بالامتناع و أن هذا الخروج منهی عنه بالنهی السابق ، لکونه

ص:122

نحواً من أنحاء التصرف فی مال الغیر و قد اضطرّ إلیه بسوء اختیاره ، فالتفصیل المتقدّم ، من صدق عنوان الغصب علی أجزاء الصّلاة الإیمائیة و عدم صدقه ، و المفروض هو الاتّحاد بین الأجزاء و الغصب بناءً علی الصّدق ... فإنْ صدق و غلب جانب النهی فالصّلاة باطلة ... بل علیه أن یخرج و یصلّی الصّلاة الاضطراریة فی خارج المکان المغصوب ... و فی هذا الفرض ، لا تصل النوبة إلی القاعدة الثانویة ... و أمّا مع عدم صدق عنوان الغصب ، فالصّلاة صحیحة و إنْ کان متمکّناً منها فی الخارج .

الصورة الثالثة : أن یتمکّن من الصّلاة الاختیاریة فی خارج المکان ، فهی باطلة فیه علی جمیع الأقوال . أمّا علی القول بالجواز و الترکیب الانضمامی ، فلأنّه إن أراد الصّلاة فی المکان المغصوب فلا یجوز له إلّا الاضطراریة فی حال الخروج ، و مثل هذه الصّلاة لا تجزی عن الاختیاریة فی المکان المباح مع القدرة علیها و التمکن منها حسب الفرض . و أمّا علی القول بالامتناع ، فالأمر أوضح حتی لو قلنا بکون الخروج واجباً شرعیاً من باب ردّ المال إلی صاحبه ، لأن المفروض تمکّنه من الصّلاة الاختیاریة فی خارج المکان المغصوب .

و هذا تمام الکلام فی مسألة اجتماع الأمر و النهی .

ص:123

هل النهی عن الشیء یقتضی فساده ؟
مقدّمات
الاولی : ( فی الفرق بین هذه المسألة و سابقتها )

لقد کان موضوع البحث - فی مسألة اجتماع الأمر و النهی - هو سرایة النهی إلی متعلَّق الأمر و بالعکس و عدم سرایته ، أما هنا ، فالبحث عن اقتضاء النهی للفساد بناءً علی السریان . و بعبارةٍ اخری : کان البحث هناک عن کون مورد الاجتماع من قبیل التعارض أو التزاحم . و هنا نقول : إنه بناءً علی التعارض و تقدّم النهی هل یکون النهی موجباً للفساد أو لا ؟ إذن ، یکون البحث فی المسألة السابقة محقّقاً للصغری فی هذه المسألة .

و من هنا ذهب المیرزا (1) إلی خروج مسألة الاجتماع عن المسألة الاصولیة ، لعدم انطباق ضابطتها علیها ، إذ المسألة الاصولیة عبارة عن المسألة التی تقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی بلا ضمّ ضمیمةٍ إلیها ، و وقوع مسألة الاجتماع فی الطریق لا تحقّق له إلّا بضمّ مسألة اقتضاء النهی فی العبادة للفساد ، فهی لیست اصولیةً .

و لا یرد علیه الإشکال من المحقق العراقی (2) من أن مسألة تعلّق النهی بالعبادة واقعیّة، إذ البحث فیها عن اقتضائه للفساد سواء علم بذلک أو لا ، بخلاف

ص:124


1- 1) أجود التقریرات 2 / 199 .
2- 2) نهایة الأفکار (1 - 2) 450 .

مسألة الاجتماع ، فإنّه بحث علمی لا واقعی ، و لذا لو صلّی فی المکان المغصوب عن جهلٍ کانت صلاته صحیحةً علی المشهور ، و حینئذٍ ، لا یعقل أن یکون البحث هناک عن صغری هذه المسألة .

وجه عدم الورود هو : أنه إن قلنا بجواز الاجتماع ، فلا موضوع للنهی عن العبادة کما هو واضح ، و إنْ قلنا بالامتناع أی کون متعلّق الأمر و النهی شیئاً واحداً ، فإنّ وحدة المتعلّق أمر واقعی لا دخل للعلم و الجهل به ، فإنْ سقط لم یبق الموضوع لمسألة النهی عن العبادة ، إنْ سقط و کذلک الأمر و النهی کلاهما ، و إنْ سقط الأمر و بقی النهی فلا شک فی اقتضائه للفساد ... فما ذکره المیرزا سالم من الإشکال . و إنْ توجّه الإشکال علی المشهور القائلین بالصحّة فی صورة الجهل بالغصبیة مع قولهم بالامتناع ، و ذاک أمر آخر .

الثانیة : ( هل یعتبر وجود مقتضی الصحة ؟ )

ذهب المحقق القمی (1) إلی أنه یعتبر فی هذا البحث وجود المقتضی لصحّة العبادة من عموم دلیلٍ أو إطلاق حتی یصحّ ورود النهی عن عبادةٍ خاصّة ، کالنهی عن الصلاة فی موضع التهمة مثلاً ، فلو لم یکن المقتضی للصحّة کانت العبادة باطلةً سواء ورد النهی أو لا ، فلا ثمرة للبحث .

و فیه : إنه لا ریب فی توقیفیّة العبادات ، و کلّما شک فی عبادیّته فالأصل العدم ، إلّا أنّه بحثٌ مستقل لا ربط له بمسألتنا فی أنّ النهی عن شیء هل یجتمع مع القول بصحّة ذلک الشیء أو لا ، لأنّ البحث عن وجود الملازمة بین النهی و الفساد غیر متفرّع علی وجود مقتضی الصحّة للعمل من عموم أو إطلاقٍ ، و ترتّب الثمرة علی بحثنا واضح جدّاً . فما ذکره لا یمکن المساعدة علیه .

ص:125


1- 1) قوانین الاصول 1 / 154 .
الثالثة :( هل هذه المسألة عقلیّة أو لفظیّة ؟ )

لا خلاف فی أنّها اصولیة ، فذهب الشیخ الأعظم إلی الأول ، و خالفه صاحب الکفایة فقال بأنّها لفظیّة (1) .

و وجه القول الأول هو أنّ البحث فی المسألة عن وجود الملازمة و عدمها بین الحرمة و الفساد ، سواء کان الدلیل علی الحرمة لفظیّاً أو عقلیّاً أو کان هو الإجماع ، و هذا بحث عقلی .

و تقریبه هو : إنّ دلالة النهی علی الفساد التزامیّة و لیست بالمطابقة و لا بالتضمّن ، لکنّها متوقّفة علی کون هذا اللّزوم بیّناً بالمعنی الأخصّ ، ضرورة احتیاجها إلی الإثبات بالبرهان ، فالمسألة من مباحث الاستلزامات العقلیّة فی علم الاصول ، نعم ، هی مسألة عقلیّة غیر مستقلّة ، إذْ المعتبر ورود النهی الشرعی حتی یتحقّق الموضوع لحکم العقل بالفساد .

و بعبارةٍ اخری : إنّه بناءً علی ما هو الصحیح من کفایة قصد الملاک فی تحقق العبادیّة ، لیس للنهی دلالة علی عدم الملاک ، و إنْ دلّ علی عدم الأمر ، فالعقل هو المرجع فی ثبوت الملازمة بینه و بین الفساد و عدم ثبوته .

نعم ، یتمُّ القول الثانی بناءً علی اعتبار خصوص قصد الأمر فی عبادیّة العبادة، لأنّ النهی یلازم عدم الأمر ، للتضادّ بینهما ، فنفس وجوده دلیلٌ علی عدم الأمر ، بالدلالة الالتزامیّة ، و هذا بحثٌ لفظی .

الرابعة : ( فی المراد من النهی ؟ )

إنه ینقسم النهی إلی التشریعی و الذاتی ، و الثانی إلی الإرشادی و المولوی ، و الثانی إلی التبعی و النفسی ، و الثانی إلی التنزیهی و التحریمی .

ص:126


1- 1) کفایة الاصول : 180 .

أمّا النهی التشریعی ، فداخل فی البحث ، سواء کان التشریع معاملةً أو عبادةً ، فلو أدخل فی الدین عبادةً لیست منه أو معاملةً ، فلا ریب فی شمول البحث له - بناءً علی أنّ التشریع هو نفس العبادة أو المعاملة و لیس بأمرٍ قلبی - لأنه یکون مبغوضاً للمولی ، فلا یترتب علیه الأثر .

و أمّا النهی الذاتی الإرشادی ، کقوله : لا تصلّ فیما لا یؤکل لحمه ، فإنّه إرشاد إلی المانعیّة ، إذ معناه أنّ الصلاة قد اعتبرت بشرط لا عن وقوعها فیما لا یؤکل لحمه ، فلو اتی بها فیه لم تقع کما اعتبر المولی فهی فاسدةٌ ، کما لو اتی بها فاقدةً لجزءٍ وجودی کالسجود مثلاً ... اللّهم إلّا فی الموارد الخاصّة بدلیلٍ ثانوی مثل :

لا تعاد الصّلاة إلّا... .

و أمّا النهی الذاتی المولوی :

فهو تارةً : تبعی کما فی موارد دلالة الأمر بالشیء علی النّهی عن ضدّه بناءً علی القول بها ، فإن هذا النهی إنّما جاء علی الضدّ علی أثر المزاحمة بینه و بین الضدّ المأمور به ، لا لوجود مفسدةٍ فی نفس المتعلَّق للنهی . و قد وقع الخلاف فی دخول هذا القسم فی البحث ، فقال المیرزا و جماعة (1) بعدم دخوله ، لعدم اقتضاء هذا النهی للفساد ، أمّا علی القول بالترتب فواضح ، حتی علی مسلک صاحب ( الجواهر ) و هو اعتبار خصوص قصد الأمر فی عبادیة العمل ، لأنّ الترتب یحقّق الأمر ، و أمّا بناءً علی إنکاره ، فلأن المفروض وجود الملاک للعمل و النهی لیس بمزاحمٍ له ... و الحاصل : أنّ العمل غیر مبغوضٍ و أنه لا نقص فی ملاکه ، فمقتضی القاعدة هو الصحّة .

و المختار عند الأُستاذ - فی الدورتین - دخول هذا القسم فی البحث ، لأنّه

ص:127


1- 1) أجود التقریرات 2 / 202 .

بناءً علی أنّ الأمر بالشیء ملازم عقلاً مع النهی عن ضدّه ، یکون العمل منهیّاً عنه حقیقةً - و إنْ کان ملاک النهی هو المزاحمة - ، و کلّ عملٍ ینهی المولی عنه فالعقل یحکم بعدم صلاحیته للمقربیّة ، و لا أقل من الشک فی ذلک ، فهو فاسد .

و اخری : نفسی ، و هو علی قسمین ، أحدهما : التحریمی ، و هذا لا کلام فی دخوله ، لأنه منشأ للفساد بلا إشکال . و الثانی هو التنزیهی .

و فی دخول النهی المولوی التنزیهی مثل : لا تصلّ فی الحمام و نحوه ، بحث و خلاف ، فصاحب ( الکفایة ) أدخله و المیرزا أخرجه ، و الوجه فی ذلک هو : أنّه إنْ کان النهی تحریمیّاً فالترخیص فی التطبیق مرتفع ، أمّا مع التنزیهی ، فالترخیص فی التطبیق موجود فلا ملاک للفساد .

و المختار عند الأُستاذ - فی الدّورتین - هو الأوّل ، لأن موضوع البحث هو اقتضاء النهی للفساد و عدم اقتضائه له ، سواء کان دلیل العبادة أو المعاملة - و هو الإطلاق - بدلیّاً أو شمولیّاً ، فإنْ کان بنحو الإطلاق البدلی - کما فی صلّ و لا تصلّ فی الحمام - فلا منافاة بین النهی التنزیهی و الترخیص فی التطبیق ، و أمّا إن کان بنحو الإطلاق الشمولی ، کما لو قال أکرم کلّ عالمٍ ثم قال : لا تکرم النحویین ، فإنّ النهی عن إکرام النحویین و إن کان تنزیهیاً ، لا یجتمع مع الأمر بإکرام العلماء بنحو الشمول ، فیکون داخلاً فی البحث ... فالحق هو القول الأوّل ... إلّا إذا کان النهی التنزیهی إرشاداً إلی قلّة الثواب فی العبادة ، فهو غیر داخلٍ فی البحث ، لأن قلّة الثواب علیها ملازمٌ لصحّتها .

الخامسة :( فی المراد من « العبادة » و« المعاملة » فی عنوان البحث )

ذکر صاحب ( الکفایة ) قدس سره (1) أن المراد بالعبادة هاهنا : ما یکون

ص:128


1- 1) کفایة الاصول : 181 .

بنفسه و بعنوانه عبادةً له تعالی ، موجباً بذاته التقرّب من حضرته لو لا حرمته ، کالسجود و الخضوع و الخشوع له و تسبیحه و تقدیسه . أو : ما لو تعلَّق الأمر به کان أمره أمراً عبادیّاً لا یکاد یسقط إلّا إذا اتی به بنحوٍ قربی کسائر أمثاله ، نحو صوم العیدین و الصّلاة فی أیام العادة .

فهذان معنیان للعبادة فی کلام المحقق الخراسانی . أمّا الأوّل ، فلا إشکال فیه إلّا أنه تضییق لدائرة البحث ، لأنّ العبادة الذاتیة فی الشریعة نادرة جدّاً ، فیکون موضوع البحث منحصراً بما ذکره من السجود و الخضوع ... و أمّا الثانی ، فالمقصود منه ما یقابل التوصّلی ، فیکون المراد من العبادة فی عنوان البحث هو الأعمّ من العبادة الذاتیة و العبادة الشأنیة ، أی ما لو تعلّق الأمر به ... .

ثم إنه تعرّض لتعاریف فقال :

لا ما أمر به لأجل التعبّد به ، و لا ما یتوقف صحّته علی النیّة ، و لا ما لا یعلم انحصار المصلحة فیها فی شیء .

و التعریف الأول للشیخ (1) و الثانی و الثالث للمیرزا القمی (2) .

فأشکل علیها بقوله :

ضرورة أنها بواحدٍ منها لا یکاد یمکن أن یتعلَّق بها النهی ، مع ما أورد علیها بالانتقاض طرداً أو عکساً أو بغیره .

و الحاصل عدم تمامیّة التعریفات المذکورة ، لورود الإشکال علیها بالنقض طرداً أو عکساً أو بالدور کما فی التعریف الأول ، لأخذ « التعبد » فی تعریف « العبادة » .

ص:129


1- 1) مطارح الأنظار : 157 .
2- 2) قوانین الاصول : 154 .

إلّا أنه ذکر أن هذه التعریفات لیست بحدٍّ و لا رسم بل هی من قبیل شرح الاسم ، فلا وجه للإطالة .

و أمّا « المعاملة » ، فقد اختلف المراد منها فی الکتب الفقهیّة ، فقد تطلق فی مقابل العبادة ، فتکون أعم من العقود و الإیقاعات و الأحکام ، لکنّ هذا الاصطلاح غیر مراد هنا ، لعدم تمشّی الصحّة و الفساد فی الأحکام . و قد تطلق فی مقابل العبادة و یراد منها الإنشائیات ، فتعمّ العقود و الإیقاعات . و قد تطلق و یراد منها العقود فقط ، لأنّ « المعاملة » ظاهرة فی اعتبار الطرفین و هو فی العقد دون الإیقاع ... لکن الصّحیح أن یکون المراد هنا هو العقود و الإیقاعات معاً ، لجریان الصحّة و الفساد و وقوع النهی فی کلا القسمین .

السادسة : ( فی المراد من الصحة و الفساد )

ذکر فی ( الکفایة ) (1) : إن الصحّة و الفساد وصفان إضافیّان یختلفان بحسب الآثار و الأنظار ، فربّما یکون شیء واحد صحیحاً بحسب أثر أو نظر و فاسداً بحسب آخر ، و من هنا صحّ أن یقال : إن الصحة فی العبادة و المعاملة لا تختلف بل هما فیهما بمعنی واحد و هو التمامیّة ، و إنما الاختلاف فیما هو المرغوب فیهما من الآثار التی بالقیاس علیها تتصف بالتمامیّة و عدمها ، و هکذا الاختلاف بین الفقیه و المتکلّم فی صحة العبادة ، فلمّا کان غرض الفقیه هو وجوب القضاء أو الإعادة أو عدم الوجوب ، فسّر صحة العبادة بسقوطهما ، و کان غرض المتکلّم هو حصول الامتثال الموجب عقلاً لاستحقاق المثوبة ، فسّرها بما یوافق الأمر تارة و بما یوافق الشریعة اخری .

ثم إنه نبّه علی أنّ الصحّة و الفساد عند المتکلّم وصفان اعتباریان ینتزعان

ص:130


1- 1) کفایة الاصول : 182 .

من مطابقة المأتی به للمأمور به و عدمها ، و أمّا الصحّة - بمعنی سقوط الإعادة و القضاء - عند الفقیه ، فهی من لوازم الإتیان بالمأمور به بالأمر الأوّلی عقلاً ، فالصحّة هذه حکم یستقل به العقل و لیس بمنتزع کما توهّم الشیخ .

و علی الجملة ، حیث أن الأمر فی الشریعة یکون علی أقسامٍ من الواقعی الأوّلی و الثانوی و الظاهریّ ، فإنّ الصحة فی الإتیان بالمأمور به بالأمر الأوّلی الواقعی لیس بحکم وضعی مجعول من قبل الشارع ، أمّا سقوط الإعادة و القضاء فی الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی الثانوی و بالأمر الظاهری ربّما یکون مجعولاً ، فیکون السقوط تخفیفاً و منّةً علی العباد مع ثبوت المقتضی لثبوتها ، کما ربما یحکم بثبوتهما ، فیکون الصحة و الفساد - فی هذا القسمین - حکمین مجعولین لا وصفین انتزاعیین .

هذا فی العبادات .

و أمّا الصحّة فی المعاملات ، فمجعولة ، حیث أنّ ترتب الأثر علی المعاملة إنما هو بجعل الشارع و لو إمضاءً ، إذ لو لا جعله لما ترتب الأثر ، لأصالة الفساد ...

هذا فی کلّی المعاملة . ثم قال : نعم : صحّة کلّ معاملة شخصیّة و فسادها لیس إلّا لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سبباً و عدم انطباقها .

و تلخص :

إن المحقق الخراسانی تعرّض فی هذه المقدّمة لأمرین :

أحدهما : تعریف الصحّة و الفساد ، و أنه لا خلاف فیه بین المتکلّم و الفقیه ، و إنما الاختلاف بحسب الأثر .

و الآخر : إنهما مجعولان أوْ لا ؟ و ملخّص کلامه التفصیل فی العبادات بین الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی و غیره . و فی المعاملات بین الکلیّة و الجزئیّة ، خلافاً لمن قال بأنهما مجعولان مطلقاً ، و من قال بعدم الجعل مطلقاً ، و غیر ذلک .

ص:131

و قال المیرزا رحمه اللّٰه (1) ما حاصله : إنّ الصحّة الظاهریة قابلة للجعل ، أمّا الواقعیة التی هی انطباق المعتبر و الممضی شرعاً علی الفرد و الحصّة من المعاملة ، فهی غیر قابلة للجعل .

و فی ( المحاضرات ) (2) ما حاصله : إن الصحة و الفساد من الامور العارضة علی الموجودات الخارجیة ، أمّا نفس ماهیّة المعاملة فلا تتّصف بهما ، فلا بدّ من التفصیل بین العبادات و المعاملات : بأن یقال بالجعل فی المعاملات دون العبادات ، و السرّ فی ذلک هو أن العبادة متعلَّق الحکم کما فی «فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ » (3)و« صوم الفطر حرام » (4) مثلاً ، و أمّا المعاملة فهی موضوع للحکم و ترتیب الأثر کقوله تعالی «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (5)فالبیع موضوع للنفوذ ، أی کلّما وجد شیء و اتّصف بکونه بیعاً فهو نافذ مؤثر ، و کذا «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (6)و« الصلح جائز » (7) و نحوها . فکانت الصحّة فی المعاملة قابلةً للجعل دون العبادة .

إشکال الأُستاذ

و قد أورد علیه الأُستاذ : بأنّ الوضع للموجود محال ، بل الموضوع له اللفظ هو المعنی المجرّد عن الوجود الذهنی أو الخارجی ، لأن الغرض من وضع اللّفظ هو انتقال المعنی به إلی ذهن السامع ، فإذا کان المعنی موجوداً - و لو ذهناً - لم یقبل الوجود ثانیاً .

ص:132


1- 1) أجود التقریرات 2 / 209 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 142 .
3- 3) سورة البقرة : الآیة 185 .
4- 4) وسائل الشیعة 10 / 514 ، الباب 1 تحریم صوم العیدین ، الرقم : 3 .
5- 5) سورة البقرة : الآیة 275 .
6- 6) سورة المائدة: الآیة 1.
7- 7) وسائل الشیعة 18 / 443 ، الباب 3 : إن الصّلح جائز بین الناس .

علی أن الالتزام بالقول المذکور یستلزم سقوط البحث عن وضع ألفاظ المعاملات و العبادات للصّحیح أو الأعمّ .

و أیضاً : لازمه الالتزام بکون وضع الألفاظ فی العبادات و المعاملات من قبیل الموضوع له الخاص أی الصحیح ، لأنَّ الموضوع له الصحیح الجزئی هو الموجود ، لکنْ الموضوع له الخاص - و إنْ کان هو الجزئی - إلّا أنه لیس الجزئی بوصف الوجود ، لأن الجزئی هو الماهیة ، و هی قد تکون موجودةً و قد تکون غیر موجودة .

فالصحیح ما ذهب إلیه المیرزا و غیره من التفصیل بین الصحة الظاهریة و الواقعیة .

السابعة :( فی الأصل فی المسألة لو شک فی دلالة النهی علی الفساد )

تارةً : نبحث عن مقتضی الأصل فی المسألة الاصولیّة ، و اخری : عن مقتضی الاصل فی المسألة الفرعیّة . هذا فی المعاملة . و أمّا فی العبادة ، فالأصل هو الفساد لعدم الأمر بها مع النهی عنها .

قالوا : لا أصل یعوّل علیه فی المسألة الاصولیة ، لأنّ البحث إن کان عقلیاً ، فهو یعود إلی وجود الملازمة بین النهی و الفساد و عدم وجودها ، لکن الملازمة وجوداً و عدماً أزلیّة ، و لا حالة سابقة حتی تستصحب ... و إن کان لفظیاً ، فیعود إلی دلالة النهی التزاماً علی الفساد و عدم دلالته ، و الدلالة الالتزامیة فرع للملازمة بین الأمرین ، و هی وجوداً و عدماً أزلیة و لا حالة سابقة .

قال الأُستاذ : لکن الحق هو التفصیل ، فقد یقال بأنّ النهی فی المعاملة إرشاد إلی الفساد و أنه ظاهر فی ذلک ، و علی هذا ، فللأصل مجال ، لأنَّ ظهور اللّفظ فی المعنی تابع للوضع و هو من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم ، فمع الشک یستصحب العدم .

ص:133

و علی الجملة ، فإنه علی القول بکون النهی فی المعاملة ظاهراً فی الفساد ، فمع الشک یکون المرجع هو الأصل ، اللهم إلّا أن لا یجری الأصل لعدم الأثر ، و هذا أمر آخر ... فما ذهب إلیه المحقق الأصفهانی من عدم الأصل حتی علی مبنی ظهور النهی فی الإرشاد إلی الفساد ، فی غیر محلّه (1) .

و أمّا فی المسألة الفرعیّة ، فقد أفاد المیرزا (2) أنّ الأصل فی المعاملة هو الفساد ، لأنه مع الشک فی صحة المعاملة یشکّ فی ترتّب الأثر علیها ، و حینئذٍ فالأصل بقاء کلٍّ من العوضین علی ملک مالکه . و أمّا فی العبادات ، فإنّ الأصل الجاری فیها لدی الشک فی الصحة هو قاعدة الاشتغال ، إلّا فی موارد الأصل الثانوی کقاعدة الفراغ مثلاً ، کما أنه یمکن وجود القاعدة الثانویة المقتضیة للصحة فی المعاملة کذلک ، کأصالة الصحة فی عمل الغیر ... هذا فی الشبهة الموضوعیّة .

و أمّا فی الشبهات الحکمیة الکلیّة فی المعاملات فقد قالوا بأصالة الفساد .

قال الأُستاذ : جریان هذا الاستدلال منوط بعدم کون الشک فی المورد من قبیل الشک بین السبب و المسبب . مثلاً : لو شک فی أنه هل الفصل الطویل بین الإیجاب و القبول مبطل للصیغة أو لا ؟ فقد یقال برجوعه إلی الشک فی اعتبار الاتصال ، و مع جریان البراءة من اعتباره تصحّ المعاملة و یرتب علیها الأثر ...

لحکومة البراءة عن شرطیة الاتصال علی أصالة الفساد فی المعاملة ، فتأمّل .

ثم إن المحقق الإیروانی علَّق علی کلام ( الکفایة ) هنا بما حاصله (3) : إنما یحتاج إلی الأصل العملی حیث لم یتّضح دلالة النهی علی الفساد ، فیحتمل الصحة و احتمالها احتمالٌ لوجود الأمر مع الشک فی مانعیّة النهی ، و حینئذٍ یحکّم

ص:134


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 391 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 212 .
3- 3) نهایة النهایة 1 / 246 - 247 .

إطلاق الأمر .

لکن فیه : إنه یناقض کلامه فی أوّل مبحث اجتماع الأمر و النهی إذ قال : ما له معنیً محصّل هو أن للأمر دلالةً علی عدم النهی و للنهی دلالة علی عدم الأمر .

فیقال له : لا ریب فی تعلُّق النهی بالعمل و معه فلا أمر کما ذکر حتی یتمسّک بإطلاقه ؟

علی أنّ صاحب ( الکفایة ) یری التضادّ بین الأحکام الخمسة ، فمع وجود النهی یستحیل وجود الأمر ، فأین الأمر حتی یتمسّک بإطلاقه ؟

أمّا فی العبادات ، فقد أفاد المیرزا : بأنْ الرجوع إلی الأصل یبتنی علی الخلاف فی جریان الأصل فی موارد الشک بین الأقل و الأکثر ، فعلی القول بالبراءة تکون العبادة صحیحة ، و هی فاسدة علی القول بالاشتغال .

و أشکل علیه الأُستاذ : بأنْ مقتضی القاعدة هو الفساد مطلقاً ، لأنه مع وجود النهی لا أمر حتی یقصد ، و أمّا الصحّة بقصد الملاک فموقوفة علی إحرازه و هو فی مثل ما نحن فیه أوّل الکلام .

و أمّا المحقق الأصفهانی (1) فملخّص ما أفاده فی المقام :

أمّا فی المسألة الاصولیة ، فلا أصل یعوّل علیه ، لأنّ الصحّة إن کانت عبارةً عن موافقة الأمر ، فالمفروض عدم الأمر ، و إنْ کانت مطابقة المأتی به للمأمور به فی الملاک ، فالمفروض واجدیة العمل لجمیع الأجزاء و الشرائط ، فالمطابقة حاصلة فلا شک حتی یرجع إلی الأصل .

و أمّا فی المسألة الفرعیة ، فقد بنی المسألة علی الخلاف فی أنّ اقتضاء النهی عقلی أو لفظی ، فعلی القول الأول یکون الأصل هو الفساد ، إذْ کونها عقلیة معناه

ص:135


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 391 .

ملازمة النهی لمبغوضیة العمل ، و إذا کان مبغوضاً فالعمل فاسد بلا کلام ، و إلّا فلا ... و مع الشک فی عدم المبغوضیة لا یکون صالحاً للمقربیة ، فهو فاسد . أمّا علی القول الثانی ، بأنْ یکون البحث فی الدلالة اللفظیة للنهی و أنه إرشاد إلی المانعیّة أو لا ؟ فإن الشک یرجع إلی وجود المانع و الأصل عدمه .

إشکال الأُستاذ

و ناقشه الأُستاذ : بأنّه لو لا وجود الحزازة أو النقص فی العبادة لما تعلَّق بها النهی ، فصلاة الحائض فیها نقص و إلّا فلما ذا النهی ؟ و مع الحزازة و النقص کیف تکون واجدةً لملاک صلاة غیر الحائض ؟ فدعوی موافقة المأتی به للمأمور به غیر واضحة ... هذا فی المسألة الاصولیة .

و أمّا ما ذکره فی المسألة الفرعیة ، فصحیح بناءً علی کونها عقلیّة ، لأنّه مع احتمال المبغوضیة یشکُّ فی المقربیّة ، و النتیجة هی الفساد . و أمّا بناءً علی کونها لفظیّة ، فما ذکره هو - و غیره من الأعلام - مخدوش ، لأن أرکان الاستصحاب مع الشک فی ظهور النهی فی المانعیة تامّة ، لأن ظهور الألفاظ فی معانیها من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم ، أمّا العدم الأزلی فواضح ، و أمّا النعتی ، فلأنّ ظهور اللفظ فی المعنی لیس ممّا لا ینفک عن المعنی بل هو وصف متأخر عن وجود اللفظ ، فالأرکان تامة . و یبقی الکلام فی أثر هذا الاستصحاب ، فقد تقرّر عندهم أن المستصحب إمّا یکون حکماً شرعیاً أو موضوعاً لحکم شرعی ، لکنّ التحقیق عدم انحصار الأثر فی ذلک ، فقد یکون الاستصحاب مثبتاً للحکم الشرعی أو موضوعه أو یکون نافیاً له ، و الحکم الشرعی الذی یجری فیه الاستصحاب أعم من الفرعی کالوجوب و الحرمة و الأصولی کالحجیّة ، و فیما نحن فیه : الظهور موضوع للحجیّة الشرعیة ، فیجری الاستصحاب فیه لإثبات هذا الأثر أو نفیه .

ص:136

لکنْ یبقی إشکال آخر و هو لغویّة هذا الاستصحاب ، لأن مجرّد الشک فی الظهور کافٍ لعدمه ، و إذ لا ظهور فلا حجیّة .

و یمکن الجواب عنه : بأنْ فائدة هذا الاستصحاب هو نفی الملازمة العقلیة بین النهی و الفساد ، و علی الجملة ، فإن أثر هذا الاستصحاب هو رفع موضوع الأصل العقلی ، لأنّ کلّ أصل عقلیّ فإن جریانه معلّق علی عدم وجود تعبّد شرعی فی موضوعه نفیاً أو إثباتاً .

و أمّا التمسّک بالأصل لرفع المانعیة ، فإن کان المقصود التمسک بالبراءة ففیه : إنها إنما تجری فی موارد الشک فی المانعیة ، حیث یکون الأقل متیقّناً و یشک فی اعتبار شیء زائداً علیه ، کما فی الشک فی أجزاء الصلاة مثلاً ، و أمّا النهی فی العبادة الذی هو إرشادٌ إلی المانعیّة فلا یبقی معه أمرٌ بها ، فکیف تجری البراءة ؟ و إنْ کان المقصود هو التمسّک بالأصل اللفظی - کما هو ظاهر کلامه - ففیه : إنّه لیس هنا إلّا الإطلاق ، و التمسک به علی مبنی المحقق الخراسانی غیر تام ، لأنه یری التضادّ بین الأحکام أنفسها ، و أمّا علی مبنی المحقق الأصفهانی - و هو التضاد بینها فی المبدإ و المنتهی - فلا ریب فی وقوعه فی المنتهی و هو مرحلة الامتثال ، لأنّ النهی یقتضی انزجار المکلّف و الأمر یقتضی انبعاثه ، و کون المکلّف منزجراً و منبعثاً محال ، فشمول إطلاق الأمر لمثل المقام محال . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه إن کان النهی إرشاداً إلی المانعیّة ، کان الحاصل تقیّد الأمر بالصّلاة بعدم الحیض مثلاً ، و إن لم یکن فالإطلاق علی حاله ، و مع الشک فی کونه إرشاداً یتحقّق الشک فی وجود الأمر بها - و المفروض وجود النهی ، و إذا احتمل الأمر احتمل اجتماع الضدّین ، و اجتماعهما احتمالاً محال کاجتماعهما واقعاً ، فسقط التمسک بالإطلاق .

ص:137

رأی الأُستاذ فی هذه المقدّمة

هذا ، و یظهر المختار فی المقام ممّا تقدّم فی الکلام علی آراء الأعلام ، و حاصل ذلک فی المسألة الاصولیة هو ضرورة التفصیل ، فعلی القول بکون البحث عقلیاً ، فلا أصل ، و علی القول بکونه لفظیّاً ، فإنْ کان من جهة الدلالة الالتزامیة ، فالتمسّک به مشکل و إن کان لا یخلو عن وجه ، و إن کان من جهة الإرشاد إلی المانعیة ، فأرکان الاستصحاب تامة .

و أمّا فی المسألة الفرعیة .

أمّا فی المعاملات ، فمقتضی الأصل هو الفساد مطلقاً .

و أمّا فی العبادات ، فالفساد - سواء قلنا بکون المسألة عقلیّة أو لفظیة - لأنه لا أمر مع وجود النهی ، و لا أصل محرز للصحّة لا لفظاً و لا عقلاً .

الثامنة( فی أقسام متعلَّق النهی )

قد قسّمنا النهی سابقاً إلی أقسام و ذکرنا أن أیّ قسمٍ منها داخل فی البحث .

و هنا نذکر أقسام متعلَّق النهی .

قال فی الکفایة : إن متعلَّق النهی ، إمّا أنْ یکون نفس العبادة أو جزأها أو شرطها الخارج أو وصفها الملازم لها کالجهر و الإخفات للقراءة أو وصفها غیر الملازم کالغصبیة لأکوان الصلاة المنفکّة عنها (1) .

توضیحه :

تارةً : یتعلَّق النهی بنفس العبادة بذاتها . و اخری لا بذاتها ، فإنّ النهی عن صلاة الحائض قد یکون نهیاً عن ذات هذه الصلاة ، و قد یکون نهیاً عنها فیما إذا جیء بها قربةً إلی اللّٰه فهو تشریع .

ص:138


1- 1) کفایة الاصول : 184 .

و مثال النهی عن الجزء هو النهی عن قراءة العزائم فی الصلاة .

و مثال النهی عن شرط خارج عن العبادة ، النهی عن تطهیر الثوب بالماء المغصوب .

و النهی عن الوصف یکون علی نحوین و سیذکر فیما بعد انقسام النهی المتعلَّق بجزء العبادة أو شرطها إلی ما یکون بنحو الواسطة فی العروض و ما یکون بنحو الواسطة فی الثبوت .

( قال ) : و مما ذکرنا فی بیان أقسام النهی فی العبادة یظهر حال الأقسام فی المعاملة .

الإشکالات علی الکفایة

و أشکل المحققان الأصفهانی و الإیروانی (1) : بأنْ الجزء و الشرط و الوصف إن کان عبادةً فلا فرق بینه و بین الصّلاة ، فالتقسیم بهذه الصورة بلا فائدة ، و لو قیل بأنّ فائدته من جهة أنه هل إذا فَسَد الجزء أو الشرط أو الوصف فالصّلاة باطلة أو لا ، فإنّ هذا بحثٌ آخر لا علاقة له بمسألة تعلُّق النهی بالعبادة .

و کذا الإشکال فیما ذکره من انقسام النهی عن الجزء أو الشرط إلی ما یکون بنحو الواسطة فی العروض أو الثبوت ، لأنّ المنهی عنه حقیقة ، إنْ کان العبادة بنفسها ، فهذا هو موضوع المسألة ، و إنْ کان هو الجزء أو الشرط - و کان تعلّقه بالعبادة مسامحةً - عاد الکلام السابق بأنّه إن کان الجزء أو الشرط عبادةً فهو داخل فی موضوع البحث ، و إنْ لم یکن عبادة فلا وجه للبحث عنه .

و هذا هو الإشکال الأول .

و أشکل المحقق الأصفهانی ثانیاً فی قول ( الکفایة ) : بأنّ النهی عن الجزء

ص:139


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 293 ، نهایة النهایة 1 / 247 .

یوجب فساده و لا یوجب فساد العبادة ، فقال : لا دلیل علی کون جزء العبادة عبادةً ، لأنّ العبادة إن کانت ما له حسنٌ ذاتی ، فقد لا یکون لجزء العبادة حسن ذاتی مع کون المرکّب منه و من غیره عبادةً لها حسن ذاتی . و إنْ کانت ما امر بها بأمرٍ لا یسقط إلّا بالإتیان بالعمل بقصد القربة - بخلاف التوصّلی - فقد یکون الأمر المتعلّق بالجزء - بما هو جزء - غیر عبادی بل المتعلّق بالمرکب لا یسقط إلّا بوجهٍ قربی ... .

و علی الجملة ، فقد لا یکون جزء العبادة عبادة ، فلا یتمُّ کلام ( الکفایة ) .

الإشکال الثالث : ما أورده بعض أهل النظر ، و حاصله بطلان تقسیم الوصف إلی القسمین المذکورین ، لأنّه کما لا ینفک القراءة عن الجهر و الإخفات ، کذلک لا تنفک عن الإباحة أو الغصبیّة فی المکان .

الإشکال الرابع : ما أورده المحقق الإیروانی ، و حاصله بطلان جمع ( الکفایة ) بین « الغصب » و« الصلاة » ، لأنه قد جعل « الغصب » وصفاً للصّلاة ، فهو مغایرٌ لها ، و الاتحاد بین الوصف و الموصوف محالٌ ، فقوله باجتماع الغصب و الصّلاة جمع بین الضدّین .

دفاع الأُستاذ عن الکفایة

و أجاب شیخنا عن هذه الإشکالات :

أمّا الأوّل ، فإن تقسیم ( الکفایة ) کذلک لیس بلا أثر ، لأنّ تعلّق النهی بجزء العبادة أو شرطها أو وصفها مفسدٌ أو لا ، هو ممّا وقع فیه الخلاف ، فالمحقق النائینی یقول باقتضاء النهی عن الجزء لفساد العبادة خلافاً للکفایة . و أیضاً ، فإنّ النهی عن الوصف الملازم أو المفارق فی صورة الاتحاد الوجودی ، یسری إلی العبادة أو لا یسری ؟ فصاحب ( الکفایة ) یری السرایة ، و فی ذلک بحثٌ .

ص:140

إذنْ ، لیس ذکر هذه التقسیمات فی المقام بلا أثر .

و أمّا الثانی ففیه : إنّ هذا الکلام إنما یتم لو کان للمرکب وجود غیر وجود الأجزاء کما فی المرکبات الحقیقیّة ، لکنّ المرکب الاعتباری - کالصّلاة - لیس إلّا نفس الأجزاء من التکبیر و القیام و الرکوع و السجود ، و علی هذا ، فإنْ کانت العبادة ما له حسن ذاتی ، فإنْ هذا المرکب حسن ذاتاً ، و لو کان بعض أجزائه لیس عبادةً لم یتّصف بالحسن ، لأن المرکب من الحسن و غیر الحسن یستحیل أن یکون حسناً بذاته . و إن کانت العبادة ما لا یسقط الأمر به إلّا بالإتیان به بقصد القربة ، فإن المرکّب لیس له إلّا أمر واحد لا عدّة أوامر بعدد الأجزاء ، و قد ذکر المحقق الأصفهانی فی مبحث الاشتغال أنّ الأمر المتعلّق بالمرکّب واحد بالوحدة الحقیقیّة و بسیط بالبساطة الحقیقیة ، غیر أنّ المتعلَّق مرکَّب ، و علی ذلک یقال له : کیف یکون البسیط توصّلیاً و تعبدیّاً معاً ؟

و أمّا الثالث ففیه : إنْ وجه التفریق بین الغصب و الجهر و الإخفات هو تعلّق النهی فی الجهر و الإخفات بنفس الوصف ، قال تعالی «وَلٰا تَجْهَرْ بِصَلٰاتِکَ وَلٰا تُخٰافِتْ بِهٰا » (1)و فی الخبر : « رجل جهر فیما لا ینبغی الإجهارُ فیه ... » (2) فکان الوصف لازماً للقراءة غیر منفک عنه . أمّا فی الغصب ، فإن المتعلَّق للنهی هو الغصب لا الغصب فی الصّلاة ، فکان وصفاً مفارقاً ، و بهذا السبب قسّم فی ( الکفایة ) الوصف إلی القسمین ... و الإشکال مندفع .

و أمّا الرابع ، فالجواب : إن الوصف علی قسمین ، فهو تارةً : ینضمّ إلی الموصوف کما فی البیاض بالنسبة إلی الجدار ، و لا اتّحاد فی هذا القسم بین

ص:141


1- 1) سورة الإسراء : الآیة 110 .
2- 2) وسائل الشیعة 6 / 86 ، الباب 26 ، الرقم : 2 .

الوصف و الموصوف ، و اخری : هو وصف انتزاعی کما فی الفوقیة و التحتیة مثلاً ، فإنّ الاتحاد ثابت بینه و بین الموصوف ، إذ لیس الفوقیة منضمّة إلی السقف بل هی مفهوم متّحد معه وجوداً ... و الغصبیة من هذا القبیل ، لأنها عنوان منتزع من التصرف فی مال الغیر بلا إذنٍ منه . فمنشأ الإشکال هو الخلط بین القسمین من الوصف .

الإشکال الوارد علی الکفایة

و أورد المحققان - الأصفهانی و الإیروانی - علی ما ذکره صاحب ( الکفایة ) فی الوصف الملازم بما حاصله : لو کان الجهر بالقراءة غیر القراءة ، بمعنی أن یکون هذا الکیف المسموع ذا مراتب ، کما هو الحال فی النور مثلاً ، فیکون القراءة الجهریّة هی المرتبة الشدیدة من القراءة ، لکان بحثاً آخر . لکنَّ المحقق الخراسانی یری أنَّ الجهر وصف للقراءة ، فلکلٍّ منهما وجود إلّا أن بینهما ملازمةً ، هذا من جهة . و من جهةٍ اخری : فإنّه یری اشتراط أنْ لا یختلف المتلازمان فی الحکم و إنْ لم یقم دلیلٌ علی ضرورة اتحادهما فیه ، و علی ما تقدَّم ، فإنّ قوله هنا بسرایة النهی من اللّازم إلی الملزوم مردود و مخالف لمسلکه .

و علی الجملة ، فإنّ مفاد کلام ( الکفایة ) هنا إثبات بطلان العبادة بسبب ورود النهی عن الوصف الملازم ، و هذا یتوقّف علی رفع الید عمّا ذکرناه عنه من المبنی .

قال شیخنا : و هذا الإشکال وارد علی ( الکفایة ) .

هذا تمام الکلام علی المقدّمات .

و یقع البحث فی مقامین :
اشارة

ص:142

[المقام] الأول : فی النهی عن العبادة

هل النهی عن العبادة یقتضی الفساد أو لا ؟ قولان .

دلیل القول بالفساد : إنه یعتبر فی العبادة قصد القربة ، أمّا علی القول باعتبار قصد الأمر - کما علیه صاحب ( الجواهر ) قدس سرّه - فمع النهی لا یوجد الأمر لضرورة التضادّ بین الأمر و النهی ، فالعبادیّة منتفیة . و أمّا علی القول بکفایة قصد الملاک - کما هو المختار - فتارةً : یکون ملاک العبادة مزاحماً بملاکٍ أهم ، فیوجب سقوط الأمر أو تحقق النهی التبعی ، و فی هذه الحالة یمکن التقرّب قصده ، لأن المفروض عدم وجود أیّ نقصٍ فی ملاک الصّلاة ، فإن قلنا بأنّ الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضدّه ، فلا اقتضاء للأمر بالإزالة للنهی عن الصّلاة ، فنحن فی راحة ، و إنْ قلنا بالاقتضاء فقولان ، لأن المشهور أنّ النهی عنها فی المثال تبعیٌّ ناشئ عن المزاحمة ، و مثل هذا النهی لا ینافی قصد القربة بملاک الأمر ، فنحن فی راحةٍ کذلک ، لکن المختار عند الأُستاذ أنه بناءً علی الاقتضاء یکون النهی التبعی أیضاً رافعاً لصلاحیّة العمل للتقرّب ، إذْ لا یفرق فی کونه منهیّاً عنه بین النهی التبعی و غیره .

لکنّ المهمّ فی المقام : أنّ النهی عن العبادة - کالنهی عن صلاة الحائض - لیس نهیاً عرضیاً ناشئاً من المزاحمة ، بل هو ناشئ عن المفسدة فی نفس العمل ، و مثل هذا الملاک المبتلیٰ بمفسدةٍ ملزمة ، غیر صالح للتقرّب به بحکم العقل ، فیکون العمل باطلاً بناءً کفایة قصد الملاک کذلک .

قول المحقق العراقی بعدم الفساد

و ذهب المحقق العراقی إلی عدم اقتضاء النهی المولوی التحریمی المتعلّق

ص:143

بالعبادة لفسادها (1) قال : إلّا من جهة قضیة الإخلال بالقربة الموقوفة علی العلم به ، و إلّا فمن جهة فقدانها للملاک و المصلحة لا دلالة علیه بوجهٍ من الوجوه ، لأن غایة ما یقتضیه النهی المزبور بما أنه نهی مولوی تحریمی إنما هو الدلالة علی قیام المفسدة فی متعلّقه ، و أمّا الدلالة علی عدم وجود ملاک الأمر و المصلحة فیه و لو من جهةٍ اخری فلا . نعم ، مع الشک فی الملاک کان مقتضی الأصل هو الفساد ، و لکنه غیر مرتبط باقتضاء النهی المولوی لذلک .

و حاصل کلامه : إن المنشأ لفساد العبادة منحصرٌ بأمرین ، فإمّا هو عدم الملاک ، و إمّا عدم تمشّی قصد القربة بالعبادة مع وجود النهی عنها ، و من الواضح اعتبار قصد القربة فیها إمّا جزءاً أو شرطاً ، فإذا انتفی انتفی الکلّ أو المشروط .

لکنّ النهی لا دلالة له علی عدم الملاک ، لأن غایة مدلوله وجود المفسدة فی العمل ، أما الدلالة علی عدم المصلحة فلا ، لعدم التضاد بین المصلحة و المفسدة ، بل التضاد هو بین المحبوبیّة و المبغوضیّة ، و علی هذا ، یمکن اجتماع المصلحة و المفسدة فی الشیء الواحد ، کما فی استعمال الدواء لعلاج مرضٍ ، فإنّه « لیس مِنْ دواء إلّا و یُهیّجُ داءً » کما فی الخبر (2) .

و أمّا قضیّة قصد القربة ، فإنّه یتمشّی مع وجود النهی فی حال جهل المکلّف بالنّهی و إنْ کان موجوداً فی الواقع .

الجواب

و الجواب عمّا ذکره :

أمّا فی القسم الأول من کلامه و هو کون العمل ذا مصلحة مع تعلّق النهی به .

ص:144


1- 1) نهایة الافکار ج (1 - 2) 456 .
2- 2) وسائل الشیعة 2 / 408 ، الباب 4 ، الرقم : 1 .

ففیه : إن مجرّد وجود المصلحة فی العمل غیر کافٍ لصلاحیته للمقربیّة ، لحکم العقل - و هو الحاکم فی باب المقربیّة و المبعّدیة - بأنها إنّما تصلح للمقربیّة فی حال کونها غرضاً للمولی ، بأنْ تکون منشأً لأمره بالعمل أو یتعلّق بها غرضه ، و إلّا ، فإن مجرّد واجدیّة العمل للمصلحة لا تصیّره مقرّباً من العمل . هذه هی الکبری . و فی مقامنا : لا شکّ فی أنه مع وجود النهی التحریمی عن العمل تکون المصلحة الموجودة فیه ساقطة عن کونها غرضاً للمولی ، بل یکون النهی کاشفاً عن وصول المفسدة إلی حدّ الغرضیة ، فیکون غرضه هو الانزجار عنه لا الانبعاث إلیه ... .

و الحاصل : إنه مع تسلیم ما ذکره من عدم المنافاة بین المصلحة و النهی نقول : عند ما یقوم النهی عن العمل تکون الفعلیة للمفسدة ، و المصلحة من حیث الغرض علی حدّ الشأنیة ، و إذا وصلت المفسدة إلی الفعلیة کان غرض المولی هو الانزجار عن العمل المنهی عنه ، و ما یکون کذلک فلا یصلح للمقربیّة .

و أمّا فی القسم الثانی من کلامه ، و هو تمشی قصد القربة من المکلَّف مع جهله بالنهی ، فیتّضح ما فیه مما ذکرناه فی القسم الأوّل ، لأنّ مجرّد قصد القربة و تمشّیه غیر کافٍ ، بل لا بدّ قبل ذلک من صلاحیة العمل للمقربیّة ، و العمل الذی تعلَّق به النهی و کان الانزجار عنه هو الغرض من المولی ، غیر صالح للمقربیّة ، فلا یکون عبادةً ، إذ کیف یکون عبادةً و هو مبغوض فعلاً و إن کان محبوباً فی عالم الشأنیة ؟

و علی هذا الأساس نقول ببطلان العبادة فی باب اجتماع الأمر و النهی بناءً علی الامتناع ، و أنّ الجهل بالنهی لا یکون مناطاً للصحّة ، لأنه قد قصد التقرب إلی المولی بما هو مبغوض عنده ، غایة الأمر یکون معذوراً بسبب الجهل ، نظیر ما إذا قتل ابن المولی بقصد القربة إلیه جاهلاً بکونه ابنه و زاعماً أنه عدوّ له ، فإنّ العمل مبغوض للمولی و إن کان ذا حسنٍ فاعلی .

ص:145

قول المحقق الحائری بعدم الفساد

قال رحمه اللّٰه : الحق أنه لا یقتضی الفساد . أمّا فی العبادات ، فلأن ما یتوهّم کونه مانعاً عن الصحّة کون العمل مبغوضاً ، فلا یحصل القرب المعتبر فی العبادات به . ( قال ) و فیه : إنه من الممکن أن یکون العمل المشتمل علی الخصوصیة موجباً للقرب من حیث ذات العمل ، و إنْ کان إیجاده فی تلک الخصوصیة مبغوضاً للمولی . و بعبارة اخری : فکما أنّا قلنا فی مسألة اجتماع الأمر و النهی بإمکان أنْ یتّحد العنوان المبغوض مع العنوان المقرب ، کذلک هنا من دون تفاوت ، فإن أصل الصّلاة شیء و خصوصیّة إیقاعها فی مکان مخصوصٍ - مثلاً - شیء آخر مفهوماً و إن کانا متحدین فی الخارج . نعم ، لو تعلّق النهی بنفس المقیَّد - و هی الصّلاة المخصوصة - فلازمه الفساد ، من جهة عدم امکان کون الطبیعة من دون تقیید ذات مصلحةٍ توجب المطلوبیة ، و الطبیعة المقیدة بقید خاص ذات مفسدة توجب المبغوضیّة .

و الحاصل : إنه کلّما تعلّق النهی بأمر آخر یتّحد مع الطبیعة المأمور بها ، فالصحة و الفساد یبتنیان علی کفایة تعدد الجهة فی تعدّد الأمر و النهی و لوازمها من القرب و البعد و الإطاعة و العصیان و المثوبة و العقوبة ، و حیث اخترنا کفایة تعدّد الجهة فی ذلک ، فالحق فی المقام الصحة . هذا کلامه فی المتن (1) .

و قد علّق فی الحاشیة علی ما ذکره فی حاصل المقام بقوله :

فیه : إن الجهتین المتغایرتین مفهوماً المتّحدین وجوداً فی باب الاجتماع کان اتحادهما مصحّحاً للحمل ، فلهذا وقع اجتماع الأمر و النهی فی مورد تصادقهما محلّاً للنزاع المتقدم . و أمّا إذا کان أحد المفهومین منطبقاً علی ذات

ص:146


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 187 .

الفعل و الآخر کان من قبیل الخصوصیّة ، فمن الواضح عدم صحة حمل أحدهما علی الآخر ، و إنْ کان الحدّ الواحد من الوجود محیطاً بکلیهما ، فالقائل بالامتناع فی الفرض الأول لا یلزم أن یقول به فی الثانی لعدم الاتحاد الحملی . نعم ، حیث أن المتخصّص و الخصوصیّة متلازمان فی الوجود لا یمکن اختلافهما فی الحکم ، بأنْ یتعلق الأمر بالذات مثلاً و النهی بالخصوصیّة ، بناءً علی ما هو المفروض من سرایة الأمر من الطبیعة إلی الأفراد ، فلا بدّ من تقیید الأمر بغیر هذا المورد ، و لکن هذا لا یوجب فساد العبادة ، لقیام الملاک فی ذات الفعل ، فیکون الفاعل متقرّباً بنفس فعل الصّلاة مثلاً و مسخوطاً علیه لوصف کینونته فی الحمام .

فتحصّل مما ذکرنا هنا و ما ذکرنا فی المتن أنه متی تعلّق النهی بالخصوصیّة ، فالحق ، صحّة العبادة حتی علی القول بالامتناع فی المسألة السابقة ، و متی تعلّق بالخاص البطلان حتی علی القول بالجواز هناک .

و توضیح إشکاله علی المتن هو : وجود الفرق بین محلّ الکلام و مسألة اجتماع الأمر و النهی ، لأنَّ متعلَّقی الأمر و النهی هناک - و هما الصّلاة و الغصب - متّحدان فی الوجود ، و إن کانا متغایرین مفهوماً ، و لذا یحمل أحدهما علی الآخر فیقال : هذه الصّلاة تصرّف فی مال الغیر ، بخلاف مسألتنا هذه ، فإنّه لا اتحاد بینهما من جهة الحمل ، فهما متغایران مفهوماً ، إذ الصّلاة غیر الکینونة فی الحمام و لا یصح حمل أحدهما علی الآخر ... فهذا الفرق موجودٌ ، لکنّ المبنی - و هو صحّة الصلاة فی کلتا المسألتین - واحد ، أمّا هناک فلکفایة تعدد الجهة ، و أمّا هنا ، فلأن المفروض تعلّق النهی بالخصوصیّة و هو الکینونة فی الحمام ، و هو لا یتعدّی إلی المتخصّص أی الصّلاة ، فیکون الملاک فی الصّلاة محفوظاً و الأمر به باقیاً ، فهو علی محبوبیّته و إن کانت الخصوصیة مبغوضةً ، فلا وجه لبطلانها .

ص:147

الجواب

إنه لا یخفی الاضطراب فی کلام هذا المحقق ، فهو یقول بأنّ المتخصّص و الخصوصیّة لهما حدّ واحدٌ من الوجود ، و بعد فاصلٍ قلیل یقول : نعم حیث أن المتخصّص و الخصوصیة متلازمان فی الوجود . فإنّ هذا یستلزم تعدّد وجودهما ، لأن النسبة اللزومیّة بین شیئین لا یتحقق إلّا بوجودهما ، و لا یعقل اتحادهما فی الوجود لکون النسبة بینهما نسبة العلّة إلی المعلول ... .

و مع غضّ النظر عن ذلک نقول : إنّ البحث فی المسألة هو عن تعلّق النهی بالعبادة ، لا تعلّقه بلازمها ، فجعل خصوصیّة الکینونة فی الحمام من لوازم الصّلاة خلف لفرض البحث ، و إن کانت موجودةً مع الصّلاة ، فمن المستحیل أن یکون الوجود الواحد محبوباً و مبغوضاً آنٍ واحدٍ ، بأنْ یکون ذا مصلحةٍ فعلیّةٍ و مفسدةٍ فعلیّةٍ معاً .

و مما ذکرنا ظهر ما فی کلامه أخیراً من أن الصّلاة محبوبة و لکنّ کینونتها فی الحمّام مبغوض . ففیه : إن طبیعة الصّلاة لیست غیر الکینونة فی الحمام ، لکونها کذلک حصّة من الصّلاة ، فهما موجودان بوجود واحد ، و وجودها کذلک عین وجود الطبیعة ، و حینئذٍ ، لا یعقل مع تعلّق النهی بوجود الصّلاة فی الحمام أنّ تکون الصّلاة هذه صالحةً للتقرّب . و الطبیعة بما هی لا تصلح للمقربیّة ، لعدم ترتب الأثر علی الطبیعة ما لم یتحقق خارجاً فی حصّةٍ من حصصها .

لو تعلّق النهی بجزء العبادة

و من الصور التی ذکرها المحقق الخراسانی فی المسألة : تعلّق النهی بجزء من أجزاء العبادة ، کالنهی عن قراءة العزائم فی الصّلاة ، فهل یقتضی فساد الجزء أو العبادة ؟

قال فی ( الکفایة ) بالأول ، و قال المیرزا بالثانی .

ص:148

دلیل المیرزا علی فساد العبادة

و استدل المیرزا رحمه اللّٰه لدعواه بما حاصله (1) : إن جزء العبادة إمّا أن یؤخذ فیه عدد خاص ، کالوحدة المعتبرة فی السورة بناءً علی حرمة القِران ، و إمّا أن لا یؤخذ ذلک . أمّا الأوّل : فالنهی المتعلّق به یقتضی فساد العبادة ، لأن الآتی به فی ضمنها ، إمّا أن یقتصر علیه فیها أو یأتی بعده بما هو غیر منهی عنه ، و علی کلا التقدیرین ، لا ینبغی الإشکال فی بطلان العبادة المشتملة علیه ، لأن الجزء المنهی عنه یکون خارجاً عن إطلاق دلیل الجزئیة أو عمومه ، فیکون وجوده کعدمه ، فإنّ اقتصر المکلّف علیه فی مقام الامتثال بطلت العبادة لفقدها للجزء ، و إن لم یقتصر علیه بطلت ، من جهة الاخلال بالوحدة المعتبرة فی الجزء کما هو الفرض . و من هنا تبطل صلاة من قرأ احدی العزائم فی الفریضة ، سواء اقتصر علیها أم لم یقتصر ، لأن قراءتها تستلزم الإخلال بالفریضة من جهة ترک السورة أو لزوم القِران ، بل لو بنینا علی جواز القران لفسدت الصّلاة فی الفرض أیضاً ، لأن دلیل الحرمة قد خصص دلیل الجواز بغیر الفرد المنهی عنه ، فیحرم القِران بالإضافة إلیه . هذا مضافاً إلی أن تحریم الجزء یستلزم أخذ العبادة بالإضافة إلیه بشرط لا ... فالعبادة المذکورة تبطل من جهات :

1 - کونها مقیدةً بعدم ذلک المنهی عنه ، فیکون وجوده مانعاً عن صحتها ، و ذلک یستلزم بطلانها عند اقترانها بوجوده .

2 - کونه زیادة فی الفریضة ، فتبطل الصلاة بسبب الزیادة العمدیة المعتبر عدمها فی صحّتها .

3 - کون هذه الزیادة من مصادیق التکلّم العمدی ، إذ الخارج عن عمومها

ص:149


1- 1) أجود التقریرات 2 / 217 .

هو الذکر غیر المحرّم .

و أمّا الثانی - أعنی ما لم یؤخذ فیه عدد خاص - فقد اتّضح الحال فیه ممّا تقدّم ، لأن جمیع الوجوه المذکورة المقتضیة لفساد العبادة المشتملة علی الجزء المنهی عنه جاریة فی هذا القسم أیضاً . و إنما یختصّ القسم الأوّل بالوجه الأوّل منها .

نقد السیّد الخوئی و موافقة الأُستاذ

و قد ذهب السید الخوئی و الشیخ الأُستاذ إلی عدم فساد العبادة وفاقاً لصاحب ( الکفایة ) ، فأشکل السیّد علی المیرزا - فی حاشیة الأجود - و وافقه الأُستاذ بما حاصله :

إن النهی عن قراءة العزائم فی الفریضة نهی تکلیفی یکشف عن المبغوضیة بلا کلام ، فإنْ کان بین هذا النهی و المانعیة عن صحّة الصّلاة ملازمة ، فالحق مع المیرزا ، و لکنْ لا ملازمة بینهما ، بل النسبة عموم و خصوص من وجه .

توضیحه :

إنه تارةً : یکون النهی إرشاداً إلی المانعیة ابتداءً ، کالنهی عن الضّحک فی الصّلاة أو البکاء من أجل الدنیا فیها ، و لا ریب فی اقتضائه للفساد من جهة ابتلاء الصّلاة بالمانع عن الصحة لها . و اخری : لا یکون کذلک ، کما فیما نحن فیه ، إذ غایة ما یدلّ علیه النهی عن قراءة العزائم فی الصّلاة مبغوضیّة ذلک عند المولی ، فیکون دلیله مخصّصاً لعموم دلیل القراءة فی الصّلاة ... فلا تکون السورة من العزائم جزءاً من أجزائها ، لکنّ الکلام فی اقتضاء سقوطها عن الجزئیة أن تکون الصّلاة بشرط لا ، فإنّ القول بذلک غیر صحیح ، و إلّا لکانت حرمة کلّ شیء موجبةً لذلک أیضاً ، فلا بدّ من الالتزام ببطلان کلّ عبادةٍ اتی فی ضمنها بفعلٍ محرّم

ص:150

خارجی کالنظر إلی الأجنبیة فی الصّلاة ، مع أنه واضح البطلان .

فالحق : أن حرمة قراءة العزائم فی الفریضة لا یقتضی اعتبارها بالإضافة إلی العزائم بشرط لا ، لعدم الملازمة بین الحرمة و المانعیة ، فقد یکون الشیء حراماً و لیس بمانع عن الصحة کالمثال المذکور ، و قد یکون مانعاً و لیس بحرامٍ ، کالبیع وقت النداء یوم الجمعة ، فالنسبة عموم من وجه .

و علی هذا ، فلو اقتصر علی قراءة العزائم فی الصّلاة بطلت من جهة فقدها لجزئها ، لکنّ هذا غیر اقتضاء النهی عن الجزء لفساد العبادة ، و أمّا إذا لم یقتصر علی السورة بل قرأ سورةً اخری أیضاً من غیر العزائم ، فهل تبطل أو لا ؟ فیه بحث .

و کذا الکلام من جهة شمول دلیل مبطلیّة التکلّم فی الصّلاة ، لوجود الخلاف فی شموله لمثل الذکر الممنوع أو السّورة الممنوعة .

فالعمدة فی الإشکال علی المیرزا هو : عدم وجود الملازمة بین المبغوضیّة و المانعیّة علی ما تقدّم .

لو تعلّق النّهی بشرط العبادة

قال فی ( الکفایة ) : لا یکون حرمة الشرط و النهی عنه موجباً لفساد العبادة ، إلّا فیما کان عبادةً کی تکون حرمته موجبةً لفساده المستلزم لفساد المشروط به .

یعنی : إذا کانت العبادة مشروطة بشرطٍ هو عبادة ، کالصّلاة المشروطة بالطّهارة ، فإذا وقع النهی عن شیء یتعلَّق بالوضوء ، کالنهی عن الوضوء بالماء النجس أو المغصوب ، اقتضی فساده إن وقع بذلک الماء ، و حینئذٍ ، یفسد شرط الصلاة ، فیفسد المشروط .

و أضاف الأُستاذ وفاقاً للسید الخوئی صورةً اخری و ذلک : ما إذا کان ستر العورة شرطاً لصحّة الصّلاة ، و تعلّق النهی بلبس الحریر فیها ، فکان الشرط مقیّداً

ص:151

بعدم الحریر ، فلو ستر العورة بالحریر أصبحت الصّلاة فاقدةً للشرط ، لأنّ « الستر » عین « التستّر » و الاختلاف بالاعتبار ، فالصّلاة فاسدة ... .

إذن ، لا یفرّق فی ذلک بین کون الشرط عبادیاً أو غیر عبادی .

نعم ، لو کان الشرط عبارةً عن الأثر الحاصل من فعلٍ ، کاشتراط الصّلاة بطهارة اللّباس و هی تحصل بغسل الثوب ، فالشرط هو الطهارة لا الغسل ، فلو تعلّق النهی بالغسل لم تفسد الصلاة ، لأن ما تعلّق به النهی لیس شرطاً للعبادة ، و ما هو شرط لها لم یتعلّق به النهی .

لو تعلّق النهی بالوصف

و الوصف تارةً لازم و اخری مفارق .

فإن تعلّق النهی بوصف لازم لعبادةٍ ، کالجهر الذی هو وصف لازم للقراءة کما مثّلوا ، فهل تفسد العبادة أو لا ؟

الحق : إن العبادة لا تفسد ، لأن النهی لا یتعدّی متعلَّقه و هو الجهر إلی الموصوف و هو القراءة ، و معنی ذلک أنه مع اتّصافها بالجهر المنهی عنه ، یسقط الأمر بها لا أنّ النهی عن الجهر یسری إلیها .

إلّا أن الکلام فی صغری المسألة و هی : هل أنّ الجهر بالقراءة وصف لازم لها أو أنه مرتبةٌ من مراتبها ... فإنْ کان الأول فقد تقدم ، و إنْ کان الثانی کان النهی عن الجهر بالقراءة نهیاً عن القراءة نفسها ... ؟

و المرجع فی تشخیص هذا الموضوع هو العقل ، إذ لیس المورد من موارد الاستظهار من اللّفظ حتی یرجع الی العرف ، فما فی ( المحاضرات ) - من أنّ الجهر لازم القراءة ، و قوله - مع ذلک - بأنّ النّهی عن الجهر بها نهی عنها - مخدوش جدّاً ، لأنهما إن کانا من المتلازمین ، فإن النهی لا یسری من اللّازم إلی الملزوم ... .

و التحقیق : إنه نفسها عقلاً ، و النهی عنه نهی عنها .

ص:152

و إنْ تعلَّق النهی بوصف مفارق ، کالأمر بالصّلاة و النهی عن الغصب ، و النسبة بینهما عموم من وجهٍ کما هو واضح ، فیندرج تحت مسألة اجتماع الأمر و النهی ، فإنْ قلنا بالجواز و کون الترکیب انضمامیّاً فلا فساد ، و إن قلنا بالامتناع و کون الترکیب اتّحادیاً کان النهی و المفسدة هو الغالب ... فیکون البحث عن مفسدیّة النهی عن الوصف المفارق بحثاً عن الکبری المنطبقة علی مورد اجتماع الأمر و النهی .

المقام الثانی : فی النهی عن المعاملة

و یقع البحث فی جهتین :

الجهة الاولی : فی مقتضی القاعدة

و لا بدّ من ذکر امور :

(الأول) إنه بین النهی التکلیفی عن المعاملة و النهی الوضعی عنها عموم من وجه ، مثلاً : النهی عن شرب الخمر حکم تکلیفی ، و عن الغرر فی البیع حکم وضعی ، و عن بیع الخمر تکلیفی و وضعی معاً .

(الثانی) تارةً یتعلَّق النهی بالأثر المترتب علی المعاملة ، کما فی الخبر (1) :

« ثمن العذرة مِنَ السّحت » فالحرمة تعلَّقت بالأثر و هو الثمن فلا یجوز التصرف فی المال المأخوذ فی مقابلها ، فیدلّ علی الفساد .

فهذا القسم من النهی یدلّ علی الفساد ، فهو خارج عن محلّ الکلام .

و اخری : یتعلّق النهی بشیءٍ بحیث لا یجتمع مع نفوذ المعاملة ، کما لو نهی الشارع عن منفعةٍ خاصّةٍ للشیء ، فهنا تکون الحرمة ملازمةً لفساد المعاملة علی

ص:153


1- 1) وسائل الشیعة 17 / 175 ، الباب 40 حکم بیع عذرة الانسان و غیره ، الرقم : 1 .

تلک المنفعة الخاصّة بإجارة أو غیرها ، للتمانع بین مقتضی النهی و مقتضی الآیة « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (1).

و هذا القسم لا خلاف فی دلالته علی الفساد ، فهو خارج عن محلّ الکلام .

و ثالثة : یتعلَّق النهی بشیء و یکون إرشاداً إلی المانعیة ، کما فی النهی عن بیع المجهول ، فإنه یدلّ علی مانعیّة الجهالة فی العوضین عن صحّة المعاملة ، فیکون دلیل صحة البیع بشرط لا عن الجهالة .

و هذا القسم کذلک لا خلاف فیه ، فهو خارج .

و رابعة : یکون النهی إرشاداً إلی الفساد من أوّل الأمر ، فهو دالٌّ علی الفساد بالمطابقة ، کما فی الخبر : « لا تبع ما لیس عندک » (2) .

و هذا القسم کذلک .

و خامسةً : أن یرد النهی عن معاملةٍ فیکشف عن المبغوضیّة ، فهل یقتضی الفساد أو لا ؟

و هذا هو مورد البحث .

(الثالث) إن النهی یتعلَّق تارةً بالسبب و اخری بالمسبب و ثالثة بالتسبّب .

فالأول : مثل النهی عن البیع وقت النداء یوم الجمعة ، فالمنهی عنه إنشاء المعاملة حینذاک . و الثانی : مثل النهی عن تملیک الکافر القرآن ، فالمنهی عنه هو المسبب أی تسلّطه علی القرآن . و الثالث : مثل تملیک الزیادة فی الربویّات عن طریق البیع ، فتسبّب البیع مبغوض ، فلو کان ذلک عن طریق الصلح مثلاً فلا نهی .

(الرابع) إن هنا بحثاً أساسه التحقیق عن حقیقة الإنشاء ، ففیها مسلکان أساسیّان :

ص:154


1- 1) سورة المائدة : الآیة 1 .
2- 2) وسائل الشیعة 17 / 357 ، الباب 12 ، الرقم 12 بلفظ « نهی عن بیع ما لیس عندک » .

أحدهما : إن صیغ العقود و الإیقاعات لها السببیّة لتحقق عنوان المعاملة .

و الثانی : إنّ حقیقة الإنشاء هو الاعتبار و الإبراز .

إن العقد هو العنوان المحصَّل من بعت و اشتریت ، أنکحت و قبلت ... فهل الصیغة سبب موجد له کما علیه صاحب ( الکفایة ) ، أو أنه آلةٌ و المعنی الاعتباری ذو الآلة کما علیه المیرزا ؟ و حاصل القولین : مدخلیة الصیغة و سببیّتها فی الأمر الاعتباری .

و فی المقابل هو القول الثانی ، و أن الصیغة کاشفة فقط و مبرزةٌ عن المعنی الاعتباری ... و علی هذا المبنی یعنون البحث هکذا : تارةً النهی بعنوان المبرِز و اخری بالمبرَز و ثالثةً بالإبراز بهذه الصیغة .

و بعد :

ففی المسألة أقوال ، أحدها : الصحّة مطلقاً ، و الثانی : الفساد مطلقاً ، و الثالث :

التفصیل بین النهی المتعلِّق بالسبب و النهی المتعلّق بالمسبب ، و فی التفصیل تفصیل .

القول بالدلالة علی الفساد
1 - رأی المحقق النائینی

ذهب المحقق النائینی (1) إلی أنّ النهی إذا تعلّق بالمسبّب اقتضی فساد المعاملة ، و أمّا النهی المتعلَّق بالسبب ، فقد اتفقوا علی عدم اقتضائه له ، لعدم التلازم بین مبغوضیة الإنشاء و فساد المنشأ .

و استدلّ المیرزا لما ذهب إلیه : بأنّ صحّة المعاملة متوقّفة علی امور :

أحدها : أن یکون المنشئ هو المالک أو ولیّه أو وکیله . و الثانی : أنْ یکون ذا سلطنةٍ

ص:155


1- 1) أجود التقریرات 2 / 226 .

علی ما یجری علیه العقد أو الإیقاع ، بأنْ لا یکون محجوراً علیه . و الثالث : أنْ تقع المعاملة بالسبب الخاص الذی عیّنه الشارع لها .

( قال ) : و لمّا کان النهی التحریمی یفید ممنوعیّة وقوع هذه المعاملة و سلب قدرة المالک علی إجراء الصّیغة ، فهو مسلوب السّلطنة علی الشیء ، فینتفی الشرط الثانی من شروط صحّة المعاملة ، و یکون کبیع المحجور علیه لما یملکه فی عدم التأثیر .

ثم إنه فرَّع علی ذلک فروعاً فقهیة ، فأفاد أنه علی هذا الأساس لا تقبل الواجبات المجانیة کالصلوات الیومیة للاستیجار للغیر ، لعدم سلطنة المصلّی علی صلاته ، لکونها ملکاً للّٰه . و أنّ ما نذر التصدّق به لا یجوز التصرف فیه بالبیع و الشراء و نحو ذلک ، لعدم السلطنة علیه و خروجه عن الملک بالنذر . و کذا موارد الشروط ، فإنّ السلطنة فیها محدودة بمقتضی الشرط ، فلو أوقع المعاملة علی خلاف الشرط کانت باطلةً .

هذه خلاصة کلامه رحمه اللّٰه فی هذا المقام .

نقد رأی المیرزا

و یتلخّص الردّ علیه : بأنّ المنع من التصرّف أمر وضعی ، و قد وضع لهذا الغرض کتاب الحجر فی الفقه ، و لا ریب فی أن الحجر یوجب بطلان المعاملة من المحجور علیه ، و إنّما الکلام فی وجود الملازمة بین المنع التکلیفی و الحجر الوضعی ، فإنْ ثبتت هذه الملازمة تمّ کلامه و إلّا فلا وجه له ، و هو لم یذکر أیّ دلیل علی ما ذهب إلیه ... بل التحقیق أن المبغوضیّة لا تلازم الفساد و أنّ النسبة بینهما العموم من وجه کما تقدم .

هذا ، و قد نوقش رحمه اللّٰه علی الموارد التی ذکرها ، و لا نطیل المقام بالتعرّض لذلک .

ص:156

2 - رأی السیّد البروجردی

و رأی السید البروجردی : إن الظاهر من النواهی المتعلّقة بالمعاملات هو المنع عن ترتیب الأثر ، و ذلک لأن للمعاملة ثلاث مراتب : مرتبة الأسباب ، أی الصیغة ، و مرتبة المسبّبات ، أی الملکیة و الزوجیة و نحوهما . و مرتبة الآثار الشرعیة و العقلائیة المترتبة علی المسببات ، من جواز التصرف فی الثمن و المثمن ، و الوطی ، و نحو ذلک .

( قال ) : و لا یخفی أن الأسباب لا نفسیة لها عند العرف و لیست مقصودةً بالذات ، بل هی آلات ، و کذا المسبّبات فإنها امور اعتباریة غیر مقصودة بالأصالة ، بل المطلوب بالذات و المقصود لهم هو الأثر ، فإذا جاء النهی عن المعاملة دلّ علی المنع عن ترتیب الأثر ، و هذا هو الفساد (1) .

نقد هذا الرأی

أوّلاً : إنه خلاف مقتضی الأصل الأوّلی و الظهور ، فإنّ النهی لما تعلَّق ب« البیع » کان مقتضی الأصل و القاعدة کون المتعلّق هو هذا العنوان ، فله الموضوعیة ، و إرجاعه إلی « أکل الثمن » خلاف الأصل و القاعدة ، اللّهم إلّا بدلیل .

و ثانیاً : هناک فی بعض الموارد النّهی عن المعاملة و عن ترتیب الأثر علیها ، فلو کان النهی عنها عبارةً عن النهی عن ترتیب الأثر ، لزم اللغویة . و مثاله : النص الصحیح فی الخمر : « لعن رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله الخمر . . . و آکل ثمنها . . . » (2) .

و ثالثاً : إذا کان المنهی عنه هو ترتیب الأثر ، کانت الفتوی بحرمة نفس

ص:157


1- 1) نهایة الاصول : 260 .
2- 2) وسائل الشیعة 17 / 224 ، الباب 55 من أبواب ما یکتسب به ، الرقم : 3 .

المعاملة بلا دلیلٍ ، کما فی حرمة بیع المیتة علی المشهور بل المجمع علیه ، لأنّ المستند لحرمة بیعها الإجماع أو النص ، أمّا النص ، فقد جاء ناهیاً عن البیع و هو ظاهر فی المنع عن البیع نفسه تکلیفاً . و أمّا الإجماع ، فقد ادعاه الشیخ فی الخلاف و العلّامة فی المنتهی و التذکرة (1) ، و عبارته فی التذکرة « لا یجوز » و هو أعمّ من التکلیف و الوضع ، و فی المنتهی : « لا یصح » ، و هو غیر الإجماع علی الحرمة ، و الشیخ فی الخلاف فی کتاب الرهن المسألة 35 : الإجماع علی عدم ملکیّة المیتة ، و لیس بیع المیتة . فلا إجماع علی الحرمة ... علی أنه لو کان فهو مدرکی . فالدلیل هو إمّا إطلاق الآیة «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ » (2). و فیه : إنه ظاهر فی الأکل فلا إطلاق .

و إمّا خبر البزنطی (3) ، و هذا هو الصحیح .

و تلخّص : قیام الدلیل علی حرمة البیع ، و لا یمکن الالتزام بعدمه ، بل السید نفسه من القائلین بذلک ، مضافاً إلی البطلان .

و رابعاً : لا إشکال فی کراهیة بعض المعاملات کبیع الأکفان ، و هل یصح أن یقال بکراهة ترتیب الأثر ؟

هذا کلّه ، بالإضافة إلی ما فی دعواه من کون المسبّب لا یتعلّق به الغرض و لا یکون مقصوداً للعقلاء ، فإنّه قد یکون نفس المسبّب مورداً للغرض ... فلیس الأمر کذلک دائماً .

و تلخص : سقوط هذا الطریق للدلالة علی الفساد فی المعاملات .

3 - رأی المحقق الایروانی

و ذهب المحقق الإیروانی إلی أنه لمّا کانت الأدلّة فی أبواب المعاملات

ص:158


1- 1) تذکرة الفقهاء 10 / 31 .
2- 2) سورة المائدة : الآیة 3 .
3- 3) وسائل الشیعة 24 / 39 ، الباب 19 من أبواب الذبائح ، الرقم : 7 .

إمضائیةً لا تأسیسیّة ، و أن مثل «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (1)و « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (2)و نحوهما تفید حلیّة المعاملات تکلیفاً و وضعاً بنحو العام المجموعی - لا الاستغراقی - فإنّه إذا ورد النهی عن معاملةٍ و دلّ علی حرمتها و سقطت حلیّتها التکلیفیة ، لم تبق الحلیّة الوضعیّة و لم تکن مورداً للإمضاء من قبل الشارع ... فالنهی عن المعاملة یفید فسادها من جهة دلالته علی عدم کونها مورداً للإمضاء (3) .

هذا ما أفاده ، و لا یخفی الفرق بین کلامه و کلام غیره .

نقد هذا الرأی

و یرد علیه : أنّ فی مدلول «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (4)و نحوه مسلکین ، فقیل : إن هذه الحلیّة لمّا تعلّقت بالبیع کانت ظاهرة عرفاً فی خصوص الحکم الوضعی له و هو الصحّة . و إلیه ذهب جماعة . و قیل : إنّها باقیة علی ظهورها الأوّلی - و هو الجواز - فیکون ملائماً للحکم التکلیفی و الوضعی معاً .

أمّا علی الأوّل ، فلا مجال لما ذکره ، لأن غایة ما یدل علیه النهی هو المبغوضیة ، فإذا تعلّق بمعاملة أفاد کونها مبغوضةً ، أما الفساد فلا ، لما تقدَّم من أن النسبة بین المبغوضیة و الفساد هی العموم من وجه .

و أمّا علی الثانی ، فإنّ دلالة الآیة علی الحلیتین فی کلّ معاملة ، إنّما هی بالإطلاق ، و هو فی قوة الاستغراق ، فلو قال : « أکرم العالم » و لم یقیّد ، أفاد وجوب إکرام کلّ عالمٍ بنحو الاستغراق لا بنحو المجموع ، فإذا ورد النهی عن معاملةٍ و أفاد حرمتها رفع الحلیة التکلیفیّة ، أمّا الوضعیّة فهی باقیة و لا دلیل علی زوالها .

ص:159


1- 1) سورة البقرة : الآیة 275 .
2- 2) سورة المائدة : الآیة 1 .
3- 3) نهایة النهایة 1 / 253 .
4- 4) سورة البقرة : الآیة 275 .

هذا أولاً .

و ثانیاً : حمل الآیة المبارکة علی العموم المجموعی أوّل الکلام ، لما سیجیء فی بحث العام و الخاص من أنّ حمل العموم علی هذا القسم منه یحتاج إلی مئونة إضافیة ، بخلاف العموم الاستغراقی ، فإنه هو مقتضی الظهور الأوّلی ، و ذلک لأن العموم المجموعی هو جعل الوحدة فی عالم الاعتبار بین امورٍ متفرقةٍ حقیقةً ثم الحکم علیها بحکمٍ واحد ، و أین الدلیل علی اعتبار الشارع الوحدة فی الآیة بین الحلیّتین ؟

القول بالصحّة

و ذهب المحقق الخراسانی إلی دلالة النهی المتعلّق بالمسبب و التسبّب علی صحة المعاملة ، بتقریب : إنّ النهی المتعلّق بالمسبب کالنهی عن بیع المصحف للکفار ، و المتعلّق بالتسبّب کالنهی عن الزیادة بسبب البیع ، یستلزمان أن یکون المنهیّ عنه فیهما مقدوراً ، لأنّ غیر المقدور لا یتعلّق به النهی و لا الأمر ، لا سیّما و أن الأمر طلب الفعل و النهی هو طلب الترک ، علی مبنی هذا المحقق . إذن ، لا بدّ من أن یکون متعلّق النهی مقدوراً للمکلّف کی یصحّ طلب ترکه و إلّا لم یتعلّق به النهی ، فإذن ، یکون النهی المتعلّق بالعنوان المعاملی دلیلاً علی وقوعه علی وجه الصحة فی عالم الاعتبار (1) .

إیراد و دفع

و لا یرد علیه الإشکال : بأنّ النسبة بین التملیک و الملکیّة کنسبة الإیجاد إلی الوجود ، فیکون الأمر دائراً بین الوجود و العدم و لا یعقل فیه الصحة و الفساد . لأنه مناقشة لفظیة ، لأن صاحب ( الکفایة ) - و إنْ عبّر ب« الصحة » فکان الإشکال علی

ص:160


1- 1) کفایة الاصول : 189 .

تعبیره وارداً - یرید « الوقوع » من « الصحة » فهو یقول : بأن تعلّق النهی بالمسبّب أو التسبّب یدلّ علی وقوع الملکیة ، و إلّا ، فإن الملکیّة أمر بسیط یدور بین الوجود و العدم و لا یتصف بالصحّة و الفساد .

و حاصل کلامه : إن النهی کذلک یکشف عن مقدوریّة متعلّقه و حصوله ...

و ما ذکره المحقق الأصفهانی (1) غیر وارد علیه .

تحقیق الأُستاذ

قال الأُستاذ دام بقاه : لا بدّ من التحقیق فی نظریّة صاحب ( الکفایة ) هذه علی کلا المسلکین فی باب حقیقة الإنشاء : مسلک المشهور من أن الصیغ أسبابٌ موجدة للعناوین المعاملیّة من الزوجیّة و الملکیّة و غیرها فی عالم الاعتبار . و قال الأصفهانی : بل بالوجود اللفظی . و قال النائینی : بل هی آلات و المعاملة ذو الآلة .

و مسلک الاعتبار و الإبراز و أنّه لا سببیّة و مسببیّة مطلقاً ، وعلیه السید الخوئی (2) ...

و کلام ( الکفایة ) مردود علی کلا المسلکین .

أما علی الثانی ، فإن الصیغة المعیّنة للمعاملة ، إذا صدرت من البائع مثلاً واجدةً للشرائط المعتبرة شرعاً ، تصبح موضوعاً لاعتبار الشارع بتبع اعتباره ، ثم إن العقلاء یرتّبون الأثر ، فلا یوجد فی البین سببٌ و تسبّب ، بل إن الاعتبار و إبرازه مقدوران للمکلّف و لا مانع من تعلّق النهی به ، و بعد تعلّقه یبتنی الحکم علی المختار فی دلالة النهی عن المعاملة علی الفساد و عدم دلالته .

لکنّ المحقق الخراسانی من القائلین بالمسلک الأوّل فنقول : إن کان

ص:161


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 407 .
2- 2) ذهب إلی أنّ الاوامر و النواهی الشرعیة اعتبارٌ للّابدیّة فی الوجوب و الحرمان فی الحرمة ، و إبراز لذلک بالأمر و النهی . أمّا صیغ العقود ففی البیع مثلاً : اعتبار للملکیة و إبراز بالصیغة . و فصّل الأُستاذ ، فقال فی الأوامر و النواهی بالبعث أو الزجر النسبی ، و أمّا فی الصیغ فوافق هذا المبنی .

المسبّب للصیغة هو الاعتبار الشرعی تمّ کلامه قدس سره ، لأنّه لا یعقل النهی عن المسبب إلّا أن یکون مقدوراً ، و ذلک لا یتحقّق إلا أن یعتبر الشارع وقوع المعاملة و تحقّقها ، و هو مستلزم للصحة . و أمّا إن کان المسبّب هو الاعتبار العقلائی ، بأنْ یعتبر العقلاء الزوجیّة إذا تحقق عقد النکاح ، فإنّ هذا الاعتبار یحصل حتی مع نهی الشارع ، فلا یکون النهی دالاً علی الصحّة .

الجهة الثانیة : فی مقتضی النص

و هو صحیحة زرارة عن أبی جعفر الباقر علیه السلام : « سأله عن مملوک تزوّج بغیر إذن سیده . فقال : ذلک إلی سیّده إن شاء أجازه و إن شاء فرّق بینهما .

قلت : أصلحک اللّٰه تعالی : إن الحکم بن عتیبة و إبراهیم النخعی و أصحابهما یقولون : إن أصل النکاح فاسد و لا یحلّ إجازة السید له . فقال أبو جعفر علیه السلام : إنه لم یعص اللّٰه ، إنما عصی سیّده ، فإذا أجاز فهو له جائز » (1) .

و هنا قولان

ذهب المحقّق الخراسانی (2) إلی أنّ الاستدلال بها علی فساد المعاملة إنما یتم لو کان المعصیة فی « إنه لم یعص اللّٰه » بالمعنی التکلیفی ، فیکون المفهوم :

کلّما کان عصیان تکلیفی فالمعاملة فاسدة . لکنّه وضعی ، أی: إنه لم یقع منه نکاحٌ هو معصیة للّٰه وضعاً ، أی لیس بفاسد ، بل صدر منه معصیة لسیّده لأنه نکاح بلا إذنٍ منه ... فإذا أجاز جاز .

و خالف المیرزا و الایروانی

أما المیرزا ، فأفاد ما ملخّصه (3) : إن الظاهر من « المعصیة » صدراً و ذیلاً هی

ص:162


1- 1) وسائل الشیعة 21 / 114 ، الباب 24 ، الرقم 1 .
2- 2) کفایة الاصول : 188 .
3- 3) أجود التقریرات 2 / 233 .

المعصیة التکلیفیة ، فالروایة تدل علی أنّ النهی مفسد ، لأنّ مفهوم کلامه علیه السلام : إنْ عصی فهو فاسد .

و أمّا الإیروانی (1) ، فأفاد بأنّ المعصیة فی الموردین أعم ، و تخصیصها بالمعنی الوضعی بلا مخصص ، فکان مقتضی مفهوم التعلیل هو العصیان للّٰه وضعاً و تکلیفاً ، فالنکاح فاسد .

و بعد ، فإذا الغی خصوصیة المورد ، کانت الروایة دلیلاً علی الفساد فی مطلق المعاملات .

تحقیق الأُستاذ

فقال شیخنا دام بقاه : إنه بعد هذا النص بلا فصلٍ جاء النصّ التالی :

« عن زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن رجلٍ تزوّج عبدُه بغیر إذنه فدخل بها ثم اطّلع علی ذلک مولاه . قال : ذلک لمولاه إن شاء فرّق بینهما و إنْ شاء أجاز نکاحهما ، فإن فرّق بینهما فللمرأة ما أصدقها إلّا أن یکون اعتدی فأصدقها صداقاً کثیراً ، و إن أجاز نکاحه فهما علی نکاحهما الأول ، فقلت لأبی جعفر علیه السلام : فإن أصل النکاح کان عاصیاً . فقال أبو جعفر علیه السلام :

إنما أتیٰ شیئاً حلالاً و لیس بعاصٍ للّٰه ، إنما عصی سیّده و لم یعص اللّٰه ، إنّ ذلک لیس کإتیان ما حرّم اللّٰه علیه من نکاح فی عدّةٍ و أشباهه » (2) .

قال الأُستاذ :

و« موسی بن بکر » ثقة عندنا ، لاعتماد جعفر بن سماعة علی روایته فی طلاق الخلع و فتواه علی طبقها . و موسی ممّن شهد صفوان بأن کتابه معتمد عند

ص:163


1- 1) نهایة النهایة 1 / 253 - 254 .
2- 2) وسائل الشیعة 21 / 115 ، الباب 24 ، باب أن العبد إذا تزوّج بغیر إذن ، الرقم : 2 .

أصحابنا ، و هو أیضاً من رجال ابن أبی عمیر .

و تلخص : إنّ الحق مع صاحب ( الکفایة ) و من تبعه .

هذا تمام الکلام فی مباحث النواهی . و یقع البحث فی المفاهیم .

ص:164

المقصد الثالث المفاهیم

اشارة

ص:165

ص:166

مقدّمات :

الاولی ( فی تعریف المفهوم )

إن المفاهیم مدالیل الجمل الترکیبیّة ، و البحث هو فی أصل ثبوت و عدم ثبوته لا فی حجیته و عدم حجیّته ، فهو فی الواقع بحث عن أنه هل للجملة الشرطیّة - مثلاً - مدلول التزامی أو لا ؟ فإنْ کان فلا کلام فی حجیته ، فیکون البحث ناظراً إلی صغری أصالة الظهور لا کبری الظواهر ، فهو نظیر البحث عن ظهور صیغة الأمر - مثلاً - فی الوجوب و عدم ظهوره فیه . و علی هذا ، یکون البحث عن المفاهیم بحثاً عن الأدلة لا الأصول ، و من الأدلة اللفظیة لا العقلیّة .

ثم إنهم قد عرّفوا « المفهوم » بتعاریف و أشکلوا علیها طرداً و عکساً ، و اعتذر صاحب ( الکفایة ) - کما هو دأبه فی نظائره - بأنها تعاریف لفظیّة و لیست حقیقیّة ، فلا وجه للإشکال و القیل و القال ...

و کان التعریف المشهور بین القدماء : أن المفهوم ما دلَّ علیه اللّفظ لا فی محلّ النطق ، فی مقابل المنطوق و هو : ما دلّ علیه اللّفظ فی محلّ النطق ... و یفید هذا التعریف أنّ المفهوم - کالمنطوق - من المدالیل اللّفظیة . ثم فسّروا ذلک بقولهم : إن الحکم فی طرف المفهوم لغیر المذکور ، و فی طرف المنطوق مذکور ...

لکنّ ظاهر تعریف القدماء کونه أعم من مفهوم اللفظ الإفرادی و المفاهیم

ص:167

الترکیبیّة ، و قد ذکرنا أنّ المفهوم مدلول الجملة الترکیبیّة فقط .

فظهر أن تعریف القدماء یشتمل علی نقاط قوةٍ و ضعف .

و جاء صاحب ( الکفایة ) بتعریفٍ مع النظر إلی التعریف المذکور ، فقال ما ملخصه :

إن المفهوم عبارة عن الحکم الإنشائی أو الإخباری المستتبع لخصوصیةٍ هی مدلول جملةٍ ، أعم من أن یکون المفهوم موافقاً لمدلولها أو مخالفاً ، فمثال الحکم الإنشائی قولک : إن جاءک زید فأکرمه ، و الأخباری : إن جئتنی اکرمک .

و مثال مفهوم الموافقة قول اللّٰه عزّ و جلّ «فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍ » (1)و المخالفة مثل : إن لم یجئک زید فلا یجب إکرامه .

( قال ) : فالمفهوم عبارة عن الحکم غیر المذکور لا الحکم لغیر المذکور .

ثم ترک رحمه اللّٰه ما لا فائدة له من البحوث فی هذا المقام .

و لنوضّح کلامه بشیء من التفصیل :

لا یخفی أنّ الملازمة ثبوتاً بین شیئین تدور مدار الوجود و العدم ، فقد تکون و قد لا تکون ، إلّا أنها فی مقام الإثبات تنقسم إلی أقسام .

فمنها : ما لا یکفی تصوّر الشیئین و النسبة الموجودة بینهما لإثبات الملازمة ، کما یقع کثیراً فی المناقشات العلمیة بین العلماء ، إذ یطرحون کلاماً و یقولون إن لازم هذا الکلام کذا ، فهذا یفید وجود تلک الملازمة فی الواقع غیر أنها خافیة فی مقام الإثبات ، غفل عنها صاحب الکلام و التفت إلیها المستشکل ...

و هذه الملازمة تسمّی اصطلاحاً باللزوم غیر البیّن .

و منها : ما لیس بهذا الحدّ من الخفاء ، إلّا أنّه یُحتاج إلی تصوّر الموضوع

ص:168


1- 1) سورة الإسراء : الآیة 23 .

و المحمول و النسبة ، فإذا تمّ تصوّر هذه الامور ثبتت الملازمة ، و تسمی باللزوم البیّن بالمعنی الأعم .

و منها : ما یکون فیه نفس تصوّر الملزوم کافیاً لإدراک الملازمة ، و هذا هو اللّزوم بالمعنی الأخص .

مثال الأول هو : إن من یقول بالملازمة بین الأمر بالشیء و النهی عن الضدّ ، یحتاج إلی الاستعانة بمقدّمةٍ خارجیة لإثباتها ، لکونها غیر بیّنة لا بالمعنی الأعمّ و لا الأخص ... و جمیع المباحث الاستلزامیة الاصولیة کلّها من هذا القبیل ، کالملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها و هکذا .

و مثال القسم الثانی هو : استنباط أقلّ الحمل و هو ستة أشهر من الآیتین :

« وَالْوَالِدَات یُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَینِ کامِلَینِ » (1)و « وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شهْراً » (2)، فمن من تصوّرهما و تصوّر النسبة بینهما ینتج ذلک بلا حاجةٍ إلی دلیل خارجی .

و مثال القسم الثالث : تصوّر الشمس ، فإنّه یستلزم تصوّر اللّازم و هو وجود النهار .

فأفاد قوله رحمه اللّٰه : المفهوم عبارة عن حکم إنشائی أو إخباری یستتبع ...

عدم دخول القسم الثالث فی البحث ، لأن بحثنا فی مفاهیم الجمل ، و هو ما أشار إلیه بکلمة « حکم » و لیس فی المفاهیم الأفرادیّة ...

و الحاصل إنه نبّه علی إشکالین فی تعریف القدماء : أحدهما : شموله للمفاهیم الأفرادیة ، و الآخر قولهم : إن المفهوم حکم لغیر المذکور ، فهذا غیر

ص:169


1- 1) سورة البقرة : الآیة 233 .
2- 2) سورة الأحقاف: الآیة 15.

صحیح بل الصحیح إنه حکم غیر مذکور .

فهذا ما اقتضی ذکره ، و لا نتعرّض لکلمات المحقّقین ، و من شاء الاطّلاع علیها فلیراجع .

الثانیة ( هل تدخل دلالة الإیماء و الإشارة ... فی البحث ؟ )

إنه قد ظهر ممّا تقدّم أنّ المفهوم مدلولٌ للّفظ لکنْ بالدلالة الالتزامیة باللّزوم البیّن بالمعنی الأخص ، فما هو حکم دلالة التنبیه و الإشارة و الاقتضاء ؟

و بیان ذلک هو : إن المدلول تارةً مقصود للمتکلّم و اخری غیر مقصود ، و الأوّل تارةً : یکون الصّدق أو الصحة العقلیة أو الشرعیّة متوقفاً علیه - أی علی المدلول - و اخری : هو غیر متوقّف علیه . فإن لم یکن المدلول مقصوداً للمتکلّم سمّیت الدلالة ب« دلالة الإشارة » و من ذلک : دلالة الآیتین علی أقلّ الحمل علی ما تقدّم ، و هذه الدلالة موجودة و إنْ لم تکن مقصودةً .

و إن کان مقصوداً ، فقد یکون صدق الکلام موقوفاً علیه عقلاً ، کما فی دلالة حدیث الرفع ، حیث توقّف صدقه علی أنْ یکون المرفوع هو « المؤاخذة » . و قد یکون صحّته عقلاً موقوفةً علیه کما فی «وَسْئَلِ الْقَرْیَةَ » (1)فلولا تقدیر کلمة « الأهل » لم یصح الکلام عقلاً ، و قد یکون صحّته شرعاً موقوفةً علیه کما فی قولک : أعتق عبدک عنّی ، فإن صحّته تتوقف علی أن یملّکک العبد ثم یعتقه وکالةً عنک ، إذ لا عتق شرعاً إلا فی ملک . و تسمی هذه الأقسام الثلاثة ب« دلالة الاقتضاء » .

و إنْ کان مقصوداً و لکن لا دلالة للصحّة أو الصّدق علیه أصلاً ، فهی « دلالة الإیماء و التنبیه » کما فی الحدیث : أنه قال رجل لرسول اللّٰه : « هلکت و أهلکت یا

ص:170


1- 1) سورة یوسف : الآیة 82 .

رسول اللّٰه » فقال : « کفّر » (1) . فإن کلامه صلّی اللّٰه علیه و آله یدلُّ علی معناه المقصود منه لاقترانه بکلام الرجل .

فوقع الکلام بین العلماء فی أنّ هذه الأقسام من الدلالات اللّفظیّة داخلة فی المنطوق أو المفهوم أو خارجة من کلیهما ، فعن المیرزا القمی و جماعة أنها داخلة فی الدلالة المنطوقیة غیر الصریحة ، و قال المتأخرون : بل هی من الدلالات السّیاقیّة ، لا منطوقیة و لا مفهومیّة فهی لیست لفظیة ... .

و قد وافق الأُستاذ المتأخرین ، لأن هذه الدلالات لیست من المفهوم ، لعدم کون اللّزوم بیّناً بالمعنی الأخص ، و لیست فی محلّ النطق حتی تکون منطوقیّة ، علی أنّها تتوقف فی بعضها علی مقدّمة خارجیّة کما فی مثال العتق ، إذ لا بدّ من تصحیحه علی ما تقدم ، صوناً لکلام الحکیم عن اللغویة .

و أضاف فی الدورة اللّاحقة : بأنّ بعض الأقسام منها غیر محتاجٍ إلی مقدّمة خارجیّة حتی یکون من اللزوم غیر البیّن ، بل هو من اللزوم البین بالمعنی الأعم ، کما فی قضیة الآیتین و دلالتهما علی أقلّ الحمل ، و کما فی الأمر بالکفارة فی الحدیث المذکور . و بعضها محتاج کما فی مثال العتق ، فهو من اللّزوم غیر البیّن .

فما فی کلام السید الخوئی (2) من أن کلّها من اللّزوم غیر البیّن مخدوش .

الثالثة ( هل المسألة اصولیّة ؟ )

و هل البحث عن المفاهیم من المسائل الاصولیّة أو لا ؟ و علی الأوّل ، فهل هو مسألة لفظیّة أو عقلیّة ؟

لقد تقدّم أنّ البحث فی المفاهیم إنّما هو عن أصل ثبوتها و لیس عن

ص:171


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 46 ، الباب 8 من أبواب ما یمسک عنه الصائم ، الرقم : 5 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 195 - 196 .

حجّیتها . و بعبارة اخری : إنه بحثٌ عن صغری حجیة الظواهر ، فإنْ کانت المسألة الاصولیة ما تقع نتیجتها فی طریق استنباط الحکم الشرعی و إنْ احتاج لذلک إلی ضمّ مقدمةٍ - کما هو المختار - فالمسألة اصولیة ، و أمّا علی القول بأنّها ما یقع کذلک بلا ضمّ مقدمةٍ ، أشکل دخول البحث فی المسائل الاصولیة ... و لذا اضطر بعض الأکابر (1) لأنْ یقول : إن البحث الصغروی ، إن کان من صغریات کبری ثابتة لا بحث فیها ، فالمسألة اصولیة کما فی البحث عن صغری حجیّة الظهور ، فهو بحث اصولی لعدم الاختلاف فی کبری حجیّة الظواهر ، و ما نحن فیه من هذا القبیل .

و أشکل الأُستاذ : بأنّ حجیّة الظواهر أیضاً بحاجةٍ إلی إثبات ، إذ لیست کحجیّة القطع فی الثبوت ... و لذا یستدل لحجیّة الظواهر بالسیرة العقلائیة ، لکنّ تمامیّتها یتوقف علی عدم الردع من الشارع .

و علی الجملة ، فالحق عندنا کونها مسألة اصولیّة ... .

و هی - و إن کان فیها جهة عقلیة - مسألة لفظیّة ، لکون المفهوم مدلولاً للجملة بالدلالة الالتزامیة کما تقدّم .

ص:172


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 197 - 198 .

مفهوم الشّرط

اشارة

إنّ منطوق الجملة الشرطیة یفید ثبوت شیء عند ثبوت شیء آخر ، فیبحث عن أنه هل لها - علاوةً علی ذلک - دلالة علی انتفاء الشیء عند انتفاء ذلک الشیء الآخر أو لا ؟

إن قولک : « إن جاءک زید فأکرمه » ظاهر فی ثبوت الإکرام عند ثبوت المجیء ، فهل یفید عدم الإکرام عند عدم المجیء کذلک ؟ إن کان یفید هذا المعنی أیضاً فهو ینفی الإکرام عند عدم المجیء مطلقاً ، أی: سواء أحسن إلیک أو لا ؟ سواء فعل کذا أو لا ؟ سواء کان کذا أو لا ؟ ، فإن وجوب إکرامه ینتفی علی کلّ تقدیر ، و لذا لو قلت بعد ذلک مثلاً : إن أحسن إلیک فأکرمه ، وقع التعارض بین هذا المنطوق و إطلاق ذاک المفهوم ، فإن کان بینهما عموم و خصوص مطلق ، قیّد الإطلاق ، و إنْ کان من وجه ، رجع إلی مقتضی القاعدة فی صورة وحدة الجزاء مع تعدّد الشرط ، فیجمع بینهما بالحمل علی « أو » أو « الواو » علی ما سیأتی بالتفصیل .

فظهر أنّ للقول بوجود المفهوم للجملة الشرطیة آثاراً فقهیة و اصولیة .

ثم إنّ ل« الشرط » إطلاقات مختلفة ، فهو فی اللغة عبارة عن الربط بین الشیئین ، و هذا المعنی موجود فی جمیع موارد استعمال « الشرط » . و فی المعقول عبارة عن مکملیّة فاعلیة الفاعل أو قابلیة القابل ، و فی الفقه ینطبق علی ما یلزم من عدمه العدم و لا یلزم من وجوده الوجود ، کما فی قولهم : الوضوء شرط للصّلاة .

ص:173

و فی الاصول - و فی الفقه أیضاً - هو الالتزام فی ضمن الالتزام ، أعم من أن یکون الالتزام بنحو الفعل أو بنحو النتیجة ، و هل یصدق « الشرط » علی الالتزامات الابتدائیة ؟ فیه خلاف ، قال به جماعة و استدّلوا بالحدیث : « المؤمنون عند شروطهم » (1) .

و الشرط فی بحث مفهوم الشرط عبارة عن « ما عُلّق علیه شیء آخر » کذا قیل ، لکنْ فیه : أنّ أخذ عنوان « التعلیق » قبل إثبات دلالة الشرط علیه ، غیر صحیح ... فالأصح أن یقال : ما یقع فی القضیة مقدّماً و یتلوه التالی .

شروط ثبوت مفهوم الشرط :
اشارة

هذا ، و یعتبر فی ثبوت مفهوم الشرط ثلاثة امور ، فلا یثبت إنْ فقد واحد منها :

الأول : أن تکون القضیة ظاهرةً فی ترتّب ما بعد « الفاء » علی ما قبلها بنحو التعلیق ، لا أن تکون مقارنة اتّفاقیة مثل : جاء زید فجاء عمرو .

الثانیة : أن یکون الترتب لزومیّاً ، و لو لا الملازمة بین الشرط و الجزاء فلا مفهوم ، کما لو ترتّب مجیء زید علی مجیء عمرو فی الزمان .

الثالثة : أن یکون المقدّم علّةً منحصرةً للتالی ، و إلّا فلا انتفاء عند الانتفاء .

بیان الشرط الأول ( الترتب بین المقدّم و التالی )

فإن النسبة اللزومیة بین الشرط و الجزاء هی بنحو الترتب ، بمعنی أنّ المقدّم هو العلّة للتالی ، و لو کان المقدّم هو المعلول و التالی هو العلّة ، لم یستلزم الانتفاء عند الانتفاء .

و قد استدلّ لذلک بوجهین :

ص:174


1- 1) وسائل الشیعة 21 / 276 ، الباب 20 من أبواب المهور ، رقم : 4 .

أحدهما : إن الجملة الشرطیة دالّة علی الترتب و المعلولیّة بالوضع .

و فیه : إنه لا دلیل علی هذه الدعوی ، إذ لا شیء من علائم الحقیقة فی هذا المقام ، بل إن صحّة الحمل فی مثل : إذا کان النهار موجوداً فالشمس طالعة ، تشهد بعدم وضع الجملة الشرطیة للترتب .

الوجه الثانی : ما أفاده المیرزا (1) و حاصله : إنّ مقتضی التطابق بین مقامی الثبوت و الإثبات هو الترتب بین التالی و المقدّم ، إذ لا ریب فی تقدم العلّة علی المعلول فی مقام الثبوت ، و مقتضی الأصل الأولی أن یکون کلام المتکلّم غیر الغافل ملقیاً ما هو المتحقّق خارجاً إلی ذهن السامع ، بأنْ یکون کلامه مطابقاً للنظم الواقعی ، و کونه علی خلافه خلاف الأصل .

و علی الجملة ، فإنْ تقدیم المتکلّم المجیء علی الإکرام فی مقام الإثبات یکشف عن تقدّمه علیه فی مقام الثبوت ، و هذا هو الترتب و الدلالة علیه فی الجملة الشرطیة .

و بهذا التقریب یقوی هذا الاستدلال و یظهر النظر فیما قیل (2) من : أنه یتوقف علی أنْ یکون المتکلّم فی مقام بیان علیّة المجیء للإکرام ، و لا یکون فی مقام مجرّد الإخبار عن وجوب الإکرام فی فرض مجیء زید ، أو مجرّد إنشاء هذا المعنی .

وجه النظر : إن إلقاء الکلام من المتکلّم الملتفت بهذا الشکل الخاص یکشف عن إرادته إفادة الترتب ، و إلّا لجاء بالکلام علی وضعٍ آخر . و توضیحه :

إنه لا ریب فی إفادة الجملة الشرطیة للترتب ، و إنما الکلام فی إنه مختصّ بالترتّب

ص:175


1- 1) أجود التقریرات 2 / 249 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 202 - 203 .

فی الواقع أو أنه أعمّ من الواقع و الاعتبار ؟ و بعبارة اخری : إنّ الکلام فی سعة الترتّب و ضیقه ، یقول المحقق الاصفهانی : إن الشرطیّة تفید الترتّب ، أمّا أن یکون فی الخارج کذلک فلا ، بل یمکن أن یکون فی اعتبار العقل ، بأن یعتبر الشیء مقدّماً و الآخر متأخّراً ، کما فی : إن کان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق ، فهو ترتب عقلی و إن لم یکن له واقعیّة فی الخارج .

فإنْ تمّ کفایة مطلق الترتب بطل کلام المیرزا .

لکنْ إن کان مراد المیرزا : إن الأصل فی القضایا الملقاة هو إفادة الواقعیّات لا صِرف الاعتبارات العقلیة التی لا واقعیة لها ، فالمتکلّم الحکیم یرید إحضار الواقع إلی ذهن السامع بکلامه الذی یلقیه ، فلمّا کان مترتّباً دلّ علی کون الواقع مترتباً کذلک .

فإیراد بعض أعلام تلامذته غیر وارد علیه .

بیان الشرط الثانی ( الملازمة بین المقدّم و التالی )
اشارة

إنه یعتبر فی ثبوت المفهوم للجملة أنْ تکون النسبة لزومیّة لا أنْ تکون هناک مقارنة صِرفة عقلاً أو خارجاً . و هو واضح لا یحتاج إلی بیان عند المحققین کالخراسانی و المیرزا و أتباعهما ، لدلالة الجملة الشرطیّة علی ذلک بالوضع ، و یشهد به التبادر و الانسباق فی مثل : إن جاءک زید فأکرمه . و مع التنزّل عن الظهور الوضعی فالظهور العرفی ثابت .

رأی المحقق الأصفهانی

و خالف المحقق الأصفهانی (1) و نفی وجود الدلالة فی القضیّة الشرطیّة علی النسبة اللزومیّة ، لما تقرّر فی المنطق من انقسامها إلی اللّزومیة و الاتفاقیّة ، فهی قد

ص:176


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 413 - 414 .

تخلو عن اللّزوم و الارتباط کما فی مثل : إن کان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق ، و صدق الشرط علی مثله حقیقی لا مجازی ، و الشاهد علی کونه حقیقةً صحّة التقسیم المذکور عند المناطقة ، فإنْ صحّة التقسیم أمارة الحقیقة کما فی ( کتاب الطهارة ) من الفقه إذ قالوا بعدم انقسام الماء إلی المطلق و المضاف ، و إلّا لکان المضاف مصداقاً حقیقیّاً للماء .

هذا ، و قد برهن المحقق الأصفهانی اعتراضه علی القوم : بأنّ الدلالة علی « الشرط » لا تکون بلا دال ، أمّا المرکّب فلیس إلّا وضع المفردات ، و أمّا المفردات فلا یدلّ شیء منها علی اللّزوم ، و تبقی « أداة الشرط » و« الفاء » . أما الأوّل فلیس مدلوله إلّا کون مدخوله مفروضاً مقدّر الوجود ، فمفاد « إن » الشرطیّة فرض الوجود ل« مجیء زید » . و أما « الفاء » فلا تدلّ إلّا علی الترتیب و الترتّب ، لکنّ کون ذلک بنحو اللّزوم أو الاتفاق ؟ فلا دلالة لها . و یشهد بذلک وجودها فی القضایا الاتفاقیة کذلک .

فإذا لم تکن المفردات دالّةً علی اللّزوم ، و المرکّب لیس إلّا المفردات ، فمن أین الدلالة ؟

نقد الأُستاذ

و قد انتقد الشیخ الأُستاذ هذا الکلام بوجوه :

الأول : إنه قد صرّح بدلالة حرف الشرط علی التعلیق و أن الفاء تفید الترتّب بین الشرط و الجزاء ، و من الواضح أن « الترتّب » هو کون الشیء بعد الشیء و« التعلّق » هو الارتباط بین الشیئین ... و الجماعة لا یقصدون إلّا هذا .

و الثانی : صحیح أن المناطقة یقسّمون الشرطیة إلی اللزومیّة و الاتفاقیّة و یمثّلون للقسم الثانی بمثل : إن کان الإنسان ناطقاً کان الحمار ناهقاً ، و لکنْ هل

ص:177

هذا التقسیم حقیقی أو مجازی ؟

و الثالث : إن قولنا : « أکرم » مطلق منجّز ، فإذا دخلت علیه أداة الشرط أصبح معلّقاً و کان وجوب الإکرام منوطاً بالمجیء ، و هذه الإناطة و التعلیق هی مفهوم أداة الشرط ، لا مجرّد الفرض و التقدیر کما هو ظاهر کلام هذا المحقق .

و الرابع : إن الفاء تدلّ علی الترتیب ، لکنّ دلالة الجملة الشرطیة علی التعلّق و الإناطة موجودة حتی مع عدم الفاء ؛ فالذی یفید الترتیب وقوع الجزاء عقب الشرط سواء وجدت الفاء أو لا .

و تلخص :

إن الدالّ علی اللّزوم هو أداة الشرط .

بیان الشرط الثالث ( کون الترتّب بنحو العلیّة المنحصرة )
اشارة

و ذلک إنه بعد ثبوت إفادة الجملة للزوم و للترتّب ، یشترط أن تکون العلیّة منحصرةً و إلّا فلا مفهوم للجملة .

و قد استدلّ للعلیّة المنحصرة بوجوهٍ خمسة :

1 - الوضع

دعوی دلالة الجملة الشرطیّة علی انحصار العلیّة بالوضع .

و فیها : إنها دعوی بلا دلیل ، بل الدلیل علی العکس ، فإنّه فی موارد تعدّد الشرط و وحدة الجزاء تستعمل القضیّة الشرطیة بلا أیّة عنایة ، فلو کانت موضوعةً للعلیّة المنحصرة لکان استعمالاً مجازیّاً .

2 - الإطلاق

طریق الکفایة

و قد بیّنه بوجوه : أحدها من باب الانصراف و الباقی یبتنی علی مقدّمات الحکمة .

ص:178

(الإطلاق الأول) هو : الإطلاق الانصرافی ، و وجه الانصراف هو : إن لفظ الشرط دالّ علی العلیّة ، و العلّة تنقسم إلی الکاملة و الأکمل ، فإنْ کانت منحصرةً کانت الأکمل ، و اللّفظ ینصرف إلی الفرد الأکمل .

(و فیه) بطلان الصغری و الکبری . أمّا الکبری ، فإن اللفظ الموضوع للمعنی التشکیکی موضوع لنفس الحقیقة لا للفرد الأکمل منها أو غیره ، و إلّا لزم أنْ یکون إطلاق « العالم » علی غیر « الأعلم » مجازاً ، و هذا باطل . و أما الصغری ، فلأنه لیس بین العلّة المنحصرة و غیر المنحصرة اختلاف فی المرتبة ، إذ العلیّة حیثیّة وجودها فی کلیهما علی حدٍّ سواء .

(الإطلاق الثانی) ما ذکره بعنوان « إن قلت » ، و محصّله : التمسّک لإثبات انحصار العلّة بالإطلاق کما یتمسّک به لإثبات الوجوب فی النفسیّة فی مقابل الغیریّة و نحو ذلک . فأجاب : بالفرق بین المقامین ، لأن معنی الوجوب النفسی هو الوجوب علی کلّ تقدیر ، فی قبال الغیری الذی هو الوجوب علی بعض التقادیر ، فکان مقتضی الإطلاق عند التردّد هو النفسیّة ، بخلاف ما نحن فیه ، فإنه مع التردّد بین الانحصار و عدمه لا إطلاق یقتضی الانحصاریّة .

توضیح الاستدلال :

إنه تارةً : تکون الحصّتان للطبیعة الواحدة وجودیتین ، کالرقبة التی منها الکافرة و منها المؤمنة ، و اخری : تکون احداهما وجودیة و الاخری عدمیّة .

و الوجوب من القسم الثانی ، فإن الوجوب النفسی مقیّد بقید عدمی و هو کونه « لا للغیر » و الغیری مقید بقیدٍ وجودی و هو کونه « للغیر » .

و الانحصار و عدمه حصّتان للعلّة ، و هما مثل النفسی و الغیری بالنسبة إلی الوجوب ، فالمنحصرة یعنی التی لا معها شیء فی المؤثریة و غیر المنحصرة هی

ص:179

التی معها شیء ، فکما یتمسّک بالإطلاق لإثبات النفسیة ، کذلک یتمسّک به لإثبات الانحصار ... لأن الجهة الوجودیة هی المحتاجة إلی بیان زائد ، و أمّا الجهة العدمیّة فهی مقتضی أصالة الإطلاق ، فلا تحتاج العلیّة غیر المنحصرة إلی بیان و أمّا المنحصرة فتحتاج ، و إذ لا بیان ، فالأصل یفید الانحصار کما فی الوجوب النفسی .

اُجیب بوجهین :

أحدهما :

إنّه لا موضوع فی المقام لجریان مقدّمات الحکمة لإفادة الإطلاق ، لأنّها إنما تجری حیث یمکن الإطلاق و التقیید ، و المقصود هنا هو إجراء المقدّمات فی أداة الشرط حتی یتم الإطلاق ، لکنّ معنی أداة الشرط معنیً حرفی ، و المعنی الحرفی غیر قابل للإطلاق و التقیید . أمّا أوّلاً : فلأنّه یعتبر فیما یراد إجراء الإطلاق فیه أنْ لا یکون جزئیاً ، لأن الجزئی غیر قابل للتقیید فهو غیر قابل للإطلاق ، و المعنی الحرفی جزئی . و أمّا ثانیاً : فلأنه یعتبر فیما یراد إجراء الإطلاق فیه أن یکون ممّا یلحظ بالاستقلال حتی یصلح للتوسعة و التضییق ، کما فی « الرقبة » فتلحظ بشرط و لا بشرط ، و المعنی الحرفی لا یلحظ بالنظر الاستقلالی و إنّما دائماً ما به ینظر .

و تلخّص : أن لا موضوع للإطلاق و التقیید هنا حتی یتمسّک بمقدّمات الحکمة لإثبات الإطلاق .

(و فیه) :

هذا هو الجواب الأوّل ، لکنْ یرد علیه النقض : بأنه إذا کان المعنی الحرفی غیر قابل للتقیید فهو غیر قابل للإطلاق ، فإن مدالیل الهیئات أیضاً - کهیئة افعل الدالّة علی الوجوب - معانٍ حرفیة ، فکیف تمسّکتم بالإطلاق لإثبات کون الوجوب نفسیّاً ؟ و کیف تمسّکتم بإطلاق هیئة افعل للدلالة علی الوجوب

ص:180

لا الندب بناءً علی وضعها للجامع ؟ و کیف تمسّکتم بالإطلاق لدلالة الهیئة علی الوجوب التعیینیّ عند دوران الأمر بینه و بین التخییری ، و العینی عند دوران الأمر بینه و بین الکفائی ؟

و الجواب الحلّی هو : أمّا علی مسلک التحقیق ، فالمعنی الحرفی قابلٌ للإطلاق و التقیید ، و أمّا علی مسلک صاحب ( الکفایة ) من عدم جریانهما فیه و إلّا لانقلب إلی المعنی الاسمی ، فإنّه إنما لا یجریان فیه بالذات ، لکنّ المعنی الحرفی من شئون المعنی الاسمی ، فهو فی وجوده تابع له ، فإذا جری الإطلاق و التقیید فی الاسم جریا فی الحرف التابع له .

الجواب الثانی

بطلان القیاس و هو الصحیح ، لأنّ الوجوب النفسی و الغیری سنخان من الوجوب فی عالم الثبوت ، فأحدهما مطلق و الآخر مشروط ، و لکلٍّ منهما أثره الخاصّ به ، و الوجوب قدر مشترک بینهما ، و إذا کانا حصّتین من طبیعة الوجوب فمقتضی القاعدة احتیاج کلّ منهما إلی البیان فی مقام الإثبات لکونهما وجودیین ، إلا أن یکون فی أحدهما خصوصیّة لا یحتاج بسببها إلی البیان .

و أمّا إذا کانت احدی الحصّتین وجودیةً و الاخری عدمیةً ، فإنّ العدمی ، لا یحتاج إلی البیان بخلاف الوجودی ، و هذا مورد التمسّک بالإطلاق .

و علی الجملة ، فإن المقیس علیه حصّتان من الوجوب و لهما أثرهما .

لکنّ الأمر فی المقیس لیس کذلک ، إذ الانحصار و عدمه فی العلیّة لیس سنخین من العلیّة ، لأن معناها تأثیر شیء فی شیء ، و من الواضح عدم الفرق فی التأثیر بین العلة المنحصرة و غیر المنحصرة ، بخلاف انقسامها إلی التامّة و الناقصة ، فهناک فرق فی التأثیر کما لا یخفی ... فظهر أن قیاس ما نحن فیه علی الوجوب

ص:181

و انقسامه إلی النفسی و الغیری مع الفارق .

و الحاصل : إن الکلام فی إطلاق الشرطیة ، و لیس لها حصّتان حتی یحمل الکلام علی صورة الانحصار مع عدم البیان . و هذا التحقیق من المحقق الأصفهانی .

(الإطلاق الثالث) و هو عبارة عن إطلاق الشرط . و لا یخفی الفرق بینه و بین ما تقدم ، فقد تمسّک هناک بإطلاق العلّة ، ببیان أن اللفظ الدالّ علی العلیة و اللزوم کاف لإفادة الانحصار ، لکون العلّة المنحصرة هی الفرد الأکمل .

و المقصود هنا هو إطلاق مجیء زید ، أی إطلاق الشرط النحوی ، فهل یقتضی هذا الإطلاق انحصارها ؟

تقریبه : إنّ المتکلّم لمّا جاء بالشرط و هو المجیء بعد الأداة ، أمکنه تقییده بقیدٍ لاحق أو سابقٍ أو مقارن ، لکنه جاء به مطلقاً عن هذه الانقسامات ، فدلّ علی ترتّب الجزاء و هو الإکرام علی الشرط بلا تقیّد بشیء ، فکان المجیء بوحده هو الدخیل فی الجزاء و لا علّة له سواه .

(و فیه) :

و قد اشکل علی هذا الاستدلال بوجوه :

أحدها : إنه یبتنی علی أن تکون للقضیّة الشّرطیة - علاوةً علی اللّزوم - دلالة علی ترتّب الجزاء علی الشرط و کونه علةً له ، و عند ذلک یبحث عن کونه علةً له مطلقاً أو علی بعض التقادیر ، لکنّ أصل العلیّة محلّ بحثٍ و کلام ، و قد تقدّم صحّة أنْ یقال : إن کان النهار موجوداً فالشمس طالعة ... فأصل الدلالة علی العلیة غیر ثابت ، فلا تصل النوبة إلی البحث عن الانحصار .

و فیه : إنه إشکالٌ مبنائی ، إذ المفروض هو المفروغیّة عن ذاک البحث .

ص:182

الثانی : إن القضیّة الشرطیة فی مقام بیان أصل تأثیر الشرط فی الجزاء لا بیان فعلیّته و وجود الجزاء بالفعل عند وجود الشرط حتی یقال : لمّا وجد الشرط یوجد الجزاء ، سواء وجد شیء آخر أو لم یوجد . قاله المحققان الأصفهانی و المیرزا .

و فیه : إنه بعد الفراغ عن المقدّمتین ، و هما : دلالة القضیة الشرطیة علی اللّزوم ، و دلالتها علی العلیّة ، تکون الدلالة علی فعلیّة وجود الجزاء عند وجود الشّرط ضروریّةً، و الحمل علی الشأنیة هو المحتاج إلی القرینة ، و کذلک کلّ کلامٍ ظاهر فی معناه ، فإن المراد منه هو الفعلیة ، للتبادر ، و حمله علی الشأنیة خلاف الظاهر المتبادر منه . نعم ، یتم الإشکال هنا لو نوقش فی المقدّمتین .

و الثالث : إن مفاد القضیّة الشرطیّة هو استناد المعلول إلی العلّة و الشرط ، و أمّا دلالتها علی کون هذا الشرط کلّ العلّة فمن أین ؟

و بعبارةٍ اخری : إن کان المتکلّم فی مقام بیان تمام ما هو المؤثّر فی المعلول فهو ، و إلّا فإن القضیّة الشرطیة لا تفید أکثر من أنّ المجیء مؤثر فعلاً فی وجوب الإکرام ... و لا تنفی مؤثّریّة غیره فیه .

تقریب الإطلاق ببیان المیرزا

و بما أنّ المحقق النائینی (1) قد ذکر هذا الإطلاق للشرط ببیانٍ آخر ، فإنّا نطرحه ثم نوضّح إشکال ( الکفایة ) لنری هل یرد علیه أو لا .

یقول المیرزا ما معناه : إن القضیّة الشرطیة ظاهرة فی التقیید بلا کلام ، فإنّ وجوب الإکرام مقیّد و مشروط بالمجیء و لیس بمطلقٍ بالنسبة إلیه ، لکنّ التقیید تارةً : تکوینی کما فی : إن رزقت ولداً فاختنه ، حیث أن الختان مقیّد بوجود الولد تکویناً ، و اخری : مولوی کما فی تقیّد الصّلاة بدخول الوقت مثلاً ، حیث یکون

ص:183


1- 1) أجود التقریرات 2 / 251 .

باعتبار المولی ... إذن ، فی القضیّة الشرطیّة مثل : إن جاءک زید فأکرمه ، تقیّد اعتباری من المولی ، لکنّ تقیّد الجزاء بالشرط قد یکون بالخصوصیّة المعتبرة فی الشرط ، فتکون العلّة منحصرةً بالمجیء ، و قد یکون بالجامع الانتزاعی و هو عنوان أحدهما المنتزع منه العطف ب« أو » کأنْ یقول : إن جاءک زید أو أکرم عمراً وجب علیک إکرامه ، فتکون العلّة غیر منحصرة بالمجیء .

هذا کلّه ثبوتاً .

إلّا أنّ المتکلّم فی مقام الإثبات قد قیّد اعتباره المولویّ بخصوصیّة المجیء ، و لم یقل المجیء أو إکرام عمرٍو مثلاً ، و مقتضی ذلک مع کونه فی مقام بیان تمام مراده ، انحصار العلّة لوجوب الإکرام بالمجیء ، و إلّا لزم الاختلاف بین مقامی الثبوت و الإثبات ، و هو خلاف الأصل .

هل یرد إشکال الکفایة علی هذا البیان ؟

لکنّ المهمّ فی المقام هو لحاظ مسلک صاحب ( الکفایة ) فی الواجب التخییری ، فإنه یذهب إلی أنه یختلف عن التعیینی سنخاً ، و برهانه علی ذلک بإیجازٍ هو : إن الأحکام تابعة للأغراض ، ففی موارد التخییر العقلی تتحقّق التبعیة بجعل الحکم علی الجامع بین الأفراد ، أمّا فی موارد التخییر الشرعی فلا یوجد الجامع ، و حینئذٍ یکون کلٌّ منها بخصوصه محصّلاً للغرض ، نعم ، لو ترک المجموع استحق العقاب ، و بهذا یظهر أن حقیقة الوجوب التخییری هو الوجوب المشوب بجواز الترک إلی بدلٍ ، بخلاف التعیینی فإنه لا یجوز ترکه لا مطلقاً و لا إلی بدل ، فکان الغرض من الوجوب التعیینی مختلفاً عن التخییری ، و الحکم - بتبع الغرض - یختلف فیهما .

لکنّ العلیّة هی مؤثّریة الشیء فی الشیء الآخر ، و هذا المعنی موجود فی

ص:184

العلّة المنحصرة و غیر المنحصرة علی السواء ، فهی سنخ واحدٍ فی کلا الموردین .

و نتیجة ذلک : إنه فی مورد الواجب التخییری لا بدّ من البیان الزائد بکلمة « أو » فی مقام الإثبات ، و إلّا یلزم الإغراء بالجهل ، و أمّا فی مورد العلل غیر المنحصرة لا یحصل الإغراء بالجهل مع عدم البیان ، لکون الغرض واحداً غیر متعدّد .

فالإطلاق بالتقریب المذکور ، لا یتمّ علی مسلک المحقق الخراسانی ... لکنّه إشکال مبنائی .

الإشکال الوارد علی المیرزا

ثمّ إن الأُستاذ بعد أن دفع الإشکالات أفاد :

إن هذا الإطلاق متحقّق فی کلّ قیدٍ لأیّ موضوع إلّا فی اللّقب ، فإذاً ، یکون جاریاً فی الوصف مثل : أکرم العالم العادل ، فإنه مطلق حیث إنه لم یقل : أکرم العالم العادل أو الهاشمی ، و الحال أنکم لا تقولون بذلک فی الوصف . و لا یخفی أنّه إشکال نقضی فحسب .

طریق المحقق العراقی

و سلک المحقق العراقی مسلکاً آخر لإثبات المفهوم فقال ما ملخّصه (1) :

إن فی القضیة الحملیّة مثل أکرم زیداً ، لا یکون الکلام دالّاً علی أزید من ترتّب الحکم بنحو القضیة المهملة ، و إلّا لجاء المتکلّم بقرینةٍ علی ذلک ، و لذا لا تکون لهذه القضیة دلالة علی انتفاء سنخ الحکم عن غیر زید ، فلا یعارضها إیجاب إکرام عمرو مثلاً ... لکنّ هذا الحکم المهمل مترتّب علی زیدٍ المطلق ، لأنه لمّا قال أکرم زیداً لم یقیّد الموضوع بقیدٍ ، فکان یجب إکرامه قاعداً أو قائماً أو

ص:185


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 479 - 480 .

جائیاً ، و علی هذا ، یکون الحکم - و هو وجوب الإکرام - مطلقاً من جهة حالات الموضوع ، لأنْ ذلک مقتضی إطلاق الموضوع ، و یشهد بالإطلاق فی طرف الموضوع أنه لو قال بعد ذلک أکرم زیداً قائماً ، لزم اجتماع المثلین ، فکان الحکم مهملاً من جهة کون القضیة حملیّةً ، و مطلقاً من جهة الإطلاق فی الموضوع کما ذکر .

إلّا أنه لما وردت أداة الشرط علی الجملة فقیل : إن جاءک زید فأکرمه ، یرتفع الإطلاق فی الموضوع الشّامل لجمیع حالاته ، و یناط ذاک المحمول المهمل فی القضیة الحملیّة مثل زید یجب إکرامه أو الإنشائیة مثل أکرم زیداً - و هو وجوب شخص الإکرام - بحالةٍ واحدة من حالاته و هو خصوص المجیء ، فلا جرم بعد ظهور الشرط فی دخل الخصوصیّة یلزمه قهراً انتفاء وجوب الإکرام عن زیدٍ عند انتفاء المجیء .

( قال ) : و لا یخفی علیک أنه علی هذا البیان ، لا یحتاج إلی إثبات المفهوم فی القضایا الشرطیّة إلی إتعاب النفس لإثبات العلیّة المنحصرة کی یقع البحث عن ذلک و یناقش فیه .

الإشکال علیه

و یتوقف الإشکال فی هذا المسلک علی ذکر مقدّمات :

الاولی : إنه کما أنّ الإهمال فی طرف موضوع القضیة محال من المتکلّم الملتفت ، کذلک فی طرف الحکم ، إلّا أن تقوم القرینة علیه ، کأن یکون فی مقام التشریع مثلاً ، و إلاّ فالأصل عدم الإهمال .

و المقدمة الثانیة : إن المحمول فی القضیة الإنشائیة تارةً : یکون من قبیل المعنی الحرفی مثل : أکرم زیداً ، و أخری : یکون من قبیل المعنی الاسمی مثل زید

ص:186

یجب إکرامه . و قد ذهب هذا المحقق إلی أنه إن کان مدلولاً حرفیّاً کان الإطلاق و التقیید فیه تابعاً للإطلاق و التقیید فی الموضوع ، لعدم صلاحیّة المعنی الحرفی لهما ، بخلاف المثال الآخر ، فإن المدلول فیه معنی اسمی و هو قابل لهما .

و المقدمة الثالثة : إنّ مذهب العراقی هو أن التشخص یحصل من الإنشاء ، و إلّا فإن المنشأ بنفسه لا شخصیّة له ... و ما ذکره هو الصحیح ، و الإشکال علیه غفلة عن مقصوده .

و بعد هذه المقدّمات : إن المتکلّم إذا کان فی مقام البیان و الإهمال خلاف الأصل کما تقدّم ، فقال : « زید یجب إکرامه » فقد رتّب الحکم - و هو الوجوب الذی هو معنی سنخی و تشخّصه بالإنشاء - علی الموضوع و أفاد الانحصار ... فلم یکن الانتفاء عند الانتفاء مختصّاً بالقضیة الشرطیة ، بل هو حاصل فی کلّ قضیّة حملیة کذلک ، و هذا باطل بالاتّفاق .

و هذا هو الإشکال نقضاً .

و أمّا حلّاً : أما بالنسبة إلی الکبری ، فإنّ نسبة الموضوع إلی الحکم نسبة العلّة إلی المعلول ، وعلیه ، فإنّ الحکم المترتّب علی الموضوع لخصوصیةٍ فیه ، یفید انحصار المحمول الخاصّ لذاک الموضوع المعیّن ، و لا یفید الانحصار بالنسبة إلی سنخ المحمول ، فقوله بکفایة ظهور خصوصیة عنوان الموضوع لنفی الغیر و أنه لسنا بحاجةٍ إلی الإطلاق ، غیر صحیح ، لأن الخصوصیّة و إن کانت ظاهرةً فی الانحصار ، لکنها تحصر العنوان الخاص فی هذا المحمول الخاص ، و انتفاء هکذا محمول بانتفاء موضوعه عقلی ، بل المقصود هو إثبات الانحصار بالنسبة إلی سنخ المحمول ، و هذا ما لا یمکن استفادته من الظهور الخاص للموضوع .

و أما بالنسبة إلی الصغری ، فقد أفاد أنّ الحکم یکون مهملاً بالنسبة إلی

ص:187

موضوعه فی القضایا الحملیة ، لکنه بالنسبة إلی حالات الموضوع مطلق ، و بالنظر إلی هذا الإطلاق یکون الحکم سنخیّاً ، ثم إذا جاء الشرط تقیّد السنخ و حصل الانحصار ... و فیه :

أوّلاً : إن هذا البیان إن تمّ فی قضیةٍ خارجیّة مثل إنْ جاءک زید فأکرمه ، فإنه لا یتم فی القضایا الشرعیة ، لأنها قضایا حقیقیة ظاهرة فی الإطلاق من جهة الأفراد و من جهة أحوال الأفراد ، فیکون الحمل فیها لسنخ الحکم لا شخصه .

و ثانیاً : إنّ الإطلاق الأحوالی للموضوع تعلیقیٌّ و لیس بتنجیزی ، و لو کان تنجیزیّاً لوقع التناقض بین ما لو قال : إن جاءک زید فأکرمه فقال بعد ذلک : و إن فعل کذا فأکرمه ، مع أنه لا تناقض ، فیظهر أنه تعلیقی ، و إذا کان کذلک ، فإن کلّ معلَّق علیه فهو مقدّم علی المعلّق ، فکان الإطلاق الأحوالی للموضوع موقوفاً علی عدم شرط آخرٍ ، فیلزم إقامة البرهان علی عدم الشرط الآخر کی یتم الحصر ، و هذا هو السرّ فی إتعاب المیرزا و غیره نفسه لإثبات الإطلاق فی مقابل « أو » و فی مقابل الشرط المتقدّم أو المتأخر ... .

طریق المحقق الأصفهانی و نقده

و أفاد المحقق الأصفهانی : أن ترتّب أیّ حکمٍ علی أیّ عنوان بخصوصیّته ، یکشف عن دخلها فی الحکم ، و إلّا لم یکن وجه لأخذها و لزم لغویّة جعلها شرطاً یترتب علیها الجزاء ... فیکون نفس ترتب الجزاء علی هذا الشرط - بنحو ترتب المعلول علی العلة - کاشفاً عن الانحصار .

و یظهر الإشکال فیه مما تقدّم ، فإنه منقوض بالأوصاف و الألقاب ، و لازمه القول بثبوت مفهوم الوصف فی مثل : أکرم زیداً العالم . و نحوه .

ص:188

طریق المحاضرات و نقده

و ذهب السید الخوئی فی ( المحاضرات ) (1) إلی عدم إمکان إثبات المفهوم للقضیة الشرطیة إلّا علی مسلکه فی بابی الإخبار و الإنشاء ، ( قال ) : لقد ذکرنا فی بحث الإنشاء و الإخبار أن الجملة الخبریة موضوعة للدلالة علی قصد المتکلّم الحکایة و الإخبار عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها عنه ، و أنّ الجملة الإنشائیة موضوعة للدلالة علی إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج .

و علی هذا ، فإن الجملة الشرطیة إذا کانت إخباریة فهی دالّة علی قصد المتکلّم الحکایة و الإخبار عن ثبوت شیء فی الواقع علی تقدیر ثبوت شیء آخر لا علی نحو الإطلاق و الإرسال بل علی تقدیر خاص ، فالنهار موجود علی تقدیر طلوع الشمس لا مطلقاً ، و لازم هذه النکتة هو الانتفاء عند انتفاء التقدیر الخاص ، و هذا هو الدلالة علی المفهوم .

و أما إذا کانت الجملة الشرطیة إنشائیةً فهی علی نوعین :

الأول : ما یتوقف الجزاء علی الشرط تکویناً مثل : إنْ رزقت ولداً فاختنه .

و الثانی : ما یتوقف علیه الجزاء اعتباراً .

أمّا الأول ، فخارج عن محلّ الکلام .

و أمّا الثانی ، مثل : إن جاءک زید فأکرمه ، فالدلالة علی المفهوم فیه تامة علی ما تقدّم ، و حاصله : إن الجملة تفید وجود اعتبار وجوب الإکرام فی خصوص حال مجیء زید و علی هذا التقدیر فقط ، فإنه قد اعتبر المولی ذلک و أبرزه بهذا اللّفظ ، فإذا انتفی المجیء انتفی وجوب الإکرام بالدلالة الالتزامیة کما تقدّم سابقاً .

و أشکل علیه الأُستاذ بالنقض فی الأوصاف ، فإنه علی مسلکه من الاعتبار

ص:189


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 211 .

و الإبراز یکون الحکم معلّقاً علی الصفة کما ذکر تماماً فی الشرط .

طریق الشیخ الأُستاذ

و شیخنا الأُستاذ - و إنْ قرّب فی الدورة السابقة الإطلاق فی مقابل « أو » - ذکر طریقاً آخر فی الدورة اللاّحقة ، و حاصله - بعد الیأس عن اللّغة - هو الرجوع إلی الارتکاز العقلائی ، فإن أهل العرف یفرّقون بین الوصف و الشرط ، و أن الشرط یفید الانحصار إلّا مع قیام القرینة علی العدم . و الشاهد علی ذلک : أنه فی حال تعدّد الشرط و وحدة الجزاء یری العرف التنافی و التعارض و یحتاج العلماء إلی بیان الجمع - کما سیأتی - ، أمّا مع تعدّد الوصف فلا یری أحدٌ التعارض أصلاً ...

فهذا یفید أن فی أداة الشرط خصوصیةً - و إن لم نتوصّل إلیها - تفترق بها عن الوصف ... و هذا المقدار من الافتراق و التفاوت کاف لإثبات المفهوم للقضیة الشرطیّة .

و یؤکّد ذلک ما جاء بتفسیر قوله تعالی حکایةً لقول ابراهیم «بَلْ فَعَلَهُ کَبیرُهُمْ » (1)، فقد ذکر المفسّرون ثمانیة وجوهٍ منها أن کلمة «فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کٰانُوا یَنْطِقُونَ » جملة معترضة ، فیکون معنی الآیة تعلیق إبراهیم علیه السلام فعل کبیرهم علی نطقهم ، فتخرج الآیة عن الظهور الأوّلی فی الکذب بدلالة «إِنْ کٰانُوا یَنْطِقُونَ » علی المفهوم ، و لو لم یکن للجملة مفهوم لبقی شبهة الکذب .

هذا ، و فی معانی الأخبار (2) روایة عن الإمام علیه السلام فیها بیان معنی الآیة علی الوجه المذکور ، ممّا یدل علی تمسّکه بمفهوم الشرط ، لکن سندها غیر تام .

ص:190


1- 1) سورة الأنبیاء : الآیة 63 .
2- 2) معانی الأخبار : 210 .

لکن فی روایة معتبرةٍ عن أبی بصیر - یعنی المرادی - قال : « سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الشاة تذبح فلا تتحرک ، و یهراق منها دم کثیر عبیط ، فقال : لا تأکل ، إنّ علیاً کان یقول : إذا رکضت الرجل أو طرفت العین فکل » (1) .

فهذه الرّوایة دلّت علی أن الإمام علیه السلام استفاد المفهوم من کلام جدّه أمیر المؤمنین ... - و الألفاظ المستعملة فی کلمات الأئمة بلا عنایةٍ ظاهرة فی معانیها - فکانت حجة لإثبات مفهوم الشرط .

و أیضاً : الروایة عن أبی أیوب و استدلال الإمام علیه السلام بالآیة «فَمَنْ تَعَجَّلَ فی یَوْمَیْنِ فَلٰا إِثْمَ عَلَیْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلٰا إِثْمَ عَلَیْهِ » (2)(3)تفید ثبوت المفهوم ، إذ لو لم تکن جملة «فَمَنْ تَعَجَّلَ » دالّة علی المفهوم - أی الإثم علی من تعجّل - لما کان حاجة إلی الجملة الثانیة «وَمَنْ تَأَخَّرَ ... » .

و کذلک الاستدلال بالروایات الاخری ، مثل « إذا کان الماء قدر کرٍّ لم ینجّسه شیء » (4) و« إذا التقی الختانان فقد وجب الغسل ... » (5) .

فالحق : ثبوت المفهوم ... و یقع الکلام فی :

أدلّة المنکرین

و عن جماعة من الاصولیین القول بعدم المفهوم للجملة الشرطیة ، أی إنه لا دلالة لها علی الانتفاء عند الانتفاء و إنما تدل علی مجرّد الإناطة ، و قد استدلّوا بوجوه :

ص:191


1- 1) وسائل الشیعة 24 / 24 ، کتاب الصید و الذباحة ، الباب 12 ، الرقم : 1 .
2- 2) سورة البقرة : الآیة 203 .
3- 3) وسائل الشیعة 14 / 275 ، کتاب الحج ، أبواب العود إلی منی ، الباب 9 ، الرقم : 4 .
4- 4) وسائل الشیعة 1 / 158 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الرقم : 1 و 2 .
5- 5) وسائل الشیعة 2 / 184 ، الباب 6 من أبواب الجنابة ، الرقم : 5 .

الوجه الأول و لعلّها عمدتها ، ما عن السیّد المرتضی قدّس سرّه (1) ، و حاصله : أنا نری قیام شرط آخر مقام الشرط المذکور فی الکلام و ترتّب الجزاء علیه بدلاً عنه فی الأدلّة الشرعیة و کلام أهل العرف ، فیتعدّد المعلّق علیه و لا ینحصر فی واحد ، مثلاً فی باب الشهادات ، تدلّ الآیة المبارکة «وَاسْتَشْهِدُوا شَهیدَیْنِ مِنْ رِجٰالِکُمْ » (2)علی توقف ترتب الحکم فی الواقعة علی شهادة شهیدین من الرجال ، لکنْ ینوب عن هذا الشرط الرجل و الامرأتان ، و یترتب الحکم ... إذن ، لا تدلّ الجملة الشرطیة إلّا علی مطلق الإناطة ، لأنه فی کلّ موردٍ یحتمل قیام الشیء الآخر فی الشرطیة مقام الشّرط المذکور فی القضیة .

و الجواب عنه ، یتلخّص فی : إنه لا کلام ثبوتاً فی نیابة شرطٍ عن آخر فی الشرطیة للجزاء ، و تعدّد الشرط فی الشریعة کثیر ، و کذلک فی الامور الخارجیة ، کقیام الشمس - مثلاً - مقام النار فی الحرارة ... إنما الکلام فی مقام الإثبات ، فإنه لمّا قال : « إن جاءک زید فأکرمه » کان هذا الکلام ظاهراً فی تعلیق وجوب الإکرام علی المجیء ، و به یندفع الاحتمال المذکور ، لأنه ظاهر فی الإطلاق بالنسبة إلی غیر هذا الشرط ، أی: یجب إکرامه إن جاء ، سواء تکلّم مثلاً أو لا ، سواء أحسن إلیک أو لا ... و هکذا ، فللکلام فی مقام الإثبات إطلاق یدفع کلّ احتمال ، فلو قام الدلیل علی شرطیة شیء غیر المجیء أیضاً ، تقیّد الإطلاق و أصبح التکلّم - مثلاً - شرطاً للإکرام إلی جنب المجیء ... .

فما جاء فی کلام السید رحمه اللّٰه خلط بین مقامی الثبوت و الإثبات .

و عن صاحب ( القوانین ) (3) الجواب باندفاع احتمال النیابة بالأصل .

ص:192


1- 1) الذریعة إلی اصول الشریعة 1 / 406 .
2- 2) سورة البقرة : الآیة 282 .
3- 3) قوانین الاصول 1 / 177 .

و فیه : إن المحقق القمی من القائلین بالدّلالة الوضعیّة ، و هذا المبنی غیر صحیح . هذا أوّلاً . و ثانیاً : إنّ التمسّک بالأصل لدفع الاحتمال غیر صحیح کذلک ، لأن الظهور الوضعی کاف لدفعه لکونه حجةً ، و قد تقرر حجیّة مثبتات الظهورات الوضعیّة . و ثالثاً : لقد ظهر أن أصالة الإطلاق تدفع الاحتمال و لا تصل النوبة إلی الأصل ... فجواب المیرزا غیر مفید علی کلا المسلکین .

الوجه الثانی : إن المفهوم المدّعی للجملة الشرطیّة مدلولٌ للکلام ، و کلّ مدلولٍ فلا بدّ له من دالّ یدلّ علیه ، و لا یوجد فی البین شیء من الدلالات الثلاث .

و الجواب : إنه قد تقرّر أن المدلول من قبیل الدلالة الالتزامیّة بالمعنی الأخصّ .

الوجه الثالث : قوله تعالی «وَلٰا تُکْرِهُوا فَتَیٰاتِکُمْ عَلَی الْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا » (1)فالآیة المبارکة جملة شرطیة ، و لا مفهوم لها قطعاً ، و إلّا دلّت علی جواز الإکراه علی الزنا ... قاله السیّد رحمه اللّٰه .

و الجواب :

قال فی ( الکفایة ) (2) : بأنه متی قامت القرینة فی موردٍ علی عدم المفهوم رفعنا الید ، و الآیة من هذا القبیل .

و هذا الجواب قد ذکره الأُستاذ فی الدّورة السابقة و سکت علیه . أمّا فی الدّورة اللّاحقة فقال ما ملخّصه : إنه غیر مناسب لشأنه ، لأنّ الاستناد إلی وجود المانع یکون - من الناحیة الصّناعیة - فی فرض تمامیّة المقتضی ، و حیث لا مقتضی

ص:193


1- 1) سورة النور : الآیة 33 .
2- 2) کفایة الاصول : 198 .

ثبوتاً لا یصح التمسّک بوجود المانع أو عدم الشرط . و الآیة من قبیل عدم المقتضی للمفهوم ، لأنها مسوقة لبیان الموضوع ، و الکلام المسوق لذلک لا مفهوم له ثبوتاً أصلاً .

و هذه هی أدلّة المنکرین لمفهوم الشرط .

تکمیلٌ

اشارة

بقیت امور لا بدّ من التعرّض لها .

الأمر الأول ( فی أنّ المعلّق سنخ الحکم )
اشارة

لمّا کان المفهوم هو انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، فلا بدّ و أن یکون المعلّق علی الشرط سنخ الحکم ، لأنّ شخصه ینتفی بانتفاء الشرط یقیناً ، فلا معنی للبحث و الخلاف فی بقائه ، و القابل للبقاء بعد زوال الشرط هو سنخ الحکم ، و حینئذٍ ، یبحث عن إمکان بقائه رغم انتفاء الشرط و عدم بقائه ... .

لکنْ المشکلة هی کیفیّة تصویر أنّ المعلّق هو سنخ الحکم ، و ذلک إنما یتمّ فیما لو کان جزاء الشرط جملة اسمیة کقوله : إن جاءک زید فالإکرام واجب ، لأن « واجب » ظاهر فی أن المراد سنخ الوجوب ، و لیس الأمر کذلک فی الجملة الإنشائیة ، لأنّ ظاهر قوله : إن جاءک زید فأکرمه ، هو تعلیق الشخص لا السنخ ، لأن مدلول « فأکرمه » حرفی و وضعه عام و الموضوع له خاص و کذا المستعمل فیه ، فیکون المعلّق علی مجیء زید شخص الإکرام ، و انتفاء هذا الشّخص بانتفاء المجیء عقلی ، فلا مفهوم .

و أیضاً : هناک مشکلة اخری و هی : إن المعانی الحرفیّة لا تقبل اللّحاظ الاستقلالی ، فلا یجری فیها الإطلاق و التقیید ، و الحال أنّه فی القضایا الشرطیّة یکون الجزاء مقیّداً بالشرط .

ص:194

إذن ، لا بدّ من تصویر کون المعلّق هو سنخ الحکم لا شخصه حتی یتمّ المفهوم للقضیة الشرطیة ... و قد ذکرت لذلک طرق :

الطریق الأول

ما ذهب إلیه السید الخوئی من مبنی الاعتبار و الإبراز فی الخطابات ، فإنه بناءً علیه یعتبر المولی وجوب إکرام زید علی تقدیر مجیئه و یبرز هذا الاعتبار بقوله : إنْ جاءک زید فأکرمه ... و من المعلوم أن المعتبَر دائماً هو سنخ الکلام لا شخصه .

و هذا الطریق یحلّ المشکلة فی المقام . إلّا أن الکلام فی أصل المبنی .

الطریق الثانی

ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی ، من أن المعنی الحرفی و الاسمی واحد و الاختلاف فی مقام الاستعمال ، و کذلک الأحکام فی الجملة الاسمیّة و الخبریّة ، و إذا کان المعنی واحداً . فالمعلّق هو السّنخ .

و هذا الطریق أیضاً یحلّ المشکلة . إلّا أن الکلام فی أصل المبنی .

الطریق الثالث

ما ذهب إلیه شیخنا دام ظلّه فی مسألة المعنی الحرفی من وجود السنخیة بین المعانی الحرفیّة ، و أن هناک جامعاً بین معنی « من » فی « سرت من البصرة إلی الکوفة » و معناه فی « سرت من المدرسة إلی المسجد » فالموضوع له عام ... خلافاً للمشهور .

و هذا الطریق أیضاً یحلّ المشکلة . إلّا أنه طریق مبنائی .

الطریق الرابع

ما ذهب إلیه المیرزا من إرجاع الشرط إلی نتیجة الجملة لا إلی مفاد الهیئة

ص:195

أی : إن الشرط و هو المجیء یرجع إلی وجوب الإکرام الذی هو نتیجة « أکرمه » لأنه هو المشروط فی الحقیقة . فعاد المعنی الحرفی إلی الاسمی ، فکان الحکم سنخیّاً و لا مشکلة .

و هذا الطریق - کما هو ظاهر - خلاف ظاهر القضیّة الشرطیة .

الطریق الخامس

ما ذهب إلیه المحقق الأصفهانی ، من أن المعلّق لیس شخص وجوب الإکرام بما هو ملزوم باللّوازم الخاصة ، بل هو الوجوب بقطع النظر عنها ، فهو « الوجوب » بقطع النظر عن المکان المعین و الحال الخاصّة ، و هذا هو المراد من السنخ ، و لمّا کان المفروض انحصار وجوب الإکرام بالمجیء فقط و أنه العلّة المنحصرة ، فإنه ینتفی بانتفاء المجیء .

و هذا الطریق یخالف مبنی هذا المحقق فی حقیقة معنی الهیئة ، فإنه یری أن معنی هیئة افعل هو البعث النسبی ، فللّوازم و الخصوصیّات دخلٌ یستلزم التشخّص ... و إذا کانت النسبة معنی الهیئة ، فإن وجودها متقوم بوجود الطرفین ، و مع عدم لحاظهما لا یبقی شیء .

الطریق السادس

ما ذهب إلیه الشیخ الأعظم ، و له ثلاث مقدّمات :

الاولی : إنه لا بدَّ فی جمیع الظهورات من ملاحظة المناسبة بین الحکم و الموضوع ، فقد تکون معمّمةً .

و الثانیة : إن العلّة فی القضیة الشرطیة منحصرة .

و الثالثة : إن نسبة الشرط إلی الجزاء نسبة المقتضی إلی المقتضی .

و علی أساس هذه المقدّمات تنحلّ المشکلة ، لأنه إذا قال : إن جاءک زید

ص:196

فأکرمه ، کان نسبة المجیء إلی الإکرام نسبة المقتضی ، لکنّ المفروض کون المجیء علّةً منحصرةً للإکرام ، و مع لحاظ مناسبة الحکم و الموضوع لا یکون الحکم فرداً من الوجوب بل کلّ الوجوب یثبت للإکرام و یکون المعلّق هو سنخ الحکم ، و قد علم بذلک بمعونة الامور الثلاثة ، و إلّا فإن القضیة بوحدها لا دلالة فیها علی المعنی المذکور .

هذا بغض النظر عن مسلک الشیخ فی القضایا الشرطیة ، حیث اختار رجوع الشرط إلی المادة دون الهیئة .

و أمّا بالنظر إلی مسلکه فالمشکلة منحلّة کذلک ، لأنّه لا یکون مفاد « فأکرمه » - أی الهیئة - هو المشروط بل المشروط و المقیّد هو « الإکرام » ، فکان للمجیء دخلٌ فی الإکرام ، لکن مناسبة الحکم و الموضوع تقتضی عدم الاختصاص بفردٍ من الإکرام ، بل کلّ الإکرام منوط بالمجیء ، و هذا هو السنخ .

فالطریق الصّحیح هو مختار شیخنا دام بقاه ، و مع التنزّل ما ذهب إلیه الشیخ الأعظم قدّس سرّه .

الأمر الثانی (إذا تعدّد الشرط و اتحد الجزاء)
اشارة

کما فی : إذا خفی الجدران و خفی الأذان فقصّر .

أمّا علی القول بعدم المفهوم فلا کلام ، بل هما حکمان لموضوعین .

و أمّا علی القول بالمفهوم - إمّا بالوضع اللغوی و إمّا بالإطلاق المنصرف إلی الفرد الأکمل و هو العلّة المنحصرة ، و إمّا بالظهور العرفی و إمّا بالإطلاق المقامی - فیقع الإشکال ، لأنّ مفهوم « إذا خفی الجدران » مطلق ، أی سواء خفی الأذان أو لا ، و کذا مفهوم « إذا خفی الأذان » أی: سواء خفیت الجدران أو لا ، فما هو الرافع لهذا التمانع بین منطوق أحدهما مع مفهوم الآخر ؟

ص:197

المستفاد من کلام ( الکفایة ) (1) أربعة وجوه لرفع الإشکال ، و من کلام المیرزا (2) خمسة ، لکنّه أرجعها إلی وجهین ، و الوجوه هی :

1 - إنکار المفهوم فی حال تعدّد الشرط .

2 - إن الشرط هو الجامع الانتزاعی و هو عنوان « أحدهما » أو « أحدها » .

3 - تقیید کلٍّ من القضیتین و الجمع بینهما ب« الواو » ، فیکون الشرط للجزاء کلا الأمرین .

4 - التقیید ب« أو » بأن یکون الشرط للقصر خفاء الأذان أو خفاء الجدران .

5 - تقیید مفهوم کلٍّ منهما بمنطوق الآخر ، بأنْ یبقی الإطلاق فی المنطوقین علی حاله و ترفع الید عنه فی المفهومین .

أمّا أنْ یقال بتقیّد مفهوم کلٍّ من القضیّتین بمنطوق الآخر من دون تصرّف فی المنطوق ، بأنْ یکون کلٌّ من خفاء الجدران و خفاء الأذان موضوعاً مستقلّاً للقصر .

ففیه : إنه سواء قلنا بتبعیّة الدلالة الالتزامیة للدلالة المطابقیة أو لم نقل ، فلا مناص هنا من القول بسقوط الدلالة الالتزامیة بتبع المطابقیة ، لأن المنطوق یدلّ بالمطابقة علی ثبوت الحکم و انحصاره ، لکونه جملةً شرطیة ، و المفهوم هو لازم هذا المنطوق ، فإنْ بقی علی إطلاقه فالمفهوم باق ، و إن سقط الإطلاق فیه سقط المفهوم لا محالة ، فالقول بتقیید المفهوم مع بقاء المنطوق علی حاله لا معنی له .

و أمّا أن یقال بعدم المفهوم فی مثل هذه القضایا ، فلا تنافی بین الدلیلین .

ففیه : إنه إن کان الدلیل الآخر متّصلاً بالأول فلا مفهوم ، لأنّ الآخر یصلح

ص:198


1- 1) کفایة الاصول : 201 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 259 .

للقرینیّة حینئذٍ ، و لکنهما منفصلان و المفروض کون المتکلّم فی مقام البیان ، و أن العلیّة و انحصارها تام ، فالقول بعدم المفهوم یستلزم التفکیک بین المعلول و العلّة .

هذا ، و قد أرجع المیرزا هذا الوجه إلی الوجه القائل بالتقیید ب« أو » و أن الشرط أحد الأمرین ، لأنه بتقیید مفهوم کلّ منهما بمنطوق الآخر ، بأن یکون مفهوم « إذا خفی الأذان فقصر » : إذا لم یخف الأذان فلا تقصّر - مقیّداً ب« إذا خفی الجدران » و بالعکس - یسقط کلا المفهومین کذلک ، فلا فرق بین أن یقال بإنکار المفهوم أصلاً أو یقال بالتقیید ب« أو » .

و أورد علیه الأُستاذ - فی کلتا الدورتین - بالفرق بین الوجهین ، لأن سقوط الإطلاق بالتقیید ب« أو » عبارة عن التصرّف فی المنطوق فی مقام الحجیّة ، بخلاف سقوط المفهومین فإنه تصرّف فی مرحلة الظهور ، و وجه الفرق هو أنّ القائل بعدم المفهوم عند تعدّد الشرط و وحدة الجزاء ، ینکر أصل ظهور الجملة الشرطیة فی الانتفاء عند الانتفاء ، لکنّ تقیید المفهوم بمنطوق الآخر فرع تمامیّة الظهور ، و هذا فرق علمی . و أمّا عملاً ، فإنّه حیث یقیّد الإطلاق ترفع الید عنه بقدر التقیید و یبقی الباقی علی حجیّته ، و أمّا بناءً علی إنکار المفهوم من أصله ، فلا إطلاق حتی یکون حجةً فی غیر مورد التقیید . فظهر الفرق بینهما علماً و عملاً .

و أمّا أن یقال : بأن الشرط هو الجامع الانتزاعی و هو عنوان أحدهما ، فإنّ هذا یرجع بالنتیجة - کما قال المیرزا - إلی التقیید ب« أو » ، إذ لا فرق فی النتیجة بین یجب علیک أحد الأمرین من العتق و إطعام ستین مسکیناً ، و أطعم ستین مسکیناً أو أعتق رقبةً ... .

فیبقی وجهان ... التقیید ب« الواو » و التقیید ب« أو » .

ص:199

رأی الکفایة

قال فی ( الکفایة ) : لعلّ العرف یساعد علی الوجه الثانی ، کما أن العقل ربّما یعیّن هذا الوجه ، بملاحظة أن الامور المتعددة بما هی مختلفة لا یمکن أن یکون کلّ منها مؤثراً فی واحدٍ ، فإنه لا بدّ من الربط الخاصّ بین العلّة و المعلول ، و لا یکاد یکون الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنین بما هما اثنان ، و لذلک أیضاً لا یصدر من الواحد إلّا الواحد ، فلا بدّ من المصیر إلی أن الشرط فی الحقیقة واحد و هو المشترک بین الشرطین بعد البناء علی رفع الید عن المفهوم و بقاء الشرط فی کلٍّ منهما علی حاله ، و إن کان بناء العرف و الأذهان العامیّة علی تعدد الشرط و تأثیر کلّ شرط بعنوانه الخاص . فافهم .

و حاصل کلامه قدس سرّه هو : إنه من الناحیة العرفیّة لا بدّ من رفع الید عن المفهوم فی القضیتین . و أما من الناحیة العقلیّة ، فلا بدّ من جعل الشرط هو القدر المشترک بینهما ، أی الجامع بین الخصوصیتین ، بمقتضی قاعدة أن الواحد لا یصدر منه إلّا الواحد .

الإشکال علیه

فأشکل علیه الأُستاذ بمنع إنکار العرف المفهوم فی هذه الموارد ، بل إنهم یفرّقون بین صورتی اتصال الکلام و انفصاله ، فإن کانت الجملتان متّصلتین فالمفهوم ساقط ، لکنّ البحث فی صورة الانفصال ، و القول بإنکارهم فی هذه الصّورة ممنوع ، بل الظهور العرفی لکلٍ منهما منعقد ، فلا بدّ من علاج .

و أمّا الوجه العقلی ففیه : إن القاعدة المذکورة موردها هو البسیط من جمیع الجهات و الحیثیّات ، الذی وحدته وحدة حقة حقیقیّة و لا تعدّد فیه مطلقاً ، و جزاء الشرط فی مورد الکلام و إنْ کان له وحدة سنخیة إلّا أنها وحدته لیست وحدةً حقة

ص:200

حقیقیّة ، و الواحد السنخی یمکن صدوره من المتعدّد . هذا أولاً : و ثانیاً : إن مورد البحث هو الأحکام الشرعیة ، و منشأ الصدور فیها هو الاعتبار الشرعی ، و من الواضح أنّ نسبة الموضوعات و الشروط إلی الأحکام لیست نسبة العلّة إلی المعلول .

رأی المیرزا

و تلخّص البحث فی أنه لا بدّ من علاج للتنافی ، إن لم نقل بالتساقط و الرجوع إلی دلیلٍ آخر أو أصل عملی ... و العلاج هو الجمع ب« الواو » أو ب« أو » ، و قد اختار المیرزا الطریق الأول ، و حاصل کلامه :

إن کلّ قضیة شرطیة فلها إطلاقان ، أحدهما هو الإطلاق بالنسبة إلی أیّ ضمیمةٍ ، فلمّا قال : إن خفی الأذان فقصّر ، کان ظاهراً فی استقلال خفاء الأذان فی الشرطیّة للقصر ، و أنه لیس لهذا الشرط جزء ، بل هو تمام الشرط . و الثانی هو الإطلاق بالنسبة إلی أی شیء یکون شرطاً غیر هذا المشروط ، فلمّا قال : إن خفی الأذان فقصّر ، کان ظاهراً فی انحصار العلیّة للقصر فی خفاء الأذان .

أمّا الإطلاق الأول ، فیعبّر عنه بالإطلاق فی قبال « الواو » .

و أمّا الثانی ، فیعبّر عنه بالإطلاق فی قبال « أو » .

هذا کلّه فی حال وحدة الشرط و الجزاء .

فإنْ تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء ، وقع التنافی بین الجملتین ، کما هو واضح ، فلا بدّ من طریقٍ للعلاج ، و هو أن یقال بأن الإطلاق الثانی فی طول الأوّل ، و أنّ الأوّل مقدّم رتبةً علی الثانی ، لأنه ما لم یتم الأوّل فیعیّن به شخص الشرط و حدّه ، لا تصل النوبة إلی البحث عن انحصار العلیّة و عدم انحصارها فیه ، فلو تعدّد الشرط فإنّه بمجرّد انعقاد الإطلاق الأول یمتنع انعقاد الثانی ، لأن انعقاده موقوف

ص:201

علی تمامیّة المقتضی و عدم المانع ، و من الواضح مانعیّة الإطلاق الأول بالنسبة إلیه .

قال المیرزا : لکنّ تقدّم أحد الإطلاقین علی الآخر فی الرتبة لا یوجب صرف التقیید إلی المتأخر ، لأن الموجب لرفع الید عن الإطلاقین إنما هو وجود العلم الإجمالی بعدم إرادة أحدهما ، و من الواضح أن نسبة العلم الإجمالی إلی کلیهما علی حدٍّ سواء ، فلا موجب لرفع الید عن أحدهما بخصوصه دون الآخر ، فیسقط کلاهما عن الحجیّة ، لکنّ ثبوت الجزاء - کوجوب القصر فی المثال - یعلم بتحقّقه عند تحقق مجموع الشرطین علی کلّ تقدیر ، و أمّا فی فرض انفراد کلّ من الشرطین بالوجود ، فثبوت الجزاء فیه یکون مشکوکاً فیه ، و لا أصل لفظی فی المقام علی الفرض - لسقوط الإطلاقین بالتعارض - فتصل النوبة إلی الأصل العملی ، فتکون النتیجة موافقةً لتقیید الإطلاق المقابل بالعطف بالواو .

رأی السید الخوئی

و ذهب السید الخوئی إلی الجمع ب« أو » ، فقال (1) بعد ذکر مختار المیرزا ما ملخّصه :

و لنأخذ بالمناقشة علی ما أفاده صغراً و کبراً .

أما بحسب الصغری ، فلأنّ مورد الکلام لیس من صغریات ما أفاده من کبری الرجوع إلی الأصل العملی ، بل هو من صغریات الرجوع إلی الأصل اللّفظی ، و توضیح ذلک :

إن وجوب القصر علی المسافر ثابت بالإطلاقات الواردة بالکتاب و السنّة ، و المقصود هو السفر العرفی ، و هو یصدق عند العرف علی من خرج من بلده

ص:202


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 246 .

بقصد السفر ، غیر أن الشارع قیّد ذلک بالوصول إلی حدّ الترخّص بالأدلّة ، فما لم یصل المکلّف إلی الحدّ المذکور فلا تقصیر ، فلو خفیت إحدی الأمارتین - من الأذان و الجدران - و شکّ فی وجوب القصر علیه ، کان المرجع الإطلاقات - لا الأصل العملی من البراءة عن القصر أو استصحاب بقاء التمام - و مقتضی الإطلاق وجوب القصر ... لأن القدر الثابت من تقییدها هو ما إذا لم یخف الأذان و الجدران ، أما مع خفاء أحدهما فلا نعلم بتقییدها ، و معه لا مناص من الرجوع إلیها لإثبات وجوب القصر ، لفرض عدم الدلیل علی التقیید بعد سقوط کلا الإطلاقین بالمعارضة ، فتکون النتیجة هی نتیجة العطف ب« أو » ... فالکبری التی ذکرها المیرزا غیر منطبقة علی المقام .

( قال ) : و أما بحسب الکبری ، فالصحیح أن القاعدة تقتضی تقیید الإطلاق المقابل للعطف ب« أو » دون « الواو » کما اختاره شیخنا الأُستاذ ، و السّبب فی ذلک هو : إنه لا منافاة بین منطوقی القضیتین الشرطیتین المتقدّمتین ، ضرورة أن وجوب القصر عند خفاء الأذان لا ینافی وجوبه عند خفاء الجدران أیضاً ، لفرض أن ثبوت حکمٍ لشیء لا یدلّ علی نفیه عن غیره ، و کذا لا منافاة بین مفهومیهما ، لوضوح أنّ عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان لا ینافی عدم وجوبه عند عدم خفاء الجدران ، إذ عدم ثبوت حکم عند عدم شیء لا یقتضی ثبوته عند عدم شیء آخر ، لیکون بینهما تنافی .

بل المنافاة إنما هی بین إطلاق مفهوم احداهما و منطوق الاخری ، مع قطع النظر عن دلالتها علی المفهوم . و ما تقدّم من شیخنا الأُستاذ - و هو رفع الید عن کلا الإطلاقین معاً و الرجوع إلی الأصل العملی - و إنْ أمکن رفع المعارضة به ، إلّا أن الأخذ به بلا موجب بعد إمکان الجمع العرفی بین الدلیلین ... .

ص:203

( قال ) ما حاصله : إنه یمکن الجمع بین الدلیلین علی أنحاء ، کأن یحمل أحدهما علی الاستحباب أو علی التقیّة أو ما شاکل ذلک ، لکنّ المطلوب لیس هو الجمع کیفما اتفق بل الذی یساعد علیه العرف ... و الجمع العرفی فی محلّ الکلام ممکن - فلا موجب للرجوع إلی الأصل العملی - و هو تخصیص مفهوم کلّ من القضیّتین بمنطوق الاخری ، و نتیجة ذلک هو التقیید و الجمع ب« أو » ، فإنّه الجمع الدلالی المطابق للارتکاز العرفی فی المقام و أمثاله .

رأی الأُستاذ

و قد أفاد الشیخ الأُستاذ دام ظلّه : بأن ما أورد علی المیرزا فی کیفیة الجمع هو الحق ، وعلیه أکثر المتقدّمین خلافاً لأکثر المتأخرین ، فإنّه مقتضی الصناعة العلمیّة و الذوق العرفی و الارتکاز العقلائی ... و علی الجملة ، فإنّ منشأ التنافی هو الدّلالة فی کلٍّ منهما علی الانحصار و هو یرتفع بتقیید الإطلاق فی مقابل « أو » .

و أمّا الإشکال علیه : بأنّ المورد لیس من موارد الرجوع إلی الأصل العملی بل هو من موارد التمسّک بالدلیل اللّفظی و هو عموم : المسافر یقصّر ، لأنه بمجرّد خروجه من البلد یصدق علیه عنوان المسافر . فقد یمکن دفعه بالتأمّل فی صدق العنوان المذکور علی من خرج إلی أطراف البلد ، و مع الشک ، فالشبهة مفهومیّة و المرجع فیها هو الأصل لا العام .

نعم ، یقوی الإشکال علیه بالنظر إلی کلامه فی کتاب الصّلاة (1) ، حیث تمسّک هناک عند الشک بعموم « المسافر یقصّر » ، فلیس المورد من الشبهة المفهومیة ، وعلیه ، فلما ذا لم یرجع هنا إلی العام ؟

ص:204


1- 1) کتاب الصلاة - بتقریر الشیخ الآملی - ج 3 ص 369 .
النظر فی کلام السید البروجردی

و یبقی النظر فی کلامٍ للسید البروجردی (1) ، فقد أشکل بأنّ المفهوم أمرٌ تبعی للمنطوق ، فلا یعقل انعقاد الإطلاق فی المفهوم حتی یقیّد بمنطوق الدلیل الآخر .

فأورد علیه الأُستاذ - فی الدورتین - بأنّه خلطٌ بین التبعیة فی الوجود و التبعیة فی اللّحاظ ، فإنّ التبعیة فی الوجود تجتمع مع الاستقلال فی اللّحاظ ، و حال المفهوم بالنسبة إلی المنطوق من هذا القبیل ، بخلاف مثل المعنی الحرفی بالنسبة إلی الاسمی ، فإنّه تابع له فی اللّحاظ ، و علی هذا ، فإنّ المفهوم قضیّة کالمنطوق ، لها موضوع و محمول ، و الموضوع لا یکون مهملاً بالنسبة إلی محموله ، فهو إمّا مطلق و إمّا مقید .

الأمر الثالث ( فی تداخل الأسباب و المسبّبات )
اشارة

إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء و علمنا بدلیلٍ خارجی أو من نفس ظهور القضیّتین ، أن کلّ واحدٍ من الشروط مستقلّ فی ترتّب الجزاء علیه ، فهل مقتضی القاعدة تداخل الشرطین أو الشروط فی تأثیر أثرٍ واحد أو لا ؟

مثلاً : إذا اجتمع سببان أو أکثر للغُسل کمسّ المیّت و الحیض و الجنابة ، فهل تقتضی کلّها غُسلاً واحداً أو أن کلّاً منها یقتضی غسلاً فیتعدّد ؟ و علی تقدیر الاقتضاء للتعدّد ، فهل مقتضی القاعدة هو التداخل بأنْ یکفی الغُسل الواحد أو لا ؟

هذا ، و لا یخفی أن هذا البحث یطرح ، سواء علی القول بالتضادّ بین الأحکام بأنفسها فلا یجتمع الحکمان فی مورد ، أو القول بأنها اعتبارات و لا مانع من اجتماع الاعتبارین فی موردٍ . أمّا علی الأوّل فواضح ، فإنّه یلزم اجتماع المثلین

ص:205


1- 1) نهایة الاصول : 274 .

فی المثال و هو محال ، و أمّا علی الثانی ، فإنّه لا ریب فی أن الحکم الوجوبی بالغسل إنما هو بداعی تحریک المکلّف نحو الفعل ، لکنّ المادة الواحدة - و هی الغُسل - لا تقبل الانبعاثین فی مقام الامتثال ... فیعود الإشکال .

و قد ذکروا قبل الورود فی البحث اموراً :

الأول : إن مورد هذا البحث حیث لا دلیل من الخارج علی التداخل أو عدمه ، و إلّا فالمتّبع هو الدلیل ، کما هو الحال فی بابی الوضوء و الغسل ، فالنصوص أفادت هناک إجزاء الوضوء أو الغسل الواحد مع تعدّد الأسباب .

الثانی : إن محلّ الکلام هو الشرط القابل للتعدّد و التکرار کالوضوء و الغسل ، أمّا ما لا یقبله فهو خارج ، کما لو ورد دلیل فی أن من أفطر فی شهر رمضان فعلیه کذا ، فإنّ الإفطار - و هو نقض الصوم - یتحقق بالفعل الموجب له ، فإذا انتقض لا ینتقض ثانیاً .

الثالث : إن محلّ الکلام ما إذا کان الجزاء قابلاً للتعدّد ، لا مثل القتل ، فلو ارتکب اموراً یستحق القتل علیٰ کلّ واحدٍ منها ، فإنه لا یقبل التعدّد و التکرّر ، و إنْ کان هناک أحکامٌ مترتّبة ... و کذلک فی المعاملات ، فقد یتحقّق للخیار فی معاملةٍ واحدة أسباب عدیدة من الغبن و الحیوان و العیب ، لکن الفسخ شیء واحد ، و إنْ کان هناک أحکام اخری مترتبة .

الرابع : فی مقتضی الأصل ... و أنه إذا تعدّدت الأسباب هل ترجع إلی سبب واحدٍ و تتداخل أو لا ؟ و إذا تعدّدت المسبّبات ، هل ترجع إلی واحدٍ و تتداخل أو لا ؟

أمّا المسببات ، فمقتضی القاعدة الاشتغال و عدم التداخل ، و ذلک ( أولاً ) مقتضی إطلاق الدلیل ، فإنّ إطلاق أی شرطٍ و جزاءٍ یقتضی الامتثال سواء امتثل

ص:206

بفردٍ آخر أو لا ؟ فلو قال الدلیل : إنْ فعلت کذا فکفّر بکذا ، وجبت علیه الکفارة سواء أعطاها بسببٍ آخر أو لا . ( و ثانیاً ) هو مقتضی الاستصحاب ، فإنه لو کفَّر لسببٍ و شک فی کفایتها عن الکفارة لسببٍ آخر ، یستصحب وجوبها علیه بذاک السبب . ( و ثالثاً ) : إنه مقتضی قاعدة : الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیّة .

و أمّا الأسباب ، فمقتضی الأصل هو التداخل و عدم التعدّد ، فإذا تعدّد السبب و شک فی إیجابها للآثار المتعدّدة ، کما فی الوضوء مثلاً ، فإنّ الشک یرجع إلی دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، لکنّ هذا العلم الإجمالی ینحلّ من جهة کون الأقل متیقّناً ، أما الزائد فمشکوک فیه ، فیستصحب عدم تعلّق الجعل الشرعی به ، و هذا هو الأصل الأول الحاکم فی المقام .

ثم تصل النوبة إلی الأصل المحکوم و هو البراءة الشرعیة ، ثم تجری البراءة العقلیة .

فمقتضی الأصل فی طرف الأسباب هو التداخل ، و فی طرف المسبّبات هو عدم التداخل .

الخامس : فی ما نسب إلی فخر المحقّقین من أنّ القول بالتداخل و عدمه یبتنیان علی کون العلل الشرعیة أسباباً أو معرّفات . فعلی الأول لا تتداخل و علی الثانی فلا مانع من التداخل لجواز اجتماع أکثر من معرّفٍ علی الشیء الواحد .

و قد أورد علیه فی ( الکفایة ) (1) و غیرها بما حاصله : إن الأحکام الشرعیّة معتبرات ، و هی فی الأصل و فی الخصوصیات من الإلزام و الترخیص و غیر ذلک تابعة لإرادة الشارع ، و هی السبب لها ، فالقول بأنّ الأحکام الشرعیّة أسبابٌ و البحث عن کونها مؤثرة أو لا ، غیر صحیح ، بل إنّ کلّ ما عبّر عنه بالسبب الشرعی

ص:207


1- 1) کفایة الاصول : 205 .

فإنّه موضوع و لیس بمؤثّر و لا معرّف ، فالزوال مثلاً له الموضوعیة الشرعیّة لوجوب صلاة الظهر لا أنه مؤثر ... کما أن الحکم بوجوب صلاة الظهر یدور مدار الزوال لا أنه معرّف للحکم ... و علی ما ذکر ، فإن مقتضی القاعدة هو عدم التداخل .

و بعد الفراغ من الامور فاعلم : أن فی المسألة ثلاثة أقوال :

الأول : التداخل . و الثانی : عدم التداخل . و الثالث : التفصیل بین ما إذا اختلف السبب ذاتاً کمسّ المیّت و الجنابة فلا تداخل ، و ما إذا اتّحد السبب کتکرّر الجنابة مثلاً ، فالتداخل و هو مختار ابن إدریس .

رأی صاحب الکفایة

و اختار المحقق الخراسانی القول بعدم التداخل ، و محصّل کلامه هو :

إنّ القضیّة الشرطیة ظاهرة فی حدوث الجزاء عند حدوث الشرط و ترتّبه علیه ، فهی تقتضی الارتباط بین الشرط و الجزاء ، لا أنها تفید فقط ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط ... و علی هذا ، فإن تکرّر الشرط ظاهر فی تکرّر الجزاء ، فیحدث وجوبان للوضوء عند حدوث النوم و البول ، لکنّ اجتماع المثلین محال - أمّا علی مسلکه ، فاجتماع نفس الحکمین محال . و أمّا علی مسلک المحقق الأصفهانی فإنه ینتهی إلی المحال - و إذا لزم المحال ، فلا بدّ من القول بالتداخل ، و هو یتوقف علی ارتکاب أحد امور ثلاثة .

إمّا رفع الید عن ظهور کلّ قضیّة شرطیة فی الحدوث عند الحدوث ، بأنْ یقال بأن الأولی کذلک ، أمّا الثانیة فهی تدلّ علی الثبوت عند الثبوت .

و إمّا التصرّف فی المتعلَّق ، بأنْ یقال إنه و إن کان ظاهر : « إن بلت فتوضأ » و« إنْ نمت فتوضّأ » هو ورود الوجوبین علی الوضوء ، لکنّهما واردان علی أمرین منطبقین علی الوضوء ، کانطباق عنوان العالم و الهاشمی علی زید الواجب إکرامه

ص:208

فی « أکرم الهاشمی » و« أکرم العالم » .

لا یقال : فی هذه الحالة یلزم اجتماع المثلین کذلک ، لأن المفروض هو الإبقاء علی ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث ، فیحصل الوجوبان للوضوء .

لأنا نقول : انطباق العنوان علی الوضوء یوجب اتصافه بالوجوب لکونه منطبقاً للعنوانین ، لا أنه یحدث له وجوبان ، کما هو الحال فی زید الذی انطبق علیه العنوانان ، فإنه یجب إکرامه ، و لا یجتمع فیه وجوبان .

و إمّا حمل الدلیل الثانی علی التأکید ، فلا یفید حکماً آخر و إنّما یفید التأکید علی الحکم فی الدلیل الأول .

لکنّ ارتکاب شیء من هذه الامور ممنوع ، لکونها خلاف الظّاهر .

علی أنّ الذهاب إلی الوجهین الثانی و الثالث لا دلیل علیه ، فما المثبت لأنَّ الوضوء منطبَق لعنوانین ، و أنه لیس نفسه المتعلَّق للحکم فی القضیتین ؟ و ما الدلیل علی أنّ الخطاب الثانی جاء للتأکید علی مدلول الخطاب الأوّل ؟

فإنْ قیل : لزوم المحال - و هو اجتماع المثلین - برهان علی ضرورة رفع الید عن الظهور .

قلنا : هذا لو لم یکن طریق آخر ، و هو القول بإفادة کلّ شرطٍ فرداً من الوجوب للوضوء غیر الفرد الآخر .

فإنْ قیل : الاحتفاظ بالظهورات و القول بحدوث الفرد الآخر یستلزم المخالفة لظهور آخر ، و هو أنّ کلّ قضیّة شرطیة فلها ظهور إطلاقی فی صِرف الوجود ، فحمل الشرط الثانی علی الفرد غیر الأول مخالفٌ لإطلاق « توضّأ » ...

و صرف الوجود هو ناقض العدم الکلّی فی اصطلاح المشهور ، و ینطبق علی أوّل

ص:209

وجود ، فکان هو المتعلّق ، و أوّل وجودٍ لا تعدّد فیه .

فالجواب : إن ظهور إطلاق متعلّق الوجوب فی صِرف الوجود یقتضی وحدة وجود الوضوء ، إلّا أنّه ظهور إطلاقی ، هو موقوف علی عدم القرینة و ما یصلح للقرینیة ، و حینئذٍ ، فإنّ ظهور کلّ قضیة شرطیة فی الحدوث عند الحدوث و الظهور فی التأسیس دون التأکید قرینة علی سقوط الإطلاق و حمل الأمر بالوضوء علی وجودٍ آخر منه ... فیسقط الإطلاق المقامی ، و یتمُّ القول بعدم التداخل .

رأی المیرزا

و قال المیرزا : إنه إن کان الشرطان مختلفین کما فی مثال البول و النوم للوضوء ، فإنّ کلّاً من القضیّتین مطلق ، أی سواء نمت أو لا . و سواء بُلت أو لا ، و کذلک إن لم یکونا مختلفین کما لو تکرّر البول أو النوم ، لأن کلّ واحدٍ من ذلک موضوع مستقل و یقتضی حکماً ، فظهر أنه مع تعدّد الشرط یتعدّد الجزاء مطلقاً ، لأن کلّ شرط فهو موضوع و کلّ موضوع یقتضی حکماً . فهذا مطلب .

و المطلب الآخر هو : إن ما اشتهر من أن المتعلّق للأمر هو صرف الوجود لا أساس له ، لأن الأمر مثل « توضأ » مرکّب من المادّة و الهیئة ، و لا شیء منهما بدالٍّ علی صرف الوجود ، فلا أساس للإشکال بأنْ صرف الوجود لا یتحمّل الوجودین .

و بناءً علی المطلبین ، یتم القول بعدم التداخل ، لأن الحدوث عند الحدوث یقتضی التعدّد ، و لا محذور من قبل المتعلّق ، لما تقدّم من أنه لا أساس للقول بأن المتعلّق للأمر هو صرف وجود الطبیعة ... فیبقی ظهور القضیّة الشرطیّة علی حاله ، و یتمّ عدم التداخل .

ص:210

الکلام حوله

و هذا البیان قد استجوده تلمیذه فی ( المحاضرات ) (1) ، و للنظر فی المطلب الثانی مجال .

لقد ذکر أنّ المتعلّق هو طبیعة الوضوء ، لأن مفاد الهیئة طلب الإیجاد و المادّة هو الطبیعة ، فلا دالّ علی صرف الوجود ، فنقول :

أولاً : لقد نقل عنه تلمیذه المحقق أنْ المتعلّق هو إیجاد الطبیعة بمعنی نقض العدم المطلق ، وعلیه ، فإن العدم المطلق یستحیل نقضه مرّتین بل یحصل بأول وجود ، و هو لا یقبل التعدّد .

و ثانیاً : إن الطلب المتعلّق بوجود الطبیعة یستحیل أن یکون مهملاً ، وعلیه فلا بدّ من أن تکون الطبیعة لا بشرط بالنسبة إلی الوحدة و التعدّد ، لأنّها بشرط الوحدة صرف الوجود ، و کونها بشرط التعدّد باطل - إذْ لا یقال بتعدّد الوضوء - و إذا کان لا بشرط بالنسبة إلیها ، فالمکلّف إنْ أتی بوضوءٍ واحدٍ لعدة أسباب فقد أتی بمصداق الواجب ، و إنْ أتی بوضوءات متعددة بعدد الأسباب ، کان کلٌّ منها واجباً ، و هذا خلاف الضرورة الفقهیّة .

رأی العراقی

و ذهب المحقق العراقی إلی وجهٍ آخر للقول بعدم التداخل (2) ، و حاصله : إنّ کلّ قضیّةٍ من القضیتین ظاهرة فی الاستقلال ، فهنا ظهوران متمانعان . و لکنْ فی طرف الجزاء ظهور واحد فی صرف الوجود و هو معارض لظهور الشرطین ، فإنْ رفعنا الید عن ظهور الشرطین فی الاستقلال و قلنا بوجوب الوضوء مرةً ، لزم رفع

ص:211


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 263 .
2- 2) نهایة الأفکار (1 - 2) 486 .

الید عن ظهورین ، و إنْ رفعنا الید عن ظهور الجزاء سقط ظهور واحد ... و لا ریب فی أولویّة رفع الید عن ظهور الجزاء ، إذ الضرورات تتقدّر بقدرها .

و ذکر رحمه اللّٰه وجهاً آخر و حاصله :

إن نسبة الجزاء إلی الشرط نسبة المعلول إلی العلّة ، فهو تابع له ثبوتاً و إثباتاً ، فالذی یلحظ أوّلاً هو الشرط ، و عند ما یلحظ کلٌّ من الشرطین ، ینعقد الظهور لکلٍ منهما بالاستقلال ، و ذلک یحول دون أن ینعقد ظهور الجزاء فی صرف الوجود .

النظر فی هذا الرأی

و قد تنظّر الأُستاذ فی کلا الوجهین . أمّا فی الأوّل : فمن جهة عدم البرهان علی الأخذ بالأکثر عند دوران الأمر بین رفع الید عن الظهور الأقل و الأکثر ... لأنّ الملاک هو التعارض بین الحجج ، و لیس التعدّد فی طرفٍ بمرجّح له علی الطرف الآخر .

و أمّا فی الثانی ، فمن جهة أن التفرّع الذی ذکره موجود فی عالم الثبوت .

و أمّا فی عالم الإثبات ، فإنّ الملاک للتقدّم هو القوّة فی الظهور ، فإنْ کان ظهور الشرط أقوی تقدّم علی ظهور الجزاء و إلّا فلا .

رأی المحقق الأصفهانی

و ذکر المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه : أن الارتکاز العرفی فی أمثال المقام قائم علی عدم دلالة الجزاء علی الوحدة ، فإنّ العرف لما یری الشرط متعدّداً لا یرفع الید عن تعدّده بسبب وحدة الجزاء فی القضیتین .

و ثبوت هذا الارتکاز بحیث لا یتردّد أهل العرف فی الامتثال و یأخذون بالتعدّد أول الکلام ، خاصّةً فی الخطابات الشرعیة التی هی بمثابة الخطاب الواحد .

ص:212

ثم ذکر تحت عنوان « و التحقیق » (1) وجهاً عقلیّاً ، و ملخّص کلامه هو :

إنّ لکلّ من القضیتین بعثاً نحو الجزاء و لیس لها أیّ اقتضاء بالنسبة إلی القضیّة الاخری لا نفیاً و لا إثباتاً ، فهی لها اقتضاؤها فی نفسها ، و أما بالنسبة إلی غیرها فهی بلا اقتضاء ... و أی تنافٍ بین الاقتضاء و اللّاإقتضاء ؟ و حینئذٍ ، یبطل صرف الوجود فی طرف الجزاء ... .

فقال الأُستاذ : إن الکلام فی وقوع البعث بعد البعث ، فإنّ الأوّل یقتضی انبعاثاً و إیجاداً للجزاء فکذلک الثانی ، و علی هذا ، کیف یکون البعث متعدداً و المنبعث إلیه واحداً ؟ فهل یبقی علی ظاهره فی التأسیس أو یحمل علی التأکید ؟

رأی الشیخ الأُستاذ

و قال الشیخ الأُستاذ لحلّ المشکلة : بأنّه متی کان الظهوران تنجیزیّین فالتعارض واقع بلا کلام ، و أمّا فی حال کون أحدهما تعلیقیّاً فلا تعارض و لا مشکلة .

أمّا الکبری فواضحة ، و أمثلتها کثیرة . مثلاً قاعدة قبح العقاب بلا بیان معلّقة علی عدم البیان ، بخلاف حدیث الرفع فإنه منجّز ، لذا یکون دلیل الاحتیاط مقدّماً علی القاعدة لکونه بیاناً ، أمّا حدیث الرفع فلا یتقدّم علیه دلیل الاحتیاط .

و ما نحن فیه من صغریات الکبری ، فإنّ الشرطین ظاهران فی الحدوث عند الحدوث ، لکنّ الجزاء ظاهر فی وحدة المتعلّق و صرف الوجود ... فیقع التنافی بین الشرط و الجزاء ، لأن الشرطین یستدعیان الانبعاثین ، و الجزاء لا یستدعی الأکثر من الواحد ... إلّا أن ظهورهما وضعی و ظهور الجزاء إطلاقی ، و بناءً علی تقدم الوضعی علی الإطلاقی - لکون عدم البیان من مقدمات الإطلاق ،

ص:213


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 434 .

و الوضعی بیان - فالتعارض مرتفع .

هذا ، بناءً علی أن لا یکون ظهور الشرط وضعیّاً ، أو علی القول بعدم تقدم الظهور الوضعی علی الظهور الإطلاقی لدی التعارض ، خاصّة عند الانفصال کما هو المختار ، فالمشکلة باقیة .

أمّا علی مسلکنا من التعارض بین الظهور الإطلاقی و الوضعی ، فبقاء المشکلة واضح . و أمّا أنّ الظهور هنا وضعی أو إطلاقی ؟ فالحق أنه إطلاقی و لیس بوضعی ، لأن ظهور کلٍّ من الشرطین فی الحدوث عند الحدوث یتوقف علی أنْ یکون هو تمام الشرط لترتب الجزاء و أنه مستقل و لا دخل لشیء آخر معه ، و هذا الظهور الاستقلالی إنّما یحصل نتیجة عدم وجود « الواو » کما تقدم ... فکان منشأ هذا الظهور هو الإطلاق ، کما أن ظهور الجزاء فی صرف الوجود إطلاقی .

فالمشکلة باقیة .

و طریقة الحلّ - و الحال هذه - أنْ یقال : بأنّ ظهور الجزاء فی صرف الوجود معلّق علی عدم استقلال کلٍّ من الشرطین ، لأنه مع استقلال کلٍّ منهما فی التأثیر فی الجزاء ، یستحیل انعقاد الإطلاق فی الجزاء فی صرف الوجود ، إذ لا یعقل تحقق الانبعاثین نحو الوجود الواحد ... فکان إطلاق الجزاء موقوفاً علی عدم تعدّد البعث .

و من جهة الشرط ، نری أنّ الظهور الإطلاقی لکلٍ منهما متوقّف علی عدم وجود ( الواو ) کما هو المفروض ، فکان الإطلاق فی طرف الشرط منعقداً ، و کلٌّ منهما ظاهر فی الاستقلال ، و لا قرینة لرفع الید عن هذا الظهور ، و لازم ذلک أنْ لا یکون الجزاء بنحو صرف الوجود ، فلا ینعقد فی طرف الجزاء أصلاً . و هذا هو طریق حلّ المشکلة و به یثبت عدم التداخل .

ص:214

و بما ذکر الأُستاذ یظهر النظر فی کلام المحقق الخراسانی ، حیث جعل - فی « إن قلت » الثانیة و الثالثة - ظهور الشرط فی الحدوث عند الحدوث بیاناً فیتقدم ، لکون انعقاد الإطلاق فی المتعلّق موقوفاً علی عدم البیان ، فهو یتقدّم من باب الظهور علی مبنی الشیخ و من باب الحجیّة علی مبنی المحقق المذکور .

وجه النظر : توقف بیانیّته علی أن یکون ظهوره وضعیّاً ، أمّا إن کان إطلاقیاً فیقع التعارض بین الإطلاقین و لا تقدّم بل یتساقطان ... و هو لم یدَّع کون الظهور وضعیّاً بل أنکره .

و قد أورد المحقق الإیروانی علیه هذا الإشکال ، لکنّه لم یدفعه بما ذکر الأُستاذ من کون أحد الإطلاقین تعلیقیّاً و الآخر تنجیزی ، فلا تعارض حتی بناءً علی کون الظهور إطلاقیّاً .

و تلخّص : أن المشکلة ترتفع بأنّ الإطلاق فی طرف الشرط منعقدٌ منجّزاً ، لکنّه فی طرف الجزاء معلّق علی عدم تعدّد البعث ، و المفروض تعدّده ، فیثبت عدم التداخل فی الأسباب .

الکلام فی تداخل المسببات

و کذلک الحال فی المسبّبات ، لأنّ المفروض تعدّد التکلیف ، و إجزاء الامتثال لواحد عن امتثال غیره موقوفٌ علی الدلیل .

و أیضاً ، فمقتضی دلیل کلّ تکلیفٍ من التکالیف وجوب الإتیان بالمتعلّق مطلقاً ، أی سواء اتی بمتعلّق التکلیف الآخر أو لا . و هذا الإطلاق موجودٌ فی أدلّة الأحکام .

و أیضاً ، الاستصحاب ، فإنه إذا ثبت التکلیف بالشرط الأول یقیناً ، ثم شکّ فی سقوطه بالإتیان به بالشرط الثانی ، استصحب بقاء التکلیف .

و أیضاً ، فإنه مقتضی قاعدة الاشتغال .

ص:215

استثناء مجمع الحکمین
اشارة

ثم إنّه قد استثنی من هذه القاعدة ما إذا کانت النّسبة العموم من وجه ، کما لو قال : أکرم عالماً . و قال : أکرم هاشمیاً ، حیث الحکم هو وجوب الإکرام و الموضوع فی الدلیلین بنحو الإطلاق البدلی ، ففی هذا المورد قالوا بالتداخل أی بکفایة إکرام المجمع و هو العالم الهاشمی . و اختلفوا فی وجه الاستثناء :

فمنهم : من استدلّ له بحکم العقل بالإجزاء ، فیکون من مصادیق قولهم :

الانطباق قهری و الإجزاء عقلی ... فهما حکمان لکنهما انطبقا علی موردٍ انطباقاً قهریاً ، و فی مثله یحکم العقل بالاجزاء ... قال به المیرزا (1) .

و منهم : من یقول بأن الحکم فی مثل هذا المورد واحد لا أکثر ، غیر أن الخطاب الثانی مؤکّد للأوّل . قال به صاحب ( الکفایة ) (2) .

و استدلّ للأول بوجهین :

الأول : إن الإطلاق علی قسمین ، فتارةً : هو شمولی مثل أکرم العالم ، أکرم الهاشمی ، ففی مثله یحمل علی التأکید ، لئلّا یلزم اجتماع المثلین ، و کذا فی العام مثل : أکرم کلّ عالم و أکرم کلّ هاشمی .

و اخری : هو بدلی ، فإنْ کان کذلک ، تعدَّد الموضوع و بتبعه یتعدّد الحکم ، و مع التعدّد لا معنی للحمل علی التأکید ، لکنّ العقل لمّا رأی انطباق کلا الحکمین علی المورد الواحد و أنه مصداق لکلا الموضوعین ، حکم بکفایة الإکرام مرّةً ، لحصول الامتثال لکلا الحکمین به .

و هذا الوجه لأجود التقریرات ، قال مشیراً إلی نظر الکفایة ما نصّه : لا معنی لتأکّد الطلب فی مورد الاجتماع أصلاً ، لأن متعلّق الطلب فی العموم البدلی إنما

ص:216


1- 1) أجود التقریرات 2 / 273 .
2- 2) کفایة الاصول : 203 .

هی نفس الطبیعة الملغاة عنها الخصوصیات ، فالفرد المأتی به لیس بخصوصه متعلّقاً للأمر لیتأکّد طلبه عند تعلّق الأمرین به ، و إنما یجوز الإتیان فی مقام امتثال الأمر بالطبیعة ، لأنه مقتضی الترخیص فی التطبیق المستفاد من الإطلاق .

و الوجه الثانی هو للمحقق الخوئی ، فقد قال فی الهامش : هذا ، مضافاً إلی أن الالتزام بتأکد الحکم فی مورد الاجتماع یستلزم الالتزام بکون الحکم المجعول فی مورد العامّین من وجه ثلاثة أحکام ، یکون واحد منها متأکداً و الاثنان منها غیر متأکدین ، مع أنه واضح البطلان .

و توضیحه : إنه لما کانت النسبة العموم من وجهٍ ، فلا محالة یکون الحکم فی کلٍّ من موردی الافتراق غیر الحکم فی الآخر ، فهنا حکمان . فإن قلنا بالحکم الواحد المؤکّد فی مورد الاجتماع لزم الالتزام بحکمٍ ثالث ... لکنه واضح البطلان .

إذن ، لا یوجد حکم واحد مؤکّد ، بل هما حکمان ، لکن العقل یری حصول الامتثال بالمجمع بین العنوانین .

رأی الأُستاذ

و قد وافق الشیخ الأُستاذ فی الدورتین صاحب ( الکفایة ) فیما ذهب إلیه من تأکّد الحکم ، فالاستاذ و إنْ عبّر عن دلیل المیرزا بأنّه فی کمال المتانة ، لکنّه قال بأنّه خلط بین الکشف اللّمی العقلی و الکشف اللفظی .

أمّا السید الخوئی ، فإنّه - و إنْ ذکر ما تقدّم فی هامش الأجود - لم یتعرّض له فی ( المحاضرات ) (1) ، و اکتفی بکلام المیرزا .

و قد أیّد الأُستاذ نظر ( الکفایة ) بما حاصله : إن الأحکام العقلیة علی ثلاثة أقسام :

ص:217


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 269 .

( 1 ) الأحکام العقلیّة العملیّة المترتبة علی الأحکام الشرعیّة ، کحکم العقل بلزوم إطاعة المولی و حرمة المعصیة . و هذا القسم لا یقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی .

( 2 ) الأحکام العقلیّة النظریّة ، کحکم العقل باستحالة اجتماع الضدّین .

و هذا القسم یقع - بضمیمة حکم شرعیّ إلیه - فی طریق الاستنباط کما فی باب الترتب ، حیث یوجد الحکم الشرعی و یدرک العقل بأنّ الأمر بالشیء یلازم النهی عن ضدّه . لکن هذا القسم لیس مورد الملازمة بین العقل و الشرع .

( 3 ) الأحکام العقلیة التی هی مورد قاعدة الملازمة . فإن العقل یدرک الملاک و عدم المانع من تأثیره ، ففی مثله تجری القاعدة و یستنبط الحکم الشرعی ، لأن الأحکام الشرعیة تابعة للملاکات ، فإذا احرز الملاک عقلاً ترتب الحکم الشرعی ترتب المعلول علی علّته .

و فیما نحن فیه :

إن کان النظر إلی الدلیل اللّفظی الکاشف عن الحکم الشرعی ، فالحق مع المیرزا و من تبعه ، لأنَّ الإطلاق - کما ذکر - بدلی ، و لا معنی للحکم الثالث فی البین ، لکنْ هنا طریق عقلی ، فإنه من الأمر بإکرام العالم علی البدل ، نستکشف وجود الملاک القابل للانطباق علی أیّ فردٍ من العالم ، فقد احرز الملاک فی إکرام العالم ، و کذلک الحال فی طرف الهاشمی ، إذْ یحرز الملاک لإکرامه عن طریق الأمر اللّفظی ، فیکون العالم الهاشمی مجمعاً للملاکین .

فإمّا یؤثّران معاً و إمّا لا یؤثّران أصلاً ، و إمّا یؤثر أحدهما المعیَّن دون الآخر ، و إمّا یؤثر أحدهما المردد .

أمّا المردّد ، فلا واقع له .

ص:218

و أمّا المعیّن ، فترجیح بلا مرجّح .

و أمّا أن لا یؤثّرا ، فباطل .

و یبقی أن یؤثّر کلاهما ، و تأثیر کلیهما علی المورد الواحد لیس إلّا بنحو الواحد المؤکّد .

هذا تمام الکلام فی مفهوم الشرط .

ص:219

مفهوم الوصف

اشارة

هل للوصف مفهوم ، بمعنی أنْ یدلّ الکلام علی انتفاء الحکم بانتفاء الوصف أو لا ؟

فیه ثلاثة أقوال ، و قبل الورود فی الأقوال و الأدلّة ، نذکر مقدّمتین لتحریر موضوع البحث .

المقدمة الاولی

إن الحکم تارة یترتّب علی الوصف فقط کأن یقال : المستطیع یحجّ ، فهذا خارج عن البحث ، بل یعتبر أن یکون الوصف معتمداً علی الموصوف کأن یقال :

المکلّف المستطیع یحج .

و الوجه فی اعتبار ذلک هو : إنه لو کان للوصف غیر المعتمد مفهوم لزم أن یکون اللقب کذلک ، لکنَّ اللقب لا مفهوم له بالاتفاق ، و الوصف غیر المعتمد لا فرق بینه و بین اللقب ، فمجرد انتفاء العالم یکفی لانتفاء وجوب إکرامه ، لحکم العقل بانتفاء الحکم بانتفاء موضوعه ، بخلاف ما إذا قلنا : زید العالم یجب إکرامه ، فإنّه مع انتفاء العلم یکون زید باقیاً و للبحث عن ثبوت المفهوم و عدمه مجال .

المقدمة الثانیة

إنّ الوصف تارةً : یساوی الموصوف مثل الضحک بالإضافة إلی الإنسان ، و اخری : هو أعم منه ، کالإحساس بالإضافة إلیه ، و ثالثة : أخص منه مثل العادل بالإضافة إلی العالم ، و رابعةً : یکون أعمّ منه من وجهٍ مثل السّوم بالإضافة إلی الغنم .

ص:220

أمّا الأول ، فخارج عن البحث ، لعدم بقاء الموضوع إذا انتفی الوصف .

و کذلک الثانی ، لأنه مع انتفاء الإحساس لا یبقی الإنسان .

فالقسمان الثالث و الرابع مورد البحث فی المقام .

دلیل القول بثبوت المفهوم
اشارة

الأقوال فی المسألة ثلاثة ، فالمشهور عدم المفهوم ، و قیل بثبوته ، و قیل بالتفصیل بین ما إذا کان الوصف علةً فالمفهوم ، و ما إذا لم یکن فلا .

و استدلّ للقول بثبوت المفهوم بوجوهٍ ستة :

الوجه الأول :

إنه إن لم یکن للوصف دلالة علی المفهوم کان أخذه فی الکلام من الحکیم لغواً ، و لا لغویة فی کلامه . و بهذا استدلّ بعضهم کالبروجردی فی مفهوم الشرط .

و فیه : انه موقوف علی عدم الفائدة فی أخذ الوصف فی الکلام ، و الحال أنه قد یؤخذ للدلالة علی مقاصد اخری کما فی قوله تعالی «وَلٰا تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَکُمْ خَشْیَةَ إِمْلاٰقٍ » (1)ففی أخذه - خشیة إملاق - حکمة دفع توهّم جواز قتل الأولاد فی هذه الحالة .

الوجه الثانی

أصالة الاحترازیة فی القیود ، فإنّ مقتضی الأصل فی القیود الزائدة علی الموضوع المذکورة فی الکلام ، هو الاحتراز عن فاقد القید ، و الأصل أصیلٌ ما لم تقم قرینة علی الخلاف .

و قد أجاب السید الخوئی (2) : بأنها قاعدة جاریة فی موارد التعریفات و فی

ص:221


1- 1) سورة الإسراء : الآیة 31 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 275 .

الحدود و التعزیرات ، أمّا فی غیرها فلا .

و فیه : إنه أصلٌ عقلائی و لا یختص بموردٍ دون آخر .

و الصحیح أن یقال فی الجواب : إن الأصل فی القیود هو الاحترازیّة بمعنی أنها لیست توضیحیّةً ، و لکنْ هل الاحتراز لنفی الحکم عن الفاقد أو لفائدةٍ اخری ؟ إنه لا مثبت لهذه الجهة ، و لا بدّ لإفادتها من دلیلٍ آخر غیر أخذ القید .

الوجه الثالث

إن تقیید الموضوع بقید زائد مشعر بالعلیّة ، و حینئذٍ ، یلزم الانتفاء عند الانتفاء .

أشکل علیه المیرزا (1) و تبعه السید الخوئی :

أولاً : هذه العلیّة بحاجةٍ إلی قرینةٍ فی مقام الإثبات .

و ثانیاً : سلّمنا ، لکن المفهوم یتوقف علی کونها علیّة منحصرة ، و لا دلیل علیه .

لکنّ المحقق الأصفهانی (2) ذکر لأصل الإشعار بالعلیّة : إنّ کلّ شرط أو قید ، فهو إمّا متمّم لفاعلیّة الفاعل و إما متمّم لقابلیة القابل ، أمّا فی المقام فهو من قبیل الثانی ، فإن وجود القید أو الشرط یفید ذلک و لا یحتاج إلی قرینةٍ زائدة ، لأن الشرط لیس إلّا العلّة ، إذ العلیّة المقصودة هنا أعمّ من المقتضی .

و ذکر للدلالة علی الانحصار : إن مجرّد أخذ خصوصیّة العنوان بعنوانه یدلّ علیه ، فإذا قال : جئنی بماءٍ باردٍ ، کان لفظ « البارد » مقیداً لقابلیّة الأمر للبعث ، فکانت الدلالة علی الانحصار ، و به یثبت المفهوم .

ص:222


1- 1) أجود التقریرات 2 / 278 .
2- 2) نهایة الدرایة 2 / 436 .
قال الأُستاذ

و ما ذکره تام و به یندفع الإشکال . لکنّ من الواضح أن أخذ القید الزائد یخرج الموضوع عن الإطلاق ، و المشکلة هی أن تحدید الموضوع کما یکون للعلیّة فیفید الانتفاء عند الانتفاء ، یکون للاهتمام بالقید کما فی «حٰافِظُوا عَلَی الصَّلَوٰاتِ وَالصَّلاٰةِ الْوُسْطیٰ » (1)و أن یکون لدفع التوهّم کما تقدم فی «لٰاتَقْتُلُوا أَوْلاٰدَکُمْ خَشْیَةَ إِمْلاٰقٍ » (2). إذن ، یمکن أن یکون أخذ القید أو الشرط لحکمة اخری .

الوجه الرابع

إنه إن لم یکن للوصف دلالة علی المفهوم ، فما هو الملاک لحمل المطلق علی المقیّد ؟

و هذا الوجه للمحقق البهائی . و تقریبه : إنه إذا کان المطلق و المقیّد مثبتین ، فلا محالة یحمل المطلق علی المقید ، لکنّ الحمل هذا فرعٌ علی التنافی ، و لو لا الدلالة علی المفهوم لما تحقق التنافی حتی یکون الحمل و الجمع العرفی .

و الجواب : إن الملاک للحمل لیس الجهة النفییّة بل هو الجهة الإثباتیة ، لأنّ المطلوب بالخطاب الأوّل هو صرف الوجود ، و المطلوب بالخطاب الثانی هو الوجود المقیّد ، و المفروض وحدة التکلیف فی المطلق و المقیّد ، فیقع بلحاظها التنافی بینهما ، و تصل النوبة إلی الجمع .

الوجه الخامس

ما جاء فی کلام المحقق الأصفهانی الذی أوردناه جواباً علی إشکال المیرزا

ص:223


1- 1) سورة البقرة : الآیة 238 .
2- 2) سورة الإسراء : الآیة 31 .

و السید الخوئی .

و قد تقدّم إشکال الأُستاذ علی ذلک .

دلیل عدم المفهوم

إنه و إنْ کفی عدم الدلیل للعدم ، لکنهم مع ذلک یذکرون له وجهاً نقضیّاً و آخر حلّیاً .

أمّا نقضاً ، فإن القول بالمفهوم هنا یستلزم القول بثبوته فی اللّقب ، و لم یقل به أحد . و بیان الملازمة هو : أنه لا فرق بین الوصف و اللقب إلّا بالإجمال و التفصیل ، لأنّ معنی قولک : الفقیر یجب إکرامه هو : الإنسان الفقیر یجب إکرامه ، نعم ، فرق بین العنوان الوصفی حیث یقع التفکیک بین الوصف و الذات و العنوان الذاتی ، لکنّ هذا الفرق لا أثر له فی المقام .

و أمّا حلّاً ، فقد ذکر المیرزا ما حاصله : إن المفهوم یتقوّم بأمرین أحدهما : أنْ یکون الحکم سنخاً لا شخصاً . و الآخر : أن یکون التقیید مولویّاً حتی یکون الانتفاء عند الانتفاء مستنداً إلیه و تکون العلة منحصرةً ، فلو کان الانتفاء عقلیاً خرج عن البحث ، کما لو کان الحکم المنتفی شخصیّاً .

و هذا الأمران موجودان فی الشرط کما تقدّم . أمّا فی الوصف فلا ، لأنّ القید قیدٌ للموضوع لا للحکم ، و تقیید الموضوع متقدم رتبةً علی الحکم و النسبة ، فإذا انتفی القید ینتفی الحکم عقلاً ، لأن انتفاء کلّ حکم بانتفاء موضوعه عقلی و لا ربط له بالمولی ... .

لکنْ لقائل أن یقول : إنّ کلّ ما اقتضی دلالة الجملة الشرطیّة علی المفهوم فهو موجود فی الوصف کذلک ، إذ التقیید فی کلیهما مولوی ، غیر أنّ القید جاء فی الشرط علی الحکم أوّلاً و بالذات ، أمّا فی الوصف فثانیاً و بالعرض ، و هذا المقدار

ص:224

من الفرق لا یکون فارقاً ، لأنّ التقیید یرجع إلی المدلول و لیس عقلیّاً ، کما أنّ الانحصاریة أیضاً موجودة فی الوصف - من جهة ظهور أخذه دون غیره فی الانحصار - کما أنها موجودة فی الشرط ، فلما ذا یقال هناک بالمفهوم و لا یقال هنا ؟

لقد ذکر المحقق العراقی فارقاً آخر و أفاد ما حاصله (1) : إن الحکم المعلَّق علی الوصف ، یأتی بنحو الطبیعة المهملة و یستحیل الإطلاق فیه ، و ما یکون کذلک فلا مفهوم له . بخلاف الشرط ، فإنه قابل للإطلاق فتجری فیه ثبوتاً أصالة الإطلاق و یخرج الحکم بذلک عن الإهمال ، و إذا کان مطلقاً و علّق علیٰ الشرط فلا محالة ینتفی بانتفاء الشرط ، و هذا هو المفهوم .

مثلاً : إذا قال : أکرم زیداً العالم ، لا یکون للإکرام إطلاق بالنسبة إلی عمرو و بکر و خالد و غیرهم من الأفراد ، کما لا دلالة له علی الإطلاق بالنسبة إلی أحوال زید من القیام و القعود و غیرها . أمّا فی إذا جاءک زید فأکرمه ، فإنّ الحکم بوجوب الإکرام کان مطلقاً لا مهملاً لو لم یقیّد بالمجیء ، فلمّا قُید ثبت له المفهوم .

و الحاصل : إن الحکم فی الشروط هو المطلق و السنخ ، و فی الوصف مهمل جزئی ، فلذا دلّ فی الشرط علی المفهوم و لم یدل علیه فی الوصف .

یبقی أنه ربما یکون فی بعض الروایات دلالة علی ثبوت المفهوم للوصف ، من جهة استدلال الإمام علیه السلام به علی الحکم ، کما فی الخبر عن موسی بن بکر عن زرارة عن أبی عبد الله علیه السلام قال : « و ما خلا الکلب مما تصید القیود و الصقور و أشباه ذلک ، فلا تأکل من صیده إلّا ما أدرکت ذکاته ، لأن اللّٰه عزّ و جلّ یقول : «مُکَلِّبینَ » (2)، فما کان خلاف الکلب فلیس صیده بالذی یؤکل الّا إن

ص:225


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 499 .
2- 2) سورة المائدة : الآیة 4 .

تدرک ذکاته » (1) .

و سند الخبر عندنا معتبر لوثاقة موسی بن بکر . و أمّا دلالةً فإن الإمام علیه السلام تمسّک للحکم بکلمة «مُکَلِّبینَ » فی الآیة ، فدلّت علی أن غیر الکلب لا یؤکل صیده .

و قد جاء الخبر فی تفسیر العیاشی مرسلاً .

لا یقال : لعلّ هذا التعلیل من الإمام علیه السلام تعبّدی .

لأنه یقال : التعبّد خلاف الأصل ، بل الظاهر أن للوصف دخلاً فی المعنی .

لکنّ التحقیق ما تقدم فی أثناء البحث ، من أنّ تقیید الموضوع بقید قد یکون لدفع التوهّم ، نظیر الآیة «لٰاتَقْتُلُوا أَوْلاٰدَکُمْ » (2)و نظیر قوله علیه السلام « إیّاک و ظلم من لا یجد ناصراً علیک إلّا اللّٰه » (3) ... فلیس للوصف مفهومٌ ، و إنّما یقیّد الکلام به لغرضٍ آخر غیر المفهوم ، و فی روایة زرارة کذلک .

و هذا تمام الکلام فی مفهوم الوصف .

ص:226


1- 1) وسائل الشیعة 23 / 339 ، الباب 3 من أبواب الصید ، رقم : 3 .
2- 2) سورة الإسراء : الآیة 31 .
3- 3) وسائل الشیعة 16 / 48 ، الباب 77 من أبواب جهاد النفس ، رقم : 6 .

مفهوم الغایة

الاستدلال لثبوت المفهوم
اشارة

ذکروا لإثبات المفهوم وجوهاً :

الأول : ما ذکره المحقق الخراسانی (1) و حاصله :

إنّ الغایة إن کانت قیداً للحکم کما فی « کلّ شیء لک حلال حتی تعرف أنه حرام » (2) فمقتضی القاعدة ثبوت المفهوم ، و إنْ کانت قیداً للموضوع مثل «أَتِمُّوا الصِّیٰامَ إِلَی اللَّیْلِ » (3)فلا .

و الدلیل علی ثبوته هناک ، هو التبادر و حکم العقل بانتفاء الحکم ، و إلّا فلو کان ثابتاً بعد الغایة لزم لغویة التقیید بها .

و أمّا اعتبار أن یکون الحکم المغیّی سنخیّاً لا شخصیّاً ، فذلک یتمُّ علی مبنی صاحب ( الکفایة ) ، من جهة أن الحکم المغیّا إن کان اسمیّاً کما فی الخبر المذکور فلا إشکال ، لأن مدلول « حلال » هو طبیعة الحلیّة فلیس شخصیّاً . و إن کان حرفیّاً ، فإنّ المعانی الحرفیة عنده عامّة و لیست بجزئیة ، و إنما تتحقّق الجزئیة لها بالاستعمال ... فالسنخیّة علی کلّ تقدیرٍ حاصله للحکم و الإشکال مندفع .

هذا ، و لا یخفی أن التمثیل بالحدیث المزبور مبنیٌّ علی ما ذکره فی مبحث الاستصحاب من أن « الحلیّة » فیه حکم واقعی و« حتی تعرف » غایةٌ تدلّ علی

ص:227


1- 1) کفایة الاصول : 208 .
2- 2) وسائل الشیعة 25 / 119 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، رقم : 7 مع اختلافٍ فی اللفظ .
3- 3) سورة البقرة : الآیة 187 .

الاستصحاب ، و حاصل الحدیث : إنّ الحلیّة - التی هی حکم واقعی لا ظاهری ، و مجعول علی الأشیاء الخارجیّة - مستمرةٌ ثابتة حتی تعلم أنّ الشیء حرام ... خلافاً لمن یری أنّ مدلول الحدیث حکم ظاهری مثل « کلّ شیء لک طاهر » (1) .

و أیضاً : لا یخفی أنّ تمثیله به لإفادة التحدید للحکم ، و لا نظر له إلی أن کون هذا التحدید مولویاً أو عقلیّاً ، و إنْ کان هو عقلیّاً .

هذا توضیح کلامه فی الدلالة علی المفهوم إن کان القید قیداً للحکم .

و أمّا إن کان قیداً للموضوع ، فلا دلالة علیه ، بل هو ملحق بالوصف ، لأنه مع الانتفاء ینتفی الموضوع ، فتکون القضیّة سالبةً بانتفاء الموضوع .

نعم ، تفید الغایة فائدة الوصف من الأهمیة أو دفع التوهّم أو غیر ذلک ، مما ذکر هناک .

و الثانی : ما ذکره المیرزا رحمه اللّٰه : من أنه کلّما جاءت الغایة قیداً لمعنی أفرادی فلا یتحقق لها المفهوم ، و متی ما کانت قیداً لمفاد جملة مرکّبة فالمفهوم ثابت .

هذا بحسب مقام الثبوت .

و أما الإثبات ، فهو یری أن الغایة إنما یؤتی بها فی الکلام قیداً لمدلول الجملة و بعد المادّة المنتسبة - حسب اصطلاحه - ، فلمّا یقال مثلاً : سر من البصرة إلی الکوفة ، تجعل ( إلی ) قیداً ل( سر ) و هو جملة و لیس بمفهومٍ أفرادی ، و بعبارته الاصطلاحیة : هو مادّةٌ وقعت تحت النسبة و ورد علیها الحکم الوجوبی ، فیکون القید راجعاً إلی الحکم دون الموضوع و یتحقّق له المفهوم .

و الثالث : ما ذکره المحقق العراقی : من أنّ الغایة إن کانت قیداً للحکم ،

ص:228


1- 1) وسائل الشیعة 3 / 476 ، الباب 25 ، الرقم : 4 . بلفظ « نظیف » .

فلا دلالة لها علی المفهوم ، و کذا إن کانت قیداً للموضوع ، بل إنّها تدلّ علی المفهوم إن کانت قیداً للنسبة الحکمیة ، فإنّها حینئذٍ تصبح کالشرط ، ببیان : أن مقتضی الإطلاق الذی ذکر فی مبحث الشرط هو انحصار سنخ الحکم بشخص الحکم المنشأ ، ثمّ حدّدت النسبة الحکمیة بحدٍّ ، و هذا هو الدلالة علی المفهوم .

فلو قال : أکرم زیداً إلی اللیل ، کان ظاهراً فی الانحصار بشخص هذا الحکم ، و لما قیّدت هذه النسبة الحکمیة « إلی اللیل » دلّ الکلام علی انتفاء وجوب الإکرام بانتفاء النهار و دخول اللیل . فکلام المحقق العراقی ناظر إلی مقام الإثبات .

و الرّابع : ما ذکره المحقق الخوئی فی ( المحاضرات ) (1) من أن الغایة إن کانت قیداً للموضوع رجع دلالتها علی المفهوم إلی دلالة الوصف علیه ، لأن المراد من الوصف هو الأعمّ من الوصف الاصطلاحی و الحال و التمییز و ما شاکل ذلک ، فیکون التقیید بالغایة من صغریات التقیید بالوصف .

و إن کانت قیداً للحکم ، فالکلام تارةً : فی مقام الثبوت ، و اخری : فی مقام الإثبات .

أمّا فی المقام الأوّل : فلا شبهة فی الدلالة علی الانتفاء عند تحقق الغایة ، بل لا یبعد أن یقال بأن دلالتها علی المفهوم أقوی من الشرط ، ضرورة أنه لو لا دلالته علی ذلک یلزم أن لا یکون ما فرض غایةً غایةً . و هذا خلف .

و أمّا فی المقام الثانی : فالظاهر أنّ الغایة قید للفعل و هو المتعلّق دون الموضوع کسائر القیود . و أمّا رجوعه إلی الموضوع ، فیحتاج إلی قرینة کما فی الآیة «فَاغْسِلُوا ... » ، إذ أنّ «إِلَی الْمَرٰافِقِ » قید للموضوع و هو الید لا للمتعلّق و هو الغسل ، و کذا الأمر فی «إِلَی الْکَعْبَیْنِ » (2)فإنه غایة لتحدید الممسوح . هذا کلّه

ص:229


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 282 - 283 .
2- 2) سورة المائدة : الآیة 6 .

فیما إذا کان الحکم فی القضیة مستفاداً من الهیئة . و أما إذا کان مستفاداً من مادّة الکلام ، فإن لم یکن المتعلّق مذکوراً فیه کقولنا : یحرم الخمر إلّا أن یضطرّ المکلّف إلیه ، فلا شبهة فی ظهور الکلام فی رجوع القید إلی الحکم . و أما إنْ کان مذکوراً فیه کما فی قولنا : یجب الصیام إلی اللیل ، فلا یکون للقضیة ظهور فی رجوع الغایة إلی الحکم أو إلی المتعلّق ، فلا تکون لها دلالة علی المفهوم ما لم تقم قرینة من الداخل أو الخارج علیها .

و الحاصل : إن الحکم فی القضیة إنْ کان مستفاداً من الهیئة ، فالظاهر من الغایة کونها قیداً للمتعلّق لا للموضوع ، و الوجه فیه لیس ما ذکره جماعة منهم شیخنا الأُستاذ من أن مفاد الهیئة معنی حرفی ، و هو غیر قابل للتقیید ، و ذلک لما حقّقناه فی بحث الواجب المشروط من أنه لا مانع من رجوع القید إلی مفاد الهیئة ، بل الوجه فیه هو أن القضیة فی أمثال الموارد فی نفسها ظاهرة فی رجوع القید إلی المتعلّق و المعنی الاسمی دون الحکم و مفاد الهیئة .

و إنْ کان الحکم مستفاداً من مادّة الکلام ، فقد عرفت ظهور القید فی رجوعه إلی الحکم إن لم یکن مذکوراً ، و إلّا فلا ظهور له فی شیء منهما فلا دلالة ، إلّا بمعونة القرینة .

رأی الأُستاذ :

و قد وافق الأُستاذ - فی کلتا الدورتین - المیرزا النائینی ، فذکر ما حاصله : إنّ مقتضی القاعدة أن تکون الغایة قیداً للمعنی الحدثی ، و إنْ خالفه فی قوله برجوع القید إلی المادّة - فی مبحث الواجب المشروط - لأن معنی الهیئة حرفی ، و قال هناک بقابلیّة الهیئة للشرط . و حاصل کلامه هنا : إنّ الحق مع المیرزا فی رجوع القید إلی المادّة المنتسبة ، لأنّ ذلک هو الموافق لاستظهار الإمام علیه السلام ، فقد

ص:230

روی الکلینی فی الصحیح عن سماعة قال : « سألته عن رجلین قاما فنظرا إلی الفجر ، فقال أحدهما : هو ذا ، و قال الآخر : ما أری شیئاً . قال علیه السلام : فلیأکل الذی لم یستبِن له الفجر ، و قد حرم علی الذی زعم أنه رأی الفجر . إنّ اللّٰه عز و جلّ یقول : «کُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّٰی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ اْلأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ اْلأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ » (1)» (2) .

فقد استدلّ الإمام علیه السلام بالآیة و استظهر منها المفهوم ، و الحکم فیها لیس بمدلولٍ اسمی ، إذ لیس فی الآیة کلمة « یجب » أو « یحرم » و نحوهما ، بل الحکم مدلول للهیئة و هو «کُلُوا وَاشْرَبُوا » . فالقول بأن الغایة إنْ کانت قیداً للمتعلّق فلا مفهوم - کما ذهب إلیه فی ( الکفایة ) - ینافی النص ، و القول بعدم المفهوم إنْ کان الحکم مفاد الهیئة ساقط .

فتلخص : إنّ الحق مع المیرزا فی ما ادّعاه و إنْ لم یتم دلیله .

إذن ، للغایة مفهومٌ سواء کانت غایةً للحکم أو للمادة التی وقع علیها الحکم ، و سواء کان الحکم مدلولاً للهیئة أو مستفاداً من المادّة التی هی مدلول اسمی کالوجوب و الحرمة .

و هذا مقتضی القاعدة و الارتکاز العرف أیضاً .

ص:231


1- 1) سورة البقرة : الآیة 178 .
2- 2) وسائل الشیعة 10 / 119 ، الباب 48 . رقم : 1 .

مفهوم الحصر

و للحصر أدوات . منها کلمة ( إلّا) ، و هی تدلّ علیه إذا کانت بمعنی الاستثناء ، أما عند ما تکون بمعنی الصّفة فلا ، لما تقدّم من أن لا مفهوم للوصف .

و أمّا دلالتها علی الحصر فی صورة کونها بمعنی الاستثناء ، فلأن الاستثناء هو نفی الحکم الثابت فی المستثنی منه أو إثبات الحکم المنفی ، فلما یقول : « أکرم العلماء إلّا الفساق » یخرج الفسّاق و یعزلهم عن العلماء فی الحکم الثابت لهم و هو الإکرام ، فینحصر الحکم بالعدول منهم ... و هذا هو المرتکز عند العرف ، و لذا یرون التناقض فیما لو قال ذلک ثم أمر بإکرام الفسّاق کذلک .

و لم یخالف فی هذا إلّا أبو حنیفة مستدلّاً ب« لا صلاة إلّا بطهور » (1) .

و قد أجیب بوجوه ، أمتنها ما فی حاشیة ( الکفایة ) (2) : من أن مثل هذا الکلام ظاهر عرفاً فی الاشتراط ، أی إنّ الصّلاة مشروطة بالطّهارة .

و الحاصل أن لا شبهة فی دلالة الاستثناء علی الانحصار .

إنما الکلام فی أنها دلالة منطوقیة أو مفهومیّة ؟

اختار الأُستاذ و غیره الأول تبعاً للمیرزا ، ثم قال : بأن البحث عن ذلک قلیل الجدوی ، بعد ثبوت أصل المطلب .

و من أدوات الاستثناء المفیدة للحصر کلمة « إنما » ، و قد نصّ علماء (3) اللّغة

ص:232


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 315 .
2- 2) کفایة الاصول : 209 - 210 .
3- 3) قال الفیّومی : « قیل : تقتضی الحصر » ، قال الجوهری : « إذا زدت ( ما ) علی ( إنّ ) صارت للتعیین ... » المصباح المنیر : 26 .

و النحو علی دلالتها علی ذلک ، و هو المتبادر منها ... و قد کابر الفخر الرازی (1)مدّعیاً النقض بقوله تعالی «إِنَّمٰا مَثَلُ الْحَیٰاةِ الدُّنْیٰا کَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ السَّمٰاءِ » (2)و « إِنَّمَا الحَْیَوةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ ... » (3).

و قد أُجیب عن ذلک بالتفصیل فی ( المحاضرات ) (4) .

ثم إن صاحب ( الکفایة ) تعرض لکلمة التوحید و أنه هل الخبر هو « ممکن » أو « موجود » . فإنْ کان الأول ، أفاد إمکان الذات و لیس هو المقصود . و إن کان الثانی ، أفاد الوجود و لا ینفی الإمکان عن غیر البارئ .

فذکر إمکان جعل « الممکن » هو الخبر ، و لا یقع أی إشکال ، لأن هذا الإمکان هو الإمکان العام ، و هو فی الواجب مساوق لضرورة الوجود ، لا الإمکان الخاص ، لأنه یقابل وجوب الوجود ، إذ هو سلب الضرورة عن الوجود و العدم .

و أمّا ما فی تقریر بحث السیّد البروجردی رحمه اللّٰه من أن هذه الکلمة تنفی العبادة عن غیر اللّٰه و لا تنفی الالوهیّة عن الغیر ، فلا ربط لها بالتوحید (5) ، مستدلّاً بأنّ المشرکین فی ذلک الوقت کانوا مشرکین فی العبادة لأنهم کانوا یقولون « مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِیُقَرِّبُونَا إِلی اللَّهِ زُلْفَی » (6)و لم ینکروا صفات اللّٰه کالخالقیّة و الرازقیّة .

ص:233


1- 1) التفسیر الکبیر 12 / 30 .
2- 2) سورة یونس : الآیة 24 .
3- 3) سورة محمّد : الآیة 36 .
4- 4) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 288 .
5- 5) نهایة الاصول : 283 .
6- 6) سورة الزمر : الآیة 3 .

فغفلة عن الآیات ، فإنهم کانوا ینکرون الالوهیّة للّٰه کما فی قوله تعالی « وَکَذٰلِکَ نُری إِبْرٰاهیمَ مَلَکُوتَ السَّمٰاوٰاتِ وَاْلأَرْضِ ... » (1)و فی قوله تعالی «لَذَهَبَ کُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ » (2)و نحو ذلک .

فالکلمة مرتبطة بالتوحید .

مفهوم العدد

لا بحث فیه إلّا کلمة واحدة هی : إنْ کان العدد فی مقام التحدید ، دلّ علی المفهوم و إلّا فلا .

و هذا تمام الکلام فی المفاهیم . و الحمد للّٰه .

ص:234


1- 1) سورة الأنعام : الآیة 75 .
2- 2) سورة المؤمنون : الآیة 91 .

المقصد الرابع العام و الخاص

اشارة

ص:235

ص:236

تعریف العام

اشارة

قد عرّف العام بتعاریف ، کقول بعضهم - کما فی ( الفصول ) (1) - : « هو اللفظ المستغرق لما یصلح له » و کقول ( الفصول )(2) : « ما استغرق جمیع جزئیات مفهومه لفظاً » . و کقول الشیخ البهائی - کما فی القوانین( (2)) - : « هو اللفظ الموضوع للدلالة محل استغراق أجزائه أو جزئیاته » و( الکفایة )( (3)) : « شمول المفهوم لجمیع ما یصلح أن ینطبق علیه » .

قال الأُستاذ - فی الدّورة السّابقة - إن أحسن التعاریف هو : کون اللّفظ بحیث یشمل مفهومه لجمیع ما یصلح أن ینطبق مفهوم الواحد .

لکن یرد علیه : عدم شموله للعام البدلی ، لأنه عبارة عن الواحد علی البدل ، و الحال أنه لیس له « واحد » منطبق علیه .

قال فی ( الکفایة ) ، إنها تعاریف لفظیّة ، و المعنی المرکوز من العامّ فی الأذهان أوضح ممّا عرف به مفهوماً و مصداقاً ... و هذا هو الصحیح .

ص:237


1- 1) ( و 2) الفصول الغرویّة : 157 .
2- 2) قوانین الاصول : 192 .
3- 3) کفایة الاصول : 217 .

و هنا مطالب :

الأول ( فی الفرق بین العام و المطلق ) .

إن العام و المطلق کلیهما یفیدان شمولیّة المفهوم ، إلّا أن الأوّل یفید ذلک بحسب وضع الأداة ، و المطلق یفیده ببرکة مقدّمات الحکمة . هکذا قالوا .

و التحقیق هو : إن الحکم فی المطلق یتوجّه إلی الطبیعة بما هی، و أمّا الخصوصیّات ، فقد وقع الخلاف بینهم فی أنها تُلحظ و ترفض أو لا تلحظ أصلاً ، و قد اختار الأُستاذ - فی الدورة السّابقة - الأول من القولین . هذا بحسب مقام الثبوت .

أمّا فی مقام البیان ، فالموجود فی هذا المقام هو البیان بالنسبة إلی الطبیعة و عدمه بالنسبة إلی الخصوصیّات ، فهو یلحظ الرقبة و یلحظ خصوصیاتها بنحو الإجمال و یرفضها ، و لذا کان الإطلاق فی مقام الإثبات عدمیّاً ، فالمتکلّم مع کونه فی مقام البیان لم یبیّن دخل الخصوصیّة فی حکمه ، فکان عدم البیان دلیلاً علی عدم الدخل .

و أمّا فی العام ، فإن الخصوصیّات تلحظ و تؤخذ ، فإذا قال : أکرم کلّ عالم ، دلّ بکلمة « کلّ » علی أخذه جمیع الخصوصیّات و نزول الحکم علیها ، و لذا قال المشهور بعدم الحاجة فیه إلی مقدّمات الحکمة خلافاً للمیرزا کما سیأتی .

و بما ذکرنا یظهر : إن الشمول فی طرف الإطلاق لازم له و لیس الإطلاق ، بخلاف العام فإن اللفظ یدلّ علیه بالمطابقة .

هذا ، و لا یخفی الأثر علی هذا الفارق الجوهری بین المطلق و العام ، کقولهم بعدم وقوع التعارض بینهما ، لکون العام حاکماً أو وارداً علی المطلق لأنه بیان و المطلق عدم البیان ... و إنْ خالفناهم فی هذا المبنی ، کما سیأتی فی محلّه .

ص:238

الثانی ( هل یحتاج إفادة العموم إلی مقدّمات الحکمة ؟ )

قال المیرزا : نعم ، لأن الدلالة علی العموم بأداته و إنْ کانت وضعیّة إلّا أنها لا تفید إلّا الاستیعاب بالنسبة إلی الأفراد ، فلما یقال : « أکرم کلّ عالم» شمل جمیع أفراد العالم ، و لکنْ هل المراد خصوص العدول منهم أو الأعم ؟ فلا دلالة لها علیه ، فنحتاج إلی مقدمات الحکمة لإفادة عدم تقیّد المتعلّق بالعدالة و غیرها من العناوین . و علی الجملة : فإن « کلّ » تفید الشمول و الاستیعاب فی الخصوصیّات المفرّدة، و أمّا الخصوصیّات الصنفیة و النوعیة ، فلا دلالة إلّا بمقدّمات الحکمة .

و قد اشکل علیه : بأن لازم هذا الکلام أنْ لا یکون عندنا لفظ صریحٌ فی العموم ، و لکنّ التالی باطل ، للفرق الواضح بین العام و المطلق ، فالمقدّم مثله .

فأجاب عنه الأُستاذ - فی الدورتین - بإمکان أن یفرّق بین الخصوصیّات الصنفیة و النوعیة و بین الأفراد ، فیقال بعدم کفایة الأداة فی الدلالة علی العموم فی تلک الخصوصیّات و أنه لا صراحة لها فیها إلّا أن یقال : أکرم کلّ عالم من کلّ صنف ، فحینئذ یکون الکلام صریحاً ... إذن، یمکن اجتماع الصراحة مع مقدّمات الحکمة ، و لا تنافی بینهما .

(قال) فالحق فی الإشکال أن یقال: بأنّ إجراء المقدّمات من أجل الدلالة العقلیّة مع وجود الأداة الدالّة علی العموم لغوٌ ، لأنّ إجرائها إنما یکون حیث لا دلالة لفظیّة ، و المفروض أنّ کلمة « کل » لها الظهور التام و الدلالة الواضحة علی إرادة جمیع الأفراد بأصنافها و أنواعها ، فلا حاجة إلی المقدمات ، و إجراؤها لغو .

الثالث ( فی انقسام العام إلی الاستغراقی و المجموعی و البدلی )

فالاستغراقی ، عبارة عن لحاظ کلّ فردٍ فردٍ موضوعاً مستقلّاً للحکم ، بحیث لو جاء الحکم لا نحلّ علی عدد الأفراد ، و کان هناک إطاعات و معاصٍ بعددها .

ص:239

و المجموعی ، عبارة عن الاستیعاب لجمیع الأفراد مع لحاظ الجمیع موضوعاً واحداً ، بحیث لو جاء الحکم فالامتثال أو المعصیة واحد .

و البدلی ، عبارة عن الإتیان بالحکم علی الفرد بنحو صرف الوجود ، و یکون الطاعة أو المعصیة واحداً لا أکثر ... لکنّ السعة هی فی مقام تطبیق الموضوع علی الفرد .

هذا ، و قد استظهر من کلام صاحب ( الکفایة ) أن هذا الانقسام إنما هو بلحاظ تعلّق الحکم ، فاُشکل علیه (1) بعدم توقّفه علی ذلک ، لأن المولی عند ما یجعل الشیء موضوعاً لحکمه ، لا بدّ أن یلحظه فی مرتبة الموضوع لاستحالة الإهمال ، فهو یلحظه إمّا بنحو الاستغراق أو الاجتماع أو البدلیّة ، هذا فی مقام اللّحاظ . و فی مقام البیان : لمّا یقول أکرم کلّ عالم أو : کلّ عالمٍ یجب إکرامه ، فلا توقف لدلالة الکلام علی الشمول للموضوع علیٰ وجود الحکم و هو وجوب الإکرام ... .

و الظاهر ورود هذا الإشکال .

إلا أن الأُستاذ - فی الدورة اللّاحقة - أفاد بأنّه و إنْ کان قوله بأن اختلاف أنحاء العموم باختلاف الأحکام ظاهراً فیما نسب إلیه ، إلا أنه لا بدّ من الدقّة فی سائر کلماته هنا و فی الفصل اللّاحق لیتّضح مراده تماماً ، و ذلک لأنه فی الفصل اللّاحق یصرّح بوجود اللّفظ الموضوع للعموم مثل « کلّ » . فمن یقول بوضع هذه الکلمة للدلالة علی العموم الاستغراقی، کیف یعقل أن یقول بأنّ الدلالة علیه ناشئة من الحکم ؟ هذا أولاً .

و ثانیاً : إنه فی نفس هذا الفصل یقول - بعد ذکر اختلاف أنحاء العموم

ص:240


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 300 - 301 .

باختلاف الأحکام - « غایة الأمر أنّ تعلّق الحکم به تارةً بنحو یکون کلّ فردٍ موضوعاً علی حدة للحکم، و اخری بنحو یکون الجمیع موضوعاً واحداً ... » فإنّ هذا الکلام ظاهر فی أنّ الاختلاف هو بسبب اختلاف الموضوعات .

فمع لحاظ کلماته الاخری یندفع الإشکال .

الرابع ( فی مقتضی الأصل )

لو شکّ فی عامٍ أنه استغراقی أو مجموعی أو بدلی ، حمل علی الاستغراقیة ، شموله للأفراد محرزاً و یشک فی أنها لُوحظت بنحوٍ یکون بعضها منضمّاً إلی البعض الآخر و هو العامّ المجموعی أوْ لا و هو العامّ الاستغراقی ؟ لأنّ مقتضی أصالة الإطلاق فی مثل أکرم کلّ عالمٍ هو الثانی ، ضرورة أن لحاظ الانضمام أمر زائد ثبوتاً و إثباتاً . و أمّا إن قلنا بأنْ العامّ الاستغراقی متقوّم بلحاظ الأفراد علی نحو الاستقلال ، و المجموعی متقوّم بلحاظها علی نحو الانضمام ، و البدلی متقوّم بلحاظها علی البدل ، فلا أصل معیّن لأحد الأقسام ، لأنّها حینئذ متباینات، و الأصل إنما یرجع إلیه عند دوران الأمر بین الأقل و الأکثر .

أمّا لو دار الأمر بین أن یکون العام مجموعیاً أو بدلیّاً، فعدم وجود الأصل المعیّن أوضح ، لتباین لحاظ الأفراد فیهما ... و لا بدّ للمتکلّم من البیان الزائد ، بأنْ یقول إذا أراد الأول : أکرم العلماء مجموعاً، و إذا أراد الثانی یقول : أکرم أیّ عالمٍ شئت ... و إلّا بقی العلم الإجمالی علی حاله .

الخامس ( فی الفرق بین العام و لفظ العشرة و أمثاله )

لا یخفی أن العام هو ما یکون مفهومه صالحاً للانطباق علی جمیع الأفراد التی یصدق علیها المفهوم مثل « العالم » ، فإذا جاءت کلمة « کلّ » و قال : « أکرم کلّ عالم » کان مفیداً لذلک فی مقام الإثبات . أمّا لفظ « العشرة » و نحوه ، فلیس صدقه

ص:241

علی الواحد و الاثنین کذلک ، بل هو من قبیل شمول الکلّ لأجزائه ، و هذا هو الفرق .

و هذا أوان الشروع فی بحوث العام و الخاص .

هل للعموم لفظ بالوضع ؟

فیه قولان ...

فقد نسب إلی الأکثر أن هناک ألفاظاً موضوعة للدلالة علی العموم ، و عن جماعةٍ إنکار ذلک لوجهین :

الأول : لأن الخصوص هو القدر المتیقّن من المراد ، فإذا کان هو المقطوع به و کان العموم مشکوک الإرادة ، کان الخصوص أولی بأنْ یکون الموضوع له ، فلا وضع للعموم بل هو للخصوص مثل کلمة « الخاص » و کلمة « فقط » .

و فیه : کون الخاص هو القدر المتیقن فی مقام الإرادة الجدیّة لا یقتضی أولویته بالوضع ، لأن غایة ذلک أن یکون اللفظ مثل « خصوص » صریحاً فی الدلالة علی معناه ، لکنّ الصراحة غیر الوضع ، فقد یکون اللّفظ موضوعاً لمعنیً لکنه غیر صریح بل هو ظاهر فیه . هذا أولاً . و ثانیاً : هذه الأولویّة لیست عقلیة و لا عرفیّة ، بل هی استحسانیة خطابیّة .

و الثانی: ما اشتهر من أنه ما من عامٍ إلّا و قد خصّ ، فلو کان هناک لفظ موضوع للعموم ، لزم أن تکون المجازات أکثر من الحقائق .

و فیه: أنه سیأتی أن معنی ورود التخصیص علی العام عدم تعلّق الإرادة الجدیّة به ، أمّا کونه مراداً فی مرحلة الاستعمال فلا ریب فیه ؛ فلا یلزم المجاز أصلاً . هذا أولاً . و ثانیاً : إنه لو تنزّلنا عن ذلک، و سلّمنا لزوم المجاز ، فإنّ کون المجاز بالقرینة أکثر من الحقیقة لا ضیر فیه .

ص:242

فالحق هو القول الأول وفاقاً للأکثر .

و هذا هو البحث الکبروی .

اللفظ الموضوع للعموم

إنه لا شبهة فی دلالة مثل « کلّ » علی العموم ، لأنه المتبادر منه ، و کذا کلمة « تمام » و« جمیع » .

و قد وقع الکلام بینهم فی ألفاظٍ اخری مثل « من » ، کما لو قال : أکرم من فی الدار ، و« ما » کما لو قال : احمل ما فی الدار ... فإنّ مثل هذه الجُمل تفید الشمول ، و لکنْ و یحتمل أن یکون بالوضع ، بل قیل بذلک للتبادر و جواز الاستثناء ، یحتمل أن یکون بمقدمات الحکمة ، فدعوی التبادر مخدوشة ، و الاستثناء یمکن من المطلق کما یمکن من العام .

النکرة فی سیاق النفی
اشارة

و وقع الکلام بینهم کذلک فی النکرة فی سیاق النفی و النهی .

فعن المیرزا القمّی و غیره دعوی عدم الخلاف فی دلالتها علی ذلک بالوضع ، و قال المتأخّرون بالدلالة عقلاً ، و قیل: بل الدلالة هی بمقدمات الحکمة .

قال الأُستاذ : لا ریب فی الدلالة علی العموم ، لکنّ کونها من حاقّ اللّفظ غیر واضح، فدعوی التبادر من القائلین بالقول الأول غیر مسلّم بها .

و استدلّ القائلون بالدلالة العقلیة: بأنّ « لا » موضوعة للنفی ، و« رجل » موضوعة للطبیعة ، فإذا قال « لا رجل فی الدار » لم یدل علی العموم من ناحیة الکلمتین، و لیس للترکیب بینهما وضع علی حدة ، فلا تکون الدلالة وضعیة ...

فهذه مقدمة . و مقدمة اخری هی : المنفی إذا اضیف إلی الطبیعة کان انتفاؤها بانتفاء جمیع أفرادها ، کما أن اثباتها یکون بثبوت فردٍ منها .

ص:243

فإذا ضممنا المقدمتین ببعضهما أنتج أن الدلالة علی العموم عقلیة بمقدّمات الحکمة .

کلام الإیروانی

فأورد المحقق الإیروانی (1) علی ( الکفایة ) : بأنّ دلالة النکرة فی سیاق النفی علی العموم ، موقوفة علی لحاظ الطبیعة بنحو السریان إلی الأفراد ، لکونه ذاتی الطبیعة ، و لا حاجة إلی لحاظها مطلقة لیثبت السریان حتی یشکل بعدم المثبت للّحاظ کذلک .

إشکال الأُستاذ

لکنّ الأُستاذ أشکل علیه : بأنّ الطبیعة و الماهیة لیست إلّا هی ، و أمّا سریانها إلی أفرادها فشیء زائد علیها إذن ، یتوقّف علی اللحاظ و لیست الطبیعة فی حدّ ذاتها ساریةً .

لکنّ التحقیق هو أن الإطلاق غیر متقوّم بلحاظ الطبیعة ساریةً إلی الأفراد ، بل هو لحاظ القیود و رفضها ، فیکون السریان لازماً للإطلاق لا أنه نفسه کما قال الإیروانی ، فکان کلامه مخدوشاً بوجهین .

کلام الأصفهانی

و قال المحقق الأصفهانی (2) مستشکلاً علی قول ( الکفایة ) : « لضرورة أنه لا یکاد یکون طبیعة معدومة إلا إذا لم یکن فرد منها بموجود و إلّا کانت موجودة » ، بتوضیحٍ منا: بأن النفی یضاف إلی الطبیعة کالإثبات ، فیقال : عدم الإنسان کما یقال :

وجود الإنسان ، فلا فرق بین الوجود المضاف إلیها و العدم ، بل المهم هو لحاظ

ص:244


1- 1) نهایة النهایة : 276 .
2- 2) نهایة الدرایة 2 / 448 .

المضاف إلیه ، فإنْ کانت الطبیعة مهملة ، کان الوجود المضاف إلیها قضیّة مهملة ، و هی فی قوّة الجزئیة ، و العدم المضاف إلیها قضیّة سالبة و هی فی قوّة الجزئیّة ، فإن کان المضاف إلیه مهملاً کانت القضیّة مهملة ، موجبةً أو سالبة . و أمّا إن کانت الطبیعة المضاف إلیها مقیدةً ، کانت الموجبة جزئیة و کذا السالبة ، فإن کانت الطبیعة مطلقةً فهی موجبة کلیّة أو سالبةً کلیّة .

و علی هذا ، فلا یصح القول : بأن وجود الطبیعة بوجودٍ فردٍ ما و عدمها یکون بعدم جمیع الأفراد ، لأن المقابل لوجود الفرد ما هو عدم الفرد ما ، و لجمیع الأفراد هو عدم جمیعها .

وعلیه ، فدلالة النکرة فی سیاق النفی أو النهی علی العموم لیست عقلیّة خلافاً لصاحب ( الکفایة ) إذ قال بأن دلالتها علیه عقلاً لا ینبغی أنه تنکر .

أقول :

و هذا الکلام و إنْ کان متیناً من الناحیة العقلیّة ، إلّا أن الملاک فی أمثال المقام هو الارتکاز العرفی لا الدقّة العقلیّة ، و نحن لو راجعنا العرف لرأیناهم یفهمون العموم من قولنا : لا رجل فی الدار ، و یرون اللفظ دالّاً علیه من غیر دخلٍ لمقدّمات الحکمة أصلاً ، و لذا لو قلنا بعد هذا الکلام : زید فی الدار، لاحتجّوا علینا بالمناقضة ، من جهة إفادة النفی السابق للعموم - لا من جهة عدم تقیید الإطلاق فی « رجل » - فإثبات وجود زید و هو من أفراد العام یناقض النفی ، لأن معنی : لا رجل فی الدار هو کلّ أفراد الرجل لیس فی الدار ... .

و قد تعرّض الأُستاذ لکلام المحقق الأصفهانی هذا فی مباحث النواهی أیضاً .

ص:245

الجمع المحلّی بال

و وقع الکلام بینهم أیضاً فی الجمع المحلّی بال ، فعن المحقق القمی (1)دعوی عدم الخلاف فی الدلالة علی العموم وضعاً ، للتبادر و جواز الاستثناء، و أن اللّام للاستغراق - إن لم یکن عهد - فیدلّ علی العموم .

و لکنّ شیئاً من هذه الوجوه لا یقتضی ظهور هذا اللفظ فی العموم، بحیث لو استعمل « العلماء » مثلاً فی غیر العموم - کأن یستعمل للعهد الذهنی أو الذکری - یکون مجازاً .

و استدلّ أیضاً : بأن « أل » إن لم تکن عهدیة فهی معرِّفة لمدخولها، و التعریف یساوق التعیین ، و علی هذا تتم الدلالة علی العموم ، لأنّ الجمع مثل العلماء معیَّن من طرف الأقل لأن أقلّه الثلاثة ، و من طرف الأکثر لأنه کلّ الأفراد ، لکنَّ الدلالة علی أقصی المراتب و هو « کلّ الأفراد » أوضح و أتمّ، إذ قد یقال بعدم التعیّن فی الثلاثة الذی هو طرف الأقل ... فتمّت الدلالة علی العموم بهذا الوجه (2) .

و قد ناقشه الأُستاذ : بأن هذا المقدار من البیان لا یکفی لإثبات الدّلالة اللّفظیة، فالحاجة إلی مقدمات الحکمة موجودة لا محالة .

ص:246


1- 1) قوانین الاصول : 216 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 297 الهامش .

هل تخصیص العام یوجب التجوّز فیه ؟

قال فی ( الکفایة ) :

لا شبهة فی أنّ العام المخصص بالمتصل أو المنفصل حجة فیما بقی ، فیما علم عدم دخوله فی المخصَّص مطلقاً و لو کان متصلاً ، و ما احتمل دخوله فیه إذا کان منفصلاً ، کما هو المشهور بین الأصحاب ، بل لا ینسب الخلاف إلّا إلی بعض أهل الخلاف .

و ربما فصّل بین المخصص المتصل فقیل بحجیّته فیه و بین المنفصل فقیل بعدم حجیته . و احتج النافی بالإجمال ، لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصیات ، و تعیین الباقی من بینها بلا معیّن ترجیح بلا مرجّح . و التحقیق فی الجواب أن یقال ... (1) .

أقول : هل العام المخصص مجاز أو لا ؟ و علی الأول ، فهل یسقط عن الحجیّة ؟ فیقع الکلام فی مقامین :

المقام الأول
اشارة

إنه لا یخفی أنّ المخصّص علی قسمین ، متّصل و منفصل ، لأن المتکلّم تارةً یقول : أکرم العلماء العدول . و اخری یقول : أکرم العلماء ، ثم فی مجلس آخر یقول : لا تکرم الفساق من العلماء ... و قد یکون المخصّص المتصل قرینةً حالیّةً أو عقلیّة أو غیر ذلک مما لیس بلفظٍ .

ص:247


1- 1) کفایة الاصول : 218 .

ثم إنّ المخصّص ، قد یکون مبیّناً کما ذکر ، و قد یکون مجملاً مفهوماً أو مردّداً بین الأقل و الأکثر .

ابتناء البحث علی وجه دلالة العام علی العموم

و قد وقع الکلام بین الأعلام فی أنّ العام یحتاج فی دلالته علی العموم إلی مقدّمات الحکمة أو لا ؟ ذهب المیرزا إلی الأول ، وعلیه یقع البحث فی أن الإطلاق - أی: مفاد اللّابشرط القسمی - هل هو مدلول المقدّمات و اللّفظ غیر موضوعٍ إلّا للطبیعة ، وعلیه سلطان العلماء و أتباعه ، أو أنه داخل فی حریم المعنی الموضوع له وعلیه المشهور ؟ فعلی القول الثانی : لا ریب فی المجازیّة ، لأن العموم محتاج إلی الإطلاق ، و هو داخل فی مفهوم اللفظ ، فإذا جاء المخصّص - سواء کان متّصلاً أو منفصلاً - رفع الإطلاق ، فکان لفظ العامّ مستعملاً فی جزء المعنی الموضوع له و هذا هو المجاز . أمّا علی القول الأوّل ، فلا یلزم التجوّز ، لأن المفروض خروج الإطلاق عمّا وضع له لفظ العام ، فلم یستعمل فی غیر ما وضع له .

بیان القول بدلالته بمقدّمات الحکمة

و قد أوضح المیرزا - قوله باحتیاج العام إلی المقدّمات ، و أن الإطلاق خارج عن حریم المعنی : قوله :

أمّا إذا کان المخصّص متصلاً ، فإنّ کلّ لفظٍ قد استعمل فی معناه الموضوع له ، فإذا قال : أکرم کلّ عالم عادل ، فإنّ « کلّ » یدلّ علی العموم و« عالم » مستعمل فی معناه و هو الطبیعی ، و« عادل » کذلک و هو الطبیعی ، و حیثیّة التقیید مستعملة فی معناها ... فلا موجب للتجوّز .

أمّا إذا کان منفصلاً ، فالتخصیص بالمنفصل تقیید ، لأنّ المفروض أنّ دلالة العام علی السّعة و الشمول هی بمقدّمات الحکمة ، فإذا ورد المخصص المنفصل

ص:248

تقیّد الإطلاق ، و تقییده لا یستلزم المجازیة ، لکونه خارجاً عن مدلول اللّفظ - کما هو المفروض - ، فلم یستعمل اللفظ فی جزء المعنی الموضوع له حتی یلزم المجاز .

فهذا دلیل القول باحتیاج العام إلی المقدّمات فی دلالته علی العموم .

بیان القول بدلالته بالوضع
اشارة

خلافاً للمشهور القائلین بأن أداة العموم موضوعة لإسراء الموضوع و انطباقه علی جمیع الأفراد و الأقسام بلا حاجة إلی المقدّمات ، وعلیه ، فقد قال صاحب ( الکفایة ) : أمّا فی المتصل ، فإن أداة العموم مثل « کلّ » موضوعة لاستیعاب جمیع الأفراد و الأقسام من المدخول ، فهی مستعملة فی معناها و لا مجازیّة . و کذلک « العالم » و« العادل » کما فی المثال المتقدّم .

و أمّا فی المنفصل ، فأداة العموم و إنْ استعملت لجمیع الأقسام و الأفراد ، لکن التخصیص یکشف عن عدم إرادة ذلک المدلول ، فتقع شبهة استعمال اللّفظ و إرادة المعنی غیر الموضوع له ، فأجاب عن ذلک بالتفکیک بین الإرادتین الاستعمالیة و الجدیّة و التصرف فی الظهور و الحجیّة ، قال :

و بالجملة ، الفرق بین المتصل و المنفصل و إنْ کان بعدم انعقاد الظهور فی الأول إلّا فی الخصوص ، و فی الثانی إلّا فی العموم ، إلّا أنه لا وجه لتوهّم استعماله مجازاً فی واحدٍ منهما أصلاً ، و إنما اللّازم الالتزام بحجیة الظهور فی الخصوص فی الأول و عدم حجیّة ظهوره فی خصوص ما کان الخاص حجةً فیه فی الثانی .

و بیان المطلب هو : إن الدلالة إمّا تصوّریة - و بتعبیر ( الکفایة ) : انسیة - أو تصدیقیة استعمالیة ، أو تصدیقیة جدیّة . و المراد من الاولیٰ هو مجیء المعنی من اللفظ إلی الذهن علی أثر الأنس الموجود بین اللّفظ و المعنی ، و هذه الدلالة غیر

ص:249

تابعة لا للإرادة و لا للقصد و لا للاستعمال ، و لا هی تقع موضوعاً لحکمٍ من الأحکام .

و الثانیة : هی أنّه لمّا یرید التکلّم أن یفهم السامع معنیً، فإنه یستعمل اللّفظ فی ذاک المعنی ، أی یستخدمه من أجل إفهام معناه الموضوع له ، فیصدَّق بکونه مریداً لإفهامه و إحضاره إلی ذهن السامع باللفظ ، فهی دلالة تصدیقیّة استعمالیة ، و فیها یقع البحث عن کونها تابعةً للإرادة أو غیر تابعة ، و فی هذا المقام تنعقد الظهورات و یکون اللّفظ قالباً لإفهام المعنی ... إلّا إذا کان اللّفظ المستعمل مجملاً ، فلا اقتضاء له لأنْ یکون قالباً للمعنی ، أو احتمل وجود قرینةٍ مانعة من دلالة اللفظ علی المعنی ، أو یُوجد ما یحتمل أن یکون قرینةً مانعةً ... فلو وجد واحد من هذه الأسباب لم ینعقد الظهور للّفظ .

و الثالثة: هی أنّه بعد تمامیّة ظهور اللفظ فی المعنی، یتحقّق الموضوع لأصالة المطابقة بین اللّفظ المستعمل - أی الکلام - و الإرادة ، و هذا أصل عقلائی ، و المفروض کون التکلّم منهم فلا یتجاوزه ، و حاصله : أنّ الکلام متی کان ظاهراً فی معنیً ، فإنّ ذاک المعنی هو المراد الجدّی للمتکلّم ، و یعبّر عن ذلک بالحجیّة ...

لکنّ هذه الدلالة أیضاً لا تتمّ لو احتمل أن الإرادة الجدیّة غیر مطابقة لظهور اللّفظ ، لکنّ المتکلّم غفل عن إقامة القرینة ، أو احتمل وجود مانع - من تقیّة أو غیرها - عن إقامة القرینة علی أن المراد غیر ما یکون اللّفظ ظاهراً فیه ، أو احتمل ذکره للقرینة منفصلةً عن الکلام ... فإنّ کلّ واحدٍ من هذه الاحتمالات یکفی لسقوط الدلالة الجدیّة ، فهی متوقفة علی اندفاعها .

فقال المشهور - و منهم صاحب ( الکفایة ) - بأنّ المخصّص المنفصل إنما یوجد الخلل فی الدلالة التصدیقیة الجدیّة دون التصدیقیة الاستعمالیّة ، إذ

ص:250

لا موجب للخلل فیها هنا ، فلا وجه للزوم المجاز .

و علی الجملة ، فإن ظهور « کلّ عالمٍ » فی العموم منعقد ، غیر أن المخصص المنفصل یوجب أن یکون حجیّة ظهوره فی خصوص غیر الفسّاق ، و أنّ الخصوص هو المراد الجدّی .

فإنْ قلت : إذا لم تکن الإرادة الجدّیة علیٰ وفق الاستعمالیة ، لکون الکلام ظاهراً فی العموم الشامل للفساق أیضاً ، فلما ذا جاء باللفظ الظاهر فیه ؟

أجاب فی ( الکفایة ) : بأنّ مرجع هذا الإشکال إلی لزوم اللّغویة ، و لکن یکفی لاندفاعه مجرّد احتمال وجود الحکمة من ذلک الاستعمال ، و هی القصد إلی وضع قاعدةٍ مفادها مانعیّة المخصّص المنفصل عن حجیّة ظهور العام ، لکونه نصّاً أو أظهر منه فیتقدّم علیه ، و تکون هذه القاعدة هی المرجع کلّما شکّ فی دخول الشیء تحت العام . فکان الداعی للإتیان باللّفظ الظاهر فی العموم هو ضرب هذه القاعدة لا البعث نحو إکرام کلّ العلماء حتی الفسّاق منهم .

إشکال السیّد البروجردی

فقال السید البروجردی : یمکن أن یورد علیه أیضاً : بأن الإرادة الاستعمالیة علی ما ذکرت إرادة تصوریّة - أعنی بها إرادة إفناء اللفظ فی المعنی المخصوص و جعله قالباً له موجباً لتصوّره عند تصوّره - و تمسّک العقلاء بالعام عند الشک لیس أثراً لصرف هذه الإرادة و إنْ انکشف عدم مطابقتها للإرادة الجدیّة ، بل یکون أثراً لها بما هی کاشفة عن الإرادة الجدیّة التصدیقیّة .

( قال ) و بالجملة : التمسّک بالعام عند الشک إنما هو من جهة استقرار بناء العقلاء علی حمل کلام الغیر - بما هو فعل اختیاری صدر عنه - علی کونه صادراً عنه لغایته الطبیعیّة العادیة ، و حیث أن الغایة الطبیعیة للتلفّظ بالکلام إرادة إفهام ما

ص:251

هو ظاهر فیه ، فلأجل ذلک یحکمون فی العام - مثلاً - بأن المراد الجدّی فیه هو العموم . و علی هذا ، فبورود التخصیص علی العام یستکشف عدم کون ظاهر اللّفظ مراداً جدیّاً ، و ینهدم أساس أصالة التطابق بین الارادتین ، فلا مجال حینئذٍ لأن یتمسّک بالعام بالنسبة إلی الأفراد المشکوک فیها ، و إنْ ثبت کون العموم مراداً بحسب الاستعمال .

( قال ) : هذا ، مضافاً إلی أن ما ذکره فی المتّصل فی الاستثناء ، فهو بحکم المنفصل کما لا یخفی ، و حیث لم یکن فیما ذکروه غنیً ، وجب علینا صرف عنان الکلام إلی بیان ما هو الحق فی المسألة ، مع الإشارة إلی إمکان أن یرجع کلام الشیخ و صاحب ( الکفایة ) أیضاً إلی ما نحقّقه . و توضیح المطلب یتوقف علی ... .

و علی الجملة ، فإن الطریق الذی سلکه صاحب ( الکفایة ) و غیره غیر مجدٍ لحلّ الإشکال ، و قولهم بعدم لزوم المجاز غیر تام .

طریق السیّد البروجردی

فسلک السید البروجردی طریقاً آخر و اختار أن مثل هذا الاستعمال لا هو حقیقة و لا هو مجاز ، و هذا قسم ثالث من الاستعمالات ، و حاصل کلامه : تطبیق مذهب السکّاکی - فی خصوص الاستعارة - فی جمیع الاستعمالات المجازیّة ، بدعوی أنّ اللّفظ مستعمل دائماً فی معناه الموضوع له ، فإنْ کان الموضوع له هو الموضوع للحکم سمّی الاستعمال حقیقیاً أی ثابتاً علی معناه ، من حَقَّ بمعنی الثبوت ، و إنْ تجاوز المعنی الموضوع له إلی معنیً آخر سمّی مجازاً ، أی قد عَبَر المعنی إلی معنیً آخر ، لکنْ بعنایة ادّعاء الاتحاد بین المعنیین ، فلفظ الأسد مستعمل فی « الحیوان المفترس » - و هو الموضوع له - غیر أنّ هذا المعنی معبر إلی « الرجل الشجاع » بملاک الاتحاد الادّعائی بینهما .

ص:252

و أمّا فی العام المخصّص ، حیث یستعمل اللّفظ فی الکلّ الموضوع له و یراد الجزء ، فلیس الاستعمال حقیقیّاً و لا مجازیّاً ، لأنا قد استعملنا اللّفظ فی معناه الموضوع له ، لکنْ لم نقصده فلم یثبت علیه و لم نقصد به العبور إلی معنیً آخر لیکون مجازاً ... اللّهم إلّا أن ندّعی فی الفرد الواحد من العلماء أنّه کلّ العلماء ، فنقول : جاءنی کلّ العلماء و المقصود هو وحده ، فیکون مجازاً ، لکنّ العمومات المخصّصة لا یوجد فیها مثل هذا القصد .

فهذا طریق هذا المحقق بعد الإشکال المذکور علی صاحب ( الکفایة ) ، و هو موجود فی حاشیة الإیروانی أیضاً .

الإشکال علیه

لکنْ یرد علیه : أن الاستعمال الذی لیس بحقیقةٍ و لا مجاز غیر معقول ، لا علی مسلک المشهور و لا علی مسلکه من أنّ المجاز عبور اللفظ عن المعنی الحقیقی و جعل المعنی الآخر من معناه أیضاً ادعاءً ... فإن الاستعمال - علی کلّ تقدیر - إمّا حقیقة و إمّا مجاز و لا ثالث .

و أمّا الإشکال المشترک علی ( الکفایة ) من أنه فی کلّ موردٍ لا یُوجد فیه التطابق بین الإرادتین فلیس بموردٍ لبناء العقلاء فی استکشاف المراد من اللّفظ المستعمل ، ففیه :

إنه یمکن قلب الإشکال بأنْ یقال : إنه لمّا یخصّص العامّ بالمخصّص المنفصل ، لا یکون تطابق بین الإرادتین و إلّا لم یکن التخصیص ، فإذن ، یکون بین الإرادتین مخالفة ، و مع المخالفة بینهما فلا بناء للعقلاء من أجل استکشاف المراد ، لأنّ هذا البناء - کما قال - إنما هو فی المورد الذی یستعمل فیه اللّفظ للغایة الطبیعیّة ، و مع عدم التطابق کیف یحصل الکشف عن الحجیّة و المراد الجدّی للمتکلّم ؟

ص:253

طریق المحقق الأصفهانی

و سلک المحقق الأصفهانی (1) طریقاً آخر لحلّ المشکل ، لأن الإنشاء لا یمکن أن یکون بداعیین ، بل کلّ إنشاء بداعٍ من الدواعی فهو مصداق لذاک الداعی ، و فیما نحن فیه ، عند ما یراد التمسّک بالعام لإثبات البعث الجدّی و ترتیب الحکم ، یأتی الإشکال بأنّ هذا البعث إن کان جدّیاً فلا یجتمع مع التخصیص ، و إن لم یکن فلا یصلح للتمسّک به للکشف عن الفرد المشکوک فیه . فقال المحقق الأصفهانی : إن کان المخصّص قبل العمل بالعامّ ، فالموضوع للحکم غیر محدّد و لا مانع من التمسّک به ، و من کان بناؤه علی بیان مراداته بالمخصّصات المنفصلة ، فالمطابقة بین إرادته الاستعمالیة و الجدیّة حاصلة .

و أمّا إن جاء المخصّص بعد حضور وقت العمل بالعام ، فالبعث الجدّی هو المدلول له و لا ینافیه التخصیص ، لأن البعث الجدّی نحوه واحد ، غیر أنه بالنسبة إلی الأفراد المخصّصة ناشئ من المصالح الظاهریة من تقیّةٍ و نحوها ، و بالنسبة إلی الأفراد غیر المخصّصة ناشئ من المصالح الواقعیة ، فکان شمول کلّ العلماء للفسّاق لمصلحة ظاهریّة ، و البعث الشامل لهم و للعدول جدّی ، فالتطابق بین الإرادتین موجود .

الإشکال علیه

و قد تعرّض شیخنا لهذا الطریق فی الدورة السّابقة ، فأورد علیه بعد غض النظر عمّا فیه : بأنّ کشف الخاص عن انتهاء أمد البعث إلی بعض الأفراد و أن البعث إلیها کان ناشئاً من المصلحة الثانویة ، إنّما یتم فی الخاص المتأخّر ، أمّا المتقدّم فکیف یکون کاشفاً بل هو أقوی فی المخصصیّة من المتأخر ؟ هذا أولاً . و ثانیاً : إذا

ص:254


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 451 .

کان البعث واحداً و متوجّهاً إلی الفسّاق و غیرهم علی حدّ سواء ، فکیف ینشأ من داعیین ؟ بل إنه لما تعدّد المبعوث إلیه فلا بدّ و أن یکون متعدداً ، و إذا تعدّد أمکن أن یکون الانبعاث إلی بعض الأفراد ناشئاً من الإرادة الجدّیة و إلی البعض الآخر ناشئاً من الارادة الاستعمالیّة ، و هذا ما ذکره صاحب ( الکفایة ) ... فلا حاجة إلی طریق الأصفهانی ، و إشکال البروجردی علی ( الکفایة ) مندفع ، فالحق مع صاحب ( الکفایة ) تبعاً للشّیخ قدس سرّهما .

و حاصل الکلام : إنه إن کان الکلام مبیّناً لا إجمال فیه ، فإن الظهور ینعقد للعام فی العموم و لا یتوقّف العقلاء فی دلالته علی المراد ، فإنهم یفهمون ما ذا قال ، ثمّ مع مجیء المخصص المنفصل یفهمون - بعد الجمع بینه و بین العام - أنه ما ذا أراد .

و علی الجملة ، فإن المخصص یکون محدّداً للمراد لا مبیّناً لما دلّ علیه لفظ العام ، و أمّا ما زاد عمّا جاء به المخصّص فباق علی حجیّته ، لوجود المقتضی و هو دلالة اللّفظ علی العموم ، و عدم المانع ، لأنه إنما قام بمقدار ما دلّ علیه المخصّص ... فلا مجاز حتی یحتمل إجمال العام فی غیر مورد التخصیص .

المقام الثانی
اشارة

و علی فرض تسلیم مجازیة الباقی ، فما هو الجواب ؟

جواب المیرزا القمی و إشکال الکفایة

أجاب المیرزا القمی : بأنّ الباقی أقرب المجازات .

توضیحه : إنّه بناءً علی المجازیة و کشف المخصّص المنفصل عن أنّ المراد الاستعمالی لیس هو الشمول لجمیع الأفراد ، لا یلزم الإجمال ، لأنّ سبب الإجمال هو کون المجازات علی قدم المساواة ، و تعیّن بعضها دون بعض ترجیح

ص:255

بلا مرجّح ، لکنّ الحال لیس کذلک ، بل المراد منها هو أقربها إلی المعنی الحقیقی ، فالواجب إکرام من عدا الفسّاق من العلماء .

فأجاب فی ( الکفایة ) (1) : بما توضیحه : إن المدار فی الخروج عن الإجمال هو ظهور اللفظ و قالبیّته للمعنی ، و ذلک یتحقّق بأقربیّة المعنی المجازی إلی الحقیقی بحسب زیادة أنس المعنی باللّفظ، کما فی قضیة استعمال الأسد فی الرجل الشجاع ، لا بحسب المقدار . و علی هذا ، فإنّ الإجمال فیما نحن فیه باقٍ ، فما ذکره المیرزا القمی غیر مجدٍ .

جواب الشیخ

و ذکر الشّیخ قدّس سرّه وجهاً آخر (2) ، و أوضحه المیرزا النائینی (3) فقال : بأنّ تحقق المجازیّة للکلام یکون تارةً : بإدخال معنیً تحت اللّفظ ، و اخری : بإخراج بعض المعنی من تحته . و الفرق هو أنّه فی الصورة الاُولی : یکون للّفظ معنیً آخر غیر المعنی الأوّل . فهما معنیان متباینان ، أمّا فی الثانیة : فالمعنی محفوظ غیر أنه قد أخرج منه بعضه ، فکانت النسبة نسبة الأقل و الأکثر .

و ما نحن فیه من قبیل الثانی ، فإذا قال أکرم کلّ عالمٍ ، دلّ بالمطابقة علی وجوب إکرام الکلّ ، و کان المدلول وجوب إکرام کلّ واحدٍ واحدٍ من العلماء ، و إکرام کلّ واحدٍ حکم مستقل عن غیره . فلما جاء : لا تکرم الفسّاق منهم ، و أخرج هذه الحصّة من العلماء من تحت العام ، سقطت دلالته علیها ، لکن دلالته علی غیرها من الحصص فباقیة ، و قد تقدّم أن کلّ دلالة فهی مستقلّة عن غیرها ، و سقوط بعضها لا یؤثّر شیئاً علی البعض الآخر ... فکان دلالته علی الباقی علی

ص:256


1- 1) کفایة الاصول : 219 .
2- 2) مطارح الأنظار : 192 .
3- 3) أجود التقریرات 2 / 303 .

حالها ، لوجود المقتضی و عدم المانع .

و قد ذکر صاحب ( الکفایة ) (1) هذا الوجه عن الشیخ و أورد علیه بما حاصله :

إنه بعد أن کان اللّفظ مستعملاً فی الخصوص مجازاً ، و کان إرادة کلّ واحدٍ من مراتب الخصوصات ممکناً ، کان تعیّن بعضها بلا معیّن ترجیحاً بلا مرجّح ، و لا مقتضی لظهور لفظ العام فی ذلک البعض ، و قد تقدّم أن المدار فی الخروج عن الإجمال علی تحقق الظهور للّفظ ، و هو إمّا بالوضع أو بالقرینة ، و المفروض أنه لیس بموضوعٍ له و لا یوجد قرینة ، فلا مقتضی لظهوره و قالبیّته فی العلماء غیر الفسّاق ، لأنّ دلالة أکرم کلّ عالم علی العلماء غیر الفساق تضمنیّة ، لکونها فی ضمن دلالة اللّفظ علی العموم و الشمول بالمطابقة ، فلمّا سقطت الدلالة المطابقیة بمجیء المخصّص سقطت التضمنیّة بتبعها .

دفاع المحقق الأصفهانی عن الشیخ

و دافع المحقق الأصفهانی (2) عن کلام الشیخ ، فأجاب عن الإشکال : بأنّ تبعیة الدلالة التضمنیّة للمطابقیة إنما هی فی مقام الثبوت ، لوضوح أنه لو لا أکرم کلّ عالمٍ فلا دلالة علی وجوب إکرام الفساق ، أما فی مقام السقوط فبالعکس ، لأنّ قوله لا تکرم الفسّاق من العلماء ، رفع دلالة العام علی الفسّاق فقط ، و لا یزاحم سائر دلالاته التضمنیّة ، فکان مجیء هذا المخصّص موجباً لسقوط العام عن الدلالة بالنسبة إلی الفسّاق .

فإنْ قلت : إنه بعد سقوط الدلالة المطابقیة کما ذکرت ، فلا یبقی دلالة مطابقیة أصلاً .

ص:257


1- 1) کفایة الاصول : 219 .
2- 2) نهایة الدرایة 2 / 452 .

أجاب : هناک عدّة دلالات مطابقیة فی عرضٍ واحدٍ ، مثل أکرم کلّ عالم ، أکرم کلّ عالم فقیه ، أکرم کلّ عالم عادل ... و هکذا ... و لکلٍّ منها دلالات تضمنیّة ، و هی فی الطول ، فإذا ورد المخصص المنفصل علی العام ، کشفنا عن الدلالة المطابقیة فی غیر الأفراد الخارجة بالمخصص ، لأنّ اللّفظ الدالّ علی العموم مستعملٌ قطعاً ، فإذا جمعنا الکلام الظاهر فی العموم مع المخصص و کان المتکلّم بهما واحداً - أو بحکم الواحد کما فی الأئمة علیهم السلام - انکشف لنا أن الخارج من تحت العام لیس إلّا بقدر المخصّص ، و ظهر لنا أنّ المراد الاستعمالی هو جمیع المراتب المدلول علیها بالعام عدا المرتبة المخصّصة ، و کانت النتیجة عدم لزوم الإجمال حتی علی القول بالمجاز .

هذا ما ذکره المحقق الأصفهانی فی هذا المقام .

الإشکال علیه

أجاب شیخنا: بأنه لا ریب أنّ لکلّ دلیلٍ حدّاً من الدلالة و یستحیل دلالته علی الأکثر من ذلک، و هنا : قد استعمل العام فی العموم ثم جاء المخصّص یزاحمه فی دلالته المطابقیّة ، و یدلّ علی أن المراد الاستعمالی من « کلّ عالمٍ » لیس بحیث یشمل الفسّاق أیضاً بل هم خارجون . و هذا حدّ دلالة الدلیلین . و أمّا الدلالة علی أن المراد الاستعمالی هو سائر المراتب - بعد خروج مرتبة الفساق - فتحتاج إلی دلیل آخر ، و الدلالة علی ذلک إمّا بمقدّمة هی : عدم القرینة علی خروج مرتبةٍ اخری ، أو أصالة عدم المخصّص الآخر . لکنّ هذا الأصل ، إن کان عملیاً فهو مثبت ، فإن ثبت قیام السیرة العقلائیة علی إجراء مثل هذا الأصل أو نفی احتمال أیّ قرینةٍ اخری تمّ ما ذکره ، و إلّا فلا ، فنقول :

إنّ السیرة العقلائیة قائمة علی عدم المانع متیٰ شکّ فیه مع وجود

ص:258

المقتضی ، أمّا وجود المقتضی فلا أصل عندهم له ، لأنّهم إنما یتمسّکون بأصالة عدم القرینة فی موردین ، أحدهما : أن یکون اللّفظ ذا معنی حقیقی معیّن ثمّ یشکُّ فی إرادة المتکلّم له ، فبأصالة عدم القرینة یحملون اللّفظ علی معناه الحقیقی الوضعی . و الآخر : ما لو استعمل اللّفظ فی غیر معناه الموضوع له مع قرینة صارفةٍ عنه و معینةٍ للمراد کما فی رأیت أسداً یرمی ، ثم احتمل وجود قرینة علی عدم قرینیّة تلک القرینة الصّارفة ، فإنه یدفع هذا الاحتمال بالأصل ، و یتمّ المقتضی للدلالة علی المراد الاستعمالی .

إنّ التمسّک بالأصل العقلائی المذکور إنما یکون فی أحد الموردین المزبورین ، و ما نحن فیه لیس منهما ، لأنّ المفروض کون الاستعمال هنا مجازیّاً لا حقیقیّاً ، و لأن : لا تکرم الفساق من العلماء ، لیس مثل « یرمی » فی الصّارفیّة و تعیین المعنی المراد ... و لو شکّ فی وجود السیرة فی مثل المقام ، فإنّ القدر المتیقن منها قیامها فی المعنی الحقیقی ... .

فالحق لزوم الإجمال علی القول بالمجاز وفاقاً للکفایة .

ص:259

التمسّک بالعام فی الشبهات المفهومیة و المصداقیة

اشارة

و الکلام الآن فیما لو کان المخصّص مجملاً ، فهل إجماله یوجب الإجمال فی العام ؟

إن إجمال الخاص تارةً : یکون من حیث الصّدق ، و تسمّی الشبهة مفهومیة أو صدقیّة . و اخری : یکون من حیث المصداق ، و تسمّی بالشبهة المصداقیة ، فیقع الکلام فی جهتین .

الجهة الأولی (فی الشبهة المفهومیة)
اشارة

إن المخصص تارةً متصل و اخری منفصل .

و علی التقدیرین ، فقد یؤثّر إجمال المخصص فی العام بحیث لا یمکن التمسّک به أصلاً ، کما لو قال : أکرم العلماء إلّا بعضهم ، و قد لا یکون کذلک بل یبقی مقدار من موارد العام علی الحجیّة مثل : أکرم العلماء إلّا الفسّاق ، فمع تردّد الفسق بین الکبیرة و الصغیرة یبحث عن بقاء مرتکب الصغیرة تحته أو خروجه کمرتکب الکبیرة ؟ ثم القسم الأخیر یکون تارةً : مردداً بین الأقل و الأکثر کمثال الفسق ، و اخری : یکون مردداً بین المتباینین ، کما لو قال : أکرم العلماء إلّا زیداً ، و تردّد زید بین ابن عمرو و ابن بکر .

ثم الإجمال منه حقیقی و منه حکمی ، لأنّ المخصّص إنْ أثّر فی الإرادة الاستعمالیة سقط اللفظ عن الظهور فکان الإجمال حقیقةً ، و إنْ أثَّر فی الإرادة الجدیّة سقط الکلام عن الحجیّة فکان مجملاً من حیث الحکم و الأثر مع بقاء

ص:260

الظهور علی حاله ... و هذا المطلب متفرّع علی ما تقدّم من أنّ التخصیص بالمنفصل یوجب المجازیّة للعام أو لا ، فعلی الأوّل فالإجمال حقیقی ، و علی الثانی حکمی ؛ أمّا علی مسلک الشیخ - من عدم سقوط العام عن الحجیة حتی بناءً علی المجازیّة - فلا إجمال أصلاً .

و یبقی بیان اصطلاحٍ لهم فی خصوص المخصص المتّصل و هو قولهم ، إنه یعطی عنواناً للعام ، فإنّ مرادهم من ذلک : إن المخصص المتّصل یؤثّر فی انعقاد ظهور العام فی غیر ما دلّ علیه المخصص ، فلمّا یقول : أکرم کلّ عالمٍ عادل ، ینعقد له ظهورٌ فی کلّ عالمٍ غیر فاسق ، أمّا إذا کان المخصص منفصلاً ، فإنّ لا تکرم الفسّاق من العلماء یؤثر فی أکرم کلّ عالمٍ من حیث الحجیّة ، و یتعنون المراد الجدّی بغیر الخاص .

و علی ما تقدّم نقول :

إن کان المخصص متّصلاً مردّداً بین المتباینین ، کما لو قال : أکرم العلماء إلّا زیداً ، و تردّد بین ابن عمرو و ابن بکر ، فإنّ العام یصیر مجملاً و تسقط الإرادة الاستعمالیة ، لأن المخصص المتّصل یمنع من انعقاد الظهور فی العام ، کما تقدّم ، إذ الظّهور یأتی بالتدریج بحسب الدلالة التصوریة ، أمّا بحسب الدلالة التصدیقیّة فلا ینعقد إلّا بعد تمام الکلام ، فکانت الإرادة الاستعمالیة معلّقة علی عدم القرینة المتصلة ، فإذا کانت مجملةً فلا ینعقد الظهور أصلاً ... و هذا الإجمال حقیقی ، إذ لا ندری ما ذا قال .

و إن کان المخصص متصلاً مردداً بین الأقل و الأکثر ، کمثال الفسق المزبور سابقاً فکذلک ... .

و تلخص : إن المخصص المتّصل المجمل مطلقاً یوجب الإجمال الحقیقی فی العام .

ص:261

و إنْ کان المخصص المجمل منفصلاً مردّداً بین المتباینین ، فإنّ الخاص یؤثّر فی الدلالة التصدیقیة الجدیّة للعام ، و هی مرتبة حجیّة الکلام ، فتسقط الحجیّة بالنسبة إلی مورد التردید ، و یُعنون العام بغیر الخاص من حیث الحجیّة ، و یصبح العام مجملاً إجمالاً حکمیاً ... و بیان ذلک :

إن کلّ کلام یصدر من المتکلّم ، فإنه ما دام متکلّماً فله أن یلحق بکلامه ما شاء ، فإذا فرغ منه انعقد الظهور و کان حجةً یؤاخذ به ، و حینئذٍ ، لا یرفع الید عن هذا الظهور و لا یسقط الکلام عن الحجیّة إلّا بدلیلٍ ، و قد تقرّر عندهم رفع الید عن العامّ بالخاص ، فیکون مسقطاً للعام عن الحجیّة و إن کان - أی الخاص - مردداً ... إلّا أنهم قد اختلفوا فی وجه ذلک علی قولین : فمنهم من قال : بأنّ الوجه هو أقوائیة الخاص فی الحجیّة من العام ، فیقدّم الأقوی . و منهم من قال : بأنّ حجیّة العام فی العموم کانت معلَّقةً علی عدم قیام قرینةٍ معیّنةٍ للمراد الجدّی منه ، فحجیّة أصالة العموم بالنسبة إلی الإرادة الجدّیة معلّقة علی عدم المخصّص ، و القرینة المعلَّق علیها مقدّمة دائماً علی المعلَّق .

نعم ، هنا بحث آخر ، و هو أنه لمّا کان الخاص مردّداً بین المتباینین ، فإنّ العام یسقط عن الحجیة بالنسبة إلی طرفی الاستعمال ، فلا یمکن التمسّک به لا لزید بن عمرو و لا لزید بن بکر ، للعلم الإجمالی بسقوطه بالنسبة إلی أحدهما ، و مقتضاه خروج کلیهما من تحته حکماً ، و لکنْ هل خروجهما عنه بسبب قصور أصالة العموم لهما اقتضاءً ، أو أن العام یشملهما لکنّ العلم الإجمالی یوجب سقوط الاصول العملیّة بالنسبة إلیهما علی أثر المعارضة ؟

و علی کلّ حالٍ ، فإنه مع وجود العلم الإجمالی یسقط العام عن الحجیّة ، و لا یمکن التمسّک بالاستصحاب لإبقاء وجوب إکرام هذا أو ذاک ... للزوم

ص:262

المخالفة العملیة للدلیل المخصّص الناهی بالفرض عن إکرام زید ، فلا بدّ - فی فرض تردّده بین اثنین - من ترک إکرامهما معاً ... و هذا ما علیه المشهور و إنْ مال المحقّق الیزدی (1) إلی جواز التمسّک بالاستصحاب فی أحد الطّرفین و عدم سقوط . أصالة العموم عن الحجیّة إلّا بقدر الضرورة ، و لزوم المخالفة الاحتمالیة غیر مضرّ ، فیکون الواجب إکرام أحد الزیدین و المکلّف مخیّر فی إکرام أیّهما شاء ... .

و لعلّ السرّ فیما ذهب إلیه المشهور هو : إن الحجّة فی المقام عبارة عن أصالة العموم ، و من الواضح أن الحجیّة هی الکاشفیّة عن المراد الجدّی نوعاً عند العقلاء ، و لذا کان مبنی الحجیّة و الکاشفیّة عن الإرادة الجدّیة بناء العقلاء - بخلاف الإرادة الاستعمالیّة ، فإن الکاشفیّة فیها عن طریق الوضع - و الأصل فی هذا البناء هو التطابق بین الإرادتین ، لکنّ هذه الکاشفیة فی العام مادامیّة ، و بمجرّد وصول المخصّص المنفصل المردّد بین المتباینین تسقط الکاشفیّة بالنسبة إلی کلا الزیدین معاً - و إن کان أحدهما باقیاً تحت العام واقعاً - لکونها معلّقة من أوّل الأمر علی عدم مجیء ما یزاحمها ، فإذا جاء المخصص سقط الکشف و الحجة عن الإرادة الجدیّة و أصبح الکلام مجملاً ، فلا یجوز التمسّک بالعام ، و إذا سقط عن الحجیّة جاء دور جریان الأصل العملی ، و قد تقرّر سقوط الاصول العملیّة فی أطراف العلم الإجمالی ، إمّا لعدم المقتضی و إمّا للتعارض .

و تبقی شبهة السیّد البروجردی (2) من أن العامّ بالنسبة إلی الأحد المردّد حجّة .

ص:263


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 216 - 217 .
2- 2) نهایة الاصول : 292 .

لکنْ یدفعها : أن الأحد المردّد لا ماهیّة له و لا وجود ، فیستحیل أن یکون موضوعاً للحجیّة ... و کأنه قد أخذ ذلک من صاحب ( الکفایة ) فی حجیّة أدلّة اعتبار خبر الثقة بالنسبة إلی أحد الخبرین المتعارضین ... لکن صاحب ( الکفایة ) أیضاً یقول فی المقام بإجمال العام .

و إن کان المخصّص المجمل المنفصل مردّداً بین الأقل و الأکثر کما فی مثال أکرم کلّ عالم ثم قوله : لا تکرم الفساق من العلماء ، و تردّد الفسق ، فقد ذکروا أنّه لا یسری الإجمال من المخصّص إلی العام ، فلا یکون مجملاً لا حقیقةً و لا حکماً ، بل القدر المتیقن - و هو مرتکب الکبیرة - یخرج و یبقی الزائد عنه و هو مرتکب الصغیرة تحت العام . و توضیح المقام هو أنه :

تارةً : نقول بأنْ شمول العام للانقسامات یتمّ بالوضع لا بمقدّمات الحکمة ، و اخری : نقول باحتیاجه إلی إجراء المقدّمات فی مدخول « کل » . و علی الثانی - فإنّه لمّا کان عدم القرینة من المقدّمات - فهل یلزم عدم مجیء القرینة إلی الأبد أو یکفی عدمها فی مجلس التخاطب ؟ قولان .

فإنْ قلنا : بأن الشمول یحتاج إلی المقدّمات و أنّ انعقاد الإطلاق موقوف علی عدم القرینة إلی الأبد ، ففی المسألة إشکال ، لأنّ الخاصّ المجمل قرینة ، و انعقاد الإطلاق یتوقف علی عدمها إلی الأبد کما هو الفرض ، فمقتضی القاعدة إجمال العام .

و إنْ قلنا - کما هو الصحیح - بأنّه یتوقف علی عدمها فی مجلس التخاطب ، فإنه إذا فقد تمّ الظهور الإطلاقی ، و یکون المخصّص مزاحماً لحجیّة المطلق لا ظهوره ، فلو تردّد بین الأقل و الأکثر - کما هو الفرض - زاحمه فی القدر المتیقن ، و أمّا الزائد عنه ، فشموله له مشکوک فیه - و لا یقاس بصورة المتباینین ، لوجود

ص:264

العلم الإجمالی هناک - و هو شک بدوی ، أمّا العام فشامل له ظهوراً و حجیةً ، فکان الواجب إکرام مرتکب الصغیرة تمسّکاً بالعام .

و إنْ قلنا : إن شمول العام بالوضع ، فالمخصص المجمل المردّد بین الأقل و الأکثر غیر مزاحم لظهور دلالته الوضعیّة ... کما هو واضح .

و هذا هو الوجه الأول للتمسّک بالعام فی هذه الصّورة .

الوجه الثانی : لا ریب أن الأصل اللّفظی أقوی من الأصل العملی - لأنّ اللّفظ یکشف عن المراد الجدّی و هو حجة علی الواقع، و لیس للأصل العملی جهة الکشف بل هو معذّر و منجّز فحسب ، و أیضاً ، فإنْ الأصل العملی قد أخذ فی موضوعه الشکّ ، بخلاف الأصل اللّفظی فإنه یرفض الشک و یرفعه - و لا ریب أیضاً فی جریان الأصل العملی و هو الاستصحاب فی مرتکب الصغیرة عند تردّد المخصّص بین الأقل و الأکثر ، فیکون الأصل اللّفظی جاریاً فیه بالأولویّة لما تقدم .

الکلام حول الوجه الأول

هذا ، و قد أورد علی الوجه الأول : قولکم : المخصّص مجمل لا یقبل المزاحمة مع العام . نقول : المزاحمة حاصلة ، لأن الخاص و إنْ لم یزاحم العام فی الدلالة الاستعمالیة إلّا أنه یقیّد المراد الجدّی منه ، لأنه لیس بمهملٍ و لا مطلق ، و إذا تقیّد العام بغیر الفاسق - بأی معنیً کان الفاسق - احتمل أن یکون مرتکب الصغیرة أیضاً فاسقاً ، فکان انطباق الخاصّ و العام کلیهما علیه علی حدٍّ سواء ، و هذا هو الإجمال .

و أتقن ما اجیب به عنه هو ما ذکره المیرزا من : أنّ العام قد تقیّد و تعنون بغیر الفاسق ، فإنْ کان المراد تقیّده بمفهوم « غیر الفاسق » بما هو مفهوم فالإشکال وارد ، لکون مفهوم الفاسق مجملاً ، لکنّ العام تقیّد بمفهوم غیر الفاسق بما هو فانٍ

ص:265

فی المعنون و حاکٍ عن المصداق ، و لمّا کان المفروض هو الشک فی مِصداقیة مرتکب الصغیرة لعنوان غیر الفاسق ، فالخاص غیر منطبق علیه ، فیکون تقیّد العام مشکوکاً فیه ، فهو باق بالنسبة إلیه علی حجیّته .

و قد أورد الأُستاذ - فی الدورتین - علی المیرزا بالنقض بما ذهب إلیه فقهاً و اصولاً من ترتیب الأثر علی العنوان ، کما فی مسألة الفحص عن المخصّص ، فلو علم إجمالاً بورود المخصّصات علی العام ، فعثر علی تسعةٍ منها ، قال بانحلال العلم و إنْ احتمل وجود العاشر ، لکنّه لا یقول بهذا فی الأخبار المخرجة فی الکتب الأربعة ، إذا کان موضوع العلم الإجمالی متعنوناً بعنوان « ما فی الکتب الأربعة » بل علیه الفحص ... و کما فی مسألة ما لو کان مدیناً لزیدٍ و شک فی أنه تسعة دنانیر أو عشرة ، فلا یجب علیه العشرة إلّا إذا کان الموضوع « ما هو مکتوبٌ فی الدفتر » ، فإنّه لو تردّد بین الأقل و الأکثر وجب أن یدفع الأکثر المسجّل فی الدفتر .

و علی الجملة ، فإنه قد رتّب الأثر علی العنوان ، مع کونه فانیاً فی المعنون حاکیاً عن المصداق ، فلم یأخذ فی تلک الموارد بالقدر المتیقن بل تعامل معها معاملة المتباینین ... و من الواضح منافاة ذلک لما ذهب إلیه فی بحثنا فی مفهوم الفسق ... .

و تلخّص: إنه بناءً علی ما ذهب إلیه المیرزا فی الموارد الاخری ، یکون المجمل مؤثراً فی العام ، فهذا النقض وارد علیه .

لکنّ التحقیق فی الحلّ هو ما تقدّم : من أنّ العناوین المأخوذة فی الأدلّة تنظر بما هی فانیة فی الخارج لا بما هی مفاهیم ذهنیة ، فصحیحٌ أن الخارج لا یری إلّا بالصّورة الذهنیة و أنّه ظرف سقوط الحکم لا ثبوته ، و هاتان النکتتان توجبان توجّه الحکم إلی العنوان ، لکنّ قوله : « لا تکرم الفساق من العلماء » ناظرٌ إلی

ص:266

الوجود الخارجی ، و لیس هنا إلّا القسمان ، فأمّا مرتکب الکبیرة فخارج من تحت العام یقیناً ، لکن مرآتیة عنوان « الفاسق » لمرتکب الصغیرة مشکوک فیها ، فکان العام بالنظر إلی الواقع الخارجی مقیّداً بغیر مرتکب الکبیرة فقط و باقیاً علی حجیّته بالنسبة إلی مرتکب الصغیرة .

و بعبارة اخری : إن المخصّص إنما یمانع العام فی الحجیّة فیما إذا کان فی نفسه حجةً ، و إلّا فلا اقتضاء فیه ، فکیف یکون فی مرحلة المانعیة عن انعقاد ظهور العام فی الحجیّة ؟

إن المفروض هو الشکّ فی حجیة المخصص بالنسبة إلی مرتکب الصغیرة ، فکیف یکون مسقطاً للعام فی دلالته علی وجوب إکرامه بالعموم ؟

فالإشکال فی الوجه الأول مندفع .

لکنْ تبقی شبهة - طرحها الأُستاذ فی الدورتین - و حاصلها : إن الکاشف عن الإرادة الجدیّة هی السیرة العقلائیّة ، و کأنّ العقلاء فی مثل المقام یتوقّفون ! نظیر ما لو قال : اشتر لی قطعةً من السجّاد ، ثم قال : لا تشتر السجّاد من صنائع کرمان ، فشکّ فی أنه یمنع من خصوص السجّاد المصنوع فی داخل البلد أو الأعمّ منه و من المصنوع فی حوالیه من القری و الأریاف ؟ فالظاهر : أنه یتوقّف عن الشراء مطلقاً حتی یستوضحه عن المراد ؟

إذن ، فإن مقتضی القاعدة هو الاحتیاط و التوقّف ، لا الأخذ بالعام فی الزائد علی القدر المتیقن ... خلافاً للمشهور .

الجهة الثانیة ( فی الشبهة المصداقیة )
اشارة

إذا ورد عام مثل أکرم العلماء ثم قال لا تکرم الفساق من العلماء ، و وقع الشکّ فی کون زید العالم عادلاً أو لا ، فهل یجوز التمسّک بالعام للقول بوجوب

ص:267

إکرام زید ؟ قولان ، و هناک قول بالتفصیل بین الدلیل اللّفظی و اللبّی .

أمّا إذا کان المخصّص متّصلاً ، فلا خلاف بینهم فی عدم جواز التمسّک ، فالخلاف فی خصوص المنفصل .

فإن کان المخصّص لفظیاً و القضیّة حقیقیّة ، فالحق عدم جواز التمسّک و ذلک :

دلیل عدم الجواز

لأنّ القضایا مطلقاً - سواء کانت خارجیة أو حقیقیة - متکفّلة لثبوت المحمول للموضوع لا أکثر ، لأن مرتبة المحمول متأخرة عن مرتبة الموضوع ، و ما یتکفّل المتأخر لا یتکفّل المتقدّم فی الرتبة ، فقوله : الخمر حرام متکفّل لحرمة الخمر فقط ، و کذا : الصّلاة واجبة، و البیع حلال و هکذا . فهذه مقدمة .

و مقدّمة اخری : إنّ شأن المخصص إخراج العام عن العموم ، فإذا جاء لا یبقی العام علی عمومه ، و إنْ وقع الخلاف بینهم فی تعنون العام بنقیض الخاص و عدمه - کما تقدّم - إذ یکون العام علی القول الأول محدوداً بمن لیس بفاسق ، و علی القول الثانی بالأفراد التی هی ضد الخاص .

و بعد المقدّمتین ، فإنّه مع مجیء الخاص ، یکون الموضوع للعام هو العالم غیر الفاسق أو العالم الذی هو ضد الفاسق ، فإذا تحدّد الموضوع و أصبح عنوان الخاص جزءاً عقلیاً لموضوع العام ، بمقتضی المقدمة الثانیة ، فإنّ هذه القضیة و هی أکرم العالم غیر الفاسق لا یمکن أنْ تثبت الموضوع و تحرزه ، کما تقدم فی المقدمة الأولی ؛ فلو أردنا التمسّک بالعام لرفع الشک فی حال زید العالم و وجوب إکرامه ، کان من التمسّک بالدلیل فی موضوع نفس الدلیل بحسب حجیّته ، و قد عرفت أنّه محال .

ص:268

دلیل الجواز

و قد اقیمت وجوه لجواز التمسّک :

الوجه الأول : قاعدة المقتضی و المانع ، و الأصل فیها هو المحقّق الشیخ هادی الطهرانی و ملخّص ذلک : إنه کلّما علم بالمقتضی و شک فی المانع فالأصل عدمه ، و العام وزانه وزان المقتضی و وزان الخاص وزان المانع ، فمن علم بکونه من العلماء و شک فی عدالته و فسقه فهو من أفراد العام و حکمه وجوب الإکرام ، و لا یصلح المخصص للمانعیّة للشک فی کونه فاسقاً .

و فیه :

أمّا من الناحیة الکبرویة ، فسیأتی البحث عن هذه القاعدة فی مباحث الاستصحاب ، و ملخّص المقال هو : إنّ المفروض وجود احتمال الفسق و العصیان أی المانع عن المقتضی ، فإنْ کان الرافع له هو الأصل و لیس إلّا استصحاب العدم فهو أصل مثبت ، نظیر ما إذا صبّ الماء علی الید و شک فی وجود الحائل المانع ، فإن أصالة عدم الحائل بالنسبة إلی تحقق الغسل أصل مثبت . و إنْ کان الرافع له هو الدلیل ، فلا دلیل لا شرعی و لا عقلی ، و إنْ کان الرافع هو السیرة العقلائیة ، فلا ریب فی أنه لیس من سیرتهم البناء علی عدم المانع مع العلم بثبوت المقتضی و شموله للمورد .

و تلخّص : عدم تمامیة القاعدة المزبورة .

و أمّا من الناحیة الصغرویّة ، فقد أشکل المیرزا (1) بأن عنوان المخصص لا ینحصر فی کونه من قبیل المانع ، بل ربما یکون من قبیل الشرط أو الجزء کما فی قوله علیه السلام : « لا صلاة إلّا بطهور » (2) أو « بفاتحة الکتاب » (3) . فلا تکون

ص:269


1- 1) أجود التقریرات 2 / 322 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 315 ، الباب 9 من أبواب أحکام الخلوة ، رقم : 1 .
3- 3) مستدرک الوسائل 4 / 158 ، الباب 1 وجوب قراءة الفاتحة ، رقم : 5 .

القاعدة دلیلاً علی جواز التمسّک فی جمیع الموارد ، فالدلیل أخصّ من المدّعی .

و اجیب فی التعلیقة : بأنّ مثل هذا الترکیب خارج عمّا نحن فیه ، لأنّ محلّ الکلام إنّما هو ما إذا ورد حکم تکلیفی أو وضعی علی عام قد خرج عنه بعض مصادیقه ، و من الواضح أنه لیس الأمر فی التراکیب المزبورة کذلک ، لأنّ ظاهر « لا صلاة إلّا بطهور » عرفاً هو عدم تحقّق الصّلاة شرعاً أو عقلاً إلّا عند اقترانها بالطهارة ... فالنقض به غیر وارد .

و فیه : إنه لیس محلّ الکلام خصوص ما ذکره ، بل یمکن أن یکون المخصّص عنواناً وجودیاً و لیس من قبیل « لا صلاة إلا بطهور » ، کما لو قال : أکرم کلّ عالم ثم قال : یجب إکرام العلماء العدول ... فما ذکره المیرزا من أخصیّة الدلیل من المدّعی تام .

و تلخص : سقوط الدلیل من حیث الکبری و الصغری .

الوجه الثانی : إن تمامیّة الحجة من قبل المولی موقوفة علی إحراز الکبری و الصغری معاً ، فما لم یحرزا لم تتم ، و فی المقام و إنْ کانت الحجیّة تامة من ناحیة العام من حیث الکبری و الصغری ، إلّا أنها غیر تامة من ناحیة الخاص من حیث الصغری ، و لذا یکون العام حجةً بالنسبة إلی الصغری المردّدة و لا یزاحمه الخاص فیها ... ففی المثال المعروف نری انطباق « أکرم کلّ عالم » علی زید العالم المشکوک فی عدالته ، لأنّ المفروض إحراز العالمیّة فیه ، فالعام بعمومه شاملٌ له ، فالحجة علی وجوب إکرامه تامّة ، لکنّ انطباق الخاص : « لا تکرم العالم الفاسق » علیه غیر تامٍ لعدم إحراز کونه فاسقاً ، فلا حجیّة له بالنسبة إلیه ، و ما لیس بحجّةٍ لا یزاحم الحجّة و هو العام المفروض شموله له .

أجاب فی ( الکفایة ) : بأنّه فی غایة الفساد . ( قال ) : فإنّ الخاص و إنْ لم یکن دلیلاً فی الفرد المشتبه فعلاً ، إلّا أنه یوجب اختصاص حجیّة العام فی غیر

ص:270

عنوانه من الأفراد ، فیکون أکرم العلماء دلیلاً و حجةً فی العالم غیر الفاسق ، فالمصداق المشتبه و إنْ کان مصداقاً للعام بلا کلام ، إلّا أنه لم یعلم أنه من مصادیقه بما هو حجة ، لاختصاص حجیته بغیر الفاسق (1) .

و توضیح ذلک هو : أنّ للعام ظهوراً و حجیّةً - أی کاشفیّةً عن المراد الجدّی - فالفرد المشتبه و إنْ أحرز کونه عالماً و أنّ العام یشمله بظهوره ، لکنّ إحراز حجیّته بالنسبة إلی هذا الفرد أوّل الکلام ، و من الواضح ترتب الأثر علی الحجیّة لا الظهور .

فما أحرز لیس بموضوعٍ للأثر ، و ما هو موضوع الأثر فلم یحرز ، فکیف یتمسّک بالعام ؟

و أمّا الخاصّ ، فإنّه لا یمکنه تعیین الفرد ، لما تقدّم من أنّ الدّلیل لا یتکفّل الموضوع .

ثم إنه قد یقوّی الاستدلال بما ذکره الشیخ رحمه اللّٰه من إجراء البراءة فی الشبهات الموضوعیّة حیث قال : إن قوله « لا تشرب الخمر » لا یکون حجةً إلّا علی من ثبت عنده الکبری و الصغری معاً و ضمّ إحداهما إلی الاخری ، و مع الشک فی أنّ هذا المائع خمرٌ أو لا ؟ فالصغری غیر محرزة ، فهی مجری البراءة دون قاعدة الاشتغال .

فقال السید البروجردی : بأنَّ الکبری حجّة بنفسها فی مقام تشخیص الحکم الشرعیّ الکلّی ، و لا نحتاج فی ذلک إلی وجود الموضوع خارجاً . نعم ، حجّیتها بالنسبة إلی الخارجیات لا تتصوّر إلّا بعد تشخیص الصغری ، فههنا مقامان : مقام حجیّة العام بنفسه و مقام حجیّته بالنسبة إلی الخارجیات ، و المحتاج إلی الصغری هو الثانی دون الأوّل ، فقول المولی أکرم العلماء - مثلاً - حجّة علی

ص:271


1- 1) کفایة الاصول : 221 .

العبد و یجب علیه الفحص عن الموضوع أو عن حاله ( قال ) و لذلک بعینه نستشکل علی ما ذکره الشیخ لإجراء البراءة العقلیة فی الشبهات الموضوعیة ، فإن الظاهر عدم جریانها فیها ، نعم ، یجری فیها البراءة الشرعیة (1) .

فأورد علیه الشیخ الأُستاذ : بأنه إذا کانت العقلیّة غیر جاریة ، فکذلک الشرعیّة ، لأن موضوعها الحکم الذی لا یعلم ، إذ القابل للوضع و الرفع إنما هو الحکم ، فإذا لم یعلم به ، فکیف یصحُّ القول بتمامیّة البیان بالنسبة إلیه ؟ فالتفکیک بین البراءة العقلیة و الشرعیة غیر صحیح .

لکنّ مراد الشیخ قدس سره هو : إن الأحکام جمیعاً بنحو القضایا الحقیقیّة ، فهی تنحلُّ إلی أحکامٍ بعدد الموضوعات ، و تَتعدَّد الإطاعات و المعاصی ، فالحکم فی کلّ شبهةٍ موضوعیة مجهول ، و لا یدلّ علیه الحکم الکلّی ، و مع الجهل به تجری البراءة العقلیة و الشرعیة کلاهما .

الوجه الثالث : إن العام ظاهرٌ فی الشمول بالنسبة إلی أفراده ، و له ظهورٌ إطلاقی بالنسبة أحوال تلک الأفراد ، فلما قال « أکرم کلّ عالم » أفاد وجوب إکرام جمیع مصادیق العالم ، و علی جمیع أحوالهم من الفسق و العدالة و غیرهما ... فإذا جاء : « لا تکرم الفساق من العلماء » کان دلیلاً علی خروج من علم بفسقه ، فیکون من شک فی ذلک منهم باقیاً تحت العام .

و قد اجیب عن ذلک : بأنّ الحکم فی المطلق یختلف عنه فی العام ، ففی العام یجیء الحکم علی کلّ أفراده ، أمّا فی المطلق فإنه یجیء علی الطبیعة و لا نظر له إلی أفرادها ، فلو شک فی انطباق الحکم المطلق علی فردٍ لم یجز التمسّک فیه بالإطلاق .

ص:272


1- 1) نهایة الاصول : 294 .

فقال الأُستاذ : هذا صحیحٌ ، لأن حقیقة الإطلاق رفض القیود لا جمعها ، لکنّ الفرق المذکور لا أثر له فی النتیجة ، فلا فرق - فی الدلالة علی خروج الحصّة - بین المخصّص و المقیِّد ، فکما یخرج المخصص الفسّاق کذلک یخرج المقیِّد الرقبة الکافرة ... فلو شک فی التقیید الزائد کان کالشک فی التخصیص الزائد ، و کما یتمسّک بالعام فی الفرد المشکوک فی خروجه ، یتمسّک بالمطلق فی الحال المشکوک فی خروجه .

بل الحق فی الجواب أنْ یقال : إن الإطلاق الأحوالی فرعٌ للعموم الأفرادی ، فما لم یحرز فردیّة الفرد للعام لم تصل النوبة إلی الأخذ بإطلاقه الأحوالی ، و إذا سقط العموم الأفرادی بالنسبة إلی الفرد المشکوک فی فردیّته ، فلا یعقل بقاء الإطلاق الأحوالی فیه ، لعدم الموضوع .

و هذا تمام الکلام فی التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة إنْ کان المخصص لفظیاً .

التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة إذا کان المخصص لبیّاً
تفصیل الشیخ و الکفایة

و ذهب الشیخ - و تبعه صاحب ( الکفایة ) (1) - إلی جواز التمسّک به إن کان المخصص لبیّاً ، مثلاً : إذا قال المولی « أکرم جیرانی » و قام الإجماع أو حکم العقل مثلاً علی عدم جواز إکرام عدوّه ، ثم شک فی کون زید عدوّاً له فلا یجوز إکرامه أو لا فیجب ، ففی هذه الحالة لا بدّ من إکرامه . و یتلخّص کلامه قدس سره و استدلاله فی نقاط :

( 1 ) إن المفروض قیام الحجة من قبل المولی علی وجوب إکرام جیرانه

ص:273


1- 1) مطارح الأنظار : 194 ، کفایة الاصول : 222 .

علی وجه العموم ، و هذه الحجة واحدة و لم یصدر عنه أیّ کلامٍ آخر ، و لا یجوز رفع الید عن الحجة إلّا بالمقدار المقطوع بخروجه ، و أمّا فی المشکوک فیه فهو باق علی حجیّته ... .

( 2 ) جواز مؤاخذته علی ترک إکرام من شک فی عداوته من الجیران .

( 3 ) قیام السیرة العقلائیة فی أمثال المقام علی التمسّک بالعام .

ثم أضاف رحمه اللّٰه : أن من الممکن أن یقال : بأنّ التمسّک بالعام مع المخصّص اللّبی یوجب ارتفاع الشک عن الفرد المشکوک فیه للخاص ، و لذا جاز لعن بنی امیة قاطبةً - مع احتمال أن یکون فیهم مؤمن ، و المؤمن لا یجوز لعنه - لأنّ هذا العام الوارد یدفع احتمال وجود المؤمن فیهم ، فلو اشتبه حال واحدٍ منهم من حیث الإیمان و عدمه حکم بعدم إیمانه بمقتضی العام .

النظر فی کلام الکفایة

و قد نوقشت النقاط المذکورة . أمّا الأولی : فبأنّه صحیح أنْ لم یرد خطاب آخر من المولی ، لکنَّ المهم هو قیام الحجّة ، فکما أنّ الصّادر منه حجّة کذلک الإجماع حجّة - کما هو المفروض - و حکم العقل حجّة ، و السّیرة العقلائیّة الممضاة حجّة . فما ذکره من أن العام حجّة واحدة و لم یصدر من المولی شیء آخر ، غیر صحیح .

و أمّا الثانیة : فدعوی صحة المؤاخذة أوّل الکلام ، بل بالعکس ، لأنّه قد انکشف بحکم العقل أو الإجماع کون العام مقیداً بغیر العدوّ ، فلم تقم الحجّة علی الفرد المردّد حتی یصحّ المؤاخذة علی الترک ، لأن صحّة المؤاخذة فرع قیام الحجّة ، کما هو واضح .

و أمّا الثالثة فکذلک ... بل الصّحیح أنّ السّیرة العقلائیّة قائمة علی التوقّف فی مثل المقام .

ص:274

تفصیل المیرزا

و قال المیرزا رحمه اللّٰه (1) : بأنّ الدلیل اللّبی المخصّص للعام تارةً : یفید ثبوت قیدٍ للموضوع . و اخری : یفید الملاک فی العام . و ثالثة : یشکُّ فی أنّ المستکشف بالمخصص اللّبی هو قید الموضوع فی العام أو الملاک للحکم فیه .

فإن کان من قبیل الأوّل ، کما لو قام الإجماع علی تقیّد « الرجل » و هو الموضوع فی « انظروا إلی رجل منکم قد روی حدیثنا و نَظَر فی حلالنا و حرامنا » (2) و عَرَفَ أحکامنا بالعدالة ، ففی الفرد المردّد منه یسقط العام عن الحجیّة ، لأنّ حجیّته موقوفة علی إحراز الکبری و الصغری معاً ، و المفروض عدم إحراز الصغری فی المثال .

و إنْ کان من قبیل الثانی ، کما فی « اللهم العن بنی امیّة قاطبةً » ، فإنّه قد علم بالأدلّة أنّ الملاک لهذا اللّعن هو بغضهم للنبی و آله ، لا أنّ هذه الصفة قیدٌ للموضوع ، لأنّه و إنْ کان الحکم یدور مدار الملاک ، إلّا أنه لا یقیّد الحکم فی مقام التشریع ، فالصّلاة واجبةٌ - لا بقید النّاهیة عن الفحشاء و المنکر ، و إنْ کانت هذه الحیثیة ملاکاً لها و هی تدور مدارها قبل صدور الحکم - ففی الفرد المردّد فی هذه الصورة یتمسّک بالعام ، لما تقدّم من أن تلک الصفة لیست قیداً للموضوع حتی تکون شبهةً مصداقیةً أو مفهومیّة ، و لیس من وظیفة المکلّف الفحص عن وجود الملاک و عدم وجوده ، بل علیه الرجوع إلی الحکم الصادر من المولی ، و المفروض شموله للفرد المردّد بعمومه .

و إنْ کان من قبیل الثالث ، أی: وقع الشک فی أن المستکشف بالمخصّص اللّبی قید للموضوع حتی لا یتمسّک بالعام ، أو أنه ملاک لجعل الحکم فیتمسّک به ،

ص:275


1- 1) أجود التقریرات 2 / 343 .
2- 2) غوالی اللئالی 3 / 192 ، باب الجهاد .

ففیه تفصیل ... لأنّ ذلک المخصص اللّبی قد یکون کالمخصّص اللّفظی المتّصل ، کما لو کان حکماً عقلیاً ضروریّاً ، و حینئذٍ یکون العام بالنسبة إلی الفرد المردّد مجملاً ، إذ یحتمل فیه الوجهان ،لاحتفافه بما یحتمل القرینیّة . و قد یکون کالمخصّص اللّفظی المنفصل ، کما لو کان حکماً عقلیّاً نظریّاً ، فالظهور للعام منعقد و یصحُّ التمسّک به ، و وجه انعقاد الظهور هو الشک فی تقیّده - علی أثر الشکّ فی أنّ الخصوصیّة المستکشفة قید أو ملاک - و کلّما شک فی تقیّد العام فالأصل هو العدم ، فالظهور منعقد و یجوز التمسّک به .

إشکال الأُستاذ

قال الأُستاذ : بأنّ البیان المذکور لتفصیل المیرزا سالمٌ من أیّ إشکالٍ ، و الکبری التی ذکرها فی التفصیل بین ما إذا کانت الخصوصیّة قیداً للموضوع أو ملاکاً للحکم فی غایة المتانة ... .

لکنّ الإشکال فی التطبیق فی الصورة الثانیة ، لأنه قد ذکر أنّ بغض النبیّ و آله هو الملاک للعن بنی امیّة قاطبة ، و الحال أنّ البغض هذا من انقسامات الموضوع ، فکما أن الإیمان و الکفر من انقسامات الرقبة ، کذلک البغض و عدمه من انقسامات بنی امیة ، فیکون من قبیل قید الموضوع لا من قبیل الملاک للحکم ، و کذلک الحال فی « العداوة » المخصَّصة بالدلیل اللّبی من « أکرم کلّ جیرانی » ، فإنّ الجیران ینقسم إلی العدوّ و غیر العدو .

و أیضاً : یرد علی المیرزا وقوع الخلط فی کلامه بین العلّة فی مقام الثبوت و فی مقام الإثبات . لأنّ البغض أصبح هو العلّة للّعن ، فهو الموضوع ، و یکون بنو امیّة أحد المصادیق ... کما فی لا تشرب الخمر لأنه مسکر ، حیث الحکم مجعولٌ للمسکر و هو الموضوع ، و قد ذکر الخمر بیاناً للصغری ... و هذا مقتضی مقام الإثبات . أمّا فی مقام الثبوت ، فالحکم المذکور تابعٌ للمصالح و المفاسد کما

ص:276

هو واضح ... و بهذا البیان یظهر أنّ البغض فی المثال قیدٌ للموضوع و لیس بملاکٍ ... و المعنی : اللهم العن بنی امیة قاطبةً لأنهم مبغضون للنبی و آله علیهم الصلاة و السّلام ، فکان ذلک هو الموضوع للحکم ، لأنّ کلّ علّةٍ فهی موضوع أو جزء للموضوع .

و علی الجملة ، فالإشکال علی المیرزا صغروی فقط .

تفصیل المحاضرات

و هو التفصیل بین القضیة الحقیقیّة و الخارجیة .

و بیان ذلک هو : إن المیرزا رحمه اللّٰه قال بعدم جواز التمسّک بالعام عند الشک من جهة الشبهة الخارجیّة ، سواء فی ذلک القضیّة الحقیقیة و الخارجیّة ، فقال : أمّا الحقیقیة ، فلما عرفت من أن شأن أداة العموم فیها إنما هو تسریة الحکم إلی کلّ قسمٍ من الأقسام التی یمکن انقسام مدخول الأداة بالإضافة إلیها ... و أمّا القضیة الخارجیة ، فلأنّ غایة ما یمکن أن یتمسّک به لجواز التمسک بالعموم فی الشبهة المصداقیة فیها ، هو أنّ المتکلّم فی موارد القضایا الخارجیة هو الذی تکفّل بإحراز انطباق عنوان العام علی المصادیق الخارجیّة ، فیکون ظهور کلامه متّبعاً فی غیر ما علم خروجه من حکم العام بالعلم بدخوله فی عنوان الخاص . لکنه یندفع :

بأنّا لا نشک فی أنّ نحو استعمال العام فی القضایا الخارجیّة لا یباین نحوه فی القضایا الحقیقیّة فی أن عنوان العام إنما یؤخذ فی موضوع الحکم فی مقام الإثبات مرآةً إلی أفراده الخارجیّة أو المقدّرة ... (1).

لکنّ السید الخوئی فی ( المحاضرات ) (2) ذهب إلی التفصیل فقال : إذا

ص:277


1- 1) أجود التقریرات 2 / 319 - 321 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 358 .

کانت القضایا من قبیل القضایا الخارجیة ، فإنْ کان المخصّص لفظیّاً ، لم یجز التمسّک بالعام فی موارد الشبهات المصداقیة ، حیث أن المخصص اللّفظی یکون قرینةً علی أنّ المولی أوکل إحراز موضوع حکمه فی الخارج إلی نفس المکلّف ، و بما أن موضوعه صار مقیّداً بقیدٍ بمقتضی التخصیص ، فبطبیعة الحال إذا شک فی تحقّق قیده فی الخارج لم یمکن التمسّک بالعموم ، لفرض عدم کونه ناظراً إلی وجوده أو عدم وجوده . و أمّا إذا کان المخصّص لبیّاً :

فإنْ علم من الخارج أن المولی أوکل إحراز موضوع العام إلی نفس المکلّف ، فحاله حال المخصّص اللّفظی ، کما إذا ورد فی دلیلٍ « أعط لکلّ طالب علم فی النجف الأشرف کذا و کذا دیناراً » و علم من الخارج أن مراده هو المعیل دون المجرّد ، و لازم ذلک بطبیعة الحال هو العلم بتقیّد موضوع العام بعدم کونه مجرّداً ، فإذا شک فی طالب علمٍ أنه معیل أو مجرّد لم یتمسّک بالعام .

و إنْ لم یعلم من الخارج ذلک ، صحّ التمسّک بالعموم فی موارد الشبهة المصداقیّة ، لأن ظهور کلام المولی فی العموم کاشف عن أنه بنفسه أحرز انطباق موضوع حکمه علی جمیع أفراده و لم یکل ذلک إلی المکلّف ، و هذا الظهور حجة علی المکلف فی موارد الشک ... و من هذا القبیل « لعن اللّٰه بنی امیّة قاطبة » . فإن هذه القضیة بما أنها قضیة خارجیة صادرة من الإمام من دون قرینة علی إیکال إحراز الموضوع فیها فی الخارج إلی نظر المکلّف ، فبطبیعة الحال تدلّ علی أنّ المتکلّم لاحظ الموضوع بتمام أفراده و أحرز أنه لا مؤمن بینهم ، وعلیه ، فإنْ علمنا من الخارج أن فیهم مؤمناً فهو خارج عن عمومه ، و مع الشک فلا مانع من التمسّک بعمومه لإثبات جواز لعنه ، و یستکشف منه بدلیل الإنّ أنه لیس بمؤمن .

ص:278

موافقة الأُستاذ مع تکمیلٍ له

و أفاد الأُستاذ دام بقاه : أنّ مجرّد الفرق بین القضیتین - بأنّه فی الحقیقیّة جُعل إحراز الموضوع إلی نظر المکلّف ، بخلاف الخارجیة حیث أن المولی قد أحرز وجوده - غیر کافٍ ، بل الظاهر ضرورة وجود قرینة حالیّة أو مقالیّة - علاوةً علی کون القضیّة خارجیّة - للدلالة علی عدم إیکال إحراز الموضوع إلی نظر المکلّف ، مثلاً : إذا قال المولی : « أکرم من فی المدرسة » کان الموضوع هو « من فی المدرسة » لکنّه لا یتکفَّل وجود زیدٍ فیها ، بل الفحص عن هذا بعهدة المکلّف ...

فإذا علمنا بدلیلٍ لبّی عدم إکرام من کان عدوّاً له ، تقیّد الموضوع بعدمها ، و لکنّ إحراز هذا الموضوع یرجع إلی المکلّف ، لأنّ غایة ما یقال هو : إن المفروض کون القضیّة خارجیة ، فلا بدّ و أن المولی قد أحرز أنْ لیس بین فی المدرسة عدوٌّ له ، فلذا أمر بإکرام من فیها ... لکنّ المشکلة هی أنّ العداوة من انقسامات هذا الموضوع بالضرورة ، و أنّه قد تقیّد لا محالة بالدلیل اللبّی ، و مع الشک فالقید غیر محرز ، فالتمسّک بالعام حینئذٍ مشکل .

إذنْ ، لا بدّ من قیام قرینةٍ علی إحراز المولی الموضوع و تطبیقه بکلّ قیوده ، و لا یکفی مجرّد کون القضیة خارجیةً و عدم قیام القرینة علی إیکال الإحراز إلی نظر المکلّف .

و لا أقل من الشک فی قیام السیرة العقلائیة بالتمسّک بالعام فی مثل المورد الذی ذکره المفصّل ... إذن ، لا بدّ من الأخذ بالقدر المتیقّن و هو ما ذکرناه .

الکلام فی مقتضی الأصل العملی
اشارة

و بعد سقوط العام عن الحجیّة فیما شک کونه من مصادیق الخاص ، تصل النوبة إلی الأصل العملی ، و قد ذهب أکثر المحققین إلی أنّ المرجع هو الأصل

ص:279

الموضوعی ، بأنْ یجری استصحاب عدم الفسق فی الفرد المردّد فیندرج فی العام و یجب إکرامه . و خالف المحقق العراقی و ذهب إلی جریان الأصل الحکمی ، بأنْ یستصحب حکمه السابق من وجوب الإکرام أو عدم وجوبه .

رأی المحقق العراقی

و ملخص کلامه کما فی ( تقریر بحثه ) (1) هو : إنه لو کان هناک أصل حکمی من استصحاب وجوب أو حرمةٍ و نحوه فلا إشکال . و أمّا الأصل الموضوعی فیبتنی جریانه علی ما تقدَّم من المسلکین فی التخصیصات ، من أن قضیّة التخصیص هل هی کالتقیید فی اقتضائه لإحداث عنوانٍ إیجابی أو سلبی فی الأفراد الباقیة بعد التخصیص الموجب لتقیید موضوع الحکم فی نحو قوله : أکرم کلّ عالم ، بالعالم العادل أو العالم غیر الفاسق أم لا ، بل إنّ قضیّته مجرّد إخراج بعض الأفراد من تحت حکم العام الموجب لقصر الحکم ببقیّة الأفراد .

فعلی المسلک الأول : لا بأس بجریان الأصل الموضوعی ، فیحکم علیه بحکمه بعد إحراز العالمیة بالوجدان ، و یکون الموضوع هو العالم العادل أو العالم الذی لم یکن فاسقاً .

و أما علی المسلک الثانی - و هو المختار عنده - فلا مجال لجریان الأصل الموضوعی المزبور ، من جهة عدم ترتب أثر شرعی علیه حینئذٍ ، لأنه لا یکون لمثل هذه العناوین دخل فی موضوع الحکم و الأثر - و لو علی نحو القیدیّة - حتی یجری فیها استصحابها إلا علی القول بالأصل المثبت ، لأن الأثر إنما هو للأفراد الباقیة تحت العام ، نعم هم یلازمون عدم الفسق ، لکنّ استصحاب عدم الفسق لا أثر له لإثبات الملازم .

ص:280


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 527 .

فهذا کلامه ، و لذا ینقل عنه أن التخصیص کالموت ، فکما لا یتلوّن العام بلونٍ بموت عدّةٍ من العلماء ، کذلک لو خصص ... و من هنا نراه یتمسّک بالإطلاق فی الشبهة الموضوعیة للمقیّد له ، کما لو قال أعتق رقبةً ثمّ أخرج الکافرة بدلیل منفصل و شک فی فردٍ منها ، فإنه یقول بالأصل الموضوعی من جهة أنّ التقیید یعطی لوناً للمطلق ، لأنه یقیّده ، بخلاف التخصیص فلیس إلّا إخراجاً لبعض الأفراد .

( ثم قال ) : نعم لو کان مفاد الدلیل الخاص نقیضاً لحکم العام ، کما لو کان مفاد العام وجوب إکرام العلماء ، و کان مفاد الخاص عدم وجوب إکرام الفساق منهم ، ففی مثله أمکن إثبات وجوب الإکرام - الذی هو حکم العام - بمقتضی استصحاب عدم الفسق ، من جهة أنه باستصحابه یترتب علیه نقیض اللّاوجوب الذی هو عبارة عن وجوب الإکرام ، و هذا بخلاف ما لو کان مفاد الخاصّ عبارة عن حرمة الإکرام التی هی ضدّ لحکم العام ، حیث أنه لا یمکن إثبات وجوب الإکرام باستصحاب العدالة أو عدم الفسق إلّا علی نحو الأصل المثبت .

و یتلخّص کلامه فی نقاط :

1 - الفرق بین التخصیص و التقیید ، و أنَّ الثانی یعطی لوناً و عنواناً ، دون الأول فإنه یفید الإخراج فقط .

2 - التفصیل بین ما إذا کان التنافی بین موضوعی المخصّص و العام علی نحو التناقض أو التضاد ، ففی الأول یتمسّک بالعام فی الفرد المردد ، دون الثانی .

3 - کلّما کان بیانه وظیفة المولی ففی مورد الشک یتمسّک بالعام ، و ما کان الوصول إلیه من وظیفة المکلّف فلا ... ففی مثل : « المؤمنون عند شروطهم » (1)

ص:281


1- 1) وسائل الشیعة 21 / 276 ، الباب 20 من أبواب المهور ، رقم : 4 .

الذی خصّص بالشرط المخالف للکتاب و السنّة ، لو شک فی شرط أنّه مخالف أو لا ، فوظیفة بیان ذلک علی المولی ، و مع الشک یتمسّک بالعام ... و کذا الجلد المشکوک فی تذکیته یصلّی فیه أولا ، فإنّه لو کان منشأ الشک هو قابلیة هذا الحیوان للتذکیة و عدم قابلیّته له ، فإنّه یتمسّک بالعام ، لکون بیان القابلیة و عدمها من وظیفة الشارع ، بخلاف ما لو کان منشأ الشک هو الشکّ فی کون الذابح مسلماً أو الذبح علی القبلة ، فلا وظیفة للمولی بل علی المکلّف ، فلا یجوز التمسّک بالعام حینئذٍ .

الإشکال علیه

و أورد علیه الأُستاذ - فی الدورتین - بوجوه :

الأول : قد ذکر أنّ التخصیص مفاده قصر الحکم ، و أنه إذا قال لا تکرم الفسّاق من العلماء ، أفاد عدم شمول ملاک الإکرام للفسّاق . فنقول : لمّا کان أکرم کلّ عالمٍ ، یفید وجود المقتضی لإکرام عموم العلماء ، فلا بدّ و أنْ یکون المخصّص الموجب لقصر الحکم دالّاً علی شرطٍ للمقتضی و هو العدالة أو علی وجود مانع عن تأثیره و هو الفسق ، فیکون قصر الحکم راجعاً إلی فقد الشرط أو وجود المانع ، و حینئذٍ ، یستحیل عدم تعنون العام بعنوان الخاص . فالجمع بین القول بقصر الحکم و القول بعدم التعنون تهافت . أمّا فی الموت فالاقتضاء منتفٍ فالقیاس مع الفارق .

و الثانی : إنه علی جمیع المسالک ، یکون الخاصّ مؤثراً فی الإرادة الجدّیة للعام ، فإنّه بعد ورود المخصص المنفصل لا یعقل کون الإرادة الجدیّة فیه مطلقةً بالنسبة إلی الخاص ، کما لا یعقل الإهمال فیها ، فهی مقیّدة لا محالة ، و خاصةً علی مسلکه من أن الحکم هو الإرادة المبرزة ، فإن الإهمال فی الإرادة المبرزة غیر معقول ، فیکون الحکم فی العام مقیّداً .

ص:282

و الثالث : قوله بجریان الأصل الحکمی ، یرد علیه: إنه إن کان المراد هو الاستصحاب ، فإجراؤه مع الشک فی الموضوع تمسّک بدلیله فی الشبهة الموضوعیّة له ، لأنّ المعتبر فی الاستصحاب إحراز أن رفع الید عن الیقین السابق نقضٌ ، لکنّ إحراز النقض موقوفٌ علی وحدة الموضوع فی القضیّتین ، و مع تردّده لاحقاً ، فلا إحراز لوحدته فالاستصحاب ممنوع .

و الرابع : إنه یرد علی تفصیله بین التناقض و التضاد : إن رفع عدم الوجوب لیس هو عین الوجوب حتی یثبت حکم العام و یترتب علی الفرد المردد ، لأنّ مفهوم نفی النفی لیس هو الإثبات بل الإثبات مصداقه ... فلو أُرید من استصحاب عدم الفسق إثبات العدالة فهو أصل مثبت . اللّهم إلّا أن یقال بالجریان مع خفاء الواسطة کما علیه الشیخ ، لکنّ التحقیق خلافه .

و الخامس : إنه یرد علی قوله بالتمسّک بالعام فی الشبهات المصداقیّة حیث یکون البیان من وظیفة الشارع ، بأنْ المفروض إسقاط الشارع ظهور « المؤمنون عند شروطهم » و هی قضیة حقیقیّة بحسب المراد الجدی ، بقوله : « کلّ شرط خالف اللّٰه فهو رد » (1) ، فکان ذاک العام مقیّداً ، و المفروض عدم البیان ، فکیف یتمسّک به فی الفرد المردّد من الشرط ؟

ص:283


1- 1) وسائل الشیعة 18 / 267 ، الباب 15 من أبواب بیع الحیوان ، رقم : 1 .

استصحابُ العدم الأزلی

تمهیدٌ
اشارة

المخصّص المنفصل تارةً : یکون مجملاً مفهوماً کما لو قال أکرم العلماء ، ثم قام الدلیل علی حرمة إکرام الفسّاق منهم ، و شکّ فی حکم فردٍ من العلماء مرتکب للمعصیة الصّغیرة ، من جهة تردّد مفهوم الفسق بین ارتکاب خصوص الکبیرة و الأعمّ منها و الصّغیرة ، و تسمی بالشبهة المفهومیة . و اخری : یکون مبیّناً من حیث المفهوم ، فیقع الشکّ فی حکم الفرد من جهة امور خارجیّة ، کما لو جهلنا کونه مرتکباً للفسق حتّی یندرج تحت المخصّص أو غیر مرتکب له فیشمله العام ، و تسمّی بالشبهة المصداقیة .

أمّا فی الاولی ، فالمشهور هو التمسّک بالعام .

و أمّا فی الثانیة ، فقد ذهب السید صاحب ( العروة ) إلی التمسّک بالعام ، خلافاً للمشهور القائلین بالرجوع إلی الأصل ، فإنْ کانت الحالة السابقة للفرد هو الفسق أو عدمه ، جری الأصل و خرج عن الشبهة ، أمّا لو جهلنا حالته السابقة أو کان مورداً لتوارد حالتی الفسق و العدالة و جهل المتقدّم و المتأخّر منهما ، فلا أصل ینقّح حاله ، و یسقط التمسّک بالعام و بالدلیل المخصّص أیضاً ، فإنْ قلنا بجریان الاستصحاب الحکمی حینئذٍ فهو ، و إلّا وصلت النوبة إلی البراءة أو الاشتغال .

و هذا کلّه قد تقدّم ، و حاصله تنقیح حال الموضوع باستصحاب عدم الفسق و یعبّر عن ذلک باستصحاب العدم النعتی .

ص:284

و یقابله استصحاب العدم الأزلی بأنْ نقول : هذا الفرد من العلماء لم یکن فی الوجود ، فهل بعد ما وُجد وُجد فیه الفسق أو لا ؟ فهل یمکن الخروج عن هذا الشکّ باستصحاب عدم الفسق أزلاً أو لا ؟

و هذا فی الأوصاف العارضة .

و من الأوصاف ما هو ذاتی لا یزایل الموصوف منذ وجوده ، کقرشیّة المرأة ، و هو المثال المعروف فی المسألة ، فإن المرأة تحیض إلی الخمسین إلّا القرشیة فإنّها تری الحیض إلی الستین ، فلو شککنا فی امرأةٍ هل هی قرشیّة فدمها بعد الخمسین حیض أو غیر قرشیّة فاستحاضة ؟ فهل یمکن التمسّک بالأصل الموضوعی بنحو العدم الأزلی أو لا ؟

و البحث فی هذه المسألة فی مقامین :

المقام الأوّل ( فی الاقتضاء )
اشارة

و للبحث فیه جهتان : جهة الثبوت و أنه هل - من الجهة العقلیّة أو العرفیة - لهذا الأصل اقتضاء ؟ وجهة الإثبات و أنه بناء علی تمامیة المقتضی عقلاً و عرفاً ، هل للأدلّة اقتضاء فی مقام الإثبات أو لا ؟

المیرزا ، منکر للاقتضاء العقلی .

و جماعة ، ینکرون الاقتضاء العرفی .

و البروجردی ، لا یمنع من الاقتضاء الثبوتی بل یری الأدلّة قاصرةً إثباتاً .

الأقوال فی المسألة

و قد اختلفت أنظار الأعلام فی جریان استصحاب العدم الأزلی ، بین قائل به مطلقاً ، و قائل بعدمه مطلقاً ، و مفصّل بین عوارض الوجود فالجریان و عوارض الماهیّة فالعدم .

ص:285

کلام الکفایة فی تقریب الجریان

قال صاحب ( الکفایة ) : لا یخفی أن الباقی تحت العام بعد تخصیصه بالمنفصل أو کالاستثناء من المتّصل ، لمّا کان غیر معنونٍ بعنوان خاص بل بکلّ عنوان لم یکن ذلک بعنوان الخاص ، کان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعی فی غالب الموارد - إلّا ما شذّ - ممکناً ، فبذلک یحکم علیه بحکم العام و إنْ لم یجز التمسّک به بلا کلام . ضرورة أنه قلّما لم یوجد عنوان یجری فیه أصل ینقّح به أنه ممّا بقی تحته . مثلاً : إذا شک فی امرأة ... (1) .

فالمحقق الخراسانی من القائلین بجریان استصحاب العدم الأزلی و توضیح کلامه هو :

إنّ العام إذا أصبح موضوعاً للحکم ، فهو موضوع له بجمیع العناوین و الانقسامات ، فإذا قال : أکرم العلماء ، شمل « العالم » الفاسق و العادل و غیر الفاسق و غیر العادل ... و کلّ واحدٍ من هذه العناوین موضوع للحکم بوجوب الإکرام ، لأن « العالم » یشملها کلّها و هی مندرجة تحته ، ثم لمّا جاء المخصّص ، فإنْ کان منفصلاً أو کان متّصلاً لکنه من قبیل الاستثناء ب« الّا » و شبهه ، لم یؤثّر إلّا الإخراج فقط ، أمّا إنْ کان متّصلاً و لم یکن من قبیل « إلّا و شبهه » کما لو قال : أکرم العلماء العدول ، فإنّه یفید الإخراج من تحت العام و تعنون العام و تقیّده بغیر الفسّاق .

قال : إلّا ما شذ .

یعنی : مورد توارد الحالتین من الفسق و العدالة .

إذن ، فهو یری جریان استصحاب العدم الأزلی إلّا فی مورد توارد الحالتین .

ثم طبّق هذه الکبری علی المرأة القرشیّة ، لأن الدلیل أفاد أنّ المرأة تری

ص:286


1- 1) کفایة الاصول : 223 .

الحمرة إلی خمسین سنة ... و« المرأة » موضوعٌ یندرج تحته جمیع أصناف المرأة و انقساماتها ، و منها المرأة التی لیس بینها و بین قریش انتسابٌ . لکنْ قد ورد فی خصوص القرشیة أنها تری الحمرة إلی الستّین ، فأخرج هذا القسم من تحت الدّلیل السابق من غیر أن یتقیّد الموضوع - أی المرأة - بقیدٍ ، لکون هذا المخصّص من قبیل الاستثناء ، فإذا شکّ فی امرأةٍ معیّنةٍ بنحو الشبهة المصداقیّة : هل لمّا وجدت وجد معها الانتساب إلی قریشٍ أو لا ؟ جری استصحاب العدم و حکم بعدم وجود تلک النسبة ، فیکون الدم الذی تراه بعد الخمسین محکوماً بالاستحاضة لا الحیض ... .

فظهر أنّ استصحاب العدم الأزلی جارٍ بناءً علی الخصوصیّات المذکورة ، سواء فی الأوصاف الذاتیة کالقرشیّة و العرضیّة کالفسق ، إلّا فی مورد توارد الحالتین من الفسق و العدالة حیث تنتقض الحالة السابقة فلا یجری الاستصحاب .

هذا بیان مطلب ( الکفایة ) .

الإشکالات

لکنْ هنا إشکالات :

الأول : إنه لا مقتضی لجریان هذا الأصل ، لما تقرّر من أنّ مجراه الحکم الشرعی أو الموضوع له ، وعلیه ، فإن الموضوع فی لسان الدلیل هو « العالم » و هو الذی جاء الحکم بوجوب الإکرام علیه ، و أمّا أقسامه و أوصافه الطارئة علیه ، فلم یؤخذ منها شیء فی لسان الدلیل موضوعاً للحکم ، فلیس « العالم الذی لم یتّصف بالفسق » هو الموضوع ، أو « المرأة التی لا تنتسب إلی قریش » ، بل الموضوع « المرأة » ، و هو محرز بالوجدان و لا شکّ فیه لیجری فیه الاستصحاب .

الثانی : إنه إذا ورد المخصّص ، أثّر فی الظهور و الدلالة الاستعمالیّة ، و یکون

ص:287

الموضوع فی الدلیل مقیّداً بالمخصّص ، و أثّر أیضاً بحسب الحجیّة فی الإرادة الجدیّة - إن کان منفصلاً - کما هو واضح ... وعلیه ، فإنّ الظهور ینقلب و یکون الموضوع مقیّداً و معنوناً بالخاص ، فیترکّب الموضوع أو یتقیّد - علی الخلاف ، کما سیأتی - و لا یبقی مجرّداً عن القید ، بل یکون « العالم غیر المتصف بالفسق » و« المرأة غیر المنتسبة إلی قریش » هو الموضوع . و لا أصل ینقّح حاله .

و علی الجملة ، فإنّ بیان ( الکفایة ) إنما یتمّ بناءً علی عدم تلوّن العام بعنوان الخاص بعد التخصیص ، و هو خلاف التحقیق .

و قال الإیروانی معلّقاً علی قول ( الکفایة ) : « لما کان غیر معنونٍ بعنوان خاص » :

یعنی : العنوان الخاصّ الوجودی المقابل لعنوان المخصّص . و أمّا العنوان العدمی - و هو عدم عنوان المخصص - فالباقی تحت العام معنون به البتة ، و قد صرّح به المصنف بقوله : بل بکلّ عنوان لم یکن ذلک بعنوان الخاص ، « فإن قوله لم یکن ذلک بعنوان الخاص هو بعینه عنوان للعام ، لکن تعبیره بقوله : « بل بکلّ عنوان » مسامحة ، لأنه یوهم دخل تمام العناوین الوجودیة التی لیست بعنوان الخاص لکن علی سبیل البدل ، و هو باطل قطعاً و خلاف المقصود جزماً ... فما فرّعه المصنف علی ما أصّله من جریان الأصل الموضوعی ... لیس علی ما ینبغی ، فإنّ مجرد عدم تحقّق الانتساب الذی هو السلب الناقص لا أثر له بعد أنْ صار عنوان العام بعد خروج الخاص المرأة التی لیست امرأةً من قریش ، إذ لیست لهذا السلب الناقص فی المرأة المشکوکة قرشیّتها حالة سابقة متیقّنة ... (1) .

و حاصل کلامه : إن مراد ( الکفایة ) تعنون العام و تقیّده بالعدم بعد إخراج

ص:288


1- 1) نهایة النهایة 1 / 284 .

العنوان الوجودی ، فالمرأة متّصفة بعدم القرشیّة بنحو لیس الناقصة ، و هذه لا حالة سابقة لها حتی تستصحب ، بل الموجود فی الأزل هو المرأة غیر المنتسبة إلی قریش بنحو لیس التامة ، و استصحاب عدمها بنحو لیس التامة لإثبات عدمها بنحو لیس الناقصة لا یتم إلّا علی الأصل المثبت .

لکنّ الأُستاذ استظهر من کلام ( الکفایة ) غیر هذا ، لأنه نفی تعنون العام بعد التخصیص ، بل جعل المخصّص مخرجاً فقط ، ثمّ أکّد ذلک بقوله : بل بکلّ عنوان ... فأفاد أنّ الموضوع هو « المرأة » فقط ... فقول الإیروانی بأنّ العنوان العدمی مفاد لیس الناقصة و الأصل مثبت ، إنما یتمُّ لو کان صاحب ( الکفایة ) یری اتّصاف العام - بعد تخصیصه بعنوان وجودی - بعنوانٍ عدمی ، و هذا ما ینفیه کلامه .

الثالث : إنه لو سلّم جریان أصل العدم الأزلی و القول بعدم الاتّصاف فی الزمان اللّاحق ، فإنّه لا یرفع حکم الخاصّ عن الفرد ، لأنا إذا استصحبنا عدم فسقه أزلاً اندرج تحت العام ، و لکنْ ما المخرج له من تحت الخاص مع احتمال کونه فاسقاً و قد قال : لا تکرم الفسّاق ؟ و نفی حکم الخاص عنه بالأصل لا یتم إلّا بالأصل المثبت کما لا یخفی .

و قد أجاب المحقق الأصفهانی (1) بما حاصله : لقد دلّ العام علی وجوب إکرام العالم ، و هو یدلّ بالالتزام علی أنّ شیئاً من العناوین لا ینافی « عنوان » العالم المجعول موضوعاً لوجوب الإکرام ، فهو واجب الإکرام سواء کان عدلاً أو لا ، غیر متصف بالسفاهة أو لا ... و هکذا ... و إذا کان لا ینافی وجوب الإکرام فهو منافٍ لحرمته ، فکان الفرد خارجاً من تحت الخاص بالدلالة الالتزامیة لدلیل العام ، الدالّ

ص:289


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 461 .

بالمطابقة علی وجوب إکرام ما أُخذ فیه موضوعاً و هو العالم .

قال الأُستاذ :

و هذا جواب دقیق عن الشبهة بل هو خیر جوابٍ عنها . إلّا أنّه إنما یتمُّ بناءً علی مختاره من عدم تلوّن العام علی أثر التخصیص ، و أمّا بناءً علی ما هو مقتضی البرهان من تقیّد الموضوع أو ترکّبه بعد التخصیص فلا یتم ، لکون الجزء مشکوکاً فیه ، فالإشکال باق .

الرابع : إشکال المعارضة ، ذکره المحقق المشکینی (1) ، لأنّ دلیل الخاص قد دلّ بالمطابقة علی حرمة إکرام الفاسق ، و بالالتزام علی حرمة إکرام غیر المتّصف بالعدالة ، و بذلک یخرج من لم یتّصف بالعدالة من تحت العام ، فلو استصحبنا عدم اتصافه بالفسق أزلاً حتی یندرج تحته ، عارضه استصحاب عدم اتّصافه بالعدالة المقتضی لخروجه عنه ، و تساقطا .

أجاب الأُستاذ :

إنّ الأصل فی الإشکال هو استلزام الفسق لعدم الاتصاف بالعدالة ، و أنَّ من لیس متّصفاً بها یحرم إکرامه ، فإنْ قلنا ببقاء المدلول الالتزامی بعد سقوط المطابقی ، کان الإشکال وارداً ، و أمّا علی القول بتبعیّته له فی الثبوت و السقوط ، فإنّ عدم الاتصاف بالعدل الذی یلازم الفسق مخرج من تحت العام ، و مفروض الکلام أن جریان الأصل یفید عدم العدالة ، أمّا بالنسبة إلی الفسق فلا أصل و لا وجدان ، فأین المعارضة ؟

لکنْ لا یخفی أنّ الجواب مبنائی کالجواب عن الإشکال السابق .

ص:290


1- 1) کفایة الاصول بحاشیة المشکینی 1 / 347 .
تقریر استصحاب العدم الأزلی ببیان آخر

إذن ، لا بدّ من سلوک طریقٍ آخر لتقریر استصحاب العدم الأزلی و هو یتمُّ بذکر امور :

الأمر الأول

من الواضح أنّ کلّ حادث - سواء کان حکماً أو موضوعاً لحکم - مسبوق بالعدم ، غیر أنَّ للحکم عدمین ، عدم قبل الشرع و عدم بعده ، فحرمة شرب الخمر حکم مجعول من قبل الشارع و له وجودان أحدهما قبل وجود الخمر ، و الآخر بعد وجوده ، و کلاهما مسبوق بالعدم ، و من هنا یمکن للخروج عن عهدة التکلیف التمسّک بالبراءة و التمسّک باستصحاب عدم الحکم أیضاً . أمّا الموضوع فلیس له إلّا عدم واحد .

و لا کلام فی جریان استصحاب العدم الأزلی فی الحکم .

و مورد البحث فی جریانه فی الموضوع .

و الموضوع :

تارةً : هو عنوان ذاتی ، و هو عبارة عن العنوان المنتزع من الصّورة الجوهریّة ، کعنوان الکلبیّة المنتزع من نوع الکلب ، و کعنوان الزیدیّة المنتزع من الشخص .

و تارةً : هو عنوان مفارق غیر ذاتی . و هذا علی قسمین :

( الأول ) العنوان المفارق للذات الملازم لها ، مثل قرشیة المرأة ، فإنّها عنوان غیر منتزع من ذات المرأة ، بل ینتزع من الخارج إلّا أنه ملازم للذات و لا ینفکُّ عنها .

( و الثانی ) العنوان المفارق للذات غیر الملازم لها ، و هو العنوان العرضی

ص:291

کالفسق مثلاً ، فقد تکون الحالة السابقة معلومة من حیث الفسق و العدالة و اخری مجهولة .

ثم إن العنوان المفارق الملازم للذات ، تارةً : یکون من لوازم وجودها ، و اخری : من لوازم الماهیة . و هذا مورد تفصیل المحقق العراقی و الحکیم تبعاً له فی المستمسک ، کما سیأتی .

هذا ، و للبحث عن جریان استصحاب العدم الأزلی فی العناوین الذاتیة موارد و له آثار مهمّة ... .

و المقصود من هذه المقدّمة ، جریان البحث فی جمیع الأقسام المذکورة للموضوع ، و إنّما یخرج من البحث صورة توارد الحالتین لانقطاع الحالة السابقة .

الأمر الثانی

إنّ لأهل الفنّ ، کالشیخ و المیرزا و الأصفهانی و غیرهم ، مصطلحات لها دخل فی البحث فی المقام ، فیلزم فهمها فنقول :

لقد قسّموا الوجود إلی قسمین هما : الوجود فی نفسه ، و المراد منه الوجود المضاف إلی ماهیّةٍ ، سواء کانت جوهراً أو عرضاً ، کوجود الإنسان ، و العلم .

و الوجود لا فی نفسه ، و المراد منه الوجود غیر المضاف إلی ماهیّةٍ بل یوجد فی وجودٍ آخر ، لا بمعنی کونه من شئونه و أوصافه بل إنه مضمحلٌّ فیه ، کقولنا بوجود الربط بین الموضوع و المحمول ، فلمّا نقول : زید قائم ، فإنّ هناک وجوداً یکون رابطاً بین زید و قائم و هو وجود غیر وجودهما ، یدلّ علی وجوده الارتباط الموجود بینهما ، و هو غیر الارتباط الموجود فی عمرو قائم و زید جالس ، و لذا نقول بأنّ المعنی الحرفی جزئی حقیقی .

فالوجود الرابط وجود لا فی نفسه بل بین الموضوع و المحمول ، بخلاف

ص:292

بیاض الجدار ، فإنّه وجود فی نفسه غیر أنه قائم بالجدار .

فظهر : إن الوجود الرابط یکون بین الوصف و الموصوف فقط ، و هذا مفاد کان الناقصة ، أی مفاد ثبوت الأوصاف و الأعراض للموضوعات ، کقولنا : کان زید قائماً ، فی مقابل مفاد کان التامة ، أی ثبوت الوجود للماهیة مثل : کان زید .

ثم إنّ الهلیّة البسیطة مثل : هل زید موجود ؟ مفاد کان التامة ، و فی مقابلها الهلیّة المرکبة مثل : هل زید عالم ؟ مفاد کان الناقصة .

و من هنا علم : أن الوجود الرّابط لا یکون فی مفاد کان التامة و الهلیّة البسیطة ، فلا یقال : زید هست است ، بل یقال : هست . لأنه یستحیل الربط بین الشیء و نفسه ... هذا أوّلاً . و ثانیاً : تارةً نقول : ثبوت البیاض . و اخری نقول : ثبوت البیاض للجدار . و إذا کان الوجود عین الثبوت فلا معنی لأنْ یثبت لشیء .

و أمّا فی مثل : لیس زیدٌ ، و زید معدوم و أمثالهما ، فلا وجود رابط ، لأنّه - کما تقدم - ربط بین شیئین ، و العدم لیس شیئاً حیت یربط بشیء . هذا أولاً . و ثانیاً :

الوجود الرابط ثبوت شیء لشیء ، و العدم لا ثبوت له .

و أیضاً : لیس الوجود الرابط فی مفاد لیس الناقصة مثل : لیس زید بعالمٍ ، لأنه سلب الشیء عن الشیء ، فلا یکون فی القضایا السالبة ربط السلب و لا ربط هو سلب ، بل مفادها سلب الربط ، فلا معنی لمجیء الوجود الرابط . و أمّا فی مثل :

لیس زید بموجودٍ ، فإن المسلوب هو الوحدة بین الموضوع و المحمول لا الربط ، لما تقدّم من عدم الربط بین الشیء و نفسه .

و تلخّص : إن الوجود الرابط یکون فی مفاد کان الناقصة فقط ، و هذا الوجود عین الربط ، و هو متقوّم بوجود الطرفین ، و هو غیر موجود فی مفاد کان التامة . و فی لیس التامّة لیس إلّا النفی للربط .

ص:293

الأمر الثالث

الوجود الذی فی نفسه و یمکن حمله علی ماهیّته ، ینقسم إلی قسمین :

الأول : وجود فی نفسه و لنفسه ، و هو وجود الجوهر ، و للماهیة التی یحمل علیها وجود کذلک .

و الثانی : وجود فی نفسه و لغیره ، و هو وجود العرض ، کوجود العلم لزید و وجود البیاض للجدار .

ثم إنَّ وجود الجوهر کزید رافع لعدمه ، أمّا وجود العلم له ، فإنه رافع لعدم العلم . و أیضاً هو شأن من شئون زید و طور من أطواره و کمالٌ له ... فکان لوجود الجوهر حیثیّة واحدة ، و لوجود العرض حیثیّتان ... فهو وجود للغیر فیکون وجوداً نعتیّاً و تعلّقیاً ، و لذا قالوا بتعریفه : إنه ماهیة إذا وجدت فی الخارج وجدت فی موضوعٍ ، فی مقابل الجوهر إذ قالوا : یوجد لا فی موضوع .

و محلّ الحاجة من هذا البیان هو : إن رفع العرض یکون تارةً بسلب الوجود عنه بالنحو المحمولی ، و اخری بسلبه بنحو الوجود النعتی . و بعبارةٍ اخری : إنه یمکن رفع العرض بسلب الحیث التعلّقی و الإضافی ، و یمکن رفعه بسلب الحیث المحمولی بأن یقال : العلم لیس ، و هذا معنی قولهم : وجود العرض و وضعه یکون بالوجود النعتی و کونه لموضوع کوجود العلم لزید ، و رفعه یکون برفع الوجود النعتی کسلب العلم عن زید ، أو المحمولی کسلب العلم و نفیه ، و هذا مذهب القائلین باستصحاب العدم الأزلی . و المنکرون یقولون : رفعه لیس إلّا برفع الوجود النعتی ، مثلاً :

القرشیة وصف موجود للمرأة ، و هو متأخّر فی الوجود عن وجودها ، لأنه وصف لها و طور من أطوارها ، لکنّ عدم القرشیة لیس کذلک ، بل قد یکون معها

ص:294

و قد لا یکون ، فإذا ارید رفع القرشیة أمکن بأنْ نقول : المرأة غیر القرشیة ، فکان عدم القرشیة وصفاً و طوراً لها . و المنکر للاستصحاب یقول : بأنّ الرفع لا یکون إلّا هکذا ، و إنّ عدم القرشیة متأخر عن المرأة لکونه وصفاً لها . لکنّ المثبت للاستصحاب یقول : بإمکان الرفع أیضاً بأن نقول : المرأة غیر المتّصفة بالقرشیة .

فهناک مرأة و عدم الاتصاف ، فیرفع الاتصاف و الانتساب إلی قریش کرفع الوجود المتحقّق لماهیة العلم و هو الحیثیة الاولی للعرض کما تقدّم .

الأمر الرابع

إن القضیة إمّا موجبة معدولة المحمول کالمرأة غیر القرشیة ، و إمّا موجبة سالبة المحمول کالمرأة التی لیست بقرشیة ، و إمّا سالبة محصّلة مثل : لم تکن المرأة بقرشیّة . وعلیه ، فإنّ الحیث العدمی تارةً یکون وصفاً للموضوع و اخری لا یکون کذلک .

و بعبارة اخری : تارةً : یربط السلب إلی الموضوع ، و اخری : یسلب الربط عنه ، فإنْ کان من قبیل الأوّل فالقضیة موجبة ، تقول : المرأة غیر القرشیة ، و إنْ کان من قبیل الثانی فلا سلب مرتبط بالموضوع بل ربطٌ یسلب ، فالقضیة سالبة محصّلة ، إنْ لم تکن المرأة قرشیةً ... .

و إذا کان عدم القرشیة وصفاً للموضوع کما فی الأول ، لم یستصحب هذا العدم قبل وجود الموضوع ، لفرض کونه متأخّراً عنه تأخّر الصفة عن الموضوع ، إلّا علی القول بالأصل المثبت ، لأن عدم الوصف قبل الموضوع یغایر عدمه بعده .

أمّا فی الثانی ، حیث تسلب القرشیة عن الموضوع و لا یکون عدمها وصفاً له بل هو مسلوب عنها ، فالاستصحاب جارٍ ، لأنّ المرأة لم تکن قرشیةً أزلاً و هی الآن کذلک ، کما لو شکّ فی شرطٍ أنه مخالف للکتاب و السنّة أو لا ؟ و قد تقدّم أنه

ص:295

تارةً : نسلب النّسبة کما فی زید لیس بقائم ، و اخری : ننفی الربط کما فی : زید لیس فی الدار ، و فی کلیهما الرفع ، لکنْ فی الأول رفع للنسبة و فی الثانی رفع للربط ، و قد عرفت أن النسبة عبارة عن الاتحاد بین الموضوع و المحمول و هی موجودة فی جمیع القضایا ، بخلاف الربط فلیس فی جمیعها و هو مفاد حرف الجر . و أمّا فی مفاد کان التامّة مثل زید موجود ، فقد قالوا بوجود النسبة فی عالم التحلیل العقلی ، إذْ لا نسبة بین الشیء و نفسه کما تقدم .

فالقضایا التی هی مفاد کان الناقصة یوجد فیها الربط ، فزید عالم معناه : زید له العلم ، و أمّا السلب ، فلیس إلّا العدم ، و هو لا حکم له ، فلما نقول : زید لیس بموجود ، نرفع الاتحاد بین زید و الوجود ، لکن فی زید لیس عالماً ، نرفع الارتباط بینهما ، و رفع الوصف عن الموضوع لا یفید وضع وصف آخر فیه ، فرفع القرشیة عن المرأة لا یفید اتّصافها بعدم القرشیة بل هو رفع للقرشیة عنها .

ففی « المرأة تری الحمرة إلی خمسین إلّا القرشیة » عام و خاصٌ ، فإنْ کان الخاص - و هو « إلّا القرشیة » - یفیض وصفاً عدمیّاً علی موضوع العام أی المرأة ، فیکون المعنی : « المرأة الموصوفة بعدم القرشیة تری الحمرة إلی خمسین » فلا یجری الاستصحاب ، لکون الوصف متأخراً عن الموضوع ، إلّا علی القول بالأصل المثبت . و إن کان الخاصّ رافعاً للقرشیّة و سالبها عن المرأة ، فذلک یکون علی نحوین : أحدهما : المرأة غیر القرشیّة ، و الآخر : مورد عدم وجود المرأة من الأصل ... و علی کلا النحوین ترتفع القرشیّة ، و هذا معنی قولهم : السّالبة المحصّلة ذات فردین : السالبة بانتفاء المحمول و السالبة بانتفاء الموضوع ...

و علی کلا الحالین ، لا مانع من الاستصحاب ، إذ المرأة لم تکن و لم تکن معها القرشیة ، فهل وجدت القرشیة بوجودها أوْ لا ؟ الأصل هو العدم .

ص:296

الأمر الخامس

إن تخصیص العام بعنوانٍ وجودی و إخراجه من تحته ؛ یسقطه عن السّعة و الشمول کما هو واضح ، و لکنْ تارةً یوجب صیرورة العام مرکّباً و اخری مقیّداً موصوفاً ، و نتیجة ذلک ، أنه إنْ کان من قبیل الثانی لم یجر الاستصحاب إلا علی الأصل المثبت ، لکون الوصف متأخّراً عن الموضوع . أمّا علی الأول فیجری ، إذ یحرز أحد الجزءین بالأصل مع کون الآخر محرزاً بالوجدان .

فظهر أنّ استصحاب عدم القرشیة یجری علی تقدیر القیدیّة و لا یجری علی تقدیر الوصفیّة .

إذا عرفت المقدّمات

یتبیّن تمامیّة الاستصحاب :

فبمقتضی المقدّمة الثانیة - و هی أن الوجود الرابط ثبوت شیء لشیء و هو فرع وجود الشیء من قبل ، و فی رفع الثبوت لا حاجة إلی وجود الشیء - یمکن استصحاب عدم قرشیة المرأة بنحو عدم الوجود الرابط . فالمرأة القرشیة لها ارتباط بقریش ، و نحن نرفع هذا الارتباط و الانتساب بقولنا : لم یکن قبل وجود المرأة قرشیة ، و الآن و بعد وجودها نستصحب ذاک العدم بنحو سلب الربط ، و لیس رفع الوجود الرابط فی رتبة متأخرةٍ عن الشیء کما لا یخفی .

و بمقتضی الثالثة : إن قرشیّة المرأة فی مرتبة متأخرة عن المرأة ، لکنّ عدم قرشیّتها لیس کذلک ، لأن عدم العرض لیس عدماً لغیره . وعلیه : فإنّ القرشیة بحاجة إلی وجود المرأة ، أمّا عدمها فلا . و المفروض أنْ عدم القرشیة لیس وصفاً للمرأة .

و بمقتضی الرابعة : فإنه بعد التخصیص ، سواء کان الموضوع من السّالبة

ص:297

المحصّلة بانتفاء المحمول ، أو کان بنحو المقسم الجامع بین القسمین ، الموضوع قابلٌ للجعل الوجودی .

و بمقتضی الخامسة : إنّ أثر الإخراج و التخصیص هو الترکیب و التقیید ، و لیس التوصیف ، و إذا کان کذلک جری الاستصحاب لإحراز الجزء الثانی العدمی و هو عدم القرشیة ، بعد إحراز الوجودی بالوجدان و هو المرأة .

المقام الثانی (فی المانع)
اشارة

و قد استدلّ المانعون بوجوهٍ لا بدّ من إیرادها و النظر فیها :

الوجه الأول :

صحیحٌ أنّ عدم العرض لیس وصفاً للموضوع ، لأنّ وجوده یحتاج إلی الموضوع ، و أمّا عدمه فغیر محتاج إلیه ، و لکنّ هناک خصوصیة تقتضی أنْ یکون وصفاً ، و توضیح ذلک :

إنّ للشیء انقساماً بالنظر إلی أحواله و أوصافه ، و انقساماً آخر بالنظر إلی مقارناته ، فنسبة الجدار إلی البیاض من قبیل الأول ، و نسبته إلی وجود زید و عدم وجوده من قبیل الثانی ... و النسبة بین الشیء و مقارناته فی رتبة متأخرة عنها بینه و أوصافه ، لأن الوصف من شئون الشیء فهو یلحظ معه ، کلحاظ العلم مع لحاظ زید ، و أمّا مقارنات الشیء فلیست من شئونه کما لا یخفی .

وعلیه ، فإنّ القرشیة لمّا کانت من أوصاف المرأة ، فإن انقسامها إلی وجود القرشیّة و عدم وجودها فیها بنحو الوصفیّة مقدّم رتبةً علی انقسامها إلیهما بنحو المقارنة ، فالمرأة بالنسبة إلی غیر القرشیة بنحو التوصیف متقدّم رتبةً علی المرأة بالنسبة إلیها بنحو المقارنة ... فإذا أخرج المولی القرشیّة من تحت عموم المرأة لم تبقَ المرأة مهملة بالنسبة إلی عدم القرشیة و لا هی مطلقة ، أمّا عدم الإطلاق

ص:298

فواضح . و أمّا عدم الإهمال ، فلأن الحکیم الملتفت إلی انقسامات موضوع حکمه لیس بمهملٍ لها ، فیکون « المرأة » و هی موضوع الحکم فی العامّ مقیدةً بعدم القرشیة ، و قد تقدّم أنّ هذا التقیّد بنحو الوصف مقدَّم علی عدمها بنحو المقارنة .

و إذا کانت المرأة مقیّدةً بعدم القرشیّة بنحو الوصف ، فلا فائدة لاستصحاب العدم الأزلی فی عدم القرشیة بنحو المقارنة . هذا ثبوتاً . و أمّا إثباتاً ، فإنّ أخذ الأحوال بنحو المقارنات یحتاج إلی مئونةٍ زائدة ، و مقتضی التطابق بین مقامی الثبوت و الإثبات هو أخذها بنحو الأوصاف .

و هذا ما أفاده المیرزا رحمه اللّٰه (1) .

و ما أفاده المحقق الأصفهانی فی الجواب - من قبول تقدّم الانقسام بنحو الأوصاف علی الانقسام بنحو المقارنات ، لکنّ المتَّبع هو الدلیل و کیفیة الأخذ فی لسانه - غیر رافع للشبهة بعد تقریبنا لها بما عرفت ، من أنّه لا مناص من أخذ الدلیل للخصوصیّة بنحو الوصف ، لأنّ تقسیم المرأة بنحو الوصف مقدّم کما اعترف ، فإذا لحظ المرأة و هو لیس بمهملٍ و لا مطلق بل مقیِّد ، فلا محالة یکون قد أخذ عدم القرشیة معها بنحو القید ، و لا یبقی مجال لأنْ یأخذه بنحو المقارن فی المرتبة المتأخرة مرةً اخری .

فالحق أنّ الشبهة من حیث الکبری تامة واردة .

لکنّ الجواب هو من حیث الصغری ، لأنّا قد ذکرنا أنه و إنْ کانت القرشیة وصفاً کما هو واضح ، لکنّ عدم القرشیة لیس وصفاً بل هو مقارنٌ . فالشبهة مندفعة من هذه الجهة .

ص:299


1- 1) أجود التقریرات 2 / 330 .

الوجه الثانی :

إن کلّ وصفٍ متأخّر وجوداً عن الموصوف ، لکون الموصوف فی مرتبة العلّة للوصف و الوصف قائم به قیام العرض بالمعروض . هذا من جهة . و من جهةٍ اخری : فإنّ عدم الوصف و وجوده فی مرتبةٍ واحدة لأنهما متناقضان ، و کلّ متناقضین ففی مرتبةٍ واحدة .

و النتیجة : إن استصحاب عدم العرض و الوصف قبل وجود الموضوع لما بعده أصل مثبت .

و الجواب

أمّا المقدمة الأولی ، فلا کلام فیها ، کما هو واضح .

إنّما الکلام فی المقدّمة الثّانیة :

أمّا من حیث المبنی ، فبإنکار لزوم کون النقیضین فی مرتبة واحدة ، لأنّ نقیض الشیء فی کلّ وعاءٍ رفعه فی ذلک الوعاء ، و هذه حقیقة التناقض ، و لیس هو عدم الشیء فی المرتبة ، إذ لا ضرورة لأنْ یکون الرفع فی المرتبة بل المرتبة قید المرفوع و المعدوم ، فهو ما یکون فی المرتبة لا الرفع ، وعلیه ، فإنّ نقیض القرشیة فی المرتبة بعد وجود المرأة هو رفع القرشیّة ، و لیس هذا الرفع فی المرتبة المتأخرة عن وجودها .

هذا هو الجواب الأوّل ، لکنّه مبنائی ، و تفصیل ذلک فی بحث الترتب .

و أمّا من حیث البناء بعد تسلیم ضرورة وحدة الرتبة بین النقیضین ، فیجاب عمّا ذکر : بأنّ الاختلاف فی المرتبة یجتمع مع التقدّم فی الزمان ، و ذلک لأنّه - قبل أنْ توجد العلّة فی الزّمان - کان الزمان ظرفاً لعدم العلّة و المعلول معاً ، مع أنّ عدم المعلول متأخّر رتبةً عن وجود العلّة ، فلا تلازم بین الاختلاف الرتبی و الزمانی ، بل المتأخّر رتبةً قد یتقدّم زماناً .

ص:300

و علی الجملة : فإنّ أساس مبنی تأخّر عدم العرض رتبةً عن وجود المعروض هو : إن وجود العرض و عدمه فی مرتبةٍ واحدة ، و وجود المعروض کالعلّة بالنسبة إلی وجود العرض لتخلّل الفاء بینهما ، فیلزم أن یکون وجود العرض و عدمه متأخراً عن وجود المعروض ، و لکنّ هذا کلّه لا یمنع من التقدّم زماناً ، فإنّ ظرف عدم النار هو نفس ظرف عدم الحرارة أیضاً ، مع أن بین النار و الحرارة اختلافاً فی المرتبة ، للعلّیة و المعلولیّة کما هو واضح .

وعلیه ، فإنّ عدم القرشیة متقدّم زماناً علی المرأة و القرشیّة - و إنْ کانت القرشیة و عدمها فی رتبةٍ متأخرة عن المرأة - فیستصحب ذاک العدم المتقدّم زماناً إلی الزمان المتأخّر عن وجودها ، و لیس بالأصل المثبت .

و هذا هو الحقیق فی الجواب علی فرض تسلیم المبنی .

الوجه الثالث :

إن استصحاب العدم الأزلی لا عرفیّة له ، و أدلّة الاستصحاب منصرفة عنه ، لأنّ المفروض تردّد المرأة الموجودة بین القرشیة و عدمها ، فیستصحب حالتها السابقة لإفادة عدم القرشیة . لکنّ هذه المرأة لا « هذیّة » لها قبل وجودها ، فکیف یجری فی حالها استصحاب العدم ؟ قاله جماعة منهم السید البروجردی (1) .

تحقیق المطلب :

إنّ الانصراف لا بدّ له من منشأ ، و المنشأ إمّا ندرة وجود بعض حصص الماهیة ، کأنْ یقال بانصراف جئنی بماءٍ عن ماء زمزم فی مدینة قم ، و إمّا کثرة استعمال اللفظ فی احدی الحصص دون الاخری ، و إمّا التشکیک فی صدق المفهوم عرفاً ، کانصراف الحیوان عن الإنسان ، فإن صدقه علیه خفی ، و کانصراف

ص:301


1- 1) نهایة الاصول : 302 .

ما لا یؤکل لحمه عن الإنسان .

و المرأة إنْ لم یکن لها قبل الوجود « هاذیّة » فلیس هناک قضیة متیقّنة بل هی مشکوکة من أول الأمر ، وعلیه ، فلا موضوع عقلاً للاستصحاب ، لا أنّ أدلّة الاستصحاب کصحیحة زرارة (1) منصرفة ، إذ الانصراف إنما یکون حیث یوجد الموضوع و الصّدق العرفی .

وعلیه ، فإنّ الاستدلال علی بطلان الاستصحاب فی هذا الوجه مختلف ، فتارةً الدلیل علی المنع هو الحکم العقلی من جهة عدم الموضوع . و اخری هو الانصراف من جهة عدم شمول أدلّة الاستصحاب لمثل المرأة هذه .

و لذا نقول : إنه إن کان وجه المنع هو : عدم الموضوع و انتفاء القضیة المتیقّنة من جهة أنه لا ماهیّة للمرأة قبل وجودها ، لکون الماهیّة منتزعة من الوجود ، فلا هذیّة للمرأة المعیّنة قبل وجودها ، فکیف یجری الاستصحاب ؟

فالجواب : إنا نرید بعد وجود المرأة إثبات المرأة بلا قرشیة ، فنقول :

هذه المرأة المعیَّنة مسبوقة بالعدم ذاتاً و صفةً ، و قد انتقض ذاک العدم بالنسبة إلی نفس المرأة إذ وجدت ، فهل عدم قرشیّتها قد انتقض إلی القرشیة أو لا ؟ هذا مشکوک فیه ، و یستصحب الیقین السابق .

و إنْ کان وجه المنع هو : عدم العرفیة لهذا الاستصحاب فتکون أدلّته منصرفة عنه .

فنقول : لا وجه لهذا الانصراف ، لأنّ المرجع فی تطبیق مفاهیم الألفاظ هو حکم العقل ، و أمّا العرف فنرجع إلیه فی أصل المفهوم ، فلما قال الشارع : لا تنقض الیقین بالشک ، احتجنا إلی قضیةٍ متیقنة سابقة و قضیة مشکوکة لاحقة ، مع اتّحاد

ص:302


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 245 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، رقم : 1 .

الموضوع فی القضیّتین ، و الفقیه یطبّق النصّ علی مورده حسب الأدلّة العقلیة ، و هو لا یتوقّف فی التمسّک بهذا النص فی مورد العدم الأزلی ، فلیس المرجع فیه هو العرف حتی یقال بعدم عرفیّة هذا الاستصحاب .

علی أنه قد تقرّر فی محلّه : أن المنشأ للانصراف هو التشکیک فی الصّدق ، و هذا الملاک بالنسبة إلی العدم الأزلی غیر موجود ، فلو کان تشکیک فی الصدق لزم عدم القول بالاستصحاب فی الأحکام الشرعیة ، و الحال أن المشهور یتمسّکون عند الشک فی الحکم باستصحاب عدم الجعل کما یتمسّکون بالبراءة ... و علی أساس استصحاب العدم الأزلی ذهب بعضهم - کالسید الخوئی - إلی عدم جریان الاستصحاب فی الأحکام الکلیة الإلهیة إذ قال بأنّ عدم الجعل معارض باستصحاب بقاء المجعول ... .

و تلخص اندفاع هذا الوجه حلّاً و نقضاً .

الوجه الرابع :

إنّ العدم فی الأزل غیر العدم بعد الوجود ... و من أجل هذه المغایرة یکون استصحاب العدم الأزلی من الأصل المثبت ... مثلاً : عدم البیاض علی الجدار الذی کان قبل وجود الجدار یغایر عدمه بعد وجود الجدار ... لأنّ العدم الأوّل کان مستنداً إلی عدم الموضوع ، و إذْ لا موضوع فلا عرض ، بخلاف العدم الثانی ، فإنّ الموضوع - و هو الجدار - موجود و لیس بأبیض .

و بعبارة اخری : لا یعقل بقاء المعلول مع تغیّر العلّة ، فإنْ علّة العدم قبل وجود الموضوع شیء ، و علّته بعد وجود الموضوع شیء آخر ، و إذا تعدّدت العلّة و تغیّرت ، فالمعلول کذلک ، فکان المتیقّن السابق غیر المشکوک فیه لاحقاً ...

فلا یجری الاستصحاب ، و هذا التقریب أقوی من تقریب المثبتین .

ص:303

و الجواب :

هو : أنّه لا معنی لأنْ یکون عدم العلّة علةً لعدم المعلول ، فلو قیل هکذا فهو مسامحة فی التعبیر ، بل الحقیقة : أن منشأ عدم المعلول هو عدم العلّة لوجوده ، فالشیء لا یوجد لعدم الموجد له لا لأنّ لعدمه علةً ، فإسناد العلیّة إلی العدم مسامحة .

هذا حلّ المطلب و به یندفع الإشکال .

و لو تنزّلنا و سلّمنا التغایر بین العدمین - السابق و اللّاحق لوجود الموضوع - فإنّ هذه المغایرة العقلیة لا تضرّ بالتمسّک بأدلّة الاستصحاب ، لأن المرجع فی وحدة الموضوع فی القضیّتین فی باب الاستصحاب هو نظر العرف لا الدقّة العقلیّة ، و العرف لا یری التغایر بین عدم البیاض قبل وجود الجدار و بعد وجوده .

و علی الجملة ، فقد علم ممّا تقدّم : أنّ استصحاب العدم الأزلی أساسه هو الترکیب فی الموضوع ، فهو - بعد التخصیص - المرأة بانضمام عدم القرشیّة ، و الشرط بانضمام عدم المخالفة للکتاب و السنّة ، و العالم بانضمام عدم الفسق ...

و هکذا ... و فی الزمان اللّاحق ، لمّا یشک فی الموضوع بقاءً ، یکون أحد الجزءین ثابتاً بالوجدان و هو وجود المرأة ، أمّا الآخر فمشکوک فی بقائه ، فیجری الاستصحاب فیه ... و سیأتی بقیة الکلام فی تطبیق البحث علی مسألة الکرّ .

الوجه الخامس :

إنّ استصحاب العدم الأزلی فی بعض الحالات مثبت کما تقدّم . و هو فی بعض الحالات محال و إنْ لم یکن بأصل مثبت ... أمّا کونه أصلاً مثبتاً ، فحیث یؤخذ عدم القرشیة فی طرف الموضوع بنحو العدول فی المحمول ، بأنْ یکون الموضوع « المرأة غیر القرشیة » ، أو بنحو السالبة بانتفاء المحمول بأنْ یکون

ص:304

« المرأة التی لیس بقرشیّة » . ففی هاتین الحالتین یکون الاستصحاب أصلاً مثبتاً ...

کما تقدّم .

لکنّ هناک حالةً ثالثةً و هی : أنْ تکون القضیّة بعد إخراج القرشیّة بالتخصیص بنحو السّالبة المحصّلة بأنْ یقال : « المرأة إذا لم تکن بقرشیة » ، فإنّ هذا الفرض محال ، لأنّ السّالبة المحصّلة و إنْ کانت صادقةً حتی مع عدم الموضوع فلا یکون أصلاً مثبتاً ، لکنّ لازم صدقها کذلک هو کون المعدوم محکوماً بحکمٍ وجودی ، و هذا محال ... .

و الحاصل : إنّ للقائلین بجریان استصحاب العدم الأزلی أن یأخذوا القضیة بنحو السّالبة المحصّلة ، فراراً من الوقوع فی الأصل المثبت ، لکنّهم یقعون فی إشکالٍ آخر ، و هو لزوم الحکم علی المعدوم بحکمٍ وجودی و هو محال ، لأنّ « المرأة إذا لم تکن بقرشیّةٍ » یجتمع مع وجود المرأة و عدم وجودها - فلیس الأصل مثبتاً - لکنّ حمل « تری الدم » علی هذه المرأة ، معناه جواز حمل الحکم الوجودی علی المرأة المعدومة و هذا محال .

و الجواب

و قد أجاب الأُستاذ عن هذا الإشکال المتعلّق بعلم المعقول بالنقض و الحلّ .

أمّا نقضاً ، فقد ذکر وجود قضایا شرعیّة و عقلیّة بنحو السّلب المحصَّل و المحمول أمر وجودی ، ففی القرآن الکریم فی حکم من لم یجد الهدی : «فَمَنْ لَمْ یَجِدْ فَصِیٰامُ ثَلاٰثَةِ أَیّٰامٍ » (1)حیث أن الموضوع عدم وجدان الهدی بنحو السلب المحصّل و الحکم «فَصِیٰامُ ثَلاٰثَةِ أَیّٰامٍ » أمر وجودی . و فی القضایا العقلیة تقول :

ص:305


1- 1) سورة البقرة : الآیة 196 .

إذا لم تکن الشمس طالعةً تکون تحت الافق ، فهذا سلب محصّل - مثل إذا لم تکن المرأة قرشیة - و قد حمل علیه حکم وجودی و هو « تکون تحت الافق » .

و أمّا حلّاً ، فقد قسّموا القضیّة إلی المعدولة و المحصّلة ، و المحصّلة تأتی موجبةً و سالبةً ، و إنما سمّیت محصّلةً لأنْ الموضوع و المحمول فیها فعلیّان محصَّلان ، إلّا أنه قد ورد السَّلب فی القضیّة علی الربط (1) . فإنْ کان العدم جزءاً للموضوع کقولهم « اللّامتناهی معقول » أو للمحمول مثل « الحوادث غیر متناهیة » أو لکلیهما مثل « غیر المتناهی غیر موهوم » سمّیت القضیة معدولة ، فتارة معدولة الموضوع کالأول ، و اخری معدولة المحمول کالثانی ، و ثالثة معدولة الطرفین کالثالث ، و هی قضایا موجبة قد حمل فیها شیء علی شیء ، و لذا یعتبر فیها الثبوت إما ذهناً و إما خارجاً .

أمّا فی السّالبة ، فلیس المعتَبر هو السلب عن الموضوع الموجود أو المعدوم ، بل هو قابلیة صدق القضیة فی مورد وجود الموضوع و مورد عدم وجوده ، فلذا قالوا بصدق القضیة السّالبة المحصّلة مع وجوده و مع عدمه ، لا أنّه یعتبر فی صدقها وجوده أو عدمه .

و علی الجملة ، فإنّ تقیّد موضوع القضیّة المشتملة علی حکم وجودی بعدم الوصف بنحو السّالبة المحصّلة ، لا ینافی وجود الموضوع ، و لا یلزم ثبوت ذلک الحکم فی حال عدم الموضوع حتی یشکل بلزوم حمل الوجودی علی العدمی ، لأنه لا مُلزم به ، بل ما قام علیه البرهان هو عدم اشتراط وجود الموضوع فی السّالبة المحصّلة ، أمّا أن یکون لعدم الموضوع موضوعیة فی وجود الحکم ،

ص:306


1- 1) قال الأُستاذ : هذا رأی الخواجة و غیره ، و عندنا أن السلب یرد علی المحمول و لازم ذلک سلب الربط لا أنه یرد علی الربط .

فلا برهان علیه . فالإشکال مندفع .

و إلی هنا انتهی الکلام علی أدلّة استصحاب العدم الأزلی ، و ظهر أنّ القول بجریانه هو الحق .

تطبیق البحث علی مسألة الشکّ فی کریّة الماء

و إنّ من جملة المسائل المتفرّعة علی بحث استصحاب العدم الأزلی مسألة ما لو شک فی کریّة ماءٍ من جهة الشک فی صدق عنوان الکرّ علیه ، بعد تحدید الکرّ بکذا عددٍ من الأشبار ، فهل هذا الماء کرٌّ أو لا ؟ فلو لاقی نجساً ینفعل أو لا ؟ قولان .

ذهب الشیخ إلی الانفعال (1) ، و صاحب ( الجواهر ) إلی عدم الانفعال (2)و تبعه صاحب ( العروة ) (3) ، بخلاف مسألة ما لو شک فی أنّ لهذا الماء مادّة أو لا ؟ فقال هناک بالانفعال ... و من المحشین - کالسیّد الشاهرودی - من قال بالطّهارة فی کلیهما ، و منهم : قال بالنجاسة فی کلیهما و هو المختار عند الأُستاذ . و قد استدلّ لهذا القول بوجوه :

الأول : قاعدة المقتضی و المانع . فالماء المشکوک الکریّة بنحو الشبهة المصداقیة مع عدم العلم بالحالة السابقة نجس ، من حیث أنّ الملاقاة مع النجس تقتضی النجاسة و أمّا المانع و هو الکریّة فمشکوک فیها ... فالماء محکوم بالنجاسة .

و هذا مبنی الشیخ هادی الطهرانی و تلامذته .

إلّا أن الإشکال فی تمامیة أصل القاعدة المذکورة کما ذکر الشیخ و غیره .

الثانی : التمسّک بعموم العام فی الشبهة المصداقیة ، لأن مقتضی العمومات

ص:307


1- 1) کتاب الطّهارة 1 / 159 .
2- 2) جواهر الکلام 1 / 171 .
3- 3) العروة الوثقی، أحکام المیاه، فصل: الرّاکد بلا مادّة ، المسألة 7 .

تنجّس الماء بالملاقاة ، و القدر الخارج هو الکرّ ، فمتی شکّ فی کریّة الماء تمسّک بعموم العام و حکم بنجاسة الماء بالملاقاة .

و هذا الوجه یبتنی علی جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهات المصداقیّة .

الثالث : الأخذ بقاعدة أسّسها المیرزا هی : کلّما ثبت حکم إلزامی لموضوع ثمّ ورد علیه المخصّص ، فلا بدّ من العمل بالحکم الإلزامی حتی یحرز المخصّص . مثلاً : یحرم التصرّف فی مال الغیر ، و هذا حکم إلزامی ، إلّا أنه خصّص بمورد رضا المالک ، لکنْ لا یجوز التصرف إلا بعد إحراز الرضا . و کذلک ما نحن فیه ، فإنّه یجب الاجتناب إلزاماً عن الماء إذا لاقی النجس إلّا إذا کان کرّاً ، فإنّ الحکم بوجوب الاجتناب محکّم إلّا إذا احرز کریّة الماء .

قال الأُستاذ : و قد بُحث فی محلّه عن هذه القاعدة و ظهر عدم تمامیّتها .

الرابع : استصحاب عدم وجود الکرّ فی هذا الحوض مثلاً ، تعرّض له الشیخ فی ( کتاب الطهارة ) و لا یأخذ به ، لکونه أصلاً مثبتاً ، لأنّ لازم عدم وجود الکرّ فی هذا الحوض عقلاً عدم کریّة هذا الماء .

الخامس : استصحاب العدم الأزلی لکریّة هذا الماء ، فإنّه لمّا لم یکن لم یکن کرّاً ، و بعد الوجود نشکّ فی کریّته ، فنستصحب عدمها .

و هذا هو الوجه العمدة فی الفتوی بنجاسة الماء المشکوک الکریّة .

الإشکال علیه

و قد اشکل علیه أولاً بعدم الفرق بین هذا الوجه و الوجه السابق ، فکما کان ذاک أصلاً مثبتاً کذلک هذا الوجه ، لأنّ استصحاب العدم المحمول للکریّة بالنسبة إلی وصف الکریّة أصل مثبت .

ص:308

أجاب الأُستاذ :

بأن الوجه الرابع متقوّم بالشک فی وجود الموضوع ، و هذا الخامس أساسه الشک فی وصف الموجود ، فهناک کان الشک فی وجود الکرّ ،فکان استصحاب عدم وجوده بالنسبة إلی عدم وصف الکریّة أصلاً مثبتاً . أمّا هنا ، فإنّ المستصحب عدم کریّة الماء الموجود فی الحوض ، فلیس بأصل مثبت . نعم ، ذهب السیّد الحکیم إلی أنه لیس من استصحاب العدم الأزلی لعدم جریانه فی عوارض الماهیّة ، و هو الإشکال الثانی علی هذا الوجه .

التفصیل فی المسألة

فقد فصّل السید الحکیم (1) فی بین عوارض الوجود فقال بجریان استصحاب العدم الأزلی فیها ، و عوارض الماهیة فقال بعدم الجریان . و مورد الشکّ فی کریّة الماء من قبیل الثانی ، وعلیه بنی فی ( المستمسک ) (2) ، لأنّ الکریّة هی السّعة فی طبیعة الماء و ذاته ... و لذا یفرَّق بین کریّة الماء و لون الماء ، فاللّون من عوارض وجود الماء ، أمّا الکریّة فمن عوارض ذاته سواء کان موجوداً أو لا .

و علی الجملة ، فإنه إنْ کان المراد استصحاب عارض الماهیّة ، فإنّ لحاظ الذات و الماهیّة فی مرتبة الذات یکفی لانتزاع العارض منها ، کما ینتزع الإمکان من ملاحظة حدّ ذات الإنسان ، فیقال بقابلیّة هذه الذات للوجود و للعدم ، فإنّ هذا المعنی لا ینفکُّ عن الذات و لیس له حالة سابقة حتی تستصحب ، فلا وجه للتفصیل المذکور . و إنْ کان المراد عوارض الوجود الذهنی و الخارجی کلیهما کالزوجیّة بالنسبة إلی الأربعة ، أو الذهنی فقط کالنوعیّة للإنسان ، أو الخارجی فقط کالبیاض بالنسبة للجدار ... فإن الاستصحاب فی عوارض الوجود جارٍ بلا إشکال .

ص:309


1- 1) حقائق الاصول 1 / 506 .
2- 2) المستمسک فی شرح العروة الوثقی 1 / 153 .

و علی الجملة، فقد دفع الأُستاذ ما أورد علیه فی ( التنقیح ) (1) و أفاد بأنّ الإشکال الوارد علی السید الحکیم هو الإشکال الصغروی و ذلک :

لأنّ الشک فی کریّة هذا الماء الموجود لیس من قبیل عوارض الماهیّة ، بل إنّ الکریة من مقولة الکم ، فهی من عوارض الوجود ، و الاستصحاب جارٍ بلا کلام .

هذا ، و الظاهر أنّ السید الحکیم قد تأثّر بنظر استاذه المحقق العراقی فی المقام ، فإنّ له تفصیلاً یتوقف فهم کلامه فیه علی ذکر مقدّمات :

1 - إنّ مجری الاستصحاب هو الحکم الشرعی أو موضوعه أو نقیض الحکم الشرعی .

2 - إن نقیض کلّ شیء فی مرتبة الشیء ، فلو لم یکونا فی مرتبةٍ واحدة فلا تناقض .

3 - إن استصحاب العدم الأزلی یکون دائماً فی مورد السالبة بانتفاء الموضوع ، مثلاً : إنا نرید أن نجرّ بالاستصحاب عدم قرشیة المرأة الثابت قبل وجودها حتی بعد وجودها ، فهذا الاستصحاب یجری ، لأنه من السالبة بانتفاء الموضوع ، فلو لم یکن من هذا القبیل لما جری .

و بعد المقدمات :

إن التقیید عملیة ذهنیة ، فالشیء یکون منفصلاً عن الشیء ، إلّا أنه یحصل بینهما الارتباط فی عالم الذهن کالارتباط بین زید و العلم ، ثم یقال : زید عالم ، لکنّ هذا التقیید : تارةً : یکون فی حدّ الذات قبل الوجود مثل زید العالم و المرأة القرشیة و الماء الکر ، فإنّها تقییدات فی صقع الذات ، و لذا صحّ حمل الوجود و العدم کأن یقال : زید العالم موجود ، و زید العالم معدوم . و اخری : یکون بعد

ص:310


1- 1) التنقیح فی شرح العروة الوثقی 2 / 177 .

الوجود کأن نقول : إن وجد زید و کان عالماً ، إنْ وجدت المرأة و کانت قرشیةً .

فإنْ کان التقیید من قبیل الأول ، فهو غیر دائر مدار وجود الموضوع ، بل التقیید موجود مع عدم الموضوع ، کما أن الملازمة بین الفساد و تعدّد الآلهة موجودة و هی غیر دائرة مدار وجود الآلهة ، و إنْ کان من قبیل الثانی ، فیدور مدار الموضوع ، فلا تقیید للمرأة بالقرشیة قبل وجودها ... .

و علی هذا ، فإنّ الاستصحاب إنما یجری فی الأول دون الثانی ، لکونه بعد الوجود ، و إذا کان بعده فنقیضه أیضاً بعده - بحکم المقدمة الثانیة - و قد عرفت فی المقدمة الثالثة أن المستصحب إما حکم الموضوع و إما نقیضه ، و لا وجود لأحدهما بعد الوجود (1) .

أجاب الأُستاذ

بأنّ فی کلامه مواقع للنظر . منها :

إن المقصود هو إجراء استصحاب العدم الأزلی فی الزمان لا فی المرتبة ، لأن الأحکام الشرعیة تدور مدار الزمان ، و التقیید بین المرأة و القرشیة هو فی ظرف وجود المرأة و إلّا فلیس فی عالم العدم شیء ، فلا معنی لقوله بالتقیید قبل الوجود .

هذا أولاً .

و ثانیاً : قد تقدم أنْ لا برهان علی کون النقیضین فی مرتبةٍ واحدة .

فظهر : إنّ التقیید فی قضیّة : إذا وجدت المرأة و کانت قرشیة ، هو بعد وجود المرأة ، لکنّ عدم التقیید و عدم القرشیة لیس بعد وجودها ، فکما یجری الاستصحاب فی الصورة الاولی ، کذلک هو جارٍ فی الثانیة أیضاً . فلا وجه للتفصیل المذکور .

ص:311


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 528 .

و هل یجری استصحاب العدم الأزلی فی الذاتیّات کالکلبیّة للشیء المطروح علی الأرض الآن کما یجری فی الأوصاف و الأعراض کالقرشیّة للمرأة الموجودة ؟

قال الأُستاذ فی الدورة السابقة : بأن جریانه فی الذاتیّات مشکل . أمّا فی الدورة اللّاحقة فقد أرجأ البحث إلی الاستصحاب .

و انتهی البحث عن استصحاب العدم الأزلی و الحمد للّٰه أوّلاً و آخراً .

ص:312

دوران الأمر بین التخصیص و التخصّص

اشارة

لو جهلنا بفردیّة الفرد للعام مع العلم بحکم الفرد ، فهل یمکن إحراز عدم الفردیّة بالتمسّک بالعام ؟ و یعبَّر عن ذلک بدوران الأمر بین التخصیص و التخصّص .

و یقع البحث عن ذلک تارةً : فیما لو کان حکم الفرد علی خلاف حکم العام ، و اخری : فیما لو کان العنوان الخارج من تحت العام مردّداً بین فردین .

فالبحث فی مقامین :

المقام الأول ( لو کان حکم الفرد علی خلاف حکم العام )

لو ورد « یجب إکرام العلماء » ثم قال : « یحرم إکرام زید » فشک فی أن حرمة إکرام زیدٍ هی بسبب کونه جاهلاً فهو خارج تخصّصاً ، أو بسبب آخر مع کونه من العلماء فیکون خروجه تخصیصاً ... فقیل : بجریان أصالة العموم و عدم التخصیص ، فیکون العام باقیاً علی عمومه ، و لازم جریان هذا الأصل خروج زید تخصّصاً و أنه لیس بعالمٍ ، و قد تقرّر حجیّة مثبتات الاصول اللّفظیّة .

و ذهب صاحب ( الکفایة ) و جماعة إلی عدم جواز التمسّک بالعام ، لأنّ لفظ « العلماء » فی الدلیل مستعملٌ فی مدلوله و هو العموم ، و المتکلّم مریدٌ لهذا الاستعمال فالإرادة الاستعمالیة ثابتة ، و هذه هی الدلالة التصدیقیة الاولی ... ثم إنّ للمتکلّم إرادة جدیّة علی طبق تلک الإرادة الاستعمالیة ، فظهور کلامه فی وجوب إکرام جمیع العلماء مرادٌ له جدّاً ، و هذه هی الدلالة التصدیقیة الثانیة ، إلّا أنّه لا وجه

ص:313

للتمسّک بالعام لإدخال « زید » تحته ، لا من حیث الإرادة الاستعمالیة ، لأن مقتضی أصالة العموم فی یجب إکرام العلماء هو وجوب إکرام کلّ من کان متّصفاً بالعلم ، لکنّ العام لا یتکفّل بیان حال موضوعه و لا یعیّن من هو العالم . و لا من حیث الإرادة الجدیّة ، لأنّ مقتضی هذا الأصل أنّ من کان عالماً فهو المراد الجدّی فی وجوب إکرامه ، و لا یعیّن الفرد ... .

فظهر أن لا طریق من ناحیة العام لبیان حال الفرد المشکوک فیه ... و حینئذٍ ، لا موضوع للّازم العقلی ، لأن لوازم الاصول اللّفظیّة حجّة ما دام یکون هناک ملزوم ، و إذْ لا جریان لأصالة العموم فلا لازم .

و بتقریب آخر :

إنّ أساس الاصول اللّفظیة - کأصالة العموم - هی السیرة العقلائیة ، و مرکزها ما إذا کان المراد مشکوکاً فیه ، فإنه مع هذا الشک یتمسّک بالأصل ، و أمّا حیث یکون المراد معلوماً فلا ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنّ المفروض عدم الشک فی مراد المولی ، فإنه قد حرّم إکرام زید ، بل المشکوک فیه کون زید من قبل داخلاً تحت العام ثمّ اخرج ، أو أنه لم یکن داخلاً ، و هذا أمر آخر ، و لیس یجری الأصل اللّفظی فیه .

و بتقریب ثالث :

إنّ مجری أصالة العموم هو الشک ، فی أصل التخصیص أو فی التخصیص الزائد ، و مورد البحث لیس منهما .

المقام الثانی ( لو تردّد بین فردین )

لو قال : « یجب إکرام العلماء » ثم قال : « یحرم إکرام زید » ثم تردّد المراد بین زید العالم و زید الجاهل ، إن أراد الأول فهو تخصیصٌ ، و إن أراد الثانی فهو

ص:314

تخصّص ، فهل یمکن تعیین ( زید ) بالتمسّک بالعام ؟ و هل عن طریق العام ینحلّ العلم الإجمالی ؟

قال المیرزا (1) - و تبعه فی ( المحاضرات ) (2) - بجواز التمسّک بالعام و حصول الانحلال : بأنّ أصالة العموم فی دلیل العام حجة فی مورد الشک فی التخصیص ، و معنی الحجیة هو وضوح جهة الحکم ، و أنّ کلّ عالم فهو واجب الإکرام ، و حیث أن زیداً عالم ، فیشمله العموم و یجب إکرامه لکون خروجه تخصیصاً مشکوک فیه ، و یدلّ ذلک بالالتزام علی عدم حرمة إکرامه ، للتضادّ بین الوجوب و الحرمة ... و بذلک ینطبق النّهی عن الإکرام علی زید الجاهل ، فانحلّ العلم الإجمالی ... فلم یؤثر إجمال الخاص علی العام بل بالعکس فقد رفعت أصالة العموم الإجمال عن الخاص . و بهذا التقریب یندفع اشکال السیّد البروجردی .

قال الأُستاذ :

قد تقدّم أن مبنی أصالة العموم هی السیرة العقلائیة ، و لا ریب فی قیام السیرة علی الأخذ بالعام فی مورد الشک البدوی ، و کذا مورد العلم الإجمالی المردّد بین الأقل و الأکثر فی الشبهة المفهومیة ، کتردّد الفسق بین مرتکب الکبیرة أو الأعم ، لرجوع الأمر إلی الشبهة البدویّة فی طرف الأکثر ، و أمّا لو کان بین طرفی التردید التباین - کما نحن فیه - حیث أنّ الشک فی التخصیص مقرون بالعلم الإجمالی المنجّز فی حدّ نفسه - بقطع النظر عن العام - و لا ینتهی الأمر إلی الشبهة البدویة ، فإنّ قیام السیرة العقلائیة علی الأخذ بعموم العام غیر واضح . مثلاً : لو أنّ

ص:315


1- 1) أجود التقریرات 2 / 318 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 391 .

رجلاً له تجاراتٌ متعدّدة ، منها تجارةٌ فی الکتب و تجارةٌ فی الذهب و المجوهرات ، فکتب إلی أحد وکلائه فی البلاد بشراء کلّ کتابٍ ، ثم أرسل إلیه رسالةً فی أنْ لا یشتری « الجواهر » فشکّ الوکیل فی أنّ مراده کتاب « جواهر الکلام » أو « المجوهرات » ، فهل یتوقّف حتی یستوضح المراد من المخصّص أو یتمسّک بالعام ؟ الظاهر هو الأوّل ، و قیام السّیرة علی التمسّک بالعام فی مثله غیر ثابت ، و مع الشک فی ثبوتها، فالقدر المتیقّن هو مورد الشبهة البدویة و الأقل و الأکثر الذی یؤول إلیها .

بقی النظر فی رأی السید البروجردی علی ضوء المقدّمات التالیة :

1 - إن العلم الإجمالی متقوّم دائماً بقضیة منفصلة مانعة الخلو ، ففیما نحن فیه : یحرم الإکرام إمّا إکرام زید العالم و إما إکرام زید الجاهل ، فلا بدّ من احتمال حرمة إکرام العالم أیضاً و إلّا لم یتحقق العلم الإجمالی .

2 - إن احتمال اجتماع الضدّین محال کاجتماعهما واقعاً .

3 - إنّ الأحکام الخمسة متضادّة ، و إن وقع البحث فی أنه تضادٌّ فلسفی أو اصولی .

فقوله رحمه اللّٰه : بأنْ دلیل العام حجةٌ بالنسبة إلی زید العالم ، لکنَّ العلم الإجمالی باقٍ علی حاله ، لأنا نحتمل حرمة إکرامه أیضاً (1) فیه : إنّ حجیة العام فی الوجوب توجب انحلال العلم ، و إلّا یلزم احتمال اجتماع الضدّین و هو محال کما تقدّم .

ص:316


1- 1) نهایة الاصول : 309 - 310 .

هل یجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصّص ؟

اشارة

و هذا البحث أحد المطالب المهمّة فی فصل العام و الخاص و ثمرته العملیة فی سائر الأبواب واضحة .

و قد وقع الاتّفاق علی أنْ لیس للفقیه أن یفتی ما لم یفحص ... کما أن علی المقلِّد أن یفحص عن فتوی المجتهد فی الشبهات الحکمیّة ، و المجتهد مکلّف بالفحص فی الروایات ، فلا یفتی علی طبق روایةٍ إلّا بعد الفحص عن المعارض لها ، و کذا فی الاصول العملیة ، فلا یجری الأصل إلّا بعد الفحص عن الدلیل ، و کذا فی بابی الإطلاق و التقیید و العموم و الخصوص ... .

و الکلام فی هذا المقام فی ثلاثة جهات :

الجهة الأولی ( فی دلیل عدم جواز التمسّک بالعام قبل الفحص )
اشارة

فالمشهور بل کاد یکون متَّفقاً علیه ذلک ، إلّا أنّ الاختلاف فی کیفیة إقامة الدلیل .

فقد ذهب جماعة إلی أنه لمّا کان مناط الأخذ بالاصول اللّفظیّة هو الظن الشخصی بالمراد ، فإنه ما لم یفحص عن المخصّص أو المقیّد أو القرینة ، لا یحصل الظنّ الشخصی حتی یأخذ بأصالة العموم أو الإطلاق أو الحقیقة .

و هذا الوجه یبتنی - کما عرفت - علی القول بدوران حجیّة الاصول مدار الظن الشخصی ، لکن التحقیق دورانه مدار الظن النوعی .

ص:317

و ذهب المیرزا القمی (1) إلی وجهٍ آخر و هو : إنّه لمّا کانت الخطابات الشرعیّة مختصّةً بالمشافهین ، و سائر الناس مکلّفون بها من باب الظن المطلق ، فالقدر المتیقّن من دلیل اعتبار الظن المطلق هو حالة بعد الفحص عن المخصّص .

و هذا الوجه - کما تری - مبنی علی اختصاص الخطابات الشرعیّة بالمشافهین و قانون الانسداد ، و مع القول بعدم انسداد باب العلمی ، و أیضاً عدم اختصاص الخطابات ... یسقط .

فالعمدة هو الأدلة المقامة من الشیخ و صاحب ( الکفایة ) و المیرزا ، و هی ثلاثة .

الدلیل العقلی
اشارة

قال الشیخ ما حاصله : إنا نعلم إجمالاً بورود المخصّصات علی عمومات الکتاب و السنّة و أنّ بعضها مخصَّص یقیناً ، و هذا العلم یقتضی الفحص عن الأحکام الإلزامیة الموجودة فی المخصّصات ، و هو منجّزٌ من جهة احتمال العقاب علی العمل بالعمومات قبل المخصص عن المخصّصات لها ما لم ینحلّ العلم .

و قد اشکل علی هذا الاستدلال ، بکونه أخصّ من المدّعی ، فإنّه یجری فی موارد الأقل و الأکثر ، و المدّعی أعمُّ من ذلک ... .

علی أن العلم فی مورد الأقل و الأکثر منحلٌّ بعد الفحص بالمقدار المتیقّن .

فالبیان المذکور مخدوش .

و قد قرّبه المیرزا ببیانٍ آخر (2) و حاصله : أن العلم الإجمالی یکون فی ثلاث

ص:318


1- 1) قوانین الاصول 1 / 233 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 355 .

موارد :

1 - العلم الإجمالی المردّد بین المتباینین ، و هی القضیّة المنفصلة المانعة للخلوّ ، فإمّا هذا الإناء نجس و إمّا ذاک ، و هنا لا ریب فی تنجیز العلم الإجمالی ما لم ینحلّ .

2 - العلم الإجمالی المردّد بین الأقل و الأکثر ، کأن یشکّ المدین بین الألف و الألفین . لکنّ هذا العلم منحلٌّ بل فی الحقیقة لا علم إجمالی ، بل هی قضیّة متیقّنة و اخری مشکوکة ، کما هو الحال فی التعارض بین الخبرین بدواً .

3 - العلم الإجمالی المردّد بین الأقل و الأکثر من جهةٍ و بین المتباینین من جهةٍ اخری ، کما لو علمنا بوجوب الاجتناب إمّا عن هذا الإناء و إمّا عن إناءین ، و قال المولی - فی نفس الوقت - بوجوب الاجتناب عن إناءِ زید ، ففی هذه الصورة لا بدّ من تعیّن إناء زید عن طریقٍ من الطرق لوجوب الاجتناب عنه منجّزاً بعنوان إناء زید ، و لا یکفی الاجتناب عنه من جهة کونه طرفاً للعلم الإجمالی المردّد بین الأقل و الأکثر ، لأنّ هذا العلم ینحلّ بالاجتناب عن الأقلّ ، و أمّا إناء زید فالتکلیف به منجَّز ، و لا بدّ من العثور علیه حتی یجتنب عنه .

و تطبیق هذا علی ما نحن فیه هو : إنا نعلم إجمالاً بوجود المخصّصات فی الکتب ، فهی معنونة بعنوان الکون فی الکتب ، و نعلم - من جهةٍ اخری - بوجود مخصّصات مرددة بین الأقل و الأکثر لو عثر علی المقدار الأقل منها انحلّ العلم ...

إلّا أنّ العثور علی الأقل لا یوجب انحلال العلم الإجمالی بوجود المخصّصات بعنوان ما فی الکتب .

الإشکال علیه

و یرد علیه أوّلاً : عدم انطباق ما ذکره علی ما نحن فیه ، لأن عنوان « ما فی الکتب » أیضاً مردّد بین الأقل و الأکثر ، و مع العثور علی الأقل تجری البراءة عن الأکثر و الانحلال حاصل .

ص:319

و ثانیاً : إن ما ذکره لا یتمّ علی مسلکه - تبعاً للشیخ - فی أساس تنجیز العلم الإجمالی ، و هو المختار عندنا أیضاً ، و هو القول بالاقتضاء - فی مقابل مسلک المحقق العراقی ، و هو القول بالعلیّة - و حاصله : رجوع التنجّز إلی تعارض الاصول فی الأطراف و تساقطها ، ففیما نحن فیه ، لمّا عثرنا علی الإناء النجس - و إنْ لم یکن بعنوان إناء زید - وجب الاجتناب عنه ، و کان الأصل - الطهارة مثلاً - جاریاً فی الطرف بلا معارض ، فلا یبقی تنجیز ... .

و علی الجملة ، فإنّ مقتضی القول بالاقتضاء مع عدم جریان الأصل فی طرفٍ للعلم بنجاسته مثلاً هو جریانه فی غیره ، سواءً کان ذو العنوان مردّداً بین الأقل و الأکثر مثل عنوان ما فی الکتب أو لم یکن مردّداً بینهما مثل عنوان إناء زید ، و بذلک ینحلّ العلم الإجمالی . نعم ، إنما یتم ما ذکره علی مسلک العلیّة .

و ثالثاً : إن مانعیّة العلم الإجمالی فرع لتمامیّة المقتضی للتمسّک بأصالة العموم ، لکنّ الحق - تبعاً للمحقق الخراسانی - أنّ عمومات الکتاب و السنّة فی معرض التخصیص ، فلیست بمجری لأصالة العموم .

و رابعاً : إنّ البحث فی حکم التمسّک بالعام قبل الفحص عن المخصّص جارٍ سواء کان حکم الخاص إلزامیّاً أو ترخیصیّاً ، فالبحث أعمّ من مورد العلم الإجمالی و تنجّزه لوجوب الاحتیاط .

الدلیل العقلائی

قال فی ( الکفایة ) (1) ما حاصله : إنّ أصالة العموم أصلٌ عقلائی ، و ملاکه هو أصالة التطابق بین الإرادة الاستعمالیة و الجدیة ، و لکنّ العقلاء إنما یتمسّکون بهذا الأصل حیث لا یکون العام فی معرض التخصیص ، لکنّ عمومات الکتاب و السنّة

ص:320


1- 1) کفایة الاصول : 226 .

فی معرض التخصیص ، فلا تطابق عند العقلاء بین الإرادتین فیها .

و علی هذا ، فلا مقتضی لأصالة العموم و لا موضوع لدلیل الحجیّة ، بل لا بدّ من الفحص عن المخصص حتی یتحقق موضوع أصالة التطابق .

و قد وافقه المحقق العراقی (1) ... و قال شیخنا بتمامیة هذا الوجه صدراً و ذیلاً .

( ثمّ قال ) : و لو شکّ فی تمسّک العقلاء بمثل هذه العمومات التی هی فی معرض التخصیص ، کفی الشکُّ فی عدم الجواز .

ثم ذکر الإجماع علی عدم جواز التمسّک بالعام من باب التأیید ، من جهة أنه یوجب الشکّ فی قیام السّیرة العقلائیة علی الأخذ به قبل الفحص ، لأنّ الفقهاء و الاصولیین هم القدر المتیقّن من العقلاء ، فسواء کان مستند الإجماع هو العلم الإجمالی کما تقدم فی الوجه السابق أو کون العمومات فی معرض التخصیص کما فی هذا الوجه ، فإنّه یُوجد الشک فی السّیرة ، و هو کاف لعدم جواز التمسّک فی هذه الحالة .

و بما ذکرنا یظهر : ما فی إیراد السیّد الحکیم من دعوی قیام السیرة مع الظنّ بالتخصیص علی الأخذ بالعام ... و کأن منشأ السهو فی کلامه هو الخلط بین المقام و مسألة حجیة الظواهر ، حیث یبحث هناک عن حجیة الظواهر مع الظن بالخلاف ، و أنه هل الظن بالخلاف مانع عن الظهور و حجیته أو لا ؟ و قد تقرر هناک أن حجیّة الظاهر غیر مشروطة ، لا بکون الظن موافقاً و لا بعدم کونه مخالفاً ، لأنّ بناء العقلاء فی مقام العبودیّة و المولویّة هو التنجیز و التعذیر ، فیأخذون بالظاهر لکونه حجّةً و یؤاخذون به حتی مع الظن بالخلاف ... بخلاف مسألتنا هذه ، فإن العام الذی هو

ص:321


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 529 .

فی معرض التخصیص لا یجوز الاحتجاج به عقلاءً ، و هذا مقصود المحقق الخراسانی ، فلا یرد علیه الإشکال .

و بما ذکرنا یظهر أیضاً : ما فی کلامه من أنّ عمل العقلاء مبنی علی أساس العلم الإجمالی و هو ملاک وجوب الفحص ... لأنّ ذلک یرجع إلی مرحلة المانع ، و کلام ( الکفایة ) فی أصل المقتضی .

کما لا یرد علیه أن الإجماع المذکور یحتمل استناده إلی العلم الإجمالی .

ففیه : ما أشرنا إلیه من أنّ صاحب ( الکفایة ) یقصد بیان کیفیة وقوع الشک فی السیرة .

الوجه النقلی
اشارة

قال المحقق العراقی (1) و تبعه السید الخوئی (2) بکفایة إطلاق أخبار وجوب التعلّم ، و أنه یقال للمکلّف یوم القیامة « أ فلا تعلّمت » (3) لعدم جواز التمسّک بالعام و وجوب الفحص عن المخصص ، فإنّ إطلاقها یعمُّ المورد .

أشکل الأُستاذ

بأنّ تلک الأخبار إنما یتمسّک بها فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص ، لا لعدم حجیّة العام قبل الفحص ، و الاستدلال بها لما نحن فیه مستلزم للدور . لأن الخطاب المذکور إنما یتوجّه إلی من لا حجّة لدیه ، فموضوعه عدم الحجّة ، فکیف یکون حجّةً علی وجوب الفحص عن المخصص و عدم حجیة العام قبله ؟

هذا تمام الکلام فی الجهة الاولی .

ص:322


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 530 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 360 ، محاضرات فی اصول الفقه 4 / 427 .
3- 3) بحار الأنوار 1 / 178 .
الثانیة ( فی أثر الفحص فی الموارد المختلفة و الفرق بینها )
اشارة

تارةً : الموضوع غیر مشکوک فیه ، و إنما الفحص یکون عمّا ینافی المحمول له ، کأنْ یکون خبر الثقة حجة ، ثم یفحص عمّا إذا کان له معارض ، فهذا فحصٌ فی موارد التعارض . و اخری : لا یتحقق الموضوع إلّا بعد الفحص ، و هذا فی الاصول العقلیة ، کقاعدة قبح العقاب بلا بیان ، إذ الموضوع فیها - و هو عدم البیان - لا یتحقق إلّا بالفحص .

و قد وقع الکلام بینهم فی أثر الفحص فی موارد العام و الخاص و المطلق و المقید ، و الفرق بینهما و بین موارد الاصول العملیة الشّرعیة . فقد قال فی ( الکفایة ) : بأنْ الفحص عن المخصص - مثلاً - فحصٌ عن مزاحم الحجّة و هو العام ، أمّا فی الاصول الشرعیّة ، فهو فحص عن أصل الحجیّة ، لأنّ دلیل الاستصحاب مثل « لا تنقض الیقین بالشک » (1) و دلیل البراءة مثل « رفع ما لا یعلمون » (2) مطلق ، یعمّ حالی قبل الفحص و بعده ؛ لکنّ الإطلاق فیهما مقیّد بالإجماع بما بعد الفحص ، فکان الموضوع غیر محقَّق قبله ، فیکون الفحص عن أصل الحجّة . ثم أمر بالفهم .

و لعلّه إشارة إلی أنْ الإجماع المذکور مدرکی ، و المدرک إمّا العلم الإجمالی الذی ذکره الشیخ أو الروایات مثل « هلّا تعلَّمت » .

تحقیق الأُستاذ

إنّ حجیّة کلّ خبرٍ - کما هو معلومٌ - متوقفة علی تمامیة ثلاث جهات هی جهة السند و الدلالة و الصدور . و لا بدّ للتمامیة من الفحص و إلّا فلا حجیّة ...

ص:323


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 245 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، رقم : 1 .
2- 2) وسائل الشیعة 15 / 369 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، رقم : 1 .

و الفحص فیها راجع إلی أصل الاقتضاء للحجیّة ، و بعد الفراغ عن ذلک تصل النوبة إلی البحث عن المزاحم .

و أمّا فی الاصول العملیّة الشرعیّة ، فإنّ مبنی ما ذکره صاحب ( الکفایة ) هو إطلاق دلیل الأصل الذی قال بتقیّده بالإجماع ، إلّا أنه قد تقدّم أنّ المستند لحجیّة العامّ هو بناء العقلاء ، و بناؤهم علی حجّیته محدودٌ - من أوّل الأمر - بما بعد الفحص عن المخصّص ، فیرجع الأمر إلی أصل الحجیّة ، و لا یبقی فرق بین مورد العمومات و الاصول .

نعم ، لو کان المستند لحجیّة العام هو العلم الإجمالی ، فالحجیّة تامة و العلم الإجمالی مزاحم لها ، إلّا أنه ذهب إلی ما ذکرناه من أن المستند هو بناء العقلاء ... .

و الحاصل : عدم تمامیّة تفریقه بین العمومات و الاصول .

( قال ) : و التحقیق هو منع الإطلاق فی أدلّة الاصول الشرعیّة ، من جهة مسلک الشارع بالنظر إلی الآیات مثل «هَلْ یَسْتَوِی الَّذینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذینَ لاٰ یَعْلَمُونَ » (1)و الأحادیث مثل « طلب العلم فریضة » (2) فمسلکه طلب العلم و الخروج عن الجهل ، فلو کان دلیل الأصل - مثل « رفع ما لا یعلمون » - مطلقاً ، لزم أن یکون الشارع مشجّعاً علی الجهل . فبهذه القرینة نرفع الید عن الإطلاق فی أدلّة الاصول الشرعیّة .

أمّا فی العمومات ، فإنّ الأصل الأوّلی هو التطابق بین مقامی الثبوت و الإثبات و کون الإرادة الجدّیة علی طبق الإرادة الاستعمالیة ، و مقتضی ذلک هو اقتضاء الحجیّة فی العمومات ، لکنّ هذا الاقتضاء لیس علی إطلاقه ، بل السیرة

ص:324


1- 1) سورة الزمر: الآیة 9.
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 25 ، الباب 4 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 15 .

العقلائیة فی حجیّة العام قائمةٌ علی تمامیّة العموم بعد الفحص ، فلذا یکون الفحص فحصاً عن المزاحم .

و علی الجملة ، فإنّه بعد تمامیّة جهات الحجیّة فی العام صدوراً و دلالةً و جهةً ، یکون المخصّص المنفصل مزاحماً للحجیّة ، و الفحص عنه فحصٌ عن المزاحم ، لأنّ السّیرة العقلائیّة التی تستند إلیها حجیّة العام إنّما هی بعد الفحص عن المخصص ... .

فالأُستاذ موافق للکفایة فی المدّعی و ما ذکرناه هو الوجه الصحیح عنده للفرق بین العمومات - و الإطلاقات - و بین الاصول العملیة الشرعیّة .

الثالثة ( فی مقدار الفحص )

و هنا وجوه : لزوم الفحص حتی العلم بعدم المخصص . أو لزوم الفحص حتی الاطمینان بعدمه . أو کفایة حصول الظنّ بعدمه .

أمّا الأوّل ، فغیر ممکن ، لبقاء الاحتمال العقلی حتی بعد الفحص التام .

و أمّا الثالث ، فمردود بعمومات النهی عن اتّباع الظن .

فیتعیّن الثانی ، بدلیل السیرة العقلائیة ...

و هذا هو الصحیح کبرویّاً .

إنما الکلام فی الصغری ، فإنّ الاطمئنان بعدم المخصّص مع ضیاع کثیرٍ من الکتب و الروایات کیف یحصل ؟

ص:325

هل تعمُّ الخطابات غیر المشافهین ؟

کلام الکفایة
اشارة

ذکر المحقق الخراسانی أنه تارةً : یبحث عن أصل تکلیف الغائب و المعدوم ، و اخری : عن المخاطبة معهما ، و ثالثة : عن عموم أدوات الخطاب لهما .

و البحث من الجهتین الاولی و الثانیة عقلی ، و من الجهة الثالثة لغوی .

أمّا فی الجهة الاولی

فإنْ کان التکلیف مقیّداً بالوجود ، فهذا خارج عن البحث ، لأن توجیه التکلیف إلی الموجودین - سواء کان بعثاً أو زجراً - لا مانع عنه و لا إشکال فیه ، إنّما الکلام فی التکلیف المطلق .

و فی التکلیف المطلق تارةً : یکون الطلب إنشائیاً ، و هذا أیضاً لا مانع عنه ، إذْ لا إشکال فی صحّة تکلیف المعدوم بالطلب الإنشائی ، لکون الإنشاء خفیف المئونة و لیس مقیّداً بالوجود ، و فائدة مثل هذا الطلب هو فعلیّته فی ظرفه ، فلا یکون محتاجاً حینذاک إلی إنشاءٍ جدید ، کإنشاء الوقف بالنسبة إلی البطون الآتیة ، لأنّه یعتبر الملکیّة للبطون ، و الملکیة الاعتباریة تشمل المعدوم کشمولها للموجود ، فالبطن اللّاحق - المعدوم فعلاً - یتلقّی الملک من الموجود قبله و لا إشکال فیه . فظهر إمکان مثل هذا الطلب و أنْ له فائدة الاستغناء عن الإنشاء عند وجود المعدوم . و اخری : هو البعث و الزجر ، و المعدوم غیر قابل للانزجار و الانبعاث .

ص:326

و أمّا فی الجهة الثانیة

فإنّ الخطاب علی قسمین ، فإنْ کان حقیقیّاً ، فإنّ خطاب المعدوم علی نحو الحقیقة غیر معقول ، إذ یحتاج إلی المخاطب الحاضر الملتفت . و إنْ کان خطاباً إیقاعیّاً فهذا ممکن بالنسبة إلی المعدوم ، لأنه مجرّد الإنشاء و لیس شیء آخر وراءه ، و لذا قد یخاطب الجمادات بشیء کما لا یخفی .

و أمّا فی الجهة الثالثة
اشارة

فالمهمُّ هو التحقیق عن وضع أدوات الخطاب ، لأنّها إنْ کانت موضوعةً للخطاب الحقیقی ، کانت الخطابات الشرعیة مختصّةً بالحاضرین ، فلا تشمل الغائبین فضلاً عن المعدومین ، و إن کانت موضوعةً للخطاب الإنشائی شملت المعدومین و الغائبین کالحاضرین المشافهین .

و قد ذهب صاحب ( الکفایة ) (1) فی هذه الجهة إلی أنّ الموضوع له الأدوات هو الخطاب الإنشائی ، فتعمّ الغائب و المعدوم ، بدلیل استعمالها فی خطاب المعدوم بل غیر العاقل بلا أیّة عنایةٍ ، ( قال ) : و لا یتوهّم وجود العنایة ، لأنّه لو کان هناک علاقة و عنایة لعلم بها المتکلّم ، لأن الخطاب فعلٌ من أفعاله و لا یعقل عدم التفاته إلی العنایة ، فهو یخاطب الدار و الجدار و الکواکب و الأشجار مثلاً بنفس کلمة « یا » التی یستعملها مع ذوی العقول ... فهذا برهان علی عموم الوضع ... نعم ، المنصرف إلیه هذه الأدوات مع عدم القرینة هو الخطاب الحقیقی ... و علی الجملة ، فإنّ جمیع الخطابات الموجودة فی الکتاب و السنّة محمولة علی الخطاب الإیقاعی الإنشائی ، لوجود القرائن ، فهی عامّة للحاضرین و الغائبین و المعدومین .

ص:327


1- 1) کفایة الاصول : 229 - 230 .
إشکال العراقی و جوابه

و بما ذکرنا ظهر الجواب عمّا أشکل به المحقق العراقی (1) من أنّ الانصراف الذی ذکره صاحب ( الکفایة ) فی الجهة الثالثة یزاحم ظهور الأدوات فی الخطاب الإنشائی ، فلا تحصل النتیجة المقصودة من البحث و هو عموم خطاب الکتاب و السنّة .

و ذلک لأن صاحب ( الکفایة ) أفاد بوجود قرائن مع خطابات الکتاب و السنّة توجب الیقین بعدم اختصاصها بالحاضرین ، فلا مزاحم للظهور ، و إنّما یکون الانصراف إلی الخطاب الحقیقی حیث لا قرینة قطعیّة .

إشکال البروجردی و جوابه

و أشکل السید البروجردی (2) علی الجهة الثانیة بعدم إمکان توجّه الطلب إلی المعدوم ، لأنه فی ظرف العدم « لا شیء » و تعلّق الطلب ب« لا شیء » غیر معقول ... ففی ظرف خطاب « یا أیها الناس » لا یوجد « ناسٌ » حتی یعمّهم .

فالصحیح هو أنْ متعلّق الطلب دائماً یکون مفروض الوجود ، و أنْ الخطابات الشرعیة کلّها بنحو القضیّة الحقیقیة .

و قد أجاب شیخنا عن الإشکال بالنقض بمثل الإجارة ، حیث أنّ المنفعة فی حین الإجارة معدومة ، فلا یملکها المستأجر ، و فی ظرف وجودها تکون متصرّمة الوجود ، فلا تصلح للإجارة ، فلا بدّ من القول ببطلان کتاب الإجارة .

فإن قیل : الإجارة تسلیط المستأجر علی العین لاستیفاء المنافع ، فلا نقض .

قلنا : فما تقولون فی تملیک الانتفاع فی کتاب العاریة ؟ علی أنّه فی الإجارة

ص:328


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 533 .
2- 2) نهایة الاصول : 315 .

تدخل المنافع تحت الملک ، و یشهد بذلک قاعدة الضمان ، إذ الید علی العین یدٌ علی منافعها ، و أنتم تقولون بأن المنافع المعدومة لا تقبل الملکیّة .

و أمّا حلّاً ، فصحیح أنّ المعدوم فی حال العدم « لا شیء » إلّا أن « لا شیء » یقبل الاعتبار إذا کان له مصحّحٌ یخرجه عن اللّغویة ، و لا یلزم وجود العنوان فی القضایا الاعتباریّة ، و یشهد بذلک تعلّق الاعتبار حتی بالمحالات ، کاعتبار الجمع بین النقیضین ، و هذا مراد صاحب ( الکفایة ) من قوله : إن الاعتبار خفیف المئونة ... .

و فیما نحن فیه : المصحّح للاعتبار هو القابلیّة للوجود ، لیکون مصداقاً لعنوان « الناس » أو « المؤمنون » و نحو ذلک ، و فائدة ذلک عدم الحاجة إلی الإنشاء الجدید لمّا یوجد فیما بعد ، کما ذکرنا سابقاً .

إشکال الأصفهانی و جوابه

و أشکل المحقق الأصفهانی (1) علی ما ذکره صاحب ( الکفایة ) فی الجهة الاولی - من استحالة التکلیف بمعنی البعث الفعلی بالنسبة إلی المعدوم ، و أمّا الطلب الإنشائی منه فمعقول - بأنّه یناقض ما ذهب إلیه من إمکان الواجب المعلّق ، حیث أنّ الإرادة و الطلب و البعث فعلی ، و المراد و المطلوب المبعوث إلیه استقبالی و معدوم ، فإذا کان تکلیف المعدوم - و المراد منه العمل - محالاً ، فکذلک یکون البعث نحو العمل المعدوم محالاً و لا یعقل الواجب المعلَّق ، و إنْ جاز تعلّق البعث بالفعل المراد المعدوم فعلاً ، فلیجز تعلّقه بالمکلّف المعدوم فعلاً کذلک ، لعدم الفرق ... .

ص:329


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 470 .

و الجواب

فأجاب الأُستاذ : بأنْ مقتضی الدقّة فی کلام ( الکفایة ) فی بحث الواجب المعلّق هو ورود الإشکال علیه بالنظر إلی احدی بیاناته فقط ، و ذلک أنّه قد قرَّب قوله بإمکان الواجب المعلَّق تارةً : بأنّ الإرادة محقّقةٌ الآن و المراد معدوم ، و أثر هذه الإرادة هو الانبعاث نحو مقدّمات المراد . فعلی هذا البیان لا یرد الإشکال ، لخروج هذه الإرادة عن اللّغویّة بتأثیرها بالنسبة إلی مقدّمات متعلّق الإرادة .

و اخری : إنّ البعث دائماً مقدَّم علی الانبعاث ، فلو لا وجود البعث حتی یتصوَّره المکلّف و یصدّق به ، لا یتحقق الانبعاث منه ، و إذا ثبت هذا التقدّم ، فإنّه لا یفرَّق فی القضیّة العقلیة بین قصر الزمان و طوله للبعث و الانبعاث ، و هذا المعنی إنّما یصدق فی المراد المعدوم کالحج ، دون المراد منه المعدوم و هو المکلّف . فظهر الفرق بین ما نحن فیه و مسألة الواجب المعلّق .

فعلی هذین البیانین لا مجال للإشکال المزبور .

نعم ، یرد بالنظر إلی ظاهر بیانٍ ثالث له و هو : إنّ المراد من الإرادة هو الشوق البالغ حدّ النصاب و إنْ لم تکن هناک محرکیّة للعبد ، فلا تکون المحرکیّة الفعلیة معتبرة . فیرد علیه النقض من الأصفهانی : بأنّ هذه المرتبة من الشوق کما یمکن تعلّقها بالموجود الاستقبالی فی الواجب المعلَّق ، کذلک یمکن تعلّقها بالمکلّف الذی یوجد فی المستقبل . فکما یتعلّق بالمراد المعدوم کذلک یتعلّق بالمراد منه المعدوم .

و مع ذلک یمکن دفع الإشکال : بأنّ البعث عند صاحب ( الکفایة ) إنما هو لإحداث الداعی للامتثال ، و إحداث الدّاعی بالنسبة إلی فعلٍ معدوم فعلاً معقول ، بخلاف إحداثه فی نفس الشخص المعدوم فعلاً .

ص:330

و تلخّص : تمامیّة الوجه المذکور فی ( الکفایة ) لشمول الخطابات لغیر المشافهین .

وجوه اخری
اشارة

و قد تذکر للتعمیم وجوه اخری :

منها : التمسّک بقاعدة الاشتراک ، فإنه حتّی لو کانت أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقیقی ، فإنّ مقتضی هذه القاعدة هو اشتراک المعدومین مع المشافهین فی الخطابات .

لکن فیه : إنّ هذه القاعدة إنما تفید لإلغاء الخصوصیّات الذاتیّة ، کاحتمال دخل خصوصیّة زید أو عمرو فی الحکم ، أمّا احتمال دخل خصوصیّة کون المکلَّف حاضراً فلا یندفع بها .

اللهم إلّا أن یتمسّک بالقرائن الموجودة فی نفس الخطابات ، ففی الکتاب المجید قد توجّه الخطاب إلی « الناس » و هو فی مقام التشریع و التقنین ، ففی مثل ذلک یتلقّی المستمع الخطابَ من باب کونه بعض المصادیق لهذا العنوان ، فهو بمقتضی ارتکازه یلغی خصوصیة الحضور ، و فی مثل ذلک - حیث یُقدم العقلاء علی إلغاء الخصوصیة - لو کان للحضور دخل لکان علی المولی البیان الزائد ، و إلّا یلزم نقض الغرض .

و أمّا النقض بصلاة العیدین و الجمعة و نحو ذلک ، ففیه : أنّ هناک قرائن و جهات زائدة توجب احتمال مدخلیة الحضور ، ففی الجمعة - مثلاً - نصوص تدلُّ علی أنها لا تنعقد إلّا بالإمام فاشترطت حضوره ... و هکذا فی صلاة العید و إجراء الحدّ ... فلا یرد النقض .

ص:331

و منها : ما ذکره المحقق العراقی (1) من التمسّک بعموم العنوان مثل « المؤمن » فی «یٰا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا » (2)و بذلک یثبت إطلاق الحکم .

تفصیل المیرزا

و فصّل المیرزا بین القضیة الخارجیّة و الحقیقیة (3) . أمّا فی الاولی فقال : بأنّ مقتضی ظهور الخطاب هو التخصیص بالمشافهین ، لأنّ الموضوع فیها محقَّق الوجود فی أحد الأزمنة الثلاثة ، و هذا قوام القضیة الخارجیة - لا فرض کونه موجوداً - فیکون الخطاب ظاهراً فی الحقیقیّة و یحتاج إلی المخاطب الحاضر الموجود . و أمّا الثانیة : فإنّها متقوّمة بفرض وجود الموضوع ، وعلیه ، فإنّ ملاک الخطاب الإنشائی - و هو کون المخاطب مفروض الوجود - موجود فی هذا القسم من القضایا و یعمُّ الحاضرین و الغائبین و المعدومین .

إشکال المحقق الأصفهانی و جوابه

و أشکل علیه المحقق الأصفهانی (4) - و تبعه السید الخوئی - بأن ما هو المقوّم للقضیة الحقیقیة هو فرض الوجود لا فرض الحضور ، و المقوّم للخطاب فرض الوجود و الحضور کلیهما ، فلو فقد أحدهما لم یصح الخطاب ، فإن کان موجوداً و حاضراً فالخطاب حقیقی ، و إنْ کان مفروض الوجود و الحضور ، فالخطاب إنشائی .

قال الأُستاذ

ص:332


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 535 .
2- 2) سورة المائدة: الآیة 6.
3- 3) أجود التقریرات 2 / 367 .
4- 4) نهایة الدرایة 4 / 472 .

یمکن تقریب کلام المیرزا بحیث یندفع الإشکال بأنْ یقال : إن محلّ النزاع عبارة عن أنَّ الخطابات الشرعیة تخصُّ المشافهین أو تعمّهم و المعدومین ، فإن کانت القضیة خارجیّة ، فإنّ المقتضی للاختصاص بالمشافهین موجود و لا مانع عنه ، لأنّ ظهور الخطاب هو للمخاطب الموجود الحاضر ، و بهذا اللحاظ یکون الخطاب حقیقیّاً ، إذ لا فرض وجودٍ فی القضیة الخارجیّة حتی یزاحم اقتضاء الخطاب ... .

أمّا إن کانت القضیة حقیقیّةً ، فالأمر بالعکس ، بمعنی أن المقتضی للتعمیم موجود و لا مانع ، لأنّ أدوات الخطاب ترد فی هذه القضیّة بلا عنایةٍ ، و بذلک یتمُّ المقتضی للعموم ، و هو کون المخاطب مفروض الوجود ، و هذا قوام القضیّة الحقیقیّة ، ثمّ إنه لا یوجد مانع عن هذا المقتضی ، لأنّه لو کانت الأدوات مخرجةً للموضوع عن فرض الوجود إلی الوجود الحقیقی ، لانقلبت القضیّة الحقیقیّة خارجیةً و هو خلف ، فکان فرض الوجود للموضوع - و هو المقوّم للقضیّة - کافیاً للتعمیم .

و بعبارة اخری : إنّ فرض الوجود مستلزمٌ لکون الموضوع أعمّ من المعدوم ، لأن فرض الوجود فی الموجود لغو ، و إذا کان أعمّ ، زال اقتضاء الأداة للخطاب الحقیقی لابتلائه بمانعٍ هو ذاتیٌ للقضیة الحقیقیة ، و مع انعدام اقتضاء الخطاب کذلک ، یکون المستعمل فیه الأداة غیر الخطاب الحقیقی ، و هو الخطاب الإنشائی الذی یشمل بذاته المعدوم کشموله للموجود ، من غیر حاجةٍ لتنزیل المعدوم بمنزلة الموجود .

فالحق : ما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) بضمیمة بیان المیرزا بالتقریب الذی ذکرناه .

ص:333

ثمرة البحث
اشارة

قالوا : و تظهر ثمرة هذا البحث فی حجیّة الخطاب ، و فی انعقاد الإطلاق ، فتعرضوا لثمرتین :

الثمرة الاولی

إنّه بناءً علی عموم الخطابات للمشافهین و الغائبین و المعدومین ، فلا ریب فی حجیّتها للجمیع ، حتّی لو احتملنا وجود قرینةٍ علی الخلاف دفعناه بالظهور أو الأصل ، لکون الخطاب عامّاً ، و المفروض کون المقصود بالتفهیم أعم . و أمّا بناءً علی کونها مختصّةً بالمشافهین ، فکیف تکون حجةً بالنّسبة إلی غیرهم ؟ و هذه هی الثمرة .

لکنّ القول باختصاص الخطابات بالمشافهین موقوف علی أمرین :

أحدهما : أنْ تکون حجیّة الکلام مختصّةً بهم ، و الآخر : أن یکونوا هم المقصودین بالتفهیم دون غیرهم ، فإنْ ثبت هذان الأمران ترتبت الثمرة علی البحث ، لکن ثبوتهما أوّل الکلام .

أمّا بالنسبة إلی الأمر الأوّل ، فلقد تقدّم أنّ أساس حجیّة الظهورات هو السیرة العقلائیة ، و لا شک فی أنّها قائمة علی عدم اختصاص الحجیّة بالحاضرین ، و لذا یأخذون بالأقاریر و الوصایا حتّی لو مرّت علیها السّنون الطوال .

و أمّا بالنسبة إلی الأمر الثانی ، فعلی فرض تمامیّة الأمر الأوّل ، فإنّه لا کلام فی أنّ خطابات الکتاب و السنّة عامّة للمشافهین و غیرهم ، و أنّ الکلّ مقصودون بالتفهیم ... .

و تلخّص : إن هذه الثمرة منتفیة ، فسواء قلنا باختصاص الخطابات أو عمومها ، فإنْ خطابات الکتاب و السنّة تعمُّ المشافهین و الغائبین و المعدومین ، و حجیّتها بالنسبة إلی الجمیع علی السواء .

ص:334

الثمرة الثانیة

إنه بناءً علی عموم الخطابات ، یسقط احتمال دخل خصوصیّة الحضور ، لأنّ المفروض کون الخطاب عامّاً ، و أنّه لا یوجد فی الکلام قیدٌ دالّ علی اعتبار الحضور ، فیؤخذ بإطلاق الخطاب . و أمّا بناءً علی القول بالاختصاص بالمشافهین ، فإنّ دفع الاحتمال المذکور یحتاج إلی دلیلٍ ، ففی وجوب صلاة الجمعة بقوله تعالی «یٰا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِذٰا نُودِیَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ یَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلیٰ ذِکْرِ اللّٰهِ » (1)علی غیر الحاضرین ، لا بدّ من التمسّک بمثل قاعدة الاشتراک لیعمّ الخطاب غیر المشافهین ، لکنّ القاعدة هنا غیر جاریة ، لأنه دلیلها هو الإجماع ، و هو دلیل لبّی و القدر المتیقن منه الحجة و هو الخصوصیات الصنفیّة ، فالصّلاة الرباعیة مشترکة لکنْ فی صنف الحاضرین ، و الثنائیة مشترکة لکنْ للمسافرین لا الأعم منهم و الحاضرین ، فلو ارید تعمیم الخطاب بقاعدة الاشتراک اعتبر إحراز الاتّحاد فی الصنف مع الحاضرین ، و هذا أوّل الکلام ... وعلیه ، فإنّ المرجع فی شمول الأحکام لغیر المشافهین بناءً علی القول بالاختصاص ، بعد عدم تمامیة قاعدة الاشتراک ، هو الأصل . و هذه هی الثمرة .

و قد وافق الأُستاذ السیَّد الخوئی فی ثبوت هذه الثمرة ، خلافاً لصاحب ( الکفایة ) و ذلک : لأنّ الخصوصیّة المحتمل دخلها فی الحکم تارةً ذاتیّة و اخری عرضیة ، فلو کان المشافَهون للخطاب متّصفین بالعدالة و نحوها من الصفات العرضیّة المفارقة ، أمکن التمسّک بإطلاق الخطاب لإلغاء الخصوصیّة فیعمُّ غیرهم ، لأنّ العدالة من الأوصاف القابلة للزوال ، فلو توجّه الخطاب للمشافهین و هم عدول و لم یقیَّد بالعدالة أمکن التمسّک بإطلاقه ، لأنّ المفروض إطلاقه و عدم

ص:335


1- 1) سورة الجمعة : الآیة 9 .

تقیّده بالعدالة ، و أنَّ العدالة من الأوصاف المفارقة ، فلو أراد المتکلّم الملتفت هذه الخصوصیة لقیَّد خطابه بها و إلّا لزم نقض الغرض ، و حینئذٍ تتحکّم قاعدة الاشتراک . و أمّا إن کانت الخصوصیة الموجودة فی المشافهین ذاتیّة ککونهم هاشمیین ، فخاطبهم المولی بخطابٍ و نحن نحتمل دخل هذه الخصوصیة فی غرضه ، فإنّه و إنْ لم یقیِّد الخطاب لکن لا یمکن التمسّک بإطلاقه ، لکون الخصوصیة غیر مفارقة ، و عدم تقییده الخطاب بها لا یستلزم نقض الغرض .

و من الواضح أنّ خصوصیة « الحضور » من قبیل الخصوصیات المفارقة و القابلة للزوال ، فلو أراد المولی هذه الخصوصیّة کان علیه تقیید خطابه بها ، و إذْ لم یقیّد أمکن التمسّک بإطلاقه ، و إلّا لزم نقض الغرض .

فالثمرة مترتبة . لأنه بناءً علی القول بالعموم جاز التمسّک بالإطلاق ، أمّا بناءً علی القول بالاختصاص بالمشافهین ، توقّف العموم لغیرهم علی تمامیة قاعدة الاشتراک ، و هی إنما تتمُّ فی الأوصاف المفارقة ، أمّا فی الأوصاف اللاّزمة فلا ، و هذه هی مورد ظهور ثمرة البحث .

أقول

و لا یخفی أنّ تمامیّة الإطلاق موقوفة علی عدم لزوم نقض الغرض ، بأن یکون ذلک من مقدّمات الحکمة ، و هذا ما یلزم إثباته فی محلّه .

ص:336

تعقّب العام بضمیر

اشارة

لو تعقّب العامّ ضمیر یرجع إلی بعض أفراده ، فهل یبقی العام علی عمومه و یتصرَّف فی الضمیر و یلتزم فیه بالاستخدام ، أو یتصرّف فی العام و یلتزم بتخصیصه ، أو یقال ببقاء العام علی عمومه تحفّظاً علی أصالة العموم ، و أنّ الأصل فی الضمیر عدم الاستخدام ، و یتعارض الأصلان و یتساقطان و یرجع إلی الأصل العملی ؟ وجوه أو أقوال .

المستفاد من کلام ( الکفایة ) فی أوّل البحث هو القول الأوّل ، لکنْ فی ( المحاضرات ) نسبة القول الثالث إلی صاحب ( الکفایة ) .

و المختار عند المیرزا هو القول الأوّل .

و اختار السید الخوئی - فی هامش الأجود و( المحاضرات ) - الثانی .

و الثالث هو المختار عند الأُستاذ .

و قد مثّلوا للبحث قوله تعالی : «وَالْمُطَلَّقٰاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ وَلاٰ یَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ یَکْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فی أَرْحٰامِهِنَّ إِنْ کُنَّ یُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَالْیَوْمِ اْلآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ » (1)حیث أنّ « المطلقات » أعمّ من الرجعیّة و البائنة ، و ظاهر الآیة عموم الحکم بالتربّص للقسمین ، و الضمیر فی « بعولتهنّ » یعود بحسب أصالة عدم الاستخدام إلی « المطلّقات » ، فیکون المراد منه نفس المراد من مرجعه و هو العموم ، لکنّ الدلیل الخارجی قائم علی أنْ لیس للزوج حق الرجوع إلّا فی

ص:337


1- 1) سورة البقرة : الآیة 228 .

المطلقة الرجعیّة ، فیدور الأمر فی الآیة بین أنْ نرفع الید عن أصالة العموم و یکون المراد من « المطلقات » خصوص « الرجعیّات » ، أو عن أصالة عدم الاستخدام ، فیکون الضمیر راجعاً إلی بعض المطلقات و هی الرجعیّات خاصة . أو لا هذا و لا ذاک ، بل یبقی الأصلان علی حالهما فیتعارضان و یتساقطان و المرجع هو الأصل العملی ؟

دلیل القول الأول

هو أنّه لا مقتضی للتعارض فی المقام بین أصالة العموم و أصالة عدم الاستخدام ، لتمامیّة أرکان أصالة العموم ، فالمقتضی لجریان هذا الأصل موجود ، إذ اللّفظ ظاهر فی العموم بلا کلام ، غیر أنّ المشکوک فیه هو أنّ هذا الظهور الاستعمالی هو المراد الجدّی أو لا ؟ و مقتضی القاعدة هو التطابق بین الإرادتین ...

إنّما الکلام فی وجود المانع عن هذا الاقتضاء ، و مع العلم بأنّ حق الرجوع إنما هو فی الرجعیّة دون البائن ، یسقط أصالة عدم الاستخدام و یتعیَّن إرجاع الضمیر إلی بعض « المطلَّقات » .

و علی الجملة ، فإنّ موضوع أصالة العموم تام فی المقام ، أمّا أصالة عدم الاستخدام فلا موضوع لها .

لا یقال (1) : إن أصل عدم الاستخدام یجری بلحاظٍ آخر ، أعنی لحاظ اللّازم ، و هو أن نثبت به عدم وقوع التخصیص فی العام ، فیجری الأصلان کلاهما ، کما لو خرج الثوب مثلاً عن طرف الابتلاء ، فإن أصالة الطهارة غیر جاریة فیه ، لکن تجری فیه بلحاظ الملاقی له الذی هو مورد للابتلاء حتی یترتب الأثر فی الملاقی .

ص:338


1- 1) هذا الإشکال طرحه المیرزا و أجاب عنه .

لأنّا نقول : هذا صحیح فی الاصول الشرعیّة ، فنجاسة الملاقی من آثار الثوب شرعاً و إنْ خرج عن محلّ الابتلاء ، لکنْ لمّا کان مثبتات الاصول اللّفظیة حجة ، فلا حاجة إلی ترتیب الأثر من ناحیة الشارع ، لأنه بمجرّد جریان الأصل اللّفظی - لوجود المقتضی لجریانه - یترتّب الأثر .

و أشکل السید البروجردی (1) : بأنه لا یوجد هنا احتمال التعارض بین الأصلین ، لأن المشکوک فیه هو کیفیة استعمال الضمیر ، و هو مسبّب عن الشک فی أصالة العموم ، فإذا جری فی طرف المسبب ، لم یبق موضوع للأصل السببی ، فلا مجال لتوهم التعارض .

أجاب الأُستاذ : بأن المورد لیس من قبیل الشک السببی و المسببی ، فإنّ أحد الشکّین هو فی کیفیة استعمال الضمیر و الآخر فی ناحیة العام ، و المنشأ لکلیهما هو العلم بإرادة خصوص الرجعیّات من « المطلقات » ، فلیس الشک فی الضمیر مسبّباً عن الشک فی العام حتی تجری قاعدة الشک السببی و المسببی .

هذا ، و قد قرّب السید القول الأول ببیانٍ آخر (2) هو : إنّ العام قد استعمل فی العموم و أصالة العموم فیه محکّمة ، و کذا الضمیر ، فإنّه یرجع إلی العام بلا کلام ، إلّا أنّ المشکلة فی المراد الجدّی و تطابقه مع الاستعمالی ، أمّا فی الضمیر ، فلا ریب فی عدم التطابق ، لعلمنا بعدم إرادة جمیع المطلقات ، بخلاف العام فإنّه لا وجه للشک فی التطابق فیه ، فتجری أصالة العموم فیه ، و لا تجری أصالة عدم الاستخدام فی الضمیر ، و لا تعارض .

و فیه: إنّ أساس هذا التقریب هو دعوی تمامیّة المقتضی لأصالة العموم ،

ص:339


1- 1) نهایة الاصول : 323 .
2- 2) نهایة الاصول : 323 .

و هی أوّل الکلام ، لوجود الضمیر المقطوع بالمراد منه ، فإنه بظهوره السیاقی یحتمل المانعیّة عن انعقاد الظهور للعامّ فی العموم ، فتقوی المعارضة بین الأصلین .

دلیل القول الثانی
اشارة

و ذهب السید الخوئی (1) إلی جریان أصالة عدم الاستخدام و رفع الید عن أصالة العموم ، و ملخّص کلامه هو : أنا لا نجری أصالة عدم الاستخدام من جهة الشکّ فی المراد من الضمیر ، حتی یقال بأنه لا شک فی المراد منه فلا موضوع للأصل ، بل نجریه من حیث أنّ للکلام ظهورین لا یمکن التحفّظ علی کلیهما و لا بدّ من رفع الید عن أحدهما ، و ذلک لأن « المطلقات » ظاهر فی العموم ، و أنّ الظاهر هو الاتّحاد بین الضمیر فی « بعولتهن » و مرجعه و هو « المطلقات » ، لکنّ أصالة عدم الاستخدام محفوفة بقرینةٍ تقتضی تقدّمها علی أصالة العموم ، و تلک القرینة هی الارتکاز العرفی فی أمثال المقام ، فإنهم یقدّمون أصالة عدم الاستخدام و یرفعون الید عن أصالة العموم ، بل الأمر کذلک بنظرهم حتی فیما إذا دار الأمر بین رفع الید عن أصالة عدم الاستخدام و رفعها عن ظهور اللّفظ فی کون المراد منه هو المعنی الحقیقی ، فیرفع الید عن المعنی الحقیقی و یحمل اللّفظ علی معناه المجازی کما فی مثل : رأیت أسداً و ضربته ، فإنه یتعین حمله علی إرادة المعنی المجازی و هو الرجل الشجاع إذا علم أنه المراد بالضمیر الراجع إلیه .

إشکال الأُستاذ

فقال الأُستاذ : صحیحٌ أنّ الموضوع لکلٍّ من أصالة العموم و أصالة عدم الاستخدام متحقّق یقتضی جریانه فی المقام ، إلّا أن کلّاً من الأصلین المذکورین

ص:340


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 446 .

تعلیقی و لیس بتنجیزی ، لأن أصالة العموم معلقة ذاتاً علی عدم القرینة ، و أصالة عدم الاستخدام - و هو الظهور السیاقیّ للکلام - معلّقة علی عدم القرینة ، فکما یمکن أن یکون الظهور السیاقی قرینة علی سقوط أصالة العموم ، کذلک یمکن أن تکون أصالة العموم قرینة علی سقوط الظهور السیاقی .

و أمّا دعوی قیام القرینة من جهة المرتکز العرفی لتقدم أصالة عدم الاستخدام ، فعهدتها علی مدّعیها ، بل إنّ طبع المطلب کون الظهور السیاقی أضعف من الظهور اللّفظی الوضعی ، نعم ، قد یتقدّم الظهور السیاقی کما فی مثاله المذکور ، لکنْ لیس الأمر کذلک فی جمیع الموارد ، بل المقدَّم هو ما ذکرناه ، و فرقٌ بین الآیة و المثال ، إذ لو جعل المراد فیه الحیوان المفترس لزم أجنبیة الضمیر ، بخلاف الآیة ، فإنّ الضمیر راجع إلی حصّةٍ من العام ... فالأصلان فی الآیة متعارضان .

و الحق سقوط کلیهما و الرجوع إلی الأصل العملی .

ثم إنّه قد ذکروا أنْ الآیة المبارکة لیست بمثالٍ للمسألة ، لأنّا نعلم بدلیلٍ من الخارج أنّ المراد من المطلّقات حصّة منهنّ ، فأصالة التطابق بین الإرادتین فی الضمیر ساقطة ، بخلاف العام « المطلّقات » فهی فیه تامّة .

قال الأُستاذ

إن صاحب ( الکفایة ) قد استدرک فی آخر کلامه ما لو صدق احتفاف الکلام بالقرینة ، ففی هذه الصورة قال بسقوط الأصلین . و هذا بالتالی تفصیل منه فی المسألة ، ففی الآیة تتقدّم أصالة العموم من حیث أنّ الجملة المشتملة علی الضمیر لا تصلح للقرینیّة ، لوجود جملةٍ بینهما فی الآیة المبارکة .

ص:341

تعارض المفهوم مع العموم

اشارة

لو ورد عام مثل أکرم العلماء ، ثم وردت جملةٌ شرطیة یعارض مفهومها ذلک العام ، کما لو قال : أکرم العلماء إن کانوا عدولاً ، ففیه وجوه :

تقدیم العام علی المفهوم .

و تقدیم المفهوم علی العام .

و التعارض و التساقط و الرجوع إلی الاصول العملیّة .

و التفصیل .

و قبل الورود فی الأدلّة نتعرّض لکلام المیرزا و دفع ما أورد علیه .

فقد ذکروا أن المفهوم إمّا مخالفٌ للمنطوق بالسلب و الإیجاب کما فی الخبر : « إذا کان الماء قدر کرٍّ لم ینجّسه شیء» (1) . و إمّا موافق ، و هو ما لم یکن بینهما تخالف کذلک مثل «فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍ » (2). و الموافق ینقسم إلی : الموافقة بالأولویة و الموافقة بالمساواة ، و الاُولی تارةً عرفیة و اخری عقلیّة ، و الثانیة ، تارةً :

تکون المساواة عن طریق تحصیل المناط القطعی للحکم ، و اخری : تکون لا عن الطریق المذکور مثل لا تشرب الخمر لإسکاره .

فقال المیرزا (3) : إن کان المفهوم موافقاً ، فتارةً یقال : لا تشرب الخمر لأنه مسکر ، و اخری یقال : لا تشرب الخمر لإسکاره ... و بین التعبیرین فرق ، ففی

ص:342


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 158 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، رقم : 1 .
2- 2) سورة الإسراء: الآیة 23.
3- 3) أجود التقریرات 2 / 379 - 380 .

الأول ، یکون مقتضی القاعدة تعمیم الحکم - و هو الحرمة - لکلّ مسکر ، لأن الموضوع فی الکلام عبارة عن « المسکر » ، و فی الثانی : مقتضی القاعدة تخصیص الحکم بالخمر ، لاحتمال وجود الخصوصیّة فی إسکار الخمر دون غیره من المسکرات ، لأن موضوع الحکم هو خصوص الخمر .

و قد أشکل المحقق الأصفهانی (1) علی هذا التفریق بما ملخّصه : إنه إذا قال :

لا تشرب الخمر إذا أسکر ، کان الإسکار شرطاً ، و لیس لهذا الشرط أثر إلّا تتمیم قابلیّة الخمر لترتّب الحکم ، و مع الشک فی تحقّق القابلیّة لذلک لغیر الخمر ، فمقتضی القاعدة تخصیص الحکم به دون غیره . و أما إذا قال : لا تشرب الخمر لإسکاره ، فظاهر الکلام کون الإسکار علّةً غائیةً ، و من المعلوم استحالة تخلّف المعلول عن العلّة ، فیکون الحرمة معلولةً للإسکار و یدور الحکم مداره أینما وجد ، فلا یختص الحرمة حینئذٍ بالخمر . و کذلک لو قال : لا تشرب الخمر لأنه مسکر ... و لو کانت الإضافة توجب الخصوصیّة - فیما لو قال : لإسکاره - فهی موجبة لها لو قال : لأنه مسکر ، لکون المسکر و الإسکار کلیهما مضافین إلی الخمر .

هذا ، و قد تبعه السید الخوئی (2) و أضاف : بأنّ عدم الفرق بین « لأنه مسکر » و« لإسکاره » فی أنّ تمام الموضوع للحکم هو الإسکار و لا موضوعیّة للخمر ، هو المتفاهم عند أهل العرف ، فمقتضی القاعدة هو التعمیم فی کلا الموردین .

دفاع الأُستاذ عن المیرزا
اشارة

و أجاب الأُستاذ عن إشکال المحقق الأصفهانی : بوجود الفرق بین « لإسکاره » و« لأنه مسکر » ، إذ الإضافة موجودة فی کلیهما ، لکنّها فی الثانی

ص:343


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 478 - 479 . الهامش .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 380 . الهامش .

تطبیقیّة حیث یُطبَّق فیه العنوان الکلّی علی الفرد ، فکان الموضوع للحکم هو عنوان « المسکر » و لا مقیّد له ، و حینئذٍ یعم الحکم غیر الخمر أیضاً . أمّا فی الأوّل ، فالموضوع هو الخمر و کون « الإسکار » علّةً غائیة و التخلّف محال ، لا ینافی موضوعیة الخمر ، لأن الغایة عبارة عن « إسکاره » لا « الإسکار » ، فکانت الإضافة مقیَّدة ، و مقتضی أصالة التطابق بین الثبوت و الإثبات أن یکون لإسکار الخمر خصوصیّة ، اللهم إلّا إذا قامت القرینة علی إلغائها ، و المفروض انتفاؤها هنا ، و من الواضح أنّ هذه الخصوصیة توجد الضیق فی ناحیة العلّة و تحدّد المضاف بالمضاف إلیه ، بخلاف قوله : « لأنه مسکر » فإنه تطبیق لا تحدید .

و بما ذکرناه یظهر ما فی الاستدلال فی هامش الأجود بروایة : « إن اللّٰه لم یحرّم الخمر لاسمها » (1) ... فإنّ ظاهرها بل صریحها هو الدلالة علی التعمیم ، و کلامنا هو فیما لا توجد قرینة علی التخصیص أو التعمیم .

بل إنّ المتعارف عند العرف هو ما ذکرناه ، فلو قیل : لا تجالس زیداً الجاهل لسوء خلقه ، فإنّ هذا الکلام لا یدلّ علی المنع عندهم من مجالسة عمرو العالم السیّئ الخلق ، لوجود احتمال أن سوء خلقه هو من جهة الجهل ، فلا یسری الحکم إلی کلّ من ساء خُلُقه .

فظهر أن الحق مع المیرزا فی هذه المقدّمة ، فلندخل فی صلب البحث :

دلیل القول بتقدّم العام و نقده

و قد استدلّ لتقدّم العام علی المفهوم : بأنّ دلالة العام ذاتیة لکونها مطابقیة ، و دلالة المفهوم هی بالعرض لکونها بالالتزام ، و الدلالة الالتزامیة أضعف و لا تقبل المعارضة مع المدلول المطابقی .

ص:344


1- 1) وسائل الشیعة 25 / 342 - 343 ، الباب 19 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الرقم : 2 .

و فیه :

إنه لا تفاوت بین الدلالتین فی مقام الدلالة و الموضوعیة ، و کلاهما فی مرتبةٍ واحدة فی الکشف عن المراد الجدّی و المراد الاستعمالی .

و بعبارة اخری : إن دلالة الکلام علی المفهوم مستندةٌ إمّا إلی الوضع و إمّا إلی مقدّمات الحکمة ، و کذلک دلالة العام علی العموم ، فهی إمّا من جهة اللّفظ و إمّا من جهة مقدّمات الحکمة ، فکلاهما فی مرتبة واحدة ، فالتقدیم بما ذکر بلا وجه .

دلیل القول بتقدّم المفهوم و نقده
اشارة

و استدلّ للقول بتقدم المفهوم : بأنّ التعارض الموجود هو بین العموم و المفهوم ، و هنا مورد إعمال قواعد التعارض . هذا من جهةٍ . و من جهةٍ اخری :

فإنّ المنطوق و المفهوم متلازمان بالتلازم العقلی أو العرفی ، و هما فی هذه الملازمة متساویان ، و مع التلازم بینهما لا یعقل انفکاک أحدهما عن الآخر ، بل سقوط أحدهما یوجب سقوط الآخر .

و بعد ذلک : فإنّه مع تقدّم العموم و سقوط المفهوم ، هل یبقی المنطوق علی حاله أو یسقط ؟ أمّا بقاؤه بعد سقوط المفهوم ، فیستلزم الانفکاک ، و أمّا سقوطه أیضاً فیستلزم إجراء أحکام التعارض فی غیر مورد التعارض ، لأنّ المنطوق لم یکن طرفاً للمعارضة ، بل طرفها هو المفهوم ، فهذا المحذور یوجب تقدیمه علی العموم (1) .

التحقیق

هو إنّ القول بأنّ عدم تقدّم المفهوم یستلزم إجراء قواعد التعارض فیما لیس طرفاً للمعارضة غیر تام ، لاستحالة وقوع المفهوم طرفاً لها و عدم وقوع

ص:345


1- 1) أجود التقریرات 2 / 383 .

المنطوق ، بل المنطوق یکون کذلک و تجری قواعد التعارض . فلو قال : أکرم خدّام العلماء ، دلَّ بالأولویة علی إکرام العلماء ، فإنْ قال : أکرم فسّاق خدّام العلماء ، دلّ بالأولویّة علی وجوب إکرام العلماء الفساق . لکنّ العام یقول : لا تکرم الفسّاق ، و له دلالتان أحدهما هو النهی عن إکرام العالم الفاسق ، و الآخر النهی عن إکرام الخادم الفاسق الجاهل ، فإنّه المدلول له بالأولویة . فکما کان للمفهوم حکمان إثباتی و بالأولویّة ، کذلک للعام ، وعلیه ، ففی جمیع الموارد یوجد التعارض بین العام من جهةٍ و المفهوم و المنطوق من جهة اخری ، و یکون المرجع قواعد التعارض .

فإنْ کان المنطوق أخص ، جرت قواعد العام و الخاص ، و إنْ کان أعمّ جرت قواعد العام من وجه .

و هنا ، النسبة بین المنطوق و العموم عموم و خصوص من وجه ، و مقتضی القاعدة تقدّم الخاص ، لکونه أظهر من العام أو قرینةً للعام ، و إذا تقدّم المنطوق تقدَّم المفهوم لکونه اللّازم المساوی له ، و إلّا لزم التفکیک المحال کما تقدّم .

فالمفهوم مقدَّم علی العموم بهذا البرهان لا بما ذکر فإنه غیر صحیح .

و بعبارة اخری : إنّ تقدّم المنطوق علی العموم تنجیزی ، و أمّا معارضة العموم للمفهوم ، فهی معلَّقة علی عدم قرینیّة المنطوق للعموم أو عدم أظهریته منه ، و من المعلوم أنْ لا تعارض بین التنجیزی و التعلیقی .

هذا ، و لو فرض عدم القرینیة أو الأظهریة و استقر التعارض - و المفروض کون النسبة هی العموم و الخصوص من وجه - فقولان : أحدهما : الرجوع إلی المرجّحات کما فی المتباینین فإنْ فقدت فالتساقط أو التخییر ، و الآخر : التساقط أو التخییر ، لکون الرجوع إلیها خاصٌ بالمتباینین .

و هذا کلّه فی المفهوم الموافق .

ص:346

و أمّا المخالف ، کقوله : « خلق اللّٰه الماء طهوراً » (1) و قوله : « إذا کان الماء قدر کرٍّ لم ینجّسه شیء » (2) فوقع التعارض بین العام و بین المفهوم - و المفروض أنْ لا حکومة للمفهوم علی العموم و إلّا لتقدّم علیه ، لکنّ مورد الحکومة خارج عن البحث - فههنا صورٌ ذکرها المحقق العراقی (3) :

تارةً : العموم و المفهوم فی کلامٍ واحدٍ ، و اخری : یکونان فی کلامین ، و علی کلّ تقدیر : تارةً تکون الدلالة فی کلیهما بالوضع ، و اخری : بالإطلاق ، و ثالثة : فی أحدهما بالوضع و فی الآخر بالإطلاق .

قال : إنْ کانا فی کلامٍ واحدٍ ، فإنْ کانت الدلالة بالوضع ، لم ینعقد ظهورٌ أصلاً ، إذ لا موضوع لأصالة الظهور بل الکلام مجمل . و إنْ کانت بالإطلاق ، لم تتحقّق مقدّمات الحکمة فیهما ، لأن منها عدم البیان ، و کلّ واحدٍ منهما یصلح لرفع الموضوع فی الآخر ، فلا موضوع لأصالة الإطلاق .

و إنْ کانا فی کلامین ، فإنْ کانت الدلالة بالوضع لم یتم محمول أصالة الظهور و إنْ تمّ الموضوع ، لأنه و إنْ تمّ لهما الظهور الوضعی ، إلّا أنّه یسقط علی أثر المعارضة و یکونان مجملین حکماً ، و إنْ کانت بالإطلاق ، فإنّه و إنْ تحقّق موضوع أصالة الإطلاق لکنّ محمولها و هو الحجیة غیر متحقّق .

و إنْ کانت الدلالة فی أحدهما بالوضع و فی الآخر بالإطلاق ، فإنْ کانا فی کلامٍ واحدٍ ، تقدّم ما کان بالوضع ، لأنّ الظهور الوضعی یمنع من انعقاد الإطلاق فی الطرف المقابل ، لعدم کونه متوقّفاً علی شیء ، بخلاف الإطلاق فمن مقدّماته عدم البیان ، و الظهور الوضعی بیان فی الکلام المتصل . و إنْ کانا فی کلامین ، بنی

ص:347


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 135 ، الباب 1 من أبواب الماء المطلق ، رقم : 9 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 158 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، رقم : 1 .
3- 3) نهایة الأفکار (1 - 2) 546 .

علی المختار فی باب الإطلاق و أن تمامیّته موقوفة علی عدم البیان إلی الأبد أو فی مجلس الخطاب ، فعلی الأول : لا یبقی ما کان بالوضع مجالاً لانعقاد الإطلاق فی الطرف الآخر ، و علی الثانی - و المفروض هو الانفصال بین الکلامین - تتم مقدّمات الإطلاق و یقع التعارض بین أصالة الظهور و أصالة الإطلاق و المرجع قواعد باب التعارض .

أورد علیه الأُستاذ

أوّلاً : إنّ الخاص - سواء کان ظهوره وضعیّاً أو إطلاقیّاً - مقدّم علی العام - و إنْ وقع الکلام فی وجه تقدّمه أنّه من باب الأظهریة أو القرینیّة - فإنْ کانا فی کلامٍ واحدٍ سقط ظهور العام و إن کانا فی کلامین سقط حجیّة العام ... و هذا ممّا لا خلاف فیه . وعلیه ، فمفهوم « إذا بلغ ... » مقدّم علی « خلق اللّٰه الماء طهوراً » و الظهور فی کلیهما إطلاقی ، لکن المفهوم خاصٌ ، فهو مقدّم لکونه قرینة . و إنْ کان ظهوره وضعیّاً فتقدّمه یکون بالأولویة ، فلما ذا جعل الخبرین مثالاً لهذا البحث ؟

و ثانیاً : إن ما ذکره من عدم استقرار الظهور فیما لو کانت الدلالة فیهما معاً بالوضع أو بالإطلاق أو کانا متّصلین ، غیر صحیح ، لأنه فی حال کون ظهورهما وضعیّاً ، فإنّ الثانی یمنع من انعقاد الظهور فی الأول ، لکنّ الثانی لا ینعقد له ظهور أصلاً ، لکونه مسبوقاً بالأول ، فالقول بعدم استقرار الظهور إنما یتمّ فی حال کونهما بالوضع و فی الثانی منهما خاصّةً . أمّا إذا کان ظهورهما بالإطلاق فلا ینعقد فی أحدهما أصلاً و لا یصحّ التعبیر بعدم الاستقرار ، لوضوح صلاحیة کلٍّ منهما لأن یکون بیاناً للآخر ، فلا تتم مقدّمات الحکمة فی شیء منهما .

و ثالثاً : إنّ الکلام فی أصل کون الظهور الوضعی بیاناً ، فیمتنع انعقاد

ص:348

الإطلاق فی الطرف الآخر ، و هذا ما ذکره المحقق العراقی هنا ، و المحقق الخراسانی فی بحث التعارض من ( الکفایة ) (1) فیما لو وقع العام و المطلق فی کلامٍ واحد ... و الأصل فیه هو الشیخ الأعظم قدس سره ، من جهة أنّ الظهور الوضعی تنجیزی و الإطلاقی تعلیقی و لا یکون بینهما التمانع بل الأول یتقدّم .

و بعبارة اخری : الظهور الوضعی ذو اقتضاء بخلاف الإطلاقی ، و ما لا اقتضاء له یستحیل أن یعارض الاقتضاء .

( قال ) و لنا فی ذلک نظر نقضاً و حلّاً .

أمّا نقضاً ، فقد ذکروا أنّ العام لو حفّ بمجملٍ سری الإجمال إلیه و سقط عن الظهور ، کما لو قال : أکرم العلماء إلّا الفساق منهم ، و تردد الفسق بین الکبیرة و الصغیرة ... فکیف أثّر ما لا اقتضاء له فیما له الاقتضاء ؟

و أمّا حلّاً ، فإنْ کلّ ظهور وضعی فهو معلَّق علی أنْ لا یکون محفوفاً بقرینةٍ أو بما یصلح للقرینیة أو بمجملٍ ، و هذا هو السرُّ فی سرایة الإجمال فی المثال المتقدّم ، لأنّ المجمل - و إنْ کان لا اقتضاء - یصلح لإسقاط الظهور الوضعی ، و لذا لو احتفّ العام بمطلقٍ لا ینعقد للکلام ظهور ، و الدلیل علی ما ذکرناه هو السیرة العقلائیة ، لأن حجیّة هذه الظهورات مستندة إلیها ، و فی موارد الاحتفاف کما ذکرنا لا تنعقد علی الظهور بل هم یتوقّفون فی مثل ما لو قال المولی : أکرم کلّ عالم و لا تکرم الفساق ، حیث النسبة العموم من وجهٍ ، فهم فی العالم الفاسق - المجمع بین العام الوضعی و الإطلاقی - یتوقّفون و یعاملون الکلام معاملة المجمل .

فالتحقیق أنه فی مورد احتفاف العموم بالمطلق ، لا بدّ من القول بالإجمال ، خلافاً للشیخ و صاحب ( الکفایة ) و العراقی و غیرهم .

ص:349


1- 1) کفایة الاصول : 450 .

و علی ما ذکر ، فالتحقیق هو إعمال قواعد التعارض فی جمیع موارد التعارض بین العموم و المفهوم ، إلّا إذا کان للمفهوم حکومة علی العموم کما فی مفهوم آیة النبأ (1) ، فإنّه لیس العمل بخبر العادل من السفاهة و الجهالة ، فخبره خارج عن الحکم بالتبیّن تخصّصاً ، و لذا نصّ صاحب ( الکفایة ) فی بحث التعارض (2) علی أنْ لا تعارض بین الحاکم و المحکوم ... و إلّا إذا لزمت لغویّة العام لو تقدّم المفهوم علیه ، کما لو قدم مفهوم « إذا بلغ الماء ... » علی عموم « الماء الجاری لا ینفعل بالملاقاة » فإنه یلزم لغویة أخذ « الجاری » فی العموم ... و لذا یتقدّم العموم علی المفهوم فی مثله ... .

و أمّا مقتضی القاعدة بصورةٍ عامّة ، فهو القول بالإجمال فی المتّصلین و إعمال قواعد التعارض فی المنفصلین ، فبناءً علی القول بالترجیح - لا التخییر - فالمرجّحات و إلّا فالتساقط و الأصل العملی .

ص:350


1- 1) سورة الحجرات : الآیة 6 .
2- 2) کفایة الاصول : 437 .

تعقّب الاستثناء للجمل

اشارة

لو ورد مثلاً : أکرم العلماء و تواضع للسّادة و أطعم الفقراء إلّا الفساق منهم ، فهل یرجع الاستثناء إلی خصوص الجملة الأخیرة فقط ، أو إلی جمیع الجمل المذکورة ؟

تحریر محلّ البحث :

إن أداة الاستثناء تارة اسمٌ و اخری حرف ، فإن کانت اسماً ، فلا إشکال فی إمکان رجوع الاستثناء إلی الکلّ ، لکون الموضوع له الاسم عامّاً ، کما یجوز أن یکون المراد طبیعة الإخراج . و إنْ کان حرفاً من حروف الاستثناء ، بنی البحث علی المختار فی الموضوع له الحرف ، لأنه بناءً علی کون الموضوع له عامّاً یجوز رجوعه إلی الکلّ کما لو کان اسماً ، أمّا بناءً علی کونه خاصّاً أو أن المستعمل فیه خاص ، فیقع الإشکال فی جواز رجوع الاستثناء إلی الکلّ ، لأن الإخراجات المتعدّدة من الجمل المتعدّدة نسب متعدّدة ، و الحال أن مدلول الحرف هو الجزئی الحقیقی من الإخراج ، فلا یمکن رجوعه إلی کلّ الجمل .

و بعد ظهور محلّ الکلام ، فلا بدّ من البحث أولاً فی جهة الثبوت ، فلولا تمامیّة الإمکان لم تصل النوبة إلی جهة الإثبات ... فنقول :

الکلام فی جهة الثبوت

قد یستظهر من بعض العامّة صحّة رجوع الاستثناء إلی الکلّ .

و قال صاحب ( الکفایة ) ما حاصله : أنّ الاستثناء مفهوم واحد یتحقّق فی

ص:351

مورد الإخراج من المتعدّد و الإخراج من الواحد ، فالإخراج ب« إلّا» سواء کان من الأخیرة أو من الکلّ علی وزانٍ واحد (1) .

و أوضح المحقق الإیروانی فی ( التعلیقة ) (2) : بأن إخراج « الفساق » من الجملة الأخیرة أو من الجمل کلّها ، مصداقٌ لمفهوم الإخراج ، و مع المصداقیة فی کلا الموردین بلا فرقٍ ، لا یفرَّق بین وحدة المستثنی منه و تعدّده .

لکنّ الأُستاذ تنظّر فی هذا الکلام : بأنّه مع وحدة المصداق کیف یعقل وحدة الخروج و تعدّد الخارج و المخرج منه ؟ إنّه بعد إخراج الفسّاق ، فإنّ فسّاق العلماء غیر فسّاق السّادة و فسّاق الفقراء ، کما أنّ العلماء غیر السّادة و الفقراء ، فالإخراج و الخروج - و إنْ کانا واحداً ، لأنّ المصدر و اسم المصدر واحدٌ حقیقةً - و لکن الخارج فی المثال متعدّد و کذا المخرج منه ، فالخروج أیضاً متعدّد لا محالة .

و ما ذکره المحقق العراقی (3) : من أنّ هذا الإشکال إنما یتوجّه إذا کان المخرج - فی مورد الاستثناء من الجمل - بنحو العام الاستغراقی مع تعدّد الإخراج ، و أمّا إذا لوحظ بنحو العام المجموعی ، کان المخرج منه واحداً و الإخراج واحد ، فالإشکال مندفع .

لا یجدی ، لأنّه لا وجود خارجاً للمجموع ، بل الموجود هو الأفراد و تعدّدها ذاتی ، نعم ، هو من اختراعات الذهن ، لکنّ الاستثناء یکون من الوجود الخارجی لا الاعتباری الذهنی .

و کذا ما ذکره السید الحکیم (4) من تجویز قیام النسبة الشخصیّة بالمتعدّد ،

ص:352


1- 1) کفایة الاصول : 234 .
2- 2) نهایة النهایة 1 / 301 .
3- 3) نهایة الأفکار (1 - 2) 541 .
4- 4) حقائق الاصول 1 / 532 .

بأنْ تکون النسبة الشخصیّة منحلّة ضمناً إلی نسبٍ متعددة ، کتعلّق الوجوب بالصّلاة المرکّبة من أجزاء ، فإنّه ینحلّ إلی وجوبات بعدد الأجزاء .

فإنّه لا یمکن المساعدة علیه ، لأن الذات التی هی عین التشخّص و الجزئیة کیف تکون متعدّدة ، و التعدّد یقابل التشخّص ، فکیف یجتمعان ؟ و قیاس ما نحن فیه بتعلّق الوجوب بالمتعدّد مع الفارق .

لکنّ الحلّ هو بالقول بعموم الموضوع له الحرف ، کما تقدّم فی محلّه .

الکلام فی جهة الإثبات
اشارة

و قد اختلفت کلماتهم فی هذه الجهة :

تفصیل المحقق الخراسانی

فقال صاحب ( الکفایة ) (1) ما ملخّصه : إن القدر المتیقن من المراد هو الاستثناء من الجملة الأخیرة ، أمّا أن یکون الکلام ظاهراً فی الاستثناء من الکلّ فلا، بل هو مجمل ، و لا بدّ من الرجوع إلی مقتضی الأصل العملی فی غیر الجملة الأخیرة . إلّا أن یقال بحجیّة أصالة العموم تعبّداً ، وعلیه ، فإنْ کان عموم المستثنی منه بالوضع فهو علی قوّته ، و إن کان بالإطلاق لمقدّمات الحکمة فالأصل یسقط ، لأنّ کلّ واحدة من الجمل محفوف بما یحتمل القرینیّة و هو المستثنی .

ثم أمر بالتأمّل .

و قد ذکر وجهه فی الحاشیة : بأنّ المناط صلاحیّة أداة الاستثناء للقرینیّة ، و مع إجمال الکلام لا تسقط أصالة الإطلاق بالنسبة إلی غیر الجملة الأخیرة .

ثم قال فی الحاشیة : فافهم .

و کأنه یرید الإشارة إلی عدم انعقاد الإطلاق فی هذه الحالة من جهةٍ اخری ،

ص:353


1- 1) کفایة الاصول : 235 .

و هی وجود القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب ، فإنّ مبناه فی الإطلاق مانعیّة ذلک عن انعقاده .

و علی الجملة ، فإنّ صاحب ( الکفایة ) یفصّل فی المتن ، بین ما إذا کانت أصالة الحقیقة من باب الظهور أو من باب التعبّد ، فعلی الأول ، یکون الکلام مجملاً و المرجع هو الاصول العملیّة . أمّا علی الثانی ، فالتفصیل بین ما إذا کان عموم المستثنی منه وضعیّاً أو إطلاقیاً ، و قد عرفت کلامه فی الحاشیة .

و قد أورد علیه الأُستاذ بما یرجع إلی الإشکال المبنائی ، فإنّ عدم وجود القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب لیس من مقدّمات الحکمة ، و أنّ کلّ ما یصلح للبیانیّة عرفاً یمنع من انعقاد الإطلاق حتی الکلام المجمل ، فیکون الحاصل - بناءً علی حجیّة أصالة الإطلاق من باب التعبد - أنّ عموم المستثنی منه إنْ کان وضعیّاً فهو علی قوّته ، و إنْ کان إطلاقیّاً فإنْ احتفاف الکلام بالمجمل یمنع من انعقاد الإطلاق ، و المرجع هو الاصول العملیة فی هذه الصورة فی غیر الجملة الأخیرة .

تفصیل المحقق العراقی

و للمحقق العراقی (1) تفصیلٌ علی أساس مختاره فی مسألة تعارض العموم و المفهوم ، فهو - و إنْ وافق صاحب ( الکفایة ) فی ابتناء البحث علی کون حجیّة أصالة الحقیقة من باب التعبد أو الظهور - ذکر أنه تارةً : تکون الدلالة علی العموم و علی الاستثناء وضعیّةً ، و اخری : هی فی کلیهما إطلاقیة ، و ثالثةً : هی علی العموم بالوضع و علی الاستثناء بالإطلاق ، و رابعة : بالعکس .

فإنْ کانت الدلالة فی کلیهما بالوضع أو بالإطلاق أصبح الکلام مجملاً ، لأنّ الظهورات تتصادم و تسقط ، و المرجع الاصول العملیة فی غیر الجملة الأخیرة

ص:354


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 543 .

فإنّها القدر المتیقَّن .

و إنْ کانت الدلالة علی العموم بالوضع و علی الاستثناء بالإطلاق ، کانت أصالة العموم بیاناً بالنسبة إلی الاستثناء ، و یسقط الإطلاق فی الاستثناء و تتحکّم أصالة العموم فی کلّ الجمل عدا الأخیرة .

و إنْ کانت بالعکس ، فإنّ الجهة الوضعیة فی الاستثناء لا تبقی مجالاً لانعقاد الشمولی الإطلاقی فی الجمل ، فتسقط أصالة الإطلاق فی الکلّ .

و قد أورد علیه الأُستاذ بما یرجع إلی الإشکال المبنائی کذلک ، و حاصله : أنه کما أنّ العموم الوضعی یصلح لأنْ یکون بیاناً فیمنع من انعقاد الإطلاق فی الطرف المقابل ، کذلک الإطلاق إذا حفّ بالعموم الوضعی ، فإنه یمنع من انعقاد الظهور فیه .

ثم أضاف : بأنّ کلام المحقق العراقی هنا ینافی ما ذهب إلیه فی مبحث تعارض العموم و المفهوم علی أساس قاعدة أنّ التعلیقی لا یعارض التنجیزی ، و الظهور الوضعی تنجیزی و الإطلاقی تعلیقی ، فسواء کان الوضعیّ هو المستثنی منه أو المستثنی ، فإنّه مقدَّم علی الإطلاقی ، و القول بأنّ المستثنی الوضعی لا یکون بیاناً للمستثنی منه الإطلاقی ، تخصیص للقاعدة العقلیة المذکورة . فالقول بتصادم الظهورات فیما لو کان کلاهما إطلاقیاً باطل ، لأنه لا مقتضی للظهور فی هذه الصورة حتی یقع التصادم .

تفصیل المیرزا

و فصّل المیرزا النائینی (1) بما حاصله ، إنّ الجملة تتعدّد بتعدّد النسبة ، و هی تتعدّد بتعدّد الموضوع أو المحمول أو کلیهما . و کذلک الحال فی الجمل المتعقّبة

ص:355


1- 1) أجود التقریرات 2 / 375 - 377 .

بالاستثناء ، فقد یقال : أکرم العلماء و احترمهم و أحسن إلیهم إلّا الفسّاق ، فالموضوع واحد و المحمول متعدّد ، و قد یقال : أکرم العلماء و الشیوخ و السادات إلّا الفسّاق منهم ، فالموضوع متعدّد ، و قد یقال : أکرم العلماء و أحسن إلی السادات و أطعم الفقراء إلّا الفساق منهم ، فکلاهما متعدّد .

ثم إنّ التعدّد بتعدّد الموضوع علی نحوین ، فقد یذکر الموضوع فی صدر الکلام و یکون التعدّد بالضمیر العائد إلیه ، کأن یقال : أکرم العلماء و أضفهم و احترمهم إلّا الفساق منهم ، و قد یتکرر الموضوع نفسه مثل : أکرم العلماء و أضف العلماء و احترم العلماء إلّا الفساق منهم . فإنْ کان من قبیل الأول ، فالاستثناء یتعلَّق بالکلّ ، لأنّ الموضوع هو المستثنی منه ، و قد جاء الاستثناء لیخصّصه و الضمیر لیس له مرجع سواه ، فینعقد ظهور الکلام فی الکلّ . و إن کان من قبیل الثانی ، فإنّ الاستثناء من الجملة الأخیرة فقط .

أمّا إنْ کان الموضوع واحداً و الحکم متعدّد ، فالاستثناء یرجع إلی الکلّ کالصّورة الاولی من الصورتین المذکورتین .

و أمّا إنْ تعدّد الموضوع و المحمول کلاهما ، فالاستثناء یرجع إلی الجملة الأخیرة فقط ، لأنه مقتضی تعدّدهما .

نظر الأُستاذ

قال الأُستاذ : لا شک أن الملاک فی ظهور الکلام هو قابلیّته العرفیة للمعنی ، بأنْ یکون عند ما یلقی إلی العرف کاشفاً عن معناه عندهم بلا تردّد لدیهم ، وعلیه ، فهل یکون تکرّر الموضوع موجباً للظهور عندهم ؟ هذا أوّل الکلام ، و علی مدّعی انعقاد الظهور إقامة البرهان .

نعم ، الجملة الأخیرة هی القدر المتیقن فی جمیع الموارد ، و هذا لا کلام فیه .

ص:356

نعم فی صورة تعدّدهما یستقر الظهور العرفی فی الرجوع إلی الجملة الأخیرة فقط کما ذکر . و أمّا فی الصورة السابقة فمقتضی القاعدة هو الرجوع إلی الاصول العملیة لتردّد أهل العرف و تحیّرهم .

ص:357

تخصیص الکتاب بخبر الواحد

اشارة

لا خلاف بین الأصحاب فی تخصیص خبر الواحد لعموم الکتاب ، و قد نقل الخلاف عن بعض العامّة (1) ، فاُقیم الدلیل علی الجواز فی کتب الخاصّة .

کلام الکفایة

فقد ذکر المحقق الخراسانی (2) : بأنّ الحق هو الجواز ، ثم استدلّ بسیرة الأصحاب إلی زمن الأئمة الأطیاب علیهم السلام ، و أبطل احتمال کون کلّ تلک الأخبار محفوفة بالقرینة . ثم ذکر أنه لولاه لزم إلغاء خبر الواحد بالمرّة أو ما بحکمه ، ضرورة ندرة خبر لم یکن علی خلافه عموم الکتاب لو سلّم وجود ما لم یکن کذلک .

نقد ما استدل به للعدم

ثم تعرّض لما یستدلّ به للقول بعدم الجواز ، و هی وجوه أربعة :

الأول : إنه إذا جاز تخصیص الکتاب بخبر الواحد ، جاز نسخه به کذلک .

و التالی باطلٌ بالإجماع فالمقدَّم مثله . و وجه الملازمة : هو أن النسخ أیضاً تخصیصٌ لکنّه یرجع إلی الأزمان و التخصیص یرجع إلی الأفراد .

و الجواب : بالفرق من جهة الإجماع ، فإنّه قائم فی النسخ علی العدم ، أمّا فی التخصیص فهو قائم علی الجواز بین القائلین بحجیة خبر الواحد .

ص:358


1- 1) انظر : المستصفی فی علم الاصول للغزالی 2 / 114 .
2- 2) کفایة الاصول : 235 .

الثانی : إن الدلیل علی حجیّة خبر الواحد هو الإجماع ، و هو دلیل لبّی یؤخذ بالقدر المتیقن منه ، و هو غیر المخالف لعموم الکتابی ، و لو بالعموم و الخصوص المطلق .

و الجواب : لا إجماع علی حجیّة خبر الواحد .

و علی فرضه ، فالدلیل علی حجیّته غیر منحصر به .

و إن الأخذ بالقدر المتیقن ، إنما یکون من الإجماع التعبدی ، و الإجماع علی حجیّة خبر الواحد إنْ کان ، فهو مستند إلی الأخبار و السّیرة .

ثم إنّ الإجماع قائم علی تخصیص الکتاب بخبر الواحد ، فأین القدر المتیقن من الإجماع علی حجیّة خبر الواحد ؟

الثالث : الأخبار الکثیرة الآمرة بطرح کلّ خبر خالف الکتاب (1) ، أو أنه زخرف (2) ، أو أنه مما لم یقل به الأئمة علیهم السلام (3) .

و الجواب : إنّ المخالفة بالعموم و الخصوص المطلق لیست مخالفةً عرفاً ، بل الخاص عند أهل العرف قرینة علی العام ، و لیس بین القرینة و ذیها مخالفة ، فالأخبار المذکورة مختصة بالمخالفة علی وجه التباین . قاله صاحب ( الکفایة ) و غیره (4) .

إلّا أن الأُستاذ تنظّر فی هذا الجواب - فی الدورة اللّاحقة - بما حاصله : أن المخالفة بالعموم و الخصوص المطلق هو بالسلب و الإیجاب ، فإمّا یکون الکتاب دالّاً علی العموم موجبة کلیّة فیأتی الخبر علی خلافه بصورة السالبة الجزئیة ، و إمّا

ص:359


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 110 ، الباب 9 من کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی ، رقم 10.
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 111 ، الباب 9 من کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی ، رقم 14 .
3- 3) وسائل الشیعة 27 / 111 ، الباب 9 أبواب صفات القاضی ، رقم 15 .
4- 4) کفایة الاصول : 237 .

یکون بالعکس ، و من الواضح أن السّلب و الإیجاب متناقضان بحکم العقل و المتناقضان لا یجتمعان ، فکیف یکون الجمع بین العام و الخاصّ عرفیّاً ؟ و کیف یدّعی عدم المخالفة عرفاً بین العام و الخاص المطلق ؟

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه قد أطلق عنوان المخالفة علی موارد العموم و الخصوص المطلق فی أخبار باب التعارض ، کصحیحة القطب الراوندی « ما وافق الکتاب فخذوه و ما خالف فدعوه » (1) و کمقبولة عمر بن حنظلة (2) ، إذ لیس المراد من المخالفة هذه التباین ، و إلّا لم تصل النوبة إلی التعارض و الترجیح ... و حمل هذا الاستعمال علی المجاز غیر صحیح لعدم العنایة .

فالأولی : أن یقال بشمول « المخالف » للخاصّ المطلق بالنسبة إلی العام الکتابی ، لکنّ علمنا بصدور الأخبار المخالفة بالعموم و الخصوص المطلق عنهم علیهم السلام یوجب حمل کلمة المخالف فی مثل « ما خالف کتاب اللّٰه فهو زخرف » علی المخالفة بالتباین . و أیضاً ، فإنّ الأخبار الواردة فی باب التعادل و التراجیح دلیل علی أن المخالف للکتاب حجة ، غیر أنّ الموافق له لدی التعارض بینهما هو المقدَّم ، فالمخالفة هذه بالعموم و الخصوص المطلق لا التباین ، لأن المباین لیس بحجة مطلقاً .

الرابع : إنّ العام الکتابیّ قطعیّ الصدور و خبر الواحد ظنّی ، و تخصیص الکتاب به رفع الید عن العلم بالظن و هو غیر جائز .

و الجواب : إنّه من حیث السند ، لا کلام فی قطعیّة الکتاب و ظنیّة خبر

ص:360


1- 1) وسائل الشیعة 20 / 464، الباب 20 من أبواب یحرم بالمصاهرة و نحوها ، رقم 3 و 4 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 136 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم 1 .

الواحد ، لکنّ الکلام لیس فی جهة السند ، بل فی الدلالة ، و لیست دلالة الآیة العامّة فی معناها بقطعیة ، فإن أصالة الظهور فی العام ظنیّة کما هی فی طرف الخبر ، فلا یقع التعارض بین القطعی و الظنّی ... و حینئذٍ نقول : بأنّ انعقاد الظهور فی طرف العام الکتابی معلّق علی عدم وجود القرینة علی الخلاف ، و قد تقدَّم أن الخبر قرینة ، فلا ینعقد الظهور فی العام بل یتقدّم الخبر علیه .

و علی الجملة ، فإنه لا تنافی بین المدلولین ، و دلیل حجیّة الخبر یتقدَّم بالحکومة علی أصالة العموم فی طرف الکتاب ، لکونه أصلاً معلّقاً علی عدم وجوب الخاصّ وجداناً أو تعبّداً ، و لو قیل بالتعارض بین عموم الکتاب و ما ورد فی الکتب المعتبرة من المخصّصات ، لزم سقوط عمدة الأخبار کما قال المیرزا (1) .

و أمّا ما أفاده تلمیذه المحقق فی الهامش من أن العمومات الکتابیّة فی مقام التشریع لا البیان ، فلا یقع التعارض بینها و بین الأخبار .

ففیه : إن عدّةً منها فی مقام البیان یقیناً ، و یشهد بذلک استدلال الأئمة علیهم السّلام بظواهرها فی کثیر من الموارد ، کاستدلاله علیه السلام بظاهر قوله تعالی « فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ » (2)کما فی معتبرة عبید بن زرارة (3) .

و أیضاً ، فلولا کون «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (4)فی مقام البیان ، لکان البحث عن تخصیصه بمثل « نهیٰ النبی عن بیع الغرر » (5) لغواً ، و کذلک یلزم لغویّة البحث عن

ص:361


1- 1) أجود التقریرات 2 / 390 - 391 .
2- 2) سورة البقرة: الآیة 185.
3- 3) وسائل الشیعة 10 / 176 ، الباب 1 من أبواب وجوب الإفطار فی السفر فی شهر رمضان ، رقم : 8 .
4- 4) سورة البقرة : الآیة 275 .
5- 5) وسائل الشیعة 17 / 448 ، الباب 40 من أبواب آداب التجارة ، رقم 3 .

تخصیص «حَرَّمَ الرِّبٰا » (1)بما ورد فی الأخبار من (2) حلیّته ، و کذا الکلام فی « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (3)و « إِلّاٰ أَنْ تَکُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (4)و نحو ذلک .

علی أنّ المحقق المذکور ، قد تمسّک فی غیر موضع من بحوثه الفقهیة بظواهر تلک العمومات و الإطلاقات ، کما فی مسائل الحج و الجهاد و الخمس و غیرها .

ص:362


1- 1) سورة البقرة: الآیة 275.
2- 2) وسائل الشیعة 18 / 135 ، الباب 7 من أبواب الربا ، رقم 1 و 2 .
3- 3) سورة المائدة: الآیة 1.
4- 4) سورة النساء : الآیة 29 .

دوران الأمر بین التخصیص و النسخ

اشارة

لو ورد دلیل عام ، ثم جاء دلیل آخر ، و وقع الشک و التردّد فی أنه مخصّص للعام أو ناسخ لحکمه ، فما هو مقتضی القاعدة ؟ و ما هو مقتضی الأصل العملی ؟

مورد البحث المخصص المنفصل

و فائدة هذا البحث و أثره العملی معلوم ، لوضوح الفرق بین النسخ و التخصیص .

ثم إنّ من الأخبار عن الصادق علیه السلام - مثلاً - ما هو عام و نجد فیها عن الإمام من بعده نصّاً فی نفس الموضوع یخالفه فی الحکم ، فإنْ کان مخصّصاً له لزم القول بجواز تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، و إنْ جعلناه ناسخاً ، لزم القول بجواز النسخ بعد النبی صلی اللّٰه علیه و آله .

و بما ذکرنا ظهر : أنّ مورد البحث هو ما إذا کان الدلیل الثانی منفصلاً ، لأنّه إن کان متّصلاً بالعام منع من انعقاد الظهور إلّا فی المتأخر فهو مخصص له ، و لا حکم آخر حتی یکون ناسخاً له .

و یقع البحث فی مقامین :

المقام الأول ( فی مقتضی الأدلّة )
اشارة

و للمنفصل صور :

الصورة الاولی ما إذا کان العام سابقاً ، و قد جاء الدلیل الآخر قبل وقت

ص:363

العمل بالعام ، فهنا قولان :

أحدهما : بطلان النسخ ، لأنّ النسخ قبل حضور وقت العمل بالعام و فعلیّة الحکم ، یستلزم لغویّة جعل الحکم المنسوخ ، فالنسخ قبل حضور وقت العمل باطل .

و الثانی : الجواز ، و به قال المحققان النائینی و العراقی .

أمّا المیرزا (1) ، ففصّل بین القضیّة الحقیقیة و الخارجیّة ، فأجازه فی الحقیقیّة ببیان أن قوام الحکم فیها هو بفرض وجود الموضوع و الشرط لا بخارجیّته ، و الفرض کاف لتحقق الحکم ، فهو موجود و یقبل النسخ .

و أمّا العراقی ، فأفاد بأنّه إن کان حقیقة الحکم فی القضایا الشرعیّة ، هو الملازمة بین الموضوع و الحکم - کما علیه المشهور - فالمجعول فی «وَلِلّٰهِ عَلَی النّٰاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَیْهِ سَبیلاً » (2)هو الملازمة بین الحج و الاستطاعة - فإنّ رفع الملازمة قبل تحقّق ما یتوقّف علیه الحکم جائز ، بناءً علی رجوع الواجب المشروط إلی الواجب المعلَّق ، بأنْ یکون الوجوب فعلیّاً و ظرف الامتثال بعدُ ، فیجوز النسخ لارتفاع الحکم بعد وجوده .

و إنْ کان حقیقة الحکم ، هو الإرادة المبرزة - کما هو المختار عند المحقق العراقی - و أنّ الإرادة عند ما تبرَز ینتزع منها الحکم أی الوجوب - کما أنّ الکراهة المبرزة ینتزع منها الحرمة - فالمفروض وجودها حتی مع عدم وجود الشرط لها المنوطة به .

فسواء قلنا بمسلک المشهور فی حقیقة الحکم أو بمسلک المحقق العراقی ،

ص:364


1- 1) أجود التقریرات 2 / 394 - 395 .
2- 2) سورة آل عمران : الآیة 97 .

فإنّه من الجائز رفع حکم العام قبل وقت العمل به ... فالنسخ جائز ، لأنه بناءً علی مسلک المشهور الملازمة موجودة و إنْ لم یتحقق طرفاها کما فی «لَوْ کٰانَ فیهِمٰا آلِهَةٌ إِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتٰا » (1)، و بناءً علی مسلکه ، فالإرادة أو الکراهة موجودة کما هو الفرض .

فتلخّص : جواز النسخ عند المیرزا و العراقی فی الصّورة المذکورة .

و علی هذا ، فلا یرد الإشکال (2) بلزوم اللغویّة فی جعل العام ، لأنّ الحکم إنْ کان الإرادة ، فإنّها قبل وجود الموضوع و شرطه موجودة قهراً ، فلا یتوجّه الإشکال بأن رفع الحکم لغو ، نعم ، یمکن الإشکال فی کون حقیقة الحکم هو الإرادة ، لکنه مبنائی .

لکنّ التحقیق هو عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، سواء فی القضیة الحقیقیّة أو الخارجیّة ، لأنّ الإنشاء فعل اختیاری للمولی ، هو لا یکون بلا داعی ، فإنْ أنشأ الحکم بداعی البعث ، فإن إنشائه فی ظرف عدم إمکان الانبعاث من الباعث الملتفت محال عقلاً ، و المفروض هنا کذلک ، لفرض عدم تحقق الموضوع و الشرط له ... فما ذکره المحقّقان مردود بهذا الوجه لا بإشکال لزوم اللغویّة ... فالنسخ باطل و یتعیَّن التخصیص .

الصّورة الثانیة ما إذا کان العام سابقاً ثم جاء الدلیل الآخر بعد حضور وقت العمل .

و قد فصّل المحقق الخراسانی - تبعاً للشیخ - بین ما کان صادراً لبیان الحکم الواقعی ، فالمتأخر ناسخ لا مخصّص ، لأنه یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة .

ص:365


1- 1) سورة الأنبیاء: الآیة 22.
2- 2) أجود التقریرات 2 / 395 . الهامش .

و ما کان صادراً لا من أجل بیان ذلک بل هو حکم ظاهری یکون مرجعاً عند الشک ، فالمتأخّر مخصّص له ، لعدم لزوم تأخیر البیان عن وقت الحاجة .

فهذا تفصیل الشیخ و( الکفایة ) ، وعلیه العراقی و الحائری و البروجردی .

إلّا أنّ الکلام فی قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، و أنّه بنحو الاقتضاء أو العلّة التامّة ... و الظاهر أنه بنحو الاقتضاء ، فقد یتأخّر البیان عن وقت الحاجة لمصلحة فینتفی القبح حینئذٍ ... کما هو الحال فی الکذب ، فإنّ قبحه اقتضائی و لیس علّةً تامّة له ، بل قد یکون حسناً .

و إذا کان قبح التأخیر اقتضائیاً ارتفع المانع عن أن یکون الدلیل المتأخّر مخصّصاً للعام فیما إذا کان لبیان الحکم الواقعی ... فی کلّ موردٍ احتمل کون التأخّر لمصلحةٍ ... لکن هذا بوحده لا یکفی لتعیّن التخصیص .

و لذا قالوا بتعیّن التخصیص من جهة أن نسبة الخاص إلی العام نسبة القرینة إلی ذیها ، فالمتقضی لأنْ یکون الدلیل الآتی بعد العام مخصّصاً له موجود ، و قد عرفت انتفاء المانع - و هو لزوم تأخیر البیان عن وقت الحاجة - باحتمال وجود مصلحةٍ للتأخیر من تقیّة و نحوها ... .

إلّا أن الأُستاذ تنظّر - فی الدورة اللّاحقة - فی قرینیّة الخاصّ للعامّ إن لم یکن متّصلاً ، لأن العرف لا یری المنفصل قرینةً ، بل یجعله ناسخاً ، و لا أقل من التوقّف ، فهذا الوجه لا یجدی لتعیّن التخصیص .

و کذا ما ذهب إلیه المیرزا من أنّ أصالة العموم فی العام لا تتمّ إلّا بتوفّر مقدّمات الحکمة فی المتعلّق ، و وجود الدلیل بعده مانع من تمامیّتها لاحتمال القرینیّة ، فالنسخ متوقف علی تمامیة أصالة العموم فی العام ، و هذا أوّل الکلام ، فیتعین التخصیص .

ص:366

لأنّ توقّف أصالة العموم - کأصالة الإطلاق - علی مقدّمات الحکمة ، غیر تام ، بل إنّ ألفاظ العموم بذاتها تدلّ علی الشمول و الاستیعاب .

فالوجه الصحیح لتعیّن التخصیص هو ما ذهب إلیه المحقق الأصفهانی من أنّ کلام الأئمّة علیهم السلام واحد ، فکأن ما صدر من الإمام الباقر و ما صدر من الإمام الرضا - علیهما السلام - صادران فی مجلسٍ واحد ... فإذا کان الأئمة بحکم الواحد و کلامهم بحکم الکلام الواحد ، جری فی کلماتهم حکم المخصّص المتّصل ... و یشهد بذلک ما ورد عنهم من جواز نسبة ما سمع من أحدهم إلی غیره (1) .

الصورة الثالثة أنْ یرد الدلیل الخاص ثم یرد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص . و فی هذه الصورة قالوا بتعیّن تخصیص الخاصّ للعام بلا إشکال ، إمّا للزوم اللغویّة و إمّا لاستحالة البعث مع عدم إمکان الانبعاث .

الصورة الرابعة أن یرد الخاص ثم العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فهل یتخصّص العام بالدلیل المتقدم علیه أو یکون ناسخاً لذاک الدلیل ؟ و الثمرة واضحة ، لأنّه بناءً علی الأوّل لا بدّ من العمل علی طبق الخاص ، و بناءً علی الثانی یکون العمل علی طبقه ثم علی العام من حین وروده .

ذهب فی ( الکفایة ) إلی تقدَّم التخصیص لکثرته فی الشریعة حتی اشتهر أنه ما من عامٍّ إلّا و قد خص ، و لندرة النسخ قبل انقطاع الوحی و أمّا بعده فلا نسخ .

و أمّا ما ورد فی الصحیح من أن الحدیث ینسخ کما ینسخ القرآن ، و لذا یؤخذ بالخبر الوارد عن الإمام المتأخر ، وعلیه مشی مثل الشیخ الصّدوق فی الخبرین المتنافیین ، مرجّحاً المتأخّر علی المتقدم زماناً ، فقد أوضح الأُستاذ : بأنّ

ص:367


1- 1) کفایة الاصول : 237 .

معنی « النسخ » فیه یختلف عن النسخ الاصطلاحی ، و لذا لم یجعل التأخّر من المرجّحات فی باب التعادل و التراجیح . و التفصیل موکول إلی هناک .

و علی کلّ حالٍ ، فإنّ دعوی ( الکفایة ) مستندة إلی ندرة النسخ فی زمان الوحی و أنه بعد انقطاعه لا نسخ .

و قد أورد علیه المیرزا بوجهین (1) :

الأول : إنه لما وقع الشک فی أنّ حرمة إکرام الفاسق باقیة إلی زمان ما بعد العامّ المتأخر عنه ، أو أن الحکم المذکور ینقطع بمجیء العام ، فإنّ مقتضی الاستصحاب بقاء حکم الخاص ، و إنّما یحتاج إلی التمسّک بالاستصحاب لإبقائه ، لأنَّ استمرار الحکم فی الزمان و إنْ کان من الامور المتفرّعة علی الحکم ، و لکنّ ذلک موقوف علی وجوده ، و المفروض دوران الأمر بین وجوده مخصّصاً للعام أو زواله بنسخ العام له ، فکان الموجب للبقاء هو الأصل العملی ، أی الاستصحاب . لکنّ هذا الاستصحاب محکوم بالدلیل و هو أصالة العموم ؛ فما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) من التخصیص مردود .

إشکال الأُستاذ

و قد أشکل علیه الأُستاذ بوجهین : الأول: إنّ بقاء و استمرار الحکم لیس من متفرّعات الحکم بل من خصوصیّات وجوده ، فالحکم إمّا موجودٌ و إمّا زائل ، لا أنّه موجود فهو مستمرٌّ و باق . و الثانی : إنّه لو لم یکن دلیل الحکم متکفّلاً البقاء و الاستمرار له للزم الإهمال المحال ... لأنّ الحاکم عند ما یجعل الحکم ، فإمّا یجعله علی وجه البقاء و الاستمرار و إمّا یجعله لا علی هذا الوجه ، و أمّا أنْ لا یدری أن حکمه علی أیّ وجهٍ فهذا محال ... هذا ، و مقتضی الإطلاق فی الجعل أنْ یکون

ص:368


1- 1) أجود التقریرات 2 / 399 .

علی وجه الاستمرار و البقاء إلی أن یقوم الدلیل علی الانتفاء و الزوال ... و إذا کان کذلک ، فالإطلاق هو المقتضی للبقاء ، و هو أصلٌ لفظی - و لا تصل النوبة إلی التمسّک بالاستصحاب - لکن الأصل اللّفظی فی البقاء مقدّم علی أصالة العموم ، لندرة النسخ و شیوع التخصیص ، فیتقدم الأصل اللّفظی الإطلاقی علی الأصل اللّفظی الوضعی . و هذا ما أشار إلیه المحقق الخراسانی فی کلامه .

الثانی : إن الشک فی بقاء حکم الخاص المتقدّم ، مسبّب عن الشکّ فی عموم العام المتأخّر ، و بجریان أصالة العموم فی العام یرتفع الشک فی بقاء حکم الخاص و لا یحکم باستمراره ، بل هو منقطع بالعام .

إشکال الأُستاذ

إنه کما یکون ملاک السببیّة و المسببیّة فی الامور التکوینیة هو العلیّة و المعلولیّة ، فإنّه فی الامور التشریعیة هو الموضوعیة و الحکمیّة ، بأنْ یکون الأصل فی الموضوع سببیّاً و فی الحکم مسبّبیّاً ، و لیس بین العام و الخاص هذه النسبة ، بل هما دلیلان مستقلّان ، یقول أحدهما بوجوب إکرام کلّ عالم ، و الآخر یقول بحرمة إکرام الفسّاق من العلماء ، فذاک عام و هذا مطلق مقیَّد بزمانٍ من الأزمنة ، و لا بدَّ من رفع الید عن أحدهما لعدم إمکان الجمع بینهما ... فلا سببیّة و مسببیّة أصلاً ... بل مقتضی القاعدة - کما فی ( الکفایة ) - تقدیم دلیل الخاص ، و النتیجة هی التخصیص لما ذکره .

اللهم إلّا أن یشکل علیه : بأنّ ندرة النسخ غیر کافیة للترجیح ، لأنّ غایة الأمر - بناءً علی أنّ الشیء یلحق بالأعم الأغلب - هو الظن بتعیّن التخصیص ، و لا دلیل علی اعتبار هذا الظن .

کما أنّ جعل ندرة النسخ و شیوع التخصیص قرینةً عرفیّة لتقدّم التخصیص

ص:369

- کما أفاد فی ( الکفایة ) - غیر تام ، لعدم عرفیّة هذه القرینیّة .

و یبقی الوجه الذی اعتمده المحقّق الأصفهانی لتقدیم الخاص ، و قد أوردناه سابقاً ، و أمّا النسخ فلا یثبت إلّا بالخبر المتواتر ، و کلامنا فی خبر الواحد ، فیتعیّن التخصیص .

بل بناءً علی عدم ثبوت النسخ بخبر الواحد ، ینتفی موضوع البحث رأساً ، لأنه حینئذٍ لا یقع الدوران بین النسخ و التخصیص حتی نبحث عن وجه التقدیم .

و فی ( المحاضرات ) (1) : التفریق بین نظر العرف و نظر الشرع ، بأنّ أهل العرف یرون العام المتأخّر ناسخاً ، أمّا فی الشّرع ، فإنّ الخاص یتقدَّم و یکون بیاناً للحکم من الأوّل .

و أورد علیه الأُستاذ : بأنّ کون العام ناسخاً یتوقّف علی عدم القرینیّة العرفیّة للخاص بالنسبة إلی العام ، و السیّد الخوئی من القائلین بالقرینیّة کما فی کتاب ( المحاضرات ) نفسه .

و هذا تمام الکلام فی المقام الأول .

المقام الثانی ( فی مقتضی الأصل العملی )
اشارة

فلو وصل الأمر إلی الأصل العملی فما هو مقتضاه ؟

أمّا إذا کان الخاص مقدّماً و وصل الحال إلی الشک لعدم المرجّح ، فالأصل هو الاستصحاب ، لأنّا مع مجیء العام نشکّ فی بقاء حکم الخاص ، فنستصحب بقائه و یتقدّم علی العام ، و النتیجة التخصیص ... و لا یخفی أنه مبنی علی جریان الاستصحاب فی الأحکام الکلیّة الالهیّة کما هو المختار .

و أمّا إذا تقدَّم العام ، فتارةً : یکون حکم الخاص مناقضاً لحکم العام ، کما لو

ص:370


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 490 .

قال یجب إکرام کلّ عالم ، ثم قال : لا یجب إکرام العالم الفاسق . و أخری : یکون ضدّاً له ، کأن یقول : یجب إکرام کلّ عالم ، ثم یقول : یحرم إکرام العالم الفاسق .

فإنْ کان نقیضاً له ، حکم بالتخصیص بمقتضی استصحاب عدم وجوب إکرام العلماء الفسّاق أزلاً ، لعدم وجوب إکرامهم قبل ورود العام ، فلمّا ورد وجب إکرامهم إلی حین ورود الخاص ، فإذا ورد الخاص بعده و دار الأمر بین النسخ و التخصیص ، و شککنا فی تبدّل حکم إکرام العلماء الفسّاق من عدم الوجوب إلی الوجوب ، نستصحب عدم الوجوب الثابت أزلاً ، و تکون النتیجة التخصیص .

و إنْ کان ضدّاً له ، فإنْ کان التضادّ بالوجوب و الحرمة ، بأنْ یفید العام وجوب إکرام العلماء ، و الخاص حرمة إکرام الفسّاق منهم ، فلا مجری لاستصحاب إکرام الفسّاق ، لعدم الشک فی عدم جواز إکرامهم ، سواء کان الخاص المتأخّر ناسخاً أو مخصّصاً ، کما لا یخفی . نعم ، إن کان مخصّصاً فالحرمة من أوّل الأمر و إنْ کان ناسخاً فمن حین وروده .

و إنْ کان التضادّ لا بالوجوب و الحرمة ، کأنْ یفید العام الوجوب أو الحرمة ، و یفید الخاص الکراهة أو الاستحباب ، فذهب المحقق العراقی إلی إمکان جریان الاستصحاب ( قال ) : لو کان مفاد العام هو وجوب الإکرام أو حرمته ، و کان مفاد الخاص المتأخر استحباب الإکرام أو کراهته ، أمکن دعوی جریان حکم التخصیص بمقتضی استصحاب عدم المنع السابق ، حیث أنه بالأصل المزبور مع ضمیمة رجحانه الفعلی أو المرجوحیة الفعلیة ، أمکن إثبات الکراهة أو الاستحباب . فتأمّل (1) .

و علی الجملة ، فإنّ العام إن کان ظاهراً فی الوجوب ، فبعد ورود الخاص

ص:371


1- 1) نهایة الافکار (1 - 2) 553 .

بعده ، نشکُّ فی بقاء الوجوب - لأن الخاص إن کان ناسخاً فالعام دالّ علی الوجوب و إن کان مخصّصاً فلا، بل الاستحباب - فیمکن استصحاب عدم الوجوب . و کذا الکلام فیما لو کان العام ظاهراً فی الحرمة و کان مفاد الخاص هو الکراهة .

و فیه :

لکن الإشکال هو : إنّه بعد ورود الخاصّ لا شک فی الاستحباب ، سواء کان ناسخاً أو کان مخصّصاً ، نعم ، إن کان ناسخاً فمن الآن و إنْ کان مخصّصاً فمن الأوّل ، و مع عدم الشکّ کیف یستصحب عدم الوجوب ؟ و لعلّ هذا وجه الأمر بالتأمّل .

و قد یقصد هذا المحقّق بیان الحکم فی الزمان الفاصل بین العام و الدلیل المتأخر ، بأنه إنْ کان مخصّصاً کان إکرام الفاسق من العلماء فی الزمان الفاصل مستحبّاً ، و إن کان ناسخاً لحکم العام ، دلّ العام علی وجوب الإکرام فی الزمان المزبور ، فالرجحان علی کلّ حالٍ ثابت .

بقی الکلام فیما لو جهل التاریخ

و إنما نحتاج إلی معرفة تاریخ ورود العام و الخاص ، و أنه قبل حضور وقت العمل أو بعده ، من جهة قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، و أمّا بناءً علی عدم قبحه إن کان لمصلحةٍ ، فلا حاجة . کما تقدّم .

قال فی الکفایة : و أمّا لو جهل و تردد بین أنْ یکون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام و قبل حضوره ، فالوجه هو الرجوع إلی الاصول العملیة (1) .

ص:372


1- 1) کفایة الاصول : 238 .

و قد اشکل علیه (1) : بأنّ فی فرض ورود الخاص متأخّراً ، لا یبقی شکٌ - سواء کان ناسخاً أو مخصّصاً - حتی یرجع إلی الأصل العملی ، و أمّا فی الفاصل الزمانی - إن کان للأصل أثر - فالمرجع هو أصالة العموم ، للشک فی التخصیص .

فأین مورد الأصل العملی ؟

و أجاب الأُستاذ :

بأنّ مجری الأصل هو الفاصل بین العام و الدلیل المتأخّر ، لکنْ لیس المرجع هو العام ، لأنّ أصالة العموم فی الحقیقة هی أصالة عدم التخصیص ، فالمرجع هو الأصل العملی ... .

و قیاسه ما نحن فیه علی مورد المجمل المردد بین الأقل و الأکثر مفهوماً ، و أنه یؤخذ بالقدر المتیقَّن من الخاص و یتمسّک بعموم العام فی الزائد علیه .

فی غیر محلّه ، لدوران الأمر هناک بین الأقل و الأکثر ، أما هنا فالأمر دائر بین المتباینین ، لأنا نعلم إجمالاً بأحد الأمرین إمّا النسخ و إمّا التخصیص ، فلو ارید التمسّک بأصالة العموم لحلّ العلم الإجمالی هذا ، کان معناه انحلال العلم الإجمالی بأصالة عدم التخصیص ، لکن أصالة عدم النسخ تعارض أصالة عدم التخصیص .

و هذا تمام الکلام فی الخاص و العام .

ص:373


1- 1) نهایة النهایة 1 / 305 .

ص:374

المقصد الخامس المطلق و المقید

اشارة

ص:375

ص:376

تعریف المطلق

قال فی ( الکفایة ) (1) :

عرّف المطلق بأنّه ما دلّ علی شائع فی جنسه .

و قد أشکل علیه بعض الأعلام بعدم الإطراد أو الانعکاس ، و أطال فی النقض و الإبرام .

و قد نبّهنا فی غیر مقام علی أنّ مثله شرح الاسم ... .

أقول :

إن ما ذکره رحمه اللّٰه هو الصحیح ، فالأولی الإعراض عن التعاریف المذکورة للإطلاق و التقیید ، لکنّ المهمّ الذی لم ینبّه علیه صاحب ( الکفایة ) هو :

إنّ هذا البحث بحثٌ معنویٌ و لیس بلفظی ، لأنّ موضوع البحث فی باب الإطلاق و التقیید هو شمولیّة مفهوم المطلق و أنه هل هو بالوضع أو بمقدّمات الحکمة ؟ هذا هو الموضوع ، فلا علاقة له بمفهوم لفظ « المطلق » و لفظ « المقیَّد » .

هذا ، و عمدة ما یقع موضوعاً لبحث المطلق و المقید هو « اسم الجنس » ، فالبحث یدور عن أنّ اسم الجنس لمّا یقع موضوعاً لحکمٍ من الأحکام الشّرعیة هل یُقصد منه الإرسال و الشمول و السّریان أو لا ؟ و إذا کان کذلک ، فهل هو

ص:377


1- 1) کفایة الاصول : 243 .

بالوضع أو بمقدّمات الحکمة ؟

و من ذلک یظهر أنّ المراد من لفظی الإطلاق و التقیید - فی البحث - هو المعنی اللّغوی فیهما .

مقدّمات

اشارة

و لا بدّ من بیان امورٍ قبل الورود فی البحث :

الأمر الأول : إنّ المعنی المبحوث عنه فی الباب له أقسام ، فهو إمّا حرفی و إمّا اسمی .

أمّا المعنی الحرفی ، فإنه إنما یدخل فی البحث ، بناءً علی کون الوضع فیه عامّاً و الموضوع له عام ، و أمّا بناءً علی کون الموضوع له خاصّاً و أنه جزئی حقیقی ، فإنّ الجزء الحقیقی لا یقبل التوسعة و التضییق ، نعم ، هو قابل لبحث الإطلاق و التقیید بمعنی آخر مطروح فی بحث الواجب المشروط .

و أمّا المعنی الاسمی ، فهو ترکیبی و أفرادی .

أمّا الترکیبی ، کما فی الجُمل ، حیث یبحث عن أنّ إطلاق صیغة الأمر هل یقتضی العینیّة و النفسیّة و التعیینیّة أو لا ؟ و الجملة الشرطیة هل یقتضی إطلاقها الانتفاء عند الانتفاء أو لا ؟

و هذا القسم خارج عن البحث ، لأنّ الدلالة علی الإطلاق و التقیید فیه إنما یکون علی أثر الخصوصیّات المأخوذة فی الکلام ، کما یقال : الإطلاق فی مقابل « أو » و الإطلاق فی مقابل « الواو » .

و أمّا الأفرادی ، فهو إمّا علم للشّخص و إمّا علم للجنس .

لکنّ الإطلاق و التقیید فی علم الشخص أحوالی ، فإنّ ل« زید » مثلاً أحوالاً کثیرة ، من القیام و القعود و الصحّة و المرض و الغنیٰ و الفقر ... لکنّ الخلاف

ص:378

المشهور فی حقیقة الإطلاق بین سلطان العلماء (1) و غیره - کما سیأتی - غیر آتٍ فی الإطلاق الأحوالی ، نعم ، یکون هو المرجع فی المسائل الفقهیة ، و هذا أمر آخر .

فتبیَّن : أن موضوع البحث و مورد النقض و الإبرام هو علم الجنس کالإنسان و نحوه .

فالحاصل : إن موضوع البحث هو المعنی الاسمی الأفرادی لا الأحوالی .

الأمر الثانی : إنه لمّا کان دخول اللّابشرطیّة و عدمه فی حیّز المعنی مورد البحث بین الأعلام کما سیأتی ، فلا بدَّ من فهم معنی البشرط و اللّابشرط فی موارد استعمال هذین الاصطلاحین و غیرهما فی کلماتهم ، فنقول :

لقد استعمل هذه الاصطلاحات فی ثلاثة موارد :

الأول : الوجود

فقد قسّموا الوجود إلی : « بشرط لا » و« لا بشرط » و« بشرط » .

فقالوا : بأنّ الأوّل هو وجود الباری عز و جلّ ، فهو وجود بشرط لا عن جمیع الحدود ، لأنه وجود مجرَّد عنها ، لأن الحدود تنشأ من الماهیة و لا ماهیّة هناک .

و الثانی هو : الوجود المنبسط و الإضافة الإشراقیة و الرحمة الواسعة الحسینیة و کنْ البسیطة ، و هذا الوجود فعل الباری ، و یعبَّر عنه فی العرفان بالاسم الأعظم .

و الثالث : هو الوجود المضاف إلی الماهیّات ، کوجود الإنسان .

الثانی : الجنس و الفصل .

أی : اللّابشرط و البشرطلا فی باب الحمل ، و ذاک أنّ الموجودات الخارجیّة

ص:379


1- 1) هو : السید الأجل الحسین بن رفیع الدین محمّد الحسینی الآملی الأصبهانی المتوفی سنة 1064 .

ذات الآثار ، کالإنسان و البقر و غیرهما ، لها جهة اشتراک تصدق علی أنواع مختلفة وجهة اختصاص کالحیوانیة و الناطقیة . فالحیوان - مثلاً - إنْ لوحظ لا بشرط عن قابلیّة الحمل کان « جنساً » و قابلاً للحمل فتقول : الإنسان حیوان ، و البقر حیوان و هکذا . و کذلک الجهة الاختصاصیّة ، فإنها إذا لوحظت لا بشرط عن قابلیّة الحمل و الاتّحاد مع الجنس کانت « فصلاً » .

و لو لوحظ الجنس و الفصل بلحاظ البشرطلا عن الحمل ، لم یقبل الفصل لأنْ یحمل علی الجنس ، و فی هذه الحالة یعبّرون عن الجنس بالمادّة و عن الفصل بالصّورة .

الثالث : الأوصاف و الضمائم الخارجة عن الذات .

أی : إنّ الماهیّة قد تلحظ بالنسبة إلی الوصف الخارج عن الذات لا بشرط ، و قد تلحظ بشرط لا ، و قد تلحظ بشرط .

فالرقبة عند ما تلحظ بالقیاس إلی الإیمان ، فتارة تلحظ بشرطه فتکون مقیَّدة به ، و قد تلحظ بشرط لا عنه فتکون مقیَّدة بعدمه ، و قد تلحظ لا بشرط ، فهی ماهیّة غیر مقیَّدة لا بهذا و لا ذاک . و کذلک الإنسان بالنسبة إلی العلم .

فهذه ثلاثة اعتبارات بالنسبة إلی ما هو خارج عن الذات .

إذا عرفت ذلک ، فاعلم بأنَّ :

مدار البحث فی علم الاصول - فی باب المطلق و المقیَّد - هو هذا المورد الثالث ، و هو اللّابشرطیة فی الماهیّات ... فوقع الکلام بینهم فی أنّ هذه اللّابشرطیّة داخلة فی حریم المعنی الموضوع له لفظ « الرقبة » مثلاً ، و أنْ معناه هو الذات اللّابشرط عن وجود الإیمان و عدمه ، أو أنْ هذا اللّفظ موضوع للذات ، و حیثیّة اللّابشرطیة المذکورة خارجة عن المعنی الموضوع له ، و مستفادة من القرینة

ص:380

المعبَّر عنها ب« مقدّمات الحکمة » .

قال المشهور بالأول ، و قال سلطان العلماء بالثانی و تبعه من تأخّر عنه .

کلام الکفایة

ذکر فی ( الکفایة ) ما حاصله (1) : إن اسم الجنس - سواء کان جوهراً أو عرضاً أو عرضیّاً - موضوع للماهیّة المهملة .

و بیان ذلک : إنّ اللفظ الموضوع للماهیّة - سواءً کانت جوهراً من الجواهر کالإنسان ، أو عرضاً من الأعراض کالبیاض ، أو عرضیّاً - کالفوقیّة و التحتیة و نحوهما من المعانی الانتزاعیة القائمة بمنشإ انتزاعها ، و کالمعانی الاعتباریة کالزوجیّة و الملکیّة و نحوهما - لا یفید سوی المعنی الموضوع له ، فالموضوع له اسم الجنس فی الموارد المذکورة هو نفس المفهوم من اللّفظ و لا شیء آخر معه ، و هذا هو المقصود بالماهیّة المهملة .

قال : فهذه الماهیّة ، قد تلحظ بشرطٍ ، کأنْ تلحظ بشرط وجود شیء کالإرسال مثلاً ، أو بشرط عدم شیءٍ ، و قد تلحظ لا بشرطٍ من وجود شیء أو عدمه ... و کلّ ذلک خارج عن ذات الماهیّة الموضوع لها اللّفظ ، لأنّه لو کان موضوعاً للماهیّة بشرط ، لزم أنْ یکون إطلاق اللفظ علیه مجرّدةً من الشرط إطلاقاً مجازیّاً . هذا أولاً . و ثانیاً : فإنّ اللفظ لو کان موضوعاً للماهیّة بشرط الإرسال - مثلاً - لم ینطبق علی الفرد ، نعم ، یشمل الفرد لکن الشمول له غیر الإطلاق علیه ، لأنّ قولنا : « أکرم کلّ عالم » یشمل « زیداً » لکنّ معنی « کلّ عالم » لیس « زیداً » ، فیلزم أنْ یکون مثل هذا الإطلاق مجازیّاً .

و کذا الکلام فیما لو کان اللّفظ موضوعاً للماهیّة اللّابشرط ، أی الماهیّة التی

ص:381


1- 1) کفایة الاصول : 243 .

لم یلحظ معها أیّ شیء آخر ، فإنّها لیست المفهوم الموضوع له اللّفظ ، لأنّ مثل هذه الماهیّة کلّی عقلیّ ، و الکلّی العقلی موطنه الذهن ، و لا یقبل الانطباق علی الخارج ، فلو ارید استعماله فی الخارج لزم المجاز کذلک .

هذا خلاصة کلامه قدس سرّه . و لا یخفی أن إطلاق « العرضی » فی کلامه علی ما ذکر خلاف الاصطلاح المعروف ، و هو المتّصف بالعرض ، کالأبیض المتّفق بالبیاض . کما أن إطلاق « الکلّی العقلی » علی الوجود الذهنی اصطلاح خاصٌّ ب( الکفایة ) ، لأن المصطلح المعروف فیه هو الماهیّة للکلّی کالإنسان مثلاً .

لکنّ المهمّ فی کلامه ما ذهب إلیه من أن الموضوع له اسم الجنس إنّما هو عبارة عن الماهیّة المهملة ، فی مقابل الماهیة بشرطٍ - و لو کان الشرط هو العموم و الإرسال - و الماهیّة لا بشرط ، أی التی لم یلحظها معها أیّ شیء آخر ، و قد جعل هذه الماهیّة اللّابشرط القسمی .

کلام المیرزا

و قال المیرزا فی اعتبارات الماهیة ما ملخّصه (1) : إن الماهیّة :

قد تلحظ بشرط لا عن جمیع الأوصاف و الأعراض ، مجرّدةً عن کلّها ، فتکون کلیّاً عقلیّاً لا یقبل الانطباق علی الخارج ، لأنّ کلّ ما فی الخارج فهو مقترن بشیء من الأعراض و الأوصاف .

و قد تلحظ مقترنةً بشیء من الأعراض و الأوصاف الموجودة فی الخارج ، سواء کان الوصف وجودیّاً أو عدمیّاً ، فتکون ماهیّةً بشرط شیء .

و قد تلحظ لا بشرط عن البشرط و البشرطشیء ، أی عن التجرّد عن الأوصاف و الاتّصاف بوصفٍ وجودیّ أو عدمیّ ، و هذا هو اللّابشرط القسمیّ

ص:382


1- 1) أجود التقریرات 2 / 421 .

و هذا هو المراد من ( المطلق ) فی بحث الإطلاق و التقیید فی علم الاصول ... و هو الکلّی الطبیعی ، لأنّ الکلّی الطبیعی ما یصحّ صدقه علی ما فی الخارج ، و إمکان الصّدق علیه إنما یکون ما لم تلحظ الماهیة مجرّدةً عن الخصوصیّات ، و ما لم تلحظ مقترنةً بشیء منها .

فحاصل کلام المیرزا :

أوّلاً : إن « المطلق » عبارة عن « اللاّبشرط القسمی » و هو المقابل للماهیّة بشرط لا و بشرط شیء ، فهو قسیمٌ لهما .

و ثانیاً : إنّ هذه الماهیة یمکن أن تصدق علی ما فی الخارج ، فهی « الکلّی الطبیعی » .

و بذلک ظهر أنّ القول بأنّ الکلّی الطبیعی لا بشرط مقسمی ، باطلٌ ، لأنَّ اللّابشرط المقسمی ما یکون مقسماً بین الماهیة بشرط لا - أی الکلّی العقلی - و البشرطشیء ، و اللّابشرط القسمی - أی الکلّی الطبیعی - و معنی کونه مقسماً أن یصحّ اتّحاده مع کلّ قسمٍ من أقسامه ، و کیف یتّحد ما یقبل الصّدق علی ما فی الخارج و هو الکلّی الطبیعی مع ما لا یقبل الصّدق علیه و هو الکلّی العقلی ؟

کلام الأصفهانی

و قال المحقق الأصفهانی ما حاصله (1) : إنّ الماهیّة المهملة هی الماهیّة التی تلحظ بذاتها و ذاتیّاتها ، و لا یتجاوز اللّحاظ عن ذلک إلی شیء آخر حتی عدم لحاظ الشیء الآخر ، بأنّ یلحظ فی ماهیّة الإنسان « الحیوان الناطق » دون غیره ، بحیث أنّ « دون غیره » أیضاً غیر داخل فی الذات الملحوظة ، فهذه هی « الماهیّة المهملة » و هی التی « لیست إلّا هی من حیث هی » .

ص:383


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 490 .

و إذا لوحظت الماهیة بهذا اللّحاظ ، کانت مجرّدةً من الوجود - الذهنی و الخارجی - و من العدم ، إذ لیس مورد اللّحاظ إلّا الذات ، و لا مانع من ارتفاع النقیضین فی مرتبة الذات ... فالإنسان فی مرتبة الذات لا موجود و لا معدوم .

فإنْ لوحظت ماهیّة الإنسان - مثلاً - بالقیاس إلی خارج الذات ، انقسمت إلی الاعتبارات الثلاثة ، و هی البشرط و اللّابشرط و البشرطلا ، لأنّ تلک الخصوصیّة التی لوحظت الماهیّة بالإضافة إلیها ، قد تقترن بالماهیّة فیکون بشرط شیء ، و قد یعتبر عدم اقترانها بها فیکون بشرط لا ، و ثالثة لا یعتبر الاقتران و لا عدم الاقتران فیکون لا بشرط . و هذه الماهیّة الملحوظة بالقیاس إلی خارج ذاتها و المنقسمة إلی الأقسام الثلاثة ، هی الماهیّة اللّابشرط المقسمی .

فماهیّة الإنسانیة إنْ لوحظت فی حدّ ذاتها و ذاتیاتها مجرّدةً عن أیّ شیء آخر ، سمّیت بالماهیّة المهملة ، و إنْ لوحظت بالقیاس إلی خارج الذات و انقسمت إلی الاعتبارات الثلاثة ، سمیت باللّابشرط المقسمی ... .

فظهر افتراق « الماهیّة المهملة » عن « اللّابشرط المقسمی » .

و اللّابشرط المقسمی له ثلاثة أقسام کما ذکر ، لأنّ الماهیّة إن لوحظت مشروطةً بالتجرّد عن أیّ خصوصیة ، فهی « بشرط لا » ، و إنْ لوحظت مع شرطٍ - و إنْ کان الشرط هو الإرسال - فهی « بشرط شیء » و إنْ لوحظت لا بشرط عن وجود و عدم شیء من الخصوصیات فهی « لا بشرط القسمی » .

ثم إنّ الموضوع له لفظ « الإنسان » هو « الماهیّة المهملة » ، لکنّ موضوع البحث فی باب المطلق و المقیَّد هو « اللّابشرط المقسمی » حیث یلحظ ماهیّة « الإنسان » لا بشرط عن شیء حتی من نفس اللّابشرطیّة .

فظهر افتراق الموضوع له اللّفظ عن موضوع البحث .

ص:384

هذا ، و سیأتی بیان افتراق « اللّابشرط القسمی » عن « الکلّی الطبیعی » .

تحقیق الأُستاذ

و ذلک یتّضح ضمن بیان امور :

الأمر الأوّل

إن الاعتبارات الثلاثة التی ذکروها کلّها وجودات ذهنیّة للماهیّة ؛ و لذا عند ما نرید أنْ نحکم علی الموضوع بحکمٍ خارجی ، نجعل الصورة الذهنیة مرآةً للخارج ، و إلّا ، فإن الوجود الذهنی قسیمٌ للوجود الخارجی ، وعلیه ، فإذا أردنا حمل « جنس » علی « الإنسان » و قلنا : « الإنسان جنسٌ » ، فلا بدّ من لحاظ « الحیوان » لا بشرط عن خصوصیة البقریة و الغنمیّة و غیرهما من الخصوصیّات ، حتی یکون اعتبار الماهیة لا بشرط طریقاً إلی الموضوع فی تلک القضیة ، و کذا إذا لوحظت الماهیة مع خصوصیةٍ ، کلحاظ « الإنسان » مع خصوصیة « الزنجیّة » مثلاً ، فإنّ هذا اللّحاظ « البشرط شیء » طریق لرؤیة الموضوع خارجاً .

فالاعتبارات الثلاثة وجودات ذهنیّة و تصوّراتٌ للماهیّة فی الذهن ، هی طریقٌ لتشخّص الموضوع و تعیّنه فی القضایا الخارجیّة .

الأمر الثانی

إنه قد ظهر مما تقدّم : امتیاز « اللّابشرط المقسمی » عن « اللّابشرط القسمی » ، فکلاهما ( لا بشرط ) لکنّ الافتراق فی المتعلَّق ، إذ هو فی ( الأوّل ) الاعتبارات الثلاثة . فهو لا بشرط عن تلک الاعتبارات و اللحاظات ، أمّا فی ( الثانی ) فهو ما وراء الذات ، بأنْ لا یلحظ مع الذات شیء ، لا الوجود و لا العدم ، فی مقابل ( البشرط شیء ) و( البشرطلا ) .

إنما الکلام فی :

ص:385

الأمر الثالث

هل ( الماهیّة المهملة ) نفس ( اللّابشرط المقسمی ) أو غیره ؟

قد تقدّم أنّ المحقق الأصفهانی یریٰ أن « الماهیّة المهملة » غیر « اللّابشرط المقسمی » خلافاً للمشهور ، و خلاصة دلیله هو : أنّ الماهیّة عند ما تلحظ بذاتها مجرّدةً عن أیّ شیء آخر - حتّی عن عدم لحاظ أیّ شیء آخر معها - فهی التی لیست هی إلّا هی ، و لا تصلح لأنْ تکون مقسماً ، لأنّ المقسمیّة عنوان إضافی یتحقّق بلحاظ ما وراء الذات .

و قد تبعه علی ذلک السیّد الخوئی (1) .

و أمّا دلیل القول المشهور فملخّصه هو : إنّ حقیقة التقسیم تخصّص الذات بخصوصیّتین متباینتین أو أکثر ، حیث الخصوصیّة متباینة و الذات هی الجهة المشترکة بین الجمیع ... و لحاظ ماهیّة الإنسان - مثلاً - و انقسامها بالاعتبارات الثلاثة من هذا القبیل ، فتکون ماهیّة الإنسان مقسماً لها ، حیث یکون الإنسان ( بشرط لا ) ماهیّة مجرّدة ، و( بشرط شیء ) ماهیّة مخلوطة ، و( لا بشرط ) ماهیّة مطلقة ... فالإنسان الذی لحظ بنحو اللّابشرط هو الإنسان المجرَّد من کلّ شیء ، فهو الماهیّة المهملة ، و هو اللّابشرط المقسمی ، فالذی یطرأ علیه التقسیم و یکون مقسماً هو الماهیّة من حیث هی هی .

و قد أوضح الأُستاذ رأی المشهور : بأنّ القسم و المقسم و التقسیم ، کلّها امور تتعلّق بالماهیّة - و أمّا الوجود فهو عین التشخّص ، و لا یقبل الاتّصاف بالقسمیة أو المقسمیّة ، و لحاظ الماهیّة هو وجودها بالوجود الذهنی ، و هو أیضاً غیر قابل للاتّصاف بذلک ، لکونه جزئیّاً - لکنْ الماهیة المجرّدة من جمیع الخصوصیات

ص:386


1- 1) أجود التقریرات 2 / 422 . الهامش .

حتی من اللّحاظ ... فهی القابلة للاتّصاف و الانقسام ، لأنَّ حقیقة التقسیم عبارة عن ضمّ ما به الامتیاز إلی ما به الاشتراک ، فما به الاشتراک هو الماهیّة المجرّدة ، و ما به الامتیاز هو الاعتبارات الثلاثة ، فکان ( المقسم ) هو ( الماهیّة المجرّدة المهملة ) ، و هی المرکب لهذه الخصوصیّات ، و لذا نقول : الماهیّة بشرط شیء ، و الماهیّة بشرط لا ، و الماهیة لا بشرط ... فکانت الحیثیّات واردة علی الذات ، و بورود کلّ واحدةٍ یحصل للذات قسمٌ ، و متی ما جرّدناها من الأوصاف کانت لا بشرط ...

فالذی یصیر لا بشرط عن العلم و الجهل و ... هو ( الإنسان ) و عن الإیمان و الکفر ... هو ( الرقبة ) و هکذا ... .

فهذا هو البرهان لقول المشهور ، وعلیه الوجدان ، فإنّ البشرط هو الرقبة المؤمنة ، و البشرطلا هو الرقبة و عدم الإیمان ، و اللّابشرط هو الرقبة المجرّدة عن الإیمان و عدم الإیمان ... .

فحاصل کلام المشهور هو : إن الماهیّة بنفسها هی التی تتّصف بالاعتبارات الثلاثة ، لا أن اللّابشرط المقسمی الذی تلحظ فیه الماهیّة مضافةً إلی الخارج هو المعروض للحیثیّات ... فظهر عدم الخلاف بین المشهور و المحقق الأصفهانی ، و أن کلام الجمیع یرجع إلی شیء واحدٍ هو : أنّ المقسم عبارة عن الذات غیر الملحوظ معها شیء آخر ، و أنها عند ما تلحظ مضافةً إلی شیء آخر تکون قسماً .

و علی الجملة ، فإنّ اللّابشرط المقسمی هو الماهیّة المقسم بین الاعتبارات الثلاثة ، و اللّابشرط القسمی فهو اللّابشرطیة بالنسبة إلی الخارج عن الذات ، فالإنسان الملحظ بالنسبة إلی الخارج عن الذات کالعلم مثلاً ، عند ما یؤخذ مجرّداً عن العلم و الجهل ، یکون الماهیة اللّابشرط القسمی ، و إنْ لحظ لا بشرط عن کلّ الاعتبارات الثلاثة ، فهو اللّابشرط المقسمی ... فکان اللّابشرط القسمی من أقسام اللّابشرط المقسمی .

ص:387

الأمر الرابع

هل ( الکلّی الطبیعی ) هو ( اللّابشرط القسمی ) أو ( اللّابشرط المقسمی ) ؟

قال جماعة من الفلاسفة - و تبعهم المیرزا - بالأول . و قال آخرون و منهم الحاجی السبزواری بالثانی . و من العلماء من قال : بأنّ الکلّی الطبیعی هو الماهیّة المهملة - لا اللّابشرط القسمی و لا اللّابشرط المقسمی - و هذا مختار شیخنا الأُستاذ .

خلاصة ما تقدَّم

أن الموضوع له الطبیعة - و هو اسم الجنس الذی جعل موضوعاً للحکم فی مثل أعتق رقبةً - هو الطبیعة و الماهیّة فقط بنحو اللّابشرط القسمی بالنسبة إلی الخصوصیات من الإیمان و الکفر و غیرهما ، و أن الموضوع له اللّفظ هو نفس الذات ، و اللّابشرطیّة خارجة عن حدّ مفهوم اللّفظ ، فالحق مع سلطان المحققین و من تبعه ، خلافاً للمشهور .

و لا یخفی أنّ المراد من اسم الجنس فی هذا البحث هو الأعمّ من اسم الجنس الفلسفی ، فیعمّ النوع و الصّنف أیضاً ، فالمراد هو الاسم للطّبیعة سواء کانت جنساً أو نوعاً أو صنفاً .

الأدلّة اللّفظیّة علی مذهب السّلطان

و قد استدلّ له - بالإضافة إلیٰ البحث العقلی المتقدّم - بوجوه لفظیّة :

الأوّل : التبادر . فإنّ المتبادر من لفظ الرقبة مثلاً و المنسبق إلی الذهن منه لیس إلّا ذات الماهیّة ، کما أنّ المنسبق من لفظ الإنسان هو الحیوان الناطق فقط ، و أمّا الخصوصیات فلا تأتی إلی الذهن عند إطلاق اللّفظ .

الثانی : صحّة التقسیم . فإنّ لفظ الرقبة یصحُّ تقسیمه بماله من المعنی إلی

ص:388

الذات المجرّدة من أیّ خصوصیة ، و إلی الذات المنضمّ إلیها الخصوصیّة من الإیمان أو الکفر . و کذلک لفظ الإنسان و غیره .

الثالث : حکمة الوضع . فإنّ حکمة الوضع فی الألفاظ إحضار معانیها إلی الذهن ، و أمّا المعنی المنضمُّ إلیه شیء من الخصوصیّات فلیس الموضوع له اللّفظ ، و لیس المقصود من وضع اللّفظ له ، و إلّا لکانت الذات المجرّدة عن الخصوصیة بلا دالّ .

الرابع : إنه لو کانت اللّابشرطیّة داخلةً فی المعنی الموضوع له اللّفظ ، لکان اللّازم تجرید اللفظ عن معناه الموضوع له متی ارید إطلاقه علی المعنی الخارجی ، لأن اللّابشرطیّة أمر ذهنی لا خارجیة له ، و المفروض دخولها فی المعنی الموضوع له اللّفظ ، و حینئذٍ یبطل الوضع .

توضیحه : إنّ وجوب العتق حکم تعلّق بالرقبة بقول المولی أعتق رقبةً ، لکنّه یترتّب علی الرقبة الخارجیة ، و لا بدّ من إیجاد العتق فی الخارج حتی یتحقق الامتثال کما هو واضح ، و المفروض کون الرقبة مطلقةً من حیث الإیمان و الکفر ، لکن الإطلاق - أی اللّابشرطیّة عنهما - أمر ذهنی ، فیکون موطن الرقبة اللّابشرط هو الذهن فقط ... و حینئذٍ ، یلزم تجرید معنی « الرقبة » من خصوصیّة اللّابشرطیّة حتی یصح إطلاق هذه اللفظة علی الوجود الخارجی و یترتّب العتق ... و هذا یبطل وضع اللّفظة للماهیّة اللّابشرط .

إذنْ ، لیس اللّفظ موضوعاً للمعنی متحیّثاً بحیثیّة اللّابشرطیّة ، و لیست داخلةً فی الموضوع له لفظ الرقبة و الإنسان و البقر و غیرها من أسماء الأجناس .

فتلخَّص : إن الإطلاق خارج عن المعنی الموضوع له اسم الجنس ، فیحتاج للدلالة علیه إلی قرینةٍ ، و هو ما یعبّر عنه بمقدّمات الحکمة .

ص:389

إشکال و دفع

إلّا أنه قد وقع الکلام بینهم فی أنّ الإطلاق و اللّابشرطیّة و السّریان ، بعد أنْ کان خارجاً عن المعنی الموضوع له اللّفظ ، هل هو ذاتیٌّ للمعنی ، بأنْ یکون لماهیّة الرقبة - مثلاً - سریان ذاتی فی أفرادها ، کالتعجّب بالنسبة إلی الإنسان ، فإنّ لفظ الإنسان موضوع للحیوان الناطق ، و لیس التعجّب داخلاً فی المعنی ، إلّا أنه لازم ذاتی له ، أو أنْ ذلک محتاجٌ إلی اللّحاظ ، بأنْ تلحظ ماهیة الرّقبة بنحو اللّابشرط ؟

قال جماعةٌ بالأوّل ، و قد أقام الإیروانی (1) البرهان علیه بما حاصله : أنّ وضع اللّفظ للمعنی حکمٌ من قبل الواضع ، و من الواضح أنّ الحاکم لا یحکم بثبوت المحمول لموضوعٍ مهمل ، لأنّ کلّ قضیّة مهملة فهی فی قوّة الجزئیة ، فلا یکون اللّفظ موضوعاً للماهیّة المجرّدة ذاتها عن الإطلاق ، و إلّا لزم فی کلّ موردٍ یستعمل فیه اللّفظ أنْ یکون الاستعمال بلا وضع ، و هذا باطل ... فالوضع للماهیّة المهملة غیر ممکن .

( قال ) : و هذا أشدّ ما یرد علی القائلین بخروج الإطلاق عن حریم المعنی .

و قد أجاب الأُستاذ عن هذا البرهان :

بأنّ ذاتیّة الإطلاق بالنسبة إلی الماهیّة لا تخلو ، إمّا أن تکون من ذاتیّ باب الکلیّات الخمس ، أو من ذاتیّ باب البرهان ، و لا ثالث .

أمّا کونه من الأوّل فباطلٌ ، لأن ذاتیّ باب الکلیّات الخمس هو الجنس و الفصل و النوع ، و الإطلاق للماهیّة التی هی موضوعٌ للقضیّة لیس الجهة الجنسیّة للماهیّة و لا الفصلیّة لها ، کما لا یعقل کونه مرکّباً من جهتی الجنس و الفصل .

ص:390


1- 1) نهایة النهایة : 307 - 308 .

فلا بدّ من أن یکون ذاتی باب البرهان ، کالإمکان فی الممکنات ، فإنّه ینتزع من ذات الماهیّة الممکنة استواء الوجود و العدم فیقال : هذا ممکنٌ ، فی قبال الماهیّة الآبیة عن الوجود أی الممتنع الذاتی ، و الآبیة عن العدم أی الواجب بالذات .

فنقول : إن کان الإطلاق ذاتیّاً من باب البرهان ، بأنْ یکون الإطلاق منتزعاً من حاق ذات الماهیة بلا حیثیّة ، فإنّ دلالة الرقبة علی الإطلاق من هذا الباب باطل بالضرورة .

فظهر أنّ الإطلاق لیس ذاتیَّ الماهیة مطلقاً .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه لا کلام فی التقابل بین الإطلاق و التقیید و عدم إمکان اجتماعهما ، فلو کان الإطلاق ذاتیّ الماهیّة کان التقیید محالاً و إلّا یلزم اجتماع المتقابلین ، بأنْ تکون الرقبة مع کونها لا بشرط عن الإیمان و الکفر مقیَّدةً بالإیمان ، و هذا غیر معقول .

فإن قیل :

المراد من ذاتیة الإطلاق هو : إن الماهیّة بحسب ذاتها - أی لو خلّیت و طبعها - تقتضی الإطلاق ، و التقیید بمثابة المانع ، فکلّما لم یوجد المقیّد کانت الماهیّة مطلقة ، فهی مطلقة لو لا التقیید .

قلنا :

لا خلاف فی التقابل بین الإطلاق و التقیید ، فقیل : إنه من قبیل العدم و الملکة ، و قیل : من قبیل التضاد ، و قیل : من قبیل التناقض ، و ما ذکر مردود علی جمیع التقادیر ، لأنّ عدم کلّ مانعٍ شرط لوجود الممنوع ، فلو کان التقیید مانعاً عن

ص:391

مقتضیٰ ذات الماهیة - و هو الإطلاق کما ذکر - لزم أنْ یکون عدم أحد الضدّین مقدمةً لوجود الضدّ الآخر ، و هو باطل . هذا بناءً علی کون التقابل من قبیل التضاد أو التناقض . و علی القول بأنه من قبیل العدم و الملکة ، یلزم مقدمیّة الشیء لنفسه ، لأنّ المفروض کون التقیید ملکة و الإطلاق عدمها ، فلو کان التقیید مانعاً عن الإطلاق کان عدمه مقدمةً للإطلاق ، لکنّ الإطلاق هو عدم التقیید .

فظهر أنّ الحق هو القول الثانی ، و هو کون الإطلاق لحاظیّاً ، بمعنی أنَّ الحاکم لمّا لحظ ماهیّة الرقبة و خصوصیة الإیمان ، فإنْ أخذ الخصوصیة فیها کان التقیید و إنْ لم یأخذها کان الإطلاق ، فالإطلاق عدم أخذ الخصوصیة ، و التقیید هو أخذها ، فکان الإطلاق و التقیید أمران زائدان علی الماهیة عارضان علیها ، غیر أنّه فی مقام الإثبات یتمُّ التقیید ببیان القید و الإطلاق بعدم بیانه ... .

و أمّا ما ذکره الإیروانی من لزوم الإهمال . ففیه : إن المحال هو أنْ یضع الواضع و یکون المعنی الموضوع له مهملاً ، و أمّا قبل الوضع فهو مطلقٌ ، لکنّ کون هذا الإطلاق ذاتیّاً للماهیة - لا باللّحاظ - فأوّل الکلام .

و هذا تمام الکلام فی ( اسم الجنس ) الذی هو الموضوع غالباً فی باب الإطلاق و التقیید .

الکلام فی علم الجنس

اشارة

و قد تعرّض الأکابر للموضوع له علم الجنس ، فالمشهور أنه موضوعٌ للماهیّة المعیَّنة ، بأنْ یکون التعیّن داخلاً فی المفهوم ، لأنّ العلم من المعارف و المعرفة لا تکون بلا تعیّن . ثم إنّ هذا التعیّن لیس بخارجی فهو ذهنی ، فظهر بذلک الفرق بین اسم الجنس مثل ( الأسد ) فإنه نکرة ، و علم الجنس مثل ( اسامة ) فإنه معرفة .

ص:392

رأی صاحب الکفایة فی قبال المشهور

و خالف صاحب ( الکفایة ) ، فذهب إلی عدم الفرق بین أسماء الأجناس و أعلام الأجناس ، فکلاهما موضوع للطبیعة بلا لحاظ شیء من خصوصیة الذهنیّة و الخارجیة . و أورد علی المشهور : بأنّ علم الجنس لو کان موضوعاً للماهیّة المتعیّنة فی الذهن ، لزم تجریدها من هذه الخصوصیّة کلّما ارید حملها علی الخارج، لعدم انطباق ما فی الذهن علی ما فی الخارج ، لکنّ الانطباق حاصل بلا تجرید . و هذا یکشف عن عدم أخذ خصوصیّة الذهنیّة فی علم الجنس . علی أنّ لزوم التجرید یستلزم اللّغویة فی أخذ الخصوصیة .

( قال ) : و أمّا المعاملة مع علم الجنس معاملة المعرفة بخلاف اسم الجنس ، فالظاهر أنّ التعریف هذا لفظی کالتأنیث اللّفظی للفظ الید و الرجل و العین و ما شابهها ، لعدم الفرق بین ( اسامة ) و( أسد ) إلّا أن ( لام التعریف ) تدخل علی الثانی دون الأول ... و هذا لیس بفارقٍ حقیقی (1) .

مناقشة المحاضرات

و وافقه السید الخوئی فی ( المحاضرات ) إلّا أنه قال (2) : یمکن المناقشة فی البرهان الذی ذکره علی عدم أخذ التعیّن الذهنی فی المعنی الموضوع له علم الجنس ، لأنّ أخذه فیه تارةً یکون علی نحو الجزئیة و أخری علی نحو الشرطیة و ثالثةً علی نحو المرآتیة و المعرّفیة فحسب من دون دخله فی المعنی الموضوع له لا بنحو الجزئیة و لا بنحو الشرطیة . و ما أفاده إنما یتمّ لو أخذ علی النحوین الأوّلین ، و أما إذا کان أخذه علی النحو الثالث ، فهو غیر مانع عن انطباقه علی الخارجیات ، و لا یلزم التجرید و لا لغویة الوضع .

ص:393


1- 1) کفایة الاصول : 244 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 521 .
إشکال الأُستاذ

و قد أورد علیه الأُستاذ أوّلاً : بأن « الأخذ » و« المرآتیة » متمانعان ، لأنه إن کان مأخوذاً فهو دخیل فی المعنی ، فلا یکون مجرّد المرآتیة و المعرفیّة . و ثانیاً : إن المرآتیّة أی: رؤیة المعنی فی الذهن لا بشرط من الخصوصیّات ، موجودة فی اسم الجنس أیضاً ، فیلزم أن یکون معرفةً مثل علم الجنس .

فالحق مع صاحب ( الکفایة ) . و المعرفیّة فی علم الجنس نظیر التأنیث اللفظی للألفاظ المذکورة و نحوها .

المفرد المعرّف باللّام

اشارة

قال المشهور : بأن المفرد المعرّف باللّام مثل « الرجل » له تعیّن ، لکون اللّام للتعریف ، و لا یکون التعریف بلا تعیّن .

قالوا : و اللّام علی أقسام ، کالجنس و الاستغراق و العهد - الحضوری و الذهنی و الذکری .

رأی صاحب الکفایة

و أنکر صاحب ( الکفایة ) (1) التعیّن الذهنی للمفرد المعرّف باللّام و کون اللّام للتعریف ، لِما ذکره فی علم الجنس من امتناع حمل الوجود الذهنی علی الخارج إلّا بالتجرید ، و أنه یلزم حینئذٍ لغویة الوضع ... .

و من هنا قال بأنْ اللّام هذه للتزیین کما فی الحسن و الحسین ... و لا توجد لام التعریف ، و لام الاستغراق و العهد ... بل کلّ ذلک یفهم من القرائن الخارجیة .

ص:394


1- 1) کفایة الاصول : 245 .
المناقشة مع الکفایة

و قد أورد علیه فی ( المحاضرات ) (1) بما ملخّصه : إن اللّام تدلّ علی التعریف و التعیین ، بلا استلزامٍ لکون التعیّن جزء معنی مدخولها أو قیده ، فهی تدلُّ علی معنیً و لیست للتزیین فقط ، لکنّ المعنی لیس جزءاً لمدخولها حتی یلزم التجرید و اللّغویّة ... اللّهم إلّا فی العهد الذهنی ، إذ الظاهر أنّ وجود اللّام و عدمها علی السواء بل هی فیه للتزیین .

و قد وافقه الأُستاذ .

الجمع المحلّیٰ باللّام

و قد وقع الخلاف بینهم فی دلالته علی العموم ، فمنهم من أنکر ذلک و قال بأنها مستفادة من القرینة الخارجیة کمقدّمات الحکمة ، و منهم من قال بدلالته علی العموم و أنه لا حاجة إلی القرینة ، فقال بعضهم : بأن الدلالة من اللّام ، و قال آخرون :

بأنّها من مجموع اللّام و مدخولها . و هذا مختار المحقق القمی و( الکفایة ) . و قیل بأنّ اللّام تدل علی التعیین فی الخارج ، و ذلک لا یکون إلّا بالدلالة علی العموم .

و علی الجملة ، فقد وقع الخلاف بینهم فی دلالة الجمع المحلّی باللّام علی العموم أنه بالإطلاق أو بالوضع .

و قد اختار الأُستاذ القول الأوّل ، فهی متوقفة علی تمامیة مقدّمات الحکمة .

و قد ناقش أدلّة القائلین بالقول الثانی ، فقال ما حاصله :

إنّ اللّام غیر موضوعة للعموم و الاستغراق ، و لذا ترد علی غیر الجمع کما ترد علیه ، و لذا أیضاً قسّمت إلی الجنس و الاستغراق و العهد ... و دعوی أنّ خصوص الداخلة علی الجمع دالّة علی العموم ، فباطلة ، إذ لیس لهذه اللّام وضع

ص:395


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 524 .

علی حدة . و کذلک القول بدلالة المرکّب منها و من مدخولها علی العموم - کما عن المیرزا القمی (1) - لعدم وجود وضع للمرکّبات غیر وضع المفردات ... علی أنّه لو کان کذلک لزم أن یکون استعمال الجمع المحلّی باللّام فی غیر العموم - کالعهد مثلاً - مجازاً ، و الحال أنّه لا توجد أیّة عنایةٍ فی هکذا استعمال .

و أمّا القول بدلالة اللّام علی العموم - من جهة کونها موضوعةً للتعریف و الإشارة ، فلمّا دخلت علی الجمع و لا تعیّن لمرتبةٍ من مراتبه ، فلا بدّ و أنْ یکون المراد هو المرتبة الأخیرة و هو جمیع أفراد المدخول - فقد نقض علیه فی ( الکفایة ) بأنّه کما لتلک المرتبة تعیّن فی الواقع ، کذلک للمرتبة الاولی و هی أقل مراتب الجمع أی الثلاثة .

و اختار بعض الأصحاب - و تبعه فی ( المحاضرات ) (2) - الدلالة علی المرتبة الأخیرة : بأنّ تعیّن المرتبة الاولی - و هی أقل الجمع - إنما هو فی مقام الإرادة ، فإنّا لمّا نقول : أکرم العلماء ، فالثلاثة مرادة قطعاً ، و إنْ لم یکن لها تعیّن فی الخارج و أنّه هل المراد هذه الثلاثة أو تلک ؟ بخلاف المجموع ، فإنه لا یعقل أن یکون بلا تعیّن فی الخارج ، إذ العلماء کلّهم متعیّنون فی الخارج ، فیکون هو المدلول للجمع المحلّی باللّام .

فأشکل الأُستاذ : بأنّ العمدة فی هذا الاستدلال کون اللّام دالّةً علی التعریف و التعیین ، و إلیه أشار فی ( المحاضرات ) بقوله فی آخر کلامه : فإذاً یتعیّن إرادة هذه المرتبة من الجمع ، یعنی المرتبة الأخیرة دون غیرها ، بمقتضی دلالة کلمة اللّام علی التعریف و التعیین ، لکنّ القدر المتیقَّن من مقتضی دلالتها هو إفادة التعریف

ص:396


1- 1) قوانین الاصول : 216 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 526 .

و التعیین للمدخول ، أمّا کون التّعیین لمجموع الأفراد أی المرتبة الأخیرة ، فلا برهان علیه .

النکرة

قال فی الکفایة :

و منها : النکرة مثل رجل فی «وَجٰاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَی الْمَدینَةِ » (1)أو فی جئنی برجل . و لا إشکال فی أن المفهوم منها فی الأول و لو بنحو تعدّد الدالّ و المدلول ، هو الفرد المعیّن فی الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق علی غیر واحدٍ من أفراد الرجل ، کما أنه فی الثانی ، هی الطبیعة المأخوذة مع قید الوحدة ، فیکون حصّةً من الرجل و کلیّاً ینطبق علی کثیرین لا فرداً مردداً بین الأفراد .

و بالجملة : النکرة أی ما بالحمل الشائع یکون نکرة عندهم ، إمّا هو فرد معیّن فی الواقع غیر معیّن للمخاطب أو حصّة کلیةً ، لا الفرد المردد بین الأفراد ... فلا بدّ أنْ تکون النکرة الواقعة فی متعلّق الأمر هو الطبیعی المقید بمثل مفهوم الوحدة ، فیکون کلّیاً قابلاً للانطباق .

أقول :

إن لفظ « المردّد » و« المبهم » موضوعٌ فی لغة العرب و لیس بمهملٍ ، فله معناه و مفهومه ، غیر أنه مفهوم لا مصداق له فی الخارج ، لأن الخارج ظرف التشخّص و التعیّن ، و أمّا معناه الموضوع له فلیس بنکرةٍ ، إذ لا یعقل التردّد فی ذات المفهوم . فما فی کلام بعض الاصولیین من أنّ مدلول النکرة هو الفرد المردّد ، غیر صحیح ، لأنه إنْ کان فرداً فلا یعقل أن یکون مردداً أیضاً ، بل التردّد فی الوجود هو المحال .

ص:397


1- 1) سورة القصص : الآیة 20 .

و أمّا ما ذکره فی ( الکفایة ) : من أنه الفرد المعیَّن فی الواقع المجهول عند المخاطب ، ففیه : إنّ المعنی المستعمل فیه کلمة « الرجل » هو الجنس ، و قید الوحدة فیه أتی من ناحیة التنوین ، فکان فرقٌ بین « النکرة » و« اسم الجنس » ، لأنّ الجنس لا تقیّد فیه بالوحدة و لذا یصدق علی القلیل و الکثیر ، بخلاف النکرة ، فمدلولها الجنس بقید الوحدة ، وعلیه ، فلا فرق فی کلمة « رجل » بین الآیة و المثال ، إذ المعنی فی کلیهما هو الطبیعة المقیَّدة بقید الوحدة ، غیر أنّ الأول معیّن خارجاً ، و کونه مجهولاً عند المخاطب قد استفید من قرینةٍ خارجیة . فلیس معنی الکلمة و المستعمل فیه فی الآیة هو المعیَّن فی الخارج المجهول عند المخاطب .

و الحاصل : إن المستعمل فیه الکلمة فی کلا المثالین هو نفس الطبیعة و الجنس ، غیر أن قید الوحدة استفید من التنوین ، و أمّا کونه فی الأول معیناً خارجاً و مجهولاً عند المخاطب فتدلّ علیه القرینة الخارجیة ... و إذا کان الموضوع له و المستعمل فیه هو الطبیعة المقیّدة بالوحدة فهو فی حد ذاته قابل للانطباق علی أیّ فرد .

ص:398

الکلام فی مقدّمات الحکمة

اشارة

و بعد الفراغ عن بیان مدالیل الألفاظ الواقعة فی الأدلّة ، یقع البحث عن مقدّمات الحکمة ، بناءً علی ما تقرّر من خروج الإطلاق عن مفاهیم تلک الألفاظ .

قالوا : و المقدمات ثلاثة :

المقدمة الاولی
اشارة

کون المتکلّم فی مقام البیان ، بأنْ لا یکون فی مقام الإهمال و الإجمال .

و لا یخفی أن کونه فی مقام البیان له صور ، فتارةً : هو فی مقام بیان تمام المراد ، و اخری : فی مقام بیان أصل المراد ، و الأول : تارةً فی مقام بیان تمام المراد من جمیع الجهات ، و اخری فی مقام بیانه من بعض الجهات .

ثم إنه قد یُعلم من حال المتکلّم فی أنه فی مقام البیان أوْ لا ، و قد یشک . فما هو مقتضی القاعدة عند الشک ؟

قالوا : إن لم تکن هناک قرینة خاصّة أو عامّة ، فالأصل کونه فی مقام البیان ...

لکنْ لا بدَّ من إثبات هذا الأصل بذکر المستند له ، و هل هذا الأصل - أی أصالة البیان - مختصٌّ بباب الإطلاق أوْ جارٍ فی غیره أیضاً ؟ ظاهر المحقق الأصفهانی هو الأول ، لکن التحقیق عند الأُستاذ جریانه فی العمومات أیضاً ، من أجل إثبات ظهور العام فی العموم متی ما شک فی کون المتکلّم فی مقام بیان تمام مراده الواقعی إذا قال : أکرم کلّ عالمٍ ، فإنه مع عدم القرینة یتمسّک به ویحکم بالعموم .

ص:399

مستند أصالة البیان

و أمّا المستند للأصل المذکور ، فقد ذکر له وجوه :

الأول : إنه مقتضی الطبع . لأنّ مقتضی الحال و طبع الطلب أنْ یکون المتکلّم فی مقام بیان مقصده باللّفظ ، نظیر قول الفقهاء : بأنّ الأصل فی المبیع هو السّلامة من العیب ، لکونه مقتضی الطبع الأولی .

و فیه : إنّ هذا الوجه لا یکفی لأنْ یؤخذ بإطلاق الکلام ، لأنْ المفروض أنّ المتکلّم قد استعمل اللّفظ - اسم الجنس مثلاً - فی معناه الموضوع له ، و أنّ الإطلاق غیر داخل فیه ، فمع الشک فی کونه فی مقام بیان تمام مراده أیّ معنی لمقتضی الطبع الأوّلی لیحمل الکلام علی الإطلاق ؟

الثانی : أصالة التطابق بین مقام الثبوت و مقام الإثبات . فالإطلاق فی مقام الثبوت أن یکون فرد المتکلّم هو الطبیعة . و لمّا لم یأتِ فی مقام الإثبات بقیدٍ و کان الکلام ظاهراً فی الإطلاق حصل التطابق ، و لو کان مهملاً فی مقام الثبوت لما حصل .

و فیه : إنه مع احتمال کون المتکلّم مهملاً فی مقام الإثبات ، لا یحصل الکشف عن مقام الثبوت و التطابق بین المقامین ، و المفروض هو الشک فی مقام الإثبات .

الثالث : السیرة العقلائیة . فقد جرت سیرة أهل المحاورات علی التمسّک بالإطلاقات فیما إذا لم یکن هناک ما یوجب صرف الکلام إلی جهةٍ خاصّة .

هکذا استدلّ فی ( الکفایة ) (1) ، بل فی ( المحاضرات ) (2) نسبته إلی

ص:400


1- 1) کفایة الاصول : 248 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 535 .

المشهور المعروف بین الأصحاب .

و قد أشکل علیه فی ( المحاضرات ) بما حاصله : بأنّه ینفع فی ما لو شک فی أصل کون المتکلّم فی مقام البیان أو الإهمال . أمّا لو شک فی حدّ المراد کما هو الحال فی مثل قوله تعالی «فَکُلُوا مِمّٰا أَمْسَکْنَ عَلَیْکُمْ » (1)فی أنّه یرید الحلیّة أو هی و الطّهارة معاً ، فلا سیرة من العقلاء علی جعل الکلام فی مقام البیان من جهة الطّهارة أیضاً .

و أشکل الأُستاذ من ناحیةٍ اخری ، فاعترف بتمامیة السّیرة إلّا أنها إنما تجری فی کلام من دأبه بیان الخصوصیات فی مجلسٍ واحدٍ ، و لیس دأب الشارع هکذا ، فإنّ الخصوصیّات الدخیلة فی الأحکام الشرعیة قد ذکرت علی لسان أحد الأئمة بعد أن جاءت المطلقات فی القرآن أو فی کلام النبی ... و الحاصل : إنّ العقلاء إذا عملوا بأن دأب المتکلّم هکذا ، لا یتمسّکون بإطلاق کلامه ، بل سیرتهم فی کلامه قائمة علی علی التوقف .

فالتحقیق هو التفصیل بین کلام غیر الشارع ممن دأبه إعطاء الخصوصیّات فی المجلس الواحد ، فالسیرة العقلائیة جاریة علی الأخذ بإطلاق کلامه ، و بین کلام الشارع ، ففی کلامه یکون المستند للإطلاق هو سیرة المتشرعة ، فإنّ أصحاب الأئمّة علیهم السلام و غیرهم لمّا کانوا یرجعون إلیهم و یأخذون الحکم الشرعی منهم ، ما کانوا ینتظرون شیئاً ، بل کانوا یذهبون و یعملون بما أخذوه ، بل کان بعضهم ربما لا یری الإمام بعد تلک الجلسة ... فهذه السیرة غیر المردوعة من الأئمة هی المستند لأصالة البیان و الأخذ بإطلاق الکلام بلا توقف .

و هذا تمام الکلام فی المقدمة الاولی .

ص:401


1- 1) سورة المائدة: الآیة 4.
المقدمة الثانیة

کون المتکلّم متمکّناً من البیان ، فإنْ لم یکن أو شک فی تمکّنه ، لم یمکن القول بإطلاق کلامه .

و قد جعل المیرزا - و تبعه فی ( المحاضرات ) - هذه المقدمة هی الاولی ، و أفاد أنّ بین الإطلاق و التقیید تقابل العدم و الملکة ، فإنما یمکن التمسّک بالإطلاق حیث یمکن فیه التقیید ، و استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق .

و لا یخفی ما لهذا المبنی من الأثر ، و ذلک ، لأنّ لموضوع الحکم و کذا للمتعلَّق انقسامات هی متأخرة عن الحکم ، و لا یمکن تقیید الموضوع أو المتعلَّق بشیء منها ، إذنْ ، لا یمکن حمل الکلام علی الإطلاق بالنسبة إلیها .

مثلاً : وجوب قصد القربة فی الصّلاة مثلاً متأخر عن الحکم بوجوبها ، و هو متأخر عنها . فکان قصد القربة فی الصّلاة متأخراً عنها بمرتبتین ، و حینئذٍ ، یستحیل تقییدها بقصد القربة ، فیستحیل الإطلاق فی الصّلاة من جهة اعتبار قصد القربة . هذا فی المتعلَّق .

و کذلک فی الموضوع ، لأنّه متقدّم رتبةً علی الحکم ، و المکلَّف ینقسم إلی العالم بالحکم و الجاهل به ، لکنّ هذا الانقسام متأخّر عن الحکم المتأخّر عن الموضوع ، فیستحیل تقیید الموضوع بالعالِم بالحکم ، و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق ، و حینئذٍ ، لا یمکن التمسّک بإطلاق أدلّة التکالیف لإثبات الاشتراک فی التکلیف بین العالمین و الجاهلین به .

و قد خالف المیرزا مسلک الشیخ ، لأنّ الشیخ یذهب إلی أنه إذا استحال التقیید وجب الإطلاق ، و من هنا یتمسّک بإطلاقات أدلّة التکالیف لإثبات الاشتراک ، و بإطلاق دلیل وجوب المتعلّق علی عدم وجوب قصد القربة ... فالشیخ

ص:402

قائل بأن التقابل من قبیل التضاد .

و توضیح المطلب هو : إنّ التقابل بین الإطلاق و التقیید فی مقام الإثبات یختلف عنه فی مقام الثبوت . أمّا فی مقام الإثبات ، فإنه تارةً یقول : أعتق رقبةً ، و اخری یقول : أعتق رقبةً مؤمنة ، فهنا یکون التقابل من قبیل العدم و الملکة ، لأن التقیید أمر وجودی و الإطلاق عدم هذا التقیید ، و حیث أنّ موضوع الإطلاق و التقیید فی هذا المقام هو ما یکون المتکلّم فیه متمکّناً من التقیید ، فتارةً یأخذ القید فیه و اخری لا یأخذه ، فهو وجود و عدم فی موضوع خاص ، فیکون من قبیل العدم و الملکة ، و له شق ثالث و هو حیث لا یکون المتکلّم متمکّناً من التقیید ، فلیس هناک إطلاق و لا تقیید .

و أمّا فی مقام الثبوت فهناک مراحل ، تبدأ من الغرض ثم الإرادة ثم الحکم ...

و هو فعل اختیاری ناشئ من تصوّر الموضوع و لحاظه ، فتارةً یلحظه مع الخصوصیّة الدخیلة فی الغرض فیکون مقیداً ، و اخری یری أن لا دخل لوجود الخصوصیّة و عدمها فی الغرض ، فلا یأخذها فی الموضوع ، فیکون بشرط تارةً و اخری لا بشرط ، و کلاهما أمر وجودی ، فالحق مع الشیخ .

فالنسبة بین الإطلاق و التقیید فی مقام الثبوت نسبة التضاد ، و فی مقام الإثبات نسبة العدم و الملکة .

المقدّمة الثالثة

و قد اتّضح مما تقدَّم : أنّ المقدّمة الثالثة هی أنْ لا یأتی المتکلّم فی مقام الإثبات و مرحلة إبراز الحکم بقیدٍ ، بل یعتبر فی الإطلاق أن لا یکون الکلام محفوفاً بقرینة حالیّة أو مقامیة ... .

ص:403

الدلیل علی انعقاد الإطلاق مع المقدّمات

و بعد الفراغ من المقدّمات ، فما الدلیل علی انعقاد الإطلاق للکلام مع حصول المقدّمات ؟

هنا وجوه :

الأوّل : إنّ المفروض کون المتکلّم عاقلاً حکیماً ذا إرادة جدیّة بالنسبة إلی متعلَّق حکمه الذی أصدره ، و فی هذه الحالة ، لو کان غرضه متعلّقاً بالموضوع المقیَّد بالقید لقیّده به ، و إلّا لزم الإغراء بالجهل ، و هو مناف للحکمة .

الثانی : إنّه مع فرض ما تقدَّم ، و أنّ غرضه متقوّم بالرقبة المؤمنة مثلاً ، فإنّه لو أطلق الکلام عن هذا القید ، لزم نقض الغرض و هو إمّا محال أو قبیح من الحکیم .

الثالث : إن الأصل هو التطابق بین مقامی الثبوت و الإثبات ، و مقتضی المقدّمات المذکورة هو التطابق و إلّا لانهدم هذا الأصل و بقی بلا موضوع .

و تلخّص : أنه مع المقدّمات المذکورة یتمُّ ظهور الکلام فی الإطلاق ، و تتمُّ الحجیّة العقلائیة له لما تقدّم من الوجوه .

تنبیهات

الأوّل: هل یعتبر عدم وجود القدر المتیقَّن ؟
قال فی الکفایة فی مقدمات الإطلاق :

ثالثتها : انتفاء القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب ، و لو کان المتیقَّن بملاحظة

ص:404

الخارج عن ذاک المقام فی البین ، فإنه غیر مؤثر فی رفع الإخلال بالغرض لو کان بصدد البیان کما هو الفرض ... (1) .

و توضیحه : إن القدر المتیقَّن من الطبیعی الذی یرد علیه الحکم ، تارةً خارجی ، کالفقیه الذی یفرض کونه القدر المتیقن خارجاً من قوله : « أکرم العالم » کما أنّ القدر المتیقن من الفقیه هو الجامع للشرائط ... و هذا القسم من القدر المتیقن موجود سواء کان هناک أمرٌ أو تخاطب أو لم یکن ... و وجوده غیر مانع من انعقاد الإطلاق للکلام ، و إلّا لما تحقّق إطلاقٌ لکلامٍ .

و اخری : یکون القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب ، بأنْ یکون هناک مکالمة و محاورة فیسأل عن شیء و یعطی الجواب عنه ، فیکون مورد السؤال و الجواب هو القدر المتیقن من الکلام المطلق . و قد مثَّل له فی ( المحاضرات ) (2) بموثقة ابن بکیر : سأل زرارة أبا عبد الله علیه السلام عن الصّلاة فی الثعالب و الفنک و السنجاب و غیره من الوبر ، فأخرج کتاباً زعم أنه إملاء رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله : إن الصّلاة فی وبر کلّ شیء حرام أکله فالصّلاة فی وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و کلّ شیء منه فاسدة ، لا تقبل تلک الصّلاة حتی یصلّی فی غیره ممّا أحل اللّٰه أکله » (3) فالقدر المتیقن بحسب التخاطب هو مورد السؤال ، ضرورة أن إرادة الإمام علیه السلام غیره غیر محتمل جزماً ، و أما العکس بأنْ لا یرید غیره ، فهو محتمل ... فوجود هذا المتیقَّن یمنع من انعقاد الإطلاق للکلام .

و قد أورد الأُستاذ علی هذا المثال : بأنّه لیس من صغریات القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب علی مبنی السید الخوئی ، لأنه یذهب إلی أنه لا حاجة إلی مقدّمات

ص:405


1- 1) کفایة الاصول : 247 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 538 .
3- 3) وسائل الشیعة 4 / 345 ، الباب 2 من أبواب لباس المصلّی ، رقم 1 .

الحکمة فی موارد العموم الوضعی ، بل اللّفظ بنفسه دالّ علی العموم وضعاً ، و جواب الإمام فی الموثقة عام و لیس بمطلق ، و المحقق الخراسانی لا یری مانعیّة القدر المتیقن فی مقام التخاطب عن انعقاد العموم .

لکن الصحیح هو التمثیل بصحیحة زرارة الواردة فی قاعدة التجاوز ، إذ سأل الإمام عن الشک فی الأذان و قد دخل فی الإقامة ، فأجاب بعدم الاعتناء بالشک . ثم سأل عن الشک فیهما و قد کبّر ، فأجاب بعدم الاعتناء به ، و هکذا جعل یسأل عن الشک فی أجزاء الصّلاة بعد تجاوزها ، فقال الإمام علیه السلام : « یا زرارة ، إذا خرجت من شیء و دخلت فی غیره فشکّک لیس بشیء » (1) . فالموارد التی سأل عنها زرارة هی القدر المتیقَّن من هذا المطلب الکلّی الذی ذکره الإمام علیه السلام ، و بناءً علی مسلک ( الکفایة ) لا یمکن التمسک بإطلاق الکلام المذکور مع وجود القدر المتیقن ، بل یجب الاعتناء بالشک فیما عداه ، أمّا إذا لم یتم مسلکه ، فإنْ إطلاق الکلام یشمل الحج و غیره من الواجبات ذوات الأجزاء أیضاً ، و لا یعتنی بالشک فی الجزء السابق بعد الدخول فی اللّاحق .

الإشکال علی الکفایة

و قد أشکل علی ( الکفایة ) نقضاً و حلّاً .

أمّا نقضاً ، فقد تمسّک المحقق الخراسانی - خلافاً للشیخ - بإطلاق نصوص الاستصحاب ، کقوله علیه السلام « إنّ الشکَّ لا ینقضُ الیقین » (2) لحجیة الاستصحاب فی موارد الشک فی المقتضی ، مع وجود القدر المتیقَّن لهذا الکلام ، و هو مسألة الوضوء و بقاء الطهارة مع الخفقة و الخفقتین فی السؤال و الجواب بین الإمام و زرارة .

ص:406


1- 1) وسائل الشیعة 8 / 237 ، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة ، رقم 1 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 247 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، رقم 6 .

و لا یخفی الأثر الفقهی الکبیر المترتّب علی هذه المسألة . فلو وقع عقد و تردّد بین کونه منقطعاً و مدّته سنة أو دائمیاً لا یرتفع إلّا بالطلاق ، فإنّ الشیخ لا یری جریان استصحاب بقاء الزوجیّة بعد السنة - لأن الشک حینئذٍ فی اقتضاء الزوجیّة للبقاء - أمّا صاحب ( الکفایة ) فیری جریانه ، أخذاً بإطلاق أدلة الاستصحاب ، مع وجود القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب .

علی أنّه لا یشترط فی القدر المتیقّن فی مقام التخاطب أنْ یکون هناک سؤال و جواب ، بل مجرّد ورود الدلیل فی موردٍ خاص یکفی لأنْ یکون ذاک المورد هو القدر المتیقن من المراد ، فلا یجوز التعدّی عنه إلی غیره أخذاً بإطلاق الکلام علی مبنی ( الکفایة ) ، و الحال أنّه یأخذ بذلک کما هو واضح . و هذا نقض آخر .

هذا ، و أمّا نقض المیرزا : بأنه لو کان القدر المتیقن فی مقام التخاطب مانعاً عن انعقاد الإطلاق ، فالقدر المتیقن الخارجی کذلک . فواضح الاندفاع .

و أمّا حلّاً :

فإنّ المفروض کون المتکلّم فی مقام بیان تمام مراده ، و مقتضی ذلک أن یکون الإثبات موافقاً للثبوت ، فلو کان المراد الواقعی علی حدّ القدر المتیقن لَما کان الذی قاله مطابقاً لمراده الذی کان بصدد بیانه ، فلو سئل : هل یجب إکرام زید العالم ، فأجاب بوجوب إکرام العالم ، و کان مراده وجوب إکرام زید ، لزم أن لا یکون کلامه موافقاً لِما هو فی مقام بیانه ، لأنه قد جاء بالحکم علی طبیعی العالم ، الشامل لزید العالم و غیره من العلماء ، و لکنّ الأصل العقلائی - و هو التطابق بین الثبوت و الإثبات - یقتضی عدم انحصار الإکرام بزید .

و الحاصل : إن ما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) ینافی أصالة التطابق .

ص:407

الثانی: توقّف الإطلاق علی عدم الانصراف

قال فی الکفایة :

ثم إنه قد انقدح بما عرفت ... أنه لا إطلاق له فیما کان له الانصراف إلی خصوص بعض الأفراد أو الأصناف ، لظهوره فیه أو کونه متیقّناً منه ... (1) .

و لا یخفی أن مرادهم عدم انعقاد الإطلاق ، لا أنّ الانصراف أو وجود القدر المتیقن - علی القول به - مانعٌ عنه ، لوضوح أن مرتبة المانع متأخرة عن المقتضی ... بل مرادهم عدم تحقق الإطلاق ، فلا یشکل علیهم من هذه الجهة ، لمعلومیّة مرادهم من عباراتهم ، و إنْ کان ظاهر کلام الأُستاذ الإیراد علیهم بذلک .

و أمّا الانصراف - و هو عبارة عن رجوع اللّفظ من الدلالة علی معنیً إلی الدلالة علی معنی آخر - فلا یکون بلا منشأ ، و قد وقع الکلام بینهم فیه .

لقد قال المتقدّمون بالانصراف علی أثر ندرة الوجود لحصّةٍ من حصص الطبیعة ، و أنّ الظهور ینعقد فی الحصّة الغالبة ... إلّا أن المتأخرین یقولون بأنّ ندرة الوجود لا تکون منشأً لانصراف اللّفظ عن النادر ، و لا غلبة الوجود تکون منشأً لانصرافه نحو الغالب ... لأنّ اللفظ صادق علی النادر حقیقةً کصدقه علی الغالب فی الوجود ، و یحصرون الانصراف بصورة التشکیک فی الصدق ، بأنْ یکون صدق اللفظ علی حصّةٍ جلیّاً و علی الاخری خفیّاً ، فیقولون بانصرافه إلی ما هو فیه جلیٌّ ، و یمثّلون لذلک بعنوان « ما لا یؤکل لحمه » حیث أنّ الإنسان من مصادیقه حقیقةً ، لکنّ صدقه علیه خفی و علی غیره مما لا یؤکل لحمه من الحیوانات جلیّ ،

ص:408


1- 1) کفایة الاصول : 249 .

و لذا ، فإنّ الدلیل الدالّ علی عدم جواز الصّلاة فیما لا یؤکل لحمه منصرف عن الإنسان إلی غیره ، فتجوز الصّلاة فی شعر الإنسان و لا تجوز فی شعر الهرّة مثلاً .

و الحاصل : إنهم یقولون بأنّ التشکیک فی الصّدق هو المنشأ الوحید المقبول لقالبیّة اللّفظ فی المنصرف إلیه من المصادیق ، و أمّا مع التواطؤ فی الصدق ، کلفظ الرقبة الصادق علی المؤمنة و الکافرة علی حدٍّ سواء ، فلا ینافی الإطلاق ، بل حتی لو کان الصّدق فی حصّةٍ أظهر منه فی حصّةٍ اخری لم یناف الإطلاق ... فالملاک هو التشکیک إلی حدّ الجلاء و الخفاء .

ثم إنّ الانصراف تارةً یکون مطلقاً و اخری یکون فی حالٍ دون حالٍ ، فمثلاً لفظ « الکف » فی : « امسح بکفّک قدمیک » له ظاهر و باطنٌ ، و اللّفظ و إنْ کان ظاهراً فی الإطلاق ، بأنْ یمسح بالظاهر أو بالباطن ، لکن بعض الفقهاء کالهمدانی (1)رحمه اللّٰه یری بأن مثل هذا الدلیل ناظر إلی أحوال المکلَّفین ، أی إنه ینصرف إلی المسح بباطن الکف للمکلَّف المختار ، و إلی المسح بظاهره للمکلّف المضطر .

هذا ، و اللّفظ تارةً منصرفٌ کما فی انصراف « ما لا یؤکل لحمه » عن الإنسان . و اخری له صارفٌ ، کما لو کان محفوفاً بقرینة حالیة أو مقالیة ، و قد یقع الشک فی وجود الصارف و عدم وجوده . مثلاً یقول الإمام علیه السلام « کلّ ما مضی من صلاتک و طهورک فامضه کما هو » (2) و هذه قاعدة الفراغ ... فظاهر الروایة هو عدم الاعتناء بالشکّ بعد الفراغ من العمل ، سواء کان حین العمل ملتفتاً أو غافلاً ، فهذا هو الظاهر و لا قید فی الروایة ، و قد أخذ بعض الفقهاء بهذا الإطلاق ، لکنّ هنا قرینةً خارجیّة لها دخلٌ فی المطلب ، و هی السیرة العقلائیة

ص:409


1- 1) مصباح الفقیه 1 / 150 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 471 ، الباب 42 من أبواب الوضوء ، رقم 6 .

القائمة علی إناطة عدم الاعتناء بالشکّ بأصلین هما : أصالة عدم تعمّد المکلّف للإخلال بالعمل ، و أصالة عدم غفلة المکلَّف عن العمل حین الإتیان به ... فیکون عدم الاعتناء بالشک بعد الفراغ منوطاً بالأصلین ، و الروایة ملقاة إلی العرف و منزَّلة علی ما فی السیرة العقلائیة ، وعلیه ، یثبت احتفاف الروایة بهذه السّیرة الصالحة لأنْ تکون قرینة صارفةً لإطلاقها ، و نتیجة ذلک : أنه لو شکّ فی جریان أحد الأصلین فی موردٍ انتفت السّیرة ، فلا یؤخذ بإطلاق الروایة ... و هذا معنی قولهم :

إنه یعتبر فی الإطلاق عدم وجود ما یحتمل الصارفیّة .

الثالث: لو کان بین الجهة المراد بیانها وجهة اخری ملازمة

قد تقدَّم أنّه یعتبر فی انعقاد الإطلاق کون المتکلّم فی مقام بیان المراد ، و أنّه إذا کان للموضوع أو المتعلَّق جهات ، فإن الإطلاق لا ینعقد إلّا فی الجهة التی سبق الکلام لبیانها ... و مثّلنا لذلک بقوله تعالی «فَکُلُوا مِمّٰا أَمْسَکْنَ » (1).

لکنْ عن الشیخ قدس سرّه و تبعه فی ( الکفایة ) (2) أنه یستثنیٰ من ذلک ما لو کان بین الجهة التی یراد بیانها و غیرها ملازمة شرعیة أو عقلیّة أو عادیة ، فالإطلاق یعمُّ تلک الجهة أیضاً ، ففی الآیة مثلاً لو کان بین حلیّة الأکل و الطّهارة ملازمةٌ ، فإنّ الإطلاق ینعقد فی طرف الطهارة أیضاً و إنْ لم تکن الآیة فی مقام بیان الحکم إلّا من جهة حلیّة الأکل ... و قد مُثّل للمطلب بالملازمة العقلیّة بین صحّة الصّلاة نسیاناً فی مطلق أجزاء ما لا یؤکل لحمه . و ما دلَّ علی صحّتها کذلک فی عذرة ما لا یؤکل لحمه مع کون العذرة جزءاً له .

ص:410


1- 1) سورة المائدة: الآیة 4.
2- 2) کفایة الاصول : 249 تنبیه .
الرابع: لو ظفر بمقیّد الکلام فیما بعد

قد عرفت أنه لا بدّ من إحراز کون المتکلّم فی مقام البیان .

فوقع الکلام فیما لو ظفر بالقید فیما بعد ، فهل یکشف ذلک عن عدم کونه فی مقام بیان تمام المراد و یسقط الإطلاق فلو عثرنا علی المقیِّد للرقبة بالإیمان ، فهل یبقی لقوله : أعتق رقبةً إطلاق بالنسبة إلی العلم و الجهل مثلاً ؟

قال فی الکفایة :

ثم لا یخفی علیک أن المراد بکونه فی مقام بیان تمام مراده : مجرّد بیان ذلک و إظهاره و إفهامه ، و لو لم یکن عن جد بل قاعدةً و قانوناً ، لتکون حجةً فیما لم تکن حجة أقوی علی خلافه ، لا البیان فی قاعدة قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، فلا یکون الظفر بالمقیَّد - و لو کان مخالفاً - کاشفاً عن عدم کون المتکلّم فی مقام البیان ، و لذا لا ینثلم به إطلاقه و صحّة التمسّک به أصلاً . فتأمّل جیداً (1) .

و حاصل کلامه : أن « البیان » الذی یعتبر فی مقدّمات الإطلاق یختلف عن « البیان » الذی فی قاعدة « تأخیر البیان عن وقت الحاجة قبیح » أی عن وقت حاجة المخاطب ، لأنه مناف للحکمة ، و إلّا فإنه عن وقت حاجة المتکلّم محالٌ ، لأنه نقض للغرض - و ذلک ، لأنّ المفروض کون التکلّم فی مقام بیان و إظهار مراده للمخاطب و إفهامه إیّاه ، و إنْ لم یکن ذلک مراده الجدّی الواقعی ، فلو ظفر فیما بعدُ علی مقیَّد لم یضر بإطلاق کلامه ، نعم ، لو کان فی مقام بیان الحکم الواقعی ، ثم ظهر المقیِّد لکلامه ، لوقع التنافی ، لأنّه لم یبیّن المراد الواقعی مع کونه فی مقام

ص:411


1- 1) کفایة الاصول : 248 .

بیانه کما هو الفرض .

و علی الجملة ، فإنه إن کان فی مقام بیان الوظیفة العملیة فی ظرف الشک حتی لا یبقی متحیّراً ، ففی هذه الحالة ینعقد الإطلاق و لا یضرّ مجیء المقیّد لاحقاً إذا احرز کونه فی هذا المقام ، و أمّا إن کان فی مقام بیان المراد الجدّی و الحکم الواقعی ، فالمقیّد اللّاحق یضرّ ... و المقصود فی مقدّمات الإطلاق هو الأول ، لأنّ الغرض تأسیس أصالة الإطلاق لیکون مرجعاً لدی الشک فی مراد التکلّم من کلامه .

و تلخّص عدم إضرار المقیّد الذی ظفر به فیما بعد .

و للشّیخ قدس سرّه هنا بیانٌ آخر و هو : إنّه لما کان المتکلّم فی مقام بیان مراده الجدّی الواقعی ، و کان لموضوع الحکم أو متعلّقه جهاتٌ عدیدة کما فی الرقبة مثلاً ، و المفروض إحراز تلک الجهات بالوجدان أو بأصالة البیان ، فلو وصل فیما بعد قیدٌ یضرّ بجهةٍ منها ، فإنّ الإطلاق من تلک الجهة یزول ، و لا یضرُّ زواله به من الجهات الاخری ، فلو عثر علی دلیلٍ یعتبر الإیمان ، فإنه تخرج الرقبة عن الإطلاق من تلک الجهة لحصول المزاحم لانعقاده ، و تبقی علیه من جهة العلم و الجهل و الذکورة و الانوثة إلی غیر ذلک ، لعدم تحقق المزاحم له من جهتها .

الخامس: هل تقیید الإطلاق یستلزم المجازیّة ؟

قد تقدَّم الخلاف بین المشهور و السلطان و المتأخرین . فعلی هذا المبنی حیث أنّ الإطلاق و التقیید خارجان عن المعنی الموضوع له اللّفظ ، فإنّ کلّاً منهما مستفادٌ من القرینة ، أمّا الإطلاق فقرینته مقدمات الحکمة ، و أمّا التقیید فالقرینة

ص:412

الخاصة القائمة علیه من قولٍ أو حال ... لوضوح أن اللّفظ - علی هذا المسلک - موضوعٌ للماهیّة من حیث هی أو للطبیعة المهملة ... و المجاز استعمال اللّفظ فی غیر ما وضع له .

فلا مجازیة علی مسلک المتأخرین .

أمّا علی مسلک الجمهور من دخول الإطلاق فی المعنی ، أمّا فی المقیّد المتّصل فالمجازیّة حاصلة ، لأن اللّفظ قد استعمل فی غیر الموضوع له و هو المطلق . و أمّا فی المنفصل : فالمیرزا علی المجازیة کذلک ، و خالفه تلمیذه فی ( المحاضرات ) ، و تبعه الأُستاذ : بأنّ المنفصل إنما یصادم الحجّیة دون الظهور ، لوجود المقتضی له و عدم المانع ، فلا بدّ - علی مسلکهم - من التفصیل بین المتصل و المنفصل .

و هذا تمام الکلام فی التنبیهات .

ص:413

الکلام فی حمل المطلق علی المقیّد

اشارة

إذا ورد مطلق و مقیّد ، فهل یحمل المطلق علی المقیَّد ؟

إن الإطلاق تارةً بدلی و اخریٰ شمولی ، فالکلام فی مقامین .

المقام الأول ( فی الإطلاق البدلی )
اشارة

و هو ما یتحقّق فیه الامتثال بالإتیان بصرف الوجود من المأمور به ، کما لو قال : أعتق رقبةً . فتارةً یکون المطلق و المقیَّد متوافقین فی الحکم ، بأنْ یکون کلاهما إیجابیّین أو یکونا سلبیین ، و اخری : یکونان متخالفین ، کأنْ یقول : أعتق رقبة و لا تعتق رقبةً کافرة .

أمّا إذا کانا متخالفین ، فلا خلاف فی حمل المطلق علی المقیّد ، کما فی المثال .

و أمّا إذا کانا متوافقین - مع العلم بوحدة الحکم - کما لو قال : أعتق رقبةً ، و أعتق رقبةً مؤمنة ، ففی حمل المطلق علی المقیَّد قولان ، فالمشهور علی الأول .

و قیل لا ، بل یحمل القید علی أفضل الأفراد . و تفصیل الکلام هو :

إنّ الحمل فرعٌ لوجود التنافی فی المدلول بین الکلامین ، و لمّا کان المفروض وحدة الحکم ، أی لا یجب إلّا عتقٌ واحدٌ ، فهل المعتق مشروطٌ بالإیمان أو أنه غیر مشروط ، و لا یخفی التنافی بین الاشتراط و عدم الاشتراط ؟ فقال المشهور برفع التنافی بحمل المطلق علی المقید ، فیکون الإیمان شرطاً و قیداً فی العتق ، و قال الآخرون بالحمل علی أفضل الأفراد و به یرتفع التنافی .

ص:414

دلیل القول بالحمل فی المقیّد المتّصل
اشارة

و قد استدلّ للمشهور بوجوه :

الأوّل : أنا إذا حملنا المطلق علی المقیَّد فقد عملنا بکلا الدلیلین ، و هو واجب کما لا یخفی لأن کلّاً منهما دلیل .

و فیه : إنْ کان المراد من العمل بالدلیلین هو الامتثال لهما ، بمعنی أنّ بالإتیان بالرقبة المؤمنة جمعٌ فی الامتثال ، فهذا غیر الجمع بین الدلیلین الرافع للتعارض بینهما لا بالتبرّع بل بشاهدٍ . و إنْ کان المراد أنّ الإتیان بالرقبة المؤمنة هو مقتضی الجمع الدلالی بین الدلیلین ، فهو أوّل الکلام ، لأن القائلین بالقول الثانی یقولون بالجمع الدلالی بینهما بالحمل علی أفضلیة عتق المؤمنة من غیر المؤمنة مع سقوط التکلیف بکلٍّ منهما .

و الثانی : ما ذکره صاحب ( الکفایة ) (1) ، من أنّ المفروض کون الإطلاق بدلیاً ، و معنی ذلک لا بشرطیّة الرقبة بالنسبة إلی الإیمان و الکفر ، فیکون المکلّف فی مقام الامتثال مخیَّراً عقلاً بین أن یأتی بالمؤمنة أو الکافرة ، و لکنّه قال بعد ذلک :

أعتق رقبةً مؤمنةً ، و هذا أمر ظاهر فی الوجوب التعیینی ، و بما أنه أقوی من ظهور المطلق فی الإطلاق ، فإنّه یتقدّم و یحمل علیه المطلق لا محالة .

الإشکال علی الکفایة

و قد أشکل علیه الإیروانی (2) :

بأنّ من مقدّمات الإطلاق إحراز کون المتکلّم فی مقام البیان ، فإنْ احرز ذلک فی أحدهما بالوجدان و فی الآخر بالأصل ، فلا ریب فی عدم التعارض بل

ص:415


1- 1) کفایة الاصول : 250 .
2- 2) نهایة النهایة : 316 .

یتقدّم ما کان بالوجدان علی ما کان بالأصل ، لأنّه مع الوجدان لا مجال للأصل . و إنْ کان المستند فی کلا الکلامین هو الأصل ، فلا تقدّم لأحدهما علی الآخر . و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأن الظهور فی الدلیلین علی حدٍّ سواء ، لأن دلالة الدلیل المقیَّد علی وجوب عتق المؤمنة بالخصوص هی من جهة الظهور الإطلاقی فی الوجوب التعیینی ، و دلالة المطلق علی کفایة صرف وجود عتق الرقبة هی من جهة الظهور الإطلاقی کذلک ، فکلاهما ظهور إطلاقی ، و لا وجه لتقدّم أحدهما علی الآخر .

و فی ( المحاضرات ) (1) الإشکال علی ( الکفایة ) : بأنه لا یتم علی مسلک صاحب ( الکفایة ) ، حیث أنه قد صرَّح فی بحث الأوامر بأنْ صیغة الأمر لم توضع للدلالة علی الوجوب التعیینی ، بل هو مستفاد من الإطلاق و مقدّمات الحکمة .

وعلیه ، فلا فرق بین الظهورین ، و لیس ظهور الأمر فی الوجوب التعیینی بأقویٰ من ظهور المطلق فی الإطلاق .

دفاع الأُستاذ

و قد ذکر الأُستاذ : أن وجه الأظهریة قد خفی علی هذین المحققین فأشکلا بما ذکر ، و ذلک أن صاحب ( الکفایة ) قد صرّح فی المبحث الثانی (2) من مباحث صیغة الأمر بأنّها تدلُّ علی الوجوب ، و الدلیل هو التبادر عند استعمالها بلا قرینةٍ ( قال ) : و یؤیّده عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب .

ثم ذکر فی المبحث السادس (3) : « قضیة إطلاق الصیغة کون الوجوب نفسیّاً تعیینیّاً عینیّاً ، لکون کلّ واحدٍ مما یقابلها یکون فیه تقیید الوجوب و تضیق دائرته ، فإذا کان فی مقام البیان و لم ینصب قرینةً علیه ، فالحکمة تقتضی کونه مطلقاً ،

ص:416


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 544 .
2- 2) کفایة الاصول : 70 .
3- 3) کفایة الاصول : 76 .

وجب هناک شیء آخر أوْ لا ، أتی بشیء آخر أوْ لا ، أتی به آخر أوْ لا » .

و بالدقة فی کلامه فی المبحثین یظهر وجه الأظهریّة ، لأنْ « أعتق رقبةً » مطلقٌ و لیس معه شیء آخر ، و إطلاقه بدلی ، لکنّ « أعتق رقبةً مؤمنةً » مشتمل - بالاضافة إلی الدلالة الإطلاقیّة من جهة الوجوب التعیینی - علی دلالةٍ وضعیّةٍ من جهة الدلالة علی وجوب خصوص المؤمنة ، فکان المقیَّد أظهر دلالةً ، و تقدیم المطلق علیه یستلزم سقوط الإطلاق و الوضع معاً .

فظهر اندفاع الإشکال عن کلامه فی المقام ، و إنْ کان لنا فیه نظر من ناحیةٍ اخری ، کما سیأتی .

و یمکن دفع الإشکال بعبارة اخری ، بأن یقال : إنّ ظاهر « أعتق رقبةً » ینفی دخل الإیمان عن طریق عدم التقیید و اللّابشرطیّة ، أمّا فی « أعتق رقبةً مؤمنةً » فإنه و إنْ کان الإطلاق یقتضی الوجوب التعیینی ، لکن اعتبار خصوصیّة « الإیمان » قد أوجد التضییق فی دائرة الموضوع ، و هذه الدلالة علی التضییق وضعیّة لا إطلاقیّة .

و الحاصل : إنه فی « أعتق رقبةً » توجد التوسعة بالنسبة إلی الإیمان عن طریق الإطلاق - أی بمقدّمات الحکمة - لا بالدلالة اللّفظیة ، أمّا فی « أعتق رقبةً مؤمنةً » تضییق بالنسبة إلی الإیمان بالدلالة اللّفظیة الوضعیّة ، فکان الإطلاق فیه مقترناً بدلالةٍ وضعیّة ، فیکون ظهوره أقوی من ظهور « أعتق رقبةً » و یتقدّم علیه بملاک الأظهریّة .

و الثالث : ما ذکره الشیخ و حاصله : أنّ الأمر یدور بین الجمع بین المطلق و المقیَّد بالتخییر ، أو حمل المقیَّد علی الأفضلیة و الاستحباب ، أو حمل المطلق علی المقیَّد .

أمّا الجمع بالتخییر ، فغیر معقول ، لأن النسبة بین « الرقبة » و« الرقبة المؤمنة »

ص:417

نسبة الکلّی إلی الفرد ، و التخییر بین الکلّی و الفرد محال ، لوضوح أنّه یکون ب« أو » و هی تقتضی المباینة بین الفردین ، و لا مباینة بین الکلّی و الفرد .

و أمّا حمل المقیّد علی الأفضلیّة ، فمردود بأنّه خلاف الظاهر ، لأن صیغة الأمر ظاهرة فی الوجوب ، و حملها علی الاستحباب رفع للید عن مقتضی الظاهر بلا موجب .

و أمّا حمل المطلق علی المقیّد ، فلا یستلزم تصرّفاً فی المعنی و لا تجوّزاً فی اللّفظ ، لأنّه قد استعمل فی الماهیّة ، ثم لمّا جاء المقیَّد علمنا أنّه لم یکن فی مقام بیان مراده الجدّی ، فنحمل کلامه المطلق علی هذا المقیَّد ، و لا یستلزم أیّ محذور فیتعیّن هذا الاحتمال .

إشکال الکفایة

و قد أشکل علیه المحقق الخراسانی (1) أوّلاً : بأنّ مقتضی استعمال اللّفظ فی الطبیعة ، مع کون المتکلّم فی مقام البیان و عدم التقیید ، هو ظهور الکلام فی الإطلاق ، فإذا جاء المقیّد له سقط الظهور ، و هذا تصرّف فی اللّفظ ، فقول الشیخ أنّه لا یستلزم تصرّفاً غیر تام .

و ثانیاً : إن استلزام حمل المقیَّد علی الأفضلیّة للمجاز أوّل الکلام ، بل إنّه مع الحمل علیها واجدٌ لملاک الوجوب و الأمر مستعملٌ فیه .

کلام الأُستاذ

فأورد الأُستاذ علی الإشکال الثانی : بأنّ ملاک الوجوب یکون دائماً فی الطبیعة و تحقّقه فی الفرد محال ، فإذا کان عتق الرقبة المؤمنة مستحبّاً کان ملاک الوجوب قائماً بالرقبة ، و لیس فی المؤمنة إلّا ملاک الاستحباب ، و من هذا الباب

ص:418


1- 1) کفایة الاصول : 250 .

نقول باستحالة الإتیان بفردٍ من الصلاة بقصد الوجوب ، لأن الأمر بها متعلّق بالطبیعة ، و الفرد المأتی به محقق للامتثال و مسقط للأمر .

و أمّا الإشکال الأول فمبنائی ، إذ الشیخ لا یری أن التقیید تصرّفٌ فی المعنی و صاحب ( الکفایة ) یراه تصرّفاً ، و التحقیق أنْ یقال :

إنه یدور الأمر بین رفع الید عن ظهور الأمر بالمقیَّد فی الوجوب و حمله علی الأفضلیة أو رفع الید عن الإطلاق ، لأنّه لا یمکن الجمع بینهما مع وحدة التکلیف ، و فی هذه الحالة ما المانع من رفع الید عن أصالة الحقیقة و ارتکاب المجاز حتّی یتعیَّن التقیید ؟

و بعبارة اخری : ما الدلیل علی ترجیح ما لا یستلزم المجاز علی ما یستلزمه عند دوران الأمر ؟

علی أنَّ استلزام الحمل علی الأفضلیة للمجاز ، یبتنی علی ظهور صیغة الأمر فی الوجوب ظهوراً وضعیّاً ، و لا یتمّ علی مبنی من یقول بأنّ الدلالة علی الوجوب هی مقتضی الإطلاق .

طریق المیرزا

و ذهب المیرزا إلیٰ فإنّ الملاک الصحیح لحمل المطلق علی المقیَّد هو القرینیة ، لأنّ غایة ما ذکر فی الدفاع عن وجه ( الکفایة ) هو وجود الدلالة الوضعیّة - إلی جنب الدلالة الإطلاقیة - فی المقیَّد ، لکنّ هذا القدر لا یکفی لأنْ یتقدّم علی المطلق ، إلّا أن یکون بیاناً له ، و حینئذٍ ینتفی الإطلاق فی طرف أعتق رقبةً ، و هذا خلاف الفرض .

کما أنّ وجه الشیخ یتوقّف علی أنْ یکون المقیَّد بیاناً ، فیقع الإشکال المذکور ، و أمّا لو لم یکن بیاناً لم یکن صالحاً للتقدّم .

ص:419

أمّا مبنی المیرزا فمفاده : أنّ المقیَّد قرینةٌ بالنسبة إلی المطلق ، و معها تسقط أصالة البیان فی ناحیته ، و ملخّص الاستدلال هو :

إنّ مقتضی القاعدة تقدّم الأصل فی السبب علی الأصل فی المسبب ، و هذا التقدّم من باب الحکومة ، و قد قرّرت هذه القاعدة فی تنبیهات الاستصحاب ، و مثالها المعروف هو غسل الثوب النجس بالماء المشکوک الطهارة ... غیر أنّ الأصل فی الماء و الثوب هو الاستصحاب و هو أصل عملی ، و الأصل فیما نحن فیه لفظی ، و لا فرق فی القاعدة من هذه الجهة .

إنَّ کلّ دلیل حاکم نسبته إلی الدلیل المحکوم نسبة السبب إلی المسبّب ، فأصالة الظهور فی طرف المطلق و کذا فی طرف المقیَّد تامّة ، لکنَّ المقیَّد قرینةٌ و المطلق ذو القرینة ، و فی ذات القرینة حیثیّة البیانیة کما أنْ فی ذات ذی القرینة حیثیة المبیَّنة ، فتکون أصالة الظهور فی ذی القرینة مسبَّبةً لأصالة الظّهور فی القرینة . و إنْ شئت فقل : إنّ أصالة الظهور فی طرف ذی القرینة معلَّقة ، لکنها فی طرف القرینة غیر معلَّقة ، فلا محالة یتقدَّم القرینة علی ذیها ، بمقتضی القاعدة المذکورة .

و من هذا الباب تقدُّم ظهور « یرمی » علی ظهور « الأسد » و رفع الید عن مقتضی أصالة الحقیقة فیه ، و حمله علی المعنی المجازی و هو « الرجل الشجاع » ، لأنَّ حمل لفظ الأسد علی معناه الحقیقی « الحیوان المفترس » موقوفٌ علی جریان أصالة الحقیقة فیه ، و جریانها معلَّق علی عدم وجود القرینة المانعة ، إذ الإهمال فی الواقعیات محال ، و جریانها حتی مع وجود القرینة غیر صحیح ، و إلّا یلزم أنْ لا یکون عندنا استعمال مجازی أصلاً ، و المفروض وجود « یرمی » الظاهر فی رمی النبل ، و الذی ظهوره فیه غیر معلَّق علی شیء ، فکانت أصالة الحقیقة فی « الأسد » معلَّقة علی عدم وجود القرینة المانعة ، و« یرمی » تمنع عن انعقادها ،

ص:420

و لکونها بیاناً و قرینةً تتقدَّم .

و تلخَّص : أنّه مع وجود أصالة الظهور فی القرینة ، لا یبقی موضوع لأصالة الظهور فی ذی القرینة .

ثم إنّ الملاک للقرینیّة هو الظهور العرفی ، فإنَّ نسبة القرینیّة موجودة بکلّ وضوح بین الصّفة و الموصوف ، و الحال وذی الحال ، و کلّ تابع و متبوع ، و متی ما وقع الشک عند العرف العام فی القرینیّة یکون الکلام مجملاً .

و بعد تمامیّة القرینیّة من الناحیة الصغرویّة ، فقد تکون القرینة متّصلة و قد تکون منفصلةً .

فإن کانت متّصلةً ، فهی قرینة علی المراد فی مرحلة الدلالة التصدیقیّة ، و هی المرحلة التی یستعمل فیها اللّفظ فی معناه الموضوع له و ینعقد للکلام الظهور و ینسب إلیه المدلول ، کما لو قال : أعتق رقبةً مؤمنةً ، و ذلک یتحقّق بفراغه من الکلام بقیوده .

و هذه هی الدلالة التصدیقیّة الاولی .

و الدلالة التصدیقیة الثانیة هی مرحلة الإرادة الجدیّة ، فإنه بعد انعقاد الظّهور لا بدَّ من ثبوت أنّ هذا الظاهر هو المراد للمتکلّم و أنه لم یقصد المزاح أو الامتحان مثلاً ، و ذلک یتمّ فی حال عدم إتیان المتکلّم بالقرینة المنفصلة الصارفة للّفظ عن المعنی الظاهر فیه ، فإنْ جاء القید المنفصل فهو ، و إلّا فالأصل فی الکلام عقلاءً هو الجدّ لا الهزل و الامتحان و ما شابه .

و بعبارة اخری ، فإنّه بمجرّد انقطاع الکلام یستقرُّ له الظهور فی معناه ، فإنْ أقام قرینةً منفصلةً علی خلاف الظاهر ، فإنّها لا تضرّ بالظهور و إنّما تحول دون حجیّته .

و هذا تمام التوضیح لکلام المیرزا فی المقام .

ص:421

الإشکال علیه

هذا ، و قد أفاد الأُستاذ أنه لا یمکن المساعدة علی ما ذکره المیرزا ، لوجوه :

الأول : إنّ ما ذکره قدس سرّه إنما یتمُّ فی القرینة المتصلة - و لا یرد علیه أیّ إشکال - لأنّ کلمة « مؤمنة » صالحةٌ لتقیید مفاد « أعتق رقبةً » لیخرج عن الإطلاق ، لکونها بیاناً و قرینةً ، و لکنه لو جاء بقید الإیمان فی کلامٍ آخر ، فإنّ قرینیّة المنفصل لیس لها وجه عقلی أو عقلائی ، لأنّ العقلاء یرون کلامین منفصل أحدهما عن الآخر ، و یقولون : قد تکلَّم بکلامین ، و لکلّ کلامٍ حکمه ، و لا یتعدّی حکم أحدهما إلی الآخر ، و لا یجعلونه قرینةً له .

الثانی : إن مقتضی القاعدة بناءً علی تقدیم المقیَّد علی المطلق من باب القرینیّة ، هو أنْ لا یکون فرقٌ عند العرف بین تقدّم القرینة علی ذیها أو تأخّرها عنه ، و لکنّ الأمر لیس کذلک ، فلو قال : أعتق رقبةً مؤمنةً ، ثم قال : أعتق رقبةً ، یحتمل العرف أنّ کلامه الثانی جاء توسعةً علی المکلَّف ، و لا یبادرون بالجمع بین الکلامین ، و لا أقل من التوقّف و الاستفسار من المولی .

الثالث : قد ذکر المیرزا أنّ التنافی بین « أعتق رقبةً » و« أعتق رقبةً مؤمنةً » قد حصل من جهة « المؤمنة » ، فهذا القید إنْ فرض متّصلاً کان قرینةً علی المراد الاستعمالی ، فلما جاء منفصلاً فهو قرینة علی المراد الجدّی ، فهو علی التقدیرین قرینة .

لکنّ الإشکال لیس من جهة « المؤمنة » مع قطع النظر عن کونها قیداً ، بل هو من جهة قیدیّة هذه الکلمة ، و قیدیّتها بدون إضافتها إلی الرقبة غیر معقول ، فهی موجودة فی أعتق رقبةً مؤمنةً ، أی فی صورة الاتصال ، و أمّا فی صورة الانفصال ، بأنْ تستفاد القیدیّة من الجملة المذکورة ثم تحکّم علی « أعتق رقبة » فمحال ، لأن

ص:422

القیدیة نسبةٌ ، و کلّ نسبة فهی قائمة بین منتسبین .

الرابع : إنّه لا دلیل من العرف و غیره علی أنّ کلّ ما یکون قرینة فی حال الاتصال فهو قرینة کذلک فی حال الانفصال ، بل الأمر بالعکس ، فإنّ أهل العرف یرون الکلام الثانی ناسخاً و عدولاً عن الکلام الأول ... و علی الجملة ، فإنّ المرجع فی القرینیة و البیانیّة هو العرف و السیرة العقلائیة ، و هی فی صورة الانفصال مفقودة إن لم یکن العکس کما ذکرنا .

و هذا تمام الکلام علی طریق القرینیّة .

طریقُ الحائری

و ذکر المحقق الحائری (1) لحمل المطلق علی المقید وجهاً آخر و محصّل کلامه هو :

إن الدلیلین المثبتین تارة یحرز وحدة الحکم فیهما ، و اخری لا یحرز وحدته ، و لو احرز ، فتارةً یحرز وحدة السبب و اخری لا یحرز .

فإنْ لم یحرز وحدة الحکم فیهما ، فهما خطابان مستقلّان ، و لا یحمل المطلق منهما علی المقیّد ، بل یکون کلّ منهما ظاهراً فی مدلوله ، و لا ترفع الید عن الظهور إلّا بدلیلٍ .

و إنْ احرز وحدة الحکم ، لکن لم یحرز وحدة السبب ، کما لو قال : أعتق رقبةً ، ثم قال : أعتق رقبةً مؤمنة ، و الحکم واحد غیر متعدّد ، فوجوه : أحدها الحمل علی المقیّد ، و الآخر حمل الأمر فی المقید علی الاستحباب ، و الثالث : التحفّظ علی ظهور الأمر فی المقیّد فی الوجوب و رفع الید عن ظهور قید المؤمنة و حمله علی الاستحباب . و لمّا کان کلٌّ من هذه الوجوه مستلزماً لرفع الید عن الظهور

ص:423


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 236 - 237 .

و لا مرجّح ، فالکلام مجمل .

و إنْ أُحرز وحدة الحکم و وحدة السبب أیضاً ، کما إذا قال : إن ظاهرت فأعتق رقبةً ، ثم قال : إنْ ظاهرت فأعتق رقبةً مؤمنة ، فلا مناص فی هذه الصورة من حمل المطلق علی المقیَّد ، لأن السبب - و هو الظّهار - واحدٌ ، و الحکم و هو وجوب العتق واحد ، فإذا کان السبب لعتق مطلق الرقبة ، فلا یکون سبباً لعتق رقبة مؤمنة ، و لا یمکن أن یکون سبباً لاستحباب عتق المؤمنة مع کونه السبب فی وجوب عتق مطلق الرقبة ، و إلّا یلزم أن یکون الشیء الواحد سبباً لمتباینین .

إشکال الأُستاذ

و قد أشکل الأُستاذ علی ما ذکره فی الصّورة الاولی من إبقاء کلٍّ من الکلامین علی ظهوره فی التکلیف المستقل ، فیلزم امتثال کلٍّ منهما علی حده بأن :

مقتضی الإطلاق فی طرفٍ و الخصوصیة فی الطرف الآخر کفایة الامتثال الواحد ، لأن المطلق منطبق علی الخصوصیّة بالدلالة المطابقیّة ، و الدلالة الالتزامیة لذلک هی کفایة الامتثال و حصوله بعتق الرقبة المؤمنة .

و أورد علی کلامه فی الصّورة الثانیة بأن : الإجمال ملاکه تکافؤ الاحتمالات ، و ذلک یتوقّف علی بطلان المسلکین المتقدّمین فی حمل المطلق علی المقیَّد و الجواب عما استدلّ به لکلٍّ منهما (1) ... لکن الحائری لم یرد علی شیء ممّا استدلّ به لهما .

و أمّا کلامه فی الصّورة الثالثة ففیه :

إن نسبة الظهار إلی العتق نسبة الموضوع إلی الحکم ، و لذا تقرّر أنّ کلّ شرط

ص:424


1- 1) یعنی : مسلک صاحب ( الکفایة ) و هو التقدّم من باب الأظهریة ، و مسلک المیرزا و هو التقدّم من باب القرینیّة .

موضوع و کلّ موضوع شرط ، و حینئذٍ ، لا بدّ من إقامة البرهان علی استحالة أنْ یکون للظهار حکمان ، و هذا أول الکلام ، إذ لا مانع من أن یقال : إذا زالت الشمس وجبت صلاة الظهر . و إذا زالت الشمس استحبّ الصّلاة الفلانیة ... و هنا لا مانع من أن یکون الظهار سبباً لوجوب العتق المطلق ، و سبباً لاستحباب عتق خصوص المؤمنة ... هذا بالنسبة إلی الحکم . و أما بالنسبة إلی الملاک ، فصحیح أن الأسباب و الشرائط لا دخل لها فی الملاکات ، و أنّ البرهان علی أن الواحد لا یصدر منه إلّا الواحد ، أی الواحد البسیط من جمیع الجهات ، لا یکون مصدراً لصدور الأمرین المختلفین ، لکن المشکلة هی أنْ لا طریق لاستکشاف کون السبب الشرعی کالظهار مثلاً هو بالنسبة إلی الملاک واحدٌ شخصی ، بل المحرز خلاف ذلک ، لقیام الحجة الشرعیّة علی تعدّد الأثر ، فتکون کاشفةً إنّاً عن أن السبب لیس له وحدة شخصیّةٌ بسیطة ، فالظّهار سببٌ لوجوب العتق فی حال إمکانه ، و إلّا فهو سببٌ لصیام ستّین یوماً ، و عند تعذّره فإطعام ستین مسکیناً ، و کلّ واحدٍ من هذه الآثار و الأحکام مباین لغیره .

طریق الأُستاذ

و الأُستاذ بعد أنْ ذکر طرق الأکابر لحمل المطلق علی المقیَّد ، أفاد فی الدورتین ما حاصله :

إنّه إذا کان الحکم واحداً کما فی : إن ظاهرت فأعتق رقبةً ، و إنّ ظاهرت فأعتق رقبةً مؤمنة ، فإنّ منشأ الإشکال هو وجود التنافی بین الخطابین ، من حیث أن الثانی یقتضی تعیّن المؤمنة فلا تجزی الکافرة بخلاف الأول ، فهل یوجد التمانع بین إطلاق المتعلّق فی الثانی و ظهور صیغة الأمر فی وجوب الحصّة المؤمنة أوْ لا ؟

ص:425

إنّ التنافی بین کلّ دلیلین یتوقف علی وجود المقتضی لهما علی نحو التنجز و فی عرضٍ واحد ، حتی یقع التمانع بینهما فی المبدإ أو المنتهی أو المدلول لهما . أمّا لو کان أحدهما معلَّقاً غیر منجّز و الآخر تامُّ الاقتضاء ، فلا تمانع بل یتقدَّم ما هو تامّ الاقتضاء ... و فیما نحن فیه : ظهور صیغة الأمر فی الوجوب - من باب الدلالة الوضعیة کما علیه صاحب ( الکفایة ) ، أو بحکم العقل کما علیه المیرزا - تامٌّ ، فیصلح لأنْ یکون مانعاً عن انعقاد الظهور فی طرف المطلق ، لکنَّ المبنی المحقَّق - تبعاً لسلطان المحققین - خروج الإطلاق عن المعنی الموضوع له لفظ الرّقبة ، فلا دلالة له علیه إلّا بمقدّمات الحکمة ، و قد کان منها عدم التقیید ، فکان ظهور « الرقبة » فی الإطلاق معلَّقاً علی عدم المانع ، فلا تمانع بینه و بین الدلیل المقیَّد ... بل یتقدَّم لتتنجّز ظهوره و تمامیّته .

و علی الجملة ، فإنّ المقام من صغریات دوران الأمر بین ما له الاقتضاء و ما لا اقتضاء له ، و من الواضح تقدّم الأول و تعیّنه .

و لا یخفی أنّ هذا الطریق یختلف عن طریق ( الکفایة ) من تقدّم إطلاق الوجوب التعیینی ، لأنّ أصالة الإطلاق بالنسبة إلی الوجوب التعیینی إنّما تجری فیما لو احتمل التخییر الشرعی ، فیتمسّک بها لدفع هذا الاحتمال ، و لیس ما نحن فیه من هذا القبیل ، للقطع بعدم احتمال التخییر الشرعی بین وجوب الطبیعة المطلقة و وجوب حصّة خاصّةٍ منها .

و تلخص : إنّ الوجه فی تقدّم المقیَّد علی المطلق لیس الأظهریّة و لا القرینیّة و لا غیرهما ، بل هو التنجیزیّة فی طرف المقیَّد ، أی ظهور صیغة الأمر فی الوجوب بلا تعلیقٍ علی شیءٍ ، و قد ذکرنا أنّ ذلک ثابت إمّا بالوضع من جهة التبادر علی رأی و إمّا بحکم العقل علی الرأی الآخر . بل إنّه مستفادٌ من ظواهر

ص:426

النصوص أیضاً ، کما فی المعتبرة : « العمرة واجبة کالحج لأنَّ اللّٰه تعالی یقول « وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّٰهِ » (1)» (2) حیث احتجّ الامام علیه السلام بظهور صیغة « افعل » . و کذلک ما ورد فی الاستدلال بقوله تعالی «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقٰامِ إِبْرٰاهیمَ مُصَلیًّ » (3)علی وجوب صلاة الطواف خلف المقام (4) . و ما ورد من تمسّکهم بظاهر الأمر فی «فَانْکِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ » (5)علی أنّ إذن المولی شرط فی نکاح الأمة (6) .

و هذا تمام الکلام فی الدلیل المقیّد المتّصل .

دلیل القول بالحمل فی المقیّد المنفصل
اشارة

و أمّا فی المقیّد المنفصل ، فعلی القول بتوقف الإطلاق علی عدم البیان إلی الأبد ، لا ینعقد لقوله : « أعتق رقبةً » إطلاقٌ ، و حینئذٍ یؤخذ بقوله : « أعتق رقبةً مؤمنةً » لتمامیة ظهوره بلا مانع . و کذا الکلام فی خطابات من علم من سیرته و دیدنه الاعتماد علی القرائن المنفصلة ، کما فی خطابات الشارع المقدّس . و أمّا علی القول بتمامیة الإطلاق و انعقاد الظهور للکلام بفراغ المتکلّم منه فی مجلس التخاطب ، فإنّ التمانع یتحقّق بین هذا الظهور و ظاهر قوله : « أعتق رقبةً مؤمنةً » فی المجلس الآخر ، فما هو الوجه لحمل المطلق علی المقیَّد ؟

ص:427


1- 1) سورة البقرة: الآیة 196.
2- 2) وسائل الشیعة 14 / 295 ، الباب 1 من أبواب العمرة ، رقم : 2 .
3- 3) سورة البقرة: الآیة 125.
4- 4) وسائل الشیعة 13 / 425 ، الباب 72 من أبواب الطواف ، رقم : 1 و 2 .
5- 5) سورة النساء : الآیة 25 .
6- 6) وسائل الشیعة 21 / 119 ، الباب 29 من أبواب نکاح العبید و الإماء ، الرقم : 1 .
طریق الشیخ و الکلام حوله

أمّا طریق الشیخ رحمه اللّٰه حیث قدّم المقیَّد علی المطلق ، أمّا علی قول المشهور ، فإنّ رفع الید عن الإطلاق ارتکاب للمجاز کما هو الحال فی رفع الید عن دلالة المقیَّد ، إلّا أن المجاز فی طرف المطلق مقدَّم ، و مع التنزّل و فرض التساوی ، تصل النوبة إلی التعارض بین الظهورین ، و یکون المرجع هو البراءة أو الاشتغال علی النزاع المعروف فی الأجزاء التحلیلیّة ، لأنّ التقیّد بالإیمان جزء تحلیلی عقلی .

و أمّا علی قول السّلطان ، و أنّ الدلالة علی الإطلاق لیست وضعیةً بل بمقدّمات الحکمة ، فرفع الید عنه متعیَّن ، لأنه تصرّف فی وجه المعنی ، بخلاف ظهور المقیَّد فرفع الید عنه تصرّف فی المعنی ، و لا ریب فی تقدّم الأول عند دوران الأمر ، بل إنَّ تمامیة المقدّمات کانت ببرکة الأصل ، أی أصالة کون المتکلّم فی مقام البیان ، لکنّ هذا الأصل یسقط بمجرّد العثور علی المقیَّد ، و بسقوطه یسقط الإطلاق ، فلا معارض للظهور فی المقیَّد . و هذا معنی قولهم أنّ التعارض بین المطلق و المقید غیر مستقر .

نظر الأُستاذ

و قد تنظر الأُستاذ فیه : أمّا من جهة مسلک المشهور ، فإنّ الشیخ قد استند فی رفع الید عن ظهور الإطلاق و حمله علی المجاز إلی غلبة هذا المجاز علی أقرانه ، لکنّ الغلبة لیست منشأً للتقدیم علی التحقیق ، نعم ، لو کان قد ادّعی أنّ رفع الید عن دلالة الکلام علی الإطلاق من المجاز المشهور الموجب لحصول القالبیّة العرفیة ، لکان له وجه ، أمّا الغلبة ، فمستندها إلحاق الشیء بالأعمّ الأغلب ، و هذا لا یوجب القالبیّة . نعم ، القالبیّة فی العام و الخاص موجودة ، و لذا قالوا : ما من عام إلّا و قد خص .

ص:428

و أمّا من جهة مسلک السّلطان ، فما ذکره أوّل الکلام ، لأنّ کون المقیَّد المنفصل بیاناً عرفاً للمطلق مصادرة ، بل العرف إنْ لم یحمل الکلام الثانی علی النسخ یتوقّف و لا یحمل المطلق علی المقیَّد .

طریق المیرزا

و أمّا طریق المیرزا ، فقد تقدّم أنّه لا یحلّ المشکلة فی القرینة المنفصلة ، لا سیّما فی خطابات من علم بأنّه یعطی أحکامه بالتدریج کالشارع المقدّس .

طریق السید الخوئی

و أمّا طریق السید الخوئی (1) و حاصله : أنه فی مثل کلام الشارع یدور الأمر بین النسخ و التقیید ، لکنّ احتمال النسخ یسقط من جهة أنّ هذه الکثرة من الروایات لو حملت علی النسخ لزم تبدّل المذهب ، بل موارد النسخ محدودة جدّاً ، فیتعیّن الحمل علی التخصیص و التقیید .

ففیه : إنه لیس الأمر دائراً بین الأمرین ، بل هناک احتمال ثالثٌ هو حمل المقیَّد علی الأفضلیة و الاستحباب .

طریق الأُستاذ

قال الأُستاذ : و الذی ینبغی أنْ یقال و إنْ کان خلاف المشهور هو :

إنّ الروایات الواردة عن الأئمة علیهم السلام علی ثلاثة أقسام :

الأول : ما ورد عنهم علیهم السلام فی مقام تعلیم الأحکام لأصحابهم ، خاصّةً الذین أرجعوا الناس إلیهم منهم کمحمد بن مسلم و زرارة و أبی بصیر ...

و فی هذا القسم ، نقول بحمل المطلق علی المقیَّد ، فإن المطالب تلقی علی التلامذة بالتدریج ، فیذکر الحکم بإطلاقه فی مجلسٍ ، ثمّ یبیّن فی المجالس اللّاحقة بمقیّداته ، و هکذا جرت العادة فی مجالس الدروس .

ص:429


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 541 .

و الثانی : ما ورد عنهم فی مقام الإفتاء ، حیث یدخل الرجل علی الإمام علیه السلام فیسأله عن الحکم الشرعی فی قضیّة ثم یخرج و یتوجّه إلی أهله و بلده و لا یرجع إلی الامام إلّا فی قضیةٍ اخری ، فهو یستفتی من أجل العمل ، أو یکون قد أرسلوه إلی الإمام حتی یأتیهم بالجواب منه ، فیعملوا علی طبق ما أجاب .

و فی هذا القسم من الروایات ، لا نقول بحمل المطلق علی المقیَّد ، بل لو قال بعد ذلک کلاماً علی خلافه لکان ناسخاً له ، لأن من کان فی مقام الإفتاء یبیّن الحکم بکامله و لا مصلحة لتأخیر البیان ... فکونه علیه السلام فی مقام الافتاء و بیان الحکم للمسألة المبتلی بها و المسئول عنها من أجل العمل ، قرینةٌ تجعل المطلق نصّاً أو تعطیه الأظهریّة من المقیَّد ، فلا یتقدَّم المقید علی المطلق .

و هذا الذی ذکرناه فی القسم الثانی من الروایات و إن کان علی خلاف المشهور ، لکن غیر واحدٍ من الأکابر مشوا علیه ، فلاحظ کتاب الصّلاة للشیخ الحائری فی صلاة العاری و أنه هل یصلّی قائماً أو قاعداً أو علیه القیام مع الأمن من الناظر و القعود مع عدم الأمن ... (1) .

و کذا فی مکان المصلّی فی مسألة محاذاة المرأة للرجل (2) .

و کذا فی مسألة التخییر فی الأماکن الأربعة (3) .

و قال المحقق العراقی فی ( شرح التبصرة ) فی صلاة الآیات فی مسألة القنوت فیها هل هو واجبٌ أو مستحب بحمل المقیّد علی الاستحباب .

و کذا فی بحث التشهّد ، حیث أخذ بالمطلقات لقوّتها و حمل الزائد علی الاستحباب .

ص:430


1- 1) کتاب الصّلاة : 68 .
2- 2) المصدر : 85 .
3- 3) المصدر : 650 .

و کذا فی ( کتاب الطهارة ) ، فی أنّه یجب الوضوء بعد الغسل أوْ لا ؟ و فی التیمّم بمطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ؟ فإنه أخذ بالمطلقات و حمل ما دلّ علی خصوص التراب علی الاستحباب ، و فی الوضوء فی کیفیة مسح الرأس ، فی أنه یکفی مقدّم الرأس أو یشترط الناصیة ؟

و الحاصل : إن الشیخ الحائری و الشیخ العراقی فی هذه الموارد و غیرها یصرّحان بکون المطلقات فی مقام بیان الوظیفة الفعلیّة ، فلا یجوز رفع الید عن ظهورها ، و لذا یحملان ما ینافیها علی الاستحباب .

و علی الجملة ، فکلّ مطلق من هذا القبیل یؤخذ به ، إلّا إذا علم بوجود خصوصیةٍ دعت الإمام إلی تأخیر بیان المقیَّد ... و إلّا فمقتضی المقام أن یعطی کلّ ما یحتاج إلیه المکلَّف ممّا له دخل فی الحکم ، کحال الطبیب فی مقام علاج المریض الذی راجعه و یطلب منه الدواء لمرضه .

الثالث : ما ورد عنهم و لم یحرز کونه فی مقام التعلیم أو فی مقام الإفتاء للعمل .

و قد یقال هنا : بأنّ التقیید تکلیف زائد فهو مجری البراءة ، إذنْ یؤخذ بالمطلق .

لکنّ الصحیح - عند الأُستاذ - هو الحمل ، لأنَّ أرکان الحجیة فی المقیَّد تامّة و لا مرخّص من قبل المولی ، فالعقل حاکم بلزوم الامتثال ، و به ترفع الید عن الإطلاق .

و هذا تمام الکلام فی صورة وحدة الحکم و وحدة السبب .

فی وحدة الحکم و اختلاف السبب

أمّا لو اتّحد الحکم و اختلف السبب ، کما لو قال « إن ظاهرت فأعتق رقبةً »

ص:431

و« إنْ أفطرت فأعتق رقبةً مؤمنة » . فالظاهر عدم الخلاف فی عدم الحمل ، لأنّه قد اختلف السبب و الشرط ، و معلوم أنْ کلّ شرط موضوع ، و إذا اختلف الموضوع اختلف الحکم ، فکان کلٌّ منهما خطاباً مستقلّاً عن الآخر ، و لا تنافی بینهما حتی یحتاج إلی الجمع .

لو کان المطلق بلا سبب و المقیَّد مسبّب

أمّا لو جاء الدلیل المطلق بلا شرطٍ و سبب ، و المقیَّد مشروطاً ، کما لو قال :

أعتق رقبةً . ثم قال : إن ظاهرت أعتق رقبةً مؤمنةً . فهل یحمل المطلق علی المقیَّد ؟ قولان :

القول الأول

ذهب المیرزا النائینی و غیره إلی استحالة الحمل ، لاستلزامه الدور ، و بیان ذلک هو : إنّ الحمل فرع وجود المنافاة ، و هی متوقفة علی وحدة الحکم ، و معلوم أنّ وحدة الحکم متوقفة علی وحدة الموضوع و المتعلَّق ، لکنّ وحدة المتعلَّق موقوفة علی التنافی .

و الحاصل : إن وحدة المتعلَّق متوقفة علی التنافی ، و هو متوقف علی وحدة الحکم ، و وحدة الحکم متوقفة علی وحدة المتعلَّق . و هذا دور .

القول الثانی

و ذهب آخرون إلی وجوب التقیید ، لأنّ إطلاق الحکم فی أحد الدلیلین و إنْ کان کاشفاً عن عدم اشتراط الحکم المجعول من المولی بما هو شرط للحکم فی الدلیل الآخر ، إلّا أن تقییده به فی ذلک الدلیل کاشف عن اشتراطه به ، و بما أن دلیل التقیید أظهر من دلیل الإطلاق ، فإنه یتقدّم علیه ، و ترفع الید عنه ، و النتیجة أن یکون الحکم المجعول مشروطاً بالشرط المزبور ، و بما أنّ متعلَّق ذلک الحکم

ص:432

مطلق فی أحد الدلیلین و مقیَّد فی الآخر ، فلا بدّ من حمل المطلق علی المقید .

ذکره المیرزا نفسه بعنوان « إن قیل » . ثم أجاب بما حاصله :

إنه لمّا کان الحکم من الامور ذات التعلّق - لأنه إما بعثٌ و إمّا زجر - فوجوده متقوّم بالموضوع و المتعلَّق ، و إذا تعدّد الموضوع و المتعلَّق تعدّد الحکم ، و علی هذا ، فلمّا کان الحکم فی أحد الدلیلین مشروطاً بشرطٍ ، فإن الشرط یوجب تقیّد الحکم المشروط به ، و لا یتعدّی عنه إلی الحکم الموجود فی الدلیل الآخر ، و حینئذٍ ، لا یحمل المطلق علی المقیَّد ، نعم لو احرز من الخارج وحدة المتعلَّقین ، لزم حمل المطلق من الحکمین علی مقیّدهما ، کما إنه إذا ثبتت وحدة الحکمین لزم حمل المطلق من المتعلّقین علی المقیّد منهما . و أما مع عدم إحراز ذلک ، فلا موجب لحمل المطلق علی المقیّد فی شیء منهما .

لو کان الحکمان مطلقین و نسبة الإطلاق و التقیید بین المتعلَّقین
اشارة

و هذه هی الصورة الأخیرة ، فلو قال : أعتق رقبةً ثم قال : أعتق رقبةً مؤمنةً ، حیث أن الحکمین فی الدلیلین مرسلان ، لکنّ المتعلَّق للحکم فی الدلیل الأول مطلق ، و فی الدلیل الثانی مقیَّد ، مع عدم إحراز وحدة الحکم ، أما مع إحرازها فقد تقدَّم .

ذهب المیرزا (1) - و تبعه فی ( المحاضرات ) - إلی حمل المطلق علی المقیَّد ، لأن المفروض عدم تقیّد الحکمین فی الدلیلین ، و هما إلزامیّان ، و بالنظر إلی هاتین الجهتین تثبت وحدة الحکمین ، و لا حاجة إلی قرینةٍ خارجیة من حالٍ أو مقالٍ کما ذکر صاحب ( الکفایة ) .

و علی الجملة ، فإنّ مقتضی « أعتق رقبةً » حصول الامتثال بأحد مصادیق

ص:433


1- 1) أجود التقریرات 2 / 447 .

الطبیعة ، لکنّ مقتضی « أعتق رقبة مؤمنة » هو عدم حصوله کذلک ، و إذا وجد هذا التنافی ، کان مقتضی القاعدة هو الحمل .

إشکال الأُستاذ

لکنّ الأُستاذ - و إنْ وافق المیرزا فی الصّورة المتقدّمة - خالفه فی هذه الصورة ، و أفاد ما حاصله : إن الحمل موقوف علی وجود التنافی بین الدلیلین کما تقدم ، و التنافی إمّا فی مرحلة الجعل و إمّا فی مرحلة الامتثال . أمّا فی مرحلة الجعل ، فهو إمّا بکون أحد الحکمین وجوبیّاً و الآخر تحریمیّاً ، أو بکون أحدهما إلزامیاً و الآخر ترخیصیاً ، أو یکونان من سنخ واحدٍ و المتعلَّق واحد . و فی مورد البحث لا یوجد التنافی أصلاً ، لکونهما مثبتین ، و قد تعلَّق الحکم فی کلٍّ منهما بشیءٍ ، و الحکم لا یتجاوز عن متعلَّقه إلی غیره ... إذنْ ، لا تنافی فی مرحلة الجعل .

أمّا مرحلة الامتثال ، فالحاکم فیها هو العقل ، و إنما یری العقل التنافی بین الدلیلین - حتی یتم حمل المطلق علی المقیَّد - فیما لو احرز وحدة الحکم .

بیان المحاضرات

و فی ( المحاضرات ) بیانٌ لحمل المطلق علی المقیّد فی هذه الصورة قال (1) :

إن المحتملات فی مقام الثبوت أربع :

الأول : أن یحمل المطلق علی المقیّد . و الثانی : أن یحمل المطلق علی أفضل الأفراد . و الثالث : لا هذا و ذاک ، فیبنی علی تعدد التکلیف لکن من قبیل واجب فی واجب آخر ، نظیر ما لو نذر المکلَّف الإتیان بالصّلاة الفریضة فی المسجد . و الرابع : أن یکون کلّ من المطلق و المقیَّد واجباً مستقلّاً ، نظیر ما إذا أمر

ص:434


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 545 .

بالماء علی نحو الإطلاق ، و الغرض غسل الثوب ، ثم أمر بالماء البارد لأجل الشرب .

( قال ) : و أمّا فی مقام الإثبات :

فالاحتمال الثانی خلاف الظاهر جدّاً ، لأن حمل الأمر الظاهر فی الوجوب علی الندب یحتاج إلی دلیل ، و إذْ لا یوجد دلیلٌ یفید الترخیص ، فلا بدّ من الأخذ بظاهره و هو الوجوب .

و الاحتمال الثالث کذلک ، لعدم کون المقام من هذا القبیل ، و الوجه فی ذلک هو : إن الأوامر المتعلّقة بالقیودات و الخصوصات فی باب العبادات و المعاملات ظاهرة فی الإرشاد إلی الجزئیّة أو الشرطیّة ، و لیست ظاهرة فی المولویّة ، کما أن النواهی المتعلّقة بها ظاهرة فی الإرشاد إلی المانعیّة من جهة تلک الخصوصیّة کما فی : « لا تصلّ فیما لا یؤکل لحمه » ، و« نهی النبی عن بیع الغرر » . هذا ، مضافاً إلی أن الأمر فی أمثال هذه الموارد قد تعلَّق بالتقیُّد لا بالقید ، فصرف الأمر عنه إلیه خلاف الظاهر جدّاً .

و الاحتمال الرابع ، یتصوّر علی نحوین : أحدهما : أن یسقط کلا التکلیفین معاً بالإتیان بالمقید . و ثانیهما : عدم سقوط التکلیف بالمطلق بالإتیان بالمقیّد ، بل لا بدّ من الإتیان به أیضاً .

أمّا الأوّل : فإنه - و إنْ کان ممکناً ثبوتاً - لا یمکن القول به إثباتاً ، للزوم لغویّة الدلیل المطلق ، لأن الإتیان بالمقیَّد إذا کان موجباً لسقوط الأمر بالمطلق أیضاً ، فلا محالة یکون الأمر بالمطلق لغواً و عبثاً .

و أمّا الثانی ففیه : إنه لا بدّ حینئذٍ من تقیید الأمر بالمطلق بحصّةٍ غیر الحصّة المأخوذة فی المقیَّد ، و إلّا فلا موجب لعدم سقوط الأمر بالمطلق بالإتیان بالمقیَّد

ص:435

مع کونه حصّةً من المطلق ، و التقیید خلاف الظاهر ، و لا بدَّ له من دلیل ، و المفروض عدمه .

فالاحتمال الرابع أیضاً ساقط .

و إذا سقطت الاحتمالات الثانی و الثالث و الرابع ، تعیَّن الأوّل و هو حمل المطلق علی المقید .

نظر الأُستاذ

و قد تنظّر الأُستاذ فی الإشکالات علی الاحتمالات فی مقام الإثبات .

أمّا ما ذکر فی الاحتمال الثانی ، ففیه : إنه أخصّ من المدّعی ، لأنه إنّما یتمُّ لو لم یکن صدور الخطاب المطلق فی مقام بیان الوظیفة الفعلیّة ، و إلّا وجب الأخذ بالمطلق و لا یتقدّم علیه المقیَّد الظاهر فی الوجوب .

و أمّا ما ذکر فی الاحتمال الثالث ، ففیه : إن قاعدة الحمل علی الإرشادیّة غیر جاریة فی المقیَّد ، إذ لیس « أعتق رقبةً مؤمنة » مسبوقاً بأمرٍ متوجّه إلی مرکبٍ حتی یکون الأمر بالمقیَّد إرشاداً إلی شرطیّة الإیمان أو جزئیّته فی المرکّب ، ففرقٌ بین قوله : «أقیموا الصلاة » ثم قوله «ارکعوا » و « اسجدوا » حیث أنّ الأمر بالصلاة أمر بمرکّب ، و الأمر بالرکوع و السجود و نحوها یحمل علی الجزئیّة للصّلاة المأمور بها من قبل ، لعِلمنا بأنّ الصّلاة فعلٌ مرکَّب من أجزاء مترابطة ، و باب الإطلاق و التقیید ، فلیس الأمر فیه کذلک ، بل الأصل الأوّلی - و هو الحمل علی المولویّة و المطلوبیّة النفسیّة - محکَّم فیه .

فما ذکر فی ( المحاضرات ) غیر دافع للاحتمال الثالث .

نعم ، یندفع بما ذکره المیرزا من الفرق بین ما نحن فیه و مسألة الواجب فی الواجب - کأنْ ینذر واجباً من الواجبات - لأن متعلَّق الأمر فی أعتق رقبةً مؤمنةً ، هو

ص:436

تقیُّد الرقبة بالإیمان ، أمّا فی مثل نذر الصّلاة و غیرها من الواجب فی الواجب ، فإنّ متعلَّق الأمر هو القید ، أی خصوصیّة الإتیان بالصّلاة فی أول الوقت مثلاً .

و قد ذکر هذا الجواب فی ( المحاضرات ) فی آخر کلامه قائلاً : « هذا مضافاً ... » و هذا هو الجواب الصحیح .

و أمّا الاحتمال الرابع ، فإنّ المیرزا قال : إنّ استقلال کلٍّ من الدلیلین عن الآخر ینافی کون المتعلّق فیهما صرف الوجود و کون الأمر بالمقید إلزامیاً ، فالتنافی بین الدلیلین مستقرٌّ ، و هذا باطل . و إذا سقط هذا الاحتمال تعیّن الأول و هو حمل المطلق علی المقید .

و فیه : إنه إذا کان الدلیلان مستقلّین و کلّ منهما حکم إلزامی ، مفاد المطلق إجزاء عتق الکافرة ، و مفاد المقیَّد تعیّن المؤمنة ، فهما متنافیان و لا طریق للجمع بینهما ، فلما ذا یحمل أحدهما علی الآخر ؟ و لما ذا یتعیّن حمل المطلق علی المقید ؟ إنه لا بدّ لتقدیم أحد المتنافیین علی الآخر من ملاکٍ ، و إلّا فهو خلاف الظاهر جدّاً ، و المیرزا لم یذکر الملاک .

و أمّا ما جاء فی ( المحاضرات ) من لزوم تقیید المطلق بحصّة غیر الحصّة المأخوذة فی المقیَّد ، و هو خلاف الظاهر لعدم الدلیل علیه ، فهو إرجاعٌ للدلیلین إلی التخییر بین الأقل و الأکثر ، لکنّه یحتاج إلی دلیلٍ زائد و هو مفقود کما ذکر .

لکنْ یرد علیه - مضافاً إلی ما تقدَّم من عدم الدلیل حینئذٍ علی ترجیح المقیَّد علی المطلق - أنّ هنا احتمالاً آخر و هو : أنْ یکون الخطابان علی نحو تعدّد المطلوب ، بأن یکون هناک غرض مترتّب علی الطبیعة اللّابشرط ، و غرض آخر مترتّب علی الطبیعة البشرط ، کما ذکر هو فی مثال الماء ، و مثاله فی الشریعة ترتّب الغرض علی الصّلاة و ترتب غرض آخر علی وقوعها فی الوقت ، فلو فات الوقت

ص:437

وجب الإتیان بها قضاءً ، تحصیلاً للغرض المترتب علی الطبیعة . فلیکنْ الحال فی المقام من هذا القبیل . و هذا الاحتمال الثبوتی قد قام علیه الدلیل فی مقام الإثبات ، لأنّ المفروض وجود الدلیل علی الغرضین ، إلّا أن کلّاً منهما مزاحمٌ للآخر ، و هذا هو الإشکال ، لأنّ رفع الید عن المطلق دون المقیَّد یحتاج إلی دلیل .

و تلخّص : إنه لا دلیل علی حمل المطلق علی المقیَّد فی الصّورة الرابعة ، علی ما ذکر المیرزا و تلمیذه المحقق .

و ذکر المحقق العراقی طریقاً لحلّ المشکل ، و هو أنّه لمّا کان المتعلَّق فی کلٍّ من الدلیلین صرف الوجود ، و هو لا یقبل التعدّد بأنْ یؤتی بصرف وجود کلٍّ من المتعلَّقین ، لاستلزامه اجتماع المثلین و هو محال کاجتماع الضدّین ، إذاً لا مناص من الالتزام بأحد التصرّفات :

إما رفع الید عن ظهور المطلق و حمله علی المقیّد ، حتّی یتّحد المراد و الحکم .

و إمّا رفع الید عن صِرف الوجود ، بأنْ یحمل المتعلّق فی کلٍّ منهما علی وجودٍ مستقل عن الآخر ، فهناک إرادتان و حکمان مستقلّان .

و إمّا رفع الید عن الظهور فی الاستقلال و التأسیس ، و حمل المقیّد علی التأکید .

( قال ) و أردأ التصرّفات هو الثانی ، أی حمل المتعلّق علی الوجودین .

و لعلّ وجه الأردئیّة انطباق « الرقبة » علی الرقبة المؤمنة ، لأنَّ کلّ لا بشرط یجتمع مع البشرط ، فإبقاء کلٍّ منهما علی ظاهره أردأ الوجوه ، و عند دوران الأمر بین الوجهین الآخرین یتعیَّن الحمل علی تأکّد الطلب فی خصوص المؤمنة التی هی متعلَّق الأمر بالمقیّد .

ص:438

و قد أورد علیه الأُستاذ :

أولاً : لا ریب فی استحالة اجتماع الحکمین علی المتعلَّق الواحد - و إنْ اختلفوا فقیل بالاستحالة الذاتیة کما علیه صاحب ( الکفایة ) و هو ظاهر المحقق العراقی ، و قیل هی عرضیة کما علیه المحقق الأصفهانی - لأنهما إمّا ضدّان و إمّا مثلان، فاجتماعهما محال، لکنّ الحکمین فی محلّ الکلام غیر واردین فی مرحلة الجعل علی المتعلَّق الواحد ، لأنّ صِرف الوجود فی « أعتق رقبةً » غیر صرف الوجود فی « أعتق رقبة مؤمنة » . نعم ، فی مرحلة الامتثال ینطبق الخطابان علی الرقبة المؤمنة ، و إذا تعدّد المتعلَّق ، فلا حاجة إلی تصرّفٍ أصلاً . وعلیه فأصل الطریق غیر صحیح .

و ثانیاً : إنه علی فرض دوران الأمر بین التصرّفین الأوّل و الثالث ، قال بتعیّن الحمل علی تأکّد الطلب فی المجمع أی الرقبة المؤمنة ، لکنه لم یذکر لهذا الحمل دلیلاً ، و إنّما ادّعی أولویّته من الحمل الآخر ، و من المعلوم أنّ الأولویّة لا تفید ظهوراً للکلام ، بل المرجع فی رفع التنافی بین الکلامین هو العرف ، و هو إنما یکون علی أساس استقرار الظهور فی طرفٍ فیرفعون الید عن الطرف الآخر ، و أمّا أنْ یکون الحمل علی أساس الأولویة و أنه أخفُّ مئونةً ، فهذا لیس بحملٍ عرفی .

( قال ) فالصحیح أنْ یقال : إنه إنْ احرز کون الحکم المطلق صادراً فی بیان الوظیفة العملیة ، أی من قبیل الفتوی ، فإنّ ظهوره فی الإطلاق منعقدٌ و لا بدّ من رفع الید عن ظهور المقیَّد فی الوجوب . أمّا إنْ لم یحرز ذلک ، فإنّ ظهور المقیَّد فی الوجوب تامٌّ بحکم العقل ما لم یأتِ المرخّص ، و لا وجه عند العقل لرفع الید عن هذا الظهور .

هذا کلّه فیما لو کان الحکمان مثبتین .

ص:439

لو کان المتعلَّق صرف الوجود و الحکمان غیر مثبتین

أمّا لو کان المتعلَّق فی الخطابین صرف الوجود ، غیر أن الحکم فی المقیّد مخالف ، کما لو قال : أعتق رقبةً . ثم قال : لا تعتق رقبةً کافرة ، فالخلاف المذکور - من حمل المطلق علی المقیَّد کما علیه المشهور ، أو حمل المقیَّد علی المرجوحیّة کما هو القول الآخر - یأتی هنا ... و قد قال المیرزا بالحمل هنا أیضاً علی أساس القرینیّة ، لکنّها غیر ثابتة خاصّةً فی المنفصلین کما تقدّم بالتفصیل .

فالتحقیق أن یقال :

إن النهی عن عتق الکافرة یدلّ علی المبغوضیة ، فعلی القول بظهوره فی الحرمة ظهوراً وضعیّاً ، فالأمر واضح ، و أمّا علی القول بعدمه ، فلا ریب فی حکم العقل بالانزجار عن عتق الکافرة ما لم یرد ترخیص من قبل المولی ، و حینئذٍ ، فإنْ احرز کون المطلق فی مقام بیان الوظیفة الفعلیّة ، تقدّم ظهوره و کان قرینةً علی الترخیص ، و یحمل النهی علی المرجوحیة ، و إلّا فمقتضی القاعدة الأخذ بظهور النهی و عدم کفایة عتق الکافرة .

و هذا تمام الکلام فی الإطلاق البدلی .

المقام الثانی ( فی الإطلاق الشمولی )
اشارة

إن کان الإطلاق شمولیّاً کما لو قال : أکرم العالم و لا تکرم العالم الفاسق ، و فی الشریعة «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (1)و« نهی النبی عن بیع الغرر » ، فلا خلاف فی حمل المطلق علی المقیَّد .

أمّا لو کان مثبتین کما لو قال : أکرم العالم و أکرم العالم العادل ، فقولان :

الأول : عدم الحمل . و هو المشهور .

ص:440


1- 1) سورة البقرة : الآیة 275 .

و الثانی : الحمل . ذهب إلیه فی ( المحاضرات ) و ادّعی الضرورة علیه .

دلیل القول الأول

هو أن المفروض تعلّق الحکم بالوجودات المتعدّدة لا صرف الوجود ، و قد تقدّم أنّ مناط الحمل هو التنافی ، و لا تنافی بین أکرم العالم و أکرم العالم العادل ، بل المطلق قد تعلَّق بمطلق العالم ، و المقیَّد قد تعلّق بحصّةٍ لخصوصیة فیها .

دلیل القول الثانی

و فی ( المحاضرات ) ما حاصله : إن الأصل فی القیود هو الاحترازیّة ، فالتقیید ب« العادل » احتراز عن غیره ، و الوصف و إنْ لم یکن له مفهوم کالشرط ، إلّا أنه یُوجد التقیید فی أصل الطبیعة و إلّا لزم لغویّة القید ، فلا بدّ من حمل المطلق علیه .

توضیحه : لقد ذهب السید الخوئی فی الوصف إلی أنّه لا مفهوم له ، فلو قال أکرم العالم العادل ، لم یکن نافیاً لوجوب إکرام الهاشمی ، و لا تقع بینه و بین : « أکرم العالم الهاشمی » منافاة ، لکنَّ أثر التقیید بالعادل هو نفی وجوب الإکرام عن طبیعی العالم ، لئلّا یلزم لغویة التقیید به . و علی هذا ، فإنّ وجود هذا القید یمنع من تعلّق وجوب الإکرام بطبیعی العالم بل لا بدّ من حمله علیه .

إشکال الأُستاذ

و أورد علیه الأُستاذ : بأنّ الأمر فی الإطلاق البدلی کذلک ، فلما ذا قال هناک بتقدّم المقیَّد علی المطلق من باب القرینیة - تبعاً لاستاذه - و هنا یقول بالتقدّم من باب المفهوم فراراً من لزوم اللغویّة ؟

( قال ) لکنّ الإشکال العمدة هو النقض بمسألة تبعیّة الأداء للقضاء و عدمها ، و ذلک : إن القائلین بعدم التبعیّة لمّا استدلّوا بأنّ الصّلاة کانت مقیَّدة

ص:441

بالوقت ، فلما انقضی انتفی وجوب الصّلاة بانتفاء القید ، فیحتاج وجوبها فی خارج الوقت إلی دلیلٍ جدید .

فأشکل السید الخوئی رحمه اللّٰه علیهم : بأنکم تقولون بجریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة ، و المسألة من صغریاتها ، لأنّه لمّا خرج الوقت یقع الشکّ فی أنه کان دخیلاً فی وجوب الصّلاة بنحو وحدة المطلوب أو تعدّده ، و حیث أنّ الوجوب قد تعلَّق بالصّلاة الجامع بین المطلق و المقیَّد ، و متعلَّق الشک بعد الوقت هو وجوب الصّلاة ، فإنّه یستصحب الوجوب ، و لا حاجة إلی أمرٍ جدید .

فیرد علی السیّد الخوئی : إنکم تقولون بمفهوم الوصف - علی الحدّ المذکور - و المفهوم من الأدلّة اللفظیّة ، فلمّا قُید وجوب الصّلاة بالوقت کان مفهوم ذلک انتفاء الوجوب عن طبیعی الصّلاة بخروج الوقت ، و مع وجود هذا الدلیل اللّفظی علی انتفاء وجوب الصّلاة و احتیاج القضاء إلی أمر جدیدٍ ، لا تصل النوبة إلی التمسّک بالأصل العملی .

أقول :

السیّد الخوئی یقول بمفهوم الوصف کما تقدم ، و المشهور لا یقولون به .

و المشهور یقولون بجریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة ، و السید الخوئی لا یقول به .

فإشکاله علی المشهور - فی مسألة تبعیّة القضاء للأداء - ردٌّ علیهم بناءً علی ما ذهبوا إلیه ، فما ذکره شیخنا غیر وارد علیه .

( قال ) و أمّا حلّ المطلب ، فإنّ المهمّ فیه فهم أنّ المقیّد إذا قیّد الطبیعة فهل یقیّدها بجمیع مراتبها أو علی حدّ القید ؟

ص:442

لا ریب أنّ کلّ ظاهر حجّة ، و أنّه لا بدّ من التحفّظ علی الظهور بقدر الإمکان ، فلمّا قال أکرم العالم ، فإنّه ظاهر فی وجوب إکرام مطلق العالم ، و الحکم انحلالیّ یجری علی کلّ أفراد العالم و ینحلّ و یتحقّق هناک إطاعات و معاصی علی عدد العالم ، ثم لمّا قال : أکرم العالم العادل ، فقد ورد عنه حکم و له ظهوره و یجب التحفّظ علیه کذلک ، و لمّا لم یکن الحکم متّحداً - بخلاف صورة صرف الوجود - و الأصل فی القیود هو الاحترازیة ، یحتمل أنْ یکون قید العدالة نافیاً للحکم من أصله ، فلا وجوب للإکرام بالنسبة إلی طبیعة العالم ، و یحتمل أنْ یکون لإکرام طبیعی العالم مصلحة لکنْ فی إکرام العادل مصلحة اخری ، و مع وجود الاحتمال الثانی لا وجه لانتفاء الإکرام من أصله ، بل العقل حاکم ببقاء الحکم بالنسبة إلی الطبیعة ، و بذلک حصل التحفّظ علی الظهور فی الدلیلین ، و التحفّظ علی أصالة الاحترازیة فی القیود ، و لم تلزم اللغویّة فی أخذ القید ، لأنّه قد أثّر فی مرتبة الطلب ... فکان قول المشهور هو مقتضی القاعدة ، و أنّ الصحیح حمل المقیَّد مع الإطلاق الشمولی علی المرتبة الأکیدة من الطلب ، لا حمل المطلق علی المقیَّد ، کما کان وجوب قضاء الصّلاة کاشفاً عن کون القید - و هو الوقت - دخیلاً فی مرتبة الطلب لا فی أصله ، سواء قلنا بأن القضاء بأمرٍ جدید أو هو بالأمر الأول .

ص:443

الکلام فی المستحبات

اشارة

و هل یطرح بحث حمل المطلق علی المقیَّد فی المستحبات کذلک ؟

مقتضی القاعدة هو الحمل إن کان المطلق بنحو صرف الوجود ، بمناط القرینیّة و غیره من المبانی المذکورة .

لکنَّ الفقهاء یحملون الأدلّة المقیَّدة فی المستحبّات علی الأفضلیة . و قد ذکروا فی توجیه ذلک وجوهاً :

الأول : إن الغالب فی المستحبّات هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبیّة . قاله فی ( الکفایة ) ثم أمر بالتأمّل (1) .

و وجهه واضح ، لأنّ غایة ما تفیده الغلبة هو الظن ، لکنّ رفع الید عن الظهور بمثل هذا الظن مشکل ... .

الثانی : إنه مقتضی قاعدة التسامح فی أدلّة السنن فی أدلّة المستحبّات ، فلا ترفع الید عن دلیل استحباب المطلق بعد مجیء دلیل المقیَّد ، بل یحمل علی تأکّد استحبابه . قاله فی ( الکفایة ) .

إلّا أنه أشکل علیه فی ( التعلیقة ) بقوله : لا یخفی أنه لو کان حمل المطلق علی المقید جمعاً عرفیاً ، کان قضیته عدم الاستحباب إلّا للمقیّد ، و حینئذٍ إنْ کان بلوغ الثواب صادقاً علی المطلق ، کان استحبابه تسامحیّاً و إلّا فلا استحباب له أصلاً . کما لا وجه - بناءً علی هذا الحمل و بلوغ الثواب - یؤکّد الاستحباب فی المقیّد .

ص:444


1- 1) کفایة الاصول : 251 .

و قد اختار الأُستاذ هذا الجواب . مضافاً إلی أن المستفاد من أخبار ( من بلغ ) (1) هو الإرشاد إلی حکم العقل بأنّ الإتیان بالعمل بقصد الرجاء محقق لموضوع الانقیاد ، و کلّ من یکون منقاداً فهو مستحق للثواب عقلاً .

و أمّا جواب ( المحاضرات ) ، من أنه بناءً علی تمامیّة قاعدة التسامح و فرض صدق البلوغ ، فقد تعلّق الأمر بالمطلق و بالمقیَّد ، و کلّ منهما مستحب ، و لا وجه للحمل علی الأفضلیّة .

ففیه : إن المفروض کون المطلق بنحو صرف الوجود ، فهو منطبق علی المقیَّد ، و حینئذٍ یحصل الاندکاک و هو المرتبة الأکیدة من الطلب .

الثالث : إن الدلیل الدالّ علی التقیید یتصوّر علی أربعة وجوه :

( الأول ) أن یکون ذا مفهومٍ ، بمعنی أن یکون لسانه لسان القضیّة الشرطیة ، کما لو قال : صلاة اللیل مستحبة و هی احدی عشرة رکعة ، ثم قال : إن استحبابها فی الإتیان بها بعد نصف اللیل . ففی مثل ذلک ، لا مناص من الحمل ، نظراً إلی أن المقیّد ینفی الاستحباب فی غیر الوقت من جهة دلالته علی المفهوم .

( الثانی ) أن یکون المقید مخالفاً للمطلق فی الحکم ، کما لو قال : الإقامة للصّلاة مستحبة ، ثمّ نهی عن الإقامة فی حال الجلوس . ففی مثل ذلک ، لا مناص من الحمل کذلک ، لکون النهی المذکور إرشاداً إلی المانعیّة .

( الثالث ) أن یکون الأمر فی المقیَّد متعلِّقاً بالتقیید لا القید ، کما لو دلّ الدلیل علی استحباب الإقامة للصّلاة ، ثم ورد دلیل آخر یأمر أنْ یکون الإقامة فی حال القیام . و فی مثله لا بدّ من الحمل أیضاً ، لأن هذا الأمر إرشاد إلی شرطیة القیام فی الإقامة .

ص:445


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 80 ، الباب 18 .

فظهر : وجوب الحمل فی هذه الصور ، و أن القول بعدم الحمل فی المستحبّات لا أصل له .

( الرابع ) أن یکون الأمر فی المقیَّد متعلّقاً بالقید بما هو ، و هو الغالب فی المستحبات ، کما إذا قال : زر الحسین علیه السلام . و قال : زر الحسین علیه السلام فی کلّ لیلة جمعة .

و الظاهر أنه لا یحمل المطلق علی المقیّد فی هذا القسم ، لأن ملاک الحمل - کما تقدم - هو التنافی بین الدلیلین ، و إنما یقع بینهما إن کانا إلزامیین ... بل یحمل المقیَّد علی تأکّد الاستحباب و الأفضلیة .

ذکره فی ( المحاضرات ) ، قال : و هو الجواب الصحیح (1) .

إشکال الأُستاذ

قال الأُستاذ : و فیه وجوه من النظر :

أمّا أولاً : فإنّ تعلّق الأمر بالقید بما هو ، غیر معقول ، بل التقیّد داخل تحت الطلب کما فی المثال الذی ذکره ، حیث أن المستحب زیارته علیه السلام مطلقاً ثم جاء الأمر بالحصّة ، کالمطلق و المقیَّد الواجبین ، مثل أعتق رقبةً و أعتق رقبةً مؤمنة .

و أمّا ثانیاً : لقد نصَّ علی أنّ الأوامر و النواهی فی المرکّبات - سواء فی العبادات أو المعاملات - إرشادیة ، و فی هذا القسم کذلک ، فلما ذا لم یقل بالحمل ؟

و أمّا ثالثاً : إن الأساس فی تقدّم المقیَّد - عنده - هو القرینیّة من جهة حکومة القرینة علی ذیها ، و هذا الملاک موجودٌ فی المستحبات کذلک ، لأن المطلق لا بشرط عن الخصوصیات ، و فی المقیَّد أُخذت الخصوصیة ، فوقع البحث فی المستحبات عن الحمل و عدمه کما وقع فی الواجبات .

ص:446


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 552 .

و بعبارة اخری : إن مدار البحث هو القرینیّة ، و أن الأصل فی القیود الاحترازیة من غیر فرق بین الوجوب و الاستحباب ، و قد ذکرتم فی الواجبات لزوم الحمل حفظاً لما ذکر و فراراً عن لزوم اللغویّة فی أخذ القید ، فلما ذا لا تقولون بذلک فی المستحبات مع جریان کلّ ذلک فیها ؟

رأی الأُستاذ

و الصحیح عند الأُستاذ - فی کلتا الدورتین - هو النظر فی الدلیل ، فإنّه إذا کان المتعلَّق مطلق الوجود لا صرف الوجود ، و فی المقیَّد هو الحصّة ، فالحکم متعدّد ، و مقتضی القاعدة عدم الحمل . و إن کان المطلق بنحو صرف الوجود ، فإنْ ثبت بدلیل أو قرینة من الخارج تعدّد المطلوب ، کمثال زیارة الحسین علیه السلام ، فلا حمل بل یحمل علی الأفضلیة ، و إنْ احرز وحدة المطلوب أو لم تقم قرینة علی تعدّده ، فالمرجع هو الأصل العملی علی ما سیأتی فی مباحث دوران الأمر بین الأقل و الأکثر .

ص:447

تنبیه

إن جمیع البحوث المذکورة فی ( باب العام و الخاص ) من جواز تخصیص العام بخبر الواحد و عدمه ، و مسائل إجمال المخصّص مفهوماً أو مصداقاً ، و أنه هل یجوز التمسّک بالعام مع إجمال المخصص أوْ لا ، و کلّ ما تقدّم فی تردّد المخصّص بین الأقل و الأکثر و بین المتباینین ، و أنه هل یجوز تخصیص العام بالمفهوم موافقاً أو مخالفاً ... کلّ ذلک جارٍ فی ( باب المطلق و المقیَّد ) فیقال : هل یجوز تقیید المطلق الکتابی بخبر الواحد المقیّد ؟ و هکذا ...

و کلّ ما اخترناه هناک فهو المختار هنا ... لوحدة المناط ... و حتی بحث استصحاب العدم الأزلی ، فإنّه غیر مختص بباب ( العموم و الخصوص ) .

اللهم إلّا مسألة واحدة ، قال الشیخ فیها بالفرق بین البابین ، فذکر أنّ التخصیص محدودٌ بحدّ عدم لزوم تخصیص الأکثر أو عدم التساوی بین الباقی تحت العام و الخارج بالتخصیص عنه ... أمّا تقیید المطلق فغیر محدود أصلاً .

و أشکل علیه الأُستاذ : بأنّ المطلقات - سواء کانت فی مقام التعلیم أو الإفتاء - قوانین ، و تقییدها بغیر حدٍّ یخرجها عن القانونیة ، و هذا تهافت .

و هذا تمام الکلام فی المطلق و المقیَّد .

ص:448

المقصد السادس المجمل و المبیّن

اشارة

ص:449

ص:450

تعریف المبیَّن و المجمل

قال فی الکفایة :

الظاهر أن المراد من المبیَّن فی موارد إطلاقه : الکلام الذی له ظاهر ، و یکون بحسب متفاهم العرف قالباً لمعنیً مخصوص ، و المجمل بخلافه .

یعنی : لیس للمجمل و المبیَّن اصطلاح خاص ، بل المراد هو المعنی اللّغوی ، و الملاک هو الظهور و عدمه .

و وافقه المحقق العراقی . و ذکر تعریفاً آخر هو : إن المجمل عبارة عمّا لا یکون بحجّة و لا یستطرق به إلی الواقع ، فیقابله المبیَّن و هو الذی یستطرق به إلی الواقع .

یعنی : أنّ کلّ لفظ له حکایة عن المراد الجدّی فهو مبیَّن ، و کلّ ما لیس کذلک فهو مجمل . وعلیه : فلو ورد علی العام مخصّص مردّد بین المتباینین کان مجملاً ، لعدم وضوح المراد الجدّی .

و قد ذکر فی ( نهایة الأفکار ) الفرق بین التعریفین ، ثم قال : لکنّ الذی یسهّل الخطب عدم ترتّب ثمرة مهمّة علی النزاع .

و ذکر الأُستاذ : إن التعریف الأول للمجمل ناظر إلی الإجمال الحکمی و الثانی ناظر إلی الإجمال الحقیقی ... لأنّ اللّفظ تارةً : یکون فاقداً للظهور

ص:451

و الکاشفیة عن المعنی ، کاللّفظ المشترک مثل « القرء » و هذا هو الإجمال الحقیقی .

و اخری : یکون ظاهراً فی معناه الموضوع له ، إلّا أن المراد الجدّی منه غیر معلوم ، کما لو ورد المخصص المردّد بین المتباینین علی العام ، فلا یعلم المراد الجدّی منه مع وضوح المعنی الموضوع له . و هذا هو الإجمال الحکمی .

قال فی الکفایة :

و لکلٍّ منهما فی الآیات و الروایات و إنْ کان أفراد کثیرة لا تکاد تخفی ، إلّا أن لهما أفراداً مشتبهة وقعت محلّ البحث و الکلام للأعلام فی أنها من أفراد أیّها ؟ کآیة السرقة (1) ، و مثل «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّهٰاتُکُمْ » (2)و « أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهیمَةُ اْلأَنْعٰامِ » (3)ممّا اضیف التحلیل إلی الأعیان ، و مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» .

قال الأُستاذ : لعلّ أوّل اصولی بحث عن ذلک هو السیّد فی الذریعة ثم الشیخ فی العدّة ثم المحقق فی المعارج ، حتی وصل إلی الشیخ الأنصاری ...

فبحثوا عن لفظ « الید » فی آیة السرقة ، و لفظ « القطع » فیها ، و کذا فیما اضیف إلی الأعیان مثل الآیتین المذکورتین ، إذْ لا بدّ من التقدیر ، فما هو المقدّر ؟ و فی مثل « لا صلاة إلا بطهور » « لا » نافیة للصحّة أو الکمال أو الحقیقة ؟

ثمّ قال : الحق عندنا أنْ لا إجمال فی هذه الموارد ، فإنّ « الید » ظاهرة فی معناها بحسب متفاهم العرف ، إلّا أن القرینة الخارجیة قامت علی أنّ القطع من الأصابع ، و کذا الآیات ، فإن الظهور العرفی فی آیة الامّهات هو تحریم الوطی و لا إطلاق فیها لیشمل النظر ، و فی آیة المیتة هو حرمة الأکل ، و فی الحدیث نفی الحقیقة إلّا إذا قامت قرینة .

ص:452


1- 1) سورة المائدة : الآیة 38 .
2- 2) سورة النساء: الآیة 23.
3- 3) سورة المائدة: الآیة 1.

أقول :

ذکر فی ( الکفایة ) : إن ما لیس له ظهور مجمل و إنْ علم بقرینة خارجیة ما أرید منه ، کما أنّ ما له الظهور مبیّن و إنْ علم بالقرینة الخارجیة أنه ما ارید ظهوره و أنه مؤوّل .

و علی الجملة ، فإنّ هذه الموارد الجزئیّة و إنْ خرجت عن الإجمال للظهور العرفی فیها ، لکنّ البحث کبروی ، و قد ذکرت هذه الموارد من باب المثال .

قال فی الکفایة

ثم لا یخفی أنهما وصفان إضافیّان ، ربّما یکون مجملاً عند واحد ، لعدم معرفته بالوضع أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لدیه ، و مبیّناً لدی الآخر ، لمعرفته و عدم التصادم بنظره ، فلا یهمّنا التعرض لموارد الخلاف و الکلام و النقض و الإبرام (1) .

و وافقه المحقق العراقی (2) .

و قیل : بل هما أمران واقعیّان ، فالعبرة بنظر أهل العرف ، فکلّ لفظ کان ظاهراً فی معناه و کاشفاً عنه عندهم فهو مبیّن ، و کلّ لفظٍ لا یکون کذلک - سواء بالذات أو بالعرض - فهو مجمل ، فلا واسطة بینهما . قاله فی ( المحاضرات ) (3) .

( قال ) : فما أفاده صاحب ( الکفایة ) خاطئ جدّاً ، لأنّ الجهل بالوضع و العلم به لا یوجبان الاختلاف فی معنی الإجمال و البیان ، و لا یوجب الجهل بالمعنی کون اللّفظ من المجمل ، و إلّا یلزم أن تکون اللّغات العربیة مجملةً عند الفرس و بالعکس ، مع أن الأمر لیس کذلک . نعم ، قد یقع الاختلاف فی لفظٍ بین

ص:453


1- 1) کفایة الاصول : 253 .
2- 2) نهایة الأفکار (1 - 2) 584 .
3- 3) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 556 .

أهل اللّسان ، فیقول أحدهم هذا مجمل و یقول الآخر بکونه مبیّناً ، لکنّه اختلاف فی مقام الإثبات ، و هو مما یشهد بکون الإجمال و البیان من الامور الواقعیّة ، و إلّا فلا معنی لوقوع النزاع فی لفظٍ لو کانا من الامور الإضافیة التی تختلف باختلاف أنظار الأشخاص .

رأی الأُستاذ

و فصّل الأُستاذ فی هذه الجهة ، فقال : بأنّ من الألفاظ ما هو مبیَّن ، فهو ظاهر أو نصّ فی معناه ، و منها ما هو مجمل بأصل الوضع کالألفاظ المشترکة ، و قد یکون لفظٌ مبیّناً بالإضافة إلی شخص و مجملاً بالإضافة إلی غیره ، کلفظ « الکر » حیث أنه لیس بمجملٍ عند ابن أبی عمیر الذی سأل الإمام عنه و أجاب بأنه ألف و مائتان رطل ، لکنه بالنسبة إلینا مجمل .

ثم إنّ الإجمال - کما تقدّم - إما حقیقی و إمّا حکمی ، فإنْ کان حقیقیاً فلا کاشفیة له عن المراد الاستعمالی ، و لا حجیّة له بالنسبة إلی المراد الجدّی ، و إن کان حکمیّاً ، سقطت کاشفیته عن المراد الجدّی و إنْ کان ظاهراً فی المراد الاستعمالی .

و قد یکون لفظ مجملاً من جهةٍ و مبیَّناً من جهة اخری ، فکلّما کان مبیّناً فإنه یؤخذ به ، و کلّما کان مجملاً فلا کاشفیة له عن المعنی . و مثال ذلک هو : إنه قد سأل ابن أبی عمیر عن الکرّ فأجاب الامام بأنه ألف و مائتا رطل (1) .

و مرسلات ابن أبی عمیر معتبرة .

و سأل محمّد بن مسلم - فی خبر صحیح - فأجاب الإمام علیه السلام بأنه ستمائة رطل (2) .

ص:454


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 167 ، الباب 11 من أبواب الماء المطلق ، رقم : 1 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 168 ، الباب 11 من أبواب الماء المطلق ، رقم 3 .

فوقع التعارض بین الخبرین .

لکنّ « الرطل » مجمل ، فمنه العراقی و منه المدنی و المکی ، و الأکثر وزناً هو المکی و الأقل هو العراقی ، لکنّ المرسلة تنفی أنْ یکون الکرّ أقل من الألف و المائتین رطلاً عراقیاً ، فهی نصٌّ فی ذلک ، و الصحیحة تفید أنه لیس بأکثر من الستمائة رطلاً مکّیاً ، فارتفع بنصوصیّة کلٍّ منهما الإجمال الموجود فی الآخر ، و بذلک ارتفع التعارض بین الخبرین ، و کانت النتیجة فی حدّ الکرّ أنه الألف و المائتین رطل عراقی .

و تلک قاعدة جاریة فی الفقه فی نظائر هذا الموارد .

و هذا آخر الکلام فی المجمل و المبین .

و تمّ الجزء الرابع و به ینتهی البحث عن مباحث الألفاظ و یلیه الجزء الخامس و أوّله : المقصد السابع فی القطع .

و الحمد للّٰه ربّ العالمین ، و الصّلاة و السّلام علی خیر خلقه محمّد و آله الطّاهرین.

ص:455

المجلد 5

اشارة

ص :1

ص :2

ص :3

ص :4

کلمة المؤلّف

الحمد للّٰه رب العالمین ، و الصّلاة و السّلام علی خیر خلقه محمّد و آله الطیّبین الطاهرین ، و لعنة اللّٰه علی أعدائهم أجمعین من الأوّلین و الآخرین .

و بعد :

فهذا هو الجزء الخامس من کتابنا ( تحقیق الاصول ) الذی دوّنت فیه ما ألقیته علی ثلّة من الفضلاء فی الحوزة العلمیّة ( علی ضوء أبحاث شیخنا الاستاذ دام ظله ) ، و هو الجزء الأوّل من أبحاثنا فی الاصول العملیّة .

و إنی لأشکر اللّٰه کثیراً علی وقوع الأجزاء السّابقة من هذا الکتاب، لدی أهل الفضل الکرام، موقع القبول و الاستفادة و الإعجاب، و أنّهم ما زالوا یطالبون بنشر بقیّة أجزائه ، و ذلک من فضل اللّٰه و کرمه و هو ولیّ الإنعام .

ثم إنَّ جماعةً منهم قد اقترحوا علیّ الامور التالیة :

التفصیل الأکثر و تبسیط المطالب بقدر الإمکان .

و إیراد بعض نصوص عبارات الأعلام فی المسائل المهمّة بحسب الحاجة ،

ص:5

و عدم الاکتفاء بذکر مجمل آرائهم .

و التعرّض لآراء سیّدنا الاستاذ الرّوحانی أکثر من ذی قبل ، و لآراء السیّد الشهید الصّدر .

فنزلت عند رغبتهم فی هذا الجزء و الأجزاء اللّاحقة ، و أسأل اللّٰه التوفیق للإتمام بمحمّد و آله علیهم الصّلاة و السّلام.

علی الحسینی المیلانی

1430

ص:6

الأُصول العملیّة

اشارة

ص:7

ص:8

تمهید

اشارة

ص:9

ص:10

تقسّم المسائل الاصولیّة إلی قسمین :

مباحث الاصول اللفظیة ، و قد تقدّم الکلام علیها بالتفصیل :

مباحث الاصول العملیّة .

و المحور فی کلا القسمین هو «الأصل» .

لکنّ موضوع الأصل فی القسم الأول هو «الظهور» و فی الثانی هو «الشک» ، و المراد منه الأعم من الظن و الشک المتساوی الطرفین .

إلّا أن فی کلٍّ من القسمین مباحث استطرادیّة .

و البحث الاستطرادی العمدة فی القسم الثانی هو «القطع» کما سیظهر .

حالات المکلّف

قال الشیخ الأعظم :

اعلم أن المکلّف إذا التفت إلی حکمٍ شرعی ، فإمّا أنْ یحصل له الشک فیه أو القطع أو الظن (1) .

و من هنا، فقد وضع کتابه ( فرائد الاصول ) بثلاثة رسائل، لکلّ حالةٍ رسالة ،

ص:11


1- 1) فرائد الاصول 1 / 25 .

و لذا عرف کتابه ب( الرسائل ) أیضاً .

فالشیخ قسّم حالات المکلّف إلی ثلاثة أقسام .

لکنّ صاحب الکفایة غیّر التعبیر عن الموضوع و قسّمه بنحوٍ آخر فقال :

فاعلم : أن البالغ الذی وضع علیه القلم ، إذا التفت إلی حکم فعلی ، واقعی أو ظاهری ، متعلّق به أو بمقلّدیه ، فإمّا أن یحصل له القطع به أوْ لا ، و علی الثانی ، لا بدّ من انتهائه إلی ما استقلّ به العقل ، من اتّباع الظن لو حصل له و قد تمّت مقدمات الانسداد - علی تقدیر الحکومة - ، و إلّا فالرجوع إلی الاصول العقلیة من البراءة و الاشتغال و التخییر ، علی تفصیلٍ یأتی فی محلّه إن شاء اللّٰه تعالی (1) .

فهو قسّم حال المکلّف إلی قسمین : أن یحصل له القطع و أنْ لا یحصل .

المراد من المکلّف فی التقسیم

و قد وقع الإشکال فی المراد من « المکلّف » المجعول مقسماً فی هذا المقام ، لأن الالتفات معتبر فی التکلیف ، فلا وجه لأنْ یشترط ، فقال المحقق الخراسانی فی الحاشیة : مراده بالمکلّف من وضع علیه القلم من البالغ العاقل ، لا خصوص من تنجّز علیه التکلیف ، و إلّا لما صحّ جعله مقسماً (2) .

و لذا غیّره فی الکفایة إلی « البالغ الذی وضع علیه القلم » .

و علی الجملة ، فهو یری أنّ الشاکّ فی الحکم لیس بمکلّف فعلی لکنه بالغ وضع علیه القلم ، فیدخل فی المقسم .

ص:12


1- 1) کفایة الاصول : 257 .
2- 2) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 21 .

أقول :

الظاهر أنّ منشأ الإشکال هو البناء علی شرطیّة « إذا » کما هو ظاهر شیخنا أیضاً ، و أمّا بناءً علی کونها ظرفیّةً ، فلا یلزم ، فالمکلّف حین یلحظ الحکم ، فإمّا یکون قاطعاً أو ظانّاً به أو شاکّاً فیه ، کما قال الشیخ قدّس سرّه ، و یکون قاطعاً أو غیر قاطع ، کما قال صاحب الکفایة قدّس سرّه ، کما سیأتی .

هل المراد خصوص المجتهد ؟

و وقع الاختلاف فی المراد من « المکلّف » من جهة أنّه خصوص المجتهد أو مطلق المکلّف ؟ فظاهر الشیخ هو الثانی ، و هو ما نصّ علیه تلمیذه فی شرحه إذ قال : المراد من المکلّف أعم من المجتهد و العامی ، کما هو قضیّة ظاهر اللّفظ (1) .

و صریح الکفایة هو الأوّل .

لکنّ المیرزا یری أنّ مراد الشیخ خصوص المجتهد (2) ثم اختار ذلک و أفاده لدی التقسیم ، إذ قال : اعلم أن البالغ الذی وضع علیه قلم التکلیف إذا التفت فی مقام الاستنباط إلی حکم شرعی ... (3) .

أقول :

إنه لا ریب فی أنّ الموضوعات المأخوذة فی المسائل هی للأعم من المجتهد و المقلّد ، ففی مسألة حجیّة خبر الثّقة ، لمّا یستدلّ بالکتاب و السنّة و غیرهما ، لا یفرّق بین المجتهد و غیره ، و هو مقتضی عموم قوله تعالی : «یٰا أَیُّهَا

ص:13


1- 1) بحر الفوائد 1 / 7 - 8 .
2- 2) فوائد الاصول 3 / 3 .
3- 3) أجود التقریرات 3 / 9 .

الَّذینَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ » (1)، و أدلّة الاستصحاب - مثلاً - ظاهرة فی العموم کقوله علیه السلام : « لا ینقض الیقین بالشکّ » (2) و کذا أدلّة البراءة مثل « الناس فی سعةٍ ما لم یعلموا » (3) .

أدلّة القول بالاختصاص

و لکنّ المهمَّ هو المقصود من قولهم « إذا التفت »، فإنه إن کان المراد هو الالتفات التفصیلی إلی خصوصیّات الأمارات و مجاری الاصول ، فلا شکّ فی عدم تحقّقه من العامی .

کلام المحقق النائینی

و لذا قال المیرزا :

و المراد من المکلّف هو خصوص المجتهد ، إذ المراد من الالتفات هو الالتفات التفصیلی الحاصل للمجتهد بحسب اطّلاعه علی مدارک الأحکام ، و لا عبرة بظنّ المقلّد و شکّه . و کون بعض مباحث القطع تعمّ المقلّد لا یوجب أن یکون المراد من المکلّف الأعم من المقلّد و المجتهد ، إذ البحث عن تلک المباحث وقع استطراداً و لیست من مسائل علم الاصول ، و مسائله تختص بالمجتهد و لا حظّ للمقلّد فیها . و لا سبیل إلی دعوی شمول أدلّة اعتبار الطرق و الاصول للمقلّد ، غایته أنّ المقلّد عاجز عن تشخیص مواردها و مجاریها ، و یکون المجتهد نائباً عنه فی ذلک ، فإنه کیف یمکن القول بشمول خطابٍ مثل :

ص:14


1- 1) سورة الحجرات : 6 .
2- 2) وسائل الشیعة 8 / 216 ، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة ، رقم : 3 .
3- 3) عوالی اللآلی 1 / 424 .

« لا تنقض الیقین بالشک » فی الشبهات الحکمیة للمقلّد ، مع أنه لا یکاد یحصل له الشک و الیقین ، بل لو فرض حصول الشک و الیقین له، فلا عبرة بهما ما لم یکن مجتهداً فی مسألة حجیّة الاستصحاب (1) .

و قد تعرّض المیرزا فی هذا الکلام لما ذکرناه من عموم الموضوع فی الأدلّة، و أشکل علی ذلک بما حاصله عدم شمول الأدلّة لغیر المجتهد، ثم ذکر أنّه لو فرض حصول الشک و الیقین له فلا عبرة بهما .

و الحاصل إنه یذهب إلی قصور الأدلّة عن الشمول لغیر المجتهد .

کلام المحقق العراقی

و یضاف إلی ذلک وجه آخر ذکره المحقق العراقی و هو :

إنه علی فرض الشمول و العموم ، فإنّ شرط الحجیّة غیر حاصلٍ لغیر المجتهد ، لأنّ شرط الأخذ بأیّ حجةٍ من الحجج أو أصلٍ من الاصول ، هو الفحص عن المعارض للخبر مثلاً أو الدلیل المانع من التمسّک بالأصل ، و الفحص عن ذلک عمل المجتهد لا غیره (2) .

المناقشة فیها

و قد نوقش فی الوجوه المذکورة .

أمّا أنّ المقصود هو الالتفات التفصیلی و هو یحصل للمجتهد .

ففیه : إن هذا قد یحصل لأهل العلم و الفضلاء غیر البالغین مرتبة الاجتهاد ، و یتمّم المطلب لغیر أهل العلم بعدم القول بالفصل . قاله المحقق العراقی(3) .

ص:15


1- 1) فوائد الاصول 3 / 3 - 4 .
2- 2) ( - 3) نهایة الأفکار، ق 1 ج 3 ص 2 .

و أشکل علیه شیخنا : بأنْ لا فائدة فی عدم القول بالفصل ، بل المفید هو القول بعدم الفصل و هو غیر موجود ، علی أنه لو کان فهو إجماع مدرکی . مضافاً إلی أن المسألة من المستحدثات فی القرون الأخیرة ، و لا حجیّة للإجماع المدّعی فیها .

بل الحق فی الجواب علی کلام المیرزا : حصول الالتفات التفصیلی لغیر المجتهد من المکلّفین موجبةً جزئیّة ، کما تقدّم .

و أمّا ما ذکره من عدم شمول دلیل الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة لغیر المجتهد ، فقد أجاب شیخنا :

أوّلاً : أنه ینتقض بإجراء المقلّد للاستصحاب فی الشبهات الموضوعیّة ، الجائز له ذلک بالاتّفاق ، فکما یحصل له الیقین و الشک ، فیها کذلک یحصلان له فی الشبهات الحکمیّة .

و کذا أجاب السیّد الصّدر إذ قال: إنّ غیر البالغ أیضاً ربما تحصل له شبهة حکمیّة ، و لا بدّ له عقلاً من تحصیل مؤمّن تجاهها (1) .

و ثانیاً : إن القول بعدم العبرة بالیقین و الشک ما لم یکن مجتهداً فی مسألة حجیة الاستصحاب ، یستلزم المحال ، لأن الیقین و الشک بالحکم موضوع للحجیّة ، و العلم بالحجیّة متأخر عنها رتبةً ، کما أنّ الحجیة متأخرة رتبةً عن الیقین و الشک ، فکان العلم بحجیّة الاستصحاب متأخراً عنها بمرتبتین ، فلو کانت موضوعیّتهما للحجیّة متوقّفة علی العلم بالحجیّة لزم الدور .

ص:16


1- 1) مباحث الاصول ، الجزء الأول من القسم الثانی : 178 .

و أمّا ما ذکره من اختصاص موضوعات أدلّة الطرق و الاصول بالمجتهد ، فالموضوع فی آیة النبأ هو المجتهد ، و هو الموضوع فی مثل : « من جاءه الخبران المختلفان » و فی أدلّة الاستصحاب ، و هکذا .

ففیه : إن الأمر لیس کذلک ، لأنّ الخطاب فی الآیة لعموم المسلمین ، و هل کان کلّهم فی صدر الإسلام من أهل النظر و الاجتهاد ؟ هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن أدلّة حجیة خبر الثقة إمضاء للسیرة العقلائیة ، و هی قائمة علی العموم و الشمول للمقلّد .

و أمّا الإشکال باشتراط الأخذ بالدلیل أو الرجوع إلی الأصل بعدم المعارض و الدلیل ، فقد أجاب عنه المحقق الخوئی (1) - و تبعه سیدنا الاستاذ (2) و شیخنا و غیرهما (3) - بما حاصله : أنّ عجز المقلّد عن الفحص لا یخرجه عن کونه مخاطباً بالأدلّة ، بل إنه یرجع إلی المجتهد فی الفحص و الیأس عن المعارض و الدلیل من باب الرجوع إلی أهل الخبرة ، فإذا أخبره بالیأس عن العثور ، أخذ المقلّد بالخبر أو بالأصل و عمل بمقتضاه .

و بعبارة اخری : إنّ الفحص إنما یلزم لإحراز عدم المانع من الأخذ بالدلیل أو الأصل ، و هذا الإحراز کما یمکن أنْ یکون بالوجدان، کذلک یمکن حصوله بالتعبّد ، کإخبار أهل الخبرة أو قیام البیّنة .

فظهر : أنْ لا وجه لتخصیص المکلّف فی موضوع التقسیم بالمجتهد ، بل

ص:17


1- 1) مصباح الاصول 2 / 9 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 16 .
3- 3) کالسیّد الصدر، بحوث فی علم الاصول 4 / 15 .

هو أعمّ منه و من غیره ... .

بل ذکر سیدنا الاستاذ رحمه اللّٰه أنه لا ظهور لقول صاحب الکفایة « متعلّق به أو بمقلّدیه » فی أخذه خصوص المجتهد فی موضوع التقسیم ، بل یمکن أنْ یکون نظره إلی تعمیم الآثار فی حالات المجتهد ، بالنسبة إلی نفسه و إلی مقلّدیه ، لا أنّ الموضوع هو خصوص المجتهد . إذ قد یشکل فی ثبوت الآثار لقطع المجتهد من جهتین :

إحداهما : إن بعض الأحکام التی یلتفت إلیها المجتهد ، موضوعها غیر المجتهد ، فلا علم له بالحکم الفعلی بالنسبة إلیه ، کأحکام الحیض بالنسبة إلی المجتهد الرجل .

و ثانیتهما : إن بعض الأحکام و إنْ کانت شاملةً للمجتهد بحسب موضوعها ، لکن لیست محلّ ابتلائه فعلاً ، فلا یتصوّر فی حقّه العمل کی یصحّ التعبّد فی حقّه ، إذ التعبّد بلحاظ الجری العملی .

و یجمع هاتین الجهتین عدم کون الحکم الملتفت إلیه فعلیّاً بالنسبة إلیه .

فنظر صاحب الکفایة إلی أنّ الحکم الذی یلتفت إلیه المجتهد لا یلزم أن یکون متعلّقاً به ، بل أعم مما یکون متعلّقاً به أو بمقلّدیه ، فهو ناظر إلی تعمیم الأثر فی حالة المجتهد ، و لا دلیل علی کون نظره إلی تخصیص الموضوع بالمجتهد (1) .

ص:18


1- 1) منتقی الاصول 4 / 13 .
توجّه الإشکال علی کلا القولین

أقول :

و سواء تمّ رفع الید عن ظاهر کلام الکفایة فی الاختصاص أوْ لا ، فإنّ الإشکال المذکور متوجّه علی القول بتخصیص الموضوع و بالتعمیم معاً ، - و إنْ کان قد یتوهّم وروده علی القول الأول خاصّةً - لأن من الأحکام ما لا علاقة له بالمجتهد الرجل ، کمسائل الحیض ، و منها ما هو مشترک بین عامّة المکلّفین کمسائل الخمس و الزکاة و الحج ، و لکنْ قد لا یتحقّق لها الفعلیّة بالنسبة إلی المجتهد ، فمن قامت عنده الأمارة علی الحکم فیها و هو المجتهد قد لا یرتبط به الحکم ، و من یرتبط به الحکم لم تقم عنده الأمارة . و کذا الحال فی الأصل ، فمن تحقّق عنده موضوع الاستصحاب و هو الیقین و الشک ، قد لا تکون له علاقة بالحکم ، و من له العلاقة به لم یتحقق عنده الموضوع ، فکیف یجری المجتهد الاستصحاب فی حقّ غیره ؟

وجوه الجواب عنه

و قد اجیب عن هذا الإشکال (1) :

بأنّ مقتضی أدلّة الإفتاء و الاستفتاء هو تنزیل المجتهد منزلة المقلّد ، فإذا قامت الأمارة عنده تحقق القیام لها عند المقلّد ، و کذلک الحال فی الشک و الیقین ، فیقین المجتهد و شکّه بمنزلة یقین المقلّد و شکّه ، و إلّا لکان الحکم بجواز الإفتاء و الاستفتاء لغواً .

ص:19


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 3 . نهایة الاصول 3 / 14 .

و قرّبه السیّد الصّدر بقوله :

أی : تنزیل حال المجتهد منزلة حال العامّی ، ففحصه بمنزلة فحص العامی ، و کذلک یقینه بالحالة السابقة أو بالمعلوم الإجمالی ینزّل منزلة یقین العامی ، فتشمله حینئذٍ الوظائف المقرّرة التی انتهی إلیها المجتهد لا محالة . نعم ، بالنسبة إلی الوظائف العقلیة کقاعدة قبح العقاب بلا بیان ، أو منجزیّة العلم الإجمالی ، لا بدّ و أنْ یفترض جعل حکم مماثل لحکم العقل ، بحیث ینتج البراءة و الاحتیاط الشرعیین فی حقّ العامی ، لأن التنزیل بلحاظ الحکم العقلی غیر معقول کما هو واضح .

و أمّا کیفیّة استفادة ذلک إثباتاً ، فببیان : أن المرکوز فی أذهان المتشرّعة و المتفاهم من أدلّة التقلید رجوع العامی إلی المجتهد ، لیطبّق علی نفسه نفس ما یطبّقه المجتهد علی نفسه ، بحیث یثبت فی حقّه نفس ما یثبت فی حقّ المجتهد من درجات إثبات الواقع أو التنجیز و التعذیر عنه لا أکثر ، و هذا لا یکون إلّا مع فرض التنزیل المذکور ، فیستکشف من دلیل التقلید - لا محالة - ثبوت هذا التنزیل و التوسعة فی موضوع من تلک الوظائف الظاهریة بالدلالة الالتزامیّة (1) .

أقول :

إلّا أنّ هذا الجواب غیر تام ، لعدم الدلیل علی التنزیل المذکور فی الیقین و الشک ، و اللّغویّة غیر لازمة ، لأنّ المجتهد قد یکون غنیّاً فیتوجّه علیه الحکم بالخمس ، و یکون مستطیعاً فیجب علیه الحج ، فما ذکر من أن لدلیل التنزیل دلالة

ص:20


1- 1) بحوث فی علم الاصول 4 / 13 - 14 .

اقتضائیّة کما فی قوله عزّ و جلّ «وَسْئَلِ الْقَرْیَةَ » (1)حیث یلزم تقدیر کلمة « الأهل » حتی لا تلزم اللّغویة فی الآیة ، غیر جارٍ فیما نحن فیه ، لأنّ اللّغویة فی الآیة لازمة لو لا التقدیر المذکور ، بخلاف أدلّة الإفتاء و الاستفتاء ، فإنه لا تلزم اللّغویة لها بنفی التنزیل ، لما ذکرنا من أن المجتهد قد یکون غنیّاً و مستطیعاً .

و أمّا دعوی قیام السیرة العقلائیّة علی ذلک ، فعهدتها علی مدّعیها ، و لا أقلّ من الشک ، و القدر المتیقن من التنزیل غیر ما نحن فیه .

و اجیب عنه أیضاً : (2)

بأنّه إن کان المقلّد ملتفتاً إلی الحکم فهو ذو یقین و شکٍ به ، کان المجتهد بالخیار فی إجراء الاستصحاب ، فله أن یجریه بلحاظ یقین و شک مقلّده أو یقین و شک نفسه ، فإذا علم بالحکم أفتی به و رجع إلیه المقلّد فیه ، إذ لا ینحصر رجوع الجاهل إلی العالم بحال کونه عالماً به عن قطعٍ أو أمارة .

و إنْ کان المقلّد غیر ملتفت إلی الحکم، أجری المجتهد الاستصحاب بلحاظ یقینه و شکّه بحال المرأة الحائض مثلاً ، إذ لا مانع من حصول الیقین لشخصٍ بحکم شخص آخر ، و هو یتابعه من باب رجوع الجاهل إلی العالم .

و قد أشکل علیه شیخنا دام بقاه :

بأنه یعتبر فی جریان الأصل وجود الموضوع - أی الیقین و الشک - و فعلیّة الحکم بالنسبة إلیه ، و المفروض هنا عدم ابتلاء المجتهد بالحکم أو عدم فعلیّته

ص:21


1- 1) سورة یوسف : 12 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 8 .

بالنسبة إلیه ، فلا یصحُّ له إجراء الاستصحاب و إنْ توفّر الموضوع لدیه ... و بعبارة اخری : فإنّ هذا الجواب مشتملٌ علی المصادرة ، لأن الإشکال کان من ناحیة عدم فعلیّة التکلیف للمجتهد أو عدم ابتلائه به .

و أجیب عنه أیضاً (1) :

قد یقرّب تخریج عملیّة الإفتاء فی موارد الوظائف الظاهریّة علی القاعدة حتی علی فرض اختصاصها بالمجتهد ، بأنّ الحکم الظاهری و إنْ کان مختصّاً بالمجتهد لتحقّق موضوعه فیه دون المقلّد ، و لکنه بذلک یصبح عالماً بالحکم الواقعی المشترک بین المجتهد و المقلّد تعبّداً ، فیکون حاکماً علی دلیل الإفتاء بالعلم و الخبرة بمقتضی دلیل التعبّدیة فیفتی المجتهد مقلّدیه بالحکم الواقعی المعلوم لدیه بهذا العلم ، و هذا أمر علی القاعدة لا یحتاج فیه إلی عنایة زائدة بعد فرض دلالة دلیل الحجیّة و العلمیة التعبّدیة .

أقول :

لکنّ هذا الجواب أیضاً لا یحلّ المشکلة فی الاستصحاب - کما مثّلنا - لو کان مجدیاً فی غیره .

التحقیق فی الجواب

و قد رأی شیخنا - و کذا السیّد الاستاذ (2) - أنّ التحقیق فی الکلام علی هذا الإشکال هو أنه :

إن قلنا : بأنّ المراد من الیقین و الشک فی أدلّة الاستصحاب هو المتیقّن

ص:22


1- 1) بحوث فی علم الاصول 4 / 11 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 18 - 19 .

و المشکوک ، و مفادها هو اعتبار بقاء الحادث أی: اعتبار الملازمة بین الحدوث و البقاء ، کما هو مختار صاحب الکفایة ، فلا موضوعیّة لصفة الیقین و الشک ، فالإشکال مندفع ، لأنّ المفروض إفادة الأدلّة للملازمة ، فإذا ثبت الحدوث لدی المجتهد ثبت البقاء لدیه ، فیحصل له الیقین بحکم المقلّد الظاهری .

و إنْ قلنا : بأن للیقین و الشک موضوعیةً و لهما دخالة فی ثبوت الحکم الاستصحابی ، کما هو الحق ، خلافاً لصاحب الکفایة ، فالإشکال باقٍ ، لأن المفروض تقوّم الحکم الاستصحابی بالیقین ، و هو حاصلٌ للمجتهد - إذا کان علی یقین بأنّ حکم المقلّد کان کذا ، و هو الآن یشک فی بقاء حکمه - و غیر حاصل للمقلّد ، فمن یرتبط الحکم به لا یقین عنده ، و من لا یرتبط به الحکم فهو ذو یقین ، فأیّ أثرٍ لهذا الاستصحاب ؟

و یمکن الجواب بتصوّر ترتّب الأثر العملی علی هذا الاستصحاب ، و هو جواز الإفتاء للمجتهد ، فیستصحب المجتهد حکم المقلّد الذی کان علی یقینٍ منه ، لیترتّب علیه جواز الإفتاء به ، و إذا أفتی به جاز لمقلّده الأخذ به . فتدبّر .

حالات المکلّف بین الرسائل و الکفایة

قد عرفت موارد الفرق بین کلامی الشیخ و الکفایة ، و یبقی أنّ الشیخ قائل بالتثلیث ، و قد اورد علیه بوجوهٍ:

عمدتها ما أشار إلیه صاحب الکفایة من لزوم تداخل الأقسام ، فقد یکون المکلّف شاکّاً فی الحکم إلّا أن عنده دلیلاً معتبراً علیه ، فمقتضی القاعدة الأخذ بالدلیل و عدم جریان الأصل فی حقّه ، و قد یکون ظانّاً به بظن غیر معتبر ، فهو حینئذٍ للأصل العملی . فیلزم أن یکون المکلّف فی بعض موارد الظنّ محکوماً

ص:23

بحکم الشک ، و فی بعض موارد الشک محکوماً بحکم الظن . و هذا هو التداخل .

و أیضاً ، فإنّ مقتضی تقسیم الشیخ أن تکون أحکام القطع مرتّبةً علی القطع الواقعی ، و الحال أنها غیر مختصّة به بل تعمّ الظاهری أیضاً ، فتدخل فیه مباحث الأمارات ، فخبر الثقة - مثلاً - یُفید الظن بالحکم الواقعی و القطع بالحکم الظاهری ، کالاستصحاب و غیره من الاصول الشرعیّة .

فظهر : أن المکلّف إمّا قاطع بالحکم ، أعمّ من الواقعی و الظاهری ، و إمّا هو غیر قاطع به ، فإن کان انسدادیاً - کالمیرزا القمی - فالمبنی حکومة العقل بحجیة الظن ، و إلّا فالمرجع هو الأصل .

و هذا مراد المحقق الخراسانی و وجه عدوله إلی التقسیم الثنائی .

و قد اورد علی هذا التقسیم (1) بأنّه لیس تقسیماً للمباحث الاصولیّة الواردة فی الکتاب ، بل هو تقسیمٌ بلحاظ ما یترتّب علیها أحیاناً - کما لو ترتّب الیقین علی البحث عن حجیّة الخبر أو ثبوت الاستصحاب - و المفروض کون النظر فی التقسیم إلی أنْ یکون إجمالاً لأبحاث الکتاب .

ثم قال فی الکفایة :

و إنْ أبیت إلّا عن ذلک ، فالأولی أن یقال: إنّ المکلّف إما أن یحصل له القطع أوْ لا ، و علی الثانی : إمّا أنْ یقوم عنده طریق معتبر أوْ لا ... (2) .

أی : و إنْ أبیت عن التثلیث ، فالأولی أن یقال فراراً من لزوم التداخل ... .

ص:24


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 17 ، نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 5 .
2- 2) کفایة الاصول : 257 .

أقول :

و هذا التقسیم أیضاً مخدوش فیه ، فإنه یرد علیه الإشکال - کما جاء فی حاشیة المحقق الأصفهانی أیضاً - بما حاصله :

إنّ هذا التقسیم یتناسب مع فهرست الکتاب الذی یذکر فی آخره للاطّلاع علی مطالبه ، و لا یتناسب مع بحوثه ، لأن المبحوث عنه فی الکتاب هو حجیّة الإمارة ، و أنّه هل هی حجّة أوْ لا ، لا الأمارة المعتبرة ، فقوله : « إمّا أن یقوم عنده طریق معتبر أوْ لا » أخذٌ للحکم فی الموضوع ، و هذا غیر صحیح (1) .

و یرد علیه أیضاً : إن الغرض من هذا التقسیم درج مباحث الحجج فی القطع بالحکم الظاهری، و لکنّ هذا ینافی ما ذهب إلیه من أن المجعول فی مواردها هو المنجزیّة و المعذریّة و لیس الحکم الظاهری .

و أمّا الإیراد: بأنّ الحکم الظاهری مورده عدم العلم بالحکم الواقعی ، فهو بطبعه فی طول الحکم الواقعی ، فلو جعل التقسیم ثنائیّاً لجَمَع بین العلم بالحکم الواقعی و عدم العلم به فی مقام التقسیم، و یصیر ما فی طول الحکم طبعاً فی عرضه وضعاً .

فیمکن دفعه : بأنّ قولنا : خبر الثقة حجة ، یعمّ الخبر بلا واسطة و الخبر مع الواسطة ، مع أنّ الثانی فی طول الأوّل ، و لا یصدق علیه العنوان إلّا بعد صدقه علیه .

ص:25


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 16 .
تقسیم المحقّق الأصفهانی

و قسّم المحقق الأصفهانی حالات المکلّف تقسیماً ثلاثیاً - و هو فی الحقیقة رباعی - قال : فحقّ التقسیم أن یقال :

إن الملتفت إلی حکمه الشرعی ، إمّا له طریق تام إلیه أوْ لا . و علی الثانی : إمّا أن یکون له طریق ناقص لوحظ لا بشرط - أی عن الاعتبار و عدمه - أوْ لا ، و علی الثانی : إمّا أن لا یکون له طریق أصلاً ، أو یکون له طریق بشرط عدم الاعتبار .

فالأوّل هو القطع و هو موضوع التنجّز . و الثانی هو الطریق المبحوث عن اعتباره و عدمه ، و الثالث موضوع الاصول (1) .

فالطریق التام موضوع للحجیة عقلاً ، و الطریق اللّابشرط موضوع للاعتبار و عدمه ، لأنّه فی مباحث الظن إنما یبحث عن اعتبار الطریق و عدمه ، فالاعتبار و عدم الاعتبار یردان علی الطریق اللّابشرط بالنسبة إلی کلٍّ منهما ، کالوجود حیث یعرض علی الماهیّة اللّابشرط بالنسبة إلی الوجود و العدم ، فالذی یطرأ علیه الوجود هو الماهیّة اللّابشرط عنهما ، و هکذا حال کلّ محمول بالنسبة إلی موضوعه ، فالحجیّة لا تحمل علی الطریق بشرط الاعتبار أو بشرط عدم الاعتبار ، بل اللّابشرط . و کذا الاعتبار، فإنه یحمل علی الموضوع اللّابشرط بالنسبة إلی الاعتبار و عدمه . و موضوع المقصد هو ما إذا عدم الطریق اللّابشرط ، و هذا العدم یکون تارةً : مع وجود الطریق غیر المعتبر کالقیاس، و اخری : یکون حیث لا طریق أصلاً .

فموضوع الاصول العملیّة عدم الطریق اللّابشرط .

ص:26


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 17 .
الکلام حوله

إن هذا التقسیم - و إنْ سلم عمّا ورد علی تقسیم الکفایة من الإشکال بأخذ الحکم فی الموضوع - قد أخذ فیه الحکم فی الموضوع فی طرف القطع ، إذ وصفه بالطریق التام ، و الحال أنه سیبحث عن کیفیة طریقیّة القطع و أنّها ذاتیّة أوْ لا .

قال الاستاذ فی الدورة اللّاحقة :

و الظاهر عدم تمامیّته ، لأنّ البحث عن کیفیّة الطریقیّة لا ینافی تمامیّة الطریق ، فإن القطع علی أیّ حالٍ موضوع التنجّز .

و الذی یرد علیه :

أوّلاً : إن التقسیم هو فهرست موضوعات المسائل المبحوث عنها ، و لا بدّ من لحاظ موضوع البحث فی کلّ مسألةٍ عند التقسیم ، فإن کان الموضوع عقلیّاً ، لزم تعیینه عن طریق العقل ، و إنْ کان شرعیّاً فمن طریق الشرع . و فی الاستصحاب الموضوع هو الشک الملحوظ معه الحالة السّابقة ، بخلاف البراءة فهو الشکّ مع عدم لحاظها ، فالموضوع فی المسألتین شرعی و هو الشک ، و هو مأخوذ فی الأولی من أدلّة الاستصحاب و فی الثانیة من « رفع ما لا یعلمون » . فظهر : أنّه لیس عدم الطریق اللّابشرط موضوع الاستصحاب و البراءة الشرعیة ، بل هو الشک، و أمّا فی العقلیّة، فالموضوع لحکم العقل عدم البیان .

و ثانیاً : إنّ جعل الموضوع عدم الطریق اللّابشرط، مخدوش من جهة اخری ، و ذلک : لأنه یلزم أن یکون وجود الطریق اللّابشرط رافعاً لموضوع الاصول العملیّة، لأنه نقیض عدم الطریق اللّابشرط، لأن نقیض کلّ شیء رفعه ، و الحال أن رافع موضوعها هو الطریق المعتبر ، أی الطریق بشرط الاعتبار .

ص:27

و علی الجملة ، فإن هذا التقسیم أیضاً مخدوش کغیره من التقسیمات ، لکنّه عند سیدنا الاستاذ أخفّها محذوراً (1) .

أمّا شیخنا ، فقد استوجه من بینها فی الدورتین تقسیم الشیخ و دافع عنه ، و إنْ خدش فیه من حیث أن الشیخ جعل موضوع الاعتبار فی المقصد الثانی هو الظن ، و الحال أن موضوع الاعتبار لیس الظن ، بل هو خبر الثقة و الشهرة و نحوهما ، سواء حصل الظن أوْ لا ، فلم یکن تقسیمه فهرساً للموضوعات فی المقاصد .

ثم قال دام بقاه - فی الدّورة السّابقة - إن الأحسن تغییر کلمة الظن فی التقسیم إلی : ما یمکن أن یکون معتبراً ، و هو ما قاله الشیخ فی أول بحث البراءة .

أقول :

و تلخّص : أن تقسیم الشیخ أحسن التقاسیم ، و المراد من المکلّف هو الأعمّ من المجتهد و المقلّد ، و المراد من الالتفات هو الأعم من التفصیلی و الإجمالی ، فإنّ الإجمالی حاصل لغیر المجتهد بل التفصیلی قد یحصل له . هذا إذا کان المقصود هو الالتفات إلی مجاری الاصول ، و أمّا إن کان المراد بیان أحوال المکلّف تجاه الأحکام الشرعیة من دون النظر فی مجاری الاصول ، فحالاته ثلاثة کما هو واضح .

ص:28


1- 1) منتقی الاصول 4 / 10 .

مباحث القطع

اشارة

ص:29

ص:30

هل القطع من المسائل الاصولیّة ؟

اشارة

قال فی الکفایة :

المقصد السادس . فی بیان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً . و قبل الخوض فی ذلک ، لا بأس بصرف الکلام إلی بیان بعض ما للقطع من الأحکام ، و إنْ کان خارجاً من مسائل الفن و کان أشبه بمسائل الکلام ، لشدة مناسبته للمقام (1) .

ففی هذا الکلام تصریح بأنّ أحکام القطع لیست من مسائل الاصول ، و أن البحث عنها أشبه بمسائل علم الکلام ، لکنّا نبحث عنها فی هذا العلم ، لشدّة مناسبة القطع للمقام .

و ذلک ، لأنّ الظنّ و الشک من حالات المکلّف ، و قد قرّر الشارع المقدّس الأحکام المتعلّقة بهذین الحالین ، إلّا أن للمکلّف حالاً آخر و هو القطع ، فما هی أحکام القطع بالحکم ؟

لکنّه لم یجعل البحث عن القطع من المسائل الکلامیّة ، و إنما قال : « أشبه » بمسائل الکلام ، و ذلک ، لأنّه العلم الذی یبحث فیه عن المبدأ و المعاد بالأدلّة العقلیّة و النقلیّة ، و لمّا کان المعتبر فیه هو الدلیل القطعی فقط و لا یکفی الظنُّ فضلاً

ص:31


1- 1) کفایة الاصول : 257 .

عن الشک ، احتیج إلی البحث عن حجیّة القطع ، فکان علم الکلام أولی بأنْ تطرح فیه هذه المسألة من علم الاصول ، و إنْ کان لطرحها فیه وجه من جهةٍ اخری ، کما أشرنا ، و سیأتی التفصیل .

و أیضاً : فإنه یبحث فی علم الکلام عمّا یجوز و لا یجوز علی اللّٰه ، فیکون من صغریاته البحث عن جواز عقاب المخالف للقطع و عدم جوازه .

وجه خروج القطع

و أمّا الوجه فی أنه خارج عن المسائل الاصولیّة ، فهو عدم انطباق تعریف (1) علم الاصول علیه ، فإنه ... .

إن کان « العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحکام الشرعیة أو ما ینتهی إلیه المجتهد بعد الفحص و الیأس عن الدلیل » ، کما عرّف صاحب الکفایة (2) ، فلیس شیء من مسائل القطع واسطة فی استخراج حکم شرعی ، و لا هو المرجع بعد الفحص و الیأس عن الدلیل ، بخلاف مثل مسألة حجیّة خبر الواحد ، فإنه بعد تطبیق هذه الکبری علی خبر زرارة و القول بحجیّته ، یستنبط من خبره حکم من الأحکام الشرعیّة .

و إنْ کان « العلم بالقواعد التی إذا انضمّت إلیها صغریاتها انتجت نتیجةً فقهیّة » کما قال المیرزا (3) و السیّد الخوئی (4) ، فالقطع بالحکم لا یقع فی طریق

ص:32


1- 1) لا یخفی أنّا قد أشبعنا الکلام فی تعریف علم الاصول فی أوّل الجزء الأول من کتابنا ، و لذا نکتفی هنا بالإشارة إلی الاقوال و أثر کلٍّ منها فی محلّ الکلام .
2- 2) کفایة الاصول : 9 .
3- 3) أجود التقریرات 1 / 5 .
4- 4) محاضرات فی علم الاصول 1 / 8 .

استنباط الحکم الشرعی ، بل هو بنفسه نتیجة .

و إنْ کان « العلم بالقواعد التی تقع فی طریق تعیین الوظیفة العملیّة » کما قال المحقق العراقی (1) ، فکذلک ، لأنّ الوظیفة العملیة تارةً : هی الحکم الواقعی کأن نقول : هذا ما قام علیه خبر الثقة ، و کلّما قام علیه خبر الثقة فهو واجب واقعاً ، فهذا واجب واقعاً . و اخری : هی الحکم الظاهری ، کأن نقول : هذا متیقّن الوجوب سابقاً و مشکوک البقاء لاحقاً ، و کلّما کان کذلک فهو واجب ظاهراً . و ثالثة : هی الحکم العقلی ، کأن نقول : هذا مما لم یقم علیه بیان من المولی ، و کلّما کان کذلک فهو مرخّص فیه منه عقلاً ، فهذا مرخّص فیه عقلاً .

و البحث عن حجیّة القطع و منجزیّته للواقع لا ینتج شیئاً من ذلک .

و هذا کلّه فی القطع الطریقی واضح .

و أمّا القطع الموضوعی فلا یفید إلّا ترتّب الحکم علی موضوعه ، کما هو الحال فی سائر الموضوعات بالنسبة إلی أحکامها ، کأن یجعل القطع بمجیء المسافر موضوعاً لوجوب التصدّق علی المسکین ، فوجوب التصدّق لیس مستفاداً من القطع ، بل هو حکم مستفاد من أدلّته .

و من هنا ، فقد ذکر الشّیخ (2) و صاحب الکفایة (3) و تبعهما غیرهما (4) أنّ القطع لیس بمسألةٍ اصولیّة ، و أنّ البحث عنه فی علم الاصول استطرادی ، لعدم

ص:33


1- 1) نهایة الأفکار 1 / 18 .
2- 2) فرائد الاصول 1 / 29 .
3- 3) کفایة الاصول : 257 .
4- 4) مصباح الاصول 2 / 5 ، منتقی الاصول 4 / 32 .

انطباق ضابط المسألة الاصولیّة علیه ... و لعلّه المشهور ، لضرورة الوسطیّة فی الإثبات عندهم کما عرفت من تعاریفهم، و القطع لا یقع کذلک .

و یبقی تعریف المحقق الأصفهانی ، فإنه قال : « ما یبحث فیه عن القواعد الممهّدة لتحصیل الحجة علی الحکم الشرعی » (1) .

فی المراد من « الحجّة »

و للحجّة مصطلحات ثلاثة :

الأوّل : المصطلح الاصولی ، و هو ما یقع فی کبری قیاس الاستنباط .

الثانی : المصطلح المنطقی ، و هو ما یقع وسطاً فی القیاس .

و الثالث : المفهوم اللّغوی ، و هو مطلق ما یحتجّ به المولی علی العبد أو یعتذر به العبد أمام المولی .

فإنْ کان المراد من « الحجة » فی التعریف هو الاصطلاح الاصولی ، فإنّ القطع حجّة و لیس بمقیم الحجة ، لأن القطع عین الانکشاف للحکم و لیس طریقاً لاستنباطه .

و إنْ کان المراد هو الاصطلاح المنطقی ، فکذلک ، لأنّ الوسط فی القیاس المنطقی ما هو العلّة أو المعلول للأکبر ، أو هما معلولان لعلّةٍ ثالثة ، و الحال أن القطع لیس بعلّةٍ للحکم و لا هو معلول له و لا هما معلولان لعلّة ثالثة .

و إنْ کان المراد هو المعنی اللّغوی ، فإنّ القطع حجةٌ بلا کلام .

ص:34


1- 1) نهایة الدرایة 1 / 42 .

و إلی ما ذکرنا أشار سیّدنا الاستاذ (1) و شیخنا فی الدورة اللّاحقة .

لکنّ کون مراد المحقق الأصفهانی من « الحجّة » فی تعریف مسائل علم الاصول هو المعنی اللّغوی ، أوّل الکلام ، و مما یؤیّد النّظر إشکال الاستاذ علی التعریف المذکور باستلزامه خروج کثیر من المسائل عن الاصول بوجهٍ و دخول علم الرّجال فی الاصول بوجهٍ آخر (2) . فلو کان المقصود من الحجّة هو المعنی اللّغوی لَما ورد علیه الإشکال أصلاً ، بل المحقق الأصفهانی نفسه غیر موافق علی ذلک . قال :

نعم ، إذا کان البحث فی التجرّی بحثاً عن تعنون الفعل المتجرّی به بعنوان قبیح ملازم ، بقاعدة الملازمة للحرمة شرعاً ، دخل فی مسائل الفن . لکنّه لم یحرّر بهذا العنوان فی الکتاب و غیره (3) .

أقول :

و لعلّ الوجه فی عدم تحریر التجرّی بهذا العنوان فی الکتب الاصولیّة ، لیکون من المسائل الاصولیّة هو : أنّ البحث عن قبح الشیء عقلاً بحث عن صغری قاعدة الملازمة ، فهو نظیر البحث عن صغری أدلّة حجیّة خبر الثقة ، و هو وثاقة زید مثلاً ، فإنّ موضعه علم الرجال ، فإذا تمّت وثاقته هناک و انضمّ ذلک إلی ما دلّ علی حجیّة خبر الثقة ، کانت المسألة اصولیّة .

و بعبارة اخری : إن المسألة الاصولیّة عبارة عن المسألة المستنبَط منها

ص:35


1- 1) منتقی الاصول 4 / 31 .
2- 2) تحقیق الاصول 1 / 44 .
3- 3) نهایة الدرایة 3 / 12 .

الحکم الشرعی من غیر حاجةٍ إلی ضمّ ضمیمة ، و لذا قال المیرزا بکونها کبری القیاس ، بل یعتبر علی تعریف المحقق الأصفهانی أیضاً إفادتها الحجّة علی حکم العمل بنفسها لا مع غیرها ، و قد عرفت أنّ التجری لا یستنبط منه الحکم إلّا بضمّ قاعدة الملازمة إلیه .

ص:36

مباحث القطع

و مباحث القطع کثیرة ، لأنه إذا التفت إلی الحکم الشرعی و حصل له القطع به ، فهل هو حجة أوْ لا ؟ و ما المراد من الحجیّة، هل هی الحجیة العقلیّة أو الشرعیّة ؟ و هل هی قابلة للجعل أوْ لا ؟

ثم إنّ القطع تارةً : یکون موافقاً للواقع ، و اخری : مخالفاً له ، فیطرح بحث التجرّی .

و أیضاً : تارةً : یحصل القطع من السبب المتعارف ، و اخری : من غیر المتعارف ، فیطرح بحث قطع القطّاع ، فهل هو حجة علی أیّ حالٍ ؟

و القطع تارةً : إجمالی ، و اخری : تفصیلی ، فیبحث حینئذٍ فی مسألة العلم الإجمالی و أحکامه ، و الإجمال تارة: فی مرحلة ثبوت التکلیف ، و اخری : فی مرحلة سقوطه .

و القطع الحاصل یکون تارةً : کاشفاً فقط عن الحکم ، و اخری : یکون موضوعاً له ، فیطرح بحث القطع الطریقی و الموضوعی .

ثم إنّه هل یلزم الالتزام القلبی علی طبق القطع علاوةً علی الالتزام العملی ،

ص:37

أوْ لا یلزم ؟ فیطرح بحث الموافقة العملیة و الموافقة الالتزامیة للقطع .

و هذا أوان الشّروع فی مباحث القطع و أحکامه علی طبق المنهج المرسوم فی ( رسائل الشیخ ) و( کفایة الاصول ) و باللّٰه التوفیق :

ص:38

أحکام القطع

اشارة

قال الشیخ الأعظم قدّس سرّه :

لا إشکال فی وجوب متابعة القطع و العمل علیه ما دام موجوداً ، لأنه بنفسه طریق إلی الواقع ، و لیست طریقیّته قابلة لجعل الشارع إثباتاً أو نفیاً (1) .

فهو یری وجوب متابعة القطع و العمل علی طبقه ، و یعلّل ذلک بکونه طریقاً إلی الواقع ، فوجوب العمل به ناشئ من طریقیّته الذاتیة . لکنه لم یوضّح أنّ الطریقیة له عین ذاته أو من لوازمها ؟

و قال صاحب الکفایة :

لا شبهة فی وجوب العمل علی وفق القطع عقلاً و لزوم الحرکة علی طبقه جزماً ، و کونه موجباً لتنجّز التکلیف الفعلی فیما أصاب باستحقاق الذم و العقاب علی مخالفته ، و عذراً فیما أخطأ قصوراً . و تأثیره فی ذلک لازم و صریح الوجدان به شاهد و حاکم ، فلا حاجة إلی مزید بیانٍ و إقامة برهان . و لا یخفی أنّ ذلک لا یکون بجعل جاعل، لعدم جعل تألیفی حقیقة بین الشیء و لوازمه بل عرضاً بتبع جعله بسیطاً (2) .

ص:39


1- 1) فرائد الاصول 1 / 29 .
2- 2) کفایة الاصول : 258 .

فأفاد رحمه اللّٰه وجوب العمل علی طبق القطع ، و أنه منجّز و معذّر ، و جعل الدلیل علی ذلک الوجدان ، فکأنّه بیَّن قول الشیخ « بأنّه طریق بنفسه » - بأنّ ذلک وجدانی و لا یحتاج إلی إقامة برهان .

فکلاهما یقولان بوجوب متابعة القطع ، لکن المحقق الخراسانی أضاف المنجزیة و المعذریة أیضاً ... .

فظهر مورد الاشتراک بین الکلامین و مورد الامتیاز .

فقال المحقق الاصفهانی بشرح الکفایة :

المراد بوجوب العمل عقلاً لیس إلّا إذعان العقل باستحقاق العقاب علی مخالفة ما تعلّق به القطع ، لا أن هناک بعثاً و تحریکاً من العقل أو العقلاء نحو ما تعلّق به ، ضرورة أنه لا بعث من القوة العاقلة ، و شأنها إدراک الأشیاء ، کما أنه لا بعث و لا تحریک اعتباری من العقلاء (1) .

أمّا المحقق العراقی فقال :

لا شبهة فی وجوب متابعة القطع عقلاً ، و الوجه فیه ظاهر ، فإن القطع من جهة کونه بذاته و حقیقته عین انکشاف الواقع بالکشف التام و الوصول إلیه ، بحیث یری القاطع نفسه واصلاً إلی الواقع ، إذا فرض تعلّقه بحکم من الأحکام یکون له السببیّة التامّة لحکم العقل تنجیزاً بوجوب المتابعة ، علی معنی حکمه بلزوم صرف الغرض و الإرادة نحو امتثال أمر المولی الراجع إلیه أیضاً حکمه بحسن الإطاعة و قبح المخالفة ... . (2)

ص:40


1- 1) نهایة الدرایة 17/3-18
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 3

فأرجع الأمر إلی قضیّة حکم العقل بحسن الإطاعة و قبح المخالفة .

و وافق المیرزا الشیخ رحمه اللّٰه ، إلا أنه فی الدّورة الاولی جعل الطریقیّة من لوازم القطع ، (1) و فی الثانیة (2) جعلها عین القطع .

تفصیل الکلام فی المقام

و تفصیل الکلام هو :

إنّ فی القطع جهات عدیدة :

إحداها : کاشفیّة القطع عن الواقع و طریقیّته إلیه ، و أن وزانه وزان النور فی الإراءة و المظهریّة .

و الثانیة : حجیّة القطع ، فإنها غیر الطریقیّة ، إذ قد یحصل القطع بشیء و لا حجیّة هناک ، کالقطع بوجود مکّة مثلاً ، أمّا الحجیّة ، فهی المنجزیة من قبل المولی و المعذریّة من قبل العبد .

و الثالثة : وجوب العمل و الحرکة علی طبق القطع .

و الرابعة : إن طریقیّة القطع قابلةٌ للجعل أوْ لا ؟

و هنا نحتاج إلی فهم حقیقة الجعل ، و توضیحه هو :

مقدمة فی أقسام الجعل و أنحائه

إن الجعل علی قسمین ، بسیطٌ و مرکّب . فالأوّل : هو الإیجاد بمعنی کان التامّة ، و الثانی : هو الإیجاد بمعنی کان الناقصة ، أی الجعل بین الشیء و ما هو خارج عن ذاته .

ص:41


1- 1) فوائد الاصول 3 / 6 .
2- 2) أجود التقریرات 3 / 12 .

و الجعل المتعلّق بالذات أو الوجود - علی اختلاف المبنی فی أصالة الوجود أو الماهیّة - بسیطٌ ، و المتعلّق بالخارج عن ذات الشیء أو الوجود مرکب ، و قد یسمّی بالجعل التألیفی أیضاً .

ثم إنّ الجعل تارة : جعل بالذات ، و اخری : جعل بالعرض ، و المجعول إمّا بالذات و إمّا بالعرض ، و المجعول بالعرض خارج عن الذات - أعم من الوجود - و هو تارةً : متأصّل فی الخارج ، و اخری : غیر متأصّل بل هو اعتبار من العقل ، و المتأصّل تارةً : موجود بالغیر ، مثل الکمیّة للشیء ، و اخری : موجود بوجود المنشأ لانتزاعه ، مثل الفوقیة للسقف . و أمّا ما لا أصالة له فی الخارج أصلاً ، فهو کالماهیّة بالنسبة إلی الوجود - بناءً علی القول بأصالة الوجود - فهی أمر ینتزعه العقل و لیس له مطابق خارجاً .

فظهر أن المجعول بالعرض ثلاثة أقسام : جعل الکمیّة للشیء و الزوجیّة للأربعة ، و جعل الفوقیّة للسقف ، و جعل الماهیّة . و إسناد الجعل إلی الماهیّة مجاز لکنه فی الأول و الثانی حقیقة .

إذا عرفت هذا ، فإنّ الطریقیّة قابلة للجعل بالجعل البسیط کما هو واضح ، إمّا وجودها بناءً علی أصالة الوجود ، و إمّا ماهیّتها بناءً علی أصالة الماهیّة ، إنما الکلام فی جعل الطریقیّة للقطع أی الجعل التألیفی ، و هنا یأتی البحث :

فی کیفیّة الطریقیّة المجعولة للقطع

هل الطریقیّة خارجة عن ذات القطع أو داخلة ؟ و علی الثانی : هی جزء الذات أو کلّها ، و علی الأوّل، هی مفارقة أو لازمة ؟

فعلی القول بالخروج و أنها لازمة للقطع ، فالجعل التألیفی غیر ممکن ، لأن

ص:42

لوازم الذات مجعولة بجعلها بالجعل بالعرض ، فهل هی خارجة عن الذات ؟

إنه لا یعقل أن تکون النسبة بین الطریقیّة و القطع نسبة الزوجیّة للأربعة ، خلافاً لما جاء فی کلام المیرزا ، لأنّ کلّ خارج عن الذات - و إنْ کان لازماً لها - فهو فی مرتبة الذات فاقد للذات ، فالأربعة فی مرتبة ذاتها فاقدة للزوجیّة ، إذ اللّازم لا یکون فی مرتبة الملزوم ، فإذا کانت الطریقیّة لیست فی مرتبة ذات القطع ، فذات القطع فی مرتبة ذاتها لا طریق و لا کشف ، و هذا محال و خلف للفرض . إذن ، لیست الطریقیّة خارجة و من لوازم القطع ، بل هی نفس ذات القطع ، و الجعل التألیفی بین الشیء و نفسه غیر معقول کما ذکر صاحب الکفایة .

و علی الجملة ، فإن الکاشفیّة إن کانت من لوازم القطع ، فالجعل التألیفی بین الشیء و لازمه غیر معقول ، و إن کانت عین ذات القطع ، فجعل الذات للذات غیر معقول ، فهی - علی کلّ تقدیر - غیر قابلة للجعل ، فما فی کلام بعض المحققین من أنه جعل الذاتی للذات غیر صحیح .

و المختار - کما تقدّم - أن الکشف عین ذات القطع ، لِما تقدّم من أن اللّازم غیر الملزوم ، مع عدم الانفکاک بینهما ، و العلم نفس حضور المعلوم لدی النفس و لو لم یکن عین الکشف لزم الغیاب و هو محال . و لأن العلم من الامور الوجدانیة ، و لا یعقل خفاء الأمر الوجدانی علی الواجد له ، و لا یعقل أن یکون الکشف من اللّوازم و تکون الملازمة خافیة ، و الحال أنا لا نجد شیئاً آخر وراء الکشف و الحضور یکون لازماً للکشف ... .

فحقیقة العلم عین الکشف ، و جعل الکاشفیّة له جعل الذات للذات ، و هو محال .

ص:43

تنبیهان

اشارة

و هنا یلزم التنبیه علی أمرین :

أحدهما : قد یرد الإشکال علی القول بالطریقیّة الذاتیة للقطع - سواء القول بأنها عین الذات أو ملازمة لها - بأنه یستلزم إصابة الواقع دائماً و لا یکون هناک تخلّف عن الواقع ، و الحال أنه لیس کذلک ، بل القطع یحصل للجاهل بالجهل المرکّب .

و الجواب :

إن المراد من کون القطع عین الکشف عن الواقع هو انکشاف المعلوم بالذات ، لا انکشاف المعلوم بالعرض الذی یقبل التخلّف عن الواقع و لا یعقل أن یکون عین الذات . فالکشف فی قولهم : الکشف عین ذات القطع ، هو حضور المعلوم بالذات المشترک بین علم المصیب و المخطئ ، و الموجود فی الجهل المرکّب أیضاً .

و بعبارة أخری : إن الطریقیّة شیء و الإصابة شیء آخر ، و لا ینبغی الخلط بینهما ، و مرادهم من الکاشفیة هی الإراءة ، و إراءة الواقع موجودة فی الظنّ أیضاً ، إلّا أنّها إراءة ناقصة بمعنی وجود احتمال الخلاف ، بخلاف القطع حیث لا وجود لاحتمال الخلاف معه ، فالذی یراه القاطع هو رؤیة عقلیة للواقع کما یری البصیر الواقع بالرؤیة الحسیّة ، فهی إراءة و رؤیة ، أمّا المطابقة للواقع فهی أمر آخر خارج عن ذات الرؤیة و حقیقتها .

ص:44

الأمر الثانی : لا یخفی أنّ مورد البحث هو الطریقیّة و الکاشفیّة التکوینیّة للقطع ، لا الکشف الجعلی الاعتباری ، فالطریقیّة قد تکون اعتباریّة کما فی خبر الثقة حیث یُجعل له الطریقیّة و الکاشفیّة عن الواقع ، و قد تکون ذاتیة تکوینیّة ، و هی التی فی القطع ، و جعل الطریقیّة للقطع ممکن إلّا أنه لغو ، لکونه کاشفاً و طریقاً إلی الواقع تکویناً .

هذا بالنسبة إلی الطریقیّة و الکاشفیّة .

حجیّة القطع و لزوم الحرکة علی طبقه

و أمّا حجیّة القطع و لزوم الحرکة علی طبقه ، فیجوز للمولی أن یحتجّ علی العبد بالقطع الحاصل له ، و للعبد أن یحتج أمام المولی بذلک، و یعبّر عن ذلک بالمنجزیة و المعذریة ، فظهر أنّ الحجیّة و لزوم الحرکة إنما یطرحان فی مورد القطع بأحکام المولی ، بخلاف طریقیة القطع ، فلا اختصاص لها بالأحکام .

فهل یری العقل الحجیّة للقطع و لزوم الحرکة علی طبقه إذا تعلّق بأحکام المولی الحقیقی ؟

و إنما قیّدنا بالمولی الحقیقی ، لعدم دخالة العقل فی الامور العرفیة الجعلیّة .

و هل یرجع ذلک إلی استحقاق العقاب علی المخالفة ؟

و هل هذا الحکم العقلی تنجیزی أو تعلیقی، بأن یصحّ نفیه فی بعض الموارد أو الأحوال ؟

لقد تقدّم أن الطریقیّة و الکاشفیّة عین القطع ، أمّا الحجیّة ، فهی خارجة عن ذاته و حقیقته، لکنه یستلزم الحجیّة ، فإذا انکشف الواقع استلزم استحقاق العقاب علی المخالفة عند العقل .

ص:45

قالوا: بأنّ العقل یحکم بالحجیّة و المنجزیّة ، بأن یحکم بأنّ القطع یصحّ العقوبة علی مخالفته .

و خالف المحقق الأصفهانی ، و أنکر أن یکون العقل حاکماً ، لأن الحکم من شئون المولی ، قال : بل العقل مدرک فقط . و وافقه المتأخرون عنه ، و لو قیل بأنّ العقل یدرک الحکم ، لم یصح کذلک ، لأنه لغو ، إذ العقل یری أنّ القطع منشأ لاستحقاق العقاب ، فجعل الحکم من قبل الشارع بلزوم الحرکة علی وفق القطع لغو ، و لزوم الحرکة لیس إلّا الحجیّة .

هل حجیّة القطع من الأحکام العقلیّة أو المجعولات العقلائیة ؟

و قد وقع البحث فی أنّ حجیّة القطع من المجعولات العقلائیّة ، أی من أحکام العقل العملی ، أو من الأحکام العقلیة النظریّة غیر القابلة للسّلب عن القطع ؟

ذهب المحقق الأصفهانی - تبعاً للفلاسفة - إلی أنّ قضیّة الحسن و القبح من القضایا المشهورة ، أی القضایا التی لا یقام البرهان علیها ، فهی اعتبارات عقلائیّة من أجل حفظ النظام ، و حجیّة القطع من هذا القبیل ، فقد تطابقت علیها آراء العقلاء .

لکنّ المشکلة هی : أن حجیّة القطع - أی صحّة العقاب علی مخالفة المولی الحقیقی - موجودة ، سواء کانت المخالفة مستلزمة لاختلال النظام أو لا ، بل حتی لو لم یکن نظام فی العالم ، لا یجوز مخالفة أحکام المولی الحقیقی ، و هی موجبة لاستحقاق العقاب .

و إذا لم یکن فی حجیة القطع ملاک القضایا المشهورة ، فهل هی حکم عقلی

ص:46

أو أنها من لوازمه العقلیة ؟ الصحیح هو الثانی ، لِما تقدم من أن العقل مدرک و لیس بحاکم .

و علی الجملة ، فإن الحجیّة هی المنجزیة ، و وجوب الحرکة علی طبق القطع و استحقاق العقاب علی المخالفة ، من لوازم القطع بحکم المولی الحقیقی ، و هذا اللّزوم عقلی لا اعتباری ، وعلیه ، فجعل الحجیّة للقطع جعلٌ للوازم الشیء للشیء ، و هو غیر معقول ، نعم ، تجعل اللّوازم بجعل الشیء بالجعل البسیط ، فکما لا یمکن أن یجعل الجسم متشکّلاً أو متحیّزاً ، لا یمکن أن یجعل القطع حجّةً ، بل متی تحقق القطع کان لازمه الحجیّة .

الرّدع عن اتّباع القطع یستلزم التناقض

و هل یمکن الردع عن القطع ؟

إنه لمّا یقطع بحکم شرعی کوجوب الصّلاة ، فقد تعلّق القطع بوجوبها و حکم العقل بحجیّة القطع و لزوم الحرکة علی طبقه ، فکان الحکم الشرعی متقدّماً فی الرتبة علی القطع ، و الحکم العقلی متأخراً عن الحکم الشرعی المتعلّق به القطع ، فتقدم الحکم الشرعی علی الحکم العقلی بمرتبتین .

فقال الشیخ :

فإذا قطع بکون مائع بولاً من أی سبب کان ، فلا یجوز للشارع أن یحکم بعدم نجاسته أو عدم وجوب الاجتناب عنه ، لأن المفروض أنه بمجرّد القطع یحصل له صغری و کبری ، أعنی قوله : هذا بول ، و کلّ بول یجب الاجتناب عنه ، فهذا یجب الاجتناب عنه ، فحکم الشارع بأنه لا یجب الاجتناب عنه مناقض له (1) .

ص:47


1- 1) فرائد الاصول 1 / 31 .

و فی الکفایة :

و بذلک انقدح امتناع المنع عن تأثیره أیضاً ، مع أنه یلزم منه اجتماع الضدّین اعتقاداً مطلقاً و حقیقةً فی صورة الإصابة (1) .

و توضیح ذلک : إنه عند ما قطع بحرمة الخمر ، فقد یکون القطع موافقاً للواقع ، و قد یکون مخالفاً له ، فإن قال الشارع لا یجب الاجتناب عنه ، و کان القطع موافقاً للواقع ، لزم اجتماع الضدّین فی الواقع و فی اعتقاد القاطع ، و إن کان مخالفاً للواقع، لزم اجتماعهما فی اعتقاد القاطع ، دون الواقع لفرض عدم الحرمة .

و المراد من التضاد هنا هو المعنی الاصولی لا الفلسفی ، أی ما ینافی الشیء ، الأعم من التضاد و التناقض .

نظریّة المحقق العراقی

و للمحقق العراقی هنا کلام نتعرّض له بتوضیح منّا و له مقدّمتان :

الاولی : إن الأحکام العقلیة المرتبطة بالأعمال علی قسمین :

الحکم العقلی التنجیزی ، کحکمه بقبح معصیة المولی ، و المقصود من تنجیزیته عدم قبوله لأیّ تصرّف من الشارع .

و الحکم العقلی التعلیقی ، و هذا ما یقبل التصرّف منه ، کما فی صورة انسداد باب العلم ، حیث أن لنا علماً إجمالیاً بأحکام المولی لکنّ باب العلم بها منسدٌّ علینا ، فالعقل یحکم بمتابعة الظنّ من باب ترجیح الراجح علی المرجوح و هو الوهم ، فهو یحکم فی هذا الظرف بالامتثال الظنی إلّا أن حکمه بذلک معلّق علی

ص:48


1- 1) کفایة الاصول : 258 .

عدم الردع من الشارع ، فیجب علینا اتّباعه کما فی ردعه عن الظن القیاسی و إن قلنا بالحکومة .

و فی العلم الإجمالی مسلکان :

فقیل : بأنه موضوع لحکم العقل بالتنجیز و استحقاق العقاب فلا یقبل التصرّف من الشارع .

و قیل : بأن الحکم العقلی فی مورد العلم الإجمالی معلّق علی عدم التصرّف من الشارع بالترخیص فی الارتکاب بجعل الأصل فی أطراف الشبهة .

الثانیة : إن أساس امتناع اجتماع الضدّین فی الأحکام و عدم امکان جعل الحکمین المتضادّین ، هو امتناع اجتماع النقیضین ، لأنّ کلّاً من الضدّین ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فلو اجتمع الضدّان حصل اجتماع الضدّ مع عدمه ، فکان أساس الاستحالة هو التناقض .

هذا ، و یعتبر فی التناقض وحدة المرتبة و إلّا فلا استحالة للاجتماع . مثلاً :

العلم بالشیء متأخر عن الشیء ، و کذا الظن ، و منشأ هذا التأخر هو تفرّع الکاشف علی المنکشف ، فذات الکشف متعلّقة بالمنکشف و لا عکس ، فکان العلم بالشیء متأخّراً عن الشیء برهاناً .

و إذا عرفت ذلک نقول : إنه بعد ثبوت الکاشفیّة و الطریقیّة الذاتیّة للقطع و سببیّته لحکم العقل التنجیزی بلزوم المتابعة و حسن الطاعة و لتحقّق الحرکة نحو المقصود فی ظرف تعلّق الغرض الفعلی بتحصیله ، یکون من المستحیل قابلیة مثله لتعلّق الردع به ، لأن الرّدع عنه إمّا أن یرجع إلی سلب طریقیته تکویناً، و إمّا أن یرجع إلی المنع عن متابعته و العمل علی وفقه تشریعاً .

ص:49

و الأوّل واضح الاستحالة ، لبداهة امتناع سلب ما هو ذاتی الشیء عن الشیء أو إثباته له ، بل و لا یظنّ توهّمه من أحد .

و أمّا الثانی ، فعدم إمکانه أیضاً بالمرحلة الأخیرة واضح ، لما عرفت من أنّ فی ظرف انکشاف الواقع و تعلّق الغرض الفعلی بتحصیل المقصود ، تکون الحرکة علی وفق المقصود قهریة ، بحیث لا یمکن الرّدع عنها إلّا بسلب جهة کشفه . و أمّا بالنسبة إلی المرحلة الاولی - أعنی حکم العقل بحسن صرف الإرادة بنحو الطاعة - فعدم إمکانه إنما هو من جهة منافاته لحکم العقل التنجیزی بوجوب المتابعة و حسن الطاعة ، لأن مرجع ردعه حینئذٍ إلی ترخیصه فی معصیته و هو - کما تری - مما یأبی عنه الوجدان و لا یکاد یصدّقه بعد تصدیقه بالخلاف ، لکونه من التناقض فی نظر القاطع و إنْ لم یکن کذلک بحسب الواقع .

وعلیه ، فلا مجال للمنع عن صحّة الردع بما افید من برهان المناقضة ، لأن المقصود من برهان المناقضة :

إن کان مناقضة ترخیصه مع الحکم الشرعی المحفوظ فی الرتبة السّابقة علی القطع .

ففیه : إنه لا مناقضة و لا تضادّ بینهما ، بعد کون مرجع ردعه إلی الترخیص فی الرتبة اللّاحقة عن القطع ، کیف ؟ و إنه بذلک تختلف الرتبة بین الحکمین ، فترتفع المناقضة و التضادّ من البین .

و إن کان المقصود مناقضته مع الحکم العقلی فی الرّتبة المتأخرة عن القطع .

ففیه : إنه مبنی علی ثبوت تنجیزیة حکم العقل بوجوب المتابعة ، لأنه من مبادی المناقضة المزبورة ، و إلّا فعلی فرض تعلیقیّته لا یکاد یبقی مع الردع عنه

ص:50

حکم للعقل بوجوب المتابعة ، کی ینتهی الأمر بینهما إلی مقام المضادّة و المناقضة .

فالعمدة فی المنع عن إمکان مجیء الردع هو: إثبات تنجیزیة حکم العقل ، و یکفی فی إثباته ما ذکرناه من الوجدان و إبائه بحسب الارتکاز عن إمکان مجیء ردع عن العمل بقطعه ، لکونه ترخیصاً من الشارع فی المعصیة و ترک الطاعة . (1)

نقد تلک النظریة

و قد أورد علیه الاستاذ فی الدّورتین بلزوم التناقض علی مسلک المحقق العراقی أیضاً .

و توضیح ذلک هو : إنه رحمه اللّٰه یری أنّ حقیقة الحکم عبارة عن الإرادة أو الکراهة المبرزة ، فالإرادة الشدیدة المبرزة منشأ لانتزاع الوجوب ، و الکراهة الشدیدة المبرزة منشأ لانتزاع الحرمة ، أمّا الإرادة أو الکراهة الضعیفة ، فمنشأ للاستحباب و الکراهة الشرعیة . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه یری أنّ متعلّق الإرادة - و کذا الکراهة - هی الصورة المرئیّة خارجاً ، لا الوجود الخارجی ، لأن الإرادة أمر نفسانی ، و تعلّقه بالخارج غیر ممکن - و قد برهن المحقق الأصفهانی علی ذلک بأنه یستلزم إمّا خارجیّة الذهن أو ذهنیة الخارج ، و کلاهما محال - فالمتعلّق هو الخارج، لعدم تعلّق الشوق و عدمه بالوجود الذهنی ، لکن لا الوجود الخارجی بل الصورة المرئیة خارجاً .

و بناءً علی ما ذهب إلیه فی حقیقة الحکم و متعلّقه : یرد علیه لزوم اجتماع

ص:51


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 7 - 8 .

النقیضین فیما ذکره فی المقام ، لأنّ تعلّق الوجوب بالصّورة المرئیّة خارجاً لدی القاطع ، هو إرادة وجوده ، فإذا تعلّق بها الترخیص کان غیر مراد ، و کون الشیء مراداً و غیر مراد اجتماعٌ للنقیضین .

هذا ، و لا یتوهّم اختلاف المرتبة حتی یندفع الإشکال .

لأنّ متعلّق الإرادة أو الکراهة هو الوجود لا المرتبة، فصحیحٌ أنّ الإرادة و المراد مختلفان فی المرتبة ، لتقدّم المراد علی الإرادة طبعاً ، لکنهما موجودان بوجودٍ واحد ، کما هو الحال بین الواحد و الاثنین ، إذ الاثنان متأخّر رتبةً عن الواحد طبعاً ، لکنهما موجودان بوجودٍ واحد .

و هذا هو الإشکال علی المحقق العراقی هنا بناءً علی مسلکه .

و أمّا علی مسلک القائلین باعتباریّة الحکم - علی اختلافٍ فیما بینهم فی حقیقته - إذ قال بعضهم بأنه الطلب الإنشائی ، و بعضهم بأنه عبارة عن البعث أو الزجر الاعتباری ، و بعضهم أنه الثبوت علی الذمّة اعتباراً و اعتبار الحرمان ...

- فالتناقض لازم بلا إشکال ، و ذلک : لأن کلّ حکمٍ یصدر من الحاکم فهو فعل اختیاری له ، و لا یعقل أن یکون مهملاً ، لأن المفروض أنه - لکونه حکیماً - یلحظ موضوع الحکم و انقساماته ، فإنْ کان غرضه متعلّقاً بالمقسم خرج الحکم مطلقاً ، و إن کان متعلّقاً بالقسم خرج مقیّداً ، و لا یعقل أنْ یکون الغرض مهملاً ، و الحکم معلول للغرض ، فلا إهمال فیه کذلک .

و علی هذا ، فإذا حکم الشارع بوجوب الصّلاة ، فتارة : یتعلّق القطع بالوجوب ، و اخری : لا ، فإن کان الغرض قائماً بالمقسم أطلق الوجوب و إلّا قیّده بوجود القطع أو عدمه ، لکنّ التقیید هناک محال ، إذ لا یعقل تقیید وجوبها بعدم

ص:52

القطع به ، لأنّ الغرض من الصّلاة - و هو النهی عن الفحشاء و المنکر مثلاً - أعمّ .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : فإنّ التقیید بعدم القطع بالوجوب لغوٌ لعدم الأثر ... .

فظهر أن التقیید محالٌ کما أنّ الإهمال محال ، فالإطلاق واجب ... أی:

الصّلاة واجبة سواء قطع بوجوبها أوْ لا ، فلو اعتبر عدم وجوبها فی مرتبة القطع بوجوبها ، لزم اجتماع النقیضین - أی الوجوب و عدمه - فی المتعلّق الواحد .

فالحق ، لزوم التناقض علی جمیع المسالک .

هذا ، و لا یخفی أنّ هذا التناقض یلزم فی الحکم الشرعی - کما تقدّم - و فی الحکم العقلی أیضاً ، لأن کلّ حکمٍ شرعی فهو بمجرّد وصوله موضوع لحکم العقل بلزوم الطاعة و الامتثال .

نظریّة المحقّق الأصفهانی

و قال المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه :

بل التحقیق أن حدیث التضادّ و التماثل أجنبی عمّا نحن فیه ، لما فصّلناه فی مسألة اجتماع الأمر و النهی : أن الحکم - سواء کان بمعنی الإرادة و الکراهة أو البعث و الزجر الاعتباریین - لیس فیه تضادّ و تماثل ، فإنهما من صفات الأحوال الخارجیة للموجودات الخارجیة . فراجع .

بل المانع من اجتماع البعثین ، إمّا صدور الکثیر عن الواحد لو انبعث البعثان المستقلّان عن داع واحد ، أو صدور الواحد عن الکثیر لو انبعثا عن داعیین ، فإن الفعل الواحد عند انقیاد المکلّف لمولاه لو صدر عن بعثین مستقلّین ، لزم صدور الواحد عن الکثیر، کما أنّ صدور مقتضی البعث و الزجر لازمه اجتماع

ص:53

المتناقضین ، فیلغو البعث بداعی إیجاد الفعل و الزجر بداعی ترکه (1) .

و قد اشتمل کلامه علی نفی و إثبات .

أمّا ما أفاده فی جهة النفی ، فتوضیحه هو : إن المثلین عبارة عن الوجودین من الماهیّة الواحدة ، و الضدّان عبارة عن الأمرین الوجودیین المتعاقبین علی الموضوع الواحد ، الداخلین تحت جنس قریب و بینهما نهایة الخلاف . و علی هذا ، فالتماثل و المثلیة و کذا التضاد و الضدیّة من أحوال الموجودات الخارجیّة ، و الحکم إمّا هو الإرادة أو الکراهة التشریعیّة ، أو البعث و الزجر الاعتباریّان - علی الخلاف - من الاعتباریات ، و أحکام الموجودات الخارجیّة لا تجری فی الامور الاعتباریة ، فلا معنی لأن یقال : حکمان متماثلان أو متضادّان ، و لا یلزم اجتماع المثلین أو الضدّین .

و أمّا ما أفاده فی جهة الإثبات ، فتوضیحه : إنّ المانع من تصرّف الشارع هو صدور الکثیر من الواحد و بالعکس ، أو لزوم اجتماع المتناقضین فی مقام الامتثال ، فالقطع بوجوب شیء بعث ، فإذا جاء ببعثٍ آخر نحوه ، کان البعثان حاصلین من داعٍ واحد لکون المصلحة واحدة ، و صدور الکثیر من الواحد محال . أمّا فی مقام امتثال التکلیف ، فالحاصل انبعاث واحد عن البعثین ، و صدور الواحد من الکثیر محال کذلک . و إنْ کان الحکم غیر مماثل ، یلزم اجتماع المتناقضین فی مقام الامتثال .

إذن ، لا یمکن التصرّف لا بالمماثل و لا بالمخالف ، للزوم ما ذکر من

ص:54


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 20 .

المحذور ، و هذا هو المانع لا ما ذکره الشیخ و صاحب الکفایة و العراقی رحمهم اللّٰه .

أقول :

إنّ ما ذکره فی جهة النفی مبنیّ علی الاصطلاح الفلسفی فی التضادّ و التماثل ، لکنّ التضادّ عند الاصولیین عبارة عن عدم اجتماع الأمرین ، سواء اطلق علیه التضادّ فلسفیّاً أوْ لا ، ثم إنّ الاعتبار فی مورد القطع ناشئ عن المصالح و المفاسد ، و هو أیضاً منشأ للانبعاث و الانزجار ، و هکذا اعتبار یجری فیه برهان التضاد و التماثل ، فلیس المحذور لزوم صدور الکثیر من الواحد ، بل هو استحالة اجتماع الوجوبین مثلاً و الوجوب و الحرمة ، فی متعلّق واحد ، لکونهما ناشئین من الملاک و هما منشأ للانبعاث کما تقدم . نعم ، هذه الاستحالة هی بالعرض .

وجوب الحرکة عملاً طبق القطع

بعد أن ثبت کاشفیة القطع ، و حجیّته ، و لابدیّة العمل علی طبقه عقلاً ، یجب الحرکة عملاً علی طبقه ، فإذا قطع بوجوب الصّلاة - مثلاً - حکم العقل باستحقاق العقاب علی المعصیة و المخالفة بترکها ، فحینئذ ، یحکم بلزوم الحرکة عملاً علی طبق القطع بالإتیان بالصّلاة .

لکنّ المقطوع به إذا کان من الاُمور النفسانیّة الملاءمة للغرائز ، یکون العمل به غریزیّاً طبعیاً ، کما فی الحیوانات ، أمّا إذا کان من الامور العقلائیّة ، فالعمل به من الأحکام العقلیّة ، و هذا هو الفرق بین الإنسان و الحیوان .

و قد ذهب السید الحکیم فی مباحث الاجتهاد و التقلید (1) إلی أنّ وجوب

ص:55


1- 1) مستمسک العروة الوثقی 1 / 6 .

العمل بالتکالیف الشرعیة حکم عقلی من باب وجوب شکر النعم ، ثم أضاف : بل فطری ، من جهة أنه إذا أدرک النعمة ، و أنها من منعم ، و أنّه یجب شکر النعم ، یتحرک نحو الطاعة بفطرته .

و قد نوقش فی هذا الاستدلال فی ذلک الموضع (1) .

تنبیهان

بقی التنبیه علی أمرین :

الأول :

قد أنکر المحقق الإیروانی أن یکون وجوب العمل علی طبق القطع بالحکم الشرعی من المدرکات العقلیّة ، و إنما یدرک العقل حسن الطاعة و قبح المعصیة ، فإذا أدرک ذلک تحرّک عملاً علی الطّاعة و استخدم قواه فی سبیل تحقّقها ، فالحرکة الخارجیة أثر لدرکه حسن الطاعة و قبح المعصیة ، و لو قلنا بأن له درکاً آخر - علاوةً علی درک حسن الطاعة - هو عبارة عن وجوب العمل خارجاً علی طبق القطع ، لزم التسلسل ، لأنّ وجوب العمل علی طبق القطع حکمٌ ، فیقال : هل هو حکم مشکوک فیه أو مظنون أو مقطوع به ؟ المفروض کونه مقطوعاً به ، فیتولّد حکم عقلی بوجوب العمل علی طبق هذا الحکم المقطوع به ، و هل هذا الوجوب مشکوک فیه أو مظنون أو مقطوع به ؟ و هکذا .

و الحاصل : إنه لیس إلّا درک العقل حسن الطّاعة و قبح المعصیة ، أمّا وجوب

ص:56


1- 1) و تعرّضنا لذلک فی الجزء الأوّل من کتابنا ( إرشاد الطالبین إلی منهاج الصالحین ) الماثل للطبع إنْ شاء اللّٰه .

العمل علی طبق المقطوع به فلا (1) .

و لهذا الرأی أثر فی المباحث ، فقد تقرّر - مثلاً - أنّ الأمر بالطاعة فی قوله تعالی «أَطیعُوا اللّٰهَ وَأَطیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی اْلأَمْرِ مِنْکُمْ » (2)و أمثاله إرشاد إلی حکم العقل بوجوب إطاعة المولی ، فالعلماء یقولون بوجود الحکم العقلی بوجوب الطاعة ، أمّا بناءً علی نظریة هذا المحقق ، فلا حکم للعقل إلّا بحُسن الطّاعة ، فتکون الآیة إرشاداً إلی هذا المعنی فقط ، فلا تدلّ هیئة افعل علی الأمر .

فنقول :

قد ذکر جماعة من الأعلام أن لا مُدرَک من العقل إلّا حسن الطّاعة و قبح المعصیة ، و مجرّد ذلک لا یکفی لحمل الإنسان علی الحرکة خارجاً ، لأنّ العمل الحسن فی العالم کثیر ، و مجرّد درک حسن العمل لا یکفی للحکم بوجوبه علی طبق المدرک ، إلّا إذا وصل إلی حدّ المنجّزیة - أی استحقاق العقاب علی المخالفة - ففی هذه الحالة یوجد الحکم العقلی بلزوم الحرکة ، فتلخّص : أن الصحیح تفرّع الحرکة الخارجیة علی احتمال استحقاق العقاب و المؤاخذة علی المخالفة ، و من هنا جاء الحکم العقلی الارتکازی بوجوب دفع الضرر المحتمل .

و أمّا ما ذکره من استلزام القول بوجود الحکم العقلی بوجوب الطاعة للتسلسل ، ففیه :

إنه إن کان موضوع استحقاق العقاب مطلق الحکم - أی سواء کان الحکم العقلی أو الشرعی بعد قیام القطع - تمّ کلامه ، لأنّ وجوب العمل بالقطع حکمٌ

ص:57


1- 1) حاشیة الکفایة 2 / 410 .
2- 2) سورة النساء : 59 .

عقلی تعلّق به القطع ، فهو موضوع للزوم الحرکة قطعاً بحکم العقل ، فیلزم التسلسل ، لکنّ الصحیح أنّ الموضوع له هو حکم المولی الحقیقی ، و العقل یدرک استحقاق العقاب علی مخالفته و لا حکم للعقل بذلک ، فلا یلزم التسلسل ، لأنّ موضوع وجوب العمل هو حکم المولی و کلّ حکمٍ من بعده بذلک فهو من العقل ، و المفروض أنه لیس بحکمٍ بل هو درک بلزوم استحقاق العقاب علی مخالفة حکم المولی المقطوع به .

الأمر الثانی :

قد عرفت أن «الحجة» فی اصطلاح الاصولی یختلف عنه فی الاصطلاح المنطقی ، و قد أفاد الشیخ رحمه اللّٰه أنه لا یطلق « الحجة » علی « القطع » بالاصطلاح المنطقی ، لعدم وقوعه بهذا المعنی وسطاً فی القیاس ، فلیس لمن قطع بوجوب الصّلاة إلّا أن یقول : الصّلاة واجبة ، و أمّا أن یقول : الصّلاة مقطوع بوجوبها ، و کلّ ما قطع بوجوبه فهو واجب ، فالصلاة واجبة ، فلا ، بخلاف باب الأمارات ، فإنّ « الحجة » بالاصطلاح المنطقی یقع وسطاً فیها ، فیقال مثلاً : هذا ما قام خبر الثقة علی وجوبه ، و کلّ ما قامت الحجة علی وجوبه فهو واجب ، فهذا واجب .

ص:58

التجرّی

اشارة

و یقع البحث فی :

موضوع التجرّی

و أحکام التجرّی

ص:59

ص:60

التجرّی موضوعاً
اشارة

إن القطع تارة : طریقی ، و اخری : موضوعی ، و هو إمّا جزء الموضوع و إمّا تمام الموضوع .

أمّا القطع الطریقی، فالبحث جارٍ فیه بلا کلام . و أمّا إن کان جزء الموضوع فکذلک ، لأنّه لما کان جزءاً و الجزء الآخر هو الواقع ، فقد یصادف الواقع و قد یتخلّف عنه ، و مورد التخلّف هو موضوع التجرّی .

و أمّا القطع الموضوعی ، إذا کان تمام الموضوع للحکم ، فلیس بموردٍ لمبحث التجرّی - و کذا الظن المأخوذ موضوعاً تامّاً للحکم - لعدم التخلّف عن الواقع ، فإذا تحقق القطع لدی المکلّف و خالفه فقد عصی ، و لذا یفتی فی السفر المظنون فیه الخطر بکونه سفر معصیة و یجب فیه التمام ، و لا موضوع هناک للتجرّی ، لفرض کون هذا الظن تمام الموضوع لوجوب إتمام الصلاة ، فمع وجود الظن بالضرر أو الخطر یکون السفر معصیةً ، و لا تجری أصلاً .

وعلیه ، فمتی کان القطع أو الظنّ أو الاحتمال تمام الموضوع للحکم ، فإنّ المخالفة هناک معصیة ، و لا مجال لبحث التجرّی فیه .

ص:61

فموضوع مبحث التجرّی هو کون القطع أو الظن طریقاً إلی الواقع أو جزءاً للموضوع .

و بما ذکرنا یظهر عدم اختصاص البحث بالقطع ، و أنه جارٍ فی مطلق الحجّة القائمة علی الواقع ، سواء کانت حجةً ذاتیةً کالقطع أو جعلیّة کالأمارات ، فلو قام خبر الثقة علی حکم و خالفه المکلّف ثم ظهر عدم مطابقة الخبر للواقع ، فقد تجرّأ علی المولی .

توهّمٌ و دفع

و ذکر المیرزا أنه قد توهّم بعضهم أن النزاع فی المقام إنما یجری فی خصوص مخالفة القطع بالواقع المفروض عدم إصابته ، و أمّا مخالفة الطرق الشرعیّة ، فلا یجری فیها النزاع ؛ لعدم الإشکال و الریب فی استحقاق العقاب علی مخالفتها ، و إن کانت غیر مصیبة للواقع .

و منشأ هذا التوهّم هو تخیّل أنّ مخالفة الطرق الشرعیّة إنّما هی مخالفة الأحکام الظاهریّة المجعولة من قِبَل المولیٰ ، فلا محالة یترتّب علیها استحقاق العقاب و إن لم یکن هناک أحکام واقعیّة فی مواردها ، و هذا بخلاف القطع ؛ فإنّ مخالفته فی صورة عدم المصادفة لا یکون مخالفةً لحکم واقعی و لا ظاهری ، فیقع النزاع فی أنّ المخالفة الاعتقادیّة التخیّلیة هل یترتّب علیها ما یترتّب علی المخالفة الواقعیّة أم لا ؟

و أنت بعد ما عرفت أنّ المجعول فی موارد الطرق الشرعیّة لیس هی الأحکام البعثیّة أو الزجریّة ، و إنّما هو نفس صفة الطریقیّة و الکاشفیّة من دون استتباعها لحکمٍ شرعیّ ، تعرف أنّ حال مخالفة الطریق الوجدانی حال الطریق

ص:62

الجعلی بعینها ، من دون فرقٍ بینهما أصلاً ، وعلیه ، یکون محلّ النزاع فی المقام أعمّ من مخالفة القطع الوجدانی و الأمارات أو الاُصول ، حتی أصالة الاحتیاط فی موارد العلم الإجمالی أو غیرها .

و بالجملة ، مخالفة مطلق المنجّز للحکم - علی تقدیر انکشاف عدم ثبوته فی الواقع - یکون محلّ الکلام فی المقام (1) .

و قال السیّد الخوئی :

إن بحث التجری لا یختصّ بالقطع ، بل یعمُّ جمیع الأمارات المعتبرة و الاصول العملیّة ، بل یعمّ کلّ منجز للتکلیف و لو کان مجرّد احتمال ، کما فی موارد العلم الإجمالی بالتکلیف ... .

فإن الاقتحام فی بعض الأطراف داخل فی التجرّی ، و إن لم یکن فیه إلّا احتمال المخالفة للتکلیف ، و کذا الحال فی الشبهات البدویة قبل الفحص .

و الجامع بین الجمیع هو مخالفة الحجة ، أی ما یحتج به المولی علی العبد ، فلو ثبت کون مائع خمراً بالبینة أو الاستصحاب ، و شربه ، و لم یکن فی الواقع خمراً ، کان متجرّیاً . و لو احتمل کون شیء حراماً و ارتکبه قبل الفحص ، و انکشف عدم کونه حراماً ، کان متجرّیاً ، و هکذا . فذکر القطع لیس لاختصاص التجری به ، بل إنما هو لکونه أظهر الحجج و أوضح المنجزات .

و ربما یتوهم عدم جریان التجرّی فی موارد الأمارات و الاصول العملیة الشرعیة ، و الجامع هو الحکم الظاهری ، بدعوی أن الأحکام الظاهریة مجعولة فی

ص:63


1- 1) أجود التقریرات 3 / 42 .

ظرف الجهل بالواقع ، فبکشف الخلاف ینتهی أمدها و تنتفی بانتفاء موضوعها ، لا أنه یستکشف به عدم ثبوت الحکم من الأول ، فیکون بمنزلة انقلاب الخمر خلّاً ، فکما أنه إذا انقلبت الخمر خلّاً تنتفی الحرمة من حین الانقلاب بانتفاء موضوعها، لا أنه بعد الانقلاب یستکشف أنه لم یکن حراماً من الأول ، کذلک الحال فی الأحکام الظاهریة ، حیث أن موضوعها الجهل بالواقع ، فبکشف الواقع تنتفی بانتفاء موضوعها ، فلا یتصور کشف الخلاف فی نفس الحکم الظاهری ، فتکون مخالفته العصیان دائماً لا التجرّی .

و هذا التوهم فاسد من أساسه ، إذ هو مبنی علی القول بالسّببیة ، و أن المجعول فی مورد الطرق و الأمارات هی الأحکام ، و هو فاسد ، لاستلزامه التصویب الباطل . و الصحیح أن المجعول فی باب الطرق و الأمارات هو الحجیّة و الطریقیّة فقط ، علی ما سیجیء الکلام فیه إن شاء اللّٰه تعالی (1) .

و کذا جاء فی کلام السیّد الصدر ، قال :

موضوع هذا البحث أن أیّ تکلیفٍ یتنجّز علی المکلّف ، سواء کان بمنجّز عقلی کما فی موارد القطع و الاحتمال المنجز ، أو شرعی ، کما فی الأمارات و الاصول المنجزة ... و قد یتوهّم عدم شمول هذا البحث موارد الحکم الظاهری ...

و لکنّ هذا التوهّم باطل ... (2) .

نظر الشیخ الاستاذ

و بالجملة ، فهم یتعرّضون للتوهّم المذکور و یردّون علیه ، لکنّهم یصرّحون

ص:64


1- 1) مصباح الاصول: 18 - 19 .
2- 2) بحوث فی علم الاصول 4 / 35 .

بشمول البحث للاصول العملیّة أیضاً ، و قد تنظّر فی ذلک شیخنا دام بقاه فی الدورة اللّاحقة ، فقال ما حاصله :

إنّ الأصل منه عقلی ، کالاحتیاط و البراءة العقلیّة ، و منه شرعی ، کالطهارة الظاهریة المجعولة فی الشبهات الحکمیّة و الموضوعیّة ، و الحلیّة المجعولة ب «کلّ شیء لک حلال » ، و کذا فی موارد الاحتیاط الشرعی ، بناءً علی دلالة نصوص الاحتیاط علی الحکم المولوی الشرعی ، فمقتضی القاعدة فی مثل هذه الموارد ، بناءً علی أنّ المجعول فیها هو الحکم الشرعی - و إنْ کان ظاهریاً - المولوی المستتبع لاستحقاق العقاب ، هو عدم جریان بحث التجرّی .

و ملخّص الکلام : أنه فی کلّ مورد لا یوجد جعلٌ شرعی ، بل المجعول هو الطریقیّة أو المنجزیة و المعذریّة ، فالبحث جارٍ فیه ، و کلّ موردٍ فیه مجعول شرعی - و لو ظاهری - فالمخالفة معصیة ، و لا مجال لبحث التجرّی فیه .

ص:65

أحکام التجرّی
اشارة

قال فی الکفایة :

قد عرفت أنه لا شبهة فی أنّ القطع یوجب استحقاق العقوبة علی المخالفة و المثوبة علی الموافقة فی صورة الإصابة ، فهل یوجب استحقاقها فی صورة عدم الإصابة علی التجرّی بمخالفته ، و استحقاق المثوبة علی الانقیاد بموافقته ، أوْ لا یوجب شیئاً ؟

الحق : أنه یوجبه ، لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته و ذمّه علی تجرّیه ... (1) .

أقول :

هل الحکم المترتّب علی التجرّی هو القبح العقلی ، فیستحقُّ الذم و اللّوم فقط ، أو استحقاق العقاب عقلاً أیضاً ، أو الحرمة الشرعیّة بالإضافة إلیهما ؟

التجرّی قبیح عقلاً

أمّا القبح العقلی ، و استحقاق الذمّ و اللّوم ، فلا ینبغی الرّیب فی ثبوته ، فقد ذکرنا فی مباحث المعرفة الدینیة و بیان مقامات أئمة الهدی علیهم السلام ، بالاستفادة ممّا ورد عنهم بعد الکتاب المجید : أنّ المدار فی القرب و البعد من اللّٰه عزوجلّ هو الانقیاد و الطاعة و التمرّد و المعصیة له ، فقد ورد عنهم علیهم السّلام أنه إنما بلغ أمیر المؤمنین علیه السلام المقام الذی لا یتقدّم علیه فیه أحد من

ص:66


1- 1) کفایة الاصول : 259 .

الأوّلین و الآخرین - سوی رسول اللّٰه - إلّا بطاعته للّٰه و رسوله ، فهذا ما دلّت علیه الأدلّة النقلیّة (1) .

و لا شک أن العقل یدرک حسن الانقیاد للمولی الحقیقی و قبح المخالفة لأوامره و نواهیه ، لکونها خروجاً عن رسم العبودیة و هتکاً لحرمته ، و من هنا یحکم بقبح الفعل المتجرّیٰ به و أنّ فاعله یستحقّ الذمّ و اللّوم .

و لیس لأحدٍ أنْ یقیس التجرّی علی المولی الحقیقی بالتجرّی علی أحدٍ من الناس ، بأنْ یجعل تعدّی حدوده علی حدّ التصرّف فی مالٍ بتخیّل أنه لزیدٍ ثم تبیّن کونه مالاً لنفسه ، فکما لا یکون فی هذه الصّورة ظالماً لزید ، کذلک لا یکون هاتکاً للمولی إذا شرب المائع بقصد کونه خمراً و تبیّن کونه ماءً ، فإنّ هذا قیاس مع الفارق ، کما لا یخفی علی أهل المعرفة .

و علی الجملة ، فإنه لا ینبغی الریب فی ترتّب الذمّ و اللّوم ، و إنّما الکلام فی ترتّب الأزید من ذلک .

هذا ، و قد نسب إلی الشیخ انحصار التجرّی بهذه المرحلة فقط ، لکنّ الاستاذ - فی الدّورة اللّاحقة - تنظّر فی هذه النسبة ، و أفاد بأنّ الشیخ غیر جازم بعدم ترتب غیر اللّوم و الذم .

هل یستحقّ العقاب ؟

و أمّا استحقاق العقاب - بالإضافة إلی اللّوم - .

فقیل : بأنّ التجری یوجب قبح الفعل من حیث الصّدور ، و استحقاق العقاب یکون فیما لو کان الفعل قبیحاً من حیث الذات .

ص:67


1- 1) بحار الأنوار 25 / 286 - 287 .

و قیل : باستحقاق العقاب من حیث الصّدور أیضاً ، فقال صاحب الکفایة باستحقاقه علی نفس العزم علی الفعل ، و قال جماعة - منهم المحقق العراقی - بأنّ الفعل الخارجی مورد القبح و استحقاق العقاب .

هل هو حرام شرعاً ؟

و فی ترتب الحرمة الشرعیّة أیضاً خلاف .

فقیل : بعدمها بل الحکم بالاستحقاق عقلی .

و قیل : بوجودها ، فقیل : بأنه حکم شرعی لا یقبل التخلّف و التغیّر بالعناوین ، و قیل : یتغیّر بها ، و هو رأی صاحب الفصول .

أمّا المیرزا ، فقد ذکر (1) أن المسألة ربما تحرّر فقهیّةً ، و اخری اصولیّة ، و ثالثةً کلامیّة .

أمّا تحریرها فرعیّةً ، فباعتبار أنْ یقع الکلام فی اتّصاف المخالفة القطعیّة - و لو کان القطع غیر مصادف للواقع - بالحرمة و عدمه .

و أمّا تحریرها اصولیّةً ، فمن جهة دعوی شمول الأدلّة الأولیّة بإطلاقها لصورة التجرّی ، و وقوع النتیجة فی طریق استنباط الحکم الشّرعی ، أو من جهة قانون الملازمة بعد ثبوت الحکم العقلی بالقبح .

و أمّا تحریرها کلامیّةً ، فمن حیث استحقاق العقاب علی المخالفة و الثواب علی الانقیاد .

و تبعه سیدنا الاستاذ قدّس سرّه و تکلّم علی ذلک بالتفصیل (2) .

ص:68


1- 1) أجود التقریرات 3 / 42 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 36 .
رأی الشیخ فی استحقاق العقاب

ذکر الشیخ : أن القاطع لا یحتاج فی العمل بقطعه إلی أزید من الأدلّة المثبتة لأحکام مقطوعه ، فیجعل ذلک کبری لصغری قطع بها ، فیقطع بالنتیجة ... لکنّ الکلام فی أن قطعه هذا هل حجة علیه ... فیعاقب علی مخالفته ... ؟

الإشکال علیه

و قد وقع الإشکال فی موردین من هذا الکلام :

أحدهما فی قوله : فیقطع بالنتیجة .

من جهة أنّ هذا الحکم المقطوع به ، هل هو حکم واقعی أو ظاهری ؟ فإن ارید الواقعی ، فیستحیل القطع به إلّا إذا کان الدلیل المثبت له قطعیّاً ، و من المعلوم أن أکثر الأدلة المثبتة للأحکام ظنیة لا قطعیة ، و إن ارید الظاهری ، فإنّه لا قطع بالحکم الظاهری فی غیر موارد الاصول الشرعیّة .

و الثانی فی قوله : فیعاقب علی مخالفته .

من جهة أنّ موضوع البحث هو أن المخالفة مستتبعة لاستحقاق العقاب أوْ لا ، و ظاهر عبارته العقاب لا استحقاق العقاب .

ثم إنه یرد علیه : وقوع الخلط فی کلامه بین الحکم العقلی و الحکم الشرعی ، لأنّ مناط البحث فی استحقاق العقاب و عدمه هو حکم العقل ، لکنّه فی مقام الاستدلال ینقل الاتفاق من الفقهاء علی الأوّل ، و هو الاستحقاق .

کلام الشهید الأوّل

هذا ، و الأصل فی کلام الشیخ هو ما ذکره الشهید رحمه اللّٰه فی قواعده حیث قال ما نصّه :

ص:69

لا تؤثّر نیّة المعصیة عقاباً و لا ذمّاً ما لم یتلبّس بها ، و هو ما ثبت فی الأخبار العفو عنه ، و لو نوی المعصیة و تلبّس بما یراه معصیة فظهر بخلافها، ففی تأثیر هذه النیّة نظر :

من أنها لمّا لم تصادف المعصیّ فیه ، صارت کنیّةٍ مجرّدة ، و هو غیر مؤاخذ بها .

و من دلالتها علی انتهاک الحرمة و جرأته علی المعاصی .

و قد ذکر بعض الأصحاب : إنه لو شرب المباح متشبّهاً بشارب المسکر ، فعل حراماً .

و لعلّه لیس بمجرّد النیّة بل بانضمام فعل الجوارح إلیها .

و یتصوّر محلّ النظر فی صور :

منها : لو وجد امرأةً فی منزل غیره فظنّها أجنبیّة فأصابها ، فظهرت أنها زوجته أو أمته .

و منها : لو وطئ زوجته لظنّها حائضاً ، فبانت طاهراً .

و منها : لو هجم علی طعام بید غیره و أکل منه ، فتبیّن أنه ملک الآکل .

منها : لو ذبح شاةً یظنّها للغیر بقصد العدوان ، فظهرت ملکه .

و منها : ما إذا قتل نفساً بظنّها معصومة ، فبانت مهدرة .

و قد قال بعض العامّة : یحکم بفسق متعاطی ذلک ، لدلالته علی عدم المبالات بالمعاصی ، و یعاقب فی الآخرة - ما لم یتب - عقاباً متوسّطاً بین عقاب الکبیرة و الصغیرة .

ص:70

و کلاهما تحکّم و تخرّص علی الغیب (1) .

و حاصل کلامه عدم ترتّب الفسق و عدم استحقاق العقاب .

بقیّة کلام الشیخ و النظر فیه

ثم إنّ الشیخ أورد أدلّة القول بالاستحقاق .

فذکر الإجماع ، ثم قال : و یؤیّده بناء العقلاء و حکم العقل بقبح التجری .

قال : و قد یقرّر دلالة العقل علی ذلک : بأنا إذا فرضنا شخصین قاطعین ، بأنْ قطع أحدهما بکون مائع معین خمراً ، و قطع الآخر بکون مائع آخر خمراً ، فشرباها ، فاتفق مصادفة أحدهما للواقع و مخالفة الآخر ، فإمّا أن یستحقّا العقاب أو لا یستحقّه أحدهما أو یستحقّه من صادف قطعه الواقع دون الآخر أو العکس ... .

ثم قال : و یمکن الخدشة فی الکلّ .

أمّا الإجماع ، فالمحصّل منه غیر حاصل ، و المسألة عقلیّة ، خصوصاً مع مخالفة غیر واحد کما عرفت من النهایة ، و ستعرف من قواعد الشهید ، و المنقول منه لیس بحجّة فی المقام .

أقول :

الإشکال علی الإجماع المدّعی من جهة الکبری أو الصغری ، له مجال ، لکن قوله « و المسألة عقلیّة » غیر تام ، لأنّ معقد الإجماع هو « المعصیة » ، فقد تقدّم قوله : « کما یظهر من دعوی جماعة الإجماع علی أنّ ظانّ ضیق الوقت إذا أخّر الصّلاة عصی و إنْ انکشف بقاء الوقت ... » و المعصیة و عدمها حکم شرعی لا عقلی ... .

ص:71


1- 1) القواعد و الفوائد: 44 - 45 . الفائدة 20 .

قال :

و أمّا بناءً العقلاء ، فلو سلّم ، فإنّما هو علی مذمّة الشخص من حیث أن هذا الفعل یکشف عن وجود صفة الشقاوة فیه ، لا علی نفس فعله ، کمن انکشف لهم من حاله أنه بحیث لو قدر علی قتل سیّده لقتله ، فإنّ المذمّة علی المنکشف لا الکاشف .

قال : و من هنا یظهر الجواب عن قبح التجری ... .

أقول :

لقد نزّل الشیخ حکم العقل و بناء العقلاء علی اللّوم و المذمّة ، لخبث الباطن و السریرة ، إلّا أنه لا شک عقلاً و عقلاءً فی صدق عنوان « الهتک » علی هذا الفعل ، و هتک المولی قبیح بلا ریب ، لأنه ظلم کما لا یخفی .

و هذا محصّل الکلام علی مسلک الشیخ الأعظم فی مسألة استحقاق المتجرّی للعقاب ، و قد ظهر أنه لا یمکن المساعدة علیه .

رأی السیّد الاستاذ تبعاً للشیخ

و قد تبع سیدنا الاستاذ قدس سرّه الشیخ الأعظم ، فقال ما نصّه :

الذی یذهب إلیه الشیخ هو أنه لیس فی مورد التجرّی سوی سوء السریرة ، و هو غیر ملازم للعقاب ، لأن العقاب یترتّب علی القبح الفعلی لا الفاعلی ، و فی قباله ذهب صاحب الکفایة إلی ثبوت العقاب ... .

و الذی نراه أنّ الحق مع الشیخ ، و أنّ القبح الفاعلی الموجود فی صورة التجرّی لا یلازم العقاب ، و إنما الذی یلازمه هو القبح الفعلی ، فلا وجه لما ذکره صاحب الکفایة من ثبوت العقاب علی فعل النفس ، و یدلّ علی ما ندّعیه وجهان :

ص:72

الأول : إنه لا إشکال فی ثبوت العقاب علی المعصیة الحقیقیّة بحکم العقلاء ، فلو کان القصد إلی المعصیة مستلزماً للعقاب ، للزم أن یحکم العقل فی مورد المعصیة الحقیقیة باستحقاق عقابین لحصول سببین له و هما القصد إلی المعصیة و نفس المعصیة . و هذا مما لا یقول به أحد .

الثانی : ما ورد فی الآیات و الروایات من إثبات العقاب علی المعصیة الحقیقیّة و مخالفة المولی ، فیلزم ثبوت عقابین فی موردها ، بناءً علی أنّ التجرّی موضوع العقاب ، لتعدد سببه .

و بالجملة : ما ذهب إلیه صاحب الکفایة مستلزم لدعوی تعدّد العقاب فی مورد المعصیة الحقیقیّة ، و هو مما لا یلتزم به هو و لا غیره ... فالحق مع الشیخ (1) .

أقول :

سنتعرّض فیما بعد إلی ما قد یورد به علی مذهب صاحب الکفایة فی المقام بعد توضیحه ، و من ذلک الإشکال بلزوم تعدّد العقاب و التمسّک بالنصوص ، فانتظر .

رأی صاحب الکفایة فی قبال الشیخ

و ذهب صاحب الکفایة إلی استحقاق العقاب - مضافاً إلی المذمّة - لکنّه إنما یستحقّه لفعلٍ قلبی و هو « العزم » ، لا للصّفة النفسانیّة و هی خبث السریرة کما قال الشیخ ، و لا من أجل وقوع الفعل خارجاً ، کما علیه المحقق الأصفهانی و غیره ... .

فیظهر أن لکلامه جهة إثبات وجهة نفی .

أمّا فی جهة الإثبات ، فاستدلّ بالوجدان قائلاً :

ص:73


1- 1) منتقی الاصول 4 / 57 - 58 .

لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته و ذمّه علی تجرّیه و هتکه لحرمة مولاه و خروجه عن رسوم عبودیّته و کونه بصدد الطغیان و عزمه علی العصیان ، و صحة مثوبته و مدحه علی قیامه بما هو قضیة عبودیّته ، من العزم علی موافقته و البناء علی إطاعته ، و إنْ قلنا بأنه لا یستحق مؤاخذةً أو مثوبةً ما لم یعزم علی المخالفة أو الموافقة ، بمجرد سوء سریرته أو حسنها ، و إنْ کان مستحقّاً للوم أو المدح بما یستتبعانه ... .

ثم قال : و لا یخفی أنّ فی الآیات و الروایات شهادةً علی صحة ما حکم به الوجدان الحاکم علی الإطلاق فی باب الاستحقاق للعقوبة و المثوبة . (1)

أقول :

فهو یری أنّ للعقل هنا حکمین .

أحدهما : استحقاق الذم و المدح علی خبث السریرة و طهارتها ، فإنه یمدح صاحب السریرة الصّافیة علی هذه الصفة کما یمدح اللؤلؤ علی صفائه ، و یذم صاحب السریرة الخبیثة .

و الحکم الثانی : هو استحقاق المؤاخذة و العقاب من المولی علی العزم علی المعصیة ، و کونه فی مقام صدور الفعل المستلزم لهتک المولی ، و العزم فعلٌ قلبی اختیاری یستحقُّ علیه العقاب و الثواب .

فهذا ما یشهد به الوجدان ، و النصوص الشرعیّة شاهدة بذلک ، کقوله تعالی :

« إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤٰادَ کُلُّ أُولٰئِکَ کٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً » (2)و قوله علیه السلام « نیّة

ص:74


1- 1) کفایة الاصول : 259 .
2- 2) سورة الإسراء : 36 .

الکافر شرّ من عمله » (1) .

و أمّا فی جهة النفی ، فذکر أربعة وجوه ، و ملخّص کلامه فیها :

1 - کون الشیء مقطوع الخمریة - مثلاً - لا یوجب تعنونه بعنوانٍ من العناوین المقبّحة کالظلم .

2 - کونه قابلاً للتعنون بالقبح - مثلاً - موقوف علی الالتفات إلی العنوان ، و الحال أن کون الشیء مقطوع الخمریة غیر ملتفت إلیه عند الارتکاب ، و الحکم العقلی متوقف علی صدق هذا العنوان .

3 - إن موضوعات الأحکام العقلیة یجب تعلّق القصد بها بالإضافة إلی الالتفات ، و لیس هذا المائع قد قصد شربه بعنوان کونه مقطوع الخمریة .

4 - إنه یعتبر اختیاریة الفعل ، و فی موارد القطع بالموضوع المخالف للواقع لا تحقق للفعل الاختیاری ، فلا موضوع لحکم العقل بالقبح . أی: إنّه لمّا قطع بأنّ هذا خمر - و کان ماءً فی الواقع - أقدم علی شربه بعنوان الخمریة ، إلّا أن شرب الخمر لم یصدر منه اختیاراً ، لعدم کونه خمراً ، و لم یشرب الماء عن اختیار ، لأنه لم یکن من قصده ، فهو لم یحصل منه عمل اختیاری مقصود .

إشکالات المحقق الأصفهانی

و قد ناقش المحقق الأصفهانی فی ما ذکره فی الجهة الاولی (2) :

أوّلاً : بأن العزم لا یمکن أن یتعنون بعنوان القبح ، لأن القبیح فی نظر العقل هو الظلم ، و العزم علی الظلم لیس بظلم ، فلا یعقل أن یکون موضوع حکم العقل

ص:75


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 50 ، الباب 6 من أبواب مقدمات العبادات ، رقم : 3 .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 29 .

بالقبح . و بعبارة اخری : الظلم یصدر عن عزم و إرادةٍ للظلم ، فالعزم لیس بظلم . و إذْ لا قبح فلا استحقاق للعقاب ، لأن العقل یحکم بالاستحقاق إن کان ظلماً ، و هنا عزم علی الظلم و هو لیس بظلم ، لأنّ ملاک قبح الظلم هو لزوم المفسدة النوعیة و اختلال النظام العام ، و هو منتف عن مجرّد العزم .

و ثانیاً : إنّه لا شبهة فی أن الهتک أمر اختیاری ، و لو لا القصد لم یتحقق الهتک ، وعلیه ، فلا یمکن أن یکون مجرد القصد هتکاً ، و إلّا لزم التسلسل ، لأن کونه هتکاً متقوّم بالقصد . إلّا أن یقال بأن قصدیّة القصد یتحقّق بنفس القصد ، لکن هذا یستلزم انحصار الاستحقاق بمورد الالتفات إلی قصد الهتک بالقصد ، فمن شرب المائع بعنوان أنه خمر لا یقصد بشربه هتک حرمة المولی ، و إنما یتحقق الهتک إن قصد الهتک ، و بذلک یکون متجرّیاً . و الحال أن صاحب الکفایة یری أن مجرّد القصد و العزم هو الموضوع فی جمیع الموارد .

مناقشة الاستاذ

و أجاب الاستاذ :

أمّا عن الأوّل ، فبأنّه إشکال مبنائی ، لأن المحقق الخراسانی یذهب إلی ذاتیّة قبح الظلم لا عقلائیّته ، و المحقق الأصفهانی یری أن قبح الظلم من القضایا المشهورة ، لأجل حفظ النظام . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : لو سلّمنا أنّ ملاک قبح الظلم هو المفسدة النوعیة و اختلال النظام کما ذکره ، فلا بدّ أن یکون المراد هو المفسدة الشأنیّة لا الفعلیة ، و إلّا لزم القول بعدم قبح المعصیة غیر الموجبة لاختلال النظام ، و لا یلتزم بذلک أحد ، و مع الالتزام بالشأنیّة ، فلا ریب فی وجودها فی العزم .

ص:76

و أمّا عن الثانی ، فبأنه یبتنی علی القول بتقوّم الهتک و التعظیم - مطلقاً - بالقصد ، و لیس الأمر کذلک ، فمن الهتک - و کذا التعظیم - ما یتقوّم بالقصد ، و منه ما لا یتقوّم به . و توضیح ذلک :

إن الهتک و التعظیم من القضایا العقلائیّة ، و کلّ قضیّة عقلائیّة فلا بدّ من الفحص عنها فی الوجدان العقلائی ، فنقول : إذا کان العمل یحتمل الوجهین، فلا یتعنون بأحدهما إلّا بالقصد ، کالقیام مثلاً ، أمّا ما کان ذا عنوانٍ واحدٍ - کالسّجود مثلاً ، إذ لا یکون إلّا للتعظیم - فلا یتقوّم بالقصد ، بل یعتبر فی دلالته عدم قصد المنافی ، و هل الخروج علی المولی و هتکه من قبیل الأول أو الثانی ؟

الظاهر أنه من قبیل الثانی لا الأوّل ، و هو یتحقّق بفعل القلب کما یتحقق بفعل الجوارح ، فقصد الخروج عن رسم العبودیة هتک، و لا یتوقف تحققه علی قصد آخر، و إنما یتوقف علی عدم قصد المنافی کما ذکرنا فی السجود .

فما ذهب إلیه صاحب الکفایة فی کمال المتانة .

إشکال آخر

و قد یورد علیه أیضاً : بأن العزم علی الظلم من مقدّمات الظلم ، و المقدّمة خارجة عن ذی المقدّمة دائماً ، فلا ینطبق علیه عنوان الظلم ، فلا قبح له و لا استحقاق للعقاب علیه .

الجواب عنه

و یمکن الجواب عنه :

أمّا نقضاً ، فبحرمة الإعانة أو التعاون - علی القولین - علی الإثم ، کحرمة الإثم ، مع خروج الإعانة أو التعاون عنه ، فکما یقال هناک بالحرمة یقال هنا ،

ص:77

و الجواب الجواب .

و أمّا حلّاً ، فإنّ القصد یضاف تارةً : إلی العنوان و هو الظلم ، فیکون خارجاً عنه قطعاً ، و اخری : یضاف إلی معنون الظلم - و هو المعصیة - فیکون القصد من مصادیق الظلم . و الأمر فی التجری من القسم الثانی ، إذ العزم علی الظلم مصداق لمعنون الظلم و هو المعصیة ، فهو ظلم وقع مقدّمة لظلم آخر .

إشکال المحقق الحائری و الجواب عنه

و أورد المحقق الحائری علی کلام صاحب الکفایة من أن الفعل المتجرّی به لا یکون اختیاریاً أصلاً حتی بملاحظة العام الشامل للفرد المقصود و غیره ، بأنّه لعلّه من سهو القلم ، فقال ما حاصله : (1)

إنه لمّا تجرأ - فشرب المائع بقصد الخمریة فظهر کونه ماءً - تحقّقت عدّة عناوین ، منها : أن الواقع هو شرب الماء ، و منها : أن المائع مقطوع الخمریة ، و منها أنه مقطوع الحرمة ، و منها : انه قد شرب المائع - و هو عنوان جامع بین الخمر و الماء - و منها أنه قد تجرّأ علی مولاه . فهذه کلّها عناوین منتزعة من فعله . أمّا عنوان شرب الماء فهو غیر اختیاری کما هو واضح ، و کذا عنوان التجرّی ، لأنه لو التفت إلیه لما قصد ارتکاب الحرام و المفروض أنه قصده . و الباقی من العناوین کلّه اختیاری ، فقد قصد شرب المائع المقطوع الخمریة و الحرمة . فقول صاحب الکفایة بعدم تحقق الفعل الاختیاری فی الشبهات المصداقیة للتجرّی ، لأن ما قصد لم یقع و ما وقع لم یقصد ، غیر صحیح .

ص:78


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 335 .

أقول :

و قد تعرّض المحقق الخراسانی لهذا الإشکال و أجاب عنه فی حاشیة الرسائل (1) ، و أجاب عنه المحقق الأصفهانی (2) أیضاً ، و ملخّص الجواب هو:

أن المفروض قصده شرب الخمر بخصوصیّة الخمریة ، و معه کیف یمکن تعلّق القصد بالحصّة المتحقّقة ضمن الماء من المائع ؟ فهو من أوّل الأمر قاصد للحصّة الخمریة من الطبیعة ، فلا یمکن تعلّق القصد بالطبیعة الجامعة بین الخمر و الماء و هو المائع .

و أضاف شیخنا - بعد أن ذکره - وجهاً آخر و هو : إنه بعد العلم بامتناع الإهمال فی متعلّق القصد و الإرادة ، و أنّه لا بدّ من تعیّن المقصود و المراد ، فإنّه لا یخلو المتعلّق من احدی حالتین ، فإمّا یکون قد تناول المائع لا بشرط عن الخمریة ، فهذا خلاف الفرض ، و إمّا یکون قد تناوله بشرط الخمریة ، فلم تتعلّق الإرادة بالجامع .

إشکال المحقق الإیروانی و نقده

و ذکر المحقق الإیروانی ما حاصله (3) الفرق بین دواعی الإرادة و قیود المراد ، فخصوصیّة الخمریة، إن کانت قیداً للمراد تمّ ما ذکره صاحب الکفایة ، إذْ لا واقعیّة للخمریّة و المائیّة غیر ملتفت إلیها أصلاً ، أما إن کانت الداعی للإرادة ، فالفعل صادر عن اختیار .

ص:79


1- 1) درر الفوائد فی الحاشیة علی الفرائد : 37 .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 34 .
3- 3) حاشیة الکفایة 2 / 417 .

و یظهر الجواب عنه مما تقدّم ، لأن خصوصیّة الخمریّة إن لم تکن قیداً للمراد ، فالمراد إمّا مهمل و إمّا مطلق ، أمّا الإهمال فغیر معقول ، و أمّا الإطلاق فالمفروض عدمه ، فالتقیید ضروری لا محالة .

إشکال المیرزا

و أشکل المیرزا (1) علی قول الکفایة - بأنّ القطع بالخمریّة غیر ملتفت إلیه ، فهو غیر اختیاری - بالنقض علیه، بأخذ القطع فی موضوع الحکم ، فکیف یؤخذ فی الموضوع لو لم یکن مورداً للالتفات ؟

و أمّا حلّاً ، فإنه لا ریب فی کون المقطوع به ملتفتاً إلیه لکنْ بالعرض لا بالذات - لأنّ متعلّق الالتفات لیس الخارج بل الصّورة - لکنّ کلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات ، فالقطع بالشیء مورد للالتفات ، و إذا کان القطع ملتفتاً إلیه ارتکازاً ، فالقول بأنه غیر ملتفت إلیه باطل .

الجواب عنه

و قد اجیب عنه: بأنّ عبارة الکفایة هی عدم الالتفات غالباً .

لکنّ هذا لا یکفی جواباً عن النقض بالقطع الموضوعی ، ضرورة وجود الالتفات هناک ، فلو کان الالتفات نادراً یلزم تقیید الحکم بالفرد النّادر ، و هذا لغو - کما لو لم یکن مورداً للالتفات أصلاً - و یستلزم القول باختصاص جواز الشهادة - مثلاً - بموارد نادرة فقط ، و لا یلتزم بهذا أحد .

بل التحقیق فی الجواب أنْ یقال : بأنّ الالتفات الارتکازی یجتمع مع الغفلة و الغافل غیر مؤاخذ ، فلا استحقاق للعقاب مع الغفلة . و توضیح ذلک :

ص:80


1- 1) أجود التقریرات 3 / 50 .

إن استحقاق العقاب و عدمه یدوران مدار الالتفات و عدمه ، و القطع بالخمریة و إنْ کان مورداً للالتفات ارتکازاً ، إلّا أنه قد یغفل عنه فعلاً ، و مع الغفلة فهو معذور ، بمعنی أنه لا یستحقّ العقاب ، غیر أنّ الفرق بین مورد الالتفات الارتکازی و غیره هو ارتفاع الغفلة فیه بأدنی مناسبة ، بخلاف غیره ، فحال القطع حال النور ، فکما أنا نری الأشیاء بواسطة النور و مع ذلک نغفل عنه لاستغراقنا فی الأشیاء المستنیرة ، غیر أنا نلتفت إلیه بمجرّد التنبیه إلیه ، کذلک القطع ، فإنا نغفل عنه لاستغراقنا فی الأشیاء المقطوع بها مع کونه فی ارتکازنا ، و ترتفع الغفلة بأدنی التفات .

فما ذکره المیرزا من الارتکازیة صحیح ، إلّا أنه لا ینافی الغفلة - و إن کانت ترتفع بأدنی التفات - و قد تقدّم أن استحقاق العقاب یدور مدار الالتفات ، و مع الغفلة فلا استحقاق .

و هذا معنی قول صاحب الکفایة « بل لا یکون غالباً بهذا العنوان مما یلتفت إلیه » .

المختار فی المسألة

و المختار - تبعاً للاستاد دام بقاه - هو القول باستحقاق العقاب علی العزم ، وفاقاً لصاحب الکفایة ، و الاستحقاق علی الفعل ، خلافاً له . فههنا دعویان ، الاُولیٰ :

الاستحقاق علی العزم

و یستدلُّ له بالعقل و النقل :

أمّا عقلاً ، فلما تقدّم من أن العزم علی المعصیة أمر اختیاری ، للمکلّف القدرة علی إیجاده و إعدامه ، و کلّ عمل اختیاری یُستحق العقاب أو الثواب علیه ...

ص:81

و من الواضح أن العزم علی المعصیة طغیان علی المولی و هتک له ، فالعقل حاکم باستحقاق العقاب علیه ، و العقلاء یرون ذلک بلا کلام ، و إنْ لم یقع الفعل علی ما عزم علیه .

و أمّا نقلاً ، فالأخبار الواردة فی الموضوع کثیرة ، و بعضها معتبر سنداً :

کالخبر عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه ، عن ابن أبی عمیر ، عن جمیل ، عن ابن بکیر ، عن أحدهما علیهما السلام قال :

« إنّ اللّٰه تعالی قال لآدم : یا آدم جعلت لک أنّ من همّ من ذریّتک بسیّئةٍ لم تکتب علیه ، فإنْ عملها کتبت علیه سیّئة . و من همّ منهم بحسنةٍ ، فإنْ لم یعملها کتبت له حسنة ، و إنْ هو عملها کتبت له عشراً » (1) .

و فی روایةٍ اخری :

« إنما خُلّد أهل النار فی النار ، لأنّ نیّاتهم کانت فی الدنیا أنْ لو خُلّدوا فیها أن یعصوا اللّٰه أبداً .

و إنّما خُلّد أهل الجنّة فی الجنّة ، لأنّ نیّاتهم کانت فی الدنیا أنْ لو بقوا فیها أن یطیعوا اللّٰه أبداً .

فبالنیّات خلّد هؤلاء و هؤلاء ... » (2) .

هذا کلّه فی المقتضی لاستحقاق العقاب ، و هل من مانع ؟

أمّا عقلاً ، فسیأتی .

و أما نقلاً ، فما فی النصوص ، ممّا یدلّ علی عدم الاستحقاق ، ففی الخبر

ص:82


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 51 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 8 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 50 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 4 .

عن الإمام أبی عبد الله علیه السلام قال :

« لو کانت النیّات من أهل الفسق یؤخذ بها أهلها ، إذاً ، لأخذ کلّ من نوی الزنا بالزنا ، و کلّ من نوی السّرقة بالسرقة ، و کلّ من نوی القتل بالقتل ، و لکنّ اللّٰه عدلٌ کریم لیس الجور من شأنه ، و لکنه یثیب علی نیّات الخیر أهلها و إضمارهم علیها ، و لا یؤاخذ أهل الفسق حتی یفعلوا » (1) .

یفید هذا الخبر أنّ المؤاخذة علی النیّات ینافی العدل ، إذن ، لیس هناک استحقاق حتّی یکون العفو ... .

لکنّ قوله علیه السلام : « لکنه یثیب ... » و إنْ دلّ علی التفضّل - إذ لا حقّ لأحدٍ علی اللّٰه - فیه دلالة علی أن للنیّة أثراً . و کذلک الحال فی طرف نیّة أهل الفسق ، فله أثر و هو استحقاق العقاب ، إلّا أنهم لا یؤاخذون حتی یفعلوا ... .

فکان أثر نیّة الخیر استحقاق التفضّل بالثواب من اللّٰه ، و أثر نیّة أهل الفسق هو المؤاخذة ، لکنهم یعفون حتی یفعلوا .

فتقع المعارضة فی الروایة صدراً و ذیلاً ، فهی حینئذٍ مجملة لا تصلح لمعارضة الأخبار السّابقة .

علی أنّ سنده لا یخلو عن کلامٍ ، فهو فی قرب الإسناد عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة ... و فی مسعدة کلام للعلّامة فی الخلاصة ، إذ أورده فی القسم الثانی ، و هم من لا یعتمد علیهم ، قال : قال الشیخ رحمه اللّٰه : إنه عامی .

و قال الکشی : إنه بتری (2) .

ص:83


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 55 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 21 .
2- 2) رجال العلّامة الحلی : 260 .

إلّا أنه قد تقرّر فی محلّه أنّ العمدة هی وثاقة الرّاوی و إن کان علی مذهب باطل .

و ذهب الوحید البهبهانی (1) إلی الأخذ بروایاته ، لکونها موافقةً لروایات الثقات .

و هذا غایة ما یفیده هو الظن بالوثاقة ، و هو لا یغنی من الحق شیئاً .

و ذهب السید الخوئی (2) إلی وثاقته ، لکونه من رجال تفسیر علی بن إبراهیم و کتاب کامل الزیارات .

علی أنّ هذا الخبر شاذ بالنسبة إلی الأخبار المتقدّمة ، و قد قال علیه السّلام :

« خذ بما اشتهر بین أصحابک ودع الشاذ النادر » (3) ، فمقتضی القاعدة هو الأخذ بتلک الأخبار و ترک هذا الخبر ... .

و هذا تمام الکلام فی الدعوی الاولی .

الدعوی الثانیة :

الاستحقاق علی الفعل

فنقول :

إنه و إن لم یترتب المفسدة علی الفعل خارجاً فلم یکن لما قصده واقعیّة ، و الذی وقع لم یکن مقصوداً له ، إلّا أنه یتعنون بعنوان التمرّد و الخروج علی المولی و الإهانة له ، فیتمّ المقتضی لاستحقاق العقاب ، و یقع الکلام فی المانع عنه .

ص:84


1- 1) انظر : تنقیح المقال فی علم الرجال 3 / 212 .
2- 2) معجم رجال الحدیث 19 / 151 .
3- 3) مستدرک الوسائل 17 / 303 .
الإشکال بعدم اختیاریة الفعل

و أمّا المانع ، فوجوه :

الأول : إن هذا الفعل لم یصدر عن اختیار ، و کلّ فعل غیر اختیاری فلیس بموضوع لاستحقاق العقاب . قاله صاحب الکفایة (1) .

و الجواب :

أمّا نقضاً ، فقد التزم هو استحقاق العقاب علی العزم ، و فی العزم علی المعصیة تجریاً ، قد وقع ما لم یقصد و ما قصد لم یقع ، فما هو جوابه فی مرحلة العزم یکون جوابنا فی مرحلة الفعل .

و أمّا حلّاً ، فقد ذکر هو رحمه اللّٰه لاختیاریة العزم أنه مسبوق بالتصوّر و التصدیق ، و کلّ فعل کان کذلک فهو اختیاری ، و لا فرق فیه بین العزم و الفعل الخارجی . فالإشکال مندفع .

الإشکال بعدم کونه ملتفتاً إلیه

الثانی : إن عنوان « مقطوع الخمریّة » و« مقطوع الحرمة » غیر ملتفت إلیه ، و کلّ ما یکون غیر ملتفت إلیه فهو غیر اختیاری ، و کلّ فعل غیر اختیاری فلا یستحق علیه العقاب .

و الجواب :

لیس العنوان المستحقّ علیه العقاب هو المقطوع الخمریّة أو الحرمة ، بل هو « الهتک » ، و فی التجری هذا العنوان متحقّق و ملتفت إلیه لدی ارتکاب الفعل و إن لم یکن خمراً .

ص:85


1- 1) کفایة الاصول : 260 .

و قال السیّد الصدر :

الالتفات المرآتی الآلی إلی القطع کاف فی الاختیار ، لأن المقصود من الالتفات ما یقابل الغفلة المطلقة التی لا تنافی السلطنة و الاختیار ، لا خصوص الالتفات التفصیلی (1) .

الإشکال بلزوم تعدّد العقاب

الثالث : استلزام القول باستحقاق العقاب علی الفعل لتعدّد العقاب ، لأنّ المفروض استحقاقه علی العزم أیضاً ، و تعدّد العقاب باطل .

أجیب عنه بوجوه :

جواب المحقق العراقی

فقال المحقق العراقی (2) :

إنّ العمل الخارجی استمرار لنفس ذاک الطّغیان ، فلا تعدّد لموجب العقاب حتی یتعدّد .

و أیضاً :

فإن ملاک استحقاق الثواب و العقاب أمر ، و ملاک وحدة العقوبة و تعدّدها أمر آخر ، بجعل مناط أصل الاستحقاق عنوان التسلیم و الطغیان علی المولی المتحقّق و لو بالإقدام علی المقدّمة ، لا نفس العصیان و تفویت الغرض الأصلی ، و مناط وحدة العقوبة و تعدّدها وحدة الغرض الفائت و تعدّده ، و لازم ذلک عدم استحقاقه بتفویت غرض أصلی واحد ، إلّا عقوبة واحدة و لو مع مخالفته لواجبات

ص:86


1- 1) بحوث فی علم الاصول 4 / 51 .
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 36 .

غیریّة متعددة . فتدبّر .

ففی کلامه جوابان عن الإشکال .

لکن یرد علی الأوّل : إن هنا وجودین من مقولتین ، کلّ واحدٍ منهما من صقعٍ و عالمٍ مستقلّ عن الآخر ، و یستحیل استمرار الوجود فی نشأتین ، لأن العزم من الکیفیّات النفسانیّة ، و العمل الخارجی کیف خارجی محسوس أو مقولة اخری ، و اتّحادهما محال ، فلا استمرار ، و أمّا أنْ ینطبق علی کلیهما عنوان « الطغیان » انتزاعاً منهما ، فذاک أمر آخر ، لأن الملاک فی التعدّد هو المعنون .

و مما ذکرنا یظهر الإشکال فی الجواب الثانی ، لأنّ موضوع حکم العقل بالاستحقاق هو الطغیان ، فإذا تعدّد تعدّد الحکم ، و قد عرفت أن العزم مصداق للطغیان و الفعل مصداق آخر . و بالجملة ، فإنّ موضوع حکم العقل بالاستحقاق هو الطغیان لا الغرض ، و إذا تعدد الموضوع تعدّد الحکم کما هو واضح .

جواب صاحب الکفایة

و قال فی الکفایة :

لا یذهب علیک إنه لیس فی المعصیة الحقیقیّة إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة و هو هتک واحد ، فلا وجه لاستحقاق عقابین متداخلین کما توهّم ، مع ضرورة أن المعصیة الواحدة لا توجب إلّا عقوبة واحدة . کما لا وجه لتداخلهما علی تقدیر استحقاقهما کما لا یخفی ، و لا منشأ لتوهّمه إلّا بداهة أنه لیس فی معصیة واحدة إلّا عقوبة واحدة ، مع الغفلة عن أنّ وحدة المسبب تکشف بنحو الإن عن وحدة السبب (1) .

ص:87


1- 1) کفایة الاصول : 262 - 263 .

و قال فی تعلیقة الفرائد :

إنما یکون تعدّد العقوبة أو المثوبة استحقاقاً بتعدد إظهار الطغیان و الکفران ، أو الموافقة و الطّاعة ، و وحدتها بوحدته ، و لیس فی کلّ واحدٍ من المعصیة و التجرّی بمجرد القصد أو مع العمل أو الإطاعة و الانقیاد کذلک ، إلّا إظهار واحد ، فالإنسان من أوّل ما صار بصدد طاعة أو معصیة ، إلی أنْ فرغ منها أو یرجع بفسخ عزمه مطلقاً ، فلم یظهر الانقیاد له تعالی أو التجرّی علیه تعالی ، إلّا إظهاراً واحداً و إنْ اختلف ما به الإظهار فیهما طولاً و قصراً ، کما هو الشأن أیضاً فی أفراد ما أمر به أو نهی عنه إذا اختلفت کذلک ، فلا یکون الطول فیهما بموجب لتعدّد الطویل منها و لو کان بمقدار أفراد کثیرة قصیرة ، فلا یکون شرب القدح من الخمر إذا کان فی مجلس واحد بحیث یعدّ شرباً واحداً إلّا کشرب جرعةٍ منها .

و بالجملة ، ملاک العقوبة و المثوبة عن استحقاق هو : إظهار المخالفة و الشقاق و إظهار الانقیاد له و الوفاق ، و هو فی کلّ واحدٍ من المعصیة و الإطاعة و التجرّی و الانقیاد بأنحائهما واحد . و لا ینافی ذلک تفاوت مقدار المثوبة و العقوبة فی المعاصی و الطّاعات ، و کذا فی أنحاء التجرّی و الانقیاد ، فإنه بحسب تفاوت ما قصده فی الصغر و العظم (1) .

أقول :

لا یخفی أنّ هذا البحث عقلی ، و أنه عن استحقاق العقاب علی الفعل المتجرّیٰ به و عدم استحقاقه عقلاً ، أمّا نفس العقاب فهو واحد بالضرورة ... .

و ما ذکره المحقق الخراسانی ففیه نظر ، لأنّ ما نحن فیه یفترق عمّا ذکره من

ص:88


1- 1) درر الفوائد فی الحاشیة علی الفرائد : 39 - 40 .

الطول و القصر ، و هو کلام صحیح ، ففی مثل الخط الواحد ، لا یضرّ بوحدته طوله و قصره ، لکن فیما نحن فیه عزمٌ علی المعصیة ثمّ فعلٌ خارجی ، فهو و إنْ کان صادراً عن العزم إلّا أنه غیر العزم ، فإنه مقدّمة و الفعل ذو المقدّمة . و بعبارة اخری :

لیس الفعل الخارجی استمراراً للعزم ، بخلاف الخطّ الطویل فإنه استمرار للقصیر ، فالقیاس مع الفارق . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ العزم من الامور النفسانیّة ، و لا یعقل الاتّحاد بین النفسانیّات و الخارجیّات .

فإن قلت : المناط هو الوحدة العرفیّة .

قلنا : لا اتّحاد عند العرف بین المقدّمة وذی المقدّمة . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ الرجوع إلی الفهم العرفی فی أمثال المقام لا وجه له ، إذ البحث - کما ذکرنا - عقلی ، و موضوع حکم العقل بالقبح و استحقاق العقاب هو الطغیان علی المولی ، فإذا تعدّد تعدّد حکمه ، و لا دخل للعرف فی ذلک .

هذا کلّه عقلاً .

و أمّا شرعاً ، فظاهر النصوص - کصحیحة جمیل المتقدّمة - هو استحقاق العذاب المتعدّد ، و إلّا لما کان للامتنان بالعفو معنیً .

و تلخّص :

إن الحق استحقاق العقاب علی العزم و الفعل معاً ، و العقل لا یری مانعاً عن ذلک .

نعم ، لا تعدّد فی السّیرة العقلائیّة ، لکنّ السرّ فی عدم التعدّد هنا شیء آخر ، و هو : إن المناط فی استحقاق العقاب فی بناء العقلاء هو تفویت غرض المولی ،

ص:89

فإذا کان الغرض المترتب علی المقدّمة و ذیها واحداً استحق العقاب الواحد ، و إن کانت المقدمة و ذیها من مقولتین . فتدبّر .

مشکلة اجتماع العصیان و الانقیاد

بقی الکلام فی مشکلة اجتماع الحسن و القبح ، و الحبّ و البغض ، و الإطاعة و العصیان ، فی بعض موارد التجرّی ، فلو ارتکب عملاً بعنوان التجرّی و انکشف کونه محبوباً عند المولی ، فإنه من حیث التجرّی قبیح و مبغوض ، و من حیث الواقع حسن و محبوب ، فکیف الحلّ ؟

و هذا من وجوه الإشکال علی القول باستحقاق العقاب علی الفعل المتجرّی به .

أمّا بناءً علی القول بعدم قبح الفعل المتجرّی به ، فلا إشکال .

و الإشکال فی المقام من جهتین :

إحداهما : اجتماع الحسن و القبح فی الشیء الواحد .

و الآخر : اجتماع المحبوبیة و المبغوضیة بالنسبة إلی الشیء الواحد .

و لکنه یرتفع من الجهة الاولی ، بأنّ الحکم العقلی بالحسن و القبح منوط بالالتفات إلی الموضوع ، و حیث أنّ المتجرّی بالمعصیة قاصدٌ للإتیان بالعمل المبغوض ، فهو فی تلک الحالة غیر ملتفت إلی محبوبیّة العمل ، فلا حسن لعمله المأتی به أصلاً ، حتی یلزم الاجتماع .

و هذا الجواب من الشیخ ، ذکره فی ذیل کلام الفصول (1) .

إنما الإشکال فی اجتماع الحبّ و البغض ، المحبوبیّة و المبغوضیّة ، کأنْ

ص:90


1- 1) فرائد الاصول 1 / 45 .

یُقدم علی قتل شخص علی أنه صدیق المولی فینکشف کونه عدوّاً له .

بیان المحقّق العراقی

و قد أتعب المحقق العراقی نفسه فی حلّ الإشکال ، و محصّل کلامه (1) هو :

إنَّ ما یتعلّق به الصفات النفسانیة هو الصّور الذهنیّة و لیس الخارج . فهذه هی المقدّمة الاولی .

و المقدّمة الثانیة : إن الصّور متباینة ، و لا یعقل الاتحاد فی الصور الذهنیة .

و المقدّمة الثالثة : هی التضادّ بین الحبّ و البغض ، و من المعلوم أنه یعتبر فی اجتماع الضدین وحدة الموضوع ، و وحدة المرتبة بین الضدّین ، فمع تعدّد الموضوع أو اختلاف المرتبة لا یلزم الاجتماع .

و المقدّمة الرابعة : إن متعلّق الحکم هو الصّورة قبل الإرادة و المعصیة ، فمرتبة الصّلاة - و هی متعلّق الوجوب - متقدّمة علی مرتبة إرادة المکلّف لها ...

و یشهد بذلک تخلّل الفاء ، فنقول : کانت الصّلاة واجبةً علیّ فأردت الإطاعة .

و بعد ، فإنّ التجرّی و الانقیاد عنوانان منتزعان من إرادة المکلّف للعمل بعنوان المبغوضیّة أو المحبوبیّة للمولی ، فالتجرّی متأخّر عن مبغوضیّة قتل الصدّیق و عن محبوبیّة قتل العدو ، لکنّ متعلّق الحبّ هو الصّورة ، کما أن متعلّق البغض هو الصّورة ، و الصور متباینة لا یعقل الاتحاد فیها ، فلا یلزم اجتماع المحبوبیّة و المبغوضیّة ، و لا الحبّ و البغض .

الإشکال علیه

و أورد علیه الاستاذ بعد التسلیم بأنّ المتعلّق هو الصّورة ، و أن الصّور

ص:91


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 35 .

متباینة ، لکن الصّورة فانیة فی الخارج - حسب تعبیر القوم - أو مرئیّة خارجاً - حسب تعبیره هو - فکان متعلّق الحبّ و البغض ما یراه الإنسان موجوداً فی الخارج و إنْ لم یکن موجوداً فیه حقیقةً ، و حینئذٍ یعود الإشکال ، لأنّ هذا الفعل الواحد المرئی خارجاً ، قد أصبح مجمعاً للعنوانین ، لکونه مصداقاً لقتل الصدیق و لقتل العدو ، فاجتمعت المحبوبیّة و المبغوضیّة فیه ، کما اجتمع الحبّ و البغض فی نفس المولی لهذا الفعل ... فیلزم اجتماع الضدّین .

بل یلزم اجتماع النقیضین ، لأن قتل العدوّ ذو مصلحة ملزمة ، فهو واجب ، و المولی یرید تحقّقه ، لکنّ العمل الصادر من المکلّف مصداق لهتک المولی ، و هو یرید عدمه ، فاجتمع إرادة الوجود و العدم فی الشیء الواحد .

لا یقال : یرتفع الإشکال بتعدّد الحیثیّة ، کما فی باب اجتماع الأمر و النهی بناءً علی الجواز .

للفرق بین المسألتین ، لأنّ تعدّد الحیثیّة هناک أفاد تعدّد الوجود ، فکان وجود الصّلاة غیر وجود الغصب مثلاً ، أمّا هنا ، فإنّ القتل الواحد اجتمع فیه العنوانان ، فهو هو مبغوض و محبوب ، و هو بنفسه مجمع المحبوبیّة و المبغوضیّة .

حلّ الإشکال

لکنّ الإشکال ینحلُّ من جهة الفرق بین المولی العرفی و المولی الحقیقی ، و توضیح ذلک هو :

إنّ الحبّ و البغض لدی المولی العرفی ینشآن من الدّواعی النفسانیّة ، فلذا یلزم اجتماعهما لمّا رأی أنّ المقتول هو عدوّه ، إذ یسرّه ما وقع و إنْ کان العبد متجرّیاً علیه ، و لیس الأمر کذلک فی المولی الحقیقی ، فإنّ الحبّ و البغض تابعان للحسن و القبح الواقعیین ، فإنْ کان الفعل حسناً واقعاً استتبع الحبّ ، و إنْ کان

ص:92

مبغوضاً استتبع البغض ، بناءً علی أن الحسن و القبح أمران ذاتیّان ، و لیسا من القضایا المشهورة التی تطابقت علیها آراء العقلاء حفظاً للنظام . هذا من جهة .

و من جهة اخری : فإنّ القضایا العقلیّة إنْ کانت نظریة ، فکلّها ترجع إلی استحالة اجتماع النقیضین و ارتفاعهما ، و کلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات ، و إن کانت عملیّةً ، فکلّها ترجع إلی حسن العدل و قبح الظلم .

و من جهةٍ ثالثة : إن تأثیر المصلحة للحسن و المفسدة للقبح ، إنّما هو علی وجه الاقتضاء لا العلیّة التامة ، فلا یقدّم أحدهما علی الآخر لدی التزاحم ، نظیر باب الصّدق و الکذب ، فإنّ الصّدق حسن لوجود المصلحة فیه ، و لکنْ یتقدّم علیه الکذب إن کانت مصلحته أهم أو ترتبت المفسدة علی الصّدق .

و إذا تبیّن هذه الامور ، فکلّ حسن أو قبیح ینشأ من المصلحة أو المفسدة ، فیکون محبوباً عند المولی الحقیقی أو مبغوضاً ، لا بدّ و أنْ ینتهی إلی ما بالذات و هو العدل و الظلم ، و ما لم ینقلب عنوان العدل إلی الظلم أو بالعکس ، لا ینقلب عن کونه محبوباً أو مبغوضاً .

و التجرّی إنْ خرج عن کونه ظلماً فهو ، و إلّا فإنّه لا یترتب علیه مصلحةٌ توجب له المحبوبیّة أصلاً ، لأنّ دخل الظلم فی قبح الفعل و العدل فی حسنه ، لیس بنحو الاقتضاء بل هو العلیّة التامّة .

فظهر أن ما دام التجرّی ظلماً علی المولی یستحیل اتّصافه بالمحبوبیّة و إنْ اشتمل علی مصلحةٍ ، إذ المصلحة تلک یستحیل أن تقلب العمل و تخرجه عن المبغوضیّة ... و کذا الحال فیما لو کان الفعل انقیاداً للمولی ، فإنه فی الحقیقة عدلٌ ، و کلّما یکون عدلاً یستحیل أن ینقلب عمّا هو علیه فیکون ظلماً .

و تلخّص : عدم لزوم اجتماع الضدّین أصلاً .

ص:93

حکم التجرّی شرعاً
اشارة

و بعد الفراغ عن البحث عن حکم العقل ، تصل النوبة إلی حکم الشّرع ، فهل هناک من دلیلٍ علی حرمة الفعل المتجرّی به فیستحقّ مرتکبه العقاب شرعاً ، أوْ لا دلیل علی ذلک ؟

قد نسب إلی المشهور القول بالحرمة ، و استدلّ لذلک بوجهین :

الاستدلال بالإطلاقات علی الحرمة

الوجه الأول : إطلاقات أدلّة الحرمة ، فدلیل حرمة شرب الخمر مثلاً یعمّ بإطلاقه صورة التجرّی .

و یتوقف تمامیّة هذا الوجه علی بیان امور :

الأول : إنّ الأوامر و النواهی المولویّة إنما هی بداعی جعل الداعی و التأثیر فی إرادة العبد نحو الانبعاث أو الانزجار .

الثانی : إنّ الواقع بما هو واقع لا یقبل الانبعاث إلیه و الانزجار عنه إلّا بوجوده الإدراکی ، و الإنسان إنما یتحرّک بدافع الصّورة النفسیّة للشیء لا وجوده الواقعی ، و لو لم تتحقق تلک الصّورة فلا تحرّک و لا انزجار من الإنسان . و لا یخفی عدم انحصار ذلک بالعلم ، بل اللّازم وجود الصّورة سواء کانت علمیّة أو ظنیّة أو احتمالیة ، لأنّ المحرّک أو الزاجر هو درک الواقع أعم من أن یکون علمیّاً أو ظنیّاً أو احتمالیّاً ... .

ص:94

الثالث : إنّ مطابقة هذه الصّورة و مخالفتها للواقع خارجة عن اختیار الإنسان ، فقد تکون مطابقة و قد لا تکون ، و لا اختیار للإنسان فی ذلک .

و بالنظر إلی هذه الامور ... .

فإنّ متعلّق التکلیف القابل للانبعاث و الانزجار هو ما احرز أنه خمر ، لما تقدّم من أن المؤثر فی الإرادة هو الإحراز ، فکان متعلّق التکلیف هو ما احرز ، و هو مطابق للواقع تارة و اخری غیر مطابق له ، و قد تقدّم أن المطابقة و المخالفة لیسا باختیاریین للمکلّف ، فکان موضوع الحرمة : ما احرز أنه شرب للخمر ، فهذا هو الموضوع ، و لا دخل فیه للواقع و لا المطابقة للواقع ، بل هو الموضوع للحکم بالحرمة سواء طابقه أو خالفه .

فالفعل الصادر من المکلّف حرام و إنْ لم یکن شرب الخمر فی الواقع .

الجواب عن الاستدلال المذکور

و قد أورد المحققون علی هذا الاستدلال وجوهاً من الإشکال :

أولاً : إنّ إحراز الواقع و تحقّق الصّورة الإدراکیّة منه فی الذهن ، إنما یؤثّر فی مرحلة فاعلیّة الحکم و محرکیّته للمکلّف ، لا فی مرحلة فعلیّة الحکم و وجوده حتی یکون أعم من المطابق و المخالف ، و قد وقع الخلط فی الاستدلال بین شرط وجود المقتضی و شرط تأثیره فی الإرادة ، و الإحراز شرط تأثیره لا وجوده .

و ثانیاً : إنّ الأحکام الشرعیّة معلولة للمصالح و المفاسد ، فلو جُعل الإحراز موضوعاً للحکم الشرعی لزم انتفاء الحکم حیث لا إحراز ، فیلزم تخلّفه عن المصلحة و المفسدة . و کذا لو کان إحرازٌ بلا واقع ، کما لو أحرزت الخمریّة و لا خمر واقعاً ، فإنّه یلزم تحقّق الحکم بالحرمة بلا مفسدة ... و الحال أنّ الأحکام

ص:95

تابعة للمصالح و المفاسد مطلقاً .

و ثالثاً : لو سلّمنا أن للإحراز دخلاً فی الحکم ، فإنّ متعلّق الحکم هو الواقع المحرز لا إحراز الواقع و إنْ لم یکن الواقع ، و الحال أنه فی مورد التجرّی لا یوجد الواقع ، لأن المرتکب هو الماء و لیس خمراً ، و إطلاق أدلّة حرمة شرب الخمر یقتضی ترتّب الحکم حیث یکون المرتکب خمراً .

و رابعاً إنّ هذا الدلیل منتقض بالواجبات ، فلو أحرز وجوب شیء و أتی به بقصد الوجوب هل یکون واجباً ؟ و هل یکون الإتیان به مجزیاً و إنْ انکشف الخلاف ؟ هذا لا یقول به أحدٌ ... فظهر أنّ موضوع الأدلّة الشرعیة لیس إحراز الواقع .

و خامساً لو کان الموضوع هو الإحراز ، لزم أنْ یکون المتجرّی عاصیاً ، لأنه قد ارتکب الحرام و هو ما احرز کونه خمراً ، و الحال أنّ التجرّی غیر العصیان .

الاستدلال للحرمة بقاعدة الملازمة

الوجه الثانی : قاعدة الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع .

أمّا حکم العقل بقبح التجری بأنْ یکون مستتبعاً لاستحقاق العقاب ، فقد قال الشیخ (1) :

إنه قد یقرّر دلالة العقل علی ذلک ، بأنا إذا فرضنا شخصین قاطعین ، بأنْ قطع أحدهما بکون مائع معیّن خمراً ، و قطع الآخر بکون مائع آخر خمراً ، فشرباهما ، فاتفق مصادفة أحدهما للواقع و مخالفة الآخر ، فإمّا أنْ یستحقّا

ص:96


1- 1) فرائد الاصول 1 / 38 .

العقاب ، أوْ لا یستحقه أحدهما ، أو یستحقّه من صادف قطعه الواقع دون الآخر ، أو بالعکس .

لا سبیل إلی الثانی و الرابع ، و الثالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختیار ، و هو مناف لما یقتضیه العدل . فتعیّن الأول .

و أمّا حکم الشرع ، فبقاعدة : کلّ ما حکم به العقل حکم به الشّرع .

فإذا ثبت قبح التجری - قبحاً مستتبعاً لاستحقاق العقاب - کان ملازماً للحرمة و یترتّب العقاب .

لکن لا یخفی أنّ العقاب إنما یترتّب علی « هتک المولی » ، هذا العنوان الجامع بین التجرّی و العصیان ، لا علی العصیان ، لأنا لو قلنا بحرمة المعصیة حرمةً شرعیّة ، لزم التسلسل ، لأنّ المعصیة محرّمة ، و ارتکاب الحرام معصیة اخری و هکذا .

و أیضاً : فإن المعصیة عبارة عن مخالفة الحکم الواقعی ، و هی خارجة عن الاختیار ، و ما کان کذلک فلا یکون موضوعاً للقبح و استحقاق العقاب ... .

فالموضوع هو الهتک و الخروج عن زیّ العبودیّة ، و هو عنوان جامع بین المعصیة و التجرّی .

هذا محصّل ما قیل فی وجه الاستدلال .

لکنْ یرد علی ما ذکر قبل الإشکال فی الاستدلال بقاعدة الملازمة :

أنه لا ریب فی أنّ متعلّق الحرمة هو مطلق الوجود ، فإذا قال : یحرم الخمر ، توجّهت الحرمة إلی جمیع أفراد الخمر و انحلّت الحرمة بعددها ، - بخلاف الوجوب ، فإن متعلّقه صرف الوجود ، و یحصل الامتثال بتحقق فردٍ ما من أفراد

ص:97

الواجب - فلو کان متعلّق القبح و الحرمة هو العنوان الجامع بین التجری و المعصیة ، کانت المعصیة - لا محالة - مصداقاً للجامع کالتجری ، و توجّهت الحرمة إلیها ، لأنّ الحرمة تسری من الجامع إلی الحصّة کما لا یخفی ، و إلّا لزم عدم انحلال الحرمة ، و حینئذٍ ، یأتی إشکال التسلسل .

و أمّا الکلام فی أصل الاستدلال ، فقد عرفت أنه یتکون من مقدّمتین :

احداهما : قبح التجری .

و الاخری : انطباق قاعدة الملازمة .

الإشکال علی المقدمة الاولی

أمّا المقدّمة الاولی ، فقد یقال (1) بأنّ التجرّی إنما یکون قبیحاً لو صدر عن استخفافٍ بالمولی و أحکامه ، أمّا المخالفة للأحکام بالدواعی النفسانیة - کما هو حال کثیر من الفسّاق - فلا یصدق علیها عنوان التجری .

و فیه :

أوّلاً : إنّ الالتزام بعدم قبح ما صدر عن الدواعی النفسانیّة لا بقصد هتک المولی و الاستخفاف به ، غیر ممکن .

و ثانیاً : إنه مخالف لظواهر الأدلّة و ما ورد فی الأدعیة .

و ثالثاً : إنه ینافی ظاهر قوله تعالی «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ ... » (2)فإنّه دالٌّ علی أن کلّ مخالفة ظلم ، سواء کانت بقصد إهانة المولی أوْ لا .

و أمّا المقدمة الثانیة ،

فقد اشکل علیها بوجوه :

ص:98


1- 1) درر الاصول (1 - 2) 337 .
2- 2) سورة الأنبیاء : 87 .
الاشکال الأول علی المقدمة الثانیة
اشارة

إن الغرض من جعل الحکم التحریمی الشرعی هو ارتداع العبد ، و لمّا کان هذا الغرض حاصلاً بحکم العقل باستحقاق العقاب علی التجری ، کان جعل الحکم الشّرعی فی مورده لغواً . قاله المحقق العراقی (1) .

الجواب عنه بوجوه

لکنّ هذا الاشکال إنما یتمّ علی القول بأنّ العقاب یترتب علی مخالفة الحکم العقلی . و أمّا علی القول بأن العقاب یدور مدار الحکم الشرعی و لا أثر لحکم العقل باستحقاق العقاب فی المقام بل لا بدّ من الحکم الشرعی ، فلا یتم الاشکال . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن ما ذکر إنما یتم لو کان جعل الحکم الشرعی لبیان استحقاق العقاب علی المخالفة ، بل إنّ من الناس من لا ینبعث إلّا ببعث المولی و لا ینزجر إلّا بزجره ، و جعل الحرمة لمثل هؤلاء مفیدٌ ، و بذلک یخرج الجعل عن اللّغویة .

و ثالثاً : إنه یکفی للخروج عن اللّغویة استناد ترک التجرّی إلی نهی المولی .

الإشکال الثانی
اشارة

إن القاعدة إنما تجری فی الأحکام الإلزامیة ، لأنّ الأحکام تابعة للمصالح و المفاسد ، و من کلّ حکمٍ الزامی نستکشف المصلحة أو المفسدة اللّزومیّة . و فی موارد التجرّی لا تقع مفسدةٌ و لم یتبدّل حکم من الأحکام الشرعیّة ، فلا تجری القاعدة فیها . (2)

ص:99


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 37 .
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 37 .
الجواب عنه :

إنّ الأحکام الشرعیة ألطاف فی الواجبات العقلیّة ، فجعلها فی موارد الأحکام العقلیّة لطف من اللّٰه سبحانه ، فهو یجعل الحکم الشرعی حتی یتقرّب العبد إلیه و ینقاد ، و إنْ لم یکن للحکم ملاک .

الإشکال الثالث
اشارة

إنه یستحیل أنْ یکون هذا القبح فی المقام مستتبعاً للحکم الشرعی ، و ذلک :

لأنّ القبح الذی یتوهّم استتباعه للحکم الشرعی :

لو کان خصوص القبح الثابت لعنوان التجرّی ، أی مخالفة القطع المخالف للواقع بهذا العنوان . ففیه :

أوّلاً : إنه لا وجه لهذا الاختصاص ، لما عرفت من أنّ حکم العقل بالقبح بالقیاس إلی صورة مصادفة القطع للواقع و مخالفته یکون علی حدّ سواء ، و ملاکه - و هو الهتک و الجرأة علی المولی - یکون موجوداً فی کلتا الصورتین .

و ثانیاً : لازم هذا أن یکون المحرّم مخالفة القطع بعنوان کونه مخالفاً للواقع ، و هذا الحکم غیر قابل للمحرکیّة أصلاً ، لأن من مبادئ قدرة المکلّف علی الامتثال المعتبرة عندهم فی صحة التکلیف ، هو الالتفات إلی الموضوع ، و الالتفات إلی هذا العنوان یکون مساوقاً لزواله ، نظیر الالتفات إلی النسیان ، فکما لا یمکن تکلیف الناسی بهذا العنوان ، کذلک لا یمکن تکلیف القاطع بعنوان مخالفة قطعه للواقع ، فعلی مسلک المشهور لا یصح هذا التکلیف .

و أمّا لو کان القبح المستتبع للحکم المولوی الشرعی القبح الجامع الثابت فی التجری و المعصیة الواقعیة ، فلازمه التسلسل و أن یکون هناک أحکام غیر

ص:100

متناهیة و عصیانات غیر متناهیة و عقوبات غیر متناهیة ، و ذلک .

لأن العصیان لو کان حراماً شرعاً فحرمته أیضاً حکم شرعی فعصیانها أیضاً قبیح ، فلا بدّ و أن یکون حراماً ، و هکذا إلی ما لا نهایة له ، و التجری قبیح فلا بدّ و أن یکون حراماً ، فعصیانه أیضاً کذلک و هکذا إلی أن یتسلسل ، و من البدیهی أنا إذا راجعنا وجداننا لا نری فی أنفسنا إرادات أو کراهات عدیدة فی البعث نحو شیء واحد أو الزجر عنه .

هذا مضافاً إلی أنه لا یبعد أن یکون ذلک مستلزماً لعدم الفرق بین المعاصی من حیث العقوبة ، فإنها فی جمیعها غیر متناهیة علی الفرض . (1)

الجواب

و هذا الإشکال إنما یتمّ فی صورة القطع ، کما لو قطع بأنّ المائع خمر ، و أنّ الشارع قد حرّم الخمر ، و فی صورة قیام الحجة ، کما لو قامت البیّنة علی أنه خمرٌ و مع ذلک أقدم علی الشّرب ، ففی هاتین الصّورتین قد قام الطریق عنده علی الحرمة الشرعیّة ، و یکون جعل الحرمة له مع ذلک لغواً ، لعدم تأثیره فی نفس المکلّف مع وجود قیام الدلیل عنده .

أمّا حیث لا قطع و لا حجة شرعیّة ، و إنما کان یحتمل کون المائع خمراً فیحتمل الحرمة ، فإنّ جعل الحرمة له حینئذٍ یکون مؤثّراً بلا ریب و لا تلزم اللّغویة .

لا یقال : إنّ الاحتمال الموجود عنده منجّز ، فیستحق العقاب .

ص:101


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 33 .

لأن استحقاقه العقاب حینئذٍ حکم عقلی ، و الکلام فی ثبوت الحکم الشرعی .

و علی الجملة ، فإنّ هذا الإشکال أخصّ من المدّعی .

و أمّا الإشکال بلزوم التسلسل ، و الذی جاء فی التقریر الآخر أیضاً حیث قال :

و إن کان القبح للأعم من التجرّی و المعصیة ، أی عنوان الهتک الجامع بینهما . ففیه : إن جعل الحکم الشرعی مستلزم للتسلسل ، لأن التجرّی أو العصیان قبیح عقلاً علی الفرض ، و القبح یستتبع الحرمة الشرعیّة ، و عصیان هذه الحرمة أو التجرّی فیها قبیح عقلاً أیضاً ، و القبح العقلی مستلزم للحرمة الشرعیّة کذلک ، و هکذا إلی ما لا نهایة له (1) .

فقد أجاب شیخنا عنه - فی الدّورتین - بأنّ الأساس فی بطلان التسلسل وجود المعالیل بلا انتهاء إلی علّةٍ موجبة ، و أمّا مع وجود العلّة ، فلا محذور فی تعاقب المعالیل . و فیما نحن فیه : العلّة للحکم هو اعتبار الشارع ، و معه فلا محذور فی المعالیل . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ مورد الکلام هو الحکم الشرعی ، و الحکم أمر اعتباری ، و التسلسل فی الاعتباریات ینقطع بانقطاع الاعتبار .

و قال السیّد الصّدر : استحالة التسلسل إنما هو فی الوجودات الخارجیّة لا الاعتباریّة ، فلتکنْ هناک مجعولات عدیدة متسلسلة بعدد الالتفات إلی العناوین

ص:102


1- 1) مصباح الاصول : 26 / 27 .

الثانویّة المترتبة و التی یعتبرها العقل قبیحة کلّما توجّه و التفت إلیها (1) .

إلّا أنّ التسلسل فیما نحن فیه محال من جهةٍ اخری و هی : إنّ جعل الحکم إنما یکون بداعی جعل الداعی للانبعاث أو الانزجار ، و لکن الانبعاث أو الانزجار اللّامتناهی محال ، فجعل الأحکام غیر المتناهیة محال .

الإشکال الرابع
اشارة

إن جعل الحرمة الشرعیّة هنا یستلزم اجتماع المثلین فی نظر القاطع ، فإنّه لما قطع بکون المائع خمراً ، ثبتت له حرمةٌ و إن لم یکن فی الواقع خمراً ، فإذا جرت قاعدة الملازمة و جاءت بحرمةٍ شرعیّة ، اجتمع الحکمان ، و اجتماع المثلین قطعاً أو احتمالاً محال .

لا یقال : یجمع بین الحکمین من باب التأکّد ، کما فی أکرم العالم و أکرم الهاشمی ، فاجتمع الحکمان فی العالم الهاشمی و تأکّد الوجوب .

لأنّ هذا إنما یصحّ فیما یقبل التأکّد مثل الإکرام ، و لا یتمُّ فی مثل البعث و طلب الترک الاعتباریین . (2)

و الحق ورود هذا الإشکال ، بناءً علی أن حقیقة الحکم عبارة عن طلب الفعل أو الترک إنشاءً .

جواب السید الخوئی

و أمّا ما أفاده تلمیذه المحقق جواباً عن محذور لزوم اجتماع المثلین من الوجهین ، إذ قال :

ص:103


1- 1) بحوث فی علم الاصول 4 / 61 .
2- 2) فوائد الاصول 3 / 45 .

أمّا أوّلاً : فلأن فی القطع بالموضوع یمکن تصویر مورد الافتراق من الطرفین . مثلاً : لو قال المولی : لا تشرب الخمر و قال أیضاً : « لا تشرب معلوم الخمریة » و فرضنا أن المکلّف قطع بخمریّة شیء و هو غیر عالم بحرمة الخمر الواقعی ، و لم یصل إلیه دلیله ، و إنما علم حکم مقطوع الخمریّة فقط ، یکون حینئذ حکم مقطوع الخمریة فعلیّاً علیه من غیر أن یستلزم اجتماع المثلین حتی فی نظره ، و هکذا عکسه ، نعم ، فی مورد العلم بالحکمین معاً یلزم ذلک ، فلا بدّ من الالتزام هناک بالتأکید ، کما فی جمیع موارد اجتماع العامّین من وجه ، فما أفاده مختص بالقطع بالحکم .

و ثانیاً : لا ملزم لأن یکون بین موضوعی الحکمین المتماثلین عموماً من وجه ، بل یمکن أن یکون بینهما عموم مطلق ، نظیر ما إذا تعلق النذر أو الشرط فی ضمن العقد اللّازم بالواجبات ، کالصّلاة المفروضة ، فإنها حینئذ تکون واجبة من جهتین ، من جهة الأمر الصّلاتی و من جهة الأمر النذری ، و یکون فیها ملاکهما ، غایة الأمر نلتزم فیها بالتأکد فی مقام الفعلیّة ، و أما فی مرحلة الإنشاء و الملاک فالتعدد ثابت ، و المقام من هذا القبیل ، فإنّ القطع بالحکم و إنْ کان فی نظر القاطع لا ینفک عن ثبوته واقعاً ، و لا یمکننا تصویر مورد الافتراق من ناحیة القطع ، بأن یکون هناک قطع بالحکم و لم یکن حکم حتی فی نظر القاطع ، و إنما الافتراق یکون من طرف الحکم فقط فیما إذا ثبت بغیر القطع من الطرق و الأمارات ، و لکن قد عرفت أنه لا یعتبر أن یکون بین الموضوعین عموم من وجه ، و بالالتزام بالتأکد فی أمثال المقام یندفع إشکال اجتماع المثلین (1) .

ص:104


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 36 .
إشکال السیّد الصدر

فقد أورد علیه تلمیذه المحقق السیّد الصدر بقوله :

و کلا هذین الجوابین غریب فی بابهما .

أما الأوّل ، فلأنه لا یرفع مشکلة لزوم اجتماع المثلین بحسب نظر القاطع المحال ، إلّا أن یدّعی اختصاص حرمة شرب مقطوع الخمریّة بمن لا یعلم بحرمة شرب الخمر ، و هذا غیر محتمل و خروج عن محلّ الکلام .

هذا مضافاً : إلی أنّ هذا الجواب خلاف مبنی الإشکال ، إذ المفروض أنّ حرمة معلوم الخمریة ناشئة من القبح الناشئ من التجرّی الذی لا یکون إلّا بفرض وصول الحرمة الواقعیة ، فمع عدم وصولها لا قبح و لا تجری ، فلا موضوع للحرمة بالعنوان الثانوی .

و أما الثانی ، فلأنّ مورد النقض تکون النسبة فیه بین الحکمین العموم من وجه لا المطلق ، فإن وجوب الصّلاة مع وجوب الوفاء بالنذر من الواضح أنّ النسبة بینهما عموم من وجه . اللهم إلّا أن یکون المقصود إنکار أصل استحالة اجتماع حکمین مثلین فی مورد واحد بعنوانین إذا کان أحدهما أعم من الآخر ، إلّا أنّ ما ذکر لیس مصداقاً له ، و إنما الصحیح التمثیل بموارد الأمر بالجامع و الأمر بالفرد و الحصّة فإنه لا محذور فیه .

هذا مضافاً : إلی أنّ النسبة بین الخمر الواقعی و معلوم الخمریّة فی المقام أیضاً العموم من وجه بحسب نظر القاطع ، لأنه یعلم أنه ربما یکون شیء معلوم الخمریة و لو عند غیره أو فی مرّة اخری مع عدم کونه فی الواقع خمراً ، فیکون جعل حکمین معقولاً من زاویة نظره أیضاً (1) .

ص:105


1- 1) بحوث فی علم الاصول 4 / 60 - 61 .
تنبیهات التجرّی
الأول : فی القول بأن الحسن و القبح من القضایا المشهورة
اشارة

قد عرفت أن المحقّق الأصفهانی قد خالف صاحب الکفایة فی قوله باستحقاق العقوبة علی العزم علی المعصیة ، و أشکل علی ذلک بما تقدم نقله مع الجواب عنه .

و قد کان ممّا ذکره هناک : أن حکم العقل باستحقاق العقاب - من جهة کونه هتکاً لحرمة المولی و جرأةً علیه - هو من الأحکام العقلیّة الداخلة فی القضایا المشهورة التی تطابقت علیها آراء العقلاء ، لعموم مصالحها و حفظ النظام و بقاء النوع بها ، ثم قال :

و أمّا عدم کون قضیّة حسن العدل و قبح الظلم - بمعنی کونه یستحقّ علیه المدح أو الذم - من القضایا البرهانیة ، فالوجه فیه :

إنّ موادّ البرهانیات منحصرة فی الضروریات الست . فإنّها :

إمّا أولیّات : ککون الکلّ أعظم من الجزء .

أو حسیّات ، سواء کانت بالحواسّ الظاهرة المسمّاة بالمشاهدات ، ککون هذا الجسم أبیض ، أو هذا الشیء حلواً ، أو بالحواسّ الباطنة المسمّاة بالوجدانیّات ، و هی الامور الحاضرة بنفسها للنفس ، کحکمنا بأنّ لنا علماً و شوقاً و شجاعة .

ص:106

أو فطریّات ، و هی القضایا التی قیاساتها معها ، ککون الأربعة زوجاً ، لأنها منقسمة بالمتساویین ، و کلّ منقسم بالمتساویین زوج .

أو تجربیّات ، و هی الحاصلة بتکرر المشاهدة ، کحکمنا بأن سقمونیا مسهل .

أو متواترات ، کحکمنا بوجود مکة .

أو حدسیّات موجبة للیقین ، کحکمنا بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس .

قال :

و من الواضح أنّ استحقاق المدح و الذم بالإضافة إلی العدل و الظلم ، لیس من الأوّلیّات ، بحیث یکفی تصوّر الطرفین فی الحکم بثبوت النسبة ، کیف ، و قد وقع النزاع فیه من العقلاء . و کذا لیس من الحسیّات بمعنییها ، و لیس من الفطریات ، إذ لیس لازمها قیاس یدلّ علی ثبوت النسبة .

قال : و أما عدم کونه من التجربیات و المتواترات و الحدسیّات ، ففی غایة الوضوح .

فثبت أن أمثال هذه القضایا غیر داخلة فی القضایا البرهانیة ، بل من القضایا المشهورة .

و أمّا حدیث کون حسن العدل و قبح الظلم ذاتیّاً ، فلیس المراد من الذاتی ما هو المصطلح علیه فی کتاب الکلیّات ، لوضوح أن استحقاق المدح و الذم لیس جنساً و لا فصلاً للعدل و الظلم ، و لیس المراد منه ما هو المصطلح علیه فی کتاب البرهان ، لأنّ الذاتی هناک ما یکفی وضع نفس الشیء فی صحة انتزاعه منه ، کالإمکان بالإضافة إلی الإنسان مثلاً ، و الاستحقاق المزبور لیس کذلک ، لأنّ سلب

ص:107

مال الغیر - مثلاً - مقولة خاصّة بحسب أنحاء التصرّف ، و بالإضافة إلی کراهة المالک الخارجة عن ذات التصرّف ینتزع منه أنه غصب ، و بالإضافة إلی ترتب اختلال النظام علیه بنوعه - و هو أیضاً خارج عن مقام ذاته - ینتزع منه أنه مخلّ بالنظام و ذو مفسدة عامة ، فکیف ینتزع الاستحقاق - المتفرع علی کونه غصباً و کونه مخلاًّ بالنظام - عن مقام ذات التصرف فی مال الغیر ؟

بل المراد بذاتیّة الحسن و القبح : کون الحکمین عرضاً ذاتیّاً ، بمعنی أنّ العدل بعنوانه و الظلم بعنوانه یحکم علیهما باستحقاق المدح و الذم من دون لحاظ اندراجه تحت عنوان آخر ، بخلاف سائر العناوین ، فإنها ربما تکون مع حفظها معروضاً لغیر ما یترتب علیه لو خلّی و نفسه ، کالصّدق و الکذب ، فإنهما مع حفظ عنوانهما فی الصّدق المهلک للمؤمن تحت الظلم و الکذب المنجی للمؤمن یترتب استحقاق الذم علی الأول بلحاظ اندراجه تحت الظلم علی المؤمن ، و یترتب استحقاق المدح علی الثانی لاندراجه تحت عنوان الإحسان إلی المؤمن ، و إنْ کان لو خلّی الصّدق و الکذب و نفسهما ، یندرج الأوّل تحت عنوان العدل فی القول ، و الثانی تحت عنوان الجور (1) .

مناقشة القول المذکور

و أورد علیه شیخنا بوجوه :

الأول إن کان حسن العدل و قبح الظلم من القضایا المشهورة التی تطابقت علیها آراء العقلاء ، فإن هذا التطابق لا یکون بلا ملاک ، و الملاک هو المنشأ للحسن

ص:108


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 29 - 32 .

و القبح ، و قد ذکر أنّ الملاک هو المصلحة المترتبة علی العدل و المفسدة المترتبة علی الظلم ، إلّا أنه یأتی السؤال مرةً اخری عن تلک المصالح و المفاسد ، فیجاب بحفظ النظام و اختلاله ، فکان موضوع الحسن هو حفظ النظام و موضوع القبح هو اختلاله ، و هذا خلف ما فرض من أن الموضوع فی القضیتین هو العدل و الظلم .

الثانی : إن القول بکون الحسن و القبح من القضایا الجعلیة العقلائیّة ، یستتبع أمراً فاسداً مهمّاً لا نظنّ أن یلتزم به هذا المحقق و لا غیره ، و ذلک : لأنّ البحث عن المبدأ و المعاد و النبوّة و غیر ذلک من اصول الدین ینتهی إلی الحسن العقلی ، کما أن ترکه ینتهی إلی القبح العقلی ، فلو کان الحسن و القبح من القضایا العقلائیة ، لم یبق ملزمٌ للفحص و البحث فی اصول الدین .

الثالث : إن القول المذکور یستلزم أمراً فاسداً آخر ، و هو انتفاء القبح عن الظلم حیث لا تترتب المفسدة النوعیة علیه ، و کذا الحسن عن العدل حیث لا تترتب علیه المصلحة النوعیة ... و الحال أن کثیراً من الأحکام الشرعیة لا یترتب علیها المفسدة أو المصلحة النوعیة ، فلو أنّ شخصاً ترک صلاة الصبح و لم یطّلع علی ذلک أحد ، فأیّ مفسدة نوعیة تترتب ؟ و هل یمکن القول بعدم استحقاق العقاب حینئذٍ ؟

إن مخالفة أیّ حکم من الأحکام الشرعیّة الإلزامیة - سواء النظامیة منها و غیر النظامیة - یوجب استحقاق العقاب بلا إشکال .

الرابع : إن الامور الاعتباریة تدور مدار الاعتبار و وجود المعتبر ، فلو فقد المعتبر أو وجد من دون أن یعتبر ، لانتفی الأمر الاعتباری ، هذا من جهةٍ . و من جهةٍ اخری : إن للعقل القدرة علی تصوّر جمیع الفروض .

ص:109

و علی ما ذکر ، فلو فرض انتفاء النظام و المصالح و المفاسد النوعیة بعدم وجود العاقل و العقلاء فی العالم ، فإنّ العقل فی ذلک الفرض یدرک حسن العدل و قبح الظلم کما یدرک أن الکلّ أعظم من الجزء ، و بذلک ینکشف أن هاتین القضیتین - أی حسن العدل و قبح الظلم - لیستا من الامور الاعتباریة العقلائیة .

فتلخص : إن الحقّ ما علیه المشهور من الفقهاء و الاصولیین ، من أن حسن العدل و قبح الظلم من ذاتیّات العدل و الظلم ، و لیسا معلولین للمصالح و المفاسد النوعیّة .

الثانی : فی الاستدلال بالأخبار لاستحقاق العقاب علی القصد

ذکر فی دراسات فی علم الاصول ، أنه ربما یستدلّ لحرمة التجرّی بالروایات الواردة فی ترتب العقاب علی قصد السوء و أنه یحاسب علیه ، و هناک روایات اخر دالّة علی عدم ترتب العقاب علی القصد و أنَّ نیة السوء لا تکتب ، فتقع المعارضة بین الطائفتین .

و الشیخ قدّس سرّه جمع بینهما بحمل الطائفة الاولی علی القصد المستتبع للاشتغال ببعض المقدمات و الثانیة علی القصد المجرد عن ذلک ، و لکنه لا شاهد علیه ، فیکون جمعاً تبرعیاً .

و الصحیح أنْ یجمع بینهما بحمل الطائفة الثانیة علی القصد الذی ارتدع الإنسان بنفسه عنه ، و الاولی علی ما إذا لم یرتدع حتی إذا شغله شاغل خارجی .

و الشاهد علی هذا الجمع هو : النبوی المشهور من أنه « إذا التقی المسلمان بسیفهما ، فالقائل و المقتول فی النار ، قیل : یا رسول اللّٰه هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال صلّی اللّٰه علیه و آله : لأنه أراد قتل صاحبه » (1) .

ص:110


1- 1) وسائل الشیعة 15 / 148 ، الباب 67 من أبواب جهاد العدو ، رقم : 1 . و فیه اختلاف فی اللّفظ .

فإنّ ظاهر التعلیل هو إرادة القتل مع عدم حصول الرادع له عن نفسه ، و أنّ عدم تحقق القتل منه کان لعدم تمکنه علی ذلک .

و بعبارة اخری : حیث إن کلّ روایة تکون نصاً فی موردها ، و مورد النبوی إنما هو قصد القتل مع عدم انقداح رادع له عن نفسه فیکون نسبته مع الطائفة الثانیة من الروایات نسبة الخاص إلی العام فیه تخصص تلک الأخبار ، و تختص بصورة تحقق الرادع له عن نفسه ، فتنقلب النسبة بینها و بین الطائفة الاولی من الروایات من العموم من وجه إلی العموم المطلق ، فتخصص الطائفة الاولی بالطائفة الثانیة فیخرج صورة وجود الرادع عن قصد السوء عن الروایات الدالّة علی المؤاخذة علی القصد و تبقی الصورة الاخری تحتها ، فالمقام من صغریات مبحث انقلاب النسبة ، و نتعرض له فی محلّه .

و کیف کان ، فهذه الروایة تکون شاهدة للجمع الذی ذکرناه .

و أما الجمع الذی ذکره الشیخ رحمه اللّٰه فلا شاهد علیه .

و لا یخفی أنه لا یحتمل فی النبوی أن یکون لإرادة القتل خصوصیة فی الحرمة للقطع بعدم الفرق بین القتل و غیره من المعاصی من هذه الجهة ، فتأمل .

و علی أی تقدیر ، الاستدلال بما یدلّ علی المؤاخذة علی قصد المعصیة و لو بعد الاشتغال بمقدماتها علی حرمة التجری ، غیر صحیح .

أما أولاً : فلأنّ مورد النبوی المتقدم الذی جعلناه شاهداً للجمع و خصصنا به ما دلّ علی ثبوت المحاسبة و المؤاخذة علی نیة السوء من جهة کونه نصّاً فی مورده ، إنما هو إرادة القتل الواقعی و الاشتغال بمقدماته و عدم ارتداعه عنه بنفسه ، و لا ربط له بالحرام الخیالی أی ما یعتقده حراماً .

ص:111

و ثانیاً : لو سلمنا أن مورده أعم من ذلک و من قصد الإتیان بما قطع بحرمته ، فلیس فی الروایات ما یدلّ علی حرمة ذلک القصد ، بل غایة ما فیها إنه یحاسب علیه أو یعاقب ، و هذا التعبیر لا یدلّ علی أزید مما کان العقل مستقلاً به من استحقاق المتجری للعقاب ، و لا یستفاد منها الحرمة المولویة (1) .

أقول

أوّلاً : لقد اعتمد علی النبوی ، و جعله شاهداً للجمع بین الأخبار .

و ثانیاً : إنه لم یناقش فی الأخبار الدالّة علی الاستحقاق سنداً ، و لذا سلّم بالتعارض و جمع بین الطرفین بشهادة النبوی .

و لکنْ فی مصباح الاصول ، بعد الإشارة إلی اختلاف الأخبار و ذکر النبوی :

لکنّ التحقیق عدم صحّة الاستدلال بالروایات الدالّة علی ترتّب العقاب علی قصد المعصیة لحرمة التجرّی ، مع قطع النظر عن ابتلائها بالمعارض ، لوجوه :

الأوّل : إنها قاصرة من حیث السند ، فإنا راجعناها بتمامها ، و رأینا أنّ ما یدلّ علی المقصود ضعیف السند کالنبویّ المذکور ، و ما هو تام سنداً قاصر من حیث الدلالة، راجع الوسائل : أبواب مقدّمة العبادات ... (2) .

فبین التقریرین بونٌ بعید !! و ما جاء فی الدراسات هو المتقن کما سیظهر .

و ثالثاً : ما ذکره من وجه الجمع ، یرد علیه :

1 - إنّ مسألة انقلاب النسبة محلّ بحثٍ بین الأعلام .

ص:112


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 37 - 39 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 29 .

2 - إنّ دعوی اختصاص النبویّ بما إذا لم یرتدع عن قصد القتل ، لیکون شاهداً للجمع ، دعوی بلا دلیل ، نعم ، هو القدر المتیقّن ، لکن الأخذ به مقام الجمع أوّل الکلام .

و رابعاً : إنّ فی الروایات ما هو معتبر سنداً ، فقد روی الشیخ الکلینی عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه ، عن ابن أبی عمیر ، عن جمیل ، عن أحدهما علیهما السّلام قال :

« إنّ اللّٰه تعالی قال لآدم : یا آدم ، جعلت لک أنّ من همّ من ذریّتک بسیّئةٍ لم تکتب علیه ... » (1) .

فإن لسانه لسان الامتنان ، و لو لا وجود المقتضی للعقوبة لما کان للامتنان وجه .

فالتحقیق : صحّة الاستدلال بالأخبار ، لکنّ مقتضی الجمع هو عدم فعلیّة العقاب منّةً منه اللّٰه الجواد الکریم .

الثالث : فی کلام صاحب الفصول
اشارة

إنّ لصاحب الفصول (2) نظریة فی باب التجرّی تعرّض لها الشیخ و غیره ، و تتلخّص فی نقطتین :

الاُولی : إن قبح التجرّی لیس ذاتیّاً بل یختلف بالوجوه و الاعتبار ، فمن اشتبه علیه مؤمن ورع عالم بکافر واجب القتل ، فحسب أنه ذلک الکافر و تجرّی بترک قتله ، فإنه لا یستحق الذم علی هذا الفعل عقلاً عند من انکشف له الواقع و إنْ

ص:113


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 52 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 8 .
2- 2) الفصول الغرویة ، مبحث الاجتهاد و التقلید : 431 .

کان معذوراً لو فعل . و أظهر من ذلک ما لو جزم بوجوب قتل نبی أو وصی ، فتجرّی و لم یقتله .

قال :

أ لا تری أن المولی الحکیم إذا أمر عبده بقتل عدوٍّ له ، فصادف العبد ابنه و زعمه ذلک العدو ، فتجرّی و لم یقتله ، أن المولی إذا اطّلع علی حاله لا یذمّه علی هذا التجرّی ، بل یرضی به و إنْ کان معذوراً لو فعل .

قال :

و من هنا یظهر أن التجری علی الحرام فی المکروهات الواقعیّة أشدّ منه فی مباحاتها ، و هو فیها أشدّ منه فی مندوباتها ، و یختلف باختلافها ضعفاً و شدّة کالمکروهات ... .

إشکال الشیخ علی النقطة الاولی

و قد أورد علیه الشیخ (1) :

أولاً : بمنع ما ذکره من عدم کون قبح التجری ذاتیّاً ، لأنّ التجرّی علی المولی قبیح ذاتاً ، سواء کان لنفس الفعل أو لکشفه عن کونه جریئاً کالظلم بل هو قسم من الظلم . فیمتنع عروض الصفة المحسّنة له . و فی مقابله الانقیاد للّٰه سبحانه ، فإنه یمتنع أن یعرض له جهة مقبّحة .

و حاصله : إن التجری علّة تامّة للقبح کالظلم ، و کیف یمکن أن یکون کالظلم أو ظلماً حقیقةً و لا یکون قبیحاً ، و لا یستحق علیه العقاب ؟

ص:114


1- 1) فرائد الاصول 1 / 43 .

أقول :

و لا یرد علیه ما ذکره المحقق العراقی (1) من أنه یمکن أن یجاب عنه بإمکان أهمیة مصلحة الواقع بالنسبة إلی مفسدة التجری فی نظر المولی ، بنحو یمنع عن تأثیر التجری فی المبغوضیّة الفعلیّة .

وجه عدم الورود : إن الکلام فی الحسن و القبح لا فی المصالح و المفاسد ، ففی باب الحسن و القبح تارةً : یکون الموضوع اقتضائیاً کالصّدق و الکذب ، و اخری : یکون علةً تامّة کالعدل و الظلم ، فلو کان العنوان قبیحاً بالذات فلا یزول قبحه بترتب مصلحةٍ علیه ، إلّا إذا ارتفع الموضوع و تغیّر ، فإذا کان التجری قبیحاً ذاتاً فمع حفظ قبحه لا یکون طاعةً للمولی و لا یتّصف بالحسن .

هذا مراد الشیخ و هو متین .

نعم ، قد یقع التزاحم فی المصالح و المفاسد ، و یکون أحد الطرفین أهم من الآخر فیتقدّم و یکون هو المؤثّر کما ذکر المحقق العراقی ، لکنه بحث آخر لا ربط له بما نحن فیه .

هذا فی الجواب الأوّل .

و أجاب الشیخ عن کلام الفصول ثانیاً فقال :

لو سلّمنا عدم کونه علّةً تامّةً للقبح کالظلم ، فلا شک فی کونه مقتضیاً له کالکذب ، و لیس من قبیل الأفعال التی لا یدرک العقل بملاحظتها فی أنفسها حسنها و لا قبحها . و حینئذٍ فیتوقف ارتفاع قبحه علی انضمام جهة یتدارک بها

ص:115


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 39 .

قبحه ، کالکذب المتضمّن لإنجاء نبی .

و من المعلوم أن ترک قتل المؤمن بوصف أن مؤمن فی المثال الذی ذکره - کفعله - لیس من الامور التی تتّصف بحسن أو قبح ، للجهل بکونه قتل مؤمن ، و لذا اعترف فی کلامه بأنه لو قتله کان معذوراً ، فإذا لم یکن هذا الفعل الذی تحقق التجرّی فی ضمنه ممّا یتّصف بحسنٍ أو قبح ، لم یؤثر فی اقتضاء ما یقتضی القبح ، کما لا یؤثر فی اقتضاء ما یقتضی الحسن لو فرض أمره بقتل کافر فقتل مؤمناً معتقداً کفره ، فإنه لا إشکال فی مدحه من حیث الانقیاد و عدم مزاحمة حسنه بکونه فی الواقع قتل مؤمن (1) .

و حاصل الکلام :

إن الأحکام العقلیّة تفارق الأحکام الشرعیّة ، من حیث أنّ الأحکام الشرعیة تابعة للملاکات ، فالواجب واجب سواء احرز أوْ لا ، و کذا الحرام ، بخلاف الأحکام العقلیة ، فإنّ الإحراز دخیل فیها ، فلولا الاحراز و الالتفات لم یتحقّق موضوع الحکم العقلی ، فلا بدّ من الالتفات و القصد حتی یتحقّق ، وعلیه ، فإنّ المحبوبیّة الواقعیة للفعل إمّا تقع مورداً للالتفات و إمّا لا تقع ، فعلی الأوّل یرتفع القبح الاقتضائی للتجرّی ، و أمّا علی الثانی فلا ، بل الفعل باقٍ علی قبحه و لا ینقلب حَسَناً ، لما تقدَّم من اعتبار الالتفات فی حکم العقل بالحسن و القبح ، و إذا لم یتّصف الفعل بالحسن لم یصلح للمانعیة عن اقتضاء التجرّی للقبح .

و هذا مراد الشیخ قدس سره و هو متین کذلک ... .

ص:116


1- 1) فرائد الاصول 1 / 43 - 44 .

و علی هذا ، فإن إشکال المحقق العراقی : بأنّ غفلة المکلّف عن مصلحة الواقع إنما تمنع عن تأثیرها فی المصلحة بحسب نظره الذی به قوام حکم عقله بالقبح ، و إلّا فبالنسبة إلی نظر المولی العالم بالواقع و الملتفت إلی الجهتین ، فلا تمنع غفلة المکلّف عن تأثیر المصلحة التی هی أهم فی نظره فی المحبوبیة الفعلیة المانعة عن تأثیر التجری فی المبغوضیة الفعلیة و الحرمة ... (1).

غیر وارد علی الشّیخ ، لأنّ کلام الشیخ غیر ناظر إلی المصالح و المفاسد ، بل کلامه هو أنّ القبح المضاف إلی التجرّی بنحو الاقتضاء - علی فرض التنزّل - إنما یرتفع بالحُسن ، و هو إنما یتحقّق فی صورة الالتفات و القصد من الفاعل ، و المفروض انتفاؤهما ، فلا حسن حتی یزاحم القبح ... .

هذا کلام الشیخ ، و لا یرد علیه ما ذکره العراقی .

إشکال المحقق العراقی

ثم إن المحقق العراقی - بعد أن أشکل علی الشیخ بما عرفت - قال فی الإشکال علی الفصول :

فالأولی هو الإشکال علیه بما ذکرنا من منع المزاحمة بین تلک الجهات بعد تعدّد الموضوع لها و طولیّته (2) .

و حاصل کلامه :

إن التزاحم إنما یکون فی حال اجتماع الملاکین ، أی ملاک الحسن و ملاک القبح فی الشیء الواحد ، لکنّ الاجتماع هنا محال ، لأنّ موضوع المحبوبیّة و ما

ص:117


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 39 .
2- 2) المصدر نفسه .

تقوم به المصلحة هو الفعل فی مرتبة قبل الإرادة ، و موضوع المفسدة هو الفعل فی مرتبة الإرادة ، و إذا کانا فی مرتبتین لم تتحقق المبغوضیة و المحبوبیة فی الشیء الواحد .

إلّا أنّ التحقیق هو أنّ الحبّ و البغض لا یقومان بالصّور النفسیّة بما هی موجودات ذهنیّة ، بل هما قائمان بالصّور المرئیة فی الخارج ، لأنّ المصالح و المفاسد التی هی مناشئ الحب و البغض قائمة بالموجودات الخارجیّة ، فکان الأمر دائراً مدار وحدة الوجود و تعدّده خارجاً ، لا وحدة المرتبة و تعدّدها .

النقطة الثانیة

فی کلام الفصول :

إن التجری إذا صادف المعصیة الواقعیّة تداخل عقابهما .

إشکال الشیخ علی النقطة الثانیة

قال الشیخ :

و لم یعلم معنی محصّل لهذا الکلام ، إذ مع کون التجرّی عنواناً مستقلّاً فی استحقاق العقاب ، لا وجه للتداخل إنْ ارید به وحدة العقاب ، فإنه ترجیح بلا مرجح ، و سیجیء فی الروایة : « إن علی الراضی إثماً و علی الداخل إثمین » . و إنْ ارید به عقاب زائد علی عقاب محض التجری ، فهذا لیس تداخلاً ، لأنّ کلّ فعل اجتمع فیه عنوانان من القبح ، یزید عقابه علی ما کان فیه أحدهما (1) .

و حاصل ذلک : الإشکال علیه عقلاً و نقلاً .

أمّا عقلاً ، فلأنه ترجیح بلا مرجّح .

ص:118


1- 1) فرائد الاصول 1 / 45 .

و أمّا نقلاً فللخبر : « الراضی بفعل قوم کالداخل فیه معهم ، و علی کلّ داخل فی باطل اثمان : إثم العمل به و إثم الرّضا به » (1) .

و إنْ ارید به عقاب زائد علی عقاب التجرّی کان من قبیل اجتماع عنوان الهاشمی و العالم فی الشخص الواحد المأمور بإکرامه ، فإنّه إکرام واحد مؤکّد .

و تلخص :

أن الشیخ یری اجتماع التجری و المعصیة ، و ینکر تداخل العقابین .

إشکال صاحب الکفایة

و یری صاحب الکفایة : إن مقتضی القاعدة هو النظر فی تعدّد ملاک استحقاق العقاب فی مورد التجرّی و وحدته ، و قد تقدّم أن الملاک هو هتک المولی . فإنْ کان فی صورة مصادفة الواقع هتکان ، وقع البحث فی تداخل العقوبتین و عدمه ، أما إذا کان هتک واحد فلا موضوع للبحث ... لکنّ وحدة العقاب تکشف عن وحدة ملاک الاستحقاق (2) .

إشکال المیرزا

لکنّ المیرزا (3) یری أنّ البحث عن تداخل العقابین و تعدّدهما فرعٌ للبحث عن إمکان الاتّحاد بین التجرّی و المعصیة ، لکنّ التجرّی نقیض المعصیة ، فوقوعه فی موردها غیر ممکن و لا یجتمعان ، فلا تصل النوبة إلی البحث عن تداخل العقابین و عدمه .

ص:119


1- 1) وسائل الشیعة 16 / 141 ، الباب 5 من أبواب الأمر و النهی ، رقم : 12 .
2- 2) کفایة الاصول : 262 .
3- 3) أجود التقریرات 3 / 65 .
کلام المحقق العراقی

إلّا أنّ المحقق العراقی (1) اعترض علی المیرزا بإمکان الاجتماع فی بعض الموارد ، کما لو ترک مقدّمة الواجب من باب التجری و أدّی ذلک إلی ترک الواجب ، فقد استحق العقاب علی ترک المقدّمة و علی المعصیة بترک الواجب ، فاجتمع العقابان ... .

و کذا فی مقدّمة الحرام ، فلو ارتکب المقدّمة من باب التجری و فعل ذا المقدمة الحرام ، فقد استحق العقابین .

و أمّا المورد الذی ذکره المیرزا للاجتماع ، و هو ما إذا تیقّن بخمریّة المائع و شربه و ظهر أنه ماء مغصوب ، حیث أنه مع یقینه بالخمریّة یحصل له الیقین بالحرمة ، فإذا خالف فقد ارتکب الحرام من جهة التجرّی و من جهة الغصب ، لأنه قد تصرّف فی مال الغیر إذْ شرب الماء ، فاجتمع التجری و المعصیة .

فقد أشکل علیه العراقی بما حاصله : إن العلم بجنس الالزام منجّز لنوع الإلزام ، لکنْ لا علم بالجنس فی المثال ، بل هو علم بنوع الإلزام - و هو العلم بالحرمة الخمریة - و هو لا ینجّز الحرمة من جهة الغصبیة ، لأن العلم بنوعٍ لا ینجّز العلم بنوع آخر .

رأی السیّد الاستاذ

و ذهب السیّد الاستاذ قدس سرّه إلی القول بالتداخل فی سبب العقاب ، و قد ذکر لذلک ثلاثة مقدماتٍ :

ص:120


1- 1) فرائد الاصول 3 / 55 - 56 . الهامش .

الاولی : إنه لا إشکال فی کون التجرّی من أوصاف و عناوین التصدّی و العزم .

و الثانیة : إنه لا إشکال فی کون العقاب و الثواب فی مورد المعصیة و الطاعة علی نفس ما به المخالفة و ما به الموافقة ، فیعاقبه و یؤنّبه علی عدم سفره لو أمره بالسفر و لم یسافر ، کما یشکره علی سفره لو سافر .

و الثالثة : إنه لا اشکال فی عدم تعدّد العقاب و الثواب فی مورد المعصیة و الإطاعة ، إذ المرجع هو الارتکاز العقلائی فی هذا الباب ، و هو قاض بما ذکرناه ، إذ لا نری أنّ السید یعاقب العبد عقابین إذا خالف أمره أو نهیه و یثیبه ثوابین إذا وافق أحدهما ، ثواب علی قصد الطاعة و ثواب علی نفس الطاعة .

قال : فنستکشف من مجموع ذلک أنّ التجری إنما یکون سبباً و موضوعاً للعقاب علی تقدیر عدم المصادفة ، و إلّا فهو یندک فی المعصیة الحقیقیّة و یکون التأثیر لها لا له .

قال : و لعلّ هذا مراد الفصول (1) .

أقول :

و ما أفاده رحمه اللّٰه غیر واضح .

فإن المفروض أنّ للقصد أثراً ، و لیس تمام الأثر للفعل کما أفاد فی المقدّمة الثانیة ، و حینئذٍ ، یقع البحث فی التداخل و عدمه ، و موضوع البحث عن ذلک هو صورة المصادفة للواقع ، فلا یقاس ما ذکره فی المقدّمة الثالثة .

ص:121


1- 1) منتقی الاصول 4 / 66 .

بل إنّ کلامه لا یخلو من تهافت ، لأنه إنْ لم یکن للتجری أثر أصلاً ، فما معنی الاندکاک فی المعصیة الحقیقیّة و أنه یکون التأثیر لها لا له ؟

و لعلّ السّهو من المقرّر ، و اللّٰه العالم .

الرأی المختار

و قد وافق الشیخ الاستاذ علی ما ذکره المحقّق العراقی فی الردّ علی المیرزا ، و اختار نظر صاحب الکفایة فی البحث ، و أنّ العرف یری وحدة الهتک فی موارد الاجتماع المذکورة ، فهم لا یرون التعدّد بین المقدّمة وذی المقدّمة .

إلّا أن یقال بأنّ البحث عقلی و لا مجال فیه لمراجعة أهل العرف ، و وجود المقدّمة غیر وجود ذی المقدّمة عقلاً ، و العقل هو المرجع لمعرفة الوحدة و التعدّد ... فاستحقاق العقابین علی القاعدة ، إلّا أنّ الضرورة قائمة علی عدم التعدّد . فتدبّر .

الرابع : فی ما أفاده السید المجدّد الشیرازی
اشارة

قد استدلّ السیّد المجدّد الشیرازی قدّس سرّه لاستحقاق المتجرّی العقاب ، بنفس ملاک استحقاق العاصی للعقاب ، بوجهٍ یترکّب من امور أربعة ، و هذا ملخّص ما حکی (1) عنه :

الأمر الأوّل

إنّ وظیفة المولی هو جعل الحکم و إیصاله إلی المکلّف بالطرق المتعارفة کإرسال الرسل ، فهو یرسل الرسول و یأمره بأن یبلّغ الحکم إلی وصیّه و هو یبلّغه

ص:122


1- 1) انظر : أجود التقریرات 3 / 51 - 54 .

إلی أصحابه و تلامذته ، و هکذا حتی یصل إلی عموم المکلّفین ، فإذا وصل إلیهم تحقق البعث . و حینئذٍ ، یحکم العقل بوجوب الانبعاث و الامتثال .

و الحکم العقلی بوجوب امتثال الحکم الشرعی و الانبعاث عنه ، حکم استقلالی یستحیل وجود حکم شرعی و بعث مولوی فی مورده ، لأن مرتبة البعث مقدّمة علی مرتبة الانبعاث تقدّم العلّة علی المعلول ، فلو وجد بعث فی مرتبته انقلب المعلول علّةً و هو خلف، فالحاکم بوجوب الإطاعة للمولی و حرمة المعصیة له هو العقل لا المولی ، و هو وجوب ذاتی ینتهی إلیه وجوب کلّ واجب ، کما أنّ طریقیّة القطع کانت ذاتیة و إلیها تنتهی طریقیّة کلّ طریق .

هذا ، و لو کان وجوب الطاعة و حرمة المعصیة حکماً مجعولاً من المولی ، لا ذاتیّاً من العقل ، لما وجب امتثال حکم من الأحکام الإلهیة ، ضرورة أن وجوب الانبعاث عنها لو کان مجعولاً غیر ذاتی ، کان وجوب الانبعاث عن هذا الوجوب محتاجاً إلی جعل آخر ، و هکذا . فیدور أو یتسلسل . و هذا بخلاف ما إذا کان غیر مجعول و کان ذاتیّاً ، فیکون وجوب کلّ واجب شرعی بعد وصوله إلی المکلّف داخلاً فی هذه الکبری العقلیّة و تجب إطاعته بحکم العقل .

الأمر الثانی

إنّ الأحکام العقلیّة علی قسمین ، فالحکم العقلی بحسن الطاعة و قبح المعصیة فی مرتبة المعلول للحکم الشرعی ، لأنّه حکمٌ بالانبعاث عن الحکم الشرعی المتقدّم علیه ، کما تقدّم . فهذا قسمٌ .

و القسم الآخر من الأحکام العقلیّة : ما هو فی مرتبة العلّة - و هو بقیة الأحکام العقلیّة عدا الحکم بحسن الطاعة و قبح المعصیة - کحکمه بقبح التشریع و قبح

ص:123

التصرّف فی مال الغیر و نحوهما ، فإنّ حکم العقل بقبح التشریع و قبح التصرّف فی مال الغیر ، یکون - بضمیمة قاعدة الملازمة - مثبتاً للحکم الشرعی ، فیکون فی مرتبة العلّة للحکم الشرعی بحرمة التشریع و بحرمة التصرّف فی مال الغیر .

و بین القسمین فرق من جهة اخری أیضاً هی : أن الحکم العقلی بوجوب الطاعة و الانبعاث یدور مدار وصول الحکم الشرعی کما تقدّم ، بخلاف الأحکام العقلیة الاخری کحرمة التشریع ، فالتشریع حرامٌ و لو ظنّاً أو مع الشک ، فإنّ قبح التشریع إنما هو لکونه تصرّفاً فی سلطان المولی بغیر إذنه ، و هو مشترک بین موارد العلم و الظن و الشک ... فالحرمة ثابتة ، أمّا فی باب الإطاعة و المعصیة ، فإنّه مع الشک لا حرمة ، بل المرجع قاعدة قبح العقاب بلا بیان .

الأمر الثالث

إنّ العلم المعتبَر فی حکم العقل بوجوب الانبعاث ، أی وجوب الطاعة و حرمة المعصیة ، لا بدّ و أنْ یکون تمام الموضوع ، صادف الواقع أو لا ، ضرورة أنه لو کان موضوعه خصوص العلم المصادف للواقع ، لکان إحراز المصادفة التی هی الجزء الآخر للموضوع لازماً فی حکمه بوجوب الانبعاث ، وعلیه ، فلا یجب امتثال التکلیف الواصل من قبل المولی أصلاً ، لأن کلّ تکلیفٍ واصل فیحتمل کونه مخالفاً للواقع ، و هذا یستلزم أنْ لا یحکم العقل بالانبعاث أصلاً ... فالموضوع للحکم العقلی لیس إلّا العلم و الإحراز .

الأمر الرابع

إنّ الملاک لاستحقاق العقاب علی المعصیة ، إمّا هو القبح الفعلی و إمّا هو القبح الفاعلی . فإنْ کان الملاک هو الأوّل ، لزم ثبوت الاستحقاق فی موارد الحرمة

ص:124

الواقعیّة مع عدم العلم و الإحراز . فالملاک هو الثانی ، أی القبح الفاعلی ، و إذا کان الملاک للاستحقاق فی المعصیة هو القبح الفاعلی ، فإنّ هذا الملاک موجود فی موارد التجرّی کذلک .

فثبت استحقاق العقاب فی مورد التجرّی بنفس ملاک استحقاقه فی مورد المعصیة .

إشکال المیرزا النائینی

قال المیرزا :

و لا یخفی علیک أنّ لازم هذه المقدّمات و إنْ کان هو استحقاق المتجرّی للعقاب بملاک استحقاق العاصی له ، إلّا أنّ المقدّمة الثالثة و الرابعة منها محلّ نظر بل منع .

قال :

أمّا المقدّمة الثالثة ، فلأنّ العلم و انکشاف الواقع و إنْ کان هو الموضوع فی هذا الحکم العقلی - کما عرفت فی المقدمة الثانیة - إلّا أنه غیر متحقّق فی باب التجرّی ، و المتحقّق فی مورده هو الجهل المرکّب ، و أنّی لهم بإثبات سرایة أحکام العلم للجهل .

و بالجملة ، إنّ ما یقتضیه وظیفة العبودیّة هو لزوم انبعاث العبد عن البعث الواصل إلیه ، و أمّا لزوم انبعاثه عن البعث التخیّلی ، فلا یحکم به العقل أصلاً ، لعدم کون ترک هذا الانبعاث ظلماً للمولی . و الحاصل : إن حکم العقل بوجوب الطاعة و حرمة المعصیة ، إنما هو بملاک العبودیّة و المولویّة ، و هذا الملاک غیر متحقّق فی موارد التجرّی قطعاً .

ص:125

قال :

و أمّا المقدّمة الرابعة ، فلأن ملاک استحقاق العقاب و إنْ لم یکن هو القبح الفعلی کما أفاده ، إلّا أنّ ذلک لا یستلزم کون القبح الفاعلی الموجود فی صورة التجری ملاکاً له أیضاً .

بیان ذلک : إن القبح الفاعلی المتحقّق فی فرض العصیان لیس أمراً مغایراً للقبح الفعلی الواصل إلی المکلّف ، بل نفس القبح الفعلی - بعد فرض علم المکلّف به - یوجب اتّصاف الفعل بالقبح الفعلی ، و هذا هو الملاک فی استحقاق العقاب . و أمّا القبح الفاعلی الموجود فی التجرّی فهو مغایر لهذا المعنی من القبح الفاعلی ، و إنما هو مجرد کشف الفعل عن سوء السریرة و شقاء الفاعل ، و أین ذلک من القبح الفاعلی الموجود فی فرض العصیان ؟ (1)

جواب الاستاذ عن الإشکال

و قد أجاب الاستاذ عن کلا الإشکالین :

أمّا ما ذکره فی المقدّمة الثالثة .

ففیه : إن محصّل کلام المیرزا الکبیر هو أنّه إنْ لم یکن العلم تمام الموضوع لاستحقاق العقاب ، فإنه لا محالة یکون جزء الموضوع له ، و یکون الجزء الآخر هو المصادفة للواقع ، لکنّ المصادفة له لا تحصل دائماً ، و لازم ذلک أنْ لا یحکم العقل بالانبعاث أصلاً ، و هذا خلفٌ ، فالعلم تمام الموضوع للاستحقاق . و کأنّ المحقق النائینی قد غفل عن هذه النکتة .

ص:126


1- 1) أجود التقریرات 3 / 54 - 55 .

و أمّا ما ذکره فی المقدّمة الرابعة .

ففیه : لقد ذکر المیرزا الکبیر مستشکلاً قول الشیخ الأعظم : « و أمّا بناء العقلاء ، فلو سلّم ... کمن انکشف لهم من حاله أنه بحیث لو قدر علی قتل سیّده لقتله ... » أنّا سلّمنا ذمّهم للعبد فی المقیس علیه أیضاً ، و لأنه لأجل انکشاف سوء سریرته ، لکنّ اختصاص الذم فی المقیس بتلک الجهة ممنوع ، بل المتجرّی مذموم من تلک الجهة و من جهة کون فعله هتکاً لحرمة السیّد أیضاً ، فهو مذموم علی سوء سریرته و علی هتکه المتّحد مع الفعل المتجرّی به ، فالمذمّة علی الفعل و الفاعل کلیهما (1) .

و حاصل کلامه : إن القبح الموجود فی التجرّی هو من جهتین .

إحداهما : القبح الفاعلی الناشئ من خبث الباطن و سوء السریرة .

و الاخری : القبح الفاعلی الناشئ من قبح الفعل الصادر المنطبق علیه عنوان الهتک للمولی و إنْ لم یکن معصیةً له .

فظهر : عدم تمامیّة إشکال المیرزا النائینی ، و أنّ الحق استحقاق العقاب کما تقدّم سابقاً ، خلافاً للشیخ و المیرزا النائینی .

ص:127


1- 1) تقریر بحث المجدّد الشیرازی : 3 / 287 .
ثمرة البحث

بقی الکلام فی ثمرة البحث ، و هی تظهر فی الفتوی ، فإنّه بناءً علی حرمة التجرّی قصداً أو قصداً و فعلاً ، یفتی بالحرمة ، و بناءً علی عدمها لا یفتی .

و ذکر المحقق العراقی أنه تظهر الثمرة فیما لو قامت الأمارة علی حرمة عملٍ و لکنّا نحتمل مطلوبیته عند المولی - لوضوح عدم المنافاة بین وجود هذا الاحتمال الوجدانی و قیام الأمارة علی الحرمة - فعلی القول بقبح الفعل المتجرّی به و استحقاق العقاب علیه لم یکن الإتیان بالعمل برجاء المطلوبیّة ، لأنّ القبیح غیر صالح للمقربیّة ، أمّا علی القول بعدم القبح - کما علیه الشیخ و صاحب الکفایة - فیجوز ، فلو انکشف الخلاف و ظهر عدم اعتبار الإمارة ، وقع العمل صحیحاً و مسقطاً للأمر .

و فیه : إنه یعتبر فی عبادیة العمل قابلیّته لأنْ یصدر مقرّباً ، و تمشّی قصد القربة به و لو رجاءً ... و مع وجود الأمارة المعتبرة علی الحرمة ، لا یکون العمل صالحاً للمقرّبیة إلی المولی ، لأنها تفید المبغوضیة عنده ، و المبغوض کیف یکون مقرّباً ؟

هذا تمام الکلام فی التجرّی ، و الحمد للّٰه .

ص:128

أقسام القطع و أحکامها
اشارة

ص:129

ص:130

القطع - کما عبّر صاحب الکفایة : یکشف عن متعلّقه تمام الانکشاف (1) - فهو کالنور ، و هو أقوی الحجج علی الأحکام الشرعیّة ، و قد تقدم الکلام علی حجیّته ، ثم ذکرنا أنه تارةً یکون مطابقاً للواقع و اخری مخالفاً له ، فتعرضنا لمسألة التجرّی بهذه المناسبة .

القطع الطریقی و الموضوعی
اشارة

و ینقسم القطع إلی الموضوعی و الطریقی ، و یترتّب علی ذلک البحث عن قیام الطرق و الأمارات و الاصول مقام القطع و عدم قیامها ، و فی صورة القیام ، فأیّ قسم ؟

القطع الطریقی ، هو القطع الذی لیس له إلّا جهة الطریقیّة إلی الواقع و حیثیّة إراءة الواقع ، من دون دخلٍ له فی أمرٍ واقعی أو اعتباری ، فإذا قطع بالخمر ، لا یکون لقطعه أثر لا فی خمریة الخمر و لا فی حرمته .

و القطع الموضوعی ، هو القطع الذی یکون - بالإضافة إلی ما ذکر - مورد أخذ الشارع فی حکمه أو موضوع حکمه ، کأن یجعل القطع باجتهاد زید موضوعاً لجواز تقلیده ، و بعدالته موضوعاً لجواز الصّلاة خلفه ... و هکذا .

ص:131


1- 1) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 5 .
الفرق بین القسمین

و أفاد الشّیخ (1) وجود ثلاثة فروق بین القسمین :

الأول : إن القطع الموضوعی یقع وسطاً فی الثبوت ، و الطریقی لا یکون کذلک . أی: لو لا القطع بعدالة زید مثلاً لم یترتب جواز الصلاة خلفه ، أمّا الطریقی ، فلا یقع واسطةً فی ثبوت الخمر و لا حرمته ، کما تقدم .

و الثانی : إنه لا یفرّق بین أسباب حصول القطع الطریقی و خصوصیّاته و متعلّقاته ، أمّا الموضوعی فیتبع نظر المولی و کیفیّة أخذه القطع موضوعاً لحکمه .

فتارةً : یرتّب الحکم علی الموضوع علی نحو الإطلاق فیکون کالطریقی ، مثل موضوعیّة القطع لوجوب الإطاعة و استحقاق المؤاخذة علی المخالفة فی نظر العقل ، فهو قطع موضوعی عند العقل ، و لا دخل لخصوصیةٍ من الخصوصیّات فی کونه موضوعاً لهذا الحکم العقلی .

و اخری : یکون للخصوصیّة دخل ، کأنْ یقول : إن کان الحکم الذی قطع به المجتهد مستنبطاً من الکتاب و السنّة ، فتقلیده فیه جائز ، فقد أخذت خصوصیّة « من الکتاب و السنّة » فی القطع الموضوعی .

و الثالث : إن القطع الطریقی تقوم جمیع الأمارات - بأدلّة اعتبارها - مقامه ، و أمّا الموضوعی ، ففیه تفصیل ، فهی تقوم مقامه إنْ کان بنحو الکاشفیة ، أمّا إن کان بنحو الصفتیّة فلا .

و من هنا ظهر انقسام الموضوعی إلی قسمین ، و سیأتی توضیحه .

و هذا ملخّص کلام الشیخ قدس سرّه .

ص:132


1- 1) فرائد الاصول 1 / 31 - 35 .
أنحاء دخل القطع الموضوعی فی الحکم

ثم إنّ القطع الذی اخذ فی الموضوع ، یقبل أنواعاً من الأخذ و المدخلیّة فی الحکم ، فتارةً : یکون کلّ الدخل للقطع و لا أثر للواقع أصلاً ، و اخری : یکون للواقع دخل أیضاً ، و القطع إمّا جزء أو قید . مثال الأوّل : أن یکون الحکم مترتباً علی محرز الخمریّة ، فالإحراز هو الموضوع فقط . و مثال الثانی : أن یکون الحکم مترتباً علی الخمر المحرز ، فللإحراز جزء من الدخل ، و مثال الثالث : أن یکون الحکم مترتباً علی الخمر المقیّد بالإحراز .

و إذا کان للقطع تمام الموضوعیّة و الدخل ، فإنّ الحکم یترتّب و إنْ کان جهلاً مرکّباً ، و إلّا کان للمطابق الخارجی مدخلیّة ، جزءاً أو قیداً کما فی المثالین .

و إذا تعلّق القطع بالموضوع ، أمکن أخذه فی موضوع حکمٍ آخر ، کأن یقول : إذا قطعت بالخمریّة وجب علیک التصدّق بکذا .

و أمّا إذا تعلّق بحکمٍ ، فهل یمکن أخذه موضوعاً لحکم آخر ؟ فیه تفصیل :

إنْ کان الحکم الآخر مماثلاً لهذا الحکم - کأن یکون القطع بحرمة الخمر مأخوذاً فی موضوع حکم آخر مثله - أو یکون القطع بوجوب الصلاة موضوعاً لوجوبها بوجوب آخر ، فلا یمکن ، للزوم اجتماع المثلین .

و إن کان ضدّاً ، فکذلک ، کأن یقول : إذا قطعت بوجوب الصلاة حرمت علیک الصلاة . للزوم اجتماع الضدّین .

و إنْ کان مخالفاً له ، فلا مانع ، کأن یقول : إذا قطعت بوجوب الصلاة وجب علیک التصدّق بکذا . فإنه لا مماثلة و لا تضاد بین وجوب التصدّق و وجوب الصلاة ، بل هما متغایران .

ص:133

أقسام القطع الموضوعی فی الکفایة

و قد جعل صاحب الکفایة (1) القطع الموضوعی علی أربعة أقسام ، فذکر أنّه :

تارةً : یکون تمام الموضوع . و اخری : بنحو یکون جزءه أو قیده . و فی کلٍّ منهما یؤخذ طوراً : بما هو کاشف و حاک عن متعلّقه ، و آخر : بما هو صفة خاصّة للقاطع أو المقطوع به .

ثم شرع فی بیان انقسام القطع الموضوعی إلی الکشفی و الوصفی ، فقال :

و ذلک ، لأن القطع لمّا کان من الصفات الحقیقیّة ذات الإضافة - و لذا کان العلم نوراً لنفسه و نوراً لغیره - صحّ أنْ یؤخذ فیه بما هو صفة خاصّة و حالة مخصوصة ، بإلغاء جهة کشفه أو اعتبار خصوصیة اخری فیه معها ، کما صحّ أن یؤخذ بما هو کاشف عن متعلّقه و حاک عنه . فیکون أقسامه أربعة .

فکانت الأقسام عنده أربعة ، لأنّه جعل حالة کونه ( جزءه أو قیده ) واحداً .

أقسام القطع الموضوعی فی الدرر

و قال المحقق الحائری :

اعلم أن القطع المأخوذ فی الموضوع یتصوّر علی أقسام :

أحدها : أنْ یکون تمام الموضوع للحکم .

و الثانی : أنْ یکون جزءاً للموضوع ، بمعنی أن الموضوع المتعلّق للحکم هو الشیء مع کونه مقطوعاً به .

و علی أیّ حالٍ.

ص:134


1- 1) کفایة الاصول : 263 .

إمّا أن یکون القطع المأخوذ فی الموضوع ملحوظاً علی أنه صفة خاصّة .

و إمّا أن یکون ملحوظاً علی أنه طریق إلی متعلّقه .

و المراد من کونه ملحوظاً علی أنه صفة خاصّة ، ملاحظته من حیث أنه کشف تام ، و من کونه ملحوظاً علی أنه طریق ملاحظته من حیث أنه أحد مصادیق الطریق المعتبر ، و بعبارة اخری : ملاحظة الجامع بین القطع و سائر الطرق المعتبرة .

فعلی هذا ، یصح أنْ یقال فی الثمرة بینهما :

إنه علی الأوّل لا تقوم سایر الأمارات و الاصول مقامه بواسطة الأدلّة العامة لحجیّتها ، أمّا غیر الاستصحاب من الاصول ، فواضح ، و أمّا الاستصحاب و سائر الأمارات المعتبرة ، فلأنها بواسطة أدلّة اعتبارها توجب إثبات الواقع تعبّداً ، و لا یکفی مجرد الواقع فیما نحن فیه ، لأن للقطع بمعنی الکشف التام دخلاً فی الحکم ، إمّا لکونه تمام الملاک ، و إمّا لکونه ممّا یتم به الموضوع .

و علی الثانی ، فقیام الأمارات المعتبرة و کذا مثل الاستصحاب لکونه ناظراً إلی الواقع فی الجملة مقامه ، مما لا مانع منه ... (1) .

و ما ذکره یختلف عمّا تقدّم اختلافاً بسیطاً .

و علی الجملة ، فقد أوضح صاحب الکفایة معنی القطع الموضوعی الکشفی و القطع الموضوعی الصفتی أی الوصفی ، لأن القطع من الصفات القائمة بالنفس کسائر الصفات من الشجاعة و الجود و غیرهما ، لکنه صفة ذات تعلّق و إضافة ، و الصفات ذات التعلّق منها ما فیه جهة الکشف أیضاً کالقطع ، و منها ما لیس فیه جهة الکشف کالشوق مثلاً ... فالقطع صفة ذات تعلّق و لها جهة

ص:135


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 330 - 331 .

الکاشفیّة ، و هذه الکاشفیة ذاتیّة - بخلاف کاشفیة الظنّ فإنها لیست بالذات - و کاشفیّة تامّة فی أعلی المراتب بحیث لا یحتمل الخلاف فی القطع ، خلافاً لصاحب الدرر ، إذ تصوّر القطع بلا کاشفیّة تامّة .

و هذا القطع قد لا یؤخذ فی لسان الخطاب أصلاً ، فهو القطع الطریقی ، و قد یؤخذ ، فهو القطع الموضوعی ، و قد تقدّم ذکر أقسامه ... .

فکان مجموع أقسام القطع - بناءً علی جعل الموضوعی المأخوذ جزءاً أو قیداً قسماً واحداً - خمسة أقسام .

رأی المیرزا و الکلام حوله

و لکن المیرزا قدّس سرّه أنکر القطع المأخوذ تمام الموضوع علی نحو الطریقیّة ، فالأقسام عنده ثلاثة ، فقد جاء فی تقریر بحثه :

نعم ، فی إمکان أخذه تمام الموضوع علی وجه الطریقیّة إشکال ، بل الظاهر أنه لا یمکن ، من جهة أنّ أخذه تمام الموضوع یستدعی عدم لحاظ الواقع وذی الصورة بوجه من الوجوه ، و أخذه علی وجه الطریقیّة یستدعی لحاظ ذی الطریق وذی الصورة ... و لحاظ العلم کذلک ینافی أخذه تمام الموضوع . فالإنصاف أن أخذه تمام الموضوع لا یمکن إلّا بأخذه علی وجه الصفتیّة (1) .

و قد استفید من هذا الکلام أن المحذور فی نظره اجتماع اللّحاظین الاستقلالی و الآلی فی الشیء الواحد ، و هو محال .

فأجاب عنه المحقق العراقی (2) بما حاصله :

ص:136


1- 1) فوائد الاصول 3 / 11 .
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 15 .

النقض بما إذا اخذ القطع بعدالة زید موضوعاً لجواز الاقتداء به ، و باجتهاده موضوعاً لجواز تقلیده کما تقدم ، فإن هذا الأخذ إنما هو علی نحو الکاشفیة لا الصفتیّة .

و أمّا حلّاً ، فإنّ الشیء الواحد الذی لا یجتمع فیه اللّحاظان هو المصداق الخارجی ، و أمّا مفهوم القطع ، فلا مانع من أخذه موضوعاً لحکمٍ مع کاشفیّته عن الواقع .

أقول :

و هذا الجواب صحیح إنْ کان مراد المیرزا ما ذکر ، لکنّ الظاهر من کلامه أنّ المحذور لیس اجتماع اللّحاظین ، و إنما هو أن أخذ القطع بنحو الکاشفیّة یستلزم ثبوت الواقع ، و أخذه موضوعاً علی نحو تمام الموضوع یستلزم سقوطه ، فاجتمع الثبوت و السقوط بالنسبة إلی الواقع ، و هذا هو الذی فهمه سیّدنا الاستاذ قدّس سرّه إذ قال :

أنکر المحقّق النائینی أخذ القطع تمام الموضوع بنحو الطریقیة ، فذهب إلی أنه لا بدّ أن یکون مأخوذاً جزء الموضوع ، فالأقسام لدیه ثلاثة ، و علّل ذلک بأن النظر الاستقلالی فی القطع الطریقی یتعلق بمتعلقه و بالواقع المنکشف به و بذی الطریق ، أما القطع فهو مغفول عنه و ملحوظ مرآة للغیر شأن کلّ کاشف و طریق ، و أخذه فی تمام الموضوع یلازم غض النظر عن الواقع و ملاحظته القطع مستقلاً و هذا خلف .

ثم أجاب عن ذلک بقوله :

و لکن هذا التعلیل علیل ، و هو ناش من الخلط بین مقام الجعل و مقام تعلّق

ص:137

القطع بشیء ، بیان ذلک : إن من ینظر إلی الکتاب بواسطة نظارته یغفل عن نظارته و إنما نظره المستقلّ متعلّق بالکتاب الذی جعل النظارة طریقاً إلیه ، و لکن الشخص الذی ینظر إلی هذا الناظر و یری کاشفیة و آلیة النظارة ، یستطیع أن یتعلّق نظره مستقلّاً و غرضه بالنظارة ذاتها من دون أن یکون للکتاب أی دخل فیه .

و فی ما نحن فیه من هذا القبیل ، فإن من یتعلق نظره الاستقلالی بالمقطوع و یغفل عن القطع هو القاطع نفسه ، إذ کون القطع طریقاً لدیه یلازم لحاظه آلة و بنحو المرآتیة ، أما الجاعل الذی یرید أن یجعل حکماً علی هذا القطع له أن یقصره نظره علی القطع ، بمعنی أنه یرتب الحکم علی القطع بلحاظ کشفه لکن من دون أن یکون لوجود المتعلق فی الخارج أی أثر ، لتمکنه من لحاظ القطع بنحو الاستقلال لا الآلیة و المرآتیة ، نظیر من ینظر إلی المرآة لا لیری صورته بها ، بل لیری جودتها و جنسها . فظهر لک الخلط بین المقامین (1) .

أقول :

و الإنصاف أن ما ذکره خلاف الظاهر جدّاً .

إلّا أن یقال فی مقام الدفاع عن صاحب الکفایة : إن نظره إلی أن المقصود من القطع المجعول موضوعاً للأحکام کالحجیّة الذاتیة و الطریقیّة ، هو الأعم من العلم أی الصّورة الذهنیة المطابقة للواقع و من الجهل المرکب ، و هذا القطع الأعم ، له حیثیّتان ، هما الصفة القائمة بالنفس و حیثیة عدم احتمال الخلاف ، و هناک حیثیة ثالثة هی الطریقیة و الکاشفیة . فالقطع کرؤیة الإنسان للشیء ، حیث أن الرؤیة صفة قائمة بالرّائی ، تریه الشیء و لا یحتمل الإنسان الخلاف فیها ، لکن قد تتخلّف

ص:138


1- 1) منتقی الاصول 4 / 69 - 70 .

الرؤیة عن الواقع .

وعلیه ، ففی الجهل المرکب أیضاً إراءة و طریقیة و کشف ، لکنْ عن الواقع الخیالی لا الحقیقی ، فإذا کان هذا مراد المحقق الخراسانی ، فالإشکال یندفع .

هکذا أفاد شیخنا دام بقاه .

لکنّ السید الخوئی قد أورد الإشکال علی الکفایة بنفس التقریب الذی ذکره الاستاذ ، و هذا نص عبارته :

و أمّا القطع المأخوذ فی الموضوع بنحو الطریقیة فلا یمکن أخذه تمام الموضوع ، إذ معنی کونه تمام الموضوع أنه لا دخل للواقع فی الحکم أصلاً ، بل الحکم مترتب علی نفس القطع و لو کان مخالفاً للواقع ، و معنی کونه مأخوذاً بنحو الطریقیة أن للواقع دخلاً فی الحکم و أخذ القطع طریقاً إلیه ، فیکون الجمع بین أخذه فی الموضوع بنحو الطریقیة و کونه تمام الموضوع من قبیل الجمع بین المتنافیین . فالصحیح هو تثلیث الأقسام ... (1) .

فقد أورد الإشکال بلحاظ الواقع ثبوتاً و سقوطاً ، و أشار بکلمة « و لو کان مخالفاً للواقع » إلی صورة الجهل المرکب الذی ذکره الاستاذ .

فالذی نراه ورود إشکال المیرزا و من تبعه ، و أنّ دفاع المحقّق العراقی و سیّدنا الاستاذ و شیخنا دام بقاه عن الکفایة لا یجدی .

ص:139


1- 1) مصباح الاصول 2 / 33 .
مبحث قیام الأمارات و الأُصول مقام القطع
اشارة

إنّ أدلّة اعتبار الأمارة - کخبر الواحد و البیّنة و نحوهما - تفید حجیّتها و تقتضی کشفها عن الواقع ، فهل تدلّ علی قیامها مقام القطع فی الحجیّة و الکشف ؟

و أیضاً ، فإنّ عندنا أصولاً هی وظائف عملیّة فی ظرف الشک ، و منها ما یکون لسان دلیله تنزیل مؤدّاه منزلة الواقع أو الاحتمال منزلة الیقین ، و هو المسمّی بالأصل المحرز کالاستصحاب ، و یقابله غیر المحرز کالبراءة ، فهل یدلّ دلیله علی قیامه مقام القطع أوْ لا ؟ و إنْ قلنا بالقیام فی الأمارات و الاصول ، فهی تقوم مقام أیّ قسم من أقسام القطع ؟ و قد عرفنا أن المراد من القیام مقامه هو ترتیب أثر القطع علیه .

الکلام فی الأمارات

أمّا الأمارات ، ففیها ثلاثة أقوال :

1 - قیامها مقام القطع مطلقاً .

2 - قیامها مقام القطع الطریقی دون المأخوذ فی الموضوع مطلقاً . و هو مسلک صاحب الکفایة .

3 - قیامها مقام القطع المأخوذ فی الموضوع بنحو الکشف فقط . وعلیه

ص:140

الشیخ و المیرزا و جماعة .

وضوح قیامها مقام القطع الطریقی المحض

و المهم هو النظر فی الخلاف بین الشیخ و صاحب الکفایة و أتباعهما ، لوضوح قیام الأمارة مقام القطع الطریقی المحض ، لأن أدلّة الأمارة مفادها لا یخلو عن أحد امور :

إمّا تنزیل مؤدّی الأمارة بمنزلة الواقع .

و إمّا هو جعل الطریقیّة و الکاشفیة له عن الواقع تعبّداً .

و إمّا هو جعل المنجزیّة و المعذریّة لها .

فسواء قلنا بهذا أو ذاک أو الثالث ، فإنّ الأمارة تقوم مقام القطع الطریقی ، لأن المطلوب فیه هو العثور علی الواقع ، و قد جعل الشارع الأمارة بمنزلة الواقع بناءً علی الأوّل ، أو جعلها طریقاً إلیه بناءً علی الثانی ، أو جعلها منجّزة و معذّرة بالنسبة إلیه بناءً علی الثالث . و لذا قال السیّد الخوئی : لا کلام فی أنّ الطرق و الأمارات و الاصول المحرزة تقوم مقام القطع الطریقی المحض ، بنفس أدلّة حجیّتها ، و یترتّب علیها جمیع الآثار المترتّبة علیه من تنجیز الواقع به إذا أصاب ، و کونه عذراً إذا أخطأ ، و کون مخالفته تجریاً ، و موجباً لاستحقاق العقاب ، إلی غیر ذلک من الآثار المترتبة علی القطع الطریقی . (1)

و قال السید الاستاذ :

لا إشکال بین الأعلام فی قیام الأمارة بدلیل اعتبارها مقام القطع الطریقی ،

ص:141


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 52 .

بمعنی أن نفس ما یترتب علی القطع من المنجزیّة و المعذّریة یترتب علی الأمارة (1) .

وضوح عدم قیامها مقام الطریقی الوصفی

و أما قیامها مقام القطع الوصفی ، فعدم إمکانه واضح ، لأن معنی أخذ القطع فی الموضوع بما هو صفة هو اعتبار دخل الصفة الخاصّة فی الحکم ، و لکنّ الأمارة لا تصیر بأدلّتها صفةً خاصّةً ، فلا تقوم مقام القطع بهذا المعنی .

الاختلاف بین الشیخ و صاحب الکفایة

فکان المهم هو النظر فی الاختلاف بین الشیخ القائل بقیام الأمارة مقام القطع الموضوعی الکشفی و صاحب الکفایة المنکر لقیامها مقام القطع الموضوعی مطلقاً .

رأی الشیخ

و قد تبع المیرزا الشیخ و قرّب ما ذهب إلیه قائلاً :

أمّا علی المختار من أنّ المجعول فی باب الطّرق و الأمارات هو نفس الکاشفیة و المحرزیّة و الوسطیّة فی الإثبات ، فیکون الواقع لدی من قامت عنده الطرق محرزاً کما کان فی صورة العلم ، و المفروض أنّ الأمر مترتّب علی الواقع المحرز ، فإن ذلک هو لازم أخذ العلم من حیث الکاشفیّة موضوعاً ، و بنفس دلیل حجیّة الأمارات و الاصول یکون الواقع محرزاً ، فتقوم مقامه بلا التماس دلیل آخر (2) .

ص:142


1- 1) منتقی الاصول 4 / 70 .
2- 2) فوائد الاصول 3 / 21 .
رأی صاحب الکفایة

قال فی الکفایة :

لا ریب فی قیام الطرق و الأمارات المعتبرة بدلیل حجیّتها و اعتبارها مقام هذا القسم .

یعنی : القطع الطریقی المحض الذی تقدّم بیان وضوح قیامها مقامه ، و لذا قال : « لا ریب ... » .

قال :

کما لا ریب فی عدم قیامها بمجرّد ذلک الدلیل مقام ما اخذ فی الموضوع علی نحو الصفتیّة من تلک الأقسام ، بل لا بدّ من دلیلٍ آخر علی التنزیل ، فإنّ قضیة الحجیّة و الاعتبار ترتیب ما للقطع بما هو حجة من الآثار لا ما له بما هو صفة و موضوع ، ضرورة أنه کذلک یکون کسائر الموضوعات و الصّفات .

و هذا بیان ما ذکرناه بالنسبة إلی القطع الوصفی .

قال :

و منه قد انقدح عدم قیامها بذلک الدلیل مقام ما اخذ فی الموضوع علی نحو الکشف ، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو فی الموضوع شرعاً کسائر ما له دخل فی الموضوعات أیضاً ، فلا یقوم مقامه شیء بمجرّد حجیّته أو قیام دلیل اعتباره ، ما لم یقم دلیل علی تنزیله و دخله فی الموضوع کدخله (1) .

أقول :

و هذا المقطع الأخیر هو مورد النظر ، فإنّه یری أنْ لا فرق بین القطع

ص:143


1- 1) کفایة الاصول : 263 .

الموضوعی الوصفی و القطع الموضوعی الکشفی فی عدم قیام الأمارة مقامه ، لعدم وجود الفرق فی وجه عدم القیام .

ثم تعرّض رحمه اللّٰه لکلام الشیخ قدّس سرّه فقال :

و توهّم کفایة دلیل الاعتبار الدالّ علی إلغاء احتمال خلافه و جعله بمنزلة القطع من جهة کونه موضوعاً و من جهة کونه طریقاً ، فیقوم مقامه ، طریقاً کان أو موضوعاً .

فاسد جدّاً .

فإنّ الدلیل الدالّ علی إلغاء الاحتمال لا یکاد یکفی إلّا بأحد التنزیلین ، حیث لا بدّ فی کلّ تنزیل منهما من لحاظ المنزّل و المنزّل علیه ، و لحاظهما فی أحدهما آلیّ و فی الآخر استقلالی ، بداهة أن النظر فی حجیّته و تنزیله منزلة القطع فی طریقیّته فی الحقیقة إلی الواقع و مؤدّی الطریق ، و فی کونه بمنزلته فی دخله فی الموضوع إلی أنفسهما ، و لا یکاد یمکن الجمع بینهما ... .

ثم تعرّض فی الأخیر لکلامه فی حاشیة الرّسائل فقال : بأنّه لا یخلو من تکلّف بل تعسّف .

و سیأتی الکلام علی ذلک إن شاء اللّٰه .

أقول :

و محصّل ما ذهب إلیه هو : أن المستفاد من أدلّة اعتبار الأمارة هو تنزیلها بمنزلة الواقع ، لکن القاعدة العامة فی تنزیل شیء بمنزلة شیء هی لحاظ الشیء المنزّل و الشیء المنزّل علیه وجهة التنزیل ، کما فی تنزیل الطواف بمنزلة الصّلاة ، فإنهما یلحظان و یلحظ الأثر و الحکم الثابت للصّلاة المراد إثباته للطواف ، فلا بدّ

ص:144

من لحاظ کلّ ذلک باللّحاظ الموضوعی حتی یتم التنزیل .

وعلیه ، فلو وقع القطع بشیء موضوعاً لحکمٍ یکون لا محالة ملحوظاً باللّحاظ الاستقلالی و ینعزل عن الطریقیّة تماماً ، کما فی : إذا قطعت بوجوب الصّلاة وجب علیک التصدق بکذا ، فإنّ وجوب التصدّق یترتب علی القطع و یکون هو موضوع الأثر ، فلو ارید تنزیل الأمارة - بدلیل اعتبارها - بمنزلة الواقع لم یمکن إلّا بلحاظهما علی نحو الطریقیّة ، مثلاً : إذا قامت البیّنة علی خمریّة المائع ، دلّ دلیل حجیّتها علی وجوب الاجتناب عنه و تنزیله بمنزلة الخمر الواقعی فی ذلک ، و لو لا لحاظ المؤدّی - و هو الخمریّة - و لحاظ الواقع الذی تحقق القطع به ، لما أمکن التنزیل ، و من الواضح أن هذین اللّحاظین آلیّان ... فکان الملحوظ استقلالیّاً و آلیّاً معاً ، و الاستقلالیّة و الآلیّة لا یجتمعان .

إشکال المحقق الأصفهانی

قال فی التعلیق علی قول الکفایة : و لحاظهما فی أحدهما آلیّ و فی الآخر استقلالی :

لا یذهب علیک أنّ القطع و الظن حین تعلّقهما بشیء طریق صرف ، و لیس الملحوظ فی تلک الحال علی وجه الأصالة و الاستقلال إلّا ذلک الشیء ، و القطع مثلاً نحو حضور المعنی عند النفس ، و هو معنی لحاظه . و لیس للقطع لحاظ لا آلیّاً و لا استقلالیاً ، بل هو عین لحاظ الغیر ، فلیس کالمرآة حتی یعقل أنْ ینظر فیها إلی شیء فتکون منظورةً بالتبع ، بل القطع عین لحاظ الذهن و نظره إلی المعلوم .

بل القطع کما لا یکون ملحوظاً آلیّاً ، کذلک لیس آلةً ، لعدم تعقّل کون لحاظ الشیء آلة للحاظه ، کما لا یعقل أنْ یکون آلةً لذات الشیء أو لوجوده الخارجی .

ص:145

قال :

إذا عرفت ذلک فاعلم : أن القطع إنما یتّصف بالطریقیة و المرآتیة عند تعلّقه حقیقةً بالشیء ، و فی غیر تلک الحال لا یعقل أن یلاحظ إلّا استقلالاً . و لیس القطع بما هو من وجوه متعلّقه و عناوینه حتی یعقل لحاظه تارةً بنحو الفناء فی المعنون وذی الوجه ، و اخری بنفسه ، بمعنی أنْ یکون تارةً ما به ینظر و اخری ما فیه ینظر ، و کیف یعقل لحاظ صفة القطع علی الوجه الذی هو علیه حال تعلّقه بشیء حقیقةً فی مقام تنزیل شیء منزلته ، إذ الآلة لا یعقل أن تکون طرفاً ؟ (1)

أقول :

و یتلخّص هذا الکلام فی نقاط :

1 - إن القطع حضور المعنی عند النفس ، و هذا معنی لحاظه .

2 - لیس نسبة القطع إلی متعلّقه نسبة المرآة إلی المرئی ، فإنّ المرآة قد تُلحظ باللّحاظ الاستقلالی و بقطع النظر عن المرئی ، فتکون ما فیه ینظر ، و قد تلحظ باللّحاظ الآلی طریقاً إلی المرئی ، فتکون ما به ینظر ، فلیس للقطع لحاظ لا آلیّاً و لا استقلالیّاً .

3 - لا یکون القطع آلةً ، لعدم تعقّل کون لحاظ الشیء آلةً للحاظه .

4 - لیس نسبة القطع إلی المتعلّق نسبة الوجه إلی ذی الوجه و العنوان إلی المعنون ، فلیس مثل عنوان الفقیه مثلاً حیث یمکن النظر إلیه بعنوانه فیکون اللّحاظ استقلالیاً ، و یمکن النظر إلیه فانیاً فی مصادیقه فیکون اللّحاظ آلیّاً .

ص:146


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 51 .

و الحاصل : عدم تعقّل اللّحاظین فی القطع ، حتی یلزم محذور الاجتماع .

قال :

نعم ، یمکن تقریب الإشکال بوجهٍ آخر و هو :

إن القطع و الظن حیث أنهما متقوّمان بذات المقطوع و المظنون ، فثبوت أحدهما یستلزم ثبوت الآخر ، فالأمر بترتیب الأثر علی الظن یمکن أن یکون علی وجه الکنایة أمراً بترتیب الأثر علی لازمه و هو ذات المظنون ، کما یمکن أن یکون علی وجه الأصالة و الحقیقة أمراً بترتیب الأثر علی نفسه ، و لا یعقل ملاحظة الظن قنطرةً للانتقال إلی لازمه و هو ذات المظنون ، و ملاحظته لا علی هذا الوجه بل علی وجه الحقیقة و الأصالة ، فلا یعقل أن یکون القضیة الواحدة کنائیة و حقیقیّة ، فیکون نظیر الجمع بین اللّحاظ الآلی و اللّحاظ الاستقلالی فی الاستحالة (1) .

أقول :

توضیحه :

إن القطع من الامور ذات التعلّق ، فهو متقوّم بذات المقطوع ، فإذا قطعت بعدالة زید ، کان قوام مفهوم القطع عدالته ، و کذلک الظن ، فإذا قامت البیّنة علی عدالة زید ، حصل لک الظنُّ بعدالته ، و هی قوام الظن ، فلا تحقّق للقطع و الظن بدون المتعلّق ، فهناک تلازم بین القطع و متعلّقه و الظن و متعلّقه ، فإذا أمر الحاکم بترتیب الأثر علی الظنّ و تنزیله بمنزلة الواقع ، أمکن أن یکون - علی وجه الکنایة - أمراً بترتیب الأثر علی لازمه و هو ذات المظنون ، أی عدالة زید ، بتنزیلها منزلة

ص:147


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 52 .

الواقع ، و أمکن أن یکون - علی وجه الحقیقة - أمراً بترتیب الأثر علی نفس الظن ، فیجتمع فی الخطاب الواحد أن تکون القضیة کنائیة و حقیقیة ، فیکون نظیر الجمع بین اللحاظ الآلی و اللحاظ الاستقلالی فی الاستحالة . و مثاله : قولهم : زید کثیر الرماد ، فإنّ هذا الکلام عندهم کنایة عن جود زید ، فلو ارید مع ذلک المعنی الحقیقی منه ، اجتمع الکنائیّة و الحقیقة ، و هو محال .

لأن الکنایة هی عدم لحاظ الحقیقة ، و الحقیقة هی عدم لحاظ المعنی المجازی ، فلا یجتمعان ... .

و بعبارة اخری : إنْ لوحظ المعنی الحقیقی لم یکن القطع أو الظن قنطرة للانتقال إلی اللّازم ، و إنْ لم یلحظ کان قنطرةً ، و الجمع بین کونه قنطرة و عدم کونه قنطرةً جمع بین النقیضین و هو محال .

مناقشة هذا الإشکال

و قد ناقش الاستاذ هذا الکلام فی جمیع جهاته :

أمّا قوله : القطع لیس کالمرآة حتی یعقل أن یلحظ باللّحاظین .

فهو أوّل الکلام ، فقد ذکر هذا المحقق - فی حقیقة القطع - أنّ حقیقته هی النوریّة ، فهی عین القطع لا من لوازمه ، و النور - کما هو معروف - ظاهر بذاته و مظهرٌ لغیره ، فیمکن لحاظه و لحاظ الغیر به ، کذلک القطع . فما ذکره هنا ینافی کلامه هناک .

هذا نقضاً .

و أمّا حلّاً ، فإنّ القطع لحاظٌ ، و لکلّ لحاظ ملحوظ ، کالرؤیة حیث لها مرئی ، فکما تلحظ الرّؤیة بنفسها و تلحظ فانیةً فی المرئی ، کذلک القطع یلحظ بنفسه

ص:148

و یلحظ فانیاً فی المتعلّق المقطوع به ، غیر أنّ اللّحاظ رؤیة نفسانیة ، و الرؤیة رؤیة جسمانیّة .

و أمّا قوله : لیس القطع بما هو من وجوه متعلّقه و عناوینه .

فهذا صحیح ، و لکنّ اللّحاظ الآلی و الاستقلالی غیر منحصرین بالعناوین و الوجوه ، فإنّ الرؤیة لیست عنواناً للمرئی و وجهاً له ، و النور لیس وجهاً و عنواناً للمستنیر ، إلّا أنه یلحظ بنفسه و یلحظ فانیاً فی المستنیر .

و أمّا تقریبه الإشکال بما ذکره ، ففیه :

أوّلاً : إنّ مورد الکنایة هو ما إذا کان أمران بینهما ملازمة ، فینتقل من أحدهما إلی الآخر ، کما فی مثل زید کثیر الرماد ، فإنْ ذلک من لوازم الجود ، فإذا قیل کذلک ، انتقل الذهن إلی جود زید ، لوجود الملازمة بین الأمرین ، و لکن التحقیق عدم وجود الملازمة بین القطع أو الظنّ و متعلّقه ، لأنّ المتعلّق هو المقطوع بالذات و موطنهما الذّهن ، و المنطبَق علیه المتعلّق خارجاً هو المقطوع بالعرض ، أمّا المقطوع بالذات ، فإنّه قوام مفهوم القطع ، و القطع محتاج إلیه فی أصل وجوده ، لکنهما موجودان بوجودٍ واحدٍ و لیسا متلازمین . و أمّا المقطوع بالعرض ، فوجوده غیر وجود القطع کما هو واضح ، لکن لا تلازم بینهما قطعاً کذلک ، و إلّا یلزم أنْ لا یتحقق الجهل المرکب أصلاً ، لاستحالة التفکیک بین المتلازمین .

فما ذکره من کون حال القطع و متعلّقه - و کذا الظن - من قبیل الکنایة ، غیر صحیح ، إذ لا یوجد التلازم بین القطع و متعلّقه - و کذلک الظن - کما یوجد فی باب الکنایة ، بل الأثر یترتب علی الوجود الخارجی للمقطوع کالخمر مثلاً و حکمه الحرمة .

ص:149

و ثانیاً إنه لا یلزم - فیما نحن فیه - محذور الاجتماع بین الحقیقة و الکنایة .

و ذلک : لأن المتلازمین علی نحوین ، فقد لا یکون بینهما نسبة الحکایة و الدلالة ، کما فی الجود و کثرة الرماد ، حیث أنهما متلازمان لکنْ لا توجد بینهما نسبة الحکایة و الدلالة و الکشف ، و لذا یکون أثر کلٍّ منهما مختصّاً به و لا یترتب علی الآخر ، فلو ارید ترتیبه احتیج إلی جعل أحدهما کنایةً عن الآخر ، کما فی المثال ، حیث تجعل کثرة الرماد کنایة عن الجود .

و قد یکون بین المتلازمین نسبة الحکایة و الکشف و الدلالة ، و فی هذه الحالة یرتَّب عرفاً أثر أحدهما علی الآخر بلا حاجةٍ إلی الکنایة ، کما هو الحال بین الیقین و المتیقّن ، فإنّ کلّ یقینٍ یستلزم المتیقّن ، فإذا قال : إذا تیقّنت بعدالة زید فصلّ خلفه ، کانت الصّلاة خلفه أثراً للیقین بحسب ظاهر العبارة ، لکن العرف یرتّبون هذا الأثر علی المتیقّن ، هو العدالة ، لأن الیقین کاشف عن المتیقّن و دالّ علیه ، فقول المولی : رتّب الأثر علی یقینک ، معناه : رتّب الأثر علی المتیقّن .

فما ذکره المحقّق الاصفهانی من الکنائیة ، إنما یکون حیث لا کاشفیة لأحد المتلازمین عن الآخر ، و إلّا فإنّ أهل العرف یرتّبون الأثر و لا یلزم استحالة الجمع .

و تلخّص : اندفاع الاشکال علی الکفایة ، و عدم تمامیّة التقریب المذکور کذلک .

و التحقیق

و التحقیق هو : إنه إنْ کان مدلول أدلّة اعتبار الأمارات هو تنزیل مؤدّاها بمنزلة الواقع ، بأنْ یکون المقصود أن ما أخبر به زرارة من وجوب صلاة الجمعة - مثلاً - هو الواقع ، فالحق مع صاحب الکفایة ، لما ذکره رحمه اللّٰه ... .

ص:150

لکن الکلام فی أصل المبنی ، و لا بدّ من النظر فی دلیل القول بذلک .

لقد استدلّ للقول المذکور .

أمّا ثبوتاً ، فلأنّ مقصود المولی حفظ الواقع ، و لأجل ذلک جعل الأمارات و الطرق ، حتی یحصل التحفّظ علی الأغراض و الأحکام الواقعیّة فی ظرف الجهل بها ، فیعتبر خبر زرارة بمنزلة الواقع حتّی یُعمل به فیحفظ الواقع .

و أمّا إثباتاً ، فقد استدلّ ببعض الروایات ، کقوله علیه السّلام : « العمری و ابنه ثقتان ، فما أدّیا فعنّی یؤدّیان ، و ما قالا لک فعنّی یقولان » (1) لظهوره فی تنزیل المؤدّی بمنزلة الواقع .

و فیه نظر .

أمّا ثبوتاً ، فلأنّ حفظ الواقع غیر متوقّف علی تنزیل مؤدّی الأمارة بمنزلة الواقع ، بل مقتضی الحکمة أن یجعل فی ظرف الشک فیه طریقاً موصلاً إلیه ، کما هو الحال فی الأغراض و المقاصد التکوینیّة ، فإنه یجعل فیها الطریق الموصل إلیها ، و هذا هو طبع المطلب ، فإنّه یقتضی جعل الطریق الموصل إلیه ، لا جعل غیر الواقع بمنزلة الواقع .

و أمّا إثباتاً ، فإنّ الأدلّة علی اعتبار الطرق و الأمارات علی قسمین :

فمنها : الدلیل اللبّی ، و هو عبارة عن السّیرة العقلائیة ، فهل السّیرة القائمة علی العمل بخبر الثقة هی باعتبار کونه هو الواقع التعبدی ، أو أنه طریق إلی الواقع ؟ الحق هو الثانی .

ص:151


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 138 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 4 .

و منها : الدلیل اللّفظی ، و هو دلیل إمضاء السیرة العقلائیة المذکورة .

علی أنّ لسانها لسان جعل الطریق الکاشف عن الواقع ، فمفهوم قوله تعالی « إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا ... » (1)عدم وجوب التبیّن إنْ کان المخبر غیر فاسق ، أی : إنْ کان المخبر غیر فاسق فخبره بیانٌ ، أمّا إنْ کان فاسقاً فیجب تحصیل البیان .

و فی قوله علیه السلام : « العمری و ابنه ثقتان ... » نجد الفاء للتفریع ، فإنّه قد وثّقهما ثم فرّع علی ذلک ترتیب الأثر علی قولهما ، أی: إنهما ثقتان عندی فما قالاه فهو طریق إلی قولی ، و هذا معنی الروایة لا ما ذکر من أنه تنزیل المؤدّیٰ بمنزلة الواقع .

و بالجملة ، فإنّ لسان الأدلّة اللفظیة و مفادها : جعل الطرق إلی الواقع ، و هو المراد من قول العلماء بتتمیم الکشف و إسقاط احتمال الخلاف .

فظهر : أن کلّ أمارة عمل بها العقلاء و أسقطوا معها احتمال الخلاف ، فهی تقوم مقام القطع ، کخبر الثقة ، لا ما کان منها مورداً للعمل و ترتیب الأثر - مع عدم إلغاء احتمال الخلاف - کما فی الید ، فإنّها أمارة علی الملکیة عند العقلاء ، لکنّ أماریّتها لیست بإسقاط احتمال الخلاف ، بل هو یحتملون فی موردها عدم الملکیة ، لکنّهم یرتّبون أثر الملکیة علیها من جهة أنه « لو لم یجز هذا لم یستقم للمسلمین سوق » کما فی الروایة (2) .

ص:152


1- 1) سورة الحجرات : 6 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 292 ، الباب 25 من أبواب کیفیّة الحکم ، رقم : 2 .
القول المختار فی الأمارات

فالحق هو التفصیل فی الأمارات ... .

فمن الأمارات ما یلغی معه احتمال الخلاف و یرتب علیه أثر الواقع عقلاءً .

و منها : ما یرتّب علیه أثر الواقع لجهةٍ من الجهات مع وجود احتمال الخلاف .

أمّا القسم الأوّل ، فیقوم مقام القطع الموضوعی الکشفی .

و أمّا القسم الثانی ، فلا یقوم مقامه .

و مما یؤکّد التفصیل المذکور بالنظر إلی السّیرة العقلائیّة التی هی العمدة فی الدلالة علی حجیّة الأمارات : التأمّل فی بعض روایات المقام ، مثلاً : قول الراوی :

« أ فیونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دینی ؟ » (1) ظاهر فی المفروغیّة عن ترتیب الأثر علی قول الثقة ، فیسأل عن وثاقة یونس . بخلاف روایة حفص مثلاً - فإنه یقول : « أشهد أنّه له ؟ » فیجیب الإمام علیه السلام : أشهد أنه له » (2) فإنه ظاهر فی أنّ المرتکز عند العقلاء عدم کفایة کون الشیء فی الید للدلالة علی الملکیة ، فلذا یسأل عن هذه الجهة ... بخلاف الروایة السابقة ، فإنها ظاهرة فی کفایة الوثاقة عندهم للأخذ بقوله ، و لذا لا یسأل هناک عن جواز الأخذ بقول یونس ، و إنما یسأل عن وثاقته عند الإمام .

و تلخص : أن مثل البیّنة و خبر الثقة یکشف عن الواقع فیقوم مقام القطع ، و أمّا مثل الید ، فلا کاشفیّة له فلا یقوم مقامه ، و إنّما جاز ترتیب الأثر علیها بدلیل

ص:153


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 147 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 33 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 292 ، الباب 25 من أبواب کیفیّة الحکم ، رقم : 2 .

خاصٍ لجهةٍ معیّنة .

فالحق هو التفصیل .

ثم إنه یرد علی صاحب الکفایة القائل بتنزیل المؤدّی بمنزلة الواقع ، التهافت بین کلامه هنا و ما ذهب إلیه فی مسألة الجمع بین الحکم الظاهری و الواقعی من أنّ المجعول فی باب الأمارات هو المنجزیّة و المعذّریة ... و لا یخفی عدم قیامها مقام القطع الموضوعی الکشفی علی هذا المبنی ، لأن المنجزیّة لا تفید الکاشفیة ، إلّا إذا اخذ القطع فی الموضوع بما هو منجّز .

و هذا تمام الکلام علی قیام الأمارات مقام القطع الموضوعی الکشفی .

الکلام فی الاصول

و أمّا الاُصول و هی علی قسمین .

الاصول المحرزة ، و هی المجعولة وظیفةً عملیّةً فی ظرف الشک بلسان إحراز الواقع ، کقاعدة الفراغ ، بناءً علی کونها من الاصول المحرزة ، فإنّها تجری لدی الشک فی عدد الرکعات ، حیث یقول علیه السلام : « بلی قد رکعت » (1) أی: إن الواقع ثابت . و فی الاستصحاب - علی القول بکونه من الاصول - یقول علیه السّلام : « لأنک کنت علی یقین ... » (2) فیفید إحراز الیقین و بقائه إلی الزّمان اللّاحق .

و تقابلها الاصول غیر المحرزة ، کالبراءة مثلاً ، حیث أن قوله علیه السلام :

ص:154


1- 1) وسائل الشیعة 6 / 317 ، الباب 13 من أبواب الرکوع ، رقم : 3 .
2- 2) وسائل الشیعة 3 / 466 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، رقم : 1 .

« رفع ما لا یعلمون » (1) لیس له نظر إلی الواقع و لا یحرزه أصلاً .

و تلخّص : أن الاصول العملیّة علی قسمین ، و قد ظهر الفرق بینهما إجمالاً .

وعلیه ، فإنّ موضوع البحث عن قیام الأصل مقام القطع ، هو الأصل المحرز للواقع ، کما هو واضح .

إلّا أن الکلام فی مفاد أدلّة اعتبار الأصل المحرز ، فإنّه علی القول بإفادتها تنزیل المؤدّی بمنزلة الواقع ، یتوجّه إشکال الکفایة کما تقدّم .

قیامه مقام القطع الطریقی دون الموضوعی الصفتی

لکن التحقیق هو الطریقیّة - کما فی الأمارات - فالأصل المحرز یقوم - بدلیل اعتباره - مقام القطع الطریقی ، کما لو قام الاستصحاب علی خمریّة المائع ، فإنّه یقوم مقام القطع الطریقی فی الأثر و هو المنجزیّة ، إذ الخمر المستصحب الخمریّة کالخمر المعلوم خمریّته بالعلم الطریقی ، فکما یکون العلم حجةً علی الاجتناب کذلک الاستصحاب ، و هکذا لو قام الاستصحاب علی حرمة الخمر ، بلا فرق .

فالأصل المحرز یقوم مقام القطع الطریقی موضوعاً و حکماً ، فلو لم یکن حجةً علی الواقع کان جعله لغواً .

و أمّا القطع الموضوعی المأخوذ علی وجه الصفتیّة ، فلا یقوم الأصل المحرز مقامه ، لأن مفاد دلیل الاستصحاب - مثلاً - هو جعله و تشریعه فی ظرف الشک ، لا حصول صفة القطع ، فإنّه لا یفید ذلک لا وجداناً و لا تعبّداً ، فعدم قیامه مقام القطع الوصفی واضح بلا کلام .

ص:155


1- 1) وسائل الشیعة 15 / 369 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، رقم : 1 .
الخلاف فی قیامه مقام الموضوعی الکشفی

إنما الکلام فی قیامه مقام القطع المأخوذ فی الموضوع علی وجه الکاشفیة :

فالشیخ و المیرزا و جماعة یقولون بالقیام ، و المحقق الخراسانی یقول بالعدم ، و للعراقی فی المقام تفصیل ، و سیأتی الکلام علیه .

دلیل القول بالقیام

و قد استدلّ (1) للقول بقیام الاصول المحرزة مقام القطع الموضوعی الکشفی ، کالاستصحاب و قاعدة الفراغ و التجاوز - بناءً علی عدم کونها من الأمارات - و قاعدة عدم اعتبار الشک من الإمام و المأموم مع حفظ الآخر ، و قاعدة عدم اعتبار الشک ممّن کثر شکّه و خرج عن التعارف ... .

بأنّ الشارع قد اعتبر موارد جریان هذه القواعد علماً ، فتترتّب علیها آثار العلم عقلیّةً و شرعیّةً ، و من ذلک هو الحکم المأخوذ فی موضوعه القطع .

فإنْ قیل : کیف تعتبر علماً و قد اخذ الشکّ فی موضوع الاصول ، فإنّ اعتبارها علماً - مع التحفّظ علی الشک المأخوذ فی موضوعها - اعتبارٌ للجمع بین النقیضین ؟

قلنا :

أمّا نقضاً ، فإنّ الأمارات أیضاً مأخوذٌ فی موضوعها الشک ، و قد تقرّر قیامها مقام القطع ، غایة الأمر أن الاصول قد اخذ الشک فی موضوعها فی لسان الدلیل اللّفظی ، و فی الأمارات قد ثبت ذلک بالدلیل اللبّی ، بل لقد اخذ الشک فی موضوع

ص:156


1- 1) مصباح الاصول 2 / 38 - 39 .

بعض الأمارات فی لسان الدلیل اللّفظی أیضاً ، کقوله تعالی «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لٰاتَعْلَمُونَ » (1).

و أمّا حلّاً : فإنّ الشک المأخوذ فی موضوع الاصول هو الشکّ الوجدانی ، و العلم تعبّد من الشارع ، و لا تنافی بین الشک الوجدانی و العلم التعبّدی ، و لو کان منافاة لما صحّ التنزیل فی مثل « الطواف بالبیت صلاة » (2) و« الفقّاع خمر استصغره الناس » (3) و نحوهما ، لکنّ التنزیل صحیح ، لأنه تعبد من الشارع مع کون الفقّاع غیر الخمر وجداناً ، و الطواف غیر الصّلاة .

الإشکال علیه

و یردّه : أنّ قیام الأصل مقام القطع الکشفی یحتاج إلی ثبوت الطریقیّة و الکاشفیّة للأصل ، إمّا بالسیرة العقلائیة الممضاة من الشارع ، أو من ظاهر الأدلّة المعتبرة له ، فإذا حصل ذلک ترتّب علی الأصل جمیع آثار القطع ، کما کان الحال فی الأمارات ، حیث أن الارتکاز العقلائی قائم علی کون خبر الثقة طریقاً ، و لذا یرتّبون علیه جمیع آثار العلم ، و قد ذکرنا أنّ ذلک مقتضی دلیل اعتبار خبر الثقة أیضاً .

و علی الجملة ، فلو تمّ ذلک بالسّیرة أو بالدلیل اللّفظی للاستصحاب - مثلاً - کان مقتضی القاعدة ترتب آثار العلم و الیقین علیه ، کجواز الشهادة بالاستناد إلیه ، و إذا لم یکن أحد الأمرین ، کان مقتضی القاعدة العدم ، و علی هذا نقول :

ص:157


1- 1) سورة الأنبیاء : 7 .
2- 2) أرسله العلّامة فی التذکرة 8 / 85 ، و هو عامّی کما فی الهامش عن عدّةٍ من مصادرهم .
3- 3) وسائل الشیعة 25 / 365 ، الباب 28 من أبواب الأشربة المحرّمة .

إنّ السیرة العقلائیّة قائمة علی الأخذ بالاستصحاب ، لکن لا من جهة إلقاء الشک بقاءً ، کما کان فی الأمارة ، بل إنهم یأخذون بالحالة السابقة و یبقونها من باب الاطمینان ببقائها أو برجائها أو من باب الاحتیاط ، فلیس عملهم علی طبق الحالة السّابقة استصحاباً للیقین السّابق ، فأخذهم بمقتضی الاستصحاب یختلف عن أخذهم بمفاد خبر الثقة .

و أمّا الأدلّة اللّفظیة فی الاستصحاب التی هی أدلّة اعتباره ، فلا دلالة لها علی إلغاء الشک أصلاً ، فهی لا تدلُّ إلّا علی وجوب العمل بالحالة السّابقة ، ففی الصحیحة الاولی لزرارة - و هی أظهر الأدلّة - : « فإنّه علی یقینٍ من وضوئه » (1) و هو غیر ظاهر فی کونه علی یقین فعلاً ، بل الظاهر منه کونه علی یقینٍ من وضوئه ، و یشهد بذلک قوله بعده : « فلیس ینبغی أن ینقض الیقین بالشک » . فیکون المعنی :

لا تنقض الیقین السابق بالشک اللّاحق فی العمل ، فلا دلالة للروایة علی : إنک الآن علی یقین ... و لا أقلّ من الشک ، فتکون مجملةً .

و فی الصحیحة الثانیة : « لأنک کنت علی یقین من طهارتک فشککت ، و لیس ینبغی ... » (2) ، فإن ظاهرها : أنّ الیقین الحاصل بشیء حدوثاً لا ینقض فیما بعد عملاً ، و لیس المراد منها : أنت الآن علی یقینٍ تعبّداً .

و کذا قوله علیه السلام : « من کان علی یقین فشکَّ ، فلیمض علی یقینه » أی:

عملاً .

فظهر : أنه لا دلیل - لا من السّیرة و لا من الأدلّة اللّفظیّة - علی إلغاء الشکّ فی

ص:158


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 174 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، رقم : 1 .
2- 2) وسائل الشیعة 3 / 466 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، رقم : 1 .

الاستصحاب ، فلا یمکن المساعدة مع الاستدلال المذکور ، و ستأتی بقیّة الکلام فی النظر فی استدلال المحقق النائینی .

هذا بالنسبة إلی الاستصحاب .

و أمّا قاعدة الفراغ ، فظواهر أدلّتها کذلک ، فظاهر قوله علیه السلام : « کلّما شککت فیه ممّا قد مضی فامضه کما هو » (1) « بلی قد رکعت » (2) هو المضیُّ عملاً علی الیقین السّابق ، و لا تدلّ القاعدة علی جعل الیقین الآن ، قال علیه السلام فی حدیثٍ : « لأنه حین یتوضّأ أذکر منه حین یشک » (3) أی: فیجب العمل علی ما کان متیقّناً به متذکّراً له ، لا أنه متذکر الآن .

و علی فرض التنزّل عمّا ذکرنا ، فهی ظاهرة فی جعل المؤدّیٰ .

و أمّا النصوص فی کثیر الشک مثل « لا شکّ لکثیر الشک » (4) ، فللقول بظهورها فی إلغاء احتمال الخلاف و نفی الشک وجه ، إلّا أنّ الکلام فی أنه إلغاء له من جمیع الجهات - کأن یجوز له الإخبار عن عدم الشک مثلاً - أو من جهة العمل فقط ؟

لقد ذکر المیرزا وجود جهاتٍ عدیدة فی القطع ، منها جهة العمل ، و ذکر أنّ الاصول المحرزة تنزل بمنزلة القطع فی جهة العمل ، و سیأتی نقل کلامه بالتفصیل .

ص:159


1- 1) وسائل الشیعة 8 / 237 ، الباب 23 ، من أبواب الخلل ، رقم : 3 .
2- 2) وسائل الشیعة 6 / 317 ، الباب 13 ، من أبواب الرکوع ، رقم : 3 .
3- 3) وسائل الشیعة 1 / 471 ، الباب 42 ، من أبواب الوضوء، رقم : 7 .
4- 4) فی منیة الطالب 3 / 386 : کقوله صلّی اللّٰه علیه و آله : «لا شکّ لکثیر الشکّ و لا شکّ فی النافلة » . و انظر الباب 16 من أبواب الخلل الواقع فی الصّلاة .

وعلیه ، فلا ینزّل بمنزلته فی جهة الکشف و الطریقیة ، فلا یقوم مقام القطع الموضوعی الکشفی ، فظهر ما فی الاستدلال المتقدّم علی القیام .

هذا کلّه بالنظر إلی الدلیل اللّفظی .

و أمّا بالنظر إلی السیرة العقلائیة ، فالظاهر قیامها علی الطریقیّة .

فالحق هو قیام قاعدة الفراغ و التجاوز ، و قاعدة لا شک لکثیر الشک ، و قاعدة حفظ الإمام أو المأموم ، مقام القطع الموضوعی الکشفی .

و أمّا ما تقدّم - عن مصباح الاصول - فی قوله تعالی «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ » (1)، فغریب من مثله ، لِما تقرّر فی مباحث الاجتهاد و التقلید من أن الآیة إرشاد إلی حسن السؤال بقصد التعلّم ، فهی فی مقام الحثّ علی الرجوع إلی أهل العلم و الأخذ منهم ، و لا دلالة لها علی حجیّة الفتوی ، و یشهد بذلک استدلال الإمام بها فی إمامتهم علیهم السلام (2) .

ص:160


1- 1) سورة الأنبیاء : 7 .
2- 2) انظر : البرهان فی تفسیر القرآن 3 / 423 .
تنبیهات
الأول : فی ما ذکره المحقق الخراسانی فی حاشیة الرسائل

قد ذکر المحقق الخراسانی فی حاشیة الرسائل وجهاً لقیام الأمارات و الاستصحاب مقام القطع الموضوعی الکشفی ، بناءً علی تنزیل المؤدّیٰ بمنزلة الواقع .

و خلاصة ما ذکره هو :

إنّ دلیل الأمارة و الاستصحاب و إنْ تکفّلا جعل المؤدّی و المستصحب و تنزیلهما منزلة الواقع ، لکنّ مقتضی الملازمة کون القطع بهما - بلحاظ أنهما منزَّلان منزلة الواقع - بمنزلة القطع بالواقع ، فثبت أحد جزئی الموضوع بنفس دلیل الاعتبار و الآخر بالملازمة و تمّ المدّعی (1) .

و قد وقع الکلام بین الأعلام فی مراده من هذا الوجه و الملازمة المذکورة فیه :

فقیل : المقصود هو الملازمة العقلیّة و بنحو دلالة الاقتضاء ، إذ التعبّد بأحد الجزءین لا یصح من دون التعبّد بالجزء الآخر ، لأنّ الدلیل الدالّ علی التعبد بأحدهما یدلّ بدلالة الاقتضاء و صوناً لکلام الحکیم عن اللغویّة ، علی التعبّد

ص:161


1- 1) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 7 .

بالجزء الآخر (1) .

و قیل : المقصود هو الملازمة العرفیّة ، لأن الدلیل الدالّ علی التعبّد بالواقع و تنزیل المؤدّی منزلته ، یدلّ عرفاً بالالتزام علی تنزیل القطع بالواقع الجعلی منزلة القطع بالواقع الحقیقی (2) .

و قیل : المقصود هو الملازمة العرفیّة و العقلیّة معاً ، توضیحه :

إنّ وفاء خطابٍ واحد و إنشاء واحد بتنزیلین و إنْ کان مستحیلاً ، إلّا أن تنزیلین بإنشاءین فی عرضٍ واحدٍ یدلّ دلیل الاعتبار علی أحدهما بالمطابقة و علی الآخر بالالتزام ، لیس محالاً . و هنا کذلک ، لدلالة دلیل الأمارة مثلاً علی ترتیب آثار الواقع مطلقاً و منها الأثر المترتّب علی الواقع عند تعلّق القطع به حتی فی صورة کون القطع تمام الموضوع ، إذ لمتعلّقه دخل شرعا و لو بنحو العنوانیة فی جمیع المراتب .

و هذا التنزیل و إنْ کان یقتضی عقلاً تنزیلاً آخر ، حیث أن الواقع لم یکن له فی المقام أثر بنفسه حتی یعقل التعبّد به هنا و تنزیل المؤدّی منزلة الواقع بلحاظه ، لکنه لا یقتضی عقلاً أنْ یکون المنزل منزلة الجزء الآخر هو القطع بالواقع الجعلی ، لإمکان جعل شیء آخر مکانه ، إلّا أنه لا یبعد عرفاً أنْ یکون هو القطع بالواقع الجعلی .

فصون الکلام عن اللغویّة بضمّ الملازمة العرفیّة یدلّ علی تنزیل آخر فی عرض هذا التنزیل للجزء الآخر (3) .

ص:162


1- 1) حاشیة الشیخ عبد الحسین الرّشتی علی الکفایة 2 / 20 .
2- 2) مصباح الاصول : 41 .
3- 3) نهایة الدرایة 3 / 64 .

أمّا شیخنا الاستاذ دام بقاه ، فقرّب الوجه بقوله :

إنّ الدلیل القائم علی اعتبار الأمارة و الاستصحاب له دلالتان .

إحداهما : الدلالة المطابقیّة ، حیث أنه یدلّ بالمطابقة علی تنزیل مؤدّیٰ الأمارة و المستصحب منزلة الواقع ، لأنّ أثر القطع هو الکشف عن الواقع و الطریقیّة إلیه ، فإذا نُزّل المؤدّی بمنزلة الواقع ، کان التنزیل بحسب الکاشفیة و الطریقیّة فیکون المنزّل علیه هو الواقع و المنزّل هو المؤدیٰ و المستصحب .

و الثانیة هی : الدلالة الالتزامیّة ، بأنْ یکون دلیل الاعتبار دالّاً علی التنزیل بمنزلة القطع الذی له دخل فی موضوع الحکم ، من جهة الملازمة العرفیّة بین تنزیل المؤدّی و المستصحب منزلة الواقع و بین تنزیل الأمارة و الشکّ منزلة الواقع ، لأنّ المفروض کون التنزیل من أجل الأثر الشّرعی ، فلا بدّ من الالتزام بدلالة دلیل تنزیل المؤدّی و المستصحب منزلة الواقع علی تنزیل الأمارة و الشک فی البقاء منزلة القطع بالواقعی الحقیقی ، دلالةً التزامیّةً من باب دلالة الاقتضاء ، إذْ لو لا هذه الدلالة یلزم لغویة دلیل التنزیل .

و مثاله - کما تقدّم سابقاً - ما لو ورد فی الخطاب : إذا علمت بوجوب الصّلاة وجب علیک التصدّق بدینار ، فالموضوع لوجوب التصدق مرکّب من جزءین هما العلم و وجوب الصلاة ، فإذا أخبر العادل بوجوب الصّلاة نزّل ما أخبر به منزلة الوجوب الواقعی و یکون هذا التنزیل مستلزماً لتنزیل خبر العادل به بمنزلة القطع بالوجوب الواقعی ، فتحقق تنزیلان أحدهما فی ناحیة وجوب الصّلاة و الآخر فی ناحیة العلم ، و ذاک تنزیل مطابقی و هذا التزامی ، و لو لم یتم التنزیل الثانی لزم لغویّة التنزیل الأول ، لأن المفروض ترکّب الموضوع من العلم و وجوب الصلاة ،

ص:163

و لا یترتب الأثر الشرعی إلّا بتمامیّة التنزیلین .

و إذا تعدّدت الدلالة - علی ما ذکر - لم یلزم اجتماع اللحاظین ، لوضوح أن لزوم ذلک مبنی علی وحدة الدلالة .

عدوله عنه فی الکفایة

قال فی الکفایة :

و ما ذکرنا فی الحاشیة... لا یخلو من تکلّف بل تعسّف (1) .

أقول :

أمّا التکلّف ، فلأنّ دعوی الملازمة بین تنزیل المؤدی بمنزلة الواقع و تنزیل الیقین التعبّدی بمنزلة الیقین الواقعی ، تحتاج إلی دلیلٍ فی مقام الإثبات ، و لا یوجد علیها دلیل ، إذ الملازمة التکوینیة منتفیة ، و کذا الشرعیّة ، و تبقی العرفیّة ، و المرجع فیها أهل العرف ، و لیس عند العرف هکذا تلازم .

و أمّا التعسّف ، فإشارة إلی مقام الثبوت ، ففی المثال المذکور ، لمّا کان موضوع وجوب التصدق مرکباً من « القطع » و« وجوب صلاة الجمعة » ، فجاء الخبر بوجوب صلاة الجمعة و نزّلنا المؤدی بمنزلة الواقع بدلیل اعتبار خبر الثقة ، فهل یتمکّن دلیل الاعتبار من إحراز القطع أیضاً ؟ إنه لا یمکن ، للزوم الدور ، من جهة أنّ تنزیل الأمارة بمنزلة القطع - بإلغاء احتمال الخلاف - یتوقف علی ترتّب الأثر الشرعی - و هو وجوب التصدّق علیه ، و إلّا یکون التنزیل لغواً ، لکنْ ترتّب هذا الأثر علیه یتوقف علی إحراز الموضوع - أی موضوع وجوب التصدّق - و المفروض ترکّبه من جزءین أحدهما هو القطع ، و إحراز القطع و تحقّقه یتوقف

ص:164


1- 1) کفایة الاصول : 266 .

علی تنزیل الأمارة بمنزلة القطع بإلغاء احتمال الخلاف ، فکان تنزیل الأمارة بمنزلة القطع موقوفاً علی نفسه .

فالقول بأن دلیل الاعتبار یفید کلا التنزیلین بدلالتین - احداهما مطابقیة و الاخری التزامیّة - باطل ، بل یحتاج لتمامیّة التنزیل الثانی - و هو تنزیل الأمارة بمنزلة القطع ، و إلغاء احتمال الخلاف - إلی دلیلٍ آخر ، أمّا بنفس دلیل الاعتبار فیستلزم الدور .

هذا بیان ما ذکره الأعلام (1) .

و حاصله : أن « التکلّف » ناظر إلی مقام الإثبات ، و« التعسّف » ناظر إلی مقام الثبوت .

لکنّ السید الاستاذ قدّس سرّه بعد أنْ نقل عن الأعلام الوجه المذکور قال :

و لکنْ لا صراحة بل لا ظهور فی کلام صاحب الکفایة فیما حمل علیه ، نعم فی تعبیره بالتوقّف مجرّد إشعار ، و لکنه کما یمکن أن یرید به ذلک ، یمکن أن یرید به التوقف بمعنی التلازم ، کما یقال : أحد الضدّین یتوقف علی عدم الآخر ، مع أنه لا علیّة و لا معلولیّة بینهما .

ثم ذکر أنه یمکن أن یکون مراد صاحب الکفایة محذور آخر غیر الدّور ، - و هو ما أفاده شیخنا أیضاً فی الدورة اللّاحقة - و هو :

إنّ التعبّد بأحد الجزءین فیما نحن فیه لمّا کان فی طول الآخر ، کان التعبّد بالآخر فی ظرفه ممتنعاً ، لعدم ترتب الأثر علیه وحده ، و الفرض أن الجزء الآخر لا یتحقّق إلّا بعد التعبد به ، فملخّص الإشکال : إن التعبّد بالمؤدّی لا أثر له شرعاً

ص:165


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 1 ص 26 ، فوائد الاصول 3 / 28 .

و هو یمنع من صحّة التعبّد ، إذ التعبّد بالموضوع لا معنی له إلّا التعبّد بالحکم .

فمرجع کلام الکفایة إلی أنه لا بدّ أنْ یکون التعبّد بأحد الجزءین فی حین التعبّد بالجزء الآخر ، لا أنّ التعبّد بأحدهما یتوقف علی التعبد بالآخر و إلّا لزم الدور حتی فی مورد التعبد بالجزءین فی عرض واحد کما لا یخفی (1) .

الثانی : فی تفصیل المحقّق العراقی

قد فصّل المحقق العراقی قیام الاستصحاب مقام القطع الموضوعی الکشفی ، بین ما لو اخذ القطع فی لسان الدلیل علی وجه الکاشفیة ، فیقوم الاستصحاب بأدلّته مقام القطع ، و ما لو کان المأخوذ نفی الشک ، فلا تفید أدلّة الاستصحاب قیامه مقامه ، قال :

و أمّا الاصول المحرزة کالاستصحاب ، فقیامه مقام القطع الموضوعی ، مبنی علی أنّ التنزیل فی « لا تنقض » ناظر إلی « المتیقّن » أو إلی « الیقین » . فعلی الأوّل ، لا یقوم مقام القطع الموضوعی ، لعین ما ذکرناه فی الأمارات . و علی الثانی ، یقوم مقام القطع الموضوعی تماماً أو جزءاً ، نظر إلی اقتضائه بتلک العنایة لإثبات العلم بالواقع ، و مرجعه - علی ما عرفت - إلی إیجاب ترتیب آثار العلم بالواقع فی ظرف الشک به .

نعم ، حیث إنه لوحظ فی موضوعه الجهل بالواقع و الشک فیه ، یحتاج فی قیام مثله مقام القطع الموضوعی إلی استظهار کون موضوع الأثر فی الدلیل هو صرف انکشاف الواقع محضاً بلا نظر إلی نفی الشک فیه ، و إلّا فلا مجال لقیام الاستصحاب مقامه ، نظراً إلی ما عرفت من انحفاظ الشک بالواقع فی

ص:166


1- 1) منتقی الاصول 4 / 84 .

موضوعه ... (1) .

و حاصله : الفرق بین دلیل الاستصحاب و دلیل عدم اعتبار الشک من کثیر الشک ، و عدم اعتبار السهو من المأموم مع حفظ الامام ، و نحوهما ، فتلک الأدلة تقوم مقام القطع ، لأنه ینفی الشکّ ، بخلاف دلیل الاستصحاب ، لکونه یأتی بالیقین فی ظرف الشک مع حفظ الشک لا نفیه .

أقول :

و الظاهر عدم تمامیّة هذا التفصیل ، لأن دلیل الاستصحاب و إنْ أفاد حفظ الشکّ ، لکنه الشک الوجدانی ، و قد احتفظ علیه فی الآن اللّاحق لیکون مع الیقین السابق موضوعاً لحرمة النقض عملاً ، و قد تقرّر أنْ لا تنافی بین الیقین التعبدی و الشک الوجدانی . و أمّا الشک الاعتباری، فینفیه إثبات الیقین ، لوجود الملازمة العرفیة بین « أنت متیقّن » و « إنک لست بشاک » نعم ، نفی الشک لا یستلزم الیقین .

و لکنْ ، إذا کان کذلک ، فلما ذا لا یقال بحجیّة الأصل المثبت ؟ فتدبّر .

الثالث : فی ما ذکره المحقق النائینی

اختار المیرزا (2) قیام الأمارات و الاصول المحرزة مقام القطع الموضوعی الکشفی ، و ملخّص کلامه هو :

إن فی العلم أربع جهات :

الاولی : قبول النفس للصّورة العلمیّة . و هی مرتبة الانفعال .

و الثانیة : حصول الصّورة العلمیّة فیها . و هی مرتبة الفعل .

ص:167


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 26 - 27 .
2- 2) أجود التقریرات 3 / 20 .

و الثالثة : الصّورة العلمیّة کیفیة قائمة بالنفس ، و هی مرتبة الکیف .

و الرابعة النسبة بین الصّورة و المعلوم بالعرض ، و هی مرتبة الإضافة .

و فی المرتبة الرابعة جهتان ، جهة العقد القلبی ، حیث الإنسان عالم و قاطعٌ و متیقّن ، وجهة الکشف عن المعلوم بالعرض .

قال :

إن الإمارة تفید جهة الکشف بأدلّة اعتبارها ، و أمّا الأصول المحرزة ، فأدلّة اعتبارها تفید عقد القلب ، أی البناء العملی .

فکانت الأمارة و الاصول قائمة مقام القطع الموضوعی الکشفی ، غیر أنّ المجعول فی الأمارات هو الکاشفیّة و الطریقیة ، و المجعول فی الاصول هو البناء العملی .

ثم إنه ذهب إلی أنّ هذا القیام هو من باب حکومة أدلّة اعتبار الأمارة و الأصل علی الأدلّة الواقعیّة حکومةً ظاهریة ، لأنّ الحکومة علی قسمین ، واقعیة ، کحکومة « الطواف بالبیت صلاة » علی الأدلّة الواقعیة للصّلاة ، و کحکومة « لا ربابین الوالد و الولد » علی الأدلّة الواقعیة للربا ، حیث أنّ الحاکم و المحکوم فی عرضٍ واحدٍ و یتصرّف الحاکم فی المحکوم توسعةً کما فی المثال الأول ، أو تضییقاً کما فی الثانی ، و لا احتمال للخلاف .

أمّا فی باب الأمارات و الاصول بالنسبة إلی الأدلّة الواقعیة ، فالطرفان فی الطّول و لیسا فی العرض ، فإذا قامت البیّنة علی خمریة مائع ، دلّت علی التوسعة فی دائرة الخمر ، و أنه أعمّ من الخمر الواقعی و الخمر الذی قامت علیه البیّنة ، و هی حکومة ظاهریّة ، بحیث أن الأثر یترتب ما لم ینکشف الخلاف ، فإذا

ص:168

انکشف سقط .

و تظهر النتیجة فی مسألة الإجزاء ، ففی الحکومة الواقعیّة حیث لا یتحقق الخلاف یثبت الإجزاء ، و فی الظاهریّة یکون الحکم عدم الإجزاء بمجرد انکشاف الخلاف .

الإشکال علیه

و قد أورد علیه الاستاذ بوجوه :

الأول : قد وقع الخلط فی کلامه بین انفعال النفس و مقولة الانفعال التی هی من الأعراض التسعة ، ففی مورد حصول العلم تکون النفس مستعدّة لقبول المعلوم بالذات ، و هی الصورة ، و تنفعل بحصولها فیها ، و أهل الفن یعبّرون عن هذا الإمکان الاستعدادی بالعقل الهیولائی ، و هذا غیر مقولة الانفعال ، فإنها عبارة عن التأثر التدریجی مثل تسخّن الماء بالحرارة ، کما أن تأثیر النهار تدریجاً فی سخونة الماء من مقولة الفعل ... .

الثانی : ما ذکره فی المرتبة الرابعة من أنها مرتبة الإضافة .

فیه : أنّ قوام مقولة الإضافة کون المتضائفین متکافئین قوةً و فعلاً ، و فی العلم قد لا یکون للمعلوم بالعرض واقعیّة أصلاً کما فی الجهل المرکب ، فیلزم وجود أحد المتضایفین دون الآخر . فإذن ، لیس العلم من مقولة الإضافة .

الثالث : ما ذکره من وجود الجهتین فی المرتبة الرابعة .

فیه : إن البناء القلبی من أفعال القلب ، و لذا یتعلّق به التکلیف من الوجوب و الحرمة ، کما هو الحال فی المسائل الاعتقادیة ، و أمّا العلم ، فلا یتوجّه إلیه التکلیف من الوجوب و الحرمة ، نعم ، یتّصف طلب العلم بهما ، فیقال : طلب العلم

ص:169

الحق واجب و طلب العلم الباطل حرام .

الرابع : إنه بناءً علی ما ذکره من وجود جهة الکشف ، فإنّ المجعول فی باب الأصل المحرز هو جهة البناء القلبی لا جهة الکشف و الطریقیة ، و هذا هو الفارق بینه و بین الأمارة - علی مسلک المیرزا - وعلیه ، فکیف یقوم الأصل المحرز مقام القطع المأخوذ موضوعاً علی نحو الطریقیّة ؟

الخامس : إن ما ذکره فی الحکومة الظاهریة صحیح ، فمع قیام الأمارة أو الأصل المحرز لا تتحقّق التوسعة حقیقة فی الموضوع بل الحکومة ظاهریة ، لکون الأمارة أو الأصل فی طول الموضوع لا فی عرضه ... لکنّ الأمر بالنسبة إلی القطع المأخوذ فی الموضوع علی وجه الطریقیّة لیس کذلک ، بل هما فی العرض ، فالدلیل القائم علی أنه إذا قطعت فاشهد ، قد اخذ فیه القطع موضوعاً لجواز الشهادة ، ثم أفاد دلیل اعتبار خبر الثقة کاشفیّة الخبر و طریقیّته إلی الواقع ، و النسبة بین الدلیلین هی العرضیة لا الطولیّة ، بل هما مثل : الخمر حرام ، و الفقاع خمر ، و حینئذٍ تکون الحکومة واقعیّةً .

فالتحقیق : إن الحکومة الظاهریّة تکون بین القطع الطریقی و الأمارة و الأصل لکونهما فی الطول ، أمّا القطع المأخوذ فی الموضوع کلّاً أو جزءاً ، فالحکومة بینه و بین الأصل و الأمارة واقعیة ، لکونهما فی عرضٍ واحد .

السادس : إنّ الشک المأخوذ فی الأمارة و الأصل المحرز موضوعٌ عندنا ثبوتاً فی الأمارات و إثباتاً فی الاصول ، أمّا عند المیرزا ، فهو فی الأمارات ظرف ، و علی کلّ حالٍ ، فإنّ الدلیل فی کلٍّ من الأصل و الأمارة قد اعتبر فیه الشکّ فی الواقع ، وعلیه ، فإنّ دلیل الأصل أو الأمارة یکون فی عرض دلیل الواقع ، فلا

ص:170

یتحقّق مناط الحکومة الظاهریّة و هو الطولیّة .

و بعد

فالتحقیق هو قیام الأمارة و الأصل المحرز مقام القطع الموضوعی الکشفی ، بناءً علی أنّ المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة و الکاشفیّة کما هو التحقیق .

و هذا تمام الکلام فی هذا المبحث .

ص:171

أحکام القطع بلحاظ المتعلّق
اشارة

قال فی الکفایة

لا یکاد یمکن أن یؤخذ القطع بحکم فی موضوع نفس هذا الحکم ، للزوم الدور ، و لا مثله ، للزوم اجتماع المثلین ، و لا ضدّه ، للزوم اجتماع الضدّین (1) .

هل یمکن أخذ القطع بالحکم فی موضوع الحکم ؟

أمّا أخذ القطع بالحکم موضوعاً للحکم نفسه ، کأن یقول : إذا قطعت بوجوب الصّلاة فالصّلاة واجبة علیک ، فیستلزم الدور کما ذکر ، لأنّ القطع بالحکم متوقف علی الحکم ، توقف المتعلّق علی المتعلّق به ، لکنّ الحکم متوقف علی القطع توقف الحکم علی موضوعه ، فیلزم توقف الحکم علی نفسه .

هذا أحد تقریبات الدّور فی المقام .

و قد أورد علیه المحقق الأصفهانی (2) بما حاصله : إنّ الموقوف علی القطع غیر ما یتوقف علیه القطع ، لأنّ ما یتوقف علیه القطع هو الصّورة الذهنیة للقطع ، ضرورة أنّ القطع لا یتعلّق بالموجودات الخارجیة و إلّا یلزم انقلاب الذهن خارجاً أو الخارج ذهناً ، وعلیه ، فالقطع عارض علی الوجود الذهنی للحکم ، و ما یتوقف علیه القطع هو الوجود الخارجی للحکم ، فحصل التغایر ، فلا دور .

ص:172


1- 1) کفایة الاصول : 266 .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 68 .

قال سیّدنا الاستاذ : و بنظیر هذا البیان یندفع محذور الدّور الذی ذکره فی الکفایة (1) فی أخذ قصد الأمر فی متعلّق الأمر ، و قد ذکره صاحب الکفایة هناک و قرّره و لم یدفعه ، و لأجل ذلک ، لا یمکننا إسناد هذا البیان للدور إلی صاحب الکفایة (2) .

ثم أورد رحمه اللّٰه (3) تقریبین آخرین و لم یدفعهما :

أحدهما: ما ذکره المحقق الأصفهانی ، و ملخّصه : إن الحکم معلّقاً علی القطع تارةً یکون بنحو القضیّة الخارجیّة و اخری بنحو القضیّة الحقیقیّة ، فعلی الأول : بأنْ یحکم المولی علی من حصل لدیه العلم بالحکم ، و لکن لازمه اللغویّة، لأن الحکم إنما هو لجعل الدّاعی ، و مع علم المکلّف بالحکم لا یکون جعل الحکم فی حقّه ذا أثر من هذه الجهة . و علی الثانی: یلزم الخلف ، إذ مع جعل المولی هذه القضیّة ، أعنی ثبوت الحکم عند تحقق العلم به و وصوله إلی المکلّف ، یستحیل أن یتحقّق العلم بالحکم . و ما یبتنی علی أمرٍ محال محال .

و الثانی : إن تعلیق الحکم فی الذهن علی العلم به ، یستلزم عدم محرکیّته و داعویّته ، و ذلک ، لأن المکلّف إذا فرض أنه جزم بثبوت الحکم خارجاً و اعتقد بتحقّقه ، فهو یری أن الحکم موجود فی الخارج ، و الموجود لا یقبل الوجود و التّحقیق ثانیاً . وعلیه ، فهو یری أن ثبوت الحکم عند علمه به محال ، و معه لا یکون الحکم محرّکاً و داعیاً ، إذ الداعویّة تتقوّم بالوصول ، و المفروض أن

ص:173


1- 1) کفایة الاصول : 73 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 87 .
3- 3) منتقی الاصول 4 / 88 .

المکلّف یری محالیّة ثبوته ، فیستحیل جعله حینئذٍ . و نتیجة ذلک : إن تعلیق الحکم علی العلم به أمر ممتنع عقلاً و لا یمکن الالتزام به .

قال : و هذا وجه بسیط لا التواء فیه .

و أیضاً ، یستلزم اجتماع المتقابلین ، لأن الحکم متقدّم طبعاً علی القطع المتعلّق به ، لکنه متأخّر عنه لأن المفروض کونه أی القطع - موضوعاً له ، فیلزم اجتماع التقدّم و التأخّر فی الحکم ، و اجتماعهما فی الشیء الواحد محال .

ثم إنّ القطع فی المثال تارةً مطابق للواقع و اخری مخالفٌ ، فإنْ کان مطابقاً ، لزم المحذوران فی الواقع و فی ذهن القاطع ، و إن کان مخالفاً لزم المحذوران فی ذهن القاطع الذی هو جاهل بالجهل المرکب .

هل یمکن أخذ القطع بالحکم فی موضوع مثله ؟

و أمّا أخذ القطع بالحکم فی موضوع مثل هذا الحکم ، کأن یقول : إذا قطعت بوجوب الصّلاة فالصلاة واجبة علیک بمثل ذلک الوجوب . فیستلزم اجتماع المثلین . فإنْ کان القطع مطابقاً للواقع ، فالمحذور لازم واقعاً و فی ذهن القاطع ، و إنْ کان مخالفاً له ، ففی ذهنه فقط .

هذا ما ذهب إلیه صاحب الکفایة .

القول بالجواز

و قال المیرزا : ربما یقال فیه بالجواز ، نظراً إلی عدم ترتّب محذور علی ذلک إلّا ما یتوهّم من استلزامه لاجتماع المثلین ، و هو لا یکون بمحذور فی أمثال المقام أصلاً ، فإن اجتماع عنوانین فی شیء واحد یوجب تأکّد الطلب ، و أین ذلک من اجتماع الحکمین المتماثلین ؟ و قد وقع نظیر ذلک فی جملة من الموارد ، کما فی

ص:174

موارد النذر علی الواجب و أمثاله (1) .

و إلی الجواز ذهب السید الخوئی ، إذ قال :

و أمّا أخذ القطع بحکمٍ فی موضوع حکم آخر مثله ، کما إذا قال المولی إذا قطعت بوجوب الصّلاة تجب علیک الصّلاة بوجوب آخر ، فالصحیح إمکانه ، و یرجع إلی التأکد ، و ذلک :

لأن الحکمین إذا کان بین موضوعیهما عموم من وجه ، کان ملاک الحکم فی مورد الاجتماع أقوی منه فی مورد الافتراق ، و یوجب التأکد ، و لا یلزم اجتماع المثلین أصلا ، کما إذا قال المولی : أکرم کل عالم ، ثم قال : أکرم کلّ عادل ، فلا محالة یکون وجوب الإکرام فی عالم عادل آکد منه فی عالم غیر عادل أو عادل غیر عالم ، و لیس هناک اجتماع المثلین ، لتعدّد موضوع الحکمین فی مقام الجعل .

و کذا الحال لو کانت النسبة بین الموضوعین هی العموم المطلق ، فیکون الحکم فی مورد الاجتماع آکد منه فی مورد الافتراق ، کما إذا تعلّق النذر بواجب مثلاً ، فإنه موجب للتأکد لا إجماع المثلین ، و المقام من هذا القبیل بلحاظ الموضوعین ، فإن النسبة بین الصّلاة بما هی ، و الصّلاة بما هی مقطوعة الوجوب هی العموم المطلق ، فیکون الحکم فی مورد الاجتماع آکد منه فی مورد الافتراق ، و من قبیل العموم من وجه بلحاظ الوجوب و القطع به ، إذ قد لا یتعلّق القطع بوجوب الصّلاة مع کونها واجبة فی الواقع ، و القطع المتعلق بوجوبها قد یکون مخالفاً للواقع ، و قد یجتمع وجوب الصلاة واقعاً مع تعلق القطع به ، و یکون الملاک فیه أقوی فیکون الوجوب بنحو آکد (2) .

ص:175


1- 1) أجود التقریرات 3 / 34 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 45 - 46 .

و تبعه سیّدنا الاستاذ حیث قال :

یمکن اجتماع حکمین بنحو التأکّد بمعنی بمعنی أن یکون هناک حکم واحد مؤکّد ، لإمکان اجتماع مصلحتین توجبان تأکد الإرادة و هی توجب تأکد البعث ، بمعنی أنها توجب إنشاء البعث المؤکد ، فإن الحکم هو التسبیب للبعث الاعتباری العقلائی ، و بما أن البعث یتصف خارجاً بالشدة و الضعف أمکن اعتبار البعث الأکید ، کما أمکن اعتبار البعث الضعیف .

و مما یشهد لصحّة ما ذکرناه صحة تعلّق النذر بواجب و انعقاده ، و لازمه تأکد الحکم ، و لم یتوهم أحد أن وجوب الوفاء بالنذر فی المقام یستلزم اجتماع المثلین المحال ، کما یشهد له شمول الحکمین الاستغراقیین لما ینطبق علیه موضوعاهما ، نظیر العالم الهاشمی الذی ینطبق علیه : « أکرم العالم » و « أکرم الهاشمی » ، و لم یتوهم خروج المورد عن کلا الحکمین لاستلزامه اجتماع المثلین .

و مما یقرب ما نقوله أیضاً فی اجتماع المثلین ، أنه لم یرد فی العبارات بیان امتناع وجوب الإطاعة شرعاً من باب أنه یستلزم اجتماع المثلین ، مع أن البعض یری أن الإطاعة عبارة عن نفس العمل ، أو أنها و إن کانت من العناوین الانتزاعیّة ، لکن الأمر بالأمر الانتزاعی یرجع إلی الأمر بمنشإ انتزاعه - کما علیه المحقق النائینی - ، بل ادّعی کون محذوره التسلسل و نحوه مما یظهر منه أن اجتماع المثلین بالنحو الذی ذکرناه أمر صحیح ارتکازاً .

و بالجملة : التماثل بمعنی التأکد و وجود واقع الحکمین لا مانع منه . و امّا اجتماع حکمین مستقلین متماثلین ، فلا نقول به لامتناعه مبدأ و منتهی .

ص:176

وعلیه ، فلا مانع من تعلیق حکم مماثل علی القطع بالحکم إذا کان بنحو التأکد (1) .

القول بعدم الجواز

لکنْ قال المیرزا :

و لکنّ التحقیق هو استحالة ذلک أیضاً ؛ فإنّ القاطع بالخمریّة - مثلاً - إنّما یری الخمر الواقعی ، و لا یری الزجر عمّا قطع بخمریّته إلّا زجراً عن الواقع ، فلیس عنوان مقطوع الخمریّة عنده عنواناً آخر منفکّاً عن الخمر الواقعی و مجتمعاً معه أحیاناً حتی یمکن تعلّق حکمٍ آخر علیه فی قبال الواقع ، کما فی موارد اجتماع وجوب الشیء فی حدّ نفسه مع وجوب الوفاء بالنذر و أمثاله ، و مع عدم قابلیّة هذا العنوان لعروض حکمٍ علیه فی نظر القاطع لا یمکن جَعْله له حتی یلتزم بالتأکّد فی موارد الاجتماع (2) .

و اختار شیخنا عدم الجواز و ذکر فی بیان ذلک بالنظر إلی کلام السیّد الخوئی :

ما ذکره یتمّ فی موارد نسبة العموم من وجه مثل : أکرم العالم و أکرم الهاشمی ، فیتأکّد الحکم فی المجمع ، و نسبة العموم و الخصوص المطلق ، کما إذا نذر صلاةً واجبةً ، و لا یتمّ فیما نحن فیه ، و السرّ فی ذلک أنّ الحکمین فی تلک الموارد عرضیّان ، و لیس معنی التأکّد حدوث الحکمین ثم اندکاک أحدهما فی الآخر ، لأن اجتماع المثلین حدوثاً غیر معقول کذلک ، بل المراد أنه مع ثبوت

ص:177


1- 1) منتقی الاصول 4 / 92 .
2- 2) أجود التقریرات 3 / 35 .

الدلیلین و کون کلّ واحد منهما ذا اقتضاء تام ، یکشف عن جعل الحکم الواحد فی المجمع من أوّل الأمر . أمّا فیما نحن فیه فالحکمان طولیّان ، فلا بدّ من الحکم المجعول حتّی یتحقّق القطع به لیکون موضوعاً للحکم الثانی ، و بمجرّد تحقق الحکم الأوّل ، یمتنع تحقق الحکم الثانی للزوم اجتماع المثلین آناً ما ، و مع الطولیة لا معنی للتأکّد .

هل یمکن أخذ القطع بالحکم فی موضوع ضدّه ؟

و أمّا أخذ القطع بالحکم فی موضوع ضدّ هذا الحکم ، کأن یقول : إذا قطعت بوجوب الصّلاة فالصّلاة محرّمة علیک ، فیستلزم اجتماع الضدّین ، و الکلام کالکلام فی سابقه .

رأی المحقق العراقی

هذا ، و ذهب المحقّق العراقی (1) إلی أنّه لا یلزم اجتماع الضدّین ، لأنّ الوجوب قد تعلّق بالصّلاة بما هی ، و الحرمة قد تعلّقت بالصّلاة بما هی مقطوعة الوجوب ، فتعدّد موضوع الحکمین بحسب الجعل .

إشکال المحقق الخوئی

أجاب عنه السید الخوئی قائلاً :

لکن التحقیق لزوم اجتماع الضدّین ، إذ الحرمة و إنْ تعلّقت بالصّلاة بما هی مقطوعة الوجوب فی مفروض المثال ، إلّا أن الوجوب قد تعلّق بها بما هی ، و إطلاقه یشمل ما لو تعلّق القطع بوجوبها ، فلزم اجتماع المثلین ، فإن مقتضی إطلاق الوجوب کون الصّلاة واجبةً و لو حین تعلّق القطع بوجوبها ، و القطع طریق

ص:178


1- 1) نهایة الأفکار ج 1 ق 3 ص 28 .

محض ، و مقتضی کون القطع بالوجوب مأخوذاً فی موضوع الحرمة کون الصّلاة حراماً فی هذا الحین ، و هذا هو اجتماع الضدّین (1) .

النظر فیه

لکنّ هذا الجواب لا یدفع الإشکال المبنیّ علی اختلاف المرتبة ، لأن الحکم الذی موضوع القطع متأخّر عن القطع ، أمّا الحکم الذی تعلّق به القطع فمتقدّم علیه ، و یستحیل أن یکون فی مرتبة القطع فضلاً عن التأخّر عنه ، فکلٌّ منها فی مرتبةٍ ، و مع اختلاف المرتبة لا اجتماع للضدّین .

إذن ، ینحصر الجواب بلزوم اجتماع الضدّین فی ذهن القاطع و لحاظه ، لأنّ من قطع بالوجوب یری عدم الحرمة ، لکن المفروض کونه قاطعاً بالحرمة هو یراها ، فیلزم اجتماع الحرمة و عدم الحرمة فی افق ذهنه ، فالمحذور لازم بحسب مقام الفعلیّة و ان لم یلزم بحسب مقام الجعل لتعذّر المرتبة علی المبنی .

هل یمکن أخذ القطع بمرتبةٍ من الحکم

ثم قال صاحب الکفایة :

نعم ، یصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحکم فی مرتبة اخری منه أو مثله أو ضدّه (2) .

أقول :

و مثال ذلک :

إذا علمت بوجوب الصّلاة إنشاءً ، وجبت علیک فعلاً بنفس ذاک الوجوب

ص:179


1- 1) مصباح الاصول 2 / 45 .
2- 2) کفایة الاصول : 267 .

أو مثله أو حرمت علیک فعلاً .

أقول :

و هذا مبنیٌّ علی ما ذهب إلیه ، من أنّ للحکم أربع مراتب :

مرتبة الاقتضاء ، و هی مرتبة الملاکات .

ثمّ مرتبة إنشاء الحکم .

ثم مرتبة الفعلیة ، و هی مرتبة تحقّق القیود و الشرائط .

ثم مرتبة التنجّز و الوصول و ترتب الأثر من الثواب و العقاب .

و فی المقابل هو القول بأن للحکم مرتبتین فقط هما : مرتبة الإنشاء و مرتبة الفعلیّة ، و قد یستفاد هذا الرأی من کلمات الشیخ .

و هذا القول هو الصحیح .

فإنّ الخطابات الشرعیّة کلّها بنحو القضایا الحقیقیّة ، فمعنی قوله تعالی « وَلِلّٰهِ عَلَی النّٰاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَیْهِ سَبیلاً » (1)هو : کلّما تحقّق المکلّف و اتصف بالاستطاعة فعلیه الحج ، فهذا إنشاءٌ للحکم ، سواء کان فی العالم شخصٌ أوْ لا . فإن تحقّق وجوده خارجاً و اتصف بالاستطاعة ، حصلت الفعلیّة للحکم .

أمّا مرحلة الملاکات ، فلا علاقة لها بالحکم ، بل لو لا الملاک من المصلحة و المفسدة لما تحققت الحاکمیّة و الحکم من الحاکم ، فإنّه لمّا یلحظ الملاک یجعل الحکم و ینشئه .

و کذلک مرحلة التنجز ، فإنها لا علاقة لها بالحکم ، لأنّ الحکم إذا تحقّق

ص:180


1- 1) سورة آل عمران : 97 .

یأتی البحث عن أثره ، إذ المکلّف إن کان مطیعاً للحکم استحق الثواب ، و إن کان عاصیاً له استحق العقاب .

و من هنا قال المحقق الأصفهانی : بأن الإنشاء بداعی جعل الداعی مصداق حقیقی للحکم ، لأنّ الإنشاء قد یکون بداعی الامتحان - مثلاً - فهذا لیس بحکم ، أمّا الحکم ما کان بداعی جعل الداعی فی نفس المکلّف إلی الامتثال .

فی المسألة قولان

و بعد ، فهل یجوز أخذ القطع بمرتبة من الحکم موضوعاً لمرتبة اخری ؟ قولان .

ذهب المحقق الخراسانی و تبعه المحقق الإیروانی إلی الجواز ، و خالفه المحقق الأصفهانی و تبعه السیّد الخوئی .

دفاع السید الخوئی عن رأی الأصفهانی

و وجه القول الثانی ما ذکره السیّد الخوئی ، إذ قال :

أمّا علی المبنی المختار من أنه لیس للحکم إلّا مرتبتان ، الاولی : مرتبة الفعل ... و الثانیة مرتبة الفعلیّة ... فلا یمکن أخذ القطع بمرتبة الجعل من حکم فی مرتبة الفعلی منه ، إذ لیس المراد من القطع المأخوذ فی مرتبة الفعلیّة من الحکم هو القطع بالحکم الثابت لغیر القاطع ، و إلّا فإمکانه بمکان من الوضوح بلا حاجة إلی فرض تعدّد المرتبة ، لصحّة ذلک و لو مع وحدة المرتبة ، کما لو فرض أنّ القطع بوجوب الحج علی زید قد اخذ فی موضوع وجوبه علی عمرو ، بل المراد هو القطع بالحکم الثابت لنفس القاطع ، و حینئذٍ ، لا یمکن أخذ القطع بمرتبة الجعل من حکم فی موضوع مرتبة الفعلی منه ، إذ ثبوت الحکم لشخص القاطع جعلاً

ص:181

ملازم لفعلیّة ، فلا محالة یتعلّق القطع بالحکم الفعلی ، و حیث أن المفروض دخل القطع فی فعلیة الحکم ، لزم الدور (1) .

توضیحه علی المثال المذکور و هو الحج :

إن شمول خطاب وجوب الحج - المنشأ بالآیة المبارکة و معناه : کلّ من وجد و اتّصف بالاستطاعة فالحج واجب علیه - لهذا المکلّف ، موقوفٌ علی حصول الاستطاعة له خارجاً ، و إلّا فلیس حکماً مجعولاً له ، و إذا تحقّقت الاستطاعة ، فالحکم فی حقّه فعلی ، فلو أنّ القطع بالحکم المجعول قد اخذ فی مرتبة الفعلیّة ، فلا ثبوت للحکم و جَعله بالنسبة إلیه إلّا بعد القطع ، لکن حصول القطع موقوف علی ثبوته له جعلاً ، لأنّ القطع طریق إلی الحکم ، فلا بدّ فی تعلّقه به من تحقق الحکم و ثبوته فی المرتبة السّابقة . و هذا هو الدور .

دفاع الإیروانی عن رأی الکفایة

و لکنّ المحقق الإیروانی قرّب کلام الکفایة بقوله :

المختار صحّة أخذ القطع بمرتبةٍ من الحکم فی موضوع مرتبة اخری منه ، فیؤثّر القطع المتعلّق بالمصلحة فی بلوغها إلی درجة التأثیر فی الفعلیّة ، و ذلک لأن مرتبة الفعلیّة إنما تقوم بما قامت به مرتبة الإنشاء إذا کانت مرتبة الإنشاء علّة تامّة لفعلیّته ، أما إذا کانت من مجرّد الاقتضاء فلا محیص من دخل عدم المانع فی الفعلیّة مع عدم دخله فی الاقتضاء ، و لیکن المقام من ذلک ، فیکون القطع مزیلاً للمانع المتمّم لفعلیّة التأثیر (2) .

ص:182


1- 1) مصباح الاصول 2 / 46 - 47 .
2- 2) حاشیة الکفایة 2 / 447 .

توضیحه : إن مرتبة الإنشاء هی مرتبة الاقتضاء ، و حینئذٍ ، یکون من المعقول حصول ما یمنع الحکم من الوصول إلی الفعلیّة ، لکنّ القطع رافع للمانع ، فیجوز أخذه موضوعاً للفعلیّة و لا دور . نعم ، لو کانت الفعلیّة قائمة بالإنشاء لم یعقل أخذ القطع بالإنشاء موضوعاً للفعلیّة ، لکنّ مرتبة الإنشاء مرتبة الاقتضاء ، و هی متقدّمة علی مرتبة الفعلیّة ، و القطع بها یوجب فعلیّة الحکم ، فلا مانع من أخذ القطع بمرتبةٍ موضوعاً لمرتبة اخری .

الإشکال علیه

و فیه : ما هو المانع عن فعلیّة الحکم المرفوع بالقطع ؟ إنه لا یخلو من أنْ یکون الجهل بالحکم أو مانع آخر غیر الجهل به ، فإن کان غیر الجهل فهو لا یرتفع بالقطع بالإنشاء ، مثلاً : الحج واجب علی المکلّف المستطیع ، و المانع عن فعلیّة هذا الوجوب هو الحرج ، فهل یرتفع الحرج بالقطع بإنشاء وجوب الحج ؟ کلّا ، لا یرتفع ، و کذا کلّ ما فرض مانعاً غیر الجهل بالحکم . و إنْ کان الجهل به ، فإنّ ارتفاع هذا المانع بالقطع یستلزم التصویب ، إذ سیکون الحکم مقیّداً بالعلم ، و تقیّده بالعلم و اختصاصه بالعالمین باطل .

فسقط دفاع المحقق الإیروانی و بقی الإشکال علی حاله .

ص:183

هل تجب الموافقة الالتزامیة ؟
اشارة

قد تقدّم أنّ الإنسان لا یخلو من احدی حالات ، هی العلم و الظن و الشکّ ، و حصول العلم له فی کلّ موردٍ توفّرت فیه شروط العلم و مقدماته من الضروریّات ، لکنّ حصوله له لا یلازم تصدیقه به و انقیاده له و ترتیبه الأثر علیه ، فکم من موردٍ یتحقّق فیه العلم للإنسان و لا یرتّب الأثر علی علمه لسببٍ من الأسباب .

و لمّا تقرّر کون القطع منجّزاً للتکلیف ، و أنّ علی المکلّف أن یتحرّک نحو الامتثال و تحقیق المأمور به خارجاً و حصول الموافقة العملیّة ، وقع البحث بینهم فی وجوب الموافقة الالتزامیّة أیضاً و عدم وجوبها .

و بعبارةٍ اخری : هل هناک تکلیف جوانجی بالإضافة إلی التکلیف الجوارحی أوْ لا ؟

تحریر محلّ البحث

إنه لیس المراد من وجوب الموافقة الالتزامیّة هو العلم بالتکلیف ، و لا الرضا بجعله ، و لا العزم علی العمل و الامتثال ، و لا قصد القربة ، مع کونه مختصّاً بالعبادات و البحث أعم منها و من التوصّلیات .

بل المراد من الموافقة الالتزامیّة للتکلیف الشرعی : أنْ یعقد القلب علیه و ینقاد بالنسبة إلیه ، کما هو الحال فی الامور الاعتقادیة .

ص:184

إنه لا ریب فی أنّ الالتزام القلبی - بالإضافة إلی العمل - یوجب القرب من المولی و ارتقاء درجة العبد عنده ، لکنّ الکلام فی استحقاق العقاب علی عدم الالتزام ، فهل یجب الالتزام القلبی ؟ و هل یحرم ترکه ؟

هل یوجد فرق بین وجوب الموافقة و حرمة المخالفة ؟

قد نسب إلی المحقق المشکینی (1) القول بالتفصیل ، فقال بعدم وجوب الموافقة الالتزامیّة ، لکن المخالفة محرّمة .

الأدلّة فی المسألة

قال المحقق النائینی :

ربما یقال بتأثیر العلم الإجمالی فی دوران الأمر بین المحذورین من جهة الالتزام ، حیث أن فی الأخذ بالفعل أو الترک من دون الالتزام بالوجوب أو الحرمة ، مخالفة للتکلیف المعلوم إجمالاً التزاماً .

و أنت خبیر بفساد هذا القول ، فإن المراد من الموافقة الالتزامیّة ... .

إنْ کان هو التصدیق و التدیّن بما جاء به النّبی صلّی اللّٰه علیه و آله من الأحکام الفرعیّة ، فمرجع ذلک إلی تصدیق نبوّته و أن ما جاء به فهو من عند اللّٰه ، و هو لا یستلزم الالتزام بکلّ واحدٍ واحدٍ من الأحکام تفصیلاً .

و إنْ کان المراد منها هو الالتزام بکلّ واحدٍ واحدٍ من الأحکام علی التفصیل .

فإنْ أراد القائل بلزومه حرمة التشریع و الالتزام بخلاف الحکم الواقعی مسنداً له إلی الشارع ، فهو حق ، لکنه أجنبی عن لزوم الالتزام بکلّ حکم علی التفصیل .

ص:185


1- 1) حاشیة الکفایة 2 / 27 .

و إنْ أراد لزومه بنفسه ، بحیث یکون لکلّ واجب مثلاً إطاعتان و معصیتان ، إحداهما : من حیث العمل ، و الاخری : من حیث الالتزام ، فلا دلیل علیه لا عقلاً و لا نقلاً .

و إنْ کان المراد من لزومها ، هو وجوب الإتیان بالعبادات بقصد التعبّد و الامتثال ، بأنْ یؤتی بها بداعی الأمر مثلاً ، فهو و إنْ کان حقّاً ، إلّا أنه أجنبی عن محلّ الکلام أیضاً .

و بالجملة ، لا دلیل علی لزوم الموافقة الالتزامیّة ، بالمعنی الذی یکون مربوطاً بالمقام... (1) .

و جاء فی الکفایة :

هل تنجز التکلیف بالقطع - کما یقتضی موافقته عملاً - یقتضی موافقته التزاماً و التسلیم له اعتقاداً و انقیاداً ، کما هو اللّازم فی الاصول الدینیّة و الامور الاعتقادیّة ، بحیث کان له امتثالان و طاعتان ، احداهما : بحسب القلب و الجنان ، و الاخری : بحسب العمل بالأرکان ، فیستحق العقوبة علی عدم الموافقة التزاماً و لو مع الموافقة عملاً ، أو لا یقتضی ، فلا یستحق العقوبة علیه ، بل إنما یستحقها علی المخالفة العملیّة ؟

الحق : هو الثانی ، لشهادة الوجدان الحاکم فی باب الإطاعة و العصیان بذلک و استقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سیّده إلّا المثوبة دون العقوبة و لو لم یکن متسلّماً و ملتزماً به و معتقداً و منقاداً له ، و إنْ کان ذلک یوجب تنقیصه و انحطاط درجته لدی سیّده ، لعدم اتّصافه بما یلیق أنْ یتّصف العبد به من الاعتقاد

ص:186


1- 1) أجود التقریرات 3 / 95.

بأحکام مولاه و الانقیاد لها ، و هذا غیر استحقاق العقوبة علی مخالفته لأمره أو نهیه التزاماً مع موافقته عملاً (1) .

و قال السید الخوئی :

التحقیق : عدم وجوب الموافقة الالتزامیّة ، إذ لم یدل علیه دلیل من الشرع و لا من العقل . أمّا الأدلّة الشرعیة ، فظاهرها البعث نحو العمل و الإتیان به خارجاً، لا الالتزام به قلباً . و أمّا العقل ، فلا یدلّ علی أزید من وجوب امتثال أمر المولی ، فلیس هناک ما یدلّ علی لزوم الالتزام قلباً (2) .

أقول :

و علی الجملة ، فإنه إذا قام الدلیل علی التکلیف و ثبت ، فإنّ العقل حاکم بلزوم إطاعة المولی بامتثال التکلیف الوجوبی أو التحریمی ، أمّا أن یأمر بالالتزام القلبی أیضاً ، فلا دلیل علیه .

و بعبارة اخری : إن العقل یحرک العبد المکلّف نحو امتثال متعلّق التکلیف ، و لا یتجاوز بعثه و تحریکه دائرة المتعلّق ، بأن یبعث إلی شیء زائد عنه ، بل إنه یرید من المکلّف الإتیان بالمتعلّق فحسب .

هذا بالنسبة إلی الحکم العقلی .

و أمّا الحکم الشرعی ، فإنه لمّا جاء الخطاب بالصّلاة مثلاً و أمر بها المولی ، فإن « صلّ » یشتمل علی مادّة و هیئة ، أمّا المادّة ، فهی الصّلاة ، و أمّا الهیئة ، فمدلولها البعث و الطلب أو اعتبار اللابدیة ، فلا دلیل من الخطاب الشرعی بالصّلاة - لا مادةً

ص:187


1- 1) کفایة الاصول : 268 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 52 .

و لا هیئة - علی وجوب الموافقة .

و أمّا أن یکون هناک دلیلٌ من خارج الخطاب الشرعی بوجوب الصّلاة ، یدلّ علی وجوب الموافقة الالتزامیّة مضافاً إلی الصّلاة ، فلا یوجد هکذا دلیل .

نعم ، توجد روایات کثیرة فی وجوب التصدیق و الإقرار بما جاء به النبیّ صلّی اللّٰه علیه و آله ، کقوله علیه السّلام - فی جواب السؤال عمّا بنیت علیه دعائم الإسلام - : « ... و الإقرار بما جاء به من عند اللّٰه ... » (1) .

و لکنْ فی دلالتها علی المدّعی بحث ، کما لا یخفی .

و قد یقال : بأنّ هذه النصوص ناظرة إلی اصول الدین أو منصرفة إلیها .

و لکنّ هذا غیر واضح ، و العهدة فی إثباته علی مدّعیه ، لأنّ النصوص مطلقة و عبارتها « الإقرار بما جاء به » النبیّ ، سواء فی الاصول أو الفروع ، و ما هو منشأ الانصراف ؟

و قد یقال (2) : بدلالتها علی وجوب الموافقة الالتزامیّة ، لکنْ یکفی الموافقة إجمالاً .

و فیه : إن کانت دالّةً علی الوجوب ، فمقتضی القاعدة انحلالها علی کلّ واحدٍ واحدٍ ممّا جاء به النبی صلّی اللّٰه علیه و آله ، فهو إطلاق شمولی ، فالقول بالالتزام الإجمالی فی غیر محلّه .

فإنْ قلت : القول بوجوب الموافقة الالتزامیّة مخالف للمشهور .

قلنا : هذا المشهور لیس مشهور القدماء بل المتأخرین ، و مخالفتهم لا تضرّ ،

ص:188


1- 1) الکافی 2 / 19 و 21 - 22 و 38 .
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 54 .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إعراض المشهور و إن کان موهناً عندنا ، لکنْ عن السّند لا الدلالة ، و ما نحن فیه من قبیل الثانی لا الأوّل .

هذا کلّه ، اللهم إلّا أن یقال بأن « الإقرار » أمر و« الالتزام » أمر آخر . فتدبّر .

ثمرة البحث و وجه الحاجة إلیه

نحتاج إلی هذا البحث من جهتین :

جهة فقهیّة ، و هی وجوب و عدم وجوب الموافقة الالتزامیّة ، و حرمة و عدم حرمة المخالفة الالتزامیّة .

وجهة اصولیّة ، و هی : أنه علی القول بوجوبها ، لا مجال لإجراء الاصول العملیّة . مثلاً : لو دار الأمر بین المحذورین ، فهل تجری الاصول العملیّة ؟ فیه خمسة أقوال ، أحدها : جریان أصالة البراءة عن الوجوب و الحرمة معاً ، فبناءً علی وجوب الموافقة الالتزامیّة ، لا یمکن جریان الأصل فی الطرفین ، و یسقط هذا القول فی تلک المسألة .

و قال المحقق الأصفهانی (1) : إنه بناءً علی وجوب الموافقة الالتزامیّة ، لا بدّ من القول بها فی التعبدیّات و التوصلیّات معاً ، و لکنْ بالنظر إلی المانعیّة عن جریان الاصول ، فلا مورد للبحث فی التعبدیّات ، إذ مع عدم الموافقة الالتزامیّة یزول قصد القربة ، لأنْ قصد القربة غیر الموافقة الالتزامیّة کما تقدّم ، لکنّهما فی التعبدیّات متلازمان .

و الحاصل : أنه بین التعبدیّات و التوصلیّات من جهة المانعیّة عن جریان

ص:189


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 78 .

الاصول فرق ، فإذا دار الأمر بین المحذورین فی الواقعة الواحدة و کانا توصّلیین ، حصلت المخالفة الالتزامیّة ، و أمّا العملیّة فلا ، لأنه إمّا فاعل و إمّا تارک . أمّا فی التعبدیّات ، فتحصل المخالفة العملیّة أیضاً ، فإنه یمکن الإتیان بالعمل بدون قصد القربة ، فإن کان واجباً لم یمتثل و إن کان حراماً فقد خولف بالإتیان ... فهذا الفرق بین القسمین - التوصلیّات و التعبدیّات - موجود بلا إشکال .

جریان الاصول العملیّة و عدم جریانها

و هذا تفصیل الکلام فی ذلک ، علی القول بوجوب الموافقة الالتزامیّة ، و أنّه یمنع من جریان الاصول العملیّة أو لا یمنع ؟

أمّا إذا لزم من جریانها المخالفة العملیّة ، فلا إشکال فی عدم جریانها .

فنقول :

الشبهة تارة : حکمیّة کلیّة ، کصلاة الجمعة ، إذا دار حکمها بین الوجوب و الحرمة .

و اخری : موضوعیّة ، و هی :

تارة : فی العمل الواحد ، کالمرأة المحلوف علی وطیها أو ترک وطیها .

و اخری : فی موضوعین ، کما لو ارید إجراء قاعدة الفراغ فی الصّلاة و استصحاب بقاء الحدث ، فإنه إن کان محدثاً فالصّلاة التی فرغ منها باطلة ، و إنْ کان علی طهارة فلا حدث بالنسبة إلی الصّلاة المتأخرة .

تحریر محلّ الکلام

فهل یجری الأصل فی هذه الموارد مع القول بوجوب الموافقة الالتزامیّة ؟

أمّا علی القول بأنْ لا مقتضی لجریان الأصل فی أطراف العلم الإجمالی ، کما

ص:190

علیه الشیخ ، فلا مجال لهذا البحث أصلاً ، لأنه مع عدم المقتضی لا تصل النوبة إلی البحث عن المانع .

فالبحث عن مانعیّة وجوب الموافقة ، مبنی علی القول بوجود المقتضی لجریان الأصل فی أطراف الشبهة . هذا من جهة .

و من جهة اخری : إنه لا بدّ من أنْ یکون للأصل موضوع یقتضی جریانه و إلّا فلا تصل النوبة إلی البحث عن مانعیة وجوب الموافقة . مثلاً : إذا دار الأمر بین الوجوب و الحرمة ، فلا مقتضی لجریان أصالة الإباحة ، لعدم الشک فی عدمها ، فلا موضوع لهذا الأصل حتی یقال : هل وجوب الالتزام یمنع عن جریان أصالة الإباحة فی مورد دوران الأمر بین المحذورین أوْ لا ؟

فتلخص : إن البحث یبتنی علی القول بوجود المقتضی لجریان الأصل فی أطراف الشبهة ، و علی أنْ یکون للأصل موضوع حتی یبحث عن جریانه و عدم جریانه فی المورد .

و حینئذٍ نقول - مثلاً - : لو توضّأ بماء مردد بین الطّاهر و المتنجّس ، فهل یجری الأصل فی الطرفین مع العلم الإجمالی بأحد الحکمین .

و لو صلّی و فرغ ثم شکّ فی طهارته جری استصحاب الحدث و جرت قاعدة الفراغ مع العلم بمخالفة أحدهما للواقع ؟

وجه عدم الجریان

یمکن تقریب مانعیّة الموافقة الالتزامیّة عن جریان الاصول فی أطراف العلم بما حاصله : إنه إذا وجب الالتزام القلبی بالحکم الواقعی الموجود فی البین لا یجتمع مع جریان الأصل الموجب للحکم المنافی له عملاً ، و إلّا یلزم الالتزام

ص:191

بالمتنافیین .

و إنْ شئت فقل : إنّ بإجراء الأصل فی جمیع الأطراف ینتفی موضوع وجوب الالتزام ، مع کونه محقّقاً علی وجه الإجمال ، و یکون ترخیصاً فی المخالفة ، و لا فرق فی تحقق المخالفة الممنوعة ، بأنْ تکون مخالفةً لفعل خارجی أو أمرٍ قلبیّ باطنی .

وجه الجریان

و قد ذکر لعدم مانعیّة وجوب الموافقة الالتزامیة عن جریان الاصول وجوه :

الأوّل : ما جاء فی الکفایة

منها : ما قاله صاحب الکفایة من : أنّ استقلال العقل بالمحذور فیه إنّما یکون فیما إذا لم یکن هناک ترخیص فی الإقدام و الاقتحام فی الأطراف ، و معه لا محذور فیه بل و لا فی الالتزام بحکمٍ آخر (1) .

و توضیحه :

إن دلیل وجوب الموافقة الالتزامیّة قاصر عن الشمول للمورد الذی وجد فیه أصلٌ من ناحیة الشارع علی الخلاف ، فإذا قائم الأصل من ناحیته مؤمّناً للمکلّف ، فلا وجوب ، لأنّ العقل لا یستقل بوجوبها فی موردٍ لا یریدها الشارع من المکلّف ، و الأدلة النقلیّة التی استدلّ بها للوجوب لا یعمّ إطلاقها مثل هذا المورد .

الإشکال علیه

ص:192


1- 1) کفایة الاصول : 269 .

إلّا أنه یمکن الجواب ، بأنّ الدلیل القائم عقلاً و نقلاً علی وجوب الموافقة الالتزامیّة قائم علی الحکم الواقعی الإلهی ، و الأصل القائم فی المورد حکم ظاهری ، و لا منافاة بین الحکم الواقعی و الظاهری .

الثانی : ما ذکره الشیخ

و منها : إنّ وجوب الموافقة الالتزامیّة إنما هو فی مورد الحکم ، فلا بدّ من وجود الحکم حتی تجب الموافقة علیه التزاماً ، و الأصل العملی الجاری فی المورد یرفع الحکم ، فلا یبقی موضوع لوجوب الموافقة . و هذا ما یستفاد من کلام الشیخ (1) .

إشکال المحقق الخراسانی

و قد أشکل علیه فی الکفایة بأنه یستلزم الدور ، لأن جریان الأصل موقوف علی عدم المانع ، و هو عبارة عن عدم وجوب الموافقة ، لأنّ عدم المانع متقدّم رتبةً علی الممنوع ، لأنه من أجزاء العلة ، و هی مقدّمة علی المعلول أی الممنوع .

لکنّ عدم المانع متوقف علی جریان الأصل . و هذا دور (2) .

دفاع المحقق الأصفهانی

و قد دافع المحقق الأصفهانی و أجاب عن إشکال الدور بقوله :

و یندفع الدور : بأن مفاد الأصل بنفسه رفع الحکم من الوجوب أو الحرمة ، لا أنه یتوقف علی رفعه .

و لیس لازم رفع الحکم الإذن فی المخالفة الالتزامیّة المحرّمة فإنها لا تحرم ،

ص:193


1- 1) فرائد الاصول 1 / 84 .
2- 2) کفایة الاصول : 268 .

بل لا تتحقّق إلا مع ثبوت الحکم و لا مانعیّة لحرمة المخالفة الالتزامیّة أو قبح الإذن فیها إلّا علی تقدیر ثبوت موضوعها ، و ما لا مانعیّة له إلّا علی تقدیر ثبوت موضوعه کیف یمنع عن رفع موضوعه ؟

فإن قلت : هذا بالإضافة إلی الحکم الفعلی، فإنه مرفوع بالأصل ، و أمّا الحکم الواقعی ، فلو وجب الالتزام بالحکم الواقعی المعلوم بالإجمال مع ثبوته حتی مع جریان الأصل یلزم من جریانه الإذن فی المخالفة الالتزامیّة .

قلت :

أوّلاً : لا نسلّم حرمة المخالفة الالتزامیّة للواقعی المحکوم بعدمه تنزیلاً ، و مفاد الأصل رفعه تنزیلاً ، فلا یمنع إلا حرمة المخالفة الالتزامیّة لما له ثبوت و لم یکن منفیّاً و لو تنزیلاً .

و ثانیاً : حیث إن مفاد الأصل رفع الوجوب الفعلی أو الحرمة الفعلیّة ، فلازمه عدم الالتزام بالوجوب الفعلی أو الحرمة الفعلیّة ، لا عدم الالتزام بالوجوب الواقعی أو الحرمة الواقعیة حتی یکون بلحاظ هذا اللّازم قبیحاً .

لکنه یناسب ما سلکناه فی عدم المانعیّة ، لا ما سلکه « قدس سره » فی عدمها بلحاظ عدم الموضوع لوجوب الموافقة الالتزامیّة .

و بناء علی هذا الجواب ، لا حاجة إلی قصر وجوب الموافقة الالتزامیّة علی الحکم الفعلی الذی لم یرفع تنزیلاً ، بل یجتمع مع وجوب الالتزام بکلّ ما ثبت من الشارع علی حسب مرتبته من الثبوت ، فتدبّر (1) .

و توضیحه :

ص:194


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 83 - 84 .

إن مانعیّة وجوب الالتزام القلبی أیضاً موقوف علی تحقق موضوعه ، و الموضوع هو « الحکم » أی« الوجوب » ، و إذا جری الأصل انتفی الوجوب ، و حیث لا موضوع ، فلا یمکن للموافقة الالتزامیّة المانعیّة عن جریان الأصل .

و علی الجملة ، فإنه فی مثل الوضوء بالماء المردّد بین الطهارة و النجاسة ، بناءً علی وجوب الموافقة الالتزامیّة ، یرتفع هذا الوجوب بقوله علیه و آله السلام :

« رفع ما لا یعلمون » (1) ، فمع جریان البراءة لا یبقی وجوب ، فلا موضوع للموافقة .

و هذا مقصود الشیخ ، و لا یرد علیه الإشکال المزبور .

الردّ علیه

لکنْ یرد علیه - کما أشار إلیه هو فی طیّ کلامه - : إنّ الأصل الرافع للحکم أصل تنزیلی ، أی هو حکم ظاهری ، فهو یقول : إن هذا الأصل التنزیلی یرفع جمیع آثار الحکم المرفوع و منها وجوب الموافقة الالتزامیة ، لکنّ المعلوم بالإجمال الموجود فی البین فی الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی کما فی المثال ، و فی دوران الأمر فی المرأة المحلوف علی وطیها أو ترکه ، هو الملتزم به قلباً ، و لا أصل یرفعه ، و وجوده یمنع من جریان الأصل فی الأطراف .

و تلخص : عدم تمامیّة هذا الجواب .

الجواب الصحیح

ص:195


1- 1) وسائل الشیعة 15 / 369 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، رقم : 1 .

بل الجواب الصحیح ما ذکره الشیخ نفسه ، و هو أنه لا تمانع بین الأصل و موضوع وجوب الموافقة القطعیّة ، لأنّ الأصل إنما یجری فی خصوص الوجوب و فی خصوص الحرمة ، و لکنْ لا یجب الالتزام بخصوصهما ، بل الملتزم به هو الجامع بینهما الموجود فی البین ، و هذا لا یرتفع بالأصل ، فالذی یرتفع بالأصل لا تجب الموافقة معه ، و الذی تجب الموافقة معه لا یرتفع بالأصل ... و إذْ لا تمانع بینهما . فلا دور .

ص:196

قطع القطّاع
اشارة

بعد أنْ ثبت حجیّة القطع و لزوم ترتیب الأثر علیه عقلاً ، فهل حکمه بذلک مطلق أو أنه مقیّد بما إذا حصل القطع بنحوٍ متعارف و من سببٍ ینبغی حصوله منه ، أو القطع الحاصل من السبب غیر المتعارف حصوله منه ، کما هو الحال فی القطّاع ؟

قول کاشف الغطاء بعدم حجیّة قطع القطّاع

قال الشّیخ قدّس سرّه :

قد اشتهر فی ألسنة المعاصرین أنّ قطع القطّاع لا اعتبار به ، و لعلّ الأصل فی ذلک ما صرّح به کاشف الغطاء (1) قدّس سرّه بعد الحکم بأنّ کثیر الشک لا اعتبار بشکّه ، قال : و کذا من خرج عن العادة فی قطعه أو ظنّه فیلغو اعتبارهما فی حقّه .

قال الشّیخ :

ثم إنّ بعض المعاصرین وجّه الحکم بعدم اعتبار قطع القطّاع - بعد تقییده بما إذا علم القطّاع أو احتمل أنْ یکون حجیّة قطعه مشروطة بعدم کونه قطّاعاً - بأنه یشترط فی حجیّة القطع عدم منع الشارع عنه ، و إنْ کان العقل أیضاً قد یقطع بعدم المنع إلّا أنه إذا احتمل المنع یحکم . بحجیّة القطع ظاهراً ما لم یثبت المنع .

ص:197


1- 1) کشف الغطاء : 64 .
مناقشة الشّیخ

و قد ناقش الشیخ القول المذکور بأنه :

إنْ ارید بعدم اعتباره عدم اعتباره فی مورد یکون القطع موضوعاً للحکم فلا بأس به ، لانصراف القطع المأخوذ فی الموضوع إلی الحاصل من الأسباب التی یتعارف حصول القطع منها ، نظیر انصراف الظن و الشک فی موارد أخذهما فی الموضوع إلی المتعارف منهما .

و إن ارید نفی اعتباره فی مقام یکون القطع طریقیاً ، فإن ارید نفی إجزاء ما قطع به عن الواقع لو انکشف الخلاف ، فهو حق أیضاً ، لکنه لا یختص بقطع القطاع ، بل یعم غیره ، لعدم إجزاء الأمر التخیّلی - کما حقق فی مبحث الإجزاء - و إن ارید وجوب ردعه عن قطعه و رفعه عنه و تنبیهه علی مرضه أو یقال له : إن اللّٰه لا یرید منک الواقع إذا کان غافلاً عن القطع بحیث تلتبس علیه المغالطة ، فهو حق أیضاً فی موارد القطع بخلاف الواقع ، مما یرتبط بالنفوس و الأعراض و الأموال التی تجب المحافظة علیها ، لکنه لا یختص بقطع القطّاع بل یعم مطلق القطع المخالف للواقع و لو کان متعارفاً .

و إن ارید أنه حال العلم بحکم الشاک ، فهو ممنوع ، إذ القاطع بالحکم لا یمکن إرجاعه إلی أحکام الشک من الاصول العملیّة لعدم شمولها له ، فنفی حجیّة قطعه یعنی ترکه متحیّراً متخبّطاً لا یعرف ما یقوم به (1) .

ص:198


1- 1) فرائد الاصول 1 / 65 - 67 .
مناقشة المحقق الخراسانی

و قال المحقق الخراسانی:

لا تفاوت فی نظر العقل أصلاً فیما یترتب علی القطع من الآثار عقلاً ، بین أنْ یکون حاصلاً بنحو متعارف و من سببٍ ینبغی حصوله منه ، أو غیر متعارف لا ینبغی حصوله منه کما هو الحال غالباً فی القطّاع ... و بالجملة ، القطع فیما کان موضوعاً عقلاً ، لا یتفاوت من حیث القاطع و لا من حیث المورد و لا من حیث السّبب . لا عقلاً - و هو واضح - و لا شرعاً ، لما عرفت من أنه لا تناله ید الجعل نفیاً و لا إثباتاً ... (1) .

مناقشة المحقق النائینی

و قال المحقق النائینی :

حکی عن الشیخ الکبیر عدم اعتبار قطع القطّاع .

و هو بظاهره فاسد ، فإنّه إن أراد من قطع القطاع القطع الطریقی الذی لم یؤخذ فی موضوع الدلیل ، فهو مما لا یفرق فیه بین القطاع و غیره ، لعدم اختلاف الأشخاص و الأسباب و الموارد فی نظر العقل فی طریقیّة القطع و کونه منجّزاً للواقع عند المصادفة و عذراً عند المخالفة .

و إن أراد القطع الموضوعی ، فهو و إن کان له وجه ، لأنّ العناوین التی تؤخذ فی ظاهر الدلیل تنصرف إلی ما هو المتعارف ، من غیر فرق فی ذلک بین الشک و الظن و القطع ، فالشک المأخوذ فی باب الرکعات ینصرف إلی ما هو المتعارف ،

ص:199


1- 1) کفایة الاصول : 269 .

و لا عبرة بشک کثیر الشک و لو فرض أنّه لم یرد قوله علیه السّلام « لا شک لکثیر الشک » ، غایته أنّه لو لم یرد ذلک کان شک کثیر الشک مبطلاً للصّلاة و لو تعلّق فی الأخیرتین ، لأنّه لا یندرج فی أدلة البناء علی الأکثر ، فلا یکون له طریق إلی إتمام الصلاة ، فتبطل ؛ و لکن بعد ورود قوله علیه السّلام « لا شک لکثیر الشک » یلزمه البناء علی الأقل أو الأکثر ، أی هو فی الخیار بین ذلک .

و کذا الحال فی الظن الذی اخذ موضوعاً فی عدد الرکعات ، فإنّه أیضاً ینصرف إلی المتعارف و لا یعمّ کثیر الظن ، فیکون حکم ظن کثیر الظن حکم الشک .

و کذا الحال فی القطع المأخوذ موضوعاً ینصرف إلی المتعارف و لا یعم قطع القطاع ، إلّا أنّ الشأن فی إمکان التفات القاطع حال قطعه إلی أنّه قطاع ، فإنّه یمکن أن یقال بعدم التفاته إلی ذلک .

نعم : تظهر الثمرة بالنسبة إلی غیر القاطع ، کما لو فرض أنّ الحاکم علم أنّ الشاهد قطاع ، فیمکن أن یقال بعدم قبول شهادته ؛ و لکن المحکی عن « الشیخ الکبیر » هو عدم اعتبار قطع القطاع فی القطع الطریقی المحض ؛ و قد عرفت أنّ ذلک مما لا سبیل إلیه .

قول المحقّق العراقی بعدم الحجیّة فی المعذوریّة

و ذهب المحقق العراقی إلی أنّه إذا کان کلام الشیخ الکبیر ناظراً إلی جهة معذوریّة القطع ، بأنّ العقل لا یعتبر قطع القطّاع معذراً له ، فالحقّ معه ، و لا یندفع بما ذکروه جواباً عنه (1) .

ص:200


1- 1) فوائد الاصول 3 / 64 ، الهامش .

و جاء فی تقریر بحثه ما نصّه بعد کلامٍ له :

و لعلّه إلی ما ذکرنا نظر القائل بعدم اعتبار قطع القطّاع ، فیراد من ذلک عدم اعتباره فی مقام العذریّة ، و لو بملاحظة تقصیره فی مقدّمات قطعه من الأوّل ، الناشئ من جهة قلّة مبالاته و عدم تدبّره الموجب لخروجه بذلک عمّا علیه متعارف الناس من الاستقامة إلی الاعوجاج فی السلیقة ، بنحو یحصل له القطع من کلّ شیء ممّا لا یکون مثله سبباً عادیّاً لحصول الظن بل الشکّ لمتعارف الناس ، لا عدم اعتباره فی مقام المنجزیّة و مرحلة إثبات التکلیف و الاشتغال به .

بل و یمکن أن یحمل علیه أیضاً مقالة الأخباریین ... (1) .

موافقة السید الاستاذ للمحقّق العراقی

و وافقه سیّدنا الاستاذ قدّس سرّه ، إذ قال :

و أمّا مناقشة الشیخ ، فیمکن أن یقال فی دفعها :

أولاً : بالنقض بمورد الجاهل المرکّب المقصر ، فإنه فی حال علمه لا یمکن ثبوت احکام الشک له ، و لکنه لا یکون معذوراً فی مخالفته للواقع مع أنه قاطع .

و ثانیاً : بأنه و إن سلّم أن القاطع فی حال قطعه لا یمکن إرجاعه إلی أحکام غیر القاطع بما هی أحکام لغیر القاطع ، لکننا یمکننا أن ندّعی هذا القاطع لا یکون معذوراً لو خالف قطعه الواقع ، و هذا هو المراد من نفی حجیّة قطعه .

بیان ذلک : إن حجیّة القطع ترجع إلی وجوب متابعته و منجزیّته للواقع لو صادفه ، و معذریّته لو خالف قطعه الواقع .

فالذی ندّعیه : إن العقل لا یحکم بمعذریة قطع القطاع لو خالف الواقع .

ص:201


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 44 .

و هذا لا محذور فیه أصلاً ، و لا یتنافی مع لزوم متابعة القطع الحاصل بنظر القاطع .

وعلیه ، فیکون الکلام فی أن الحکم العقلی بمعذریة القطع و عدم استحقاق العقاب علی مخالفة الواقع الذی تعلّق القطع بخلافه ، هل هو ثابت لجمیع أفراد القطع أم إنه ثابت لبعض الأفراد دون بعض ؟

و لا یخفی أن التشکیک فی ذلک یکفی فی عدم ثبوت المعذریّة و لا نحتاج إلی إثبات العدم ، و إنما الذی یحتاج إلی الإثبات هو القول بالحجیّة .

و لکن الإنصاف عند ملاحظة حال العقلاء و معاملاتهم فیما بینهم و مع عبیدهم - التی هی الطریق لتشخیص أصل حجیّة القطع فی الجملة - هو عدم معذوریّة القاطع إذا کان قطعه من غیر طریق متعارف ، فمن أمر وکیله بشراء حاجةٍ له بالقیمة السّوقیة ، فاشتراها الوکیل بأزید منها استناداً إلی قطعه بأن الثمن یساوی القیمة السوقیة ، لکنه ملتفت إلی أن قطعه غیر ناش عن سبب متعارف ، فللموکّل أن لا یعذر وکیله و یعاتبه کما لا یخفی .

و لیس هذا أمراً بعیداً بعد التزام الفقهاء بمعاقبة الجاهل المرکّب المقصّر فی اصوله و فروعه ، و لیس ذلک إلا لعدم کون قطعه معذراً ، بعد تقصیره فی المقدّمات التی تسبب القطع .

و بعد التزام الشیخ بأن التقصیر المسبب للنسیان یمکن أن یستلزم العقاب علی المنسی لو لا حدیث الرفع الراجع إلی نفی وجوب التحفظ ، مع أنه لا حکم للناسی فی حال نسیانه ، و لا یمکن مخاطبته بأحکام الملتفت .

و بالجملة : عدم إمکان إثبات حکم للقاطع ینافی ما قطع به فی حال قطعه ، لا یتنافی مع عدم حجیّة القطع ، بمعنی عدم کونه معذوراً لو انکشف أن قطعه

ص:202

مخالف للواقع ، إذ عدم المعذوریة إنما یحکم به بعد زوال القطع ، فلا محذور فیه .

و من هنا یظهر : أنه یمکن تصحیح دعوی الأخباریین الراجعة إلی نفی حجیّة القطع - هذا مما احتمله الشیخ فی مراد الأخباریین ، فراجع صدر کلامه - بإرجاعها إلی نفی معذوریة القطع الحاصل من غیر الکتاب و السنّة ، و هی دعوی لا بأس بها ، إذ بعد ورود الروایات الکثیرة الدالّة علی أن الدّین لا یصاب بالعقول ، و کثرة وقوع الخطأ فی الأحکام إذا کانت مدرکة من طریق العقل ، لا یحکم العقل و العقلاء بمعذوریّة القاطع من غیر طریق الکتاب و السنّة ، بل یعدّونه مقصّراً فی المقدمات فیصح عقابه . و إن لم یمکن نفی وجوب الإطاعة فی حال قطعه .

فالتفت و تدبر .

و إلی ما ذکرناه من نفی معذوریّة القطع أشار المحقق العراقی ، کما فی نهایة الأفکار ، فلاحظ (1) .

أقول :

لا یخفی أن الکلام هنا فی القاطع و السبب ، دون المورد .

و أیضاً ، فالکلام فی القطع الطریقی المحض ، فلو کان القطع مأخوذاً فی موضوع الحکم الشرعی ، فلا ریب فی جواز تقییده من قبل الحکم من الحیثیّات الثلاثة ، لأنّه اعتبار من المولی ، فله أن یجعل الموضوع مقیّداً من حیث القاطع بأنْ لا یکون قطّاعاً ، و له أن یجعله مطلقاً . و من حیث السبب ، له أنْ یقیّد السبب بأنْ یکون القطع حاصلاً من الکتاب و السنّة فقط مثلاً ، و له أنْ لا یقیّد ، أو یقیّد بأنْ

ص:203


1- 1) منتقی الاصول 4 / 118 - 119 .

لا یکون السبب غیر المقدّمة العقلیّة من الجفر و الرّمل ، أو لا یکون من غیر المستقلّات العقلیّة ، و له أن یطلق .

و السبب فی طرح هذا البحث - کما عرفت - هو إلحاق الشیخ جعفر کاشف الغطاء رحمه اللّٰه قطع القطّاع بشکّ کثیر الشک فی عدم الاعتبار .

لکنّ الفرق بین القطع و الشک واضح ، لأن حجیّة القطع عقلیّة ، إذ العقل یحکم بوجوب متابعة القطع و یراه منجّزاً و معذّراً ، و أمّا کاشفیّة قطع القطّاع عن الواقع و إنْ لم تکن حاصلةً ، إلّا أنها موجودة عند القطّاع نفسه ، فإنه عنده طریق إلی الواقع و کاشف عنه .

و علی الجملة : إنّ هذه أحکام عقلیّة ، یرتّبها العقل علی القطع ، سواء کان القاطع قطّاعاً أوْ لا ، و لو لم یرتّبها یلزم تخلّف الحکم عن موضوعه ، و هو محال .

ص:204

حجیّة القطع الحاصل من المقدّمات العقلیّة
تحریر محلّ النزاع

إنّ القطع من الحوادث ، فله سبب ، فهل یمکن تقییده بسببٍ خاصّ أوْ لا؟

السّبب تارةً : هو المقدّمات الشرعیّة ، الکتاب و السنّة . و لا کلام و لا خلاف فی حجیّة القطع الحاصل منهما . و اخری : هو غیر المقدّمات الشرعیّة ، و هی تارةً :

غیر عقلیّة أیضاً ، کما لو حصل القطع بالحکم الشرعی من الرمل و الجفر و نحوهما ، و اخری : عقلیّة .

و المقدّمات العقلیّة تارةً : مستقلّة ، کقاعدة قبح العقاب بلا بیان ، و اخری :

غیر مستقلّة ، و هو عبارة عن الحکم العقلی فی المورد الشرعی ، مثل حکم العقل بالملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها ، فإنه حکم عقلی متفرّع علی حکمٍ شرعی .

فلو حصل القطع بالحکم الشرعی من المقدّمات العقلیة المستقلّة ، کحکمه بعدم اجتماع الأمر و النهی مثلاً أو غیر المستقلّة ، کوجوب الإطاعة علی المبنی ، فهل هذا القطع حجّة ، أوْ لا بدّ من تقیید القطع بالحاصل من غیر هذه المقدّمات ؟

حول قول بعض الأخباریین بعدم الحجیّة

و کما ذهب الشیخ الکبیر کاشف الغطاء إلی عدم اعتبار القطع الحاصل من الأسباب غیر المتعارفة العقلائیّة ، و ظهر عدم تمامیّة ما ذهب إلیه ، فقد نُسب إلی

ص:205

بعض الأخباریّین القول بعدم اعتبار القطع بالحکم الشرعی الحاصل من غیر الأدلّة السمعیّة ، أی المقدّمات العقلیّة .

قال الشیخ:

ینسب إلی غیر واحدٍ من أصحابنا الأخباریین عدم الاعتماد علی القطع الحاصل من المقدّمات العقلیّة القطعیّة غیر الضروریّة ، لکثرة وقوع الاشتباه و الغلط فیها ، فلا یمکن الرکون إلی شیء منها (1) .

و قال صاحب الکفایة :

نسب إلی بعض الأخباریین أنه لا اعتبار بما إذا کان بمقدمات عقلیة ، إلّا أن مراجعة کلماتهم لا تساعد علی هذه النسبة ، بل تشهد بکذبها ، و أنها إنما تکون إمّا فی مقام منع الملازمة بین حکم العقل بوجوب شیء و حکم الشرع بوجوبه ، کما ینادی به بأعلی صوته ما حکی عن السیّد الصدر فی باب الملازمة ، و إمّا فی مقام عدم جواز الاعتماد علی المقدمات العقلیة ، لأنها لا تفید إلّا الظن ، کما هو صریح الشیخ المحدّث الأمین الاسترابادی ... .

و کیف کان ، فلزوم اتّباع القطع مطلقاً و صحّة المؤاخذة علی مخالفته عند إصابته ، و کذا ترتیب سائر آثاره علیه عقلاً ، مما لا یکاد یخفی علی عاقل فضلاً عن فاضل ... (2) .

ص:206


1- 1) فرائد الاصول 1 / 51 .
2- 2) کفایة الاصول : 270 .
کلام الأمین الاسترابادی

أقول :

و الأولی نقل کلام المحدّث الاسترابادی لیتّضح الحال ، فإنه قال :

الدلیل التاسع مبنیّ علی مقدّمة دقیقة شریفة تفطّنت لها بتوفیق اللّٰه تعالی ، و هی :

أنّ العلوم النظریّة قسمان :

قسمٌ ینتهی إلی مادّةٍ هی قریبة من الإحساس ، و من هذا القسم علم الهندسة و الحساب و أکثر أبواب المنطق ، و هذا القسم لا یقع فیه الخلاف بین العلماء و الخطأ فی نتائج الأفکار ؛ و السبب فی ذلک أنّ الخطأ فی الفکر ، إمّا من جهة الصّورة أو من جهة المادّة ، و الخطأ من جهة الصّورة لا یقع من العلماء ؛ لأنّ معرفة الصّورة من الاُمور الواضحة عند الأذهان المستقیمة ، و الخطأ من جهة المادّة لا یتصوّر فی هذه العلوم ؛ لقرب الموادّ فیها إلی الإحساس .

و قسمٌ ینتهی إلی مادّةٍ هی بعیدة عن الإحساس ، و من هذا القسم الحکمة الإلهیّة و الطبیعیة و علم الکلام و علم اصول الفقه و المسائل النظریة الفقهیّة و بعض القواعد المذکورة فی کتب المنطق ؛ و من ثمّ وقع الاختلافات و المشاجرات بین الفلاسفة فی الحکمة الإلهیّة و الطبیعیّة ، و بین علماء الإسلام فی اصول الفقه و المسائل الفقهیّة و علم الکلام ، و غیر ذلک .

و السبب فی ذلک : أنّ القواعد المنطقیّة إنّما هی عاصمةٌ من الخطأ من جهة الصّورة لا من جهة المادّة ، و لیست فی المنطق قاعدةٌ بها یُعلم أنّ کل مادّةٍ مخصوصةٍ داخلةٌ فی أیّ قسم من الأقسام ، و من المعلوم امتناع وضع قاعدةٍ

ص:207

تکفل بذلک .

قال :

فإن قلت : لا فرق فی ذلک بین العقلیّات و الشرعیّات ؛ و الشاهد علی ذلک ما نشاهد من کثرة الاختلافات الواقعة بین أهل الشرع فی اصول الدین و فی الفروع الفقهیّة .

قلت : إنّما نشأ ذلک من ضمّ مقدّمةٍ عقلیّة باطلة بالمقدّمة النقلیّة الظنیّة أو القطعیّة .

و من الموضِحات لما ذکرناه - من أنّه لیس فی المنطق قانونٌ یعصم عن الخطأ فی مادّة الفکر - : أنّ المشّائیین ادّعوا البداهة فی أنّ تفریق ماء کوزٍ إلی کوزین إعدامٌ لشخصه و إحداثٌ لشخصین آخرین ، و علی هذه المقدّمة بنوا إثبات الهیولی ، و الإشراقیین ادّعوا البداهة فی أنّه لیس إعداماً للشخص الأوّل و إنّما انعدمت صفةٌ من صفاته ، و هو الاتصال .

ثمّ قال :

إذا عرفت ما مهّدناه من الدقیقة الشریفة ، فنقول :

إن تمسّکنا بکلامهم علیهم السّلام فقد عُصِمنا من الخطأ ، و إن تمسّکنا بغیرهم لم نُعصم عنه ، (1) انتهی کلامه .

قال الشیخ :

و المستفاد من کلامه عدم حجیّة إدراکات العقل ، فی غیر المحسوسات و ما یکون مبادیه قریبةً من الإحساس ، إذا لم تتوافق علیها العقول .

ص:208


1- 1) الفوائد المدنیّة : 129 - 131 .

قال :

و قد استحسن ما ذکره غیر واحدٍ ممن تأخّر عنه :

منهم السیّد المحدّث الجزائری فی أوائل شرح التهذیب علی ما حکی عنه ... .

و ممن وافقهما علی ذلک فی الجملة : المحدّث البحرانی فی مقدّمات الحدائق ... .

و مما یشیر إلی ما ذکرنا من قبل هؤلاء ما ذکره السید الصّدر فی شرح الوافیة فی جملة کلامٍ له ... (1) .

تکذیب ما نسب إلیهم

أقول :

و لکنّ المحقق الخراسانی یری أن النسبة کاذبة (2) ، و أنّ الخلاف منهم لیس فی کبری حجیّة الدلیل العقلی و إنما فی الصغری .

و هذا ما نصَّ علیه المحدّث النوری أیضاً ، فقد قال فی جملة کلام له طویل :

إنّ ما نسب إلی أصحابنا الأخباریین من إنکارهم حجیّة القطع الحاصل من العقل ، خلاف ما یظهر من کلماتهم . و قد اشتهرت هذه النسبة فی عصرنا بین طبقات أهل العلم ، و الأصل فی هذا الاشتهار کلام الشیخ الأعظم الأنصاری ... .

قال :

و لکنّه معذور ، لأنه لم یکن عنده کتاب الفوائد ، و إنما نقله عن حاشیة فخر

ص:209


1- 1) فرائد الاصول 1 / 54 - 55 .
2- 2) کفایة الاصول : 270 .

المحققین محمّد تقی الأصفهانی علی المعالم ، و کذا ما نقله عن السیّد الجزائری کما لا یخفی علی من راجعهما (1) .

أقول :

لکنّ عبارة الاسترابادی فی بدایة الفصل هی :

الفصل الثانی : فی بیان انحصار مدرک ما لیس من ضروریّات الدین من المسائل الشّرعیة ، أصلیةً کانت أو فرعیّة ، فی السماع عن الصادقین علیهم السلام (2).

و عبارة صاحب الحدائق هی :

لا مدخل للعقل فی شیء من الأحکام الفقهیّة ، من عبادات و غیرها ، و لا سبیل إلیها إلّا السّماع عن المعصوم علیه السلام ، لقصور العقل المذکور عن الاطّلاع علیها (3) .

فالظاهر أنّ الحق مع الشّیخ .

الأقوال فی المقام

و بالجملة ، ففی المسألة قولان و تفصیلان :

القول الأوّل : ما ذهب إلیه الاصولیّون ، من حجیة القطع مطلقاً ، و أنّ الأحکام العقلیّة غیر قابلة للتخصیص من ناحیة الشّارع .

القول الثانی : رأی الأخباریین ، فإنه و إنْ کان السیّد الصدر فی مقام نفی

ص:210


1- 1) مستدرک الوسائل 9 / 303 - 318.
2- 2) الفوائد المدنیة : 254 .
3- 3) الحدائق الناضرة 1 / 131 .

قاعدة الملازمة کما ذکر صاحب الکفایة ، لکنّ کلمات الأمین و صاحب الحدائق ظاهرة فی عدم حجیّة القطع بالحکم الشرعی من الدلیل العقلی .

دلیل الأخباریین

إنّ الصحیح - کما علیه الاصولیّون - هو أن الحکم الشّرعی یستنبط من المقدّمات المستعملة فی الاستلزامات العقلیّة مثل باب اجتماع الأمر و النهی ، و المقدمة وذی المقدمة ، و من قاعدة الملازمة ... .

و ما یمکن أنْ یکون وجهاً للقول بعدم الجواز هو العقل و النقل .

الدّلیل الأوّل : العقل

إنّ کثرة وقوع الغلط و الاشتباه فی المقدّمات العقلیّة أمرٌ لا ینکر ، و قد ذکر الأمین الأسترآبادی أنه لا یوجد عندنا میزان لتشخیص موادّ القضایا ، وعلیه ، فلا یمکن الاعتماد علی تلک المقدّمات فی استنباط الأحکام الشرعیّة .

الجواب

و فیه:

أوّلاً : إن هذا الدلیل مرکّب من امور :

أحدها : کثرة الخطأ . و هذا أمر حسّی ، و لا کلام فیه .

و الثانی : إنه لا میزان للتشخیص بالنسبة إلی المواد . و هذا أیضاً أمر حسّی أو قریب من الحسّ . و لا کلام فیه .

و الثالث : إنه کلّ ما کثر فیه الخطأ سقط عن الدلیلیّة . و هذه کبری عقلیّة ، و هی من المسائل التی لا تقبل النیل ، لکثرة الخطأ فیها ، کما ذکر الأمین .

و بعبارة اخری : کلّ ما یحتاج إلی الموادّ فی مقام التحقّق الخارجی و التحقّق

ص:211

الذهنی ، فهو خارج من مسائل الطبیعیّات و الریاضیّات و داخل فی الإلهیّات ، و« الدلیلیّة » من هذا القبیل ، و هی من موادّ القضایا ، و قد ذکر الأمین أنه لا میزان للتشخیص فیها .

و ثانیاً إن السبب لکلّ خطأ یقع فی الأدلّة العقلیّة هو عدم درک الارتباط بین مقدمة الدلیل و نتیجته ، إذ لیس کلّ نتیجةٍ تحصل من کلّ مقدّمة ، بل لا بدّ من تشخیص الارتباط بینهما ، فعدم التشخیص هو سبب الخطأ ، و إذا حصل التشخیص زال .

و ثالثاً : إنه لا میزان لتشخیص الموادّ و تمییز الیقینیّات عن الظنیّات إلّا الوجدان ، لأنّ الیقین و الظن أمران وجدانیّان ، وعلیه ، فإنّ الخطأ یرتفع بالتضلّع فی الامور و التأمّل فیها ، و هذا ضروری فی جمیع العلوم التجربیّة ، فلولا التضلّع فی معرفة المواد و القدرة علی التطبیق الصحیح ، لما حصل التوصّل إلی نتیجةٍ فی مسألةٍ من المسائل ، و لو تمّ کلام الأمین للزم انسداد باب جمیع تلک العلوم .

و رابعاً إن کثرة الخطأ فی المقدّمات العقلیّة لو سلّم بها ، لیست بأکثر منه فی المقدّمات الشرعیّة .

الدلیل الثانی : النصوص

قال الشیخ :

فإن قلت : لعلّ نظر هؤلاء فی ذلک إلی ما یستفاد من الأخبار - مثل قولهم علیهم السّلام : « حرامٌ علیکم أن تقولوا بشیءٍ ما لم تسمعوه منّا » ، و قولهم علیهم السّلام : « لو أنّ رجلاً قام لیله ، و صام نهاره ، و حجّ دهره ، و تصدّق بجمیع ماله ، و لم یعرف ولایة ولیّ اللّٰه ؛ فیکون أعماله بدلالته فیوالیه ، ما کان له علی اللّٰه

ص:212

ثواب » ، و قولهم علیهم السّلام : « من دان اللّٰه بغیر سماعٍ من صادقٍ فهو کذا و کذا ... » ، إلی غیر ذلک ... : من أنّ الواجب علینا هو امتثال أحکام اللّٰه تعالی التی بلّغها حججه علیهم السّلام ، فکلّ حکمٍ لم یکن الحجّة واسطةً فی تبلیغه لم یجب امتثاله ، بل یکون من قبیل : «اسکتوا عمّا سکت اللّٰه عنه » ؛ فإنّ معنی سکوته عنه عدم أمر أولیائه بتبلیغه ، و حینئذٍ ، فالحکم المستکشف بغیر واسطة الحجّة مُلغی فی نظر الشارع و إن کان مطابقاً للواقع ؛ کما یشهد به تصریح الإمام علیه السّلام بنفی الثواب علی التصدّق بجمیع المال ، مع القطع بکونه محبوباً و مرضیّاً عند اللّٰه .

و وجه الاستشکال فی تقدیم النقلی علی العقلی الفطری السلیم : ما ورد من النقل المتواتر علی حجّیة العقل ، و أنّه حجّة باطنة ، و أنّه ممّا یُعبد به الرحمن و یُکتسب به الجنان ، و نحوها ممّا یستفاد منه کون العقل السلیم أیضاً حجّة من الحجج ، فالحکم المستکشف به حکمٌ بلّغه الرسول الباطنی ، الذی هو شرعٌ من داخل ، کما أنّ الشرع عقلٌ من خارج .

و مما یشیر إلی ما ذکرنا من قِبَل هؤلاء: ما ذکره السیّد الصّدر رحمه اللّٰه فی شرح الوافیة - فی جملة کلامٍ له فی حکم ما یستقلّ به العقل - ما لفظه :

إنّ المعلوم هو أنّه یجب فعل شیءٍ أو ترکه أو لا یجب إذا حصل الظنّ أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غیرهما من جهة نقل قول المعصوم علیه السّلام أو فعله أو تقریره ، لا أنّه یجب فعله أو ترکه أو لا یجب ، مع حصولهما من أیّ طریقٍ کان (1) ، انتهی موضع الحاجة .

ص:213


1- 1) فرائد الاصول 1 / 58 - 60 .

و الجواب

و قد اجیب عن هذا الاستدلال بوجوه :

الأوّل : إنّ هذه النصوص تنهیٰ عن الرّکون إلی القطع الحاصل من تلک المقدّمات ، و هذا غیر معقول .

و فیه : إنّ محلّ الکلام الآن هو جواز الرکون إلی العقل لاستنباط الحکم الشرعی و عدم جوازه .

الثانی : إنها ناظرة إلی المنع عن العمل بالقیاس و الاستحسان و نحوهما مما یفید الظنّ بالحکم الشرعی .

و فیه : إنّ هذا الجواب یتمّ بالنسبة إلی بعض النّصوص ، و لعلّ أظهرها فی الدلالة علی المنع من الأخذ بالمقدّمات العقلیّة قبل حصول القطع و المقصود منها . هو النهی عن القیاس ما :

عن أبی بصیر ، قال قلت : لأبی عبد الله علیه السّلام : ترد علینا أشیاء لیس نعرفها فی کتاب اللّٰه و لا سنّته ، فننظر فیها ؟

« قال : لا ، أما أنک إنْ أصبت لم تؤجر و إنْ أخطأت کذبت علی اللّٰه » (1) .

و هذه الروایة لم یوردها الشیخ .

أمّا سنداً ، فهی معتبرة .

و أمّا دلالةً ، فظاهر قوله علیه السلام : « لا » هو أنه إن کان الشیء فی الکتاب و السنّة رجع إلیهما فیه ، و أمّا ما لا یوجد فیهما فلا ینظر فیه . و قوله : « أما أنّک ... » ظاهر فی إلغاء طریقیّة غیر الکتاب و السنّة ، و إلّا لم یعقل عدم الأجر عند الإصابة

ص:214


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 40 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 6 .

و الکذب علی اللّٰه عند الخطأ .

لکن الاستدلال بها لما ذهب إلیه الأخباریون یتوقّف علی ثبوت الإطلاق فیها ، بأنْ یکون قوله : « فننظر فیها » أعمّ من النظر العقلی القطعی ، فیکون قول الإمام : « لا » مطلقاً من باب ترک الاستفصال ، و یتفرّع علیه قوله : « أما أنک ... » ، إلّا أن ثبوته أوّل الکلام ، لإمکان دعوی کون السؤال محفوفاً بما یصلح للصّارفیّة عن النّظر العقلی القطعیّ ، و هو شیوع النظر القیاسی الظنّی فی تلک الأزمنة ، و حینئذٍ ، لا ینعقد الإطلاق فی السؤال حتی ینعقد فی الجواب .

و هناک نصٌّ آخر و دلالته قویّة ، و قد ذکره الشیخ ، و هو ما :

عن زرارة عن أبی جعفر علیه السّلام فی خبرٍ : « لو أنّ رجلاً قام لیله و صام نهاره و تصدّق بجمیع ماله و حج جمیع دهره و لم یعرف ولایة ولیّ اللّٰه فیوالیه و تکون جمیع أعماله بدلالته إلیه ، ما کان له علی اللّٰه حق فی ثوابه و لا کان من أهل الایمان » (1) .

و السند معتبر کذلک .

و یمکن الجواب عنه : بأنّ ما ورد عنهم علیهم السّلام ممّا یدلّ علی حجیّة العقل ، من دلالة ولیّ اللّٰه کذلک .

هذا ، و أمّا استطراق الرمل و الجفر للوصول إلی الأحکام الشرعیّة ، فممنوع ، لأنه مخالف للسّیرة الاستنکاریة المستمرة القطعیّة .

ص:215


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 119 ، الباب 29 من أبواب مقدمة العبادات ، رقم : 2 .
تفصیل المحقق النائینی

و فصّل المیرزا بین التصرّف فی نفس القطع و التصرّف فی متعلّقه ، فمنع الأوّل و أجاز الثانی ... فإنه لیس للشارع أنْ یقول : لا ترتّب الأثر علی قطعک ، و لکنْ له أن یقول : إنّ أحکامی محدودة بما یستفاد من الکتاب و السنّة ، و أمّا ما یستدلّ به علیها من خارجهما فلا أثر له .

و بعبارة اخری : للشارع أن یقیّد المراد لا القطع بالمراد ، فلیس له أن یقول :

لا ترتّب الأثر علی القطع بالحکم الحاصل من غیر الکتاب و السنّة ، لأنّ حجیّة القطع ذاتیّة ، و لکنّ یمکن أن یقول : کلّ حکمٍ من أحکام الکتاب و السنّة قطعت به ، وجب علیک ترتیب الأثر علی قطعک به .

و قد ذکر لتقریب مراده فی المقام مقدّماتٍ ثلاث (1) .

المقدّمة الاولی : إنّه لا یمکن أخذ القطع بحکمٍ فی موضوع نفس ذلک الحکم لاستلزامه الدور ، لأنّ القطع طریق إلی متعلّقه بالذات ، فالقطع بحکم متوقف علی تحقّق الحکم توقف الانکشاف علی المنکشف ، فالحکم متقدّم فی الرتبة علی القطع ، فلو أخذ القطع فی موضوع الحکم لزم تأخر الحکم عن القطع ، و هذا هو الدور .

المقدّمة الثانیة : إنه قد تقرّر - فی بحث التعبّدی و التوصّلی - أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق ، لأن التقابل بینهما من قبیل العدم و الملکة ، فکلّ موردٍ لا یکون قابلاً للتقیید فهو غیر قابل للإطلاق ، فلا یکون هناک تقیید

ص:216


1- 1) انظر : مصباح الاصول : 57 .

و لا إطلاق .

و نتیجة المقدّمتین : إنّ الأحکام الشرعیّة مهملة بالإضافة إلی علم المکلّف و جهله ، لأنّ تقییدها بالعلم بها غیر ممکن بمقتضی المقدّمة الاولی ، و إطلاقها بالنسبة إلی العلم و الجهل بها غیر ممکن بمقتضی المقدمة الثانیة . فتکون مهملة ، لأنّ الملاک إمّا أن یکون فی جعل الحکم لخصوص العالم به ، فلا بدّ من تقییده به ، و إمّا أنْ یکون فی الأعم من العالم و الجاهل ، فلا بدّ من تعمیمه ، لکنْ تقدّم فی المقدّمتین عدم إمکان التقیید و الإطلاق ، و لمّا کان الإهمال فی مقام الثبوت غیر معقول ، فلا بدّ من علاج ، و هو ما ذکره فی :

المقدّمة الثالثة : من أنّ للشارع فی مثل هذه الموارد جعلاً ثانویّاً یعبّر عنه بمتمّم الجعل ، فإمّا أنْ یقیّد به الحکم بالعلم ، فیسمّی بنتیجة التقیید ، أو یعمّم به الحکم ، فیسمّی بنتیجة الإطلاق ... و حینئذٍ ، لا یلزم الدّور ، لأنّ متعلّق الجعل الأوّل هو الحکم علی نحو الإهمال ، و متعلّق الثانی هو التقیید بالعالم أو الإطلاق ، و مع تغایر المتعلّقین لا یلزم الدور .

و قد وقع فی الشریعة تخصیص الحکم و تقییده بالعلم فی مورد الجهر و الإخفات و القصر و الإتمام ، و نلتزم فیهما بنتیجة التقیید - بمقتضی الأدلّة الشرعیّة - أمّا فی غیرهما فیؤخذ بنتیجة الإطلاق ، بمقتضی العمومات الدالّة علی أنّ الأحکام الشرعیّة مشترکة بین العالم و الجاهل .

فظهر : أنّ من الممکن تقیید الحکم بالقطع الحاصل من سبب خاصّ - کالکتاب و السنّة - عن طریق متمّم الجعل ، و المنع من العمل بالقطع بالحکم الحاصل من غیر ذلک ... .

ص:217

إلّا أنّ الکلام فی وقوع ذلک فی الشریعة ، فإن مورده قلیل جدّاً ، کالقطع الحاصل من القیاس ، علی ما یظهر من روایة أبان .

إشکال السید الخوئی

قال السیّد الخوئی : أمّا ما ذکره من المقدّمة الاولی فهو تام .

و أمّا ما ذکره فی المقدّمة الثانیة من أنّ : استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق ، فهو غیر تام ، لأنّ التقابل بینهما و إن کان من تقابل العدم و الملکة ، لأن الإطلاق عبارة عن عدم التقیید فیما کان قابلاً له ، إلّا أنه لا یعتبر فی التقابل المذکور القابلیّة فی کلّ مورد بشخصه ، بل تکفی القابلیّة فی الجملة . أ لا تری : أن الإنسان غیر قابل للاتصاف بالقدرة علی الطیران مثلاً ، و مع ذلک یصح اتصافه بالعجز عنه فیقال : هو عاجز عن الطیران ، و لیس ذلک إلّا لکفایة القابلیّة فی الجملة ، و أن الإنسان قابل للاتصاف بالقدرة فی الجملة و بالنسبة إلی بعض الأشیاء ، و إنْ لم یکن قادراً علی خصوص الطیران .

و فی المقام ، حیث أن تقیید الحکم بالعلم به مستحیل ، لما عرفت من استلزامه الدور ، و تقییده بالجهل به أیضاً محال ، لاستلزامه الدور کذلک ، فیکون مطلقاً بالنسبة إلی العلم و الجهل لا محالة فی الجعل الأوّلی ، بلا حاجة إلی متمّم الجعل ، و إذا کان کذلک و قطع به المکلّف ، یستحیل منعه عن العمل بقطعه ، لاستلزامه اجتماع الضدّین اعتقاداً مطلقاً ، و مطلقاً فی صورة الإصابة .

قال :

و قد ظهر بما ذکرناه فساد ما ذکره من صحّة أخذ القطع بالحکم فی موضوعه شرطاً أو مانعاً بتتمیم الجعل ، لأنه متوقف علی کون الجعل الأولی بنحو

ص:218

الإهمال . و قد عرفت کونه بنحو الإطلاق .

و أمّا ما ذکره من أن العلم مأخوذ فی الحکم فی موارد الجهر و الإخفات و القصر و التمام .

ففیه : إن الأمر لیس کذلک ، إذ غایة ما یستفاد من الأدلّة هو إجزاء أحدهما عن الآخر ، و إجزاء التمام عن القصر عند الجهل بالحکم ، لا اختصاص الحکم بالعالم ، فإن اجتزاء الشارع - فی مقام الامتثال بالجهر فی موضع الإخفات أو العکس - لا یدلّ علی اختصاص الحکم بالعالم . و یدلّ علیه أن العنوان المذکور فی الروایة هو الجهر فیما ینبغی فیه الإخفات أو الإخفات فیما ینبغی فیه الجهر . و هذا التعبیر ظاهر فی ثبوت الحکم الأوّلی للجاهل أیضاً . و یؤیّده تسالم الفقهاء علی أن الجاهل بالحکمین مستحق للعقاب عند المخالفة فیما إذا کان جهله عن تقصیر ، فإنه علی تقدیر اختصاص الحکم بالعالم ، لا معنی لکون الجاهل مستحقّاً للعقاب .

و أما ما ذکره من ثبوت المنع عن العمل بالقطع الحاصل من القیاس بروایة أبان ، ففیه :

أولاً : إن روایة أبان ضعیفة السند ، فلا یصح الاعتماد علیها .

و ثانیاً : إنه لا دلالة لها علی کونه قاطعاً بالحکم . نعم یظهر منها کونه مطمئناً به ، حیث قال : « کنا نسمع ذلک بالکوفة ، و نقول إن الذی جاء به شیطان » .

و ثالثاً : إنه لیس فیها دلالة علی المنع عن العمل بالقطع علی تقدیر حصوله لأبان ، فإن الإمام علیه السّلام قد أزال قطعه ببیان الواقع ، و أن قطعه مخالف له ، و ذلک یتفق کثیراً فی المحاورات العرفیّة أیضاً ، فربما یحصل القطع بشیء لأحد ،

ص:219

و یری صاحبه أن قطعه مخالف للواقع ، فیبین له الواقع ، و یذکر الدلیل علیه ، لیزول قطعه أی جهله المرکب ، لا للمنع عن العمل بالقطع علی تقدیر بقائه (1) .

مناقشة الإشکال

و قد ذکرنا فی مبحث التعبّدی و التوصّلی : أنّ الحق مع المیرزا فی هذا المقام ، و ملخّص الکلام هو : إن المقصود من الإطلاق هو الإطلاق الحجّة الکاشف عن غرض المولی ، و مثل هذا الإطلاق إنما یتحقّق فیما إذا کان المولی متمکّناً من التقیید ، فلو لم یکن متمکناً منه ثبوتاً کما فی موردنا أو إثباتاً لخوف و نحوه ، فلا یکون الإطلاق حجة .

و فیما نحن فیه : المفروض - بحکم المقدّمة الاولی - عدم تمکّن المولی من التقیید ، للزوم الدور ، و المفروض أن النسبة بینه و بین الإطلاق هو العدم و الملکة ، و حینئذٍ ، فهو غیر متمکن من الإطلاق ، و مثله لا یکون حجةً ... و هذا هو مقصود المیرزا ، فلا مجال للردّ علیه بکفایة القابلیّة فی الجملة .

و إذا سقط الإطلاق ، و لزم الإهمال - و هو محال - فلا مناص من متمّم الجعل .

و هذا هو الجواب عن الإشکال علی المیرزا ثبوتاً .

و أمّا الإشکال علیه إثباتاً - بالمناقشة فی روایة أبان سنداً و دلالة . أمّا دلالةً فلأن أبان قد حصل علی الاطمئنان من القیاس ، و بحثنا فی القطع . و أمّا سنداً ، فبضعف الروایة - فهو مردود .

ص:220


1- 1) مصباح الاصول 2 / 59 - 60 .

أمّا دلالةً ، ففی الرّوایة قوله : « کنا نقول : الذی جاء به شیطان » و هذه الکلمة لا تقال إلّا فی مورد القطع بالبطلان .

و أمّا سنداً ، فالمناقشة فی سند الروایة سهوٌ من قلم المقرّر ، إذ لیس فی السّند أحد یتأمّل فی وثاقته . فالکلینی رواها عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه و محمّد بن إسماعیل ، عن إبراهیم بن هاشم ، عن ابن أبی عمیر ، عن عبد الرحمان بن الحجاج ، عن أبان بن تغلب . و الشیخ رواها بإسناده عن الحسین بن سعید عن ابن أبی عمیر عن عبد الرحمان عن أبان .

و« محمّد بن إسماعیل » مشترک بین ثلاثة أحدهم ضعیف ، لکنّ هذا - بالقرینة - هو البندقی النیسابوری الراوی عن الفضل بن شاذان ، و هو ثقة . و مع التنزّل ، فإنّ معه إبراهیم بن هاشم .

التحقیق فی الجواب

و التحقیق أنْ یقال فی الجواب عن هذا التفصیل بأنّ : الانقسامات الثانویّة علی قسمین : أحدهما : ما یمکن تقییده بالدلیل الثانی ، و الآخر : ما لا یمکن تقییده أصلاً ، و ما نحن فیه من القسم الأوّل .

توضیحه : إنّ الانقسام الثانوی تارةً : من قبیل قصد الأمر ، إذ لا یمکن أخذه فی المتعلّق بالدلیل الأوّل ، لأنه لا یمکن أن یقول - علی المبنی - : الصّلاة واجبة علیک بقصد هذا الأمر ، فیحتاج إلی الأمر الثانی . لکنّ التقیید بالعلم و الجهل لیس عدم إمکانه مختصّاً بالدلیل الأوّل ، بل إنه ناشئ من تقدّم الموضوع علی حکمه فی أیّ مقام . بیانه :

إن الحکم دائماً متأخر عن موضوعه ، فلو أراد أخذ العلم بالدلیل الثانی فی

ص:221

الموضوع ، أفاد أخذ العلم بنفس هذا الحکم فی موضوعه ، کأنه قال : هذا الحکم هو للعالم بحکمه فی هذه الواقعة ، و حینئذٍ ، یلزم الاحتلال فی قانون تأخّر الحکم عن الموضوع ، فالمحذور هو عدم قابلیّة تقیید الموضوع بالحکم ، و هذا المحذور موجود دائماً ، فلا یمکن التقیید لا بالدلیل الأوّل و لا الثانی أبداً .

و ببیانٍ آخر : تقیید الحکم بالعلم یتوقف علی العلم بالحکم ، فیکون العلم متقدّماً و متأخراً معاً . و هو محال .

و أمّا دلیل الإخفات ، فیدلُّ علی الإجزاء فی مقام الامتثال ، و لا دلالة له علی التقیید بالعلم ، و لو فرض ظهوره فی هذا التقیید ، فلا بدّ من تأویله بمقتضی ما ذکر من البرهان القطعی ، فلا ینتقض ما ذکرنا بمسألة الجهر و الإخفات .

تفصیل المحقق العراقی

و فصّل المحقق العراقی بین التنجیز و التعذیر ، بأنْ لا یکون القطع الحاصل من المقدّمات العقلیة معذّراً ، قال ما نصّه :

یمکن أنْ یفرّق بین القطع الناشئ عن تقصیر المکلّف فی مقدّمات حصول قطعه و بین غیره ، فی جهة معذریّته عند مخالفة قطعه للواقع ، بدعوی عدم معذوریّة من یقصّر فی مقدّمات قطعه ، خصوصاً إذا کان کذلک من جهة الخوض فی المقدّمات العقلیّة التی نهی عن الخوض فیها ، و لکن مثل هذه الجهة غیر مرتبطة بجهة منجّزیّته و علیّته لحکم العقل بوجوب الحرکة علی وفقه ، إذ لا تلازم بین عدم معذوریّة قطعه ذلک عند تحقّقه عن الواقع و بین عدم منجّزیّته فی مقام إثبات الاشتغال بالتکلیف و صحّة الردع عن العمل علی وفقه، و لا بأس أیضاً بالالتزام بهذا المقدار... و لعلّه إلی ما ذکرنا نظر القائل بعدم اعتبار قطع القطّاع... بل

ص:222

و یمکن أن یحمل علیه أیضاً مقالة الأخباریین... . (1)

و حاصله :

إنه لیس للشارع التصرّف فی القطع من حیث المنجزیّة ، أمّا من حیث المعذریّة فیمکنه ذلک ، بأنْ یمنع من استطراق شیء معیّن ، کما نهی عن استطراق القیاس ، و حینئذٍ ، لا یکون القطع الحاصل عن طریقٍ قد نهی عن استطراقه عذراً .

و هذا التفصیل لا غبار علیه ، و قد وافقه علیه سیّدنا الاستاذ قدّس سرّه (2) و شیخنا دام بقاه فی الدّورة السّابقة .

ص:223


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 44 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 119 .
العلم الإجمالی
اشارة

إنه لمّا تقرّر حجیّة القطع و لزوم ترتیب الآثار علیه عقلاً ، فهل یفرّق بین القطع التفصیلی و الإجمالی ؟

قال فی الکفایة :

إنه قد عرفت کون القطع التفصیلی بالتکلیف الفعلی علّةً تامّة لتنجّزه ، لا تکاد تنال ید الجعل إثباتاً و نفیاً ، فهل القطع الإجمالی کذلک ؟ فیه إشکال (1) .

حقیقة العلم الإجمالی

للعلم الإجمالی اصطلاحات :

منها : إنه یطلق فی مقابل الکشف التفصیلی ، کوجود المطالب العلمیّة المفصّلة فی الملکة العلمیّة للإنسان .

و منها : إنه العلم بالشیء بوجهه العام ، کالعلم بالنتیجة فی ضمن العلم بالکبری .

و منها : العلم بالشیء بوجهه الخاص ، و هو علم به بوجهٍ ، کالعلم بالوجودات الخارجیّة .

و منها : العلم الإجمالی الارتکازی ، فی مقابل العلم الارتکازی التفصیلی ،

ص:224


1- 1) کفایة الاصول : 272 .

کما فی مسألة التبادر ، حیث یعلم بمعنی اللّفظ إجمالاً ، و عن طریق التبادر یعلم به تفصیلاً .

و منها : العلم المشوب بجهلٍ ما .

و هذا الأخیر هو المقصود هنا .

فعن صاحب الکفایة : إنه العلم بالمردّد .

و عن المحقق العراقی : إنه الصّورة الإجمالیّة .

فإنْ کان مراده من الصّورة الإجمالیّة : وجود الإجمال فی متعلّق العلم ، رجع کلامه إلی نظر المحقّق الخراسانی ، و إن کان مراده وجود الإجمال فی العلم نفسه - کما هو ظاهر کلامه - ففیه : إنه غیر قابل للتعقّل ، إذ کیف یکون العلم و هو مشوبٌ بالجهل ؟

و أمّا ما ذهب إلیه صاحب الکفایة ، ففیه : إنّ تعلّق الأمر الاعتباری بالمردّد بل بالمعدوم جائز ، لکنّ بحثنا فی العلم و هو من الاُمور الحقیقیّة .

و لا یخفی أن الامور الحقیقیّة منها ما هو متقوّم فی ذاته بالغیر ، و منها ما لیس کذلک ، فمن الثانی : الشجاعة ، و من الأول : العلم ، فإنه أمر حقیقی متقوّم بالغیر ، و إذا کان کذلک ، کیف یکون ذلک الغیر المتقوّم به مردّداً ، مع أنّ المردّد لا حقیقة له و لا وجود ؟

و بما ذکرنا أشکل المحقق الأصفهانی علی الرأیین المذکورین ، و ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی لیس إلّا العلم التفصیلی المنضمّ إلیه الجهل ، فالفرق بینه و بین التفصیلی هو فی ناحیة المتعلّق ، حیث أنه فی التفصیلی هو الخصوصیّة ، و فی الإجمالی هو الجامع الانتزاعی ، و هو عنوان « أحدهما » المنطبق علی هذا و ذاک .

ص:225

و قد اختار الاستاذ هذا الرأی .

فهذا مطلب .

مراتب الحکم

و مطلب آخر : ذهب المحقق الخراسانی إلی أنّ للحکم أربع مراتب ، مرتبة الملاک ، و مرتبة الإنشاء ، و مرتبة الفعلیة ، و مرتبة التنجز .

و خالفه الآخرون و قالوا : لیس له إلّا مرتبتان : الإنشاء و الفعلیّة ، لأنّ الملاک علّة للحکم ، و علّة الشیء غیر الشیء ، و التنجّز . أثر الحکم ، و أثر الحکم غیر الحکم .

و هذا هو الحق .

حقیقة الفعلیّة

إلّا أنهم اختلفوا فی حقیقة الفعلیّة .

فذهب الشیخ و صاحب الکفایة و المیرزا إلی أنّ فعلیّة الحکم متقوّمة بفعلیّة موضوعه ، أی: تحقق الموضوع بقیوده و شرائطه و انتفاء موانعه .

و ذهب المحقق الأصفهانی : إلی تقوّم الفعلیّة بالوصول ، فهو یقول بوحدة مرتبتی التنجّز و الفعلیّة ، و الوصول ، إمّا وجدانی و إمّا تعبّدی ، فما لم یصل الحکم فلا وجود له ، لأنّ الفعلیّة عین الوجود .

قال : إن حقیقة الحکم عبارة عن الإنشاء بداعی جعل الدّاعی للفعل أو للزجر ، و ما لم یصل إلی المکلّف ، فلا داعویّة له ، فإمکان الداعویة متقوّم بالوصول ، و لولاه فلا إمکان للداعویّة ، و ما لم یکن کذلک فلیس بحکم .

لکنّ الإشکال المتوجّه علیه هو : أنه یصحّ حقیقةً أن یقال : هذا الحکم

ص:226

واصل و هذا الحکم غیر واصل ، فانقسام الحکم إلی الواصل و غیر الواصل برهان علی عدم تقوّم الحکم بالوصول .

فالحق ما ذهب إلیه الجماعة ، خلافاً له .

وصول الحکم عقلاً و عقلاءً

لکنّهم متّفقون علی وصول الحکم إلی المکلّف فی مورد العلم الإجمالی - و إنْ اختلفوا فی کیفیّة وصوله - و إذا وصل الحکم فالعقل حاکم بتنجّزه ، لأنّ المعتبر عنده وصول الحکم و لا ینظر إلی کیفیّة وصوله ، فالعلم الإجمالی مؤثر و لیس بحکم الجهل و الشک ، و موضوع حکمه باستحقاق العقاب هو مخالفة التکلیف الواصل بنحوٍ من الوصول ، فتوهّم أن العلم الذی جعل موضوعاً عند العقل فی باب الإطاعة و المعصیة یختصُّ بالعلم التفصیلی ، و أنّ العلم الإجمالی مساوق للجهل فی عدم التأثیر ، باطل قطعاً .

هذا بالنسبة إلی حکم العقل .

و کذلک الحال فی السیرة العقلائیّة ، فإنه لا یعتبر فی المؤاخذات بین الموالی و العبید ، أن یکون التکلیف واصلاً إلی العبد بالوصول التفصیلی ، بل یکفی العلم الإجمالی به ، و إذا کان کذلک ، ففی أحکام المولی الحقیقی بالأولویّة ، إذ « ما کان اللّٰه لیخاطب خلقه بما لا یعلمون » کما فی الخبر (1) و ما کان للشارع بیانٌ مغایر لما هو المرتکز عند العقلاء فی کیفیة المؤاخذة علی مخالفة أحکامه .

ص:227


1- 1) وسائل الشیعة 17 / 167 ، الباب 35 من أبواب ما یکتسب به ، رقم : 13 .
الکلام فی منجزیّة العلم الإجمالی
اشارة

و بعد ، فلمّا ظهر بطلان القول بعدم مؤثریة العلم الإجمالی ، و أنّ القدر المتیقن وجود الاقتضاء له للتنجیز ، فیقع البحث فی أنه یقتضی تنجیز الحکم بوجوب موافقته قطعاً و حرمة مخالفته قطعاً ، إلّا أن یقوم مانعٌ کما لو تمّ الإطلاق فی أدلّة الاُصول لتشمل أطراف العلم الإجمالی ، و حینئذٍ لا یتحقّق التنجیز ، أو أنه علّة تامّة له ؟ و علی الثانی قولان ، أحدهما : أن العلم الإجمالی علّة لتنجیز الحکم المعلوم بالإجمال مطلقاً ، أی سواء فی الموافقة القطعیّة و المخالفة القطعیّة ، و الآخر : إنه علّة تامّة فی حرمة المخالفة القطعیّة ، أما بالنسبة إلی الموافقة ، فهو باقٍ علی حدّ الاقتضاء .

فظهر موارد الاختلاف فی المقام ، فهناک قولٌ بعدم الاقتضاء أصلاً ، و علی الاقتضاء ، فهل هو ذو اقتضاء أو علّة تامّة ، و علی العلیّة قولٌ بالعلیّة المطلقة و قولٌ بالتفصیل .

الاقتضاء أو العلیّة التامّة ؟

ذهب الشیخ و المیرزا (1) و غیرهما إلی التفصیل ، أی العلیّة التامّة بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیّة ، و الاقتضاء بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة .

ص:228


1- 1) فرائد الاصول 1 / 93 ، أجود التقریرات 3 / 86 .

و ذهب المحققان الأصفهانی و العراقی (1) إلی العلیّة التامّة فی الجهتین .

و کلمات صاحب الکفایة مختلفة ، فهنا یقول بالأوّل ، و فی مبحث الاشتغال بالثانی ، و کذلک فی حاشیته علی الکفایة فی هذا المقام کما لا یخفی علی من راجعها .

لکنّ السیّد الاستاذ قدّس سره أصرّ علی عدم عدول المحقق الخراسانی ، إذْ قال رحمه اللّٰه فی أوائل مباحث الاشتغال بعد بیان ما جاء فی الکفایة هناک :

و قد اورد علیه : بأن ظاهره کون العلم الإجمالی علّةً تامّةً للتنجیز کالعلم التفصیلی ، و أن الفرق بینهما من ناحیة المعلوم ، و هذا یتنافی مع ما تقدّم منه فی مباحث القطع من کونه مقتضیاً للتنجیز و تأثیره فیه بنحو الاقتضاء لا العلیّة التامّة .

قال :

و التحقیق : إنه لا تنافی بین ما أفاده فی الموردین بل هما متّفقان ، بیان ذلک ... (2) .

فراجعه و تدبّر .

رأی الشیخ

لقد أفاد رحمه اللّٰه ما ملخّصه : إذا تحقّق العلم بالتّکلیف إجمالاً ، سواء فی الشبهة الموضوعیّة کتردّد الخمر بین الإناءین ، أو فی الشبهة الحکمیة کتردّد الوجوب بین الظهر و الجمعة ، فإنّ المخالفة القطعیّة للتکلیف المعلوم بالإجمال حرام بحکم العقل ، لأنها معصیة ، و الترخیص فی المعصیة محال .

ص:229


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 88 ، نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 46 .
2- 2) منتقی الاصول 5 / 47 .

فإنْ قلت : إنّ المعصیة محرّمة بحکم العقل ، و لکنّ مقتضی الاُصول ارتفاعها ، و إذا انتفی موضوع حکم العقل انتفی الحکم بتبعه ، فإذا جرت أصالة الإباحة فی کلّ من الإناءین لم تبق الحرمة ، فلا معصیة ، فلا حکم من العقل .

قلت : إن کان الأصل جاریاً فی کلّ من الطرفین ، فإنّ الحکم المعلوم بالاجمال الموجود فی البین موجود و لا رافع له . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن جری الأصل فی الطرفین ، أنتج رفع الحکم بوجوب الاجتناب ، لکنه یناقض دلیل وجوب الاجتناب عن النجس فی البین .

ثم أمر الشیخ بالتأمّل کما فی نسخة ، و بالفهم کما فی نسخة .

و کأنه - کما ذکر المحشّون - للإشارة إلی عدم تمامیّة الوجه الثانی ، و ذلک للمنع من کون مرجع أصالة الطّهارة إلی عدم وجوب الاجتناب المخالف لقول الشارع : اجتنب عن النجس ، من جهة کونها حاکمةً علی أدلّة وجوب الاجتناب عن النّجس (1) .

رأی صاحب الکفایة

و ذهب المحقق الخراسانی إلی أن العلم الإجمالی مؤثّر ، لکن بنحو الاقتضاء بالنسبة إلی الموافقة و المخالفة کلیهما - فهو موافق للشیخ فی الموافقة و مخالف له فی المخالفة - فهذا مدّعاه ، و معنی ذلک أن للشارع الترخیص فی جمیع أطراف الشبهة ، و تجوز المخالفة العملیّة للتکلیف المعلوم بالإجمال . فقال :

ربما یقال : إنّ التکلیف حیث لم ینکشف به تمام الانکشاف و کانت مرتبة

ص:230


1- 1) قلائد الفرائد 1 / 88 ، بحر الفوائد 1 / 289 .

الحکم الظاهری معه محفوظة ، جاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً بل قطعاً ، و لیس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً إلّا محذور مناقضة الحکم الظاهری مع الواقعی فی الشبهة غیر المحصورة بل الشبهة البدویّة ، ضرورة عدم تفاوت فی المناقضة بین التکلیف الواقعی و الإذن بالاقتحام فی مخالفته بین الشبهات أصلاً ، فما به التفصّی عن المحذور فیهما ، کان به التفصّی عنه فی القطع به فی الأطراف المحصورة أیضاً کما لا یخفی .

نعم ، کان العلم الإجمالی کالتفصیلی فی مجرّد الاقتضاء لا فی العلیّة التامّة ، فیوجب تنجّز التکلیف أیضاً لو لم یمنع عنه مانع عقلاً ، کما کان فی أطرافٍ کثیرة غیر محصورة أو شرعاً کما فی إذن الشارع فی الاقتحام فیها ، کما هو ظاهر « کلّ شیء فیه حلال و حرام فهو لک حلال حتی تعرف الحرام منه بعینه » .

و بالجملة : قضیّة صحّة المؤاخذة علی مخالفته مع القطع به بین أطراف محصورة ، و عدم صحّتها مع عدم حصرها أو مع الإذن فی الاقتحام ، هو کون القطع الإجمالی مقتضیاً للتنجّز لا علّة تامّة .

ثم تعرّض لرأی الشیخ و قال عنه بأنه ضعیف جدّاً (1) .

أقول :

أمّا دلیله علی جواز المخالفة ، فتوضیحه : إن الحکم :

تارةً : فعلیّ من جمیع الجهات ، أی: إنّ الشارع لا یرضی بمخالفته أصلاً ، و مثل هذا الحکم لا یمکن الترخیص فیه ، بل المجعول هناک وجوب الاحتیاط ، فله علیّةٌ تامّة لحرمة المخالفة العملیّة .

ص:231


1- 1) کفایة الاصول : 272 - 273 .

و اخری : لیس فعلیّاً من جمیع الجهات ، و هناک یمکن الترخیص فی المخالفة .

و الحاصل : إنه فی القسم الأوّل لا یمکن جریان الأصل فی الأطراف ، و فی الثانی یمکن ، فالأمر یدور مدار غرض المولی من الحکم .

و بتقریب آخر : إن الأصل لا یجری فی أطراف الشبهة إلّا مع وجود المقتضی لجریانه و عدم المانع عنه ، و لمّا کان موضوع الأصل - أی الشک - متحقّقاً فی کلّ واحدٍ من أطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی ، کان المقتضی موجوداً .

و أمّا المانع ، فإمّا هو عقلی أو شرعی ، أمّا المانع العقلیّ من اندراج أطراف الشبهة تحت إطلاقات أدلّة الاصول فهو العلم ، و توضیح ذلک :

إنّ أدلّة الاصول العملیّة علی قسمین .

فمنها : ما هو غیر مغیّا بالعلم و الیقین و هو منطوق بلا مفهوم ، مثل قوله علیه السلام : « رفع ما لا یعلمون » ، فإنه یرفع الحکم المجهول ، و هو بإطلاقه یشمل الشبهة البدویّة و المقرونة بالعلم ، و لا مفهوم له . فلا مانعیّة لهذا القسم .

و منها : ما هو مغیّا بالعلم مثل : « لا تنقض الیقین بالشک بل انقضه بیقین آخر » ، و« کلّ شیء لک حلال حتی تعرف أنه حرام » ... و من المعلوم أنه إذا حصل العلم ارتفع الشک فلا موضوع لجریان الأصل ، و إلّا لزم التناقض أو التضاد بین مفاد الأصل و الحکم الواقعی .

یقول المحقق الخراسانی : إنّ هذا القسم أیضاً یشمل موارد العلم الإجمالی ، و لا محذور ، لأنّ شرط التضادّ أو التناقض أنْ یکون الحکم الظّاهری المدلول علیه بالأصل فی مرتبةٍ واحدة مع الحکم الواقعی حتی یلزم اجتماع

ص:232

الضدّین أو النقیضین ، لأنّ الحکم الظاهری فعلی علی جمیع التقادیر ، و الواقعی غیر فعلی کذلک .

هذا حلّاً .

و أمّا نقضاً : فإنه لو کان العلم مانعاً ، لزم منع الاحتمال الموجود فی الشبهات البدویّة عن جریان الأصل ، لأنّ احتمال اجتماع الضدّین أو النقیضین محال کالقطع بذلک ، و الحال أنّ الاصول تجری فی موارد الشبهات البدویّة ، فما به التفصّی عن المحذور هناک ، کان به التفصّی عنه فی القطع به فی الأطراف المحصورة .

و الحاصل : إن العلم الإجمالی کالتفصیلی فی مجرّد الاقتضاء لا فی العلیّة التامّة ، فیوجب تنجّز التکلیف لو لم یمنع عنه مانع عقلاً ، کما حصل المانع العقلی عن الاقتضاء فی الشبهة غیر المحصورة ، و المانع الشرعی فیما أذن الشارع فی الاقتحام فیه کما هو ظاهر الخبر : « کلّ شیء لک حلال » .

مناقشة المحقق الخراسانی

و یرد الإشکال علی المحقق الخراسانی فی حلّه و نقضه :

أمّا ما ذکره فی مرحلة الحلّ ، و یتلخّص فی :

أنّ الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال غیر واصل إلی مرحلة الفعلیّة بل باقٍ فی مرحلة الاقتضاء ، لکن الأصل العملی موضوعه هو الشکّ فی الحکم الواقعی و هو فی مرحلة الفعلیّة ، فلا تضادّ و لا تناقض بینه و بین الحکم الواقعی .

فالجواب :

إنّ فعلیّة الحکم عند المحقّق الخراسانی تدور مدار وجود الموضوع

ص:233

و قیوده - لا بوصول الحکم إلی المکلّف کما تقدم - وعلیه ، فعدم کون الحکم المعلوم بالإجمال فعلیّاً هو من أجل عدم العلم به بالتفصیل ، فما لم یکن علم تفصیلی بالحکم فذاک الحکم غیر فعلی ، و معنی هذا الکلام أن یکون للعلم التفصیلی بالحکم دخلٌ فی موضوع نفس الحکم ، و هل یعقل أخذ العلم بالحکم فی موضوع نفس الحکم ؟

قد تقدّم استحالة أخذ العلم بالحکم فی موضوع نفس الحکم .

و لو قیل : بأنّ المقصود هو أنّ العلم التفصیلی بالحکم فی مرتبة الإنشاء دخیل فی الحکم فی مرتبة الفعلیّة له . و هذا ممکنٌ عند صاحب الکفایة و جماعة .

قلنا : هذا فی عالم الثبوت ، و أین الدلیل علیه فی عالم الإثبات ؟ إنه لا یوجد دلیلٌ علی أخذ العلم التفصیلی بالحکم إنشاءً فی موضوع نفس الحکم فی مرحلة الفعلیّة .

هذا ، علی أنّ موضوع البحث - کما ذکر المحقق الأصفهانی - هو العلم الطریقی لا المأخوذ فی الموضوع .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : هل العلم الإجمالی بیانٌ للحکم أوْ لا ؟ و علی الأول ، تارةً یطابق الواقع و اخری یخالفه .

أمّا إن لم یکن للعلم الإجمالی بیانیةٌ أصلاً ، فهذا خلاف الفرض ، لأنّ المحقق الخراسانی قد قرّر أنّ للعلم الإجمالی اقتضاءً - و لیس کالشک و الجهل - و لذا لا تجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی مورد العلم الإجمالی .

فالعلم الإجمالی بیانٌ علی التکلیف من قبل المولی ، و إذا قام البیان علی

ص:234

التکلیف ، استحق العقاب علی مخالفته إن کان البیان مطابقاً للواقع ، لأن الارتکاب معصیة ، و إنْ کان مخالفاً للواقع ، فالارتکاب تجرٍّ من العبد ، و قد قرّر هذا المحقّق أن التجری هتک للمولی .

وعلیه ، فإنّ جریان الأصل فی طرفی الشبهة المحصورة ، یستلزم إمّا الإذن فی المعصیة ، و إمّا الإذن فی هتک المولی الحقیقی ، و کلاهما باطل .

و أمّا ما ذکره فی مرحلة النقض ، فالجواب :

أمّا عن الشبهة البدویّة ، فإن صاحب الکفایة نفسه ذهب إلی البراءة فی الشبهة البدویّة . و علی الجملة : إنه لا بیان فیها ، و مع عدم البیان فالعقاب قبیح .

بخلاف مورد العلم الإجمالی ، فإنه بیان ، و معه لا یجری الأصل . فبین المسألتین فرق واضح ، فالنقض غیر وارد .

نعم ، تبقی مشکلة جریان البراءة الشرعیّة ، إذ کیف یجمع بین الرفع و الوجوب المحتمل أو الحرمة المحتملة ، و قضیّة کیفیّة الجمع بین الحکم الظاهری و الحکم الواقعی ممّا تعرّض له العلماء ، و لکلٍّ منهم مسلک کما سیأتی .

و أمّا عن الشبهة غیر المحصورة ، فکلامه صریحٌ فی أنه قیاس مع الفارق ، لأنّه قد صرّح هناک بأن بقاء التکلیف فی مورد الشبهة غیر المحصورة ، یستلزم العسر و الحرج و الضرر ، و عمومات نفیها ترفعه ... فمن یقول هذا هناک ، کیف یعترض علی الشیخ هنا ؟

خلاصة البحث

إنّ العلم الإجمالی علّة تامة بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیّة :

أوّلاً : لأن الترخیص فی أطراف الشبهة المحصورة یستلزم التناقض فی

ص:235

حکم العقل .

و ثانیاً : إنّه یستلزم التناقض فی حکم الشرع أیضاً . و لا یرتفع ذلک باختلاف مرتبة الحکم الظاهری مع مرتبة الحکم الواقعی .

و وجه عدم الارتفاع هو : إنّ کلّاً من الحکمین مجعول شرعی ، و الحکم هو الإنشاء بداعی جعل الداعی ، و هل یعقل جعل الداعی إلی الفعل و عدم الترک ، و جعل الداعی إلی الترک و الترخیص ؟ إنه لا یعقل جعل الداعی إلی المتناقضین أو المتضادّین .

و بعبارة اخری : إنّ الحکم الواقعی یتعلّق به الغرض ، و جعل الترخیص فی مورده نقض للغرض ، و هو محال .

و تلخّص :

إن الحق مع الشّیخ ، و أنّ المخالفة القطعیّة للحکم المعلوم بالإجمال حرام .

بقی شیء یتعلّق بکلام الشیخ ، و ذلک أنه قال : بوجود المقتضی لجریان الأصل فی کلّ طرفٍ بخصوصه ، إلّا أنه لا أصل یرفع النجاسة أو الوجوب و الحرمة المعلومة بالإجمال الموجودة فی البین .

و هذا الکلام إنما یتمّ فیما إذا اجری الأصل بعنوان صلاة الظهر مثلاً بخصوصها أو الإناء الکذائی بخصوصه ... و لکنّ الأمر لیس کذلک ، بل المقصود إجراؤه بعنوان الصّلاة المحتمل وجوبها ، و الإناء المحتمل نجاسته أو خمریّته ، فإذا جری فی کلّ طرفٍ انتفی الوجوب أو النجس الموجود فی البین ، و یلزم التناقض .

و لا بأس - بعد ذلک - بذکر استدلال بعض أتباع الشّیخ فی المقام :

ص:236

کلام المیرزا

فمنهم : المحقق النائینی ، فإنه قال :

جریان الاصول العملیّة فی کلّ واحدٍ من الأطراف ، یستلزم الجمع فی الترخیص بین جمیع الأطراف ، و الترخیص فی الجمیع یضادّ التکلیف المعلوم بالإجمال ، فلا یمکن أنْ تکون رتبة الحکم الظّاهری محفوظة فی جمیع الأطراف ، نعم ، یمکن الترخیص فی بعض الأطراف و الاکتفاء عن الواقع بترک الآخر أو فعله .

و دعوی الملازمة بین حرمة المخالفة القطعیّة و وجوب الموافقة القطعیّة ، و أن العلم الاجمالی إمّا أنْ یکون علّةً تامّةً بالنسبة إلی کلا المرحلتین ، و إمّا أن لا یکون ، فهی ممّا لا شاهد علیها و لا سبیل إلیها ... (1) .

کلام العراقی

و منهم : المحقق العراقی ، إذ قال :

لا ینبغی الإشکال فی أنّ العلم الاجمالی کالعلم التفصیلی فی کونه علّةً تامّةً لإثبات الاشتغال بالتکلیف و تنجیزه ، علی وجهٍ یأبی العقل عن الترخیص علی خلافه ، و یشهد لذلک ارتکاز المناقضة هنا کما فی العلم التفصیلی ، فإنها من تبعات علّیة العلم الإجمالی و تنجیزیّة حکم العقل بالاشتغال ، و لو لا علیّته لما تحقّقت المناقضة المزبورة .

و بذلک یتّضح فساد القول بالاقتضاء ، فضلاً عن القول بعدم الاقتضاء رأساً و أنّه کالشک البدوی . (2)

ص:237


1- 1) فوائد الاصول 3 / 77 .
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 46 .
کلام السیّد الخوئی

و منهم : السیّد الخوئی ، قال :

قد منع الشیخ قدّس سرّه عن ذلک ، لکونه مستلزماً لوقوع المناقضة بین صدر الروایات و ذیلها ، و ذلک لأن مقتضی إطلاق صدر الروایات کقوله علیه السلام فی روایة مسعدة بن صدقة « کلّ شیء هو لک حلال » و قوله علیه السلام فی حدیث عبد الله بن سنان « کلّ شیء فیه حلال و حرام فهو لک حلال » و أمثال ذلک ثبوت الحکم الظاهری فی أطراف العلم الإجمالی ، إذ کلّ واحد من الأطراف یشک فی حلیّته ، فیصدق علیه هذا العنوان ، و مقتضی إطلاق ذیلها و الغایة المذکورة فیها - أعنی بها العلم بالحکم الواقعی أو معرفته الشامل للعلم الإجمالی - هو عدم ثبوت الحکم الظاهری فی بعض الأطراف ، و هذا معنی المناقضة بین الصّدر و الذیل ، فإن نقیض الموجبة الکلیة هی السالبة الجزئیة ، فلا بدّ من رفع الید عن إطلاق صدر الروایات و تقییده بالشبهات البدویة ، أو عن إطلاق ذیلها و تقییده بالعلم التفصیلی ، و لا مرجح لأحدهما علی الآخر ، فلا محالة تکون الروایات من هذه الجهة مجملة ، فلا بدّ من الرجوع فی مورد العلم الإجمالی إلی حکم العقل ، و قد عرفت أن العقل لا یفرّق بین العلم الإجمالی و التفصیلی فی المنجزیة ، بعد ما لم یکن فی موارد العلم و لو کان إجمالیاً مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بیان .

ثم إنه قدّس سرّه ذکر شبهة لإثبات اختصاص الغایة بالعلم التفصیلی و حاصلها : أن کلمة « بعینه » المذکورة فی ذیل بعض الأخبار الواردة فی المقام ، دالّة علی اعتبار العلم التفصیلی فی حصول الغایة .

و أجاب عنها : بأنه لا یستفاد من هذه الکلمة إلّا التأکید ، فإنه یصح عرفاً أن

ص:238

یقال : أعرف نجاسة إناء زید بعینه ، فیما إذا علم بنجاسته و تردد بین إناءین و لم یکن إناء زید متمیزاً عن غیره .

أقول : یرد علی ما أفاده .

أولاً : إن العلم أو ما هو بمعناه المأخوذ غایة فی هذه الروایات ظاهر عرفاً فی خصوص ما یکون منافیاً للشک فی کلّ من الأطراف ، و بعبارة اخری : ظاهر قوله علیه السلام : « لا تنقض الیقین أبداً بالشک و إنما تنقضه بیقین آخر » هو أن الغایة إنما هو الیقین المتعلق بعین ما تعلق به الشک بحیث یکون رافعاً له ، لا مطلق الیقین و لو تعلق بغیر ما کان الشک متعلقاً به ، و هذا واضح جداً ، وعلیه ، فالغایة لا تحصل بالعلم الإجمالی ، و لا یشمله ذیل هذه الأخبار ، فالإطلاق فی صدرها بلا معارض .

و ثانیاً : إن الشیخ رحمه اللّٰه لا یلتزم بهذا ، إذ لازمه عدم جریان الاصول فی أطراف العلم الاجمالی و لو لم یکن منجزاً بخروج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء أو بغیر ذلک ، فإذا علم المقلد إجمالاً بموت أحد شخصین مردد بین مقلّده و شخص آخر أجنبی عنه ، فإن لازم ذلک أن لا یتمکن من إجراء الاستصحاب فی حیاة مقلّده .

و ثالثاً : إن ما أفاده من أن کلمة « بعینه » لا تدلّ علی اعتبار التمییز بل تکون للتأکید ، و إن کان متیناً فی الجملة ، و لکنه لا یتم فی جمیع الروایات الثلاثة التی ذکرت فیها هذه الکلمة ، فإن فی روایة عبد الله بن سنان عن الصادق علیه السلام :

« کلّ شیءٍ فیه حلال و حرام فهو لک حلال حتی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه » ، و من الواضح أن معرفة الحرام من الشیء بعینه فرع تمییزه عن غیره ، و هکذا معرفة

ص:239

النجس من الشیء ، و هذا بخلاف معرفة أن الشیء نجس بعینه الذی مثّل به الشیخ قدّس سرّه ، و کم فرق بین التعبیرین بحسب الظهور العرفی ، فذیل هذه الروایة غیر شامل لأطراف العلم الإجمالی ، فلا مانع من التمسک باطلاق صدرها و إن قلنا بإجمال غیرها من الروایات ، و سیأتی تفصیل الکلام إن شاء اللّٰه فی خاتمة الاستصحاب .

فالصحیح : أن المانع عن إجراء الاصول فی المقام ثبوتی لا إثباتی . (1)

کلامٌ للسید البروجردی و مناقشته

و ذکر السیّد البروجردی (2) : أن ما ذکر - من عدم إمکان جعل المرخّص فی الأطراف - تامٌّ فی موارد قیام العلم الإجمالی کما تقدّم ، و أمّا إنْ کان القائم علی الموضوع أو التکلیف هو الحجة الشرعیّة غیر العلم فلا . مثلاً : لو قامت البیّنة علی نجاسة أحد الإناءین ، فالشبهة موضوعیّة و الحجة هی البیّنة ، أو کانت الشبهة حکمیة ، کأنْ یقوم خبر الواحد علی الوجوب المردّد بین الظهر و الجمعة ، فإنه یحتمل کذب البیّنة و اشتباه المخبر ، و حینئذٍ ، یمکن جعل الأصل المرخّص ، لإمکان رجحان مصلحة الترخیص علی مصلحة العمل بالحجة . فظهر الفرق بین العلم و الحجّة .

و فیه :

إن جعل المرخّص فی الأطراف معلّق - بحکم العقل - علی أنْ لا یکون ترخیصاً فی القبیح ، و لزوم الترخیص فی القبیح الممنوع عقلاً حاصل فی موارد

ص:240


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 90 - 91 .
2- 2) حاشیة الکفایة 2 / 39 .

قیام الحجّة کموارد العلم الإجمالی بلا فرق .

لقد تقدّم أنّ العقل یحکم بحرمة المخالفة القطعیّة لتکلیف المولی من باب أنّ مخالفته هتک له ، و حکمه بحرمة هتکه تنجیزی یمنع من جعل الترخیص ، و حکمه بذلک لیس من جهة قیام العلم بما هو علم ، بل لأن العلم أحد مصادیق الحجّة ، فالملاک عند العقل هو قیام البیان علی التکلیف الشرعی ، فإذا قام بأیّ حجةٍ من الحجج لم یجز الخلاف لأنه هتک له ، فلا یجوز جعل المرخّص .

و هذا تمام الکلام فی مرحلة ثبوت التکلیف بالعلم الإجمالی و حرمة مخالفته .

ص:241

الکلام فی سقوط التکلیف بامتثاله إجمالاً
اشارة

فهل یسقط التکلیف بالعلم الاجمالی بالامتثال ، و تحصل الإطاعة و یسقط التکلیف بذلک ؟

هنا جهات من البحث:

الجهة الاولی هل یکفی الامتثال العلمی الإجمالی مع التمکن من الامتثال التفصیلی ؟

الجهة الثانیة هل یکفی الامتثال الظنّی مع التمکن من الامتثال العلمی الإجمالی ؟

و الجهة الثالثة هل یمکن الاکتفاء بالامتثال الإجمالی مع التمکن من الامتثال التفصیلیّ الظنّی بالظن المطلق بناءً علی الانسداد ؟

وجوه الإشکال فی کفایة الامتثال الإجمالی

وجه الإشکال فی الاکتفاء فی هذه الموارد امور :

1 - اعتبار قصد الوجه فی الواجبات ، و قد ادّعی الإجماع علی ذلک ، کما یظهر بالتتبّع فی کلمات المحقق فی الشرائع و العلامة فی التذکرة و المنتهی ، و الشهید الأوّل فی الدروس و الثانی فی المسالک و المحقق الثانی و غیرهم (1) .

ص:242


1- 1) انظر : مفتاح الکرامة فی شرح قواعد العلّامة 6 / 625 .

کما اقیم الدلیل أیضاً علی اعتبار قصد الوجه و التمییز .

2 - أخبار وجوب التعلّم . فإن إطلاقها یشمل الأحکام الشرعیّة .

3 - لزوم التکرار فی العبادة ، و هو ینافی العبادیّة ، لاستلزامه العبث بأمر المولی .

4 - ضرورة رعایة مراتب الامتثال ، فمع التمکن من المرتبة السّابقة لا تجزی المرتبة اللّاحقة .

الکلام علی اعتبار قصد الوجه فی العبادات

أمّا الإجماع علی اعتبار قصد الوجه ، فدعوی تحصیله مشکلٌ ، و علی فرضه ، فإنه غیر کاشف عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر ، لکونه محتمل الاستناد إلی بعض الوجوه العقلیّة ، کقولهم : بأن الأحکام الشرعیّة ألطاف فی الواجبات العقلیّة ، فالموضوع للحکم هو الواجب العقلی ، و حینئذٍ ، یکون الحکم بالحسن و القبح مترتّباً علی الموضوع ، فإذا لم یقع العمل بعنوان الموضوع و بقصده بالخصوص ، لم یترتب علیه الأثر .

و هذا هو الوجه الأوّل فی الاستدلال علی اعتبار قصد الوجه فی العبادات .

و هو باطلٌ ، لاستلزامه کون أوامر الشارع فی العبادات إرشادیّةً إلی الأحکام العقلیّة ، فیسقط الشارع عن المولویّة ، و قد تقرّر أن العقل لا مولویّة له بل هو مدرکٌ فقط ... و سقوط أحکام الشارع عن المولویّة باطل .

و حلّ المطلب هو : إن الأحکام الشرعیّة معلّلة بالأغراض المتعلّقة بالملاکات ، فالأحکام تابعة للملاکات ، هذا صحیح ، و لکنْ لا دلیل علی أن یکون

ص:243

الملاک هو الموضوع للحکم حتی یُقصد ... فإنّ الشارع یقول «أَقِمِ الصَّلٰاةَ » (1)، و یقول «إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهیٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَالْمُنْکَرِ » (2)فهل یقصد الناهی عن الفحشاء و المنکر لدی إقامة الصّلاة ؟ بأی دلیلٍ ؟ إنه قال : الصلاة واجبة ، و لم یقل : النهی عن الفحشاء واجب ، فمقام الإثبات لا یساعد علی ما ذکر .

الوجه الثانی : إنه مقتضی قاعدة الاشتغال ، و ذلک :

لأنا نحتمل مدخلیّة قصد الوجه فی تحقق الإطاعة ، و هذا الاحتمال کافٍ لوجوب الإتیان بالعمل بقصد الوجه و عدم کفایة الامتثال الإجمالی ، لأن قصد الوجه فرع وجود الحکم ، لأنه من شئون الحکم ، و لا یمکن أخذ الفرع فی الحکم ، لِما تقرّر - فی بحث التعبّدی و التوصّلی - من عدم إمکان أخذ قصد الأمر فی متعلّق الأمر ، وعلیه ، فإنْ أمکن رفع هذا الوجوب بأصلٍ لفظی أو عملی فهو ، و إلّا وجب التحقیق عن الوجه اجتهاداً أو تقلیداً و الإتیان بالعمل بقصده ... و لا أصل فیما نحن فیه ، أمّا اللّفظی ، فلا یجری الإطلاق ، لعدم إمکان التقیید ، سواء قلنا بأن النسبة بینهما هو نسبة السلب و الإیجاب أو العدم و الملکة . و أمّا العملی ، فلیس إلّا البراءة ، لکنّ قصد الوجه لا یمکن رفع وجوبه بها ، لأنه لا یمکن أخذه فی متعلّق التکلیف کما تقدم ، فما لا یمکن وضعه لا یمکن رفعه .

و إذا کنّا نحتمل دخل قصد الوجه و نشکّ فی تحقق الامتثال بدونه ، و لا أصل رافع للحکم ، فلا یحصل الامتثال إلّا بقصد الوجه . کما أن قاعدة الاشتغال بالغرض من التکلیف أیضاً تقتضی وجوب تحصیل قصد الوجه .

ص:244


1- 1) سورة الإسراء : 78 .
2- 2) سورة العنکبوت : 45 .

و الجواب

إنّ هذا الوجه یبتنی علی مقدّمتین .

الاُولی احتمال دخل الوجه فی الغرض وجداناً ، و أنه لا یمکن أخذه فی المتعلّق .

و الثانیة إنّ کلّ ما یحتمل دخله فی الغرض الذی لا یتمکّن المولی من البیان له یحکم العقل بلزوم الإتیان به .

لکنّ الکلام فی المقدّمة الثانیة .

أمّا علی القول بأنه : لا یمکن أخذ قصد الوجه لا بالأمر الأوّل و لا بالأمر الثانی - کما علیه المحقق الخراسانی - ، فإنه تجری قاعدة الاشتغال و لا مجال للبراءة ، لأن الأمر یکشف إنّاً عن الغرض فهو علّة للأمر ، و ما لم یحصّل الغرض لم یسقط الأمر ، و مع الشک فی تحصیل الغرض بلا قصدٍ للوجه ، فالمحکّم قاعدة الاشتغال .

و ما قیل - من جریان البراءة العقلیّة ، لأن الغرض یمکن أن یکون قائماً فی الواقع بالصّلاة مع قصد الوجه ، لکن المولی غیر قادر علی بیان ذلک ، و الأمر غیر کاشف عن هذه الخصوصیّة ، و إذْ لا بیان عن الغرض ، فهو مجری قاعدة البراءة - .

فیه : إن قاعدة قبح العقاب بلا بیان إنما تجری حیث یکون البیان مقدوراً ، و المفروض أن المولی غیر متمکّن من بیان دخل القصد فی الغرض مع احتماله واقعاً ، وعلیه ، فلا یجری البراءة بل الجاری أصالة الاحتیاط ، بمقتضی وظیفة العبودیة . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه بمجرّد عدم الجزم بحکم العقل بقبح العقاب ، و احتمال

ص:245

استحقاقه ، یتمُّ الموضوع لقاعدة الاحتیاط ، لأن دخل القصد فی الغرض الواجب تحصیله منجّز عقلاً کالقطع به ، و قد ظهر أنْ لا دافع لهذا الاحتمال .

إلّا أنّ الکلام فی صغری المقام ، و هو عبارة عن عدم تمکّن المولی من بیان الغرض ، أمّا علی القول بإمکان قصد الوجه فی المتعلّق - کما علیه المحقق العراقی - فواضحٌ ، لأن المولی بناءً علیه متمکّن من البیان و لم یبیّن ، فیؤخذ بأصالة الإطلاق . و أمّا علی القول بإمکان ذلک بالأمر الثانی - کما علیه المیرزا - فإنه یؤخذ بنتیجة الإطلاق .

و أمّا المحقق الخراسانی - القائل بعدم الإمکان لا بالأمر الأوّل و لا بالأمر الثانی - فجوابه عن هذا الدلیل هو : التمسّک بالإطلاق المقامی ، بأنه : لو کان قصد الوجه دخیلاً فی الغرض ، فلا یخلو إمّا أنّ دخله فیه ممّا لا یغفل عنه المکلّفون عموماً ، فلا یجب علیه البیان ، و إمّا أنّه ممّا یغفلون عنه و هو فی مقام البیان ، فالواجب علیه البیان لئلّا یلزم الإغراء بالجهل ، و إذ لم یأت البیان و التنبیه علی الغرض ، فالإطلاق المقامی ثابت .

فظهر سقوط الاستدلال علی جمیع الأقوال .

وعلیه ، فلا مانع من الامتثال الإجمالی من ناحیة قصد الوجه .

تفصیل المیرزا

و ذهب المیرزا إلی التفصیل بین موارد الامتثال الإجمالی . و حاصل کلامه (1) :

ص:246


1- 1) أجود التقریرات 3 / 75 .

أمّا فی الشبهة الموضوعیّة ، فلا کلام فی کفایة الامتثال الإجمالی و جواز الاحتیاط ، و لا حاجة إلی الإتیان بالعمل عن اجتهاد أو تقلید .

و فی الشبهة الحکمیّة بعد الفحص أیضاً ، لا ریب فی حسن الاحتیاط .

إنما الکلام فی الشبهة الحکمیّة قبل الفحص ، حیث أنّ التکلیف منجّز ، فهل یکفی الامتثال الإجمالی أوْ لا ؟

و کذلک فی مورد دوران الأمر بین المتباینین ، حیث أن التکلیف منجّز بالعلم الإجمالی ، کدوران الأمر بین الظهر و الجمعة ، فهل یجب تحصیل العلم التفصیلی أو یکفی الامتثال الإجمالی ؟

و لو دار الأمر بین الأقلّ و الأکثر ، کما فی السّورة فی الصلاة هل هی واجبة أو مستحبّة ، جاز الامتثال الإجمالی ، و مثله الشک فی وجوب جلسة الاستراحة و عدم وجوبها .

و قد یدور الأمر بین الأقل و الأکثر إلّا أن مورد الشک مردّد بین المتباینین ، کما لو شک فی حکم القراءة فی صلاة الجمعة أنّها عن جهرٍ أو إخفات ، فبین الجهر و الإخفات تباین ... و قد ذهب فیه إلی إمکان الامتثال الإجمالی .

و لما ذهب إلیه المیرزا من التفصیل مقدّمات :

الاولی : إن الحاکم فی باب الإطاعة و العصیان هو العقل ، و الأوامر الشرعیّة فی هذا الباب کلّها إرشاد إلی حکم العقل ، و إنْ کان للشارع أن یعتبر خصوصیّة أو یشترط شرطاً مثلاً فی حال قدرته علی ذلک ... و إذا کان الحاکم هو العقل ، فمن أمکنه الإطاعة عن اجتهاد أو تقلید ، فلا یکفی الاحتیاط ... إلّا إذا أذن المولی بذلک ، و إلّا فمقتضی قاعدة الاشتغال عدم براءة الذمّة .

ص:247

الثانیة : إن العقل یری للامتثال مراتب .

فالاولی : الامتثال التفصیلی ، و هو الامتثال عن حجةٍ ، سواء کان هو العلم أو الظن خاصّ أو الظن المطلق عند تمامیّة مقدمات الانسداد .

و الثانیة : الإطاعة الإجمالیّة ، فإنها مقدّمة علی الظنیّة ، لأنه بعد الفراغ یعلم بحصول الامتثال للأمر و إنْ جاهلاً بالخصوصیّة ، کما لو صلّی الظهر و الجمعة کلتیهما .

و الثالثة : الامتثال الظنی .

و الرابعة : الامتثال الاحتمالی .

الثالثة إنه لا ریب فی تقدّم الظنی علی الاحتمالی . قال : و الامتثال التفصیلی مقدّم علی الإجمالی ، لأنه یکون منبعثاً عن أمر المولی و بعثه ، و العقل حاکم بضرورة تحرّک العبد بأمر مولاه ، مع التمکّن من ذلک ، فإن الإطاعة الإجمالیّة لیست إطاعةً لأمر المولی ، و لو شکّ فی کفایة الامتثال الإجمالی عن التفصیلی ، فإن مقتضی الأصل هو التعیین .

المناقشة مع المیرزا

أوّلاً : إن الانبعاث فی جمیع الموارد من البعث ، و الدّاعی للإطاعة فیها هو أمر المولی ، نعم ، للعلم و الاحتمال دخل فی الدّاعویّة ، لکنّ الدّاعی و المحرّک هو الأمر ، فإذا أتی بالعمل بداعی الأمر فقد امتثل ، و لا فرق بین الموارد .

و فیه : إنّ الأمر - و کذا النهی - له وجود قائم بنفس الآمر و الناهی ، فتارةً :

یتحقّق له صورة ذهنیّة ، و اخری : لا ، و إذا تحقّقت فتارةً : لا یحتمل معها الخلاف و اخری : یحتمل ، و علی الأوّل ، فتارةً : تکون الصّورة مطابقةً للواقع ، و اخری :

ص:248

مخالفةً له .

و علی کلّ حالٍ ، فإن التحرّک یکون دائماً من الصّورة الخارجیّة .

إنّ حکم الأمر و النهی حکم سائر الأشیاء ، فإنّ الذی یحرّک العطشان ، لیس الوجود الخارجی للماء ، بل الصّورة الذهنیّة له .

و الحاصل : إنه لیس الداعی هو الأمر بنفسه ، بل الدّاعی هو الصّورة النفسانیّة ، و إلّا یلزم خارجیّة النفسانی أو نفسانیّة الخارج ، و کلاهما غیر معقول .

فما أفاده صاحب المستمسک (1) مردود .

ثانیاً : إن الانقیاد للمولی حسن ، إلّا إذا طرأ علیه عنوان آخر ، فهو کالصّدق فإنّه حسن عقلاً إلّا إذا استلزم هلاک المؤمن مثلاً ، فإنّه مع طرو هذا العنوان یصیر قبیحاً .

وعلیه ، فإن العمل الاحتیاطی لمّا کان انقیاداً للمولی فهو حسن ، فإنْ کان التمکن من الإطاعة التفصیلیّة موجباً لقبح الإطاعة الإجمالیّة ، تمّ الاستدلال المذکور ، لکنّ ذلک باطل قطعاً ، فإنّ التمکن من الامتثال التفصیلی لیس مثل لزوم هلاک المؤمن لیکون الامتثال الإجمالی قبیحاً ... کما أنّ حسن الاحتیاط لیس متقوّماً بعدم التمکن من الامتثال التفصیلی ... و حینئذٍ ، یکون حسنه و الانقیاد به بلا مزاحم ، فیتحقق به الامتثال ، سواء أمکن الامتثال التفصیلی أوْ لا . قاله المحقق الأصفهانی (2) .

و فیه : إن هذا سهو من قلمه ، لأن الانقیاد یقابله التجرّی ، و قد ذکر سابقاً أن

ص:249


1- 1) حقائق الاصول 2 / 57 .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 114 .

قبح التجرّی هو من باب لزوم هتک المولی ، و الهتک ظلمٌ ، فیکون الانقیاد له حسناً و هو عدل ، و حسن العدل ذاتیّ له و قبح الظلم ذاتی له کذلک . فقیاس الانقیاد علی الصّدق غیر صحیح ، و قد قرّر هو رحمه اللّٰه أن حسن الصّدق اقتضائی و قبح الکذب اقتضائی ، بخلاف العدل و الظلم ، فإن الحسن و القبح ذاتیّان .

هذا بالنسبة إلی القیاس المذکور فی کلامه .

و أمّا أصل المطلب ، فإن الانقیاد - مثل الإطاعة - موضوع لحکم العقل بالحسن و هو حسن ذاتی ، لأن الانقیاد عدل فی العبودیّة ، کما أنّ التجرّی ظلم فی العبودیّة . هذا من جهة .

و من جهةٍ اخری : فإنّ العمل تارةً : توصّلی ، و اخری : تعبدی . أمّا التوصّلی فخارج عن البحث ، و أمّا التعبّدی ، فإنّ العقل - الحاکم فی الباب - یحکم بلزوم الإتیان بالعمل مضافاً إلی المولی ، و إذا کان العقل یکتفی فی تحقق العبادیّة بإضافة العمل إلی المولی ، فلا فرق بین الإضافة التفصیلیة و الإجمالیة ، إن لم یکن الإتیان بالعمل بداعی احتمال أمر المولی أقوی فی المقربیّة .

و هذا هو الجواب الصحیح عن کلام المیرزا .

ثالثاً : إنه إنْ احتمل دخل الامتثال التفصیلی فی حصول الغرض ، فإنّ هذا الاحتمال یرتفع بحدیث الرفع ، توضیحه :

إنّ المولی إذا کان غیر متمکّن من البیان بالأمر الأوّل ، لکون الامتثال التفصیلی متأخّراً فی الرتبة عن مرتبة تعلّق الأمر ، فقد کان بإمکانه بیان ذلک بالأمر الثانوی ، فیکون مجری حدیث الرفع ، لأن ذلک کان ممّا یمکن وضعه ، فهل هو موضوع أوْ لا ؟ رفع ما لا یعلمون .

ص:250

و هذا الإشکال من المحقق الأصفهانی أیضاً (1) .

و فیه : هذا الإشکال نشأ من عدم التدبر فی کلام المیرزا . لقد قاس الأصفهانی اعتبار الامتثال التفصیلی علی اعتبار قصد الوجه ، و أنّ البراءة تجری هنا کما جرت هناک . و ذهب الأصفهانی إلی إمکان اعتبار الامتثال التفصیلی بالأمر الثانوی .

لکن المیرزا قال فی الدّورة الاولی : بأنه لا یقاس الامتثال التفصیلی بمسألة اعتبار قصد الوجه ، للفرق بینهما ، لأنّ قصد الوجه یمکن أخذه فی المتعلّق بالأمر الثانوی ، أی بنتیجة التقیید یمکن تقیید العمل بقصد الوجه ، و إنْ کان قصد الوجه متأخّراً رتبةً ، و مع الشک تجری البراءة ، لدوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، لکنّ هذا لا یجری فی اعتبار الامتثال التفصیلی ، لأنّ الأمر فیه دائر بین التعیین و التخییر ، و مقتضی القاعدة الأوّل .

هذا کلامه فی الدّورة الاولی (2) .

أمّا فی الثانیة (3) ، فقد طرح هذه المسألة ، و ذهب إلی عدم جواز البراءة من جهة أنها إنما تجری فیما یکون وضعه بید الشّارع ، و قضیّة الامتثال التفصیلی ترجع إلی کیفیة الطّاعة و الحاکم فیها هو العقل ، فلا وضع فیها للشارع ، لا تأسیساً و لا إمضاءً ، و ما کان کذلک فلا یرفع .

فالإشکال علی المیرزا مندفع بما ذکره فی الدّورتین .

ص:251


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 114 .
2- 2) فوائد الاصول 3 / 67 .
3- 3) أجود التقریرات 3 / 80 - 81 .

و رابعاً : أشکل المحقق العراقی (1) : بأنّ قول المیرزا إن تقیید المتعلّق بمرتبة الامتثال عقلی ، غیر صحیح ، بل هو شرعی ، لأنّ غرض المولی إنْ کان قائماً فی الواقع بکیفیةٍ معیّنة من العمل ، فإنّ کون غرضه بالنسبة إلی الامتثال التفصیلی مهملاً محال ، فإنْ کان للامتثال التفصیلی دخل فی الغرض فهو مقیّد و إلّا فمطلق .

و الحاصل رجوع الأمر إلی مرحلة الاشتغال ، لأنه یتعلّق بکیفیة اشتغال الذمّة بالتکلیف ، خلافاً للمیرزا ، إذ أرجعه إلی مرحلة الإطاعة و الامتثال ، حیث الحاکم هو العقل ... و إذا کان راجعاً إلی مرحلة الاشتغال ، فإنّه من الممکن أن یبیّن الشارع أنه یرید العمل عن اجتهادٍ أو تقلیدٍ ، و إذْ لم یبیّن ، فقاعدة قبح العقاب بلا بیان جاریة .

و هذا الإشکال قوی .

خامساً : و أشکل الاستاذ دام بقاه علی المیرزا : بأنّه إذا کان الحاکم فی مرحلة الامتثال و الفراغ هو العقل ، إلّا أن للشارع التصرّف فی حکم العقل ، بأنْ تجعل البدل و ینزّل الفرد المشکوک الصحّة بمنزلة الصحیح ، أو العمل المشکوک المقربیّة و المحقّق للامتثال حقیقةً ... فإنا نقول : أمّا الواجب التوصّلی إنما یتحقّق الامتثال فیه بالإتیان بما تعلّق به الطلب بلا شیء زائد علیه فهو خارج عن البحث ، و أمّا الواجب التعبّدی ، فیعتبر فیه أنْ یکون الإتیان به علی وجهٍ قربی ، لکنّ العقل یکتفی فی المقربیّة إلی المولی بمجرّد کون العمل مضافاً إلیه ، و أنه تحقّق الطّاعة بالإتیان بالعمل بداعی الغرض ، أو بداعی الأمر ، أو بداعی احتمال الغرض أو

ص:252


1- 1) فوائد الاصول 3 / 68 - 69 . الهامش .

الأمر ... لأنّه تتحقّق الإضافة إلی بأی داعٍ من هذه الدواعی ، و مجرّد الإضافة کاف فی تحقق الفراغ و الامتثال .

و حینئذٍ ، فلا یبقی ریب فی کفایة الامتثال الإجمالی حتی مع التمکّن من الامتثال التفصیلی .

الاحتیاط عبث و لعب بأمر المولی ؟

و من الإشکالات علی الامتثال الإجمالی مع التمکن من التفصیلی هو : إنه لعبٌ بأمر المولی و عبث ، و الفعل العبث لا یحقّق الامتثال و الطاعة بل بینهما تضادّ .

و قد تعرّض الشیخ لهذا المطلب هنا (1) - و فی شرائط جریان الاصول - و ملخّص کلامه فی المقام هو : إن العقل یدعو إلی الطاعة ، و لا یفرّق بین الطاعة التفصیلیّة و الإجمالیّة ، فالمهم أن یری المکلّف نفسه بعد العمل مطیعاً للمولی ، و إنْ استلزم تکرار العمل ، فإن المهم إحراز الطاعة و الامتثال للتکلیف .

و هذا الکلام متین .

لکنّ الشیخ قد طرح إشکالات :

أوّلها : قد یقال : بأنّ تحقق الطّاعة بالامتثال التفصیلی قطعی ، و أمّا تحققها بالامتثال الإجمالی بتکرار العمل ، فمشکوک فیه .

و الثانی : إن تکرار العمل خلاف سیرة المتشرعة .

و الثالث : إنّه یعتبر الآتی بالعمل علی وجه التکرار لاعباً بأمر المولی .

و الرابع : الاتفاق علی بطلان هکذا عمل . إدّعاه صاحب الحدائق .

و الخامس : السیرة العقلائیّة .

ص:253


1- 1) فرائد الاصول 1 / 71 .
النظر فی الاشکالات المطروحة فی کلام الشیخ

أمّا السیرة العقلائیة ، فهی بناءً علی تمامیّتها هنا دلیل لبّی ، و القدر المتیقّن منها أنْ یکثر التکرار بحیث یخرج العمل عن العقلائیّة ... فلیس مطلق التکرار علی خلاف سیرة العقلاء .

و أمّا سیرة المتشرّعة ، فکذلک ، لأنّهم یستنکرون التکرار الکثیر ، أمّا استنکارهم مطلق التکرار فأوّل الکلام . هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن سیرة المتشرعة هی الإجماع العملی من أهل الشرع ، و متی احتمل استناد إجماعهم إلی دلیلٍ - کالاتفاق الذی ادّعاه صاحب الحدائق أو الشک فی تحقق الطاعة - سقط عن الاعتبار .

و أمّا الاتّفاق - و الظاهر من کلماته المختلفة اهتمامه به - ففیه : إنّ المسألة غیر مطروحة فی کلمات قدماء الأصحاب . و علی فرض تحقّقه ، فإنه إجماع منقول و هو لیس بحجّة عند الشیخ و غیره ... علی أنه محتمل الاستناد .

و أمّا الشک فی تحقق الطاعة بالتکرار مع التمکن من الامتثال التفصیلی .

فالجواب عنه : إن حقیقة الطاعة هی الإتیان بما تعلّق به التکلیف ، و المفروض تحقّقها بعد العمل یقیناً ، و قد تقدّم أنْ لا یدخل للخصوصیّة فی تحقّقها .

و أمّا أنّ التکرار لعبٌ ، فقد أجاب صاحب الکفایة (1) : بأنه لا لعب مع الغرض العقلائی .

لکنْ فیه : إن المطلوب مقربیّة العمل إلی المولی ، و لیس الغرض العقلائی

ص:254


1- 1) کفایة الاصول : 274 .

ممّا یتحقّق به القرب .

و الصحیح فی الجواب : إن اللّعب إنّما یصدق مع کثرة التکرار . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : اللّعب إنْ کان ، فهو فی کیفیة الطّاعة لا فی نفسها .

منافاة الاحتیاط مع روایات التعلّم

و الإشکال الأخیر علی القول بکفایة الامتثال الإجمالی عن التفصیلی هو :

منافاته مع الروایات الکثیرة الآمرة بالتعلّم ، فإنّها تقتضی وجوب الإتیان بالعمل عن الاجتهاد أو التقلید ، لأنه یکون عن علمٍ ، فالقول بکفایة الامتثال الإجمالی طرح لجمیع هذه الروایات .

و الجواب

إن الوجوب فی الشریعة علی أقسام :

أحدها : الوجوب النفسی فإنْ کانت الروایات دالّةً علی وجوب التعلّم وجوباً نفسیّاً ، بأن یکون الغرض من جعل التکلیف قائماً بنفس العمل ، فالإشکال وارد .

و الثانی : الوجوب الإرشادی ، بأنْ یکون ارشاداً إلی حکم العقل .

و الثالث : الوجوب الغیری ، بأنْ تکون المصلحة غیر قائمة بالعمل بل بما یراد الوصول إلیه بالعمل .

و الرابع : الوجوب الطریقی ، بأنْ یکون الداعی إلی الجعل هو التحفّظ علی الواقع کما فی موارد جعل الاحتیاط ، و قد یجعل الاحتیاط بملاک أنه یقوّی العزم علی الإطاعة و حصول الملکة ، فیکون وجوبه نفسیّاً .

أمّا حمل روایات التعلّم علی الإرشاد ، فغیر صحیح ، لإمکان حملها علی

ص:255

المولویّة ثبوتاً ، و الأصل فی الخطابات الشرعیّة هو المولویّة .

و أمّا حملها علی الوجوب الغیری ، بأنْ یکون التعلّم واجباً شرعاً من باب المقدّمة ، فهذا أوّل الکلام ، للاختلاف فی وجوب مقدّمة الواجب بالوجوب الشرعی . هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن مورد الوجوب الغیری المقدّمی هو ما یکون ذو المقدّمة موقوفاً علی المقدمة فی الوجود ، و لیس التعلّم ما یتوقف وجود ذی المقدّمة علیه ، بل التعلّم مقدّمة علمیّة لذی المقدّمة ، و الفرق بین المقدّمة الوجودیّة و المقدّمة العلمیّة واضح .

فیدور أمر وجوب التعلّم بین أن یکون نفسیّاً أو طریقیّاً ، لکنّه لیس وجوباً نفسیّاً ، لوجهین :

أحدهما : ما اشتملت تلک الروایات علیه من القرینة علی عدم النفسیّة ، مثل الخبر : «إن اللّٰه تعالی یقول للعبد یوم القیامة :

عبدی ، أ کنت عالماً ؟

فإنْ قال : نعم ، قال له : أ فلا عملت بما علمت ؟

و إنْ قال : کنت جاهلاً ، قال له : أ فلا تعلّمت حتی تعمل ؟ فیخصمه .

فتلک الحجة البالغة » (1) .

فیظهر أن التعلّم لیس مطلوباً بنفسه .

و الثانی : إنه یستلزم تعدّد العقاب إذا ترک العمل ، و هذا خلاف الإجماع بالضرورة .

فتعیّن أن یکون الوجوب فی هذه الروایات طریقیّاً ، و الوجوب الطریقی

ص:256


1- 1) تفسیر کنز الدقائق 3 / 479 .

یجتمع مع الاحتیاط و لا یمنع عنه ، لأنّ الوجوب الطریقی إنّما هو لحفظ الواقع ، و وجوب التعلّم لحفظ الواقع کذلک .

تنبیهات
اشارة

بعد الفراغ عن کفایة الامتثال الإجمالی عن التفصیلی ، تبقی امور :

حکم الاحتیاط فی العقود

الأول : هل یمکن الاحتیاط فی العقود و الإیقاعات ، أو یعتبر الجزم فی النیّة ؟

العقد أو الإیقاع إنشاء ، و فی حقیقة الإنشاء أقوال :

أحدها : إنّه إیجاد للمنشإ فی عالم الاعتبار ، و هذا هو المعروف .

و الثانی : إنه اعتبار و إبراز . وعلیه المحقّقان العراقی و الخوئی .

و الثالث : إنه إیجاد اعتباری ، و هو للمحقق الأصفهانی .

و علی کلّ الأقوال : یعتبر أن لا یکون المنشئ متردّداً أو شاکّاً فی مقام الإنشاء ، و الاحتیاط ینافی الجزم .

فهذا وجه الإشکال .

و الجواب : إنه لدی الاحتیاط لا تردید للمنشئ فی النیّة ، بل هو جازم بوقوع الزوجیّة أو البینونة ، نعم ، التردّد موجود فی ما به تعلّق الإمضاء ممّن یعتبر إمضاؤه فیه ، فلذا یکرّر، و یجمع بین « أنکحت » و« زوّجت » و هذا أمر آخر .

حکم الاحتیاط بناءً علی الانسداد

الثانی : إنه إذا کفی الامتثال العملی الإجمالی عن الامتثال العلمی التفصیلی

ص:257

مع التمکن منه ، فهو یکفی عن الامتثال الظنی التفصیلی بالأولویّة - القطعیّة - ، فلو قام خبر الواحد علی شیء ، فلا مانع من الاحتیاط فی مورده .

إنما الکلام فی الظن المطلق بناءً علی الانسداد ، و یختلف الأمر علی الخلاف فی نتیجة المقدمات من حیث الکشف و الحکومة .

إن مقدّمات الانسداد هی : أنّا نعلم بأن فی الشریعة أحکاماً مطلوبةً منّا لسنا مهملین تجاهها . لکنّ طریق العلم بها و کذا طریق العلمی - أی الظن الخاصّ - منسدٌّ ، و الرجوع إلی الأصل النافی للحکم باطلٌ ، و کذا الرجوع إلی الفقیه القائل بالانفتاح ، و کذا الرجوع إلی القرعة للکشف عن الأحکام الشرعیة ، لأنها إنما تجری فی الشبهات الموضوعیة ، فلا یبقی طریق إلا « الاحتیاط » . فقیل : بعدم جواز العمل بالاحتیاط ، و تکون النتیجة « الکشف » . و قیل : بعدم وجوب الاحتیاط و تکون النتیجة « الحکومة » .

توضیحه : إنّه علی القول باعتبار قصد الوجه فی العبادات ، فإن الاحتیاط غیر جائز ، و حینئذٍ ، یکشف عن حکم الشارع بحجیة الظن المطلق ، و إلّا یلزم العمل بالاحتمال والوهم ، و هو مرجوح بالنسبة إلی الظن ، و ترجیح المرجوح قبیح .

إذنْ ، یُعمل بالظن المطلق ، و الاحتیاط باطل .

و أمّا علی القول بعدم اعتبار قصد الوجه ، فالاحتیاط جائز لکنْ غیر واجب ، نعم ، إن استلزم اختلال النظم أو العسر و الحرج ، فغیر جائز ، لکنّ عدم الجواز - هذا - حکم عرضی ثانوی ... فهنا یقول العقل بالاحتیاط من باب أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها ، و مقتضی ذلک هو الأخذ بالمظنونات و ترک الموهومات .

ص:258

حکم الاحتیاط مع وجود الظنّ الخاص

الثالث : هل هناک مع وجود الظن الخاص تخییرٌ للمکلّف فی مقام العمل ، بأنْ یعمل أوّلاً بمقتضی الظن ثم یأتی بالاحتیاط ، أو بالعکس ، أو علیه أوّلاً الإطاعة الظنیّة ثم له أن یأتی بالاطاعة الاحتمالیة ؟

قال الشیخ و المیرزا الشیرازی بعدم التخییر و تعیّن تقدیم الإطاعة الظنیة .

و خالف الاستاذ ، لأنه مع قیام خبر الثقة - مثلاً - یلغی احتمال الخلاف تعبّداً أمّا وجداناً فلا ، و مع وجود احتمال الخلاف بالوجدان ، فالاحتیاط حسن ، و لکنْ لا دلیل علی تقدیم العمل بمقتضی الظن الخاص ، و المحققان المذکوران لم یذکرا دلیلاً .

هذا تمام الکلام فی مباحث القطع .

ص:259

ص:260

مباحث الظّن
اشارة

ص:261

ص:262

مقدّمات

بعد الفراغ من مباحث القطع ... .

تصل النوبة إلی مباحث الظّن ، و عمدتها ( الأمارات ) .

و قد ذکروا قبل الورود فی تلک المباحث اموراً :

الأمر الأوّل أنّ الأمارة لا تقتضی الحجیّة ذاتاً
اشارة

إنّ الأمارة علی قسمین ، منها : علمیّة ، و منها : غیر علمیّة .

و القسم الثانی لیس بحجّة ذاتاً ، لکنْ یمکن ثبوت الحجیّة لها ... .

کلام المحقّق الخراسانی

قال فی الکفایة :

إنه لا ریب فی أنّ الامارة غیر العلمیة لیس کالقطع فی کون الحجیّة من لوازمها و مقتضیاتها بنحو العلیّة بل مطلقاً ، و أن ثبوتها لها محتاج إلی جعلٍ أو ثبوت

ص:263

مقدمات و طروّ حالات موجبة لاقتضائها الحجیة عقلاً ، بناءً علی تقریر مقدّمات الانسداد بنحو الحکومة . و ذلک : لوضوح عدم اقتضاء غیر القطع للحجیّة بدون ذلک ثبوتاً بلا خلاف ، و لا سقوطاً ، و إنْ کان ربما یظهر فیه من بعض المحققین الخلاف و الاکتفاء بالظن بالفراغ ، و لعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل .

فتأمل (1) .

توضیحه :

لقد کان القطع علّةً تامّةً للحجیّة ، فکانت الحجیّة من لوازم القطع ، و لیس الظن کذلک ، بل لا اقتضاء له بالنسبة إلیها ... و إنما یکون الظن حجةً إمّا بجعلٍ من الشارع ، و ذلک کما فی الظنون الخاصّة ، أو بناءً علی الکشف فی قانون الانسداد ، و إمّا بحکمٍ من العقل ، و بقانون الانسداد بناءً علی الحکومة .

و قد جَعَل هذا المطلب مما لا ریب فیه لوضوحه .

ثم أشار فی آخر کلامه إلی أنّ حجیّة الظن فی مقام ثبوت الحکم الشرعی محتاج إلی جعلٍ من الشارع أو حکمٍ من العقل کما تقدم .

قال : و هذا لا خلاف فیه .

إشکال السید الخوئی علی الکفایة

و لا یخفی أنّ المراد من حکم العقل هو إدراکه ، لکنّ السیّد الخوئی أشکل علی ظاهر عبارة الکفایة : « إنّ ثبوتها لها محتاج إلی جعلٍ أو ثبوت مقدّمات و طروّ حالاتٍ موجبة لاقتضائها الحجیّة عقلاً » .

ص:264


1- 1) کفایة الاصول : 275 .

بأنّ حکم العقل عبارة عن إدراکه و لیس له حکم سوی الإدراک ، لعدم کونه مشرّعاً لیحکم بشیء ، إذ علی تقدیر الکشف کان العقل کاشفاً عن حجیّته الشرعیّة لا حاکماً . بحجیّته ، و أمّا علی تقدیر الحکومة ، فلا یحکم العقل بحجیّة الظنّ أصلاً ، و إنما یحکم بتضییق دائرة الاحتیاط فی مقام الامتثال فی المظنونات و رفع الید عنه فی المشکوکات و الموهومات (1) .

و قد یشهد بما ذکرنا أن الجملة فی بعض نسخ الکفایة : « لاقتضائها الحجیّة بنحو الحکومة ، و ذلک لوضوح ... » .

و أمّا فی مقام سقوط التکلیف ، فکذلک ، إلّا ما یظهر من المحقق الخونساری فی مباحث الاستصحاب حیث ذکر : أنه لو جاء أمر أو نهی معلّق علی غایةٍ ثم شک فی تحقق الغایة ، وجب الإتیان بالمأمور به و ترک المنهیّ عنه ، للظن بالضرر ، فیلزم تحصیل المظنّة بعدمه (2) .

فاستظهر صاحب الکفایة من کلام هذا المحقق القول بأنّ للظن فی مقام سقوط التّکلیف اقتضاء للحجیّة ، و إلّا لقال بوجوب امتثال الأمر أو النهی حتی یحصل القطع بسقوط التکلیف .

قال : و لعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل . فتأمل .

أقول:

و لعلّ الأمر بالتأمّل ، للإشارة إلی بطلان المبنی ، فإن دفع الضرر المحتمل لازم .

ص:265


1- 1) مصباح الاصول 2 / 88 .
2- 2) مشارق الشموس فی شرح الدروس : 147 .

و حاصل الکلام : إنّ الظنّ له کاشفیّة ناقصة عن الواقع ، و لیس کالشک حیث لا کاشفیّة له أصلاً و له قابلیّة لأنْ تجعل له الکاشفیّة التامّة بإلغاء احتمال الخلاف تعبّداً ... وعلیه ، فإنّ الظنّ لا اقتضاء له للحجیّة ذاتاً ، و لکنْ فیه اقتضاء جعل الحجیّة له .

أمّا جعلها فقد ذکرناه .

و أمّا عدم الاقتضاء الذاتی فیه لها ، فلأنّ الحجیّة إن کانت بمعنی الطریقیّة ، فإن الظنّ ملازم لاحتمال الخلاف ، فلا یصلح للطریقیّة . و إنْ کانت بمعنی المنجزیّة و المعذریّة ، فإنّ التنجیز و الإعذار من الأحکام العقلیّة ، و مع عدم کاشفیة الظن عن الواقع کیف یتمّ به ذلک ؟

إشکال الإیروانی فی قابلیّة الظنّ للحجیّة الشرعیّة

و للمحقق الإیروانی شبهةٌ فی أصل قابلیّة الظنّ للحجیّة الشرعیّة ، قال :

لا تثبت الحجّیّة بالجعل کی یکون غیر الحجّة حجّة بإنشاء حجّیّته ، بل ما هو حجّة حجّة بحکم العقل ؛ إمّا مطلقاً أو فی حال الانسداد ، و ما لیس بحجّة لا یکون حجّة أبداً ، لا لأنّ الحجّیّة غیر قابلة للجعل ، و إن کان الأمر کذلک ، بل لأنّ الحجّیّة إن کانت بالجعل لزم التسلسل إلی حجّة أخری مثبتة للحجّة الأولی ، و هی إن کانت عقلیّة کانت الحجّة فی الحقیقة هی تلک الحجّة العقلیّة لا هذه الشرعیّة ، و إن کانت حجّة جعلیّة شرعیّة عادة ذکرناه أوّلاً ، و هکذا .

و بالجملة : لا بدّ أن تکون الحجّیّة صادرة من باب العقل ، و لا محیص عن أن یکون مناخ رحال التکلیف ببابه ، فصحّ أن یقال : لیست الحجّة إلا القطع ، أو الظنّ

ص:266

علی الحکومة . (1)

أقول :

حاصله : إنه إن أنشأ الشارع الحجیّة للظنّ وقع السؤال عن الملاک لها ، فلو استدلّ علیها بالجعل ، سئل عن الملاک لذاک الجعل ، و هکذا یتسلسل .

و إذا تمت هذه الشبهة ، کانت الحجیّة منحصرةً بالقطع و بالظنّ الانسدادی بناءً علی الحکومة ، و لا تبقی حجیّة شرعیّة للأمارات .

لکنّ الشبهة تندفع :

أمّا نقضاً ، فبأنّ الحجیّة مجعولة من قبل الشارع فی موارد ، کما فی الروایات و الأدعیة و الزیارات ، یقول صاحب الزمان علیه السلام فی التوقیع المرویّ عنه :

« و أمّا الحوادث الواقعة ، فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا ، فإنهم حجتی علیکم و أنا حجة اللّٰه » (2) إذ مدلول الروایة جعل الحجیّة ، کما أنه فی المقبولة ، إذ قال علیه السلام : « فإنی قد جعلته علیکم حاکماً » (3) قد جعل الحکومة .

و أمّا حلّاً ، فقد تقرّر أن کلّ ما بالعرض لا بدّ و أنْ ینتهی إلی ما بالذات ، و هذا القانون ملاکه بطلان التسلسل ، فلولا انتهاء ما بالعرض إلی ما بالذات للزم التسلسل . . . وعلیه ، فالحجیّة العرضیّة لا بدّ و أنْ تنتهی إلی الحجّة بالذات ، و منه یظهر أنّه الحجّة علی قسمین ، ذاتیّة و عرضیّة ، و العرضیة هی الجعلیّة . فالانحصار الذی ادّعاه المحقق المذکور باطل ، و أن الظن یصلح لتعلّق الحجیّة به .

ص:267


1- 1) حاشیة الکفایة 2 / 478 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 140 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 9 .
3- 3) وسائل الشیعة 27 / 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 1 .

و حینئذٍ ، لا فرق بین ثبوت التکلیف و سقوطه بالظن ، و الترجیح بلا مرجح باطل ، و ما احتمله صاحب الکفایة فی کلام الخونساری لا یناسب شأنه ، لأن الضّرر المحتمل الذی لا یلزم دفعه - علی القول به - غیر الضرر الاخروی .

و لذا جاء فی مصباح الاصول أنّ ما ذکره فی الکفایة أجنبی عن المقام ، إذ الخلاف فی لزوم دفع الضرر المحتمل و عدمه إنما هو فی الضرر الدنیوی لا فی الضرر الاخروی ، فإنه لم یخالف أحد فی لزوم دفع الضرر المحتمل الاخروی مع تنجّز التکلیف ... (1) .

و علی الجملة : إنه مع تنجّز التکلیف یکون قاعدة لزوم دفع الضّرر المحتمل محکّماً ، و إلّا جرت قاعدة قبح العقاب بلا بیانٍ ، لتقدّمها علی تلک القاعدة .

أمّا بناءً علی القول بحکم العقل بحقّ الطّاعة للمولی فی موارد الشک فی ثبوت التکلیف ، و تقدّم ذلک علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان ، فإنّه یحکم به فی موارد الشک فی السقوط مع العلم بأصل الثبوت ... .

لکنّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان متقدّمة علی قانون حقّ الطاعة و قانون لزوم دفع الضّرر المحتمل ، کما سیأتی بالتفصیل فی محلّه إن شاء اللّٰه ، فلا مجال لما ذکره السیّد الصّدر (2) فی هذا المقام .

ص:268


1- 1) مصباح الاصول 2 / 89 .
2- 2) بحوث فی علم الاصول 4 / 187 - 188 .
الأمر الثانی فی إمکان التعبّد بالظنّ
اشارة

ذهب المشهور إلی إمکان التعبّد بالظن ، و خالف ابن قبة لشبهةٍ له ، سیأتی الکلام علیها .

دلیل المشهور کما ذکر الشیخ

و ذکر الشیخ قدّس سرّه دلیل المشهور : بأنا نقطع بأنّه لا یلزم من التعبّد به محال .

قال :

و فی هذا التقریر نظر ، إذ القطع بعدم لزوم المحال فی الواقع ، موقوف علی إحاطة العقل بجمیع الجهات المحسّنة و المقبّحة و علمه بانتفائها ، و هو غیر حاصل فیما نحن فیه .

ثم قال :

فالأولی : أن یقرّر هکذا ، إنّا لا نجد فی عقولنا بعد التأمّل ما یوجب الاستحالة ، و هذا طریق یسلکه العقلاء فی الحکم بالإمکان (1) .

و قال المحقق الخراسانی :

فی بیان إمکان التعبّد بالأمارة غیر العلمیّة شرعاً و عدم لزوم محال منه عقلاً ،

ص:269


1- 1) فرائد الاصول 1 / 106 .

فی قبال دعوی استحالته للزومه (1) .

ثم تعرّض لمعنی الإمکان ، و أشکل علی کلام الشّیخ ، و قال بأنّ الدلیل علی إمکان التعبّد بالظن هو وقوعه . و سیأتی توضیح ما ذهب إلیه فی المقام .

المراد من الإمکان

و قبل الورود فی المطلب نقول :

قد وقع الکلام بین الأعلام فی المراد من الإمکان فی هذا المقام ، لأن الإمکان تارةً : هو الاحتمال ، و هذا مراد الشیخ الرئیس من کلمته المشهورة .

و اخری : هو الإمکان الذاتی ، بأن تلحظ الماهیة إلی الوجود و العدم ، فلا تکون آبیةً عنهما ، و ثالثةً : هو الإمکان الوقوعی ، أی: عدم ترتب المحال من وقوع الشیء .

و رابعةً : هو الإمکان الاستعدادی ، و هو یکون فی المواد . و خامسةً : هو الإمکان بالقیاس .

الأکثر علی أنه الإمکان الوقوعی

و الإمکان فیما نحن فیه ، إمّا الذاتی و إمّا الوقوعی .

فقال الأکثر : أن مورد البحث هو الإمکان الوقوعی ، إذ لا شک فی عدم إباء التعبّد بالظنّ من الوجود و العدم ، فالمبحوث عنه هو الإمکان الوقوعی ، فیبحث عن أنه یستلزم التعبّد بذلک محالاً من المحالات کتفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة أو اجتماع الضدین أو النقیضین ... أوْ لا .

و ذکر السیّد الاستاذ رحمه اللّٰه ما نصّه :

و یقصد من الإمکان المبحوث عنه هو الإمکان الوقوعی الذی یرجع إلی

ص:270


1- 1) کفایة الاصول : 275 .

نفی استلزام التعبّد بالظن المحال ، فی قبال دعوی الامتناع الرّاجعة إلی دعوی استلزامه المحال کما ستعرف .

لا الإمکان الذاتی ، و هو کون الشیء بحسب ذاته ممکن الوقوع ، فی قبال الامتناع الذاتی ، و هو کون الشیء بحسب ذاته ممتنع الوقوع کاجتماع النقیضین ، إذ لا إشکال فی عدم کون التعبّد بالظن ممتنع التحقّق ذاتاً و بالنظر إلی نفسه بلا لحاظ مستلزماته (1) .

رأی المحقق الأصفهانی

و لکنّ المحقق الأصفهانی قال :

اعلم أنّ المعروف أن الإمکان المتنازع فیه هنا هو الإمکان الوقوعی ، نظراً إلی أنه لا یتوهّم أحد من العقلاء أن التعبّد بالظن بذاته یأبی عن الوجود کاجتماع النقیضین .

إلّا أنه لیس بذلک الوضوح ، فإن التعبّد بالظنّ إذا کان معناه جعل الحکم المماثل ، فجعل المثل فی مورد وجود المثل أو الضدّ واقعا عین الجمع بین المثلین أو الضدّین فی موضوع واحد ، لا أنه یلزم من إیجاد المثل فی مورد الابتلاء بالمثل جمع بین المثلین غیر إیجاد المثل فی موضوع مبتلی بمثله .

نعم ، إن کان التعبّد بالظن معنیً لازمه جعل حکم مماثل لا عینه ، فحینئذٍ لازمه الجمع بین المثلین ، کما سیجیء فی تحقیق حقیقة دلیل التعبّد (2) .

و حاصله :

ص:271


1- 1) منتقی الاصول 4 / 140 .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 119 - 120 .

إن القول بأنّ المراد هو الإمکان الوقوعی ، إنما یتمّ بناءً علی أنّ حقیقة التعبّد بالأمارة هو جعل الطریقیّة لها ، و کذا علی القول بأنها جعل الحجیّة لها . أمّا علی القول بأنّ حقیقة التعبّد بالأمارة هی : جعل الحکم المماثل ، فإنه یستلزم المحال الذاتی ، لأن جعل الحکم المماثل اجتماع المثلین ، و اجتماع المثلین لیس من المحالات الوقوعیة بل هو من المحالات الذاتیّة ، و لو جعل الحکم المضاد لزم اجتماع الضدّین ، و هو من المحالات الذاتیّة .

فعلی هذا المبنی فی حقیقة التعبّد بالأمارة ، یکون موضوع البحث هو الإمکان الذاتی .

مناقشة المحقق العراقی

فأشکل المحقق العراقی (1) :

بأنّ لازم جعل الحکم المماثل أو المضاد اجتماع المثلین أو الضدّین ، فالمحذور لازم الجعل و لیس هو الجعل ، و إذا کان لازماً له ، کان البحث عن الإمکان الوقوعی لا الذاتی .

أقول :

و لکنّ الحق مع الأصفهانی ، لأن عنوان اجتماع المثلین أو الضدّین ، من العناوین الانتزاعیة ، و العنوان الانتزاعی قائم بمنشإ انتزاعه ، و نفس وجود المثل مع حفظ وجود مماثله اجتماع للمثلین ، کما أن نفس وجود الشیء مع حفظ وجود ضدّه اجتماع للضدّین ، و کلٌّ منهما مستحیل ذاتاً .

ص:272


1- 1) نهایة الأفکار ، ق 1 ج 3 ص 56 .
رأی المحقق النائینی

و ذهب المحقق النائینی (1) : إلی أن الإمکان المبحوث عنه هنا هو الإمکان التشریعی و أنّ البحث هو : هل یلزم من التعبّد بالظن محذور فی عالم التشریع أوْ لا ؟

مناقشة السیّد الاستاذ

و قد اعترضه السید الاستاذ بقوله : و أمّا ما ذکره المحقّق النائینی... فهو مما لا نکاد نفهمه بأکثر من صورته اللّفظیة ، و ذلک ، فإن التشریع و جعل الحکم فعل تکوینی للمولی کسائر الأفعال التکوینیّة له و إنْ اختصّ باسم التشریع ، فیقع البحث فی أنه یستلزم المحال أوْ لا ، و مع الشک ، ما هو الأصل و القاعدة ؟ و بالجملة ، التعبیر بالإمکان التشریعی و التکوینی لا یرجع إلی اختلاف واقع الإمکان ، بل هو تقسیم بلحاظ متعلّقه (2) .

و أقول :

بعبارة اخری : إن المفاهیم علی ثلاثة أقسام ، فمنها : ما هو واقعی ، و منها : ما هو اعتباری ، و منها : ما ینقسم إلی الاعتباری و الواقعی ، کالولایة ، و الملکیة ، و الدلالة ... .

و لکنّ « الإمکان » لیس من المفاهیم القابلة للانقسام إلی التکوینی الواقعی و التشریعی الاعتباری ، فالجعل فی قولنا : هل جعل الظن حجةً أوْ لا ؟ أمر تکوینی ، یدور أمره بین الوجود و العدم ، نعم المجعول قد یکون تشریعیّاً و هو الحجیّة .

فما ذکره هذا المحقق لا یمکن المساعدة علیه .

ص:273


1- 1) أجود التقریرات 3 / 109 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 142 .
قول المحقق الأصفهانی بعدم الحاجة إلی هذا البحث

ثم إن المحقق الأصفهانی ذکر (1) أنْ لا حاجة إلی البحث عن الإمکان أصلاً ، لأنّ المطالب علی قسمین ، منها : ما یعتبر فیه الجزم و الیقین ، کمسائل اصول الدین ، و منها : ما لا یعتبر فیه ذلک ، و هی الأحکام الشرعیّة العملیّة ، بل یعتبر فیها الحجّة ، و الحجة تجتمع مع احتمال الاستحالة ، و بها یسقط الاحتمال ، فلا حاجة إلی تأسیس أصالة الإمکان کما ذکر الشیخ .

أقول :

و فیه : إنّ تمامیّة الحجة موقوفة علی تمامیة المقتضی و عدم المانع ، فإن اندفع احتمال الاستحالة تمّ المقتضی ، و إلّا فلا تعقل تمامیّته و لا تتم الحجة ، و الدافع للاحتمال ، إمّا عقلی و إمّا شرعی ، و المفروض انتفاؤهما ، فینحصر بالعقلائی و هو أصالة الإمکان .

الإشکالات علی الشیخ

قد تقدّم کلام الشیخ رحمه اللّٰه ، و حاصله هو القول بأصالة الإمکان اعتماداً علی بناء العقلاء .

و قد اورد علیه بوجوه من الإشکال :

الأوّل : منع کون سیرة العقلاء علی ترتیب آثار الإمکان عند الشکّ فیه .

و الثانی : منع حجیّة هذه السیرة لو سلّم ثبوتها ، لعدم قیام دلیل قطعی علی اعتبارها ، و الظن بها لو کان حاصلاً غیر مفید ، لأنّ الکلام الآن فی إمکان التعبّد بالظن ، فکیف یمکن إثباته بالظن ؟

ص:274


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 120 .

و الثالث : إنه علی تقدیر التسلیم بالسّیرة و حجیّتها ، لا فائدة فی هذا البحث أصلاً ، لأنه مع قیام الدلیل علی وقوع التعبّد لا معنی للبحث عن إمکانه ، لوضوح أنّ الوقوع أخصّ من الإمکان ، فثبوته کافٍ لثبوته .

و هذه الإشکالات من المحقق الخراسانی (1) .

و الرّابع - و هو من المحقق النائینی (2) - إنه لو سلّم بالسّیرة العقلائیة المذکورة فهی فی الإمکان التکوینی دون الإمکان التشریعی، و محلّ الکلام هو الثانی .

أقول :

أمّا الإشکال الأخیر ، فقد تقدّم منّا ما فیه ، فی المراد من الإمکان .

و أمّا الإشکالات المتقدّمة فنقول :

إن کان المراد أنه إذا قام دلیلٌ تامٌّ سنداً و دلالةً علی الحکم الشرعی ، فإن السیرة العقلائیة قائمة علی عدم الاعتناء باحتمال الاستحالة ، - و هذا ما احتمله السیّد الاستاذ (3) و السیّد الصّدر (4) - فی غایة المتانة و لا یرد علیه الإشکال ، لأنّ هذه السّیرة ثابتة ، و هی جاریة من العقلاء فی مطلق الاحتجاجات ، فإذا وصلهم الدلیل علی حکمٍ من المولی یحتجّون به و لا یجعلون احتمال الاستحالة عذراً لترک العمل .

و إنْ کان المراد قیام السیرة العملیّة منهم فی موارد الشک فی الإمکان الذاتی أو الوقوعی علی الإمکان ، فهذا غیر تام و الإشکال وارد ، و لعلّ هذا هو ظاهر عبارة

ص:275


1- 1) کفایة الاصول : 276 .
2- 2) أجود التقریرات 3 / 109 .
3- 3) منتقی الاصول 4 / 141 .
4- 4) بحوث فی علم الاصول 4 / 193 .

الشیخ بأنه عند عدم وجدان موجب الاستحالة ، فإنّ السیرة قائمة علی الإمکان ، إذْ أنّ هذا الإطلاق بظاهره غیر صحیح ، و لذا نقول بأنّ مراد الشیخ هو صورة کون الدلیل تامّاً فی باب الحجج و الأدلّة علی المقاصد و المرادات ، وعلیه ، فلا یرد الإشکال .

و علی الجملة ، فإنّ إطلاق کلامه غیر صحیح ، و لا بدّ من الحمل علی ما ذکرناه .

علی أنه یرد علیه : أن عدم وجدان الموجب للاستحالة لا یکون منشأً للحکم حتی فی الأحکام العقلائیة ، لأن الحکم عبارة عن الإذعان و التصدیق بوجود الرابط بین المحمول و الموضوع ، و هذا أمر وجودی نفسانی ، و لیس عدم الوجدان بدلیل علی وجود الرابط ، و الحکم بالإمکان عبارة عن قضیّة ثلاثیة فی الماهیات و الاعتباریات ، فقولنا : التعبّد بالظن ممکن ، هو مثل قولنا : زید قائم ، فیحتاج وجود الرابط إلی إقامة الدلیل علیه و لا یکفی للدلالة عدم الوجدان ، و القول بأن عدم الوجدان دلیل العدم ، باطل شرعاً و عقلاً و عقلاءً .

هذا بالنسبة إلی ما ذکره الشیخ .

و لکنّ التحقیق أنْ یقال : إن العقلاء إذا لم یجدوا موجب الاستحالة ، یعملون بالدلیل الحجة الواصل و لا یرتّبون أثر الامتناع ، و هذا ما قامت علیه السیرة ، و هو غیر الحکم بالإمکان .

و علی الجملة ، فإن السیرة العقلائیّة قائمة علی أصالة الإمکان ، لکن بالمعنی الذی ذکرناه .

ص:276

وجوه استحالة التعبّد

و تصل النوبة حینئذٍ إلی ما قیل فی وجه استحالة التعبّد بالظن ، و قبل الورود فی ذلک نقول :

إنّ عمدة ما یتوقف علیه الاستنباط و تحصیل الحکم الشرعی به هو الأدلّة الظنیة ، و عمدتها هو خبر الثقة ، فلا بدّ من إقامة الدلیل القطعی علی الحجیّة ، و لا تتمّ إلا باندفاع جمیع ما یحتمل مانعیّته عنها ، و إلّا احتجنا إلی قانون الانسداد ، وعلیه ، فلا یکفی مجرّد أصالة الإمکان . نعم ، نحتاج إلیها فی بعض الموارد ، فمثلاً : قیل : إن التعبد بالخبر یستلزم تحلیل الحرام و تحریم الحلال ، فاُجیب :

بإمکان وجود مصلحة فی التعبّد به کمصلحة التسهیل . لکنّ هذا الجواب لا یکفی لأن یحصل القطع بوجود المصلحة الراجحة ، بل یفید الاحتمال فقط ، فنحتاج إلی أصالة الإمکان لدفع احتمال وجود شیء من المحذورات .

و من هنا یظهر : إن من الأجوبة علی الإشکال ما یفید القطع بعدم المانع عن التعبد فلا حاجة إلی الأصل ، و قد نحتاج إلی الأصل حیث لا یفید الجواب القطع و یبقی الاحتمال الوجدانی ، کالجواب عن شبهة ابن قبة کما سیأتی ، فإنه محتاج إلی أصالة الإمکان .

و تلخص : ضرورة البحث عن أصالة الإمکان ، إمّا عن طریق الشیخ أو صاحب الکفایة و هو الاستعانة بوقوع التعبّد ، أو ما ذکره المحقّق الأصفهانی من أنّ اللّاحجة لا یصلح لمعارضة الحجة .

هذا ، و قد ذکر لاستحالة التعبّد بالظن وجوه :

ص:277

الوجه الأوّل : لزوم جواز التعبّد بالخبر عن اللّٰه

ذکر الشیخ عن ابن قبة (1) قوله :

بأنه إذا جاز التعبّد بخبر الواحد عند المعصوم جاز التعبّد به عن اللّٰه ، و لکنّ التالی باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله .

بیان الملازمة : إنّ الخبر فی کلا الموردین واحد ، و حکم الأمثال فی ما یجوز و ما لا یجوز واحد .

جواب الشیخ

أجاب الشیخ :

أولاً : لقد قام الإجماع علی عدم وقوع التعبّد بالخبر عن اللّٰه ، و لم یقم علی امتناع التعبّد ، فاللّازم غیر ممتنع ، فالملزوم کذلک .

و ثانیاً : إن محلّ الکلام یفترق عن الخبر عن اللّٰه ، أمّا أن التعبّد بالخبر عن اللّٰه غیر جائز ، فلأنه یستلزم ابتناء اصول الدین و فروعه علی الدلیل غیر القطعی ، و أمّا الخبر عن المعصوم ، فهو فی ظرف تمامیة الاصول و الفروع و ابتنائها علی الأدلّة القطعیة ، لکن قد خفیت الحقائق الدینیة عن الناس بفعل الظالمین (2) .

أشکل علیه المحقق الخراسانی بما محصّله :

إنّ الاصول و الأحکام لم تکن کلّها ثابتةً فی زمن الأئمة حتی یکون خبر الواحد بعد تمامیّتها ، فما ذکره الشیخ دعوی جزافیّة (3) .

ص:278


1- 1) هو : الشیخ أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازی ، فقیه ، متکلّم ، من عیون الأصحاب ، له کتاب الإنصاف فی الإمامة .
2- 2) فرائد الاصول 1 / 106 - 107 .
3- 3) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 33 .
الدفاع عن الجواب و ذکر وجوه اخری

أقول :

إن کان مراد الشیخ أنّ ابتناء الدین فی اصوله و فروعه علی خبر الواحد باطل ، بل إنّ هذا الدین قائم بالنّبی و الإمام ، فهو بوجوده تام اصولاً و فروعاً قبل خبر الواحد ، فلا غبار علیه .

و یشهد بما ذکرنا قول الشیخ : « لکنْ عرض اختفاؤها من جهة العوارض و إخفاء الظالمین للحق » ، فیکون کلامه نظیر قول المحقق الطوسی : « ... و عدمه منّا » (1) .

و الحاصل : إن الدین تام بنصب النبی و الإمام ، ثمّ وقع التعبّد بالخبر عن النبی و الإمام ، و هذا التعبّد بعد فتح الباب من اللّٰه و إنْ حاول الظالمون سدّ هذا الباب أو الحیلولة دون دخول الناس منه أو الوصول إلیه .

و علی الجملة ، فإن جواب الشیخ تام و لا إشکال فیه .

و یضاف إلی جوابیه :

الجواب الثالث و هو الإشکال فی المماثلة بین الخبر عند اللّٰه و عن المعصوم . فإنّ الخبر عن اللّٰه یکون بالوحی ، و لیس الخبر عن المعصوم کذلک .

و الجواب الرابع : إن دعوی الإجماع فی مثل هذه المسألة غیر مسموعة ، لأنها مسألة عقلیّة .

و الخامس : إن المسألة غیر معنونة فی کتب قدماء الأصحاب .

هذا بالنسبة إلی الوجه الأوّل . و لا یخفی اختصاصه بالخبر .

ص:279


1- 1) شرح التجرید : 490 - 491 .

و أمّا غیره من الوجوه ، فهو متوجّه إلی الخبر و غیر الخبر من الأمارات و الحجج و الاصول و القواعد ، فلا یخفی حینئذٍ أهمیّة هذا البحث و ضرورة الجواب عن الإشکالات ، فالبحث یعم کلّ ما لم یکن علمیّاً ممّا تعبد به الشارع المقدّس ، و لذا نری عنوان البحث فی الکفایة أعم منه فی الرسائل . فالشیخ قال :

فی إمکان التعبد بالظن ، و المحقق الخراسانی قال : فی إمکان التعبّد بالأمارات غیر العلمیّة شرعاً .

الوجه الثانی : لزوم المحذور من ناحیة الملاک

ففی مرحلة الملاک یلزم محذور مهمّ جدّاً ، و قد اختلفت کلمات الأعلام فی تقریب هذا المحذور ، نتعرّض لجملةٍ منها و ننظر فیها :

تقریب الشیخ

و قد قرّبه الشیخ بقوله :

إن العمل به موجب لتحلیل الحرام و تحریم الحلال ، إذ لا یؤمن أنْ یکون ما أخبر بحلیّته حراماً و بالعکس (1) .

و توضیحه :

إنّ الأحکام الشرعیّة - بناءً علی الحق - تابعة للمصالح و المفاسد الواقعیّة ، فنسبتها إلی الملاکات نسبة المعالیل إلی العلل ، فبناءً علی التعبّد بالظن ، یلزم تحلیل الحرام و تحریم الحلال ، و خروج الأحکام عن التبعیّة للملاکات ، و یلزم تفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة ، و کلّ ذلک ممتنع علی المولی الحکیم .

ص:280


1- 1) فرائد الاصول 1 / 105 - 106 .
تقریب المیرزا النائینی

و قال المیرزا فی تقریبه ما نصّه :

و أمّا توهّم المحذور من ناحیة الملاک ، فغایة ما یمکن أن یقال فی تقریبه هو : أنّ الأحکام الشرعیّة لا محالة تکون تابعةً لملاکاتها ، نظیر تبعیّة المعالیل لعِلَلها علی ما أوضحنا الحال فی ذلک سابقاً ، و حیث إنّ الأمارة غیر العلمیّة ربما تکون مصیبةً و اخریٰ مخطئةً ، فإذا قامت علی حکمٍ غیر إلزامیّ و فرضنا کون الحکم الواقعی إلزامیّاً وجوبیّاً کان أو تحریمیّاً ، فیلزم من التعبّد بها و جَعْلها حجّةً تفویتُ الملاک الواقعی الملزم ؛ إذ لو لم یکن مُلزماً لما أمکن استتباعه لحکمٍ إلزامیّ ، کما هو واضح ، و مع فرض کونه مُلزماً ، کیف یمکن للشارع تفویته بجَعْل أمارةٍ علی خلافه!؟

و بالجملة ، فرض جَعْل الأمارة حجّةً مع فرض کون الحکم الواقعی إلزامیّاً ناشئاً عن ملاکٍ ملزم ، نقضٌ للغرض ، و هو قبیح بالضرورة ، و إلی هذا یشیر ما نُقل عن الخصم من أنّ التعبّد بالأمارة غیر العلمیّة مستلزم لتحلیل الحرام و هو قبیح ، کما أنّ الأمارة إذا قامت علی حکمٍ إلزامیّ وجوبیّ أو تحریمی و فرضنا الحکم الواقعی غیر إلزامیّ ، یلزم من التعبّد بها و إیجاب العمل علی طبقها ، کون الحکم الإلزامیّ من دون ملاکٍ یقتضیه ؛ إذ المفروض أنّ الفعل الذی أدّیٰ الأمارة إلی وجوبه أو تحریمه عارٍ عن الملاک المُلزم ، فجَعْل الحکم الإلزامی له بجَعْل الأمارة حجّةً ، یستلزم عدم تبعیّة الأحکام للمصالح أو المفاسد ، و هذا غیر معقول ، کما عرفت ، و إلیه یشیر ما نُقل عنه من أنّ التعبّد بالأمارة غیر العلمیّة مستلزم لتحریم الحلال و هو قبیح .

ص:281

و الحاصل : أنّ الأمارة إذا کانت مخالفةً للحکم الواقعی ، یلزم من جَعْلها حجّةً یجب العمل علی طبقها ، إمّا کونُ الحکم الإلزامی مجعولاً من دون ملاک ، و إمّا تفویت الملاک الملزم ، و کلاهما قبیح (1) .

النّظر فی التقریب المذکور

و فی هذا التقریب نظر ، ففی تحریم الحلال بالأمارة لیس المحذور هو الإلقاء فی المفسدة أو تفویت المصلحة ، بل هو جعل الحکم بلا ملاک ، أمّا فی تحلیل الحرام بها ، فهو الإلقاء فی المفسدة من حیث الواقع ، و الحکم بلا ملاک من حیث الحلیّة . و أمّا محذور نقض الغرض ، فإن قوام الغرضیّة هو الإرادة القطعیّة و لابدیّة الوجود ، فإذا تعلّقت هذه الإرادة بالشیء استحال نقضها .

و لا یخفی الفرق بین محذور نقض الغرض و محذور الإلقاء فی المفسدة ، فإنّ الأول لا یکون من أیّ أحدٍ حتی لو لم یکن حکیماً ، و الثانی إنما لا یصدر من الحکیم .

وعلیه ، فإنّ القبیح هو تحلیل الحرام و تحریم الحلال ، و لکنّ نقض الغرض محال ، و بعبارة اخری : المحذور علی تقدیرٍ هو لزوم الامتناع علی الحکیم ، و لزوم الامتناع بقولٍ مطلقٍ علی تقدیر آخر . و قد وقع الخلط بینهما فی کلام المیرزا کما لا یخفی .

تقریب المیرزا الشیرازی

و جاء فی تقریر بحث السیّد المیرزا الشیرازی الکبیر رحمه اللّٰه ما نصّه :

أقول قبل الخوض فی المقام : ینبغی تمهید مقال ، فاعلم :

ص:282


1- 1) أجود التقریرات 3 / 110 - 111 .

إن المراد بالإمکان المتنازع فیه إنما هو الإمکان العام و هو المقابل للامتناع ، إذ النزاع إنما هو مع من یدّعی الامتناع ، فالغرض إنّما هو مجرّد نفی الامتناع الأعمّ من وجوب التعبّد بالظنّ فی بعض الموارد ، و مرجع القولین إلی دعوی حسن التعبّد به و قبحه ، لا إلی قدرة الشارع علی التعبّد به و عدمها ، فیرجع النزاع إلی أنه هل یحسن من الشارع التعبّد به أو یقبح ، کما یظهر من دلیل مدّعی الامتناع ؟

و الظاهر أنّه إنّما یدّعی الامتناع العرضیّ لا الذاتیّ ، کما یظهر من احتجاجه علیه بلزوم تحلیل الحرام و تحریم الحلال ، فإنه ظاهر - بل صریحٍ - فی أنّ القبح التعبّد بالظنّ إنّما هو من جهة استلزامه لذلک المحذور ، لا مطلقاً ، فعلی هذا لا ینفع مدّعی إمکانه إثباته بالنظر إلی ذاته ، بل علیه إمّا دفع ذلک الاستلزام ، أو منع قبح اللّازم .

ثمّ المراد بالتعبّد بالظن هنا ، لیس اعتباره و الحکم بالأخذ به من باب الموضوعیّة ؛ لأنه بهذا المعنی لا یرتاب أحد فی إمکانه ، فإنه - حینئذ - کسائر الأوصاف المأخوذة کذلک ، و هو لا یقصر عن الشکّ من هذه الجهة ، بل إنّما هو اعتباره علی وجه الطریقیة لمتعلّقه ؛ بمعنی جعله حجّة فی مؤدّاه کالعلم و تنزیله منزلته ، بإلغاء احتمال خلافه فی جمیع الآثار العقلیّة للعلم من حیث الطریقیّة .

و بعبارة اخری جعله طریقاً إلی متعلّقه کالعلم الذی هو طریق عقلیّ إلی متعلّقه ، و المعاملة معه معاملة العلم الطریقیّ و ترتیب آثار طریقیّة علیه ، من معذوریّة المکلّف معه فی مخالفة التکلیف الواقعیّ علی تقدیر اتّفاقها بسبب العمل به ، کما إذا کان مؤدّاه نفی التکلیف مع ثبوته فی مورده واقعاً ، فلم یأت المکلّف بذلک المحتمل التکلیف استناداً إلیه ، و من المعلوم معذوریّته و صحّة

ص:283

مؤاخذته و عقابه علیها إذا کان مؤدّاه ثبوت التکلیف ، و کان الواقع ثبوته - أیضاً - و لم یأت المکلّف بذلک الذی قام هو علی التکلیف به .

فیکون هو علی تقدیر اعتباره حجّة قاطعة للعذر فیها بین الشارع و العباد علی الوجه المذکور کالعلم ، و یکون الفرق بینهما مجرّد کون حجّیّة العلم بهذا المعنی بحکم العقل ، و کون حجیته بحکم الشارع و جعله ، فیکون کالعلم قاطعاً لقاعدتی الاشتغال و البراءة العقلیّتین إذا قام علی خلافهما ، فإنّ العقل إنّما یحکم فی الاُولی بلزوم الاحتیاط تحصیلاً للأمن من عقاب مخالفة الواقع بعد ثبوت التکلیف به ، و فی الثانیة بجواز ترکه ؛ نظراً إلی قبح العقاب بلا بیان الذی هو الواقع لاحتمال العقاب ، و کلّ واحد من حکمیه ذینک تعلیقیّ بالنسبة إلی جعل الشارع للظنّ المسبب المشکوک فی الموردین طریقاً و حجّة فی إثباته ، إذ معه یرتفع موضوعا القاعدتین ؛ لأنه بعد اعتباره یکون حجّة فی إثبات التکلیف بمحتمله فی الثانیة ، و بیاناً له فلا یعذر ( معه ) المکلّف فی مخالفته علی تقدیرها و فی کون الواقع هو خصوص مؤدّاه فی الاُولی ، فیعذر المکلف فی مخالفته علی تقدیر کونه مع إتیانه بمؤدّاه ، فمع إتیانه بمؤدّاه - حینئذ - لا یحتمل العقاب علی مخالفة الواقع ؛ حتی یحکم العقل بلزوم تحصیل الأمن منه .

و بالجملة : النزاع فی المقام إنّما هو فی إمکان التعبّد بالظنّ علی ( وجه ) الطریقیة بالمعنی الذی عرفت .

و یظهر ذلک - أیضاً - من احتجاج منکره باستلزامه لتحلیل الحرام و تحریم الحلال ؛ لأنه - علی تقدیر اعتباره من باب الموضوعیّة - لا حرمة واقعاً فیما إذا کان مؤدّاه هو الإباحة ، و لا إباحة فیه إذا کان مؤدّاه هو الحرمة ، و إنّما یبقی الواقع علی

ص:284

حاله التی کان علیها بدونه علی تقدیر اعتباره من باب الطریقیة المحضة .

و من هنا ظهر : أنه لا مجال لردّ المنکر بإمکان التعبّد بالظن علی وجه التصویب ، لأنه معنی اعتباره من باب الموضوعیة ، و لا کلام فیه .

إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ المعروف هو الإمکان ، و هو الحق الذی ینبغی المصیر إلیه .

لنا : عدم القبح فی التعبّد بالظن علی الوجه المذکور ، حتّی مع تمکّن المکلّف من تحصیل نفس الواقع علی ما هو علیه ؛ لأنّ غایة ما یتصوّر منشأ للقبح أحد امور علی سبیل منع الخلوّ ، و الذی یقتضیه النظر عدم صلاحیّة شیء منها لذلک .

توضیح توهّم قبح التعبّد به : أنه لا ریب فی أنّ الظنّ لیس مصادفاً للواقع دائماً ، و إلّا لم یکن ظنّاً ، فحینئذ إذا تعبّدنا الشارع به و السلوک علی طبقه علی الإطلاق - کما هو المفروض - یلزم فیه فیما إذا خالف الواقع ، أحد امور ثلاثة - لا محالة - إن لم یلزم کلّها :

أحدها : نقض غرضه من التکلیف الواقعی الموجود فی محلّه الذی أدّی هو إلی نفیه و تفویت العمل علی طبقه ، فإنّ الغرض منه : إما إیجاد خصوص الفعل ، فالمفروض تفویته بترخیصه العمل بما أدّی إلی عدمه ، و إما وصول مصلحة إلی المکلّف ، فالمفروض - أیضاً - تفویتها علیه .

و ثانیها : تفویت مصلحة الواقع علی المکلّف ، کما إذا کان الفعل فی الواقع واجباً أو مندوباً ، و أدّی الظنّ إلی إباحته أو کراهته أو حرمته أو إیقاعه فی مفسدة الواقع ، کما إذا کان الفعل واقعاً حراماً ، و أدّی الطریق إلی إباحته أو وجوبه أو

ص:285

استحبابه ، و کلاهما خلاف اللّطف ، فیکونان قبیحین ، و النسبة بینهما و بین الأمر الأوّل هو العموم من وجه ، إذ قد ( لا ) یکون الغرض خصوص إیجاد الفعل ، بل یکون الغرض إیصال المکلّف إلی مصلحته أو صونه عن مفسدته .

و ثالثها : التناقض ، فإنه إذا کان الظنّ مخالفاً للواقع ، فیجتمع فی مورده حکمان متناقضان ، أحدهما : مؤدی الظن ، و الآخر : مؤدّی الخطاب الواقعی ، من غیر فرق فی ذلک بین أن یکون مؤدّی الظنّ هو الوجوب ، مع کون الحکم الواقعی هو الحرمة ، أو العکس ، و بین أن یکون مؤدّاه الإباحة أو الاستحباب ، مع کون الحکم الواقعیّ هو الحرمة ، أو العکس ؛ لأنّ الأحکام الخمسة بأسرها متناقضة ، یمتنع اجتماع اثنین منها فی مورد واحد و لو مع تعدّد الجهة ، کما هو الحال فی المقام ؛ نظراً إلی أنّ الحکم الظاهری فی محلّ الفرض إنما جاء من جهة قیام الظنّ فیه علیه ... (1) .

النظر فی التقریب المذکور

و فی هذا التقریب نظر کذلک ، مع غضّ النظر عمّا فیه من بعض التعبیرات ، کقوله بالتناقض فی الأحکام الخمسة ، إذ الأحکام لیست متناقضة بل هی متضادّة ، و لعلّه - إن کان الکلام منه لا من المقرّر - یرید أنّ کلّ تناقض فإنه یؤول إلی التضادّ .

و وجه النظر هو : أنّه أرجع البحث - بین المثبت لإمکان التعبّد بالأمارة غیر العلمیّة و المنکر له - إلی الحسن و القبح ، فالمدّعی للإمکان یدّعی الحسن و المنکر یدّعی القبح فیه .

فیرد علیه : إن اجتماع النقیضین و الضدّین و المثلین لا ربط له بحکم العقل

ص:286


1- 1) تقریرات بحث المیرزا الشیرازی 3 / 351 - 354 .

العملی ، بل هو من أحکام العقل النظری ، و لیست ممّا تتعلّق به القدرة ، فکیف یُجعل وجه الإنکار أحد الوجوه الثلاثة علی نحو منع الخلوّ ، و مع ذلک یدّعی أن البحث بین الطرفین یدور مدار الحسن و القبح ؟

هذا ، مضافاً إلی تعرّضه لنقض الغرض ، فیرد علیه ما ورد علی المیرزا النائینی .

فظهر :

إنّ المحذور ، أمّا بالنسبة إلی الإلقاء فی المفسدة و تفویت المصلحة من الحکیم ، فهو من أحکام العقل العملی ، و أمّا بالنسبة إلی اجتماع الضدّین أو النقیضین أو المثلین أو نقض الغرض ، فمن أحکام العقل النظری .

و هذا هو الصحیح فی تقریب الإشکال .

و بعد ، فقد اجیب عن الوجه الثانی بوجوه :

جواب المحقق الفشارکی عن الوجه الثانی

فالأول ، ما أفاده السید المحقق الفشارکی و تبعه الشیخ الحائری ، و هو :

إنّ الأوامر الظّاهریّة لیست بأوامر حقیقیة ، بل هی إرشاد إلی ما هو أقرب إلی الواقعیات ، و توضیح ذلک - علی نحو یصح فی صورة انفتاح باب العلم و لا یستلزم تفویت الواقع من دون جهة - أن نقول : إن انسداد باب العلم کما أنه قد یکون عقلیّاً ، کذلک قد یکون شرعیّاً ، بمعنی أنه و إن أمکن للمکلّف تحصیل الواقعیات علی وجه التفصیل ، لکن یری الشارع العالم بالواقعیّات أن فی التزامه بتحصیل الیقین مفسدة ، فیجب بمقتضی الحکمة دفع هذا الالتزام عنه ، ثم بعد دفعه عنه لو أحاله إلی نفسه یعمل بکلّ ظن فعلیّ من أی سبب حصل ، فلو رأی

ص:287

الشارع بعد أن صار مآل أمر المکلّف إلی العمل بالظن ، أن سلوک بعض الطرق أقرب إلی الواقع من بعض آخر ، فلا محذور فی إرشاده إلیه ، فحینئذٍ نقول :

أما اجتماع الضدّین ، فغیر لازم ، لأنه مبنی علی کون الأوامر الطرقیّة حکماً مولویّاً ، و أما الإلقاء فی المفسدة و تفویت المصلحة ، فلیس بمحذور بعد ما دار أمر المکلّف بینه و بین الوقوع فی مفسدة أعظم (1) .

أقول:

و حاصله : إنه قد یلزم من الإلزام بالیقین مفسدة أعظم من التعبّد بالظن ، فیتعبّد الشارع بالظن حتی لا تفوت مصلحة الظنّ ، کما لو یلزم من الإلزام بالعلم و الیقین بالأخذ من الإمام ، مفسدة إراقة الدماء من ناحیة امراء الجور مثلاً ، فحینئذٍ :

لا مناص من التعبّد بالظن و الأخذ بمفاده دفعاً لتلک المفسدة التی هی أعظم .

لکن یرد علیه :

إنه أخصّ من المدّعی ، کأن یفرض البحث فی زمن النّبی صلّی اللّٰه علیه و آله حیث لا مفسدة للإلزام بالعلم و الیقین . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ هذا خلاف الضرورة ، إذ لا ریب فی أنه لا یوجد فی الشریعة مورد یکون تحصیل الیقین و العمل به محرّماً بأصل التشریع و بالعنوان الأوّلی .

و ثالثاً : لو فرض وجود المفسدة الأهم فی الإلزام بالیقین فی مورد ، فإنه یکون من صغریات التزاحم فی مرحلة الملاکات ، و حینئذٍ ، ترفع الید عن الحکم المترتب علیه المفسدة العظیمة ، و إنْ کان الملاکان متساویین ، فالحکم هو التخییر .

ص:288


1- 1) درر الفوائد ( 1 - 2 ) 354 - 355 .
جواب المحقق النائینی

و الثانی : ما ذکره المیرزا (1) من أنه لا مفسدة فی التعبّد بالظن ، و لا یلزم تحلیل الحرام و تحریم الحلال .

فالصغری غیر تامّة .

جواب المحقق الخراسانی

و الثالث : إنه علی فرض لزوم ذلک ، فإن مقتضی تقدیم مصلحة التسهیل علی المکلّفین هو عدم الإلزام بالیقین ، و جعل الطرق و الأمارات ، و حینئذٍ ، لا قبح للإلقاء فی المفسدة أو تفویت المصلحة .

و إلی هذا یرجع کلام صاحب الکفایة (2) .

تفصیل الکلام فی الجواب عن الوجه الثانی

أقول :

حاصل الجوابین : إنکار الصغری أو إنکار الکبری بعد التسلیم بالصغری ، و تحقیق المرام فی المقام یکون بالبحث تفصیلاً فی الجهتین ، فنقول :

الجهة الاُولی : فی الصغری

و هی : هل یلزم من التعبّد بالظن تفویت المصلحة و الإلقاء فی المفسدة أوْ لا ؟

و هل یلزم ذلک بناءً علی جعل السببیّة للأمارات ، أو علی جعل الطریقیّة ؟

و بناءً علی القول الثانی ، یطرح البحث تارة : فی صورة انفتاح باب العلم ،

ص:289


1- 1) فوائد الاصول 3 / 190 .
2- 2) کفایة الاصول : 277 .

و اخری : فی صورة الانسداد .

و لا یخفی الفرق بین المحاذیر ، لأنّ تحریم الحلال إشکاله هو عدم التبعیّة للملاک ، إذ لیس فیه إلقاء فی المفسدة و لا تفویت للمصلحة . أمّا تحلیل الحرام ، فالإشکال فیه هو الإلقاء فی المفسدة و هو من المولی قبیح .

أمّا بناءً علی السببیّة

فعلی قول الأشاعرة من أنّ الأحکام الشرعیّة تابعة للأمارات ، و أنّ قیام الأمارة هو تمام الموضوع للملاک ، فلا یوجد فی الواقع ملاک ، فلا یلزم أیّ محذور أصلاً ، لعدم لزوم مفسدة من التعبّد بالظن .

لکن هذا القول باطل ، کما ثبت فی محلّه .

و علی قول المعتزلة ، من أن قیام الأمارة عنوان ثانوی یوجب انقلاب المصلحة أو المفسدة فی العنوان الأوّلی ، فالمحذور غیر لازم کذلک .

لکنّه قول باطل ، لأن قیام الأمارة لیس من العناوین الثانویة الموجبة لتغیّر الحکم کالحرج و الاضطرار ، کما بُیّن فی محلّه .

إنما الإشکال فی ما ذهب إلیه الشیخ ، و هو : الالتزام بوجود المصلحة فی السّلوک علی طبق الأمارة ، فبمقدار الوقوع فی خلاف الواقع من الالتزام بمقتضی الطریق و تفویت المصلحة من ذلک ، یکون التدارک من الشارع بجعل المصلحة فی نفس سلوک الطریق ، و لا یبقی محذور .

هکذا قالوا .

و لکنّ التحقیق ورود المحذور علی هذا المبنی ، لأنّ التدارک لا یرفع القبح ، و لذا لو أتلف الإنسان مالاً لغیره ، ثم أدّی مثله أو قیمته و حصل التدارک للمال

ص:290

المتلف ، کان قبح التصرّف فی مال الغیر باقیاً علی حاله حتی لو لم یفوّت بذلک غرضاً من أغراضه .

و علی الجملة ، فإنّ التدارک مثبت و محقّق لموضوع القبح و لیس رافعاً له عند العقل ، إلّا أن یقال بأنّ موضوع الحکم بالقبح هو المصلحة غیر المتدارکة ، فیرتفع الإشکال فی ناحیة المصلحة و لکنّه یبقی فی ناحیة المفسدة .

و لکنّ المبنی من أصله باطلٌ ، کما تقرّر فی محلّه .

هذا کلّه بناءً علی السببیّة .

و أمّا بناءً علی الطریقیّة

بمعنی أن الشارع یجعل الطریق ، فإنْ أدّی إلی الواقع فهو ، و إلّا فالمکلّف معذور من قبله .

فیقع البحث بین الأعاظم قدّس اللّٰه أسرارهم تارةً : فی ظرف الانسداد ، و اخری : فی ظرف الانفتاح .

أمّا فی ظرف الانسداد

بأن یجعل الشارع طریقاً یلزم منه الإلقاء فی المفسدة أو تفویت المصلحة أو تفویت مصلحة الترخیص فی المباح ، فنقول :

إنْ لزم تفویت مصلحة الترخیص ، فالمفروض عدم لزوم الاحتیاط ، لاستلزامه اختلال النظام ، و یکون المرجع حینئذٍ قاعدة قبح العقاب بلا بیان ، و لا یلزم تفویت المصلحة .

و أمّا تفویت مصلحة الواجب و الإلقاء فی المفسدة ، فکذلک ، لأن الشارع لمّا لم یجعل الاحتیاط ، فالمرجع هو القاعدة المذکورة .

ص:291

فلا محذور فی ظرف الانسداد .

و تفصیل ذلک :

أمّا فی تحریم الحلال عند الانسداد ، فإنّ منشأ الحلیّة تارة : هو اللّااقتضاء ، و تحریم هکذا حلال لا إشکال فیه ، لا بالنسبة إلی المتعلّق و لا بالنسبة إلی الحکم ، فإنه لا مانع من أنْ یمنع عن جائزٍ ، من أجل التحفّظ علی الواقع . و اخری : هو الاقتضاء ، أی المصلحة فی الترخیص ، فهنا أیضاً لا یلزم الإشکال من جهة الإلقاء فی المفسدة بالنسبة إلی المتعلّق أو تفویت مصلحته .

و یبقی فقط الإشکال بلزوم تفویت المصلحة الخاصة القائمة فی الترخیص علی أثر جعل الأمارة . و سیأتی حلّ هذا الإشکال .

و أمّا فی تحلیل الحرام ، بأنْ یلزم من جعل الأمارة الإلقاء فی المفسدة و فوت المصلحة الملزمة ، فللإشکال جهتان :

الاولی : من جهة نفس المتعلّق ، فإنه فی ظرف الانسداد إنْ جعل الشارع الطریقیّة لخبر الثقة مثلاً و قام علی إباحة حرامٍ ، یلزم الإلقاء فی مفسدة الحرام من ناحیة هذا الجعل ، و إن قام علی إباحة واجب ، لزم تفویت مصلحة الواقع .

و الثانیة : من جهة أن إیجاب الواجب و تحریم الحرام الواقعی ، لا یکون بلا غرضٍ ، و هذا الغرض ینتقض علی أثر جعل الإمارة .

و الجواب عن الإشکال فی الجهة الاولی - و کذا الإشکال الباقی فی تحریم الحلال - هو :

أنّ المرجع فی مفروض الکلام لیس إلّا البراءة العقلیّة ، فلو لم یجعل الشارع الحجیّة للطرق ، کانت البراءة هی السبب لوقوع المکلّف فی المفسدة أو تفویت

ص:292

المصلحة ، و القبیح بحکم العقل هو إیقاع الشارع المکلّف فی المفسدة ، أمّا المکلّف فهو واقع فیها علی کلّ حالٍ ، و الإلقاء غیر منتسب إلی الشارع ، و یکفی لرجحان جعل الأمارة أن یکون الوقوع فی المفسدة أو تفویت المصلحة أقلّ ، فلم یتحقّق من الشارع قبیح ، بل الصّادر منه لیس إلّا الخیر .

نعم ، لو کانت الوظیفة فی ظرف الانسداد هو الاحتیاط عقلاً ، کان جعل الأمارة من الشارع قبیحاً .

و أمّا فی ظرف الانفتاح

و هو العمدة ، فلحلّ المشکل طریقان :

أحدهما : إنّه لا إلقاء فی المفسدة . قاله المیرزا .

و الثانی : إنّ الإلقاء فی المفسدة لیس قبیحاً ذاتاً . قاله صاحب الکفایة .

أمّا أنه لیس فی المورد إلقاء فی المفسدة ، و هو إنکار الصغری ، کما ذکرنا من قبل فتوضیحه :

إن فی جعل الطرق و الأمارات مصلحةً نوعیّة ، هی مصلحة التسهیل ، و هذه المصلحة قد تتقدّم فی نظر الشارع علی الملاکات الواقعیّة ، و لا یری العقل فی ذلک قبحاً ، و من ذلک : حکم الشارع بطهارة الحدید تسهیلاً علی العباد لابتلائهم غالباً باستعماله فی شئونهم المختلفة ، و إلّا فالنصوص المعتبرة دالّة علی نجاسته، فکما لا یکون الحکم بالطّهارة هناک إلقاءً فی المفسدة أو تفویتاً لمصلحةٍ حتی یحکم العقل بالقبح ، کذلک الحال فی التعبّد بالأمارات بناءً علی الطریقیّة ، و من هذا الباب : إرجاع الأئمة علیهم السلام فی زمن حضورهم إلی بعض الأصحاب ، کإرجاع الإمام الرضا علیه السّلام عبد العزیز بن المهتدی إلی یونس بن

ص:293

عبد الرحمان ، مع کون باب العلم - و خاصّةً الواقعی - بالرجوع إلی الإمام ممکناً ، لکنّه أرجعه إلی یونس تسهیلاً له ، لأنّه قال : « إنّ شقّتی بعیدة فلست أصل إلیک فی کلّ وقت » (1) .

و أمّا أنّ الإلقاء فی المفسدة لیس من القبیح الذاتی ، و هذه هی :

الجهة الثانیة : فی الکبری

فتقریب ذلک هو :

إنه لیس للشارع فی موارد الأمارات و الطّرق جعلٌ تأسیسی ، بل إنه إمضاء للسّیرة العقلائیة ، لأنّ العقلاء یرون الطریقیّة للأمارات إلی الواقع و یرتّبون الأثر علیها ، و لم یرد من الشارع ردعٌ عن هذه السیرة ، فلو کان لا یرضی بترتیب الأثر علیها لردع عنها الرّدع القویّ کما فعل بالنسبة إلی القیاس ، إذ ورد عنه فی النهی عن القیاس مئات الأخبار بالألسنة المختلفة ، لوجود المفسدة العظیمة فی الأخذ به فی الدین ، و حیث أنه لا مفسدة فی العمل طبق الأمارات ، و لو کانت فهی مندکّة فی مصلحة التسهیل ، مضافاً إلی کونها فی الأغلب مطابقةً للواقع و تخلّفها عنه قلیل جدّاً ، فإنه لا محالة یکون الرّدع عن ترتیب الأثر علیها بلا ملاک ، کما لا یمکن الرّدع فی صورة عدم إمکان الوصول إلی الواقع ، لأنه ینافی مصلحة التسهیل .

مناقشة ما ذکر فی الجهتین

و لکنْ فی ما ذکر فی کلتا الجهتین نظر .

أمّا ما ذکر فی جهة الصغری ، فإنّ الملاک لنجاسة الحدید قد اندکّ فی مصلحة التسهیل علی أثر المزاحمة معها ، فکان الحکم الفعلی للحدید هو

ص:294


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 148 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 35 .

الطهارة ، لکنّ غلبة المصلحة المذکورة فی موارد مخالفة الطّرق للواقع علی ملاکات الأحکام الواقعیّة ، تستلزم تقیید إطلاق أدلّة تلک الأحکام ، و ذلک یستلزم التصویب ، فما ذکره الأعلام فی دفع شبهة ابن قبة یوقعهم فی إشکالٍ أقوی و آکد .

و أمّا ما ذکر فی جهة الکبری ، فإنه و إنْ کان تامّاً من النّاحیة الکبرویّة ، لکنّ هذا التقریب یتوقف علی کفایة عدم الردع للإمضاء الکاشف عن الرضا ، و هو أوّل الکلام .

ثم إنّ موضوع الاعتبار هو الطریق العقلائی مع عدم الردع الکاشف عن الرضا و الإمضاء ، و إمضاء الطریق العقلائی یکون بالاعتبار المماثل من الشارع ، بأن یجعل الشارع الطریقیّة للطریق کما هو عند العقلاء ، و إذا تمّ هذا الإمضاء و الجعل ، لزم وقوع التزاحم بین مصلحة هذا الإمضاء و مصلحة الواقع الملزم للأحکام الشرعیة ، و یعود الإشکال .

مضافاً إلی أنّ الالتزام بعدم القبح فی تفویت مصلحة الواقع و الإلقاء فی المفسدة - لعدم التمکّن من التحفّظ علی الأغراض و الملاکات فی متعلّقات الأحکام - ینتهی إلی نحوٍ من التصویب .

حلّ المشکلة

لکنّ المشکلة تنحلّ بنفی لزوم التزاحم من أصله ، بأن نقول :

إن تحقق التزاحم بین الملاکات و الأغراض ، فرع کونها فی العَرض ، لأن التزاحم هو التمانع - فإنْ کان بین الملاکات اصطلح علیه بالتزاحم ، و إن کان بین الحجج و الأدلّة اصطلح علیه بالتعارض - و التمانع إنما هو إذا کان الطرفان فی مرتبةٍ واحدة ، و مصلحة التسهیل لیست مع مصلحة الواقع فی مرتبةٍ واحدة ، لأنّ الطریق

ص:295

دائماً متقوّم بذی الطریق - و لیس ذو الطریق متقوماً بالطریق - و لذا ورد الإشکال علی الأشاعرة باستلزام ما ذهبوا إلیه للدور ، لأنّ الأمارة فرع لذی الأمارة ، فإن کان ذو الأمارة فرعاً لها لزم الدور .

وعلیه ، فإن مصلحة التسهیل قائمة بالطریق ، و الطریق قائم بذی الطریق و هو الواقع ، فکانت مصلحة التسهیل فی طول الواقع لا فی عرضه ، فلا تمانع ، فلا یلزم الإلقاء فی المفسدة و لا یلزم التصویب .

نعم ، یتحقّق التمانع فیما إذا کان غرضیّة الغرض یستدعی جعل الاحتیاط بالإضافة إلی الحکم المجعول ، فیکون مصلحة جعل الاحتیاط فی مرتبة مصلحة التسهیل و یقع التزاحم ، لکنّ هذا أمر آخر .

فشبهة ابن قبة مندفعة و الحمد للّٰه .

الوجه الثالث : لزوم المحذور من ناحیة الخطاب

و قد جمعوا تحت هذا العنوان لزوم المحذور فی ثلاثة مراحل :

1 - مرحلة الإرادة و الکراهة ، کما لو کان الحاکم مریداً للفعل ، فکان الحکم الواقعی هو الوجوب ، فهل یجوز التعبّد بالأمارة القائمة علی الحرمة ؟ أ لا یلزم الإرادة و الکراهة فی نفس الحاکم ؟

2 - مرحلة الحکم ، کما لو کان الحکم الواقعی هو الوجوب ، فقامت الأمارة علی الترخیص فیه ، فکیف یجتمع الترخیص و عدم الترخیص فی الشیء ؟

3 - مرحلة الامتثال ، فلو کان الحکم الواقعی هو الوجوب ، فیقتضی الإتیان بالعمل ، ثم قامت الأمارة الدالّة علی الحرمة ، و تقتضی الترک ، فکیف یجتمع الفعل و الترک ؟ و هذه مشکلة :

ص:296

الجمع بین الحکم الواقعی و الحکم الظّاهری

و تقریرها بإیجاز هو : إنّ الأحکام الخمسة متضادّة ، فإذا کان الحکم الواقعی هو الوجوب و قامت الأمارة علی طبقه ، لزم اجتماع المثلین ، أو علی نفی الوجوب ، لزم اجتماع النقیضین ، أو علی الحرمة ، لزم اجتماع الضدّین ، و هذا هو المحذور الخطابی .

و قد حاول المحقّقون الأعلام حلّ هذه المشکلة و رفع المحذور بجمیع جهاته ، بالجمع بین الحکمین ، و ذکروا لذلک عدّة طرق :

طریق الشیخ

قد ذکر الشیخ رحمه اللّٰه الإشکال بقوله :

إذا فرضنا الشیء فی الواقع واجباً و قامت أمارة علی تحریمه ، فإن لم یحرم ذلک الفعل ، لم یجب العمل بالأمارة ، و إنْ حرم ، فإنْ بقی الوجوب لزم اجتماع الحکمین المتضادّین ، و إنْ انتفی ثبت انتفاء الحکم الواقعی .

ثم أجاب عن ذلک قائلاً :

أنّ المراد بالحکم الواقعیّ الذی یلزم بقاؤه ، هو الحکم المتعیّن المتعلّق بالعباد الذی یحکی عنه الأمارة و یتعلّق به العلمُ أو الظنّ و أُمر السفراء بتبلیغه ، و إن لم یلزم امتثاله فعلاً فی حقّ من قامت عنده أمارةٌ علی خلافه ، إلّا أنّه یکفی فی کونه حکمه الواقعی : أنّه لا یعذر فیه إذا کان عالماً به أو جاهلاً مقصّراً ، و الرخصة

ص:297

فی ترکه عقلاً کما فی الجاهل القاصر ، أو شرعاً کمن قامت عنده أمارةٌ معتبرة علی خلافه .

و مما ذکرنا یظهر حال الأمارة علی الموضوعات الخارجیّة ؛ فإنّها من هذا القسم الثالث .

و الحاصل : أنّ المراد بالحکم الواقعی ، هی : مدلولات الخطابات الواقعیّة الغیر المقیّدة بعلم المکلّفین و لا بعدم قیام الأمارة علی خلافها ، و لها آثارٌ عقلیّة و شرعیّة تترتّب علیها عند العلم بها أو قیام أمارةٍ حکم الشارع بوجوب البناء علی کون مؤدّاها هو الواقع ، نعم هذه لیست أحکاماً فعلیّة بمجرّد وجودها الواقعی .

و تلخّص من جمیع ما ذکرنا : أنّ ما ذکره ابنُ قبة - من استحالة التعبّد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة الغیر العلمیّة - ممنوع علی إطلاقه ، و إنّما یقبح إذا ورد التعبّد علی بعض الوجوه ، کما تقدّم تفصیل ذلک (1) .

مناقشة هذا الطریق

و قد وقع النظر فی کلامه قدّس سرّه من جهات :

أمّا قوله : إنّ المراد بالحکم الواقعی ... .

فهو حق ، لکنّه خارج عن محلّ البحث .

و أمّا قوله : و الرّخصة فی ترکه عقلاً کما فی الجاهل القاصر أو شرعاً کمن قامت عنده أمارة معتبرة علی خلافه .

ففیه : إنّ الرخصة الشرعیّة حکم من الأحکام الخمسة التکلیفیّة ، فهی بحاجة إلی جعل ، و أین الدلیل علی جعل الرخصة مع وجود الأمارة

ص:298


1- 1) فرائد الاصول 1 / 122 - 123 .

علی الخلاف ؟

و أیضاً : إنه إذا قامت الأمارة علی الرخصة مع کون الحکم الواقعی هو الوجوب ، فمع القول بالتضادّ بین الأحکام أنفسها ، یعود الإشکال ، و أمّا علی القول بعدمها فیها ، یقع التضادّ فی مرحلة الإرادة .

و أمّا قوله : و الحاصل ... .

ففیه : إنّ الحکم إنما هو الاعتبار الشّرعی ، غیر أن المعتَبر من الشارع إنْ کان من حیث الاقتضاء و الترخیص ، فهو حکم تکلیفی ، و إلّا فوضعی ، و الحکم التکلیفی تارةً : تکلیفی من الأوّل ، و اخری : هو حکم تکلیفی یستتبعه الحکم الوضعی ، کما فی باب الضمان . و أیضاً : فإنّ الحکم الشرعی قد یترتّب علیه أثر شرعی و قد لا یترتب ، مثلاً : إنّ اعتبار النجاسة أثره شرعاً نجاسة الملاقی له ، و اعتبار صحّة البیع یترتّب علیه شرعاً وجوب تسلیم العوضین .

و أمّا الأثر العقلی المترتّب علی الحکم الشرعی ، فهو وجوب الإطاعة و حرمة المعصیة .

لکنّ الآثار العقلیّة تدور مدار العلم و الأمارة ، أمّا الآثار الشرعیة فهی تابعة للواقع ، سواء کان هناک علم أو أمارة أوْ لم یکن .

و أمّا قوله : حکم الشارع بوجوب البناء علی کون مؤدّاها هو الواقع .

ففیه : إنّ أدلّة اعتبار الأمارات غیر العلمیّة - و عمدتها هو خبر الثقة فی الأحکام ، و البیّنة فی الموضوعات الخارجیّة و کذا خبر الثقة بناءً علی حجیّته فیها - إنّما هی إمضاء للسّیرة العقلائیّة فیها ، و أین « وجوب البناء علی کون مؤدّاها هو الواقع » فی السیرة العقلائیة ؟

ص:299

و لو کان نظر الشیخ فی هذا الکلام إلی قوله علیه السّلام : « فما أدّیا عنّی فعنّی یؤدّیان » (1) ، فإن هذه الروایة بعد تسلیم دلالتها علی حجیّة خبر الثقة ، ظاهرة فی جعل المؤدّی لا وجوب البناء علی کون مؤدّاها هو الواقع .

و أمّا قوله : نعم ، هذه لیست أحکاماً فعلیّةً بمجرّد وجودها الواقعی .

ففیه : أنّ الظاهر أن مراده من الفعلیّة - کما ذکر عند بیان السببیّة علی مسلک المعتزلة - هو ما یقابل الشأنیّة ، فیرید أنّ الأحکام الواقعیة تصیر فعلیّة بقیام الأمارة علیها ، لکنّ هذا هو تصویب المعتزلی الذی ثبت بطلانه بالضرورة .

و إنْ أراد من « الفعلیة » معنیً آخر غیر ما ذکر ، کأنْ یکون المراد منها « وجوب الامتثال » : أی إن الأحکام الواقعیّة ما لم تقم علیها الأمارة لا یجب فیها الامتثال ، وقع الإشکال فی مرحلة الإرادة .

فظهر : أن طریق الشیخ قدّس سرّه لا یحلّ المشکلة .

طریق آخر للشیخ ذکره المیرزا

قال : و هو منقول عن جماعة اخری أیضاً ، و هو :

اختلاف موضوعی الحکم الظاهری و الواقعی ؛ فإنّ موضوع الأوّل منهما هو الشیء بعنوان کونه مشکوکاً ، و هذا بخلاف موضوع الحکم الواقعی ؛ فإنّ موضوعه نفس الفعل و ذاته ، و اشتراط وحدة الموضوع فی التضادّ - کما فی التناقض - ربما یکون من الواضحات (2) .

ص:300


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 138 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 4 .
2- 2) أجود التقریرات 3 / 124 .
الإشکال علیه

ثم أشکل علیه بقوله : و فیه :

أوّلاً : أنّ هذا الجواب علی تقدیر تمامیّته إنّما یختصّ بخصوص موارد الاُصول من جهة أخذ الشکّ فی موضوعها ، و أمّا الأمارات فموضوعها نفس الفعل من غیر تقیید بالجهل بالحکم الواقعی ، و کونها حجّةً حال الجهل غیر أخذ الجهل فی موضوعها ، و إلّا لما بقی فرق بین الأمارة و الأصل ، و لا یکون لها حکومة علیه ، کما هو ظاهر .

و ثانیاً : أنّ الأحکام الواقعیّة و إن کانت ثابتةً لنفس الأفعال من دون تقییدها بحال الجهل ، إلّا أنّها لا تخلو فی نفس الأمر من اختصاصها بخصوص العالمین من باب نتیجة التقیید أو ثبوتها للجاهلین أیضاً بنتیجة الإطلاق ، و حیث أنّ الأوّل منهما مستلزم للتصویب المجمع علی بطلانه ، فلا محالة یتعیّن الثانی ، و یلزم منه کون الجاهل محکوماً بحکمین متضادّین (1) .

النظر فیه

أقول :

إنّ الذی أفاده الشّیخ فی باب التعادل و التراجیح هو أنه : لا تعارض بین الاصول و الأمارات ، لأن موضوع الأصل عبارة عن الشکّ فی الواقع ، فالدلیل الاجتهادی و هو الأمارة لا یعارضه الأصل ، فالشک غیر مأخوذ فی موضوع الأمارة .

فما نسبه إلیه المیرزا غیر واضح .

نعم ، المستفاد من کلام الشیخ عدم حصول الإشکال من جعل الأصل فی

ص:301


1- 1) أجود التقریرات 3 / 124 .

قبال الحکم الواقعی ، لأن الموضوع هناک نفس الواقع لا الشک ، و موضوع الأصل عبارة عن الشک ، فلا یلزم الاجتماع أصلاً . أمّا فی الأمارة ، فلا یوجد فی کلام الشیخ ما یفید أخذ الشک فی موضوعها ، حتی یکون الجمع بین الحکمین بتعدّد الموضوع .

فما أورده علیه المیرزا من أنّ الجهل مأخوذ فی موضوع الأصل دون الأمارة ، فی غیر محلّه .

نعم ، ما أشکل به علیه ثانیاً - بناءً علی صحّة ما نسبه إلیه - صحیح ، و هو أنّ اختلاف الموضوع لا یحلّ المشکل ، لأنه إنْ قلنا بإطلاق الأحکام بالإضافة إلی العلم و الجهل ، فالأدلّة موجودة فی ظرف الجهل و الاشکال لازم ، و إن قلنا بالعدم ، فالإهمال الثبوتی محال ، فإمّا التقیید بنتیجة التقیید بصورة عدم الجهل ، و هذا یستلزم التصویب ، فبقی الإطلاق بنتیجة الإطلاق فیعمّ صورة الجهل و یلزم الإشکال کذلک .

طریق المحقق الخراسانی

و أجاب المحقق الخراسانی عن الإشکال فی کتاب الکفایة و فی حاشیته علی الرّسائل ، و قد اشترک الجوابان فی بعض الجهات و افترقا فی البعض الآخر ، و نحن نذکر کلا الجوابین :

فی حاشیة الرسائل

أمّا فی حاشیة الرسائل فقال :

التحقیق فی الجواب أنْ یقال : إنها بین ما لا یلزم و ما لیس بمحال ، و لنمهّد لذلک مقدمةً :

ص:302

فاعلم أن الحکم بعد ما لم یکن شیئاً مذکوراً ، یکون له مراتب من الوجود :

أوّلها : أن یکون له شأنه من دون أن یکون بالفعل بموجود أصلاً .

ثانیها : أن یکون له وجود إنشاء من دون أن یکون له بعثاً و زجراً و ترخیصاً فعلاً .

ثالثها : أن کون له ذلک مع کونه کان فعلاً من دون أن یکون منجزاً بحیث یعاقب علیه .

رابعها : أن یکون له ذلک کالسّابقة مع تنجّزه فعلاً ، و ذلک لوضوح إمکان اجتماع المقتضی لإنشائه و جعله مع وجود مانع أو فقد شرط ، کما لا یبعد أن یکون کذلک قبل بعثته و اجتماع العلّة التامة له ، مع وجود المانع من أن ینقدح فی نفسه البعث أو الزّجر ، لعدم استعداد الأنام لذلک ، کما فی صدر الإسلام بالنّسبة إلی غالب الأحکام .

و لا یخفی أن التضادّ بین الأحکام إنما هو فی ما إذا صارت فعلیّة و وصلت إلی المرتبة الثالثة ، و لا تضادّ بینها فی المرتبة الاولی و الثانیة ، بمعنی أنه لا یزاحم إنشاء الإیجاب لاحقاً بإنشاء التّحریم سابقا أو فی زمان واحد بسببین ، کالکتابة و اللفظ أو الإشارة .

و من هنا ظهر أنّ اجتماع إنشاء الإیجاب أو التحریم مرّتین بلفظین متلاحقین أو بغیرهما ، لیس من اجتماع المثلین ، و إنما یکون منه إذا اجتمع فردان من المرتبة الثالثة و ما بعدها ، کما لا یخفی .

إذا عرفت ما مهّدنا فنقول :

أمّا الإشکال بلزوم اجتماع المثلین فیما إذا أصابت الأمارة ، فإن ارید منه

ص:303

اجتماع الإنشاءین للإیجاب أو التحریم ، فهو لیس بمحال ، و إن ارید اجتماع البعثین ، فهو غیر لازم ، بل یوجب إصابتها أن یصیر إنشاء الإیجاب أو التحریم واقعاً بعثاً و زجراً فعلیّین .

و منه یظهر حال الإشکال بلزوم اجتماع الضدّین فیما إذا أخطات ، حیث أن الاجتماع المحال غیر لازم ، و اللّازم لیس بمحال ، إذ البعث أو الزّجر الفعلی لیس إلّا بما أدّت إلیه لا بما أخطأت عنه من الحکم الواقعی ، و لا تضادّ إلّا بین البعث و الزّجر الفعلیّین .

فإن قلت : لا محیص إمّا من لزوم الاجتماع المحال أو لزوم التّصویب الباطل بالإجماع ، إذ لا یرتفع غائلة الاجتماع إلّا إذا لم یکن فی الواقع بعث و زجر ، و معه لا حقیقة و لا واقعیّة للحکم .

قلت : التّصویب الّذی قام علی بطلانه الإجماع بل تواترت علی خلافه الرّوایات ، إنما هو بمعنی أنْ لا یکون له تعالی فی الوقائع حکم مجعول أصلاً یتتبع عنه و یشترک فیه العالم و الجاهل و من قامت الأمارة عنده علی وفاقه و علی خلافه ، بل حکمه تعالی یتبع الآراء أو کان متعدّدا حسبما یعلم تبارک و تعالی من عدد الآراء ، و کما یکون بالإجماع بل الضّرورة من المذهب فی کلّ واقعة حکم یشترک فیه الامّة لا یختلف باختلاف الآراء ، کذلک یمکن دعوی الإجماع بل الضّرورة علی عدم کونه فعلیّاً بالنّسبة إلی کلّ من یشترک فیه ، بمعنی أن یکون بالفعل بعثاً أو زجراً و ترخیصاً ، بل یختلف بحسب الأزمان و الأحوال ، فربّما بصیر کذلک فی حق واحد فی زمان أو حال دون آخر ، کما أنه بالبداهة کذلک فی المرتبة الرابعة .

ص:304

و بالجملة ، المسلّم أنه بحسب المرتبتین الأولیّین لا یختلف حسب اختلاف الآراء و الأزمان و غیرهما ، دون المرتبتین الأخیرتین ، فیختلف حسب اختلاف الآراء و غیرها .

إن قلت : إذا کان الحکم الواقعی الذی یقول به أهل الصّواب بهذا المعنی ، فإذا علم به بحکم العقل من باب الملازمة بین الحکم الشرعی و حکمه بحسن شیء أو قبحه لا یجب اتباعه ، ضرورة عدم لزوم اتباع الخطاب بتحریم أو إیجاب ما لم یصل إلی حدّ الزّجر و البعث الفعلیّین ، بل و کذا الحال فی العلم به من غیر هذا الباب .

قلت : مضافاً إلی أنّ العلم به مطلقاً لو خلّی و نفسه یوجب بلوغه إلی حدّ الفعلیّة ، إنه إنما یکون ذلک لو کان طرف الملازمة المدّعاة بین الحکمین هو الحکم الشّرعی بهذا المعنی ، فلا ضیر فی القول بعدم لزوم الاتباع ، و ذلک کما لو منع مانع من اتباع العلم الناشی من العقل ، کما یظهر ممّا نقله قدّس سرّه من السیّد الصّدر فی تنبیهات القطع ، و لا ینافی ذلک ما أوضحنا برهانه و شیّدنا بنیانه من لزوم اتباع القطع بالحکم الشّرعی علی نحو الفعلیّة التامة ، فإنه فی القطع بالحکم الفعلی کما أشرنا إلیه فی توجیه کلام الأخباریّین ، لا ما لو کان الطرف هو الحکم الفعلی الشّرعی ، بأن یدّعی أنّ استقلال العقل بحسن شیء أو قبحه فعلاً ، یستلزم الحکم الشّرعیّ به کذلک. نعم ، لو لم یستقل إلّا علی جهة حسن أو قبح لا حسنه أو قبحه مطلقاً ، لم یستکشف به إلّا حکماً ذاتیاً اقتضائیاً یمکن أن یکون حکمه الفعلی علی خلافه ، لمزاحمة تلک الجهة بما هو أقوی منها . فتفطنّ .

و أمّا حدیث لزوم اتصاف الفعل بالمحبوبیّة و المبغوضیّة ، و کونه ذا مصلحة

ص:305

و مفسدة - من دون وقوع الکسر و الانکسار بینهما ، فیما إذا أدّت الأمارة إلی حرمة واجب أو وجوب حرام - فلا أصل له أصلاً ، و إنما یلزم لو کانت الأحکام مطلقاً و لو کانت ظاهریّة ، تابعة للمصالح و المفاسد فی المأمور بها و المنهیّ عنها ، و أمّا إذا لم یکن کذلک ، بل کانت تابعة للمصالح فی أنفسها و الحکم فی تشریعها ، سواء کانت کلّها کذلک أو خصوص الأحکام الظاهریّة منها ، فلا ، کما لا یخفی ، و لیست قضیّة قواعد العدلیة ، إلّا أنّ تشریع الأحکام إنما هو لأجل الحکم و المصالح التی قضت بتشریعها ، بخلاف ما علیه الأشاعرة .

مع أنه لو کانت الأحکام مطلقاً تابعة للمصالح و المفاسد فی المأمور بها و المنهیّ عنها ، فذلک غیر لازم أیضاً ، فإن الکسر و الانکسار إنما یکون لا بدّ منه بین الجهات مطلقاً فی مقام تأثیرها الأحکام الفعلیّة لا فی مجرّد الإنشاء ، و قد عرفت أن الحکم الواقعی فیما أخطأت الأمارة لیس یتحقق إلّا بالوجوب الإنشائی ، فیکون الجهة الواقعیة التی یکون فی الواقعة مقتضیةً لإنشاء حکم لها من إیجاب أو تحریم أو غیرهما ، فینشئ علی وفقها من دون أن یصیر فعلیّاً إلّا بامور ، منها : عدم قیام أمارة معتبرة علی خلافه المحدث فیها جهة اخری غالبة علی تلک الجهة ، یکون موجبة لحکم آخر فیها بالفعل ، فالکسر و الانکسار إنّما یقع بین الجهات فیما أدّت إلیه الأمارة من الحکم فی صورة الخطاء ، لکونه حکماً فعلیّاً ، لا فی الحکم الواقعی الّذی أخطأت عنه الأمارة ، بل إنّما هو إنشاء بمجرّد ما فی الواقعة بما هی من الجهة الواقعیّة ، کما هو الحال فی جمیع الأحکام الذّاتیّة الاقتضائیّة المجعولة للأشیاء بما هی علیها من العناوین الأوّلیّة ، و إن کانت أحکامها الفعلیّة بسبب ما طرأت علیها من العناوین الثّانویّة علی خلافها .

ص:306

و من هنا ظهر أنّ المحبوبیّة أو المبغوضیّة تابعة لغالب الجهات کالحکم الفعلی ، فلا یلزم أن یکون الفعل الواحد محبوباً و مبغوضاً بالفعل .

و قد ظهر ممّا ذکرنا هاهنا ما به یذبّ عن إشکال التّفویت و الإلقاء ، لأنّهما لا یلزمان من إباحة الواجب أو الحرام ، لإمکان أن یکون الإیجاب أو التّحریم واقعاً عن الحکم فی التّشریع ، لا عن مصلحة فی الواجب أو عن المفسدة فی الحرام ، مع إمکان منع أن یکون تلک الجهة الموجبة لتشریع الوجوب أو التحریم لازم الاستیفاء أو لازم التحرّز کی یلزم ذلک .

هذا ، مع أنّه لو سلّم کونها لازم الاستیفاء ، لا یکون تشریع التّرخیص و الإباحة ظاهراً للمفوّت له قبیحاً مطلقاً ، بل إذا لم یکن عن مصلحة و حکمة کائنة فیه و راجحة علی ما فیه من جهة القبح ، و من المعلوم أنّ الفعل لا یکون قبیحاً أو حسناً فعلاً بمجرّد أن یکون فیه جهة قبح أو حسن ، بل إذا لم یکن مزاحمة بما یساویها أو أقوی کما لا یخفی .

هذا کلّه إذا کانت الأحکام الظّاهریّة لمصالح فی تشریعها لا لمصالح فی سلوکها . و أمّا بناء علی ذلک ، فالمصلحة المفوّتة علیه أو المفسدة الملقی فیها ، متدارکة بمصلحة سلوک الأمارة ، و معه لا قبح فی التّفویت و الإلقاء کما لا یخفی ، حیث أنّهما کلا تفویت و لا إلقاء .

فتلخّص من جمیع ما ذکرنا ، أنه لا یلزمُ التّصویب من الالتزام بجعل الأحکام و إنشائها للأفعال بما هی علیها من العناوین ، و قد جعل علیها أمارات تخطئ عنها تارة و تصیب اخری ، و لا اجتماع المثلین فی صورة الإصابة ، لعدم لزوم البعثین أو الزّجرین ، بل یصیر الحکم الواقعی فعلیّاً بسبب إصابتها ، و لا

ص:307

اجتماع الضّدّین فی صورة الخطاء ، لعدم اجتماع البعث و الزّجر الفعلیّین ، بل لیس البعث أو الزّجر الفعلی إلّا فی مؤدّی الأمارة ، و لا التّفویت و الإلقاء القبیحین ، إمّا لأجل التّدارک بمصلحة السّلوک ، و إمّا لعدم کون المصلحة أم المفسدة الواقعیّة لازم الاستیفاء و التحرّز ، أو لأجل کون الفعل الموجب لهما مشتملاً علی ما هو أقوی و أرجح من جهات الحُسن من هذه الجهة المقبّحة لو سلّم .

ثُمّ لا یخفی إنّه قد ظهر من مطاوی ما ذکر أنّ التّضاد و التّماثل المانعین عن اجتماع الحکمین ، إنّما هو فی المرتبتین الأخیرتین مطلقاً ، سواء کانا واقعیّین أو ظاهریّین أو مختلفین ، فلو بلغ حکم إلیهما واقعاً فی موضوع ، لم یمکن أن یحکم علیه فعلاً و لو ظاهراً بحکم آخر مطلقاً و لو کان مثله ، هذا إن لم یعلم به أصلاً فضلاً عمّا إذا علم به تفصیلاً أو إجمالاً .

فما ذکرناه سابقاً من التّفاوت بین العلمین ، و أن مرتبة الحکم الظّاهری محفوظة مع الإجمالی دون التّفصیلی ، إنّما هو فی المعلوم فی غیر هاتین المرتبتین ، حیث أنّه لا یکون مع التّفصیلی مرتبة غیر مرتبة الحکم الواقعیّ ، فلا معنی لجعل حکم آخر إلّا بعد نسخه و رفع الید عنه بالمرّة ، إذ لا یمکن أن یکون فی فعل واحد من شخص واحد علّتان لإنشاء حکمین فی عرض واحد فی زمان واحد کما لا یخفی ، بخلاف الإجمالی ، حیث یعقل فیه مع بقائه علی حاله و عدم رفع الید عنه ، أن یجعل فی هذه المرتبة و مع الجهل به تفصیلاً حکم فعلی یعمل علی وفقه علی خلافه .

فظهر أنّ مع الفعلیّ من الواقعیّ لا مجال للظاهریّ أصلاً و لو مع الجهل به رأساً ، غایة الأمر کون المکلّف معذوراً معه لو کان من قصور عقلاً ، و مع الشأنی

ص:308

منه المتحقّق بمجرّد الوجود الإنشائی یکون له المجال مطلقاً ، و لو کان معلوماً بالإجمال ، و یترتّب علیه آثاره إذا انکشف الحال (1) .

خلاصته

و یتلخّص ما أفاده فی أنه لا یتحقق التضادّ بین الحکمین الإنشائیین ، و لا بین حکمین أحدهما فعلی و الآخر إنشائی ، و إنما یتحقق بین الفعلیین ، و الحکم الواقعی فی مرتبة الإنشاء ، و مورد الأمارة فی مرتبة الفعلیّة ، فبینهما اختلافٌ فی المرتبة ، و معه لا یتحقق التضادّ .

و أمّا عدم لزوم التصویب ، فلأنّ الدلیل علی بطلان التصویب هو الإجماع ، و هو دلیلٌ لبّیٌّ یؤخذ منه بالمتیقّن ، و هو هنا وجود الأحکام فی مرتبة الإنشاء لعامّة المکلّفین ، لا وجود الأحکام الفعلیّة .

مناقشته

لکن یرد علیه :

أوّلاً : إنّ مقتضی ما ذکره من « أن الحکم الواقعی فیما أخطأت الأمارة لیس بمتحقّق إلّا بالوجوب الإنشائی ... کما هو الحال فی جمیع الأحکام الذاتیّة الاقتضائیة المجعولة للأشیاء بما هی علیها من العناوین الأوّلیة ، و إنْ کانت أحکامها الفعلیّة بسبب ما طرأت علیها من العناوین الثانویة علی خلافها ... » هو أنْ یکون الحکم الواقعی فی المرتبة الاُولی من مراتب الحکم و هو مرتبة الشأنیّة و الاقتضاء ، و أنْ یکون باقیاً فی هذه المرتبة ، لوجود المانع عن الملاک ، کما هو الحال فی مثل الوضوء الضرری ، حیث أن مقتضی الدلیل الأوّلی جعل الوضوء

ص:309


1- 1) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 36 - 39 .

لکلّ المکلّفین ، لکنّه عند طروّ الضّرر علی أحدهم یتبدّلُ الحکم إلی التیمّم ، و یتقدّم دلیل نفی الضرر علی الدلیل الأوّلی بالحکومة ، و مقتضاها تخصیص الدلیل الأوّلی ، لکونها حکومةً واقعیّة .

لکنّ الالتزام بکون الحکم الواقعی فی مرتبة الشأنیّة ، هو القول بالتصویب المعتزلی ، و هو باطل .

و ثانیاً : إنّ مقتضی ما ذکره من أنّ فعلیّة الحکم الإنشائی تکون بتحقّق البعث إلیه أو الزجر عنه ، لکنّ هذه الفعلیّة تختلف عن الفعلیّة بالوصول ، لکون الوصول شرطاً للتنجّز لا الفعلیّة ، فما لم یصل الحکم الذی قامت علیه الأمارة لا وجداناً و لا تعبّداً فهو باقٍ فی مرتبة الإنشاء ، و حینئذٍ یرد علیه :

إنّ کون الحکم فی مرتبة الإنشاء - و هی المرتبة الثانیة - لا معنی له إلّا عدم تمامیة الموضوع بجمیع خصوصیّاته ، کما یکون قوله تعالی : «وَلِلّٰهِ عَلَی النّٰاسِ حِجُّ الْبَیْتِ ... » (1)إنشاءً و لا مستطیع ، و لا موجب لعدم تمامیّة الموضوع هنا إلّا الجهل ، فیلزم أنْ یکون العلم جزءاً لموضوع الحکم ، فیختصّ الحکم بالعالِمین ، و هو باطل .

فی الکفایة

و أمّا فی الکفایة ، فقد قال :

إنّ ما ادّعی لزومه إمّا غیر لازم أو غیر باطل ... (2) .

و توضیحه : أنّ المجعول فی باب الأمارات لا یخلو عن وجوه :

ص:310


1- 1) سورة آل عمران : 97 .
2- 2) کفایة الاصول : 277 .

1 - أن یکون المجعول نفس « الحجیّة » .

2 - أن یکون المجعول هو الحکم النفسی .

3 - أن یکون المجعول هو الحکم الطریقی .

4 - أن یکون المجعول هو الحجیّة المستتبعة للحکم الطّریقی .

أمّا أن الشارع قد جعل فی مورد الأمارة حکماً نفسیاً ذا مصلحةٍ ، کما هو الحال فی الأحکام الشرعیة ، فإن الإشکال بلزوم اجتماع المثلین أو الضدّین لازم .

لکنّ المبنی باطل ، لأن المجعول فی مورد الأمارة لیس هو الحکم التکلیفی ، بل هو حکم وضعی ، و لو کان تکلیفیّاً فهو طریقی لا نفسی .

و أمّا أن یکون المجعول هو الحجیّة المستتبعة للحکم التکلیفی ، مثل الملکیّة المستتبعة لجواز التصرّف ، فلا یلزم المحذور ، لأنّ الحکم طریقی ، و هو لا یضادّ و لا یماثل الحکم الواقعی النفسی .

و المراد من الحکم الطریقی هو الحکم الذی یجعله المولی بلحاظ الواقعیّة من أجل المحافظة علیها ، و هکذا حکمٍ لا سنخیّة له مع الحکم الواقعی حتی یماثله أو یضادّه .

و لو قیل : یجعل الحکم التکلیفی ثم ینتزع منه الحکم الوضعی ، کأن یقول :

اعمل بقول زرارة ، فإنه ینتزع منه حجیّة قوله ، کما هو مسلک الشیخ فی الأحکام الوضعیة .

فعلی هذا المبنی أیضاً لا یلزم المحذور أصلاً ، لکون مثل هذا الحکم طریقیّاً کذلک ، لعدم کونه ناشئاً من المصلحة أو المفسدة فی المتعلّق .

هذا ، و المختار عنده أنّ المجعول فی باب الأمارة هو « الحجیّة » .

ص:311

أی : کما أنّ القطع کاشف حقیقی عن الواقع ، و هو حجّة للعبد علی المولی ، و عذر له إذا حصلت المخالفة ، و هو حجة عند العقلاء جمیعاً ، و هذا المعنی من لوازم القطع ذاتاً ، کذلک الأمارة ، فإن لها جمیع هذه الآثار و الأحکام ، غیر أنّ هذا بجعلٍ من المولی ، فالأمارة کالقطع مع فرقٍ واحدٍ هو أن الحجیّة هناک ذاتیّة و هنا اعتباریة .

وعلیه ، فإن متعلّق الأمارة نفس هذا الأمر الوضعی ، أعنی الحجیّة ، و المصلحة قائمة بها ، و حینئذٍ ، یتّضح عدم لزوم محذور اجتماع المثلین أو الضدّین ، لأن المصلحة قائمة فی الأمارة بنفس هذا الأمر الوضعی ، أمّا فی الحکم الواقعی ، فهی قائمة بالمتعلّق .

فلا محذور فی مرحلة الملاک .

و کذا فی مرحلة الإرادة و الکراهة .

و أمّا فی مرحلة الحکم - و هو یری التضادّ فی الأحکام - فالمفروض أنّ الحکم الواقعی تکلیفی مثل وجوب صلاة الجمعة ، و الحکم الظاهری القائم علیها الأمارة وضعی و هو الحجیّة ، أی: حجیّة خبر الثقة علی الواقع ، فهما لیسا من سنخٍ واحد حتی یلزم التضاد أو المماثلة .

و أمّا فی مرحلة الامتثال ، فإنْ تعلّق العلم بالحکم الواقعی ، أو کانت الأمارة مطابقةً له ، فالواجب امتثال الحکم الواقعی ، و أمّا فی صورة المخالفة ، فالأمارة عذر للعبد أمام المولی ، و لا یقتضی الحکم الواقعی الامتثال .

و هکذا ینحلّ المشکل علی جمیع المبانی .

ص:312

إلّا أن المحقق الخراسانی یری بقاء المشکلة فی « أصالة الإباحة » (1) ، لأن المجعول فی موردها بنظره هو الإذن و الترخیص ، فکان الشارع قد جعل الإباحة مع وجود الحکم الواقعی ، فتارةً تضادُّ الإباحة الحکم الواقعی ، و اخری تماثله .

و هذا الإشکال یلزم بناءً علی جعل الحکم الظاهری فی مورد الاستصحاب .

و قد حلّ المشکل فی أصالة الإباحة ، بأنّ الحکم الواقعی فی مورد أصالة الإباحة غیر فعلی .

و الظاهر أنّ مراده من عدم الفعلیّة هنا هو : أن الحکم الواقعی مجعول ، بحیث لو علم به لتنجّز ، فلا باعثیّة و زاجریة له فی ظرف الجهل به ، و حینئذٍ ، لا یلزم المحذور ، لأنّ المکلّف فی هذه الحالة ینبعث أو ینزجر من الإباحة الظاهریة المجعولة فعلیّته لا من الحکم الواقعی .

موارد الفرق بین الحاشیة و الکفایة

و علی الجملة ، فقد ظهر الفرق بین کلامی المحقق الخراسانی فی کتابیه ... .

لأنه جعل الحکم الواقعی فی الحاشیة فی المرتبة الثانیة من مراتب الحکم التی ذهب إلیها ، و الحکم الظّاهری فی المرتبة الثالثة و الرابعة ، و فی الکفایة ، جعله فی المرتبة الثالثة ، و جعل الظاهری فی الرابعة .

و أیضاً ، کلامه فی الحاشیة ناظر إلی الحکم بصورةٍ عامّة ، أمّا فی الکفایة ، فقد استثنی أصالة الإباحة .

ثم إنه فی الحاشیة لا یری الحکم الواقعی فعلیّاً ، و فی الکفایة یراه فعلیّاً ،

ص:313


1- 1) کفایة الاصول : 278 .

فیقع فی الإشکال و یحاول رفعه بقوله : « بمعنی کونه علی صفةٍ و نحوٍ لو علم به المکلّف لتنجّز علیه ... » .

هذا ، و قد عرفت أنه لا یمکن المساعدة علی ما ذکره فی حاشیة الرسائل .

و أمّا ما ذهب إلیه فی کفایة الاصول ، فقد تکلّم علیه جماعة ، کما نری :

الکلام علی الکفایة

و هو یقع فی جهتین :

الاُولی : فیما ذکره فی حلّ المشکل .

فإنّه یرد علیه : أنه إذا کان الحکم الواقعی بحیث لو علم به لتنجّز - أی: لیس فیه جهة نقص إلّا عدم العلم الوجدانی به - فلازمه أن تعود جمیع المحاذیر بمجرّد تحقّق العلم به .

و الثانیة فی أصل مبناه ، من أنّ مدلول الأدلّة فی الأمارات أن المجعول فی موردها هو « الحجیّة » ، فقد اورد علیه بوجوه :

الأوّل :

ما ذکره المحقق الأصفهانی (1) من أنّ ظاهر عبارة الکفایة أنّ المجعول هو الحجیّة بمعنی التنجّز ، فأشکل علی ظاهر العبارة - و إنْ احتمل فیما بعد أنْ یکون مراده منها حیثیّة اخری یترتّب علیها التنجّز - بأنّ التنجّز عبارة عن حسن العقاب عند الموافقة ، و التعذیر عند المخالفة ، و هذا المعنی متوقّف علی الحجیّة و بدونها یستحیل ذلک ، و حینئذٍ لو کانت الحجیّة بجعل حسن العقاب یلزم الدور .

و قد تبعه المحقّق الخوئی فقال بعد الإشکال علی المحقق النائینی :

ص:314


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 124 .

و بما ذکرنا ظهر ما فی کلام صاحب الکفایة من أن المجعول فی باب الأمارات هی الحجیّة ، بمعنی التنجیز عند المصادفة و التعذیر عند المخالفة ، إذ التنجیز و التعذیر بمعنی حسن العقاب علی مخالفة التکلیف مع قیام الحجّة علیه و عدمه مع عدمه ، من الأحکام العقلیة غیر القابلة للتخصیص ، فالتصرّف من الشارع لا بدّ و أنْ یکون فی الموضوع ، بأنْ یجعل شیئاً طریقاً و یعتبره علماً تعبّداً ، و بعد قیام ما اعتبره الشارع علماً علی التکلیف ، یترتب علیه التنجیز و التعذیر عقلاً لا محالة ، و کذا الحال فی الاصول المحرزة الناظرة إلی الواقع بإلغاء جهة الشک ... (1) .

الجواب

و یجاب عن هذا الإشکال بأنه مع التأمّل فی عبارة الکفایة مندفع ، فإنه إنما یرد إن کان یقول بجعل حسن العقاب و المنجزیّة ، لکنّه یقول بأنّ المجعول أمر اعتباری یوجب التنجّز .

و توضیحه : إنّ « الحجیة » هی کون الشیء بحیث یصحّ أن یحتجّ به ، و هذا غیر حسن العقاب کما لا یخفی . یقول رحمه اللّٰه : کون الشیء بحیث یصحّ أن یحتجّ به تارةً ذاتیٌّ للشیء کما فی القطع ، فإنّ الحجیّة ذاتیّ له ، و اخری : لیس کذلک کما فی الأمارات و الطّرق ، فإنّ ذلک مجعولٌ لما ثبت حجیّته منها ، و هو سواء فی القطع أو خبر الثقة و نحوه یوجب حسن العقاب عند المخالفة . فهذا هو مراده ، و هو ظاهر کلامه إذ قال : و ذلک لأن التعبّد بطریق غیر علمی إنما هو بجعل حجیّته ، و الحجیة المجعولة غیر مستتبعة لإنشاء أحکامٍ تکلیفیّة بحسب ما أدّی

ص:315


1- 1) مصباح الاصول 2 / 104 - 105 .

إلیه الطریق ، بل إنما تکون موجبةً لتنجّز التکلیف به .

الثانی :

إن الحجیّة عند المحقق الخراسانی هی المنجزیّة ، و المنجزیّة هی السببیّة لاستحقاق العقاب ، لکن السببیّة غیر قابلة للجعل لکونها من الامور التکوینیّة ، کما ذکر هو فی الاستصحاب .

و الجواب :

إنّ السببیة عنده ممّا لا یقبل الجعل ، و الحجیة ممّا یقبل الجعل ، فهی غیر السببیّة .

الثالث :

إنه یرد علی کلامه بناءً علی أن الحجیّة قابلة للجعل : إن المفروض ثبوت أحکام القطع کلّها للأمارات ، إلّا أنها ثابتة للقطع بالذات و للأمارات بالجعل ، و الحال أنْ الشیء الثابت للقطع هو الکاشفیة عن الواقع ، و من هنا یؤاخذ العقلاء علی أساس القطع ، و لیس فی ارتکازهم بین « الکاشفیة » و« صحّة المؤاخذة » واسطة اسمها « الحجیّة » . و إذ لیس للقطع ذلک فلیس فی الطرق .

و الجواب

إن هذا خلاف الارتکاز العقلائی ، فإنّهم یرون للقطع الحجیّة و الکاشفیّة ، و قد عرفت أن المقصود من الحجیّة کونه بحیث یصحّ أنْ یحتجّ به ، و یشهد بذلک ما یستفاد من الروایات - کما قال الوحید البهبهانی - من أن « العقل حجة » (1) .

ص:316


1- 1) الفوائد الحائریّة : 96 .
مناقشته

و بعد أنْ ظهر عدم تمامیّة شیء مما اورد به علیه ، خاصّةً الإشکال الأوّل و ما اشتهر عن المحقق الخراسانی من أنه قائل بمجعولیّة استحقاق العقاب و التعذیر ، فإنّ التأمّل فی کلماته فی الموارد المختلفة یفید عدم صحّة هذه النسبة ، بل إنه یری أنّ التنجیز و التعذیر من مقتضیات الحجیّة لا نفس الحجیّة المجعولة ، و أنّ المستفاد من أدلّة الحجیّة و الاعتبار فی باب الأمارات إلغاء احتمال الخلاف و جعل الطریقیّة .

إلّا أنه یرد الإشکال علی کلامه فی الکفایة بالنسبة إلی الاصول المرخّصة کقاعدة الحلّ ، من الجمع بین الحکمین بأنّ الحکم الواقعی غیر فعلیّ و الحکم الظاهری فعلی ، إذ فیه :

إنّه لا ریب فی فعلیّة الحکم الواقعی مع العلم بالخلاف ، فلو علم بحلیّة شیء هو حرام فی الواقع ، فإنّ هذا العلم غیر مؤثر فی فعلیّة الحکم الواقعی ، لکون الموضوع محقَّقاً بجمیع قیوده و لیس للعلم دخل فی ذلک ، و حکم الأمارة القائمة علی الخلاف حکم العلم بالخلاف ، وعلیه ، فلا بدّ إمّا من تقیید الحکم بعدم قیام الأمارة علی خلافه ، و هذا هو التصویب ، و إمّا من الالتزام بعدم الفعلیّة له مع تمامیّة موضوعه من جمیع الجهات ، و هو محال ، للزوم تخلّف الحکم عن موضوعه ، و مع عدم التقیید أو الالتزام المذکورین ، فالإشکال ثابت ، لأنه یلزم اجتماع المثلین فی صورة الموافقة و اجتماع الضدّین فی صورة المخالفة .

و أیضاً ، فإنّ کلامه فی هذا المقام یشتمل علی التهافت ، لأنه قال بأنّ الحکم الواقعی هو بحیث لو علم به لتنجّز ، و معنی هذا الکلام کونه فی المرتبة الثالثة من

ص:317

مراتب الحکم ، لکنّ المفروض کون الحکم الظاهری أیضاً فی هذه المرتبة بضمیمة وصوله ، فإذن ، قد اجتمع الحکمان فی هذه المرتبة ، إلّا أن هذا الکلام ینافی قوله بأنّ الحکم الواقعی هو بحیث لو اذن بالمخالفة له فلا فعلیّة له ، لأن معنی ذلک کونه فی مرتبة الإنشاء و عدم وصوله إلی مرحلة أنه لو علم به لتنجّز .

فتدبّر .

طریق المحقق الفشارکی و الیزدی

و سلک المحقّق السیّد الفشارکی طریقاً آخر ، و تبعه تلمیذه المحقّق الحائری الیزدی ، و قرّره فی الدرر حیث قال :

إنه لا إشکال فی أن الأحکام لا تتعلق ابتداء بالموضوعات الخارجیّة ، بل إنما تتعلق بالمفاهیم المتصورة فی الذهن ، لکن لا من حیث کونها موجودة فی الذهن ، بل من حیث إنها حاکیة عن الخارج ، فالشیء ما لم یتصور فی الذهن لا یتصف بالمحبوبیة و المبغوضیة ، و هذا واضح .

ثم إن المفهوم المتصوّر تارة : یکون مطلوباً علی نحو الإطلاق ، و اخری :

علی نحو التقیید ، و علی الثانی ، فقد یکون لعدم المقتضی فی ذلک المقید ، و قد یکون لوجود المانع ؛ مثلاً قد یکون عتق الرقبة مطلوباً علی سبیل الإطلاق ، و قد یکون الغرض فی عتق الرقبة المؤمنة خاصة ، و قد یکون فی المطلق ، إلا أن عتق الرقبة الکافرة مناف لغرضه الآخر ، و لکونه منافیاً لذلک الغرض لا بد أن یقید العتق المطلوب بما إذا تحقق فی الرقبة المؤمنة ، فتقیید المطلوب فی القسم الأخیر إنما هو من جهة الکسر و الانکسار ، لا لتضییق دائرة المقتضی ، و ذلک موقوف علی تصور العنوان المطلوب أوّلاً مع العنوان الآخر المتحد معه فی الوجود المخرج له

ص:318

عن المطلوبیّة الفعلیة ، فلو فرضنا عنوانین غیر مجتمعین فی الذهن ، بحیث یکون المتعقل أحدهما لا مع الآخر ، فلا یعقل تحقق الکسر و الانکسار بین جهتیهما ، فاللّازم من ذلک أنه متی تصور العنوان الذی فیه جهة المطلوبیة یکون مطلوباً صرفاً من دون تقیید ، لعدم تعقّل منافیه ، و متی تصور العنوان الذی فیه جهة المبغوضیّة یکون مبغوضاً کذلک ، لعدم تعقل منافیه ، کما هو المفروض .

و العنوان المتعلّق للأحکام الواقعیة مع العنوان المتعلق للأحکام الظاهریّة مما لا یجتمعان فی الوجود الذهنی أبداً ، مثلاً : إذا تصور الآمر صلاة الجمعة ، فلا یمکن أن یتصور معها إلّا الحالات التی یمکن أن تتصف بها فی هذه الرتبة ، مثل کونها فی المسجد أو الدار و أمثال ذلک ، و أما اتصافها بکون حکمها الواقعی مشکوکاً ، فلیس مما یتصور فی هذه الرتبة ، لأن هذا الوصف مما یعرض الموضوع بعد تحقق الحکم ، و الأوصاف المتأخرة عن الحکم لا یمکن إدراجها فی موضوعه ، فلو فرضنا أن صلاة الجمعة فی کلّ حال أو وصف یتصور معها فی هذه الرتبة مطلوبة بلا مناف و مزاحم ، فإرادة المرید تتعلّق بها فعلاً ، و بعد تعلّق الإرادة بها تتصف بأوصاف اخر لم تتصف بها قبل الحکم ، مثل أن تصیر معلوم الحکم تارة و مشکوک الحکم اخری ، فلو فرضنا بعد ملاحظة اتصاف الموضوع بکونه مشکوک الحکم تحقق جهة المبغوضیة فیه ، یصیر مبغوضاً بهذه الملاحظة لا محالة ، و لا یزاحمها جهة المطلوبیة الملحوظة فی ذاته ، لأن الموضوع بتلک الملاحظة لا یکون متعقلاً فعلاً ، لأن تلک الملاحظة ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحکم ، و هذه ملاحظته مع الحکم .

فإن قلت : العنوان المتأخر و إن لم یکن متعقلاً فی مرتبة تعقل الذات ، و لکن

ص:319

الذات ملحوظة فی مرتبة تعقل العنوان المتأخر ، فعند ملاحظة العنوان المتأخر یجتمع العنوانان فی اللّحاظ ، فلا یعقل المبغوضیة فی الرتبة الثانیة مع محبوبیة الذات .

قلت : تصوّر ما یکون موضوعاً للحکم الواقعی الأوّلی مبنی علی قطع النظر عن الحکم ، لأن المفروض کون الموضوع موضوعاً للحکم ، فتصوّره یلزم أن یکون مجرّداً عن الحکم ، و تصوره بعنوان کونه مشکوک الحکم لا بدّ و أن یکون بلحاظ الحکم .

و لا یمکن الجمع بین لحاظ التجرّد عن الحکم و لحاظ ثبوته ، و بعبارة اخری : صلاة الجمعة التی کانت متصورة فی مرتبة کونها موضوعة للوجوب الواقعی ، لم تکن مقسماً لمشکوک الحکم و معلومه ، و التی تتصور فی ضمن مشکوک الحکم تکون مقسماً لهما ، فتصور ما کان موضوعاً للحکم الواقعی و الظاهری معاً ، یتوقف علی تصور العنوان علی نحو لا ینقسم إلی قسمین ، و علی نحو ینقسم إلیهما ، و هذا مستحیل فی لحاظ واحد . فحینئذٍ نقول : متی تصوّر الآمر صلاة الجمعة بملاحظة ذاتها ، تکون مطلوبة ، و متی تصورها بملاحظة کونها مشکوک الحکم ، تکون متعلقة لحکم آخر . فافهم و تدبّر فإنه لا یخلو من دقة (1) .

خلاصة هذا الطریق

و یتلخّص هذا الطّریق فی المقدّمتین و النتیجة :

المقدّمة الاولی : إنّ متعلّق الحکم هو الصّورة الذهنیّة لا الخارج ، غیر أنها تارةً : تلحظ ذهنیّةً ، و اخری : بما هی حاکیة عن الخارج .

ص:320


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 350 - 354 .

و المقدّمة الثانیة : إنّ الصّورة قد تجتمع مع انقساماتها ، و قد لا تجتمع ، فالرقبة مثلاً تقبل الاجتماع مع الإیمان و مع الکفر ، فقد لا یکون للکافرة مقتض ، و قد یکون الکفر مانعاً ، لکنّ الانقسامات الطارئة علی الحکم لا تقبل الاجتماع معه ، فلا یمکن أنْ یلحظ ما یطرأ علی الموضوع فی مرتبة لحاظه ، لأن قوام لحاظ الموضوع بعدم لحاظ الحکم .

و یستنتج من ذلک : إن موضوع الحکم الواقعی لا یجتمع مع مشکوک الحکم و لا یتّحد معه . هذا من جهة .

و من جهةٍ اخری : مرکب الحکم هو الصّورة الملحوظة خارجیّةً .

فموضوع الحکم الواقعی هو الموضوع الذی لا یقبل الاتّحاد مع مشکوک الحکم ، و موضوع الحکم الظاهری هو الحصة المشکوک فیها .

و إذا تعدّد الموضوع ، فلا یعقل الاتّحاد بینهما أصلاً .

فلا یلزم أیّ محذورٍ من جعل الحکمین .

و الحاصل : إن قوام لحاظ الموضوع للحکم الواقعی أنْ یُری مجرّداً عن الحکم و انقساماته و أمّا موضوع الحکم الظاهری فهو الحصّة المشکوک فیها من الموضوع ، و من الواضح أن الشکّ لا یتعدّی إلی مرتبة موضوع الحکم الواقعی ، و موضوع الحکم الواقعی لا یأتی إلی مرتبة الحکم الظاهری .

مناقشته

أمّا فی المقدّمة الاولی ، فصحیح ما ذکروه فی الحبّ و البغض ، فإن المحبوب هو الصّورة الملحوظة خارجیّةً ، إذْ لیس الخارج هو المتعلّق للحکم ، حتی و لو قلنا بتعلّق الحکم بنفس الخارج کما علیه شیخ الإشراق ، لأنّ الخارج

ص:321

ظرف سقوط الحکم لا ثبوته ، لکنّ المهمّ هو الفرق بین « العلم » و« الحب » .

فالمعلوم بالذات هو الصّورة و المعلوم بالعرض هو الخارج ، علی عکس الحبّ ، حیث أنّ المحبوب بالذات هو الخارج ، و بالعرض هو الصورة ، فالمصدر للحبّ هو الخارج ، أمّا العلم فهو عبارة عن الکشف ، و الصّورة هی الکشف لمن حصل له العلم ، و یشهد بما ذکرنا صحّة قولک : احبّ الحسین الخارجی و أکره یزید الخارجی ، و لا یصح أن تقول : بما أن الشیء الفلانی فی الخارج فأنا عالم به .

و إذْ ظهر الفرق بین العلم و الحبّ ، فإن من یلحظ المقسم باللّحاظ الثانوی فی الانقسامات اللّاحقة للحکم من حیث غرضه ، یکون حبّه تابعاً للغرض لکونه معلولاً له ، و حینئذٍ یجتمع الحکمان و یعود المحذور .

فإنْ قلتم : لا یتبعه .

قلنا : فإذن ، یوجد الغرض . و هذا هو التصویب .

و الحاصل : عدم تمامیّة المقدمة الاولی ، للزوم الاجتماع فی مشکوک الحکم ، فی مرحلة الإرادة و الکراهة ، و من المعلوم أن الوجوب و الحرمة ظلّان للإرادة و الکراهة فیلزم الاجتماع بین الحکمین .

هذا فی المقدّمة الاولی .

و أمّا المقدّمة الثانیة ، و ملخّص ما ذکر هو : أنّ مرکب الحکم فی الواقع مجرّد عن العلم و الشکّ ، و أمّا فی الظاهر فمخلوط من العلم و الشک ، فلا یلزم الاجتماع بینهما لکونهما متباینین .

و فیه : إنّ هذا التباین صحیح فی اللّحاظ ، أمّا فی الملحوظ فلا .

و توضیحه : إنّ اللّحاظات متباینة بالضرورة ، فالمولی یلحظ الخمر و یرتّب

ص:322

الحکم الواقعی و هو الحرمة علیه ، لکنّه لمّا یأتی بحکم الإباحة ، فإنه یراه مشکوک الخمریّة ، فاللحاظ مختلف و الحکم کذلک ، و إذْ یوجد التباین فلا یلزم الاجتماع أصلاً .

لکنّ الأمر بالنسبة إلی الملحوظین لیس کذلک ، فإنّ موضوع الحکم الواقعی إذا کان مجرّداً عن العلم و الشک ، فهو لا بشرط ، أی لا بشرط حتی بالنسبة إلی التجرّد ، فیکون من اللّابشرط المقسمی ، و من المعلوم أن اللّابشرط المقسمی یجتمع مع القسم بحکم البرهان .

مثلاً : عند ما یری الخمر و یعلم أن فی الخمر مفسدة ، فهل یری المفسدة فی حال کون المائع مشکوک الخمریّة ؟ یقول : نعم . إذن یوجد الغرض فی مشکوک الخمر ، وعلیه ، فالحکم بالحرمة موجود فی الواقع بالنسبة إلی الخمر المجرّد عن کلّ قید حتی التجرّد ، و الخمر المجرد عن القید و التجرّد یجتمع مع القید ، فیلزم الاجتماع ، لأن اللّابشرط القسمی أو المقسمی یجتمع مع القسم .

هذا ، و مع وجود الغرض الواقعی فی المشکوک ، یترتّب الحکم لکونه معلولاً للغرض ، و لکنّ هذا الحکم لا یأتی بالدلیل الأوّلی ، فلا بدّ من الدلیل الثانوی ، لأنّ الإهمال محال ، و التقیید بحال العلم غیر صحیح لاشتراک الأحکام بین العالمین و الجاهلین - فالحکم موجود فی حال الشک ، غیر أن مصلحة التسهیل تزاحم جعل الحرمة فی حال الشک علی مبنی المحقق الفشارکی - فیجعل الحکم الظاهری .

و بعبارة اخری : فإنّ العلم و الإرادة و الحبّ و البغض و الوجوب و الحرمة ...

کلّ هذه مفاهیم ذات تعلّق ، و کلّ مفهوم کذلک - سواء کان حقیقیاً أو اعتباریّاً - لا

ص:323

یتحقّق إلّا بمتعلّقه ، إلّا أنّ بین « العلم » و« الحبّ » فرقاً فی کیفیّة التعلّق کما عرفت .

هذا من جهة .

و من جهةٍ ، فإنّ الموضوع عند ما یلحظ باللّحاظ الأوّلی ، فلا بدّ أن یکون مجرّداً عن الحکم ، إذ الحاکم یلحظ صلاة الجمعة مثلاً مجرّدةً من کلّ شیء ، ثمّ یحکم بوجوبها ، فالصّلاة و الوجوب مثلاً لیسا فی مرتبة واحدة و إنْ کانا معاً زماناً ، أمّا باللّحاظ الثانوی ، فیراها منقسمةً مثلاً إلی صلاة الجمعة الواجبة و المشکوکة .

إلّا أنّ لحاظ الصّلاة مجرّدة عن الحکم فی اللّحاظ الأوّل ، لا یعنی عدم لحاظ الغرض من الحکم ، لأن الحکم فعل اختیاری یدور مدار التصوّر و التصدیق بفائدته ، و ذلک یکون فی المرتبة السابقة علی الحکم ، فالغرض ملحوظ فی تلک المرتبة ، و لمّا کان من الامور التکوینیّة فلا یعقل کونه مهملاً ، فإمّا هو قائم بصلاة الجمعة حتی مع الشک فی وجوبها ، فالحکم یکون مطلقاً ، و إمّا هو قائم بالصّلاة حتی مع الشک فی وجوبها ، فالحکم یکون مطلقاً ، و إمّا هو قائم بالصّلاة غیر المشکوک فی وجوبها ، فالإطلاق محال ، غیر أنّ إفادة الإطلاق و التقیید هنا یکون بنتیجة الإطلاق و نتیجة التقیید .

و إذا ثبت وجوب صلاة الجمعة ، و لکنّ الغرض یستحیل أنْ یکون مهملاً ، و هو قائم بطبیعة صلاة الجمعة ، فلا محالة یلزم اجتماع الضدّین فی الصّلاة المشکوک فی وجوبها ، فإمّا یتقیّد الغرض ، و هذا تصویب ، و إمّا لا یتقیّد فیلزم الاجتماع .

فالحاصل : إنه لو قیل بعدم الإطلاق فی الغرض ، فالحکم کذلک غیر مطلق ، فهو مقیّد بغیر مشکوک الحکم ، و هذا تصویب ، و إن قیل بإطلاق الغرض و لا

ص:324

إطلاق للحکم ، لزم تخلّف المعلول عن العلّة و هو محال ، فیبقی الشق الثالث :

و هو تبعیّة الحکم للغرض ، فمع تبعیّته له و إطلاقه یلزم اجتماع الحرمة الواقعیّة مع الحلیّة الظاهریة ، و هذا اجتماع للضدّین .

هذا کلّه أوّلاً .

و ثانیاً : التباین بین لحاظ صلاة الجمعة المعلومة الوجوب و لحاظ صلاة الجمعة المشکوک وجوبها متحقّق ، فیجتمع الحکمان ، و لکنّ النسبة بین الملحوظین هی العموم المطلق ، فیلزم اجتماع الإرادة و الکراهة بحسب الملحوظ فی الشیء الواحد ، فیعود الإشکال .

طریق المحقق العراقی

و قد أجاب المحقق العراقی عن الإشکال بعد تمهید مقدماتٍ أربع نلخّصها فیما یلی :

فالمقدّمة الاولی هی : إن الأحکام الشرعیة لا تکون قائمةً إلّا بنفس العناوین المنتزعة عن الجهة التی قامت بها المصلحة الخارجیّة بما أنها ملحوظة خارجیّةً ... .

و المقدّمة الثانیة هی : إنه کما ینتزع من وجود واحد عنوانان عرضیّان ، کذلک یمکن أن ینتزع منه عنوان طولیّان ، علی وجهٍ یکون انتزاع أحد العنوانین فی طول الحکم المتعلّق بالعنوان الآخر . و فی هذا القسم ، تارة : تکون طولیّة العنوانین من جهة طولیّة الوصف المأخوذ فی أحد العنوانین ، بلا طولیّة فی طرف الذات المعروضة للوصف ، کما فی الخمر و الخمر المشکوک حکمها . و اخری :

تکون طولیّة العنوانین حتی من جهة الذات المحفوظة فیهما المستلزمة لاعتبار

ص:325

الذات فی رتبتین ، تارة : فی الرتبة السّابقة علی الوصف التی رتبة معروضیّتها له .

و اخری : فی الرتبة اللّاحقة عن الوصف ، نظیر الذات المعروضة للأمر و الذات المعلومة لدعوته المنتزع عنها عنوان الإطاعة .

و المقدّمة الثالثة هی : إنّ لوجود المراد و تحقّقه فی الخارج مقدّمات اختیاریة من قبل المأمور ، نظیر الستر و الطهور و غیرهما بالنسبة إلی الصّلاة ، و مقدّمات اختیاریة من قبل الآمر ، کخطابه الموجب لعلم المأمور بإرادته الباعث علی إیجاده و خطابه الآخر فی طول ذلک عند جهل المأمور بالخطاب الأوّل ، و هکذا ، و لا شبهة فی أن الإرادة التشریعیّة التی یتضمّنها الخطاب المتعلّق بعنوان الذات ، إنما یقتضی حفظ وجود المتعلّق من قبل خصوص المقدّمات المحفوظة فی الرتبة السّابقة علی تلک الإرادة ، و هی المقدّمات الاختیاریة المتمشّیة من قبل المأمور ... .

و المقدمة الرّابعة هی : إنه لا شبهة فی اختلاف مراتب الاهتمام بحفظ المرام بالنسبة إلی المقدّمات المتأخّرة المتمشّیة من قبل الآمر حسب اختلاف المصالح الواقعیّة فی الأهمیّة ... .

قال :

بعد أن عرفت ما مهّدناه من المقدّمات ، یظهر لک اندفاع الشبهة المذکورة فی إمکان جعل الطّریق علی خلاف الواقع بتقاریرها ، حتی علی الموضوعیّة فضلاً عن الطریقیّة فی حال الانفتاح و الانسداد ... (1) .

ص:326


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 60 - 69 .

أقول :

إنّ المهمّ من المقدّمات هو المقدّمتان الاولی و الثانیة .

أمّا الاولی ، فقد تقدّمت فی طریق السیّد الفشارکی ، فلا نعید الکلام حولها .

و أمّا الثانیة ، فهی لبیان الطولیّة بین موضوعی الحکمین ، و توضیحها هو :

إنه قد ینتزع من الوجود الواحد عنوانان أو أکثر ، و لکنْ قد تکون العناوین المنتزعة فی عرضٍ واحد ، کما ینتزع « العالم » و« العادل » من الوجود الواحد و هما فی عرضٍ واحد ، و قد تکون فی الطول ، و الطولیة تارة تکون فی الوصف ، و اخری فی الذات .

مثال الطّولیة فی الوصف : الخمر ، و الخمر المشکوک الحرمة ، فإنهما عنوانان منتزعان من الوجود الخارجی للخمر و هما متّحدان فی الذات و لکنهما فی الوصف طولیّان ، لأن « مشکوک الحرمة » فی طول « الحرمة » لکون الحرمة متفرعة علی الخمریّة و متأخرة عنها تأخر الحکم عن الموضوع ، و الشک فی الشیء متأخّر طبعاً عن الشیء .

و مثال الطولیّة فی الذات هو : معروض الحکم و معلول الأمر ، فإنهما عنوانان طولیّان بینهما اختلاف فی الرتبة ، فالصّلاة إذا تعلّق بها الوجوب ، کانت مقدّمةً فی الرتبة علی الوجوب ، و هو الحکم ، و هی إذا أتی بها بداعی الوجوب أصبحت معلولة لهذا الوجوب ، فکانت الصلاة بکونها معروضةً للوجوب مقدّمةً رتبةً عند کونها معلولةً للوجوب .

و هذه هی المقدّمة الثانیة .

و ما نحن فیه من قبیل المثال الثانی ، أی توجد الطولیّة بین الخمر و الخمر

ص:327

المشکوک الحرمة ، و ذلک :

تارةً : یلحظ الشکّ بنحو الحیثیّة التقییدیّة لموضوع الحکم .

و اخری : بنحو الحیثیة التعلیلیّة .

فإنْ کان الأوّل ، فلا یلزم اختلاف الرتبة فی الذات ، لأنّه وصف .

أمّا علی الثانی ، فإنه یکون الشکّ علّةً ، و هو ظاهر الأدلّة فی موارد الأحکام الظاهریّة .

و حینئذٍ ، فإنّ « الخمر » موضوع للحرمة الواقعیّة ، و« الخمر المشکوک الحرمة » حلال ، فصار الشک علةً للحکم .

وعلیه : فإنّ الخمر الذی هو موضوع الخمر الواقعی متقدّم رتبةً علی الحرمة ، و هو الحکم العارض علیه ، و لکنّ الخمر الذی هو موضوع الحکم الظاهری متأخر رتبةً عن الشک فی الحرمة ، فتأخر موضوع الحکم الظاهری عن موضوع الحکم الواقعی .

و مع التأخر الرتبی لا یلزم أیّ اجتماع .

مناقشته

و یمکن المناقشة فی هذا الکلام إثباتاً و ثبوتاً :

أمّا إثباتاً ، فقد ذکر : أن الشکّ قد یکون قیداً ، و قد یکون علّةً ، و قد جعله هنا علّة .

و فیه : إن کونه علّةً یحتاج إلی کاشف ککونه قیداً ، و لم یؤخذ فی لسان الأدلّة الشرعیة للأحکام الظاهریة علّةً ، لا فی حدیث الرفع (1) ، و لا فی : « کلّ شیء

ص:328


1- 1) وسائل الشیعة 15 / 369 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، رقم : 1 .

مطلق » (1) « الناس فی سعة ما لم یعلموا » (2) و« ما حجب اللّٰه علمه علی العباد ، ... » (3) إذ أنّ اللّسان فی جمیع هذه الأدلّة لسان القید لا العلّة . هذا فی الاصول العملیة .

و أمّا فی الطّرق ، فإن الشک موردٌ لها ، و فی جملةٍ من أدلّتها لم یؤخذ الشک أصلاً . نعم ، قد ورد فی الأدلّة : « إذا شککت فابن علی الیقین » (4) ، و قد وقع الکلام فی المراد من ذلک ، هل هو الاحتیاط أو الاستصحاب .

و أمّا فی أدلّة الاستصحاب ، فلم یؤخذ الشک فی روایة تامّة سنداً .

و علی الجملة ، فلا ظهور لشیء من الأدلّة فی علیّة الشک ، لأنه لو کان مأخوذاً فی دلیل فهو مجملٌ .

و أمّا ثبوتاً : فإنّ النسبة بین کلّ عنوانین لا تخلو عن احدی النسب الأربع ، و لیس بین موضوعی الحکمین نسبة التساوی ، فهی إمّا العموم من وجه أو المطلق أو التباین .

فإن کانت النسبة هی التباین ، و لا مجمع بینهما کما هو ظاهر کلام المحقق العراقی ، فهذا یستلزم التصویب ، أی: عدم وجود الحکم الواقعی فی مورد الحکم الظاهری .

فحلّ المشکل فی عالم الثبوت ، یتوقف علی التباین ، و هو یستلزم التصویب .

ص:329


1- 1) وسائل الشیعة 6 / 289 ، الباب 19 من أبواب القنوت ، رقم : 3 .
2- 2) مستدرک الوسائل 18 / 20 .
3- 3) جامع الأحادیث 1 / 327 .
4- 4) وسائل الشیعة 8 / 212 ، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع فی الصّلاة .

أمّا مع کون النسبة هی العموم من وجه أو المطلق ، فلا یلزم التصویب ، لکنّ المشکلة لا تنحلّ .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه علی فرض تمامیّة ما ذکره من تعدّد الموضوعین من جهة اختلاف المرتبة ، فإنّ الغرض المترتّب علی الموضوع الحامل له لا تعدّد فیه ، و مع حفظ الموضوع فی مورد الحکم الظاهری ، یتحقق الإرادة و الکراهة ، فیجتمعان علی أثر اجتماع الموضوعین الحاملین للغرض ، فیعود الإشکال .

طریق المحقق النائینی

و جعل المیرزا الموارد التی توهّم وقوع التضادّ بین الحکمین فیها علی ثلاثة أنحاء :

موارد الطرق .

موارد الاصول المحرزة .

موارد الاصول غیر المحرزة .

فالکلام فی مقامات :

المقام الأول ( فی الطرق و الأمارات )

قال ما ملخّصه بلفظه :

أمّا فی باب الطرق و الأمارات ، فلیس المجعول فیها حکماً تکلیفیاً حتی یتوهّم التضادّ بینه و بین الحکم الواقعی ، بناءً علی ما هو الحق عندنا من أنّ الحجیّة و الطریقیّة من الأحکام الوضعیّة المتأصّلة بالجعل و مما تنالها ید الوضع و الرفع ابتداءً ، - ما عدا الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة و السببیّة - لما تقدّمت الإشارة إلیه من

ص:330

أنه لیس فیما بأیدینا من الطرق و الأمارات ما لا یعتمد علیه العقلاء فی محاوراتهم و إثبات مقاصدهم ، لمکان أن الطرق عندهم من حیث الإتقان و الاستحکام کالأسباب المفیدة للعلم ، و إذ قد عرفت حقیقة المجعول فی باب الطرق و الأمارات ، و أن المجعول فیها نفس الوسطیّة فی الإثبات ، ظهر لک أنه لیس فی باب الطرق و الأمارات حکم حتی ینافی الواقعی لیقع فی إشکال التضادّ أو التصویب ، فلا یکون فی البین إلّا الحکم الواقعی فقط مطلقاً ، أصاب الطریق الواقع أو أخطأ .

هذا بناءً علی ما هو المختار من تأصّل الحجیّة و الطّریقیّة فی الجعل (1) .

أقول :

و توضیحه ملخّصاً :

أنّ المحذور إنما یلزم فی حال وجود التماثل أو التضاد أو التناقض جوهراً و أثراً ، و إلّا فلا یلزم ، لکنّ المجعول الشّرعی فی الطرق و الأمارات یختلف فی جوهره و حقیقته مع المجعول الشرعی فی الحکم الواقعی ، لأنّ المجعول فیه هو الوجوب و الحرمة ، أمّا فی الطرق و الأمارات فالمجعول الطریقیة و الکاشفیة ، إذنْ ، لا سنخیّة حتی یلزم اجتماع المثلین ، و لا یلزم اجتماع الضدّین ، لجواز الاجتماع بین الکاشفیة و الوجوب أو الحرمة و إنْ اختلفا فی جوهرهما . و أمّا من حیث الأمر ، فلا تضاد و لا تباین بینهما .

ثم إنّ المجعول فی باب الطرق و الأمارات لیس تأسیسیّاً ، بل هو إمضاء لما علیه العقلاء ، و عملهم بخبر الواحد مثلاً لا یخلو أنْ یکون من باب الرجاء ، أو

ص:331


1- 1) فوائد الاصول 3 / 105 - 110 .

إفادة الخبر للعلم ، أو لوجود حکم عندهم یکون منشأً لانتزاع الطریقیّة للخبر ، أو لأنّ الخبر طریق إلی الواقع و کاشف عنه .

إن الثلاثة الاولی منتفیة یقیناً ، و الرابع و هو الطریقیة و الکاشفیة ، هو المتعیّن .

فإنهم یرتبون الأثر علی الخبر و یلغون احتمال مخالفته للواقع ، و هذا المعنی هو الذی أمضاه الشارع و جعل للخبر الکاشفیّة کذلک ، و الکاشفیة من الامور الوضعیّة القابلة للجعل و الاعتبار کما لا یخفی .

الکلام علی الإشکالات فی هذا المقام

و اورد علیه بوجوه :

الأول :

إنّ الطریقیّة غیر قابلة للجعل ، لأنّ الأمارة إنْ کانت طریقاً فجعل الطریقیة لها تحصیل للحاصل ، و إنْ لم تکن ، فلا یمکن أنْ یصیّر ما لیس بطریقٍ طریقاً . کما أن الطریقیة لیست من الامور الاعتباریّة ، فلا تقبل الجعل و الاعتبار .

بل إنه من العمل علی طبق الأمارة ینتزع لها الطریقیّة . کما أنّ الحجیّة کذلک ، فهی غیر قابلة للجعل ، بل بعد العمل و ترتیب الأثر ینتزع الحجیّة للخبر مثلاً .

و الجواب

أمّا أن « ما لیس بطریق لا یمکن جعله طریقاً » فدعوی بلا دلیل . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : لا یقول المیرزا بجعل الطریقیّة ، بل یقول : إن طریقیة الخبر - مثلاً - و کاشفیّته ناقصة ، لاحتمال الخلاف ، لکنّ العقلاء یلغون الاحتمال ، و تتمّ کاشفیّته ، لأنّ الخبر عندهم کاشف غالباً عن الواقع و موصل إلیه ، و هذا هو الأساس عندهم

ص:332

لقاعدة : الشیء یُلحق بالأعمّ الأغلب .

و أمّا أن الطریقیّة لیست من الامور الاعتباریّة .

ففیه : هناک امور اعتباریة بالذات ، و أمور حقیقیّة لا اعتباریة فیها ، و أمور لها الوجود الاعتباری و الوجود التکوینی ، و الطریقیّة من القسم الثالث ، فالقطع طریق حقیقةً ، و خبر الثقة طریق اعتباراً ، و مثلها : الملکیّة ، فملکیّة الباری و أولیائه حقیقیّة و ملکیّة سائر الناس اعتباریّة .

و أمّا قول بعضهم : بأنّ الحجیّة أیضاً غیر قابلة للجعل ، بل إذا جعل التکلیف فإنه ینتزع منه الحجیّة ، فهی أمر انتزاعی ، و مثلها الطریقیّة .

ففیه : إنه إنْ لم تکن الطریقیة قابلةً للجعل و الاعتبار ، فلا معنی لانتزاعها من جعل التکلیف ، لکونها إمّا من الانتزاعیّات التکوینیّة أو الاعتباریّة ، لکنّها لیست من التکوینیات من قبیل الفوقیّة للفوق ، فهی من الانتزاعیات الاعتباریّة من قبیل الملکیّة المنتزعة من « من حاز ملک » حیث تکون الحیازة سبباً للملکیّة ، و الشرطیّة للوضوء المنتزعة من « لا صلاة إلّا بطهور » (1) .

و الحاصل : إنه إنْ لم تکن الطریقیّة من الاعتباریات ، فلا یعقل کونها من الانتزاعیّات الاعتباریّة .

و القول : بأنّ الحجیّة منتزعة من وجوب العمل .

فمردود : بالدلیل فی مقام الإثبات ، حیث فرّع وجوب العمل علی الحجیّة ، و لم تفرّع الحجیّة علی وجوب العمل ، فلاحظ ما روی عن الإمام علیه السلام :

«و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها ... فإنهم حجّتی علیکم و أنا حجّة اللّٰه » (2) .

ص:333


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 315 ، الباب 9 من أبواب أحکام الخلوة .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 1 .

و الثانی :

إن ظاهر الأدلّة فی باب الطرق و الأمارات هو عدم الرّدع عن بناء العقلاء ، و عدم الرّدع شیء و جعل الطریقیّة شیء آخر .

و الجواب

صحیح أنْ لا تأسیس للشارع هنا ، و لکنْ دعوی أنه مجرّد عدم الرّدع ، غیر مسموعة ، بل الواقع هو الإمضاء و هو أمر وجودی یکشف عنه عدم الردع ، و معنی الإمضاء جعل المماثل لاعتبار العقلاء ، فللشارع جعل . . . و هذا ظاهر الأدلّة فی مقام الإثبات مثل قوله تعالی «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (1)و قوله علیه السّلام : « لا عذر لأحدٍ من موالینا فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا » (2) .

و الثالث :

لزوم نقض الغرض ، لأنّ للشارع غرضاً من الحکم الواقعی ، فإذا جعل الطریقیّة للطریق و الأمارة انتقض غرضه ، و قد أوردتم علی الشیخ هذا الإشکال - لزوم نقض الغرض - فهو یتوجّه علی القول بأنّ المجعول هو الطریقیّة أیضاً .

و الجواب

إنه غفلة عن کلام المیرزا ، فإنه یری أن الغرض تارةً : یتعلّق بما لا یمکن رفع الید عنه لأهمیّته کالدّماء ، فهنا یجعل الاحتیاط للتحفّظ علیه ، و اخری : لیس کذلک ، بل الغرض یحصل بالجعل و الاعتبار ، فإنْ وصل بطریقٍ متعارف فهو و إلّا فلا یقتضی لزوم التحفّظ علیه - حتی فی ظرف الشک - بجعل الاحتیاط . و الطرق

ص:334


1- 1) سورة البقرة : 275 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 150 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 40 .

من هذا القبیل ، و من هذا القبیل أیضاً : الاصول غیر المحرزة ، فإنّ الغرض المترتّب علی الواقع لیس بحیث یریده الشارع حتّی فی ظرف الشک .

و الرابع

لزوم تفویت مصلحة الواقع .

و الجواب

إن هذا أیضاً ناشئ من عدم التأمّل ، لأن المیرزا یری تقدّم مصلحة التسهیل من جعل الطرق علی الأغراض ، و قد حلّ العراقی نفسه المشکل بهذا المسلک .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن المیرزا قد وافق الشیخ علی القول بالمصلحة السّلوکیة ، فلا یلزم تفویت المصلحة .

لقد ظهر عدم ورود شیء من الإشکالات ، و أنّ الذی علیه بناء العقلاء فی الطرق هو عملهم بها من جهة کونها طریقاً و کاشفاً ، و الأصل فی ذلک هو غلبة إصابة الطّرق للواقع و حصول الظنّ القویّ به بواسطتها ، بحیث أنّهم یلغون احتمال الخلاف ، فإذا قام خبر الثقة - مثلاً - رأوا الواقع و الحقیقة ... و الشارع قد أمضی هذا البناء العملی من العقلاء .

أقول :

لکنّ المهمّ هو مساعدة مقام الإثبات ، فلیس فی الأدلّة ما یفید بصراحةٍ أنّ الشارع جَعَل الطریقیة فی مورد الطّرق و الأمارات ، بل الذی جاء فی النصوص وجوب « الأخذ » بخبر الثقة ، و هو غیر جعل الطریقیة ، کما فی الأخبار الواردة فی:

« عمّن أخذ معالم دینی » (1) . و فیها جعل « المؤدّی » کقوله علیه السّلام : « العمری

ص:335


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 148 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 34 .

و ابنه ثقتان فما أدّیا إلیک فعنّی یؤدّیان » (1) لکن جعل المؤدیٰ غیر جعل الطریقیة إلّا بالدّلالة الالتزامیّة ، أی: بما أنه طریقٌ کاشف عن الواقع یؤدّیان عن الإمام ، فلولا الطریقیّة لم یکن قولهما مؤدّیاً عن قول الإمام ، بل إنّ هذه الروایة واردة فی مورد السّیرة العقلائیّة القائمة علی کاشفیّة قول الثقة عن الواقع .

نعم ، الخبر الظاهر فی الطریقیة هو قوله : « لا عذر لأحدٍ ... » (2) . لکنْ فی السند « إبراهیم المراغی » و هو غیر موثّق .

و قد یمکن استفادة الطریقیّة من مفهوم آیة النبأ - بعد تسلیم الدلالة - علی تأمّل فیه .

و علی الجملة ، فما ذهب إلیه المیرزا فی الطرق و الأمارات من أنّ المجعول فیها هو الطریقیة ، تام ثبوتاً و إثباتاً .

المقام الثانی ( فی الاصول المحرزة )

و هی المعبّر عنها بعرش الاصول و فرش الأمارات ، و لذا تکون محکومة بالأمارات و حاکمةً علی الاصول ، و قد قال المیرزا فیها ما ملخّصه بلفظه :

و أمّا الأصول المحرزة ، فالأمر فیها أشکل ، و أشکل منها الاصول غیر المحرزة کأصالة الحلّ و البراءة ، فإنّ الاصول بأسرها فاقدة للطّریقیّة ، لأخذ الشک فی موضوعها ، و الشک لیس فیه جهة إراءة و کشف عن الواقع حتّی یقال : إن المجعول فیها تتمیم الکشف ، فلا بدّ و أن یکون فی مورد حکم مجعول شرعی ، و یلزمه التضادّ بینه و بین الحکم الواقعی عند مخالفة الأصل له .

ص:336


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 138 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 4 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 150 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 40 .

و لکنّ الخطاب فی الاصول التنزیلیّة هیّن ، لأن المجعول فیها هو البناء العملی علی أحد طرفی الشک علی أنه هو الواقع و إلغاء الطرف الآخر و جعله کالعدم ، و لأجل ذلک قامت مقام القطع المأخوذ فی الموضوع علی وجه الطریقیّة ، لکونها متکفّلة للجهة الثالثة التی یکون القطع واحداً لها ، و هو الجری علی وفق القطع ، فالمجعول فی الاصول التنزیلیّة لیس أمراً مغایراً للواقع ، بل الجعل الشرعی إنما تعلّق بالجری العملی علی المؤدّی علی أنه هو الواقع .

و بالجملة ، لیس فی الاصول التنزیلیّة حکم مخالف لحکم الواقع ، بل إذا کان المجعول فیها هو البناء العملی علی أنّ المؤدّی هو الواقع ، فلا یکون ما وراء الواقع حکم آخر حتی یناقضه و یضادّه (1) .

خلاصة الکلام فی المقام

إنه قد أخذ الشارع الشکّ فی موضوع الاصول المحرزة ، غیر أنه ألغاه بوجهٍ من الوجوه ، کقوله : « لا تنقض الیقین بالشک بل انقضه بیقین « آخر » و« من کان علی یقین فشک فلیمض علی یقینه » و« بلی قد رکعت » ، بخلاف الاصول غیر المحرزة حیث الشک فیها محفوظ .

یقول المیرزا : إنّ المجعول فی الاصول المحرزة هو عبارة عن الجهة الثالثة من جهات القطع (2) ، فإنه لا بدّ من العمل علی طبق الأصل المحرز و البناء العملی

ص:337


1- 1) فوائد الاصول 3 / 110 - 112 .
2- 2) جهات القطع (1) إنه صفة نفسانیة خاصّة (2) إنه کاشف عن الواقع (3) إنّه یلزم العمل علی طبقه بحساب الواقع . قال بعض تلامذته بوجود جهة رابعة هی نفس العمل ، و هی موجودة فی الاصول غیر المحرزة أیضاً . لکنّ الکاظمی لم یذکر هذه الجهة عن المیرزا .

علی أنه هو الواقع .

و إذا کان کذلک ، فلا یلزم المحذور ، لأنّ الواقع علی حاله ، و لیس فی مورد الأصل المحرز حکم مجعول ، لیکون مماثلاً للواقع أو مضادّاً أو مناقضاً .

إشکال المحقّق العراقی

فأشکل المحقق العراقی: بأنّ البناء العملی تکوینی غیر قابل للجعل التشریعی (1) .

قال الاستاذ :

هذا الإشکال وارد . فلا بدّ من بیانٍ آخر ، فقال :

إنّ الأصل المحرز عبارة عن الاستصحاب و قاعدة الفراغ و قاعدة التجاوز - بناءً علی التعدّد - و قاعدة الید - بناءً علی عدم کونها من الأمارات ، کما أن فی القاعدتین أیضاً قولاً بذلک - و قاعدة أصالة الصحّة .

أمّا الاستصحاب ، فدلیله : « لا تنقض ... » ظاهر فی أن المجعول فی مورده عبارة عن النهی عن النقض ، فالشارع اعتبر بقاء الحالة السّابقة عملاً .

و لا تنافی بین هذا الاعتبار ، و الحکم الواقعی ، فلا محذور ، فی مورد الاستصحاب .

و أمّا قاعدتا الفراغ و التجاوز ، فلسان الدلیل اعتبار وجود الشک ، فأنت عند الشک فی الرکوع بعد الفراغ أو التجاوز قد رکعت ... (2) .

و لا محذور فی هذا الجعل بالنسبة إلی الواقع .

ص:338


1- 1) فوائد الاصول 3 / 110 . الهامش .
2- 2) انظر : وسائل الشیعة 1 / 471 ، 6 / 317 ، 8 / 237 .

و أمّا قاعدة إلیه ، فالمعتبر وجود المشکوک ، فمع الشکّ فی أنّ هذا الشیء ملک لزید أوْ لا ، جُعلت الملکیّة له لکونه فی بیده ، قال علیه السلام « و لو لم یجز هذا لم یستقم للمسلمین سوق » (1) فلا یُعتنی بالشک و یلغیٰ . و لذا فالأقوی کون هذه القاعدة أمارة ، کما أنّ الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة من المسائل الاصولیّة ، و فی الموضوعیة من المسائل الفقهیّة .

و أمّا أصالة الصحّة ، فکذلک .

المقام الثالث ( فی الاصول غیر المحرزة )

قال ما ملخّصه بلفظه :

و أمّا الاصول غیر المحرزة کأصالة الاحتیاط و الحلّ و البراءة ، فقد عرفت أن الأمر فیها أشکل ، فإن المجعول فیها لیس الهوهویّة و الجری العملی ، بل مع حفظ الشک یحکم علی أحد طرفیه بالوضع أو الرفع ، فالحرمة المجعولة فی أصالة الاحتیاط و الحلیّة المجعولة فی أصالة الحلّ ، تناقض الحلیّة و الحرمة الواقعیّة علی تقدیر تخلّف الأصل عن الواقع .

و قد تصدّی بعض الأعلام لرفع غائلة التضاد بین الحکمین باختلاف الرتبة ، و أنت خبیر بفساد هذا التوهّم ، فإن الحکم الظاهری و إنْ لم یکن فی رتبة الحکم الواقعی ، إلّا أن الحکم الواقعی یکون فی رتبة الحکم الظاهری ، لانحفاظ الحکم الواقعی فی مرتبة الشک فیه و لو بنتیجة الإطلاق فیجتمع الحکمان فی رتبة الشکّ ، فتأخّر رتبة الحکم الظّاهری عن الحکم الواقعی لا یرفع غائلة التضادّ

ص:339


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 292 ، الباب 25 من أبواب کیفیّة الحکم ، رقم : 2 .

بینهما إلّا بضمّ مقدّمة اخری إلی ذلک ، و هی :

إنّ الأحکام الواقعیّة بوجوداتها النفس الأمریّة لا تصلح للدّاعویّة ، و قاصرة عن أن تکون محرّکةً لإرادة العبد نحو امتثالها فی صورة الشک فی وجودها ، فإنّ الحکم لا یمکن أن یتکفّل لأزمنة وجوده التی زمان الشک فیه ، و یتعرّض لوجود نفسه فی حال الشکّ و إنْ کان محفوظاً فی ذلک الحال علی تقدیر وجوده الواقعی ، إلّا أنّ انحفاظه فی ذلک الحال غیر کونه بنفسه مبیّناً لوجوده فیه ، بل لا بدّ فی ذلک من مبیّن آخر و جعل ثانوی یتکفل لبیان وجود الحکم فی أزمنة وجوده ، - و منها زمان الشک فیه - و یکون هذا الجعل الثانوی من متممات الجعل الأوّلی و یتحد الجعلان فی صورة وجود الحکم الواقعی فی زمان الشک .

و لا یخفی : أنّ متمم الجعل علی أقسام : فإنّ ما دلّ علی وجوب قصد التعبّد فی العبادات یکون من متممات الجعل ، و ما دلّ علی وجوب السیر للحج قبل الموسم یکون من متممات الجعل ، و ما دلّ علی وجوب الغسل علی المستحاضة قبل الفجر فی الیوم الذی یجب صومه من متممات الجعل ، و غیر ذلک من الموارد التی لا بدّ فیها من متمم الجعل ، و هی کثیرة فی أبواب متفرقة و لیست بملاک واحد ، بل لکلّ ملاک یخصّه ، و إن کان یجمعها قصور الجعل الأوّلی عن أن یستوفی جمیع ما یعتبر استیفائه فی عالم التشریع ؛ و لاستقصاء الکلام فی ذلک محلّ آخر . و الغرض فی المقام : بیان أنّ من أحد أقسام متمم الجعل هو الذی یتکفل لبیان وجود الحکم فی زمان الشک فیه إذا کان الحکم الواقعی علی وجه یقتضی المتمم ، و إلّا فقد یکون الحکم لا یقتضی جعل المتمم فی زمان الشک .

و توضیح ذلک : هو أنّ للشک فی الحکم الواقعی اعتبارین :

ص:340

أحدهما : کونه من الحالات و الطوارئ اللّاحقة للحکم الواقعی أو موضوعه - کحالة العلم و الظن - و هو بهذا الاعتبار لا یمکن أخذه موضوعاً لحکم یضاد الحکم الواقعی ، لانحفاظ الحکم الواقعی عنده .

ثانیهما : اعتبار کونه موجباً للحیرة فی الواقع و عدم کونه موصلاً إلیه و منجزاً له ، و هو بهذا الاعتبار یمکن أخذه موضوعاً لما یکون متمماً للجعل و منجزاً للواقع و موصلاً إلیه ؛ کما أنّه یمکن أخذه موضوعاً لما یکون مؤمّناً عن الواقع - حسب اختلاف مراتب الملاکات النفس الأمریة و مناطات الأحکام الشرعیة - فلو کانت مصلحة الواقع مهمّة فی نظر الشارع ، کان علیه جعل المتمم - کمصلحة احترام المؤمن و حفظ نفسه - فإنّه لما کان حفظ نفس المؤمن أولی بالرعایة و أهمّ فی نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الکافر ، اقتضی ذلک تشریع حکم ظاهری طریقی بوجوب الاحتیاط فی موارد الشک حفظاً للحمی و تحرّزاً عن الوقوع فی مفسدة قتل المؤمن ؛ و هذا الحکم الطریقی إنّما یکون فی طول الحکم للواقع ، نشأ عن أهمیة المصلحة الواقعیة ، و لذا کان الخطاب بالاحتیاط خطاباً نفسیّاً و إن کان المقصود منه عدم الوقوع فی مخالفة الواقع ، إلّا أنّ هذا لا یقتضی أن یکون خطابه مقدّمیاً ، لأنّ الخطاب المقدّمی هوما لا مصلحة فیه أصلاً ، و الاحتیاط لیس کذلک ، لأنّ أهمیّة مصلحة الواقع دعت إلی وجوبه ؛ فالاحتیاط إنّما یکون واجباً نفسیاً للغیر لا واجباً بالغیر ، و لذا کان العقاب علی مخالفة التکلیف بالاحتیاط عند ترکه و أدائه إلی مخالفة الحکم الواقعی ؛ لا علی مخالفة الواقع ، لقبح العقاب علیه مع عدم العلم به ، کما أوضحناه بما لا مزید علیه فی خاتمة الاشتغال .

و من ذلک یظهر : أنّه لا مضادّة بین ایجاب الاحتیاط و بین الحکم الواقعی ،

ص:341

فإنّ المشتبه إن کان ممّا یجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الاحتیاط یتحد مع الوجوب الواقعی و یکون هو هو ؛ و إن لم یکن المشتبه ممّا یجب حفظ نفسه فلا یجب الاحتیاط ، لانتفاء علّته ؛ و إنّما المکلف یتخیل وجوبه لعدم علمه بحال المشتبه ؛ فوجوب الاحتیاط من هذه الجهة یشبه الوجوب المقدّمی ، و إن کان من جهة اخری یغایره .

و الحاصل : أنّه لمّا کان إیجاب الاحتیاط متمماً للجعل الأوّلی من وجوب حفظ نفس المؤمن ، فوجوبه یدور مدار الوجوب الواقعی ، و لا یعقل بقاء المتمم ( بالکسر ) مع عدم وجود المتمم ( بالفتح ) ، فإذا کان وجوب الاحتیاط یدور مدار الوجوب الواقعی ، فلا یعقل أن یقع بینهما التضاد ، لاتحادهما فی مورد المصادفة و عدم وجوب الاحتیاط فی مورد المخالفة ، فأین التضادّ ؟

هذا کلّه إذا کانت مصلحة الواقع تقتضی جعل المتمم ، من إیجاب الاحتیاط .

و إن لم تکن المصلحة الواقعیّة تقتضی ذلک ، و لم تکن بتلک المثابة من الأهمیة بحیث یلزم للشارع رعایتها کیفما اتفق ، فللشارع جعل المؤمّن ، کان بلسان الرفع ، کقوله - صلّی اللّٰه علیه و آله - « رفع ما لا یعلمون » ، أو بلسان الوضع کقوله - صلّی اللّٰه علیه و آله - « کلّ شیء لک حلال » فإنّ المراد من الرفع فی قوله - صلّی اللّٰه علیه و آله - « رفع ما لا یعلمون » لیس رفع التکلیف عن موطنه حتی یلزم التناقض ، بل رفع التکلیف عمّا یستتبعه من التبعات و إیجاب الاحتیاط ؛ فالرّخصة المستفادة من قوله - صلّی اللّٰه علیه و آله - : « رفع ما لا یعلمون »نظیر الرّخصة المستفادة من حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ؛ فکما أنّ الرّخصة التی

ص:342

تستفاد من حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ، لا تنافی الحکم الواقعی و لا تضادّه ، کذلک الرّخصة التی تستفاد من قوله - علیه السّلام - « رفع ما لا یعلمون » . و السرّ فی ذلک : هو أنّ هذه الرخصة تکون فی طول الحکم الواقعی و متأخر رتبتها عنه ، لأنّ الموضوع فیها هو الشک فی الحکم من حیث کونه موجباً للحیرة فی الواقع و غیر موصل إلیه و لا منجّز له ؛ فقد لوحظ فی الرخصة وجود الحکم الواقعی ، و معه کیف یعقل أن تضاد الحکم الواقعی ؟

و بالجملة : الرخصة و الحلیّة المستفادة من « حدیث الرفع » و« أصالة الحل » تکون فی عرض المنع و الحرمة المستفادة من إیجاب الاحتیاط ؛ و قد عرفت : أنّ إیجاب الاحتیاط یکون فی طول الواقع و متفرّعاً علیه ؛ فما یکون فی عرضه یکون فی طول الواقع أیضاً ، و إلّا یلزم أن یکون ما فی طول الشیء فی عرضه ، فتأمّل (1) .

أقول :

و ملخّص کلامه فی هذا المقام :

أنه لا یلزم محذور بجعل الاصول غیر المحرزة ، لأن بین الحکم الواقعی و الظاهری فی موردها اختلافاً فی المرتبة ، لأن موضوع هذه الاصول هو الشک فی الحکم الواقعی .

لکنّ اختلاف المرتبة غیر کاف لحلّ المشکل ، لوجود الحکم الواقعی فی مرتبة الحکم الظاهری ، فیلزم المحذور ، و لذا قال :

إنّ الشک المأخوذ فی موضوع هذه الاصول یتعلّق بالواقع ، فمعنی الخبر

ص:343


1- 1) فوائد الاصول 3 / 112 - 119 .

« رفع ما لا یعلمون » . أی: رفع ما یوجب الحیرة فی الواقع . فهذا هو المراد من الشک . هذا من جهة .

و من جهة اخری : إن دلیل الحکم الواقعی لا یتکفّل وجود الحکم الواقعی فی ظرف الشک فیه ، فتقع الحاجة إلی متمّم الجعل ، فهو الدلیل علی وجود الحکم فی ظرف الشک فیه .

و من جهة ثالثة : إن مصلحة الحکم الواقعی تارةً : توجب أنْ یجعل متمّم الجعل فی ظرف الشک ، فیجب امتثال الحکم الواقعی مع الشکّ فیه ، و اخری :

توجب جعله بحیث ینتج عدم الحکم ، و الأول هو الاحتیاط ، و الثانی هو البراءة .

قال : أمّا جعل الاحتیاط فلا یستتبع محذوراً ، لأنّ الاحتیاط الواجب معلول للحکم الواقعی و مجعول من أجل المحافظة علیه ، فلیس الاحتیاط شیئاً غیر الحکم الواقعی .

و أمّا البراءة ، فکما أن قاعدة قبح العقاب بلا بیان تدلّ علی الترخیص العقلی و هو لا ینافی الحکم الواقعی ، کذلک البراءة الشّرعیة ، لأنّ الترخیص متقوّم بالحکم الواقعی لأن موضوعه الشک فی الحکم المذکور ، و المتقوّم بالحکم الواقعی لا یعقل أن یکون منافیاً له .

إشکال السیّد الخوئی

و قد أشکل علیه تلمیذه المحقق بقوله :

و أمّا ما ذکره فی الاصول غیر المحرزة ، فغیر مفید فی دفع الإشکال ، لأن اختلاف المرتبة لا یرفع التضاد بین الحکمین ، و لذا یستحیل أن یحکم المولی بوجوب شیء ، ثم یرخص فی ترکه إذا علم بوجوبه ، مع أن الترخیص متأخر عن

ص:344

الوجوب بمرتبتین . و السرّ فیه أن المضادّة إنما هی فی فعلیّة حکمین فی زمان واحد ، سواء کانا من حیث الجعل فی مرتبة واحدة أو فی مرتبتین .

و أما ما ذکره فی الاحتیاط من أن وجوبه طریقی ، و إنما هو للتحفظ علی الملاک الواقعی ، فهو و إن کان صحیحاً ، إلا أن تخصیصه وجوب الاحتیاط بصورة مصادفة الواقع غیر تام ، لأن وجوب الاحتیاط لیس تابعاً للملاک الشخصی ، کی یکون مختصاً بصورة مصادفة الواقع ، بل تابع للملاک النوعی ، بمعنی أنه حیث لا یتمیّز فی الشبهات مورد وجود الملاک الواقعی عن مورد عدم وجوده ، فأوجب الشارع الاحتیاط کلیّة تحفظاً علی الملاک فی مورد وجوده ، إذ مع ترک الاحتیاط قد یفوت الملاک ، و لذا کان لسان أدلة الاحتیاط مطلقاً غیر مقید بموافقة الواقع ، کقوله علیه السلام : « ... فإذا ... إذا کان ذلک فأرجئه حتی تلقی إمامک ، فإن الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات » (1) .

هذا ، مضافاً إلی أن تقیید الاحتیاط بصورة مصادفة الواقع غیر معقول ، لعدم قابلیته للوصول إلی المکلف ، لعدم إحرازه الواقع علی الفرض ، و إلا کان الاحتیاط منتفیاً بانتفاء موضوعه ، و هو عدم وصول الواقع إلی المکلّف ، فیکون إیجاب الاحتیاط لغواً محضاً لا یترتب علیه أثر ، إذ مع عدم إحراز مصادفته للواقع لا یحرز وجوب الاحتیاط ، لاحتمال کونه غیر مطابق للواقع ، فتجری البراءة عنه ، و مع إحراز الواقع ینتفی الاحتیاط بانتفاء موضوعه ، و هو عدم إحراز الواقع (2) .

ص:345


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 207 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 1 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 107 .

أقول :

و الظاهر ورود الإشکال فی الاحتیاط .

و أمّا فی البراءة ، فما ذکره مخدوش ، لأنّ المیرزا قد ذکر تقوّم الحکم الظاهری بالحکم الواقعی ، فلا یلزم المحذور . نعم ، المشکلة موجودة بنتیجة الإطلاق .

لکن الإشکال العمدة فی البراءة هو فی قوله :

بأن وزان البراءة الشرعیّة وزان العقلیّة ، لأنه لا حکم فی البراءة العقلیّة ، إذ العقل لیس حاکماً ، لکنْ فی البراءة الشرعیّة حکم و هو الترخیص ، فیقع المحذور .

و لو سلّم کلامه فی أنّ البراءة ترفع الاحتیاط ، فإن المشکل یبقی فی : « کلّ شیء لک حلال حتی تعرف الحرام بعینه » ، فهو یجعل الحلیّة من طرفٍ ، و من طرفٍ آخر یجعل الحرمة ، فکیف الجمع ؟

فظهر أنّ طریق المیرزا لا یحلّ المشکلة فی الاصول غیر المحرزة .

طریق المحقق الأصفهانی

و ذهب المحقق الأصفهانی ، أمّا فی الطرق و الأمارات ، فإلی أنّ المجعول فیها هو « الحجیّة » ، و لمّا کانت الحجیّة المجعولة بالاعتبار أمراً وضعیّاً ، فلیس بینها و بین الحکم الواقعی تماثل و لا تضادٌّ . و قد قال بتوضیح مختاره هذا :

إنّ الحجیة مفهوماً لیست إلا کون الشیء بحیث یصح الاحتجاج به .

و هذه الحیثیة : تارة تکون ذاتیّة غیر جعلیة کما فی القطع ، فإنه فی نفسه بحیث یصح به الاحتجاج للمولی علی عبده .

و أخری : تکون جعلیة إما انتزاعیّة کحجّیة الظاهر عند العرف و حجّیة خبر

ص:346

الثقة عند العقلاء ، فإنه بملاحظة بنائهم العملی علی اتباع الظاهر و خبر الثقة و الاحتجاج بهما یصح انتزاع هذه الحیثیّة من الظاهر و الخبر .

و إمّا اعتباریّة ، کقوله علیه السلام : « فإنّهم حجّتی علیکم و أنا حجة اللّٰه » (1) فإنه جعل الحجیة بالاعتبار .

و الوجه فی تقدیم هذا الوجه علی سائر الوجوه - مع موافقته لمفهوم الحجّیة ، فلا داعی إلی اعتبار أمر آخر غیر هذا المفهوم - هو أن المولی إذا کانت له أغراض واقعیّة و علی طبقها أحکام مولویة ، و کان إیکال الأمر إلی علوم العبید موجباً لفوات أغراضه الواقعیّة ، إما لقلّة علومهم ، أو لکثرة خطئهم ، و کان إیجاب الاحتیاط تصعیباً للأمر منافیاً للحکمة ، و کان خبر الثقة غالب المطابقة ، فلا محالة یعتبر الخبر بحیث یصح الاحتجاج به .

و کلّ تکلیف قام علیه ما یصح الاحتجاج به اعتباراً من المولی ، کان مخالفته خروجاً عن زیّ الرقیّة و رسم العبودیّة ، و هو ظلم علی المولی ، و الظلم مما یذمّ علیه فاعله .

و لا حاجة بعد تلک المقدمات إلی اعتبار الخبر وصولاً و إحرازاً : إذ لو لم تکن تلک المقدمات لم یجد اعتبار الوصول ، إذ کل اعتبار لا بد من أن ینتهی إلی حقیقة تقتضی ذلک الاعتبار .

و إذا کانت هذه المقدّمات ، کفی اعتبار الخبر بحیث یحتج به من دون لزوم توسط اعتبار آخر .

ص:347


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 1 .

و کفی بهذا شاهداً ملاحظة حجیّة الظاهر و خبر الثقة عند العرف و العقلاء ، فإن تلک المقدّمات تبعثهم علی العمل بالظاهر و الخبر ، لا أنها تقتضی اعتبار الوصول و الإحراز منهم جزافاً للعمل بالظاهر و الخبر . هذا کلّه فی الحجیّة المجعولة بالاستقلال .

و أما المجعولة بالتبع ، فتارة : یراد بها الوساطة فی إثبات الواقع عنواناً ، و أخری : الوساطة فی إثبات الواقع بعنوان آخر ، و ثالثة : الوساطة فی تنجز الواقع :

فنقول : أمّا الوساطة فی إثبات الواقع عنواناً ، فهی بجعل الحکم علی طبق المؤدی بعنوان أنه الواقع کما هو مقتضی ظاهر التصدیق و أنه الواقع ، فهو حکم مماثل للواقع الذی قام علیه الخبر ، لکنه لا بما هو هو بل بما هو الواقع ، فوصوله بالذات وصول الواقع عنواناً و عرضاً .

و أما الوساطة فی إثبات الواقع بعنوان آخر ، فهی بجعل الحکم المماثل بداعی إیصال الواقع بعنوان آخر ، بمعنی أن وجوب صلاة الجمعة و إن لم یصل بعنوانه ، لکنه وصل بعنوان کونه مما قام علیه الخبر ، نظیر ما إذا قیل : أکرم زیداً و حیث لم یعرفه یقال له أیضاً بداعی جعل الداعی : أکرم جارک ، فالغرض من جعل الداعی إیصال الجعل الأول بعنوان آخر .

و أما الوساطة فی تنجز الواقع ، فهی کما إذا قال صدق العادل ، بداعی تنجیز الواقع بالخبر .

فالأوّلان إنشاء بداعی جعل الداعی ، و الثالث إنشاء بداعی تنجیز الواقع ، و سیأتی إن شاء اللّٰه تعالی الإشکال فی الثالث .

و أما الأوّلان ، فربما یشکل بأن الحجیة إذا کانت منتزعة من جعل الحکم

ص:348

التکلیفی نظیر الجزئیة و الشرطیة المنتزعة من تعلق الحکم بالمرکب و المقید ، لزم دوران الحجیة مدار بقاء الحکم التکلیفی کما هو شأن الأمر الانتزاعی و منشأ انتزاعه ، مع أن الحکم التکلیفی یسقط بالعصیان و الخبر لا یسقط عن الحجیة ، کما أن الجزئیة بمعنی کون الشیء بعض المطلوب یدور مدار بقاء المطلوبیّة ، فإذا سقط الطلب لیس ذات الجزء موصوفاً بالجزئیة للمطلوب فعلاً .

و یندفع بأنه :

إن لوحظ الدلیل المتکفل للحکم الکلی المرتب علی الموضوع الکلی فهو باق ما لم ینسخ ، کما هو شأن القضایا الحقیقیة ، فالحجیة المنتزعة من هذا الجعل الکلی الذی لا یزول بالعصیان کذلک .

و إن لوحظ الحکم الفعلی بفعلیة موضوعه ، فهو و إن کان یسقط بالعصیان ، إلّا أن الإشکال لا یختص بالحجیة المنتزعة من الحکم التکلیفی ، بل الحجیّة الفعلیة بمعنی الوصول الاعتباری کذلک ، إذ مع سقوط الحکم علی أی حال ، لا معنی لفعلیة اعتبار وصول الواقع ، کما لا معنی لاعتبار منجزیة الخبر فعلاً .

نعم ، ما لا یسقط أصلاً ، سواء لوحظ الحکم الکلی أو الفعلی هی الحجیة بمعنی کونه مما یحتج به المولی ، فإن مورد الاحتجاج فعلاً هو فی وعاه العصیان ، فالخبر ، من أول قیامه علی الحکم مما یصح الاحتجاج به عند المخالفة و لا یسقط عن هذا الشأن ، و هذا من الشواهد علی أن الحجیة بهذا المعنی الصالح للبقاء ، فتدبر جیداً .

إذا عرفت ما ذکرناه فی معنی الحجیة الاعتباریة و الانتزاعیة ، فاعلم :

أن الحجیة المجعولة بالاعتبار حیث إنها أمر وضعی ، لیس بینه و بین الحکم

ص:349

الواقعی تماثل و لا تضاد .

و أما الحجیة المجعولة بجعل الإنشاء الطلبی ، فالإنشاء بداعی تنجیز الواقع علی فرض معقولیته أیضاً ، لیس مماثلاً و لا مضاداً للحکم الحقیقی ، أی البعث و الزجر بالحمل الشائع و إن اشترکا فی مفهوم البعث النسبی الإنشائی ، إلا أن أحدهما بعث بالحمل الشائع و الآخر تنجیز بالحمل الشائع .

و أما الإنشاء بداعی جعل الداعی ، سواء کان علی طبق المؤدی بعنوان أنه الواقع أو علی طبق المؤدی بداعی إیصال الواقع بعنوان آخر ، فنفی المماثلة و المضادّة مبنی علی ما قدمناه فی الحاشیة المتقدمة ، من عدم اتصاف الحکم الواقعی بکونه بعثاً و زجراً بالحمل الشائع إلا بعد وصوله ، و لا تماثل و لا تضاد إلا بین البعثین بالحمل الشائع أو بین بعث و زجر بالحمل الشائع ، لا بینهما بالوجود الإنشائی ، و سیأتی إن شاء اللّٰه تعالی بقیة الکلام (1) .

و أمّا فی الاصول غیر المحرزة ، فقد ذکر ما نصّه :

الإباحة إنما تنافی الإرادة و الکراهة النفسانیّتین بالعرض لا بالذات ، إذ لا مقابلة بینهما ، بل الإرادة حیث إنها ملزومة للبعث ، و هو مناف بالذات للترخیص فینافی ملزومه بالعرض .

و کذا تنافیها من حیث المبدأ ، فإن الإرادة منبعثة عن کمال الملاءمة للطبع ، و الکراهة عن کمال المنافرة للطبع ، و الإباحة تنبعث غالباً عن عدم کون المباح ملائماً و منافراً ، و بین الملاءمة و عدمها و المنافرة و عدمها منافاة بالذات ، و بین لازمهما بالعرض .

ص:350


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 123 - 129 .

نعم ، حیث إن الإباحة هنا منبعثة عن مصلحة موجبة لها لا عن عدم المصلحة و المفسدة فی الفعل ، و إلّا لم یعقل مزاحمة بین اللّااقتضاء و المقتضی ، فلذا ینحصر وجه المنافاة فی الجهة الأولی ، فلو أمکن انفکاک الإرادة عن البعث الفعلی لم یکن الإباحة هنا منافیة للإرادة أو الکراهة الواقعیّة بوجه لا ذاتاً و لا عرضاً ، بمعنی أنه لو لم یکن هناک تکلیف فعلی من جمیع الجهات و المفروض أنه المنافی للإباحة ، فلا منافاة للإباحة مع الإرادة حتی لا تنقدح بسببها ، فتدبّر جیّداً (1) .

مناقشته

و یرد الإشکال علیه فیما ذکره من کون حجیّة الظواهر و خبر الثقة منتزعة من بناء العقلاء ، و ذلک :

أوّلاً : إنه یستحیل أنْ یکون نفس بناء العقلاء علّةً لحجیّة الظاهر و خبر الثقة ، بل إنّ العقلاء یستکشفون مراد المتکلّم من ظاهر کلامه ، و یرون ما أخبر به المخبر محقّقاً فی الخارج فیعتمدون علیه و یرتبُون الأثر ، لا أنّ الحجیّة تنتزع من بنائهم العملی علی اتّباع الظاهر و خبر الثقة ، إذ لیس فی بناء العقلاء تعبّد کما هو الحال بین الموالی و العبید .

و ثانیاً : إن بناء العقلاء علی العمل ، إمّا هو الإسناد أو الاستناد ، و لا یعقل فیه الإهمال ، فإمّا هو بشرط لا عن الحجیّة أو لا بشرط بالنسبة إلیها أو بشرطها ، أمّا الإسناد و الاستناد بشرط عدم الحجیّة ، فباطل بالضّرورة ، و کذا اللّابشرط ، فلا محالة ینحصران بصورة الحجیّة ، وعلیه ، فلا بدّ و أنْ تکون الحجیّة متقدّمة علی

ص:351


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 148 .

العمل تقدّم الشرط علی المشروط ، فلو کانت الحجیّة منتزعةً من بناء العقلاء لزم أنْ تکون متأخرةً عن العمل تأخّر الأمر المنتزع عن منشأ انتزاعه ، فیلزم اجتماع التقدّم و التأخّر فی الشیء الواحد ، و هو محال .

و أمّا ما ذکره فی نفی الطریقیّة و الوسطیّة فی الإثبات و اعتبار الوصول فی الأمارات ، ففیه :

أوّلاً : إنا نختار الشقّ الثانی ، و قد أشرنا إلی أنه لیس للشارع تأسیسٌ فی جعل الطریقیّة للظّاهر و الخبر ، و إنّما فعله الإمضاء لما هو عند العقلاء ، فلیس له أیّ اعتبارٍ فی ناحیة الکبری ، و لذا یقع السؤال من الإمام علیه السلام عن الصغری فی :

« أ فیونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دینی ؟ » (1) و نحو ذلک ، و العقلاء إنما یرتّبون الأثر فی حال وصول الواقع ، سواء کان الوصول عقلیّاً أو عقلائیّاً ، و إذا کان الشارع ممضیاً طریقة العقلاء ، فإنّ من المعقول حینئذٍ جعل الطریقیّة .

و ثانیاً : إنه قال فی الصفحة السّابقة :

« لیس ترتّب الأثر علی الوصول من باب ترتّب الحکم الکلّی علی الموضوع الکلّی بنحو القضایا الحقیقیّة ، حتی یکون القطع من أفرادها المحقّقة الوجود و الظن مثلاً من أفرادها المقدّرة الوجود التی یحقّقها الشارع باعتباره وصولاً ، بل هذا الأثر إنما استفید من بناء العقلاء عملاً علی المؤاخذة علی التکلیف الواصل قطعاً أو الواصل بخبر الثقة » .

فمن هذا الکلام یظهر : أن ما ذکرنا من أنّ اعتبار خبر الثقة من المرتکزات

ص:352


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 141 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 33 .

العقلائیة موجود فی ذهنه هو أیضاً ، و حینئذٍ نقول : لا ریب أنّ الوصول بخبر الثقة عقلائی و لیس بعقلی ، و ذلک لا یکون إلّا باعتبار العقلاء خبره وصولاً للواقع و کاشفاً عنه بإلغائهم احتمال الخلاف فیه.

فما ذکره هنا منقوضٌ بما ذکره من قبل .

و الحق فی الطرق و الأمارات هو : مجعولیّة طریقیّتها من قبل الشارع ، بمعنی إمضائه للسیرة العقلائیة فیها ، و الحجیّة متفرّعة علی الطریقیّة .

و أمّا ما ذهب إلیه فی الاصول غیر المحرزة ، فهو أمتن الوجوه المذکورة فیها ، و توضیحه بتقریب منّا هو :

إن الإباحة تارةً : تنشأ من عدم الملاءمة مع طبع المولی ، و اخری : من مصلحة فی نفسها ، و کلاهما ممکن ثبوتاً و إثباتاً ، و الفرق أنّ الاولی تنشأ من أمر عدمی ، و الثانیة من أمر وجودی . فهذه مقدّمة .

و المقدّمة الثانیة هی : إنّ الأحکام تلحظ فی أنفسها و مبادیها و نتائجها ، فهو ینشأ من الإرادة و الکراهة و یترتب علیه الإطاعة و العصیان ، و بعبارة اخری : إنّ الحکم ینشأ من إرادة المولی و کراهیة المولی ، ثمّ له الفاعلیة فی إرادة العبد و کراهیّته .

و الحکم اعتبار ، و الاعتبار لیس بموضوع للتناقض و التماثل ، و لذا یمکن البعث الاعتباری و الزجر الاعتباری فی الآن الواحد للشیء الواحد ، و إنما المحذور یکون فی المنشأ و فی النتیجة ، أمّا فی الأحکام أنفسها ، فلا یوجد التضادّ أصلاً .

ثم إنّ الإرادة و الکراهة أمران تکوینیان ، و الإباحة أمر اعتباری ، و الاعتباری

ص:353

لا ینافی التکوینی ، وعلیه ، فإن المحذور لیس إلّا فی الأثر و النتیجة ، لأن الإرادة لازمها البعث و لازم الکراهة هو الزجر ، و هما لا یجتمعان مع الإباحة و الترخیص ؟

فالتنافی - إن کان - هو فی مرحلة تأثیر الإرادة و الکراهة ، لکن المفروض عدم وصول الزجر الواقعی إلی ظرف الشک ، فلا مؤثّریة له ، و یبقی المؤثّر هو الحکم الظاهری .

و علی الجملة ، فإن الاباحة فی الحکم الظاهری ناشئة من المصلحة فی نفس الإباحة و التنافی إنما یحصل لو کان للحکم الواقعی مؤثریّة فی مرحلة الشک ، و المفروض عدمها ، فتؤثّر الإباحة و الترخیص و البراءة .

لکنْ لا بدّ من التأمّل فیما ذکر ، لأنّ المصلحة التی نشأت منها الإباحة إمّا هی مصلحة التسهیل ، و إمّا هی المصلحة فی نفس الإباحة ، بحیث یرخّص العبد حتی فی محتمل الوجوب و الحرمة . و علی کلّ حالٍ ، فإن العبد یرخّص فی الفعل الذی هو حرام فی متن الواقع و یکون ارتکاب الخمر الواقعی - المشکوک الخمریّة - محبوباً ، و کیف یجتمع الحبّ و البغض فی الشیء الواحد ؟

إن هذا الطریق یحلّ المشکلة فی الاصول غیر المحرزة .

و تبقی مشکلة اجتماع الإرادة و الکراهة ، و قد قال فی حلّها :

تحقیق الجواب أن حقیقة الحکم خصوصاً فی الأحکام الشرعیّة عبارة عن البعث و الزجر أعنی الانشاء بداعی جعل الداعی من دون لزوم ارادة أو کراهة بالنسبة إلی فعل المکلف فی المبدأ الأعلی ، و لا فی سائر المبادی العالیة ، بل فی مطلق من کان بعثه أو زجره لأجل صلاح الغیر .

بداهة أن الشوق النفسانی لا یکون إلا لأجل فائدة عائدة إلی جوهر ذات

ص:354

الفاعل أو إلی قوة من قواه ، و إلا فحصول الشوق الأکید بالإضافة إلی الفعل علی حد المعلول بلا علّة ، و إنما یتصور الشوق الأکید إلی فعل الغیر إذا کان ذا فائدة عائدة إلی المرید إیاه .

و حیث إن أفعال المکلفین لا یعود صلاحها و فسادها إلا إلیهم ، فلذا لا معنی لانقداح الإرادة فی النفس النبویّة و الولویة فضلاً عن المبدأ الأعلی .

مع اختصاصه تعالی بعدم الإرادة التشریعیة من جهة أخری تعرّضنا لها فی مبحث الطلب و الإرادة مستوفی ، و لعلّنا نشیر إلیها عما قریب إن شاء اللّٰه تعالی .

و أما الإرادة المتعلّقة بنفس البعث و الزجر ، فهی إرادة تکوینیة لتعلّقها بفعل المرید لا بفعل المراد منه ، و لا ترد علی ما ورد علیه البعث ، کما لا یخفی .

وعلیه ، فلیس بالنسبة إلی فعل المکلف إرادة أصلاً فضلاً عن الإرادتین ، بل لو فرضنا انبعاث الإرادة التشریعیة عن فائدة عائدة إلی المراد منه ، لم یلزم ثبوت إرادتین تشریعیتین ، لما مرّ مراراً من أن الشوق ما لم یصل إلی حدّ ینبعث عنه العضلات أو ینبعث منه البعث الحقیقی لا یکاد یکون مصداقاً للإرادة التکوینیة أو التشریعیّة ، و سیأتی إن شاء اللّٰه تعالی عدم مصداقیة الإنشاء الواقعی للبعث الحقیقی ، فکما لا بعث حقیقی واقعاً لا إرادة تشریعیة واقعاً (1) .

لکنْ یرد علیه :

أوّلاً : إنه لا یوجد برهانٌ علی ضرورة وجود المنفعة و المضرّة لشخص المرید و الکاره فی جمیع موارد الإرادة و الکراهة ، بل «وَاللّٰهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنینَ » (2)،

ص:355


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 121 - 122 .
2- 2) سورة آل عمران : 134 .

و « یُحِبُّ الْمُتَّقینَ » (1)، «وَاللّٰهُ لٰایُحِبُّ الظّٰالِمینَ » (2)و « یُحِبُّ الصّٰابِرینَ » (3)فی حین یدلّ مثل قول أمیر المؤمنین علیه السّلام : «إن اللّٰه سبحانه و تعالی خلق الخلق حین خَلقَهم غنیّاً عن طاعتهم ... » (4) علی عدم عود نفعٍ إلیه أو دفع ضرر عنه .

و ثانیاً : إنه و إنْ لم یعُد نفع إلی النفس النبویّة و الولویّة من طاعة العباد أو ضررٌ من معصیتهم ، إلّا أنه لا ریب فی ملائمة الطاعة و منافرة المعصیة لتلک النفوس المقدّسة الفانیة فی حبّ اللّٰه و طاعته ، و علی هذا ، فلا ریب فی انقداح الحبّ و البغض و الإرادة و الکراهة فیها ، فیعود الإشکال .

طریق السیّد الخوئی

و أمّا ما ذکره المحقق الخوئی - من الطریق المؤلّف من طریقی صاحب الکفایة و المحقق الأصفهانی کما قال السیّد الاستاذ - (5) فخلاصته :

إنّ الأحکام الشرعیّة لا مضادّة بینها فی أنفسها ، إذ الحکم لیس إلّا الاعتبار ، إنّما التنافی بینها فی موردین : المبدأ و المنتهی ، أی مرحلة الملاکات و مرحلة الامتثال ، و هو منتف فی کلتا المرحلتین .

أمّا الاولی ، فلأن المصلحة فی الحکم الظاهری ، إنما تکون فی نفس جعل الحکم لا فی متعلّقه کما فی الحکم الواقعی ، فلا یلزم من مخالفتهما اجتماع المصلحة و المفسدة أو وجود المصلحة و عدمه أو وجود المفسدة و عدمه فی

ص:356


1- 1) سورة آل عمران : 76 .
2- 2) سورة آل عمران : 140 .
3- 3) سورة آل عمران : 146 .
4- 4) نهج البلاغة 2 / 160 .
5- 5) منتقی الاصول 4 / 159 .

شیء واحد ، إذ الأحکام الواقعیّة ناشئة من المصالح و المفاسد فی متعلّقاتها ، و الأحکام الظاهریّة لیست تابعةً لما فی متعلّقاتها من المصالح ، بل تابعة للمصالح فی أنفسها .

و أمّا فی الثانیة ، فلأن الحکم الظاهری موضوعه الشکّ فی الحکم الواقعی و عدم تنجّزه لعدم وصوله إلی المکلّف ، فهو ثابت فی حال الجهل بالحکم الواقعی ، و لیس لهذا الحکم داعویّة فی هذا الحال . و بعبارة اخری : حکم العقل بلزوم الامتثال إنما هو بعد وصول الحکم إلی المکلّف ، و الواصل فی حال الجهل بالحکم الواقعی هو الحکم الظّاهری ، فیلزم امتثاله ، و لو وصل الحکم الواقعی لزم امتثاله دون الحکم الظّاهری لانتفاء موضوعه .

إشکال السیّد الاستاذ

و قد أشکل علیه سیّدنا الاستاذ قدّس سرّه بأنّ الحکم التکلیفی یتقوّم بإمکان داعویّته ، ففی المورد الذی لا یمکن الانبعاث یلغو حکم الحکم ، فإذا قامت الأمارة علی خلاف الواقع و کان مفادها حکماً إلزامیّاً ، یمتنع بقاء الواقع ، لعدم قابلیّته للدعوة (1) .

أقول :

إنّ ما أفاده للجمع بین الحکمین تام ، و الإشکال بلزوم لغویّة الحکم الواقعی غیر وارد ، لوجود إمکان الدّاعویّة له ، فلو وصل لأثّر أثره ، لکنّه لم یصل و قد وصل الحکم الظّاهری فکان هو المؤثّر ، و هذا ما جاء التصریح به فی عبارته المنقولة عنه

ص:357


1- 1) منتقی الاصول 4 / 160 .

و فی تقریره الآخر کذلک (1) .

هذا ، و فی کلام السیّد الاستاذ - فی الصفحة السّابقة فی الإشکال علی المحقق الأصفهانی - ما یتراءی منه المنافاة للإشکال علی مصباح الاصول فتدبّر .

إلّا أنّ مشکلة اجتماع الإرادة و الکراهة و الحبّ و البغض موجودة .

طریق الشّیخ الاستاذ

ثمّ إنّ الشیخ الاستاذ دام بقاه بعد أنْ حلّ مشکلة الأمارات و الطرق عن طریق « الطریقیّة » تبعاً للمیرزا ، و مشکلة الاصول غیر المحرزة بطریق المحقّق الأصفهانی ، أفاد فی حلّ مشکلة اجتماع الحبّ و البغض و الإرادة و الکراهة ، أن متعلّق الکراهة مثلاً هو « شرب الخمر » و متعلّق الإرادة هو « ما شک فی خمریّته » فالمتعلّق مختلف ، و لا یلزم الاجتماع مع اختلاف المتعلّق .

ثم إنه أشار فی الدورة اللّاحقة بأنّ له طریقاً آخر لم یذکره توفیراً للوقت .

و کأنّه أراد ما أفاده فی الدّورة السّابقة ، من أنّ المشکلة فی الاصول المحرزة و فی اجتماع الإرادة و الکراهة ، إنما تنشأ من الالتزام بأنّ للشارع فی موارد الإباحة حکماً ، فیقع الکلام فی کیفیة الجمع بینه و بین الحکم الواقعی ، و لکنْ یمکن القول بعدم جعل الحکم فی تلک الموارد ، و توضیحه :

إنه لا بدّ من الدقّة و التأمّل لمعرفة الفرق بین لسان قوله علیه السّلام : « کلّ شیء اضطرّ إلیه ابن آدم أحلّه اللّٰه » (2) و لسان قوله علیه السّلام : « کلّ شیء هو لک

ص:358


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 121 .
2- 2) جامع أحادیث الشیعة 14 / 516 .

حلال حتی تعلم أنه حرام ... » (1) .

قالوا : الحلیّة فی الأوّل واقعیة ، لأن الاضطرار أمر واقعی ، و فی الثانی ظاهریّة ، لأن الشک من العوارض النفسانیة الطارئة .

فنقول : کما أنّ الاضطرار هناک یتقدّم علی مصلحة الواقع من باب التسهیل ، فکذلک فی الثانی .

لکن فیه : أنه یستلزم التصویب .

و التحقیق أن یقال : بأنه لیس للشارع فی مورد البراءة حکم أصلاً ، بل المراد من دلیلها عدم الحکم ، فإذا کان : « کلّ شیء لک حلال ... » ظاهراً فی جعل الإباحة ، فلا بدّ من رفع الید عن هذا الظهور .

و ذلک : لأنه إذا علمنا بالغرض الواقعی و المصلحة الواقعیة فهو ، و إن وقع الشک فی ذلک ، فتارة : تکون المصلحة بحیث یوجب المولی الاحتیاط ، کما فی الدماء ، و اخری : لا ، و فی هذه الحالة الأخیرة لا حکم بالاباحة من قبل الشارع .

و هذا فی عالم الثبوت ممکن و إنْ کان مخالفاً لظواهر الأدلّة .

و فی عالم الإثبات ، عندنا روایة تفید أنّ الشارع قد جعل الجهل عذراً ، فهی تصلح قرینةً لرفع الید عن ظواهر أدلّة البراءة فی ظرف الجهل و الشک ، و هی :

عن أبی علی الأشعری عن محمّد بن عبد الجبار و محمّد بن إسماعیل عن الفضل بن شاذان جمیعاً عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبی إبراهیم علیه السّلام قال :

ص:359


1- 1) وسائل الشیعة 17 / 89 ، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به ، رقم : 4 .

سألت عن الرجل یتزوّج المرأة فی عدّتها بجهالة ، أ هی ممّن لا تحلّ له أبداً ؟

فقال : لا .

أما إذا کان بجهالةٍ فلیتزوّجها بعد ما تنقضی عدّتها ، و قد یعذر الناس فی الجهالة بما هو أعظم من ذلک . فقلت : ... » (1) .

فمدلولها أنه جعل الجهل عذراً للمکلّف ، سواء فی الشبهات الحکمیّة و الموضوعیّة .

فإنْ قلت : لعلّها فی جعل الجهل عذراً من حیث جواز أو عدم جواز النکاح بعد انقضاء العدّة ، لا العذر من حیث العقاب ، فلا ربط لها بباب البراءة .

قلت : هذا ظاهر الذیل ، لکن الصّدر مطلق : « قد یعذر فی الجهالة بما هو أعظم منه » فیعمّ العقاب .

فإنْ قلت : لا وجه للاستدلال بها فی المقام ، لأنه یتوقف علی أن یندرج فیها مورد من موارد البراءة ، لأنّ هذا الرجل الجاهل إن کان شاکّاً فی أنّ علی المرأة المتوفی عنها زوجها أو المطلقة عدّة أوْ لا ، فحکمه عدم نفوذ النکاح للاستصحاب . فلا مورد للبراءة . و إنْ کان شاکّاً فی مقدار العدّة ، فیستصحب بقائها . فلا مورد للبراءة . و إنْ کانت الشبهة موضوعیة ، فلا یدری هی عدّة الطّلاق و قد انقضت أو عدّة الوفاء و لم تقض ؟ فیرجع الشک إلی خروجها عن العدّة .

وعلیه إجراء استصحاب العدّة ، و کذا یجری الاستصحاب لو علم بأنها عدّة الوفاة أو الطلاق و جهل بکونها فی العِدّة أو خرجت منها .

ص:360


1- 1) الکافی 5 / 427 .

فعلی کلّ تقدیر ، لا علاقة للروایة بباب البراءة حتی یستدلّ بها علیها .

قلت : هناک مورد ، و هو توارد الحالتین علی المرأة ، بأن یقع علیها الطلاق لکنه طلاق غیر المدخول بها ، ثم یقع علیها طلاق آخر هو طلاق المدخول بها ، فیقع الشک فی التاریخ ، و علیها العدّة فی طلاقٍ دون الآخر ، فیتعارض الاستصحابان و یکون من موارد البراءة .

بل یکون من موارد البراءة بناءً علی عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة ، کما علیه النراقی و السید الخوئی .

و علی الجملة : فإنّا ندّعی أنّ الحلیّة المستفادة من حدیث الرفع و نحوه هو :

عدم إیجاب الشارع الاحتیاط ، لا الحلیّة التی هی أحد الأحکام الخمسة .

و عدم جعل الاحتیاط لا ینافی وجود الحکم الواقعی .

و بعد ، فإنه لا ریب فی وجود احتمال عدم جعل الشارع حکماً بعنوان الترخیص و الحلّ فی مورد قاعدة الحلّ ، و هذا الاحتمال یرفع المحذور ، لعدم الضرر فی احتمال التضاد .

ص:361

الأمر الثالث فی مقتضی الأصل عند الشکّ فی حجیّة الأمارة
اشارة

لا یخفی أنّ من الأمارات ما قام الدلیل علی اعتباره کالبیّنة ، و منها ما قام الدلیل علی عدم اعتباره کالقیاس ، و منها ما اختلف فی اعتباره کخبر الواحد الثقة .

قالوا : و لا بدّ من تأسیس الأصل لیکون هو المرجع عند الشک فی حجیّة شیء من الأمارات ، ثم اختلفت کلماتهم فی المراد من « الحجیّة » کما سیظهر .

کلام الشیخ

قال الشیخ رحمه اللّٰه :

التعبّد بالظن الذی لم یدل علی التعبّد به دلیل ، محرّم بالأدلّة الأربعة :

و یکفی من الکتاب : قوله تعالی «قُلْ ء اللّٰهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللّٰهِ تَفْتَرُونَ» (1) .

دلّ علی أنّ ما لیس بإذنٍ من اللّٰه من إسناد الحکم إلی الشارع فهو افتراء .

و من السنّة : قوله علیه السّلام - فی عداد القضاة من أهل النار - : « و رجلٌ قضی بالحق و هو لا یعلم » (2) .

و من الإجماع : ما ادّعاه الفرید البهبهانی فی بعض رسائله ، من کون عدم الجواز بدیهیّاً عند العوام فضلاً عن العلماء (3) .

ص:362


1- 1) سورة یونس : 59 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 22 ، الباب 4 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 6 .
3- 3) الرسائل الاصولیة : 12 .

و من العقل : تقبیح العقلاء من یتکلّف من قبل مولاه بما لا یعلم بوروده عن المولی و لو کان جاهلاً مع التقصیر .

قال : و الحاصل : إن المحرّم هو العمل بغیر العلم متعبّداً به و متدیّناً به (1) .

فهو یری عدم جواز ترتیب أثر الحجیّة مع الشک فیها ، بالأدلّة الأربعة ، بمعنی عدم جواز إسناد مؤدّی ما یشک فی حجیّته من الأمارات إلی الشارع ، و عدم جواز الاستناد إلیه فی مقام العمل .

کلام صاحب الکفایة

و قال المحقق الخراسانی رحمه اللّٰه :

إنّ الأصل فیما لا یعلم اعتباره بالخصوص شرعاً و لا یحرز التعبّد به واقعاً عدم حجیّته جزماً ، بمعنی : عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجة علیه قطعاً . فإنها لا تکاد تترتّب إلّا علی ما اتّصف بالحجیّة فعلاً ، و لا یکاد یکون الاتصاف بها إلّا إذا احرز التعبّد به و جعله طریقاً متّبعاً ، ضرورة أنه بدونه لا یصح المؤاخذة علی مخالفة التکلیف بمجرّد إصابته ، و لا یکون عذراً لدی مخالفته مع عدمها ، و لا یکون مخالفته تجریاً ، و لا یکون موافقته بما هی موافقة انقیاداً و إنْ کانت بما هی محتملة لموافقة الواقع کذلک إذا وقعت برجاء إصابته ، فمع الشک فی التعبّد به یقطع بعدم حجیّته و عدم ترتّب شیء من الآثار علیه ، للقطع بانتفاء الموضوع معه .

و لعمری ، هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان أو إقامة برهان .

ص:363


1- 1) فرائد الاصول 1 / 125 - 126 .

ثم اعترض علی قول الشیخ بأنّ الحجیّة هی جواز الإسناد و الاستناد بقوله :

و أمّا صحّة الالتزام بما أدّی إلیه من الأحکام و صحة نسبته إلیه تعالی ، فلیسا من آثارها .

ضرورة أن حجیّة الظن عقلاً علی تقریر الحکومة فی حال الانسداد لا توجب صحّتهما ، فلو فرض صحتهما شرعاً مع الشکّ فی التعبد به لما کان یجدی فی الحجیّة شیئاً ما لم یترتب علیه ما ذکر من آثارها ، و معه لَما کان یضرّ عدم صحّتهما أصلاً ، کما أشرنا إلیه آنفاً ، فبیان عدم صحة الالتزام مع الشک فی التعبّد ، و عدم جواز إسناده إلیه تعالی غیر مرتبط بالمقام ، فلا یکون الاستدلال علیه بمهم ، کما أتعب به شیخنا العلّامة نفسه الزکیّة ... (1) .

و محصّل کلامه :

إنّ آثار الحجیّة هی المنجّزیة و المعذریّة و التجرّی و الانقیاد ، و هی آثار عقلیّة تدور مدار وصول الحجّة و تحقّق التعبّد به ، و مع الشکّ فی التعبّد بمؤدّی الظن یقال بعدم ترتب تلک الآثار ، و لا حاجة إلی الاستدلال لعدم جواز التعبّد بالأدلّة اللّفظیة من الکتاب و السنّة کما فعل الشیخ .

و أیضاً : ففی الاستدلال بذلک علی عدم اعتبار الأمارة المشکوک فی صحّتها بأنّ الالتزام بمثل تلک الأمارة و إسناد مؤداها إلی اللّٰه افتراء علیه ، إشکال آخر ، من جهة أن عدم جواز الإسناد و الاستناد لا یکشف دائماً عن عدم الحجیّة ، لأن الحجیّة فی ظرف الانسداد ثابتة للظنّ عقلاً بناءً علی الحکومة ، و الحال أنه

ص:364


1- 1) کفایة الاصول: 279 - 280 .

لا یجوز الإسناد .

فظهر أن صاحب الکفایة یخالف الشیخ فی نقطتین :

الاولی : فی آثار الحجیّة .

و الثانیة : فی کیفیّة الاستدلال لأصالة عدم الحجیّة .

رأی السید الخوئی

و قد تبع السید الخوئی الشیخ قدّس سرّهما ، قال :

إن الحجیّة لها أثران ، صحّة الاستناد إلیها فی مقام العمل و صحّة إسناد مؤدّاها إلی الشّارع .

ثم قال مستشکلاً علی الکفایة :

و أمّا تنجیز الواقع فلا یتوقّف علی الحجیّة ، لأنه ثابت بالعلم الإجمالی الکبیر ، أی العلم الإجمالی بالتکالیف الواقعیة أو بالعلم الإجمالی الصغیر ، کما فی دوران الأمر بین وجوب الظهر و الجمعة أو دوران الأمر بین وجوب القصر و التمام ، بلا فرق فی ذلک بین الشبهات الحکمیّة و الموضوعیة ، بل قد یکون التنجیز ثابتاً بمجرّد الاحتمال کما فی الشبهات قبل الفحص . ففی جمیع هذه الموارد کان التنجیز ثابتاً قبل قیام الأمارة علی التکلیف ، و مع قیامها علیه لا یجئ بتنجیز آخر .

قال : نعم ، کان قیام الأمارة المعتبرة علی أحد طرفی العلم الإجمالی مسقطاً لوجوب الاحتیاط و کان معذّراً علی تقدیر مخالفة الواقع ، کما إذا دلّت الأمارة علی وجوب صلاة الظهر و عمل بها المکلّف و کان الواجب فی الواقع هو صلاة الجمعة ، فکان المکلّف حینئذٍ معذوراً غیر مستحقٍّ للعقاب لا محالة .

ص:365

ثم ذکر إشکال الکفایة علی الشیخ و أجاب عنه فقال :

ما ذکره صاحب الکفایة من أنه لا یمکن أن لا یکون الشیء حجةً و صحّ إسناد مؤدّاه إلی الشارع ، لا یتصوّر له وجه معقول إلّا مع الالتزام بجواز التشریع .

و کذا ما ذکره من أنه یمکن أنْ یکون الشیء حجةً و لا یصحّ إسناد مؤدّاه إلی الشارع ، فإنه أیضاً مجرّد تخیّل لا یتعقّل له وجه صحیح .

و أمّا ما ذکره من أنّ الظنّ علی تقریر الحکومة حجة و لا یصح إسناد المظنون إلی الشارع ، ففیه : إنّ مقدّمات الانسداد علی تقریر الحکومة ، لا تنتج حجیّة الظنّ ، بل نتیجتها التبعیض فی الاحتیاط ، بالأخذ بالمظنونات دون المشکوکات و الموهومات .

قال : فتحصّل أن الصحیح ما ذکره الشیخ ... (1) .

أقول :

و یمکن الجواب : بأنه إذا کان عندنا علم إجمالی بحرمة أحد الإناءین مثلاً ، و أثّر العلم استحقاق العقاب علی ارتکابهما معاً ، فإذا قام خبر الواحد علی کون أحدهما المعیّن هو المحرّم ، لا یکون أثره التنجّز مرّةً ثانیةً ، لأن المنجّز لا یتنجّز ثانیاً ، لکنْ تصحّ مؤاخذة المکلّف علی مخالفته للخبر القائم و الاعتذار ، فالقول بأنّ المنجزیّة أثر العلم لا الحجیّة ، لا یمکن المساعدة علیه ، فکانت صحّة المؤاخذة مستندة إلی الحجّة و إنْ کانت هناک حجّة أخری ، و لا أقلّ من أن تکون الحجّة الثانیة مؤکّدة للاُولی ، فلم یکن جعلها فی ظرف وجود الاولی بلا أثر ، فیتمّ ما ذکره

ص:366


1- 1) مصباح الاصول 2 / 111 - 113 .

صاحب الکفایة .

ثم إنّ الحجیّة مباینة مفهوماً مع جواز الإسناد و الاستناد ، و أمّا من حیث المصداق ، فکلّ مورد جاز فیه الإسناد و الاستناد وجدت الحجیّة هناک و لا عکس .

وعلیه ، فجواز الإسناد قبل الفحص إلی الشارع و إنْ کان الاحتمال حجةً ، و العلم الإجمالی بوجوب الظهر أو الجمعة حجة بالنسبة إلی کلیهما ، و لکنْ لا یجوز إسناد وجوبهما إلی الشارع ، و کذا حجیّة الظن الانسدادی بناءً علی الحکومة ، فإنها موجودة و لکنْ لا یجوز إسناد المظنون إلی الشارع .

فظهر : أن الحجیّة أعم من جواز الإسناد و الاستناد .

و تحصّل : أن الأثر لیس ما ذکره الشیخ فقط ، بل هو المنجزیّة أیضاً ، بمعنی المصححیّة لجواز الاستناد إلیه فی المؤاخذة ، لا بمعنی استحقاق المؤاخذة .

هذا ، و لا یخفی أنه إن کانت الحجیّة بمعنی الطریقیّة ، فهی غیر منفکّة عن جواز الإسناد ، و أمّا إن کانت بمعنی یُحتجّ به بین المولی و العبد ، وقع التفکیک بینهما و بین جواز الاستناد ، و هذه نکتة مهمّة .

الأصل العقلی

و إذا کان الشارع قد جعل الطریقیّة لخبر الثقة مثلاً ، فإنّه ما لم یصل إلی المکلّف لم یجز إسناد مؤدّاه إلی الشارع ، فیکون جواز الإسناد من آثار الحجیّة - بمعنی الطریقیّة - لدی الوصول ، و هذا معنی کلام الشیخ بأنه مع الشک فی الحجیّة الأصل عدم الحجیّة بحکم العقل قطعاً . و أمّا بالنسبة إلی المعذریّة و المنجزیة ، فإنّه مع الشک فی الحجیّة یقطع بعدمها ، ضرورة أن الوصول لا بدّ منه .

و بما ذکرنا ظهر الأصل العقلی فی المسألة ، إذْ لمّا کان کلّ من المنجزیّة

ص:367

و جواز الاستناد و الإسناد موقوفاً علی الوصول ، فما لم یتحقق الوصول تکون الحجیّة مشکوکاً فیها ، و مع الشک فی الحجیّة یقطع بعدمها .

الأصل اللّفظی

و أسّس الشیخ قدس سرّه الأصل اللّفظی أیضاً ، لأنّ مقتضی عمومات النهی عن العمل بالظنّ هو : عدم التعبّد بکلّ ظن من الظنون إلا ما خرج بالدلیل ، فإذا شک فی جواز التعبّد بطنٍ یکون مرجع الشک إلی التّخصیص الزائد ، و فی مثله یتمسّک بعموم «وَلٰا تَقْفُ مٰا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ » (1)و نحوه . فالأصل فیما شک فی حجیّته هو العدم .

و قد أورد علیه السید الخوئی و المیرزا النائینی ، کلّ بوجه :

إشکال السیّد الخوئی

أمّا السیّد الخوئی فملخّص کلامه :

إن الأخذ بأصالة العموم إنما یکون فیما إذا کان الحکم مولویّاً ، و أمّا إذا کان إرشادیاً ، فلا عموم حتی یتمسّک بأصالة العموم فی موارد الشک فی التخصیص الزائد ، و أدلّة النهی عن الظنّ إرشاد إلی حکم العقل بعدم جواز المتابعة للظن (2) .

مناقشته

و فیه : إن الأصل فی الخطابات الشرعیّة هو المولویّة ، و لا یخرج عن هذا الأصل إلّا بدلیل ، و الحمل علی الإرشادیة إنما یکون حیث لا یصحّ عمل الخطاب علی التعبّد کما إذا کان الدلیل الصادر وارداً مورد الإطاعة و المعصیة کقوله تعالی :

ص:368


1- 1) سورة الإسراء : 36 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 114 .

« أَطیعُوا اللّٰهَ وَأَطیعُوا الرَّسُولَ » (1)، فإن هذه الآیة فی طول الأحکام الشرعیة المتقدّم علیها ، و لا یمکن حملها علی المولویّة ، للزوم التسلسل ، فلا بدّ من حملها علی الإرشادیة . أمّا مع إمکان إبقائها علی المولویّة فلا تحمل علی الإرشادیة .

و ما نحن فیه ممّا یمکن حمله علی المولویّة ، فلا وجه لحمله علی الإرشادیة ، و لذا لا یحمل ما ورد فی النهی عن الظلم علی الإرشادیة مع أنّ العقل حاکم بذلک أیضاً ، فکذلک نهیه عن اتّباع الظنّ لا یکفی لحمل ما ورد فی الشریعة فی الباب علی الإرشادیّة ، لإمکان حمله علی المولویة و جواز التعبّد به .

و قوله رحمه اللّٰه : بأنْ قوله تعالی : «إِنَّ الظَّنَّ لٰایُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا » آب عن التخصیص .

فیه : إن صِرف عدم القابلیّة للتخصیص لا یوجب الحمل علی الإرشادیة ، بدلیل أن حرمة الظلم لا تقبل التخصیص ، و مع ذلک لا تحمل الأدلة الناهیة عنه علی الإرشادیة ، و کذا الأدلة فی حرمة الإعانة علی الإثم علی القول بذلک ، و کذا قوله تعالی : «لٰاتَأْکُلُوا أَمْوٰالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبٰاطِلِ » . فعدم القابلیة للتخصیص لازم أعم .

فالتحقیق حمل قوله تعالی : «إِنَّ الظَّنَّ لٰایُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا » علی المولویة - و إن کان لا یقبل التخصیص قطعاً - لأنّ دلیل اعتبار الظن فی موردٍ ، یلغی احتمال الخلاف ، وعلیه السیرة العقلائیة ، فیکون حاکماً علی الآیة ، و الحکومة هی التخصیص لبّاً غیر أنها إخراج بلسان نفی الموضوع ، و فی التخصیص إخراج مع حفظه ، و متی شکّ فی الإخراج الزائد - سواء بلسان الحکومة أو التخصیص - کان

ص:369


1- 1) سورة النساء : 59 .

عموم الآیة هو المرجع .

إشکال المیرزا النائینی

و أمّا المیرزا ، فملخّص إشکاله هو :

إنّ التمسّک بالأدلّة الناهیة عن العمل بالظن لدی الشک فی حجیة ظنٍّ من الظنون ، من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیة له ، ببیان : إن المستفاد من دلیل الاعتبار للظنّ هو التعبّد به و اعتباره علماً بإلغاء احتمال الخلاف ، و مع اعتباره کذلک یکون دلیله حاکماً علی أدلّة النهی عن اتّباع الظنّ ، فإنْ شک فی اعتبار ظن رجع الشک إلی جعل الشارع إیّاه علماً ، فیکون الموضوع لأدلّة النهی عن اتّباع الظن مشکوکاً فیه ، فلو ارید التمسّک بها کان من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة (1) .

مناقشته

و قد أجاب عنه فی مصباح الاصول : بأنّا نسلّم بهذه الحکومة ، لکنّها متوقّفة علی الوصول ، و ما دام اعتبار الظنّ غیر واصل فلا حکومة ، و یکون موضوع أدلّة النهی - و هو عدم العلم لا باقیاً ، وعلیه ، ففی کلّ ظن شک فی اعتباره ، بمعنی عدم الوصول ، یتمسّک بالعام ، لعدم الحکومة ، و لا إشکال . (2)

أقول :

و فیه تأمّل ، و الوجه فی ذلک : عدم مدخلیّة الوصول ، لأنّ الحکومة هی التصرّف فی موضوع الدلیل ، إمّا بالنفی و إمّا بالإثبات ، فإنْ کان الثانی أنتج التوسعة

ص:370


1- 1) أجود التقریرات 3 / 148 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 115 .

فی الموضوع مثل : الطواف بالبیت صلاة ، و إنْ کان الأول أنتج فیه التضییق و کان فی قوّة التخصیص مثل : لا ربا بین الوالد و الولد ... فالحکومة تصرّف من الشارع فی موضوع المحکوم ، و لا یکون فعل الشارع متقوّماً بالوصول إلی المکلّف .

و فیما نحن فیه : یعتبر المولی خبر الثقة علماً لیخرج من تحت الآیة المبارکة :

« وَلٰا تَقْفُ مٰا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ » (1)، فهی حکومة جاءت من جعل المولی و اعتباره ، و لا معنی لتقوّم جعله بالوصول .

و بعبارة اخری : إنّ الوصول متقوّم بالواصل ، و لو لا وجوده قبل الوصول لم یتحقق الوصول ، و لیس الواصل إلّا اعتبار الشارع ، فکان اعتبار الشارع - و هو تصرّفه فی الموضوع کما مرّ - متقدّماً علی الوصول ، فیستحیل أنْ یکون دخیلاً فی اعتبار الشارع .

فالإشکال علی المیرزا مندفع .

لکنّ التحقیق : أن ما نحن فیه لیس من التمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیة ، لأنّ الدلیل هو قوله تعالی «وَلٰا تَقْفُ مٰا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ » و الحکومة مسلّمة و لا تقوّم لها بالوصول ، غیر أنّه قد اعتبر فی الدلیل الوصول إلی المکلّف قیداً لارتفاع الموضوع ، لقوله تعالی «لَکَ بِهِ عِلْمٌ » . فکأنه یقول : لا یجوز العمل بغیر العلم الواصل إلیک ، فلم یکن المعتبر هو العلم وحده ، بل العلم الواصل ، و حینئذٍ ، لا یکون التمسّک بالعامّ من التمسّک به فی الشبهة الموضوعیة له ، لأنه مع الشک لا یتحقق الموضوع المقیّد .

ص:371


1- 1) سورة الإسراء : 36 .

فظهر أنه لا حاجة إلی التمحّل و القول بتوقف الحکومة علی الوصول ، بل نقول بأنّ ما اخذ فی موضوع الدلیل هو بلسانٍ قاصرٍ فی موارد الشک .

فثبت الأصل اللّفظی .

الأصل العملی

قد تقدّم أنّ أثر الحجیّة هو المنجزیّة و المعذریّة و جواز الإسناد و الاستناد ، مع دفع الإیراد بالعلم الإجمالی علی کلام الکفایة ، و لنا فی دفع الإیراد المذکور بیانٌ آخر هو :

إنه مع وجود العلم الإجمالی یمکن جعل الحجیّة ، بل هو واقع ، لأنّ العلم الإجمالی بیانٌ للجامع ، و ما یکون بیاناً للجامع یستحیل أن یکون بیاناً للخصوصیّة ، و إذا استحال ذلک ، کان منجزیّة العلم للخصوصیّة من جهة احتمال انطباق الجامع علی الخصوصیّة ، فالمنجزیّة بالنسبة إلی الأطراف هو من جهة المقدمیّة لفراغ الذمّة و من باب أصالة الاحتیاط ، وعلیه ، فالشارع یجعل الخبر حجةً علی الخصوصیّة کخصوص صلاة الجمعة ، و یحصل المنجّز لها خاصّة ، وعلیه ، فالإشکال بتحقّق الحجیّة بالعلم الإجمالی مندفع .

و بعد هذه المقدّمة :

قال الشیخ : لا یجری استصحاب عدم جعل الحجیّة ، لعدم ترتّب أثر علی الوجود الواقعی للحجیّة .

قال : فإن حرمة العمل بالظن یکفی فی موضوعها عدم العلم بورود التعبّد ، من غیر حاجةٍ إلی إحراز عدم ورود التعبد به لیحتاج فی ذلک إلی الأصل ثم إثبات الحرمة .

ص:372

و الحاصل : إن أصالة عدم الحادث إنما یحتاج إلیها فی الأحکام المترتبة علی عدم ذلک الحادث ، و أما الحکم المترتب علی عدم العلم بذلک الحادث فیکفی فیه الشک و لا یحتاج إلی إحراز عدمه بحکم الأصل ... (1) .

أقول :

حاصل کلام الشیخ : إن الاستصحاب لا بدّ و أن یکون ذا أثر ، فإنْ کان مترتباً علی العدم أو الوجود جری الاستصحاب و ابقی الوجود أو العدم تعبّداً ، أما إذا کان مترتباً علی عدم الإحراز فلا ، لأنّ عدم الإحراز حاصل بالوجدان ، و حینئذٍ ، لا معنی للتعبد بعدم الإحراز . و قد استفاد المیرزا من هذا الکلام قاعدةً هی : أنه متی کان الموضوع حاصلاً بالوجدان فإحرازه بالتعبّد تحصیل للحاصل .

و فی ما نحن فیه : الأثر هو للشکّ فی الحجیّة ، و هو أی الشک حاصل بالوجدان ، فلا معنی للاستصحاب .

إشکال المحقق الخراسانی علی الشیخ

أشکل المحقق الخراسانی بوجهین (2) :

الوجه الأول

إنه قد وقع الخلط بین الاستصحاب فی الموضوعات و الاستصحاب فی الاحکام ، لأن الشیخ قال بأنْ لا أثر لاستصحاب عدم الحجیّة ، بل الأثر لعدم إحراز الحجیّة ، فالإشکال هو : إنّ الکلام عن الأثر إنما یکون فی استصحاب الموضوع ، و أمّا فی الحکم فلا ، إن الموضوع أمرٌ تکوینی و لا بدّ للحکم و التعبد فیه من أثر ،

ص:373


1- 1) فرائد الاصول 1 / 127 - 128 .
2- 2) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 43 .

بخلاف الحکم فإنه مجعول شرعیّ ، و الذی نرید استصحابه هنا هو عدم الحجیّة ، و هذا من الأحکام الشرعیة لا الموضوعات ، نعم ، هو من الأحکام الشرعیة الوضعیة لا التکلیفیّة .

الوجه الثانی

تارةً : الأثر أثر الشیء فی وجوده أو عدمه ، و تارة : هو أثر الشک فی وجود الشیء و عدمه ، و ثالثة : یکون الأثر أثراً للشیء و للشکّ فیه .

فإنْ کان من قبیل الأوّل ، فالمرجع هو القاعدة العقلیة و لا یجری الاستصحاب . و إنْ کان من قبیل الثانی ، جری الاستصحاب و لا مجال للقاعدة ، و إن کان من قبیل الثالث ، جری الاستصحاب و القاعدة معاً .

و ما نحن فیه من قبیل الثالث ، لأنّ الشیء المشکوک فی حجیّته ، إنْ لم یکن حجةً لم یجز الإسناد و الاستناد علی قول الشیخ و لم یتحقّق الحجیّة .

و علی الإجمال ، إنه علی فرض التسلیم بالحاجة إلی الأثر ، فإن الاستصحاب هنا ذا أثر ، و هو الحکومة علی حکم العقل بعدم الحجیّة الفعلیة عند الشک فی الحجیّة ، و مع الشک فیها فلا منجزیة و معذریّة ، لکنّ الاستصحاب یرفع الشک فی الحجیّة و یکون حاکماً علی الحکم العقلی .

فالمقتضی لجریان الاستصحاب موجود و المانع مفقود .

تأیید المیرزا الشیخ

( الوجه الأوّل )

و قال المیرزا (1) مؤیّداً الشیخ :

أوّلاً : إن الاستصحاب من الاصول العملیّة ، و یشترط فی جریانه أن یکون

ص:374


1- 1) فوائد الاصول 3 / 127 .

للمتیقّن السابق الذی یراد إبقاؤه أثر عملی فیتعبّد ببقائه ، فإنْ لم یکن للواقع أثر ، بل لو کان الأثر مترتباً علی الجهل به أو مشترکاً بین الواقع و الجهل به ، لم یجر الاستصحاب ، لأنه بمجرّد الشک فی الواقع یترتب الأثر و یلغو الاستصحاب ، لکونه تحصیلاً للحاصل ، لأن المفروض ترتب الأثر علی عدم الحجیّة و هو عدم صحة الإسناد و الاستناد ، بمجرّد الشکّ فی الحجیّة .

إشکال السید الخوئی

أشکل علیه فی مصباح الاصول :

بأنّ المقام لیس من قبیل تحصیل الحاصل ، لأنّ ما یحکم به العقل بمجرد الشک فی الحجیّة هو عدم الحجیّة الفعلیة ، و ما هو مورد التعبد الاستصحابی هو عدم إنشاء الحجیّة و عدم جعلها من قبل الشارع ، فما هو حاصل بالوجدان غیر ما یحصل بالتعبد (1) .

مناقشته

و فیه :

أوّلاً : إنّ هذا مردود بما جاء فی بحثه فی مسألة جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة ، فقد اختار عدم جریانه فیها ، و ذکر فی وجه ذلک : وقوع التعارض بین استصحاب المجعول مع استصحاب عدم الجعل ، و نقل هناک رأی المیرزا من عدم جریان عدم الجعل حتی یقع التعارض ، لعدم الأثر لإنشاء الشارع عدم الجعل ، بل الأثر دائماً للمنشإ .

فإذا کان هذا رأی المیرزا ، فالإشکال علیه هنا بما ذکره إشکالٌ مبنائی .

ص:375


1- 1) مصباح الاصول 2 / 117 .

و ثانیاً : إنه لیس الکلام فی مغایرة موضوع الحکم العقلی مع موضوع التعبد الشرعی بالاستصحاب ، بل إن الإشکال هو ضرورة الأثر العملی و إن کان المستصحب حکماً شرعیّاً ، و الأثر هنا لیس إلّا المنجزیة و المعذریة - علی مبنی صاحب الکفایة - و الاسناد و الاستناد علی مبنی الشیخ . و کلّ ذلک أثر إنشاء الحجیّة الواصلة إلی المکلّف ، و لو لا الوصول فلا أثر من تلک الآثار . فما ذکره غیر دافع الإشکال .

الحقّ فی الإشکال

بل الحق فی الإشکال علی المیرزا :

أوّلاً : بالنقض بجریان الاستصحاب فی الوجوب و الحرمة ، و هل للوجوب أو الحرمة فی الواقع أثر عملی أو أن الأثر فرع الوصول ؟ من الواضح أن أثر الوجوب هو الانبعاث و أثر الحرمة هو الانزجار ، و کلاهما متوقّف علی الوصول .

فما هو الجواب عن استصحاب الوجوب و الحرمة هو الجواب عن استصحاب الحجیّة و عدمها .

و ثانیاً : بالحلّ ، بأنْ یقال : إنه یعتبر فی جمیع الأحکام الشرعیة أن یکون الوجود الواقعی ذا اقتضاءٍ للتأثیر بشرط الوصول ، فالمقتضی هو الإنشاء من الشارع ، و شرط التأثیر العملی هو الوصول إلی المکلف ، کما ذکرنا فی استصحاب الوجوب و الحرمة ، إذ مجرّد الإنشاء ما لم یصل لا یؤثّر فی الانبعاث و الانزجار ، ففعلیة الأثر بالوصول . و الحجیّة کذلک ، فإنْ جعلها الشارع تحقق المقتضی للتنجیز و الإعذار ، فإذا وصل الجعل إلی المکلف حصلت الفعلیة .

و الحاصل : إن الحال فی جمیع الأحکام الشرعیّة هکذا ، فالأثر الوجود

ص:376

الواقعی فی مرحلة الاقتضاء و الفعلیة للأثر تدور مدار وصولها ، سواء کان الحکم تکلیفیّاً أو وضعیّاً .

إن الشارع یجعل الحکومة للفقیه فیقول : جعلته حاکماً ، لکنّ هذا الجعل ما لم یصل إلیه و إلی المکلّفین یکون بلا أثر ، کذلک الحجیّة ، فإن جعلها یفید الاقتضاء للمنجزیّة و المعذریّة و الإسناد و الاستناد ، و فعلیّة هذا المقتضی یکون بالوصول .

إذاً ، الأثر الاقتضائی حاصل لهذا الاستصحاب . فکلام المیرزا تبعاً للشیخ مردود .

تأیید المیرزا الشیخ ( الوجه الثانی )

و قال المیرزا :

ثانیاً بأن التمسّک بالاستصحاب المذکور لغو محض ، لأنّ الأثر یترتب علی نفس الشک فی الحجیّة ، فإحراز عدم الحجیّة بالتعبّد الاستصحابی لا یترتب علیه فائدة ، فیکون لغواً (1) .

توضیحه : إنه بمجرّد الشک فی الحجیّة یحکم العقل بعدم جواز الإسناد و الاستناد ، فکان الشک هو الموضوع و عدم جواز الإسناد و الاستناد - و کذا عدم المنجزیة و المعذریّة - هو المحمول ، فلا ریب فی ترتب هذه الآثار بمجرّد تحقق الموضوع . و أمّا الاستصحاب ، فموضوعه هو الشک و المحمول عدم جواز النقض ، و بعد ذلک یعتبر بقاء الیقین و عدمه ، ثم یرتّب عدم جواز الإسناد و الاستناد ، و بذلک یظهر أنّ الحکم العقلی بعدم جواز الاسناد و الاستناد مترتب

ص:377


1- 1) فوائد الاصول 3 / 128 .

علی نفس الشک ، فلو ارید تحصیل عدم جواز ذلک بالاستصحاب کان تحصیلاً للحاصل وجداناً بالتعبّد ، و هو لغو .

هذا ، و لا یخفی أنّ تحصیل الحاصل وجداناً بالتعبّد لیس له استحالة ذاتیّة ، بل هو محالٌ لأنّ اللّغو علی الحکیم محال .

جواب المحقق العراقی

و قد أجاب المحقق العراقی بما حاصله (1) :

إنّ حکم العقل مع وجود الحکم الشرعی عن طریق الاستصحاب ، سالبة بانتفاء الموضوع .

جواب المحقق الأصفهانی

و أجاب المحقق الأصفهانی بما حاصله (2) :

إن رفع الید عن حکم العقل هنا تخصّصی ، و رفعها عنه حکم الشارع تخصیص بلا دلیل ، و إذا دار الأمر بین التخصّص و التخصیص تقدّم الأول .

توضیح الأول : إنّ الأحکام العقلیة علی قسمین ، قسم منها تنجیزی و قسم تعلیقی ، فإنْ کان ما نحن فیه من قبیل الأوّل ، تمّ ما ذکره ، لکنه من قبیل الثانی ، فإنّ موضوع حکم العقل عدم جواز إسناد « ما لا یعلم » - أی المشکوک فیه - إلی الشارع ، و هذا هو الموضوع لحکمه ، فإنْ ارتفع الشکّ وجداناً أو بالتعبّد ، انتفی الموضوع و کان الحکم منتفیاً بانتفائه ، و علی الجملة ، فإن حکم العقل متوقف علی وجود الشک عقلاً و شرعاً ، لکنّ دلیل الاستصحاب رافع للشک .

ص:378


1- 1) فوائد الاصول 3 / 131 ، الهامش .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 163 .

و توضیح الثانی : إن سقوط دلیل الاستصحاب هنا بحکم العقل و رفع الید عن جریانه یستلزم التخصیص فی أدلّة الاستصحاب ، لأن المفروض وجود موضوعه - و هو الشک - بالوجدان ، و الیقین السابق بعدم الحجیّة أیضاً موجود ، فأرکانه تامة ، فإذا لم یجر یلزم التخصیص فی أدلّته من غیر مخصّص ، لأنّ ما یحتمل أن یکون مخصّصاً لیس إلّا حکم العقل ، لکنّ مخصصیّة حکم العقل موقوفة علی وجود المقتضی لجریانه ، و وجوده موقوف علی عدم جریان عمومات الاستصحاب ، لکنّ عدم جریانها موقوف علی تخصیص حکم العقل ، و هذا دور .

و هکذا یندفع إشکال المیرزا و یتمّ الأصل العملی الشرعی .

إلّا أن یقال :

إن ما ذکر مبنی علی أن یکون الشکّ هو الموضوع لحکم العقل ، فیتقدم علیه دلیل الاستصحاب کما تقدّم . أمّا إن کان الموضوع له هو عدم وصول الحجیّة ، الملازم للشک ، فإنّ عدم وصولها یساوی وصول عدمها ، لکنّ نتیجة التعبّد الشّرعی بالاستصحاب إنه : و اصلٌ إلیک عدم الحجیّة ، و هذا غیر رافع ل« عدم وصول الحجیّة » فیکون موضوع حکم العقل باقیاً و الاستصحاب غیر رافعٍ له . فتأمّل .

هذا تمام الکلام فی مقتضی الأصل فی حجیة الظن ، و مقتضی القاعدة أن یتمسّک أوّلاً بالأصل اللّفظی ثم علی فرض التنزّل بالأصل العملی ، ثم بالأصل العقلی .

و یقع البحث فی الأمارات بعون اللّٰه .

ص:379

المجلد 6

اشاره

ص :1

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للّه رب العالمین ، والصّلاة والسّلام علی خیر خلقه وأشرف بریّته محمد وآله الطاهرین، ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعین من الأولین والآخرین.

وبعد :

فهذا هو الجزء السادس من کتابنا ( تحقیق الأُصول ) علی نسق الأجزاء السّابقة، نقدّمه للأساتذة العظام والفضلاء الکرام فی الحوزات العلمیّة. راجیا منهم الدعاء ومن اللّه القبول والثواب بمحمّد وآله الأطهار.

علی الحسینی المیلانی

1434

ص: 5

ص: 6

الأمارات

* حجیّة الظهورات

* حجیّة قول اللغوی

* الإجماع

* الشهرة الفتوائیّة

* حجیّة خبر الواحد

ص: 7

ص: 8

حجیّة الظّهورات

ص: 9

ص: 10

الظّهور

الظهور هو قالبیّة اللّفظ للمعنی.

فتارةً: یکون ظاهرا فی المعنی عند الشخص، وأُخری: یکون ظاهرا فیه عند نوع النّاس. ومحلّ الکلام هو الثانی، بأنْ یفهم عموم الناس المفهوم الموضوع له اللّفظ بمجرّد التلفّظ به.

وأیضا، فإنّ الظهور، تارةً: یکون فی المدلول الأفرادی، وأُخری: فی الجمل الترکیبیّة.

وأیضا: قد یکون الظهور من حاقّ اللّفظ، وقد یکون بمعونة قرینة خارجیّة.

ویقع البحث فی ثلاثة مقامات.

ص: 11

المقام الأوّل فی مطلق الظواهر

اشارة

وفی هذا المقام ثلاثة جهات:

الجهة الأُولی

هل الظّاهر حجّة أوْ لا؟

وهذا البحث کبروی کما لا یخفی، وأمّا الصّغریات مثل: هل صیغة الأمر ظاهرة فی الوجوب أوْ لا؟ وأمثال ذلک، فقد تقدّم الکلام علیها فی محالّها...

فإذا تم حجیّة الظواهر، بعد تمامیّة البحث فی الصغری، وقع الأمر الظاهر فی الوجوب _ مثلاً _ فی طریق استنباط الحکم الشرعی، وعلیه، فالبحث عن حجیّة الظواهر بحثٌ أُصولی.

ولا کلام فی أصل حجیّة الظّواهر؛ للسّیرة العقلائیّة القطعیّة القائمة علی ذلک، فإنّهم یجعلون اللّفظ الظاهر فی معناه کاشفا عن المراد، ویحتجّون به ویرتّبون علیه الأثر، ویلغون احتمال الخلاف، وإلاّ لاختلّت أحوالهم وأمورهم.

ص: 12

ثم إنّ الشارع قد أمضی هذه السّیرة بلاخلاف؛ إذْ لم یصل إلینا الرّدع منه عنها بالخصوص، ولو کان لبان، وأمّا أنْ تکون الأدلّة النّاهیة عن اتّباع الظنّ رادعةً عن العمل بهذه السّیرة، فسیأتی الکلام علی ذلک فیما بعد.

ومن ذلک کلام الشارع.

قال الشیخ: ومن المعلوم بدیهةً أنّ طریق محاورات الشارع فی تفهیم مقاصده للمخاطبین، لم یکن طریقا مخترعا مغایرا لطریق محاورات أهل اللّسان فی تفهیم مقاصدهم.(1)

وقال صاحب الکفایة: لاشبهة فی لزوم اتّباع ظاهر کلام الشارع فی تعیین مراده فی الجملة؛ لاستقرار طریقة العقلاء علی اتّباع الظهورات فی تعیین المرادات، مع القطع بعدم الردّع عنها؛ لوضوح عدم اختراع طریقة أُخری فی مقام الإفادة لمرامه من کلامه.(2)

وقوله: «فی الجملة» إشارة إلی أنّ الکلام هنا فی أصل المسألة، وإلاّ، فقد وقع الخلاف فی مواضع:

أحدها: من المحقّق القمی، حیث أنکر الحجیّة بالنسبة لمن لم یقصد إفهامه.

والثانی: من الأخباریین المنکرین لحجیّة ظواهر الکتاب.

والثالث: من بعض معاصری الشیخ، حیث قال بعدم الدلیل علی حجیّة

ص: 13


1- 1. فرائد الأُصول: 34.
2- 2. کفایة الأُصول: 281.

الظواهر إذا لم تفد الظنّ أو إذا حصل الظنّ غیر المعتبر علی خلافها.

قال الشیخ:

لکنّ الإنصاف أنّه مخالف لطریقة أرباب اللّسان والعلماء فی کلّ زمان.(1)

والرابع: من معاصرٍ آخر للشّیخ، قال ما حاصله: إنّ الکلام إن کان مقرونا بحالٍ أو مقال یصلح أن یکون صارفا عن المعنی الحقیقی، فلا یتمسّک فیه بأصالة الحقیقة، وإنْ کان الشکّ فی أصل وجود الصّارف، أو کان هناک أمر منفصل یصلح لأنْ یکون صارفا، فیعمل علی أصالة الحقیقة.

قال الشیخ:

وهذا تفصیل حسن متین، لکنه تفصیل فی العمل بأصالة الحقیقة عند الشکّ فی الصّارف لافی حجیّة الظهور اللّفظی.(2)

أقول:

وستری تفصیل الکلام فی کلّ واحدٍ فی التفصیلات المذکورة.

الجهة الثانیة

هل یشترط حجیّة الظّاهر بالظنّ بالوفاق، بحیث لولاه فلا یکون حجة؟

قد ذکرنا أن حجیّة الظواهر مستندة إلی السّیرة العقلائیّة، وإذا ما رجعنا إلیهم نجدهم یأخذون بالظاهر ویجعلونه حجةً علی المراد، من غیر توقّفٍ علی حصول الظنّ به.

ص: 14


1- 1. فرائد الاُصول: 44.
2- 2. فرائد الاُصول: 44.

مثلاً: إذا حکم العقلاء بوجود المعارضة بین کلامین، فإنّ من الواضح أنّ حکمهم بذلک هو من جهة ظهور اللّفظ فی معناه وحجیّته عندهم مطلقا، وحینئذٍ یرون أنّ هذا الظاهر یمانع ذاک، فلولا وجود المقتضی لما وقع التمانع والتعارض بین الکلامین، ولا یتمّ المقتضی إلاّ بعدم اشتراط الظنّ بالوفاق؛ لأنّ حصول الظن المذکور بالنسبة إلی المتعارضین محال؛ لاستحالة الظنّ بالمتنافیین. ولو کان الظنّ بالوفاق شرطا، لم یقع التعارض بین الکلامین حین لایوجد الظنّ لا بالنسبة إلی هذا الکلام ولا بالنسبة إلی ذاک؛ لعدم وجود الموضوع للتعارض. وکذا لا یتحقّق التعارض لو حصل الظنّ بالوفاق فی أحدهما المعیّن دون الآخر. وأمّا الأحد المردّد فلا ماهیّة له ولا وجود.

فثبت بالبرهان _ بالإضافة إلی السّیرة _ أنّ حجیّة الظواهر غیر مشروطةٍ بالظنّ بالوفاق.

الجهة الثالثة

وهل یشترط عدم وجود الظنّ بالخلاف؟

فیه بحثٌ.

قال فی الکفایة: والظاهر أنّ سیرتهم علی اتّباعها، من غیر تقیید بإفادتها للظنّ فعلاً، ولا بعدم الظنّ کذلک علی خلافها قطعا؛ ضرورة أنّه لامجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها، بعدم للظنّ إفادتها بالوفاق ولابوجود الظن بالخلاف.(1)

وقد تبع فی ذلک الشیخ _ رحمه اللّه _ إذ قال:

ص: 15


1- 1. کفایة الأُصول: 281.

ثم إنّک قد عرفت أنّ مناط الحجیّة والاعتبار فی دلالة الألفاظ هو الظهور العرفی... فلا فرق بین إفادته الظنّ بالمراد وعدمها، ولابین وجود الظنّ غیر المعتبر علی خلافه وعدمه...

نعم، ربما یجری علی لسان بعض متأخری المتأخرین من المعاصرین: عدم الدلیل علی حجیّة الظواهر إذا لم تفد الظنّ أو إذا حصل الظنّ المعتبر علی خلافها.

لکنّ الإنصاف أنّه مخالفٌ لطریقة أرباب اللّسان والعلماء فی کلّ زمان... .(1)

أقول:

وقد تبعهما جماعة من المتأخرین عنهما، کالسیّد الاستاذ(2) والسیّد

الخوئی(3).

أمّا عدم اعتبار الظنّ بالوفاق، فالحقّ معهم فیه، کما عرفت.

وأمّا حجیّة الظواهر مع الظنّ بالخلاف، فقد استدلّ لها بوجوهٍ ثلاثة:

الوجه الأوّل: السّیرة العقلائیّة

ولعلّ هذا أهمّ أدلّتهم کما هو ظاهر العبارات المتقدّمة، وحاصله: أنّ العقلاء لایعذرون العبد الذی لم یأخذ بظاهر کلام مولاه معتذرا بالظنّ بالخلاف، وأنّ للمولی الإحتجاج علیه بأنّه لِمَ لم تأخذ بظاهر کلامی؟ بل یعتبر عند العقلاء عاصیا یستحقّ العقاب.

ص: 16


1- 1. فرائد الأُصول: 44.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 207.
3- 3. مصباح الأُصول 2 / 118.

وفیه تأمّل؛ لأنّ المولی إذا أمر عبده بکلامٍ ظاهرٍ فی المراد، فلم یطع الأمر معتذرا بأنّه قد ظنَّ معنیً آخر مخالفا لما هو ظاهر فیه، فلا ریب أنّ هذا العذر لایقبل منه، ولکنْ هل عدم قبول العذر هو من جهة حجیّة ظاهر الکلام عند العقلاء وإنْ ظُنّ بالخلاف، أو هو من جهة أنّهم یرون ما یقوله العبدُ دعویً محتاجة إلی الإثبات؟

وتظهر الثمرة فی ما إذا ثبت أنّ العبد کان ظانّا بالخلاف ولذا لم یطع الأمر، فهل یحکمون باستحقاقه العقاب أو یعذرونه؟ هل هناک سیرة عقلائیّة علی مؤاخذة العبد فی هذه الحالة؟ هذا أوّل الکلام...

بل إنّ السّیرة العقلائیّة القائمة علی حجیّة الظواهر أمر عملی، والعمل مجمل، ومتی شکّ اُخذ بالقدر المتیقّن منه.

فالإستدلال بالسیرة العقلائیّة للقول بعدم اشتراط عدم الظنّ بالخلاف،

لا یخلو من نظر.

الوجه الثانی: إنّ اشتراط عدم الظنّ بالخلاف، لایخلو من أنْ یکون دخیلاً فی اقتضاء الظاهر للحجیّة، أو یکون مانعا عن اقتضائه لها، وکلاهما غیرمعقول. فعدم الظن بالخلاف لیس بشرط.

أمّا الأوّل، فلأنّه لا یعقل أن یکون المقتضی متقوّما بالعدم.

وأمّا الثانی، فلأنّ المانعیّة فرع لتمامیّة الحجیّة، والظنّ بالخلاف لیس بحجّةٍ.(1)

ص: 17


1- 1. اُنظر: نهایة الدرایة 3 / 169.

واُجیب:

أمّا عن الشقّ الأوّل: فبأنّ دخل العدم فی الإثبات لا یستلزم محالاً، فهو جزء للمقتضی فی مقام الإثبات دون الثبوت. أی: إنّ المقتضی محدود بحصّةٍ خاصّة فی اعتبار العقلاء، وهی الحصّة الملازمة لعدم الظنّ بالخلاف، فالظاهر الحجّة محدود اعتبارا بما ذکر.

وأمّا عن الشقّ الثانی: فبأنّه لا مانع ثبوتا؛ لأنّ الظنّ بالخلاف مانع ثبوتا عن کشف الظاهر کشفا نوعیّا عن المراد، فمادام لا یوجد الظنّ بالخلاف یکون داعیا للعقلاء إلی جعل الحجیّة.

الوجه الثالث: إنّ إطلاقات أدلّة النهی عن اتّباع الظن، کقوله تعالی: «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا»(1) وقوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»(2) شاملة للظنّ بالخلاف فی مورد الظاهر، فهی تمنع من ترتیب الأثر علیه.

ولازم النهی عن ترتیب الأثر علی الظنّ بالخلاف، هو عدم رفع الید عن الظاهر ولزوم الأخذ به، فتتمّ حجیّة الظاهر بتعبّد شرعی هو لازم الأدلّة الناهیة عن ترتیب الأثر علی الظن.

وأجاب المحقّق الإصفهانی: بأنّ إطلاق الأدلّة بالنسبة إلی هذا الأثر مشکل.(3)

ص: 18


1- 1. سورة یونس: الآیة 36.
2- 2. سورة الأسراء: الآیة 36.
3- 3. نهایة الدرایة 3 / 171.

وکأنّه یرید انصرافها عن هذه الحصّة من الظنّ. وهذا هو الإشکال الأوّل علی هذا الإستدلال، إنْ تمّ الإنصراف.

والإشکال الثانی هو: إنّ هذه الإطلاقات إرشاد إلی حکم العقل.

ولکنّه أوّل الکلام.

والإشکال الثالث: إنّه علی القول بکونها مولویّةً، تکون دالّةً علی أنّ الظنّ لیس طریقا شرعیّا بالنسبة إلی متعلّقه، فهی تنفی حجیّة الظنّ، ولا دلالة لها علی حجیّة الظاهر الذی قام الظنّ علی خلافه. فما ذکر من الملازمة الشرعیّة بین النهی عن اتّباع الظنّ والأمر بالأخذ بالظاهر، ممنوع. کما أنّه لا ملازمة عقلاً بین الأمرین، لوجود الشق الثالث، وهو الرجوع إلی الأصول الشرعیّة أو العقلیّة فی مورد الظاهر.

والحاصل: أنّ الإطلاقات المذکورة إن کانت إرشادیّة، فالاستدلال ساقط. وإنْ کانت مولویة، توقّف الاستدلال بها علی الملازمة بین النهی عن العمل بالظنّ بالخلاف والعمل بالظاهر.

ثم إنّ الظنّ النوعی بالخلاف، یکون تارةً: من الظنون التی لا اعتبار لها عند العقلاء، کظنّ الوسواسی، فإنّه ملغی فی السّیرة العقلائیّة. وأُخری: هو من الظنون العقلائیّة، فإنّ مثله _ وإنْ لم یکن نوعیّا _ موجب لسقوط الظاهر، والمرجع حینئذٍ هو الأصل العملی.

ومن موارد ذلک: ما لو ورد فی الوصیّة لفظٌ حصل للوصیّ ظنّ علی خلاف ما هو ظاهر فیه، فهل یلزم علی الوصیّ إنفاذ تلک الوصیّة؟ الظاهر: لا؛ لأنّ أدلّة وجوب إنفاذ الوصیّة علی الوصی ناظرة إلی الوصیّة التامّ ظهورها فی

ص: 19

المعنی، وذلک موقوف علی أن یکون الظاهر حجةً، ولا تتمّ حجیّته مع وجود الظنّ بالخلاف.

فالقول بحجیّة الظّاهر مع وجود الظنّ بالخلاف، مشکل.

أقول:

فظهر أنّ فی هذه الجهة قولین، وأنّ العمدة هی السّیرة العقلائّیة، وقد أنکر شیخنا _ دام بقاه _ قیامها مع الظنّ بالخلاف مطلقا.

وهنا قول ثالث، وهو التفصیل، ذهب إلیه المحقّق النّائینی، إذ قال:

ولکنّ الحقّ فی المقام هو التفصیل: بین الظهورات الصّادرة عن الموالی إلی العبید، کالأخبار الواردة عن المعصومین _ سلام اللّه علیهم _ ، بحیث یکون المقام مقام الإحتجاج من المولی علی العبد أو العکس فیلتزم فیها بعدم التقیّد، وبین الظهورات التی لا یکون لها ارتباط بمقام الإحتجاج، بل یکون الغرض فیها کشف المرادات الواقعیّة... فالأخذ بالظهور فی غیر مقام الإحتجاج مقیّد بأعلی مراتب الظنّ وهی مرتبة الإطمینان، وبمجرّد احتمال إرادة خلاف الظّاهر _ احتمالاً عقلائیّا _ تسقط تلک الظّهورات عن الکاشفیّة، فضلاً عن وجود الظنّ بالخلاف.(1)

وحاصل الکلام هو: قیام السّیرة العقلائیّة علی حجیّة الظهورات فی خصوص الخطابات المولویّة، حیث یکون المقام مقام الإحتجاج، وعدم قیامها فی باب الأغراض الشّخصیّة.

ص: 20


1- 1. أجود التقریرات 3 / 161.

وقد وافقه السیّد الصّدر ووجّهه: بأنّ الفرق المذکور راجع إلی الفرق فی نکتة الکاشفیّة والطریقیّة لا أصلها، فإنّ ملاک الکاشفیّة فی مجال الأغراض الشخصیّة إنّما یکون هو الکشف الشخصی؛ لأنّ الغرض فیه شخصی، بخلاف باب الأغراض المولویّة؛ فإنّه لا یناسب أنْ تکون الکاشفیّة الشخصیّة عند العبد میزانا، بل المیزان الکاشفیّة النوعیّة.(1)

أقول:

والظاهر أنّ هذا التفصیل _ بالبیان المذکور _ لا بأس به.

المقام الثانی فی تفصیل المیرزا القمّی

اشارة

قال المحقّق المیرزا القمی _ رحمه اللّه _ بعد کلامٍ له:

ومن جمیع ذلک ظهر: أنّ حجیّة ظواهر القرآن علی وجوه، فبالنسبة إلی بعض الأحوال معلوم الحجیّة مثل حال المخاطبین بها، وبالنسبة إلی غیرالمشافهین مظنون الحجیّة، وکونها مظنون الحجّیة إمّا بظنٍّ آخر علم حجیّته بالخصوص، کأن نستنبط من دلالة الأخبار وجوب التمسّک بها لکلّ من یفهم منها شیئا، وإمّا بظنّ لم یعلم حجیّته بالخصوص، کأن نعتمد علی مجرّد الظنّ الحاصل من تلک الظواهر ولو بضمیمة أصالة عدم النقل وعدم التخصیص والتقیید وغیرذلک، فإنّ ذلک إنّما یثبت حجیّته وقت إنسداد باب العلم بالأحکام الشرعیّة

ص: 21


1- 1. بحوث فی علم الأُصول 4 / 275.

وانحصار الأمر فی الرجوع إلی الظنّ. ولمّا کان الأخبار أیضا من باب الخطابات الشفاهیّة، فکون دلالتها علی حجیّة الکتاب معلوم الحجیّة إنّما هو للمشافهین بتلک الأخبار، و طروّ حکمها بالنسبة إلینا أیضا لم یعلم دلیل علیه بالخصوص.(1)

و قد فصّل الشیخ الکلام فی هذا المقام، قال:

الذی یظهر من صاحب القوانین الفرق بین من قصد إفهامه بالکلام، فالظواهر حجة بالنسبة إلیه من باب الظنّ الخاصّ _ سواء کان مخاطبا کما فی الخطابات الشفاهیّة أمْ لا، کما فی الناظر فی الکتب المصنّفة لرجوع کلّ من ینظر إلیها _ وبین من لم یقصد إفهامه بالخطاب، کأمثالنا بالنسبة إلی أخبار الأئمة الصّادرة عنهم فی مقام الجواب عن سؤال السّائلین، وبالنسبة إلی الکتاب العزیز، بناءً علی عدم کون خطاباته موجّهةً إلینا، وعدم کونه من باب التألیف للمصنّفین. فالظهور اللّفظی لیس بحجّةٍ لنا إلاّ من باب الظنّ المطلق الثابت حجیّته عند إنسداد باب العلم.(2)

توجیه الشیخ

ثم إنّ الشیخ ذکر فی توجیه هذا التفصیل ما ملخّصه:

إنّ الظهور اللّفظی لیس حجّة إلاّ من باب الظنّ النوعی، وهو کون اللّفظ بنفسه _ لو خلّی وطبعه _ مفیدا للظنّ بالمراد، فإنْ کان مقصود المتکلّم من الکلام إفهام من یقصد إفهامه، فیجب علیه إلقاء الکلام علی وجهٍ لا یقع المخاطب معه

ص: 22


1- 1. قوانین الأُصول 1 / 403.
2- 2. فرائد الأُصول: 40.

فی خلاف المراد، ولو احتمل عدم کونه فی مقام الإفهام أو غفلته عن بیان القرائن المعیّنة لمراده، أو غفلة المخاطب، دفع احتمال ذلک کلّه بالأصل، مع انعقاد الإجماع من العقلاء والعلماء علی عدم الإعتناء باحتمال الغفلة، فی جمیع امور العقلاء من أقوالهم وأفعالهم.(1)

وعلی الجملة، فالأصول المذکورة جاریة فی المقصود إفهامه، والظهور منعقد.

وأمّا إذا لم یکن الشخص مقصودا بالإفهام، فوقوعه فی خلاف المقصود لاینحصر سببه فیما ذکر حتی یندفع بالأصل، ففی الآیات والروایات یحتمل وجود قرائن قد فهم المخاطبون بها المراد منها، وقد اُخفیت علینا تلک القرائن لأسباب غیرالغفلة، وهذا الإحتمال لا دافع له، قال الشیخ: بل لا یبعد دعوی العلم بأنّ ما اختفی علینا من الأخبار والقرائن أکثر ممّا ظفرنا بها.

قال: _ مع أنا لو سلّمنا حصول الظن بانتفاء القرائن المتصلة، لکنّ القرائن الحالیّة وما اعتمد علیه المتکلّم من الامور العقلیّة أو النقلیّة الکلیّة أو الجزئیّة المعلومة عند المخاطب الصّارفة لظاهر الکلام، لیست ممّا یحصل الظن بانتفائها بعد البحث والفحص.(2)

وبالجملة، فإنّ أصل عدم الغفلة غیر جارٍ بالنسبة إلی غیر المخاطب،

ص: 23


1- 1. فرائد الأُصول: 40 _ 41.
2- 2. فرائد الأُصول: 41.

واحتمال الإعتماد علی القرائن الحالیّة موجود، والروایات قد وقع فیها التقطیع، فیحتمل وجود القرینة علی قطعةٍ فی قطعةٍ أُخری منفصلة، کما أنّ لضیاع کثیر من الاصول دخلاً کبیرا فی هذه الإحتمالات...

فالألفاظ لیست ظواهرها بحجّةٍ لغیر المشافهین.

جواب الشیخ

قال الشیخ: لکنّ الإنصاف عدم الفرق فی العمل بالظهور اللّفظی وأصالة عدم الصّارف من الظاهر، بین من قصد إفهامه ومن لم یقصد. فذکر وجوها:

الأول: الأصل العقلائی، فإنّه یدفع هذه الإحتمالات، والسیرة العقلائیّة قائمة علی عدم ترتیب الأثر علیها. ویشهد بذلک عدم رفعهم الید عن ظاهر المکتوب، بلا فرقٍ بین المکتوب إلیه المخاطب به، والشخص الآخر الذی وقع المکتوب بیده غیرالمقصود به.

الثانی: إجماع العلماء، فإنّه منعقد بالضرورة علی العمل بهذه الروایات الواصلة إلینا الحاملة للأحکام الشرعیّة الکلیّة والأخذ بظواهرها، بلا توقّف، کما هو الحال فی الأخذ بظواهر الألفاظ فی الموارد الجزئیّة، کالأقاریر والوصایا، من دون فرق.

الثالث: سیرة أصحاب الأئمة _ علیهم السّلام _ ، فإنّها قائمة علی الأخذ بالروایات، بلا اعتناء بتلک الإحتمالات. وقد کانت هذه السّیرة بمرأی ومسمع من الأئمة.

الرابع: ما ورد من الأخبار فی عرض الأخبار علی الکتاب، فإنّها تعمّ المشافهین وغیرهم، وتدلّ علی عدم اختصاص ظواهر الکتاب بالمشافهین.

ص: 24

النظر فی ذلک

وأفاد الاستاد _ دام بقاه _ :

إنه یمکن الخدشة فی جمیع ما ذکر:

أمّا الأخیر، فأخصّ من المدّعی.

وأمّا السّیرة العملیّة العقلائیّة، فیعتبر ثبوتها واستمرارها إلی زمن المعصوم وإمضاؤه لها. أمّا أصل وجودها، فلا ریب فیه؛ إذ العقلاء لا یعبأون بالإحتمالات، ویشهد بذلک أخذهم بالأقاریر والوصایا والأوقاف. إلاّ أنّ التأمّل هو فی کلام من کان دیدنه بیان مطالبه بالتدریج، مع العلم بضیاع بعض خصوصیّات کلماته وقرائنها، فهل من بناء العقلاء عدم الإعتناء بالإحتمالات والأخذ بظواهر تلک الکلمات؟ الظاهر: لا، ولا أقلّ من الشکّ.

وقیاس ذلک بالوصایا والأقاریر ونحو ذلک _ مع الفارق؛ لعدم وقوع الضیاع علیها والتقطیع فیها، ولو احتمل _ فإنّه مندفع بالأصل.

وأمّا الإجماع العملی من الفقهاء، فلا ریب فیه کذلک، ولکنْ یحتمل استنادهم إلی السّیرة المذکورة التی عرفت الکلام فیها.

وأمّا سیرة أصحاب الأئمة _ علیهم السلام _، فإنْ کانت مستندة إلی السّیرة العقلائیّة، فلا فائدة فیها، وإن کانت سیرة متشرعیّة، اعتبر بها. لکنْ من الممکن أن یکون عملهم بالأخبار من جهة حصول الإطمینان لهم، فما عملوا به قد اطمأنّوا بإرادة ما هو ظاهر فیه، أو رجعوا إلی الأئمة _ علیهم السلام _ فیما اُشکل علیهم، فحصل لهم الإطمینان، وحینئذٍ لاتتمّ دعوی السّیرة.

هذا تمام الکلام علی ما أفاده الشیخ فی المقام.

ص: 25

أجوبة المتأخرین عن التفصیل

ثم إنْ المتأخرّین عن الشیخ _ رحمه اللّه _ أجابوا عن تفصیل المیرزا القمی بوجوه، ونحن ننقل نصوص عبارات بعضهم، ونلّخصها ثم ننظر فیها:

کلام المحقق الخراسانی

قال المحقّق الخراسانی:

الظاهر عدم اختصاص ذلک بمن قصد إفهامه، ولذا لا یسمع اعتذار من لا یقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنّه ظاهر کلام المولی من تکلیفٍ یعمّه أو یخصّه، ویصحّ به الإحتجاج لدی المخاصمة واللّجاج، کما تشهد به صحّة الشّهادة بالإقرار من کلّ من سمعه ولو قصد عدم إفهامه، فضلاً عمّا إذا لم یکن بصدد إفهامه.(1)

وکذا قال فی حاشیة الرسائل وأضاف:

ولایوجب احتمال أن یکون بین المتکلّم والمقصود بالإفهام قرینة معهودة علی إرادة خصوصه من ذاک العام تفاوتا، ولیس ذا إلاّ کسائر ما یوجب احتمالها ممّا تختلف فیه الأشخاص.

وبالجملة، اختصاص أحدٍ بسبب من أسباب الاحتمال، لایوجب اختصاص حجیّة الظهور بغیره، فکما لا فرق عند العقلاء بینها

ص: 26


1- 1. کفایة الأُصول: 281.

فی اتّباع أصالة عدم الغفلة عند احتمالها، کذلک لا فرق بینها فی أصالة عدم القرینة عند احتمالها. فلا وجه لتفصیل المحقّق القمی بینهما.(1)

کلام المحقق الهمدانی

وقال المحقّق الهمدانی _ بعد توجیه التّفصیل _ :

ویضعّفه ما نبّه علیه المصنّف _ رحمه اللّه من مخالفته لسیرة العقلاء والعلماء فی فهم مدالیل الألفاظ... .(2)

کلام المحقق النائینی

وقال المحقّق النائینی: ادّعی المحقّق القمی _ رحمه اللّه _ اختصاص حجّیّة الظواهر بخصوص مَنْ قُصد إفهامه، وعلیه بنی إنسداد باب العلم؛ نظرا إلی أنّ الأخبار المرویّة عن الحجج _ سلام اللّه علیهم _ لم یقصد منها إلاّ إفهام خصوص المشافهین دون غیرهم، فتختصّ حجّیّتها بهم أیضا.

وغایة ما یمکن أن یقال فی تقریب ما أفاده هو ما أفاده العلاّمة الأنصاری.

وحاصله: أنّ حجّیّة الظواهر لا مدرک لها إلاّ أصالة عدم غفلة المتکلّم عن بیان تمام مراده، وعدم غفلة السّامع عن القرائن المذکورة فی کلامه؛ لأنّ احتمال

ص: 27


1- 1. دررالفوائد: 86.
2- 2. حاشیة فرائد الأُصول: 103.

إرادة خلاف الظاهر _ مع کون المتکلّم فی مقام البیان _ وخفائها علی المخاطب، لابدّ وأن یستند إلی إحدی الغفلتین المدفوعتین بالأصل، وهذا لا یجری إلاّ فی خصوص المقصود بالإفادة، وأمّا بالنسبة إلی غیره فلاحتمال إرادة خلاف الظاهر وخفائها له باب واسع لا یمکن دفعه بالأصل؛ لجریان العادة علی الإتّکال علی قرائن منفصلة أو حالیّة لا یلتفت إلیها غیر المقصود بالإفادة.

ثمّ علی تقدیر تسلیم جریان أصالة عدم القرینة فی حقّ غیر المقصود بالإفهام _ ولو کان احتمال إرادة خلاف الظاهر غیرمستند إلی احتمال الغفلة _ إنّما یسلّم جریانها، فیما لم یعلم من حال المتکلّم أنّ دَیْدَنه علی الإتّکال علی قرائن منفصلة، وأمّا مع العلم بذلک، فلا یمکن الأخذ بظهور کلامه لغیر المقصود بالإفهام، کما هو ظاهر. ومن الواضح أنّ الأئمّة _ صلوات اللّه علیهم _ کثیرا مّا کانوا یعتمدون علی القرائن المنفصلة، بل ربما کانوا یؤخّرون البیان عن وقت الخطاب بل الحاجة لمصلحةٍ مقتضیة لذلک.

وعلی تقدیر التنزّل عن ذلک أیضا، فظواهر الأخبار إنّما تکون حجّةً إذا کانت واصلةً إلینا بمثل ما وردت، وحیث إنّها وصلت إلینا مقطّعةً ونحتمل وجود قرینة فی الکلام خفیت علینا بالتقطیع، فلا یبقی وثوق بإرادة هذه الظواهر منها، فتسقط عن مرتبة الحجّیّة.

قال: ولکن لا یخفی أنّ جَعْل مدرک أصالة الظهور أصالة عدم الغفلة، فیه غفلة واضحة؛ فإنّ أصالة الظهور إنّما هی حجّة ببناء العقلاء _ من جهة کون الألفاظ کواشف عن المرادات الواقعیّة _ فی قبال أصالة عدم الغفلة، وعَرضِها، ولا ربط لإحداهما بالاُخری فضلاً عن أن تکون مدرکا لها.

ص: 28

وأمّا ما ذکره _ من جریان دَیْدَن الأئمّة سلام اللّه علیهم، علی الاتّکال علی القرائن المنفصلة، والعلم الإجمالی بوجود مخصّصات أو مقیّدات کثیرة _ فهو وإن کان صحیحا، إلاّ أنّ مقتضاه وجوب الفحص عن المعارض، لا عدم حجّیّة الظهور بعده، کما هو واضح.

وأمّا ما أفاده _ من استلزام التقطیع لعدم حجّیّة الظهور _ فهو _ علی تقدیر تسلیمه _ أخصّ من المدّعی؛ لعدم وفائه بعدم حجّیّة الأخبار غیر المقطّعة الموجودة فی عصرنا، وقد نقل شیخنا الاُستاذ _ دام ظلّه _ أنّه کان عند المحدّث الشهیر الحاج میرزا حسین النوری _ قدّس اللّه نفسه الزکیّة _ ما یقرب من خمسین أصلاً من الاُصول. مع أنّ استلزام التقطیع للخَلَل فی ظهورات الأخبار ممنوع جدّا؛ فإنّ المقطّعین هم العلماء الأخیار الملتفتون إلی ذلک، ولا محالة یلاحظون فی تقطیعاتهم عدم الإخلال بتلک الظواهر.

نعم، لو کان المقطّع عامیّا أو مَنْ لا یوثق بدینه، لکان لاحتمال الخلل فی تلک الظواهر مجال واسع، لکنّه لا مجال لهذا الإحتمال إذا کان التقطیع من مثل هؤلاء العلماء الذین حازوا من مراتب العلم والتقی ما هی غایة المنی.(1)

کلام المحقق الإصفهانی

وقال المحقّق الإصفهانی: یمکن تقریب الإختصاص: بأنّ المتکلّم إذا اعتمد فی إرادة خلاف الظاهر من کلامه علی قرینة حالیّة بینه وبین المخاطب

ص: 29


1- 1. أجود التقریرات 3 / 157_160.

الذی قصد إفهامه، لم یکن مخلاًّ بمرامه، بخلاف ما إذا لم یکن قرینة أصلاً، فإنه یکون ناقضا لغرضه وهو إفهامه بکلامه.

وأما غیر المخاطب الذی لم یقصد إفهامه، فإنّه لم یلزم منه نقض للغرض إذا لم یکن بینه وبین من لم یقصد إفهامه قرینة معهودة؛ إذ المفروض أنّه لم یتعلّق الغرض بإفهامه حتی یلزم نقض الغرض من عدم إیصال القرینة إلیه.

والجواب یبتنی علی مقدّمة، هی: أنّ الإرادة استعمالیّة وتفهیمیّة وجدیّة، فمجرّد إیجاد المعنی باللّفظ بنحو الوجود العرضی متقوّم بالإرادة الإستعمالیّة، سواء قصد بهذا الإیجاد إحضار المعنی فی ذهن أحد أم لا، فإذا قصد بهذا المعنی کانت الإرادة تفهیمیّة.

وهذا المعنی الموجود المقصود به الإحضار ربّما یکون مرادا جدّیا، وربّما یکون لانتقال المخاطب _ مثلاً _ إلی لازمه المراد جدّا أو ملزومه کما فی باب الکنایة، والملاک فی کلّ واحدة غیر الملاک فی الأُخری، والکاشف عن کلّ واحدة غیرالکاشف عن الأُخری.

فالجری علی قانون الوضع یقتضی إیجاد المعنی بلفظه، وهو وجه بناء العرف عملاً علی حمل اللّفظ علی الإستعمال فی معناه.

ولزوم نقض الغرض لو لم یکن الکلام الصّادر وافیا بالمرام، یقتضی عدم قصد الإفهام، إلاّ بما یکون وافیاً بالمرام.

وکون جِدّ الشئ¨ کأنه لا یزید علی نفس الشئ¨، یقتضی حمل کلیّة الأقوال والأفعال علی الجِدّ حتی یظهر خلافه.

ص: 30

وعلیه نقول: بناء العقلاء عملاً علی حمل الکلام علی ما یوافق قانون الوضع بعد کشفه النوعی عن المعنی، هو معنی حجّیة الظهور.

وحکم العقل بقبح نقض الغرض الذی هو غیر مربوط ببناء أهل المحاورة، هو الدلیل علی أن المعنی المختصّ باللّفظ هو الذی قصد إفهامه.

وبناء العقلاء العامّ لجمیع الأقوال والأفعال، هو الدلیل علی حمل کلّیة الأفعال والأقوال علی الجدّ.

فالفرق المعلوم بین الظاهر الملقی إلی من قصد إفهامه ومن لم یقصد إفهامه لوجه مخصوص، لا یقتضی الفرق فی المقام الأوّل وحجیّة الظاهر بحمله علی مقتضاه من کشفه النوعی من معناه الوضعی، والخلط بین المقامین أوهم الفرق بین من قصد إفهامه ومن لم یقصد إفهامه.

هذا کلّه، مع أنّ قصر الخطاب علی شخص لا یقتضی قصد إفهامه، بل ربّما یقصد إفهام غیره، کما فی «إیاک أعنی واسمعی یا جارة»، فضلاً عن اقتضاء قصر قصد الإفهام علی المخاطب.

مضافا إلی أنّ الکلام إذا کان متضمّنا لتکلیف عمومی، فمقام عموم التکلیف بهذا الکلام یقتضی وصول التکلیف العمومی نفساً ومتعلّقا وموضوعا بشخص هذا الکلام، فلا یمکن التعویل علی ما یختصّ بالمخاطب من القرینة الحالیّة.

وعلی فرض کون المخاطب واسطة فی التبلیغ، فاللاّزم علیه فی إیصال التکلیف العمومی بحدّه، التنبیه علی ما یقتضی توسعته وتضییقه، فعدم التنبیه منه دلیل علی عدمه. بل الکلام المقصور علی المخاطب إذا کان متکفّلاً لتکلیف

ص: 31

خصوصیّ، وکان عمومه لغیره بقاعدة الإشتراک أیضا کذلک، إذ الطریق إلیه نقله روایة أو کتابة، ومقتضی عدم الخیانة فی نقله بأحد الطریقین، هو التنبیه علی القرینة الحالیّة الموسّعة لدائرة التکلیف والمضیّقة لها، ومع عدم نصب الدّال علیها یحکم بعدمها.(1)

هذه عمدة کلمات المحقّقین المتأخّرین فی الجواب عن تفصیل المیرزا القمی رحمه اللّه.

النظر فی أجوبة المتأخرین

وهذا تلخیص ما أجابوا به والنظر فی ذلک:

1. إنّ إحتمال وجود القرائن ساقط عند العقلاء.

وفیه: أنّه قد ظهر تمامیّة سقوط الإحتمال فی مثل الأقاریر والوصایا ونحوها؛ لعدم وقوع الضیاع، ولو احتمل اندفع بالأصل.

أمّا فی الروایات عن الأئمة، فالضّیاع لبعضها والتقطیع قطعی، فکیف تدفع الإحتمالات؟ فلو دوّن کتابٌ فی القانون وعلم بضیاع أوراقٍ منه، فهل من بناء العقلاء الإعتماد علی هذا الکتاب الناقص مع احتمالهم بکون عدّة من القرائن فی تلک الأوراق الضائعة، أو أنهم یتوقّفون؟

2. إنّ فی کلّ کلام إرادات، فلو شُکّ فی الإرادة الإستعمالیة، أی فی إرادة

المتکلّم المعنی الموضوع له اللّفظ، فإنّه یحمل علی معناه فی تلک اللّغة، من جهة

ص: 32


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 172_174.

أنّ أهل اللّسان تابعون لقانون الوضع، وأنّ المتکلّم ینظر إلی اللفظ بالنظر الطریقی إلی المعنی، فالغلط من المتکلّم أو إرادته المعنی المجازی، مندفعان بالأصل.

وهناک إرادة تفهیمیّة، بمعنی أنّ مقتضی الأصل أن یکون المتکلّم المستعمل للّفظ فی معناه فی مقام التفهیم لتمام المراد، ولو لم یأتِ بما یبیّن ذلک یلزم نقض الغرض.

فتصل النوبة إلی الإرادة الجدیّة، فهل أنّ المعنی الموضوع له اللّفظ والمراد تفهیمه للمخاطب، هو المراد الجدّی للمتکلّم أوْ لا؟ الأصل تعلّق الإرادة الجدیّة بالمعنی الموضوع له لا غیره.

ثم إنّ هذه الإرادات فی الکلام غیر مختصّةٍ بالمقصود بالإفهام، بل غیره أیضا یجری تلک الاصول فی الکلام الواصل إلیه، ویتمّ له ظاهر الکلام کالمقصود بالإفهام. نعم، قد یکون الکلام محفوفا بقرینةٍ حالیّة یعتمد علیها المقصود بالإفهام، لکنّ الإرادات المذکورة لا یفرّق فیها بین المقصود به وغیره.

وفیه: إنّه وإنْ تمّ فی الإرادات علی ما ذکر، لکنّ محلّ البحث هو الکلام المعتَمد فیه علی القرائن المنفصلة، مع العلم بضیاع قسمٍ من الکلام یحتمل وجودها فیه، فالأخذ بالإرادات فی مثله أوّل الکلام.

3. إنّ الخطابات الشرعیّة کلّها من باب «إیّاک أعنی واسمعی یا جارة». فلیس المخاطب وحده المقصود بالإفهام، بل وغیره إلی یوم القیامة.

وفیه: صحیح أنّا أیضا مکلّفون بالأحکام المشتمل علیها الخطابات، لکنْ هل یمکن لنا الأخذ بها مع الإحتمالات الموجودة؟

ص: 33

4. إنّ الخطابات الشرعیّة کلّها عمومیّة، والکلّ مقصودون بالإفهام.

وفیه: إنّه أوّل الدعوی.

5. إنّ المخاطب هو المقصود بالإفهام، لکنّه لمّا یروی الکلام ینقله مع القرائن المؤثّرة فی فهم المراد، فیصیر المنقول إلیه مقصودا بالإفهام کالمخاطب بالکلام.

وتوضیح ذلک:

إنّ الراوی الأوّل للرّوایة _ والمفروض وثاقته _ لمّا نقلها إلی الراوی الثانی ساکتا عن ذکر القرینة، کان سکوته دلیلاً علی عدم وجودها، وأصبح الثانی مقصودا بالإفهام، وهکذا الحال فی جمیع الوسائط حتّی ینتهی إلی مصنّفی

الجوامع الحدیثیّة، وبذلک یکون الناظر فیها مقصودا بالأفهام.

وعلی الجملة، فإنّ الأخبار قد وصلت إلینا یدا بیدٍ، وکلّ طبقة من الرواة لها مقصودة بالإفهام.

وفیه: أنّ هذا الوجه إنّما یفید لإثبات اتّصال الأسانید وکوننا مقصودین بالإفهام وأنّها حجّة بالنسبة إلینا کغیرنا من الرّواة للأخبار فی مختلف الطبقات، فالإشکال مندفع من هذه الناحیة، ولکنّ المفروض ضیاع قسمٍ من الأخبار وعدم وصوله إلینا، مع احتمال وجود القرائن فیما ضاع... بل إنّ الشیخ _ رحمه اللّه _ قد ذکر: أنّه لا یبعد دعوی العلم بأنّ ما اختفی علینا من الأخبار والقرائن أکثر ممّا ظفرنا بها،(1) فکیف یدّعی أنّا کالمخاطبین فی الإفهام؟

ص: 34


1- 1. فرائد الأُصول: 41.

هذا، وقد ذکرنا قیام السّیرة علی الأخذ بالظواهر فی کلام من لیس دأبه التدریج والإعتماد علی القرائن المنفصلة، وأمّا من کان دأبه ذلک، فأین السّیرة؟ والروایات من هذا القبیل، ولذا کیف یؤخذ بالعمومات والإطلاقات مع احتمال ضیاع المخصّصات والمقیّدات لها فی ضمن ما ضاع؟

6. إنّ احتمال وجود القرائن فی القسم الضّائع، إنّما یضرّ بالوصول إلی المراد، أمّا بالإحتجاج بما صدر عنهم، فلا، لأنه بمجرّد وصول الخطاب یجوز الإحتجاج به، کما هو الحال بین الموالی والعبید.

وفیه:

أوّلاً: لا وجه لدعوی أنّ الأحکام الشرعیّة مجعولة لمجرّد الإحتجاج والإعتذار، بل الغرض من التشریع هو الوصول إلی المصالح والإجتناب من المفاسد، وتحصیل أغراض المولی.

وثانیا: لو سلّمنا ذلک، فإنّه مع احتمال وجود المخصّص والمقیّد فی القسم الضّائع من الخطابات، کیف یتمّ الإحتجاج؟ بل المرجع حینئذٍ هو الإحتیاط، لا الأخذ بظاهر العام المفید للإباحة مثلاً.

فإنْ قیل: احتمال وجود المقیّد والمخصّص فی الضّائع ضعیف جدّا.

قلنا: إن وصل الضّعف إلی الإطمینان بالعدم فهو، وإلاّ بقی الإشکال.

فإنْ قیل: نأخذ بما بأیدینا من باب رفع العسر والحرج.

قلنا: أدلّة رفع العسر والحرج نافیة للتکلیف لامشرّعة. علی أنّ الکلام فی حجیّة العمومات والإطلاقات التی بأیدینا مع وجود الإحتمال المذکور، وأدلّة رفع

ص: 35

العسر والحرج لاربط لها بحجیّة العمومات والإطلاقات؛ لأنّ ذلک من أحکام الوضع وظواهر الألفاظ.

هذا تمام الکلام علی ما اُجیب به عن تفصیل المیرزا القمی.

قال الاستاد:

والتحقیق أنْ یقال: إنّ العمدة فی کلام المیرزا هو ضیاع قسمٍ من الأحکام واحتمال وجود القرائن المنفصلة فیها. وأمّا التقطیع، فالمفروض صدوره من أهل الفنّ فی الفقه والحدیث، وأنّهم إنّما فعلوا ذلک بحیث لایضرّ بالظواهر. وأمّا القرائن العقلیّة، فاحتمال وجودها منفی بالأصل.

فالعمدة هو الضیاع، لکنّ القدر المتیقّن من الضیاع هو کتب ابن أبی عمیر، وقول الشیخ: «لا یبعد أن یکون ما اختفی علینا أکثر»، غیر مسموع أصلاً... نعم، الضائع کتب ابن أبی عمیر، وهی 94 کتابا، ولو احتمل ضیاع غیرها من الکتب فإنّه یدفع بالأصل. لکنّ المهمّ هو أنّه _ لمّا سجن ابن أبی عمیر فی عهد المأمون لإبائه عن قبول القضاء، وقد قیل إنّه کان فی السجن 17 سنة، وکانت الکتب عند أُخته، فوقع علیها المطر أو ضاعت بسببٍ آخر، _ کان من فضل اللّه سبحانه ولطفه أنْ لم تضع الروایات، فإنّ للشیخ فی الفهرست أربعة طرق، ینتهی بعضها إلی نوادر ابن أبی عمیر، والبعض الآخر إلی کتبه. ویقول الشیخ فی الفهرست: أخبرنا بجمیع کتبه وروایاته فلان و فلان... .(1)

فجمیع روایات ابن أبی عمیر فی کتبه وغیر کتبه موجودة عند الشیخ،

ص: 36


1- 1. الفهرست: 405.

یرویها بطرقه المعتبرة. وواحد منها طریقه عن الصّدوق عند والده ومحمّد بن الحسن بن الولید عن سعد والحمیری عن إبراهیم بن هاشم عن ابن أبی عمیر.

وعلی الجملة، فإنّه لیس المعلوم ضیاعه إلاّ کتب ابن أبی عمیر، وهی جمیعا موجودة فی روایاتنا، والحمد للّه. وعلی ما ذکر، فإنّه لا یصل الأمر إلی الإنسداد.

أقول:

ومما ذکرنا یظهر ما فی کلام السیّد الاستاذ _ قدّس سرّه _ إذ قال:

کلام السیّد الاستاذ

والحقّ هو أن التفصیل فی حجیّة الظواهر بین من قصد إفهامه وبین من لم یقصد، تفصیلٌ متینٌ لابدّ من الإلتزام به. فإنّ الملاک الذی قربّنا به حجیّة الظواهر یختصّ بمن قصد إفهامه، وذلک: أنّ المتکلّم إذا کان فی مقام بیان مراده الواقعی، فإرادة خلاف ظاهر کلامه الذی یتعارف الحکایة به عن مدلوله من دون نصب قرینة معلومة للمخاطب، خلاف فرض کونه فی مقام التفهیم.

وهذا المحذور إنّما یتأتّی بالنسبة إلی من قصد إفهامه، أمّا من لم یقصد إفهامه فلا یتأتّی المحذور بالنسبة إلیه؛ إذ لا خلف فی إرادة خلاف ظاهر کلامه مع نصب قرینةٍ لم یعلمها من لم یقصد إفهامه وعلمها من قصد إفهامه. وعلیه، فلا یمتنع أنْ ینصب المتکلّم قرینةً لا یعرفها سوی من قصد إفهامه. کما لا یخفی.

فلا یمکن لمن لم یقصد إفهامه أن یحتجّ بکلام المتکلّم علی تعیین مراده؛ إذ لعلّه

ص: 37

نصب قرینةً خفیّة علیه علمها المخاطب فقط.(1)

فإنّ محلّ النزاع هو الخطابات الصّادرة من الموالی إلی العبید، والأخبار الواردة عن النبیّ وآله المعصومین _ علیهم السلام _ ، ونحو ذلک ممّا هو مورد الإبتلاء، لا فی تعیین مراد المتکلّم فی کلامه. وبعبارةٍ أُخری، فإنّ مورد التفصیل فی کلامه _ قدّس سرّه _ لو فرض وجوده أخصّ ممّا ذهب إلیه المحقّق القمّی.

وهذا تمام الکلام فی المقام الثانی.

المقام الثالث فی تفصیل الأخباریین

اشارة

ذکر الشیخ _ رحمه اللّه _ : أنّه ذهب جماعةٌ من الأخباریین إلی المنع عن العمل بظواهر الکتاب، من دون ما یرد التفسیر وکشف المراد عن الحجج المعصومین، صلوات اللّه علیهم.

قال:

وأقوی ما یتمسّک علی ذلک وجهان، أحدهما: الأخبار المتواترة المدّعی ظهورها فی المنع عن ذلک. والثانی: إنا نعلم بطرّو التقیید والتخصیص والتجوّز فی أکثر ظواهر الکتاب، وذلک ممّا یسقطها عن الظهور.

ثم أجاب عن الوجهین بالتفصیل، کما ستعلم.(2)

ص: 38


1- 1. منتقی الأُصول 4 / 215 _ 216.
2- 2. فرائد الأُصول: 34_38.

وأمّا المحقّق الخراسانی، فقد قال فی الکفایة:

لا شبهة فی لزوم اتّباع ظاهر کلام الشارع فی تعیین مراده فی الجملة... ولا فرق فی ذلک بین الکتاب المبین وأحادیث سید المرسلین والأئمة الطاهرین، وإنْ ذهب بعض الأصحاب إلی عدم حجیّة ظاهر الکتاب... .(1)

ثم ذکر ستة وجوه بعنوان «الدعوی» وأجاب عنها، وهی:

1. اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به.

2. عدم وصول الأفکار إلی فهم الکلام الإلآهی؛ لاحتوائه علی مضامین شامخة.

3. وجود المتشابه فیه.

4. العلم الإجمالی بطرّو التخصیص والتقیید علی ظواهره.

5. شمول الأخبار الناهیة عن تفسیر القرآن بالرأی.

6. وقوع التحریف فی ألفاظه.

ما یستدلّ لهذا التفصیل

ونحن نذکر هذه الوجوه ونتکلّم علیها:

الوجه الأوّل:

إنّهم استدلّوا بروایاتٍ ظاهرها اختصاص فهم القرآن بالنبی والمعصومین من أهل بیته علیهم السّلام،

* کقول الإمام أبی جعفر الباقر _ علیه السّلام _ لقتادة لمّا دخل علیه:

ص: 39


1- 1. کفایة الأُصول: 281.

أنت فقیه أهل البصرة؟

فقال: هکذا یزعمون.

فقال: بلغنی أنّک تفسّر القرآن.

قال: نعم...

قال: یا قتادة، إنْ کنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسک، فقد هلکت وأهلکت، وإنْ کنت قد فسّرت من الرجال، فقد هلکت وأهلکت.

یا قتادة _ ویحک _ إنّما یعرف القرآن من خوطب به.(1)

* وعن أبی عبداللّه _ علیه السلام _ أنّه قال لأبی حنیفة:

أنت فقیه أهل العراق؟

قال: نعم.

قال: فبأیّ شئ¨ تفتیهم؟

قال: بکتاب اللّه وسنّة نبیّه.

قال: یا أبا حنیفة، تعرف کتاب اللّه حقّ معرفته؛ و تعرف الناسخ من المنسوخ؟

قال: نعم.

قال: یا أبا حنیفة، قد ادّعیت علما _ ویلک _ ما جعل اللّه ذلک إلاّ عند أهل الکتاب الذین أُنزل علیهم. ویلک، ما هو إلاّ عند الخاصّ من ذریّة نبیّنا _ صلی اللّه علیه وآله _ وما ورّثک اللّه من کتابه حرفا.(2)

ص: 40


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 185، کتاب القضاء الباب 13 من أبواب صفات القاضی، رقم: 25.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 47، الباب 6 من أبواب صفات القاضی، رقم 27.

والروایات فی الباب السادس من أبواب صفات القاضی، وقد ادّعی صاحب وسائل الشیعة تواترها(1).

ولا یخفی ظهور ما ذکرنا فی الحصر والإختصاص، وأنّه لیس غیرهم _ علیهم السلام _ بأهلٍ لفهم دقائق القرآن وحقائقه وإشاراته ورموزه.

الجواب

وقد أجاب فی الکفایة(2) عن هذا الوجه بما هو تلخیصٌ لما ذکره الشیخ، من أنّ المراد بتلک الأخبار اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحکماته بهم _ علیهم السلام _ ؛ بداهة أنّ فیه ما لا یختصّ بهم کما لایخفی. وردع أبی حنیفة وقتادة عن الفتوی به، إنّما هو لأجل الإستقلال فی الفتوی، لاعن الإستدلال بظاهره مطلقا، ولو مع الرجوع إلی روایاتهم... .

والحاصل: أنّ فی القرآن الکریم جهةً تختصّ بالنبیّ وآله المعصومین، فهم بتلک الجهة نفس القرآن، لا یفارقهم ولایفارقونه، لکنّ القرآن جهة الرحمانیّة العامّة، فکما أنّ فهم المتشابه یختصّ بالنبیّ وآله، ففی فهم المحکم یشارکهم غیرهم من أهل اللّسان. هذا أوّلاً.

وثانیا: روایات عرض الأخبار علی القرآن.(3)

والأخبار الآمرة بأخذ ما وافق القرآن من المتعارضین.(4)

ص: 41


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 11 _ 209.
2- 2. کفایة الأُصول: 283.
3- 3. وسائل الشیعة 27 / 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم: 12، 15، 29.
4- 4. وسائل الشیعة 27 / 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم: 12، 15، 29.

وما ورد فی الشروط، من أنّ المؤمنین عند شروطهم إلا ما خالف کتاب اللّه.(1)

وثالثا: الآیات الآمرة بالتدبّر ونحوه فی القرآن، وهی کثیرة.

ورابعا: روایات الإرجاع إلی الکتاب مثل حدیث الثقلین.(2)

کلّ ذلک وغیره دلیلٌ علی حجیّة ظواهر الکتاب.

أقول:

هذا، ولا بأس بالإشارة إلی أقسام ألفاظ القرآن ومعانیها، فإنّها علی أربعة أقسام:

أحدها: ما اختصّ اللّه تعالی بالعلم به، ومن ذلک قوله تعالی:

«یَسْئَلُونَکَ عَنِ السّاعَةِ أَیّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبّی».(3)

وثانیها: ما کان ظاهره مطابقا لمعناه، فکلّ من عرف اللّغة عرف معناها، مثل قوله تعالی: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتی حَرَّمَ اللّه ُ إِلاّ بِالْحَقِّ»(4) وقوله: «وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدینَةِ رَجُلٌ یَسْعی قالَ یا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلینَ»(5) وغیر ذلک.

وثالثها: ما هو مجمل لا ینبئ ظاهره عن المراد به مفّصلاً، کقوله تعالی: «وَأَقیمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّکاةَ»(6) وقوله: «وَللّه ِِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ...»(7)

ص: 42


1- 1. وسائل الشیعة 18 / 16، الباب 6 من أبواب الخیار، الرقم: 1.
2- 2. هو من الأحادیث المتواترة بین الفریقین. انظر أسانیده من طرق العامّة فی: نفحات الأزهار، الأجزاء 1 _ 3.
3- 3. سورة الأعراف: الآیة 187.
4- 4. سورة الأنعام: الآیة 151.
5- 5. سورة یس: الآیة 20.
6- 6. سورة البقرة: الآیة 43.
7- 7. سورة آل عمران: الآیة 97.

ورابعها: ما کان اللّفظ مشترکا بین معنیین فما زاد، ویمکن أن یکون کلّ واحد مرادا، فإنّه لا ینبغی أن یقدم أحد فیقول: إنّ مراد اللّه فیه بعض ما یحتمل، إلاّ بقول نبیّ أو إمام معصوم.(1)

الوجه الثانی

إنّ القرآن مشتمل علی المضامین الشامخة والمطالب الغامضة العالیة التی لاتصل إلیها أیدی أفکار اُولی الأنظار غیرالراسخین العالمین بتأویله، مع اشتماله علی علم ما کان وما یکون وحکم کلّ شئ¨، فألفاظ القرآن المحکمات بالنسبة إلینا بحکم المتشابهات؛ لعدم وجود السنخیّة بیننا وبینها. إنّه تعالی یقول فی وصفه «لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ».(2) والملوّث بالأوساخ لا یتمکّن من فهم الکلام المقدّس.

الجواب

وقد أجاب فی الکفایة: بأنّ احتوائه علی المضامین الغامضة لا یمنع عن فهم ظواهره المتضمّنة للأحکام وحجیّتها، کما هو محلّ الکلام.(3)

وعلی الجملة، فإنّ قوله تعالی: «وَأَقیمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّکاةَ»(4) ظاهر فی معناه، وإن احتاج الصّلاة والزّکاة إلی التفسیر والبیان فی الکیفیّة والمقدار وغیرذلک من الخصوصیّات. وکذلک «کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذینَ

ص: 43


1- 1. التبیان فی تفسیر القرآن 1 / 5 _ 6، ملخّصا.
2- 2. سورة الواقعة: الآیة 79.
3- 3. کفایة الأُصول: 283.
4- 4. سورة البقرة: الآیة 43.

مِنْ قَبْلِکُمْ»(1) و «وَللّه ِِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبیلاً»(2) ونحو ذلک.

ولو کانت هذه الآیات غیرظاهرة فی معانیها لما اُمرنا بعرض الروایات علیها.

الوجه الثالث

إنّ فی القرآن الآیات المتشابهات الممنوع عن اتّباعها، وذلک یشمل الظاهر، ولا أقلّ من احتمال شموله؛ لتشابه المتشابه واحتماله.

الجواب

وقد أجاب فی الکفایة: بالمنع عن کون الظاهر من المتشابه، فإنّ الظاهر کون المتشابه هو خصوص المجمل ولیس بمتشابه ومجمل.

ونقل الشّیخ فی هذا الوجه عن السیّد الصّدر: أنّ المتشابه کما یکون فی أصل اللّغة، کذلک یکون بحسب الإصطلاح، مثل أنْ یقول أحد: «أنا أستعمل العمومات وکثیرا مّا اُرید الخصوص به من دون قرینةٍ، وربما اُخاطب أحدا وأُرید غیره، ونحو ذلک»، فحینئذٍ لا یجوز لنا القطع بمراده ولا یحصل لنا الظنّ به. والقرآن من هذا القبیل؛ لأنّه نزل علی اصطلاحٍ خاص، لا أقول علی وضع جدید، بل أعمّ من أن یکون ذلک أن یکون فیه مجازات لا یعرفها العرب.

قال: ومقتضی ذلک: عدم العمل؛ لأنّ ما صار متشابها لا یحصل الظنّ بالمراد منه...

ص: 44


1- 1. سورة البقرة: الآیة 183.
2- 2. سورة آل عمران: الآیة 97.

وأجاب الشیخ بما حاصله: أنّ عمل أصحاب الأئمة _ علیهم السّلام _ بظواهر الأخبار لم یکن لدلیل خاصّ شرعیّ وصل إلیهم من الأئمة، بل کان بمقتضی أصول جواز العمل بالظواهر، المرکوز فی أذهانهم بالنسبة إلی مطلق الکلام الصّادر من المتکلّم لأجل الإفادة والإستفادة، وهذا المعنی جارٍ فی القرآن أیضا.

قال: ثم إنّ ما ذکره من عدم العلم بکون الظواهر من المحکمات واحتمال کونها من المتشابهات، ممنوع: بأنّ المتشابه لا یصدق علی الظواهر، لا لغةً ولا عرفا، بل یصحُّ سلبه عنه.(1)

الوجه الرّابع

إنّه لا شکّ فی وجود العلم الإجمالی بطروء التخصیص والتقیید والتجوّز فی غیر واحدٍ من ظواهر الکتاب، فیکون الأخذ بأیّ ظاهر منها موقوفا علی مجئ البیان من الأخبار عن الأئمة الأطهار.

الجواب

والجواب عنه واضح؛ لأنّ الإجمال إنّما یحصل لو لم ینحل العلم بالظفر بالمخصّصات والمقیّدات فی الروایات بمقدار المعلوم بالإجمال.

قال فی الکفایة: مع أنّ دعوی اختصاص أطرافه بما إذا تفحّص عمّا یخالفه لظفر به، غیر بعیدة.(2)

ص: 45


1- 1. فرائد الأُصول: 38.
2- 2. کفایة الأُصول: 283.

الوجه الخامس

إن مقتضی الأخبار الناهیة عن التفسیر بالرأی فی کتب الفریقین هو عدم العمل بالظواهر؛ لأنّ حمل الکلام الظاهر فی معنیً علی أنّ ذلک المعنی هو المراد، من التفسیر بالرأی.

الجواب

أوّلاً: اللّفظ الظاهر هو الذی لا إبهام فی دلالته علی معناه ولا قناع له، والتفسیر هو کشف القناع ورفع الغطاء، فکیف یکون الأخذ بالظاهر من التفسیر؟

وثانیا: لو سلّم، فالمنهیّ عنه لیس التفسیر، بل التفسیر بالرأی، أی الاعتبار الظنّی الذی لا اعتبار به.

وثالثا: إنّ هذه الأخبار لا یبعد أن تکون إشارة إلی أشخاص معیّنین وما کان یصدر منهم، أولئک الذین تصدّوا للتفسیر وهم لیسوا بأهلٍ لذلک. والحاصل: أنّ المقصود منها المنع من الرجوع إلی غیر أهل البیت علیهم السلام.

ورابعا: إنّ أحادیث الثقلین والعرض علی کتاب اللّه، وغیر ذلک ممّا ورد فی الإرجاع إلی ظواهر الکتاب، تدلُّ علی أنّ الأخذ بالظاهر لیس من التفسیر فضلاً عن أن یکون تفسیرا بالرأی.

الوجه السّادس:

دعوی العلم الإجمالی بوقوع التحریف فی القرآن إمّا بإسقاط أو تصحیف، کما یشهد به بعض الأخبار ویساعده الاعتبار، فکلّ آیة یراد الأخذ بظاهرها یحتمل وقوع التحریف فیها، فتسقط الظواهر عن الحجیّة.

ص: 46

الجواب

وقد أجابوا عن هذه الدعوی:

قال الشیخ: إنّ وقوع التحریف فی القرآن _ علی القول به _ لا یمنع من التمسّک بالظواهر؛ لعدم العلم الإجمالی باختلال الظواهر بذلک. مع أنّه لو علم لکان من قبیل الشبهة غیر المحصورة. مع أنّه لو کان من قبیل الشبهة المحصورة أمکن القول بعدم قدحه؛ لاحتمال کون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر غیرالمتعلّقة بالأحکام الشرعیّة العملیّة التی اُمرنا بالرجوع فیها إلی ظاهر الکتاب.(1)

وفی الکفایة: هذه الدعوی غیر بعیدة، إلاّ أنّه لا یمنع عن حجیّة ظواهره؛ لعدم العلم بوقوع الخلل فیها بذلک أصلاً.

ولو سلّم، فلا علم بوقوعه فی آیات الأحکام، والعلم بوقوعه فیها أو فی غیرها من الآیات، غیر ضائر بحجیّة آیاتها؛ لعدم حجیة ظاهر سائر الآیات. والعلم الإجمالی بوقوع الخلل فی الظواهر إنما یمنع عن حجیّتها إذا کانت کلّها حجة، وإلاّ لا یکاد ینفک ظاهر عن ذلک، کما لا یخفی.

نعم، لو کان الخلل المحتمل فیه أو فی غیره بما اتّصل به لأخلّ بحجیّته؛ لعدم انعقاد ظهور له حینئذٍ وإنْ انعقد له الظهور لولا اتّصاله.(2)

أقول

وملخّص الکلام: أنّ التحریف _ بمعنی النقصان _ علی القول به، لا یمنع من انعقاد الظهور للآیات؛ لما ذکروا من الوجوه، مضافا إلی الروایات الآمرة بعرض

ص: 47


1- 1. فرائد الأُصول: 40.
2- 2. کفایة الأُصول: 285.

الأخبار علی القرآن وما دلّ علی ردّ کلّ شرطٍ خالف الکتاب والسنّة، فإنّ تلک الروایات قد صدرت عن الأئمة المتأخرین زمانا علی التحریف المفروض، فلولا ظهور الآیات فی معانیها لما تمّ عرض الأخبار علیها، فیعلم منها أنّ التحریف غیرقادح فی انعقاد الظهور.

لکنّ المهمّ هو البحث عن أصل قضیّة التحریف، وأنّ أوّل من قال به هم العامّة، وکتبهم مشحونة بما هو ظاهر فی نقصان القرآن عن غیرواحدٍ من کبار الصّحابة الذین یقتدون بهم. نعم، قال به نفر من الخاصّة.(1)

ثم إنّه قد ذکر صاحب الکفایة والمحقّق العراقی(2) بأنّ القول بنقصان القرآن لایمنع من التمسّک بآیات الأحکام؛ لعدم العلم بوقوع التحریف فیها، ومجرّد الإحتمال لایؤثر. علی أنّه لو فرض العلم الإجمالی بسقوط شئ¨ منها، فإنّه بخروج بعض الأطراف لا یکون منجّزا. وعلی هذا المبنی، قال المحقّق الخراسانی فی المعلوم بالإجمال الحکمی: بأنّ العثور علی بعض المقیّدات والمخصّصات یوجب انحلال العلم فیما لو کان المقدار المعثور علیه مساویا للمقدار المعلوم بالإجمال أو قریبا منه.(3)

أقول:

وتحقیق المطلب هو: إنّ العلم الإجمالی تارة: یکون مانعا عن جریان

ص: 48


1- 1. راجع کتابنا: التحقیق فی نفی التحریف عن القرآن الشریف.
2- 2. کفایة الأُصول: 285، نهایة الأفکار 3 / 91.
3- 3. کفایة الأصول: 346.

الأصل اللّفظی، کالعلم الإجمالی بتخصیص أحد العامّین، حیث لا تجری أصالة العموم بالنسبة إلیهما. وأُخری: یکون مانعا عن جریان الأصل العملی، کما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین. فإن کان من قبیل الثانی، فلا یجری الأصل العملی للزوم المخالفة العملیّة والترخیص فی المعصیة، وإنْ کان من قبیل الأوّل، فلا یجری الأصل وإنْ لم تلزم المخالفة العملیّة.

لکنّ الخروج عن محلّ الإبتلاء إنما یؤثر فی الحکم التکلیفی؛ لأنّه الذی یدور مدار کون المتعلّق مقدورا للمکلّف وموردا للابتلاء له، بناءً علی اشتراط کونه موردا لذلک بالإضافة إلی کونه مقدورا له. وأمّا فی الأصل اللّفظی، فإنّ السّیرة قائمة علی عدم جریان الأصل، لأنّها کاشفة، ومع العلم الإجمالی بالخلاف _ سواء کان أحد الأطراف خارجا عن محلّ الإبتلاء أوْ لا _ تسقط الکاشفیّة عن المراد.

فظهر الفرق بین مورد الأصل العملی والأصل اللّفظی.

تکمیلٌ

قال فی الکفایة:

ثم إنّ التحقیق أنّ الإختلاف فی القراءة بما یوجب الإختلاف فی الظهور مثل «یَطْهُرْنَ»(1) بالتشدید والتخفیف، یوجب الإخلال بجواز التمسّک والإستدلال؛ لعدم إحراز ما هو القرآن الکریم، ولم یثبت تواتر القراءات ولا جواز الإستدلال بها، وإنْ نسب إلی المشهور تواترها لکنّه ممّا لا أصل له، وإنّما الثابت جواز القراءة بها، ولا ملازمة بینهما کما لا یخفی. ولو فرض جواز الاستدلال بها،

ص: 49


1- 1. سورة البقرة: الآیة 222.

فلا وجه لملاحظة الترجیح بینها، بعد کون الأصل فی تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجیّة فی خصوص المؤدّی... .(1)

أقول:

أمّا بناءً علی القول بتواتر القراءات السبع، فکلتا القراءتین قرآن، فیقع التعارض من حیث الدلالة، فإنْ أمکن الجمع الدلالی اُخذ به، وما نحن فیه کذلک؛ لأنّ إحداهما نصّ فی جواز الوطی بعد انقطاع الدم وقبل الغسل، والأُخری ظاهرة، فترفع الید بنصوصیّة قراءة التخفیف عن ظهور قراءة التشدید، ویکون الحکم هو الجواز علی کراهیّة.

وأمّا بناءً علی عدم تواترها، وأنّ الأدلّة لا تفید إلاّ جواز القراءة علی طبقها، فإنْ قلنا: بأنّ جواز القراءة یستلزم جواز الإستدلال، بمعنی أنّ جوازها یکشف عن الطریقیّة، فکذلک؛ لأنّهما حینئذٍ دلیلان متعارضان. وإنْ قلنا: بعدم جواز الإستدلال، کان مقتضی القاعدة هو الإجمال من حیث الإستدلال، وإنّما یجوز القراءة بکلٍّ منهما فقط.

ثم إنّه لا یخفی أنّ الأصل فی التعارض هو التساقط، خرج عنه الأخبار لوجود الدلیل فیها علی التخییر والترجیح، وعلیه، فما هو المرجع بناءً علی عدم التواتر أو فی فرض عدم تمامیّة الجمع بحمل الظاهر علی النصّ؟

إنّ المقام من صغریات کبری العام الأزمانی الذی خرج من تحته فردٌ من أفراده فی برهةٍ من الزمان، فهل یستصحب حکم الزمان الخارج أو یتمسّک بالعام؟

ص: 50


1- 1. کفایة الأُصول: 285.

لقد خرج الحیض من تحت «نِساوءُکُمْ حَرْثٌ لَکُمْ فَأْتُوا حَرْثَکُمْ أَنّی شِئْتُمْ»، ثم لمّا انقطع الدم ولمّا تغتسل المرأة، یتردّد الأمر بین البقاء تحت العام واستصحاب حکم زمان الحیض.

ولا یخفی أنّ هذا البحث هو بقطع النظر عن النصوص الخاصّة.

فقیل بالتمسّک بالعام، إلاّ أنّه مبنی علی عدم الفرق فی التخصیص بین ما یکون من أوّل الأمر أو فی الوسط. وأمّا علی القول بأنّ الخارج عن العام لا یعود، فالمحکّم هو الإستصحاب.

ولا یخفی أیضا: أنّ هذا البحث مبنی علی أن یکون المراد من «یَطْهُرْنَ» بالتخفیف هو الطهارة من الدم، أمّا إذا کان المراد الطهارة من الحدث _ أی الإغتسال _ فلا فرق بین القراءتین فی المدلول ولا بحث.

هذا، بالإضافة إلی أن فی ذیل الآیة قوله «فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ...» فإنّه إذا کان المراد من «یَطْهُرْنَ» هو الطهر من الحیض لا من الحدث، لم یکن للآیة مع ملاحظة الذیل معنی _ إلاّ إذا حمل «تَطَهَّرْنَ» علی معنی غَسل الموضع لا الإغتسال _ وذلک لأنه یقتضی أن یکون انتهاء أمد الحرمة الطهارة من الحیض لا الإغتسال، ویکون جواز الوطی من حین الإغتسال إن کان المراد من «تَطَهَّرْنَ» هو الإغتسال. وهذا غیرمعقول.

وعلی الجملة، فالجمع بین القراءتین بما ذکر غیر تام، وتصل النوبة إلی التمسک بالعام أو الإستصحاب، فنقول:

لقد تقرّر فی محلّه أنّه مع إحراز انفصال المخصّص عن العام _ وکذا المقیّد

ص: 51

عن المطلق _ لا یسری الإجمال من المخصّص إلی العام ولا یضرّ بحجیّته؛ لأنّه _ مع الإنفصال _ تامُّ الظهور، وحیث لا مزاحم له فهو تامّ الحجیّة، وعلیه، فلا مانع من التمسّک بالعام.

إلاّ أنّ المقام لیس من هذا القبیل، لکون المخصّص المجمل متّصلاً بالعامّ، قال تعالی «وَیَسْئَلُونَکَ عَنِ الَْمحیضِ... حَتّی یَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ... * نِساوءُکُمْ حَرْثٌ لَکُمْ فَأْتُوا حَرْثَکُمْ أَنّی شِئْتُمْ» فلا ینعقد الظهور ل_ «أَنّی شِئْتُمْ» فی العموم، إلاّ أن یثبت نزول الآیتین منفصلتین.

ومع التنزّل، فهل یمکن إجراء إستصحاب المخصّص؟

إنّ التمسّک بالإستصحاب منوطٌ بأنْ یکون الخارج بالتخصیص من الأحوال لا المقوّمات والقیود، وإلاّ فالموضوع متعدّد، بل لا یجری مع الشکّ أیضا، لأنه یکون من التمسّک بدلیل الإستصحاب فی الشبهة الموضوعیّة.

وعلیه، فإنّ إستصحاب حرمة وطی المرأة إلی زمان الإغتسال، یتوقف علی أن یکون المتغیّر حالاً، وبمجرّد احتمال کون «الحیض» مقوّما لموضوعیّة الموضوع لحرمة الوطی، لا یجری الإستصحاب.

وبما ذکرنا یظهر أنّ الحق هو الرجوع إلی النصوص الواردة فی جواز الوطی بعد الإنقطاع وقبل الإغتسال.

ص: 52

حجیّة قول اللّغوی

اشارة

ص: 53

ص: 54

کلام المحقق الخراسانی

قال فی الکفایة: قد عرفت حجیّة الکلام فی تعیین المرام. فإنْ اُحرز بالقطع وأنّ المفهوم منه جزما بحسب متفاهم أهل العرف هو ذا، فلا کلام، وإلاّ، فإن کان لأجل احتمال وجود قرینةٍ، فلا خلاف فی أنّ الأصل عدمها، لکنّ الظاهر أنّه معه یبنی علی المعنی الذی لولاها کان اللّفظ ظاهرا فیه ابتداءً، لا أنّه یبنی علیه بعد البناء علی عدمها کما لا یخفی. فافهم.

وإنْ کان لاحتمال قرینیّة الموجود... الظاهر أنْ یعامل معه معاملة المجمل. وإنْ کان لأجل الشک فیما هو الموضوع له لغةً أو المفهوم منه عرفا، فالأصل یقتضی عدم حجیّة الظن فیه، فإنّه ظنّ فی أنّه ظاهر ولادلیل إلاّ علی حجیّة الظواهر.

نعم، نسب إلی المشهور حجیّة قول اللّغوی بالخصوص فی تعیین الأوضاع.(1)

ثم إنّه استدلّ للقول بحجیّة قول اللّغوی:

1. باتفاق العلماء.

ص: 55


1- 1. کفایة الأُصول: 286.

2. بل العقلاء... .

3. وعن بعض دعوی الإجماع علی ذلک.

ثم أجاب عن هذه الوجوه... .

ما یستدلّ به لحجیّة قول اللغوی

أقول:

أمّا إجماع العلماء، فهو تارة: قولیّ، وأُخری: عملیّ.

فإنْ اُرید الأوّل: ففیه: أنّ المنقول منه لیس بحجّة، علی أنّه غیر محقّق؛ لعدم تعرّض القدماء لهذا الأمر. والمحصّل منه غیرحاصل، ومع التسلیم یحتمل کونه مدرکیّا.

وإنْ اُرید الثانی، ففیه: أنّ العمل مجمل، فلعلّ مراجعتهم للّغة هو لتحصیل الوثوق بأوضاع الألفاظ، وحینئذٍ یسقط الإستدلال. هذا أوّلاً.

وثانیا: لو سلّمنا أنّ مراجعتهم لأهل اللّغة هو من جهة حجیّة قول اللّغوی، فإنّه یحتمل أن یکون مبنی عملهم أحد الوجوه الآتیة، فلا یکون إجماعهم دلیلاً مستقلاًّ.

وأمّا السّیرة العقلائیّة. فتارة: یتّفق العقلاء علی العمل بقول اللّغوی من جهة کونه کاشفا عن المعنی الموضوع له اللفظ. وأُخری: من جهة کون اللّغوی من أهل الخبرة.

فإنْ اُرید الأوّل، فإنّ الاتّفاق من العقلاء علی مراجعة أهل اللّغة موجود،

ص: 56

لکنّها لیست من باب التعبّد بقول اللّغوی، بل إنّها من أجل تحصیل الوثوق بالمعنی. ومع التنزّل، فلا أقلّ من الإحتمال، وهو کاف لسقوط الإستدلال بالسّیرة. هذا أوّلاً.

وثانیا: إنّ الإستدلال بهذه السّیرة موقوف علی الإمضاء، وهل کانت السّیرة هذه موجودة فی زمن المعصوم حتی تمضی؟ فیه تأمّل.

وإنْ اُرید الثانی _ وهو رجوع العقلاء إلی أهل اللّغة من باب الرجوع إلی أهل الخبرة _ فلا یتم الإستدلال به، إلاّ إذا ثبت أخذ العقلاء بقول اللّغوی مطلقا، أی وإنْ لم یحصل الوثوق بالوضع من قوله، وهذا أوّل الکلام، فقد قیل: بأن رجوعهم إلی أهل اللّغة هو من جهة کون قولهم طریقا لتحصیل الوثوق، ولا تعبّد فی السّیرة العقلائیّة کما هو معلوم، وحینئذٍ یسقط الإستدلال.

لکنْ قد ینقض ذلک بمسألة حجیّة الخبر، ودلیلها السّیرة العقلائیّة کذلک، فإنّهم یرتّبون الأثر علی خبر الثقة، سواء أفاد الوثوق أوْ لا؟ فما ذکره المحقق العراقی(1) وغیره، مشکل.

توضیحه: أنّه تارةً: یحصل الوثوق بالخبر، فیرتّب علیه الأثر من باب الوثوق والإطمینان الذی هو حجّة عقلائیّة، وأُخری: یحصل الوثوق بالمخبر، فیتّبع خبره. والمخبر عن حسٍّ یحصل الظنّ النوعی بخبره، فیعتبر وإن لم یحصل الوثوق الشخصی، وأهل الخبرة کذلک، فإن العقلاء یعتبرون قول من کان ثقةً وکان بصیرا فی فنّه، ویجعلونه طریقا نوعیّا إلی الواقع ویلغون احتمال الخلاف، کما فی

ص: 57


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 95.

خبر الثقة. فلیس الرجوع إلیهم من باب تحصیل المقدّمة الإطمینانیّة، ولیس تعبّدا صرفا، بل هو من جهة الملاک المذکور الموجود فی خبر الثقة أیضا.

واُشکل أیضا: بأنّ السّیرة العقلائیّة القائمة علی الرجوع إلی أهل اللّغة من باب الرجوع إلی أهل الخبرة، لا یعتبر بها ما لم تمضَ من الشارع، لکنّ اتّصالها بزمنه غیر معلوم.

وفیه: أنّه إنْ اُرید إحراز الإتّصال فی کلّ موردٍ موردٍ، فالإشکال وارد، وأمّا إن کان الملاک عبارة عن الخبرویّة، وکون العمل علی الرجوع إلی أهل الخبرة کلیّةً، فالإشکال غیر وارد. والظاهر هو الثانی، کما یؤخذ بخبر الثقة فی جمیع الموارد مع عدم وجود المعصوم فی بعضها.

وتلخّص: إنّه إنْ کان الإستدلال بالسّیرة العقلائیّة علی الرجوع إلی اللّغوی من باب کونه من أهل الخبرة، کان للإستدلال وجه. إلاّ أن یقال: بأنّ اللّغوی لیس من أهل الخبرة بأوضاع الألفاظ، وسیأتی مزید الکلام علی ذلک. فتأمّل.

هذا تمام الکلام علی الوجوه الثلاثة.

وجوه أُخری للحجّیة

الوجه الأوّل

إنّ إخبار اللّغوی عن معنی اللَّفظ إخبار عن الموضوع، فیکون صغری لما یدلّ علی اعتبار خبر الثقة مطلقا. أی فی الأحکام والموضوعات معا.

ص: 58

الکلام علیه

وهذا الوجه یتوقف علی تمامیّة امور:

الأول: جریان أدلّة حجیّة خبر الثقة فی الإخبار عن الموضوعات.

وهذا هو المختار _ کما سیأتی إن شاء اللّه _ من جهة عدم الفرق فی السّیرة بین الإخبار عن الحکم أو الموضوع.

الثانی: أن لا تکون السّیرة المذکورة مردوعة.

وأمّا خبر مسعدة بن صدقة: «والأشیاء کلّها علی هذا حتی تستبین أو تقوم به البیّنة»؛(1) فقد قیل: إنّ المراد من «البیّنة» هو المعنی اللّغوی، أی ما یبیّن الشئ¨، لا المعنی الإصطلاحی وهو شهادة العدلین.(2) وعلیه، فخبر الثقة اللّغوی أیضا مبیّن، فالسّیرة غیر مردوعة.

الثالث: أن یکون خبر اللّغوی مندرجا فی أدلّة حجیّة خبر الثقة.

وذلک: لأن موضوع تلک الأدلّة هو خبر الثقة الواحد عن حسٍّ، فإنْ کان خبر اللّغوی کذلک، شملته تلک الأدلّة، وإن کان عن حدسٍ فلا. فإنْ کان مستند اللّغوی فی إخباره عن مفهوم اللّفظ هو تبادره منه عند أهل اللسان، فهو حسّی، وإن کان عبارة عن إعمال قواعد تشخیص الحقیقة عن المجاز کصحّة الحمل وعدم صحّته، فشمولها مشکل، للخلاف فی کون صحة الحمل _ مثلاً _ علامةً للحقیقة. ولو شک فی مستند إخباره أنه حدسیّ أو حسّی، فالأصل کونه حسیّا.

ص: 59


1- 1. وسائل الشیعة 17 / 89، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، رقم 4.
2- 2. دراسات فی علم الأُصول 3 / 250.

والرابع: أن یکون حال اللّغوی المخبر بیان أوضاع الألفاظ ومفاهیمها لا بیان موارد الإستعمال.

وهذه المقدّمة ضروریّة، إلاّ علی مبنی السیّد المرتضی _ رحمه اللّه _ القائل بأصالة الحقیقة فی الإستعمالات.(1)

وإنّما یحتاج إلی هذه المقدّمة من جهة أنّ من اللّغویین من ینصُّ علی أنّه لایذکر إلاّ المعنی الحقیقی، ومنهم من ینصّ علی أنّ المعنی الأوّل من المعانی التی یذکرها للّفظ هو المعنی الحقیقی، وقد نسب هذا إلی صاحب القاموس، ومنهم من لایلتزم بذلک.

فإنْ کان المخبر من القسمین الأوّلین، أمکن الاستدلال بإخباره، أمّا الثالث فلا، إذْ لا علم لنا فی هذه الحالة بالمعنی الحقیقی من بین المعانی التی یذکرها للّفظ. أللهم إلاّ أنْ یقال: بأنّ طبع الحال ومقتضی المقام أنْ یکون بصدد المعانی الحقیقیّة للألفاظ، وهذا شأن اللّغوی، فیکون المعنی المذکور أوّلاً هو المعنی الحقیقی، ویکون ما عداه من المعانی مجازات ذکرها للإحتیاط علی اللّغة. فإذا کان هذا مقتضی حال اللّغوی، فمن نصّ علی أنّ دأبه ذلک، فقد نصّ علی ما یقتضیه الإطلاق، کالتنصیص علی إرادة النقد الرائج فی البلد فی المعاملة مع اقتضاء الإطلاق ذلک دون غیره.

وإذا تمّت المقدّمات هذه، أشکل القول بعدم حجیّة قول اللّغوی.

ص: 60


1- 1. الذریعة إلی أُصول الشّریعة 1 / 13.

إلاّ أن یناقش فی ظاهر الحال المذکور فی المقدمة الرّابعة؛ لأنّ العقلاء لایعتبرون بمثل هذا الظهور.

ولو وصلت النوبة إلی التوقف، لا یکون قوله حجةً؛ لعدم وجود الحجّة علی کونه بصدد بیان المعنی الحقیقی؛ لأنّ ظاهر حاله ذکر موارد الإستعمال.

الوجه الثانی

قانون الإنسداد، فکما یقال بالنسبة إلی الأحکام الشرعیّة بأنّا: نعلم إجمالاً بوجود واجبات ومحرّمات فی الشریعة، وأنّها غیر مهملة، وإجراء البراءة یستلزم الإهمال وهو قطعی البطلان، والإحتیاط موجب للعسر أو اختلال النظام، فتصل النوبة لامحالة إلی الإمتثال الظنّی؛ لأنّ الشکّ والوهم مرجوحان، فیکون مطلق الظنّ حجّة ویلزم الأخذ به، وهذا هو الإنسداد.

کذلک نقول هنا بأنّه: لا شبهة فی ابتلائنا بمعانٍ وردت فیها أحکام شرعیّة، لکنّ المعانی غیر واضحة، فإن أجرینا البراءة، فقد خالفنا العلم الإجمالی، وإن أردنا العمل بالإحتیاط لزم العسر، والشک والوهم مرجوحان، فلابدّ من الأخذ بقول اللّغوی المفید للظن، فقوله حجّة.

الکلام علیه

قال فی الکفایة:

وکون موارد الحاجة إلی قول اللّغوی أکثر من أن یحصی؛ لانسداد باب العلم بتفاصیل المعانی غالبا، بحیث یعلم بدخول الفرد المشکوک أو خروجه، وإنْ

ص: 61

کان المعنی معلوما فی الجملة. لایوجب اعتبار قوله مادام انفتاح باب العلم بالأحکام، کما لا یخفی.

ومع الإنسداد، کان قوله معتبرا، إذا أفاد الظن، من باب حجیّة مطلق الظن، وإنْ فرض انفتاح باب العلم باللّغات بتفاصیلها فیما عدا المورد.

نعم، لو کان هناک دلیل علی اعتباره، لا یبعد أن یکون إنسداد باب العلم بتفاصیل اللّغات موجبا له علی نحو الحکمة لا العلّة.(1)

أقول:

إنّ ما ذکره _ رحمه اللّه _ وإنْ کان وجها وجیها یصلح لأن یحلّ أصل المشکلة، ولکنّه لیس جوابا عن الإستدلال.

وأجاب الشیخ _ رحمه اللّه _ بما حاصله: أنّ ابتلائنا فی المفردات أقلّ قلیل، مثل «الصّعید» ونحوه «کالغناء». وأمّا فی الهیئات، فمفاد قسم منها واضح بالتبادر مع أصالة عدم القرینة، مثل ظهور هیئة «إفعل» فی الوجوب مثلاً، ومفاد قسم منها له ظهور فی معنی ثانوی، مثل ظهور الهیئة المذکورة فی الإباحة بعد الحظر...(2)

وعلی هذا، فالعلم الإجمالی منحلّ، وإجراء البراءة فی مثل «الصعید» بعد الأخذ بالقدر المتیقن منه، غیر مضر.

وفیه:

أوّلاً: أنّ الموارد لیست بالقلّة التی ذکرها. فالألفاظ غیر الواضحة مفهوما

ص: 62


1- 1. کفایة الأُصول: 287.
2- 2. فرائد الأُصول: 46.

کثیرة جدّا، منها «الوطن» و«الإقامة» و«الغروب» و«الإعانة علی الإثم» و«الید» و«الکرّ»، وإجراء البراءة فی مثلها غیر صحیح. نعم، ما یکون مجملاً مردّدا بین المتباینین مثل «القرء» قلیل، ولا مانع من إجراء البراءة.

وثانیا: إنّ ما أفاده هنا ینافی ما ذکره فی کتاب الطهارة(1) من أنّه قلَّ لفظ کان موضوعا للحکم الشرعی ولیس بمجمل. (قال) حتی لفظ «الماء» الذی هو من أوضح المفاهیم عند العرف.

وقد یقال: إنّ الأخذ بالقدر المتیقّن وإجراء البراءة عن الأکثر فی المفهوم المردّد بین الأقلّ والأکثر، لا محذور فیه؛ لأنّ قسما من المفاهیم یرتبط بالمستحبّات، وقسم منها یستفاد مراد الشارع فیها من مناسبات الحکم والموضوع فی لسان الدلیل.

فإنْ قیل: صحیح أنّه لیس فی المستحب تنجیز عملی، لکنّ المشکلة من

حیث الفتوی ونسبة الحکم إلی الشارع.

قلنا: لا نجری البراءة فی المستحبات _ إلاّ فیما له جهة الشرطیّة _ ؛ لأنّ مقتضی البراءة الشرعیّة رفع الکلفة، ولا کلفة فی المستحبات، فتنحصر البراءة بالواجبات والمحرّمات والوضعیّات من المستحبات کالذی له جهة شرطیة، ومع خروج قسمٍ من الأطراف بوضوح المراد منها بالقرائن، وأخذ القدر المتیقن وإجراء البراءة عن الزائد، ینحلّ العلم الإجمالی.

والحاصل: أنّ تمامیّة هذا الوجه یتوقف علی لزوم المخالفة للعلم الإجمالی

ص: 63


1- 1. کتاب الطهارة: 1 / 169.

من التمسّک بالبراءة، وهو أوّل الکلام. کما أنّ دعوی العلم ببطلان جریانها عن الزائد فی بعض الأطراف، أوّل الکلام.

تنبیه

الکلام المزبور ظاهر فی أنّ المرجع فی معانی الهیئات هو التبادر بضمیمة عدم القرینة.

ولا یخفی أنّ فی التبادر مسلکین، أحدهما: تبادر المعنی من حاقّ اللّفظ، والآخر: تبادره مع الأصل المذکور. لکنّ علامة الحقیقة هی تبادره من حاق اللّفظ.

والقول بالتبادر مع الأصل: إن کان للسّیرة العقلائیّة، من جهة أنّ الأصل عندهم عدم القرینة عند تردّد المعنی المتبادر بین کونه من حاقّ اللفظ أو لوجود القرینة. ففیه: أنّ أصالة عدم القرینة إنما تجری بالنسبة إلی أصل الإرادة لا کیفیّتها.

وإنْ کان لاستصحاب عدم القرینة. ففیه: إنه أصل مثبت.

وتلخّص:

أنّ العمدة فی الإستدلال لحجیّة قول اللّغوی وجهان:

1. حجیّة خبر الثقة فی الموضوعات، فتشمله أدلّة حجیّة خبر الواحد الثقة.

2. السّیرة العقلائیّة علی الرجوع إلی أهل الخبرة، واللّغوی خبیر فی اللّغة.

أمّا الوجه الأوّل، فیتوقّف علی ثبوت وثاقة أئمة اللّغة، ولاسبیل إلی إثبات ذلک.

علی أنّ ابن درید _ الذی قیل فی حقّه: إلیه انتهی علم لغة العربیّة(1) _ قد نصّ الأزهری اللّغوی علی عدم وثاقته، وقال: وجدته سکران(2)...

ص: 64


1- 1. قاله المسعودی فی مروج الذهب 4 / 320.
2- 2. معجم الأُدباء 6 / 2492، الرقم 1029.

والکسائی قالوا: کان یشرب الشّراب ویأتی الغلمان.(1)

وهذا الإشکال یقوی بناءً علی اعتبار قول اللّغوی من باب الشهادة؛ إذ یعتبر فی الشاهد العدالة.

هذا بناءً علی شمول أدلّة حجیّة خبر الثقة للإخبار عن الموضوعات إن کان إخبارا عن الحسّ أو شبهه. وأمّا لو تردّد الأمر بین کونه عن الحسّ أو الحدس، فإنّ ظهور حال المخبر یقتضی أن یکون عن حسّ لا عن حدس، ولکنْ إذا وجدناه یخبر عن حسٍّ أحیانا وعن حدسٍ اخری، فالظهور یسقط... فلابدّ من رعایة هذه الامور فی قول اللّغوی.

ثم إنّه لو شکّ فی ما أخبر به اللّغوی أنّه المعنی الحقیقی أو المجازی، فعن السیّد المرتضی القول بأنّ أصالة الإستعمال فی الحقیقة هی المرجع، وبها یثبت المعنی الحقیقی لدی الشکّ،(2) بل ذکروا أنّ اللّغویین أیضا یعتمدون علی هذا الأصل، ولذا یستشهدون بأشعار الجاهلیین وکلمات العرب لتعیین المعنی الحقیقی.

ولمّا کان هذا الأصل من البطلان بمکان، فالإخبارات المستندة إلیه کلّها ساقطة.

فظهر أنّه لو سلّم صغری وثاقة أهل اللغة، فالکبری غیر صحیحة.

وأمّا الوجه الثانی، وهو الظاهر من کلمات المتأخرین، ففی کلام العلاّمة فی

ص: 65


1- 1. معجم الأُدباء 4 / 1747، الرقم 753.
2- 2. الذریعة إلی أُصول الشریعة 1 / 13.

ذکر الخلیل بن أحمد الفراهیدی: «قوله حجّة فی الأدب».(1) وهذا ظاهر فی أنّه حجّة من باب کونه من أهل الخبرة، ولو کان من باب الوثاقة لقال «ثقة».

وفی الکفایة: أنّ وجه ذهاب الجلّ لولا الکلّ هو اعتقاد أنّه ممّا اتّفق علیه العقلاء من الرجوع إلی أهل الخبرة من کلّ صنعة فیما اختصّ بها.(2)

فهو لا یعتبر وجدان اللّغوی لشرائط الشهادة؛ لأن قوله معتبر من باب الخبرویّة، وبه صرح فی حاشیة الرسائل(3).

لکنّ الشیخ یعتبر وجدان اللّغوی لشرائط الشهادة،(4) وتبعه فی مصباح الاصول(5) وأضاف أنه مع وجدانها یعتبر بالنسبة إلی المعنی المستعمل فیه.

وأمّا العراقی(6)، فیری اعتبار قوله من باب الوثاقة لا الخبرویّة، فأشکل:

أوّلاً: بأن خبر الثقة فی الموضوعات لیس بحجّة، للرّدع عن السیّرة فیها بخبر مسعدة بن صدقة.(7) وثانیا: بأن اللّغوی إنما یبیّن المعنی المستعمل فیه.

والتحقیق:

إنّ موضوع الأثر هو کیفیة الإستعمال لا المعنی المستعمل فیه؛ لأنّا نرید

ص: 66


1- 1. خلاصة الأقوال: 140.
2- 2. کفایة الأُصول: 287.
3- 3. درر الفوائد فی حاشیة الفرائد: 95.
4- 4. فرائد الأُصول: 46.
5- 5. مصباح الأُصول 2 / 31.
6- 6. نهایة الأفکار 3 / 95.
7- 7. تقدّم تخریجه.

العثور علی المعانی الحقیقیّة حتی نحمل ألفاظ الکتاب والسنّة علیها من باب أصالة الحقیقة، فإذا ثبت حجیّة قول اللّغوی، فلابدّ من ثبوته بالنسبة إلی ذلک، وعلیه، فإذا کان شأن اللّغوی بیان موارد الإستعمال، فلا أثر لجعل الإعتبار والحجیّة لقوله، سواء توفّرت فیه شرائط الشهادة أوْلا. فما ذکروه کلّه مخدوش.

ویرد علی مصباح الأُصول خاصّةً: أنّه یری حجیّة قول الثقة فی الموضوعات، وأنّه من باب الحسّ لا الحدس، فلا حاجة إلی الشرائط من التعدّد والعدالة.

تعارض قول اللّغویین

وبناءً علی حجیّة قول اللّغوی، فلو تعارض قول لغویّین فی مفهوم لفظٍ:

فإنْ کان دلیل الحجیّة هو الإجماع العملی، فهو لا یتحقّق فی مورد التعارض.

وإن کان هو الظنّ الإنسدادی، فکذلک.

ویقع التعارض إن کان الدلیل هو أدلّة خبر الثقة أو قیام السّیرة العقلائیّة علی الرجوع إلی أهل الخبرة، بقطع النظر عن الإشکال فی قیامها فی مورد التعارض.

قیل: یقدّم قول المثبت علی النافی؛ لأنّ المثبت یخبر عن العلم والنافی یخبر عن عدم العلم.(1)

ص: 67


1- 1. نقله فی مفاتیح الأُصول: 63 عن السید بحرالعلوم.

وفیه:

أنّ النافی أیضا یخبر عن العلم.

فإنْ أمکن الجمع العرفی بین الخبرین أو الشهادتین فهو، وإلاّ یتساقطان.

إلاّ أن یقال: بالأخذ بقول الأخبر منهما، فإنّه أرجح، فلا تصل النوبة مع وجود المرجّح إلی التساقط. والدلیل علی الأخذ بقوله هو السّیرة العقلائیّة. نعم، یتساقطان بناءً علی کون الحجیّة من باب خبر الثقة.

فائدة الرجوع إلی اللغة

وأمّا بناءً علی عدم حجیّة قول اللّغوی، فما الفائدة من الرجوع إلیه؟

إنّه لا ملازمة بین عدم الحجیّة وعدم الفائدة، کما لا یخفی، لأن فی الرجوع إلی قوله یحصل الوثوق والإطمینان بالمعنی غالبا، فیلزم ذلک من باب المقدّمة.

وقد ذکر لعدم الفائدة من الرجوع إلیه: أنّه لا یخلو من أن یذکر للّفظ معنیً واحدا أو معنیین مثلاً:

فإن ذکر للّفظ معنیین، احتمل الإشتراک، فنحتاج إلی القرینة، ومع عدم احتماله، فأحدهما المعنی الحقیقی والآخر مجاز، فنحتاج إلی القرینة کذلک... فلا فائدة للرجوع إلیه فی صورة تعدّد المعنی.

وإن ذکر معنیً واحدا، واحتمل أن یکون للّفظ معنیً آخر قد استعمل فیه کذلک، لم یکن فائدة من الرجوع إلیه مع الإحتمال المذکور.

ص: 68

ولکنْ قد یقال:

أمّا فی صورة تعدّد المعنی، فالفائدة هی العثور علی المعنی الجامع بین المعنیین، وأمّا فی صورة وحدة المعنی مع احتمال وجود مستعملٍ فیه غیره، فالإحتمال المذکور ساقط عقلاءً، لأن المفروض اهتمام أهل اللّغة بجمع المعانی المستعمل فیها ونقلها إلینا.

وتلخّص: عدم الحجیّة، لکن فی الرجوع إلیه فائدة.

وهذا تمام الکلام فی حجیّة قول اللّغوی.

ص: 69

ص: 70

الإجماع

اشارة

ص: 71

ص: 72

ولا یخفی أنّ مسألة الإجماع من المباحث الاصولیّة المهمّة، وهو أحد الأدلّة الأربعة. ولمّا کان بحثنا فی الظنون الخاصّة، أی التی قام الدلیل علی اعتبارها بالخصوص، فإنّه یقع الکلام هنا فی دلیل اعتباره... .

قال الشیخ:

ومن جملة الظنون الخارجة عن الأصل: الإجماع المنقول بخبر الواحد، عند کثیر ممن یقول باعتبار الخبر بالخصوص، نظرا إلی أنه من أفراده، فتشمله أدلّته... .(1)

وقال صاحب الکفایة:

الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة عند کثیر ممّن قال باعتبار الخبر بالخصوص، من جهة أنه من أفراده من دون أن یکون علیه الدلیل بالخصوص، فلابدّ فی اعتباره من شمول أدلّة اعتباره له بعمومها أو إطلاقها.(2)

فهم یعترفون بعدم وجود الدلیل علی اعتبار الظنّ الحاصل من الإجماع

ص: 73


1- 1. فرائد الأُصول: 47.
2- 2. کفایة الأُصول: 288.

المنقول، ویجعلون الدلیل علی اعتباره أدلّة حجیّة خبر الواحد، بلحاظ کونه من أفراد خبر الواحد، فکان مقتضی القاعدة تأخیر هذا المبحث عن مبحث حجیّة خبر الواحد الثقة.

ثم إنّ درج الإجماع فی بحث خبر الواحد یتوقف علی شمول إطلاق دلیل حجیّته للخبر الحدسی عن المعصوم، لأنّ الخبر الواحد الذی قام الدلیل علی حجیّته، هو الخبر الحسّی خاصّةً، فشمول الدلیل للخبر عن حدسٍ أوّل الکلام.

هذا، والإجماع علی قسمین: الإجماع المحصّل والإجماع المنقول، فالّذی یدّعی شمول أدلّة حجیّة الخبر له هو الإجماع المنقول، والذی یعدّ من الأدلّة الأربعة التی ترجع إلیها الأحکام الشرعیّة هو الإجماع المحصّل، فلابدّ أوّلاً من البحث عن هذا القسم.

الإجماع المحصّل

قال الشیخ:

إنّ الإجماع فی مصطلح الخاصّة، بل العامّة الذین هم الأصل له وهو الأصل لهم، هو: إتّفاق جمیع العلماء فی عصرٍ، کما ینادی بذلک تعریفات کثیر من الفریقین... .(1)

فالظاهر أنْ لا خلاف بین الخاصّة والعامّة فی تعریفه، کما لا خلاف بین الفریقین فی حجیّته.

ص: 74


1- 1. فرائد الأُصول: 48.

فأمّا أنّ العامّة هم الأصل لهذا المصطلح، فهذا ثابت، وأمّا أنّه الأصل لهم، فهذا علی زعم بعضهم قیام الإجماع من الأصحاب علی خلافة أبیبکر، وقد أوضحنا فی بحوثنا الکلامیّة عدم تمامیّة هذه الدعوی، وأنّ حکومة أبیبکر کانت بالضّرب والتهدید والغلبة.

وعلی الجملة، فإنّ عمدة الخلاف فی الإجماع هو فی وجه حجیّته وفی دلیلها؛ لأنّ للإجماع عند العامّة الموضوعیّة، وعند الخاصّة الطریقیّة، کما سیتّضح ذلک ممّا سنذکره.

دلیل الحجیّة عند العامّة

واستدلّ العامّة لحجیّة الإجماع بوجهین:

أحدهما من الکتاب: وهو قوله تعالی: «وَمَنْ یُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُ الْهُدی وَیَتَّبِعْ غَیْرَ سَبیلِ الْمُوءْمِنینَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّی وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصیرًا»(1) بتقریب: أن المؤمنین إذا اتّفقوا علی شئ¨، فقد اتّخذوه سبیلاً، فمن خالف فهو ضالٌّ ومصیره جهنم.

وفیه:

أنّ الموضوع فی الآیة: مشاقّة اللّه ورسوله، فمن شاقق اللّه ورسوله فقد خالف سبیل المؤمنین؛ لأنّ سبیلهم هو الإیمان باللّه ورسوله والإطاعة لهما، ومن

ص: 75


1- 1. سورة النساء: الآیة 115.

الواضح أنّ مشاقّة اللّه ورسوله کفرٌ. فالآیة ناظرة إلی أنّ سبیل المؤمنین الإطاعة للّه ورسوله وعدم المشاقّة لهما، وأنّ مصیر من شاققهما هو النار، فلا إطلاق للآیة لیشمل محلّ الکلام. ولو سلّمنا، فالمراد عموم المؤمنین، وهذا لا ینفکّ عن دخول المعصوم کما سیأتی مثله فی الحدیث.

والثانی من السنّة، وهو: ما یروونه عن النبی _ صلّی اللّه علیه وآله _ من قوله: «لا تجتمع _ أو: لن تجتمع _ أمّتی علی الخطأ _ أو الضلالة(1).

وفیه:

أولاً: إنّه حدیث مرسلٌ، أو ضعیف فی جمیع طرقه، کما نصّ علی ذلک غیرواحدٍ من علماء العامّة(2).

وثانیا: إنّ الموضوع فی هذا الحدیث هو الاُمّة لا بعضها، فلو أنّ الاُمّة بجمیع أفرادها وفرقها اجتمعت علی شئ¨، کان المعصوم داخلاً فی المجمعین لا محالة، ولا یکون هذا الإجتماع علی الخطأ والضلالة قطعا. أمّا إن لم یکن المعصوم داخلاً، فإنّ الخطأ جائز علی المجموع کما هو جائز علی کلّ فرد، لأنّ اجتماع الأفراد لا یوجب عصمتهم عن الخطأ.

لکنّ التّحقیق أنّ هذا من موضوعات زمن معاویة، فی الوقت الذی سمّوه «عام الجماعة».

ص: 76


1- 1. المعجم الکبیر 12/447، الرقم 13623 و 13624، و المستدرک علی الصحیحین 1 / 200_ 201.
2- 2. اُنظر: تذکرة المحتاج إلی أحادیث المنهاج 1 / 51 _ 56، الرقم 51.

دلیل الحجیّة عند الإمامیّة: الکاشفیّة

وأمّا أصحابنا القائلون بعدم الموضوعیّة للإجماع، بل إنّه طریق إلی معرفة رأی المعصوم علیه السلام أو إلی الدلیل المعتبر، فإنّه إنْ کشف عن رأی المعصوم صار دلیلاً قطعیّا، وإنْ کشف عن الدلیل المعتبر صار دلیلاً ظنیّا، وإلاّ، فإن اتفاق العلماء بما هو لا اعتبار به، فلابدّ وأنْ ینتهی إلی ما هو المعتبر وهو رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر.

وجوه کاشفیّة الإجماع عن رأی المعصوم

وقد ذکروا لکاشفیة الإتّفاق عن رأی المعصوم وجوها:

الوجه الأوّل

أن یکون الإمام علیه السلام داخلاً فی المجمعین، ویعبّرون عنه بالإجماع الدخولی أو التضمّنی.

ولا ریب أنّ هکذا إجماع حجّة، ولکنّ الکلام فی الصغری.

الوجه الثانی

ما ذهب إلیه شیخ الطائفة من الإجماع اللّطفی، وحاصل کلامه: أنّه إذا اجتمع العلماء علی رأی، فإنْ کان مطابقا للواقع، فهو، وإنْ کان مخالفا، وجب علی الإمام علیه السّلام _ بقاعدة اللّطف _ أن یلقی الحکم الحقّ، فیقع الخلاف بین العلماء ولا یجتمعوا علی خلاف الواقع.(1)

ص: 77


1- 1. العدّة فی أُصول الفقه 2 / 628 و مابعدها.

وقد وقع الکلام علی هذا الوجه من جهة الکبری، للکلام فی قاعدة اللطف ووجوب شئ¨ علی اللّه تعالی، فإنّه لا یسئل عمّا یفعل وهم یسألون، وإنّه المولی الحقیقی الذی لا یصدر منه إلا الفضل والرحمة، ولا معنی لإیجاب شئ¨ علیه. وکذلک الإمام علیه السّلام.

وأما من جهة الصّغری، فإن إلقاء الخلاف بین العلماء لیس بلطفٍ، بل اللّطف هو الهدایة إلی الحق.

الوجه الثالث

الملازمة العادیّة بین اتفاق العلماء ورأی المعصوم. وهذا ینتهی إلی الحدس برأیه، إمّا من جهة أنه کلّما کثرت الآراء وتطابقت، ازداد احتمال الموافقة وضعف احتمال المخالفة، حتی یصل إلی القطع بالواقع وهو رأی المعصوم.

وقد أشکل فیه فی مصباح الاصول: بأن هذا إنما یتم فی الإخبار عن الحسّ، أمّا فی الامور الحدسیّة فلا، إذ کما یحتمل الخطأ فی رأی الواحد یحتمل فی رأی الکلّ.(1)

وفیه تأمّل، فإنّه إذا کان یحتمل الخطأ فی الکلّ، ففی الخبر الحسّی کذلک.

لکنّ التحقیق أنّ تطابق الآراء یوجب القطع لغیر أهل الخبرة، کما لو اتفق الأطبّاء فی موردٍ علی تشخیص المرض والدواء المعالج له، فإن غیر الطبیب یحصل له الیقین بذلک، أمّا بالنسبة إلی أهل الخبرة فلا. وفیما نحن فیه کذلک، فإن تطابق الآراء من الفقهاء لا یوجب الیقین بالواقع للفقیه.

وقد یقال بالملازمة العادیّة من جهة اخری وهی: إن العادة تحکم بأنّه متی

ص: 78


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 139.

اتّفق المرؤوسون علی رأی، فإن ذلک لا ینفک عن رأی الرئیس، فمن اتفاقهم یستکشف رأی الرئیس.

وفیه: إن هذا إنما یتم فی المرؤوسین الملازمین للرئیس، لا فی فقهاء عصر الغیبة، حیث أنهم منقطعون عن الإمام علیه السّلام.

الوجه الرابع

الإجماع التشرّفی، بأن یسمع الأوحدی من الناس الحکم من الإمام _ علیه السّلام _ مباشرةً، فینقله إلی الغیر بصورة الإجماع.

ویقع الکلام فی هذا الوجه من جهة أصل إمکان رؤیة الإمام _ علیه السلام _ فی عصر الغیبة، وأن ذلک ینافی الحکمة من الغیبة أوْ لا؟ لا سیّما بالنظر إلی ما ورد عنه من أن من ادّعی الرؤیة فکذّبوه.

لکنّ الأعاظم _ کالخراسانی والإصفهانی والنائینی(1) _ یجوّزون حصول ذلک للأوحدی، ومنهم من یصرّح بتحقّق ذلک للسید ابن طاووس،(2) کما ربّما یستفاد من بعض کلمات السیّد نفسه(3) أیضا، بل إنّ دعوی العلم الإجمالی بوقوع ذلک خلال هذه القرون المتمادیة بل التفصیلی بالنسبة إلی بعض الناس قریبة جدّا. وحینئذٍ، یجمع بین ذلک والخبر الوارد عنه _ علیه السلام _ الآمر بتکذیب من ادّعاه، ببعض الوجوه المذکورة فی ذیله.(4)

ص: 79


1- 1. کفایة الأُصول: 289، نهایة الدرایة 3 / 185، فرائد الأُصول 1 / 289.
2- 2. أنظر: بحرالفوائد فی شرح الفرائد 2 / 51.
3- 3. مهج الدعوات: 281 و 353.
4- 4. بحارالأنوار 55 / 151، الباب 23 مَن ادّعی الرؤیة فی الغیبة الکبری... .

کشف الاجماع عن الدلیل المعتبر؟

وبعد سقوط الوجوه المذکورة لکاشفیّة الإجماع عن رأی المعصوم، تصل النوبة إلی کاشفیّته عن الدلیل المعتبر علی رأی المعصوم، فإنه إنْ تمّ هذا الوجه نتوصّل إلی رأی المعصوم لکنْ بواسطة الدلیل الدالّ علیه، وبیان ذلک هو:

إن المفروض تحقق الإتفاق من الکلّ علی رأیٍ واحدٍ، والمفروض أنهم فقهاء عدولٌ لا یفتون بلا دلیل، فلابدّ وأنهم قد عثروا علی دلیلٍ معتبر فاتفقوا علی الفتوی علی طبقه، فیکون إجماعهم کاشفا عنه ویمکننا الاعتماد علیه. فنحن قد عملنا فی الحقیقة _ بواسطة الإجماع _ بذلک الدلیل المعتبر الذی عثروا علیه ولم نعثر علیه، فنکون قد عملنا برأی الإمام _ علیه السّلام _ الدالّ علیه ذلک الدلیل.

الکلام علیه

أشکل المحقّق الإصفهانی بما توضیحه: أنّ الدلیل المعتبر المنکشف لیس الإجماع، لأنّ الإجماع لا یکشف عن الإجماع. ولیس الکتاب، لأنّ آیات الأحکام معلومة لنا کما هی معلومة لهم. ولیس العقل، لأن البراهین العقلیّة محصورة ومعلومة لنا مثلهم. فلیس إلاّ السنّة، ولکنْ: قد یکون الخبر معتبرا عندهم ولیس بمعتبر عندنا، فهم قالوا باعتباره علی مبانیهم ونحن مخالفون لهم فی المبنی. وقد یکون الخبر ظاهرا فی مدلولٍ عندهم هو غیر ظاهر عندنا فیه بل ظاهر فی خلافه،

ص: 80

کما حدث فی أدلّة نجاسة البئر بالملاقاة، إذ استظهر المتأخرون منها خلاف ما استظهر المتقدّمون.(1)

فتلخّص عدم تمامیّة کشف الإجماع المحصّل عن الدلیل المعتبر.

ویمکن الجواب:

أمّا من جهة السند، فبأنّ المتیقن من القدماء أنهم ما کانوا یأخذون إلاّ بخبر العدل أو الثقة، فقد کانت الوثاقة مطروحةً حتی فی زمن المعصوم، حیث کانوا یسألون عن وثاقة الأشخاص لکی یأخذوا منهم معالم الدین. فإذا اتّفق القدماء علی رأی، کشف اتّفاقهم عن دلیلٍ معتبر _ بالعدالة أو الوثاقة _ هو المستند لتلک الفتوی المتفق علیها.

وأمّا من جهة الظّهور، فالمفروض هو اتّفاق الفقهاء علی ظهور اللّفظ فی معنیً، والمفروض کذلک کونهم من أهل اللّسان أو من أهل الدقّة والتدبّر فی فهم المعانی من الألفاظ وظهورها فیها، فمن البعید جدّا أن یتّفقوا علی دلالة لفظ علی معنی بحیث لو وقفنا علی ذلک لکان ظاهرا عندنا فی معنیً آخر.

وبما ذکرنا یظهر اندفاع النقض بقضیّة أخبار نزح البئر؛ إذ النجاسة لم تکن مجمعا علیها بین قدماء الأصحاب رضوان اللّه علیهم. نعم، کان المشهور بینهم ذلک، وکلامنا فی الإجماع.

هذا أوّلاً.

وثانیا _ وهو العمدة _ أنّ القدماء أخذوا بروایات النّزح وبظاهر الروایة:

ص: 81


1- 1. نهایة الدرایة: 3 / 185.

«ما الذی یطهّرها»(1) وهی ظاهرة فی النجاسة عند المتأخرین أیضا، لکن المتقدّمین قد غفلوا عن صحیحة ابن بزیع «ماء البئر واسع لا یطهّره شئ¨ إلا أن یتغیّر»(2) والمتأخرون رفعوا الید بها عن ظهور تلک الرّوایات... فلم یکن الخلاف من جهة الظهور حتی یرد النقض.

وأشکل فی مصباح الأُصول: بأن إجماعهم یمکن أن یکون مستندا إلی قاعدةٍ أو أصلٍ، ونحن لا نری تمامیّة ذلک الأصل أو القاعدة، أو نری عدم انطباقهما علی الحکم المجمع علیه.(3)

لکنّ هذا خروج عن محلّ البحث، فإنّ مثل هذا الإجماع یکون مدرکیّا والإجماع المدرکی لا قیمة له، بل الکلام فی الإجماع المحصّل الذی هو علی خلاف القواعد والاصول ولا نعلم بمدرکه، لکنّا نعلم بأنّهم _ لورعهم ومقامهم العلمی _ لا یجمعون علی رأی بلا دلیلٍ، وهو إمّا رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر، والمفروض أنّه لیس الکتاب والعقل والإجماع، فهو الروایة المعتبرة.

ویبقی الإشکال: بأنّه لو کان هکذا دلیل معتبر لبان، ولکُتب فی المجامیع الحدیثیّة التی هی لکبار المجمعین، فتأمّل.

هذا تمام الکلام فی الإجماع المحصّل.

ص: 82


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 174، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الرقم: 21.
2- 2. وسائل الشیعة 1 / 140، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الرقم: 10.
3- 3. مصباح الأُصول 2 / 140.

الاجماع المنقول

والإجماع المنقول هو الإجماع المحصّل المنقول بخبر الواحد، فهل هو حجّة أوْ لا؟

إنّ کلّ خبر یکون عن أمر محسوس، فلا ریب فی شمول أدلّة حجیّة خبر الواحد له علی المبنی فی ذلک؛ إذ اعتبر بعضهم العدالة فی المخبر، والمعروف کفایة الوثاقة، فإذا شملته أدلّة الحجیّة واندفع احتمال الخلاف بأصالة عدم الخطأ _ وهو أصل عقلائی _ تمّت الحجیّة للخبر بلاکلام.

لکنّ الإخبار عن الإجماع إخبار عن أمر حدسی.

فإن أخبر عن الأمر المحسوس بالحدس، بأنْ أخبر _ مثلاً _ عن نزول المطر استنادا إلی قواعد علم الهیئة، لم یکن بحجّةٍ وإنْ کان المخبر ثقة، لعدم جریان أصالة عدم الخطأ فی الحدسیّات عقلاءً.

وإنْ أخبر عن الأمر الحسّی، وشککنا فی أنه عن حسٍّ أو حدس، فما هو مقتضی القاعدة؟

تارةً: لا یکون المخبر من شأنه الإخبار عن الحدس، فالأصل فی مثله الحمل علی الحسّ. واخری: یکون من شأنه ذلک، کالمنجّم إذا أخبر عن زوال الشمس مثلاً، فهنا لا یرجع إلی الأصل العقلائی، لعدم قیام السّیرة العقلائیّة علی قبول مثل هذا الخبر.

وکذا لو شک فی المخبِر أن من شأنه الإخبار عن حسّ أو حدس.

هذا کلّه، فیما إذا أخبر عن أمر محسوس.

ص: 83

وأمّا إن کان المخبر به من الامور الحدسیّة، فتارة: یکون من الحدسیّات القریبة من الحسّ، واُخری: لا.

فإن کان من القسم الأوّل، کما لو أخبر عن شجاعة زید وجود عمرو ونحوهما من الامور الحدسیّة القریبة من الحسّ؛ لإمکان التوصّل إلیها علی أثر المعاشرة أو القرائن والأحوال، فالحجیّة ثابتة، ومن هنا یرتب الأثر علی الإخبار بالعدالة والإجتهاد ونحوهما.

وإن کان من القسم الثانی، فتارةً: ینقل الخبر إلی أهل الخبرة بذلک الموضوع، واخری: لا یکون المنقول إلیه من أهل الخبرة به. فإنْ کان من قبیل الثانی، کما لو أخبر الطبیب عن حدسه بالمرض ولم یکن المخبَر من الأطبّاء، فالخبر حجّة لا من باب حجیّة خبر الثقة، بل من باب حجیّة خبر أهل الخبرة.

وإن کان من قبیل الأوّل، فهنا صور؛ لأنه تارةً: یخبر عن السّبب والمسبّب معا، وأُخری: عن المسبّب فقط، وثالثةً: عن السبب فقط. والإخبار عن السبّب، تارةً: یکون إخبارا عن تمام السّبب، وأُخری: عن جزء السّبب. وعلی جمیع الصّور: تارةً: یکون المخبَر موافقا للمخبِر فی المسلک، وأُخری: لایکون بینهما توافق فی المسلک، کأن یری الطبیب المخبر السببیّة للأمر الکذائی للمرض، لکنِ الطبیب المخبَر لا یری لذلک الأمر السببیّة لذلک المرض.

فإن أخبر عن السّبب، کان حجةٌ، لکونه إخبارا عن أمرٍ محسوس، فتشمله أدلّة حجیّة خبر الثقة أو العدل _ علی المختار هناک _ سواء اُحرز کونه مخبِرا عن الحسّ أو شُک فی ذلک... وکون المسبّب حدسیّا لا یضرّ بذلک.

وإنْ أخبر عن المسبّب _ أی نفس المرض مثلاً _ فإخباره عن ذلک إخبارٌ

ص: 84

عن السّبب أیضا بالدلالة الإلتزامیّة، _ فیکون الخبر عن المسبّب خبرا عن أمرین، أحدهما: حدسیّ وهو المسبّب، المدلول المطابقی. والآخر: حسّی وهو السّبب وهو المدلول بالملازمة _ ففی مثل هذا المورد، یلحظ التوافق بین المخبِر والمخبَر فی المسلک، فإن کانا متوافقین، کان الخبر حجةً من جهة الدلالة الإلتزامیّة، وحیث أنه موافقٌ علی الملازمة بین هذا السّبب والمسبّب _ وهو المرض _ فالمرض المسبّب ثابت للمخبَر بالوجدان العلمی.

وبعد الفراغ عن هذه المقدّمة نقول:

قد تقدّم أنّه یعتبر فی الإجماع الحجّة أن یتّفق جمیع فقهاء العصر علی رأیٍ، ولا یکون الرأی مستندا إلی أصلٍ أو قاعدةٍ، کما لو ادّعی الإجماع علی بطلان الصّلاة فی المکان المغصوب؛ إذ یحتمل أن یکونوا مستندین فی هذه الفتوی إلی الترکیب الإتحادی بین الصّلاة والغصب، وأنّ ما یکون منهیّا عنه لا یمکن أن یکون مأمورا به، ومع هذا الإحتمال لا یکون هذا الإجماع حجةً...

فالشرّط الأساسیّ المقرّر الثابت فی حجیّة الإجماع هو انتفاء استناده إلی شئ¨ من الاصول والقواعد، کالإجماع علی حجب ابن العمّ من الأبوین للعمّ من الأب، مع تقدّمه رتبةً واستحقاقه للإرث بقوله تعالی «وَأُولُوا الاْءَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فی کِتابِ اللّه ِ»،(1) فإنّ مثل هذا الإجماع غیر المستند إلی أصل أو قاعدةٍ، والمخالف للکتاب، لابدّ وأنْ یکون کاشفا عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر المخصّص للآیة المبارکة، وإلاّ لم یکن من المعقول إجماع الفقهاء کافّةً علی تقدّم

ص: 85


1- 1. سورة الانفال: الآیة 75.

ابن العمّ وحجبه للعمّ فی الإرث. فمثل هذا الإجماع _ وإن کان نادرا فی الفقه _ یکون حجةً بلاکلام.

فإن نقل هذا الإجماع بخبرٍ واحدٍ، کان إجماع الفقهاء هو السّبب، ورأی المعصوم أو الدلیل المعتبر هو المسبّب المنکشف، فتارةً: ینقل السّبب والمسبّب معا، واخری: ینقل السّبب فقط، وثالثةً: ینقل المسّبب وحده... .

فإن کان نقله للإجماع بلفظ: «اتفق أهل الحق کلّهم علی کذا»، فمثله نقلٌ للسّبب والمسبّب، لکونه دالاًّ علی دخول الإمام فی المجمعین، فهو من الإجماع الدخولی المتضمّن لرأی المعصوم، لأن المفروض کون الناقل من الفقهاء، ویخبر بعبارةٍ ظاهرة فی دخول الإمام، وظاهرةٍ کذلک فی أن إخباره عن حسٍّ، فلا محالة تشمله أدلّة حجیّة خبر الواحد، ویترتب الأثر علیه.

وقد یعبّر بلفظ: «أجمع علماؤنا»، أو «إتفق الأصحاب»... ونحو ذلک، فمثل هذه التعابیر ظاهرة فی نقل السّبب، ویکون فائدته أن لا یتجشّم المنقول إلیه عناء الفحص عن الآراء وتحصیل الفتاوی، لکون المخبر ثقةً وهو یخبر عن تحقّق الإجماع علی الفتوی الکذائیّة، فإنْ حصل له الکاشفیّة عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر، أفتی علی طبق ما وقع علیه الإجماع، اللهم إلاّ علی مبنی المحقق الإصفهانی القائل بأنّا وإنْ کنّا نحتمل أن یکون کاشفا عن الدلیل، ولکنّ الدلیل المعتبر عندهم قد لایکون معتبرا عندنا، فکیف نفتی بما أفتوا به ویکون الإجماع حجةً؟

ص: 86

وقد یخبر الناقل عن بعض السّبب فیقول: «مذهب أکثر علمائنا کذا»، ولمّا کان المخبر ثقةً وإخباره عن حسّ، یکون معتبرا بقدره، وعلی المنقول إلیه الفحص عن آراء بقیة الفقهاء حتی یحصل له الإجماع، فإنْ کشف عن رأی المعصوم فهو، وإنْ کشف عن دلیل معتبر فکذلک، إلاّ علی إشکال المحقق الإصفهانی.

وقد ینقل الناقل المسبّب، أی رأی المعصوم علیه السّلام. وهذا لا یکون إلاّ فی الإجماع التشرّفی، والتشرف فی زمن الغیبة لا یحصل، إلاّ للأوحدی کما عبّر الأکابر، لا سیّما مع الخدشة فیما ورد من «أن من ادّعی الرؤیة قبل الصّیحة فکذّبوه»(1) سندا، مضافا إلی أنّ ما ورد من هذا القبیل لا إطلاق له، بل المقصود هو الرؤیة مع دعوی النیابة.

فالأوحدی بتعبیر الأکابر أو صاحب السرّ _ بتعبیر السیّد بحرالعلوم _ یری الإمام فی زمن الغیبة، ونحن لایمکننا تکذیب ما یرویه الثقات من القضایا الواقعة فی هذه المدّة الطویلة...

وعلی الجملة، فإنّ من یری الإمام ویأخذ منه الحکم، لایعرّف نفسه بل یعبّر لدی النقل بالإجماع، فإذا تحققت الصغری، ونقل الخبر وهو ثقة، فإنّه یحصل الوثوق بعدم خطئه، وهو لا یحصل إلاّ بإجراء أصالة عدم الخطأ، وجریانها إنّما یکون _ فی السیّرة العقلائیّة _ فی القضایا المتعارفة، ولکنّ ملاقاة الإمام فی عصر الغیبة أمر غیرمتعارف، فجریان الأصل فیه مشکل ولایثبت المسبب. أللهم إلاّ أن

ص: 87


1- 1. الإحتجاج 2/478، بحارالأنوار 55/151، الباب 23 مَن ادّعی الرؤیة فی الغیبة الکبری... ، الرقم1.

یحصل العلم للمنقول إلیه بعدم الخطأ وعدم کون القضیّة مکاشفةً، فله أن یفتی علی طبق هذا الإجماع.

وأمّا إذا أخبر عن الإجماع مستندا إلی الملازمة العقلیّة، وهو الإجماع اللّطفی الذی اختاره شیخ الطائفة، فمن الواضح أنّه خبر حدسی، لا تشمله أدلّة حجیّة الخبر.

وکذا الإجماع بالملازمة العادیّة بین رأی الرئیس وآراء المرئوسین.

نعم، لو أخبر عن السّبب، والمفروض کونه ثقةً وإخباره عن حسٍّ، ثم ثبتت الملازمة بین السّبب والمسبب عند المنقول إلیه، أو کانت حاصلةً للمخبر وکان المنقول إلیه موافقا له فیها، کان للمنقول إلیه الفتوی علی طبقها.

ولو أخبر عن المسبّب وحده، فلا ریب فی أنّ الإخبار عن المسبّب یلازم الإخبار عن السّبب، فالملازمة عند المخبر تامة، فإنْ کان المخبَر المنقول إلیه موافقا فی المسلک تمّت عنده أیضا... .

ولو شُکّ فی أن الإخبار عن حسٍّ أو حدسٍ، والمفروض أن المخبِر فقیه، فهو ممّن شأنه الإخبار عن الحدس والإجتهاد، فلا تشمله الأدلّة.

ص: 88

تنبیهات

التنبیه الأوّل فی ندرة الإجماع

قد تحصّل ممّا ذکرنا ندرة الإجماع المعتبَر فی الفقه جدّا، ولکنه _ مع ذلک _ قد یتّفق أن نجد الأصحاب _ علی اختلاف مسالکهم فی الأُصول وفی کاشفیّة الإجماع _ مجمعین علی فتوی، مع عدم وجود نصّ معتبر فی المسألة، وعدم احتمال استناد فتواهم إلی أصلٍ أو قاعدة، فمثل هذا الإجماع لا یمکن التجاوز عنه، کما ذکرنا فی مسألة حجب ابن العمّ من الأبوین العمّ؛ إذْ لا یوجد نصٌّ معتبر فی هذه المسألة. وما أشار إلیه الصّدوق(1) لم نعثر علیه فیما بین أیدینا من الأخبار، کما أنّ روایة الحسن بن عمّار أو عمارة،(2) غیرمعتبر. مع أنّ مقتضی الآیة المبارکة تقدیم العمّ.

ومن الموارد: مسألة عدم جواز التعلیق فی العقود، فإنه لا نصّ فیها أصلاً،

ص: 89


1- 1. قال الصّدوق فی من لایحضره الفقیه 4: 292، ما هذا لفظه، «فإن ترک عمّا لأب، وابنَ عمٍّ لأبٍ وأُمٍّ، فالمال لإبن العمّ للأب والأُمّ: لأنّه قد جمع الکلالتین، کلالته الأب وکلالة الأُمّ، وهذا غیرمحمولٍ علی أصلٍ بل مسلّم، للخبر الصحیح الوارد عن الأئمة (علیهم السلام)».
2- 2. وسائل الشیعة 26: 192، باب 5 من أبواب میراث الأعمام والأخوال، الرقم 4.

ولا دلیل علیه إلا إجماع الکلّ، وهو غیر محتمل استناده إلی أصل أو قاعدة. وما قد یذکر من القاعدة العقلیّة _ وهی أنّ تعلیق العقد یستلزم انفکاک المعلول عن العلّة وهو محال _ غیرصحیح، لأن الإستحالة المذکورة إنما هی فی القضایا التکوینیّة لا الإعتباریّة. علی أن الفقهاء یقولون بالواجب المشروط، مع أنه قد یستلزم ذلک الإنفکاک بین العلّة والمعلول.

ومن الموارد: محرمیّة أمّ الزوجة وإنْ علت، مع أن ظاهر النصّ هو اُمّ الزوجة بلا واسطة، لأنه المعنی الحقیقی، وإطلاقه علی اُمّ الاُم وإنْ علت مجاز... ولو شکّ، فالشبهة مفهومیّة، ولا یجوز التمسّک بالدلیل فی الشبهات المفهومیّة. لکنّ إجماع الکلّ قائم علی المحرمیّة. مع أنهم لایقولون بمثله فی الموارد الاخری، کما لو أوصی بکذا لاُمّ زوجته، وکذلک لو أوصی لأبیه، فإنه لا یعمّ أب الأب عندهم.

التنبیه الثانی فی الکلام فی إجماعات السیّد والشیخ قدّس سرّهما.

إعلم أنّ من الفقهاء من یعتنی بالإجماعات کثیرا، کصاحبی الریاض والجواهر، ومن الفقهاء من لایعبأ أصلاً کالمحقّق الأردبیلی، ومن الفقهاء من یتوسّط فی ذلک کالشیخ الأنصاری. وقال المجلسی ما محصّله: أنّ الإجماع إنّما یعتبر لکاشفیّته عن رأی المعصوم، هکذا قرّر الأصحاب فی الأُصول، لکنّهم فی الفقه ینسون ما یؤسّسون فی الاصول؛ إذْ لا صغری للإجماع الکاشف إلا نادرا، بل الموارد التی یدّعون فیها الإجماع لیس إلاّ الشهرة. نعم، الإجماعات تنتهی إلی الشیخ والسیّد وهی أخبارٌ مراسیل.(1)

ص: 90


1- 1. بحارالانوار 89 / 222. کتاب الصلاة، أبواب فضل یوم الجمعة. الباب 1، وجوب صلاة الجمعة.

وهذا الکلام غریب جدّا؛ إذ لیس الأمر کما ذکر، والفقهاء لا یخلطون بین الإجماع والشهرة، والإجماعات المحکیّة عن السیّد والشیخ لیست مراسیل، بل کتبهم موجودة وللفقهاء طرق إلی تلک الکتب.

ثم إنّ السیّد المرتضی قد أکثر من دعوی الإجماع فی کتابیه: الإنتصار والناصریّات.

ومن موارد ذلک عند السیّد: دعواه الإجماع علی وجوب رفع الیدین فی التکبیرات فی الصلاة.(1) ولا قائل به من الأصحاب غیره ظاهرا.

ودعواه الإجماع علی أن عدّة النفساء ثمانیة عشر یوما.(2) ولا قائل به من الأصحاب غیره.

ودعواه الإجماع علی ثبوت خیار الحیوان للمتبایعین کلیهما إلی ثلاثة أیام،(3) والشمهور بین الأصحاب هو ثبوته للمشتری خاصّةً، اقتصارا فیما خالف العمومات ومقتضی الأصل الدالّة علی لزوم المعاملة علی المجمع علیه بین الأصحاب وهو فی المشتری خاصّة کما حکاه جماعة.(4)

ودعواه الإجماع علی تعیّن المهر فی مهر السنّة، وأنه لاتجوز الزیادة علیها،(5) وهذا خلاف ظاهر الآیة، والظاهر أن لا موافق له فیما ذهب إلیه.

ص: 91


1- 1. الإنتصار: 147.
2- 2. المصدر: 129.
3- 3. المصدر: 433.
4- 4. ریاض المسائل 8 / 294.
5- 5. الانتصار: 292.

أقول

إذا کان هذا حال إجماعات السیّد، فهل یمکن الاعتماد علیها، بأنْ یفتی علی طبقها، أو تجعل جابرةً لضعف سندٍ بناءً علی القول بذلک، أو ترتیب أیّ أثر آخر علیها، کأنْ تکون منشأً للتوقّف أو الإحتیاط؟

وأمّا الشیخ، فقد أکثر من دعوی الإجماع فی کتاب الخلاف.

واختلفت تعبیراته، فتارة: یدّعی إجماع المسلمین، واخری: إجماع الفرقة، وثالثة: یضیف إلی إجماع الفرقة کلمة: لا یختلفون فی ذلک، ورابعة: یضیف کلمة: وأخبارهم.

وقد وقع الکلام فی إجماعاته، فقالوا: بأنه قد ادّعی الإجماع فی موارد کثیرة من کتاب الخلاف ثم خالفها هو فی غیره، قال الشهید الثانی: قد وقع ذلک فی أربعین موردا،(1) لکنّ بعض من تأخّر أوصلها إلی المائة... .

والمهمّ أنا نری الشیخ یفتی فی کتاب المبسوط وغیره وخاصةً فی النهایة _ وهو کتابه فی الفتوی _ علی خلاف ما ادّعی علیه الإجماع فی کتاب الخلاف.

فقیل: إنه یرید الشهرة. وقیل: إنها إجماعات جدلیّة فی مقابل العامّة. وقیل: إنها إجماعات مستندة إلی أصل أو قاعدة... .

أقول

وعمدة ما فی الباب هو الإشکال الذی طرحه الشهید الثانی من أن الشیخ قد خالف بنفسه إجماعاته، وهذا مسقطٌ لاعتبارها.

ص: 92


1- 1. اُنظر: رسائل الشهید الثانی 2 / 845 _ 857 ، و اُنظر: الحدائق الناضرة 9 / 368.

ولکن یمکن أن یقال: إن الشیخ لمّا أخبر عن الإجماع، فإن أدلّة حجیّة الخبر صادقة علی إخباراته من جهةٍ وأصالة عدم الخطأ والإشتباه جاریة من جهة اخری، فتکون إجماعاته معتبرةً، والموارد التی خالف فیها قلیلة، فلا تکون مضرّةً بجمیع إجماعاته. نعم، ترفع الید عنها فی تلک الموارد الخاصّة فقط. والسّبب فی عدم الإضرار بسائر الإجماعات هو جریان أصالة عدم الخطأ فیها کما ذکرنا.

نعم، لو کانت المخالفات کثیرةً بحیث یقع الشک فی ضبطه فی دعاویه الإجماع، ویوجب سقوط أصالة عدم الخطأ عقلاءً، کان الحق مع الشهید، لکن الأمر لیس کذلک.

وأمّا الجواب: بأنه یرید الشهرة من الإجماع.

فهذا خلاف الظاهر جدّا، وظواهر الألفاظ حجّة. علی أنّ الشیخ قد یذکر المخالف من الأصحاب، کما فی مسألة تطهیر المتنجّس بمطلق المائع.(1)

وأمّا الجواب: بأن إجماعاته فی الخلاف جدلیّة.

فهذا غیرصحیح، لأنّ الإجماع إن کان، فهو، وإنْ لم یکن، فدعواه کذب، فکیف ینسب إلی الشیخ؟

وأمّا الجواب: بأنّ إجماعات الشّیخ علی وزان إجماعات السیّد فی کونها مستندةً إلی أصلٍ أو قاعدة، وحیث أنّ من الممکن وجود الخلاف بینه وبین من بلغه إجماعُه فی ذلک الأصل أو القاعدة، فإنّ إجماعاته لا تکون حجةً، بل إنها إجماعات حدسیّة اجتهادیّة.

ص: 93


1- 1. المبسوط 1 / 38.

فالظاهر أنه نشأ من استدلاله بالقرعة فی کتاب إحیاء الموات وفی منجزات المریض، مدّعیا الإجماع علی أن القرعة لکلّ أمرٍ مشکل، والمورد من صغریات الأمر المشکل. أمّا فی إحیاء الموات ففیما لو حاز اثنان فی وقت واحد أرضا.(1) وأمّا فی منجّزات المریض ففیما لو أعتق سالما وغانما فی حال المرض المشرف علی الموت، ولا یفی ثلثه لعتق کلا العبدین.(2)

فهو فی هذین الموردین، لمّا رأی قیام الإجماع علی کبری القرعة، ادّعاه فیهما تطبیقا لها علیهما.

ولکنّ ما فعله فی هذین الموردین لا یجوّز لنا رفع الید عن سائر إجماعاته فی کتاب الخلاف، وهی أکثر من الألف!

وعلی الجملة، فإنّ الشیخ لمّا یدّعی الإجماع فی تلک الموارد، فهو إنما یدّعیها علی الحکم فی نفس المسألة، ولیس فیها أیّ استدلال حتی یقال بأنّ المدّعی علیه الإجماع هو الکبری... بخلاف إجماعات السیّد فی کتاب الإنتصار، فإنه قد ثبت بالتتبّع أن إجماعاته إنما هی علی الکبریات، فالفرق بینهما واضح جدّا. وبناءً علی ما ذکرنا، ففی أیّ موردٍ وجدنا الشیخ یستدلّ بالکبری، نرفع الید عن إجماعه هناک، وأمّا فی غیره فإجماعه حجة.

وقد یشکل أیضا: بأنّ إجماع الشیخ لا یخلو عن أنْ یکون إخبارا عن المسبّب وهو رأی الامام علیه السّلام، أو عن السّبب وهو إتفاق الأصحاب. فإنْ

ص: 94


1- 1. الخلاف 3 / 532.
2- 2. الخلاف 6 / 290.

کان الأوّل، فهو من جهة قاعدة اللُّطف، وهی من الناحیة الکبرویّة غیر تامة. وإنْ کان الثانی، فهو یفید إتفاق علماء عصره، وهذا لاینافی أن لایکون أهل العصر المتقدّم أو العصور المتقدّمة علی تلک الفتوی. وحینئذٍ، لا سببیّة لاتّفاق فقهاء عصره للوصول إلی رأی المعصوم.

والجواب هو: إن الشیخ عندما یقول «علیه إجماع الفرقة»، فالظاهر منه فقهاء کلّ العصور حتی زمن المعصوم. نعم، إذا قال «علیه الإجماع» کان للإشکال وجه.

ویبقی الإشکال: بأنّ الشیخ قد یدّعی إجماع الفرقة بل الاُمّة، ثم یذکر الخلاف عن البعض ویعتذر بأنه منقرض... وهذا موجود فی کتاب القضاء فی مسألة عدالة القاضی،(1) وفی مسألة الخطبة من کتاب النکاح،(2) فهذه الموارد تشهد بأن إجماعاته تتعلّق بالعصر الواحد لا جمیع العصور حتی زمن المعصوم، فیعود الإشکال السابق.

نعم، فی کلّ موردٍ أضاف الفتوی إلی الفرقة وقال: «لا خلاف بینهم» أو «لایختلفون» فمثله حجّة.

هذا، وذکر السیّد البروجردی(3) أنّ إجماعات الشیخ کلّها نقلٌ للروایة المعتبرة، أی أنه فی کلّ موردٍ یدّعی الإجماع فیه، ینقل الخبر المعتبر الوارد عن

ص: 95


1- 1. الخلاف 6 / 212.
2- 2. الخلاف 4 / 292.
3- 3. نهایة الوصول: 536.

الأئمة عن النبی صلّی اللّه علیه وآله، بخلاف إجماعات مثل العلاّمة، فإنها نقل للسّبب. واعترض علی الشیخ الأنصاری قوله: بأنّ إجماعات الشیخ نقلٌ للسّبب والمسبب معا، فقال: بأنّ الأمر لیس کذلک.

أقول

أمّا ما نسبه إلی الشیخ الأعظم قدّس سرّه، فلیس کذلک، بل الشّیخ یقول أنّ کلّ إجماع أسند فیه الفتوی إلی الفرقة وأهل الحق، فهو نقل السّبب والمسبّب، وما لم یکن کذلک فهو نقل للسّبب فقط.

وأما ما نسبه إلی شیخ الطائفة قدّس سرّه، فهو یخالف صریح کلامه فی مقدّمة کتاب الخلاف،(1) وأیضا فی موارد عدیدة منه، حیث یدّعی الإجماع ودلالة الأخبار معا، فلو کان فی إجماعاته ناقلاً للخبر، فأیّ معنی لعطف الأخبار علی الإجماع؟

التنبیه الثالث فی الإجماع البسیط والمرکّب

قد یتفق العلماء علی رأیٍ، کطهارة شئ¨ أو نجاسته أو وجوبه أو حرمته، فهذا الإجماع بسیط، أی: أنه یکشف عن مدلولٍ واحد. وقد یتّفق العلماء علی رأیٍ وهم مختلفون فیما بینهم، کما إذا اختلفوا فی حکم سجدة العزیمة فی أثناء الصّلاة، فقال بعضهم بالوجوب، وبعض بالحرمة، فهم متفقون علی عدم الکراهة أو الإستحباب، فمن قال بذلک خرق الإجماع المرکب وأحدث القول الثالث. فوقع الکلام بینهم فی جواز ذلک وعدم جوازه.

ص: 96


1- 1. الخلاف 1 / 45.

وقد یکون إحداث القول الثالث بنحو التفصیل فی المسألة، کأن یقول البعض بإقتضاء مطلق العیوب لفسخ النکاح، ویقول الآخرون بعدم اقتضاء شئ منها ذلک. فیحدث القول الثالث باقتضاء بعض العیوب دون بعض، وهذا ما یسمّی بالتفصیل فی المسألة، فهو خرقٌ للإجماع المرکّب بالقول بالفصل.

ثم إنّ الکلام فی حجیّة الإجماع المرکّب هو الکلام بعینه فی الإجماع البسیط، فقد ینقل بالإجماع المرکب مجرّد الإتفاق فقط، فهو نقل للسبب، وقد ینقل المسبّب أی رأی المعصوم، وقد ینقل کلاهما... علی ما تقدّم بالتفصیل.

وأمّا حکم خرقه بإحداث القول الثالث، فإنه الحرمة، إنْ کان القولان نافیین لغیرهما، بمعنی أن یکشف الإجماع المرکّب عن أن قول المعصوم غیرخارج عن القولین، فالقول الثالث یکون مخالفا لرأی المعصوم.

التنبیه الرابع فی تعارض الإجماعین

إنه إن کان المنقول إجماع الفقهاء کلّهم علی حرمة شئ¨ وإجماعهم علی جوازه، فهنا تعارض بین السببین والمسبّبین.

وإنْ کان المنقول إتفاق بعضهم وحصول الکشف عن رأی المعصوم من ذلک، بناءً علی مسلک الشیخ _ مثلاً _ أو علی مسلک الحدس برأی المعصوم، ففی هذه الحالة یکون التعارض فی المسبب، کأنْ یُنقل وجوب صلاة الجمعة فی زمن الغیبة، وینقل کذلک حرمتها، لأن ذاک ینقل اتفاق علماء عصر الشیخ _ مثلاً _ وهذا ینقل اتفاق عصر المحقق الحلّی _ مثلاً _ فلا تعارض بین الإجماعین، لکنّ رأی المعصوم واحد لا اثنان.

ص: 97

وقد یتفق ذلک فی العصر الواحد، کما نقل عن بعض الأعاظم أنه کان یری اتفاق الشیخ الأنصاری والمیرزا الشیرازی والمیرزا محمّدتقی الشیرازی _ قدّست أسرارهم _ کاشفا عن رأی المعصوم.

لکنْ یأتی هنا سؤالٌ هو: أنه إذا کان فی عصر کلٍّ من هؤلاء الثلاثة فقهاء کبار، واتفق إجماعهم علی خلاف ما اتّفق علیه الثلاثة، فهل فی هذه الحالة أیضا یری القائل الکاشفیّة لرأی الثلاثة عن رأی المعصوم أو یتوقّف؟

وبعد:

فإنه إذا نقل إجماعان متعارضان، وقد ذکرنا أن التعارض إنما هو فی المسبب، إلاّ أن یدّعیا الإجماع من الفقهاء کلّهم، فهو فی السّبب والمسبّب معا، فقد یکون أحد الإجماعین مجملاً فی ناحیة السّبب والآخر مفصّلاً، بأنْ یذکر أحدهما أسماء الفقهاء والآخر لایذکرهم، أو یکون المجمعون فی أحد النقلین من القدماء وفی الآخر هم المتأخرون، أو یکون المجمعون فی أحد النقلین أعظم وأدق منهم فی النقل الآخر، ففی هذه الحالات حیث ینقل الإجماع بالتفصیل، یتقدّم أحدهما علی الآخر، لأن الحدس برأی المعصوم من إجماع القدماء أقوی، وکذا من إجماع الذین هم أعظم وأدق نظرا.

وأمّا إنْ کان الإجماعان کلاهما مجملین، فالمستفاد من کلام صاحب الکفایة سقوطهما(1) وقیل،(2) إنه فی هذه الحالة یُنظر إلی الناقل، لوجود المناقشة

ص: 98


1- 1. کفایة الأُصول: 291.
2- 2. اُنظر: فوائد الأُصول 3 / 152.

فی إجماعات مثل السیّد المرتضی والسیّد ابن زهرة. أمّا مثل الشّهید، فلا مناقشة فی دعواه. والمحقق الأردبیلی الذی یناقش فی الإجماعات، إذا نقل الإجماع فإنه یعتمد علیه، ففی مثل هذه الحالة یقدَّم الإجماع علی الطرف الآخر.

وأمّا مع التساوی فی السّبب، فلا محالة یقع التعارض، ولا یمکن الأخذ بأحدهما دون الآخر.

التنبیه الخامس فی نقل التواتر

قال فی الکفایة:

إنه ینقدح مما ذکرنا فی نقل الإجماع حال نقل التواتر، وأنه من حیث المسبّب لابدّ فی اعتباره من کون الإخبار به إخبارا علی الإجمال بمقدارٍ یوجب قطع المنقول إلیه بما أخبر به لو علم به، ومن حیث السبب یثبت به کلّ مقدار کان إخباره بالتواتر دالاًّ علیه، کما إذا أخبر به علی التفصیل، فربما لا یکون إلاّ دون حدّ التواتر، فلابدّ فی معاملته معه معاملته من لحوق مقدار آخر من الأخبار یبلغ المجموع ذاک الحدّ. نعم، لو کان هناک أثر للخبر المتواتر فی الجملة _ ولو عند المخبر _ لوجب ترتیبه علیه، ولو لم یدل علی ما بحدّ التواتر من المقدار.(1)

أقول

التواتر هو تتابع الأخبار وتوالیها، من مخبرین یمتنع عادةً تواطؤهم علی الکذب، بحیث یحصل القطع بالمخبر به.

ص: 99


1- 1. کفایة الأُصول: 291 _ 292.

وقد أنکر بعض العلماء حصول القطع من التواتر، لأنّ کلاًّ من الأخبار یجوز الصّدق والکذب فیه، فإذا اجتمعت عدّة لم یتغیّر الحال.

وقد اُجیب عن ذلک فی محلّه.

والتواتر علی أقسام: لفظی ومعنوی وإجمالی.

وحصول القطع للمنقول إلیه یختلف باختلاف حاله.

والتواتر أیضا تارةً: محصَّل، واخری: منقول.

فإذا نقل التواتر، فقد نقل المسبّب، وقد یوصف الخبر بالمتواتر، فإذا نقل کان من نقل السّبب.

فلو نقل قائلاً: أخبر مائة شخص بکذا، فهذا النقل معتبر، لأنه نقل عن حسّ والمفروض کون الناقل ثقة، فإن حصل للمنقول إلیه الملازمة بین هذا الخبر والواقع، کان قاطعا بالواقع، وإلاّ فالسّبب ناقص حتی تأتی الأخبار الاخری.

وأمّا إذا نقل التواتر _ وهو المسّبب _ فهذا لا أثر له بالنسبة إلی المنقول إلیه، لأنّ المبانی فی التواتر مختلفة، وحصول العلم منه یختلف باختلاف حالات الأشخاص. نعم، إذا کان الناقل والمنقول إلیه متوافقین فی المبنی، ترتّب الأثر... وهکذا یختلف الأمر بالنظر إلی دقّة الناقل، فقد یکون فی مرتبةٍ من الوثاقة والدقّة، بحیث یحصل العلم من خبره وإنْ کان العدد قلیلاً، فلا ینتظر وصول الخبر أو تحصیله من غیر هؤلاء الذین أخبر عن تواطئهم.

هذا، وقال الشیخ قدّس سرّه:

إنّ معنی قبول نقل التواتر _ مثل الإخبار بتواتر موت زید مثلاً _ یتصوّر علی وجهین:

ص: 100

الأول: الحکم بثبوت الخبر المدّعی تواتره _ أعنی موت زید _ نظیر حجیّة الإجماع المنقول بالنسبة إلی المسألة المدّعی علیها الإجماع. وهذا هو الذی ذکرنا من أنّ الشرط فی قبول خبر الواحد هو کون ما أخبر به مستلزما عادةً لوقوع متعلّقه.

الثانی: الحکم بثبوت تواتر الخبر المذکور لیرتّب علی ذلک آثار المتواتر وأحکامه الشرعیّة، کما إذا نذر أن یحفظ أو یکتب کلّ خبر متواتر.

ثم إنّ أحکام التواتر منها: ما ثبت لما تواتر فی الجملة، ولو عند غیر هذا الشخص.

ومنها: ما ثبت لما تواتر بالنسبة إلی هذا الشخص.

ولاینبغی الإشکال فی أن مقتضی قبول نقل التواتر هو العمل به علی الوجه الأول وأوّل وجهی الثانی، کما لا ینبغی الإشکال فی عدم ترتب آثار تواتر المخبربه عند نفس هذا الشخص.

ومن هنا یعلم: إن الحکم بوجوب القرائة فی الصّلاة، إنْ کان منوطا بکون المقروء قرآنا واقعیّا قرأه النبی صلّی اللّه علیه وآله، فلا إشکال فی جواز الإعتماد علی إخبار الشهید رحمه اللّه بتواتر القراءات الثلاث، أعنی قراءة أبی جعفر وأخویه، لکنْ بالشرط المتقدّم، وهو کون ما أخبر به الشهید من التواتر ملزوما عادةً لتحقق القرآنیّة. وکذا لا إشکال فی الإعتماد من دون الشرط إنْ کان الحکم منوطا بالقرآن المتواتر فی الجملة، فإنه قد ثبت تواتر تلک القرائة عند الشهید بإخباره. وإنْ کان الحکم معلّقا علی القرآن المتواتر عند القاری أو مجتهده، فلا

ص: 101

یجدی إخبار الشهید بتواتر تلک القراآت... .(1)

ومحصّل کلامه: إنه إن أخبر عن إخبار العدد الکذائی، فهذا إخبار عن السّبب، وإنْ أخبر عن التواتر، فإن کان الأثر مترتبا علی التواتر فی الجملة، ترتّب، وإنْ کان مترتّبا علی التواتر عند المنقول إلیه، فلا أثر له، ففرّع علی ذلک مسألة تواتر القراءات بأنه: إن کان الأثر الشرعی مترتّبا علی القرآنیّة الواقعیّة، ترتّب بإخبار الشهید. وإنْ کان للتواتر فی الجملة، أی الأعم من الناقل والمنقول إلیه، فکذلک. أما إن کان للتواتر عند المنقول إلیه خاصّةً أو مجتهده، فلا.

وقد اعترضه المحقق الخراسانی فی الحاشیة،(2) فإنه بعد أن بحث عن التواتر فی التنبیه السابع من تنبیهات الإجماع قال:

فتلخّص أنه إذا نقل إلیه ما یبلغ حدّ التواتر عنده، یجب ترتیب الآثار مطلقا، کانت للواقع أو للتواتر مطلقا، وأمّا إذا لم یبلغ حدّه لم یترتب منها إلاّ خصوص ما کان له فی الجملة.

قال: ومنه ظهر حال ما ذکره قدّس سرّه من فرع جواز القراءة وأنه یجوز مطلقا لو کان ما نقله الشهید بالغا ذلک الحدّ عنده، ولایجوز إن لم یبلغه إلاّ إذا کانت من آثار ما تواتر قرآنیّته فی الجملة... .

ومحصّل کلامه: عدم الفرق، وأنّ الأثر یترتّب علی إخبار الشهید، سواء کان للواقع أو للمنقول إلیه.

ص: 102


1- 1. فرائد الأُصول: 64.
2- 2. درر الفوائد: 101.

أقول:

لکن التحقیق هو: أنه إذا أخبر عن التواتر، فتارةً: یتوافق المنقول إلیه والناقل فی المسلک فالأثر مترتب. وأُخری: هما مختلفان، فالأثر غیرمترتب. وثالثةً: یشک فی توافقهما، والحق عدم الترتّب کذلک.

وأمّا لو کان الأثر لا یترتّب بالنسبة إلی المنقول إلیه إلاّ إذا کان التواتر محقّقا عنده، فإنّ بإخبار المخبِر الواحد لا یتحقّق ذلک فلا یترتب علیه الأثر، وهذا هو مقصود الشیخ والحق معه فیما قال.

هذا تمام الکلام فی الإجماع.

ص: 103

ص: 104

الشهرة الفتوائیّة

اشارة

ص: 105

ص: 106

إعلم أن الشهرة علی أقسام:

1. الشهّرة الروائیّة.

2. الشهّرة العملیّة.

3. الشهّرة الفتوائیّة.

والکلام هنا فی القسم الأخیر.

ما یستدلُّ به لحجیّة الشهرة الفتوائیّة

اشارة

وهذا مجموع الوجوه المطروحة لحجیّة الشهرة الفتوائیة والکلام حولها:

ذهب صاحب الکفایة(1) إلی أنه لادلیل علی اعتبار الشّهرة فی الفتوی بالخصوص.

ثم ذکر ثلاثة وجوه بعنوان «التوهّم» وأجاب عنها، وهی:

الأول

الأولویّة القطعیّة من خبر الواحد، فتکون أدلّة حجیّته دالّة علی حجیّة الشّهرة، لأن الظن الحاصل منها أقوی ممّا یُفیده خبر الواحد.

ص: 107


1- 1. کفایة الأُصول: 292.

وفیه:

عدم دلالة أدلّة حجیّة خبر الواحد علی کون مناط اعتباره إفادته الظن، وتنقیح ذلک بالظن لایوجب إلاّ الظن بالأولویّة.

والثانی

مرفوعة زرارة، قال: قلت: جعلت فداک، یأتی عنکم الخبران والحدیثان المتعارضان، فبأیّهما نعمل؟ قال علیه السلام: خذ بما اشتهر بین أصحابک ودع الشاذ النادر. قلت: یا سیدی، إنهما معا مشهوران مأثوران عنکم. قال: خذ بما یقوله أعدلهما.(1)

وجه الاستدلال: إن «ما» الموصولة أعمّ من الروایة والفتوی.

وفیه:

إن المراد من «ما» خصوص الرّوایة المشهورة. هذا بغض النظر عن الإشکال فی السّند.

والثالث

مقبولة عمر بن حنظلة، بعد فرض السائل تساوی الراویین فی العدالة قال:

یُنظر إلی ما کان من روایتهم عنّا فی ذلک الذی حکما به المجمع علیه بین أصحابک فیؤخذ. ویترک الشاذ الذی لیس بمشهور عند أصحابک. فإن المجمع علیه لا ریب فیه، وإنّما الامور ثلاثة... .(2)

ص: 108


1- 1. عوالی اللئالی 4 / 133.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم 1.

بناءً علی أنّ المراد بالمجمع علیه فی الموضعین هو المشهور، بقرینة إطلاق المشهور علیه فی قوله: ویترک الشاذ الذی لیس بمشهور، فیکون فی التعلیل بقوله: فإن المجمع علیه... دلالة علی أن المشهور مطلقا ممّا یجب العمل به، وإنْ کان مورد التعدیل الشهرة فی الروایة... .

وفیه: إن المراد من «ما» الموصولة فی هذا الخبر هو الروایة کذلک.

والرابع

ما ذکره فی الکفایة بقوله: نعم، بناءً علی حجیة الخبر ببناء العقلاء، لا یبعد دعوی عدم اختصاص بنائهم علی حجیّته، بل علی حجیّة کلّ أمارة مفیدة للظن أو الإطمینان.

ثم قال: لکن دون إثبات ذلک خرط القتاد.(1)

والخامس

ما ذکره فی مصباح الاصول،(2) وهو التعلیل الوارد فی ذیل آیة النبأ المبارکة: «أَنْ تُصیبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمینَ» والمراد من الجهالة السفاهة. بتقریب أنه: یجب التبیّن فی کلّ ما یکون العمل به سفاهة، وحیث أن العمل بالشهرة لیس بسفاهة فلا یجب التبیّن.

وأجاب: بأنّ السّفاهة فی العمل بالشهرة موجودة، لأن العمل بما لا یؤمن معه الضّرر سفاهة عقلاً، والشهرة کذلک. وإنْ کان المراد من الجهالة عدم العلم،

ص: 109


1- 1. کفایة الأُصول: 292.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 145.

فالأمر أوضح، لأن الشهرة لا تفید العلم. هذا فی الصّغری. وأمّا الکبری ففیها: إن الحکم بوجوب التبیّن فی کلّ ما کان العمل به سفاهة _ لعموم التعلیل _ لا یدلُّ علی عدم وجوب التبیّن فی کلّ ما لیس العمل به سفاهة، ولذا فمثل: «لاتشرب الخمر لأنه مسکر» وإن کنّا نتعدّی إلی کلّ مسکر فیکون شربه حراما، لکنّه لا یدلُّ علی عدم حرمة غیر المسکر، فقد یکون حراما لکونه نجسا مثلاً.

والسادس

ما ذهب إلیه السیّد البروجردی رحمه اللّه، وحاصله: الاستدلال بالمقبولة، بناءً علی أنّ المقصود من «المجمع علیه» هو الشهرة فی الفتوی لا فی الروایة، لأنّ الروایة قد تکون مشهورةً ولکنها صادرة علی وجه التقیّة فیکون فیها ریب، وإنّما الذی لا ریب فیه هو الحکم المشهور بین الأصحاب، ضرورة أنهم لا یعملون ولا یفتون إلاّ بما تلقّوه من الإمام من الحکم الواقعی، فالحکم المشهور بما أنه مشهور لا ریب فیه، فاُصول المطالب و رؤوسها المشهورة بین الأصحاب حجةٌ لکونها مشهورة بینهم.

هذا علی ما نقل عنه فی الحاشیة علی الکفایة.(1)

وأمّا فی تقریر بحثه،(2) فیتلخّص ما نسب إلیه فی: أنّ المتون الفتوائیّة للقدماء مثل المقنع والمقنعة والنهایة هی متون روائیّة فی المسائل الأصولیّة، فإذا اشتهر حکم بینهم من الناحیة الفتوائیّة کشف ذلک عن دلیل معتبر، فتکون الشهرة الفتوائیّة حجةً، لکاشفیتها عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر.

ص: 110


1- 1. الحاشیة علی کفایة الأُصول 2 / 93.
2- 2. نهایة الأُصول: 541 _ 545.

وفیه:

إنه لیس المقنع والهدایة وغیرهما بأهمّ من الکافی ومن لایحضره الفقیه، والحال أنا نناقش ما ذهب إلیه الکلینی والصّدوق فی الکتابین، فقد یکون ما استند إلیه فی الفتوی معتبرا عندهما وهو غیر معتبرٍ عندنا، ولو فرض جابریّة عمل القدماء لضعف السند، فإنّ بحثنا الآن فی الشهرة الفتوائیّة لا الشهرة العملیّة، فلا ینبغی الخلط.

علی أنّا قد تتبّعنا کتاب النهایة للشیخ والمقنع للصّدوق، وکشفنا عن المستند فی فتاویهما، ووجدنا أنه غیر معتبرٍ فی کثیر من الموارد.

ص: 111

ص: 112

خبر الواحد

اشارة

ص: 113

ص: 114

تمهیدٌ

لا کلام فی حجیّة الخبر المتواتر المفید للعلم، وإنما الکلام فی خبر الواحد، لکونه مفیدا للظن، فهل هو حجّة من جهة قیام الدلیل علی حجیّته فیخرج عن أصالة عدم حجیّة الظن، أوْ لا دلیل علی حجیّته بالخصوص، فینسدُّ باب العلمی، وتکون النتیجة التمسّک بمقدّمات الإنسداد؟

وممّا ذکرنا یظهر أهمیّة هذا البحث، ودخل هذه المسألة فی الإستنباط، ولا حاجة للبحث عن کونها من المسائل الاصولیّة أوْ لا.

هذا، ولیعلم أنه لا تتمُّ الحجیّة للخبر ولا یمکن استنباط الحکم الشرعی منه، إلاّ إذا توفَرت فیه الامور التالیة:

الأوّل: کونه صادرا عن المعصوم، وذلک یتوقف علی سقوط احتمال الکذب فی الراوی وسقوط احتمال الخطأ. أمّا الأوّل، فتتکفّله أدلّة حجیّة الخبر، وأمّا الثانی، فأصالة عدم الخطأ والاشتباه، وهو أصل عقلائی.

والثانی: کونه صادرا علی وجه الجدّ، فلا یحتمل صدوره عن تقیّةٍ. ویتکفّل ذلک الأصل العقلائی المعبّر عنه بأصالة الجدّ.

ص: 115

والثالث: کونه ظاهرا فی المعنی، فلو احتمل إرادة المعنی غیر الحقیقی منه، انتفی بأصالة الحقیقة.

والرابع: أن یکون المعنی الظاهر هو المراد الجدّی للمتکلّم والمطابق للمقصود الواقعی من الکلام. ویتکفّل هذه الناحیة فی صورة الشک أصالة التطابق بین المراد الإستعمالی والمراد الجدّی، وهو المعبّر عنه بأصالة الظهور.

إنه لابدّ من إحراز هذه الامور ولا یکفی الظن، لأنه لا یغنی من الحق شیئا، فإذا احرزت فی الخبر صلح لأنْ یستنبط منه الحکم الشرعی.

ومن هنا یظهر: أن الغرض من مبحث خبر الواحد هو دفع احتمال کذب الراوی، بإقامة الدلیل علی وثاقته.

ونحن نذکر أوّلاً أدلّة القائلین بعدم حجیّة خبر الواحد، ونتکلّم علیها، ثم أدلّة القول بالحجیّة:

ص: 116

أدلّة المانعین

اشارة

إنّ المحکیّ عن جماعة من الأساطین، کالسیّد المرتضی، والقاضی ابن البراج، والسید ابن زهرة، وأبی علی الطبرسی، وابن إدریس: القول بعدم حجیّة خبر الواحد، ولهم علی ذلک وجوه من الأدلّة، قبل الأصل العقلی المؤسّس بعدم جواز اتّباع الظن:

الکتاب

وقد استدلّ لهذا القول من الکتاب بالآیات الناهیة عن اتّباع غیر العلم:

کقوله تعالی: «إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا».(1) ووجه الإستدلال هو کونها ناهیة عن اتّباع الظن مع التعلیل بأن الظن لا یغنی من الحق شیئا. ولا یخفی إطلاقها الشامل للاصول والفروع معا. وخبر الواحد لا یفید إلاّ الظنّ، فلا یجوز ترتیب الأثر علیه.

ص: 117


1- 1. سورة النجم: الآیة 28.

وقوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُوءادَ کُلُّ أُولئِکَ کانَ عَنْهُ مَسْوءُلاً»(1) وهذه کسابقتها ظاهرة فی المنع عن اتّباع غیر العلم، سواء فی الاصول والفروع. واتباع خبر الواحد اتّباعٌ لما لیس بعلمٍ، وإنّ السّمع والبصر ممنوعان من اتّباع الظن.

وقوله تعالی: «یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصیبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمینَ»،(2) فإنّ التعلیل المذکور ظاهر فی المنع عن ترتیب الأثر علی ما لیس بعلمٍ.

الجواب:

وقد اُجیب عن الإستدلال بالآیات بوجوهٍ یعود بعضها إلی مرحلة الإقتضاء والبعض الآخر إلی مرحلة المانع:

قال الشیخ: والجواب أمّا عن الآیات، فبأنّها بعد تسلیم دلالتها عمومات مخصّصة بما سیجئ من الأدلّة.(3)

وفی هذا الکلام إشارة إلی المرحلتین، فقوله: «بعد تسلیم دلالتها» إشارة إلی أنّ الآیات فی مورد اصول الدین، فلا دلالة لها علی المنع من العمل بخبر الواحد فی الأحکام. وقوله: «عمومات مخصّصة» صریحٌ فی أنه لو سلّم وجود المقتضی

ص: 118


1- 1. سورة الإسراء: الآیة 36.
2- 2. سورة الحجرات: الآیة 6.
3- 3. فرائد الأُصول: 69.

للاستدلال وهو الظهور فی العموم، فالمانع عن الأخذ به _ وهو المخصّص _ موجود.

وقد صرَّح فی الکفایة بالجواب المذکور فی مرحلة المقتضی قائلاً:

والجواب، أمّا عن الآیات: فبأنَّ الظاهر منها أو المتیقّن من إطلاقاتها هو اتّباع غیرالعلم فی الاصول الإعتقادیّة لا ما یعمّ الفروع الشّرعیّة.(1)

فی مرحلة الاقتضاء

أقول

أمّا أن القدر المتیقّن منها هو المنع عن اتّباع غیر العلم فی الاصول الاعتقادیّة، فمبنی علی مسلکه فی مقدّمات الحکمة. وأمّا کونها ظاهرةً فی ذلک، فمن أجل السّیاق، وقد وافقه علی هذا المیرزا والعراقی وغیرهما.

إلاّ أنه قد تقدّم أن ظاهر التعلیل بأن الظن لا یغنی من الحق شیئا هو أنّ ذلک مقتضی طبیعة الظن، لعدم الکاشفیّة له عن الواقع، لوجود احتمال الخلاف غیر الملغی شرعا، فتجوز دعوی کون الآیة فی حدّ ذاتها نصّا فی العموم، ولا أقلّ من ظهورها فیه، والسّیاق لا یوجب رفع الید عن أصالة العموم والإطلاق، کما لا یخفی.

وأمّا قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ...» فهو بنفسه یعمّ الفروع، خصوصا بلحاظ الذیل: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ...».

وأجاب السیّد الخوئی کما فی المصباح: بأنّ مفاد الآیات الشریفة إرشاد إلی

ص: 119


1- 1. کفایة الأُصول: 295.

حکم العقل بوجوب تحصیل العلم بالمؤمنّ من العقاب وعدم جواز الإکتفاء بالظنّ به، بملاک وجوب دفع الضرر المحتمل إنْ کان اُخرویّا، فلا دلالة لها علی عدم حجیّة الخبر أصلاً.(1)

أقول:

لکنّ رفع الید عن أصالة المولویّة فی الخطابات الشّرعیّة یحتاج إلی الدلیل. ولعلّه لذا لم یذکر هذا الجواب فی الدراسات.(2)

وأجاب السیّد الصدّر عن الآیة «وَلا تَقْفُ ...» بأنّ النهی قد تعلّق فیها بالإقتفاء بغیر العلم لا مجرّد العمل علی طبقه، والإقتفاء عبارة عن الاتباع... وهذا المطلب صحیح فی باب الظنّ وعقلائی أیضا، ولکنّه لا ینافی حجیّته، فإن الإقتضاء حینئذٍ فی مورد الظنّ یکون للعلم بالحجیّة ووجوب متابعته شرعا لالنفس الظنّ، وإنْ کان العمل علی طبق الظنّ. قال: وأمّا الآیة الاخری «وَإِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی...» فقد تبیّن حالها ممّا قلناه فی الاولی، فإنها واردة فی سیاق التندید بالکفّار الذین یعوّلون علی الظّنون... وهذا السیّاق قرینة علی أنّ المقصود هو الإشارة إلی سنخ قاعدة عقلیّة أو عقلائیّة...(3)

أقول:

أمّا الآیة الثانیة، فقد جعلها إرشادیّة. وأمّا الآیة الاولی، فإن الاقتفاء هو الاتباع

ص: 120


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 151.
2- 2. دراسات فی علم الأُصول 3 / 155.
3- 3. بحوث فی علم الأُصول 4 / 339.

کما ذکر، لکن الاتّباع قد یکون فی العقیدة، وقد یکون فی القول، وقد یکون فی العمل، فالعمل فی مورده من مصادیق الاقتفاء. فتدبّر.

وذکر شیخنا الاستاذ _ فی الدورتین _ وجها آخر للجواب عن الإستدلال بالآیات لعدم حجیّة خبر الواحد، وهو: إنّ الاستدلال بها علی عدم حجیّة الخبر یتوقّف علی حجیّة ظواهرها، لکنّ المفروض أنها ظنیّة الدلالة _ وإنْ کانت قطعیّة الصّدور _ فیلزم من عمومها عدم حجیّة الظن، وعدم حجیّة ظواهرها، فالاستدلال بها لعدم حجیّة خبر الواحد محال.

ثم نقل الجواب عن ذلک: بأنّ البرهان المشار إلیه، وهو استحالة استلزام وجود الشئ لعدم نفسه موجبٌ للتخصیص عقلاً، أی خروج ظواهر هذه الآیات عن تحت الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم. وحینئذٍ، یتمُّ الاستدلال بها.

ثم أشکل دام بقاه علی هذا الجواب: بأنه یبتنی علی مولویّة هذه الآیات، بأنْ یکون الشارع قد نهی عن اتّباع الظنّ نهیا مولویّا طریقیّا لحفظ الواقع، نظیر الأوامر الاحتیاطیّة الصّادرة عنه من أجل التحفّظ علی الواقع، ونظیر النهی عن القیاس، فإنه نهی طریقی للتحفّظ علی الواقعیّات، إذ السنّة إذا قیست محق الدین.

لکنّ هذه الآیات إرشاد إلی حکم العقل، والعقل یحکم بأنّ الظنّ بما هو ظنٌّ لیس بحجّةٍ، والأحکام العقلیّة لا تقبل التخصیص کما هو معلوم.

قال: بل التحقیق إنّ هذه الآیات _ حتی لو کانت مولویّةً _ غیر قابلة للتخصیص، لکونها معلّلةً بأنّ الظنّ لا یغنی من الحقّ شیئا، إذ لا یعقل أنْ یکون الظنّ الخبری مغنیا عن الحق. وبعبارة اخری: فإنّ هذا التعلیل معناه أنّ طبیعة الظنّ

ص: 121

هی عدم الإغناء عن الحق، فلا یعقل تخصیصها فی موردٍ... وکذا قوله تعالی: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ...» فلا یعقل أن تخصّص الآیة بعدم المسئولیّة فی موردٍ من الظنون.

والحاصل: إن هذه الآیات، إمّا إرشاد إلی حکم العقل بعدم جواز اتّباع غیر العلم، فالظن وغیره المحتمل لمخالفة الواقع لا یجوز اتّباعه، وهذا الحکم لا یقبل التخصیص. وإمّا هی خطابات مولویّة طریقیّة، فلا تقبل التخصیص، لکونها معلّلةً بما لا یقبله.

فظهر أنّ الآیات تقتضی _ عقلاً _ المنع عن اتّباع الظن مطلقا، فخبر الواحد لیس بحجّة.

وهذا عمدة الکلام فی مرحلة الإقتضاء.

فی مرحلة المنع

وأمّا فی مرحلة المانع، فقد اختلفت أنظار القائلین بحجیّة خبر الواحد فی وجه تقدّم أدلّتهم علی الآیات المستدلّ بها علی المنع، فهل هو التخصیص أو الورود أو الحکومة؟

فالشّیخ علی أنّ الآیات عمومات مخصصّة...

وتبعه صاحب الکفایة إذ قال: ولو سلّم عمومها لها فهی مخصصّة بالأدلّة الآتیة علی اعتبار الأخبار.

واختاره السیّد الاستاذ رحمه اللّه، وأوضح ذلک: بأنّ النهی الوارد فی الآیات

ص: 122

الکریمة نهی تشریعی یقصد به نفی الحجیّة عن غیرالعلم، فما یثبت الحجیّة یکون مصادما لنفس الحکم مباشرة. وبعبارة اخری: إنّ مفاد الآیات أن غیرالعلم لیس بحجّةٍ، فما یتکفّل أن خبر الواحد حجة لا یکون حاکما علیها بل یکون مخصّصا کما لا یخفی.(1)

وقیل بالورود، لأنّ الموضوع فی قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» لیس هو «العلم» بل هو «الحجّة»، وذلک: لحکم العقل باتّباع الحجة ونهیه عن اتّباع ما لیس بحجّةٍ، والشّرع مؤیّد لحکم العقل بذلک، وإذا قام الدلیل علی اعتبار الخبر کان الخبر حجّةً، وحینئذٍ یتقدّم ما دلّ علی حجیّته علی الآیات المذکورة بالورود.

وقد اختار السیّد الصّدر هذا الوجه، حیث نصَّ علی ذلک فی آخر کلامه الذی نقلناه آنفا حول الآیتین إذ قال: فیکون دلیل الحجیّة واردا علی الآیتین.(2)

وأمّا التقدّم بالحکومة، فقد ذهب إلیه المیرزا، قال: ولو فرضنا عمومها لمطلق الظنّ _ ولو کان متعلّقا بحکمٍ فرعی _ فالطرق التی جری علیها بناء العقلاء خارجة عن موضوعها حقیقةً، إذ الطریق الذی ثبت حجیّته ببناء العقلاء أو بدلیل تعبّدی _ ولو فی غیر مورد بنائهم، وإنْ کان هذا فرضا غیر واقع _ یکون خارجا عن موضوعها بالحکومة، فإن الطریق إذا کان حجّةً فلا محالة یکون محرزا للواقع وعلما طریقیّا، فکیف یمکن أن تعمّه الآیات الناهیة عن العمل بالظن؟(3)

ص: 123


1- 1. منتقی الأُصول 4 / 253.
2- 2. بحوث فی علم الأُصول 4 / 339.
3- 3. أجود التقریرات 3 / 178 _ 179.

والعراقی، حیث قال: أمّا الآیات الناهیة عن اتّباع غیر العلم، فلأنها إنما تدلّ علی المنع عن العمل بخبر الواحد فی فرض عدم تمامیّة الأدلّة المثبتة للحجیّة، إذ فی فرض تمامیّتها لا مجال للتمسّک بتلک الآیات، لحکومة تلک الأدلّة علیها حسب اقتضائها لتتمیم الکشف وإثبات العلم بالواقع، حیث أنها تقتضی کون العمل به عملاً بالعلم. وهذا ظاهر بعد معلومیّة وضوح عدم تکفّل الآیات لإحراز موضوعها الذی هو عدم العلم، وتمحضّها لإثبات حکم کلّی لموضوع کلّی... ومن هذا البیان ظهر الجواب عن الآیات الناهیة عن العمل بالظنّ واتّباعه...(1)

وقد تبعهما السیّد الخوئی رحمه اللّه.(2)

أقول:

قد تلخّص ما تقدّم فی المرحلة الاولی فی تمامیّة العموم، فإنْ کانت الآیات إرشادا إلی حکم العقل، فلا تخصیص فی الخطابات الإرشادیة، وإنْ کانت مولویة، فإنّ النهی عن اتباع الظن لا یقبل التخصیص لإباء لسان «وَإِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی...» عن ذلک.

ثم إنه هل المراد من «العلم» فی قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» هو «الحجّة» أو «الإنکشاف»؟

إن کان الأوّل، کانت أدلّة حجیّة خبر الواحد واردة علی الآیة، بناءً علی جعل الحجیّة.

ص: 124


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 102.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 152.

وإن کان الثانی، وقلنا بأن مدلول الأدلّة هو جعل الکاشفیة، کانت حاکمةً علی الآیة، أی أنها تتصرّف فی موضوع «وَلا تَقْفُ» ویکون خبر الواحد علما.

وإنْ کان مدلول أدلّة اعتبار خبر الواحد هو جعل الحکم المماثل، فقد یقال هنا بتقدّمها علی الآیة بالتخصیص، لکن الأظهر هو الحکومة کذلک، لأنْ مدلولها لیس جعل الحکم المماثل فی مقابل الواقع، بل جعل الحکم المماثل بعنوان أنه الواقع، فیکون العلم بالواقع طریقیّا، وأدلّة اعتبار الخبر تفید أن ما أخبر به زرارة مثلاً هو الواقع.

واستدلّ المیرزا بالسّیرة وأنها قائمة علی تقدّم خبر الثقة علی أدلّة النهی عن اتباع الظن، تخصّصا أو ورودا أو حکومة.

فقال بعد أنْ ذهب إلی الحکومة:

هذا فی غیر السّیرة العقلائیّة القائمة علی العمل بالخبر الموثوق به. وأمّا السّیرة العقلائیّة، فیمکن بوجهٍ أنْ تکون نسبتها إلی الآیات الناهیة نسبة الورود بل التخصّص.(1)

فإنْ أراد تقدّمها بنفسها _ کما هو ظاهر کلامه، ولأنه لو أراد السّیرة الممضاة، فلابدّ من إسقاط احتمال رادعیّة قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ» قبل دعوی تقدّمها _ فلا إشکال فی أن خبر الواحد لیس بعلم وجدانا عند العقلاء، لأنهم یحتملون الخلاف معه، غیر أنهم لا یعبأون بالإحتمال فی مقام العمل، وإذ لیس بعلم فلا تخصّص.

وإنْ أراد تقدّمها مع أمضاء الشارع:

ص: 125


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 161.

ففیه: أن إمضائه لا یجعل خبر الثقة علما، علی أنه یتوقف علی إثبات عدم رادعیّة الآیة.

هذا بالنسبة إلی التخصّص.

وأمّا الورود، فیتوقف علی التصرّف فی الموضوع بالوجدان ببرکة التعبّد، ولا ریب فی عدم زوال موضوع «وَلا تَقْفُ» وجدانا، فی السیرة العقلائیة. علی أنّ السیرة بوحدها، أی بقطع النظر عن الإمضاء، لیست دلیلاً تعبدیّا، ومع النظر إلیه، فلا معنی للورود، لأنه مع الإمضاء لا یرتفع الجهل ولا یزول عدم العلم وجدانا، ولکن الورود هو ارتفاع الموضوع بالوجدان.

وهذا بالنسبة إلی الورود.

بقی الحکومة، ولا إشکال فی دعواها بالسّیرة مع إمضاء الشارع، لأنّ نتیجة ذلک اعتبار الشارع خبر الثقة، کما علیه العقلاء، حیث أنه معتبر عندهم مع إلغاء احتمال الخلاف. وبعبارة اخری: علی نحو تتمیم الکشف کما هو مسلک المیرزا رحمه اللّه. فموضوع الآیة المبارکة وهو الجعل یرتفع بالتعبّد، ولکنْ لابدّ من إسقاط احتمال رادعیّة الآیة، لأنه مع وجوده لا یتم الإمضاء. وأمّا مع قطع النظر عن الإمضاء فلا تعقل الحکومة، إذ لا أثر للسیرة مع عدم الإمضاء، ولا یحقّ للعقلاء التصرّف فی موضوع حکم الشارع.

وتلخّص من جمیع ما ذکرنا:

إن الآیات تنهی عن اتّباع ما لیس بعلم وما لا ینتهی إلی العلم، لکنّ أدلّة حجیّة خبر الواحد تُنهی الخبر إلی العلم، فهی مقدّمة علی الآیات بالحکومة.

ص: 126

السنّة

واستدلّ المانعون بروایات کثیرة مروّیة بالأسانید عن الأئمة الطّاهرین علیهم السلام فی کتب أصحابنا المعتمدة، وقد أورد الشیخ طرفا منها، ولانری حاجةً إلی ذکرها کلّها، وإنما نقول أنها بحسب المضامین علی طوائف:

1. ما لم یعلم أنه من الأئمة علیهم السلام فلیس بحجّة.

مثل الخبر عن محمد بن عیسی قال: أقرأنی داود بن فرقد الفارسی کتابه إلی أبیالحسن الثالث وجوابه بخطّه علیه السّلام، فکتب: نسألک عن العلم المنقول عن آبائک وأجدادک _ صلوات اللّه علیهم أجمعین _ قد اختلفوا علینا فیه، فکیف العمل به علی اختلافه؟ فکتب بخطّه: ما علمتم أنه قولنا فالزموه وما لم تعلموه فردّوه إلینا.(1)

2. ما لیس علیه شاهد أو شاهدان من کتاب اللّه فلیس بحجّة، مثل الخبر عن ابن أبییعفور قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن اختلاف الحدیث، یرویه من أثق به ومن لا أثق به. قال: إذا ورد علیکم حدیث فوجدتم له شاهدا من کتاب اللّه أو من قول رسول اللّه _ صلّی اللّه علیه وآله _ فخذوا به، وإلاّ فالذی جاءکم به أولی به.(2)

3. ما لا یوافق کتاب اللّه فلیس بحجّة.

کقوله علیه السّلام: کلّ شئ مردود إلی کتاب اللّه والسنّة، وکلّ حدیث لا یوافق کتاب اللّه فهو زخرف.(3)

ص: 127


1- 1. بصائر الدرجات: 524 رقم 26.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 110، الباب 9 من أبواب صفات القاضی رقم 11.
3- 3. المصدر، الرقم 14.

4. ما خالف کتاب اللّه فلیس بحجّة.

کصحیحة هشام بن الحکم عن أبی عبداللّه علیه السّلام: لا تقبلوا علینا حدیثا إلاّ ما وافق الکتاب والسنّة أو تجدون معه شاهدا من أحادیثنا المتقدّمة.

فاتّقوا اللّه ولاتقبلوا علینا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبیّنا.(1)

أجوبة الأعلام

أجاب فی الکفایة:

إن الإستدلال بها خالٍ عن السّداد، فإنها أخبار آحاد.

لا یقال: إنها وإنْ لم تکن متواترة لفظا ومعنیً إلاّ أنها متواترة إجمالاً، للعلم الإجمالی بصدور بعضها لا محالة.

فإنّه یقال: إنها وإنْ کانت کذلک، إلاّ أنها لا تفید إلاّ فیما توافقت علیه، وهو غیر مفید فی إثبات السّلب کلیّا، کما هو محلّ الکلام ومورد النقض والإبرام، وإنما تفید عدم حجیّة الخبر المخالف للکتاب والسنّة، والإلتزام به لیس بضائر بل لا محیص عنه فی مقام المعارضة.(2)

توضیحه:

إنه لو کانت هذه الأخبار آحادا کان الإستدلال بها خالیا عن السّداد، إذ لا یمکن نفی حجیّة خبر الواحد بخبر الواحد، لکنّ الإستدلال لیس بکلّ طائفةٍ

ص: 128


1- 1. بحارالأنوار 2 / 250 رقم 62.
2- 2. کفایة الأُصول: 295.

بوحدها، بل مورد الإستدلال مجموع الطوائف، وهی _ وإنْ لم تکن متواترةً لفظا _ متواترة إجمالاً کما علیه المحقّق الخراسانی، أو معنیً کما علیه الاستاذ دام بقاه کما سیأتی، أو تحتمل هذا وذاک کما هو ظاهر عبارة المیرزا رحمه اللّه.(1)

وکیف کان، فلا یصّحُ الجواب بأنها أخبار آحاد، ولذا عدل صاحب الکفایة عن الجواب بذلک. وإذا کانت متواترةً إجمالاً، فلابدّ من الأخذ بالأخصّ مضمونا منها، وهو ما یدلّ علی عدم حجیّة الخبر المخالف للکتاب والسنّة _ فإنه ممّا لم یقولوه ولا شاهد علیه منهما _ فیکون الجواب: إنْ هذه المخالفة لاتخلو إمّاهی بالمباینة أو بالعموم من وجهٍ، لأنّ المخالف بالعموم والخصوص المطلق صادر منهم یقینا. وعلیه، فما خالف الکتاب بأحد النحوین یکون ساقطا عن الاعتبار، وهذا ما لا خلاف فیه بین الأصحاب، لا مطلق خبر الواحد کما هو المدّعی.

والحاصل:

التسلیم بتواتر تلک الأخبار، والقول بأنه تواتر إجمالی فیؤخذ بالأخصّ مضمونا منها، وهو ما ورد عنهم مباینا للکتاب والسنّة وأنه لاضیر فی الإلتزام به، فالاستدلال بها لعدم حجیّة خبر الواحد مردود.

هکذا تخلّص رحمه اللّه عن هذه المشکلة.

وقد أشکل سیدنا الاستاذ(2) رحمه اللّه علی کلمته أخیرا «بل لا محیص عنه فی مقام المعارضة» بأنّه: أجبنیٌ عمّا نحن فیه، لأنّ فرض التعارض یلازم فرض

ص: 129


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 162.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 254.

تمامیّة حجیّة کلٍّ من المتعارضین فی نفسه، بحیث یجب العمل به لولا المعارضة. والبحث فیما نحن فیه عن أصل الحجیّة. فالإلتزام بعدم حجیّة الخبر المخالف للکتاب والسنّة فی مقام التعارض لا یعنی الإلتزام بعدم حجیّته فی نفسه ولایقرب هذا المعنی.

أقول:

والإنصاف أن المسألة غیر صافیة من الإشکال، ولعلّه لذا أهمل البحث عن ذلک بعضهم، وأحاله غیره إلی موضع آخر، والإضطراب لائحٌ من کلمات البعض الآخر، اُنظر إلی کلام المحقق النائینی فی الدورة الاولی، وهذا نصّه بطوله:

وأمّا السنّة: فلأنّ الأخبار الدالّة علی طرح الخبر المخالف أو الذی لاشاهد علیه من الکتاب والعمل بالخبر الموافق والذی علیه شاهد من الکتاب وإن کانت متواترة معنی أو إجمالاً _ للعلم بصدور بعضها عن المعصوم علیه السلام وهی آبیة عن التخصیص _ کما لا یخفی علی المتأمّل فیها _ إلاّ أنّه یعلم أیضا بصدور جملة من الأخبار المخالفة للکتاب ولو بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقیید، ولا یسعنا طرح جمیع ما بأیدینا من الأخبار المودعة فی الکتب، لأنّه یلزم من الإقتصار علی ما یستفاد من ظاهر الکتاب تعطیل کثیر من الأحکام، خصوصا فی باب العبادات؛ بل معظم الأحکام إنّما یستفاد من الأخبار؛ ولو بنینا علی الأخذ بظاهر هذه الأخبار الناهیة عن العمل بما یخالف الکتاب أو الذی لا یوجد له شاهد منه والإقتصار فی العمل بما یوافق ظاهر الکتاب، یلزم طرح جمیع ما بأیدینا من الأخبار المخالفة لظاهر الکتاب بالعموم والخصوص والإطلاق والتقیید؛ وهذا ممّا

ص: 130

لا سبیل إلی الإلتزام به؛ فلابدّ وأن یکون المراد من «المخالفة» غیرالمخالفة بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقیید، من المخالفة بالتباین الکلّی أو بالعموم من وجه؛ بل المخالفة بالعموم والخصوص لا تعدّ من المخالفة، لما بینهما من الجمع العرفی، والتخالف بینهما إنّما یکون بدویّا یزول بالتأمّل فی مدلولهما؛ فالأخبار الناهیة عن العمل بالخبر المخالف للکتاب لا تعمّ المخالفة بالعموم والخصوص.

ولا یبعد أن یکون صدور هذه الأخبار فی مقام الردّ علی الملاحدة الذین کانوا یضعون الأخبار ویدسّونها فی کتب الأصحاب هدما للشریعة المطهرة، حتی نقل عن بعضهم أنّه قال _ بعد ما استبصر ورجع إلی الحق _ إنّی قد وضعت إثنی عشر ألف حدیثا. فأقرب المحامل لهذه الأخبار حملها علی الخبر المخالف للکتاب بالتباین أو بالعموم من وجه؛ وإن کان یبعد حملها علی المخالفة بالتباین، لأنّه لیس فی الأخبار ما یخالف الکتاب بالتباین الکلّی، حتی أنّ من یرید الوضع والدسّ فی الأخبار لا یضع ما یخالف الکتاب بالتباین الکلّی؛ لأنّه یعلم أنّه من الموضوع.

ولا یبعد أیضا حمل الأخبار الناهیة علی الأخبار الواردة فی باب الجبر والتفویض والقدر، ونحو ذلک.

ویمکن أیضا حمل بعضها علی صورة التعارض بین الروایات، فیؤخذ بالموافق للکتاب ویطرح المخالف له.

وکیف کان، لابدّ من حمل هذه الأخبار علی أحد هذه المحامل، لما عرفت

ص: 131

من أنّه لو بنینا علی شمولها للمخالفة بالعموم والخصوص، یلزم تعطیل کثیر من الأحکام.

وممّا ذکرنا یظهر ما فی الاستدلال بروایة داود بن فرقد، فإنّه مضافا إلی أنّها من أخبار الآحاد ولایصلح التمسک بها لما نحن فیه _ لأنّه یلزم من حجیتها عدم حجیتها _ لا تشمل العمل بخبر الثقة، لأنّه لیس من أفراد قوله علیه السلام: وما لم تعلموا فردّوه إلینا، بل أدلّة حجیّته تقتضی أن یکون من أفراد قوله علیه السّلام: ما علمتم أنه قولنا فالزموه، بالبیان المتقدم فی الجواب عن الإستدلال بالآیات الناهیة عن العمل بالظن.(1)

أقول:

أمّا خبر داود بن فرقد، وخبر آخر معه فی الطائفة الاولی، فهما من أخبار الآحاد، وواردان فی مورد المعارضة بین الخبرین. وإنّما الکلام فی بقیة الأخبار المعترف بتواترها.

وذهب الاستاذ فی الدورة السّابقة إلی أنّ هذه الأخبار متواترة معنیً لا إجمالاً، لأن الدلالة الالتزامیّة من الدلالات اللّفظیّة کما لا یخفی، ومن الدلالة الإلتزامیّة هی الأولویة القطعیّة، وعلیه، فما یدلّ علی سقوط ما لا یوافق الکتاب، یکون دالاًّ بالأولویّة القطعیّة علی سقوط المخالف له، والمنع عن الأخذ بالمخالف له یدلّ بالأولویّة القطعیّة علی المنع من الأخذ بما لیس له شاهد أو شاهدان من

ص: 132


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 162 _ 164.

کتاب اللّه. فالأخبار متواترة معنیً، وذلک، لأنّها وإنْ اختلفت مضامینها متّحدة فی المصداق، لأنّ ما یکون علیه شاهد أو شاهدان یکون موافقا للکتاب، وما لا فهو مخالف له.

نعم، یمکن أن یکون الخبر غیر موافق للکتاب وهو فی نفس الوقت غیر مخالف له، فتقع المفارقة المصداقیّة بین الطائفتین الثالثة والرابعة.

لکنّ الخبر عن أبی عبداللّه علیه السلام أنه خطب النبی صلی اللّه علیه وآله بمنی فقال: أیها الناس، ما جاءکم عنی یوافق کتاب اللّه فأنا قلته، وما جاءکم یخالف کتاب اللّه فلم أقله(1)، والخبر عن أبی عبد اللّه علیه السلام: قال قال رسول اللّه: إن علی کلّ حق حقیقة وعلی کلّ صواب نورا، فما وافق کتاب اللّه فخذوه وما خالف کتاب اللّه فدعوه.(2) یدلاّن علی الوحدة المصداقیّة، لأنّ المخالف الذی یطرح هو المخالف بالمباینة، وکلّما لا یکون مخالفا بالمباینة، فهو موافق یجب الأخذ به.

فظهر أن مدلول الجمیع واحد، والمقصود بطلان ما خالف کتاب اللّه بالتباین. ویشهد بما ذکرنا حمل الفقهاء «ما لا یوافق» علی «المخالف» فی قولهم: «کلّ شرط لا یوافق کتاب اللّه فهو باطل».

أقول:

لکنّ حمل «المخالفة» علی «المباینة» غیر واضح، لِما أشار إلیه المیرزا فی

ص: 133


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 111، الباب 9 من أبواب صفات القاضی رقم: 15.
2- 2. المصدر، رقم: 10.

کلامه، قال: لأنّه لیس فی الأخبار ما یخالف الکتاب بالتباین الکلّی، حتی أنّ من یرید الوضع والدّس فی الأخبار لایضع ما یخالف الکتاب بالتباین الکلّی، لأنه یُعلم أنه من الموضوع.

وقد تبع فی ذلک الشیخ رحمه اللّه إذ قال فی تقریب استدلال المنکرین:

والمراد من المخالفة للکتاب والسنّة لیس هی المخالفة علی وجه التباین الکلّی، إذ لایصدر من الکذّابین علیهم مایباین الکتاب والسنّة کلّیةً، إذْ لا یصدّقهم أحدٌ فی ذلک...(1)

وما أفاده السّید الخوئی فی الجواب من: أنّ الواضعین کانوا یدسّون تلک المجعولات فی کتب الثقات من أصحاب الأئمة ولم ینقلوها بأنفسهم لعدم القبول منهم.(2)

فإنما یفید بنحو الموجبة الجزئیّة. کما فی روایة لعن الإمام علیه السلام المغیرة بن سعید، لأنّه دسّ فی کتب أصحاب أبیه،(3) ولیس کلّما وضع علیهم علیهم السلام من هذا القبیل.

وعلی الجملة، فإنّ شمول تلک الأخبار للمخالفة بالعموم والخصوص باطلٌ بلاکلام، وحملها علی صورة المخالفة بالتباین مشکل، فلابدّ من حملها علی بعض المحامل. فتدبّر.

ص: 134


1- 1. فرائد الأُصول: 68.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 150.
3- 3. رجال الکشی: 224.

تنبیهان

الأوّل

ذکر السیّد الخوئی: أن أخبار «ما لیس له شاهد أو شاهدان» مخصّصة بأدلّة اعتبار خبر الثقة، والمخصّص لا یعقل أن یکون مانعا عن المخصّص.(1)

وفیه:

إن «ما لیس له شاهد أو شاهدان» تارة: خبر الثقة، واخری: خبر غیر الثقة. وخبر الثقة تارةً: له شاهد، واخری: لا. فالصحیح أن النسبة بین «ما لیس له شاهد» وبین «خبر الثقة» هی العموم من وجه، لا العموم والخصوص المطلق. فإنْ لزم فی مورد الإجتماع لغویّة أحد الدلیلین، فالقاعدة المقرّرة هی الأخذ بما تلزم لغویّته. وفیما نحن فیه: لو اُخذ بما علیه شاهد أو شاهدان، لزم لغویّة عنوان خبر الثقة، بخلاف ما لو اُخذ بدلیل حجة خبر الثقة، فلا تلزم لغویّة ما علیه شاهد أو شاهدان، لوجود المورد له.

الثانی

قد کان فی الأخبار طائفة اخری لم یذکرها الأصحاب، وهی: «ما سمعتَه منّی یشبه قول الناس ففیه التقیّة، وما سمعت منّی لا یشبه قول الناس فلیس فیه تقیّة».(2)

ص: 135


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 151، دراسات فی علم الأُصول 3 / 155.
2- 2. وسائل الشیعة 22 / 285، الباب 3 من أبواب کتاب الخلع والعباراة.

والجواب:

إنها أخبار آحاد، ولو سلّم، فإنما تصلح للمانعیّة لو کان النسبة بینها وبین أدلّة حجیّة الخبر نسبة العموم والخصوص المطلق.

الإجماع

واستدلّ للقول بعدم حجیّة خبر الواحد بالإجماع. فقد ادّعاه السیّد المرتضی فی موارد، ولذا نُسب القول بذلک إلی الطائفة فی کتب الاصول للعامّة.

وقد أجابوا عنه: بأن المحصّل منه غیر حاصل، والمنقول لیس بحجّة، وأنه معارض بمثله.

هذا، وللمحقق النائینی هنا مطلبٌ لا بأس بإیراده، قال رحمه اللّه:

والتحقیق فی هذا المقام أن یقال: إنّ للخبر الواحد عندهم اصطلاحین:

أحدهما: الخبر غیرالقطعی وما لا یکون محفوفا بالقرینة القطعیّة أو ما بحکمها، وهو الذی ذهب ابن إدریس إلی عدم حجّیّته، وذهب جماعة من القدماء والمتأخّرین إلی حجّیّته، إذا کان الراوی له موثوقا به، بل ادّعی الشیخ قدّس سرّه وجماعة اُخری الإجماع علی حجّیّته.

الثانی: الخبر الذی لا یکون معتمدا علیه، ویکون راویه غیرثقة، وکثیر من القدماء کانوا یعبّرون عن الخبر الضعیف بأنّه خبر واحد، ولذا تری أنّ الشیخ قدّس سرّه بعدما یذکر الأخبار التی یفتی بها فی کتاب التهذیب، یذکر الخبر المعارض له ثمّ یردّه بأنّ أوّل ما فیه أنّه خبر واحد، مع أنّ الشیخ هو الذی ادّعی الإجماع علی

ص: 136

حجّیّة الخبر الواحد. فالإختلاف بین الإصطلاحین هو الموجب لإسناد المنع إلی الشیخ أیضا،

فظهر أنّ الخبر الواحد بالمعنی الأوّل _ الذی هو محلّ الکلام _ لا یحتمل فیه انعقاد الإجماع علی عدم حجّیّته، فضلاً عن الظنّ به، وما هو معقد الإجماع أجنبیّ عنه بالکلّیّة.(1)

وهذا تمام الکلام فی أدلّة المانعین عن حجیّة خبر الواحد.

ص: 137


1- 1. أجود التقریرات 3 / 180.

ص: 138

أدلّة حجیّة خبر الواحد

واستدلّ القائلون بحجیّة خبر الواحد بالکتاب والسنّة وغیرهما.

امّا من الکتاب، فقد استدلّوا بآیات، منها:

آیة النبّأ

اشارة

قوله تعالی: «یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصیبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمینَ ».(1)

ویقع الکلام فی هذه الآیة فی مقامین:

1. مقام المقتضی

2. مقام المانع

ولا یتم الإستدلال إلاّ بتمامیّة المقتضی وعدم المانع، کما هو واضح.

المقام الأوّل: فی المقتضی

اشارة

إنه یمکن الإستدلال بهذه الآیة لحجیّة خبر الواحد من وجوه، عمدتها:

الوجه الأوّل: مفهوم الوصف

ص: 139


1- 1. سورة الحجرات: الآیة 6.

حیث حکم فیها بالتبیّن من خبر الفاسق، فینتفی عند انتفاء الوصف، فالمترتّب علی الوصف سنخ الحکم لا شخصه. وتوضیحه: إنّ الآیة المبارکة أناطت وجوب التبیّن بعنوان خبر الفاسق، فإذا انتفی الوصف انتفی الحکم، فلو وجب التبیّن عن خبر العادل کذلک لزم لغویّة الإناطة المذکورة وهی مستحیلة.

وعلی الجملة، فإنّ مجرّد أخذ الوصف فی الموضوع، یکون کاشفا _ لامحالة _ عن دخلٍ له فی الحکم، ونتیجة ذلک، أنه إنْ کان المخبر عادلاً لم یجب التبیّن من خبره.

الکلام علیه

وقد وقع هذا الوجه موقع النقض والإبرام فی کلمات الأعلام، فصاحب الکفایة _ الذی لم یذکره فیها _ أجاب عنه فی تعلیقة الرسائل: بأنه إنما یستفاد من التعلیل ذلک لو کانت العلّة راجعةً إلی عدم القبول، بخلاف ما إذا کانت راجعةً إلی اشتراط القبول بالتبیّن، کما هو ظاهر الآیة... مع أنه لو سلّم رجوعها إلی عدم القبول، فإنما تفید المطلوب لو اُحرز انحصار المانع بما علّل به، ولا طریق إلیه. وأصالة عدم مانع مثبتة أن ترتّب المقتضی علی المقتضی إنما یکون من آثار عدم المانع عقلاً.(1)

وأجاب المیرزا: بأنّ القضیة الوصفّیة لیست ذات مفهوم، ومجرّد ذکر الوصف فی القضیّة لایقتضی انتفاء سنخ الحکم بانتفاء الوصف، بل أقصاه أن یکون الحکم المذکور فی القضیّة لایشمل الموصوف الفاقد للوصف، یعنی عدم

ص: 140


1- 1. درر الفوائد: 106 _ 107.

التعرّض لحکمه، وهذا غیر المفهوم، فمن الممکن أنْ لایکون المتکلّم بصدد بیان تمام أفراد الموضوع، واقتصر فی البیان علی بیان بعض الأفراد مع اشتراک الأفراد الاخر فی الحکم، إلاّ أنه لمصلحة أخّر بیانها. فلا دلالة لقوله: «أکرم عالما» علی کون المناط فی وجوب الإکرام هو وصف العالمیّة لا وصف الإنسانیّة، لأنه من الممکن أنْ یکون مطلق الإنسان یجب إکرامه، ولکنْ لأهمیّة إکرام العالم اقتصر فی الکلام علی بیانه. فالآیة الشریفة لاتدلّ علی أن تمام المناط لوجوب التبیّن هو کون المخبر فاسقا حتی ینتفی الحکم عن خبر العادل.(1)

أقول:

والإنصاف عدم إمکان المساعدة علی ما ذکره أخیرا، لما ذکرنا من أنّ ظاهر الآیة إناطة الحکم بوصف الفسق، فیدور وجوب التبیّن مداره.

وما ذکره من المثال، فیه: أنه قیاسٌ مع الفارق، فإنّ «العالم» حصّة من «الإنسان»، فکأنّه قال: أکرم الإنسان العالم، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ الفسق والعدالة متقابلان، وقد اُنیط الحکم فی الآیة بالفسق دون العدالة.

ولعلّ المیرزا لعدم قبوله بما ذکر لم یطرحه فی الدورة اللاّحقة من بحثه.(2)

وکیف کان، ففی عدم ثبوت مفهوم الوصف _ کما تقرّر فی محلّه _ وعدم إحراز انحصار المانع بما علّل، کفایةٌ للجواب عن هذا الوجه.

الوجه الثانی: ما ذکره الشیخ.

ص: 141


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 167.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 181.

وحاصله: إنّ فی خبر الفاسق حیثیّتین، حیثیّة ذاتیّة، وهی کونه خبر واحد. وحیثیّة عرضیّة، وهی کونه خبر الفاسق، وقد جاء إناطة وجوب التبیّن علی الحیثیّة العرضیّة، ولو لم یکن هو العلّة للحکم لکان العدول عن الحیثیّة الذاتیّة التی هی مؤثّرة فی المرتبة السّابقة، إلی العرضیّة المتأخرّة مرتبةً، قبیحا، بل هو خارجٌ عن طریق المحاورة العرفیّة أیضا، فإذا کان المؤثّر فی وجوب الإکرام هو الإنسانیّة قالوا: أکرم الإنسان، ولا یقولون: أکرم العالم.

وعلی هذا، فمع انتفاء العنوان المعلّق علیه الحکم _ وهو الفسق _ ینتفی الحکم، وتکون الآیة دالّةً علی ترتیب الأثر علی خبر العادل بلا تبیّن.

الکلام علیه

وظاهر جماعة کالهمدانی والعراقی والمیرزا وغیرهم: أنّ هذا الذی أفاده الشیخ رحمه اللّه عبارة اُخری عن الوجه السّابق، وهو الإستدلال بمفهوم الوصف، وتبعهم السیّد الخوئی فقال: إنّ هذا الوجه یرجع إلی الإستدلال بمفهوم الوصف، لا أنه وجه مستقل، وحینئذ، یرد علیه ما تقدّم فی الوجه السّابق من أنّ التقیید بالوصف وإنْ کان مشعرا بالعلیّة إلاّ أن ذلک لا یدلّ علی الإنتفاء عند الانتفاء، فإنه متفرّع علی کون الوصف علّةً منحصرة...(1)

لکنّ ظاهر المحقق الإصفهانی أنه وجه مستقل، فإنه قال _ فی التعلیق علی عبارة الکفایة: من وجوهٍ أظهرها... _ :

ص: 142


1- 1. مصباح الأُصول: 156.

منها: ما حکاه المحقق الأنصاری(1) قدّس سرّه فی رسائله، وهو تعلیق الحکم علی أمرٍ عرضی متأخّر عن الذاتی. (قال):

وتوضیحه بحیث یکون دلیلاً للمطلوب هو: إنّ العلّة لوجوب التبیّن، إمّا مجرّد الخبریّة أو هی مع الفسق بنحو الاشتراک، أو کلٌّ منهما مستقلاًّ، أو مجرّد فسق المخبر. وبعد ظهور الآیة فی دخل الفسق فی وجوب التبیّن _ کما هو مفروض الرسائل _ ینتفی الإحتمال الأوّل، کما أنّ الثانی یثبت المطلوب، لانتفاء المعلول بانتفاء أحد جزئی العلّة... والاحتمال الثالث مناف للظاهر... فلم یبق من المحتملات إلاّ علیّة الفسق اشتراکا أو استقلالاً بنحو الإنحصار.

ثم أشکل علی ذلک بقوله:

نعم، کلّ ذلک مبنی علی تسلیم ظهور الآیة _ بمناسبة الحکم والموضوع _ فی علیّة الفسق للحکم، لا للتنبیه علی فسق المخبر _ وهو الولید _ فی خصوص المورد.

وأمّا ما أفاده من أنّ التعلیل بالذاتی أولی لحصوله قبل حصول العرضی، فإنّما ینفی العلیّة بالاستقلال للخبریّة لا الاشتراک مع الفسق فی التأثیر. مضافا إلی أن قبلیّة الذاتی علی العرضی قبلیّة ذاتیّة طبعیّة لا قبلیّة زمانیّة وجودیّة حتی لا تنتهی النوبة فی التأثیر إلی العرضی المتأخّر.(2)

وإلی أنّ هذا الوجه مستقلٌ عن الوجه السّابق ذهب شیخنا الاستاذ دام بقاه، من دون تعرّضٍ لإشکال المحقق المذکور علیه.

ص: 143


1- 1. والوجه للسیّد عمیدالدین الحلّی، کما فی أوثق الوسائل: 140.
2- 2. نهایة الدرایة 3 / 202 _ 203.

إلاّ أنّه تعرّض لما جاء فی کلام المیرزا _ وتبعه السیّد الخوئی والسیّد الاستاذ _ من أنْ المتکلّم قد یعدل عن الحیثیّة الذاتیّة إلی العرضیّة لسببٍ من الأسباب کالأهمیّة مثلاً، وعلیه، فمن الممکن إرادة التبیّن من مطلق خبر الواحد، إلاّ أنه خصّ خبر الفاسق بذلک، لکون التنبیه علی الإجتناب عن ترتیب الأثر علیه أهمّ من غیره فأورد علیه بأنه:

وإنْ جاز هذا من الناحیة العرفیّة، فلا یجوز من الناحیة العقلیّة، لأن مجرّد احتمال الأهمیّة لا یجوّز رفع الید عن أصالة التطابق بین مقامی الثبوت والإثبات. وعلی الجملة، فإنه ما دام الجامع موضوعا للحکم، فلا تصل النوبة إلی الخصوصیّة والحصّة، ومادام الذاتی موضوعا له، فلا تصل النوبة إلی العرضی.

فما ذکر غیر تام من النّاحیة العقلیّة.

هذا، ولکنّ الوجه المذکور یعود إلی

الوجه الثالث: مفهوم الشرّط

وتقریبه کما قال الشیخ: إنه سبحانه علّق وجوب التثبّت علی مجئ الفاسق فینتفی عند انتفائه عملاً بمفهوم الشرط، وإذا لم یجب التثبّت عند مجئ غیر الفاسق، فإمّا أنْ یجب القبول وهو المطلوب، أو الردّ وهو باطل لأنّه یقتضی کون

العادل أسوء حالاً من الفاسق، وفساده بیّن.(1)

وجعله صاحب الکفایة أظهر الوجوه...(2)

ص: 144


1- 1. فرائد الأُصول: 71.
2- 2. کفایة الأُصول: 296.
ما یعتبر فی مفهوم الشرّط

لکنْ یعتبر فی تمامیّة مفهوم الشرط أمران:

أحدهما: أن یکون موضوع القضیّة ذا حالین وتقدیرین، ویکون الحکم متعلّقا بأحدهما، کما فی: إن جاءک زید فأکرمه، حیث یکون لزید حالان: المجیء وعدم المجیء، فیجب إکرامه علی تقدیر المجیء، فلو لم یکن الموضوع کذلک لم یتم مفهوم الشرط، أی لا یتحقّق الإنتفاء عند الإنتفاء.

والثانی: أن یکون ترتب الحکم وتعلیقه علی الموضوع مولویّا، لا عقلیّا أو عادیّا، کما فی: إن جاءک الأمیر وکان راکبا فخذ برکابه، حیث أن تعلیق الأخذ بالرکاب علی کونه راکبا عقلی أو عادی ولیس مولویّا.

فإنْ توفّر هذان الأمران فی الآیة، أمکن الاستدلال عن طریق مفهوم الشرط.

ثم إنه إن کان وجوب التبیّن _ فیما نحن فیه _ نفسیّا لا شرطیّا،(1) احتاج الإستدلال إلی أمر آخر وهو: إنه إذا انتفی وجوب التبیّن لکون المخبر عادلاً، فإمّا یردُّ الخبر، فیلزم أن یکون خبر العادل أسوء حالاً من خبر الفاسق، وإمّا أن یقبل الخبر فهو المطلوب.

وقد اُشکل علی هذا الأمر: بعدم دوران حال الخبر بین القبول والردّ، بل یوجد شق ثالث وهو التوقف، ولا یلزم منه أن یکون خبر العادل أسوء حالاً من

ص: 145


1- 1. وما فی کلام البعض من التعبیر بالوجوب الغیری فسهو من القلم، لأن وجوب التبیّن فی الآیة شرطی لا غیری، والوجوب الشرطی یتحقق وإنْ لم نقل بوجوب المقدمة، والوجوب الغیری دائما قابل للبعث لکونه تحت اختیار المکلف، بخلاف الشرطی فهو قد لا یکون کذلک مثل کون تقیّد الصلاة بالوقت واجبا مع خروج الوقت عن أجزاء الصّلاة وکونه خارجا عن الاختیار.

خبر الفاسق، وإذا بطل هذا الأمر _ الثالث _ بطل المفهوم، بناءً علی کون الوجوب نفسیّا، وسقط الإستدلال بالآیة من جهة مفهوم الشرط.

لکنّ کون وجوب التبیّن نفسیّا باطل من وجوه، منها: أنّ التبیّن له حیثیّة الطریقیّة، وما کان کذلک لا یکون نفسیّا، ولذا لیس التبیّن عن خبر الفاسق من الواجبات النفسیّة بالضرورة الفقهیّة، فهو وجوب شرطی.

فالبحث حینئذٍ فی الأمرین الأوّلین.

أمّا الأمر الثانی _ وهو کون ترتّب الحکم فی القضیّة مولویّا _ فلا إشکال فیه، من جهة أن الأصل فی کلام الشارع هو المولویّة إلی أن یقوم الدلیل علی الإرشادیّة، أو یمنع من ذلک محذور عقلی. وعلی الجملة، فإنّ مجرد إمکان حمله علی المولویّة کاف لحمله علی ذلک.

الخلاف فی ثبوت المفهوم بین الشیخ والکفایة

وأمّا الأمر الأوّل، ففیه بحث وخلاف:

فذهب الشیخ إلی أن المفهوم فی الآیة من قبیل السّالبة بانتفاء الموضوع، لأنّ الشرط هو مجیء الفاسق بالنبأ، ومن الواضح أن انتفاء التبیّن عند عدم مجیئه من باب عدم ما یُتبین، إذ لا خبر حتی یتبین فیه، فالشرط ههنا من الشرط المسوق لبیان تحقق الموضوع. ولأنه ممّا یتقوّم الموضوع به عقلاً، بحیث لا یتصور بقاء الموضوع بانتفائه، نظیر قوله: «إن رزقت ولدا فاختنه» و: «إن رکب الأمیر فخذ برکابه»، وقوله تعالی: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ

ص: 146

وَأَنْصِتُوا».(1) وغیر ذلک من الأمثلة، وقد تقرر فی محلّه أن مثل هذه الشروط لا یثبت لها مفهوم، إذ المفهوم عبارة عن انتفاء الحکم بانتفاء الشرط عن الموضوع الذی ثبت له الحکم عند وجود الشرط، ومن الواضح أن هذا یستدعی أن یکون الموضوع موجودا عند انتفاء الشرط کما کان موجودا فی حال وجوده، فإذا فرض أن الشرط کان مقوّما للموضوع عقلاً، کان انتفاؤه ملازما لإنتفاء الموضوع، فلا مفهوم.(2)

وذهب صاحب الکفایة إلی ثبوت المفهوم للآیة فی حدّ نفسه، وذلک باعتبار أن موضوع الحکم هو النبأ، وفرض الشرط هو جهة إضافته للفاسق، ومن الواضح أن الشرط علی هذا لا یکون مقوّما للموضوع، إذ النبأ کما یضاف إلی الفاسق یضاف إلی غیره.(3)

وعلی الجملة، فإن إن کان الموضوع فی الآیة هو «النبأ»، فلا إشکال فی تمامیّة المفهوم، فهو الموضوع ومجیء الفاسق به من أحواله، فیکون له تقدیران. وإنْ کان الموضوع هو «الفاسق»، وکان مجئ الفاسق بالنبأ من الأحوال، فلا مفهوم، لکون القضیّة حینئذٍ محقّقةً للموضوع.

فالإستدلال بالآیة من جهة مفهوم الشّرط مبنی علی الإحتمال الأول، وإثبات ظهور الآیة فیه بحسب المتفاهم العرفی، وإن لم یکن فرق بین الإحتمالین فی مقام الثبوت.

ص: 147


1- 1. سورة الأعراف: الآیة 204.
2- 2. فرائد الأُصول: 72.
3- 3. کفایة الأُصول: 296.
رأی المحققّ الإصفهانی

لکنّ المحقق الإصفهانی(1) أفاد: بأنّه لا یثبت المفهوم حتی علی الإحتمال الأوّل، لأن تمامیّته إنما تکون فیما إذا کان الموضوع موجودا بوجود مستقلٍّ عن الشرط وبدله، کوجود زید الموجود مستقلاًّ عن المجیء وعدمه، ولیس الحال فی الآیة کذلک، إذ بناءً علی الإحتمال الأوّل _ وهو کون الموضوع هو النبأ _ لیس للموضوع وجود إلاّ مع الشرط، وهو مجئ الفاسق به، أو مع بدیله وهو مجیء العادل به، فلولا مجیء أحدهما بالنبأ لم یکن له وجود، وإذْ لا وجود له بدونهما، فالقضیّة محققة للموضوع، فلا مفهوم لها.

الإشکال علیه

وفیه:

أمّا نقضا، فباتّفاق الکلّ علی وجود المفهوم لقوله علیه السلام: «الماء إذا بلغ قدر کرٍ لم ینجّسه شئ¨»،(2) مع أنه لا وجود للماء إلاّ مع القلّة أو الکثرة.

وأمّا حلاًّ، فإنّه یعتبر فی الموضوع أن یکون فی مرحلة الذات منحازا عن الشرط وبدیله، ولا یعتبر استقلاله عنهما فی مرحلة الوجود، فالنبأ عنوان فی مقابل مجیء الفاسق أو العادل، کما أن الماء عنوان فی مقابل القلّة والکثرة، والحیوان عنوان فی مقابل المأکول اللّحم وغیر المأکول اللّحم. وهکذا... .

ص: 148


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 208.
2- 2. وسائل الشیعة 1 / 158، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الرقم 2.

فما ذهب إلیه المحقق المذکور مردود نقضا وحلاًّ.

لکنّ التحقیق أن الآیة ظاهرة فی الإحتمال الثانی، فهی مسوقة لبیان تحقق الموضوع، ولا أقلّ من احتمالها له فتکون مجملة، وبذلک یسقط الإستدلال.

کلام الکفایة وإیضاح الاصفهانی

لکنْ فی الکفایة:(1) یمکن أن یقال: إن القضیّة ولو کانت مسوقةً لذلک، إلاّ أنها ظاهرة فی انحصار موضوع وجوب التبیّن فی النبأ الذی جاء به الفاسق، فیقتضی انتفاء وجوب التبیّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر. فتدبر.

وقد أوضحه المحقق الإصفهانی:(2) بأنّ أداة الشرط لها الظهور فی الحصر، فمع ترتب سنخ الحکم علی الشرط یکون موضوع سنخ الحکم منحصرا، ولا یبقی حکم فی غیر هذا الموضوع. (قال) إنّ أداة الشرط مفادها تعلیق ما بعدها علی ما قبلها، والقضیّة المحققة للموضوع تارة: لا بدل لها، وهذه علی قسمین: فتارةً: یکون للشرط علیّة بالنسبة إلی الجزاء، مثل «إنْ سألک فأعطه» وأخری: لا یکون، مثل: «إنْ رزقت ولدا فاختنه». واخری: لها بدل. إذنْ، یمکن للمتکلّم بیان القضیّة بصورة محققة الموضوع وبغیرها. وحیث جاء الکلام بالصّورة الاولی مع تعلیق سنخ الحکم علی الموضوع، کان الحاصل منه الإنتفاء عند الإنتفاء بنحوٍ آکد، لأنه قد أفاد أن تمام الموضوع عبارة عن ذلک.

ص: 149


1- 1. کفایة الأُصول: 296.
2- 2. نهایة الدرایة 3 / 206.
النظر فیه

أقول

أولاً: ما وجه الظهور فی الإنحصار؟

وثانیا: لقد منع صاحب الکفایة نفسه ظهور الجملة الشرطیة فی الإنحصار فی مبحث مفهوم الشرط.

ثم إن الظهور إنْ کان من جهة أداة الشرط، لزم القول بالإنحصار فی جمیع القضایا الشرطیّة، وهو لا یلتزم به. وإنْ کان من جهة القضیّة الشرطیّة، لزم القول بمفهوم الشرط بحسب الوضع، والتزامه به بعید. وإنْ کان من جهة خصوصیّةٍ فی هذه القضیّة، فما هی تلک الخصوصیّة؟

وأمّا ما ذکره المحقق المذکور.

ففیه: إنه یتوقف علی کون المعلّق سنخ الحکم لا شخصه، علی أن تغییر البیان إلی صورة محقق الموضوع، إنْ لم یکن نافیا للمفهوم فلا یدلّ علیه.

ثم إن وجه توقّف المفهوم علی کون المعلّق سنخ الحکم واضح، لأنه إذا کان شخصه أمکن مع انتفائه تحقق شخص آخر من الحکم، فلا یتحقّق الإنتفاء عند الإنتفاء. لکنّ الکلام کلّه فی إثبات أن المعلّق هو سنخ الحکم، فإنْ قلنا _ فی مبحث المعنی الحرفی _ بأنّ وضعه عام والموضوع له عام والمستعمل فیه عام، سهل تعلیق سنخ الحکم وجنسه. وأمّا بناءً علی کون الموضوع له أو المستعمل فیه خاصّا، فکیف یکون المعلّق السنخ؟ نعم، یرتفع هذا المشکل إن کان التعلیق فی الکلام مدلولاً إسمیّا مثل: إن جاءکم فاسق بنبأ فیجب التبیّن.

ص: 150

هذا، وفی سنخ الحکم یعتبر وجود القابلیّة لانعقاد الإطلاق. وتوضیح ذلک:

إنا فی «إن جاءک زید فأکرمه» لا نرتّب مدلول الهیئة بنحو الإهمال، بل المرتب إمّا شخص الإکرام وإمّا مطلق الإکرام _ لأن الإطلاق رفض الخصوصیّات _ فیکون المعلّق هو الإکرام بوجوده السّعی، وهذا یتوقف علی قابلیّة الإکرام لأنْ یعلّق بوجوده السّعی، بأنْ یکون قابلاً للإنقسام إلی أقسام بحسب اختلاف حالات الموضوع، وإلاّ فلا معنی لإطلاق الحکم، وهذا الأمر بالنسبة إلی المثال المذکور متحقّق، لأن الحکم بإکرام زید یقبل الإطلاق من حیث المجئ¨ وعدم المجیء، وکذا فی الماء من حیث القلّة والکثرة. وهکذا.

إذن، یجوز تعلیق سنخ الحکم فی القضیّة المحقّقة للموضوع، ویراد ترتب سنخ الحکم وجنسه علی الموضوع فی جمیع حالاته. ولکنّ تعلیق سنخ الحکم فیها علی الموضوع، وإرادة تعلیقه علیه دون موضوع أو موضوعات اخری. غیر معقول. فلا معنی لإطلاق وجوب الإکرام المرتب علی زید بالنسبة إلی وجوب إکرام عمرو، لعدم معقولیّة الإنقسام إلی زید وعمرو، حتی یقال بتحقّق المفهوم للقضیّة المحقّقة للموضوع. وعلی هذا الأساس، لا یعقل أنْ یکون وجوب التبیّن المرتّب علی مجئ¨ الفاسق مثل عمرو بالنسبة إلی زید فی المثال المذکور.

فتلخّص: أنه متی کانت القضیّة مسوقةً لبیان الموضوع، یکون الحکم ذا إطلاق سنخی بقدر أحوال نفس ذلک الموضوع، فلا مفهوم للقضیّة المحققة للموضوع.

ص: 151

فما ذکراه مخدوش.

وفذلکة الکلام فی هذا المقام: إنه إنْ کان الموضوع «مجیء الفاسق بالنبأ»، أو کان «الفاسق إنْ جاء بالنبأ»، فلا مفهوم للآیة، وإنْ کان: «الجائی بالنبأ إن کان فاسقا...» أو کان: «النبأ إنْ جاء به فاسق...» فلها مفهوم.

وعندنا: إن الآیة ظاهرة فی أنّ الموضوع: «الفاسق إنْ جاء...» ومع التنزّل، تکون الآیة ذات احتمالات، فلا ظهور لها فی أحد الإحتمالین الثالث والرابع.

کلام الشیخ و جواب الإصفهانی

لکنّ طریق الشّیخ هو: إنه لو لم یکن لمجیء الفاسق دخل، وکان الجامع بین مجیء الفاسق ومجیء العادل هو الموضوع، لکان أخذه قبیحا.

وأجاب الإصفهانی: بأن العنوانین _ أی: عنوان خبر الواحد، وعنوان خبر الفاسق _ موجودان بوجود واحد، فلا اختلاف فی المرتبة حتی یلزم القبح.

وفیه:

إن العلّة والمعلول فی مرتبة واحدة، فلو کانت العلّة موضوعا للحکم، لم یکن لجعل المعلول مدخلیّة فیه.

وما قیل: من أن ذکر الفاسق هو لإفادة أهمیّة الحکم بالنسبة إلیه.

مردود: بأن المرتّب هو الوجوب لا أهمیّة الوجوب.

وقیل: هو للتنبیه علی فسق الولید.

وفیه: إن هذا التنبیه خارج عن الموضوعیّة للحکم.

ص: 152

والحاصل:

إن دعوی اقتضاء الآیة الدلالة علی المفهوم ممنوعة، أللّهم إلاّ أنْ یحصل الوثوق من مناسبات الحکم والموضوع بکون الفسق تمام المناط فی وجوب التبیّن من دون احتمال دخل شئٍ آخر، فإذا انتفی الفسق انتفی وجوب التبیّن.

المقام الثانی: فی المانع

اشارة

إنه بناءً علی تمامیة الإقتضاء فی الآیة، فهل من مانع؟

هناک مانعان:

المانع الأوّل

الاول: إنّ العلّة فی ذیل الآیة المبارکة تعمّم الحکم بالنسبة إلی خبر العادل، فإن قوله تعالی: «أَنْ تُصیبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمینَ»(1) یوجب التبیّن من خبر العادل أیضا. ویکون حاصل معنی الآیة: المنع من القیام بعمل علی أثر النّبأ یوجب الندامة منه بسبب الوقوع فی خلاف الواقع، سواء کان المخبر فاسقا أو عادلاً.

فلو کان للآیة مفهوم، یقع التعارض بینه وبین هذا العموم.

الجواب

واُجیب:(2) بأن الوقوع فی خلاف الواقع بالعمل بخبر الفاسق، بلا عذر،

ص: 153


1- 1. سورة الحجرات: الآیة 6.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 164.

بخلاف العمل بخبر العادل والوقوع فی خلاف الواقع، فإنه مع العذر. والمراد من الندامة هو العمل بلا عذر، وإلاّ یلزم سدّ باب جمیع الحجج من الظواهر وغیرها، لوجود احتمال الخلاف فیها.

علی أنه إذا کان العمل طبق خبر الفاسق مطلقا موجبا للندامة، فلماذا عمل الأصحاب بخبر الولید؟ إلاّ أن یقال بأنهم کانوا جاهلین بفسقه.

المانع الثانی

الثانی: إن لفظ «الجهالة» یعمّ خبر العادل أیضا.

الجواب:

واُجیب:(1) بأن المراد هو «السّفاهة»، ولا سفاهة فی العمل بخبر العادل بخلاف خبر الفاسق.

لا یقال: فلماذا عملوا بخبر الولید؟

لأنه یقال: کانوا لا یعلمون بفسقه.

لکن الحق: أنّ «الجهالة» تقابل «العلم» لغةً وعرفا. نعم، تطلق علی السّفاهة مجازا، ولا وجه للحمل علیه هنا إلاّ أن یدّعی شهرة هذا المجاز، فیکون مجملاً، وحیث أنه متصل بالکلام فإنه یسقط عن الظهور والمفهوم.

ص: 154


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 163.
تقدّم المفهوم حکومةً عند المیرزا

وقد أجاب المیرزا(1) عن المانع الأوّل، وذهب إلی تقدّم المفهوم علی العموم بوجوه:

أحدها: أظهرّیة المفهوم.

والثانی: لأن لسانه لا یقبل التخصیص، ومع التنزّل عن تقدّمه علیه، فلا أقل من مانعیّته من انعقاد الظهور للعموم، لأنه یصلح للقرینیّة.

والثالث: حکومة المفهوم علی العموم، لأن عدم وجوب التبیّن من خبر العادل _ وهو المفهوم _ یلازم جعل هذا النبأ علما، فلا یشمله التعلیل لکونه فی مورد الجهالة، فیکون المفهوم حاکما علی التعلیل.

إشکال العراقی علیه

فأشکل المحقق العراقی(2) علیه: بأن المقام لیس من صغریات الحکومة، لأنّ مورد الحکومة أن یکون الدلیل المحکوم ذا أثر، ویکون للدلیل الحاکم نظر إلی المحکوم إثباتا للموضوع أو نفیا له بلحاظ تعمیم الأثر أو تضییقه. وهذه الضابطة غیر منطبقة هنا، لأن عدم وجوب التبیّن یتم بنفس الدلیل الحاکم وهو المفهوم، فلا یبقی حکم لیکون هذا الدلیل بلحاظه موسّعا لموضوعه.

ص: 155


1- 1. أجود التقریرات 3 / 183 _ 184.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 114.
جواب السیّد الخوئی

واُجیب(1) بأنّ الحکومة علی قسمین، أحدهما: ما ذکر. والثانی: أن یکون الأثر عقلیّا، فیحقق الدلیل الحاکم الموضوع لذلک الأثر. وما نحن فیه من هذا القبیل، لأن للعلم أثرا کما هو معلوم، سواء کان وجدانیّا أو تعبدیّا، فلما اعتبر الشارع الشئ¨ علما تحقّق الموضوع لذلک الأثر. نظیر قاعدة قبح العقاب بلا بیان، حیث أن للعقل حکما علی البیان وحکما علی اللاّبیان، وإذْ اعتبر الشارع الأمارة صارت بیانا.

قال: والمقام من هذا القبیل، فإنه بعد ما استفدنا من المفهوم عدم وجوب التبیّن عن خبر العادل، یستکشف منه أن خبر العادل قد اعتبر علما، للملازمة بینهما، فیکون خبر العادل خارجا عن عموم التعلیل موضوعا بالتعبّد، وهو من الحکومة بهذا المعنی الثانی، لا بمعنی أنْ یکون خبر العادل قد اعتبر علما بلحاظ أثره الشرعی، وهو عدم وجوب التبیّن عنه، فإنه لیس من آثار العلم، بل لا معنی له، إذ العلم هو نفس التبیّن، فلا یعقل أن یکون عدم وجوب التبیّن من آثاره.

الإشکال علیه

وفیه:

أوّلاً: إن لسان الحکومة لسان التخصیص وتتم الحکومة بالملازمة، لأن اعتبار خبر العادل علما هو مدلولٌ التزامی للمفهوم _ وهو عدم وجوب التبیّن من

ص: 156


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 166 _ 167.

خبر العادل _ فلابدّ من تمامیّة المفهوم حتی تتم الدلالة الالتزامیّة المذکورة، لکنّ التعلیل یمنع من تمامیّة المفهوم وانعقاده.

وثانیا: إن الحکومة متوقفة علی أن یکون عدم وجوب التبیّن ملازما لاعتبار خبر العادل علما، ولکنه لازم أعم من العلم الوجدانی والتعبّدی، ففی الشبهات الموضوعیّة قبل الفحص _ مثلاً _ لا ریب فی عدم وجوب التبیّن مع عدم اعتبار الشارع العلم هناک، وإذْ لا ملازمة بین الأمرین کیف نستکشف من عدم وجوب التبیّن اعتبار الشارع خبر العادل علما؟ وأیضا: ففی موارد الاصول المحرزة مثل الاستصحاب، یرتب الأثر مع عدم العلم، إلاّ علی القول بأنها أمارات وأن الشارع اعتبرها علما، وهو خلاف التحقیق.

إشکالٌ آخر علی الحکومة

هذا، وقد اُشکل علی الحکومة أیضا:

بأنّ المفهوم ظلّ المنطوق ومدلولٌ التزامی له، والمنطوق معلولٌ للعلّة، فالعلّة فی مرتبةٍ متقدّمة، وما هو متأخّر بمرتبتین لا یکون حاکما علی المتقدّم.

وجوه الجواب عنه

وقد اُجیب عنه(1) بوجوه:

ص: 157


1- 1. مصباح الأُصول: 168.

الأوّل: إن تأخرّ المفهوم عن المنطوق إنما هو فی مقام الکشف والدلالة، بمعنی إن دلالة القضیّة علی المفهوم متأخّرة رتبة عن دلالتها علی المنطوق، وأما نفس المفهوم فلیس متأخرا عن المنطوق.

وبعبارة اخری: عدم وجوب التبین عن خبر العادل لیس متأخرا عن وجوب التبین عن خبر الفاسق:

وبعبارة ثالثة واضحة: حجیة خبر العادل لیست متأخرة عن عدم حجیة خبر الفاسق، بل المتأخر کشف القضیّة عن حجیّة خبر العادل عن کشفها عن عدم حجیّة خبر الفاسق، والحاکم علی التعلیل إنما هو نفس المفهوم لا کشفه، فما هو متأخر رتبة عن المنطوق لیس حاکما علی التعلیل، وما هو حاکم علیه لیس متأخرا عن المنطوق.

النظر فی الأوّل

وفیه: إن حجیّة خبر العادل وعدم حجیّة خبر الفاسق کلیهما من الأحکام، سواء کان وجوب التبیّن نفسیّا أو شرطیّا أو إرشادا إلی عدم الحجیّة، فیکون عدم وجوبه إرشادا إلی الحجیّة. ومن الواضح أنّ سبب الحکم هو اللّفظ ودلالته علی المعنی، لأن الأحکام التکلیفیّة والوضعیّة کلّها إنشائیّات وتُنشأ باللّفظ والصیغة، وحیث أن حجیّة خبر العادل معلولة للدلالة المفهومیّة، وهی معلولة للدّلالة المنطوقیّة، فإنّ اختلاف المرتبة متحقّق، فلا حکومة.

هذا علی مبنی المشهور من أن المنشآت مدالیل للإنشاءات.

ص: 158

وأمّا بناءً علی مبنی الإعتبار والإبراز، فإن الحکم لا یتحقّق بمجرّد اعتباره، بل لابدّ من الإبراز حتی یتحقق مصداق الحکم، والحکم أمر انتزاعی ینتزع من الإعتبار المبرز، وعلیه، فالإبراز دخیل فی تحقق حقیقة الحکم، فالحکم متأخّر رتبةً عن الدلالة.

والثانی: إنه لو سلّم کون المفهوم بنفسه متأخرا عن المنطوق، کان ذلک مانعا عن الحکومة بالمعنی الأول، وهی أن یکون الحاکم ناظرا إلی المحکوم وشارحاً له، باعتبار أن ما یکون متأخرا عن الشئ¨ رتبة لا یعقل أن یکون شارحا له. وأمّا الحکومة بالمعنی الثانی، وهی أن یکون مفاد الحاکم خارجا موضوعا عن مفاد المحکوم بالتعبد، فلا مانع منها، إذ کون المفهوم متأخرا عن المنطوق رتبة لا یمنع من خروج المفهوم عن عموم التعلیل موضوعا بالتعبد، کما هو واضح.

النّظر فی الثانی

وفیه:

إنه لا فرق بین النوعین، والتقدّم والتأخّر لازم فی الثانی کالأول، لأن قولنا: زید لیس بعالمٍ رافع لموضوع، اکرم العلماء، ولا إشکال فی أنه لو لا أکرم العلماء لم یکن «زید لیس بعالم» معنی، فهو محتاج إلیه دون العکس.

والثالث: إنّه لو سلّم کون التأخّر الرتبی مانعا عن الحکومة بکلا معنییه، فإنّما هو فیما إذا کان التعلیل مولویّا، بأنْ یکون المراد منه حرمة إصابة القوم بجهالة.

ص: 159

وأما إذا کان التعلیل إرشادا إلی ما یحکم به العقل من عدم جواز العمل بما لا یؤمن معه من العقاب المحتمل، فلا مانع من کون المفهوم حاکما علیه. إذ بعد حجیّة خبر العادل، کان العمل به مأمونا من العقاب، وکان خارجا عن حکم العقل موضوعا، وقد ذکرنا سابقا إن الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم _ ومنها التعلیل فی آیة النبأ _ إرشاد إلی حکم العقل.

النظر فی الثالث

وفیه:

أوّلاً: لا نسلّم کونه إرشادیّا.

وثانیا: لو سلّمنا نقول بوجود التقدّم والتأخر الرّتبی، لوحدة الملاک بین المولوی والإرشادی، فیعود الإشکال. والفرق المذکور لا یکون فارقا.

تقریب الحکومة ببیان آخر

هذا، ویمکن تقریب الحکومة ببیانٍ آخر بأنْ یقال:

أوّلاً: إن عدم رافعیّة المتأخّر رتبةً للمتقدّم بالحکومة إنما هو فی الامور الواقعیّة، وأمّا فی القضایا الإعتباریّة فلا مانع من ذلک، إذن، الإختلاف فی المرتبة بین الحاکم والمحکوم غیر مانع عن الحکومة فی الإعتباریّات، وما نحن فیه من هذا القبیل.

وثانیا: إنه إذا کان الشئ¨ قرینةً لشئ¨، کان ذو القرینة معلّقا علی القرینة ومنوطا بها، وإنْ اختلفت المرتبة بینهما، فلا مانعیّة لاختلاف المرتبة عن تقدّم القرینة علی

ص: 160

ذی القرینة، وهذه هی القاعدة العامّة. وفیما نحن فیه: فإن مفهوم آیة النبأ قرینة علی العلّة المذکورة فی ذیلها، فأصالة العموم فی التعلیل معلّقة علی عدم القرینة وإن کان بینهما اختلاف فی المرتبة، ومع وجود المفهوم وتقدّمه علی التعلیل لا ینعقد للعلّة عموم، فتکون الآیة بمفهومها دالّة علی حجیّة خبر العادل.

الإشکال

وفیه:

إنّ الوجه فی تقدّم المفهوم علی التعلیل العام هو جعل خبر العادل علما، فإنه بذلک یرتفع موضوع التعلیل _ وهو الجهالة _ تعبّدا، وهذا هو القسم الثانی من الحکومة. لکنّ جعل خبر العادل علما یتوقف علی أن یکون عدم وجوب التبیّن ملازما لکون ما لایجب التبیّن عنه علما، وهذه الملازمة أوّل الکلام، فقد تقدّم سابقا أنّ هناک موارد لا یجب التبیّن فیها مع عدم اعتبار العلم فیها، کالشبهات الموضوعیّة وغیرها.

إشکال و جواب ذکرهما الشیخ

وقد أشکل الشیخ علی الإستدلال بالآیة بأنّ موردها هو إخبار الولید بارتداد بنی المصطلق، ولا ریب فی عدم ثبوت ارتداد الشخص الواحد _ فضلاً عن القوم _ بإخبار العدل الواحد، فلو کان للآیة الشریفة مفهومٌ _ وهو ترتیب الأثر علی خبر العادل الواحد _ لزم خروج موردها وهو الإخبار عن الإرتداد، وخروج مورد الآیة أمر مستهجن لا یلتزم به، فیدلّ ذلک علی أنْ لا مفهوم للآیة.

ص: 161

فأجاب قدّس سرّه: بأنّ الموضوع فی الآیة لوجوب التبیّن هو طبیعی خبر الفاسق، ویشمل الواحد والأکثر، فالمفهوم یکون طبیعی العادل، وهو وإن کان یشمل الواحد والأکثر إلاّ أنه یقیّد بالمتعدّد، فالمورد لم یخرج حتی یلزم الإستهجان وإنما قُیّد.

وهذا الجواب _ وإنْ وافق علیه شیخنا الاستاذ فی الدّورة السّابقة کغیره من الأکابر _ محلّ نظر، کما أفاد فی الدّورة اللاّحقة، لأن منطوق الآیة «إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ...» فهو نکرة، فالمفهوم أیضا یکون نکرة، أی: إن جاءکم عادلٌ بنبأ... فالموضوع له النکرة هو الطبیعی بقید الوحدة، فیلزم إشکال خروج المورد. فتأمّل.

هذا تمام الکلام علی الإستدلال بالآیة من جهة مفهوم الشرط.

تکمیلٌ

اشارة

وبقیت وجوه اخری للإستدلال بآیة النبأ علی حجیّة خبر الواحد، نتعرّض لها تکمیلاً للبحث:

الإستدلال بدلالة الإیماء والاقتضاء

بتقریب: أنّه قد اقترن بالحکم _ وهو وجوب التبیّن _ وصف الفسق، وظاهره کونه علّة له، ولولا ذلک لما اقترن به، وحینئذٍ یکون الحکم منتفیا عند انتفاء الفسق.

وقد نبّه المحقق الخراسانی إلی أنّ هذا الوجه غیر الإستدلال بمفهوم الوصف، قال:

ص: 162

ولو قیل: بأنّ ملاک مفهوم الوصف هو إستفادة العلیّة من التعلیق علیه، فإنّ الإستفادة فیه إنما هو من مجرّد التعلیق لا بملاحظة خصوصیّة وصف، بخلاف هذا الوجه فإنه بملاحظتها کما لا یخفی، مع أنه لیس بالملاک عند القائلین بالمفهوم فیه.

ثم عرّض بکلام الشیخ قائلاً: فما یتراءی من کلامه قدّس سرّه من جعله هذا تقریرا لمفهوم الوصف، کما تری.(1)

الإشکال علیه

وفیه _ بعد التسلیم بأنّ دلالة الإیماء من الدلالات _ إنّ الإستدلال یتوقف علی تمامیّة الصغری، وهی إحراز أنّ الغرض من الإتیان بوصف الفسق هو الإیماء إلی دخل هذا الوصف فی الحکم بوجوب التبیّن، وهذا أوّل الکلام، فلعلّه ارید من الإتیان به مجرّد تفهیم فسق المخبر وهو الولید، کما أفاد المحقق الخراسانی.(2)

ویتوقف أیضا علی الإنحصار، فلولا دلالة الآیة علی أن العلّة المنحصرة للتبیّن هی الفسق لم یتم المفهوم، ومن أین یثبت الإنحصار، حتی ینتفی وجوب التبیّن بانتفاء الفسق؟

ص: 163


1- 1. درر الفوائد فی تعلیقة الفرائد: 106.
2- 2. المصدر: 107.

أقول:

لکن کونه لمجرّد التنبیه علی فسق الولید بعید. فتأمّل.

الاستدلال بحکمة الردع

إنه قد أفادت الآیة المبارکة الرّدع عن ترتیب الأثر علی خبر الفاسق، ولمّا کان المولی فی مقام بیان التکلیف، وقد ردع عن العمل بخبر الفاسق لکونه لیس بحجّةٍ، فلابدّ وأن یبیّن ما هو الحجّة حتی یرتب علیه الأثر، والاّ یلزم النقص فی البیان، وما هو الحجّة خبر العادل.

الإشکال علیه

وفیه

من أین نثبت أن اللّه تعالی فی هذه الآیة فی مقام بیان ما هو الحجّة؟ إنه یرید الرّدع عن العمل بخبر الفاسق ویعلن عن عدم حجیّته، وهذا هو المقصد فی هذه الآیة، وأمّا غیره فیحتاج إلی دلیل آخر.

وبعبارة اخری: إن المولی لمّا کان فی مقام البیان، فعلیه أن یبیّن تمام المراد وإلاّ یلزم النقض، وبیان تمام المراد غیر بیان تمام ما هو فی الواقع.

لقد بیّن اللّه تعالی مراده تماما وهو الرّدع عن العمل بخبر الفاسق، أمّا أن الحجّة فی الواقع ما هو؟ فلم یکن من مراده فی الآیة، ولا أقل من الشک.

ص: 164

الإستدلال بوجه عقلی

إنه لا ریب فی أن تحقق الشئ¨ یکون عند وجود المقتضی والشرط وعدم المانع، فالإحتراق یتوقف علی وجود النار وعدم الرطوبة وحصول الشرط وهو التماس بین النار والحطب مثلاً، فإنْ فُقد النار، لم یتحقق الإحتراق، ولا یسند عدم الإحتراق إلی وجود الرطوبة، وکذا إذا وجدت النار وفقد التماسُّ... .

وهذه القاعدة العقلیّة تنطبق هنا، لأن ظاهر الآیة أنّ المانع من ترتّب الأثر علی خبر الفاسق هو کون المخبر فاسقا، فلو کان أصل الخبر لایقتضی ترتیب الأثر لاُسند عدم ترتیبه إلی عدم المقتضی لا إلی وجود المانع وهو الفسق.

فظهر أنّ للخبر اقتضاء ترتیب الأثر، غیر أن فسق المخبر مانع، فإذا ارتفع المانع بأنْ کان المخبر غیر فاسقٍ أثرّ المقتضی أثره.

الإشکال علیه

ویرد علیه: إن ما ذکر صحیحٌ ولکنّ ترتیب الأثر علی خبر العادل یحتاج إلی عدم المانع عن ترتیب الأثر وإلی وجود الشّرط، والاستدلال المذکور لایفی بوجود الشرط وعدم المانع، لاحتمال وجود مانعٍ آخر غیرالفسق.

الاستدلال بمنطوق آیة النبأ

ثم إنْ منطوق الآیة هو: أنه إن جاء فاسق بنبأ یجب التبیّن، والتبیّن هو

ص: 165

تحصیل البیان، والبیان لیس خصوص العلم الوجدانی بل أعمّ منه ومن الإطمینان والظن، فإنْ کان المخبر عادلاً کان بیانا، لأنّه إن کان المراد من البیان هو الظن، فخبر العادل یفید الظن، وإن کان الإطمینان فکذلک.

إذن، لا نحتاج إلی الإستدلال بالمفهوم.

إشکال المحقق الخراسانی

أشکل علیه المحقق الخراسانی بوجهین:(1)

الأول: إن ظاهر التبیّن _ لغةً وعرفا _ خصوص العلم.

والثانی: إنّ وجود الجهالة فی ذیل الآیة دلیل علی أن المراد من التبین هو العلم.

ثم أشکل:

لا یقال: هذا صحیحٌ، لکنْ هناک قرینة ترفع الید بها عن هذا الظهور، وهو أنه إن قلنا: بأن الملاک خصوص العلم، سقطت جمیع الأمارات المفیدة للظن والاصول کلّها عن الاعتبار، ولزم التخصیص المستهجن، فلابدّ وأنْ یکون التبین أعم.

فأجاب:

صحیح أنه یلزم التخصیص الأکثر المستهجن من أخذ التباین بمعنی العلم

ص: 166


1- 1. درر الفوائد: 106 _ 107.

وهو فاسد، لکنّ أخذه بالمعنی الأعم له محذور أفسد، وهو لزوم خروج المورد، لأنه إخبارٌ عن الإرتداد ولا یعتبر فیه إلاّ العلم، وإذا دار الأمر بین الفاسد والأفسد، التزمنا بالفاسد دفعا للأفسد.

هذا تمام کلام المحقق الخراسانی

الردّ علیه

ویردّ علیه بثلاثة وجوه:

الأوّل: إنّ «البیان» لیس العلم فقط، قال تعالی «هذا بَیانٌ لِلنّاسِ»(1) ومن المعلوم أن فی القرآن آیات متشابهات، وفیه ظهورات وعمومات وإطلاقات تفید الظن ولا تفید العلم. هذا أوّلاً.

وثانیا: قد تقرّر أنّ الاصول العملیّة تتقدّم علی قاعدة قبح العقاب بلابیان، مع أن أصالة البراءة لا تفید العلم، فلیس المراد من البیان هو العلم.

والثانی: إستشهاده بالجهالة فی ذیل الآیة، مردود بما جاء فی الکفایة من أنها بمعنی السفاهة لا ما یقابل العلم.

والثالث: إنه کما یقبح إخراج المورد، کذلک یقبح تخصیص الأکثر.

فالحق: عدم تمامیّة الاستدلال، لکون الآیة مجملةً من هذه الناحیة.

ص: 167


1- 1. سورة آل عمران: الآیة 138.

إشکالات علی الإستدلال بآیة النبأ

ذکرها الشیخ وأجاب عنها
اشارة

قال: وأمّا ما اورد علی الآیة ممّا هو قابل للذب، فکثیر:

1. إشکال المعارضة

(منها): معارضة مفهوم الآیة بالآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم، والنسبة عموم من وجه، فالمرجع إلی أصالة عدم الحجیّة.

فأجاب بقوله: وفیه: إن المراد بالنبأ فی المنطوق ما لا یعلم صدقه ولا کذبه، فالمفهوم أخصّ مطلقا من تلک الآیات، فیتعیّن تخصیصها.

أقول:

وعلی فرض التنزّل ووقوع المعارضة، فهل المرجع أصالة عدم الحجیّة؟

قال بعض المحشین علی الرسائل:(1) لا، لأن الأصل المذکور أصله نفس تلک الآیات والأخبار الناهیة عن العمل بالظنّ، فإذا سقط الطرفان بالمعارضة کان الأصل المرجع هو الجواز.

أقول:

الظاهر أنه إذا وصل الأمر إلی الأصل العملی، فالمرجع هو إستصحاب عدم الحجیّة.

ص: 168


1- 1. أوثق الوسائل: 149.
2. الإشکال بلزوم حجیّة خبر السیّد

(ومنها): إنّ مفهوم الآیة لو دلّ علی حجیّة خبر العادل، لدلّ علی حجیّة الإجماع الذی أخبر به السید المرتضی وأتباعه _ قدّس سرّهم _ من عدم حجیّة خبر العادل، لأنهم عدول أخبروا بحکم الإمام بعدم حجیّة الخبر.

فأجاب بوجوه:

الأوّل: إن الآیة غیر شاملة للإجماع المنقول.

یرید رحمه اللّه: إنّ الآیة دالّة علی حجیّة الأخبار الحسیّة، والإجماع المنقول خبر حدسیّ.

والثانی: إن إخبار هؤلاء معارض بإخبار الشیخ.

یرید رحمه اللّه: أنّ الخبرین متعارضان، فیندرجان تحت عمومات الخبرین المتعارضین، و مقتضی القاعدة هو الرجوع إلی المرجّحات، فإنْ کانت الشهرة الفتوائیّة مرجّحة، فلا ریب فی أنها مطابقة لخبر الشیخ، وإلا فالمرجع هو الکتاب. و بناءً علی تمامیّة دلالة آیة النبأ و آیة النفر و غیرهما من الآیات، یکون المرجّح خبر الشیخ، و إلاّ، فالمرجع موافقة العامّة، و هنا لابد من مراجعة رأی العامّة، فإنْ وافق أحد الخبرین رأیهم، کان المخالف هو المرجّح، فإنّ لم یتم ذلک، استقرّت المعارضة، و بناءً علی التساقط یکون المرجع أصالة عدم حجیّة خبر الواحد، کما تقدّم.

والثالث: إنه لا یمکن دخول هذا الخبر تحت الآیة...

فذکر وجوها لهذه الإستحالة، و توضیح ذلک:

ص: 169

إنّ الأخذ یخبر السیّد بعدم حجیّة خبر الواحد محال بالذات، لأنه من قبیل ما یلزم من وجوده عدمه، لأنّ أدلّة حجیّة خبر الواحد إذا شملت خبر السیّد بالإجماع علی عدم حجیة خبر الواحد، سقط خبره عن الحجیّة کسائر أخبار الآحاد، فیلزم من حجیّته عدم حجیّته، و هو محال، و بذلک ینکشف عدم شمول الأدلة لهذا الخبر. هذا أوّلاً.

و ثانیا: إن شمول أدلّة حجیّة خبر الواحد لخبر السیّد یستلزم تخصیص الأکثر، و هو محال من المتکلّم الحکیم، لأن معنی ذلک سقوط جمیع الأخبار الآحاد إلاّ خبر السیّد.

و ثالثا: إنه إذا کان مقصود الشارع من الأدلّة بیان حجیّة الخبر، فإنْ شمولها لخبر السیّد یستلزم بیان الحجیّة بعدم الحجیّة. و هذا قبیح فی الغایة و فضیح إلی النهایة.

طریق العراقی لدفع الإشکال

وذکر المحقق العراقی:(1) أنّ أدلّة حجیّة الخبر لا تشمل خبر السیّد أصلاً، لوجهین:

الوجه الأوّل: إنّ الموضوع فی أدلّة حجیّة خبر الواحد هو الخبر المشکوک فی مطابقته للواقع، إذ لا معنی لجعل الحجیّة لخبر علم بمطابقته أو بعدم مطابقته له. وعلیه، فلابدّ من فرض الشک فی الحجیّة حتی تشمله أدلّة الحجیّة، لکنّ الشکّ فی الحجیّة متأخر عن الحجیّة، تأخر العارض عن المعروض، فیلزم تقدّم الحجیّة

ص: 170


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 118 _ 119.

علی شمول أدلّة الحجیّة بمرتبتین، والمفروض أن الحجیّة مستفادة من الأدّلة، فیلزم اجتماع التقدّم والتأخّر فی الحجیّة، و هو محال. فشمول أدلّة الحجیّة لخبر السیّد بعدم الحجیّة محال.

إشکال السیّد الخوئی

وقد أشکل علیه فی مصباح الاصول(1) بما حاصله:

إن العلم و کذا الجهل بالشئ¨ متأخر عن الشئ¨ رتبةً، لأنا کثیرا مّا نشکّ فی شئ¨ و لا واقعیّة له أصلاً، وکذا یحصل لنا العلم بالشئ¨ ولا واقعیّة له کما فی الجهل المرکّب، فإذن، لا یوجد اختلاف فی المرتبة بین العلم والجهل بالشئ¨ و بین نفس الشئ¨، لعدم توقّف الشک علی المشکوک فیه.

الجواب عنه

وهذا الإشکال غیروارد، لأن المحقق العراقی(2) یوافق علی أنّه لا اختلاف فی المرتبة بحسب الواقع، لأنّ العلم قد یحصل و لا واقعیّة للمعلوم کما فی الجهل المرکّب، لکنّه یذهب إلی وجود الاختلاف برتبتین بین الشک والمشکوک فیه _ وکذا فی العلم و متعلّقه _ فی عالم اللّحاظ، فالعلم متأخر عن المعلوم بالوجود

العلمی واللّحاظی وکذا الشک.

ص: 171


1- 1. انظر: مصباح الأُصول 2 / 175 _ 176.
2- 2. انظر کتاب مقالات الأُصول، المقالة رقم: 15.

الوجه الثانی: إن المقام من صغریات دوران الأمر بین التخصیص والتخصّص، لأنه علی تقدیر شمول الأدلّة لما سوی خبر السیّد، یکون خبره خارجا تخصّصا، و إن کانت شاملةً له، یلزم القطع بعدم مطابقة غیره للواقع، فهی خارجة تخصیصا، و إذا دار الأمر بین التخصیص والتخصّص تعیّن الثانی.

إشکال السیّد الخوئی

وأشکل علیه بما ملخّصه:(1) إن ما نحن فیه لیس من موارد دوران الأمر بین التخصیص والتخصّص، لعدم التنافی بین خبر السیّد وبقیّة الأخبار لا بالذات ولا بالعرض، بل المشکلة وقوع المعارضة فی أدلّة خبر الخبر فی صورة شمولها لکلا الطّرفین، وعلی هذا، فلا وجه لتعیّن التخصّص.

الجواب عنه

إنّ التنافی هنا أیضا موجود، لأنّ الأخبار الواردة عن المعصومین حاملةٌ للأحکام الشّرعیّة ولا یرضی الشارع بإهمالها، فلایجوز التمسّک بالبراءة فی موردها، کما لایجوز أو لایجب العمل بالاحتیاط من أجل التحفّظ علیها، فلا محالة یلزم جعل الحجیّة للخبر الواحه، لکنّ جعل الحجیّة للأخبار یتنافی مع جعل الحجیّة لخبر السیّد المرتضی بالإجماع علی عدم الحجیّة.

ص: 172


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 177.

(ومنها): إن الآیة لا تشمل الأخبار مع الواسطة، لانصراف النبأ إلی الخبر بلاواسطة، فلا یعم الروایات المأثورة عن الأئمة، لاشتمالها علی وسائط.

أجاب الشیخ بما حاصله: أن السند الواحد ینحلُّ إلی إخبارات عدیدة، و کلّ واحد منها نبأ بلا واسطة.

وقد وقع الإشکال فی هذا الجواب، من حیث أنّ مقتضی آیة النفر والروایات مثل: «لا عذر لأحدٍ فی التشکیک فیما یرویه عنا ثقاتنا»(1) هو الأخذ من المعصوم، والروایات المرویة مع الواسطة لیست بمصداقٍ للأدلّة.

لکنّ التحقیق أن الأدلّة غیر منحصرة بما ذکر، فمثل قوله: «فما أدّیا فعنّی یؤدّیان»(2) ظاهر فی المصداقیّة

علی أنّ السّیرة القطعیّة قائمة علی الإعتماد علی الإخبارات عن الأئمة بوسائط، و هذه السّیرة متصلة و غیر مردوعة یقینا.

مضافا إلی أن مقتضی أدلّة عرض الروایتین المتعارضتین علی الکتاب والترجیح به، اعتبارهما، لأن التعارض فرع الحجیّة، و من المعلوم أنّ الأخبار المتعارضة منقولة عن المعصومین بوسائط.

فالإشکال مندفع بوجوه.

ثم إن الشیخ بعد أن أجاب عن الإشکال قال:(3)

ص: 173


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 149، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم 40.
2- 2. الکافی 1 / 330.
3- 3. فرائد الأُصول: 75.

إشکالٌ طرحه الشیخ

لکن قد یشکل الأمر: بأنّ ما یحکیه الشیخ عن المفید صار خبرا للمفید بحکم وجوب التصدیق، فکیف یصیر موضوعا لوجوب التصدیق الذی لم یثبت موضوع الخبر إلاّ به؟

وتوضیحه یتمّ ببیان أمرین:

الأوّل: إن کلّ حکمٍ سواء کان وضعیّا أو تکلیفیّا فهو متأخّر عن موضوعه، أمّا فی مرحلة الإنشاء، فلأن القضایا الشرعیّة بنحو القضایا الحقیقیّة، ومن الواضح أن الموضوع فی القضیّة الحقیقیّة مفروض الوجود فیؤتی بالمحمول علیه. وأمّا فی مرحلة الفعلیّة، فلأنَّ الحکم فیها فی مرتبة المحمول، ولو لا تحقق الموضوع خارجا لم یتحقّق الحمل. وهذا التقدّم والتأخّر بین الموضوع والمحمول طبیعی، لوضوح أن وجود المحمول متوقف علی وجود الموضوع، فهو لا یتحقّق إلاّ أن یکون الموضوع متحقّقا، لکنّ الموضوع یمکن تحقّقه ولایکون هناک حکم.

والثانی: إنه یستحیل أنْ یکون المحمول متکفّلاً لموضوعه، لما تقدّم من أن الحکم فرعٌ للموضوع، ومن المحال أنْ یکون الفرع محقّقا لِما هو فرعٌ له.

والکلام فی انطباق هذه الکبری علی ما نحن فیه، وذلک: لأنّ القضیّة هی: الخبر حجة، فالموضوع هو «الخبر» وهو بالنسبة إلی الصّدق والکذب علی ثلاثة أقسام، أمّا إنْ کان معلوم الکذب، فهو لیس بحجةٍ قطعا، وأمّا إنْ کان معلوم الصّدق، فهو حجّة قطعا، إلاّ أنّه حجّة بحکم العقل، وبحثنا فی الحجیّة الشرعیّة، فتعّین أنْ

ص: 174

یکون الموضوع هو الخبر المحتمل للصّدق والکذب، فالخبر المحتمل للصّدق والکذب حجّة.

لکنّ «الخبر» بالنسبة إلی «الحجیّة» مهملٌ، فلا هو مشروطٌ ومقیّد بوجوده ولابعدمه، ولاهو مطلقٌ بالنسبة إلی وجوده وعدمه، لأنه إنْ کان بشرط وجوده لزم تحصیل الحاصل، وإنْ کان بشرط لا بأنْ یکون الخبر حجةً بشرط عدم الحجیّة، لزم اجتماع النقیضین، وإنْ کان لابشرط، جاز اتّحاده مع کلٍّ من القسمین، لأنّ کلَّ مطلق یتّحد وجودا مع المقید.

وإذا تقرّر ما ذکر، فإنّ حجیّة الخبر مع الواسطة تستلزم أنْ یکون الخبر محقّقا لموضوعه، فلّما یقول الشیخ: أخبرنا المفید، ویقول المفید أخبرنا الصفّار ویقول الصفّار سمعت العسکری علیه السلام، فإنّ الخبر الحاصل بالوجدان لنا هو خبر الشیخ، وأمّا خبر المفید للشیخ فحاصلٌ للشیخ بالوجدان لا لنا، فخبریّة خبر المفید متوقّفة علی حجیّة خبر الشیخ، وهکذا بقیّة الإخبارات، فکان المحمول محققا للموضوع وهو محال.

هذا هو الإشکال، وقد أجاب عنه الشیخ کما سیأتی، وأجاب عنه المحققون.

ویضاف إلیه إشکال آخر(1) هو: إنه یعتبر وجود الأثر فی الخبر الذی تعبّد الشّارع به قبل التعبّد، وإلاّ تلزم اللّغویّة من التعبّد به، وهی محالٌ علی الحکیم. والأخبار الموجودة فی الوسط فی کلّ سلسلةٍ لا أثر لها بالنسبة إلینا إلاّ الخبر الأوّل

ص: 175


1- 1. اُنظر: دررالفوائد فی التعلیق علی الفرائد: 112.

عن الإمام علیه السلام وهو ما نقله زرارة مثلاً، وأمّا ما بعده من الأخبار، فلایوجد الأثر قبل التعبّد، لأنّ خبر الصفّار عن زرارة مثلاً لیس بحکمٍ شرعی ولا بموضوع حکمٍ شرعی، فلا مناص من الالتزام بأنّ التعبّد بتلک الأخبار هو بلحاظ الأثر المترتّب علی حجیّة الخبر، فیلزم أنْ یکون ما فی المرتبة المتأخرة محققا لما فی المرتبة المتقدّمة.

جواب الشیخ

وقد أجاب الشیخ عن الإشکال نقضا وحلاًّ.

أمّا نقضا فبوجهین:

أحدهما: نفوذ الإقرار بالإقرار بالإجماع. فکما أنّ الإقرار الموجود بالوجدان المعتبر بعموم «إقرار العقلاء علی أنفسهم جایز» ویترتب علیه الحکم تعبّدا، کذلک ثبوت الإخبار بالواسطة بواسطة الخبر الحاصل بالوجدان.

والثانی: نفوذ الشّهادة علی الشهادة، فکما ثبتت تلک الشهادة بهذه الشهادة الحاصلة بالوجدان، کذلک ثبوت الأخبار.

وعلی الجملة، إن ورد الإشکال فی الإخبار مع الواسطة، کان واردا فی مسألة الإقرار بالإقرار والشهادة علی الشهادة کذلک. ولکن المقرّر فی الفقه هو القبول فیهما، مع أنّ الخبر محقق للموضوع فی کلا الموردین.

وأمّا حلاًّ، فقد ذکر الشیخ رحمه اللّه أنّ الممتنع هو توقّف فردیّة بعض أفراد العام علی إثبات الحکم لبعضها الآخر _ کما فی قول القائل: کلّ خبری صادق

ص: 176

مثلاً _ . وأمّا توقّف العلم ببعض الأفراد وانکشاف فردیّته علی ثبوت الحکم لبعضها الآخر، کما فیما نحن فیه، فلا مانع فیه.

یعنی أنه قد وقع الخلط فی الإشکال بین مقامی الثبوت و الإثبات، لأنّ خبر المفید أمر واقعی یدور أمره بین الوجود والعدم، سواء أخبر به الشیخ أوْ لا، فهو فی مقام الثبوت غیر متوقف علی حجیّة خبر الشیخ حتی یلزم الإشکال، و إنما یحتاج إلی خبر الشیخ فی مقام الإثبات، فلولا حجیّة خبر الشیخ لم یصدّق خبر المفید و لم یترتب علیه الأثر، و هذا لا یلزم منه أیّ إستحالة، و إنما کان المحال تکفّل المحمول لوجود الموضوع، و قد ظهر أنه لیس کذلک.

إشکال المحقق الخراسانی

وأشکل المحقق الخراسانی علی ما أجاب به الشیخ، قال:(1) وأمّا أجاب به قدّس سرّه بالنقض أوّلاً، وبالحلّ ثانیا، فلا وقع لواحدٍ منهما:

أمّا الأوّل، فلأن جواز الإقرار بالإقرار بالإجماع لا إشکال فیه أصلاً، إنما هو فیما إذا لم یکن فی البین إلاّ دلیل واحد لفظی، کما لا یخفی. ولعلّه أشار إلیه بأمره بالتأمّل.

أی: إن الدلیل علی جواز الإقرار بالإقرار هو الإجماع، وهو دلیل آخر غیردلیل نفوذ الإقرار، وهذا خروج عن محلّ البحث، لأنّ البحث فیما إذا لم یکن فی البین إلاّ دلیلٌ واحدٌ لفظی، کقولنا: الخبر حجّة، کما تقدّم.

ص: 177


1- 1. درر الفوائد: 113.

نظر شیخنا الاستاذ

وأجاب شیخنا دام بقاه: بأنّ الدلیل علی جواز الإقرار بالإقرار لیس الإجماع، لأنّ هذه المسألة غیرمطروحة فی کلمات قدماء الأصحاب، بل طرحها العلاّمة فی التحریر والقواعد والتذکرة والشهید فی الدروس، کما فی مفتاح الکرامة،(1) ولذا لم یستدل فی هذه الکتب للجواز فی المسألة بالإجماع، بل الدلیل هو عموم قاعدة الإقرار، وهو دلیل لفظیُّ واحدٌ. فنقض الشیخ تام، والتأمّل تدقیقی، ومعقد الإجماع عموم دلیل الإقرار.

وأمّا الثانی، فلوضوح توقّف تحقّق الخبر الجعلی علی إثبات الحکم لبعض أفراد العام، بحیث لولاه لما تحقق خبر تعبّدا، والخبر الحقیقی غیرالمتوقّف تحقّقه علیه لاینکشف به إلاّ تعبّدا، وهو لایکون إلاّ عبارة اخری من نفس الخبر التعبّدی، کما لا یخفی. ولعلّه لذلک ضرب علیه فی بعض النسخ المصحّحة فی زمانه.

وتوضیحه یتم ببیان امور:

الأوّل: هو الفرق بین: «کلٍّ خبری صادق» و «الخبر حجّة»، لأن شمول الأوّل لنفسه یستلزم أنْ یکون المحمول واسطةً فی الثبوت، أمّا فی شمول الثانی للأخبار مع الواسطة فالمحمول واسطة فی الإثبات.

والثانی: إنّ الأحکام تترتّب علی موضوعاتها، سواء کان الموضوع وجدانیّا أو تعبدّیا، کجواز الإقتداء، فإنه حکم یترتّب علی العدالة الثابتة بالوجدان أو بالاستصحاب، بلافرق.

ص: 178


1- 1. مفتاح الکرامة فی شرح قواعد العلاّمة 9 / 222.

والثالث: إنه إنْ کان الحکم الشرعی واسطةً فی الإثبات، فإن وساطته کذلک إنما تکون بالنسبة إلی الموضوع الواقعی، أمّا بالنسبة إلی الموضوع التعبّدی فهو واسطة فی الثبوت.

وعلی ما ذکر، فإنّ حجیّة خبر الشّیخ لاتفید الخبریّة الوجدانیّة لخبر المفید، لأنّ خبره أمر واقعیٌّ لا علاقة له بحجیّة خبر الشیخ. هذا صحیح، لکنّ حجّیة خبر الشیخ واسطة فی إثبات خبر المفید، وهذا الإثبات تعبّدی _ لا وجدانی _ وإذا کان تعبّدیا یعود الإشکال، لأنّ خبریّة خبر المفید معلولٌ لحجیّة خبر الشیخ، فکان خبر الشیخ واسطةً فی الثبوت، لا واسطةً فی الإثبات.

ومن هنا ذهب شیخنا دام بقاه إلی ورود إشکال المحقق الخراسانی علی الجواب الحلّی.

وأمّا إشکال الأثر، فقد أجاب عنه المیرزا:(1) بأنّ الأثر الشرعی کما یترتب علی الخبر الأخیر، یترتّب علی غیره من الوسائط، غایة الأمر أن غیر الخبر الأخیر لایکون تمام الموضوع للأثر الشرعی. وإذا کان کذلک، فکما أن الخبر الأخیر الحاکی عن الحکم یکون مشمولاً لوجوب التصدیق، کذلک غیره من الوسائط، فخبر الشیخ یکون مشمولاً له أیضا.

وهذا هو الجواب الصحیح عند سیدنا الاستاذ.(2)

ص: 179


1- 1. أجود التقریرات 3 / 185.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 277.

طریق صاحب الکفایة

ولورود الإشکال علی الجواب الحلّی، سلک المحقق المذکور طریقا آخر للحلّ. وملخّصه بتوضیحٍ منّا: إنّ الإشکال إنما یرد لو کانت القضایا بنحو القضیّة الشخصیّة، أمّا إذا کانت بنحو القضیّة الطبیعیّة، فإن الموضوع والمحمول یتعدّدان ولا یلزوم المحذور، والقضیّة فیما نحن فیه هی: الخبر حجّة، والمراد طبیعیّ الخبر لا خصوص خبر الشیخ أو خبر المفید للشیخ. والمحمول کذلک، فهو طبیعیّ الحجیّة، و مثل هذه القضیّة سائر القضایا فی الشرع، کقولنا الخمر حرام، البیع جائز.

لا یقال: إن الطبیعة من حیث هی لیست إلاّ هی، فلا تقع موضوعا للأحکام، سواء فی القضایا التکوینیّة أو الإعتباریّة، بل الطبیعیّة إنما تکون موضوعا للقضایا الذهنیّة، کما لو ارید بیان أحکام الماهیّة، فموضوعها الطبیعة من حیث هی.

لأنه یقال: لیس المراد من الطبیعی هنا هو الطبیعی المعقولی، بل المراد هو الطبیعی الاصولی، أی الوجود السّعی، فالمراد هو الخبر الملغی عنه خصوصیّة کونه خبر زید أو عمرو أو الشیخ أو المفید... و حینئذٍ، لا یقع الإشکال بتوقف الموضوع علی المحمول.

الإشکال علیه

ولکن یرد علی هذا الطّریق _ الذی وافق علیه السیّد الخوئی أیضا(1) _ : إنه و إنْ اخذت الطبیعة بشرط الوجود السّعی، و یحصل بذلک التعدّد موضوعا و

ص: 180


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 181.

حکما، لکنّ الوجود إنما یضاف إلی الطبیعة بتبع إضافته إلی الفرد، لأن الطبیعی موجود بوجود أفراده، فإذا وجد زید وجد الإنسان، فوجود الإنسان بوجود زید لا بالعکس، لأن الشّیء ما لم یتشخص لم یوجد. و بالجملة، لابدّ من إضافة الوجود إلی الفرد والشخص حتی یتحقّق الطبیعی، فیکون وجود طبیعی الموضوع بوجود فرده، و وجود طبیعی المحمول بوجود فرده، فهکذا الحال فی: الخبر حجة، الخمر حرام، و أمثالهما. و إذا کان کذلک، عاد الإشکال، لاحتیاج الطبیعی فی الوجود إلی وجود الفرد.

طریق المیرزا والإصفهانی

وهو أنّ القضیّة «الخبر حجّة» هی بنحو القضیّة الحقیقیّة، فهی _ وإن کانت فی مرحلة الإنشاء قضیّة واحدة _ تنحلّ إلی قضایا و یتعدّد الموضوع والمحمول، فخبر الشیخ موضوع، و یترتب علیه المحمول و هو الحجیّة، ثم خبر المفید موضوع و یترتب علیه الحجیّة کذلک، و هکذا... فلیس شئ¨ من الأحکام بمتکفّل لموضوعه، بل کلّما تحقّق شیء و اتّصف بکونه خبرا فهو حجّة.

وهذه عبارة أجود التقریرات:

إنّ وجوب التصدیق لو کان حکما شخصیّا ثابتا لکلّ واحد من الأخبار، لکان للتوهّم المذکور مجال واسع، لکنّ الأمر لیس کذلک، بل هو من قبیل الأحکام الإنحلالیّة، وکلّ فرد من الخبر موضوع لحکم مغایرٍ لحکم آخر یتوقف علیه، فوجوب التصدیق الثابت لإخبار الشّیخ ممّا یتوقف علیه خبر المفید، لکنّ

ص: 181

خبر المفید لا یکون موضوعا لشخصی ذاک الوجوب بل لوجوبٍ آخر ثابت له یتوقف علیه ثبوت خبر الصفّار، وهکذا إلی أنْ ینتهی إلی الخبر الأخیر الموضوع لوجوب التصّدیق المثبت لقول الإمام علیه السلام.(1)

وقد تبعه السیّد الخوئی...(2)

والسیّد الاستاذ قدّس سرّه، وجعله الجواب الواضح جدّا، فقال کما فی منتقی الاصول: وذلک لأنّ الحکم المجعول _ وهو الحجیّة _ وإنْ کان بإنشاء واحدٍ، إلاّ أنه ینحلّ إلی أحکام متعدّدةٍ بتعدّد الأخبار. وعلیه، فما یترتب علی خبر الصّدوق غیرما یترتّب علی خبر الشیخ الحرّ، لأنه فرد من الحجیّة غیر الفرد المترتب علی الخبر الآخر، فلا یتحدّ الموضوع والحکم بل فرد من المنجزیّة _ ینجزّ فردا آخر منها، وفرد من الطّریقیّة یکون إلی فردٍ آخر منها. وهکذا. ودعوی الإنحلال بدیهیّة لاتحتاج إلی بیان... وإذا کانت دعوی الإنحلال بهذا الوضوح واندفاع الإشکال بها کذلک، فإن تصدّیهم لدفعه بالوجوه المختلفة تطویل بلاطائل.(3)

الإشکال علیه

وقد أشکل علیه: بأنّ بین خبری الشیخ والمفید _ مثلاً _ اختلافا فی المرتبة، و کیف تجعل الحجیّة لطولیین بجعلٍ واحد؟

ص: 182


1- 1. أجود التقریرات 3 / 187.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 180.
3- 3. منتقی الأُصول 4 / 272 _ 273.

و بعبارة اخری: إنه لا یعقل وجود المختلفین رتبةً بوجودٍ واحدٍ، لأن هذا الإنشاء و هو «الخبر حجّة» إنشاء واحد، فهو إیجاد واحد و وجوده واحد کذلک، لأن الإیجاد والوجود فی الحقیقة واحد، ککلّ مصدر و اسم مصدرٍ آخر.

الجواب

وأجاب الإصفهانی بما ملخّصه:(1)

المختلفان فی المرتبة علی قسمین، فقد یکونان مختلفین فی الوجود کذلک، و قد یکون وجودهما واحدا بل البرهان قائم علی اتحادهما فی الوجود، مثلاً: الإرادة والمراد، الشوق والمشتاق إلیه، مختلفان فی المرتبة، إذ الإرادة متقوّمة بالمراد و لا یمکن وجودها بدون المراد بالذات _ و لا یخفی أن المراد بالذات موطنه النفس، و أمّا الذی تعلّقت به الإرادة فی الخارج فهو المراد بالعرض _ والحاصل: إنهما مع الإختلاف الرتبی بینهما موجودان بوجودٍ واحدٍ.

و فیما نحن فیه کذلک، فإن خبر الشیخ و خبر المفید مختلفان رتبةً، لکن یمکن إیجادهما بإنشاءٍ واحد و یوجدان بوجود واحد.

الإشکال علیه

و یرد علیه: أنّ هذا الذی ذکره _ فی الإرادة والشوق، و کذلک فی الحبّ والبغض و سائر الصّفات النفسانیّة ذات التعلّق _ حقٌّ، لکنّ تطبیقه علی ما نحن فیه

ص: 183


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 215.

غیر تام، لأنّ النسبة بین خبری الشیخ والمفید نسبة العلّة والمعلول، إذ لولا خبر الشیخ لم یتحقق خبر المفید، فهما مختلفان فی الرتبة و بینهما نسبة العلیّة والمعلولیّة، و إیجاد المختلفین فی المرتبة کذلک بوجودٍ واحدٍ محال.

التحقیق

ولکنّ هذا الإشکال إنما یتوجّه علی القول بأن حقیقة الإنشاء هو الإیجاد کما علیه القوم، و أمّا علی مبنی المحقق العراقی من أنه الإعتبار و الإبراز أو الإعتبار المبرز _ والذی أخذه السید الخوئی _ فلا یرد، لأن اعتبار المختلفین رتبةً کذلک و إبرازه بمبرزٍ واحدٍ لا محذور فیه.

وهذا تمام الکلام علی آیة النّبأ.

ص: 184

آیة النفر

اشارة

قوله تعالی: «وَما کانَ الْمُوءْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ»(1)

تقریب الإستدلال

وقد ذکر الشیخ قدّس سرّه وغیره(2) فی تقریب الإستدلال بهذه الآیة لحجیّة الأخبار الآحاد ما حاصله: إنّ الآیة تدلّ علی وجوب الحذر عند إنذار المنذرین و إنْ لم یکن مفیدا للعلم. و توضیح ذلک:

1. إنّ المراد من «لینذروا» إنذار کلّ واحدٍ من النافرین بعض القوم، و لیس إنذار مجموعهم لمجموع القوم حتی یقال بإفادة الإنذار حینئذٍ للعلم.

2. إن «الحذر» بعد «الإنذار» واجب من وجهین:

أحدهما: إن لفظة «لعلّ» بعد انسلاخها عن معنی الترجّی _ لامتناعه فی حق

ص: 185


1- 1. سورة التوبة: الآیة 122.
2- 2. فرائد الأُصول: 78، کفایة الأُصول: 298.

الباری سبحانه _ ظاهرة فی کون مدخولها محبوبا، و إذا تحقق حسن الحذر ثبت وجوبه، إمّا لما ذکره صاحب المعالم قدّس سرّه(1) من أنه لا معنی لندب الحذر، و إمّا لأن رجحان العمل بخبر الواحد مستلزم لوجوبه بالإجماع المرکّب، لأن کلّ من أجازه فقد أوجبه.

والثانی: إنّ ظاهر الآیة وجوب الإنذار، لوقوعه غایة ل_ «النفر» الواجب بمقتضی کلمة «لولا»، فإذا وجب الإنذار أفاد وجوب «الحذر» لوجهین:

أحدهما: وقوعه غایة للواجب.

والثانی: أنه إذا وجب الإنذار ثبت وجوب القبول، وإلاّ لغا الإنذار.

إشکالات الشیخ والکلام حولها

هذا، و قد اختلفت أنظار العلماء فی الإستدلال بالآیة، فالشیخ و صاحب الکفایة و تلمیذه المحقّق العراقی والسیّد الاستاذ والسیّد الصدّر علی عدم جواز الإستدلال بها، والمیرزا و تلمیذه السیّد الخوئی علی تمامیّته.

قال الشیخ بعد تقریب الإستدلال: لکن الإنصاف عدم جواز الإستدلال بها لوجوه:

الأوّل:

إنه لا یستفاد من الکلام إلاّ مطلوبیّة الحذر عقیب الإنذار بما یتفقّهون فی الجملة، لکن لیس فیها إطلاق وجوب الحذر، بل یمکن أن یتوقف وجوبه علی

ص: 186


1- 1. معالم الأُصول: 47.

حصول العلم. فالمعنی: لعلّه یحصل لهم العلم فیحذروا... فلیس فی هذه الآیة تخصیص للأدلّة النّاهیة عن العمل بما لم یعلم، و لذا استشهد الإمام علیه السّلام(1) بالآیة علی وجوب النفر فی معرفة الإمام، مع أن الإمامة ممّا لا یثبت إلاّ بالعلم.

و ملخّصه هو: إن الإستدلال یتوقف علی کون الآیة فی مقام بیان إطلاق وجوب الحذر، أی هو واجب سواء أفاد العلم أوْلا، و هذا غیر ثابت، بل هی فی مقام بیان مطلوبیّة إنذار المنذرین بما تفقّهوا والحذر من القوم بما أُنذروا، فلا تصلح الآیة للتخصیص، و یشهد بذلک إستدلال الإمام بها.

الجواب:

وأجاب السیّد الخوئی:(2)

أوّلاً: بأن الأصل فی کلام المتکلّم أن یکون فی مقام البیان، لاستقرار بناء العقلاء علی ذلک ما لم تظهر قرینة علی خلافه.

وثانیا: إن ظاهر الآیة کونها واردةً لبیان وظیفة جمیع المسلمین المکلّفین، وأنه یجب علی طائفةٍ منهم التفقّه والإنذار، و علی غیرهم الحذر والقبول، فکما أنّ إطلاقها یقتضی وجوب الإنذار، ولو مع عدم حصول العلم للمنذر بمطابقة کلام المنذر للواقع، کذلک یقتضی وجوب الحذر أیضا فی هذا الفرض.

وثالثا: تخصیص الآیة بصورة العلم یوجب إلغاء عنوان الإنذار، إذ العمل

ص: 187


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 140، الباب 11 من أبواب صفات القاضی رقم 10.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 184.

یکون حینئذٍ بالعلم و لا دخل للإنذار فیه، غایته کون الإنذار مقدمةً تکوینیّة لحصول العلم، و هذا خلاف ظاهر الآیة.

رابعا: إنه علی تقدیر تسلیم أن اعتبار العلم فی وجوب الحذر یوجب التقیید لا إلغاء عنوان الإنذار، لا یمکن الإلتزام بالتقیید، فإنه تقیید بفرد نادر، وهو مستهجن.

أقول:

إنه یتلخّص إشکال الشیخ قدّس سرّه فی أنّ الآیة لیست فی مقام البیان من حیث الحذر، حتی یتمسّک بالإطلاق فیقال بوجوبه، سواء أفاد العلم أوْ لا، فیشمل خبر الواحد، و إذا لم یتم الإطلاق لا تصلح الآیة لتخصیص عمومات النهی عن اتباع غیر العلم. ثم استشهد بتطبیق الإمام الآیة علی معرفة الإمام، لنفی الإطلاق.

و أمّا أنّ الآیة فی مقام بیان وظیفة النافرین و المتخلّفین معا، بأن یکون وظیفة أُولئک التفقّه والإنذار، و وظیفة هؤلاء ترتیب الأثر علی الإنذار و إن لم یفد العلم، فهذا أوّل الکلام، بل الآیة فی مقام بیان وظیفة المسلمین فی أن ینقسموا إلی النافرین والباقین فی بلدانهم، و أنه لا یجب النفر علی الجمیع، أمّا أن یجب علی المتخلّفین ترتیب الأثر مطلقا علی إنذار المنذرین، فلیست الآیة فی مقام بیانه.

وعلی الجملة، فإنّ أجوبة المیرزا و تلمیذه غیر وافیة بالجواب عن الإشکال.

نعم، لو کانت الآیة فی مقام البیان من جهة وجوب الحذر و ترتیب الأثر تعبّدا، لقلنا بأنه فی موارد اعتبار العلم _ کمسألة معرفة الإمام مثلاً _ ینتظر وصول

ص: 188

الخبر بحیث یحصل العلم، فلا ینافی استشهاد الإمام علیه السلام بالآیة دلالتها علی حجیّة خبر الواحد.

إلاّ أن هنا کلاما من جهةٍ اخری، و هی ضرورة أن یکون الأمر بترتیب الأثر تعبدیّا، فلو کان إرشادیا سقط الإستدلال، فما الدلیل لمنع احتمال الإرشادیّة؟

إنّ هذا الإحتمال موجود جدّا، فیکون وزان الآیة وزان قوله تعالی لموسی و هارون «اذْهَبا إِلی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیِّنًا لَعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشی»(1) فتأمّل.

الثانی:

إنّ التفقّه الواجب لیس إلاّ معرفة الامور الواقعیّة من الدین، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الامور المتفقّه فیها، فالحذر فیها لا یجب إلاّ عقیب الإنذار بها، فإذا لم یعرف المنذر _ بالفتح _ أنّ الإنذار هل وقع بالامور الدینیّة الواقعیّة أو بغیرها خطأ أو تعمّدا من المنذر _ بالکسر _ لم یجب الحذر. فانحصر وجوب الحذر فیما إذا علم المنذر صدق المنذر فی إنذاره بالأحکام الواقعیّة، فهو نظیر قول القائل: أخبر فلانا بأوامری لعلّه یمتثلها.

فهذه الآیة نظیر الأمر بنقل الأخبار الواردة عن النبیّ الأکرم والأئمة صلّی اللّه علیهم وسلّم، فإن المقصود من ذلک لیس إلاّ العمل بالامور الواقعیّة الّتی یشتمل علیها أخبارهم علیهم السلام، لا وجوب تصدیق الراوی فیما یحکی و لو لم یعلم

ص: 189


1- 1. سورة طه: الآیة 44.

مطابقته للواقع... و نظیره جمیع ما ورد فی بیان الحق للناس و وجوب تبلیغه إلیهم... .

الجواب

وأجاب المیرزا:(1) بأنه لمّا جعل الحجیّة لإنذار المنذر، فقد جعل الطریقیّة لقوله إلی الأحکام الواقعیّة. فالآیة جعلت قوله طریقا إلی الواقع و أفادت أن إنذاره إنذار بالأحکام الواقعیّة، فهی حاکمة علی أدلّة النهی عن اتباع غیر العلم.

أقول:

والظاهر عدم تمامیّة هذا الجواب، لأنّ الشیخ یقول بدلالة الآیة علی تقیّد الحذر بما إذا کان الإنذار بما تفقّه، فالحذر مقیّد، و مع احتمال خطأ المنذر أو کذبه فلا یجب. و لو أُرید التمسک بالآیة _ مع الإحتمال المذکور _ کان من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة.

و بالجملة، المراد هو الإنذار بالأحکام الواقعیّة، أی کلّ ما کان حکم اللّه، سواء کان حکما ظاهریّا أو واقعیّا، و مع احتمال أن لا یکون المنذر به حکما واقعیّا لم یجب الحذر.

و أجاب الخوئی:(2) بأن الإخبار بوجوب شئ¨ أو بحرمة شئ¨ لا ینفک عن الإنذار بما تفقّه، إذ الإخبار بالوجوب إنذار بالعقاب علی الترک بالدلالة الإلتزامیّة، و کذا الإخبار بالحرمة، فإنه إنذار بالعقاب علی الفعل. أمّا کون المخبر به مطابقا

ص: 190


1- 1. أجود التقریرات 3 / 195.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 186.

للواقع أو لا، فهو خارج عن مدلول الخبر، لما ذکرناه فی مقام الفرق بین الإخبار والإنشاء من أن مدلول الخبر هو الحکایة عن ثبوت الشیء أو نفیه.

وبالجملة: الإخبار عن الوجوب والحرمة إخبار بما تفقّه فی الدین، وإن کان المخبر به غیر مطابق للواقع.

أقول:

وفیه ما عرفت، لأن الواجب هو الحذر فیما إذا کان الإنذار بما تفقّه من الدین، فلابدّ من إحراز کون الإنذار کذلک، و بمجرد احتمال العدم لا یجب، والتمسّک بالآیة حینئذٍ تمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیّة، و هو غیر جائز.

الثالث:

لو سلّمنا دلالة الآیة علی وجوب الحذر مطلقا عند إنذار المنذرین، و لو لم یفد العلم، لکن لا یدلّ علی وجوب العمل بالخبر من حیث إنه خبر، لأن الإنذار هو الإبلاغ مع التخویف، فإنشاء التخویف مأخوذ فیه، والحذر هو التخوّف الحاصل عقیب هذا التخویف الداعی إلی العمل بمقتضاه فعلاً، و من المعلوم أن التخویف لا یجب إلاّ علی الوعّاظ فی مقام الإیعاد علی الامور التی یعلم المخاطبون بحکمها من الوجوب والحرمة... و علی المجتهدین فی مقام إرشاد الجهّال. و من الواضح أن تصدیق الحاکی فیما یحکیه من لفظ الخبر الذی هو محلّ الکلام، خارج عن الأمرین، فالآیة غیر شاملةٍ لإخبار الراوی.

ص: 191

الجواب

وأجاب المیرزا _ وتبعه تلمیذه _ بأنّ الإنذار إنْ اُخذ بما ینصرف إلیه إنصرافا بدویّا _ و هو الإنذار الإبتدائی الإستقلالی _ فتکون فتوی المجتهد و إرشاد المرشد کإخبار الراوی خارجةً عن مدلول الآیة، و إنْ اُخذ بما هو ظاهر فیه _ و لو بمعونة تفرّعه علی التفقّه _ و هو الإنذار التبعی الضمنی الحاصل ببیان الحکم الشرعی، فکما أنّ فتوی المجتهد تکون مشمولةً لها، کذلک إخبار الراوی، فالتفکیک بین الفتوی والرّوایة فی مشمولیّة الآیة غیرمعقول.(1)

أقول:

وهذا الجواب تام.

رأی الکفایة

وقد وافق صاحب الکفایة الشیخ فیما ذهب إلیه فی الآیة، غیر أنه خالفه فی معنی کلمة «لعلّ»، فلم یجعلها منسلخة عن معناها الحقیقی، وقال: ببقاء الکلمة علی معناها أخذا بأصالة الحقیقة فذکر: إن کلمة لعلّ و إن کانت مستعملة علی التحقیق فی معناها الحقیقی و هو الترجّی الإیقاعی الإنشائی، إلاّ أنّ الداعی إلیه حیث یستحیل فی حقّه تعالی أنّ یکون هو الترجّی الحقیقی، کان هو محبوبیّة التحذّر عند الإنذار، و إذا ثبت محبوبیّته ثبت وجوبه شرعا، لعدم الفصل، وعقلاً لوجوبه مع وجود ما یقتضیه، و عدم حسنه بل عدم إمکانه بدونه.

ثم أشکل رحمه اللّه: بأن التحذّر لرجاء إدراک الواقع و عدم الوقوع فی

ص: 192


1- 1. اجود التقریرات 3/196.

محذور مخالفته من فوت المصلحة أو الوقوع فی المفسدة، حسن و لیس بواجب فیما لم یکن هناک حجة علی التکلیف، و لم یثبت هاهنا عدم الفصل، غایته عدم القول بالفصل.(1)

النظر فیه

أقول:

یرید رحمه اللّه: إن الحذر حسن فی جمیع الشبهات حتی الشبهات البدویّة مع عدم وجوبه یقینا. فهذا إشکال علی الإستدلال بالآیة لحجیّة الخبر، زائدا علی ما أورده الشیخ.

ولکنّ الظاهر عدم تمامیّته، لأنّ عندنا بالنسبة إلی المصالح والمفاسد الواقعیّة براءة عقلیّة و شرعیّة، فقاعدة قبح العقاب بلا بیان ترفع الخوف، و کذا البراءة الشرعیّة، و مع وجود البراءة عقلاً و شرعا لا یبقی خوف الوقوع فی مفسدة ترک الواجب أو مفسدة الوقوع فی الحرام، و قد عرفنا أن «الحذر» مفهوم متقوّم بالخوف، إذن، لا حذر فی الشبهات، فلا یرد الإشکال حتی یتمّم بعدم الفصل.

علی أنّه یرد علی قوله: «غایته عدم القول بالفصل»: إن الإجماع المرکّب معناه کون الأُمّة علی قولین ینفیان القول الثالث بالدلالة الإلتزامیّة، و الأُمّة فی مسألة خبر الواحد علی قولین: الحجیّة و عدم الحجیّة، و کلاهما ینفیان محبوبیّة ترتیب الأثر علی خبر الواحد، فإنه إمّا واجب و إمّا غیر واجب.

ص: 193


1- 1. کفایة الأُصول: 298 _ 299.

طریق الإصفهانی

وقد قرّب المحقق الإصفهانی(1) دلالة الآیة علی حجیّة خبر الواحد بالدقّة فی جهات:

الاولی: إن وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذیها فی الإطلاق والتقیید، لکونها فرعا لذیها والنسبة بینهما نسبة العلّة والمعلول. ونسبة الإنذار إلی الحذر _ وإن لم یکن من ذلک القبیل _ إلاّ أنه لا ریب فی تبعیّة الإنذار للحذر فی الإطلاق و التقیید بلحاظ مقام الغرض، فالحذر قد تعلّق به الغرض و کان هو الموجب لوجوب الإنذار، فلو کان الحذر محدودا بحدًّ لم یعقل أن لا یکون الإنذار محدودا به و یکون مطلقا.

الثانیة: إنّ التفقّه فی الآیة المبارکة أعم من الاصول والفروع.

الثالثة: إنّ الإنذار الواجب لا یعقل فیه الإهمال، فإمّا یتقیّد بما إذا أفاد العلم أو یکون مطلقا، و إذ لا دلیل علی التقیید فهو مطلق.

الرابعة: إنه قد ترتب الحذر علی الإنذار، فهو تمام الموضوع له، فلا دخل لحصول العلم و إلاّ لخرج الموضوع عن الموضوعیّة.

الخامسة: إنه لما کان الإنذار تمام الموضوع للحذر، فلا محالة یکون إنذار المنذر حجةً، سواء حصل العلم منه أوْلا، لأنه لولا الحجیّة کان العقاب بلا بیان، فلا معنی لوجوب الحذر لکنّ الحذر واجب، فالإنذار حجة سواء أفاد العلم أوْلا.

هذا هو المستفاد من کلماته فی عدّة صفحات.

ص: 194


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 236 _ 239.

والحاصل: لقد کان الإشکال فی ثبوت الإطلاق لعدم کون الآیة فی مقام البیان، و قد ظهر تمامیّته فی «الإنذار» و «الحذر» معا، فلا الإنذار یحتمل تقیّده بالعلم و لا الحذر... و قد دلّت الآیة علی حجیّة الخبر بما هو خبر. ولیس یشترط فی المخبر أن یکون فقیها حتی تختصّ الآیة بفتوی المفتی، لأنّ التفقّه فی زمن الأئمة علیهم السّلام کان بمعنی تعلّم الأحکام و تفهّمها، بخلاف ما هو المتعارف من معنی الکلمة فی زماننا.

الرابع:

و هو الإشکال الباقی بعد التقریبات المزبورة، وذلک أنّ الإمام علیه السّلام قد طبّق هذه الآیة علی ما یعتبر فیه العلم، و هو معرفة الإمام کما فی الأخبار الکثیرة، منها: صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام و فیها: قلت: أفیسع الناس إذا مات العالم أنْ لا یعرفوا الذی بعده؟ فقال: أمّا أهل هذه البلدة فلا، یعنی أهل المدینة، و أمّا غیرها من البلدان فبقدر مسیرهم، إنّ اللّه عزّوجلّ یقول: «فَلَوْلا نَفَرَ ...».(1)

فإنّ ما ذکره المحقق الإصفهانی و غیره غیر وافٍ بالجواب عنه.

فإنْ قلت: نستفید من إطلاق الآیة حجیّة خبر الواحد، غیر أنه تقیّد الآیة فی مورد معرفة الإمام بإفادة الخبر للعلم.

قلت: التمسّک بإطلاق الکلام یختلف، فتارةً: یکون الکلام مطلقا و حجیّته

ص: 195


1- 1. الکافی 1 / 380.

تامّة، فیجوز التمسّک بالإطلاق فی کلّ حصة أو فردٍ شکّ فی شموله له، و هذا علی القاعدة. و أخری: یکون إطلاق الکلام مقیّدا بقیدٍ، فهو مطلقٌ لکنْ سقطت حجیّته، ففی هذه الحالة لا یتمسّک بالإطلاق فی مورد الشک، لأن المطلق بعد التقیید _ و کذا العام بعد التخصیص _ یسقط عن الدلیلیّة. فلو تقیّد أکرم العلماء بالعدول، لم یصح التمسّک بأکرم العلماء لوجوب إکرام العدول منهم، لأن معناه حینئذٍ وجوب إکرام العلماء و إن لم یکونوا عدولاً، لأن الإطلاق رفض القید.

و فی المقام: إن الآیة إن کانت مطلقةً، فکیف استدلً بها الإمام علیه السّلام لموردٍ یعتبر فیه العلم، و إن کانت مقیّدة بإفادة العلم، فلا تصلح للإستدلال للأعم ممّا أفاد العلم و ما لم یفده.

فالإستدلال بالآیة ساقط لبقاء هذا الإشکال من الشیخ علی حاله.

الإشکال علی الشیخ

لکن یرد علی الشیخ التهافت فی کلماته، وذلک: أنه إذا کانت الآیة مفیدةً لاعتبار العلم _ لأنّ الإمام علیه السّلام طبّقها علی مسألة معرفة الإمام و هی من اصول الدین _ فلماذا استدلّ بها فی مسألة الإجتهاد والتقلید؟

لقد استدلّ الشیخ بالآیة علی وجوب التقلید، والتقلید _ کما هو معلوم _ هو الأخذ بقول الغیرتعبّدا، فهذا یناقض کلامه هنا. هذا أوّلاً.

و ثانیا: إنه فی رسالته فی مسألة تقلید المیت،(1) قال فی ردّ المستدلّین بالآیة

ص: 196


1- 1. مطارح الأنظار: 288.

للجواز: بأنّ الآیة غیر واردة فی مورد التفقّه، بل إن موردها النفر إلی الجهاد.

و هذا یناقض کلامه فی المقام، إذ یقول بأنها دالّة علی التفقّه فی الدین.

و قال أیضا فی ردّ الإستدلال: بأنّ التفقّه فی عصر نزول الآیة بمعنی الحضور عند المعصوم والأخذ منه، و لذا استدلّ الأعاظم بالآیة لحجیّة خبر الواحد.

فکیف یقول هذا هناک، و فی المقام ینکر دلالة الآیة علی حجیّة خبر الواحد. هذا کلّه نقضا.

و أمّا حلاًّ، فإن مقتضی التحقیق هو النظر فی الروایات المستدلّ فیها بالآیة المبارکة، فقد تبیَّن ممّا ذکرناه من أوّل البحث إلی هنا أنّ تلک الأخبار هی سبب الإشکال العمدة فی الإستدلال بها علی حجیّة خبر الواحد.

وقد وجدنا الشیخ فی رسالة تقلید المیت(1) _ بعد أن استدلّ بالآیة علی حجیّة الخبر، و ذکر أنّ التفقّه فی عصر الأئمّة کان یتحقق بتعلّم الأحکام و أخذ الروایات _ یستشهد بما رواه الشیخ الصّدوق فی عیون الأخبار من أمر الإمام علیه السّلام بالنفر إلی الإمام لتعلّم مسائل الحلال والحرام.(2)

فکما ورد الإستدلال بالآیة لمعرفة الإمام فی الروایات، کذلک ورد فی تعلّم الأحکام، فیکون «التفقّه» مفهوما عامّا یصدق علی «معرفة الإمام» المعتبر فیه

ص: 197


1- 1. مطارح الأنظار: 261.
2- 2. عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 119، علل الشرائع 1 / 273، وسائل الشیعة 11 / 12، الباب 1 من أبواب وجوب الحج.

العلم، و علی «أخذ الأحکام» الذی لا یعتبر فیه العلم، و کذلک یکون مفهوم «الإنذار»، فإنّه التخویف، لکنّ المصداق یختلف، فما یعتبر فیه العلم یکون الإنذار حجةً إن أفاد العلم، و ما لا یعتبر فیه العلم فهو حجّة. و بهذا یتمّ الاستدلال بالآیة فیما یعتبر فیه العلم و فیما لا یعتبر أیضا.

لا یقال:(1) إنّ وجوب العمل بما اُنذروا شرعیٌّ فی الأحکام وعقلیٌّ فی اصول الدین، فکیف یُجعل هذان الوجوبان بالآیة المبارکة بجعلٍ واحدٍ؟

لأنّا نقول: بأنَّ الوجوب فی کلا البابین شرعیٌّ، والحکم العقلی غیرالقابل للتعبّد الشرّعی منحصر بباب الإطاعة والمعصیة، ولذا نقول بشرعیّة ماورد فی الکتاب والسنّة فی وجوب العدل وحرمة الظلم، ولا نحملها علی الإرشاد إلی حکم العقل. وعلی الجملة، فإنّه لا مانع من أن یکون الأمر بمعرفة الإمام _ مثلاً _ أمرا شرعیّا مولویّا بعد وجود المقتضی من جهة أنّ کثیرا من الناس لا تدرک عقولهم وجوب معرفته، بل إنّ بعض الناس لا ینبعثون من الأحکام العقلیّة وإنّما ینبعثون بأوامر المولی ونواهیه فقط.

لایقال: إنّ الأحکام الشرعیّة منجزَّة، إمّا لکونها شبهات حکمیّة قبل الفحص، وإمّا للعلم الإجمالی، ولذا لا یجوز التمسّک بقاعدة قبح العقاب بلابیان. وإذا کانت منجزّة، فلا معنی لأنْ تفید الآیة وجوب الحذر بالنسبة إلی الأحکام، لأنّ المنجَّز لا یتنجّز ثانیةً.

ص: 198


1- 1. کما فی أوثق الوسائل: 157، ثم أمر بالتأمّل.

لأنّا نقول: بأنّ صحیحة یعقوب بن شعیب(1) وغیرها صریحة بکون النافرین معذورین ماداموا فی حال الفحص، والمتخلّفین معذورین کذلک مادام لم یصلهم الإنذار. فالاشکال المذکور اجتهاد فی مقابل النصّ.

وحلّ المطلب هو: إنّ ظاهر الآیة المبارکة ترتّب الحذر علی الإنذار، وتوهّم عدم دخل الإنذار فی الحذر باطلٌ، ولیس دخله بنحو جزء الموضوع لیکون الجزء الآخر هو العلم، لأن الآیة ظاهرة فی وجوب الحذر عند الإنذار سواء علموا أولا. علی أنّه لو کان للعلم دخلٌ لکان تمام الموضوع وسقط الإنذار عن الموضوعیّة، وهو باطل، فثبت أنّ الإنذار تمام الموضوع للحذر، وحینئذٍ یستحیل أنْ لایکون حجةً.

وبهذا ظهر تمامیّة الاستدلال بآیة النفر فی أبواب اصول الدین، وفی باب الإجتهاد والتقلید.

وأمّا فی مطلق خبر الواحد الثقة، فدلالتها علی وجوب القبول تعبّدا، محلّ تأمّل، لمکان أخذ عنوان «التفقّه»، وهو غیرحاصل فی مطلق الخبر الواحد، فیکون أخصّ من المدّعی، فلا مناص من تتمیم الاستدلال بعدم الفصل.

وأمّا ما أفاده المحقق الإصفهانی من أن «التفّقه» کان فی زمن الأئمة علیهم السلام بمعنی تعلّم الأحکام، بخلاف ما هو المتعارف من معنی الکلمة فی زماننا». فلا یدفع الإشکال، لأن «الفقه» لیس فی جمیع الأزمنة إلاّ بمعنی واحد، غیر أنّ التفقّه فی تلک الأزمنة کان سهلاً وهو فی زماننا صعب، لطول المدّة ووجود

ص: 199


1- 1. الکافی 1 / 378.

التعارضات فی الأدلّة، وغیرذلک من الأسباب.

هذا، وقد اختلف رأی شیخنا الاستاذ فی جواز الاستدلال بالآیة لحجیّة خبر الواحد، فاختار فی الدّورة السّابقة العدم، أمّا فی اللاّحقة فلم یجزم بذلک.

وقد کان تقریبنا للمطلب یقوّی الإستدلال بها، فهی إنْ لم تکن أوضح دلالةً من آیة النبأ _ کما ادّعی فی مصباح الاصول _ فلیست ساقطةً عن الاستدلال کما ذهب الشیخ وأتباعه.

وهذا تمام الکلام فی آیة النفر.

ص: 200

آیة الکتمان

اشارة

قال تعالی: «إِنَّ الَّذینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَالْهُدی مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ فِی الْکِتابِ أُولئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللّه ُ وَیَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ».(1)

والتقریب فیه نظیر ما بیّناه فی آیة النفر، من أنّ حرمة الکتمان یستلزم وجوب القبول عند الإظهار.

کلام الشیخ:

قال: و یرد علیها ما ذکرنا من الإیرادین الأولین فی آیة النفر، من سکوتها و عدم التعرّض فیها لوجوب القبول و إنْ لم یحصل العلم عقیب الإظهار، أو اختصاص وجوب القبول المستفاد منها بالأمر الذی یحرم کتمانه و یجب إظهاره. قال: و یشهد لما ذکرنا: أن مورد الآیة کتمان الیهود لعلامات النبی صلی اللّه علیه وآله بعد ما بیّن اللّه لهم ذلک فی التوراة، و معلومٌ أن آیات النبوّة لا یکتفی فیها

بالظن.

ص: 201


1- 1. سورة البقرة: الآیة 159.

قال: نعم، لو وجب الإظهار علی من لا یفید قوله العلم غالبا، أمکن جعل ذلک دلیلاً علی أن المقصود العمل بقوله و إن لم یفد العلم، لئلاّ یکون إلقاء هذا الکلام کاللّغو.

ومن هنا یمکن الإستدلال بما تقدّم من آیة تحریم کتمان ما فی الأرحام علی النساء(1) علی وجوب تصدیقهنّ، و بآیة وجوب إقامة الشهادة(2) علی وجوب قبولها بعد الإقامة، مع إمکان کون وجوب الإظهار لأجل رجاء وضوح الحق من تعدّد المظهرین.(3)

رأی صاحب الکفایة

وقال فی الکفایة ما حاصله: إنه إن کانت الملازمة العقلیّة بین حرمة الکتمان و وجوب القبول تامةً _ من جهة لزوم لغویّة تحریم الکتمان إن لم یجب القبول _ لم یکن مجال لإیراد الشیخ علی الاستدلال من دعوی الإهمال أو استظهار الإختصاص بما إذا أفاد العلم.

فإنها تنافیهما کما لا یخفی.

أی: إن الملازمة تنافی دعوی الإهمال أو استظهار الإختصاص.

ثم أجاب عن الإستدلال: بمنع الملازمة، و قال: فإن اللّغویة غیر لازمة، لعدم

ص: 202


1- 1. سورة البقرة: الآیة 228.
2- 2. سورة البقرة: الآیة 283.
3- 3. فرائد الأُصول: 81.

انحصار الفائدة بالقبول تعبّدا، و إمکان أنْ تکون حرمة الکتمان لأجل وضوح الحق بسبب کثرة من أفشاه و بیّنه، لئلاّ یکون للناس علی اللّه حجّة، بل کان له علیهم الحجّة البالغة.(1)

آراء المتأخرین

وقد قال المیرزا فی هذه الآیة وآیة السؤال: بأن عدم دلالتها علی حجیّة خبر الواحد أوضح من أن یخفی(2)

وتبع الإصفهانی و العراقی(3) صاحب الکفایة.

وتبعهما فی مصباح الاصول(4) و استفاد منهما فی الجواب عن الإستدلال بالآیة، فذکر ما حاصله: عدم الملازمة فی المقام، فالآیة معناها حرمة الکتمان علی کلّ أحد، فیحتمل أن یکون الوجه فیها أن إخبار الجمیع مما یوجب العلم، کما فی الخبر المتواتر.

قال: و لا یقاس المقام بحرمة الکتمان علی النساء، لأن طریق إحراز ما فی الأرحام منحصر فی إخبارهن، فالملازمة هناک موجودة وإلاّ تلزم اللّغویّة، بخلاف المقام، حیث حرّم الکتمان علی الیهود الذین أخفوا الأدلّة الظاهرة علی نبوة نبیّنا

ص: 203


1- 1. کفایة الأُصول: 300.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 196.
3- 3. نهایة الدرایة 3 / 244، نهایة الأفکار 3 / 130.
4- 4. مصباح الأُصول 2 / 188 _ 189.

صلی اللّه علیه وآله لجمیع الناس، کما فی قوله تعالی: «مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ».(1)

والحاصل: إنه لا ملازمة بین حرمة الکتمان و وجوب القبول هنا، کما لا إطلاق لحرمة الکتمان لیشمل ما لو علم المخبر بأن إخباره لا یفید العلم للسّامع، إذ فی هذه الصّورة تدلّ الآیة علی وجوب القبول و إلاّ تلزم اللّغویّة. و وجه عدم الإطلاق هو أن ظهور الحق لعامّة الناس هو الحکمة لحرمة الکتمان، والحکمة الداعیة إلی التکلیف لا یلزم أن تکون ساریة فی جمیع الموارد.

قال: و یدلّ علی ما ذکر: أن مورد الآیة هو النبوّة، و هی من اصول الدین، ولا یقبل فیها خبر الواحد.

الإشکالات الواردة علی الإستدلال

ویتلخّص الإشکال فی الاستدلال بالآیة فی وجوه:

الأوّل: إنها واردة فی ذمّ علماء أهل الکتاب، لکتمانهم ما نزل فی التوراة والإنجیل فی النبیّ الأکرم ورسالته، فالآیة متعلّقة بأصول الدین.

لایقال: فلیکنْ الاستدلال بها کما استدلّ بآیة النّفر، وقد تعلّقت بحسب الأخبار بالإمامة وهی من اصول الدین.

لأنا نقول: فرقٌ واضحٌ بین الآیتین وموردیهما. فالإمامة یمکن أنْ تعرف بما قاله الرسّول، لما تقدّم من أن وجوب معرفتها شرعیّ، ولکنّ الرسالة والنبوّة لاتعرف بکلام الرسول للزوم الدور، فوجوب معرفتها عقلی.

ص: 204


1- 1. سورة البقرة: الآیة 159.

والثانی: إنها فی مقام بیان حرمة الکتمان لا وجوب قبول ما أظهر، والفرق بینها وبین آیة کتمان ما فی الأرحام ممّا لا یخفی.

والثالث: إنه لا ملازمة بین حرمة الکتمان ووجوب القبول تعبّدا، إلاّ إذا لزم لغویّة حرمة الکتمان، کما فی آیة کتمان ما فی الأرحام، وما نحن فیه لیس من هذا القبیل، فالملازمة ممنوعة، فالإستدلال ساقط.

والرابّع: إنّ موضوع الآیة هو ما أنزله اللّه من البیّنات والهدی، فإذا أخبر المخبر وعلم بأنّ المخبر به مما أنزله اللّه کذلک، وجب القبول، أمّا مع الشک، فلایجوز التمسّک للقبول بالآیة، لأنه من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة.

وقد استظهر المحقق الإصفهانی من هذه الآیة معنیً أجنبیّا عن حجیّة الخبر بالمرّة، فذهب إلی أنها ظاهرة فی حرمة کتمان ما فیه مقتضی الظهور لو لا الستر، بقرینة قوله«بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ». فلا نظر فیها إلی وجوب الإعلام، بل غایة ما تدلّ هو لزوم إظهار ما بیّنه اللّه، ولا تدلّ علی لزوم إعلام ما هو مستور فی نفسه لولا الإعلام.(1)

قال سیدنا الاستاذ قدّس سرّه بعد إیراده: وهذا الإستظهار لا بأس به قریب إلی الذهن والذوق.(2)

وعن السیّد الصّدر: إن کلمة «الکتاب» لعلّ المراد منه القرآن الکریم _ لا التوراة والإنجیل _ فیکون المقصود أنه بعد ما بیّنا فی الکتاب الکریم أنّ النبیّ قد

ص: 205


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 244.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 290.

توّفرت بشائر نبوّته فی کتب العهدین، فمن ینکر أو یکتم علمه بذلک من أهل الدیانتین عداوةً لهذا الدین وتکذیبا للقرآن، فأولئک یلعنهم اللّه ویلعنهم اللاّعنون، وبذلک تکون الآیة أجنبیّة عن مسألة حجیّة خبر الواحد.(1)

فالآیة المبارکة إمّا أجنبیّة عن البحث، وإمّا لا تدلّ علی المدّعی بوجوه.

ص: 206


1- 1. بحوث فی علم الأُصول 4 / 382.

آیة الذکر

اشارة

قوله تعالی فی سورة الأنبیاء «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».(1)

وجه الإستدلال: إن وجوب السؤال یستلزم وجوب قبول الجواب، وإلاّ لغا وجوب السؤال. و إذا وجب القبول وجب قبول کلّما یصحّ أن یسأل عنه و یقع جوابا له، فلا خصوصیّة لمسبوقیّة بالسؤال.

إشکالات الشیخ

وأورد علیه الشیخ رحمه اللّه: بأنّ مقتضی سیاق الآیة _ سواء التی فی سورة الأنبیاء أو التی سورة النحل _ هو إرادة علماء أهل الکتاب.

و أمّا مع قطع النظر عن السیاق ففیه:

أوّلاً: إنه قد ورد فی المستفیضة أن المراد هم الأئمة الأطهار علیهم السّلام و روایتان منها صحیحتان، و هما عن محمد بن مسلم، والوشّاء.(2)

ص: 207


1- 1. سورة النحل: الآیة 43.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 63 و 60، الباب 7 من أبواب صفات القاضی، رقم 3 و 9.

وثانیا: إن الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب تحصیل العلم لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبّدا، کما یقال فی العرف: سلْ إن کنت جاهلاً.

و یؤید ذلک ورود الآیة فی اصول الدین التی لا یؤخذ فیها بالتعبّد إجماعا.

و ثالثا: لو سلّمنا، فإن المراد من أهل الذکر لیس مطلق من علم و لو بسماع روایةٍ من الإمام... .

الکلام حول الإشکالات

أمّا السّیاق، فإنّه لا یصلح لأنْ یصرف اللّفظ العام عن العموم، ولذا کان لفظ «الغنیمة» فی آیة الخمس(1) ظاهرا فی العموم، مع أنّ مقتضی السّیاق إرادة خصوص غنیمة دارالحرب. هذا أوّلاً.

وثانیا: إنّ السّیاق یسقط عن القرینیّة مع وجود الدلیل علی خلافه، وفیما نحن فیه روایة معتبرة عن محمد بن مسلم، رواها الشیخ الکلینی _ فی باب أنهم أهل الذکر _ قد ورد فیها النهی عن السؤال من أهل الکتاب، قال علیه السلام: إذْن، یدعونکم إلی دینهم.(2)

وأمّا الإشکالات الثلاثة:

ص: 208


1- 1. سورة الأنفال: الآیة 41.
2- 2. الکافی 1 / 211.

حول الاشکال الثالث

فقد أورد فی الکفایة علی الإشکال الثالث بقوله:

إنّ کثیرا من الرواة یصدق علیهم أنهم أهل الذکر والإطلاع علی رأی المعصوم، کزرارة و محمّد بن مسلم، و یصدق علی السؤال منهم أنه السؤال من أهل الذکر والعلم... و إذا وجب قبول روایتهم فی مقام الجواب بمقتضی الآیة، وجب قبول روایتهم و روایة غیرهم من العدول مطلقا، لعدم الفصل جزما فی وجوب القبول بین المبتدی ء والمسبوق بالسؤال، و لا بین أضراب زرارة و غیرهم ممّن یکون من أهل الذکر و إنما یروی ما سمعه أو رآه. فافهم.(1)

ویمکن الجواب: بأن موضوع وجوب القبول هو جواب أهل العلم لعلّة کونهم کذلک، و حینئذٍ، کیف یقال بعدم الفصل بین جوابهم و خبر من لیس منهم؟

وأجاب السیّد الاُستاذ بأن: ما ذکره صاحب الکفایة غیرسدید، وذلک، لأنّ موضوع القبول لیس روایة العالم کی یقال بعدم الفصل بین روایته وغیره، بل عرفت أن موضوع القبول هو جواب أهل العلم، بملاحظة جهة علمهم ومعرفتهم، بحیث یکون لذلک دخلٌ فی القبول، ومعه لا قطع بعدم الفصل بینهم وبین ما لایکون من أهل الذکر، لعدم ثبوت ملاک القبول فی خبره.(2)

ص: 209


1- 1. کفایة الأُصول: 300.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 292.

حول الإشکال الأوّل

واُجیب عن الإشکال الأوّل: بأنّ الروایات هذه من باب ذکر المصداق الأتم، وأهل الذکر عنوان عام.

أقول:

قد وقع الکلام بین الأعلام حول هذه الروایات من جهات:

الأولی: الکلام فی أسانیدها:

قال الشیخ: ردّ بعض مشایخنا هذه الأخبار بضعف السّند، بناءً علی اشتراک بعض الرواة فی بعضها وضعف بعضها فی الباقی.

قال: وفیه نظر، لأنّ روایتین منها صحیحتان وهما روایتا محمد بن مسلم والوشاء فلاحظ وروایة أبیبکر الحضرمی حسنة أو موثّقة. نعم، ثلاث روایات اخر منها لا تخلو من ضعف ولایقدم قطعا.

والثانیة: هل هی آحاد؟

قال الآشتیانی: إنّ الإستشهاد بالأخبار المذکورة لإرادة خصوص الأئمة من أهل الذکر مع عدم قطعیّة صدور الأخبار وإنْ بلغت حدّ الاستفاضة لایجوز قطعا حسبما عرفت مرارا من أنّ الاستعانة فی مسألة حجیّة خبر الواحد منعا وإثباتا غیرجائز عقلاً.(1)

أقول:

إنّ هذه الأخبار موثوقٌ بصدورها، لاعتضادها بأدلّةٍ من الکتاب والسنّة کما

ص: 210


1- 1. بحر الفوائد فی شرح الفرائد 2 / 285.

سیأتی، ولو لا ذلک لم یستدل بها الشیخ وصاحب الفصول وغیرهما.

الثالثة: هل تدلّ علی الإنحصار أوهی بنحو المصداق؟

ظاهر الشیخ وبعض شرّاح کتابه وصاحب الفصول هو الأخذ بظواهر تلک الأخبار، خاصّةً وأنّ بعضها یفید الحصر کما لا یخفی علی من یراجعها، وکان شیخنا الاستاذ دام بقاه یصرّ علی ذلک فی الدورة السّابقة.

وذهب آخرون: إلی أنّ تلک الأخبار غیر دالّةٍ علی الحصر، وإنما المراد ذکر المصداق الأتم، وأهل الذکر فی الآیة عنوان عام، واختاره شیخنا فی الدّورة اللاّحقة.

وقال سیدنا الاستاذ: إنّ التفسیر بمثل ذلک یرجع إلی بیان المصادیق لا لبیان المعنی المراد علی سبیل الحصر، ففی زمانهم علیهم السّلام یکونون هم مصداق الذکر الذی ینبغی السّؤال منهم، ومثل ذلک کثیر فی تفسیر الآیات الوارد فی النصوص.(1)

وقال السیّد الصّدر: لاشک فی أنهم هم أهل الذکر الحقیقیین، لأنهم ورثة کلّ الرّسالات والشرائع والکتب السّماویّة وورثة آدم ونوحٍ... إلاّ أن هذا من التفسیر بالباطن لا الظّاهر، وإلاّ، فلا معنی ولا مناسبة فی إرجاع المشککّین فی نبوّة محمد إلی الأئمة _ علیهم الصّلاة والسّلام _ لإثبات حقانیّة الرسول ودفع شبهة بشریّته.(2)

ص: 211


1- 1. منتقی الأُصول 4 / 292.
2- 2. بحوث فی علم الأُصول 4 / 384.

أقول:

والصحّیح ما ذهب إلیه الاستاذ فی الدورّة السّابقة، تبعا للشیخ وغیره، ولتوضیح ذلک نذکر اُمورا:

الأوّل: إنّ «الذکر» فی الکتاب والسنّة هو «القرآن» أو «النبّی صلّی اللّه علیه وآله» أو «مطلق ذکر اللّه». وأیّا کان المراد فی الآیة الکریمة، فالأئمة الأطهار هم أهله علی التحقیق لا غیرهم.

والثانی: إنّ الأئمة علیهم السّلام عندهم جمیع الکتب المنزلة من اللّه، وهم فی نفس الوقت صادقون ومصدّقون عند جمیع أصناف الکفّار.

والثالث: قد استشهد اللّه والرسول أمام الکفّار بأمیرالمؤمنین علیه السّلام علی نبوّة رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله.

قال تعالی: «وَیَقُولُ الَّذینَ کَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ کَفی بِاللّه ِ شَهیدًا بَیْنی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتابِ»،(1) فقد روی الفریقان أنّ المراد من «من عنده علم الکتاب» هو «أمیرالمؤمنین علی»،(2) فإن هذه الآیة تدلّ:

أوّلاً: علی قبول الکفار شهادة أمیرالمؤمنین،

وثانیا: علی صحّة إرجاع المشککّین فی نبوّة محمّد إلی الأئمة.

والرّابع: فرقٌ بین التفسیر وبیان المراد من اللّفظ، کما فی تفسیر «أهل الذکر» ب_«الأئمة»، وبین التفسیر الباطن، کما فی تفسیر «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقیمَ» ب_«علی» علیه السّلام. فلا ینبغی الخلط بین المقامین.

ص: 212


1- 1. سورة الرّعد: الآیة 43.
2- 2. اُنظر: تفسیر الثعلبی 5 / 303، تفسیر القرطبی 9 / 336، شواهد التنزیل 1 / 401.

وعلی الجملة، فإنّ الحقّ مع الشیخ وأتباعه فی هذا الإشکال، لأنّه إن کان المراد من «أهل الذکر» هم الأئمة علیهم السلام، فإن إخبارهم یفید العلم. فالآیة أجنبیّة عن البحث.

حول الإشکال الثانی

وأجاب المحقق الإصفهانی عن الإشکال الثانی بما حاصله:(1) إنْ متعلّق العلم فی الآیة هو العلم بالجواب لا العلم بالواقع؛ فالإشکال مندفع.

والإنصاف أن ما ذکر خلاف ظاهر الآیة، وقد أوضح ذلک سیدنا الاستاذ رحمه اللّه: بأنّ مرادنا بالعلم الذی یکون دخیلاً فی وجوب القبول لیس النظر والروّیة والدّقة، بل مطلق الرأی والإعتقاد، فقبول رأیه لو کان ناشئا عن حسّ ظاهر بلا أی مقدّمة حدسیّة لا یلازم قبول خبره بما هو خبر. وبعبارة اخری: الآیة الکریمة بمنزلة أنْ یقال: الفتوی حجّة، فهل یتصوّر دلالة هذا القول علی حجیّة الخبر، بملاحظة أن الفتوی تنشأ أحیانا عن غیر نظرٍ وإعمال حدس(2)

هذا، وقد أضاف شیخنا فی الردّ علی قول المحقق المذکور: الإستدلال بروایةٍ أخرجها الشیخ الکلینی(3) عن أبی عبداللّه علیه السّلام أنه عرض علیه بعض خطب أبیه علیه السّلام...

ص: 213


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 246.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 292.
3- 3. الکافی 1 / 50.

ص: 214

آیة الاُذُن

اشارة

قوله تعالی: «وَمِنْهُمُ الَّذینَ یُوءْذُونَ النَّبِیَّ وَیَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ یُوءْمِنُ بِاللّه ِ وَیُوءْمِنُ لِلْمُوءْمِنینَ».(1)

و تقریب الإستدلال: إن اللّه مدح رسوله بتصدیقه للمؤمنین، فکان تصدیقه لهم فعلاً حسنا، و إذا کان حسنا فهو واجب.

قال الشیخ(2): و یزید فی تقریب الإستدلال وضوحا: ما رواه فی فروع الکافی فی الحسن بابن هاشم إنه کان لإسماعیل بن أبیعبداللّه علیه السلام دنانیر، و أراد رجل من قریش أن یخرج إلی الیمن، فقال له أبوعبداللّه: یا بنی، أما بلغک أنه یشرب الخمر؟ قال: سمعت الناس یقولون. فقال یا بنی: إن اللّه عزّوجلّ یقول «یُوءْمِنُ بِاللّه ِ وَیُوءْمِنُ لِلْمُوءْمِنینَ». یقول: یصدّق اللّه و یصدّق للمؤمنین. فإذا شهد عندک المسلمون فصدّقهم.(3)

ص: 215


1- 1. سورة التوبة: الآیة 61.
2- 2. فرائد الأُصول: 83.
3- 3. الکافی 5 / 299.

وإنّما قال «یزید فی الإستدلال...» لأنّ الإمام علیه السّلام قد طبّق الآیة علی إخبار المؤمنین بأن الرجل یشرب الخمر، فیفید حجیّة إخبارهم، وأنه کان علی إسماعیل ترتیب الأثر علیه بعدم إعطاء ماله إلیه. وکأنه علیه السّلام یشیر إلی أن شارب الخمر سفیهٌ واللّه تعالی یقول «وَلا تُوءْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَکُمُ»(1). فالخبر یزید وضوحا فی دلالة الآیة علی حجیّة خبر المؤمن، ولذا عَمَد إلی توجیهه بعد الإیراد علی الاستدلال.

هذا تقریب الإستدلال.

إشکال الشیخ

ثم إن الشیخ أورد علی الإستدلال بإیرادین:

الأوّل: إن المراد من «الاُذُن» هو السّریع التصدیق والإعتقاد بکلّ ما یسمع، لا من یعمل تعبّدا بما یسمع من دون حصول الإعتقاد بصدقه. فاللّه تعالی مدح نبیّه لحسن ظنّه بالمؤمنین و عدم اتّهامهم.

والثانی: إن المراد من التصدیق فی الآیة لیس جعل المخبر به واقعا و ترتیب جمیع آثاره علیه، إذ لو کان المراد ذلک لم یکن اُذن خیر لجمیع الناس، إذ لو أخبره أحد بزنا أحد أو شربه أو قذفه أو ارتداده، فقتله النبی أو جلده، لم یکن فی سماعه ذلک الخبر خیر للمخبر عنه، بل کان محض الشرّ له، خصوصا مع عدم صدور الفعل منه فی الواقع.

ص: 216


1- 1. سورة النساء: الآیة 5.

بل المراد هو الحمل علی الصحّة فقط. وذلک قد یتحقّق بمجرد حمل الفعل ذی الوجهین علی الوجه الصحیح منهما، من دون ترتیب أی أثرٍ، کما لو اغتاب المؤمن عندک أحدا من المؤمنین، فإنک تحمل اغتیابه علی الصحّة، بأنْ یکون له مجوّز للغیبة، ولکنْ لا ترتب الأثر علی قوله فی المغتاب. وقد یتحقّق بترتیب الأثر الخاصّ به، کما لو اُجریت صیغة عقد البیع فشکّ فی صحّتها، فإنه یحمل علی الصحّة ویرتّب النقل والانتقال علیه. وقد یتحقّق بترتیب جمیع آثار الواقع علیه عملاً، وهذا ما نسمیّه بالصحیح فی إخبار الثقات.

ومراد الشیخ هنا هو القسم الأوّل، فلا یکذّب المؤمن فیما قال، ولکنْ لا یرتب الأثر علی قوله، وهو ما تقتضیه أدلّة حمل فعل المسلم علی الصحّیح والأحسن،(1) وهو ظاهر الأخبار الواردة فی أنّ من حقّ المؤمن علی المؤمن أنْ یصدّقه ولا یتّهمه، خصوصا مثل قوله علیه السلام: یا أبا محمد، کذّب سمعک وبصرک عن أخیک، فإنْ شهد عندک خمسون قسامة أنه قال قولاً وقال لم أقله، فصدّقه وکذّبهم.(2)

قال:

ویؤیّد هذا المعنی ما عن تفسیر العیاشی عن الصّادق علیه السّلام من أنه «یصدّق المؤمنین، لأنه کان رؤوفا رحیما بالمؤمنین».(3)

ص: 217


1- 1. وسائل الشیعة 12 / 302، الباب 161 من أبواب أحکام العِشرة.
2- 2. وسائل الشیعة 12 / 295، الباب 157 من أبواب أحکام العشرة، الرقم 4.
3- 3. تفسیر العیّاشی 2 / 95.

فإن تعلیل التّصدیق بالرأفة والرحمة علی کافّة المؤمنین، ینافی إرادة قبول قول أحدهم علی الآخر بحیث یترتب علیه آثاره و إن أنکر المخبر عنه... .(1)

و یؤیّده أیضا: ما عن القمی فی سبب نزول الآیة: إنه نمّ منافق علی النبی صلّی اللّه علیه وآله فأخبره اللّه ذلک، فأحضره النبی و سأله، فحلف أنه لم یکن شیء مما ینمّ علیه، فقبل منه النبی، فأخذ هذا الرجل بعد ذلک یطعن علی النبی و یقول إنه یقبل کلّ ما یسمع... فردّه اللّه بقوله لنبیّه «قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ».(2)

ومن المعلوم أن تصدیقه للمنافق لم یکن بترتیب آثار الصّدق علیه مطلقا. وهذا التفسیر صریح فی أن المراد من المؤمنین المقرّون بالإیمان من غیر اعتقاد، فیکون الإیمان لهم علی حسب إیمانهم.

قال: و یشهد بتغایر معنی الإیمان فی الموضعین _ مضافا إلی تکرار لفظه _ تعدیته فی الأول بالباء و فی الثانی باللاّم.

ثم إنه قدّس سرّه جعل یوجّه الروایة فی قضیة إسماعیل... .

رأی الکفایة

أجاب عن الإستدلال بما هو ملخّص کلام الشیخ، فلا حاجة إلی ذکر نصّ کلامه(3) رحمهما اللّه.

ص: 218


1- 1. فرائد الأُصول: 83 .
2- 2. تفسیر القمّی 1 / 300.
3- 3. کفایة الأُصول: 301.

نعم، قد لوحّ إلی أنّ المراد من التصدیق ترتیب خصوص الأثر غیرالمضّر بالمخبر.

وقال فی حاشیة الرسائل: الحمل علی الأحسن لایقتضی الحمل علی الصّدق، بل الصّدق والکذب کلاهما له وجه حسن ووجه غیرحسن، فالحمل علی الأحسن هو الحمل علی الجهة المباحة.(1)

لکنّ ظاهر کلمات الشیخ هو الحمل علی الصّدق مع رعایة جانب الإحتیاط بالنسبة إلی الواقع، فیترتب الأثر إلی حدٍّمّا، فهو تصدیق ظاهری من باب الحمل علی أحسن الوجوه کما تقدّم.

رأی العراقی

أجاب رحمه اللّه(2) بمنع کون المراد من التصدیق فی الآیة هو التعبّد بثبوت الخبر به و ترتیب الأثر علیه. و إنما هو بمعنی مجرّد إظهار القبول و عدم المبادرة إلی تکذیب المخبر فیما یخبر به والإنکار علیه، کما یشهد له تکرار لفظ الإیمان و تعدیته فی الأوّل بالباء و فی الثانی باللاّم.

قال: کما أنّ المراد بالاُذُن فیها أیضا هو ما ذکرنا، لأنه هو الذی یکون خیرا لجمیع الناس، دون المعنی الأوّل، لا أنّ المراد منه هو سریع الإعتقاد، کیف؟ و إنّ ذلک لا یناسب مقام النبوّة فضلاً عن کونه کمالاً له و موجبا لمدح اللّه إیّاه.

ص: 219


1- 1. درر الفوائد: 120.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 131 _ 132.

فکانت الآیة المبارکة فی مقام بیان آداب المعاشرة مع الناس، من إظهار القبول فیما یقولون و عدم المبادرة إلی تکذیبهم... کما قیل فی سبب نزول الآیة أنه نمّ منافق... فإن من المعلوم بالضّرورة أن تصدیقه لذلک المنافق لم یکن إلاّ صوریّا لا حقیقیّا، و إلی ما ذکرنا یشیر قوله علیه السلام: یا محمّد کذّب سمعک و بصرک...

و أمّا الروایة المتضمّنة لقصّة إسماعیل... فإنما هو لأجل عدم الأخذ بالإحتیاط.

فالمحقق العراقی موافق للشیخ و صاحب الکفایة، إلاّ فی معنی «الاُذن».

رأی السید الخوئی

وأمّا السیّد الخوئی، فکذلک، إلاّ فی ما ذکروا من مغایرة معنی «الإیمان» بالتعدیة بالباء واللاّم، قال:

و فیه: إن الإیمان بمعنی التصدیق القلبی، فإن کان متعلّقا بوجوب شیء تکون تعدیته بالباء، کما فی قوله تعالی «وَالْمُوءْمِنُونَ کُلٌّ آمَنَ بِاللّه ِ...»،(1) وإن کان متعلّقا بقول شخص، کانت تعدیته باللاّم، کما فی قوله: «وَما أَنْتَ بِمُوءْمِنٍ لَنا».(2) وحینئذٍ تکون التعدیة باللاّم بالإضافة إلی المؤمنین علی إرادة تصدیق قولهم. فلا شهادة للسّیاق علی ما ذکر.(3)

ص: 220


1- 1. سورة البقرة: الآیة 285.
2- 2. سورة یوسف: الآیة 17.
3- 3. مصباح الأُصول 2 / 191.

أقول:

ویتلخص کلام الأعاظم فی أنّ التصدیق للمؤمنین تصدیقٌ ظاهری، بخلاف الإیمان باللّه فإنه واقعی، و ذلک لتکرار «یؤمن» و اختلاف حرف التعدیة. هذا أوّلاً.

وثانیا: إن المراد بالمؤمنین هنا هم المنافقون، فإنّ النبیّ صلّی اللّه علیه وآله کان یتظاهر معهم بتصدیق قولهم و هو غیر مصدّق لهم واقعا، معتمدین علی ما فی تفسیر القمی.

و بذلک قالوا بعدم صلاحیّة الآیة للإستدلال.

رأی الاستاذ

قال شیخنا: وللنظر فیما ذکروا مجال.

أمّا الإختلاف فی التّصدیق، فهو موجود علی کلّ حال، لأنّ التصدیق بالنسبة إلی اللّه عقلی، لعدم احتمال الخلاف، و بالنسبة إلی المؤمنین تعبّدی تشریعی.

و أمّا الإختلاف فی حرف التعدیة، ففیه: ورود الإیمان بمعنی التصدیق الواقعی متعدّیا باللاّم کما فی «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ».(1)

وأمّا أن المراد من «المؤمنین» هم «المنافقون»، لما فی تفسیر القمی رحمه اللّه، فإنّ کلام القمی هنا غیر مسندٍ إلی الإمام علیه السلام. هذا أوّلاً.

و ثانیا: إنه ینافی الکتاب، فإنه ینفی بکلّ صراحة کون المنافقین مؤمنین،

ص: 221


1- 1. سورة العنکبوت: الآیة 26.

حیث یقول تعالی: «وَمِنَ النّاسِ مَنْ یَقُولُ آمَنّا بِاللّه ِ وَبِالْیَوْمِ اْلآخِرِ وَما هُمْ بِمُوءْمِنینَ»(1) و یقول: «وَللّه ِِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُوءْمِنینَ وَلکِنَّ الْمُنافِقینَ لا یَعْلَمُونَ»(2).

وثالثا: لقد جاء فی ذیل الآیة المبارکة «وَرَحْمَةٌ لِلَّذینَ آمَنُوا مِنْکُمْ»،(3) ودلالته واضحة علی ما ذکرنا.

ویؤید ذلک: روایة العیاشی التی أوردها الشیخ.

هذا، و یوضّح أن المراد من «وَیُوءْمِنُ لِلْمُوءْمِنینَ» هو التصدیق بمعنی ترتیب الأثر: قوله تعالی علی لسان إخوة یوسف لمّا قالوا لیعقوب «وَما أَنْتَ بِمُوءْمِنٍ لَنا»(4) أی: لست بمصدّق لنا و لا ترتّب الأثر علی قولنا «أَکَلَهُ الذِّئْبُ».(5)

وکذا الخبر فی قضیّة إسماعیل، فإنّه ظاهر فی التصدیق بمعنی ترتیب الأثر.

وفی خبر حمّاد بن بشیر: «أما علمت أنه یشرب الخمر؟ صدّقهم، فإنّ اللّه عزّوجلّ یقول «یُوءْمِنُ بِاللّه ِ وَیُوءْمِنُ لِلْمُوءْمِنینَ».(6)

ومن هنا، ذهب دام بقاء فی الدورتین إلی أنّ للإستدلال بالآیة لحجیّة خبر الواحد وجها قویّا، خلافا للأعلام. واللّه العالم.

ص: 222


1- 1. سورة البقرة: الآیة 8.
2- 2. سورة المنافقون: الآیة 7.
3- 3. سورة التوبة: الآیة 61.
4- 4. سورة یوسف: الآیة 17.
5- 5. سورة یوسف: الآیة 14.
6- 6. سورة التوبة: الآیة 61.

الاستدلال بالأخبار لحجیّة خبر الواحد

اشارة

واستدلّ لحجیّة الخبر الواحد بالأخبار، ولایخفی أنّ الإستدلال بها یتوقّف علی أن تکون مقطوعة الصّدور لئلاّ یکون دورّیا.

وقد قیل: إنّ أوّل من تمسّک بالأخبار لحجیّة الأخبار هو الفاضل التونی رحمه اللّه، وکأنّ المتقدّمین علیه کانوا غافلین اُو کانوا یعلمون بعدم تواترها. ولعّل الثانی هو الظاهر، وکأنّه لذا أهمل المحقق الإصفهانی هذا البحث.

وعلی الجملة، فلا کلام فی وجود روایاتٍ یمکن الإستدلال بها لهذا المدّعی، ولکنّ المهمّ إثبات تواترها، لئلاّ یلزم توقف الشئ علی نفسه، وقد جعلها الشیخ رحمه اللّه أربعة طوائف.

الطائفة الاولی

الأخبار العلاجیّة.

فقال ما ملخّصه: إنّ هذه الأخبار تدلّ علی کون حجیّة الأخبار فی نفسها

ص: 223

مفروغةً عنها عند الأئمة علیهم السلام و أصحابهم، غیر أنّهم کانوا یسألون عن الضابطة الشرعیّة فیما إذا وقع التعارض بین الخبرین، بأن کان أحدهما آمرا والآخر ناهیا.

و ذکر رحمه اللّه مقبولة عمر بن حنظلة فقال: بأنها و إنْ وردت فی الحکم حیث أجاب الإمام: بأن الحکم ما حکم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما فی الحدیث،(1) إلاّ أنّ ملاحظة جمیع الروایة تشهد بأن المراد بیان المرجّح للروایتین اللتین استند إلیهما الحاکمان.(2)

ثم ذکر مرفوعة زرارة،(3) و روایة ابن أبی الجهم(4) عن الرضا علیه السلام.

و قال: روایة ابن المغیرة(5) تدلُّ علی اعتبار خبر کلّ ثقة.

إشکالٌ ودفع

لکن وقع الإشکال من جهة أنّ الحجّتین المتعارضین أعمّ من أن یکونا مشکوکی الصّدور أو مقطوعی الصّدور.

فأجاب المیرزا: بأنّ الموضوع فی الأخبار العلاجیّة هو الخبران المشکوک صدورهما، لعدم معقولیّة وقوع المعارضة بین الخبرین المقطوع بصدورهما.(6)

ص: 224


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 106 الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم 1.
2- 2. فرائد الأُصول: 84.
3- 3. عوالی اللئالی 4 / 133.
4- 4. وسائل الشیعة 27 / 121 الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم 40.
5- 5. المصدر، رقم: 41.
6- 6. أجود التقریرات 3 / 198.

و فی مصباح الاصول: من الواضح أنه لیس مورد الأخبار العلاجیّة الخبرین المقطوع بصدورهما، لأنّ المرجحات المذکورة فیها لا تناسب العلم بصدورهما، و أنّ الظاهر من مثل قوله: «یأتی عنکم خبران متعارضان» کون السؤال عن مشکوکی الصّدور. مضافا إلی أن وقوع التعارض بین مقطوعی الصّدور، بعید فی نفسه.(1)

لکن قد یقال: بمنع ظهور الرّوایة فی الخبرین المشکوک صدورهما، والقول بعدم وقوع المعارضة بین المقطوعی الصّدور _ فضلاً عن الإستبعاد _ ممنوع، لأنه إنما یمتنع فیما لو حصل القطع فی کلّ من الخبرین من جمیع الجهات، أعنی السّند والدلالة وجهة الصّدور، فلو صدر أحدهما لبیان الحکم الواقعی والأخر تقیّةً، وقع التعارض، و إنْ کانا مقطوعی الصّدور... فإذا أمکن وقوع التعارض بینهما، وجب الرجوع إلی المرجّحات.

و أمّا أنّ المرجّحات لا تناسب العلم بصدورهما، کموافقة الکتاب و مخالفته، إذ لا یعقل أن یکون مقطوع الصدور لکنه مخالف للکتاب.

فالجواب: إنّ المخالفة بالتباین مستحیلة، أمّا بالإطلاق والتقیید فلا، إذ یمکن صدور الخبر المقطوع الصّدور المخالف لعموم الکتاب أو إطلاقه فیکون مخصّصا أو مقیّدا.

فلا ریب فی عموم و إطلاق الأخبار العلاجیّة و عدم اختصاصها بمقطوعی الصّدور، فالإستدلال بها لحجیّة خبر الواحد المشکوک الصّدور تام.

ص: 225


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 191.

لکنْ یبقی الکلام فی صدور الأخبار العلاجیّة، لئلاّ یلزم الدّور بالإستدلال بها. والظاهر: عدم تمامیّة الاستدلال بهذه الأخبار بوحدها، و دعوی القطع بصدورها _ کما عن المیرزا رحمه اللّه(1) _ مردودة، لقلّة هذه الأخبار عددا، مع أن بعضها مراسیل، فکیف یثبت التواتر؟

الطّائفة الثانیة

الأخبار الآمرة بالرجوع إلی أشخاصٍ معیّنین فی الروایة:

کقوله علیه السلام: إذا أردت الحدیث فعلیک بهذا الجالس.(2) مشیرا إلی زرارة.

و قوله فی روایةٍ اخری: و أمّا ما رواه زرارة عن أبی، فلا یجوز ردّه.(3)

و قوله لابن أبی یعفور _ بعد السؤال عمّن یرجع إلیه إذا احتاج أو سئل عن مسألةٍ _ فما یمنعک عن الثقفی _ یعنی: محمّد بن مسلم _ فإنه سمع من أبی أحادیث و کان عنده وجیهاً.(4)

و قوله _ فی جواب السؤال: أفیونس بن عبدالرحمن ثقة نأخذ معالم دیننا عنه؟ _ «نعم».(5)

ص: 226


1- 1. أجود التقریرات 3 / 198.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 143، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم 19.
3- 3. المصدر، رقم: 17.
4- 4. وسائل الشیعة 27 / 144، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم 23.
5- 5. المصدر، رقم 33.

و قوله: «علیک بالأسدی»(1) یعنی أبابصیر.

و قوله: علیک بزکریا بن آدم المأمون علی الدین والدنیا.(2)

قال الشیخ: فقد أرجع الأئمة علیهم السلام آحاد الرواة إلی آحاد أصحابهم بحیث یظهر منه عدم الفرق بین الفتوی والروایة. بل یظهر من الخبر الوارد فی یونس: أنّ قبول قول الثقة کان أمرا مفروغا عنه عند الراوی.

قال: و هذه الطائفة مشترکة مع الطائفة الاولی فی الدلالة علی اعتبار خبر الثقة المأمون.

أقول:

ذکر المیرزا أنّ هذه الطائفة من الأخبار بوحدها متواترة بالتواتر المعنوی. و سیأتی التفصیل.

الطائفة الثالثة

الأخبار الآمرة بالرجوع إلی الثقات والعلماء، علی وجهٍ یظهر منه عدم الفرق بین فتواهم بالنسبة إلی المقلّدین و روایتهم بالنسبة إلی المجتهدین. مثل: «و أمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنهم حجّتی علیکم و أنا حجة اللّه علیهم.(3)

ص: 227


1- 1. المصدر، رقم 15.
2- 2. المصدر، رقم 27.
3- 3. کمال الدین: 484.

ومثل: إذا نزلت بکم حادثة لاتجدون حکمها فیما روی عنّا، فانظروا إلی ما رووه عن علی.(1)

ومثل ما فی الإحتجاج عن تفسیر العسکری فی قوله تعالی: «وَمِنْهُمْ أُمِّیُّونَ لا یَعْلَمُونَ الْکِتابَ»(2)...

و مثل: اعتمدا فی دینکما علی کلّ مسنٍّ فی حبّنا کثیر القدم فی أمرنا.(3)

و مثل: لا تأخذنّ معالم دینک من غیر شیعتنا، فإنک إنْ تعدّیتهم أخذت دینک من الخائنین الذین خانوا اللّه و رسوله و خانوا أماناتهم...(4)

و مثل: خذوا بما رووا و ذروا ما رأوا.(5)

و مثل: لا عذر لأحدٍ فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا... .(6)

الطّائفة الرّابعة

الأخبار التی یظهر من مجموعها جواز العمل بخبر الواحد، و إن کان فی دلالة کلّ واحد علی ذلک نظر. مثل: «من حفظ علی أُمّتی أربعین حدیثا بعثه اللّه فقیها عالما یوم القیامة(7) و أمثال هذا الحدیث، مما ورد فی روایة الحدیث و

ص: 228


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 91، الباب 8 من أبواب صفات القاضی، رقم 47.
2- 2. تفسیر العسکری: 299 _ 301 والآیة فی سورة البقرة: آیه 78.
3- 3. وسائل الشیعة 27 / 151، الباب 11 من أبواب صفات القاضی رقم 45.
4- 4. المصدر، رقم: 42.
5- 5. کتاب الغیبة للشیخ: 389.
6- 6. وسائل الشیعة 27 / 149، الباب 11 من أبواب صفات القاضی رقم: 40.
7- 7. وسائل الشیعة 27 / 94، الباب 8 من أبواب صفات القاضی رقم 58 ومابعده.

تعلّمه و تعلیمه و نشره، و هی کثیرة جدّا.

قال الشیخ: و ادّعی فی الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة.(1) إلاّ أن القدر المتیقّن منها هو خبر الثقة الذی یضعف فیه احتمال الکذب، علی وجه لا یعتنی به العقلا و یقبّحون التوقف فیه لأجل ذلک الإحتمال، کما دلّ علیه ألفاظ «الثقة» و«المأمون» و«الصّادق» و غیرها الواردة فی الأخبار المتقدّمة... .

أقول:

هذه هی الأخبار کما صنّفها الشیخ وتبعه علی ذلک غیره. وکما ذکرنا من قبل، فإنّ دلالة کثیرٍ منها واحدا واحدا تامّة، ولکنّ المهمّ تواترها، وقد وقع الکلام بین الأعلام فی معنی التواتر وأقسامه، وفی تواتر الأخبار المذکورة.

فههنا مطالب:

المطلب الأول فی معنی التواتر.

وقد اختلفت کلمات العلماء من الخاصّة والعامّة فی تعریف التواتر، فمنهم من اعتبر فیه عددا معیّنا، ثم اختلفوا فی تعیین العدد، و منهم من لم یعتبر، بل قالوا: بأنّ المتواتر هو الخبر الذی رواه جماعة یمتنع عادة تواطؤهم علی الکذب و أفاد العلم. وهذا هو الصّحیح.

المطلب الثانی فی أقسام التواتر، فقد قالوا إنه علی ثلاثة أقسام:

1 _ التواتر اللّفظی، وهو قلیل جدّا، وقد مثّلوا له بقوله صلّی اللّه علیه وآله: إنّما الأعمال بالنیات. وقوله: من کنت مولاه فهذا علی مولاه.

ص: 229


1- 1. فرائد الأُصول: 88.

2 _ التواتر المعنوی، بأنْ یروی جماعة یمتنع تواطؤهم علی الکذب حدیثا بألفاظ مختلفةٍ تشترک فی المعنی الواحد، کالأخبار الواردة فی حروب أمیرالمؤمنین المشترکة فی الدلالة علی شجاعته.

3 _ التواتر الإجمالی، بأنْ نعلم إجمالاً بصدور بعض الأخبار الواردة عن جماعةٍ یمتنع تواطؤهم علی الکذب، کالأخبار عن القضایا الواقعة فی البلد، فإنّ بعضها یقینیٌّ حتما.

هذا، وقد أنکر المیرزا _ فی الدورة الثانیة من بحثه _ وجود التواتر الإجمالی فقال: بأنّ الأخبار إذا بلغت من الکثرة ما بلغت، فإن کان بینها جامع یکون الکلّ متّفقا علی نقله، فهو راجع إلی التواتر المعنوی، وإلاّ فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز کذب کلّ واحدٍ منها فی حدّ نفسه وعدم ارتباط بعضه ببعض.

قال: فالحق هو انحصار التواتر فی القسمین الأولین لا غیر.(1)

فأشکل فی مصباح الاصول علی استاذه بأنّ: احتمال الکذب فی کلّ خبر بخصوصه غیر قادح فی التواتر الإجمالی، لأن احتمال الصّدق والکذب فی کلّ خبرٍ بخصوصه لا ینافی العلم الإجمالی بصدور بعضها، وإلاّ لکان مانعا عن التواتر المعنوی واللّفظی أیضا، إذْ کل خبر فی نفسه محتمل للصّدق والکذب (قال):

وبالجملة: التواتر الإجمالی مما لا مجال لإنکاره، فإن کثرة الأخبار المختلفة ربما تصل إلی حدٍّ یقطع بصدور بعضها وإنْ لم یتمیّز بعینه، والوجدان أقوی شاهد

ص: 230


1- 1. أجود التقریرات 3 / 197.

وأوضح دلیل علیه، فإنا نعلم علما وجدانیّا بصدور جملةٍ من الأخبار الموجودة فی کتاب الوسائل ولا نحتمل کذب الجمیع... .(1)

والتحقیق عدم تمامیّة نقضه، وتمامیّة الإستدلال بالوجدان. فالحقّ وجود التواتر الإجمالی کبرویّا، والعجب أنه لم ینبّه علی اختلاف رأی استاذه لاهنا ولا فی أجود التقریرات، وستأتی عبارة المیرزا فی الدورة الاولی.

المطلب الثالث: فی التواتر فیما نحن فیه

قال المحقق الخراسانی فی الکفایة: إنها متواترة إجمالاً، ضرورة أنه یعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم علیهم السّلام.(2)

وقال فی حاشیة الرسائل:

لا یقال: وجه الإستدلال بالأخبار مع عدم تواترها لفظا ومعنی؛ لوضوح اختلافها بألفاظها ومضامینها وإن کان بینها قدر مشترک کما لا یخفی، ضرورة أن وجود القدر المشترک بینها لا یوجب تواتر الأخبار بالنسبة إلیه ما لم یحرز أن المخبرین بصدد الإخبار عن معنی واحد، وإن اختلافهم إنما یکون فی خصوصیّاته، کیف! والأخبار الکثیرة المتفرّقة یکون بین مضامینها قدر مشترک لا محالة، ولا یفید کثرتها القطع به أصلاً.

لأنّا نقول: وجه الإستدلال إنما هو تواترها علی نحو الإجمال، بمعنی أن کثرتها توجب القطع بصدور واحد منها، وهو کاف حجّة علی حجیّة الخبر الواحد

ص: 231


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 193.
2- 2. کفایة الأُصول: 302.

فی الجملة فی قبال نفی حجیّته مطلقا. وقضیّته الإقتصار علی إعتبار خصوص ما دلّ علی اعتباره من أنحاء خبر الواحد مثل خبر العدل أو مطلق الثقة أخصّ الطائفة التی علم بصدور واحد بینهما مضمونا. نعم، یمکن التعدّی عنه إلی غیره لو وجد مثل هذا الخبر ناهضا علی حجّیّة غیرهذا النحو.

والإنصاف: حصول القطع بصدور واحد ممّا دلّ منها علی حجّیّة خبر الثقة، ولا یخفی ظهور هذه الطائفة فی أن اعتبار هذا الوصف فی المخبر إنّما هو لأجل حصول الوثوق بالصّدور، ففی الحقیقة تکون العبرة به لا بها، فلو حصل من غیرها یکون مثله فی الإعتبار، ومن المعلوم عدم إنحصار أسباب الوثوق بالصّدور بوثاقة الرّاوی، بل هی تکون فی الأخبار المدوّنة فی الکتب المعتبرة سیّما الکتب الأربعة التی علیها المدار فی الأعصار والأمصار، وما یحذو حذوها فی الإعتبار کثیرة جدّا:

منها: وجود الخبر فی غیر واحد من الأصول المعتبرة المتداولة فی الأعصار السّابقة.

ومنها: تکرّره ولو فی أصل واحد بطرق مختلفة وأسانید عدیدة معتبرة.

ومنها: وجوده فی أصل معروف الإنتساب إلی من أُجمع علی تصدیقه، کزرارة ونظراءه، وعلی تصحیح ما یصحّ عنه کصفوان بن یحیی وأمثاله.

ومنها: کونه مأخوذا من الکتب التی شاع بین السّلف الوثوق بها والإعتماد علیها، ولو لم یکن مؤلّفوها من الإمامیّة.

إلی غیر ذلک مما لا یخلو عن أکثرها الکتب التی ألّفت لتکون مرجعا للأنام فی الأحکام.

ص: 232

ویشهد علی ذلک _ أی علی کون العبرة علی الوثوق بالصّدور مطلقا _ : أنه کان المتعارف بین القدماء علی ما صرّح به الشیخ بهاء الدین فی «مشرق الشمسین» إطلاق الصحیح علی ما اعتضد بما یقتضی الإعتماد علیه، أو إقترن بما یوجب الوثوق به والرّکون إلیه، ولم یکن تقسیم الحدیث إلی الأقسام الأربعة المشهورة معروفا بینهم وأنه کان من زمان العلاّمة رحمه اللّه(1)

وقال المحقق العراقی:

لا یخفی أن التواتر المدعی فی تلک الأخبار وإن لم یکن لفظیّا إلا أنه یکون معنویا، لوضوح کون الجمیع بصدد بیان معنی واحد وهو حجیة قول الثقة ووجوب العمل علی طبقه، بل وظاهر بعضها هو کون وجوب العمل بخبر الثقة أمرا مرکوزا عندهم بحیث کان من المسلّمات عند أصحاب الأئمة علیهم السلام... وحینئذٍ فلا ینبغی الإرتیاب فی حجّیّة خبر الثقة ووجوب الأخذ به.(2)

وقال المیرزا فی دورته الاولی:

ولا یتوهّم أنّ هذه الأخبار من الأخبار الآحاد ولایصحّ الإستدلال بها لمثل المسألة، فإنها لو لم تکن أغلب الطوّائف متواترةً معنیً، فلا إشکال فی أن مجموعها متواترة إجمالاً، للعلم بصدور بعضها عنهم صلوات اللّه علیهم أجمعین.(3)

ص: 233


1- 1. درر الفوائد: 121 _ 122.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 134.
3- 3. فوائد الأُصول 3 / 191.

وقال فی الدورة الثانیة:

یمکن أنْ یقال: إنّ خصوص الأخبار الدالّة علی جواز العمل بخبر الثقة متواتر، مضافا إلی احتفاف بعضها بالقرینة القطعیّة من جهة اعتماد الأصحاب علیها، فیکون جواز العمل به مقطوعا لا محالة.(1)

أقول:

أمّا التواتر اللّفظی، فلا ریب فی انتفائه.

وأمّا التواتر المعنوی فی خصوص الروایات الواردة فی الرجوع إلی الأشخاص _ کما ذکر المیرزا _ ، وهی الطائفة الثانیة، فالظاهر عدم تمامیّة، لأنّها علی الأکثر عشر روایات، وهذا العدد لا یورث العلم.

یبقی الکلام فی تواتر مجموع الطّوائف معنیً أو إجمالاً، فأقول:

إنه قد اعتبر فی التواتر الإستحالة العادیّة لتواطؤ المخبرین علی الکذب عند الإنسان العادی، دون القطّاع والوسواس، وقد اختلف العلماء فی العدد المعتبر فیهم علی أقوالٍ، لکنّ المهم بلوغهم عددا یستحیل معه عادةً تواطؤهم علی الکذب، خلافا لمن أنکر إفادة التواتر القطع مطلقا _ لأنّ المجموع لیس إلاّ الأفراد، وکلّ منهم یحتمل فیه الصّدق والکذب، والإعتماد علی حساب الإحتمالات وأنّه کلّما ازداد العدد قلّ احتمال الکذب، لا یُفید للجواب، لأنّ غایة قلّة احتمال الکذب تفید الظن القویّ بالصّدق، والمدّعی هو إفادة التواتر للقطع _ وهذه الإستحالة دلیلها الوجدان، ولا طریق لإقامة البرهان علیها.

ص: 234


1- 1. أجود التقریرات 3 / 199.

هذا، ولا یخفی اعتبار العدد _ علی ما ذکر _ فی کلّ طبقةٍ من طبقات سند الرّوایة.

هذه هی کبری التواتر، سواء کان لفظیّا أو معنویّا أو إجمالیّا.

إنما الکلام فی انطباق هذه الکبری علی ما نحن فیه، وذلک: لأنّ مجموع روایات الطوائف الأربع تبلغ المأتین روایة، وهذا العدد ضخمٌ، ولکنْ یعتبر فی کلّ روایةٍ منها تمامیّة السّند والدلالة، ثم أنْ یکون العدد فی کلّ طبقةٍ مفیدا للعلم، من جهة امتناع تواطؤ المخبرین علی الکذب.

وقد رأینا بعد التحقیق فی الأخبار: أن بعضها مرسل، وبعضها مرفوع، والمسند منها قد تکرّر الراوی الواحد فی عدّةٍ منها، فمثلاً: فی عدّةٍ منها (أحمد بن محمّد) وهو لا یخلو عن (ابن عیسی) و(ابن خالد).

فإذا عزل المرسل والمرفوع، وعزل المسند من قبیل ما ذکرنا، ینزل العدد من المأتین إلی الأقلّ من العشرین هذا.

مضافا إلی وجود التعارض بین نفس الأخبار، فأخبار الطائفة الأولی متعارضة فی نفسها، والأصل الأوّلی فی الخبرین المتعارضین عندهم هو التساقط، وإنما نرفع الید عن هذا الأصل بالمرجّحات أو القول بالتخییر، لکنّ الترجیح بخبر الواحد مستلزم للدّور.

ومضافا إلی أنّ الواسطة بیننا وبین أصحاب الأئمة هم ثلاثة: الکلینی والصّدوق والشیخ، ونحن وإنْ حصل لنا القطع بما یخبر به الواحد من هؤلاء، لکنّ هذا القطع یأتی من جهة شأن کلّ واحد منهم، وکلامنا فی التواتر.

ص: 235

وبما ذکرنا یظهر عدم تحقق التواتر.

ولکنّ الذی یهوّن الخطب هو أنّ المقصود من دعوی التواتر حصول العلم.

ونحن عندنا علمٌ بصدور بعض أخبار الطوائف الأربع وإنْ لم یثبت التواتر.

والحاصل: إن نتیجة التواتر _ وهو العلم _ حاصلٌ فیما نحن فیه.

المطلب الرابع إنه بناءً علی قبول التواتر الإجمالی، کما علیه المحقق الخراسانی والمیرزا فی الدّورة السّابقة. وغیرهما، فلابدّ من الأخذ بالمضمون الأخصّ من بین الأخبار وجعله القدر المقطوع به، لأنّ ذلک مقتضی التواتر الإجمالی، وقد نصّ علیه المحقق الخراسانی فی حاشیة الرسائل فی کلامه المنقول عنه سابقا، وکذلک السیّد الخوئی حیث قال: ومقتضاه الإلتزام بحجیّة الأخصّ منها المشتمل علی جمیع الخصوصیّات المذکورة فی هذه الأخبار، فیحکم بحجیّة الخبر الواجد لجمیع تلک الخصوصیّات باعتباره القدر المتیقّن من هذه الأخبار الدالّة علی الحجیّة...(1)

وقد وقع البحث بینهم فی تعیین القدر المتیقّن، فذکر المحقق العراقی أنّه الصحیح الأعلائی،(2) وذهب المیرزا إلی أنّ القدر المتیقّن دلالتها علی حجیّة الخبر الوثوق به صدورا أو مضمونا.(3)

وهذا کلامه فی الدورة السّابقة، وأمّا فی اللاّحقة، فقد قال ما نصّه:

ص: 236


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 193.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 136، تعلیقة فوائد الأُصول 3 / 189.
3- 3. فوائد الأُصول 3 / 189.

ولا یخفی أن أخصّ تلک الأخبار مضمونا هو الأخبار الدالّة علی جواز العمل بخبر الثقة، کما صرّح بذلک فی جملةٍ من أخبار الطّائفة الثانیة وبعض الأخبار من الطّائفة الثالثة، بل یمکن أن یقال: إنّ خصوص الأخبار الدّالة علی جواز العمل بخبر الثقة متواتر، مضافا إلی احتفاف بعضها بالقرینة القطعیّة من جهة اعتماد الأصحاب علیها، فیکون جواز العمل به مقطوعا لا محالة. بل قد عرفت أن تعلیق وجوب التبیّن علی کون الجائی بالنبأ فاسقا کما فی آیة النبأ، إنما هو من جهة عدم تحرّز الفاسق عن الکذب، لِما عرفت من اقتضاء مناسبة الحکم والموضوع ذلک. وعلیه، فخبر الثقة الذی یتحرّز عن الکذب _ وإنْ لم یکن إمامیّا _ هو القدر المتیقّن من أدلّة حجیّة الخبر.

ثم إن هذه الأخبار وإنْ کان لا یستفاد منها حجیّة الخبر الضعیف المنجبر بالشهرة، کما کانت تستفاد من آیة النبأ، إلاّ أنّ الخطب فی ذلک هیّن، بعد عدم کون هذه الأخبار فی مقام إثبات حکم ابتدائی تأسیسی، وإنما هی بصدد إمضاء ما جرت علیه السّیرة العقلائیّة. ولا ریب أن سیرتهم قد جرت علی العمل بالخبر الموثق الأعم من کون الخبر بنفسه أو کون راویه موثوقا به، وبذلک تثبت حجیّة الخبر الصحیح القدمائی مطلقا. واحتمال حجیّة خصوص الخبر الصحیح بین المتأخرین _ کما علیه جماعة من المتأخرین _ ضعیف لا یمکنالقول به أصلاً.(1)

ص: 237


1- 1. أجود التقریرات 3 / 199.

ردّ الاستاذ علی المیرزا

وقد تناول شیخنا دام بقاه هذا الکلام بالنقد والردّ، فقال بأنه یشتمل علی خمس دعاوی کلّها مردودة.

أمّا دعوی أنّ أخص الأخبار مضمونا هو الأخبار الدالّة علی جواز العمل بخبر الثقة، فیدفعها: أن من بین أخبار الطائفة الثانیة ما ورد فی زکریا بن آدم من أنه «المأمون علی الدین والدنیا»، وهذا أخصّ من الثقة، لأن من یکون کذلک فهو فوق العدالة بمراتب، ولا یمکن رفع الید عن هذه الخصوصیّة إلاّ بالإجماع علی عدم دخلها، ولا یرفع إلاّ العدالة المطلقة، ویبقی اشتراط مطلق العدالة، کما دلّ علیها خبر الإحتجاج: أمّا من کان من الفقهاء صائنا لنفسه...

وأیضا، فإنّ الأخبار التی اُرجع فیها إلی أشخاص الأصحاب، لا یُعلم أنّ وجه الإرجاع إلیهم هو الوثاقة أو العدالة، فهی من هذا الحیث مجملة، فیؤخذ بالقدر المتیّقن منها وهو العدالة.

وأمّا دعوی احتفاف بعضها بالقرینة القطعیّة من جهة اعتماد الأصحاب علیها فیکون جواز العمل به مقطوعا لا محالة. فیدفعها: أنه إن أراد اعتماد کلّ الأصحاب، فهو منتف یقینا. وإنْ أراد اعتماد المشهور، فإنّ مبانی الفقهاء فی الاعتماد علی الرواة وأخبارهم مختلفة، فمنهم من یعتمد علی الخبر بمجرّد تکرّره فی الاصول الأربعمائة، ومنهم من یعتمد علی الخبر إذا اتفق المشایخ الثلاثة علی روایته، ومنهم من یعتمد علی الخبر إنّ کان الحکم موافقا للقاعدة، وإذا کنّا مخالفین مع الفقهاء فی جمیع هذه المبانی کیف نثق بتلک الأخبار؟

وأمّا دعوی أنّ تعلیق وجوب التبیّن علی کون الجائی بالنبأ فاسقا فی آیة

ص: 238

النبأ إنّما هو من جهة عدم تحرز الفاسق عن الکذب... فیدفعها: أن تعلیق وجوب التبیّن علی مجئ¨ الفاسق بالنبأ، یقتضی _ سواء عن طریق مفهوم الوصف أو مفهوم الشرط _ دخالة العدالة فی حجیّة الخبر، ورفع الید عن هذا الظهور یحتاج إلی القرینة القویّة أو الحجّة علی خلافه، ولذا تمسّک المیرزا لرفع الید عن اعتبار العدالة فی المخبر إلی الوثاقة بقرینة مناسبة الحکم والموضوع.

ومن الواضح أنّ مناسبة الحکم والموضوع لا توجب إلغاء الخصوصیّة فی کلّ موردٍ، فهی فی مثل «إغسل ثوبک إذا لاقی الدم» توجب إلغاء خصوصیّة الثوب، أمّا فیما نحن فیه فلا، لأنّ ملکة العدالة أقوی من الوثاقة، فإن الثقة یحترز من الکذب، والعادل یحترز منه ومن سایر المعاصی، وهذه الحالة یمکن أنْ تکون سببا لدخالة العدالة فی الراوی شرعا من أجل التحفّظ علی الأحکام الإلهیّة، ومع هذا الإحتمال لا تصلح المناسبة لرفع الید عن تلک الخصوصیّة إلاّ ظنّا، وإنّ الظنّ لایغنی من الحق شیئا.

وأمّا دعوی أنّ هذه الأخبار لمّا کانت بصدد إمضاء ماجرت علیه السّیرة العقلائیة، وأنّها قائمة _ بلا ریب _ علی العمل بالخبر الموثّق الأعم من کون الروایة بنفسها أو کون راویها موثوقا به، فهی تثبت حجیّة الخبر الصحیح القدمائی مطلقا. فیدفعها: إنه إن کانت الأخبار إمضاء للسیّرة، فإن الدلیل حینئذٍ هو السیرة لا الأخبار، وکلامنا فی دلالة الأخبار. ومع التنزّل عن هذا الإشکال، فإنّ عمل المشهور بالخبر الضّعیف لا یفید الوثوق به بعد علمنا باختلاف مسالکهم کما أشرنا من قبل.

فظهر اندفاع ما ذکره المیرزا من جمیع الوجوه.

ص: 239

التحقیق فی المقام بالنظر إلی کلمات الأعلام

ثم إنه دام بقاه تعرّض لما ذهب الیه المحقّق الخراسانی وأتباعه من أنّ مقتضی القاعدة هو الأخذ بالأخصّ من الأخبار بناءً علی تواترها إجمالاً.

أمّا من حیث الکبری، فقد انتهی تحقیقه إلی عدم ثبوت التواتر، ثم ذکر أن عدم ثبوته لا یضرّ بالاستدلال، لأن المهمّ حصول العلم بالصّدور بالنسبة إلی بعض الأخبار، فلایلزم الدور.

وأمّا من حیث الصغری، فذکر عن العلماء اعتبار الصحیح الأعلائی، أی: اعتبار کون الراوی ثقةً عدلاً إمامیّا، لکونه أخصّ الرّوایات، فأشکل علیهم بوجود الأخصّ منه، وهو کون الرّوایة بالإضافة إلی ذلک مجمعا علیها، للخبر عن الإمام الکاظم علیه السلام فی جواب هارون لمّا سأله أن یلقی إلیه کلاما جامعا فی الدین، وهذا نصّ الخبر: قال علیه السلام: فقال _ یعنی هارون _ أحبّ أن تکتب لی کلاما موجزا له أُصول وله فروع، ویکون ذلک ممّا علمته من أبی عبداللّه _ علیه السلام _ ... فکتب: بسم اللّه الرحمن الرحیم، جمیع أمور الدنیا والدین أمران: أمرٌ لا اختلاف فیه وهو اجتماع الأمّة علی الضرورة التی یضطرّون إلیها والأخبار المجمع علیها... وأمرٌ یحتمل الشکّ والإفکار... .(1)

وهذا الخبر وإنّ لم یکن معلوم الصّدور، إلاّ أن المفروض ضرورة الأخذ بأخصّ ماجاء فی الطوائف الأربع من الأخبار.

لکنّ المحقق العراقی تنازل عن اعتبار العدالة فقال: ولکن مع ذلک أمکن أن

ص: 240


1- 1. مستدرک الوسائل 17 / 293، الباب 8 من أبواب صفات القاضی، الرقم 31.

یقال فی الإنتقال من العدالة إلی الوثاقة: ربما یستظهر أن المناط فی الحجیّة هو هذه الجهة، وإن کان الموثق عند الإمام علیه السّلام فوق العدالة، مؤیّدا ذلک بالإرجاع إلی کتب بنی فضال لمحض وثاقتهم، کما لا یخفی.(1)

وفی مصباح الاصول بعد أن قرّر الصحیح الأعلائی: نعم، ذکر صاحب الکفایة رحمه اللّه أن المتیقَّن من هذه الأخبار وإنْ کان هو خصوص الخبر الصحیح، إلاّ أنه فی جملتها خبر صحیح یدلّ علی حجیّة الخبر الموثّق، فتثبت به حجیّة خبر الثقة وإنْ لم یکن عادلاً.

قال: و ما ذکره متین، ولعلّ مراده من الخبر الصحیح الدال علی حجیّة خبر الثقة قوله علیه السّلام: «نعم» بعد ما قال السّائل: أفیونس بن عبدالرحمن ثقة نأخذ معالم دیننا عنه؟(2) فإنّ ظاهره کون حجیّة خبر الثقّة مفروغا عنها بین الإمام

والسائل وأن السؤال ناظر إلی الصّغری فقط(3)

وقد تعقّب الاستاذ دام بقاه هذه الکلام بالنظر فی سند الرّوایة المذکورة ودلالتها. أمّا سندها ففی رجال الکشّی: عنه عن محمد بن نصیر عن محمد بن عیسی عن عبدالعزیز ابن المشهدی والحسن بن علی بن یقطین جمیعا، عن أبیالحسن الرّضا علیه السّلام.

فقد یقال: بأنّ هؤلاء کلّهم عدول، فالإستدلال بها لحجیّة خبر الثقة غیرتام،

ص: 241


1- 1. تعلیقة فوائد الأُصول 3 / 189.
2- 2. رجال الکشی: 490، الرقم 935.
3- 3. مصباح الأُصول 2 / 194.

الراوی، لأنّ توثیق علماء الرجال للّراوی تعدیل له.

لکنّه توهّم، لأنّ الغرض من توثیق الراوی لیس إلاّ تصحیح روایته من جهة صدورها، ولا دلالة للتوثیق علی احترازه من سایر المعاصی غیر الکذب. علی أنّ الشیخ والعلاّمة وغیرهما من القائلین بفسق العامّة یوثّقون بعض الرواة منهم کالسکونی وأضرابه، وهذا دلیلٌ علی أنّ التوثیق لیس بشهادةٍ بالعدالة.

وإذا لم یکن التوثیق دلیلاً علی العدالة، فإنّه لم یرد فی حقّ محمد بن نصیر إلاّ قول الشیخ «ثقة کثیر العلم مشهور به»،(1) کما أنّ قول الفضل بن شاذان بحق عبدالعزیز بن المهتدی: «وکان خیرَ قُمّیٍّ فی مَن رأیته»(2) الذی یدّلُ علی مرتبةٍ فوق العدالة، فی سنده علی بن محمد بن قتیبة ولم یثبت وثاقته.

وعلی الجملة، فإنّ الإستدلال بهذه الروایة لحجیّة خبر مطلق الثقة تام.

ولکن یرد علیه أنها مطلقة، وتقیّدها الأخبار الواردة فی النهی عن الأخذ من غیر الشیعة، المعلّلة بأنهم خانوا اللّه ورسوله،(3) بناءً علی الوثوق بصدورها لقوّة مضامینها وغیرذلک. فتأمّل.

وتقیّدها أیضا الأخبار الواردة فی الأخذ من کلّ مسنٍّ فی حبّهم.(4)

وما ورد فی أنه «لا عذر لأحدٍ فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا»(5) الظّاهر

ص: 242


1- 1. رجال الشیخ: 440.
2- 2. رجال الکشی: 506، الرقم 974.
3- 3. وسائل الشیعة 27 / 150، وقد تقدّم.
4- 4. المصدر، رقم 45، وقد تقدّم.
5- 5. وسائل الشیعة 27 / 150، رقم 40، وقد تقدّم.

فی اشتراط الإمامیّة فی الرواة.

لا یقال: إن الطرفین مثبتان ولایجمع بین الخبرین المثبتین.

لأنا نقول: إنّ فی المقام خصوصیّة تقتضی رفع الید بالمقید عن إطلاق خبر عبدالعزیز، وهی کون المقیّد فی مقام التحدید وبیان شرائط الاعتبار، والأصل فی القیود هو الإحترازیّة.

ومن الأدلّة علی حجیّة خبر الواحد من الأخبار: قوله علیه السّلام: العمری ثقتی، وأضاف علیه السّلام «فما أدّی إلیک فعنّی یؤدی، فاسمع له وأطع» هذا الخبر الذی تمسّک به القائلون بنظریّة جعل المؤدّی والقائلون بالطّریقیّة معا، وهو وإنْ کان یدلُّ علی شأنٍ کبیرٍ، لکنّ مورد الإستدلال هو التعلیل إذ قال: «فإنه الثقة المأمون»،(1) فإنّ عموم هذا التعلیل یصلح للإستدلال علی المدّعی، ولا یضرّ بذلک وجود الجملة السّابقة فی حقّ شخص العمری الدالّة علی ذلک الشأن الخاصّ عند الإمام علیه السلام. لکن یمنع الأخذ به وجود صفة «المأمون»، وحمل الکلمة علی التأکید خلاف الأصل.

وکذا فی الخبر الآخر: «العمری وابنه ثقتان، فما أدّیا إلیک فعنیّ یؤدیّان وما قالا فعنّی یقولان، فاسمع لها وأطعهما».(2) فالموضوع وإنْ کان «الثقة» لکنّ الذّیل یمنع من الأخذ بعمومه وإطلاقه.

وبعد، فإنّ خبر السؤال عن یونس بن عبدالرحمن کافٍ الإستدلال علی

ص: 243


1- 1. الکافی 1 / 330.
2- 2. المصدر نفسه.

حجیّة خبر الثقة، لامن جهة مقتضی التواتر الإجمالی، بل من جهة الإطمینان العادی والعلم العرفی والوثوق العقلائی. أمّا من ناحیة السند، فهو خبر معتبر، لأن محمد بن نصیر ثقة بلا کلام، ومحمد بن عیسی، إنْ کان ابن سعد، فکذلک، وإنْ کان ابن عبید الیقطینی، فقد وثقه النجاشی ووصفه بمقامٍ جلیل، وأمّا تضعیف الشیخ، فمستند إلی استثناء ابن الولید من رجال نوادر الحکمة، ولکنّ الشیخ الصّدوق قد أخرج عنه فی الفقیه. نعم، یتوقف _ تبعا لشیخه ابن الولید _ فیما یرویه محمد بن عیسی عن یونس بن عبدالرحمن، وهذا الخبر لیس منها، وبذلک یسقط تضعیف الشیخ عن المعارضة لتوثیق النجاشی. وأمّا بقیّة رجال الخبر، فلا کلام لأحدٍ فیهم.

وتلخّص: أن الحق حجیّة خبر الثقة، لا لما ذکره الشیخ ولا لما ذکره المیرزا ولا لما ذکره صاحب الکفایة ومن تبعه، بل لما ذکرنا من الإطمینان العقلائی.

وأمّا ما تقدّم من تقیّد روایة عبدالعزیز بما دلّ علی اعتبار العدالة.

فالجواب عنه: إن هذه الروایة آبیة عن التقید، لأنّ السؤال فی فرض عدم التمکن من الوصول إلی الإمام علیه السّلام، فلو کان یعتبر فی اعتبار الخبر شئ زائدا علی الوثاقة لبیّن، وإلاّ یلزم الإغراء بالجهل.

فإنْ قیل: القدر المتیقّن من الأخبار ما یروی عن الإمام بلاواسطة، فالأخبار المرویّة عن الأئمة مع الواسطة خارجة عن القدر المتیقن.

أو قیل: إنّ الإخبار مع الواسطة إخبارٌ عن الإخبار، وهذا خبر عن الموضوع لا الحکم، فهو خارج عن البحث.

ص: 244

وهذا هو الإشکال العمدة فی نظر سیّدنا الاستاذ رحمه اللّه، والذی ذهب علی أساسه إلی القول بعدم تمامیّة الاستدلال بالأخبار لحجیّة خبر الواحد.(1)

والجواب:

إنّ المشهور القائلین بعدم حجیّة خبر الواحد فی الموضوعات، استثنوا الإخبار عن الإخبار، ورفعوا الید عن إطلاق خبر مسعدة فی هذا المورد، ومما یشهد بذلک قبولهم الجرح والتعدیل من الواحد فی الکتب الرجالیّة، وعدم اشتراطهم البنیّة. هذا أوّلاً.

وثانیا: قد جاء فی الصحیح(2) السؤال من الإمام أنّ ابن مهزیار روی عن الإمام الصّادق خبرین مختلفین فبأیهّما نأخذ؟ ومن الواضح أنّ ابن مهزیار من أصحاب الإمام العسکری علیه السلام، ولا یمکنه الروایة عن أبی عبداللّه علیه السّلام، ومع ذلک عبرّ عن خبره بالروایة.

هکذا أفاد شیخنا دام بقاه.

وهذا تمام الکلام فی الإستدلال بالسنّة علی حجیّة خبر الواحد الثقة.

ص: 245


1- 1. منتقی الأُصول 4 / 296 _ 297.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الرقم: 44.

ص: 246

الإستدلال بالإجماع لحجیّة خبر الواحد

اشارة

واستدلّوا علی حجیّة خبر الواحد بالإجماع، وتقریره من وجوه:

الإجماع المحصّل

ذکر الشیخ(1) أنه یمکن تحصیل الإجماع فی المسألة.

قال: إنّ طریق تحصیله أحد وجهین علی سبیل منع الخلوّ:

أحدهما: تتبّع أقوال العلماء من زماننا إلی زمان الشیخین، فیحصل من ذلک القطع بالاتفاق الکاشف عن رضا الامام بالحکم أو عن وجود نص معتبر فی المسألة.

ثم أجاب عن سؤال مقدّر حول مخالفة السیّد ومن تبعه (قال): لا یعتنی بخلافهم، إمّا لکونهم معلومی النسب، کما ذکر الشیخ فی العُدة، وإمّا للإطّلاع علی أنّ ذلک لشبهةٍ حصلت لهم، کما ذکر العلاّمة، وإمّا لعدم اعتبار اتّفاق الکلّ، کما علیه المتأخرون.

ص: 247


1- 1. فرائد الأُصول: 88.

الإجماع المنقول

والثانی: تتبّع الإجماعات المنقولة فی ذلک. فأورد کلمات: الشیخ فی العدّة، والعلاّمة، والسیّد ابن طاووس، والمجلسی.

کلام الشیخ فی العدّة

فأورد أوّلاً کلام شیخ الطّائفة فی العدّة، وهو کلام طویلٌ جدّا، ونحن نشیر إلی المواضع المهمّة منه.

ذکر الشیخ فی العدّة:

ما اخترته من المذهب هو: إنّ الخبر الواحد، إنْ کان واردا من طریق أصحابنا القائلین بالإمامة، وکان ذلک مرویّا عن النبی أو عن أحد الأئمة علیهم الصّلاة والسّلام، وکان ممن لا یطعن فی روایته ویکون سدیدا فی نقله، ولم یکن هناک قرینة تدلّ علی صحة تضمّنه الخبر، جاز العمل به.

والذی یدلّ علی ذلک إجماع الفرقة المحقّة، فإنی وجدتها مجمعةً علی العمل بهذه الأخبار التی رووها فی تصنیفاتهم ودوّنوها فی اُصولهم، فلولا أن العمل بهذه الأخبار جائز لما أجمعوا علی ذلک، لأنّ إجماعهم فیه معصوم لا یجوز علیه الغلط والسّهو.

ثم ذکر أنّه لو کان العمل بخبر الواحد عند الطائفة محظورا لعاملوا القائل بحجیّته معاملة الآخذ بالقیاس.(1)

ص: 248


1- 1. العدّة فی الأُصول 1 / 126 _ 127.

أقول

حاصل کلام شیخ الطّائفة فی العدّة إلی هنا هو:

إنه یری حجیّة خبر الواحد بشروطٍ:

1. أن یکون الراوی إمامیّا (2) سدیدا (3) ثقةً (4) یروی الخبر عن المعصوم (5) ولا قرینة موجبة للعلم بمضمونه.

ثم یدّعی إجماع الطائفة علی ذلک.

ویدّعی وجدانهم مجمعین علی ذلک. فهو هنا یدّعی (الوجدان) وهذا هو الفرق الأساسی بین هذا الإجماع، ودعواه الإجماع فی (کتاب الخلاف).

وهذا الإجماع حجّةٌ، إذ فیه الإمام المعصوم من الخطأ والسّهو.

ثم یؤیّد ذلک بالقیاس إلی (القیاس).

إشکال السیّد الخوئی

وأشکل فی مصباح الاصول علی الشیخ بوجهین:

الأوّل: حجیّة الإجماع المنقول عند القائل بها، إنما هی لکونه من أفراد الخبر، فکیف یصح الإستدلال به علی حجیّة الخبر؟

والثانی: إنه لا ملازمة بین حجیّة خبر الواحد وحجیّة الإجماع المنقول، لأنّ أدلّة حجیّة الخبر تختصٌّ بالخبر الحسّی، علی ما تقدّم بیانه.(1)

ص: 249


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 195.

الجواب

أمّا عن الإشکال الأوّل، فإنّ الشّیخ ذکر أنّ الخبر الناقل للإجماع محفوف بالقرائن المفیدة للعلم، وحینئذٍ لا یکون دور.

وأمّا عن الإشکال الثانی، فیظهر مما تقدّم فی مبحث الإجماع، من أنه تارةً: یقوم الإجماع علی السّبب. واخری: علی المسبّب. وما نحن فیه من قبیل الأوّل، فشیخ الطائفة یدّعی إجماع العلماء فی جمیع الأزمنة علی العمل بخبر الواحد، ومثل هذا الإجماع یکشف عن المسبّب، وهو رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر.

دعوی صاحب المعالم

وادّعی صاحب المعالم عدم دلالة کلام شیخ الطائفة علی حجیّة الأخبار المجرّدة عن القرینة. قال: والإنصاف أنه لم یتّضح من حال الشیخ وأمثاله مخالفتهم السیّد قدّس سرّه، إذ کانت أخبار الأصحاب یومئذٍ قریبة العهد بزمان لقاء المعصوم علیه السّلام، واستفادة الأحکام منهم، وکانت القرائن المعاضدة لها متیّسرة کما أشار إلیه السیّد، ولم یعلم أنهم اعتمدوا علی الخبر المجرّد لیظهر مخالفتهم لرأیه فیه.

قال: وتفطّن المحقق من کلام الشیخ ما قلناه، حیث قال فی المعارج(1)...

وما فهمه من کلام الشیخ هوالذی ینبغی أنْ یعتمد علیه،لامانسبه العلاّمة إلیه.(2)

وکذا قال الأمین الإسترابادی والسیّد صدرالدین، کما نقل عنهما الشیخ.

ص: 250


1- 1. معارج الأُصول: 147.
2- 2. معالم الدین: 198.

الجواب

وحاصل کلام صاحب المعالم ومن تبعه أنّ شیخ الطائفة لایقول بحجیّة الخبر الواحد المجرّد عن القرینة، بل یقول رحمه اللّه بأنّ أخبارنا الآحاد کلّها محفوفة بالقرائن، وهذا ما یقوله السیّد رحمه اللّه، وبذلک یجمع بین إجماعیهما، فلا تعارض بینهما.

لکنّ الشیخ قدّس سرّه تعجّب من کلام هؤلاء، وذکر أنّ الظاهر بل المعلوم أن صاحب المعالم لم یکن عنده کتاب العُدّة، وأنّ ما ذکره فی وجه الجمع بین الإجماعین _ من تیسّر القرائن وعدم اعتمادهم علی الخبر المجرّد _ قد صرّح الشیخ فی عبارته ببداهة بطلانه.

رفع إشکال المعارضة بین إجماع الشیخ وإجماع السیّد

وذلک، بعد أنْ تقرّر أن الإختلاف بینهما لیس لفظیّا، وأنه لایبعد وقوع مثل هذا التدافع مع کونهما معاصرین خبیرین بمذهب الأصحاب فی العمل بخبر الواحد، فکم من مسألةٍ فرعیّة وقع الإختلاف بینهما فی دعوی الإجماع فیها، مع أن المسألة الفرعیّة أولی بعدم خفاء مذهب الأصحاب فیها علیهما. فلابدّ من وجهٍ للجمع، وإلاّ فلا تتمّ دعوی الشیخ، ولا یمکن الاستدلال بالإجماع علی حجیّة خبر الواحد، ولذا ذکروا وجوها للجمع، لکنّ الشیخ یقول:

ویمکن الجمع بینهما بوجهٍ أحسن وهو: إن مراد السیّد من العلم الذی ادّعاه فی صدق الأخبار هو مجرّد الإطمینان، فإن المحکی عنه فی تعریف العلم أنه ما

ص: 251

اقتضی سکون النفس، وهو الذی ادّعی بعض الأخباریین أن مرادنا بالعلم بصدور الأخبار هو هذا المعنی، لا الیقین الذی لا یقبل الإحتمال رأسا. فمراد الشیخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن، تجرّدها عن القرائن الأربع التی ذکرها أوّلاً، وهی: موافقة الکتاب أو السنّة أو الإجماع أو دلیل العقل. ومراد السیّد من القرائن التی ادّعی فی عبارته احتفاف أکثر الأخبار بها هی الامور الموجبة للوثوق بالراوی أو بالروایة، بمعنی سکون النفس بهما ورکونهما إلیهما. وحینئذٍ، فیحمل إنکار الإمامیّة للعمل بخبر الواحد علی إنکارهم للعمل به تعبّدا أو لمجرّد حصول رجحان بصدقه علی ما یقوله المخالفون.

والإنصاف أنه لم یتضّح من کلام الشیخ دعوی الإجماع علی أزید من الخبر الموجب لسکون النفس، ولو بمجرّد وثاقة الراوی وکونه سدیدا فی نقله لم یطعن فی روایته.

ولعلّ هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بین کلامی الشیخ والسیّد، خصوصا مع ملاحظة تصریح السیّد فی کلامه: بأنّ أکثر الأخبار متواترة أو محفوفة، وتصریح الشیخ فی کلامه المتقدّم بإنکار ذلک.(1)

أقول

إنه لا یخلو ما ذکره قدّس سرّه من نظر وتأمّل، فإنّا إذا راجعنا کلمات السیّد رحمه اللّه فی کتاب (الذریعة) ودقّقنا النظر فیها، وجدناها ظاهرةً بل صریحةً فی خلاف ما نسبه الشیخ إلیه:

ص: 252


1- 1. فرائد الأُصول: 88.

قال: «إعلم أن العلم ما اقتضی سکون النفس. وهذه حالة معقولة یجدها الإنسان من نفسه عند المشاهدات، ویفرّق فیها بین خبر النبی صلّی اللّه علیه وآله بأنّ زیدا فی الدار وخبر غیره».(1)

ومراده: إن العلم یقتضی سکون النفس مع عدم احتمال الخلاف، أی: السکون الیقینی. ویشهد بذلک کلامه فی الظنّ إذ یقول: «وأمّا الظنّ، فهو یقوّی کون ما ظنّه علی ما یتناوله الظنّ وإنْ جوّز خلافه... وما یحصل عنده الظنُّ یسمّی أمارة»(2) فإذا کان یجوّز الخلاف فی الظنّ، کان مراده من سکون النفس فی العلم، هو الیقین الذی لا یجوّز فیه الخلاف.

وعلیه، فالجمع الذی اختاره الشیخ ساقط.

ثم إنّ ما ینفی عنه السیّد الحجیّة شرعا هو الخبر الواحد فی مقابل الخبر المتواتر، کما لا یخفی علی من یراجع الجزء الثانی من کتابه، لا الخبر الذی لا تسکن إلیه النفس، بل إنه ینصّ علی أنه لیس بحجّة وإن کان المخبر عدلاً، فهو یقول: «إعلم أن من یذهب إلی العمل بخبر الواحد فی الشریعة... یراعی فی العمل بالخبر صفة المخبر فی العدالة»(3) ثم یناقش ذلک القول ویقول بأنّ الخبر لا یکون حجةً ما لم یفد العلم، وإنْ کان المخبر عدلاً أمینا، ویصرّح بسقوط جمیع البحوث المبنیّة علی القول بحجیّة خبر الواحد عن الاعتبار فی فصلٍ عقده لذلک بعد الفراغ عن إثبات عدم الحجیّة.(4)

ص: 253


1- 1. الذریعة إلی أُصول الشریعة 1 / 20.
2- 2. الذریعة إلی اصول الشریعة
3- 3. الذریعة إلی اصول الشریعة 2 / 79.
4- 4. المصدر 2 / 78.

وبما ذکرنا یسقط أیضا ما قیل فی الجمع بین الإجماعین من أنّ السیّد ینفی حجیّة الخبر الضعیف فی مقابل الموثوق به، لا الواحد فی مقابل المتواتر.

وتلخّص أن التعارض بین الإجماعین باق.

ما یشهد بصحّة دعوی شیخ الطائفة

لکنّ الحق فی دعوی الإجماع فی المسألة مع الشیخ، لشهادة امور عدیدة بذلک:

منها: کلام السید ابن طاووس،(1) حیث أنکر علی السیّد دعوی الإجماع قائلاً:

ولایکاد تعجّبی ینقضی کیف أشتبه علیه أن الشیعة لاتعمل بأخبار الآحاد فی الامور الشرعیّة؟

قال: من تتبّع الکتب والتواریخ والسیر، علم أنّ العمل بخبر الواحد من الامور المسلّمة عند الشیعة بغیر شبهةٍ من العارفین، کما ذکر الشیخ فی العدّة وغیره.

ومنها: کلام ابن ادریس فی المواسعة والمضایقة،(2) حیث ذکر أسماء جماعةٍ من قدماء الأصحاب وأرکان الحدیث من السلف، قائلاً: بأنهم کانوا لا یجوّزون ترک العمل بالخبر الموثوق به.

ومنها: دعوی الشیخ الکشی إجماع العصابة علی تصحیح ما یصحّ عن جماعة من الرّواة.(3)

ص: 254


1- 1. فرج المهموم: 42.
2- 2. أجوبة مسائل ورسائل فی مختلف فنون المعرفة: 17 _ 18.
3- 3. رجال الکشی: 238 و 375 و 556.

فإنها _ بقطع النظر عن البحث والتحقیق فیها _ تکشف عن الإجماع علی العمل بخبر الواحد الوارد عن الجماعة، إذْ لا شبهة فی عدم بلوغ کلّ ما ورد عنهم حدّ إفادة العلم.

ومنها: دعوی شیخ الطّائفة(1) الإجماع علی العمل بخبر السکونی وحفص بن غیاث وأمثالهما من الرّواة.

ومنها: دعوی المفید رحمه اللّه الإجماع علی العمل بخبر جماعةٍ من الرّواة. ذکرهم فی کتاب الإرشاد.(2)

ومنها: تفحّص المحدّثین عن حال الروّاة من حیث الجرح والتعدیل. فإنه یکشف عن حجیّة خبر الواحد عندهم.

فالحق مع الشیخ.

وأمّا السیّد المرتضی رحمه اللّه، فإنه إنما ادّعی الإجماع علی عدم الحجیّة لشبهةٍ عرضت له، کما ذکر العلاّمة قدّس سرّه.

ویمکن أن یقال: بأنّ معقد إجماع السیّد رحمه اللّه هو الکبری فی المسألة، وهی أن علماء الطائفة لا یعملون بما لا یفید العلم. فإنّ هذه الکبری مسلّمة، وخبر الواحد لایفید العلم کما هو معلوم. ولهذا نظائر عدیدة فی (کتاب الإنتصار)، حیث یدّعی الإجماع علی الکبری ویطبّقها علی المورد، فکانت دعواه الإجماع صحیحةً، وهو مشتبه فی تطبیق الکبری علی الصغری.

ص: 255


1- 1. العدّة فی الأُصول 1 / 149.
2- 2. اُنظر: الإرشاد (من مجموعة مصنّفات الشیخ المفید) 2 / 216 و 247.

وما نحن فیه کذلک، فإنّ الأصحاب وإنْ کانوا لایرون العمل بما لا یفید العلم، إلاّ أن خبر الواحد قد خرج عن ذلک العموم بالتّخصیص.

وتلخص:

إن إجماع شیخ الطائفة تامٌ من حیث المقتضی وعدم المانع، بعد الإجابة عن الإشکالات، وعن دعوی الإجماع من السیّد علی خلاف ذلک.

الإشکال الوارد

ولکنّ الکلام کلّه فی الاستدلال بهذا الإجماع علی حجیّة خبر الواحد من جهة کاشفیّته عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر، کما ذکر الشیخ الأعظم، وذلک:

لأنّ کاشفیّته عن رأی المعصوم تتوقّف علی دفع احتمال استناد المجمعین إلی السّیرة أو إلی الروایات فی المسألة. ولا دافع لهذا الإحتمال.

قال بعض المحققین فی التعلیق علی «وطریق تحصیله أحد وجهین» لایخفی ما فی کلا الوجهین.

أمّا فی الأوّل: فلأنّ اتّفاق کلمتهم علی الحجیّة مع استدلال الجلّ علی ذلک لولا الکلّ بما ذکر فی المقام من الآیات والروایات وغیرها، لایوجب القطع برضا الإمام علیه السلام أو بوجود نصّ معتبر متّبع علی تقدیر الظفر به، لوضوح ما به استنادهم وعلیه اعتمادهم، ومعه کیف یکشف عن مستند آخر.

وأمّا فی الثانی، فلوهن الإجماع ودعواه، لا لأجل الظّفر بالمخالف بل لما

ص: 256

ذکرناه الآن من أنّ الإتفاق فی الفتوی مع بیان ما علیه الإستناد فیها، لایکشف عن مستند آخر أصلاً.(1)

وقال المیرزا: إنه لم یحصل لنا ظنّ من هذین الإجماعین بکون وجوب العمل بالخبر ثابتا للمجمعین بدلیلٍ لم یصل إلینا، إذ یمکن أن یکون مدرکهم فی ذلک هی الأخبار المزبورة، أو یکون فتواهم من جهة قیام السّیرة العقلائیّة علی ذلک، فلایکون اتّفاقهم علی ذلک کاشفا عن دلیل تعبّدی.(2)

وبذلک أشکل السیّد لخوئی علی جمیع الوجوه _ عدا السیّرة _ فقال:

والإنصاف: عدم الاعتبار بشئ¨ من الوجوه، لأنّ شیئا منها لا یکون واجماعا تعبّدیّا کاشفا عن رأی المعصوم علیه السّلام، فإن عمل جملةٍ من المجمعین بهذه الأخبار من جهة کونها مقطوعة الصّدور عندهم، وجملة منهم عملوا بما فی الکتب الأربعة، لاعتقادهم صحّة جمیع ما فیها، حتی قال بعضهم: إنّ الخدشة بضعف السند فی الأخبار الموجودة فیها حرفة العاجز.(3)

ثم إنّه یرد علی کاشفیّته عن الدّلیل المعتبر:

إن ذاک الدلیل المعتبر: إنْ کان خبرا واحدا فیلزم الدّور، وإنْ کان متواترا، فأین ذاک الخبر المتواتر؟ ولماذا لم یصل إلینا؟ وإنْ کان واحدا محفوفا بقرینةٍ مفیدةٍ للعلم، فلعلّ تلک القرینة المفیدة للعلم لهم غیر مفیدة له عندنا.

ص: 257


1- 1. أوثق الوسائل: 123.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 200.
3- 3. دراسات فی علم الأُصول 3 / 187.

الإجماع التقدیری

بأنْ یدّعی الإجماع حتّی من السیّد وأتباعه علی وجوب العمل بالخبر غیر العلمی فی زماننا هذا وشبهه، مما انسدّ فیه باب القرائن المفیدة للعلم بصدق الخبر.

فإن الظاهر أن السیّد إنما منع من ذلک لعدم الحاجة إلی خبر الواحد المجرّد، کما یظهر من کلامه المتضمّن للاعتراض علی نفسه بقوله:

فإنْ قلت: إذا سددتم طریق العمل بأخبار الآحاد، فعلی أیّ شئ¨ تعوّلون فی الفقه کلّه؟

فأجاب بما حاصله: إن معظم الفقه یعلم بالضرورة والإجماع والأخبار العلمیّة، وما یبقی من المسائل الخلافیّة یرجع فیها إلی التخییر.

وقد اعترف السیّد فی بعض کلامه _ علی ما فی المعالم _ ، بل وکذا عن الحلّی فی بعض کلمه: بأنّ العمل بالظن متعیّن فیما لا سبیل فیه إلی العلم.

إشکالان

وقد أورد علیه:

أوّلاً: إنه یحتمل أن یقول السیّد وأتباعه _ إنْ کانوا فی زماننا _ بحجیّة الظن المطلق، فیکون الخبر الواحد حجةً لکونه من أفراد الظن المطلق، لا لحجیّته بالخصوص، کما هو المدعی.

ص: 258

أقول

لکنْ قد یستظهر من عبارة السیّد فی الذریعة فی الجواب عن الدلیل التاسع حیث قال: «وبعد، فهذه الطریقة توجب علیهم أنْ یکون الفاسق کالعدل...» القول بحجیّة خبر الواحد العدل، لا من باب الظن المطلق. فتأمّل.

ثانیا: إنّ هذا إجماعٌ مستند إلی الأدلّة کتابا وسنّةً، ولیس بالإجماع الکاشف، ولا أقل من الإحتمال، فهو لیس بحجّة.

وقد عرفت ورود هذا الإشکال علی الوجه السّابق.

الإجماع العملی

اشارة

وقد ادّعاه الشیخ من (الصحابة) و(أصحاب الأئمة) و(العلماء) و(المسلمین) و(العقلاء).

1. من الصّحابة

وقد نقل الشیخ هذه الدعوی عن العلاّمة.(1)

وأشکل: بأنه إنْ اُرید منهم من لا یصدر إلاّ عن رأی الحجّة، فلم یثبت لنا عمل أحدٍ بخبر الواحد فضلاً عن ثبوت تقریر الإمام علیه السلام لعمله. وإنْ اُرید الهمج الرّعاع الذین ینعقون مع کلّ ناعق، فمن المقطوع به عدم کشف عملهم عن رضا المعصوم، لعدم ارتداعهم بردعه.

ص: 259


1- 1. فرائد الأُصول: 101.

إلاّ أنْ یقال: بأنّه لو کان العمل بخبر الواحد منکرا لم یترک الإمام وأتباعه من الصحابة النکیر علیهم، إظهارا للحق ونهیا عن المنکر، وإنْ لم یظنّوا الإرتداع، إذْ لیست هذه المسألة بأعظم من مسألة الخلافة، إذ أنکر علیهم الإمام وأتباعه لئلاّ یتوهّم الرّضا منه لو سکت.

أقول

لکنّ هذا الإشکال من الشیخ لا یرد، لما سیأتیمن تقریره الإجماع علی العمل بخبر الواحد من المسلمین طرّا من زمن الصّحابة فما بعد. فالقول بعدم ثبوت ذلک من الصّحابة مناقض له.

وقوله: إلاّ أنْ یقال...

فیه: أنّ التنظیر بمسألة الخلافة بلا وجه، لأن الخلافة من المسائل الاصولیّة، ومسألتنا من فروع الاصول، وفی مثلها لایجب النّهی إلاّ مع احتمال تأثیره، فلا یکون ترکه کاشفا عن الرّضا.

لکنّ الصحیح فی الجواب أن یقال: إن قیام سیرتهم علی العمل بخبر الواحد _ بما أنّهم أصحاب _ غیر ثابت، فلعلّ السّیرة هذه کانت بما هم عقلاء، وسیأتی الکلام علی السّیرة العقلائیّة.

2. من أصحاب الأئمة

وقد أشکل المیرزا(1) بالفرق بین الإجماع القولی والعملی، من جهة أن

ص: 260


1- 1. أجود التقریرات 3 / 200.

القولی هو اتّفاق الفقهاء علی أمرٍ فی مسألة اصولیّة أو فقهیّة، والعملی یختصّ بالمسألة الاصولیّة ولا ینعقد فی الفرعیّة، لأن العمل فی المسألة غیر مختص بالفقهاء من حیث هم فقهاء، بل یعمّهم والمقلّدین.

ولکنّ المهمّ فی الإجماع کشفه عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر، فهذا ملاک الحجیّة، سواء کان قولیّا أو عملیّا. نعم، العمل فی المسألة الاصولیّة یختصّ بالمجتهدین، وفی الفرعیّة یعمّهم والمقلّدین.

3. من العلماء

فإنّ عمل العلماء فی جمیع الأزمنة بالأخبار واستنباطهم للأحکام منها مع کونها آحادا، إجماعٌ عملی منهم علی حجیّة خبر الواحد.

وأشکل الشیخ بوجهین:

أحدهما: إن شروط العاملین بالأخبار فی حجیّتها مختلفة، والقدر الجامع لجمیعها نادر فی الأخبار.

والثانی: إن العمل مجمل، إذ لا لسان له حتی یتبیّن وجه العمل، فلعلّ السّبب فی عمل جماعةٍ منهم قطعیّة صدور الأخبار، والآخرین حجیّة الظنّ المطلق.

أقول

هذا، مضافا إلی ما تقدّم من احتمال المدرکیّة.

وأمّا قول المحقق العراقی: من أنّ الإختلاف فی المستند وتعدّد وجه العمل

ص: 261

غیرضارٍّ بتحقّق الإجماع علی الحجیّة، لأن الإتفاق منهم علی ذلک حاصلٌ، وإنْ کان کلّ طرفٍ یرید تطبیق الحجیّة علی الوجه الذی یراه، فتلک الإستنادات عللٌ بعد الوقوع.

ففیه: إنْ الإستناد موجودٌ، ومقتضی الأصل کونه المستند تمام الإستناد.

4. من المسلمین طرّا

قال الشیخ: الثالث من وجوه تقریر الإجماع: إستقرار سیرة المسلمین طرّا علی استفادة الأحکام الشرعیّة من أخبار الثقات المتوسطة بینهم وبین الإمام أو المجتهد. أتری أنّ المقلّدین یتوقّفون فی العمل بما یخبرهم الثقة عن المجتهد، أو الزوجة تتوقف فیما یحکیه زوجها عن المجتهد فی مسائل حیضها وما یتعلّق بها، إلی أن یعلموا من المجتهد تجویز العمل بالخبر غیر العلمی؟

ثم ذکر الشیخ:

إن دعوی الإجماع علی العمل فی الموارد المذکورة یلقّن الخصم طریق الإلزام والردّ، بأنّ هذه الموارد للإجماع، فدعوی إستقرار سیرة المسلمین علی العمل فیها _ وإنْ لم یطّلعوا علی کون ذلک إجماعیّا عند العلماء _ أبعد عن الردّ. فتأمّل.(1)

وقد بیّن المحّقق الخراسانی(2) وجه الأمر بالتأمّل: بأن معنی کونه أبعد عن

ص: 262


1- 1. فرائد الأُصول: 99.
2- 2. دررالفوائد: 123.

الإشکال عدم خلوّه عنه، أو أن منشأ عمل المسلمین فی هذه الموارد هو السّیرة العقلائیّة.

وقال المیرزا:(1) سیرة المسلمین دلیل مستقلّ عن السّیرة العقلائیّة.

أی: إنّ عمل المسلمین فی الامور الإعتباریّة المتعارفة عند العقلاء علی طبق السّیرة العقلائیّة لا یسقط الاستدلال بسیرة المسلمین، ولا یخرجها عن الدلیلیّة فی قبال السّیرة العقلائیّة، إذا کانت کاشفةً عن رضا المعصوم. وأیضا: فإنّ سیرة المسلمین بما هم مسلمون غیر قابلة للرّدع، بخلاف سیرتهم بما هم عقلاء.

إذن، یوجد بینهما التعدّد.

لکنّ الکلام فی مقام الإثبات، فإنّه لا طریق لنا لإحراز کون عملهم بما هم مسلمون، فیحتمل کونه بما هم عقلاء، فلا یثبت التعدّد.

ص: 263


1- 1. أجود التقریرات 3 / 201.

ص: 264

الإستدلال بالسّیرة العقلائیّة علی حجیّة خبر الواحد

اشارة

فإنّ العقلاء بما هم عقلاء، وبقطع النظر عن أیّ شئ¨ آخر، یعملون بخبر الثقة، وهم مجمعون ومتفقون علی ذلک عملاً فی جمیع شئونهم.

وهذه السّیرة متحقّقة بین الموالی والعبید أیضا.

وکما یعملون بخبر الواحد بحسب فطرتهم العقلائیّة فی جمیع امورهم، یعملون کذلک فی الامور الشرعیّة.

والشارع إنْ کان راضیا بعملهم فهو، وإلاّ وجب علیه الرّدع، وإلاّ یلزم نقض الغرض، وقد کان بإمکانه الرّدع، لأن المسألة لیست من المسائل التی یتّقی فیها الإمام أعدائه، فکان المقتضی للرّدع موجودا والمانع مفقودا، ولکنه لم یردع، فهو راض.

فکانت السّیرة العقلائیّة مع عدم الرّدع الکاشف عن الرّضا، دلیلاً علی حجیّة خبر الواحد.

ص: 265

وأمّا ما ذکره المیرزا:(1) من أنّ هذا إنما یتم فی مسألة حجیّة خبر الواحد ونحوها من الامور غیر الإعتباریّة، وأمّا الإعتباریات کالبیع والصلح والإجارة ونحوها، فلا یکفی فیها عدم الرّدع، بل لابدّ من دلیلٍ علی الرّضا والإمضاء، من عموم أو إطلاق. وتظهر الثمرة فی عقد التأمین المتعارف لدی العقلاء فی هذا الزمان، فإنْ لم یندرج تحت عامٍ من عمومات العقود، لا یمکن تصحیحه بمجرّد عدم الرّدع.

فقد یقال: إنه لا حاجة فی الإعتباریات إلی عموم أو إطلاق، بل اللاّزم فی جمیع الموارد وجود الاعتبار المماثل لاعتبار العقلاء، وهذا الإعتبار من الشارع کما یکشف عنه العام أو المطلق، کذلک یکشف عنه عدم الرّدع.

وأمّا مسألة التأمین، فإنْ تمّ اندارجها تحت «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بناءً علی أن اللاّم فیها للعموم لا للعهد فهو، وإلاّ فالأمر مشکل، والسّیرة لا تنفع، لتأخّرها عن زمن المعصوم.

وبعد، فالظاهر اتفاقهم علی وجود السّیرة العقلائیّة علی العمل بخبر الواحد.

أقول

هل یعملون بخبر الواحد ویرتّبون علیه الأثر تعبّدا وبلا لحاظ حصول الإطمینان منه، کما هو المدّعی؟

أمّا بین الموالی والعبید، فالسّیرة موجودة بلا ریب، ولکنْ، ألا توجد هناک قرینة، وهی اقتضاء المولویّة والعبودیّة؟

ص: 266


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 193.

إنه لابدّ من التأمّل فی هذه المرحلة.

وبعد الفراغ عنها، فإنّه لا ریب فی کون هذه السّیرة بمرأی من المعصوم ومسمع، ولا ریب فی تمکّنه من الرّدع کما تقدّم، فهل صدر الرّدع أوْ لا؟

أمّا الرّادع الخاصُّ، فإنّه غیر واصل إلینا، ولو کان لبان.

وأمّا الرّادع العام، فهل تصلح الأدلّة الناهیة عن العمل بغیر العلم للرادعیّة عن هذه السّیرة؟

هل هذه السّیرة مردوعة؟

قد وقع الکلام فی ذلک بین الأعلام، فنقول:

رأی الشّیخ

أمّا الشیخ، فذکر أنّ دلیل حرمة العمل بما عدا العلم ینحصر فی أمرین، وأنّ الآیات والأخبار راجعة إلی أحدهما:

الأوّل: إن العمل بالظن والتعبّد به تشریع محرّم.

والثانی: إن فیه طرحا لأدلّة الاصول اللفظیّة والعملیّة التی اعتبرها الشّارع عند عدم العلم.

قال: وشئ¨ من هذین الوجهین لا یوجب ردع العقلاء عن العمل بالظنّ، لکون حرمة العمل به من أجلهما مرکوزا فی أذهانهم _ لأنّ حرمة التشریع ثابتة عندهم، والاصول العملیّة واللفظیّة معتبرة عندهم مع عدم الدلیل علی الخلاف _ ومع ذلک، نجد بناءهم علی العمل بالخبر الموجب للإطمینان.

ص: 267

والسرّ فی ذلک: عدم جریان الوجهین المذکورین بعد استقرار سیرة العقلاء علی العمل بالخبر، لانتفاء التشریع، فإنّ الملتزم بفعل ما أخبر الثقة بوجوبه وترک ما أخبر بحرمته، لا یعدّ مشرّعا، بل لا یشکّون فی کونه مطیعا، ولذا یعوّلون به فی أوامرهم العرفیّة من الموالی إلی العبید، مع أن قبح التشریع عند العقلاء لا یختصُّ بالأحکام الشرعیّة. وأما الاصول المقابلة للخبر، فلا دلیل علی جریانها فی مقابل الخبر، کالبراءة والإحتیاط والتخییر. وأمّا الإستصحاب، فإنْ اُخذ من العقل _ یعنی من باب إفادته الظنّ عند العقلاء _ فلا إشکال فی أنه لا یفید الظن فی المقام، وإنْ اُخذ من الأخبار، فغایة الأمر حصول الوثوق بصدورها دون الیقین. وأما الاصول اللّفظیّة کالإطلاق والعموم، فلیس بناء أهل اللّسان علی اعتبارها حتی فی مقام وجود الخبر الموثوق به فی مقابلها. فتأمّل.(1)

أقول

والظاهر أنه تأمّل تدقیقی.

إشکال المحقق الخراسانی

وأشکل المحقق الخراسانی:(2) بأنّ التشریع حاصلٌ، لأنّه مع العمل بخبر الواحد ینسب ما یشکُّ فی صدوره من الشارع إلیه، إذْ لا ملازمة بین کون الخبر موردا للعمل عند العقلاء وکونه حجةً عند الشارع، ومع الشکّ یتحقّق موضوع

ص: 268


1- 1. فرائد الأُصول: 100 _ 101.
2- 2. درر الفوائد: 124 _ 125.

التشریع، بل إنّ مجرّد احتمال رادعیّة الآیات یکفی لتحقّقه.

وأمّا الاصول العقلائیّة، فعدم تحقق الموضوع عند العقلاء لجریانها لا یلازم عدمه عند الشارع، والمفروض عدم ثبوت خبر الواحد عنده، فموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان _ مثلاً _ موجود، فهی جاریة.

وأمّا الإستصحاب، فإن کان اعتباره من جهة إفادته الظن النوعی عند العقلاء، فإنّ هذا الظن یعتبر ما لم یثبت الدلیل علی الخلاف، والمفروض عدم ثبوت حجیّة خبر الواحد بعدُ، فالظن الحاصل من الإستصحاب معتبر، والعمل بخبر الثقة والحال هذه _ موجبٌ لطرح الإستصحاب، وإنْ کان دلیل اعتباره هو الأخبار، فإنّ تلک الأخبار _ لکثرتها وصحّة غیر واحد منها سندا _ موجبةٌ للیقین، فیتقدّم الاستصحاب علی الخبر.

وأمّا الاصول اللّفظیّة، فالعقلاء إنما یرفعون الید عن العامّ بالخاصّ، من جهة اعتقادهم بحجیّته، لکنّ حجیّة خبر الواحد عند الشرع موردٌ للشک، للشک فی إمضائه للسّیرة، فلا یمکن رفع الید به عن الاصول.

الدفاع عن کلام الشیخ

أقول:

قد یمکن تأیید کلام الشیخ: بأن من الأدلّة الرّادعة عن العمل بخبر الثقة ما یدلّ علی حرمة التشریع، لکنّ رادعیّتها یتوقف علی تحقق موضوع التشریع عند المخاطبین، وهو یتوقف علی الشک، ومع وجود خبر الثقة لا یبقی الشک، فلا

ص: 269

یتحقق التشریع، وحینئذٍ، فلا ردع، ولذا یقول الشیخ: فإن الملتزم بفعل ما أخبر الثقة بوجوبه وترک ما أخبر بحرمته لا یعدّ مشرّعا، بل لا یشکّون فی کونه مطیعا».

وبهذا التقریب یندفع الإشکال.

ثم إن المحقق الخراسانی لا یری أن الإستصحاب مفید للظن للنوعی، ولو کان یفیده، فإن خبر الثقة کذلک، وهو أقوی، ولا أقل من المساواة. فالظن النوعی الحاصل من الإستصحاب غیر باقٍ مع الإطمینان الشخصی أو الظن النوعی بالخلاف الحاصل من الخبر.

ودعوی إفادة أخبار الإستصحاب للیقین، دون إثباتها خرط القتاد، لأنها ستة أخبار فقط، وبعضها غیر تام سندا، فتعدّ مستفیضة لا متواترة، فکیف تفید الیقین؟

رأی المحقق الخراسانی

قال رحمه اللّه: لم یردع عنها نبیّ ولا وصیّ نبیّ، ضرورة أنه لو کان لاشتهر وبان، ومن الواضح أنه یکشف عن رضا الشارع به فی الشرعیّات أیضا.

فإن قلت: یکفی فی الرّدع الآیات الناهیة والروایات المانعة عن اتباع غیرالعلم، وناهیک قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»، وقوله تعالی: «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا».

قلت: لا یکاد یکفی تلک الآیات فی ذلک. فإنه _ مضافا إلی أنها وردت إرشادا إلی عدم کفایة الظن فی اصول الدین. ولو سلّم، فإنما المتیقّن لولا أنه المنصرف إلیه إطلاقها، هو خصوص الظن الذی لم یقم علی اعتباره

ص: 270

حجة _ لا یکاد یکون الرّدع بها إلاّ علی وجه دائر، وذلک، لأن الردّع بها یتوقف علی عدم تخصیص عمومها أو تقیید إطلاقها بالسّیرة علی اعتبار خبر الثقة، وهو یتوقف علی الرّدع عنها بها، وإلاّ لکانت مخصّصةً أو مقیّدة لها. کما لا یخفی.

أقول:

حاصله: إن رادعیّة الآیات متوقفة علی عدم کون السّیرة مخصصةً لها، لکن عدم کون السّیرة مخصّصةً للآیات یتوقف علی کونها _ أی الآیات _ رادعةً عن السیرة. فالردع متوقف علی عدم التخصیص، وهو متوقف علی عدم الرّدع.

قال:

لا یقال: علی هذا، لا یکون اعتبار خبر الثقة بالسّیرة أیضا، إلاّ علی وجهٍ دائر، فإنّ اعتباره بها فعلاً یتوقف علی عدم الرّدع بها عنها، وهو یتوقف علی تخصیصها بها، وهو یتوقف علی عدم الرّدع بها عنها.

فإنه یقال: إنما یکفی فی حجیّته بها عدم ثبوت الرّدع عنها، لعدم نهوض ما یصلح لردعها، کما یکفی فی تخصیصها لها ذلک، کما لا یخفی، ضرورة أن ما جرت علیه السّیرة المستمرّة فی مقام الإطاعة والمعصیة، وفی استحقاق العقوبة بالمخالفة، وعدم استحقاقها مع الموافقة، ولو فی صورة المخالفة للواقع، یکون عقلاً فی الشرع متبّعا ما لم ینهض دلیل علی المنعّ عن اتّباع فی الشرعیّات. فافهم وتأمّل.(1)

ص: 271


1- 1. کفایة الأُصول: 303.

أقول:

حاصل الجواب: إن کون السّیرة مخصّصةً للآیات لا یتوقف علی ثبوت عدم الرّدع، بل علی عدم ثبوت الرّدع، فلا دور فی تخصیصها بالسّیرة. بخلاف العکس، فإن کون الآیات رادعةً عن السّیرة متوقف علی عدم کونها مخصّصةً للآیات واقعا.

الإشکال علیه

إنّ المهم فعلاً من الوجوه التی ذکرها هو: استلزام رادعیّة الآیات عن السّیرة للدور، وأمّا الوجوه الاخری، فسنتعرّض لها فیما بعد.

وقد أشکل علی ما ذکره فی قضیّة الدور بوجهین:

الأوّل: إنه لو کان عدم ثبوت الرّدع کافیا فی صحّة تخصیص الآیات بالسّیرة، لکان عدم ثبوت التخصیص کافیا فی الرّدع أیضا، ولا یظهر وجه لمنع التوقف فی أحدهما دون الآخر.

والثانی: إن التحقیق عکس ما ذکره، لأن تخصیص العمومات بالسّیرة متوقف علی حجیّتها المتوقفة علی الإمضاء، فلا یکفی فی التخصیص عدم ثبوت الرّدع علی ما أفاده، بل لابدّ من ثبوت عدم الرّدع، فیکون التخصیص دوریّا. بخلاف الرّدع، فإنه غیرمتوقف علی ثبوت عدم التخصیص، بل یکفیه عدم ثبوت التخصیص، إذ العمومات حجّة ببناء العقلاء ما لم یثبت خلافها.

وعلیه، فالمتعیّن هو الإلتزام بکون الآیات رادعةً عن السّیرة، لا أنّ السّیرة مخصّصة للآیات.

ص: 272

تأیید الإصفهانی

وقد أیّد المحقق الإصفهانی ما ذکره استاذه من توقّف مخصصّیة السّیرة للآیات علی عدم ثبوت الرّدع، فقال: مبنی شیخنا الاستاذ قدّس سرّه فی الإکتفاء بنفس عدم ثبوت الرّدع هو: إنّ الشارع أحد العقلا، بل رئیسهم، فهو بما هو عاقل متّحد المسلک مع العقلاء، فهذا مقتض لاتّحاد المسلک، وردعه الفعلی کاشف عن اختلافه فی المسلک وأنه بما هو شارع له مسلک آخر. ومن الواضح أنّ ردعه الفعلی لا یکون کاشفا عن اختلاف المسلک لیختلّ به الکاشف الطبیعی عن اتّحاد مسلکه مع العقلاء من حیث أنه منهم. فعدم وصول الرّدع کاف فی الحکم باتّحاد المسلک لعدم المانع عن الحکم بالاتحاد.

وهذا هو الصحیح.(1)

رأی الحائری الیزدی

وقال المحقق الحائری: بأنّ حجیّة السّیرة منوطة بالعلم برضا الشارع وإمضائه، فعدم العلم الحاصل من قبل کاف فی عدم حجیّة السّیرة، وإنْ کان ثبوت الردع بالآیات مستلزما للدّور.(2)

أقول:

ویمکن تأیید مبنی المحقق الحائری: بأنْ لا ملازمة بین حجیّة الشئ عند العقلاء وحجیّته عند الشارع، من جهة العلم بأنّ للشارع فی کلّ واقعةٍ حکما، قد

ص: 273


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 249 _ 250.
2- 2. درر الفوائد: 394 _ 395.

یکون موافقا لمسلک العقلاء وقد لا یکون، ومنها حجیّة خبر الواحد، فالواجب هو الفحص عن حکمه فیها وإحراز عدم ردعه عن سیرة العقلاء القائمة فیها، ولا یکفی عدم ثبوت الردع. فتأمّل.

رأی العراقی

وقال المحقق العراقی: بأنّ الآیات تصلح للرادعیّة عن السیرة بتقریبین:

أحدهما: إنّه إذا کان عندنا دلیلان، وکان المقتضی فی أحدهما تنجیزیّا وفی الآخر تعلیقیّا، أثّر التنجیزی أثره، وارتفعت صلاحیّة التعلیقی عن المانعیّة عن تأثیره. هذه هی الکبری.

وفیما نحن فیه: المفروض عموم قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» وتحقق السّیرة العقلائیّة علی العمل بخبر الواحد، إلاّ أن اقتضاء أصالة العموم للحجیّة فی الآیة تام و تنجیزی، والمخصّص _ إنْ کان _ یمنع عن الإقتضاء؛ لا أن عدمه متممّم لحجیّة العام. أمّا السّیرة، فمع احتمال وجود الرّادع عنها لیس لها اقتضاء الحجیّة، لوضوح أن تمامیّة الإقتضاء فیها مشروط بعدم مردوعیّتها، فحجیّتها معلّقة علی عدمها، فیتقدّم العامّ علی السّیرة، لصلاحیّته للرادعیّة.

والثانی: إنّ السّیرة مشروطة حجیّتها بعدم الرّدع، فعدمه شرط لها، والآیات تصلح للرادعیّة، ومعها ینتفی شرط حجیّة السّیرة، وإذا انتفی الشّرط انتفی المشروط.(1)

ص: 274


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 103 _ 104.

الجواب

ویمکن الجواب:

أمّا التقریب الأول، ففیه:

إنه لا کلام فی الکبری، لکنّ تطبیقها هنا غیر تام، لعدم تمامیّة الحجیّة الفعلیّة فی کلا الطرفین، لأنه کما أنّ حجیّة السّیرة معلّقة علی عدم الردع، کذلک حجیّة العام معلّقة علی عدم المخصّص، فالعام والسیرة من هذه الحیثیّة علی السواء، وکما یحتمل کون العام رادعا فلا حجیّة للسیرة، کذلک یحتمل کون السّیرة مخصّصةً له فلا حجیّة له.

وأمّا التقریب الثانی، ففیه:

إنه موقوفٌ علی وحدة المرتبة بین النقیضین، أی کون الرّدع وعدم الرّدع فی مرتبة واحدة، فإنْ تمّ هذا تقدّم الرّدع علی السّیرة وسقطت عن الحجیّة، لکنّ الإلتزام بوحدة المرتبة فی النقیضین مشکل، لوجود الملاک لتقدّم عدم الرّدع وهو کونه شرطا، أمّا تقدّم الرّدع فلا ملاک له.

وأمّا القول: بأنّ المفروض تمامیّة الإطلاق فی الآیات، وأصالة العموم متوقفة علی عدم إحراز المخصص لا علی عدم المخصّص، ونحن لم نحرز مخصصّیة السّیرة، لکنّ عموم الآیات محرز، فهی رادعة عن السیرة ولا دور.

فالجواب عنه هو: إنه قد تقرّر فی محلّه لزوم الفحص عن المخصص حتی حصول الإطمینان بعدمه، سواء کان للأخذ بأصلٍ عملی _ کما فی الشبهات

ص: 275

الحکمیة _ أو لفظی کما فیما نحن فیه، فلا یکفی عدم إحراز المخصّص، سواء کان الشک فی أصل التخصیص أو فی مخصصیّة الموجود.

إذن، لابدّ من الاطمینان بعدم السّیرة، فلا یصح التمسّک بالعمومات مع احتمالها، کما لا یصح التمسّک بالسیرة مع احتمال رادعیة الآیات عنها.

رأی المحقق الإصفهانی

وذکر المحقق الإصفهانی(1): إنّ المقتضی فی طرف الآیات تام، لأنه غیر متقوّم بشئ¨ٍ، بخلاف السّیرة، فإن اقتضاءها للحجیّة متقوّم بعدم الرّدع، ولا ریب فی تقدّم ما هو تام الإقتضاء علی غیر تام الإقتضاء، فالآیات رادعة.

ثم أجاب رحمه اللّه عن ذلک:

أوّلاً: هذه الکبری مسلّمة فیما إذا لم یکن تمامیّة اقتضاء أحد الطرفین منوطةً بالطّرف الآخر، والإناطة فیما نحن فیه موجودة، لأنّ انعقاد العموم فی الآیات منوط بعدم مخصصّیة السّیرة، واعتبار السیرة منوط بعدم رادعیّة الآیات.

وثانیا: إن العقلاء یرتّبون الأثر علی خبر الثقة، وحینئذٍ، لا یعقل أنْ تکون سیرتهم قائمةً علی العمل بالعام المخالف للسّیرة المذکورة والرّادع عنها، وإلاّ یلزم تحقق البناء العقلائی علی المتنافیین. هذا بما هم عقلاء.

وأمّا بما هم منقادون للشرع، فإن العمومات صالحة للرّادعیة کالدلیل الخاصّ، لأنه مع الرّدع یکون مقتضی الإنقیاد للشارع هو المتابعة له والارتداع عمّا

ص: 276


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 253.

نهی عنه، وإنْ کان حجةً عندهم بما هم عقلاء، هذا إذا کانت السیرة مقارنة للعام. وأمّا مع تقدّمها علی العام _ کما نحن فیه _ فهی حجّة، لأنّه قبل مجئ العام _ المفروض کونه رادعا _ کان مقتضی الأصل التطابق بین رأی الشارع ومسلک العقلاء، فلمّا جاء العام کانت السیرة المتقدّمة إمّا خاصّا متقدّما أو یکون العام المتأخر ناسخا لها، وإذا دار الأمر تعیّن الأوّل لکون التخصیص أکثر من النسخ، فالنتیجة: حجیّة السّیرة، ومع وجودها لا یتم الإقتضاء للآیات، بل السیرة مخصصّة لها.

إلاّ أنه یعتبر فی حجیّة السّیرة أن تکون بمرأیً من الشارع وکون موردها من الامور المرتبطة به وکونه متمکّنا من الرّدع مع عدم ردعه، وتوفّر هذه الامور غیر معلوم... فیرجع الإشکال وتبقی العقدة.

أقول:

هذا الذی ذکره المحقق الإصفهانی _ فی وجه تقدّم السیرة ونفی الدور _ مذکور فی حاشیة شیخه علی الکفایة.(1)

ولا یرد علیه: أن بناء العقلاء علی العمل بخبر الثقة أمرٌ و تنجّز ظهور العام أمر آخر، ولا منافاة بینهما، بل المنافاة بین عملهم بخبر الثقة ومدلول العمومات وهو النهی عن اتباع غیر العلم.

ووجه عدم الورود هو: إن بناء العقلاء علی تنجّز الظهور فی العام یعنی: العمل بالظهور المانع عن اتّباع غیر العلم، وهو ینافی البناء علی العمل بخبر الثقة.

ص: 277


1- 1. کفایة الأُصول: 304.

إلاّ أنّ فیما ذکره فی فرض العقلاء بما هم منقادون للشارع تأمّلاً، ووجه ذلک هو: إن أساس الإلتزام بالتخصیص فی الخاصّ المتقدّم هو کون النسبة بینهما نسبة القرینة إلی ذی القرینة، فلا ینعقد الظهور فی ذی القرینة مع وجودها، ولم یکن العامّ ناسخا من جهة توقّف ذلک علی جریان أصالة الظهور، والمفروض عدم جریانه. هذا بتعبیر المیرزا تبعا للشیخ. وبتعبیر المحقق الاصفهانی _ فی مباحث التعادل والتراجیح _ النسبة نسبة الظاهر إلی الأظهر، والعقلاء لا یعملون بالظاهر إلاّ مع عدم وجود الأظهر، فمع وجود الخاص _ الأظهر _ لا یبقی موضوعٌ لحجیة الظاهر وهو العام، ومعه کیف یمکن أن یکون ناسخا؟

وحینئذٍ نقول:

إن السّیرة قائمة علی عدم العمل بالعامّ مع وجود الخاصّ _ الأظهر أو القرینة _ أمّا فی حال التقارن بین السیرة والعام، فلا قرینیّة وأظهریّة، وعلیه، یکون وجود السّیرة ممنوعا أو مشکوکا فیه. وعلی هذا، یتوجّه علی الإصفهانی أنه إذا کانت السّیرة مقارنة یکون العام رادعا ولا یحتمل التخصیص، فلا قرینیّة للخاصّ أو أظهریّة فی مورد عدم التقارن، لکن مورد السّیرة العقلائیّة هو خصوص الأظهریّة أو القرینیّة، ومع الشک فی قیام السّیرة علی تقدّم الخاصّ فی هذه الحالة، یتمّ المقتضی لأصالة العموم، وبه یتم ناسخیّة العام للسّیرة.

وهذا هو الإشکال علی هذا الوجه.

وأمّا إشکال الإصفهانی من جهة الشک فی جامعیّة السّیرة لشرائط الحجیّة، فنقول:

ص: 278

إن من الواضح عدم تمکن الشارع من إبلاغ کلّ الأحکام فی أوّل البعثة، ولذا جاءت الأحکام تدریجیّة حتی بالنسبة إلی الموضوع الواحد کالخمر مثلاً. لکنّ هذه الکبری غیر منطبقة هنا، لأنه لا مانع من أن یمنع الشارع عن العمل بغیر العلم منعا عاما بخطابٍ واحد، بل إن عدم العمل بغیر العمل من الامور الإرتکازیة ویکفی أن ینبّه علی ذلک، والآیات کافیة لهذا الغرض، خصوصا قوله تعالی «وَلا تَقْفُ» التی هی فی سورة الإسراء المکیّة. وعلیه، فالآیات صالحة للرّادعیّة وإشکاله مندفع.

استدلال صاحب الکفایة بالإستصحاب

قال فی هامش الکفایة:

إن خبر الثقة متبّع، ولو قبل بسقوط کلٍ من السیرة والإطلاق من الاعتبار بسبب دوران الأمر بین ردعها وتقییده بها. وذلک لأجل استصحاب حجیّته الثابتة قبل نزول الآیتین.(1)

أقول:

وهل کانت السّیرة فی الزمان السّابق علی نزول الآیتین حجّةً؟

ثم إنه قد أشکل(2) علی هذا الإستصحاب بوجوه:

1. إنه استصحاب فی الشبهة الحکمیّة.

ص: 279


1- 1. کفایة الأُصول: 304.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 198.

وفیه: إن صاحب الکفایة یقول بجریان الإستصحاب فیها.

2. إن مدرک هذا الإستصحاب هو الأخبار، فیعود الإشکال.

وفیه: إن صاحب الکفایة یری وجود ما یتیقّن بصدوره بین تلک الأخبار.

3. إن تمامیّة هذا الاستدلال یتوقف علی ثبوت حجیة الإستصحاب، فلعلّ الشارع لم یمکنه الرّدع عنه.

وفیه: ما تقدّم فی الجواب عن إشکال الإصفهانی.

الإشکالات فی اقتضاء الآیات للرادعیّة

وأشکل فی الإستدلال برادعیّة الآیات بوجوه:

أحدها: إن موردها اصول الدین. قاله المحقق الخراسانی.

وفیه: إن بعضها مطلق کقوله «وَلا تَقْفُ» وبعضها معلّل فیفید العموم کقوله: «وَإِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا». وأیضا، ففی ذیل «وَلا تَقْفُ» جاء «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ» وهو ظاهر فی المسائل الفرعیّة.

والثانی: إنها ناظرة إلی الظن الذی لم یقم علی اعتباره حجة، وهذا هو القدر المتیقن لولا أنه المنصرف إلیه. قاله المحقق الخراسانی.

وتقریبه: إن الإهمال غیرمعقول، وإطلاقها بالنسبة إلی الظن الحجة کذلک، فهی مقیدة بالظن غیر الحجة.

وفیه: إن الکلام فی السیرة العقلائیّة غیر الممضاة، فإذا کانت من الظنون، فهی مما لم تقم علی اعتباره حجة بعدُ، فتندرج تحت الآیات.

ص: 280

والثالث: لقد کان عمل المتشرعة فی زمن الأئمة قائما علی العمل بأخبار الآحاد، فلو کانت الآیات رادعة لما کان هذا العمل.

وفیه: إنه لا دلیل علی عملهم بخبر الواحد بما هو خبر الواحد، فلعلّه کان محفوفا بما یوجب الوثوق، أو کانوا لا یعملون منه إلاّ بما یثقون بصدوره.

خروج الخبر تخصّصا

وذکر المحقق الإصفهانی _ بعد القول بتقدّم السّیرة علی العمومات من باب التخصیص _ أنّ خبر الثقة خارج عن العمومات تخصّصا.

بیان الإصفهانی

قال ما حاصله: إن الآیات تنهی عن العمل بالظن بما هو ظن، وهی معللّة بأمرٍ ارتکازی وهو «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا». ولکن عمل العقلاء بخبر الثقة هو من حیث أنه خبر الثقة _ لا من حیث أنه ظن _ فَحصَل التباین بین موضوع الآیات و موضوع السّیرة، وکان موضوع السّیرة خارجا عن موضوع الآیات تخصّصا.

الإشکال علیه

وفیه: إن ظواهر الآیات وموردها لا تساعد هذا الوجه، وذلک: لأن قوله تعالی «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا» وإنْ کان عامّا یشمل الفروع أیضا، إلاّ أن

ص: 281

مورده هو اصول الدین، ولا یعقل خروج المورد من تحت الآیة، والأخذ بالظن فی اصول الدین ممنوع، بخلاف خبر الثقة، فإنه حجّة فی اصول الدین. وأمّا فی الفروع، فقد جاء بذیل قوله تعالی «لا تَقْفُ» قوله تعالی: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ...»، فهو یدلُّ علی أنّ الخروج عن «المسئولیة» لا یکون إلاّ بواسطة «الحجّة». فإذن، لا یجوز العمل بخبر الثقة فی الفروع إلاّ مع قیام الحجة، وهی إمضاء الشارع أو عدم ردعه عن العمل بخبر الثقة، فلا یکفی مجرّد خبر الثقة.

هذا أوّلاً.

وثانیا: إنه لیس الدلیل الرّادع منحصرا بالمانع عن اتّباع الظن، حتی یتم اختلاف الموضوع، فیخرج خبر الثقة تخصّصا، بل هناک أدلّة تدلّ علی وجوب التوقف فی کلّ ما لا یعلم، کقوله علیه السلام: «من حق اللّه علی العباد أنْ لا یقولوا ما لا یعلمون ویقفوا عند ما لا یعلمون».(1) ومقتضی هذه النصوص هو الرادعیّة عن العمل بما لا یعلم مطلقا ووجوب التوقّف عند ما لا یعلم.

بیان المیرزا

وذکر المیرزا الخروج التخصّصی حیث قال: لأن العمل بخبر الثقة فی طریقة العقلاء لیس من العمل بما وراء العلم، بل هو من أفراد العلم، لعدم التفات العقلاء إلی مخالفة الخبر للواقع، لما قد جرت علی ذلک طباعهم واستقرّت علیه عادتهم، فهو خارج عن العمل بالظن موضوعا، فلا تصلح لأنْ تکون الآیات

ص: 282


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 23، الباب 4 من أبواب صفات القاضی، الرقم 9.

الناهیة عن العمل بما وراء العلم رادعةً... .

وقال: وأمّا السیرة العقلائیّة، فیمکن بوجهٍ أن تکون نسبتها إلی الآیات الناهیة نسبة الورود بل التخصّص، لأن عمل العقلاء بخبر الثقة لیس من العمل بالظن، لعدم التفاتهم إلی احتمال مخالفة الخبر للواقع، فالعمل بخبر الثقة خارج بالتخصّص...

قال: وإنْ منعت عن ذلک، فلا أقلّ من أنْ یکون حال السیر وسائر الأدلّة الدالّة علی حجیّة خبر الواحد من کونها حاکمةً علی الآیات.(1)

بیان الحائری

وقال الحائری الیزدی: نهی الشارع عن العمل بغیر العلم بنظر العرف والعقلاء محمول علی غیر صورة الإطمینان والوثوق الذی فرض کونه عندهم بمنزلة العلم.(2)

أقول:

ولا یخفی الفرق بین بیان المیرزا وما ذکره الإصفهانی فی تقریب التخصّص.

یقول المیرزا: إن الآیات لمّا کانت ملقاةً إلی العرف العام، فالمراد من «العلم» فی الآیة هو الأعمّ من العلم العقلی والعرفی، وخبر الثقة علمٌ عرفا، فهو خارج عن الآیة تخصّصا.

ص: 283


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 161 _ 162.
2- 2. درر الفوائد: 394.

کما أن الفرق بین کلامه وکلام الحائری هو أنه یری الموضوع عند العقلاء علما حقیقیّا، والحائری یراه علما عرفیّا.

أقول:

لا یخفی أنّ «الورود» هو الخروج الموضوعی حقیقةً ووجدانا مع إعمال التعبّد من جانب الشّرع، ومثاله خبر الواحد وقاعدة قبح العقاب. و«الحکومة» هی الخروج التعبّدی لا الوجدانی، کالتعبد بأن زیدا لیس بعالم، فیخرج عن أکرم العلماء تعبّدا. و«التخصّص» هو الخروج عن الموضوع حقیقةً ووجدانا، فزید الجاهل خارج عن أکرم العلماء حقیقةً وبلا تعبّد.

ثم إنه یردُ علی القول بالتخصّص فیما نحن فیه:

إنّ الخطابات الشرعیّة _ من الآیات والروایات _ تفید جعل الأحکام بنحو القضیّة الحقیقیّة، فکلّ فرد من أفراد المکلّفین یجب علیه التوقّف عند کلّ موردٍ لیس فیه علمٌ. إلاّ أنّ الکلام فی أنّ هذا «العلم» الذی لا یجوز العمل بدونه، هل هو العلم الشخصی أو النوعی؟

لا یخفی وقوع الخلاف فی بعض الموضوعات فی الأحکام الشرعیّة هل هی مأخوذة علی نحو الشخصیّة أو النوعیة، کما فی «الحرج» مثلاً، هل المنفی هو الحرج الشخصی أو النوعی؟

وإذا کان خبر الثقة مفیدا للعلم، فهل یفید العلم لکلّ شخصٍ من العقلاء أو أنه یفیده لنوع العقلاء؟

ص: 284

تقدّم الخبر بالحکومة

بیان المیرزا

وذهب المیرزا فی الدورة اللاّحقة إلی التقدّم بالحکومة، قال: إن النهی عن العمل بالظن فرع تحقق الظن خارجا _ کما هو الشأن فی کلّ قضیّة خارجیّة أو حقیقیّة _ والظن یتقوّم باحتمال الخلاف لا محالة، ومع وجود دلیل تعبّدی علی حجیّة أمارة أو قیام سیرة العقلاء علی العمل بها، یکون احتمال الخلاف ملغیً بالضرورة، ولذا تقوم مقام القطع الطریقی أو المأخوذ فی الموضوع علی وجه الطریقیّة، ومعه یکون الخبر الموثوق بصدوره خارجا عن موضوع الآیات بالحکومة، کما أنه بدلیل الحجیّة یکون حاکما علی أدلّة الاصول. فالملاک فی تقدّم الأمارات علی الاصول بعینه موجود فی تقدّم السّیرة العقلائیّة علی الآیات الناهیة عن العمل بالظن أیضا، فلابدّ فی مقام الرّدع من ورود أدلّة خاصة ناهیة عن العمل بالسّیرة کما وردت فی باب القیاس، والمفروض انتفاؤها فی المقام.(1)

بیان العراقی

وقال العراقی: والآیات الناهیة عن العمل بما وراء العلم غیر صالحة للرّدع عن بنائهم بعد کون عملهم به من باب تتمیم الکشف وکونه من أفراد العلم الموجب لعدم التفاتهم إلی احتمال الخلاف، إذ لا یکاد یرون العمل به حینئذٍ من

ص: 285


1- 1. أجود التقریرات 3 / 202.

باب العمل بغیر العلم کی یصلح الآیات للردع عن ذلک، فلابدّ حینئذٍ فی فرض عدم رضائه بذلک من ردعهم ببیانٍ آخر.(1)

وفیه

إنه قد تقرّر أن الحکومة تصرّف أحد الدلیلین تعبّدا فی موضوع أو محمول الدلیل الآخر توسعةً أو تضییقا _ وإنْ لم یکن بلسان الشارحیّة والمفسّریة _ کتصرّف «لا ربا بین الوالد والولد» فی أدلّة حرمة الربا، وکتصرّف: «الطواف بالبیت صلاة» فی «لا صلاة إلاّ بطهور». هذا أوّلاً.

وثانیا: یُعتبر فی الحکومة أن یکون الدلیلان صادرین من الحاکم الواحد، إذْ لا یعقل أن یتصرف حاکمٌ فی خطابات الحاکم الآخر.

وفیما نحن فیه: الحاکم باعتبار خبر الثقة هو «السّیرة العقلائیّة» والحاکم بعدم اعتباره لکونه غیر مفیدٍ للعلم هو الشارع بقوله: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ». وحینئذٍ لا تتمّ الحکومة بین الدلیلین. نعم، لو کانت السیرة ممضاة کان الحاکم فیها متّحدا.

هذا من جهةٍ.

ومن جهة اخری: السّیرة العقلائیّة ما لم یتمّ الإمضاء لها لیس لها تعبدیّة لکونها سیرة العقلاء لیس إلاّ، فکیف یتصرّف عمل العقلاء بما هم عقلاء فی حکم الشارع؟

ص: 286


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 138.

الحلّ النهائی

وبعد الفراغ عن الطرق التی ذکرها الأکابر لحلّ المشکل والمناقشة فیها، یبقی طریقان:

أحدهما: ما أشار إلیه العراقی وصرّح به المیرزا، من أنه لو کان الشارع غیر راضٍ بالعمل بخبر الواحد لردع عنه الرّدع القاطع _ کما فعل بالنسبة إلی القیاس _ .

قال المیرزا: «بل الرّدع عنه یحتاج إلی قیام الدلیل علیه بالخصوص، بل لابدّ من تشدید النکیر علی العمل به کما شدّد النکیر علی العمل بالقیاس، لاشتراک العمل بالقیاس مع العمل بخبر الثقة فی کونه مما استقرّت علیه طریقة العقلاء وطبعت علیه جبلّتهم».

وتوضیحه:

إنّ هذه الآیات _ بناء علی مانعیّة القدر المتیقّن فی مقام التخاطب عن انعقاد الإطلاق _ غیرمطلقة، بل هی مختصة بالمنع عن الظن فی اصول الدین ولا تعمّ خبر الواحد. هذا من جهة. ومن جهة اخری: إنّ احتفاف هذه الآیات بالإرتکاز العقلائی والسّیرة العملیّة من العقلاء بالعمل بخبر الثقة فی جمیع امورهم، مانع من انعقاد الإطلاق فیها، فتختصّ باُصول الدین کذلک.

فمع وجود هاتین الجهتین المانعتین من انعقاد الإطلاق _ وإنْ کنّا لا نقول بالاولی _ وقلّة عدد الآیات، وعدم وضوح دلالتها بالنظر إلی المناقشات المذکورة، کیف تصلح لأنْ تکون رادعةً عمّا استقرّت علیه طریقة العقلاء وطبعت علیه جبلّتهم، فلو أراد الشارع الرّدع عن العمل بخبر الثقة لردع عنه برادع خاصٍّ قویّ

ص: 287

قاطع، کما فعل بالنسبة إلی القیاس، بل إن العمل بالقیاس لم یکن علی حدّ العمل بخبر الثقة، ومع ذلک قد ورد (500) روایة فی المنع عن العمل به، ومن عدم ورود النهی کذلک نستکشف عدم الرّدع.

والثانی: أن یقال بأنّ المراد من «ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» هو «ما لیس لک به حجة»، فیکون المراد من الآیة: لا تقف ما لیس لک علیه حجّة، وخبر الواحد عند العقلاء حجة، فهو خارج عن الآیات تخصّصا.

لا یقال: هذا حمل علی خلاف ظاهر الآیة، ورفع الید عن أصالة الظهور بلا دلیل غیر جائز.

لأنّا نقول: إنّ فی الآیات قرینةً علی هذا الحمل فلیس بلا دلیل، وذلک لما تقرر فی محلّه من أن الحکم إذا عُلّل کانت العلّة تمام الموضوع له، ومن هنا قالوا بأنّ العلّة قد تعمّم وقد تخصّص، ولذا تعدّی الحکم من الخمر إلی کلّ مسکر فی قوله: لا تشرب الخمر لأنه مسکر، وکان «المسکر» هو الموضوع ل_«الحرمة». وهذه الکبری منطبقة هنا. وذلک لقوله تعالی _ بعد النهی عن اتباع الظن _ «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا» فکان المنهی عنه «ما لا یغنی من الحق شیئا» ومن الواضح أنّ «الحجة» تغنی من الحق.

وکذلک قوله تعالی «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ...» بعد قوله: «لا تَقْفُ...»، فإنّه علّة للمنع عن اقتضاء غیر العلم، فکان الممنوع ما فیه «المسئولیّة». ومن الواضح أنّ من عنده «الحجة» یخرج عن عهدة «المسئولیّة».

ص: 288

فظهر أنّه لا خصوصیّة «للعلم» بل الخصوصیّة للحجّة، فالممنوع هو اتباع ما لیس بحجّة، والحجّة حقٌّ ومخرجٌ عن المسئولیّة.

وخبر الواحد وإنْ لم یکن «علما» فهو «حجة»، والآیات تمنع عن اتباع ما لیس بحجة، فلا ربط لها بخبر الواحد.

أقول

ولعلّ هذا الوجه أولی من الوجه الأوّل، لإمکان توجّه المناقشة فیه: بأنّ قیاس خبر الواحد علی القیاس مع الفارق، فإنّ القیاس کاد أن یکون هو الأساس فی الدین، قد أفتی الفقهاء علی طبقه وحکم القضاة وروّجه الولاة والسلاطین، فلو لم یمنع عنه کذلک لمحق الدین. أمّا خبر الواحد، فلیس بهذه المثابة، ولا تترتب علی العمل به تلک المفسدة، فلم یحتج الرّدع عن العمل به إلی تلک الشدّة والمکافحة الأکیدة. فتأمّل.

الکلام فی حدّ السیرة

ثم إنه قد وقع الکلام بینهم فی حدّ هذه السیرة، هل هی قائمة علی العمل بخبر الثقة، أو هی قائمة علی العمل بالخبر الموثوق به وإنْ لم یکن راویه ثقة؟ وعلی الأوّل، فهل هو مشروط بالظنّ أو الوثوق أو عدم الظن بالخلاف، أو غیر مشروط بشئ¨؟

قال الشیخ: خبر الثقة المفید للإطمینان حجّة.

إذن، فالعبرة بالوثوق لا بالسّیرة، والوثوق من أینما حصل فهو حجة، فسقط

ص: 289

خبر الواحد عن الموضوعیّة. بل ادّعی المحقق الخراسانی أن هذا هو المستفاد من الأخبار المستدلّ بها علی حجیة خبر الثقة.

والمهمّ هو البحث عن حدّ السیرة، فنقول:

السّیرة من الأدلّة اللبیّة، وکلّ دلیل لبّی فالأصل الأوّلی فیه هو الأخذ بالقدر المتیقّن منه، فلابدّ من الرجوع إلی العقلاء أنفسهم.

مقتضی طبع المطلب أنْ لا یرتّبوا الأثر إلاّ إذا حصل الوثوق، وهذا هو القدر المتیقن، وقد قیل: إنهم یرتّبون الأثر مطلقا، حتی لو أن أحدا لم یرتّب الأثر معتذرا بعدم حصول الوثوق یُذّم عندهم.

وتفصیل الکلام هو: إن ملاک عملهم بخبر الثقة لا یخلو عن أربعة وجوه:

إفادته الظن الشخصی أو النوعی، أو إفادته الوثوق الشخصی أو النّوعی.

أمّا أن یقال: إنهم لا یعملون به إلاّ إذا أفاد الظن الشخصی، فهذا خلاف الواقع، ولیست سیرتهم کذلک.

وأمّا أن یقال: باعتبارهم الوثوق النوعی، فهل المراد من ذلک: حصول الظن من الخبر لنوع العقلاء، أو کون نوع خبر الثقة مفیدا للظن؟ ظاهر الشیخ هو الثانی.

لکنّ الحق عدم دوران عملهم بخبر الثقة مدار حصول الظنّ مطلقا، بل الملاک لعملهم هو الوثوق والإطمینان النوعی، وسقوط احتمال الخلاف عندهم سقوطا عقلائیّا لا فلسفیّا، بمعنی أن یکون ترتیب الأثر علی احتمال الخلاف مستقبحا عندهم، کما ذکر الشیخ.

وعلیه، فملاک حجیّة الأمارات لیس إفادة الظن النوعی عند العقلاء.

ص: 290

ثمّ إنه لو کان الخبر مفیدا للوثوق النوعی وحصل الظن الشخصی علی خلافه، فإن العقلاء لا یذمّون العامل بظنّه الشخصی التارک للعمل بالخبر المفروض إفادته للوثوق النوعی، نعم، یذمّونه لو احتمل الخلاف وأراد ترک العمل بالخبر من أجل الإحتمال. فالسیرة قائمة علی عدم الإعتناء باحتمال الخلاف للخبر المفید للوثوق النوعی، وغیر قائمة علی علی الاعتناء بالظن القائم علی خلافه. وأمّا لو شُک فی الخبر المفید للوثوق النوعی، فتحقّق السّیرة علی الإعتناء بالشکّ وعدمه مشکوک فیه، إلاّ أنْ یکون الشک غیر عقلائی، فلا یُعبأ به.

وأمّا الوثوق الشخصی الحاصل من الخبر، فلا ریب فی اعتباره، لکنّ الحجیّة حینئذٍ للوثوق، أی العلم العرفی، ولذا لو حصل من خبر غیر الثقة، کان حجةً کذلک.

وتلخّص:

إن الملاک فی حجیّة الخبر بالسیرة هو الوثوق النوعی لا الظن النوعی.

والوثوق النوعی مشروط بعدم وجود الظن الشخص العقلائی علی خلافه، وإلاّ فلا یکون حجة بالنسبة إلی الشخص الظانّ.

ثم إنه لا سیرة عقلائیّة علی العمل بخبر الإمامی الممدوح، کما فی الإصطلاح المعبَّر عن خبره ب_«الحسن»، لعدم حصول الوثوق النوعی من خبر من لم ینصّ علی وثاقته، بناءً علی اعتبار الوثوق المخبری.

ثم إذا کان الملاک هو الوثوق النوعی، فقول صاحب الکفایة _ بعد جعل

ص: 291

الإعتبار من باب الوثوق بالصّدور _ : «لعدم اختصاص دلیل اعتبار خبر الثقة ولا دلیل اعتبار الظهور بما إذا لم یکن ظن بعدم صدوره أو ظن بعدم إرادة ظهوره»(1) ینافی کون الاعتبار من باب الوثوق بالصّدور، لأنه مع وجود الظنّ بالخلاف لا وثوق بالصّدور.

ویقع الکلام حینئذٍ فی أثر إعراض المشهور، لأنْ إعراضهم عن الخبر المعتبر یورث الظنّ بالخلاف، فإذا کان دلیل الاعتبار هو الوثوق النوعی بالصّدور، فالإعراض رافع له، ولذا کان المشهور بین الأصحاب موهنّیة إعراض المشهور، ومن هنا یرد علی صاحب الکفایة القائل بالإعتبار بالوثوق بالصّدور، کیف لا یری الإعراض مضرّا؟

وهذا التنافی موجود فی کلمات الشیخ وغیره أیضا.

یقول الشیخ فی بحث الاستدلال بالسیرة: «نجد بنائهم علی العمل بالخبر الموجب للإطمینان».(2)

ویقول فی بحث الاستدلال بالأخبار: «إلاّ أن القدر المتیقّن منها خبر الثقة... ویقبّحون التوقّف فیه».(3)

ومع ذلک یقول: «کما لا إشکال فی عدم الوهنیّة إذا کان اعتبارها من باب الظن النوعی».(4)

ص: 292


1- 1. کفایة الاصول: 333.
2- 2. فرائد الأُصول 1 / 346. الطبعة الحدیثة.
3- 3. المصدر 1 / 309.
4- 4. المصدر 1 / 596.

ومع ذلک یقول فی باب التعادل والتراجیح: «ثم إنّ التعارض علی ما عرفت من تعریفه لا یکون فی الأدلّة القطعیّة،... ومنه یعلم عدم وقوع التعارض بین الدلیلین یکون حجیّتهما باعتبار صفة الظنّ الفعلی، لأن اجتماع الظنّین بالمتنافیین محال... والمراد بقولهم إنّ التعارض لایکون إلاّ فی الظنّین، یریدون به الدلیلین المعتبرین من حیث إفادة نوعهما الظن. وإنما أطلقوا القول فی ذلک، لأن أغلب الأمارات بل جمیعها عند جلّ العلماء... معتبرة من هذه الحیثیّة، لا لإفادة الظنّ الفعلی بحیث یناط الاعتبار به...(1)

وهل إنّ عمل الأصحاب بخبرٍ غیر معتبر یوجب اعتباره وجبر ضعفه کما ذهب إلیه المشهور کذلک؟

لقد تقدّم أنْ المعتبر هو إفادة الخبر للوثوق النوعی، وقد ذکروا أن عمل الأصحاب بخبرٍ یفیده من جهة أنه لولا الدلیل المعتبر أو القرینة القویّة بالخبر الضعیف لما عملوا به.

وهذا الکلام له وجهٌ، إلاّ أن المشکلة هی أن لا یکون ذلک الدلیل الذی اعتمدوه ولم یصل إلینا، أو القرینة التی لا نعلم بها، صالحةً للاعتماد عندنا.

ومن هنا کان التحقیق هو التفصیل بین الإعراض والعمل، فالإعراض موهن والعمل غیر جابر، خلافا للمشهور القائلین بکلیهما، وللسیّد الخوئی المنکر لکلیهما.

ص: 293


1- 1. فرائد الأُصول 4 / 17 _ 18. الطبعة الحدیثة.

وعلی الجملة: فإن المعتبر هو الخبر المفید للوثوق، ویکفی فی ذلک کون المخبر موثّقا، فالروایة الموثقة معتبرة کالصحیحة، ولا حاجة لأن یکون المخبر عدلاً، وترتیب الأثر علی احتمال خلاف ما یفیده خبر الثقة قبیح فی ارتکازات العقلاء، وهی القرینة الحافّة بالخطابات الملقاة إلی العرف من الأوامر والنواهی، المانعة من انعقاد الإطلاق فیها. مثلاً: دلیل تنجیس النجس بالملاقاة لیس مطلقا من حیث الرطوبة، من جهة احتفافه بالإرتکاز العقلائی القائم علی اشتراط الرطوبة المسریة، فالملاقاة بلا رطوبة مسریة غیر موجبة للنجاسة، مع خلوّ الأدلّة الشرعیّة عن هذا الشرط.

ومن هنا نقول أیضا فی حلّ مشکلة رادعیّة الآیات عن السّیرة العقلائیة: بأنّ الإرتکاز العقلائی بقبح التوقف عن قبول خبر الثقة یمنع من انعقاد الإطلاق فیها، بل إنها تنصرف بسببه إلی الظنون غیر القائمة علیها السیرة العقلائیّة.

وهذا طریق آخر لحلّ تلک المشکلة.

فإن قلت: الإستقباح المذکور محکوم بإطلاق الأدلّة.

قلنا: إنه یستلزم الدّور، لتوقف انعقاد الإطلاق فی الآیة علی عدم منع هذا الإرتکاز العقلائی، وعدم منعه یتوقف علی حکومة الإطلاق علیه.

وإلی هنا ظهر حدّ حجیّة خبر الواحد الثقة من باب السیرة العقلائیّة.

وأمّا بناءً علی حجیّته من باب الروایات، فإنْ کان لقوله: «ثقة آخذ عنه معالم دینی؟» إطلاق یعم ما قام الظنّ علی خلافه، کان خبر الثقة حجة علی الإطلاق، ولا یکون إعراض المشهور موجبا لسقوطه عن الإعتبار لکنّ التحقیق عدم تمامیّة

ص: 294

الإطلاق فی مثله، بل السؤال والجواب واردان فی مورد الإرتکاز العقلائی الذی ذکرناه، فالإطلاق غیر منعقد.

وعلیه، فالإستدلال علی حجیّة خبر الثقة بالسّیرة العقلائیّة أو بالأخبار ینتهی إلی نتیجةٍ واحدة.

وجوه القول باعتبار العدالة

وبقی الکلام فی أدلّة باعتبار العدالة فی الراوی، وهی وجوه:

1. إن خبر العدل هو القدر المتیقّن فی الخروج عن الأدلّة الناهیة عن العمل بما وراء العلم.

وفیه: قد عرفت خروج خبر الثقة أیضا، والأخذ بالقدر المتیقن موقوف علی تمامیّة الاطلاق فیها.

2. إنّ العمل بخبر الثقة غیر العادل مخالف لظاهر الآیة المبارکة «أَ فَمَنْ کانَ مُوءْمِنًا کَمَنْ کانَ فاسِقًا لا یَسْتَوُونَ».(1)

وفیه: إنّ الدلیل القائم علی حجیّة خبر الثقة دلیلٌ علی عدم إرادة الإستواء من جمیع الجهات.

3. إن منطوق آیة النبأ وجوب التبیّن من خبر الفاسق. أی سواء أفاد الوثوق أوْلا.

وفیه: إن المأمور به فی الآیة هو وجوب التبیّن، وخبر الثقة بیان بالسّیرة

ص: 295


1- 1. سورة السجدة: الآیة 18.

العقلائیّة، کما أن الأخبار المستدلّ بها علی حجیّة خبره بیانٌ بناءً علی کون الدلیل علی حجیّة خبره هو الأخبار.

4. إن الفاسق ظالم، والأخذ بقول الفاسق رکون إلیه، والرّکون إلیه منهیٌّ عنه بقوله تعالی: «وَلا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذینَ ظَلَمُوا...».(1)

وفیه: إن الرّکون لغة هو السّکون والمیل ولیس الوثوق. سلّمنا، لکنْ لیس کلّ فاسقٍ بظالم عرفا. فالدلیل أخصّ من المدّعی. علی أنّ الشبهة فی «الرکون» مفهومیّة، واندراج «الأخذ بقول الفاسق» تحته مشکوک فیه.

الاستدلال العقلی علی حجیة خبر الواحد

اشارة

واستدلّ من العقل لحجیّة خبر الواحد بوجوه:

الوجه الأوّل

اشارة

العلم الإجمالی

العلم الإجمالی، وهو إنه لا شک _ بالنظر فی أحوال الرواة ونقلة الأخبار عن الأئمة الأطهار _ فی صدور أکثرها عنهم علیهم السّلام، فلا مجال لاحتمال کذب جمیع ما بأیدینا من الروایات، فلقد کان الرواة والمدوّنون للأخبار یحتاطون فی هذا الباب أشدّ الإحتیاط، سواء فی مرحلة الأخذ، فکانوا لا یأخذون من کلّ أحدٍ ولا یکتبون عن کلّ کتابٍ إلاّ بعد الوثوق، وفی مرحلة الکتابة کذلک، فکانوا

ص: 296


1- 1. سورة هود: الآیة 113.

یحتاطون بشدّة حتی لا یقع نقصان أو زیادة، کانوا یقرأون الکتاب علی الشیخ، وبعد أن کتبوا یقابلون المکتوب علی الأصل... وهکذا... بل کان من بینهم من لا یأخذ ممّن هو ثقة لکنه یروی عن الضعفاء، وکان من بینهم من یُخرج الراوی عن البلد لکونه روی عن الضعفاء.

وعلی الجملة، فإنّا نعلم علما إجمالیّا بصدور طائفةٍ هی أکثر روایاتنا الموجودة بین أیدینا عن النبی وآله الأطهار، نقطع بصدور هذه العِدّة منها عنهم، ومقتضی القاعدة فی موارد العلم الإجمالی هو الإحتیاط بالأخذ بجمیع الأطراف، ولو فرض لزوم العسر أو اختلال النظام من الإحتیاط، وجب التنزّل إلی الظن والأخذ بکلّ خبر ظن بصدوره.

إشکالات الشیخ

وأشکل الشیخ(1) علی هذا الإستدلال:

أوّلاً: إن هذا العلم الإجمالی یکشف عن الحکم الواقعی، فلا موضوعیّة للأخبار بما هی أخبار، فالذی یوجب الإحتیاط هو العلم بوجود الأحکام الشرعیّة، ومن المعلوم أن الأحکام لیست فی مورد الأخبار فقط، بل توجد فی موارد الأمارات الاخری أیضا، فالدلیل أعم من المدّعی، لاقتضائه وجوب العمل علی طبق جمیع الأمارات.

وثانیا: إن نتیجة العلم الإجمالی هذا، هو العمل بالظن بمضامین الأخبار،

ص: 297


1- 1. فرائد الأصول : 103-104.

فکلّما ظن بمضمونٍ منها _ ولو من جهة الشهرة مثلاً _ یؤخذ به، وکلّ خبر لم یحصل الظن بکون مضمونه حکم اللّه فلا یؤخذ به وإنْ کان مظنون الصّدور. فکانت العبرة بظن مطابقة الخبر للواقع لا بظنّ الصّدور.

وثالثا: إن مقتضی هذا الوجه وجوب العمل بکلّ خبر مثبت للتکلیف للشرعی، لأنه الذی یجب العمل به، وأما الأخبار الصّادرة النافیة للتکلیف فلا یجب العمل بها، وهذا ما لا یلتزم به.

أقول:

وحاصل کلام الشّیخ: إنّ هنا علمین إجمالیین:

أحدهما: هو العلم الإجمالی بوجود الأحکام الشرعیّة فی دائرة الروایات الموجودة بین أیدینا، ویعبّر عنه بالعلم الإجمالی الصغیر.

والثانی: هو العلم الإجمالی بوجود الأحکام الشرعیّة فی دائرة مجموع ما بأیدینا من الأخبار ومن الأمارات الاُخر، کالشهرة والإجماع المنقول، وهذا هو العلم الإجمالی الکبیر.

وأمّا العلم الإجمالی بوجود الأحکام الشرعیّة بین الدائرة الکبیرة مع المشکوکات والموهومات _ بأنْ یکون هذا العلم الإجمالی هو الکبیر ویکون الثانی متوسطا _ فإنّه منحلٌّ بالمتوسّط، فلا یبقی إلاّ العلمان الإجمالیّان، ولا ثالث لهما.

ثم إنّ هذین العلمین باقیان علی حالهما، ولا ینحلّ الکبیر بالصّغیر، وحینئذٍ لا یتمّ الاستدلال، لِما تقدّم من الإشکال.

ص: 298

وقد أوضح الشیخ الإشکال: بأنّا لو فرضنا عزل طائفةٍ من الأخبار، وضممنا إلی الباقی منها مجموع الأمارات الاُخر، کان العلم الإجمالی باقیا علی حاله.

وتلخّص: إن اللاّزم مراعاة العلم الإجمالی الکبیر وعدم الاقتصار علی الصّغیر، نظیر ما إذا علمنا إجمالاً بوجود شیاه محرّمة فی قطیع غنم، بحیث تکون نسبته إلی کلّ بعضٍ منها کنسبته إلی البعض الآخر، ثم علمنا بوجود شیاه محرّمة بین خصوص طائفةٍ خاصّة من تلک الغنم _ کالشیاه السّوداء مثلاً _ بحیث لولم یکن من الغنم إلاّ هذه لعلم إجمالاً بوجود الحرام فیها أیضا، ففی هذه الصّورة، لابدّ من إجراء حکم العلم الإجمالی فی تمام الغنم، إما بالاحتیاط أو العمل بالمظنّة إذا بطل وجوب الإحتیاط للعسر والحرج.

رأی المیرزا

وقد أیّده المیرزا وقرّب مدّعاه بمثالٍ آخر وهو: إنه لو کان آنیةٌ ثلاثة فی الجانب الشرقی من الدار، وثلاثة اخری فی الجانب الغربی، ثم علم إجمالاً بإصابة أحد الشرقیّة قطرة من الدم، وعلم إجمالاً أیضا بأنه قد وقعت فی نفس الآن قطرةٌ اخری من الدم إمّا فی إناء آخر من الشرقیّة أو إناءٍ من الغربیّة، ففی هذه الحالة، لا تکون الآنیة الغربیّة طرفا للعلم الإجمالی، لاحتمال سقوط القطرة الثانیة فی الشرقیّة، لکنّ ضمّ الغربیّة إلی الشرقیّة یوجب ازدیاد أطراف المعلوم بالإجمال ولو بعد عزل ما یوجب انحلال العلم الإجمالی فی الشرقیّة، وتکون الآنیة الستّة کلّها موردا للعلم، فإنه لو عزلنا إحدی الشرقیّة ینحلّ العلم الإجمالی بنجاسة

ص: 299

إحدی الباقیتین، بسبب وقوع إحدی القطرتین فی خصوص إحداهما، لعدم العلم الإجمالی بنجاسبة أحدهما، کما لا یعلم بنجاسة أحد الغربیّة، لکنّ العلم الإجمالی بنجاسة إحدهما یتحقّق بضمّ الغربیّة إلیهما.

وحال الأمارات الظنیّة مع بقیّة الأخبار بعد عزل طائفةٍ منها، حال الآنیة بعینه، وعلیه، فالأمارات من أطراف العلم وحالها حال الأخبار.(1)

رأی المحقق الخراسانی

وذهب المحقّق الخراسانی إلی انحلال العلم الإجمالی، وسقوط إشکال الشیخ، ولابدّ من ذکر مقدّمات لفهم کلامه:

الاولی: الإنحلال تارةً: حقیقی، وهو علی قسمین: حقیقی وجدانی، فلا موضوع له وجدانا. وحقیقی تعبّدی، فلا موضوع له بالتعبّد الشرعی. واخری: حکمی، بأنْ یکون العلم موجودا، فهو موجود موضوعا لکنه بلا أثر.

والثانیة: إن العلم الإجمالی یتشکّل دائما من القضیّة المنفصلة، وانحلاله یکون بارتفاعها، إمّا وجدانا وإمّا تعبّدا وإمّا حکما.

والثالثة: إن کان الأمر دائرا بین الأقل والأکثر، فإنّ الأقل هو المتیقّن.

والرابعة: إن کان هناک علمان إجمالیّان أحدهما أوسع من الآخر، واحتمل انطباق الأوسع علی الأضیق، تحقّق الانحلال بمجرّد الاحتمال. فلو تیقّن بحرمة خمسة من الشیاة، ثم حصل الیقین بکون ثلاثة من الخمسة فی الشیاه السّود، لم

ص: 300


1- 1. أجود التقریرات 3 / 205 _ 206.

یتحقق الانحلال، لعدم انطباق الخمسة علی الثلاثة، بخلاف ما إذا علمنا بحرمة خمسةٍ من السّود، فاحتمال الإنطباق موجود والإنحلال حاصل.

ولو علمنا إجمالاً بوجود حرام فی القطیع، وتردّد العدد بین الخمسة والثلاثة، ثم علمنا بوجوده فی السود وتردّد کذلک بین الخمسة والثلاثة، أخذنا بالقدر المتیقن وانحلّ العلم الإجمالی من أجل احتمال الانطباق، لوحدة العدد.

ولا یخفی عدم الفرق فی سبب الحرمة، کأنْ یکون الوطی أو الغصب، لإمکان الانطباق، وهذا الإنحلال حکمی.

بعد الفراغ من المقدّمات:

هناک علم إجمالی بوجود الأحکام فی دائرة الکتب الأربعة، فبعضها صادر قطعا، لکنّ عددها مردد بین الأقل والأکثر _ غیر الارتباطیین _ . وهناک علم إجمالی آخر أعمّ من الکتب الأربعة من کتبنا ومن الشهرة الفتوائیّة والإجماعات المنقولة، وهی أیضا مرددة بین الأقل والأکثر.

ولمّا کان الأقلّ فی العلمین هو المتیقن، والانطباق محتمل کما ذکرنا فی مثال الشّیاه، فالعلم الإجمالی الأوسع منحلّ بالأضیق، لأنّه المتیقّن واشتغال الذمّة بالأوسع مشکوک فیه... وهذا الإنحلال حکمی.

هذا، ویبتنی کلام صاحب الکفایة علی الامور التالیة:

1. العلمان الإجمالیان عرضیّان.

2. إنه لا علم بکون عدد الأحکام أکثر ممّا فی الأخبار.

3. إحتمال إنطباق الأحکام علی ما حملته الأخبار، فالشبهة فی غیرها بدویّة.

ص: 301

وبما ذکرنا یظهر عدم انطباق مثال المیرزا علی محلّ البحث. علی أنه یرد علیه لزوم تنجّز المنجّز وهو محال، لأنّ المفروض فیه تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الآنیة الشرقیّة بوقوع القطرة الاولی، فلو أرادت الثانیة تنجیز التکلیف بالإجتناب عنها یلزم المحذور المذکور، وحینئذٍ، یکون التکلیف بالنسبة إلی الغربیّة مشکوکا فیه بالشک البدوی. اللهم إلاّ أن یقال بعدم تمامیّة هذا المطلب فی العلم المقارن، فیتم ما ذکره، لکن المحقّق فی محلّه خلافه.

بیان المحقق الإصفهانی

وقال المحقق الإصفهانی فی تقریب الوجه العقلی: تقریبه علی وجهٍ لا یرد علیه ما أورده شیخنا العلاّمة الأنصاری هو: إن العلم الإجمالی _ وإنْ کان حاصلاً بثبوت تکالیف واقعیّة فی مجموع الروایات وسائر الأمارات من الإجماعات المنقولة والشهرات وأشباهها، ضرورة أن دعوی عدم العلم بمطابقة بعض الإجماعات المنقولة والشهرات للواقع خلاف الإنصاف جدّا _ إلاّ أن مجرّد تضمّن بعض الإجماعات المنقولة وبعض الشهرات لتکالیف واقعیّة لایجدی، لاحتمال توافقها مع ما تضمّنه الأخبار الصّادرة واقعا، بحیث لو عزلت الإجماعات المنقولة والشهرات المتوافقة مع جملة من الأخبار، لم یکن منع العلم الإجمالی بثبوت تکالیف واقعیّة فیما عداها بعیدا.

فالإلتزام بالعلم الإجمالی فی مجموع الروایات وسایر الأمارات، لا یقتضی

ص: 302

الإحتیاط فی تمام الأطراف، لمکان احتمال الإنطباق علی ما تضمّنه الأخبار، فلا علم إجمالی بتکالیف اخر زیادة علی ما فی الأخبار.

ومما ذکرنا یظهر أن ما أفاده شیخنا الاستاذ هنا وفی تعلیقته الأنیقة علی الرسائل، لیس مبنیّا علی إنکار العلم الإجمالی فی الروایات وغیرها، بل مبنی علی عدم تأثیره، لمکان احتمال الإنطباق الراجع إلی قصور العلم الإجمالی عن التأثیر فی التنجّز، لا مانعیّة العلم الإجمالی فی خصوص الروایات عن اقتضاء العلم الإجمالی الکبیر للتنجّز، کما هو کذلک فیما إذا قامت الحجة المعتبرة علی بعض الأطراف.(1)

أقول:

إنْ کان المعلوم بالإجمال فی الکبیر أکثر منه فی الصغیر، فلا شبهة فی عدم الإنحلال، لأنّ المقتضی لتأثیر العلم فی الکبیر موجود والمانع مفقود، فیتم مسلک الشیخ والمیرزا.

وأمّا علی مسلک صاحب الکفایة، فالأمر دائر بین الأقل والأکثر، فکان القدر المتیقّن من الأحکام فی الشریعة المقدّسة موجودا فی دائرة الأخبار المعلوم صدورها عن أهل العصمة وإنْ احتمل وجود شئ¨ فیما عداها. لکنّ احتمال انطباق الکبیر علی الصغیر یوجب الإنحلال، لأن قوام بقاء العلم الإجمالی هو القضیّة المنفصلة _ أیْ وجود المعلوم بالإجمال فی کلّ طرف علی السواء _ وبمجرّد کون أحدها محتملاً ینحلّ العلم، لکون الشک فیه بدویّا.

ص: 303


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 255.

والحاصل: إنه مع فرض کون المورد من قبیل الأقل والأکثر واحتمال الإنطباق، فلا مناص من الإنحلال، بمعنی أن عدم تأثیر العلم الإجمالی لیس علی أثر القصور فی المقتضی أو وجود المانع، بل إنه لا یوجد العلم الإجمالی أصلاً فی طرف الدائرة الکبیرة. فقوله: «لیس مبنیّا علی عدم العلم» فیه: إن القصور فرع الوجود، وقد ظهر أنْ لا وجود للعلم الإجمالی علی مسلک المحقق الخراسانی.

علی أنْ لازم تقریبه وجود العلم فی طرف الأکثر مع دوران الأمر بین الأقل والأکثر وعدم تأثیره لقصور المقتضی، والحال أنهم لا یقولون بذلک کبرویّا.

وصاحب الکفایة وإنْ ذکر کلمة «المانع»، لکنْ لیس مراده مانعیّة العلم الإجمالی الصّغیر عن الکبیر، بل مراده ما ذکرناه، ولا مناص من حمل کلامه علیه لو فرض عدم کونه ظاهرا فیه.

وعلی الجملة، فإنّ القول بالإنحلال لا یکون إلاّ عن طریق جعل المورد من الأقل والأکثر، وهذا هو مراده من مجموع کلماته فی الکفایة والحاشیة.

بقی الکلام فی قول الشیخ:

«والحاصل: إن معنی حجیّة الخبر کونه دلیلاً متبّعا فی مخالفة الاُصول العملیّة والاصول اللّفظیّة مطلقا، وهذا المعنی لا یثبت بالدلیل المذکور».

أقول

لابدّ من تحقیق المطلب فی مقامین:

المقام الأوّل: الاصول العملیّة

ص: 304

فنقول:

إن کان عندنا علم إجمالی بتکالیف شرعیّة حملتها الأخبار، فالأحکام إمّا إلزامیّة أو ترخیصیّة، والحکم الإلزامی یکون فی مقابله: تارةً أصل موافق للخبر فی إثبات الحکم، واخری: أصل نافٍ له، والأوّل إمّا محرز کالإستصحاب، وإمّا غیر محرز کالبراءة.

فإن کان الأصل نافیا للحکم وهو غیر محرز، والخبر قائم علی حکمٍ إلزامی، فالأصل غیر جارٍ عملاً، لأنه مع العلم الإجمالی بالتکلیف الإلزامی، لا مجال لجریان الأصل.

أمّا بناءً علی وجوب العمل بالخبر من جهة العلم الإجمالی، فإنّه وإنْ کان الموضوع للأصل _ وهو الشک _ موجودا، لکنّ العلم الإجمالی مانع عن جریانه، لأنه إنْ جری فی بعض الأطراف دون بعضٍ، لزم الترجیح بلا مرجّح، وإنْ جری فی الجمیع، لزم المخالفة العملیّة للمعلوم بالإجمال.

وأمّا بناءً علی حجیّة الخبر من غیر جهة العلم الإجمالی، فلا موضوع للأصل أصلاً، لفرض وجود الدلیل علی اعتبار الخبر.

ثم إنه بناءً علی حجیّة الخبر، یجوز إسناد مضمونه إلی الشارع کما هو واضح، بخلاف ما إذا وجب العمل به احتیاطا من باب وجوب العلم الإجمالی، فإنّه لا یجوز الإسناد، لعدم العلم بکونه من الشارع، فیکون الإسناد تشریعا.

لکنْ بناءً علی الحجیّة، لابدّ من تعیین المبنی:

فإنْ قلنا: بأنّ مدلول أدلّة الإعتبار والحجیّة هو جعل الطریقیّة، أو قلنا: بأنه

ص: 305

جعل الحکم المماثل، جاز الإسناد إلی الشارع، لأنه بناءً علی الثانی، یکون للشّارع حکم فی مورد الخبر، وعلی الأوّل، یوجد علم تعبّدی بالحکم الواقعی.

وإنْ قلنا: بجعل المنجزیّة والمعذریّة، لم یجز الإسناد، لأن الشارع قد جعل الخبر منجزا لا طریقا إلیه.

فظهر عدم تمامیّة القول بعدم جواز الإسناد مطلقا، بل لابدّ من تعیین المبنی والتفصیل بالنظر إلیه.

وأیضا: فبناءً علی حجیّة الخبر، تکون لوازم مضمونه حجةً، لکونه حینئذٍ أمارة، ولوازم الأمارة حجة. وأمّا بناءً علی وجوب العمل به احتیاطا _ من باب العلم الإجمالی _ فلا، لعدم حجیّة اللّوازم.

فظهرت ثلاثة فوارق _ فی هذا الفرض _ بین ما إذا کان ملاک حجیّة الخبر هو أدلّة الإعتبار، أو کون الخبر واجب العمل من باب العلم الإجمالی، وأنه لابدّ علی القول الثانی من التفصیل المذکور بین المبانی.

وإنْ کان الأصل نافیا للحکم وهو محرز کالإستصحاب، والخبر مثبت لتکلیف إلزامی، فلا مجال لجریانه مع وجود الخبر، بناءً علی العمل به من باب العلم الإجمالی، إمّا لعدم وجود المقتضی لقصور المجعول وعلیه المیرزا، وإمّا للزوم المخالفة العملیّة، کما علیه الاستاذ. وکذلک إن کان الأصل غیر محرز، إذ لا فرق _ علی هذا المبنی _ بین الأصل المحرز وغیرالمحرز.

وأمّا بناءً علی وجوب العمل بالخبر لحجیّته بأدلّة الإعتبار، فلا موضوع للأصل، کما لا یخفی.

ص: 306

والکلام فی جواز الإسناد وعدمه، کالکلام فی الصّورة السّابقة علی المبانی.

وإنْ کان الأصل مثبتا للحکم الشرعی کالخبر، فلا یجری الأصل لعدم الموضوع، سواء کان محرزا أو غیر محرز، شرعیّا أو عقلیّا.

هذا إن کان حجیّة الخبر بأدلّة الاعتبار.

وأمّا إنْ کان الخبر حجّةً _ أی یجب العمل به _ من باب العلم الإجمالی، ففیه تفصیل، لأنه إن کان الأصل المثبت للتکلیف أصلاً عقلیّا کالاشتغال، فالمقتضی لجریانه _ أی الشک _ موجود، والمانع _ وهو لزوم المخالفة العملیّة _ مفقود. وإنْ کان أصلاً شرعیّا محرزا کالإستصحاب، فموضوع الجریان موجود کذلک، لکن لا یجری لقصور المجعول، کما علیه المیرزا. وأمّا بناء علی عدم الجریان لوجود المانع عنه _ وهو لزوم المخالفة العملیّة القطعیّة _ فالأصل جارٍ، ومع الجریان _ یظهر الأثر بناءً علی وجوب العمل بالخبر من باب العلم الإجمالی، فإنه من ناحیة الإستصحاب یمکن إسناد المضمون إلی الشارع وإنْ لم یمکن من ناحیة الخبر، کما أن الملاقی لمستصحب النجاسة محکوم بالنجاسة، مع أن الملاقی لأطراف العلم الإجمالی لا یکون محکوما بحکم الملاقی.

وإن کان الخبر نافیا للتکلیف، ولکنّ الأصل تارةً: کذلک، واخری: مثبت له، وعلی التقدیرین یکون الأصل محرزا تارةً: واخری: غیر محرز.

فإنْ کان الأصل نافیا وهو غیر محرز، فلا موضوع له حتی یجری، بناءً علی حجیّة الخبر بأدلة الإعتبار، وحینئذٍ، یجوز إسناد مدلول الخبر إلی الشارع، بناءً علی الطریقیّة أو جعل الحکم المماثل، وتکون لوازمه حجةً، لأن مثبتات الأمارات

ص: 307

حجّة. وأما بناءً علی وجوب العمل به من باب العلم الإجمالی، فالموضوع للجریان _ أعنی الشک _ موجود والمانع مفقود، لأن المانع إمّا هو لزوم المخالفة القطعیّة، وإما عدم إمکان المحرز التعبّدی علی خلاف المحرز الوجدانی، وحیث أن الأصل غیر محرز، فلا مانع.

وإنْ کان الأصل النافی للتکلیف محرزا، فإن کان المبنی عدم جریان الإستصحابین مع العلم بالخلاف فی أحدهما، لأن الإحراز الوجدانی _ لکون أحدهما خلاف الواقع _ لا یجتمع مع المحرزین التعبدیین _ فهو، وإنْ وقع الخلاف فی وجه عدم الجریان _ . هذا بناءً علی وجوب العمل بالخبر من باب العلم الإجمالی. وأما بناءً علی حجیّته بالأدلّة، فلا موضوع للأصل.

وإنْ کان الأصل مثبتا للتکلیف والخبر نافٍ له، فإنْ کان حجیّة الخبر بالأدلّة، لم یجر الأصل لعدم الشک، وإنْ کان یجب العمل به من باب العلم الإجمالی، فالموضوع موجود، فإن کان الأصل غیر محرز، فلا مانع من جریانه والإحتیاط لازم، وإن کان محرزا، لزم ملاحظة المبنی _ وعلی القول بالجریان کما هو المختار _ یکون جاریا أیضا.

تنبیه

هل مع العلم بطهارة أحد الإنائین، یجری استصحاب النجاسة فیهما، لکونها الحالة السّابقة وجریانه کذلک لا یستلزم مخالفة حکمٍ إلزامی، لکنّ أحدهما خلاف الواقع؟

ص: 308

قال الشیخ والمیرزا بالعدم، واختلفا فی وجه ذلک.

فقال المیرزا: إن المجعول بدلیل الإستصحاب قاصر عن الشمول لأطراف العلم الإجمالی، لأن مدلوله التعبّد ببقاء الحالة السّابقة، إلاّ أن التعبّد بلسان إحراز الواقع فی کلٍّ من الأطراف، أی: أنت محرز للنجاسة _ مثلاً _ فی هذا الإناء وذاک وذاک، لا یجتمع مع العلم وهو الإحراز الوجدانی لطهارة أحدها.

هذا فی الأصل المحرز.

وأمّا غیر المحرز کالبراءة، فمدلول الدلیل هو تعیین الوظیفة عند العمل بلا إحراز للواقع. فالمانع عن جریان البراءة فی أطراف العلم الإجمالی إثباتی، کما أن المانع عن جریان الإستصحاب ثبوتی کما تقدّم.

وقال الشیخ: المانع إثباتی لا ثبوتی، وهو لزوم التناقض بین صدر دلیل الإستصحاب «لا تنقض الیقین بالشک بل انتقضه بیقین أخری» مع ذیله، لأن مقتضی صدره هو إبقاء النجاسة مثلاً، ومقتضی ذیله عدم إبقائه مع الیقین اللاّحق، والمفروض تحقق الیقین وجدانا بالنقض فی أحد الأطراف.

وقال الخراسانی والعراقی بالجریان ما لم تحصل المخالفة العملیّة القطعیّة، فإذن یجری الإستصحاب _ فی بعض الأطراف _ وإنْ علمنا بمخالفة بعضها للواقع، ولا مانع من جریانه إلاّ لزوم المخالفة القطعیّة.

والوجه فی ذلک هو: إنّ کلّ طرفٍ من الأطراف واجدٌ لملاک الإستصحاب وهو الیقین السابق والشک اللاّحق، وأمّا العلم الإجمالی بطهارة أحد الإنائین _ مثلاً _ فقد تعلّق بعنوان «الأحد» والعلم إذا تعلّق بشئ¨ٍ لا یتجاوز عن متعلّقه، إذنْ، لا

ص: 309

یتعلّق العلم بالأطراف، لأن العلم یکون فی صقع النفس، ومتعلّقه فی ذلک الصقع هو «الأحد»، فإذا أجرینا الإستصحاب فی کلّ طرفٍ بخصوصه لم یمنع العلم عن جریانه، إلاّ إذا حصل المخالفة القطعیّة، فذلک هو المانع عن الجریان.

هذه هی الکبری.

ولکنّ المحقق العراقی _ القائل بجریان الأصل المحرز کما تقدّم _ یقول فیما نحن فیه بعدم الجریان، للعلم الإجمالی بصدور أخبارٍ عن الأئمة الأطهار علیهم السّلام، وهی تامّة فی الظهور والدلالة، ومع تمامیّتها کذلک، فإنه فی کلّ موردٍ یراد إجراء الأصل فیه تتحقّق الحکومة، لأنّ الخبر التام ظهورا ودلالةً یکون حاکما علی الأصل، لأنّ جریان الاستصحاب فی جمیع الأطراف لایجتمع مع العلم الإجمالی بصدور بعضها، وجریانه فی بعضها دون بعضٍ ترجیح بلامرجّح. إذن، فهقتضی القاعدة سقوط الأصل المحرز، وإنْ تمّ جریانه فی البحث الکلّی.

وقد ردّ علیه شیخنا دام بقاه

أمّا نقضا، فبأنّ المحقق المذکور یری جریان الأصل العقلی المثبت للتکلیف کقاعدة الإشتغال، مع أنّ الأصل المثبت العقلی کذلک محکومٌ بالأمارة أو هی واردة علیه، فما الفرق؟

وأمّا حلاًّ، فإن صِرف وجود الأمارة علی خلاف بعض الاصول هو المانع من جریان الأصل أو له ملاک؟ إنّ الاصول اللفظیّة تدور حجیّتها مدار کاشفیّتها عن المراد، فمثلاً: مع وجود العلم الإجمالی بوجود المخصّص علی خلاف

ص: 310

العمومات، لاتجری أصالة العموم فیها لسقوطها عن الکشف عن المراد، وأمّا الاصول العملیّة، فملاک جریانها هو الشک، ففی الاستصحاب الیقین السّابق والشک اللاّحق هو الملاک، والأمارة ملاک تقدّمها علی الأصل هو رفعها للشک رفعا تعبدیّا، إمّا حکومةً وإمّا ورودا. وهذا هو الملاک العام. وهنا الأمارة معلومة بالإجمال وهی محتملة الإنطباق بالنسبة إلی موارد الاصول، والعلم الإجمالی بوجود الأمارة لایرفع الشک من کلّ طرفٍ طرفٍ بخصوصه، لا وجدانا ولا تعبّدا، بل یرفعه فی البعض الإجمالی، وحیث أنّ الشکّ موجود فالملاک لجریان الإستصحاب موجود. فالحاصل: عدم مانعیّة الأمارة المعلومة بالإجمال عن جریان الإستصحاب فی کلّ واقعةٍ واقعةٍ من الأطراف، وصرف وجود الأمارة علی خلاف الأصل غیر اللّفظی لیس مانعا، وإلاّ لکان الیقین الإجمالی مانعا بالأولویّة القطعیّة، بخلاف الأصل اللّفظی، لأنّ المخصّص المعلوم بالإجمال وجوده یضرّ بالکاشفیّة، وهی ملاک الحجیّة للأصل اللّفظی، ومع جریان الإستصحاب فی جمیع الأطراف لا تلزم المخالفة القطعیّة ولا العملیّة، لأن الکلام فی الأصل المثبت للتکلیف.

المقام الثانی: الاصول اللّفظیة

ذکر المحقق الإصفهانی أن الاصول اللّفظیّة تسقط أمام الخبر، إنْ کانت حجیّته من باب أدلّة الاعتبار، ولا تسقط إن وجب العمل به من باب العلم الإجمالی، لأن الخبر المخصّص أو المقیّد یکون فی الصّورة الاولی أقوی حجیّةً، أمّا فی الصّورة الثانیة، فلیس بحجةٍ، فلا وجه لسقوط الاصول اللّفظیّة، فلو کان

ص: 311

العام أو المطلق حاملاً لحکم إلزامیّ وجب الأخذ به.

وذکر المحقق العراقی أنّ العلم الإجمالی بالمخصص أو المقیّد موجبٌ لسقوط الاصول اللفظیّة کذلک، فالخبر الواجب العمل به من باب العلم الإجمالی یتقدّم علی العامّ الکتابی أو العامّ المتواتر أو الواحد المحفوف بالقرینة.

وقد اختار الاستاذ هذا القول.

وتفصیل المطلب:

إن العام تارةً: مثبت للتکلیف والخاصّ نافٍ له، کما فی قوله تعالی «حَرَّمَ الرِّبا» و«لا ربا بین الوالد والولد»، والمفروض وجوب العمل بالخاصّ من باب العلم الإجمالی، وفی هذه الصّورة لمّا کان الخاصّ مرخّصا، فإنه لابدّ من الأخذ بمقتضی العام من باب الإحتیاط والإشتغال، لأنّ العامّ أفاد الحکم الإلزامی والخاصّ الواجب العمل من باب العلم الإجمالی إنما أفاد الترخیص، وهو لا یزاحم الإلزام.

والحاصل: إنه وإنْ علمنا إجمالاً بسقوط بعض العمومات، لوجود المخصّص لها، لکنّ العلم الإجمالی بوجود التکالیف الإلزامیّة بین العمومات یقتضی العمل بها کلّها من باب الإحتیاط، والمفروض أنّ المخصص فی المثال لیس إلزامیّا، فمقتضی الإحتیاط فیه ترک الرّبا بین الوالد والولد أیضا.(1)

ص: 312


1- 1. ولا یخفی أنّ ما ذکر من باب المثال، لأنّ الإحتیاط قبل الابتلاء بالربا ممکن، أمّا إذا تحقق البیع الربوی شمله «حَرَّمَ الرِّبا» ویقتضی حرمة أخذ الزیادة أو بطلان البیع _ علی القولین _ فلا یجوز التصرّف، لکنّ «لا ربا بین الوالد والولد» یقتضی الصحّة وجواز التصرّف ووجوب تسلیم مورد المعاملة، فیقع الإشکال عملاً ویکون من أمثلة الصورة الثالثة.

واخری یکون العامّ ترخیصیّا والخاصّ حکم الزامی، مثل قوله عزّ وجلّ «أَحَلَّ اللّه ُ الْبَیْعَ»(1) و«نهی النبی عن الغرر». فإن کان الخبر حجةً بالأدلّة، فلا ریب فی تقدّمه، وإن کان یجب العمل به من باب العلم الإجمالی، فالوظیفة هی الإحتیاط فی جمیع الأطراف ومنها البیع الغرری. فالنتیجة إذنْ واحدة.

وثالثةً: یکون العام والخاصّ حکمین إلزامیین، فهنا علمان إجمالیّان یقتضیان الإحتیاط بالإمتثال فی کلّ طرفٍ، إلاّ أنه غیرممکن، لأن أحدهما الوجوب والآخر الحرمة، فیدور الأمر بین المحذورین، والقاعدة التخییر عقلاً.

ولا یخفی أنه فی دوران الأمر بین المحذورین خمسة أقوال، أحدها البراءة، إلاّ أنه لابدّ من القول بالتخییر فیما نحن فیه، لأن الحاکم بالدوران هو العقل، وحکم العقل فی دوران الأمر بین المحذورین هو التخییر.

وهذا تمام الکلام فی الوجه الأوّل للدلیل العقلی الذی اختاره الشیخ وعَدَل عنه.

الوجه الثانی

اشارة

ما ذکره فی الوافیة

وحاصله: إنا نعلم بتکالیف شرعیّة ونعلم ببقائها لا سیّما الضروریّات من الدین، ولا ریب فی أن طریق ثبوت أجزاء هذه التکالیف وشرائطها هو الخبر، فإذا لم یکن خبر الواحد حجةً لوقع العمل بتلک التکالیف والضروریّات علی خلاف

ص: 313


1- 1. لا یخفی أن هذا من باب المثال، لأن الآیة وإنْ أفادت الترخیص لکنّ المترتب علی البیع حکم الزامی، وهو وجوب الوفاء بالعقد وتسلیم مورد المعاملة.

الشرع. إذن، لابدّ من القول بحجیّة الأخبار الموجودة فی الکتب المعتمدة التی عمل بها من غیر ردٍّ ظاهر لها.

وهذا الوجه یرجع إلی العلم الإجمالی بأنّ طائفةً من الأخبار التی دوّنت فی الکتب فی المعتمدة حاملةٌ لأجزاء الأحکام وشرائطها لاسیّما الضروریات من الصلاة والصّیام ونحوهما، فلابدّ من العمل بها.

إشکال الشیخ

وأورد علیه الشیخ(1) بما حاصله: إن هنا علمین إجمالیین، أحدهما: ما ذکر، والآخر: العلم الإجمالیبوجود روایات تحمل الأجزاء والشرائط فی خارج الکتب المعتمدة، فمقتضی الوجه المذکور وجوب العمل بما فی الکتب المعتمدة وغیرها.

الجواب

وقد یجاب: بأنّ تحقّق هذا العلم الإجمالی الکبیر الّذی ادّعاه الشیخ أوّل الکلام، ولو سلّم، فإنّه یتوقف إشکال الشیخ علی عدم انحلال الکبیر بالصّغیر.

وعلی الجملة، فإمّا ننفی تحقق العلم الإجمالی زائدا عمّا فی الکتب المعتمدة، وإمّا ننفی شرائط تنجیزه، فیندفع الإشکال.

لکنْ یرد علی هذا الوجه:

أوّلاً: إن هذا الوجه یفید وجوب العمل بالأخبار المثبتة للتکلیف فقط،

ص: 314


1- 1. فرائد الأُصول: 104 _ 105.

والمدّعی حجیّة الخبر الأعم من المثبت والنافی له.

وثانیا: إنّ المطلوب إثبات حجیّة الخبر بحیث یتقدّم علی الاصول العملیّة واللّفظیّة، وقد عرفت أنّ فیه تفصیلات واختلافات بحسب المبانی.

الوجه الثالث

ما ذکره فی الحاشیة

وملخّصه کما ذکر الشیخ:(1)

إن وجوب العمل بالکتاب والسنّة ثابت بالإجماع بل الضرورة من الدین والأخبار المتواترة عن أهل العصمة صلوات اللّه علیهم أجمعین. وبقاء هذا التکلیف أیضا بالنسبة إلینا ثابت بالأدلّة المذکورة، وحینئذٍ، فإنْ أمکن الرجوع إلی الکتاب والسنّة علی وجه یحصل العلم بها بحکمٍ أو الظن الخاصّ به، فهو، وإلاّ فالمتّبع هو الرجوع إلیهما علی وجه یحصل الظن منهما.

قال الشیخ:

وهذا عبارة اخری عن دلیل الانسداد الآتی.

هذا تمام الکلام فی الظنون الخاصّة. والحمدللّه

ص: 315


1- 1. فرائد الأُصول: 105.

ص: 316

الظنُّ المطلق

اشارة

ص: 317

ص: 318

قد ذکرت وجوه عقلّیة لحجیّة مطلق الظّن، وهی أربعة:

الوجه الأوّل

ما فی الرسائل من أنّ فی مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحکم الوجوبی أو التحریمی مظنّة للضّرر، ودفع الضرر المظنون لازم. أمّا الصّغری، فلأن الظنّ بالوجوب ظن باستحقاق العقاب علی الترک، کما أنّ الظنّ بالحرمة ظن باستحقاق العقاب علی الفعل. أو لأن الظن بالوجوب ظن بوجود المفسدة فی الترک، کما أنّ الظّن بالحرمة ظنّ بالمفسدة فی الفعل، بناءً علی قول العدلیّة بتبعیّة الأحکام للمصالح والمفاسد. وقد جعل فی النهایة کلاًّ من الضررین دلیلاً مستقلاًّ علی المطلب.(1)

وفی الکفایة(2) ما حاصله: إنّ الظّن بالتکلیف یستلزم الظّن بالضرر فی مخالفته، والعقل مستقلٌّ بلزوم دفع الضرر المظنون، سواء قلنا بالحسن والقبح

ص: 319


1- 1. فرائد الأُصول: 106.
2- 2. کفایة الأُصول: 308.

العقلیین أوْ لم نقل، لأن التحّرز عن الضرر المظنون بل المحتمل ممّا جبل علیه العقلاء کافّةً، بل ممّا فطر علیه کلّ ذی شعور.

الکلام حوله

ویقع الکلام فی «الصغری» و«الاستلزام» و«الکبری»، فنقول:

إن «الضّرر» هو إمّا «العقاب الاخروی» وإمّا «المفسدة الدنیویة» وإمّا «النقص فی البدن والعرض والمال».

فإن کان المراد من الضرر هو «العقاب» فالملازمة المذکورة غیر تامّة، بل الثابت هو الإحتمال حتّی فی صورة القطع. إلاّ أن یقال فی صورة القطع بالحکم الشرعی بوجود الظن بالعقاب، لأن المقتضی للعقاب علی المخالفة موجودٌ غیر أنه یحتمل الشفاعة والعفو، فیبقی الظن بالعقاب، أی: یتنزّل مع الإحتمال المذکور من القطع إلی الظن، وتکون الملازمة تامّةً فی هذه الصّورة، خلافا لظاهر کلام بعضهم.

و «الظن بالحکم الشرعی» إن کان ظنّا مقطوع الاعتبار، فإنه یلازم الظنّ بالعقاب لما ذکرنا، وإنْ لم یکن معتبرا _ لدلیل خاصّ کما فی الظنّ القیاسی، أو بالأدلّة العامّة الناهیة عن اتباع الظنّ أو غیر العلم _ فمخالفة هذا الظن غیر ملازمة لاحتمال العقاب، فضلاً عن أن تلازم الظنّ به، بل إنها تلازم القطع بعدم العقاب، لأن المفروض قیام الدلیل الخاصّ أو العامّ علی سقوط هذا الظن، وهذا یلازم _ عقلاً _ عدم مؤاخذة الشارع، فلا تصل النوبة إلی التمسک لعدم استحقاق

ص: 320

العقاب بقاعدة قبح العقاب بلا بیان، لکون الدلیل القائم علی عدم اعتبار هذا الظنّ بیانا لعدم العقاب.

وتلخّص: عدم تمامیّة الصغری فی هذا الفرض.

وإنْ کان المراد من الضّرر هو «المفسدة الدنیویّة»:

فإنّ هذا الدلیل إنما یتم علی مذهب العدلیّة القائلین بالحسن والقبح العقلیین ولایتم علی مذهب الأشاعرة. هذا أوّلاً.

و ثانیا: إنّه یتوقّف علی تبعیّة الأحکام للمصالح والمفاسد فی المتعلّقات، وفیه کلام، فقد ذهب جماعة _ منهم المحقق الخراسانی _ إلی أنها تابعة لمصالح فیها.(1)

وثالثا: یتوقف علی عدم تمامیّة الإطلاق فی أدلّة الاصول العملیّة المرخّصة، لأنه إذا کانت مطلقةً، کشف إطلاقها عن تدارک المفسدة، ومن هنا قال الشیخ: بأن أخبار الإستصحاب والبراءة إن کانت مقطوعة الصّدور، ثبت التدارک، لکن لا بالقطع، لکون دلالتها بالظهور وذلک من الظنون. وإن کانت ظنیّة الصّدور، حصل الظن بالتدارک.

و رابعا: إن مقتضی عدم لزوم متابعة الظن للأدلّة الناهیة _ وإنما قلنا «عدم لزوم المتابعة» لکونه القدر المتیقّن من تلک الأدلّة _ هو أنه لو کان هناک ضرر مترتب علی عدم المتابعة، فقد تدارک الشارع ذاک الضرر.

و خامسا: إن هذا الدلیل _ مع کلّ ما تقدّم _ أخصّ من المدّعی، لأن المصلحة

ص: 321


1- 1. انظر: فوائد الأُصول للمحقق الخراسانی، الفائدة: 337، کفایة الأُصول: 309.

إنما توجد فی الأحکام الإلزامیّة، مع أن الکبری هی: وجوب دفع المفسدة، ولیس هناک کبری مفادها وجوب جلب المنفعة والمصلحة. فیکون الدلیل مختصّا بالأحکام الإلزامیّة التحریمیّة.

وتلخّص: عدم تمامیّة الصغری فی هذا الفرض أیضا.

ثم الکلام فی الکبری، فإنّه إنْ کان الضّرر مأخوذا بالمعنی العامّ، اتّحدت المفسدة معه، لکنّ المراد من الضرر فی لسان الأدلّة هو النقص المالی والبدنی والعرضی، والمفسدة أعمّ من الضّرر، لأنها تعمّ المفسدة الشخصیّة والنوعیّة والدنیویّة والاخرویّة. وکیف کان، فهل المفسدة الشخصیّة یلزم دفعها بحکم العقل؟

إن العقل حاکم بلزوم دفع المفسدة الشخصیّة التی کشف عنها الشارع، ولکنْ هل مظنون المفسدة یجب دفعه عقلاً؟ إنّ کلّ من یقول بلزوم دفع الضرر المظنون یقول بلزوم دفع المفسدة المظنونة، فلو قلنا بالعدم من جهة العمومات الناهیة عن اتباع الظن، والاصول المرخّصة، فلابدّ وأن تکون تلک العمومات کاشفةً عن تدارک الشارع.

و بعبارة اخری: إن الأحکام الشرعیّة ألطاف فی الواجبات العقلیّة عند العدلیّة، فهی تابعة للمصالح والمفاسد، والمصالح والمفاسد تارةً: شخصیّة، واخری: نوعیّة، فتکون کبری الاستدلال تامّةً علی مذهب العدلیّة، فیما إذا کانت المصلحة والمفسدة ملزمتین، وکان غرض المولی مترتبا علی تلک المصلحة أو المفسدة، لکون العقل حاکما بلزوم حفظ أغراض المولی. لکنّ هذا کلّه إنما

ص: 322

یجری فی الغرض الذی قامت الحجة العقلیّة أو الشرعیّة علیه، ففی مثله یحکم العقل بلزوم الحفظ، فإذا لم یکن الظن القائم علی مفسدةٍ ظنّا معتبرا، والمفروض تمامیّة أدلّة النهی عن اتباع الظنّ، ثبت أن الشارع لا یرید الاتّباع، وحینئذٍ، فلا حکم للعقل. بل المفروض قیام الدلیل علی أنه لا غرض للمولی فیه، فلا تصل النوبة إلی الاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

فظهر أن الکبری أیضا غیر تامة.

أمّا إن کان المراد من «الضرر» هو «النقص فی البدن والمال أو العرض» کان الدلیل أخصّ من المدّعی، لأن الضرر بهذا المعنی یتحقّق فی بعض الأحکام الشرعیّة فقط.

الوجه الثانی

إن الأخذ بغیر الظنّ _ وهو الشک والوهم _ ترجیح للمرجوح علی الراجح، و هو قبیح عقلاً، فیتعیّن الأخذ بالظن.

وفیه:

إنه یتوقّف علی تنجّز التکلیف ولزوم الأخذ بالظن أو بالشک أو بالوهم، فی مقام الإمتثال، کأنْ تترّدد القبلة بین الجهات مع الظنّ بجهةٍ، وفرض عدم إمکان الإحتیاط بالجمع، حتی یدور الأمر بین ترجیح الظنّ أو الطرف الآخر، لکن الدوران بینهما لا یتحقق إلاّ بمقدّمات الإنسداد.

و علیه، فهذا الوجه یشکّل مقدّمةً من مقدّمات قانون الإنسداد الآتی.

ص: 323

الوجه الثالث

إن العلم إجمالاً بوجود التکالیف الإلزامیّة الکثیرة بین الشبهات یقتضی الإحتیاط فیها، وذلک یکون بالإتیان بکلّ ما یحتمل الوجوب ولو موهوما، وترک ما یحتمل الحرمة ولو موهوما، ولکنّ مقتضی قاعدة نفی العسر والحرج فی الشریعة عدم وجوب الإحتیاط علی النحو المذکور، فیکون مقتضی الجمع بین دلیل نفی العسر و الحرج ودلیل وجوب الإحتیاط، هو الأخذ بالمظنونات دون المشکوکات والموهومات، وهذا ما یعبّر عنه بالتبعیض فی الاحتیاط. ولو ارید الأخذ بالعکس لزم ترجیح المرجوح علی الراجح، وهو قبیح.

وفیه:

إنه من مقدّمات قانون الإنسداد. وهو الوجه الرّابع، وهو:

ص: 324

قانون الإنسداد

اشارة

و یقع الکلام فیه فی مقامات:

المقام الأول

اشارة

فی مقدّمات الإنسداد

و هی عند الشیخ أربعة، وعند المحقق الخراسانی خمسة:

(الاولی) العلم الإجمالی بثبوت تکالیف فعلیّة.

و (الثانیة) إنسداد باب العلم والعلمی بالنسبة إلی کثیر من تلک التکالیف.

و (الثالثة) عدم جواز إهمال التکالیف الشرعیّة.

و (الرابعة) إن الأخذ بالإحتیاط غیر جائز أو غیر واجب. وإن الاصول ساقطة عن المرجعیّة، وکذا القرعة وفتوی الفقیه، فالطرق هذه کلّها منسدة، لکنّ العمل بالتکالیف واجب کما تقدّم. إذن، لا مناص من الاکتفاء بالإطاعة الشکیّة أو الوهمیّة أو الظنیّة، والأمر دائر بین هذه الامور.

و (الخامسة) أن تقدیم الشک والوهم فی العمل ترجیح للمرجوح علی الراجح وهو الظن. وهو قبیح.

ص: 325

فیتعیّن الأخذ بالظن.

والشیخ لم یذکر المقدمة الاولی منها.

و ذکر الشیخ _ فی المقدمة الثالثة _ وجوها علی عدم جواز الإهمال، هی: (الإجماع) و(لزوم المخالفة القطعیّة والخروج من الدین) و(العلم الإجمالی).

فکان العلم الإجمالی بالتکالیف من أدلّة المقدّمة الثالثة عند الشیخ، لکنّ صاحب الکفایة جعله المقدّمة الاُولی.

وقد وقع ذلک موقع الکلام بین الأعلام:

رأی المیرزا

فقال المیرزا: بأنّ الشیخ أسقط هذه المقدّمة، نظرا إلی أنّ المراد من العلم بثبوت التکالیف إنْ کان هو العلم بثبوت الشریعة وعدم نسخ أحکامها، فهذا من البدیّهیات التی لا ینبغی عدّها من المقدّمات، فإنّ العلم بذلک کالعلم بأصل وجود الشارع. وإن کان المراد من العلم بثبوت التکالیف العلم الإجمالی بثبوتها فی الوقائع المشتبهة التی لایجوز إهمالها، فهو أیضا لیس من مقدّمات دلیل الإنسداد، بل هو من أحد الوجوه الثلاثة التی تبتنی علیها المقدمة الثانیة علی ما سیأتی بیانه.

فالأولی الإقتصار علی ما ذکره الشیخ قدّس سرّه من المقدّمات الأربع.(1)

ص: 326


1- 1. فوائد الأُصول 2 / 226 وانظر: أجود التقریرات 3 / 223.
رأی الإصفهانی

لکنّ المحقق الإصفهانی قال: بأنّ إسقاطها إنْ کان لأجل عدم المقدمیّة، فمن الواضح أنه لولاها لم یکن مجالٌ للمقدّمات الأخر إلاّ بنحو السّالبة بانتفاء الموضوع، وإنْ کان لوضوح هذه المقدّمة لدلالة سائر المقدّمات علیها، فمن الواضح أنّ وضوحها لایوجب عدم مقدّمیّتها ولا الإستغناء بذکر الباقی عن ذکرها وإلاّ کان بعضها الآخر کذلک بل بعضها أوضح.(1)

رأی السید الخوئی

وتبع السید الخوئی المیرزا فقال:

والصحیح ما صنعه الشیخ، إذ لو کان مراد صاحب الکفایة من المقدّمة الاولی هو العلم الإجمالی بثبوت تکالیف فعلیّة فی حقّ کلّ مکلّف ممّن یجری دلیل الإنسداد فی حقّه کما هو ظاهر کلامه، فهذه المقدّمة هی بعینها المقدّمة الثالثة فی کلامه، إذ معنی العلم بالتکالیف الفعلیّة أنه لایجوز إهمالها وعدم التعرّض لامتألها. وإنْ کان مراده هو العلم بأصل الشریعة لاالعلم بفعلّیة التکالیف فی حقّنا، فلاوجه لجعل ذلک من مقدّمات الإنسداد وإنْ کان صحیحا فی نفسه، لأنّ المقصود ذکر المقدّمات القریبة التی یتألّف منها دلیل الإنسداد لا المقدّمات البعیدة، وإلاّ لزم أنْ یجعل من المقدّمات إثبات الصّانع...(2)

ص: 327


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 271 _ 272.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 219 _ 220. وانظر: دراسات فی علم الأُصول 3 / 206 _ 207.

والمحقق المشکینی(1) ذکر _ بالنظر إلی ما ذهب إلیه صاحب الکفایة من أنّ للأحکام أربع مراحل:

إن المقدّمة الثالثة جاءت لبیان مرحلة التنجّز، فلاتکون المقدّمة الاولی مغنیةً عن الثالثة.

وفیه: إنَّ المحقّق الخراسانی لایفّرق فی التنجیز بین العلم الإجمالی والتفصیلی.

رأی السیّد الاستاذ

والسیّد الاستاذ رحمه اللّه بعد أن ذکر بعض الکلمات قال: ولا یخفی أن هذا الحدیث بین الأعلام أشبه باللّفظی، فإن دخالة وجود العلم الإجمالی بالأحکام وتأثیره فی تمامیّة الدلیل مما لا ینکر، إنما البحث فی ذکره مقدمةً بالإستقلال وعدم ذکره کذلک بل استفادته من طیّ الکلام، وهذا المعنی لیس بهم. ونستطیع أنْ نقول إن الشیخ أخذ وجود العلم الإجمالی فی جملة المقدّمات، إذ فرض وجود الواقعیّات التی لایجوز إهمال امتثالها وفرض إنسداد باب العلم والعلمی ملازم للعلم الإجمالی، ولولاه لما کان للمقدّمات الاخری موضوع ومجال.

نعم، یختلف الشیخ عن صاحب الکفایة فی أنّ تنبیهه علی العلم الإجمالی بالالتزام، بخلاف صاحب الکفایة، فإنه نصّ علیه مطابقةً وصریحا. والأمر سهل.(2)

ص: 328


1- 1. کفایة الأُصول مع حواشی المشکینی 3 / 384.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 325.

أقول:

لکنّ جعل هذا البحث بین الأساطین أشبه باللّفظی بعید جدّا، فإنّ الشیخ رحمه اللّه جعل العلم الإجمالی من أدلّة المقدّمة الثالثة لامن المقدّمات، وقد فهم السیّد الاستاذ نفسه هذا حیث قال:

أمّا المقدّمة الثالثة، فهی قطعیّة لا تقبل التشکیک. واستدلّ علیها الشیخ بوجوه ثلاثة:

الأول: الإجماع...

الثانی: استلزام الإهمال للمخالفة القطعیّة...

الثالث: العلم الإجمالی...(1)

وهذا تهافت. ولعلّه من المقرّر رحمه اللّه.

دفاع شیخنا الاستاذ عن الکفایة

وأقول:

لکنّ شیخنا الاستاذ أجاب فی الدورتین عن إشکال المیرزا وتلمیذه المحقّق علی الکفایة بما حاصله:

إنّ ما نحن فیه من قبیل العلم الإجمالی المتعلّق بتکالیف مع الإضطرار إلی إرتکاب البعض غیر المعیَّن منها، أی: إن ارتکاب هذا البعض رافع للاضطرار والإحتیاط الذی هو غیر واجب أو غیرجائز، وهکذا علم إجمالی غیرمنجزّ عند صاحب الکفایة، وعلی هذا المبنی، لابدّ من ذکر المقدّمة الثالثة للتنبیه علی أنّ هذا

ص: 329


1- 1. المصدر 4 / 331.

العلم الإجمالی وإنْ کان متعلّقا بتکالیف کذائیّة إلاّ أنه یجب ترتیب الأثر علیه ولایجوز إهماله فی هذا المقام لخصوصیّةٍ فیه، وهی أنه لو خالفه لزمت المخالفة القطعیّة والخروج من الدین.

لکنّ صاحب الکفایة یری أنّ الإضطرار من حدود التکلیف وأنه مانع من فعلیتّه، ولذا یکون العلم الإجمالی بالبعض غیر المعیّن غیرمنجزّ، وهنا قد صرّح بأنه متعلّق بتکالیف فعلیّة. فیرد علیه الإشکال من جهة أنّ معنی جعل التکالیف فعلیّةً عدم مانعیّة الإضطرار عن فعلّیتها، فالعلم الإجمالی متعلّق بتکالیف فعلیّة فلایجوز إهمالها، فلا حاجة إلی المقدّمة الثالثة.

لکنّ الظاهر أن صاحب الکفایة بصدد بیان المطلب وإتمام المسألة علی جمیع المبانی حتی مبنی المحقق الخونساری القائل بأنّ العلم الإجمالی بالتکالیف الفعلیّة غیر منجزّ، بل یعتبر فی التنجیز تمیّز متعلّق التکلیف. فکان ذکر المقدّمة الثالثة لغرض بیان أنه لایجوز الإهمال حتی علی المبنی المذکور.

فالإشکال مندفع.

دفاع العراقی عن الکفایة

هذا، وللمحقّق العراقی(1) رحمه اللّه بیانٌ فی توجیه المقدّمة الاولی کما صنع فی الکفایة، فقال ما حاصله:

تارةً نقول: بأنّ نتیجة المقدّمات هو التبعیض فی الإحتیاط لا حجیّة الظنّ. أی: أن علی المکلّف الأخذ بالمظنونات فی مقام الإمتثال وترک المشکوکات

ص: 330


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 146.

والموهومات، فیکون الظنّ معتبرا فی مقام الإطاعة وسقوط التکلیف. واخری نقول: بأنّ النتیجة حجیّة الظنّ واعتباره _ فی مرحلة ثبوت التکلیف _ حکومةً أو کشفا علی الخلاف. فعلی الأوّل یُحتاج إلی المقدّمة الاولی، وذلک، لأنه مع فرض إنسداد باب العلم والعلمی یتحقّق الشک وهو موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فیلزم إجراء البراءة فی کلّ مسألةٍ مسألةٍ، ولکنْ لایجوز الرجوع إلی البراءة، إمّا للعلم الإجمالی، وإمّا للزوم الخروج من الدین، وإمّا للإجماع. ولایقال: هذا الإجماع لیس بحجّةٍ، لأنّ المعتبر إجماع القدماء والمسألة غیرمعنونة فی کلماتهم. لأنا نقول: لو کانت معنونةً فی کلماتهم لکانت فتواهم عدم جواز الرجوع إلی البراءة هنا قطعا، وإنما لم یعنونوها لأنهم کانوا یرون الإنفتاح.

ولکن، إذا کان المدرک لعدم جریان القاعدة هو العلم الإجمالی، فإنه لمّا کان العلم الإجمالی منجزّا، فلامعنی لأن یکون الظنّ منجزّا للتکلیف ومثبتا له، فلابدّ من أنْ تکون حجیّة الظنّ لمرحلة إسقاط التکلیف.

فظهر الفرق بین مقامی الثبوت والسقوط، وظهر أن من یقول بحجیّة الظن فی مقام السقوط یحتاج إلی المقدّمة، ومن یقول بحجیّة الظن فی مقام الثبوت، فلا وجه لأنْ یذکرها فی المقدّمات.

وببیانٍ آخر: المقدّمة یجب أن تکون محفوظةً فی ظرف النتیجة وإلاّ لم تحصل، فإن کان مقدّمة الدلیل العلم الإجمالی، فعند استنتاج حجیّة الظنّ لإثبات التکلیف یجب أنْ یکون العلم الإجمالی محفوظا، والحال أنه مع ثبوته ینحل. فإذن، جعل العلم الإجمالی مقدّمةً یستلزم القول بالتبعیض فی الإحتیاط بالأخذ

ص: 331

بالمظنونات فی مقام الإمتثال والإطاعة وسقوط التکلیف، وحینئذٍ یتوجّه علی الشیخ القائل بالتبعیض فی الإحتیاط أنه لماذا لم یجعل العلم الإجمالی مقدّمةً؟

الإشکال علیه

وقد أشکل علیه شیخنا فی الدّورتین بما حاصله:

إنه لا معنی لقیام الإجماع علی التکلیف غیرالمنجزّ، ولا معنی للزوم الخروج من الدین من مخالفة التکلیف غیرالمنجزّ، فلا محالة تکون التکالیف منجزّة بالعلم الإجمالی، إذن، لایمکن تصوّر الخروج من الدین إلاّ مع العلم الإجمالی. هذا نقضا.

وأمّا حلّا، فإن العلم الإجمالی منجزّ بالنسبة إلی کلّ واحدٍ واحدٍ من الأطراف، ولکن إقامة الطریق إلی الأطراف المنجزة بالعلم لامحذور فیها. نعم، یمکن الإشکال بناءً علی أنّ مدلول دلیل اعتبار الطرق والأمارات هو المنجّزیة، فیلزم تنجیز المنجّز وهو تحصیلٌ للحاصل. إلاّ أن من الممکن دفعه: بأنّ العلم الإجمالی منجّز بالنسبة إلی الجامع بین الأطراف لا بالنسبة إلیها، فلا مانع من منجعل المنجّز بالنسبة إلی الطرف والمقتضی موجود. إلاّ أنْ یقال: بأنّ العلم الإجمالی یقتضی الموافقة القطعیّة فی جمیع الأطراف، ولکنّ هذا فیه بحث کما لایخفی.

وأمّا أنّ المقدّمة إن کانت العلم الإجمالی فإنّه ینحلّ بقیام الأمارة والطریق. فیردّه: ما تقدّم من أنّ القائل بالإجماع ولزوم الخروج من الدین یعترف بالعلم الإجمالی. فإنْ قیل: القائل بالإجماع لا یجعل العلم الإجمالی من المقدّمات، فلا یرد النقض. قلنا: إن کان العلم الإجمالی مقدّمةً بحدوثه وبقائه، کان الإشکال واردا،

ص: 332

لانحلاله بقاءً، وأمّا إنْ کان مقدّمةً بحدوثه فقط فلا ینافی عدم بقائه بعد ذلک. نظیر وجوب الفحص فی الشبهات الحکمیّة، فإنه من جهة العلم الإجمالی بالتکلیف، فهو مقدّمة للفحص، ومع الظفر بالطریق ینحلّ. نعم، للمحقق العراقی أنْ یقول: بأنّ هذا العلم قد أفادنا لزوم الفحص والوصول إلی الطریق، وهو ینحلّ بالوصول، وفیما نحن فیه یتحقّق الإنحلال بنفس الوصول، فلیس للعلم الإجمالی نتیجة إلاّ الوصول إلی الظن.

وحاصل الجواب عمّا ذکره رحمه اللّه هو: أنه لا دلیل علی لزوم بقاء المقدّمة بعد الوصول إلی النتیجة، وإذن، یمکن القول بالتبعیض فی الإحتیاط أو القول بالحکومة أو الکشف علی جمیع التقادیر، أی: سواء قلنا بالإجماع ولزوم الخروج من الدین أو قلنا بالعلم الإجمالی.

وقال المیرزا رحمه اللّه: إن کان الوجه هو الإجماع والخروج من الدین، فلا مناص من القول بالکشف. وسنتعرّض لکلامه فی محلّه إن شاء اللّه.

المقام الثانی

اشارة

فی تمامیّة المقدّمات وعدمها

المقدمة الاولی

أمّا الاولی، فقد ذکر المحقق الخراسانی:(1) إنها وإن کانت بدیهیّة إلاّ أنه قد عرفت انحلال العلم الإجمالی بما فی الأخبار الصّادرة عن الأئمة الطاهرین التی

ص: 333


1- 1. کفایة الأُصول: 312.

تکون فیما بأیدینا من الروایات فی الکتب المعتبرة، ومعه، لا موجب للإحتیاط إلاّ فی خصوص ما فی الروایات، وهو غیر مستلزم للعسر، فضلاً عما یوجب الإختلال.

أقول:

فحاصل الإشکال علی المقدّمة الاولی کون باب العلمی مفتوحا.

بل یمکن القول بالإنحلال علی فرض إنسداد باب العلمی أیضا، بالعلم الإجمالی بوجود أحکام فی أخبار الثقات وفی الأخبار الموثوق بها، ولا علم لنا بوجود الأحکام فی خارج هذه الأخبار، إلا علی مبنی الشیخ القائل بوجود علم إجمالی کبیر تدخل فی أطرافه الإجماعات والشهرات.

و بالجملة، فالمقدّمة الاولی غیر تامة عند صاحب الکفایة.

المقدمة الثانیة

و أمّا المقدمة الثانیة، فلا ریب فی إنسداد باب العلم علینا، لأن حصول العلم یتوقف علی القطع بالصّدور، وعلی أن یکون الکلام الصّادر نصّا فی المدلول، ومع انتفاء أحد الأمرین ینتفی العلم.

وأمّا إنسداد باب العلمی، فیتوقف علی عدم حجیّة خبر الواحد من الناحیة الکبرویّة. وأمّا بناءً علی حجیّته کذلک، فقد أشرنا إلی وجود الخلاف، فقد ذهب جمع من الأساطین إلی اعتبار خبر الإمامی العدل فقط، وعلی هذا المسلک فباب العلمی منسدّ، لعدم القدر الوافی من الأخبار عن الرواة الإمامیین العدول بکلّ الأحکام المعلومة بالإجمال.

ص: 334

و أمّا علی المسلک المعروف من کفایة وثاقة الراوی _ وإنْ لم یکن إمامیّا ولم یکن عدلاً _ فالوثاقة من أی طریق تثبت؟ إنْ قلنا: بأنها لا تثبت إلاّ بشهادة العدلین، لخبر مسعدة بن صدقة: «والأشیاء کلّها علی هذا حتی تستبین أو تقوم به البیّنة» بناءً علی تمامیّته سندا ودلالة، فالإنسداد حاصلٌ، لعدم تحقّق هذا الشرط إلاّ فی مقدارٍ قلیل من الأخبار لا یفی بالأحکام المعلومة بالإجمال. وإن قلنا: بأنها تثبت بتوثیق الواحد المخبر عن حسّ، إمّا من جهة حجیّة خبر الثقة فی الموضوعات، أو من جهة عدم الإحتیاج إلی شهادة العدلین فی الموضوع الذی هو طریق لإثبات الحکم الشّرعی، فالإنسداد غیر حاصل. أمّا لو کان إخباره عن الوثاقة عن اجتهادٍ، فلا عبرة به ولا یتم الإنفتاح.

هذا کلّه بالنسبة إلی السّند.

ثم الکلام بالنسبة إلی ظهور الأخبار المعتبرة، فلاریب فی اعتبار ظهورها فی المدلول حتی یتمّ الإنفتاح، وقد وقع الخلاف، فی أنّ الظهورات مختصّة بالمقصودین بالإفهام أو غیر مختصّة بهم؟ فعلی الأوّل یتمّ الإنسداد.

ثم إنه قد یتحقّق الإنفتاح ببعض الطرق، کما لو حصل الوثوق الشّخصی بمضامین الأخبار بواسطة کثرة النظر فیها والاستیناس بها، أو بوجود الخبر فی أحد الاصول المعتبرة لأصحاب الأئمة علیهم السلام کما قال المحقق الخراسانی، و کما لو قلنا بجبر الشهرة لضعف الخبر کما علیه المشهور _ وإن کان خلاف التحقیق _ ، فإنه بناءً علیه ینفتح باب العلمی، لأن مجموعة الأخبار الموثوق بها والضعیفة المنجبرة بعمل المشهور تفی بالأحکام المعلومة بالإجمال. وکما لو قلنا

ص: 335

بحجیّة خبر الواحد الثقة فی الموضوعات التی تنتهی إلی الأحکام الشرعیّة، کما علیه السیّد الحکیم، فإن هذه الأخبار بالإضافة إلی الأخبار الآحاد الحاملة للأحکام الشرعیّة تفی بالأحکام الشرعیّة المعلومة بالإجمال.

ثم إن صاحب الکفایة ذکر فی الحاشیة: بأنْ ظاهر الخبر الدالّ علی حجیّة خبر الثقة هو أنّ الملاک للحجیّة هو الوثوق بخبره لاکون المخبر ثقةً، وإذا کان الخبر الموثوق به حجةً _ أعمّ من وثاقة المخبر وعدمها _ فالإنفتاح حاصل. وکذا علی القول بحجیّة خبر الثقة وکلّ خبر موثوق بصدوره بالوثوق الشخصی، کما هو المختار.

المقدمة الثالثة

إنه لا شبهة فی لزوم التعرّض للأحکام الشرعیّة، وقد ذکر الشیخ لذلک ثلاثة وجوه وتبعه علیها غیره، وهی:

1. الإجماع.

و هذا الإجماع تقدیری لا تحقیقی، لعدم کون المسألة معنونة فی کلمات القدماء، فلو تعرّضوا لها لقالوا جمیعا بذلک، ولقالوا بالإنسداد عند تمامیّة مقدّماته.

لکنّ هذا الإجماع لیس بالإجماع الحجّة الکاشف عن رأی المعصوم.

2. لزوم المخالفة القطعیّة بترک التعرّض.

فإنّه إذا ترک، لزمت المخالفة القطعیّة لکثیر من الأحکام الشرعیّة، والشارع لا یرضی بذلک بالضرورة، بل قیل إنّه یستلزم الخروج من الدین، لا بمعنی الکفر،

ص: 336

بل بمعنی سقوطه عن الصّلاحیّة لتوجیه الخطاب إلیه، کما یفهم من کلام شیخ الطائفة، فلا ترد إشکالات المحقق المشکینی.

3. العلم الإجمالی.

فإنا نعلم إجمالاً بوجود التکالیف الإلهیّة المطلوبة من المکلّفین من قبل الشّارع، وهذا العلم یمنع من الإهمال وترک التعرّض.

قال المیرزا(1): إن کان وجه المنع من الإهمال هو الإجماع أو لزوم الخروج من الدین، فلابدّ من الإلتزام بالکشف، إذ العقل یستکشف حینئذٍ حجیّة الظن شرعا، لأن الشارع قد جعل طریقا إلی التکالیف المطلوبة، فإمّا هو الإحتیاط کما جعله فی الفروج والدماء، لکن المفروض عدم وجوب الإحتیاط، فیتعیّن أن یکون الطریق هو الظن. وأمّا إن کان وجه المنع هو العلم الإجمالی، فللعقل الحکم بلزوم الإحتیاط، ومع سقوط الإحتیاط _ لعدم وجوبه أو عدم جوازه کما سیأتی _ یلزم التبعیض فی الأحکام بحکم العقل أو أنه یحکم العقل بمتابعة الظن، وتکون النتیجة هی الحکومة.

المقدمة الرابعة

إنه یجب مراعاة الأحکام ویحرم إهمالها، ولکن کیف تراعی؟ بالأخذ بفتوی الفقیه؟ أو بالقرعة؟ أو بالتمسّک بالاصول العملیّة؟ أو العمل بالإحتیاط؟

إن دلیل الإنسداد یتوقف علی سقوط کلّ هذه الطرق حتی ینحصر الطریق بالظنّ.

ص: 337


1- 1. أجود التقریرات 3 / 224.

قال المحقق الخراسانی: الإحتیاط إما غیر واجب وإما غیر جائز.

أقول:

إن کان الإحتیاط غیر ممکن أو موجبا للعسر المخلّ بالنظام، فلا کلام فی عدم وجوبه، وأمّا إن کان عسره غیر موجب لاختلال النظام، فلا یرتفع بأدلّة نفی العسر والحرج. قال فی الکفایة(1): وأمّا فیما لا یوجب، فمحلّ نظر بل منع، لعدم حکومة قاعدة نفی العسر والحرج علی قاعدة الإحتیاط.

و توضیح کلامه هو: إنه قد وقع الخلاف بین الشیخ والمحقق الخراسانی فی مفاد أدلّة نفی الضّرر والعسر والحرج، فذهب الشیخ إلی أن مفادها نفی کلّ حکم یکون منشأً للضّرر والعسر والحرج، وقال الخراسانی: إنها تنفی الحکم بلسان نفی الموضوع، أی: إن الموضوع الحرجی _ مثلاً _ لیس له حکم فی الشریعة.

فعلی القول الأوّل: یمکن التمسک بتلک الأدلّة فی محلّ الکلام، لأنه فی ظرف الإنسداد تکون الأحکام المعلومة بالإجمال منشأً للعسر والحرج والضّرر. أمّا علی الثانی فلا، لأن الحرج یتحقق من ناحیة الإحتیاط بالجمع بین المحتملات لا من ناحیة متعلّقات الأحکام، فلا تکون تلک القواعد حاکمةً علی الأحکام الأوّلیة، فلا یرتفع الإحتیاط فی ظرف الإنسداد بمناط الحرجیّة والضّرر والعسر.

ص: 338


1- 1. کفایة الأُصول: 313.
إشکال المحقق الخوئی

و قد أشکل علی صاحب الکفایة:

أمّا من حیث المبنی، فبأنّ أدلّة تلک القواعد ظاهرة فی رفع الأحکام الموجبة للعسر والضرر والحرج، لا فی رفع متعلّقات الأحکام، ولیس مفادها من قبیل رفع الحکم بلسان رفع الموضوع، لأن العمل الضّرری غیر مذکور فی لسانها، و إنما المذکور هو لفظ «الضرر» وهو لیس عنوانا للفعل لیکون الرفع عائدا الی الفعل الضّرری ومتعلّقا به، فلو کان المراد نفی الحکم بلسان نفی الموضوع لکان المفاد نفی حرمة الضرّر، کما هو الحال فی «لا ربا بین الوالد والولد» ونحوه، فإن المراد نفی حرمة الرّبا بینهما، ولو کان المراد من «لا ضرر...» نفی الحکم بلسان نفی الموضوع، لکان المعنی نفی حرمة الإضرار بالغیر، وهذا باطل.

و أما من حیث البناء، فبأن قاعدة نفی الحرج والعسر والضرر حاکمة علی قاعدة الإحتیاط فی المقام حتی علی مبناه، حیث تکون أطراف الشبهة من الوقائع التدریجیّة، لأن الحرج یتحقّق بالأفراد الأخیرة من الشبهة. مثلاً: لو فرض تعلّق النذر بصوم یوم معین، ثم تردّد ذلک الیوم بین الخمیس والجمعة، وفرض کون الصّوم فیهما معا حرجیّا علی الناذر، فإنه إذا صام یوم الخمیس یعلم بعدم وجوب صوم الجمعة علیه، لأن الحرج یتحقّق بالفرد الأخیر من الشبهة، لأن التکلیف الحاصل بسبب النذر، إن کان متعلّقا بالخمیس فقد امتثل، وإن کان متعلّقا بالجمعة فمتعلّقه حرجی فعلاً، یرفعه قاعدة نفی الحرج.

وما نحن فیه کذلک، لأن الشبهات التی یلزم الحرج أو الضرر من الإحتیاط

ص: 339

فیها طولیّة تدریجیّة لا عرضیّة، فلا یکون الإحتیاط فیها واجبا علی کلا المسلکین، فلا ثمرة بینهما فی مثل المقام.

نعم، تظهر الثمرة فی الوقائع العرضیّة، وفی خیار الغبن، بناءً علی أنّ دلیل هذا الخیار هو قاعدة نفی الضّرر، فعلی مبنی الشیخ، یکون الحکم بلزوم العقد ووجوب الوفاء به ضرریّا، أمّا علی مبنی المحقق الخراسانی، فمتعلّق الحکم هو العقد وهو لیس بضرری.

هذا إشکال السید الخوئی تبعا للمشکینی.

الجواب عنه

ولکن یمکن دفع الإشکال علی المبنی، بأن یقال: إن سبب الوقوع فی العسر والحرج لیس الأطراف المتأخّرة وحدها، بل هو الجمع بین الأطراف المتقدّمة والمتأخرة، والقول بأنه المتأخرة فقط مسامحة، لکنّ الملاک فی موضوعات الأدلّة هو الدقّة العرفیّة، فاللاّزم أن یکون متعلّق الحکم حرجیّا أو ضرریّا، وحینئذٍ یرتفع الحکم، کما فی الوضوء فی الهواء البارد، _ وإن کانت برودة الهواء هی المنشأ للضرر والحرج _ فیرتفع الحکم ویجب التیمّم، أمّا فیما نحن فیه فلیس کذلک، بل الحرج ینشأ من الجمع بین أطراف الشبهة.

و علی الجملة، فإنه إن کان الموضوع بنفسه حرجیّا ارتفع حکمه بالأدلّة کما فی مثال الوضوء، وأمّا الحرج اللاّزم من الجمع بین المحتملات فلا تشمله الأدلّة، و مع الشک فی الشمول، فالقدر المتیقّن من جریانها ما إذا لم یکن الحرج ناشئا من الجمع بین المحتملات.

ص: 340

و أمّا الشیخ، فمبناه إن أدلّة القواعد إنما ترفع الأحکام الحرجیّة والضرریّة، أی إن نفس الحکم الحرجی المعلوم بالإجمال _ فی المقام _ یرفعه دلیل نفی العسر والحرج والضّرر، فالمراد من «الدین» فی آیة نفی الحرج هو الأحکام، کما أنه المراد من «الإسلام» فی دلیل نفی الضرر.

و لو قیل: لیس الحرج فیما نحن فیه فی جعل الحکم، وإنّما جاء من جهة الجهل به وحکم العقل بلزوم الإحتیاط لوجود العلم الإجمالی.

فالجواب: إنّ الآیة دلّت علی عدم جعل الحکم الحرجی، سواء کان حکما مجعولاً من الشارع من دون وساطة العقل أو مع وساطته.

لکنّ المهم _ علی مسلک الشیخ _ هو أنّ مقتضی العلم الإجمالی أو الإجماع أو لزوم الخروج من الدین، هو مراعاة الأحکام، ویتحقق ذلک بالإحتیاط، وأمّا الحرج، فینتفی برفع بعض الأطراف. وعلی هذا، فالقواعد جاریةٌ ولکنها لا تفید إثبات حجیّة الظنّ بل یلزم التبعیض فی الإحتیاط، سواء فی المظنونات والمشکوکات والموهومات.

فالإحتیاط غیر ساقط علی کلا المسلکین، فالمقدّمة الرّابعة غیر تامّة.

هذا بالنسبة إلی الإحتیاط.

و أمّا الاصول:

فإن الأصل، إمّا مثبت للتکلیف وإمّا ناف، والأوّل، إمّا محرز وإمّا غیر محرز.

أمّا الأصل غیر المحرز، فالمقتضی لجریانه موجودٌ والمانع مفقود، فتجری قاعدة الإشتغال.

ص: 341

أقول:

هکذا قال شیخنا فی الدّورة السّابقة، ولکنّ الظاهر وجود المانع، لأنَّ إجراء الإشتغال فی البعض المعیّن بلا مرجّح والمردد لاوجود له، وفی الجمیع فیلزم الإحتیاط التام وهو باطل. ومن هنا عدل فی الدورة اللاّحقة واعترض علی السیّد الخوئی إذ قال بالجریان بلا مانع.(1)

و أمّا المحرز کالإستصحاب، فإنْ لم یلزم من جریانه العلم بمخالفة الواقع، فالمقتضی لجریانه _ وهو الشک اللاّحق _ موجود والمانع مفقود، وأمّا إن لزم من جریانه العلم الإجمالی بمخالفة بعضه للواقع، فهل یجری؟

إن المانع الثبوتی عن الجریان فی نظر الشیخ وصاحب الکفایة هو لزوم المخالفة العملیّة، فإذا کان الأصل المحرز للتکلیف فهی غیر لازمةٍ، فلا مانع من الجریان.

المانع الثبوتی عند المیرزا والجواب عنه

لکنّ المیرزا(2) ذکر محذورا ثبوتیّا، ولو تمّ برهانه علی ذلک، لجری أیضا فی الأصل النافی الذی علم بمخالفة بعضه للواقع، وهو: لزوم اجتماع تعبّدین، أحدهما علی خلاف الواقع المعلوم بالإجمال. مثلاً: لو علم بنجاسة أحد الأناءین سابقا، کان نتیجة إجراء الإستصحاب فی کلیهما، هو التعبّد بنجاستهما، وهذا

ص: 342


1- 1. دراسات فی علم الأُصول 3 / 215.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 227.

التعبّد لا یجتمع مع العلم بطهارة أحد الإناءین.

و فیه: إنه لا یلزم من ذلک إلاّ المخالفة الإلتزامیّة، لأن أرکان الإستصحاب فی کلٍّ من الإناءین تامة، ولا تتزلزل بالعلم بطهارة أحدهما، ولا یلزم أیّ محذورٍ عملی. و أمّا الموافقة الإلتزامیّة فغیر واجبة.

المانع الثبوتی عند الإصفهانی

و ذکر المحقق الإصفهانی(1) محذورا ثبوتیّا آخر، وهو لزوم اجتماع المثلین، کما لو استصحب وجوبهما مع العلم بوجوب أحدهما، أو النقیضین کما لو استصحب عدم وجوبهما مع العلم بوجوب أحدهما.

و ما ذکره یبتنی علی امور:

الأول: إن احتمال اجتماع الضدّین أو المثلین محال مثل القطع بالإجتماع.

والثانی: إن الإعتبار یحتاج إلی الملاک وعدمه یحتاج إلی عدم الملاک. هذا فی مرحلة الإعتبار، وعندما لا یکون من الشارع اعتبار فی موردٍ، یکون عدم الإعتبار منه موضوعا عقلاً لعدم تقیّد المکلّف وکونه فی سعةٍ، کما أن الإعتبار الشرعی موضوع لحکم العقل بالتقیّد، ولا یجتمع التقیّد وعدمه فی حکم العقل.

والثالث: إن حکم العقل بالسّعة معلّقا علی ترخیص الشارع، یجتمع مع حکمه منجّزا بالتقیّد مع عدم العلم بالترخیص.

ص: 343


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 278.
الجواب عنه

ویرد علیه: أمّا نقضا، فلأن لازم کلامه هو عدم جریان الاصول العقلیّة أیضا فی أطراف العلم الإجمالی، فإنّ الأصل العقلی الجاری فی کلّ موردٍ تحقق فیه العلم الإجمالی هو قاعدة الإشتغال، وهی تقتضی تقیّد المکلّف، لکن العلم بعدم وجوب أحد الأطراف یقتضی عدم التقیّد، ولا یجتمع التقیّد وعدمه فی حکم العقل.

فالمحذور الذی ذکره موجود فی جریان الأصل العقلی أیضا ولا یختصّ بالإستصحاب.

بل المحذور آتٍ فی الشبهات البدویّة کذلک، لوجود احتمال التناقض، أللهم إلاّ أن یقال بعدم احتمال التقیّد العقلی فیها بل القطع بعدمه، لقبح العقاب بلا بیان.

وأمّا حلاًّ، فنقول:

أمّا من ناحیة الملاک، فلا تمانع، لأن معنی عدم الإعتبار هو عدم الملاک الواقعی.

وأمّا جریان الأصلین فی الطرفین _ مثلاً _ فملاکه التحفّظ علی الواقع، فلا تمانع.

وأما من جهة نفس الحکمین، فإن الإعتبار وعدم الإعتبار مختلفان فی المرتبة، والتضادّ یشترط فیه الإتحاد الرتبی.

وأمّا من جهة حکم العقل، فإن الترخیص الناشئ من عدم الإعتبار تعلیقی، والتقیّد الذی یأتی من ناحیة العقل تنجیزی، ولا منافاة بینهما، إذ الفعلیّة لعدم

ص: 344

الترخیص معلّق عند العقل علی عدم الترخیص الشرعی.

و أمّا إشکال لزوم اجتماع المثلین، فبالنسبة إلی نفس الحکمین، فالمفروض اختلاف المرتبة، وبالنسبة إلی الملاک فیتحقّق هناک التأکّد، وأمّا بالنسبة إلی حکم العقل، فإن العقل مقیّد من ناحیتین، ولا مانع من التأکد فی التقیّد.

فظهر ممّا ذکرنا أن لا محذور ثبوتی من جریان الأصل المحرز.

هل یلزم محذور إثباتی؟

وهل یلزم محذور إثباتی من جریانه؟

قد ذکرنا سابقا أنّ الشیخ یری عدم جریان الإستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی، للزوم التناقض بین صدر دلیله وذیله.

وأمّا الإشکال علیه: بأنّ ظاهر الدلیل هو أن لا ینقض الیقین بالشئ¨ بالشک فی نفس ذلک الشئ¨ بل ینقض بیقینٍ آخر متعلّق به، ولیس الأمر فی أطراف العلم کذلک، لأن الیقین المتعلّق بأحدهما غیر متعلّق بکلّ واحدٍ منهما، فلا تناقض.

ففیه: إن الشیخ یری عدم جواز نقض الیقین السابق بشئ¨ بالشک، سواء کان الشک فی نفس ذلک الشئ¨ بخصوصه أو بعنوانٍ منطبق علیه، بل ینقض بیقینٍ آخر، سواء کان الیقین الآخر متعلّقا به بخصوصه أو بما ینطبق علیه. وعنوان «أحدهما» ینطبق علی «کلّ واحدٍ» فالتناقض موجود.

لکنّ الصحیح فی الإشکال هو المناقشة فی ثبوت الإطلاق فی «بیقین آخر» بحیث یکون أعم من أن یکون بخصوصه أو بعنوانٍ أعم، وهو أوّل الکلام، لأن

ص: 345

کون المراد هو المتعلّق بخصوصه أظهر. ومع التنزّل یأتی دور مبنی المحقق العراقی من أنّ الیقین لا یتجاوز عن متعلّقه، فلا یتجاوز عن عنوان «الأحد» إلی الفرد، فلا انطباق، ولکنه مبنائی.

الإشکال علی الکفایة

و فی مصباح الاصول(1) عن صاحب الکفایة أنه لا مانع من جریان الإستصحاب فی المقام حتی علی مسلک الشیخ، لأن الإستنباط تدریجی، والمجتهد لا یکون ملتفتا إلی جمیع الأطراف دفعةً لیحصل له شک فعلی بالنسبة إلی الجمیع، بل یجری الإستصحاب فی کلّ موردٍ غافلاً عن غیره من الموارد، فلا یکون جریان الإستصحاب فی جمیع الأطراف فی عرضٍ واحدٍ لیحصل له علم إجمالی بأنّ هذا الإستصحاب أو ذاک مخالف للواقع.

ثم أشکل علیه _ تبعا للإصفهانی _ بأنّ الإستنباط وإن کان تدریجیّا والمجتهد لا یکون ملتفتا إلی جمیع الشبهات التی هی مورد الاستصحاب دفعةً، إلاّ أنّه بعد الفراغ عن استنباط الجمیع وجمعها فی الرسالة العملیّة، یعلم إجمالاً بانتفاض الحالة السّابقة فی بعض الموارد التی أجری فیها الإستصحاب، فلیس له الإفتاء بها. فجریان الأصل المحرز المثبت للتکلیف فی المقام مبنی علی مسلکه من أن العلم الإجمالی بنفسه غیر مانع عن جریان الإستصحاب ما لم یلزم منه مخالفة عملیّة.

ص: 346


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 228.
ما أفاده المحقق الإصفهانی

و ذکر المحقق الإصفهانی وجها آخر للجریان حتی علی مسلک الشیخ رحمه اللّه، ثم ناقشه.

أمّا الوجه فهو: إن الإستصحاب متقوّم بفعلیّة الیقین والشک، بالإضافة إلی فعلیّة المتعلّق للیقین والتکلیف بأن یکون موردا للإبتلاء، ولا فعلیّة للتکلیف فی القضایا المتأخرّة، لعدم کونها موردا للإبتلاء الفعلی. فلا یجری الإستصحاب فیها، و أمّا عند الإبتلاء بتلک القضایا، فقد انقضی ظرف فعلیّة القضایا السّابقة.

و بالجملة، فعلیّة الإستصحاب متقوّمة بفعلیّة الیقین والشکّ، وفعلیّة المتیقن والمشکوک فیه، وهما غیر متحققّین فی الامور التدریجیّة بالنسبة إلی القضایا اللاّحقة، لعدم فعلیّة المتعلّق فیها.

و أمّا المناقشة فهی: إنّ عدم الإبتلاء لا یستلزم أن یکون الیقین المتعلّق به بلا أثر، فالمعتبر فی الإستصحاب کون الیقین ذا أثر وإن لم یکن متعلّقه کذلک، لکنّ الیقین هنا له أثر، لحکم العقل بلزوم حفظ أغراض المولی، سواء کان الغرض فعلیّا أو ستحّقق له الفعلیّة فیما بعد. وعلیه، فالمجتهد علی یقینٍ الآن بمخالفة بعض الإستصحابات التی یجریها فی الأطراف الفعلیّة للواقع، فللیقین أثر، فلا تجری کلّ الإستصحابات.

الإشکال علیه

ویمکن أنْ یناقش: بأنّا وإنْ کنّا نقول بمؤثریّة العلم الإجمالی فی الامور التدریجیّة وعلیه نقول بحکم العقل بلزوم حفظ أغراض المولی، لکنّ الیقین

ص: 347

والشک المعتبرین فی الإستصحاب یتعلّقان بالتکلیف، فیکون المنقوض هو الیقین بالتکلیف والناقض هو الیقین بالتکلیف کذلک، ولهذا، فالواقعة غیر المبتلی بها لیست تکلیفا. والکلام فعلاً هو بحسب أدلّة الإستصحاب لا بحسب حکم العقل. والحاصل: وقوع الخلط بین حکم العقل ومفاد أدلّة الإستصحاب. هذا أوّلاً.

وثانیا: إنه لا ریب فی تقوّم الإستصحاب بالیقین والشک، ولکن جمیع التکالیف فعلیّة للمجتهد حتی مثل أحکام الحیض، فإنه مبتلی بها من حیث الفتوی. نعم، فعلیّة الإستنباط تدریجیّة، وبحثنا _ فی الإنسداد _ هو بالنسبة إلی المجتهد، وقد وقع الخلط بین تکلیفه وتکلیف المقلّد. نعم، إنما یتمّ ما ذکر فی المجتهد الذی تحصل له قوّة الإستنباط بالتدریج، مثل تحقّق الموضوعات والتکالیف.

وتلخص: جریان الأصل المثبت للتکلیف المحرز وغیر المحرز، بلا محذور ثبوتی أو إثباتی.

و أمّا الاصول النافیة للتکلیف، فلا تجری مع العلم الإجمالی بوجود التکلیف، غایة الأمر أنّه من جهة الإنتهاء إلی المخالفة العملیّة، فالاصول النافیة لا تجری علی جمیع المبانی. وإن کان الأصل النافی محرزا وقد علم بمخالفة بعض الأطراف للواقع، جاء المحذور الثبوتی أو الإثباتی بالإضافة إلی لزوم المخالفة العملیّة.

وأمّا القرعة

فلا مجال لها هنا، لأن مجراها هو الشبهات الموضوعیّة، وأمّا الحکمیّة، فإن المرجع فیها هو الأدلّة الشّرعیّة.

ص: 348

وأما فتوی الفقیه

فلا یرجع إلیها، لأن الفقیه الإنفتاحی مخطی ء فی نظر الإنسدادی، فیکون من رجوع العالم إلی الجاهل، غایته أنه جاهل معذور.

حاصل الکلام

إن المقدّمة هذه تامّة من حیث عدم جواز الرجوع إلی القرعة وفتوی الفقیه، لکنّ الإحتیاط ساقط، والاصول المثبتة جاریة، فإذا ضمّ الإحتیاط إلی الموارد المعلومة بالإجمال وانحلّ العلم الإجمالی، لم تصل النوبة إلی الظن. ولو أن الاصول المثبتة ضمّت إلی الموارد المعلومة ولم یحصل الإنحلال، کان المرجع هو الإحتیاط دون الظن، ولیس الإحتیاط حینئذٍ حرجیّا.

هذا کلّه بناءً علی عدم حجیّة خبر الواحد أو عدم انحلال العلم الکبیر بالصّغیر.

ص: 349

ص: 350

نتیجة المقدّمات

اشارة

الکشف أو الحکومة؟

لقد ثبت أن المقدّمات عقیمة، لأنّ باب العلمی منفتح، وعندنا علم بصدور أخبار کثیرة حاملةٍ للأحکام، والإحتیاط فی مواردها ممکن، ویضاف إلی ذلک موارد الاصول المثبتة، فإنْ انحلّ العلم الإجمالی بذلک فهو، وإلاّ، فالإحتیاط فی البقیّة ممکن.

ثم إنّه قد وقع الکلام بینهم فی نتیجة المقدّمات _ بناءً علی تمامیّتها _ واختلفوا علی قولین: فقیل: بأنها حجیّة الظن بحکم العقل، وقیل: بأنها کاشفة عن حکم الشرع بالعمل بالظن.

والحکومة _ بمعنی درک العقل وحکمه بحجیّة الظن _ یحتمل أن تکون بمعنی کون الظن واسطةً فی إثبات الحکم الشرعی، وأن تکون بمعنی کونه واسطةً فی إسقاط الحکم الشرعی.

ففی الحکومة احتمالان. وفی الثانی احتمالان، أحدهما: الإتیان بالمظنونات، والثانی: الإمتثال الظنی، وبین الإحتمالین عموم وخصوص مطلق، إذ

ص: 351

الثانی یتحقق بالإتیان بالتکالیف المظنونة والمشکوکة، والأوّل معناه الإکتفاء بالتکالیف المظنونة، والمشکوکات خارجة.

و هناک إحتمال ثالث، وهو عبارة عن التبعیض فی الإحتیاط، بمعنی أنه مع العلم بالتکالیف وعدم إمکان الإتیان بجمیعها، فإن العقل یحکم بلزوم الإتیان بالقدر المیسور.

ثم إنّ العراقی قال بالحکومة، بمعنی وساطة الظنّ فی مقام ثبوت التکلیف. أی: إنّ العقل یحکم بأنّ الظن فی هذه الحالة مثبت للتکلیف.

و المحقق الخراسانی قال بالحکومة، بمعنی إکتفاء العقل فی مقام الإمتثال بالإطاعة الظنّیة، أی: إنّ الظن بحکم العقل حجّة فی مقام إسقاط التکلیف.

والمیرزا، قال بالکشف ببیان لم یسبق إلیه.

رأی العراقی

أمّا المحقق العراقی فحاصل کلامه: إنّ العلم الإجمالی لیس من مقدّمات دلیل الإنسداد، بل الإجماع التقدیری القائم علی لزوم مراعاة الأحکام فی ظرف الإنسداد هو المقدّمة، وإذ لیس العلم الإجمالی من المقدّمات، فلا موجب للتبعیض فی الإحتیاط، بل مع وجود الإجماع تسقط قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ثم إن هذا الإجماع یفید إهتمام الشارع بتکالیفه، وهی بین المظنونات والمشکوکات والموهومات، لکنّ القدر المتیقن هو التکالیف المظنونة، أمّا فی الأکثر من ذلک فتجری أصالة البراءة.

فظهر أن العقل یدرک کون الظن مثبتا للتکالیف المظنونة.

ص: 352

الإشکال علیه

وقد أورد علیه شیخنا بعد التسلیم بما ذکره من سقوط العلم الإجمالی وغیر ذلک: بأنّ الإجماع یکشف عن اهتمام الشارع بتکالیفه کما ذکر، وإلاّ لزم الخروج من الدین، وهو یکون منشأً لحکم العقل بالإحتیاط، لکنّ المانع منه لزوم العسر والحرج واختلال النظام. إذن، یلزم الإحتیاط بقدر الإمکان، فأین وساطة الظنّ بحکم العقل لثبوت الأحکام؟

لقد کانت النتیجة لزوم الإحتیاط بقدر الإمکان، فکان الإجماع مفیدا لما یفیده العلم الإجمالی، فلماذا إسقاط العلم الإجمالی من المقدّمیّة والنتیجة هی التبعیض فی الإحتیاط؟

رأی المیرزا

و قال المیرزا ما ملخّصه:

أوّلاً: إن المقدّمات لا تنتج الإنسداد إلاّ بناءً علی القول بقیام الإجماع علی لزوم رعایة التکالیف الشرعیّة بعناوینها، وإلاّ فلا تتم المقدّمات.

و توضیح ذلک هو: إن الموجب لسقوط الإحتیاط عن المرجعیّة، إمّا لزوم إختلال النظام والعسر والحرج، وإمّا الإجماع علی أن الشارع یرید الإتیان بتکالیفه بعناوینها لا بالإحتیاط. وإذا کان حصول النتیجة متوقفا علی القول بالإجماع المذکور، کانت النتیجة الحاصلة من المقدّمات مستندةً إلی الشارع بالضرورة، لأن

ص: 353

الطریق إلی الإتیان بالتکالیف بعناوینها قائم من قبل الشارع نفسه، و هو کون الظنّ حجةً، وأن الشک والوهم لیسا طریقین قطعا.

و ثانیا: إن الحکومة عبارة عن درک العقل فی مقام الإمتثال، فالعقل یقول بلزوم الإمتثال الظنی عند امتناع الإمتثال العلمی بسبب الإنسداد، والإمتثال الظنی غیر الإتیان بالمظنون، إذ المتحقّق عندنا هو الظن بالتکالیف، ولا یوجد عندنا ظن بانحصارها فی دائرة المظنونات، والإمتثال الظنّی یتحقق بالإتیان بالمظنونات والمشکوکات معا، إذ بذلک یحصل الإمتثال وفراغ الذمّة.

فلو لم نقل بالکشف، فلا مناص من القول بلزوم الإتیان بالمشکوکات مع المظنونات، بحکم العقل.

أقول:

حاصل کلامه قدّس سرّه الإستدلال للکشف من جهةٍ، والردّ علی الحکومة من جهة اخری.

و قد کان العمدة فی الجهة الأولی دعوی قیام الإجماع علی وجوب الإتیان بالتکالیف بعناوینها، وأمّا إذا کان معقده عدم جواز الرجوع إلی البراءة، فلا یتم مسلکه، لأنه حینئذٍ یمکن تمامیّة القول بالحکومة، لأن الحاکم بمرجعیّة الظن _ بعد سقوط البراءة بالإجماع، وعدم إمکان الإحتیاط، وقبح ترجیح المرجوح أی الشک علی الراجح وهو الظن _ هو العقل، وحینئذٍ، للشارع أن یکتفی بهذا الحکم العقلی ولا حاجة إلی الجعل الشرعی.

لکنّ الکلام کلّه فی ثبوت الإجماع المدّعی، والحقّ أنْ لا إجماع علی

ص: 354

وجوب الإتیان بالتکالیف بعناوینها.

وأمّا فی الجهة الثانیة، فإنّ واقع القضیّة هو أنا نعلم بثبوت تکالیف، وهی إمّا فی المظنونات أو المشکوکات أو الموهومات، فإذا نظرنا فی دائرة المظنونات حصل الظنّ بوجودها فیها، وإذا نظرنا فی دائرة المشکوکات حصل الشک فی وجودها فیها، وإذا نظرنا فی دائرة الموهومات، نتوهّم وجودها فیها، وعلی هذا یظهر أنّ الإتیان بالمظنونات یلازم حصول الإمتثال الظنّی، وقد عرفت تحقّق الظنّ بوجود التکالیف کلّها فی دائرة المظنونات، وأن مقتضی درک العقل فی ظرف الإنسداد هو الإمتثال الظنی.

وتحصّل: أنّ الحق ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی من أنّ النتیجة کون الظن بحکم العقل حجةً فی مقام إسقاط التکالیف.

هل الحجیّة مطلقة أو مهملة؟

إن أسباب حصول الظن مختلفة، منها: الإجماع والشهرة والأولویّة الظنیّة، وموارد الظنّ مختلفة، من النفوس والأموال والأعراض، والظن ذو مراتب من حیث القوّة والضعف. فهل حجیّة الظن مطلقة بالنسبة إلی الأسباب والموارد والمراتب أوْ لا، بل فیه تفصیل؟

الکلام فی الأسباب

قد یقال: بأن السبب الموجب للظن إن وجد مانع شرعی عن اتّباعه

ص: 355

کالقیاس، فلا شبهة فی خروج الظن الحاصل من هکذا سبب عن إطلاق المقدّمات، للقطع بعدم حجیّة هذا الظن. وأمّا بالنسبة إلی ما لم یقم دلیل شرعی علی المنع منه، فإنّ نتیجة المقدّمات هو الإطلاق من حیث الأسباب، سواء علی القول بالحکومة أو الکشف. إذ علی الأوّل: لا فرق فی نظر العقل بین الظن الحاصل من هذا السّبب أو من ذاک. وعلی الثانی: فقد قام الإجماع علی رعایة التکالیف بعناوینها. فالظن الحاصل حجّة بلا فرقٍ بین الأسباب الموجبة لحصوله.

أقول

قد عرفت أن الإجماع المدّعی علی لزوم الإتیان بالتکلیف بعنوانه، یلازم جعل الشارع الظنّ حجةً فی ظرف الإنسداد، وأن هذا هو الأساس للقول بالکشف.

فالکاشف عن اعتبار الظن _ بناءًعلی الکشف _ هو الدلیل اللّبی وهو الإجماع، و الظن له أسباب عدیدة، قد أصبح بعضها متیقّنا من حیث الإعتبار دون البعض الآخر فی ظرف الإنسداد، فیکون الأقل قطعی الإعتبار والباقی مشکوک فیه، فمقتضی القاعدة هو الأخذ بالقدر المتیقن من الإجماع، والقول بعدم اعتبار الظن فی الزائد عنه، لعمومات النهی عن اتباع الظن، ومع التنزّل عن العمومات، یستصحب عدم اعتبار الظن المشکوک فی اعتباره، ومع التنزل عن الإستصحاب یکون الشک فی جعل الحجیّة للظنّ المشکوک فی حجیّته کافیا لعدمها فیه، لأن الشک فی الحجیّة مساوق للقطع بعدمها.

ص: 356

و إذا کان الواجب هو الأخذ بالقدر المتیقّن من أسباب الظن، فلا ریب أنه الظن الحاصل من خبر الثقة، لأنه الذی له اعتبار عقلائی، ولیس الإجماع المنقول والشهرة الفتوائیّة بهذه المثابة...

علی أنّه إذا کان لا یفرّق بین الأسباب، فلماذا لا یؤخذ بالظنّ الحاصل من الجفر والاسطرلاب ویؤخذ بالحاصل من الإجماع؟ ولو قیل: بأن الفارق هو القطع بعدم رضا الشارع بالعمل طبق الظن الحاصل من الجفر ونحوه. قلنا: هذا یکون فی ظرف الإنفتاح، وکلامنا فی الإنسداد.

فظهر مما ذکرنا: أنّ الأمر لیس کما قیل،بل یختلف الحال علی اختلاف المبانی.

فأمّا علی القول بالکشف، فإن مقتضی القاعدة هو الأخذ بالقدر المتیقّن من الأسباب، وهو الظن الحاصل من خبر الثقة، لما ذکرنا، ولأنه یوجد بالنسبة إلی خبر الثقة ظنّان فی ظرف الإنسداد، أحدهما: الظن بالحکم من جهة المقدّمات، والآخر: هو الظن بالطریق من جهة کونه ثقةً. أمّا فی غیر الظن الحاصل من خبر الثقة، فلا یوجد إلاّ ظن واحد، وهو الظن بالحکم، وهذا وجه آخر لکون خبر الثقة هو القدر المتیقن.

و أمّا علی القول بالحکومة، فأمّا بناءً علی حجیّة الظن فی مقام الإمتثال وسقوط التکلیف _ کما علیه صاحب الکفایة رحمه اللّه وهو المختار _ فالظاهر عدم الفرق بین الأسباب، إذ لا یوجد دلیل لبّی لیؤخذ منه بالمتیقّن، بل الدّلیل هو درک العقل بوصول النوبة إلی الإمتثال الظنّی عند انسداد باب العلم والعلمی، والعقل لا یفرّق حینئذٍ بین الأسباب، نعم، یکون درکه أو حکمه معلّقا علی عدم

ص: 357

المنع الشرعی عن اتباع ظنٍ کالظن القیاسی.

و أما بناءً علی حجیّة الظنّ فی مقام إثبات التکلیف _ کما علیه المحقق العراقی _ فلا فرق کذلک، لکون المنجّز للتکلیف _ کما ذکر _ هو الإجماع القائم علی عدم جواز الرجوع إلی البراءة، لاهتمام الشارع بتکالیفه، والإهتمام ذو مراتب، وحیث أن باب العلم والعلمی منسدّ، فالمرتبة الظنیّة هی الباقیة وتجری البراءة فی غیرها. وحینئذٍ، لا یفرّق العقل بین الأسباب الموجبة للظن، فمن أین ما حصل ثبت التکلیف.

هذا کلّه بالنسبة إلی الأسباب.

الکلام فی الموارد

وأمّا بالنسبة إلی الموارد: فأمّا ما علمنا باهتمام الشارع به من الموارد، کالدماء والفروج، فلا معنی لأن تکون النتیجة مهملةً، بل الواجب هو الإحتیاط، سواء علی مسلک الکشف والحکومة.

و أمّا ما لا نعلم باهتمامه بل نظنّ، فبناءً علی الکشف، لا إشکال فی عدم اعتبار الظن، لوجود الظنّ بالإحتیاط والحکم، وقد کان دلیلنا علی لزوم الإمتثال هو الإجماع، وقد عرفت لزوم الأخذ بالقدر المتیقن منه، وهو المورد الذی لم یجب فیه الإحتیاط.

و بناءً علی الحکومة، أمّا علی مبنی الخراسانی، فإن العقل یدرک بکون الظن عذرا، لکن مع الظن باهتمام الشارع یظنّ بالإحتیاط، فتکون النتیجة مقیّدة بالمورد

ص: 358

الذی لا ظن فیه باهتمام الشارع فیه. وبناءً علی مبنی العراقی، فحیث أن الدلیل هو الإجماع والإحتیاط یقتضی خلاف الإجماع، فالقدر المتیقّن هو الظن بالأحکام الواقعیّة، لکن فی صورة احتیاط الشارع فی موردٍ، یکون حکم العقل سقوط المشکوکات والموهومات، ویکون الظن مثبتا للواقع وحجةً وعذرا فی غیر مورد احتیاط الشارع، لأنّ الإحتیاط الشرعی حکمٌ یجب الإمتثال له.

و بما ذکرنا ظهر الإشکال فی قول العراقی هنا علی مسلکه بکون النتیجة مطلقة بحسب الموارد.

الکلام فی المراتب

وأمّا بالنسّبة إلی مراتب الظن، فعلی القول بالکشف، یکون القدر المتیقن هو الظن الأقوی فالأقوی فقط، و فی غیره تجری الاصول العملیّة.

و علی الحکومة، فأمّا علی مسلک العراقی، فکالکشف بعینه. وأمّا علی مسلک الخراسانی _ وهو المختار _ فالنتیجة لزوم مراعاة الظن بجمیع المراتب، لأنّ الحکومة علی هذا المسلک مبناها العلم الإجمالی بالتکالیف، وهذا یقتضی الإحتیاط التام، لکن لمّا کانت المقدّمات قد أفادت عدم إمکانه أو عدم لزومه _ کما هو المفروض _ تصل النوبة إلی الأخذ بالإحتیاط الناقص، فالعقل یحکم بلزوم الإمتثال الظنّی، ویلزم الإتیان بجمیع أطراف المظنونات قویّها وضعیفها.

ص: 359

ص: 360

الظنُّ فی الاعتقادات

اشارة

إن الظنّ فی الأحکام الشرعیّة معتبر، الظن الخاصّ(1) أو الإنسدادی، أمّا فی المسائل الإعتقادیة، فأقوال ستّة کما فی الرسائل:

1. لا یعتبر، بل یعتبر العلم، ویعتبر کونه حاصلاً من الإستدلال.

2. لا یعتبر إلاّ العلم، ویکفی کونه تقلیدیّا.

3. یکفی الظن الحاصل من الإستدلال.

4. یکفی الظن مطلقا.

5. یکفی الظن إن کان حاصلاً من خبر الواحد.

6. یکفی الظن ولو تقلیدا، والاستدلال واجب لکنّه معفوّ عنه.

خلاصة کلام الشیخ

إنّ مسائل اصول الدین _ وهی التی لایطلب فیها أوّلاً وبالذات إلاّ الإعتقاد باطنا والتدیّن ظاهرا _ علی قسمین:

ص: 361


1- 1. هذا التعبیر _ کما فی غیرواحدٍ من الکتب _ غیردقیق، لأن الأدلّة القائمة علی اعتبار بعض الظنون بالخصوص، إنما قامت علی اعتبار خبر الثقة مثلاً لا علی اعتبار الظنّ الحاصل منه، فالتفت.

أحدهما: ما وجب علی المکلّف الإعتقاد والتدیّن غیرمشروط بحصول العلم، کالمعارف. فیکون تحصیل العلم من مقدّمات الواجب المطلق فیجب.

الثانی: ما یجب الإعتقاد والتدیّن به إذا اتفق حصول العلم به، کبعض تفاصیل المعارف.

وأمّا الثانی، فحیث کان المفروض عدم وجوب تحصیل المعرفة العلمیّة، کان الأقوی القول بعدم وجوب العمل فیه بالظن لو فرض حصوله، ووجوب التوقّف فیه، للأخبار الکثیرة الناهیة عن القول بغیر علم والآمرة بالتوقّف...

ثم إنّ الفرق بین القسمین المذکورین وتمیّز مایجب تحصیل العلم به عمّا لایجب، فی غایة الإشکال، وقد ذکر العلاّمة قدّس سرّه فی الباب الحادی عشر فیما تجب معرفته علی کلّ مکلّف من تفاصیل التوحید والنبوة والإمامة والمعاد أمورا لا دلیل علی وجوبها کذلک، مدّعیا أن الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الإسلام مستحقّ للعذاب الدائم. وهو فی غایة الإشکال.

نعم، یمکن أنْ یقال: إنّ مقتضی عموم وجوب المعرفة مثل قوله تعالی «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ»(1) أی لیعرفون، وقوله صلوات اللّه علیه وآله: ما أعلم شیئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس(2)... هو وجوب معرفة اللّه جلّ ذکره ومعرفة النبی ومعرفة الإمام ومعرفة ما جاء به النبی علی کلّ قادر یتمکّن من تحصیل العلم، فیجب الفحص حتی یحصل الیأس، فإن حصل العلم

ص: 362


1- 1. سورة الذاریات: الآیة 56.
2- 2. الکافی 3 / 264.

بشئ¨ من هذه التفاصیل اعتقد وتدیّن، وإلاّ توقف ولم یتدیّن بالظن لو حصل له.

ومن هنا، قد یقال: إنّ الإشتغال بالعلم المتکفّل لمعرفة اللّه ومعرفة أولیائه صلوات اللّه علیهم أهم من الإشتغال بعلم المسائل العملیّة، بل هو المتعیّن... لکنّ الإنصاف یقتضی عدم التمکّن من ذلک إلاّ للأوحدیّ من الناس...(1)

خلاصة کلام صاحب الکفایة

وکلام صاحب الکفایة فی هذا المقام علی قسمین، ففی الأوّل: ذکر رأیه فی المسألة، وفی الثانی: تعرّض للرّد علی الشیخ. وهذا ملخّص کلامه:

هل الظنّ ویتبّع فی الاصول الإعتقادیّة المطلوب فیها عمل الجوانح من الإعتقاد به وعقد القلب علیه وتحمّله والإنقیاد له، أوْ لا؟ الظاهر: لا. فإن الأمر الإعتقادی وإنْ انسدّ باب القطع به إلاّ أنّ باب الاعتقاد إجمالاً بما هو واقعه، والإنقیاد له وتحمّله، غیر مسند، بخلاف العمل بالجوارح، ...

وبالجملة، لا موجب _ مع انسداد باب العلم فی الاعتقادیّات _ لترتیب الأعمال الجوانحیّة علی الظن فیها مع إمکان ترتیبها علی ما هو الواقع فیها، فلا یتحمّل إلاّ لما هو الواقع ولا ینقاد إلاّ له لا لما هو مظنونه. وهذا بخلاف العملیّات، فإنه لا محیص عن العمل بالظن فیها مع مقدّمات الإنسداد.

هذا هو القسم الأوّل من کلامه.

و قد وافقه المیرزا والعراقی.

ص: 363


1- 1. فرائد الأُصول: 170 _ 171.

خلاصة کلام الإصفهانی

و کذا الإصفهانی، لکن ببیان آخر، لعدم تعقّل الإعتقاد بالواقع علی إجماله، فقال ما حاصله:(1)

إن الواجب فی باب الامور الإعتقادیة إمّا تحصیل العلم والمعرفة، أو عقد القلب علی المعلوم بما هو معلوم بنحو الواجب المطلق أو المشروط، أو عقد القلب علی الواقع.

فإن کان الواجب هو المعرفة، وجب تحصیلها، ولا یکفی الظن.

و إن کان الواجب هو الإعتقاد بما هو معلوم بنحو الواجب المشروط، أی: یجب الإعتقاد إذا علم، أو الاعتقاد بما هو معلوم بنحو الوجوب المطلق، بأن یکون الوجوب مطلقا والواجب مقیّدا بکونه معلوما، فلا تصل النوبة إلی الظن کذلک، لأن المفروض أخذ «العلم» فی الإعتقاد، فإن کان باب العلم منسدّا سقط التکلیف عنه، ولا یکون الظن حجةً له لا الخاصّ منه ولا المطلق.

و إن کان الواجب هو الإعتقاد بالواقع، صحّ الإعتقاد الظنّی فی ظرف الإنسداد، لأن العلم غیر دخیل فی الواجب بل یکون طریقا إلیه، ومع فقده، یمکن للشّارع اعتبار الظنّ فی مرحلة الإمتثال.

فالحاصل: إنه إن اخذ «العلم» فی متعلّق الوجوب، کان مقوّما للحکم، فإذا لم یتحقق العلم لم یقم مقامه شئ¨، وإن لم یؤخذ کذلک، کان طریقا، فیمکن حینئذٍ أن یقوم الظن مقامه فی الطریقیّة.

ص: 364


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 402.

و حیث یکون الواجب هو الإعتقاد بالواقع، فلا یخلو: إمّا أن یکون بنحو الإحتیاط، فإن الإعتقاد بکلا الطرفین غیر معقول، لأنه یلزم منه الإعتقاد بالنقیضین. و إمّا أن یکون بنحو التخییر الشرعی، فکذلک، لأنّ الواجب هو الإعتقاد بأمرٍ معیّن. و إمّا أن یکون بنحو التخییر العقلی، فهو فی المتزاحمین، ولیس المقام منه. وإمّا أن یکون بنحو الفرد المردّد، ولا ذات للمردّد ولا وجود. وإذا بطلت جمیع الشقوق تعیّن وجوب الإعتقاد بجهة جامعة، وهذه الجهة موجودة فی المظنون وغیره، فلا تصل النوبة إلی المظنون، لأنه باطل، من جهة أنا مکلّفون بالإعتقاد بالواقع کما عرفت، ومن الممکن کونه فی خلاف المظنون. فیتعیّن الإعتقاد بالجهة الجامعة، لأنها القدر المیسور من الإعتقاد.

النّظر فی کلام الإصفهانی

ولأجل أنْ یتّضح کلام المحقق الخراسانی، ویظهر النظر فیما أفاده المحقق الإصفهانی نقول:

إنّ ما یمکن تعقّله من العناوین خمسة:

أحدها: العنوان الجامع القابل للصّدق علی جمیع الأفراد _ أی علی الواحد والکثیر علی السواء _ مثل عنوان «الخبر»، وهذا العنوان مشترک ولاحکایة له عن خصوصیّةٍ ولو إجمالاً.

والثانی: العنوان الجامع کالأوّل مع الحکایة عن الخصوصیّة، مثل: «مصداق الخبر»، فإنه غیر الخبر، وهو عنوان مشترک لابشرط فی الصّدق بالنسبة إلی الوحدة والتعدّد، لکنه حاکٍ عن «الخبر».

ص: 365

والثالث: العنوان الجامع المشترک المقیَّد بالوحدة فیالصّدق، مثل: «أحد هذه الأخبار»، فإنّ کلّ واحدٍ واحدٍ من هذه الأخبار _ ولیس کلّها مجتمعةً _ مصداق لهذا العنوان.

والرابع: العنوان الخاصّ الحاکی عن الخصوصیّة الخاصّة الشّخصیة، مثل: «الخبر الحاکی عن حال زید فی مکان کذا وفی زمان کذا».

والخامس: عنوان: «ما أخبر به زید»، فإنه عنوان لا یصدق علی غیر خبر زید، غیر أنّه غیر متشخّص، لعدم حکایته عن خصوصیّةٍ، فلیس فیه جهة مشترکة بالمعنی الأوّل ولا الثانی، ولا الثالث وهو العنوان الإنتزاعی. فلیس فیه جهة مشترکة وهو فی نفس الوقت لایحکی عن الخصوصیّة کما فی الرابع.

وما نحن فیه من قبیل الخامس.

فیجب أنْ یعتقد المکلّف بما جاءت به الشریعة من الامور الاعتقادیّة، لکنْ لیس فی هذا جهة مشترکة أو إجمال.

وهذا هو مراد المحقق صاحب الکفایة.

إشکال الکفایة علی الشیخ

وتعرّض صاحب الکفایة فی القسم الثانی من کلامه لمناقشة کلمات الشیخ، فقال ما ملخّصه:

نعم، یجب تحصیل العلم فی بعض الإعتقادات لو أمکن، من باب وجوب المعرفة لنفسها کمعرفة الواجب تعالی وصفاته، أداءً لشکر بعض نعمائه، ومعرفة

ص: 366

أنبیائه، فإنهم وسائط نعمه وآلائه، بل وکذا معرفة الإمام علی وجهٍ صحیح، فالعقل یستقلّ بوجوب معرفة النبی ووصیّه لذلک ولاحتمال الضرر فی ترکه، ولایجب عقلاً معرفة غیر ما ذکر إلاّ ما وجب شرعا معرفته، کمعرفة الإمام علی وجهٍ آخر غیرصحیح أو أمر آخر ممّا دلّ الشرع علی وجوب معرفته.

وما لا دلالة علی وجوب معرفته بالخصوص _ لا من العقل ولا من النقل _ کان أصالة البراءة من وجوب معرفته محکّمةً، ولا دلالة لمثل قوله تعالی «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنْسَ» الآیة، ولا لقوله: «وما أعلم شیئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلوات الخمس»، ولا لما دلّ علی وجوب التفقّه وطلب العلم من الآیات والروایات، علی وجوب معرفته بالعُموم...

ثم إنه لا یجوز الإکتفاء بالظن فیما تجب معرفته عقلاً أو شرعا، حیث أنه لیس بمعرفةٍ قطعا، بل لابدّ من تحصیل العلم لو أمکن، ومع العجز عنه کان معذورا إنْ کان عن قصورٍ لغفلةٍ أو لغموضة المطلب مع قلّة الاستعداد، کما هو المشاهد فی کثیر من النساء بل الرجال، بخلاف ما إذا کان عن تقصیر...

والمراد من المجاهدة فی قوله تعالی: «وَالَّذینَ جاهَدُوا فینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا»(1) هو المجاهدة مع النفس...

ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصیل الظنّ مع الیأس عن تحصیل العلم فیما یجب تحصیله عقلاً لو أمکن، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه بل بعدم جوازه، لما أشرنا إلیه...

ص: 367


1- 1. سورة العنکبوت: الآیة 69.

وکذلک لا دلالة من النقل علی وجوبه فیما تجب معرفته مع الإمکان شرعا، بل الأدلّة الدالّة علی النهی عن اتّباع الظن دلیلٌ علی عدم جوازه أیضا...(1)

النّظر فی الإشکالات

وتکلّم شیخنا دام بقاه علی إشکالات المحقق الخراسانی علی الشّیخ فقال ما حاصله:

أمّا الآیة المبارکة، فقد فسّر الشیخ «لیعبدون» بقوله: «أی لیعرفون»، وقال فی الکفایة أن المراد هو خصوص عبادة اللّه ومعرفته.

لکنّ هذا التفسیر الذی توافقا علیه لا مستند له فی التفاسیر _ کالصّافی(2) وغیره _ إلاّ روایة مرسلة، وحینئذٍ، فإنّ مقتضی القاعدة الأخذ بظاهر الآیة المبارکة وأنّ الغایة من الخلقة هی العبادة للّه وحده لا شریک له. نعم، العبادة فرع المعرفة له، وهی إنما تتحقّق بمعرفة رسوله وأوصیاء رسوله علیهم السلام، فهی تدلّ علی وجوب معرفتهم بالدّلالة الإلتزامیّة.

وأمّا إشکاله علی الإستدلال بالحدیث النبوی، بأنه بصدد بیان فضیلة الصلوات لا بیان حکم المعرفة، فلا اطلاق فیه، فوارد.

وأمّا إشکاله علی الاستدلال بآیة النفر، بأنها بصدد بیان الطّریق المتوسّل به إلی التفقّه الواجب لا بیان ما یجب فقهه ومعرفته. ففیه: إذا کانت دالّةً علی وجوب

ص: 368


1- 1. کفایة الأُصول: 329 _ 331.
2- 2. تفسیر الصافی 5 / 75.

النّفر، فهی دالّة علی وجوب الغایة من النفر. وأیضا، فقد رتّب علی المعرفة والتفقّه إنذار القوم، ولا یعقل وجوب الإنذار وعدم وجوب مقدّمته وهو المعرفة والتفقّه، کما أنَّ وجوب الحذر یستلزم وجوب الإنذار. وعلی الجملة، فالآیة فی مقام البیان من جمیع الجهات المذکورة.

وأمّا إشکاله علی الإستدلال بما دلّ علی وجوب طلب العلم بأنه بصدد الحثّ علی طلبه لابصدد بیان ما یجب العلم به. ففیه: إنَّ العلم من الامور ذات الإضافة، فلمّا أمر بطلب العلم ولم یذکر المتعلّق دلّ علی الإطلاق لا محالة. لایقال:

حمل هذه الأدلّة علی الإطلاق یستلزم تخصیص الأکثر، لعدم وجوب تعلّم أکثر العلوم. لأنا نقول: إنه بالنظر إلی صدور هذه الروایات من الشّارع، یکون مقام الشارعیّة، وکذا ما ورد عنه من أنّ العلوم ثلاثة: آیة محکمة وفریضة عادلة وسنّة قائمة(1) قرینة علی أنّ ماعدا ذلک من العلوم خارج تخصّصا.

إشکال المحقق الإصفهانی علی الاستدلال بوجوب شکر المنعم

ثم إنّ المحقق الإصفهانی(2) أشکل علی استدلال صاحب الکفایة بحکم العقل بلزوم شکر المنعم لوجوب المعرفة بوجوه ثلاثة، وقد أفاد قبل ذکرها فائدةً جلیلةً وهی: إنّ الشکر وسایر مقامات الدین لها مراتب ثلاثة: علمٌ وحالٌ وعملٌ، فمعرفة المنعم من الأوّل، والتخضّع له قلبا من الثانی، وصرف النعمة فیما خلقت

ص: 369


1- 1. وسائل الشیعة 17 / 327، الباب 105 من أبواب مایکتسب به الرقم 6.
2- 2. نهایة الدرایة 3 / 408.

لأجله بأداء ما هو وظیفة السمع والبصر واللّسان من الثالث. فمعرفة المنعم من أفضل مراتب شکر النعمة.

وأمّا الإشکالات، فهی:

الأوّل: إنّ هذه المعرفة لیس مصداقا لهذه المرتبة من الشکر، بل ما هو مصداقه معرفة المنعم بما هو منعم لا بذاته، لأنّ الحیثیّة التعلیلیّة _ وهی المنعمیّة لوجوب الشکر _ حیثیّة تقییدیّة له، کما فی جمیع الأحکام العقلیّة، فلا تجب معرفة الذات لإنعامه نفسا، بل مرجعه إلی معرفة الذات مقدّمةً لمعرفته بالمنعمیّة، مع أنّ المقصود إثبات وجوب المعرفة لنفسها.

توضیحه:

إنّ الحیثیّة التعلّیلیة فی الأحکام العقلیّة _ سواء النظریّة، مثل قولنا: توقّف الشئ¨ علی نفسه محالٌ، والعملیّة، مثل: ضرب الیتیم لا للتأدیب قبیح _ حیثیّات تقییدیّة، ومعنی ذلک: کون العلّة موضوعا للحکم، فتوقّف الشئ¨ علی نفسه محال، لماذا؟ لأنه دورٌ، فترجع القضیة إلی: الدور محال. وضرب الیتیم لا للتأدیب قبیح، لماذا؟ لأنه ظلم، فترجع القضیّة إلی: الظلم قبیح. فکانت العلّة هی الموضوع للحکم العقلی. هذه هی الکبری.

وفیما نحن فیه: یقول هذا المحقق: إنّ حکم العقل بوجوب شکر المنعم من الأحکام العقلیّة العملیّة، فهو فی الحقیقة: شکر المنعم واجب لإنعامه، فالحکم وهو الشکر مترتّب علی المنعمیّة، أی: شکر المنعم من حیث أنه منعم واجب، لکنّ المدّعی فی المقام وجوب معرفة ذات الباری تعالی.

ص: 370

لایقال: هذا إنما یتمّ فی غیرالباری، حیث أنّ الصفات فیه زائدة علی الذّات، لا فی الباری الذی صفاته عین ذاته.

قلت: هذه غفلةٌ، لأنّ الصّفات الذاتیّة عین الذات المقدّسة، والمنعمیّة من صفات الفعل لا الذات.

والثانی: إنّ أصل وجوب الشکر عقلاً بحیث یستحقُّ العقاب علی ترکه، لا یثبت إلاّ بإدخاله تحت قاعدة التحسین والتقبیح العقلیّین، ومن البیّن عند التأمّل أنّ شکر المنعم _ علما وحالاً وعملاً _ وإنْ کان تعظیما للمنعم وإحسانا إلیه، إلاّ أنه لا یثبت به إلاّ مجرّد الحسن واستحقاق المدح علی فعله بمراتبه، ولیس ترک کلّ تعظیمٍ وإحسانٍ قبیحا إلاّ إذا کان ظلما من حیث کونه کفرانا، ولیس ترک کلّ إحسانٍ ولا ترک الإحسان إلی المحسن ظلما علیه.

توضیحه:

إنْ العدل حسنٌ والظلم قبیح، ولکنْ لیس ترک العدل قبیحا وترک الظلم حسنا، فالإستدلال بوجوب شکر المنعم لوجوب معرفة الباری عقیمٌ، إلاّ إذا انتهی ترک الشکر إلی الکفران.

والثالث: إنّ الإستناد فی تحصیل المعرفة إلی وجوب شکر المنعم عقلاً، إنما یجدی بعد الفراغ عن انتهاء النعمة إلی مبدأ موجود، لیتحقّق موضوع شکر المنعم لیجب عقلاً، فهو إنما یفید فی معرفته من حیث کیفیّة وجوده وصفاته لا فی التصدیق بوجوده.

توضیحه:

قد تقرّر أنَّ القضیّة _ سواء العقلیّة أو الشرعیّة _ لا تتکّفل وجود الموضوع،

ص: 371

بل لابدّ من وجوده وثبوته ثم ترتّب الحکم علیه فی القضیّة، فلمّا نقول: شکر المنعم واجبٌ، یتوقّف ترتّب الحکم _ وهو الوجوب _ علی وجود الباری عزّوجلّ وثبوت منعمیّته، ولولا ذلک لما ترتّب الحکم.

هذه هی إشکالات المحقق الإصفهانی علی کلام الکفایة.

النّظر فی الإشکالات

وللنّظر فیما أفاده هذا المحقّق مجال کبیر، ولنقدّم لذلک مقدّمةً قد توافق علیها الکلّ، وهی: إنَّ جمیع الأحکام العقلیّة النظریّة ترجع إلی قضّیة: استحالة اجتماع النقیضین وارتفاعهما، وحتی قضیة استحالة اجتماع الضدّین وارتفاعهما ترجع إلیها، لأنَّ وجود کلّ ضدٍّ ملازم لعدم الضدّ الآخر. وإنّ جمیع الأحکام العقلیّة العملیّة ترجع إلی قضیة: العدل حسن والظلم قبیح، ولذا لمّا یقال: شکر المنعم واجبٌ یقع السؤال: لِمَ؟ الجواب: لأنه عدلٌ. وکذا لمّا یقال: کفر المنعم قبیح. ویکون الجواب: لأنه ظلمٌ،

فما لم یکن شکر المنعم مصداقا للعدل لم یحکم علیه بالحسن، وما لم یکن کفر المنعم ظلما لم یحکم علیه بالقبح، لأنّ کلّ ما بالعرض لابدّ وأنْ ینتهی إلی ما بالذات.

وعلی هذا، فإنّ شکر المنعم من حیث أنه منعم مرتبة من العدل، وإنْ کان شکره لذاته مرتبةً أعلی، لأنه فی هذه الصّورة لایری إلاّ ذات المنعم، بخلاف الصّورة الاولی فإنه یری نفسه أیضا، ومن هنا ورد عن أمیرالمؤمنین علیه السّلام:

ص: 372

إنَّ قوما عبدوا اللّه رغبةً فتلک عبادة التجّار، وإنّ قوما عبدوا اللّه دهبةً فتلک عبادة العبید، وإنّ قوما عبدوا اللّه شکرا فتلک عبادة الأحرار.(1) وعنه أیضا أنه قال: ما عبدتک شوقا إلی ثوابک ولاخوفا من عقابک، بل وجدتک أهلاً للعبادة فعبدتک.(2) إنّ العبد إذا عبداللّه وذکره وشکره من دون لحاظ نفسه، فإنّ ذلک یکون أعلی مرتبةً مما إذا لحظ نفسه أیضا، ومن هنا کان سیّدنا الجدّ رحمه اللّه یقول: إن أفضل الأذکار هو «لا إله الاّ اللّه» لعدم لحاظ شئ¨ فیه بخلاف «الحمدللّه» و«أستغفراللّه» ونحو ذلک، فإن هناک حامدا ومستغفرا... ولکنْ لاینکر أنّ هذه الأذکار أیضاً لها مرتبة من العدل، ولذا تکون موردا للمدح ویحکم علیها بالحسن.

وهذا جواب الإشکال الأوّل.

ومنه یظهر جواب الثانی، لأنّ العدل هو: إعطاء کلّ ذی حقٍّ حقّه، _ کما أنّ الحکمة: وضع کلّ شئ¨ٍ فی موضعه _ ، فیکون الظلم منع ذی الحقّ حقّه، وعلیه، فإنّ ترک العدل ظلمٌ، وإذا کان ظلما، فإنّ کلّ ظلم قبیح.

وعلی ما ذکر، لا مجال لأن یقال بأنّه وإنْ کان شکر النعم واجبا، فإنّ ترک الشکر لیس بکفرٍ.

علی أنّ للنعمة وشکر النعمة درجات، والذی یقصده الأعاظم المحققون کالخراسانی والعراقی وغیرهما من هذا الإستدلال هو شکر المنعم بالذات علی الممکن الفقیر المحتاج بالذات، إذن، لابدّ من لحاظ المنعِم والمنَعم والنعمة،

ص: 373


1- 1. نهج البلاغة: 449، باب المختار من حکمه علیه السلام ومواعظه، الرقم: 229.
2- 2. عوالی اللئالی 1 / 404: الرقم 63.

وبذلک لایبقی أدنی ریبٍ فی وجوب الشکر، ویشهد بذلک کثرة التأکید علی الشکر فی الکتاب والسنّة والإهتمام به والذمّ الشدید علی ترکه فیهما.

ویزداد المطلب وضوحا بما إذا فرضنا إنسانا فاقدا لکلّ شئ¨، فلا ملبس ولا مأکل ولا مسکن له، بل یعیش فی مزبلةٍ نتنةٍ، وقد ابتلی بأنواع الأسقام، فجاء رجلٌ وأخرجه من ذلک المکان، وأخذه إلی الطبیب المعالج، وألبسه أفخر الثیاب، وقدّم له أطیب الأطعمة، وأجلسه علی کرسیّ السّلطنة، فهل یجوّز العقل أن لا یسأل هذا الشخص عن الرجل الذی أحسن إلیه هذا الإحسان وأنْ لا یشکره علی ذلک؟

إنّ الذی فعله اللّه سبحانه بالإنسان أعلی وأعظم من ذلک، یقول عزوجلّ «فَلْیَنْظُرِ الاْءِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ...»(1) ویقول: «قُتِلَ الاْءِنْسانُ ما أَکْفَرَهُ مِنْ أَیِّ شَیءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ...»(2)

فهکذا خلق اللّه العلی العظیم السبّوح القدوس هذا الإنسان، ثم خاطبه بقوله عزّ من قائل: «سَخَّرَ لَکُمْ ما فِی السَّماواتِ وَما فِی الاْءَرْضِ»(3)...

فالقول بوجوب شکر المنعم هذا معناه، وهل الشکر فی قوله سبحانه «إِنّا خَلَقْنَا الاْءِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلیهِ فَجَعَلْناهُ سَمیعًا بَصیرًا إِنّا هَدَیْناهُ السَّبیلَ إِمّا شاکِرًا وَإِمّا کَفُورًا»(4) هو الشکر المستحب؟

ص: 374


1- 1. سورة الطارق: الآیة 6.
2- 2. سورة عبس: الآیة 18 _ 19.
3- 3. سورة الجاثیة: الآیة 13.
4- 4. سورة الإنسان: الآیة 2.

برهانٌ للمحقّق الإصفهانی علی وجوب المعرفة

هذا، وقد ذکر المحقق الإصفهانی برهانا لوجوب المعرفة فقال:

لنا طریق برهانی إلی وجوب تحصیل معرفته تعالی، وهو أنّ کلّ عاقلٍ بالفطرة السّلیمة یعلم بأنه ممکن حادث معلول لمن لم یکن مثله فی الإمکان والحدوث، والشرایع الإلهیّة ما جاءت للتّصدیق بوجود المبدء والعلّة، بل لنفی الشّرک فی المعبود، ولذا کان أوّل کلمة أمر بها النّبی صلّی اللّه علیه وآله شهادة أن لا إله إلا اللّه، وهی أنه لا معبود إلا اللّه، مع اعتراف المشرکین بأنّه تعالی خالق السموات والأرضین کما نطق به الکتاب المبین، حیث قال عزّ اسمه: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالاْءَرْضَ لَیَقُولُنَّ اللّه ُ»(1) إلی غیر ذلک من الآیات.

ومن البیّن بعد التصدیق بوجود المبدأ، أن النفس فی حدّ ذاتها قوّة محضة علی إدراک المعقولات التی هی کمالها، وأشرف الکمالات النّفسانیّة معرفة المبدأ بذاته وصفاته وأفعاله بالمقدار الممکن، فإن شرف کلّ علم وعقل بشرف معلومه ومعقوله، وأفضل موجود وأکمله المبدأ.

فمعرفة المبدأ أشرف کمال وفضیلة للنفس، وبها نورانیّتها وبها حیاتها، کما أنه بعدم المعرفة أو بها یضادّها ظلمانیّتها وموتها، والقرب الحاصل للجوهر النّفسانی من المبدأ صیرورته وجودا إضافیّا نوریّا للمبدأ، خصوصا إذا کان بنحو الشّهود الرّوحی، وبالأخص إذا فنی فی مقام الإستغراق فی اللّه الموجب لبقائه باللّه تعالی.

ص: 375


1- 1. سورة لقمان: الآیة 25.

فهذه المرتبة عین السّعادة والابتهاج بشهود المبدأ، کما أن عدمه عین البعد عن معدن النّور والتّخلد فی عالم الطّبیعة والحرمان عن ینبوع الحیاة. وبقیّة الکلام فی محلّه.(1)

المناقشة فیه

ولکنّ هذا البرهان یفید وجوب تحصیل جمیع العلوم الدینیّة علی المکلّفین، وهذا یستلزم اختلال النّظام، هذا نقضا. وأمّا حلاًّ، فإنه لا دلیل علی وجوب تحصیل الأشرف.

والإشکال الثالث أیضا مندفع، لأنّ التصدیق بوجود المنعم من مراتب شکر المنعم، وقد تقدّم نصّ کلام المحقق الإصفهانی فی ذلک.

وهذا تمام الکلام علی الاستدلال بوجوب شکر المنعم لوجوب المعرفة.

الإستدلال لوجوب المعرفة باحتمال الضّرر فی الترک

وقال فی الکفایة:

ولاحتمال الضّرر فی ترکه(2)

وتوضیحه:

أنا نحتمل وجود المبدأ، ونفی هذا الإحتمال غیرممکن، لأنّه یتوقّف علی

ص: 376


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 414 _ 415.
2- 2. کفایة الأُصول: 330.

الإحاطة بالوجود بتمامه والوصول إلی عدم وجود المبدء، والإحاطة غیرممکنة أوّلاً. وغیرواقعة ثانیا. علی أنه لو فرض، فلیس له أنْ ینفی وإنما یقول لا أعلم.

ثم إنّ احتمال وجود المبدء، یستتبع احتمال المؤاخذة علی عدم العلم بأحکامه والإمتثال لها، ودفع هذا العقاب المحتمل لازم عقلاً، فتجب معرفته عقلاً.

لکنّ وجوب معرفته عقلاً بهذا البرهان لیس نفسیّا، وإنما لدفع العقاب المحتمل.

إشکال المحقق الاصفهانی

فقال المحقق الإصفهانی فی الشرح: إما عطفٌ علی قوله: «لذلک» فیکون تعلیلاً لخصوص معرفة النبی والوصی علیهما السّلام، کما هو أقرب الوجهین. أو عطف علی قوله: «أداءً لشکر بعض نعمائه...» فیکون تعلیلاً لتحصیل المعرفة مطلقا، کما هو أبعد الوجهین، وإنْ کان صریح تعلیقته الأنیقة علی الرسائل هو الثانی.

والمراد بالضّرر، إن کان زوال النعمة وشبهه، کما علّل به وجوب الشکر فی کلماتهم، فهو فی حدّ ذاته لا یستلزم العقاب، بل غایة الضّرر المترقّب منه زوال النعمة وشبهه.

وإنْ کان المراد من الضّرر المحتمل فی ترک تحصیل المعرفة هو العقاب، فالعقل یستقلّ بدفعه.

لکنک عرفت فی هذا المبحث وفی المباحث المتقدّمة: أنْ لا بعث من العقل نحو ترکه ودفعه، ولا یندرج مثله تحت قاعدة التحسین والتقبیح العقلیین.

ص: 377

نعم، کلّ ذی شعور بالجبلّة والطبع لا یقدم علی العقاب _ مقطوعا کان أو محتملاً _ ومثله یکفی فی دعوته نحو تحصیل المعرفة.(1)

الجواب عنه

ویمکن الجواب عنه:

أوّلاً: إنّ الغرض إثبات وجوب تحصیل المعرفة، فلیکنْ عن طریق الجبلّیة، فإنه إنْ لم یکن أقوی من طریق العقل فلیس بأضعف منه.

وثانیا: إنه لا منافاة بین الجبلیّة وحکم العقل، أمّا کون المعرفة فطریّة، فلا کلام فیه، قال تعالی: «فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حَنیفًا فِطْرَتَ اللّه ِ الَّتی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها».(2) وأمّا عقلاً، فقد ذکر المحقق الإصفهانی برهانا عقلیّا، وقد تقدّم نصّ کلامه.

ولیت هذا المحقّق استحضر کلام الإمام علیه السّلام مع الزندیق حول وجود الصّانع، إذ قال له: إنْ کان الحکم قولنا نجونا وهلکتم...(3)

وعلی الجملة، فإنّ الضّرر المحتمل هنا هو العقاب الشّدید، وما من عاقل إلاّ ویقول بلزوم دفع هذا الضّرر.

فهذا البرهان تام إلاّ أنه لا یفید الوجوب النفسی للمعرفة.

ص: 378


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 412.
2- 2. سورة الروم: الآیة 30.
3- 3. الکافی 1 / 78، باب حدوث العالم من کتاب التوحید.

کلام الکفایة فی معرفة النبیّ والوصیّ

وأمّا قول صاحب الکفایة: «... ومعرفة أنبیائه، فإنهم وسائط نعمه وآلائه، بل وکذا معرفة الإمام علی وجهٍ صحیح، فالعقل یستقل بوجوب معرفة النبی ووصیّه لذلک... ولایجب عقلاً معرفة غیر ما ذکر إلاّ ما وجب شرعا معرفته، کمعرفة الإمام علی وجهٍ آخر غیر صحیح...»

فقد أوضحه فی الحاشیة، إذ کتب علی «علی وجهٍ صحیح»: وهو کون الإمامة کالنبوة منصبا إلآهّیا یحتاج إلی تعیینه تعالی ونصبه، لا أنها من الفروع المتعلّقة بأفعال المکلّفین وهو الوجه الآخر.

أقول:

قد ذکرنا فی بحوثنا فی الإمامة: أنّ الذی علیه أصحابنا هو کون الإمامة کالنبوّة منصبا إلآهیا، وأنّ جماعة من أکابر العامّة کالقاضی البیضاوی قد تبعونا علی ذلک، وأوردنا هناک الأدلّة علیه من العقل والنقل بالتفصیل، وأبطلنا الوجه الآخر الذی علیه جمهور العامّة القائلین بأنّ نصب الإمام بید الناس وأنّ الإمامة من الفروع لامن الاصول.

إلاّ أن الکلام هنا فی وجه القول بوجوب معرفتهم، والذی نصّ علیه شیخنا دام بقاه أنّ کون النبیّ والوصیّ علیهما السّلام وسائط النعم الالآهیّة لایکفی للإستدلال علی وجوب معرفتهم بقاعدة وجوب شکر المنعم، لأن المنعم الحقیقی هو اللّه عزّوجلّ، ومعرفة النعمة تصورّا وتصدیقا تلازم معرفة المنعم کذلک، لأنّ «النعمة» حقیقة ذات إضافة، ولا یتحقّق هذا المفهوم تصورّا وتصدیقا إلاّ بالمنعم

ص: 379

والمنعم، وهذا بدیهی بالنسبة إلی معرفة اللّه عند کلّ إنسان وإنْ کان فی أدنی مراتب التمییز والإلتفات إلی وجود الکمالات الموجودة عنده، والتی یعلم بالقطع والیقین أنها ممّن هو لیس مثله فی الإمکان، وحینئذٍ یکون بصدد الشکر له بحکم عقله.

أمّا بالنسبة إلی النبی والوصیّ، فلیس الأمر کذلک، لأنهم وسائط، فیحتاج إلی إثبات کونهم وسائط، وأنه کما یجب معرفة المنعم کذلک یجب معرفة الواسطة، وقاعدة وجوب شکر المنعم غیر وافیة بذلک.

أقول:

صحیحٌ أنّ النبیّ والوصیّ مخلوقان للمنعم الحقیقی، وکلّ ما عندهم من نعمة فمن اللّه، لکنّا قد استظهرنا من الأدلّة أنهم لیسوا مجرّد وسائط، بل إنْ اللّه یعطیهم النعم علی وجه التملیک، وما یعطونه للغیر ویوصلونه إلیه فهو من ملکهم. ولکنْ لامجال لتفصیل المطلب هنا.

ثم ذکر الاستاذ تمامیّة الإستدلال لوجوب معرفتهم بحکم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، إذ لا ریب فی دخالة معرفتهم فی معرفة غرض الباری من الخلقة، علی ما تقدّم.

وکذلک یتمّ الإستدلال علی ذلک بکونهم علیهم السّلام العلّة الغائیّة من الخلقة، فیصدق علیهم عنوان «المنعم» من هذا الحیث، وهذا معنی «بیمنه رزق الوری و بوجوده ثبتت الأرض والسماء»(1) فیجب الشکر لهم بحکم العقل بوجوب شکر النعم.

ص: 380


1- 1. زاد المعاد: 423.

بین «العلم» و«الاعتقاد»

و قد وقع الکلام بین الأعلام فی معنی «العلم» و«الاعتقاد».

قال المحقق الخراسانی فی المراد من اصول الدین: المراد بها ما یقابل الفروع، وهی التی لایطالب فیها أوّلاً وبالذات إلاّ العمل وإنْ وجب الإعتقاد بها باطنا... ثم اعلم: إن المطلوب فی تلک المسائل الاصولیّة باطنا أو المرغوب فیها قلبا، لیس هو مجرّد العلم بها، بل لابدّ من عقد القلب علیها والإلتزام بها والتسلیم لها، غیرجاحدٍ إیّاها بعد استیقانها، وإلاّ لزم إیمان المعاندین من الکفار الذین کانوا یجحدون ما استیقنت به أنفسهم، کما قال اللّه تعالی: «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ»، بناءً علی أنّ الظاهر أنه لیس المراد الجحد والإنکار باللّسان بل عن إنکار قلبی وعناد باطنی، أو خصوص ذلک ولو لم یکن بالّلسان. هذا ما یعتبر فیها من فعل القلب...(1)

والظاهر من کلام الکفایة أیضا، هو التغایر، وانفکاک أحدهما عن الآخر. واستدلّ لذلک بوجوه:

ص: 381


1- 1. درر الفوائد: 168.

الأول: الوجدان. استدل به جماعة منهم المشکینی.

و الثانی: إنه إن کان الإعتقاد علما یلزم أن یکون الکفار والمعاندون معتقدین، لأنهم علماء، مع أنهم کفار ولیسوا بمؤمنین.

والثالث: قوله تعالی: «وَ جَحَدُوا بِها وَاسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ».

و قیل: العلم هو الإعتقاد.

و قیل: العلم صفة، والإعتقاد فعل نوری وجودی لا یقبل الإنفکاک عن العلم بل هما متلازمان.

والعلم عند بعضهم من مقولة الإضافة، وعند آخرین من مقولة الکیف، وعند ثالث من مقولة الإنفعال، وعند أصحاب الحکمة المتعالیة هو «الوجود» مصداقا، فیکون الإختلاف بین العلم والوجود مفهومیّا. واختاره المحقق الإصفهانی، ففی الوجود العلمی یکون العلم صورةً للنفس، والإعتقاد أمر وجودی صادر من النفس، وقد عبّر عنه الإصفهانی بأنه فعل نوری وجودی للنفس.

قال شیخنا: وهذا الرأی الأخیر أدقّ الأنظار، وتوضیحه:

إنّ حقیقة العلم هو الحضور، وهو ینقسم إلی الحضور المقیَّد وهو التصدیق والحضور الساذج وهو التصوّر، قال رحمه اللّه: «فإن صورة هذا ذلک فقط تصوّر محض، ونفس هذا ذاک عند النفس إقرار من النفس وتصدیق منها». وحاصله: إن العلم التصدیقی لاینفکّ عن الإعتقاد بل منهما تلازم: «فما من علم تصدیقی إلاّ ومعه إقرار النفس بأن هذا ذاک».

والعلم تارة: فعلی، واُخری: إنفعالی _ بمعنی تأثّر النفس من الخارج _

ص: 382

والأوّل مطابق دائما مع وجوه الخارجی، بخلاف الثانی. قال: «فعقد القلب وإن کان ربط الشئ¨ بالقلب بربط وجود نوری زیادةً علی الربط العلمی الذی بلحاظه یطلق الإعتقاد علی العلم الإنفعالی، بل هذا علم فعلی من منشآت النفس، ووجوده الواقعی عین وجوده العلمی، دون المعلوم بالعلم الإنفعالی، فإن وجوده الواقعی غیروجوده العلمی، إلاّ إن الإشکال فیه من حیث هذا المعنی من الإقرار النفسانی والعقد القلبی لازم دائمی للعلم التصدیقی المقابل للتصوّر، فکلّ علم تصدیقی ملزوم لهذا الفعل القلبی، فما معنی اعتباره زیادة علی العلم التصدیقی؟ وقد بیّنا ملازمته فی مبحث الطلب والإرادة.

وإذ ظهر الفرق بین العلم التصوّری والعلم التصدیقی، فإذا أردنا أنْ نجعل «الإیمان» فی مقابل «الإعتقاد» فلا بد من کون الاول أسما اعتباریا تشریعیا، لکنّ کلّ امر اعتباری فلابدّ من رجوعه إلی الذّاتی، لأنّ کلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذّات، وقد وجدنا أنّ التّصدیق ذاتا لاینفکّ عن الإعتقاد. نعم، لیس هو بل یلازمه.

ثمّ إنه أجاب عن شبهة أنّه: کیف یکون الکافر کافرا مع أنه معتقد ومتیّقن؟ بوجهین:

أحدهما: أنّ الوهم لسلطنة علی العقل یزیل الإعتقاد وآثاره، وهذا معنی الآیة المبارکة.

والثانی: أن الجحود کان باللّسان، والإستیقان کان فی النفس، والذی دعاهم إلی الجحود هو العناد، ولا أثر لهذا الإستیقان لکونه مقارنا مع العناد، فهم کفرة.

وقد سبق أن «الإیمان» هیئة نورانیة راسخة فی النفس، بحیث تکون نسبة النفس إلیها نسبة الهیولی إلی الصّورة المادیّة، وإذا تحقق هذا المعنی

ص: 383

استحق الإنسان الثواب والجنة، وفی مقابلها الهیئة الظلمانیّة التی یستحق بها العقاب والنار.

وتلک «الهیئة» تارة: تحصیل من التقلید، وحینئذٍ لیس الصدر منشرحا للإسلام، فهذه مرتبة من الإیمان، واخری: تحصل من التحقیق والبرهان، وهذه مرتبة ثانیة، ولذا لا یطلق «العارف» علی «المقلّد». وثالثة: تحصل بمکاشفات ومشاهدات بالإضافة إلی المرتبة الثانیة. ورابعة: یستغرق الشخص فی عظمة من آمن به. وهذه المرتبة أیضا لها مراتب، فالمرتبة الثانیة «علم الیقین» وبعدها «عین الیقین» و مرتبة الفناء «حق الیقین».

هذه خلاصة مطالب المحقق الإصفهانی قدّس سرّه.

وأقول:

إنه تعرّض إلی هذه المطالب فی ثلاثة مواضع: فی هذا المقام، وفی مبحث الموافقة الإلتزامیة، وفی مبحث الطلب والإرادة. وقد وجدنا کلماته متناقضة بأشدّ التناقض، فقال هنا: «فإن صورة هذا ذاک فقط تصور محض، ونفس هذا ذاک عند النفس إقرار من النفس وتصدیق منها بوجوب کون تلک الصّورة الإدراکیّة الملزومة له علما تصدیقیّا. وعلیه، فما من علم تصدیقی إلاّ ومعه إقرار النفس بأنّ هذا ذاک، فالإلتزام بعقد القلب والإلتزام النفسانی زیادة علی العلم والیقین فی باب الإیمان، لئلاّ یلزم محذور الإلتزام بإیمان الکفار الموقنین الجاحدین بما استیقتت به أنفسهم کما نطق به القرآن الکریم لایجدی شیئا...». فإذن، یوجد یقین ملازم مع الإقرار حتی عند الکفار «لما مرّ من أنّ الإرتباط بالربّط العلمی یصحح صدق عقد

ص: 384

القلب علیه» قال: «ویمکن أن یقال فی دفع الشبهة أیضا: بأن المراد من الجحود هو الجحود لسانا، لکنه باعتبار انبعاثه إلی رذیلةٍ باطنیّة، وهی معاندته للحق ومعاداته للرّسول صلی اللّه علیه وآله وسلّم تحفظا علی الجاه واستکبارا علی اللّه وعلی الرسول، ومن الواضح أن المعاند للحق باطنا والمعادی للرسول قلبا، محتجب عن الحق وعن نور الإیمان، فإن الإیمان بالبعض والکفر ببعض کالکفر المطلق، فکفر الجاحد غیر مستند إلی عدم تصدیقه جنانا، لمامرّ من ملازمته للعلم والیقین، ولا لعدم عقد القلب فرضا وبناءً لعدم الإهتمام بشأنه بعد عقد القلب حقیقةً وربطه واقعا بما اعتقد به، بل لمعاندته قلبا مع الحق ومعاداته باطنا مع الرسول، وهما موجبان للکفر والإحتجاب عن الحق وعن الرّسول. هذا قلیل من کثیر ممّا ینبغی بیانه. واللّه المستعان».(1)

وقال فی الطلب والإرادة بعد نقل کلام عن صدر المتألهین «فإن عقد القلب علی شئ¨ غیرالیقین. قال تعالی: «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ» فالإقرار والجحود النفسیّان أمر معقول یشهد به الوجدان، وإلاّ لزم الإلتزام بإیمان الکفّار الموقنین بالتوحید والنبوّة، أو جعل الإیمان الذی هو أکمل کمالات النفس مجرّد الإقرار باللّسان».(2)

وقال فی الموافقة الإلتزامیّة: «إن الفعل القلبی ضرب من الوجود النوری، والوجود فی قبال المقولات، وهذا الفعل قائم بالنفس قیاما صدوریّا، فهو من

ص: 385


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 154.
2- 2. المصدر 1 / 112.

العلوم الفعلیّة دون الإنفعالیّة، ونسبة النفس إلیه بالتأثیر والإیجاد. وبالجملة، الأفعال القلبیّة أمور یساعدها الوجدان، فإن الإنسان کثیرا ما یعلم بأهلیّة المنصوب من قبل من له النصب، لکنه لاینقاد له قلبا ولا یقرّ به باطنا، لخباثة نفسه أو لجهة اخری، وإن کان فی مقام العمل یتحرک بحرکته خوفا من سوطه وسطوته. وهکذا کان حال کثیر من الکفار بالنسبة إلی نبیّنا صلّی اللّه علیه وآله، حیث أنهم کانوا عالمین بحقیّته کما نطق به القرآن، ومع ذلک لم یکونوا منقادین له قلبا ولا مقرّین به باطنا، ولو کان ملاک الإیمان الحقیقی نفس العلم التصدیقی لزم أن یکونوا مؤمنین به حقیقة، أو جعل الإیمان الذی هو أکمل کمالات النفس مجرّد الإقرار اللّسانی. وکلاهما ممّا لا یمکن الإلتزام به فافهم جیّدا».(1)

وأما جوابه قدّس سرّه عن الشبهة فغیر واف.

قال: الوهم یزیل أثر الیقین بل الیقین،

قلت: الوهم لا یزیل الیقین، فإن صاحب الوهم الغالب الجالس عند المیت یخاف منه لغلبة سلطان الوهم، ولکن إذا سئل أظهر یقینه بموته، وأنّه لایعود حیّا عادةً، فالیقین لایزیله الوهم، نعم یزیل أثره کما ذکر، فالکفار مؤمنون لکن غلبة الوهم ونحو ذلک أزالت أثر الإیمان وهو الإقرار باللّسان، وحیث لم یقرّوا ولم یرتبّوا الأثر علی إیمانهم فهم کافرون، قال اللّه تعالی: «الَّذینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ یَعْرِفُونَهُ کَما یَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» فهم مع معرفتهم کافرون، بل هم بحسب الآیة المبارکة _ کفرة حتی قبل غلبة الوهم علی معرفتهم ویقینهم.

ص: 386


1- 1. نهایة الدرایة 2 / 26.

فالصّحیح فی فهم المطلب _ وهو هل الإیمان نفس المعرفة أو بینهما مغایرة _ هو النظر فی الآیات والرّوایات، فإنّها تدلّ علی أن الإیمان متقوّم بالإضافة إلی المعرفة بشئ¨ آخر. قال تعالی: «إِنَّ أَوْلَی النّاسِ بِإِبْراهیمَ لَلَّذینَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِیُّ وَالَّذینَ آمَنُوا وَاللّه ُ وَلِیُّ الْمُوءْمِنینَ»(1) وقال: «إِلاَّ الَّذینَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللّه ِ وَأَخْلَصُوا دینَهُمْ للّه ِِ فَأُولئِکَ مَعَ الْمُوءْمِنینَ وَسَوْفَ یُوءْتِ اللّه ُ الْمُوءْمِنینَ أَجْرًا عَظیًما»(2) قال: «وَالْمُوءْمِنُونَ وَالْمُوءْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَیُقیمُونَ الصَّلاةَ وَیُوءْتُونَ الزَّکاةَ وَیُطیعُونَ اللّه َ وَرَسُولَهُ أُولئِکَ سَیَرْحَمُهُمُ اللّه ُ إِنَّ اللّه َ عَزیزٌ حَکیمٌ * وَعَدَ اللّه ُ الْمُوءْمِنینَ وَالْمُوءْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْری مِنْ تَحْتِهَا الاْءَنْهارُ خالِدینَ فیها وَمَساکِنَ طَیِّبَةً فی جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللّه ِ أَکْبَرُ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظیمُ»(3) وقال: «وَالَّذینَ آمَنُوا بِاللّه ِ وَرُسُلِهِ أُولئِکَ هُمُ الصِّدِّیقُونَ».(4)

و یعتبر فی الإیمان الطاعة والتسلیم للرسول. قال تعالی: «فَلا وَرَبِّکَ لا یُوءْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فی أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُوا تَسْلیًما».(5)

فظهر: إن الإیمان هو الإعتقاد مع الإطاعة والإخلاص والتسلیم للّه ورسوله.

و فی الخبر: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ «هُوَ الَّذی أَنْزَلَ السَّکینَةَ فی قُلُوبِ الْمُوءْمِنینَ» قال: هو الإیمان.

ص: 387


1- 1. سورة آل عمران: الآیة 68.
2- 2. سورة النساء: الآیة 146.
3- 3. سورة التوبة: الآیة 71.
4- 4. سورة الحدید: الآیة 19.
5- 5. سورة النساء: الآیة 65.

قال الرّاوی: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ «وَأَیَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ».

قال: هو الإیمان.(1)

فلیس المعرفة وحدها سکینةً وروحا من اللّه.

و تلخّص:

إن الإیمان مرکّب من المعرفة والتصدیق والتسلیم.

والعلم غیر الإعتقاد، وأحدهما ینفکّ عن الآخر کما قال المحقّق الخراسانی.

والحاصل:

إنّ «الإیمان» هو «المعرفة» التی «عقد القلب» علیها، ویدلّ علی اعتبار عقد القلب علی المعرفة قوله تعالی «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...» بناءً علی قولهم بأن «الجحد» فیها هو الجحد القلبی. لکنّ الجحود فی اللغة: إثبات ما فی القلب نفیه ونفی ما فی القلب إثباته.(2)

وفی الکافی فی روایةٍ، قسّم الکفر فیها إلی وجوه، ومنها: الکفر الجحودی، وهو علی قسمین: کفر الذین هم فی ریبٍ وشک، ینفون وجود الصّانع. وکفر آخر استدلّ له الإمام بالآیة.

ولا دلالة فی الخبر علی قولهم: بأنّ المراد من الجحد فیها هو الجحود القلبی، ففی الإستدلال بالآیة لما ذکر نظر.

ص: 388


1- 1. الکافی 2 / 15، بابٌ فی أنّ السکینة هیالإیمان، الرقم 1.
2- 2. مفردات ألفاظ القرآن: 187.

بقیت بحوث

1. حکم الجاهل بما یجب معرفته؟

إن کان جهله عن تقصیر فهو معاقب، وإن کان عن قصور _ والمفروض وجود الجاهل القصوری بالمبدء والمعاد والنبوة _ فلا یستحق العقاب، کما لا یخفی.

و هل یجوز للجاهل إنکار ما یجهله؟

قد یقال بالجواز، لعدم قیام الدلیل علی المنع من إنکار ما لم یقم دلیل علی ثبوته.

لکنّ الصحیح هو العدم، فکما لا یجوز الإقرار لا یجوز الإنکار، لأنّ کلاًّ منهما یتوقف علی العلم وقد قال تعالی «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ».

2. هل أدلّة الظنّ الخاصّ تفید اعتباره فی المسائل الاعتقادیة؟

إنه مع عدم العلم وحصول الظن الإنسدادی، فإنّ مقدّمات الظنّ الإنسدادی قائمة علی الأحکام العملیة لا الإعتقادیّة، والنتیجة علی الحکومة هی الإحتیاط. ولو جرت المقدمات فی الإعتقادیات أیضا لکانت النتیجة الإحتیاط، وهو یتحقق بالإعتقاد بالواقع علی ما هو علیه، ولا یجوز الأخذ بالظنّ. وأما علی الکشف، فالنتیجة هی اعتبار الظن فی الأحکام العملیّة.

3. حکم الظنّ فی القضایا التاریخیّة

هل للظنّ اعتبار فی القضایا التکوینیّة والتاریخیّة وسایر القضایا التی لا أثر شرعیّ لها؟

أمّا إنْ کان للقضیّة أثر شرعی، فإنّ الظنّ الخاصّ أو الإنسدادی معتبر

ص: 389

بلاکلام، أمّا حیث لا أثر شرعیّ، فإنّ الظن الإنسدادی غیرمعتبر، ولیس للعالم الإنسدادی الإخبار عن شئ¨ من الوقائع التاریخیّة وغیرها.

وأمّا الظنّ الخاصّ:

فعلی القول بالمنجزیّة والمعذریّة، فلا، لأنّه لاتنجیز وتعذیر فی القضایا والحوادث التاریخیّة.

وعلی القول بجعل الحکم المماثل، کذلک، إذ لا یعقل جعل الحکم المماثل فی القضایا التاریخیّة، لعدم کونها ذات أحکام.

وعلی القول بجعل المودّی، فإنّ مفاد الأدلّة هو واقعیّة ما أخبر عنه الثقة، لکنّ المجوّز للإخبار _ بناءً علی هذا المبنی _ لیس الواقع بل هو إحراز الواقع، فقول الإمام علیه السّلام: ما أدّی فعنیّ یؤدی، معناه أن ما أخبر به زرارة واقع، لکنّ الإخبار عن ذلک یتوقف علی إحرازه. أللهم إلاّ أنْ یدّعی الملازمة العرفیّة بین جعل المؤدّی بمنزلة الواقع وجعل ما یقوله زرارة _ مثلاً _ بمنزلة الواقع، بأنْ یقال: بأن أهل العرف یفهمون من تنزیل کلام الراوی بمنزلة کلام الإمام أنّ المؤدّی علم وهو مطابقٌ للواقع.

وعلی القول بالطریقیّة وأنّ الشارع جعل خبر الثقة کاشفا عن الواقع، یجوز الإخبار عن القضایا التاریخیّة، ولمّا کان الدلیل العمدة علی حجیّة خبر الثقة هو السّیرة العقلائیّة الممضاة من قبل الشارع، فإنّ العقلاء لایفرّقون بین موارد إخبار الثقة.

ص: 390

جبر الخبر الضّعیف بالعمل وکسر المعتبر بالإعراض

اشارة

وهذا البحث مهمٌ جدّا، ویترتّب علیه الأثر الکبیر علما وعملاً، فنقول:

لایخفی أنّ کلّ خبرٍ یراد الاستدلال به واستنباط الحکم منه لابدّ وأنّ تتوفّر فیه ثلاث جهات:

1. أنْ یکون السّند معتبرا.

2. أنْ تکون الدلالة تامّةً.

3. أن لایکون الخبر صادرا عن التقیّة.

فإنْ لم یکن الخبر معتبرا سندا، فهل یجبر ضعفه بعمل المشهور من قدماء الأصحاب، والمفروض عدم اعتبار الشهرة الفتوائیّة، أوْلا؟ ولو کان معتبرا، فأعرضوا عنه لسببٍ فی الأسباب وأفتوا علی خلافه، هل یسقط عن الاعتبار أوْلا؟

وإنْ کانت الدلالة مخدوشةً، فهل عمل المشهور بها یوجب تمامیّة الدلالة؟ ولو کانت تامّةً، فهل قیام الشهرة الفتوائیّة علی خلافها یوجب الوهن فی دلالتها؟

ولو وقع التعارض بین خبرین معتبرین سندا ودلالةً ولا مرجّح لأحدهما علی الآخر بحسب المرجّحات المنصوصة، فهل قیام الظنّ علی طبق أحدهما یوجب ترجّحه علی الآخر أوْلا، ولا یخفی أنّ المراد من «الظن» لیس الظنّ

ص: 391

الممنوع کالقیاس، بل الظن الذی قام الدلیل علی اعتباره، وإلاّ، فإنّ الأصل فی الظنون عدم الإعتبار، کما لا یخفی أن ذکر الشهرة الفتوائیّة هو من باب المثال، وإلاّ فإنّ المقصود هو الظنّ.

ولذا قال فی الکفایة فی عنوان البحث: الظن الذی لم یقم علی حجیّته دلیل، هل یجبر به ضعف السند أو الدلالة بحیث صار حجةً ما لولاه لما کان بحجّة، أو یوهن به ما لولاه علی خلافه لکان حجةً، أو یرجّح به أحد المتعارضین بحیث لولاه علی وفقه لما کان ترجیح لأحدهما أو کان للآخر منهما أم لا؟ ومجمل القول فی ذلک: إنّ العبرة فی حصول الجبران أو الرجحان بموافقته هو الدخول بذلک تحت دلیل الحجیّة أو المرجحیّة الراجعة إلی دلیل الحجیّة، کما أنّ العبرة فی الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دلیل الحجیّة...(1)

مختار صاحب الکفایة

ثم إنه اختار جبر ضعف السند فی الخبر بالظنّ بصدوره أو بصحّة مضمونه، وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد، وعدم وهن السند بالظن بعدم صدوره، وعدم وهن الدلالة إلاّ فیما کشف بنحوٍ معتبر عن ثبوت خللٍ فی سنده أو وجود قرینةٍ مانعةٍ عن انعقاد ظهوره فیما فیه ظاهر لولا تلک القرینة.

قال: وأمّا الترجیح بالظن، فهو فرع دلیل علی الترجیح به ولم یقم دلیل بالخصوص علی الترجیح به، وإنْ ادّعی شیخنا العلاّمة أعلی اللّه مقامه استفادته من

ص: 392


1- 1. کفایة الأُصول: 332.

الأخبار الدالة علی الترجیح بالمرجّحات الخاصّة.

قال: ومقدّمات الإنسداد فی الأحکام إنما توجب حجیّة الظن بالحکم أو بالحجّة لا الترجیح به ما لم یوجب ظن بأحدهما، ومقدّماته فی خصوص الترجیح لوجرت إنما توجب حجیّة الظنّ فی تعیین المرجّح لا أنه مرجّح إلاّ إذا ظنّ أنه أیضا مرجح.

وأمّا ما قام الدلیل علی المنع عنه کالقیاس، فلا یکاد یکون به جبر أو وهن أو ترجیح، وذلک لدلالة دلیل المنع علی إلغائه الشارع رأسا وعدم جواز استعماله فی الشرعیّات قطعا.

هذا، وظاهر قوله فی حاشیة الرسائل: الملاک عبارة عن الوثوق بالخبر ولا عبرة بوثاقة المخبر، هو أنّ المراد من «الظن» هو «الوثوق». ولکنّ لم یبیّن هل المقصود هو الوثوق الشخصی أو النوعی.

النظر فی کلامه

ویناقش فیما ذهب إلیه رحمه اللّه فی الکفایة:

أوّلاً: إنّه قال بأنَّ الظنّ یوجب الجبر، وإنْ نفی ذلک فی أربعة مواضع. فیرد علیه: إنّ الظنّ الذی لم یقم دلیل علی اعتباره بالخصوص لیس له اعتبار کالظنّ الذی قام الدلیل علی عدم اعتباره کالقیاس، فلماذا التفریق بینهما؟

وثانیا: إنّ ضمّ الظن بما هو ظنٌّ إلی الخبر غیرالمشمول لدلیل الاعتبار، کیف یفید له الاعتبار؟

ص: 393

وثالثا: إنّه لا فرق بین مقامی الجبر والوهن، فالقول بأنّ الظنّ بالصّدور وبالمضمون یوجب اندراج الخبر تحت ما یوثق بصدوره، أمّا الظنّ بالخلاف فلا یخرجه من تحت ما یوثق بصدوره، بلا وجهٍ.

مختار المیرزا

وأمّا المحقق النائینی، فملخّص کلامه(1) هو:

1. هل حجیّة الظواهر من حیث الدلالة وحجیّة الخبر یثبتان بالظنّ غیرالثابت حجیّته، کقول اللغوی أو الرجالی أمْ لا؟ فقال: الحق هو التفصیل. لأنّ الحجّة من حیث السند لیس إلاّ الخبر الموثوق بصدوره، ومن التعدیلات الرجالیّة یحصل ذلک، فیدخل الخبر فی موضوع الحجیّة وجدانا، فالعمل به لیس من جهة حجیّة قول الرجالی، إذ المفروض عدم ثبوت حجیّته، بل من جهة اندراج الخبر به فی موضوع الحجیّة.

وأمّا الحجیّة من حیث الدلالة، فموضوعها کون اللّفظ ظاهرا فی المعنی، وقول اللغوی المفروض عدم حجیّته لا یوجب ظهورا فی اللّفظ.

2. هل الشهرة یجبر بها ضعف الدلالة أو السّند؟ قال: الحق هو التفصیل. وذلک: لأنّ الشّهرة إمّا روائیّة أو عملیّة استنادیّة أو فتوائیّة مطابقیّة.

أمّا الشهرة الروائیّة، فلا ریب أن کثرة روایة أصحاب الأئمة لروایةٍ معیّنةٍ ولو کان فی سندها من لایوثق به، توجب الظنّ الإطمینانیّ باحتفافها بقرینة أوجبت

ص: 394


1- 1. اُجود التقریرات 3 / 276 _ 280.

الشّهرة بینهم _ لقرب عهده من زمان صدورها _ وذلک یوجب الوثوق بصدورها فتکون بذلک حجةً.

وأمّا الشهرة الإستنادیّة بین القدماء مع کون الرّوایة ضعیفةً فی نفسها، فتکشف بحسب العادة عن إطلاّعهم علی قرائن أوجبت اطمینانم بصدورها حتی أصبحت مدرکا لفتواهم. فلا محالة تکون الروایة بذلک داخلةً فیما یوثق بصدوره فیشملها دلیل الحجیّة.

وأمّا الشهرة الفتوائیّة المطابقیّة، حیث اشتهرت الفتوی علی طبق روایةٍ من دون استنادٍ لهم إلیها فی الفتوی، فلا تکشف عن ذلک، فلا توجب الوثوق بالصّدور فالحجیّة.

هذا کلّه بحسب السند.

وأمّا بحسب الدلالة، فحیث إن موضوع الحجیّة من هذه الحیثیّة هو کون الّلفظ بنفسه ظاهرا فی المعنی فیستحیل تحقّق ذلک بالشهرة الخارجیّة.

لایقال: الشهرة الإستنادیة لا تعلم إلاّ من کتب الإستدلال، ولکنّ الإستدلال فی کتب القدماء نادر جدّا، فما هو الجابر غیرمتحقّق، وما هو متحقق _ وهو الاستدلال فی کتب المتأخرین _ غیرجابر.

لأنه إذا علم فتوی القدماء من کتبهم ولم تکن الفتوی موافقةً لأصلٍ أو قاعدة، ولم یکن علیها دلیل واضح فی کتب الأخبار غیر الروایة التی یحتمل إستنادهم إلیها، فلا محالة تطمئن النفس باستنادهم فیها إلیها.

3. هل أن اشتهار الفتوی بخلاف ما هو حجة فی نفسه، یوجب وهنا فی السند أو الدلالة أمْ لا؟

ص: 395

أمّا بحسب السّند، فلا ریب فی أنّ إعراض المشهور عن روایةٍ صحیحةٍ وفتواهم بخلافها، یوجب الوثوق باطّلاعهم علی خللٍ فی الروایة من حیث الصدور أو جهة، فتخرج بذلک عمّا یوثق بصدوره لبیان الحکم الواقعی، فلا تکون حجةً. لکنّ ذلک مشروط: بکون الشهرة قدمائیّةً، وبکون الروایة بمرأیً ومسمع حیث یثبت إعراضهم عنها، وبأنْ لا تکون فتواهم علی الخلاف من جهة عدم وثاقة الروایة عندهم.

وأما من حیث الدلالة، فالذی اخترناه سابقا هو عدم موهنّیة اشتهار الخلاف للظهور، ولکنّ الإنصاف عدم استقامة ذلک، إذ کون الظهور بمرأیً ومسمعٍ من القدماء وعدم اعتمادهم علیه بل فتواهم بخلافه، یوجب الظن الإطمینانی باطّلاعهم علی قرینةٍ توجب إرادة خلاف الظاهر.

النظر فی کلامه

ویتوجّه علی کلامه وجوه:

الأوّل: إنّ صریح کلامه عدم حجیّة تعدیلات الرّجالیین، وحینئذٍ، کیف یکون تعدیلهم موجبا للوثوق بصدور الروّایة؟ إذا کان تعدیل الرجالی مع عدم حجیّته لکونه إخبارا عن الموضوع _ و خبر الواحد الثقة فی الموضوعات لیس بحجّةٍ _ یستلزم الوثوق بالصّدور، فتخصیص ذلک بهذا المورد بلاوجهٍ، وهذا یکشف عن عدم الملازمة. فالحق: دوران الأمر مدار الوثوق بصدور الروایة حتی تشملها أدلّة الاعتبار. فإطلاق القول بأنّ تعدیلاتهم مع عدم حجیّتها توجب الوثوق بالصّدور، غیرصحیح.

ص: 396

والثانی: إنّ ما ذکره من أنّ الشهرة الرّوائیة للروایة توجب الظنّ الإطمینانی باحتفافها بقرینةٍ، لایختص بإخبار أصحاب الأئمة عنهم علیهم السلام، فهو منقوضٌ بمالو أخبر جماعة ضعفاء عن خبر أو قضیّةٍ، فیلزم الوثوق بذلک، وهذا مما لایلتزم به. هذا أوّلاً.

وثانیا: سلّمنا، لکنّ الروایة الضعیّفة المعیّنة التی رواها الکلینی والصّدوق والشیخ فکانت مشهّرةً بین العلماء، فإنّ هذه الشهرة لاتکشف عن وجود القرینة الموجبة للوثوق، إذ من المحتمل قریبا أنهم إنما أوردوا الروّایة فی کتبهم لغرض جمع روایات الأئمة وضبطها وحفظها من الضّیاع، ومع هذا الإحتمال، لا یحصل الوثوق بالصّدور.

وثالثا: سلّمنا، ولکنْ من أین یثبت أنّ القرینة تلک لو وصلت إلینا أفادت الوثوق بالصّدور لنا؟

والثالث: إنّ ما ذکره فی الشهرة الإستنادیة، یرد علیه ما ورد علی ما ذکره فی الشهرة الفتوائیّة، وخاصّةً ما ذکرناه من أنّ من المحتمل قویّا أن تلک القرینة المزعومة لو وصلت إلینا ما کانت مقبولة عندنا.

محتملات الحجیّة

وبعد، فلنذکر أوّلاً محتملات الحجیّة فی مقام الثبوت، ثم ننظر فیها بلحاظ مقام الإثبات. وهی تسعة:

1. أن یکون الظن الشخصی حجّة، والخبر حجةٌ لکونه مفیدا للظن الشخصی.

ص: 397

2. أن یکون الظن النوعی حجّة، وخبر الثقة حجّة لإفادته الظن النوعی.

3. أن یکون موضوع الحجیّة هو «الوثوق الشخصی»، ومتی أفاد الخبر ذلک فهو حجّة.

4. أن یکون موضوع الحجیّة هو «الوثوق النوعی»، ومتی أفاد الخبر ذلک فهو حجّة.

5. خبر الثقة المفید للظن الشخصی حجّة.

6. خبر الثقة المفید للوثوق الشخصی حجّة.

7. الخبر المفید للظن النوعی حجّة.

8. خبر الثقة حجّة مطلقا، بقطع النظر عن الظن والوثوق.

9. الخبر المفید للوثوق النوعی حجّة.

أمّا فی مقام الإثبات:

فالأوّل باطل.

و أمّا الثانی _ وهو أن یکون المعتبر هو «الظن النوعی» وکلّما أفاده فهو حجة _ فهو الوجه المذکور فی أغلب الکلمات، ویستدلّ له بالسیّرة العقلائیّة، بل یمکن دعوی إنصراف أدلّة النهی عن اتباع الظن عن مثله.

لکنّ قیام السیّرة علیه أوّل الکلام، والإنصراف غیر تام...

فلا دلیل علی اعتبار الظن النوعی.

و أما الثالث، ففیه: إنه وإن کان الوثوق الشخصی حجةً، لکونه علماً عرفیّا عند العقلاء، وسیرتهم علی ذلک غیر مردوعة، لکنّ البحث فی الخبر،

ص: 398

والظن والوثوق الشخصیّان خارجان عن البحث. علی أنّ الظنّ لا اعتبار به للأدلّة الناهیة.

و أمّا الرابع، فقد ذهب إلیه بعضهم، لکن فیه: أنه لا دلیل علی لزوم متابعة الشخص للنوع فی الوثوق الحاصل لهم مع عدم حصوله للشخص، بل إن أدلّة النهی عن العمل بغیر علمٍ تمنعه عن المتابعة. اللهم إلاّ إذا کان الوثوق بحیث یحتج به العقلاء ویستغربون من عدم حصوله للشخص.

و أمّا الخامس _ وهو أن یکون الموضوع للحجیّة نفس الخبر لکن بقید إفادته للظن الشخصی _ فلا دلیل علیه فی مقام الإثبات، لا من الأدلّة اللّفظیة ولا من السّیرة العقلائیة.

و أمّا السّادس، فلا کلام فی صحّته، لکن الوثوق الشخصی علم عرفی وهو حجّة للسّیرة العقلائیّة، فیعمل بالخبر من هذا الباب لا من جهة أدلّة الإعتبار، ومع قطع النظر عن السّیرة، فإنّ الخبر المفید للعلم العرفی هو القدر المتیقن من الأدلّة.

و أما السّابع، ففیه: إن الظن النوعی لا دلیل علی اعتباره، وأمّا نفس الخبر، فلا دلیل علی حجیّة الخبر المفید للظنّ النوعی، لا من السیّرة ولا من الأخبار.

و أمّا الثامن _ وهو أن یکون موضوع الحجیّة خبر الثقة بمقتضی الروایات من «العمری وابنه...» و«لا عذر لأحدٍ...» ونحوهما، وهی غیر مقیّدةٍ بإفادة الظن أو الوثوق مطلقا. وحینئذٍ، لا یکون للعمل والإعراض أثر، لأنّ موضوع دلیل الإعتبار هو خبر الثقة بحسب الفرض.

ص: 399

لکنّ هذا الإحتمال یتوقف تمامیّته علی کون الأخبار هی دلیل الإعتبار، وعلی کونها تأسیسیّةً. وأمّا بناءً علی کونها إمضائیّة، فاللاّزم إثبات السیّرة علی حجیّة خبر الثقة مطلقا. لکنّها قائمة علی اعتبار خبر الثقة المفید للوثوق النوعی، بحیث أن العقلاء لا یعتنون معه باحتمال الخلاف. فثبت:

الإحتمال التاسع. وهو حجیّة خبر الثقة المفید للوثوق النوعی.

الأقوال فی المسألة

الأول: الجبر والکسر معا

هذا، وقد ذهب المشهور إلی أن عمل المشهور بالخبر غیرالمعتبر جابر له وإعراضهم عن الخبر المعتبر کاسر، والأصل فی ذلک هو احتمال القرینة الموجبة للجبر أو الوهن، کما یظهر من کلمات کثیر من الأساطین، کالمحقّق فی المعتبر، والشهید فی الدروس، والسید ابن طاووس فی فلاح السّائل، والبهائی فی مشرق الشمسین، والوحید البهبهانی فی تعلیقة الرجال الکبیر، والفیض الکاشانی فی الوافی، وصاحب المعالم فی المنتقی وغیرهم.

الثانی: لاجبر ولاکسر

وذهب السیّد الخوئی إلی أنّ عمل المشهور بالخبر غیرالمعتبر لایجبره، وإعراضهم عن الخبر المعتبر لایکسره.

وقد تبعه غیر واحدٍ من تلامذته.

ص: 400

والثالث: الجبر نعم والکسر لا

وذهب صاحب الکفایة رحمه اللّه إلی أنّ عملهم جابر، وأمّا إعراضهم فغیر کاسر.

التحقیق: عکس الثالث

وإلیه ذهب شیخنا الاستاذ والشهید الصدر، وهو المختار. وبیان ذلک فی ثلاث جهات:

الجهة الاُولی: فی جبر السّند وکسره

وللتحقیق فی المقام ننظر:

أوّلاً فی کلمات شیخ الطّائفة قدّس سرّه فی کتبه:

أمّا فی کتاب العدّة،(1) فذکر أنّ الخبر إنْ کان موافقا لأصلٍ عقلیٍ، فإنّه یؤخذ به للوثوق به حینئذٍ.

والأصل العقلی فی الأشیاء عند القدماء، إمّا أصالة الحظر کما علیه جماعة، وإمّا أصالة الإباحة کما علیه آخرون، وإمّا الوقف، وعلیه الشیخ نفسه.

وإذا کانوا یثقون بالروایة من جهة کونها موافقة للأصل، ونحن نخالفهم فی ذلک الأصل العقلی، فکیف یکون عملهم بالروایة جابرا لضعفها لنا؟

ص: 401


1- 1. العدّة فی الأُصول 1 / 143.

وأمّا فی الإستبصار،(1) فقد جعل ممّا یفید العلم بصدور الروایة کونها موافقةً لدلیل الکتاب أی لظاهره، وکذا إذا کان موافقا لفحوی الخطاب، أو کان موافقا لظاهر السنّة القطعیّة.

ولکنّ غایة ما یفید ذلک هو الظنّ بالصّدور أو الوثوق، أما العلم، فمن أین؟

علی أنّ الخبر الذی لیس بحجّةٍ کیف ینقلب حجّةً بالموافقة لظاهر الکتاب أو السنّة؟ ألیس فی الأخبار المکذوبة ما هو موافق لظاهر أحدهما؟

ثم یقع الکلام فی صغری الموافقة، ومع الخلاف بیننا وبین الشیخ فی ذلک کیف یتحقّق الجبر؟ مثلاً: الشیخ یری صیغة الأمر حقیقةً فی الوجوب لغةً وشرعا، ویری دلالته علی الفور، ودلالة النهی علی الفساد، ونحن مخالفون له فی هذه وفی غیرها، فکیف یکون عمل الشیخ جابرا للضعف لنا؟

وذهب الفیض الکاشانی(2) إلی أنّ تکرّر الروایة فی الاصول الأربعمائة یوجب إندراجها فی الأخبار المعتبرة، وقد اعتمد المحقق الخراسانی أیضا هذا الوجه.(3)

وهذا الوجه أضعف من سابقه کما لایخفی.

وذکر الشهید فی الذکری(4) وجها آخر، قال: بأنّ قدماء الأصحاب کانوا إذا

ص: 402


1- 1. الاستبصار 1 / 3 _ 4، خطبة المؤلّف.
2- 2. الوافی 1 / 22.
3- 3. درر الفرائد: 122.
4- 4. ذکری الشیعة 1 / 51: «وقد کان الأصحاب یتمسکون بما یجدونه فی شرائع الشیخ أبیالحسن بن بابویه _ رحمة اللّه علیه _ عند إعواز النصوص؛ لحسن ظنّهم به وانّ فتواه کروایته».

أعوزوا النصّ فی المسألة یأخذون بفتوی الصّدوق الأوّل ویجعلونها بمثابة النصّ.

ولکنّ احتمال اعتماد الصّدوق الأول علی الأخبار الضعیفة الموافقة للاصول والقواعد العقلیّة _ کما ذکر الشیخ فی العدّة _ موجود ولا دافع له. وهذا یکفی لسقوط هذا الوجه.

وتلخّص:

إنه لا وجه صحیح لجابریّة عمل الأصحاب لضعف الخبر.

ولکنّ الحق أنه لا یعتبر فی الوثوق بصدور الخبر والعمل به صحّة سنده بحسب الإصطلاح، فلا یتوقف العمل بالخبر علی توثیق النجاشی والشیخ لروایة _ کما علیه السید الخوئی ومن تبعه _ وإنما یحصل الوثوق بالصّدور من قرائن وامور اخری. فمثلاً: قد أکثر الکلینی فی اصول الکافی _ الذی ألّفه فی زمن سفراء الإمام علیه السّلام ووضعه لیکون مرجعا للشیعة فی عقائدهم ومعارفهم _ من الروایة عن المعلّی بن محمد، فروی عنه فی أبواب التوحید وصفات الباری والنبوّة والإمامة، فنحن نثق بروایاته هذه للخصوصیّات المذکورة، من غیر احتیاجٍ إلی توثیق النجاشی وغیره.

وأیضا، کم من خبرٍ ضعیفٍ سندا بحسب الإصطلاح ولکنّ الوثوق بصدوره حاصل لمن له اُنسٌ بکلمات أهل البیت ومعارفهم، فحدیث اللّوح عن جابر بن عبداللّه الأنصاری _ مثلاً _ ضعیف ب_«بکر بن حبیب»، ولکنّا نقطع بصدور هذا الخبر، لاشتماله علی دقائق وحقائق لایبقی معها مجالٌ للتأمّل فی قطعیّة صدوره.

ص: 403

ولما ذکرنا نظائر کثیرة جدّا.

هذا کلّه بالنسبة إلی الجبر.

وأمّا بالنسبة إلی الوهن بالإعراض، فنقول:

إن کان المدرک لحجیّة الخبر هو الأخبار، فمقتضی القاعدة هو عدم کسر إعراض المشهور للخبر الصحیح، إلاّ أن یکون کاشفا عن الجرح العملی، فیتعارض الجرح حینئذٍ مع التوثیق الرجالی، فإما یتساقطان، وإما یتقدّم جرح المشهور علی توثیق النجاشی مثلاً.

و إن کان المدرک لحجیّة الخبر ودلیل اعتباره هو السیّرة والأخبار إمضائیّة، أو قلنا بأن الإعراض لیس جرحا عملیّا، فلا یوهن إعراض المشهور الخبر الصحیح.

و التحقیق: إن الأخبار إمضائیّة، والمرجع هو السیّرة العقلائیّة العملیّة، والعقلاء إذا حصل الظنّ علی خلاف الخبر یترکون العمل به ولا یذمّون التارک له إن کان الرواة له ثقاة... هذه هی سیرتهم، ولو شک فی ثبوتها، فالقدر المتیقّن من عملهم بالخبر هو حیث لا یکون الظن علی خلافه.

فظهر: أن الصّحیح هو التفصیل بین الجبر والکسر، وهو مبنیّ علی کون السیّرة هی دلیل الإعتبار للخبر.

هذا کلّه بالنسبة إلی السّند جبرا أو کسرا.

ص: 404

الجهة الثانیة: فی جبر وکسر الدلالة

وأمّا بالنّسبة إلی الدلالة.

فالمشهور هو العدم من الطرفین، لأنّ الموضوع للحجیّة عبارة عن «الظهور»، وهو قالبیّة اللّفظ للمعنی عند العرف، وعمل المشهور لا یجعل غیر الظاهر ظاهرا، ولا إعراضهم یجعل الظاهر غیر ظاهر، إلاّ إذا أفاد العمل أو الإعراض الوثوق بقرینةٍ حافّة بالکلام ظهرت لهم وخفیت علینا.

والتحقیق هو التفصیل کذلک، لأن العمل لا یجبر الدلالة کما ذکر، لکنّ الإعراض إن أفاد الظن بالخلاف یؤثر، لأن الدلیل علی اعتبار الظهورات وحجیّتها هو السیّرة العقلائیّة، والظاهر الذی قام الظن علی خلافه غیر معتبر عندهم.

و قیل: بالتفصیل بین ما إذا ارید من الظاهر الکشف عن المراد، فمع الظنّ بالخلاف لا ینکشف، وارید الإحتجاج والإعتذار بالظاّهر، فإنّه یحتجّ ویعتذر به حتی مع الظن بالخلاف.

و فیه: إنه إذا کان المولی یعلم بوجود المظنّة علی الخلاف عند العقلاء، لزم علیه الإفهام وإلاّ لم یجز له المؤاخذة علی المخالفة. نعم، علی العبد إثبات وجود المظنّة علی الخلاف. فإذن، لا فرق بین مقامی الکشف عن المراد والإحتجاج والاعتذار.

الجهة الثالثة: فی الترجیح بالشهرة مثلاً وعدمه

و هذا البحث یرتبط بمباحث التعادل والتراجیح. وخلاصة الکلام هنا هو:

إنّ الشهرة الفتوائیّة ونحوها ظنّ لم یقم الدلیل علی اعتباره، وإذا سقط

ص: 405

الدلیلان عن الإعتبار بالتعارض _ لعدم شمول الأدلة لکلیهما، وشمولها لأحدهما ترجیح بلا مرجّح _ وجب الرجوع إلی ما عیّنه الشارع، ولا مرجعیّة لما لا اعتبار به، بل الدلیل قائم علی عدم اعتباره.

هذا بناءً علی القول بسقوط المتعارضین.

و أمّا علی القول بأنّ الخبرین إذا تعارضا فأحدهما لا علی التعیین هو الحجّة، کما علیه الخراسانی أو القول بالتخییر، فلا موضوع للترجیح، حتّی یبحث عن صلاحیّة الشهرة مثلاً لذلک وعدمها.

هذا تمام الکلام فی مباحث الظنّ.

و یقع الکلام فی الاصول العملیة إن شاء اللّه.

ص: 406

الفهرس

الأمارات ··· 7

حجیّة الظّهورات ··· 9

الظّهور ··· 11

المقام الأوّل فی مطلق الظواهر ··· 12

الجهة الأُولی ··· 12

الجهة الثانیة ··· 14

الجهة الثالثة ··· 15

المقام الثانی فی تفصیل المیرزا القمّی ··· 21

توجیه الشیخ ··· 22

جواب الشیخ ··· 24

ص: 407

النظر فی ذلک ··· 25

أجوبة المتأخرین عن التفصیل ··· 26

کلام المحقق الخراسانی ··· 26

کلام المحقق الهمدانی ··· 27

کلام المحقق النائینی ··· 27

کلام المحقق الإصفهانی ··· 29

النظر فی أجوبة المتأخرین ··· 32

کلام السیّد الاستاذ ··· 37

المقام الثالث فی تفصیل الأخباریین ··· 38

ما یستدلّ لهذا التفصیل ··· 39

تکمیلٌ ··· 49

حجیّة قول اللّغوی ··· 53

کلام المحقق الخراسانی ··· 55

ما یستدلّ به لحجیّة قول اللغوی ··· 56

وجوه أُخری للحجّیة ··· 58

الکلام علیه ··· 59

ص: 408

الوجه الثانی ··· 61

الکلام علیه ··· 61

تنبیه ··· 64

والتحقیق: ··· 66

تعارض قول اللّغویین ··· 67

فائدة الرجوع إلی اللغة ··· 68

الإجماع ··· 71

الإجماع المحصّل ··· 74

دلیل الحجیّة عند العامّة ··· 75

دلیل الحجیّة عند الإمامیّة: الکاشفیّة ··· 77

وجوه کاشفیّة الإجماع عن رأی المعصوم ··· 77

الوجه الأوّل ··· 77

الوجه الثانی ··· 77

الوجه الثالث ··· 78

الوجه الرابع ··· 79

کشف الاجماع عن الدلیل المعتبر؟ ··· 80

الکلام علیه ··· 80

ص: 409

الاجماع المنقول ··· 83

تنبیهات ··· 89

التنبیه الأوّل فی ندرة الإجماع ··· 89

التنبیه الثانی فی الکلام فی إجماعات السیّد والشیخ قدّس سرّهما. ··· 90

التنبیه الثالث فی الإجماع البسیط والمرکّب ··· 96

التنبیه الرابع فی تعارض الإجماعین ··· 97

التنبیه الخامس فی نقل التواتر ··· 99

الشهرة الفتوائیّة ··· 105

ما یستدلُّ به لحجیّة الشهرة الفتوائیّة ··· 107

الأول ··· 107

والثانی ··· 108

والثالث ··· 108

والرابع ··· 109

والخامس ··· 109

والسادس ··· 110

ص: 410

خبر الواحد ··· 113

تمهیدٌ ··· 115

أدلّة المانعین ··· 117

الکتاب ··· 117

الجواب: ··· 118

فی مرحلة الاقتضاء ··· 119

فی مرحلة المنع ··· 122

السنّة ··· 127

أجوبة الأعلام ··· 128

توضیحه: ··· 128

الإجماع ··· 136

أدلّة حجیّة خبر الواحد ··· 139

آیة النبّأ ··· 139

المقام الأوّل: فی المقتضی ··· 139

ما یعتبر فی مفهوم الشرّط ··· 145

ص: 411

الخلاف فی ثبوت المفهوم بین الشیخ والکفایة ··· 146

رأی المحققّ الإصفهانی ··· 148

الإشکال علیه ··· 148

کلام الکفایة وإیضاح الاصفهانی ··· 149

النظر فیه ··· 150

کلام الشیخ و جواب الإصفهانی ··· 152

المقام الثانی: فی المانع ··· 153

المانع الأوّل ··· 153

المانع الثانی ··· 154

الثانی: إن لفظ «الجهالة» یعمّ خبر العادل أیضا. ··· 154

تقدّم المفهوم حکومةً عند المیرزا ··· 155

إشکال العراقی علیه ··· 155

جواب السیّد الخوئی ··· 156

الإشکال علیه ··· 156

إشکالٌ آخر علی الحکومة ··· 157

وجوه الجواب عنه ··· 157

النظر فی الأوّل ··· 158

النّظر فی الثانی ··· 159

ص: 412

النظر فی الثالث ··· 160

تقریب الحکومة ببیان آخر ··· 160

الإشکال ··· 161

إشکال و جواب ذکرهما الشیخ ··· 161

تکمیلٌ ··· 162

الإستدلال بدلالة الإیماء والاقتضاء ··· 162

الإشکال علیه ··· 163

الاستدلال بحکمة الردع ··· 164

الإشکال علیه ··· 164

وفیه ··· 164

الإستدلال بوجه عقلی ··· 165

الإشکال علیه ··· 165

الاستدلال بمنطوق آیة النبأ ··· 165

إشکال المحقق الخراسانی ··· 166

الردّ علیه ··· 167

إشکالات علی الإستدلال بآیة النبأ ··· 168

ذکرها الشیخ وأجاب عنها ··· 168

ص: 413

1. إشکال المعارضة ··· 168

2. الإشکال بلزوم حجیّة خبر السیّد ··· 169

طریق العراقی لدفع الإشکال ··· 170

إشکال السیّد الخوئی ··· 171

الجواب عنه ··· 171

إشکال السیّد الخوئی ··· 172

الجواب عنه ··· 172

إشکالٌ طرحه الشیخ ··· 174

جواب الشیخ ··· 176

إشکال المحقق الخراسانی ··· 177

نظر شیخنا الاستاذ ··· 178

طریق صاحب الکفایة ··· 180

الإشکال علیه ··· 180

طریق المیرزا والإصفهانی ··· 181

الإشکال علیه ··· 182

الجواب ··· 183

الإشکال علیه ··· 183

التحقیق ··· 184

ص: 413

آیة النفر ··· 185

تقریب الإستدلال ··· 185

إشکالات الشیخ والکلام حولها ··· 186

الجواب: ··· 187

الثانی: ··· 189

الجواب ··· 190

الثالث: ··· 191

الجواب ··· 192

رأی الکفایة ··· 192

النظر فیه ··· 193

طریق الإصفهانی ··· 194

الرابع: ··· 195

الإشکال علی الشیخ ··· 196

آیة الکتمان ··· 201

کلام الشیخ: ··· 201

رأی صاحب الکفایة ··· 202

آراء المتأخرین ··· 203

ص: 414

الإشکالات الواردة علی الإستدلال ··· 204

آیة الذکر ··· 207

إشکالات الشیخ ··· 207

الکلام حول الإشکالات ··· 208

حول الاشکال الثالث ··· 209

حول الإشکال الأوّل ··· 210

حول الإشکال الثانی ··· 213

آیة الاُذُن ··· 215

إشکال الشیخ ··· 216

رأی الکفایة ··· 218

رأی العراقی ··· 219

رأی السید الخوئی ··· 220

رأی الاستاذ ··· 221

الاستدلال بالأخبار لحجیّة خبر الواحد ··· 223

الطائفة الاولی ··· 223

ص: 415

إشکالٌ ودفع ··· 224

الطّائفة الثانیة ··· 226

الطائفة الثالثة ··· 227

الطّائفة الرّابعة ··· 228

المطلب الثالث: فی التواتر فیما نحن فیه ··· 231

ردّ الاستاذ علی المیرزا ··· 238

التحقیق فی المقام بالنظر إلی کلمات الأعلام ··· 240

الإستدلال بالإجماع لحجیّة خبر الواحد ··· 247

الإجماع المحصّل ··· 247

الإجماع المنقول ··· 248

کلام الشیخ فی العدّة ··· 248

إشکال السیّد الخوئی ··· 249

دعوی صاحب المعالم ··· 250

الجواب ··· 251

رفع إشکال المعارضة بین إجماع الشیخ وإجماع السیّد ··· 251

أقول ··· 252

ما یشهد بصحّة دعوی شیخ الطائفة ··· 254

ص: 417

الإشکال الوارد ··· 256

الإجماع التقدیری ··· 258

إشکالان ··· 258

الإجماع العملی ··· 259

1. من الصّحابة ··· 259

2. من أصحاب الأئمة ··· 260

3. من العلماء ··· 261

4. من المسلمین طرّا ··· 262

الإستدلال بالسّیرة العقلائیّة علی حجیّة خبر الواحد ··· 265

هل هذه السّیرة مردوعة؟ ··· 267

إشکال المحقق الخراسانی ··· 268

الدفاع عن کلام الشیخ ··· 269

رأی المحقق الخراسانی ··· 270

الإشکال علیه ··· 272

تأیید الإصفهانی ··· 273

رأی الحائری الیزدی ··· 273

رأی العراقی ··· 274

ص: 418

الجواب ··· 275

رأی المحقق الإصفهانی ··· 276

استدلال صاحب الکفایة بالإستصحاب ··· 279

الإشکالات فی اقتضاء الآیات للرادعیّة ··· 280

بیان الإصفهانی ··· 281

الإشکال علیه ··· 281

بیان المیرزا ··· 282

بیان الحائری ··· 283

تقدّم الخبر بالحکومة ··· 285

بیان المیرزا ··· 285

بیان العراقی ··· 285

الکلام فی حدّ السیرة ··· 289

وجوه القول باعتبار العدالة ··· 295

الاستدلال العقلی علی حجیة خبر الواحد ··· 296

الوجه الأوّل ··· 296

إشکالات الشیخ ··· 297

رأی المیرزا ··· 299

ص: 419

رأی المحقق الخراسانی ··· 300

بیان المحقق الإصفهانی ··· 302

تنبیه ··· 308

المقام الثانی: الاصول اللّفظیة ··· 311

الوجه الثانی ··· 313

إشکال الشیخ ··· 314

الجواب ··· 314

الوجه الثالث ··· 315

الظنُّ المطلق ··· 317

الوجه الأوّل ··· 319

الوجه الثانی ··· 323

الوجه الثالث ··· 324

قانون الإنسداد ··· 325

المقام الأول ··· 325

رأی المیرزا ··· 326

رأی الإصفهانی ··· 327

ص: 420

رأی السید الخوئی ··· 327

رأی السیّد الاستاذ ··· 328

دفاع شیخنا الاستاذ عن الکفایة ··· 329

دفاع العراقی عن الکفایة ··· 330

الإشکال علیه ··· 332

المقام الثانی ··· 333

المقدمة الاولی ··· 333

المقدمة الثانیة ··· 334

المقدمة الثالثة ··· 336

المقدمة الرابعة ··· 337

إشکال المحقق الخوئی ··· 339

الجواب عنه ··· 340

المانع الثبوتی عند المیرزا والجواب عنه ··· 342

المانع الثبوتی عند الإصفهانی ··· 343

الجواب عنه ··· 344

هل یلزم محذور إثباتی؟ ··· 345

الإشکال علی الکفایة ··· 346

ما أفاده المحقق الإصفهانی ··· 347

ص: 421

الإشکال علیه ··· 347

نتیجة المقدّمات ··· 351

الإشکال علیه ··· 353

رأی المیرزا ··· 353

هل الحجیّة مطلقة أو مهملة؟ ··· 355

الکلام فی الأسباب ··· 355

الکلام فی الموارد ··· 358

الکلام فی المراتب ··· 359

الظنُّ فی الاعتقادات ··· 361

خلاصة کلام الشیخ ··· 361

خلاصة کلام صاحب الکفایة ··· 363

خلاصة کلام الإصفهانی ··· 364

النّظر فی کلام الإصفهانی ··· 365

إشکال الکفایة علی الشیخ ··· 366

النّظر فی الإشکالات ··· 368

إشکال المحقق الإصفهانی علی الاستدلال بوجوب شکر المنعم ··· 369

النّظر فی الإشکالات ··· 372

ص: 422

برهانٌ للمحقّق الإصفهانی علی وجوب المعرفة ··· 375

المناقشة فیه ··· 376

الإستدلال لوجوب المعرفة باحتمال الضّرر فی الترک ··· 376

إشکال المحقق الاصفهانی ··· 377

الجواب عنه ··· 378

کلام الکفایة فی معرفة النبیّ والوصیّ ··· 379

بین «العلم» و«الاعتقاد» ··· 381

بقیت بحوث ··· 389

1. حکم الجاهل بما یجب معرفته؟ ··· 389

و هل یجوز للجاهل إنکار ما یجهله؟ ··· 389

2. هل أدلّة الظنّ الخاصّ تفید اعتباره فی المسائل الاعتقادیة؟ ··· 389

3. حکم الظنّ فی القضایا التاریخیّة ··· 389

جبر الخبر الضّعیف بالعمل وکسر المعتبر بالإعراض ··· 391

مختار صاحب الکفایة ··· 392

النظر فی کلامه ··· 393

مختار المیرزا ··· 394

النظر فی کلامه ··· 396

ص: 423

محتملات الحجیّة ··· 397

الأقوال فی المسألة ··· 400

الأول: الجبر والکسر معا ··· 400

الثانی: لاجبر ولاکسر ··· 400

والثالث: الجبر نعم والکسر لا ··· 401

التحقیق: عکس الثالث ··· 401

الجهة الاُولی: فی جبر السّند وکسره ··· 401

الجهة الثانیة: فی جبر وکسر الدلالة ··· 405

ص: 424

المجلد 7

اشارة

ص :1

ص: 2

ص: 3

ص: 4

کلمة المؤلف

الحمد للّه رب العالمین ، والصّلاة والسّلام علی خیر خلقه وأشرف بریّته محمد وآله الطاهرین، ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعین من الأولین والآخرین.

وبعد :

فهذا هو الجزء السّابع من کتابنا ( تحقیق الاصول ) علی نسق الأجزاء السّابقة، نقدّمه للأساتذة الأجلاّء والفضلاء الأعزّاء فی الحوزات العلمیة، راجیا منهم الدعاء، ومن اللّه القبول والثواب بمحمد وآله الأطهار الأطیاب.

علی الحسینی المیلانی

1435

ص: 5

ص: 6

الأصول العملیة: المقدمات

اشارة

الأصول العملیّة

ص: 7

ص: 8

المقدّمات

ص: 9

ص: 10

1- الاصول العملیّة

کلام الشیخ فی الاصول العلمیة

الاصول العملیّة عند الشّیخ أدلّة علی الأحکام الظاهریّة فی ظرف الشک فی الحکم الواقعی. وقد یطلق علی هذا الحکم الظاهری عنوان الحکم الواقعی الثانوی، لأنه حکم واقعی للواقعة المشکوک فی حکمها وثانوی بالنسبة إلی ذلک الحکم المشکوک فیه.

(قال) ویسمی الدّلیل الدالّ علی هذا الحکم الظاهری «أصلاً».(1)

مثلاً: شرب التتن له حکم من الأحکام، فإذا فرضنا شک المکلّف فی ذلک الحکم، وفرضنا ورود حکم شرعی لهذا الفعل المشکوک الحکم، کان هذا الحکم الوارد متأخّرا طبعا عن ذلک الحکم المشکوک فیه. فذلک الحکم حکمٌ واقعی بقولٍ مطلق، وهذا الوارد ظاهری لکونه المعمول به فی الظاهر، وواقعی ثانوی، لأنه متأخّر عن ذلک الحکم لتأخّر موضوعه عنه.

ص: 11


1- 1. فرائد الاصول: 190.
الإشکال علی الشیخ

وقد أورد علی کلام الشیخ هنا بوجهین:

(الأوّل) إنّ البراءة العقلیّة لیست من الأحکام الظاهریّة، والحال إنها من الاصول العملیّة.

(الثانی) إن ما ذکره یشمل الأمارات، لأنه یقول بجعل الحکم الظاهری فی مواردها. علی أن موضوع الأمارة مقیّد بالشک _ کالأصل _ برهانا، غیر أنّ تقیّده به ثبوتی فقط _ بخلاف الأصل، فهو ثبوتی وإثباتی _ لأن أدلّة اعتبار الأمارة غیر مقیّدة بالشک إلاّ قوله تعالی «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».(1) لکنّ الصحیح عدم تمامیّة الاستدلال بالآیة علی حجیّة خبر الواحد کما تقدّم فی محلّه.

ولعلّه من هنا ذهب المیرزا إلی أنّ الأمارة فی مورد الشک لا أنّ الشک مأخوذ فی موضوعها.

ولکنّ التحقیق تقیّد موضوع الأمارة بالشک ثبوتا بالبرهان، وذلک لعدم تعقّل الإهمال فی موضوع الحکم، فإمّا هو مطلق أو مقیَد، فاعتبار خبر الثقة لا یمکن أن یکون مهملاً، وجعله حجةً حتّی بالنسبة إلی المتیقّن غیر معقول، فالإطلاق غیر معقول، وبقی التقیید، فهو حجة بالنسبة إلی غیر ذی الیقین، فکان موضوع الأمارة أیضا مقیّدا بالشک، غیر أنّ الکاشف عن تقیّده به هو العقل، ولا ینحصر مقام الإثبات بالکاشف اللّفظی.

ص: 12


1- 1. سورة الأنبیاء، الآیة: 7.

فظهر أن الشک مأخوذ فی موضوع الأمارة کالأصل،فالإشکال علی الشیخ وارد.

نعم، یفرّق بینهما من جهة أنّ الأمارة تحکی وتکشف عن الواقع، ولیس قوله صلّی اللّه علیه وآله _ فی حدیثٍ _ : «رفع ما لا یعلمون»(1) کذلک، ولذا تکون للأمارة الوسطیّة فی إثبات الواقع، بخلاف الأصل، فإنه هو الحکم فی ظرف الشک للخروج عن التحیّر.

وهذا المایز ذکره الشیخ وأخذه عنه من تأخّر.

ویمکن أن یقال أیضا: بأنّ الأمارة طریق إلی الواقع المشکوک فیه للشاک، والأصل یعیّن ما یعمله الشاک حینما لا طریق له إلی المشکوک. وبعبارة اخری: الاصول العملیّة _ العقلیّة والشرعیّة _ وظائف عملیّة والأمارة طریق علیها.

وأمّا الإستصحاب، فبناءً علی القول بحجیّته من باب السّیرة العملیّة أو الأخبار وکون الیقین السّابق أمارة علی الحکم فی الزمان اللاّحق، یکون ذا کشفٍ عن الواقع، فهو بناءً علی هذا من الأمارات لا الاصول.

کلام الکفایة

وأمّا المحقق الخراسانی(2)، فقد ذکر أن الاصول العملیّة هی التی ینتهی إلیها المجتهد بعد الفحص والیأس عن الظفر بالدلیل.

ص: 13


1- 1. کتاب الخصال: 417، باب التسعة، وسائل الشیعة 15 / 369.
2- 2. کفایة الاصول: 337.
إشکال المحقق الإصفهانی

مناقشة الإصفهانی

فقال المحقق الإصفهانی:(1) إنه أراد بهذا إدراج الاصول العملیّة وإخراج القواعد الفقهیّة.

أمّا إدراج الاصول العملیّة، فإن الأصل العملی _ علی جمیع المبانی _ لا یقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی، فلذا کان ما ینتهی إلیه المجتهد بعد الفحص والیأس عن الدلیل.

وأمّا إخراج القواعد الفقهیّة، فإن القاعدة الفقهیّة حکم للعمل ابتداءً، لا أن الفقیه ینتهی إلیها بعد الفحص والیأس عن الدلیل. مثلاً: قاعدة: «ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده» حکم شرعی یطبقّ فی مورده علی موضوعه، فقوله: «ینتهی...» إخراج للقاعدة الفقهیّة.

وبهذا یظهر الفرق بین «الأصل» و«القاعدة»، حیث أن الأصل یجری حالکون الحکم مشکوکا فیه، وأمّا الأمارة، فهی بنفسها حکم شرعی یتصف به الموضوع بما هو.

وأیضا: فإن الأصل إنما یطّبق بواسطة الفقیه، لأنّه الذی یبحث ویفحص عن الدلیل حتی الیأس فینتهی أمره إلی الأصل، أمّا الأمارة، فیمکن لغیر الفقیه أیضا تطبیقها فی موردها.

ثم أشکل الإصفهانی،(2) أمّا فی مرحلة إدراج الاصول العملیّة، فبأن مسلک

ص: 14


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 9.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 10.

صاحب الکفایة هو تعدّد العلم بتعدّد الغرض، فلابدَّ حینئذٍ من الغرض الجامع بین الغرضین المذکورین فی کلامه فی تعریف الاصول، فیجمع بین القواعد الممهّدة لاستنباط الحکم الشرعی والتی ینتهی إلیها المجتهد بعد الفحص والیأس.

فلابدّ من تصویر الجامع حتی یکون علم الاصول علما واحدا.

هذا أوّلاً.

وثانیا: إنّ حجیّة الأخبار سندا ودلالةً لیس ممّا ینتهی إلیه المجتهد، فلابدّ من إخراج هذه المباحث من علم الاصول، مع کونها من أهم مباحثه.

ثم قال المحقق الإصفهانی ما محصّله: إن عمل المجتهد فی علم الاصول هو التحقیق فی الواسطة فی التنجیز والتعذیر للأحکام الشرعیّة. مثلاً: یتحقّق عن أنّ خبر الثقة منجّز للحکم الواقعی أوْلا؟ هل الإستصحاب منجّز أوْلا؟ فعمله فی الاصول إثبات الواسطة فی التنجّز والتعذیر، وفی الفقه إقامة الواسطة وتطبیقها علی الفروع.

وعلی هذا، یکون احتمال المنجّز من مباحث الاصول.

وإذا کان هذا شأن علم الاصول، کان تحصیل الواسطة هو الغرض الجامع بین الغرضین. نعم، یلزم خروج قاعدة الطّهارة والحلّ والبراءة الشرعیّة، لأن مفاد قوله علیه السّلام: «کلّ شئ¨ فیه حلال وحرام فهو لک حلال...»(1) لیس هو التعذیر بالنسبة إلی الواقع، فلذا یکون من القواعد الفقهیّة. وکذا «رفع ما لا یعلمون». نعم، لا بأس بالبحث عنها فی علم الاصول استطرادا مع کونها خارجةً موضوعا.

ص: 15


1- 1. وسائل الشّیعة 17 / 89 ، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به.

وأمّا فی مرحلة إخراج القواعد، فبأنّ وزان القاعدة الفقهیّة وزان الأصل، لأنّ جعل الحکم المماثل فی ظرف الشک علی طبق الیقین السّابق فی الإستصحاب، یعمّ المجتهد والمقلّد کما هو الحال فی القاعدة. نعم، شرط جریان الإستصحاب فی الشبهة الحکمیّة هو الفحص والیأس عن الظفر بالدلیل، وهذا عمل الفقیه دون العامی، لکنّ الفقیه یقوم بهذا العمل نیابةً عن المقلّد، کما یقوم مقامه فی تطبیق القاعدة الفقهیّة علی موردها.

لکنّ الفرق بین القاعدة والأصل هو: أن کلّما یکون فیه جهة التنجیز والتعذیر فهو أصل، وما لیس فیه تلک الجهة فهو من المسائل الفقهیّة، وهی إمّا خاصّة کوجوب الصّلاة، وإمّا عامّة کقاعدة ما لا یضمن...

النظر فی الإشکال

ویمکن الدفاع عن صاحب الکفایة. فأمّا الإشکال الثانی فی مرحلة الإدراج، فغیر وارد، لأن البحث عن الأمارة سندا ودلالةً واقع فی طریق الإستنباط، وأمّا القاعدة الفقهیّة فهی حکم فقهی مستنبط.

وأمّا الإشکال الأوّل، فیندفع بالنظر إلی کلام صاحب الکفایة فی حاشیته علی الرسائل فی التعلیق علی قول الشیخ: «إعلم أن المکلف إذا التفت»(1)، حیث ذکر أن المهمّ للاصولی هو تحصیل المستند العقلی أو الشرعی للاقتحام أو الامتناع، وهذا هو الغرض الجامع.(2)

ص: 16


1- 1. فرائد الاصول: 2.
2- 2. درر الفوائد فی حاشیة الفرائد: 21.

وأمّا فیما نحن فیه، فهو بصدد بیان محلّ کلٍّ من القواعد الممهّدة والاصول العملیّة من هذا المهم، فالفقیه یلحظ أوّلاً القواعد الممهّدة، وأمّا الاصول، فهی التی ینتهی إلیها بعد الفحص والیأس عن القواعد.

ثم إن المحقق الخراسانی ذکر فی الحاشیة أن الاصول العملیّة یمکن تعمیمها للمجتهد والمقلّد، غیر أن المجتهد ینوب عن المقلّد فی ذلک. فالإشکال علیه غفلة عن کلامه هناک.

ویبقی الکلام فی وجه إخراج الإصفهانی البراءة عن الاصول وإدراجها _ مع قاعدة الحلّ _ فی القواعد الفقهیّة. وقد فرّق بین البراءة والإستصحاب: بأنّ الشّارع یحکم فی الإستصحاب ببقاء الحکم السّابق المتیقّن به فی ظرف الیقین، فهو باقٍ فی ظرف الشک اعتبارا أو أثرا، فیکون الیقین السّابق حجةً، ویکون مدلول أدلّة الإستصحاب جعل الحجّة فی ظرف الشک. وأمّا حدیث الرفع، فمدلوله عدم التکلیف، وعدم التکلیف جعلاً مثل ثبوت التکلیف جعلاً فی عدم کونه من مسائل الاصول. فمدلول حدیث الرفع مثل مدلول قاعدة الحلّ والإباحة.

أقول:

لا مجال للاستدلال بالنصوص _ مثل: «ما حجب اللّه...»(1) و«کلّ ما غلب اللّه علیه فاللّه أولی بالعذر...»(2) وغیرهما _ للجواب عمّا ذکره، لأنه لا یری هذه النصوص من أدلّة البراءة، بل التحقیق فی الجواب عمّا ذکره هو الإستناد إلی کلامه

ص: 17


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 163، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، رقم: 33.
2- 2. وسائل الشیعة 10 / 227، باب عدم صحّة صوم المغمی علیه.

حیث جعل قاعدة الإحتیاط منجزّة للواقع، ثم جعل مدلول حدیث الرفع فعلیّة عدم التکلیف. أی إنه موصل لعدم التکلیف، وفائدة هذا الإیصال عبارة عن عدم کون الإحتیاط منجّزا للواقع، فیکون مدلوله التعذیر، فتندرج البراءة فی المسائل الاصولیّة، وهذا نصّ کلامه:

«... یکون إیجاب الإحتیاط بداعی تنجیز الواقع، فإنه إیصال للواقع المحتمل بأثره،(1) فیرجع إلی جعل احتماله منجّزا له علی تقدیر ثبوته، فیصیر فعلّیا منجّزا علی تقدیر المصادفة کما فی الأمارة المعتبرة بهذا الوجه...

فإذا کان قوله علیه السّلام «رفع...» علی حدّ قوله: «کلّ شئ¨ لک حلال» جعلاً لعدم التکلیف کالجعل للإباحة، فلا محالة یکون إیصالاً لعدم التکلیف فی موارد الجهل بعبارة جامعة لها، فیکون مفاده فعلیّة عدم التکلیف ظاهرا لا عدم فعلّیة التکلیف، ... وحینئذٍ، ففائدة إیصال عدم التکلیف وجعل عدمه فعلیّا بإیصاله: دلالته علی عدم وجوب الإحتیاط المبلّغ للحکم الواقعی إلی مرتبة الفعلیّة والتنجّز...».(2)

وتلخّص: إندفاع إشکالاته علی صاحب الکفایة.

نعم، یرد علیه جعله الإستصحاب فی أوّل الکفایة من «القواعد الممهّدة» وقد جعله هنا من «الاصول العملیّة».

ص: 18


1- 1. المراد من الأثر هو «التنجیز»، لکن التنجیز هو أثر الواقع الواصل الذی قامت علیه الحجّة العقلیّة أو الشرعیّة لا الواقع المحتمل.
2- 2. نهایة الدرایة 2 / 176.
کلام المحقق النائینی

وقال المیرزا(1): تارةً یؤخذ الشک موضوعا للحکم الواقعی، کالشک فی عدد الرکعات، فإنه الموضوع لوجوب الرکعة المنفصلة وهو حکم اللّه الواقعی، سواء کشف الخلاف أوْ لا. واخری، یؤخذ موضوعا للحکم الظاهری، وهو الذی فی الاصول العملیّة.

فالاصول العملیّة هی التی اُخذ فیها الشک موضوعا للحکم الظاهری.

وهی علی قسمین، فمنها ما یختصّ بالشبهات الموضوعیّة، کأصالة الصحّة وقاعدة الفراغ، ومنها ما یعمّ الموضوعیّة والحکمیّة، وهو الاصول الأربعة.

أقول:

هذا الذی ذکره فی تعریف الأصل العملی لا ینطبق إلاّ علی أصالة البراءة الشرعیّة، لأنه الأصل الذی جعل الشّارع فی مورده الحکم الظاهری. وبیان ذلک:

إن البراءة العقلیّة المستفادة من قاعدة قبح العقاب بلا بیان _ وکذا الاصول العملیّة العقلیّة _ لیس فیها جعل من طرف الشّارع، فانتفاء الحکم الظاهری فیها واضح، وأمّا الاصول العملیّة الشرعیّة کالاستصحاب، فقد ذهب المیرزا إلی أن المجعول فیها هو الطریقیّة، وأنّها منزّلة بمنزلة العلم تعبّدا فی مقام العمل. وقد اختار فی الأصل المحرز أنه یقوم مقام القطع الطریقی کالأمارة _ وإنْ فرّق بینهما من جهة أنّ الأمارة قد اُلغی فیها احتمال الخلاف من جمیع الجهات، بخلاف

ص: 19


1- 1. فوائد الاصول 3 / 324.

الأصل المحرز، فقد اُلغی فیه من جهة الجری العملی _ وعلی هذا المبنی، لا یوجد فی الاصول المحرزة حکم ظاهری.

وأمّا أصالة الإحتیاط الشرعی، فهو حکم طریقی، لأنه قد جعل وسیلةً من أجل التحفّظ علی مصلحة الواقع، وحینئذٍ، فلا حکم فی مورده إلاّ الواقع، سوآء طابقه الإحتیاط أو خالفه. أمّا فی صورة المطابقة له، فواضح، لأن الحکم هو الواقع والإحتیاط مجعول لحفظه، وأمّا فی صورة المخالفة، فلا واقع، فلا معنی للجعل تحفّظا علیه. وعلی الجملة، فلا یوجد حکم ظاهری فی مورد أصالة الإحتیاط.

فظهر أن لا مورد لتعریفه إلاّ أصالة البراءة الشرعیّة، حیث جعل فیها الترخیص وهو حکم ظاهری، فإذا کان منافیا للواقع أو مماثلاً له لزم الجمع، وقد جمع المیرزا باختلاف المرتبة.

کلام المحقق الخوئی

وأمّا السیّد الخوئی، فقد ذکر أن المسألة الاصولیّة ما یمکن أن تقع نتیجتها فی طریق استنباط الحکم الکلّی الفرعی، بحیث تکون نسبتها إلی الإستنباط نسبة الجزء الأخیر من العلّة التامة إلی المعلول.

ثم قسمّ المسألة الاصولیّة إلی أقسام.(1)

ص: 20


1- 1. مصباح الاصول 2 / 246.

أقول:

فی کلامه مواقع للنظر، ویکفی أن نقول: بأن الاصول العملیّة الشرعیّة منها والعقلیّة لا تقع فی طریق استنباط الحکم الکلّی.

وتلخّص:

إن الحق مع صاحب الکفایة. وقد ذکرنا ما له نفع فی المقام بشرح کلامه فی أوّل الکتاب. فراجع.

* * *

ص: 21

2- الحظر والإباحة

اشارة

قد اختلفت کلمات الأصحاب فی تعریف المباح والمحظور.

کلام السیّد

فقال السیّد قدّس سرّه:

إعلم أنَّ حدَّ المباح یتضمّن إثباتا ونفیا وتعلّقا بالغیر: فالإثبات هو حسنه، والنّفی هو أنْ لا مدح فیه ولا ذمَّ ولا ضرر، والتّعلیق هو أن یعلم المکلّف أو یدلّ علی ذلک من حاله، وبمجموع ما ذکرناه ینفصل من وجوه الأفعال الباقیة. لأنَّه بکونه حسنا ینفصل من القبیح، وممّا لیس بحسن ولا قبیح، وبکونه لا ضرر فیه ولا مدح ولا ذمّ ینفصل من الندب والواجب، وبالتّعلق ینفصل من الحسن الذی یقع من اللّه _ تعالی _ ولا صفة له زائدة علی حسنه، کاستیفاء العقاب، لأنّه _ تعالی _ لا یجوز أن یعلم ولا یدلّ، ومن أفعال البهائم ومن جری مجراها.

ص: 22

وأمّا حدّ المحظور، فهو القبیح الذی قد اُعلم المکلّف أو دُلّ علی ذلک من حاله، لأنه بما ذکرناه یَبین من کلّ ما یخالفه.(1)

کلام شیخ الطائفة

وقال شیخ الطائفة قدس سرّه:

إعلم أنّ معنی قولنا فی الشّیء إنّه محظورٌ: «أنّه قبیحٌ لا یجوز له فعله»، إلاّ أنّه لا یُسمّی بذلک إلاّ بعد أن یکون فاعله أُعلم حظره، أو دلّ علیه، ولأجل هذا لا یقال فی أفعال اللّه تعالی أنّها محظورة، لما لم یکن أُعلم قبحها، ولا دلّ علیه، وإن کان فی أفعاله ما لو کان فعله لکان قبیحا.

وکذلک لا یقال فی أفعال البهائم والمجانین أنّها محظورة، لما لم یکن هذه الأشیاء أُعلم قبحها ولا دلّ علیه.

ومعنی قولنا: «أنه مباح» أنّه حسن ولیس له صفة زائدة علی حسنه، ولا یوصف بذلک إلاّ بالشّرطین اللّذین ذکرناهما من إعلام فاعله ذلک أو دلالته علیه، ولذلک لا یقال أنّ فعل اللّه تعالی العقاب بأهل النار مباح، لما لم یکن أعلمه ولا دلّ علیه، وإن لم یکن لفعله العقاب صفة زائدة علی حسنه وهی کونه مستحقا.

وکذلک لا یقال فی أفعال البهائم أنّها مباحة، لعدم هذین الشّرطین.

قال: أفعال المکلّف لا تخلو من أنْ تکون حسنةً أو قبیحة، والحسنة لا تخلو من أنْ تکون واجبةً أو ندبا أو مباحا...(2)

ص: 23


1- 1. الذریعة إلی اُصول الشریعة 2 / 321 و 324.
2- 2. العدّة فی اصول الفقه 2 / 739 _ 741.
کلام المحقق النائینی

کلام المیرزا

ثم إنّ المحقق النائینی ذکر فی الأمر السّادس من مقدّمات مبحث البراءة أنه: قد یتوهّم أن البحث عن مسألة کون الأصل فی الأشیاء الحظر أو الإباحة یغنی عن البحث عن مسألة البراءة والإشتغال، بل البحث عن إحدی المسألتین عین البحث عن الاخری، فلا وجه لعقد مسألتین یبحث فی إحداهما عن الحظر والإباحة، وفی الاخری عن البراءة والإشتغال.

ولکن التحقیق: إن البحث عن إحداهما لا یغنی عن الاخری، لأنّ جهة البحث عن کون الأصل فی الأشیاء الحظر أو الإباحة تغایر جهة البحث عن أصالة البرائة والإشتغال من وجهین:

أحدهما: إنّ البحث عن الحظر والإباحة ناظر إلی حکم الأشیاء من حیث عناوینها الأوّلیة بحسب ما یستفاد من الأدلة الإجتهادیّة، والبحث عن البراءة والإشتغال ناظر إلی حکم الشک فی الأحکام الواقعیّة المترتبة علی الأشیاء بعناوینها الأوّلیة، فللقائل بالإباحة فی تلک المسألة أن یختار الإشتغال فی هذه المسألة وبالعکس.

ثانیهما: إنّ البحث عن الحظر والإباحة راجع إلی جواز الإنتفاع بالأعیان الخارجیة من حیث کونه تصرّفا فی ملک اللّه تعالی وسلطانه، والبحث عن البرائة والإشتغال راجع إلی المنع والترخیص فی فعل المکلّف من حیث إنّه فعله وإن لم یکن له تعلق بالأعیان الخارجیّة کالتغنّی؛ فتأمّل.

وقد یقال: إنّ البحث عن مسألة الحظر والإباحة ناظر إلی حکم الأشیاء قبل

ص: 24

ورود البیان من الشّارع، والبحث عن البرائة والإشتغال بعد ورود البیان. وهذا بظاهره فاسد، إن أُرید من القبلیّة والبعدیّة الزمانیّة، إلاّ أن یکون المراد أنّ البحث عن مسألة الحظر والإباحة إنّما هو بلحاظ ما یستقلّ به العقل مع قطع النظر عن ورود البیان من الشّارع فی حکم الأشیاء، والبحث عن البرائة والإشتغال إنّما یکون بعد لحاظ ما ورد من الشّارع فی حکم الأشیاء؛ وعلی کلّ تقدیر: لا تلازم بین المسألتین فضلاً عن عینیّة إحدیهما للاخری.

نعم، من قال فی مسألة الحظر والإباحة بالحظر، علیه إقامة الدّلیل علی انقلاب الأصل إلی البرائة؛ ومن قال فی تلک المسألة بالإباحة، فهو فی فسحة عن إقامة الدّلیل علی البرائة، بل علی الطرف إقامة الدّلیل علی الإشتغال؛ فالذی اختار فی مسألة الحظر والإباحة أحد الطرفین قد یستغنی عن إقامة الدّلیل علی ما یختاره فی مسألة البرائة والإشتغال، ویکون علی الخصم إقامة الدّلیل علی مدّعاه، وقد لا یستغنی ذلک، فتأمّل جیّدا.(1)

هذا، ولا یخفی ما فی قوله: من أنّ البحث عن الحظر والإباحة یرجع إلی جواز الانتفاع بالأعیان من حیث کونه... فإنه منقوض بتصرّف المکلّف فی جوارحه وهو تصرّف فی ملک اللّه، أللهم إلاّ أن یعدّها من الأعیان، فتأمّل.

الأقوال فی الأشیاء

وکیف کان، فالأقوال فی الأشیاء ثلاثة، قال شیخ الطائفة:

ص: 25


1- 1. فوائد الاصول 3 / 328 _ 329، وانظر: أجود التقریرات 3 / 288 _ 289.

وذهب کثیر من البغدادیّین، وطائفة من أصحابنا الإمامیّة إلی أنّها علی الحظر، ووافقهم علی ذلک جماعة من الفقهاء.

وذهب أکثر المتکلّمین من البصریّین، وهو المحکی عن أبی الحسن وکثیر من الفقهاء، إلی أنّها علی الإباحة، وهو الّذی یختاره سیّدنا المرتضی رحمه اللّه.

وذهب کثیر من النّاس إلی أنّها علی الوقف، ویجوز کلّ واحد من الأمرین فیه، وینتظر ورود السّمع بواحد منهما. وهذا المذهب کان ینصره شیخنا أبو عبداللّه رحمه اللّه، وهو الّذی یقوی فی نفسی.(1)

الأوّل: الحظر

والعمدة فی وجهه هو: إنّ التصرّف فی مال الغیر بدون الإذن منه ظلم علیه، والکائنات کلّها للّه، ففی المورد الذی لم یعلم الإذن والإباحة فیه منه یکون التصرّف ظلما.

وقد اُجیب عن ذلک بوجوه کلّها مخدوشة:

منها: إن عدم جواز التصرّف هو بملاک توجّه الضّرر علی المالک، ولا ضرر علی اللّه.

وفیه: لیس المنع بملاک الضرر، بل بملاک المزاحمة مع المالک فی سلطانه، والموارد التی یذکرونها، إمّا لیست من التصرّف حقیقةً کالإستضائة بمصباح الغیر، وإمّا أن الجواز ثابت بالسّیرة وغیرها.

ص: 26


1- 1. العدّة فی اصول الفقه 2 / 742.

ومنها: إن حکمة الخلق تقتضی الانتفاع بالمخلوقات، فالأصل هو الإباحة.

وفیه: لعلّ الحکمة شئ¨ آخر غیر ما ذکر ولا نعلم به.

فالتحقیق فی الجواب:

ما أشرنا إلیه من أن ملاک الحکم العقلی بقبح التصرّف فی مال الغیر هو المزاحمة فی السّلطان، وهذا المعنی غیر صادق بالنسبة إلی المالک الحقیقی وهو اللّه عزوجلّ، الذی لا یزاحم فی سلطانه أبدا، بل المتصرّف أیضا داخل فی ملکه تعالی. فالملاک مفقود، فالحکم العقلی المذکور منتف.

القول الثانی: الإباحة

قال السیّد ما ملخّصه: والصحیح قول من ذهب إلی أنه فی العقل علی الإباحة.

والذی یدلّ علی صحّته أن العلم بأن ما فیه نفع خالص من مضرّة عاجلة أو آجلة له صفة المباح وأنه یحسن الإقدام علیه، کالعلم بأنّ ما فیه ضرر خالص عن کلّ منفعة قبیح محظور الإقدام علیه، والعلم بما ذکرناه ضروری، کالعلم بقبح ماله صفة الظلم وحسن ماله صفة الإحسان والإنعام...

ولم یبق إلاّ أنْ یقولوا: دلّوا علی أنه لا مضرّة فیما ذکرتم من الفعل، ففیه الخلاف.

قلنا: المضرّة علی ضربین، عاجلة وآجلة.

فالعاجلة یعلم فقدها لفقد طرق العلم بها أو الظن بها، وللعلم أدلّة وطرق

ص: 27

وللظن أیضا أمارات وطرق، فإذا فقد کلّ وجوه العلم والظن، قطع علی انتفاء المضرّة العاجلة...

وأمّا المضرّة الآجلة فهی العقاب، وإنما یعلم انتفاء ذلک لفقد السّمع الذی یجب أنْ یرد به لو کان ثابتا، لأن اللّه تعالی لابدّ أن یُعلمنا ما علینا من المضارّ الآجلة التی هی العقاب الذی یقتضیه قبح العقل، وإذا فقدنا هذا الإعلام قطعنا علی انتفاء المضرّة الآجلة أیضا.(1)

القول الثالث: التوقّف

واستدلّ له بما ملخصهُ: إنه لا فرق بین ما هو معلوم القبح وما هو غیر مأمون من قبحه، فما لم تطمئن النفس بکونه غیر قبیح فلابدّ من التوقف فیه.

فإن قیل: عدم الإعلام بالقبح یقتضی الإباحة.

فالجواب: یمکن وجود المفسدة فی الإعلام أو المصلحة فی عدمه.

أقول:

دعوی عدم الفرق، أوّل الکلام، فإنه قیاس مع الفارق.

ثم إنه ما المراد من الشئ¨ غیر المأمون قبحه؟ إن کان المراد احتمال الضّرر أو المفسدة، فلا حکم عقلی بلزوم دفع الضّرر المحتمل أو المفسدة المحتملة. وإن کان العقاب، فإنه محتمل والعقل حاکم بلزوم دفع العقاب المحتمل.

ففیه: إن قاعدة قبح العقاب بلا بیان مؤمّنة.

ص: 28


1- 1. الذریعة إلی اُصول الشریعة 2 / 325.

فإن قیل: هذه القاعدة غیر جاریة لوجود البیان، وهو حکم العقل بقبح التصرّف فی مال الغیر، وحکمه بحقّ الطّاعة للمولی الحقیقی فی موارد الشک.

وإذا سقطت القاعدة، بقی احتمال العقاب بلا رافع، فلابدّ من التوقف.

قلنا: أمّا الأوّل ففیه: إنّ المنع من التصرّف فیما للغیر إلاّ بإذنه یقتضی لزوم تحصیل المؤمن حیث لا إذن، لأنّ الکلام فی مورد الشک فی الإباحة والحظر بالنسبة إلی الفرد المشکوک جواز التصرّف فیه بنحو الشبهة الموضوعیّة، وعلیه، فلیست القاعدة بمحرزةٍ للموضوع بل إنها تنطبق علی الموضوع المعلوم، فهی تقول: لا تتصرف فیما لیس لک إذن فی التصرّف فیه، ولا تفید وجود الإذن أو عدمه فی الموارد المشکوکة.

لکنّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان تفید الإذن فی التصرّف.

وأمّا الثانی ففیه: إن موضوع قانون حق الطاعة هو «الطاعة»، فإن علم بکون المورد طاعةً وجب، وأمّا مع الشک فی کونه طاعةً أوْ لا، یکون التمسّک بهذا القانون من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة.

فإن قیل: فالعقل یحکم حینئذٍ بالإحتیاط.

قلنا: وجود هذا الحکم من العقل أوّل الکلام.

فتلخص:

إن الحق هو القول بالإباحة، لقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

* * *

ص: 29

3- الکلام فی النسبة بین الأمارات والاصول

اشارة

ونسبة الاصول بعضها إلی بعض

مقدّمات

(الأولی) إنّ خروج الشئ¨ عن موضوع الدلیل، تارةً: یکون تعبدیّا، واخری: وجدانیّا. والثانی تارةً: یکون بواسطة التعبّد، واخری: یکون تکوینیّا.

وأمّا الخروج عن المحمول، فهو عبارة عن «التخصیص» کخروج زید عن أکرم العلماء، مع کونه عالما.

والخروج الموضوعی التعبّدی هو «الحکومة»، کما لو قال: العالم الفاسق لیس بعالمٍ، فإنه سلب لعنوان «العالم» عن هذه الحصّة _ وهو الفاسق _ سلبا تعبدیّا، لکونه من أفراد العالم وجدانا.

والخروج الموضوعی الوجدانی ببرکة التعبّد هو «الورود»، کما لو جعل الشّارع الإحتیاط فی موردٍ، فإنه یکون واردا علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان،

ص: 30

لکون الإحتیاط بیانا، فینتفی موضوع القاعدة وجدانا إلاّ أنه بجعلٍ من الشّارع، فإنه الذی أعطی البیانیّة للإحتیاط.

وأمّا الخروج الوجدانی لا بالتعبد فهو «التخصصّ».

(الثانیة) إنّ الاصول تنقسم إلی شرعیّة وعقلیّة، والشرعیّة علی قسمین: محرزة أو تنزیلیّة، وغیر محرزة أو غیر تنزیلیّة.

(الثالثة) إن المسالک المهمّة فی مدلول أدلّة الأمارات ثلاثة:

أحدها: جعل الطریقیّة للأمارة إلی الواقع، کما فی قوله علیه السّلام: «لا عذر لأحدٍ من موالینا فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا».(1)

والثانی: جعل المؤدّی بمنزلة الواقع، کما یدلّ علیه قوله علیه السّلام: «العمری وابنه ثقتان، فما أدیّا إلیک عنّی فعنّی یؤدیان».(2)

والثالث: جعل المنجزیّة والمعذریّة. وهو المعروف عن صاحب الکفایة.

تقدّم الأمارة علی الأصل

وبعد الفراغ عن المقدّمات نقول:

إنّ الأمارات متقدّمة علی الاصول، ولکنْ بأیّ وجهٍ؟

فذهب الشیخ إلی أن الأمارة رافعة لموضوع الأصل. وحاصل کلامه(3) هو:

ص: 31


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 150، باب وجوب الرجوع فی القضاء والفتوی إلی رواة الحدیث من الشیعة...
2- 2. المصدر 27 / 138، باب وجوب الرجوع...
3- 3. فرائد الاصول: 191.

إن الأمارة متقدّمة علی الأصل فی المرتبة، لأنّ المأخوذ فی موضوع الأصل هو الشک فی الواقع، فالمجعول فی الأصل متأخر رتبةً عن الشک فی الواقع تأخّر الحکم عن موضوعه، والشک فی الواقع متأخّر طبعا عن الواقع. لکنّ الأمارة رافعة للشک، فهی متقدّمة علی الأصل بالحکومة.

وهذا ما استقرّ علیه رأیه وإنْ احتمل التخصیص.

التقدّم علی الطریقیّة

أقول:

لا ریب فی کون الشک مأخوذا فی موضوع الأصل، وفی الأمارة، ذهب الشیخ والمیرزا والعراقی _ کلّ بطریق _ إلی الطریقیّة والکاشفیّة، وأن تنزیل المؤدّی أو کونه منجّزا ومعذّرا من آثار الطریقیّة، یرشدک إلی ذلک أن الإمام یعطی الطریقیّة ثم یقول: «فما أدّیا فعنی یؤدیّان».

وعلی هذا، فإذا قام خبر الثقة مثلاً، فقد حصل العثور علی الواقع وتحقق الوصول إلیه من جهة حصول العلم التنزیلی بحسب التعبّد العقلائی الممضی شرعا، فتکون الأمارة حاکمة علی الأصل کحکومة: «لاربا بین الوالد والولد»(1) علی أدلّة حرمة الرّبا.

فهذا بیان وجه تقدیم الأمارة علی الأصل عند الشیخ علی مبنی الطریقیّة.

ص: 32


1- 1. مستدرک الوسائل 13 / 339 وفی الوسائل 18 / 135: لیس بین الرجل وولده ربا.

وأمّا ما ذکره المیرزا(1) من أن الشیخ قد جمع بین أدلّة الاصول والأمارات بنفس المناط فی الجمع بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی، فلا یمکن المساعدة علیه.

وبالجملة، فقد قدّم الشیخ الأمارة علی الأصل من باب الحکومة، لکنّه مبنیّ علی مسلکه فی الأمارات، وهو الطریقیّة وإلغاء احتمال الخلاف.

ویتوجّه علی ما ذکر: أن الشک مأخوذ فی موضوع الأمارة أیضا کالأصل، غیر أنّ أخذه فی الأصل ثبوتی وإثباتی، وفی الأمارة ثبوتی فقط، والکاشف عن أخذه فیه هو العقل، لاستحالة الإهمال فی موضوع دلیل اعتبار الأمارة، وإطلاقه _ لیکون معتبرا حتی بالنسبة إلی العالم _ کذلک، فهو مقیَّد بالجهل لا محالة. ومع أخذ الشک فی کلیهما لا وجه لتقدّم الأمارة رتبةً. نعم، الأصل متأخر رتبة عن الواقع.

إلاّ أنه یمکن دفع الإشکال: بأن الحکومة تتمُّ حتی مع عدم التقدّم والتأخّر رتبةً، لوجود ملاک الحکومة، لأن أحد الدلیلین بمحموله یتصرّف فی موضوع الدلیل الآخر، لأن المجعول فی باب الأمارات هو إلغاء احتمال الخلاف، فهو یتصرّف فی موضوع الأصل _ أعنی الشکّ _ برفعه.

ولایندفع الإشکال بما قیل: من أنّ الشکّ موضوع فی الأصل وفی الأمارة مورد.

لأنّ کونه موردا یعنی أنّ الأمارة محدودة به _ أی بالشک _ وإذا کانت محدودةً رجعت إلی التقیّد الذی ذکرناه.

ص: 33


1- 1. فوائد الاصول 3 / 326.

والحاصل: إن الشک مأخوذ فی الطرفین، غیر أنه فی الأمارة بالبرهان العقلی وفی الأصل بالدلیل اللّفظی، کحدیث: رفع ما لا یعلمون(1) الآتی ونحوه.

التقدّم علی المسلکین الآخرین

وأمّا علی المسلکین الآخرین فی الأمارات، فالموضوع وهو الشک غیر ملغی، فهو موجود غیر مرفوع لا تکوینا ولا اعتبارا، وحینئذٍ یترتّب علیه الحکم، ویقع التعارض بین دلیلی الأصل والأمارة.

وقد تفصّی المحقق العراقی عن هذا الإشکال(2) بما حاصله: إنه یکفی فی الحکومة کون أحد الدلیلین ناظرا إلی المحمول فی الدّلیل الآخر، ولا حاجة لأنْ یکون ناظرا إلی الموضوع برفعه أو وضعه.

وقد أُورد علیه: بأنّ النظر إلی المحمول یتم فیما إذا کان لأحد الدلیلین تعرّض لمحمول الآخر بحیث لولا هذا لکان ذاک لغوا، ومن هنا نقول بحکومة «لاضرر» علی أدلّة الأحکام الأولیّة، لکونه رافعا لها علی مبنی الشیخ فی تلک القاعدة. أمّا فیما نحن فیه، فلیس دلیل اعتبار خبر زرارة واقعا متعرّضا للحلیّة المجعولة فی قوله علیه السّلام «کلّ شئ¨ فیه حلال وحرام فهو لک حلال»،(3) وإذْ لا تعرّض فلا حکومة.

ص: 34


1- 1. وسائل الشیعة 15 / 369.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 197.
3- 3. وسائل الشیعة 17 / 89 .

والتحقیق فی وجه تقدّم الأمارة علی الأصل علی المسلکین الآخرین أن یقال:

إن اعتبار خبر زرارة علما یستلزم إلغاء الشک بالملازمة العرفیّة، وإذا تمّت هذه الدّلالة الإلتزامیّة تمّ تقدّم الأمارة بالحکومة وإلاّ لکان تقدّمها بالورود.

بیان ذلک: إن الموضوع فی أدلّة الاصول هو عدم العلم، ودلیل الأمارة لا یفید العلم بل مدلوله هو الأعم من العلم، لکنّ الإرتکازات العرفیّة الحافّة بالدّلیل قد تکون معمّمة له، ویکون بالنظر إلیها أعم، هذا من جهة. ومن جهة اخری: العلم له جهة ذاتیّة هی الحکایة عن الواقع، وجهة اخری هی الحجیّة، وهی أعمّ من الحکایة عن الواقع، فالعلم قد یؤخذ بلحاظ کونه کاشفا، وقد یؤخذ بلحاظ کونه حجّةً. وعدم العلم کذلک. ومقتضی الأصل کون العلم مأخوذا بما هو کاشف وکون عدم العلم مأخوذا بما هو غیر کاشف.

لکن عدم العلم المأخوذ فی موضوع الأصل قد أخذ بما هو غیر حجّة، أی: علی خلاف مقتضی الأصل الّذی ذکرناه، لوجود خصوصیّة فی هذا المقام، وهی أن الإرتکاز العقلائی یقتضی جعل الأصل لمن لیس له حجّة لالخصوص من لا علم له، وهذا ما قدّمناه من أن الإرتکاز قد یعمّم الدّلیل. ومن هنا، فلا إطلاق لقوله مثلاً: «کلّ شئ¨ نظیف»(1) بالنسبة إلی من عنده حجّة وإنْ لم یکن عنده علم.

ص: 35


1- 1. وسائل الشیعة 3 / 467.

وعلی ما ذکر، فإن معنی «رفع ما لا یعلمون» هو: ما لا حجّة علیه فهو مرفوع. ولمّا کانت الأمارة حجّةً فإنها تتقدَّم علی الأصل، لکنّ هذا التقدّم هو بالورود لابالحکومة، لأن حجیّة الأمارة وجدانیّة ببرکة التعبّد.

ولو أنکرنا الإرتکاز العقلائی المزبور کما أنکرنا الدلالة الالتزامیّة المذکورة قبله، فإنّ التقدّم سوف یکون بالتخصیص، وذلک، لکون النسبة بین دلیل الأمارة وأدلّة الاصول الأربعة کلّها نسبة الخاص إلی العام، لأنه مع الأخذ بأدلّة الاصول کلّها یلزم لغویّة دلیل الأمارة، وکذا لو اُخذ بأیّ واحد من أدلّتها _ للإجماع علی أنه مع أخذ الواحد منها یجوز أخذ غیرها _ وإذا لزمت اللغویّة، فلا مناص من أن یکون دلیل الأمارة مخصّصا.

هذا ما أفاده المحقق العراقی.

لکنّ التحقیق أن النسبة هی العموم من وجه، فإنْ أخذنا بالأصل فی مورد الإجتماع لزم لغویّة الأمارة، فیتعین الأخذ بها.

تقدّم الأمارة علی الأصل المحرز

إلاّ أنّ الکلام کلّه فی تقدّم الأمارة _ بناءً علی الطریقیّة _ علی الأصل المحرز کالإستصحاب، لأنّ کلیهما مجعولان لإحراز الواقع، فیکونان فی العرض، فِلمَ تتقدّم الأمارة؟

ذکر المیرزا وتلمیذه المحقق أنّ الشک فی الأصل موضوع وفی الأمارة مورد، ودلیل اعتبار الأمارة یرفع موضوع الأصل.

ص: 36

وفیه: إن موضوع الأصل هو عدم العلم، فلو کان ورود الأمارة فی مورد عدم العلم بالواقع غیر موجبٍ لتقیّدها لتمّ ما ذکر، لکنّ التقیّد بالمورد لابدّ منه، وإلاّ لتجاوزت الأمارة عن المورد ولم یکن موردا.

بل التحقیق هو النظر فی دلیل الإستصحاب، وهو إمّا السّیرة وإمّا الأخبار.

فإنْ کان السّیرة _ والأخبار الواردة فیه هی الدّلیل علی الإمضاء _ فإنّ دلیل اعتبار الأمارة هو السّیرة کذلک، فالسّیرة علی العمل بالإستصحاب معلَّقة علی عدم السّیرة علی العمل بخبر الثقة، وحیث أنّ السّیرة الثانیة قائمة بلاریب، فالأولی منتفیة، فلا موضوع للإستصحاب مع خبر الثقة.

وإنْ کان دلیل الإستصحاب هو الأخبار، فإن کانت الإرتکازات العقلائیّة صالحةً للتقیید، فلا کلام فی تقدّم الأمارة، لکون المرتکز عند العقلاء عدم الاعتناء بالیقین السّابق مع وجود خبر الثقة علی خلاف مقتضاه، فکان الإرتکاز مانعا عن انعقاد الإطلاق فی «لا تنقض الیقین بالشک»، بل یتقیّد بالشکوک التی لا رافع لها عقلاءً، فلا یقع التعارض بین دلیلی الأمارة والإستصحاب، بل دلیل الثانی مقیَّد من أوّل الأمر.

وإنْ لم تکن الإرتکازات صالحةً لتقیید دلیل الإستصحاب، فالأمارة مقدّمة کذلک، لأنّ دلیل حجیّة الإستصحاب من حیث الکبری أمر ارتکازی، وذلک قوله علیه السّلام: «لأنک کنت علی یقین... ولا ینقض الیقین بالشک أبدا»، والعقلاء لا یرفعون الید عن الأمارة المخالفة للیقین السّابق، بل الأمر بالعکس، وأنّ عدم رفع الید عنه بالأمارة غیر عقلائی.

ص: 37

وعلیه، فلا إطلاق لدلیل الإستصحاب، لأن حقیقة الإستصحاب لیس إلاّ تطبیق الکبری المذکورة، فالشکّ مع وجود خبر الثقة غیر عقلائی.

ولو تنزّلنا عن الإرتکاز، نقول: إن مدلول «لا تنقض...» هو عدم النقض عملاً، ومعنی ذلک هو إلغاء الشّارع الشکّ فی مورد الإستصحاب من حیث العمل فقط. لکنّ دلیل الأمارة یفید إلغاء الشک اعتبارا وعملاً واعتقادا، کما هو مفاد قوله علیه السّلام: «فما أدّی فعنّی یؤدّی» و«لا عذر لأحدٍ فی التشکیک...»

فالأمارة مقدّمة علی الإستصحاب علی کلّ تقدیر.

وأمّا تقدّم الإستصحاب علی البراءة وتقدّم الاصول بعضها علی بعض، فسیأتی البحث عن ذلک فی الإستصحاب إن شاء اللّه.

وأمّا تقدّم الأمارة علی الاصول العقلیّة، فبالورود، فهی تتقدّم علی الإحتیاط العقلی والبراءة العقلیّة والتخییر العقلی، لأنّ الأصل العقلی معلّق علی عدم مجیء البیان من الشّارع، والأمارة بیان.

* * *

ص: 38

4- الاصول ومجاریها

إنّ الاصول العملیّة محصورة فی الأربعة حصرا استقرائیّا، ومجاریها محصورة فی الأربعة بالحصر العقلی.

وقد ذکر الشیخ وجه الحصر فی أوّل البراءة، ثم دفع الإشکال الوارد علیه بقوله: «وبعبارة اخری...» فی أوّل الرسائل.

وقسّم المیرزا الاصول تقسیما یرتفع به الإشکال، وهو ما ذکره الشیخ بقوله: بعبارة اخری... .

وموضوع التقسیم هو «الشک»، فیرد حینئذٍ الإشکال من جهة اخری وهی:

إن البحث فی «الإحتیاط العقلی» یقع فی وجوب الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیّة. والوجوب والحرمة یکونان فی مورد العلم لا الشک.

والبحث فی «التخییر» یکون عن العلم بالتکلیف مع عدم القدرة علی الإمتثال تکوینا، فالموضوع فیه هو العلم.

ص: 39

والبحث فی «البراءة العقلیّة» یقع عن «اللاّبیان» وهو الموضوع لقبح العقاب، ولیس الموضوع هناک هو «الشک».

والبحث فی الإحتیاط الشرعی یقع عن «الشبهة» بالنسبّة إلی الحکم الواقعی فقط _ ولو کان هناک حکم ظاهری فلا إحتیاط _ بقرینة قوله: «القرعة لکلّ أمرٍ مشتبه».(1) و«الشبهة» بهذا المعنی الخاص غیر «الشک».

فظهر أن «الشک» لیس هو الموضوع فی کثیرٍ من الاصول. نعم هو الموضوع فی «الإستصحاب» و«البراءة الشرعیّة».

* * *

ص: 40


1- 1. لم نعثر علیه بهذا اللّفظ. أنظر: وسائل الشیعة 27 / 259.

5- مناشیء الشک

إنّ الشک بالنسبة إلی الحکم الواقعی ینشأ:

تارةً: من الأمر الخارجی، کما لو شک فی الذبیحة هل ذبحت بالحدید أوْ لا؟ فهذه شبهة موضوعیّة مصداقیّة، ویلازم ذلک کونها جزئیّة.

واخری: لا من الأمر الخارجی:

فتارةً: نحتمل وجود النصّ، مثل مسألة شرب التتن. فالشبهة حکمیّة.

واخری: یکون النصّ الموجود مجملاً.

فتارةً: الإجمال یکون من ناحیة الحکم، کالدلیل علی الدعاء عند رؤیة الهلال، حیث لا یعلم کونه دالاًّ علی الوجوب أو الحرمة.

واخری: الإجمال یکون من ناحیة الموضوع، کالغروب حیث یجهل مفهومه.

وثالثةً: یکون هناک نصّان متعارضان، فالمنشأ للشبهة هو تعارضهما وهما:

تارةً: مطلقان.

ص: 41

واخری: عامّان.

فتارة: یوجد المرجّح.

واخری: لا یوجد. فإمّا التخییر وإمّا التساقط. علی القولین.

ثم إنّ الشبهة:

إمّا وجوبیّة.

وإمّا تحریمیّة.

وکلٌّ منهما:

تارةً: نفسی.

واخری: غیری.

وقد بحث الشیخ عن التحریمیّة والوجوبیّة کلٍّ علی حدة.

بخلاف صاحب الکفایة.

فإنْ کان لمجرّد الوجوب والحرمة دخل فالتعدّد، وإلاّ فما صنعه صاحب الکفایة هو الصحیح. وأمّا الاختلاف بین الاصولیین والأخباریین فی الشبهة التحریمیّة، فلا یکون منشأً للتعدّد.

هذا، وإنّ العقل یحکم بالفحص عن حکم الشّارع فی جمیع الموارد، فإنْ حَصَل الیأس لفقد النصّ أو إجماله أو تعارض النصییّن، وَصَل الأمر إلی الحکم العقلی.

نعم، فی الشبهة الموضوعیّة لیس التطبیق بید الفقیه، بل للمقلّد التمسّک بقاعدة الفراغ وأصالة البراءة.

ص: 42

البراءة

اشارة

ص: 43

ص: 44

مقتضی الأصل

وقبل الورود فی الأدلّة نذکر مقتضی الأصل:

ذکر المیرزا(1) أنه ربما یقال بکون قول الأخباری هو الموافق للأصل، وأنّ علی الاصولی إقامة الدّلیل علی البراءة، لأن الوظیفة قبل الفحص هی الإحتیاط، فلو شک فی بقاء الوظیفة السّابقة استصحب الإحتیاط.

فأجاب: بأنّ الملاک الکائن قبل الفحص غیر باق بعده، فلا یجری الإستصحاب، فیکون علی کلٍّ من الطرفین إقامة الدّلیل علی مدّعاه.

وتوضیح المطلب:

إنّ الشّبهة الحکمیّة قبل الفحص مجری الإحتیاط بلا ریب، لأمرین:

أحدهما: العلم الإجمالی بوجود الحکم الشرعی بین الأطراف، فإنه یقتضی الإشتغال، فإمّا یحتاط المکلّف، وإمّا یفحص عن الحکم حتی ینحلَّ العلم الإجمالی حقیقةً أو حکما.

ص: 45


1- 1. فوائد الاصول 3 / 330.

والثانی: لزوم حفظ المکلّف أحکام المولی، وعلی المولی البیان بحیث إذا فحص العبد عنه عثر علیه، فما دام لم یفحص کان حکم العقل هو الإحتیاط.

هذا فی الشبهة الحکمیّة قبل الفحص.

وأمّا بعد الفحص، فإن العلم الإجمالی ینحلّ بالعثور علی العلم أو العلمی بالنسبة إلی الحکم الشرعی، فلا إحتیاط بعدئذٍ.

وأمّا بعد الفحص والیأس، فلا حکم للعقل بالإحتیاط، وعلیه، فلا أصل یقتضی الإحتیاط بعد الفحص عن الدلیل. فقول الأخباری بالإحتیاط یحتاج إلی دلیلٍ کقول الاصولی بعدم الإحتیاط.

أقول:

أمّا بناءً علی مسلک حق الطّاعة، فالأصل مع الأخباری، لکونه محکَّما قبل الفحص وبعده.

وأمّا بناءً علی نفیه، فکذلک، لأن من یحتمل وجود الحکم من المولی یحتاج إلی المؤمّن، وبعد الفحص ینحلّ العلم الإجمالی الموجب للتنجیز، لکنْ لایرتفع معه إحتمال التکلیف، والإحتمال منجّز حتی یجئ¨ المؤمّن، والمؤمّن إمّا قاعدة قبح العقاب بلا بیان وإمّا حدیث الرفع.

فظهر أنّ علی الاصولی إقامة الدّلیل علی المؤمّن، وإلاّ فالأصل مع الأخباری، ولا یلزمه إقامة الدّلیل علی الإحتیاط، لکفایة نفس إحتمال التکلیف، لأنه یساوق إحتمال العقاب.

ص: 46

نعم، لو اُنکر مساوقة احتمال التکلیف لاحتمال العقاب، کان الأصل مع الاصولی. ویسقط حینئذ ما ذکره المیرزا من لزوم إقامة الدّلیل علی کلا الطرفین.

إلاّ أن إنکار المساوقة باطل، لأن إقامة الدّلیل علی البراءة فرع کون إحتمال التکلیف مساوقا لاحتمال العقاب.

وهذا هو التحقیق فی مقتضی الأصل فی المقام، ولننظر فی الأدلّة:

أدلّةُ الاُصولّیین علی البَراءة

اشارة

لقد استدلّوا علی البراءة بالأدلّة الأربعة:

الإستدلال بالکتاب
الآیة الاولی:
اشارة

قوله تعالی «وَما کُنّا مُعَذِّبینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً».(1)

تقریب الاستدلال:

إنه وإنْ کان الموضوع له لفظ «الرسول» هو النبی المرسل، لکن مناسبة الحکم والموضوع تقتضی رفع الید عن هذه الخصوصیّة، وأنّ المراد هو البیان وبلوغ الأحکام. ویکون حاصل معنی الآیة: إنّ اللّه لا یعذّب إلاّ بعد البیان وإبلاغ

ص: 47


1- 1. سورة الإسراء، الآیة: 15.

الأحکام، وعلیه، فالرسول طریقٌ ولیس له موضوعیّة، فالآیة دالّة علی أمرٍ کبرویّ هو: عدم التعذیب إلی أن یأتی البیان.

فلو فحص عن البیان فی الشبهة الحکمیّة وحَصَل الیأس عنه، تحقّق عنوان «اللاّبیان»، وحینئذٍ تنطبق الکبری والنتیجة هی البراءة.

النظر فی التقریب المذکور

وقد أورد علی هذا الإستدلال:

بأنّ الآیة تنفی العذاب ولاتنفی الإستحقاق.

وأجیب:(1)

أوّلاً: إن المطلوب عدم العذاب سواء کان استحقاق أوْ لا، وإنْ لم یکن بین عدم العذاب وعدم الإستحقاق ملازمة.

وفیه: إن غرض الاصولی تحصیل المؤمّن، لا الخلاص من المؤاخذة حتی مع المعصیة وهتک حرمة المولی. وبعبارة اخری: الغرض هو نفی الإستحقاق مع عدم البیان بحیث یکون العقاب قبیحا.

وسیأتی نظیر هذا فی حدیث الرفع.

وثانیا: إن قوله «وما کنّا» ظاهر فی عدم کون هذا الفعل لائقا بالباری تعالی، مثل «وَما کانَ اللّه ُ لِیُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فیهِمْ»(2) ونحوه. فالمراد: إن التعذیب

ص: 48


1- 1. مصباح الاصول: 256.
2- 2. سورة الأنفال، الآیة 33.

قبل البیان لا یلیق به ولا یناسب عدله، فهو یدلّ علی عدم کون العبد مستحقا للعذاب، لأنه لو کان مستحقا له لکان لائقا باللّه، فعدم اللّیاقة لعدم الإستحقاق. فالمدلول المطابقی للآیة وإنّ کان نفی العذاب إلاّ أنها تدلّ علی نفی الاستحقاق بالالتزام.

وفیه:

إن عدم اللّیاقة لیس المعنی الحقیقی للآیة، بل معناها: عدم تحقق الصّدور، وعدم اللّیاقة أعم من الحقیقة، ولذا نری قوله تعالی: «وَما کانَ اللّه ُ لِیُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فیهِمْ» قد استعمل فیه «وما کان» مع وضوح کونهم مستحقّین للعذاب، فیکون لائقا به.

وقال الشیخ(1) بتمامیّة الاستدلال بالآیة، لأن الخصم _ أی الأخباری _ یقبل الملازمة بین عدم العقاب وعدم الإستحقاق، فالإشکال مندفع.

وفیما أفاده إشکالان ذکرهما المحقق الخراسانی:(2)

أحدهما: إنه یکون الاستدلال حینئذٍ جدلیّا.

والآخر: إنّ الخصم لا یسلّم بالملازمة، لأن الشّبهات الحکمیّة لیست بأعظم من الأحکام المعلومة، وهذه الأحکام لیس فیها الملازمة بین عدم العذاب وعدم الإستحقاق، إذ مع التوبة والشفاعة ینتفی العقاب مع بقاء الإستحقاق.

ص: 49


1- 1. فرائد الاصول: 194.
2- 2. کفایة الاصول: 339.
تقریبٌ آخر

وذکر المحقق الإصفهانی(1) تقریبا آخر، وله مقدّمتان:

الأولی: إن أجزاء العلّة المرکبّة هی: المقتضی والشرط وعدم المانع. وقد ذکر أهل التحقیق أن «عدم المانع» شرط لتأثیر المقتضی، _ لأن الشرط تارة: وجودی، واخری: عدمی _ والمراد منه هنا عدم الملکة، ولعدم الملکة حظّ من الوجود فله أثر. فالعلّة فی الحقیقة مرکبة من المقتضی والشرط، والشّرط إمّا متمّم لفاعلیّة الفاعل، کالمجرّد، فإنه لا مادّة له ولا مدّة، فالفاعلیّة فیه تامّة ولا ینفک عن المعلول، أو لقابلیّة القابل، کرفع الرطوبة من الخشب حتی یقبل الإحتراق.

والثانیة: کلّ علّة لم یتحقّق معلولها، فهو إمّا لنقصٍ فی العلّة أو لنقصٍ فی المعلول، ولو کان الفاعل تام الفاعلیّة فالشرط یرجع لا محالة إلی متمّم قابلیّة القابل، فإذا وجد المانع فهو مانع عن قابلیّته.

وبعد المقدّمتین:

إن العقاب إمّا یکون لازما تکوینیّا للمعصیة، بمعنی أنْ یکون العمل متصوّرا فی الآخرة بصورة العذاب، بأنْ تکون الأعمال موادّا للصّور البرزخیّة والاخرویّة، أو هو لازم جعلی من العقلاء للمعصیة، أو لازم جعلی شرعی لها، کجعل الشّارع الوعید الخاصّ للعمل الخاصّ. فالوعید من العقلاء هو الذمّ ومن الشّارع هو العذاب.

ص: 50


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 26 _ 28.

وعلی هذا، ففی کلّ موردٍ لا یوجد العذاب الإآلهی فلا یوجد الإستحقاق له. وذلک لأنه مع ارتفاع العذاب:

إنْ کانت النسبة تکوینیّة، رجع عدم العذاب إمّا إلی عدم تمامیّة الفاعل وإمّا إلی عدم تمامیّة القابل، لکنَّ عدم تمامیّة الفاعل هنا باطل، لأن الفاعل هو اللّه وفاعلیّته تامّة، فتعیّن أنه لعدم قابلیّة القابل. وهذا _ أی عدم قابلیّة القابل _ علی نحوین، فإمّا یکون القابل مقارنا للمانع، کعدم البیان، فإنه یمنع من تصوّر العمل بصورةٍ، وإمّا لتحقّق المانع، کما إذا کانت القابلیّة لتصوّر مادّة العمل بصورة برزخیّة قبیحة موجودةً لکنْ حصل المانع لها بقاءً کالتوبة أو الشفاعة.

وإنْ کانت النسبة بجعلٍ من العقلاء، من جهة أنّ استحقاق الذم علی مخالفة المولی فی أمرٍ من الامور التی اتّفق العقلاء علیها، فمتی انتفت المذمّة لوجود مانع عنها فلا إستحقاق لها، إذ مع وجود المانع لم یتحقق شرط الإستحقاق، وقد قلنا بأنّ عدم المانع شرط.

فإن قلت: انتفاء العذاب إنْ کان بفضل اللّه لم یناف ثبوت الإستحقاق، وإنْ کان بعدله انتفی الإستحقاق.

قلت: لیست إرادة اللّه جزافیّة، فإن أراد عدم العذاب کان لسببٍ، أمّا من جهة کونه رحیما فالعذاب قبیح، وأمّا من جهة کونه رئیس العقلاء _ مع المسامحة فی التعبیر _ فلا قبح، وإذا کان التعذیب منافیا للجود والمرحمة، رجعت المنافاة إلی جهة الفاعلیّة لا القابلیّة، فإذا انتفی التعذیب انتفی الإستحقاق.

ص: 51

وإنْ کانت النسبة بجعل الشّارع، فإن انتفاء فعلیّة العذاب یعود إلی انتفاء الوعید، لحصول المانع عنه، إمّا مقارنا کعدم البیان، وإمّا بقاءً کالتوبة، فانتفاء الوعید إلالآهی یکون علی أثر وجود المانع عنه، وقد تقدّم أن الشّرط له هو عدم المانع، ومع وجود المانع فلا إستحقاق.

فتحصّل: أنه مع انتفاء التعذیب لعدم تمامیّة شرطه، ینتفی الإستحقاق علی الوجوه الثلاثة کلّها.

النظر فی التقریب المذکور

قال شیخنا: هنا بحثان:

الأول مبنائی، وهو فی قوله بکون النسبة بین عدم العذاب وعدم المعصیة جعلیّة من العقلاء.

ففیه: إنّ استحقاق المؤاخذة علی الظلم والمدح علی العدل لیس من القضایا العقلائیّة التی تطابقت علیها آراء العقلاء حفظا للنظام، لأنّ العلّة الغائیّة علّة لفاعلیّة الفاعل ومقدمّة بالوجود العلمی علی العمل _ بل قال صاحب الأسفار(1) باتّحاد العلّة الغائیّة مع الفاعلیّة، فمن یتخیّل کونه شبعانا یأکل، والغرض من الأکل هو الشبع، فالفاعل الشبعان والغایة هو الشبعان _ فیکون حفظ النظام هو الغایة فهو الفاعل، وإذا انتفت الغایة، لزم أن لا یکون الظلم قبیحا، والحال أن قبح الظلم غیر

ص: 52


1- 1. الأسفار الأربعة 7 / 270 _ 271.

معلّل بشئ¨ عقلاً. فمخالفة المولی الحقیقی _ وهی ظلم حقیقی _ قبیحة سواء اختلّ النظام أوْ لا، بل سواء کان هناک نظام أوْ لا.

والثانی: بنائی. وهو فی قوله بأنّ الإرادة إنْ تعلَّقت بعدم العذاب فلابدّ من مرجّح لذلک، لکون إرادته تعالی غیر جزافیّة، والمرجّح لعدم العذاب هو جهة رحیمیّة اللّه سبحانه، لأن العذاب من الجواد بما هو جواد غیر حسن، وإنْ کان حسنا منه بما هو عادل، فالاستحقاق منتف.

وهذا جوابه علی «إن قلت» ثم أمر بالفهم.

وفیه: إنّ «الحُسن» و«عدم الحُسن» متقابلان إمّا بالسّلب والإیجاب، وإمّا بالعدم والملکة، ولا یتّصف الفعل الواحد بالحسن وعدمه بتعدّد الجهة فی الفاعل، فلا یعقل کون العقاب حسنا بما أن المعاقِب عادل، وأن یکون غیر حسن بما أنّ المعاقب جواد.

علی أنّ الآیة المبارکة فی مورد عذاب «اللّه» بما هو «اللّه» لا بما هو عادل حتی تجعل الملازمة عقلائیّة، بل «اللّه» فی مرتبة الألوهیّة جواد عادل، وکلا الفعلین منه حسن.

والتحقیق:

إن الآیة تدلّ علی الملازمة، لقرینةٍ داخلیّة هی: أن التعذیب قبل البیان قبیح عقلاءً وعقلاً، ولقرینة خارجیّة هی قوله تعالی فی سورة الشعراء: «وَما أَهْلَکْنا مِنْ قَرْیَةٍ إِلاّ لَها مُنْذِرُونَ * ذِکْری وَما کُنّا ظالِمینَ».(1)

ص: 53


1- 1. سورة الشعراء، الآیة: 208 _ 209.

وإذا دلّت علی الملازمة حصل غرض الاصولی، لأنّ عدم البیان عذر للعبد، فالإشکال المذکور علی الاستدلال بالآیة للبراءة مندفع.

الإشکالات علی الاستدلال بالآیة

واُشکل علی الإستدلال بالآیة: بأنها تنفی العذاب الدنیوی لا الأُخروی.

والجواب: فتدلّ حینئذٍ علی عدم استحقاق الأُخروی بالأولویّة القطعیّة.

وبإنّها تتعلّق بالأُمم الماضیة.

أجاب المحقق الخراسانی فی حاشیة الرسائل(1): الأفعال المضافة إلی الباری منسلخة عن الزمان.

فأورد علیه المحقق الإصفهانی(2): بأنْ الأفعال الإلّهیة کأفعال غیره غیر منسلخة عن الزمان.

ومحصّل کلامه قدّس سرّه: إن الفعل المسند إلیه ماضیا أو مستقبلاً، إن کان مرتبطا بالذات أو الصّفات الذاتیّة أو الأفعال الإبداعیة، فهو منسلخ عن الزمان، مثل علم اللّه، کان اللّه، خلق اللّه... وما لم یکن کذلک فلا انسلاخ، والتعذیب من القسم الثانی.

أقول:

لا برهان علی کون جمیع أفعاله عزّ وجلّ منسلخة عن الزمان، وقول

ص: 54


1- 1. درر الفوائد فی حاشیة الفرائد: 188.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 29.

الخراسانی «غالبا» لا یفید، لأنا نرید المعنی الحقیقی، والأفعال الزّمانیة الإلآهیّة إنْ کانت لنسبةٍ تحققّیة أو توقعیّة، فإنّ أصالة الحقیقة تقتضی حمل الفعل الماضی علی الزمان السّابق والمضارع علی الحال أو المستقبل.

فالصّحیح ما ذکره المحقق العراقی(1) من أن المراد هو المضیّ بالنسبة إلی بعث «الرسول» لا المضیّ بالنسبة إلی زمان الخطاب إلی نبیّنا صلّی اللّه علیه وآله بالآیة. فالمعنی: إنا قبل بعث الرسول لا نعذّب، سواء فی الامم الماضیة أو هذه الامة.

فالإشکال مندفع بهذا البیان.

وقال المحقّق المیرزا(2): إنّ مدلول الآیة المبارکة نفی التعذیب قبل بعث الرسول، ومورد الإستدلال بها هو الحکم الشرعی للموضوع المشتبه حکمه، ولا علاقة للدلیل بالمدّعی، وهو البراءة فی الشبهة الحکمیّة قبل الفحص.

وفیه:

إن أراد نفی الارتباط بین الآیة والشبهة الحکمیّة، فکلامه منقوض باستدلاله بقاعدة قبح العقاب بلا بیان، لعدم ارتباطها بالشّبهة الحکمیّة کذلک. وإنْ أراد أن الآیة إرشاد إلی القاعدة العقلیّة المذکورة، فالإشکال وارد.

فالحق: سقوط الاستدلال بالآیة المبارکة علی البراءة، لکونها إرشادا إلی قاعدة قبح العقاب العقلیّة، وقد أشرنا إلی ذلک سابقا.

هکذا أفاد شیخنا ووافقناه علیه.

ص: 55


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 205.
2- 2. فوائد الاصول 3 / 333.
ما أفاده السیّد الاستاذ:

وأمّا سیّدنا الأستاذ رحمه اللّه، فلم یتّضح لنا رأیه فی المقام، لأنّه بعد أن ذکر ما أورد به علی الإستدلال _ من أنّ الآیة تختصّ بالعذاب الدینوی، وأنها تتکفّل الحکایة عن عذاب الامم السّابقة، وأنّ غایة ما تتکفّله هو نفی العذاب الفعلی، وهولا یلازم عدم الإستحقاق _ قال:

والذی نراه: إنّ الآیة الشریفة وافیة بالمدّعی، وأنه لا وقع لجمیع هذه الإیرادات، وذلک، لأن ما قبل الآیة هو قوله تعالی: «وَکُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فی عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ کِتابًا یَلْقاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ کِتابَکَ کَفی بِنَفْسِکَ الْیَوْمَ عَلَیْکَ حَسیبًا * مَنِ اهْتَدی فَإِنَّما یَهْتَدی لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْری وَما کُنّا...»(1)

ومن الواضح أنّ ظاهر هذه الفقرات المتعددة أنها لبیان أن الطریقة المشروعة فی مقام العذاب والثواب، وأن العذاب لایکون إلاّ طبق الموازین العقلائیّة، ولذا لاتزر وازرة وزر أُخری، والهدایة للنفس والضّلال علیها، فتکون ظاهرةً فی نفی العقاب عند عدم الحجّة، لأنّه علی خلاف الموازین... فتکون الآیة لبیان عدم استحقاق العبد للعقاب قبل قیام الحجّة، وأنه لیس من شأن اللّه سبحانه أنْ یعذّب قبل قیام الحجّة. وعلیه، فلا اختصاص لها بالعذاب الدنیوی، ولا نظر لها إلی خصوص الامم السّابقة، کما أنها تتکفّل نفی الإستحقاق لا نفی الفعلیّة فقط.

ص: 56


1- 1. سورة الإسراء، الآیة: 13 _ 15.

وعلی الجملة، فإنّه قد أجاب عن الإیرادات بما یشبه ما ذکرناه فی الجواب عنها، ولکنّه قال بعد ذلک: «إنَّ عمدة ما یستدلّ به الأخباریّون علی مدّعاهم الروایات الآمرة بالوقوف عند الشّبهة تورّعا عن الإقتحام فی الهلکة وتجنّبا عن الوقوع فیها...» فقدّم الآیة علی تلک الرّوایات إن کانت الآیة أخصّ منها، أو طرحها إنْ کانت النسبة هی العموم من وجهٍ، لأنها روایات مخالفة الکتاب.

لکنّه رجع عن ذلک بناءً علی أنْ یکون استدلالهم بدعوی ظهور النصوص فی وجوب الإحتیاط والتوقف، فجعلها واردةً علی الآیة، لأنّها تتکفّل بیان الحکم الواقعی وإقامة الحجّة علیه.(1)

التأمّل فی کلام الاستاذ

أقول:

إنْ ما تقدّم نقله هو ملخّص ما أفاده بلفظه، فلیتدبّر!

ثم لنا أنْ نقول: إنه لم تکن حاجة للإستدلال بالآیات الّتی قبل هذه الآیة _ وکأنّه یرید الإستفادة من وحدة السّیاق _ مع ظهورها بوحدها فی المعنی الذی ذکره.(2)

ولنا أنْ نتساءل عن وجه التعرّض لما یستدلّ به الأخباریّون من الروایات وهو فی مقام الاستدلال بالآیة، وأنه سیأتی الکلام علی تلک الروایات بعد الفراغ عن الإستدلال بالکتاب من الجانبین!

ص: 57


1- 1. منتقی الاصول 4 / 372 _ 377.
2- 2. سورة الإسراء، الآیة: 13 _ 15.
تنبیه حول استدلال الأخباریین بالآیة لبطلان قاعدة الملازمة

تنبیه

إستدلّ الأخباریّون بالآیة علی بطلان قاعدة الملازمة، أی جملة «ما حکم به العقل حکم به الشّرع». وذلک بوجود حکم العقل قبل الشرع، مع أنَّ الآیة تقول «وَما کُنّا مُعَذِّبینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً».

وأجاب الاُصولیّون: بأنَّ الآیة لاتنفی الإستحقاق حتی یلازم عدم الحکم الشّرعی، بل تنفی فعلیّة التعذیب، لإحتمال العفو من اللّه عزّ وجلّ، کما أنه قد عفا عن الصغائر مع إجتناب الکبائر مع وجود إستحقاق العقاب، وکذا فی الظّهار، حیث الحرمة موجودة والإستحقاق لکن اللّه عفا، وکذا العزم علی المعصیة، حیث عفا عنه تفضّلاً.

وأشکل المیرزا القمی علی هذا الجواب: بأنّه یناقض استدلال الاصولیین بالآیة علی البراءة، حیث قالوا بأنها تدلّ علی عدم الإستحقاق.

وأشکل المیرزا النائینی(1) علی الجواب: بأنّه لا یعقل وجود الإستحقاق والعفو قبل بعث الرّسول، وقیاس ما نحن فیه علی الموارد المذکورة مع الفارق، فهناک العفو معقول _ علی تأمّل فی الظّهار _ وهنا غیرمعقول، لأنّ جعل العفو إلی جنب جعل الحکم یوجب التجرّی علی المخالفة ولغویّة الحکم.

أقول:

لکن قوله: بأنّ النیّة علی الحرام حرام معفو عنه ما لم یتعقّبه العمل، منظور فیه:

ص: 58


1- 1. فوائد الاصول 3 / 354 _ 335.

أمّا أوّلاً، فلأنّ النیّة علی الحرام لیس حراما، والأخبار الواردة فیه لا تدلّ علی أکثر من الکراهة، ولو تنزّلنا، فإنّ حملها علی ذلک هو مقتضی الجمع بین الأخبار.

وأمّا الصّغائر، فإنها ذنوب محرمّة، لکن اجتناب الکبائر مکفرّ لها.

وأمّا ثانیا، فلأن مورد العفو مطلق النیّة، لا خصوص التی لم یتعقّبها العمل، وحینئذٍ یعود إشکال التجرّی علی ما ذکره أیضا.

والحق: إن نیّة المعصیة لیست معصیة، وملاک الحرمة قاصر بالنسبة إلیها.

والصّحیح فی الجواب عمّا ذکره الأخباریّون هو: أنّ المراد من «الرسول» الأعمّ من الداخلی وهو العقل ومن الخارجی. وهو کنایة عن «البیان» کما تقدّم.

هذا تمام الکلام علی هذه الآیة، وقد عرفت سقوط الإستدلال بها، لأنها إرشاد إلی القاعدة العقلیّة.

ص: 59

الآیة الثانیة:
اشارة

واستدلّ أیضا بقوله تعالی:

«قُل لا أجد فیما اُوحی إلیَ محرّما علی طاعم یطعمه

إلاّ أن یکون میتة أودما مسفوحا»(1)

وقد جاءت هذه الآیة ردّا علی الیهود، حیث حرّموا علی أنفسهم بعض ما رزقهم اللّه افتراءً علیه، فأبطل عزوجلّ تشریعهم، إذ أمر نبیّه الأکرم بأنْ یردّ علیهم بعدم وجدان ما حرّموه فی جملة المحرّمات التی أوحی اللّه إلیه...

تقریب الإستدل والکلام حوله

فالآیة تشیر إلی أمر إرتکازی هو الترخیص فی الإرتکاب بعد الفحص وعدم الوجدان، وهذا أمر جارٍ بین الموالی والعبید، فیکون وزان الآیة وزان

ص: 60


1- 1. سورة الأنعام، الآیة: 145.

حدیث الرفع الآتی، وهی نصّ فی الرخصة، وبها ترفع الید عمّا یکون ظاهرا فی الإحتیاط من الأدلّة.

وهذا تقریب الاستدلال بها کما علیه المحقق العراقی(1) تبعا للشیخ(2) وخلافا لصاحب الکفایة.

لکنّ الشیخ قال:

الإنصاف: إن غایة الأمر أنْ یکون فی العدول عن التعبیر من عدم الوجود إلی عدم الوجدان إشارةً إلی المطلب، وأمّا الدلالة فلا. ولذا قال فی الوافیة: فی الآیة إشعار بأنّ إباحة الأشیاء مرکوزة فی العقل قبل الشرع.

(قال): مع أنه لو سلّم دلالتها، فغایة مدلولها کون عدم وجدان التحریم فیما صدر عن اللّه من الأحکام، یوجب عدم التحریم، لا عدم وجدانه فیما بقی بأیدینا من أحکام اللّه بعد العلم باختفاء کثیر منها عنّا.

وحاصل الإشکال: إن عدم الوجدان من النبیّ صلّی اللّه علیه وآله یدلّ علی عدم الوجود، أمّا عدم وجداننا نحن فلا یدلّ.

أجاب العراقی عن الإشکال:

بأنّ الآیة «لا أَجِدُ» ولم یقل: لا یوجد. فتغییر التعبیر للإشارة إلی الأمر الإرتکازی المذکور، فیتم الإستدلال.

ص: 61


1- 1. نهایة الأفکار: 3 / 207.
2- 2. فرائد الاصول: 194.

وأجاب صاحب الکفایة(1) عن الإستدلال:

بأنْ تغییر البیان هو لأجل تمامیّة المناظرة مع الیهود وأدائها بأحسن وجهٍ بحیث یُخصمون بکلامه. فالإشکال موجود.

أجاب المحقق العراقی(2):

بأنه لمّا قال: «لا أَجِدُ» أراد مؤاخذة الخصم بالأمر الإرتکازی، بأنکم قد خالفتم الإرتکاز، ولیس المقصود هو المناظرة.

التحقیق عدم الدلالة

التحقیق:

عدم دلالة الآیة، لأن الیهود قدُ منعوا عن تلک الأشیاء فی التوراة، ولذا جاء فی ذیل الآیة «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذینَ هادُوا حَرَّمْنا...». فکان عدم الحلیّة بالنسبة إلیهم موجودا فی التوراة ولیس من باب الإحتیاط.

وعلی الجملة، لیس الحکم بالحرمة علی أثر عدم الوجدان حتی یحاججهم النبی صلّی اللّه علیه وآله بالأمر الإرتکازی. فالآیة معناها: إنّ الذی حُرّم علیکم فی کتابکم لم یُحرّم علیّ فیما أوحی إلیّ.

فالإستدلال بالآیة ساقط.

ص: 62


1- 1. درر الفوائد فی حاشیة الفرائد: 189.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 207.
الإستدلال بالسنّة للبراءة
اشارة

الإستدلال بالسنّة

واستدلّوا من السنّة بأحادیث...

منها:

1- حدیث الرفع
اشارة

وهو قوله صلّی اللّه علیه وآله: رفع عن اُمّتی تسعة: الخطأ والنسیان وما استکرهوا علیه وما لایعلمون وما لا یطیقون وما اضطرّوا إلیه...(1)

والبحث فی خصوص «ما لا یعلمون».

تقریب الإستدلال

ومن أجل تقریب الإستدلال نذکر المحتملات فی المرفوع:

إنّ المحتملات الثبوتیّة فی المرفوع بهذا الحدیث هی:

أن یکون «المؤاخذة»

ص: 63


1- 1. کتاب الخصال: 417، وسائل الشیعة 15 / 369.

وأن یکون «إستحقاق المؤاخذة»

وأن یکون «إیجاب الإحتیاط»

وأن یکون «فعلیّة التکلیف»

وأن یکون «الحکم فی مرتبة الظاهر».

المرفوع هو الحکم الواقعی فی مرتبة الظّاهر

ولیس المرفوع «المؤاخذة». لأن رفعها لا ینفع غرض الاصولی وهو تحصیل المؤمّن والعذر. هذا أوّلاً.

وثانیا: إنّ کمال الإمتنان هو رفع الإستحقاق لا عدم العقاب.

وثالثا: إنه یستلزم المجاز، وارتکابه یتوقف علی وجود قرینة وهی مفقودة.

ولیس المرفوع «إستحقاق المؤاخذة» وإنْ کان یحصل به غرض الاصولی، وذلک:

أوّلاً: لأنّ رفع الإستحقاق غیر معقول، لأن الإستحقاق لازم تکوینی للفعل، والشّارع لا یرفع اللّوازم التکوینیّة، کما لا یمکنه رفع الزوجیّة عن الأربعة.

وثانیا: لأنّ الإستحقاق أمر عقلی لیس وضعه بید الشّارع حتی یکون رفعه بیده.

ولیس المرفوع «إیجاب الإحتیاط» وإنْ قال به الشیخ _ وإنْ کان للشّارع رفعه، لکون وضعه بیده، کما أنه یحصّل غرض الأصولی _ وذلک:

لأنّه خلاف ظاهر الحدیث، فلابدّ من قرینةٍ، لأنّ ظاهره کون المرفوع نفس

ص: 64

ما لا یعلم، وهو الحکم الواقعی، وأین هذا من إیجاب الإحتیاط؟ نعم، لو کان الذی لا یعلم هو وجوب الإحتیاط صحّ هذا الوجه.

ولیس المرفوع «الحکم الواقعی واقعا». لأنه یستلزم التصویب. علی أن الحدیث ظاهر فی ثبوت الحکم الواقعی، لأن الجهل بالشئ¨ فرع ثبوت الشئ¨.

فثبت: إن المرفوع هو:

«الحکم الواقعی ظاهرا».

وهذا هو المطلوب، لأن معناه الترخیص فی الشبّهة الحکمیّة.

هذا، ولا ینافی رفع الحکم الواقعی فی ظرف الجهل به وجوده واقعا، لِما تقدّم فی محلّه من عدم التنافی بینه والحکم الظاهری المجعول فی هذا الظرف. لا فی مرحلة الملاک، لأن الملاک فی الظاهری فی الترخیص وفی الواقعی فی نفس متعلّق الحکم. ولا فی مرحلة الإمتثال، لأنه مادام الحکم الواقعی مجهولاً، فالموضوع للظاهری موجود. فهو حین یمتثل الواقعی لاجهل به، وحین یوجد الجهل یتحقّق الموضوع للحکم الظاهری.

وإذْ لاتنافی لا فی الملاک ولا فی مقام الإمتثال، فلا محذور فی جعل الحکم الظاهری، إذ لو کان محذورٌ لکان فی احدی المرحلتین. أللّهم إلاّ علی مسلک صاحب الکفایة من التضادّ بین الحکمین، فیشکل الأمر.

فتلخّص: إن مدلول حدیث الرفع اعتبار عدم الحکم ظاهرا.

وأمّا القول: بأنّ المرفوع هو «التکلیف»، کما علیه المحقّق الإصفهانی، فیتوقّف بیان ما فیه علی البحث فی مراحل الحکم.

ص: 65

الأقوال فی مراتب الحکم

واختلفت أنظار الأکابر فی مراتب الحکم علی ثلاثة أقوال:

الأوّل: إن للحکم مرتبتین. ذهب إلیه الشیخ والمیرزا.

والثانی: ثلاث مراتب. ذهب إلیه الإصفهانی.

والثالث: أربع مراتب: اقتضاء الملاک، الإنشاء، الفعلیّة، الوصول. ذهب إلیه صاحب الکفایة.

الصحیح هو قول الشیخ:

ویرد علی القول الأخیر: إن مرحلة الملاک لیست من مراتب الحکم، لأن الملاک علّة الحکم، فکیف یکون من مراتبه؟ والوصول من معلولات الحکم، فکیف یکون من مراتبه.

فللحکم مرتبتان فقط.

لکن المحقق الإصفهانی، جعل مرتبة الوصول من مراتب الحکم أیضا، فما لم یصل الحکم لم تتحقّق المصداقیّة للإنشاء بداعی البعث والتحریک، ففعلیّة الحکم متوقفة علی الوصول.

وعلی هذا المبنی:

فإنّ مُفاد حدیث الرفع رفع الحکم فی مورد الشبهة، لأن المکلّف قد فحص ویأس من الدّلیل علیه، فهو غیر واصلٍ إلیه، والمفروض کون الوصول من مراتبه، فهو مرفوع عنه.

ص: 66

ویرد علیه:

إن وجود الشئ¨ یساوق فعلیّته، فلا معنی للوجود بلا فعلیّة، سواء فی أُفق التکوین أو الإعتبار، وکذا العکس، فهما مفهومان والمصداق واحد، فکما أنّ الإنسان بالقوّة لیس بإنسانٍ، کذلک الحکم، فإنّ وجد الحکم فی وعاء الإعتبار کان حکما فعلّیا، وکذلک المصداقیّة، فإنها مساوقة للوجود والفعلیّة. هذا مطلب.

ومطلب آخر: إن الحکم من الامور الإعتباریّة العقلائیّة، فلا مناص للوقوف علی حقیقة الحکم من لحاظ کیفیّة اعتبار العقلاء، وکذلک الشّارع، بالنسبة إلی الأحکام الشرعیّة.

ومطلب ثالث: المنجزیّة والمؤمّنیة یکونان فیما یعدّ حکما ویکون مصداقا للحکم، فإنْ تحققَّ الحکمُ کان منجزّا، وعلی العبد تحصیل المؤمّن من المؤاخذة علی مخالفته، إلاّ أنّ من الممکن تحقق الحکم مع عدم تنجزّه، فبین الحکم والتنجّز تقدّم وتأخّر طبعی.

إذا عرفت هذه المطالب:

ظهر عدم تقوّم الحکم بالوصول، وعدم توقف المصداقیّة للبعث علیه.

فالحق ما علیه الشیخ من أنّ للحکم مرحلتین فقط، وهما: مرحلة الإنشاء ومرحلة فعلیّة الموضوع بجمیع قیوده وأجزائه، فإذا تحقق «المستطیع» أصبح الحکم بوجوب «الحج» فعلّیا، سواء علم المکلّف بالحکم أوْ لم یعلم، فإنْ وصل إلیه کان منجّزا وإلاّ قام المؤمّن وهو البراءة عنه.

ص: 67

فإنْ قیل: لو لا الوصول فلا إمکان للداعویّة فلا حکم.

قلنا: یکفی مطلق الإمکان ولایلزم الإمکان القریب من الفعلیّة.

فظهر _ حتی الآن _ أن الصّحیح کون المرفوع هو الحکم الواقعی فی مرتبة الظاهر، وفاقا لصاحب الکفایة.

براهین العراقی علی کون المرفوع وجوب الإحتیاط

وأمّا کون المرفوع هو «وجوب الإحتیاط» کما اختاره الشیخ، فقد تبعه علیه المحقّق العراقی وشیّده بثلاثة براهین:(1)

الأوّل: إنّ حدیث الرفع امتنانی، فیلزم أن یکون رافعا لما یکون وضعه خلاف الإمتنان، ولکنّ الأحکام الواقعیّة لیس فی وضعها خلاف الإمتنان، لأن الذی یوقع المکلّف فی الکلفة هو وصول الحکم الواقعی لا نفس الحکم الواقعی، فلیس المرفوع هو الحکم الواقعی. لکنّ إیجاب الإحتیاط بالنسبة إلیه موجب للکلفة، فوضعه خلاف الإمتنان، فهو المرفوع.

وهذا البرهان یمنع من جریان البراءة العقلیّة بالنّسبة إلی الحکم الواقعی.

الثانی: إن إسناد «الرفع» إلی ما عدا «ما لا یعلمون» هو بالعنایة _ لأنّ «النسیان» مثلاً لا یرفع، وإنما یرفع أثره _ ومقتضی وحدة السیاق أنْ یکون الرفع فی هذه

ص: 68


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 213.

الجملة أیضا بالعنایة، وحینئذٍ، فالمرفوع «وجوب الإحتیاط» لا نفس «ما لا یعلمون».

الثالث: إن النقیضین فی مرتبة واحدة، وأمّا «عدم الشئ¨ فی مرتبةٍ» فإنه یجتمع مع «وجوده فی مرتبة اخری». ثم إن الحکم بالنسبة إلی العلم والجهل لیس مطلقا، لأن مرتبة الجهل بالشئ¨ متأخرة عن الشئ¨، والمتکفّل للوجود فی المرتبة السّابقة لا یتکفّله فی المرتبة المتأخرة، والحکم _ سواءً کان رفعا أو وضعا _ متأخر عن موضوعه تأخّر المعلول عن علّته.

وعلیه، فموضوع الرفع «ما لا یعلمون»، فالجهل بالحکم الواقعی علّة لرفعه، فالرفع متأخر عن الجهل المتأخر عن الحکم الواقعی، فلا یمکن للرفع أن یتعلّق بالحکم الواقعی، لأن عدم الحکم الواقعی یلزم أن یکون فی رتبة وجوده، مع أن العدم متأخر بمرتبتین. فالمرفوع یلزم أن یکون «وجوب الإحتیاط» وکونه «الحکم الواقعی» أو «المؤاخذة» یستلزم المجاز.

نقد براهین المحقق العراقی

أقول:

إن لموضوعات الأحکام انقسامات قبل الحکم وبعده.

أمّا انقسام الموضوع قبل الحکم، فهو ثابت، سواء کان الحکم موجودا أوْ لا، مثلاً: الصّلاة تنقسم إلی صلاة العاری وصلاة غیر العاری. وأمّا انقسام

ص: 69

الموضوع بعد الحکم، فهو انقسامه إلی العلم بحکمه والجهل به.

فما کان من النحو الأوّل، یمکن تقیید الحکم به کما یمکن کونه مطلقا بالنسبة إلیه، وما کان من النحو الثانی، فلا یعقل تقیید الحکم بالعلم ولا بالجهل، لأنّ القید یصیر موضوعا للمقیّد فیلزم أن یکون قبله _ لتقدّم کلّ موضوع علی حکمه _ والمفروض تأخّره عنه، فیلزم الدّور أو اجتماع المتقابلین. فیقع الکلام حینئذٍ أنه إذا لم یمکن التقیید فی هذا القسم فهل یمکن الإطلاق؟

إنْ قلنا: بأن التقابل بین الإطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة _ مع اعتبار القابلیّة الشخصیّة _ کما علیه المیرزا، فالإطلاق محال کذلک.

وإنْ قلنا: بأنّ الإطلاق عبارة عن الجمع بین القیود، فهو محال کذلک، لأنَّ المحذور الموجود من أخذ کلّ قیدٍ موجود فی الجامع.

وإنْ قلنا: بأنّ الإطلاق رفض القیود وعدم دخلها فی الحکم، صحّ الإطلاق، لأنّ المقصود عدم أخذ الجهل فی الحکم، ولا مانع من عدم اعتبار القید _ إذ کان محذور التقدّم والتأخر فی صورة اعتبار القید _ فیکون إطلاق الحکم الواقعی بالنسبة إلی مرتبة الجهل ممکنا.

ومع عدم الموافقة علی المبنی الأخیر فی المطلق نقول:

إنّ نسبة الأحکام إلی الملاکات نسبة المعلولات إلی العلل، والتخلّف غیر معقول، وعلیه، فالغرض الواقعی إمّا یترتب علی المطلق أو علی المقیَّد، ولو سلّمنا جواز الإهمال فی مقام الحکم، فلا ریب فی عدم جوازه فی مقام

ص: 70

الملاک، فإن کان الغرض مقیّدا فالحکم مقیّد وإنْ کان مطلقا فمطلق، فإنْ لم یمکن إطلاق الحکم فلابدَّ من متمّم للجعل ویکون المتمّم جعلاً واقعیّا لا ظاهریّا.

فنقول فی جواب العراقی القائل بعدم الحکم فی مرتبة الجهل بل الحکم هو وجوب الإحتیاط:

سلمّنا أنه المجعول، فهل الغرض والملاک موجود أوْ غیر موجود؟

إنْ قال: لا، لزم التصویب، وإنْ قال: نعم، لکن لا یکون مطلقا فلا حکم فی ظرف الجهل. قلنا: یمکن الإطلاق للحکم بالجعل الثانوی المعبَّر عنه بمتمّم الجعل، فالحکم ثابت فی مرتبة الجهل والرفع یکون فی هذه المرتبة، فالرتبة واحدة. وإنما قلنا بثبوت الحکم فی ظرف الجهل، لأن الحکم تابع للملاک، وهو موجود فی مرتبة الجهل، أو لأنّ الأحکام مشترکة بین العالمین والجاهلین _ بنفس الأدلّة الأولیّة أو بمتمّم الجعل... .

فظهر أن وجود الحکم فی مرتبة الجهل لا ریب فیه، وعدم الحکم یکون بحدیث الرفع فی نفس المرتبة.

فسقط برهانان من براهین العراقی.

بیان دفع البرهان الثانی: إن الحکم الواقعی موجود فی مرتبة الجهل، فالکلفة موجودة، وفی رفعها المنّة.

وبیان دفع البرهان الثالث: إنه لمّا ثبت کون النظر إلی عالم التشریع والتقنین _ لا عالم التکوین، فإنه لو کان النظر إلیه، کان إسناد الرفع إلی ما اضطرّوا إلیه

ص: 71

بالمجاز والعنایة _ فقد رفع ما استکرهوا إلیه وما اضطرّوا إلیه وما لا یعلمون... فی عالم التشریع حقیقةً، ورفع کلّ موضوع فی عالم التشریع هو برفع حکمه.

وعلی الجملة، لقد أُسند الرفع إلی «ما لا یعلمون» وظاهره رفع نفس الحکم، فإنْ ثبت ما ذکره العراقی رفعنا الید عن ظاهر الحدیث، وحیث لم یتم فهو علی ظاهره، لکنّ ظاهر الرفع هو الرفع فی جمیع المراتب حتی الواقع، إلاّ أن الدّلیل القطعی یمنع من الأخذ بإطلاق الرفع، فیکون الرفع بمقتضی الدّلیل فی مرحلة الظاهر فقط، والمرفوع هو نفس الحکم الواقعی المجهول، ورفع الإحتیاط من آثاره.

وأمّا البرهان الأوّل، فجوابه من وجهین:

أحدهما: إن وجوب الإحتیاط هو مقتضی الحکم الواقعی، لأنّ الغرض من جعله هو التحفّظ علی الحکم الواقعی، فإذا رفع وجوب الإحتیاط منّةً فإنّ الحکم أیضا یرتفع، لأن رفع المقتضی یستلزم رفع المقتضی، فالحکم هو المرفوع.

والثانی: إن هذا الحدیث یرفع الخلاف العظیم الموجود فی معنی قاعدة العقاب بلابیان. ورفع هذا الخلاف منّة.

رأی السیّد الاستاذ

وبقی رأی سیّدنا الاستاذ قدّس سرّه الذی لم یسبقه إلیه أحد فیما نعلم، وهذه نصوص عبارات تقریر بحثه ملخّصةً فی بیان المرفوع بحدیث الرفع:

ص: 72

«إنه یمکن الإلتزام بأنّ الرفع فی: «ما لا یعلمون» رفع واقعی، بمعنی أن الحدیث یکون متکفّلاً لبیان ارتفاع الحکم الفعلی عند عدم العلم، فلا محذور فی الإلتزام بأنّ الرفع واقعی، فالحکم مرتفع واقعا عند الجهل به، ولا موجب للإلتزام بأنّ الرفع ظاهری کما علیه الأعلام رحمهم اللّه».

ثم عدل عن ذلک، فقال: «نعم، الذی یوقفنا عن الجزم بهذا الأمر هو أنّ المتیقّن من الحدیث هو إرادة الشّبهة الموضوعیّة، وقد عرفت أن النصوص کثیرة علی بقاء الحکم الواقعی وثبوته فیها، فلا یسعنا الإلتزام بأنّ الرفع واقعی فی المقام».

فقال: «ثم إنه لو لم نلتزم بذلک، فهل یتکفّل حدیث الرفع جدّا حکما وجودیّا، أمْ أن المراد الجدّی هو الرفع تمسّکا بالتعبیر علی حدّه؟ الذی نستظهره هو أنّ المقصود الجدّی من الکلام هو جعل الحلیّة الظاهریّة، ولکنْ کنّی عنها برفع الحکم، لأنه إستعمال شائع عرفا، فإنه کثیرا ما تؤدّی حلیّة الشّئ¨ بالتعبیر بعدم المانع منه، فالمنشأ جدّا بحدیث الرفع هو الحلیّة فإنه کثیرا ما تؤدّی حلیّة الشّئ¨ بالتعبیر بعدم المانع منه، فالمنشأ جدّا بحدیث الرفع هو الحلیّة الظاهریّة لا رفع الحکم نظیر قوله علیه السّلام: کلّ شئ¨ لک حلال. لکنّه یؤدّی الحلیّة مطابقةً، وحدیث الرفع یؤدّیها کنایةً. وهذا المعنی إلتزم به الشیخ وإنْ لم یصرّح به لکنّه إلتزم بلازمه».

قال: ولو لم یلتزم بما استظهرناه من أن المنشأ فی الحدیث هو الحلیّة

ص: 73

الظاهریّة بمدلوله المطابقی الصّریح، وهو رفع الحکم ظاهرا عند عدم العلم، فیقع البحث فی متعلّق الرفع الظّاهری وأنّه هو الحکم الواقعی نفسه أو وجوب الإحتیاط.

قال: یمکن أن یقرّب تعلّقه بنفس الواقع ظاهرا، فلا ملزم للإلتزام بأنّ المرفوع رأسا وحقیقةً هو إیجاب الإحتیاط، کما هو ظاهر الشیخ...(1)

أقول

قد تکون علی هذا الکلام ملاحظات عدیدة. ولکنْ یکفی إذعانه بأنّ القول برفع هذا الحدیث الحکم الواقعی واقعا، یخالف ما هو ظاهر فیه.

ص: 74


1- 1. منتقی الاصول 4 / 386.
تنبیهات حدیث الرّفع
اشارة

ولابدّ من ذکر اُمورٍ یتمّ بها الاستدلال بالحدیث:

الأوّل: هل لفظ الرفع یناسب الاستدلال؟
اشارة

الأمر الأوّل

هل لفظ «الرفع» یناسب الاستدلال؟

لقد جاء فی الحدیث لفظ «الرفع»، وهو ظاهرٌ فی عدم الشئ¨ بعد وجوده، بخلاف «الدفع» فإنّه ظاهر فی عدم الشئ¨ قبل وجوده. فکلاهما یدلّ علی العدم مع اقتضاء الوجود، لکنهما یختلفان فی جهةٍ هی أنّ الرفع عدم بعد الوجود والدفع عدم قبل الوجود.

والحال أنّ المرفوع بالحدیث غیر موجود قبل الرفع.

وقد اُجیب عن هذا الإشکال بوجوه:

ص: 75

جواب المحقق النائینی ونقده

جواب المیرزا

قال المحقق النائینی ما ملخصّه(1): إن «الرفع» عین «الدفع»، فمعنی: رفع عن اُمّتی... هو دفع عن اُمّتی... فالإطلاق حقیقی.

وذلک: لأن التحقیق فی الممکن إحتیاجه إلی المؤثّر بقاءً کاحتیاجه إلیه حدوثا، فإذا انعدم الشئ¨ وزال عن صفحة الوجود فقد ارتفع لعدم وجود المقتضی لبقائه.

أقول:

أمّا ما ذکره من احتیاج الممکن بقاءً إلی المؤثّر فهو الحق، لکنّ البحث لیس عقلیّا بل هو لفظی، ولا ریب فی الاختلاف بین الرفع والدفع مفهوما، ومفهوم الأوّل متقوّم بوجود الشئ¨، لکنّ الامور لم تکن موضوعةً فی هذه الأمّة حتی یصدق عنوان «الرفع» فیها.

جواب المحقق العراقی ونقده

جواب العراقی

وقال المحقق العراقی(2): بأنّ إطلاق «الرفع» فی الحدیث حقیقی، لأنّ کلّ شئ¨ کان له اقتضاء الوجود یُعتبر عند العقلاء موجودا، وحینئذٍ یصحّ عنوان «الرفع» بالنسبة إلیه حقیقةً. فهو نظیر إسقاط الخیار فی المعاملة،

ص: 76


1- 1. فوائد الاصول 3 / 337.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 209.

مع أنّ السّقوط والإسقاط فرع الثبوت، لکنّ العقلاء یعتبرون خیار العیب _ مثلاً _ موجودا لکون العقد مقتضیا له، فیسقطونه فی ضمن العقد، ویکون إطلاق الإسقاط حقیقیّا.

أقول:

إن العقلاء لا یعتبرون الشئ¨ موجودا بمجرّد وجود المقتضی لوجوده، فکم من شئ¨ وجد المقتضی لوجوده ووجد المانع عنه، فهم لا یرون الإحتراق لوجود النار مع وجود الرطوبة فی الحطب، ولو قالوا بوجود الإحتراق حینئذٍ کان مسامحةً منهم، ویکون الإطلاق مجازیّا.

جواب المحقق الخوئی ونقده

جواب الخوئی

وقال المحقق الخوئی(1): بأنّ هذه الأشیاء التسعة کانت موجودةً _ ولو بنحو الموجبة الجزئیّة _ فی الأُمم السّابقة، فصحّ إطلاق الرفع حقیقةً علی عدمها فی هذه الاُمّة.

أقول:

أوّلاً: قوله بوجودها بنحو الموجبة الجزئیّة مبطل لما ذکره، لأنّ الحدیث یدلّ علی العدم بنحو الموجبة الکلیّة، فیکون مجازا لاحقیقةً، لأن المفروض وجود بعضها سابقا، فرفع کلّها مجاز.

ص: 77


1- 1. مصباح الاصول: 2 / 264.

وثانیا: إنّ الأحکام الشرعیّة موضوعة بنحو القضایا الحقیقیّة، فما وضع للأُمم السّابقة کان خاصّا بها ورفعها بالنسبة إلی غیرها مجاز، ولو کان موضوعا لجمیع الاُمم السّابقة واللاّحقة صحّ «الرّفع»، لکنّ الأمر لیس کذلک.

وبعد:

التحقیق فی المقام

فالتحقیق أنّ إطلاق «الرفع» فی هذا الحدیث إطلاق مجازی، ولا سبیل لحمله علی الحقیقة.

هذا، وما کان لهذا الأمر تلک الأهمیّة، بعد وضوح المعنی المراد من الحدیث الشّریف.

ص: 78

الثانی: هل ظاهر الحدیث هو الشبهة الموضوعیّة؟
اشارة

الأمر الثانی

هل ظاهر الحدیث هو الشبهة الموضوعیّة؟

إنه لابدّ من دفع شبهة إختصاص الحدیث بالشبهة الموضوعیّة وذلک:

لأن الإستدلال به للمقام _ أی البراءة فی الشبهة الحکمیّة _ یتوقف علی أن یکون المراد من «ما» هو الحکم المجهول أو الأعم من الحکم والموضوع المجهول، فلو اختصّ بالموضوع المجهول، لکان الحدیث دلیل البراءة فی الشبهة الموضوعیّة فقط.

فلنذکر ما قیل فی وجه منع شمول الحدیث للشبهة الحکمیّة وما قیل فی الجواب:

الوجه الأوّل فی الدلالة علی ذلک
اشارة

الوجه الأوّل

إن مقتضی وحدة السّیاق هو الإختصاص المذکور، لأن المراد بالموصول فی بقیّة الفقرات هو «الفعل» الذی لا یطیقون، وهو الذی یکون علیه الإکراه، والذی یضطرّون إلیه. إذ لا معنی لتعلّق الإکراه والإضطرار بالحکم. فیکون المراد من الموصول فی «ما لا یعلمون» أیضا هو «الفعل» حفظا لوحدة السّیاق.

ص: 79

جواب المحقق النائینی ونقده

جواب المیرزا

أجاب المحقق المیرزا(1): بأنّ المرفوع فی التسعة کلّها إنما هو عبارة عن الحکم، فقال ما ملخّصه:

إن متعلّق الرفع فی مالایعلمون إنما هو نفس الحکم الواقعی ظاهرا، وهذا ضدّ لوضعه بإیجاب الإحتیاط، لا أن المرفوع هو إیجاب الإحتیاط کما یوهمه ظاهر عبارة العلاّمة الأنصاری. کما اتّضح أن صدق الرفع فی الجمیع بملاک واحدٍ وهو وجود المقتضی للجعل. وکون الرفع ظاهریّا تارة أو واقعیّا اخری، وکونه مقترنا بوجود عموم أو إطلاق فی البعض وغیر مقترن به فی البعض الآخر، أجنبی ممّا هو الملاک فی صدق الرفع المشترک فی الجمیع.

وفیه:

إن هذا إلتزامٌ بالإشکال، لأنّ مقتضی وحدة السّیاق هو وحدة کیفیّة الرفع. فتأمّل.

جواب المحقق العراقی ونقده

جواب العراقی

وأجاب المحقق العراقی(2): بأنْ لا مناص من رفع الید عن السّیاق والأخذ بالطرف الأظهر عرفا، لأنّ الظاهر فیما اضطرّوا واستکرهوا هو رفع

ص: 80


1- 1. فوائد الاصول 3 / 333.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 216.

نفس المضطرّ إلیه والمستکره علیه، فیلزم أنْ یکون المرفوع فیما لا یعلمون هو نفس ما تعلّق به الجهل وهو الحکم دون الموضوع، لأن الموضوع لا یتعلّق به الجهل. فالمجهول فی الشبهة الموضوعیّة لیس الفعل بل هو الحکم، وهذا هو الأظهر عرفا.

وببیانٍ آخر: هنا سیاقان، یقتضی أحدهما اختصاص مالایعلمون بالموضوع کما یقول المستشکل، والآخر فی مقابله وهو: إن المضطرّ إلیه والمستکره علیه هو حکم الشئ¨، فیلزم أن یکون ما لا یعلمون کذلک، لأن المجهول بنفسه فیه هو الحکم والموضوع مجهول عنوانا، أی الشرب معلوم لکن لا نعلم هل هو شربٌ للماء فحلال أو للخمر فحرام.

والسّیاق الثانی مقدّم علی الأوّل عندالعرف. فالمرفوع فی ما لا یعلمون هو الحکم.

وفیه:

إن تقدیم أحد السّیاقین علی الآخر موقوف علی أظهریّته عند العرف أو کسره له، ولاشئ¨ من الأمرین متحقق ههنا، فالسّیاقان قائمان، و«ما» الموصولة مجملة.

وبعبارة اخری: یعتبر فی تقدّم أحد السّیاقین علی الآخر الوثوق والإطمینان، ولا یکفی الظن.

ص: 81

جواب المحقق الخوئی ونقده

جواب السیّد الخوئی

وأجاب المحقق الخوئی(1): بأنّ الموصول فی جمیع الفقرات مستعمل فی معنیً واحد، وهو المعنی الحقیقی المبهم المرادف ل_ «الشئ¨». فکأنه قال: دفع الشئ¨ الذی لا یعلم... غیر أنّ «الشئ¨» المضطرّ إلیه أو المستکره علیه لا ینطبق فی الخارج إلاّ علی الفعل، بخلاف «الشئ¨» المجهول، فإنه ینطبق علی «الحکم» أیضا. وهذا الاختلاف فی المنطبق علیه غیر مضرّ بوحدة السّیاق.

وفیه:

إن اختلاف السّیاق لیس فی المراد الإستعمالی بل هو فی المراد الجدّی، وهذا حاصلٌ بناءً علی ما ذکر أیضا.

وبعبارة أُخری: المراد الجدّی فی الفقرتین هو «الفعل»، وفی ما لا یعلمون هو «الحکم»، وهذا ینافی وحدة السّیاق.

جواب شیخنا الاستاذ

وقال شیخنا دام بقاه: إنّ التحقیق أن یقال:

إنه متی شک فی إرادة المتکلّم المعنی الحقیقی للّفظ أو المجازی، فإنّ مقتضی أصالة الحقیقة هو حمل الکلام علی المعنی الحقیقی.

ومتی شک فی أنه هل المعنی الظاهر من اللّفظ هو المراد الجدّی أوْ لا، کان

ص: 82


1- 1. مصباح الاصول 2 / 263.

مقتضی أصالة التطابق بین الإرادة الإستعمالیّة والإرادة الجدیّة أن ینسب المعنی إلی المتکلّم جدّا.

ولو أنّ لفظا وقع فی سیاق لفظٍ حمل علی معناه المجازی أو رفعت الید عن الإرادة الجدیّة فیه لقرینةٍ، فإنّ مجرّد وقوعه فی ذلک السّیاق لا یوجب رفع الید فیه عن أصالة الحقیقة أو أصالة التطابق بین الإرادتین الإستعمالیّة والجدیّة، إلاّ إذا قامت القرینة علیه.

جواب سیّدنا الاستاذ

وهذا ما أفاده سیّدنا الاستاذ _ رحمه اللّه _ ببیانٍ وافٍ، فذکر أنّ السّبب فی أخذ الموصول فی سائر الفقرات بمعنی الموضوع والفعل هو إضافة الإضطرار ونحوه إلیه، والفرض أن الإضطرار وغیره مما ذکر فی الحدیث لا یقبل العروض علی الحکم. فمن ظهور الفقرة فی عروض الإضطرار ونحوه علی المراد بالموصول وکون المراد به هو معروض الإضطرار، التزم بأن المراد بالموصول هو الموضوع.

قال: ومن الواضح أن مقتضی ظهور الوصف فی تعلّقه _ فی نفسه وبلحاظ وحدة السّیاق _ بما هو المراد من الموصول وعروضه علیه بنفسه، هو إرادة الحکم من الموصول فی ما لا یعملون، لا الموضوع، لأنه لا یعرض علیه الجهل بنفسه. فنفس القرینة التی بمقتضاها حملنا الموصول علی الموضوع فی سائر الفقرات،

ص: 83

هی تقتضی إرادة الحکم من الموصول فی: ما لا یعلمون. فلا مخالفة لوحدة السّیاق، بل هو أخذ بظاهر السّیاق.(1)

الوجه الثانی ونقده

الوجه الثانی

إن إسناد الرفع إلی الامور التسعة واحد، والإسناد أمر بسیط، فلا یکون فی بعض التسعة حقیقیّا وفی البعض الآخر مجازیا، بل إن کان الإسناد إلی ما هو له فهو حقیقی، وإنْ کان إلی غیر ما هو له فمجازی. ولمّا کان الإسناد فی غیر «ما لا یعلمون» مجازیا _ لأنه قد أسند الرفع إلی الفعل، ولیس المرفوع فی ما لا یعلمون إلاّ الحکم _ فإن جعلنا المرفوع فی هذه الجملة هو «الفعل» أیضا تمّت وحدة الإسناد، لکنْ یکون علی وجه المجاز، وإنْ جعلناه «الحکم» لیکون علی وجه الحقیقة، لزم اختلال وحدة السّیاق.

وفیه:

أوّلاً: إن الإسناد فی الجمیع حقیقی، لأن ظرف الرفع هو عالم التشریع.

وثانیا: إنه لا مانع من الإلتزام بالمجاز فی إسناد الرفع إلی ما لا یعلمون، بأنْ یکون المرفوع هو الحکم ولکنّ الإسناد مجازی.

الوجه الثالث
اشارة

الوجه الثالث

إن کان الرفع مسندا إلی الموضوع فهو مجاز لأنه بالنظر إلی الحکم، وإنْ کان

ص: 84


1- 1. منتقی الاصول 4 / 400 _ 402.

إلی الحکم فهو حقیقة، فیلزم الإشکال فی الإسناد إلی «ما لا یعلمون» بأنه مجازی بلحاظٍ وحقیقی بلحاظ. هذا من جهة.

ومن جهةٍ اخری: إن کان المراد من الموصول «ما» هو الحکم، فإن صفة الجهل متعلّقة بالحکم، وإن کان متعلّق الصّفة هو الموضوع فهو وصف بحال الحکم من حیث الحرمة وعدمها، أو بحال العنوان حیث لا یعلم أن هذا المائع معنون بعنوان الماء أو الخمر، فلیس متعلّق الصّفة نفس الموضوع، لأن نفس الشرب لیس بمجهولٍ بل کون المشروب خمرا أو ماءً، وأنه هل الشّرب شرب للماء أو للخمر؟ لکن هذه العنایة غیر موجودة فی الشبهة الحکمیّة، لأنّ المجهول هناک هو الشئ¨ نفسه، وقد ظهر أن الإسناد فی الشبهة الموضوعیّة لیس بنفسه بل بعنوانه.

اُجیب بوجوه:

الجواب الأوّل ونقده

الأوّل: إن الإستعمال هو فی معنیً عام، والمنطَبق علیه مختلف، فتارةً هو الموضوع، واخری هو الحکم.

وفیه

إنه لیس مورد الکلام والإشکال إستعمال اللّفظ فی أکثر من معنی حتی یقال بأنّ المستعمل فیه هو الجامع، بل فی الإسناد، وأنه کیف یکون الإسناد الواحد إلی الحکم والموضوع معا، وأنه یکون المرفوع فی الشبهة الحکمیّة هو الحکم بنفسه وفی الموضوعیّة بعنوانه؟ فلیس المرفوع هو الأعم من الموضوع والحکم.

ص: 85

الثانی: صحیح أن المرفوع هو الموضوع، لکن هو الموضوع بما هو حرام مثلاً، أی أن المجهول هو الموضوع بما هو ذو حکم.

أجاب عنه المحقق الإصفهانی(1): بأنّ العناوین الإنتزاعیّة لاوجود لها خارجا، بل الوجود إنّما هو للذات والصّفة، ومن المعلوم أن الجهل إنما یتعلّق بما له وجود کالعلم، فلیس عندنا موضوع بما هو حرام أو واجب، بل عندنا الموضوع وعندنا الحرمة، والموضوع خارجی والحرمة أمر إعتباری لا خارجی.

وهذا الجواب لا إشکال فیه عند مشایخنا.

الثالث: إن المرفوع هو الحکم، وإسناد الرفع إلی الحکم حقیقی، وقد تعلّق الجهل بنفس الحکم، غیر أنّ الحکم مقسم والجهل بالحکم له مناشئ¨. ففی الشبهة الحکمیّة الإلآهیة الکلیّة الحکم کلّی، وفی الجزئیّة جزئی. فنحن نجعل الأعمّ من الکلّی والجزئی هو المرفوع، فإن کان کلیّا فالشبهة حکمیّة، وإنْ کان جزئیّا فالشبهة موضوعیّة، فلا یدخل الموضوع فی المطلب من أوّل الأمر حتی یقع الإشکال.

والحاصل: إنّ إختلاف المنشأ للجهل بالحکم لا یوجب الإختلاف فی الناشئ¨، فالحکم هو المتعلّق للجهل فی الشبهتین، ولیس أحدهما بنفسه والآخر بعنوانه، کما أن إسناد الرفع یکون إلی ما هو له ولیس مجازیّا.

ص: 86


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 48.

وهذا الجواب لصاحب الکفایة،(1) وقد وافقه علیه المحقّقان المیرزا(2) والعراقی،(3) وهو الصحیح.

الوجه الرابع ونقده

الوجه الرابع

إن عنوان «الرفع» إنما یصدق فی مورد «الثقل» وهو فی «الفعل» لا فی «الحکم» لعدم کونه ثقیلاً.

وأیضا: فإنّ هذا الحدیث وارد فی مورد الإمتنان، ولو لا الثقل فلا امتنان.

فالحدیث خاصّ بالشبهة الموضوعیّة.

وفیه:

إنّ الرفع یتعلّق بالشئ¨ الخفیف کما یتعلّق بالثقیل.

ویکفی فی صحّة إسناد الرفع کونه متضمّنا للثقل أو منشأً له، کما فی قوله تعالی «وَیَذَرُونَ وَراءَهُمْ یَوْمًا ثَقیلاً».(4) وکما فی حدیث رفع القلم،(5) لأنّ الذی له ثقل هو المؤاخذة أو التکلیف، والقلم سبب.

الوجه الخامس
اشارة

الوجه الخامس

إن «الرفع» و«الوضع» متقابلان، ولا یصح ورود الوضع علی شئ¨ والرفع

ص: 87


1- 1. کفایة الاصول: 340.
2- 2. فوائد الاصول 3 / 333.
3- 3. نهایة الأفکار 3 / 217.
4- 4. سورة الإنسان، الآیة: 27.
5- 5. وسائل الشیعة 28 / 23، باب أنه لا حدّ علی مجنونٍ ولاصبی.

علی شئ¨ آخر، ولمّا کان الموضوع دائما هو الفعل کالصّلاة لاوجوب الصّلاة، فالمرفوع هو ولیس الحکم. فالحدیث خاصّ بالشبهة الموضوعیّة.

جواب المحقق الخوئی ونقده:

جواب السیّد الخوئی:(1)

بأن هذا الإشکال یتوجّه إذا کان ظرف الوضع هو الذمّة، وأمّا إذا کان عالم التشریع، فإنّ الموضوع فیه هو الحکم فهو المرفوع.

وفیه:

إنّ الحدیث «عن اُمتی»، وهو ظاهر فی الذمّة لا التشریع.

جواب المحقق الإصفهانی ونقده:

جواب المحقق الإصفهانی:(2)

أجاب: بأنّ المتعلّق موجود بعین وجود الحکم، والموضوع للحکم لیس الصّلاة الخارجیّة، فرفع الموضوع یکون بعین رفع الحکم.

وفیه:

إن المبنی المذکور أمر عقلی دقیق _ کما صرّح هو بذلک _ وبحثنا عرفی، إذ المقصود إثبات الإطلاق فی «ما»، لکن تمامیّة الإطلاق موقوفة علی عدم وجود الصّارف أو ما یحتمل الصّارفیّة. وما ذکر فی الإشکال من أن الرفع متوجّه إلی الوضع وأن المرفوع لابدّ وأنْ یکون نفس الموضوع، یکفی للمنع عن انعقاد الإطلاق، إذ لا أقلّ من کونه محتمل الصّارفیّة، وقد وجدنا فی النصوص کتابا وسنّةً

ص: 88


1- 1. مصباح الاصول 2 / 263.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 51.

تعلّق الجعل والفرض والإیجاب بالموضوع مثل «وَللّه ِِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ...»(1) وقوله تعالی: «کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ»(2) وهکذا. فالإشکال باق.

والتحقیق:

أن یقال: بأنّ إسناد الجعل والوضع إلی الحکم أیضا صحیح، وهو غیرمستنکر عند العرف، فیصحّ أن یقال: قد جعل المولی علی عبده الحکم الکذائی...

وفی تفسیر القمی(3) فی قوله تعالی «إِنّا عَرَضْنَا الاْءَمانَةَ...»(4) أن الأمانة هی الإمامة والأمر والنهی. وهذا الکلام إنْ لم یکن روایةً، فلا أقلّ من إفادته صحّة الإطلاق العرفی.

وقال تعالی «ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»،(5) وقد جعل الشیخ المرفوع هو «الحکم الحرجی» کما فی «لا ضرر». وقد ورد فی حدیث لاضرر: «لاضرر ولاضرار فی الإسلام».(6)

والحاصل: إن المنفی علی مبنی الشیخ فی القاعدتین هو «الحکم»، وما ذهب إلیه هو الصّحیح، خلافا لصاحب الکفایة حیث جعله الموضوع.

ص: 89


1- 1. سورة آل عمران، الآیة: 97.
2- 2. سورة البقرة، الآیة: 183.
3- 3. تفسیر القمی 2 / 198.
4- 4. سورة الأحزاب، الآیة: 72.
5- 5. سورة الحج، الآیة: 78.
6- 6. وسائل الشیعة 26 / 14، باب أن الکافر لایرث المسلم.

ویؤید صحّة الإطلاق والإسناد: إن الحکم فی غیر باب القضاء یساوق «القانون». وفی البحار عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله: حکمی علی الواحد حکمی علی الجماعة.(1)

وأیضا: مقتضی قوله تعالی «نَزَّلَ عَلَیْکَ الْکِتابَ»(2) قابلیّة أحکام القرآن للوضع، لمکان التعدیة ب_«علی»، وما یقبل الوضع یقبل الرفع.

فالإشکال مندفع.

الوجه السادس وجوابه

الوجه السادس

إن غرض الاصولی رفع المؤاخذة أو استحقاقها _ علی الخلاف، والصّحیح هو الثانی _ . ولمّا کانت المؤاخذة من الامور التکوینیّة یلزم أن یکون رافعها تکوینیّا کذلک، وحدیث الرفع رافع تشریعی. کما أن الإستحقاق من الآثار العقلیّة، لا الشرعیّة، وما یرفع التکلیف الشرعی لا یمکنه رفع الأثر العقلی.

ذکره المحقق الخراسانی فی الکفایة:(3)

وقرّبه فی الحاشیة علیها: بأن الاصول العملیّة إنما ترفع الآثار الشرعیّة فقط دون العقلیّة والعادیّة، فلا یمکن للبراءة رفع المؤاخذة أو استحقاقها.

ثم أجاب فی المتن بما حاصله:

إن کان المرفوع بالحدیث هو المؤاخذة أو استحقاقها، فالإشکال وارد، لکنّ

ص: 90


1- 1. بحارالأنوار: 2 / 272.
2- 2. سورة آل عمران، الآیة: 3.
3- 3. کفایة الاُصول: 339.

المرفوع هو الموضوع المترتّب علیه المؤاخذة أو الإستحقاق لها، والموضوع أمر تشریعی، سواء کان هو «الحکم» أو «وجوب الإحتیاط» علی الخلاف.

وأجاب فی الحاشیة:

بأنّ اللّوازم العقلیّة للحکم الواقعی لا تقبل الرفع بالأصل العملی لکونه حینئذٍ من الأصل المثبت، لکنّ عدم الإستحقاق للعقاب من لوازم الحکم الأعمّ من الواقعی والظاهری، فیجوز رفعه بالأصل العملی ولایلزم الإشکال.

الوجه السّابع وجوابه

الوجه السابع

إنّ الغرض رفع الإستحقاق بالنسبة إلی الواقع، وأمّا رفع وجوب الإحتیاط فیرتفع بتبعه استحقاق المؤاخذة علی مخالفة وجوب الإحتیاط.

ذکره صاحب الکفایة.

وأجاب عنه:(1) بأنه إنما یرد لو کان الإحتیاط واجبا نفسیّا، لکنّه هنا طریقی، لأنه قد أنشأ لمصلحة حفظ الواقع وتنجّزه، فإذا وضع وجوب الإحتیاط ترتّب استحقاق العقاب علی مخالفة الواقع، وإنْ رفعه فقد رفعه بالنسبة إلی الحکم الواقعی کذلک.

أقول:

هذا علی مبناه قدّس سرّه.

ص: 91


1- 1. کفایة الاصول: 340.

وذهب المحقق الإصفهانی(1) إلی أن الإنشاء بداعی تنجّز الواقع محال، بل الإنشاء فی باب الإحتیاط ناشئ¨ عن مصلحة الواقع، أی أن مصلحة الواقع ینشأ منها إنشاءان، أوّلی وهو قوله: صلّ، وثانوی وهو قوله: إحفظ بالنسبة إلی الصّلاة.

وسیأتی تفصیل المطلب فی محلّه إن شاء اللّه.

ص: 92


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 44.
الثالث: ما هو اللّفظ المقدّر فی الحدیث؟
اشارة

الأمر الثالث

ما هو اللّفظ المقدّر فی الحدیث؟

رأی المحقق الخراسانی

إن حدیث الرفع إمّا قضیّة خبریّة أو إنشائیّة. وعلی کلا التقدیرین _ والأوجه الثانی _ فإنّ الامور المذکورة فیه عدا «ما لا یعلمون» لا تقبل الرفع، فلابدّ من تقدیر فی لفظ الحدیث، ویکون المقدّر هو المرفوع، وهو «المؤاخذة» أو «جمیع الآثار» أو «أظهر الآثار فی کلّ واحد منها». وقد ذهب إلی کلّ وجهٍ ذاهب من المحققین:

فصاحب الکفایة(1) علی أن المقدّر إمّا «جمیع الآثار» أو خصوص «الأثر الظّاهر فی کلّ واحد» من الامور، ویشهد بذلک إستشهاد الإمام علیه السّلام(2) بحدیث الرفع لرفع لزوم الحلف علی الطّلاق. وأمّا فی «ما لا یعلمون»، فإن

ص: 93


1- 1. کفایة الاصول: 340.
2- 2. وسائل الشیعة 23 / 237، الباب 16 من أبواب کتاب الأیمان.

المرفوع هو المجهول وهو الحکم، فالرفع فی هذه الجملة حقیقی، ولاموجب للمجاز فی الإسناد ولاحاجة إلی التقدیر.

ویشکل علیه: بأنّ المسند إلیه الرفع هو «التسع»، فکیف یکون الإسناد فی احدی الفقر حقیقیّا وفی البقیّة مجازیا؟ وما هو وجه هذا التفکیک؟

رأی المحقق النائینی

والمیرزا وبعضهم(1) علی أنّ هذا الرفع تشریعی، أی هو فی عالم التشریع، غیر أنْ متعلّق الرفع فی «ما لا یعلمون» هو الحکم وفی البقیّة هو الموضوع، ولا یلزم حینئذٍ إشکال التفکیک، لأن الرفع إذا کان تشریعیّا کان الإسناد حقیقیّا علی حدٍّ سواء، فالفعل المضطرّ إلیه _ مثلاً _ مرفوع حقیقةً فی عالم التشریع، وإنْ کان الإسناد فی عالم التکوین مجازیا، لعدم ارتفاعه فیه حقیقةً فیحتاج إلی التقدیر.

إذن، لیس المرفوع أحد الامور الثلاثة المذکورة، بل هو الحکم أو الموضوع، ورَفع الموضوع تشریعا عین عدم الأثر، فلا یلزم المجاز أصلاً فی الإسناد ولایحتاج إلی تقدیر.

أقول:

لکنْ یبقی أنه لمّا کان المرفوع فی البقیّة هو الموضوع من أجل رفع آثاره، فهل المرفوع جمیع الآثار أو خصوص الظاهر منها؟ وسیأتی التعرّض لهذا.

ص: 94


1- 1. فوائد الاصول 3 / 341، مصباح الاصول 2 / 261.
الرابع: هل (ما لا یعلمون) یقبل الرفع؟

الأمر الرابع

هل «ما لایعلمون» یقبل الرفع؟

لقد أُسند الرفع فی الحدیث إلی جمیع الأمور التسعة، ومقتضی القاعدة فی إطلاق الرفع کون المرفوع مرفوعا بالکلّیة، فلو اُرید رفع قسمٍ أو طرف توقف علی قیام القرینة علی ذلک.

إلاّ أن «ما لا یعلمون» منها غیر مرفوع بالکلیّة لأمرین:

أحدهما: إن خلوّ الواقع عن الحکم یستلزم التّصویب.

والثانی: إن ذلک خلاف الظاهر، لأن معنی قولنا: ما لا یعلمون مرفوع، هو اجتماع «ما لا یعلمون» مع «الرفع» فی الوجود، أی: إنّ الحکم موجود فی الواقع وقد تحقّق الجهل بالنسبة إلیه، فهو مرفوع ظاهرا، وهذا هو الظاهر من الکلام، وأمّا الرفع واقعا، فخلاف الواقع، لأن معناه حینئذٍ أن یکون العلم بعدم الحکم عدم الحکم بالمرّة بمجرّد تحقق الجهل به.

فالحاصل: إن الرفع فی «ما لا یعلمون» ظاهری وفی سائر الجمل واقعی،

ص: 95

والمراد من الرفع الظاهری تأثیر الحکم الواقعی أثره بمجرّد ارتفاع الجهل. وعلی هذا، فإذا جرت البراءة عن جزئیّة شئ¨ أو شرطیّته وجب إعادة الفاقد له بمجرّد ارتفاع الجهل، فیکون الحاصل عدم الإجزاء، بخلاف الأمر فی البقیّة، فإنّ النتیجة فیها هو الإجزاء.

ولا یخفی أن الدلیلین المذکورین یمنعان من کون الرفع واقعیّا فی مایعلمون فی الشبهة الحکمیّة، وأمّا فی الموضوعیّة، فالدلیل الأوّل _ وهو لزوم التصویب _ غیر آت.

واعلم أنه إذا قام الدّلیل علی الإجزاء فی ما لا یعلمون، کان علی خلاف القاعدة، کما لو قام علی عدم الإجزاء فی غیره من الامور التسعة.

وأیضا: کون الرفع فی ما لا یعلمون ظاهریّا وفی البقیّة واقعیّا، لیس من استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی، لأن الظاهری یکون رفعه فی مرتبة الظاهر، فالرفع الظاهری رفع مقیّد، والواقعی مطلق، أی أنه فی الظاهری ترفع الید عن الإطلاق بمقتضی الدّلیل القائم.

وملخّص الکلام فی هذا التنبیه: إن حدیث الرفع مقیّد للأدلّة الواقعیّة أو مخصّص لها، فیتقدّم علیها بلا کلام.

وقد یقال: بأن النسبة بین دلیل الحکم الواقعی وحدیث الرفع هی العموم والخصوص من وجه، فما هو الوجه لتقدّم حدیث الرفع؟

ص: 96

هنا مسلکان:

أحدهما: إن الحدیث حاکم علی الأدلّة، فالتقدّم بالحکومة ولا تلحظ النسبة المذکورة.

والثانی: إنه إنْ خصّص حدیث الرفع بالأدلّة وتقدّمت علیه، لزم لغویّة الحدیث، بخلاف العکس. فالحدیث متقدّم فی مورد الإجتماع المفروض لغویّته لولا التقدّم، لکونه فی هذه الحالة نصّا وتلک الأدلة ظاهرة، والنصّ متقدّم علی الظاهر.

ولا یخفی الفرق بین المسلکین، إذْ لا تصل النوبة علی الأوّل إلی التعارض، وأمّا الثانی، فهو مع الغضّ عن الحکومة المذکورة.

ص: 97

ص: 98

الخامس: أیّ الأحکام هو المرفوع؟
اشارة

الأمر الخامس

أیّ الأحکام هو المرفوع؟

إنه بناءً علی أنّ المرفوع هو الآثار والأحکام _ کما هو الحق _ لا المؤاخذة وغیرها، فإنّ مقتضی إطلاق الرفع بالنسبة إلی کلّ فقرةٍ رفع جمیع الآثار والأحکام، فإنْ لم یشمل شیئا منها کان لمانعٍ ثبوتی أو إثباتی. وعلیه:

فإنّ الأحکام تنقسم إلی التکلیفیّة _ وهی الإعتبارات الشرعیّة التی فیها جهة الإقتضاء مع المنع من النقیض أی الوجوب والحرمة، أو مع عدم المنع أی الإستحباب والکراهة، أو جهة التخییر وهو الإباحة _ والوضعیّة، کالملکیّة والطّهارة والنجاسة والزوجیّة والشرطیّة والجزئیّة، وغیرها من الإعتبارات الشرعیّة التی لیس فیها جهة الإقتضاء والتخییر.

فهل یرفع الحدیث کلا القسمین أو التکلیفیّة فقط؟

والأحکام منها: النفسیّة والغیریّة، فهل یرفع کلا القسمین أو النفسیّة فقط؟

ومنها: الإستقلالیّة والضّمنیّة _ مثل وجوب الجزء _ فهل یرفع کلیهما أو الأوّل فقط؟

ص: 99

1_ الأحکام التکلیفیّة
اشارة

الأحکام التکلیفیّة

نذکر أوّلاً الأحکام التکلیفیّة فنقول:

کلام المحقق النائینی ونقده

کلام المیرزا

ذکر المحقّق المیرزا أنه تارة: یتوجّه الحکم إلی مطلق الوجود، واخری: إلی صرف الوجود. فإنْ کان الأوّل مثل حرمة شرب الخمر _ الذی ینحلّ إلی کلّ فرد فرد _ فالإکراه أو الإضطرار إذا تعلّق بفرد رفع ذاک الفرد. وإن کان الثانی، فإن تعلّق بجمیع الوجودات، سقط الحکم، کما لو استوعب الإکراه جمیع وقت الصّلاة، وإلاّ، فإنّ متعلّق الإکراه لیس متعلّق الحکم، فلو تعلّق الإکراه بالصّلاة فی أوّل الوقت لم یسقط الحکم بوجوب الصّلاة، بل یجب الإتیان بها فی وقت زوال الإکراه مادام الوقت باقیا، لأنّ الصّلاة التی تعلّق بها الإکراه لیس الواجب بل مصداق الواجب.

وإنْ کان فعل شخصی موضوعا للحکم المتعلّق بشخصٍ آخر، لم یتحقّق الحکم بالنسبة إلی الثانی إنْ وقع الفعل من الأوّل عن إکراه، فلو قال: إنْ شرب زید الخمر وجب علی الحاکم إجراء الحدّ علیه، فشربه عن إکراه، فإنّه لا یجب علی الحاکم إجراء الحدّ علیه.

ویشترط فی جریان حدیث الرفع:

1. أن یکون الرفع امتنانیّا.

2. أن لا یلزم من رفع الحکم خلاف الإمتنان.

ص: 100

3. أن یکون مفاد الحدیث تنزیل الموجود بمنزلة المعدوم، فلو کان العکس لم یجر الحدیث.

وعلیه، ففیما إذا کان متعلّق الحکم صرف الوجود مثل أن ینذر إکرام عالمٍ:

فتارةً: یکره علی إکرام نفس ذاک العالم، فلا یجری الحدیث، لأن رفع حکم الإکرام معناه تنزیله بمنزلة المعدوم، أی: لیس هذا الإکرام بإکرام، فیجب الإتیان بالإکرام مرة اخری، لکن یلزم من الإتیان به ثانیةً خلاف الإمتنان.

واخری: ینذر عدم الإکرام فیکره علی الإکرام، فهنا یجری الحدیث، لأنّ من رفع هذا الإکرام یلزم الإمتنان، لعدم تحقق مخالفة النذر، فنزّل الموجود بمنزلة المعدوم، وکان الرفع امتنانیّا.

وثالثة: ینذر الإکراه ثم یکره علی ترکه، فهنا لا یجری الحدیث، لأنّ الرفع لا ینزّل المعدوم بمنزلة الموجود. فحدیث الرفع لا یجعل عدم الإکرام إکراما، فالحکم بوجوب الوفاء بالنّذر باقٍ علی حاله، فإنْ لم یکرم عند زوال الإکراه فقد عصی ووجبت الکفارة.

هذا ما ذکره المیرزا.(1)

أقول:

أمّا من الناحیة الکبرویّة، فلا کلام فی أنّ مجری الحدیث لابدّ وأنْ یکون امتنانیّا، وأمّا أن مدلوله تنزیل الموجود بمنزلة المعدوم _ فلو کان بالعکس فلا یجری _ ففیه تأمّل.

ص: 101


1- 1. فوائد الاصول 3 / 348.

وذلک، لأنّ مدلول الحدیث بحسب خصوصیّة المقام وکون الرفع من الشّارع بالنسبة إلی الأحکام، هو رفع مقتضی الحکم فی ظرف الجهل أو عدم أخذ الموضوع فی عالم التشریع، فإذا عرض الإکراه _ مثلاً _ فالشئ¨ لیس متعلّقا لحکمه. هذا حقیقة الرفع التشریعی. فعدم الأخذ مطلق، سواء کان الأمر الإعتباری عدمیّا أو وجودیّا، فلا ملزم شرعا وعقلاً لأن یکون المدلول تنزیل الموجود منزلة المعدوم.

وبعبارة اخری: مفهوم لفظ «الرفع» هو «الإعدام» المتفرّع علی الوجود، والإعدام _ إنْ کان من الشّارع وفی ظرف التشریع _ یتحقّق بعدم جعل الشئ¨ وعدم أخذه موضوعا، سواء کان الشئ¨ وجودیّا أو عدمیّا.

هذا حلاًّ.

وینتقض کلامه: بأنّ لازم ما ذکره عدم جریان الحدیث _ أی قصوره عن الجریان _ فی تروک الإحرام مع طروّ الإکراه أو الإضطرار، لأنّ الموضوع هناک عدم الفعل. والظاهر أنه لا یلتزم بهذا.

وأمّا صغرویّا، حیث طبّق ما ذهب إلیه علی باب النذر فقال: لو اُکره علی ترک الإکرام لا یجری الحدیث، لأنّ الحدیث لا ینزّل المعدوم بمنزلة الموجود، فعلیه الکفارة، نقول:

إن ما ذکره یخالف ظواهر النصوص التی اُخذ فیها الموضوع، فإنّ موضوع الکفّارة هو عدم الوفاء بالنذر، وهو عنوان انتزاعی، فإن کان متعلّق النذر هو الفعل فعدم الوفاء یتحقّق بالترک، وإنْ کان عدم الفعل فعدم الوفاء یکون بالفعل. إذن،

ص: 102

عدم الإکرام یکون موضوعا لوجوب الکفّارة، کما أنّ الإکرام یکون کذلک. ومن النصوص:

سألته عن رجل عاهد اللّه فی غیر معصیةٍ، ما علیه إنْ لم یف للّه بعهده؟

قال: «یعتق...».(1)

فموضوع «وجوب العتق» هو «عدم الوفاء».

سألت أباجعفر عن الأیمان والنذور والیمین التی هی للّه طاعة.

فقال: ما جعل للّه علیه فی طاعة فلیقضه، فإن جعل للّه شیئا من ذلک ثم لم یفعل فلیکفّر عن یمینه...».(2)

فموضوع «وجوب الکفارة» هو «لم یفعل». فلو لم یفعل عن «إکراه» فلا کفارة، لحدیث الرفع.

اللّهم إلاّ أن یقال: بأن حدیث الرفع لا یجری فی الموضوعات العدمیّة، لعدم قابلیّته لتنزیل المعدوم بمنزلة الموجود.

لکنْ یرد علیه حینئذٍ: لماذا الکفارة؟

فالتحقیق أنْ یقال:

إن کلّ ما کان موضوعا للإکراه _ مثلاً _ فإنّ حدیث الرفع یرفعه، سواء کان وجودیّا أو عدمیّا، وقد رأینا فی النصوص أن عدم الفعل موضوع للحکم.

ص: 103


1- 1. وسائل الشیعة 22 / 395، باب وجوب الکفّارة المخیّرة...
2- 2. المصدر 23 / 248، باب انعقاد الیمین علی فعل الواجب.

سلّمنا کون المدلول تنزیل الموجود بمنزلة المعدوم فقط.

لکنْ نقول: إن حقیقة الإکراه هو حمل الغیر علی ترک ما یرید فعله أو فعل ما یرید ترکه بالتهدید، فإذا اُکره علی الترک توجّه الضّرر إنْ فعل وکذا العکس. وعلیه، فمتی اُکره علی الترک، کان التوعید علی الفعل، فالفعل ضرری، وحینئذٍ یکون رافع الفعل هو حدیث «لاضرر» فلا تجب الکفّارة.

ثم إنّ المیرزا فصّل بین الأجزاء والشرائط وبین الموانع، فیما إذا حصل النسیان، فلا یصحّح الحدیث العبادة الفاقدة للجزء أو الشرط المنسیّ، بل لابدّ من دلیل آخر. وخلاصة الوجه فی ذلک هو: إنّ الصّحة والإجزاء أمر عقلی لا یتمکن الحدیث من وضعه، وإنّ حدیث الرفع لا ینزل المعدوم بمنزلة الموجود، وأنْ لا منّة فی هذا الرفع.

ویصحّح الحدیث العبادة المشتملة علی المانع ولا حاجة إلی دلیل آخر، لأنّ الحدیث یجعل المانع کأنْ لم یکن، وینزّل الموجود بمنزلة المعدوم.

التحقیق فی المقام

والتحقیق أن یقال:

إن کلّ مرکّب یراد الأمر به، کالصّلاة مثلاً، لا یعقل أنْ یکون مهملاً بالإضافة إلی شئ¨، بل إنّ الحاکم یلحظ النسبة بین المرکّب وذلک الشئ¨، فإمّا یکون المرکّب مطلقا بالنسبة إلیه، کأنْ تکون الصّلاة لابشرط بالنسبة إلی الأجزاء والشرائط والموانع، فلا موضوعیّة للشرطیّة والجزئیّة والمانعیّة، وإمّا أنْ یکون بشرط، والشرط إمّا وجودی أو عدمی، فإنْ کان وجود الشئ¨ دخیلاً فی المرکّب، کدخل

ص: 104

الرّکوع فی الصّلاة، کان الرّکوع والتقیّد به جزءً للصّلاة، وإنْ کان التقیّد بالشئ¨ _ دون نفس الشئ¨ _ دخیلاً فهو شرط، کالطّهارة بالنسبة إلی الصّلاة، وإنْ کان عدم الشئ¨ دخیلاً فی المرکّب، کالضّحک بالنسبة إلی الصّلاة، فهو مانع، فالمانعیّة اعتبار عدم الشئ¨ فی المرکّب، أی تقیّده بعدمه.

ثم إنّ الأوامر والنواهی المتوجّهة إلی المرکّبات بالنسبة إلی هذه الخصوصیّات کلّها إرشادیّة، فإن قال: «إرکع» کان إرشادا إلی «الجزئیّة» وإن قال: لا تضحک، کان إرشادا إلی «المانعیّة». وذلک: لأن الأمر لمّا توجّه إلی الصّلاة مع الرکوع والسّجود و... انتزع منه جزئیّة الرکوع والسّجود... ، ولمّا توجه إلیها مع عدم الضّحک مثلاً، ینتزع مانعیّة الضّحک عن الصّلاة.

فظهر أنْ لا مانعیّة ولا جزئیة إلاّ ببرکة وجوبٍ استقلالی متوجّه إلی خصوصیّات وجودیّة أو عدمیّة.

وظهر أنه لا نهی مستقلّ بالنسبة إلی المانع، بل النّهی المتوجّه إلی المانع إرشاد إلی دخل عدم ذلک الشئ¨ فی صحة المرکّب ومطلوبیّته.

وعلیه، فرفع المانعیّة لیس إلاّ رفع الوجوب المقیّد بعدم الضّحک مثلاً، ورفع الجزئیّة لیس إلاّ رفع الوجوب المقیّد بعدم الرّکوع مثلاً، فلیس المرفوع قطعةً من الوجوب بل هو نفس الوجوب وأصله، کما أنه هو الموضوع، إذ الوجوب بسیط والبسیط لا یتبعّض، وإنْ کان متعلّق هذا الوجوب ذا أجزاء.

ص: 105

وتلخّص:

أنه إذا رفع أصل الوجوب فلا مصحّح للصّلاة، وحدیث الرفع لا یمکنه أن یصحّح الصّلاة الواجدة للمانع، کما لا یمکنه تصحیح الصّلاة الفاقدة للجزء أو الشّرط.

فالتفصیل بین عدم الجزء أو الشّرط فالبطلان، وبین وجود المانع فالصحّة، باطل.

وعلیه، فلا طریق لتصحیح الصّلاة _ سواء الواجدة للمانع أو الفاقدة للشرط أو الجزء _ إلاّ الرجوع إلی قاعدة لا تعاد.

هذا کلّه فی الأحکام التکلیفیّة.

2_ الأحکام الوضعیّة
اشارة

الأحکام الوضعیّة

کلام المحقق النائینی فی السبب وتوضیحه ثم نقده

وأمّا الوضعیّات:

فتارةً: یتعلّق النسیان بالسّبب، کالعقد ینسی فیه العربیّة أو یکره علی ترکها أو یضطرّ إلی غیرها، ففی مثل ذلک قال المیرزا(1) بعدم جریان حدیث الرفع، لأن جریانه إن کان لرفع الشرطیّة، فإن النسیان لم یتعلّق بالشرطیّة، وإنْ کان بلحاظ رفع العقد الفارسی، فلا أثر للعقد الفارسی، وإنْ کان بلحاظ تنزیل الفارسی بمنزلة العربی وتنزیل ترک العربیّة بمنزلة وجودها، فإنّ الحدیث ینزّل الموجود بمنزلة المعدوم لا العکس.

ص: 106


1- 1. فوائد الاصول 3 / 356.

واخری: یتعلّق بالمسبّب الإعتباری کالملکیّة والزوجیّة. ولمّا کانت هذه الامور اعتبارات شرعیّة وضعیّة أمکن وضعها ورفعها، لکنّ الإکراه علی الملکیّة ونحوها من المسببّات غیرمعقول.

وثالثة: یتعلّق بالمسبّب الواقعی، کالطّهارة والنجاسة _ بناءً علی کونهما واقعیین کشف عنهما الشّارع _ وهنا لا یجری الحدیث، لأنْ الأمر الواقعی التکوینی لایقبل الرفع. نعم، یقبله _ کالوضع _ بلحاظ حکمه وأثره، فإذا أُکره علی الجنابة جری الحدیث من جهة الأثر.

فإن قلت: إذا کان جاریا، فالمکره لا یجب علیه الغسل، لأنه مرفوع بلحاظ أثره وهو وجوب الغسل.

فالجواب: إن وجوب الغسل من آثار الجنابة مطلقا. فتأمّل.

وهذا توضیح کلام المیرزا فی المقام.

أقول:

(أمّا السّبب) فما ذکره فیه تام، لأن معنی جریانه هنا ترتب الأثر علی العقد الفارسی، مع أنّ الأثر للعقد العربی، والحدیث لا یجعل الفاقد لشرط العربیّة واجدا له.

لا یقال: حدیث الرفع حاکم علی أدلّة الأجزاء والشرائط، فشرطیّة العربیّة ترتفع بالحدیث فی حال النسیان فیصّح بالفارسی.

ص: 107

أمّا علی مبنی المیرزا، فإنّ حدیث الرفع ینزّل الموجود بمنزلة المعدوم، وهنا لا موجود حتی ینزّل بمنزلة المعدوم. وأمّا علی ما اخترناه، فإنّ کلّ ما صدر عن الإکراه أو الإضطرار أو النسیان وکان ذا أثر شرعی، فإنه یرتفع بالحدیث، ولکنَّ ترک العربیّة لیس ذا أثر شرعیّ حتی یجری فیه الحدیث ویتقدّم من باب الحکومة، کما أن الحدیث لا یجری فیما إذا ترک الطّهارة، لأن ترکها لیس له أثر شرعی. بل یترتّب علیه بطلان الصّلاة عقلاً لفقدان الشرط.

إذن، لا مصحّح للعقد الفارسی بناءً علی اعتبار العربیّة.

علی أن متعلّق الحکم هو الطبیعة، والمنسیّ حصّة، وهو غیر متعلّق الحکم، ومتعلّق الحکم غیر المنسیّ. وهذا وجه آخر لعدم جریان الحدیث.

کلام المحقق العراقی ونقده

کلام العراقی

ومما ذکرنا یظهر ما فی کلام المحقق العراقی.(1) فإنه یری جریان الحدیث بلحاظ ترک الشرط والجزء، بمعنی: إن ترک الشرط هو المرفوع وأن فاقد الشرط صحیح. وحاصل کلامه هو:

إن العبادة الفاقدة للشرط لا تجزی، لأن الحدیث إنما یرفع الترک للشرط مادام المکلّف ناسیا، فدائرة مصلحة المأمور به لیست محددة، بل یرتفع التکلیف بمقدار النسیان، وأمّا بعده، فإن إطلاق مصلحة الطبیعة یقتضی عدم الإجزاء ووجوب الإتیان بالعبادة الواجدة للشرط. هذا فی التکلیفیّات.

ص: 108


1- 1. نهایة الأفکار: 3 / 218.

وأمّا فی الوضعیّات، فالحدیث یجری، لأنه إذا ترک العربیّة نسیانا، فقد رفع الشّارع هذا الترک بلحاظ أثره، أی: العقد لیس فاسدا، إلاّ أن المانع من جریان الحدیث هو أمر آخر، وهو أنه مع رفع الفساد الذی هو ترک العربیّة یتحقق وجوب الإعادة، کما لو کان منذورا فیجب، وفاءً للنذر، وهو تکلیف وفیه کلفة، والحدیث رافع للکلفة منّةً.

إذن، لا یجری الحدیث فی التکلیفیّات من جهة عدم الإجزاء.

وهو لا یجری فی الوضعیّات من جهة لزوم الکلفة.

أقول:

صحیح أن الترک یرتفع بالحدیث، لکن إذا کان موضوعا لأثر شرعی لا عقلی، والصحّة والفساد من الامور العقلیّة، ینتزعان من موافقة المأتی به للمأمور به ومخالفته، فلا معنی لإجراء الحدیث لرفع الفساد.

ثم إن ما ذکره من عدم الجریان فی الوضعیّات لاستلزامه الکلفة، مخدوش، بأنّ غرض صاحب المعاملة مختلف، فإنْ کان غرضه فی تحقّقها فلا کلفة، وإن کان فی عدم تحقّقها، ففی وضع لزوم الوفاء کلفة. فالصّحیح هو التفصیل.

ولو تعلّق النسیان أو الإکراه أو الإضطرار بنفس العقد لابشرطه، فلا یجری الحدیث، لأنه مع النسیان لا عقد، لأن العقد من الامور القصدیّة، وحدیث الرفع لا یجری فی الموضوع المتقوّم بالقصد کما فی محلّ الکلام، إذ مع عدم القصد لا موضوع، أی لا عقد أصلاً.

ص: 109

أمّا بالنسبة إلی الإکراه، فیجری الحدیث ویکون العقد باطلاً.

وأمّا الإضطرار، فلا یجری، للزوم خلاف الإمتنان، لأن رفع أثر بیع المضطرّ إلی البیع وجعله باطلاً خلاف الإمتنان بالنسبة إلی هذا المضطر.

هذا کلّه فی السبّب.

(أمّا المسبّب)

ففی الإعتباری کالملکیّة والزوجیّة، قال المیرزا بجریان الحدیث، لأنّ المسبّب مجعول شرعی فللشارع رفعه، ولیس المرفوع هو الملکیّة بلحاظ الأثر أی التصرّف، بل هو نفس الملکیّة. لکنّ المسبّب لا یتعلّق به الإکراه.

کلام المحقق النائینی فی المسبب ونقده

أقول:

قد ذکرنا فی محلّه(1) أنّ فی حقیقة الإنشاء مسالک:

أحدها: إنه إیجاد المعنی بوجوده اللّفظی الجعلی الوضعی، أی بالجعل والمواضعة. فالملکیّة توجد بالعقد وجودا جعلیّا، فهی مثل الشمس _ مثلاً _ لها وجود خارجی ووجود لفظی، فإذا قال ملّکت فقد أوجد الملکیّة بوجودها اللّفظی. قاله المحقق الإصفهانی.

والثانی: إنه الإعتبار والإبراز. أی یعتبر المعتبر ملکیّة زید للدار ویبرز اعتبار ذلک بقوله ملّکتک. قاله السیّد الخوئی.

ص: 110


1- 1. تحقیق الاصول 1 / 152.

والثالث: السببیّة. وهو قول المشهور.

والکلام الآن حسب هذا المسلک الأخیر فنقول:

صیغ العقود أسباب، فلمّا یقول «بعت» تتحقّق ملکیّة الدار لزید فی اعتبار المتعاملین، ولذا یعتبر فی الصّیغة قصد الإنشاء. ثم إنّ هذا الأمر الموجود بالصّیغة فی اعتبارهما، قد یقع موقع الموافقة من العقلاء وقد لا یقع، فإنْ وافق علیه العقلاء أصبح البیع عقلائیّا، وحینئذٍ ینظر إلی اعتبار الشّارع، فإنْ وافق حصل منه الإعتبار المماثل. وإذا تمّت هذه المراحل الثلاث تصل النوبة إلی المرحلة الرابعة، وهی مرحلة ترتب الآثار مثل جواز التصرّف فی الثمن والمثمن.

فالمسببیّة هی من قبل المتعاقدین، ثم یکون موضوعا لاعتبار العقلاء والشّارع.

هذا مطلب.

ومطلب آخر: إن حقیقة الإمضاء جعل المسبّب موضوعا للإعتبار المماثل، وحقیقة الردع عدم الإعتبار المماثل.

ومطلب ثالث: إن العناوین الإنشائیّة کلّها أفعال المتعاقدین، وقد تکون موضوعا للإعتبار الشرعی، فلیست العناوین فعل الشّارع، ولمّا کانت من أفعال المتعاقدین فهی قابلة للإکراه.

وقد وقع الخلط بین «آجرتک» و«تحقّق الإجارة»، لأنّ السبّب هو الأوّل، والثانی هو المسبّب، أی کون الدار موردا للإجارة المقصودة فی العقد، فعدم تعلّق

ص: 111

الإکراه یکون بالنسبة إلی فعل العقلاء والشّارع، لأنّ اعتبار العقلاء والشّارع لیس إنشائیّا، بل هو إمضاءٌ لما فعله المجری للعقد، ولذا یصدق عنوان البائع علیه ولا یصدق علی العقلاء والشّارع.

وأمّا فی الخارجی، فقد ذکر المیرزا أن الأمر الواقعی لا یقبل الوضع والرفع، بل المرفوع بحدیث الرفع هو الأثر والحکم رفعا تشریعیّا.

ثم أورد المیرزا علی نفسه: بأنه إذا تعلّق الإکراه بالنجاسة وکان الرفع بلحاظ الأثر، فلا یلزم تطهیر المتنجّس، ولا یجب غسل الجنابة المکره علیها.

فأجاب: بأنّ الغَسل والغُسل أمران وجودیان یترتّبان علی النجاسة والجنابة سواءً کانت اختیاریّتین أوْ لا. ثم أمر بالتأمّل.

أقول:

فی ما ذکره فی الجواب نظر، لأنْ حدیث الرفع حاکم علی الأدلّة الأولیّة _ حکومة ظاهریّة فی «ما لا یعلمون» وواقعیّةً فی البقیّة _ والحکومة متوقفة علی الإطلاق ثم رفع الحدیث الحکم فی حال الإکراه والإضطرار... . فلا یعقل التقیّد بالإکراه أو عدمه، بل إن الموضوع فی الحدیث عبارة عمّا توجّه إلیه الحکم بنحو اللاّبشرط عن الإکراه وعدمه والإضطرار وعدمه... وهکذا.

وعلیه، فلمّا ورد وجوب الغُسل علی الجنابة مطلقا، فإنّ حدیث الرفع یرفع الحکم بوجوب الغُسل فی حال الإکراه _ مثلاً _ فلا وجوب للغُسل فی الحصّة المکره علیها من الجنابة. ولعلّ هذا وجه التأمّل الذی أمر به.

ص: 112

فالتحقیق فی الجواب:

هو إعادة النظر فی حقیقة النجاسة والحَدَث، فهل هما أمران واقعیّان أو اعتباریّان أو انتزاعیّان؟0

والإیراد المذکور إنما یتوجّه بناءً علی کونهما أمرین واقعیین. وأمّا بناءً علی کونهما اعتباریین من الشّارع وأهل العرف، وأنهما حکمان شرعیّان مسبّبان، والأحکام الشرعیّة لا یعقل تعلّق الإکراه بهما، فالبحث منتف من الأصل.

وتفصیل المطلب هو إنه:

ذهب الشیخ وجماعة: إلی أن النجاسة والحدث أمران واقعیّان کشف عنهما الشّارع.

وقال آخرون منهم المیرزا(1): هما أمران اعتباریّان.

وقد استدلّ هؤلاء بأنّ مقتضی الأدلّة عبارة عن المجعولیّة الشرعیّة، لأنّ لسان «کلّ شئ¨ لک طاهر» لا یختلف عن لسان «الماء طاهر»، ووحدة اللّسان فی الطّهارة الواقعیّة کما فی الماء، والظاهریّة کما فی القاعدة، وهی اعتباریّة، تکشف عن کون الطّهارة والنجاسة من الاعتبارات الشرعیّة.

وقد أقام المحقّق الإصفهانی البرهان علی عدم إمکان کونهما من الامور الواقعیّة، وأن کونهما من الإنتزاعیات والتکلیفیّات غیر معقول، فهما اعتباریّان.

ص: 113


1- 1. فوائد الاصول 3 / 357.
التحقیق فی المقام

أقول:

إن اللّغة والعرف یساعدان علی کونهما من الامور الواقعیّة، ففی(1) اللّغة: القذارة والنجاسة واحد، وهو مایستقذره الطبع. ولا ینافی ذلک وحدة الّلسان بین «کلّ شئ¨ لک طاهر» و«الماء طاهر»، فإنّ الشّارع یکشف فی عالم التشریع عن الطّهارة والنجاسة الواقعیتین، ویجعل المنکشف موضوعا للأثر الشرعی.

وأمّا الإستدلال لاعتباریّتهما: بأنه إذا أسلم الکافر یطهر ویکون ولده طاهرا بمقتضی قانون التبعیّة، وکیف یمکن التصدیق بتبدّل أمر واقعی _ وهو النجاسة _ إلی أمر واقعی آخر _ وهو الطّهارة _ فی لحظات. فهما اعتباریّان.

ففیه: إنّا لا نقول بالواقعیّة مطلقا، بل بنحو الموجبة الجزئیّة کما سیتّضح، والقائل بالإعتباریّة مطلقا لا یفیده هذا الإستدلال، لأن الدّلیل أخصّ من المدّعی.

وبالجملة، فإنّ ما ذهب إلیه الشیخ من کون الطّهارة والنجاسة أمرین واقعیین کشف عنهما الشّارع تام، عند شیخنا الاستاذ دام بقاه.

ثم إنه فصّل المطلب فأفاد:

إنّ من الموارد ما یکون أمرا واقعیّا کشف عنه الشّارع، والعرف لا یدرک فیه النجاسة مثل الکلب، إذ قال علیه السّلام: رجس نجس لا تتوضّأ بفضله.(2) ومن الموارد ما هو أمر واقعی أمضاه الشّارع، مثل البول، فإنّه یتنفّر منه الطبع واقعا،

ص: 114


1- 1. مجمع البحرین 3 / 453.
2- 2. وسائل الشّیعة 3 / 516، باب وجوب تعفیر الإناء بالتراب.

فالعرف واللّغة علی أنه نجس والشّارع قد أمضی ذلک. ومن الموارد ما هو أمر اعتباری مثل الطّهارة الظاهریّة، حیث اعتبر الشّارع فی مورد الشک الطّهارة بقوله علیه السّلام: کلّ شئ¨ نظیف حتی تعلم أنه قذر،(1) ففی مثله لا یمکن القول بالواقعیّة.

وأمّا الکافر، فقد یقال: بأنْ بدنه إن کان نظیفا لا یتنفّر منه الطبع، فلیست نجاسته حقیقیّةً.

ولکنّ العلقة القویّة الموجودة بین الروح والبدن، توجب تأثّر البدن من الرّوح الخبیثة تأثّرا لا یدرکه الإنسان، لکنّ الشّارع بحکمه بنجاسته قد کشف عن تلک الخباثة والقذارة، وعلیه، فلا مانع من القول بکونها فیه حقیقیّة.

لکنّ ولد الکافر إذا أسلم یکون طاهرا بالتبعیّة بالإجماع، وهذه الطّهارة ظاهریّة لا واقعیّة.

فظهر أن الصحیح هو التفصیل بین موارد النجاسات.

وأمّا الحدث، فالمشهور علی أنه أمر نفسانی، لکنْ لا مثبت لذلک، بل الظاهر من النصوص کونه کیفیّة جسمانیّة، کالخبر عن النبی صلّی اللّه علیه وآله: «تحت کلّ شعرة جنابة»(2) وکالخبر عن أبی عبداللّه علیه السّلام أنه قال فی کلامٍ له لأبی حنیفة: «الجنابة تخرج من سائر الجسد».(3)

ص: 115


1- 1. وسائل الشیعة 3 / 467، باب أنّ کلّ شئ¨ طاهر.
2- 2. بحارالأنوار 78 / 51.
3- 3. تعلیقة دعائم الاسلام 1 / 91.

بقی حلّ الإشکال الذی ذکره المیرزا وأجاب عنه بأن الغسل یترتب علی مطلق الجنابة فلا یتعلّق بها الإکراه، فقد أفاد شیخنا أنه قد أوضح کلامه بعض الأعلام(1) من تلامذته بأنّ الأثر إن کان مترتّبا علی الشئ¨ بما هو فعل للمکلّف فیرتفع بالإکراه، وإن کان مترتبا لا بما هو فعل له فلایرتفع. والجنابة من قبیل الثانی. وهذا مراد المیرزا من «مطلق الجنابة»، لکن الشیخ الکاظمی لم یضبط کلام المیرزا. فلا مجال للإیراد المذکور، ولا یرتفع أثر الجنابة وهو الغسل بالإکراه.

هذا تمام الکلام فی هذا التنبیه.

ص: 116


1- 1. الشیخ حسین الحلّی، أو المیرزا باقر الزنجانی قدّس سرّهما.
السادس: هل یجری الحدیث الرفع فی المستحبّات؟
اشارة

الأمر السادس

هل یجری الحدیث فی المستحبّات؟

أمّا البراءة العقلیّة، فلا موضوع لها فی المستحبات، کما هو واضح.

وأمّا البراءة الشرعیّة، فإنّ کان المرفوع بالحدیث هو المؤاخذة، فکذلک، کما هو واضح.

وإن کان مفاد حدیث الرفع هو رفع الحکم فی مرحلة الظاهر أو هو إیجاب الإحتیاط، فللبحث مجال.

ثم إنّ المستحب إمّا إستقلالی وإمّا إرتباطی.

کلام المحقق الخوئی

کلام السیّد الخوئی

قال فی مصباح الاصول: والتحقیق أن یفصّل بین موارد الشک فی التکالیف الإستقلالیّة، وموارد الشک فی التکالیف الضمنیّة، ویلتزم بجریانها فی الثانیة دون الأولی. والوجه فی ذلک: إن المراد من الرفع فی الحدیث الشریف هو الرفع فی

ص: 117

مرحلة الظاهر عند الجهل بالواقع، ومن لوازم رفع الحکم فی مرحلة الظاهر عدم وجوب الإحتیاط، لتضادّ الأحکام ولو فی مرحلة الظاهر، وهذا المعنی غیر متحقّق فی موارد الشک فی التکالیف الإستقلالیّة، إذ لو شککنا فی استحباب شئ¨ لا إشکال فی استحباب الإحتیاط، فانکشف أن التکلیف المحتمل غیر مرفوع فی مرحلة الظاهر، فلا یکون مشمولاً لحدیث الرفع.

الصحیح هو الجریان مطلقا

وأمّا التکالیف الضمّنیة، فالأمر بالإحتیاط عند الشک فیها وإنْ کان ثابتا فیستحبّ الإحتیاط بإتیان ما یحتمل کونه جزءً لمستحب، إلا أن اشتراط هذا المستحب به مجهول، فلا مانع من الرجوع إلی حدیث الرفع والحکم بعدم الإشتراط فی مرحلة الظاهر.(1)

أقول:

أمّا فی المستحبّات الضمنیّة، کأنْ یشک بنحو الشبهة الحکمیّة فی اعتبار القیام فی نافلة اللّیل، فإنّ «رفع ما لا یعلمون» یرفع اعتبار القیام واشتراط النافلة به ویکون المکلّف فی سعةٍ.

وأمّا فی المستحبّات الإستقلالیّة فقولان. وحاصل وجه عدم الجریان هو:

إنه لا ریب فی استحباب الإحتیاط، ومعه لا أثر لجریان حدیث الرفع.

لکن ینتقض: بأن الأمر فی الضّمنیّات أیضا کذلک، فإنّه إذا شک فی جزئیّة شئ¨ لمستحبٍ من المستحبّات، فلا ریب فی استحباب الإحتیاط بالإتیان به، فلا

ص: 118


1- 1. مصباح الاصول 2 / 270.

منافاة بین جریان الحدیث واستحباب الإحتیاط. وعلی هذا، ففی المستحبّات الإستقلالیّة لا مانع من جریان الحدیث.

وبعبارة اخری: إنه لا یجتمع رفع التکلیف مع الإحتیاط الوجوبی، أمّا رفعه مع حسن الإحتیاط فممکن.

لکنّ المهمّ هو وجود الأثر لجریان حدیث الرفع _ أمّا مع عدم الأثر فلا یجری للزوم اللّغویّة _ ولو بنحو الموجبة الجزئیّة، فالمقتضی للجریان حینئذٍ _ وهو الإطلاق _ محفوظ، والمانع مفقود. وعلیه، فلو کان المکلّف بصدد امتثال أوامر المولی الواقعیّة النفسیّة، سواء الواجبة والمستحبّة، من أجل القیام بوظائف العبودیّة، کان رفع التکلیف الإستقلالی عنه بحدیث الرفع توسعةً له ومنّةً علیه، وإذا کان هذا الأثر مترتّبا علی جریان الحدیث، فلا مانع من التمسّک به فی موارد الشک فی الإستحباب النفسی لعملٍ من الأعمال.

فالصّحیح هو القول بجریان الحدیث فی المستحبّات مطلقا.

ص: 119

ص: 120

السّابع: هل المنّة شخصیّة أو نوعیّة؟
اشارة

الأمر السّابع

هل المنّة شخصیّة أو نوعیة؟

إنه وقع الکلام فی أن المنّة فی حدیث الرفع شخصیّة أو نوعیّة، فلو أتلف مال الغیر، فإنْ کانت المنّة شخصیّة فالحدیث جارٍ فلاضمان، وإنْ کانت نوعیة فالضمان ثابت، فنقول:

إنّ الحرج المنفیّ فی الشریعة هو الحرج الشّخصی، وفیما نحن فیه قال بعضهم کالمشکینی: بأنّ المنّة وإنْ کانت شخصیّة لکنّ رفع الضّمان یستلزم الضرّر علی صاحب المال، وقاعدة نفی الضّرر توجب الضّمان، وحینئذٍ یقع التزاحم بین الحدیث والقاعدة، فإن تساوی «المنة» و«الضرر» سقط الطرفان والمرجع: «من أتلف مال الغیر فهو له ضامن»(1) وإنْ کان أحدهما أهمّ تقدّم.

أقول: هنا امور:

التحقیق هو الثانی

الأوّل: قد تقرر أن جمیع الأدلّة التی لسانها لسان الرفع مثل حدیث «لا

ص: 121


1- 1. نسبه فی جواهر الکلام 31 / 91 إلی قوله علیه السّلام.

ضرر»(1) و«ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ»(2) وحدیث «الرفع» کلّها رافعة للحکم، ولیس شئ¨ منها بجاعلٍ ومشرّع. وعلیه، فإنّ قاعدة لا ضرر لا تثبت الضمان.

والثانی: قد تقرّر أن التساقط یکون فی مورد التعارض مع عدم المرجح، وحینئذٍ یرجع إلی العام الفوق، وأمّا فی التزاحم فالتخییر لا التساقط.

والثالث: قد تقرّر أنّ ملاک التعارض هو التمانع فی مرحلة الجعل، وملاک التزاحم هو عدم التمانع فی تلک المرحلة، ووجوده فی مرحلة الإمتثال، إذْ لا قدرة علی امتثال کلا الحکمین.

فظهر ما فی الکلام المذکور.

وأنّ الحق هو: إن الإمتنان نوعی، فلو لزم من الإمتنان علی شخصٍ ضرر علی آخر لم یجر الحدیث. وعلیه، فالضّمان _ فی المثال المذکور _ علی أثرالحاصل بالإکراه والإضطرار ثابت.

ص: 122


1- 1. بحارالأنوار 22 / 135، وهو فی عدّة أبواب من وسائل الشیعة.
2- 2. سورة الحج، الآیة: 78.
الثامن: حدیث الرفع یرفع الآثار لا بشرط من العناوین المذکورة فیه
اشارة

الأمر الثامن

إن حدیث الرفع یرفع الآثار لا بشرط

کلام الشیخ

من العناوین المذکورة فیه

وقد تعرّض الشیخ قدّس سرّه لهذا المطلب فقال(1) بعد ذکر بعض الإیرادات:

وأضعف من الوهن المذکور وهن العموم بلزوم التخصیص بکثیر من الآثار بل أکثرها، حیث أنها لا ترتفع بالخطأ والنسیان وأخواتهما.

(قال): وهو ناش عن عدم تحصیل معنی الروایة کما هو حقّه، فاعلم:

إنه إنْ بنینا علی عموم الآثار، فلیس المراد بها الآثار الشرعیّة المترتّبة علی هذه العنوانات من حیث هی، إذ لا یعقل رفع الآثار الشرعیّة المترتّبة علی الخطأ والسّهو من حیث هذین العنوانین، کوجوب الکفّارة المترتب علی قتل الخطأ، ووجوب سجدتی السّهو المترتب علی نسیان بعض الأجزاء. ولیس المراد أیضا

ص: 123


1- 1. فرائد الاصول: 196.

رفع الآثار المترتبة علی الشئ¨ بوصف عدم الخطأ، مثل قوله: من تعمّد الإفطار فعلیه کذا، لأن هذا الأثر یرتفع بنفسه فی صورة الخطأ.

بل المراد: إن الآثار المترتبة علی نفس الفعل لا بشرط الخطأ والعمد قد رفعها الشّارع عن ذلک الفعل إذا صدر عن الخطأ.

توضیح المحقق الخراسانی کلام الشیخ

توضیح المحقق الخراسانی کلام الشیخ

وقد أوضح المحقق الخراسانی فی حاشیته(1) مرام الشیخ وبیّن وجه عدم المعقولیّة لرفع الآثار الشرعیّة بقوله:

وذلک: لأنّ الظاهر بل المتیقَّن أن سبب رفع الآثار منّةً فی الخطأ والنسیان وهکذا إلی ما لا یعلمون هو: نفس هذه الامور، لمناسبتها للتسهیل کما لا یخفی، ومعه، کیف یمکن أن یکون موضوعا لما رفع من الآثار، ولیس موضوع الأثر إلاّ مقتضیا لوضعه.

لا یقال: لکنه یوجب التفکیک بین ما ذکر وغیرهما من التسعة، بداهة أنّ الحسد والطیرة والوسوسة قد رفع ما یترتب علیها بعناوینها من الآثار الشرعیّة.

فإنه لا ضیر فیه بعد ما کان بصدد بیان جمیع ما رفع آثاره، سواء کانت له بما هو معنون بعنوان خاص، کالحسد وأخواته، أو کانت له بأیّ عنوانٍ کان معنونا من العناوین المختلفة، من دون اندراج تحت أمرٍ أو اشتراک فی شئ¨، إلاّ فیما هو سبب

ص: 124


1- 1. درر الفوائد فی حاشیة الفرائد: 194.

رفعها فی الجمیع من الخطأ والنسیان وأخواتهما، ولذا ذکرها بهذه العناوین لیجمع شتاتها بما هو ملاک الرفع فیها حیث لا جامع غیره.

ولیکنْ مراده قدّس سرّه من عدم المعقولیّة ما ذکرناه، وإنْ کان خلاف ما یتراءی من ظاهر العبارة...

أقول:

ومع التأمّل فی کلام الشیخ والمحقق المذکور یظهر الخلل فی کلمات المحقق الإصفهانی والمشکینی حیث نسبا إلی الشیخ انصراف الحدیث عمّا ذکر، مع أنه لا عین ولا أثر للإنصراف فی کلامه.

وما ذکره الشیخ مع التوضیح المزبور له فی غایة المتانة.

وحاصل الکلام فی المقام هو:

إنّ الحدیث رافع للأحکام التی لا یقتضی العنوان ثبوتها، وهی أحکام الفعل الذی تعلّق به الإکراه والإضطرار... ولا یرفع الحدیث حکم الفعل المقیّد بالعمد، إذْ لا یوجد فی الخطأ والنسیان عمد. فهو یرفع الفعل اللاّبشرط عن الخطأ والنسیان.

وبعبارة أُخری: إن موضوع الرفع هو الفعل المخطیّ والمنسیّ اللاّبشرط عن الخطأ والنسیان، لأن الموضوع، إمّا لا بشرط عن الخطأ والنسیان، وإمّا مقیّد بهما کالقتل الخطأی، وإمّا أنّ السّهو والنسیان موضوع. فالحدیث یشمل اللاّبشرط، وأمّا المقیَّد بالخطأ والنسیان، فخارج تخصّصا.

ص: 125

هذا ما ذکره الشیخ والمحقق الخراسانی _ وقد أیّده العراقی(1) بروایة البزنطی «رفع ما أخطأوا وما نسوا»(2) أی: المخطیّ والمنسیّ... فما ذکراه هو الصحیح، کما أفاد شیخنا الاستاذ دام بقاه.

کلام المحقّق الاصفهانی وتوضیحه

کلام المحقّق الاصفهانی

وتعرّض المحقّق الإصفهانی رحمه اللّه لما أفاده الشیخ وحمله علی معنیً آخر، ثم أجاب عن الإشکال بوجهٍ غیرما تقدّم، فلنورد نصّ کلامه بقدر الحاجة، ثمّ نوضّحه... قال:

قد أورد علی حدیث الرفع کما فی الرسائل بأنه موهون إذا أرید منه رفع جمیع الآثار، للزوم التخصیص الکثیر فیه، لأن آثار الخطأ والنسیان غیرمرتفعة.

وأجاب عنه الشیخ الأعظم قدّس سرّه بأن الخبر لا یرفع آثار الخطأ والنسیان بما هما.

بل الآثار المترتبة علی ذات الفعل لا بشرط العمد والخطأ مرفوعة بالخبر إذا صدر عن الخطأ قائلاً: بأنه لا یعقل رفع الآثار الشرعیّة المترتبة علی الخطأ والسّهو من حیث هذین العنوانین.

ولعلّه بملاحظة أن رفع ما فرض ثبوته فی هذه الشریعة تناقض، فإن معناه

ص: 126


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 211.
2- 2. وسائل الشیعة 16 / 217 عن العیاشی فی حدیثٍ: ما أخطأوا وما نسوا.

حینئذ أن الآثار الثابتة لهذه العناوین فی هذه الشریعة غیرثابتة فی هذه الشریعة، وهو تناقض واضح.

مع أن الرفع إذا کان بمعناه الحقیقی، کانت هذه المناقضة ثابتة فیما إذا رفعت آثار الفعل لذاته فی حال الخطأ، فإن الرفع الحقیقی یقتضی ثبوتها فی هذه الشریعة للفعل فی حال الخطأ، فرفعها فی حال الخطأ مناقضة، ورفع الآثار الثابتة فی الشرائع السّابقة صحیح فی کلا المقامین.

وأمّا إذا أرید الرفع بمعنی الدفع، فمعقول فی کلا المقامین، فکما یکفی ثبوت المقتضی للأثر حتی فی حال الخطأ، کذلک یکتفی بثبوت المقتضی له فی نفس الخطأ، فلا یکون رفعه بما هو أقوی اقتضاء منه مناقضة.

نعم یکون معارضا للأدلّة المتکفّلة لآثار الخطأ والنسیان بما هما، وهذا غیر عدم المعقولیّة.

وبالجملة: الإشکال فی الخبر من حیث إن ظاهر أخذ عنوان فی الموضوع کونه عنواناً، ومقتضیاً له حقیقة، فمعنی رفع حکم الخطأ رفع حکمه بما هو خطأ، لا رفع حکم ذات ما أخطأ عنه.

فیکون معارضاً للدلیل المتکفّل لحکم الخطأ بما هو، فیلزم التخصیص الکثیر فی الحدیث إذا کان المراد منه رفع مطلق الآثار.

ویمکن الجواب عنه بوجهین:

أحدهما: أن ورود الخبر مورد الإمتنان یقتضی أن الجهات الموجبة للمنّة _

ص: 127

برفع الأحکام والآثار _ هی هذه العناوین المأخوذة فی الخبر، من الجهل و الخطأ والنسیان والإکراه والإضطرار.

فإذا کانت هذه الجهات مقتضیة لرفع تلک الأحکام، فلا محاله لیست بما هی مقتضیة لثبوتها، إذ لا یعقل أن یکون العنوان الواحد مقتضیاً لطرفی النقیض، فموضوعات تلک الأحکام المستدعیة لها ذات المجهول و ذات ما أکره علیه وهکذا.

وعلیه، فلا یکون الخبر رافعاً لآثار الخطأ والنسیان بما هما، حتی یلزم ورود التخصیص الکثیر علیه.

ثم ذکر الجواب الثانی و أورد علیه بإیراد فقال:

فالأولی الإقتصار علی الجواب الأوّل، باستظهار رافعیّة هذه العناوین الطاریة فی نفس ورود رفعها مورد الامتنان.(1)

أقول:

یرید رحمه اللّه أن مراد الشیخ قدّس سرّه هو أنه إذا کان الحدیث رافعاً للأحکام المترتبة علی نفس الخطأ فی الشریعة یلزم التناقض، لأن تلک الأحکام موضوعة شرعاً مثل حکم القتل عن خطأ. إذن، عدم المعقولیّة یرجع إلی لزوم التناقض، و هو اجتماع الوضع والرفع فی الشریعة.

ثم أشکل علی الشیخ: بأنه إذا کان المراد هو الرفع الحقیقی، فالتناقض

ص: 128


1- 1. نهایة الدرایة 4/54 _ 57.

بالنسبة إلی الفعل اللاّبشرط یتحقّق فی حال الخطأ والنسیان، لأنّ اللاّ بشرط فی ظرف الخطأ له حکم فی الشریعة، و إن کان الرفع بمعناه الحقیقی، فالفعل له حکم فی الشریعة و قد ارتفع بالحدیث، و إذ یکون بمعناه الحقیقی، لا یختص الأشکال بالآثار المترتبة علی الفعل، بل یلزم بالنسبة إلی نفس الفعل المقیّد أیضاً.

وإن کان الرفع بالنسبة إلی الشّریعة السّابقة، فلا یلزم التناقض، لا فی اللاّ بشرط و لا فی المقیّد، إذ لا مانع من رفع هذه الشریعة لما وضع فی الشریعة السّابقة.

وإن کان الرفع بمعنی الدفع، فلا یلزم إشکال التناقض أیضاً مطلقاً، لوجود المقتضی للفعل اللاّبشرط فی الشرائع السابقة، و کذا لنفس الخطأ و النسیان وفی هذه الشریعة: للفعل اللاّبشرط فی حال الخطأ المقتضی لثبوت الحکم، لکن قد منع الشّارع من تأثیر المقتضی إمتناناً، و کذا نفس الخطأ والنسیان.

علی أنّ الموضع الذی یلزم منه التناقض و عدم المعقولیّة یرجع إلی التعارض، والتعارض هو تنافی الدلیلین فی مقام الإثبات ولیس بغیر معقول.

ثم إنه رحمه اللّه حاول رفع التعارض: بأن عناوین الخطأ والنسیان... أوجبت الرفع للآثار منّةً، هذا ظاهر الحدیث، فالإکراه مثلاً _ رافع، فلا محالة یکون رافعاً لأحکام لیس موضوعها نفس الخطأ والإکراه والنسیان، لأن الحکم المرفوع لا یکون حکم نفس الموضوع، وإلاّ یلزم أن یکون الشی ء رافعاً و مثبتاً،

ص: 129

و هذا الذی ذکر یکون موجباً لصرف ظهور الحدیث إلی الموضوع اللاّبشرط عن الخطأ...

فتلخص: إن الإشکال هو فی الحقیقة تعارض الدلیلین، وعدم المعقولیّة المذکورة یکون قرینة عقلیّة لصرف ظهور الحدیث إلی الموضوع اللاّبشرط، و من هنا لا یعمّ الموضوع المقیّد. و هکذا یندفع الإشکال عن الخبر.

رأی شیخنا الاستاذ

نظر الاستاذ

ولکنّ إشکال المحقق المذکور غیر وارد، لأن التعارض فرع تمامیّة السّند والدلالة والجهة فی کلا الدلیلین، والشیخ یری عدم تمامیّة حدیث الرفع فی مرحلة الإقتضاء بالنسبة إلی آثار نفس الخطأ والنسیان. و وجه ذلک هو إشتراط أن یکون لحدیث الرفع إطلاق یعمّ آثار نفس الخطأ حتی یتحقق التعارض، و هذا الإطلاق محال، لأن الحدیث مدلوله الدفع کما تقدّم، فالحدیث معناه دافعیّة الإکراه و... فهذه العناوین مانعة عن استحقاق العقاب، و معنی ذلک أن یکون المقتضی للممنوع أمر آخر غیر العنوان، فالمقتضی هو الفعل اللاّبشرط، والإکراه و... مانعة، لأنّ نفس العنوان لا یعقل أن یکون مقتضیاً و مانعاً معاً، و هذا ما یقوله الشیخ.

ثم إنه لا مانعیّة لنفس الحسد و الطیرة والوسوسة، کما أفاد هذا المحقق، بل الرافع والمانع إبتلاء أکثر الناس بهذه الأمور.

ص: 130

التاسع: هل الإمتنان حکمة أو علّة؟

الأمر التاسع

هل الإمتنان حکمة أو علّة؟

وتظهر الفائدة فیما إذا وجد العنوان، کأن یقع الأمر عن خطأ وله حکم شرعی ولامنّة فی رفعه علی الشخص، فإنّه إنْ کان الإمتنان علّةً، فلا یرتفع الحکم لعدم الإمتنان کما هو الفرض، وإنْ کان حکمة رفع.

والحق: إن المنّة هنا علّة، فإنه وإنْ لم یکن فی الحدیث تعلیلٌ، لکنّ ملاک العلّة موجود فیه، وهو دوران رفع الحکم مدار المنّة. وذلک، لأن المقام مقام الإمتنان، واللّسان لسانه. والشاهد علی ذلک الآیات الکریمة فی آخر سورة البقرة، وکذا بعض ألفاظ الحدیث نفسه، إذ قال صلّی اللّه علیه وآله: «وضع عن اُمّتی...».(1)

وعلی الجملة، فإن السّیاق والمقام یمنعان من انعقاد الإطلاق فی الحدیث لیشمل المورد الذی لا منّة فیه فی الرفع، ولا أقلّ من الشک فی انعقاده.

ص: 131


1- 1. وسائل الشیعة 7 / 293، باب عدم بطلان الصّلاة بالوسوسة.
العاشر: فی سند حدیث الرفع

الأمر العاشر

فی سند حدیث الرفع

إنه لا مجال للخدشة فی سند حدیث الرفع.

وأمّا روایته عن: أحمد بن محمد بن یحیی العطّار، عن سعد بن عبداللّه، عن یعقوب بن یزید، عن حمّاد بن عیسی، عن حریز بن عبداللّه عن أبی عبداللّه علیه السّلام...

فقد تلقّی جمهور العلماء هذا السّند بالقبول، لکنّ «أحمد بن محمد بن یحیی العطار» فیه کلام.

وقد استدلّ للقول بوثاقته بوجوه:

الأول: إنه من مشایخ الإجازة، ولاحاجة إلی التوثیق فیهم.

ولکنّ هذا بوحده لا یفید.

الثانی: توثیق الشهید الثانی والسّماهیجی والبهائی، واعتمده صاحب المعالم.

ص: 132

وقد أشکل: بأنّ توثیقات هؤلاء اجتهادیّة.

وأجیب: بأنّهم أدق نظرا من المتقدّمین.

وفیه: إن هذا صحیح، لکن توثیقهم مستند إلی الحدس، والمعتبر فی التوثیق کونه عن الحسّ.

الثالث: تصحیح العلاّمة طریق الشیخ الصّدوق إلی عبدالرحمن بن الحجاج وإلی ابن أبی یعفور، وهما مشتملان علی هذا الرجل.

وأشکل علیه: بأنّ هذا التصحیح مبنی علی مسلکه، وهو القول بأصالة العدالة، والمبنی باطل.

وفیه: إن تصحیحات العلاّمة غیر مبنیّة علی المبنی المذکور، وإن منشأ هذا التوهّم کلامه بترجمة «أحمد بن إسماعیل بن سمکة» و«إبراهیم بن هاشم». لکنّ التأمّل فیما قاله یفید أنّه لخصوصیةٍ فی الموردین قال ذلک الکلام، فلیس مسلکه أصالة العدالة، بل هو مخالف للشّیخ القائل بذلک، وللتفصیل محلّ آخر. وملخّص الکلام:

إن العدالة عند العلاّمة ملکة تتحقّق بترک الکبائر وعدم الإصرار علی الصغائر، وهو بترجمة «زید الزّراد» و«زید النرسی» توقف عن قبول روایتهما لعدم التوثیق وطعن الأصحاب فیهما، ولو کان قائلاً بأصالة العدالة لما توقّف.

وأمّا إحتمال استناد توثیقه إلی کونه من مشایخ الإجازة.

ففیه: عدم تمامیّة ذلک، لکونه قد توقف عن قبول روایات بعض المشایخ.

والحاصل: إن تصحیح العلاّمة معتبر.

ص: 133

الرابع: کلام أحمد بن علی بن نوح السّیرافی، المذکور فی رجال النجاشی بترجمة «الحسین بن سعید».

والإشکال: بأنّ الطریق الأوّل تامّ وهو المقصود بقوله «المعوّل علیه».

مندفع: بأنّه خلاف ظاهر العبارة، بل کلا الطریقین معوّل علیه.

وتلخّص

تمامیّة سند حدیث الرفع.

وقال فی البحار:(1)

فضالة، عن سیف بن عمیرة، عن إسماعیل الجعفی، عن أبی عبداللّه علیه السّلام قال: سمعته یقول: وضع عن هذه الامور ستة... .

وقد وقع الکلام فی «إسماعیل الجعفی» فإنه مشترک بین (ابن جابر الثقة) و(ابن عبدالرحمن) الذی لم یوثقه غیر العلاّمة. وفی النجاشی فی «بسطام بن حسیم»: کان أوجههم إسماعیل. لکنّ دلالة «الوجه» علی الوثاقة محلّ خلاف.

وأمّا تعیین کونه (ابن جابر) لکونه الأشهر وأنه صاحب کتاب، فهو المنصرف إلیه.

ففیه: إن الأشهریّة لا توجب الإنصراف. هذا أوّلاً.

وثانیا: إن المراد فی بعض الأسانید هو ابن عبدالرحمن، غایة الأمر أن یکون ذاک أشهر من هذا، وهذا لا یکفی للإنصراف.

لکنّ المختار هو اعتبار تصحیحات العلاّمة، فهذا السّند أیضا معتبر.

ص: 134


1- 1. بحارالأنوار 5 / 304.
2- حَدیثُ الحَجب
اشارة

ومن الأخبار التی استدلّ بها للبراءة فیالشبهة الحکمیّة قوله علیه السّلام:

ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم.(1)

تقریب الاستدلال

إنه یدلّ علی أن الحکم الإلآهی المجهول موضوع عن العباد، فکلّ حکمٍ احتمال صدوره وخفی عنهم بحیث لو اطّلعوا علیه لکان واجبا علیهم امتثاله فهو موضوع عنهم، فحرمة شرب التتن مِثلاً _ محجوبة، فهی موضوعة عن العباد.

وقال المحقق العراقی وغیره: لعلّ هذا الخبر أظهر فی الدلالة علی المطلوب من حدیث الرفع، إذ لا یتوجه علیه إشکال الإختصاص بالشبهات الموضوعیّة.(2)

ص: 135


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 163، باب وجوب التوقف والاحتیاط فی القضاء والفتوی.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 226.
إشکال الشیخ وأتباعه

إشکال الشیخ ومن تبعه

قال الشیخ:

وفیه: إن الظاهر ممّا حجب اللّه علمه ما لم یبیّنه للعباد، لا ما بیّنه واختفی علیهم من معصیة من عصی اللّه فی کتمان الحق أو ستره. فالروایة مساوقة لما ورد عن مولانا أمیرالمؤمنین علیه السّلام: إن اللّه تعالی حدّ حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تعصوها، فسکت عن أشیاء لم یسکت عنها نسیانا فلا تتکلَّفوها رحمةً من اللّه لکم.(1)

أقول:

قد ذکر الشیخ وجه الإستدلال بالروایة، ثم أشکل بما حاصله أنها ظاهرة فی معنیً آخر، والوجه المذکور مخالف لظاهرها، فالروایة أجنبّیة عن حکم الشبهة الحکمیّة وخارجة عن البحث.

وقد وافقه صاحب الکفایة، قال:(2)

ربما یشکل بمنع ظهوره فی وضع ما لا یعلم من التکلیف، بدعوی ظهوره فی خصوص ما تعلّقت عنایته تعالی بمنع اطّلاع العباد علیه، لعدم أمر رسله بتبلیغه، حیث أنه بدونه لما صحّ إسناد الحجب إلیه تعالی.

وقد أضاف _ کما تری _ ظهور إسناد الحجب إلی اللّه فی أنّ المراد ما تعلّقت

ص: 136


1- 1. نهج البلاغة، الکلمات القصار، رقم: 102. مع اختلافٍ.
2- 2. کفایة الاصول: 341.

إرادته تعالی بمنع إطلاع العباد علیه، ولیس شرب التتن من هذا القبیل، فإنّ حکم هذا الفعل مبیّن فی الشریعة غیر أنه اُخفی علینا بفعل الظالمین.

ووافقه المحقّق المیرزا(1) ولم یضف إلیه شیئا.

وکذا المحقق الإصفهانی(2) فی کلام مطوّل.

وأمّا المحقق الحائری، فلم یذکر هذه الروایة لعدم دلالتها علی المدّعی.

وجوه الجواب عنه
اشارة

وجوه الجواب

وذهب جماعة إلی تمامیّة الإستدلال بالرّوایة فی المقام، وأجابوا عن إشکال الشیخ وصاحب الکفایة، وتتلخّص أجوبتهم فی وجوهٍ:

1_ جواب المحقق الهمدانی
اشارة

جواب الهمدانی

الأوّل: ما ذکره المحقق الهمدانی حیث قال فی حاشیته علی الرسائل(3):

إن اُرید بما لم یبیّنه للعباد ما لم یبیّنه رأسا حتی للنبیّ والوصی _ علیهم السّلام _ فلا واقعیّة له کی یعقل أنْ یصیر علمه محجوبا عن العباد، إذْ ما من حکمٍ إلاّ وبیّنه اللّه لنبیّه والنبی للوصیّ، بل کیف یعقل أنْ یأمر اللّه عباده بشئٍ¨ أو ینهاهم عن شئ¨ ولم یبیّنه لهم أصلاً. فالمراد بما حجب اللّه علمه عن العباد لیس إلاّ

ص: 137


1- 1. أجود التقریرات 3 / 314.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 59.
3- 3. الحاشیة علی الفرائد: 156.

الأحکام المبیّنة المعلومة لدی أهل العلم. فاُرید بالروایة بیان کونها موضوعةً عمّن لم یقدر علی معرفتها کما هو المطلوب. فنسبة الحجب إلی اللّه کنسبة سائر الأشیاء إلیه، نظیر قوله: کلّ ما غلب اللّه علیه فاللّه أولی بالعذر...(1)

مناقشة المحقق الاصفهانی

مناقشة الاصفهانی

وأجاب عنه المحقق الإصفهانی(2) بما حاصله:

إن المسبّبات _ بما هی موجودات محدودة، وبما هیموجودات بقصر النظر علی طبیعة الوجود المطلق _ تنسب إلی الموجود المطلق، لأن الفاعل الذی منه الوجود منحصر فی واجب الوجود، دون فاعل ما به الوجود، فإنه غیر منحصر فی شئ¨، فالمسبّبات الصّادرة عن الأسباب الطبیعیّة بلحاظ الإطلاق ینسب إلیه تعالی، فهو المحیی والممیت والضارّ والنافع.

بخلاف ما إذا صدرت عن أشخاص غلبت الجهة التی تلی الماهیّة فیهم، فإنّها تنفی عنه تعالی بهذا النظر. وما اختفی بإخفاء الظالمین من هذا القبیل، فلذا ورد فی کلامه تعالی: «إِنَّ الَّذینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ...»(3) فنسب الکتمان إلیهم لغلبة الجهة التی تلی الماهیّة.

فکذا ما نحن فیه، فإن الحکم الذی أمر حججه علیهم السّلام بتبلیغه للعباد، فقد عرّفه لهم وإنما حجبه غیره.

ص: 138


1- 1. وسائل الشیعة 10 / 227.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 60 _ 62.
3- 3. سورة البقرة، الآیة: 159.
2_ جواب المحقق العراقی ونقده

جواب العراقی

الثانی: ما ذکره المحقق العراقی،(1) وحاصل کلامه:

إنّ ما سکت اللّه عنه هو ما لم یصل إلی مرحلة الفعلیّة، بأنْ لم یبیّن حتی للنبی صلّی اللّه علیه وآله. وأمّا ما أوحی به إلی النبیّ فهو فعلیٌّ، فلو حُجب عن العباد بأیّ سببٍ من الأسباب شمله الحدیث، لأن کلّ حکم فعلی فهو قابل للوضع عن العباد. فظهر الفرق بین الحدیثین، واندفاع إشکال الشیخ.

ثم أضاف: أنه بعد کفایة هذا المقدار فی فعلیّة التکلیف نقول: إن روایة الحجب وإنْ لم تشمل التکالیف المجهولة التی کان السّبب فی خفائها معصیة من عصی اللّه، ولکنْ بعد شمول إطلاقها للأحکام الواصلة إلی النبی صلّی اللّه علیه وآله بتوسیط خطابه إلیه التی لم یؤمر من قبله سبحانه بإبلاغها إلی العباد _ بملاحظة صدق استناد الحجب فیها إلیه سبحانه _ یمکن التعدّی إلی غیرها من الأحکام المجهولة التی کان سبب خفائها الامور الخارجیّة، بمقتضی عدم الفصل بینهما، بعد صدق التکلیف الفعلی علی مضامین الخطابات المنزلة إلی النبی صلّی اللّه علیه وآله ولو مع عدم الأمر بإبلاغها...

(قال) مع إمکان دعوی شمول الوصول فیما حجب للأحکام المبیّنة عن النبی أو الوصی المجهولة بسبب الامور الخارجیة، وأنّ نسبة حجب علمها إلیه سبحانه کنسبة سایر الأشیاء إلیه تعالی، نظیر قوله علیه السّلام: ما غلب اللّه علی العباد فهو أولی بالعذر... .

ص: 139


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 227.

أقول:

أمّا ما ذکره أخیرا، فهو جواب المحقق الهمدانی المتقدّم.

وأمّا ما ذکره من کون الأحکام بمجرّد نزولها علی النبیّ فعلیّةً. ففیه: إنْ فعلیّة الحکم دائما بفعلیّة موضوعه بجمیع قیوده وشروطه الوجودیّة والعدمیّة، والوحی بوحده غیر کافٍ للفعلیّة، ولذا کانت جملة من الأحکام مودعة عند الإمام المهدی عجّل اللّه فرجه فیظهرها إذا ظهر، فهی لیست بفعلیّة مع تحقّق الوحی بها.

وأمّا ما ذکره من التمسّک بعدم الفصل. ففیه ما لا یخفی، لأنّ اعتبار عدم الفصل بانتهائه إلی الإجماع الکاشف عن رأی المعصوم، لکنّ القول بالبراءة مستند إلی الأدلّة، ومواردها مختلفة؛ إذ المستند فی الشّبهات الحکمیّة التی خفی الحکم فیها علی أثر إجمال النص أو فقده ونحو ذلک، هو حدیث الرفع، وفی التی خفی فیها الحکم لعدم البیان الشرعی هو حدیث الحجب. وحینئذٍ کیف یدّعی الإجماع الکاشف؟

وتلخّص: عدم تمامیّة ما أفاده المحقق العراقی جوابا عن إشکال الشیخ.

3_ جواب المحقق الخوئی ونقده

جواب الخوئی

الثالث: ما ذکره المحقق الخوئی،(1) وهذا نصّ کلامه:

ص: 140


1- 1. مصباح الاصول 2 / 271.

إن الموجب لخفاء الأحکام التی بیّنها اللّه تعالی بلسان رسوله وأوصیائه علیهم السّلام وإنْ کان هو الظالمین، إلاّ أنه تعالی قادر علی بیانها، بأنْ یأمر المهدی علیه السّلام بالظهور وبیان تلک الأحکام، فحیث لم یأمره بالبیان لحکمةٍ لا یعلمها إلاّ هو، صحّ إسناد الحجب إلیه تعالی. هذا فی الشّبهات الحکمیّة. وکذا الحال فی الشّبهات الموضوعیّة، فإنّ اللّه قادر علی إعطاء مقدّمات العلم الوجدانی لعباده، فمع عدم الإعطاء صحّ إسناد الحجب إلیه تعالی.

فصحّ الإستدلال بهذا الحدیث علی البراءة فی الشّبهات الحکمیّة والموضوعیّة، کحدیث الرفع.

أقول:

لا یخفی أنّ مفهوم الحجب هو المنع، وقد سلّم بأنّ سبب الخفاء هم الظالمون، فهل قدرة اللّه علی رفع المنع تصحّح إسناد المنع إلی اللّه؟

کیف یجوز نسبة الفعل الصّادر من أحد إلی شخصٍ آخر بمجرّد قدرة الآخر علی رفع ذلک الفعل؟ فلو آذی زید عمرا وکان بإمکان بکرٍ أنْ یرفع الأذی ولم یفعل، فهل ینسب الأذی إلی بکرٍ؟

هذا أوّلاً.

وثانیا: لقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله فی یوم الغدیر: واللّه ما من شئ¨ یقربّکم من الجنة ویباعدکم عن النّار إلاّ وقد أمرتکم به، وما من شئ¨ یقربّکم من

ص: 141

النار ویباعدکم من الجنّة إلاّ وقد نهیتکم عنه،(1) وعلیه، فقد بیّن اللّه تعالی الأحکام وأبلغها رسوله إلی العباد، إلاّ أنّ الظّالمین _ بسدّهم باب بیته الذی جُعل لأن تنتشر عنه الأحکام _ حالوا دون وصولها إلی الناس، فاللّه تعالی قد أظهر الأحکام، والذین حجبوها هم الظالمون، ولا تصحُّ نسبته إلی اللّه، لا عقلاً ولا لغةً ولا عقلاءً.

وعلی الجملة، فإنّ الخیر کلّه من اللّه، وینسب إلیه علی وجه الحقیقة. والشرّ کلّه من غیره ولا ینسب إلیه ولا ذرّة منه، وحتّی فی مثل قوله تعالی «وَیُضِلُّ اللّه ُ الظّالِمینَ وَیَفْعَلُ اللّه ُ ما یَشاءُ»(2) لیس الإضلال منه، بل الظالمون هم السّبب فی ضلال أنفسهم، فلمّا ضلّوا ترکهم علی ضلالهم، کما هو مقتضی العدل، ومن کان أهلاً للهدایة هداه کما هو مقتضی الفضل.

4_ جواب المحقق الإیروانی ونقده
اشارة

جواب الإیروانی

الرابع: ما ذکره المحقق الإیروانی،(3) ومحصّله هو:

إنه لا یمکن الأخذ بظاهر الخبر، وذلک لأن الحکم إنما یترتب علی الموضوع بعد إحرازه، والموضوع فی الخبر هو الواقع المستور، لکنّ إحراز هذا الموضوع إنما یکون بالکشف عن الواقع، فإذا انکشف لزم لغویّة الخبر. إذنْ، لابدّ من رفع الید عن ظاهره.

ص: 142


1- 1. بحارالأنوار 67 / 96.
2- 2. سورة إبراهیم، الآیة: 27.
3- 3. نهایة النهایة فی الحاشیة علی الکفایة: 3 / 25 _ 26.

وحینئذٍ، یکون المراد من «الحجب» فی الخبر: عدم البیان من قبل الشّارع، ویکون حاصل المعنی: إن کلّما لم یبیّن من قبل الشّارع للعباد فهو موضوع عنهم. ولمّا وقع الشکُّ فی حکم التتن بنحو الشبهة الحکمیّة فی تحقق البیان من الشّارع، فلا ریب فی أنَّ الحالة السّابقة هی العدم، لکون الأحکام تدریجیّة، خصوصا فی المثال، لعدم کونه موردا للإبتلاء فی صدر الإسلام، وحینئذٍ، یستصحب عدم البیان للعباد، فقد أحرز بذلک الموضوع فی الخبر، ویترتب علیه الحکم وهو: وضع التکلیف عنهم.

وبهذا التقریب یندفع إشکال الشیخ بأنّ الخبر لا یشمل ما حجب وستر بسبب إخفاء الظالمین؛ لکون الخبر مطلقا یشمل جمیع موارد الشبهة الحکمیّة، ویکون دلیلاً علی البراءة.

أقول:

إن ما أفاده _ وإنْ کان دقیقا _ ینافی أصالة الظهور المحکمّة فی کلّ کلام ما لم تقم قرینةٌ عقلیّة أو لفظیّة تقتضی رفع الید عنها. وذلک: لأنّ ظاهر الخبر أنّ فی الشّریعة أحکاما واقعیّة هی محجوبةٌ عن العباد، أی لم یتعلّق بها العلم لا تفصیلاً ولا إجمالاً، وأن تلک الأحکام مرفوعة عن العباد، وعلی هذا، ففی کلّ شبهةٍ احتمالان، احتمال أنْ یکون الحکم الواقعی فیها مسکوتا عنه وغیر مبیَّن للعباد، کما هو الحال بالنسبة إلی الأحکام المودعة عند الإمام المهدی حتی یُظهرها إذا ظهر، فهو موضوع عن العباد، واحتمال أنْ یکون مبیّنا غیر أنه اُخفی عن العباد

ص: 143

بسبب ظلم الظالمین، ومع وجود الإحتمالین، یکون استصحاب عدم البیان بالنسبة إلی الواقع من الأصل المثبت.

وبما ذکرنا ظهر أنْ لیس ظاهر الحدیث ما أفاده حتی ترفع الید عنه بالقرینة العقلیّة ثم یتمسّک بالإستصحاب لیتم الإستدلال به علی البراءة.

هذا تمام الکلام علی ما ذکره الأعلام فی جواب إشکال الشیخ.

التأمّل فی ألفاظ الحدیث

التأمّل فی ألفاظ الحدیث

ولکنْ ینبغی التأمل فی ألفاظ الحدیث علی ضوء إفادات استادنا المرحوم(1) وشیخنا دام بقاه، وهی:

1. الحجب. قال الراغب:(2) الحجب والحجاب: المنع من الوصول... وقوله تعالی: «حَتّی تَوارَتْ بِالْحِجابِ» یعنی الشمس إذا استترت بالمغیب، والحاجب: المانع عن السّلطان...

فمعنی الحجب فی الحدیث: ما ستره اللّه ومنع العباد من الوصول إلیه.

2. العلم، هو إداک الشئ¨ والوصول إلیه، فهو فی العرف مبیّن وکاشف عنه، ولذا لا یطلق علی الجهل المرکّب ولا علی الصّورة الذهنیّة التی لیس لها مطابَق فی الخارج.

ص: 144


1- 1. منتقی الاصول 4 / 423.
2- 2. المفردات فی غریب القرآن: 108.

فیدلّ قوله علیه السّلام: «ما حجب اللّه علمه عن العباد» علی وجود الأحکام فی الواقع، لکنّ اللّه سترها ومنع العباد عن الوصول إلیها.

3. قوله: «فهو موضوع عنهم». ولفظ «الوضع» مشترک بین «الجعل» و«الرفع» وبحرف التعدیة یتعیَّن، فموضوع عنهم، أی مرفوع. لکنّ هذه الجملة فی الحدیث تفید أنّ تلک الأحکام قد بلغت حدّ الوضع علی العباد فوضعت عنهم، فهی ذات اقتضاءٍ للجعل إلاّ أنها لم تُجعل، فیکون وزآنها وزان حدیث الرفع، بخلاف قوله: «وسکت لکم عن أشیاء...» فإنه ظاهرٌ فی کون تلک الأشیاء موضوعةً عن العباد لعدم اقتضاء الجعل والتکلیف فیها.

وما أفاده المحقق الإصفهانی من أن «الوضع» مرادف «للجعل» فإذا تعدّی ب «عن» کان بمعنی «الصّرف» فیکون علی وزان «السّکوت» فی الحدیث الآخر.

ففیه: إن الوضع لا یرادف الجعل، بل الجعل أعم من الوضع والخلق.

وتحصّل مما ذکرنا فی تحقیق الحدیث النظر فی إشکال الشیخ، واتّضح الفرق بین حدیث الحجب وحدیث ما سکت اللّه عنه. فیکون الحدیث من أدلّة البراءة.

ولکنْ یقوی الإشکال بورود «وضع عنهم» فی موردٍ لیس فیه اقتضاء «الوضع علیهم». کقول أبی عبداللّه علیه السّلام _ فی حدیثٍ _ : «إنّ من قولنا: إنّ اللّه یحتجُّ علی العباد بما آتاهم وعرّفهم، ثم أرسل إلیهم رسولاً وأنزل علیهم الکتاب، فأمر فیه ونهی... وکذلک إذا نظرت فی جمیع الأشیاء لم تجد أحدا فی ضیق، ولم

ص: 145

تجد أحدا إلاّ وللّه علیه الحجّة... إنّ اللّه یهدی ویضلّ، وما أمروا إلاّ بدون سعتهم وکلّ شئ¨ اُمر الناس به فهم یسعون له، وکلّ شی ء¨ لا یَسَعون له فهو موضوع عنهم...»(1)

ففی هذا الخبر اُطلق لفظ «موضوع عنهم» فی مورد «لا یَسَعون له» ولا مقتضی ل «الوضع علیهم».

وهذا الخبر موثوق الصّدور وإنْ کان فی سنده «حمزة بن الطیّار».

وعلی هذا، فالجملة لا تختصّ بمورد وجود المقتضی للوضع والإحتیاط.

فیکون إشکال الشیخ فی محلّه.

وقد یؤیّد ذلک: بأنّ الشیخ الکلینی رحمه اللّه أورد الحدیث المذکور وحدیث الحجب کلیهما فی باب حجج اللّه علی خلقه. واللّه العالم.

سند حدیث الحجب

سند حدیث الحجب

رواه صاحب الوسائل، عن الشیخ الصّدوق، عن أحمد بن محمد بن یحیی، عن أبیه، عن أحمد بن محمد بن عیسی، عن ابن فضّال، عن داود بن فرقد، عن أبیالحسن زکریا بن یحیی، عن أبی عبداللّه علیه السّلام قال: ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم.(2)

ص: 146


1- 1. الکافی 1 / 164.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 163، الباب 12 من ابواب صفات القاضی، رقم: 33.

قال: ورواه الکلینی عن محمد بن یحیی.(1)

أقول:

رواه عنه عن أحمد بن محمد بن عیسی، عن داود بن فرقد، عن أبی الحسن زکریا بن یحیی...

ولیس فیه لفظ «علمه» فتأمّل.

والشیخ لمّا ذکر الحدیث قال: قوله علیه السّلام... وهو ظاهر فی اعتبار سنده عنده، وکأنه قد تبع الفصول فی ذلک.

قال شیخنا: والحق عدم تمامیّة سنده، لا من جهة «أحمد بن محمد بن یحیی» فإنه موثق، علی أنه لیس فی سند الکافی، بل من جهة «زکریا بن یحیی» فإنه مشترک بین عشرة أشخاص، ولا دلیل علی کونه «الواسطی» الثقة، کما زعم جامع الرّواة.

ص: 147


1- 1. الکافی 1 / 126.

ص: 148

3- حدیث: کلّ شئ¨ لک حلال
اشارة

وممّا یستدلّ به علی البراءة روایة: کلّ شئ¨ لک حلال...

فعن عبد اللّه بن سنان عن أبی عبداللّه علیه السّلام: «کلّ شئ¨ فیه حلال وحرام فهو لک حلال حتی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه».

وعن عبد اللّه بن سلیمان عن أبی جعفر علیه السّلام: «کلّ ما کان فیه حلال وحرام فهو لک حلال حتی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه من قبل نفسک».

وعن معاویة بن عمّار مثله.

وعن مسعدة بن صدقة عن أبی عبداللّه علیه السّلام: «کلّ شئ¨ لک حلال حتی تعلم أنه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسک، وذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته ولعلّه سرقة، أو المملوک یکون عندک ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خُدع فبیع قهرا، أو امرأة تحتک ولعلّها اُختک أو رضیعتک. والأشیاء کلّها علی هذا حتی تستبین أو تقوم به البیّنة.(1)

هذه هی ألفاظ الخبر، فبعضها یشتمل علی «فیه» وبعضها لا یشتمل علیه.

ص: 149


1- 1. بحار الانوار 65/153 _ 155. وفی «حتی...» فی الأخیرة احتمالات،والظاهر أنّه قید للموضوع أو الحکم لا غایة للحکم المجعول لیکون مفاده الإستصحاب.والمراد الحلیّة الظاهریّة لاالواقعیّة.
کلام الشیخ

قال الشیخ:(1)

قد یستدلّ علی المطلب _ أخذا من الشهید فی الذکری _ بقوله علیه السّلام: کلّ شئ¨ فیه حلال وحرام فهو لک حلال حتی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه.

قال: وتقریب الاستدلال _ کما فی شرح الوافیة _ إنّ معنی الحدیث: إنّ کلّ فعل من الأفعال التی تتّصف بالحلّ والحرمة، وکذا کلّ عینٍ ممّا یتعلّق به فعل المکلّف ویتّصف بالحلّ والحرمة، إذا لم یعلم الحکم الخاصّ به من الحلّ والحرمة فهو حلال... فصار الحاصل: إن ما اشتبه حکمه وکان محتملاً لأنْ یکون حلالاً ولأن یکون حراما فهو حلال، سواء علم حکم کلّی فوقه أو تحته، بحیث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحقّقه فی ضمنه لعلم حکمه أم لا.

وبعبارة اخری: إن کلّ شئ¨ فیه الحلال والحرام عندک، بمعنی أنک تقسّمه إلی هذین وتحکم علیه بأحدهما لا علی التعیین ولا تدری المعیّن منهما، فهو لک حلال. فیقال حینئذٍ: الروایة صادقة علی مثل اللّحم المشتری من السّوق المحتمل للمذکّی والمیتة، وعلی شرب التتن، وعلی لحم الحمیر، إنْ لم نقل بوضوحه وشککنا فیه، لأنه یصدق علی کلٍّ منها أنه شئ¨ فیه حلال وحرام عندنا، بمعنی أنه یجوز لنا أن نجعله مقسما لحکمین، فنقول هو إمّا حلال وإمّا حرام، وأنه یکون من

ص: 150


1- 1. فرائد الاصول: 200.

جملة الأفعال التی یکون بعض أنواعها وأصنافها حلالاً وبعضها حراما، واشترکت فی أن الحکم الشرعی المتعلّق بها غیر معلوم.

ثمّ إن الشیخ ناقش هذا التقریب، وانتهی إلی أنّ الروایة مختصّة بالشّبهة الموضوعیّة.

کلام صاحب الکفایة وتوضیحه

کلام صاحب الکفایة

وأمّا صاحب الکفایة، فقد استدلّ(1) بروایة مسعدة، قال:

ومنها: قوله علیه السّلام: کلّ شئ¨ لک حلال حتی تعرف أنه حرام بعینه. الحدیث.

حیث دلَّ علی حلیّة ما لم یعلم حرمته مطلقا ولو کان من جهة عدم علی حرمته، وبعدم الفصل قطعا بین إباحته وعدم وجوب الإحتیاط فیه وبین عدم وجوب الإحتیاط فی الشبهة الوجوبیّة، یتم المطلوب.

مع إمکان أن یقال: ترک ما احتمل وجوبه مما لم یعرف حرمته، فهو حلال. تأمّل.

أقول:

توضیح إستدلال الکفایة هو: إن الموضوع فی الخبر هو «الشئ¨» المشکوک فی حلیّته وحرمته، والشک له مناشئ¨ مختلفة، فقد یکون الأمر الخارجی، کاللّحم

ص: 151


1- 1. کفایة الاصول: 341.

المشکوک فی تذکیته، وقد یکون فقدان النص، وإجمال النص، وتعارض النصّین، فالموضوع أعمّ من الشبهة الموضوعیّة والحکمیّة.

ثم تمسّک بعدم الفصل، لیدلّ الخبر علی البراءة فی الشبهة الوجوبیّة.

وذکر وجها آخر _ بلا حاجة إلی عدم الفصل _ وأمر فیه بالتأمّل.

ووجه التأمّل واضح، لعدم وجوب الترک فی الشبهة الوجوبیّة، وإلاّ یلزم أنْ یکون حکمان: تحریمی، وهو الترک. ووجوبی، وهو الفعل. هذا، مع أنّ الترک أمر عدمی قد لا یشمله لفظ «شئ¨».

هذا، وقد عدل عن الإستدلال بالخبرین، لظهورهما فی الشّبهة الموضوعیّة، کما ذکر الشّیخ.

وجوه الإشکال علی الإستدلال: الأوّل ونقده

وجوه الإشکال علی الإستدلال

لکنْ یرد علی الإستدلال بالأخبار الأربعة، وببعضها دون بعض، وجوهٌ من الإشکال:

الأوّل

ما أورد به علی جمیع الأخبار، وهو وجود کلمة «بعینه»، فإنها قید احترازی _ علی حسب الأصل فی القیود _ عن اللاّبعینه، والحال أنه لا یوجد لا بعینه فی الشّبهات الحکمیّة، وإنما یوجد فی الموضوعیّة، فهی مختصّة بها، ولا تصلح للإستدلال فی کلتا الشبهتین. نعم، یوجد اللاّبعینه فی الشبهة الحکمیّة المقرونة بالعلم الإجمالی، ولا کلام فی عدم جریان البراءة والحلّ هناک.

ص: 152

أقول:

إن العمدة فیهذا الإشکال دعوی ظهور کلمة «بعینه» فی الإحترازیّة، لکنّ من الممکن أن تکون الکلمة تأکیدا لِلعلم لا احترازا، والتأکید لیس علی خلاف الظّاهر. ولو فرض کونه خلاف الظاهر، فإنّ حملها علی ما ذکر أولی من الحمل علی الإحترازیة وجعل القضیّة مختصّةً بمورد الاقتران بالعلم غیر المنجّز أو الخارج بعض الأطراف عن الابتلاء. هذا أوّلاً.

وثانیا: إنه لا ریب فی جریان قاعدة الحلّ فی الشبهة الموضوعیّة، ولیس جریانها فیه منوطا بالإقتران بالعلم الإجمالی غیر المنجّز، بل الأصل فی قاعدة الحلّ جریانها فی الشبهة الموضوعیّة البدویّة. وعلیه، فلیس «بعینه» إحترازا عن اللاّ بعینه.

وثالثا: یوجد فی خبر مسعدة «لعلّها...»، وهی شبهة مقرونة بالعلم الإجمالی.

نعم، یرد الإشکال علی الروایة المشتملة علی «فیه حلال وحرام»، لوجود التقسیم فیها، بخلاف روایة مسعدة فلیس فیها «فیه».

کلام المحقق الخوئی ونقده

کلام السیّد الخوئی

وقال فی مصباح الاصول:(1) وأمّا الشبهة الموضوعیّة، فلا ینفک الشکّ فیها عن العلم بالحرام لا بعینه، فإنا إذا شککنا فی کون مائع موجود فی الخارج خمرا کان الحرام معلوما لا بعینه، إذْ نعلم إجمالاً بوجود الخمر فی الخارج المحتمل

ص: 153


1- 1. مصباح الاصول 2 / 274.

انطباقه علی هذا المانع، فیکون الحرام معلوما لا بعینه، ولکن هذا العلم لا یوجب التنجزّ، لعدم حصر أطرافه، وعدم کون جمیعها فی محلّ الإبتلاء، فما ابتلی به من أطرافه محکوم بالحلیّة ما لم یعلم أنه حرام بعینه.

أقول:

حصر الشبهة الموضوعیّة بغیر المحصورة وغیر المبتلی ببعض أطرافها، غیر صحیح، بل هی تعمُّ الشبهة البدویّة أیضا، ویشهد بذلک التقسیم الذی ذکره الشیخ _ وتبعه السیّد الخوئی نفسه _ حیث قال: لأنه إمّا یعلم... وعلی الثانی، فإمّا لا یعلم أن ذلک المحرّم أو شیئا منه... وعلی الثانی: فإمّا أن یعلم تفصیلاً وإمّا أنْ یعلم إجمالاً، فالصّور أربع. وأمّا الثانیة، فإن کانت الشّبهة غیر محصورة فحکمها کالصّورة الأولی، وکذا إذا کانت محصورة بین ما لا یبتلی المکلّف وبین ما من شأنه أن یبتلی به... .

فدعوی انحصار الشبهة الموضوعیّة بما لا ینفک عن العلم، فی غیر محلّها، بل إنّها تعم الشبهة البدویّة أیضا.

الوجه الثانی ونقده

الثانی

إنّ الموثقة مختصّة بالشبهة الموضوعیّة، لأنّ الإمام علیه السّلام طبّق «کلّ شئ¨ لک حلال» علیها، ولا أقل من أنْ تکون هی القدر المتیقن فی مقام التخاطب، فلا ینعقد الإطلاق. قاله المحقق العراقی.(1)

ص: 154


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 233.

وفیه:

أوّلاً: إن هذا الإشکال إنّما یتوجّه علی صاحب الکفایة، لأنه القائل بمانعیّة القدر المتیقّن فی مقام التخاطب عن انعقاد الإطلاق، وهو المستدلّ بالموثقة.

وثانیا: إن القدر المتیقّن إنما یمنع عن انعقاد الإطلاق علی المبنی، ولکن الموجود فی المقام هو العموم الوضعی، وَلا یمنع القدر المتیقّن من انعقاد العموم.

فالإشکال خلطٌ بین أصالة العموم وأصالة الإطلاق.

الوجه الثالث

الثالث

إنّ الجملة المذکورة فی صدر الخبر لا تناسبها الأمثلة المطروحة فی ذیله، ولذا لا یکون مدلول الصّدر قاعدة الحلّ، وذلک:

لأن الثوب، یجری فیه قاعدة الید، وهی أمارة تزیل الشک فلا یبقی الموضوع لقاعدة الحلّ.

والمملوک، مورد لقاعدة الإقرار المزیلة للشک کذلک.

والمرأة، یجری فیها بالنسبة إلی الرّضاع أصالة العدم النعتی، فلا مجال لجریان قاعدة الحلّ، وبالنسبة إلی الأختیّة، یجری أصالة العدم الأزلی، فلا مجال للقاعدة کذلک.

فظهر أن مدلول الخبر لیس قاعدة الحلّ أصلاً.

ص: 155

نقد جواب المحقق العراقی عن هذا الوجه

جواب العراقی

وأجاب(1) المحقق العراقی عن هذا الإشکال بأنه: إن کان قوله «کلّ شئ¨...» إنشاءً، فالإشکال وارد. وأمّا إنْ کان إخبارا عن أن الحلیّة قد أنشأت بعناوین، ففی مورد الید بعنوان الید، وفی مورد السّوق بعنوان السّوق، وفی مورد وجود الحالة السّابقة بعنوان الإستصحاب، وفی مورد الإقرار بالإقرار... فالإیراد غیر وارد، إذ الخبر یفید أنّ الشّارع قد جعل الحلیّة فی مورد الشک فی الحلیّة والحرمة، إلاّ أنه تارةً بعنوان السّوق، واخری بعنوان الید. وهکذا...

وفیه:

إنّه لیس فی الخبر حکایة عن عنوان «مشکوک الحلیّة» حتی یکون إخبارا عن جعل الحلیّة لمشکوک الحلیّة والحرمة، بل الخبر حاکٍ عن مورد السّوق والید...

علی أنّ عنوان «مشکوک الحلیّة والحرمة» لا موضوعیّة له بالنسبة إلی الموارد المذکورة فی الخبر، لأن الموضوع فی الإستصحاب _ مثلاً _ هو الیقین المتعقّب بالشک لا المشکوک فی حلیّته وحرمته.

الجواب الصحیح

الجواب الصحیح

فالصّحیح _ کما قال شیخنا _ أن یقال فی الجواب:

إن ما جاء فی ذیل الخبر من «والأشیاء کلّها...» عامّ، فلا یختصّ بالموارد

ص: 156


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 234.

المذکورة فیه، ومن هذا الذیل ینکشف أن المخبر به یشمل قاعدة الحلّ، لأنها عنوانٌ کسائر العناوین، وله مصادیق مثلها.

الوجه الرابع

الرابع

إنّ ذیل الخبر «والأشیاء کلّها...» قرینة عَلی الصّدر، لأنَّ قیام البیّنة إنما یختصُّ بالشبهة الموضوعیّة، فالخبر یختصُّ بها.

جواب المحقق الخوئی ونقده

جواب السیّد الخوئی

واُجیب(1): بأنَّ المراد من «البیّنة» معناها اللّغوی، فهی فی الخبر کما فی قوله تعالی: «... حَتّی تَأْتِیَهُمُ الْبَیِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللّه ِ...»(2). ولیس المراد شهادة العدلین، إذ لیست الکلمة بحقیقةٍ شرعیّة أو متشرّعیّة فی هذا المعنی.

مناقشة الجواب

وهذا الجواب غیر تام. وبیان ذلک یتوقف علی مقدّمتین:

الأولی: إن من القواعد فی المشتقّ، أنْ تدلّ المادّة علی معناها الموضوعة له فی مختلف الهیئات، بأنْ لا توجب الهیئة اختلافا فی المادّة، لأنّ کلّ مادّةٍ من المواد

ص: 157


1- 1. مصباح الاصول 2 / 274.
2- 2. سورة البیّنة، الآیة: 1 _ 2.

فهی موضوعة لمفهومها الخاصّ بها، والهیئة معنیً حرفی، ولیس للمشتقّ _ وهو مجموع المادة والهیئة _ وضع مستقلّ.

والثانیة: إنّ «أو» إن کانت للتقسیم أو التردید تدلُّ علی التفصیل، والتفصیل قاطع للشرکة، فلا یکون ما قبلها قسما ممّا بعدها.

وعلی ما ذکر:

فإنّ مادّة «البیان» موجودة فی «تستبین» و«البیّنة»، فإن کان المراد من «البیّنة» هو المعنی اللّغوی، لزم أن یکون المعنی فی الکلمتین واحدا، وذلک ینافی التقسیم ب_ «أو». إذنْ، لابدّ وأنْ یختلف المعنی فی الکلمتین، فإنْ کان «یستبین» بمعنی «العلم»، و«البیّنة» بمعنی «الحجّة الشرعیّة» صحّ التقسیم، لکنْ لیس «الحجّة الشرعیّة» معنی لفظ «البینّة» لغةً، بل معناها فی اللّغة: الدلالة الواضحة عقلاً أو حسّا.

وإذْ لم یمکن حمل «البیّنة» علی المعنی المذکور، ولم یمکن أخذ «العلم» فی مفهوم «البیّنة»، لأن المفروض کونه مأخوذا فی «تستبین» والتقسیم قاطع للشرکة، تعیّن أن یکون المراد منها خصوص «شهادة العدلین».

بل إنّ المراد من «البیّنة» فی جمیع الروایات عن النبی والأئمّة علیهم السّلام لیس إلاّ «شهادة العدلین».

ولو فرض احتمال کون «البیّنة» فی الخبر بمعنی «الحجّة الشرعیّة» کان الخبر مجملاً.

ص: 158

سقوط الاستدلال بخبر مسعدة

سقوط الاستدلال بخبر مسعدة

وکیف کان، فالإشکال وارد، والإستدلال ساقط، لظهور الخبر فی الشّبهات الموضوعیّة.

هذا فی خبر مسعدة بن صدقة.

الکلام فی الروایات الاخری

الکلام فی الروایات الاخری

وأمّا الروایات الاخری:

فقد اُشکل علی ما یشتمل منها علی «المعرفة»، بأن: المعرفة إنما تکون فی الامور الجزئیّة، ولا تطلق مادّة «العرفان» فی موارد الامور الکلیّة، وبحثنا فی الأحکام الکلیّة الإلهیّة.

ویندفع: بأنه لا دلیل علی اختصاص هذه المادّة بالجزئیّات، لا من اللّغة ولا العرف، بل قد ورد فی مورد الکلیّات کما فی مقبولة عمر بن حنظلة: «... وعرف أحکامنا...»(1) والمراد الکلیّات، لأن ذلک شأن الفقیه.

إشکال الشیخ

وأشکل الشیخ(2): بأن «فیه» ظاهر فی التقسیم، لاسیّما مع وجود «بعینه» و«منه». فالحدیث إنما جاء للتقسیم لا للتردید، والذی فی الشّبهات البدویّة هو

ص: 159


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم: 1.
2- 2. فرائد الاصول: 201.

«التردید» لا «التقسیم»، فلا معنی ل «فیه حلال وحرام» فی مثل شرب التتن. نعم، له معنی فی اللّحم، إذ فیه الحلال کلحم الغنم والحرام کلحم الخنزیر.

قال الشیخ: فسواء قلنا بالإستخدام أوْ لا، یختصُّ الحدیث بالشبهة الموضوعیّة. أمّا علی عدم القول به، فإنّ مفهوم «الشئ¨» هو الکلّی القابل للتقسیم، وأمّا علی القول به، بأنْ یکون «الشئ¨» جزئیّا _ فالضمیر فی «فیه» راجع إلی النوع والجنس حتی یصحّ التقسیم إلی الحلال والحرام.

جواب المحقق العراقی ونقده

جواب العراقی

وأجاب المحقق العراقی(1): بأنّ اللّحم _ مثلاً _ فیه حلال کلحم الغنم وحرام کلحم الخنزیر، ومن الحلال ما تقع فیه الشبهة کلحم الحمار. وأمّا ما لا ینقسم إلی الحلال والحرام کشرب التتن، فیتّم المطلب فیه بعدم الفصل، فیتمّ استدلال الشّهید رحمه اللّه بالروایات.

مناقشته

وفیه: إنْ منشأ الشبهة لیس وجود القسمین بل هو فقد الدّلیل، وإنْ کان عدم القسمین منشأً لعدم الشک. توضیحه: إن کان اللّحم کلّه حلالاً أو کان کلّه حراما، فإنّه لا شک فی حلیّة أو حرمة لحم الحمار، فعدم القسمین لیس رافعا للشک، لکن

ص: 160


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 233.

وجودهما لیس منشأً للشک فی حکم لحم الحمار، بل المنشأ هو قصور الدّلیل من جهة الفقد أو الإجمال أو التعارض.

فالحق مع الشیخ، لأن ظاهر الروایات کون المنشأ للشک وجود القسمین، وذلک یکون فی الشبهة الموضوعیّة، أمّا الشک فی الشبهة الحکمیّة فینشأ عن قصور الأدلّة، کما عرفت.

وأمّا تمسّک العراقی بعدم الفصل لما لیس فیه قسمان کشرب التتن، فقد ذکر الشیخ أنّه إذا کان «کلّ شئ¨ فیه حلال وحرام» شاملاً للمورد الذی لیس فیه تقسیم، فلا حاجة إلی الإجماع المرکّب، لأنه کما أنّ اللّحم فیه قسمین، کذلک الشرب، فإنه ینقسم إلی الحلال کشرب الماء، وحرام کشرب البنک، ومشکوک فیه کشرب التتن.

فإنْ قیل: الشرب جنس بعید بالنسبة إلی شرب التتن.

قلنا: یکفی الجنس البعید.

أقول:

إذا کان الجنس البعید کافیا، فلیکن الجنس هنا هو «الأکل»، فإنّ فیه الحلال والحرام، ویشمل اللّحم والجبن، ویکون «کلّ شئ¨...» أعمّ من الأکل والشّرب. ولکنّ الظاهر عدم التزام الشیخ بذلک.

لایقال: فی المورد الذی یوجد العنوان الأخصّ نأخذ به، وفی المورد الذی لا یوجد، نأخذ بالعنوان الأعم.

ص: 161

لأنا نقول: لا فرق، مع صدق عنوان «الشئ¨» علی الأخصّ والأعمّ.

ثم إنّ ظاهر الروایات کون الموضوع الواقعی الذی له الحکم، فیه الحلال والحرام، کالدم ولحم الخنزیر فإنهما محرّمان، لکنّ العلماء لمّا رأوا أن نفس العنوان غیر قابل للحرمة التکلیفیّة، قدّروا «الشرب» فی الأوّل، و«الأکل» فی الثانی، مع أنّ المتّخذ موضوعا للحلّ والحرمة فی الأدلّة هو العین. فکان معنی: کلّ شئ¨ فیه... : کلّ ما کان موضوعا للحکم الشرعی من العناوین المنطبقة کالجبن واللّحم والسّمن... فالعنوان نفس الذات، وکلّ واحدة منها فیها القسم الحلال والقسم الحرام، والإرجاع إلی الأکل والشرب خلاف الظاهر.

وعلی هذا، یخرج التتن من البحث، لأنّه لیس من العناوین، بل هو مشکوک الحلّ والحرمة، وقد عرفت أن مفاد الروایات: کلّ فردٍ وقع الشک فیه وکان منقسما إلی الحلال والحرام فهو لک حلال.

فما ذکره الشیخ غیر تام.

وأمّا إجماع العراقی، فغیر حجّة، لکونه مدرکیّا، وقد قصد منه: إن الأخباری یقول بالحرمة فی الحکمیّة مطلقا، والاصولی بالجواز مطلقا، فالقول بالجواز فیما له قسمان کالّلحم، وبالحرمة فیما لیس له قسمان کالتتن، خلاف الإجماع المرکّب.

وتلخّص:

إنّ ما یشتمل من النصوص علی «فیه» لا یدلّ علی الحلّ فی الشبهة الحکمیّة کالذی لا یشتمل علیه. واللّه العالم.

ص: 162

الکلام فی الأسانید

أمّا خبر مسعدة، فموثق. ومسعدة من رجال تفسیر القمّی، وتضعیف العلاّمة سببه بطلان عقیدته.

وأمّا خبر عبد اللّه بن سلیمان، فإنّ الرجل لا توثیق له، وکونه صاحب أصلٍ لایکفی للوثاقة، إلاّ إنّه من رجال ابن أبیعمیر.

وأمّا خبر ابن سنان، ففی الکافی والتهذیب بسندٍ صحیح، وهو فی الفقیه أیضا، لکنّ إسناد الصّدوق إلی ابن محبوب فیه «ابن المتوکّل»، وقد وقع فیه الکلام المشهور.

هذا تمام الکلام فی أخبار «کلّ شئ¨ لک حلال».

ص: 163

ص: 164

4- حدیث الناس فی سعة ما لا یعلمون
اشارة

قال علیه السّلام: الناس فی سعة ما لا یعلمون.

ویقرء هذا الحدیث بوجهین:

1. أن تکون «ما» موصولةً.

2. أن تکون ظرفیّة زمانیّة.

وقد استدلّ به علی کلا الوجهین لکلتا الشبهتین.

أمّا علی الأوّل: فالناس فی سعةٍ، سواء کان الحکم کلیّا وجُهل به من جهة إجمال النصّ أو فقده أو تعارضه. أو جزئیّا، وذلک یکون فی الشبهة الموضوعیّة.

وأمّا علی الثانی، فالنّاس فی سعةٍ ما دام عدم العلم، سواء کانت الشبهة حکمیّة أو موضوعیّة.

الإختلاف فی النسّبة بینه وأخبار الإحتیاط

وعلی الجملة، فإن الحدیث جاء لجعل السّعة والمؤمنیّة، وأخبار الإحتیاط تجعل الضّیق. فهل النسبة بینهما التعارض أو الورود؟

ص: 165

قال الشیخ بالثانی، فأخبار الإحتیاط واردة علی هذا الحدیث، لکونها مفیدةً للعلم، فیکون مثل قوله تعالی: «وَما کُنّا مُعَذِّبینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً».(1)

وقال صاحب الکفایة وتبعه العراقی: بالتعارض بین الطرفین.

وأجاب فی الکفایة(2): بأنّ ورود أخبار الإحتیاط یتوقف علی دلالتها علی وجوب الإحتیاط وجوبا نفسیّا، لکنها تفید الوجوب الطریقی، فلا مصلحة فی نفس الإحتیاط، وإنما جاءت بداعی تنجیز الواقع. وحینئذٍ، لمّا کان حدیث السّعة معذّرا بالنسبة إلی الواقع، فیقع التعارض بین الطرفین.

وفصّل فی مصباح الاصول،(3) بأنّ «ما» إن کانت موصولةً، فالحدیث یدلّ علی البراءة کما علیه صاحب الکفایة، وإن کانت ظرفیّة، فهو مورود بأخبار الإحتیاط کما علیه الشیخ. ولکنّ «ما» الظرفیّة لا ترد علی الفعل المضارع إلاّ نادرا. فهی موصولة. فالحق مع الکفایة.

أقول:

والظاهر عدم تمامیّة هذا التفصیل، لأنّ نهایة الظرف وآخره هو العلم، وهو مقیّد حتما بالشئ¨ الذی جعل موضوعا فی القضیّة، إذ لا یکون ارتفاع الجهل بشئ¨ آخر غایةً للتوسعة ولا العلم بالشئ¨ مهملاً، فالغایة للتوسعة هو العلم بالشئ¨ الذی کان مجهولاً، فلا فرق بین الموصولة والظرّفیة.

ص: 166


1- 1. سورة الإسراء، الآیة: 15.
2- 2. کفایة الاصول: 342.
3- 3. مصباح الاصول 2 / 278.

نعم، فی الموصولة یتقدّر الضمیر فی «یعلمون» الراجع إلی «ما» أی: یعلمونه، وهو غیر موجود إذا کانت ظرفیّة، ولا مرجع، إلاّ أنّ البرهان العقلی المذکور یقتضی تقیّد العلم بالشئ¨ المجهول نفسه لا بشئ¨ آخر.

المختار رأی الکفایة

وتلخّص: دوران الأمر بین رأی الشیخ ورأی صاحب الکفایة.

والمختار هو الثانی، وتوضیح ذلک هو:

إنّ المحتملات _ ثبوتا _ فی حدیث السّعة ثلاثة:

1. أن یکون «ما لا یعلمون» نفس «المجهول».

2. أن یکون «ما لا یعلمون» مطلقا، أی سواء کان المجهول أو الوظیفة الفعلیّة.

3. أن یکون «ما لا یعلمون» بمعنی: لیس عندهم حجّة، بأن یکون «العلم» کنایة عن «الحجّة».

والمحتملات کذلک فی أخبار الإحتیاط هی:

1. أن یکون مدلولها عبارةً عن إنشاء الحکم، ویکون المنشأ للإنشاء هو الواقع بعنوان المحتمل، فتکون أخبار الإحتیاط موصلة للواقع، لأنّ الشّارع تارة: ینشئ¨ الحکم للواقع بعنوانه کقولک: لحم الخنزیر حرام. وتارةً: ینشئ¨ الحکم الواقعی بعنوان المشکوکیّة.

ص: 167

2. أن یکون إنشاء الإحتیاط إنشاءً نفسیّا ناشئا عن المصلحة القائمة بنفس الإحتیاط لا القائمة بالواقع.

3. أن تکون الأوامر الإحتیاطیّة طریقیّة، فلا هی ناشئة عن مصلحة الواقع ولا عن مصلحة الإحتیاط نفسه، بل بداعی تنجیز الواقع والتحفّظ علیه.

هذا کلّه بحسب الثبوت.

وفی مقام الإثبات نقول: إنّ الظاهر من حدیث السّعة: عدم العلم بنفس الشئ¨، لأن إطلاق «العلم» وإرادة «الحجّة» خلاف الظاهر، کما أن جعل «العلم» أعمّ من الشئ¨ المجهول والوظیفة الفعلیّة، خلاف الظاهر کذلک.

کما أن الظاهر من أخبار الإحتیاط أنها لیست للإیصال إلی الواقع. وکون المصلحة فی نفس الإحتیاط خلاف الظاهر. فیتعیّن الوجه الثالث، وهو کونها مفیدةً لجعل التنجّز علی الواقع حفظا له وإتماما للحجّة.

وعلی هذا، فإذا جهل حکم شرب التتن فالمکلّف فی سعة، لکن أوامر الإحتیاط تعارضه. وهذا وجه ما أفاده فی الکفایة، وهو الصّحیح.

النظر فی رأی الشیخ

وأمّا مسلک الشیخ _ وهو الورود _ فیبتنی علی أحد الإحتمالات التالیة:

الأوّل: إن متعلّق «العلم» فی الحدیث هو «الشئ¨»، لکن أخبار الإحتیاط تدلّ علی تضیّق العلم بالشئ¨، فهو یکون عالما بالشئ¨، سواء کان علمه به بعنوانه الأوّلی

ص: 168

مثل: أکرم زیدا، أو بعنوانه الثانوی مثل: أکرم هذا القاعد. وعلی هذا، تتقدّم أخبار الإحتیاط بالورود.

لکن هذا الإحتمال فی أدلّة الإحتیاط خلاف الظاهر.

والثانی: إنّ متعلّق «العلم» هو الأعّم من الشئ¨ والوظیفة الفعلیّة فی ظرف الجهل، وأدلّة الإحتیاط تعیّن الوظیفة فی ظرف الجهل، فهی متقدّمة بالورود، لأنها ترفع الجهل فلا سعة.

وهذا ما اعتمده الشیخ قدّس سرّه. لکنه خلاف الظاهر.

والثالث: أن یکون «العلم» هنا بمعنی «الحجّة». فهم فی سعةٍ ما لم یکن عندهم حجّة منجّزة للواقع، لکنّ أخبار الإحتیاط حجّة، لکونها منجّزة له، فتقدّم علی الحدیث بالورود.

وهذا هو المستفاد من کلام المحقق الإصفهانی.(1)

وقد عرفت أن جعل «العلم» بمعنی «الحجّة» خلاف الظاهر.

قال المحقق الإصفهانی:

لا یقال: إنْ أخذنا «العلم» بمعنی «الحجّة» وأوامر الإحتیاط علی الطریقیّة، تمتّ المعارضة کما قال صاحب الکفایة، لا الورود. لأن مفاد أدلّة الإحتیاط هو وجوب الإحتیاط ما دام لا یوجد المعذّر، فهی حینئذٍ منجّزة، لکنّ حدیث السّعة معذّر. وهذا هو التعارض.

ص: 169


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 70.

لأنا نقول: لا شکّ فی تنافی المنجّز والمعذّر بالنسبة إلی الشئ¨ الواحد، لکنّ لسان دلیل السّعة ودلیل الإحتیاط لسان الورود لا التعارض، لأن موضوع أدلّة الإحتیاط هو احتمال ثبوت التکلیف، لأنها جاءت لحفظ الغرض الإلآهی والتکلیف الواقعی، فلیس الموضوع عدم المعذّر، وحدیث السّعة یوسّع لمن لیس له منجّز، لأن موضوعه عدم المنجّز، فإذا لوحظ الموضوع فی الدلیلین کانت النسبة هی «الورود».

أقول:

إنّ ما ذکره منقوض بحدیث الرفع، فإنّ الذی أفاده لا یختصُّ بحدیث السّعة، لأن حدیث الرفع أیضا فی مقام التوسعة، فلماذا لا یکون مورودا؟ لا سیّما مع تعبیر الإصفهانی ب«دلیل البراءة» الشامل لحدیث الرفع؟

وحلّ المطلب هو: ما ذکرناه، من أنّ حمل «العلم» علی «الحجّة» خلاف الظّاهر، لأنّه مغایر له مفهوما، وکذا کون الحجّة أعمّ من العلم مصداقا. هذا أوّلاً.

وثانیا: إنّ حدیث السّعة هو الوارد لا المورود، لکون أخبار الإحتیاط قد جاءت للتحفّظ علی الواقع، لأن الموضوع المأخوذ فی لسانها هو «الشبهة» کقوله: «قف عند الشبهة» أو «المشکل»، ووزان هذا المرفوع وزان موضوع أدلّة القرعة: «القرعة لکلّ أمر مشکل» أو «مشتبه»، وقد ثبت أنه لا قرعة مع العلم بالوظیفة الظاهریّة فضلاً عن الواقعیّة، لأن «المشتبه» لا حجّة فیه ظاهرا وواقعا. وعلی هذا، یکون الأمر فی أدلّة الإحتیاط کذلک، لأن دلیل البراءة یفید الحکم الظاهری وینفی

ص: 170

الشبهة، فدلیل البراءة هو الوارد لا العکس. نعم، لو کان موضوع أخبار الإحتیاط احتمال التکلیف کان لما ذکره المحقق المذکور وجه.

ثم إنه إن کان الإحتیاط واجبا بالوجوب النفسی، وکان مدلول الحدیث هو العلم الأعمّ من الشئ¨ المجهول والوظیفة الفعلیّة الظاهریّة، فقد أشکل الإصفهانی بأنه لا یبقی حینئذٍ مورد للبراءة وتلزم اللغویّة فی أدلّتها، لأن أخبار الإحتیاط تفید الوظیفة، فتقدّم دائما علی البراءة ولا یبقی مورد لها أصلاً.

إلاّ أن هذا الإشکال یتوجّه بناءً علی کون الإحتیاط طریقیّا وکون العلم بمعنی الحجّة أیضا.

لکنّ اللّغویة إنّما تلزم فی صورة اختصاص دلیل السّعة بالشبهات الحکمیّة، لأنّ المفروض وجود الإحتیاط فی جمیع تلک الشّبهات، ولکنْ، إذا کان دلیل السّعة مثل حدیث الرفع شاملاً للشبهتین، والإحتیاط غیر لازم فی الموضوعیّة، فلا لغویّة لدلیل السّعة. ودعوی ظهوره فی الحکمیّة غیر مسموعة، فإنّ أحدا لم یقل باختصاص «ما لا یعلمون» بالحکمیّة، ولا فرق بین حدیث الرفع وحدیث السّعة، لأن «ما» فی کلیهما أعمّ. هذا أوّلاً.

وثانیا: إن المنجّزیة والمعذریّة متقوّمان بالوصول، ووجوب الإحتیاط إذا لم یصل فی موردٍ یکون لحدیث السّعة موضوع فی ذلک المورد، فلا لغویّة.

هذا، وقد یجاب عن دعوی الورود الذی ذکره الإصفهانی: بأن معنی العلم هنا هو الحجّة، والمراد من الحجّة هو الطرق الشرعیّة، والإحتیاط لیس من الطرق الشرعیّة، فلیس بحجّة، فلا تتقدّم أدلّة الإحتیاط علی حدیث السّعة بالورود.

ص: 171

وفیه:

إن الحجّة ما یصلح للإحتجاج به، والإحتیاط الذی قام علیه الدّلیل یصلح للإحتجاج، ولذا کان للفقیه أنْ یفتی بالإحتیاط فی الشبهة الحکمیّة مع عدم تمامیّة أدلّة البراءة. ویؤید ما ذکرناه، إطلاق «الحجّة» فی بعض الأخبار علی الإحتیاط وعلی الإستصحاب أیضا.

والحاصل: إن فی الحدیث ثلاثة إحتمالات، وهو ظاهر فی العلم بنفس الشئ¨ المجهول، ولیس بمعنی الحجّة، وقد قال بذلک الإصفهانی هنا ثم رجع عنه فی المباحث الآتیة، بل هو بمعنی الإنکشاف، فیقع التعارض بینه وبین أدلّة الإحتیاط، کما علیه صاحب الکفایة. وهو الحق.

سند حدیث السّعة

ولفظه فی الکتب مختلف. ففی بعضها «ما لم یعلموا». وهو علی کلّ حالٍ مرسل، ولا یوجد فی کتب الحدیث. والذی نجده فیها ما رواه الکلینی، عن علی ابن إبراهیم، عن أبیه، عن النوفلی، عن السکونی عن أبی عبداللّه علیه السّلام: إن أمیرالمؤمنین سئل عن سفرةٍ وجدت فی الطریق مطروحة کثیر لحمها وخبزها وبیضها وجبنها، وفیها سکیّن. فقال أمیرالمؤمنین: یقوّم ما فیها ثم یؤکل لأنه یفسد ولیس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن. قیل: یا أمیرالمؤمنین: لا یدری سفرة

ص: 172

مسلم أو سفرة مجوسی؟ فقال: هم فی سعةٍ حتی یعلموا».(1)

وفی المستدرک عن الراوندی: هم فی سعةٍ ما لم یعلموا.(2)

وعن الجعفریات: هم فی سعةٍ من أکلها ما لم یعلموا حتی یعلموا.(3)

والمهمّ لفظ الکلینی الخالی من «أکلوا». والظاهر أخذ الاصولیین بهذه الروایة مع تصرّفهم فیها بجعل «الناس» بدلاً عن «هم».

ولکنّ الکلام فی سند الکلینی، من جهة «النوفلی»، ففی مرآة العقول(4) ضعیف علی المشهور، وذکر الأردبیلی الروایة فی الأطعمة والأشربة من مجمع الفائدة(5) وقال: ضعیفة لکنّ ضعفها لایضر لموافقتها للعقل. ولکنّ الرجل من رجال تفسیر القمی وکتاب کامل الزیارات. واللّه العالم.

ص: 173


1- 1. الکافی 6 / 297.
2- 2. مستدرک الوسائل 2 / 588.
3- 3. المصدر 2 / 588.
4- 4. مرآة العقول 1 / 36.
5- 5. مجمع الفائدة والبرهان 11 / 300.

ص: 174

5 _ حدیث کلّ شئ¨ مطلق حتی یرد فیه نهی
اشارة

حدیث کلّ شئ¨ مطلق

وهو قوله علیه السّلام: کلّ شئ¨ مطلق حتی یرد فیه نهی(1)

الاختلاف فی دلالة الحدیث علی البراءة

اختلاف الأصحاب فی الاستدلال به

واختلف الأصحاب فی دلالته علی البراءة:

فالشیخ والإصفهانی استدلاّ به.

وصاحب الکفایة لا یری صحّة الإستدلال. وتبعه المیرزا والعراقی.

کلام الشیخ

قال الشیخ(2):

ومنها: قوله فی مرسلة الفقیه: کلّ شئ¨ مطلق حتی یرد فیه نهی. استدلّ به

ص: 175


1- 1. وسائل الشّیعة 27 / 173، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، رقم: 67.
2- 2. فرائد الاصول: 199.

الصّدوق علی جواز القنوت بالفارسیّة، واستند إلیه فی أمالیه حیث جعل إباحة الأشیاء حتی یثبت الحظر من دین الإمامیة.

ودلالته علی المطلوب أوضح من الکلّ. وظاهره عدم وجوب الإحتیاط، لأن الظاهر إرادة ورود النهی من حیث هو، لا من حیث کونه مجهول الحکم، فإنْ تمّ ما سیأتی من أدلّة الإحتیاط دلالة وسندا، وجب ملاحظة التعارض بینها وبین هذه الروایة وأمثالها ممّا یدلّ علی عدم وجوب الإحتیاط، ثم الرجوع إلی ما تقتضیه قاعدة التعارض.

محتملات الحدیث

أقول:

إنّ الإستدلال بهذا الخبر یتوقف علی أمرین:

أحدهما: أن تکون النسبة بینه وبین أخبار الإحتیاط التعارض لا الورود.

والآخر: تعیین المراد من «الإطلاق»، و«الورود»، و«النهی».

أمّا الإطلاق، فالظاهر أن المراد منه هو عدم التقیید، ویعبّر عنه ب«الإرسال» و«الحلیّة». وهو المعنی اللّغوی.

وأمّا الورود، فیحتمل: الصّدور، ویحتمل: الوصول.

وأمّا النهی، فیحتمل النهی عن الشئ¨ بعنوانه الأولی، ویحتمل النهی عنه بالأعم من العنوان الأوّلی والثانوی، أی: عنوان مجهول الحکم، کما أن أخبار

ص: 176

الأحتیاط تنهی عن الإرتکاب بالعنوان الثانوی، لأن موضوعها هو الشئ¨ المشتبه.

وبما ذکرنا یظهر أنّ فی الخبر أربعة احتمالات:

الأوّل: الورود هو الصّدور، والنهی عن الشئ¨ أعم من أنْ یکون بعنوانه أو بعنوان المشتبه.

وحینئذٍ، تکون أخبار الإحتیاط واردة علی الخبر.

الثانی: الورود هو الوصول، والنهی أعمّ کذلک.

وعلیه، فالورود کذلک.

الثالث: الورود بمعنی الصّدور، والنهی عن الشئ¨ بعنوانه الواقعی.

وعلیه، یسقط الإستدلال، لأنّ البحث لیس فی صدور النهی وعدم صدوره. بل فی وصوله وعدم وصوله، فیکون وزان الحدیث وزان اسکتواعمّا سکت اللّه.

الرابع: الورود بمعنی الوصول والنهی بعنوانه الواقعی.

وعلیه، یتم الإستدلال ویقع التعارض.

والعلماء الأعلام أسقطوا الإحتمالین الأوّل والثانی، لأن «الشئ¨» عنوان مشیر إلی العناوین الأوّلیة للأشیاء، وضمیر النهی یرجع إلی نفس العنوان الأوّلی، وأمّا النهی عن الشئ¨ بعنوان أنه مجهول الحکم، فلیس نهیا عن الشئ¨، بل هو عنوان کلّیینطبق علیه «الشئ¨».

فالإحتمالان اللّذان کان النهی فیهما عن الشئ¨ بالمعنی الأعمّ ساقطان، وینحصر البحث فی الإحتمالین الباقیین.

ص: 177

وحینئذٍ، یقع الکلام فی أن «الورود» فی الخبر هو بمعنی «الوصول» أو «الصّدور»؟

هل الورود بمعنی الوصول أو الصدور؟

هل «الورود» بمعنی «الوصول» أو «الصدور»؟

قال الشیخ بالأوّل. وعلیه، فکلّ شبهة حکمیّة تحریمیّة کشرب التتن «شئ¨» لم یصل فیه «نهی» عن الشّارع بعنوانه، فهو «مطلق». وفی الشبهة الوجوبیّة قال الشیخ: بأن الأقوی البراءة، للأدلّة الأربعة بضمیمة الإجماع المرکّب. فالحدیث دلیل علی البراءة فی الشبهتین.

کلام الکفایة ونقده

وقال صاحب الکفایة:(1) لیس الورود بمعنی الوصول، فإنه یصدق علی الصّدور وإنْ وصل إلی البعض لا الکلّ، بل یصدق وإنْ لم یصل أصلاً. فالحدیث دلیل علی أنّ کلّ شئ¨ محکوم بالإطلاق والإباحة ما دام لم یصدر فیه نهی، فیکون مورد البحث شبهة مصداقیّة للحدیث، لأنّا نشکّ فی صدور النهی فی شرب التتن وعدم صدوره.

ثم قال:

لا یقال: نحن نحرز الموضوع ببرکة الأصل، فیستصحب عدم ورود النهی عن شرب التتن.

لأنا نقول: هذا تمسّک بالإستصحاب، وبحثنا فی الخبر والإستدلال به علی البراءة.

ص: 178


1- 1. کفایة الاصول: 342.

علی أن هذا الأصل لا یجری فی بعض الموارد، کمورد توارد الحالتین، کأنْ صدر نهیٌ وصدرت إباحة ولم یعلم المتقدّم منهما، وحینئذٍ، لایجری استصحاب عدم صدور النهی، لعدم المقتضی لدلیل الإستصحاب، إذ یعتبر اتّصال زمان المسّکوک فیه بزمان المتیّقن، ومع العلم بعدم الإتصال لا یجری الإستصحاب، کما أنه مع احتمال عدم الإتصال یکون التمسّک بدلیله من التمسّک بالدلیل فی الشبهة المصداقیّة، وهنا یحتمل أن تکون الإباحة متأخّرة عن الحرمة، وهذا الإستصحاب غیرجارٍ علی مسلک الشیخ للتعارض بین الحالتین.

فأجاب بتمامیّة الإستصحاب فی مورد توارد الحالتین.

وأشکل علی عدم الفصل: بأنه إنما یدّعی حیث یکون المستند فی أحد الطرفین هو الدلیل، وأمّا لو کان المستند أصلاً فلا یتمسّک بعدم الفصل، لأن معنی عدم الفصل هو التلازم بین الموردین فی الحکم، فإن کان علی أحدهما دلیل تمّ حکم الملازم الآخر بذلک الدلیل، لحجیّة مثبتات الأدلّة، بخلاف الأصل، لأن مثبته لیس بحجّة.

أقول:

فکیف تمسّک صاحب الکفایة نفسه بعدم الفصل فیما تقدّم، إذ کان المستمسک فی الشبهة التّحریمیّة أصالة البراءة، فقال بالبراءة فی الوجوبیّة کذلک لعدم الفصل؟

وأجاب المحقق الإصفهانی: بأنّ الأصل هناک کان من سنخ واحدٍ _ وهو

ص: 179

الحلّ _ فی الطرفین، والملاک واحد، وهنا یوجد الإستصحاب فی طرفٍ والبراءة فی الآخر.

فأشکل شیخنا: بأنّ صاحب الکفایة قال: إنْ کان دلیلٌ فکذا وإنْ کان أصل فکذا، ولم یقل: إن کانا من سنخٍ واحدٍ فکذا وإنْ کانا من سنخین فکذا!

وتلخّص:

إنه إنْ کان «الورود» بمعنی «الوصول» فالإستدلال تام، وإنْ کان بمعنی «الصدور» فلا. وقد قال الشیخ بالأوّل وتبعه المحقق الإصفهانی وبرهن علیه، فقال:(1)

کلام المحقق الإصفهانی

کلام المحقق الإصبهانی

إنّ الورود لا یمکن أن یکون هنا بمعنی الصّدور، لأن الإباحة إمّا عقلیّة وإمّا شرعیّة، والشرعیّة إمّا واقعیّة وإما ظاهریّة. والشقوق کلّها باطلة، فالورود لیس بمعنی الصّدور بل هو بمعنی الوصول. توضیحه:

أمّا إن کانت واقعیّةً، فلا یمکن أن یکون الورود بمعنی الصّدور، لأنّ هذه الإباحة إمّا هی مغیّاة بورود النهی، وإمّا هی غیر مغیّاة به بل موضوعها مقیّد بعدم ورود النهی، وفی هذه الصّورة إما هو مقیّد بعنوان المشیر أو مقیّد حقیقةً. وکلّها غیر معقول، لأن الإباحة إن کانت واقعیّة شرعیّة مغیّاة بصدور النهی، فإنّها تنشأ عن

ص: 180


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 72.

عدم اقتضاء الموضوع بالنسبة إلی الوجوب والحرمة، فإنْ کانت مغیّاة بصدور النهی، فإن صدوره لا یمکن إلاّ مع تحقق الإقتضاء فی الموضوع بالنسبة إلی الحرمة، والمفروض عدم الإقتضاء لا إلی الحرمة ولا إلی الوجوب، فیلزم انقلاب الموضوع أو اقتضاؤه للحرمة مع عدم الإقتضاء إلی أحد الطرفین، وکلاهما محال.

وإنْ کان هنا قید، بمعنی أن الموضوع مقیّد بورود النهی، فإمّا هو عنوان مشیر إلی ما هو فی الخارج، أی: کلّ ما کان فیه نهی فهو حرام، وما لا نهی فیه فهو حلال، وهذا غیر معقول، لأنه توضیح للواضح، وإمّا هو قید حقیقةً للموضوع، أیْ یقیّد بعض الأشیاء بعدم ورود النهی ثم یأتی بالإباحة علیه، وهذا محال کذلک، للزوم تقیّد الشئ¨ بعدم شئ¨ حتی یطرأ علیه ضدّ ذلک الشئ¨. أی: تقید الشئ¨ بعدم النهی حتی یأتی ضدّ النهی وهو الإباحة، وقد بُین استحالة هذا فی مبحث الضّد.

وتلخّص: أن الإباحة لیست إباحة واقعیّة شرعیّة.

وإنْ کانت ظاهریّة، فلا یعقل أیضا لوجوهٍ ثلاثة:

الأوّل: إنْ کانت الإباحة ظاهریّة، فإن غایتها العلم _ لکون موضوع الإباحة الظاهریّة هو الجهل _ لا الحرمة الواقعیّة، لأن الحکم الواقعی لا یکون غایةً للحکم الظاهری، فلا یکون الورود بمعنی الصّدور، لأن الصّدور یعنی وجود الحرمة الواقعیّة، وقد قلنا بأنه لیس رافعا للحکم الظاهری.

الثانی: إنْ الإباحة الظاهریّة هی فی مورد وجود الشک فی وجود الحرمة الواقعیّة، فإذا أردنا إثبات الإباحة الظاهریّة باستصحاب عدم صدور النهی، یکون

ص: 181

تمسّکا بالإستصحاب لا بالحدیث، والتمسّک حینئذٍ بالحدیث من قبیل التمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیّة.

الثالث: إن کانت الإباحة الظاهریّة، والغایة صدور النهی، فإنّه لا نهی إلاّ بقاءً، أی ما دام لم یصدر نهی فالإباحة موجودة. فإذن، یوجد فی أوّل الأمر علم بعدم النهی، فلا شک حتی تثبت الإباحة الظاهریّة.

فظهر أن «الإطلاق» لیس بمعنی الإباحة الشرعیّة الظاهریّة.

وأمّا الإباحة العقلیّة، فغیر ممکنة أیضا، لأنها عبارة عن اللاّحرجیّة بحکم العقل قبل الشرع، وهذا المعنی یستقلّ به عقل کلّ عاقل. مع أنه لا وجه لأنْ یبیّن الإمام الصّادق فی هذا الحدیث الوظیفة قبل ورود الشرع.

وإذا بطل کلّ هذه الشقوق المبنیّة علی کون الورود بمعنی الصّدور، تعیّن کونه بمعنی الوصول إذْ لا إحتمال ثالث.

هذا مضافا إلی:

1. إن «الورود» من المفاهیم المتعدّیة، والنسبة بین الوارد والمورود هی الإضافة، فالمورود هو «المکلّف» والوارد هو «الحکم». فیکون معنی الحدیث: کلّ شئ¨ مطلق حتی یرد علیک فیه نهی، ولیس معناه إلا «الوصول».

2. إن «الورود» بمعنی الصّدور غیر موجود فی اللّغة والعرف.

فالحق مع الشیخ فی أن المراد هو «الوصول».

ص: 182

نقد هذا الکلام

مناقشته

أقول:

أوّلاً: إنّ البحث عن الإباحة واللاّحرجیّة العقلیّة، إنْ کان عن حکم العقل بغضّ النظر عن الشرع _ کما یبحث عن حکم العقل فی مجهول الحکم ومقتضی الأصل العقلی فیه بقطع النظر عن الدّلیل النقلی _ فإنّه لا لغویّة فی البیان.

نعم، لو کان البحث حول حکم العقل قبل الشرع بالقبلیّة الزمانیّة، لم یکن للبیان أثر، لکن البحث لیس فی ذلک.

وثانیا: إن دعوی استقلال عقل کلّ عاقل بالإباحة. مندفعة، لأن الأقوال فی تلک المسألة مختلفة.

فظهر إلی الآن أنّ الحدیث ناظر _ کما ذکر المیرزا(1) _ إلی الإباحة العقلیّة بقطع النظر عن البیان الشرعی.

وأمّا ما ذکره، من نفی الإباحة مطلقا.

ففیه: أنه منقوض بالأحکام الإلزامیّة التدریجیّة، کمسألة حرمة الخمر، فقبل النهی الإلزامی یستحیل وجود الإباحة الظاهریّة، بل هی واقعیّة، ولیس منشأ الإباحة الواقعیّة منحصرا باللاّإقتضائیّة، بل یمکن أنْ یکون التزاحم بین مصلحة التدرّج والتسهیل والمفاسد الواقعیّة منشأً لتأخیر بیان الحکم التحریمی، فیکون معنی الحدیث: کلّ شئ¨ لم یصدر فیه نهی فهو مطلق واقعا.

ص: 183


1- 1. أجود التقریرات 3 / 317.

فیصحّ أن یکون الورود بمعنی الصّدور.

ثم إن «الورود» یستعمل علی أنحاء، فتارةً: یتعدّی بنفسه، کما فی ورد الماء. وأخری: ب_«علی» کقولک: ورد علیّ. وثالثة ب_«فی» مثل: ورد فی البلد.

والتضائف متقوّم بالطرفین، ولکنْ لا یقتضی أن یکون حرف التعدیة «علی» فقط، فلا حاجة برهانا إلی وجود «مورود علیه» زائدا علی مدخول «فی» کما جاء الحدیث کذلک.

فإن قیل: کلّ حکم فهو یحتاج إلی الموضوع والمورد، مثل حرمة الشرب، فمورده هو الشرب وموضوعه المکلّف.

قلت: هذا لا ربط له بالتضایف، مع أن الحکم یتوقف علی الموضوع ولا یتوقف تحققه علی الوصول.

هذا، وفی الأمالیللشیخ مسندا: والأشیاء مطلقة ما لم یرد علیک أمر ونهی.(1)

وهذه الروایة ظاهرة فی أن المراد هو الوصول، فتدلّ علی البراءة فی الشبهتین التحریمیّة والوجوبیّة.

لکنّ سندها غیر تام.

کما أن روایة الفقیه مرسلة.

ص: 184


1- 1. أمالی الشیخ: 669.
تتمة فی قاعدة الملازمة

تتمة

إنّ حقیقة قاعدة الملازمة عبارة عن کشف الملاک، بحیث یحرز المقتضی وفقد المانع، فإذا اُحرز أصل وجود المصلحة والإقتضاء، وأُحرز تمامیّة الإقتضاء، وأُحرز عدم المانع، فإنه ینکشف الملاک للحکم الشرعی، ویستحیل _ بمقتضی تبعیّة الأحکام للملاکات _ تخلّف الحکم عن الملاک.

هذا معنی قاعدة الملازمة، وعلیه، فلو أُحرز المقتضی ولم یحرز عدم المانع بل أُحتمل المفسدة المزاحمة، لم یکن للقاعدة موضوع.

وبما ذکرنا یظهر عدم ورود إشکال المحقق العراقی(1) _ القائل بکون «الورود» بمعنی «الصّدور» _ علی قول المحقّق الإصفهانی بأنه توضیح للواضحات، بأنّ هذا البیان لدفع قاعدة الملازمة، فلیس بتوضیح للواضحات.

ووجه عدم الورود هو: إنه إذا لم یحرز عدم المانع لم یکن للقاعدة موضوع، وإنْ اُحرز، فالملاک تام والحکم مترتب، فلا معنی لدفع القاعدة حینئذٍ.

هذا تمام الکلام فی أخبار البراءة.

ص: 185


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 230.

ص: 186

الاستدلال بالإجماع علی البراءة
اشارة

الإجماع علی البراءة

لقد ادّعی الإجماع علی البراءة، کما ادّعی الإجماع المحصّل القولی علی البراءة فی الشّبهات التی لم یتعیّن فیها الحکم بالعنوان الأوّلی، وادّعی المنقول منه علی البراءة فی تلک الشّبهات. کما ادّعی الإجماع العملی وسیرة المسلمین، ومن أهل الشرائع کافة بل من جمیع العقلاء.

فللإجماع المدّعی فی المسألة تقریبات ستّة، ذکرها الشیخ(1).

کلام الشیخ

أمّا الإجماع علی الکبری، فقد ذکر الشیخ سقوطه بأخبار الإحتیاط، لأن وزان هذا الإجماع وزان البراءة العقلیّة، فتتقدّم علیه أخبار الإحتیاط بالورود.

وظاهر الشیخ: تمامیّة هذا الإجماع إقتضاءً.

ص: 187


1- 1. فرائد الاصول: 202.

وفیه نظر، لأن قوله تعالی: «وَما کُنّا مُعَذِّبینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً»(1) إرشاد إلی قبح العقاب بلا بیان، فلیست بدلیلٍ شرعی حتی یرد علیها أخبار الإحتیاط، ولیس الإجماع بأهمّ من الآیة. لکنّ الإشکال هو کونه مدرکّیا، ومستنده قاعدة قبح العقاب بلا بیان، وهی واردة علی أخبار الإحتیاط.

وأمّا الإجماع القولی المحصّل الذی یرید الشیخ تحصیله من کلمات الأعلام من المحدّثین والمجتهدین علی حکم الواقعة بالعنوان الأوّلی، فإنه إنْ تمّ یکون معارضا لأخبار الإحتیاط لا مورودا. وقد أورد الشیخ کلام الکلینی والصّدوق، وذکر أن المستفاد منهما أن ذلک اعتقاد الطائفة، ولا أقل من دلالة قول الصّدوق «إعتقادنا» علی کونه اعتقاده واعتقاد مشایخه المحدّثین.

ونقل أیضا کلمات المجتهدین: السیدین والمفید والشیخ.

نعم، الأخباریون المتأخرون کصاحبی الحدائق والوسائل مخالفون، لکن العبرة بالمتقدّمین.

النّظر فی کلمات المتقدّمین

أقول:

قال الشیخ الکلینی رحمه اللّه فی دیباجة الکافی: بأنّ من قال بعدم التوقف فی الخبرین المتعارضین مع وجود النصّ علی التوقف، فهو قائل بعدمه فیما لا نصّ فیه علی التوقف.

ص: 188


1- 1. سورة الإسراء: 15.

وفی دلالة هذا الکلام علی الإجماع تأمّل، لوجود الدّلیل فی باب التعارض علی التخییر بین الخبرین، فلا توقف. لکن إذا لم یکن عندنا نصّ فی موردٍ _ کما فی الشّبهات الحکمیّة _ فما هو الدّلیل علی عدم وجوب الإحتیاط؟ وکیف ینسب هذا إلی الکلینی؟

وأمّا کلام الصّدوق، فظاهر قوله «إعتقادنا» هو عقیدة الطائفة، لکنْ یمکن أن یکون المستند ما رواه هو من حدیث: کلّ شئ¨ مطلق...

فهذا ما یتعلّق بإجماع المحدّثین.

وأمّا المجتهدون، فالسّیدان علی القول بالإباحة العقلیّة، إلاّ أنه لا یستفاد من کلامهما الرأی فی النسبة بین هذه الإباحة والأدلة الشرعیّة القائمة علی الإحتیاط، وبحثنا فی الإباحة والبراءة الشرعیّة. أللّهم إلاّ أن یقولا بالبراءة الشرعیّة حیث لا إباحة عقلیّة، وهذا إجماع تقدیری وهو لیس بحجّة.

وأمّا شیخ الطائفة، فقد نقل فی العدة(1) أدلّة البراءة أوّلاً ثم أشکل علیها بأنها أدلّة سمعیّة، ونحن بالنظر إلیها نقول بالإباحة، إلاّ أن البحث فی الدّلیل العقلی، لکنه یتمسّک للإباحة بالأدلة السمعیّة المشار إلیها. فلا نعلم ما هو دلیله علی الإباحة، وبحثنا فی الإباحة هو من حیث کونها أصلاً لا من حیث کونها دلیلاً، وکلّ دلیل أفاد الحلیّة مثل «أُحِلَّ لَکُمُ الطَّیِّباتُ»(2) فتلک حلیّة واقعیّة لا ظاهریّة.

وهذا تمام الکلام فی الإجماع.

ص: 189


1- 1. العدّة فی اُصول الفقه 2 / 750.
2- 2. سورة المائدة، الآیة: 5.

ص: 190

الاستدلال بالعقل علی البراءة
اشارة

الدلیل العقلی علی البراءة

وهو قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ولا یخفی أن هذا البحث إنما یطرح بعد التنزّل عمّا تقدّم من الأدلّة الشرعیّة علی البراءة، أو علی فرض عدم تمامیّة شئ¨ من ذلک، وإلاّ فلا موضوع للبراءة العقلیّة بعد جعل الشّارع البراءة بعنوان الحکم الظاهری فی ظرف الجهل بالحکم الواقعی. وکذا لو تمتّ أدلّة وجوب الإحتیاط فی الشبهة، فإنه لاموضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

کلماتهم فی أساس قاعدة قبح العقاب بلابیان

کلماتهم فی أساس هذه القاعدة

وقد تسالم الأکابر علی هذه القاعدة، واختلفت کلماتهم فی الأساس لها:

رأی الشیخ

قال الشیخ(1): العقل یحکم بقبح العقاب بلا بیان، والعقلاء یحکمون.

فهی قاعدة عقلیّة وعقلائیّة.

ص: 191


1- 1. فرائد الاصول: 203.
رأی المحقق الخراسانی

وقال صاحب الکفایة: فإنه قد استقلّ بقبح العقوبة والمؤاخذة علی مخالفة التکلیف المجهول، بعد الفحص والیأس عن الظفر بما کان حجّةً علیه، فإنّهما بدونها عقاب بلا بیان ومؤاخذة بلا برهان، وهما قبیحان بشهادة الوجدان.(1)

فأرجع القاعدة إلی الوجدان.

رأی المحقق النائینی

وقال المیرزا: وأمّا العقل، فحکمه بالبراءة ممّا لا یکاد یخفی، لاستقلاله بقبح العقاب بلا بیان واصلٍ إلی المکلّف بعد إعمال العبد ما تقتضیه وظیفته من الفحص عن حکم الشبهة والیأس عن الظفر به فی مظانّ وجوده، ولا یکفی فی صحّة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرّد البیان الواقعی مع عدم وصوله الی المکلّف، فإن وجود البیان الواقعی کعدمه غیر قابلٍ لأن یکون باعثاً ومحرّکاً لإرادة العبد ما لم یصل إلیه و یکون له وجود علمی. فتوهّم: أن البیان فی موضوع حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، هو البیان الواقعی سواء وصل إلی العبد أو لم یصل. فاسد. فإن العقل _ و إن استقلّ بقبح العقاب مع عدم البیان الواقعی _ إلاّ أنّ استقلاله بذلک لمکان أن مبادی الإرادة الامریّة بعد لم تتم، فلا إرادة فی الواقع، و مع عدم الإرادة لا مقتضی لاستحقاق العقاب، لأنه لم یحصل تفویت لمراد المولی واقعاً،

ص: 192


1- 1. کفایة الاصول: 343.

بخلاف البیان غیر الواصل، فإنه و إن لم یحصل مراد المولی و فات مطلوبه واقعاً، إلاّ أنّ فواته لم یستند إلی المکلّف بعد إعمال وظیفته، بل فواته إمّا أن یکون من قبل المولی إذا لم یستوف مراده ببیان یمکن وصول العبد إلیه عادةً، وإمّا أن یکون لبعض الأسباب التی توجب اختفاء مراد المولی عن المکلّف. و علی کلّ تقدیر، لایستند الفوات إلی العبد، فلأجل ذلک یستقلّ العبد بقبح مؤاخذته. فمناط حکم العقل بقبح العقاب من غیر بیان واقعی غیر مناط حکمه بقبح العقاب من غیر بیانٍ واصل إلی المکلّف.

هذا ما أفاده فی الدورة الأُولی.(1)

وقال فی الدورة الثانیة:

إنَّ حکم العقل بقبح العقاب من دون بیان، إنما هو لأجل أنّ الأحکام الواقعیّة _ بعد وضوح أنها لا تکون محرّکةً للعبد إلاّ بالإرادة _ لا یعقل محرکیّتها إلاّ بعد الوصول، ضرورة عدم إمکان الإنبعاث إلاّ عن البعث بوجوده العلمی دون الخارجی، فکما أنّ الأسد الخارجی لا یوجب التحرّز والفرار عنه إلاّ بعد محرزیّة وجوده، فکذلک الحرمة المجعولة من الشّارع لا یترتب علیها الإنزجار إلاّ بعد وصولها، و قبله لا اقتضاء لها للمحرکیّة أبداً، وإنما تتمّ محرّکیّتها بالإرادة و فی فرض الإنقیاد بالوصول و إحرازها.

ص: 193


1- 1. فوائد الاصول 3/365 _ 366.

وأمّا الحکم المحتمل، فهو بنفسه غیر قابل للمحرکیّة أیضاً، لتساوی احتمال الوجود مع احتمال عدمه. نعم، یصحّ کونه محرّکاً بضمیمةٍ خارجیةٍ مثل کون العبد فی مقام الاحتیاط و نحو ذلک. وإذا کان الحکم بوجوده الواقعی غیر قابل للمحرّکیة أصلاً، و وجوده الإحتمالی غیر قابلٍ لها بنفسه، فالعقاب علی مخالفته عند عدم وصوله عقاب علی مخالفة حکم لا اقتضاء له للمحرّکیة، ولا ریب فی قبح ذلک، کما یظهر ذلک بأدنی تأمل فی أحوال العبید مع موالیهم العرفیّة.(1)

رأی المحقق الإصفهانی

رأی المحقق الإصفهانی

وقال المحقق الإصفهانی:(2)

نحن وإنْ ذکرنا مراراً أن مدار الإطاعة والعصیان علی الحکم الحقیقی، وأن الحکم الحقیقی متقوّم بنحوٍ من أنحاء الوصول، لعدم معقولیّة تأثیر الإنشاء الواقعی فی انقداح الدّاعی، وحینئذٍ، فلا تکلیف حقیقی مع عدم الوصول، فلا مخالفة للتکلیف الحقیقی فلا عقاب، فإنه علی مخالفة التکلیف الحقیقی، إلاّ أنّ عدم العقاب لعدم التکلیف أمر، و عدم العقاب لعدم وصوله أمر آخر، و ما هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بیان هو الثانی دون الأوّل.

ص: 194


1- 1. أجود التقریرات 3/323 _ 324.
2- 2. نهایة الدرایة 4/83 _ 84.

أقول:

بل إنّ التقوّم المذکور غیر تام، لأنّ الوصول متعلّق بالتکلیف لا أن التکلیف متقوّم بالوصول. و بعبارة اخری: لا یعقل الإنکشاف بلا منکشف، فالواصل هو التکلیف، أی یتحقق ثم یصل أو لا یصل.

قال رحمه اللّه:

فالأولی تقریب القاعدة بوجهٍ عام مناسب للمقام.

فنقول: فی توضیح المقام: إن هذا الحکم العقلی حکم عقلی عملی بملاک التحسین والتقبیح العقلیین، وقد بیّنا فی مباحث القطع والظن مراراً أن مثله مأخوذ من الأحکام العقلائیّة التی حقیقتها ما تطابقت علیه آراء العقلاء حفظاً للنظام وإبقاءً للنوع، وهی المسمّاة بالقضایا المشهورة المعدودة فی الصّناعات الخمس من علم المیزان.

ومن الواضح أن حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان لیس حکماً عقلیّاً عملیّاً منفرداً عن سائر الأحکام العقلیّة العملیّة، بل هو من أفراد حکم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، نظراً إلی أن مخالفة ما قامت علیه الحجّة خروج عن زیّ الرقیّة ورسم العبودیّة، وهو ظلم من العبد علی مولاه، فیستحق منه الذم والعقاب.

کما أن مخالفة ما لم تقم علیه الحجّة لیست من أفراد الظلم، إذ لیس من زیّ الرقیّة أن لا یخالف العبد مولاه فی الواقع وفی نفس الأمر، فلیس مخالفة ما لم تقم علیه الحجّة خروجاً عن زیّ الرقیّة حتی یکون ظلماً.

ص: 195

وحینئذ، فالعقوبة علیه ظلم من المولی علی عبده؛ إذ الذم علی ما لا یذم علیه، والعقوبة علی ما لا یوجب العقوبة عدوان محض وإیذاء بحت بلا موجب عقلائی، فهو ظلم، والظلم بنوعه یؤدّی إلی فساد النوع واختلال النظام، وهو قبیح من کلّ أحد بالإضافة إلی کلّ أحد ولو من المولی إلی عبده.

لکن لا یخفی أن المهم هو دفع إستحقاق العقاب علی فعل محتمل الحرمة مثلاً ما لم تقم علیه حجة منجّزة لها، و حیث أنّ موضوع الإستحقاق بالأخرة هو الظلم علی المولی، فمع عدمه لا استحقاق قطعاً، و ضمّ قبح العقاب إلی المولی أجنبی عن المقدار المهم هنا وإن کان صحیحاً فی نفسه.

رأی المحقق الخوئی

رأی المحقق الخوئی

وجاء فی مصباح الاصول فی مقام الإستدلال للقاعدة:

لاینبغی الشک فی تمامیّة قبح العقاب بلا بیان علی القول بالتحسین والتقبیح العقلیین کما علیه العدلیّة والمعتزلة، فإنه من الواضح أنّ الإنبعاث نحو عملٍ أو الإنزجار عنه إنما هو من آثار التکلیف الواصل، و ما یکون محرّکاً للعبد نحو عملٍ أو زاجراً له عنه إنما هو العلم بالتکلیف لا وجوده الواقعی، فإذا لم یکن التکلیف واصلاً إلی العبد کان العقاب علی مخالفته قبیحاً عقلاً، إذ فوت غرض المولی لیس مستنداً إلی تقصیرٍ من العبد، بل إلی عدم تمامیّة البیان من قبل المولی. فنفس قاعدة قبح العقاب بلا بیانٍ تامّة بلا شبهة وإشکال، ومسلّمة عند الأُصولی والأخباری.(1)

ص: 196


1- 1. مصباح الاصول 2/283.
خلاصة ما استدلّ به للقاعدة

و یتخلصّ کلام الأعاظم فی ثبوت قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی وجوه:

الأوّل: الإحالة إلی الوجدان.

والثانی: إنه یقبح العقاب مع عدم البیان الواصل، لأنّ فوات غرض المولی فی هذه الحالة غیر مستندٍ إلی المکلّف المفروض فحصه عن الدلیل علی الحکم ویأسه عن العثور علیه، بل هو مستند إمّا إلی المولی أو إلی الظالمین الذین أخفوا الأحکام.

والثالث: إنه مع عدم الوصول لا مقتضی لتحریک العبد نحو العمل أو الترک.

والرابع: إنّ العقاب بلا بیان من صغریات الظلم، لعدم قیام الحجّة علی المکلّف، حتی تکون مخالفته خروجاً عن زی العبودیّة فیکون ظلماً للمولی، بل هو ظلم من المولی و هو قبیح.

مناقشة السیّد الاستاذ

وقد ناقش السیّد الأُستاذ الوجوه المذکورة فی منتقی الاصول،(1) وفی الدّورة التی حضرناها، وانتهی إلی القول بأنْ لا أساس لقاعدة قبح العقاب بلابیان، وقد قدّم لذلک مقدّمةً مفیدةً و خلاصتها:

أن هنا مسلکین، أحدهما: أنه لا حکم للعقل بالحسن و القبح بل هو مدرک،

ص: 197


1- 1. منتقی الاصول 4/443 _ 445.

والحکم بالحسن والقبح حکم عقلائی من أجل حفظ النظام. والآخر: إن العقل یحکم بالحسن والقبح، بمعنی أنه یحکم بحسن ما هو ملائم للقوّة العاقلة و قبح ما هو منافر لها _ کما هو الحال بالنسبة إلی الحواسّ الخمس _ سواء کان هناک نظامٌ أو لا.

قال: و یقع البحث حینئذٍ فی حکم العقل أو العقلاء _ علی المسلکین _ تارةً: بین الموالی و العبید العرفیّة. واخری: بین المولی الحقیقی والمکلّفین. وفی الثانی: تارةً: فی عالم الدنیا، واخری: فی العالم الأخروی.

فذکر أنّ القاعدة محکمة بین المولی والعبد العرفی فی مورد غفلة العبد.

وأمّا بین المولی الحقیقی والمکلّف فی دار الدنیا، فهذا خارج عن البحث.

إنما الکلام فی صحة مؤاخذة المولی الحقیقی العبد المکلّف فی عالم الآخرة مع عدم البیان علی التکلیف. و قد أفاد هنا أن العذاب الأخروی لیس من باب التشفّی _ کما قد یقع بین المولی والعبد العرفی فی دار الدنیا _ و لیس من باب التأدیب، إذ لا تأدیب فی عالم الآخرة، و أنه قد اختلف الناس فی العقاب _ و کذا الثواب _ فی الآخرة علی أربعة آراء:

الأول: أنه من باب تجسّم الأعمال.

والثانی: أنه من قبیل الأثر الوضعی.

والثالث: أنه من أجل التهذیب والوصول إلی الکمال.

والرابع: أنه وفاء بالوعد.

ص: 198

فعلی القولین الأوّل والثانی، لا یوجد هناک فعل حتی یتّصف بالحسن أو القبح، فلا مجال لحکم العقل. و علی الثالث، فإنا لا ندری هل الفعل الصّادر قبیح فیلزم تهذیب النفس منه أو لیس بقبیح.

فالعمدة هو الرأی الرابع الذی علیه المتشرّعة، فهل لو عاقب الباری تعالی العبد علی التکلیف المحتمل ورتّب الأثر علی وعیده، یکون ظلماً؟

أمّا الوجدان، فأوّل الکلام.

وأمّا أنّ التکلیف غیر واصلٍ، فلیس العقاب علی عدم الوصول حتی یقال بأنه عقاب علی أمرٍ خارج عن اختیار المکلّف، بل هو علی مخالفة التکلیف المحتمل، والمخالفة فعل اختیاری له. وأمّا أنّ اختفاء الأحکام مستند إلی فعل الظالمین، فهذا لا ربط له بالبحث.

وأمّا أنه مع عدم الوصول لا مقتضی لتحریک العبد، فإن کان المراد من ذلک تقوّم فعلیّة التکلیف بالوصول _ کما علیه المحقق الإصفهانی _ فالمفروض أنه خلاف مبناه. وإن کان المراد أن الوجود العلمی هو المحرّک، فهذا هو أوّل الکلام.

وأمّا أنّ العقاب بلا بیان من صغریات الظلم، لعدم قیام الحجّة علی المکلّف حتی تکون مخالفته خروجاً عن زیّ العبودیة فیکون ظلماً للمولی، بل هو ظلمٌ من المولی، وهو قبیح، ففیه:

أوّلاً: إنه لا یتمشّی علی مسلک قائله _ و هو المحقق الإصفهانی _ من أن مبنی الحسن والقبح هو بناء العقلاء حفظاً للنظام، لأن ذلک یتعلّق بعالم الدنیا، وکلامنا فی العقاب فی النشأة الأُخرویّة.

ص: 199

وثانیاً: إن مورد الکلام ما إذا احتمل المکلّف التکلیف فخالف. وکون العقوبة فی هذه الحالة ظلماً _ و خاصةً فی الامور المهمّة _ أوّل الکلام.

أقول:

وهکذا ناقش رحمه اللّه الوجوه التی أقامها المحققون لإثبات قاعدة قبح العقاب بلا بیان، و قال بالتالی: إنا لا نفهم هذه القاعدة المشهورة حسب تعبیره... و لم نجد فی کلامه دلیلاً علی جواز عقاب المولی الحقیقی للعبد علی التکلیف المحتمل... أللهمّ إلاّ أنه مالک له، و للمالک أن یتصرّف فی مملوکه کیفما شاء، ولا حقّ للعبد علی مولاه أصلاً، بل علیه یطیعه حتی فی تکالیفه المحتملة.

رأی السیّد الصّدر

وهذا ما عبّر عند السیّد الشهید الصّدر بقانون حقّ الطاعة، قال: لأن المولویّة عبارة عن حق الطّاعة، و حق الطّاعة یدرکه العقل بملاکٍ فی الملاکات، کملاک شکر المنعم أو ملاک الخالقیة أو المالکیّة، ولکنّ حق الطّاعة له مراتب، وکلّما کان الملاک آکد کان حق الطاعة أوسع... و مرجع البحث فی قاعدة قبح العقاب بلا بیانٍ إلی البحث عن أن مولویّة المولی هل تشمل التکالیف المحتملة أم لا، ولاشک أنه فی التکالیف العقلائیّة عادةً تکون المولویّة ضیّقة و محدودة بموارد العلم بالتکلیف. وأمّا فی المولی الحقیقی، فسعة المولویّة وضیقها یرجع فیها إلی حکم العقل العملی تجاه الخالق سبحانه، و مظنونی أنه بعد الإلتفات إلی ما بیّناه لا یبقی

ص: 200

من لا یقول بسعة مولویّة المولی الحقیقی بنحوٍ تشمل حتی التکالیف الموهومة، و من هنا نحن لا نری جریان البراءة العقلیّة.(1)

أقول:

ولکنْ بین الکلامین تفاوتٌ کبیر من جهةٍ أُخری، وذلک أن السیّد الاستاذ حاول دفع شبهة صدور الظلم من المولی الحقیقی فی عقابه للعبد علی مخالفة التکلیف المشکوک فیه، والشهید الصّدر یحاول توسعة دائرة مولویّة المولی الحقیقی لتشمل حتی التکالیف الموهومة، و حینئذٍ یتوجّه إلیه السّؤال عن أنه هل یلتزم بصحّة مؤاخذة المولی الحقیقی العبد علی التکلیف الموهوم وأنه لا یکون ظالماً بذلک؟

النظر فی کلام السیّد الاستاذ والسیّد الصدر

لایخفی إنّ مورد الکلام:

1. العبد المکلّف العادی، لا مثل الإمام أمیرالمؤمنین علیه السّلام الذی قال: إلآهی ما عبدتک خوفاً من نارک ولا طمعاً فی جنّتک بل وجدتک أهلاً للعبادة فعبدتک.

2. العبد المکلّف الذی هو بصدد القیام بوظیفة العبودیّة، لا العبد الذی یقصّر فی الوظیفة ولا یهتم إلاّ بالأحکام الواصلة إلیه بلا تحمّل مشقّة.

3. العبد المکلّف الذی فحص عن حکم المولی حتی حصل له الإطمینان بعدمه، و لم یکن فوت غرض المولی من الحکم مستنداً إلیه.

ص: 201


1- 1. بحوث فی علم الاصول. مباحث الحجج والاصول العملیّة 2/24.

فهل مجرّد احتمال التکلیف منجّز؟

إن من أغراض المولی ما لا یرضی بفواته حتی فی صورة الجهل، وحتی بعد الفحص والیأس، وحینئذٍ، لا مناص من أن یجعل المولی الإحتیاط لکی تحفظ أغراضه، وأمّا حیث لم یجعل الإحتیاط ینکشف عدم وصول غرضه إلی ذلک الحدّ من الفعلیّة، وإنما یرید تحقّقه فی صورة العثور علی حکمه بالفحص.

وما نحن فیه من هذا القبیل، لأنّ المولی یبیّن أحکامه ویوصلها إلی المکلّف بالطرق المتعارفة، ووظیفة العبد أنْ یفحص عنها حتی العلم أو الإطمینان بالعدم _ فلا یکفی الظن بعدم الحکم، لأنه لیس بحجّة شرعا وعقلاءً _ فإذا حصل له العلم أو الإطمینان بعدم البیان القابل للوصول، لم یکن للمولی أنْ یعاقبه، لعدم استناد فوت الغرض إلیه، لأنّ المفروض أداؤه حق المولی بالفحص عن حکمه وبیانه القابل للوصول إلیه وعدم عثوره علیه، ففی هذه الحالة، یعذّر العقل العبد ویقول بأنّ احتمال ثبوت حق الطّاعة فی هذه الحالة لیس بیانا لیکون رافعا لموضوع القاعدة.

هذا کلّه، مضافا إلی السّیرة العقلائیّة والإرتکاز العقلائی علی معذوریّة العبد فی ما إذا فحص عن الحکم واطمأنّ بعدم تکلیف المولی. ومن الواضح أن التکالیف الشرعیّة ملقاة إلی الناس علی طبق سیرتهم فیما بینهم، ولو کان الإحتمال بوحده منجّزا للزم علی الشّارع الرّدع عن هذه السّیرة، حتّی لا یطّبقها المکلّفون بحسب ارتکازهم تجاه الأحکام المولویّة الشرعیّة.

فالحق: تمامیّة قاعدة قبح العقاب بلابیان وفاقا لشیخنا الاستاذ دام بقاه.

ص: 202

النسبة بین القاعدة وقاعدة دفع الضرر

ووقع الکلام حول النسبة بین قاعدة «قبح العقاب بلا بیان» وقاعدة «وجوب دفع الضّرر المحتمل»

کلام المحقق الخراسانی

فقال صاحب الکفایة:(1)

إن کان المراد من «الضرر» هو «العقاب»، فإمّا العقل مستقلّ بقبح العقاب، وإمّا لا، فعلی الأوّل: لا موضوع لقاعدة وجوب دفع الضّرر تکوینا.

ولا یخفی أنه قال هنا بالورود، وهو مسامحة، لأن انتفاء الموضوع فی الورود یکون تعبّدا لا تکوینا، وهو هنا تکوینی یقینا. والأمر سهل.

وعلی الثانی، قال: لا حاجة إلی قاعدة وجوب دفع الضّرر، إذ یتحقق الإستحقاق فی صورة المصادفة.

یعنی: یکفی فی هذه الحالة انتفاء موضوع القاعدة وهو «العقاب المحتمل» ولا حاجة إلی محمولها وهو «الوجوب».

فظهر أنّ احتمال العقاب لا یبقی مع قبح العقاب بلا بیان. أی: ینتفی المحمول وهو «الوجوب» بانتفاء الموضوع وهو «احتمال العقاب»، ولا یمکن أنْ تکون قاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل «بیانا»، لأن احتمال العقاب متأخر رتبةً

ص: 203


1- 1. کفایة الاصول: 343.

عن «البیان»، فلا یمکن أن تکون قاعدة «وجوب دفع الضرر» بیانا، لتوقّفها علی البیانیّة، والبیانیّة متوقفة علی مجئ¨ المحمول _ وهو «الوجوب» _ علی الموضوع، وهو «احتمال العقاب». فیلزم الدور.

محتملات الوجوب

وتفصیل الکلام فی هذا المقام یتم بالنظر فی محتملات «الوجوب» فی هذه القاعدة، فنقول:

إن هذا الوجوب إمّا شرعی وإمّا عقلی.

لکنّه لیس بشرعی، فلا هو حکم شرعی ظاهری، ولا غیری، ولا نفسی، حتی یکون موردا لقاعدة الملازمة.

ولیس هو حکما عقلیّا نفسیّا، ولا غیریّا.

ولا یعقل أنْ یکون حکما عقلیّا طریقیّا، لأن الحکم الطریقی یترتب علیه استحقاق العقاب، والإستحقاق لا یفید القطع بالعقاب بل یفید احتماله، لأنّ العفو والشّفاعة محتملان کذلک، بل القطع باستحقاق العقاب یوجب احتمال العقاب، وهذا القطع یحصل إن کان الوجوب طریقیّا، أی کان بداعی تنجیز الواقع.

فظهر أن احتمال العقاب متأخّر عن الوجوب الطریقی، لکن موضوع القاعدة هو احتمال العقاب، فلو کان حکما عقلیّا طریقیّا لزم الدور، لأن احتمال العقاب موضوع وجوب الدفع، فلولا الإحتمال فلا وجوب. هذا من جهة. ومن

ص: 204

جهة اخری: لابدّ من تحقق الوجوب حتی یتم الإحتمال، لأن الوجوب یفید القطع باستحقاق العقاب فاحتماله، فتوقف الإحتمال علی الوجوب والوجوب علی الإحتمال. وهذا دور.

هل هو حکم عقلی إرشادی؟

قال الشیخ وصاحب الکفایة(1): نعم.

وقال المحقق الإصفهانی(2): لا، لأن الإرشادیّة تقابل المولویّة، وکلاهما من شئون الأمر، ولا یعقل الأمر للقوّة العاقلة، لأن شأن القوّة العاقلة هو الإدراک، فلا أمر ولا بعث للعقل، فلا إرشادیّة.

ویمکن الجواب: بأنّ الإرشادیّة من شئون الإخبار والإنشاء معا علی السّواء، ولیست من شئون الأمر فقط، فلو أخبر الطبیب حقیقةً بأن الدواء الفلانی نافع للدّاء الفلانی، اتّصف کلامه بالإرشادیة مع کونه إخبارا، فالعقل له الإرشادیّة وإنْ لم یکن له إلاّ الدرک، فله الإرشاد وإنْ لم یکن له المولویّة، ولا برهان علی عدم اتصاف إدراکاته بالإرشادیّة، والإرشاد یکون بالداعی، وهو تارةً الإنشاء، واخری الإخبار، وفی الخبر عَن النبیّ صلّی اللّه علیه وآله: «استرشدوا العقل ترشدوا»(3).

فالعقل مرشد، وما ذکره مندفع.

ص: 205


1- 1. فرائد الاصول: 214، کفایة الاصول: 343.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 90.
3- 3. کنز الفوائد 2 / 31، بحارالأنوار 1 / 96.

إلاّ أنّ الحکم الإرشادی للعقل _ الذی هو عبارة عن وجوب دفع العقاب المحتمل _ لیس بیانا، لأنه فی موضوع العقاب المحتمل، فلا یمکنه أنْ یحقّق احتمال العقاب وإلاّ یلزم الدّور المذکور سابقا، فإحتمال الإرشادیّة ساقط.

ویبقی احتمالان:

أحدهما: أنْ یکون حکما عقلیّا بملاک الحسن والقبح العقلیین.

والثانی: أنْ یکون حکما فطریّا جبلّیا.

رأی المحقق الإصفهانی

وأنکر الإصفهانی(1) الأوّل: بأن العقل یحکم بحسن العدل وقبح الظلم، وإلیهما تنتهی الأحکام العقلیّة فی باب الحسن والقبح، والحکمان المذکوران ناشئان من تطابق آراء العقلاء حفظا للنظام، وعلی هذا الأساس، فلا یمکن أن یکون وجوب دفع الضّرر المحتمل حکما عقلیّا، لأن العقلاء یمدحون ویذمّون والشّارع یعاقب ویثیب، والإقدام علی الأمر الممدوح علیه لیس موردا للمدح، وعلی المذموم علیه لیس موردا للذم، والإقدام علی الأمر المثاب علیه یقینا لیس علیه ثواب، کما أن الإقدام علی الأمر المعاقب علیه یقینا لیس بموردٍ للعقاب، فضلاً عن محتمل الثواب والعقاب، وذلک، لعدم القبح فی هذا الإقدام أو عدم الحسن فیه، بل الحسن هو العدل والقبیح هو الظلم.

ص: 206


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 90 _ 91.

فتلخص: أن الإقدام علی المحتمل لیس موردا لحکم العقل.

هذا أوّلاً.

وثانیا: الحکم العقلی بالحسن والقبح بملاک حفظ النظام، وأمّا العقاب، فأمر یرتبط بعالم الآخرة، فموضوع قاعدة احتمال العقاب هو العقاب الأُخروی، وحکم العقل بالحسن والقبح هو بملاک حفظ النظام العام الدنیوی. إذن، لا یلزم اختلال النظام من الإقدام علی القبیح حتی یکون دفع الإقدام حسنا.

أقول:

أمّا ما ذکره فی الوجه الثانی من أنّ الحکم بحسن العدل وقبح الظلم من الاعتبارات العقلائیّة من أجل حفظ النظام.

ففیه: إن الأمر لیس کذلک، بل إن العقل یدرک الحسن والقبح المذکورین، سواء کان هناک نظام أوْ لا. لکنّ هذا الإشکال مبنائی.

وأمّا ما ذکره أوّلاً فمتینٌ.

ویبقی قوله:

ولیس وجوب دفع الضّرر المحتمل عند العقلاء من قبیل التزامهم بالعمل بخبر الثقة والبیّنة والأخذ بالظاهر ونحو ذلک من البناءات العقلائیّة التی أمضاها الشّارع، لأنّ البناءات العقلائیّة مترتبة علی مصالح نوعیّة علاوةً علی مصلحة الواقع، ولیس وراء الثواب أو العقاب الواقعی مصلحة نوعیّة توجب بناء العقلاء علی الإلتزام بدفع العقاب المحتمل.

ص: 207

وفیه نظر:

لأنه یستلزم القول باستحقاق العقاب لمن تخلّف عن العمل بخبر الثقة فیما إذا طابق الواقع، لتحقّق مفسدة الواقع وفوت المصلحة النوعیّة الموجبة لبناء العقلاء علی العمل بخبر الثقة. وهذا المحقق لا یلتزم بتعدد العقاب. کما أنه إن لم یطابق الخبر الواقع، کان لازم ما ذکره استحقاق العقاب أیضا، لفوت المصلحة النوعیّة. وهو لا یلتزم بذلک أیضا.

هذا کلّه إن کان «الضرر» بمعنی «العقاب».

إنْ کان الضّرر بالمعنی المادّی

إنْ کان «الضّرر» بالمعنی المادّی

وإنْ کان المراد من «الضرر» هو المعنی المعروف.

فهل تکون قاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل بیانا، فتکون مانعةً عن قاعدة قبح العقاب بلا بیان؟

إن کان المراد من الضّرر هو الأعمّ من الضّرر المادّی _ النقص فی البدن والمال والعرض _ ومن الضرّر المعنوی، کان «الضرّر» متحدّا مصداقا مع «المفسدة». وإنْ کان الضّرر خصوص الضّرر المادّی، کانت النسبة بینه وبین المفسدة العموم والخصوص من وجه، لأنّ دفع الزکاة مثلاً ضرر _ بناءً علی القول بخروج النصاب عن الملک. وأمّا بناءً علی أن المکلّف لا یملک النصاب من الأوّل، فلا یصدق عنوان الضّرر _ لکنْ لیس فیه مفسدة بل مصلحة،

ص: 208

والمال المغصوب لیس ضررا بل نفع لکنْ فیه مفسدة، وقد یجتمع الأمران کما فی شرب المسکر.

وبعد: فإنه لابدّ:

من تمامیّة الصغری، وهی الضّرر.

ومن تمامیّة الکبری، وهی کون وجوب الدفع لا بالفطرة بل بحکم العقل.

أمّا من ناحیة الصغری، فإنّه لا ضرر فی الشّبهات الوجوبیّة، وکذا فی أکثر الشّبهات التحریمیّة، وإنْ کانت المفسدة موجودة فیها. نعم، قد یوجد الضّرر کما فی الإضرار بالنفس بناءً علی حرمته. هذا أوّلاً.

وثانیا: إنه مع احتمال الضّرر تعود الشبهة موضوعیّةً، إذ لیس الضّرر من الأحکام بل هو من الامور الخارجیّة، والبراءة جاریة فی الشبهة الموضوعیّة بالإتفاق. نعم، الإتفاق هو فی الشبهة الموضوعیّة التی لیس علی الشّارع بیانها بل المرجع فیها العرف، وأمّا التی یکون المرجع فیها هو الشّارع کالطهارة والنجاسة علی مسلک الشیخ والموضوعات المستنبطة، فلا تجری فیها البراءة.

وعلیه، ففی الضّرر الذی لا یکون المرجع فیه هو الشّارع، تجری البراءة، وفی قسمٍ من الضّرر المخفیّ علینا _ مثل الجهل بضرر لحم الحیوان الکذائی الذی منع الشّارع من أکله _ یکون المرجع هو الشّارع ولا تجری البراءة.

فالحق هو التفصیل، وأنه لیس المرجع هو الشّارع مطلقا، کما قال به بعضهم(1) مستشکلاً علی صاحب الکفایة.

ص: 209


1- 1. مصباح الاصول 2 / 287.

هذا کلّه فی الصغری.

وأمّا فی الکبری، فیقع الکلام فی الدّلیل علی وجوب دفع الضّرر المحتمل _ بالمعنی المذکور _ حتی یکون بیانا؟

إن الحکم العقلی تارةً: یکون بصورة درک الملاک، وحینئذٍ یستکشف منه الحکم الشرعی. واخری: یکون بصورة درک الحسن والقبح. وهذا تارةً: یکون فی طول الحکم الشرعی، مثل درکه حسن طاعة المولی وقبح معصیته، سواء انطبق عنوان العدل علی الطّاعة والظلم علی المعصیة أوْ لا، فحسن الطاعة یتفرّع علی وجود الحکم الشرعی من قبل أمرا أو نهیا. واخری: لیس فی طول الحکم الشرعی، مثل درکه حسن العدل وقبح الظلم، سواء کان هناک شرع أوْ لا.

والذی فی الطّول لا یمکن أن یکون موردا لقاعدة الملازمة، لبرهان اللّغویّة وبرهان التسلسل.

والذی لیس فی الطّول _ وهو ما کان من قبیل الحسن والقبح _ یمکن، إذ یمکن أن یکون للشارع حکم بعد درک العقل، لعدم اللّغویة، وذلک إنْ قلنا بأن العقل یدرک حسن العدل فقط، ولا حکم له باستحقاق العذاب علی مخالفة العدل، وأن موضوع استحقاقه هو حکم الشرع. فالملازمة فی هذه الصّورة تامة. کما أنّ لها مجالاً علی مبنی استحقاق العذاب بحکم العقل، لأن حکم الشّارع هنا یؤثر بالنسبة إلی من ینبعث من حکمه ولا ینبعث من درک العقل للإستحقاق، فلا لغویّة.

لکن المبنی باطل.

ص: 210

وأمّا الحکم العقلی الکائن بصورة درک الملاکات، فمورد للقاعدة کذلک، وللعقل أن یحیط بملاکٍ من جمیع الجهات فیحکم، فإن هذا ممکن وإنْ کان قلیلاً.

فظهر أنّ الملازمة تکون فی قسمین _ ولا تکون فی الحکم العقلی الذی فی طول الحکم الشرعی _ ، والفرق بینهما هو: إن الذی بصورة درک الملاک یضمّ إلیه قاعدة «إن الأحکام الشرعیّة ألطاف فی الواجبات العقلیّة» وهو بمعنی أن الأحکام الشرعیّة تابعة للملاکات، ولا دخل ههنا للحسن والقبح، وإنْ کانت المفسدة ملازمة للقبح والمصلحة ملازمة للحسن، لکن الملاک هو المصلحة أو المفسدة غیر المزاحمة، فالعقل یستکشف الحکم الشرعی بضمیمة القاعدة المذکورة.

وتلخّص: إن وجوب دفع الضّرر المحتمل لیس حکما عقلیّا فی طول الحکم الشرعی، فهو مورد لقاعدة الملازمة، بخلاف وجوب دفع العقاب المحتمل، فإنه فی الطّول ولایکون موردا للقاعدة.

هل یجب دفع الضّرر المادّی؟

وهل الضرر، بمعنی النقص المادّی یجب دفعه عقلاً؟

إن کان الضّرر متدارکا أو مقدّمة لحصول منفعة، فلیس بموردٍ لحکم العقل، وإنْ کان للشرع هناک حکم فذاک أمر آخر.

وإنْ لم یکن متدارکا ولا مقدمةً لمنفعةٍ ولا یترتب علیه مفسدة:

ص: 211

فربما یقال: بکونه موردا للحکم المذکور، لأنّ هذا الضّرر یقتضی القبح، فهو کالکذب، فإنه إذا خلا عن المصلحة کان قبیحا، وإذا حکم العقل بذلک حکم الشرع باستحقاق العقاب.

لکنه مشکل، بل المساعدة علی ما ذکر فی الکذب _ بقطع النظر عن الحکم الشرعی _ مشکلة أیضا، إذْ لا قبح عقلی فی کذبٍ لا یترتب علیه مفسدة ولا مصلحة بحیث یستتبع حکما شرعیّا، والعقل یفرّق بین تضییع الإنسان لمالٍ یخصّه بلا مصلحة ومفسدة وبین ضرب الیتیم تشفیّا، ولا یجعل کلیهما ظلما، بل الثانی عنده ظلم دون الأوّل.

نعم، لا مناص من تصدیق حکم العقل فی کلّ موردٍ صدق فیه عنوان «الظلم بالنفس»، کما لو أوجد فی بدنه نقصا غیر قابل للارتفاع، فإنه یحکم العقل فیه بالقبح، بل لا فرق بین النفس والغیر، ویشهد بعدم الفرق قوله تعالی: «وَما ظَلَمُونا وَلکِنْ کانُوا أَنْفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ»(1) ونحوه غیره. وهذا القبح العقلی ملازم لاستحقاق العقاب.

فالحق هو التفصیل بین القول بأنه قبیح لاقتضائه القبح کالکذب، وبین القول بعدم القبح فی الضّرر الدنیوی مطلقا، وإنّما هو مجرّد عمل سفهی لغو وقبیح عقلاءً ولا یستلزم عقابا.

هذا کلّه بالنسبة إلی الضّرر الدنیوی الواقعی.

ص: 212


1- 1. سورة البقرة، الآیة: 57.

وأمّا الضّرر الدنیوی المحتمل، ففی حکم العقل بوجوب دفعه کلام. فأمّا الذی لا یحکم العقل بوجوب دفعه مع کونه واقعیّا، فلا کلام فی عدمه فی محتمله، وأمّا الذی للعقل فیه حکم بوجوب الدفع، مثل الظلم الکبیر بالنفس فإشکال:

من أنه یحتمل الضّرر وترتب المفسدة.

ومن أنه یحتمل أن تکون فیه مصلحة التوسعة والتسهیل من الشّارع، فتکون تلک المصلحة مزاحمة للمفسدة المحتملة.

ومثل هذا الضّرر المحتمل المزاحم لا یکون موضوعا لقاعدة وجوب الدفع عقلاً، لأن موضوعها هو الضّرر المحتمل بلا مزاحمة مصلحة محتملة. نعم، لا یبعد الحکم العقلی فیما إذا کان الضّرر المحتمل کبیرا، مثل احتمال وقوع النفس فی خطر الموت، وهل یکون الحکم العقلی حینئذٍ بیانا لتسقط قاعدة قبح العقاب بلا بیان؟

إن حکم العقل فی هکذا موردٍ أثره الوقوع فی الخطر إذا خالف علی تقدیر المصادفة، ولکنْ لا یکون بیانا مستتبعا لاستحقاق العقاب حتی تسقط به القاعدة.

ووجه عدم البیانیّة هو: إنّ هذا الحکم العقلی لحفظ الإنسان من الوقوع فیالدنیوی، فإذا خالف وقع فیه، ولا أثر أُخروی لهذا الحکم إلاّ إذا صار مورد قاعدة الملازمة، فیکون الأثر الأُخروی للحکم الشرعی الملازم.

ص: 213

حکم الإضرار بالنفس

وذهب المحقق الإصفهانی(1) إلی عدم قبح الإضرار بالنفس، واستدلّ بوجهین:

الأول:

إنّ حکم العقل بحسن العدل وقبح الظلم إنما هو لأجل حفظ المصالح العامّة وتحصیلها لأجل حفظ النظام وحمل الناس علی حفظ حقوق الآخرین. وأمّا الضّرر والنفع الشخصیین فلا حاجة إلی الحسن والقبح بالإضافة إلیهما، لوجود الداعی الجبلّی للإنسان إلی جرّ النفع إلی نفسه ودفع الضّرر عنها، فلا موضوع للتحسین والتقبیح من العقل مع وجود الداعی المذکور.

الثانی:

إنه لو کان الإضرار بالنفس من باب الظلم لکان القبح موجودا حتی مع ترتّب المنفعة والمصلحة کما هو الشأن فی الإضرار بالغیر، فإنه ظلم قبیح حتی مع ترتّب المنفعة. لکنّ الإضرار بالنفس ینتفی قبحه _ لو کان قبیحا _ فی صورة ترتّب النفع علیه.

أقول:

إنّ الظلم هو التعدّی علی الحق والتجاوز عن الحدّ، سواء کان علی النفس أو الغیر، إذْ لا دخل للغیر والنفس فی مفهوم الظلم. وإنّ لنفس الإنسان وما یتعلّق به

ص: 214


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 95 _ 97.

حقّا علی الإنسان، فإذا لم یؤدّ الحق کان ظلما، ویشهد بذلک الکتاب والسنّة والعقل واللّغة والعرف.

فالظلم بالنسبة إلی النفس موجود.

فإن قیل: هو ظلم ولیس قبیحا.

قلنا: قبح الظلم ذاتی.

وأمّا قوله:

إن التحسین والتقبیح العقلیین یکونان فی مورد عدم الدّاعی، وفی الإضرار بالنفس یوجد الدّاعی إلی الترک.

ففیه:

إنه لا برهان علی ذلک، بل من الناس من یوجد عندهم الداعی إلی الإنزجار عن الإضرار بالغیر أکثر وأقوی من الإضرار بالنفس، فیلزم أنْ لا یوجد التحسین والتقبیح العقلیّان بالنسبة إلیهم فی الإضرار بالغیر، وکذا الأمر بالنسبة إلی الأفراد الذین یوجد عندهم الداعی إلی إیجاد المصلحة والمنفعة لغیرهم أکثر من أنفسهم... والإصفهانی لا یلتزم بهذا.

وأمّا ما ذکره ثانیا من تبدّل العنوان بترتّب المنفعة.

ففیه: إنّ التصرّف فی مال الغیر سلطنة علی ذلک المال، وهو ظلم وإنْ ترتّب علی ذلک التصرّف منفعة، ویشهد بذلک ارتفاع عنوان الظلم بمجرّد الرّضا والإذن

ص: 215

فی التصرّف وإنْ لم تکن المصلحة، وبقاء عنوان الظلم مع عدم الإذن والرّضا وإنْ حصل النفع.

وأمّا بالنسبة إلی النفس، فبما أنه لا یحتاج إلی الإذن، فإنه بترتّب المنفعة یتبدّل العنوان ویخرج عن الظلمیّة.

وإنْ کان «الظلم» بمعنی «المفسدة».

ففی المفسدة القطعیّة، لا ریب فی حکم العقل، لانطباق عنوان الظلم، والظلم قبیح. هذا من جهة.

ومن جهة اخری: تکشف المفسدة إنّا عن الحکم الشّرعی بقانون الملازمة.

وفی المفسدة المحتملة، یختصّ وجوب الدّفع بالمحرّمات، وقاعدة قبح العقاب بلا بیان جاریة فی الواجبات والمحرّمات، فالدّلیل أخصّ من المدّعی، فلا تکون قاعدة وجوب دفع الضّرر بیانا لقاعدة قبح العقاب.

ولکنّ دعوی حکم العقل بوجوب دفع المفسدة المحتملة مع وجود المصلحة المزاحمة، مشکلة جدّا. نعم، لا مانع منها مع عدم احتمال المصلحة المزاحمة، لکنّ إقامة البرهان العقلی علی ذلک فی غایة الإشکال، لأن عنوان «الظلم» متقوّم بالقصد والإلتفات، فاحتمال الظلم محال، وکذا العدل. ولذا لا یعقل الشبهة الموضوعیّة فی موضوعات الأحکام العقلیّة، لأن الموضوع العقلی متقوّم بالوجدان العقلی، ولا یعقل الشک فیه حتی یتمسّک بدلیل قبح الظلم.

ص: 216

وهل للعقل الحکم بالإحتیاط هنا؟

لا یمکن إقامة البرهان علیه. نعم، السّیرة العقلائیّة قائمة علی الإجتناب من المفسدة المحتملة، وحیث لا یکون ردع تکون السّیرة بیانا فتقدّم علی قاعدة قبح العقاب.

وتلخّص: إنه لولا تمامیّة أدلّة البراءة، لکانت السّیرة غیر المردوعة القائمة علی الإحتیاط بیانا، لکنّها لمّا تمتّ تکون رادعة عن السّیرة.

وصاحب الکفایة(1) جعل مطلق محتمل المفسدة غیر واجب الدفع عقلاً وشرعا، والشاهد علی ذلک إقدام العقلاء، وأنّ الشّارع قد جوّز ذلک، ولو کان قبیحا لما جوّزه، فیظهر عدم قبحه قطعا.

لکنّ هذه الدعوی علی إطلاقها ممنوعة. نعم، لیس بناء العقلاء علی الإجتناب عن مطلق المفسدة، فالحق هو التفصیل.

وأمّا التجویز الشّرعی، فیکشف عن مزاحمة المصلحة الأقوی، وهی مصلحة التسهیل، للمفسدة المحتملة، وهذا التجویز لا یدلّ علی عدم وجوب دفع تلک المفسدة لولا المزاحمة، وبحثنا فی مطلق احتمال المفسدة، سواء اُحرز المزاحم أوْ لا.

ص: 217


1- 1. کفایة الاصول: 344.

تلخّص:

إن قاعدة قبح العقاب تامة. ولا بیان لا من جهة حق الطّاعة ولا من قاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل، فإن فی هذه القاعدة تفصیلاً.

فالبراءة العقلیّة تامّة.

کما أن البراءة الشرعیّة تامّة بحدیث الرفع.

وهذا تمام الکلام فی البراءة.

والحمدللّه.

ص: 218

الإحتیاط

اشارة

ص: 219

ص: 220

استدلّ المحدّثون لوجوب الإحتیاط بالأدلّة الثلاثة.

1. الکتاب، وهی آیات.

2. السنّة، وهی فی الکفایة ومصباح الاصول طائفتان، وعند المیرزا ثلاثة، وعند العراقی خمسة.

3. العقل.

الکتاب

الاستدلال بالکتاب للإحتیاط

اشارة

استدلّ من الکتاب العزیز بطائفتین من الآیات:

الأُولی: الآیات الناهیة عن القول بغیر علمٍ وأنه افتراء علی اللّه:

کقوله تعالی: «إِنْ عِنْدَکُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَی اللّه ِ ما لا تَعْلَمُونَ»(1)

وقوله: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُکُمُ الْکَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَی اللّه ِ الْکَذِبَ»(2)

ص: 221


1- 1. سورة یونس، الآیة: 68.
2- 2. سورة النحل، الآیة: 116.

وقوله: «قُلْ آللّه ُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللّه ِ تَفْتَرُونَ»(1)

والثانیة: الآیات الآمرة بالتقوی. وسیأتی ذکر بعضها فی کلام الشیخ.

کلام الشیخ

قال الشیخ:

فمن الکتاب طائفتان:

إحداهما: ما دلّ علی النهی عن القول بغیر علمٍ. فإن الحکم بترخیص الشّارع المحتمل الحرمة قول علیه بغیر علم وافتراء، حیث أنه لم یؤذن فیه. ولا یرد ذلک علی أهل الإحتیاط لأنهم لا یحکمون بالحرمة وإنما یترکون لاحتمال الحرمة، وهذا بخلاف الإرتکاب، فإنه لا یکون إلاّ بعد الحکم بالرّخصة والعمل علی الإباحة.

والاخری: ما دلّ بظاهره علی لزوم الإحتیاط والإتّقاء والتوّرع، مثل ما ذکره الشهید فی الذکری(2) فی خاتمة قضاء الفوائت... وهی قوله تعالی: «اتَّقُوا اللّه َ حَقَّ تُقاتِهِ»(3) و «جاهِدُوا فِی اللّه ِ حَقَّ جِهادِهِ»(4) ... «فَاتَّقُوا اللّه َ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(5) و

ص: 222


1- 1. سورة یونس، الآیة: 59.
2- 2. ذکری الشیعة 2 / 444.
3- 3. سورة آل عمران، الآیة: 102.
4- 4. سورة الحج، الآیة: 78.
5- 5. سورة التغابن، الآیة: 16.

«لا تُلْقُوا بِأَیْدیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ»(1) و «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّه ِ وَالرَّسُولِ».(2)

أجاب الشیخ:

أمّا من الآیات الناهیة من القول بغیر علم _ مضافا إلی النقض بشبهة الوجوب والشبهة فی الموضوع _ فبأن فعل الشئ المشتبه حکمه اتّکالاً علی قبح العقاب من غیر بیان المتّفق علیه بین المجتهدین والأخباریین لیس من ذلک.

وأمّا عمّا عدا آیة التهلکة، فبمنع منافاة الإرتکاب للتقوی والمجاهدة، مع أن غایتها الدلالة علی الرجحان علی ما استشهد به الشهید.

وأمّا عن آیة التهلکة، فبأن الهلاک بمعنی العقاب معلوم العدم، وبمعنی غیره یکون شبهة موضوعیّة لا یجب فیها الإجتناب بالإتفاق.(3)

کلام صاحب الکفایة

وقد أشار صاحب الکفایة إلی الآیات، وأجاب عن الإستدلال بها، وهذه عبارته:

أمّا الکتاب، فبالآیات الناهیة عن القول بغیر علم، وعن الإلقاء فی التهلکة، والآمرة بالتقوی.

ص: 223


1- 1. سورة البقرة، الآیة: 195.
2- 2. سورة النساء، الآیة: 59.
3- 3. فرائد الاصول: 205.

والجواب: إنّ القول بالإباحة شرعا وبالأمن من العقوبة عقلاً، لیس قولاً بغیر علم، لما دلّ علی الإباحة من النقل وعلی البراءة من حکم العقل، ومعهما لا مهلکة فی اقتحام الشبهة أصلاً، ولا فیه مخالفة للتقوی، کما لا یخفی.(1)

أقول:

ولاحاجة بعد هذا إلی التطویل والإسهاب فی بیان الإستدلال والجواب.

السُنّة

الاستدلال بالسنّة للاحتیاط

اشارة

وتعرّض الشیخ للأخبار المستدل بها علی الإحتیاط وأجاب عنها بالتفصیل، وتبعه المتأخّرون عنه فی ذلک، ونحن نطرح أهمّ البحوث وننظر فی الکلمات و نتأمّل فیها.

1. الأخبار الآمرة بالتوقّف عند الشبهة
اشارة

وهی لا تحصی کثرةً _ کما ذکر الشیخ _ کقوله علیه السّلام فی مقبولة عمر ابن حنظلة: إذا کان ذلک فأرجه حتی تلقی إمامک، فإنّ الوقوف عند الشّبهات خیر من الإقتحام فی الهلکات.(2)

وقوله _ فی روایات عدّةٍ _ : الوقوف عند الشبهة خیر من الإقتحام فی الهلکة.(3)

ص: 224


1- 1. کفایة الاصول: 344.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم: 1.
3- 3. المصدر 27 / 154. باب وجوب التوقف والاحتیاط...

وفی موثقة مسعدة بن زیاد عن أبی عبداللّه عن أبیه عن آبائه عن النبی صلّی اللّه علیه وآله: لا تجامعوا فی النکاح علی الشبهة، وقفوا عند الشبهة... فإنّ الوقوف عند الشبهة خیر من الإقتحام فی الهلکة.(1)

وفی روایة جمیل عن الصّادق علیه السّلام عن آبائه أنه قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله: الامور ثلاثة، أمر بیّن رشده فاتّبعه، وأمر بیّن لک غیّه فاجتنبه، وأمر اختلف فیه فردّه إلی اللّه عزّ و جلّ.(2)

جواب الشیخ

ثم إنّ الشیخ رحمه اللّه أجاب عن الإستدلال بهذه الطائفة من الأخبار بما ملخّصه:

إن بعضها مختصٌّ بما إذا کان المضیّ فی الشبهة اقتحاما فی الهلکة، ولا یکون ذلک إلاّ مع عدم معذوریّة الفاعل، لأجل القدرة علی إزالة الشبهة بالرجوع إلی الإمام أو إلی الطرق المنصوبة عنه.

وبعضها وارد فی مقام النهی عن ذلک، لاتّکاله فی الامور العملیّة علی الإستنباطات العقلیّة الظنیّة.

أو لکون المسألة من الإعتقادیّات.

ص: 225


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 159.
2- 2. المصدر 27 / 162.

وبعضها ظاهر فی الإستحباب.

قال الشیخ: وملخّص الجواب عن تلک الأخبار: إنه لا ینبغی الشک فی کون الأمر فیها للإرشاد، من قبیل أوامر الأطبّاء المقصود منها عدم الوقوع فی المضارّ، إذ قد تبیّن فیها حکمة طلب التوقّف...(1)

جواب الکفایة

وأجاب صاحب الکفایة بقوله: إنه لا مهلکة فی الشبهة البدویّة مع دلالة النقل علی الإباحة وحکم العقل بالبراءة علی ما عرفت.(2)

أقول:

إنّ الجواب عن أخبار التوقّف: بأنّ الموضوع فی بعضها هو «الهلکة» وإن جاء بصورة العلّة، ولا هلکة مع أدلة البراءة.

التحقیق فی المقام

وفی بعضها «الشبهة»، وهی أیضا منتفیة بتعیین الشّارع والعقل الوظیفة وهی الإباحة والبراءة، وأنه مع ذلک لا تبقی «شبهة».

ویشهد بذلک عدم الرجوع إلی أخبار القرعة مع وجود الحکم الظاهری من الإستصحاب أو البراءة، لأن موضوعها هو «الشبهة»، ومع الحکم الظاهری لا تبقی «شبهة».

ص: 226


1- 1. فرائد الاصول: 206 _ 207.
2- 2. کفایة الاصول: 345.

وهذا الجواب متینٌ علی القاعدة.

إلاّ أن روایة مسعدة بن زیاد _ وهی معتبرة _ لا تساعد علی ذلک، لأنه قد اُمر فیها بالتوقّف، معلّلاً بأنه خیر من الإقتحام فی الهلکة، مع وجود الإستصحاب فی المورد، لجریان استصحاب عدم الرضاع واستصحاب عدم تحقّق النّسب.

فالجواب المذکور مخدوش.

وأمّا الجواب بالحمل علی الإستحباب، فقد استقربه المیرزا(1) أیضا، لأنّه علی أثر الوقوف عند الشبهة تحصل فی النفس حالة معنویّة تحمل الإنسان علی الإحتیاط وتحفظه عن الإقتحام فی الهلکات، کما أن ترک المکروهات یسهّل الإحتراز عن المحرّمات، وترک الصغائر یسهّل الإحتراز عن الکبائر. وحاصل ذلک: کون الأوامر استحبابیّةً، فلا تفید وجوب الإحتیاط فی الشّبهات البدویّة بعد الفحص. وقد ادّعی الإستفاضة أو التواتر للأخبار المستفاد منها هذا المعنی.

ولکنّ دعوی التواتر بل الإستفاضة لتلک الأخبار لا یخفی ما فیها.

ثم إنّ الحمل علی الإستحباب لا تساعد علیه مقبولة عمر بن حنظلة: «أرجه حتی تلقی أمامک» وذلک:

لأنه لا یخلو أن یکون موردها هو «الحاکم» أو «المفتی»، لکونها تدلّ علی الإحتیاط عند تعارض الخبرین. أمّا «المجتهد»، فإنه حینئذٍ لا حجّة عنده، فیجب علیه الإحتیاط وتحرم الفتوی لأنها بغیر علم، ولذا نقول بالتعارض _ علی تقدیر

ص: 227


1- 1. فوائد الاصول 3 / 374.

کون موردها «المفتی» _ بین المقبولة وما دلّ علی التخییر فی الخبرین المتعارضین، لأن مورد هذه الأخبار هو المفتی بلا کلام. وأمّا «الحاکم» فلا یجوز له القطع فی الحکم.

فالمقبولة علی کلّ حال دالّة علی وجوب الإحتیاط، ولا تحمل علی الإستحباب.

نعم، لا مانع من حمل خبر مسعدة بن زیاد(1) المتقدّم علی ذلک.

هذا أوّلاً.

وثانیا: لا ریب فی کون أخبار الوقوف نصّا فی الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی والبدویّة قبل الفحص، لأن هاتین الشبهتین هی القدر المتیقّن، وحمل الأمر بالوقوف فیهما علی الاستحباب غیرتام، بل هو _ أی التوقف _ فیهما واجب یقینا.

جواب المحقق الإصفهانی

وقربّ المحقق الإصفهانی(2) الإستدلال بأخبار الوقوف: بأنّ وجوب الوقوف إمّا نفسی وإمّا ارشادی وإمّا طریقی. وعلی الأخیر: إمّا تکون «فإن الوقوف» تفریعا وإمّا تکون تعلیلاً.

ص: 228


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 159.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 101.

(قال): أمّا الوجوب النفسی، فغیر معقول، بوجهین.

الأوّل: إنه إن کان نفسیّا، یلزم أن یکون المشتبه أسوء حالاً من الحرام، لأن فی ارتکاب الحرام عقابا واحدا، أمّا فی ارتکاب المشتبه فعقابان، أحدهما لمخالفة الأمر بالوقوف، والآخر لارتکاب الحرام الواقعی.

والثانی: إن عنوان «الوقوف» و«الإحتیاط» لا یقبلان النفسیّة بحسب الظهور اللّفظی، لأنّ ملاک التوقف والإحتیاط فی مورد الشبهة هو التحفّظ علی المصالح وعدم إلقاء النفس فی المفاسد الواقعیّة.

وأمّا الوجوب الإرشادی، فهو ممکن، ولکنْ لا یکون دلیلاً علی وجوب التوقّف فی الشبهة البدویّة، لأن «الهلکة» لابدّ وأنْ تکون مفروضة الوجود حتی یکون الأمر بالتوقف إرشادیّا من أجل عدم الوقوع فیها، ومن هنا یتّضح عدم تحقق الهلکة من ناحیة الأمر بالتوقف. وعلی هذا، لایکون الأمر بالتوقف بناءً علی الإرشادیّة قابلاً للتنجیز والوجوب واللّزوم.

وأمّا الوجوب الطریقی، وهو کون الأمر بالوقوف مجعولاً بداعی تنجیز الواقع، لکنّ ظاهر الأخبار هو کون وجوب التوقف منبعثا من الهلکة والعقاب، مع أنه لابدّ من وجود الهلکة من قبل، فیلزم البیان بنحوٍ یتم المطلب علی الطریقیّة، وذلک یکون:

إمّا بجعل «فإن الوقوف...» متفرّعا، بمعنی تفرّع العقاب علی الوقوف فیکون الأصل: قف. والفرع: إن الوقوف، فالهلکة متفرّعة علی وجوب الوقوف.

ص: 229

وعلی هذا التفسیر، یتم الإستدلال بهذه الأخبار علی وجوب الإحتیاط، لأنّ «الشبهة» حینئذٍ تختصّ بالبدویّة، لأن فیها فقط یتفرّع العقاب علی وجوب الوقوف. أی: بالمخالفة للأمر بالوقوف یقع الإنسان فی الهلکة والعذاب... وبناءً علی هذا، لا تعمّ «الشبهة» للمقرونة بالعلم الإجمالی، لأن العقاب غیرمتفرّع فیها علی مخالفة الأمر بالوقوف، بل علی مخالفة العلم الإجمالی. وکذا البدویّة قبل الفحص، لأن الحاکم بالإستحقاق فیها هو العقل. ویکون حاصل ذلک عدم صلاحیّة هذه الأخبار للإستدلال فی الشبهتین.

وإمّا بجعل: «فإن الوقوف...» تعلیلاً، فتکون «الهلکة» علّة لوجوب التوقف. وفی «البدویّة» لا «هلکة» قبل «الأمر بالوقوف»، فالاستدلال حینئذٍ لا یتم إلاّ بجعل «الهلکة» بمعنی «العقاب» وأن المراد من الشبهة جمیع الشّبهات لا خصوص «البدویّة». وحینئذٍ یثبت العقاب فی البدویّة ویتم الإستدلال.

لکنْ ما هو الملاک لوجود «العقاب» فی البدویّة مع «عدم البیان»؟

لابدّ من أجل حفظ الکلام عن اللّغویة أن یقال: باستکشاف الإنسان من هذه الأوامر أن الشّارع قد جعل وجوب الإحتیاط من قبل، بداعی تنجیز الواقع. ولو قیل: هذا المنکشف غیرواصل فکیف یکون منجزّا؟ قلنا: وجوب الإحتیاط المشار الیه ینجزّ الواقع بمعلوله وهو الأمر بالوقوف، فإذا وصل کذلک، کان الإحتیاط فی الشبهة البدویّة واصلاً.

هذا ملخّص ما ذکره فی تقریب الإستدلال.

ص: 230

ثم أجاب بما ملخّصه:

إنّ شمول عنوان «الشبهة» فی النصوص للشبهة البدویّة غیرواضح. نعم مقتضی الجمع المحلّی باللاّم فی مقبولة عمر بن حنظلة هو الشمول، و«الهلکة» فیها هو «العقاب»، سواء کانت فی مورد «الحاکم» أو «الفقیه»، لأن الإحتیاط فی الخبرین المتعارضین واجب والتخلّف یوجب العقاب، فالهلکة بمعنی العقاب والشبهة عامّة، لکنّ خصوصیّة المورد فی المقبولة هی التی اقتضت أن تکون الهلکة بمعنی العقاب.

وأمّا خبر مسعدة، فإن جریان قاعدة الحلّ فی مورده واضح، فالهلکة فیه بمعنی المفسدة لا العقاب، وعلیه، یکون قوله: «فإن الوقوف...» فی المقبولة وخبر مسعدة بوزانٍ واحدٍ وهو «الإرشاد»، فإنّ کان منجزّا فالعقاب وإلاّ فالمفسدة.

وتحصّل: إن الأمر بالوقوف إرشادی لا طریقی، فلا یتنجّز فی الشبهة البدویّة، والهلکة أعم من العقاب، خلافا لصاحب الکفایة والمیرزا، إذ جعلاها بمعنی العقاب فقط.

الکلام حوله

أقول:

أوّلاً: إنّ حمل الأمر بالوقوف علی الوجوب النفسّی، لا یستلزم أن تکون الشبهة أسوء حالاً من الحرام الواقعی، لأن معنی النفسیّة نشوء الوجوب من

ص: 231

المصلحة فی نفس الإحتیاط، وعلیه، فلا بیانیّة لوجوب الإحتیاط بالنسبة إلی الواقع، وحیث لابیان، فلا عقاب علی المخالفة، لقبح العقاب بلا بیان، فلو خالف لم یترتب إلاّعقاب واحد من أجل مخالفة الأمر بالوقوف. فالمخالفة واحدة والعقاب واحد ولا أسوئیّة.

وثانیا: إن القول بتمامیّة الإستدلال بناءً علی حمل الأمر علی الوجوب الطریقی، لإطلاق «الشبهة» وکون الهلکة بمعنی العقوبة.

فیه: إنه مستلزم للدّور، وقد تفطّن له المحقّق العراقی،(1) لأن تمامیّة الاستدلال المذکور تتوقف علی إطلاق «الشبهة»، وإطلاقها یتوقف علی تحقق البیان بالنسبة إلی الشبهة البدویّة، وتمامیّة البیان تتوقف علی الإطلاق، لأن المفروض عدم البیان إلاّ من جهة الإطلاق.

ولکنّ التحقیق: إن هذا الدور یقع فیما إذا کان التنجیز بالوصول، وأمّا بناءً علی تحقّقه بالمعرضیّة للوصول وعدم اشتراط الوصول، فلا، لأن الإحتیاط المجعول بالنسبة إلی الأحکام الواقعیّة له قابلیّة الوصول بقوله «قف»، والمفروض کفایة القابلیّة، وبذلک یتم الاستدلال، لأنا نقول بکاشفیة أخبار الإحتیاط حینئذٍ عن وجود المنجزّ القابل للوصول. ویشهد بذلک کفایة مجرّد قابلیّة الأخبار الإحتیاطیّة فی الشبهة قبل الفحص للمنجزیّة، ومع کفایة القابلیّة لذلک لا یلزم الدّور.

وثالثا: إن ما ذکره من دلالة الجمع المحلّی باللاّم علی العموم، أوّل الکلام، فإن المحقق الإصفهانی نفسه لا یقول بذلک کما هو التحقیق.

ص: 232


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 245.
العود إلی کلام الشیخ القائل بالإرشاد

قال الشیخ: بدوران أمر أخبار الوقوف بین الحمل علی الإرشاد والتخصیص (قال) والأوّل أولی.

أقول:

إنّ المدّعی هو الصّحیح کما سیظهر، لکنّ الکلام فی وجه الأولویّة، لأنه:

إنْ کان الوجه إباء الأخبار عن التخصیص، فقد جاء الترخیص فی الإقتحام فی الشبهة الموضوعیّة والشبهة الوجوبیّة، والترخیص لا ینافی کون الوقوف خیرا من الإقتحام. إذن، لیس فی المقام تخصیص یأبی عنه لسان الأخبار، بل لا مانع عقلاً وشرعا عن أن ینصّ علی الترخیص مع أمره بالوقوف، بأنْ یقول مثلاً: قف عند الشبهة الوجوبیّة فإن الوقوف عندها خیر من الإقتحام، لکنّک مرخّص. وعلی هذا المنوال جاء خبر مسعدة، حیث اشتمل علی قوله: «فإن...» مع وجود الإذن فی الإقتحام، وإذا لم یکن مانع من الجمع بین التعلیل والإذن فی الإقتحام بالتنصیص، فکیف یکون المانع مع التعلیل الإطلاقی؟

وإنْ کان الوجه لزوم تخصیص الأکثر، ففیه:

أوّلاً: إن محذور تخصیص الأکثر یکون فی القضایا الخارجیّة، لأن الحکم فیها یأتی علی الأفراد، وأمّا فی القضایا الحقیقیّة، ففیه بحث وکلام، لأن الحکم یأتی علی العنوان.

وثانیا: سلّمنا، لکن الشیخ یری عدم المحذور، ومن قال فی قاعدة لا ضرر

ص: 233

بأنّ تخصیص الأکثر إن کان بعنوان واحدٍ فلا مانع منه. ینتقض علیه: بأنّ الشبهة الوجوبیّة والشبهة الموضوعیّة خارجان بعنوان واحد من تحت: قف عند الشبهة، والعنوان هو: ماله مؤمّن.

وأمّا الحمل علی الإرشاد من جهة عدم ترتب العقاب علی مخالفة هذا الأمر.

ففیه: إن عدم ترتب العقاب علیه لایستلزم کونه إرشادیا، فإن الأمر المولوی الطریقی أیضا لا یترتب علی مخالفته العقاب، فعدم الترتب لازم أعم.

هذا ما یتعلّق بکلمات الشیخ.

الحمل علی الإرشادیّة هو الصحّیح

قال شیخنا: والحق: إنّ مدّعاه هو الصحیح وإنْ لم یتم استدلاله، وذلک:

لأنّ «التهلکة» أعمّ من العقاب والمفسدة، خلافا للکفایة، لأنّها طبّقت علی المفسدة فی خبر مسعدة، وفی المقبولة اُطلقت علی المخالفة العملیّة المحرّمة، وهی أعمّ من المنجّزة وغیرالمنجّزة.

ثم إنّ أخبار الوقوف علی ثلاثة أقسام، منها: ما اشتمل علی العلّة فقط. ومنها ما اشتمل علی المعلول فقط. ومنها ما اشتمل علی کلیهما.

قالوا: إن مقتضی مقام الشارعیّة هو الحمل علی المولویّة إلاّ لقرینةٍ تقتضی الحمل علی الإرشادیّة. هذا من حیث الکبری.

ص: 234

ثم إنّ قوله علیه السّلام: «من ترک الشّبهات فهو للحرام أترک»(1) یحتمل المولویّة، من جهة دلالته علی أن للوقوف ملاکا ومصلحةً نفسیّةً وهو حصول الأترکیّة للإثم. ویحتمل الإرشادیّة، من جهة کون الأترکیّة لحفظ الواقع.

لکن السّند غیرمعتبر.

وأمّا المقبولة، فقد طبّق فیها «الهلکة» علی «العقوبة» خاصّةً، لکنْ یمکن الاستدلال بقوله فیها: «... وهلک من حیث لا یعلم»، لأنه ظاهر فی الوقوع فی الحرام واستحقاق العقاب من حیث لا یعلم، فکان الغرض من المنع عن ارتکاب الشبهة هو عدم الوقوع فی الحرام، وحیث أنّ «الشّبهات» تعمّ البدویّة، و«الهلاک من حیث لا یعلم» یکون فی ارتکاب المحرّمات غیرالمنجّزة، فالمقبولة مطلقة تعمّ العقاب والمفسدة معا. وهذا الإطلاق محکّم، ولا وجه للتقیید بالعقوبة، فأصبحت المقبولة مثل روایة مسعدة. ولمّا لم تکن «الهلکة» بمعنی «العقوبة» خاصّةً، فالأمر لیس مولویّا، لأنّ المولویّة والإرشادیّة متقابلان، فلا یجتمعان فی کلام واحد. هذا من جهة. ومن جهة اخری، فإنه لیس للهیئة فی مقام الإثبات إلاّ مدلول واحد، فلا یمکن إرادة المعنیین من «قف»، فأمّا الحمل علی المولویّة فلم یتم، والمولویة والإرشادیّة لایجتمعان کما تقدّم، فالأمر إرشادی.

فالحق مع الشیخ، وقد ظهر ما فی کلام الکفایة والإصفهانی.

هذا تمام الکلام فی أخبار الوقوف.

ص: 235


1- 1. مجموعة ورّام 2 / 33.
2. الأخبار الآمرة بالإحتیاط
اشارة

2. الأخبار الآمرة بالإحتیاط

وهی کثیرة کذلک.

منها: صحیحة عبدالرحمن بن الحجّاج، قال: «سألت أبا الحسن علیه السّلام عن رجلین أصابا صیدا وهما محرمان، الجزاء بینهما أو علی کلّ واحد منهما جزاء؟ قال: لا، بل علیهما أن یجزی کلّ واحد منهما الصید. قلت: إن بعض أصحابنا سألنی عن ذلک فلم أدر ما علیه؟ قال: إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعلیکم بالإحتیاط حتی تسألوا عنه وتعلموا.(1)

جواب الشیخ عن الاستدلال بصحیحة عبدالرحمن

جواب الشیخ عن صحیحة عبدالرحمن

أجاب الشیخ عن الصحیحة بقوله:

أمّا عن الصحیحة، فبعدم الدلالة، لأن المشار إلیه فی قوله علیه السّلام «بمثل هذا» إمّا نفس واقعة الصّید، وإمّا أن یکون السؤال عن حکمها. وعلی الأوّل:

فإن جعلنا المورد من قبیل الشک فی التکلیف، بمعنی أن وجوب نصف الجزاء علی کلّ واحد متیقّن ویشک فی وجوب النصف الآخر علیه، فیکون من قبیل وجوب أداء الدّین المردّد بین الأقل والأکثر، وقضاء الفوائت المردّدة، والإحتیاط فی مثل هذا غیر لازم بالإتفاق، لأنه شک فی الوجوب. وعلی تقدیر

ص: 236


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 154.

قولنا بوجوب الإحتیاط فی مورد الروایة وأمثاله ممّا ثبت التکلیف فیه فی الجملة لأجل هذه الصحیحة وغیرها، لم یکن ما نحن فیه من الشبهة مماثلاً له، لعدم ثبوت التکلیف فیه رأسا.

وإنْ جعلنا المورد من قبیل الشک فی متعلّق التکلیف، وهو المکلّف به، لکون الأقل علی تقدیر وجوب الأکثر غیر واجب بالإستقلال، نظیر وجوب التسلیم فی الصّلاة، فالإحتیاط فیها وإنْ کان مذهب جماعة من المجتهدین أیضا، إلاّ أن ما نحن فیه من الشبهة الحکمیّة التحریمیّة لیس مثلاً لمورد الروایة، لأن الشک فی أصل التکلیف.

هذا، مع أن ظاهر الروایة التمکن من استعلام حکم الواقعة بالسؤال والتعلیم فیما بعد. ولا مضایقة عن القول بوجوب الإحتیاط فی هذه الواقعة الشخصیّة حتی یتعلّم المسألة لما تستقبل من الوقائع.

ومنه یظهر أنه إنْ کان المشار إلیه بهذا هو السؤال عن حکم الواقعة _ کما هو الثانی من شقّی التردید _ فإنْ اُرید من الإحتیاط فیه الإفتاء، لم ینفع فیما نحن فیه. وإنْ اُرید من الإحتیاط الإحتراز عن الفتوی فیها أصلاً حتی بالإحتیاط، فکذلک.(1)

ص: 237


1- 1. فرائد الاصول: 210.
جواب المحقق النائینی عن الصحیحة

جواب المیرزا

وتبع المیرزا(1) الشیخ فی الجواب، فقال:

أمّا الصحیحة الأُولی: فلعدم العمل بها فی موردها، فإنّ الشک فی وجوب الجزاء علی کلّ من اللّذین اصطادا، إمّا أن یرجع إلی الأقل والأکثر الإرتباطیین، وإمّا أن یرجع إلی الأقل والأکثر الغیر الإرتباطیین، لأنّ فی صورة اشتراک الشخصین فی الصید، إمّا أن نقول بوجوب إعطاء نفس البدنة، وإمّا أن نقول بوجوب إعطاء قیمة البدنة.

فإن قلنا: بوجوب إعطاء القیمة، فالشک فی مورد السؤال یرجع إلی الأقل والأکثر الغیر الإرتباطیین، لأنّ اشتغال ذمّة کلّ منهما بنصف قیمة البدنة متیقن ویشک فی اشتغال الذمة بالزائد، نظیر تردد الدین بین الأقل والأکثر.

وإن قلنا: بوجوب إعطاء نفس البدنة، فالشک فی مورد السؤال یرجع إلی الأقل والأکثر الإرتباطیین، لأنّه یدور الأمر بین وجوب إعطاء تمام البدنة علی کلّ منهما أو نصفها؛ وعلی تقدیر کون الواجب هو تمام البدنة لا یجزی الأقل ولا یسقط به التکلیف، نظیر تردد أجزاء الصّلاة بین الأقل والأکثر.

وعلی کلا التقدیرین: الشبهة فی مورد السؤال إنّما تکون وجوبیة ولا یجب الإحتیاط فیها باتفاق الأخبارییّن، فالصحیحة فی موردها لم یعمل بها.

ص: 238


1- 1. فوائد الاصول 3 / 375 _ 376.

مضافا إلی أنّ مورد البحث هو الشبهة البدویة التی لم یسبق العلم بالتکلیف فی موردها بوجه من الوجوه، ومورد الصحیحة هو ما إذا علم بالتکلیف فی الجملة وإن تردّد متعلّقه بین الأقل والأکثر؛ فیمکن الإلتزام بوجوب الإحتیاط فی مورد الصحیحة وعدم وجوب الإحتیاط فی مورد البحث؛ مع أنّ ظاهر الصحیحة هو کون المکلف متمکّنا من الفحص وتحصیل العلم بحکم الواقعة؛ ومحلّ الکلام هو ما إذا لم یمکن تحصیل العلم بحکم الواقعة، فلا یصح التمسک بالصحیحة لمورد البحث.

النظر فی جواب المحقق النائینی

النظر فی جواب المیرزا

لقد ادّعی المیرزا رحمه اللّه الإتفاق علی عدم لزوم الإحتیاط فی الإرتباطیین، مع أن الشیخ صرّح بذهاب جمعٍ من الأصولیین إلیه.

لکنْ عن السیّد المجاهد الطباطبائی أنه نقل عن المعارج وجود الخلاف بین الاصولیین فی غیر الإرتباطیین أیضا. فدعواه الإتفاق مخدوشة.

هذا أوّلاً.

وثانیا: إن ما ذکره من الفرق بین مورد الصحیحة ومحلّ الکلام، لکون موردها مقترنا بالعلم الإجمالی _ لأن المفروض وجوب شئ¨ علی کلّ واحدٍ من الرجلین، غیر أنه یشک فی أنّ الواجب جزاء کامل أو نصف جزاء _ وما نحن فیه هو الشبهة البدویّة. مخدوش کذلک بأنه:

ص: 239

إن أراد تنجیز العلم لأطراف الشبهة فی موردها، ولا منجّز هنا، ففیه:

أنّ المتیقّن فی موردها هو الأقل ولا منجّز للأکثر.

وإنّ أراد وجود الإقتران بالعلم هناک دون ما نحن فیه. ففیه:

أنّ کلّ مکلّف ملتفت إلی الأحکام، یحصل له العلم الإجمالی بالتکلیف المرّدد بین الأقل والأکثر، وهذا العلم الإجمالی لا ینحلّ بالأقل قبل الفحص وینحلّ بعده، فالتفریق بلا وجه.

موثقة ابن وضّاح

موثقة ابن وضّاح

ومنها: موثقة عبداللّه بن وضّاح، قال: کتبت إلی العبد الصالح: یتواری عنّا القرص ویقبل اللّیل ویزید اللّیل ارتفاعا، وتستترعنّا الشمس، وترتفع فوق الجبل حمرة، ویؤذّن عندنا المؤذّنون، فأصلّی حینئذٍ واُفطر إن کنت صائما أو أنتظر حتی تذهب الحمرة التی فوق الجبل؟

فکتب علیه السّلام: أری لک أن تنتظر حتی تذهب الحمرة التی فوق الجبل، وتأخذ بالحائطة لدینک.(1)

بتقریب أن قول الإمام علیه السّلام: «تأخذ بالحائطة لدینک» بمنزلة التعلیل لقوله: «أری لک...»، فتدلّ الروایة علی وجوب الإحتیاط مطلقا.

ص: 240


1- 1. وسائل الشیعة 10 / 124، الباب 16 من أبواب المواقیت، رقم: 14.
جواب الشیخ عن الاستدلال بالموثقة

جواب الشیخ عن الموثقة

وأجاب الشیخ عنها: بأنّ ظاهرها الإستحباب. والظاهر أن مراده بالإحتیاط من حیث الشبهة الموضوعیّة، لاحتمال عدم استتار القرص وکون الحمرة المرتفعة أمارة علیها، لأن إرادة الإحتیاط فی الحکمیّة بعیدة عن منصب الإمام علیه السّلام، لأنه لا یقرّر الجاهل بالحکم علی جهله، ولاریب أن الإنتظار مع الشک فی الاستتار واجب، لأنه مقتضی استصحاب عدم اللّیل والاشتغال بالصّوم وقاعدة الاشتغال بالصّلاة. فالمخاطب بالأخذ بالحائطة هو الشاک فی براءة ذمّته عن الصّوم والصّلاة، ویتعدّی منه إلی کلّ شاک فی براءة ذمّته عمّا یجب علیه یقینا، لا مطلق الشاک، لأنّ الشّاک فی الموضوع الخارجی مع عدم تیقّن التکلیف لا یجب علیه الإحتیاط باتفاقٍ من الأخباریین أیضا. هذا کلّه علی تقدیر القول بکفایة إستتار القرص فی الغروب، وکون الحمرة غیرالحمرة المشرقیّة.

ویحتمل بعیدا أن یراد من الحمرة الحمرة المشرقیّة التی لابدّ من زوالها فی تحقق الغروب، وتعلیله حینئذٍ بالإحتیاط وإنْ کان بعیدا عن منصب الإمام کما لا یخفی، إلاّ أنه یمکن أن یکون هذا النحو من التعبیر لأجل التقیّة، لإیهام أن الوجه فی التأخیر هو حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه، لأن المغرب لا یدخل مع تحقّق الاستتار.

کما أن قوله: «أری لک» یستشمّ منه رائحة الإستحباب، فلعلّ التعبیر به

ص: 241

مع وجوب التأخیر من جهة التقیّة، وحینئذٍ، فتوجیه الحکم بالإحتیاط لا یدلّ إلاّ علی رجحانه(1)

النّظر فی الجواب

النّظر فی هذا الجواب

ولا یخفی الإضطراب فی کلامه، لأنه جعل کلمة «أری» ظاهرةً فی الإستحباب، ثم قال: یستشمّ منها الإستحباب. علی أنه لا معنی للإستحباب فی الشبهة الموضوعیّة.

هذا، ومقتضی الدقّة فی الموثقة ظهورها فی الشبهة الحکمیّة، ولا أقلّ من عدم تمامیّة دعوی ظهورها فی الموضوعیّة، فتصبح مجملة.

نعم، الأمر بالإحتیاط فی الشبهة الحکمیّة لا یناسب مقام الإمامة، ولکنّ ذلک یسوغ فی حال التقیّة، إلاّ أنه لو کان فی حال التقیّة لما کان لکلمة «أری» حاجة، وإنْ کان فی مقام بیان الحکم الواقعی، فلماذا قال: «أری»؟

ثم إن استحباب الإنتظار لا یوافق فتوی الأصحاب، لأنّ دخول الوقت إن کان باستتار القرص، فأوّل الوقت أفضل، وإنْ کان بذهاب الحمرة، فالإنتظار واجب.

علی أن استحباب الإنتظار لیس من مذهب العامّة حتی تحمل الروایة علی التقیّة، ففی الترمذی(2): قول أکثر أهل العلم من أصحاب النبی صلّی اللّه علیه وآله

ص: 242


1- 1. فرائد الاصول: 210.
2- 2. سنن الترمذی 1 / 108.

ومن بعدهم من التابعین علی استحباب التعجیل فی صلاة المغرب بمجرّد إستتار القرص، وقد رووا عن جابر وغیره أن النبی کان یصلّی المغرب بغیبوبة القرص.

ومن هنا، یمکن القول بحمل «أری لک» علی الوجوب، بأنْ یکون الإمام قد أمر بالإنتظار، ثم ذکر کبریً طبقّها علی المورد وهی الإحتیاط، فتکون الرّوایة علی بعض التقادیر دالّةً علی وجوب الإحتیاط. واللّه العالم.

وأمّا سندا، فقال الشیخ: موثقة علی الأقوی، وقد أشار بذلک إلی تضعیف ابن الغضائری _ وتبعه العلاّمة(1) _ «سلیمان بن داود» وهو المنقری بالقرینة، ولکنّ النجاشی وثّقه،(2) وهو مقدّم علی تضعیف ابن الغضائری لکونه متسرّعا فی تضعیف الرّواة، ومن هنا أسقط الوحید البهبهانی تجریحاته کما صرّح بترجمة إبراهیم بن عمر الیمانی.(3)

روایة کمیل

ومنها: روایة کمیل، فعن الإمام الرّضا علیه السّلام قال قال أمیر المؤمنین علیه السّلام لکمیل بن زیاد: أخوک دینک فاحتط لدینک بما شئت.(4)

ص: 243


1- 1. خلاصة الأقوال: 352.
2- 2. رجال النجاشی: 184.
3- 3. اُنظر تعلیقة الوحید البهبهانی: 120.
4- 4. وسائل الشیعة 27 / 167، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، رقم: 46.
جواب الشیخ ونقده

جواب الشیخ

أجاب عنها الشیخ بما حاصله: الحمل علی الإرشاد أو الطلب الجامع بین الوجوب والإستحباب. أمّا عدم الحمل علی الوجوب، فللزوم تخصیص الأکثر. وأمّا عدم الحمل علی الإستحباب، فلأنه یلزم تخصیص موارد الإقتران بالعلم، مع أن القدر المتیقن من موارد الإحتیاط هو مورد الاقتران به.

ثم اختار الإستحباب، لأن معنی الروایة مطلوبیّة غایة الإحتیاط، کما هو ظاهر تنزیل الدین بمنزلة الأخ، فیکون وزآنهاوزان قوله تعالی: «فَاتَّقُوا اللّه َ مَا اسْتَطَعْتُمْ».(1) فالإستدلال للوجوب ساقط.

أقول:

ظاهر عبارته صلاحیّة الحمل علی الوجوب لولا لزوم تخصیص الأکثر، وکذا علی الجامع بینه وبین الإستحباب. وکلاهما ممنوع. وذلک:

لأن «الشّبهات» یأبی التخصیص، ولسان أخبار الإحتیاط هو لزومه فی جمیع شئون الدین، فأمّا الشّبهات المقرونة بالعلم الإجمالی والبدویّة قبل الفحص، فلا یمکن إخراجها، بل هذه هی القدر المتیقّن من الإحتیاط فی الدین، وإنّ موارد الشّبهات البدویّة بعد الفحص واردة فی أخبار الإحتیاط، لکونها من الدین کذلک، وحینئذٍ:

إمّا أنْ یکون الطلب مولویّا مقدّمةً للإحتیاط.

ص: 244


1- 1. سورة التغابن، الآیة: 16.

وهذا غیر معقول، لأنه لا مقدّمة لتعلّق التکلیف فی موارد الإحتیاط.

وإمّا أنْ یکون الطلب مولویّا نفسیّا.

وهذا یحتاج إلی القرینة. علی أنه یستلزم تعدّد العقاب فی صورة المخالفة.

وإمّا أن یکون مولویّا طریقیّا:

فإنْ کان بداعی إیصال الإحتیاط بالنسبة إلی الواقع، فهذا یتوقف علی صلاحیّة الإحتیاط للطریقیّة والموصلیّة إلی الواقع، ولیس للإحتیاط هذه الصّلاحیّة الثابتة للأمارات.

وإنْ کان بداعی تنجیز الواقع، فکذلک، لأن الواقع فی موارد الإقتران منجّز بالعلم، فلا یعقل تنجّزه بالإحتیاط أیضا.

وتلخّص: عدم صحّة الحمل علی المولویّة.

والحمل علی الإرشاد فی موارد الإقتران بالعلم، وعلی المولویّة فی موارد عدم الإقتران به، غیرتام، لأنّ مدلول الهیئة بسیط ولا یقبل التبعّض.

فثبت کون الطلب إرشادیّا بالبرهان، وهو نفس ما ذکر فی أخبار الوقوف.

وتلخّص: عدم صلاحیّة أخبار الإحتیاط للحمل علی المولویّة، لا أنها تصلح إلاّ أن تخصیص الأکثر هو المانع، بل الحمل علی الإرشاد هو المتعیَّن.

وإذا بطل الحمل علی المولویّة بطل حمله علی الطلب المولوی الجامع بین الوجوب والإستحباب. علی أن الطلب الجامع فی موارد الإقتران غیرمعقول.

أما الإستحبابی، فلضرورة أنّ الإستحباب یجامع الترخیص فی الترک، فیجوز عقلاً ترک الإحتیاط فی موارد العلم، مع أنّ العقل حاکم بوجوبه فیها.

ص: 245

وأمّا الوجوبی، فلأن العقل حاکم بوجوبه قبل الشرع، فلا یکون الطلب الشرعی فی مورده مولویّا.

وتلخّص:

ضرورة حمل أخبار الإحتیاط علی الإرشادیّة.

وأمّا خصوص خبر کمیل، فقد حمله الشیخ علی أعلی مراتب الإحتیاط، _ وهو فی الشبهة الوجوبیّة والموضوعیّة _ فیکون مستحبّا.

لکنْ فیه: إنّ المورد من مفهوم الموافقة، لأنه إذا کان أعلی المراتب موردا للطلب، فبالأولویّة تکون جمیع المراتب مطلوبةً، إذ لا معنی لحمل الطلب فی موارد الإقتران علی الإستحباب.

هذا، وقد قال الشیخ فی سنده: لیس فی السّند إلاّ علی بن محمد الکاتب الذی یروی عنه المفید.

فإنْ أراد الإعتماد علیه بسبب روایة المفید عنه، فإنّ مجرّد الروایة لا یکفی للإعتماد.

طریقان آخران للحمل علی الإرشادیّة ذکرهما السید الخوئی ونقدهما

طریقان آخران للحمل علی الإرشادیّة

وبقی طریقان آخران للحمل علی الإرشاد.(1)

أوّلهما: إن أخبار الإحتیاط تحمل علی الإرشاد، من جهة أنّ حسن الإحتیاط عقلی، فأوامر الشّارع به إرشاد إلی ما یدرکه العقل.

ص: 246


1- 1. مصباح الاصول 2 / 299.

وفیه: إن لازمه عدم کون النهی عن الظلم والکذب مولویّا، لحکم العقل بقبح الظلم والکذب. هذا نقضا.

وأمّا حلاًّ، فإنه إنما یحمل الخطاب علی الإرشادیّة إنْ لم یمکن حمله علی المولویّة، کما هو الحال فی باب الإطاعة والمعصیة، وإلاّ فلا وجه للحمل علی الإرشادیّة.

والثانی: إنّ حمل أخبار الإحتیاط علی الوجوب محذوره لزوم تخصیص ما هو آبٍ عن التخصیص، إذ لا معنی لأن یقال بلزوم الإحتیاط إلاّ فی المورد الفلانی، أخوک دینک فاحتط لدینک إلاّ فی کذا.

وفیه: إن هذا مبنیٌ علی أنْ تکون صیغة «إفعل» ظاهرة فی الوجوب وضعا، فیلزم ما ذکر. لکن الصّحیح أنّ الدالّ علی الوجوب هو العقل، وهو مبنی القائل بهذا الوجه. وعلیه، فلا تدل الهیئة إلاّ علی الطلب، ولا ینافیه ترخیص الشّارع فی الشبهة الموضوعیّة والوجوبیّة، لأنّ أدلّة الإحتیاط حینئذٍ لا تکون آبیةً عن الترخیص فی الترک، ویشهد بذلک حمل القائل الأدلّة علی الإرشاد أو الإستحباب، وأمّا الموارد التی لیس فیها ترخیص فالعقل حاکم باللاّبدیّة.

وممّا ذکرنا ظهر النظر فی کلمات المحقق الإصفهانی،(1) حیث حمل أخبار (الوقوف) علی الإرشاد. أمّا أخبار (الإحتیاط) فعلی المولویّة.

ص: 247


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 102.

والتحقیق عدم الفرق. وتوضیح ذلک:

إنه قال بتعیّن حمل الأمر بالإحتیاط علی المولوی النفسی، لأن العناوین علی قسمین، منها ما له موضوعیّة عنوانا مثل: صلاة الجمعة، فإنه بعنوانه موضوع للوجوب. ومنها ما لیس له موضوعیة مثل: عنوان الإحتیاط، فإنه الطریقیّة إلی الواقعیات ذاتا. هذا من جهة.

ومن جهة اخری: الطلب النفسی یدور مدار قیام الغرض بذاته، سواء کان بعنوانه أو بعنوان معرّفه وطریقه، وحینئذٍ یمکن أن یکون عنوان الإحتیاط المعرِّف موردا للطلب النفسی. أی: إن المعرّفیة لاتنافی نفسیّة الطلب المتعلّق به.

وعلی هذا، إذا تعلّق غرض الشّارع بصلاة الجمعة، فتارةً: نفس هذا الغرض یقتضی إیجاب صلاة الجمعة لکن بعنوان معرّفه فیقول: احتط بالنسبة إلی صلاة الجمعة، فیکون الإحتیاط واجبا بالوجوب المولوی النفسی لغرض حفظ الواقع.

قال: لکن التعلیل الموجود فی أخبار الوقوف: «فإن الوقوف...» یمنع من حملها علی المولویّة.

أقول:

لکنّ الأمر بالإحتیاط موجود فی موارد الإقتران بالعلم الإجمالی أیضا، وحملها علی المولویّة محال.

تلخّص:

إن أخبار الإحتیاط کأخبار الوقوف إرشادیّة، ولا یؤثر اشتمال الثانیة علی التعلیل، لا سیّما بناءً علی ما هو الأظهر من أن «الهلکة» فیها أعمّ من العقاب

ص: 248

والمفسدة. وحملها علی الطریقیّة لتنجیز الواقع محال، لتنجیز العلم فی مورد الإقتران. کما ظهر عدم تمامیّة الحمل علی المولویّة.

النسبة بین أخبار الإحتیاط وأدلّة البراءة

النسبة بین أخبار الإحتیاط وأدلّة البراءة

ثم ما هی النسبة بین أخبار الإحتیاط وأدلة البراءة بناءً علی مولویّة أخبار الإحتیاط؟

لقد أجاب المحقق الإصفهانی _ القائل بالمولویّة فی أخبار الإحتیاط _ عن استدلال الأخباریین بها لوجوب الإحتیاط فی الشّبهات البدویّة، فقال ما حاصله:(1)

إن حدیث الرفع وارد علی أخبار الإحتیاط، لأن مدلوله جعل عدم فعلیّة التکلیف الواقعی فی مرتبة الظاهر، فهو ناف للتکلیف، فلا یبقی معه موضوع لأخبار الإحتیاط.

مناقشة کلام المحقق الإصفهانی

مناقشة کلام الإصفهانی

وفیه: إنه إذا کان مدلول حدیث الرفع اعتبار عدم التکلیف فی مرتبة الظاهر، وأن أخبار الإحتیاط وردت لحفظ الواقع فی مرتبة الواقع، بمعنی عدم سقوط الواقع لا واقعا ولا ظاهرا، فإن موضوع الأخبار هو الجهل بالواقع لا الجهل به فی

ص: 249


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 109 _ 111.

مرتبة الظاهر، وحینئذٍ، لا یرد علیها حدیث الرفع، وإنا لا نحتمل أن لا یقول الإصفهانی بمطلوبیّة الإحتیاط لدرک الواقع، ولذا یکون الإحتیاط بالنسبة إلی الواقع مطلوبا حتی مع وجود الحجّة الظاهریّة _ إلاّ أنها مطلوبیة ندبیّة _ کما أنه لا ریب بجهل المجتهد بالواقع مع وجود حدیث الرفع عنده، فالواقع _ وهو موضوع أخبار الإحتیاط محفوظ _ فلا ورود.

وأمّا «کلّ شئ¨ لک حلال...»

فإنّه نصّ فی الترخیص، وأخبار الإحتیاط ظاهرة فی وجوب الإحتیاط، والنصّ مقدّم.

وأیضا: فإنّه یختصُّ بالشبهة الموضوعیّة، فهو مختلفٌ موردا مع أخبار الإحتیاط.

أقول:

لکنّ مقتضی دقّة النظر أن تکون النسبة هی العموم والخصوص، ومع هذه النسبة لا تصل النوبة إلی الجمع الدلالی بالنصّ والظاهر. وذلک، لأنّ قاعدة الحلّ لا تجری فی أطراف الشبهة المقرونة بالعلم والبدویّة قبل الفحص، بل هی مختصّة بالشبهة التحریمیّة بعد الفحص، لکنّ أخبار الإحتیاط أعمّ، فالنسبة العموم والخصوص أو الإطلاق والتقیید. فما دلَّ علی القاعدة مقدّم من هذا الباب.

نعم، لو کانت أخبار الإحتیاط مختصّةً بالشبهة الحکمیّة التحریمیّة لوقع التعارض وحمل الظاهر علی النصّ.

ص: 250

وعدم شمول قاعدة الحلّ للشبهة الوجوبیّة هو وجه التأمّل الذی أمر به فی الکفایة،(1) بل هی مختصّة بمورد الحرمة کما تقدّم.

هذا، ولو تنزّلنا عمّا ذکرنا _ من حمل أخبار الإحتیاط کأخبار الوقوف علی الإرشاد، لأن الحکم الشرعی بعد الحکم العقلی الکائن بعد الشرعی غیرمعقول، وأنّ المتنجّز لا یتنجّز ثانیا، ومع الإلتفات إلی أنّ موارد الإقتران بالعلم لاتقبل الخروج عن أخبار الإحتیاط و«الشبهة» _ وسلّمنا کونها مولویّة...

فإن أخبار البراءة تکون مخصصّةً لأخبار الإحتیاط.

وتوضیحه بعد ظهور عدم وصول النوبة إلی الجمع بالنصّ والظاهر:

إنّ موضوع حدیث الرفع ونحوه «ما» ومحمولها «الرفع».

وموضوع أخبار الإحتیاط هو «التکلیف المجهول»، الأعمّ من المقرون بالعلم وغیره. وبعبارة اخری هو: «الشبهة» الأعمّ من المقرونة والبدویّة مطلقا.

فدائرة موضوع أخبار البراءة أضیق من دائرة موضوع أخبار الإحتیاط، لأنّها لا تعمّ المقرونة والبدویّة قبل الفحص. هذا من جهة الموضوع.

وأمّا من جهة المحمول، فإن محمول أخبار الإحتیاط ظاهر فی الوجوب، ومحمول أخبار البراءة نصّ فی الترخیص أو أظهر.

وحینئذٍ، فإنه علی القول بأنّ تقدّم الخاصّ علی العام هو بملاک الأظهریّة کما علیه صاحب الکفایة، یتقدّم الخاصّ علی العامّ هنا بهذا الملاک أیضا، فکان

ص: 251


1- 1. کفایة الاصول: 346.

تقدّم أخبار البراءة بملاکین: کونها أظهر من أخبار الإحتیاط، وحکومة أصالة الظهور فی طرفها علی أصالة الظهور فی طرف أخبار الإحتیاط. وهذا هو مراد الکفایة من عطف «الأخص» علی «الأظهر» فی عبارته وإنْ لم یلتفت شرّاحه.

وتلخّص: أنْ لا مجال للجمع الدلالی، إذ الموضوع فی أدلّة البراءة أضیق دائرةً، فیتمّ التخصیص. ولا وجه لحمل أخبار الإحتیاط علی الإستحباب أو الطلب الجامع بین الوجوب والإستحباب.

والحاصل: تقدّم أخبار البراءة بالتخصیص.

فإنْ قیل: لسان أخبار الإحتیاط _ خاصةً مثل «أخوک دینک» _ آبٍ عن التخصیص، فیأتی دور الجمع الدلالی.

قلنا:

أوّلاً: لیس کلّها آبیا عنه.

وثانیا: إنّ هذا کرّ علی ما فرّ، لأنّه مع الجمع الدلالی أیضا لابدَّ من رفع الید عن ظهور «احتط لدینک» فی الوجوب، وهذا یوجب خروج المقرونة والبدویّة قبل الفحص، لوجوب الإحتیاط فیها.

ثمّ إنه قد توهّم کون النسبة بین الطرفین _ أخبار البراءة والإحتیاط _ هی العموم من وجه. وهو فاسد، بل النسبة العموم والخصوص المطلق.

نعم، النسبة بین أخبار الوقوف والبراءة هی العموم من وجه، لکون أخبار الوقوف فی موارد الشبهة التحریمیّة، لکونها مورد التوقف.

ص: 252

3. أخبار التثلیث
اشارة

3. أخبار التثلیث

ومن ذلک مقبولة عمر بن حنظلة الواردة فی الخبرین المتعارضین عن أبی عبداللّه علیه السّلام قال:

ینظر إلی ما کان من روایتهما عنّا فی ذلک الذی حکما به المجمع علیه عند أصحابک، فیؤخذ به عن حکمنا ویترک الشاذ الذی لیس بمشهور عند أصحابک، فإن المجمع علیه لاریب فیه. وإنّما الامور ثلاثة: أمر بیّن رشده فیتّبع، وأمر بیّن غیّه فیجتنب، وأمر مشکل یردّ علمه إلی اللّه وإلی رسوله. قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله: حلال بیّن وحرام بیّن وشبهات بین ذلک، فمن ترک الشبهات نجا من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات ارتکب المحرّمات وهلک من حیث لایعلم. ثم قال فی آخر الحدیث: فإن الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات.(1)

قال الشیخ:

وجه الدلالة: إن الامام علیه السّلام أوجب طرح الشاذ معلّلاً بأن المجمع علیه لاریب فیه، والمراد: إن الشاذ فیه الریب لا أنّ الشهرة تجعل الشاذ ممّا لاریب فی بطلانه وإلاّ لم یکن معنی لتأخیر الترجیح بالشهرة عن الترجیح بالأعدلیّة والأصدقیّة والأورعیّة، ولا لفرض الراوی الشهرة فی کلا الخبرین ولا لتثلیث الامور ثم الاستشهاد بتثلیث النبی صلّی اللّه علیه وآله. والحاصل: إن الناظر فی الروایة یقطع بأن الشاذ ممّا فیه الریب فیجب طرحه وهو الأمر المشکل الذی

ص: 253


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 157، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، رقم: 9.

أوجب الإمام ردّه إلی اللّه ورسوله. فیعلم من ذلک کلّه أن الإستشهاد بقول رسول اللّه فی التثلیث لا یستقیم إلاّ مع وجوب الاحتیاط والاجتناب عن الشبهات.

مضافاً إلی دلالة قوله: «نجا من المحرّمات» _ بناءً علی أنّ تخلیص النفس من المحرّمات واجب _ وقوله: «وقع فی المحرّمات وهلک من حیث لا یعلم».

جواب الشیخ

ثم أجاب رحمه اللّه عن هذا الإستدلال: بأن الأمر بالإجتناب عن الشبهة إرشادی، للتحرز عن المضرّة المحتملة فیها... فی کلامٍ طویل، فلیراجعه من أراد الوقوف علیه.(1)

جواب المحقق النائینی

وأجاب المحقق النائینی: بأنّ دلالة هذه الأخبار تتوقف علی أن یکون المراد من الوقوع فی المحرّمات هو الوقوع فی المحرّمات التی فی موارد الشبهة، و الظاهر منها هو الوقوع فی المحرّمات المعلومة لأجل أنّ ارتکاب الشبهات یوجب وهن المحرّمات و عدم الإعتناء بها، فیقع الإنسان فیها من حیث لا یعلم. و أما إذا کان المراد منه هو الوقوع فی المحرّمات التی فی موارد الشبهة، فهو لیس من حیث لا یعلم، بل من حیث العلم بوجوب الإحتیاط.

ص: 254


1- 1 . فرائد الاصول: 211.

و علی ذلک، فیکون مفاد تلک الروایات أجنبیاً عن محلّ الکلام بالکلیّة، ویکون مفادها مفاد قوله علیه السّلام: من حام حول الحمی یوشک أن یقع فیه، وغیره من الأخبار الواردة بهذا المضمون.(1)

جواب المحقق الخوئی

و أجاب السیّد الخوئی: بأن ما ثبت فیه الرخیص ظاهراً من قبل الشّارع داخل فی ما هو بیّن رشده، لا فی المشتبه کما هو الحال فی الشبهات الموضوعیة. وبالجملة: المشکوک حرمته کالمشکوک نجاسته، و کما أنّ الثانی غیر مشمولٍ لهذه الأخبار کذلک الأول، والملاک فی الجمیع ثبوت الترخیص المانع من صدق المشتبه علی المشکوک فیه حقیقة، و إن صحّ إطلاقه علیه بالعنایة باعتبار التردّد فی حکمه الواقعی.(2)

هذا، و لعلّ وضوح الجواب عن هذه الروایات، أو کونها أجنبیّة عن محلّ الکلام، هو السّبب فی عدم ذکر صاحب الکفایة لها فی أدلة الأخباریین.

تنبیهٌ

هل یعقل کون الأمر بالإحتیاط طریقیّا؟

هل یعقل کون الأمر بالإحتیاط طریقیّاً؟

ص: 255


1- 1 . أجود التقریرات 3/333.
2- 2 . مصباح الاصول 2/301.

قیل: بأنّه إنشاءٌ بداعی تنجیز الواقع.

و خالف المحقق الإصفهانی.

و توضیح کلامه هو: إن قولنا «صلّ» مرکّب من مادة و هیئة، فمدلول الهیئة هو البعث النسبی، و هو قد یلحظ بالنحو الاسمی، کأن یقال: مدلول صیغة إفعل هو البعث، و قد یلحظ بالنحو النسبی. و هذا تارة: بعث حقیقی، و هو التحریک، أی النسبة المتحقّقة بین المحرّک والمتحرّک، فهذا بعث نسبی و نسبة بعثیة تتحقّق بالتحریک الخارجی، و لا یلحظ فیه نفس التحریک والبعث بل الملاحظ والملتفت إلیه إستقلالاً و تفصیلاً هو المحرّک والمحرّک إلیه، و هذا البعث الخارجی التکوینی له وجود جعلی، و هو الوجود الإنشائی، و ذلک یکون عند ما یوجد ضمن هیئة «إفعل»، فیکون معنی «إفعل» معنی حرفیّاً، و هو نفس البعث النسبیّ الذی لا یلحظ باللّحاظ الإستقلالی، و بهذه الصیغة یوجد الإنسان النسبة البعثیّة بوجودها الإعتباری الإنشائی.

والأنشاء فعلٌ من الأفعال، و هو إختیاری لا إضطراری، و یستحیل أن یکون بلا داع، فإن کان الإنشاء للنسبة البعثّیة ناشئاً من التحریک و البعث، کان الإنشاء مصداقاً للبعث، و إن کان ناشئاً من داعٍ آخر غیر البعث کالتعجیز، فیکون مصداقاً للتعجیز مثل: «کُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِینَ »، و کالإمتحان، فیکون مصداقاً للإمتحان، و کلّ هذه الإنشاءات بهذه الدواعی معقول. ویشترط فی جمیعها قابلیّة المادّة لذلک الدّاعی، فإن کانت المادّة قابلة للتنجیز کان الإنشاء بداعی التنجیز، و هل مادّة «إحتط» قابلة؟

ص: 256

إنّ «خبر الثقة» منجز للواقع، و «الإحتمال» فی الشهادة قبل الفحص کذلک، و کذا «الیقین السّابق» فی الإستصحاب، ولکن «الإحتیاط» لا یصلح لأن یکون منجّزاً للواقع، وعلی هذا، لا یعقل کون الأمر به بداعی التنجیز. ووجه العدم هو: إن مادّة الإحتیاط لا تقبل المنجّزیة للواقع، لأن القابل للمنجزیّة هو إحتمال وجود الواقع، و احتمال وجود الواقع لا یدخل تحت الهیئة. إذن، المادّة الواردة تحت الهیئة و هی «الإحتیاط» لا تنجّز الواقع. والمنجّز له _ و هو الإحتمال المذکور _ لا یدخل تحت الهیئة. إذن، لا یمکن أن یکون «إحتط» أمراً بداعی تنجیز الواقع.

أقول:

ذکر شیخنا أنّ ظاهر کلامه أن «المنجزیّة» قابلة للجعل، لأنه قال بأن الإحتمال لا یمکن أن یدخل تحت النسبة البعثیّة، وإلاّ أمکن أن یکون منجّزاً و تمّ الإنشاء بداعی التنجیز، فنقول بناءً علی ذلک:

إنّ المنجزیّة هی المصحّحة للعقاب، و فی مقابلها: المعذّریة. وهما تارة: ذاتیّان کالعلم، فإنه منجّز أو معذّر بذاته، و اُخری: غیر ذاتیین لکنهما قابلان للجعل والإعتبار، و ذلک فی غیر العلم، مثلاً: خبر الواحد إن اعتبر فهو مصحّح أو معذّر، و کذا احتمال التکلیف... غیر أن اعتبار التنجیز لشی ء یقتضی أمرین یتحقق بهما:

أحدهما: تحقّق الإعتبار من المعتبر.

و الثانی: وجود المبرز لهذا الاعتبار، ویکفی للمبرزیّة القالبیّة العرفیّة، فإذا قال «صدّق العادل»، فقد اعتبر المنجّزیة للخبر أو المعذریّة له تشریعاً، وقد أبرزه

ص: 257

بهذا اللّفظ المبرز عند العرف و العقلاء، حیث یری العرف الملازمة العرفیّة بین «إعتبار خبر الثقة» و بین قول المعتبر «صدّق العادل»، فکأن قوله «صدّق العادل» جاء لإعطاء المنجزّیة لخبر الثقة، و هذا ما یستفیده أهل العرف فی نظر المحقق الخراسانی رحمه اللّه.

و علی هذا الأساس: لمّا قال «احتط»، فقد أورد الهیئة علی مادّة الإحتیاط لجعل المنجزّیة لملزومها و هو «الإحتمال»، و هذا التلازم موجود عقلاءً، إذ لولا اعتبار الإحتمال منجّرا لم یکن معنی لطلب الإحتیاط.

فما ذکره المحقق الإصفهانی قدّس سرّه مندفع، و حاصل الدفع کفایة الملازمة العرفیّة بین مدخول الهیئة و ما أرید جعل المنجزّیة له.

وهذا کلّه بناءً علی قابلیّة المنجزیّة للجعل والإعتبار.

ولکن الحق عدم معقولیّة جعل المنجّزیة، لأن المنجّزیة والمعذریّة أمران عقلیّان، یراهما العقل دائرین مدار البیان، فما کان بیاناً کان صالحاً لهما و إلا فلا.

وبعبارة اخری، البیان موضوع المنجّزیة والمعذریّة، والذی بید الشّارع هو البیان لا جعل المعذّر والمنجّز، و صلاحیّة الشی ء¨ للبیانیّة تارةً ذاتیّة کالعلم، واخری: الصّلاحیة ناقصة والشّارع یتمّمها، کأن یجعل خبر الواحد طریقاً إلی الواقع بإلغاء إحتمال الخلاف فیتم البیان، و یکون موضوعاً لحکم العقل بالمعذریّة والمنجّزیة، و کذلک قوله: «إحتط» یکون بیاناً، وإذا کان بیاناً صار منجّزاً بحکم العقل.

وهذا مبنی الشیخ و قد شیّده المیرزا، و نحن ندّعی أنّه مراد صاحب الکفایة لکن لم یتّضح لبعضهم مراده، واللّه العالم.

ص: 258

الاستدلال بالعقل للإحتیاط

اشارة

العقل

واستدلّ الأخباریون من العقل بوجهین:

الوجه الأوّل: العلم الإجمالی
تقریب الکفایة

تقریب الاستدلال کما فی الکفایة

أمّا صاحب الکفایة، فمحصّل کلامه فی تقریب هذا الوجه هو:(1)

إنه عندنا علم إجمالی بوجود واجباتٍ ومحرّمات فی الشریعة، وبهذا العلم تتنجّز الواجبات والمحرمات کلّها، و یتحقّق الإشتغال الیقینی المقتضی للفراغ الیقینی، ومع الفحص عن الأمارات والاصول المثبتة للتکالیف، والعمل بتلک الاصول والأمارات لا یحصل الفراغ، لاحتمال وجود تکالیف

ص: 259


1- 1. کفایة الاصول: 346.

شرعیّة فی غیرموارد تلک الأمارات والاصول. وحینئذٍ یجب الإحتیاط حتی حصول الفراغ الیقینی.

تقریب الشیخ

وقرّبه الشیخ بما حاصله:(1)

إنه عندنا علم بوجود محرّمات فی الشریعة، وهذا العلم یقتضی الإمتثال وترتیب الأثر علیه، لقوله تعالی «وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»،(2) لکنّ الإمتثال لا یتحقّق إلاّ إذا حصل الیقین ببراءة الذمّة، وحصول البراءة الیقینّیة لا یکون إلاّ بترک جمیع محتملات الحرمة أو بقیام الحجّة علی عدم العقاب بالنسبة إلی طائفةٍ من الأطراف، کما إذا دلّ دلیل علی عدم وجود المحرّم فیها، فإنه یدلّ بالملازمة علی عدم العقاب علی ارتکاب تلک الأطراف.

الفرق بین التقریبین

ولا یخفی الفرق بین التقریبین، لأنّ الشیخ لم یتعرّض للواجبات، وصاحب الکفایة تعرّض للواجبات والمحرمات معا. ثم إنه علی تقریب الکفایة یلزم علی الأخباریین الإحتیاط فی الشّبهات الحکمیّة الوجوبیّة الکلیّة، مع أنهم یقولون فیها

ص: 260


1- 1. فرائد الاصول: 212.
2- 2. سورة الحشر، الآیة: 7.

بالبراءة. فکان تقریب الکفایة غیرموافقٍ لمسلک الأخباریین، وتقریب الشیخ یوافق مسلکهم.

إلاّ أنّ فی تقریب الشیخ نقصا من جهةٍ اخری، وذلک لاشتماله علی الاستدلال بالآیة المبارکة، وهو فی غیر محلّه، لأن الأمر فیها إرشاد إلی النواهی التحریمیّة والتنزیهیّة، والحاکم بوجوب إطاعة النبی صلّی اللّه علیه وآله هو العقل، وحملها علی المولویّة _ کما لعلّه ظاهر عبارته _ یستلزم تخصیصها بالنواهی التحریمیّة، وهو تخصیص بلا مخصّص.

جواب الشیخ بوجهین

جواب الشیخ

ثم إن الشیخ أجاب عن الإستدلال بوجهین:(1)

الوجه الأوّل

إن التکلیف بالواقعیّات هو للقادر، لکن المکلّف به هنا لایخلو عن أن یکون هو الواقع بما هو واقع، أو المؤدّی للطریق بما هو، أو الواقع بما هو مؤدّی.

أمّا الأوّل، فغیر مقدور.

وأمّا الثانی، فغیر متعلّق للتکلیف وإلاّ یلزم التصویب.

ص: 261


1- 1. فرائد الاصول: 213.

یعنی: إنّ کون المکلّف به هو الواقع بما هو مؤدی الطریق یستلزم تقیید الواقع بقید کونه مؤدّی الطریق، وهذا یستلزم التصویب.

علی أن الطریق کاشف والواقع هو المنکشف، وتقیید المنکشف بالکاشف غیرمعقول.

فتعیّن أن یکون التکلیف متعلّقا بالواقع بما هو مؤدّی الطریق، فهو متعلّق العلم الإجمالی.

الوجه الثانی

إنّ الطرق القائمة علی التکالیف توجب انحلال العلم الإجمالی.

إشکال الکفایة علی الوجه الثانی

إشکال الخراسانی علی الوجه الثانی

وأشکل المحقق الخراسانی(1) علی الجواب الثانی: بأنّ هنا علمین إجمالیین، أحدهما کبیر، والآخر صغیر وهو فی دائرة الطرق، والکبیر دائما ینحلّ بالصغیر. أمّا الکبیر فهو العلم بالواقعیّات، وأمّا الصغیر فهو العلم بکون تلک الواقعیّات موجودة فی دائرة الطرق، فلا یوجد من أوّل الأمر علم إجمالی فی غیردائرة الطرق حتی ینحلّ ذلک العلم الإجمالی الکبیر بهذا العلم الإجمالی انحلالاً حقیقیّا.

ص: 262


1- 1. کفایة الاصول: 347.

ولو سلّم احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی غیر موارد قیام الطرق، فإنّ المعلوم بالإجمال یحتمل انطباقه علی تلک الموارد، وقیامها _ وإنْ کان بعد العلم _ إلاّ أنّ متعلّق الأمارات موجود سابقا من أوّل الأمر، فالتکالیف التی تعلّق بها العلم الإجمالی قد قامت علیها الأمارات، ومع احتمال هذا الإنطباق ینحلّ العلم.

فإن قلت: إنا لا نقول بثبوت التکالیف بالأمارات، لبطلان القول بالسببیّة، بل مقتضی أدلّة اعتبارات الأمارات جعل المنجزیّة والمعذریّة لها، فالعلم بالتکالیف غیرمنحلّ، لأن الأمارة لم تثبت التکلیف الواقعی بل أفادت وجوب ترتیب آثار التکلیف.

قلت: إنه وإنْ کان کذلک، إلا أنه بمقتضی أدلّة الإعتبار تنصرف المنجزیّة إلی الأمارة، فالتنجّز منحصر بموارد قیام الطرق والأمارات، وحینئذٍ ینحلّ العلم انحلالاً حکمیّا، لعدم التنجّز فی غیر دائرة الطرق، والعقل ملاک حکمه هو التنجّز لا الواقع، وعلیه، فإنّ ما سوی موارد الأمارات _ وإن لم یخرج عن طرفیّة العلم _ خارج عن طرفیّة العلم المنجّز والمؤثر، وهذا هو الإنحلال الحکمی.

فهذان طریقان لصاحب الکفایة فی الجواب، والثانی یکون بعد التنزّل عن الأوّل.

ویمکن أن یقال بالتفصیل، ففی البعض الذی قامت علیه الأمارة، بجعل البدل. وفی البعض الآخر بالإنحلال الحکمی.

ص: 263

طریق المحقق العراقی لانحلال العلم

طریق العراقی

وقال المحقق العراقی(1) بالإنحلال الحکمی، ولکن علی وجهٍ خاصّ، وقد عیّن قبل ذلک موقع الإنحلال وعدمه، فذکر أن العلم الإجمالی بالتکلیف یکون علی أنحاء:

فتارة: یعلم بالتکلیف علما إجمالیّا، ثم یخرج عن الإجمال. وهذه الصّورة خارجة عن الإنحلال موضوعا، بل قد تبدّلت الصّورة الإجمالیّة إلی التفصیلیّة.

واخری: یعلم بالتکلیف إجمالاً، ثم تقوم الأمارة علی التکلیف فی طرفٍ. وهذه الصّورة أیضا لا ربط لها بالإنحلال، بل هی من باب جعل البدل. أی: إن المولی یتصرّف فی مرحلة الفراغ ولا یتصرّف فی مرحلة الإشتغال _ والإنحلال معناه حصول المانع من تأثیر العلم فی الإشتغال _ حتی یتحقق الإنحلال، لأنّ قوام الإنحلال کون العلم التفصیلی مقارنا للعلم الإجمالی، فلو کان متأخّرا عنه لم یتحقق الإنحلال الحقیقی للعلم الإجمالی. مثلاً: إذا علم بخمریّة أحد الإناءین، وقامت الأمارة علی أحدهما، فإن الشّارع یجعل فی مقام الإمتثال مورد الأمارة بدلاً عن الخمر الواقعی، ویکون الإجتناب عنه مفرّغا للذمة المشغولة بالخمر الواقعی المعلوم بالإجمال، نظیر قاعدة الفراغ.

وثالثة: وهی صورة الإنحلال، بأنْ یکون تحقق العلم التفصیلی بالنسبة إلی بعض الأطراف مقارنا للعلم الإجمالی، فإذا حصل العلم التفصیلی المقارن تحقّق الإنحلال.

ص: 264


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 248.

فظهر مورد جعل البدل، ومورد تبدّل الصّورة، ومورد الإنحلال.

قال رحمه اللّه، إن الإنحلال هنا حکمی ولیس بحقیقی...

أمّا أنه لیس بحقیقی، فلأنّ دلیل القول به إمّا الوجدان أو البرهان.

أمّا الأوّل فتوضیحه هو: إنه تارةً یکون للمعلوم بالتفصیل والمعلوم بالإجمال عنوان، کأنْ یعلم إجمالاً بحرمة إناء زید الموجود بین الآنیة، ثم یحصل العلم التفصیلی بأنَّ هذا المعیَّن هو إناء زید، فالعنوان هو إناء زید. واخری: لایکون ذا عنوان، کأن یعلم إجمالاً بحرمة أحد الإناءین، ثم یعلم تفصیلاً بحرمة هذا الإناء المعیَّن. والثانی هو مورد الإنحلال، لکن مع وجود هذا العلم التفصیلی المقارن للإجمالی لا یتحقق الإنحلال أصلاً بالوجدان، لأن المکلّف یقول: هذا هو الحرام وذاک مشکوک الحرمة.

وأمّا الثانی، فلأنه إذا لم ینحلّ هذا العلم، یلزم تعلّق العلمین _ التفصیلی والإجمالی _ بالشئ¨ الواحد وهو حرمة الإناء، وتعلّق العلمین بمعلوم واحد محال.

فهذا دلیل القول بالإنحلال الحقیقی.

وقد أجاب عنه العراقی:

أمّا نقضا، فبسقوط هذا الإستدلال فی مورد قیام الأصل المثبت للتکلیف کالإستصحاب وقاعدة الإشتغال فی طرفٍ معیّن، فإنه لا علم تفصیلی هناک حتی یتحقّق تعلّق العلمین بمعلوم واحد.

وأمّا حلاًّ، فلأنّا لا نوافق علی أن هنا متعلَّقا واحدا لعلمین، لأن متعلَّق العلم

ص: 265

الإجمالی هو الصّورة الإجمالیّة، ومتعلّق العلم التفصیلی هو الصّورة المفصّلة، فذات المعلوم فی الموردین مختلف، فلا محذور.

وأمّا أن الإنحلال حکمی، فلأنه:

إذا قام العلم الإجمالی بالتکلیف وقامت الأمارة بلا عنوان فی بعض الأطراف، سقط العلم الإجمالی عن التأثیر، وسقوطه عن ذلک هو الإنحلال الحکمی.

وتفصیل المطلب هو:

إن الأمارة إمّا مقارنة مع العلم الإجمالی، وإمّا متأخرة عنه، وإمّا متقدّمة علیه.

أمّا فی الصّورة الأولی، کما إذا علم بسقوط قطرة بول فی أحد الإناءین وقامت البیّنة مقارنة للعلم الإجمالی علی سقوطها فی الإناء الأیمن، فلا یکون للعلم الإجمالی أثر، لعدم کونه مؤثرا بالنسبة إلی متعلّق العلم الإجمالی، وهو الجامع بین الإناءین، لأن القطرة إن کانت فی الأیمن لم یؤثر العلم، إذ لا یعقل التنجیز بالعلم الإجمالی والتفصیلی معا، لعدم تحمّل التکلیف الواحد للتنجیزین، ولایقبل ورود المنجّزین علیه، وإن کانت فی خصوص الأیسر، فذاک شک بدویّ.

فظهر أن العلم الإجمالی المقارن للأمارة القائمة علی بعض الأطراف غیرمؤثر، بالرغم من وجوده وعدم زواله، وهذا هو الإنحلال الحکمی.

ومثل الأمارة فیما ذکر: العلم التفصیلی أو الإستصحاب أو قاعدة الإشتغال العقلیّة.

ص: 266

وأمّا فی الصّورة الثانیة، حیث یکون العلم الإجمالی متأخّرا عن الأمارة، فهنا صورتان:

إحداهما: أن یکون العلم التفصیلی _ أو الأمارة أو قاعدة الإشتغال أو الإستصحاب المثبت للتکلیف _ موجودا من قبل، ولکنه غیرباقٍ حین حدوث العلم الإجمالی، فهنا لا تنجیز للتفصیلی، والإجمالی مؤثر بلا مزاحم.

والثانیة: أن یکون التفصیلی باقیا حتی زمان حدوث الإجمالی، فیکون مزاحما للإجمالی فی أثره بوجوده البقائی _ لا بوجوده السّابق _ فیسقط الإجمالی عن التأثیر.

وأمّا فی الصّورة الثالثة، حیث یکون العلم الإجمالی متقدّما وقیام الأمارة أو العلم التفصیلی متأخرا، فتفصیلٌ:

فإنه إنْ کان العلم الإجمالی عرضیّا ودفعیّا، انحلّ بالأمارة المتأخّرة، وإن کان طولیّا تدریجیّا لم ینحل. وتوضیحه هو:

إنه لمّا یتحقّق التکلیف بالإجتناب عن الخمر، فإنّه یتعدّد التکلیف بعدد الآنات، فإن حصل العلم الإجمالی بوجود التکلیف مردّدا بین هذا الإناء وذاک، کان فی کلّ آنٍ علم بوجوب الإجتناب عن أحد الإناءین. فهذا علم، وهناک علم آخر، وهو العلم بوجوب الإجتناب عن هذا الإناء فی هذا الآن أو عن ذاک الإناء فی الآن اللاّحق.

فالعلم الأوّل هو الذی ینحلّ، لأن المفروض فی الصّورة الثالثة وجود العلم

ص: 267

الإجمالی من قبل، فیکون مؤثرا حتی آن قیام الأمارة، فیقع التمانع فی هذا الآن بین العلمین، لتحقّق التقارن، وقد تقدّم أنه مع قیام الأمارة وحصول العلم التفصیلی یسقط الإجمالی عن التأثیر.

فهذا وجه سقوط العلم الإجمالی الدفعی.

ولکن العلم الثانی لا ینحلّ، فلو علم إجمالاً فی أوّل النهار بوجوب الإجتناب عن أحد الإناءین فی ذلک الوقت أو عند الزوال _ بناءً علی تنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیّات _ فقد تنجّز التکلیف بالنسبة إلی کلٍّ من الطرفین حتی الأبد بلا تمانع وتزاحم، فیبقی هذا العلم الإجمالی بلا إنحلال.

وتلخّص:

إنه فی صورة الإقتران بین العلمین، یسقط الإجمالی عن التنجیز، وکذا فی صورة تقدّم التفصیلی، لحصول التقارن الموجب لسقوط الإجمالی بقاءً.

وفی صورة تأخّر التفصیلی عن الإجمالی، یسقط الدفعی من الإجمالی، للتقارن المذکور، ولا یسقط التدریجی.

ثمّ إنه فی موارد تلف أحد الطرفین أو الإضطرار إلیه، یکون التأثیر للعلم الإجمالی التدریجی. کما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین ثم تلف أحدهما، فإنه لا علم فعلاً بوجوب الإجتناب عن «أحدهما»، لکنّ الطرف الباقی منجَّز بالعلم الإجمالی التدریجی الحاصل فی أوّل النهار المردّد بین التالف والباقی.

ص: 268

وعلی هذا، یکون الحق مع الأخباریین فی صورة تأخّر التفصیلی وکون العلم الإجمالی تدریجیّا، وذلک:

لأنا نعلم إجمالاً بوجود التکالیف، ثم بعد الفحص ظفرنا بعدّةٍ من الأمارات التفصیلیّة القائمة علی عدّة من الأحکام، فمع تأخّر الأمارة عن العلم الإجمالی التدریجی، یکون العلم الإجمالی علی حاله، فیؤثّر فی الأطراف التی لم تقم علیها الأمارة، ویکون منجّزا بالنسبة إلیها، فیجب الإحتیاط ولا تجری البراءة فی الشبهة بعد الفحص.

فأجاب العراقی:

صحیح أن الأمارة قد قامت بعد تحقق العلم الإجمالی، لکنّها کانت قابلةً لأنْ یقع الظفر بها قبله، فتکون منجّزة قبل الظفر بها، لکفایة قابلیّتها للتنجیز، وحینئذٍ یقع التقارن. وقد ذکرنا أنّ التقارن هو ملاک سقوط الإجمالی عن التأثیر الذی هو معنی الإنحلال الحکمی.

وتبقی الشّبهات بعد الفحص بلا دلیلٍ علی تنجّزها وتجری فیها البراءة.

طریق المحقق الإصفهانی

طریق الإصفهانی

والمحقق الإصفهانی(1) أشکل علی صاحب الکفایة ما أفاده من احتمال انطباق العلم الإجمالی الکبیر علی العلم الإجمالی الصغیر، وقال بأنه غیرمعقول،

ص: 269


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 115.

کالإنطباق القهری _ ووجه استحالة القهری هو أن الأمارة کشفها ظنّی، ومعه لایمکن زوال احتمال انطباق المعلوم بالإجمال _ علی غیر مورد الأمارة القائمة. والوجه فی ذلک هو:

إنّ الإنطباق الإحتمالی:

إن کان مع غضّ النظر عن دلیل اعتبار الأمارة، فإنّ الأمارة لمّا تقوم علی موردٍ یتحقّق احتمال انطباق الواقع بلا إشکال، لکن احتمال وجود التکلیف الواقعی فی الطرف الآخر موجود کذلک، فالعلم الإجمالی باق علی تأثیره حتی یحصل الإطمینان بوجود الواقع فی أحد الطرفین دون الآخر.

وإن کان مع النظر إلی دلیل الإعتبار، فإنّ مدلوله:

إمّا جعل الحکم المماثل للواقع بعنوان أنه الواقع.

وإمّا اعتبار المؤدّی هو الواقع.

وإمّا جعل أثر الواقع علی المؤدی.

وإمّا اعتبار الشّارع خبر الثقة علما وکشفا، وکذا غیره من الأمارات.

وعلی جمیع المبانی، لا یعقل احتمال الإنطباق.

أمّا علی الأوّل، فإن الحکم مماثل للواقع، ومماثل الشئ¨ غیره.

وأمّا علی الثانی، فیتحقق الواقع الإعتباری، وهو غیرالواقع الواقعی.

وأمّا علی الثالث، فإنطباق أثر الواقع علی الواقع نفسه غیرمعقول.

وأمّا علی الرابع، فالعلم بالواقع لا یقبل الإنطباق علی الواقع.

ص: 270

هذا إشکاله علی الکفایة.

ثم إنه حلّ المشکلة بطریقین:

الأوّل:

وهو یتشکل من مقدّمات:

الأولی: إن الأمارة وإنْ کانت قائمة وواصلة مع التأخر عن العلم الإجمالی، فإنّ منکشفها موجود من ذی قبل.

والثانیة: إن المعرضّیة للوصول کافیة للمنجّزیّة، ولیست منجزیّة الأمارة متقوّمة بالوصول. هذا فی الشبهة الحکمیّة. أما فی الموضوعیّة فلا تکفی، وإنما الوصول هو المانع من جریان الأصل. والوجه فی ذلک: وجوب الفحص فی الحکمیّة عقلاً وشرعا دون الموضوعیّة.

والثالثة: إنه لا ریب فی عدم قابلیّة المتعلّق الواحد للحکمین الفعلیین _ ولا یخفی أن صاحب الکفایة یری تضادّ الأحکام وتماثلها بأنفسها، والإصفهانی یری التضادّ والتماثل فی مرحلة الفعلیّة لا فی أنفسها _ فإنه غیرمعقول، لأنه مع وصول الحکمین إلی حدّ الفعلیّة، یقتضی کلّ واحدٍ منهما الإمتثال، فإن کانا متماثلین لزم اجتماع المتماثلین، وإنْ کانا ضدّین لزم اجتماع الضدّین، وکلاهما محال.

وکما لا یقبل المتعلَّق الواحد الحکمین الفعلیین، کذلک لا یقبل الباعثین الفعلیین، فلو جعل الشّارع مفاد قول زرارة واقعا اعتباریا، لم یعقل اعتبار خبرین

ص: 271

کذلک بالنسبة إلی المتعلّق الواحد، لأن هذین الباعثین الفعلیین یقتضیان _ بحکم العقل _ الإنبعاثین الفعلیین، فیلزم المحذور المذکور فی الحکمین الفعلیین.

إذا عرفت هذه الامور: فإنّه إذا قامت الأمارة، یکون المنکشف بها موجودا من حین العلم الإجمالی، بمقتضی المقدّمة الأولی، وهی حجّة من ذلک الوقت، لکفایة معرضّیتها للوصول بمقتضی المقدّمة الثانیة، فإن کان المجعول هو الحکم المماثل فهو فعلی من أوّل الأمر، وکذلک بناءً علی الطریقیّة أو جعل المؤدّی واقعا فی اعتبار الشّارع. إذن، یوجد حکم أو باعث فعلی _ علی المسلکین _ مقارن للعلم الإجمالی، وحینئذٍ، یتحقق ملاک الإنحلال، وإلاّ لزم احتمال اجتماع الحکمین الفعلیین _ المثلین أو النقیضین _ فی الطرف الذی قامت الأمارة علیه، لاحتمال کونه هو المعلوم بالإجمال، وهو محال بمقتضی المقدّمة الثالثة، واحتمال اجتماعهما محال کالیقین به.

فظهر الفرق بین طریق الکفایة وطریق الإصفهانی.

کما أن طریقه یختلف عن طریق العراقی، لأن ذاک قال بلزوم اجتماع المنجّزین هنا وهو ممتنع، وهذا یقول بلزوم اجتماع الفعلیین _ حکمین أو بعثین _ وهو ممتنع.

الثانی:

وهو طریق المحقق العراقی. وحاصله:

إنّ الأمارات التی هی فی معرض الوصول منجّزة مع الخصوصیّة، وبه یسقط العلم الإجمالی القائم علی تنجیز التکلیف عن التأثیر بالنسبة إلی الجامع.

ص: 272

یقول المحقّق الإصفهانی: إن هذا یتم فی الشبهة الحکمیّة، أما فی الموضوعیّة، فإنّ المعرضیّة غیرکافیة، بل الأمارة منجّزة هناک من حین قیامها، فیکون العلم الإجمالی الموجود من قبل منجّزا بلا مزاحم.

فالإشکال باق فی الشبهة الموضوعیّة، وما ذکره العراقی عن طریق تقسیم العلم إلی الدفعی والتدریجی فلا یوافق علیه، بل الجواب عن الإشکال هو:

أوّلاً: صحیح أن الأمارة قد قامت متأخرة عن العلم، لکنّ الأثر یترتب علی مفادها من ذی قبل، ولذا لو قامت علی النجاسة الآن لحکمنا بنجاسة الملاقی لها وإن کانت الملاقاة من قبل، فتکون الأمارة منجزة من قبل.

وثانیا: إن المنجّز إنما ینجّز بمقدار قیامه، ولا یمکن التنجیز بما زاد علی ما قام علیه. وهذا أمر مسلَّم به بالنسبة إلی کلّ منجّز. فهذه مقدّمة.

والتنجیز بالنسبة إلی المراد غیرمعقول، لأن المردّد لاذات له ولا وجود، فلابدّ من کون المنجّز معیّنا. وهذه مقدّمة ثانیة.

وعلی ما ذکر، فإن العلم الإجمالی لا ینجّز الأطراف، لأنه قد قام علی الجامع، فلا یؤثر بالنسبة إلی الخصوصیّة بحکم المقدّمة الأولی _ خلافا للمعروف بینهم من منجّزیة العلم الإجمالی للأطراف _ بل المنجّز هو الفطرة الإنسانیّة من جهة احتمال الإنسان وجودَ المنجّز فی کلّ طرفٍ.

وبحکم المقدّمة الثانیة: لیس المنجّز قائما علی الأحد المردّد، لکون العلم صفةً حقیقیّة، ولا یعقل تعلّقها بما لا وجود له.

ص: 273

إذن، فالعلم الإجمالی غیرمؤثّر بالنسبة إلی الأطراف، والأمارة القائمة علی المنجّزیة تنجّز بلامعارض، ولو فرض تنجیز العلم للأطراف لزم أن یکون الشئ¨ الواحد محلاًّ لتنجیزین ولو احتمالاً، وهذا محال.

فتلخص سقوط العلم الإجمالی أثرا وحکما بقیام الأمارة مثل البیّنة، وإنْ قلنا بعدم تأثیر البیّنة المتأخرة فی الزمان المتقدّم علی قیامها.

طریق المحقق النائینی

طریق المیرزا

وقال المحقق المیرزا:(1) ما هذا توضیحه: تارة: یکون المثبت للتکلیف من العلم التفصیلی والأمارة والإستصحاب والإشتغال قبل العلم أو مقارنا له. واُخری: یکون بعده. فإن کان قبله أو مقارنا له، فالعلم الإجمالی غیرمتحقّق، وإنْ کان بعده، فالإنحلال الحقیقی، وما به الإنحلال إمّا العلم الوجدانی وإمّا العلم التعبدی. وتفصیل ذلک:

إنه إن کانت الأمارة وغیرها مما ذکر، قبل العلم الإجمالی، لم یتحقق العلم الإجمالی المنجّز. نعم، قد یفید الأثر الزائد للعلم الإجمالی، کما لو قامت البیّنة علی تنجّس الإناء بالدم، ثم علم إجمالاً بوقوع البول إمّا فی هذا الإناء أو فی الطرف الآخر، فإن الأثر الزائد للعلم الإجمالی هو لزوم الغسلة الثانیة للإناء.

والبرهان علی عدم تأثیر العلم الإجمالی فی صورة تقدّم الأمارة علیه أمران:

ص: 274


1- 1. أجود التقریرات 3 / 334 _ 336.

أحدهما: إنه إذا احتمل التطابق بین المعلوم بالتفصیل مع أحد الطرفین، انحلّ العلم، لکون أحدهما مقطوعا به، فیکون فی الطرف الآخر شک بدویّ.

والثانی: إنه لا شک فی الطرف الذی قامت علیه الأمارة حتی تجری فیه أصالة الطّهارة، وحینئذٍ، تجری فی الطرف الآخر بلا معارض، فلا تنجیز للعلم الإجمالی، لأنه متقوّم بتعارض الاصول فی الأطراف.

وإنْ کانت الأمارة و... متأخرة عن العلم الإجمالی _ ولا أثر زائد للعلم _ فالعلم منحلٌّ، لأنه وإنْ تأخّرت الأمارة إلاّ أنّ مؤدّاها موجود قبل العلم الإجمالی أو مقارنا له، ببرکة دلیل اعتبارها، وحینئذٍ، یستحیل بقاء العلم الإجمالی، لأن الأمارة القائمة علی النجاسة أفادت وجودها یقینا من قبل فی الطرف الذی قامت علیه، فینکشف الآن عدم العلم الإجمالی وعدم التردد من أوّل الأمر، فالعلم منحلّ حقیقةً لاحکما، غیر أن ما به الإنحلال قد یکون تعبدیّا کالأمارة والإستصحاب، وقد یکون وجدانیّا کالعلم التفصیلی.

التحقیق فی المقام

وبعد الفراغ من ذکر کلمات الأعلام نقول:

قد أفاد شیخنا دام بقاه: إنه إن کان الدّلیل علی التفصیل وتعیّن المعلوم بالإجمال هو العلم، فلا إشکال فیما ذکروا من الإنحلال، وإنْ کان هو الأمارة، فقد قال المحقق العراقی: هذا من جعل البدل مثل قاعدة الفراغ. وفیه تأمّل، لأن جعل

ص: 275

البدل إنما یکون فی مقام الفراغ من التکلیف، وهذا مفاد قاعدة الفراغ، حیث جاء فی دلیلها: «بلی قد رکعت»(1) أی: إن ما جئت به مع الشک مجعول بدلاً عن الواقع. لکنّ کلامنا هنا فی مقام الإشتغال بالتکلیف لا الفراغ منه، فلمّا یعلم إجمالاً بوجود التکالیف الشرعیّة، وتقوم الأمارات علی بعضٍ منها، لا یکون مدلول تلک الأمارات هو البدلیّة عن الواقع، بل إن الأمارات توجب اشتغال الذمّة بالأحکام الشرعیّة فی تلک الأطراف التی قامت علیها من بین أطراف العلم الإجمالی، فلسانها لسان تعیین التکلیف الواقعی فی مقام الإشتغال لا جعل البدلیة فی مقام الإمتثال. نعم، عندما أتی المکلّف بما دلّت الأمارة علیه من الحکم، یحکم العقل بکون ما أتی به بدلاً عن الواقع إن لم یکن نفس الواقع.

ثم إنّ تحقیق الکلام فی الإنحلال أنْ یقال:

إنْ کان عندنا علم إجمالی بالتکلیف، ثم قام المنجّز للتکلیف فی طرف _ وهو إمّا العلم، وهو ذو الکاشفیّة التامة، أو الأمارة وهو ذو الکاشفیّة الناقصة، أو الأصل ولا کاشفیّة له أصلاً، وهو إمّا شرعی کالإستصحاب، وإمّا عقلی کالإشتغال _ فإمّا یکون قبل العلم الإجمالی وإما بعده وإما مقارنا له، وحیث یکون بعده، فإمّا یکون مفاده سابقا علی قیامه، بمعنی کشفه عن ثبوت التکلیف من قبل زمان العلم الإجمالی، وإمّا یکون مدلوله هو التکلیف من زمان العلم.

فإنْ کان المفصّل المنجّز للحکم سابقا علی العلم الإجمالی أو مقارنا له، فلا

ص: 276


1- 1. وسائل الشیعة 6 / 317، باب عدم بطلان الصّلاة بالشک فی الرکوع بعد السجود.

ریب فی منعه من تحقق العلم الإجمالی، فإنه لا یعقل تحققّه مع وجود العلم التفصیلی _ مثلاً _ قبله أو مقارنا له.

وإن کان متأخرا عن العلم الإجمالی، فهو مورد البحث، فهل یبقی العلم الإجمالی مع قیام المفصّل بعده أو ینحلّ؟ حقیقةً أو حکما؟ أو یفصّل بین ما إذا کان المعلوم بالتفصیل من قبل، وما إذا کان منذ العلم الإجمالی؟ وجوه.

والأقرب هو الوجه الأخیر، فإنه إن کان المعلوم بالتفصیل سابقا فالإنحلال یتحقق حقیقةً، ولیس من تبدّل الصّورة، وإنْ کان متأخرا فلا انحلال، لأنّ وجوب الإجتناب عن أحد الإناءین کان من أوّل النهار إلی الآن، والتیّقن بوقوع النجاسة عند الزوال فی الإناء الشرقی _ مثلاً _ لا یرفع التکلیف السّابق بوجوب الإجتناب عنه أو عن الغربی، ویکون وزان هذه الصّورة وزان الإضطرار إلی طرفٍ أو تلفه، حیث یبقی العلم الإجمالی علی قوّته ومؤثرا أثره.

هذا بالنسبة إلی العلم التفصیلی، وبما ذکرناه تعرف ما فی بعض کلمات المحقق العراقی.

وأمّا بالنسبة إلی الأمارة، فإنّ ملخّص کلام المحقق الإصفهانی هو: أنه یکون المنکشف بالأمارة المتأخّرة سابقا، وإن کونها فی معرض الوصول یکفی لمنجّزیّتها من قبل، فلا علم إجمالی بالتکلیف علی کلّ تقدیر، فلو لم یسقط عن التأثیر یلزم اجتماع الحکمین الفعلیین فی موردٍ، وهو محال. خلافا للعراقی القائل بالإنحلال الحکمی ولصاحب الکفایة القائل باحتمال الإنطباق.

ص: 277

ولکنّ الفعلیّة إمّا من قبل المولی وإمّا من قبل المکلف، لأنَّ الحکم إذا تمّ الملاک له ووجدت القدرة علی الامتثال، بناءً علی کونها شرطا للحکم، أنشأه المولی بداعی جعل الداعی، فإذا صدر الحکم وکان الموضوع محققا ووصل إلی المکلّف إجمالاً أو تفصیلاً، تنجّز من قبل المولی وترتب علیه استحقاق العقاب أو الثواب. هذا علی مبنی المشهور.

وذهب الإصفهانی إلی أن الفعلیّة من قبل المکلّف تکون بالوصول، ومن قبل المولی بالإنشاء بداعی جعل الداعی، ولا فرق فی الوصول بین الإجمالی والتفصیلی.

والحاصل: إن علم المکلّف سواء کان تفصیلیّا أو إجمالیا، لا دخل له _ عند القوم _ فی فعلیّة الحکم من قبل المولی، أی الإنشاء بداعی جعل الداعی، إلاّ إذا کان له دخل فی نفس الملاک، کموضوعیّته فی «الشهادة» علی المبنی، إلاّ أنّ الإصفهانی یری دخله فی الفعلیّة. وعلی هذا، فبمحرّد حصول العلم الإجمالی تتحقّق الفعلیّة للحکم، _ أللهم إلاّ إذا کان الدخیل خصوص العلم التفصیلی _ فعدم تأثیر العلم الإجمالی فی الفعلیّة من قبل العبد غیرمعقول علی مسلک الإصفهانی.

وأمّا المیرزا، فکلامه یرجع إلی ما أفاده صاحب الکفایة أوّلاً من احتمال انطباق مؤدّی الأمارة علی مورد العلم الإجمالی.

فإن قلت: إذا قامت الأمارة علی طرف، فقد تحقق التکلیف بوجوب الإجتناب، وقد کان هذا التکلیف موجودا من أوّل الأمر، فلا یمکن دعوی العلم

ص: 278

بتکلیف غیر هذا التکلیف، فلا علم إجمالی بعد قیام الأمارة، لاحتمال کون هذا نفس المعلوم من أوّل النهار.

قلت: مذهب المیرزا هو أن للعلم ثلاث جهات:

الأولی: جهة الصّفتیة، إذ «العلم» عبارة عن الصّورة النفسانیّة التی لها حکایة عن الخارج بالذات.

والثانیة: جهة الطریقیّة إلی الواقع والفناء فی الخارج، وفی هذه الجهة لا تُری الجهة الأولی.

والثالثة: جهة الجری العملی والحرکة علی طبق العلم، وهذه الحرکة عملیّة فطریّة ناشئة من الجهة الصفتیّة.

وفی الأمارة، اعتبر الشّارع الجهة الثانیة من جهات العلم وجعلها قائمةً مقامه فیها، وهی جهة إراءة الخارج، وفی الاصول المحرزة التنزیلیة، کالإستصحاب وقاعدة الفراغ _ علی المبنی _ اعتبر الجهة الثالثة، فقوله علیه السّلام: «ابن علی الأکثر» یعنی اجعل عملک علی کذا وتحرّک علی طبقه، لکنْ لا بعنوان أنه الواقع، وتکون الاصول هذه فرش الأمارات، لعدم إراءة الواقع، ومن جهة لزوم الجری العملی _ بخلاف الاصول غیرالتنزیلیّة _ تکون عرش الاصول غیرالتنزیلیّة.

وحیث أن الأمارة تکشف عن الواقع وتکون طریقا إلیه، فهی فی طول الواقع.

ص: 279

وعلی هذا نقول: إنه یستحیل الإنحلال الحقیقی، وذلک:

أمّا علی مبنی جعل الطریقیّة، فإنّ المیرزا حلّ مشکلة الجمع بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی بأنّ المعتبر فی الأمارة جهة الإرائة للواقع، فلیس المجعول فیها إلاّ أمرا وضعیّا لا علاقة له بالتکلیف، فالأمارة لا تفید تکلیفا ولا هی منتزعة من التکلیف، کما قال الشیخ فی الأحکام الوضعیّة، وإذْ لا تأتی الأمارة بوجوب الإجتناب مثلاً، کیف یقول المیرزا بالإنحلال الحقیقی بقیامها؟

وکذلک الکلام فی الاصول المحرزة، حیث ذهب إلی أن المجعول فیها هو الجری العملی _ وبذلک رفع التنافی بینها وبین الحکم الواقعی _ وإذْ لا یفید دلیل الإستصحاب إلاّ عدم النقض عملاً ولا ربط له بوجوب الإجتناب، کیف یتقدّم علی العلم الإجمالی لاحتمال الإنطباق وینحلّ حقیقةً؟ هذا فی الإستصحاب.

وفی الإحتیاط، قال: بأن المجعول فیه بأدلّته هو الحکم الطریقی فی طول الحکم الواقعی، وحینئذٍ، یستحیل احتمال الإنطباق، لوجهین: أحدهما: کون هذا الحکم طریقیّا والحکم الواقعی نفسی. والثانی: کونه فی طول الواقعی، فلا یعقل الإنطباق علیه.

ثم إنه ینقض علی المیرزا هنا بما ذکره فی جعل البدل، فإنّه فی مورد جعل البدل لا تصرّف فی نفس العلم بالتکلیف، فالعلم محفوظ ولا تعبّد فی إلغائه، بل

ص: 280

الشّارع یجتزئ فی مقام الإمتثال بما أتی به المکلّف، وحیث یکون العلم باقیا فلابدّ من تأثیره. فما یقوله هناک نقوله فیما نحن فیه.

وحلّ المطلب هو: تأثیر الأمارة شرعا، حیث تلغی الإحتمال فی الطرف المقابل، وبذلک ترتفع القضیّة المنفصلة، ویکون العلم منحلاًّ انحلالاً شرعیّا تعبدیّا. ونفس هذا الحلّ یأتی فی صورة جعل البدل.

هذا تمام الکلام فی الدّلیل العقلی الأوّل للأخباریین.

الوجه الثانی
اشارة

وهذا الوجه مرکّب من صغری وکبری.

الصّغری: إنّ الشّبهات البدویّة بعد الفحص لا حکم شرعی فیها. ولو سلّم فإنّ ما ورد فی الرخصة فیها معارض بما دلّ علی لزوم الإحتیاط. فیتساقطان، وتخلو الشبهة عن الحکم الشرعی.

والکبری هی: إن کلّ ما لم یثبت فیه حکم شرعی، فالأصل فیه هو الحظر.

ومع التنزّل عن القول بالحظر، فلا أقل من القول بالتوقف، لأنّ ما لم یعلم خلوّه عن المفسدة فهو بمنزلة ما علم مفسدته.

وما ذهب إلیه السیّد(1) من القول بالأباحة من جهة أن مقتضی قاعدة اللّطف هو إعلام الشّارع عن المفسدة، وحیث لا إعلام فلا مفسدة.

ص: 281


1- 1. الذریعة إلی اصول الشریعة 2 / 328.

أجاب عنه شیخ الطائفة(1): باحتمال کون المفسدة فی نفس الإعلام، أو کون المصلحة فی التوقف.

جواب الشیخ والنظر فیه

جواب الشیخ

أجاب الشیخ قدس سرّه:(2) بأنا لو سلمّنا الضرر، فإنّ الضّرر إنْ کان هو العقاب الاخروی، فإنّ قاعدة قبح العقاب مؤمّنة. وإن کان غیره، فلا دلیل علی وجوب دفعه.

هذا أوّلاً.

وثانیا: إن المحرّم هو الإضرار، وفی الشّبهات الحکمیّة تحقّقه مشکوک فیه، ومع الشک تکون الشبهة موضوعیّة، والبراءة جاریة فیها بالإتفاق.

النظر فیه

وهذا الجواب مخدوش، لأنه بعد التسلیم بوجوب دفع الضرّر، لا معنی للتشقیق والتردید. والصّحیح عدم التسلیم.

هذا أوّلاً.

وثانیا: إن الإستدلال لأصالة الحظر مبنی علی قاعدة عدم جواز التصرّف فی

ص: 282


1- 1. العدّة فی اصول الفقه 2 / 742.
2- 2. فرائد الاصول: 214.

مال الغیر بدون إذنه، ولأصالة التوقف علی أن مشکوک المفسدة ارتکابه بمنزلة معلوم المفسدة. وما ذکره الشیخ لا ربط له بهذین الأصلین.

علی أنه ما المراد من الضّرر غیر العقاب؟

هل هو خصوص النفس والعرض والمال أو الأعم منها ومن سائر المفاسد؟

إن أراد الشیخ الأعم، فلا ریب فی لزوم دفع المفسدة، ولا کلام لأحدٍ أصلاً، بل هو من الضروریات، والکلام فی وجوب دفع الضّرر بعنوان المفسدة المشکوک فیها.

وإن أراد الأخصّ، فلا أثر لهذه الامور فی استدلال شیخ الطائفة.

جواب الکفایة، وهو الصحیح

جواب الکفایة

وأجاب المحقق الخراسانی(1) بوجوه:

الأوّل: إنه لا یصح الاستدلال بما فیه الإختلاف، لأن الکبری مختلف فیها جدّا.

الثانی: لو سلّمنا أصالة الحظر، فإن هذا الأصل جارٍ فیما لا مرخّص فیه، والمرخّص هنا موجود ومعارضه مندفع.

الثالث: إنه فرق بین الموردین، فهناک لا تکلیف، فالعقل یحکم بالحظر أو الوقف، وهنا التکلیف موجود، لعدم خلوّ الواقعة من الحکم إلالآهی إلاّ أنه غیر

ص: 283


1- 1. کفایة الاصول: 348.

واصل، فیحتمل الإباحة کما یحتمل غیرها، ومع هذا، فالمؤمّن موجود وهو قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

أقول:

والحق تمامیّة هذه الأجوبة. وما ذکره الإصفهانی(1) علی الأوّل والثالث منها غیر وارد.

هذا تمام الکلام فی استدلال الأخباریین بالعقل.

وبه یتمّ البحث عن أدلّة القول بالإحتیاط.

ویقع البحث فی استدلال الاصولیین بالإستصحاب للبراءة.

ص: 284


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 130.
استدلال الأُصولیین للبراءة بالإستصحاب

استدلال الأُصولیین بالإستصحاب

وتمسّک الاصولیون القائلون بالبراءة فیالشّبهات الحکمیّة التحریمیّة باستصحاب البراءة الیقینیّة فی حال الصغر والجنون. فالمکلّف فیحال صغره لم یکن مکلّفا بالإجتناب عمّا یشک فی حرمته شرعا، وبعد البلوغ یشکُ فی توجّه الخطاب إلیه بالإحتیاط، ومقتضی الإستصحاب بقاء عدم تکلیفه به وبراءة ذمّته عنه.

جواب الشیخ

وأجاب عنه الشیخ(1) بوجهین:

الأوّل: إن هذا الإستدلال مبنی علی اعتبار الإستصحاب من باب الظنّ، فیکون الإستصحاب من الأمارات، ومثبتات الأمارات حجّة. فإذا جری الإستصحاب حصل منه الیقین بعدم العقاب، وهو ملازم للرّخصة فی الإرتکاب،

ص: 285


1- 1. فرائد الاصول: 204.

والترخیص هو الإباحة التی هی من الأحکام الخمسة المعلومة التی لا تخلو الواقعة من أحد تلک الأحکام.

إشکالٌ و دفع

لکن فیه: إن الإستصحاب من الاصول العملیّة، ومثبتات الاصول لیست بحجّةٍ، وحینئذٍ، یبقی احتمال العقاب بعد البلوغ علی حاله ولا دافع له إلاّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان. فیکون الاستدلال بالإستصحاب لغوا.

وقد دفع صاحب الکفایة(1) هذا الإشکال: بأن أرکان هذا الإستصحاب تامّة، وهو یفید عدم التکلیف المستلزم للقطع بعدم استحقاق العقاب، وعدم التکلیف بنفسه کافٍ سواء کان واقعیّا أو ظاهریّا حاصلاً بالإستصحاب مثلاً، من دون حاجةٍ إلی اللاّزم وهو الترخیص حتی یقال بأنه أصل مثبت لا نقول به.

علی أنّ الترخیص لازم الإستصحاب _ لا لازم المستصحب _ ولازم الإستصحاب حجة. فاندفع الإشکال.

وقد ذکر فی مصباح الاصول(2) جوابا آخر هو: إنه یمکن جریان الإستصحاب فی نفس الترخیص الشرعی المتیقَّن ثبوته قبل البلوغ لحدیث رفع القلم وأمثاله، فیحصل منه القطع بعدم العقاب بلا واسطة شئ¨ آخر.

ص: 286


1- 1. درر الفوائد: 207.
2- 2. مصباح الاصول 2 / 294.

وفیه نظر:

لأنا لم نعثر علی نصّ یدلّ بالمطابقة علی جعل الشّارع الترخیص للصبیّ، وأمّا حدیث رفع القلم فیدلُّ علی عدم جعل التکلیف، فدلالته علی الترخیص تکون بالملازمة، فکان الترخیص لازما عقلیّا للحدیث ولیس مجعولاً شرعیّا.

الثانی: ما ذکره بقوله: مع أنه یمکن النظر فیه بناءً علی ما سیجئ من اشتراط العلم ببقاء الموضوع فی الإستصحاب، وموضوع البراءة فی السّابق ومناطها هو الصّغیر غیرالقابل للتکلیف، فانسحابها فی القابل أشبه بالقیاس من الإستصحاب. فتأمّل.

قیل فی وجه التأمّل: إنه إشارة إلی المسامحة العرفیّة فی موضوع الإستصحاب، ولأجل ذلک یکون هذا الإستصحاب سالما عن إشکال تبدّل الموضوع.

وفیه: إن هذا الکلام غیرصحیح، لأنّ بقاء الموضوع ووحدته _ وإنْ لم یکن مبنیّا علی الدقّة العقلیّة _ مبنّی علی الدقّة العرفیّة.

وبعبارة اخری: إنه _ وإنْ لم نعتبر الدقة العقلیّة _ نعتبر الدقّة العرفیّة، ولا شک فی أن أهل العرف یفرّقون بین الصبّی والبالغ.

فالصّحیح _ کما ذکر المحقق الخراسانی(1) _ أن وجه التأمل هو تفریق الشیخ

ص: 287


1- 1. درر الفوائد: 208.

بین حکم العقل المستند إلی عدم المقتضی فیجری الإستصحاب، وحکم العقل المستند إلی مقتضی العدم فلا یجری. وذلک:

لأنّ حکم العقل بعدم تکلیف الصبیّ إن کان مستندا إلی عدم المقتضی للتکلیف _ أمّا قبل الولادة، فلعدم الموضوع. وأمّا بعدها، فلعدم البلوغ _ جری استصحاب هذا العدم. وإن کان مستندا إلی مقتضی العدم وهو الصّبی، فلا یستصحب هذا الحکم بعد زواله، لتغیّر الموضوع وتبدّله.

فظهر أن تفصیل الشیخ فی الأحکام العقلیّة من حیث جریان الإستصحاب وعدمه، فهو یقول هنا بجریان استصحاب العدم الأزلی، وعدم جریان العدم المستند إلی مقتضی العدم.

رأی المحقق النائینی

رأی المیرزا

وقال المحقّق المیرزا(1): إن الشک فی حدوث الحکم، إمّا أن یکون من جهة الشک فی حدوث موضوعه وشرطه، وإمّا أن یکون من جهة الشک فی أصل الجعل الشرعی.

أمّا القسم الأوّل، فلا إشکال فی جریان استصحاب العدم فی ناحیة الشرط والموضوع، ویترتب علیه عدم الحکم فیما إذا کان عدم الشرط معلوما سابقا.

وأمّا القسم الثانی، وهو ما إذا کان الشک من جهة الشک فی أصل الجعل

ص: 288


1- 1. أجود التقریرات 3 / 329.

الشرعی، فربما یقال بعدم جریان الإستصحاب مطلقا، نظرا إلی أنّ المستصحب لابدّ وأنْ یکون حکما مجعولاً أو موضوعا ذا حکم مجعول أیضا، وعدم الحکم من جهة کون الأعدام أزلیةً یستحیل أن یکون مجعولاً، ولیس له أثر مجعول، فلا یمکن أن یقع موردا للتعبد الاستصحابی.

والجواب عن ذلک هو: أنّ الأعدام وإنْ لم تکن مقدورةً فی الأزل، إلاّ أنها مقدورة بقاءً واستمرارا، فکما أن التحریم بید الشّارع، فکذلک عدمه بیده، فلا ریب فی صحة جریان الإستصحاب فی الأعدام فی الجملة.

ثم إنه أشکل علی التمسک بالإستصحاب فی المقام بوجهین:

أحدهما: إن العدم الثابت فی حال الصّغر لیس إلاّ بمعنی اللآحرجیّة العقلیّة، وهذا قد ارتفع یقینا بجعل أحد الحکمین من الترخیص والحرمة بعد البلوغ، فهو غیرمحتمل البقاء حتی یمکن استصحابه.

والثانی: إن عدم الحرمة إذا کان باقیا بعد البلوغ أیضا، فهو حینئذٍ عدم مستند إلی الشّارع و مضاف إلیه، لما ذکرناه من أن عدم الحکم _ کنفس الحکم _ بیده وبتصرّفه، وهذا بخلاف العدم السّابق فإنه أجنبی عن الشّارع بالکلیّة. فاستصحاب العدم السّابق وإثبات إضافته إلی الشّارع داخل فیالاصول المثبتة الممنوع جریانها بناءً علی کون الإستصحاب حجةً من باب الأخبار، کما هو کذلک.

والجواب:

أمّا عن الوجه الأوّل: فإن اللاّحرجیّة الشرعیّة، لیست من لوازم اللاّحرجیّة العقلیّة لا واقعا ولا ظاهرا.

ص: 289

وأیضا، فإن عدم التکلیف فی الصبیّ غیرالممیز ثابت، بمعنی أنه غیرقابل لجعل التکلیف له، ولیس کذلک الممیّز، فاللاّحرجیّة العقلیّة مختصّة بغیر الممیّز، والممیّز یصح وضع التکلیف له لأنه قابل له فیصح رفعه عنه.

وأمّا عن الثانی، فبأن الإنتساب أثر لنفس الإستصحاب ولیس بمثبت.

رأی المحقق العراقی

رأی العراقی

وذکر المحقق العراقی(1): أن المستصحب إمّا عدم التکلیف وإمّا عدم الإشتغال العقلی وإمّا عدم استحقاق العقاب.

قال:

ولا یجری الإستصحاب فی الثانی والثالث، وذلک: لأنّه إن کان هناک بیانٌ علی التکلیف، فلا شک فی الإشتغال والإستحقاق، وإنْ لم یکن بیانٌ علیه، فلا شک فی عدمه، ومع عدم الشک لا إستصحاب.

علی أنه لو شک فی الإشتغال والإستحقاق، فإنّ ذلک سیکون موضوعا لقاعدة «وجوب دفع الضّرر المحتمل» العقلیّة، وحینئذٍ، یلزم الإحتیاط والتوقف ولایجری الإستصحاب.

قال:

ومع الإغماض عمّا ذکر، لا یرد علیه الإشکال بکون المستصحب من

ص: 290


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 238.

الأحکام العقلیّة، لاندفاعه بما تقدّم فی حدیث الرفع من کفایة کونه بمنشأه شرعیّا فی شمول دلیل التعبّد لمثله، من جهة أنّ للشارع حینئذٍ رفع الاستحقاق المزبور بتوسیط منشأه وهو الإذن والترخیص فی الارتکاب وعدم إیجابه للإحتیاط _ إنتهی.

أقول:

إن التعلیل بالأمر الخارجی متأخّر دائما عن التعلیل بالأمر الداخلی، فمع وجوده لا تصل النوبة إلی التعلیل بالخارجی. وعلیه: إذا کان الحکمان عقلیین، فإن العقل یستحیل أن یکون شاکّا فی حکمه، بل إمّا یحکم وإمّا لا یحکم، ومع وجود هذه العلّة لا تصل النوبة إلی التعلیل بأنه إنْ کان بیان فلا شک، وإنْ لم یکن فلا شک کذلک. فما ذکره مخالف للصناعة العلمیّة.

ثم إنّ الإستصحاب هنا غیر جارٍ، لأن المفروض حصول التبدّل فی الموضوع، وإلاّ لما وقع البحث عن جریانه وعدم جریانه، وقد تقرّر أن جمیع الخصوصیّات الدخیلة فی موضوعات الأحکام العقلیّة هی من قبیل المقوّمات، فمع تبدّل شئ¨ منها یتغیّر الموضوع فلا یجری الإستصحاب، والتبدّل هنا حاصلٌ، لأنه لم یکن بالغا فبلغ.

وأمّا جوابه عن الإشکال الذی ذکره. ففیه: إنه مع وجود المنشأ الشرعی یکون الإستصحاب جاریا فی نفس المنشأ، ولا معنی لجریانه فی الحکم الشرعی.

هذا، ویبقی استصحاب عدم التکلیف، وقد اختار جریانه.

ص: 291

رأی المحقق الخوئی

رأی المحقق الخوئی

و قال السیّد الخوئی رحمه اللّه: بأنّ الأحکام الشرعیّة لها مرتبتان، مرتبة الجعل والتشریع و مرتبة الفعلیّة.

قال: أمّا تقریب الإستدلال باعتبار المرتبة الأولی فهو: إن الأحکام الشرعیّة لمّا کانت فی جعلها تدریجیةً، فالحکم المشکوک فیه لم یکن مجعولاً فی زمانٍ قطعاً، فنستصحب ذلک ما لم یحصل الیقین بجعله.

وأورد علی هذا التقریب بإیرادین:

أحدهما: أن عدم الجعل المتیقن عدم محمولی، و العدم المشکوک فیه هو العدم النعتی المنتسب إلی الشّارع، ولا یمکن إثبات العدم النعتی باستصحاب العدم المحمولی إلاّ علی القول بالاصل المثبت. و بعبارة اخری: العدم المتیقن هو العدم قبل الشرع و الشریعة، و هو غیر منتسب إلی الشّارع. و العدم المشکوک فیه هو العدم المنسوب إلی الشّارع بعد ورود الشّرع من قبله، فالمتیقّن غیر محتمل البقاء، و ما هو مشکوک الحدوث لم یکن متیقناً سابقاً.

وفیه:

إن المستصحب إمّا هو العدم المنتسب إلی الشّارع بعد ورود الشّرع، لما عرفت من أن جعل الأحکام کان تدریجیّاً، فقد مضی من الشریعة زمان لم یکن الحکم المشکوک فیه مجعولا یقیناً، فیستصحب ذلک.

مع أن الإنتساب یثبت بنفس الإستصحاب.

ص: 292

ثانیهما: إن المحرّک للعبد _ أعنی الباعث أو الزاجر له _ إنما هو التکلیف الفعلی لا الإنشائی، فالحکم الإنشائی، مما لا یترتب علیه أثر، و من الواضح إنه لا یمکن إثبات عدم التکلیف الفعلی باستصحاب عدم الجعل، إلاّ علی القول بالأصل المثبت.

و فیه:

أوّلاً: النقض باستصحاب عدم النسخ و بقاء الجعل الذی لا خلاف فی جریانه، فلو کان نفی الحکم الفعلی باستصحاب عدم الجعل من الأصل المثبت، کان إثبات الحکم الفعلی باستصحاب بقاء الجعل و عدم النسخ أیضاً کذلک.

ثانیاً: إن الإنشاء هو إبراز أمر اعتباری علی ما ذکرناه غیر مرّة، و الإعتبار کما یمکن تعلّقه بأمر فعلی یمکن تعلّقه بأمرٍ متأخر مقیّد بقیود، فلیس جعل الحکم وإنشاؤه إلاّ عبارة عن اعتبار شی ء علی ذمّة المکلّف فی ظرف خاص. و یتحقق المعتبر بمجرد الإعتبار، بل هما أمر واحد حقیقة، والفرق بینهما اعتباری کالوجود والإیجاد. فالحکم الفعلی هو الحکم الإنشائی مع فرض تحقق قیوده المأخوذة فیه. و علیه، فاستصحاب الحکم الإنشائی أو عدمه هو استصحاب الحکم الفعلی أو عدمه. نعم، مجرّد ثبوت الحکم فی عالم الإعتبار لا یترتب علیه وجوب الإطاعة بحکم العقل قبل تحقق موضوعه بقیوده فی الخارج، و لیس ذلک إلاّ من جهة أن الإعتبار قد تعلّق بظرف وجود الموضوع علی نحو القضیّة الحقیقیّة من أوّل الأمر، فمع عدم تحقق الموضوع لا یکون حکم و تکلیف علی المکلّف. و بعد تحقق

ص: 293

الموضوع بقیوده خارجاً لا یکون المحرّک إلاّ نفس الإعتبار السّابق لا أمر آخر یسمی بالحکم الفعلی.

فتحصّل بما ذکرناه: أن الإستدلال بالإستصحاب علی هذا التقریب ممّا لا بأس به. و علیه، فلا یبقی مورد للرجوع إلی البراءة الشرعیّة أو العقلیّة.(1)

مناقشة الاستاذ فی النقض والحلّ

وقد ناقشه شیخنا الاستاذ دام بقاه: أمّا فی نقضه، فبأنه لا ملزم لاستصحاب بقاء الجعل فی النسخ، بل نستصحب عدم المجعول، لأن النسخ إمّا إنتهاء أمد الحکم المجعول _ کما هو الحق _ وإمّا رفع الحکم المجعول. فتارة: یکون النسخ قبل حضور وقت العمل، فلا ربط لهذا بالمجعول، والنقض تام، ولکنّ النسخ قبل حضور وقت العمل باطل. و تارةً: یکون بعده، فهو بعد تحقق الموضوع بقیوده و شروطه، فلا محالة یرجع الشکّ إلی أنه هل المجعول الذی جاء علی هذا الموضوع أمده إلی هذا الحدّ من الزمان أو لا؟ فیستصحب بقاء الحکم المجعول و عدم انتهاء أمده. نعم، الأمر ینتهی إلی الشک فی المقتضی، مثل الشک فی بقاء الزوجیّة فی العقد المنقطع، فهناک یستصحب بقاء المجعول _ و هو الزوجیّة _ و یقال بعدم انتهاء الأمد، فمن یقول بجریان الإستصحاب مع الشک فی وجود المقتضی أمکنه الإجراء هنا، وإلاّ فلا إلاّ علی القول بأنّ النسخ رفع الحکم، فهو شک فی الرافع، فیتمّ له الإستصحاب.

ص: 294


1- 1. مصباح الاصول 2 / 290.

وأمّا فی حلّه، فبأنه لا یعقل الإتحاد بین الإعتبار والمعتبر، فالإعتبار من الامور الواقعیّة التکوینیّة، و المعتبر من الامور الإعتباریّة، کالحرمة والوجوب والزوجیّة والملکیّة. إذن، وزان الإعتبار والمعتبر غیر وزان الإیجاد والوجود، والمعتبر بلحاظ صدوره من الإعتبار التکوینی جعل، و بالنظر إلی نفسه مجعول، فالحرمة أمر وجوده إعتباری، ولکن إذا لوحظ تحقیقه فهو مصدر، و إذا لوحظ تحقّقه فهو اسم مصدر.

وبعبارة اخری: الإعتبار فرض، والفرض موجود واقعی تکوینی، والمعتبر فرضی و هو اعتبار.

فقد وقع الخلط بین الإعتبار والإعتباری، والفرض والفرضی، والمتّحد هو الفرضی والإعتباری، فإنه بالنظر إلی الفاعل جعل و إیجاد، وبالنظر إلی القابل مجعول و موجود.

والإعتبار من مقولة التخیّل، والمعتبر هو المتخیّل. و هذا هو الإشکال الأوّل.

والثانی: إذا کان الجعل والمجعول واحداً، لم یمکن الإشکال فی الشبهات الحکمیّة بالمعارضة بین إستصحاب عدم الجعل و بقاء المجعول، لأن المعارضة متقوّمة بالتغایر، والحال أنه قائل بالمعارضة.

و علی الجملة، فإن جواب المصباح غیر تام نقضاً وحلاًّ.

وقد أوضح مقرّر بحث المیرزا هذا المبنی فی مبحث الإستصحاب:(1) بأنّ

ص: 295


1- 1. فوائد الاصول 4/61.

ظرف قبل وجود الموضوع خارجاً بجمیع قیوده و شروطه ظرف للجعل وعدمه، و إذا وجد الموضوع کذلک کان ظرف المجعول و عدمه. فوجود الحکم الفعلی متقوّم بوجود موضوعه، و کذلک عدم الحکم الفعلی متقوّم به، لأن الوجود والعدم فی مرتبةٍ واحدة، و إذ لا مجعول فی الزمان السّابق فلا حالة سابقة لهذا الإستصحاب، وإن أرید إثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل _ الکائن قبل تحقق الموضوع _ فهذا أصل مثبت.

ثم إنه رحمه اللّه طبّق هذا المبنی علی مسألة الشک فی الزوال، فمن شک فی تحقق الزوال کان له استصحاب العدم، أی عدم وجوب الصّلاة الذی کان قبل الزوال، لأنه عدم المجعول «لا عدم الجعل» من جهة وجود الموضوع و تحققه، غیر أنه عدم سابق علی حضور وقت العمل بذلک الحکم المجعول.

و التحقیق فی الجواب:

أوّلاً: إن العدم نقیض الوجود، و إذا لم یکن قبل وجود الموضوع لا مجعول ولا عدم المجعول، لزم خلوّ الواقع عن النقیضین، وارتفاع النقیضین محال.

وثانیاً: إن وجود الحکم متقوّم بوجود الموضوع، و هذا التقوّم ملاک التأخر، لکنّ عدم الحکم غیر متقوّم بوجود الموضوع، فلا ملاک للتأخر. وحینئذٍ، لا مانع من إجراء الإستصحاب فی عدم الحکم الثابت فی الأزل وقبل الموضوع...

وأمّا تطبیقه ما ذکره علی مسألة الشک فی الزوال.

ففیه: أنه قد تقرّر لدی المیرزا أن کلّ شرط موضوع و کلّ موضوع شرط، و

ص: 296

قد بنی علی ذلک فی مواضع متعدّدة، و علیه، فإن وجوب الصّلاة لمّا اشترط بالزوال، فإنه قبل تحقق الزّوال لا وجوب فلا عدم وجوب، فلا مجعول و لا عدم مجعول، حتی یستصحب.

قال:

وأمّا تقریب الإستدلال بالإستصحاب باعتبار المرتبة الثانیة للحکم و هی المرتبة الفعلیة، فهو إستصحاب عدم التکلیف الفعلی المتیقّن قبل البلوغ.

و قد أورد علی هذا التقریب بوجوه.

فأورد إشکالات الشیخ والمحقق النائینی، وتکلّم علیها، وذکر الخامس قائلاً:

الوجه الخامس: ما یظهر من کلام الشیخ و هو: إنه یعتبر فی جریان الإستصحاب إتحاد القضیّة المتیقّنة والمشکوکة، لیصدق نقض الیقین بالشک عند عدم ترتیب الأثر حین الشک، فإنه مع عدمه کان إثبات حکم المتیقّن للمشکوک من إسراء الحکم من موضوع إلی موضوع آخر، و ذلک داخل فی القیاس لا فی الإستصحاب، و فی المقام لا اتحاد للقضیّة المتیقنّة والمشکوکة من حیث الموضوع، إذ الترخیص المتیقن ثابت لعنوان الصبّی... و هو مرتفع بارتفاع موضوعه والمشکوک فیه هو الترخیص لموضوع آخر، و هو للبالغ، فلا مجال لجریان الإستصحاب.

والإنصاف: أن هذا الإشکال وارد علی الإستدلال بالإستصحاب فی المقام.

ص: 297

أقول:

و هذا هو الصّحیح کما علم مما تقدّم.

شبهة التعارض بین الاستصحابین

بقی الکلام فی شبهة التعارض بین الاستصحابین

إنه إذا کان عدم الجعل غیر عدم المجعول، فإنه تقع المعارضة بین إستصحاب عدم جعل الحرمة وإستصحاب عدم جعل الترخیص سابقا، والواقع غیر خالٍ عن أحدهما، وإذا جریا تعارضا وتساقطا، وتصل النوبة إلی البراءة.

وعلی الجملة، فإنه بناءً علی جریان إستصحاب عدم الحرمة، لوجود المقتضی له بعد إندفاع الإشکالات، فإنّ المانع عن جریانه هو إستصحاب عدم جعل الترخیص سابقا.

وهذا الإشکال یتوجّه علی بعض المبانی دون بعض.

فهو وارد علی مبنی المحقق النائینی القائل بأنّ التعبّدین لایجتمعان مع الیقین والوجدان بمخالفة أحد التعبّدین للواقع، فالمانع من الجریان علی مسلکه ثبوتی.

وهو وارد علی مبنی الشیخ القائل بأنّ منشأ المعارضة عبارة عن التعارض فی أخبار الإستصحاب صدرا وذیلاً، فإن فی صدرها «لاتنقض الیقین بالشک» ومقتضاه هو القول بالحرمة للإستصحاب وبالترخیص للإستصحاب، لکنْ فی ذیلها: «بل انقضه بیقینٍ آخر» فهو أمر بالنقض بالیقین، والمفروض وجوده، فأحد

ص: 298

الحکمین منقوض یقینا، فتقع المعارضة بین الإستصحاب، للتعارض بین صدر وذیل دلیل التعبّد.

وهو غیر وارد علی مبنی من یقول بعدم التنافی بین الیقینین التعبّدیین مع الیقین الوجدانی القائم علی خلاف أحدهما، فالإستصحابان جاریان. نعم، التنافی موجود بین الیقینین الوجدانیین مع الیقین الوجدانی القائم علی خلاف أحدهما.

وهو غیر وارد علی مبنی من أجاب علی مسلک الشیخ المتقدّم، بأنه إن کان المراد من «الیقین» فی الذیل هو الیقین الأعم من الإجمالی والتفصیلی، فالمعارضة موجودة، وأمّا إن کان المراد هو الیقین التفصیلی، فلا، لأن الیقین هنا إجمالی.

فعلی هذین المسلکین یجری الإستصحابان، إلاّ إذا لزمت المخالفة العملیّة، وهیهنا غیر لازمة.

فظهر اختلاف الحال باختلاف المبانی، وظهر عدم جریان عدم الجعل عند الشیخ _ ومن نسب إلیه الجریان فقد غفل عن مسلکه _ بل لا یجری إستصحاب عدم المجعول عنده کذلک، للمعارضة بین الحکمین.

هذا تمام الکلام فی هذا المقام. وبعد:

التحقیق

فإن التحقیق _ کما علیه شیخنا _ عدم جریان کلا الإستصحابین، لأنه مع وجود هذا الإستصحاب وجریانه فی الشبهات الحکمیّة تلزم لغویّة أدلّة البراءة

ص: 299

الشّرعیّة من حدیث الرفع وغیره، وقد تقرّر أنه إذا لزمت اللّغویّة فی دلیلٍ بإجراء الدلیل الآخر، سقط ذاک الدلیل الآخر عن الجریان. وهذه القاعدة منطبقة هنا، لأنه إذا جری هذا الإستصحاب، کان حاکما علی حدیث الرفع مثلاً، فلا یبقی له موردٌ أو تتضیّق دائرته جدّا.

فإن قیل: یفید حدیث الرفع فی الشّبهات الموضوعیّة.

قلنا: هناک أیضا یجری الأصل الموضوعی، فیتقدّم علی البراءة، ولا یبقی له مورد.

علی أنّ تخصیص أدلّة البراءة الشرعیّة بموارد الشبهات الموضوعیّة باطل. بل إذا وجد مورد فلا ریب فی جریان إستصحاب العدم الأزلی فیه ولا تجری البراءة.

فالإستصحاب لا یجری مطلقا، لما ذکرناه، لا لما ذکروا من وجوه الإشکال، فقد عرفت إندفاعها جمیعا.

والحمدللّه ربّ العالمین.

ص: 300

تنبیهات

اشارة

ص: 301

ص: 302

الأوّل: إنه یشترط عدم وجود الأصل الموضوعی

اشارة

التنبیه الأوّل

فی أنه یشترط عدم وجود الأصل الموضوعی وإلاّ لا تجریالبراءة

إنه یعتبر فی جریان البراءة الشرعیّة والعقلیّة _ وکذا فی الإباحة الشرعیّة المستفادة من قاعدة الحلّ _ عدم وجود أصلٍ موضوعی مقدَّم علیها، وإلاّ لم تجر مطلقا.

والمراد من الأصل الموضوعی هو الأصل الجاری فی موضوع البراءة، سواء کان ذاک الأصل مخالفا لها أو موافقا، فلو وجد الأصل کان رافعا لموضوع البراءة _ وهو الشک _ ومتقدّما علیه بالورود أو الحکومة علی الخلاف فی ذلک.

مثلاً: لو شک فی جواز وطئ المرأة إذا انقطع دم الحیض ولم تغتسل بعد، کان الأصل الجاری استصحاب عدم الجواز الثابت قبل الإنقطاع. وبهذا الإستصحاب یرتفع الشک فی الحکم ولا یبقی الموضوع للبراءة أو قاعدة الحلّ، کما أنه یکون بیانا، فلا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ص: 303

کلام صاحب الکفایة

قال رحمه اللّه: فلا تجری _ مثلاً _ أصالة الإباحة فی حیوان شکّ فی حلیّته مع الشک فی قبوله التذکیة، فأصالة، عدم التذکیة تدرجه فیما لم یذکّ، وهو حرام إجماعا، کما إذا مات حتف أنفه...(1)

أی: إنه مع هذا الإستصحاب لاموضوع لأصالة البراءة حتی تجری.

والملاک فی عدم الجریان عند هذا المحقق هو «ورود» هذا الأصل الموضوعی علی البراءة.

ثم إنه رحمه اللّه قسّم الشبهة فی مورد اللّحم إلی: الشبهة الحکمیّة والشبهة الموضوعیّة، فذکر للحکمیّة ثلاث صور، وللموضوعیّة صورتین.

فذکر فی الشبهة الحکمیّة، کما لو شک فی حلیّة لحم وحرمته کلحم الإرنب، إنه:

تارةً: نعلم بوقوع التذکیة بشرائطها ونشک فی الحلیّة والحرمة من جهة قصور الدّلیل. ففی هذه الصّورة تجری أصالة الحلّ، لتمامیّة أرکانها، لأن الموضوع _ وهو الشک فی الحکم _ موجود، والتذکیة حاصلة بحسب الفرض.

واخری: یقع الشک فی نفس التذکیة، وهذا علی نحوین:

الأوّل: أن یکون الشک فی وقوع التذکیة من جهة الشک فی قابلیّة الحیوان لها، والشک فی القابلیّة قد ینشأ من عروض ما یحتمل رفعه للقابلیّة کالجلل. وفی

ص: 304


1- 1. کفایة الاصول: 348.

هذه الصّورة یوجد _ عند هذا المحقّق _ أصل مثبت للقابلیّة، إذ الأصل بقاء القابلیّة التی کانت موجودة قبل عروض الجلل، وهذا الإستصحاب تنجیزی. ویمکن إجراء الإستصحاب التعلیقی أیضا، بأنْ یقال: کان هذا الحیوان قبل الجلل بحیث لو وقعت التذکیة علیه لأثّرت فی الحلیّة والطّهارة، وبعد الجلل یستصحب بقاء تأثیر التذکیة.

وکیف کان، فإنه فی هذه الصّورة یوجد الأصل الموضوعی المحرز وهو الإستصحاب، ومعه لا مجال للبراءة، لعدم الموضوع لها، وإنْ کان الأصلان _ الإستصحاب والبراءة _ متوافقین فی النتیجة.

والثانی: أن یکون الشک فی القابلیّة لا من جهة عروض ما یحتمل المانعیّة، بل من جهة الشک فی تحقق خصوصیّة معتبرة فی التذکیة، لأن التذکیة عبارة عن الذبح مع الشرائط الخاصّة فی المورد القابل، ولیست مجرّد فری الأوداج. وفی هذه الصّورة یرجع الشک إلی تحقق التذکیة، والأصل عدمها، ومعه لا موضوع للبراءة.

ومثاله: الحیوان المتولّد من حیوانین أحدهما کلب والآخر شاة، فإذا ذبح هذا الحیوان مع جمیع الشرائط المعتبرة، مع الشک فی أصل قابلیّته للتذکیة _ وقد عرفت أن القابلیّة من جملة الخصوصیّات المعتبرة _ کان الشک فی أصل تحقق التّذکیة، والأصل عدمها.

وهذه صور الشبهة الحکمیّة.

ص: 305

وفی الموضوعیّة صورتان:

إحداهما: أنْ لا یکون الشک من جهة قصور الدلیل، بل من جهة أمر خارجی، کالشک فی وقوع التذکیة علی هذا اللّحم المطروح بشروطها، وحینئذٍ، لا تجری البراءة، لتقدّم اصالة عدم وقوع التذکیة الشرعیّة علی أصالة البراءة.

والثانیة: أن یکون الشک فی وجود مانع فیه کالجلل مع وقوع التذکیة علیه، والأصل هنا عدم الجلل، وهو یتقدّم علی البراءة فلا تجری کذلک.

هذا، والوجه فی إجراء استصحاب عدم التذکیة فی صورة الشک فی قابلیّة الحیوان لها هو: إن الحرمة مترتبة علی عنوان «المیتة» وهو أمر وجودی، واستصحاب عدم التذکیة لا یثبت کون اللّحم میتةً إلا علی القول بالأصل المثبت.

لکنْ فی کون «المیتة» عنوانا وجودیّا خلاف، فالشیخ علی أن المیتة شرعا عبارة عمّا لم یذک، والإستصحاب یفید نفس هذا العنوان، فلیس بمثبت.

وأجاب صاحب الکفایة: بأن المیتة خصوص ما مات حتف أنفه لا الأعم منه وما لم یذکّ، فهو عنوان وجودی. وکما أنّ الأثر من الحرمة والنجاسة مترتب علی هذا العنوان الوجودی، کذلک هو مترتب علی عنوان ما لم یذک، لأن ما لم یذک عنوان یترتب علیه حکم المیتة بالإجماع. فلیس المیتة عین ما لم یذکّ بل ما لم یذک عنوانٌ آخر له حکم المیتة من الحرمة والنجاسة.

ص: 306

أقول:

هنا بحوث:

1_ هل تقدّم الأصل الموضوعی بالورود أو بالحکومة؟

الأوّل: هل تقدّم الأصل الموضوعی بالورود أو الحکومة؟

صاحب الکفایة علی الأوّل، وظاهر الشیخ هو الثانی وعلیه المتأخّرون.

ولا یخفی أن الورود عبارة عن انتفاء الموضوع وجدانا لکنْ بسبب التعبّد الشرعی، کتقدّم دلیل حجیّة خبر الثقة علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فإنّه مع الدلیل علی حجیّة خبر الثقة یرتفع موضوع القاعدة _ وهو عدم البیان، والمراد من البیان هو الأعم من البیان العقلی والشرعی _ لکون الدّلیل بیانا، و به ینتفی اللاّبیان بالوجدان، إلاّ أن منشأ الإنتفاء هو تعبّد الشّارع بخبر الثقة.

والحکومة: إنتفاء الموضوع تعبّدا لا وجدانا، کما فی: لاربا بین الوالد والولد.

والتخصّص: إنتفاء الموضوع وجدانا.

والتخصیص: حفظ الموضوع تعبّدا ووجدانا إلاّ أن التعبّد یکون فی الحکم.

وبما ذکرنا یظهر أن التحقیق هو التفصیل، وذلک:

لأنّ موضوع البراءة العقلیّة هو مطلق عدم البیان، ودلیل الإستصحاب یجعل عدم التذکیة رافعا لموضوع القاعدة بالوجدان، لکن بسبب التعبّد ب_«لا تنقض الیقین...»

فالحق مع صاحب الکفایة فی البراءة العقلیّة.

ص: 307

أمّا فی البراءة الشرعیّة، فتقریب الورود هو: أن الموضوع عند صاحب الکفایة فی حدیث الرفع الدالّ علی البراءة الشرعیّة هو عدم العلم، لکنّ دلیل اعتبار الإستصحاب یفید الیقین، فینتفی «ما لا یعلمون».

أو یقال _ وهو أمتن من سابقه _ بأن: «رفع ما لا یعلمون» قد خرج عنه من کان عنده الحجّة، لأن الرفع یدور فی الحقیقة مدار «الحجّة» لا خصوص «العلم» کما ذکرنا فی تقریب الإستدلال بحدیث الرفع علی البراءة، ولمّا کان الإستصحاب حجّةً، فإنّه یرتفع به موضوع الحدیث، لکنّ حجیّته هی ببرکة التعبّد الشرعی، وهذا هو الورود.

إلاّ أن القائل بالتقدّم بالحکومة علی البراءة الشرعیّة یذهب إلی أنّ الذی یدلّ علیه: کلّ شئ¨ لک حلال حتی تعلم أنه حرام، هو وجود الحلیّة الظاهریّة حتی یحصل العلم بالحرمة الواقعیّة، فکان العلم المأخوذ فی لسان الدّلیل غایةً ونهایة للحکم الظاهری هو العلم بالحرمة الواقعیّة، ولکنّ الإستصحاب یفید التعبّد بالحرمة الظاهریّة ولا یرفع الشک وجدانا، فإذا أفاد التعبّد بالحکم الظاهری فقد ضیّق دائرة دلیل البراءة، وهذه هی الحکومة.

هذا بالنسبة إلی قاعدة الحلّ.

وأمّا ما ذکر فی تقریب الورود فی معنی حدیث الرّفع، فهو وإن کان لا یخلو عن دقّةٍ، لکنّ النظر فی الحدیث صدرا وذیلاً یفید کون الامور التسعة أعذارا بالنسبة إلی الواقع، وقد جعل الشّارع منها: الجهل بالأحکام، وصاحب الحجّة لا

ص: 308

یکون عالما، فالمراد من عدم العلم هو عدم العلم بالواقع، والإستصحاب غیررافع لهذا العدم وجدانا بل یرفعه تعبدا. وهذه هی الحکومة.

إذن، لابدّ من التفصیل: بأنْ یقال بالورود فی البراءة العقلیّة والحکومة فی الاصول الشرعیّة.

2_ ما هی حقیقة التذکیة؟

البحث الثانی: ما هی حقیقة التذکیة؟ وما النسبة بینها وبین المیتة؟

إن المحتملات فی التذکیة أربعة امور:

الأوّل: أن تکون أمرا بسیطا مسبّبا عن الذبح المقیّد بالقیود المعیّنة. أو تکون اعتبارا شرعیّا مسبّبا عن الذبح المعیّن. وتکون التذکیة حینئذٍ موضوعا للأحکام من الحلیّة والطّهارة. أو تکون التذکیة اعتبارا شرعیّا بسیطا اعتبره الشّارع عندما یتحقّق الذبح مع الخصوصیّات.

والثانی: إنها عبارة عن الذبح الخاصّ.

والثالث: إنها عبارة عن الذبح مع الخصوصیّات. والشرط فی تأثیر هذا الذبح للحلیة والطّهارة هو قابلیة الحیوان

والرابع: إنها مرکبة من الذبح والخصوصیّات والقابلیّة.

واختلفت أنظار الأعلام فی المقام:

رأی الشیخ

وحاصل کلام الشیخ هو: إن موضوع الحرمة والنجاسة عبارة عن «ما لم یذکَّ»، وإنّ ما لم یذکّ هو المیتة، ولیس المیتة عبارة عن: مامات حنف أنفه.

ص: 309

هذا حاصل المستفاد من کلامه فی جواب الفاضل التونی فی تتمة بحث استصحاب القسم الثالث من أقسام إستصحاب الکلّی، إذ قال: بأنّ کلام التونی إنما یتمّ لو کان المیتة مامات حتف أنفه، لکن الموضوع للحکم بالنجاسة والحرمة هو ما لم یذکّ، وإنّما ترتب الحکم علی عنوان المیتة لکونها ما لم یذکّ، لا مامات حتف أنفه.

وتعرّض لذلک أیضا فی مبحث الإستصحاب فی الشک السببی والمسبّبی حیث نقل عن العلاّمة فی بعض کتبه الحکم بطهارة الماء القلیل الواقع فیه صید مرمیٌّ لم یعلم استناد موته إلی الرمی، لکنّه اختار فی غیرواحد من کتبه الحکم بنجاسة الماء، وتبعه علیه الشهیدان وغیرهما، وهو المختار، بناءً علی ما عرفت تحقیقه، وأنه إذا ثبت بأصالة عدم التذکیة موت الصّید جری علیه جمیع أحکام المیتة التی منها انفعال الماء القلیل.

وبالجملة، فإنّ الشیخ قال: المشهور نجاسة الجلد المطروح مستندین إلی أصالة عدم المذبوحیّة. ثم نقل عن الفاضل التونی: عدم المذبوحیّة أعمّ من المیتة، فاستصحابها لایثبت المیتة. فقال الشیخ: لا حاجة إلی إثباتها، بل یستصحب عدم التذکیة وهو نفس المیتة. فکان الشیخ موافقا علی أن التذکیة هی المذبوحیّة.

وفی مبحث الشک السببی والمسببی، نقل عن العلاّمة أنه الرمی الخاصّ، ثم قوله بأصالة عدم التذکیة. ولم یرد علی کلام العلاّمة بشئ¨، فنسبة القول بکون التذکیة نفس الذبح إلی الشیخ غیربعیدة، وإنْ لم یجزم الاستاذ بذلک.

ص: 310

رأی صاحب الکفایة

ویری المحقّق الخراسانی(1): أن «ما لم یذکّ» غیر «المیتة»، وأنّ النسبة بینهما العموم والخصوص المطلق، لکون الأوّل أعمّ من الثانی.

والتذکیة عنده هی فری الأوداج مع خصوصیّةٍ فی الحیوان، فهی عبارة عن الذبح الخاصّ المشروط بقابلیّة الحیوان لها، ومع الشک فی القابلیّة من جهة احتمال عروض المانع یستصحب بقاؤها، فالإستصحاب یجری فی التذکیة من قبیل استصحاب العدم الأزلی، فإذا وجد الحیوان و شک فی وجود القابلیّة للتذکیة معه، یستصحب عدمها أزلاً.

وتحصّل: الفرق بین «ما لم یذک» و «المیتة»

وقد وافقه المحقق العراقی علی هذا، خلافا للشیخ.

رأی المحقق النائینی

وذکر المیرزا:(2) أنه یحتمل أن تکون التذکیة أمرا بسیطا محصّلاً من الامور المعهودة شرعا. وبناءً علیه: تجری أصالة عدم التذکیة، إلاّ أن یقوم الدّلیل العام علی أنّ کلّ حیوان فهو قابل للتذکیة.

ص: 311


1- 1. کفایة الاصول: 349.
2- 2. فوائد الاصول 3 / 381 _ 382.

ویحتمل أیضا: أنْ تکون التذکیة هی الذبح الخاصّ والقابلیّة شرط التأثیر، کما علیه المحقّق الخراسانی. قال: وعلیه: فلو شک فی تحقق الذبح مع الخصوصیّات المعتبرة یستصحب عدمه، وأمّا لو شک فی القابلیّة، فلا یستصحب عدمها، لکون القابلیّة للتذکیة تکون مع الحیوان وجودا وعدما، فلا حالة سابقة لها حتی تستصحب.

وما ذکره قدّس سره مبنی علی مختاره من عدم جریان الإستصحاب فی العدم الأزلی، وأنّ وزان ما نحن فیه وزان المرأة والقرشیّة، فقبل وجود المرأة لا قرشیّة ولا عدم القرشیّة.

وأمّا التذکیة، فهی عنده عبارة عن فری الأوداج وکون القابلیّة شرطا للتأثیر، بدلیل إسنادها إلی المخاطبین فی قوله «إِلاّ ما ذَکَّیْتُمْ».(1)

واحتمال کون التذکیة مرکّبة ساقط عنده.

رأی المحقق العراقی

رأی العراقی

والمحقق العراقی(2) احتمل أن تکون التذکیة أمرا بسیطا مسبّبا ومحصّلاً من الامور المعتبرة فیها، ومع الشک فی تحقّقها فالأصل هو العدم. وهذا إستصحاب لا کلام فیه لأحد. (قال) وإذا جری هذا الأصل ترتب الأثر علیه، ولا

ص: 312


1- 1. سورة المائدة، الآیة: 3.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 257 _ 258.

حاجة إلی إثبات المیتة، لکون إجرائه فی العنوان الأعم منها _ وهو «ما لم یذک» _ یُغنی عن ذلک، خلافا للشیخ القائل بأن المیتة نفس ما لم یذک.

واحتمل رحمه اللّه أن تکون فری الأوداج علی النحو الخاصّ والقابلیّة شرط للتأثیر کما قال المحقق الخراسانی، فلو شکّ فی تحقق التذکیة المعتبرة شرعا، کان مقتضی الأصل عدم التذکیة. ولو شک فی القابلیّة _ مع تحقق الذبح بقیوده _ استصحب عدمها، لا من جهة عدم جریان الإستصحاب فی الأعدام الأزلیّة کما علیه المیرزا _ ، لأن العراقی یقول بالجریان _ بل لأن القابلیّة من خصوصیّات الذات، واستصحاب العدم الأزلی إنما یجری فی الخصوصیّات الرّاجعة إلی الوجود، کالبیاض والسّواد، والقرشیة منها، ولا یجری فی خصوصیّات الذات مثل کلبیّة الکلب.

وقد جعل تلمیذه السیّد الحکیم(1) «الکریّة» من هذا القسم، ولذا لم یجر استصحاب العدم الأزلی فیها عند الشک فی بلوغ الماء حدّ الکریّة.

واحتمل: أن تکون التذکیة مرکّبة من الذبح والقابلیّة والخصوصیّات.

وبعد، فإنه اختار الثانی واستدلّ له:

بالآیة المبارکة: «إِلاّ ما ذَکَّیْتُمْ ».(2)

وبموثّقة ابن بکیر: «ذکّاه الذبح».(3)

ص: 313


1- 1. حقائق الاصول 2 / 257.
2- 2. سورة المائدة، الآیة: 3.
3- 3. وسائل الشیعة 4 / 345، باب جواز الصّلاة فی الفراء.

وبخبر علی بن أبیحمزة عن أبی عبداللّه علیه السّلام قال: «أو لیس الذّکیّ ما ذکیّ بالحدید»؟ فقال: بلی...(1)

النظر فی کلام المحقق النائینی

النظر فی کلام المیرزا

أقول:

هنا ملاحظة علی ما ذکره المیرزا والعراقی فی إستصحاب عدم القابلیّة.

أمّا المیرزا، فذکر أنه لا حالة سابقة للقابلیّة حتی تستصحب.

نقول: هذا مبنی علی ما ذهب إلیه من أن وجود الأحکام والعوارض و عدمها فی مرتبة واحدةٍ، فقبل وجود الموضوع لا وجود ولا عدم لحکمه، کما فی المرأة، فإنه قبل وجودها لا قرشیّة ولا عدم القرشیّة، والقابلیّة مثل القرشیّة، و إذ لا حالة سابقة فلا إستصحاب.

وفیه نظر.

لأنّ الوجود المحمولی فی الإصطلاح هو الوجود الذی یقع محمولاً للموضوع و ینظر إلیه بالنظر الإستقلالی کسائر المحمولات. مثل: زید موجود، وهذا الوجود یحمل علی العرض کما یحمل علی الجوهر، فیقال: وجود البیاض للجدار _ ولیس للجوهر وجود نعتی، فلا یقال زید موجود لفلان _ ، فلا یتوهم أن للعرض وجودین نعتی و محمولی، بل وجوده النعتی عین وجوده المحمولی،

ص: 314


1- 1. تهذیب الأخبار 2 / 204.

غیر أنّ العقل تارة ینظر إلی البیاض بما هو موجود فیقال: البیاض موجود، واخری ینظر إلیه بما هو موجود للجدار فیقال: الجدار أبیض.

والقابلیّة من الأعراض، ولها وجود محمولی فیقال: القابلیّة موجودة، لکنّ وجودها یکون للحیوان، ووجودها المحمولی عین وجودها النعتی.

وأمّا عدم القابلیّة، فلیس عدما لقابلیّة الحیوان، لأن عدم القابلیّة لیس وصفا للحیوان، فلیس عدمها عدما نعتیّا، بل هو عدم محمولی، وعلی هذا، یکون لعدم القابلیّة حالة سابقة فتستصحب.

وما ذکره المیرزا، من کون الوجود والعدم فی مرتبة واحدة. باطل، لأن الوجود یعقل أن یکون وصفا لموضوع، وأمّا العدم فلا، إلاّ إذا أخذه الشّارع وصفا بعنایة.

وفی عدم الملکة: عدم البصر فی الموضوع القابل للبصر، معقول قبل وجود الموضوع، لأنه موجود قبل وجود المبصر کالإنسان مثلاً، لکن «عدم البصر» غیر «العمی»، ولذا یصح نفی البصر عن الجدار ولا یصح إثبات العمی له، فعدم الملکة هو العمی لا عدم البصر، ولذا یصح أن یقال: لا بصر ولا عمی قبل الإنسان _ بأنْ یُرفع الطرفان، لأن النقیضین إذا کانا عدم وملکة یرتفعان _ و لا یصح أن یقال: لا بصر و لا عدم البصر قبل الإنسان، لأنهما متناقضان و رفعهما غیر ممکن.

إذن، لا یستصحب العمی أو البصر قبل وجود زید، لعدم الحالة السّابقة.

ویستصحب عدم البصر، وإلاّ یلزم ارتفاع النقیضین.

ص: 315

وفی المقام: إن کان الأثر مترتبا فی الدّلیل علی القابلیّة وعدمها بمعنی الوجود المحمولی، فمع ثبوتها یترتب الأثر، لتحقق العدم قبل وجود الموضوع وهو الحیوان. فالموضوع هو: الحیوان مع عدم القابلیّة، لا الحیوان المتّصف بعدم القابلیّة.

إلاّ إذا کان الموضوع فی لسان الدّلیل هو الحیوان المتصف بعدم القابلیّة، فلا یمکن الإستصحاب.

هذا بالنسبة إلی کلام المحقق المیرزا النائینی.

النظر فی کلام المحقق العراقی

النظر فی کلام العراقی

وأمّا المحقّق العراقی، فذهب إلی عدم جریان الإستصحاب، من جهة أنّ القابلیّة من العوارض الذاتیّة.

وفیه نظر.

أوّلاً: هذه دعوی بلا برهان، ولو کان له علیها برهان لذکره.

وثانیا: لا یمکن أن تکون القابلیّة من العوارض الذاتیّة، لعدم انطباق المعیار.

وذلک: لأن عوارض الماهیّة هی ما یعرضها لا بشرط عن الوجود، فالعارض ما تتصّف الماهیّة به فی جمیع حالاتها حتی مع فرض عدمها، و عوارض الوجود ما یعرض الماهیّة بشرط الوجود، إمّا بالوجود الذهنیّ مثل

ص: 316

النوعیّة، و إمّا بالوجود الخارجیّ مثل البیاض. وعلی هذا، فالحیوان المعدوم أو الموجود الذهنی لا یتّصف بالتذکیة، بل الموجود بالوجود الخارجی.

فعدم انطباق معیار عوارض الماهیّة دلیل عدم کونها منها.

وثالثا: کیف یجمع بین القول بأن القابلیّة للتذکیة من عوارض الذات ولوازمها، والقول بأنه مع الشک فی بقائها _ لعروض مانع کالجلل _ بعد تحققها، یستصحب عدم الزوال؟ کیف یتصوّر انفکاک لازم الماهیّة عن الماهیّة؟

ولو کان مراده من القابلیّة الإستعداد للقابلیّة.

ففیه: إن القابلیّة لا شدّة ولا ضعف فیها.

هذا أوّلاً.

وثانیا: إذا کانت القابلیّة من الإمکان الإستعدادی، کانت من لوازم الوجود لا الذات.

فالحق: عدم المانع من جریان الإستصحاب فی القابلیّة، لا من جهة ما ذکره المیرزا، ولا من جهة ما ذکره العراقی.

حقیقة التذکیة

وأمّا حقیقة التذکیة، فإنّ التذکیة هی الذبح الخاصّ فی المورد القابل، فالقابلیّة قید، لا شرط کما قال العراقی. و من هنا قال الإصفهانی: لا یعقل أن تکون التذکیة هی الذبح مع الشرائط، بأن تکون القابلیّة شرطا لتأثیر التذکیة فی الطّهارة

ص: 317

والحلیّة، لأن الطّهارة والحلیّة من خصوصیّات المذکّی، فلا معنی لتحقّق التذکیة مع عدم تحقق الحلیّة والطّهارة لعدم الشرط.

والذی ذکرناه فی حقیقة التذکیة هو المستفاد من مجموع الأدلّة.

وعلیه، فلو شککنا فی القابلیّة، جری إستصحاب عدم الذبح الخاصّ المؤثر فی الحلیّة والطّهارة، فهذا الإستصحاب جارٍ لو سلّمنا بعدم جریان الإستصحاب فی نفس القابلیّة، لکونها من خصوصیّات الذات کما ذکر العراقی.

وأمّا إستدلال العراقی بالآیة. فمنقوض بقوله تعالی «وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا»(1) من جهة أنّ الطّهارة مسبّبة مع أنها أُسندت إلی المکلّفین، فلا منافاة بین کونها أمرا بسیطا مسبّبا من أفعال المکلّفین، و إسنادها إلی المکلّفین.

وأمّا استدلاله بالخبرین. ففیه: إنهما یدلاّن علی خلاف ما ذهب إلیه، فالموثّقة فیها أنّ الذبح هو الموجب للذّکاة لا التذکیة. وفی الآخر: ذکر الإمام علیه السّلام تحقّق التذکیة بالحدید. نعم، یحتمل کون الذبح هو التذکیة، لکن لیس ظاهرا فیه کی یتمّ الإستدلال به.

رأی المحقق الإصفهانی ونقده

رأی الإصفهانی

وذهب المحقق الإصفهانی(2) إلی أن التذکیة اعتبار شرعیّ بسیط، وضعی لا تکلیفی، وهی مسبّبة من الذبح مع الخصوصیّات، وذلک لوجهین:

ص: 318


1- 1. سورة المائدة، الآیة: 6.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 152.

أوّلاً: لأن التذکیة عرفا وشرعا هی النزاهة والطیب، والذبح لا یتّصف بذلک، بل المتّصف به هو اللّحم، فلیس التذکیة الذبح لا الخاصّ ولا المطلق.

وثانیا: إنّ التذکیة إن کانت الذبح، لزم الإنفکاک بین المذکّی وبین الحلیّة والطّهارة، وهذا ما أورده العراقی وقد تقدّم. وفی کلّ موردٍ أطلق فیه التذکیة علی الذبح، فهو من باب إطلاق المسبّب علی السّبب.

أقول:

إنه قد وقع الخلط بین «التزکیة» و«التذکیة». والذی بمعنی الطیب والطّهارة والنموّ کتابا وسنّة ولغةً وعرفا هو الأوّل،(1) أما الثانی، فهو الذبح کما فی المفردات والقاموس والتاج(2) وغیرها.

والمستفاد من بعض الأخبار فی کتاب الصّید والذباحة وکتاب الأطعمة والأشربة _ کعبارة الراغب فی المفردات _ کون التذکیة أعم من الذبح، فهو یتحقق بالذبح و بإخراج السّمک من الماء حیّا وغیر ذلک. کما لا یخفی علی من راجع.

هذا فی الوجه الأوّل.

وأمّا الوجه الثانی، فیظهر جوابه ممّا سنذکره حول موثقة ابن بکیر.

ص: 319


1- 1. المفردات: 213.
2- 2. المفردات: 180، تاج العروس 19 / 429.
تفصیل الکلام و تنقیح المرام فی امور
اشارة

تفصیل الکلام و تنقیح المرام

یتم باُمور

الأمر الأوّل: فی موثقة ابن بکیر

الأمر الأوّل

فی موثقة ابن بکیر

قد تقدّم أن «التذکیة» هی «الذبح»، وفاقا للقائلین بذلک، وخلافا للإصفهانی حیث قال بأنّ التذکیة مسبّبة عن الذبح. ویبقی الکلام حول موثقة ابن بکیر، لکن:

1. ذکر الشیخ المجلسی فی مرآة العقول(1) والفیض الکاشانی فی الوافی(2): أن هذا الخبر مشوّش، والتشویش فی لفظه یدلّ علی أنه مرویّ بالمعنی، ولیس اللّفظ لفظ الإمام علیه السّلام. فیسقط الإستدلال بلفظ هذا الخبر.

2. و مع التنزّل، فإنّ الإشکال هو عدم صحة کون فاعل الفعل مادّة الفعل،

ص: 320


1- 1. مرآة العقول 15 / 309.
2- 2. الوافی 7 / 401.

فلا یصحّ أنْ یقال: ذبحه الذبح. فلیس «زکّاه» بمعنی «ذبحه»، فلیست التذکیة هی الذبح.

لکنّ هذا إنما یصح لولم تکن التذکیة أعم من الذبح، وقد عرفت کونها أعم کما هو صریح کلام الراغب وبعض الأخبار.

3. سلّمنا، وعلیه یکون الخبر ظاهرا فی ذلک، إلاّ أنه یوجد فی المقابل ما هو الأظهر والنصّ، کقوله علیه السّلام: لا تذکّ إلاّ بحدیدة،(1) فإنه یدلّ علی أنّ التذکیة لیست مسبّبةً، إذْ لا یصح النهی عنها حینئذٍ لخروجها عن القدرة والاختیار، بل المراد هو السّبب وهو الذبح.

4. سلّمنا التساوی فی الظهور ثم التعارض والتساقط. لکنّ الغرض هو إجراء أصالة عدم التذکیة عند الشک، وهی جاریة علی کلا الوجهین. فیکون الحاصل عدم تمامیّة کون التذکیة خصوص المسبّب. أمّا لغةً وعرفا، فهی الذبح بالخصوص، وأمّا شرعا، فقد وردت الأخبار علی کلا المعنیین.

ص: 321


1- 1. وسائل الشیعة 24 / 8، باب أنه لا یجوز تذکیة الذبیحة بغیر الحدید.
الأمر الثانی: فی إجراء الأصل فی القابلیّة

الأمر الثانی

فی إجراء الأصل فی القابلیّة

وجریان الأصل فیها یتوقف علی أمرین:

الأوّل: أنْ تکون أمرا وجودیّا، بأنْ تکون من عوارض الوجود لا الماهیّة. فعلی القول بالإستصحاب فی الأعدام الأزلیّة کما هو المختار، وأن القابلیّة من عوارض الوجود، وهو المختار کذلک، یجری الأصل. غیر أنّ المیرزا ینکر الشرط الأوّل والعراقی ینکر الثانی.

الثانی: أن تکون القابلیّة جزءً أو قیدا للموضوع فی لسان الأدلّة، وقد حقق الإصفهانی هذا الأمر فأجاد، ونحن نکتفی بذکر حاصل ما أفاد،(1) وهو أنه:

لیس قابلیّة بعض الحیوان للطّهارة والحلیّة، وعدم قابلیّة البعض الآخر للأمرین، وقابلیّة البعض الثالث للطهارة دون الحلیّة، أمرا جزافیّا، بل هناک فی کلّ قسمٍ خصوصیّة، وتلک الخصوصیّة إمّا فی ذات الحیوان، مثل اقتضاء شاتیّة الشاة

ص: 322


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 150.

للقابلیّة لکلا الأمرین، واقتضاء کلبیّة الکلب لعدم القابلیّة لهما، وإمّا هی المصلحة المقتضیة فی الأوّل والمفسدة المقتضیة فی الثانی، وإمّا هی خصوصیّة من عوارض وجود الحیوان.

قال: وکلّ ذلک ممکن، فإنْ أخذت القابلیّة فی لسان الدّلیل جزءً أو قیدا، جری الأصل، ولکنْ لا دلیل من الشرع علی أخذها کذلک فی التذکیة _ کما یوجد الدلیل علی أخذ الحدید والتسمیة والقبلة وفری الأوداج. والدلیل علی اعتبار الإسلام فی الذابح هو الإجماع _ فظهر عدم جریان أصالة عدم القابلیّة.

لکن لا مانع من جریان الأصل فی نفس التذکیة.

فظهر أنّ وجه عدم جریان أصالة عدم القابلیّة هو ما ذکرناه، ولیس عدم جریان الأصل فی الأعدام الأزلیّة، فإنه جار، ولا عدم کون القابلیّة من لوازم الوجود، فإنها منها کما عرفت.

ص: 323

الأمر الثالث: هل یوجد دلیل علی قابلیّة کلّ حیوان للتذکیة؟

الأمر الثالث

هل یوجد دلیل علی قابلیّة کلّ حیوان للتذکیة؟

قد یقال: باختصاص القابلیّة بالحیوان المأکول اللحم. للخبر: عن علی بن أبی حمزة. قال: سألت أبا عبداللّه علیه السّلام عن لباس الفراء والصّلاة فیها. فقال: لا تصلّ فیها، إلاّ فیما کان منه ذکیّا. قال قلت: أو لیس الذکّی ما ذکّی بالحدید؟ فقال: بلی إذا کان ممّا یؤکل لحمه...».(1)

ولو تمّ الدّلیل علی العموم لخصّصه هذا الخبر.

وفیه نظر، لاحتمال کون الجواب ناظرا إلی الصّلاة فیه. هذا دلالةً.

وأمّا سندا، ففیه «محمد بن سلیمان الدیلمی»، وهو ضعیف جدّا.

وما یمکن استظهار العموم منه أخبار:

1. علی بن یقطین قال: «سألت أبا الحسن عن لباس الفراء والسمور والفنک والثعالب وجیمع الجلود. قال: لا بأس بذلک».(2)

ص: 324


1- 1. وسائل الشیعة 2 / 211.
2- 2. المصدر 2 / 211.

والسند صحیح.

وفیه نظر،، إذْ لا تعرّض فیه للصّلاة، وإنما السؤال عن لبس المیتة، وقد دلّت الأدلّة _ ومنها هذا الخبر _ علی عدم المنع من لبس المیتة.

2. محمد بن عبدالجبار: قال: کتبت إلی أبی محمد علیه السّلام أسأله هل یصلّی فی قلنسوة علیها و برما لایؤکل لحمه أو تکّة حریر محض أو تکّة من وبر الأرانب.

فکتب: لا تحلّ الصّلاة فی الحریر المحض، وإنْ کان الوبر ذکیّا حلّت الصّلاة فیه».(1)

أقول: إن کانت التذکیة مسبّبةً، فلا دلالة للخبر علی العموم، لعدم الدلالة علی موضع اعتبار الشّارع للتذکیة، مع أنّه یوجد له معارض.

3. ابن بکیر عن أبی عبداللّه علیه السّلام: إن الصّلاة فی وبر کلّ شی ء حرام، فالصّلاة فی وبره وشعره وجلده وبولد وروثه وکلّ شی ء¨ منه فاسد، لا تقبل تلک الصّلاة حتّی یصلّی فی غیره ممّا أحلّ اللّه أکله...(2)

السند تام. وکذا الدلالة، واضطراب المتن لا یضرّ.

وعلیه، فکلّ حیوان قابل للتذکیة. نعم، لاریب فی خروج الکلب والخنزیر، وکذا الحشرات، لعدم الخلاف بیننا فی عدم قابلیّتها للتذکیة.

ص: 325


1- 1. وسائل الشیعة 4 / 377، باب حکم ما لا تتم فیه الصّلاة منفردا...
2- 2. المصدر 4 / 345، باب جواز الصّلاة فی الفراء...

ونتیجة ذلک:

أمّا فی الشّبهات الحکمیّة، کما فی الحیوان المتولّد من حیوانین أحدهما طاهر والآخر نجس ولا یلحق فی الاسم بأحدهما، لا تصل النوبة إلی استصحاب عدم التذکیة، لوجود الدلیل، وهو مقدّم علی الأصل. وکذا لا تصل النوبة إلی أصالة الحلّ، لوجود الدّلیل القائم علی الحلیّة.

نعم، لو نوقش فی الدّلیل سندا أو دلالةً، کان المرجع هو الأصل، فإنْ کانت التذکیة مسبّبة، جرت أصالة عدم التذکیة، وإن کانت السّبب، فأصالة الحلّ هی الجاریة.

وأمّا فی الشّبهات الموضوعیّة، فعلی القول بجریان استصحاب العدم الأزلی والقول بجریانه فی العناوین الذاتیّة، جری استصحاب عدم الکلبیّة، واندرج اللّحم المطروح تحت العام، وکان قابلاً للتذکیة. وعلی القول بعدم الجریان، فلا أثر للعام، لأن الشبهة موضوعیّة فلا یتمسّک به فیها، إلا إذا جری استصحاب عدم کلبیّة هذا اللّحم، فإذا جری واُحرز حاله قلنا: کلّ حیوان لیس بکلب فهو قابل للتذکیة، وهذا لیس بکلب، فیندرج تحت العام.

ص: 326

الأمر الرابع: فی معنی غیر المذکی والنسبة بینه وبین المذکّی
اشارة

الأمر الرابع

فی معنی غیر المذکی والنسبة بینه وبین المذکّی

مقام الثبوت

مقام الثبوت

فی مقام الثبوت احتمالات:

الأوّل: أن یکونا أمرین وجودیین و بینهما تضادّ.

وبناءً علیه: لا تجری أصالة عدم التذکیة، لکون هذا الأصل معارضا دائما باستصحاب التذکیة، بل هذا مسامحة فی التعبیر، لأن المفروض کونهما وجودیین.

وقد یوجّه هذا الإحتمال بأنه: کما ینشأ الطّهارة والحلیّة من الخصوصیّة، کذلک النجاسة والحرمة.

وأجاب المحقق الإصفهانی(1): بأنه لا وجه لأن تکون النجاسة والحرمة ناشئتین من خصوصیّة وجودیة، بل هما ینشآن من زهاق النفس، غیر أنّ التسمیة

ص: 327


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 136.

وغیرها من الشروط تمنع عن تأثیر زهاق النفس فی النجاسة والحرمة، فلا خصوصیّة حتی یکون أصل معارض من الطرف الآخر.

الثانی: أن یکون بینهما تقابل العدم والملکة، فالحیّ لیس بمذکّی ولا غیر مذکی، فإذا زهقت الروح تحقّق الموضوع.

وعلی هذا، لا معنی لاستصحاب عدم التذکیة، لعدم الحالة السّابقة، إذ لایوجد «غیر مذکی» قبل زهاق الرّوح، فلو اُرید استصحاب عدم التذکیة _ أی العدم قبل زهاق النفس _ بعنوان السّلب المقابل للإیجاب، کما فی الجدار حیث یتّصف بعدم البصر ولا یتّصف بالعمی، کان من الأصل المثبت.

الثالث: أن یکون بینهما تقابل السّلب والإیجاب. ویتحقّق السّلب فی مقابل الإیجاب تارةً: بانتفاء العنوان بانتفاء المعنون، کما ینتفی المجتهد بانتفاء زید. واخری: بانتفاء المبدأ بانتفاء الموضوع، کانتفاء الإجتهاد بانتفاء زید. وثالثة: بانتفاء الإضافة، _ أعنی النسبة _ بانتفاء طرفیها وهما الإجتهاد وزید.

وهذا السّلب یلحظ علی نحوین:

أحدهما: السّلب مقابل الإیجاب، بانتفاء الموضوع، مثل: لا إجتهاد فی زید، لعدم زید. والآخر: السّلب فی مقابل الإیجاب بانتفاء المحمول، مثل: لا إجتهاد فی زید، مع وجود زید. وهنا: تارة: یلحظ عدم التذکیة الذی یجتمع مع زهاق الروح. واخری: یلحظ معه فیقال: لیس الذی زهق روحه بمذکّی. فعلی السّلب بانتفاء المحمول، لا یمکن إجراء الإستصحاب، لأن عدم التذکیة فی موضوع ما زهق

ص: 328

روحه لا حالة سابقة له. وعلی السّلب بانتفاء الموضوع، یجری، لوجود الحالة السّابقة، فیستصحب بقاء العدم الذی کان منذ انتفاء الموضوع حتی زمان تحقق الموضوع.

هذا کلّه فی مقام الثبوت.

مقام الإثبات

مقام الإثبات

وفی مقام الإثبات:

ذکر المحقق الإصفهانی(1): إنه لمّا کان الموضوع فی النصوص مختلفا، وقد تقرّر اشتراط وحدة الموضوع فی القضیّتین حتی تستصحب، فلا یجری إستصحاب عدم التذکیة، وذلک:

لأن الموضوع فی بعض النصوص هو «المیتة».

وفی آخر: «غیر المذکی».

وفی ثالث: «ما لم یذکّ».

وفی رابع: «العلم بکونها میتة».

وفی خامس: «العلم بکونها مذکّاة».

ومع احتمال دخل العلم فی الموضوع جزءً أو قیدا، لا ینفع استصحاب عدم التذکیة، لأنّ اللاّزم هو العلم بعدم التذکیة. نعم، لو کان الموضوع هو «مالم

ص: 329


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 145.

یذک» أی عدم التذکیة بنحو السّلب فی مقابل الإیجاب، بنحو یجتمع مع السّالبة بانتفاء الموضوع، أمکن الإستصحاب.

وعلی الجملة، فإن أمر موضوع الإستصحاب بحسب مقام الإثبات مردّد بین ما تمّت أرکانه وما لم تتم، و حینئذٍ، لا یجری الإستصحاب، لعدم تعیّن الموضوع.

قال:

فإن قلت: فرضنا عدم وضوح الموضوع فی لسان الأدلّة، إلاّ أن موضوع الطّهارة والحلیّة معلوم وهو «المذکی»، فتنتفی الطّهارة والحلیّة بانتفاء الموضوع لهما، ولا حاجة إلی إحراز موضوع الحرمة والنجاسة. وبعبارة اخری: المشکلة هی عدم العلم بموضوع النجاسة والحرمة _ وهو الموضوع المقابل للمذکّی _ لکن موضوع الطّهارة والحلیّة معلوم، وهو المذکّی، وبالإستصحاب ترتفع الحلیّة والطّهارة، ولا حاجة إلی شی ء آخر.

قلت: إن موضوع الطّهارة والحلیّة أیضا غیر معلوم، لأنه:

إن کان زهاق الروح الحاصل من الذبح الخاصّ، ونقیضه عدم زهاق الروح عن الذبح الخاصّ، فهذا له حالة سابقة، لکن یجتمع مع حیاة الحیوان کذلک، لکن لیس الموضوع هو ذلک، لوجود الأثر _ أی الحلیّة والطّهارة _ فی النقیض، وهو حال حیاة الحیوان.

ص: 330

وإن کان الموضوع هو الذبح الخاصّ فی مورد زهاق الروح، ونقیضه عدم تحقق الذبح فی المورد الخاصّ، فهذا لا حالة سابقة له.

فظهر أن إستصحاب عدم التذکیة لا یجری لرفع موضوع الطّهارة والحلیّة.

المستفاد من النصوص

أقول:

إن تمّ ما ذکره، لم یکن الإستصحاب جاریا حتّی علی القول بأن التذکیة مسببّة، فکیف بناءً علی أنها سبب، وذلک، لأنه لابدّ من إحراز موضوع أصالة عدم التذکیة فی مقام الإثبات حتی یتم بناءً علی أنه مسبّب. فلننظر فی النصوص:

1. عن سماعة: سألته عن جلود السّباع ینتفع بها؟ قال: إذا رمیت وسمیت فانتفع بجلده، وأمّا المیتة فلا».(1)

فیه المقابلة بین «المذکی» و «المیتة».

2. مرسلة الصّدوق: «لا تأکل الجرّی...».(2)

وفیه المقابلة بین «الذکی» و «غیر الذکی». وهو من العدم والملکة.

3. عن السکونی عن أبی عبداللّه «إن علیّا کان لا یری بأسا بدم مالم یذک یکون فی الثوب فیصلّی فیه الرجل: یعنی دم السّمک».(3)

ص: 331


1- 1. وسائل الشیّعة 3 / 489، باب أنه لا یستعمل من الجلود...
2- 2. المصدر 24 / 132، باب تحریم أکل الجرّی...
3- 3. المصدر 3 / 436، باب طهارة دم السمک...

والموضوع فیه للحرمة والنجاسة هو «مالم یذک».

4. عن الحلبی: «عن الخفاف التی تباع فی السّوق. فقال: اشتر وصلّ فیها حتی تعلم أنه میتة».(1)

والموضوع: العلم بکونه میتة.

5. موثقة ابن بکیر عن أبی عبداللّه: «... فالصّلاة فی وبره... إذا علمت أنه ذکی قد ذکّاه الذبح، وإنْ کان غیرذلک ممّا قد نهیت عن أکله... فالصّلاة فی کلّ شی ء¨ منه فاسد...»(2)

والموضوع هو العلم بکونه ذکیّا.

الجواب عن إیراد الإصفهانی

وبعد:

فإن إشکال المحقق الإصفهانی فی مقام الإثبات یرجع إلی ثلاث جهات نذکرها وننظر فیها:

الأولی: إن العلم بالمیتة مأخوذ فی الموضوع جزءً أو قیدا، و معه لا یجری استصحاب عدم التذکیة.

والجواب: أخذ العلم لأجل عدم جواز الصّلاة لا لأجل الحرمة والنجاسة،

ص: 332


1- 1. وسائل الشیعة 3 / 490، باب طهارة ما یشتری من مسلم...
2- 2. المصدر 4 / 345، باب جواز الصّلاة فی الفراء...

لأن جواز الصّلاة وعدمه یدور مدار العلم بکون اللّباس من المیتة أوْ لا. تجد هذا فی موثقة ابن بکیر و معتبرة الحلبی. فالعلم دخیل جزءً أو قیدا بالنسبة إلی حکم الصّلاة لا بالنسبة إلی الحرمة والنجاسة.

الثانیة: إن «غیر المذکّی» إن کان مقابلاً للمذکّی، فهو عدم فی مقابل الملکة. و هذا العدم لا حالة سابقة له.

والجواب: هذه المقابلة وقعت فی مرسلة الصّدوق. وهی غیر معتبرة.

والثالثة: إنه قد وقعت المقابلة بین المذکّی والمیتة. ولکنّ المیتة عنوان وجودی، واستصحاب عدمه معارض بالإستصحاب فی مقابله.

کما أنّ مختار المحقق النراقی _ علی ما نقل _ أن المیتة عنوان وجودی، وفصّل بین النجاسة والحرمة فی مشکوک التذکیة.

والجواب: إن هذا الإشکال مبنی علی ثبوت کون المیتة عنوانا وجودیّا فیکون استصحاب عدم التذکیة أصلاً مثبتا. والمستفاد من کلام اللّغویین المتأخرین هو ذلک، لأنهم یقولون: ما زهق روحه بغیر وجه شرعی. لکن المتقدّمین منهم یرونه عدمیّا، إذ یقولون هو: غیر المذکی، وما لم یذک. واختلاف کلماتهم توجب الشک، و المرجع حینئذٍ الأخبار المبیّنة التی جعلت الموضوع «غیر المذکی». بل یمکن دعوی أن «المیتة» فی خبر سماعة مصداق لمفهوم: إذا رمیت. فیکون المقابل للمذکی هو غیر المذکی، وهذا قول الشیخ.

ومن الأخبار الصریحة أو الظاهرة فی أن الموضوع هو عدم التذکیة بنحو السّلب المقابل للإیجاب:

ص: 333

خبر أبیبکر الحضرمی عن أبی عبداللّه عن صید البزاة والصقورة... فقال: لا تأکل صید شی ء¨ من هذه إلاّ ما ذکّیتموه...(1)

ووزانه وزان: المرأة تری الحمرة إلی خمسین إلاّ القرشیّة.

وقوله علیه السّلام: ...أمّا ما قتله الطیر فلا تأکل منه إلاّ أن تذکیّه.(2)

وما اشتمل علی قوله علیه السّلام: «إلاّ أن تدرک ذکاته» ونحوه(3)

وتلخّص: عدم الإشکال فی استصحاب عدم التذکیة.

نتائج الامور
اشارة

إنّ الشبهة إمّا حکمیّة، لفقد الدّلیل أو قصوره أو إجماله أو ابتلائه بالمعارض. وإمّا موضوعیّة، من جهة الامور الخارجیّة.

صور الشبهة الموضوعیّة

صور الشبهة الموضوعیّة

والموضوعیّة لها صور:

الأولی

أن یشک فی حلیّة اللّحم وحرمته من جهة الشک فی کونه من الحیوان الحلال أکله أو المحرّم. کأن یجهل أنه لحم شاة أو لحم إرنب فی مکانٍ مظلم، لکن یعلم بوقوع الذبح بشروطه وبالقابلیّة للتذکیة.

ص: 334


1- 1. وسائل الشیّعة 23 / 332، باب إباحة ما یصید الکلب المعلّم...
2- 2. المصدر 23 / 349، باب أنه لا یحلّ أکل ما صاده غیر الکلب...
3- 3. المصدر 23 / 343، باب أنّ الصید إذا اشترک فی قتله...

والمرجع فی هذه الصّورة هو قاعدة الحلّ، لأنّ المفروض تحقق التذکیة، فلا مجال لأصالة عدم التذکیة، فالمحکّم: کلّ شی ء لک حلال. وبناءً علی أصالة الحرمة والطهارة فی المطعومات _ کما عن الشهید(1) _ فإنّ هذا الأصل یتقدّم علی قاعدة الحلّ. لکنّ أصالة الحرمة فیها غیر ثابتة. وکذا لو تمّ الدّلیل علی حرمة أکل الحیوان الحیّ، فإنّ الحرمة تستصحب، و یکون الإستصحاب مقدّما علی قاعدة الحلّ. ولکن قیل: بجواز بلع السّمک الصّغیر حیّا، إلاّ أنّ الدّلیل قائم علی الحرمة، وهو خبر أبیبکر الحضرمی _ من رجال کامل الزیارات _ فی عدم جواز أکل ما لم یذبح بحدیدةٍ.(2) بدعوی أنه بإطلاقه یشمل الحیوان الحیّ، فتأمّل. إلاّ أن یشکل فی استصحاب الحرمة بتبدّل الموضوع. لکن یمکن دفعه: بأن الموضوع ما لم یذبح بحدیدة، والحیّ کذلک، فیحرم أکله، ومع الشک فی بقاء هذا الحکم یستصحب.

الثانیة

أن یشک فی الحلیّة والحرمة من جهة عروض ما یمنع کالجلل. والمرجع فی هذه الصّورة استصحاب عدم الجلل، فهو حینئذٍ حلال، لأنّ المفروض تحقق التذکیة ووجود القابلیّة. فالدلیل علی الحلیّة هو الإستصحاب، ولا تصل النوبة إلی قاعدة الحلّ لحکومته علیها.

ص: 335


1- 1. انظر: أجود التقریرات 3 / 340.
2- 2. وسائل الشیعة 24 / 8، باب أنه لا یجوز تذکیة الذبیحة بغیر الحدید.

الثالثة

أن یشک فی الحلیّة من جهة الشک فی القابلیّة. کأن لا یعلم هل هو لحم کلب فلا یقبل التذکیة أو لحم شاة فیقبل.

وفی هذه الصّورة:

إن قلنا بوجود الدّلیل العام المقتضی لقابلیّة کلّ حیوانٍ للتذکیة _ کما هو المختار، لموثقة ابن بکیر، خلافا لصاحب الجواهر، حیث جعل أظهر الأدلّة علی ذلک صحیحة ابن یقطین _ و قلنا بجریان استصحاب العدم الأزلی فی العناوین الذاتیّة، لکی یندرج هذا اللّحم تحت العام، تمّ الحکم بحلیّة اللّحم المطروح، ولا تصل النوبة إلی قاعدة الحلّ، کما لا تصل إلی أصالة عدم التذکیة.

وأیضا: یحکم بحلیّته بعد القول بوجود العام، بناءً علی جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة الموضوعیّة للمخصّص، ولا حاجة حینئذٍ إلی الإستصحاب.

وإن قلنا: بعدم وجود العام الدالّ علی قابلیّة کلّ حیوان للتذکیة، وبأنّ الإستصحاب لا یجری فی العناوین الذاتیّة، وقع البحث فی حقیقة التذکیة:

فإنْ کانت التذکیة عنوانا بسیطا مسبّبا عن الذبح، وأن موضوع الحرمة هو «مالم یذک» بنحو السّلب المقابل للإیجاب، رجع الشک إلی تحقق التذکیة، و جری استصحاب عدمها، والحکم حرمة هذا اللّحم.

وإن کانت عنوانا بسیطا، لکن موضوع الحرمة غیر معلوم _ کما ذهب إلیه الإصفهانی، لاختلاف النصوص _ لم یجر الإستصحاب المذکور، لعدم معلومیّة الموضوع.

ص: 336

وإن کانت عنوانا مسبّبا ومرکّبا، فعلی القول بکون القابلیّة جزءً من التذکیة _ أی أن التذکیة وإن کانت مسبّبة، لکن القابلیّة جزء منها _ جری استصحاب عدم التذکیة، لأن الأصل عدم تحقق الذبح فی المحلّ القابل. وعلی القول بأنّ القابلیّة خصوصیّة قد اعتبرت فی الذبح الخاصّ، جری استصحاب عدم القابلیّة، ویکون الحاصل عدم تحقق الذبح المؤثر. إلاّ أنه لابدّ من إثبات کون القابلیّة من عوارض الوجود.

وإن کانت التذکیة نفس الذبح، لکن بشرط القابلیّة، لم یجر استصحاب عدم الذبح، وتصل النوبة إلی قاعدة الحلّ وقاعدة الطّهارة.

الرابعة

أن یشک فی الحلیّة والحرمة من جهة الشک فی تحقق سائر ما یشترط فی التذکیة، مع العلم بوجود القابلیّة.

والمرجع هنا أصالة عدم التذکیة، سواء کانت التذکیة سببا أو مسبّبا، ولا تصل النوبة إلی قاعدة الحلّ علی کلّ حال.

صور الشبهة الحکمیّة

صور الشبهة الحکمیّة

والشبهة الحکمیّة لها صور کذلک:

الأولی

أن یکون الشک ناشئا من الشک فی القابلیّة للتذکیة، کالحیوان المتولّد من حیوانین لا یلحق بأحدهما فی الاسم.

ص: 337

فإن قلنا: بوجود العام المقتضی لقابلیّة کلّ حیوان للتذکیة _ کما هو المختار _ فإنه ینطبق علی المورد، ولا یحتاج إلی أصل محرز للموضوع، إذ المفروض إحرازه والشبهة حکمیّة.

وإن قلنا بعدمه:

فإن کانت التذکیة أمرا بسیطا مسببّا، فبناءً علی وضوح الموضوع _ وهو السّلب فی مقابل الإیجاب _ لا یجری أصالة عدم التذکیة، وبناءً علی عدم وضوحه لا یجری کذلک.

وإن کانت سببا، فإن کانت التذکیة هی الذبح الخاصّ، استصحب عدمه، وإن کانت الذبح والقابلیّة شرط التأثیر، لم یستصحب عدم التذکیة، لإحراز الموضوع بالوجدان، وحینئذٍ یرجع إلی قاعدة الحلّ.

الثانیة

أن یکون الشک ناشئا من الشک فی تحقق المانع کالجلل. وهنا یستصحب عدم المانع بلاکلام، وهذا الإستصحاب متقدّم علی قاعدة الحلّ.

الثالثة

أن یکون الشک ناشئا من الشک فی تحقق الشرائط الاخری غیر القابلیّة، کأن یشک فی اعتبار التسمیة فی التذکیة.

فعلی القول بأنّ التذکیة أمر بسیط شرعی مسبّب، فلا إطلاق یدفع شرطیّة

ص: 338

التسمیة. وعلی القول بأنها حقیقة شرعیّة، فکذلک. وعلی القول بأنها أمر عرفی لکنّ الشّارع أضاف إلیه قیودا، یتمسّک بإطلاق دلیل التذکیة من أجل إلغاء الشرط المشکوک فیه. وقد ذکرنا أن الشّارع لم یستعمل التذکیة فی معنیً غیر معناها العرفی وهو الذبح.

هذا تمام الکلام فی التنبیه الأوّل.

ص: 339

الثانی: فی بیان الإحتیاط وکیفیّة تعلّق الأمر به

اشارة

التنبیه الثانی

فی بیان الإحتیاط وکیفیّة تعلّق الأمر به

لا کلام فی حسن الإحتیاط عقلاً فی الواجبات:

أمّا فی التوصلیّات، فهو ممکن و حسنٌ بلا شبهة وبلا کلام، لأن المقصود فیها تحقّق الغرض، وهو یتحقّق بنفس الإتیان بمتعلّق الأمر بلا إضافةٍ إلی المولی وقصد الأمر المتعلّق بالواجب التوصلی.

وأمّا فی التعبدیّات المعلوم فیها الأمر تفصیلاً أو إجمالاً، فلا کلام بین المحقّقین فی إمکان الإحتیاط فیها وحسنه، کما إذا تردّد الأمر بین الوجوب والندب. نعم، بناءً علی اعتبار قصد وجه التکلیف فی صحة الإمتثال، لایمکن الإحتیاط، لعدم معلومیّة وجه الأمر والمفروض اعتباره.

ومورد البحث فی هذا التنبیه هو: التعبدیّات غیر المعلوم فیها الأمر لا تفصیلاً ولا إجمالاً، کما إذا تردّد الأمر بین الوجوب التعبدی والإباحة، فإمّا لا أمر أصلاً، وإمّا هو الإیجاب تعبّدا.

ص: 340

وجه الإشکال

ووجه البحث والإشکال هو: إن العبادة تتّحقق بقصد الأمر، وإذا جهل الأمر لم یتمشّ من المکلّف قصد الأمر إلاّ تشریعا، ومع عدم تمشّیه منه لم تتحّقق العبادة، ومع عدم تحقّقها لم یتحقق الإحتیاط فی العبادة، فلا یمکن الإحتیاط فی العبادة.

الجواب

اُجیب عن الإشکال

إن الأمر موجود وقصده ممکن، وإن الأمر یکشف عنه لمّا بواسطة الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع، و إنّاً عن طریق ترتب الثواب علی الإمتثال، وهو فرع الأمر.

وهذا الجواب مبنی علی مذهب صاحب الجواهر من أن عبادیّة العبادة متوقفة علی قصد الأمر.

إشکال صاحب الکفایة

أشکل علیه(1) باستحالة الکشف مطلقا، لأنّ الأمر بالإحتیاط یتوقف علی الإحتیاط توقف العارض علی معروضه، والإحتیاط یتوقّف تحقّقه علی الأمر بالإحتیاط الثابت من طریق الملازمة. و هذا دور.

ص: 341


1- 1. کفایة الاصول: 350.
اعتراض المحقق الإصفهانی

و قد اعترض المحقق الإصفهانی علی کلام صاحب الکفایة: بأنّ المحذور لیس هو الدور، بل هو لزوم اجتماع المتقابلین و تقدّم المتأخر الطبیعی علی المتقدّم الطبیعی.

توضیح دعوی لزوم اجتماع المتقابلین: إنّ الأمر لیس عارضاً علی متعلقه حتی یکون متأخرا عنه تأخر العارض عن معروضه، لیتمّ ما ذکره، بل إنّ هذا العروض ما هوی.(1) فیکون وزان الحکم بالنسبة إلی موضوعه وزان الماهیّة بالنسبة إلی الوجود. والبرهان علی ذلک هو: إنّ الحکم لا یخلو عن أحد أمرین. فإن کان حقیقة الحکم هو الإرادة والکراهة التشریعیة، فإن الارادة والکراهة یوجدان بوجود المراد والمکروه، فلا یوجدان إلاّ بوجود المتعلق، وإلاّ یلزم وجود الارادة والکراهة المطلقتین، أی الإرادة بلا مراد والکراهة بلا مکروه. و حیث لا وجود لهما منحاز عن وجود المتعلّق فلا تعلّق فلا دور، إذ یکون الإحتیاط متعلّق الإرادة و وجوده بنفس وجود الإرادة التشریعیة، لأن الوجود أولاً وبالذات للإرادة و للاحتیاط ثانیاً وبالعرض.

وإن کان حقیقة الحکم هو البعث والزجر الاعتباریین، فإن البعث والزجر

ص: 342


1- 1 . العارض علی قسمین: عارض الوجود خارجاً أو ذهناً، مثل البیاض بالنسبة الی الجدار والنوعیة العارضة علی الانسان الذهنی، و عارض الماهیة، فالوجود یعرض علی الماهیة وهی توجد بالوجود و لیس متأخراً عنها، بخلاف الجدار، حیث أنّ البیاض متأخر وجوداً عن الجدار و لیس وجوده بالبیاض.

أمران إضافیان، و هما متقوّمان ذاتاً بالمتعلّق، فمتعلّق البعث یوجد بوجود البعث کسائر عوارض الماهیة، و لا تقدّم للمتعلّق علی البعث فی الوجود.

و توضیح دعوی لزوم تقدّم المتأخر: إنّ متعلّق الحکم متقدم طبعاً علی الحکم، و إن التقدم والتأخر الطبعی یجتمع مع الاتّحاد الوجودی، فإذا وجد الحکم استحال عدم المتعلّق بخلاف العکس، و علی هذا، فإذا توقف تحقق الاحتیاط فی العبادة علی الامر بالاحتیاط، لزم تأخر المتقدّم طبعاً، فصار المتقدم متأخراً والمتأخر متقدماً، و هذا محال استحالة اجتماع المتقابلین.

دفاع الاستاذ

مناقشة الاستاذ

وأفاد شیخنا الاستاذ اندفاع الاعتراض المذکور بوجوه:

الأول: صحیحٌ أن ذات الإرادة تعلقیة، ولکنّ قیام المراد بالإرادة وجوداً أمر آخر، بل البرهان علی خلافه. و توضیح ذلک هو: إن الماهیة التعلّقیة وجودها تعلقی أینما کان، و ما لیس بتعلّقی فهو کذلک دائماً. و ذات المراد ماهیّة استقلالیة، فإذا وجدت ماهیة المراد بعین وجود الإرادة لزم وجودها بالوجود التعلّقی وهذا محال. و بعبارة اخری: إن وجود المتعلّق للإرادة بغیر الإرادة خلف، و وجوده بعین وجود الإرادة یستلزم کون الوجود الاستقلالی موجوداً بالوجود التعلقی، و هذا محال.

والثانی: إنّ مختاره رحمة اللّه علیه هو: أن البعث نسبة بین الباعث

ص: 343

والمبعوث إلیه، و علیه، یلزم تأخره لکون کلّ نسبةٍ متأخرةً وجوداً عن طرفیها، ویستحیل وجودها فی مرتبتهما، و إذا کانت متأخرةً کیف یعقل وجود طرف النسبة بنفس وجود النسبة؟ أللهم إلاّ فی الاضافة الاشراقیة.

والثالث: إذا کان وجود البعث وجوداً رابطاً و معنیً حرفیاً، وأنه یلحظ نسبةً بین الباعث والمبعوث إلیه، ینظر التحریک و البعث الواقعی الخارجی ولا یلحظ باللحاظ الاستقلالی والمعنی الاسمی کما فی بعث زید عمراً(1)

کان من المستحیل أن یکون بالنسبة الی طرفه من عوارض الماهیة، لأن عارض الماهیة حینئذٍ وجود الماهیة بوجود عارضها، ولا یعقل أن یکون العارض رابطاً غیر استقلالی.

فظهر، أن ما ذکره فی الاشکال علی الکفایة مخدوش.

بل الصحیح، أن طرف التحریک والبعث _ سواء الاعتباری والواقعی _ لیس موجوداً بوجود البعث، لعدم الدلیل علی ذلک، فالدور الذی ذکره صاحب الکفایة تام. نعم، المحذور الذی ذکره المحقق الاصفهانی من تأخر المتقدم والمتأخر موجود کذلک، و قد أشار إلیه المحقق الخراسانی فی حاشیة الرسائل.

ص: 344


1- 1 . ذکر المحقق الإصفهانی أن البعث تارةً: اعتباری، ولا فرق بین البعث نحو الصلاة والبعث نحو السّوق، غیر أنّ الاول فی عالم الاعتبار والثانی خارجی واقعی. و هذا بعثٌ بالمعین الاسمی. وأخری: یکون البعث نسبةً بین الباعث والمبعوث إلیه، فهو بعث نسبی و وجوده وجود الرابط و متقوّم بالطرفین کالمعانی الحرفیة. و علی هذا، ذهب فی الواجب المشروط _ حیث یشکل بأنه إذا کانت الهیئة معنیً حرفیاً فمعناها جزئی، والجزئی لا یقبل الاطلاق والاشتراط _ الی أن البعث فیه معنیً حرفی، ولکن لیس جزئیة المعانی الحرفیة بحیث لا تقبل التقیید.
إشکال الشیخ وتوضیحه

إشکال الشیخ

وأمّا الشیخ، فذهب(1) إلی أنّ الأمر المستکشف بقاعدة الملازمة إرشادی ولیس بمولوی، والأمر الإرشادی لا یصحّح قصد الأمر الذی هو الملاک لعبادیّة العبادة.

توضیحه:

إن الإحتیاط یتضمّن امورا:

منها: إنه یحفظ الإنسان من الوقوع فی المفاسد الواقعیّة، ویحقق له الوصول إلی المصالح، کما هو الحال فی أوامر الطبیب.

ومنها: إنه ممّا یستقلّ العقل بحسنه من جهة کونه انقیادا.

ومنها: إنه یوجب حصول قوّة النفس وتحصیل الملکة الراسخة.

ومنها: إنه یوجب حفظ الأحکام الواقعیّة، کما هو الحال فی الطرق والاصول المثبتة للتکلیف.

إذن، یحتمل أن تکون فی أوامر الإحتیاط جهة من هذه الجهات المخرجة لها عن المولویّة. و یحتمل أیضا أن تکون إرشادا إلی حکم العقل بحسن الإنقیاد للمولی.

وعلی الجملة، فالشیخ یری أن الأمر بالإحتیاط إرشاد إلی المصلحة والمفسدة، نظرا إلی أخبار الوقوف، حیث اُخذ فی موضوعها «الهلکة». والمراد منها هو «العقاب» إن وجد المنجّز، و«المفسدة الواقعیّة» إنْ لم یوجد.

ص: 345


1- 1. فرائد الاصول: 216.
الآراء الاخری

وقال المتأخرون: بأن هذه الأوامر مولویّة، ثم اختلفوا:

فالمیرزا المحقق(1) علی أنها أوامر مولویّة نفسیّة، للمصلحة المترتبة علی نفس الإحتیاط.

والمحقق العراقی(2) علی أنها مولویّة طریقیّة، بأنْ یکون متعلّق الأمر طریقا إلی المصلحة الواقعیّة، مثل الأمر فی باب الطرق کقوله: صدّق العادل.

والمحقق الإصفهانی(3) مال إلی کونها مرددةً بین الإرشادیّة والمولویّة، فالأمر بالإحتیاط لبّا هو الأمر بالفعل، ولکن قد جاء بعنوان الإحتیاط من أجل التحفّظ علی الواقع.

وقد أوضح العراقی مسلکه بالنظر فی الأخبار، إذ قسّمها إلی ثلاثة أقسام:

أحدها: «أخوک دینک فاحتط لدینک». فقال: بأن هذا الأمر طریق إلی حسن الإحتیاط عقلاً.

والثانی: «قف عند الشبهة». فقال: بأنه طریق إلی المفاسد الواقعیّة.

والثالث: «من ترک الشّبهات فهو لما استبان له أترک». فقال: بأنه وإن کان ظاهرا فی المولویّة، من جهة إفادته کون المصلحة فی نفس الإحتیاط، مثل حصول الملکة به، لکن یحمل علی الطریقیّة إلی المفاسد الواقعیّة مثل أوامر

ص: 346


1- 1. فوائد الاصول 3 / 398.
2- 2. نهایة الافکار 3 / 260 _ 261.
3- 3. نهایة الدرایة 4 / 164.

الطبیب، من جهة أن مصلحة الواقع یجب أن تحفظ فی ظرف الجهل. فیظهر أنّ الأمر بالإحتیاط جاء لحفظ الواقع.

أقول:

التحقیق فی المقام

والتحقیق هو: أنه إن کان البحث فی الشبهة البدویّة حیث یحتمل الوجوب، فإنّ ظاهر الأمر بالإحتیاط هو الموضوعیّة للإحتیاط، فیکون الأمر مولویّا فیه، لکن بملاک حفظ الواقع. لکن قوله علیه السّلام: «أخوک دینک» غیر مختصّ بالشبهة البدویّة بعد الفحص، بل یعمّ المقرونة بالعلم الإجمالی.

وبعبارة اخری: متعلّق الأمر هو الإحتیاط، وهو متحقّق فی الشّبهات قبل الفحص وبعده وفی المقرونة، و تخصیص الحکم به بحصّةٍ دون اخری یحتاج إلی المخصّص، وعلیه، فإنّ الأمر فی الشبهة المقرونة واصل، ومعه یلغو جعل أمر آخر مولوی، لأنّه یکون متعلّقا حینئذٍ بالإطاعة، وتعلّق الأمر المولوی بالطّاعة غلط، وحیث لا یعقل کون هذا الأمر مولویّا، کما لا یعقل کونه مولویا وإرشادیا معا، فهو إرشادی. وحینئذٍ، فجمیع أوامر الإحتیاط بشتّی ألفاظها إرشادیّة، لأن الحمل علی المولویّة یستلزم التخصیص بالبدویّة ولا مخصّص.

وجعل ظهور الأمر فی المولویة قرینة علی التخصیص. بلاوجه، لأنّ هذا الظهور مقامی لا لفظی، فلا یصلح للمخصصیّة.

نعم، لو ورد الأمر به فی خصوص الشبهة البدویّة، حمل علی المولویّة ولو بعنوان الطریقیة. هذا أوّلاً.

ص: 347

وثانیا: کون أوامر الإحتیاط بالنسبة إلی الشّبهات قبل الفحص والمقرونة بالعلم استحبابیّة. غیر معقول، لأن الترخیص فی الترک فی تلک الشّبهات غیر جائز، وإن کانت وجوبیّة لزم الإلتزام بأمرین وعقابین فی الشبهة المقرونة. وهذا ما لا یلتزم به.

وأمّا الوجوب الطریقی، فإن کان بمعنی الإرشاد إلی الطریقیّة والإحتیاط بالنسبة إلی الواقع، فهذا الوجوب لیس مولویّا، بل یکون مثل صدّق العادل. مع أنه لا معنی للإرشاد إلی الطریقیّة، لأن المرشد یلزم أن یکون صالحا لإرائة الواقع، والإحتیاط لیس فیه تلک الصلاحیّة، بخلاف صدّق العادل.

وإن کان وجوبا مولویّا غیر أن ملاکه هو التحفّظ علی الواقع، فاللاّزم المذکور _ أعنی تعدّد العقاب علی المخالفة _ لازم، لأن المولوی الوجوبی تستتبع مخالفته العقاب المستقلّ عن العقاب المترتب علی مخالفة الواقع. إلاّ أن یقال: بعدم لزوم تعدّد الأمرین الصّادرین عن الغرض الواحد. لکنه مخدوش: بأن العقل یری کلّ واحد من الأمرین موضوعا مستقلاًّ للعقاب علی الترک، و وحدة الغرض لا تجدی لرفع تعدّد العقاب.

وأمّا قوله علیه السّلام: «من ترک ما اشتبه علیه من الإثم فهو لما استبان أترک» فقد اعتمد علیه المیرزا للقول بالمولویّة النفسیّة، والعراقی للقول بالمولویّة الطریقیّة.

والتحقیق: أنه ناظر إلی الشبهة المقرونة وظاهر فیها، بقرینة کلمة «الإثم»، إذ

ص: 348

لیس فی ارتکاب الشبهة البدویّة بعد الفحص إثم، ولا یتّصف المرتکب فی مورد البراءة ووجود المؤمن ب_ «الإثم»، لا کتابا ولا سنّة، وإنما یختص الإتصاف بذلک فی مورد وجود المنجّز. ولو سلّمنا عدم الظهور فی البدویّة، فلا کلام فی إطلاقه الشامل لها. هذا أوّلاً.

وثانیا: فی ذیله: «والمعاصی حمی اللّه، فمن یرتع حولها یوشک أن یدخلها» وهذه الجملة صریحة فی الإرشاد. فیکون وزان الخبر وزان «قف عند الشبهة فإن الوقوف...».

فظهر مما ذکرنا: عدم إمکان حمل «أخوک دینک...» و «قف...» و «ومن ترک...» علی المولویّة... خلافا للإصفهانی

وللمیرزا القائل بالمولویّة النفسیّة.

وللعراقی القائل بأنه یقبل المولویّة لکنّه طریقٌ.

وسقط أیضا قول الشیخ: یتّجه الفتوی باستحباب الإحتیاط.(1) إذ فیه:

أوّلاً: إنّ العمل المجرّد عن قصد القربة لیس بعبادة.

وثانیا: إنه لا مدرک لهذه الفتوی إلاّ الأخبار، وقد عرفت عدم صلاحیّتها للحمل علی المولویّة. أللّهم إلاّ أنْ یکون المدرک هو الحسن العقلی. وهو کما تری.

هذا کلّه بالنسبة إلی التصویر الأوّل من جهة الدور وتأخّر ما هو المتقدّم طبعا وبالعکس.

ص: 349


1- 1. فرائد الاصول: 229.
التصویر الثانی

ذکر المحقق الخراسانی:(1) أنّ قصد الأمر غیر مأخوذ فی متعلّق الأمر شرعا _ والإشکال إنما حصل من تصوّر اعتباره _ بل هو مأخوذ بحکم العقل، من باب أن تحقّق الغرض یتوقّف علی قصد الأمر، فلا إشکال فی البین.

وفیه:

إنّ الإشکال لیس من جهة ما ذکر بل من جهة فقدان الأمر. نعم، یتوجّه الإشکال من الجهة التی ذکرها فی باب التعبّدی والتوصّلی، وهو موجود فی جمیع العبادات، و هو یندفع بوجوهٍ منها ما ذکر.

لکنّ وجه الإشکال فیما نحن فیه هو: إنّ العمل الدائر أمره بین الوجوب والإباحة لا علم لنا بتعلّق الأمر به، ومع هذا الجهل والفقد للأمر لا یتمشّی قصد الأمر، فکیف یکون عبادةً؟

التحقیق فی ذلک

التحقیق فی حلّ الإشکال:

هو نفی اعتبار قصد الأمر فی عبادیّة العبادة، والقول بکفایة کون العمل المأتّی به مضافا إلی المولی.

وعلی الجملة، فإن الإحتیاط هو الإتیان بالعمل بحیث یتطابق مع الواقع، فإن قلنا بلزوم الإتیان به بقصد الأمر، وقع الإشکال المذکور، لعدم ثبوت الأمر کذلک

ص: 350


1- 1. کفایة الاصول: 351.

لا تفصیلاً ولا إجمالاً. ولکن قصد الأمر غیر معتبر فی عبادیّة العبادة، بل یکفی مجرّد، إضافتها إلی المولی، سواء بقصد أمر المولی أو بقصد غرضه أو بقصد الأمر المحتمل. وهنا إحتمال الأمر موجود، فالعمل العبادی الإحتیاطی متحقق ولا إشکال.

ص: 351

الثالث: فی أخبار من بلغ وجهات البحث فیها

اشارة

التنبیه الثالث

فی أخبار من بلغ

ومنها: صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبداللّه علیه السّلام قال: من بلغه عن النبی صلّی اللّه علیه وآله شی ء من الثواب فعمله، کان أجر ذلک له وإن کان رسول اللّه لم یقله.(1)

جهات البحث

ویقع البحث فی جهات:

(الجهة الأولی) الاحتمالات فی أخبار من بلغ
اشارة

الجهة الأولی

فی هذه الأخبار خمسة احتمالات:

الأوّل:

أن یکون مدلولها إسقاط ما اعتبر فی حجیّة الخبر فی هذا الفرض.

ص: 352


1- 1. وسائل الشّیعة 1 / 81 ، باب استحباب الاتیان بکلّ عمل مشروع...

وبعبارة اخری: مفادها هو التوسعة فی حجیّة الخبر فی خصوص المندوبات، و تقیید أدلّة اعتبار الشرائط فی حجیّة الخبر الواحد بالإلزامیّات.

وهذا ما نسب إلی المشهور، وهو یناسب عنوانهم «التسامح فی أدلّة السنن».

وعلی هذا الوجه، تکون المسألة اصولیّة، لکون «الحجیّة» واسطةً فی استنباط الحکم الشّرعی.

الثانی:

أن یکون مدلولها تعنون العمل بقیام الخبر الضّعیف بعنوان «ما بلغ علیه الثواب». فالمعنی: کلّ عمل بلغ علیه الثواب فهو مستحب استحبابا نفسیّا، بأن یکون «البلوغ» عنوانا ثانویّا ینقلب به العنوان الأولی، ویغیّر الواقع، کما هو الحال فی الضرّر والحرج.

وهذا حکم کلّی فقهی.

وذهب إلیه المحققون صاحب الکفایة والمیرزا والإصفهانی.(1)

الثالث:

أن یکون مدلولها استحباب العمل علی طبق مفاد الخبر الضعیف استحبابا طریقیّا. بمعنی: إن الشّارع قد حکم باستحباب کلّ عمل بلغ علیه الثواب بخبر ضعیف بملاک التحفظ علی الواقعیّات، لا أن المصلحة فی نفس ذلک العمل.

إختاره المحقق العراقی.(2)

ص: 353


1- 1. کفایة الاصول: 352، نهایة الدرایة ، فوائد الاصول 3 / 415.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 282.

الرابع:

أن یکون مدلولها الإرشاد إلی حکم العقل باستحقاق الثواب علی الإنقیاد وترتیب الأثر علی الحکم المحتمل البالغ بالخبر الضعیف.

ویستفاد هذا الوجه من بعض کلمات الشیخ،(1) واختاره المحقق الخوئی.(2)

الخامس:

أن یکون مدلولها مجرّد الإخبار عن فضل اللّه. أی: إن کلّ عملٍ بلغ علیه الثواب ثم صدر من العبد، ترتب علیه ذلک الثواب فضلاً من اللّه سبحانه.

جاء هذا فی مصباح الاصول.(3)

إلاشکال علی رأی المشهور

إلاشکال علی رأی المشهور

وقد أشکل علی الإحتمال الأوّل: بأن معنی إسقاط شرائط الحجیّة فی الخبر القائم علی شی ء من السّنن، هو کونه طریقا إلی الواقع فیها. وهذا جعلٌ واعتبار یحتاج إلی مبرز، ولکن المبرز له غیر موجود فی الأخبار، فلا مقتضی للقول المذکور.

بل یوجد المانع عن ذلک، لأنّ إحتمال الخلاف محفوظ فی هذه الأخبار، وهو یمنع من جعل الحجیّة، إذ الحجیّة بمعنی المعذّریة والمنجزیّة تکون فی

ص: 354


1- 1. فرائد الاصول: 229.
2- 2. مصباح الاصول: 2 / 319.
3- 3. المصدر.

صورة حفظ الواقع و إصابته، ولکنّ مدلول أخبار من بلغ هو ترتیب الأثر علی الخبر، سواء کان هناک واقعٌ أو لا.

وفی مصباح الاصول(1): إن ما اشتهر من قاعدة التسامح فی أدلّة السّنن بعید من ظاهر الروایات غایة البعد، لأن لسان الحجیّة إنما هو إلغاء احتمال الخلاف والبناء علی أنّ مؤدّی الطریق هو الواقع کما فی أدلّة الطرق والأمارات، لا فرض عدم ثبوت المؤدّی فی الواقع، کما هو لسان هذه الأخبار، فهو غیر مناسب لبیان حجیّة الخبر الضعیف فی باب المستحبات، ولا أقلّ من عدم دلالتها علیها.

أقول:

وهذا الإشکال وارد، إلاّ أن ینتقض بالإستصحاب، فإن لازمه عدم طریقیّة الإستصحاب إلی الواقع، لأن الشّارع قد حفظ الشک فی دلیل الإستصحاب، أمّا علی مبنی کونه أصلاً محرزا للواقع فلا نقض.

ویمکن الجواب عن النقض: بأنّ الشک محفوظ فی موضوع دلیل الإستصحاب و ملغیً فی محموله، و هذا لا ینافی الطریقیّة.

لکنّه مشکل، لمنافاة حفظ الشک للطریقیّة عرفا، فلا یصحّ أن یقال: هذا طریق الکوفة فاسلکه عن یقین ویمکن أن لا یوصلک إلیها.

و تلخّص: عدم تمامیّة الإحتمال الأوّل.

ص: 355


1- 1. مصباح الاصول: 2 / 319.
رأی الکفایة

واستدلّ للقول بدلالة الأخبار علی کون العمل مستحبّا استحبابا نفسیّا، کما هو مختار صاحب الکفایة ومن تبعه، بوجهین:

أحدهما: إن کلمة «فعمله» فی الأخبار ظاهرة فی الإنشاء، أی فلیعمل، وإنْ کانت جملة خبریّة.

وفیه:

أوّلاً: إن الجملة الخبریّة التی تدلّ علی الطلب فی مقام الإنشاء هی التی یتمّ بها الکلام، مثل: من أحدث یتوضّأ. فإن یتوضأ جملة خبریة، لکنّ المراد منها هو الإنشاء، وهی هنا متمّمة للکلام ومحمول للموضوع، والفرق بینها وبین: من فعل کذا فله کذا، واضح.

وثانیا: إنه یعتبر فی دلالة الجملة الخبریّة علی الطلب عدم وجود القرینة أو ما یحتمل القرینیّة علی الخلاف، وهنا یوجد إحتمال کونها إرشادیّة إلی حکم العقل، ومع هذا الإحتمال فلا ظهور لها فی الطلب المولوی.

والثانی: إن الخبر القائم علی ثواب عملٍ ظاهر فی ترتب الثواب علی العمل، و ترتبه علیه یکشف إنّا عن الأمر بالعمل، لأن العمل بداعی احتمال الثواب له ثواب من جهة کونه انقیادا، أمّا ذات العمل بما هو، فلا یترتب علیه ثواب عقلاً، فإذا رتّب الشّارع الثواب لم یعقل کونه بلا أمرٍ.

ص: 356

أقول:

وهذا الوجه قویّ. لکنّ وجود «فعمله» فی بعض الأخبار، حیث تفرّع العمل علی بلوغ الثواب، ظاهر فی انبعاث المکلّف من البلوغ.

إشکالٌ ودفع

ثم إنه قد أشکل علی هذا القول:

بأنّ أخبار من بلغ علی قسمین، فقسم منها مقیّد فیه العمل بکونه التماسا للثواب البالغ وطلبا لقول النبی صلّی اللّه علیه وآله. والقسم الآخر غیر مقیّد بالقید المذکور. ومقتضی قاعدة حمل المطلق علی المقید أن یحمل القسم الثانی علی الأوّل، ومن الواضح أن العمل بداعی إلتماس الثواب انقیادٌ، وهو لا یکشف عن ثبوت الأمر.

فأجاب صاحب الکفایة(1):

بأنّه حیث لا تنافی بین المطلق والمقید فلا موجب للحمل، بل نأخذ بکلا القسمین، فما کان دالاًّ علی ترتب الثواب علی ذات العمل کشف عن الأمر المولوی، وما دلّ علی ترتبه علی العمل المقیّد یکون إرشادا إلی الإنقیاد.

ذکر هذا الجواب، ثم اختار فی الأخیر کون الثواب فی القسمین علی ذات العمل.

ص: 357


1- 1. کفایة الاصول: 353.
مناقشة الجواب

وفی هذا الجواب نظر، لأن الأخبار وإن کانت علی القسمین المذکورین، لکنها قد سیقت کلّها لبیان مطلبٍ واحدٍ، لکون موضوعها واحداوالمحمول واحد، فإمّا یؤخذ بالإطلاق فی الجمیع، وإمّا یقیّد الجمیع.

ذکره المحقق الإصفهانی(1) وغیره.

رأی المحقق النائینی ومناقشة

رأی المیرزا

والمیرزا المحقق، رجّح فی الدورة الأولی(2) قول المشهور، واختار القول الثانی _ تبعا لصاحب الکفایة _ فی الدورة الثانیة.(3)

واستدلّ لهذا المدّعی: بأنّ لهذه الأخبار مدلولاً مطابقیّا وهو الإخبار عن الثواب، ومدلولاً سیاقیّا وهو سیاق الترغیب فی العمل، فیدلّ علی المحبوبیّة. ولمّا کان السّیاق قرینة حاکمة علی ذی القرینة حتی لو کان ظهورها أضعف من ظهوره، فإنه یتقدّم علی المدلول المطابقی، وتکون الأخبار دالّة علی الإستحباب النفسی.

وحینئذٍ تصبح قاعدة فقهیّة جاریة فی جمیع الأعمال التی بلغ علیها الثواب.

ص: 358


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 180.
2- 2. فوائد الاصول 3 / 415.
3- 3. أجود التقریرات 3 / 366.

والمستحب هنا هو ذات العمل، لعدم وجود المقیّد فی النصوص بکون العمل بداعی الثواب حتی یحمل علیه المطلق، بل ظهورها فی الداعویّة وکلّها مطلقة، فالمستحب استحبابا نفسیّا هو ذات العمل.

مناقشته

وینقض علی هذا الإستدلال: بأنّ أخبار الإحتیاط أیضا مسوقة للترغیب، بل یوجد فی بعضها الأمر بالإحتیاط _ ولیس فی أخبار من بلغ أمر وإنّما هو مستکشف إنّا، فیلزم القول بکونها مولویةً _ والمیرزا لا یقول بذلک.

وإذا کان وجه القول بکون أخبار الإحتیاط إرشادیّة وقوعها فی طول الأوامر الواقعیّة، فإنّ أخبار من بلغ أیضا فی طول الأوامر المحتملة، لأنه قد بلغ الثواب علی عملٍ یحتمل وجود الأمر به و یحتمل عدم وجوده، والثواب فرع الأمر، فأخبار من بلغ فی طول الحکم الواقعی الذی تکشف عنه هذه الأخبار إنّا.

نعم، إن نفس عنوان «بلوغ الثواب» یکون ملاکا للمحبوبیّة إن کان البلوغ صالحا لتغییر الحکم، کما هو الحال فی «الضرر» و «العسر» ونحوهما.

لکنّ مجرّد بلوغ الثواب لیس من العناوین الثانویة، لا عقلاً ولا عقلاءً.

بل إن المیرزا لا یقول بصلاحیّة أوامر الإحتیاط لأن تکون ذات ملاک

ص: 359

ومصلحة، ولذا حکم باستحباب الإحتیاط استنادا إلی الخبر «من ترک الشّبهات» الظاهر فی تحقق المصلحة فی نفس الإحتیاط.

ولکن لا یوجد فی أخبار من بلغ خبر یقتضی ذلک.

وأمّا ما ذکره من ظهور الأخبار فی الداعویّة دون التقیید. ففیه بحثٌ، فقد قالوا بأن المعلول لا یقیّد علّته، ومن هنا قال صاحب الکفایة وغیره بأنّ الداعی لایکون قیدا للأمر.

والذی یمکن أن یکون وجها لما ذکره صاحب الکفایة من عدم کونه قیدا هو: إن کلّ قید فهو فی رتبة المقیّد، فلو کان متقدّما علیه لم یتقیّد به، والمعلول متأخر وتقییده بالعلّة یستلزم تقیّد المتأخر بما هو متقدّم علیه، هذا أوّلاً.

وثانیا: إذا کان مقیّدا لزم أن یکون فیه تضیّق بالإضافة إلی التضیّق الذاتی.

وثالثا: إن إطلاق المعلول بالنسبة إلی عدم علّته غیر معقول، وحیث لا یعقل الإطلاق لا یعقل التقیید.

فهذه وجوه هذا المدّعی.

لکن المیرزا یری أنّ أخبار من بلغ أمسّ إلی الداعویّة، أی أظهر فی ذلک من التقیید، فیظهر من کلامه أنه لا یمنع من التقیید ثبوتا.

ونحن نبحث عن ذلک ثبوتا وإثباتا.

أمّا ثبوتا، کما هو کلام صاحب الکفایة والعراقی، فلا تنطبق الکبری علی المقام، لأنه لا انقسام للمعلول بالإضافة إلی العلّة حتی یقبل التقیید بالعلّة. أمّا

ص: 360

الفعل، فله قسمان: العمل المعلول لداعی إلتماس الثواب والعمل المعلول لغیره. وعلیه، فأصل العمل وطبیعتة قابلٌ للتقیید بالتماس الثواب، لقابلیّة أصل العمل للتقسیم، وملاک التقیید هو القابلیّة لذلک، کالحرارة، تنقسم إلی حرارة هذه النار وحرارة تلک النار. نعم، حرارة هذه النار لا تنقسم إلی قسمین.

إذن، الکبری غیر منطبقة هنا، لأن ذات العمل بالإضافة إلی صدوره عن داعی التماس الثواب ینقسم، فیمکن أن یکون بشرط وأن یکون لا بشرط وأن یکون بشرط لا، بخلاف المعلول الصّادر عن علّته، فإنه لا انقسام له.

فالکبری صحیحة للوجوه المذکورة، لکن تطبیقها علی المورد غیر تام. اللّهم إلاّ أن ینکر قبول طبیعة العمل للإنقسام، وهذا باطل.

وإلی هنا تمّ البحث مع صاحب الکفایة والعراقی.

وأمّا إثباتا، فنقول فی جواب المیرزا: إن جملة «إلتماس الثواب» فی الأخبار مفعول لأجله، وقد اُخذت فی الموضوع، فإن لم تکن قیدا فما یکون معناها؟

وبه یتمّ الکلام مع المیرزا.

رأی المحقق العراقی

رأی العراقی

و اختار المحقق العراقی(1) _ تبعا لصاحب الکفایة _ کون الأمر مولویّا، لکنه قال بأن الإستحباب طریقی لا نفسی. نظیر القول بکون أخبار الإحتیاط مولویّةً لکنّ ملاک هذا الأمر المولوی هو حفظ الواقع.

ص: 361


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 283.

وهذا الوجه أقرب إلی الواقع، لأن کون البلوغ من العناوین الثانویّة بعید غایة البعد، فإن کان جعل الإستحباب لذات العمل، فهذا أمر ممکن معقول، ویکفی للمولویّة مقتضی المقام، فإنه لا ترفع الید عن هذه القرینة المقامیّة بدلیل، ومجرّد احتمال الإرشادیّة _ من جهة کون هذه الأخبار فی طول الأحکام الواقعیّة _ لا یصلح لرفع الید.

ولکن إذا کان متعلّق الأمر هو العمل بداعی إلتماس الثواب، أمکن القول باستحالة الأمر المولوی حینئذٍ، لأن جعل الداعی لمن له داعی إلتماس الثواب لغو. ولو قیل: بأن ملاک جعل داعی إلتماس الثواب هو التمکّن من قصد القربة، فإنّ قصد القربة ممکن له من جهة رجاء الواقع.

فظهر الإشکال فی هذا القول أیضا، وحاصله: لغویّة جعل الداعی لمن کان له داعٍ. فالمولویّة باطلة مطلقا.

دلیل الإحتمال الرابع ومناقشته

دلیل الإحتمال الرابع

واستدلّ للوجه الرابع بأمرین:

أحدهما: إن هذه الأخبار فی طول الحکم الواقعی، وللعقل حکم فی موردها، فیکون إرشادا إلیه ولا وجه للمولویّة.

وفیه:

إن الحسن العقلی لا یصلح للداعویّة، لعدم انبعاث کلّ المکلّفین من الحسن العقلی، بخلاف الحسن الشرعی، فإنه باعث للجمیع. وکونه فی الطّول

ص: 362

لا یقتضی الإرشادیّة فی کلّ موضع، بل هو فی باب الإطاعة والمعصیة، حیث لا یتمکن الشّارع من جعل الحکم فیه، للزوم اللغّویة.

والثانی: إن الحکم العقلی صالح لإسقاط الأمر عن المولویّة. بتقریب: إن ظهور الأمر هنا فی المولویّة ظهور مقامی، وهذا الظهور أضعف من الظهور اللّفظی. مع أن اللّفظی إذا اقترن بالقرینة العقلیّة یسقط.

مناقشته

أقول:

هذا لا یتمّ بناءً علی إمکان کون الأمر هنا مولویّا، وأنّ الأصل فی أوامر الشّارع هو الحمل علی المولویّة.

لکنّ الواقع هو أنه لا أمر للشارع فی هذه الأخبار، بل مفادها بیان ترتب الثواب، وهذا لیس بأمر،ولاکشف فیه عن الأمر إنّا،لأن الثواب مترتب علی العمل المقیّد بداعی إلتماس الثواب لاعلی ذات العمل، وهذا الأمر مع وجودالحکم العقلی إرشادیّ.

إلاّ أن هنا نکتةً إلتجأ جماعة من أجلها إلی القول بالمولویّة وهی:

إن حدّ إدراک العقل هو حسن الإنقیاد واستحقاق المنقاد للثواب، لکنّ أخبار من بلغ مفادها حصول نفس ذاک الثواب البالغ للعامل بهذا العمل، وحیث لا یعقل حمل هذه الأخبار _ لهذه الجهة _ علی الإنقیاد، فلا إرشادیّة. وحینئذٍ، یکون بیان الشّارع لترتّب هذا الثواب الخاصّ علی العمل بیانا بما هو شارع لا بما هو عاقلٌ، فالأمر مولوی لا إرشادی.

ص: 363

ذکر هذه النکتة الشیخ(1) فی خلال کلماته. وعلی أساسها ذهب المحقّق الإصفهانی إلی القول بالمولویّة وشیّده. وحاصلها: إنه لیس فی المرشد إلیه خصوصیّة الثواب فلا یمکن أن یکون إرشادا.

ولکن یمکن أن یقال: إن کان المراد من الحکم العقلی هو ما تطابقت علیه آراء العقلاء حفظا للنظام وهو استحقاق المنقاد للثواب. فالکلام تام. لکنّ هذا المعنی یختصّ بالموالی العرفیّة، وأمّا بالنسبة إلی المولی الحقیقی والعبد الحقیقی، فالأمر لیس کذلک، لأنّ العقل لا مجال له للحکم فی أعمال المولی الحقیقی وأحکامه، بل العقل یری أنه إذا رغّب المولی الحقیقی فی عمل وجعل شیئا فی مقابل العمل أعطی ما وعد من غیر نقصان، لأن المولی الحقیقی مبتدؤٌ بالنعم قبل استحقاقها فکیف بعد الإستحقاق؟ ومن جوده وکرمه أن لا یخیب عمل من یرغب فی نائله.

الإحتمال الخامس

الإحتمال الخامس

ما أفاده الشیخ من حمل الأخبار علی الإخبار عن الفضل.(2) وذکره السیّد الخوئی.(3)

وقد وافق شیخنا دام بقاه علی هذا الإحتمال فی الدّورة الأخیرة، وإنْ احتمل أن تکون إرشادا إلی حکم العقل. ولکنّه اختار فی السّابق الأوّل علی التعیین.

ص: 364


1- 1. فرائد الاصول: 220.
2- 2. المصدر.
3- 3. مصباح الاصول 2 / 319.
ثمرة الأقوال:

ثمرة الأقوال:(1)

یجوز الفتوی باستحباب العمل البالغ علیه الثواب، بناءً علی الوجه الأوّل، و هو إسقاط شرائط الحجیّة والتسامح فی أدلة السّنن.

وأمّا بناءً علی أنّ المدلول استحباب العمل البالغ علیه الثواب، فإن موضوع الأخبار هو «من بلغ» و هو المجتهد، والمقلّد هو الذی یعمل. فلا یمکن الفتوی بالإستحباب، إلاّ بأن یروی المجتهد الخبر للمقلّد ثم یفتی بالإستحباب، لأن البلوغ إلی المجتهد لیس بلوغاً للمقلّد، فلابدّ من البلوغ إلی المقلد، و المجتهد یقوم مقامه فی تطبیق القواعد.

و بناءً علی أن المدلول هو الإنقیاد، لا یفتی بالإستحباب. نعم، یمکن أن یقول المجتهد هذا العمل حسن و الإتیان به رجاءً حسن.

وذکروا «الوضوء» ثمرةً للبحث، فیما لو جاء خبر ضعیف مفاده استحباب الوضوء لغایةٍ، فإن کان مدلول الأخبار حکماً مولویّاً رفع الحدث، وإن کان إنقیاداً فلا.

وقد أشکل علی هذه الثمرة:

أوّلاً: بأنّه لیس کلّ وضوء رافعاً للحدث و إن کان مستحبّاً، مثل وضوء الحائض.

وأجیب: بأنه یرفع الحدث الأصغر، و بأنه: إنما لم یرفع لابتلائه بالمانع وهو الحیض، و حیث لا مانع، یکون رافعاً، لأنّ کلّ وضوء رافع للحدث.

ص: 365


1- 1. انظر: مصباح الاصول 2 / 322 _ 323.

وأشکل أیضاً: بأن استحباب الوضوء إن کان لغایة مثل قراءة القرآن، فالثمرة تامّة، و إن کان استحبابه نفسیّاً _ لا لغایةٍ _ لأنّ الوضوء نور، فالثمرة منتفیة، لأنه مع الاستحباب النفسی لاحاجة إلی إثبات الإستحباب لغایة، لأنه من جهة الإستحباب النفسی یرفع الحدث.

و هذا الإشکال وارد.

والثمرة الثانیة: إنه إذا قام خبر ضعیف علی استحباب غسل المسترسل من اللّحیة فی الوضوء، فإن کان المدلول لأخبار من بلغ هو الحکم المولوی جاز المسح ببلّة المسترسل وإلاّ فلا.

وأشکل علیه:

أولاً: بأن هذا الخبر لا یدلّ علی کون هذه المسترسل من اللّحیة جزءً من الوجه الواجب غسله، والأخذ للمسح یشترط أن یکون ببلّة الجزء.

والجواب: إنه إذا استحبّ، فهو عنوان الجزء، و إن کان جزءً من باب الکمال للوضوء و تحصیل الإسباغ، فمدلول الخبر هو الجزئیّة، فالثمرة مترتبة من هذه الناحیة.

وأشکل ثانیاً: بأنه لا دلیل علی إجزاء المسح بأی جزءٍ من أجزاء الوضوء کان.

علی أن هذا الإستحباب یتمّ بعنوان «من بلغه...» و هو عنوان ثانویّ، و لو فرض إطلاق الدلیل لیشمل الأجزاء المستحبّة، اختصّ بالأجزاء التی ثبتت الجزئیّة لها بالعنوان الأوّلی.

ص: 366

فالثمرة الثانیة أیضاً غیر مترتبة.

هذا، و قد ذکر سیّدنا الاستاذ رحمه اللّه هذه المسألة مصداقاً لبحثٍ کبرویّ طرحه فی التنبیه الثالث من تنبیهات أخبار من بلغ، و سیأتی.

(الجهة الثانیة) هل تشمل أخبار من بلغ البلوغ الحدسی؟

الجهة الثانیة

هل تشمل الأخبار البلوغ الحدسی؟

مقتضی الإحتمال الأوّل _ من الإحتمالات الخمسة _ هو اعتبار البلوغ مطلقا، فلا مانع من أن یکون حدس فقیه حجّةً علی فقیه آخر إلاّ الإستبعاد. أللهم إلاّ أن یشکل بأحد وجهین.

الأوّل: عدم إطلاق «من بلغه» بالنسبة إلی البلوغ الحدسی، وأنه یختصّ بالبلوغ الحسیّ.

والثانی: انصراف «البلوغ» عن البلوغ الحدسی.

فالمحقق النائینی(1) علی أن الإسناد إلی النبی صلّی اللّه علیه وآله ظاهر فی البلوغ الحسیّ.

ولکن فی ثبوت هذا الظهور تأمّل، بل الظاهر أنه أعمّ من الحسّی والحدسی.

والمحققان الإصفهانی(2) والعراقی(3) علی الإنصراف.

ص: 367


1- 1. أجود التقریرات 3 / 369.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 188.
3- 3. نهایة الأفکار 3 / 286.

وذکر المحقّق الإصفهانی فی وجه دعوی الإنصراف: أن عصر صدور هذه الأخبار عصر الإخبار ولیس بعصر الإستنباط، فکان الرواة یبلّغون ما سمعوا، والبلوغ الحدسیّ إنما حدث بعد ذلک العصر.

وفیه:

أوّلاً: قد وجدنا فی أصحاب الأئمة من کان یفتی، فهل المراد من الإفتاء الوارد فی الأخبار أنهم کانوا یبلّغون ویروون؟ فتأمّل.

وثانیا: إن ما ذکره منقوض بالقضایا الحقیقیّة، فیلزم إسقاط جمیعها عن الإطلاق، لعدم وجود المصداق فی زمن الصّدور، لا سیّما المستحدثاث من الامور، کالعقود المتعارفة الآن والتی لم تکن فی تلک الأزمان.

وحلّ المطلب هو:

إن أخبار من بلغ قضیّة حقیقیّة، فإن صدق البلوغ، فلا إشکال من حیث ندرة الوجود أو عدم الوجود فی حین الصّدور، لأن ملاک الإنصراف هو التشکیک فی الصّدق لاغیره، کما تقرر فی محلّه.

فمقتضی القاعدة علی مبنی المولویّة هو حجیّة البلوغ الحدسی.

لکن المشکلة هی:

إنه إذا قام الدلیل علی الحرمة فی مقابل الخبر الضعیف الدالّ علی الإستحباب، کان المورد بالنسبة إلی المجتهد فی صغریات التزاحم لا التعارض، لعدم التنافی بینهما فی مرحلة الجعل. لکن المستحب لا یصلح للمزاحمة مع الحرام، فالحرمة متقدّمة و تسقط أخبار من بلغ.

ص: 368

لکن مقتضی القول بالحجیّة هو: أنه إذا بلغت فتوی الفقیه بالإستحباب إلی فقیه آخر، أن یرتب الأثر علی الفتوی من غیر فحص عن المزاحم، وإن کان یحتمل الحرمة المزاحمة. وهذا ما لا یمکن الإلتزام به.

فالمانع عن القول بحجیّة أخبار من بلغ بالنّسبة إلی البلوغ الحدسی هو هذه النقطة، فتأمّل.

(الجهة الثالثة) هل تشمل الخبر القائم علی الأمر الضمنی؟

الجهة الثالثة

هل تشمل الخبر القائم علی الأمر الضمنی؟

و علی تقدیر شمولها، هل تتکفل إثبات الأمر الضّمنی؟

فإن قلنا بشمول أخبار من بلغ و تکفلها لإثبات الأمر الضّمنی، جاز المسح ببلل غسل مسترسل اللّحیة القائم علیه خبر ضعیف، لأنه من أفعال الوضوء، و إن قلنا بعدم الشمول أو عدم تکفّلها سوی إثبات استحبابه النفسی فی ضمن العمل للأمر الضمنی، لم یجز المسح، لأنه لیس ببلل الوضوء.

ذکر سیّدنا الاستاذ قدّس سرّه _ کما فی منتقی الاصول _(1): أن غایة ما یمکن أن یقال فی إثبات ذلک هو: إن الظاهر من الأخبار هو استحباب الشی ء علی النحو الذی دلّ علیه الخبر الضعیف من کونه نفسیّاً استقلالیّاً أو جزءً واجباً أو مستحباً لأمر واجب أو مستحب.

ص: 369


1- 1. منتقی الاصول 4 / 532.

قال: و هذه الدعوی مردودة لوجوه.

الأوّل: إن بلوغ الثواب لا یصدق ببلوغ الأمر الضمنی، إذ لا ثواب علیه، بل الثواب واحد علی الکلّ ولا یتوزّع.

الثانی: لو فرض أن الثواب یتوزّع بحیث تلحق کلّ جزء حصّة من الثواب، فظاهر النصوص _ بملاحظة تنکیر الثواب فیها _ هو کون الموضوع بلوغ ثواب خاصّ من حیث الکمیّة أو النوعیّة، أمّا بلوغ ترتب أصل الثواب، فلا أثر له.

ومن الواضح أن بلوغ الثواب علی الأمر الضمنی _ بعد الفرض المزبور _ من قبیل الثانی لا الأوّل، فلا تشمله الأخبار.

و هذه نکتة دقیقة توجب التوقف فی الحکم باستحباب کثیر من الأمور التی قام علی استحبابها خبر ضعیف، إذ الإخبار بالاستحباب إخبار بأصل الثواب لا بخصوصیّته، فلا تشمله أخبار من بلغ، فالتفت إلیها و لا تغفل عنها.

الثالث: إنه لو فرض شمولها للإخبار بالأمر الضمنی، فلا ظهور لها فی أکثر من استحباب العمل فی ضمن المرکّب، و هو أعم من کونه جزء له أو مستحبّاً نفسیّاً فی ضمنه، إذ ما یلزم ترتب الثواب هو أصل ثبوت الأمر _ بالوجهین السّابقین _ ، أمّا خصوصیّة کونه ضمنیّاً، فلا طریق إلی إثباتها بواسطة ترتب الثواب. فکیف یدّعی تکفل الأخبار إثبات استحباب الشیء بالنحو الذی قام علیه الخبر الضعیف؟.

ص: 370

و علیه، فلا تترتب آثار الأمر الضمّنی علی ما قام الخبر علی جزئیّته، بل إنما تترتب آثار استحبابه بقول مطلق.

نعم، یمکن سلوک طریق آخر لإثبات جزئیّة ما قام الخبر الضعیف علی جزئیّته، و هو أن یقال: إن الخبر الدالّ علی الأمر الضمنی بعمل، یدلّ بالملازمة علی ترتب الثواب علی العمل المرکّب من هذا الجزء و سائر الأجزاء، و مقتضی ذلک ثبوت استحباب المرکب من هذا الجزء و غیره مما هو معلوم الجزئیّة، فتثبت جزئیة المشکوک بهذه الوسیلة. فلاحظ.

(الجهة الرابعة) هل تشمل الکراهة؟

الجهة الرابعة

هل تشمل الکراهة؟

قیل: نعم، لأن الأخبار لا نظر لها إلی ما یثاب علیه، ولذا تشمل کلّ ما یثاب علیه فعلاً أو ترکا.

وفیه:

إن هذه الأخبار مرغّبة فی العمل، وهو أمر وجودی، فلا یصدق علی ترک الفعل، ولا أقل من الشک فی الشمول، فلا یثبت الإطلاق.

نعم، لو قام الدّلیل الضعیف علی ترکٍ مثل استحباب صومٍ، أُشکل القول بعدم الشمول، لأن الصّوم ترک المفطرات.

وأمّا أن یقال: بأنّ کلّ مکروه، ففی ترکه مصلحة فیتمّ الشمول.

ص: 371

فهو غیر صحیح، وإلاّ یلزم أن یکون فی کلّ مکروه حکمان: أحدهما کراهة الفعل والآخر استحباب الترک. وهذا لا یلتزم به.

(الجهة الخامسة) لو قام الخبر الضعیف علی الوجوب هل یفتی بالاستحباب؟

الجهة الخامسة

لو قام الخبر الضعیف علی الوجوب فهل یفتی بالإستحباب؟

إنه لو قام خبر ضعیفٌ علی وجوب شی ء، فإنه لا یُفتی بوجوبه، لضعف الخبر، وهو واضح، ولکن هل یمکن الفتوی باستحباب ذلک الشی ء بأخبار من بلغ؟

أمّا علی القول: بأنّ دلالة الأمر علی الوجوب هی بحکم العقل _ کما علیه المیرزا و جماعة _، فإن مقتضی قول المشهور فی مفاد الأخبار أنْ یکون الخبر حجةً فی بلوغ الثواب ویفتی بالإستحباب، وحیث لاحجة علی الزائد علی بلوغ الثواب، فلا حکم عقلی بلزوم الإتیان بالعمل.

وکذا بناءً علی دلالته علی الوجوب من باب الإطلاق، والإطلاق خارج عن دائرة الظهور اللّفظی.

وعلی الوجه الثانی _ وهو القول بالمولویّة _ یستکشف من الخبر إنّا مطلوبیّة العمل، وعلیه یفتی بالإستحباب.

وأمّا علی القول بدلالة الأمر علی الوجوب بالوضع، فبناءً علی أن المدلول مرکّب من رجحان الفعل والمنع من الترک، تکون أخبار من بلغ مقیّدةً

ص: 372

لحجیّة الخبر الضعیف فی حدّ الرجحان دون المنع من الترک، لأن المفروض کونه ضعیفا سندا.

وبناءً علی بساطة مدلول الصّیغة _ والبسیط لا یتبعّض _ فإن المفروض دلالة الخبر الضعیف علی الوجوب بالمطابقة، وعلی بلوغ الثواب بالملازمة، فإذا لم تفد أخبار من بلغ الحجیّة بالنسبة إلی المدلول المطابقی، لم تفد حجیّة المدلول الإلتزامی، لأنه فرع المطابقی، فلا یفتی بالإستحباب.

إلاّ أن یقال: بأنّ الثواب وإن کان بالغا بواسطة بلوغ الوجوب، لکن لا مانع من أن یکون حجةً دونه. وبعبارة اخری: التفرّع فی الدلالة لاینافی التفکیک فی الحجیّة، ولا محذور عقلی فی ذلک.

(الجهة السّادسة) یعتبر عدم القرینة المنافیة لظهور البلوغ

الجهة السّادسة

إنه یعتبر عدم القرینة المنافیة لظهور «البلوغ» و ذلک:

لأنّ العنوان المأخوذ فی الأخبار هو «بلوغ الثواب علی العمل» و هذا العنوان یتحقق فی حال عدم القرینة المتصلة المنافیة للظهور وإلاّ انتفی الظهور والبلوغ، فلا یبقی موضوع مسلک المشهور و مسلک المولویة و هو البلوغ. وأمّا بناءً علی الإرشاد، فإن نفس الإحتمال الواقعی للثواب موجود، فموضوع الإنقیاد محفوظ والعقل حاکم بحسبه، وإن کان کبری البلوغ غیر متحققة.

ص: 373

وإن کانت القرینة منفصلةً، فتارةً: تقوم علی عدم الإستحباب، وأخری: علی ثبوت الکراهة، و علی کلا التقدیرین، تارة: تکون القرینة خبرا حجةً، وأخری: غیر حجة. فالأقسام أربعة. والمخالفة تارة: بالتباین، وأخری: بالعموم والخصوص المطلق، وثالثة: بالعموم والخصوص من وجه.

فإن لم یکن الخبر المنفصل حجةً و قد قام علی عدم الإستحباب، فلا منافاة، لأن المنفصل لا یزاحم الظهور بل یزاحم الحجیّة، و حینئذ، یکون عنوان البلوغ و هو موضوع أخبار من بلغ موجوداً، فالمحمول منطبق قطعاً و لا إشکال. اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنه لا إطلاق لأخبار من بلغ بالنسبة إلی مورد بلوغ عدم الثواب، أو یقال بانصرافها عن هذا المورد.

وإن کان حجةً وقد قام علی عدم الإستحباب.

فعلی الوجه الأوّل، یکونان حجّتین متعارضتین، فیتساقطان.

و علی مسلک المولویة، یشکل الحکم بالإستحباب، من جهة أن الخبر القائم علی عدمه حجة، و هو یلغی إحتمال الثواب، فینتفی موضوع أخبار من بلغ _ و هو البلوغ _ .

و أجاب المحقق العراقی عن هذا الإشکال(1) بعدم المنافاة بین أخبار من بلغ والخبر القائم علی عدم الإستحباب، لاختلاف موردهما، فتلک تدلّ علی الاستحباب بالعنوان الثانوی، و هذا یدلّ علی عدمه بالعنوان الأوّلی، فیکون

ص: 374


1- 1. نهایة الأفکار 3/284.

کالعمل المباح بعنوانه والمستحب بعنوان قضاء حاجة المؤمن به، وله نظائر کثیرة فی الفقه.

أقول:

تمامیّة هذا الجواب تبتنی علی عدم إطلاق الأحکام المترتبة علی العناوین الأولیّة بالنسبة إلی العناوین الثانویة، و أما علی القول بتمامیّته فلایتم.

وبناءً علی عدم الإطلاق المذکور، یشکل تقدّم دلیل لاضرر ولا حرج علی الأدلّة الأولیّة، فإن الإلتزام بالحکومة کاشف عن إطلاق أدلّة الأحکام الأولیّة بالنسبة إلی الثانویّة، فکیف یقال بعدم الإطلاق. هذا أوّلاً. و ثانیاً: إن العناوین الثانویّة من الأحوال الطاریة علی موضوعات الأحکام الأوّلیّة و من انقساماتها، فیکون الموضوع لا محالة مقسماً، و حینئذٍ، لا ریب فی استحالة الإهمال فی مرحلة الجعل، و إذ لا مقید، فالإطلاق. و بهذا البرهان یتقدّم «لاضرر» علی دلیل الوضوء إن کان ضرریّاً مثلاً، وإلاّ لوجب الحکم بالوضوء الضرری.

فظهر أن الموضوع موجود و هو واحد، فالتنافی واقع، فلابدّ من رفعه إمّا حکومةً وإمّا تقییداً، ولکن لا حکومة لأخبار من بلغ، خلافاً للمحقق النائینی.

وحلّ المشکل یکون برفع دلیل الحجیّة لموضوع البلوغ، فنقول: إن کان البلوغ متقوّماً بعدم سقوط الإحتمال الوجدانی للثواب تعبّداً، فالمفروض سقوطه بالخبر الحجّة. وإن قلنا: بأن الدلیل التعبّدی غیر رافع للإحتمال الوجدانی فالموضوع موجود. مثلاً: إذا قام خبر حجّة علی عدم الوجوب سقط احتماله تعبّداً، لکنّ موضوع أدلة الإحتیاط هو الإحتمال الوجدانی للوجوب، ومع وجود موضوع أدلة الإحتیاط لا یتقدّم ذاک الخبر علی هذه الأدلّة.

ص: 375

و فیما نحن فیه: إذا احتملنا وجداناً البلوغ بهذا الخبر، فإن الخبر الحجّة القائم علی عدم الإستحباب لا یزیل الإحتمال، فعنوان البلوغ موجود وجداناً وهو کاف لانطباق المحمول إنطباقاً قهریاً.

فظهر أن أخبار من بلغ تفید حجیّة الخبر القائم علی الإستحباب وإن کان ضعیفاً، ولا یرتفع موضوعها بالخبر المنفصل القائم علی عدم الإستحباب و إن کان حجةً، و مع عدم ارتفاعه یتحقّق التنافی، و هو من تعارض العموم و الخصوص من وجه، لأن النافی للإستحباب ینفیه عن هذا العمل، سواء قام خبر ضعیف علی استحبابه أو لم یقم، فهو من هذه الجهة مطلق. و أخبار من بلغ تفید استحباب العمل، سواء قام خبر صحیح علی عدم استحبابه أو لا، فهی من هذه الجهة مطلقة. وفی محلّ الکلام یجتمعان فیتعارضان، وحیث لاملاک للحکومة، لأنّ ملاکها هو «النظر» أو «لزوم اللغویّة». و من الواضح أنه إذا لم تکن أدلّة حجیّة خبر الثقة لم یلزم لغویّة أخبار من بلغ، کما أن المفروض أن لا «نظر» لأخبار من بلغ إلی دلیل حجیّة خبر الثقة، و إذا تعارضاتساقطا.

وأجاب المحقق الإصفهانی عن الإشکال المذکور بقوله:(1)

أمّا بین مدلولی الخبر الضعیف والخبر الصحیح، فالتنافی متحقق، لأن الأوّل مدلوله الإستحباب والثانی عدم الإستحباب، إلا أنه لا أثر لهذا التنافی، لأن المفروض عدم حجیّة الدالّ علی الإستحباب لضعفه.

ص: 376


1- 1. نهایة الدرایة 4/193.

وأمّا بین مدلول الخبر الصحیح و مدلول أخبار من بلغ، فلا تنافی، لدلالة هذه علی إستحباب کلّ عملٍ بلغ علیه الثواب و هو عنوان ثانوی، و ذاک ینفی الإستحباب بعنوانه، و لا تنافی بین العنوان الأوّلی والعنوان الثانوی.

وفی هذه الصّورة یشترک هذا المحقق مع المحقق العراقی. وقد تقدّم الجواب.

وأمّا بین أخبار من بلغ وأدلّة حجیّة خبر الثقة، فإن إطلاقهما یعمّ المورد، لأنّ الأولی تفید حجیّة هذا الخبر الضعیف _ بناءً علی الوجه الأوّل _ والثانیة تعمّه من جهة أن المفروض حجیّة الخبر الدالّ علی عدم الإستحباب، فیقع التنافی بین مدلولیهما.

نقل المحقق الإصفهانی(1) هذا المطلب عن الشیخ و تعجّب منه، من جهة أن أدلّة حجیّة خبر الثقة مفادها جعل الطریقیّة و تنزیل المؤدّی بمنزلة الواقع، فتدلّ علی تنزیل مؤدّی الخبر الدالّ علی عدم الإستحباب بمنزلة الواقع. أی أنه لا إستحباب فی الواقع. لکن نفی الإستحباب غیر إلغاء إحتمال الإستحباب. و أخبار من بلغ إنما تجری فی مورد احتماله، فلا تنافی بین الطرفین، لأن أخبار من بلغ تفید حجیّة الخبر الضعیف بنحو الموضوعیّة، وأدلّة حجیة خبر الثقة تفید الحجیّة لخبر الثقة بنحو الطریقیّة، و لا تنافی بین الأمرین، بل الأوّل یقوم مقام القطع الموضوعی، والثانی یقوم مقام القطع الطریقی.

ص: 377


1- 1. نهایة الدرایة 4/194.

أقول:

أمّا نفی المعارضة بین أخبار من بلغ و الخبر الصّحیح، فهذا ما ذکره العراقی أیضاً تبعاً للشیخ. ومرجع کلامهم إلی أنه لاتنافی بین العنوان الأوّلی والعنوان الثانوی، و قد عرفت إطلاق أدلّة العناوین الأولیّة بالنسبة إلی الثانویة، وأنه لاملاک فی المقام للتقدّم بالحکومة. نعم، هو موجود فی مثل إباحة العمل بالأوّلی و استحبابه بالثانوی و هو قضاء حاجة المؤمن، والملاک لزوم لغویّة دلیل إستحباب قضاء حاجة المؤمن.

علی أنّ لازم القول بعدم الإطلاق نفی حکومة لاضرر و نحوه علی الأدلّة الأولیّة.

وحیث یتم الإطلاق _ ولا حکومة لعدم الملاک _ یتحقق التنافی والتعارض.

وأمّا أخبار من بلغ و أخبار حجیّة خبر الثقة، فقد نفی المحقق الإصفهانی المعارضة بینها، لکن الحقّ مع الشیخ، لأن الطریقیّة لیست إلا إلغاء إحتمال الخلاف، و تنزیل المؤدّی بمنزلة الواقع یلازم إلغاء إحتمال الخلاف.

علی أنه لیس للحجیّة إلاّ معنی واحد، فإذا اقتضت أخبار من بلغ الحجیّة، فأدلّة حجیّة خبر الثقة تقتضی الحجیّة و تنزّل المؤدّی بمنزلة الواقع علی المبنی، ومن الواضح امتناع إثبات الحجیّة للمتنافیین.

وأما فتوی الشیخ باستحباب العمل بعد التعارض والتساقط، بتقریب أن أخبار من بلغ _ بعد تعارضها مع أدلّة حجیّة الخبر الصّحیح و سقوطها عن الحجیّة

ص: 378

_ تصبح خبراً ضعیفاً قائماً علی الثواب، ولمّا کانت هذه الأخبار مقرّرةً للثواب البالغ بالخبر الضّعیف وجداناً و تفید: أن کلّ خبر ضعیفٍ قام علی ثواب فالثواب بالغ ولک أن تعمل بذاک الخبر، فإنّ هذا المعنی ینطبق بالملاک علی نفس أخبار من بلغ وإن سقطت عن الحجیّة بالتعارض، وإذا کان کذلک أمکن الفتوی بالإستحباب.

ففیه مناقشة واضحة، لأن الحکم بالإستحباب یتوقّف علی حجیّة مدرکه. إلاّ أن یقال بأن أدلّة حجیّة خبر الثقة لاتسقط أخبار من بلغ فی مدلولها.

لکن فیه: إن مدلولها تقریر الثواب البالغ بالخبر الضعیف، فیکون مدلولها الإستحباب، لأن المفروض حجیّتها، لکن أدلّة حجیّة خبر الثقة تفید حجیّة ما دلّ علی عدم الإستحباب، فتلک تدلّ علی الإستحباب و هذه علی عدمه.

(الجهة السّابعة) لو قام خبر ضعیف علی الکراهة وآخر علی الاستحباب

الجهة السّابعة

لو قام الخبر الضّعیف علی کراهة عمل، وقام ضعیف آخر علی استحبابه أو عدم کراهیّته، فعلی القول بعدم شمول أخبار من بلغ للمکروهات، فالقائم علی الإستحباب لا معارض له، وعلی القول بالشمول، یقع التعارض.

وکذا بناءً علی أن مدلول الأخبار جعل الکراهة أو الإستحباب بالعنوان الثانوی.

ولو قام خبر ضعیف علی الإستحباب، وصحیح علی الکراهة، فالتنافی موجود علی جمیع المبانی.

ص: 379

(الجهة الثامنة) هل تعمّ أخبار من بلغ المواعظ ونحوها؟

الجهة الثامنة

هل تعمّ أخبار من بلغ _ بناءً علی الوجه الأوّل _ أخبار الفضائل والمواعظ والتواریخ الضعیفة سندا؟

عن الشهید الثانی(1): نعم، وقوّاه الشیخ.(2)

واستدلّ له بوجهین:

الأوّل: الحسن العقلی مع أمن المضرّة لو کان الخبر غیر مطابق للواقع.

والثانی: خبرا جابر بن عبداللّه والسیّد فی الإقبال الآتی نصّهما قریبا.

وقد أیدّ بعضهم القول بالشمول بأدلّة الإعانة علی البرّ.

فأشکل الشیخ: بأن هذه الأدلّة مقیّدة _ بالإجماع _ بأن لا یکون السّبب محرّما. وبعبارة اخری: إن أدلّة البرّ والتقوی غیر مشرّعة لجواز السّبب، ولذا لا تعارض بین هذه الأدلّة وأدلّة حرمة المحرّمات فی الشریعة.

أقول:

أمّا الخبران، فضعیفان سندا. واحتمال جبرهما بعمل المشهور علی المبنی. یدفعه وجود بعض الوجوه، فلعلّ المشهور استندوا إلی ذلک لا الخبرین، فلا جبر.

وأمّا إشکال الشیخ. ففیه: أن تلک الأدلّة غیر مطلقة من الأساس، إذ لا یعقل أن تعمّ کلّ برٍّ وإن کان بسبب محرّم.

فظهر عدم جواز نقل الأخبار الضّعیفة فی الفضائل والمواعظ ونحوها.

ص: 380


1- 1. الدرایة: 29.
2- 2. مجموعة رسائل فقهیّة واصولیة: 28.

وأمّا الإشکال علی القول بالجواز: بأنّ نقل مثل هذه الأخبار قول بغیر علم فیحرم.

ففیه: إن هذا الإشکال لایرد علی القائلین بالتسامح فی أدلّة السّنن، فإنه علی هذا القول یکون الخبر الضعیف فی المواعظ ونحوها قولاً مع العلم، ونقل مثله مستحب کما لایخفی.

لکنّ مفاد أخبار من بلغ هو ترتّب الثواب علی «عملٍ» و «خبر» بالغ عن النبی صلّی اللّه علیه وآله، فإذا قام الخبر الضعیف علی ترتب الثواب علی «نقل» فضیلةٍ أو قام علی حجیّة الخبر الضعیف فی باب الفضائل، أخذنا بإطلاقه، وأمّا أخبار من بلغ، فلا تعم، ولا أقل من أنها منصرفة عن نقل الخبر الضّعیف الذی مفاده _ مثلاً _ أن الإمام أعطی السّائل کذا من المال.

نعم، لو التفت الناقل للفضیلة إلی الملازمة بین النقل و ترتب الثواب علیه، کان هذا الإخبار «عملاً» وشملته أخبار من بلغ.

(الجهة التاسعة) هل تعم الأخبار عن الموضوعات؟

الجهة التاسعة

هل تعمّ أخبار من بلغ الإخبار عن الموضوعات؟

فلو ورد خبر ضعیف بأنّ هذا الموضع المعیّن مدفن فلان من الأنبیاء السّابقین، فهل للفقیه الفتوی باستحباب زیارة ذاک النبی فی ذاک الموضع، بناءً علی استحباب زیارة قبول الأنبیاء السّابقین؟

ص: 381

وکذا لو کان الخبر معتبرا، لکنه خبر واحدٍ، بناءً علی عدم اعتبار الخبر الواحد فی الموضوعات، فیلحق بالخبر الضعیف ویدخل فی البحث.

قیل: بالإعتبار و ترتب الأثر، لعدم الفرق بین قیام الخبر علی الحکم أو الموضوع، لوجهین:

الأوّل: بتنقیح المناط، لأنه إذا حکم باستحباب شی ء فیما إذا جاء الخبر الضعیف باستحبابه، فکذلک الأمر فیما إذا جاء بالنسبة إلی موضوع ذاک الحکم الإستحبابی.

وفیه:

إنه لا طریق للقطع بالمناط، لاحتمال أن یکون لإسناد الحکم إلی النبی صلّی اللّه علیه وآله خصوصیّة هی مفقودة فی الشبهة الموضوعیّة.

والثانی: الملازمة بین الحکم والموضوع.

ولکنّ الملازمة هذه متوقفة علی کون المخبر ملتفتا إلیها لدی الإخبار، وعلی إحرازنا لالتفاته، وإلاّ لم یکن الخبر عن الموضوع إخبارا عن الحکم.

فظهر: أن الصّحیح هو التفصیل فی المسألة، وهو شمول الأخبار للإخبار عن الموضوع فی صورة إلتفات المخبر إلی الملازمة بین الموضوع والحکم.

ص: 382

(الجهة العاشرة) هل تعم أخبار العامّة؟

الجهة العاشرة

هل تعمّ أخبار من بلغ أخبار العامّة؟

لا کلام فی عدم جواز الرجوع إلی العامّة العمیاء فی أحکام الحلال والحرام، قال علیه السّلام: لا تأخذنَّ معالم دینک عن غیر شیعتنا، فإنک إنْ تعدّیتهم أخذت دینک عن الخائنین الذین خانوا اللّه ورسوله... .(1)

أمّا فی السّنن، فیجوز بناءً علی مسلک الإنقیاد، وکذا بناءً علی القول بالعنوان الثانوی وهو البلوغ، إذ تکون أخبار من بلغ حاکمة علی الخبر العامّی ونحوه، لأن العمل حینئذٍ یکون بأخبار من بلغ لا بخبر العامی.

(الجهة الحادیة عشرة) هل البلوغ یعم الخبر الضعیف؟
اشارة

الجهة الحادیة عشرة

هل البلوغ یعمّ الخبر الضعیف أو یختصّ بالمعتبر؟

إن البلوغ لا یصدق علی ما جاء به الخبر الضعیف، لکون البلوغ أخصّ من السّماع، ولا أقل من الشک. وحینئذٍ، یؤخذ بالقدر المتیقن وهو البلوغ، لکون الشبهة المفهومیّة مردّدة بین الأقل والأکثر.

لکنّ فی أخبار من بلغ خبر «من سمع»، فلا مشکلة. و تتم بذلک أرکان قاعدة التسامح فی أدلة السّنن.

ص: 383


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 150، باب وجوع الرجوع فی القضاء...
الکلام فی الأسانید

الکلام فی أسانید أخبار من بلغ

قیل: هی مستفیضة، بل ادّعی تواترها، وإلیک ذکرها والکلام حولها:

1. من بلغه شی ء¨من الثواب علی شی ء¨ من خیر فعمله، کان له أجر ذلک، وإنْ کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله لم یقله.(1)

رواه الصّدوق عن أبیه عن علی بن موسی عن أحمد بن محمد عن علی بن الحکم عن هاشم بن صفوان عن أبی عبداللّه علیه السّلام.

و «علی بن موسی» هو الکمندانی، لا توثیق له.

2. من بلغه وقد تقدّم.

هشام بن سالم عن أبی عبداللّه...

فیه «أحمد بن أبی عبداللّه»، وهو البرقی الثقة وإن کان یروی عن الضعفاء.

3. من بلغه عن النبیّ صلّی اللّه علیه وآله شیء فیه الثواب، ففعل ذلک طلب قول النبیّ، کان له ذلک الثواب وإنْ کان النبیّ لم یقله.(2)

ص: 384


1- 1. ثواب الأعمال: 132. وفیه: هاشم بن صفوان.
2- 2. کتاب المحاسن 1 / 25.

فیه «أحمد البرقی» وهو ثقة. وأبوه «محمد» قال النجاشی: ضعیف فی الحدیث.(1) لکن وثقه الشیخ(2) وتبعه العلاّمة.(3)

والمهمّ هو التحقیق عن أن «ضعیف فی الحدیث» تضعیف لشخص الرّجل أوْ لا.

لکنّ المقصود هو: أنّ الرجل یروی الأخبار الضعیفة، لقولهم بترجمته: کان مکثرا عن الضعفاء، یعتمد المراسیل، فهذه قرائن، و من هنا یتقدّم توثیق الشیخ، وإن کان النجاشی أضبط منه.

وفیه «محمد بن مروان» وهو مشترک، وتمییزه ب_ «الکلبی» کما فی جامع الرواة.(4) غیر مجدٍ، لإمکان روایته عن کلیهما، وکونه هو الواقع فی کامل الزیارات غیر ثابت.

4. عن أبی عبداللّه علیه السّلام من سمع شیئا من الثواب علی شی ء¨ فصنعه، کان له وإنْ لم یکن علی ما بلغه.

رواه فی الکافی، قالوا بحسنه لإبراهیم بن هاشم، لکنّه ثقة عندنا.

قال: ابن طاووس فی الإقبال،(5) وجدنا هذا الحدیث فی أصل هشام بن سالم عن الصّادق علیه السّلام.

ص: 385


1- 1. رجال النجاشی: 335.
2- 2. رجال الشیخ: 363.
3- 3. خلاصة الأقوال: 139.
4- 4. جامع الرواة 2 / 190.
5- 5. إقبال الأعمال 3 / 171.

5. محمد بن سنان عن عمران الزعفرانی عن محمد بن مروان، قال: سمعت أبا جعفر علیه السّلام یقول: من بلغه ثوابٌ من اللّه علی عملٍ فعمل ذلک العمل إلتماس ذلک الثواب أوتیه وإنْ لم یکن الحدیث کما بلغه.(1)

وفیهما _ وفی «عمران» _ کلام.

وروی الشیخ ابن فهد الحلّی فی عدّة الداعی هذا الخیر عن الشیخ الکلینی کما تقدّم.(2)

6. عدة الداعی من طریق العامّة عن جابر قال قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله: من بلغه عن اللّه فضیلة فأخذها وعمل بما فیها إیمانا باللّه ورجاء ثوابه، أعطاه اللّه تعالی ذلک وإنْ لم یکن کذلک.(3)

والحاصل:

إنه لایوجد بینها خبر اتفق الأصحاب علی اعتباره، والمهم منها خبر «من سمع» وهو عندنا معتبر.

والتحقیق:

إنها فی الواقع ثلاثة أخبار:

1. الصّدوق عن صفوان، وهل هو هاشم عن صفوان أو: هاشم بن صفوان أو هشام عن صفوان کما فی الوافی؟(4)

ص: 386


1- 1. الکافی 2 / 87.
2- 2. عدّة الداعی: 13.
3- 3. المصدر: 13.
4- 4. الوافی 4 / 370.

2. خبر هشام بن سالم.

3. خبر محمد بن مروان.

والبقیة مراسیل أو مکررات.

فظهر:

إن أخبار من بلغ لیست مستفیضةً استفاضة لغویّةٌ. أمّا اصطلاحا، فقد اشترط أکثرهم فی الإستفاضة أن یکون العدد أکثر من ثلاثة. وعلیه، فإن انضّم إلیها الخبر العامی کانت مستفیضة، وهناک قول بکفایة الثلاثة.

فالمهم:

إن الإستفاضة غیر ثابتة، فکیف بدعوی التواتر.

ص: 387

الرابع: فی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیّة

اشارة

التنبیه الرابع

فی

جریان البراءة فی الشبهة الموضوعیّة

ویقع البحث فی مقامین:

1. الشبهة التحریمیّة
اشارة

1. فی الشبهة التحریمیّة

إستدلّ الشیخ(1) للبراءة فی الشّبهة الموضوعیّة التحریمیّة بأدلّة البراءة العامّة، وبأخبار خاصّة:

والکلام الآن فی الأدلّة العامّة عقلاً وشرعا:

ص: 388


1- 1. فرائد الاصول: 233.
قاعدة قبح العقاب

فهل تجری البراءة العقلیّة؟

أشکل فی جریانها: بأن موضوع القاعدة هو «عدم البیان»، لکن ذلک إنما یتحقق حیث یکون البیان وظیفةً للشّارع، کما هو الشأن فی الشّبهات الحکمیّة الکلیّة، کقوله: الخمر حرام، فإنه إن لم یأت البیان یتم الموضوع للقاعدة فتجری. أمّا بیان الأحکام الجزئیّة والموضوعات الخارجیّة کأن یقول: هذا خمر فهو حرام، فلیس من وظیفة الشّارع، بل المرجع فی الموضوعات الخارجیّة هو العرف، فإنه الذی یعین ما فی الإناء بأنه خمر، ثم ینطبق علیه الحکم المبیّن من قبل الشّارع وهو الحرمة.

وإذ لم یکن وظیفة الشّارع البیان فی الموضوعات، فلا موضوع لقاعدة قبح العقاب، فهی غیر جاریة فی الشّبهات الموضوعیّة.

ولا ینتقض ما ذکر: بالشک فی حرمة شرب التتن، حیث لا بیان فتجری القاعدة.

لأن حرمة شرب التتن حکم کلّی قد وقع الشکّ فیه، فعلی الشّارع بیانه، و إذ لا بیان، فالقاعدة جاریة. بخلاف ما نحن فیه، لأن الشّارع قد بیّن حکم الخمر بصورة کلیّة ولا شک فیه، بل الشک فی انطباقه علی هذا المائع الموجود فی الإناء، ولیس من وظیفة الشّارع تطبیق الحکم الکلّی علی الموارد، بل هو وظیفة المکلّف بعد تشخیص الموضوع.

ص: 389

حدیث الرفع

وأمّا حدیث الرفع، فلا یجری کذلک، لأن هذا الحدیث جاء لرفع ما کان وضعه بید الشّارع، والحکم الجزئی _ و هو حرمة ما فی هذا الإناء _ لیس وضعه بید الشّارع حتی یرفعه، فلا یجری الحدیث هنا، بخلاف شرب التتن، فإن وضع حکمه بیده فله رفعه.

وتلخّص:

إنه لا مجری للقاعدة، ولا لحدیث الرفع، فلا مرخّص فی الإرتکاب.

و من جهةٍ اخری:

لمّا کان الحکم بکلّیته واصلاً، وأن الشّارع قد قال: الخمر حرام، فإن الإشتغال به یکون حاصلاً یقینا، والإشتغال الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی، وهو لا یتحقق إلاّ بالإجتناب عن الإناء، فیکون المورد مندرجا تحت أصالة الإشتغال من هذه الجهة أیضا.

قوله تعالی: «وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»

قوله تعالی «وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»

وأمّا قوله تعالی: «وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1)، فلا یدلّ علی البراءة فی الشبهة الموضوعیّة بأن یقال: بأن النهی غیر معلوم، فالشک فی أصل التکلیف، فالبراءة جاریة.

ص: 390


1- 1. سورة الحشر، الآیة: 7.

وذلک: لأن مفاد الآیة وجوب إطاعة النهی الوارد سابقا، ولیست الآیة بنفسها فی مقام النهی، وحینئذٍ، فکلّما جهل النهی عنه کانت البراءة جاریة فیه، کما فی شرب التتن، حیث أن أصل النهی عنه غیر معلوم. لکن لا جهل بالنسبة إلی أصل حکم الخمر، فإنه حرمته معلومة، إلاّ أن تطبیقه هذا الحکم علی هذا الإناء هو المجهول. فالفرق بین الشبهتین واضح، فتجری البراءة هناک ولا تجری هنا.

کلام الشیخ ونقده

کلام الشیخ:

إن هذا الإناء إن کان خمریّته معلومةً تفصیلاً، أوجب النّهی الکلّی عن الخمر بقوله: «لاتشرب الخمر» حرمة هذا الإناء. وإن کان مردّدا بین إناءین، وجب الإجتناب عن کلا الطرفین من باب المقدّمة العلمیّة. وأمّا الإناء الواحد الذی لا علم بخمریّة ما فیه، فیحتمل کونه خمرا وکونه خلاًّ، فلا موجب للإجتناب عنه.

وما نحن فیه من قبیل الثالث.

أقول:

لابدّ من تنقیح هذا الکلام، لأنّ الحکم لیس مقیّدا بالعلم به أبدا، فلا یعقل أن یقول: معلوم الخمریّة حرام، للزوم التصویب والدور المحال، ولیس مقیّدا بالعلم بالموضوع تفصیلاً أو إجمالاً، کأن یقول: معلوم الخمریة حرام، لأنه _ وإن لا یلزم شی ء من المحذورین المذکورین _ مخالف لمقتضی إطلاقات دلیل حرمة الخمر، لأنه یقتضی الحرمة، سواء علم بالخمریّة أو لا.

ص: 391

ولو کان مراد الشیخ: أن النهی عن الشی ء یوجب تنجّز حرمة الفرد المعلوم منه علما تفصیلیّا أو إجمالیّا، فهذا أیضا بظاهره مخدوش، لأن النهی عن الشی ء غیر موجب لتنجّز حرمة الفرد المعلوم، بل العلم بالفردیّة یوجب تنجّز الحکم.

فنقول:

لایبعد أن یکون مراد الشیخ _ وإن کانت عبارته قاصرة _ إنحلال الحکم، لأن الحکم یعم الفرد المعلوم تفصیلاً أو إجمالاً، لکونه واصلاً حینئذٍ ومنجّزا، وأمّا الفرد المحتمل فلا منجّز له.

لکنّ الکلام فی وجه انحلال الحکم إلی أحکام متعدّدة، وأنه لابدّ من التحقیق فی أنّ الحکم الکلّی المتعلّق بالعنوان الکلّی ینحلّ إلی أحکام حتی یرجع الأمر إلی الأقل والأکثر غیر الإرتباطیین وتجری البراءة عن الأکثر، أو لا ینحلّ ویکون الإشتغال الکلّی مقتضیا للإجتناب عن کلّ ما یحتمل کونه فردا له؟

کلام المحقق الخراسانی

کلام المحقق الخراسانی(1)

قال المحقق الخراسانی: إن النهی عن الشی ء:

قد یکون حکما واحدا متعلّقا بترک الطبیعة المنهیّ عنها، بأن یکون المطلوب ترک ذلک الشی ء فی کلّ زمان أو مکان، بحیث لو وجد فی ذاک الزمان

ص: 392


1- 1. کفایة الاصول: 353.

أو المکان ولو دفعةً لما کان ممتثلاً، کان موردا لقاعدة الإشتغال، لأن التکلیف قد تعلّق بترک الطبیعة رأسا، فمطلوب المولی هو مجموع تروک الخمر مثلاً، فإذا احتمل فردّیة هذا الإناء للخمر شکّ مع ارتکابه فی تحقق مطلوب المولی ولم یحرز امتثال التکلیف، بل إن إحرازه یکون بترک کلّ ما یحتمل انطباق الطبیعة علیه، فلابدّ من الإجتناب عن هذا الفرد حتی یتحقق الإمتثال الیقینی.

أللهم إلاّ إذا کانت الحالة السّابقة هی الترک لجمیع الأفراد، فإنه إذا أراد ارتکاب الإناء المشکوک کونه خمرا، له أن یستصحب الترک السّابق، ولا یضرّ به ارتکاب ذاک الفرد المشکوک فیه.

وقد یکون انحلالیّا، بأن یکون کلّ فرد من أفراد الموضوع له حکم مستقل، فهناک إطاعات ومعاصی بعدد أفراد الخمر، فکلّ فرد من أفراد شرب الخمر بحیاله مبغوض للمولی، وحینئذٍ، فمع الشک فی انطباق عنوان الطبیعة علی الفرد یشک فی ثبوت الحکم بالنسبة إلیه، وکلّ ما یکون الشک فی أصل التکلیف فهو مجری البراءة.

وحاصل کلامه أن النهی المتعلّق بالطبیعة علی قسمین.

کلام المحقق الإصفهانی

کلام المحقق الإصفهانی

لکنّ المحقق الإصفهانی(1) قال إنه علی أربعة أقسام، وذکرها الخوئی(2) فی المصباح. وحاصله: إن النّهی:

ص: 393


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 196.
2- 2. مصباح الاصول 2 / 324.

تارة: یکون انحلالیّا بحسب الوجودات، فیتحقق بالإضافة إلی کلّ فردٍ إطاعة ومصیة.

واخری: یکون متعلّق النهی هو اللاّبشرط القسمی، والمطلوب مجموع التروک، وهو صرف الوجود باصطلاح المشهور، وهو الذی ذکره المحقّق الخراسانی فی أحد شقی کلامه.

وثالثة: یکون متعلّق النهی هو المجموع، فإذا ارتکب فردا لم یکن عاصیا.

ورابعة: یکون متعلّق الطلب هو الأمر المحصّل من الأسباب.

الحکم فی القسم الأوّل

الحکم فی القسم الأوّل

فإنّ الحکم لمّا تعلّق بالطبیعة، کان التکلیف متعدّدا بعدد أفرادها، وحینئذٍ، فلو شک فی کون شی ء مصداقا للطبیعة، رجع الشک إلی أصل التکلیف، وهو مجری البراءة. کما هو واضح.

وأمّا الإنحلال، فلأن الأحکام الشرعیّة مجعولة بنحو القضایا الحقیقیّة، فالحکم یتوجّه إلی الموضوع سواء وجد فعلاً أو لم یوجد، والعنوان المأخوذ فی الحکم مشیر إلی ما فی الخارج. هذا من جهة. ومن جهة اخری: فإنه یعتبر قیام الحجّة علی الصّغری بالإضافة إلی قیامها علی الکبری، فلا یکفی قیامها علی الکبری عن الصغری لإثبات العقاب. وعلیه، فقول الشّارع: الخمر حرام یرجع إلی: کلّ فرد من أفراد الخمر حرام، ومع الشک فی حکم فرد من جهة الشک فی

ص: 394

کونه خمرا، یرجع الشک إلی التکلیف وهو مجری البراءة شرعا وعقلاً. وهذا هو مراد الشیخ من کون المورد من الأقل والأکثر غیر الإرتباطیین.

ولو قیل: بأنّ الأحکام الشرعیّة لیست من قبیل ما ذکر، أمکن القول بالإنحلال کذلک بأن البعث والزجر یتعلّقان بالخارج، وإذا تعلّق الحکم بالخمر الموجود خارجا، وکانت أفراده عشرةً، فإن کان لکلّ العشرة حکم شخصیّ واحد، فهل یزول الحکم بزوال أحد العشرة أو لا؟ إن قیل: بزوال الحکم، لزم بقاء الموضوع بلاحکم. وإن قیل: ببقاء الحکم، فکیف یبقی مع زوال الموضوع؟ وإن قیل: بعض الحکم زائل و بعضه باق، فالحکم بسیط لا یتبعّض. إذن، لابدّ من القول بالإنحلال، وإلاّ یلزم أحد المحاذیر المذکورة.

الحکم فی القسم الثانی
اشارة

الحکم فی القسم الثانی

فإن الحکم قد تعلّق بالطبیعة علی نحو صرف الوجود، وهو اللاّبشرط القسمی، أی المجموع، بمعنی کون التکلیف واحدا قد تعلّق بالطبیعة وطلب ترکها، بحیث لو وجد فرد من الطبیعة فی الخارج لما حصل الإمتثال، وإن کان المتّصف بالحرمة هو الوجود الأوّل فقط. وحینئذٍ، لو شک فی فردیّة شی ء¨ لهذه الطبیعة فما هو الحکم؟

قال المحقق الخراسانی بالإشتغال کما تقدّم.

وقال الآخرون بالبراءة.

ص: 395

ووجه القول بالبراءة هو: إن مرجع الشک فی مصداقیّة هذا الفرد إلی الشک فی توجّه التکلیف الضمنی إلیه، و هو من الشک فی أصل التکلیف وهو مجری البراءة. لأن البراءة لاتختصّ بما إذا کان التکلیف المشکوک فیه استقلالیّا بل یعمّه والضّمنی.

لکنّ هذا مبنیٌ علی أن یکون النهی هو طلب ترک جمیع أفراد المنهیّ عنه _ کما أن المطلوب فی الأمر هو الفعل _ فإنه حینئذٍ یتحقق دوران الأمر بین الأقّل والأکثر، ویتم الإستدلال علی البراءة.

وأمّا بناءً علی أن النهی هو الزجر عن الفعل _ والأمر هو البعث إلی الفعل _ فلایقع التردّد، بل لمّا کان التکلیف واحدا ومتعلّقه واحد کذلک وهما معلومان، کان المورد مجری الإشتغال لا البراءة.

إذن، لابدّ من التمییز بین المبانی فی حقیقة النّهی.

توضیح المقام بالنظر إلی الآراء

توضیح المقام بالنظر إلی الآراء

فعلی مسلک المیرزا القائل بأنّ النهی طلب الترک، یتمّ القول بالبراءة، و أمّا بناءً علی المسلک الآخر، فإن الطلب غیر متعلّق بالترک لیقع الدوران. إلاّ أن یقال: باقتضاء النهی عن للشی ء للأمر بنقیضه و هو الضدّ العام کالعکس، وحینئذٍ یکون النهی عن الفعل مستلزماً لطلب الترک، لکن المفروض بطلان ذلک مطلقاً.

والذی یمکن أن یقال هو: إنّ تعلّق النهی بصرف الوجود یؤول إلی الزجر

ص: 396

عن أوّل وجودٍ للشی ء، و ترکه یستلزم عقلاً ترک جمیع وجوداته، و مع الشک فی انطباق متعلّق النهی علی الفرد المشکوک فیه تجری البراءة، لعدم إحراز انطباق کبری النهی علی الصغری. لکن لقائلٍ أن یقول: بعدم الفرق فی صرف الوجود بین الأمر والنهی، فکما تقولون بالإشتغال فی ناحیة الأمر المتعلّق بصرف الوجود، فکذلک فی ناحیة النهی المتعلّق به.

وقد فرّق المحقق العراقی(1) بین المقامین: بأن لاسعة وضیق فی ناحیة الأمر المتعلّق بصرف الوجود، بخلاف النهی، و علیه یتحقق الدوران المذکور بین الأقل والأکثر فی ناحیة النهی دون الأمر.

ولا یخفی أن هذا التفریق یبتنی علی ما تقدّم من أن أساس القول بالبراءة هنا هو القول بأنّ المطلوب فی النهی هو الترک، و أما بناءً علی القول الآخر، فلا وجه للفرق بین الأمر و النهی، فلا وجه للبراءة فی الشبهة الموضوعیّة التحریمیّة إذا کان متعلّق النهی صرف الوجود.

وأفاد شیخنا: أن حلّ المطلب أن یقال: بأن النهی هو الزجر عن الفعل ومتعلّقه هنا هو صرف الوجود، إلاّ أن هذا الوجود المضاف إلی الطبیعة والمتعلّق به النهی یقبل التوسعة و التضییق، من جهة أنه إن شمل الفرد المشکوک فیه من الطبیعة و کان هذا الفرد مصداقاً لها، کان هذا الوجود أوسع منه إذا لم یکن هذا الفرد مصداقاً للطبیعة. فإذن، یتصوّر التوسعة و التضییق فی نفس الوجود

ص: 397


1- 1. نهایة الأفکار 3/265.

المضاف إلی الطبیعة و المتعلّق به النهی، فلنا أن نقول: بأن الفرد المزجور عنه قد یکون أقل و قد یکون أکثر، لأنه الوجود المضاف إلی الطبیعة، و کلّما کثرت أفراد الطبیعة کانت دائرة إنطباق صرف الوجود أوسع، و حیث یشک فی الشمول لفرد تجری البراءة عنه.

فإن قیل: متعلّق النهی صرف الوجود، و هو عبارة عن أوّل وجودٍ للطبیعة، و لا سعة و ضیق فی الوجود الأوّل.

قلنا: لیس متعلّق النهی أوّل وجودات الطبیعة، بل هو صرف وجودها، و هو یتحقق بأوّل وجود و ینطبق علیه انطباقاً قهریّاً، فلیس هو متعلّق النهی، بل هو الذی یتحقق به الوجود، لأن الطبیعة توجد بوجود فردٍ مّا من أفرادها.

فهذا هو حلّ المطلب فی المقام من غیر أن نرجع النهی إلی طلب الترک.

لکن یبقی الجواب عن النقض بالأمر المتعلّق بصرف الوجود، حیث تقرّر فیه جریان الإشتغال لا البراءة، والسؤال عن الفارق بین الأمر والنهی.

و التحقیق أن یقال:

فرق بین الأمر والنهی _ حتی علی المبنی الثانی _ و ذلک: أن فی النهی دلالتین، و فی الأمر دلالة واحدة.

فإنّ الأمر یدلّ بالمطابقة علی البعث إلی صرف الوجود، و لمّا کان التکلیف و متعلّقه معلومین، کان مقتضی القاعدة هو الإشتغال.

و إن النهی المتعلّق بصرف الوجود، یدلّ علی الزجر عنه بالمطابقة، و علی

ص: 398

الزجر عن جمیع الوجودات بالإلتزام. أی: إن کلّ فردٍ من أفراد الطبیعی مزجور عنه عرفاً و عقلاً فی ظرف الزجر عن الفرد الآخر، بحیث لو ارتکب فرداً لما امتثل و لم یتحقق الإنزجار عن الجمیع. و حیث تکون فی النهی هذه الدلالة الإلتزامیّة _ غیر الموجودة فی الأمر _ فإنه یتصور التوسعة والتضییق فی دائرة دوران الأمر بین الأقل والأکثر، و تجری البراءة فی الفرد المشکوک فی شمول النهی له.

فهذا هو الفارق فی المقام، و قد ظهر أنّ الحق هو القول بالبراءة خلافاً لصاحب الکفایة.

تفصیل المحقق النائینی ونقده

تفصیل المیرزا

ثم إنّ المحقق النائینی قد فصّل(1) بین ما کان للمتعلّق متعلّقٌ مثل: لا تشرب الخمر، و ما لم یکن له متعلّق مثل: لا تکذب. فقال بالبراءة فی الأوّل و بالإشتغال فی الثانی، من دون تفصیلٍ بین ما إذا کان متعلّق النهی صرف الوجود أو مطلق الوجود.

فقال شیخنا: إن کان بنحو مطلق الوجود، فلابدّ من انحلال الحکم و تعدّد النهی بعدد الأفراد، و حینئذٍ، فإن کانت الشبهة موضوعیةً، فلاریب فی رجوع الشک إلی الشک فی الحکم، لأن المفروض هو الإنحلال والمحرّم مطلق الوجود، فما الفرق بین الشک فی کونه کذباً والشک فی کونه خمراً؟ فلا وجه للتفصیل.

ص: 399


1- 1. فوائد الاصول 3/394 _ 395.

وإن کان بنحو صرف الوجود، فالمطلوب مجموع التروک، من دون فرق بین أن یکون المتعلّق ذا متعلّق أوْلا، إذ لا أثر لوجود متعلّق المتعلّق إلاّ بتحقق العنوان فی مرحلة العنوانیّة فی صورة الفعلیّة. أی: إنه یتحقّق بوجود «الخمر» عنوان «شرب الخمر» ولا أثر له غیره.

و فصّل أیضاً بین ما لو قال: کن لا شارب الخمر، فاختار فیه الإشتغال، وما لو قال: لا تشرب الخمر، فاختار فیه البراءة. قال: لأن کونه لا شارب الخمر عنوان وجودی محصّل من التروک، و مع الشک فی المحصّل الخارجی یحکم بالإشتغال.

و فیه نظر کذلک، لأن الکبری مسلّمة، لکنّ الکلام فی تطبیقها علی المثال، فإن الموجبة المعدولة المحمول قضیّة موجبة، لکنّ انقلاب القضیّة السّالبة المحصّلة إلیها لا یوجب کون عدم شرب الخمر وجودیّا، لأن عدم شرب الخمر وصف للشخص، و اتّصاف الشخص بهذه الصّفة لا یوجب کونها وجودیّة، فلا مغایرة بین عدم شرب هذا الخمر و عدم شاربیّة الشّخص لهذا الخمر، بل هما واحد، إلاّ أن العدم قد یلحظ مضافاً إلی الشرب، وقد یلحظ مضافاً إلی الشّارب، واختلاف اللّحاظ لا یوجب انقلاب العدم إلی الوجود. فإذن، لیس هنا عنوان وجودی محصّل من التروک لیکون صغری لتلک الکبری. و علی هذا، فلو شک فی سعة لا شاربیّة الخمر لیشمل هذا المشکوک، رجع الشک إلی سعة وضیق متعلّق الطلب و تکون البراءة جاریة.

ص: 400

رأی المحقق الإصفهانی

رأی المحقق الإصفهانی

وللمحقق الإصفهانی(1) فی هذا المقام مسلک آخر. و حاصل کلامه: أنه لا حاجة إلی إجراء البراءة، للقطع بعدم وجود الحکم الفعلی. و توضیحه:

إنّ حقیقة الحکم هو الإنشاء بداعی جعل الدّاعی، و هذا الإنشاء ما لم یصل إلی المکلّف فلیس بحکم بل هو فی قوّة الحکم، فإن وصل فقد حصلت فعلیّة الحکم و کان البعث الحقیقی، من جهة أنّ مدار البعث هو الحکم الواصل لا الوجود الواقعی للحکم، و مع الوصول، فإن کان المکلّف خالیاً من موانع العبودیّة کان الباعث فعلیّاً وإلاّ فهو باعث إمکانی. نعم، فی فعلیّة الحکم یکفی إمکان الباعثیّة، ولذا نقول بأن الکفار مکلّفون. فظهر أنه قبل الوصول لا فعلیّة للباعثیّة ولا إمکان، وما کان کذلک فلیس بمصداقٍ للبعث والزجر، فلیس بمصداق للحکم.

و مثل الحکم فی عدم الباعثیّة فی ذلک متعلّق المتعلّق، فاتصاف الحکم بالباعثیّة یکون فی صورة العلم بالحرمة و العلم بمتعلّق الحرمة وهو الشّرب، والعلم بمتعلّق المتعلّق و هو الخمر، و مع عدم تحقق الوصول فی مرحلةٍ من هذه المراحل لا یتحقق الحکم. و بعبارة اخری: یلزم العلم بالحکم و المتعلّق و ما یتعلّق به المتعلّق عنواناً و معنوناً، فلو شک فی خمریّة هذا الإناء لم یصل متعلّق

ص: 401


1- 1. نهایة الدرایة 4/202.

المتعلّق فلا یقبل الحکم الباعثیّة، و معه فلا حکم. و علی هذا، فإن عدم الحکم الفعلی مقطوع به، فلا مجری للبراءة.

و قد أفاد الاستاذ فی المباحث السّابقة ما ملخّصه: أن لا دلیل علی هذا المبنی لا ثبوتاً و لا إثباتاً.

أمّا ثبوتاً، فإن الحکم من الامور الاعتباریّة لا الواقعیّة، و هو یتحقق ثم یبلّغ ویصل، و لیس تحققه متقوّماً بالوصول عند العرف. هذا أوّلاً. و ثانیاً: إنه إن کان تحقق الفعلیّة بالوصول و أنّ مرتبة الفعلیّة والتنجّز واحدة کما هو صریح کلامه، فإنّ التنجز یکون متوجهاً إلی قوّة الحکم لا إلی الحکم، لأن مرتبة الفعلیّة والتنجّز متأخّرة عن مرتبة قوّة الحکم، لکن قوّة الحکم لا یکون موضوعاً للتنجیز. وثالثاً: لازم هذا المبنی أن لا یکون الإحتیاط فی الشبهات الحکمیّة البدویّة بعد الفحص حسناً، إذ لو فحص عن الحکم و لم یعثر علیه فلا شبهة فی عدم الحکم، بناءً علی مبنی تقوّم الحکم بالوصول و أن قوّة الحکم لیس بحکم، مع أن مقتضی أخبار الإحتیاط حسنه فی الشبهات الحکمیّة.

وأمّا إثباتاً، فإن ظاهر: «نظر فی حلالنا و حرامنا و عرف أحکامنا» فی مقبولة عمر بن حنظلة هو: کون الحکم تامّاً متحققاً فی مرتبة سابقة علی تعلّق النظر والمعرفة به.

فالحق هو جریان البراءة العقلیّة والشرعیّة فی صورتی کون المتعلّق مطلق الوجود و کونه صرف الوجود، و طریق جریانها ما ذکرناه.

ص: 402

الحکم فی القسم الثالث

الحکم فی القسم الثالث

فإن الحکم _ أی النهی _ لمّا تعلّق بالمجموع، فلا کلام ولا إشکال فی جواز ارتکاب الفرد المشکوک فیه وغیره من الأفراد، ما لم ینته الأمر إلی ارتکاب جمیع الأفراد.

الحکم فی القسم الرابع
اشارة

الحکم فی القسم الرابع

فإنّ الحکم قد تعلّق بالمسبّب والمحصّل، وحینئذٍ، یرجع الشک فیه إلی الشک فی تحقّقه، والأصل الجاری فیه هو الإشتغال، لاسیّما فی المحصّل التکوینی العقلی.(1)

وتلخّص:

جریان الإشتغال فی القسم الرابع فقط.

هذا کلّه فی الإستدلال للبراءة بالدلیل العامّ وبقاعدة قبح العقاب.

الإستدلال بأدلّة الحلّ

الإستدلال بأدلّة الحلّ

ویمکن الإستدلال بأدلّة الحلّ، کقوله: «کلّ شی ء لک حلال حتی تعرف الحرام بعینه»، وخبر مسعدة بن صدقة: «والأشیاء کلّها علی هذا حتی تستبین أو تقوم به البیّنة».

ص: 403


1- 1. المحصّل والمسبّب تارة تکوینی مثل النار، واخری شرعی کالطهارة الحاصلة من الغسلات والمسحات فی الوضوء. ففی الأوّل لاخلاف فی الاشتغال. وفی الثانی قولان.

إلاّ أن یناقش فی شمول الخبر الثانی للشبهات التی لا مؤمّن فیها من الید والإستصحاب.

وکیف کان، فإن أخبار الحلّ فیها جهة التأمین للمکلّف فی الإرتکاب، ومعها لایبقی الموضوع لقاعدة الإشتغال _ حتی لو کان المقتضی لجریانها تامّا _ . لأن حکم العقل بالإشتغال معلّق دائما علی عدم ورود المؤمّن عن المولی، والمفروض کون أخبار الحلّ مؤمّنةً، فالتمسّک بها فی المقام تام بلاإشکال، وإن وقع الکلام فی جریانها فی الشّبهات الحکمیّة الکلیّة.

هذا تمام الکلام فی الشبهة الموضوعیّة التحریمیّة.

2. الشبهة الوجوبیة
اشارة

2. الشبهة الوجوبیة

وأمّا فی الشبهة الموضوعیّة الوجوبیّة، فزبدة الکلام أنه:

إن کان التکلیف بنحو مطلق الوجود، فهو إنحلالی، والبراءة فی الفرد المشکوک جاریة.

وإن کان بنحو صرف الوجود، فلا شبهة فی الإشتغال، لأن متعلّق التکلیف هو الوجود المضاف إلی الطبیعة، ومع الإتیان بالفرد المشکوک یقع الشک فی تحقق الوجود المضاف إلیها، والإشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقیّنیة.

ص: 404

فرعٌ _ حکم دوران الأمر بین الأقل والأکثر غیر الإرتباطیین

فرعٌ

حکم دوران الأمر بین الأقل والأکثر غیر الإرتباطیین

لو دار الأمر بین الأقل والأکثر غیر الإرتباطیین، تجری البراءة عن الأکثر.

لکن المنسوب إلی المشهور _ بل قال الشیخ:(1) إنه مذهب الأصحاب من المفید حتی الشّهید _ هو الإحتیاط فی الصّلاة الفائتة إذا ترددت بین الأقل والأکثر. فما الوجه فی ذلک؟

دلیل القول بالإحتیاط (الأول)

دلیل القول بالإحتیاط

ذکر له وجوه:

الأوّل

إن قضاء الفائتة واجب بنفس دلیل وجوبها ولیس بأمر جدید، فإنه علی هذا المبنی یکون الطلب واحدا وإن کان المطلوب متعددا. أی: إن الفریضة بنحو الکلّی المشترک بین مافات فی الوقت ومافات فی خارجه مطلوبة، و خصوصیّة الإتیان بها فی الوقت واجب آخر، وحیث تفوت الخصوصیّة، یبقی الطلب بحاله، وبه یجب قضاء الفریضة خارج الوقت،

ومع العلم بالتکلیف والشک فی الإتیان بالواجب بعد خروج الوقت، یستصحب بقاء الواجب علی الذمّة.

ص: 405


1- 1. فرائد الاصول: 233.

لکن هذا الاستصحاب إنما یتم بناءً علی أن موضوع القضاء هو «عدم الإتیان». وأمّا بناءً علی أنه «الفوت» کما هو رأی جماعةٍ، فلا یجری لأنه أصل مثبت.

ومع التنزل عن هذا الإستصحاب، یکون المورد مجری الإشتغال، لما ذکرنا من تحقق الإشتغال، فمع الشک فی سقوط الواجب بالامتثال، فالمحکّم هو القاعدة.

وبما ذکرنا یظهر الفرق بین الفائتة والدّین، فإنه لا یقین باشتغال الذمّة بالأکثر فی الدین حتی تلزم البراءة الیقینیّة أو یستصحب.

إشکال المحقق العراقی ونقده

إشکال المحقق العراقی

وقد ذکر العراقی(1) هذا الوجه عن الشیخ، فأورد علیه: بأنه لا ینتج الإحتیاط إلاّ بنحو الموجبة الجزئیّة، إذ المسألة ذات فروض کثیرة، لأن الشک فی قضاء الفوائت وترددّه بین الأقل والأکثر:

تارةً: یکون من جهة الشک فی عدد السّنین التی مضت من عمره.

واخری: بعکس ذلک، وهو أن یکون الشک فی مقدار الفائت من جهة النوم والنسیان وغیر ذلک، مع العلم بکمیّة العمر.

أمّا فی الصّورة الأولی، فالأصل الجاری هو البراءة علی کلا المسلکین:

ص: 406


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 264.

أمّا بناءً علی أنّ القضاء بأمر جدید. فواضح، للشک فی توجّه الأمر إلی الأکثر.

وأمّا بناءً علی أنه بالأمر الأوّل، فللشک فی الإشتغال بالکلّی المشترک.

وأمّا فی الصّورة الثانیة:

فتارة: یکون قاطعا أو یحتمل إلتفاته إلی الصّلاة الفائتة فی کلّ یوم بعد مضیّ الوقت، وحینئذٍ یکون الأکثر موردا لقاعدة الحیلولة، وهی متقدّمة علی الإستصحاب والإشتغال، لأخصیّة موردها، فیکونان مختصّین بصورة الشک قبل مضیّ الوقت، لأن القاعدة أفادت عدم الإعتناء بالشک بعد الوقت، لحیلولة الوقت.

واخری: یکون قاطعا أو یحتمل التفاته إلی الفائتة قبل مضیّ الوقت، وهنا لاتجری قاعدة الحیلولة کما عرفت، فیکون إستصحاب عدم الإتیان جاریا بناء علی کون القضاء بالأمر الأوّل، ویحکم بالإشتغال.

فظهر: أن الاشتغال الذی ذکره المشهور خاصّ بهذه الصّورة فقط.

مناقشة الاستاذ

وذکر الاستاذ دام بقاه فی جوابه: أنه لم یکن الشیخ فی غفلة عن هذه المطالب، فقد خدش فی هذا الوجه من جهة جریان قاعدة الحیلولة مع الشک بعد مضّی الوقت. نعم، لم یتعرّض لصورة الشک قبل مضیّه، لوضوح جریان الإستصحاب والاشتغال فیها.

ص: 407

وأمّا ما ذکره من کون القاعدة مخصّصة. ففیه: أنه لا تخصیص مع رفع الموضوع، لأن مفاد دلیل القاعدة رفع الحیلولة للشک، فلا موضوع للاستصحاب، والتقدّم بالحکومة لا بالتخصیص.

الدلیل الثانی ونقده

الثانی

إن الغالب فی موارد الفوائت المردّدة هی الموارد المقرونة بالعلم أو احتمال العلم عند الفوات، ومقتضی القاعدة حینئذٍ لزوم تحصیل البراءة. أمّا مع العلم، فلأن بمجرّد کونه عالما بالفوت یکون التکلیف منجّزا علیه. وأمّا مع احتمال العلم، فلعدم جواز الرجوع إلی حدیث الرفع، لکونه من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة.

أقول:

وهذا الوجه یتم بناءً علی کفایة العلم حدوثا فی منجزّیة الواقع وإن زال بقاءً، وأمّا بناءً علی أن التنجیز بقاءً متوقف علی وجود العلم بقاءً کذلک، وأنه لا یؤثر المنجّز الحدوثی، فلایتمّ لحلّ المشکل، لعدم العلم بقاءً.

وکذا الکلام بالنسبة إلی التمسّک بالأصل، فإن المعبتر تحقّق موضوعه حدوثا وبقاءً، ومع الشک فعلاً وعدم تصوّر الشّبهة المصداقیّة فی الامور الوجدانیّة، لایعقل احتمال تحقق الغایة فعلاً.

الدلیل الثالث ونقده

الثالث

جریان أصالة عدم الإتیان بالفائتة بضمیمة قصور قاعدة الحیلولة عن شمول ما نحن فیه. أما جریان الأصل، فلأن القضاء مترتب علی «الفوت» وهو

ص: 408

عنوان عدمی ولا مانع من استصحابه. وأمّا عدم جریان القاعدة، فلأن مجراها هو الشبهة البدویّة للفوت، لا المقرونة بالعلم الإجمالی، وإن کان مردّدا بین الأقل والأکثر، کما هو المفروض.

ومع عدم جریان القاعدة، یکون الأصل الجاری استصحاب عدم الإتیان، وهو یقتضی الإشتغال.

أقول:

وهذا الوجه یبتنی علی تمامیّة المبنی فی المقدّمتین. وأمّا بناءً علی أنّ القضاء من آثار الفوت لا عدم الإتیان، أو أن القاعدة غیر منصرفة إلی الشّبهات البدویّة بل تعم المقرونة بالعلم الاجمالی أیضا... فلا یتم هذا الوجه.

الدلیل الرابع ونقده

الرابع

التمسّک بالأخبار الواردة فی قضاء النوافل، لدلالتها علی أنه یصلّی حتی یتیقّن الإتیان بما فات منه. وإذا کان الحکم فی قضاء النوافل کذلک، ففی قضاء الفرائض بالأولویّة القطعیّة.

أقول:

تأمل فیه الشیخ.(1)

ویمکن أن یکون وجه التأمّل أحد أمرین أو کلاهما:

الأوّل هو: أن الأمر بالإتیان کذلک فی النوافل استحبابی، وأمّا فی باب

ص: 409


1- 1. فرائد الاصول: 235.

الفرائض، فالمدّعی وجوب الإحتیاط. ومن الواضح لزوم الحرج فی وجوب الإحتیاط. ومع هذا الفارق لا وجه لتنقیح المناط.

والثانی: إنکار دلالة النصوص المشار إلیها علی المدّعی بالنسبة إلی النوافل، لأنها ظاهرة فی الإتیان بقدر ما أحصی کثرة. أی المقدار الذی علم بفوته منه، ففی الخبر عن عبداللّه بن سنان قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السّلام: أخبرنی عن رجل علیه من صلاة النوافل ما لا یدری ما هو من کثرتها کیف یصنع؟

قال:

فلیصلّ حتی لا یدری کم صلّی من کثرتها...

الدلیل الخامس وهو المعتمد

الخامس

إن الدّلیل خصوص الخبر عن إسماعیل بن جابر عن أبی عبداللّه علیه السّلام قال:

سألته عن الصّلاة تجتمع علیٌ.

قال: تحرّ واقضها.

أمّا سندا، فلا إشکال عند المشهور، وإن کان عندنا کلام فی «إسماعیل».

وأمّا دلالةً، فهو مطلق، وتحرّ بمعنی اجتهد. وحاصل المعنی: إذا جهلت مقدار الفائت فاجتهد فی القضاء حتی یحصل لک الظن بعدم بقاء شی ء علی ذمّتک، فیلزم تحصیل الظن بالقضاء، وهذا فتوی المشهور.

وهذا الوجه _ الذی لم نجده فی کلمات أحدٍ _ هو المعتمد عند شیخنا

ص: 410

الإستاذ لعدم جواز الرجوع إلی البراءة، لتمامیّة الرّوایة دلالةً وسندا عند المشهور وإنْ کان له کلام فی إسماعیل بن جابر.

هذا، ولیس خبر مرازم(1) «قال: سأل إسماعیل بن جابر أبا عبداللّه علیه السّلام فقال: أصلحک اللّه، إن علیّ نوافل کثیرةٌ فکیف أصنع؟ فقال: إقضها. فقال له: إنها أکثر من ذلک. قال: إقضها.

قلت: لا اُحصیها. قال: توخّ». الحدیث

قرینة علی أن المراد من روایة إسماعیل خصوص النوافل، لوجود الفرق بینهما فی السند والمتن، والأصل هو التعدّد.

ص: 411


1- 1. وسائل الشیعة 4 / 78.

الخامس: فی حسن الاحتیاط

اشارة

التنبیه الخامس

فی حسن الاحتیاط

إنه وإنْ ذهبنا إلی البراءة فی کلتا الشبهتین، لکنْ قال الشیخ:(1)

لا إشکال فی حسن الإحتیاط عقلاً وشرعا

أی: حتی مع وجود الحجّة، وسواء کان الإحتمال أو المحتمل قویّا أو ضعیفا مهمّا أو أهم، فالإحتیاط راجح مطلقا ما لم یلزم اختلال النظام فیسقط رجحانه، بل یلزم من رجحانه نقض الغرض. أی: من خلق العباد، إذ قال تعالی: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ».(2)

وذلک، لأنه مع اختلال النظام یختلّ أمر المعاش، ومعه یختّل أمر المعاد.

وبما ذکرنا یظهر ما فی کلمات بعض المحشین من أن الغرض هو الرفاه للعباد.

ص: 412


1- 1. فرائد الاصول: 216.
2- 2. سورة الذاریات، الآیة: 56.

لکن الذی یسقط رجحانه هو الإحتیاط التام، ویکون الراجح هو التبعیض فی الإحتیاط، وکیفیة ذلک هو: أن التبعیض:

تارةً: یکون بحسب الإحتمال.

واخری: یکون بحسب المحتمل.

وثالثة: یکون بحسب المورد.

أمّا الأوّل، فهو عبارة عن الأخذ بالإحتمال الأقوی. أی الظن وترک الأضعف وهو الإحتمال الشکّی والوهمی. والحاکم بهذا التبعیض هو العقل.

وأمّا الثانی، فهو عبارة عن الأخذ بما اهتمّ به الشّارع وإن کان الإحتمال ضعیفا، کما فی الدماء والفروج. فالحاکم فی هذا التبعیض هو الشرع.

وأمّا الثالث، فیکون بعدم الإحتیاط فی المورد الذی قامت فیه الأمارة علی الإباحة والحلیّة، لأن الأمارة تزیل الشک والشبهة، ولایبقی حینئذ موضوع لقوله: «قف عند الشبهة». وبالإحتیاط فی المورد الذی یحکم فیه أصالة الإباحة، فموضوع الإحتیاط فی مورد الأصل موجود لأنه حکم فی مورد الشبهة.

قال الشیخ:

لکنّ دلیل الإحتیاط لیس بمنحصر فی قف عند الشبهة حتی یتم ما ذکر، بل إنّ بعض أدلّة الإحتیاط مثل «أخوک دینک» مطلق یعم صورتی قیام الأمارة والأصل معا، فالموارد کلّها علی السواء.

هذا بیان التبعیض کما علیه الشیخ وصاحب الکفایة.

ص: 413

إلاّ أن صاحب الکفایة یقول:(1) بأنّ الأولی هو اختیار الراجح احتمالاً أو محتملاً من أوّل الأمر، لأن المداومة علی العمل الخیر أحسن. إلاّ أن الشیخ اختار الإحتیاط ما لم یصل إلی حدّ اختلال النظام.

أقول:

أفاد شیخنا: إن ما ذکروه عن حکم العقل بأخذ المظنونات وترک المشکوکات والوهمیّات _ وإلاّ یلزم ترجیح المرجوح _ تام بحسب العقل. أمّا بحسب الواقع، فقد یحتمل وجود الحکم الواقعی فی المشکوکات دون المظنونات، وفی بقاء الحکم العقلی فی هذه الصّورة تأمّل، لأن الواقع یجب الإحتیاط فیه والمحافظة علیه، بلافرق بین حالی الظن والشک، لأن الشّارع قد أسقط الظن من حیث أنه ظن عن الإعتبار ونهی عن ترتیب الأثر علیه.

ثم إن فی ما ذکروه من حسن الإحتیاط ورجحانه ما لم یختل النظام فإذا لزم فلا رجحان. مسامحةً ظاهرةً، لأن معناه بقاء الإحتیاط فی تلک الحالة لکنْ بلا رجحان. بل الصّحیح زوال الموضوع، لأن الإحتیاط الموجب لاختلال النظام مبغوض.

فما فی بعض حواشی الکفایة لتصویر بقاء الإحتیاط بلا رجحان علی بعض المبانی مخدوش.

ص: 414


1- 1. کفایة الاصول: 354.
کلامٌ للمحقق الاصفهانی

و قال المحقق الإصفهانی هنا: بأنّ الحسن العقلی ملاکه الإنقیاد، وأمّا الحسن الشرعی فلا یکون إلاّ بجعل الحکم المماثل من أجل التحفّظ علی الواجب الواقعی أو بالبعث بداعی تنجیز الواقع.

ولکن الکلام فی المقام هو فی الإحتیاط المستحب لا الواجب، و لا معنی لجعل الحکم المماثل أو البعث بداعی تنجیز الواقع فی حسن الإحتیاط ورجحانه.

ثم إنه ذکر بالنسبة إلی التبعیض فی الإحتیاط: أمّا بالإضافة إلی حسن الإحتیاط عقلاً، فلأن ما یخلّ بالنظام قبیح عندهم، بل قد مرّ مراراً أن ملاک الحسن و القبح العقلیین کون الشی ء ذا مصلحةٍ ینحفظ بها النظام، أو ذا مفسدةٍ یختل بها النظام. وأمّا بالإضافة إلی وجوبه أو استحبابه الشّرعی، فلأنهما بداعی جعل الدّاعی، و مع قبح الإحتیاط المخلّ بالنظام فی نظر العقل لا یعقل تصدیق الجعل منه، فیلغو البعث قهراً. بل نقول: إن نفس التکلیف الواقعی الذی یقتضی الجمع بین محتملاته الإخلال بالنظام لا یبقی علیه فعلیة الباعثّیة والزاجریّة، لا من حیث أنه یقتضی ما یخلّ بالنظام، لأن مقتضیه نفس متعلّقه و هو قطعاً لا یخلّ بالنظام، بل الإخلال فی تحصیل العلم بامتثاله، و لیس ذلک من مقتضیات نفس التکلیف ولو بالواسطة کما قدّمنا شرحه فی أوائل دلیل الإنسداد، بل من حیث أن العقل بعد ما لم یحکم بتحصیل العلم بامتثاله لا معنی لبقائه علی صفة الدعوة الفعلیة، کما قدّمناه هناک.(1)

ص: 415


1- 1 . نهایة الدرایة 4/207 _ 208.

مناقشة الاستاذ

وقد اعترض علیه الاستاذ:

أمّا ما ذکره بالإضافة إلی الجهة العقلیّة، فمبنیّ علی ما ذهب إلیه من أن ملاک الحسن والقبح العقلی کون الشی ء ذا مصلحة ینحفظ بها النظام أو ذا مفسدة یختلّ بها النظام. و قد تقدّم أنّ الظلم علی المولی الحقیقی لا یدور مدار المصالح والمفاسد فی النظام، بل العقل یحکم بقبحه و استحقاق العقاب به وإن لم تلزم منه مفسدة. و بعبارة اخری: إنه حکم عقلیّ بالذات لا بالعرض.

وأمّا ما ذکره بالإضافة إلی الجهة الشرعیّة. ففیه: إن مرحلة تصدیق الجعل متأخّرة عن مرحلة تصوّره، و مع لزوم اختلال النظام لا ملاک للبعث ثبوتاً، بل یتحقق مع ذلک ملاک النقیض و هو القبح، فلا تصل النوبة إلی القول بلغویّة البعث حینئذٍ.

وأمّا ما ذکره بقوله: بل نقول أن نفس التکلیف الواقعی... فیرد علیه: أن لازمه جواز المخالفة القطعیّة للتکلیف المعلوم، لعدم الباعثیّة الفعلیّة، و اختصاص حرمة المخالفة القطعیّة بمخالفة التکلیف الفعلی. و بعبارة اخری: الحکم غیر الفعلی لیس بحکم بل هو فی قوّة الحکم، و لا حرمة لمخالفة قوة الحکم. ولا نظنّه رحمه اللّه یلتزم بذلک، إذ لا شبهة فی لزوم الإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة حینئذٍ بالتبعیض فی الإحتیاط فی الواجبات.

ص: 416

الحاصل:

إن الإحتیاط حسن عقلاً وراجح شرعا، ولا موضوع له إذا انجرّ إلی اختلال النظام، فإذا لزم ذلک وصلت النوبة إلی التبعیض فیه، لا کما فی الرسائل والکفایة، بل مع مراعاة أهمیّة المحتمل حتی لو کان احتماله أضعف، لأنّ الغرض اللاّزم حفظه هو المحتمل والإحتمال طریق.

وملاک البحث _ فی هذا التنبیه _ جارٍ فی الإحتیاط الوجوبی عقلاً أو نقلاً کذلک، فلو انجرّ إلی اختلال النظام انتفی موضوع الإحتیاط، لأن ملاک الإحتیاط الوجوبی لا یقاوم الملاک فی لزوم حفظ النظام، کما هو الحال فی الإحتیاط الإستحبابی.

وهذا تمام الکلام فی البراءة والإحتیاط.

والحمدللّه ربّ العالمین

وبه ینتهی الجزء السّابع وسیتلوه الثامن إنْ شاء اللّه

ص: 417

ص: 418

المحتویات

کلمة المؤلف ··· 5

الأُصول العملیّة

المقدّمات

9 _ 43

1_ الاصول العملیّة ··· 11

کلام الشیخ فی الاصول العملیّة ··· 11

الإشکال علی الشیخ ··· 12

کلام الکفایة ··· 13

إشکال المحقق الإصفهانی ··· 14

النظر فی الإشکال والدفاع عن الکفایة ··· 16

کلام المحقق النائینی والنظر فیه ··· 19

کلام المحقق الخوئی والنظر فیه ··· 20

2_ الحظر والإباحة ··· 22

کلام السیّد المرتضی ··· 22

کلام شیخ الطائفة ··· 23

ص: 419

کلام المحقق النائینی ··· 24

الأقوال فی حکم الأشیاء ··· 25

الأوّل: الحظر ··· 26

الثانی: الإباحة ··· 27

الثالث: التوقّف ··· 28

3_ النسبة بین الأمارات والاصول ··· 30

مقدّمات ··· 30

تقدّم الأمارة علی الأصل ··· 31

التقدّم علی مسلک الطریقیّة ··· 32

التقدّم علی المسلکین الآخرین ··· 34

تقدّم الأمارة علی الأصل المحرز ··· 36

4_ الاصول ومجاریها ··· 39

5_ مناشیء الشک ··· 41

البراءة

43 _ 218

مقتضی الأصل ··· 45

أدلّة الاُصولّیین علی البراءة ··· 47

الإستدلال بالکتاب علی البراءة ··· 47

الآیة الاولی: «وما کنّا معذّبین...» ··· 47

تقریب الاستدلال: ··· 47

النظر فی التقریب المذکور ··· 48

تقریبٌ آخر ··· 50

النظر فی التقریب المذکور ··· 52

التحقیق ··· 53

الإشکالات علی الاستدلال بالآیة ··· 54

ما أفاده سیّدنا الاستاذ ··· 56

ص: 420

التأمّل فی کلام الاستاذ ··· 57

تنبیه حول استدلال الأخباریین بالآیة لبطلان قاعدة الملازمة ··· 58

الآیة الثانیة: قُل لا أجد فیما أُوحی إلیّ... ··· 60

تقریب الإستدل والکلام حوله ··· 60

التحقیق عدم الدلالة ··· 62

الإستدلال بالسنّة للبراءة ··· 63

1_ حدیث الرّفع ··· 63

تقریب الإستدلال ··· 63

المرفوع هو الحکم الواقعی فی مرتبة الظّاهر ··· 64

الأقوال فی مراتب الحکم ··· 66

الصحیح هو قول الشیخ ··· 66

براهین المحقق العراقی علی أن المرفوع وجوب الإحتیاط ··· 68

نقد براهین المحقق العراقی ··· 69

رأی السیّد الاستاذ ··· 72

تنبیهات حدیث الرّفع ··· 75

الأوّل: هل لفظ الرفع یناسب الاستدلال؟ ··· 75

جواب المحقق النائینی ونقده ··· 76

جواب المحقق العراقی ونقده ··· 76

جواب المحقق الخوئی ونقده ··· 77

التحقیق فی المقام ··· 78

الثانی: هل ظاهر الحدیث هو الشبهة الموضوعیّة؟ ··· 79

الوجه الأوّل فی الدلالة علی ذلک ··· 79

جواب المحقق النائینی ونقده ··· 80

جواب المحقق العراقی ونقده ··· 80

جواب المحقق الخوئی ونقده ··· 82

جواب شیخنا الاستاذ ··· 82

جواب سیّدنا الاستاذ ··· 83

ص: 421

الوجه الثانی ونقده ··· 84

الوجه الثالث ··· 84

الجواب الأوّل ونقده ··· 85

الجواب الثانی ونقده ··· 86

الجواب الثالث وهو الصحیح ··· 86

الجواب الرابع ونقده ··· 87

الوجه الخامس ··· 87

جواب المحقق الخوئی ونقده: ··· 88

جواب المحقق الإصفهانی ونقده: ··· 88

التحقیق فی الجواب ··· 89

الوجه السادس وجوابه ··· 90

الوجه السّابع وجوابه ··· 91

الثالث: ما هو اللّفظ المقدّر فی الحدیث؟ ··· 93

رأی المحقق الخراسانی ··· 93

رأی المحقق النائینی ··· 94

الرابع: هل (ما لا یعلمون) یقبل الرفع؟ ··· 95

الخامس: أیّ الأحکام هو المرفوع؟ ··· 99

1_ الأحکام التکلیفیّة ··· 100

کلام المحقق النائینی ونقده ··· 100

التحقیق فی المقام ··· 104

2_ الأحکام الوضعیّة ··· 106

کلام المحقق النائینی فی السبب وتوضیحه ثم نقده ··· 106

کلام المحقق العراقی ونقده ··· 108

کلام المحقق النائینی فی المسبب ونقده ··· 110

التحقیق فی المقام ··· 114

السادس: هل یجری الحدیث الرفع فی المستحبّات؟ ··· 117

کلام المحقق الخوئی ··· 117

ص: 422

الصحیح هو الجریان مطلقا ··· 118

السّابع: هل المنّة شخصیّة أو نوعیّة؟ ··· 121

التحقیق هو الثانی ··· 121

الثامن: حدیث الرفع یرفع الآثار لا بشرط من العناوین المذکورة فیه ··· 123

کلام الشیخ ··· 123

توضیح المحقق الخراسانی کلام الشیخ ··· 124

کلام المحقّق الاصفهانی وتوضیحه ··· 126

رأی شیخنا الاستاذ ··· 130

التاسع: هل الإمتنان حکمة أو علّة؟ ··· 131

العاشر: فی سند حدیث الرفع ··· 132

2_ حَدیثُ الحَجب ··· 135

تقریب الاستدلال ··· 135

إشکال الشیخ وأتباعه ··· 136

وجوه الجواب عنه ··· 137

1_ جواب المحقق الهمدانی ··· 137

مناقشة المحقق الاصفهانی ··· 138

2_ جواب المحقق العراقی ونقده ··· 139

3_ جواب المحقق الخوئی ونقده ··· 140

4_ جواب المحقق الإیروانی ونقده ··· 142

التأمّل فی ألفاظ الحدیث ··· 144

سند حدیث الحجب ··· 146

3_ حدیث: کلّ شئ¨ لک حلال ··· 149

کلام الشیخ ··· 150

کلام صاحب الکفایة وتوضیحه ··· 151

وجوه الإشکال علی الإستدلال: الأوّل ونقده ··· 152

کلام المحقق الخوئی ونقده ··· 153

الوجه الثانی ونقده ··· 154

ص: 423

الوجه الثالث ··· 155

نقد جواب المحقق العراقی عن هذا الوجه ··· 156

الجواب الصحیح ··· 156

الوجه الرابع ··· 157

جواب المحقق الخوئی ونقده ··· 157

سقوط الاستدلال بخبر مسعدة ··· 159

الکلام فی الروایات الاخری ··· 159

إشکال الشیخ ··· 159

جواب المحقق العراقی ونقده ··· 160

الکلام فی الأسانید ··· 163

4_ حدیث الناس فی سعة ما لایعلمون ··· 165

الإختلاف فی النسّبة بینه وأخبار الإحتیاط ··· 165

المختار رأی الکفایة ··· 167

النظر فی رأی الشیخ ··· 169

سند حدیث السّعة ··· 172

5 _ حدیث کلّ شئ¨ مطلق حتی یرد فیه نهی ··· 175

الاختلاف فی دلالة الحدیث علی البراءة ··· 175

کلام الشیخ ··· 175

محتملات الحدیث ··· 176

هل الورود بمعنی الوصول أو الصدور؟ ··· 178

کلام الکفایة ونقده ··· 178

کلام المحقق الإصفهانی ··· 180

نقد هذا الکلام ··· 183

تتمة فی قاعدة الملازمة ··· 185

الاستدلال بالإجماع علی البراءة ··· 187

کلام الشیخ ··· 187

النّظر فی کلمات المتّقدمین ··· 188

ص: 424

الاستدلال بالعقل علی البراءة ··· 191

کلماتهم فی أساس قاعدة قبح العقاب بلابیان ··· 191

رأی الشیخ ··· 191

رأی المحقق الخراسانی ··· 192

رأی المحقق النائینی ··· 192

رأی المحقق الإصفهانی ··· 194

رأی المحقق الخوئی ··· 196

خلاصة ما استدلّ به للقاعدة ··· 197

مناقشة السیّد الاستاذ ··· 197

رأی السیّد الصّدر ··· 200

النظر فی کلام السیّد الاستاذ والسیّد الصدر ··· 201

النسبة بین القاعدة وقاعدة دفع الضرر ··· 203

کلام المحقق الخراسانی ··· 203

محتملات الوجوب ··· 204

هل هو حکم عقلی إرشادی؟ ··· 205

رأی المحقّق الإصفهانی ··· 206

إنْ کان الضّرر بالمعنی المادّی ··· 208

هل یجب دفع الضّرر المادّی؟ ··· 211

حکم الإضرار بالنفس ··· 214

وهل للعقل الحکم بالإحتیاط هنا؟ ··· 217

الإحتیاط

219 _ 284

الاستدلال بالکتاب للإحتیاط ··· 221

کلام الشیخ ··· 222

کلام الکفایة ··· 223

الاستدلال بالسنّة للاحتیاط ··· 224

ص: 425

1. الأخبار الآمرة بالتوقّف عند الشبهة ··· 224

جواب الشیخ ··· 225

جواب الکفایة ··· 226

التحقیق فی المقام ··· 226

جواب المحقق الإصفهانی ··· 228

الکلام حوله ··· 231

العود إلی کلام الشیخ القائل بالإرشاد ··· 233

الحمل علی الإرشادیّة هو الصّحیح ··· 234

2. الأخبار الآمرة بالإحتیاط ··· 236

جواب الشیخ عن الاستدلال بصحیحة عبدالرحمن ··· 236

جواب المحقق النائینی عن الصحیحة ··· 238

النظر فی جواب المحقق النائینی ··· 239

موثقة ابن وضّاح ··· 240

جواب الشیخ عن الاستدلال بالموثقة ··· 241

النّظر فی الجواب ··· 242

روایة کمیل ··· 243

جواب الشیخ ونقده ··· 244

طریقان آخران للحمل علی الإرشادیّة ذکرهما السید الخوئی ونقدهما ··· 246

النسبة بین أخبار الإحتیاط وأدلّة البراءة ··· 249

مناقشة کلام المحقق الإصفهانی ··· 249

3. أخبار التثلیث ··· 253

جواب الشیخ ··· 254

جواب المحقق النائینی ··· 254

جواب المحقق الخوئی ··· 255

هل یعقل کون الأمر بالإحتیاط طریقیّا؟ ··· 255

الاستدلال بالعقل للإحتیاط ··· 259

ص: 426

الوجه الأوّل: العلم الإجمالی ··· 259

تقریب الکفایة ··· 259

تقریب الشیخ ··· 260

الفرق بین التقریبین ··· 260

جواب الشیخ بوجهین ··· 261

إشکال الکفایة علی الوجه الثانی ··· 262

طریق المحقق العراقی لانحلال العلم ··· 264

طریق المحقق الإصفهانی ··· 269

طریق المحقق النائینی ··· 274

التحقیق فی المقام ··· 275

الوجه الثانی ··· 281

جواب الشیخ والنظر فیه ··· 282

جواب الکفایة، وهو الصحیح ··· 284

استدلال الأُصولیین للبراءة بالإستصحاب ··· 285

جواب الشیخ ··· 285

إشکالٌ و دفع ··· 286

رأی المحقق النائینی ··· 288

رأی المحقق العراقی ··· 290

رأی المحقق الخوئی ··· 292

مناقشة الاستاذ فی النقض والحلّ ··· 294

شبهة التعارض بین الاستصحابین ··· 298

التحقیق ··· 299

تنبیهات

301 _ 418

الأوّل: إنه یشترط عدم وجود الأصل الموضوعی ··· 303

کلام الکفایة ··· 304

ص: 427

1_ هل تقدّم الأصل الموضوعی بالورود أو بالحکومة؟ ··· 307

2_ ما هی حقیقة التذکیة؟ ··· 309

رأی الشیخ ··· 309

رأی صاحب الکفایة ··· 311

رأی المحقق النائینی ··· 311

رأی المحقق العراقی ··· 312

النظر فی کلام المحقق النائینی ··· 314

النظر فی کلام المحقق العراقی ··· 316

حقیقة التذکیة ··· 317

رأی المحقق الإصفهانی ونقده ··· 318

تفصیل الکلام و تنقیح المرام فی امور

الأمر الأوّل: فی موثقة ابن بکیر ··· 320

الأمر الثانی: فی إجراء الأصل فی القابلیّة ··· 322

الأمر الثالث: هل یوجد دلیل علی قابلیّة کلّ حیوان للتذکیة؟ ··· 324

الأمر الرابع: فی معنی غیر المذکی والنسبة بینه وبین المذکّی ··· 327

مقام الثبوت ··· 327

مقام الإثبات ··· 329

المستفاد من النصوص ··· 331

الجواب عن إیراد المحقق الإصفهانی ··· 332

نتائج الامور

صور الشبهة الموضوعیّة ··· 334

صور الشبهة الحکمیّة ··· 337

الثانی: فی بیان الإحتیاط وکیفیّة تعلّق الأمر به ··· 340

وجه الإشکال ··· 341

الجواب ··· 341

إشکال الکفایة ··· 341

اعتراض المحقق الإصفهانی ··· 342

ص: 428

دفاع الاستاذ ··· 343

إشکال الشیخ وتوضیحه ··· 345

الآراء الاخری ··· 346

التحقیق فی المقام ··· 347

التصویر الثانی ··· 350

التحقیق فی ذلک ··· 350

الثالث: فی أخبار من بلغ وجهات البحث فیها ··· 352

(الجهة الأولی) الاحتمالات فی أخبار من بلغ ··· 352

إلاشکال علی رأی المشهور ··· 354

رأی الکفایة ··· 356

إشکالٌ ودفع ··· 357

مناقشة الجواب ··· 358

رأی المحقق النائینی ومناقشة ··· 358

رأی المحقق العراقی ··· 361

دلیل الإحتمال الرابع ومناقشته ··· 362

الإحتمال الخامس ··· 364

ثمرة الأقوال: ··· 365

(الجهة الثانیة) هل تشمل أخبار من بلغ البلوغ الحدسی؟ ··· 367

(الجهة الثالثة) هل تشمل الخبر القائم علی الأمر الضمنی؟ ··· 369

(الجهة الرابعة) هل تشمل الکراهة؟ ··· 371

(الجهة الخامسة) لو قام الخبر الضعیف علی الوجوب هل یفتی بالاستحباب؟ ··· 372

(الجهة السّادسة) یعتبر عدم القرینة المنافیة لظهور البلوغ ··· 373

(الجهة السّابعة) لو قام خبر ضعیف علی الکراهة وآخر علی الاستحباب ··· 379

(الجهة الثامنة) هل تعمّ أخبار من بلغ المواعظ ونحوها؟ ··· 380

(الجهة التاسعة) هل تعم الأخبار عن الموضوعات؟ ··· 381

ص: 429

(الجهة العاشرة) هل تعم أخبار العامّة؟ ··· 383

(الجهة الحادیة عشرة) هل البلوغ یعم الخبر الضعیف؟ ··· 383

الکلام فی الأسانید ··· 384

الرابع: فی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیّة ··· 388

1. الشبهة التحریمیّة ··· 388

قاعدة قبح العقاب ··· 389

حدیث الرفع ··· 390

قوله تعالی: «وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» ··· 390

کلام الشیخ ونقده ··· 391

کلام المحقق الخراسانی ··· 393

کلام المحقق الإصفهانی ··· 393

الحکم فی القسم الأوّل ··· 394

الحکم فی القسم الثانی ··· 395

توضیح المقام بالنظر إلی الآراء ··· 396

تفصیل المحقق النائینی ونقده ··· 399

رأی المحقق الإصفهانی ··· 401

الحکم فی القسم الثالث ··· 403

الحکم فی القسم الرابع ··· 403

الإستدلال بأدلّة الحلّ ··· 403

2. الشبهة الوجوبیة ··· 404

فرعٌ _ حکم دوران الأمر بین الأقل والأکثر غیر الإرتباطیین ··· 405

دلیل القول بالإحتیاط (الأول) ··· 405

إشکال المحقق العراقی ونقده ··· 406

الدلیل الثانی ونقده ··· 408

الدلیل الثالث ونقده ··· 408

الدلیل الرابع ونقده ··· 409

الدلیل الخامس وهو المعتمد ··· 410

ص: 430

الخامس: فی حسن الاحتیاط ··· 412

کلامٌ للمحقق الاصفهانی ··· 415

المحتویات··· (431)

المجلد 8

اشارة

ص :1

ص: 2

ص: 3

ص: 4

کلمة المؤلف

الحمد للّه رب العالمین، والصّلاة والسّلام علی خیر خلقه محمد وآله الطّاهرین، ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعین.

وبعد:

فهذا هو الجزء الثامن من کتابنا (تحقیق الاصول). وهو فی دوران الأمر بین المحذورین، وأنّه هل تجری فیه أصالة التخییر، وفی دوران الأمر بین المتباینین ودوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، وأنّه هل تجری فیهما أصالة الإشتغال أوْ لا؟ نقدّمه إلی العلماء الأعلام والفضلاء الکرام فی الحوزات العلمیّة، ونسأل اللّه سبحانه أنْ ینفع به وأن یوفقنا للعلم والعمل الصالح بمحمّد وآله.

علی الحسینی المیلانی

1437

ص: 5

ص: 6

أصالة التخییر فی دوران الأمر بین المحذورین؟

اشارة

ص: 7

ص: 8

التکلیف:

تارة: مشکوک فیه.

وأُخری: معلوم.

فعلی الأوّل:

تارةً: تلحظ الحالة السّابقة، وأُخری لا تلحظ. فالأوّل مجری الإستصحاب والثانی مجری البراءة.

وعلی الثانی:

تارة: الإحتیاط ممکن، وأُخری غیر ممکن. فالأوّل مجری الإشتغال؟ والثانی مجری التخییر؟

ففی دوران الأمر بین المحذورین علم بالتکلیف والإحتیاط غیر ممکن. أی: إنّ التکلیف جنساً معلوم ومجهول نوعاً، لأنّا نعلم إجمالاً بالتکلیف لکنّه مردّد بین الوجوب والحرمة.

وللبحث صورٌ، لأنّه:

تارةً: الواقعة واحدة، وأُخری: الواقعة متعددة.

والأوّل له خمس صور، لأنّه:

ص: 9

قد یکون الحکمان توصلیین.

وقد یکونان تعبدیین.

وقد یکون أحدهما المعیّن تعبدیّاً والآخر توصلیّاً.

وقد یکون أحدهما غیر المعیّن تعبدیّاً.

وقد تکون التوصلیّة والتعبدیّة مشکوکاً فیها.

الکلام فی دوران الأمر بین المحذورین التوصلیین

اشارة

ویلحق بهذه الصّورة:

صورة ما إذا کان أحدهما غیر المعیّن تعبدیاً.

وصورة الشک بین التعبدیّة والتوصلیّة، بناءً علی أنّ الأصل فیه هو التوصلیّة.

لکون الملاک فی الجمیع واحداً.

فنقول:

إنّ المنشأ للشک ودوران الأمر بین المحذورین:

تارةً: إجمال الدلیل، وأُخری: تعارض الدلیلین، وثالثة: فقد الدلیل، ورابعةً: الأُمور الخارجیة.

وهذا تقسیم الشیخ.

وصاحب الکفایة قال: إنّ الملاک هو العلم بالتکلیف مع عدم إمکان الإحتیاط، سواء کانت الشّبهة حکمیّةً أو موضوعیّة، إلاّ فی الخبرین المتعارضین.

ولمّا کان محطّ البحث والنظر هو تعیین تکلیف المجتهد، فإنّ المقصود بالبحث أوّلاً وبالذات هو الشّبهة الحکمیّة.

ص: 10

الوجوه فی الشّبهة الحکمیّة
اشارة

قال الشیخ(1) أنّ فی المسألة ثلاثة وجوه، لکنّه عند تعدادها ذکر أربعةً:

1_ الحکم بالإباحة ظاهراً. نظیر ما یحتمل فیه التحریم وغیر الوجوب.

2_ التوقف، بمعنی عدم الحکم بشیء لا ظاهراً ولا واقعاً. ومرجعه إلی إلغاء الشارع کلا الإحتمالین، فلا حرج عقلاً فی الفعل ولا فی الترک، وإلاّ لزم الترجیح بلا مرجح.

3_ وجوب الأخذ بأحدهما بعینه.

4_ وجوب الأخذ بأحدهما لا بعینه.

وذکر صاحب الکفایة(2) هذه الوجوه وأضاف وجهاً خامساً وهو:

التخییر بین الفعل والترک عقلاً مع الحکم علیه بالإباحة شرعاً.

مختار الشیخ: الوجه الثانی. وعلیه المحقّقان المیرزا والعراقی.

ومختار الکفایة: الوجه الخامس.

الوجه الأوّل: التوقّف

واستدلّ الشیخ لما ذهب إلیه بقوله(3):

«الإنصاف أن أدلّة الإباحة فی محتمل الحرمة تنصرف إلی محتمل الحرمة وغیر الوجوب، وأدلّة نفی التکلیف عمّا لم یعلم نوع التکلیف، لا یفید إلاّ عدم

ص: 11


1- 1. فرائد الأصول 2 / 178.
2- 2. کفایة الأصول: 355.
3- 3. فرائد الأصول 2 / 185.

المؤاخذة علی الترک والفعل، وعدم تعیین الحرمة أو الوجوب، وهذا المقدار لا ینافی وجوب الأخذ بأحدهما مخیّراً. نعم، هذا الوجوب یحتاج إلی دلیل، وهو مفقود، فاللاّزم هو التوقف وعدم الإلتزام إلاّ بالحکم الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع، ولا دلیل علی عدم جواز خلوّ الواقعة من حکم ظاهری إذا لم یحتج إلیه فی العمل».

فهو یری التخییر العقلی مع التوقف عن الحکم الشرعی رأساً.

أمّا التخییر، فلعدم التمکن من الموافقة أو المخالفة العملیّة القطعیة، والموافقة الإحتمالیة حاصلة بالضرورة، فلا حاجة إلی الحکم، وفی الموافقة الإحتمالیة الحاصلة لا یرجّح جانب علی جانبٍ آخر إلاّ لمرجّح، وتقدیم جانب الحرمة من باب أولویة دفع المفسدة من جلب المنفعة ساقط، فالعقل یحکم بالترجیح لقبح الترجیح بلا مرجح.

وأمّا التوقف عن الحکم الشرعی، فیظهر وجهه بعد بیان الوجوه الأُخری والکلام علیها.

هذا، وقد اشتبه أمر الإنصراف الذی ذکره الشیخ علی المحقّق العراقی، فنسب إلیه القول بانصراف أدلّة البراءة وأصالة الحلّ والإباحة فقال: «لا مجال لجریان أدلّة البراءة وأصالة الحلیّة والإباحة فی المقام لإثبات الترخیص فی الفعل والترک، وذلک لا من جهة ما أفاده الشیخ قدّس سرّه من انصراف أدلّتها عن مثل الفرض، بل من جهة ...»(1).

ص: 12


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 293.

إذ أنّ الشیخ یذهب إلی الفرق بین دلیل أصالة الإباحة ودلیل أصالة البراءة، لأنّه یری أنّ لسان الأوّل جعل الحلیّة والثانی لسانه الرفع، لکنّ الأوّل منصرف عنده عن المقام، ولذا یقول: إنّ أدلّة الإباحة فی محتمل الحرمة ینصرف ... . وأمّا الثانی، فسواء کان رافعاً للمؤاخذة أو التکلیف لا یکون دلیلاً علی جعل الحکم الظاهری. نعم، الأثر العقلی للرفع هو الترخیص. هذا فی البراءة الشرعیّة.

وأمّا البراءة العقلیّة، فإن قبح العقاب بلا بیان لیس حکماً ظاهریّاً.

إذن، فدلیل الإباحة هو المنصرف عن المقام.

الوجه الثانی: التخییر العقلی والإباحة الشرعیّة
اشارة

قد تقدّم أنّ صاحب الکفایة ذکر فی المقام خمسة وجوه:

1_ الحکم بالبراءة عقلاً ونقلاً، لعموم النقل وحکم العقل بقبح المؤاخذة علی خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به.

2_ وجوب الأخذ بأحدهما تعییناً.

3_ وجوب الأخذ بأحدهما تخییراً.

4_ التخییر بین الفعل والترک عقلاً مع التوقّف علی الحکم رأساً.

5_ التخییر بین الفعل والترک عقلاً مع الحکم علیه بالإباحة شرعاً.

ثمّ قال: أوجهها الأخیر.

واستدلّ للتخییر العقلی بنفس ما ذکره الشیخ.

وأمّا شرعاً، فقد قال بالإباحة _ خلافاً للشیخ القائل بالتوقف _ واستدلّ لذلک بقوله:

ص: 13

وشمول مثل: (کلّ شیء لک حلال حتی تعرف أنّه حرام)(1) له، ولا مانع عنه عقلاً ولا نقلاً(2).

أمّا الشمول، فللإطلاق.

وأمّا عدم المانع، فلأنّه لا مانع إلاّ المخالفة العملیّة القطعیّة، وهذا غیر لازم، لتردّد المکلّف بین الفاعلیّة والتارکیة، فالمخالفة القطعیة مستحیلة، والموافقة القطعیّة أیضاً مستحیلة، لاستلزامها الجمع بین النقیضین، وأمّا الإحتمالیة، فحاصلة قهراً، ولا دلیل علی وجوب الموافقة الإلتزامیة بالنسبة إلی الأحکام الشرعیة الواقعیة، ودلیل وجوب العمل بالحکم الشرعی لا یثبت وجوب الإلتزام به، وعلی فرض ثبوت الدلیل، فالإلتزام بالحکم الواقعی علی ما هو علیه ممکن وقابل للإمتثال، فالإباحة الظاهریّة لا تنافی الحکم الواقعی، وأمّا الإلتزام بأحدهما المعیّن، فلا دلیل علی وجوبه إنْ لم یکن تشریعاً.

وإذا تمّ المقتضی وعُدم المانع، فالشمول حاصل.

توضیح ذلک:

إنّه لا مجری لقاعدة قبح العقاب بلا بیان فی دوران الأمر بین المحذورین، لوجود «البیان» القائم علی أصل الإلزام، فالبراءة العقلیّة هنا ساقطة. وکذلک وجوب الأخذ شرعاً بأحد الطرفین، أمّا تعییناً، فلعدم الدلیل علیه أوّلاً، ولأنّه تشریع ثانیاً، وأمّا تخییراً، فکذلک، لأنّ المروض هنا هو إحتمال الوجوب

ص: 14


1- 1. وسائل الشیعة 17 / 89، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، رقم: 4، باختلاف یسیر.
2- 2. کفایة الأصول: 355.

وإحتمال الحرمة، فلیس بموردٍ للأخذ بأحدهما تخییراً، بخلاف مسألة تعارض الخبرین، إذ علی القول بالسببیّة یقع التزاحم بین المفسدة الدالّ علیها خبر الحرمة والمصلحة الدالّ علیها خبر الوجوب، فیحکم العقل بالتخییر حیث لا مرجّح، وعلی القول بالطریقیّة، فالمفروض کون أحدهما واجداً لشرائط الحجیّة، فالمقتضی للأخذ به موجود والمانع مفقود. فهذه المسألة عند صاحب الکفایة خارجة عن بحث دوران الأمر بین المحذورین، خلافاً للشیخ. ویبقی التخییر العقلی، والمراد منه هو اللاّحرجیّة العقلیّة.

وأمّا شرعاً، فالمقتضی لجریان دلیل الإباحة الشرعیّة موجود، والإنصراف الذی ادّعاه الشیخ ممنوع، والمانع إمّا لزوم المخالفة العملیّة وإمّا لزوم المخالفة الإلتزامیّة ولا ثالث. أمّا الأُولی فمستحیلة، وأمّا الثانیة فقد ثبت عدم وجوب الموافقة الإلتزامیّة.

وهنا نکتة لا بأس بالتنبیه علیها وهی:

إنّه قال فی الوجه الأوّل: الحکم بالبراءة عقلاً ونقلاً. وقال فی الأخیر وهو مختار: مع الحکم علیه بالإباحة شرعاً. وذلک یفید أنّه لا یرید من «الإباحة» الأعم منها ومن البراءة، للفرق الواضح بینهما، لأنّ أصالة الإباحة أخصّ من أصالة البراءة، لجریان الثانیة فی الشبهات الحکمیّة والموضوعیّة بلا کلام، ولأنّ المجعول بالبراءة عدم التکلیف أو المراد منها عدم جعل الإحتیاط أو أنّ مدلولها رفع الحکم فی مرتبة الظّاهر أو رفع المؤاخذة. وأمّا أدلّة أصالة الإباحة، فمدلولها جعل الترخیص حکماً ظاهریّاً. فمدلول أدلّة الأصلین مختلف. نعم، یمکن جعل أصالة الحلّ أعمّ منه ومن البراءة مسامحةً.

ص: 15

إشکال الاصفهانی

وأشکل المحقق الإصفهانی(1) بأن شمول قولهم علیهم السّلام: (کلّ شیء لک حلال) یتوقف علی أُمور:

الأوّل: شموله للشبهة الحکمیّة والموضوعیّة معاً، مع أنّا قد بیّنا فی بحث البراءة اختصاصه بالشبهات الموضوعیّة.

والثانی: شموله للشبهة الوجوبیّة والتحریمیّة، وذلک یکون فیما إذا کان «الحرام» فی غایة الخبر أعم من حرمة الفعل وحرمة الترک، وإذا کان أعم کان المغیّی _ وهو «الحلال» _ أعم کذلک. وأمّا إذا اختصّ «حرام» بالشّبهة الحکمیّة التحریمیّة، کان «حلال» مختصاً بها مثله، فیکون الحدیث أجنبیّاً عمّا نحن فیه، ویکون مجراه صورة دوران الأمر بین الحرمة وغیر الوجوب.

ثمّ ذکر وجوهاً لعدم عموم «حرام» فی الغایة، وهی:

1_ إن کلّ حکم من الأحکام الخمسة بسیط، لا ینحلّ إلی حکمین فعلاً وترکاً.

2_ إن الإیجاب ینبعث عن مصلحةٍ فی المتعلّق، ولیس فی ترکه مفسدة حتی ینبعث منها التحریم، والحال فی العکس کذلک.

3_ لیس فی المراد التشریعی اللّزومی فی موطن النفس إلاّ إرادة متعلّقة بفعله، لا کراهة متعلّقة بترکه، إذ لا فرق بین الإرادة التشریعیة والتکوینیة إلاّ من جهة تعلّق الاولی بفعل الغیر وتعلّق الثانیة بفعل نفس المرید.

ص: 16


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 209.

4_ إنّه لا یُستحق العقوبتان علی کلّ معصیة، لأن المفروض أن فعل الحرام ینطبق علیه عنوان ترک الواجب وکذا بالعکس فی ترک الواجب.

فتبیَّن عدم التعدّد من حیث المبادی والنتائج والغایات.

والثالث: أن تکون الغایة عقلیّة لا شرعیّة جعلیّة، إذ لو کانت شرعیةً فهی حاصلة، لفرض العلم الإجمالی بالوجوب أو الحرمة، بخلاف ما لو کانت عقلیة، فإنّ المراد من العلم هو المنجّز، ومع فرض عدم منجّزیة هذا العلم من حیث الموافقة القطعیّة وترک المخالفة القطعیّة، فالغایة غیر حاصلة بمجرد العلم. وسیأتی الإشکال إن شاء اللّه فی الغایة حتی بناءً علی کونها عقلیّة.

قال: فاتضح أن الإستدلال بحدیث: کلّ شیء لک حلال، مبنی علی مقدّمات کلّها غیر مسلّمة.

المناقشة

إنّ الوجوه التی ذکرها المحقق الإصفهانی فی الإشکال علی صاحب الکفایة فیها نظر:

أمّا أوّلاً:

فإن صاحب الکفایة یستدل بخبر: (کلّ شیء لک حلال حتی تعرف أنّه حرام) وهو یعمّ الشبهتین بلا شبهة، لا بخبر مسعدة بن صدقة: (کلّ شیء لک حلال حتی تعلم أنّه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسک، وذلک مثل الثوب یکون علیک

ص: 17

قد اشتریته ولعلّه سرقة ... )(1) الذی یحتمل الإختصاص بالشّبهة الموضوعیّة من جهة الموارد المذکورة فیه، وإنْ کان یحتمل أن تکون الموارد من باب التنظیر لا التمثیل، فیکون صالحاً للإستدلال فی الشبهتین، کما ذکر صاحب الکفایة فی حاشیة الرسائل.

وبالجملة، إن کان الإشکال من جهة أنّ روایة مسعدة تشمل الشبهتین، فهو مندفع بأنّه لیس الإستدلال به، مضافاً إلی ما ذکره صاحب الکفایة فی الحاشیة کما تقدّم.

وأمّا ثانیاً:

فإنّ جمیع ما ذکره المحقّق الإصفهانی مذکورٌ فی الکفایة. فأمّا عدم شمول الخبر للشبهة الوجوبیّة إلاّ إذا کان «الحرام» أعم من الفعل والترک، فقد تعرّض له فی الکفایة. وکذلک بساطة الأحکام، فهو مذکور فی مبحث الضدّ منها، وکذا عدم المفسدة فی ترک الواجب وعدم المصلحة فی ترک الحرام، فإنّه مذکور فی ردّ کلام المحقّق القمی فی مبحث إجتماع الأمر والنهی.

ولمّا کان صاحب الکفایة یقول ببساطة الأحکام وبعدم المفسدة أو المصلحة فی ترک الواجب أو الحرام، فهو لا یقول باستحقاق العقوبتین علی کلّ معصیة ولا بترکب الإرادة.

هذا کلّه، مضافاً إلی أنّه قال فی بحث البراءة «مع إمکان أن یقال: ترک

ص: 18


1- 1. وسائل الشیعة 17 / 89، باب عدم جواز الإنفاق من کسب الحرام.

ما احتمل وجوبه ممّا لم یعرف حرمته فهو حلال. تأمّل»(1) فذکر الإصفهانی وجه التأمّل بقوله:

«وجهه: إن کلّ حکم إیجابی أو تحریمی لا ینحلّ إلی حکمین إیجابی وتحریمی فعلاً وترکاً، بل ترک الواجب حیث أنّه ترک الواجب یستحقّ علیه العقاب، لا أنّه حرام. وکذلک فی طرف الحرام».(2)

وأمّا ثالثاً:

فإنّ صاحب الکفایة قد استدلّ بهذا الخبر فی الشّبهة التحریمیّة ثمّ قال إنّه بعدم الفصل یتمّ المطلوب فی الشّبهة الوجوبیّة وهذه عبارته: «وبعدم الفصل قطعاً بین إباحته وعدم وجوب الإحتیاط فیه وبین عدم وجوب الإحتیاط فی الشبهة الوجوبیّة یتمّ المطلوب»(3).

وقد غفل الإصفهانی عن هذا.

ثمّ إنّ الغایة فی الخبر هی العلم بالحرمة، وهو غیر حاصل، لأنّ العلم بالجنس _ وهو الإلزام _ لیس علماً بالنوع، فالمتحقّق هو العلم بالجامع، والمجعول غایة _ وهو العلم بالحرمة _ غیر متحقّق، فالغایة شرعیّة ولکنّها غیر حاصلة.

هذا تمام الکلام علی إشکالات الإصفهانی.

ص: 19


1- 1. کفایة الأصول: 342.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 67.
3- 3. کفایة الأصول: 341.
إشکال المیرزا

وأشکل المحقّق النائینی بوجهین(1):

أحدهما: إن دوران الأمر بین المحذورین لیس مجری أصالة الحلّ، لأنّ موضوعها هو الشک، وهو إنّما یتحقّق حیث یحتمل الإباحة، وفی المقام علم بالإلزام المردد بین الوجوب والحرمة، فلا موضوع لها.

والثانی: إنّه لا مانع من جریان الأصل فی کلّ طرف من أطراف الشّبهة المقرونة بالعلم إلاّ لزوم المخالفة العملیّة للتکلیف المعلوم. وأمّا إذا نافی جریانه نفس التکلیف المعلوم بالإجمال، فلا یعقل الجریان. وما نحن فیه من هذا القبیل، لأن أصالة الإباحة فیه ینافی الإلزام المتیقن فی البین.

المناقشة

والجواب:

أمّا عن الإشکال الأوّل، فهو أنّه لیس الموضوع فی الخبر هو الشک فی الإباحة، بل هو عدم العلم بالحرمة، وبین الأمرین بون بعید. وفی المقام علم بالإلزام مع الجهل بخصوصیّة الوجوب والحرمة، فالعلم بعدم الإباحة هو لمفروض فی البحث، فموضوع الخبر متحقّق فیه، والحدیث شامل والأصل جار.

وبعبارة أُخری: الغایة فی الخبر هو العلم بالحرمة، فالمغیّی عدم العلم بها، فما لم تعلم حرمته فهو حلال، فالإستدلال بهذا الخبر تام.

ص: 20


1- 1. فوائد الأصول 3 / 444.

وأمّا الخبر الآخر: (کلّ شیء فیه حلال وحرام فهو لک حلال)، فلا یشمل المقام کما فی فوائد الاصول(1)، لظهوره فی أخذ إحتمال الحلیّة فیه، وهو متحقّق فی دوران الأمر بین المحذورین کما تقدّم. إلاّ أنّ صاحب الکفایة وغیره لم یستدلّوا بالخبر الثانی.

وأمّا عن الإشکال الثانی _ وهو أن جعل الإباحة الظاهریة مع العلم بجنس الإلزام غیر ممکن، لأن جریانها فی کلّ من طرف الفعل والترک یغنی(2) عن جریانها فی الطرف الآخر، فإنّ معنی إباحة الفعل وحلیّته هو الرخصة فی الترک وبالعکس، ولذلک کان مفاد أصالة الحلّ بمدلولها المطابقی یناقض القدر المشترک المعلوم بالإجمال أعنی جنس الإلزام _ فقد قال المحقّق العراقی(3):

بأنّ العلم یتقوّم بنفس العنوان والصّورة الذهنیّة من دون سرایةٍ له إلی وجود المعنون فی الخارج، وکلّ محمول یستحیل تخلّفه وتعدّیه عن موضوعه. وعلی هذا، فإنّ متعلّق العلم فی دوران الأمر بین المحذورین هو أحد الأمرین من الوجوب والحرمة، وهذا العلم المتعلِّق بالعنوان _ أعنی عنوان الأحد _ لا یسری إلی معنونه وهو الوجوب والحرمة.

أمّا أصالة الإباحة، فالموضوع فیها عبارة عن الفعل والترک المشکوک فی

ص: 21


1- 1. فوائد الاصول 3 / 445.
2- 2. وهذا بخلاف البراءة والإستصحاب، فإن جریانهما فی خصوص ما تعلّق بالفعل من الوجوب أو الحرمة، لا یغنی عن الجریان فی الطرف الآخر، بل یحتاج کلّ من الطرفین إلی براءة أو استصحابٍ خاصٍّ به.
3- 3. نهایة الأفکار 3 / 294.

إباحته، والمحمول فیها هو «الحلیّة»، فیفید الأصل حلیّة مشکوک الحرمة وحلیّة مشکوک الوجوب، فمجری الأصل _ وهو الطرفان _ غیر متعلّق العلم وهو الإلزام الموجود بینهما، فلا یکون جریانه فیهما مناقضاً للعلم المتعلِّق بالجامع.

وفیه:

أمّا علی مسلک المیرزا فی الأوامر والنواهی _ من أن الأمر طلب الفعل والنهی طلب الترک، فالفرق بینهما فی ناحیة المتعلَّق _ فالجواب غیر تام بعد الدقة فی کلام المیرزا(1). فقد ذکرنا أنّه یقول بأن جریان أصالة الإباحة فی أحد الطرفین یغنی عن جریانه فی الطرف الآخر، لأنّه بمجرد الجریان فی أحدهما یتم الترخیص بالنسبة إلی کلیهما، وهذا لا یجتمع مع العلم بالإلزام.

وأمّا علی مسلک غیر المیرزا _ من أنّ المتعلَّق فی کلیهما واحد وهو الفعل، وإنّما الإختلاف بالمتعلِّق، إذ هو فی أحدهما البعث وفی الآخر الزجر _ فالإندفاع أوضح، لأن الفعل إما مبعوث إلیه وإما مزجور عنه. وجریان الإباحة فی هذا الفعل الذی تعلَّق به الإلزام مع الخصوصیّة من جهة البعث والزجر _ غیر ممکن.

فظهر عدم تمامیّة جواب العراقی عن الإشکال الثانی.

ص: 22


1- 1. وإنْ کان یتخیّل وروده بناءً علی مسلکه، من جهة أنّ جریان الأصل فی طرف الوجوب _ مثلاً _ یؤدّی إلی ارتفاع طلب الفعل ولا علاقة له بطرف الحرمة، فیکون طلب الترک باقیاً علی حاله، فلا تقع المناقضة بین أصالة الإباحة والعلم بالإلزام.
إشکال العراقی

وأشکل المحقّق العراقی(1) علی صاحب الکفایة: بأنّ المکلَّف فی مورد دوران الأمر بین المحذورین مضطرٌّ إلی الفعل أو الترک، فهو بمناط الإضطرار مرخَّص، ومعه لا وجه لجعل الإباحة الشرعیّة. وعلی الجملة، فإنّه لا مانع من جریان أصالة الإباحة، ولا دلیل علی الإنصراف، ولکنْ لا وجه لجعلها مع الإضطرار.

المناقشة

وفیه: إنّه لا مانع من جعل الإباحة من ناحیة الشارع إلی جنب الترخیص المذکور من ناحیة العقل، کما هو الحال فی جمیع الشبهات البدویّة.

التحقیق فی الإشکال علی صاحب الکفایة

ثمّ إنّه یرد علی صاحب الکفایة _ بقطع النظر عن دعوی الإنصراف کما ذکر الشیخ _ لزوم اللّغویّة من جعل الإباحة.

وتوضیح ذلک: إنّ للمعلوم فی دوران الأمر بین المحذورین جهتین، فبالمطابقة یعلم علماً إجمالیّاً بأحد الحکمین من الوجوب والحرمة، وبالإلتزام یعلم علماً تفصیلیّاً بعدم الحلیّة، لأنّ کلاًّ من الوجوب والحرمة یلازم عدم الحلیّة، فلو أُرید جعل الإباحة الظاهریّة لزم اجتماع الضدّین فی الشیء الواحد من جهة

ص: 23


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 293.

المدلول المطابقی، لأن الإباحة تضادّ الحکمین، واجتماع النقیضین من جهة المدلول الإلتزامی، أی الحلیّة وعدم الحلیّة، لأن المعلوم عدم حلیّة نفس هذا الشیء، لکونه إمّا واجباً أو محرماً، وکونه فی نفس الوقت حلالاً یستلزم المحال المذکور، وتفکیک المحقّق العراقی بین متعلّق العلم وموضوع الحکم الظاهری لا وجه له.

قال شیخنا _ فی الدورة السّابقة _ وهذا الإشکال وارد علیه بناءً علی القول بتضادّ الأحکام کما هو المختار عنده، إلاّ أنْ یقال: بعدم فعلیّة الحکم الواقعی کما ذهب إلیه فی مسألة الجمع بین الحکم الواقعی والحکم الظاهری. لکنّ التحقیق: إنّ فعلیّة الحکم بفعلیّة موضوعه، ولا ریب فی فعلیّته هنا إلاّ أنّه لا قدرة علی المخالفة أو الموافقة القطعیّة، فکان غیر المقدور هو القطع بأحد الأمرین لا نفس الموافقة أو المخالفة.

اللهمّ إلاّ أنْ یقال بعدم الفعلیّة بالإضطرار إلی أحد الطّرفین، من حیث أنّ الحکم الواقعی إمّا بعث وإمّا زجر، ومع الإضطرار إلی أحدهما یسقط الحکم الواقعی عن الفعلیّة. وهذا مسلکه قدّس سرّه. أو یقال: بأنّ الفعلیّة تدور مدار العلم، وهنا لا یوجد العلم. وهذا مسلک المحقّق الإصفهانی.

وأمّا علی القول: بأن لا تضادّ بین الأحکام أنفسها، لأنّ الحکم اعتبارٌ وهو خفیف المؤنة، بل هو إمّا فی مرحلة الملاک أو فی مرحلة الإمتثال. فالإشکال هو: لغویّة الحکم فی مرحلة الإمتثال، لعدم إمکان المخالفة أو الموافقة القطعیّة، وأمّا الإحتمالیّة فحاصله.

ص: 24

وفی مرحلة الملاک، قال المحقّق الإصفهانی وغیره _ فی مسألة الجمع بین الحکم الواقعی والحکم الظاهری _ : بأنّ ملاک الحکم الواقعی للحرمة _ مثلاً _ قائم بالمتعلَّق، والظاهری _ وهو الإباحة _ قائم بنفس جعل الحکم الظّاهری.

لکنّ هذا الجمع غیر ممکن هنا، لعدم وجود المصلحة فی جعل الحکم الظاهری _ بخلاف الشّبهة البدویّة _ لأنّها لا تخلو عن أحد أمرین، فإمّا التوسعة بحیث لولاها لکان المکلَّف فی الضّیق والکلفة، وهنا لا ضیق، لوجود اللاّحرجیّة العقلیّة، لعدم إمکان المخالفة أو الموافقة القطعیّة، فلا أثر عملی لجعل أصالة الإباحة هنا، لأنّ الترخیص حاصل، وقد صرَّح المحقّق الخراسانی بأنّ الأصول العملیّة وظائف للشاکّ فی مرحلة العمل. وإمّا إسناد الترخیص إلی الشارع، وهو هنا غیر معقول، لوجود العلم بالإلزام الشرعی.

فظهر لغویّة جعل أصالة الإباحة فی دوران الأمر بین المحذورین.

کذا أفاد دام بقاه.

أقول:

قد عرفت أنّ صاحب الکفایة یقول بالتضادّ بین الأحکام الخمسة بأنفسها، فالإشکال یرجع إلی لزوم الجمع بین الضدّین، لکن قد عرفت أیضاً أنّه یقول بعدم فعلیّة الحکم الواقعی حیث یوجد الحکم الظاهری أو یضطرّ إلی أحد الطرفین، وحینئذٍ لا یلزم محذور الجمع بین النقیضین، والإشکال علیه بفعلیّة الحکم الواقعی إشکال مبنائی.

هذا، ولکنّ الإشکالات علی صاحب الکفایة متعدّدة، فإنّه وإنْ اندفع بعضها علی مبناه، لکنّ البعض الآخر وارد علیه، ومن ذلک سوی ما تقدّم:

ص: 25

أوّلاً: إنّه لا یوجد عندنا دلیلٌ علی الإباحة فی الشبهات الحکمیّة الکلیّة التی هی محطّ نظر المجتهدین، وما ورد فی الإباحة، فمورده الشّبهات الموضوعیّة، کروایة مسعدة بن صدقة وغیرها، ولا أقلّ من الشک فی شمول الأخبار للشبهة الحکمیّة.

أورده المحقّقان النائینی والإصفهانی(1) ووافق علیه شیخنا فی الدّورة اللاّحقة.

وثانیاً: إنّ المحقّق الخراسانی قد نصَّ فی مبحث البراءة(2) علی أنّ (کلّ شیء لک حلال) ظاهر فی الشّبهة التحریمیّة، وأنّه یقال بأصالة الحلّ فی الوجوبیّة من باب عدم الفصل. هذا من جهةٍ. ومن جهة أُخری، فقد جعل الحرمة أعمّ من الفعل والترک، فیکون الخبر جاریاً فی الشبهتین. ولکنّه أبطل الوجه الثانی، لأنّه یری بساطة الوجوب والحرمة، وأنّ الحرمة ناشئة من المفسدة فی الفعل، فیبقی عدم الفصل، ولکنْ لا مجال لعدم الفصل فی دوران الأمر بین المحذورین، لوجود خمسة أقوال فیه.

وثالثاً: ذکر المحقّق النائینی(3) أنّه یعتبر فی الأصل إحتمال مطابقته للواقع وإلاّ کان باطلاً، وفیما نحن فیه نقطع بمخالفة أصالة الأباحة للحکم الواقعی، لأنّه إمّا الوجوب وإمّا الحرمة.

ص: 26


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 65 _ 66.
2- 2. کفایة الأصول: 341.
3- 3. فوائد الأصول 3 / 445.
الکلام حول قیاس ما نحن فیه بتعارض الخبرین

قال فی الکفایة(1):

«وقیاسه بتعارض الخبرین الدالّ أحدهما علی الحرمة والآخر علی الوجوب. باطل.

فإنّ التخییر بینهما علی تقدیر کون الأخبار حجّةً من باب السّببیّة علی القاعدة، ومن جهة التخییر بین الواجبین المتزاحمین. وعلی تقدیر أنّها من باب الطریقیّة، فإنّه وإنْ کان علی خلاف القاعدة، إلاّ أنّ أحدهما تعییناً أو تخییراً حیث کان واجداً لما هو المناط للطّریقیّة من إحتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشرائط، صار حجّةً فی هذه الصّورة بأدلّة الترجیح تعییناً أو التخییر تخییراً، وأین ذلک ممّا إذا لم یکن المطلوب إلاّ الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً وهو حاصل، والأخذ بخصوص أحدهما ربّما لا یکون إلیه بموصل؟

نعم، لو کان التخییر بین الخبرین لأجل إبدائهما إحتمال الوجوب والحرمة وإحداثهما التردید بینهما، لکان القیاس فی محلّه، لدلالة الدلیل علی التخییر بینهما علی التخییر ههنا. فتأمّل جیّداً».

توضیح کلام الکفایة

وتوضیحه: أنّه بعد أنْ ذکر عدم المانع العقلی عن جریان أصالة الإباحة، ذکر أنّه إنْ قیل بوجود المانع الشرعی عنه، وذلک بتنقیح المناط فی دلیل الخبرین

ص: 27


1- 1. کفایة الاصول: 355 _ 356.

المتعارضین، فإنّ للشارع هناک حکماً ظاهریّاً وهو التخییر فی الأخذ بأیّهما شاء، ولم یجعل حکماً ظاهریّاً فی قبال الخبرین، وهذا یجری فی مسألة دوران الأمر بین المحذورین _ حیث یتردّد الأمر بین حکمین واقعیین _ بالأولویّة ولا أقلّ من المساواة، فیخیّر الشارع هنا بین الأخذ الطّرفین، ولا یجعل حکماً ظاهریّاً فی مقابلهما.

ولک أنْ تقول أیضاً: بأنّ الخبرین المتعارضین ینفیان إحتمال الحکم الثالث، بل لابدّ من الأخذ بأحدهما تعییناً، وفی دوران الأمر بین الوجوب والحرمة کذلک، فالثالث وهو الإباحة منفیّ، ولابدَّ من الأخذ بأحد الحکمین تخییراً شرعیّاً، قیاساً علی تلک المسألة بتنقیح المناط بالأولویّة أو المساواة.

ویمکن أنْ یقال: بأنّ الخبرین یبدیان إحتمال الوجوب والحرمة، وإذا حکم الشارع فی موردهما بالتخییر، حکم به فی مورد إحتمال الوجوب والحرمة بالوجدان بالأولویّة.

قال رحمه اللّه: هذا القیاس باطل، لأنّا إنْ قلنا بالسّببیّة فی حجیّة الأخبار، فإنّ قیام الخبر علی الوجوب یحدث مصلحةً ملزمة، وقیام الآخر علی الحرمة یحدث مفسدة ملزمةً، وحیث لا یمکن إمتثالهما معاً یقع التزاحم، ویکون التخییر بین الفعل والترک علی وفق القاعدة، إرشاداً إلی حکم العقل. أمّا فی دوران الأمر بین المحذورین، فالشیء واحد، وهو إمّا ذو مصلحة ملزمة وإمّا ذو مفسدة ملزمة. فالقیاس مع الفارق.

وإن قلنا: بأنّ حجیّة الأخبار من باب الطریقیّة، فالتخییر علی خلاف القاعدة.

ص: 28

وأمّا قول المحقّق الإصفهانی: «وأمّا ما عن شیخنا العلاّمة قدّس سرّه فی المتن من الجواب بناءً علی الطّریقیّة من وجود ملاک الطّریقیّة فی کلا الخبرین وهو إحتمال الإصابة شخصاً وغلبة الإصابة نوعاً، فالعلم الإجمالی بالکذب الواقعی غیر مانع، إذ لیس الکذب الواقعی مانعاً، ومع وجود الملاک فی کلیهما فلا محالة یکون التخییر علی القاعدة، ولا یقاس به ما نحن فیه، من حیث أنّه لیس فیه إلاّ مجرّد إحتمال الحکمین، لا ملاکان لاعتبار الحجیّة فی کلا الخبرین. فقد بیّنا فی محلّه أنّه لا یخلو عن محذور ...»(1) فسهو من قلمه الشریف.

وإنّما کان علی خلاف القاعدة، لأنّ القاعدة حینئذٍ هی التساقط، ولکنْ لمّا کان أحد الخبرین واجداً لملاک الطّریقیّة مع إحتمال إصابته ومطابقته للواقع، فقد جعلته أدلّة الترجیح أو التخییر حجّةً تعییناً أو تخییراً.

أمّا المقام، فالحکم الواقعی فیه واحد، وهو مردّد بین الوجوب والحرمة، فهو ذو ملاک علی نحو التعیین، لکنّه مجهول عندنا، وإن کان المطلوب هو الإلتزام بما صدر فی الواقع إجمالاً، فهو حاصل(2) من غیر حاجة إلی الإلتزام بأحد الطّرفین بخصوصه، فإنّه ربّما لا یکون موصلاً إلی الواقع. فالقیاس مع الفارق کذلک.

ص: 29


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 216.
2- 2. هذا فیه إحتمالان، أحدهما: أن یکون المراد «العمل». أی: إنّ الموافقة القطعیّة عملاً لا تمکن، والموافقة الإحتمالیّة عملاً حاصلة، فلا مجال لأن یحصّلها الشارع بالجعل. والثانی: أن یکون المراد «الإلتزام». أی: إنّ الإلتزام بالنسبة إلی الحکم الواقعی حاصل بلا جعلٍ من الشارع للحجیّة تعییناً أو تخییراً. وکیف کان، فلا ملاک للتنجیز.
النظر فیه:

وتنظّر فیه شیخنا فی الدورة السّابقة: أمّا من حیث المبنی، فهو یری أنّه لا ملزم للموافقة الإلتزامیّة، لأنّ دلیل التکلیف لیس فیه إلاّ إقتضاء العمل بالتکلیف، ولیس فیه إقتضاء الإلتزام بوجوب المکلّف به مثلاً. وأمّا غیر هذا الدلیل، فلا شیء یدلّ علی لزوم الإعتقاد، وما یدلّ علی وجوب تصدیق النّبیّ صلّی اللّه علیه وآله وسلّم فیما یخبر به، لا یقتضی وجوب الإلتزام والتصدیق للمخبر به. وبالجملة: لا ملازمة بین تصدیق المخبِر وتصدیق المخبَر به ... وهو کما تری.

وأمّا من حیث البناء فنقول: إنّ ما ذکره بناءً علی القول بالسّببیّة مخدوش، فإنّ المحذور فی التعارض یکون فی مرحلة الجعل، وفی التزاحم یکون فی مرحلة الإمتثال، فهذا هو الفرق بین التعارض والتزاحم، وفی التزاحم یحکم العقل بالتخییر مع تساوی الملاکین، وبلزوم صرف القدرة فی الأهمّ منهما إنْ کان أحدهما أهمّ من الآخر، فحیث یتساوی الملاکان یسقط إطلاق الحکمین دون أصلهما، ولا ملازمة بین الأصل والإطلاق فی السقوط، والضرورات تتقدّر بقدرها.

وفی التعارض لا یجتمع الملاکان فی الشیء الواحد، إذ لا یکون الشیء الواحد ذا مصلحة ملزمة ومفسدة ملزمة معاً، فالمحذور فی الجعل کما أشرنا، ولذا یکون مقتضی الأصل فی التعارض هو التساقط.

والحاصل: إنّه فی التعارض یسقط أصل الحکمین، وفی التزاحم یسقط إطلاق الحکمین.

وبما ذکرنا یظهر أن ما نحن فیه بناءً علی السّببیّة مصداق للتعارض

ص: 30

لا التزاحم، لأنّ الخبر القائم علی وجوب الشیء یحدث المصلحة فیه _ بناءً علی السّببیّة _ والقائم علی حرمته یحدث المفسدة، واجتماع المفسدة الملزمة مع المصلحة الملزمة فی الشیء الواحد محال، فما نحن فیه علی السّببیّة صغری لباب التعارض لا التزاحم. وبعبارة أُخری: التزاحم بناءً علی السّببیّة معناه وجود الغرضین فی الشیء الواحد یوجب أحدهما جعل الوجوب والآخر جعل الحرمة، حتی یقع التزاحم، وهذا محال، لأنّ مع وحدة المتعلّق لا یعقل جعل الحکمین، لأنّ جعلهما فرع وجود الغرضین، ووجود الغرضین فرع وجود المتعلَّقین.

وقیاس ما نحن فیه بالتزاحم بین الواجبین کإنقاذ الغریقین، لا مورد له، لأنّه إنْ کان الملاک فی أحد الحکمین أهمّ _ ککونه نبیّاً مثلاً _ لزم جعل الحکم التعیینی، وإن کانا متساویین لزم جعل الإباحة، فلا معنی لجعل التخییر علی حالٍ.

وهذا هو الإشکال الأوّل.

وأمّا ثانیاً، فقد وقع البحث فی أنّ الخبرین المتعارضین هل ینفیان الثالث أوْ لا؟. وبعبارة أُخری: هل یتساقطان بالمرّة أو فی مدلولهما المطابقی دون الإلتزامی وهو نفی الثالث؟ قد اتّفق المیرزا وصاحب الکفایة علی الثانی، واختلفا فی الدلیل. ومسلک الثانی هو: إنّ المتعارضین أحدهما معلوم الکذب وساقط عن الإعتبار دون الآخر، وحیث لم یتعیّن الکاذب منهما یسقط المدلول المطابقی فیهما، لکن ل_«أحدهما» نفی الثالث، لوجود المقتضی وعدم المانع ... فإذا دلّ أحدهما علی الوجوب والآخر علی الحرمة وتساقطا، فإن «أحدهما» حجّة علی نفی الإباحة، هذا إن لم نعلم بعدم خلوّ الواقع عن الوجوب أو الحرمة واحتملنا کونه الإباحة،

ص: 31

فلو علمنا بذلک، کان النافی للثالث هو العلم لا أحدهما، إذ مع وجود العلم لا تصل النوبة إلی الحجّة التعبّدیّة لأجل نفیه.

هذا ما ذهب إلیه فی نفی الثالث بحجّتین تعبّدیتین متعارضتین، فکیف یلتزم فیما نحن فیه بالإباحة مع وجود العلم بأنّ الحکم فی الواقع إمّا الوجوب وإمّا الحرمة کما هو المفروض؟ إن لازم کلامه أن یکون العلمی نافیاً للثالث ولا ینفیه العلم، وهذا غیر معقول.

کلام السیّد الأُستاذ

وأفاد سیّدنا الأُستاذ: «أنّ الوجه المصحّح للقیاس أحد أمور:

الأوّل: دعوی إنّ الملاک فی الحکم بالتخییر فی مورد تعارض الخبرین هو مجرد إبدائهما إحتمال الوجوب والحرمة، فیسری الحکم إلی کلّ مورد کذلک، ومنه ما نحن فیه.

الثانی: دعوی إنّ الملاک هو نفی الثالث. وما نحن فیه کذلک.

الثالث: إنّ رعایة الحکم الظاهری وهو الحجیّة یدلّ بالفحوی علی رعایة الحکم الواقعی، فإذا ثبت التخییر بین الحجّتین وعدم طرحهما، فثبوت التخییر بین الحکمین الواقعیین أولی.

قال: ولکن جمیع هذه الوجوه ممنوعة.

أمّا الأوّل: فلأنّه تخرص وتحکم علی الغیب، بل بناء علی السّببیّة لا مجال له، لأنّ التخییر یکون من باب التخییر بین الواجبین المتزاحمین، وأیّ ربط لذلک بما نحن فیه.

ص: 32

وأمّا الثانی: فهو کالأوّل، مع أنّ نفی الثالث قد لا یقول به الکلّ، لا بهما _ کما یراه الشیخ _ لتبعیّة الدلالة الإلتزامیّة للمطابقیّة فی الحجّیّة کتبعیّتها لها فی أصل الثبوت. ولا بأحدهما _ کما یراه صاحب الکفایة _ لعدم تصوّر ما أفاده فی تقریبه فی محله فراجع. مع أنّ الکلّ یری التخییر ولو لم یتکفّل الخبران نفی الثالث.

وأمّا الوجه الثالث: فلأنّ الأولویّة إنّما تتمّ لو فرض ثبوت الموضوع لکلّ من الحکمین الواقعیین کثبوته للحکمین الظاهریین، ولیس الأمر کذلک، بل هو حکم واقعی مردّد بین الحکمین، بخلاف الحکمین الظاهریین، فإنّ کلاًّ منهما واجد لموضوعه وهو الخبر التام الشرائط. وببیان آخر نقول: إنّ الطریقیّة بأیّ وجه صوّرت فی باب الطرق مشوبة بالموضوعیّة، وإلاّ لزم إعتبار کلّ طریق وکاشف، فللطریق الخاص موضوعیّة کانت منشأ لجعله حجّة ککثرة انضباطه ونحوها، وقد ادّعی صاحب الکفایة أنّ الموضوع هو إحتمال الإصابة.

وأورد علیه الإصفهانی: بأنّه شرط للحجیّة لا موضوع وأنّ الموضوع هو عنوان التسلیم(1).

إذن، فموضوع الحکم الظاهری الناشئ من مصلحة معیّنة ثابت، وتردّد الحال بینهما وأین ذلک مما نحن فیه. فیما هناک موضوع واحد لحکم واقعی واحد غیر معلوم. فلا یقال بعد هذا أنّه: بناء علی الطّریقیّة یکون المدار علی الواقع المنکشف بلا خصوصیّة للطّریق، والواقع المحتمل هو أمر واحد، فیکون مورد الخبرین المتعارضین مثل ما نحن فیه، فیتحقّق التخییر فیما نحن فیه. فتدبّر»(2).

ص: 33


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 216.
2- 2. منتقی الأصول 5 / 29 _ 30.
الوجه الثالث: التخییر

وفیه: إن التخییر

إن کان فی المسألة الفرعیّة، فغیر ممکن من الشارع أن یخیّر بین الفعل والترک، إذ یعتبر فی الجامع بین طرفی التخییر أن یکون متعلّقاً للقدرة، وهنا لیس کذلک، لأن المکلَّف إمّا فاعل وإمّا تارک.

وإن کان فی المسألة الاصولیة، فهو ممکن، لکنه یتوقف علی قیام الدلیل، ولیس فی مقام الإثبات هنا دلیلٌ. أمّا فی الخبرین المتعارضین فالدلیل موجود، ولکنْ لا وجه للقیاس.

وأمّا التخییر العقلی، فهو غیر معقول کذلک، لما ذکرنا.

أقول:

والذی ذکره الشیخ هو اللاّحرجیّة العقلیّة، وهو غیر التخییر العقلی، وإلیه ذهب سیّدنا الأُستاذ بعد أنْ ناقش سائر الأقوال فی المسألة، قال:

فیتعیّن الإلتزام بالتخییر، لا من قبیل الوجوب التخییری شرعاً، ولا من قبیل التخییر العقلی فی باب التزاحم ... فالمراد من التخییر هو عدم الحرجیّة فی الفعل والترک، وهو ما ذهب إلیه المحقّق النائینی(1).

ولکنّ المختار _ وفاقاً لشیخنا الأُستاذ _ هو جریان الإستصحاب کما سیأتی، ومعه لا مجال للتخییر مطلقاً. فانتظر وتدبّر.

ص: 34


1- 1. المصدر 5 / 32.
الوجه الرابع: تقدیم جانب الحرمة

من باب: إن دفع المفسدة أولی من جلب المنفعة.

وفیه:

أوّلاً: لیس الأمر فی کلّ الموارد هکذا.

وثانیاً: سلّمنا، لکنه فی المصلحة والمفسدة المعلومتین، وهنا محتملتان، ولا دلیل علی تقدّم المفسدة المحتملة علی المصلحة المحتملة.

الوجه الخامس: البراءة
اشارة

ووجه جریانها هو: إنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، وحدیث الرفع، متحقّق فی دوران الأمر بین المحذورین، لأنّ کلاًّ من الطرفین مشکوک فیه ولا بیان علیه، فالمقتضی لجریان البراءة تام. وأما المانع عنه فمفقود، لأنّ جریانها لا یؤدّی إلی المخالفة العملیّة، فإنّها لا تتحقّق فی مورد دوران الأمر بین المحذورین. وأمّا الموافقة الإلتزامیة _ إن قلنا بوجوبها _ فهی ممکنة، فیلتزم بالواقع علی ما هو علیه.

ومع وجود المقتضی وعدم المانع، تکون البراءة جاریة مطلقاً.

قال الشیخ: العقلیة جاریة، ولیس العلم بجنس التکلیف کالعلم بنوعه فی المانعیّة عن جریان القاعدة(1).

فأشکل المحقّقان الخراسانی والهمدانی(2): بأنّ الحق تقیید العلم بالجنس

ص: 35


1- 1. فرائد الأصول 2 / 180.
2- 2. حاشیة الهمدانی: 185.

بعدم التمکن معه من المخالفة القطعیّة، إذ مع التمکن منها یکون منجّزاً وتحرم المخالفة. کما إذا علم بوجوب هذا أو حرمة ذاک، فإنه یمکن المخالفة القطعیة، وحینئذٍ یکون هذا العلم مانعاً عن جریان القاعدة.

فقوله: لیس العلم بجنس التکلیف کالعلم بنوعه. لیس علی إطلاقه، بل لابدّ من تقیید العلم بالجنس الذی لا یتحقق من المخالفة العملیة القطعیة، ولو أمکنت المخالفة أو الموافقة یکون العلم مؤثراً ومنجّزاً، سواء کان العلم بالجنس أو بالنوع، ومع فقد العلم من أصل أو التمکّن من المخالفة أو الموافقة فهو غیر مؤثر.

أقول:

هذا التقیید لازم، لکنّ الشیخ قد نصّ علی ذلک من قبل. علی أنّه قال فی مباحث القطع، بأن الملاک هو التمکّن من المخالفة أو الموافقة، من غیر فرق بین کون العلم بالجنس أو بالنوع. والحاصل: إنّه قائل بتأثیر العلم بالجنس فی حال التمکّن من أحد الأمرین.

الإشکالات

وقد أُشکل علی القول بالبراءة بوجوه:

الأوّل: إنّ العلم التفصیلی بالإلزام والإجمالی بنوعه یمنعان من إجراء البراءة.

وفیه:

إنّه استبعاد محض، لأن موضوع الأصل فی کلّ طرف _ وهو الشک _

ص: 36

موجود، فهو یجری فی کلٍّ من الطرفین بخصوصه، دون الإلزام المعلوم، فلا مانع من الجریان من هذه الناحیة. نعم، یلزم المحذور من إجراء الإباحة، لأنّ جریانها فی أحد الطرفین یستلزم الإباحة فی الطرف الآخر أیضاً.

وإن کان المانع من ناحیة استلزام البراءة الترخیص فی المعصیة عملاً أو التزاماً، فإن الإطاعة الإلتزامیة حاصلة، والترخیص العملی فی الطرفین لا ینفی الإلتزام بالحکم الواقعی، والمخالفة العملیّة غیر ممکنة.

الثانی: إنّ الترخیص موجود بمناط التکوین، ومعه لا مجال للترخیص بمناط الشک.

وبعبارة أُخری: الأصل العملی یجری فی کلّ موردٍ یسقط العلم فیه عن التنجیز، وفیما نحن فیه قد تحقّق الترخیص فی الرتبة السّابقة، فلا أثر له فی المرتبة اللاّحقة.

فالنظر فی التقریب الأوّل إلی اختلاف المناط، وفی الثانی إلی اختلاف الرتبة.

وهذا الإشکال من المحقّق العراقی(1).

وفیه:

إن کان الإضطرار التکوینی بالنسبة إلی الحکم الواقعی المعلوم، فلا إشکال فی عدم وصول النوبة إلی الترخیص بالبراءة، لأن العلم لا یکون منجّزاً بالنسبة إلیه، فلا حاجة إلی تحصیل العذر بالجهل. لکن ما نحن فیه لیس کذلک، لأن الحکم

ص: 37


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 295.

الواقعی هنا موجود، وهو إمّا الوجوب وإمّا الحرمة، ولا قصور فی ملاک ذاک الحکم ولا فی القدرة علی إمتثاله، فلا اضطرار بالنسبة إلی المکلَّف به، وإنّما الإضطرار بالنسبة إلی الجامع، ولا قدرة علی تحصیل الموافقة القطعیة. فالمضطر إلیه هو حکم العقل بلزوم الموافقة القطعیة وحرمة المخالفة القطعیة، لا حکم الشرع بالوجوب أو الحرمة. وفی هذه الحالة یعذّر العقل المکلّف ویرفع عنه الحرج بالفعل أو الترک، لا أنه یحکم بالترخیص، واللاّحرجیة العقلیة _ وإن کانت حاصلةً فی الرتبة السّابقة _ لا تنافی الحکم الشرعی الظاهری فی المرتبة اللاّحقة، بل إنّها معلَّقة علی حکم الشرع، ومعه ینتفی حکم العقل بها، نظیر انتفاء قاعدة قبح العقاب بحدیث الرفع، فلو قیل بلغویّة الحکم الشرعی بالترخیص هنا مع وجود اللاّحرجیّة العقلیة من قبل، لزم لغویّة حدیث الرفع مع وجود القاعدة. وهذا ما لا یلتزم به أحد.

الثالث: قال المیرزا(1):

أمّا فی العقلیّة، فبأنها تفید العذر للشاک فی التکلیف، وحیث یوجد القطع بالمؤمّن ولا یقبل التکلیف التنجیز بالعلم الإجمالی، لا تبقی حاجة إلی القاعدة.

ومرجع هذا الإیراد إلی ثبوت عدم إستحقاق العقاب علی هذا التکلیف فی المرتبة السّابقة، ولیس فی البین إحتمال العقوبة أصلاً. فلا تصل النوبة إلی إثبات هذا المعنی بحکم العقل من جهة عدم البیان.

ص: 38


1- 1. فوائد الأصول 3 / 448.

وفیه:

إنّا قد ذکرنا أن الإضطرار لیس بالنسبة إلی حکم الشارع کی یکون رافعاً للتکلیف ولا یبقی المجال للقاعدة. بل هو بالنسبة إلی حکم العقل بلزوم الموافقة القطعیة لحکم المولی. أی: متی کان التکلیف ولم تمکن الموافقة القطعیة له، حکم العقل بالعذر، فهذا حکم عقلی.

ومن جهة أُخری: یحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، أی: إنّ التکلیف المحتمل الذی لا بیان علیه تقبح العقوبة علیه. وهنا: الوجوب لا بیان علیه، وکذا الحرمة، فموضوع القاعدة موجود بالنسبة إلی کلٍّ من الطرفین، والعذر من جهة الإضطرار حاصل بالنسبة إلی الجامع فی البین، فالحکمان العقلیّان جاریان.

وعلی الجملة، إنّما یرد الإشکال لو کان عدم قابلیة التکلیف لاستحقاق العقاب فی الرتبة السّابقة _ أی فی موضوع القاعدة _ ، وقد عرفت أنه لیس کذلک، وأنّ الإضطرار هو بالنسبة إلی الموافقة العملیة، فلا یرفع موضوع القاعدة، کما لا ترفع القاعدة موضوع حکم العقل بعدم لزوم الموافقة القطعیة مع الإضطرار.

وأمّا فی النقلیّة، فلأنها تجری فی کلّ موردٍ أمکن للشارع وضع الإحتیاط فیه، لأن الرفع فرع الوضع. وهنا لا یمکن وضع الوجوب والحرمة کلیهما، لا علی سبیل التعیین ولا علی سبیل التخییر. وحینئذٍ لا یعقل الرفع، فلا تعمّ أدلّة البراءة للمقام.

أقول:

قد أمر المحقّق المیرزا هنا بالتأمّل، ولم یشر إلیه شیخنا فی الدرس.

ص: 39

ثمّ إنّ مدرک البراءة الشرعیّة لا ینحصر بحدیث الرفع حتّی یکون هناک رفع متفرّع علی الوضع. ولعلّ هذا وجه التأمّل.

جواب السیّد الخوئی

وأجاب المحقّق الخوئی کما فی المصباح(1): «بأنّ المورد قابل للتعبّد بالنسبة إلی کلٍّ من الحکمین بخصوصه، فإن القدرة علی الوضع إنما تلاحظ بالنسبة إلی کلٍّ من الوجوب والحرمة مستقلاًّ لا إلیهما معاً، وحیث أن جعل الإحتیاط بالنسبة إلی کلٍّ منهما بخصوصه أمر ممکن کان الرفع أیضاً ممکناً.

وتوضیح ذلک:

إنّ القدرة علی کلّ واحدٍ من الأفعال المتضادّة کافیة فی القدرة علی ترک الجمیع، ولا یعتبر فیها القدرة علی فعل الجمیع فی عرض واحد، ألا تری أنّ الإنسان مع عدم قدرته علی إیجاد الأفعال المتضادة فی آنٍ واحد، یقدر علی ترک جمیعها، ولیس ذلک إلاّ من جهة قدرته علی فعل کلّ واحد منها بخصوصه؟

ففی المقام، وإنْ لم یکن الشارع متمکّناً من وضع الإلزام بالفعل والترک معاً، ولکنّه متمکّن من وضع الإلزام بکلّ منهما بخصوصه، وذلک یکفی فی قدرته علی رفعهما معاً. وحینئذٍ، فلمّا کان کلّ واحد من الوجوب والحرمة مجهولاً، کان مشمولة لأدلّة البراءة، وتکون النتیجة الترخیص فی کلّ من الفعل والترک».

ص: 40


1- 1. مصباح الأصول: 330 _ 331.

وفیه:

إنّ الکلام یدور مدار مفهوم (الرفع) و(الوضع)، ومفهوم الرفع غیر مفهوم الترک، بقرینة المقابِل لکلّ منهما، فذاک یقابله (الوضع) وهذا یقابله (الفعل). ومن قدر علی وضع أحد الحَجَرین _ مثلاً _ لیس بقادر علی رفع کلیهما. نعم، یقدر علی ترک وضعهما. وموضوع حدیث الرفع لیس ترک الإحتیاط بل رفعه، والقدرة علی وضع أحد الضدّین لا یکفی لرفع کلا الضدّین.

وعلی هذا، فإن جریان الأصل فی الوجوب بشرط لا من الحرمة المحتملة تام، لاحتمال الضیق، وکذا بالنسبة إلی الحرمة بشرط لا من الوجوب، ولکنْ لو أرید جریانه فی الفعل والترک معاً فلا أثر عملی للأصل، لوجود الترخیص العقلی من قبل، وجریانه فی أحد الطرفین دون الآخر ترجیح بلا مرجّح. فالمشکل هو الجمع بین الترخیصین من جهة عدم ترتب الأثر العملی ولزوم اللغویّة.

وتلخص: ورود الإشکال علی البراءة الشرعیة.

وأمّا ما ذکره فی المصباح من النقض بالشّبهة البدویّة(1): من أنّه إذا کان عدم خلوّ المکلف من الفعل والترک هو الملاک للغویّة الأصل، فإنّ هذا صادق فی الشّبهة البدویّة، مع أنّه یجری فیها بلا کلام.

ففیه:

إنّه قیاس مع الفارق، لأنه وإنْ کان المکلّف غیر خال من أحد الحالین، لکن

ص: 41


1- 1. مصباح الأصول: 330.

الفاعلیّة أو التارکیّة هناک لیست بالترخیص العقلی من باب قبح الترجیح بلا مرجّح، وأنّه یمکن للشارع جعل الإحتیاط هناک، فله رفعه.

أمّا فی دوران الأمر بین المحذورین، فلا إحتمال للضّیق والکلفة من الجهتین حتی یرفعها فیهما، سواء کان الرفع بدلیل أو دلیلین، فلا أثر للبراءة هنا.

فالإنصاف لغویّة البراءة الشرعیّة فی محلّ البحث.

اللهمّ إلاّ أن یکون فائدة جریانها الإسناد إلی الشارع، وذلک یکفی للخروج عن اللّغویّة، ولا یشترط الأثر العملی. وعلی هذا، تخرج أصالة الإباحة أیضاً عن اللّغویّة، وبه أیضاً یحلّ المشکل بین حدیث الرفع وقاعدة قبح العقاب، فإن الحدیث یجری مع وجود القاعدة ویکون أثره الإسناد المذکور.

المختار فی دوران الأمر بین المحذورین
عدم جریان أصالة الإباحة

وذلک:

أوّلاً: لعدم وضوح جریانها فی الشّبهة الحکمیّة.

وثانیاً: إنصراف دلیلها _ علی فرض الشمول _ عمّا إذا کان إحتمال الحرمة منضمّاً إلی إحتمال الوجوب.

ثالثاً: لزوم اللّغویّة. بناءً علی اشتراط الأثر العملی.

ص: 42

عدم جریان البراءة الشرعیة

أولاً: لعدم قدرة الشارع علی الرفعین، ومدلول حدیث الرفع هو الرفع لا الترک.

ثانیاً: لزوم اللّغویّة بناءً علی اشتراط الأثر العملی.

عدم جریان البراءة العقلیة

لعدم القصور فی البیان فی المورد، کما أنّ العلم منجّز فی صورة دوران الأمر بین وجوب شیء وحرمة شیء آخر. فإن القاعدة لا تجری.

قیل:

إنّ موضوع القاعدة هو «عدم البیان» لکن لا مطلق البیان، فإن الإطلاق فی موضوع حکم العقل غیر معقول کالاهمال، فالمقصود هو البیان الباعث.

وفی دوران الأمر بین المحذورین لا باعثیة للبیان، وعلیه، فلا مانعیّة له، فالقاعدة جاریة، بخلاف صورة تعدّد الواقعة، فإن المانع من جریان البراءة فیها هو العلم بالجامع المنجّز عقلاً للخصوصیة لأنّه بیان باعث، فبین الصّورتین فرق.

أقول:

وهذا الإشکال قویّ. وما ذکر من مانعیّة العلم فی تلک الصّورة تام، فالمقتضی لجریان البراءة الشرعیة هناک فی کلٍّ من الطرفین موجود، والمانع المذکور یمنع من جریانها.

ص: 43

ولکن المانعیّة ترجع إلی منجّزیة البیان علی الجامع بالنسبة إلی الخصوصیّة عقلاً، فإن العقل یری صلاحیّة البیان علی الجامع للمؤاخذة، ولا یشترط عند العقل کون البیان علی خصوص الخصوصیّة، وهذه الجهة موجودة هنا، إذ البیان قائم علی الجامع، فیحکم العقل باستحقاق العقاب علی مخالفة العلم المتعلِّق بالجامع والمنجّز بالنسبة إلی الخصوصیّة، وهذا الحکم العقلی یرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فلا تکون البراءة العقلیّة جاریةً هنا، لعدم الموضوع.

والشرعیّة لا تجری فی صورة تعدّد متعلّق الحکمین، لوجود المانع عن جریانها _ وهو حکم العقل، لأن البیان علی الجامع منجّز بالنسبة إلی الخصوصیّة _ وإن کان المقتضی لجریان حدیث الرفع بالنسبة إلی کلٍّ من الخصوصیتین موجوداً.

والحاصل: إنّا ننکر أصل المطلب ونقول بعدم الموضوع للقاعدة. فالحق مع صاحب الکفایة والمحقّق الإصفهانی. والنقض بالبراءة الشرعیّة غیر وارد.

هذا کلّه فی الاصول غیر المحرزة، وقد عرفت عدم جریانها.

جریان الإستصحاب

والتحقیق جریان الإستصحاب فی هذا المقام، وفاقاً لشیخنا الأُستاذ، لأنّ کلاًّ من الوجوب والحرمة حادث مسبوق بالعدم، فیستصحب عدم وجوب هذا الشیء ویستصحب عدم حرمته کذلک. وذلک لأنّ المقتضی لجریان الإستصحاب موجود والمانع عنه مفقود.

ص: 44

أمّا وجود المقتضی، فلأن موضوع الإستصحاب هو الیقین السّابق والشک اللاّحق، والأرکان بالنسبة إلی خصوص کلٍّ من الحکمین تامة، فالإستصحاب جارٍ.

والإشکال فی ناحیة المقتضی لجریان الإستصحاب فی الشبهات الحکمیة، إمّا لما قیل من أن أدلّة الإستصحاب لا تشملها، من جهة تعارض إستصحاب عدم الجعل مع إستصحاب المجعول، وإمّا لما قیل من أنّ أدلّة الإستصحاب واردة فی الشبهات الموضوعیة ولا إطلاق لها لتشمل الحکمیة، مندفع.

أمّا المعارضة، فلأن المشکل المذکور غیر موجود هنا.

وأمّا عدم الإطلاق، ففیه: إن القدر المتیقّن فی مقام التخاطب لا یسقط الإطلاق. وقوله علیه السّلام فی ذیل الدلیل:

(ولیس ینبغی لک أن تنقض ...) مطلق. فالمبنی المذکور مخدوش وإن قال به بعض المعاصرین.

وتلخص: تمامیّة المقتضی لجریان الإستصحاب فی المقام.

الکلام حول الموانع عنه

إنّما الکلام فی وجود المانع.

فقد ذکرت أُمور أربعة:

1_ إن جریان الإستصحاب یستلزم التناقض بین الصّدر والذیل فی دلیل الإستصحاب، لأن الصّدر یشمل دوران الأمر بین المحذورین المحتملین. لکنْ

ص: 45

فی الذیل: (إنقضه بیقین آخر). ونحن عندنا یقین بوجود أحد الأمرین من الوجوب والحرمة.

ذکره الشیخ.

الجواب:

ویجاب عنه: بأنّ الیقین المنقوض یقینٌ بالخصوصیّة، والیقین الناقض یقین بأحدهما. ومع تعدّد المتعلّق لا یتحقّق التناقض.

2_ إن جریان الإستصحاب وتعبّد الشارع ببقاء الیقین السّابق لغو، لعدم الأثر العملی، لأنّ المکلّف إمّا فاعل وإمّا تارک، فالمانع من الإستصحاب لزوم اللّغویّة کما کان هو المانع من جریان البراءة.

ذکره المیرزا(1).

الجواب:

یکفی للخروج عن اللغویّة الإسناد إلی الشارع، ولا یشترط الأثر العملی.

3_ إن جریان الإستصحاب یستلزم البناء علی خلاف الواقع، لأن مدلول «لا تنقض» هو: اجعل بنائک علی یقینک السّابق. وهذا البناء _ مع العلم بمخالفة أحد الطرفین للواقع _ یستلزم البناء علی خلاف الواقع، وکیف یمکن الموافقة الإلتزامیّة للواقع علی ما هو علیه؟

أقول:

إذا کان المشکل فی الإستصحاب لزوم البناء علی خلاف الواقع، فإنّ هذا

ص: 46


1- 1. فوائد الأصول 3 / 448.

اللاّزم لا یجتمع مع وجوب تصدیق النّبی صلّی اللّه علیه وآله بما جاء به، فنحن بالإضافة إلی عدم الإلتزام بالحکم الواقعی، قد بنینا علی خلاف الواقع والتزمنا به. وهذا تشریع قلبی وإلیه یرجع إشکال المیرزا. وبه یظهر ورود الإشکال حتی علی القول بعدم وجوب الموافقة الإلتزامیة.

الجواب:

لکنْ یجاب: بأنّ أخبار الإستصحاب لا تدلّ علی البناء علی الواقع، بل مفادها عدم النقض عملاً. فلا مانع من هذا الحیث.

4_ إنّ الأثر هو للمجعول لا للجعل، ولا حالة سابقة للمجعول _ وهو الوجوب والحرمة _ بالعدم، فلا إستصحاب. والجعل وإنْ کان له حالة سابقة، للیقین بعدم الجعل أزلاً، إلاّ أن إستصحاب عدم الجعل لا یفید لإثبات عدم المجعول إلاّ علی الأصل المثبت.

قاله المیرزا(1).

الجواب:

أولاً: إنّ عدم المجعول له حالة سابقة، لتحقّق الموضوع بنحو القضیة الحقیقیّة قبل تحقق المجعول، لأن الأحکام مجعولة بالتدریج.

وثانیاً: إن کان المجعول من لوازم الجعل کان الأصل مثبتاً، لأن مورد الأصل هو الملزوم وموضوع الأثر هو اللاّزم. لکن الجعل والمجعول واحد حقیقةً واثنان إعتباراً، نظیر الإیجاد والوجود.

ص: 47


1- 1. أجود التقریرات 3 / 401.
هل الحکم بالتخییر مطلق؟

قد ذکرنا أنّ أحد الوجوه فی دوران الأمر بین المحذورین هو القول ب_«التخییر».

فهل یقال به مطلقاً، أو إنْ لم یکن أحد الحکمین أهم وإلاّ فبه یؤخذ بحکم العقل تعییناً؟ قولان.

ذهب صاحب الکفایة إلی الثانی، والمحقّقان الإصفهانی والمیرزا إلی الأوّل.

ووجه الخلاف هو: إن کان ملاک التزاحم موجوداً فالثانی وإلاّ فالأوّل.

فقال صاحب الکفایة(1): بوجود الملاک، فإنّه لمّا یکون أحد الحکمین أهم من الآخر، أهمیّة قطعیة أو إحتمالیّة، یخرج المورد عن التخییر إلی التعیین، کما هو الحال فی کلّ موردٍ دار الأمر فیه بین التعیین والتخییر.

وقال المیرزا(2) لیس الأصل هو التعیین فی کلّ موردٍ یدور الأمر فیه بینه وبین التخییر، وذلک:

إن دوران الأمر بینهما یکون فی ثلاثة موارد:

1_ فی الأحکام الشرعیة التکلیفیّة، کما لو دار أمر وجوب صلاة الجمعة بین التعیین والتخییر، حیث یعلم الوجوب ویشک فی أنّه تعیینی أو تخییری.

وما نحن فیه لیس من هذا القبیل، إذ لا علم لنا بالحکم، بل الحکم نفسه مردّد.

ص: 48


1- 1. کفایة الأصول: 356 _ 357.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 402.

2_ فی الحجیّة، کما إذا دار الأمر بین الأخذ بقول المجتهد الأعلم تعییناً والأخذ بقوله أو قول غیره تخییراً، فإن الأصل فیه هو التعیین، أی الأخذ بقول الأعلم، لأن حجیّة قوله مسلَّمة وحجیة قول غیره مشکوک فیها. وبعبارة أُخری: یدور الأمر هنا بین الأخذ بالحجّة المسلَّم بها والحجة المشکوک فیها.

وما نحن فیه لیس من هذا القبیل، کما هو واضح.

3_ فی المتزاحمین. ودوران الأمر بین التعیین والتخییر فی المتزاحمین یکون علی نحوین:

الأوّل: أن یکون هناک إطلاقان لفظیّان یشملان مورد التزاحم ولا یمکن إمتثالهما معاً، بأنْ یکون المقتضی _ وهو الغرض _ والمقتضی _ وهو الحکم _ تامّین، والقدرة علی إمتثال کلٍّ منهما بوحده موجودة ولا قدرة علی إمتثالهما.

والأصل فی هکذا موردٍ هو التعیین لمقطوع الأهمیّة منهما أو محتملها، لأنه مع کون أحدهما مقطوع الأهمیّة _ کما لو کان أحد الغریقین نبیّاً _ یسقط إطلاق دلیل الطرف الآخر، ومع کون أحدهما محتمل الأهمیّة، یشک فی سقوط إطلاق دلیله مع سقوط إطلاق دلیل الطرف الآخر، ولابدّ من الأخذ بالإطلاق المشکوک سقوطه حتی یأتی ما یسقطه یقیناً. فیتعیَّن الأخذ بمقطوع الأهمیّة أو محتملها.

الثانی: أن لا یکون هناک إطلاقان، بل الغرضان معلومان، فحیث یکون أحد الغرضین أهم من الآخر قطعاً أو إحتمالاً، یکون الإتیان بالغرض الأهم معجّزاً عن إمتثال الغرض المهم، وإنْ کان العکس، فإن العجز عن الأهم غیر حاصل، وما دام العجز غیر حاصل والعذر غیر متحقّق، تکون قاعدة الإشتغال بالغرض الأهم

ص: 49

محکّمةً، فلابدّ من صرف القدرة فی الأهم، لحکم العقل بلزوم تحصیل العذر المؤمّن. وهذا ملاک أصالة التعیین فی هذه الصّورة.

إذن، فی التزاحم إطلاقان أو ملاکان والقدرة واحدة فلا یمکن إمتثال کلا الحکمین، فحیث یوجد الإطلاقان یسقط إطلاق دلیل المهم ویبقی إطلاق دلیل الأهم، وحیث لا إطلاق، فلا یجوز تفویت الغرض الأهم بصرف القدرة فی المهم، لإطلاق حکم العقل بلزوم حفظ الغرض الأهم، وحکمه بجواز تفویت المهم بالإتیان بالأهم، بخلاف العکس.

وفی دوران الأمر بین المحذورین إطلاق أو ملاک واحد، والقدرة واحدة، فملاک البحث فی التزاحم غیر ملاک البحث فی دوران الأمر بین المحذورین، فالحکم بأصالة التعیین هناک لا یسری إلی ما نحن فیه، بل هنا یحتمل التکلیف بالأهم، ومع إحتماله لا تجری البراءة عن الأهم عقلاً وشرعاً، وإنْ لم تجر البراءة حکم العقل بالتخییر بعد سقوط أصالة التعیین.

وهذا تقریب دلیل المیرزا وغیره لما ذهب إلیه من بقاء التخییر.

التحقیق فی المقام

ولکنّ التحقیق أنْ یقال: إن الترجیح لطرفٍ تارةً یکون محتملاً وأُخری إحتمالاً، ومورد بحث صاحب الکفایة هو الأوّل.

فإنْ کان محتملاً قطعاً أو إحتمالاً، فالحق معه، وذلک لأنه:

إن کان الأهم ممّا یکون إحتمال الأهمیّة فیه منجّزاً _ کالدماء مثلاً _ فإنّ نفس

ص: 50

الإحتمال مرجّح، وإنْ لم تجر قواعد التزاحم. فإطلاق کلام المیرزا من أنّ إحتمال الأهمیّة لا یرجّح، فی غیر محلّه، وهذه الصّورة خارجة عن البحث قطعاً.

وأمّا بالنسبة إلی غیر هذه الصّورة فنقول:

إن الحاکم بالتخییر هو العقل، وحکمه به مستند إلی تساوی الطرفین وعدم المرجح، من باب قبح الترجیح بلا مرجح، ومع إحتمال الأهمیّة لطرفٍ لا یحکم بالتخییر، لعدم القبح فی ترجیح الأهم حینئذٍ. وبعبارة أُخری: الحکم بالتخییر متوقف علی عدم الترجیح، وحیث یوجد إحتمال الترجیح لأحد الطرفین فلا تخییر.

فظهر أن مقتضی القاعدة هو التعیین، لا بملاک باب التزاحم، بل بملاک أن حکم العقل بالتخییر کان من باب عدم الترجیح، ومع وجوده فلا حکم له به.

وأمّا بناءً علی جریان الاصول الشرعیّة فی مورد دوران الأمر بین المحذورین، فالمؤمّن بالنسبة إلی الواقع موجود وإن کان محتمل الأهمیّة أو مقطوعها، وهذا ثمرة لجریان الاصول الشرعیة مطلقاً کما قیل أو الإستصحاب فقط کما هو المختار، فإنه لا تعیین، لأن التعیین یکون بناءً علی عدم جریان أصل شرعی، وحکم العقل بالتخییر من باب قبح الترجیح بلا مرجح.

هذا کلّه فی المحتمل.

وإن کان الإحتمال فی طرفٍ أقوی، فإنْ جرت مقدمات الإنسداد، فالتعیین للإمتثال الظنّی ولا یؤتی بالطرف المشکوک. ولکنّها غیر جاریة هنا، لأنها إنما تجری حیث یکون الإمتثال إختیاریاً دائراً بین المظنون والمشکوک، وفی دوران

ص: 51

الأمر بین المحذورین اضطرار إلی إرتکاب أحد الطرفین، ولا قدرة علی ترک کلیهما، بخلاف مورد الإنسداد، إذ القدرة علی ذلک موجودة هناک والعقل یحکم بترک المشکوکات.

وهذا کلّه بقطع النظر عن حکم الشرع بإسقاط الظن عن جمیع الجهات.

وأمّا بالنظر إلی سقوط الظن شرعاً، فیشکل الترجیح بالظن حتی فی باب الإنسداد، لأن الظن لا یغنی من الحق شیئاً، وإطلاق دلیل المنع من ترتیب الأثر علی الظن یقتضی أنْ لا یرجّح الظن علی الشک فی شیء من أحکام المولی، فالترجیح ممنوع، ولا أقلّ من توقف العقل من الحکم به.

هذا، إن لم یکن منشأ الدوران تعارض الخبرین.

إن کان منشأ الدوران تعارض الخبرین

وإن کان منشأ دوران الأمر بین المحذورین هو تعارض الخبرین، فمقتضی القاعدة هو الرجوع إلی الأخبار العلاجیة، ومع عدم الترجیح یؤخذ بأحد الخبرین لأخبار التخییر، فالجاری هو التخییر الشرعی.

هذا بناء علی التخییر بین الخبرین المتعارضین مع عدم المرجّح.

وبناءً علی عدم قبول أخبار التخییر لضعفها سنداً، فالتساقط، وحینئذٍ تأتی الوجوه الخمسة.

هذا تمام الکلام فی الشّبهة الحکمیّة.

ویتلوه الکلام فی الموضوعیّة.

ص: 52

دوران الأمر بین المحذورین فی الشّبهة الموضوعیّة

اشارة

قال الشیخ(1):

«قد مثّل بعضهم له باشتباه الحلیلة _ الواجب وطیها بالأصالة أو لعارض من نذر أو غیره _ بالأجنبیّة. وبالخلّ المحلوف علی شربه المشتبه بالخمر.

ویرد علی الأوّل: إن الحکم فی ذلک هو تحریم الوطی، لأصالة عدم الزوجیة بینهما، وأصالة عدم وجوب الوطی.

وعلی الثانی: إن الحکم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته، جمعاً بین أصالتی الإباحة وعدم الحلف علی شربه.

والاولی: فرض المثال فیما إذا وجب إکرام العدول وحرم إکرام الفسّاق، واشتبه حال زید من حیث الفسق والعدالة.

والحکم فیه کما فی المسألة الاولی: من عدم وجوب الأخذ بأحدهما فی الظاهر. بل هنا أولی، إذ لیس فیه إطراح لقول الإمام علیه السّلام ...».

أقول:

هذا الکلام متین، ولکنّ الشک فی وجوب الوطی ناشئ من الشک فی تحقق الزّوجیّة، وجریان أصالة عدم الزّوجیّة یکفی لحرمة الوطی، ولا حاجة إلی أصالة عدم وجوب الوطی. هذا فی المثال الأوّل.

ص: 53


1- 1. فرائد الأصول 2 / 193.

وفی المثال الثانی: إنّ أصالة عدم الحلف لا یرفع إحتمال وجوب الشرب، لأنّه ینفی الوجوب الظاهری ولا ینفی الوجوب الواقعی، فالإحتمال الوجدانی للوجوب الواقعی محفوظ، لأن هذا المائع إمّا هو فی الواقع حرام أو واجب، وقد قلتم بانصراف أدلّة الإباحة عن کلّ مورد فیه إحتمال الوجوب، فکیف تقولون هنا بالإباحة؟

وهذا هو الإشکال فی أصالة الإباحة.

وأمّا إستصحاب عدم الحلف.

ففیه: إن الإستصحاب یوجب إنحلال العلم فی دوران الأمر بین المحذورین إنْ کان جاریاً فی طرفٍ واحد بلا معارض؛ وبه یتعیّن المحذور المردّد، وأمّا إنْ جری فی الطرفین، فلا یتعیّن أحدهما بل یتعارضان ویبقی المورد من موارد دوران الأمر بین المحذورین.

فسواء قلنا بجریان الإستصحاب أو قلنا بعدمه، فإنّ خروج المقام عن الموردیّة لمسألة دوران الأمر بین المحذورین إنّما هو بجریانه فی طرفٍ.

وعلیه، فإن کان هذا المائع خلاًّ فهو واجب الشرب وإنْ کان خمراً فمحرّم شربه، وقد أجری الشیخ أصالة عدم الحلف وبذلک سقط وجوب الشرب، فکانت الشّبهة عنده من جهة الخمریّة شبهة بدویّة، وهی مجری أصالة الإباحة.

لکنّ الإشکال هو جریان الأصل الموضوعی من جهة الخمریّة فی الطرف الآخر إمّا نعتاً وإمّا أزلاً، ومعه یقع التعارض بین أصالة عدم الخمریّة وأصالة عدم الحلف، فلا تعیّن فی طرفٍ کی یکون الطرف الآخر شبهة بدویّة، فیبقی المورد من

ص: 54

موارد دوران الأمر بین المحذورین.

وهذا بخلاف المثال الأوّل، فإنّ استصحاب عدم الزوجیّة جارٍ بلا معارض، لعدم جریانه فی الطرف الآخر، لعدم الأثر.

لا یقال: إستصحاب عدم الخمریّة یعارض باستصحاب عدم الحلیّة، وتصل النوبة إلی أصالة عدم الحلف من جهة الخمریّة، وتجری الإباحة من جهة حرمة الشرب.

لأنّا نقول: إنّه لا سببیّة شرعیّة بین الخلّیة والحلف ولا بین عدم الخلّیة وعدم الحلف، بل هی بین الخلّیة ووجوب الشرب، لأن کون المائع خلاًّ موضوع لوجوب الشرب، وکذا هی بین الخمریّة وحرمة الشرب. أی: إنّ حرمة الشرب من آثار الخمریّة شرعاً؛ وأمّا تعلّق الحلف بشرب هذا الخلّ فمن الآثار العادیة الإتفاقیة. وکذا الحال بالإضافة إلی عدم الخلّیة وعدم الحلف. واستصحاب عدم الخلّیة بلحاظ عدم تعلّق الحلف بشربه أصل مثبت.

قال الشیخ: فالأولی ...

أقول: هذا المثال صحیح، فهو من موارد مسألتنا، وکلامه ناظر إلی مورد عدم الحالة السّابقة لأحد الطرفین، ولأجل وضوح المطلب لم یقیّد المثال بذلک. فاعتراض بعض المحشّین علیه فی غیر محلّه.

وأمّا الحکم، فإنّ الأقوال کلّها آتیة هنا، بل الموضوعیّة أولی عن الحکمیّة لعدم قصور فی أصالة الحلّ عن الشمول للشبهة الموضوعیّة. وقد وقع البحث فی شمول موثقة مسعدة للشبهة الحکمیة.

ص: 55

دوران الأمر بین المحذورین التوصّلیین أو أحدهما غیر المعیَّن توصّلی

فلو دار الأمر بین التوصلیّة والتعبدیّة، فإن کان الأصل هو التوصلیّة أُلحق بما تقدّم، وإنْ کان هو التعبدیّة اُلحق بما سنذکره. وأمّا

لو کانا تعبّدیین أو أحدهما

ففی هذه الصّورة، یمکن وقوع المخالفة العملیة القطعیّة، فما هو الحکم؟

قال الشیخ(1):

إنّه یلزم من الرجوع إلی الإباحة إطراح کلیهما والمخالفة العملیّة.

وبه قال فی الکفایة(2) تبعاً له.

ثمّ اعترض علی الشیخ بعدم الفرق بین التعبّدیین والتوصّلیین من جهة الحکم بالتخییر.

والوجه فی اعتراضه هو:

إنّ المهم للفقیه هو جریان أصالة التخییر، وهی جاریة فی التعبّدیین والتوصّلیین، لأنّ التخییر العقلی موجود فی کلتا المسألتین، فإمّا أنْ یأتی بالفعل مع قصد القربة وإمّا أن یترک کذلک، فالمرأة فی المثال یتردّد أمرها بین الصّلاة تعبّداً أو ترکها بدون قصد القربة، ففعل الصّلاة تعبّدی وترکها لیس بتعبّدی، فیمکنها

ص: 56


1- 1. فرائد الأصول 2 / 179.
2- 2. کفایة الأصول: 356.

الصّلاة بلا قصد، فیتحقّق منها المخالفة العملیّة.

لکن الظاهر عدم ورود الإعتراض، لتصریح الشیخ بعدم جریان أصالة الإباحة للزوم المخالفة کذلک. فیظهر أنّ نظر الشیخ إلی عدم جریان الإباحة، وأمّا سائر الوجوه فلا فرق فی هذه الصّورة وصورة کونهما توصّلیین أو أحدهما، فهو یرید أنّه لو کانا تعبّدیین أو أحدهما، فهناک لیس محلّ جمیع الوجوه، ولا تجری أصالة الإباحة، ومحلّ جمیع الوجوه هو صورة کونهما توصّلیین أو أحدهما. فالشیخ لا یفرق فی جهة التخییر، فلا مورد لاعتراض الکفایة.

الإشکال علی الشیخ والکفایة

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی وإنْ تبع الشیخ فی عدم جریان الإباحة إذا کانا تعبّدیین أو أحدهما _ للزوم إطراح کلیهما وتحقّق المخالفة العملیّة القطعیّة _ لکنّه ناقش فی حاشیة الرسائل: بأنّه إذا کان أحدهما تعبّدیّاً واختار المکلَّف الفرد غیر التعبّدی، فلا تلزم المخالفة العملیّة القطعیّة، لأنّه إذا اختار الترک احتمل کون التکلیف فی الواقع هو الحرمة، فاللاّزم حینئذٍ هو المخالفة الإحتمالیّة لا المخالفة القطعیّة.

وهذا الإشکال وارد، ویتّجه علی الکفایة أیضاً.

إشکال العراقی علی الکفایة وردّه

وأورد المحقّق العراقی علی الکفایة أیضاً: بأنّ مختاره هنا ینافی ما اختاره

ص: 57

فی صورة الإضطرار إلی أحدهما غیر المعیَّن، حیث قال هناک بسقوط التکلیف عن الفعلیّة، فلا یجب الموافقة القطعیّة ولا المخالفة کذلک محرَّمة، أمّا هنا فیقول بحرمة المخالفة القطعیّة وإنْ لم یمکن الموافقة القطعیّة، والحال انّ السبب فی عدم إمکان الموافقة القطعیّة هو الإضطرار إلی أحدهما غیر المعیَّن، فیلزم عدم حرمة المخالفة القطعیّة کذلک، فلماذا هذا الإختلاف فی الرأی؟

وفیه:

إنّه غیر وارد، للفرق بین الترخیص الشرعی والترخیص العقلی، فمع الأوّل یسقط التکلیف عن الفعلیّة، سواء بالنسبة إلی وجوب الموافقة وحرمة المخالفة، ومع الثانی یکون سقوطه عن الفعلیّة بقدر الضرورة، فیکون مرخّصاً بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة لفرض عدم التمکّن منها، إلاّ أنّه متمکّن من ترک المخالفة القطعیّة فهو غیر مرخّص فیها.

توضیحه: إنّ المحقّق الخراسانی فی بحث الإضطرار یقول بأنّ الإضطرار من حدود التکلیف، ویصرّح بسقوط التکلیف إذا تعلّق الإضطرار بمتعلَّقه، لکنْ فی دوران الأمر بین المحذورین لم یتعلَّق الإضطرار به، فسواء کان الواقع هو الحرمة أو الوجوب یکون المکلَّف قادراً بالنسبة إلی المتعلَّق شرعاً وعقلاً، وإذْ لا إضطرار بالنسبة إلی متعلَّق التکلیف، فالتکلیف موجود بحاله.

وعلی الجملة، فإنّ الإضطرار من حدود التکلیف، والمضطرُّ إلیه هو متعلَّقه. وفی حاشیة الرسائل(1): إذا کان الترخیص العقلی بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة

ص: 58


1- 1. حاشیة الرسائل: 127.

فذلک لا یستلزمه بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة.

فظهر الفرق الکبیر بین الترخیصین العقلی والشرعیّ، فالإشکال غیر وارد، وإنْ کنّا لا نوافق صاحب الکفایة علی مختاره فی مبحث الإضطرار.

التحقیق

والتحقیق _ وفاقاً للمحقّق الإصفهانی _ : أنّ جریان الإباحة لا یستلزم المخالفة العملیّة، لإمکان إجرائها والإتیان بالعمل بقصد القربة.

اللهمّ إلاّ أن یرید لزومها من نفس العمل بأصالة الإباحة، فلا یکون المحذور فی إجرائها، بل فی جعل الشارع لها، لکونه ترخیصاً فی المخالفة العملیّة، وذلک غیر جائز عقلاً.

هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ الأخذ بأصالة الإباحة _ وکذا البراءة _ یستلزم التناقض فی حکم العقل، لأنّ العقل ینجّز القدر المیسور من التکلیف ویُلزم إختیاره والإتیان به بقصد القربة، والإباحة الشرعیّة تفید الحریّة العقلیّة، فیکون العقل من جهةٍ مقیّداً ومن جهةٍ موسّعاً، وهذا تهافت.

وتلخّص: إنّ فی جریان الإباحة محذورین، أحدهما: لزوم الترخیص فی المخالفة العملیّة القطعیّة. والثانی: لزوم التناقض فی حکم العقل فی مقام الإمتثال وترتیب الأثر، لأن ترتیب الأثر علی الإباحة هو الترخیص عقلاً، لکن الطلب التعبّدی یقتضی الإطاعة، فیلزم التناقض فی حکم العقل.

ص: 59

وقد ذکر المحقّق الإصفهانی المحذور الأوّل.

ثمّ ذکر محذوراً آخر هو: إنّ الإباحة تنافی الطلب التعبّدی، لأنّ التعبّدیّة متقوّمة بالطلب اللّزومی أو غیر اللّزومی، والإباحة متقوّمة بعدم الطلب، وهی تقابل الطلب، فلا یجتمع الطلب والإباحة ویلزم الجمع بین المتنافیین.

أقول:

تخصیص المحذور الثانی بأصالة الإباحة غیر صحیح، لاطّراده فی أصالة البراءة وأصالة الإباحة معاً، لأنّ البراءة عنده هی الإذن فی مجرّد الفعل، أی الفعل ولو بدون قصد القربة، وهو لا یجتمع مع الطلب، والتعبّدیة متقوّمة بالطلب.

وبعبارة أُخری: إن کان المراد هو التنافی بین الإباحة والتعبّدیة لتقوّمها بالطلب، فإنّه لا تضاد _ عنده _ فی مرحلة الإعتبار، وأنّ للشارع إعتبار الوجوب والحرمة فی الشیء الواحد، فالتنافی لیس فی مرحلة الإعتبار، فإمّا هو فی المبدأ وإمّا هو فی المنتهی، وعلی هذا، فالترخیص فی الفعل أو الترک _ ولو بلا قصد للقربة _ لا یجتمع مع الطلب فی مرحلة المنتهی. أی الإمتثال، کما یوجد بین الإباحة والطلب. فالمحذور لیس مختصّاً بالإباحة، بل هو موجود فی الإباحة والبراءة معاً. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّه _ رحمه اللّه _ یری أنّ حدیث الرفع جعلٌ لعدم التکلیف، أی أنّه قد اعتبر الشارع فیه عدم التکلیف، وعلیه، فهو ینافی التکلیف والطلب.

نعم، تمتاز أصالة الإباحة عن البراءة، من جهة جریانها فی الشبهات الموضوعیّة دون الحکمیّة، بخلاف البراءة حیث تجری فی کلتا الشبهتین.

ص: 60

هذا تمام الکلام فی وحدة الواقعة. وأمّا حکم:

تعدّد الواقعة

فتارة: الوقائع کلّها توصّلیة، وأُخری: کلّها تعبّدیة، وثالثة: بعضها توصّلی وبعضها تعبّدی، ورابعة: هی مشکوکة ...

والتعدّد تارةً: عرضی، وأُخری: تدریجی طولی.

وعلی کلّ تقدیر، تارة: لا یکون الملاک فی طرفٍ أقوی من الآخر، وأُخری: یکون أقوی.

فإنْ کانت الوقائع طولیّة، فذاک مورد البحث فی منجّزیة العلم الإجمالی فی التدریجیّات.

وإنْ کان الملاک فی طرفٍ أقوی، فذاک مورد بحث أصالة التخییر العقلی، وأنّه هل یجری الأصل المذکور أوْ لا، وهل أنّه إبتدائی أو إستمراری؟. وبعبارة أُخری: هل التخییر محکَّم إلی حدٍّ لا ینجرّ إلی مخالفة عملیّة لعلم إجمالی ولو متولّد، أو هو جارٍ حتی لو انجرّ؟

إن تعدّدت الواقعة _ وکانا عرضیین _ کالواجب والحرام فی موردین، وقد وقع الإشتباه بینهما، فهل یختار فی کلٍّ منهما الفعل أو الترک أو هو مخیّر؟

الأقوال فی المسألة
اشارة

ذهب الشیخ إلی التخییر الإستمراری(1)، ومستنده هو: إن حکم العقل

ص: 61


1- 1. فرائد الأصول 2 / 189.

بالتخییر موجود بقاءً کما کان حدوثاً. وذکر فی المسألة وجهین آخرین، أحدهما: التخییر الإبتدائی، والآخر: التفصیل بین ما إذا قصد فی الإبتداء البقاء علی الطرف المختار، فهو إستمراری، وإنْ کان غیر قاصدٍ للبقاء علیه، فهو غیر إستمراری.

ووجه التفصیل هو: إنّ صلاة الجمعة _ مثلاً _ یدور أمرها بین الوجوب والحرمة، فإنْ إختار الفعل، فقد وافق الواقع إحتمالاً، وکذا إنْ إختار الترک. وأمّا لو اختار مرّةً الفعل واختار أُخری الترک، فإن کانت واجبةً، فقد خالف الواجب، وإن کانت محرّمةً، فقد إرتکب الحرام. أمّا إذا بنی من أوّل الأمر علی الأخذ بالفعل والإستمرار علیه بأنْ یصلّیها أبداً، ثمّ عدل عن رأیه فیما بعد، فلا یضر، لأنّ المفروض أنّه فی وقت الشروع بالفعل کان بانیاً علی البقاء علی الفعل، فلمّا رجع حصلت المخالفة العملیّة، لکنّها لیست عن عمدٍ، بخلاف ما إذا لم یکن بانیاً علی الإستمرار والبقاء، فإنّها تحصل عن قصد وعمد.

وتحصّل أنّ فی المسألة ثلاثة أقوال:

1_ التخییر الابتدائی

وقد استدلّ له الشیخ(1):

بقاعدة الإحتیاط. فإنّها تقتضی الإستمرار علی الطرف المأخوذ به.

وباستصحاب الحکم المختار.

وناقش الشیخ رحمه اللّه:

ص: 62


1- 1. فرائد الأصول 2 / 189.

أمّا فی قاعدة الإحتیاط، فبأنّ البحث هو فی التخییر العقلی، ولا مجال للقاعدة المذکورة فی أصالة التخییر العقلی، لأنّ العقل لا یشک فی حکمه حتی یحکم بأصالة التعیین إحتیاطاً.

وأمّا فی إستصحاب الحکم المختار، فبأنّ الإستصحاب إنّما یجری فی الحکم المشکوک، ولا شک للعقل. وسیأتی إن شاء اللّه فی مباحث الإستصحاب: عدم جریانه فی الأحکام العقلیّة. نعم، یجری فی الأحکام الشرعیّة المستفادة من قاعدة الملازمة علی وجهٍ.

علی أنّه لو جری، فإنّه محکوم باستصحاب بقاء التخییر، لأنّه إذا إختار الفعل _ مثلاً _ فی الواقعة الأولی، یقع الشک عند الثانیة فی زوال التخییر، ومع إستصحاب بقاء التخییر لا یبقی الشک بالنسبة إلی الحکم المختار. إذن، یجری إستصحاب بقاء التخییر ویتقدّم علی إستصحاب بقاء الحکم المختار حکومةً.

ویستدلّ لهذا القول أیضاً ببطلان التخییر الإستمراری من جهة استلزامه للمخالفة العملیّة.

وقد أجاب الشیخ بالنقض بتبدّل رأی المجتهد، وفی عدول المقلّد، ولا یمکن الإلتزام فی الموردین بحرمة المخالفة العملیّة القطعیّة، فکذا فی جمیع موارد دوران الأمر بین المحذورین.

2_ التخییر الاستمراری
اشارة

ثمّ إنّ الشیخ اختار التخییر الإستمراری(1)، لا من جهة إستصحاب التخییر،

ص: 63


1- 1. فرائد الأصول 2 / 189.

للإشکال فیه من جهة عدم الإهمال فی حکم العقل، بل من جهة حکم العقل ووحدة ملاک حکمه فی الحدوث والبقاء، وهو اللاّحرجیّة العقلیّة، بملاک قبح الترجیح بلا مرجّح، فما یحکم به العقل فی الواقعة الأولی یحکم به فی الثانیة.

واختلف کلام صاحب الکفایة فی هذه المسألة، لکنّ المحقّق الإصفهانی استظهر منه التخییر الإستمراری، کما فی الواقعة الواحدة، فهو موافق للشیخ، وهو مختار المحقّقین الإصفهانی والمیرزا والعراقی أیضاً.

النظر فی کلمات الشیخ

لقد طرح الشیخ الأدلّة علی أساس التخییر الشرعی دون العقلی.

أمّا جوابه عن أدلّة القول الأوّل، فهو علی أساس التخییر العقلی.

وأمّا جوابه عن إستصحاب الحکم المختار بالمعارضة باستصحاب بقاء التخییر، فلا وجه له بناءً علی التخییر العقلی، لأنّ المعارضة تتوقّف علی تمامیّة المقتضی، وهو غیر موجود هنا، لأنّه لا حکم مختار بناءً علی التخییر العقلی، بل الظاهر من کلامه فرض المسألة علی التخییر الشرعی، لتمامیة المقتضی بناءً علیه فی المسألة الأصولیة، إلاّ أنّ الکلام فی دعوی وقوع التعارض. وتوضیح ذلک هو:

إنّ التخییر الشرعی فی المسألة الفرعیة عبارة عن التخییر ما بین الفعل والترک، وقد تقدّم أنّه غیر معقول، لکونه تحصیلاً للحاصل، وعلی فرض معقولیّته فإنّه لا حکم مختار، إذ التخییر الشرعی فی المسألة الفرعیة إختیار وتخییر لا حکم مختار، فلا مقتضی لاستصحاب الحکم المختار.

ص: 64

أمّا فی المسألة الأصولیّة _ وهو عبارة عن کون المکلَّف مخیَّراً فی الأخذ بأحد الخبرین _ ، فیکون أخذه له سبباً لاعتبار الحجیّة بالنسبة إلی المأخوذ، وعلی هذا، یکون الحکم المختار تامّ المقتضی. أی: إنّه إذا أخذ صار حجّةً، فإنْ أراد الأخذ بالخبر الآخر، کان إستصحاب حجیّة المأخوذ الأوّل محکَّماً. وکذا فی المقلِّد فی المجتهدین المتساویین المختلفین فی الفتوی، بناءً علی کونه مختاراً _ والمختار هناک وجوب الإحتیاط علیه _ فإنْ أخذ بقول أحدهما کانت فتواه حجةً، فلو أراد العمل بفتوی الآخر استصحب حجیّة فتوی الأوّل. وکذا فی سائر موارد دوران الأمر بین المحذورین، عملاً بتنقیح المناط الموجود فی الخبرین المتعارضین.

وعلی الجملة، فإنّ المقتضی لإجراء إستصحاب الحکم المختار تام.

إنّما الکلام فی المعارضة التی ذکرها الشیخ، وبیانها هو:

إنّ الحکم الإبتدائی فی الخبرین المتعارضین هو التخییر، لأدلّة التخییر، وفی المجتهدین هو الإجماع المدّعی فی کلمات الشیخ، ثمّ بعد الأخذ بأحد الخبرین أو القولین، یشک فی بقاء التخییر، فیستصحب، فلا إحتمال معه للحجیّة التعیینیّة، ویکون المحکّم هو إستصحاب التخییر.

وبعبارة أُخری، إنّ الموضوع فی أدلّة التخییر بین الخبرین هو «من جاءه الخبران المتعارضان» وهذا الموضوع موجود قبل الأخذ بأحدهما وبعده. والموضوع فی الفتویین المختلفین هو «المقلّد الذی ورد علیه الرأیان المختلفان» وهو کذلک موجود قبل الأخذ بأحدهما وبعده، ومع الشک فی أنّه بنفس الأخذ

ص: 65

بأحد الرأیین أو الخبرین یزول التخییر أوْ لا؟ یستصحب بقاء التخییر.

هذا غایة ما یمکن أن یقال لتقریب کلام الشیخ فی الإشکال علی التخییر الإبتدائی.

التحقیق

والتحقیق أن یقال: إن «من جاءه الخبران» أو «الرأیان» یجعل الحجیّة للخبر أو الرأی الذی أخذه _ بأیّ معنیً کان الأخذ _ . فالحجّة تامّة فی حقّه، ومع تمامیّة الحجّة لا مجال لاستصحاب بقاء التخییر، لأن معنی جریانه سقوط الحجّة عن الحجیّة، فالتخییر کان ل_ «من جاءه ...» الذی لا حجّة عنده، والمفروض تمامیّة الحجّة له بالأخذ، فاستصحاب التخییر مشکل، لأنّه لا مورد له، بل الصّحیح هو إستصحاب الحکم المختار. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ مناسبة الحکم والموضوع تقتضی عدم وحدة الموضوع فی القضیّة، ولا أقل من الشک فیها، فلا یمکن التمسّک بدلیل الإستصحاب، لأنّه من التمسّک بالدلیل فی الشّبهة الموضوعیّة لنفس الدلیل، وذلک: لأنّ الموضوع وهو «من جاءه ...» یتقیّد بمناسبة الحکم والموضوع _ التی هی من القرائن المتّصلة بالکلام _ بالذی جاءه الخبران أو الرأیان وهو فی حال التحیّر، فلیس الموضوع مطلق «من جاءه ...» بل الّذی لا حجّة عنده، والمفروض أنّه بمجرّد الأخذ بأحد الطرفین یکون ذا حجّة، ویخرج بذلک عن التحیّر، فلا یشمله الموضوع.

والحاصل: إنّ الموضوع بقرینة المناسبة یتغیّر، ولا أقلّ من الشکّ، ومعه

ص: 66

لا یجری إستصحاب بقاء التخییر، فلا معارض لاستصحاب الحکم المستمر.

وأمّا دعوی حکومة إستصحاب بقاء التخییر علی إستصحاب الحکم المختار، فوجهها أنّه:

مع الشکّ _ فی الواقعة الثانیة _ فی بقاء الحجیّة أو وجوب الأخذ، یجری الإستصحاب، لکنّ هذا الشک ناشئ من الشک فی بقاء التخییر وعدم بقائه، فإن کان باقیاً فالحکم المختار باق وإلاّ فلا، فیکون الشک فی بقاء وإرتفاع الحکم المختار ناشئاً من بقاء التخییر، وإستصحاب بقاء التخییر یزیل الشک فی بقائه، ومعه لا شک فی عدم بقاء الحکم المختار.

وفیها نظر.

لأن الشک وإنْ کان مسبّباً کما ذکر، لکنّ الشیخ فی مبحث تعارض الإستصحابین وفی مقام المناقشة مع المحقّق الثانی یقول: بأنّ الأصل السّببی أصل موضوعی للأصل المسبّبی، والمسبّب من آثار السّبب وأحکامه، فالشک فی بقاء وارتفاع نجاسة الملاقی ناشئ عن الشک فی بقاء وارتفاع نجاسة الملاقی، ونجاسة الملاقی من الآثار الشرعیّة لنجاسة الملاقی.

وفیما نحن فیه، لا تنطبق هذه الکبری، لأن نسبة بقاء وارتفاع الحکم المختار إلی بقاء وارتفاع التخییر، لیس نسبة الحکم إلی الموضوع _ کما کان فی المثال المذکور، حیث نجاسة الملاقی وجودها وعدمها موضوع لنجاسة الملاقی وعدم نجاسته _ إذ الحکم المختار لیس من الآثار الشرعیّة للتخییر وجوداً وعدماً، بل اللاّزم العقلی لعدم التخییر وجود الحکم المختار، واللاّزم العقلی للتخییر عدم

ص: 67

الحکم المختار. فالکبری غیر منطبقة، فلا یمکن القول بالحکومة بناءً علی التحقیق من لزوم أنْ یکون المسبّب أثراً وحکماً شرعیّاً للسّبب، بالإضافة إلی تصریح الشیخ بنفسه بذلک.

قال: وأمّا جواب الشیخ بالنقض بتبدّل رأی المجتهد وعدول المقلِّد. ففیه:

إنّه لا شبهة فی عدم قصد المجتهد للمخالفة العملیّة، وإنّما استنبط أوّلاً الوجوب ثم استنبط الحرمة، ولا ضیر فی هذه المخالفة، لعدم علمه حین إختیاره الوجوب بتبدّل رأیه فیما بعد، فإذا أفتی بالحرمة خرجت فتیاه بالوجوب عن طرف الإبتلاء. هذا فی المجتهد.

وأمّا المقلّد، فإنْ قام إجماع أو دلیلٌ لفظی علی أنّ للمقلِّد البناء _ حین تقلیده للمجتهد _ علی العدول عنه فیما بعد، فالنقض وارد. ولکن لا یوجد هکذا دلیل أو إجماع. فالنقض مردود.

وممّا ذکرنا یظهر أنّ ما ذکره الشیخ فی مثل عدول المقلِّد یناسب القول الثالث من الأقوال فی المسألة.

ثمّ إنّ مختار الشیخ _ وهو التخییر الإستمراری _ هو من جهة أنّ حکم العقل فی جمیع الوقائع علی السّواء.

ویرد علیه:

أوّلاً: إنّ الإستصحاب إنّما یجری فی الموضوعات والأحکام الشرعیّة، والتخییر العقلی حکم عقلی ولیس بموضوع للتعبّد الشرعی، وهذا هو السّبب لعدم جریان الإستصحاب فیه لا عدم وجود الشک لاحقاً.

ص: 68

وثانیاً: قوله بعدم الضرر فی المخالفة العملیة، یناقض کلامه فی مباحث القطع فی دوران الأمر بین المحذورین، فقد قال هناک بالتخییر البدوی وأنّ الإستمراری یستلزم إرتکاب المخالفة العملیّة.

وأمّا جواز التخییر الإستمراری للمقلّد، فإنّما هو من جهة إذن الشارع وتعبّده.

فبین کلامیه تناقض واضح.

مع أنّا لم نفهم مراده من الجواز مع إذن الشارع، لأنّه إذا کانت المخالفة العملیّة إرتکاباً للمبغوض _ ولذا لابدّ وأنْ یکون التخییر بدویّاً _ فلا یعقل الإذن منه بارتکاب ما هو مبغوض له، اللهمّ إلاّ أنْ یکشف تعبّده بالجواز عن رفعه الید عن الواقع.

ولو قیل: إنّه بالتعبّد ینجبر ما فات من الواقع ویتدارک، کما ذکر المحقّق الإصفهانی فی توجیه کلام الشیخ هناک.

قلنا: إذنْ، لابدّ من الإلتزام برفعه الید عن الواقع، وحینئذٍ لا ضیر فی المخالفة العملیّة. لکنّ المحذور استلزام ذلک للتصویب. وأمّا مع القول بلزوم حفظ الواقع، فلا یعقل التعبّد بالمخالفة، فلا طریق للجمع بین کلامیه.

هذا ما یتعلَّق بکلام الشیخ رحمه اللّه.

رأی الکفایة

والمحقّق الخراسانی فی الکفایة لم یتعرّض لصورة تعدّد الواقعة، ولکنّ

ص: 69

المحقّق الإصفهانی نسب إلیه القول بالتخییر الإستمراری بلا فرقٍ بین وحدة الواقعة وتعدّدها.

قال الأستاذ: وکأن الإصفهانی غفل عن کلام أُستاذه فی حاشیة الرسائل الذی یفید إختیاره للتخییر الإبتدائی مع تعدّد الواقعة.

توجیه المخالفة العملیّة

وحاول المحقّق الإصفهانی(1) توجیه التخییر الإستمراری _ بعد لزوم المخالفة العملیّة _ بأنّ:

فی الوقائع المتعدّدة الواقعة تدریجاً توجد علوم متعدّدة بعدد الوقائع، ففی هذه الجمعة علم بصلاة الجمعة وفی الجمعة التالیة علم آخر، فیتعدّد العلم والمتعلَّق والإمتثال. وضمُّ الوقائع بعضها إلی بعض لا یأتی بتکلیفٍ جدیدٍ ولا بعلم جدیدٍ، بل کلّ واقعةٍ هی أجنبیّة عن الأُخری، والعلم بها کذلک. نعم، من هذه العلوم ینتزع علمٌ هو عبارة عن أنّ الصّلاة إمّا هی واجبة فی هذه الجمعة وإمّا هی حرام فی الجمعة الآتیة، وهذا العلم الإنتزاعی لا أثر له حتی یکون منجّزاً.

فإن قیل: إنّه فی التدریجیّات یعلم بأنّ علیه تکلیفاً وجوبیّاً إمّا فی هذا الیوم وإمّا فی الغد.

ص: 70


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 219.

قلنا: طرف العلم حکم واحد وهو الوجوب، لکنْ هو إمّا الیوم وإمّا غد، وهذا العلم منجّز لطرفه، لکنْ فی دوران الأمر بین المحذورین العلم لا ینجّز التکلیف، وعلیه، فلا فرق بین صورة وحدة الواقعة وصورة تعدّدها، فالتخییر استمراری، ولا تحرم المخالفة القطعیّة ولا تجب الموافقة القطعیّة فی کلیهما.

أقول:

هذا العلم الآخر، إن کان انتزاعیّاً فلا ینجّز، إلاّ أنّ الظاهر أنّه علم متولّد، وهو إن لم یأت بتکلیفٍ جدید ولکن لماذا لا یکون مؤثّراً فی حرمة المخالفة لذلک التکلیف؟ وبعبارة أُخری: التکلیف فی هذه الجمعة یدور بین الوجوب والحرمة، وهو تکلیف غیر منجّز، وفی الجمعة اللاّحقة کذلک، ومن ضمّ الواقعتین بالفعل فی الأولی والترک فی الثانیة، یتولّد علم بالمخالفة العملیّة، وبذلک یسقط استدلال المحقّق الإصفهانی رحمه اللّه.

وأجاب عنه سیّدنا الأُستاذ بقوله:

«وأنت خبیر: بأنّ العلم الإجمالی فی واقعتین یستلزم حدوث علمین إجمالیین حقیقیّین بتکلیف مردّد بین الوجوب والحرمة بالنسبة إلی الفعلین فی الواقعتین، وهو مستلزم لتنجیز المعلوم بنحو تحرم مخالفته قطعا، ولا نلحظ العلم الإجمالی فی کلّ واقعة کی یقال انّ المخالفة القطعیّة للعلم الإجمالی المزبور مخالفة غیر مؤثّرة، بل الملحوظ هو العلم الإجمالی الحاصل بضمّ الواقعتین إحداهما إلی الأُخری، وهو لا ینافی عدم تنجّز العلم الإجمالی بالنسبة إلی کلّ واقعة بحیالها، وعدم ثبوت تکلیف آخر غیر المعلوم بالعلم الإجمالی غیر المنجز،

ص: 71

ولا یتنافی مع تعلّق علم إجمالی به آخر یستلزم تنجیزه بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة»(1).

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی قال فی حاشیة الرسائل(2) فی ذیل کلام الشیخ بعدم الإهمال فی حکم العقل:

إنّه یمکن للعقل أن یشکّ فی مناط حکمه، من جهة فقد بعض خصوصیّات المناط، ومع الشک فی الملاک فلا حکم.

قال: وعلی هذا، فالتخییر لیس إستمراریّاً، لأنّه فی الواقعة الأولی یحکم العقل بالتخییر، لتساوی الطرفین، وفی الثانیة یشک فی بقاء ملاک حکمه، ولو لاحتمال ضرر هذه المخالفة، ومع الشک فی بقاء مناط التخییر یزول حکمه، وإذْ لا توجد البراءة لا عقلاً ولا شرعاً، فالمختار هو التخییر البدوی.

وکأنّ الإصفهانی لم یلتفت إلی کلام شیخه فی الحاشیة.

3_ تفصیل المیرزا
اشارة

وفصّل المیرزا(3) رحمه اللّه فقال: أمّا فی الدفعیّات، فالعلم منجّز بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة، وأمّا فی التدریجیّات فلا. مثلاً: لو حلف علی فعل شیء وحلف علی ترک شیء، فوقع الإشتباه بین الشیئین، فإنّه یدور الأمر بین المحذورین

ص: 72


1- 1. منتقی الاصول 5 / 35.
2- 2. حاشیة الرسائل: 235.
3- 3. أجود التقریرات 3 / 406.

بالنسبة إلی کلٍّ من الفعلین، لکن فی المورد تکلیف فعلی وملاک ملزم، فإنْ فعل کلیهما فالمخالفة القطعیّة لازمة، لأنّ أحدهما واجب الترک، وکذا إن ترک کلیهما، لأنّ أحدهما واجب الفعل، والغرض تام علی کلّ حال والتکلیف فعلی، لتحقّق موضوعه بجمیع قیوده، وکلّ تکلیفٍ فإنّه یقتضی الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیّة، وهنا لا یمکن الموافقة القطعیّة لکن المخالفة مقدورة، فیحکم العقل بقبحها. إذنْ یجب علی المکلَّف إختیار الفعل فی طرفٍ والترک فی الطرف الآخر.

لکنْ فی التدریجیّات، فالوجه عند المیرزا ما ذکره الإصفهانی من أنّ الوقائع متعدّدة، وضم بعضها إلی بعض لا أثر له. نعم یلزم تفویت الغرض والتکلیف، لکن التکلیف لیس بفعلی.

فالفرق بین الدفعی والتدریجی هو أنّه فی الأوّل یکون التکلیف فعلیّاً، وفی الثانی _ بناءً علی إنکار الواجب المعلَّق _ التکلیف مشروط بشرطٍ غیر حاصل، فلا فعلیّة له، فلا تلزم المخالفة القطعیّة فی التدریجی، بخلاف الدفعی، فإنّه مطلوب غیر مشروط، فموضوعه متحقّق بجمیع قیوده فیلزم المخالفة القطعیّة.

فالتخییر الإستمراری فی التدریجیّات، وهو فی الدفعیّات إبتدائی.

المناقشة

أقول:

فی کلامه رحمه اللّه تناقض، لأنّه یقول فی المرأة الحائض بعدم فعلیّة

ص: 73

التکلیف فی حقّها، لکن إذا خالفت یلزم تفویت الغرض الملزم وهو غیر جائز، لحکم العقل بلزوم حفظ الغرض فی ظرفه. إذن، ففی الوقائع المتکرّرة التدریجیّة لا تلزم المخالفة القطعیّة، بل یلزم تفویت الغرض الملزم وهو غیر جائز، کما لا یجوز معصیة التکلیف الفعلی ... وهذا رأی المیرزا، وعلیه، فلا وجه صحیح للتفصیل، إذْ لابدّ من الإجتناب عن المخالفة القطعیّة فی کلّ حال. وعلی ما ذکر فلابدّ من القول بالتخییر البدوی فی التدریجیّات أیضاً.

رأی المحقّق العراقی

وقال المحقّق العراقی بالإستمراری(1)، وذکر فی وجه ذلک ما هذا توضیحه:

إن هنا علماً متولّداً _ خلافاً للمحقّق الإصفهانی المنکر لذلک _ ولابدّ من التسلیم بحصول المخالفة القطعیّة وأنّها لا تجوز، وإن العلم مؤثر فیها، ولکنّ تأثیر العلم فیما نحن فیه یتنافی مع تأثیره فی وجوب الموافقة القطعیّة، وإذا کان العلم مؤثراً فی الطرفین ولا ترجیح، فلا یحکم العقل بحرمة المخالفة القطعیّة وجواز ترک الموافقة القطعیّة أو عدم وجوبها، فیسقط تأثیره بالنسبة إلی کلا الطرفین، وتکون النتیجة هو التخییر الإستمراری.

أقول:

حاصل کلامه رحمه اللّه هو: أنّه إذا کان اللاّزم المخالفة القطعیّة بلا منافٍ،

ص: 74


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 296.

کانت المخالفة محرّمة. ولکن حصل هنا علم آخر، وحیث لا ترجیح بینهما یسقطان، فمقتضی القاعدة هو التخییر الإستمراری فی الدفعیّات والتدریجیّات، سواء قلنا بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة أو أنّه مقتضٍ _ ویظهر أثر الإختلاف فی جریان الأصول المرخّصة فی الأطراف وعدم جریانها، ولکنْ لا أثر له من حیث الاضطرار، فإذا کان للمعلوم قصور ولم تمکن الموافقة وترک المخالفة معاً، فلا فرق بین المسلکین _ .

فهذا وجه القول بالتخییر الإستمراری عند المحقّق العراقی.

قال شیخنا: وهو أقوی الوجوه.

خلاصة الکلام والتحقیق فی المقام

لقد تعرّضنا لأنظار الأعاظم، فنقول: إنّ المراد من التخییر البدویّ هو أنّه إذا تعدّدت الواقعة والقضیّة دفعیّة، فالملاک عدم لزوم المخالفة القطعیّة. وعدم لزومها فی الدّفعی هو أن یکون فاعلاً لإحدی الواقعتین وتارکاً للأُخری، فإن کان فاعلاً لکلیهما قطع بمخالفة التکلیف، ففی الدفعی عدم لزومها هو بأن یکون فاعلاً فی واقعة وتارکاً فی أُخری، لأنّ کلاًّ منهما یحتمل أن یکون فیه موافقاً للواقع وأن یکون مخالفة له فیه. فإذا ترک کلیهما أو فعلهما قطع بمخالفة الواقع. وفی التدریجی یجب أنْ یکون فاعلاً أو تارکاً لکلیهما، فإن فعل فی إحداهما وترک فی الأُخری لزمت المخالفة العملیّة. فلذا یکون عدم لزومها فی التدریجیّات موجباً لأن یکون التخییر بدویّاً، بأن یبقی علی الطرف الذی اختاره.

ص: 75

وتعود الأنظار فی المقام إلی أمرین:

1_ عدم الضّرر فی المخالفة العملیّة القطعیّة.

2_ إنّه لا علم ومعلوم یقتضی حرمة المخالفة العملیّة، لأن حرمتها یحتاج إلی المنجّز، وقوامه أمران: أحدهما: العلم، والثانی: قابلیّة متعلّق العلم للتنجیز.

أمّا فی المتعدّدة، فلا علم زائداً علی العلم الذی لا أثر له، ولا معلوم علی الذی لا أثر له، وعلی هذا الأساس أنکر المحقّق الإصفهانی الضرر فی الدفعیّات والتدریجیّات معاً، والمحقّق العراقی إختار الأوّل، فهو یقول بوجود العلم المؤثّر والمعلوم، ولکنْ لمّا کان ترجیح المخالفة العملیّة علی الموافقة العملیّة التی تلازم المخالفة العملیّة بلا مرجّح، فإنّه لا تضرّ هذه المخالفة العملیّة. فالتخییر إستمراری فی التدریجیّات، وفی الدفعیّات مخیّر کیفما یفعل. فما هو الحق فی المسألة؟ وما هو أساس القول بالتخییر؟

فنقول:

إنّ مبنی التخییر هو کون الطرفین متساویین عند العقل، وحینئذٍ، یقبح الترجیح بلا مرجّح ویحکم العقل بالتخییر. فالملاک للتخییر هو التساوی بین الطرفین.

إنّه سیأتی فی مباحث الإشتغال: أنّ فی حکم العقل بالإشتغال مسلکین:

1_ إنّ العلم الإجمالی بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیّة علّة تامّة، فلا یمکن الترخیص عقلاً، لا فی المخالفة بأصلٍ ولو کان بلا معارض، ولا فی الموافقة.

ص: 76

2_ إنّ العلم الإجمالی علّة تامّة بالنسبة إلی حرمة المخالفة، وهو مقتضٍ بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة، وأنّه یجوز شمول أدلّة الاصول لبعض الأطراف فی حال عدم وجود المعارض.

فعلی القول بکون العلم الإجمالی علّةً لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة، فإنْ الحق فی بحثنا مع القائلین بالتخییر الإستمراری، لأنّه لا ترجیح، إذ یدور أمر المکلّف بین المخالفة الإحتمالیة والموافقة الإحتمالیة إن کان التخییر بدویّاً، وبین المخالفة القطعیّة والموافقة القطعیّة إن کان استمراریّاً، ولا ترجیح فی البین، لکون فعل المخالفة القطعیّة وترک الموافقة القطعیّة علی السواء عند العقل، والمفروض أنّ العلم علّة تامّة.

وعلی القول بکون العلم علّةً تامّة للمخالفة فقط، أی: إنّ للشارع الترخیص والتصرّف فی طرف لزوم الموافقة القطعیّة، فإنّه به یکشف الفرق بین الموافقة والمخالفة، ولیستا مثل کفّتی المیزان، وهذا کاف لسقوط ملاک حکم العقل بالتخییر، لأنّ الملاک کان إحراز الإستواء بین الطرفین، ولا أقل من شک العقل فی وجود الملاک فی هذه الصّورة، وإذا سقط حکم العقل بالتخییر، فالأصل هو التعیین، ولابدّ من الإجتناب عن المخالفة العملیّة.

وبما ذکرنا یظهر: إنّ تأثیر العلیّة والإقتضاء لیس فی الحکم الظاهری فقط کما یقول المحقّق العراقی، بل إنّه یؤثّر فی وجود ملاک حکم العقل بالتخییر وعدم وجوده.

وبعد، فإنّ المختار هناک هو الإقتضاء بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة، کما سیأتی إن شاء اللّه.

ص: 77

فظهر أنّ الصحیح هو النّظر فی المبنی فی قاعدة الإشتغال، والحکم فی المقام بناءً علیه، وقد ظهر أنّ الحقّ هو التخییر الإبتدائی.

رأی السیّد الأستاذ

وهذا هو رأی السیّد الأُستاذ أیضاً. وله فی تقریب ذلک بیانٌ آخر، وهذا نصّ کلامه:

«وتحقیق الکلام: إنّ العلم الإجمالی بالوجوب أو الحرمة فی کلّ واقعة لا أثر له، لکنّ لدینا علماً إجمالیّاً آخر وهو العلم إجمالاً إمّا بوجوب الفعل فی هذه الواقعة أو بحرمته فی الواقعة الثانیة. وهذا العلم الإجمالی تحرم مخالفته القطعیة، فإذا احتار الترک فی هذه الواقعة کان علیه أن یترک فی الواقعة الثانیة، وإلاّ أدّی ذلک إلی المخالفة القطعیّة للعلم الإجمالی المزبور.

إلاّ أنّه قد یقال: إنّ هذا العلم الإجمالی ینضمّ إلیه علم إجمالی آخر إمّا بحرمة الفعل فی هذه الواقعة أو بوجوبه فی الواقعة الثانیة، وتأثیر کلّ من العلمین فی کلّ من الطرفین علی حدّ سواء، فلا یکونان منجّزین، بل یکونان من قبیل العلم الإجمالی الأوّل بلحاظ کلّ واقعة بحیالها.

ولکنّنا نقول: إنّه یمکن تقریب التخییر البدوی علی أساس هذین العلمین الإجمالیین المتعاکسین بأحد وجهین:

الأوّل: إنّ الموافقة القطعیّة لأحدهما تستلزم المخالفة القطعیّة للآخر.

وبعبارة أُخری: إنّ التخییر الإستمراری کما یستلزم المخالفة القطعیّة

ص: 78

لأحدهما یستلزم الموافقة القطعیّة للآخر، وبما أنّ حرمة المخالفة القطعیّة أهمّ _ بنظر العقل _ من لزوم الموافقة القطعیّة، ولذا قیل بعلیّة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیّة، وتوقّف فی علیّته لوجوب الموافقة القطعیّة، فیتعیّن رفع الید عن لزوم الموافقة القطعیّة لأحدهما والإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة حذراً من الوقوع فی المخالفة القطعیّة للآخر، فیتعیّن التخییر البدوی.

الثانی: إنّ تحصیل الموافقة القطعیّة لکلا العلمین الإجمالیین غیر مقدور عقلاً، فیتنزّل العقل عنها إلی الموافقة الإحتمالیّة. بخلاف الإجتناب عن المخالفة القطعیّة، فإنّه مقدور لکلّ من العلمین، فیحکم العقل بحرمتها. فیتعیّن التخییر البدوی.

وهذا الوجه یتم حتی بناء علی المساواة بین الموافقة القطعیّة والمخالفة القطعیّة فی الأهمیّة، وکون العلم بالنسبة إلیهما علی حدّ سواء، فلا یؤثر فی إحداهما مع التعارض، إذ الملاک فیه هو عدم القدرة عقلاً من الموافقة القطعیّة، فالعلم الإجمالی لا یؤثر فیها لعدم القدرة لا للتعارض، کی یقال إنّ مقتضی المعارضة عدم تأثیره فی حرمة المخالفة القطعیّة أیضاً.

وبالجملة، یتعیّن بهذین الوجهین الإلتزام بالتخییر البدوی ومنع التخییر الإستمراری»(1).

هذا فی الدفعیّات مع تعدّد الواقعة.

ص: 79


1- 1. منتقی الاصول 5 / 32 _ 34.

أمّا فی التدریجیّات، فإنْ کان الواجب التدریجی واجباً تعلیقیّاً مثل « وَلِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ »(1)،فلا کلام فی أنّه مثل الدفعی. وأمّا بناءً علی إنکار الواجب المعلَّق ثبوتاً أو إثباتاً، وأنّ مثل الآیة واجب مشروط، فإن قلنا بعدم جواز ترک الواجب المشروط بتفویت شرطه، فلا تجوز المخالفة العملیّة کالدفعیّات، وإلاّ فلا تضرّ المخالفة العملیّة.

لو کانت احدی الواقعتین محتمل الأهمیّة

ولو کانت إحدی الواقعتین أهم أو احتمل أهمیّتها، فما هو مقتضی القاعدة؟

أمّا لو کانت إحداهما أهم، فلا ریب فی لزوم تقدیمها.

وأمّا لو احتمل أهمیّة إحداهما، فقیل: بعدم الترجیح لها، لأنّ الباب لیس باب التزاحم حتی یطبّق قانونه هنا، لأنّ ملاک التزاحم عدم القدرة علی إمتثال کلا الطرفین، وهنا القدرة موجودة. وهذا مسلک المیرزا(2)، ونتیجة ذلک هو التخییر وعدم تعیّن محتمل الأهمیّة.

ولکنّ المیرزا قد ناقض هذا فی مسألة دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، إذ قال هناک(3) بأنّ الخطاب کما یقتضی الإمتثال کذلک یقتضی الجمع بین المحتملات،

ص: 80


1- 1. سورة آل عمران، الآیة 97.
2- 2. فوائد الأصول 3 / 450.
3- 3. المصدر 4 / 144 _ 145.

فالتکلیف یقتضی الإمتثال وإحرازه أیضاً، والمفروض عدم القدرة علی إحراز کلا الإمتثالین، فیقع التزاحم ویتقدّم محتمل الأهمیّة.

وما ذکره هناک هو الصّحیح، فیکون تقدّم محتمل الأهمیّة _ لا من جهة إنطباق قانون التزاحم، حتی یشکل بأنّه لیس من مصادیقه _ من جهة أن حکم العقل بالتخییر کان بملاک تساوی المحتملین فی الواقعة الواحدة، أو بین المعلومین فی الواقعة المتعدّدة، ومع إحتمال الأهمیّة فی طرفٍ یسقط حکم العقل بالتخییر، ویکون المحکَّم هو التعیین، لوجود المرجّح ولو إحتمالاً، لأنّا إذا أخذنا جانب محتمل الأهمیّة قطعنا بالإمتثال، لأنّه إمّا هو الواقع وإمّا هو طرف التخییر، بخلاف ما إذا أخذنا بالطرف الآخر.

هذا کلّه بناءً علی التخییر العقلی.

وأمّا بناءً علی جریان الاصول الشرعیّة، فلیس مقتضی الأصل هو التعیین لما یحتمل فیه الأهمیّة، لأنّ الأصل الشرعی مؤمّن.

کلام الشیخ فی الخبرین

بقی کلام الشیخ فی الخبرین، فقد ذکر قدّس سرّه: أنّه إذا کان دوران الأمر بین المحذورین فی خبرین واردین عن أهل العصمة علیهم السّلام، ففیه تفصیل، وذلک: أنّه لو کان الدوران ناشئاً عن إجمال الدلیل أو فقده، فالحکم ما ذکر. وأمّا لو کان المنشأ هو التعارض بین الأدلّة، فإن کان التعارض بین الخبرین مع العلم بمطابقة أحدهما للواقع، فإنْ قلنا بالتساقط، فالحکم ما ذکر، لأنّه بعد التساقط،

ص: 81

یرجع إلی الاصول الشرعیّة، فإن لم تجر، فالأصل العقلی، فالکلام هو الکلام.

والمختار عندنا هو جریان الإستصحاب ثمّ التخییر العقلی، فإن کان أحدهما مقطوع الأهمیّة أو محتملها تعیّن، وإن قلنا بأنّ المرجع هو أخبار التخییر، فالمحکَّم هو التخییر الشرعی، وهو تخیّر فی المسألة الاصولیة، وهو حاکم علی التخییر العقلی.

هذا إذا علمنا بأنّ الواقعة من قبیل دوران الأمر بین الواجب والحرام.

وإنْ لم یکن من الدوران بین المحذورین، بل تعارض الخبران واحتملنا الإباحة أیضاً، خرج عن بحث دوران الأمر بین المحذورین.

وحیث قلنا بالتخییر الشرعی، فهل هو بدوی أو استمراری؟

قال الشیخ(1): مساق أخبار التخییر عبارة عن أنّ التخییر مجعول للمکلّف المتحیّر، فالتمسّک بإطلاقها للإستمرار بلا وجه، والقاعدة هی التخییر البدوی، لأنّه بعد الأخذ بأحد الطرفین غیر متحیّر، فلیس له رفع الید عمّا أخذ والأخذ بالطرف الآخر. وبعبارة أُخری: إنّه لیس فی شیء من أدلّة التخییر إطلاق بالنسبة إلی قبل الأخذ بطرفٍ وبعده لیدلّ علی الإستمرار، ومع عدم الإطلاق تصل النوبة إلی إستصحاب بقاء التخییر الثابت قبل الأخذ بأحد الطرفین.

ثمّ ناقش فی ذلک: بأنّ الموضوع عبارة عن المتحیّر، وبعد الأخذ یتغیّر الموضوع یقیناً أو إحتمالاً فلا یستصحب التخییر، ثمّ أمر بالتأمّل.

ص: 82


1- 1. فرائد الأصول 2 / 191 _ 192.
الإشکال علی الشیخ والنظر فیه

فقال المحقّق الهمدانی(1) فی وجه التأمّل: «لعلّه إشارة إلی أنّ ما ذکره من المناقشة إنّما یتّجه لو اُخذ الموضوع من العقل، وأمّا علی ما هو التحقیق من إحرازه بالمسامحة العرفیّة أو الرجوع إلی ما یستفاد من عناوین الأدلّة فلا، کما لا یخفی»(2).

وقال المحقّق الخراسانی(3): إن کان المراد من کون الموضوع هو المتحیّر هو: من جاءه الخبران، فالموضوع بعد الأخذ بطرفٍ باق. وإن کان الموضوع مجرّد عنوان المتحیّر، فلا أثر لهذا الموضوع فی الأدلّة. فالإستصحاب یجری لوجود الموضوع وهو من جاءه الخبران المختلفان ...

وفیما ذکراه تأمّل.

إنّ الشیخ یری أنّ إعتبار وحدة الموضوع فی القضیّتین هو بنظر العرف فقط، وهذا هو مبنی صاحب الکفایة أیضاً، وهو التحقیق.

وعلیه، فإنّه بحسب مناسبات الحکم والموضوع نری أنّ أدلّة التخییر تجعل _ فی باب التعارض _ الحجیّة لا الأصل، کما أنّ الأدلّة الأولیّة تجعل الحجیّة لخبر الثقة، ولکنْ لدی المعارضة یجعل جعلاً ثانویّاً، وهو الطریقیّة والحجیّة لذی المزیّة فی صورة الترجیح، ولکلٍّ منهما علی سبیل التخییر، إذنْ، یجعل

ص: 83


1- 1. حاشیة الرسائل: 189.
2- 2.
3- 3. حاشیة الرسائل: 235.

الطریقیّة. وحینئذٍ لا معنی لجعل الطریق لمن له طریق، لأنّ الذی أخذ بأحد الطرفین فقد خرج عن التحیّر وأصبح ذا طریق، فلا یأخذ الشارع منه الطریق بأنْ یجعل له طریقاً آخر.

فمناسبة الحکم والموضوع تقتضی أنْ تکون أدلّة التخییر مجعولةً لمن لیس له طریق. هذا أوّلاً.

وثانیاً: لابدّ من إحراز کون الخصوصیّة المتغیّرة من حالات الموضوع، فلو احتملنا کونها من مقوّماته لم یجر الإستصحاب، ونحن نحتمل هذا فی المقام فی أقلّ تقدیر.

فالحق عدم جریان الإستصحاب، لاحتمال کون التغیّر فی الموضوع من المقوّمات بنظر العرف.

وتلخّص:

إنّ مقتضی الأدلّة هو التخییر البدوی، فإنْ کان الإستمرار لجریان الإستصحاب، فهو، سواء لزمت المخالفة القطعیّة أوْ لا، لکون التخییر حینئذٍ بحکم الشارع.

إلاّ أنّه بناءً علی الإستمراری، یأتی إشکال لزوم المخالفة القطعیّة، لأنّه إذا أخذ بالخبر القائم علی الوجوب مثلاً ثمّ القائم علی الحرمة، یعلم بمخالفة الواقع، ومقتضی إطلاق دلیل التخییر واستصحابه ترخیص الشارع فی المخالفة القطعیّة، وهذا غیر معقول، فلابدّ من حلّ هذا الإشکال.

ص: 84

فقال الشیخ فیما أوضحه المحقّق الإصفهانی(1):

إنّ التخییر الإستمراری غیر مضرّ، لأنّ المصلحة الجابرة للواقع الفائت موجودة فی الإلتزام بأحد الخبرین، أو أنّه فی خصوص الفعل أو الترک فی الخبرین المتعارضین توجد مصلحة یتدارک بها الواقع الذی خولف.

وبعبارة أُخری: قد جعل الشارع هنا بدلاً عن الواقع کما فی قاعدة الفراغ، حیث جعل الإتیان بالمشکوک فیه بدلاً عن الواقع، بأنْ یکون فی الصّلاة الفاقدة للجزء مصلحة یتدارک بها الجزء الفائت.

أقول:

وفیما ذکر إشکال، لکن الإشکال فی الإطلاق أهون منه فی الإستصحاب.

ووجه الإشکال هو: إنّ دلیل الأخذ بأحدهما الشامل بإطلاقه لحال بعد الأخذ لأحدهما، وارد فی خصوص الخبرین المتعارضین، وللشارع جعل البدل فی هذا الباب والترخیص فیه. أمّا الإستصحاب، فإنّ عموم دلیله وإطلاقه یشمل ما نحن فیه، ولیس دلیلاً خاصّاً وارداً فی خصوص الخبرین المتعارضین، لکون ما نحن فیه أیضاً من مصادیق «لا تنقض»، وعموم الدلیل لما نحن فیه یتوقّف علی جعل المبدل حتی لا یکون الإستصحاب ترخیصاً فی المخالفة، ولکنّ جعل البدل لیس إلاّ بدلیل الإستصحاب، فیلزم الدور.

إنّه لابدّ من الدقّة فی کلمات الشیخ مع توجیه الإصفهانی لها ونقول:

ص: 85


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 221.

إنّ الظاهر عدم معقولیّة جعل البدل هنا، لأنّ جعل البدل المحرز لجمیع ما فات من المصلحة الواقعیّة، لا یتعقّل إلاّ بکون المصلحة قائمة بالجامع بین الواقع وبین ما یراد جعله بدلاً، وإلاّ فلا معنی لبقاء الحکم الواقعی تعییناً مع التخییر بینه وبین ما جعل بدلاً. وأمّا قیام جمیع الغرض بالواقع وبالبدل أیضاً، فلا یجتمع مع جعل الحکم تعییناً فی ظرف الواقع، إذن، فجعل البدل الوافی بجمیع الغرض من الواقع غیر معقول، فالتخییر الإستمراری غیر معقول.

مثلاً: فی الخبرین المتعارضین فی صلاة الجمعة وتخییر المجتهد بین الخبرین، إنْ أخذ برهةً من الزمن بما یدلّ علی الحرمة فصلّی الظهر، فإنّ المفروض کون الظهر وافیاً بجمیع مصلحة الجمعة، وهذا لا یجتمع مع الوجوب التعیینی للجمعة. إذن، الغرض لیس قائماً بالواقع علی نحو التعیین.

فالإطلاق غیر معقول، والإستصحاب إشکاله آکد.

فالتخییر بدوی لا إستمراری.

وهذا تمام الکلام فی دوران الأمر بین المحذورین وأصالة التخییر.

والحمد للّه ربّ العالمین.

ص: 86

أصالة الإشتغال

اشارة

ص: 87

ص: 88

قال الشیخ: إعلم أنّ المکلّف إذا التفت إلی حکم شرعیّ(1) ...

أقول:

حالات المکلّف الملتفت بالنسبة إلی الحکم الشرعی لا تخلو:

إمّا أنْ یکون عالماً بالحکم، فذاک موضوع أحکام القطع.

وإمّا أنْ یکون شاکّاً، فإنْ کان له حالة سابقة، فهو مجری الإستصحاب، وإنْ لم یکن له حالة سابقة، فهو مجری البراءة.

وفی صورة العلم بالحکم، فتارةً لا یمکن الإحتیاط، فهو مجری التخییر، وإنْ أمکن، فهو مجری قاعدة الإشتغال.

فموضوع أصالة الإشتغال هو: العلم بالتکلیف والشک فی المکلّف به مع إمکان الإحتیاط.

مقدّمات

وقبل الورود فی البحث لابدّ من ذکر مقدّمات:

ص: 89


1- 1. فرائد الأصول 1 / 25.

الاولی: إنّ القواعد الجاریة فی أطراف العلم تارةً توافق المعلوم بالإجمال وأُخری تخالفه، کما لو علمنا بنجاسة أحد الإناءین، والحالة السّابقة لهما النجاسة، أو الطّهارة. وعلی کلّ تقدیر، فالقاعدة الجاریة إمّا إمارة وإمّا أصل، والأصل إمّا عقلی وإمّا شرعی، والشرعی إمّا أصل محرز کالإستصحاب وإمّا أصل غیر محرز کأصالة البراءة.

الثانیة: إنّ العلم طریق إلی الواقع وکاشف عنه، وهو موضوع حکم العقل بالحجیّة أی: إستحقاق العقاب علی المخالفة، وهذا المعنی فی العلم التفصیلی واضح، لأنّ المقتضی للمنجزیّة موجود والمانع عنه مفقود بالوجدان، فیکون العلم علّةً تامّة لوجوب الموافقة عقلاً وحرمة المخالفة کذلک.

فهل الأمر فی العلم الإجمالی کذلک؟

إنّ العلم الإجمالی مقترن بالجهل، فهل یصلح الجهل للمانعیّة عن اقتضاء العلم بالنسبة إلی التنجیز؟ إنْ لم یکن کذلک، کان العلم الإجمالی علّةً کالعلم التفصیلی، وإنْ کان صالحاً للمانعیّة، فهل مانعیّته عن التنجیز یکون مطلقاً، أی فی کلا طرفی لزوم الموافقة وحرمة المخالفة؟ قیل: یکون مانعاً فی الطرفین، فیسقط العلم عن التأثیر ویکون بحکم الشک، وحینئذٍ تجری الاصول المرخّصة فی أطراف العلم. وقیل: یکون مانعاً فی طرف وجوب الموافقة القطعیّة ولا یصلح للمانعیّة عن حرمة المخالفة القطعیّة، فهذا القول تفصیلٌ فی المسألة، وأنّ العلم الإجمالی علّة بالنسبة إلی حرمة المخالفة وبالنسبة إلی وجوب الموافقة فی مرحلة الإقتضاء.

ص: 90

هذا بالنسبة إلی العلم.

وأمّا بالنسبة إلی الاصول، فقد وقع الکلام فی أنّه هل لأدلّة الأصول العملیّة إطلاق لتشمل مورد الإقتران بالعلم الإجمالی، أوْ لا بل هی مختصّة بالشّبهة البدویّة؟

إن قلنا بالثانی، فالعلم الإجمالی علّة تامّة للتنجیز، وإنْ قلنا بالأوّل، وأن المقتضی للجریان موجود، لأنّا نجری أصالة الطّهارة _ مثلاً _ فی کلّ واحدٍ من الإناءین علی حدة، وکلّ منهما غیر معلوم النجاسة، وحینئذٍ یقع البحث عن المانع عن هذا المقتضی، والمانع هو العلم، فهل یمکنه أن یمنع من جریان الأصل فی جمیع الأطراف؟ إنّه إنْ منع العلم الإجمالی عن جریان الأصل فی الأطراف سقط المقتضی.

الثالثة: إنّه یبحث عن التکالیف فی مرتبتین، مرتبة الإشتغال ومرتبة الإمتثال. فی المرتبة الأولی یبحث عن أصل إشتغال الذمّة وعدمه، وعن حدّ الإشتغال من حیث الموافقة لجمیع الأطراف أو الموافقة الإحتمالیّة ... وکذا یقع البحث فی مرحلة الفراغ.

مثلاً: لو اشتغلت ذمّته بصلاتی الظهر والعصر وصلّی الصّلاتین وتیقّن بوجود الخلل فی إحداهما، فإنّ هذا العلم الإجمالی یؤثّر فی مرحلة الإمتثال وفراغ الذمّة، وحینئذٍ تطرح فروع العلم الإجمالی _ وهی مائة فرع تقریباً _ بالنظر إلی قاعدتی الفراغ والتجاوز، ولا تعاد الصّلاة إلاّ من خمس، وسائر جهات البحث.

وبعد المقدّمات یقع البحث فی مقامین:

ص: 91

المقام الأوّل: فی دوران الأمر بین المتبانیین.

والمقام الثانی: فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر.

ص: 92

دوران الأمر بین المتباینین

اشارة

ص: 93

ص: 94

طریق الکفایة وتوضیحه ضمن مقدمات

طریق الکفایة

قال رحمه اللّه(1):

إنّ التکلیف المعلوم بین المتبانیین:

إن کان فعلیّاً من جمیع الجهات، بأن کان واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلی، مع ما هو علیه من الإجمال والتردّد والإحتمال، فلا محیص عن تنجّزه وصحّة العقوبة علی مخالفته، وحینئذ، یکون ما دلّ بعمومه علی الرفع أو الوضع أو السّعة أو الإباحة ممّا یعم أطراف العلم مخصّصاً عقلاً لأجل مناقضتها معه، فتختصّ بالشبهات البدویّة.

وإن لم یکن فعلیّاً، لم یکن هناک مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعیّة للأطراف.

ومن هنا انقدح أنّه لا فرق بین العلم التفصیلی والإجمالی، إلاّ أنّه لا مجال للحکم الظاهری مع التفصیلی، وله مجال مع الإجمالی، فلا یصیر الحکم الواقعی فعلیّاً بجعل الحکم الظّاهری فی أطراف العلم.

ص: 95


1- 1. کفایة الاصول: 358.

أقول:

یتوقّف فهم هذا المبنی علی مقدّمات:

الأُولی: إنّ للحکم أربع مراتب:

1_ مرتبة الإقتضاء، أی مرتبة الملاکات.

2_ مرتبة الإنشاء، أی إنشاء الحکم علی طبق الملاک، فالأحکام فی هذه المرتبة علی حدّ الإنشاء مثل الأحکام فی صدر الإسلام.

3_ مرتبة الفعلیّة. أی: مرتبة انقداح الإرادة فی النفس النبویة أو الوَلَویّة، بأن یبعث أو یزجر، ویرید ویکره.

4_ مرتبة التنجّز، بأنْ تقوم الحجّة علی الحکم، ویکون موضوعاً لاستصحاب العقاب أو الثواب.

الثانیة: إنّ المجعول فی کلّ مرتبةٍ لا یعقل أن یکون مضادّاً أو مماثلاً للمجعول فی المرتبة الأُخری. مثلاً: لو کان الوجوب فی مرتبة الإنشاء، أمکن أن یجعل الإباحة فی مرتبة الفعلیّة أی البعث والزجر، لأنّهما فی مرتبتین. نعم، لو أنشأ الوجوب لعمل وأنشأ أیضاً الإباحة له، لزم التعاند بینهما، ولو أنشأ وجوبین لعملٍ واحد، لزم اجتماع المَثَلین، لأنّهما فی مرتبةٍ واحدة.

وعلی الجملة، إنّه لا تضادُّ الإباحة الفعلیّةُ الوجوب الإنشائی، لاختلاف المرتبة، وعلی هذا الأساس جمع هذا المحقّق بین الحکمین الواقعی والظاهری. وإنْ عدل عنه بعد ذلک.

الثالثة: إنّ وجوب الإطاعة والموافقة عقلاً وحرمة المعصیة والمخالفة

ص: 96

کذلک من آثار الحکم فی أیّ مرتبة؟

أمّا الحکم فی مرتبة الإقتضاء، فلا اقتضاء له للإطاعة والمعصیة.

وکذلک الحکم فی مرتبة الإنشاء.

فالحکم العقلی المذکور من آثار الحکم الشرعی الفعلی. ولو لم یصل الحکم إلی هذه المرتبة لا یحکم العقل بوجوب الموافقة وحرمة المخالفة.

الرابعة: إنّ العلم التفصیلی والإجمالی یشترکان فی کونهما «علماً»، والفرق بینهما هو أنّه مع العلم التفصیلی لا مجال للحکم الظاهری، بخلاف العلم الإجمالی، وذلک لأنّ العلم الإجمالی مشوب بالشک والجهل، والشک موضوع للأمارة ثبوتاً وللأصل ثبوتاً وإثباتاً، وکلّ موردٍ وجد فیه الموضوع للحکم الظاهری، کان له فیه مجال.

وإذا کان موضوع الحکم الظاهری فی العلم الإجمالی موجوداً، وصلت النوبة إلی المقدمة:

الخامسة، وهی: هل أدلّة الأصول والأمارات تعمّ بإطلاقها وعمومها أطراف العلم الإجمالی أو هی مخصّصة بالشبهات البدویّة؟

وجه العموم والإطلاق هو: إن مثل قوله علیه السّلام: (کلّ شیء لک حلال حتی تعرف أنّه حرام بعینه فتدعه)(1) یشتمل علی «کلّ» الموضوع للعموم، فیعم أطراف العلم الإجمالی، وکلّ طرف من أطرافه «شیء» شک فی حلیّته وحرمته،

ص: 97


1- 1. وسائل الشیعة 17 / 89، باب عدم جواز الإنفاق من کسب الحرام.

فالمقتضی لجریانه فیها موجود، وهل من مانع؟

السّادسة: إنّ حدیث (کلّ شیء لک حلال) مغیّی ب_ «العلم»، لأنّه قال «حتی تعلم أنّه حرام»، وحیث أنّ هذا العلم أیضاً مطلق، یعم التفصیلی والإجمالی، فلا محالة یقع التعارض بین الصّدر والذیل. فمقتضی إطلاق الصّدر هو حلیّة کلٍّ من الأطراف، ومقتضی إطلاق الذیل عدم الحلیّة مع العلم الإجمالی بالحرمة.

ولکنّ عموم الصّدر مقدَّم، ولأنّ شمول الصّدر لکلٍّ من الأطراف هو بالوضع لکلمة «کلّ»، وشمول الذیل للعلم الإجمالی هو بالإطلاق، ومع وجود العموم المعارض لا تنعقد مقدمات الإطلاق فی الطرف المقابل، لما تقرّر فی محلّه من أنّ الإطلاق لا ینعقد مع وجود العموم، لأنّ أصالة العموم بالوضع وأصالة الإطلاق بمقدمات الحکمة، إذ إطلاقه یتقوّم بعدم وجود البیان علی التقیید، والعموم الوضعی هنا بیان، فیتقیّد «العلم» فی الذیل بالعلم التفصیلی.

هذا أوّلاً.

وثانیاً: لقد ورد فی حدیثٍ آخر فی ذیل قاعدة الحلّ کلمة «بعینه». وهذه الکلمة وإنْ حملها الشیخ علی التأکید، أی تأکید العلم، ولکنّ الظاهر أنّها جاءت لتفید أنّ المعلوم بالإجمال لیس بمعلومٍ بل المعلوم، هو الذی علم بحرمته بعینه، أی علم به تفصیلاً، فیکون الصّدر شاملاً لأطراف العلم الإجمالی، ویجوز إرتکاب کلٍّ منها بلا معارض.

ومن هذه المقدّمة یظهر عدم وجود المانع عن المقتضی.

ص: 98

نتیجة المقدّمات

وتکون النتیجة: إنّ الغرض غیر فعلی من جمیع الجهات فی أطراف العلم الإجمالی، فلا مانع من جعل الترخیص فیها.

هذا، ولا یخفی أنّ صاحب الکفایة قد جمع بین الحکمین الواقعی والظاهری باختلاف المرتبة، فقال بأنّ الحکم الواقعی فی مرتبة الإنشاء والحکم الظاهری فی مرتبة الفعلیّة، وحینئذ لا تضادّ بینهما.

ثمّ عَدل عن هذا المبنی _ لأن کون الحکم الواقعی فی مرتبة الإنشاء یُخرجه عن کونه حکماً، لأنّه ما لم یصل إلی مرتبة الفعلیّة فلیس بحکمٍ حقیقة، والإلتزام بأنّ الأحکام الواقعیّة أحکام مجازاً ولیست بأحکامٍ حقیقیّة، وبعبارة أُخری: هی أحکام صوریّة لا واقعیّة، غیر ممکن _ فقال فی الکفایة خلافاً لما فی الفوائد وحاشیة الرسائل: إنّ الأحکام الواقعیّة فی موارد جریان الأصول العملیّة فعلیّة لکن لا من جمیع الجهات، والفعلی لا من جمیع الجهات یقبل جعل الترخیص فیه.

وینبغی الإلتفات إلی أنّ الأصل هو کون الحکم الواقعی فعلیّاً من جمیع الجهات، وإنّما یحمل علی الفعلیّة من بعض الجهات لوجود الکاشف، والکاشف عن ذلک فیما نحن فیه هو عموم (کلّ شیء لک حلال ...) فإنّه یکشف عن أنّ رفع الید عن الحکم بالحلیّة إنّما یکون إذا علم بالحرمة تفصیلاً، أمّا لو لم یعلم أو علم بالحرمة إجمالاً، فالحلیّة باقیة، فالحکم الواقعی قد خرج عن مرتبة الإنشاء ولکنْ لیس فعلیّاً من جمیع الجهات.

وعلی الجملة، فإنّ الغرض من الحکم یختلف، والحکم دائماً ظلٌّ للغرض،

ص: 99

فتارةً: یکون الغرض فی مرتبة من الأهمیّة بحیث لا یکون الجهل مانعاً من فعلیّة الحکم، کما فی الدماء والفروج، ویکون الإحتیاط هناک لازماً فی جمیع الأطراف ولا یُجعل المرخِّص فی شیء منها. وأُخری: لا یکون الغرض بتلک المرتبة من الأهمیّة، ویکون للجهل الصّلاحیّة للمانعیّة عن الفعلیّة من جمیع الجهات، کما فی الطّهارة والنجاسة، حیث جعل (کلّ شیء لک طاهر حتی تعلم أنّه قذر)(1).

فإذا اختلف الغرض مرتبةً، والحکم ظلٌّ للغرض، کان الحکم فی أطراف العلم الإجمالی غیر فعلی من جمیع الجهات.

إشکال الإصفهانی

وأشکل علیه المحقّق الإصفهانی(2) بأنّ الغرض غرضان، الغرض من التکلیف، والغرض فی المکلَّف به. والفعلیّة لا من جمیع الجهات إنّما تتصوّر فی الثانی کما ذکر، وأمّا الغرض القائم بالتکلیف _ فإنّ کلّ تکلیفٍ هو بداعی جعل الداعی علی الإمتثال _ فإنّه لا إختلاف فی المرتبة فیه، بل یدور أمره بین الوجود والعدم، والمفروض وجوده. إذنْ، المولی یجعل التکلیف بداعی جعل الداعی فی نفس المکلَّف للإمتثال، فکیف یجعل فی نفس الوقت الحکم الظاهری القائم علی الخلاف، الداعی لنقض الغرض القائم بجعل التکلیف؟

ص: 100


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 142، کتاب الطهارة، باب الحکم بطهارة الماء إلی أن یعلم ورود النجاسة علیه ... .
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 233.

الجواب:

ویمکن الجواب عنه بأنّه: لیس من المعقول وجود الغرض من التکلیف زائداً علی الغرض من المکلَّف به، لأنّ الغرض من المکلّف به هو العلّة للحکم والتکلیف به، إذْ لولا المصلحة فی المتعلَّق لما جعل الوجوب، ولولا المفسدة فی المتعلَّق لما جعلت الحرمة، فالملاک فی المکلَّف به، ولولاه لکان التکلیف بلا غرض، ونسبة التکلیف إلی الغرض فی المکلّف به نسبة المعلول إلی العلّة.

وعلی هذا، فإنّ جعل الداعی یتبع الغرض وفعلیّة الحکم، وصاحب الکفایة یقول بأنّ الغرض فی مورد العلم الإجمالی غیر فعلی من جمیع الجهات، فلیس هناک جعل الداعی للإمتثال من قبل المولی حتی یلزم التناقض بینه وبین جعل المرخّص.

الإشکال الثانی

لزوم الدور، لأن شمول أدلّة الأصول المرخّصة لأطراف العلم الإجمالی یتوقّف علی عدم فعلیّة التکلیف _ لأنّه مع فعلیّته فی صورة العلم الإجمالی لا یعقل جعل المرخّص _ لکن عدم فعلیّة التکلیف متوقّف علی شمول أدلّة الأصول.

وفیه:

إنّه خلط بین مقامی الثبوت والإثبات، فشمول أدلّة الأصول المرخّصة یتوقّف علی عدم فعلیّة التکلیف، لکنّ عدم فعلیّته غیر متوقّف علی شمولها، لأنّ الفعلیّة وعدم الفعلیّة من خصوصیّات الأغراض والتکالیف، فکلّ تکلیف کان

ص: 101

الغرض منه فعلیّاً من جمیع الجهات یکون فعلیّاً کذلک تبعاً له. فالغرض من الحکم بالنجاسة لیس فعلیّاً من جمیع الجهات، فلا محالة یکون الحکم التابع له کذلک. وعلیه، فإنّ الغرض ثبوتاً مختلف ویکون الحکم مختلفاً بتبعه، فإنْ ثبت فی مقام الإثبات الفعلیّة للغرض من جمیع الجهات، کان الحکم مرتّباً کذلک وإلاّ فلا.

فظهر أنّ التوقّف من طرفٍ ثبوتی ومن طرفٍ إثباتی ... فشمول أدلّة الأصول یتوقّف علی عدم فعلیّة التکلیف، ولکنّ العلم بعدم فعلیّة التکلیف وإحرازه إثباتاً یستفاد من شمول أدلّة الأصول، وإذا اختلفت الجهة فلا دور.

فإنْ قیل:

إنّه وإنْ ارتفع الدور، ولکن الإشکال هو أنّ أدلّة الأصول المرخّصة مخصَّصةٌ بالمورد الذی لیس الحکم فیه فعلیّاً من جمیع الجهات، ولو شک فی کونه فعلیّاً کذلک أوْ لا، کان التمسّک بالأدلّة من التمسّک بالدلیل فی الشّبهة الموضوعیّة للمخصّص.

وفیما نحن فیه، فإنّ مع القطع بعدم فعلیّة الحکم لم تکن حاجةٌ لقاعدة الحلّ مثلاً، فلابدّ من وجود الشک حتی نرفعه عن طریق شمول الأدلّة وإحراز عدم فعلیّة الحکم، فلو أرید الإحراز بالأدلّة لزم التمسّک بالدلیل فی الشّبهة الموضوعیّة للمخصّص.

قلنا:

إنّما یرد هذا الإشکال بناءً علی عدم جواز التمسّک بالدلیل فیالشّبهة الموضوعیّة للمخصّص مطلقاً، أی سواء کان المخصّص لبّیّاً أو لفظیّاً. وأمّا بناءً علی

ص: 102

جوازه إن کان لبّیّاً، فغیر وارد، والمخصّص هنا حکم العقل بعدم جریان الأصول إن کان الحکم فعلیّاً، وهو لبّی.

إشکال الإیروانی

وأشکل المحقّق الإیروانی(1) بأنّه: إذا کانت الفعلیّة من جمیع الجهات لصورة العلم التفصیلی، کان العلم دخیلاً فی تحقّق الفعلیّة، فإذن نحتاج إلی علمٍ آخر لتحقّق التنجّز _ لأنّ الفعلیّة هی المرتبة الثالثة، وللحکم مرتبة رابعة وهی التنجّز _ والحال أنّه لا یوجد علم آخر.

وبعبارة أُخری: إمّا یرفع الید عن المبنی ویجعل للحکم ثلاثة مراتب، ثالثها الفعلیّة، وإمّا یلتزم بضرورة علمٍ آخر من أجل تنجّز التکلیف.

الجواب:

وأجاب شیخنا: إن کان الدخیل فی الفعلیّة هو العلم، فالمراتب ثلاثة لا أربعة، وإن کان غیر العلم، کان الحکم مجهولاً، ولا تنجّز للحکم المجهول، ولابدّ من العلم من أجل التنجّز. فالمراتب أربعة.

الإشکال الوارد علی صاحب الکفایة

ویتّضح بمقدّمتین:

الأُولی: إنّه قد ذکر أنّ الحکم فی مرتبة الإنشاء لا أثر له حتی ولو علم به

ص: 103


1- 1. نهایة النهایة فی التعلیق علی الکفایة 2 / 124.

تفصیلاً، وفی هذه المرحلة تجری أدلّة الأصول النافیة بلا مانع. أمّا إذا وصل إلی المرتبة الثالثة _ وهی الفعلیّة _ حیث توجد الإرادة والکراهة والبعث والزجر، فلا یبقی إلاّ وصول الحکم إلی العبد، فإذا وصل انبعث وانزجر إن لم یکن العبد متمرّداً علی المولی.

الثانیة: إنّه قد قرّر عدم الفرق بین العلم التفصیلی والعلم الإجمالی إلاّ فی ناحیة المتعلَّق _ أی المعلوم _ فکلاهما حجّة وطریق عقلاً ومنجّز، وإنّ الجهل الموجود فی ناحیة المعلوم فی العلم الإجمالی هو الموضوع لجریان الأصول فی أطرافه، لکنْ لا جهل مع العلم التفصیلی، فلا موضوع لجریانها فی أطرافه.

بعد المقدّمتین:

إن حکم العقل بحرمة المخالفة القطعیّة من ناحیة العلم الإجمالی منجّز، لکنّ أدلّة الأصول معلَّقة، وإذا دار الأمر بین التعلیقی والتنجیزی تقدّم الثانی وارتفع به موضوع الأوّل.

توضیح ذلک:

إنّ متعلّق العلم الإجمالی نفس متعلّق العلم التفصیلی، غیر أنّه فی التفصیلی متعیَّن وفی الإجمالی غیر متعیَّن، فالإجمال هو فی ناحیة المعلوم وإلاّ فالحکم نفس الحکم، والعلم طریق إلی الواقع، فإذا تعلَّق العلم تحقّق موضوع حکم العقل بالإمتثال، فالمقتضی موجود وهو العلم وقیام الحجّة، والمانع مفقود، لأنّه مع العلم بالتکلیف الفعلی یحکم العقل بقبح الترخیص فی المخالفة، فکان دلیل الأصل معلّقاً ومقیّداً بعدم لزوم مخالفة المولی، وأمّا حکم العقل بالإطاعة فمنجّز.

ص: 104

إذن، لا تجری الأصول فی أطراف العلم.

طریق المیرزا

قد ذکرنا أنّ البحث فی العلم الإجمالی فی مقامین: حرمة المخالفة القطعیّة للمعلوم بالإجمال، ووجوب الموافقة القطعیّة. أمّا فی العلم التفصیلی، فلا کلام والحکم ثابت فی کلا المقامین.

ثمّ قلنا فی مقام حرمة المخالفة: أنّ أدلّة الأحکام الظاهریّة مختلفة، فتارة الأمارة وأُخری الأصل. والأصل تارة محرز، وأُخری غیر محرز، وعلی کلٍّ، فالأمارة والأصل تارة: مثبت للتکلیف، وأُخری: ناف.

قال المیرزا(1): أمّا الأمارة، فلا تجری فی أطراف العلم الإجمالی لتفید الحکم الظاهری، للزوم التعارض فی المدلول المطابقی والإلتزامی، سواء کانت مثبتةً للتکلیف أو نافیةً.

وأمّا الأصل، فإن کان محرزاً، فلا یجری کذلک، لعدم إمکان الجمع بین التعبّدین، وهما: مقتضی الأصل والعلم الوجدانی بالحکم.

وإن کان غیر محرز، فإن کان مثبتاً للتکلیف جری، لوجود المقتضی وعدم المانع، وإن کان نافیاً، فالمانع من جریانه هو لزوم الترخیص فی المخالفة القطعیّة وهو قبیح عقلاً.

هذا ملخّص کلامه.

ص: 105


1- 1. أجود التقریرات 3 / 414.

وشرح ذلک:

أمّا فی الأمارة، فإنّ مثبتات الأمارات حجّة، لأنّها طرق مجعولة إلی الواقع، وتفید أدلّة الأمارة إلغاء الشارع إحتمال الخلاف، فالأمارة کاشفة شرعاً عن الواقع. مضافاً إلی قیام السّیرة العقلائیّة علی ذلک. وحاصل المطلب کون الأمارة حجّةً فی دلالتها المطابقیّة وفی دلالتها الإلتزامیّة، وهذا معنی حجیّة مثبتاتها ولوازمها.

وعلیه: فلمّا علمنا بنجاسة أحد الإناءین وطهارة الآخر، فقامت البیّنة علی نجاسة أحدهما المعیّن، دلّت علی نجاسة الأحد المعیّن بالمطابقة، وطهارة الآخر بالإلتزام، وانحلّ العلم الإجمالی. ولکنْ لو قامت بیّنة أُخری علی طهارة ما أفادت الأولی نجاسته بالمطابقة، فإنّ المدلول الإلتزامی طهارة الآخر، فتقع المعارضة بین الدلالة الإلتزامیّة من طرف إحداهما والدلالة المطابقیّة من طرف الأُخری وبین العلم الإجمالی.

نعم، إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءین وکانت البیّنتان مثبتین للتکلیف بالنجاسة، فالمحذور هو التعارض بین المدلولین. وأمّا إذا کانتا نافیتین للتکلیف، بأن قامتا علی طهارة أحدهما، لزوم محذوران، أحدهما: التهافت بین المدلولین، والآخر: لزوم الترخیص فی المخالفة للتکلیف الإلزامی وهو المعلوم بالإجمال، لأنّ العلم بنجاسة أحد الإناءین یعنی وجوب الإجتناب.

وهذا بیان عدم جریان الأمارة فی أطراف العلم الإجمالی، سواء کانت مثبتةً للتکلیف أو نافیةً.

أمّا الأصول المحرزة، فإنّ المجعول فیها عند هذا المحقّق هو الجری

ص: 106

العملی والبناء علی أنّها هو الواقع _ بخلاف الأمارة، إذ المجعول فیها الطریقیّة إلی الواقع والکاشفیّة عنه، کما تقدّم _ ففی الإستصحاب یبنی علی الیقین السّابق فی ظرف الشک، فیکون الأصل المحرز برزخاً بین الأمارة والأصل غیر المحرز، فلمّا تستصحب الطّهارة فی موردٍ یراد عدم نقض الیقین بها بالشک اللاّحق من حیث العمل، ولا کاشفیّة أصلاً عن الواقع، أمّا فی قاعدة الطّهارة، فإنّه تُعتبر الطّهارة فی ظرف الشک والجهل بالواقع، فهی طهارة ظاهریّة. والحاصل: إنّه فی الإستصحاب محرزٌ للطّهارة «عملاً» أمّا فی قاعدة الطّهارة فلا إحراز، وفی الأمارة إحرازٌ بلا قید «عملاً»، فإذا جری إستصحابان للطّهارة مثلاً حصل هناک إحرازان تعبّدیان، فیقع التهافت بینهما والعلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین.

أمّا الأصول غیر المحرزة،

فإنْ کان مثبتاً للتکلیف، فالمقتضی للجریان موجود والمانع مفقود، مثلاً: یعلم إجمالاً بأنّ احدی النفسین محترمة والأُخری غیر محترمة، فإذا أراد إجراء أصالة الإحتیاط فی الدماء _ وهو مثبت للتکلیف _ کان المقتضی لجریانه فی الطرفین موجوداً، لإحتمال کون کلّ واحدةٍ محترمةً بالوجدان، والمانع مفقود.

وأمّا إن کان نافیاً للتکلیف، فإنّه سیکون ترخیصاً فی المعصیة، وهو قبیح.

الکلام علی الطریق المذکور

اشارة

کان هذا توضیح طریق المیرزا. فنقول:

أمّا فی الأمارة:

ص: 107

فإنّها إن جرت فی نجاسة طرفٍ واحدٍ فقط مثلاً، إنحلّ العلم الإجمالی، لأنّها ستدلّ بالملازمة علی طهارة الطرف الآخر ... وهذا واضح. أمّا لو قامت بنیتان، فالتعارض بین المدلولین المطابقی والإلتزامی حاصل کما ذکر. لکنّ الإشکال هو:

إنّ البحث غیر منحصر بقیام العلم الإجمالی علی نجاسة أحد الإناءین، بل هو جارٍ مع قیام العلمی أیضاً، فکما یبحث عن تنجیز العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، کذلک یبحث عن تنجیز البیّنة القائمة علی نجاسة أحدهما، فالبحث یعمّ کلّ حجّةٍ إجمالیّة، سواء کان العلم أو العلمی، فمع وجود العلم الإجمالی یقع التعارض بین البیّنتین ویتساقطان ویبقی العلم. أمّا لو قامت البیّنة علی نجاسة أحد الإناءین، فقامت بیّنة علی طهارة الإناء الأیمن، وأُخری علی طهارة الإناء الأیسر، فإنّهما ستتعارضان فیما بینهما وتتعارضان مع البیّنة الإجمالیة، وکذلک لو قامتا علی نجاسة هذا ونجاسة ذاک، وإذا تساقط الکلّ، کان المرجع هو الأصل النافی للتکلیف ... إذنْ، لابدّ من التفصیل بین «العلم» و«العلمی».

أمّا فی الأصول المحرزة

ولا یخفی أنّ مورد البحث ما لو جری أصلان محرزان فی الطرفین، أمّا لو جری فی واحد فالإنحلال کما هو واضح.

فقد أشکل المحقّق العراقی(1) علی المیرزا نقضاً وحلاًّ.

أمّا نقضاً، فإنّه إذا شک المصلّی المسبوق بالحدث فی الطّهارة بعد الفراغ

ص: 108


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 302.

من الصّلاة، جرت قاعدة الفراغ بالنسبة إلی الصّلاة الماضیة، ویجری إستصحاب الحدث بالنسبة إلی الصّلاة الآتیة، مع أنّه یعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحد الأصلین التنزیلیین للواقع.

لا یقال: إنّ الأصلین لا یخالفان الیقین السّابق، وإنّما یخالفان الیقین الإجمالی، فمورد قاعدة الفراغ هو صحّة الصّلاة، ومورد الإستصحاب هو الطّهارة من الحدث.

لأنّ المشکلة هی عدم إمکان الجمع بین الأصلین والعلم الإجمالی عقلاً، فقاعدة الفراغ محرزة لصحّة الصّلاة وتفید کون المصلّی متطهّراً خالیاً من الحدث، والإستصحاب أفاد بقاء الحدث للصّلاة الآتیة، وهذان الإحرازان لا یجتمعان مع الیقین إمّا بزوال الطّهارة وإمّا بعدم الحدث من أوّل الأمر.

وهکذا لو توضّأ بماءٍ مردّد بین الطّاهر والنجس، فإنّه یستصحب طهارة الأعضاء ویستصحب بقاء الحدث، ولکنّ إحرازه الوجدانی علی خلاف أحد الأصلین.

وأمّا حلاًّ، فإنّه لا تناقض بین الأصلین والإحراز الوجدانی، لأنّه یعتبر فی المناقضة وحدة الموضوع، وهو هنا مختلف. توضیحه:

إنّ الواقع هو وجود النجس بین الإناءین، ولهذا الواقع صورتان، تفصیلیّة وإجمالیّة وهی نجاسة أحدهما. فموضوع العلم الإجمالی هو «الأحد». أمّا الإستصحابان، فقد جری أحدهما فی «طهارة إناء زید» والآخر فی «طهارة إناء عمرو». فالمستصحب هو «الطّهارة» لهذا الإناء وذاک الإناء. فالموضوع مختلف

ص: 109

عن موضوع العلم الإجمالی، ویستحیل أن یتجاوز العلم عن موضوعه ویتعلَّق بالأحد المعیَّن حتی یتحقّق التناقض. وبالجملة: موضوع العلم الإجمالی هو: نجاسة أحد الإناءین. وموضوع کلٍّ من الإستصحابین هو: طهارة الإناء الخاص.

أقول:

سیأتی أنّ فی وجوب الموافقة القطعیّة وعدمه قولین، أحدهما: أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة، وهذا هو مختار العراقی(1)، إذ اختار أنّ العلم الإجمالی بوجود النجس فی البین یفید العلم بالحکم، وهو وجوب الإجتناب عن الإناءین، لأن کلاًّ منهما یحتمل إنطباق العلم والتکلیف المنجّز علیه، ویوجب حینئذٍ إحتمال العقاب علی الإرتکاب، فیجب الإجتناب عن کلیهما.

وعلی أساس ما ذکره هناک _ وسیأتی _ نقول: إذا کان العلم الإجمالی یستحیل تجاوزه عن المعلوم وخروجه عن الصّورة الإجمالیّة إلی التفصیلیّة، فإن إحتمال الإنطباق محال. فیدور أمر المحقّق العراقی بین أن یرفع الید عن هذا المبنی أو یرفع الید عن الإشکال علی المیرزا.

التحقیق فی المقام

أنْ یقال فی حلّ المطلب: إنّه لا تناقض بین الأُمور الإعتباریّة بما هی إعتباریّة، والأحکام الشرعیّة إعتباریّة، فللمعتبر أنْ یعتبر حرمة الشیء وأن یعتبر وجوبه، فلیس بین نفس الإعتبارین تعارض وتناقض. إنّما التناقض بین أثریهما،

ص: 110


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 307.

فالأوّل أثره الترک والإجتناب، والثانی أثره لزوم الإتیان، وبین الإجتناب والإتیان به تعارض وتناقض.

وکذلک الحال فیما نحن فیه، فإنّ شمول الإستصحابین لمورد العلم الإجمالی لا محذور فیه فی نفسه، لأن هذا یفید طهارة إناء زید والآخر یفید طهارة إناء عمرو، والطّهارة أمر إعتباری. کما أنّ النجاسة المعلومة إجمالاً فی البین أمر إعتباری، ولا مانع من اجتماعهما. إنّما المحذور فی أثر الإستصحابین من جهةٍ، وهو عدم وجوب الإجتناب عن الإناءین، وأثر العلم الإجمالی من جهة وهو وجوب الإجتناب.

فما ذهب إلیه المیرزا من لزوم التناقض بین الإستصحابین والعلم فی حدّ أنفسهما مردود.

وبالجملة، إنّ التناقض یکون إمّا فی مرحلة الملاک وإمّا فی مرحلة الإنشاء وإمّا فی مرحلة الإمتثال.

أمّا فی مرحلة الملاک، فإنّ ملاک المعلوم بالإجمال فی المتعلَّق، وملاک الإستصحاب فی نفس الجعل، فاختلف الموضوع.

وأمّا فی مرحلة الجعل والإنشاء، فقد تبیّن أنّه اعتبارٌ ولا تناقض بین الأمر الإعتباری والحکم الواقعی.

ویبقی مرحلة الإمتثال، وهناک التناقض کما ذکرنا.

وبعبارة أُخری: إنّ صورة العلم الإجمالی تارةً هی: العلم بنجاسة أحد الإناءین والعلم بطهارة أحدهما، وأُخری هی: العلم بنجاسة أحد الإناءین وإحتمال

ص: 111

طهارة أحدهما.

إن علمنا بنجاسة أحدهما واحتملنا طهارة أحدهما، فلا محذور هنا فی مرحلة جعل الإستصحاب، ولا فی مرحلة الغرض، ولا فی مرحلة الأثر ... فالقول بالمناقضة بین الإستصحابین والعلم الإجمالی مردود.

وإن علمنا بنجاسة أحدهما وطهارة أحدهما، فإنّ أثر الطّهارة هو الترخیص فی الإتیان بالمتعلَّق، وهذا الترخیص إنّما یؤثّر إذا لم یکن مانع عقلی، ومتی لزمت المخالفة القطعیّة، فالعقل یمنع من تأثیر الترخیص، فالعلم بطهارة أحدهما _ مع العلم بنجاسة أحدهما _ بلا أثر.

وممّا ذکرنا علم أنّه لا مانع من إجراء الإستصحابین المثبتین للتکلیف، کاستصحاب نجاسة هذا الإناء واستصحاب نجاسة ذاک الإناء، فإنّهما یکونان علی طبق العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما، ولا تناقض بینهما وبینه من حیث الأثر، فالمقتضی للجریان موجود والمانع مفقود.

طریق الاصفهانی وله مقدمات

طریق الاصفهانی

وله مقدمات(1):

المقدّمة الأُولی: إن الإنشاء من الأفعال الإختیاریّة، والفعل الإختیاری لا یکون بلا داعی، فتارة الداعی هو البعث والزجر، وأُخری الإمتحان، وثالثة الإستهزاء ... وهکذا ... فالإنشاءات تختلف باختلاف الدواعی، وإلاّ، فإنّ الإنشاء

ص: 112


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 235 _ 242.

شیء واحد ... وهو ما لم یصل إلی المکلَّف یکون فی مرحلة القوّة. أی إنّه فی قوّة البعث والزجر ... وفی قوّة الإستهزاء، وهکذا ... فإذا وصل کان بعثاً وزجراً ... ولذا فإنّ الحکم ما یمکن أن یکون داعیاً للمکلّف، فإن کانت نفسه خالیةً من الموانع کان الحکم داعیاً بالفعل. وهذا الإمکان متقوّم بالوصول إلیه، ولذا أشکل علی شیخه فی جعل الفعلیّة هی المرتبة الثالثة للحکم، وجعل التنجّز أی الوصول المرتبة الرابعة.

وعلی الجملة، إنّه لولا الوصول فلا فعلیّة، لأنّ الفعلیّة إن أرید منها الفعلیّة من قِبَل المولی، فهی متحقّقة بمجرّد الإنشاء، فإنّه إذا أنشأ فقد بعث وزَجَر، فالفعلیّة من قبله متقوّمة بالحصول، وإنْ أُرید منها الفعلیّة من قِبَل العبد، فإنّها متقوّمة بالوصول إلیه، ولذا، فإنّ للحکم مرتبتین فقط: الفعلیّة من قبل المولی والفعلیّة من قبل العبد، وهو وصول الحکم إلیه علماً أو علمیّاً.

المقدّمة الثانیة: ما هی حقیقة العلم الإجمالی؟

لا فرق بین العلم الإجمالی والتفصیلی، لا فی نفس العلم ولا فی المتعلَّق، إنّ العلم أمر موجود جزئی نفسانی، وکلّ أمر موجود جزئی نفسانی فلا یعقل أن یکون فیه إبهام وإجمال. إنّ الموجود عین المتشخّص والمتعیِّن. والوجود عین التشخّص والتعیّن. هذا بالنسبة إلی نفس العلم. وأمّا بالنسبة إلی متعلَّق العلم _ أی المعلوم _ فإنّ الموجودات علی قسمین: قسم مستقل فی الوجود وغیر متقوّم بالغیر، وقسمٌ متقوّم بالغیر مستند فی وجوده إلیه، ولولاه لم یتحقّق، مثل الحبّ والشوق والکراهة والبغض، فهذه الأُمور مستقلّة فی مفاهیمها لکنّها مستندة إلی

ص: 113

الغیر (الطرف) فی وجودها. والعلم من القسم الثانی.

ثمّ إنّ طرف العلم، إمّا أمر موجود فی الخارج وإمّا خصوصیّة موجودة فی الذهن، وتلک الخصوصیّة إمّا مردّدة وإمّا معیَّنة، لکنّ الطرف الخارجی لیس هو الطرف للعلم حقیقةً، لأنّ العلم أمر نفسانی، وما هو قائم بالنفس لا یمکن أن یتقوّم بالخارج، وإلاّ یلزم أن یکون النفسانی خارجیّاً أو یأتی الخارج إلی النفس، وکلاهما باطل.

إذن، للعلم الإجمالی طرفٌ ولا یعقل أن یکون بلا طرف. والطرف لیس هو الخارج، ولا الصّورة الذهنیّة المطابقة للخارج، لأنّ المفروض أنّه لیس تفصیلیّاً، ولا الأمر المردّد بین الأمرین، لأنّ المردّد لا ذات له ولا وجود، وکلّ ذات فهی متعیّنة کالإنسان والشجر والبقر، وکلّ وجود فهو متشخّص متعیّن. فالعلم الإجمالی القائم بالنفس لا الخارج غیر متقوّم بالصّورة المعیَّنة المتشخّصة ولا بالصّورة المردّدة، ولکنّه متقوّم بالطرف، فما هو الطرف؟

إنّه عبارة عن الجامع بین الخصوصیّتین، وهذا الجامع لا إجمال فیه.

فحقیقة العلم الإجمالی عبارة عن العلم بوجودٍ مّا لا یخرج من الطرفین.

فظهر أنْ لا إجمال، لا فی العلم ولا فی المعلوم.

فما الفرق بین العلم التفصیلی والعلم الإجمالی؟ وأین الإجمال؟

إنّ الإجمال هو فی طرف المعلوم، أی: إنّ ما لا یخرج من الطرفین یحتمل أنْ یکون هذا الطرف ویحتمل أنْ یکون ذاک.

فالعلم لا إجمال فیه، وکذلک متعلَّق العلم، فإنّه الحرمة الموجودة فی البین

ص: 114

مثلاً الجامعة بین الطرفین، وهذه الحرمة إمّا هنا وإمّا هناک.

وهذه المقدّمة ناظرة إلی کلام المحقّق الخراسانی القائل بأنّ الصّفات الحقیقیّة وکذا الأُمور الإعتباریّة یعقل تعلّقها بالمردّد، وعلیه، فالعلم الإجمالی عبارة عن العلم بحرمة أحد الشیئین علی وجه التردید. وکذا لو أوصی بعتق أحد العبدین، أو وقف احدی الدارین، أو طلّق احدی الزوجتین.

وخالف المحقّق الإصفهانی فقال بأنّ الصّفات الحقیقیّة کالعلم والجهل والحبّ والبغض لا تتعلّق بالمردّد، وکذا الأُمور الإعتباریّة.

المقدّمة الثالثة: إن ما یکون موضوعاً لاستحقاق العقاب ویحکم العقل بقبحه، لیس هو تفویت الغرض الواقعی للمولی من حکمه، ولا مخالفة حکمه الواقعی، ولا الإتیان بالمبغوض عنده أو ترک المحبوب له، بل الذی یُستحق علیه العقاب ویقبّحه العقل هو تفویت المکلّف الغرض الواصل إلیه، فما لم یصل إلی المکلَّف لا یقبح تفویته.

إنّ فعلیّة الحکم الشرعی بالوصول کما تقدّم، وفعلیّة الحکم العقلی باستحقاق العقاب علی المخالفة، تدور مدار الوصول کذلک.

المقدّمة الرابعة: إنّ الأفعال تنقسم إلی ثلاثة أقسام:

الأوّل ما لا یتّصف لو خلّی ونفسه بالحسن والقبح، وإنّما یتّصف بعروض عارض، کالأکل والشرب والقیام والقعود ونحوها.

والثانی ما یتّصف بذلک، ولکنّه یتغیّر بعروض العارض، کالصّدق والکذب.

ص: 115

والثالث ما یتّصف بذلک ولا یقبل التغیّر، کالعدل والظلم، فإنّ الأوّل حسن بذاته والثانی قبیح بذاته، ولا یخرجان عن ذلک.

خلاصة المقدّمات:

المقدّمة الأُولی: إنّ الوصول إلی المکلَّف قِوام الفعلیّة.

والمقدّمة الثانیة: إنّ العلم التفصیلی لیس توأماً مع الجهل والتردّد، والإجمالی توأم مع الجهل والتردّد، وهذا هو الفرق وإلاّ فکلاهما کشف وحجّة عقلاً.

والمقدّمة الثالثة: إنّ موضوع حکم العقل باستحقاق العقاب هو تفویت الغرض الواصل.

والمقدّمة الرابعة: إنّ مخالفة الغرض الواصل ظلم، وهو عنوان لا ینفک عن القبح وإستحقاق العقاب، والترخیص فیه قبیح.

والنتیجة:

إنّ العلم الإجمالی منجّز بالبرهان، والترخیص فی المخالفة القطعیّة من المولی محال، فإنّه مع فرض صدور البعث ووصوله، تقبح مخالفته، لأنّها ظلم، والترخیص فی الظلم قبیح.

ثمّ إنّ هذا المحقّق أورد علی نفسه بأنّ:

الواصل إلی المکلَّف فی مورد العلم الإجمالی هو الجامع بین الطرفین أو الأطراف، والخصوصیّة غیر واصلة، وحینئذٍ _ وإنْ حُرمت المخالفة القطعیّة _ تکون

ص: 116

الموافقة القطعیّة غیر واجبة، وإلاّ یلزم رفع الید عن المقدّمة الأُولی.

فأجاب: إنّ موضوع حکم العقل بالقبح وإستحقاق العقاب هو صدق عنوان «الظلم» علی المولی بعدم المبالاة لحکمه، والمولی لا یرخّص فی ذلک ألبتة، ونحن فی مورد العلم الإجمالی لمّا نعلم بوجود المبغوض للمولی بین الطرفین، فإنّ إرتکاب أحدهما یعتبر عدم المبالاة بحکم المولی. وکذا إذا علمنا بوجود الواجب بین الطرفین، فإنّ ترکه عدم المبالاة بحکمه، فالمقتضی لحکم العقل باستحقاق العقاب بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة موجود. إنّما الکلام فی أنّه لا یقبل الترخیص مثل حرمة المخالفة القطعیّة أوْ یقبل؟ هذا أمر آخر سیأتی تفصیله فی المقام الثانی.

وتلخّص: حرمة المخالفة القطعیّة، حکم العقل بالنسبة إلیها، وأمّا بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة، فالحکم العقلی فی مرحلة الإقتضاء. وما اُورد من أنّه لا تجب الموافقة القطعیّة لعدم الوصول مردود.

هذا تقریر ما ذهب إلیه المحقّق الإصفهانی رحمه اللّه.

الکلام حول الطریق المذکور:

اشارة

وللنظر فیما ذکر مجال واسع:

فی المقدّمة الأُولی

أمّا ما ذکره فی المقدّمة الأُولی، ففیه: إنّ قوّة الشیء لیس هو الشیء، فقوّة

ص: 117

الإنسان لیس بإنسان، ولذا یصحّ السلب ولو کان هو لَما صحّ. وأیضاً: فإنّ الحکم من الأُمور الإختیاریّة للحاکم، وعلی هذا، فإنّ الحکم إذا صدر اتّصف المولی بالحاکمیّة وإنْ لم یصل الحکم إلی المکلّف، فهو قد حَکَم حقیقةً، ولکنّ مقتضی ما ذکره من تقوّم الحکم بالوصول وانّه لولاه فی قوّة الحکم ولیس بالحکم صحّة سلب عنوان الحاکمیّة من المولی، وهذا خلف.

هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ کلّ حکم _ شرعیّاً کان أو عقلیّاً _ فهو متأخّر عن موضوعه رتبةً، وحکم العقل باستحقاق العقاب موضوعه هو الحکم الفعلی لا الإنشائی. وعلیه، فإن قوله بأنّ الفعلیّة والتنجّز فی مرتبةٍ واحدة _ وأمّا قبل ذلک فالحکم فی مرتبة الإنشاء _ یستلزم أن یکون موضوع حکم العقل باستحقاق العقاب هو الحکم الإنشائی _ لضرورة تقدّم الموضوع علی الحکم _ وهذا أیضاً خلف.

بل الحق أنْ یقال: بأنّ فعلیّة الحکم _ لا تدور مدار الوصول _ إنّما تدور مدار فعلیّة موضوعه، سواء کان واصلاً أوْ لا. وتوضیح ذلک هو: إنّ الحکم فی مرتبة الإنشاء بداعی جعل الداعی یتوجّه إلی الموضوع المقدَّر الوجود، وحینئذٍ یکون فعلیّاً من قبل المولی، فهو یقول: کلّما تحقّق المستطیع وجب علیه الحج. وهذا الحکم یبقی فی مرحلة الإنشاء _ أی الفعلیّة من قبل المولی _ حتی یتحقّق موضوعه وهو المستطیع، فإذا تحقّق حصلت له الفعلیّة وحکم العقل باستحقاق العقاب علی المخالفة.

فما ذهب إلیه عدّة من الأعاظم _ من أنّ لکلّ حکم مرتبتین، مرتبة الإنشاء

ص: 118

والجعل بنحو القضیّة الحقیقیّة، ومرتبة الفعلیّة بتحقّق الموضوع بجمیع قیوده. وحینئذٍ، فإنْ کان واصلاً إلی المکلَّف حکم العقل بالتنجیز وإلاّ حکم بالتعذیر ... فالفعلیّة غیر التنجیز، ولیسا مرتبةً واحدة _ هو الصّحیح.

فی المقدّمة الثانیة

وأمّا ما ذکره فی المقدّمة الثانیة من أنّ العلم لا یتعلّق بالمردّد، فهذا حق، لأنّ المردّد لا ماهیّة له ولا وجود.

لکنّ قوله بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع وهو لا ینجّز الخصوصیّة غیر صحیح، لأن:

الجامع علی قسمین، قسمٌ لا یقبل الحکایة عن الخصوصیّة مثل الإنسان، فإنّ العلم بالإنسان لا یتجاوز عن الإنسان، وقسمٌ یقبل ذلک، مثل مصداق الإنسان، فإنّه عنوان کلّی ینطبق علی الخصوصیّات، لأنّ ذاتی «مصداق الإنسان» هو الحکایة عن الفرد. وعلی هذا:

ففی مورد العلم الإجمالی، لیس متعلَّق العلم هو الکلّی، حتی یقال إنّه غیر منجّز للخصوصیّة، ولا المردّد حتی یقال لا ماهیة له ولا وجود، بل هو الجامع الإنتزاعی من قبیل مصداق الإنسان، فعنوان «أحد الإناءین» قابل للصّدق علی کلّ واحدٍ منهما، لأن کلّ واحدٍ منهما أحد الإناءین حقیقةً، فهو جامع ینطبق علی کلٍّ من الفردین.

ص: 119

فی المقدّمة الرابعة

وأمّا ما ذکره فی المقدّمة الرابعة تقسیم العناوین إلی ثلاثة أقسام، فالکلام علیه هو:

هل الحسن للعدل والقبح للظلم ذاتیّان لهما؟ قولان.

والقول الآخر هو: إنّ الذاتی منحصر فی ذاتی باب الکلیّات الخمس وذاتی باب البرهان(1).

ومختار المحقّق الإصفهانی هو الثانی، وأنّ الحسن والقبح لیسا من الذاتیّات الواقعیّة للعدل والظلم، بل هما من القضایا المشهورة التی تطابقت علیها آراء العقلاء حفظاً للنظام.

وهذا المبنی عندنا مخدوش.

ومجمل الکلام علیه هنا هو: إنّ العلّة لقبح الظلم أصبحت اختلال النظام، ولمّا کانت الحیثیّة التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة حیثیّةً تقییدیّةً، یکون اختلال النظام قیداً لقبح الظلم، وحینئذٍ یرد إشکالان:

الأوّل: عدم کون القبح ذاتیّاً للظلم، بل إنّ منشأ قبحه اختلال النظام. وهذا خلف.

ص: 120


1- 1. المراد من ذاتی باب البرهان ما یکون وضع ذات الشیء کافیاً فی الإنتزاع، مثل إمکان الممکن ووجوب الواجب وامتناع الممتنع، فإن إمکان الممکن _ مثلاً _ لیس بجنس ولا فصل ولا نوع ولا عرض عام ولا عرض خاص، لکنّه ذاتی، بمعنی أنّ نفس ذات الممکن یکفی لأن یحکم العقل علیه بعدم الإباء عن الوجود والعدم.

والثانی: أنّه إنّما یقبح الظلم علی المولی لو اختلّ النظام به وإلاّ فلا قبح. وهذا ممّا لا یلتزم به.

والتحقیق:

إنّ قبح الظلم ذاتی، ولیس إعتباریّاً ناشئاً من تطابق الآراء حفظاً للنظام، فهو مثل الزوجیّة للأربعة، وهو قبیح حتی لو لم یکن نظامٌ أصلاً، ویوجب الخروج عن رسم العبودیّة للمولی ولو لم یکن فی الوجود عقلاءٌ أصلاً.

المختار فی المقام

هو حرمة المخالفة القطعیّة، وعدم جواز الترخیص فیها، لأنّه ترخیص فی الظلم وهو قبیح، ولکنّ نقطة الخلاف هی إنّ الظلم قبیح ذاتاً لا لکونه مخلاًّ للنظام.

إنّه لا یعقل الترخیص فی المخالفة القطعیّة للزوم محالات:

الأوّل: نقض الغرض.

إنّ الأحکام الإلآهیة معلّلة بالأغراض، فالواجبات یجب الإلتزام بها، والمحرمات یجب الإجتناب عنها، تحصیلاً للغرض. وجعل المرخّص معناه عدم لزوم الإلتزام، وهذا نقض الغرض.

الثانی: التناقض فی حکم العقل.

لأنّ العقل یحکم بلزوم إطاعة المولی عند قیام الحجّة علی التکلیف، فلو جعل الترخیص من قبله، حکم العقل من أجله بحریّة المکلّف وعدم لزوم إطاعة المولی فی الأحکام التی قامت علیها الحجّة.

ص: 121

الثالث: الترخیص فی القبیح.

وهذا من المولی محال.

وتلخّص: إنّ الترخیص فی المخالفة القطعیّة محال من وجوه ثبوتیّة ثلاثة، اثنان منها ذاتیان والثالث بالعرض.

هذا کلّه ثبوتاً.

أمّا إثباتاً:

فقد ذکر الشّیخ ما محصّله: إنّ مفاد أدلّة الأصول العملیّة کلّها هو جعل الحکم الظاهری حیث یوجد الجهل، فإذا وجد العلم ارتفع الحکم الظاهری، والعلم أعمّ من التفصیلی والإجمالی. مثلاً: جاء فی ذیل دلیل الإستصحاب: «انقضه بیقین آخر»، ومعنی ذلک أنّه مع الیقین لا یوجد الحکم الظاهری. وعلی هذا، ففی أطراف العلم الإجمالی وإنْ کان لصدر الخبر موضوعٌ لوجود الشک بالنسبة إلی کلٍّ منها، ولکنّ ذیله یقتضی عدم الجریان فی الأطراف، فیقع التناقض بین الصّدر والذیل.

أشکل علی الشیخ

أوّلاً: إنّا نتمسّک من الأدلّة بما لیس فیه العلم غایةً للحکم، فإنّ هذه النصوص لا یلزم فیها التناقض صدراً وذیلاً حتی لا تجری، بل تکون جاریةً فی أطراف العلم.

وفیه: هذا یتمّ فی أدلّة الإستصحاب فقط، حیث أنّ بعضها خالٍ من الذیل، لکنّ دلیل قاعدة الحلّ والبراءة مشتمل علی الغایة.

ص: 122

وثانیاً: إن العلم المأخوذ غایةً فی الأدلّة، هو العلم بنفس ما تعلَّق به الجهل، وفی مورد العلم الإجمالی یکون متعلَّق الجهل هو الخصوصیّة، ومتعلَّق العلم هو الجامع بین الطرفین _ بعنوان ما لا یخرج عنهما، أو بعنوان أحدهما _ والذی تعلَّق به الجهل غیر الذی تعلَّق به العلم وهو أحد الأمرین.

إذن، لا نجد فی الأدلّة دلالة علی المنع من جریانها فی أطراف العلم الإجمالی.

وتحصّل: أنّ المانع من جریان الاصول فی أطراف العلم الإجمالی هو المانع الثبوتی.

والنتیجة:

عدم جواز المخالفة العملیّة القطعیّة للمعلوم بالإجمال.

ویقع الکلام فی وجوب الموافقة القطعیّة.

الکلام فی وجوب الموافقة القطعیّة
اشارة

وعمدة البحث فی هذا المقام فی أنّ العلم علّة تامّة فی هذه الجهة _ کما کان کذلک فی جهة المخالفة القطعیّة _ أو أنّه فی مرحلة الإقتضاء، فلو جاء أصلٌ بلا معارض فی أطراف العلم أثّر أثره؟ قولان:

ذهب إلی الأوّل جماعة کالمحقّق الإصفهانی والمحقّق العراقی.

وإلی الثانی آخرون، کالمحقّق النائینی والمحقّق الخوئی.

ص: 123

نظریّة العلیّة استدلّ للقول بالعلیّة بوجهین:
الوجه الأول: ما ذکره صاحب الکفایة
اشارة

الوجه الأوّل: ما ذکره فی الکفایة من التلازم بین حرمة المخالفة القطعیّة ووجوب الموافقة القطعیّة. ووجه التلازم هو: أنّ الترخیص فی المخالفة القطعیّة یُناقض الحکم الموجود فی البین والمعلوم إجمالاً، والترخیص فی الموافقة القطعیّة _ بأنْ یُکتفی بالموافقة الإحتمالیّة _ یناقضه إحتمالاً.

وکما أنّ التناقض الحتمی محال، کذلک التناقض الإحتمالی.

إشکال السیّد الخوئی

أشکل السیّد الخوئی(1): «بأن فعلیّة الحکم إنّما هی بفعلیّة موضوعه بما له من الأجزاء والقیود، فإنّ نسبة الحکم إلی موضوعه أشبه شیء بنسبة المعلول إلی علّته التامّة، فیستحیل تخلّف الحکم عن موضوعه ... فلو أراد من قوله: إنّ الحکم الواقعی قد یکون فعلیّاً من جمیع الجهات: أنّ العلم التفصیلی مأخوذ فی موضوعه کما یظهر من قوله: إن علم به المکلّف یکون فعلیّاً، فیردّه الإجماع والروایات الدالّة علی اشتراک الأحکام بین العالم والجاهل ... وإنْ أراد أن العلم لم یؤخذ فی موضوع الحکم الواقعی، ومع ذلک لا یکون فعلیّاً قبل العلم به. ففیه: إنّه غیر معقول، لاستلزامه الخلف علی ما تقدّم بیانه».

ص: 124


1- 1. مصباح الأصول: 349.
نصّ عبارة الکفایة:

أقول: هذا نصّ الکفایة(1):

«ثمّ إنّ الظاهر أنّه لو فرض أنّ المعلوم بالإجمال کان فعلیّاً من جمیع الجهات لوجب عقلاً موافقته مطلقاً، ولو کانت أطرافه غیر محصورة، وإنّما التفاوت بین المحصورة وغیرها هو أنّ عدم الحصر ربّما یلازم ما یمنع عن فعلیّة المعلوم، مع کونه فعلیّاً لولاه من سائر الجهات.

وبالجملة، لا یکاد یری العقل تفاوتاً بین المحصورة وغیرها، فی التنجّز وعدمه، فیما کان المعلوم إجمالاً فعلیّاً، یبعث المولی نحوه فعلاً أو یزجر عنه کذلک، مع ما هو علیه من کثرة أطرافه.

والحاصل، أنّ اختلاف الأطراف فی الحصر وعدمه لا یوجب تفاوتاً فی ناحیة العلم، ولو أوجب تفاوتاً فإنّما هو فی ناحیة المعلوم فی فعلیّة البعث أو الزجر مع الحصر، وعدمها مع عدمه، فلا یکاد یختلف العلم الإجمالی باختلاف الأطراف قلّة وکثرة فی التنجیز وعدمه، ما لم یختلف المعلوم فی الفعلیّة وعدمها بذلک، وقد عرفت آنفاً أنّه لا تفاوت بین التفصیلی والإجمالی فی ذلک، ما لم یکن تفاوت فی طرف المعلوم أیضاً، فتأمّل تعرف.

وقد انقدح أنّه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعیّة مع حرمة مخالفتها، ضرورة أنّ التکلیف المعلوم إجمالاً لو کان فعلیّاً لوجب موافقته قطعاً، وإلاّ لم یحرم مخالفته کذلک أیضاً.

ص: 125


1- 1. کفایة الأصول: 359.

ومنه ظهر أنّه لو لم یعلم فعلیّة التکلیف مع العلم به إجمالاً، إمّا من جهة عدم الإبتلاء ببعض أطرافه، أو من جهة الإضطرار إلی بعضها معیّناً أو مردّداً، أو من جهة تعلّقه بموضوع یقطع بتحقّقه إجمالاً فی هذا الشهر، کأیّام حیض المستحاضة ... ».

وحاصل مراده:

تارة: التکلیف فعلیّ من جمیع الجهات بحیث أنّه قد تعلَّقت به الإرادة أو الکراهة والبعث والزجر علی ما هو علیه من الإجمال والتردید، فإنّ العلم الإجمالی بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة علّة تامّة، للزوم التناقض فی الترخیص، ولا فرق بین الشّبهة المحصورة وغیر المحصورة.

وإذا تمّ هذا فی طرف حرمة المخالفة القطعیّة، فهو یتم فی طرف وجوب الموافقة القطعیّة کذلک، فهو علّة تامّة هنا أیضاً، للتلازم بین المقامین، وقد ذکرنا وجه التلازم.

والحاصل: إنّ وصول الحکم المعلوم بالإجمال إلی مرحلة البعث والزجر کان معناه وجود المصلحة أو المفسدة الملزمة فی البین، وأنّ الشارع لا یرضی بتفویت المصلحة أو الوقوع فی تلک المفسدة، فجعله المرخّص فی هذه الحالة تناقض. نعم إن کان المرخّص فی بعض الأطراف فهو تناقض إحتمالی، لکن التناقض محال سواء کان یقیناً أو إحتمالاً.

ثمّ قال: نعم لو لم یصل التکلیف إلی مرحلة الفعلیّة من جمیع الجهات، فلا المخالفة محرمة ولا الموافقة واجبة.

وعلی الجملة، إنّه إذا کان العلم فعلیّاً من جمیع الجهات کان علّةً تامّة.

ص: 126

النظر فی إشکال السیّد الخوئی

والجواب عن الإشکال واضح بالتأمّل فی کلام الکفایة. لقد أفاد أنّ التکلیف فعلیٌّ من جمیع الجهات. أی أنّ الإرادة أو الکراهة والبعث أو الزجر محقَّقان حتی مع کون العلم إجمالیّاً، وإذا کان کذلک فالتلازم بین حرمة المخالفة ووجوب الموافقة ثابت. أمّا مع فرض إعتبار العلم التفصیلی فی الفعلیّة، فلا حرمة للمخالفة ولا وجوب للموافقة، لفرض عدم العلم التفصیلی.

لم یقل صاحب الکفایة: بأنّ التکلیف مقیَّد بالعلم حتی یشکل علیه بأنّه خلاف النصّ والإجماع أو أنّه خلفٌ. بل قال: بأنّ التکلیف یتقیّد تارةً بالعلم وأُخری یکون مطلقاً بالنسبة إلیه. وفی الصّورة الثانیة یستلزم جعل الترخیص فی بعض الأطراف التناقض وهو محال.

والحاصل: إنّ الکبری التی ذکرها تامّة، ولا یتوجَّه إلیها الإشکال، ویبقی الکلام فی الصغری ولم یتعرّض لها السیّد الخوئی.

الوجه الثانی: ما ذکره العراقی وله مقدّمات:
اشارة

الوجه الثانی: ما أفاده المحقّق العراقی(1) مستشکلاً علی المحقّق المیرزا القائل بکون العلم مقتضیاً لا علّةً تامّةً. وهو یتمّ ضمن مقدّمات:

المقدّمة الأُولی

إنّ التکلیف إذا تنجّز فهو غیر قابل للترخیص فیه، لا قطعاً ولا إحتمالاً _ بل الترخیص یکون حیث لا تنجیز قطعاً کالشّبهة البدویّة _ . لأنّ الترخیص مع التنجّز

ص: 127


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 307.

إذنٌ فی المعصیة وهو محال، وکذلک فی محتمل التنجیز، فإنّه ترخیص فی محتمل المعصیة، وهو محال ... ولذا تقرَّر أنّ الإشتغال الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی، لوجوب دفع العقاب المحتمل. وعلیه، فالموافقة القطعیّة واجبة، لأنّه مع الموافقة الإحتمالیّة یکون إحتمال العقاب باقیاً. نعم، لو زال إحتمال العقاب أمکن جعل المرخّص، ولا ریب أنّ العلم بیان، ومعه لا تجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان، بل تجری قاعدة الإشتغال.

المقدّمة الثانیّة

إنّ التنجیز وإستحقاق العقاب علی المخالفة متقوّم بأمرین: أحدهما التکلیف الواقعی، والآخر قیام الطریق المعتبر والحجة علیه، سواء کان من العقل أو الشرع، وبزوال کلٍّ من الأمرین ینتفی التنجیز. مثلاً: لو وصل الحکم ولیس له واقعیّة، فهذا علمٌ بلا واقع، مثل الجهل المرکّب، ولو کان هناک واقع بلا وصول کذلک لا یتم إستحقاق العقاب، لجریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

إذن، التنجیز یدور مدار وجود الواقع وقیام البیان علیه.

والعلم الإجمالی بیان بلا إشکال، وهو طریق إلی الواقع، ولا فرق بینه وبین العلم التفصیلی.

المقدّمة الثالثة

إنّ الجامع علی قسمین:

ص: 128

1_ الجامع قبل الإنطباق، وهو عبارة عن الطبیعیّ، مثل الصّلاة فی «أقم الصّلاة». وهذا الجامع لا حکایة له عن الخصوصیّة.

2_ الجامع بعد الإنطباق، کما لو صلّی ثمّ علم ببطلان إحدی صلواته، فمتعلَّق العلم هو الجامع بین الصّلوات لا فرد منها، لکن هذا الجامع قد انطبق علی أفراده ثمّ حصل العلم به.

وفی العلم الإجمالی، یکون متعلَّق العلم هو الجامع لا الخصوصیّة، لأن کلاًّ من الخصوصیّات مشکوک فیه، لکنّ هذا الجامع له حکایة إجمالیّة عن الخصوصیّة. وقد جَعَل نظیر المقام، لو رأی شَبَحاً من بعید، فإنّه شَبَح فرد من الإنسان، ولکنّه شَبَحٌ، أی صورة إجمالیّة لا تفصیلیّة لفرد الإنسان.

فی مورد العلم الإجمالی یوجد علمٌ ویوجد شکٌ، فهو یحکی عن الخصوصیّة، لکنْ حکایةً إجمالیة لا تفصیلیّة، وعلیه، فالخصوصیّة تتنجّز بالعلم. لکنْ الخصوصیّة الإجمالیّة.

المقدّمة الرابعة

إن حکم العقل بلزوم تحصیل الفراغ بعد الإشتغال تنجیزی ولیس بتعلیقی، سواء کان الفراغ وجدانیاً أو تعبدیّاً، وإلاّ، فإنّ العقاب محتمل وقد تقدّم أنّ جعل الترخیص فی مورد إحتمال العقاب محال. ولا یرتفع الإحتمال إلاّ بالإتیان بالمکلَّف به أو یکون مقبولاً لدی الشارع فی مقام الإمتثال.

وعلی الجملة، فإنّه إذا علم بوجوب صلاةٍ جامعةٍ للشرائط علیه، وشک فی

ص: 129

کون الصّلاة المأتی بها کذلک، کان براءة ذمّته مشکوکةً والإشتغال باق، وإحتمال العقاب علی حاله، ولا یعقل إجراء البراءة مثلاً.

ولا فرق فی ذلک بین العلم الإجمالی والعلم التفصیلی، ولو جاز اجراء البراءة لجاز مع العلم التفصیلی.

والحاصل، إنّه مع العلم مطلقاً بالتکلیف لابدّ من تحصیل الفراغ الیقینی، وهو لا یتحقّق إلاّ بالموافقة القطعیّة.

المقدّمة الخامسة

للشارع أن یجعل البدل فی مقام الفراغ، سواء مع العلم الإجمالی أو التفصیلی، بأنْ یکتفی بغیر الواقع عن الواقع لمصلحة التسهیل علی العباد، کما هو الحال فی قاعدة الفراغ مثلاً، إذ تتقدّم علی قاعدة الإشتغال، حیث أنّ الذمّة مشغولة بالصّلاة مع السّورة، ولکن الشارع عند الشک فی الإتیان بالسّورة بعد السّلام یکتفی بالصّلاة المأتی بها المشکوک فی اشتمالها علی السّورة. وعلی الجملة، فهو لا یرفع الید عن التکلیف فی مقام الإشتغال، وإنّما یجعل البدل عنه فی مقام الإمتثال ویکتفی به، لمصلحة التوسعة علی العباد، لأنّ المفروض أنّ المکلّف کان ملتفتاً إلی العمل حین العمل، وعلی هذا السّیرة العقلائیّة.

لکنّ جعل البدل فی أطراف العلم الإجمالی بإجراء الأصل فی بعضها _ بأنْ یقال بأن جریانه فی طرفٍ یثبت بالملازمة کون النجس _ مثلاً _ فی الطرف الآخر، فیرتکب ما قام علیه الأصل، ویجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع _ غیر صحیح،

ص: 130

لأن کون الطّرف الآخر بدلاً عن الواقع هو اللاّزم العقلی لقیام الأصل، وهذا أصل مثبت ... نعم، لو کان القائم علی الطّهارة فی طرف أمارةً من الأمارات، فإن لازم الأمارة حجة وینحلُّ العلم الإجمالی.

وعلی الجملة، فإنّه لا یتم جعل البدل بالأصل العملی، وعلیه یکون الواجب الإجتناب عن کلا الطرفین، وهذا هو الموافقة القطعیّة.

إشکالات السیّد الخوئی

قال السیّد الخوئی(1): فیه:

«النقض بما لو فرض کون الأصل الجاری فی بعض الأطراف نافیاً دون البعض الآخر، کما لو علم إجمالاً بوقوع نجاسة فی أحد الإناءین وکان أحدهما متیقّن النجاسة سابقاً، فإن أصالة الطّهارة تجری فی غیر مستصحب النجاسة بلا إشکال، مع أنّ العلم بوجود تکلیف فعلی موجود بالوجدان.

وتوهّم: أنّ التکلیف فی مستصحب النجاسة ثابت قبل تحقّق العلم الإجمالی علی الفرض، فالعلم بوقوع النجاسة فیه أو فی غیره لا یوجب علماً بحدوث تکلیف جدید، فلا یقاس المقام بذلک.

مدفوع: بأن سبق النجاسة فی أحد الإناءین لا یضرّ بالعلم بالتکلیف الفعلی المردّد بین کونه ثابتاً من الأوّل وحدوثه فعلاً، فلو أمکن جعل الحکم الظاهری

ص: 131


1- 1. مصباح الأُصول: 349 _ 350.

والإمتثال الإحتمالی فی هذا الفرض، أمکن فی غیره أیضاً، لوحدة الملاک إمکاناً وامتناعاً.

وإنْ شئت قلت: إنّ العلم الإجمالی لا یزید علی العلم التفصیلی، فکما یجوز أنْ یکتفی الشارع فی مورد العلم التفصیلی بالتکلیف بالإمتثال الإحتمالی، کما فی مورد قاعدة الفراغ والتجاوز، کذلک یجوز له الإکتفاء بالإمتثال الإحتمالی فی موارد العلم الإجمالی بطریق أولی».

المناقشة

وفیه: إنّ مورد العلم الإجمالی هو القضیّة المنفصلة، فالنجس إمّا هنا وإمّا هناک، وعندما یکون أحد الطرفین مسبوقاً بالنّجاسة، فإنّه لا قضیّة منفصلة کذلک، بل یقال: هذا (المستصحب النجاسة) نجس وذاک مشکوک النجاسة ... فإذن، ما ذکره قیاسٌ مع الفارق. فبحثنا هو فی العلم الإجمالی بأنْ یکون الطرفان علی السواء، إمّا وإمّا ... ویراد جعل الأصل النافی فی طرفٍ. هذا مورد بحثنا، أمّا أنْ یکون فی طرفٍ أصل مثبتٌ للتکلیف _ کما ذکر السیّد الخوئی _ فهذا خارج عن البحث، والعراقی نفسه قد استثنی هذا المورد، فکیف لم یلتفت السیّد الخوئی إلی کلامه؟

والحاصل: إنّ مورد بحثنا هو إشتغال الذمّة وأنّه لابدّ من الفراغ الیقینی، وفی المورد الذی نقض به لا یوجد إشتغال بل یوجد أصل مثبت للتکلیف فی طرفٍ، فموضوع العلم الإجمالی منتف. وهذا حلّ المطلب.

ص: 132

قال رحمه اللّه _ بعد النقض المذکور:

الحلّ: بأنّ موضوع الاصول إنّما هو الشک فی التکلیف، وهو موجود فی کلّ واحدٍ من الأطراف بخصوصه، فإن إحتمال إنطباق التکلیف المعلوم بالإجمال إنّما هو عین الشک فی التکلیف، فلا مانع من جعل الحکم الظاهری فی بعض الأطراف بحسب مقام الثبوت.

أقول:

توضیحه: إنّه لا ریب فی أن تعلّق التکلیف بکلٍّ من الأطراف مشکوک فیه بالوجدان، ومع الشک تجری البراءة أو قاعدة الحلّ أو الطّهارة، فالمقتضی لجریان الأصل المرخّص موجود. وأمّا المانع فلیس إحتمال أنْ تکون النجاسة المعلومة بالإجمال _ مثلاً _ فی الطرف الذی اُجری فیه الأصل، لکن «الإحتمال» عین «الشک»، فالمقتضی للجریان فی بعض الأطراف موجود ولا مانع عنه.

وفیه: إنّه وإنْ کان التکلیف فی کلّ طرف مشکوکاً فیه، لکن إحتمال إنطباق المعلوم بالإجمال علیه موجود بالوجدان، فالشک فی التکلیف فیه مقرون باحتمال إنطباق تکلیفٍ منجّز علیه، فیکون موضوعاً لقاعدة الإشتغال الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی.

وبعبارة أُخری: فرقٌ بین مورد الجهل المحض بالتکلیف، ومورد الجهل المقرون بالعلم به ولو إجمالاً، وجریان الأصل یختصّ بالمورد الأوّل وهو مورد الشبهات البدویّة، أمّا فی المورد الثانی، فیحتمل الوقوع فی المعصیة، وترخیص الشارع الموجب لإحتمال الوقوع فیها محال، کترخیصه فی الموجب للوقوع فیها یقیناً.

ص: 133

وممّا ذکرنا ظهر ما فی بیان المحقّق الإصفهانی، وحاصله: إنّ ترک الموافقة القطعیّة ظلم علی المولی وهو قبیح، والقبیح لا یقبل الترخیص.

فإنّ فیه: إنّ عدم المبالاة بحکم المولی وترک الموافقة القطعیّة له لا یجوز بلا إذن منه، فإذا کان إذن فلا «لا مبالاة» فلا «ظلم».

وبالجملة، کون ترک الموافقة القطعیّة ظلماً تعلیقی لا تنجیزی، ویشهد بذلک أنّه إذا جاء نصّ خاصّ من المولی بجواز إرتکاب أحد الإناءین، فلا یظنّ بفقیه أنْ یلتزم بعدم جواز الإرتکاب. نعم، مجیء هذا الترخیص یکشف عن کون الطّرف الآخر بدلاً. لکنّ المحقّق العراقی یقول: لا یمکن للإطلاق جعل البدل. فقیاس ما نحن فیه علی المخالفة القطعیّة مع الفارق.

هذا تمام الکلام علی مبنی المحقّق العراقی فی المقام، وملخّصه أنّه ما دام العلم الإجمالی موجوداً، فإن جعل الترخیص فی أطرافه محال. اللهمّ إلاّ أن ینحلّ العلم أو یجعل الشارع بدلاً عن الواقع، وإلاّ فالعلم علّة تامّة.

ثمرة هذا الوجه

وتظهر نتیجة هذا الوجه فیما لو کان فی طول أحد الطرفین أصل آخر، مثلاً:

لو علم إجمالاً بنجاسة الثوب أو الماء، جرت قاعدة الطّهارة فی کلّ واحدٍ من الطرفین، لکن توجد فی طول قاعدة الطّهارة فی طرف الماء أصالة إباحة شرب الماء، لأنّ ذلک أثر طهارة الماء، فإباحة شربه مسبّبةٌ عن طهارته، لکنّه عندما یجری الأصل فی السّبب یستحیل جریانه فی طرف المسبّب. وفیما نحن فیه: لمّا

ص: 134

تعارض قاعدة الطّهارة فی الطرفین وتساقطا، فهل یجری أصالة الإباحة فی الماء لیفید جواز الشّرب؟

إن کان العلم علّةً تامّة للموافقة القطعیّة، فلا یجری أصالة الإباحة.

وإن کان العلم الإجمالی فی مرحلة الإقتضاء، جرت أصالة الإباحة، لکونها أصلاً بلا معارض.

وهذه ثمرة نظریّة العراقی.

نعم، فی هذا المثال، قال المیرزا _ القائل بالإقتضاء _ أیضاً بعدم جریان أصالة الإباحة، لأنّ الأصول الثلاثة کلّها تسقط بالمعارضة، إذ السببیّة _ وإن کانت بین طهارة الماء وشربه _ منتفیة بین أصالة إباحة شرب الماء وقاعدة طهارة الثوب، ولذا تتساقط کلّها.

فیظهر أنّ هنا بحثین، أحدهما: کبروی فی أنّ العلم علّة تامّة أوْ لا؟ والآخر: صغروی، وهو فی موارد العلم الإجمالی وأن یکون لأحد الطرفین دون الآخر أصل طولی، فهل تتعارض کلّها وتسقط، أو تجری بین الطرفین فقط ویبقی الطّولی بلا معارض؟

هذا تمام الکلام علی نظریّة العلیّة.

نظریة الإقتضاء

وملخّصها هو: إنّ المانع من جریان الأصل المرخّص لیس العلم الإجمالی بل تعارض الأصلین، فلو جری فی طرفٍ ولم یکن له معارضٌ، کان المقتضی

ص: 135

للجریان موجوداً والمانع مفقود. وتوضیح ذلک هو:

إنّ کلاًّ من الطرفین مشکوک فی حرمته، والشک هو الموضوع لجریان الإستصحاب، فالمقتضی لجریان الأصل موجود. وأمّا المانع، فهو إمّا ثبوتی بأنْ یلزم من جریانه محذورٌ، والمحذور إنّما یلزم إنْ لم یکتفِ الشارع فی مرحلة الإمتثال بأحد الطرفین، ومع شمول دلیل الأصل فی طرفٍ ینکشف اکتفاؤه بالطرف الآخر، فلا محذور. وإمّا إثباتی، وهو تعارض ذیل دلیل الإستصحاب مع صدره، وقد تقدّم أنْ لا تعارض، لأنّ متعلَّق العلم الإجمالی هو «أحدهما» ومع اختلاف المتعلَّق فلا تعارض.

فانحصر المانع الإثباتی بتعارض الأصلین فی الطّرفین، لأنّ جعل الترخیص مستلزم للمخالفة القطعیّة، وجریان الأصل فی طرق معیّن دون آخر ترجیح بلا مرجّح، وفی أحدهما المردّد محال، لأنّ المردّد لا وجود له ولا ماهیّة ... فالمانع إثباتی بهذا البیان.

وعلیه، ففی کلّ موردٍ لا تتحقّق المعارضة، کان الأصل جاریاً، بقانون وجود المقتضی وعدم المانع _ لأن المفروض أنْ لا مانع إلاّ التعارض _ فکان العلم الإجمالی مقتضیاً لا علّةً تامّة.

إشکالان من العراقی

ویبقی الجواب عن إشکالی المحقّق العراقی وهما:

أوّلاً: عدم معقولیّة جریان الأصل بلا معارض حیث لا یکون جعل للبدل،

ص: 136

لأنّه ترخیص فی محتمل المعصیة وهو محال، وقد ظهر أنّ الأصل لا یمکنه إفادة جعل البدل، لأنّه أصل مثبت وهو لیس بحجّة.

ثانیاً: النقض بالعلم التفصیلی، فإنّه إذا جری الأصل بلا معارضٍ وجاز لنا الإکتفاء بطرفٍ، ففی العلم التفصیلی کذلک، کمثال الصّلاة، بأنْ نتمسّک بأصالة البراءة عن جزئیّة أحد الأجزاء المشکوک فی الإتیان به، مع العلم التفصیلی بوجوب الصّلاة الجامعة لجمیع الأجزاء والشرائط. وهذا مما لا یلتزم به.

الجواب عن الإشکال الأوّل

ویمکن الجواب عن الأوّل بأنْ یقال:

إنّه تارةً یکون المحذور فی أصل الدلیل، وأُخری فی إطلاقه. فإن کان فی أصل الدلیل، فلا ریب فی سقوطه، وإن کان فی الإطلاق، فالدلیل یبقی ویسقط عن الإطلاق، ومع الشکّ فی لزوم المحذور یکون المحکَّم قاعدة الإمکان وبها یُنفی إحتمال الإستحالة، وهذا الإمکان _ لیس الإمکان العقلی الذی قال الشیخ الرئیس: کلّما قرع سمعک فذره فی بقعة الإمکان _ عقلائی، إذ سیرتهم علی أنّه إذا ورد حکم واحتمل کونه مطابقاً للواقع أو علی خلاف الواقع أو المصلحة، لم یأخذوا باحتمال المخالفة، بل یتمسّکون بالدلیل أصلاً وإطلاقاً. وتوضیحه: أنّه إذا وصل الحکم من المولی الحکیم _ الذی لا یحکم علی خلاف المصلحة _ فشکّ فی کونه مطابقاً للمصلحة أو علی خلافها، رجع الشک إلی أنّه إنْ لم یکن لهذا الحکم مصلحة فی الواقع لم یحکم به المولی، وإن کان له مصلحة أمکن أن یحکم، فرجع

ص: 137

الشک إلی إمکان الدلیل أو إمکان إطلاقه، والسّیرة قائمة علی ترتیب الأثر علی الحکم وعدم الإعتناء بالشک.

ومن فوائد هذه القاعدة: أنّه لو لم نتمکّن من دفع شبهة اجتماع الضدّین أو النقیضین فی جعل الأحکام الظاهریّة، انتهی الأمر إلی أنّه هل یمکن جعل الحکم الظاهری أوْ لا؟ وقد تقرّر هناک أنّ أصالة الإمکان تقتضی الأخذ بأدلّة الأحکام الظاهریّة ولم یحرز تحریم الحلال وتحلیل الحرام.

وفیما نحن فیه، المفروض شمول إطلاق حدیث الرفع وعمومه لبعض الأطراف، غیر أنّا نحتمل عدم اکتفاء الشارع بالطرف الآخر فی مقام الإمتثال ونحتمل اکتفائه به، فإن لم یکن قد اکتفی فالإطلاق محال، لکونه ترخیصاً فی محتمل المعصیة، وإن کان قد اکتفی، رجع الشک إلی إمکان الإطلاق وامتناعه، وقد ذکرنا أنّ مقتضی الأصل العقلائی والسّیرة العقلائیّة هو الإمکان، وحینئذٍ تنحلّ مشکلة العراقی، لأنّها تتلخّص فی أنّه هل لدلیل الأصل المرخّص فی مورد عدم وجود المعارض له إطلاقٌ أوْ لا؟ وأصالة الإمکان تقتضی الأخذ بالإطلاق.

الجواب عن الإشکال الثانی

وعن الإشکال الثانی بأنْ یقال: هذا النقض غیر وارد، ففی مورد العلم التفصیلی، تکون البراءة عن الجزئیّة _ مثلاً _ محکومةً باستصحاب عدم الإتیان بالجزء المشکوک فیه، ومع وجود الأصل المحرز الحاکم لا تجری البراءة، بخلاف مورد العلم الإجمالی، فإن الأصل الجاری فی بعض الأطراف لا معارض له.

ص: 138

إشکال الکفایة

وهو: أنّه مع العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی، لا یمکن جعل الأصل المرخّص فی بعض الأطراف لاحتمال مناقضته مع الحکم المعلوم بالإجمال، لأنّ هذا الحکم مورد للإرادة والکراهة، وقد صدر به البعث والزجر فالتکلیف فعلی ویقتضی الإمتثال، وجعل المرخّص فی طرفٍ یحتمل أن یکون هو التکلیف الفعلی ینتهی إلی إحتمال المناقضة، وهو محال.

الجواب

ویمکن الجواب عنه بأنْ یقال: إنّ فعلیّة التکلیف إنْ کانت تقتضی جعل الإحتیاط حفظاً لذلک التکلیف فلا ریب فی استحالة جعل المرخّص للزوم التناقض _ أمّا إذا لم تکن کذلک، واحتملنا وجود المصلحة أو المفسدة الملزمة فی متعلَّق کذلک، ووجود مصلحة التسهیل علی العباد، فما الوجه لوجوب الموافقة القطعیّة؟ بل إنّ مقتضی الجمع بین المصلحتین هو الترخیص فی بعض الأطراف. ویشهد بذلک: أنّه لو قام الدلیل الخاص علی جواز إرتکاب بعض أطراف العلم الإجمالی، کشف عقلاً عن أنّ ملاک الحکم الفعلی الذی تعلّق به العلم الإجمالی غیر واصلٍ إلی مرحلة جعل الإحتیاط، فإذا کان هذا مقتضی الدلیل الخاص، فإنّه یمکن جعل الترخیص بالعموم والإطلاق کذلک، ولذا نری الشارع قد یکتفی بالعمل المشکوک فی واجدیّته لجمیع ما یعتبر فیه من الأجزاء والشرائط المعلومة بالتفصیل، کما هو الحال فی قاعدة الفراغ والتجاوز مع إحتمال لزوم التناقض ...

ص: 139

فکما اکتفی الشارع بالموافقة الإحتمالیّة مع العلم التفصیلی کذلک مع العلم الإجمالی.

وتلخّص: إنّ فعلیّة التکلیف إنْ لم تصل إلی مرحلة جعل الإحتیاط لا تنافی جعل المرخّص فی بعض الأطراف، فإنّه بقاعدة الامکان کما ذکرنا یمکن جعل المرخّص والإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة، وذلک یتحقّق بشمول إطلاق دلیل الأصل لبعض الأطراف بلا معارض.

إشکال الإصفهانی علی نظریة جعل البدل

وأشکل المحقّق الإصفهانی علی نظریّة جعل البدل فی حاشیةٍ(1) مطوّلة. وملخّص کلامه فی المقام:

إنّ جعل البدل یکون علی نحوین: تارةً: یکون فی مرحلة الجهل بالحکم الواقعی، وحینئذٍ یکون ذا مصلحة یتدارک بها مصلحة الواقع، کموارد قاعدة الفراغ، حیث لو شکّ بعد الفراغ من الصّلاة فی طهارته، فإنّه یحکم بصحّة الصّلاة ووجوب الطّهارة للصّلاة اللاّحقة، فقد جعل فی ظرف الجهل بالواقع تخییر ظاهری بینه وبین البدل، لکون البدل واجداً لمصلحة الواقع، ولا منافاة بین هذا التخییر والحکم الواقعی کما لا یخفی. ومن الواضح أنّ هذا التخییر یحتاج إلی الأمر کسائر الواجبات التخییریّة، ولا یکفی مجرَّد الترخیص المستفاد من قاعدة الحلّ وأصالة البراءة.

ص: 140


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 244.

وتارةً: یکون بالإکتفاء بالإطاعة الإحتمالیة فی مرحلة الإمتثال بدلاً عن الواقع، فإنّه وإنْ اقتضی التکلیف الواقعی الإتیان بالواقع، لکنّ مصلحة التسهیل علی العباد تقتضی إکتفاء الشارع بالموافقة الإحتمالیّة بجعل المرخّص، ومثاله قاعدة الفراغ أیضاً، لکنْ بناءً علی حمل الأخبار علی التصرّف فی مقام الإمتثال، بمعنی أن یکون موجب الفراغ أعمّ من الواقع والبدل، وحینئذٍ، یکون حکم العقل بوجوب الإطاعة أعم من الإطاعة الوجدانیّة والإطاعة التعبدیّة.

قال: لو قام المرخّص علی بعض الأطراف فارتکبه وصادف الواقع، فهل العقاب باقٍ أوْ لا؟ إنْ کان باقیاً، لزم الجمع بین الترخیص والعقاب، وهما متنافیان. ولو ارتکب الطرف الآخر أیضاً تقولون باستحقاق العقاب، وهذا معناه ترتّب العقاب علی ضمّ غیر الواقع إلی الواقع، وهذا محال.

فظهر أنّ جعل البدل کذلک ترخیصٌ فی المخالفة القطعیّة، وهو محال. فالإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة غیر ممکن.

وبعبارة أُخری: إذا إکتفی الشارع بالموافقة الإحتمالیّة بالترخیص فی طرف، یقع السّؤال هل هذا الترخیص مطلق أو مقیّد أو مهمل؟ الإهمال محال، والتقیید لا وجه له، لأن معناه أنّ المکلَّف مرخّص فی هذا الطرف إن لم یکن هو الواقع، وهذا لا أثر له، فیتعیَّن الإطلاق، فهو مرخّص فی الإرتکاب سواء کان مطابقاً للواقع أوْ لا، أی: إنّه وإنْ کان هو الواقع فلا عقاب علیه، وإذا کان هذا الطرف هو الواقع فارتکاب الطرف الآخر لا مانع منه، ومع إرتکاب الطرفین، هل یستحق العقاب أوْ لا؟ إنْ قلتم: لا، کانت المخالفة القطعیّة جائزةً. وإنْ قلتم: یستحق العقاب، لزم القول

ص: 141

باستحقاق العقاب علی إرتکاب الحلال.

هذا هو الإشکال الأوّل.

وثانیاً: إنّ الترخیص والإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة لا یمکن إلاّ حیث توجد المفسدة فی الموافقة القطعیّة _ وإلاّ فلا وجه لرفع الید عن الإمتثال القطعی _ فإذا وقع التزاحم بین المفسدة ومصلحة الواقع، ورفع الشارع الید عن مصلحة الواقع انکشف أنّ مصلحة الواقع لیست علی کلّ تقدیرٍ، والعقاب علی مخالفة الواقع لیس علی تقدیرٍ، فإذن، تجوز المخالفة القطعیّة.

المناقشة

ویقع الکلام معه فی جهات:

الأُولی: ما ذکره فی القسم الأوّل من جعل البدل، وفیه إشکالان:

أوّلاً: کلّ حکم شرعی فهو تابع للملاک فی أصل وفی کیفیّته، والحکم بلا ملاک محال وخصوصیته _ بأنْ یکون عینیّاً أو کفائیّاً، تعیینیّاً أو تخییریّاً مثلاً _ بلا ملاک محال کذلک.

هذه مقدّمة.

ومقدّمة أُخری: إنّ الأحکام الواقعیّة الشرعیّة _ بأصلها وخصوصیاتها _ مشترکة بین العالمین والجاهلین وإلاّ یلزم التصویب الباطل.

وبعد هاتین المقدّمتین الثابتتین نقول: المفروض أنْ یکون البدل المجعول فی ظرف الجهل بالواقع وافیاً بتمام مصلحة الواقع، وکان وفاؤه بذلک منشأً

ص: 142

للتخییر فی الظاهر، ولولا ذلک لما کان التخییر، کما هو الحال فی کلّ الواجبات التخییریّة مثل خصال الکفارة.

وعلیه، فإن لم یکن البدل وافیاً بتمام مصلحة الواقع فلا تخییر، وإن کان وافیاً، لزم عقلاً تقیید الوجوب التعیینی للحکم الواقعی بالعالمین، لأنّ شموله للجاهلین یکون بلا ملاک.

ثانیاً: إنّ کلّ حکم ظاهریّ یحتمل مطابقته للواقع، فلو قطع بمخالفته له لم یعقل جعله، فمع القطع بالحکم الشّرعی _ مثلاً _ لا موضوع لأصالة البراءة وتکون مخالفةً للواقع.

وفیما نحن فیه: إنّ التخییر حکم ظاهری، لاشتمال البدل علی تمام مصلحة الواقع، لکن الحکم الواقعی تعیینی، فیلزم أن یکون الحکم التخییری الظاهری مخالفاً للواقع قطعاً.

الثانیة: ما ذکره فی القسم الثانی من جعل البدل من الإشکال: بأنّ اکتفاء الشارع بالموافقة الإحتمالیة یستلزم رفع الید عن العقاب علی مخالفة الواقع، وهو ترخیصٌ فی المخالفة القطعیّة.

ویرد علیه:

أمّا نقضاً: فبأنّ من ضروریات الفقه قاعدة الحیلولة المستفادة من نصوص: (الوقت حائل) فلا یعتنی بالشک فی خارج الوقت، وهذا لیس إلاّ الإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة، وإلاّ، فإن مقتضی قاعدة الإشتغال _ لمن شک فی خارج الوقت بأنّه قد صلّی فی الوقت أوْ لا _ هو الحکم بوجوب القضاء.

ص: 143

وهذا من القبیل الثانی لجعل البدل، لا الأوّل، لأنّه کان فی فرض الإتیان بالعمل ناقصاً، وفی قاعدة الحیلولة لا یأتی بعملٍ.

فکلّ ما یکون الجواب عندکم عن قاعدة الحیلولة هو جوابنا فی المقام.

وأمّا حلاًّ: فإنّما یرد الإشکال فی صورة انتهاء الترخیص إلی المخالفة القطعیّة، وهذا غیر ممکنٍ فی موردٍ أصلاً، فلو علم إجمالاً بنجاسة الثوب أو الماء وسقطت قاعدة الطّهارة فی کلیهما وجرت أصالة الإباحة فی الماء بلا معارضٍ، فهل ینتهی إلی المخالفة القطعیّة؟ کلاّ، لأنّ الواقع إن کان فی الطرف غیر المرخّص فیه، فالأصل النافی غیر جارٍ هناک والعقل حاکم بالإجتناب عنه، وإنْ کان فی الطرف المرخّص فیه، فإنّ إحتمال وجود الواقع فی الطرف الآخر موجود، ولیس له إرتکابه لأنّه إستهانة بحکم المولی، فأین جواز المخالفة القطعیّة؟

الثالثة: ما ذکره أخیراً من أنّ الإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة یکون بوقوع التزاحم بین الملاکین، ففی الموافقة القطعیّة مفسدة أوجبت رفع الشارع الید عنها _ لأنّ رفع الید عن الموافقة القطعیّة لا یکون بلا ملاک _ وهذه المفسدة تزاحم ملاک الحکم الواقعی، وبذلک ینتفی ملاک الحکم الواقعی، وبانتفاء الملاک ینتفی الحکم، وحینئذٍ تجوز المخالفة القطعیّة.

ویرد علیه:

أمّا نقضاً، فبجمیع موارد إکتفاء الشارع بالموافقة الإحتمالیّة، کالشک من کثیر الشک، والشک بعد الفراغ، والشک بعد الوقت، ففی جمیع هذه الموارد الموافقة إحتمالیّة ولیست قطعیّة.

ص: 144

وأمّا حلاًّ: فقد تقدّم فی بحث الجمع بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی: أنّ الملاک فی الحکم الظاهری فی نفس الحکم، أمّا فی الحکم الواقعی ففی متعلّقه. مثلاً: إذا وجب الإحتیاط _ وهو حکم ظاهری _ فی موردٍ، فالملاک فی نفس الإحتیاط، ولیس فی المتعلّق، لأنّ الإحتیاط هو الجمع بین الأطراف، ولیس فی شیء من الطرفین ملاک. مثلاً: یجعل الشارع الإحتیاط فی شیئین أحدهما ملکٌ للغیر، فأمّا الذی هو فی الواقع ملک للغیرٌ، فهناک ملاک الواقع، وأمّا الطرف الآخر الذی هو ملک للمالک، فلا مفسدة فی التصرّف فیه. إذنْ، لیس فی جعل الإحتیاط ملاک إلاّ نفس الإحتیاط. وکذلک جعل الترخیص فی بعض الأطراف، بل هو حکم ظاهری والمصلحة فی نفس الجعل. وأمّا الحکم الواقعی فهو علی حاله، ولا یعقل التزاحم بین ملاک الحکم الظاهری وملاک الحکم الواقعی لما ذکرنا من أنّ الملاک فی الظاهری فی نفس الحکم وفی الواقعی فی متعلّقه.

هذا تمام الکلام.

وقد ظهر أنّ الحق هو الإقتضاء لا العلیّة التامّة، فإنّه إذا کان الأصل بلا معارض، جری فی أطراف العلم الإجمالی. وإلاّ، فإنّ تعارض الأصول هو المنشأ لتنجیز العلم.

أقول:

هذا ما استفدته من کلام شیخنا دام بقاه. وکأنّه یتلخّص فی عدم المنع من الترخیص فی بعض الأطراف ثبوتاً، لکنّ المهمّ هو مقام الإثبات. وهذا ما ذهب إلیه

ص: 145

سیّدنا الأُستاذ رحمه اللّه، کما لا یخفی علی من راجع تقریر بحثه(1).

القول بالتخییر

وهو القول بجریان الأصل فی أحد طرفی العلم الإجمالی علی البدل، بأنْ یکون المکلّف مخیّراً فی إجراء الأصل النافی للتکلیف فی أحدهما فی حال ترک الآخر، فیکون أحدهما بدلاً عن الآخر فی ظرف الإمتثال، وجعل البدل بید المکلّف نفسه.

قال المیرزا(2):

ذهب إلیه بعض الأعاظم فی حاشیته علی الفرائد، وتبعه بعض أعیان أهل العصر.

وتقریبه: إنّ موضوع إطلاق دلیل الأصل محقّق فی کلّ طرف، فالمقتضی لجریانه فی مرحلة الإثبات تام، والمانع، إمّا فی مرحلة الظهور وإمّا فی مرحلة الحجیّة. أمّا الظهور، فلا مانع عنه، وأمّا الحجیّة، فلا محذور فی جعل أصل الحلیّة والبراءة بالنسبة إلی کلّ طرف، وإنّما هو فی إطلاق دلیل الأصل، لأن مقتضی الإطلاق جواز إرتکاب کلّ طرف، سواء ترک الآخر أوْ لا، وهذا معناه الترخیص فی المخالفة القطعیّة، فالمشکلة تأتی من ناحیة الإطلاق، فنرفع الید عن الإطلاق فی کلا الطرفین _ بحکم: الضرورات تتقدّر بقدرها _ ویبقی أصل الجعل فی الطرفین، فیجری الأصل فی کلٍّ منهما بشرط ترک الطرف الآخر.

ص: 146


1- 1. منتقی الأُصول 5 / 78 _ 79.
2- 2. فوائد الأصول 4 / 27.
الجواب

وأجاب المیرزا(1) _ وهو من القائلین باقتضاء العلم الإجمالی _ بما حاصله:

إنّ التخییر علی ثلاثة أقسام:

الأوّل: التخییر المجعول فی بعض الأحکام الشرعیّة الفرعیّة، کما فی خصال الکفارة، وکذا فی الأخذ فی المسألة الأصولیة کالخبرین المتعارضین إذ قال علیه السّلام (إذنْ فتخیّر)(2)، والعامل فی الفرعیّات هو المکلّف، والآخذ فی المسألة الأصولیة خصوص المجتهد.

الثانی: التخییر الذی هو مقتضی الدلیل والکاشف، کما لو قام دلیل علی وجوب إکرام العلماء، ثمّ جاء دلیل آخر یخرج زیداً وعمراً من تحت العام، غیر أنّه کان مجملاً، لا ندری هل المطلوب ترک إکرامهما أو ترک الجمع بینهما فی الإکرام، بأنْ یکرم کلّ منهما فی ظرف ترک إکرام الآخر وبعبارة أُخری: هل التخصیص مطلق أو أحوالی؟

ومقتضی القاعدة فی مرحلة الکاشفیّة رفع الید عن حجیّة دلیل العام علی قدر قیام الحجّة علی خلافه، وهو إکرام کلّ واحد فی حال ترک إکرام الآخر، لأنّ حجیّة العام بالنسبة إلی زید وعمرو تامّة، لکنّ الأمر فی طرف التخصیص یدور بین خروجهما علی کلّ حالٍ أو مقیّداً بالمعیّة بینهما، فترفع الید بقدر الضرورة والقدر المتیقّن، فیتقیّد وجوب إکرام کلّ منهما بترک إکرام الآخر، أیْ لا یجمع

ص: 147


1- 1. المصدر.
2- 2. عوالی اللئالی 4 / 133.

بینهما فی الإکرام.

الثالث: التخییر الذی هو مقتضی المنکشف والمدلول. وتوضیحه: إن کلّ مجعول شرعی فهو یقتضی صرف القدرة فیه من أجل الإمتثال، فإن کانت القدرة علی أحد مجعولین _ کإنقاذ أحد الغریقین _ فقط، کان مقتضی ذات المجعول المشروط بالقدرة هو التخییر، لأن صرف القدرة فی کلٍ منهما یرفع موضوع الآخر. وهذا هو مقتضی القاعدة فی جمیع موارد التزاحم.

فهذه هی أقسام التخییر. وما نحن فیه لیس مورداً لشیء من الأقسام، فلا دلیل علی التخییر فی المقام، فالقول به ساقط.

تقریب العراقی

وقرّب المحقّق العراقی(1) القول بالتخییر هنا بأنّه من قبیل القسم الثانی، لأنّ إطلاق حدیث الرفع یشمل الطرفین، إلاّ أنّ المانع عن جریانه فی کلیهما هو حکم العقل بحرمة المخالفة القطعیّة، أمّا جریانه فی کلّ طرفٍ فی حال ترک الطرف الآخر فلا مانع منه، فیؤثّر المقتضی أثره، ویکون المکلّف مخیَّراً.

الجواب:

أجاب المیرزا فی الدورة الثانیة(2): بالفرق بین إقتضاء الدلیل اللّفظی

ص: 148


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 318 _ 319.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 421.

والدلیل العقلی. ففی المثال کان المقتضی بحسب دلیل العام تامّاً، وکان المانع بالنسبة إلی الأکثر وهو التقیّد بالمعیّة بین زید وعمرو فی الإکرام فقط، فتقیّد العام. أمّا هنا، فالتقیید غیر ممکن، لعدم إمکان الإطلاق، لأنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل العدم والملکة.

تقریب العراقی بوجه آخر

وقرّبه: بأنّه من قبیل القسم الثالث، إذ فی المقام ملاکان، أحدهما: ملاک الواقع والآخر مصلحة التسهیل، وحیث لا یمکن الجمع بین الملاکین، تتقدّر الضرورة بقدرها، برفع الید عن أحدهما فی ظرف حفظ الآخر، بعین ما ذکره فی مثال القسم الثالث.

وفیه:

إنّ ملاک التزاحم _ وهو وحدة القدرة _ غیر موجود هنا، لقدرة المکلّف علی الجمع بین الأمرین، بل ما نحن فیه من قبیل التعارض، إذ الحاکم لا یمکنه جعل التسهیل فی الطرفین معاً، فالمحذور فی مقام الجعل _ وهو جعل کلا الإطلاقین _ یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیّة.

وأُجیب(1):

عمّا ذکره المیرزا فی الجواب عن التقریب الأوّل: بأنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل التضاد لا العدم والملکة. علی أنّه لیس کلّما امتنع الملکة امتنع

ص: 149


1- 1. مصباح الأصول: 354 _ 355.

العدم، فالجهل فی حق الباری تعالی ممتنع والعلم واجب.

لکنّه جواب مبنائی.

التحقیق فی الجواب عنه

التحقیق

بل التحقیق فی الجواب عنه:

أمّا نقضاً: فبالإطلاق والتقیید فی باب الترتّب، حیث نقول هناک بضرورة إطلاق الأهم واستحالة إطلاق المهم، وإلاّ لزم طلب الضدّین.

وأمّا حلاًّ: فمن حیث الکبری نقول: إستحالة الملکة أو عدم الملکة:

تارةً: هی علی أثر عدم الشأنیّة، فالجدار یستحیل فیه البصر والعمی معاً.

وأُخری: هی إستحالة وقوعیّة، کما إذا امتنع العمی فی شخصٍ بالإمتناع الوقوعی، فإنّه لا یمتنع فیه البصر.

ومن حیث الصغری نقول: بأنّ الشأنیّة للملکة وعدمها _ أی الشرب وعدم الشرب فی المثال _ محفوظة، ولکن الإستحالة هی من جهة ترتّب الترخیص فی المعصیة علی الإطلاق، فالإستحالة وقوعیة، ولا ملازمة بین الإستحالة الوقوعیّة للإطلاق واستحالة التقیید.

فما ذکره المیرزا مردود نقضاً وحلاًّ.

الکلام علی التخییر

وأمّا الکلام علی التخییر فنقول:

ص: 150

قد أُجیب عنه: بأنّه کما أنّ الإطلاق یستلزم الترخیص فی المعصیة، کذلک التقیید. وقد ارتضاه السیّد الخوئی(1).

وأُجیب عنه بوجهین:

الأوّل: ما ذکره الشیخ الحائری(2) وحاصله: إنّه لا یعقل إطلاق الدلیل بالنسبة إلی حال فعل المتعلّق وترکه. أمّا بالنسبة إلی حال الفعل، فلأنّه بمجرّد کونه فاعلاً یخرج الفعل بالإمتثال عن تحت القدرة، وکذا بمجرّد المعصیة، وإذ یکون غیر مقدور یخرج عن تحت إطلاق الحکم. وبعبارة أُخری: لا یعقل حفظ الحکم فی صورة وجود وتحقّق متعلَّقه، لأنّه طلب للحاصل، وکذا إذا فرضنا أنّه معدوم بالترک، فمع فرض العدم یکون طلب الفعل طلباً للنقیضین.

أقول:

أمّا من حیث الکبری، فإن ما ذکره إنّما یتمّ فی الأفعال الآنیّة، إذ لا موضوع مع مضیّ الآن، وحینئذٍ لا معنی لإطلاق الأمر، أمّا قبل مضیّه، کان نفی إطلاق الأمر مستلزماً للقول بعدم کون الإتیان طاعةً والترک معصیةً، مع أنّ الإطاعة والمعصیة متقوّمان بالأمر، فلابدّ من الإطلاق.

وأمّا من حیث الصغری، فقد قال المحقّق الإصفهانی: بأن ما ذکره لا علاقة له بالبحث، إذ تکون الإباحة المشروطة بترک الطرف فعلیّةً بتحقّق شرطها وهو ترک الطرف، فإذا تحقّق الشرط جاء الإشکال وهو إباحة الإرتکاب، وهو ترخیص

ص: 151


1- 1. مصباح الأصول: 355.
2- 2. درر الفوائد: 504.

فی المخالفة القطعیّة.

ولعلّه یرید أن مع تحقّق الترکین یلزم الترخیص للطرفین فی حال الترک، والترخیص فی حال الترک غیر معقول، فیکون لِما ذکره ربط بالبحث.

ولکن یدفعه: أنّه لا مانع من أن یکون التارک لأحد الطرفین إلی الأبد مرخّصاً فی إرتکاب الآخر من أوّل الأمر. وهذا هو التخییر.

الثانی: ما ذکره المحقّق الإصفهانی(1) من أنّ الواجب المشروط لا ینقلب إلی المطلق بعد تحقّق شرطه، بل هو مشروط دائماً، فما دام الترک للطرف متحقّقاً یکون الترخیص فی هذا المشروط بترک الآخر متحقّقاً وإلاّ فلا، وحینئذٍ، لا یلزم الترخیص فی المخالفة القطعیّة أبداً. وبعبارة أُخری: إنّ الجمع بین الترخیصین _ إذ لکلّ طرف ترخیص مشروط بترک الآخر _ أمر، والترخیص فی الجمع، أی المخالفة القطعیّة، أمر آخر. فالإشکال علی التخییر مندفع.

التحقیق فی الجواب عن التخییر

إنّ الترخیصین المشروط کلٌّ منهما بترک الآخر لا یجتمعان مع الحکم الواقعی الموجود فی البین، لأنّ الإهمال فی حکم الحاکم غیر معقول، وإطلاق الإباحة کذلک، فیتعیّن التقیید، فیکون کلٌّ من الإباحتین الظّاهریتین مقیّداً بترک الآخر، وهذا معناه وجود الحکمین الظاهریین علی خلاف الحکم الواقعی المقطوع به، وهو حرمة شرب أحد الإناءین.

ص: 152


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 249.
کلام الشیخ الحائری ونقده

وأمّا ما ذکره الشیخ الحائری(1) من أنّ المانع عن التخییر أمران:

أحدهما: إنّ مقتضی أخبار احتجاج اللّه بالعلم وعدم السّعة فی العلم هو: عدم السعة فی أطراف العلم الإجمالی، لوجود العلم، فلا مورد لدلیل البراءة: (الناس فی سعة ما لا یعلمون) فی الشبهات المقرونة.

الثانی: إنّ أدلّة الأصول هی فی مقام جعل الترخیص فی مورد الشک من حیث أنّه شک، والأحکام الحیثیّة لا نظر لها إلی الحیثیّات الأُخری والعناوین الطارئة، فالغنم حلال من حیث أنّه غنم، ولا إطلاق لحلیّته لیکون حلالاً حتی مع حیثیّة الغصب مثلاً، وإلاّ یلزم التعارض بین دلیل الحلیّة ودلیل الغصب فی مورد الاجتماع، وهو الغنم المغصوب، وإذا تعارضا تساقطا، ویکون المرجع أصالة الحلّ، فلا حرمة للغنم المغصوب، وهذا ما لا یلتزم به أحد. إذنْ، لا إطلاق.

وعلی هذا، فإن حدیث الرفع یرفع ما لا یعلمون من حیث أنّه لا یعلم، فإذا وجدت حیثیّة الإقتران بالعلم لم یجر الحدیث، بل یجری دلیل هذه الحیثیّة، وهو ما دلّ علی لزوم إمتثال الحکم المعلوم.

ففیه:

أمّا الأمر الأوّل، فإنّ ما ذکره من المحذور یتم بناءً علی تنجیزیّة الحکم العقلی بوجوب الموافقة القطعیّة فی أطراف العلم. وأمّا بناءً علی تعلیقیّته، فإنّ أدلّة الترخیص فی إرتکاب بعض الأطراف تعییناً أو تخییراً ترفع موضوع حکم العقل،

ص: 153


1- 1. درر الفوائد: 459.

فلا محذور. والمسلک الثانی هو مختار الشیخ الحائری.

وأمّا الأمر الثانی، فیتم ما ذکره إن کانت أدلّة الأصول المرخّصة أحکاماً حیثیّةً، فنقول:

کلّ عنوان مأخوذ فی شیء من الأحکام، إمّا یکون مطلقاً وإمّا مقیّداً، لأنّ الإهمال غیر معقول، ف_«ما لا یعلم» المنقسم إلی الذی فی أطراف العلم والذی فی غیره، ویصدق علی کلیهما عقلاً وعرفاً بلا تفاوت، إمّا مطلق أو مقیّد.

علی أنّه لو کانت أدلّة الأصول حیثیّة، فإنّ الحکم الحیثی لا یأتی فی أطراف العلم، وحینئذٍ، لا موضوع للتعارض حتی یقال بسقوطها فی أطرافه بالتعارض ... لکنّه یقول بجریان الإستصحابین _ اللّذین لا سببیّة ومسبّبیّة بینهما _ وأنّه یلزم من ذلک المخالفة القطعیّة، فیتعارضان ویتساقطان ... فنقول: إنّ شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم وسقوطها بالتعارض، دلیل علی عدم کونها حیثیّة، وإلاّ فلا معنی للشمول والتعارض.

ثمّ إنّه قیل: بأنّ الإشکال لیس فی إنتهاء التخییرین إلی المخالفة القطعیّة حتی یرتفع بما ذکره المحقّق الإصفهانی، بل فی الجمع بین الترخیصین، من جهة أنّه ترخیص فی المعصیة وهو قبیح من المولی.

وفیه: إنّ قبح الإذن فی المعصیة هو من جهة الإنتهاء إلیها قطعاً أو إحتمالاً، ومع عدم الإنتهاء مطلقاً، بل کون الإذن ملازماً دائماً لعدم تحقّق المعصیة فلا قبح ... کما لا یلزم التناقض فی حکم العقل. فلا إشکال من هذه الجهة.

ص: 154

تتمیمٌ وفیه أمران

الأوّل

ذکر فی مصباح الاصول فی مقدّمة مباحث الشک فی المکلّف به: «أنّ إحتمال التکلیف الإلزامی بنفسه مساوق لاحتمال العقاب علی مخالفته، ومعه کان العقل مستقلاًّ بلزوم التحرّز منه وتحصیل المؤمّن، وهذا هو الملاک فی حکم العقل بلزوم الإطاعة ... بلا حاجة إلی البحث عن منجّزیّة العلم الإجمالی ...»(1).

وفیه: إنّ موضوع إحتمال العقاب هو إستحقاق العقاب الذی موضوعه التکلیف الذی قام علیه البیان والحجّة، والمساوقة المذکورة مستحیلة، لاستحالة کون إحتمال العقاب بیاناً، وإلاّ لم تجر قاعدة قبح العقاب بلا بیان. وأمّا ثبوت المساوقة المذکورة فی الشبهة الحکمیّة قبل الفحص، فلأنّ وظیفة العبد هو الفحص، فلو ترکه لأخلّ بوظیفة العبودیّة، فالمساوقة من هذه الجهة.

فظهر أنّ إحتمال التکلیف إن کان مساوقاً لاستحقاق العقاب، لزم الإلتزام بکون إحتمال التکلیف بیاناً أو الإلتزام بکون نفس التکلیف _ لا قیام الحجّة علی التکلیف _ موجباً لاستحقاق العقاب. وکلاهما باطل.

إذن، لا مساوقة. فلابدّ من البحث عن منجّزیّة العلم الإجمالی.

الثانی

جاء فی حاشیة الکفایة للسیّد البروجردی(2) فی توضیح المتباینین والأقل والأکثر ما نصّه ملخّصاً:

ص: 155


1- 1. مصباح الاصول: 344 _ 345.
2- 2. الحاشیة علی کفایة الأصول 2 / 264.

المتباینان عبارة عن الشیئین الّذین یکون بینهما بینونة إمّا ذاتاً وماهیة، کما إذا کان أحدهما معنوناً بعنوان خاصّ غیر عنوان الآخر کصلوة الظهر والعصر مثلاً، فإنّ أحدهما معنون بعنوان الظهر والآخر بعنوان العصر، ومثل صلاة الظهر مع الجمعة، وإمّا بحسب الخصوصیّات الشخصیّة والمشخصات الفردیّة والوجودیة، وإن کانا طبیعة واحدة، مثل صلاة القصر والإتمام مثلاً، فإنّهما وإن کانا طبیعة واحدة، إلاّ أن کلاًّ منهما متخصّص بخصوصیّة مخصوصة لیست فی الآخر، وتوهم أنّ صلاة القصر والإتمام طبیعتان مختلفتان، مدفوع.

وأمّا الأقلّ والأکثر: عبارة عمّا یکون الأکثر محتویاً للأقل بحیث یکون الأکثر هو الأقلّ مع شیء زائد، ولم یکن الزائد مانعاً عن إنطباق عنوان المأمور به علی الأقلّ، فإنّه إن کان الزائد مانعاً عن الإنطباق یکون الإضافة بینهما تبایناً، فإنّ الأقلّ حینئذ باعتبار مانعیّة هذا الزائد یکون واجداً لما کان الأکثر فاقداً له وإن کان أمراً اعتباریّاً، وکذلک فی طرف الأکثر، فإنّه یکون واجداً لما یکون الأقل فاقداً له من الأجزاء الزائدة، مثل الصلاة مع السّورة وبدونها، فإنّها مع السّورة تکون محتویاً لسائر الأجزاء مع شی ء زائد وهی السّورة، ولا یکون السّورة مانعاً للأقل بحیث إن کان المأمور به هو الأقل وأتی المکلّف بالأکثر لا یبطل الأقل بل یکون صحیحاً. وما ذکرنا إنّما یکون لو خلّی وطبعه مع قطع النظر عن عروض مانع عن الصحّة، مثل أن یأتی بالسّورة بعنوان التشریع، إذا قلنا بأنّ مطلق التشریع فی العبادة مبطل لها.

ص: 156

تنبیهات دوران الأمر بین المتباینین

اشارة

ص: 157

ص: 158

التنبیه الأوّل: فی الأُصول الجاریة فی أطراف العلم

اشارة

إنّ الأصول الجاریة فی أطراف العلم قد تنفی التکلیف وقد تثبته.

والأصول النافیة، إمّا أنْ تکون من سنخٍ واحدٍ، کأن یکون الأصل الجاری فی الطرفین هو قاعدة الطّهارة. وإمّا لا تکون من سنخ واحدٍ، کأن یکون فی طرفٍ قاعدة الطّهارة وفی طرفٍ أصالة الحلّ.

مثال الأوّل: أن یکون هناک ماءان أحدهما نجس، فالأصل الجاری فی کلیهما قاعدة الطّهارة. فهما من سنخ واحد.

ومثال الثانی: أن یکون هناک علم إجمالی بنجاسة الماء أو کون الثوب غصباً، فالأصل الجاری فی الماء قاعدة الطّهارة، والجاری فی الثوب أصالة الحلّ.

ثمّ إن کانا من سنخٍ واحدٍ، فإمّا لا یکون لأحدهما أصل طولی، کما فی المثال المذکور. فهو خارج عن البحث. وإمّا یکون أحدهما مختصّاً بالأصل الطّولی دون الآخر، أو یکون لکلّ منهما أصل طولی.

توضیح ذلک: إنّ الأصول علی قسمین: طولیة وعرضیّة، العرضیّة ما عرفت،

ص: 159

والطولیّة هی التی لا یتحقّق لها الموضوع مع فرض وجود الأصل فی المرتبة السّابقة. مثلاً: لمّا وقع الشک فی طهارة أحد الماءین ونجاسته، فالأصل الجاری فی کلیهما هو قاعدة الطّهارة، ولکنّ بعد هذه القاعدة قاعدة أُخری، وهی أنّ کلّ واحدٍ منهما یشک فی حلیّة شربه وعدمها، إلاّ أنّ جریان قاعدة الطّهارة فی المرتبة السّابقة لا یدع مجالاً لجریان أصالة الحلّ فیهما، لأنّ الحلیّة والحرمة مسبّبان عن الطّهارة والنجاسة، ومع جریان قاعدة الطّهارة لا یبقی الشک حتی یکون موضوعاً لجریان أصالة الحلّ.

والحاصل: إنّ هنا ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: أنّ الأصلان من سنخ واحدٍ، ولأحدهما أصل طولی، کما إذا علم إجمالاً بوقوع نجاسة فی الماء أو علی الثوب، فإنّ الأصلین إمّا لا یجریان أو یسقطان بالمعارضة، لکنّ الکلام فی الأصل الطّولی الموجود فی طرف الماء، حیث یشکّ فی جواز شربه وعدم جوازه، فهل کما کان العلم الإجمالی منجّزاً فلم تجر القاعدتان فی الطرفین، یکون منجّزاً بالنسبة إلی الأصل الطّولی، بأنْ یمنع من جریان أصالة الإباحة للشرب، أوْ لا لکونه بلا معارض فیجوز الشرب؟ قولان.

ولا یخفی أنّ هذا البحث إنّما یطرح بناءً علی مسلک الإقتضاء، لأنّ مقتضی مسلک العلیّة هو التنجیز وإنْ کان الأصل بلا معارض.

قال المیرزا بالمنجّزیة وأنّه لا یجری الأصل الطّولی.

وقال السیّد الخوئی: بجریان الأصل.

ص: 160

رأی السیّد الخوئی

جاء فی مصباح الأصول(1): إنّ الملاک فی تنجیز العلم الإجمالی للتکلیف المعلوم بالإجمال هو تساقط الأصول فی أطراف العلم، فإذا کان الأصل الجاری فی الطرفین من سنخ واحدٍ کقاعدة الطّهارة، فلا مناص من القول بعدم شمول القاعدة لکلا طرفی الشّبهة، لأنّها إن جرت فی الطرفین، لزم الترخیص فی المعصیة، وإن جرت فی طرفٍ دون آخر، لزم الترجیح بلا مرجّح. ولذا لا تجری القاعدة فی الطرفین.

وأمّا الأصل الطّولی الخاص بأحدهما، فالملاک لعدم الجریان مفقود، إذْ لا یلزم من القول بجواز شرب الماء بأصالة الإباحة ترخیصٌ فی المعصیة، ولا یلزم منه الترجیح بلا مرجّح، لفرض أنْ لا طرف له.

وهکذا یکون المورد من صغریاتِ الرجوع إلی الأصل المحکوم بعد سقوط الأصل الحاکم، کما لو علم بنجاسة الماء فی زمانٍ وبطهارته فی زمان آخر وشک فی المتقدّم منهما، فإنّه بعد تساقط الإستصحابین _ أی إستصحاب عدم التقدّم فی هذا واستصحاب عدم التقدّم فی ذاک _ بالمعارضة، یکون الأصل المحکّم هو قاعدة الطّهارة.

قال شیخنا: وهذا الإستدلال قوی.

هذا، ولا یخفی أنّ قول السیّد الخوئی بجریان الأصل الطّولی مختصّ بما إذا کان مغایراً مع الأصل المتقدّم علیه فی الموءدی کما عرفت من المثال، أمّا لو کان

ص: 161


1- 1. مصباح الأصول: 357.

موافقاً له فی الموءدی، کما لو کان لأحد الطرفین حالة سابقة فی الطّهارة فتستصحب طهارته، فإنّ الإستصحاب یتعارض مع قاعدة الطّهارة فی الطرف الآخر ویتساقطان، فیکون الأصل الطّولی لمستصحب الطّهارة هو قاعدة الطّهارة، وحیث أنّ قاعدة الطّهارة توافق الإستصحاب فی الموءدی، فهو یقول بعدم الجریان. فالسیّد الخوئی مفصِّل.

رأی المیرزا

أمّا المیرزا، فهو یقول بعدم جریان الأصل الطّولی مطلقاً، واستدلّ علی ذلک بأنّه یلزم من جریان هذا الأصل عدم جریانه، وکلّ ما لزم من وجوده عدمه فهو محال.

توضیح ذلک:

لو علم إجمالاً بوقوع النجاسة إمّا فی الماء وإمّا فی الثوب، فالأصل العرضی هو قاعدة الطّهارة، وهو بالمعارضة یسقط، لما ذکر السیّد الخوئی: من أنّ جریانه فیهما یوجب الإذن فی المخالفة القطعیّة، وفی أحدهما المعیّن دون الآخر ترجیح بلا مرجّح، والمردّد لا موضوع له، فتصل النوبة إلی أصالة الإباحة، لکنّه لا یجری إلاّ بعد سقوط الأصل الحاکم _ وهو قاعدة الطّهارة _ فکان جریانه متوقّفاً علی سقوط الأصل الحاکم، وسقوطه متوقّف علی منجّزیّة العلم. فکان منشأ سقوط الأصل الحاکم هو تنجیز العلم الإجمالی.

لکنّ جریان الأصل الطّولی متوقّف علی تنجیز العلم الإجمالی بالنسبة إلی

ص: 162

الأصل السّابق علیه فی المرتبة، فلو لم ینجّزه یکون جاریاً، وإذا کان جاریاً، لم تصل النوبة إلی جریان الأصل الطّولی، لأنّه محکوم له وجریانه یتوقّف علی عدم جریان السّابق الحاکم.

فیلزم من جریان الأصل الطّولی عدم جریانه.

التحقیق:

قال شیخنا: والحق هو التفصیل بین ما إذا کانا متوافقین فی المؤدّی، فالحق معه. وإنْ کانا متغایرین فلا یتم برهانه.

توضیح ذلک:

إن کان فی أحد الطرفین إستصحاب الطّهارة وفی الآخر قاعدة الطّهارة، فالأصلان متوافقان فی المؤدّی، لأنّ المجعول فیهما هو الطّهارة، وإذا تساقطا جاء دور الأصل الطّولی للطرف الإستصحابی وهو قاعدة الطّهارة، وهذه القاعدة لا معارض لها. ولکنّ جریانها فیه یبتلی بإشکال المیرزا، لأنّ جریان القاعدة فی هذا الطرف الإستصحابی یجعل العلم الإجمالی بالنسبة إلیه بلا أثر، ویحکم بطهارته، وإذا حکم بطهارته حکم بجریان إستصحاب الطّهارة فیه، لأنّ المانع من جریانه کان هو العلم بالنجاسة، وقد سقط عن التأثیر، لکنّ العلم غیر ساقط عن التأثیر فیمنع من الطّهارة.

فإن قلت:

قد کان الإستصحاب معارَضاً بالقاعدة فسقط، ولکن الأصل الطّولی غیر معارض.

ص: 163

قلت:

لکنّ قاعدة الطّهارة تعارض الأصل الإستصحابی والأصل الطّولی له وهو قاعدة الطّهارة.

توضیح ذلک:

إنّ بین إستصحاب الطّهارة والأصل الطّولی سببیّة ومسبّبیّة، فالحکومة بینهما ثابتة، فمع الإستصحاب لا تجری القاعدة، لکنّ هذه النسبة بین الإستصحاب وقاعدة الطّهارة فی مقابله غیر موجودة، فلا حکومة بینهما، وعلیه فهما جاریان، فتکون القاعدة المقابلة معارضةً للإستصحاب وللقاعدة فی طولها، فجریان القاعدة الطولیّة یستلزم عدم تنجیز العلم، وعدم تنجیزه یستلزم جریان الإستصحاب، وجریانه یستلزم عدم جریان القاعدة الطولیّة.

فلزم من جریان القاعدة الطولیّة عدم جریانها.

وأمّا إن کان الأصل الطّولی مغایراً فی المؤدّی، فلا یجری برهان المیرزا.

توضیح ذلک:

لو علم بوقوع النجاسة إمّا فی الماء أو الثوب، فالأصلان المتقابلان من سنخ واحدٍ وهو قاعدة الطّهارة، وهما یتساقطان بالمعارضة، لکنّ الأصل الطّولی للماء وهو حلیّة شربه مخالف للأصل السّابق علیه فی المؤدّی وهو جارٍ.

ووجه جریان الأصل الطّولی فی هذا الفرض هو: إنّ الموضوع للأصل وهو الشک فی الحلیّة والحرمة محقَّق، فالمقتضی لجریان الأصل موجود، والمانع _ وهو المعارض _ مفقود، إذن، لا تنجیز للعلم الإجمالی بالنّسبة إلی الأصل الطّولی.

ص: 164

لا یقال:

إنّ جریان أصالة الإباحة معناه جواز شرب هذا الماء، ولازم جواز شربه هو طهارته، والحال أنّ الأصل فی طهارته قد سقط فی المرتبة السّابقة بالمعارضة.

لأنّا نقول:

إنّ مثبتات الأصول لیست بحجّةٍ، فقاعدة الحلّ لا تعرّض لها بالنسبة إلی الطّهارة، والتفکیک بین الأصول فی اللوازم والملزومات لیس بعزیز.

وعلی الجملة، فإنّه بالنسبة إلی طهارة هذا الماء یوجد المعارض، لتنجیز العلم، وبالنسبة إلی حلیّته لیس للعلم منجّزیّة، فأصالة الإباحة جاریة وإنْ لم تجر قاعدة الطّهارة.

هذا تمام الکلام مع المیرزا.

وأمّا السیّد الخوئی، فذهب(1) إلی أنّ الأصلین فی المرتبة السّابقة إنْ کانا من سنخ واحدٍ، وکان الأصل الطّولی مغایراً فی المؤدّی مع الأصل السّابق علیه، جری الأصل الطّولی. وإنْ لم یکن الأصلان السّابقان من سنخ واحدٍ، وکان الأصل الطّولی موافقاً مع السّابق علیه فی المؤدّی، لم یجر الأصل الطّولی بل یسقط بالمعارضة.

توضیح ذلک:

إن کان الأصلان من سنخ واحدٍ، _ کأنْ یعلم بوقوع النجاسة إمّا فی الماء أو الثوب، فالأصل فی الطرفین هو قاعدة الطّهارة، إلاّ أنّ للماء أصلاً فی الطول وهو حلیّته وإباحة شربه، وهذا الأصل یغایر الأصل السّابق علیه فی المؤدّی _ کان

ص: 165


1- 1. مصباح الأصول: 358.

الأصل الطّولی جاریاً، خلافاً للمیرزا _ القائل بعدم جریان الأصل الطّولی مطلقاً.

واستدلّ للجریان: بأنّ المدار فی تنجیز العلم الإجمالی هو تعارض الأصول، فکلّما تعارضت الأصول تنجّز العلم وإلاّ فلا. وملاک التعارض هو عدم الترجیح بلا مرجّح، وفیما نحن فیه حیث لا معارض لأصالة الإباحة _ بعد جریانها لوجود المقتضی _ فإنّ الترجیح مع المرجّح. ونتیجة ذلک: إنّه وإنْ لم یجز الوضوء بهذا الماء إلاّ أنّه یجوز شربه. ولهذا نظائر فی الفقه، ومن ذلک صورة توارد الحالتین علی الشیء مع الشک فی المتقدّم منهما.

وإنْ کان الأصلان من سنخین، وکان الأصل الطّولی موافقاً فی المؤدّی مع الأصل الجاری فی مرتبةٍ سابقةٍ علیه _ کما إذا علمنا بنجاسة أحد الماءین وغصبیّة الآخر، فإنّ الأصل الجاری فی محتمل النجاسة هو الطّهارة وفی محتمل الغصبیّة هو أصالة الحلّ، ومع سقوط الأصل السّابق فی محتمل النجاسة تصل النوبة إلی أصالة حلیّة شرب الماء _ کان العلم الإجمالی منجّزاً، لأنّ الأصلین الجاریین فی الطرفین وإن کانا مختلفین فی السنخ، إلاّ أنّ العلم الإجمالی بوجود الحرام فی البین مانع عن الرجوع إلی الأصل، بنفس الملاک، وهو أنّ الترخیص فی کلیهما ترخیص فی مخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال، وفی أحدهما ترجیح بلا مرجّح.

توضیح ذلک:

إنّ الأصل الجاری فی طرف الغصب هو أصالة الحلّ، وفی طرف النجاسة أصالة الطّهارة ویترتّب علیها جواز الشرب، لکنّ العلم الإجمالی بوجود الحرام فی البین یمنع من جریانهما کما ذکرنا، فکما أنّ أصالة الطّهارة المترتّب علیها جواز

ص: 166

الشرب إذا انضمّت إلی أصالة الحلّ فی الطرف الآخر یلزم الترخیص فی المعصیة، کذلک أصالة الحلّ إذا انضمّت إلیها أصالة الحلّ فی الطرف الآخر، إذ لا فرق فی لزوم الترخیص فیها بین أن یکون الترخیص بلسان الحکم بالطّهارة المترتّب علیه حلیّة الشرب أو بلسان الحکم بالحلیّة فی أوّل الأمر.

وبعبارة أخری: یدور الأمر بین سقوط أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیّة وسقوط أصالة الطّهارة وأصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، وبما أنّه لا ترجیح فی البین، یسقط الجمیع لا محالة.

هذا تمام الکلام فیما لو کان لأحد الطرفین أصل فی الطول.

وأمّا لو کان لکلٍّ منهما أصل فی الطول، فلا کلام فی أنّهما یتعارضان کما یتعارض الأصلان السّابقان، ویسقطان بالمعارضة، کما لو علمنا بنجاسة أحد الماءین، فإنّ قاعدة الطّهارة فی الطرفین تسقط، لکنّ کلاًّ منهما له أصل طولی وهو أصالة الحلّ فإنّ لها الموضوع فی الطرفین، فتجری فی کلیهما، ویسقطان بالعلم الإجمالی.

ص: 167

التنبیه الثانی: هل یعتبر کون عنوان المعلوم بالإجمال معیّناً؟

اشارة

لا فرق فی منجّزیّة العلم الإجمالی بین أن یکون المعلوم بالإجمال عنواناً معیَّناً ذا حقیقة واحدة، کالعلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، وبین أن یکون عنواناً مردّداً بین عنوانین مختلفی الحقیقة، کما فی العلم الإجمالی بنجاسة هذا الإناء أو غصبیّة ذاک، فیجب الإجتناب عن کلیهما.

وعن صاحب الحدائق(1): إعتبار کون الحکم المعلوم بالإجمال عنواناً معیَّناً غیر مردّد، فالعلم الإجمالی بتحقّق أحد العنوانین فی أحد الإناءین، لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیّة ولا حرمة المخالفة القطعیّة.

دلیل قول صاحب الحدائق

وغایة ما یمکن أن یقال فی وجهه هو:

إنّ متعلَّق العلم فی هذه الصّورة یکون هو الجامع بین العنوانین، والجامع

ص: 168


1- 1. الحدائق الناضرة 1 / 517.

بین العنوانین لیس بحکم شرعیٍّ یجب الإمتثال له، فلا تأثیر لهذا العلم.

وفیه:

إن الحاکم فی باب تنجیز العلم الإجمالی هو العقل، وهو لا یری أیّ دخلٍ فی الخصوصیّة النوعیّة للخطاب فی تنجیز التکلیف وإستحقاق العقاب والثواب، فالعلم الإجمالی المذکور منجّز، ومخالفته تفویت للغرض الإلزامی للمولی، وعلیه السّیرة العقلائیّة.

وأمّا ما قیل فی الدفاع عنه: من أنّه مع التردّد لا یوجد العلم بخطابٍ جامعٍ بین العنوانین، لأنّ المعلوم فیه هو مفهوم الخطاب وهو غیر صالح للتنجّز.

ففیه: انّ المعلوم لیس مفهوم الخطاب، بل هو الحکم الشرعی الواقعی، أی الحرمة الموجودة فی البین، غیر أنّ الخصوصیّة مجهولة، وقد تقرّر أن لا دخل فی نظر العقل للخصوصیّة.

کلام المحقّق العراقی

وقال المحقّق العراقی:

«وأمّا توهّم عدم تأثیر العلم الإجمالی فی الفرض المزبور، بدعوی أنّ حرمة التصرّف فی الغصب إنّما هی من الآثار المترتّبة علی العلم بالغصبیّة، بحیث کان للعلم والإحراز دخل فی ترتّبها، لا أنّها من لوازم الغصب الواقعی، بشهادة بنائهم علی صحّة الوضوء والغسل بالماء المغصوب مع الجهل بالغصبیّة حین الوضوء. ومع عدم إحرازها لا أثر للعلم الإجمالی المزبور، إذْ لا یحدث من مثله العلم

ص: 169

بالتکلیف الفعلی علی کلّ تقدیر، لأنّ أحد الطرفین _ وهو مشکوک الغصبیّة _ لا تکلیف بالإجتناب عنه، والطرف الآخر _ وهی النجاسة _ یرجع الشک فیها إلی الشک البدوی.

فمدفوع، بمنع دخل العلم والإحراز فی موضوع الحرمة فی طرف الغصب، بل تمام الموضوع لها _ کما تقتضیه النصوص وکلمات الأصحاب _ إنّما هو الغصب الواقعی، علم به المکلّف أو جهل، غایة الأمر مع الجهل به یکون المکلّف معذوراً، کمغدوریّته فی شرب النجس مع الجهل بالموضوع أو الحکم لا عن تقصیر.

(قال) وبناؤهم علی صحّة العبادة مع الجهل بالغصبیّة _ ولو علی الإمتناع وتغلیب المفسدة _ إنّما هو من هذه الجهة، لاشتمال المأتی به حینئذٍ علی المصلحة وتأثیرها فی حسنه الفعلی ولو من حیث صدوره عن الفاعل، بعد عدم تأثیر المفسدة الغالبة مع المعذوریة بالجهل المزبور فی المبغوضیّة الفعلیّة. ولذلک لا یفرّقون فی الحکم بالصحّة والمعذوریّة من جهة العقوبة بین الجهل بالموضوع والجهل بالحکم لا عن تقصیر.

وحینئذٍ، فإذا لم یکن قصور فی العلم الإجمالی فی کشفه عن الإلزام المولوی المردّد فی البین، فلا محالة یؤثر فی التنجیز، ولازمه بحکم العقل هو الخروج عن عهدة التکلیف بترک التصرّف فی کلٍّ من الإناءین، وترتیب آثار کلّ من النجاسة والغصب علی کلّ منهما، تحصیلاً للموافقة القطعیّة لکلا الحکمین».

ص: 170

أقول:

لکنّ فی قوله: وبناؤهم علی صحّة العبادة ... بحثاً، لأنّه بناءً علی اعتبار قصد الأمر فی عبادیّة العبادة، لا یمکن _ بناءً علی الإمتناع _ الإتیان بالعمل بوجهٍ قربی، وبناءً علی اعتبار قصد الملاک، فإنّ الملاک المقرّب هو الذی یکون تامّاً فی مرحلة الغرضیّة، وبناءً علی الإمتناع تکون المصلحة مغلوبةً للمفسدة أو هما متساویان، فلا ملاک صالح للمقربیّة فی نظر العقل.

فظهر أنّه _ بناءً علی الإمتناع _ لا یکون العمل المأتی به مقرِّباً مع الجهل بالغصبیّة، علی المسلکین المذکورین، لعدم الأمر _ بناءً علی الإمتناع _ وکون الملاک مغلوباً، فلا یوجد المقرّب.

وأمّا ما ذکره عن الأصحاب، فإن تمّ الإجماع علیه فهو، وإلاّ فلا وجه له، إلاّ إذا کانت المسألة من الأصول وقلنا باعتبار الشهرة القائمة علی المسائل الأصلیّة المذکورة فی الکتب المعدّة لما تلقّاه الأصحاب من أقوال الأئمّة علیهم السّلام.

لکنّ هذا المبنی _ الذی اختاره السیّد البروجردی _ ممنوع.

وأمّا الحسن الفاعلی، فإنّه وإن کان موجوداً هنا، لکنّه لا یکون منشأً لصحّة العبادة. نعم، یوجب القرب للعبد إلی المولی.

ص: 171

التنبیه الثالث: فی المأتیّ به بناءً علی الموافقة الإحتمالیّة

إنّه بناءً علی وجوب الموافقة القطعیّة، لو اکتفی المکلّف بالموافقة الإحتمالیّة، فإمّا یکون المأتی به موافقاً للواقع أو مخالفاً له.

فإنْ کان مخالفاً للواقع، فالتکلیف موجود وإجزاء غیر المأمور به عن المأمور به محتاج إلی الدلیل، ومقتضی إطلاق دلیل الواجب واستصحاب بقاء التکلیف، والإشتغال بالواجب، هو عدم الإجتزاء.

وإنْ کان موافقاً للواقع المعلوم بالإجمال، فتارة: یکون الواجب توصّلیّاً وأخری: تعبّدیّاً. إن کان توصّلیّاً، فلا ریب فی سقوط الأمر، لحصول الغرض، وإنْ کان تعبّدیّاً، بنی الإجتزاء بهذه الموافقة الإحتمالیّة علی أنّه لا یعتبر فی العبادات الجزم بالنیّة کما قال به بعض، فیکون العمل صحیحاً.

وأمّا علی القول باعتبار الجزم بالنیّة، فالعبادة المأتی بها بداعی الأمر المحتمل غیر کافیة، وذلک:

لأنّ العمل المأتی به کان عن إحتمال الأمر لا عن الأمر، والعمل العبادی

ص: 172

یشترط أن یکون المحرّک له والإنبعاث إلیه أمر المولی لا إحتمال الأمر منه.

ویجاب عن هذا الدلیل بالنقض والحلّ.

أمّا نقضاً: فبأنّه إذا حصل العلم بالأمر، فالمحرّک هو العلم به لا الأمر نفسه، لأنّ الأمر بقطع النظر عن الصّورة الذهنیّة المتعلّقة به غیر مؤثّر فی الإرادة، فلو کان الإنبعاث مع إحتمال الأمر من غیر الأمر، ففی صورة العلم بالأمر یکون الإنبعاث من غیر الأمر کذلک.

وأمّا حلاًّ، فبأنّ المعتبر فی عبادیّة العمل الإتیان به مضافاً إلی المولی، والإضافة إلیه بالأمر الإحتمالی أولی بالمقربیّة من الأمر الجزمی، ودلالته علی الانقیاد للمولی أشدّ وأقوی.

وعلی ما ذکر، فلابدّ من القول بکفایة الإتیان بالعمل بداعی الأمر الإحتمالی لتحقّق الإمتثال وسقوط التکلیف.

ص: 173

التنبیه الرّابع: فیما لو کان بعض الأطراف خارجاً عن الإبتلاء

اشارة

إنّه قد یکون بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الإبتلاء أو مضطرّاً إلیه أو قام علیه الأصل المثبت للتکلیف أو الأمارة.

فإنْ کان العلم الإجمالی مقارناً لأحد هذه الأمور أو متأخّراً عنه، سقط العلم عن التأثیر. فلو دار أمر النجاسة بین أحد الإناءین، وخرج أحدهما عن الإبتلاء أو اضطرّ إلیه أو قامت علیه الأمارة أو جری فیه إستصحاب النجاسة، ثمّ حصل العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما، جری الأصل النافی للتکلیف فی الطرف الباقی بلا معارض.

هکذا قالوا.

ولکنّ تنجیز العلم وعدمه فرع علی حصول العلم وتحقّقه، هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ قوام العلم الإجمالی هو القضیّة المنفصلة، بأنْ یقال مثلاً: إمّا هذا نجس وإمّا ذاک، فهذا التردید قوام العلم الإجمالی، وإذا لم یکن فی موردٍ فلا علم إجمالی.

ص: 174

وعلی هذا، فإنّ الخارج عن محلّ الإبتلاء _ مثلاً _ لا یتعلّق به التکلیف. أی: لا إنشاء من الشارع بداعی جعل الداعی أو الزاجر، بالنسبة إلیه، فلا یتعلّق التکلیف بما هو خارج عن محلّ الإبتلاء. وحینئذٍ، فأصل تحقّق العلم الإجمالی والقضیّة المنفصلة أوّل الکلام، ولا تصل النوبة للبحث عن التنجیز وعدمه.

هذا فیما لو کان العلم الإجمالی مقارناً أو متأخّراً.

أمّا لو تقدّم تحقّق العلم وحصل التعارض بین الأصول وانکشف کون أحد الأطراف خارجاً عن محلّ الإبتلاء أو مضطرّاً إلیه أو مورداً للأصل أو الأمارة، فهل یسقط العلم الإجمالی عن التأثیر بقاءً، أو یبقی مؤثّراً فی تعارض الأصول؟

إنّ الأمر یعود إلی أنّه: هل حدوث العلم الإجمالی کافٍ فی منجّزیّته فیؤثّر أثره وإنْ زال العلم أو سقط عن المنجّزیّة بقاءً؟

التحقیق:

إنّ التنجیز یدور مدار المنجِّز حدوثاً وبقاءً. وتفصیل المسألة هو:

إنْ کان العلم زائلاً بقاءً ولکنّه بالنظر إلی السّابق محفوظ، کان منجّزاً، ولا مجال لجریان الأصل.

مثلاً: لو علم إجمالاً بوجوب القصر أو التمام، فأتی بأحد الطّرفین، فالقضیّة المنفصلة بعد الإتیان بأحد الطرفین منقضیةٌ ولا علم إجمالی بقاءً، ولکنْ أثر العلم الحادث من قبل یبقی ویؤثّر، ویجب الإتیان بالطرف الآخر أیضاً.

وحاصل ذلک: کفایة العلم الإجمالی بحدوثه للتنجیز وإنْ زال بقاءً.

ص: 175

وإنْ کان العلم الذی حَدث زائلاً فی ذلک الوقت _ لابقاءً _ کما لو علم بالتکلیف فی أحد الطرفین باعتقاد کونهما مورداً للإبتلاء، مع خروج أحدهما فی الواقع عن ذلک، ففی مثل هذه الصّورة لا أثر للعلم بقاءً.

ص: 176

التنبیه الخامس: فیما لو کان لأحد الطرفین أثر زائد

لو حصل العلم الإجمالی، وکان فی أحد الطرفین أثر زائد علی القدر المشترک بینهما، فإمّا یکون الموضوع واحداً أو یتعدّد.

إن کان الموضوع واحداً غیر أنّ السبب مردّد بین أمرین، والحاصل من السّبب مردّد بین الأقلّ والأکثر، فتارة: یوجد الأصل الحاکم، وأخری: لا.

فإن لم یکن فی البین أصل حاکم، کما لو علم إجمالاً بإشتغال ذمّته لزید بمالٍ قد أتلفه علیه أو استقرضه منه، غیر أنّه لا یدری هل هو مائة أو مائتین؟ فالقاعدة الجاریة هی إستصحاب عدم إشتغال الذمّة بالأکثر.

وإنْ کان فی البین أصل حاکم، کما لو أصابت الثوب قطرة من النجاسة وتردّدت بین البول والدم، فإنْ کانت القطرة دماً، کَفَت الغسلة الواحدة، وإنْ کانت بولاً وجب الغسلتان، ففی مثل هذا لا یتمسّک بعد الغسلة الأولی بالأصل النافی للتکلیف الزائد، لوجود الأصل الحاکم وهو إستصحاب بقاء النجاسة، فتجب الغسلة الثانیة.

ص: 177

فظهر أنّ التمسّک بالأصل النافی للأثر الزائد _ عند دوران أمر المسبّب بین الأقلّ والأکثر _ إنّما یجوز حیث لا یوجد الأصل الحاکم.

هذا کلّه فی فرض وحدة الموضوع.

وإن کان الموضوع متعدّداً، کما لو کان عندنا ماءان، أحدهما مطلق والآخر مضاف، ووقعت النجاسة فی أحدهما، فهنا أثر زائد فی طرف المطلق، لأنّه _ بالإضافة إلی حرمة الشرب _ لا یجوز التوضّؤ به، فهل یمکن نفی الأثر الزائد بالأصل؟ قولان.

والمختار العدم، لأنّ جواز التوضّئ بالماء المطلق لابدّ وأنْ یستند إلی الحجّة الشرعیّة علی طهارته، ومع العلم بوقوع القطرة فی أحد الإناءین، تکون قاعدة الطّهارة متعارضةً، وإذا تساقطا، کان الماء المطلق محتمل النجاسة، والماء المحتملة نجاسته لا یجوز التوضّؤ به.

ص: 178

التنبیه السادس: فیما لو کان متعلَّق العلم تدریجیّاً

اشارة

هل العلم الإجمالی منجّز للواقع إذا تعلَّق بالأُمور التدریجیّة، بأن یکون ظرف أحد الطرفین _ مثلاً _ متأخّراً ولا یمکن تقدیمه، لعدم قدرة المکلّف علی الإتیان به فعلاً، لتقیّده بالزمان المتأخّر، کما هو منجّز إذا تعلّق بالأُمور الدفعیّة، أوْ لیس بمنجّز؟ وجوه:

1_ التنجیز مطلقاً. وعلیه المحقّقون المیرزا والإصفهانی والعراقی، علی اختلاف مسالکهم.

2_ عدم التنجیز مطلقاً.

3_ التفصیل. وعلیه الشیخ وصاحب الکفایة. وهل یرجع کلامهما إلی المطلب الواحد أوْ لا؟

ولابدّ قبل الورود فی البحث من ذکر أمرین:

(الأوّل) إنّ مورد البحث هو حیث لا منجّز إلاّ العلم الإجمالی.

وأمّا ما یکون فیه منجّز فخارج عن محلّ الکلام، کالشّبهة الحکمیّة قبل

ص: 179

الفحص، حیث أنّ نفس إحتمال التکلیف منجّز، وعلی هذا، فإنّ مقتضی الأصل التکلیفی فی کلّ معاملة إحتمل کونها ربویّة هو لزوم الإحتیاط ولا تجری فیها أصالة الإباحة. وأمّا وضعاً، فلا مجال للشک بعموم « أوْفُوا بِالْعُقُود » لأنّه مخصّص بأدلّة حرمة الرّبا، فیکون تمسّکاً بالعام فی الشّبهة الموضوعیّة لمخصّصه وهو غیر جائز، ومن قال بجوازه إنّما یقول به بعد الفحص لا قبله کما هو المفروض، فالمرجع وضعاً أصالة الفساد علی کلا القولین.

لکن التحقیق عدم جواز الرجوع إلی أصالة الفساد، لأنّ أصالة الفساد معناها عدم تحقّق المبادلة بین المالین وبقاء کلّ منهما علی ملک صاحبه، وکما أنّ جریان سائر الاصول فی الشّبهة الحکمیّة مشروط بالفحص، کذلک الإستصحاب. فالمعاملة إن کانت ربویّةً حرم ترتیب الأثر علیها، وإلاّ وجب تسلیم المال، وإجراء إستصحاب عدم النقل یتوقّف علی وجود المؤمّن، لاحتمال عدم کونها ربویّة فی الواقع فیجب التسلیم ... إذن، لا مانع من الرجوع إلی أصالة الفساد فی الشّبهة الحکمیّة بعد الفحص، وأمّا قبله فلا، بل لابدّ من التوقّف، بمعنی ترک کلٍّ من المتعاملین التصرّف فیما بیده وعدم ترتیب آثار المالکیّة علیه حتی یتبیّن الأمر، فلابدّ من الإحتیاط إلاّ أنْ یتصالحا أو یرجع إلی القرعة.

(الأمر الثانی) الوجوه المحتملة للظرف المتأخّر ثبوتاً أربعة:

أحدها: أنْ یکون دخیلاً فی الملاک والخطاب. والثانی: أنْ یکون دخیلاً فی الملاک دون الخطاب، والثالث عکس الثانی، والرابع: أنْ لا یکون له دخل مطلقاً.

مثال دخله فی کلیهما: زوال الشمس، فإنّه دخیل فی ملاک صلاة الظهر

ص: 180

ووجوبها، وأمّا قبله، فلا تکلیف بها لا ملاکاً ولا خطاباً.

ومثال عدم دخله فی کلیهما: ما إذا نذر التصدّق یوم الجمعة، فإنّه لا دخل لیوم الجمعة، لا فی مطلوبیة الصدقة ولا فی الخطاب بناءً علی إمکان الواجب المعلّق. فیکون الوجوب فعلیّاً والواجب یوم الجمعة.

ومثال دخله فی الملاک دون الخطاب: دخل أیّام المناسک فی ملاک الحج، مع أنّ الوجوب ثابت قبلها. بناءً علی الواجب المعلّق.

ومثال دخله فی الخطاب دون الملاک: النذر بناءً علی إنکار الواجب المعلّق، فإنّ یوم الجمعة غیر دخیل فی الملاک ودخیل فی الخطاب بالوفاء بالنذر.

أقول:

هذه هی الوجوه المحتملة کما ذکروا. ولکنّا لا نتعقّل عدم دخل الزمان المتأخّر فی الوجوب، بأن یکون الحکم مطلقاً بالإضافة إلیه، وذلک، لأنّ معنی إطلاق الشیء بالنسبة إلی آخر عدم دخله فیه لا وجوداً ولا عدماً، بأن یلحظ وجوده وعدمه بالنسبة إلیه ویرفضا، فهل یمکن لحاظ الوجوب الآن من غیر دخلٍ لوجود یوم الجمعة وعدمه بالإضافة إلیه؟ هذا غیر معقول، بل هو مقیّد ومشروط به. ومن هنا یظهر: أنّ الواجب المعلّق یرجع إلی واجبٍ مشروطٍ بشرطٍ متأخّر وهو الزمان.

وسواء قلنا بأنّ الزمان المتأخّر شرط للوجوب الفعلی أو لم نقل، فإنّ ظاهر قوله تعالی « وَلِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَن اسْتَطَاعَ إلَیْهِ سَبِیلاَ »(1) یوافق الوجوب

ص: 181


1- 1. سورة آل عمران، الآیة 97.

الفعلی، مع کون الواجب إستقبالیّاً، لأن موضوع وجوب الحج فیها هو «من استطاع»، فإذا تحقّقت الإستطاعة ثبت الوجوب، لکن الواجب هو المناسک فی شهر ذیالحجّة ... فبناءً علی الواجب المعلّق، یکون الوجوب فیها فعلیّاً لکن ظرف الواجب متأخّر، إلاّ أنّ هذا الوجوب مشروط عندنا بمجیء أیّام الحجّ، لإستحالة الإطلاق کما ذکرنا.

فظهر أنّ کلام المیرزا فی التقسیم مخدوش من جهتین:

إحداهما: تصویره عدم دخل الزمان المتأخّر فی الخطاب، لما ذکرناه من أنّه دخیل فیه بنحو الشرط المتأخّر.

والثانیة: تفریقه بین ما إذا لم یکن للزمان دخل مطلقاً مثل حرمة الکذب والغیبة فی الزمان اللاّحق، بل هو ظرف الوقوع فقط حیث إختار المکلّف إیقاعه فیه، وبین ما إذا کان دخیلاً فی الخطاب دون الملاک، کمثال النذر والحلف، حیث أنّ التکلیف یتبع ما أخذه الناذر والحالف فی الموضوع.

فإنّه کما أنّ الزمان اللاّحق ظرف للإمتثال، أی إمتثال الحکم بحرمة الغیبة، فی القسم الأوّل، کذلک هو ظرف إمتثال الوفاء بالنذر فی القسم الثانی، فلا وجه للتفریق.

وبعد، فإنّ البحث فی هذا التنبیه یقع فی مقامین:

الأوّل: فی تنجیز العلم وعدم تنجیزه.

والثانی: فی المرجع بناءً علی عدم التنجیز مطلقاً أو فی بعض الأقسام.

ص: 182

المقام الأوّل
دلیل القول بالتفصیل

قال الشیخ(1): لو نسیت المرأة المضطربة وقت عادتها وحفظت عدد الأیام، بأنْ تعلم إجمالاً بأنّها تحیض فی الشهر ثلاثة أیّام، فهل یجب علیها تروک الحائض فی تمام الشهر؟

ولو علم التاجر بابتلائه فی هذا الشهر بمعاملة ربویّة، فهل یجب علیه الإمساک عن کلّ معاملة لا یعرف حکمها فی هذا الشهر؟

قال الشیخ _ بعد ذکر المثالین _ «التحقیق أن یقال: إنّه لا فرق بین الموجودات فعلاً والموجودات تدریجاً فی وجوب الإجتناب عن الحرام المردّد بینها إذا کان الإبتلاء دفعةً وعدمه، لاتّحاد المناط فی وجوب الإجتناب.

قال: نعم، قد یمنع الإبتلاء دفعةً فی التدریجیّات کما فی مثال الحیض، فإنّ تنجّز تکلیف الزوج بترک وطئ الحائض قبل زمان حیضها ممنوع، فإنّ قول الشارع « فَاعْتَزلُوا النِّسَاء فِی الْمَحِیضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّی یَطْهُرْن »(2) ظاهر فی وجوب الکفّ عند الإبتلاء بالحائض، إذ الترک قبل الإبتلاء حاصل بنفس عدم الإبتلاء، فلا یطلب فهذا الخطاب کما أنّه مختصّ بذوی الأزواج ولا یشمل العزّاب إلاّ علی وجه التعلیق، فکذلک من لم یبتل بالمرأة الحائض.

قال: ویشکل الفرق بین هذا وبین ما إذا نذر أو حلف فی ترک الوطی فی لیلة

ص: 183


1- 1. فرائد الأصول 2 / 248.
2- 2. سورة البقرة، الآیة 222.

خاصّة، ثمّ اشتبهت بین لیلتین أو أزید ولکنّ الأظهر هنا وجوب الإحتیاط، وکذا فی المثال الثانی من المثالین المتقدّمین»(1).

أقول:

وحاصل کلامه: إنّ المؤثر هو العلم بالتکلیف المنجَّز دون المعلَّق، وأنّ ملاک التنجّز والتعلیق هو الإبتلاء وعدمه.

والمستفاد من کلامه فی التنبیه الذی خصّه بالبحث عمّا إذا خرج بعض الأطراف عن الإبتلاء: أنّ ملاک الخروج عنه کون المکلَّف أجنبیّاً عن الطرف الخارج عادة.

فیرد علیه: أنّه إن کان المراد الأجنبیّة بالمرّة، ففی مثال الحیض _ حیث قال فیه بعدم التنجیز _ لیس المکلَّف أجنبیّاً بالمرّة، بل هو أجنبی بالفعل. وإنْ کان المراد کونه أجنبیّاً بالفعل، فما الفارق بین الحیض والمعاملة الربویّة إذا تأخّر موضوعها؟

هذا، وقد فرّق المحقّق الخراسانی بین المثالین، بتحقّق موضوع التکلیف وعدمه، بأنّ التکلیف فی مثال الحیض معلّق علی تحقّق موضوعه، وإذا کان معلّقاً کان العلم غیر مؤثر، لعدم کونه منجَّزاً علی کلّ تقدیر. بخلاف مثال النذر، فإنّ موضوعه متحقّق، فالعلم منجّز والتکلیف فعلی وإنْ کان ظرف وقوعه مردّداً بین الزمان الحاضر والزمان اللاّحق.

وعلی هذا مشی فی الکفایة فقال(2): بأنّه إذا کان التکلیف منجّزاً فهو فعلی،

ص: 184


1- 1. فرائد الأصول 2 / 248 _ 249.
2- 2. کفایة الأصول: 360.

وإنْ کان معلَّقاً فلا فعلیّة. وأنّه جعل الملاک بناءً علی الواجب المعلَّق _ وهو قائل به _ تعلیق الوجوب وعدم تعلیقه، فإن کان معلّقاً فالعلم غیر مؤثر وإلاّ فهو مؤثر.

أقول:

ما الفرق بین المعاملة الربویّة والحیض؟ إن کان الفارق کون التکلیف فی المعاملة فعلیّاً وإنّ ظرف وقوعها متأخّر، فإنّه لا یتم فیما إذا لم یتحقّق موضوع المعاملة الربویّة _ وهو المکیل والموزون _ إلاّ فی الظرف المتأخّر، فإنّه یکون حینئذٍ کالحیض، فکما لا یحرم علی المرأة دخول المسجد الآن، کذلک لا تحرم هذه المعاملة الآن، لأنّ کلیهما فی عدم تحقّق الشّرط سواء. فلا فرق.

وقال المیرزا فی بیان الفرق(1):

إنّ وجه عدم الإحتیاط فی الحیض عدم الملاک والخطاب الآن، من جهة أنّ الزمان المتأخّر فی الحیض قید لکلا الأمرین، بخلاف المعاملة الربویّة، فإنّ الخطاب والملاک فیها فعلیّان، لأنّ حرمة الربا _ مثل حرمة الکذب _ لا حالة منتظرة لا للملاک ولا للخطاب فیها. وأمّا النذر فهو یتبع کیفیّة وقوعه، فإن کان الناذر قد نذر القیام بالعمل المنذور فی الزمان اللاّحق، فالخطاب بوجوب الوفاء یتوجّه إلیه فی ذلک الزمان، فهو معلّق علی مجیئه، لکن ملاک وجوب الوفاء به تام الآن.

أقول:

إنّه کما أنّ الأمر بالوفاء قضیّة حقیقیّة تنحلّ بحسب کیفیّات نذر الناذر، وأنّه یتحقّق وجوب الوفاء فی الوقت الذی عیّنه الناذر، کذلک دلیل حرمة الرّبا، فإنّه

ص: 185


1- 1. أجود التقریرات 3 / 468.

قضیّة حقیقیّة منحلّة بحسب وقوع المعاملة الربویّة، فإنّها قد تقع الآن وقد تقع فی الغد، فما کان منها یتحقّق موضوعه فی الغد، کیف یکون حکمه _ وهو الحرمة _ متحقّقاً الآن؟ وما الفارق بین المعاملة والنذر؟

والعجب من المیرزا یقول: بأنّ تأخّر الإبتلاء بالرّبا هو باختیار المکلّف، بخلاف النذر، مع أنّ محلّ الکلام هو الأُمور التدریجیّة التی لا یمکن تقدیم الطرف المتأخّر تحقّقه.

فالحاصل، عدم تمامیّة ما ذکر فی بیان الفرق بین المعاملة الربویّة والنذر، کالّذی ذکره للفرق بین المعاملة والحیض.

وعلی الجملة، فإنّ محلّ الکلام هو ما إذا تعلّق العلم بالتکلیف المردّد بین أمرین تدریجیین فی الوجود غیر مجتمعین فی زمانٍ واحد، بأنْ یکون موضوع أحدهما متحقّقاً الآن وأنّ موضوع الآخر سیتحقّق غداً مثلاً، فهل یوجب تنجیزه فی کلیهما أوْ لا؟

إنّ المعاملة الربویّة _ وإنْ لم یکن للزمان دخل فی ملاک حرمتها _ إلاّ أنّ موضوعها متحقّق تارة وغیر متحقّق أُخری، والحیض کذلک، فإنّه لا دخل للزمان فیه، لأنّ الموضوع نفس الحیض _ نعم، هو زمانی لابدّ وأن یقع فی الزمان _ وهو قد یتحقّق وقد لا یتحقّق. فلا فرق.

هذا ما یتعلّق بالقول بالتفصیل الذی علیه الشیخ وصاحب الکفایة قدّس سرّهما، فهما یقولان بدوران أمر منجّزیّة العلم مدار تحقّق الموضوع، فإن کان تحقّقه فی الزمان اللاّحق، فلا منجّزیّة، وإن تحقّق فعلاً، فهو منجّز.

ص: 186

غیر أنّ الشیخ قیّد متعلّق التکلیف بکونه مورداً للإبتلاء، فجعل منه المعاملة والنذر، دون الحیض. والمحقّق الخراسانی قال بأنّ العمدة فعلیّة التکلیف وعدم فعلیّته.

دلیل القول بالتنجیز مطلقاً
اشارة

وذهب المحقّقون المیرزا والعراقی والإصفهانی إلی التنجیز مطلقاً، واختلفت مسالکهم فی بیان ذلک.

بیان المیرزا:

فقال المیرزا(1): بتنجیز العلم فی الحیض والمعاملة والنذر، أمّا فیما لا دخل للزمان فیه، لا ملاکاً ولا خطاباً کالمعاملة الربویّة، فلفعلیّة الحکم. وأمّا فیما لا دخل له فی الملاک، لکنّه دخیل فی الخطاب کالنذر _ بناءً علی نفی الواجب المعلّق کما هو مختاره _ وفیما له دخل فی الملاک دون الخطاب کالحیض، فلحکم العقل بلزوم حفظ غرض المولی وإستحقاق العقاب علی مخالفة الحکم، لاستلزامها تفویت الغرض. وبعبارة أُخری: إنّ المدار هو غرض المولی، فمتی علم بالتکلیف منه، لزم إمتثاله وحفظ الغرض من التکلیف، من غیر فرقٍ بین ما کان منه فعلیّاً بتحقّق موضوعه، أو یکون کذلک بتحقّق موضوعه فی الزمان اللاّحق.

قال الأُستاذ:

وهذا هو الحق الحقیق بالقبول فی المقام.

ص: 187


1- 1. أجود التقریرات 3 / 466 _ 467.
بیان العراقی:

وقال المحقّق العراقی(1) بإمکان الواجب المشروط _ کالواجب المطلق والواجب المعلّق _ وبرهانه علی ذلک هو:

إنّ الإرادة تدور مدار الصّورة الذهنیّة للمراد، والصّورة تتحقّق فی النفس من الخارج، سواء کان الخارج موجوداً أوْ لا. مثلاً: إرادة البعث نحو صلاة الظهر تحصل بفرض وجود الشرط وهو الزوال، فمتی فرض الزوال وجدت الإرادة من غیر تأثیر للزوال الخارجی، لا وجوداً ولا عدماً، سوی أنّ الوجود الخارجی للشرط ظرف لفاعلیّة تلک الإرادة وتحریکها نحو المبعوث إلیه، ولا ضیر ولا منافاة لذلک مع فعلیّة الإرادة، لأن مدلول الخطاب عبارة عن نفس الإرادة المبرزة به، وهذه الإرادة معلولة للوجود الفرضی للشرط.

وعلی هذا الأساس، یکون الحکم فی الأُمور التدریجیّة فعلیّاً علی کلّ تقدیر. نعم، حیث یکون الواجب إستقبالیّاً تکون فاعلیّة الإرادة فی المستقبل من جهة تأخّر ظرف الفعل، فالعلم الإجمالی منجّز، خلافاً للشیخ القائل بعدم کونه منجّزاً فی الواجب المشروط.

وفیه:

إنّه یقول بأنّ الحکم هو الإرادة.

ولکن الإرادة من الأُمور الخارجیّة الواقعیّة والحکم من الأُمور الإعتباریّة.

وإنّه یقول بوجود الإرادة قبل تحقّق الشرط لها، بالوجود الفرضی للشرط.

ص: 188


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 325.

ولکنّ فرض وجود الشرط یجتمع مع عدم الشرط، وحیث یری عدم الشرط کیف تتحقّق منه الإرادة الفعلیّة؟

إنّ الإرادة تنشأ من الغرض، وحیث یکون الغرض معلَّقاً علی أمرٍ غیر محقّق لا یتحقّق الغرض، ومع عدمه لا إرادة. مثلاً: الغرض من شرب الماء إرتفاع العطش، وحیث یوجد العطش یرید شرب الماء، وأمّا مع عدمه الآن فلا إرادة للشرب الآن، فإن علم بتحقّق العطش فیمابعد، لم یعقل تحقّق الإرادة الآن للشرب الذی سیحصل عند العطش.

هذا، علی أنّ الصّورة الذهنیّة للشرط لابدّ وأنْ تکون مطابقةً للوجود الخارجی للشرط وإلاّ فلا یؤثر، والمطابقة لا تکون إلاّ مع التحقّق الخارجی، وأمّا قبله فهی صورة خیالیّة. وعلیه، فإنّ الإرادة للمشروط لا تتحقّق إلاّ عند تحقّق الوجود الخارجی للشرط، ولا أثر للوجود الفرضی للشرط فی تحقّق الصّورة الذهنیّة له.

بیان الإصفهانی:

أنکر المحقّق الإصفهانی الواجب المعلّق والواجب المشروط کلیهما. فقال(1) رحمه اللّه ما حاصله:

إنّ عدم فعلیّة التکلیف:

إمّا لعدم فعلیّة موضوعه، کعدم فعلیّة أحکام الحائض بعدم فعلیّة کونها حائضاً،

ص: 189


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 250.

أو لعدم حصول قید الواجب أو الوجوب، کالأوقات الخاصّة فی الصّلوات الیومیّة وشهر رمضان للصّیام،

أو لعدم تحقّق ظرف الواجب، کعدم اللّیلة المستقبلة المحلوف ترک الوطی فیها، فهی لیست دخیلةً فی مصلحة وجوب الوفاء بالحلف، وإنّما هی ظرف.

فالحکم فی هذه الموارد غیر فعلی، إلاّ أنّ وجه عدم الفعلیّة مختلف.

ثمّ وجّه ما ذهب إلیه الشیخ من إنکار الواجب المعلّق بقوله:

فمن ینکر الواجب المعلّق کشیخنا العلاّمة الأنصاری فبملاحظة أنّ المصلحة الباعثة علی إرادة الفعل إمّا قائمة به لا علی تقدیر، فالإرادة فعلیّة متعلّقة بأمر لا علی تقدیر، فلها الباعثیّة علی إیجاد الفعل فعلاً. وإمّا قائمة به علی تقدیر، فالإرادة المنبعثة عنها إرادة فعلیّة متعلّقة بأمرٍ علی تقدیر، فلا باعثیّة لها إلاّ مع فرض حصول ذلک التقدیر، ولا ثالث للإرادتین حتی یسمّی وجوباً معلّقاً. فعلیه، یکون مثال الحیض عنده من التکلیف المشروط، بخلاف مثالی الحلف والمعاملة الربویّة، فإنّه لیس الزمان شرطاً لا للتکلیف ولا للمکلَّف به، فالإرادة فیهما فعلیّة لا علی تقدیر. فیصحّ علی هذا المبنی دعوی الشیخ الأجلّ جریان البراءة فی مثال الحیض، لدوران الأمر بین المطلق والمشروط الذی لا باعثیّة له بالفعل، وجریان الإحتیاط فی مثالی الحلف والمعاملة الربویّة، لأن التکلیف فی کلٍّ من الطرفین لا قید له وجوباً وواجباً، فالحکم فعلیّ لا علی تقدیر، ولها الباعثیّة بالفعل.

ثمّ قال:

إنّه بناءً علی ما ذکرنا فی مبحث الواجب المعلّق من أنّ البعث _ وهو الإنشاء

ص: 190

بداعی جعل الداعی _ والإنبعاث متلازمان متضائفان، وهما متکافئان فی الضرورة والإمتناع، وفی القوّة والفعلیّة، فلا یعقل أن یکون البعث موجوداً ولا یکون الإنبعاث.

وعلیه، یبطل الواجب المعلّق. والشرط المتأخّر.

أقول:

وقد نقض شیخنا هذا البرهان: بأنّ «الأمس» و«الغد» _ حیث الأوّل معنون بعنوان القبلیّة، والثانی معنون بعنوان البعدیّة _ متضائفان، لکنّ کلّ واحدٍ منهما منعدم فی ظرف وجود المضائف له.

هذا من حیث الکبری.

وأمّا من حیث الصغری، فإنّ الحکم _ وهو البعث _ عبارة عن الإلزام الإعتباری، ووزانه وزان الإلتزام الإعتباری، فکما یمکن الإلتزام بالأمر المتأخّر کذلک یمکن الإلزام به.

وعلی هذا الأساس، فإنّ المجعول فی « وَلِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ »(1) کالمجعول فی مسألة النذر حیث یقول: للّه علیّ أن أفعل کذا إن کان کذا. غیر أنّ الأوّل إلزام والثانی إلتزام. وکما یلتزم الآن بأنْ یفعل کذا فی الزمان المتأخّر، کذلک الحج، فإنّ الإلزام الآن والتحرّک للعمل یکون فی الموسم.

نعم، البعث والإنبعاث التکوینیّان متلازمان لا انفکاک بینهما، لکن قیاس الإعتباریّات بالتکوینیّات بلا وجه.

ص: 191


1- 1. سورة آل عمران، الآیة: 97.

فظهر إمکان الواجب المعلّق علی هذا المبنی.

ثمّ قال رحمه اللّه:

والتحقیق إمکان الفرق بین المقدّمة الوجودیّة، وهی التی لها دخل فی وجود المأمور به، کالوضوء بالنسبة إلی الصّلاة، والمقدّمة العلمیّة، وهی الدخیلة فی العلم بامتثال المأمور به، کالإتیان بکلا طرفی الإحتمال مقدمةً للعلم بامتثال التکلیف المردّد بینهما.

فقال بعدم وجوب المقدّمة الوجودیّة فی الواجب المشروط، لأنّ وجوب المقدّمة مترشح من التکلیف، ولکن لا تکلیف قبل الشرط، فالعلّة منتفیة فالمعلول کذلک. هذا بالنسبة إلی الوجوب الشرعی. وأمّا اللاّبدیّة العقلیّة، فعلی فرض تسلیمها غیر مؤثرة فی الوجوب الشرعی.

وأمّا المقدّمة العلمیّة، فقال بلزومها عقلاً، لأنّ لابدیّة هذه المقدّمة لیست من جهة فعلیّة التکلیف بل من جهة العلم بالتکلیف، وفرقٌ بین التکلیف والعلم بالتکلیف، لأنّ التکلیف إنْ لم یکن فعلیّاً لم تجب المقدّمة له، ولکنْ إذا علم إجمالاً بالتکلیف إمّا فی الحال أو فی المستقبل، کان العلم علّةً لحکم العقل بلابدیّة الإتیان بکلا الطرفین حتی یحصل له العلم بامتثال التکلیف، فاللاّبدیّة معلولة لهذا العلم لا للتکلیف حتی یقال بأنّه غیر فعلی الآن لعدم وجود شرطه.

فإن قلت: إنّ التکلیف فی أحد طرفی العلم الإجمالی فعلی دون الطرف الآخر، فالمرأة التی تردّد حیضها بین هذه الأیام الخمسة والخمسة التی فی آخر الشهر مثلاً، لا فعلیّة لزجرها عن دخول المسجد فی الخمسة الأخیرة، فعلمها

ص: 192

الإجمالی بالزجر مردّد بین الحالی الفعلی والإستقبالی، ولا أثر لهذا العلم.

قلت: التکلیف المتأخّر فعلی من جهة الوصول وتعلّق العلم به، وإنْ کان من جهة إمکان البعث أو الزجر غیر فعلی، وذلک، لأنّ فعلیّة الحکم وتنجّزه بالوصول، ولا فرق بین الوصول الإجمالی والوصول التفصیلی، فإذا وصل کان فعلیّاً منجّزاً. وما نحن فیه من هذا القبیل.

فإن قلت: التکلیف المشروط بشرطٍ غیر حاصل لا أثر للعلم التفصیلی به فضلاً عن الإجمالی، فمن علم بأنّه سیکون الموضوع للتکلیف فی آخر الشهر، لم یترتّب الأثر علی علمه وإنْ کان تفصیلیّاً، فکیف یکون الإجمالی مؤثّراً؟

قلت: اللاّزم أن یکون المعلوم بالإجمال ذا أثر فی موطن فعلیّته، لا ذا أثر فی الحال علی أیّ حالٍ، إلاّ أنّ العلم التفصیلی طرفه مفصّل ولا أثر له فعلاً من جمیع الجهات، بخلاف العلم الإجمالی، فإنّ أحد طرفیه حالی ومؤثّر فعلاً. فظهر الفرق بین الإجمالی والتفصیلی.

أقول:

قد أشکل علیه الأُستاذ: بأنّه کما یلزم تحصیل المقدّمة العلمیّة وحفظها کذلک المقدّمة الوجودیّة.

المقام الثانی
اشارة

فی المرجع بناءً علی عدم تنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیّات مطلقاً أو فی بعض الصّور.

ص: 193

رأی الشیخ والکلام حوله

رأی الشیخ(1) والکلام حوله

ذهب الشیخ فی مثال الحیض إلی جریان إستصحاب الطّهر بالنسبة إلی أعمالها حتی الآن الأوّل من الأیّام الخمسة فی آخر الشهر، وبعده یتعارض إستصحاب الطّهر مع إستصحاب بقاء الحیض، ویتساقطان، والمرجع هو البراءة.

وفی مثال المعاملة الربویّة: أمّا تکلیفاً، حیث یشکّ فی حلیّة کلّ واحدةٍ من المعاملات وحرمتها، فهو أصالة الإباحة. وأمّا وضعاً، حیث یشک فی صحّة المعاملة وفسادها، بأصالة الفساد.

وعلیه، فکلّ معاملة منه فی هذا الشهر یحتمل وقوعها ربویّةً فهی حلال ولکنّها فاسدة، ولا ملازمة بین الفساد والحرمة، إذ لیس فساد المعاملة مترتّباً دائماً علی حرمتها، لوجود المعاملة الفاسدة مع عدم الحرمة، کما فی معاملة الصّبی.

وأمّا الأصل اللّفظی، فإنّه لا مجال للتمسّک بعموم « أوْفُوا بِالْعُقُود »(2) من أجل تصحیح المعاملة المشکوک فیها، لأنّه من التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة للخاصّ، وهو أدلّة حرمة الرّبا. وعلی فرض الجواز، فهو غیر جائز هنا، للعلم الإجمالی بخروج معاملة الیوم أو الغد من تحت عموم أدلّة الوفاء، بالتخصیص. ومن الواضح أنّ هذا العلم یوجب إجمال العام حکماً ویسقطه عن الکاشفیّة عن المراد الواقعی.

ثمّ إنّ الشیخ أمر التأمّل فی الفرق بین الأصل العملی والأصل اللّفظی.

ص: 194


1- 1. فرائد الأصول 2 / 249 _ 250.
2- 2. سورة المائدة، الآیة 2.

وهو من جهة دقّة المطلب، لأنّ المانع من جریان الأصل العملی هو تنجیز العلم، والمفروض عدمه، لکنّ المانع عن التمسّک بالأصل اللّفظی _ أعنی عموم الآیة _ هو إجمال العام بسبب العلم الإجمالی، لأنّ هذا العلم یوجب الإجمال، سواء کان منجّزاً أوْ لا.

وبما ذکرنا یندفع بعض إشکالات المیرزا علی الشیخ. ویبقی إشکالان(1):

أحدهما: إنّ ما ذکره یخالف مسلکه فی الأحکام الوضعیّة من أنّها منتزعة من الأحکام التکلیفیّة، فإنّ مقتضی ذاک المبنی هو ارتفاع فساد المعاملة بحلیّتها.

وفیه: إنّ الشیخ لا یری الحرمة منشأً للفساد کما أشرنا، وهذا واضحٌ من کلامه فی موارد عدیدة من کتابه فی المکاسب. مثلاً: قد ذکر الشیخ فی الإستدلال علی المعاطاة بآیة الحلّ أنّ معناها: أحلّ اللّه التصرّفات المترتّبة علی البیع، وأنّ هذه الحلیّة هی المنشأ لصحّة المعاملة لا نفس البیع.

فإذن، تجری قاعدة الحلّ بالنسبة إلی نفس المعاملة فتکون حلالاً، وأمّا الصحّة، فمن آثار حلیّة التصرّفات المترتّبة علی البیع. وفی المعاملة المشکوک کونها ربویّة تجری القاعدة، وتکون أصالة الفساد جاریةً بالنسبة إلی التصرّفات.

والثانی: فی ما ذکره من أنّ حال الأصول اللّفظیّة حال الأصول العملیّة، فکما أنّ العلم الإجمالی بخروج بعض الأفراد لا یکون مانعاً عن الرجوع إلی الأصول العملیّة، فکذلک لا یکون مانعاً عن الرجوع إلی الأصول اللّفظیّة. ثمّ استظهر الفرق بینهما من دون بیان الفارق وأمر بالتأمّل.

ص: 195


1- 1. أجود التقریرات 3 / 469 _ 471.

قال المیرزا: «قیاسه قدّس سرّه للأصل اللّفظی بالأصل العملی _ فی جواز إجرائه فی تمام أطراف العلم إذا لم یکن منجّزاً للتکلیف کما هو المفروض فی المقام _ فی غیر محلّه».

وفیه: ما أشرنا إلیه فی وجه أمره بالتأمّل، فإنّ الشیخ یفرّق بین الأصل اللّفظی والأصل العملی.

رأی المیرزا

واختلف رأی المیرزا فی المقام، فقال فی الدورة الأُولی(1) من بحثه بجریان أصالة الفساد فی کلتا المعاملتین، وعدم جواز التمسّک بالأصل اللّفظی. وعکس فی الدورة الثانیة(2) فقال بعدم جریان أصالة الفساد والتمسّک بالأصل اللّفظی.

أقول: أمّا ما ذکره ثانیاً ففیه: ما تقدّم من سقوط العام فی هذا المقام عن الکاشفیّة.

وأمّا ذکره أوّلاً ففیه: أنّه لیس للمیرزا إجراء الإستصحاب هنا علی مسلکه ...

وتوضیح ذلک: أنّ الشیخ والمیرزا کلیهما یقولان بعدم جریان الإستصحاب فی أطراف العلم، لکن المانع عند الأوّل: إثباتی، وهو لزوم التناقض بین الصّدر والذیل فی أدلّة الإستصحاب، لأنّ الجمع بین الأمر _ بالنقص سواء کان مولویّاً أو إرشاداً إلی حکم العقل _ والمستفاد من مجموع کلماته هو الإرشادیّة _ والنهی عنه

ص: 196


1- 1. فوائد الأصول 4 / 112.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 469 _ 470.

جمع بین النقیضین. وعند الثانی: المانع ثبوتی، وهو عدم جواز إجتماع التعبّدین علی خلاف المعلوم بالإجمال، سواء کان متعلّق العلم ذا أثر أوْ لا.

فعلی مسلک المیرزا لا یجری الإستصحاب حتّی مع سقوط العلم عن الأثر، _ کما هو المفروض فی التدریجیّات _ أمّا علی مسلک الشیخ فیجری إذا سقط، لأنّه إذا کان العلم الإجمالی بلا أثر فلا أمر للشارع بالنقض، فیبقی قوله علیه السّلام (لا تنقض) فی الصّدر بلا معارض.

رأی العراقی

واختار العراقی المحقّق فی حاشیته علی فوائد الاصول(1) جواز التمسّک بالأصل اللّفظی، لأنّ حجیّة أصالة العموم هی من باب الکشف النوعی عن المراد، والکشف النوعی لا ینافی العلم الإجمالی الشخصی علی الخلاف. ومع التنزّل عن هذا، فإنّ المعاملة إنْ کانت صادرة من غیره أجری فیها أصالة الصحّة وإن کان الشکّ فی الفساد سابقاً. وإن کانت صادرة من نفسه، فإن کان عالماً من قبل بوقوع معاملة ربویّةٍ منه إمّا الیوم وإمّا غداً مثلاً، فلا مجال لأصالة الصحّة، وإن کان علمه حادثاً بعد وقوع المعاملتین، فکلتاهما مجری قاعدة الفراغ، لأن موضوعها العمل المفروغ منه.

ص: 197


1- 1. الحاشیة علی فوائد الأصول 4 / 112.

أقول:

أمّا ما ذکره أوّلاً ففیه: إن مدرک حجّیّة الأصول اللّفظیّة هو السّیرة العقلائیّة، واستنادها إلی الشارع إنّما هو من جهة عدم ردعه عنها، ومع الشکّ فی وجود السّیرة فی موردٍ لم یجز التمسّک، لأنّها شبهة موضوع لنفس الدلیل. وفیما نحن فیه، لیست أصالة العموم کاشفة نوعاً عند العقلاء حتّی مع الظنّ الشخصی علی الخلاف. أمّا مع العلم الإجمالی علی الخلاف، فلا إشکال فی عدم الکاشفیّة عند العقلاء. فلا سیرة. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ هذه الحجّیّة مقترنة بأمرٍ کلّی، وهو عدم العلم الإجمالی الکلّی، فالعقلاء یقیّدون العموم من أوّل الأمر بعدم وجود العلم الإجمالی المخالف، فالسّیرة هنا محفوفة بما یحتمل القرینیّة.

وأمّا ما ذکره ثانیاً، فإنّه قد تقرّر أنّ مدرک أصالة الصحّة هی السّیرة أیضاً، فالکلام الکلام.

وأمّا قاعدة الفراغ، فإن کان فیما یدلّ علیها عموم تعبّدی لتمّ ما ذکره، ولکنّ عموماتها محفوفة بأنّه (لأنّه حین العمل أذکر منه حین یشک)(1)، فلابدّ من أن یکون فی حاله هذه الخصوصیّة، أمّا إذا لم تتفاوت حاله حین العمل وبعده، فلا مجری للقاعدة.

وفیما نحن فیه، حیث یعلم إجمالاً بربویّة معاملة الیوم أو غدٍ، فالعلم المذکور باق علی حاله، وشکّه بعد الفراغ مقرون بالعلم الإجمالی کذلک، فحاله

ص: 198


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 471، الباب 42 من أبواب الوضوء، رقم: 7.

واحدة، فلا تجری القاعدة.

التحقیق

قال شیخنا: والتحقیق فی المقام:

أمّا فی مثال الحیض، فإنّ مقتضی القاعدة تحقّق العلم الإجمالی المنجّز للمرأة، لأنّها فی کلّ زمان تری الدم، تعلم علماً إجمالیّاً إمّا بالحیض فیجب علیها تروک الحائض، وإمّا بالإستحاضة، فیجب أفعال المستحاضة، ومع هذا العلم لا مجال لجریان الأصول النافیة، سواء المحرز منها وغیره، لدوران الأمر بین کونها حائض أو مستحاضة. واستصحاب عدم المحیض یعارض مع إستصحاب عدم الإستحاضة، وتصل النوبة إلی البراءة فی الطرفین، وهی متعارضة کذلک، فیجب علیها الجمع بین الأفعال والتروک، لکون العلم منجّزاً ولا وجه لانحلاله.

ولو احتملت کون الدم دم قروح، دار أمر الواجب علیها بین تروک الحائض والإتیان بوظائف الطّاهرة، إلاّ أنّ هنا أصلاً موضوعیّاً لا معارض له، وهو إستصحاب عدم الحیض، الذی لیس فی مقابله إستصحاب عدم الطّهر.

لکنْ فی فرض دوران الأمر بین الحیض والإستحاضة صورتان، لأنّه إنْ کان الدم بعد الزوال، فهی تعلم إجمالاً بالتکلیف الفعلی، لأنّها إن کانت مستحاضة فوجوب الصّلاة فعلی، وإنْ کانت حائض، فمسّ الکتاب حرام. وأمّا إن کان قبل الزوال، فإن أحکام الإستحاضة مشروطة بالزوال، لأنّه قبل الزوال إمّا یحرم علیها دخول المسجد الآن وإمّا یجب علیها الصّلاة بعد الزوال، فیکون العلم تدریجیّاً،

ص: 199

فلابدّ من القول حینئذٍ بکون حرمة الدخول بعد الزوال، وأمّا قبله فلا، إلاّ أنْ یقال بعدم التفصیل وأنّ الحکم فی کلتا الصّورتین لزوم الإحتیاط.

وتلخص: عدم إمکان المساعدة مع کلمات القائلین بالبراءة عن تروک الحائض، وأنّه لا یمکن القول بالحرمة مطلقاً، بل لابدّ من التفصیل، إلاّ إذا ثبت عدم الفصل.

أمّا زوجها، فإنّه بعد الآن الأوّل حیث یتعارض الإستصحابان ویتساقطان یرجع إلی البراءة عن الوطئ فی جمیع الشهر. والحق جواز التمکین منها، لأنّه یدور الأمر من هذا الحیث بین الوجوب، لاحتمال کونها طاهراً، والحرمة لاحتمال کونها حائض، فالمورد صغری دوران الأمر بین المحذورین، وتجری فیه القاعدة المقرّرة هناک. لکن الحکم مبنی علی عدم کون حرمة تروک الحائض حرمةً ذاتیة.

وأمّا مثال المعاملة الربویّة، فإنّ أصالة الحلّ تجری فی کلا الطرفین، لأنّهما فی کلٍّ منهما تجتمع مع أصالة الفساد فی الطرف الآخر. وأمّا من الجهة الوضعیّة، فإنّ أصالة الفساد لا تجری، لأنّها مخالفة للمعلوم بالإجمال. وأمّا من الجهة الوضعیّة، فإنّ أصالة الصحّة لا تجری، لأنّها مخالفة للمعلوم بالإجمال، نعم، تجری فی المعاملة الأُولی وتؤثّر _ لو لم تجر فی الثانیة _ لعدم المعارض لها حینئذٍ أصلاً.

والأصول اللّفظیّة غیر جاریة هنا، لکونها مجملة بالعلم الإجمالی بورود المخصّص. وأمّا بناءً علی عدم إجمالها، فیجوز التمسّک بها بناءً علی جواز التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة. وأمّا بناءً علی عدم جوازه، فإنْ قلنا باستصحاب العدم الأزلی فهو، وإلاّ فالمرجع هو العام، لأنّ المعاملة الأُولی

ص: 200

مشکوکة الصحّة والفساد من جهة الشک فی ربویّتها والأصل هو العدم، فیحرز بهذا الأصل موضوع العام المخصّص فیندرج تحته. لکن هذا إنّما یتم ما لم یقع الإبتلاء بالمعاملة اللاّحقة.

ص: 201

التنبیه السّابع: فی الشّبهة غیر المحصورة

تعریفها

قد اختلفت کلماتهم فی تحدید الشّبهة غیر المحصورة علی وجوه، ولکنّ الظاهر عدم الحاجة إلی التعریف، لأنّ هذا العنوان لم یقع موضوعاً فی شیء من الأدلّة. نعم، هو معقد الإجماع المدّعی علی عدم تنجیز العلم فی الشّبهة غیر المحصورة، ولکنّ الکلام فی هذا الإجماع، کما سیأتی قریباً. فلا حاجة إلی ذکر التعریفات والنظر فیها.

ولعلّ أحسن التعاریف هو تعریف الشیخ(1): بأنّ الشّبهة غیر المحصورة هی الشّبهة التی تکثر أطرافها، بحیث یصیر العلم فیها عند العقلاء کلا علم، ولا یعتنی العقلاء فیها بالتکلیف المعلوم بالإجمال، بل یرون إحتماله فی کلّ طرفٍ موهوماً.

ص: 202


1- 1. فرائد الأصول 2 / 271.

وتوضیحه: إنّ أساس منجّزیّة العلم هو إحتمال الضرر الأُخروی، وقد قامت السّیرة العقلائیّة علی عدم الإعتناء بهذا الإحتمال إذا کانت أطراف الشّبهة غیر محصورة، کأن تکون واحدة من الشیاه الموجودة فی هذا البلد محرّمةً مثلاً.

ولکنْ إذا کان المرجع هو السّیرة العقلائیّة، فإنّها دلیل لبّی یؤخذ منه بالقدر المتیقّن. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ الموارد تختلف، فقد یکون المعلوم بالإجمال من الأهمیّة بحیث یحتاط العقلاء فیه حتی مع کثرة الأطراف جدّاً.

وثالثاً: إنّ ضعف إحتمال التکلیف إنْ وصل إلی حدّ الإطمینان العقلائی بالعدم، صحّ ما ذکره، لکنّ الدلیل حینئذٍ هو الإطمینان، وهو العلم العادی. وإن لم یصل إلی ذلک الحدّ، فلا یصحّ التعریف المذکور، لعدم العبرة بظنّ عدم التکلیف فضلاً عن الإحتمال، فلابدّ من الإحتیاط.

دلیل عدم تنجیز العلم فی الشّبهة غیر المحصورة

وقد استدلّ بوجوه علی عدم تنجیز العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة.

الأوّل: الإجماع.

ما ذکره الشیخ

قال الشیخ(1) وهو مستفیض.

ص: 203


1- 1. فرائد الأصول 2 / 257.

أقول:

1_ الإجماع المنقول لیس بحجّةٍ.

2_ تحقّقه أوّل الکلام، لأنّ المسألة غیر مطروحة فی کتب السّابقین.

3_ یحتمل مدرکیّته.

الثانی: إنّ هذا العلم کلا علم عند العقلاء.

وهذا الوجه الذی جاء فی کلام الشیخ غیر مقبول کذلک، وقد أشرنا إلی بعض ما فیه.

الثالث: ما ذکره صاحب الکفایة(1) من أنّ کثرة الأطراف تلازم غالباً سقوط التکلیف عن الفعلیّة، وإذا سقط عن الفعلیّة، اقتضی دلیل رفع العسر والحرج عدم وجوب الإحتیاط.

الإشکال علی صاحب الکفایة

وأشکل المحقّق الإصفهانی(2) علی صاحب الکفایة: بأنّ الرفع فرع الوضع، ومتی لم یکن الوضع من الشارع لا یکون الرفع بیده، وهذا مما لا ریب فیه.

والحاکم فی الشبهات بوجوب الموافقة القطعیّة لحکم المولی هو العقل، فإنّ العقل حاکم بلابدیّة الموافقة لحکم المولی، وفی الشبهات غیر المحصورة،

ص: 204


1- 1. کفایة الأصول: 362.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 276.

لیس الحرج من ناحیة الشارع لا موضوعاً ولا حکماً، وإنّما الحرج فی الإمتثال القطعی، وهو بحکم العقل لا الشرع، وحینئذٍ لیس للشارع رفع ما وضعه العقل.

الجواب:

أجاب السیّد الخوئی(1): بأنّ أدلّة نفی الحرج وإنْ کانت ناظرة إلی الأحکام الشرعیّة لا العقلیّة، إلاّ أنّها ناظرة إلی مقام الإمتثال. بمعنی أنّ کلّ حکم کان إمتثاله حرجیّاً علی المکلَّف، فهو منفیّ فی الشریعة، فإنّ جعل الحکم وإنشاءه إنّما هو فعل المولی، ولا یکون حرجاً علی المکلَّف أبداً، وحینئذٍ، فإن کان إحراز إمتثال التکلیف المعلوم بالإجمال حرجاً علی المکلَّف، کان التکلیف المذکور منفیّاً فی الشریعة بمقتضی أدلّة نفی الحرج، فلا یبقی موضوع لحکم العقل بوجوب الموافقة القطعیّة.

وفیه:

الذی فی کلام المحقّق الإصفهانی هو «إحراز الإمتثال». یقول: إنّ الحرج فی إحراز الإمتثال، وبینه وبین «الإمتثال» فرقٌ، إذْ لا کلام فی أنّ الإمتثال إن کان حرجیّاً یرتفع بحکم الشارع کما فی الوضوء الحرجی، لکنّ التحریم فی الشّبهة غیر المحصورة لیس حرجیّاً، وإنّما إحراز الإمتثال حرجیٌّ، والحاکم فی رفعه هو العقل.

أقول:

حاصل إشکال الإصفهانی هو إنّه تارةً نقول: إن کان الموضوع حرجیّاً یرتفع الحکم بسبب ذلک، وأُخری نقول: کلّما کان الحکم حرجیّاً فهو مرفوع. وعلی

ص: 205


1- 1. مصباح الأصول: 377.

کلا الوجهین، لیس الرفع فی الشّبهة غیر المحصورة مستنداً إلی الشارع، بل العقل هو الحاکم لعدم التمکّن من إحراز الإمتثال.

نعم، من الممکن إسناد الرفع إلی الشارع فی المقام ولکنْ بواسطة حکم العقل، إلاّ أنّ المهمّ هو إستظهار هذا المعنی من أدلّة رفع الحرج، فهل تفید رفعه شرعاً حتی مع وساطة حکم العقل؟

والجواب: إن کان المرفوع فیها هو «الحکم الحرجی» فالحقّ مع المحقّق الإصفهانی، لکنّ المرفوع هو «الحرج»، وهو أعم من أن یکون الحکم فیه من الشارع مباشرةً أو بواسطة حکم العقل، لأنّ نسبة الأحکام الشرعیة إلی الأحکام العقلیّة نسبة الموضوع إلی الحکم.

فالإشکال المذکور علی کلام المحقّق الخراسانی مندفع.

الإشکال الوارد

لکن یرد علیه: إنّ الأحکام العقلیّة تتبع الملاکات المحرزة عند العقل، وللعقل فی موارد العلم الإجمالی حکمان، أحدهما: وجوب الموافقة القطعیّة، والآخر: حرمة المخالفة القطعیّة، فإذا کان حکم الشارع بوجوب الموافقة حرجیّاً حکم العقل بعدم وجوب الموافقة القطعیّة، لقوله تعالی « مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَج »(1). أمّا فی طرف حرمة المخالفة القطعیّة فی صورة الإمکان، فلا یجوز رفع الید عن الحکم الشرعی، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها.

ص: 206


1- 1. سورة الحج، الآیة 78.

فقول المحقّق المذکور: متی کان الحرج فی الموافقة سقط الحکم عن الفعلیّة، غیر صحیح علی إطلاقه، فهو یسقط من جهة وجوب الموافقة ولا یسقط من جهة حرمة المخالفة.

ما ذکره المیرزا

الرابع: ما ذکره المیرزا(1)، وهو: إنّ بین حرمة المخالفة القطعیّة ووجوب الموافقة القطعیّة ملازمة، ففی کلّ موردٍ لا یتمکّن من المخالفة القطعیّة لا تجب الموافقة القطعیّة. وفی الشبهات غیر المحصورة لا تحرم المخالفة، إمّا لعدم التمکّن منها، وإمّا لکونها حرجیّة، وإذا سقطت حرمة المخالفة سقط وجوب الموافقة.

ومن هنا قال المیرزا بانحصار الشّبهة غیر المحصورة بالشّبهة التحریمیّة.

وخلاصة هذا الوجه هو: إنّ تنجیز العلم الإجمالی عبارة عن تعارض الأصول، وملاک تعارضها هو لزوم الترخیص فی المعصیّة بجریانها فی الأطراف، ومع عدم التمکّن من المخالفة القطعیّة لا یبقی مورد لهذا الملاک، فلا تعارض، فلا تنجیز للعلم.

وفیه:

أمّا دعوی انحصار الشّبهة غیر المحصورة بالشّبهة التحریمیّة، فمندفعة بجریانها فی الشّبهة الوجوبیّة کذلک، فإن متعلّق العلم قد یکون من المحرّمات کالخمر وقد یکون من الواجبات. فإنْ کانت الشبهة تحریمیّة، لم تکن المخالفة القطعیّة بارتکاب الجمیع فالحرمة ساقطة، لکنّ الموافقة بترک الجمیع ممکنة. وإن کانت وجوبیّة، فالموافقة بالإتیان بالجمیع غیر ممکنة، لکنّ المخالفة بترک الجمیع

ص: 207


1- 1. أجود التقریرات 3 / 471.

محرّمة.

وأمّا دعوی الملازمة بین المخالفة والموافقة القطعیّة، فممنوعة کذلک، فلو سقطت حرمة المخالفة عقلاً علی أثر العجز، فلا وجه لسقوط وجوب الموافقة.

وبعبارة أُخری:

إنّ تنجیز العلم الإجمالی یدور مدار القدرة، فإذا انتفت القدرة بالنسبة إلی حکمٍ _ وهو حرمة المخالفة القطعیّة _ فلا دلیل علی سقوط الحکم الآخر _ وهو وجوب الموافقة القطعیّة _ مع القدرة علیها، لأنّ للعقل فی کلّ شبهةٍ حکمین، وإذا سقط أحدهما بالعجز عن الإمتثال لم یسقط الآخر، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها.

ما ذکره العراقی

الخامس: ما ذکره المحقّق العراقی(1) بناءً علی تعریفه للشبهة غیر المحصورة.

قال: إذا سقطت الموافقة القطعیّة، فحرمة المخالفة کذلک باقیةٌ، لأنّ قوام الشّبهة غیر المحصورة هو أنّه لو نظرنا إلی طرفٍ حصل لنا الإطمینان بعدم وجود الحرام فیه، وهذا یلازم وجوده فی سائر الأطراف، وحینئذٍ، یجوز إرتکاب ذلک الطرف للسّیرة العقلائیّة القائمة علی جوازه، والإکتفاء بترک البقیّة بدلاً عن الواقع، فلا یجوز إرتکابها.

والنتیجة: عدم وجوب الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیّة.

وفیه:

ما المراد من الإطمینان بأنّ الحرام فی سائر الأطراف دون هذا الطّرف؟

إن کان المراد من الإطمینان هو «العلم» فإنّ العلم فی هذا الطّرف منحلٌّ حقیقة،

ص: 208


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 330.

فلا یجب الإجتناب عن سائر الأطراف. وإن کان المراد منه هو «الحجّة» فإنّه مع قیامها یکون العلم الإجمالی منحلاًّ حکماً، کما لو قامت البیّنة علی بعض الأطراف. وعلی کلّ حالٍ لا یبقی التکلیف بالإجتناب عن بقیّة الأطراف، فما معنی کونها بدلاً عن الواقع.

وبعبارة أُخری: کون بعض الأطراف بدلاً عن الواقع فرعٌ لبقاء العلم الإجمالی، ومع انتفائه لا معنی لذلک. هذا أوّلاً.

وثانیاً: لیس بناء العقلاء علی إرتکاب بعض الأطراف وجعل البعض الآخر بدلاً عن الواقع، فهل لو عُلم بوجوب السمّ فی أحد الآنیة، یرتکبون البعض ویترکون البعض الآخر بأنْ یکون السمّ فیه؟

روایة الجبن

السادس: روایة الجُبُن، عن البرقی فی المحاسن عن أبیه عن محمد بن سنان عن أبیالجارود قال: سألت أباجعفر علیه السّلام عن الجبن. فقلت له: أخبرنی من رأی أنّه یجعل فیه المیتة. فقال علیه السّلام: أ من أجل مکان واحدٍ یجعل فیه المیتة حرم ما فی جمیع الأرضین(1).

استدلّ بها المیرزا(2).

وأورد عن الشیخ الإشکال: بأنّ الروایة غیر ظاهرة فی بیان حکم الشّبهة غیر المحصورة، فلعلّها فی مقام بیان أنّ جعل المیتة فی الجبن فی مکانٍ لا یلازم

ص: 209


1- 1. وسائل الشیعة 25 / 119، الباب 61 من أبواب الأطعمة المحلّلة، رقم: 5.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 473.

حرمته فی بقیّة الأمکنة التی لا یعلم فیها ذلک. فهی أجنبیّة عمّا نحن فیه.

وأجاب: بأنّ هذا واضح لم یکن مورداً للسؤال لأحدٍ، بخلاف حملها علی مورد الشّبهة غیر المحصورة، فیصحّ السؤال عن حکمها من جهة العلم الإجمالی بوجود المیتة بین الأطراف الکثیرة، فهل یجب الإجتناب عن الجمیع أوْ لا؟

وأشکل فی مصباح الأصول(1) بوجهین:

1_ السند، فإنّها ضعیفة بمحمد بن سنان.

2_ الدلالة، فإنّها واردة فی مورد خروج بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء، فهی أجنبیّة عن المقام.

أجاب الأُستاذ:

أمّا عن الأوّل: فبأنّ محمد بن سنان قد أخرج عنه الشیخ الکلینی کثیراً فی الکافی فی الأصول والفروع، ممّا یدلّ علی اعتماده علیه ...

وأمّا عن الثانی: فبأنّ فی ذیل الرّوایة یقول الإمام: إنی أشتری من هذا السّوق اللّحم مع أنّه لا أظنّ أنّ السّودان یسمّون ...

أی: أشتری مع العلم بأنّ بعض السّودان لا یسمّون اللّه لدی الذبح. ومن الواضح أنّ ما فی السّوق مورد للإبتلاء کلّه.

فإنْ قلت:

لعلّ أکل الإمام من لحم السّوق من جهة أماریّة سوق المسلمین لا من جهة الجواز

ص: 210


1- 1. مصباح الأصول: 378.

فی الشّبهة غیر المحصورة.

قلت:

إنّ أماریّة السّوق إنّما هی مع عدم وجود العلم الإجمالی، والإمام یصرّح بوجوده.

توضیحه: إنّ مقتضی الأصل فی اللحوم هو عدم التذکیة، لکنّ ید المسلم وسوق المسلمین أمارة حاکمة علی الأصل فی مورد الشک. وأمّا مع العلم الإجمالی بوجود حیوان غیر مذکی، فإنّ الأماریة للسّوق تسقط، وحیث أنّ الإمام أخبر عن أکله ممّا فی السّوق مع علمه، فالشّبهة غیر محصورة.

فالإشکال فی الدلالة مندفع.

فالدلیل العمدة علی عدم تنجیز العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة هو روایة الجبن، ودلالتها علی المدّعی تامّة، ومحمد بن سنان ثقة عندنا.

ص: 211

أُمورٌ تتعلّق بالشّبهة غیر المحصورة
الأمر الأوّل (هل العلم کلا علم أو أنّ الشبهة تزول؟)

هل بناءً علی عدم تنجیز العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، یکون العلم کلا علم کما فی کلام الشیخ، أو یرتفع الشک وتزول الشّبهة؟

وتظهر الثمرة فی وجوب الإحتیاط بناءً علی کون العلم کلا علم وبقاء الشک، وعدم وجوبه فیما إذا کان الشک زائلاً.

مثلاً: یشترط فی الوضوء إحراز إطلاق الماء، فهو الشرط فی صحته _ لا أنّ کونه مضافاً مانع عن الصحّة _ فلو علمنا بوجود المضاف بین الآنیة وهی کثیرةٌ والشّبهة غیر محصورة، فعلی القول بعدم تنجیز العلم لکونه کلا علم، یکون الشک باقیاً، فموضوع الأصل محقّق، وحینئذٍ، فما هو الأصل الجاری هنا؟

هنا مجری الإستصحاب، أی إستصحاب العدم الأزلی، والموضوع هو الماء المطلق، وذلک بناءً علی جریانه فی الذوات _ کما علیه المحقّقون المتأخّرون، مثل کلبیّة الکلب _ بالإضافة إلی جریانه فی الأوصاف مثل قرشیة المرأة.

فعلی هذا المبنی، عندما نشک فی مائیة هذا المائع، فالحالة السّابقة هی العدم، وحینئذ، لا یجوز لنا الوضوء بهذا المائع. ولا یعارضه إستصحاب عدم الإضافة، لما تقدّم من أنّ الموضوع هو الإطلاق، ولیس کونه مضافاً مانعاً عن صحّة الوضوء.

وأمّا بناءً علی عدم جریان الإستصحاب فی الأعدام الأزلیّة، أو عدم جریانه فی الذوات، فالإستصحاب ساقط.

ص: 212

وتصل النوبة إلی قاعدة الإشتغال، لکون الذمّة مشغولة بالوضوء بالماء المطلق، وبالوضوء بهذا الماء المشکوک فی إطلاقه یشک فی فراغ الذمّة، فلا یصحّ الوضوء به.

هذا کلّه بناءً علی بقاء الشک وأنّ العلم کلا علم، کما علیه الشیخ.

أمّا بناءً علی زوال الشک والشّبهة کما علیه المحقّق العراقی، فلا شبهة فی صحّة هذا الوضوء.

الأمر الثانی (لو وقع الشک فی کون الشبهة غیر محصورة)

لو شک فی بلوغ کثرة الأطراف إلی الحدّ الذی یصدق معه عدم الحصر، فما هو مقتضی القاعدة؟

ولا یخفی تفرّع هذا الأمر علی التفصیل بین الشّبهة المحصورة وغیر المحصورة فی تنجیز العلم الإجمالی، وأمّا بناءً علی المنجّزیّة مطلقاً، فلا مجال لهذا البحث.

ذکرت طرق:

الأوّل: إنّه لمّا کان العلم الإجمالی مقتضیاً للتنجیز وإستحقاق العقاب علی المخالفة للتکلیف المعلوم، وکان عدم محصوریّة الأطراف مانعاً عن التنجیز _ علی المبنی _ فإنّ مقتضی القاعدة مع الشک فی کون الشّبهة غیر محصورة، هو منجّزیّة العلم، لوجود المقتضی وعدم ثبوت المانع.

ص: 213

أقول:

هذا من صغریات قاعدة وجود المقتضی وعدم المانع، وقد قال بها الشیخ محمدهادی الطهرانی ومن تبعه. لکنّ التحقیق عدم تمامیتها، لعدم وجود النصّ علیها ولا قیام السّیرة العقلائیّة بها، بل الملاک هو قیام الحجّة الشرعیّة لإحراز عدم المانع، فإنْ تم ذلک أخذنا به وإلاّ فلا. وفیما نحن فیه لا حجّة شرعیّة ولا سیرة عقلائیّة غیر مردوعة علی عدم المانع. کما لا مجال للتمسّک باستصحاب عدم بلوغ الشّبهة لحدّ عدم المحصوریّة.

الثانی: إنّ دلیل الإجتناب عن الحرام أو النجس أو الغصب مطلق، فیجب الأخذ به، ثمّ إنّ هذا المطلق قد خرج عنه الشبهة غیر المحصورة، فلم یجب الإجتناب عن جمیع الأطراف فیها.

ولکنّ المفروض هنا عدم العلم بکون الشّبهة غیر محصورة، ومقتضی القاعدة حینئذٍ العمل بالمطلق ووجوب الإجتناب، لأنّه متی شک فی التخصیص أو التقیید کان العام والمطلق هو المحکّم.

وفیه:

لا إشکال فی أنّ المرجع مع الشک فی التخصیص أو التقیید هو العام والمطلق، لکنْ لا شک عندنا هنا فی أصل التخصیص، بل الشک فی تحقّق مصداق المخصّص، وهل یرجع فیه إلی العام والمطلق؟

قد تقرّر فی محلّه عدم الرجوع.

إذنْ، لا ینبغی الخلط بین الشک فی التخصیص والشک فی مصداق المخصّص.

ص: 214

الثالث: الرجوع إلی المبانی، وأنّ الحال یختلف باختلافها.

فعلی مسلک الشیخ من أنّ الملاک فی عدم التنجیز کون التکلیف موهوماً لا یعتنی به العقلاء، کان العلم الإجمالی فی مفروض المثال منجّزاً، لأنّ إحتمال التکلیف فی کلّ واحدٍ من الأطراف من قبیل تردّد الواحد فی العشرة، ومثله لا یعدّ موهوماً.

أقول:

لا یخفی الإضطراب فی کلمات الشیخ فی تعریف الشّبهة غیر المحصورة، وقد قال بعد ذکر الوجوه: وفی النفس شیء. ولکنّه فی هذه المسألة حیث یشک فی کون الشّبهة محصورة أو غیر محصورة، قال بوجوب الإحتیاط من جهة عدم إحراز جعل البدل للطّرف الذی یحتمل فیه وجود التّکلیف.

وأمّا علی مسلک المحقّق العراقی من أنّ الشّبهة غیر المحصورة هی التی إذا لوحظ کلّ طرفٍ من الأطراف حصل الإطمینان بعدم وجود التکلیف فیه، وحینئذٍ ینحلّ العلم الإجمالی حقیقةً، ومع إنحلاله لا مورد لجعل البدل، لأنّ جعل البدل یکون فی مورد الإنحلال الحکمی.

فالحق علی هذا المسلک _ فی دوران أمر الشّبهة بین أن تکون محصورة أو غیر محصورة _ هو التنجیز، لأنّا لا نطمئن فی کلّ طرفٍ أنْ لا یکون التکلیف فیه.

ثمّ إنّ المحقّق العراقی(1) ذکر أنّ مقتضی مسلک الشیخ أن یقال بعدم منجّزیّة العلم الإجمالی، لسقوط العلم مع موهومیّة التکلیف عن البیانیّة عقلاءً،

ص: 215


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 332.

ومع عدم البیان علی التکلیف عقلاءً تکون الشّبهة من قبیل الشّبهة البدویّة.

أقول:

هذه النسبة فی غیر محلّها، لأنّ الشیخ یصرّح فی المورد بالشک فی جعل البدل، ومعه یکون العلم منجّزاً. هذا أوّلاً.

وثانیاً: سقوط العلم عن البیانیّة إنّما هو حیث یکون إحتمال التکلیف موهوماً بحیث لا یعتنی به العقلاء، ومع الشک فی کون الشّبهة محصورة أو غیر محصورة، فإنّ قیام السّیرة العقلائیّة علی موهومیّة إحتمال التکلیف غیر معلوم، ولا أقل من الشک.

وأمّا علی مسلک المیرزا حیث جعل وجوب الموافقة القطعیّة تابعاً لحرمة المخالفة القطعیّة، وحیث لا یمکن المخالفة فلا تجب الموافقة، فإنّ مقتضی القاعدة هو تنجیز العلم، لأنّ عدم حرمة المخالفة القطعیّة فی الشّبهة غیر المحصورة یرجع إلی عدم التمکّن من المخالفة، ومع الشک فی کون الشّبهة غیر محصورة، یرجع الشک إلی العجز وعدم القدرة، ومع الشک فی عدم القدرة علی المخالفة، یکون مقتضی القاعدة هو الإحتیاط. نظیر ما لو شک فی التمکّن من دفن المیّت فی هذه الأرض الصخریّة، فإن مقتضی القاعدة الإحتیاط ببذل الطاقة فی حفر الأرض حتی یثبت العجز وعدم القدرة.

الأمر الثالث (فی شبهة الکثیر فی الکثیر)

والصّحیح فی هذا الأمر هو الرجوع إلی المبانی فی وجه عدم منجّزیّة العلم

ص: 216

فی الشّبهة غیر المحصورة.

فعلی مسلک الشیخ، مقتضی القاعدة هو التنجیز، لعدم موهومیّة الإحتمال.

وعلی مسلک المیرزا عدم التنجیز، لعدم القدرة علی المخالفة القطعیّة.

وأمّا علی مسلک المحقّق العراقی، فالتنجیز، لأنّه یری أنّ الملاک وجود الإطمینان بعدم وجود التکلیف فی کلّ واحدٍ واحدٍ من الأطراف. وهکذا إطمینان فی مورد البحث غیر حاصل.

وعلی مسلک شیخنا الأُستاذ: الوجه فی المقام هو تنجیز العلم، لأنّ مقتضی القاعدة هو إرجاع الأمر إلی القدرة وعدمها کما تقدّم فی الأمر السّابق، وعلیه فالإحتیاط محکّم حتی یثبت العجز عن الإمتثال.

وبعبارة أُخری: إنّ العلم إذا قام علی التکلیف _ ولا مانع من تنجیزه من الضرر والحرج وغیر ذلک _ یجب الإمتثال له بقاعدة الإشتغال، وإلاّ یلزم الظلم علی المولی من الترخیص فیه، إلاّ إذا جعل المولی البدل، سواء علی مسلک العلیّة أو الإقتضاء.

غیر أنّ جعل البدل علی المسلکین یختلف، فعلی مسلک الإقتضاء، فإنّ نفس شمول المرخّص لبعض الأطراف کافٍ لجعل البقیّة بدلاً عن الواقع ووجوب الإجتناب عنها. وأمّا علی مسلک العلیّة، فلا یکفی نفس المرخّص، لأنّه أصل عملی ومثبته لیس بحجّة.

هذا تمام الکلام فی الشّبهة غیر المحصورة.

ص: 217

التنبیه الثامن: لو اضطرّ إلی إرتکاب أحد الأطراف

اشارة

فقد یضطرّ إلی الفرد المعیَّن. وقد یضطرّ إلی الفرد غیر المعیَّن.

فالکلام فی مقامین:

المقام الأول: فی الإضطرار إلی الفرد المعین. و فیه صور:
اشارة

المقام الأوّل

لو اضطرّ إلی إرتکاب الفرد المعیّن من أطراف العلم الإجمالی، فههنا صور:

الصورة الأُولی

أن یکون الإضطرار قبل التکلیف وقبل العلم بالتکلیف.

ولا کلام ظاهراً فی هذه الصّورة فی سقوط العلم عن التأثیر، بل التحقیق _ کما ذکرنا سابقاً _ عدم تحقّق العلم الإجمالی بالنسبة إلی أصل التکلیف، وهو وجوب الإجتناب مثلاً، فلو علم إجمالاً بوقوع قطرةٍ من الدم فی أحد الإناءین، حصل العلم الإجمالی بتحقّق سبب التکلیف بالإجتناب عن المضطرّ إلیه أو عن

ص: 218

طرفه، لکنّ حصول العلم بالنسبة إلی نفس التّکلیف غیر ممکن، لأنّ أحد الإناءین _ وهو المضطرّ إلیه _ لا تکلیف بالنسبة إلیه یقیناً، والآخر _ وهو الطرف _ فتحقّق التکلیف بالنسبة إلیه مشکوک فیه، ومن المعلوم أنّ قوام العلم هو القضیّة المنفصلة علی سبیل منع الخلو.

الصّورة الثانیة - و فیها قولان
اشارة

أن یکون الإضطرار بعد التکلیف وقبل العلم به.

کما لو وقعت النجاسة فی أحد الإناءین ولم یکن یعلم بها، ثم اضطرّ إلی شرب الإناء المعیّن، وعلم بعد ذلک بالنجاسة المردّدة بین الإناءین، فهل یجب الإجتناب عن الطّرف أوْ لا؟

قولان:

الأوّل:

الإجتناب، وقد ذهب إلیه المحقّق المیرزا فی الدورة الأُولی(1). وذلک: لأنّه بعد ما یعلم بالتکلیف، یکون العلم موجباً لترتیب آثار التکلیف علی المعلوم من حین حدوث التکلیف لا من حین العلم، فإنّه وإنْ تأخّر العلم عن الإضطرار إلاّ أنّ متعلّقه هو التکلیف السّابق علیه، وحینئذٍ، فإن کانت النجاسة فی الفرد المضطرّ إلیه، کان التکلیف بالإجتناب عن النجاسة ساقطاً، وإن کانت فی الطرف کان التکلیف موجوداً، فالشکّ یرجع إلی سقوط التکلیف بالإضطرار بعد ثبوته، وهو

ص: 219


1- 1. فوائد الأصول 4 / 95.

مجری قاعدة الإشتغال، فیکون العلم منجّزاً.

والثانی:

عدم وجوب الإجتناب، وهو ما ذهب إلیه فی الدّورة الثانیة(1)، واستدلّ له بوجوه:

أحدها: إنّه لیس المقام من موارد جریان قاعدة الإشتغال، فإنّ موردها هو حیث یعلم بالتکلیف، وفیما نحن فیه یکون أمر التکلیف مردّداً بین أن یکون فی المضطر إلیه أو الطرف، لکنّه فی الأوّل منتف قطعاً وفی الثانی مشکوک الحدوث، فلا علم بثبوت التکلیف، وإنّما حصل القطع بعدمه علی تقدیر، والشک فی حدوثه علی تقدیر. وهذا مجری البراءة.

وفیه:

إنّ وجه القول بالتنجیز هو ترتیب آثار التکلیف من حین حدوثه، فالتکلیف واقع علی العهدة یقیناً، فإن کان الإضطرار وارداً علی مورده فهو غیر باق، وإنْ کان وارداً علی الطرف فهو باق. فالشک یرجع إلی سقوط التکلیف المتیقّن حدوثه، وهذا مجری قاعدة الإشتغال.

الوجه الثانی: إنّ تنجیز العلم الإجمالی یدور مدار تعارض الأصول، وهو إنّما یؤثر من حین قیامه، وفی ظرف قیامه لا تعارض بین الأصول، لعدم وجود التکلیف فی أحد الطرفین، بسبب الإضطرار، وجریان الأصل فی الطرف الآخر لا مانع منه، فلا تنجیز.

ص: 220


1- 1. أجود التقریرات 3 / 454.

وفیه:

إن کان الإستدلال للتنجیز بالعلم الإجمالی تمّ ما ذکر، لکنّه بقاعدة الإشتغال، وقد عرفت أنّ المفروض تأثیر العلم فی ترتیب أثر التکلیف من حین حدوث التکلیف لا قیام العلم.

الوجه الثالث: إنّه لا کلام فی سقوط التکلیف مع الإضطرار العقلی، وبدونه یسقط بمقتضی حدیث الرفع، ومع رفع الشارع للتکلیف لا یبقی الشک فی سقوطه حتی یرجع إلی قاعدة الإشتغال.

وفیه:

إنّه لیس البحث فی صدق کلمة «السّقوط» بل هو فی رجوع الشّک إلی مرحلة الإمتثال، فمع تعلّق التکلیف بالذمّة والشک فی ارتفاعه بعد الإضطرار من قبل الشارع، بحکم العقل بالإحتیاط. وکذا الکلام فیما لو شک فی سقوطه علی أثر الإضطرار العقلی. وبالجملة، إنّه لابدّ من رعایة التکلیف حتی الخروج عن عهدته بمسقطٍ وجدانی أو تعبّدی.

فظهر عدم تمامیّة الوجوه المذکورة للجواب عن قاعدة الإشتغال.

والأولی أن یقال:

إنّه وإن کان الشّک فی سقوط التکلیف، لکن موضوع القاعدة هو إحتمال العقاب وحکم العقل بلزوم تحصیل البراءة الیقینیّة من أجل الخلاص منه، لکنّ إحتمال العقاب معلولٌ لقیام المنجّز للتکلیف، فإن کان المنجّز نفس القاعدة، لزم المحال، وإنْ کان غیرها، فلا منجّز له لا حدوثاً ولا بقاءً. أمّا حدوثاً، فلأنّه لم یکن

ص: 221

علم بالتکلیف حتی یکون منجّزاً، وأمّا بقاءً، فلوجود الأصل المؤمّن الذی لا یحتمل العقاب معه.

رأی السیّد الأُستاذ

وإلی القول الثانی ذهب السیّد الأُستاذ أیضاً، وقال فی تقریبه:

إنّ العلم المتأخّر المتعلّق بالتکلیف السّابق لا یصلح لتنجیز التکلیف السّابق بما هو کذلک، لأنّ معنی التنجیز إمّا وجوب الإطاعة والإمتثال عقلاً أو إستحقاق المؤاخذة علی المخالفة، وکلٌّ منهما لا یتصوّر بالنسبة إلی ما سبق، إذ لا مجال لإطاعته أو مخالفته فعلاً. فما یجری علی بعض الألسنة من أنّ العلم المتأخّر ینجّز التکلیف فی الزمان السّابق لیس له وجه معقول.

نعم، إذا کان التکلیف السّابق موضوعاً للتکلیف فی الزّمان اللاّحق کوجوب القضاء أو نحوه، کان العلم به مؤثّراً فی تنجیز التکلیف اللاّحق من باب تعلّق العلم به أیضاً بعد تعلّق العلم بموضوعه.

وبالجملة، العلم إنّما یکون منجّزاً للتکلیف المقارن ولا یصلح لتنجیز ما سبق. وعلیه، ففیما نحن فیه، بما أنّه عند حدوث العلم لا یعلم بثبوت التکلیف لاحتمال تعلّق الإضطرار بمتعلّقه فلا یکون منجّزاً(1).

هذا کلّه فی الإستدلال بالقاعدة.

ص: 222


1- 1. منتقی الاصول 5 / 104 _ 105.
الإستدلال بالإستصحاب للقول الأوّل

وقد یستدلّ له بالإستصحاب، وذلک لأنّه بعد الإضطرار یشکّ فی بقاء التکلیف المعلوم سابقاً _ من جهة أنّه إن کان فی المضطرّ إلیه فهو ساقط، وإن کان فی الطّرف فباق _ فیستصحب التکلیف، وینتج الإحتیاط بالنسبة إلی الطّرف.

فأجاب عنه المیرزا(1): بأنّه فرد مردّد، والفرد المردّد لا یجری فیه الإستصحاب، لأنّه لا ماهیّة له ولا وجود.

أقول:

إن أُرید إستصحاب شخص التکلیف وفرده، فلا یجری، أمّا المردّد، فلِما ذکر، وأمّا المعیّن، فلأنّه إمّا مقطوع الإرتفاع وإمّا مشکوک الحدوث، لکنّ المدعی إستصحاب الکلّی.

فأجاب فی مصباح الاصول(2) عن إستصحاب الکلّی: بأنّه إنّما یجری فیما إذا کانت الأصول متعارضةً بالنسبة إلی الخصوصیّتین، کما فی الشک فی بقاء الحدث المردّد بین الأصغر والأکبر بعد الوضوء، وهذا بخلاف ما إذا کان الأصل جاریاً فی بعض الأطراف بلا معارض. وما نحن فیه من هذا القبیل. قال: ومن هنا نقول: بأنّ المرجع عند دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الإرتباطیین هی البراءة، فإنّه مع الإتیان بالأقلّ یشکّ فی بقاء التکلیف المعلوم بالإجمال، ومع ذلک لا یرجع إلی الإستصحاب ولا إلی قاعدة الإشتغال، ولیس ذلک إلاّ لأنّ منشأ الشک فی بقاء

ص: 223


1- 1. أجود التقریرات 3 / 455.
2- 2. مصباح الأصول: 387.

التکلیف إحتمال تعلّقه بالأکثر الذی یجری فیه الأصل بلا معارض، فالتکلیف بالأقلّ ساقط بالإمتثال وبالأکثر مشکوک الحدوث من أوّل الأمر، ومنفیٌّ بالتعبّد للأصل الجاری فیه بلا معارض.

المناقشة

أفاد شیخنا دام بقاه: أنّه تارة: یتیقّن بالحدث ثمّ یتردّد بین الأصغر والأکبر، فالأصل الجاری فی کلٍّ منهما معارض بالأصل الجاری فی الآخر، وإذا تعارضا تساقطا ورجع إلی الإستصحاب ویحکم ببقاء الحدث الجامع. وأُخری: یتوضّأ ثمّ یتیقّن بالحدث المردّد بین الأصغر والأکبر قبل الوضوء، فعلی مبنی توقّف جریان الإستصحاب علی تساقط الأصول فی الأطراف بالمعارضة، فلا وجه للرجوع إلی الإستصحاب فی هذه الصّورة، لعدم المعارضة بین الأصول، لأنّ الحدث إن کان هو الأصغر فهو مرتفع، لأنّ المفروض کونه متوضّأً، فلا تکلیف له بالنسبة إلی هذا الفرد، ویبقی الأصل جاریاً فی الأکبر بلا معارض، فلا یرجع إلی إستصحاب بقاء کلّی الحدث.

ولکن القائل لا یلتزم بذلک. والوجه فی ذلک هو أنّ جریان الإستصحاب لا یدور مدار الیقین من أوّل الأمر، بل الیقین المتأخّر إنْ تعلّق بأمرٍ متقدّم وتمّت أرکان الإستصحاب فیه، کان الإستصحاب جاریاً فی کلّ موضوع ذی أثر، والمثال من هذا القبیل، فإن أرکانه تامّة و«المحدث» عنوان ذو أثر شرعی.

فظهر بما ذکرنا ما فی المبنی المذکور فی إستصحاب الکلّی، وبه ظهر الجواب عن إستصحاب بقاء التکلیف، فإنّ الأمر لا یدور مدار تعارض الأصلین

ص: 224

فی الخصوصیّتین، لکنّ عنوان «التکلیف» لیس مجعولاً شرعیّاً ولا موضوعاً لمجعول شرعی، فلا یترتّب علی استصحابه أثر شرعاً، وأمّا عقلاً، فإن موضوع الأثر العقلی هو المجعول الشّرعی لا الأمر المنتزع منه.

فإن نوقش فی هذا الجواب بأنّه: لا یلزم أنْ یکون المستصحب موضوعاً شرعیّاً، وأنّه لا مانع من إستصحاب الکلّی الإعتباری کعنوان «التکلیف»، وأثره حکم العقل بلزوم إمتثاله، إذ لا یفرّق العقل فی لزوم الإمتثال بین التکلیف الثابت بالوجدان والثابت بالتعبّد.

ذکرنا جواباً ثانیاً وهو: إنّ الحکم العقلی بلزوم إمتثال کلّی التکلیف حکم تعلیقی بناءً علی مسلک الإقتضاء _ لأن حکم العقل أساسه هو إقتضاء الإشتغال الیقینی للفراغ الیقینی _ والأصل الجاری بلا معارض یقتضی الفراغ _ بضمیمة قاعدة الإمکان _ کما تقدّم فی محلّه، ومعه لا حکم للعقل بالإحتیاط.

وبعبارة أُخری: نتیجة الإستصحاب هی تعلّق التکلیف بالذّمة وحکم العقل بلزوم إمتثاله والفراغ منه، فأثر الإستصحاب عقلی، لکن حکم العقل معلّق _ کما تقدّم فی محلّه _ علی عدم مجیء المؤمّن من قبل الشارع، والأصل الجاری فی الطّرف غیر المضطر إلیه مؤمّن شرعی ... وعلی هذا، فلا داعی لجعل الطّرف بدلاً عن الواقع فی الإجتناب.

ونقول ثالثاً: سلّمنا إقتضاء هذا الإستصحاب الإحتیاط، لکنّ مقتضی البراءة الشرعیّة فی الطّرف عدمه، فیقع التمانع بین أثری دلیلی الأصلین ویتساقطان، ویکون المرجع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فلا تنجیز.

ص: 225

الصورة الثالثة: و فیها قولان
اشارة

ما إذا کان الإضطرار بعد التکلیف والعلم به.

وفیها قولان:

الأوّل: عدم التنجیز.ذهب إلی الخراسانی

ذهب إلیه المحقّق الخراسانی فی الکفایة والفوائد(1). لأنّه یعتبر فی التنجیز أن یکون علی تقدیر، ومع الترخیص الواقعی بالنسبة إلی الفرد المضطرّ إلیه لا علم بالتکلیف المنجّز علی کلّ تقدیر، وإلاّ احتمل الإجتماع بین الترخیص وفعلیّة التکلیف المردّد فی المضطرّ إلیه، وإحتمال إجتماع الضدّین محال کالقطع به. فالعلم الإجمالی یستحیل تحقّقه بقاءً.

وبوجه آخر: العلم متعلّق بتکلیف مردّد بین الباقی والزائل من حین الإضطرار، فلیس علماً به علی کلّ تقدیر، بل هو من أوّل حدوثه مقیّد بعدم الإضطرار، فلا اقتضاء فیه للبقاء بعده.

الثانی: التنجیز.
اشارة

ذهب إلیه الشیخ(2)، واختاره المحقّق الخراسانی فی حاشیة الکفایة(3) وعلیه المیرزا(4) وتلمیذه(5).

ص: 226


1- 1. کفایة الأصول: 360، فوائد الأصول ط مع حاشیة الرسائل: 331.
2- 2. فرائد الأصول 2 / 245.
3- 3. حاشیة الکفایة: 360.
4- 4. أجود التقریرات 3 / 457.
5- 5. دراسات فی الأصول 3 / 390.

قال الشیخ بالتنجیز، لقاعدة الإشتغال.

وقال المحقّق العراقی: للعلم الإجمالی التدریجی الموجود فعلاً.

وقال صاحب الکفایة: للعلم الإجمالی الفعلی المردّد بین القصیر والطویل.

وسنذکر رأی المیرزا.

بیان الشیخ

إنّ التکلیف قد تنجّز بالعلم الإجمالی قبل عروض الإضطرار، ولا رافع للعلم المذکور فی الطرف غیر المضطرّ إلیه.

أقول:

ولکن یمکن أنْ یقال: إنّ العلم منجّز للتکلیف قبل عروض الإضطرار، وأمّا مع عروضه علی طرفٍ ینتفی العلم فلا منجّز، ویکون الأصل جاریاً فی الطرف الآخر بلا معارض.

فإن قیل: قد تعارض الأصلان قبل عروض الإضطرار وتساقطا، والسّاقط لا یعود.

قلنا: إنّ التعارض والتساقط یدوران مدار وجود الأصل فی کلّ آنٍ وإلاّ فلا تعارض، والأصل الجاری بعد الإضطرار فی غیر المضطرّ إلیه لیس فی مقابله أصل لیعارضه، فهو جار بلا معارض.

ص: 227

بیان المحقّق الخراسانی

قال فی حاشیة الکفایة ما حاصله: إنّ العلم الإجمالی قد تعلّق بالتکلیف المردّد بین المحدود والمطلق، لأنّ أحد الطرفین محدود بعروض الإضطرار علیه، والآخر مطلق غیر محدود، فالمورد من قبیل تعلّق التکلیف بالمردّد بین القصیر والطویل، ومن المعلوم عدم الفرق فی تنجّز التکلیف بالعلم الإجمالی بین أن یکون الطرفان قصیرین أو طویلین أو أحدهما قصیر والآخر طویل، وحیث أنّ الإضطرار حادث بعد التکلیف والعلم به، فإنّه یکون فی الطرف المضطر إلیه قصیر الأمد وفی الطرف الآخر طویلاً، ولا مانع من تنجیز العلم الإجمالی للتکلیف فی مثل هذا الفرض.

وبالجملة، فإنّا لا نستند للتنجیز إلی حدوث العلم _ حتی یقال بأنّ حدوثه لا یکفی لبقاء التنجیز، بل لابدّ من بقاء العلم الإجمالی حتی یبقی التنجیز _ بل إلی بقاء العلم وأرکان التنجیز، لأنّ أصل العلم موجود، ومتعلَّقه أی التکلیف المعلوم الفعلی، لا مانع عن فعلیّته، وهو وإنْ لم یکن فعلیّاً علی کلّ تقدیر، لکنّ بقاء العلم علی کلّ تقدیر لیس معتبراً فی التنجیز.

ونظیر المقام: ما إذا علم إجمالاً قبل الظهر من یوم الجمعة بوجوب أحد الأمرین من صلاة الظهر وصلاة الجمعة، لکن أمد صلاة الجمعة قصیر وأمد صلاة الظهر طویل، فإنّ انتهاء أمد الجمعة لا یضرّ بتنجیز العلم الإجمالی ووجوب الإتیان بصلاة الظهر.

وبما ذکر ظهر ما فی کلامه فی متن الکفایة، من أنّ التنجیز یدور مدار

ص: 228

المنجّز وهو العلم حدوثاً وبقاءً ... لأنّ هذه الکبری غیر منطبقة علی المقام، لأنّ العلم بالتکلیف باقٍ بعد الإضطرار فیکون منجّزاً للطرف.

بیان المحقّق العراقی

وقال المحقّق العراقی بالتنجیز(1) هنا بناءً علی تنجیز العلم فی التدریجیّات. بتقریب: إن العلم إذا تعلّق بتکلیف مردّد بین القصیر والطویل تحقّق علمان، أحدهما عرضی، وهو إمّا هذا حرام شربه وإمّا ذاک، والآخر طولی وهو إمّا هذا حرام شربه الآن وإمّا ذاک حرام شربه فی الآن اللاّحق. فإذا وقع الإضطرار إلی أحدهما سقط العلم الإجمالی العرضی عن التأثیر، إذْ لا تبقی القضیّة المنفصلة المذکورة، لکن الطّولی باقٍ، غیر أنّ أحد طرفیه _ وهو المضطر إلیه _ قد انتهی أمده.

وکذا الکلام لو تلف أحد الطرفین أو سقط الأمر به بالإمتثال أو خرج عن الإبتلاء.

أقول:

وهذا التقریب إنّما یتم فی کلّ موردٍ أمکن تعدّد التکلیف فیه علی أساس الإنحلال، لأنّ التدریجی یتحقّق فی التکالیف الإنحلالیّة، کحرمة وطئ الحائض مثلاً، دون ما لا یتم فیه، کمثال دوران الأمر بین الظهر والجمعة. ومن الواضح أنّ تعدّد التکلیف وعدمه یدور مدار تعدّد الملاک وعدمه. فالإستدلال للتنجیز بهذا الطریق أخصّ من المدّعی.

ص: 229


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 350.
بیان المحقّق النائینی

إنّ نفس حدوث العلم موجب لتعارض الأصول وتساقطها، وإذا سقطا فلا أصل مؤمّن فی غیر المضطرّ إلیه، فیستحقّ العقاب علی إرتکابه.

هذا ظاهر کلامه.

أقول:

وهو یرجع إلی ما ذکره الشیخ، فإنّ ملاک التعارض هو الإشتغال الیقینی، والشک یعود إلی سقوط التکلیف المنجّز.

وبعبارة أُخری: إنّه وإنْ لم تبق القضیّة المنفصلة، ولکنّ حدوثها وعدم الشک الساری کافٍ للتنجیز وتحقّق الإشتغال.

خلاصة البحث

إنّ بحثنا أعم من الشّبهة التحریمیّة والوجوبیّة، وأعم ممّا یتعدّد فیه الملاک والحکم بتبع الملاک، ولیس التعدّد والإنحلال متحقّقاً فی کلّ شبهة حکمیّة، فإن شرب النجس الواحد لیس له إلاّ حکم واحد.

وإنّ المختار فی وجه التنجیز ما ذکر فی حاشیة الکفایة، وحاصله:

إنّ المنجّز الحدوثی موجود، غیر أنّ فعلیّة التکلیف انقطعت بقاءً فی طرفٍ علی أثر قصر مدّته، بسبب الإضطرار مثلاً.

وبهذا الذی ذکره یندفع الوجهان المتقدّمان للإنحلال، لأنّ ملاک التنجیز هو العلم الإجمالی بالتکلیف المردّد، لا القضیّة المنفصلة. وأیضاً: الترخیص فی

ص: 230

المضطرّ إلیه یزیل القضیّة المنفصلة العرضیّة، ولکن ملاک التنجیز لیس تلک القضیّة، بل هو العلم الفعلی المردّد بین القصیر والطّویل.

المقام الثانی: لو اضطرّ إلی إرتکاب الفرد غیر المعیَّن
اشارة

وفیه الصّور المذکورة فی المقام الأوّل.

والأقوال ثلاثة:

1_ التنجیز مطلقاً.

2_ العدم مطلقاً.

3_ التفصیل بین صورة الإضطرار العقلی والوصول إلی حدّ الإلجاء وغیرها.

وبعبارة أُخری: التفصیل بین ما إذا کان الإضطرار بحیث لا مجال معه لجریان حدیث الرفع، وما إذا لم یکن کذلک.

قال بالأوّل: الشیخ والعراقی والمیرزا.

وقال بالثانی: الخراسانی فی الکفایة وتبعه الإصفهانی.

وقال بالثالث: الخراسانی فی حاشیة الرسائل.

دلیل عدم التنجیز
اشارة

استدلّ للعدم بوجهین:

الوجه الأول
اشارة

الأوّل: إنّه لا علم إجمالی بالتکلیف فی صورة الإضطرار إلی غیر المعیّن،

ص: 231

لأنّ الترخیص التخییری یزاحم الإلزام التعیینی، ومصلحة الترخیص أهمّ من مصلحة الإلزام، ومع الأهمیّة، یسقط الإلزام، فلا یبقی العلم الإجمالی.

وبهذا الوجه یسقط وجوب الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیّة معاً، إذ الحرمة هی فی صورة وجود الإلزام، ومع عدمه فلا حرمة.

جواب الشیخ

أجاب(1): بأنّ الترخیص هنا ترخیصٌ فی المقدّمة العلمیّة، بمعنی أنّ الشارع قد رفع الید عن لزوم الترک أو الإتیان علی أثر الإضطرار، ورخّص المکلَّف فی فعل أو ترک أحد الطرفین، والترخیص فی المقدّمة العلمیّة فعلاً أو ترکاً أثره سقوط وجوب الموافقة القطعیّة فحسب، فلابدّ من فعل أو ترک الطرف الباقی حذراً من المخالفة القطعیّة.

الإشکال علیه

فأشکل الأُستاذ: بأنّ مبنی الشیخ هو التوسّط فی التکلیف _ أی وجوده علی تقدیر وعدم وجوده علی آخر _ وعلیه، فإنّ الطرف الذی یرتکبه المضطر خال عن التکلیف قطعاً، فیشک وجوده فی الطرف الباقی، فالشّبهة بدویّة، ولا یمکن أن تکون مقرونةً بالعلم.

ص: 232


1- 1. فرائد الأصول 2 / 246.

وأمّا أنّ الترخیص هو فی المقدّمة العلمیّة ففیه:

إنّ المقدّمة العلمیّة یدور أمرها بین الواجب أو الحرام وبین ما هو أجنبی عن الواجب أو الحرام، لأنّها مقدّمة لإحراز الإمتثال، ورفع الشارع التکلیف عمّا یختاره المکلّف ملازم للترخیص الواقعی، وتکون النتیجة أنّ أحد الطرفین مقطوع الحلیّة والآخر مشکوک الإلزام.

فالقول بالتوسّط بالتکلیف قولٌ بالترخیص الواقعی، لکنّ موضوعه هو الطرف المختار. لکن هذا الترخیص موجود قبل الإختیار، فکیف یجتمع مع الإلزام؟

الوجه الثانی
اشارة

الوجه الثانی: ما ذکره المحقّق الإصفهانی(1):

إنّ العلم الإجمالی إنّما یؤثر إذا کان التکلیف یترتّب علیه إستحقاق العقاب علی کلّ تقدیر، وإلاّ فلا یؤثر، فلا تنجیز.

توضیحه:

إن ضمّ غیر الواقع إلی الواقع لا یوجب، إستحقاق العقاب، وإنّما الموجب له هو الواقع فقط، فإن کان الإلزام الواقعی فی الطرف المختار لرفع الإضطرار، فإنّ إرتکابه غیر موجب لاستحقاق العقاب، لأنّ المفروض إباحته. فظهر أنّه لا علم للمکلّف بتکلیفٍ منجّز موجب لاستحقاق العقاب، وأنّه متی لم تجب الموافقة القطعیّة لم تحرم المخالفة القطعیّة.

ص: 233


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 260.
المختار عند الشیخ الأُستاذ:

هو التنجیز مطلقاً.

وذلک، لأنّ موضوع التکلیف هو الخمر علی وجه التعیین إلاّ أنّ وجوده مردّدٌ، والإضطرار موضوعه هو الجامع بین الطرفین، أی عنوان «أحدهما»، فکان متعلّق التکلیف بوجوب الإجتناب وجواز الإرتکاب متغایراً. و«الإضطرار» إنّما یرفع «التکلیف» فیما إذا کان المتعلّق له وللتکلیف متّحداً وإلاّ فلا یرفعه، بل مقتضی القاعدة بقاؤه، لوجود المقتضی وعدم المانع أی الإضطرار.

وبالجملة، فالتکلیف موجود، وقد تعلّق العلم به، ومجرّد تعلّق العلم بتکلیف _ بحیث وجد المقتضی له وعدم المانع عنه _ موجب للتنجیز. فالعلم الإجمالی منجّز، وکلّ علم منجّز فله أثران عقلیّان، أحدهما وجوب الموافقة، والآخر حرمة المخالفة. فإذا انتفی الأثر الأوّل علی أثر المانع وهو الإضطرار، بقی الأثر الثانی علی حاله، لوجود المقتضی وعدم المانع. فالإجتناب عن الطرف واجب.

وأمّا ما ذکره المحقّق الإصفهانی، فإنّما یتم لو کان المنجّز عقلاً هو التکلیف المؤثر علی کلّ تقدیر، لأنّه إذا صادف المختارُ الحرامَ الواقعی فلا یکون التکلیف علی هذا التقدیر منجّزاً، لعدم إستحقاق العقاب علی إرتکاب الطرف الآخر کما لا یخفی.

لکنّ المنجّز عقلاً هو العلم بالتکلیف الفعلی، أی التکلیف الذی تحقّق موضوعه بجمیع قیوده وحدوده، وذلک لا ینافی أن یکون المکلَّف معذوراً علی

ص: 234

تقدیر _ وهو حال المصادفة _ وغیر معذور علی تقدیر وهو صورة عدمها، لأنّ المعذوریّة متأخّرة عن التنجیز فی الرتبة.

وبعبارة أُخری:

إنّ الباعثیّة الإمکانیّة للتکلیف المعلوم بالإجمال تامّة، لکنّ المانع عن فعلیّة هذه الباعثیّة هو جهل المکلّف بمحلّ وجود التکلیف، ولذا لو ارتفع الجهل کان التکلیف باعثاً للمکلّف نحو الإمتثال، وحینئذٍ، مقتضی حکم العقل بأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها هو رفع الید عن وجوب الموافقة القطعیّة _ لعدم إمکانها بسبب الإضطرار إلی إرتکاب بعض الأطراف _ دون المخالفة القطعیّة، لبقائها علی حال الإمکان، فلا عذر فی إرتکابها.

تنبیه:

تارةً: التکلیف موجود علی تقدیر دون تقدیر، وذلک کما لو اضطرّ إلی أحدهما المعیّن، فإنّه لو علم بوقوع النجاسة إمّا فی المضطرّ إلیه وإمّا فی طرفه، فإنّ التکلیف بالإجتناب موجود علی تقدیر عدم مصادفة النجاسة للمضطرّ إلیه، وغیر موجود علی تقدیر مصادفتها له.

وأُخری: یکون التکلیف موجوداً علی کلّ تقدیر، لکنّه تارةً: منجّز علی کلّ تقدیر، وأُخری: هو منجّز علی تقدیر دون تقدیر. فالأوّل: مثل دوران الأمر بین المتباینین مع عدم الإضطرار، والثانی: مثل دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، فإنّه علی تقدیر تعلّق التکلیف بالأقلّ یکون منجّزاً وعلی تقدیر تعلّقه بالأکثر فلا تنجیز.

فهذا معنی التوسّط فی التکلیف والتوسّط فی التنجیز.

ص: 235

أمّا صورة الإضطرار إلی أحدهما المعیّن وتعلّق العلم بسبب التکلیف بعد الإضطرار، فهی من التوسّط فی التکلیف، إنّما الکلام فی صورة الإضطرار إلی أحدهما غیر المعیّن، فهل هی صغری التوسّط فی التکلیف أو صغری التوسّط فی التنجیز؟

من قال بالتنجیز بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة یقول بالثانی.

ومن قال بعدمه، فلا محالة یقول بالتوسّط فی التکلیف. والشیخ یقول بالتوسّط فی التکلیف مع قوله بالتنجیز. وقد تقدّم الإشکال فیه.

والمحقّق العراقی یقول بالتنجیز فیما نحن فیه، فعلی مبنی علیّة العلم الإجمالی قال: لا مناص من القول بالتوسّط فی التکلیف، وعلی مبنی الإقتضاء قال بإمکان القول بالتوسّط فی التنجیز. ثمّ اختار القول بالتوسّط فی التکلیف علی کلا المسلکین.

وتوضیح ما ذکره هو: إنّ التوسّط فی التکلیف هنا عبارة عن کون التوسّط فی إطلاق فعلیّة التکلیف لا فی نفس فعلیّته، فإنّ التوسّط فی التکلیف الفعلیّ ینافی الترخیص، بخلاف التوسّط فی إطلاق فعلیّته. مثلاً: إذا علم بخمریّة أحد الإناءین من غیر إضطرار، فالتکلیف فعلیّ بالإطلاق، أی: یحرم إرتکاب أحد الطرفین، سواء ارتکب الآخر أو ترکه.

والفعلیّة علی تقدیرٍ تکون فی المثال مع الإضطرار، فإنّ الحرمة موجودة علی تقدیر عدم مصادفة الحرام، وغیر موجودة علی تقدیر المصادفة.

وکذلک الأمر مع الإضطرار إلی أحدهما غیر المعیّن، فإنّه مع عدم الإضطرار

ص: 236

یکون التکلیف فعلیّاً علی وجه الإطلاق، ومع الإضطرار، فإنّ حرمة الطّرف مقیّدة بعدم رفع الإضطرار بالحلال. فالتکلیف فعلیّ علی تقدیر رفع الإضطرار بالحلال، وغیر فعلیّ علی تقدیر رفعه بغیر الحلال.

هذا علی مسلک العلیّة. وحاصله: إنّ المفروض فی الإضطرار إلی أحدهما غیر المعیّن هو الترخیص فی ترک الموافقة القطعیّة، فلا مناص من القول بالتکلیف الناقص. أی إنّ التکلیف فی الإضطرار إلی غیر العیّن فعلیّ علی تقدیر وغیر فعلی علی تقدیر، أی إن کان رفع الإضطرار بالحلال کان التکلیف فعلیّاً وإلاّ سقط عن الفعلیّة.

وأمّا علی مسلک الإقتضاء، فلا حاجة إلی ذلک، لأنّه علی هذا المسلک یجوز الترخیص فی ترک الموافقة، أمّا المخالفة القطعیّة، فلا یجوز الترخیص فیها. ومع جواز الترخیص لا حاجة إلی القول بالتکلیف الناقص، بل التکلیف فعلیّ، ویجمع بین الترخیص الظاهری وبین الواقع بما یجمع بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی، لأنّ الترخیص الظّاهری هو فی طول الواقع، فلا یلزم إجتماع الضدّین، لعدم وحدة المرتبة.

ثمّ إنّ المحقّق العراقی قال بالتوسّط فی التکلیف بالمعنی المذکور حتی بناءً علی مسلک الإقتضاء، لأنّه فی ظرف رفع الإضطرار لا معنی لبقاء التکلیف الواقعی، لأنّ الإضطرار من حدود التکلیف، وعلیه، یسقط الواقع عن الفعلیّة فی صورة المصادفة له.

فالحاصل، کون التکلیف فعلیّاً علی تقدیر وغیر فعلیّ تقدیر علی کلا المسلکین.

ص: 237

أقول:

المسألة هی کون أحد الإناءین خمراً، ثمّ مجیء التکلیف بحفظ النفس ووقوع الإضطرار إلی شرب أحد الإناءین غیر المعیّن. فهنا حکمان، أحدهما: حرمة شرب الخمر، والآخر: وجوب حفظ النفس الموجب للزوم شرب أحدهما مقدّمةً لحفظ النفس.

والمقدّمة هذه إمّا واجبة شرعاً بقاعدة الملازمة، فیکون أحد الإناءین لا علی التعیین واجب الإرتکاب، والعقل یخیّره فی التطبیق علی أحدهما، فلا یوجد عندنا تکلیفان الوجوب بالنسبة إلی الجامع، والإباحة بالنسبة إلی الأطراف. وإمّا لازمة باللاّبدیة العقلیّة، فلابدّ من شرب أحدهما لأجل حفظ النفس، وهو مرخّص فی إختیار أیّهما شاء، لکنْ لا ترخیص من العقل بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة.

فظهر أنّ مقتضی دلیل وجوب حفظ النفس هو الترخیص فی إرتکاب أحد الطّرفین فقط من أجل رفع الإضطرار به، وأنّه لا ترخیص بالنسبة إلی جمیع الأطراف، لا عقلاً ولا شرعاً ...

إذن، لا ترخیص شرعیّ بالنسبة إلی جمیع الأطراف حتی تلزم المضادّة بینه وبین الواقع، حتی یحتاج إلی الجمع، لأنّ الترخیص الظّاهری فی أطراف العلم غیر ممکن، لکون التکلیف الواقعی _ بناءً علی الإقتضاء _ فعلیّاً علی کلّ تقدیر، والجمع بین الحکم الظّاهری والحکم الواقعی یکون فی الشّبهات البدویّة دون المقرونة، ففی البدویّة نقول: إنّ مفسدة الحرام قائمة بالواقع، ومصلحة الحکم الظّاهری قائمة بجعل الترخیص، هذا من ناحیة الملاک. وفی مرحلة الإمتثال، الحکم

ص: 238

الظّاهری واصل والواقعی غیر واصل، فلا تنافی بین الحکمین، لا فی مرحلة الملاک ولا فی مرحلة الإمتثال. أمّا فی المقرونة، فالوصول حاصل والتکلیف فعلیّ، فوصوله یقتضی الإمتثال، والترخیص الظّاهری یقتضی عدم الإمتثال، فکیف یمکن أن یکون التکلیف فعلیّاً علی کلّ تقدیر ویأتی الترخیص الظّاهری التخییری؟

ثمّ إنّ الجمع بالطولیّة _ أی کون الترخیص الظّاهری فی طول الواقع _ لا یرفع الإشکال، لما ذکرنا _ فی مبحث الجمع بین الحکم الظّاهری والحکم الواقعی _ من أنّ الحکم الواقعی بحقّ الشاکّ موجود، إمّا بإطلاق الحکم الواقعی وإمّا بنتیجة الإطلاق، وإلاّ یلزم التصویب.

وهذا الإشکال مبنائی.

وأمّا حلّ المحقّق العراقی الإشکال بالقول بالتکلیف الناقص، وهو وجود التکلیف علی تقدیر وعدم بقائه علی إطلاقه _ کأن تکون حرمة الخمر موجودة لا علی کلّ تقدیر، بل هی علی تقدیر إرتکاب الحلال موجودة، وغیر موجودة علی تقدیر عدم إرتکاب الحلال، علی نحو القضیّة الحینیّة أو القضیّة المشروطة.

فیرد علیه: إنّه قبل رفع الإضطرار کان الشرط _ وهو إرتکاب الحلال _ غیر متحقّق، فیلزم عدم الحرمة، لأن معنی القضیّة المشروطة کون حرمة الخمر مشروطة بارتکاب الحلال. وإن کان بنحو القضیّة الحینیّة _ أی إنّ حرمة الخمر هی فی حین رفع الإضطرار بالحلال، وأنّه إنْ رفع بنفس الحرام فلا حرمة _ فإن لازمه عدم الحرمة فی حین إرتکاب الحرام. هذا أوّلاً.

ص: 239

وثانیاً: إنّ الشرط المتأخّر لابدّ له من دلیلٍ فی مقام الإثبات.

وأمّا قوله: فی ظرف الإضطرار یسقط التکلیف عن الفعلیّة، وأمّا قبله فهی موجودة، فلابدّ من القول بالتوسّط فی التکلیف علی کلا المسلکین.

ففیه: إنّه إنْ کان الإضطرار _ فی ظرف رفعه _ إلی خصوص شرب الخمر، سقط التکلیف عن الفعلیّة وإلاّ فلا یسقط. وبعبارة أُخری: حدّ التکلیف هو الإضطرار لا رفع الإضطرار، ومع الإرتکاب لا ینقلب الإضطرار إلی الجامع إلی الإضطرار إلی الفرد. فارتفاع التکلیف بمجرّد رفع الإضطرار غیر معقول.

وعلی الجملة: لا یعقل أن یکون التکلیف مشروطاً أو مغییًّ بفعله أو ترکه، کأن یکون غایة وجوب الصّلاة ترکها، أو غایة حرمة الخمر شربه. وبناءً علی التکلیف الناقص: لا إشکال فی وجود الحرمة قبل رفع الإضطرار بالحرام، هذا لا إشکال فیه وهو معترف به والبرهان قائم علیه، لأنّ المفروض _ قبل رفع الإضطرار _ عدم الإضطرار إلی الخمر، فالتکلیف حینئذٍ بحرمة شربه موجود، لوجود مقتضیه وعدم المانع عنه، فإذا کانت الحرمة مرتفعة برفع الإضطرار بشرب الخمر، کانت حرمة شرب الخمر محدودة بشرب الخمر. وهذا غیر معقول.

ولو جعل شیء آخر غایةً، کان معنی ذلک إشتراط الحکم بأمرٍ أجنبیّ، وهو أیضاً غیر معقول، لأنّ الشرط أو الغایة لابدّ وأنْ یکون له دخل، ومع عدم الدّخل لا یمکن الإشتراط به أو جعله غایة، إذ لا یکون الإشتراط بلا ملاک. إذنْ، لا یعقل اشتراط التکلیف إلاّ بمانعه، وهو إمّا الإضطرار وإمّا کونه مصداقاً للمضطرّ إلیه، وحینئذٍ ینقطع التکلیف وتکون النتیجة الترخیص التخییری. وإشکاله هو أنّ هذه

ص: 240

المحدودیّة هی محدودیّة الحرمة بفعل الحرام وارتکابه، وهی غیر معقولة.

خلاصة البحث

وخلاصة البحث فی الإضطرار إلی غیر المعیّن هو: إنّ المقتضی للتکلیف موجود والمانع مفقود، لأنّ متعلّق الإضطرار غیر متعلّق التکلیف. فالتکلیف تام، ولا قصور فی العلم المتعلّق به، فالعقل حاکم بوجوب الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیّة. لکنّ الأوّل غیر ممکن إمتثاله فیسقط، والثانی ممکن فلا مجوّز لسقوطه، فالحقّ هو التنجیز.

ولا نقول بالترخیص الظّاهری، لأنّ الترخیص هنا تخییری، والترخیص التخییری فی أطراف العلم غیر ممکن إلاّ علی مبنی جریان الأصول فی أطراف العلم تخییراً. هذا من جهة، ومن جهة أُخری، لا مثبت لهذا الترخیص، وحدیث الرفع هنا هو «رفع ما اضطرّوا إلیه» لا «رفع ما لا یعلمون».

فإن قیل: الإضطرار متعلّق بالجامع ویجری فیه «رفع ما اضطرّوا إلیه» فالجامع مرفوع، فتجوز المخالفة القطعیّة.

قلنا: إن رفع المضطرّ إلیه بحدیث الرفع ترخیص واقعی لا ظاهری. وعلی فرض جریانه فی الجامع، فإنّ الترخیص فی الجامع لا ینافی وجود الحرمة فی الفرد، بل یجتمعان. وعلی هذا الأساس نقول ببقاء إطلاق التکلیف، وبطلان التکلیف الناقص الذی قال به المحقّق العراقی، فلو اضطرّ إلی شرب الماء وکان أحد الإناءین نجساً، فإن الترخیص بالنسبة إلی الجامع لا ینافی حرمة إرتکاب

ص: 241

النجس. نعم، إذا علم النجس بعینه، کان علیه رفع الإضطرار بالطرف، وأمّا إن ارتکبه وهو جاهل فمعذور.

فالتکلیف فعلیٌّ ولیس یناقص.

ثمّ إنّ البحث فی الإضطرار إلی المعیّن وغیره إنّما هو حیث یکون الإضطرار رافعاً للتکلیف بالمرّة. وأمّا إذا لم یرفع تمام التکلیف فلا یسقط العلم عن المنجّزیّة، لا فی الإضطرار إلی المعیّن ولا فی الإضطرار إلی غیر المعیّن، فلو علم إجمالاً بسقوط النجاسة إمّا فی الماء وإمّا فی الخلّ، فإنّ الإضطرار یرفع حرمة شرب الماء ولا یفید جواز التوضّئ به، فالعلم الإجمالی من هذه الجهة باقٍ علی تأثیره، فإنّه إمّا لا یجوز شرب الخلّ وإمّا لا یجوز التوضّؤ بهذا الماء.

ص: 242

التنبیه التاسع: فی الابتلاء وعدمه

اشارة

لا ریب فی إعتبار القدرة وعدم العجز عن الإمتثال فی التکلیف، وإنْ وقع الخلاف فی أنّ إعتبارها باقتضاء نفس الخطاب أو بحکم العقل، إذ ذهب المیرزا إلی الأوّل، وأنّ توجیه الخطاب إلی العاجز غیر معقول، وقال جماعة بالثانی تبعاً للمحقّق الثانی.

وملخّص الکلام: إنّه علی المبنی الأوّل: یستحیل تحریک العاجز، والإمتناع ذاتی. وعلی الثانی: لا یستحیل بل هو قبیح عقلاً، فالإمتناع بالعرض.

وکیف کان، فإنّ جعل الداعی للإمتثال إنّما هو حیث یمکن الإنزجار والإنبعاث، وإلاّ فهو ممتنع. وبعبارة أُخری: إنّه لا إهمال بالنسبة إلی الواقع، فأمّا الإطلاق، بأنْ یکون التکلیف متوجّهاً، سواء مع القدرة وعدمها، فمحال کذلک، فالتقیید ثابت لا محالة.

فهل الإبتلاء مثل القدرة؟

أی: کما أنّ القدرة علی الإمتثال شرط، کذلک یعتبر أن یکون متعلّق التکلیف

ص: 243

مقدوراً علیه أوْ لا یعتبر؟

والقدرة: إمّا عقلیّة، وإمّا عرفیّة، وإمّا عادیّة. فالطیران فی الهواء بالنسبة إلی الإنسان وإن کان مقدوراً عقلاً غیر مقدور عادةً، فلا یعقل التکلیف به، کما لا یعقل التکلیف بغیر المقدور عقلاً.

لکنّ الکلام فی التکلیف بغیر المقدور عرفاً، کما لو کان أحد الأطراف فی الهند، حیث القدرة علیه موجودة عقلاً وعادةً وغیر موجودة عرفاً، فهل یعقل التکلیف به ویشترط ذلک فیه؟

والأقوال فی المسألة ثلاثة:

الأوّل: لا یعتبر کون الشیء محلاًّ للإبتلاء فی صحّة التکلیف بالنسبة إلیه مطلقاً. وهو مختار المحقّق الإصفهانی.

الثانی: إنّه معتبر مطلقاً کذلک. وعلیه صاحب الکفایة.

الثالث: التفصیل بین التکالیف التحریمیّة فالإعتبار، والوجوبیّة فعدم الإعتبار. وهذا مصرّح به فی کلمات المیرزا، وهو المستفاد من کلام الشیخ، وإن لم یتعرّض للشبهة الوجوبیّة.

بیان الشیخ

بیان الشیخ(1)

إنّ وجوب الإجتناب عن کلا المشتبهین إنّما هو مع تنجّز التکلیف بالحرام الواقعیّ علی کلِّ تقدیر، بأن یکون کلٌّ منهما بحیث لو فرض القطع بکونه الحرام

ص: 244


1- 1. فرائد الأصول 2 / 233.

کان التکلیف بالإجتناب منجّزاً، فلو لم یکن کذلک بأن لم یکلّف به أصلاً، کما لو علم بوقوع قطرةٍ من البول فی أحد إناءین أحدهما بولٌ أو متنجّسٌ بالبول أو کثیرٌ لا ینفعل بالنجاسة، أو أحد ثوبین أحدهما نجسٌ بتمامه، لم یجب الإجتناب عن الآخر؛ لعدم العلم بحدوث التکلیف بالإجتناب عن ملاقی هذه القطرة؛ إذ لو کان ملاقیها هو الإناء النجس لم یحدث بسببه تکلیفٌ بالإجتناب أصلاً، فالشکُّ فی التکلیف بالإجتناب عن الآخر شکٌّ فی أصل التکلیف لا المکلّف به.

وکذا لو کان التکلیف فی أحدهما معلوماً لکن لا علی وجه التنجّز، بل معلّقاً علی تمکّن المکلّف منه، فإنّ ما لا یتمکّن المکلّف من ارتکابه لا یکلّف منجّزاً بالإجتناب عنه، کما لو علم بوقوع النجاسة فی أحد شیئین لا یتمکّن المکلّف من إرتکاب واحدٍ معیّن منهما، فلا یجب الإجتناب عن الآخر؛ لأنّ الشکّ فی أصل تنجّز التکلیف، لا فی المکلّف به تکلیفاً منجّزاً.

وکذا لو کان إرتکاب الواحد المعیّن ممکناً عقلاً، لکنّ المکلّف أجنبیٌّ عنه وغیر مبتلٍ به بحسب حاله، کما إذا تردّد النجس بین إنائه وإناءٍ آخر لا دخل للمکلّف فیه أصلاً؛ فإنّ التکلیف بالإجتناب عن الإناء الآخر المتمکّن منه عقلاً غیر منجّزٍ عرفاً؛ ولهذا لا یحسن التکلیف المنجّز بالإجتناب عن الطعام أو الثوب الذی لیس من شأن المکلّف الإبتلاء به.

نعم، یحسن الأمر بالإجتناب عنه مقیّداً بقوله: إذا اتّفق لک الإبتلاء بذلک بعاریةٍ أو تملّک أو إباحةٍ فاجتنب عنه.

والحاصل: أنّ النواهی المطلوب فیها حمل المکلّف علی الترک مختصّةٌ

ص: 245

_ بحکم العقل والعرف _ بمن یعدّ مبتلیً بالواقعة المنهیّ عنها؛ ولذا یُعَدُّ خطاب غیره بالترک مستهجناً إلاّ علی وجه التقیید بصورة الإبتلاء.

ولعلّ السرّ فی ذلک: أنّ غیر المبتلی تارکٌ للمنهیّ عنه بنفس عدم إبتلائه، فلا حاجة إلی نهیه، فعند الإشتباه لا یعلم المکلّف بتنجّز التکلیف بالإجتناب عن الحرام الواقعیّ.

وهذا بابٌ واسعٌ ینحلّ به الإشکال عمّا علم من عدم وجوب الإجتناب عن الشبهة المحصورة فی مواقع، مثل ما إذا علم إجمالاً بوقوع النجاسة فی إنائه أو فی موضعٍ من الأرض لا یبتلی به المکلّف عادةً، أو بوقوع النجاسة فی ثوبه أو ثوب الغیر، فإنّ الثوبین لکلٍّ منهما من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما، فإذا أجری أحدهما فی ثوبه أصالة الحلّ والطهارة لم یعارض بجریانهما فی ثوب غیره؛ إذ لا یترتّب علی هذا المعارض ثمرةٌ عملیّةٌ للمکلّف یلزم من ترتّبها مع العمل بذلک الأصل طرح تکلیفٍ متنجّزٍ بالأمر المعلوم إجمالاً ...

ویؤیّد ما ذکرنا: صحیحة علیّ بن جعفر، عن أخیه علیهما السّلام، الواردة فی مَن رعف فامتخط فصار الدمُ قِطَعاً صِغاراً فأصاب إناءه، هل یصلح الوضوء منه؟ فقال علیه السّلام: (إن لم یکن شیءٌ یستبینُ فی الماء فلا بأسَ وإن کان شیئاً بیّناً فلا)(1).

حیث استدلّ بها شیخ الطائفة قدّس سرّه علی العفو عمّا لا یدرکه الطرفُ من الدم(2)، وحملها المشهور علی أنّ إصابة الإناء لا یستلزم إصابة الماء، فالمراد

ص: 246


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 151، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، رقم: 1.
2- 2. الإستبصار 1 / 23.

أنّه مع عدم تبیّن شیءٍ فی الماء یحکم بطهارته، ومعلومٌ أنّ ظهر الإناء وباطنه الحاوی للماء من الشبهة المحصورة.

وما ذکرناه واضحٌ لمن تدبّر.

إلاّ أنّ الإنصاف: أنّ تشخیص موارد الإبتلاء لکلٍّ من المشتبهین وعدم الإبتلاء بواحدٍ معیّنٍ منهما کثیراً ما یخفی ...

بیان المحقّق الخراسانی

وذهب المحقّق الخراسانی فی حاشیة الرسائل إلی إعتبار الإبتلاء فی الشبهة الوجوبیّة أیضاً، فأشکل علی الشیخ بما حاصله: أنّ الملاک الذی أفاده الشیخ موجودٌ فیها کذلک، فلا یکون العلم الإجمالی فیها أیضاً منجّزاً ما لم تکن الأطراف کلّها مورداً للإبتلاء من حیث الترک، لأنّ التکلیف الوجوبی کذلک لا یصح إلاّ فیما إذا کان للمکلَّف داعٍ إلی ترکه عادةً، إذ لو کان الشیء ممّا یفعله بطبعه ولا داعی له إلی ترکه، کان جعل التکلیف الوجوبی بالنسبة إلیه لغواً. وعلیه، فلو کان بعض الأطراف فی الشبهة الوجوبیّة خارجاً عن محلّ الإبتلاء، ولم یکن المکلّف مبتلیاً بترکه عادةً، کان التکلیف بالنسبة إلیه منتفیاً یقیناً، ویکون فی الطرف الآخر مشکوک الحدوث، والمرجع حینئذٍ هو الأصل الجاری بلا معارض.

إشکال الأُستاذ

وأشکل علیه شیخنا: بأنّ الإلتزام بما ذهب إلیه الشیخ یستلزم الإلتزام بعدم

ص: 247

الحرمة الشرعیّة لما یکون المکلّف تارکاً له بالطّبع. وهذا خلاف الضّرورة الفقهیّة.

وأیضاً: قول المحقّق فی الحاشیة بتعمیم المطلب إلی الواجبات، یستلزم الإلتزام بعدم وجوب ما یکون المکلّف فاعلاً له بالطبع. وهذا خلاف الضّرورة الفقهیّة کذلک.

بیان المیرزا لدفع الإشکال

وقال المحقّق المیرزا(1) فی الجواب ما توضیحه:

إنّ هنا ثلاثة أُمور: القدرة وإرادة المکلّف للفعل أو الترک والتکلیف.

فالقدرة مقدّمة رتبة علی التکلیف والتکلیف مقدّم رتبة علی الإرادة أو عدم الإرادة، فلذا کانت القدرة من شرائط التکلیف، والإرادة منبعثةً عن التکلیف، لکنّ المهمّ هو استحالة اشتراط التکلیف بالإرادة، فلا یعقل أن یقال: إن أردت الصّلاة فالصّلاة واجبة علیک، لأنّه تحصیل للحاصل، کما لا یعقل أن یقال: إن لم ترد الصّلاة فالصّلاة واجبة علیک، لأنّ الغرض من التکلیف هو إیجاد الداعی فی نفس المکلَّف، ومع عدم الإرادة یلزم اجتماع النقیضین وهو محال. فتقیید الحکم والتکلیف بالإرادة وعدم الإرادة محال.

وعلی هذا، فالقول بلغویة جعل الحکم الوجوبی مع الإرادة إلی الفعل لکونه تحصیلاً للحاصل، وکذا جعل الحکم التحریمی مع الإرادة إلی الترک، یستلزم القول بتقیید التکلیف بالإرادة، وقد عرفت استحالته، وإذا استحال تقیید الحکم

ص: 248


1- 1. فوائد الأصول 4 / 52 _ 53.

بالإرادة اندفع الإشکال، سواء کان التکلیف وجوبیّاً أو تحریمیّاً.

قال الأُستاذ:

إنّ المشکلة ترجع إلی النسبة بین الإطلاق والتقیید، فإنّا:

تارة نقول: بأنّ النسبة بین الإطلاق والتقیید هی العدم والملکة، فإذا لم یمکن التقیید فالإطلاق واجب.

وأُخری نقول: بأنّ النسبة هی التضادّ، فإذا لم یکن التقیید فالإطلاق واجب.

أمّا بناءً علی المسلک الأوّل، فإنّه إذا قلنا بأنّ التکلیف غیر مقیّدٍ بالإرادة، ومع عدم التقیّد بها فلا إطلاق للتکلیف أیضاً، کان اللاّزم عدم وجود التکلیف بالمرّة حیث یکون المکلّف فاعلاً أو تارکاً بطبعه. فالإشکال یعود.

وأمّا بناءً علی المسلک الثانی، فمع فرض عدم التقیید یکون الإطلاق واجباً، وحینئذٍ یلزم تحصیل الحاصل وهو محال، لأنّ المفروض کون المکلّف فاعلاً بإرادته أو تارکاً بعدم إرادته للفعل، فوجود التکلیف حینئذٍ تحصیل للحاصل.

بیان المحقّق الاصفهانی

واختار المحقّق الإصفهانی(1) عدم إعتبار کون الشیء داخلاً فی محلّ الإبتلاء فی صحّة التکلیف، خلافاً لأُستاذه وللشیخ قدّس سرّهم، وذلک:

لأنّ کلّ ما ذکراه یعود إلی لزوم تحصیل الحاصل، ولکن ذلک إنّما یلزم

ص: 249


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 263.

لو کان التکلیف هو البعث أو الزجر الفعلی، ولیس ذلک حقیقة التکلیف، بل هو البعث والزجر الإمکانی.

إنّ الغرض من التکلیف تحقّق الإمتثال له عن الإختیار، ولذا، فلابدّ أن یکون التکلیف فی حدّ الإمکان، وإذا کان التکلیف هو الباعث أو الزاجر الإمکانی، فإنّه یجتمع مع وجود الصّارف ولا یلزم تحصیل الحاصل، ولذا نقول بأنّ العصاة یستحقّون العقاب علی المعصیة، لکونهم مکلّفین ولکن لا فعلیّة للباعث أو الزاجر بالنسبة إلیهم، وکذا الکلام فی الکفّار، فإنّهم بناءً علی کونهم مکلّفین بالفروع لا باعث وزاجر فعلی لهم إلاّ أنّ الباعث أو الزاجر الإمکانی موجود.

وتلخّص: إنّه قد وقع الخلط علی الشیخ وصاحب الکفایة بین الباعث والزاجر الفعلی والإمکانی.

فالفعلی لا یجتمع مع الصّارف، وأمّا الإمکانی فیجتمع، وحقیقة التکلیف هو الإمکانی لا الفعلی.

ثمّ إنّه جعل ما نحن فیه نظیر الإمکان الذاتی _ وهو أن یکون الشیء من حیث هو غیر آبٍ عن الوجود والعدم _ والإمکان الإستعدادی _ وهو أن یکون للشیء قابلیّة الوجود الفعلی کالنطفة _ والإمکان الوقوعی _ وهو أن لا یلزم المحال من وجود الشیء _ فالمقام نظیر هذه الأقسام، فإن کلاًّ من أقسام الإمکان قابلٌ للإجتماع مع الإمتناع بالغیر، إذ یمکن أن یکون الشیء ممکناً ذاتاً أو وقوعاً أو إستعداداً، ولا یکون ممکناً بالفعل علی أثر المانع ... وکذا أن یکون واجباً بالغیر.

والحاصل: إنّه یوجد البعث أو الزجر الإمکانی بالنسبة إلی الفرد الخارج عن

ص: 250

محلّ الإبتلاء، وإنْ کان ذلک الفرد منصرفاً عنه بالغیر، ولا یلزم تحصیل الحاصل.

المناقشة:

وقد ناقشه الأُستاذ أوّلاً بالنظر إلی قیاس ما نحن فیه بالإمکان الذاتی والوقوعی والإستعدادی، فقال بأنّه قیاس مع الفارق، لأنّ إجتماع الإمکان بأقسامه مع الإمتناع بالغیر أمر منجعل، فإن للنطفة _ مثلاً _ القابلیّة لأنْ تصیر إنساناً، ولکنّ ذلک قد یمتنع بعدم تحقّق الشرط له أو وجود المانع عنه. أمّا فی ما نحن فیه، فإنّ البعث أو الزجر الإمکانی أمر مجعولٌ من قبل المولی، وقیاس المنجعل بالمجعول غیر صحیح. مضافاً إلی أنّ الإمکان الإستعدادی _ وإن کان مجعولاً _ أمر تکوینی کالمثال المذکور، ولا مانع من جعل هذا الإمکان مع الإبتلاء بالمانع، ولکن هل یصحّ جعل البعث والزجر الإمکانی مع وجود الإبتلاء بالمانع؟

ثمّ ناقشه _ بقطع النظر عن المبنی _ بأنّ المفروض علی المبنی أنّ للأمر أو النهی إمکان الباعثیّة، وهذا الإمکان یصل إلی مرحلة الفعلیّة عند خلوّ نفس المکلّف عن المانع عن العبودیّة. وبعبارة أُخری: إنّ المبنی هو وجود مرحلتین، مرحلة القوّة، وهو وصول الحکم إلی المکلّف، ومرحلة الفعلیّة، وهو وصوله إلی الفعلیّة عند حصول الشروط وهو الخلو عن الموانع، وحینئذٍ نقول:

لو کان أحد الأطراف خارجاً عن محلّ الإبتلاء ولیس للمکلّف القدرة العرفیّة علیه. وأیضاً: لو کان الفعل ممّا لا یصدر عن المکلّف بطبعه، فإنّ التکلیف بالإجتناب عن ذلک الفرد أو عن هذا الفعل موجود، لأنّ الأحکام صادرة بنحو

ص: 251

القضیّة الحقیقیّة، وللحکم إمکان الباعثیّة والزاجریّة علی المبنی، ولکن الحکم لا یصل إلی مرحلة الفعلیّة فی المثالین مع خلوّ نفس المکلّف عن الموانع، لأنّ المفروض وجود الزاجر الفعلی عن ذاک الفرد أو الفعل وجعل الزاجر الفعل الآخر له یستلزم اجتماع المثلین ولا یعقل له تحقّق الباعثیّة أو الزاجریّة الفعلیّة، فقول الشارع له إجتنب عن الخمر فی الإناء الموجود فی الهند لا أثر له، وکذا إجتنب عن الخبائث.

والحاصل: أنّ للمکلّف فی المثالین زاجراً فعلیّاً بطبعه فی الموردین، والحکم فیهما لا یصل إلی الفعلیّة مع عدم خلوّ نفس المکلّف عن الموانع، فلیس المحذور فی المقام لزوم اللّغویّة من الجعل، بل المحذور أنّ جعل ما یصلح لأنْ یصل إلی الفعلیّة مع تحقّق الفعلیّة بالطبع لغو.

نظریة أُخری

وهی: إن کون الشیء فی محلّ الإبتلاء إنّما یعتبر فیما لو کانت الخطابات والتکالیف الشرعیّة شخصیّةً، إذ یکون کلّ فردٍ من أفراد المکلّفین طرفاً للخطاب. وأمّا إذا کانت کلیّةً، فلا یعتبر دخول الشیء فی محلّ الإبتلاء شرطاً للتکلیف، بل لا تعتبر فیه القدرة العقلیّة والعادیة أیضاً، وإنّما تُعتبر قدرة العنوان علی الإمتثال، وإنْ کان بعض الأفراد عاجزاً عنه.

وقد رتّب علی هذا المبنی آثار کثیرة.

وتوضیح المبنی هو: إنّه لا فرق بین التکالیف الشرعیّة وسائر القوانین، فإنّ

ص: 252

کلّ مقنّن عندما یضع القانون، یجعل القانون الواحد للمخاطب الواحد وهو العنوان، فکما لیس هناک قانونان أو قوانین، کذلک لیس هناک مخاطبون متعدّدون، ومن کان عاجزاً عن الإمتثال فهو معذور.

کذلک الأحکام الشرعیّة، فلمّا یقول: یا أیُّها النّاس، یا أیُّها الّذین آمنوا، یکون المخاطب فی الحکم هو العنوان لا الأفراد من النّاس والّذین آمنوا، فلا تلحظ قدرة زید وعمرو وبکر علی الإمتثال، وإنّما تلحظ قدرة العنوان علیه.

والحاصل: إنّ الحکم واحد والمخاطب به واحد، وشأن الأحکام الشرعیّة شأن القوانین الوضعیّة. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ حکم الإنشاء حکم الإخبار، فکما أنّ قول القائل: الماء البارد خبر واحد لا إخباران، وإن کان للماء أفراد کثیرة، ویکون هذا الخبر صادقاً إن کان مطابقاً للواقع وکاذباً إن لم یکن کذلک، ولا یقال إنّ هنا إخبارات متعدّدة بعدد أفراد الماء، کذلک الحال فی الإنشاء لمّا یقول: الصّلاة واجبة، الخمر حرام، فإنّ هذا إنشاء واقعاً وإخبار فی الصّورة، وهو لا یتعدّد بعدد الصّلاة أو الخمر.

ویترتّب علی هذه النظریّة:

أوّلاً: کون العصاة مکلّفین.

ثانیاً: کون الکفار مکلّفین.

ثالثاً: إنّه لو کان التکلیف بالنسبة إلی کلّ شخصٍ مشروطاً بالقدرة، فإنّ الشک فی الشرط یستلزم الشک فی المشروط، وإذا وقع الشک فی المشروط _ وهو التکلیف _ کان مجری البراءة. والحال أنّ من المسلّم به أنّه متی شک فی القدرة

ص: 253

علی الإمتثال وجب الإحتیاط بالفحص حتی الیأس.

فلو قلنا بأنّ التکلیف ینحلّ بحسب الأطراف لکان الأمر منتهیاً إلی البراءة، مع أنّه مجری الإحتیاط. فمن هنا یستکشف عدم الإنحلال وتوجّه التکلیف إلی العنوان.

رابعاً: الحکم فیما نحن فیه، فلو قلنا بأنّ الخطاب متوجّه إلی الکلّی لا الأشخاص والأفراد، فلا یعتبر کون الأفراد کلّها فی محلّ الإبتلاء، لأنّ التکلیف قد توجّه إلی الکلّی لا الأشخاص حتی یناط بالقدرة علی الإمتثال.

الإشکال علیها بوجوه

الإشکال علیها:

وقد أورد شیخنا علی هذه النظریة بوجوه:

الوجه الأوّل: لا ریب فی أنّ الأحکام الشرعیّة تابعة للأغراض کما تقرّر عند العدلیة.

ولا ریب فی أنّ الأغراض تابعة للواقع، ولا إهمال فی الواقع.

وأیضاً: من الواضح أنّ الحکم فعل إختیاری، وکلّ فعل إختیاری فهو صادر عن الإلتفات ولا یعقل فیه الإهمال.

ثمّ إنّ لمتعلّق الحکم بالنظر إلی الحکم انقسامین، إنقسامٌ متقدّم علیه _ أی علی الحکم _ وانقسامٌ متأخّر عنه، فالقدرة والعجز من الإنقسامات المتقدّمة، والعلم والجهل من الإنقسامات المتأخّرة عن الحکم ومتفرعة علیه.

وعلی ما ذکر، فإنّ عدم إلتفات الحاکم إلی الإنقسامات وإهماله لها محال،

ص: 254

وحینئذٍ، فإمّا یأخذ القدرة وعدم العجز قیداً للحکم، وإمّا یکون رافضاً لذلک ویکون حکمه مطلقاً بالنسبة إلی ذلک، فحکمه بحرمة شرب الخمر أو وجوب الصّلاة، إمّا مطلق بالنسبة إلی القدرة وعدمها، وإمّا مقیّد بالقدرة. أمّا أن یکون مقیّداً بأن یقول: أیُّها القادر علی الصّلاة فالصّلاة واجبة علیک، أیُّها القادر علی ترک الشرب فالشرب حرام علیک، أو: یحرم علیک الشرب إن کنت قادراً علی الترک، وتجب علیک الصّلاة إن کنت قادراً علی الفعل.

فهذا یعنی بطلان النظریّة.

وأمّا أن یکون مطلقاً بأنْ یقال: تجب علیک الصّلاة سواء کنت قادراً أو عاجزاً، فهذا معناه جواز تکلیف العاجز وبعث من لا یتمکّن من البعث وزجر من لا یتمکّن من الإنزجار، وهذا غیر ممکن من المولی الحکیم الملتفت.

فظهر أنّ ما ذهب إلیه القائل _ من توجّه التکلیف إلی الکلّی وعدم لحاظ الأفراد _ باطل. وهذا الوجه بوحده کافٍ، لکنّا نذکر بقیة وجوه الإشکال.

الوجه الثانی: إنّه ما المقصود من العنوان الذی یتعلّق به الحکم؟ إنّه فرقٌ دقیق بین «العنوان» و«الکلّی» وإنْ کانت النتیجة واحدة، فهل المقصود هو «العنوان» أو «الکلّی»؟

إن کان المراد هو الکلّی الطبیعی، فإنّه لا یقبل الخطاب لا عقلاً ولا نقلاً، والقابل للخطاب هو الفرد.

وإن کان المراد هو العنوان _ وهذا التعبیر أتقن، لأنّ الخطابات الشرعیة جاءت بلفظ: یا أیُّها الناس، یا أیُّها الّذین آمنوا، وهکذا _ فإنّ نسبة العنوان إلی

ص: 255

المعنون نسبة الوجه إلی ذی الوجه، فإنّ العنوان یحکی عن المعنون وهو الإنسان والإنسانیة، وهذه الحقیقة لا تحکی عن خصوصیة الزیدیة والعمریة، فإنّ «الإسم» و«الفعل» و«الحرف» عناوین حاکیة عن المعنونات ولیس النسبة بین «الحرف» و«مِن» نسبة «الکلّی» إلی «الفرد».

وعلی هذا، فإنّ الحکم لا یتعلّق بالعنوان، لأنّه إنّما یوجد فی عالم النفس وبلحاظه ینظر المولی إلی المعنون الموجود خارجاً ویرتّب الحکم علیه. فإذا قال: أکرم من فی المسجد، کان عنوان «من فی المسجد» حاکیاً عن الذین فیه، لا أنّ الذین فیه أفراد لهذا العنوان.

فظهر أنّ متعلّق التکلیف لا یمکن أن یکون «الکلّی»، ولا یمکن أن یکون «العنوان»، بل الحکم متوجّه إلی الأفراد، وإلی المعنون للعنوان.

الوجه الثالث: إنّ الحکم معلول للملاک، والإطاعة والعصیان معلولان للحکم، ومتعلَّق التکلیف هو نفس ما یقوم به الملاک، ولا یعقل قیام الملاک بغیر متعلّق التکلیف. وأیضاً: لا یعقل أن یتعلّق التکلیف بما لیس هو الموضوع للإطاعة والعصیان.

وعلی هاتین المقدّمتین نقول: إنّ الملاکات قائمة بالأشخاص لا بالعناوین، فالصّلاة تنهی عن الفحشاء والمنکر، أی هذه الصّلاة وتلک لا عنوان الصّلاة، وبحکم المقدّمة، یکون متعلّق التکلیف أیضاً هو الشخص لا الکلّی والعنوان. هذا بالنسبة إلی الملاک.

وأیضاً، فإنّ موضوع الإطاعة والعصیان هو الفرد لا العنوان، فالحکم متعلّق

ص: 256

بالفرد لا بالعنوان.

الوجه الرابع: وهو یرجع إلی مرحلة الحجیّة:

إنّ الحجیّة عبارة عن المنجّزیّة والمعذریّة، وموضوع الحجیّة هو التکلیف، وهذه الموضوعیّة عقلیّة لا شرعیّة. وکما أنّ فعلیّة الحکم تتبع فعلیّة موضوعه، وأنّه إذا تعدّد الموضوع تعدّد الحکم، کذلک الحجیّة، فإن وحدتها وتعدّدها یدوران مدار وحدة الحکم وتعدّده، فإذا تعدّد الحکم تعدّدت الحجیّة، ومع وحدته لا یعقل تعدّد الحجیّة.

وعلی هذا، فإنّ القائلین بنظریّة توجّه الخطاب إلی الکلّی والعنوان لا الأفراد یقولون بحجیّة الخطاب بالنسبة إلی الأفراد، وهذا ینافی حکم العقل المذکور.

وحینئذٍ، فإمّا نلتزم بوحدة القانون والخطاب والتکلیف، فالحجیّة واحدة، وإمّا نلتزم _ کما هو التحقیق _ بأنّ الخطاب _ وإن کان واحداً فی مرحلة الإنشاء _ متعدّد فی مرحلة الفعلیّة، والکاشف عن تعدّده هو العقل، ولذا قالوا بأنّ الأحکام الشرعیّة مجعولة بنحو القضیّة الحقیقیّة.

الوجه الخامس: فی خصوص الآیة « أوْفُوا بِالْعُقُود ». فقد قالوا بأنّه خطاب واحدٌ تعلّق بالمؤمنین. فنقول:

فی هذه الآیة مسلکان، فقیل: هی تدلّ علی الحکم الوضعی وهو لزوم العقد. وقیل: هی تدلّ علی الحکم التکلیفی، أی وجوب الوفاء به.

أمّا اللّزوم، فمعناه عدم القابلیّة للفسخ، ومن المعلوم أنّ موضوع اللّزوم هو أفراد العقد ولیس العنوان. وأمّا التکلیف، فإنّه یتعلّق بالأفراد لا العنوان، إذ أنّ هذا

ص: 257

الحکم ینحلّ بعدد العقود الواقعة، فیجب الوفاء بکلّ فردٍ فردٍ منها.

وتلخص: إنّ إستشهادهم بالآیة علی أنّ المتعلّق هو العنوان فی غیر محلّه.

الوجه السادس: إنّه لا موضوعیّة للخطاب، بل الموضوع هو التکلیف، والقدرة مناط التکلیف لا الخطاب، فلو کان الخطاب للعنوان فإنّ المهمّ هو لحاظ من یتوجّه إلیه التکلیف، هل هو العنوان أو الأفراد؟ فإنْ قلنا: لا تکلیف للأفراد، فهذا خلاف الضرورة الفقهیّة، والقائلون بهذه النظریّة یصرّحون بفعلیّة التکلیف بالنسبة لجمیع الأفراد فالمخاطَبون بالتکلیف متکثّرون لکنّ الخطاب واحد.

وأمّا الإستدلال بقضیّة الإخبار وأنّه لا یتعدّد فالإنشاء کذلک.

فالجواب عنه:

إنّ صدق الخبر وکذبه من أحکام الدالّ لا المدلول، فإن کان الدالّ متعدّداً تعدّد الصّدق أو الکذب، وإن کان واحداً لم یتعدّد. أمّا القذف مثلاً، فیدور مدار المدلول، فإنّ المدلول إذا تعدّد تعدّد القذف وإنْ کان الدالّ واحداً، وکذا المدح. مثلاً: لو قال: کلّ من فی المسجد فهو عادل، فقد أخبر عن عدالة کلّ فرد فردٍ، أمّا من حیث الصّدق والکذب فبالعکس، فإنّه إن کان الذین فی المسجد فسّاقاً، فقد کذب مرّةً واحدة.

إذن، لابدّ من الإلتفات إلی هذه الناحیة، حتی لا یلزم الخلط بین المدلول والدالّ.

والحاصل: إنّ من الأحکام ما یتبع الدالّ ومنها ما یتبع المدلول.

والتکلیف یتبع فی التعدّد والوحدة المدلول لا الدالّ، فقوله تعالی: « یَا أیُّهَا

ص: 258

الَّذین آمَنُوا أوْفُوا بِالْعُقُود » یدلّ علی وجوب الوفاء بکلّ فرد فرد من العقود لا العنوان بما هو عنوان، فقیاس هذا علی «النّار حارّة» قیاس مع الفارق.

إشکالٌ علی القول باعتبار الابتلاء

وربّما یقال: إنّ القول بشرطیّة القدرة والإبتلاء فی التکلیف یستلزم إختصاص الأحکام الوضعیّة بالقادرین، بأنْ تکون نجاسة البول _ مثلاً _ دائرةً مدار القدرة وکون البول فی محلّ الإبتلاء. وبعبارة أُخری: یکون هذا الحکم مجعولاً بلحاظ أثره وهو المانعیّة عن الصّلاة، ولولا الإبتلاء بهذا الأثر یکون جعله لغواً.

لکنّ اللاّزم باطل. فالملزوم مثله.

الجواب:

والجواب عنه: إنّ الحکم التکلیفی هو الحکم المتقوّم بالبعث والزجر، ولذا قالوا فی تعریفه بأنّه الحکم الذی فیه جهة الإقتضاء أو التخییر، وقد وقع الکلام بینهم فی أنّ الإباحة حکم تکلیفی أوْ لا؟ ولذا یکون فی المستحبات والمکروهات جهة الإقتضاء إلاّ أنّ الترخیص فی الفعل أو الترک موجود.

وبالجملة، فقد اتفقوا علی أنّ المولی فی الحکم التکلیفی یجعل الداعی للفعل أو الترک، وهذا الجعل منه هو الإرادة التشریعیّة منه.

هذا هو الحکم التکلیفی.

وأمّا الحکم الوضعی، فلیس فی ذاته البعث والزجر، کالنجاسة والطّهارة والصحّة والفساد والشرطیّة والمانعیّة والجزئیّة ونحو ذلک. وإنْ وقع الکلام فی

ص: 259

بعضها، کما فی النجاسة، إذ قیل بأنّها أمر واقعی کشف عنه الشارع. لکنّ المتأخرین عن الشیخ یقولون بأنّها أمر إعتباری شرعی.

أمّا علی القول الأوّل، فإنّ الأمر الواقعی موجود، سواء کانت هناک قدرة أوْ لا، کان الإبتلاء أوْ لا. فالبول متّصف بالنجاسة حقیقةً.

لکن المبنی باطل.

وأمّا علی القول الثانی، فإنّ حلّ الإشکال هو أنّ النسبة بین الموضوع والحکم نسبة العلّة إلی المعلول، فالحکم دائماً متفرّع علی الموضوع والعکس محال، وعلیه، فوجوب الإجتناب متفرّع علی نجاسة البول، إذ نقول هذا بول فیجب الإجتناب عنه. وعلی هذا، فالحکم الوضعی غیر مجعول بلحاظ الحکم التکلیفی، إذ لا یجعل الأصل بلحاظ الفرع، ولا یجعل الموضوع بلحاظ الحکم التکلیفی المترتّب علیه.

والحاصل: إنّ قوام التکلیف ب_«الکلفة» بأنْ یکون فی ذاته کلفة، وإذا کان کذلک، فإن جعل التکلیف بالنسبة إلی العاجز یکون محالاً، أمّا الأحکام الوضعیّة، فلیس فیها کلفة، فلا تختصّ بالقادرین.

مطلب آخر فی حقیقة الحکم التکلیفی والعرفی
اشارة

مطلب آخر

هل حقیقة الحکم التکلیفی والحکم العرفی واحدةٌ؟

والجواب یتوقّف علی بیان أمرین:

الأمر الأوّل: إنّ الغرض فی الأوامر العرفیّة تحقّق المأمور به. أمّا فی الأوامر

ص: 260

الشرعیّة، فالغرض هو العبادة. قال تعالی: « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنِّ والإنْسَ إلاّ لِیَعْبُدُون »(1). فإنّ الغرض من الخلقة ثمّ البعثة والشریعة هو العبادة والطاعة سواء فی التعبّدیّات أو التوصّلیّات، وإن کان بینهما فرق من حیث إعتبار قصد القربة وعدم إعتباره.

الأمر الثانی: إنّه لا یشترط فی إطاعة الحکم بقصد الأمر أنْ لا یکون للعبد داعٍ نفسانی للفعل أو الترک، وإنّما یعتبر أنْ یکون الإنبعاث أو الإنزجار مستنداً إلی أمر المولی لا إلی ذلک الداعی، بحیث لو سئل عن السبب لفعله أو ترکه أجاب بأنّ المولی قد أمر أو نهی، فلا یکون الداعی النفسانی تمام العلّة للفعل أو الترک ولا جزء العلّة. مثلاً: قد یتحقّق للمکلّف فی شهر رمضان أن لا یشتهی أنْ یأکل، إلاّ أنّ ترکه للأکل منبعث من أمر المولی، لا لعدم الإشتهاء، إذ العبادة حینئذ منتفیة، ولا لکلا الأمرین، إذ الإخلاص حینئذ منتف.

والحاصل: إنّ وجود الدواعی النفسانیّة لا ینافی الإطاعة والعبادة، وإنّما المهمّ فی العبادة أنْ یُؤتی بها استناداً إلی المولی _ ولذا تکون الإباحة أیضاً من الأحکام الخمسة، فإنّه یفعل أو یترک لأنّ المولی أباح له ذلک _ والغرض قائم بالإتیان بالعبادة مستنداً إلی المولی.

وأمّا فی التوصّلیّات، فإنّه لا غرض کذلک، بل الغرض متعلّق بوقوع الصّلاة فی لباسٍ طاهر، فالطّهارة شرط فی الصّلاة أو النجاسة مانعة _ علی الخلاف بین الأصحاب کما ذکر فی محلّه _ ولا یعتبر فی تحقّق الطّهارة قصد الأمر.

ص: 261


1- 1. سورة الذاریات، الآیة 56.

وبما ذکرنا ظهر إنّ المعتبر فی التکالیف هو القدرة علی الإمتثال، وکون الشیء حاصلاً _ کما فی مثال الصّوم، وفی مثال ترک کشف العورة ونحو ذلک _ لا یمنع من التکلیف.

والحاصل:

إنّ القدرة علی الإمتثال شرطٌ فی التکلیف، ولا یعقل تکلیف العاجز. وأمّا فی الموارد التی یکون المکلّف فاعلاً أو تارکاً بطبعه، فالتکلیف هناک ممکن.

فالمعتبر هو القدرة العقلیّة والقدرة العادیة، وأمّا إعتبار القدرة العرفیّة فلا دلیل علیه.

وتبقی مسائل:

ص: 262

المسألة الأُولی: لو وقع الشک فی إعتبار الإبتلاء وعدمه
اشارة

إنّه لو فرضنا _ بعد قیام الدلیل علی وجوب الإجتناب عن النجس أو الحرام الموجود فی أطراف الشّبهة _ وقوع الشک فی إعتبار کون جمیعها محلاًّ للإبتلاء وعدم إعتباره، فهل المرجع إطلاق الدلیل علی وجوب الإجتناب، بأنْ یکون مفاده: یجب الإجتناب عن النجس، سواء کان مورداً للإبتلاء أوْ لا، أو أنّ المرجع هو الأصل العملی؟ قولان:

قال الشیخ والمیرزا والعراقی: بأنّ المرجع إطلاق الدلیل.

وقال صاحب الکفایة والإصفهانی: بأنّ المرجع هو الأصل العملی لا الإطلاق.

کلام الشیخ

المستفاد من کلام الشیخ فی الشّبهة المفهومیّة للإبتلاء وجود المقتضی للتمسّک بإطلاق الدلیل وعدم المانع عنه، فإنّ الشارع لمّا حرّم شرب الخمر

ص: 263

لم یقیّد بکونه مورداً للإبتلاء، وإنّما قال: « حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ ... » وهذا الإطلاق حجّة.

إشکالات المحقّق الخراسانی علیه
اشارة

أشکل علیه بما توضیحه:

إنّ للحکم مراتب أربع، وموضع إشتراط کون متعلّق الحکم فی محلّ الإبتلاء هو مرتبة تنجّز الحکم، المتأخّرة عن مرتبة الحکم بمرتبتین، لأنّ المرتبة الأُولی: مرتبة الملاکات. والثانیة: مرتبة الحکم أی الإنشاء. والثالثة: مرتبة الفعلیّة. والرابعة: مرتبة التنجّز. وإنّما کان موضعه المرتبة الرابعة، لأنّ إستحقاق العقاب یکون بتنجّز الحکم، وهو منوط بکون المتعلّق فی محلّ الإبتلاء.

وحینئذٍ، فإنّ المرتبة السّابقة لا یعقل أنْ تتکفّل المرتبة اللاّحقة.

هذا الإشکال فی حاشیة الرسائل(1).

وأشکل أیضاً:

بأنّ إشتراط کون الشیء محلاًّ للإبتلاء بالنسبة إلی صحّة التکلیف هو من شرائط مرتبة فعلیّة الحکم، أی المرتبة الثالثة، وهذه المرتبة متأخّرة عن مرتبة الإنشاء. وما فی المرتبة السّابقة لا یتکفّل ما فی المرتبة اللاّحقة.

وهذا الإشکال فی الفوائد(2).

وأشکل ثالثاً:

ص: 264


1- 1. حاشیة الرسائل: 146.
2- 2. فوائد الأصول _ ط مع حاشیة الرسائل: 320.

بأنّ الإطلاق حجّة فی مقام الإثبات، لکنّ مقام الإثبات فرع مقام الثبوت، وهل یمکن الإطلاق؟ إن کان متعلّق التکلیف خارجاً عن محلّ الإبتلاء، فإنّ الزجر عنه یکون تحصیلاً للحاصل، وهو محال، فالإطلاق ثبوتاً محال، والمفروض أنّا فی شکٍ هل کونه فی محلّ الإبتلاء شرط لصحّة التکلیف أوْ لا؟ فالتمسّک یکون من قبیل التمسّک بالدلیل فی الشّبهة الموضوعیّة العقلیّة لنفس الدلیل.

وهذا الإشکال فی الکفایة(1).

الجواب عن الإشکال الأوّل

وقد أُجیب عن الوجه الأوّل:

أوّلاً: بأنّه یناقض الوجه الثانی.

وثانیاً: إنّ کلّ قیدٍ من القیود إنّما یکون حیث یوجد هناک کلّیٌ ذا قسمین أو أقسام، فإنّه یکون المقسم لأخذ القید فی طرفٍ. مثلاً: التقیید بالإیمان إنّما یکون للرقبة التی هی المقسم للمؤمنة وغیر المؤمنة، فلولا وجود الکلّی القابل للقسمة لم یتحقّق التقیید والتقسیم.

هذا هو الملاک العام للتقیید.

وهذا غیر صادق فیما نحن فیه، لأنّ حقیقة التنجّز عبارة عن کون المعصیة موضوعاً لاستحقاق العقاب، ومخالفة الحکم لیست بالکلّی الطبیعی القابل للإنقسام إلی ما هو مورد الإبتلاء وما هو خارج عن الإبتلاء _ کما أنّها لیست قابلةً

ص: 265


1- 1. کفایة الأصول: 361.

للإنقسام إلی المقدور وغیر المقدور، لأنّ المخالفة إنّما تصدق فی صورة القدرة فقط _ فالمخالفة إنّما تتحقّق فی ما إذا کان الشیء تحت الإبتلاء، فإذا تحقّقت استحقّ العقاب علیها.

وبالجملة، فإنّه لا یعقل أن تکون المخالفة بقید الإبتلاء هی الموضوع لاستحقاق العقاب.

الجواب عن الثانی

وعن الثانی: بأنّ الحکم فعل إختیاری للحاکم، وکلّ فعل إختیاری فإمّا هو مطلق أو مقیّد _ لأنّ الإهمال من الحکیم محال _ . فقوله: «لا تشرب الخمر» إمّا مطلق بالنسبة إلی وجود الزاجر النفسانی عنه، وإمّا مقیّد بعدم وجوده. وکذا قوله: صلّ، فهو إمّا مطلق أو مقیّد بعدم وجود الباعث النفسانی إلیها.

وعلی هذا، فإنّه إذا کان فعلیّة الحکم مقیّدةً بکون المتعلّق فی محلّ الإبتلاء، کان إطلاق الحکم لغواً، لأنّ الحکم هو الإنشاء بداعی جعل الداعی، فهو جعل الباعث للفعل فی الواجبات والزاجر فی المحرمات، فتقیید الفعلیّة بکون الشیء مورداً للإبتلاء یستلزم لغویّة الإطلاق فی الإنشاء.

وعلی الجملة: کیف یعقل أن تکون دائرة فعلیّة الحکم محدودةً بکون الشیء مورداً للإبتلاء، ودائرة الإنشاء غیر محدودة بذلک؟ إن الحکم بالنسبة إلی الحصّة الخارجة عن الإبتلاء بلا أثر، ولا معنی لشموله له.

ص: 266

الجواب عن الثالث

وأمّا ما ذکره فی الکفایة، من أنّ الإطلاق فی مقام الإثبات إنّما یکشف عن الإطلاق ثبوتاً فیما لو کان الإطلاق فی مقام الثبوت ممکناً، وهو هنا غیر ممکن.

فالجواب عنه هو: ما ذکر فی بحث الجمع بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی، وملخّصه هو:

إنّ مقتضی القاعدة لزوم الأخذ بظاهر کلام المولی ما لم یقم دلیل شرعی أو عقلی علی خلاف ذلک الظهور. وفیما نحن فیه: ظاهر خطابات الشارع هو الإطلاق وعدم التقیید بالإبتلاء وعدمه. غیر أنّا نشکّ فی صحّة التکلیف مع الشک فی إعتبار الإبتلاء وعدمه، وهذا الشک لیس بحجّةٍ شرعیّة أو عقلیّة لأنْ ترفع الید بها عن ظهور الخطاب فی الإطلاق.

إشکال الإصفهانی علی الشیخ
اشارة

وقال المحقّق الإصفهانی(1) ما توضیحه:

إنّ الإطلاق رفض القید والتقیید أخذ القید، والرفض والأخذ أمران إختیاریان، فیعتبر أنْ یکون للرافض القدرة علی الرفض وللآخذ القدرة علی الأخذ.

لکنّ القیود منها شرعیّة ومنها عقلیّة، فما کان شرعیّاً، کان للشارع أخذه أو رفضه، وما کان عقلیّاً، فأمره بید العقل ولیس للشارع التدخل فیه.

ص: 267


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 269.

وبعد هاتین المقدّمتین نقول: إنّ إعتبار کون الشیء فی محلّ الإبتلاء وتقیید الحکم بذلک أو إطلاق الحکم بالنسبة إلیه، من الأُمور العقلیّة، وإذا کان کذلک، فإنّه لا یعقل أن یکون کلام الشارع مطلقاً بالنسبة إلیه.

وعلی الجملة، فإنّ قید کون الشیء فی محلّ الإبتلاء لیس من القیود التی هی باختیار الشارع حتی یقال بأنّ کلامه مطلق، فلا یعتبر هذا القید فی حکمه بوجوب الإجتناب عن الخمر مثلاً.

الجواب:

ویجاب عنه: بأنّ حقیقة الإطلاق رفض القیود، ومعنی ذلک کون الجعل موسّعاً لا مضیّقاً، فالإطلاق جعل الحکم حال کونه موسّعاً، کما فی أعتق رقبةً، فإنّه جعل للعتق علی نحو السّعة بالنسبة إلی قید الإیمان والکفر. وحینئذٍ، فإذا جعل الحکم مطلقاً وانعقد ظهوره فی السّعة والإطلاق، وجب اتّباعه، ولو شک فی ابتلاء هذا الظهور بمانع عقلی، وجب الأخذ به کذلک، وعلیه المحقّق الإصفهانی أیضاً.

ونظیر المقام مسألة التناقض والتضاد بین الحکم الظاهری المدلول علیه بالأمارة _ مثلاً _ وبین الحکم الواقعی، فعلی فرض عدم تمامیّة وجهٍ من وجوه الجمع بین الحکمین الظاهری والواقعی، هل یجوز رفع الید عن مقتضی ظاهر الأمارة باحتمال تناقضه مع الحکم الواقعی؟

لا ریب فی أنّ إشتراط عدم کون الأمارة موجبةً لتحلیل الحرام وتحریم الحلال هو من القیود العقلیّة لا الشرعیّة، ومع ذلک، فلو شک فی لزوم التحلیل أو التحریم، لم یجز رفع الید عن مقتضی ظاهر الأمارة.

ص: 268

فیرد النقض علی المحقق الإصفهانی _ القائل هنا بعدم الإطلاق _ أنّه إنْ لم یمکن الجمع بوجهٍ یلزم بناءً علی کلامه رفع الید عن ظواهر الأمارات والأصول، ولا یظنّ به الإلتزام بذلک.

وإلی هنا تمّ دفع الإشکالات علی مبنی الشیخ.

والمهم هو الترکیز علی أنّ الإبتلاء وعدم الإبتلاء من إنقسامات متعلّق الحکم، فإنّ الخمر منه ما هو تحت الإبتلاء ومنه ما هو خارج عنه، وإذا کان الخمر مقسماً للحکم، فإنّه لا یعقل أن یکون الحاکم مهملاً، وما لم یثبت فی موردٍ عدم إمکان الإطلاق، فإنّ مقتضی القاعدة عقلاً ونقلاً هو الإحتیاط.

وهذا تمام الکلام فی المسألة الأُولی.

المسألة الثانیة: لو کان الشک بنحو الشّبهة المفهومیّة

المفروض أنْ لا شک فی شرطیّة دخول المتعلّق تحت الإبتلاء، لکنْ نشک فی مفهوم الإبتلاء، لأنّ بعض الأطراف إن کان فی الهند فهو خارج یقیناً، وإن کان عندنا فهو داخل یقیناً، لکنْ لو کان فی بلدٍ قریبٍ، فهل هو داخل أو خارج؟ فهل یصحّ التکلیف بالإجتناب عنه مثلاً ویکون العلم الإجمالی منجّزاً بالنسبة إلیه؟

مقتضی القاعدة العامّة عدم وجوب الإجتناب، لأنّ المفروض أنّ الدلیل مطلق _ والشبهات فی جواز التمسّک به مندفعة _ والمقیّد مردّد بین الأقلّ والأکثر، لأنّ الذی فی الهند خارج یقیناً، فهل الأکثر منه أیضاً خارج؟ فالمرجع هو الإطلاق.

ص: 269

وبعبارة أُخری: عندما یرجع الشک إلی التقیید الزائد یکون الإطلاق محکّماً.

المسألة الثالثة: لو کان الشک بنحو الشّبهة الموضوعیّة
اشارة

المفروض أنْ لا شک فی شرطیّة دخول المتعلّق تحت الإبتلاء، وعلیه، فلو وقعت نجاسة إمّا فی إناء زیدٍ الذی فی داره وإمّا فی إناء عمرو، ولکنْ لا ندری هل إناء عمرو داخل تحت الإبتلاء أوْ لا؟ فهل یجب علی زیدٍ الإجتناب من إنائه أو تجری فیه البراءة؟ قولان.

دلیل القول بعدم التنجیز

دلیل القول بعدم منجّزیّة العلم الإجمالی بالنسبة إلی إناء زید وصحّة جریان البراءة فیه هو: إنّ وجوب الإجتناب عنه یتوقّف علی شمول إطلاق «اجتنب» لإناء عمرو، لکنّ التمسّک بالإطلاق بالنسبة إلی إناء عمرو من التمسّک بالمطلق فی الشّبهة المصداقیّة، وهو ممنوع، وإذْ لم یشمل الإطلاق إناء عمرو، تکون الشّبهة بالنسبة إلی إناء زید بدویّةً، فالبراءة فیه جاریة.

دلیل القول بالتنجیز

وجهان:

قال المیرزا: بالتمسّک بالإطلاق، فالدلیل لفظی.

ص: 270

وقال العراقی: بأنّ المورد من قبیل العلم بالغرض والشک فی القدرة، وما کان کذلک فالإحتیاط فیه واجب عقلاً، فالدلیل عقلی.

بیان المیرزا

یتلخّص بیان المحقّق النائینی(1) فی التفصیل فی مسألة التمسّک بالعام والمطلق فی الشّبهة الموضوعیّة، وذلک إنّه یقول: إن کان المخصّص العقلی من قیود الموضوع فالتمسّک غیر جائز، وإن کان من قبیل ملاکات الأحکام ویتعلّق بحسن وقبح الخطاب، فالتمسّک لازم.

توضیح ذلک: إنّه وإنْ کان التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة ممنوعاً، لکنّ المخصّص إن کان عقلیّاً، فإنّه علی قسمین، أحدهما: ما یکون منوّعاً ومقسّماً للموضوع. مثلاً: حکم العقل بقبح لعن المؤمن تخصیص أنواعی، لأنّ مورد اللّعن تارة: مؤمن، وأُخری: غیر مؤمن، وقد خصّ العقل القبح بما إذا کان مؤمناً، وفی مثل هذا القسم لا یجوز التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة. والثانی: أنْ لا یکون التخصیص منوّعاً للموضوع، بل یکون مرتبطاً بالملاک، ففی مثله یلزم التمسّک بالعام عند الشک.

ووجه التفصیل هو: أنّه فی القسم الأوّل، لا یفرّق بین المخصّص اللّفظی والقطعی، فکما لا یجوز التمسّک بالعام فی الأوّل، کذلک فی الثانی. فلو قال: أکرم العلماء، فإنّ الموضوع ذو قسمین: العالم العادل والعالم الفاسق، کذلک لو کان

ص: 271


1- 1. فوائد الأصول 4 / 55.

المخصّص عقلیّاً ومنوّعاً للموضوع. بخلاف القسم الثانی، فإنّ العقل قد ضمّن الأحکام الشرعیّة بأنْ لا یکون لمصلحة الحکم مفسدة مزاحمة لهذا الملاک، لکنّ هذا التخصیص لیس منوّعاً للموضوع، فلو وقع الشک فی المخصّص العقلی فی هذا القسم یکون المرجع هو العام، ولذا لو قام الدلیل علی وجوب شیء ثم شککنا فی وجود مفسدةٍ فی ذلک الفعل مزاحمة لمصلحة الواجب، لا نرفع الید عن دلیل الوجوب، لأنّ أمر الملاکات بید الشارع، ویکون نفس إطلاق الدلیل کاشفاً عن عدم وجود المزاحم، بخلاف القسم الأوّل، فإنّ الأمر بید المکلّف، وعلیه أن یفحص عن حال هذا الشخص الذی یرید لعنه، هل هو مؤمن أوْ لا.

وقضیّة الإبتلاء وعدمه وأنّه هل یحسن الخطاب مع عدم الإبتلاء أوْ لا؟ من الأحکام العقلیّة، ولمّا کان هذا من الأُمور المرتبطة بالشارع، فإنّ التمسّک بالعام فیه واجب والإحتیاط لازم.

إشکال الأُستاذ

قال دام بقاه: بأنّ الکبری تامّة، إلاّ أنّ الکلام فیما نحن فیه فی الصّغری، لأنّ القدرة علی الإمتثال _ سواء کانت عقلیّة أو شرعیّة _ بکون الشیء فی محلّ الإبتلاء وعدم کونه کذلک، ممّا یکون بید المکلّف لا بید الشارع کما فی الملاکات، فالقیاس مع الفارق. صحیحٌ أنّ الحاکم فی الموردین هو العقل، فهو الحاکم بتقیّد الأحکام بالقدرة، وهو الحاکم بتبعیّة الأحکام للملاکات، لکنّ قیاس القدرة علی الملاکات مع الفارق.

ص: 272

بیان العراقی

وذهب المحقّق العراقی(1) إلی وجوب الإحتیاط، لا من جهة عدم جواز التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة، بل من جهة أنّه مقتضی حکم العقل والسّیرة العقلائیّة، فإنّهما قائمان علی الإحتیاط فیما لو علم بالغرض وشک فی القدرة فی الإمتثال. وتوضیحه:

إنّ العقل حاکم بتقیّد الأحکام الشرعیّة بالقدرة، وأمّا الأغراض منها، فلیست مقیّدةً بها دائماً، فلو کان الغرض فی موردٍ مطلقاً وشک فی القدرة علی تحصیله فإنّه یحکم بالإحتیاط، فلو قال: لا تشرب الخمر، کان التکلیف مقیّداً بالقدرة، لکنّ مفسدة الخمر موجودة علی کلّ حال، فلو شک فی القدرة علی الإمتثال وجب الإحتیاط حتی یثبت العجز عنه.

ونظیره فی الأحکام العرفیّة، فیما لو أمر المولی بنجاة ولده الغریق، فإنّ حفظ نفس الولد غیر منوط بالقدرة، أمّا إنجاؤه فمشروط، فلو شک فی القدرة علی إنجائه وجب الإحتیاط حتی یثبت العجز.

إشکال الأُستاذ

قال دام بقاه: أمّا الغرض المتعلّق بما هو خارج عن محلّ الإبتلاء ولا قدرة بالنسبة إلیه علی الإمتثال، فالعقل غیر حاکم بلزوم تحصیله بلا ریب. وأمّا مع الشک فی القدرة علی الإمتثال، فإنّ الموارد تختلف، ففی مثال الغریق حیث یعلم بفوت

ص: 273


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 341 _ 342.

الغرض، فالإحتیاط لازم بالضرورة حتّی یثبت العجز، وکما فی مثال دفن المیّت، لکنّ الکلام فی المورد الذی یشک فیه فی فوت الغرض من الحکم. ومثال محلّ بحثنا هو ما إذا وقعت النجاسة إمّا فی إنائی وإمّا فی إناء زید المشکوک فی کونه داخلاً فی محلّ الإبتلاء بالنسبة إلیّ بنحو الشّبهة المصداقیّة، فإنّه مع إجراء البراءة فی إنائی یقع الشک فی فوت غرض المولی، ومع الشک فی فوت غرضه لا یحکم العقل بلزوم الإحتیاط.

وبعبارة أُخری: حکم العقل بالإحتیاط وعدم إجراء البراءة، إنّما هو حیث یعلم بفوت غرض المولی بإجرائها، لا فی المورد الذی یشک فیه فی ذلک، ولا أقلّ من الشک فی وجود الحکم العقلی، فالمقتضی للتمسّک بالبراءة موجود والمانع مشکوک فی وجوده.

وهذا تمام الکلام فی هذا التنبیه.

ص: 274

التنبیه العاشر: فی عدم التنجیز فی الأصول الطولیّة

قد عرفت أنّ تنجیز العلم الإجمالی یدور مدار تعارض الأصول، لکنّ تعارض الأصول إنّما یتحقّق إذا کانت جمیعها فی مرتبةٍ واحدة، کما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الماءین مثلاً.

أمّا إذا کانت الأصول طولیّة، بأنْ کان الأصل الجاری فی بعض الأطراف فی مرتبة والجاری فی البعض الآخر فی مرتبةٍ أُخری، فلا یقع التعارض، فلا یکون العلم الإجمالی منجّزاً، بل یجری الأصل الّذی فی المرتبة المتقدّمة بلا معارض. کما لو علم بوقوع النجاسة فی الماء أو التراب مع انحصار الطّهور بهما ولا أثر للتراب إلاّ جواز التیمّم به، فإنّ الأصل _ أی أصالة الطّهارة _ یجری فی الماء، ومعه لا یبقی الموضوع للأصل بالنسبة إلی التراب، لعدم الأثر له، لعدم جواز التیمّم مع وجدان الماء الطّاهر.

وأمّا لو کان التراب أثر آخر کجواز السّجدة، فمع الشک فی نجاسته أو نجاسة الماء، فالأصلان فی مرتبةٍ واحدة _ کما فی الماءین _ وحینئذٍ، یتعارضان

ص: 275

ویتساقطان، ویکون العلم الإجمالی منجّزاً، فیقع الکلام بین الفقهاء فی جریان حکم فاقد الطّهورین علیه أو أنّه یجب علیه الجمع بین الوضوء والتیمّم تحصیلاً للطهارة الیقینیّة؟ وجهان.

والتحقیق هو الثانی، إذ کما یعلم بنجاسة أحدهما فهو عالم بطهارة أحدهما، فعلیه الإتیان بالوضوء والتیمّم معاً. وما یذکر مانعاً عن ذلک أمران:

أحدهما: إنّ التوضّی بالماء المحتمل نجاسته، وکذا التیمّم بالتراب المحتمل نجاسته، تشریع، والتشریع حرام.

والآخر: إنّه یحتمل نجاسة بدنه بملاقاة الماء المحتمل نجاسته.

ولکنْ یجاب عن الأوّل: بأنّ هذه الحرمة تشریعیّة ولیست ذاتیّة، والحرمة التشریعیّة ترتفع بقصد الرجاء، فله الإتیان بالوضوء رجاءً لا جزماً. وکذا التیمّم بالتّراب.

وعن الثانی: بأنّه لا أثر للإحتمال مع جریان أصالة الطّهارة، وسیأتی أن ملاقی الشّبهة المحصورة محکوم بالطّهارة.

وتلخّص: أنّ مقتضی القاعدة هو الجمع کما تقدّم.

فعلی القول باشتراط طهارة موضع التیمّم _ کما هو المشهور بل المدّعی علیه الإجماع _ یعتبر تقدیم التیمّم علی الوضوء. أمّا علی القول بعدم الإشتراط، فهو بالخیار فی تقدیم أیّهما شاء.

هذا فیما إذا لم یکن للمعلوم بالإجمال أثر تکلیفی.

وأمّا إذا کان المترتّب علی المعلوم بالإجمال حکم تکلیفی بالإضافة إلی

ص: 276

الحکم الوضعی، کما إذا علم إجمالاً بغصبیّة الماء أو التراب _ فهنا حکمان: أحدهما وضعی وهو البطلان، والآخر تکلیفی وهو حرمة التصرّف _ کان المورد من موارد دوران الأمر بین المحذورین، إذ المعلوم بالإجمال حرمة التصرّف فی أحدهما ووجوب إستعمال أحدهما، وتحصیل الموافقة القطعیّة غیر ممکن إلاّ مع المخالفة القطعیّة، لأنّه مع الجمع بین الوضوء والتیمّم یقطع بالموافقة من ناحیة الوجوب وبالمخالفة من ناحیة الحرمة، وإنْ ترکهما معاً، قطع بالموافقة من جهة الحرمة وبالمخالفة من جهة الوجوب، فیسقط حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیّة ویحکم بالموافقة الإحتمالیّة والإکتفاء بأحدهما.

وأمّا إذا علم إجمالاً بنجاسة الماء وغصبیّة التراب، فالأصول تسقط ویتنجّز العلم الإجمالی ویکتفی بالموافقة الإحتمالیّة کذلک. إلاّ أنّ الواجب هو الوضوء لاحتمال الموافقة، ولا یجوز التیمّم لاحتمال الحرمة من جهة الغصبیّة، فیتعیّن الوضوء بحکم العقل.

ص: 277

التنبیه الحادی عشر: حکم ملاقی بعض أطراف الشّبهة المحصورة

اشارة

هل الملاقاة لأحد طرفی العلم الإجمالی بوجود النجس تجعل الملاقی طرفاً ثالثاً، فیجب الإجتناب عنه کالطرفین أوْ لا؟ أقوال. والمهمّ منها ثلاثة:

النجاسة

وعدمها

والتفصیل.

ذکر أُمور قبل البحث
اشارة

ولابدّ قبل الورود فی البحث من ذکر أُمور:

الأمر الأوّل

یشترط فی مورد البحث أنْ لا یکون له منجّز إلاّ العلم الإجمالی الموجود بین الملاقی وطرفه، وإلاّ فهو خارج عن محلّ الکلام بین الأعلام، کما لو کان ملاقیاً لکلا الطرفین، فإنّه فی هذه الحالة یوجد العلم التفصیلی بالنجاسة، وهو محکوم بها بالإتفاق.

ص: 278

الأمر الثانی

قد وقع البحث بینهم فی سبب الإجتناب عن الملاقی علی وجوه:

أحدها: سرایة النجاسة إلی الملاقی بالملاقاة واتّساع دائرتها، کما لو أُفرغ أحد الطرفین فی إناءین، ویصیر الملاقی أحد الأطراف.

والثانی: لا تسری النجاسة حتی یکون للشبهة ثلاثة أضلاع ویتّسع الموضوع، بل الحکم بالإجتناب یتّسع، نظیر الحکومة.

والثالث: إنّه بالملاقاة یحدث حکمٌ بالنسبة إلی الملاقی کالحکم الثابت للملاقی قبل الملاقاة، غیر أنّ الموضوع _ وهو النجاسة _ نشأ من الملاقاة. فللملاقی حکم بالنجاسة فی طول الحکم بها بالنسبة إلی الملاقی.

والرابع: کالثالث، غیر أنّ الحکمین عرضیین.

فالوجوه فی مقام الثبوت أربعة.

إنّما الکلام فی مقام الإثبات:

والظاهر بحسب الإرتکاز العقلائی هو الوجه الثالث. أمّا أنْ یسری الموضوع وهو النجاسة من الملاقی إلی الملاقی، أو یسری الحکم _ وهو وجوب الإجتناب _ أو یکون هناک حکمان بوجوب الإجتناب، أحدهما فی عرض الآخر، فکلّ ذلک خلاف الإرتکاز العقلائی. بل إنّ بین الملاقی والملاقی فی الإرتکاز والسّیرة العقلائیّة سببیّة ومسبّبیّة، والأوّل فی طول الثانی، لأنّ الطّهارة والنجاسة _ وإنْ کانا حکمین شرعیّین _ موجودان عند العقلاء أیضاً، وإنْ اختلف الإعتبار الشرعی مع السّیرة العقلائیّة فی بعض الموارد، کنجاسة المشرک، حیث اعتبر

ص: 279

الشارع النجاسة له ولیس نجساً عندهم.

وعن سیّدنا الأُستاذ(1): إنّ الإجتناب عن ملاقی النجس من شئون وتبعات الإجتناب عن النجس، بحیث لا یتحقّق الإجتناب عرفاً عن النجس إذا لم یجتنب عن ملاقیه، کإکرام خادم العالم أو إبنه الذی یعدّ إکراماً للعالم نفسه عرفاً. وهذا هو الوجه الثانی من الوجوه الأربعة وقد قرّبه بوجهین، ثمّ ذکر أنْ لا دلیل علیه فی مقام الإثبات.

وأظنّ أنّه یرجع إلی الوجه الذی اختاره شیخنا وعبّر فیه بالسّببیّة والمسبّبیّة، واستدلّ له بالإرتکاز والسّیرة العقلائیّة، واللّه العالم.

والحاصل: أنّ الوجه الثالث هو الذی علیه الإرتکاز والسّیرة، وهو ظاهر الأدلّة الشرعیّة مثل قوله علیه السّلام (إذا کان الماء قدر کرٍّ لم ینجّسه شیء)(2)، فإنّ مفهومه: أنّه ینجّسه الشیء النجس إذا حصلت الملاقاة بینهما.

وهذا الوجه هو الذی ینبغی أنْ یکون موضوع البحث والخلاف بین الأعلام، وإلاّ فلا ریب فی نجاسة الملاقی بناءً علی سائر الوجوه.

الأمر الثالث

إنّ الشّبهة علی قسمین: حکمیّة، کالعلم الإجمالی بوجوب إحدی الصّلاتین من الظهر والجمعة. وموضوعیّة، کالعلم الإجمالی بخمریّة ما فی أحد الإناءین.

ص: 280


1- 1. منتقی الأصول 5 / 148.
2- 2. وسائل الشیعة 1 / 158، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، رقم: 1 و 2.

و«المنجّز» أی المصحّح لمؤاخذة المولی هو «قیام الحجّة» علی الحکم. و«الحجّة» تارةً عقلیّة، وأُخری شرعیّة، وکلٌّ منهما تارةً: تفصیلی وأُخری إجمالی.

أمّا فی الشّبهة الموضوعیّة، فالحجّة تقوم علی الجامع الإنتزاعی بین الطرفین، وهو «خمریّة أحدهما» مثلاً، فیشکّ هل هذا الطرف هو المعلوم الخمریّة أوْ ذاک؟ والعقل یحکم بلزوم الإجتناب عن کلیهما، مقدمةً لامتثال الحکم الشرعی بحرمة شرب الخمر، فلو شرب ما فی کلا الإناءین فقد ارتکب کبیرة شرب الخمر، وکذا لو باع کلیهما، وکان البیع باطلاً، أمّا لو شرب أحد الإناءین، فالأصل عدم شرب الخمر، ولا یترتّب شیء من آثار شرب الخمر إلاّ الحکم بالفسق بناءً علی حرمة التجرّی، لأنّ الأحکام من الفسق والحدّ مترتّبة علی شرب الخمر، وهذا العنوان غیر متحقّق بشرب أحد الإناءین. نعم، إرتکاب أحد الإناءین یستتبع إستحقاق العقاب، لأنّه قد ارتکب مورد إحتمال التکلیف المنجّز، کما لا خلاف فی فساد بیع أحد الإناءین، وإنْ وقع البحث بینهم فی وجه الفساد:

فالمیرزا المحقّق یقول بالفساد، من جهة أنّ أصالة الصحّة فیه معارضة بأصالة الصحّة فی بیع الطرف الآخر، وإذا تعارضتا تساقطتا، والأصل فی المعاملات هو الفساد.

فإن قیل: المفروض وقوع البیع علی أحد الطرفین، وأمّا الآخر، فلم یقع البیع علیه حتی یشکّ فی الصحّة فتجری أصالة الصحّة ویقع التعارض؟

أجاب: إنّ حقیقة صحّة البیع وجود السّلطنة علیه، وحقیقة فساده عدمها، وهی فی کلا الطرفین مشکوک فیها، والأصل عدم وجودها فیهما، فیتعارضان

ص: 281

ویتساقطان والمرجع فساد البیع.

والمحقّق العراقی یقول: إنْ قلنا بعلیّة العلم الإجمالی، فبیع أحد الطرفین فاسدٌ، سواء جری أصالة الصحّة أوْ لا، کان له معارض أوْ لا. وإنْ قلنا باقتضاء العلم الإجمالی _ وهو عدم مؤثریّة العلم مع جریان الأصل فی طرفٍ بلا معارض _ فإنّ المفروض عدم وقوع البیع علی الطرف الآخر حتی تجری أصالة الصحّة.

وعلیه، فإن الأصل فی الطرف الواقع علیه البیع جارٍ بلا معارض، فالبیع محکوم بالصحّة.

فالعراقی تکلّم فی المقام بحسب المبنی، فعلی العلیّة یکون العلم الإجمالی مؤثراً، وإنْ جری الأصل فی أحد الطرفین بلا معارض، وعلی الإقتضاء لا یؤثر فی تلک الحالة.

علی المبنی الأوّل، یکون البیع فاسداً علی کلّ تقدیر.

أمّا علی المبنی الثانی، فلابدّ من التحقیق فی أمرین:

إنّ ما ذکره المیرزا، من أنّ الفساد هو عدم السّلطنة والصحّة وجودها، غیر صحیح، بل نسبة الصحّة إلی السّلطنة نسبة المسبّب إلی السّبب، لأنّ الملکیّة والسّلطنة علی الشیء هی المنشأ لصحّة وقوع البیع علیه، وعدم السّلطنة علیه هو المنشأ لفساد البیع.

ثم إنّه هل الأصول التنزیلیّة تجری فی أطراف العلم أوْ لا؟

قال المیرزا: لا تجری.

وقال العراقی: تجری.

ص: 282

وعلیه، فإنّ الأصل فی عدم السّلطنة هو الإستصحاب، وهو من الأصول التنزیلیّة، إذ لو شک فی ملکیّة المائع وعدمها، فإنّه إنْ کان خمراً فلا، وإن کان غیر خمر فنعم، فالشک یعود إلی تحقّق السّلطنة علیه. فعلی القول بالجریان، یوجد فی المثال أصلان یجریان فی کلٍّ من الطرفین، وأمّا علی القول بعدم الجریان، فإنّه مع العلم بمخالفة أحدهما للواقع، لا یجری الأصل، لأنّه یعلم بکونه مالکاً لأحد الطرفین، لعدم کونه خمراً، وإذا سقط الأصلان _ أی أصالة عدم السّلطنة _ فی الطرفین، وصلت النوبة إلی المسبّب وهو الصحّة والفساد، لما تقدّم من کون النسبة نسبة السّبب والمسبّب، وحینئذٍ، یکون أصالة الصحّة جاریاً فی الطرف الذی وقع إرتکابه، لأن هذا الأصل إنّما یجری بعد العمل لا قبله. وعلیه، فلابدّ من الحکم بصحّة بیع أحد الطرفین علی مبنی المیرزا.

قال الأُستاذ:

ما ذکره هذان المحقّقان مخدوش، لأنهما قد بنیا المسألة علی جریان أصالة الصحّة وعدم جریانها، فقال المحقّق المیرزا: بوجود المقتضی للجریان، لکنّه یسقط علی أثر المعارضة. وقال المحقّق العراقی: بأنّه إذا وصلت النوبة إلی أصالة الصحّة، فإنّ هذا الأصل بناءً علی مسلک الإقتضاء یجری ولا مانع عن جریانه، لعدم جریانه فی الطرف الآخر لعدم الموضوع.

لکنّ الکلام فی مستند أصالة الصحّة، فللقوم فیه خمسة وجوه، والمختار أنّ مستند هذا الأصل هو السّیرة العقلائیّة، فإنّهم _ إذا وقع العمل ثمّ شک فی کونه جامعاً للأجزاء والشرائط المعتبرة _ لا یعتنون بالشک ویحملون العمل علی

ص: 283

الصحّة، وهذا هو الأصل لقاعدة الفراغ الجاریة فی عمل الشخص المکلّف، فإنّ الأساس لتلک القاعدة هو أصالة الصحّة المستندة إلی السّیرة العقلائیّة والنصوص الخاصّة فیها. وأمّا بالنسبة إلی أعمال الآخرین، فإنّ الأصل عند العقلاء هو الصحّة المعبّر عنه بأصالة الصحّة.

هذا، ولو شک فی صحّة العمل من حیث واجدیّته لصلاحیّة الفاعل أو قابلیّة القابل، فالسّیرة العقلائیّة غیر قائمة علی إجراء الصحّة فیه، لأنّها دلیل لبّی یؤخذ منه بالقدر المتیقّن، فلو وقع البیع وشک فی کون البائع بالغاً لم یحمل علی الصحّة.

والشک فیما نحن فیه یعود إلی أنّ المورد قابلٌ للبیع أوْ لا، لاحتمال کونه خمراً والخمر لا یصحّ بیعه، فإنّ أصالة الصحّة فی مثله غیر جاریة، بل الشک یعود إلی تحقّق النقل والإنتقال، والأصل عدمه.

الکلام فی نماء وفائدة أحد طرفی العلم

ولو کان لطرفی العلم نماء وفائدة، کالشجرتین المغصوبة إحداهما لهما ثمرة، وکالدارین المغصوبة إحداهما یستفاد منهما بالسکنی، فإن أکل من کلتی ثمرتی الشجرتین، فلا إشکال فی أنّه أکل الحرام، أو سکن المکان المغصوب. وأمّا لو أکل ثمرة إحدی الشجرتین أو سکن إحدی الدارین، فهل ارتکب الحرام؟ قولان.

قال المیرزا بعدم الجواز، سواء کانت الفائدة متّصلة أو منفصلة، کانت موجودة عند تحقّق العلم أو بعده، کان الطرف المقابل موجوداً أو معدوماً

ص: 284

والشجرة موجودة عند الإستفادة من ثمرها أو معدومة ... ففی جمیع الفروض الحرمة تکلیفاً والضّمان مترتّب، بلا فرقٍ بین الفائدة المتّحدة مع ذیها کالسّکنی بالنسبة إلی الدار، والفائدة غیر المتحدة کالثمرة من الشجرة، فإنّهما وجودان متغایران.

والحاصل: إنّ الحرمة تسری، مضافاً إلی الضمان، لأنّ الثمرة من شئون الشجرة، والسکنی من شئون الدار، وهکذا.

وفی المقابل قول بعدم الحرمة، لجریان أصالة الإباحة بالنسبة إلی التصرّف فی أحد الطرفین، کما أنّ البراءة جاریة عن الضمان، لأنّ التصرّف فی الثمرة لیس بتصرّفٍ فی الشجرة.

أقول:

توضیح البحث هو: إنّه إذا علم إجمالاً بغصبیّة إحدی الشجرتین، فقد تکونان قبل العلم ملکاً للغیر، کأنْ تکونا ملکاً لزیدٍ، فیشتری عمرو منه إحداهما ویغصب الأُخری، فتحصل الثمرة من إحداهما. وقد لا تکونان ملکاً لأحد، کأنْ تکونا من المباحات، فحاز زید إحداهما وعمرو الأُخری، ثمّ غصب أحدهما شجرة الآخر.

فعلی القول الثانی: قد قام الدلیل علی حرمة التصرّف فی مال الغیر بدون إذنه، فالموضوع «مال الغیر»، وهذه الثمرة یشک فی کونها مال الغیر، لأنّ الشجرتین إحداهما فقط للغیر، فکان العقل حاکماً بالإجتناب عن الشجرتین، وأمّا الثمرة من إحداهما، فلا دلیل علی وجوب الإجتناب عنها، ومع الشک فی کونها

ص: 285

من ملک الغیر تجری أصالة عدم کون الشیء من ملک الغیر، وهو الأصل الموضوعی، لعدم جواز التمسّک بالدلیل العام المشار إلیه بالنسبة إلی الثمرة، فإنّه من التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة. لکنّ جریان الأصل الموضوعی یتوقّف علی القول بجریان الإستصحاب فی العدم الأزلی، وعلی القول به، فلابدّ من إثبات عدم المانع من جریانه هنا، وذلک: لأنّ إستصحاب عدم کون هذه الثمرة ملکاً للغیر معارض بعدم کونها ملکاً لنفسه، فقیل: بأنّهما _ لمّا علم بمخالفة أحدهما للواقع _ یتساقطان. وقیل: بعدم تساقطهما، لعدم لزوم المخالفة القطعیّة من إجرائهما معاً، نعم، یلزم المخالفة للعلم الإجمالی، وهو غیر مضرّ. وعلی هذا القول یکون الإستصحاب جاریاً بلا مانع.

لکنّ المیرزا ینکر جریان الإستصحاب فی العدم الأزلی. وأیضاً: یری عدم جواز الإستصحابین مع وجود العلم الإجمالی بمخالفة أحدهما للواقع.

هذا بالنسبة إلی الحکم التکلیفی، وهو جواز التصرّف.

وأمّا بالنسبة إلی الحکم الوضعی _ وهو الضّمان _ ، فإنّ موضوع الحکم بالضّمان هو: وضع الید علی مال الغیر عدواناً، ووضع الید علی الثمرة من إحدی الشجرتین لیس من مصادیق هذا العنوان. إلاّ أنْ یقال: إنّ کون الشجرة طرفاً للعلم الإجمالی ووجوب الإحتیاط یسری إلی الثمرة، کما تقدّم فی مثال إکرام العالم وسرایة الحکم إلی ولد العالم، فالضمان ثابت.

لکنّ الجواب: إنّ للثمرة حکماً آخر غیر حکم الشجرتین، فله ملاکه الخاصّ به. هذا أوّلاً.

ص: 286

وثانیاً: إنّ ضمان الثمرة یتوقّف علی أنْ تکون الشجرة ملکاً للغیر، وهذا أوّل الکلام، فالسّرایة من جهة التبعیّة غیر ثابتة.

هذا تمام الکلام فی الأُمور قبل البحث عن حکم الملاقی.

ملاقی الشّبهة المحصورة وله صور:
الصّورة الأُولی
اشارة

أن یعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، ثمّ تقع الملاقاة بین الشیء وأحد الطرفین، لا مع کلیهما، علی أنْ لا یکون للشیء طرف کذلک، مع فرض أنْ لا یکون الطرفان مسبوقین بالنجاسة، ولا یکون لهما منجّز إلاّ العلم الإجمالی.

وفی هذه الصّورة قولان:

وجوب الإجتناب عن الملاقی.

وعدم وجوب الإجتناب عنه.

دلیل القول بوجوب الإجتناب
اشارة

وقد استدلّ للقول الأوّل بالکتاب والسنّة والعقل.

فمن الکتاب: قوله تعالی: « وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ »(1). بتقریب أنّ الهجر للرجز

ص: 287


1- 1. سورة المدثر، الآیة 5.

إنّما یتحقّق بترک جمیع شئونه، ومنها الملاقی له، فإنّه لمّا کان الهجر للرجز الموجود فی البین واجباً، فقد حصل الإشتغال به وبما یتعلّق به، ومع عدم الإجتناب عن الملاقی یشک فی حصول البراءة، فیجب الإحتیاط بالنسبة إلی الملاقی.

الإشکال علیه:

وقد أُشکل علیه: أوّلاً: بتوقّف الإستدلال علی أن یکون «الرجز» فی الآیة هو «النجس».

ثانیاً: سلّمنا، لکن الواجب الإجتناب عن النجس، وصدقه علی الملاقی مشکوک فیه، فلا یجوز التمسّک بالآیة بالنسبة إلیه.

من السنة
اشارة

ومن السنّة: الخبر(1) الوارد فی الفأرة التی وقعت فی خاویةٍ من السّمن، حیث أمر الإمام علیه السّلام بالإجتناب عن السّمن، فقال الراوی: الفأرة أهون علیّ ... فقال الإمام: (إنّک لم تستخف بالفأرة، وإنّما استخففت بدینک، وإنّ اللّه حرّم المیتة من کلّ شیء).

وجه الإستدلال: تعبیر الإمام علیه السّلام بالمیتة، وهو ظاهر فی أنّ حکم ملاقی المیتة حکم المیتة، فیکون حکم الملاقی حکم الملاقی، ولیس للملاقی حکم آخر حتی یشک فیه.

والحاصل: إنّ هذا المورد من قبیل وجوب إکرام العالم، فإنّ الحکم بإکرامه یسع ولده، فیجب إکرامه بنفس هذا الحکم، لأنّ الولد من شئونه، والحکم کذلک

ص: 288


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 206، الباب 5 من أبواب الماء المضاف والمستعمل، رقم: 2.

یعمّ جمیع شئونه ومتعلّقاته.

الإشکال علیه:

بالسند، ففیه «عمرو بن شمر» وهو ضعیف.

وفی الدلالة نظر، لأنّ المدلول هو ردع الراوی عن أن یتوهّم أنّ میتة الفأرة هیّنة ولا یجب الإجتناب عن الملاقی لها، فدفع الإمام هذا التوهّم وأنّ المیتة حکمها النجاسة، سواء کانت صغیرةً أو کبیرة.

وبالجملة، فإنّ الخبر فی مقام بیان مطلب آخر، ولیس بصدد البیان عن حکم الملاقی.

من العقل
اشارة

ومن العقل: فقد استدلّ بتقریب أنّ العقل فی هذه الصّورة یری الإجتناب عن الملاقی، لأنّه بالملاقاة یصیر طرفاً للطّرف الملاقی، فیلزم الإجتناب عنه کما یلزم عن الملاقی، لتحقّق العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما.

الإشکال علیه:

وقد أجاب الشیخ(1) عن هذا الإستدلال: بأنّ الشکّ فی طهارة الملاقی ونجاسته مسبّب عن الشکّ فی نجاسة الملاقی وطهارته، والأصل فی السّبب حاکم علی الأصل فی المسبّب، إذ لا یجری الأصل فی المسبّب مع جریانه فی السّبب، لتقدّم السّبب علی المسبّب فی الرتبة. بل الذی فی مرتبة السّبب هو

ص: 289


1- 1. فرائد الأصول 2 / 242.

الطّرف، والأصل جارٍ فیه کذلک، وإذا جری الأصلان فی الملاقی والطرف تعارضا، وبقی الأصل فی الملاقی جاریاً بلا معارض، لسقوط معارضه _ وهو الطرف _ بالمعارضة مع الملاقی.

الجواب:

وأُجیب عن کلام الشیخ: بأنّه وإنْ کانت الکبری مسلّمة، لکنّها غیر منطبقة علی المورد، لأنّه کما أنّ النسبة فی أصالة الطّهارة بین الملاقی والملاقی نسبة السّبب والمسبّب، فإنّ أصالة الإباحة نسبتها إلی أصالة الطّهارة نسبة المسبّب إلی السّبب، لأنّا لمّا نشک فی إباحة شرب هذا الإناء، فإنّ السّبب فی هذا الشک هو الشک فی طهارته، إذ النجاسة سبب لحرمة الشرب والطّهارة سبب لحلیّته، فإذا سقط الأصلان _ فی الملاقی والطرف _ بالمعارضة، وصلت النوبة إلی أصالة الطّهارة فی الملاقی کما ذکر الشیخ. لکنّ هذا الأصل لیس بلا معارض، بل یعارضه أصالة الإباحة فی الطرف المسبّب عن أصالة الطّهارة فیه، وإذا کان کذلک، حصل العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی أو الطرف.

المناقشة:

وفیه: إنّ قاعدة تقدم الأصل السّببی علی المسبّبی مسلّمة، لکنْ لا سببیّة ومسبّبیّة بین أصالة الطّهارة فی الملاقی وأصالة الطّهارة فی الطرف، لکونهما فی مرتبةٍ واحدة، لکن الأصل فی الطرف فی مرتبة واحدة مع الأصل فی الملاقی، وإذا تعارضا تساقطا، ولمّا کان الساقط لا یعود، فإنّ الأصل فی الملاقی بلا معارض.

ص: 290

جواب آخر عن الاستدلال العقلی

وأجاب المحقّقون عن الإستدلال العقلی: بأنّ الشرط فی منجّزیّة کلّ منجِّزٍ أنْ لا یکون المورد منجَّزاً بمنجِّز غیره، فلو کان منجَّزاً من ذی قبل بأنْ قام الدلیل علی إستحقاق العقاب علی التکلیف، لم یتنجّز ثانیةً، للزوم تحصیل الحاصل.

وبعبارة أُخری: فإن کلّ تکلیفٍ قامت الحجّة علیه وصار مورداً لاستحقاق العقوبة، فهو غیر قابل لأنْ یتنجَّز ثانیةً، ولهذا قالوا: المنجَّز لا یتنجّز.

وعلی هذا، فإنّ المفروض تنجّز التکلیف الموجود بین الطرفین بالعلم الإجمالی، فالطّرفان منجَّزان به، فلو لاقی الشیء أحد الطرفین وحصل العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی أو الطّرف، فإنّ هذا العلم سوف لا یتنجّز فی الطرف، لفرض تنجّزه بالعلم الإجمالی الأوّل، وحینئذٍ، یکون الملاقی مشکوک التنجّز فیجری فیه الأصل بلا معارض.

هذا ما ذکره المحقّقون: المیرزا والإصفهانی والعراقی(1).

المناقشة:

قال الأُستاذ: وفی القاعدة التی ذکروها من أنّ «المنجّز لا یتنجّز ثانیاً» تأمّل، فمن الجائز قیام الطّریقین _ کالإقرار والبیّنة _ علی أمرٍ، فیحتجّ علی الشخص بالبیّنة وبإقراره بحق الغیر مثلاً، بمعنی أنّ کلاًّ من الحجّتین مؤثّر عقلاءً، ویمکن أنْ یعاقب الشخص إستناداً إلی إقراره والبیّنة القائمة علی الجرم الصّادر منه، فالمقصود أنّ کلاًّ منهما مصحّح لمؤاخذته، لا أن یقام البیّنة علیه بعد إقراره حتی

ص: 291


1- 1. أجود التقریرات 3 / 445، نهایة الأفکار 3 / 360، نهایة الدرایة 4 / 282.

یکون تحصیلاً للحاصل أو یلزم تعدّد العقاب.

تفصیل السیّد الخوئی

ثمّ إنّ المحقّق الخوئی قد فصّل فی المقام، فذکر أنّ عدم مؤثریة العلم الإجمالی الثانی إنّما هو فیما لو لم یکن الطرف _ أی عِدل الملاقی _ مجری لأصلٍ طولی سلیم عن المعارض، کما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءین ثمّ لاقی أحدهما شیء.

وأمّا إذا کان للطرف أصل طولی، کما إذا علمنا بنجاسة مردّدة بین الثوب والماء، ثمّ لاقی الثوب شیء آخر، ففی هذه الصّورة، تسقط أصالة الطّهارة فی الطرفین للمعارضة وتبقی أصالة الحلّ فی الماء بلا معارض، لعدم جریانها فی الثوب فی نفسها، فیقع التعارض حینئذٍ بین أصالة الطّهارة فی الملاقی وأصالة الإباحة فی الماء، للعلم بأنّ الملاقی نجس أو أنّ الماء حرام شربه، وبعد تساقط الأصلین یکون العلم الإجمالی بالنسبة إلی الملاقی منجّزاً فیجب الإجتناب عنه.

التحقیق فی المقام و یقع فی مقامین
اشارة

التحقیق فی المقام:

والتحقیق أن یقع البحث فی مقامین:

الأوّل: فی أنّ العلم الثانی مؤثر أوْ لا؟.

الثانی: فی تفصیل السیّد الخوئی.

ص: 292

المقام الأوّل

مقدّمةٌ:

إنّ الملاک فی منجّزیّة العلم الإجمالی للأطراف ماذا؟

إذا قام العلم الإجمالی علی وجود النجس فی الشّبهة المحصورة، فإنّه حجّة عقلیّة قائمة علی الجامع بین الطرفین، ولا یعقل أن یسری إلی الأطراف أنفسها، فتنجّز الأطراف لیس من جهة العلم، بل هو من جهة قاعدة الإشتغال، وإنّما العلم سبب لجریان هذه القاعدة، فتکون القاعدة منجّزة للإجتناب عن کلّ طرفٍ، مقدّمةً للفراغ الیقینی.

والحاصل: إنّ المنجِّز للجامع هو العلم، وللأطراف هو قاعدة الإشتغال الناشئة من العلم الإجمالی.

وبعد هذه المقدّمة نقول:

إنّه قد تسبّب العلم الإجمالی الأوّل لاشتغال الذمّة بالنسبة إلی الملاقی وطرفه، فکانت قاعدة الإشتغال مقتضیة للإجتناب عن الطرف والملاقی حتی یحصل الفراغ، وحینئذٍ، لا یعقل أن یکون العلم الثانی مؤثّراً نفس الأثر فی الطرف، أی أنْ یوجب الإشتغال بالنسبة إلیه، لتحقّق الإشتغال بالعلم الإجمالی الأوّل، وإذا انتفی ذلک لعدم تعقّل الإشتغال مرّة أُخری، کان الأصل بالنسبة إلی الملاقی جاریاً بلا معارض.

لا یقال: العلم الإجمالی أفاد الإشتغال حدوثاً، لکنّ العلم الإجمالی الثانی یشارکه فی الإشتغال والتنجّز بقاءً، وما المانع من ذلک؟

ص: 293

لأنّا نقول: العلم الإجمالی الثانی متأخّر عن الأوّل بمناط العلیّة والمعلولیّة، لأنّ العلم بنجاسة الملاقی أو الطرف، معلول للعلم بنجاسة الملاقی والطرف. ومع التقدّم والتأخّر _ وأنّه لا ینزل ذاک ولا یترقی هذا _ یستحیل أن یکونا شریکین فی التنجیز، لأنّ الإشتراک یتوقّف علی کون الشیئین فی مرتبة واحدة، بأنْ یکونا جزئین للعلّة الواحدة، وإذا أثّر العلم الأوّل أثره، فلا یبقی مجالٌ لتأثیر الثانی نفس الأثر. نظیر ما إذا علم فی اللّیل بفوت إحدی الصّلاتین إمّا العصر وإمّا المغرب، فإنّ الذمّة مشغولة بإحداهما، لکنّ الإشتغال بالمغرب یقینی لکون الشک فی اللّیل، فتجری فیها القاعدة، ویکون الشک فی العصر بدویّاً.

المقام الثانی

توضیح التفصیل: إنّه لو حصل العلم الإجمالی بوجود النجس بین الإناءین فلاقی شیء أحدهما، فإنّ الملاقی محکوم بالطّهارة، لأنّ أصالة الطّهارة فی الطرفین یسقط بالمعارضة، وأیضاً یسقط بتبعهما أصالة الحلّ فی الطرفین، وتبقی أصالة الطّهارة فی الملاقی بلا معارض.

ولکنْ قد یکون العلم بین طرفین أحدهما الثوب والآخر الماء، فإذا لاقی الثوب شیء، فإنّ أصالة الطّهارة فی الثوب تتعارض مع أصالة الطّهارة فی الماء فیتساقطان، لکنْ فی طول هذا الأصل بالنسبة إلی الماء یوجد أصالة الإباحة، ولا یوجد هذا الأصل فی طول أصالة الطّهارة فی الثوب، فلو أُرید إجراء أصالة الطّهارة فی الملاقی، کان أصالة الإباحة فی الماء معارضاً له، وحینئذٍ، یجب الإجتناب عن الملاقی.

ص: 294

أقول:

إنّ مبنی هذا التفصیل هو: إنّ تنجیز العلم الإجمالی یدور دائماً مدار سقوط الأصل والقاعدة فی الطرفین علی أثر المعارضة وعدم وجود المرجّح لأحدهما علی الآخر، وأمّا لو کان لأحد الأصلین مرجّح فإنّه سیجری بلا معارض.

وفیما نحن فیه: قد سقط أصالة الطّهارة فی الطرفین للمعارضة وعدم المرجّح، لکنّ أصالة الإباحة فی الماء مشکوک فی سقوطها، ومع الشک تکون جاریةً. فلو علم بنجاسة الثوب أو الماء وجب الإجتناب عن الثوب فی الصّلاة وعن الماء فی الوضوء، لسقوط أصالة الطّهارة فیهما، ولکنّ شرب هذا الماء جائز لعدم المعارض لأصالة الإباحة.

وهذا المبنی مردود کما سیأتی.

هذا تمام الکلام فی الصّورة الأُولی.

الصّورة الثانیة وهی علی ثلاثة أقسام
اشارة

ذکرها المحقّق الخراسانی:

الأوّل: أن یحصل العلم بنجاسة أحد الطرفین ثمّ تحصل ملاقاة الشیء الثالث مع أحدهما ویحصل العلم بها.

وهنا قد تحقّق بالعلم الإشتغالُ الیقینی ووجب الإجتناب عن الطرفین، ومع الإجتناب عن کلیهما یحصل الفراغ الیقینی، وأمّا الملاقی فلا یجب الإجتناب عنه وإنْ کان بینه وبین الملاقی ملازمة فی الحکم، لأنّ العلم قد تعلّق بالطرفین لا أکثر،

ص: 295

وبالإجتناب عنهما یتحقّق الإمتثال.

الثانی: أن یحصل العلم بنجاسة أحد الطرفین، ثمّ تقع الملاقاة بین الشیء الثالث وأحدهما، ویحصل العلم بنجاسة الملاقی أو الطّرف.

وهنا یجب الإجتناب عن الملاقی والطّرف دون الملاقی، وإنْ کانت النجاسة فی الملاقی معلولة للملاقاة معه إنْ کان هو النّجس، ومع الإجتناب عنهما، یقع الشک فی التکلیف بالنسبة إلی الملاقی، ویجری الأصل فیه بلا معارض.

الثالث: أن یحصل الملاقاة لأحد الإناءین الموجود بینهما النجاسة، ثمّ یحصل العلم بالنجاسة والملاقاة.

وهنا ثلاثة أطراف، الملاقی والملاقی والطّرف، فإمّا النجس هو الملاقی والملاقی وإمّا هو الطّرف، فالثلاثة متعلَّق العلم. والمختار عنده هنا: وجوب الإجتناب عن الملاقی، خلافاً للشیخ _ وتبعه المیرزا _ إذْ قال بعدم وجوب الإجتناب عنه.

دلیل القول بعدم الإجتناب فی القسم الأوّل

واستدلّ للقول بعدم وجوب الإجتناب بأنّ: نجاسة الملاقی ووجوب الإجتناب عنه فی طول نجاسة الملاقی ووجوب الإجتناب عنه، لتخلّل الفاء، وهذه الطولیّة معناها کون الشک فی نجاسة الملاقی مسبّباً عن الشکّ فی نجاسة الملاقی، ومع فرض جریان الأصل فی المسبّب لا یکون الأصل جاریاً فی السّبب، ولمّا کان المفروض جریانه فی الملاقی لا یبقی الشک فی المسبّب.

ولکنّ الأصل _ أصالة الطّهارة _ لمّا جری فی الملاقی وتعارض مع الأصل

ص: 296

فی الطرف وتساقطا، یتحقّق الشک فی الملاقی من حیث الطّهارة والنجاسة، فتجری فیه أصالة الطّهارة، لوجود المقتضی _ وهو الشک _ وعدم المانع وهو الأصل فی السّبب، فإنّه قد ارتفع بالتساقط مع أصل الطرف علی أثر التعارض.

دلیل القول بالاجتناب فی القسم الأوّل

واستدلّ للقول بوجوب الإجتناب عن الملاقی بما حاصله: وجود المانع عن جریان الطّهارة فی الملاقی، وإنْ کان المقتضی موجوداً. توضیحه:

إنّ جریان الأصل فی الملاقی یتوقّف علی وجود المقتضی وهو الشک، وعدم المانع وهو الأصل المعارض. أمّا المقتضی وهو الشک فی طهارة الملاقی ونجاسته فموجود ولا یمکن نفیه. إنّما الکلام فی المانع، فنقول:

صحیحٌ أنّ الأصل فی الملاقی متأخّر عن الأصل فی الملاقی، للسببیّة والمسبّبیّة فیما بینهما، ولکنّه مع الأصل فی الطّرف فی مرتبةٍ واحدةٍ، وحینئذٍ یتعارض هذان الأصلان، فیجب الإجتناب عن الملاقی. والوجه فی کونهما فی مرتبةٍ واحدة هو عدم الملاک للتأخّر والتقدّم فیما بینهما(1)، إذ لیس النجاسة فی الطّرف سبباً للشک فی نجاسة الملاقی، ولا هی موضوع للحکم بها فیه، فهما فی مرتبةٍ وعرضٍ واحدٍ، فیکون العلم الإجمالی هو المانع عن جریان الأصل فی الملاقی، وهو الأصل فی الطرف.

ص: 297


1- 1. ملاک التقدّم والتأخّر فی المرتبة أحد أمرین: أحدهما: العلّیّة والمعلولیّة أو السّببیّة والمسبّبیّة. والآخر: الموضوعیّة والمحمولیّة.

وحاصل الکلام: إنّ الأصل فی الطرف کما یعارض الأصل فی الملاقی یعارض الأصل فی الملاقی لوحدة المرتبة.

المناقشة والجواب

المناقشة:

ویناقش هذا الإستدلال بما حاصله: أنّ الأصل فی الطرف قد سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، فکیف یعارض الأصل فی الملاقی، لأنّ السّاقط لا یعود؟

الجواب:

ویجاب: بأن حقیقة التعارض هو أنْ یکون المقتضی للجریان فی کلّ طرفٍ موجوداً، ویکون کلّ واحد منهما مانعاً عن جریان الآخر، لکنّ التعارض من أحکام الزمان لا من أحکام المرتبة، والأصول فی الملاقی والملاقی والطرف وإنْ کانت مختلفةً فی المرتبة، لکنّها فی الزمان الواحد ولیس بینها تقدّم وتأخّر زمانی، وعلی هذا، فإنّه یوجد الشک فی طهارة ونجاسة الملاقی والطّرف، فالموضوع لجریان الأصل فیهما موجود، ولکنّ جریانه فی کلیهما یستلزم المخالفة القطعیّة، إذنْ، لا یجری لا فی هذا ولا ذاک، وهذا معنی التعارض.

إنّ التعارض هو عدم جریان الأصل فی الطرفین، للزوم المخالفة القطعیّة مع العلم الإجمالی، وهذا معنی سقوط الأصلین، ولیس معنی السقوط هو إنعدام الأصل، بل المقصود قصور الأصل عن الشمول للطرفین.

ص: 298

ثمّ لمّا نلحظ الحالة فی الملاقی، نجد الموضوع _ وهو الشک فی الطّهارة والنجاسة _ موجوداً، وهو أیضاً موجود فی الطّرف بالوجدان، وإذا کان الموضوع موجوداً فی الطّرفین، یقع التعارض کذلک، لمانعیّة العلم الإجمالی، وإلاّ تلزم المخالفة القطعیّة.

وتلخص: إندفاع الشّبهة وتمامیّة القول الثانی، وأنّ الأصل یسقط فی الأطراف الثلاثة.

ومن هنا یظهر ما فی کلام مصباح الأُصول، فإنّه قد اختار هذا القول هنا، وأنّ الأصل یسقط فی الملاقی والملاقی والطرف، ولکنّه فی دوران أمر النجاسة بین الماء والتراب قال بوجود الأصل الطّولی فی طرف الماء _ وهو أصالة الإباحة _ ووقوع المعارضة بین هذا الأصل وأصالة الطّهارة فی الملاقی. فإنّ الجمع بین القولین محال، إذ لا فرق بین المسألتین، فکیف یقول هنا بسقوط الأصل فی الثلاثة معاً، ویقول هناک بوجود الأصل الطّولی؟

وبعبارة أُخری: إنْ کان اختلاف المرتبة مؤثّراً، ففی المسألتین، وإنْ لم یکن فکذلک. والتفصیل بلا وجه.

هذا تمام الکلام فی القسم الأوّل من الصّورة الثانیة، وهو ما إذا کان زمان المعلوم بالإجمال متّحداً مع زمان الملاقاة.

القسم الثانی من الصورة الثانیة، و فیه قولان

القسم الثانی من الصّورة الثانیة

أنْ یکون العلم بالنجاسة متأخّراً عن زمان حصول النجاسة والملاقاة، ولکنّ

ص: 299

الملاقاة متأخّرة زماناً عن المعلوم بالإجمال وهو النجاسة. کأنْ علم یوم السّبت بتحقّق النجاسة فی أحد الإناءین فی یوم الخمیس، ثمّ حصل الملاقاة یوم الجمعة بین الشیء الثالث وأحدهما.

وهنا قولان:

أحدهما: إنّ المتّبع هو العلم.

والثانی: إنّ المتّبع هو الواقع المعلوم بالإجمال.

بیان القول الأوّل

إنّ المعلوم هو نجاسة أحد الإناءین فی یوم الخمیس، والعلم قد تحقّق فی یوم السبت، وهذا العلم یکون مؤثّراً بالنسبة إلی الملاقی والطّرف، وأمّا الملاقاة فقد حصلت فیما بعد، فالتکلیف بالنسبة إلی الملاقی مشکوک فیه، فهو مجری الطّهارة.

بیان القول الثانی

إنّ الأحکام الواقعیّة تابعة للواقع، ولا دخل للعلم والجهل فیها، بخلاف الأحکام الظاهریّة، فإنّ الموضوع فیها هو الجهل والشک، والأحکام العقلیّة تدور مدار العلم وقیام الحجّة.

فظهر أنّ الحکم الشرعی علی قسمین، والأحکام العقلیّة تقابل الأحکام الشرعیّة. فهذه مقدّمة.

والمقدّمة الأُخری هی: إنّ الحکم مطلقاً لا یتخلّف عن موضوعه، فلا یتقدّم علیه ولا یتأخّر عنه.

ص: 300

وعلی ما تقدّم، فإنّ نجاسة الملاقی واقعاً تدور مدار الملاقاة، بلا دخل للعلم والجهل، فإنّ الملاقاة سبب لنجاسة الملاقی، وهی حکم واقعی یترتّب علی موضوعه ولا یتخلّف عنه، ونجاسة الملاقی متأخرة عن المعلوم بالإجمال، وهو الملاقاة.

هذا بالنسبة إلی الحکم الواقعی.

وأمّا بالنسبة إلی الحکم الظاهری، فإنّ موضوعه الشک، والمفروض أنّه قبل یوم السّبت لا شک بالنسبة إلی نجاسة أحد الإناءین والملاقاة، فلمّا علم یوم السّبت بنجاسة أحد الإناءین فی یوم الخمیس، وبالملاقاة یوم الجمعة، حصل له ثلاثة شکوک تتعلّق بکلّ طرفٍ، فتحصّل الحکم الظاهری فی یوم السبت لتحقّق موضوعه وهو الشک، ولمّا کان تحقّق الموضوع فی زمانٍ واحدٍ، فإنّ الحکم یترتّب علیه، ویقع التعارض بین الثلاثة _ وإنْ کان زمان الملاقاة متأخّراً _ لأنّ جریان قاعدة الطّهارة فی کلّ واحدٍ دون الآخر ترجیح بلا مرجّح، فیکون الإجتناب عنها واجباً.

وأمّا الحکم العقلی، فهو التنجیز، لأنّ موضوعه _ کما تقدّم _ قیام الحجّة وهو العلم المفروض تحقّقه یوم السّبت.

والحاصل: إنّ الحکم الظاهری الشرعی والحکم العقلی لا یدوران مدار الواقع، بل الأوّل یدور مدار الموضوع وهو الشک، والثانی یدور مدار الحجّة وهو العلم.

هذا، والسیّد الخوئی کان یقول هنا بجریان الأصل فی الملاقی، ثمّ عدل عن

ص: 301

ذلک فی الدورة الثانیة، لما ذکرنا فی وجه وجوب الإجتناب عنه، وحاصله: أنّ الحکم العقلی یدور مدار الحجّة لا الواقع.

وبما ذکرنا یظهر أنّ الحق هو القول الثانی.

الصّورة الثالثة

أن یکون العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین بعد الملاقاة وقبل العلم بالملاقاة.

وفیها قولان کذلک.

دلیل وجوب الإجتناب

استدلّ للقول بوجوب الإجتناب عن الملاقی: بأنّ العلم الإجمالی مؤثر فی التنجیز والعلم منجّز حدوثاً وبقاءً ما دام موجوداً. وفیما نحن فیه: قد علم بنجاسة أحد الطّرفین قبل العلم بالملاقاة، فکان منجّزاً للطرفین، ولکنْ بعد العلم بالملاقاة یکون العلم متعلّقاً بثلاثة أطراف، فالعلم فی مرحلة الحدوث کان ذا طرفین، وفی مرحلة البقاء أصبح ذا ثلاثة أطراف فیکون منجّزاً بالنسبة إلی الملاقی کالطرفین.

والحاصل: لو علم بوقوع النجاسة إمّا فی الإناء الکبیر أو الإناء الصّغیر، ثمّ انقلب العلم إلی أنّ النجاسة إمّا فی الکبیر وإمّا فی أحد الصغیرین، فإنّ مقتضی القاعدة هو الأخذ بمنجّزیّة العلم الثانی.

ص: 302

دلیل عدم وجوب الإجتناب

واستدلّ للقول الثانی: بأن العلم الإجمالی بین الطرفین لمّا حَصَل، تحقّق التکلیف، والمناط عند العقل هو العمل بالتکلیف الذی قامت علیه الحجّة، فبمجرّد قیامها _ وهی هنا العلم _ یتمّ التنجیز، وتخلّف التنجیز عن العلم محال، وقد تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الطرفین. وأمّا الملاقاة، فلم یقم علیها العلم، وإنّما هی فی الواقع، وقد تقدّم سابقاً أنّه لیس الواقع هو الملاک للحکم العقلی ولا أثر له.

والحاصل: إنّ التکلیف الذی حصل الإشتغال به هو الإجتناب عن الطرفین فقط، والإشتغال یستحیل إنفکاکه. ثمّ لمّا حصل العلم بالملاقاة، فإنّه لمّا کان بین الملاقی والملاقی سببیّة، فلابدّ من أنْ یکون الملاقی نجساً، وبذلک یکون متعلّق هذا العلم ذا أطراف ثلاثة، لکن هذا العلم الثانی یستحیل أنْ یکون منجّزاً بالنسبة إلی الملاقی، بأنْ یکون طرفاً للإناء الکبیر، لأنّ الإناء الکبیر قد تنجّز العلم بالنسبة إلیه وحَصَل الإشتغال بوجوب الإمتثال فیه، والمتنجّز لا یتنجّز ثانیاً، فیبقی الأصل فی الملاقی بلا طرفٍ.

والحاصل: إنّه وإنْ تعدّد العلم فتعدّدت الحجّة، لکنّ الإشتغال لا یتعدّد، فلا یجب الإجتناب عن الملاقی، لأنّ الإجتناب عن الطّرف _ وهو الإناء الکبیر _ قد وجب بالعلم الأوّل، فیبقی الأصل فی الملاقی بلا طرفٍ.

هذا تمام الکلام فی دوران الأمر بین المتباینین.

ویقع الکلام فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر.

ص: 303

ص: 304

دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر

اشارة

ص: 305

ص: 306

لو شک فی المکلّف به، ودار الأمر بین أمرین یمکن الإجتماع بینهما فی الوجود، کما لو علم بوجوب الصّلاة، وتردّدت بین أن تکون ذات عشرة أجزاء أو أحد عشر جزءً، فما هو التکلیف والوظیفة الشرعیّة؟

الفرق بین دوران الأمر بین المتباینین والأقلّ والأکثر

فظهر الفرق بین دوران الأمر بین المتباینین وبین الأقلّ والأکثر، وأنّه یمکن الإحتیاط فی الأقلّ والأکثر، دون المتباینین إلاّ بالإتیان بکلا الطرفین مثل القصر والإتمام.

هذا من حیث الکبری.

نظریة العراقی والکلام حولها

وأمّا الصّغری، فقد ألحق المحقّق العراقی(1) دوران الأمر بین الطبیعی والحصّة بدوران الأمر بین المتباینین، والوجه فی ذلک هو: أنّ الطبیعی یقبل

ص: 307


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 373.

الإنطباق علی الحصّة، کانطباق الإنسان علی زید وغیر زید.

والتحقیق أنّه ملحق بدوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، وذلک، لأنّ المناط فی الأقلّ والأکثر أن یکون الأقلّ لا بشرط بالنسبة إلی حدّ الأقلیّة وحدّ الأکثریّة، فلو کان الأکثر مقیّداً بحدّ الأقلیّة، تقیّدت الطبیعة بالأقلّ وأصبح الأقلّ مبایناً للأکثر، وهکذا لو تقیّد الأقلّ بقید الأقلیّة.

إنّ حقیقة دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر هو: دورانه بین العشرة الأجزاء لا بقیدٍ عن الأکثر، والعشرة مقیّدةً بالحادیعشر، وحینئذٍ، ینطبق أحدهما علی الآخر. وعلیه فیرد علی المحقّق العراقی:

النقض، بأنّکم تقولون فی البسیط المقول بالتشکیک إذا تعلّق به التکلیف کالأعراض من البیاض ونحوه، بأنّه من قبیل الأقلّ والأکثر، فلو تعلّق التکلیف بالبیاض وشُک بأنّ المطلوب عبارة عن البیاض لا بشرط أو بشرط الشدّة، کان من الأقلّ والأکثر، فعلی القول بالإشتغال وجب الإمتثال بالبیاض المقیَّد بالشدید، وعلی القول بالبراءة کفی الإتیان بالطبیعة اللاّبشرط، وکذا الأمر فی الإجتهاد والعدالة والتقوی ونحو ذلک مما یقبل الشدّة والضّعف.

وما الفرق بین البیاض والإنسان، فإن وزان طبیعة الإنسان بما هی طبیعة، وزان البیاض بما هو بیاض، ووزان الإنسان مقیّداً بکونه زیداً وزان البیاض مقیّداً بالشدّة.

والحلّ، وهو ما أشرنا من أنّ الملاک فی الأقلّ والأکثر هو أن نشکّ فی کیفیّة التکلیف فی مرحلة لحاظ المولی لموضوع تکلیفه، بأنْ یتردّد بین طرفین قد أُخذ

ص: 308

الموضوع فی أحدهما مع خصوصیّةٍ بنحو البشرط بها، وفی الآخر بنحو اللاّبشرط بالنسبة إلیها، کمثال دوران أمر الصّلاة بین العشرة أجزاء لا بشرط عن السّورة والعشرة أجزاء بشرط السّورة، ودوران الأمر بین إکرام الإنسان لا بشرط عن خصوصیّة الزیدیّة وإکرامه بشرط تلک الخصوصیّة. وهکذا فی مثال البیاض والإجتهاد ونحوهما، فإنّ «الإنسان» و«البیاض» وغیرهما یقبل الإنطباق علی الخصوصیّة، وکلّما کان من هذا القبیل فهو من دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر.

نظریة المحقّق صاحب الحاشیة والکلام حولها

وقال المحقّق صاحب الحاشیة(1): بأن الأقلّ والأکثر یندرج تحت کبری المتباینین.

والوجه فی ذلک هو:

إنّ أقسام إعتبار الماهیّة متقابلات متباینات، فإنّ الماهیّة _ بقطع النظر عن اللاّبشرط المقسمی الجامع بین الأقسام _ قد تعتبر بشرط لا، وقد تعتبر بشرط شیء، وقد تعتبر لا بشرط وهو القسمی، وهذه الإعتبارات متقابلة. فکما أنّ النسبة بین البشرط شیء وبشرط لا هی التباین، کما فی القصر والإتمام، حیث أنّ الأوّل بشرط لا عن الرکعتین والثانی بشرط، کذلک النسبة بین اللاّبشرط والبشرط، لأنّ اللاّبشرط الأقلّ یلحظ بنحو الإطلاق عن الزیادة، والإطلاق والتقیید بالزیادة متباینان.

ص: 309


1- 1. هدایة المسترشدین: 175 _ 176.

وحاصل هذا الإشکال هو الإحتیاط فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر وبطلان البراءة.

الجواب:

ویتوقّف الجواب عن هذه النظریّة علی فهم حقیقة الإطلاق، وأنّ الإطلاق یکون فی لحاظ المولی أو فی متعلّق الحکم؟

لا شک فی أنّ المولی غیر مهملٍ لخصوصیّات موضوع الحکم، لأنّها إمّا دخیلة فی الغرض وإمّا غیر دخیلة، وعلی کلّ حالٍ، فإنّ الخصوصیّات ملحوظة له، فإمّا یعتبرها لدخلها فی الغرض، وإمّا هی غیر دخیلة فیرفضها. والنتیجة هی: إنّ التقیّد یدخل تحت الطلب، وأمّا الإطلاق لیس بداخلٍ.

توضیح ذلک: تارةً: یکون خصوصیّة الإیمان فی الرقبة دخیلة فی الغرض، فهنا یکون الملحوظ تقیّد الرقبة، ویتعلّق الحکم بالرقبة مع التقیید بها، فیقول: أعتق رقبة مؤمنةً، وأُخری: لا یکون لوجود الإیمان وعدمه دخل فی الغرض من الحکم، فهو یلحظ ذلک فی مقام الجعل ولا یأخذ شیئاً منهما، وهذا هو الإطلاق فی مرحلة الجعل.

وعلی الجملة، فإنّ الحاکم فی مقام الجعل غیر مهملٍ للخصوصیّات، فإمّا الدخل وإمّا عدمه، فعلی الأوّل: یکون التقیّد داخلاً تحت الطلب فیقول أعتق رقبةً مؤمنةً، وعلی الثانی: لا یدخل فیقول: أعتق رقبةً، فالإطلاق یرجع إلی مقام الجعل لا إلی مقام متعلّق الحکم، والتقیید یرجع إلی متعلّق الحکم.

وعلیه، فإنّ التباین یکون فی مرحلة اللّحاظ، لأنّ الذات _ وهی الرّقبة _

ص: 310

دخلت تحت الحکم، وهی إمّا مع الإیمان وإمّا لا، فهی موجودة مع الإیمان والکفر، فکان التباین بین البشرط واللاّبشرط فی مرحلة اللّحاظ، وکلّ منهما قسیم للآخر.

وأمّا بالنسبة إلی متعلّق الحکم، فقد عرفت أنّ الإطلاق خارج عن المتعلّق، لأنّ متعلّق الحکم هو نفس الذات، والذات تتّحد مع جمیع الخصوصیّات ولا تباین.

فظهر وقوع الخلط عند المحقّق صاحب الحاشیة، بین مقام اللّحاظ ومقام الجعل والإعتبار، ولا تباین فی مقام الجعل، ومن المعلوم أنّ البحث فی أنّ المورد مجری البراءة أو الإشتغال یتعلّق بمقام الجعل والتکلیف لا بمقام اللّحاظ.

مقدّمتان

1_ فی تقسیم الأقلّ والأکثر

إنّ الأقلّ والأکثر علی قسمین، الإرتباطیان والإستقلالیان، والکلام الآن فی الإرتباطیین.

قالوا: والفرق بینهما هو: وحدة الغرض فی الأوّل وتعدّده فی الثانی، مثال الأوّل: دوران أمر الواجب بین العشرة أجزاء والأحدعشر جزءً، ومثال الثانی: دوران الأمر فی الإکرام بین العشرة عالم والأحدعشر عالماً، فالغرض هناک واحد وهنا متعدّد.

وهذا بناءً علی تبعیّة الأحکام للملاکات، وأنّ الملاکات فی المتعلّقات، تامٌ

ص: 311

کما لا یخفی، وأمّا علی مبنی المنکرین للتبعیّة، وعلی مبنی أنّ الملاک فی نفس الأمر والنهی، فلا یتم.

فالصّحیح فی التفریق بین القسمین أن یقال: بأنّ المتعلّق فی الأقلّ والأکثر الإستقلالیین متعدّد وفی الإرتباطیین واحد، فالإطاعة والمعصیة تتعدّد فی الأوّل دون الثانی، وهذا یتم علی جمیع المسالک.

2_ هل البحث کبروی أو صغروی؟

هل البحث فی المقام کبروی أو صغروی؟ موضوعی أو حکمی؟

عندنا کبری: «الشکّ فی التکلیف مجری البراءة» وکبری «الشک فی المکلّف به مجری الإحتیاط». والبحث فی «الأقلّ والأکثر» الإرتباطیین یدور مدار البحث عن أنّ الشک هو فی التکلیف حتی تجری البراءة، أو فی المکلّف به حتی یجری الإشتغال؟

الأقوال فی الأقل والأکثر الإرتباطیین

واختلفت الأعاظم فی المسألة علی ثلاثة أقوال:

1_ البراءة عقلاً ونقلاً.

2_ الإحتیاط عقلاً ونقلاً.

3_ التفصیل بین حکم العقل وحکم الشرع.

ص: 312

أدلّة القول بالبراءة

اشارة

طریق الشیخ

ویستفاد من کلام الشیخ(1) للقول الأوّل وجهان:

الوجه الأوّل:
اشارة

إنحلال العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی بالنسبة إلی الأقلّ والشک البدوی بالنسبة إلی الأکثر.

توضیح ذلک:

إنّ موارد دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر علی قسمین، أحدهما: الدوران بین الأجزاء الخارجیّة، وهو المتعدّد وجوداً فی الخارج کأجزاء الصّلاة. والثانی: الدوران فی الأجزاء التحلیلیّة، وهو ما لیس له وجود فی الخارج. کما لو علم إجمالاً بتعلّق التکلیف بالعمل لا بشرط عن التقیّد بالترتیب أو بشرط الترتیب، فالأقلّ والأکثر الإرتباطی علی قسمین، والکلام فعلاً فی القسم الأوّل.

فإذا وقع الشک فی أنّ الواجب هو الصّلاة لا بشرط عن السّورة أو بشرط السّورة، یقول الشیخ بالبراءة عن السّورة، لأنّ الأقلّ معلوم وجوبه تفصیلاً، وهذا العلم بیانٌ، والأکثر مشکوک وجوبه فلا بیان بالنسبة إلیه، فتجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ص: 313


1- 1. فرائد الأصول 2 / 318.

وهذا هو الإنحلال العقلی. وذلک لأنّا نعلم بوجوبٍ نفسیّ مردّد بین الطرفین، مثلاً: لا ندری هل الواجب النفسی الصّلاة ذات الأجزاء العشرة أو الأحدعشر جزءً، فالعلم موجود والمتعلّق مردّد، لکنّ هذه الشّبهة تنحلّ بعلمٍ آخر، حیث یرتفع التردید فی المتعلّق، بل یعلم تفصیلاً بأنّه هو الأقلّ، لکنْ مع الجهل بأنّه بشرط الأکثر أو لا بشرطٍ عنه، فکان هو الواجب إمّا نفساً، إن کان فی الواقع عشرة أجزاء، وإمّا غیریّاً إن کان فی الواقع أحدعشر جزءً. فإذن یحصل العلم تفصیلاً بوجوب الأقلّ، وإنْ تردّد وجه الوجوب. وحینئذ، فالبیان بالنسبة إلی الأقلّ قائم، وأمّا الأکثر فمشکوک وجوبه.

هذا، ویمکن أنْ یکون کلام الشیخ ناظراً إلی رأی المحقّق صاحب الحاشیة القائل بأنّه لیس فی الأقلّ والأکثر الإرتباطیین طرفٌ متیقّن الوجوب، لأنّه إن کان الأکثر هو الواجب، فالأقلّ بحدّ الأقلیّة لیس بواجب أصلاً.

یقول الشیخ: بأنّ الأقلّ هو الواجب علی کلّ تقدیر، أی سواء کان وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً.

إشکال المحقّق الخراسانی ببرهانین

قال(1): الإنحلال فالبراءة محال، ببرهانین أحدهما: برهان الخلف، والآخر برهان إستلزام وجود الشیء لعدمه.

ص: 314


1- 1. کفایة الأصول: 364.
بیان البرهان الأوّل

لقد علمنا بإشتغال الذمّة إمّا بالأقلّ أو الأکثر، فالأکثر طرفٌ للإشتغال العقلی، فإن ارتفع احتمال الإشتغال بالأکثر حصل العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ علی أی تقدیر. ومعنی ذلک أن یکون التکلیف بالنسبة إلی الأقلّ منجّزاً، سواءً تعلّق بالأقل أو بالأکثر، لکنّ تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأقلّ علی کلّ تقدیر یتوقّف علی تنجّزه إنْ کان متعلّقاً بالأکثر، إذ یکون وجوب الأقلّ غیریّاً، وإنّما یکون وجوبه کذلک إن کان وجوب الأکثر نفسیّاً. فکان تعلّق التکلیف بالأقلّ علی أی تقدیر متوقّفاً علی تنجّزه بالنسبة إلی الأکثر، لکنّ فرض إنحلال العلم وإجراء البراءة عن الأکثر یستلزم الخلف.

وعلی الجملة: الإنحلال یتوقّف علی تنجّز التکلیف فی الأقلّ علی کلّ تقدیر، فیتوقّف علی تنجّزه بالنسبة إلی الأکثر، ومع تنجّزه بالنسبة إلی الأکثر، کیف تجری البراءة بالنسبة إلی الأکثر، لأنّ ما فرض منجّزاً لا یکون غیر منجّز وإلاّ یلزم الخلف؟

بیان البرهان الثانی

إنّ الإنحلال هو الإشتغال بالأقلّ والبراءة عن الأکثر، لکنّه فی ما نحن فیه یتوقّف علی تنجّز التکلیف بالأقلّ علی کلّ تقدیر کما تقدّم. لکن تنجّزه بناءً علی کون وجوب الأقلّ غیریّاً، یتوقّف علی کون الوجوب فی الأکثر _ وهو ذو المقدّمة _ منجّزاً، وإلاّ لم یکن منجَّزاً، لأنّ وجوب المقدّمة ناشئ من وجوب ذی المقدّمة.

ص: 315

وعلی الجملة: إنّه یکون الإنحلال متوقّفاً علی تنجّز التکلیف بالأقلّ علی کلّ تقدیر، وتنجّزه فیه علی تقدیر الغیریّة متوقّف علی تنجّزه فی الأکثر، ونتیجة ذلک أنّه یلزم من الإنحلال _ والبراءة عن الأکثر _ عدم الإنحلال وتنجّز الأکثر. فکان الإنحلال مستلزماً لعدم الإنحلال، والبراءة عن الأکثر مستلزمة لعدم البراءة عنه، وهذا هو المقصود هنا من لزوم عدم الشیء من وجوده.

جواب السیّد الخوئی عن کلا البرهانین

وقال المحقّق الخوئی: إنّ ملاک الإستحالة فی البرهانین واحد وهو: إنّ الإنحلال یتوقّف علی تنجّز التکلیف علی کلّ تقدیر، ومعه لا تنجّز بالنسبة إلی الأکثر، فیلزم الخلف، ومن فرض وجود الإنحلال عدمه.

والجواب عن کلیهما کلمة واحدة(1) وهی:

إنّ الإنحلال لا یتوقّف علی تنجّز التکلیف علی تقدیری تعلّقه بالأقل وتعلّقه بالأکثر، بل الإنحلال وتنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأکثر متنافیان لا یجتمعان، فکیف یکون متوقّفاً علیه؟ بل الإنحلال مبنی علی العلم بوجوب ذات الأقلّ علی کلّ تقدیر، أی علی تقدیر وجوب الأقلّ فی الواقع بنحو الإطلاق وعلی تقدیر وجوبه فی الواقع بنحو التقیید، فذات الأقلّ معلوم الوجوب، إنّما الشک فی الإطلاق والتقیید، وحیث أنّ الإطلاق لا یکون مجری للأصل فی نفسه علی ما تقدّم بیانه، فیجری الأصل فی التقیید بلا معارض، وینحلّ العلم الإجمالی

ص: 316


1- 1. مصباح الأصول: 431.

لا محالة. وهذا واضح لا غبار علیه، فلا یکون مستلزماً للخلف، ولا وجود الإنحلال مستلزماً لعدمه. وإنّما نشأت هذه المغالطة من أخذ التنجّز علی کلّ تقدیر شرطاً للإنحلال. وهذا لیس مراد القائل بالبراءة. انتهی.

وعلی الجملة:

إنّه لا یتوقّف الإنحلال علی تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأقلّ علی کلّ تقدیر، وإنّما یتوقّف علی العلم بالتکلیف فیه علی کلّ تقدیر، وهذا العلم حاصل، وبه یتمّ الإنحلال، وإذا حصل الإنحلال تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأقل. فکان التنجّز متوقّفاً علی الإنحلال لا الإنحلال علی التنجّز.

المناقشة

أجاب الأُستاذ:

أوّلاً: إنّ حقیقة الإنحلال هی تعیّن الإشتغال فی طرفٍ بعد أنْ کان مردّداً بین الطرفین بمقتضی العلم الإجمالی، کأن تقوم البیّنة _ مثلاً _ علی وجود النجاسة فی هذا الطرف، فإنّه لا یبقی العلم الإجمالی بل ینحلّ بالإنحلال الحکمی، أی یتعیّن وجوب الإجتناب والإشتغال بهذا الکلام فی الطرف الذی قامت علیه البیّنة، ویرتفع أثر العلم وهو الإشتغال عن الطرف الآخر.

وکذلک الحال فی الإنحلال الحقیقی.

وعلی الجملة، فإنّ الإنحلال مطلقاً هو تعیّن الإشتغال فی طرفٍ بعد تردّده بمقتضی العلم بینه وبین الطرف الآخر.

ص: 317

وإذا کان هذا حقیقة الإنحلال، فإنّه یرد الإشکال بأنّ تنجّز التکلیف فی الأقلّ _ بناءً علی الوجوب الغیری _ یتوقّف علی تنجّزه فی الأکثر، وإذا کان التکلیف فی الأکثر منجّزاً، فإنّ إجراء البراءة عنه خلف، ویلزم من إنحلال العلم وإجراء البراءة فیه عدم إنحلال العلم.

وثانیاً: ما هو المنجِّز لأصل الوجوب؟ إنّ العلم الإجمالی مردّد بین الأقلّ والأکثر، والعلم التفصیلی قد تعلّق بالأقل، ولکنّه مردّد بین النفسی والغیری، فلا منجّز للتکلیف أصلاً، لأنّ المفروض إنحلال العلم الإجمالی وعدم بقائه حتی یکون منجّزاً.

الإشکال الثانی علی إستدلال الشیخ

وأشکل علی الشیخ أیضاً: بأنّ إتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری غیر ثابت بل الثابت خلافه، لأنّ الوجوب ناشئ من توقّف وجودٍ علی وجودٍ آخر، ولیس وجود المرکب غیر وجود الأجزاء، بل وجوده عین وجودها، والفرق بینهما باللّحاظ والإعتبار فقط.

وأیضاً: لو أنکرنا الوجوب الغیری للمقدّمة، بطل إستدلال الشیخ.

وأیضاً: لابدّ من الإلتزام بأنّ العلم التفصیلی الجامع بین الوجوب النفسی والغیری یوجب إنحلال العلم الإجمالی بالوجوب النفسی. وبعبارة أُخری: أن ینحلّ العلم الإجمالی الأوّل بالعلم التفصیلی، وکیف یمکن ذلک؟

ثمّ إنّ اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری، یتوقّف علی أن تکون الأجزاء

ص: 318

مقدّمةً لتحقّق الکلّ، ولولا ذلک لم یتّصف الجزء بالوجوب الغیری. وهذه المقدمیّة متوقّفة علی أمرین:

أن یکون بین الأجزاء والکلّ إثنینیّة وغیریّة، فلو کانت الأجزاء عین الکلّ لم تکن واجبةً بالوجوب الغیری.

أقول:

قال الأُستاذ: والحق هو التعدّد والإثنینیّة، لأنّ الأجزاء لیست عین الکلّ بل الأجزاء لا بشرط إلی الإنضمام، والکلّ بشرط الإنضمام، فهما متغایران، غیر أنّ هذا التعدّد لیس فی الوجود، لأنّ الذات المقیّدة لیست فی الوجود منحازة عن القید، بل أنّهما متعدّدان فی اللّحاظ.

وأمّا مقدمیّة الأجزاء للکلّ، فقد قسّم جمهور الفقهاء والأصولیین المقدّمة إلی المقدّمة الداخلیّة والمقدّمة الخارجیّة، وقد جعلوا الداخلیّة هی الأجزاء.

وما هو ملاک المقدّمیّة؟

إنّ «المقدمیّة» عبارة عن کون الشیء «موقوفاً علیه»، وکلّ ما کان موقوفاً علیه فهو متقدّم علی الموقوف رتبةً، والنسبة هی نسبة العلّة إلی المعلول ولو بالعلیّة الناقصة. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إن تخلّل الفاء دلیلٌ علی الإثنینیّة والتقدّم والتأخّر الرتبی، فیصح القول: تحقّقت الأجزاء فتحقّق الکلّ، ولا یصح أن یقال: تحقّق الکلّ فتحقّقت الأجزاء. فالکلّ متفرّع علی الأجزاء ولا عکس، ویشهد بذلک إمکان وجود المقدّمة وعدم وجود ذی المقدّمة، بأن یوجد الجزء ولا یوجد الکلّ.

ص: 319

فثبت الإثنینیّة والمقدمیّة.

وهل یتعلّق الوجوب الغیری بالأجزاء؟

یقول الشیخ: بأنّ الجزء لا یقبل ذلک، للزوم اللّغویّة، لأنّ المفروض أن الکلّ متّصف بالوجوب کالصّلاة مثلاً، فلا معنی بعد وجوب الصّلاة لجعل الوجوب للسّورة والرکوع والسّجود.

فالتعدّد والإثنینیّة بین الأجزاء والکلّ موجود، والأجزاء قابلةٌ لأنْ تکون مقدّمة للکلّ، لکنّ الأجزاء لا تکون واجبةً بالوجوب الغیری، للزوم اللّغویّة عند الشیخ قدّس سرّه.

وعلی هذا یسقط هذا الوجه الذی ذکره الشیخ.

هکذا أفاد دام بقاه، وفی بعض مواضعه تأمّل.

التحقیق فی المقام

إنّ الوجه الذی ذکره الشیخ کان متوقّفاً علی تمامیّة أربعة أُمور:

ا_ أنْ تکون الأجزاء مقدّمة للکلّ، حتی تصلح لعروض الوجوب الغیری علیها.

2_ تمامیّة کبری الوجوب الغیری للمقدّمة، فلو قلنا بعدم وجود الملازمة بین وجوب المقدّمة ووجوب ذی المقدّمة، انتفی الوجوب الغیری للمقدّمة.

3_ قابلیّة الأجزاء _ بعد تمامیّة المقدّمیّة _ للإتصاف بالوجوب الغیری.

4_ أن یکون العلم بالوجوب النفسی المردّد بین الأقلّ والأکثر قابلاً

ص: 320

للإنحلال بالعلم التفصیلی بالوجوب المردّد بین النفسی والغیری.

أمّا الأمر الأوّل: فمبنیّ علی أن تکون المقدمیّة صادقةً لوجود التقدّم والتأخّر بین الموقوف والموقوف علیه، بأنْ یکون الکلّ متوقّفاً علی الأجزاء وهو متأخّر عنها، ومن هنا قسّموا المقدّمة إلی الداخلیّة والخارجیّة.

وأمّا الأمر الثانی، فقد قرّرنا _ فی بحث مقدّمة الواجب _ أنْ لیس هناک وجوبان أحدهما للمقدّمة والآخر لذی المقدّمة، بل إنّ الشوق إلی ذی المقدّمة یلازم الشوق بالنسبة إلی المقدّمة، وإذا أُمر بذی المقدّمة، فإنّ هذا الأمر یکون داعیاً للمکلّف لإیجاد المقدّمة التی یتوقّف علیها.

وبالجملة، فإنّ الأمر المتعلّق بذی المقدّمة کاف للإنبعاث إلی المقدّمة ولا حاجة إلی أمرٍ آخر.

هذا من حیث الکبری.

وأمّا من حیث الصغری، وهو الأمر الثالث، فإنّ الملازمة المذکورة إنّما تکون بین المقدّمة وذی المقدّمة الموجودین بوجودین، وأمّا إذا کانا موجودین بوجودٍ واحدٍ فلا تتحقّق الکبری ... والمفروض أنّ الأجزاء والکلّ وجودهما واحد، فلو وجبت الأجزاء _ مع وجوب الکلّ _ لزم اجتماع المثلین، لأنّه وإن کان الوجوب إعتباریّاً ولا مانع من اجتماع الإعتبارین، لکنّ کلّ اعتبارٍ فإنّه ناشئ عن الإرادة، وإذا کان الوجود واحداً لزم اجتماع الإرادتین علی المراد الواحد. وأیضاً: یلزم تعدّد الإنبعاث مع کون المبعوث إلیه واحداً.

وأمّا الأمر الرابع، فإنّه لا یعقل الإنحلال فی محلّ الکلام، لاختلاف متعلّق

ص: 321

العلمین، فالعلم الأوّل متعلّق بوجوبٍ نفسی، والعلم الثانی مردّد بین النفسی والغیری.

وتلخّص عدم تمامیّة الوجه الأوّل.

وکذلک لا یتمُّ الوجه الأوّل بناءً علی وجوب المقدّمة بالوجوب العقلی لا الشرعی، کما فی کلام صاحب الکفایة إذ قال: «شرعاً أو عقلاً»، سواء کان وجوب المقدّمة عقلاً بمعنی درک العقل أو حکمه _ علی الخلاف _ کما فی إستحقاق العقاب علی مخالفة ما قامت علیه الحجّة، أو کان بمعنی اللاّبدیّة العقلیّة، فإنّه إذا فرض مطلوبیة ذیالمقدّمة فلابدّ من الإتیان بالمقدّمة عقلاً.

والوجه فی ذلک هو: إنّه مع جریان البراءة شرعاً وعقلاً فی ذیالمقدّمة، لا معنی لوجوب المقدّمة بالوجوب العقلی بأیّ معنی، لأنّ الجمع بین لزوم الإتیان بالمقدّمة والبراءة عقلاً وشرعاً عن ذیالمقدّمة یستلزم الخلف. وأیضاً: یستلزم عدم الإنحلال من وجوب الإنحلال.

فالوجه الأوّل ساقط علی کلّ تقدیر.

الوجه الثانی:
اشارة

المستفاد من کلام الشیخ کذلک:

إنّ الأقلّ واجب یقیناً بالوجوب النفسی الجامع بین الوجوب الإستقلالی والوجوب الضمنی، إذ لو کان الواجب فی الواقع هو الأقلّ کان الأقلّ واجباً بالوجوب الإستقلالی، وإن کان الواجب کذلک هو الأکثر، کان الأقلّ واجباً

ص: 322

بالوجوب الضمنی، لأنّ التکلیف بالمرکب ینحلّ إلی تکالیف متعدّدة بالنسبة إلی کلّ واحدٍ من الأجزاء مشروطاً بلحوق التالی للسّابق.

وعلیه، فإنّه یکون التکلیف بالنسبة إلی الأقلّ معلوماً، والعقاب علی ترکه ثابتاً لقیام الحجّة علیه، وأمّا بالنسبة إلی الأکثر، فهو مشکوک فیه والعقاب علیه بلا بیان، فتجری البراءة العقلیّة.

وتلخّص: أنّ وجوب الأقلّ لیس غیریّاً حتی یرد ما ورد، بل هو نفسی علی تقدیر الإستقلالیّة أو الضمنیّة، وهذا التردّد غیر مضر.

توضیح السیّد الخوئی

وقد أوضحه فی مصباح الأصول(1): بأنّ محلّ الکلام فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر إنّما هو إذا کان الأقل متعلَّقاً للتکلیف بنحو اللاّبشرط القسمی، بمعنی أنّه لو علم بوجوب الأقلّ لم یکن الإتیان بالأکثر مضرّاً، بخلاف ما لو کان الأقلّ مأخوذاً علی نحو البشرط لا عن الأکثر، فإنّه یکون من دوران الأمر بین المتباینین، وهذا هو المیزان فی الفرق بین المسألتین.

وعلیه، فلو دار الأمر بین الأقلّ والأکثر، کان ذات الأقلّ معلوم الوجوب، غیر أنّه یشک فی أنّ الأقلّ مأخوذ بنحو الإطلاق عن الأکثر _ أی اللاّبشرط _ أو بنحو التقیید به _ أی البشرط _ فیکون الأقلّ واجباً علی کلّ تقدیرٍ، ولا معنی لجریان الأصل فیه لعدم الشک، بل الشک فی تقیّده بالأکثر، فتجری البراءة عنه.

ص: 323


1- 1. مصباح الأصول: 429.

قال: وقد ذکرنا مراراً أنّ تنجیز العلم الإجمالی موقوف علی تعارض الأصول فی أطرافه وتساقطها، وأنّه لو لم یجر الأصل فی أحد الطرفین فی نفسه فلا مانع من جریانه فی الطرف الآخر، فلا یکون العلم الإجمالی منجّزاً. وما نحن فیه من هذا القبیل، لما عرفت من أنّ الإطلاق توسعة علی المکلّف فلا تجری فیه البراءة. فتکون جاریةً فی طرف التقیید بلا معارض.

المناقشة

قال الأُستاذ: إنّ ما ذکر فی تقریب هذا الوجه، إنّما یتمّ فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر فی الأجزاء التحلیلیّة، کالشک فی وجوب الصّلاة مطلقاً أو مقیّداً بالطّهارة.

لکنّ الکلام فی الأجزاء الخارجیّة، فإن کان کلّ جزءٍ مشروطاً بالجزء الآخر، کأنْ یکون التکبیر مشروطاً بالقراءة بنحو الشرط المتأخّر، والقراءة مشروطة بالرکوع کذلک، فکان کلّ جزء مضیّقاً ومقیّداً بالآخر، تمّ ما ذکر، لأنّ لازم الأمر وجوب کلّ واحدٍ من الأجزاء.

لکنّ الکلام فی کیفیّة إعتبار الشارع، فهل وجب کلّ جزءٍ من أجزاء الصّلاة مشروطاً بالجزء اللاّحق له بنحو الشرط المتأخّر؟

إنّه إنْ کان کذلک _ بأن یوخذ الشّرط شرعاً علی نحو أنْ یکون وجوب التکبیر مقیّداً بلحوق القراءة، ووجوب القراءة مقیّداً بسبق التکبیر، فکلّ جزءٍ سابقٍ شرط مقدّم بالنسبة إلی الجزء اللاّحق، وکلّ جزءٍ لاحق شرط متأخّر للجزء السّابق _ یلزم المحال.

ص: 324

توضیح ذلک:

إنّ کلّ شرطٍ فهو متقدّم عقلاً علی المشروط فی الرتبة _ وإنْ کان بحسب الوجود الخارجی متأخّراً عنه _ ، لأنّ الشرط جزء للعلّة، وکلّ علّة فهی مقدّمة علی المعلول. وعلیه، فإذا کان مجیء الجزء اللاّحق شرطاً لوجوب الجزء السّابق، فإنّ سبق الجزء السّابق شرطٌ لوجوب الجزء اللاّحق، فیجتمع التقدّم والتأخّر فی کلّ جزءٍ، واجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد محال.

فظهر أنّ إشتراط کلّ جزءٍ بآخر شرعاً محال ثبوتاً.

فإنْ قیل: إنّه لابدّ من الإلتزام بالإشتراط، لأنّ الإهمال محال، والإطلاق منتف، فلابدّ من الإشتراط.

قلنا: فرق بین الإشتراط بمعنی التضییق القهری، والإشتراط الشرعی، وهنا التضییق موجود قهراً، لأنّ التکلیف بالکلّ یوجد التضییق فی کلّ جزءٍ بالنسبة إلی الآخر، ولا حاجة إلی الإشتراط من الشارع، وحینئذٍ، فلا تقدّم وتأخّر فیما بینها طبعاً، بل کلّها فی عرضٍ واحدٍ فی الوجوب، ویتقدّم الواحد علی الآخر زماناً.

هذا کلّه ثبوتاً.

وأمّا إثباتاً، فإنّ إشتراط أفراد الأجزاء بعضها ببعضٍ شرعاً بعد أنْ تعلّق الأمر بالکلّ، لغوٌ، لأنّ الأمر بالکلّ یستلزم تقیّد الأجزاء بعضها ببعضٍ، فلا حاجة إلی إعتبار التقیّد والإشتراط فی الأجزاء. نعم، فی مثل الموالاة والترتیب مثلاً، لا مناص من الإعتبار کما لا یخفی.

وتلخّص: عدم تمامیّة هذا الوجه ثبوتاً وإثباتاً، فلا مجال لجریان البراءة

ص: 325

بالنسبة إلی الأکثر بناءً علی هذا الوجه، لأنّ الإشتراط بین الأجزاء لم یکن من المجعولات الشرعیّة کی یحتمل إستحقاق العقاب حتی یتمسّک بقاعدة قبح العقاب لدفع الإحتمال. أو لحدیث الرفع، لأنّه إنّما یجری حیث یکون للشارع وضعٌ، والمفروض هنا عدمه.

طریق المحقق الاصفهانی

وذکر المحقق الإصفهانی(1) وجهاً آخر للإنحلال، وملخّصه هو:

إنّ الوجوب والواجب والإرادة والمراد تابع للغرض، فإنْ کان الغرض نفسیّاً کانت الإرادة والمراد والوجوب کلّها نفسیّة، وإن کان الغرض غیریّاً، کانت کلّها غیریّةً. وفی مورد الأقلّ والأکثر الإرتباطیین الغرض واحد، ولیس هنا أغراض متعدّدة بعدد الأجزاء، بل الأجزاء دخیلة فی تحقّق الغرض الواحد، وهو غرض نفسی _ لا غیری _ یترتّب علی الکلّ، کما یتعلّق الغرض الواحد النفسی بالعام المجموعی، والوجوب المتعلّق بالأقلّ والأکثر الإرتباطیین یشبه اللّحاظ المتعلّق بالمرکّب، حیث أنّ المرکّب بکلّ أجزائه یُلحظ باللّحاظ الواحد.

والحاصل: إنّ الإرادة واحدة ومتعلّقها متعدد، والوجوب واحد ومتعلّقه متعدّد.

هذا هو واقع الأمر فی الأقلّ والأکثر الإرتباطیین.

ص: 326


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 295.

وأمّا فی مرحلة قیام الحجّة وتنجّز التکلیف، فإنّ قیام الحجّة وتنجّز التکلیف یتوقّف علی العلم _ وهذا المحقّق یری أنّ مرتبة الفعلیّة والتنجّز واحد، لا إثنان کما یقول المیرزا، ولکنْ لا أثر لهذا الخلاف فی المطلب هنا _ وإذا کان حکم العقل باستحقاق العقاب یدور مدار العلم، فإنّ العلم قد تعلّق بالوجوب النفسی _ سواء کان الواجب هو الأقلّ أو الأکثر _ وهذا الوجوب النفسی قد تعلّق بالأقلّ یقیناً، ولکنّ الشک هو فی حدّ المتعلّق، وأنّه محدود بالأجزاء العشرة أو یتجاوز هذا الحدّ إلی الجزء الحادیعشر؟ ولمّا کان القدر المعلوم یقیناً هو العشرة، فإنّ الجزء الحادیعشر یکون مشکوک الوجوب، فتجری فیه البراءة العقلیّة، لأنّ «البیان» هنا هو «العلم»، ولا علم بالنسبة إلی الأکثر، فالعقاب علی ترکه قبیح.

هذا هو الوجه، والفرق بینه وبین الوجهین السّابقین واضح.

المناقشة

إنّ الإنحلال إمّا حقیقی، کما لو علم بعد الشک بکون الدم فی هذا الطرف. أو حکمی، کما لو کان لأحد الطرفین حالة سابقة. فالقضیّة المنفصلة _ إمّا هنا وإمّا هنا _ قد انحلّت حقیقةً فی الصّورة الأُولی، وأمّا فی الثانیّة، فموجودةٌ وجداناً إلاّ أنّ الحکم منحلّ.

فالإنحلال هو إرتفاع القضیّة المنفصلة حقیقةً أو حکماً. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّه یعتبر فی الإنحلال الجزمُ بحصول الإمتثال والفراغ الیقینی بعد الإشتغال بالعلم الإجمالی، سواء کان الفراغ بالعلم الوجدانی أو بالحکم الشرعی بتحقّق الإمتثال.

ص: 327

وبعد المقدّمتین نقول: إنّه توجد القضیّة المنفصلة فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، ولا ریب فی وجوب الأقلّ علی أیّ تقدیرٍ، أی سواء کان الواجب هو ذات الأقلّ أو فی ضمن الأکثر، لکنّ المهمّ هو أنْ یکون الإتیان بالأقلّ مبرءً للذمّة وموجباً للفراغ فی مرحلة الإمتثال، وهذا هو المقصود فی البحث، وهل یتحقّق ذلک بالإتیان بالأقل؟ إنّه لا یتحقّق. لأنّ المکلّف عند الإتیان بالصّلاة بدون السّورة متردّد فی وجوب السّورة وعدمه، وإذا کان کذلک، فتعلّق الوجوب بالصّلاة الفاقدة للسّورة مشکوک فیه، ومع الشک فی مطابقة المأتی به للمأمور به، کیف تنحلّ القضیّة المنفصلة ویتحقّق الیقین بالفراغ؟

طریق المحقق العراقی

طریق المحقّق العراقی(1)

وهو یتوقّف علی بیان أمرین: الأوّل: کیفیّة دخل کلّ جزءٍ من أجزاء المرکّب فی تحقّق الغرض من إیجابه. والثانی: تعیین الوجوب والواجب.

توضیح الأوّل:

إن دخل کلّ جزءٍ من أجزاء المرکب فی تحقّق الغرض من الحکم بوجوبه، هو نظیر دخل کلّ جزءٍ من أجزاء العلّة التامّة فی تحقّق المعلول، فإذا فقد المقتضی أو الشرط أو وجد المانع، فإنّ المعلول لا یتحقّق. إذن، لابدّ من سدّ باب عدم وجود المعلول من جهة کلّ واحدٍ من أجزاء العلّة التامّة. فکذلک دخل کلّ من التکبیر والقراءة والرکوع والسّجود، فی تحقّق الغرض من إیجاب الصّلاة المرکّبة من تلک

ص: 328


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 375.

الأجزاء، ولابدّ من تحقّق کلّ واحدٍ منها حتی ینسدّ باب عدم الغرض من ناحیته.

وتوضیح الثانی:

إنّه لا یحکم العقل فی مقام الإشتغال إلاّ بالعلم بالوجوب وبالواجب، فإذا حصل العلم بالوجوب وتعلّق بالواجب، حکم العقل بإشتغال الذمّة، وإنْ وقع الإختلاف فی حدود الواجب، فالموضوع لحکم العقل هو الوجوب والواجب فقط.

وفی الأقلّ والأکثر، لا یوجد الشک فی الوجوب ولا فی الواجب، وإنّما وقع الشک فی حدّ الواجب، هل أنّه عشرة أجزاء أو أکثر؟ فإذا ثبت أنْ لا دخل للحدّ فی الوجوب والواجب، لم یتحقّق الإشتغال بالحدّ بل جرت البراءة عنه.

لقد قام البرهان علی أنّ «الحدّ» أی حدّ الأقلّ وحدّ الأکثر غیر دخیل فی الواجب، إذْ لیس هو العشرة أجزاء بحدّ الأقلیّة بناءً علی الأقلّ، وکذا الأکثر، فإنّه لیس هو الأکثر بحدّ الأکثریّة، وذلک:

لأنّ تحدید الواجب بحدّ الأقلیّة وتحدیده بحدّ الأکثریّة إنّما یکون بعد تعلّق الوجوب بالمرکّب، وإذا کان متأخّراً رتبةً عن تعلّق الوجوب إستحال أنْ یکون دخیلاً فی الواجب. وذلک لأنّ الواجب _ وهو متعلَّق الوجوب _ متقدّم رتبةً علی الوجوب، لکنّ النسبة بین الوجوب والواجب هی التضائف، فالواجب بما هو واجب فی مرتبةٍ واحدة مع الوجوب، لأنّ المتضایفین متکافئان قوّةً وفعلاً، لکنّ متعلّق الوجوب مقدّم رتبةً علی الوجوب، إذْ لا یتحقّق الوجوب إلاّ بتحقّق متعلَّقه، ولکنْ یمکن تحقّق المتعلّق والحال أنّ الوجوب غیر متحقّق، فکلّما وجد

ص: 329

وجوب الصّلاة، فالصّلاة موجودة، ولکنْ قد تکون الصّلاة موجودةً والوجوب غیر موجود.

فتلخّص: أنّ ذات الواجب _ لا بوصف الوجوب _ مقدّمة رتبةً علی الوجوب، والوجوب مقدّم علی الحدّ رتبةً، فلو أُرید أخذ الحدّ فی الواجب، لزم أخذ ما هو فی الرتبة المتأخّرة فیما هو فی المرتبة المتقدّمة. وهذا محال.

وعلی هذا، فما تعلّق به العلم فی مورد دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، هو الوجوب لا الواجب، وإنّما الشک فی حدّ الواجب بأنّه محدودٌ بحدّ الأقلیّة أو بحدّ الأکثریّة، ولمّا ظهر أنّ الحدّ خارج عن حریم الوجوب، فهو خارج عن حریم الواجب، کان الشکّ فی التکلیف الزائد، وهو مجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

وملخّص هذا الوجه هو: إنّ الحدّ فی ناحیة الوجوب، وهذا الحدّ یستحیل أن یؤخذ فی المتعلّق، فالوجوب المعلوم وجوب شخصی لا تردید فیه، والتردید فی الحدّ لا أثر له فی حکم العقل بالتنجّز، لأنّ موضوع حکم العقل هو العلم بالوجوب والعلم بالواجب بلا کلام، فینحلّ العلم الإجمالی، ویکون الأقلّ هو الواجب وتجری البراءة العقلیّة عن الأکثر.

المناقشة

أوّلاً: إنّ الأقلیّة والأکثریّة لیست من إنقسامات الوجوب کما قال، بل من إنقسامات متعلّق الوجوب، وإنقسامات المتعلّق بتبع المتعلّق تکون فی المرتبة السّابقة علی الوجوب، لتقدّم کلّ متعلّق علی الحکم طبعاً، وتأخّر کلّ حکم بالنسبة إلی متعلّقه طبعاً.

ص: 330

وعلیه، فإنّ ما تعلّق به الوجوب إمّا هو الأقلّ وإمّا هو الأکثر، إذْ لا یعقل الإهمال من الحاکم بالنسبة إلی متعلّق حکمه، فلو قال: أکرم العلماء، فإنّ الحکم هو وجوب الإکرام، والإکرام الذی تعلّق به الوجوب له إنقسامات، لأنّ للإکرام کیفیّات مختلفة، وکون المولی الملتفت فی مقام الحکم مهملاً هذه الإنقسامات محال. إذن، لابدّ وأنْ یرید کیفیّةً معیّنة، فلابدّ من التقیید وإلاّ یکون مطلقاً.

وفیما نحن فیه، قد قال: الصّلاة واجبة، فجاء بالوجوب علی هذا المرکّب، لکن المفروض إنقسامه إلی ذیالعشرة أجزاء والأحدعشر جزءً، أی إلی واجد السّورة وفاقدها. أمّا الإهمال فمحال. فإمّا الإطلاق وإمّا التقیید.

وإذا کان الحدّ فی مقام الثبوت من إنقسامات المتعلّق، وجب قیام الکاشف عنه فی مقام الإثبات، والکاشف هو کیفیّة الوجوب.

وثانیاً: إنّ الأحکام مطلقاً تابعة _ علی مسلک العدلیّة _ للأغراض القائمة بالمتعلّق الّتی هی المنشأ للحکم، ولا یخفی أنّه لیس النسبة بین الغرض والحکم نسبة العلّة إلی المعلول، بل الحکم معلول للحاکم وإنّما الحکم سبب تحقّق الغرض، فالغرض هو العلّة الغائیّة، والإهمال فی الأغراض محالٌ قولاً واحداً، لأنّ الغرض أمر واقعی والإهمال فی الواقعیّات محال. وعلیه، فإنّ الغرض الواقعی من الحکم بوجوب الصّلاة إمّا قائم بذات العشرة أجزاء أو بذات العشرین جزء مثلاً، لأنّ متعلّق الحکم هو الحامل للغرض بالضرورة.

فتلخّص: سقوط قوله بأنّ الحدّ یأتی من ناحیة الوجوب ولیس هو فی المرتبة السّابقة علی الوجوب.

ص: 331

فالإنحلال عن هذا الطریق أیضاً غیر تام.

إنّ المهم هو الإنحلال وحصول النتیجة المطلوبة منه، لأنّ المکلّف بعدما اشتغلت ذمّته یفحص عن الطریق المثبت لمطابقة ما أتی به لما أمر به المولی. وبعبارة أُخری: لابدّ من إقامة طریق یفید الخروج عن العهدة وفراغ الذمّة.

وقد ظهر عدم تمامیّة الإنحلال بشیء من الطرق المذکورة.

أدلّة القول بعدم جریان البراءة العقلیّة

اشارة

واستدلّ للقول الثانی، وهو الإحتیاط بوجوه:

الوجه الأوّل
اشارة

إنّ الإنحلال یتوقّف علی تنجّز التکلیف علی کلّ تقدیر، أی سواء تعلّق بالأقلّ أو الأکثر، ولکنْ من تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأکثر یلزم الخلف، لأنّه لو تنجّز الأکثر لزم عدم جریان البراءة بالنسبة إلیه، فیبطل الغرض من الإنحلال. وبعبارة أُخری: إنّ الإنحلال یستلزم البراءة بالنسبة إلی الأکثر، وهو یستلزم عدم الإنحلال بالنسبة إلیه.

الجواب

والجواب:

لیس الإنحلال متوقّفاً علی تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأکثر، بل الذی یتوقّف علیه هو العلم بتعلّق التکلیف بأحد الطرفین، فإن کان أحدهما معلوم الوجوب کان الطرف الآخر مشکوک التکلیف.

ص: 332

وفیما نحن فیه: الأقلّ معلوم الوجوب علی کلّ تقدیر، أی سواء کان وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً.

الوجه الثانی
اشارة

ما ذکره المحقّق المیرزا(1) بتوضیح منّا:

إنّ العلم الإجمالی متقوّم بالعلم بالجامع وتردّده بین الخصوصیّتین، والإنحلال هو إنعدام المقوّم المذکور.

لکنّ إنحلال العلم الإجمالی بما هو مقوّم له معناه: إنعدام الشیء بما هو مقوّمٌ له، وهذا یستلزم أنْ یکون علّة وجود الشیء علّةً لعدمه، وهو محال بالضّرورة.

وتطبیق ما ذکر علی ما نحن فیه هو:

نحن نعلم إجمالاً بوجوب العشرة أجزاء إمّا لا بشرط بالنّسبة إلی الحادیعشر أو بوجوبها بشرط وجوده معها، فهنا علم بالجامع وهو العشرة وشک فی الخصوصیّة، فالمعلوم هو العشرة المهملة بالنسبة إلی اللاّبشرط والبشرط، وخصوصیّة البشرطیة أو اللاّبشرطیة مشکوک فیها، فلو أُرید الإنحلال بالنسبة إلی الجامع بأنْ یقال بوجوب الأقلّ، فإنّ الأقلّ مردّد أمره بین البشرط لا واللاّبشرط القسمی، ولا یعقل الإنحلال، لأنّ کلاًّ من الخصوصیّتین مشکوک فیه. إذنْ، لابدّ من إنحلال العلم بالجامع بین الخصوصیّتین، لکن إنحلال العلم الإجمالی بالجامع یعنی الإنحلال بالمقوّم له، وقد ذکرنا أنّه محال.

ص: 333


1- 1. أجود التقریرات 3 / 491.
إشکال السیّد الخوئی

وذکره فی مصباح الأصول ثمّ أشکل علیه بقوله(1):

إن ما ذکره رحمه اللّه متین لو قلنا بالإنحلال الحقیقی، فإنّ العلم التفصیلی بالجامع هو عین العلم الإجمالی بإحدی الخصوصیّتین، فکیف یکون موجباً للإنحلال الحقیقی؟ ولکنّا نقول بالإنحلال الحکمی، بمعنی أنّ المعلوم بالإجمال وإن کان یحتمل إنطباقه علی خصوصیّة الإطلاق وعلی خصوصیّة التقیید، إلاّ أنّه حیث تکون إحدی الخصوصیّتین مجری للأصل دون الأُخری، کان جریان الأصل فی إحداهما فی حکم الإنحلال، لما ذکرناه غیر مرّة من أن تنجیز العلم الإجمالی متوقّف علی تعارض الأصول فی أطرافه وتساقطها، فبعد العلم بوجوب الأقلّ بنحو الإهمال الجامع بین الإطلاق والتقیید، وإن لم یکن لنا علم بإحدی الخصوصیّتین حتی یلزم الإنحلال الحقیقی، إلاّ أنّه حیث یکون التقیید مورداً لجریان الأصل بلا معارض، کان جریانه فیه مانعاً عن تنجیز العلم الإجمالی، فیکون بحکم الإنحلال. وهذا الإنحلال الحکمی لا یکون فی المتباینین، لعدم جریان الأصل فی واحد منهما، لابتلائه بالمعارض، فإنّ الأصلین فی المتباینین یتساقطان للمعارضة. وهذا هو الفارق بین المقامین.

التحقیق فی المقام

والتحقیق _ کما أفاد شیخنا دام بقاه _ سقوط الإستدلال والإشکال معاً، لابتناء کلیهما علی أنّ أجزاء المرکّب کلّ واحد منها بالنسبة إلی الآخر بشرط شیء. لکن

ص: 334


1- 1. مصباح الأصول: 433.

قد تقدّم سابقاً عدم تقیّد الأجزاء بعضها ببعض، لأنّ کلاًّ منها یصیر شرطاً ومشروطاً معاً، وهذا یستلزم اجتماع التقدّم والتأخّر فی الشیء الواحد وهو محال. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ الأمر لمّا تعلّق بالمرکّب ینتزع منه جزئیّة کلّ واحدٍ من الأجزاء، وحینئذٍ یلغو إعتبار الشرطیّة.

هذا کلّه ثبوتاً.

وأمّا إثباتاً، فإنّه لا یوجد عندنا غیر الدلیل القائم علی وجوب المرکّب، فلا دلیل علی الشرطیّة حتی یقال بأنّ الأقلّ لا بشرط والأکثر بشرط.

وأمّا الإشکال، فإنّه یبتنی علی الإطلاق والتقیید، وأنّه لمّا کان الإطلاق عدم الإشتغال ولا کلفة فیه فلیس بمجری البراءة، بخلاف التقیید فتجری فیه لوجود الکلفة.

وقد عرفت أنْ لا إطلاق وتقیید فی أجزاء المرکّب.

وهذا هو الجواب الصحیح عن الوجه المذکور. ولو تنزّلنا عن ذلک وقلنا بوجود الإطلاق والتقیید فی أجزاء المرکّب، فإنّ الإطلاق لا یتعلّق به التکلیف، وإنّما هو لحاظ الأجزاء بنحو اللاّبشرط، فالحاکم یلحظ الرقبة مطلقاً عن الإیمان عندما لا یکون دخیلاً فی غرضه من العتق، أمّا فی مثل الصّلاة لمّا یقول: أقم الصّلاة، فإنّه یلحظ الأجزاء، فإنْ کان الجزء الحادیعشر دخیلاً أخذه وإلاّ رفضه، والرفض هو الإطلاق وعدم الإشتراط به. فذات الأجزاء هی المتعلّق للحکم ولیس الرفض بمتعلّقٍ له حتی یقال بأنّ المجعول هو العشرة لا بشرط.

ص: 335

وعلی ما ذکرنا، فإنّ العلم ینحلّ، لأنّه إن کان الواجب مردّداً بین المطلق والمشروط، أی بین العشرة والأحدعشر، فلا ینحلّ العلم، لأنّ ذات العشرة تصبح الجامع، ویصیر الإطلاق والإشتراط محلّ الشک والتردّد. لکنْ إذا لم یکن الإطلاق داخلاً تحت الطلب ولم یتعلّق به الحکم _ کما ذکرنا _ ، وإنّما التقیید هو المتعلّق للحکم، فإنّ صورة المسألة تختلف، لأنّ الواجب إمّا العشرة وإمّا العشرة مقیّدةً بالحادیعشر، والعشرة متیقن الوجوب، وتقیّدها بالحادیعشر مشکوک فی وجوبه فتجری فیه البراءة.

هذا، ولو تنزلنا عن هذا أیضاً، نقول: لقد فصّل المیرزا فی البراءة فقال بجریان الشرعیّة دون العقلیّة، إمّا ینحلُّ العلم وإمّا لا، فإنْ أمکن إنحلاله _ حقیقةً أو حکماً _ فلا فرق، وإنْ لم ینحل فکذلک.

الوجه الثالث
اشارة

لعدم جریان البراءة العقلیّة هو: إنّ تحصیل الأغراض الإلزامیّة واجب عقلاً، والإشتغال الیقینی بها یستلزم البراءة الیقینیّة عنها. وفی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر نعلم علماً یقینیّاً بغرض المولی، فإن جئنا بالأکثر، حصل الیقین بالبراءة، وإن جئنا بالأقل نشکّ. إذنْ، لابدّ عقلاً من الإتیان بالأکثر.

جواب الشیخ

أجاب الشیخ(1)

ص: 336


1- 1. فرائد الأصول 2 / 319.

أوّلاً: إنّه یتمّ علی مسلک العدلیّة فقط، ولا یتمّ علی مسلک الأشاعرة، ولابدّ من أن یکون الإستدلال علی المسلکین.

أُورد علیه: لا یلزم تمامیّته علی المسلکین، بل یکفی علی المسلک الحق.

ثانیاً: إنّ الأحکام العقلیّة _ کالشرعیّة _ مشروطة بالقدرة علی الإمتثال وتحصیل الغرض، وهنا لا یمکن تحصیله علی وجه الیقین، لأنّ الموجب للیقین بذلک هو الإتیان بالمأمور به بجمیع الخصوصیّات الدخیلة فی الغرض. وفیما نحن فیه: یحتمل دخل قصد الوجه، وهذا غیر ممکن، لأنّ الإتیان بالأقل بقصد الوجه یستلزم التشریع، لعدم العلم بتعلّق التکلیف بالأقل، وکذا الإتیان بالأکثر.

إذن، لا یمکن تحصیل غرض المولی، لاحتمال دخل قصد الوجه فی حصوله.

إشکال الخوئی علی الوجه الثانی

إشکال الخوئی

وأشکل السیّد الخوئی(1) علی الجواب الثانی بوجوه:

أوّلاً: إن ما ذکره من عدم إمکان القطع بحصول الغرض لو تمّ، فإنّما یتمّ فی التعبّدیّات دون التوصّلیّات، لعدم توقّف حصول الغرض فیها علی قصد الوجه قطعاً، فیلزم القول بوجوب الإحتیاط فی التوصّلیّات دون التعبّدیّات، وهو مقطوع البطلان، ولم یلتزم به أحد حتی الشیخ نفسه.

ص: 337


1- 1. مصباح الأصول: 435.

وثانیاً: إنّ إعتبار قصد الوجه علی القول به یختصّ بصورة الإمکان دون ما لو لم یمکن قصد الوجه أصلاً، لعدم المعرفة بالوجه کما فی المقام، إذ القول باعتبار قصد الوجه مطلقاً مستلزم لعدم إمکان الإحتیاط فی المقام، لأن معنی الإحتیاط هو الإتیان بما یحصل معه العلم بفراغ الذمّة، وهذا ممّا لا یمکن العلم به، بناءً علی اعتبار قصد الوجه مطلقاً، إذ لا یحصل العلم بالفراغ بالإتیان بالأقل، لاحتمال وجوب الأکثر، ولا بالإتیان بالأکثر لاحتمال إعتبار قصد الوجه، فلا یحصل العلم بالفراغ، لا بالإتیان بالأقلّ ولا بالإتیان بالأکثر، وهذا ممّا لم یلتزم به أحد حتی الشیخ رحمه اللّه نفسه، إذ لا إشکال ولا خلاف فی إمکان الإحتیاط، بل فی حسنه بالإتیان بالأکثر، إنّما الکلام فی وجوبه وعدمه، والسرّ فیه أن قصد الوجه علی القول بوجوبه یختصّ بصورة الإمکان، ففی مثل المقام لا یکون واجباً قطعاً، وإلاّ لزم بطلان الإحتیاط رأساً.

وثالثاً: إنّ إحتمال إعتبار قصد الوجه ممّا لم یدلّ علیه دلیل وبرهان، بل هو مقطوع البطلان، علی ما تقدّم بیانه فی بحث التعبّدی والتوصّلی.

ورابعاً: إنّ إعتبار قصد الوجه مع عدم تمامیّة دلیله، إنّما هو فی الواجبات الإستقلالیّة دون الواجبات الضمنیّة، أی الأجزاء، فراجع الأدلّة الّتی ذکروها لاعتبار قصد الوجه.

ص: 338

إشکال النائینی

وأشکل المحقّق النائینی(1): بأنّ الغرض تارة: تکون نسبته إلی الفعل المأمور به نسبة المعلول إلی علّته التامّة، کالقتل بالنسبة إلی قطع الأوداج، وأُخری: تکون نسبته إلیه نسبة المعلول إلی العلل الإعدادیّة. والفرق بینهما واضح، فإنّ الغرض علی الأوّل، مترتّب علی الفعل المأمور به بلا توسّط أمر آخر خارج عن قدرة المکلّف، وعلی الثانی، لا یترتّب علی الفعل المأمور به، بل یتوقّف علی مقدّمات أُخری خارجة عن قدرة المکلّف، کحصول السّنبل من الحبّة، فإنّ الفعل الصادر من المکلّف هو الزرع والسّقی ونحوهما من المقدّمات الإعدادیّة، وأمّا حصول السّنبل، فیتوقّف علی مقدّمات أُخری خارجة عن قدرة المکلّف، کحرارة الشمس وهبوب الریح مثلاً.

فلو علمنا بأنّ الغرض من القسم الأوّل یجب القطع بحصوله، بلا فرق بین أن یکون الأمر فی مقام الإثبات متعلّقاً بنفس الغرض أو بعلّته، ففی مثله لو دار الأمر بین الأقلّ والأکثر کان مورداً للإحتیاط، فیجب الإتیان بالأکثر تحصیلاً للقطع بغرض المولی. ولو علمنا بکون الغرض من القسم الثانی، فلا إشکال فی أن حصول الغرض لیس متعلّقاً للتکلیف، لعدم صحّة التکلیف بغیر المقدور، فلا یجب علی المکلّف إلاّ الإتیان بما أمر به المولی، وهو نفس الفعل المأمور به.

وفی مثله، لو دار الأمر بین الأقلّ والأکثر وجب الإتیان بالأقلّ، للعلم بوجوبه علی کلّ تقدیر، وکان وجوب الأکثر مورداً للأصل، لعدم العلم به.

ص: 339


1- 1. أجود التقریرات 3 / 499.

وأمّا لو شککنا فی ذلک ولم نعلم بأن الغرض من القسم الأوّل لیجب الإحتیاط عند دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، أو من القسم الثانی لیرجع إلی أصالة البراءة عن الأکثر، فلا مناص من الرجوع إلی الأمر، فإن کان متعلّقاً بالغرض کالأوامر المتعلّقة بالطّهارة من الحدث فی مثل قوله: «إنْ کُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا» یستکشف منه کون الغرض مقدوراً لنا، لأنّه لو لم یکن مقدوراً لم یأمر المولی الحکیم به، لقبح التکلیف بغیر المقدور، فیجب الإحتیاط عند دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر تحصیلاً للعلم بغرض المولی. وإن کان متعلّقاً بفعل المأمور به کالأوامر المتعلّقة بالصّلاة والصّوم ونحوهما، یستکشف منه کون الغرض غیر مقدور لنا، وإلاّ کان تعلّق الأمر به أولی من تعلّقه بالمقدّمة، فلا یجب الإحتیاط عند دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر.

والمقام من هذا القبیل، فإنّ الأمر قد تعلّق بنفس الفعل المأمور به، ویستکشف منه أنّ الغرض لیس متعلّقاً للتکلیف، فلا یجب علینا إلاّ الإتیان بما علم تعلّق التکلیف به وهو الأقلّ، وأمّا الأکثر فیرجع فیه إلی الأصل.

الإشکال علیه من السید الخوئی

هذا جواب المیرزا کما فی مصباح الأصول.

الإشکال علیه

ثمّ إنّ تلمیذه المحقّق قد أشکل علیه بما أورده المیرزا علی نفسه وأجاب عنه، وملخّص الإشکال(1) هو:

ص: 340


1- 1. مصباح الأصول: 439.

أنّه مع الإقتصار علی الأقلّ، یُشکّ فی تحقّق الغرض المترتّب علی المأمور به، ولکنّ الإتیان بالأکثر محقّقٌ له یقیناً، فیجب الإتیان به.

فأجاب: بأنّه إذا أمر المولی بأمرٍ، وکان شیء آخر دخیلاً فی تحقّق الغرض منه، وجب علیه الأمر بالإحتیاط.

وتوضیح ذلک هو: إنّه لو تعلّق الأمر بالغَسل والمسح _ ولم یتعلّق بالطّهارة المسبّبة منهما والمترتّب علیها الغرض _ کان الغسل والمسح هو المحقّق للغرض، إذْ لو کان هناک شیء آخر له دخل فی تحقّق الطّهارة والغرض، لأمر المولی بالإحتیاط بالإتیان، فعدم جعل الإحتیاط یکشف عن عدم دخل الشیء فی الغرض. فکذلک ما نحن فیه، فإنّه لو کان یحتمل دخل الأکثر فی الغرض، کان علی المولی جعل الإحتیاط بالنسبة إلیه، لأنّه لو کان فی متن الواقع دخیلاً لکان فوت الواقع مستنداً إلی المولی.

والمهمّ هو: أن یتحقّق الإنحلال فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر _ إمّا حقیقةً أو حکماً _ بحیث یقال: بأنّ الأقلّ واجب یقیناً والأکثر مشکوک الوجوب. وما ذکره المیرزا لا یفید هذه الجهة.

التحقیق فی المقام

وبعد أنْ ظهر عدم وفاء الوجوه المذکورة من الشیخ وغیره للجواب عن الإشکال وإثبات الإنحلال، فإنّ التحقیق فی نظر الأُستاذ أنْ یقال:

إنّه لیس للعلم التفصیلی فی أحد الطرفین موضوعیّة فی إنحلال العلم

ص: 341

الإجمالی، لأنّ ما له الموضوعیّة فی الأحکام الشرعیّة هو الوجوب والحرمة، وما له الموضوعیّة فی الأحکام العقلیّة هو إستحقاق العقاب وعدمه. إذ العقل یحکم بلزوم الإتیان بالواجب والإجتناب عن الحرام من أجل الأمن من العقاب، وهذا هو الغرض الأقصی فی الأحکام العقلیّة، وهذا هو ما بالذات وما عداه عرض ینتهی إلیه.

وهنا: هل الإتیان بالأقلّ وترک الأکثر یکفی للأمن من العقاب أوْ لا؟

إن ترک الأقلّ یستتبع إستحقاق العقاب بلا شک ولا إشکال، فلا موضوع للبراءة العقلیّة بالنسبة إلیه، بل إنّ وجوبه قطعی. وأمّا الأکثر _ أی الأقلّ مع الزیادة _ فلا یحکم العقل باستحقاق العقاب علی ترکه، لأنّ وجوبه مشکوک فیه، وکذا کونه حاملاً للغرض، لعدم قیام البیان علی ذلک، فموضوع القاعدة محقّق فیه، والمانع عن جریانها مفقود، فهی جاریة فی الأکثر.

وتحصّل: إنّ الإشکال لا ینحلّ بالنظر إلی الفعل وبالنظر الموضوعی للوجوب الشرعی. أمّا بالنظر إلی الترک، فإنّه ینحلّ بالوجه المذکور. قد لوحظ الوجوب بالنظر الطریقی من حیث أنّ ترکه یوجب إستحقاق العقاب أوْ لا. وقد ظهر أنّه لا یوجبه بالنسبة إلی الأکثر. فالإنحلال حاصل.

البرائة الشرعیّة

اشارة

ویقع الکلام فی البراءة الشرعیّة، فهل تجری أوْ لا؟

أمّا مع جریان البراءة العقلیّة، فلا إشکال فی جریان الشرعیّة، لأنّ العقاب

ص: 342

علی الأکثر یکون بلا بیان، فیجری حدیث الرفع.

وأمّا بناءً علی مسلک صاحب الکفایة والمیرزا من عدم جریان البراءة العقلیّة، فهل تجری أوْ لا؟ قولان.

قیل: بوجود الملازمة بین البراءتین وجوداً وعدماً.

وقیل: بعدم الملازمة. وهو مختار المحقّقین المذکورین.

دلیل المحقّق الخراسانی للجریان

وقد ذکر صاحب الکفایة(1): إنّ مورد البحث هو العلم الإجمالی بوجوب الأقلّ أو الأکثر، فیعود البحث إلی إجمال الدلیل القائم علی الأجزاء وأنّ الواجب هو العشرة أو الأحدعشر، فنحتاج إلی الرافع لهذا الإجمال، وهو إمّا الدلیل الخاصّ أو العام، أمّا الأوّل فمفقود، وأمّا الدلیل العام، فهو حدیث الرفع، للشک فی وجوب السّورة مثلاً، فهو موضوع للحدیث المذکور ویجری لرفع جزئیّتها، لأنّ وضع الجزئیّة لها کان بید الشارع، فرفعها بیده کذلک، وحدیث الرفع یجری لرفع الإجمال، وإثبات عدم وجوب السّورة.

إشکالان:

أورد علی نفسه:

الأوّل: إن هذا الحدیث إنّما یرفع ما کان وضعه بید الشارع، والجزئیّة لیست

ص: 343


1- 1. کفایة الأصول: 366.

من المجعولات الشرعیّة حتی ترتفع بالحدیث، لأنّها لیست من الأُمور القابلة للجعل. وأیضاً: لیس للجزئیّة أثر شرعی مجعول.

لا یقال: إنّ أثرها هو وجوب الإعادة.

لأن وجوب الإعادة أثر للأمر الأوّل وهو قوله: صلّ مع السّورة. هذا أوّلاً.

وثانیاً: وجوب الإعادة أثر عقلی لا شرعی.

وأجاب: إنّه وإنْ لم تکن الجزئیّة مجعولة شرعاً لکونها من الأُمور الإنتزاعیّة، لکنّ حدیث الرفع جارٍ بالنسبة إلیها، لجریانه فی منشأ إنتزاع الجزئیّة، وهو من المجعولات الشرعیّة، والمنشأ هو الأمر بکلّ الأجزاء بقوله: «صلّ»، ولمّا کان کذلک، فهو قابل للرفع بالحدیث.

الثانی: إنّه إذا رفع منشأ الإنتزاع _ وهو الأمر بکلّ أجزاء الصّلاة _ من أجل رفع جزئیّة السّورة، إرتفع الأمر بالنّسبة إلی غیرها من الأجزاء، لأنّ الأمر بالکلّ أمرٌ واحدٌ بسیط، فالتکبیر والرکوع والسّجود وغیرها تکون بلا أمرٍ.

وأجاب: إنّ نسبة حدیث الرفع إلی الأدلّة الواقعیّة نسبة الإستثناء إلی المستثنی منه، وعلی هذا، فإنّ مقتضی الجمع بینه وبینها هو: أنّ الجزئیّة موجودة إلاّ فی مورد النسیان والإضطرار والجهل ... .

وإذا کانت النسبة کذلک، فإنّ مقتضاها خروج المستثنی بقدر ما قام علیه الدلیل من تحت المستثنی منه، وبقاء ما عداه. وعلیه، فإنّ حالة الجهل بالنسبة إلی السّورة خرجت من تحت الأدلّة الواقعیّة بحدیث الرفع، وبقیت الأجزاء تحت تلک الأدلّة.

ص: 344

إشکال الاصفهانی والعراقی علی الکفایة

فأشکل المحقّق الإصفهانی(1) _ وقریبٌ منه کلام المحقّق العراقی _ فی قضیّة الإستثناء الذی ذکره. وذلک، لأنّه لابدّ من أن یکون المستثنی والمستثنی منه فی مرتبةٍ واحدةٍ، لأنّ الإستثناء هو الإخراج، والإخراج فرع الدخول، فلو اختلفا فی المرتبة لم یتحقّق الإستثناء، لأنّه إذا تأخّر الإستثناء رتبةً تأخّر المستثنی، وما یکون فی المرتبة المتأخّرة لا یکون داخلاً فیما فی المرتبة المتقدّمة حتی یخرج، وما یکون فی المرتبة المتقدّمة یستحیل أن یتأخّر.

هذه هی الکبری.

وفیما نحن فیه: إنّ أدلّة الأجزاء تثبت الأمر الواقعی ویکون المنشأ للجزئیّة الواقعیّة للسّورة مثلاً، وحدیث الرفع موضوعه عدم العلم بالواقع. لکنّ العلم أو الجهل بالواقع متأخّر رتبةً عن الواقع، فالواقع هو المتعلَّق للجهل فی (ما لا یعلمون) والإضطرار فی (ما اضطروا إلیه) وهکذا.

إذن «الموضوع» هو «الواقع». و«المحمول» هو «الرفع».

ومن المعلوم أنّ «الرفع» فی مرتبةٍ متأخّرة من (ما لا یعلمون) و(ما لا یعلمون) متأخّر مرتبةً عن «الجزئیّة».

فظهر أنّ الإستثناء محال.

فما ذکره صاحب الکفایة غیر تام، فیعود الإشکال.

ص: 345


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 326.
التحقیق فی المقام:

قال شیخنا: لنا طریقان لتحقیق المطلب:

الطّریق الأوّل:

أن یقال: لا خلاف بین الأصحاب فی تبعیّة الأحکام للأغراض والملاکات، ثمّ إنّ الإهمال فی الغرض غیر معقول، لأنّه من الأُمور الواقعیّة، ولا یعقل الإهمال والإجمال فی الواقعیّات، فالغرض من جزئیّة السّورة أیّاً ما کان لا إهمال فیه، فإمّا هو مختصٌ بالعالم وإمّا هو أعمّ من العالم والجاهل.

وأمّا الحکم، فإنّه معلول لإرادة الحاکم واعتباره، لکنّ الحکم لا یتخلّف عن الغرض، بل هو تابع له سعةً وضیقاً.

وعلی هذا، فإنْ لم یکن الغرض مترتّباً علی جزئیّة السّورة فی صورة الجهل بها، کان مقیّداً ومحدوداً بالعالم، وإنْ کان مترتّباً حتی فی صورة الجهل، فالسّورة جزء من الصّلاة مطلقاً، فلا یمکن سعة الغرض مع ضیق الحکم، إلاّ أنّه لو لم یتمکّن المولی من إفادة سعة الحکم بالدلیل الأوّل، أفاد ذلک بالدلیل الثانی.

هذا بالنسبة إلی مقام الثبوت.

وأمّا فی مقام الإثبات، فإنّ حدیث الرفع یکشف عن قابلیّة الغرض والحکم للثبوت فی مرتبة الشکّ، وإلاّ لم یعقل الرفع. فالحدیث بنفسه کاشف عن عدم إختصاص الحکم بالعالم. هذا أوّلاً.

وثانیاً: فإنّ البرهان علی بطلان التصویب وعدم إختصاص الأحکام بالعالمین قطعی، فلولا حدیث الرفع لکان مقتضی القاعدة العموم والسّعة.

ص: 346

لکنّ مدلول حدیث الرفع هو رفع جزئیّة السّورة عن الجاهل بالحکم الواقعی.

وأمّا الإشکال باختلاف المرتبة بین الرفع والواقع.

فالجواب عنه هو: أن لا إختلاف فی المرتبة، لأنّ النقیضین فی مرتبة واحدة بحسب الوجود لا بحسب العدم، فوجود الحرارة فی مرتبةٍ متأخّرة عن النار، وأمّا عدم الحرارة فلیس متأخّراً عن النار.

وما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ عدم الحکم الواقعی بالنسبة إلی جزئیّة السّورة _ هذا العدم _ فی مرتبة الشک فی الحکم الواقعی، فیکون مفاد حدیث الرفع بیان عدم الجزئیّة فی ظرف الشک، فهو یدلّ علی عدم إعتبار الشارع الجزئیّة للجاهل، ویکون جهله عذراً له. وهذا المقدار کافٍ للبراءة الشرعیّة.

وبعبارة أُخری: لیس مفاد حدیث الرفع هو الرفع للحکم الموجود مع الجهل، بل هو عدم الجعل للحکم فی ظرف الشک.

الطریق الثانی:

أن یقال: إنّ النسبة بین حدیث الرفع والأدلّة الأولیّة فی الأجزاء هی الحکومة، وذلک: لأنّه متی کان الدلیلان واردین فی الموضوع الواحد، وکان لأحدهما نظر إلی الآخر، بأنْ یکون الناظر محتاجاً إلی المنظور دون العکس، کانت النسبة بین الدلیلین نسبة الحکومة.

إنّ الأدلّة الأولیّة تفید جزئیّة الأجزاء، وحدیث الرفع یرفع الجزئیّة فی ظرف الجهل والإضطرار والنسیان ...

ص: 347

إن حکم حدیث الرفع بالنسبة إلی الأدلّة الأولیّة حکم دلیل نفی الضرر ونفی الحرج ونحوهما، فإنّها أدلّة ثانویّة تشرح الأدلّة الأولیّة فی موارد الحرج والضرر ونحو ذلک توسعةً أو تضییقاً، کما فی زید عالم وزید لیس بعالمٍ، بالنسبة إلی أکرم العلماء.

وبهذا یکون حدیث الرفع بمنزلة الإستثناء، وتندفع الإشکالات.

إشکالان والجواب عنهما

الإشکال الأوّل: إنّه لو لم ینحلّ العلم الإجمالی، فإنّ مقتضی الإشتغال الیقینی بالغرض هو البراءة الیقینیّة، فلا یجوز الإکتفاء بالأقلّ، لأنّ حدیث الرفع أفاد رفع جزئیّة السّورة فی ظرف الشک فی وجوبها، وأمّا أنّ الغرض مترتّب علی الأقلّ، فهذا لازم عقلی لحدیث الرفع، ولوازمه العقلیّة لیست بحجّة.

والجواب:

إن حکم العقل بلزوم تحصیل الغرض یتوقّف علی قیام الدلیل علی التکلیف، فإذا لم یقم الدلیل فلا إبتلاء بالغرض لیجب تحصیله عقلاً. هذه مقدّمة.

والمقدّمة الثانیة: إن حکم العقل بلزوم تحصیل غرض المولی لیس تنجیزیّاً بل هو تعلیقی، فإذا جاء المؤمّن من قبل المولی الشارع سقط حکم العقل.

وحینئذٍ نقول:

إنّه فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر نحتمل توجّه التکلیف إلی الأکثر، فإنّه إذا کان کذلک لزم عقلاً الإتیان به حتی یتحقّق الغرض منه. ومع قیام المؤمّن من

ص: 348

ناحیة الشارع بالنسبة إلی الأکثر _ والمؤمّن هو حدیث الرّفع _ سقط وجوبه ووجوب تحصیل الغرض منه، لأنّ حکم العقل معلّق علی عدم التأمین الشرعی.

الإشکال الثانی: دعوی الملازمة(1) بین البراءة العقلیّة والبراءة الشرعیّة، فإذا لم تجر الأُولی بالنسبة إلی الأکثر لم تجر الثانیة. ووجه ذلک هو:

إنّ الأمر فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر یدور بین الإطلاق والتقیید، أی: إنّ وجوب الأقلّ إمّا مطلق بالنسبة إلی الأکثر أو مقیّد به، فعلی القول بأنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید من العدم والملکة، فإنّ نفی القید یکفی لثبوت الإطلاق لکونه عدم التقیید، وحدیث الرفع یفید النفی. وعلی القول بأنّ التقابل من التضادّ، لأنّ حقیقة التقیید أخذ القید وحقیقة الإطلاق رفض القید، فکلاهما وجودیّان، وبینهما تضاد، فإنّ حدیث الرفع یفید عدم التقیید، وأمّا إفادة الإطلاق فلا، إلاّ علی الأصل المثبت، لأنّهما ضدّان لا ثالث لهما، فنفی أحدهما یستلزم عقلاً إثبات الآخر، لکنّ حدیث الرفع لا یفید هذا اللاّزم العقلی، ولیس لازمة بحجّةٍ.

والحاصل: إنّه مع رفع التقیید لا یثبت الإطلاق، فلا براءة عن الأکثر.

والجواب:

أوّلاً: مبنی هذا الإشکال وجود الإطلاق والتقیید فی أجزاء المرکّب، بأنْ یکون کلّ جزءٍ مقیّداً ومشروطاً بالجزء الآخر. وقد ثبت بطلان هذا المبنی.

ثانیاً: سلّمنا، لکنّ الذی یدخل تحت الأمر الشرعی هو الشرط والقید، فالذی یدخل تحت الأمر فی «أعتق رقبة مؤمنة» هو تقیّد الرقبة بالإیمان، وأمّا

ص: 349


1- 1. مصباح الأصول: 439.

الإطلاق فغیر داخل أبداً تحت الطلب، وإنّما تشتغل الذمّة بما یدخل تحت الطلب وتلزم البراءة عنه. فإنْ کان الأکثر هو الواجب، فقد تقیّد به الأقلّ واشتغلت الذمّة به، لکنّ حدیث الرفع یرفع إحتمال التقیّد المذکور، فکان الواجب هو الإتیان بما قام علیه البیان وهو الأقلّ، ویکفی لعدم وجوب الأکثر _ أی الإطلاق _ عدم قیام البیان بالنسبة إلیه، ولا حاجة إلی إثبات الإطلاق.

وتلخّص: إندفاع الإشکال علی فرض قبول المبنی، وقبول أنّ النسبة بین الإطلاق والتقیید هو التضاد لا العدم والملکة.

فالحق: إنحلال العلم الإجمالی فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، والبراءة العقلیّة جاریة علی ما ذکر. وعلی فرض عدم جریانها فالشرعیّة جاریة.

هذا، ولکنّ المشکلة بناءً علی مسلک العلیّة هی أنّ حدیث الرفع إنّما یرفع التکلیف عن الزائد فقط، ولا یفید أنّ الأقلّ بدلٌ عن الواقع. والحال أنّ مقتضی القاعدة بناءً علی المسلک المذکور أن یکون المأتی به فی ظرف الجهل بالواقع بدلاً عن الواقع. وهذا الإشکال لا یأتی بناءً علی مسلک الإقتضاء وکفایة جریان الأصل بلا معارض وإنْ لم یکن مثبته حجّةً.

وبالجملة، لا تجری البراءة الشرعیّة علی مسلک العلیّة.

وتحصّل فی المسألة ثلاثة أقوال:

1_ جریان العقلیّة والنقلیّة وهو للشیخ.

2_ عدم جریان العقلیّة والنقلیّة.

3_ التفصیل وهو لصاحب الکفایة والمیرزا.

والتحقیق هو الأوّل.

ص: 350

الإستصحاب

اشارة

وهل یمکن إنحلال العلم الإجمالی بإجراء الإستصحاب فی الأکثر والقول بوجوبه أو عدم وجوبه عن طریقه؟

هنا مسلکان:

أحدهما: إجراؤه فی الأکثر والقول بالإشتغال به.

والآخر: إجراؤه فیه والقول بالبراءة عنه.

الإستدلال بالإستصحاب للإشتغال

تقریب الأوّل: أنّ المورد من صغریّات القسم الثانی من أقسام إستصحاب الکلّی، وذلک: لأنّه إذا وقعت الصّلاة ذات العشرة أجزاء، نشکّ بأنّه إنْ کان الواجب العشرة فهو، وإنْ کان الأحدعشر فالإمتثال غیر حاصل. نظیر ما إذا کان الحیوان البقّة، فإنّه بعد الثلاثة أیّام میّت، وإلاّ فهو باق. إذ فی هذه الصّورة، لا یجری الإستصحاب فی الفرد، لأنّه إن کان ذاک فزائل وإن کان هذا فباق، بل یجری الإستصحاب فی الکلّی، أی کلّی الحیوان، لتمامیّة أرکانه. للعلم السّابق بوجود الحیوان فی البیت والشک لاحقاً فی وجوده، فیستصحب بقاؤه.

وهنا لا یجری الإستصحاب فی خصوص الأقلّ أو الأکثر، وإنّما یجری فی الصّلاة الواجبة، أی: الجامع بین الأقلّ والأکثر، فإنّه بعد الإتیان بذات العشرة، نشکّ فی فراغ الذمّة، فیستصحب بقاء الوجوب.

ص: 351

المناقشة

وفیه: إنّ جریان إستصحاب الکلّی منوطٌ بعدم إمکان تعیین تکلیف الفرد بأصلٍ من الأُصول، کما لو کان الأصل جاریاً فی کلّ من الطرفین ویتعارضان، کما فی ما لو صدر الحدث وشک فی أنّه صغیر أو کبیر، فأصالة العدم فی کلیهما متعارضة، ویجری الأصل فی الکلّی. وأمّا مع جریانه فی طرفٍ بلا معارض، لم تصل النوبة إلی إستصحاب الکلّی. وما نحن فیه کذلک.

والحاصل: إنّما یتمسّک باستصحاب الکلّی حیث یجری الأصل فی الطرفین ویتعارض الأصلان، وفیما نحن فیه یجری فی طرفٍ بلا معارض.

هذا هو الإشکال الأوّل.

والإشکال الثانی: إنّ إستصحاب الکلّی معارَض باستصحاب عدم تعلّق الوجوب بالأکثر. توضیحه: إنّه مع الإتیان بالأقل، یشکّ فی سقوط الوجوب، فیستصحب بقاؤه. ومن جهة أُخری: نشکّ فی تعلّق الوجوب بالأکثر أی السّورة، ومقتضی الإستصحاب الأزلی عدم وجوبه، فیتعارض الأصلان. لکنّ النسبة بینهما هی الحکومة، لأنّ الثانی حاکم علی الأوّل، من جهة أنّ الشکّ فی بقاء الوجوب وعدم بقائه ناشئ من الشکّ فی وجوب الأکثر، ومع جریان الأصل فی طرف الأکثر یرتفع الشک المزبور.

وفیه: إنّ هذه الحکومة إنّما تتمّ فیما إذا کان بین الأصلین سببیّة ومسبّبیّة، وأنْ تکون السّببیّة شرعیّة لا عقلیّة. ولکنّ بقاء إستصحاب الکلّی وارتفاعه من اللّوازم العقلیّة لاستصحاب عدم وجوب الأکثر، فإنّ وجود وعدم الفرد ملازم

ص: 352

عقلاً لوجود الکلّی وعدمه. فالحکومة غیر جاریة، فما فی مصباح الأصول من أنّه «لو لم نقل بالحکومة»(1) مخدوش.

والصّحیح فی الإشکال الثانی أن یقال بتعارض الإستصحابین.

الإستدلال بالإستصحاب للبراءة

وتقریب ذلک هو:

إنّه مع دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، یقع الشکّ فی جزئیّة الأکثر، والجزئیّة منتزعة من تعلّق الأمر، فإنّ الأمر الکلّی لمّا تعلّق بالرکوع والسّجود وغیرهما، انتزعت الجزئیّة لکلّ واحدٍ منها، ومع الشک فی تعلّق الأمر بالجزء الحادیعشر نشکّ فی جزئیّته، فیجری إستصحاب العدم، ونتیجة ذلک هو البراءة عن الجزء الزائد. ولا مانع عن هذا الإستصحاب، لعدم الشکّ فی وجوب العشرة أجزاء حتی یجری الأصل ویتعارض الأصلان.

إشکال و جواب

أشکل علیه(2)

بوجود المعارض، إذ لا إهمال فی حکم المولی بوجوب العشرة أجزاء، وعلیه، فهذه الأجزاء إمّا مطلقة بالنسبة إلی الحادیعشر وإمّا مقیّدة به، ومن المعلوم أنّ البراءة إنّما تجری فی طرف التقیید، لوجود الکلفة فیه، دون الإطلاق،

ص: 353


1- 1. مصباح الأصول: 444.
2- 2. المصدر: 445.

لکن هذا الأصل معارض باستصحاب عدم تعلّق الوجوب بالعشرة لا بشرط عن الحادیعشر، وإذ لا ترجیح بینهما یتساقطان، فیسقط الإستصحاب المستدلّ به للبراءة.

وفیه:

إنّ هذا الإشکال مبنیّ علی أن تکون أجزاء المرکّب مشروطاً بعضها ببعض. وقد تقدّم أنّه یستلزم الدّور واجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد. هذا ثبوتاً.

وأمّا إثباتاً، فإنّ تعلّق الأمر بالکلّ یغنی عن إعتبار اشتراط البعض بالبعض الآخر فیکون لغواً.

وتلخّص: أنّه مع سقوط المبنی، یسقط الإشکال علی الإستصحاب، وأنّ الصّحیح جریانه، خلافاً لمصباح الأصول.

ص: 354

دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الأجزاء التحلیلیّة

اشارة

لو دار الأمر بین الأقلّ والأکثر فی الأجزاء التحلیلیّة، فهل تجری البراءة عن الأکثر؟

والمراد من الأجزاء التحلیلیّة هی الأجزاء العقلیّة، فی مقابل الأجزاء الخارجیّة الّتی تقدّم البحث عنها.

هی علی ثلاثة أقسام

والأجزاء العقلیّة علی ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن یکون الأکثر المشکوک فی وجوبه موجوداً بوجودٍ مستقلّ عن الأقل، مثل «السَّتر». فهل الصّلاة واجبة، سواء مع السَتر وبدونه أو بشرط السّتر.

الثانی: أن لا یکون وجود الأکثر المشکوک فی وجوبه مستقلاًّ عن الأقلّ، کما لو شکّ فی وجوب الإیمان فی الرقبة.

الثالث: أن یکون وجود المشکوک فیه مقوّماً لوجود الأقلّ، کأن یدور الأمر

ص: 355

فی «إطعام الحیوان» الواجب، بین إطعام جنس الحیوان _ الأعم من الإنسان وغیره _ وخصوص النوع وهو الإنسان، حیث أنّ خصوصیّة الإنسانیّة مشکوک فیها، وهی زائدة عن القدر المتیقّن وهو الجنس ومقوّمة له کما لا یخفی.

والکلام تارةً: فی البراءة العقلیّة، وأُخری: فی الشرعیّة.

کلام الکفایة فی القسمین الأوّلین:

قال المحقّق الخراسانی(1) ما محصّله: إنّ عدم جریان البراءة عقلاً فی الأجزاء التحلیلیّة أولی من عدم جریانها فی الخارجیّة، وإنّما تجری الشرعیّة فقط.

والوجه فی ذلک فی القسمین الأوّل والثانی من الأقسام الثلاثة هو:

إنّ البراءة العقلیّة منوطة بوجود القدر المتیقّن فی مقام تعلّق الحکم والتکلیف، ولیس فی هذین القسمین قدر متیقّن، بل یدور أمر الصّلاة مثلاً بین أنْ تکون مع السّتر وبدونه، والنسبة بینهما هو التباین لا الأقلّ والأکثر. وکذا فی العتق، لأنّ نسبة الرقبة بلا إیمان إلی الرقبة المؤمنة لیس نسبة الأقلّ إلی الأکثر، بل کلّ منهما وجود مباین للآخر.

وبالجملة، فإنّ ملاک الإنحلال أن یکون الأقلّ هو القدر المتیقّن، وهو فی القسمین مفقود، فیکون حال هذین القسمین من الأجزاء التحلیلیّة، أدون من حال الأجزاء الخارجیّة فی البراءة العقلیّة، لأنّ النسبة هنا التباین لا الأقلّ والأکثر.

أمّا البراءة الشرعیّة، فالمقتضی لجریانها موجود والمانع مفقود.

ص: 356


1- 1. کفایة الأصول: 367.

هذا کلّه فی القسمین _ الأوّل والثانی _ وأمّا الثالث، فسیأتی الکلام حوله.

الإشکال علیه بوجهین

الإشکال علیه

أشکل علیه السیّد الخوئی(1) بوجهین:

الأوّل: إنّ اللاّزم هو القدر المتیقّن فی مقام تعلّق التکلیف، وهو موجود، لأنّ الشکّ هو فی تعلّق التکلیف بالصّلاة مشروطةً بالسّتر أو مطلقةً منه. وکذا فی العتق، هل التکلیف تعلّق به بشرط الإیمان أو لا بشرط عنه. فالقدر المتیقّن وهو الصّلاة والعتق، موجود، لأنّ النسبة هی الأقلّ والأکثر.

نعم، فی مقام الإمتثال لا یوجد القدر المتیقّن، لأنّ النسبة هی التباین.

مناقشة الإشکال الأوّل

وفیه: إنّ هذا الإشکال مندفع بوجهین:

أحدهما: إنّه جعل القدر المتیقّن هو الطبیعی الجامع بین البشرط واللاّبشرط فی القسمین، أعنی الصّلاة والرقبة، فإنّ هذا معلوم الوجوب، والتردید إنّما هو بین الفرضین من البشرط واللاّبشرط، وعلیه، فإنّ مقوّم العلم الإجمالی هو طبیعی الصّلاة المردّد، وطبیعی الرقبة المردّد، وانحلال العلم الإجمالی بما هو مقوّم العلم الإجمالی محال، بل اللاّزم هو الإنحلال إلی أحد طرفی التردید.

والثانی: إنّ قوله بأنّ اللاّزم فی الإنحلال هو العلم التفصیلی فی مرحلة تعلّق

ص: 357


1- 1. مصباح الأصول: 446.

التکلیف لا فی مرحلة الإمتثال. باطل. وذلک لأنّ أساس التنجیز عند العقل فی العلم الإجمالی هو الإشتغال الحاصل من العلم، لأنّه الذی قامت علیه الحجّة، والإشتغال بالجامع علی وجه الیقین یقتضی الفراغ الیقینی، وهو لا یحصل إلاّ بالجمع بین طرفی التردید، ولو حصل الإنحلال خرج أحد الطرفین عن دائرة التکلیف.

وبالجملة، فإنّا فی العلم الإجمالی نحتاج إلی الإتیان فی مرحلة الإمتثال بما هو مصداق الواجب. والقول بعدم الحاجة إلی القدر المتیقّن فی مقام الإمتثال. فیه: أنّه إن لم یحصل ذلک، وقع الشک فی تحقّق الإمتثال، والعقل یری وجوب الإطاعة لِما تعلّق به التکلیف الشرعی وهو الصّلاة والعتق.

الثانی: إنّ ما ذکره لو تمّ لجری فی الشکّ فی الجزئیّة أیضاً، وذلک لأنّ کلّ واحدٍ من الأجزاء له إعتباران: الأوّل: إعتبار الجزئیّة، وأن الوجوب المتعلّق بالمرکّب متعلّق به ضمناً. الثانی: إعتبار الشرطیّة، وأن سائر الأجزاء مقیّد به، لأنّ الکلام فی الأقلّ والأکثر الإرتباطیین، فیکون الشکّ فی الجزئیّة شکّاً فی الشرطیّة بالإعتبار الثانی، فیجری الوجه المذکور، فلا وجه للإختصاص بالشکّ فی الشرطیّة.

مناقشة الإشکال الثانی

وفیه: إنّ هذا الإشکال مبنائی، فإنّ صاحب الکفایة لا یری وجود اللّحاظین فی الأجزاء، وهو الحق، وقد تقدّم البرهان علی ذلک ثبوتاً وإثباتاً.

ص: 358

التحقیق:

والتحقیق: وجود الفرق بین الأجزاء الخارجیّة والتحلیلیّة، لما تقدّم من استحالة الإشتراط والتقیّد فی الخارجیّة. وأمّا التحلیلیّة، فإنّه فی القسمین _ الأوّل والثانی _ أی: فی دوران الأمر بین اللاّبشرط والبشرط، وبین المطلق والمقیّد، یلزم الإشتراط والتقیید ثبوتاً، ویوجد الکاشف عن ذلک إثباتاً، ففی مورد الإشتراط یوجد الدلیل علیه، وکذا فی مورد التقیید.

إنّه یوجد الیقین بوجوب الصّلاة والعتق، لکنّ الشکّ فی الأوّل فی اشتراطه بالسّتر وعدم الإشتراط به، وفی الثانی فی تقیّد الرقبة بالإیمان وإطلاقها عنه. وحینئذٍ، فإنّه لا یحتمل وجوب العقاب فی طرف اللاّبشرط، وطرف الإطلاق، وإنّما یحتمل العقاب فی طرف البشرط والتقیید، وحیث لا بیان علی ذلک، تجری البراءة العقلیّة، وحیث لا علم بالإشتراط والتقیید، تجری البراءة الشرعیّة.

وتلخّص: إنحلال العلم، لکنّه إنحلال حکمی لا وجدانی، لعدم الیقین بعدم اشتراط الصّلاة بالسّتر، وعدم تقیّد الرّقبة بالإیمان.

کلام المحقّق الاصفهانی:

فإنّه بعد أنْ ذکر طرق الإنحلال وناقش فیها، إختار طریقاً آخر فقال(1) ما هذا توضیحه:

إنّ الأحکام الشرعیّة تابعة للأغراض والملاکات الواقعیّة. والأُمور الدخیلة

ص: 359


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 329.

فی مرحلة الواقع _ بقطع النظر عن مرحلة الحکم _ علی قسمین، منها: ما یقوم به الغرض، ونسبته إلی الغرض نسبة المقتضی إلی المقتضی. ومنها: ما تکون نسبته إلی الغرض نسبة الشرط إلی المشروط. ومن المعلوم أنّ حقیقة الشّرط ما هو المتمّم لفاعلیّة الفاعل أو لقابلیّة القابل.

مثلاً: یترتّب غرض الشارع علی الصّلاة، ویکون لکلّ جزء من أجزائها دخل فی تحقّق الغرض من الأمر بها، فکلٌّ منها جزءٌ للمقتضی. بخلاف السّتر والطّهارة ونحوهما، فإنّها لا دخل لها فی الغرض، بل إنّ أثرها هو نقل الأجزاء _ من القراءة والرکوع والسّجود _ من مرحلة إقتضاء الدخل فی الغرض إلی مرحلة الفعلیّة. فظهر الفرق بین أجزاء الصّلاة وشرائط الصّلاة، فإنّه افتراق ذاتی، ولذا کان هذا جزءً وذاک شرطاً. وحاصله: إنّ ما کان دخیلاً فی تحقّق الغرض، فهو جزء، وإنّ ما کان غیر دخیل فیه، بل هو مؤثّر فی فعلیّة الجزء، فهو شرط. ومن هنا: یکون الجزء مطلوباً نفسیّاً والشرط مطلوباً غیریّاً، فالطلب هناک نفسی وهنا غیری. ویشهد بذلک مقام الإثبات، فإنّ الأوامر النفسیّة تکشف عن الإرادة النفسیّة والغرض النفسی، فیقول «أقِمِ الصَّلاة»، والأوامر الغیریّة کاشفة عن کون الإرادة غیریّة، إذ یقول «إذَا قُمْتُمْ إلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا». فهذا البیان بیان الطلب الغیری، وذاک بیان الطلب النفسی.

فظهر الفرق ثبوتاً وإثباتاً بین الأجزاء والشّروط، فالشرط سواء کان له وجود خارجی کالسّتر أوْ لا کالإیمان، له دخلٌ فی فعلیّة تأثیر الجزء فی تحقّق الغرض، فلو علم إجمالاً بوجوب الصّلاة أو العتق، وشکّ فی السّتر أو الإیمان، کان وجوب

ص: 360

الصّلاة وعتق الرقبة وجوباً نفسیّاً، والسّتر أو الإیمان وجوباً غیریّاً، فینحلّ العلم إلی العلم بوجوب الصّلاة والعتق وجوباً نفسیّاً، والشکّ فی وجوب السّتر والإیمان وجوباً غیریّاً. وبهذا الترتیب ینحلّ العلم الإجمالی فی المقام، کما کان ینحلّ فی الأجزاء الخارجیّة، حیث کان یوجد العلم بوجوب القراءة والرکوع والسّجود، والشکُّ فی إنبساط هذا الوجوب علی السّورة، وحیث لا بیان بالنسبة إلی السّتر والإیمان، فإنّ البراءة العقلیّة تجری بلا إشکال.

وعلی الجملة، فإن البراءة العقلیّة جاریة هنا کجریانها فی الأجزاء الخارجیّة، غیر أنّ الوجوب هناک وجوب واحدٌ وهو نفسی، ویشکّ فی إنبساطه علی السّورة، وهنا وجوبان، أحدهما نفسی متیقّن والآخر غیری مشکوک فیه.

کلام المحقّق العراقی:

وقال المحقّق العراقی(1) ما محصّله کلام الإصفهانی، فإنّه قال بأنّ الإنحلال فی دوران الأمر بین البشرط واللاّبشرط، وبین المطلق والمقیّد، یکون بأنّ متعلّق الوجوب المتیقّن بمطلوبیّته النفسیّة هو الذات، والمشکوک فیه هو تقیّد الذات بالقید، وحینئذٍ، فإنّه لمّا کان التقیّد بالسّتر وبالإیمان جزءً _ لکنّه جزء عقلی لا خارجی _ یرجع الشکُّ إلی إعتبار الجزء الزائد فی الواجب، ومع الشک فیه لعدم البیان له، تجری البراءة عنه. وأیضاً: لمّا کان وضع الجزئیّة للسّتر والایمان بید الشارع، فمع الشکّ فیه یجری حدیث الرفع، فتکون البراءة الشرعیّة أیضاً جاریةً.

ص: 361


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 396.

وتلخّص إنّه علی مسلک هذین المحقّقین یکون الواجب بالوجوب النفسی معلوماً یقیناً، والشکّ إنّما هو فی الوجوب الغیری للشرط أو القید علی مسلک الأوّل، وفی الزائد علی الذات علی مسلک الثانی. وأرکان البراءة العقلیّة والنقلیّة تامّة.

التحقیق:

إنّ الإنحلال یتقوّم بحصول العلم التفصیلی الوجدانی بأحد الطرفین، بأن یکون هو الواجب المطلوب بالوجوب النفسی، وبالشکّ الوجدانی فی تعلّق الطلب والوجوب الغیری بالنسبة إلی الشرط أو القید.

وفیما نحن فیه: الجامع الذی یترتّب علیه الغرض هو المقتضی، ولکنّ المراد بالإرادة النفسیّة لیس المقتضی وحده، بل المقتضی مع الشرط والقید، فلو تجرّد من الشرط أو القید کان باقیاً فی مرحلة الإقتضاء ولم یصل إلی المطلوبیّة النفسیّة، وانحلال العلم الإجمالی إنّما یکون بفعلیّة الطلب.

وبعبارة أُخری: إن کان المراد بالإرادة النفسیّة هو ذات المقتضی، تمّ ما ذکره المحقّق الإصفهانی، لکنّ المراد کذلک هو المقتضی المقترن بالشرط، کما فی إحراق النّار، فإنّ المقتضی للإحراق موجود فی النار، لکن فعلیّته متوقّفة علی المماسّة مع الحطب، لأنّ الذی یدعو إلی الطلب لیس قوّة الغرض بل فعلیّة الغرض، ومن المعلوم أنّها تابعة لوجود الشرط، لأنّ الشرط متمّم لفاعلیّة الفاعل أو قابلیّة القابل.

ص: 362

وعلی هذا، فإنّ الصّلاة الفاقدة للسّتر والرقبة الفاقدة للإیمان لا تکون معلومة المطلوبیّة بالطلب النفسی بالوجدان، لاحتمال أن یکون الغرض مترتّباً فی الواقع علی الصّلاة مع السّتر، والرقبة مع الإیمان.

إنّه لابدّ من حکم العقل بأنّ المأتی به هو المطلوب للمولی والمحصّل لغرضه، ومع الإحتمال المذکور لا یحکم العقل بهذا الحکم، فتبقی الذمّة مشغولةً بالصّلاة أو العتق المحصّل لغرض المولی.

وتلخّص: أنّ الإنحلال علی تقریب المحقّق الإصفهانی محال.

وأمّا بیان المحقّق العراقی، فقد جاء فیه: وأمّا إذا کان التردید بین الأقلّ والأکثر فی شرائط المأمور به وموانعه، فالکلام فیه هو الکلام فی الأجزاء حرفاً بحرف فصریحه.

قیاس الأجزاء التحلیلیّة علی الأجزاء الخارجیّة.

وفیه نظر. لأنّ عمدة القول بالبراءة فی الأجزاء الخارجیّة، هو أنّ العشرة متیقّنة والحادیعشر مشکوک فی وجوبه، فیجری الأصل فیه. فالأقلّ متیقّن الوجوب علی کلّ تقدیر. وأمّا الأجزاء التحلیلیّة، فکما یظهر من العنوان، یکون جزئیّتها بتحلیلٍ من العقل، فهو یحلّل إلی أن هناک رقبة وهناک إیمان، هناک صلاة وهناک ستر، وحینئذٍ، یأتی العقل بالجزئیّة العقلیّة للسّتر والإیمان، وإلاّ، فإنّ العرف لا یری فی الرقبة المؤمنة أو فی الصّلاة مع السّتر شیئین. فظهر الفرق بین الأجزاء الخارجیّة والشرائط والقیود، وقیاسها علیها غیر صحیح، فإنّ الإثنینیّة بین الأقلّ والأکثر فی الخارجیّة واقعیّة، وأمّا فی التحلیلیّة، فلا أقلّ وأکثر عرفاً، بل المأمور به

ص: 363

واحد، حیث یقول المولی: صلّ متستّراً، أعتق رقبةً مؤمنةً، وإنّما التحلیل من العقل.

وعلی هذا، لا یصحّ فی التحلیلیّة أنْ یقال: الواجب إمّا ذات الصّلاة وإمّا الصّلاة مع السّتر. إمّا ذات الرقبة وإمّا الرقبة مع الإیمان.

فالتحقیق أن یقال بحصول الإنحلال فی القسمین من جهة أن الأصل العقلی والشرعی لا یجریان فی طرف اللاّبشرط والإطلاق، فیکونان جاریین فی الطرف الآخر بلا معارض.

الکلام فی القسم الثالث

وهو: أن یکون الطرف المشکوک فیه مقوّماً، کما لو تعلّق الأمر بالتیمّم بالصّعید، وتردّد الصّعید بین خصوص التراب ومطلق وجه الأرض، فهل خصوصیّة الترابیة دخیلة أوْ لا، ولا یخفی کونها مقوّمةً لوجود المأمور به؟

قد وقع الخلاف بین الأعلام فی هذا القسم:

القول بالإشتغال

فصاحب الکفایة والمیرزا علی الإشتغال، فلا تجری البراءة لا شرعاً ولا عقلاً.

وقد أوضح المحقّق(1) المیرزا وجه الإشتغال: بأنّ هذا القسم یکون من صغریات دوران الأمر بین التعیین والتخییر، وقد تقرّر هناک الإحتیاط والإشتغال.

ص: 364


1- 1. أجود التقریرات 3 / 507.

الکلام فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر

اشارة

وتفصیل الکلام فی کبری دوران الأمر بین التعیین والتخییر، هو:

إنّ هذا الدوران یکون تارة: فی الحجیّة. وأُخری: فی الأحکام التکلیفیّة فی مقام الإمتثال. وثالثة: فی الأحکام التکلیفیّة فی مقام الجعل.

القسم الأوّل:

فإنْ کان من قبیل القسم الأوّل، فأصالة التعیین هی الجاریة قطعاً، کما لو شک فی أنّ الحجّة قول المجتهد الأعلم أو مطلق المجتهد، فإنّ الأعلم هو المتعیّن، ولا یخرج المکلّف عن العهدة إلاّ بالعمل بقول الأعلم. وهذا هو الإشتغال.

وکذا لو شکّ بنحو الشّبهة الموضوعیّة، فاحتمل کون أحدهما أعلم وکونهما متساویین فی العلم، فإنّه یتعیّن العمل بقول محتمل الأعلمیّة. وهذا هو الإشتغال.

ووجه القول بالإشتغال فی هذا القسم:

أوّلاً: حکم العقل، لأنّ العقل فی هذه الحالة یقطع بکون العمل بقول الأعلم مبرءً للذمّة، أمّا العمل بقول الآخر، فمشکوک فی ذلک، وحینئذٍ، یحکم بالأخذ بما هو متیقّن الحجیّة دون المشکوک فی حجیّته، لأنّ ما شک فی حجیّته فی الواقع یقطع بعدم حجیّته فی الظاهر.

ثانیاً: الأصل الشرعی، فإنّ الحجیّة من المجعولات، فمتی شکّ فیها جری أصالة العدم. ولهذا الإستصحاب تقریبان، أحدهما: إستصحاب عدم الجعل. والآخر: إستصحاب عدم المجعول. نعم، الإستصحاب الأوّل أصل مثبت، دون الثانی، فإنّه لا إشکال فیه.

ص: 365

نعم، یقع الإشکال فی أنّ الإستصحاب هل یجری فی الشبهات الحکمیّة أوْ لا؟

والمختار عندنا جریان الإستصحاب فی الشبهات الحکمیة، لأنّه لا تعارض بین عدم الجعل ووجود المجعول، وإذا جری الإستصحاب لا تصل النوبة إلی التمسّک بالحکم العقلی.

هذا تمام الکلام فی القسم الأوّل.

القسم الثانی:

أن یدور الأمر بین التعیین والتخییر فی مقام الإمتثال لحکم المولی. وهذا یکون فی مورد التزاحم، حیث القدرة واحدة والواجب متعدّد، کما فی إنقاذ الغریقین.

وتفصیل المطلب هو: إنّه تارةً: نقطع بتساوی الملاک، وأُخری: نقطع بأقوائیّته فی أحدهما، وثالثة: نحتمل أقوائیّة الملاک فی أحدهما.

فإن کان القطع بالتساوی، فقولان:

أحدهما: سقوط کلا التکلیفین، وأنّ العقل یستکشف الوجوب التخییری.

والآخر: سقوط إطلاق الدلیلین، فیکون کلٌّ منهما مشروطاً بترک الآخر، والنتیجة التخییر کذلک.

غیر أنّ کیفیّة الفتوی تختلف، فعلی الأوّل، یفتی بوجوب الإنقاذ تخییراً. وعلی الثانی، یفتی بوجوب إنقاذ هذا الغریق فی حال عدم إنقاذ ذاک، وبالعکس.

وإنْ أُحرز أهمیّة أحدهما:

ص: 366

فلا ریب فی أنّ الوظیفة هی التعیین، کما لو کان أحدهما عالماً والآخر عامّیاً. وذلک، لأنّ مع وجود الأهم یسقط إطلاق الخطاب بالنسبة إلی المهم، أمّا الأهم، فالخطاب وإطلاقه موجودان. ویقع الکلام فی سقوط الخطاب من أصله بالنسبة إلی المهم وعدم سقوطه، وهذا البحث یرجع إلی مسألة الترتّب، فالمنکر یقول بسقوط أصل الخطاب، والقائل بالترتّب یقول ببقاء أصل الخطاب.

والحاصل: یجب إنقاذ العالم، سواء أمکن إنقاذ غیره أوْ لا. فإنْ عصی الأمر بإنقاذ العالم وجب إنقاذ غیره.

وإنْ احتمل أهمیّة أحدهما:

کان المقام من دوران الأمر بین التعیین والتخییر.

والحق هو الأوّل، لوجهین: أحدهما من ناحیة الخطاب. والآخر من ناحیة الملاک.

تقریر الأوّل: إنّه لو دار الأمر بین الصّلاة فی آخر الوقت وإزالة النجاسة عن المسجد، واحتملنا أهمیّة الصّلاة، وجب الصّلاة علی وجه التعیین. ولکنْ قد یقع الشکّ فی أهمیّة الصّلاة من الإزالة، کما لو تنجّس المسجد النبوی، أو احتمل کون أحد الغریقین من العلماء الکبار، ففی مثله یدور الأمر بین التعیین والتخییر، ولمّا کان الإطلاق حجّةً فإن إسقاط إطلاق کلّ منهما یحتاج إلی الدلیل لکنّه فی الطرف المتیقّن عدم أهمیّته یسقط، سواء کان الطرف الآخر هو الأهم أوْ لم یکن، وأمّا المحتمل الأهمیّة فیکون سقوط إطلاقه مشکوکاً فیه، وکلّ حجّةٍ شک فی سقوطها وجب العمل بها. والنتیجة هی التعیین لمحتمل الأهمیّة.

ص: 367

وتقریر الثانی: إنّ تحصیل غرض المولی من حکمه واجب عقلاً، والرافع لهذا الحکم العقلی أحد الأمرین من المعجّز التکوینی والمعجّز الشرعی. أمّا الملاک المحتمل الأهمیّة، فغیر ساقط قطعاً، لأنّ الملاک غیر تابع للقدرة. وحینئذٍ یکون موجوداً، سواء کانت القدرة أوْ لا، وهذا الملاک والغرض لابدّ من تحصیله عقلاً، أمّا المعجّز التکوینی، فغیر موجود، لوجود القدرة علی محتمل الأهمیّة، وحینئذٍ، لا إطلاق بالنسبة إلی غیر محتمل الأهمیّة.

ویبقی الکلام فیما إذا کان الإحتمال قویّاً والمحتمل ضعیفاً. والحق فیه: إنّ المؤثّر هو القدرة أو الضعف فی ناحیة المحتمل، لأن محتمل الأهمیّة هو المقدّم وإنْ کان الإحتمال فیه ضعیفاً. والدلیل علی ذلک هو: إنّ الأدلّة الناهیة عن العمل بالظنّ تسقط الإحتمال الأقوی عن الأثر لکونه ظنّاً و«إنَّ الظَّنَّ لاَ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً» فقوّة الإحتمال لا أثر لها، وإنّما الأثر هو لمحتمل الأهمیّة.

القسم الثالث:
اشارة

وهو: ما إذا دار الأمر بین التعیین والتخییر فی مرحلة الجعل، وهو علی ثلاثة صور:

1_ الدوران مع إحراز وجوب الطرفین.

2_ أن یکون أحد الطرفین واجباً، ویدور أمر الطرف الآخر بین أنْ یکون واجباً بالوجوب التخییری أو مسقطاً لوجوب الطرف. ومثاله _ وإنْ نوقش فیه _ أنْ تکون القراءة فی الصّلاة واجبةً، ثمّ یشکّ فی أنّ الصّلاة جماعةً یسقط وجوب القراءة أو أنّ الصّلاة جماعةً عدلٌ لوجوب القراءة، فیکون الوجوب تخییریّاً.

ص: 368

3_ أن یقطع بوجوب طرف، ثمّ یشکّ فی الطّرف الآخر هل هو واجب کذلک، فیکون عدلاً للواجب التخییری، أوْ أنّه لیس بواجب أصلاً؟

مثاله: الیقین بوجوب الصّوم کفّارةً، ثمّ إحتمال أن یکون الإطعام واجباً کذلک، أو أنّه لیس بطرفٍ للصّوم، بل الصّوم واجب تعییناً.

مقدّمة

ذکر فی مصباح الأصول(1) قبل الشروع فی البحث أمرین:

الأوّل: إنّ محلّ الکلام إنّما هو فیما إذا کان الوجوب فی الجملة متیقّناً ...

الثانی: إنّ محلّ الکلام إنّما هو فیما إذا لم یکن فی البین أصل لفظی من الإطلاق ونحوه، ولا إستصحاب موضوعی یرتفع به الشک ...

أقول:

لکنّ النکتة المهمّة هی فی الإستصحاب، فإنّه من الإستصحاب فی الأحکام الکلیّة الإلهیّة، وفی جریانه فیها ثلاثة أقوال:

أحدها: عدم الجریان، لعدم المقتضی، ذهب إلیه من المعاصرین السیّد الخونساری فی جامع المدارک، لأنّ مورد أدلّة الإستصحاب هو الشبهات الموضوعیّة، والقول بعمومها للحکمیة مشکل، فلا إقتضاء لجریانها فیها.

والثانی: عدم الجریان، لا لعدم الإقتضاء، بل لوجود المانع _ وعلیه النراقی وتبعه الخوئی _ وذلک: لأنّ إستصحاب الحکم المجعول، یعارضه إستصحاب عدم الجعل.

ص: 369


1- 1. مصباح الأصول: 449.

الثالث: الجریان. فالمقتضی موجود خلافاً للقول الأوّل، والمانع مفقود خلافاً للقول الثانی. والتفصیل فی محلّه.

والحاصل: إنّ القائل بعدم جریان الإستصحاب فی الشبهات الحکمیّة، لعدم المقتضی أو وجود المانع، لیس له التمسّک فی المقام بالإستصحاب.

الصّورة الأُولی

قال المحقّق الخوئی(1): أمّا الصّورة الأُولی، فلا أثر للشک فیها فیما إذا لم یتمکّن المکلّف إلاّ من أحد الفعلین، ضرورة وجوب الاتیان به حینئذ، إمّا لکونه واجباً تعیینیّاً أو عدلاً لواجب تخییری متعذّر.

وبعبارة أُخری: یعلم بکونه واجباً تعیینیّاً فعلاً، غایة الأمر لا یعلم أنّه تعیینی بالذّات أو تعیینی بالعرض، لأجل تعذّر عدله. وإنّما تظهر الثمرة فیما إذا تمکّن المکلّف من الإتیان بهما معاً، فیدور الأمر بین وجوب الإتیان بهما وجواز الإقتصار علی أحدهما. والتحقیق هو الحکم بالتخییر، وجواز الإکتفاء بأحدهما، لأنّ تعلّق التکلیف بالجامع بینهما متیقّن، وتعلّقه بخصوص کلّ منهما مشکوک فیه، فهو مورد لجریان البراءة بلا مانع.

قال شیخنا: فی هذا الإستدلال تأمّل سیأتی بیانه.

ص: 370


1- 1. مصباح الأصول: 450.
الصّورة الثانیة

وقال السیّد الخوئی(1): أمّا الصّورة الثانیة، فقد عرفت أنّه لا ثمرة فیها فی کون الوجوب تعیینیّاً أو تخییریّاً، إلاّ فیما إذا تعذّر ما علم وجوبه فی الجملة، فإنّه علی تقدیر کون وجوبه تخییریّاً، یجب علیه الإتیان بالطّرف الآخر المعلوم کونه مسقطاً للواجب، وعلی تقدیر کون وجوبه تعیینیّاً لا شیء علیه، فالشک فی التعیین والتخییر فی هذه الصّورة یرجع إلی الشکّ فی وجوب ما یحتمل کونه عدلاً للواجب عند تعذّره، وهو مورد للبراءة، فتکون النتیجة فی هذه الصّورة هی نتیجة التعیین دون التخییر.

قال: ثمّ إنّ المحقّق النائینی رحمه اللّه إستدلّ علی کون الوجوب تعیینیّاً فی خصوص مسألة القراءة والإئتمام الّتی ذکروها مثالاً لهذه الصّورة بما ورد عن النّبیّ صلّی اللّه علیه وآله من أن سین بلال عند اللّه شین(2)، بتقریب أنّ الإئتمام لو کان عدلاً للقراءة لوجب علیه الإئتمام علی تقدیر التمکّن منه، وعدم جواز الإکتفاء بالسّین بدلاً عن الشّین.

فردّ علیه بضعف الروایة، وعدم تمامیّة الدلالة علی المدّعی. فراجعه.

الصّورة الثالثة
اشارة

وهی: ما لو علم بوجوب الإطعام کفّارةً، وشکّ فی وجوب الصّوم کذلک،

ص: 371


1- 1. مصباح الأصول: 451.
2- 2. عدة الداعی ونجاح الساعی: 21.

بأنْ یکون عدلاً للإطعام علی وجه الواجب التخییری أوْ لا؟

فیه قولان:

دلیل القول بالتعیین

الأوّل: التعیین. ذهب إلیه صاحب الکفایة والمیرزا، لوجوه:

الوجه الأوّل
اشارة

ما ذکره المیرزا: من أنّ الشکّ فی المقام لیس فی مقام الإشتغال، بل فی حصول الإمتثال بعد العلم بثبوت التکلیف، فیکون المرجع قاعدة الإشتغال والحکم بالتعیین، فلو دار أمر الکفارة بین خصوص الصّوم وبین الصّوم والإطعام، کان الصّیام مفرغاً للذمّة یقیناً، لکنْ یشکّ فی سقوط التکلیف المعلوم بالصّوم وحده، فیجب الإتیان عقلاً بالإطعام أیضاً.

والحاصل: إنّ مجری البراءة عقلاً ونقلاً هو الشک فی الإشتغال والتکلیف.

الإشکال علیه

أشکل علیه تلمیذه المحقّق(1) بقوله:

والّذی ینبغی أن یقال: إنّ التخییر المحتمل فی المقام إمّا أن یکون تخییراً عقلیّاً، کما إذا دار الأمر بین تعلّق التکلیف بحصّة خاصّة أو بالجامع العرفی بینهما

ص: 372


1- 1. مصباح الأصول: 454.

وبین غیرها من سائر حصص الجامع. وإمّا أن یکون تخییراً شرعیّاً. کما إذا کان مایحتمل وجوبه مبایناً فی الماهیّة لما علم وجوبه فی الجملة ولم یکن بینهما جامع عرفی، نظیر ما تقدّم من المثال فی کفارة تعمّد الإفطار. وقد ذکر فی محلّه أنّ الوجوب التخییری فی هذا القسم یتعلّق بالجامع الإنتزاعی المعبّر عنه بأحد الشیئین أو أحد الأشیاء. أمّا فی موارد إحتمال التخییر العقلی، فتعلّق التکلیف بالجامع معلوم، وإنّما الشک فی کونه مأخوذاً فی متعلّق التکلیف علی نحو الإطلاق واللاّبشرط، أو علی نحو التقیید وبشرط شیء، إذ لا یتصوّر الإهمال بحسب مقام الثبوت، والإطلاق والتقیید وإن کانا متقابلین ولم یکن شیء منهما متیقّناً، إلاّ أنک قد عرفت سابقاً أنّ إنحلال العلم الإجمالی غیر متوقّف علی تیقّن بعض الأطراف، بل یکفی فیه جریان الأصل فی بعض الأطراف بلا معارض. وقد سبق أن جریان أصالة البراءة العقلیّة والنقلیّة فی جانب التقیید غیر معارض بجریانها فی طرف الإطلاق، فإذا ثبت عدم التقیید ظاهراً لأدلّة البراءة، لا یبقی مجال لدعوی رجوع الشکّ إلی الشکّ فی الإمتثال، لیکون المرجع قاعدة الإشتغال، فإنّ الشکّ فی الإمتثال منشأه الشکّ فی إطلاق الواجب وتقیّده، فإذا ارتفع إحتمال القید بالأصل، یرتفع الشکّ فی الإمتثال أیضاً. ومن ذلک یظهر الحال فی موارد إحتمال التخییر الشرعی، وإن الحکم فیه أیضاً هو التخییر، لأنّ تعلّق التکلیف بعنوان أحد الشیئین فی الجملة معلوم، وإنّما الشکّ فی الإطلاق والتقیید، فتجری أصالة البراءة عن التقیید، وبضمّ الأصل إلی الوجدان یحکم بالتخییر.

ص: 373

المناقشة

وأورد علیه شیخنا دام بقاه بوجهین:

الأوّل: إنّ الأقوال فی حقیقة الواجب التخییری مختلفة.

فمنهم من قال: إنّ الوجوب متعدّد لکنّها وجوبات مشروطة، فالإطعام واجب إذا ترک الصّوم، والصّوم واجب إذا ترک الإطعام.

ومنهم من قال: کلّ واحدٍ واجب لکنّه یجوز ترکه إلی بدل.

ومنهم من قال: بأنّ الواجب هو الجامع الإنتزاعی بین الخصال. أی عنوان أحدهما أو أحدها.

فالجواب المذکور إنّما یتمّ بناءً علی القول الثالث الذی اختاره السیّد الخوئی. ولا یتمّ بناءً علی سائر المبانی.

الثانی: إنّ لاستکشاف متعلّق الحکم طریقین:

أحدهما: عن طریق لسان الدلیل القائم فی مقام الإثبات.

والثانی: عن طریق الغرض.

فأمّا الأدلّة، فغیر متعلّقة بالجامع الإنتزاعی، بل تقول: أطعم ستّین مسکیناً أو أعتق رقبةً أو صم ستّین یوماً. فهی لیست متعلّقة بالجامع الإنتزاعی، وإنّما هذا الجامع من صنع العقل، ولیس بمتعلّقٍ للحکم الشرعی.

وأمّا الغرض، فإنّ مقتضی أنّ الأحکام الشرعیّة تابعة للأغرض، کما هو مذهب العدلیّة، وأنّ إعتبار الحاکم فی مقام الحکم لا یتخلّف عن متعلّق الغرض وإلاّ یلزم تخلّف الحکم عن الغرض وهو محال، هو أنْ یکون بیان الحاکم مطابقاً

ص: 374

للواقع لا مخالفاً له، وقد عرفت أنّ الجامع الإنتزاعی من صنع العقل، ولا وجود له إلاّ فی الذهن، ومن المعلوم أنّ الوجود الذهنی غیر حامل للغرض، بل الغرض مترتّب علی الخصوصیّة الخارجیّة.

والحاصل، إنّه لا معنی لتعلّق التکلیف بالجامع، بل هو متعلّق بالخصوصیّة، فخصوصیّة الصّوم محقّقة للغرض، وکذا خصوصیّة الإطعام والعتق، وخطاب الشارع یأتی مع (أو)، کما أنّ خطابه فی التعیینات یأتی مع (الواو).

وبما ذکرنا یظهر أنّ تعلّق التکلیف بالخصوصیّة معلوم، إنّما الشکّ فی أنّ لها بدلاً أوْ لا، وحینئذ یعود الأمر إلی مقام الإمتثال بعد العلم بالتکلیف، فیتمّ کلام المیرزا.

نعم، لو کان المتعلّق هو الجامع الإنتزاعی ورد الإشکال علیه.

هذا بالنسبة إلی کیفیّة الخطاب.

وأمّا بالنسبة إلی الغرض، حیث العلم بالحکم موجود، وهو تابع للغرض، لکنْ لا ندری هل یتحقّق الغرض بالصّوم بخصوصه أو یتحقّق بعدله وهو الإطعام أیضاً؟ فإنّ العقل یحکم بوجوب الإتیان بالصّوم فقط، حتی یتیقّن بتحصیل الغرض.

هذا تمام الکلام علی الوجه الأوّل للقول بالتعیین.

الوجه الثانی
اشارة

ما ذکره المیرزا أیضاً: من أنّه متی علم بوجوب شیء، ثمّ احتمل وجوب

ص: 375

شیء آخر یکون عدلاً للواجب الأوّل حتی یکون الوجوب تخییریّاً، فإنّ الأصل هو التعیین. وذلک، لأنّ الوجوب التخییری یحتاج إلی المؤنة فی مقام الثبوت ومقام الإثبات.

أمّا فی مقام الثبوت، فإنّ العدل یحتاج إلی أن یلحظه المولی ویعلّق الحکم علی الجامع بینه وبین الواجب المعلوم.

وأمّا فی مقام الإثبات، فلأنّ العِدل یحتاج إلی البیان.

وما لم تقم الحجّة علی المؤنة الزائدة، فإنّ الأصل عدمها. فیثبت الوجوب التعیینی.

الإشکال علیه

وأشکل علیه تلمیذه المحقّق(1) بوجهین فقال فیه:

أوّلاً: إنّا لا نسلّم أنّ الوجوب التخییری بحسب مقام الثبوت یحتاج إلی مؤنة زائدة بنحو الإطلاق، أی سواء کان التخییر المحتمل تخییراً عقلیّاً أو تخییراً شرعیّاً، فإنّ التخییر العقلی یحتاج إلی لحاظ الجامع فقط، کما أنّ الوجوب التعیینی یحتاج إلی لحاظ الواجب الخاصّ فقط، فلیس هناک مؤنة زائدة فی الوجوب التخییری. نعم، فیما کان التخییر المحتمل تخییراً شرعیّاً یحتاج إلی مؤنة زائدة، لأن الجامع فی التخییر الشرعی هو عنوان أحد الشیئین کما تقدّم. ومن الواضح أنّ لحاظ أحد الشیئین یحتاج إلی لحاظ نفس الشیئین، فیکون الوجوب التخییری محتاجاً إلی

ص: 376


1- 1. مصباح الأصول: 455.

مؤنة زائدة بالنسبة إلی الوجوب التعیینی.

المناقشة

فأورد علیه شیخنا: بأنّ الإهمال فی مقام الثبوت محال، فعلی الحاکم لحاظ متعلّق الحکم، فإنْ کان الجامع هو المتعلّق، فإنّ الجامع لا یکون مهملاً بالنسبة إلی الحصص، فإن کانت دخیلةً فی الغرض من الحکم، وجب لحاظها وأخذها فی الحکم، وإلاّ فإنّه یرفضها، ویکون حکمه مطلقاً بالنسبة إلیها.

والحاصل: إنّه لابدّ من اللّحاظ فی التخییر العقلی أیضاً، إذ الإهمال ثبوتاً محال، فإنْ کان خصوصیّة الإطعام دخیلةً فی الحکم، لزم تقییده بها، وإلاّ جاء الحکم مطلقاً بالنسبة إلیها.

وتلخّص: أنّ إستدلال المیرزا لیس بأخصّ من المدعی، بل هو جارٍ علی التخییر العقلی والشرعی معاً.

قال:

ثانیاً: إنّ مرجع ما ذکره إلی إستصحاب عدم لحاظ العدل. وإثبات الوجوب التعیینی به متوقّف علی القول بالأصل المثبت ولا نقول به، مضافاً إلی کونه معارضاً باستصحاب عدم لحاظ الطّرف الآخر بالخصوص، علی ما سیجیء التعرّض له فی الجواب عن الوجه الرابع إن شاء اللّه تعالی. هذا کلّه فیما ذکره بحسب مقام الثبوت.

وأمّا ما ذکره من أنّ الوجوب التخییری یحتاج إلی مؤنة زائدة فی مقام الإثبات، فهو إنّما یتم فیما إذا دلّ دلیل لفظی علی وجوب شیء من دون ذکر عدل

ص: 377

له، فیتمسّک بإطلاقه لإثبات کون الوجوب تعیینیّاً. وأمّا فیما إذا لم یکن هناک دلیل لفظی، کما هو المفروض فی المقام، إذ محلّ کلامنا عدم وجود دلیل لفظی والبحث عن مقتضی الأصول العملیّة، وقد أشرنا إلی ذلک فی أوّل بحث دوران الأمر بین التعیین والتخییر، فلا یترتّب علیه الحکم بالوجوب التعیینی فی المقام بل لا إرتباط له بمحلّ البحث أصلاً(1).

وحاصله ورود الإشکال من وجوه:

أحدها: إنّ اللّحاظ لیس بحکمٍ شرعی ولا هو موضوع للحکم الشرعی، فلا یجری الأصل بالنسبة إلی الخصوصیّة.

ثانیاً: إنّه معارض باستصحاب عدم لحاظ الطرف الآخر بالخصوص.

ثالثاً: هذا أصل مثبت ولا نقول به.

أقول:

إن کان المستصحب هو اللّحاظ، توجّه ما ذکر من الإشکال.

وأمّا لو قرّر الحکم: بأنّ الواجب یقیناً هو الإطعام، غیر أنّ المکلّف یشکّ فی أنّ الإطعام واجب علی وجه التعیین أو هو عِدل للصّوم مثلاً. فالمتیقّن تعلّق الوجوب بالإطعام ولا شک فیه، بل الشکّ فی تعلّق الوجوب بالصّوم أیضاً علی أنْ یکون عدلاً للإطعام أوْ لا. وبعبارة ثالثة: یشکّ فی أنّ المولی قال _ بعد إیجاب الإطعام _ «أو صمْ» أو لم یقل؟

وحینئذٍ نقول: لا ریب فی أنّ الوجوب من الأُمور الحادثة، وأنّه لم یکن

ص: 378


1- 1. مصباح الأصول: 455 _ 456.

لا تعییناً ولا تخییراً فی الزمان السّابق، ثمّ إنّ هذا العلم بالعدم انتقض بالنسبة إلی الإطعام، فکان واجباً یقیناً، وهل انتقض بالنسبة إلی الصّوم أوْ لا؟ یستصحب عدم تعلّق الوجوب بالنسبة إلی الصّوم، ولا إشکال فیه.

وتلخّص:

أوّلاً: لابدّ من تصحیح إستدلال المیرزا.

وثانیاً: إنّ الإشکال علی الوجه الذی ذکرناه فی التصحیح مندفع.

والحاصل: إنّ الأصل هو التعیین وفاقاً للمیرزا.

الوجه الثالث
اشارة

ما ذکره صاحب الکفایة من أنّ دوران الأمر بین التعیین والتخییر إن کان من جهة إحتمال أخذ شیء شرطاً للواجب، فیحکم فیه بالتخییر، لأنّ الشرطیّة أمر قابل للوضع والرفع، فیشملها حدیث الرفع عند الشک فیها. وأمّا إن کان الدوران بینهما من جهة إحتمال دخل خصوصیّة ذاتیّة فی الواجب _ کما فی المقام _ لا یمکن الرجوع فیه إلی أدلّة البراءة، لأنّ الخصوصیّة إنّما تکون منتزعة من نفس الخاصّ، فلا تکون قابلة للوضع والرفع، فلا یمکن الرجوع عند الشک فیها إلی أدلّة البراءة، فلا مناص من الحکم بالإشتغال والإلتزام بالتعیین فی مقام الإمتثال.

الإشکال علیه

أشکل علیه السیّد الخوئی(1) بقوله:

ص: 379


1- 1. مصباح الأصول: 453.

وفیه: إنّ الخصوصیّة وإن کانت منتزعة من نفس الخاصّ وغیر قابلة للوضع والرفع، إلاّ أنّ اعتبارها فی المأمور به قابل لهما، فإذا شکّ فی ذلک کان المرجع هو البراءة.

أقول:

حاصل کلام الکفایة هو: إن کانت الخصوصیّة فی الأقلّ غیر منتزعةٍ من نفس الذات، کان من قبیل الأقلّ والأکثر، وتجری البراءة عن الأکثر. کما فی الصّلاة والسّتر، فإنّه لو دار الأمر بین وجوب الصّلاة مطلقةً ووجوبها مشروطةً بالسّتر، جری أصالة البراءة عن الإشتراط بالسّتر.

وإن لم تکن الخصوصیّة ذات وجودٍ مستقل عن الذّات، بل کانت منتزعةً منها، کما فی دوران الأمر بین وجوب إکرام مطلق الإنسان ووجوب إکرام زید بالخصوص، فإنّ الأمر لیس من قبیل الأقلّ والأکثر، بل هما متباینان، وحینئذٍ لا تجری البراءة عن الخصوصیّة.

وتلخّص: التفصیل بین الموارد، فما کان من قبیل الشرط والمشروط، تجری فیه البراءة، وما کان من قبیل الجنس والنوع، فلا تجری.

التحقیق

فقال شیخنا: إنّ ما ذکره صاحب الکفایة بحسب مقام الخارج صحیح، إذ لیس عندنا فی الخارج «إنسان» و«زید» أو «حیوان» و«إنسان». وکذلک ما ذکره بالنسبة إلی «الصّلاة» و«السّتر».

إلاّ أنّ الکلام فی مقام الجعل والتکلیف، فمن الممکن أن یتعلّق الحکم

ص: 380

بالحیوان ولا تؤخذ الإنسانیّة فی متعلّق الحکم، أو تؤخذ کذلک، فیکون من قبیل الأقلّ والأکثر، وکذلک الحال فی الصّلاة والسّتر.

وبالجملة، فإنّ التفصیل المذکور بالنظر إلی مرحلة الجعل مردود.

الوجه الرابع

وقال المحقّق العراقی(1) بالتعیین.

أمّا فی مورد دوران الأمر بین الجنس والنوع، فقال بأنّ القاعدة فی الأقلّ والأکثر هی أن یکون الأقلّ فی ضمن الأکثر بذاته لا بحدّه، وإلاّ یکونان من قبیل المتباینین. مثلاً: للنّور مراتب، والمرتبة الضعیفة موجودة فی ضمن الشدیدة، وعند دوران الأمر تجری البراءة عن الأکثر.

أمّا الکلّی والفرد، فلیس من قبیل الأقلّ والأکثر، بل هما متباینان، لأنّ نسبة الکلّی إلی الفرد نسبة الآباء إلی الأبناء، والحصّة الموجودة مع زیدٍ من الإنسانیّة متباینة مع الحصّة الموجودة مع عمرو.

وعلی هذا، فإنّه مع العلم بوجوب الإطعام والشک فی وجوب الصّوم عدلاً له حتی یکون الواجب تخییریّاً، یتحقّق العلم الإجمالی، وهذا العلم یوجب الإحتیاط عقلاً بوجوب الإطعام معیّناً، لأنّه إمّا یحرم ترک الإطعام مطلقاً _ أی سواء أُتی بالصّوم أوْ لا _ وإمّا یحرم ترک الإطعام فی حال ترک الصّوم، کما یحرم ترک الصّوم فی حال ترک الإطعام، فالحرام، إمّا هو ترک الإطعام مطلقاً وإمّا هو حرمة

ص: 381


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 396.

ترکه فی حال ترک الصّوم، وحیث لا جامع بین الترکین، وجب الإتیان بالإطعام علی وجه التعیین، لحصول الإمتثال به علی کلّ تقدیر، أمّا مع الإتیان بالصّوم فالفراغ عن التکلیف الیقینی مشکوک فیه.

هذا کلّه بالنظر إلی حکم العقل.

وأمّا بالنظر إلی حکم الشرع، فمن الممکن إجراء البراءة علی مسلک الإقتضاء، لجریان الأصل بلا معارض فی بعض الصّور، وذلک:

لأنّه إن ترک الإطعام فی ظرف ترک الصّیام، فقد ارتکب الحرام بلا کلام، لأنّ الإطعام إن کان واجباً تعییناً فقد ترک، وإن کان تخییریّاً، فالمفروض ترک العدلین معاً.

وإن ترک الإطعام مع فعل الصّیام، فالحرمة مشکوک فیها، لاحتمال کون الواجب تخییریّاً، والمفروض الإتیان بطرفٍ، ومع الشکّ فی الحرمة تجری البراءة.

وإنْ ترک الصّیام فی فعل ترک الإطعام، فالحرمة مشکوک فیها کذلک، لأنّه إنْ کان الإطعام واجباً تعییناً، فلا حرمة لترک الصّیام.

فتحصّل الشکّ فی الحرمة فی صورتین، وإذا شکّ فی ذلک جرت البراءة، ولا مجال لوجوب الإحتیاط بالإتیان بالإطعام فیهما، ونتیجة جریان البراءة بلا معارض هو التخییر.

النظر فیه

إنّ ما ذکره فی مسألة دوران الأمر بین الکلّی والأفراد، وبین الجنس والنوع،

ص: 382

هو فی الحقیقة نفس ما ذکره شیخه فی الکفایة. والجواب هو:

صحیحٌ أنّ النسبة هی نسبة الآباء والأبناء، والحیوانیّة الموجودة فی الإنسان مغایرة مع الحیوانیّة الموجودة فی الغنم، والإنسانیّة الموجودة فی زید غیرها الموجودة فی عمرو، والحق أنّ الطبیعی موجود بوجود فرده. لکنّ کلّ هذا فی مرحلة الوجود والتحقّق الخارجی، أمّا فی مرحلة الإنشاء وجعل الحکم _ وهی مرحلة التصوّر _ تکون الحیوانیّة غیر الناطقیّة وغیر الصّاهلیّة، ففی مرحلة الحکم یمکن للحاکم أنْ یجعل الجنس أو النوع موضوعاً لحکمه، وأنْ یجعله مطلقاً أو مقیّداً بخصوصیّة.

وأمّا ما ذکره من حکم العقل بالإحتیاط عند دوران الأمر بین التعیین والتخییر، ففیه:

إنّه مع العلم بوجوب الإطعام ثمّ الشکّ فی وجوب الصّوم، یدور أمر الإطعام بین التعیین والتخییر، بمعنی أنّه یشکّ فی أنّ الإطعام هل هو مطلوبٌ للمولی سواء أُتی بالصّوم أوْ لا، أو أنّ المطلوب هو الإطعام فی حال ترک الصّیام؟

الحقیقة: إنّ أمر الإطعام مردّد بین التعیین والتخییر، فیوجد قدرٌ متیقّن وطرفان للشک، فالمتیقّن أن ترک الإطعام حرام، فإنّه إن کان واجباً تعییناً حرم ترکه سواء أُتی بالصّوم أو ترک، وإنْ کان تخییریّاً حرم ترکه مع ترک الصّوم. فترک الإطعام مع ترک الصّوم متیقّن الحرمة، ویقع الشکّ فی موردین:

أحدهما: ترک الإطعام مع فعل الصّوم.

والثانی: ترک الصّیام مع فعل الإطعام.

ص: 383

وإذا شکّ فی الحرمة جرت البراءة.

والحاصل: إنّ المحّرم ترک الإطعام علی کلّ تقدیر، وفی ما سوی هذا الفرض تکون الحرمة مشکوکاً فیها، وهذا هو میزان الإنحلال.

التحقیق فی المقام والرأی المختار

إنّ العلم الإجمالی یکون مؤثّراً فیما إذا دار الأمر بین الأمرین، ولم یکن قدر متیقّن فی البین، ولکنْ قد ظهر وجود القدر المتیقّن، فالعلم منحلّ.

ولکنّ المختار هو:

إذا کان هناک جامع عرفی قابلٌ لتعلُّق التکلیف به بحسب القاعدة، فإنّه مع تعلّق التکلیف به یقیناً والشکّ فی تقییده وإطلاقه، کما لو أُمر بإطعام الحیوان _ والحیوان جامع عرفی _ وشکّ فی أنّ المطلوب هو مطلق الحیوان أو خصوص الإنسان، فإنّ الأصل لا یجری فی الإطلاق، لعدم الکلفة فیه، وإنّما یجری فی طرف التقیید _ وهو خصوصیّة الإنسان _ بلا معارض، فینحلّ العلم حکماً. وهذا مقتضی مبنی الإقتضاء للعلم الإجمالی.

وأمّا قول أعیان القوم بالإنحلال الحقیقی، بأنْ یکون الجامع فی هذا التقدیر هو القدر المتیقّن وإنّما الشکّ فی القدر الزائد.

ففیه: ما ذکرناه فی بحث الأقلّ والأکثر، من أنّ القدر المتیقّن من تعلّق الحکم هو الجنس الموجود فی ضمن الإنسان، وأمّا بالنسبة إلی الغنم والبقر، فإنّ أصل تعلّق الحکم به مشکوک فیه.

ص: 384

هذا بالنسبة إلی الأقلّ والأکثر، وحاصله: أنّه لابدّ عقلاً من الإتیان بما تعلّق به التکلیف، إمّا بنفسه وإمّا ببدله، کما فی موارد قاعدة التجاوز مثلاً، ومتی لم یحرز الإمتثال بالإتیان بأحدهما، فإنّ قاعدة الإشتغال محکّمة.

وهذه القاعدة محکّمة کذلک فی موارد دوران الأمر بین التعیین والتخییر، فإنّه مع العلم بتعلّق التکلیف بالإطعام والشکّ فی جعل الصّیام عدلاً له، لو ترک الإطعام وأتی بالصّیام، یشکّ فی الفراغ، وقد تقدّم أنّ العقل یحکم بضرورة الإتیان بالمتعلّق أو بدله.

نعم، لو تمّ القول بأنّ متعلّق الوجوب فی الواجب التخییری هو عنوان «أحدهما» مثلاً، فإنّه یکون العنوان القدر الواجب، ویشکّ فی تقیّده بالخصوصیّة، فتجری البراءة عن الخصوصیّة، وینحلّ العلم الإجمالی.

لکنّ المبنی غیر تام، ثبوتاً وإثباتاً. کما ذکرنا فی محلّه سابقاً.

إنتهی البحث ویتلوه التنبیهات.

ص: 385

ص: 386

تنبیهات دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر

اشارة

ص: 387

ص: 388

التنبیه الأوّل: هل الجزئیّة مخصوصة بحال الذکر أو مطلقة؟

اشارة

لو وقع الشکّ بالنسبة إلی جزءٍ من أجزاء المرکّب أو شرطٍ من شرائط الواجب: بأنّه هل هو جزءٌ أو شرط مطلقاً أو فی خصوص حال الذکر، وأنّه مع النسیان لیس بشرط أو جزء، فما هو مقتضی القاعدة؟

وهذا بحث مهمٌ له آثار فقهیّة، لأنّ من الواضح أنّ الکلّ ینتفی بانتفاء الجزء، والمشروط ینتفی بانتفاء الشرط، فإن کان الشرط أو الجزء مطلقاً، فسوف ینتفی الکلّ أو المشروط بانتفائه، سواء کان إنتفاؤه عن عمدٍ أو نسیانٍ، وإنْ کانت الجزئیّة أو الشرطیّة منوطةً بالذکر، فإنّه مع النسیان لا ینتفی الکلّ والمشروط.

ولا یخفی أنّ هذا البحث لا یختصّ بالذکر والنسیان، بل یطرح فی الإضطرار والإکراه والإختیار أیضاً.

ثمّ إنّ هذا البحث مبنیٌ علی مسألة أنّه هل مع النسیان لجزءٍ، یکون الشّخص مکلّفاً بالأجزاء الأُخری غیر الجزء المنسیّ، أوْ لا یعقل تکلیفه بها، أو أنّه لو نسی الشّرط، فهل یعقل تکلیفه بالمشروط أوْ لا؟ ففی المسألة قولان.

ص: 389

القول الأوّل ودلیله

قال الشیخ(1) وأتباعه باستحالة التکلیف بغیر المنسی أو بالمشروط مع نسیان جزءٍ أو شرطٍ. ونتیجة ذلک هو الحکم بعدم إجزاء العمل الفاقد للجزء أو للشّرط.

ودلیلهم علی ذلک هو: إنّ التکلیف یتوجّه دائماً إلی المخاطب الملتفت، ولولا الإلتفات فلا یعقل التکلیف أصلاً، لأنّ الغرض من التکلیف هو إیجاد الداعی للإمتثال والإنبعاث، وحیث لا یعقل الإنبعاث من غیر الملتفت، فلا یعقل توجّه التکلیف إلیه. وعلیه، لا یمکن الحکم بإجزاء العمل الفاقد للشّرط أو الجزء.

القول الثانی
اشارة

وقال صاحب الکفایة(2) والمیرزا وغیرهما، بالإمکان. واستدلّوا بوجهین:

الوجه الأوّل للقول الثانی
اشارة

إنّ الإشکال باستحالة توجیه الخطاب إلی الناسی أو لغویّته، إنّما یتوجّه إنْ کان المخاطب معنوناً بعنوان النّاسی، ولکنْ یجوز توجیه الخطاب إلیه بعنوانٍ آخر ملازم له.

ص: 390


1- 1. فرائد الأصول 2 / 387.
2- 2. کفایة الأصول: 368.
الإشکال علی الوجه الأوّل

ویرد علیه _ کما فی المصباح(1) _ إنّ هذا مجرّد فرض وهمی لا واقع له، لا سیّما وأنّ النسیان لیس له میزان مضبوط لیفرض له عنوان ملازم، فإنّه یختلف باختلاف الأشخاص والأزمان واختلاف متعلّقه من الأجزاء والشرائط، فکیف یمکن فرض عنوان یکون ملازماً للنسیان أینما تحقّق.

الوجه الثانی وهو الصحیح

أن یقال بأنّ التکلیف بأرکان الصّلاة متوجّه إلی عامّة المکلّفین، أمّا بالنسبة إلی غیرها کالتّشهد _ مثلاً _ فخاصّ بأهل الذکر، وأنّ من کان قد نسی التشهّد مثلاً فهو مخاطب بالأرکان.

وهذا الوجه تام ثبوتاً، وإثباتاً أیضاً فی الصّلاة، لقاعدة لا تعاد، فإشکال السیّد البروجردی(2) علیه غیر وارد.

وبعد أنْ تقرّر إمکان تکلیف الناسی لجزءٍ أو شرطٍ بالمشروط وبقیّة الأجزاء، نقول: إنّ الإمکان بوحده لا یکفی، بل لابدّ من إقامة الدلیل حتی یظهر أنّ الجزئیّة أو الشرطیّة مقیّدة بحال الذُکر أو هی مطلقة وهذا موضوع التنبیه.

فههنا صور أربع:

1_ أن یکون دلیل الواجب _ وهو الصّلاة _ ودلیل الجزء _ وهو التشهّد _ مطلقین.

ص: 391


1- 1. مصباح الأصول: 460.
2- 2. الحاشیة علی کفایة الأصول 2 / 301 _ 303.

2_ أنْ لا یکون شیء منهما مطلقاً.

3_ أن یکون الأوّل مطلقاً والثانی مقیّداً.

4_ أن یکون عکس الثالث.

تفصیل أصل المطلب

1_ إنْ کان دلیل الواجب ودلیل الجزء هو الإجماع، أو کان الدلیل فیهما لفظیّاً لکنّه مجملٌ أو مهملٌ. فالقاعدة هی الرجوع إلی مقتضی الأصل العملی.

2_ وإنْ کان الدلیلان مطلقین. ففی هذه الصّورة یقع التعارض بین إطلاق الدلیلین، لدلالة دلیل الواجب علی وجوب غیر التشهّد علی کلّ مکلّف، فلو نسی التشهّد وجب علیه البقیّة، ودلالة دلیل الجزء علی وجوب التشهّد مطلقاً، فالصّلاة بدون التشهّد باطلة. ولکنّ هذا التعارض بدویّ غیر مستقر، لأنّ دلیل الجزء ناظر إلی الکلّ، أمّا دلیل الکلّ فغیر ناظر إلی الجزء، فإذا أمر بمرکّب ثمّ أمر بإضافة شیء إلیه، فإنّ الأمر الثانی یکون بمنزلة الحاکم والشارح للأمر الأوّل، فیجمع بین الإطلاقین، وتکون النتیجة تقیّد إطلاق الواجب بغیر الناسی.

3_ وإنْ کان دلیل الواجب المرکّب غیر مطلق ودلیل الجزء مطلق. ففی هذه الصّورة، یتقدّم الإطلاق، وتکون الصّلاة الفاقدة للجزء _ التشهّد _ نسیاناً باطلة.

4_ وإنْ کان دلیل الواجب مطلقاً ودلیل الجزء غیر مطلق، فالصّلاة واجبة سواء ترک التشهّد نسیاناً أوْ لا، والنتیجة وجوب الإتیان ببقیّة الأجزاء.

هذا کلّه فی مرحلة الکبری.

ص: 392

وأمّا من حیث الصغری، فهل یوجد الإطلاق أوْ لا؟

تارةً: یکون الدلیل القائم علی الجزئیّة لبّیّاً، فلا إطلاق، لانتفاء الموضوع.

وأُخری: یکون الدلیل لفظیّاً. وهذا علی قسمین:

1_ أن یکون الدلیل علی الجزئیّة والشرطیّة بصیغة الأمر.

2_ أن یکون بغیر صیغة الأمر، کالخبر: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب»(1) فهذا لسان الوضع، ویدلّ علی إنتفاء الصّلاة بانتفاء الفاتحة، فالإطلاق فیه منعقد، فلا صلاة بدون الفاتحة، سواء کان بسبب النسیان أوْ لا. وکذا فی الشرط کالخبر: (من لم یقم صلبه فی صلاته فلا صلاة له)(2).

وبالجملة، فالصّلاة باطلة إلاّ أن یقوم دلیل آخر.

إنّما الکلام فیما لو کان لسان الدلیل بصیغة الأمر، کما لو ورد: «إذا جلست فتشهّد ...» فهذا بلسان الأمر، و لا إشکال فی إعتبار القدرة فی توجیه الأمر _ وإنْ وقع الخلاف فی أنّه تعتبر القدرة بحکم العقل أو باقتضاء الخطاب نفسه _ . وأنّ تکلیف العاجز غیر میسّر، والمفروض کون المکلّف هنا ناسیاً، فهو غیر قابل لتوجّه الخطاب إلیه، سواء کان الخطاب مطلقاً أو غیر مطلق. إذنْ، لا یمکن الإطلاق.

ص: 393


1- 1. عوالی اللآلی 1 / 196.
2- 2. وسائل الشیعة 4 / 313، الباب 9 من أبواب القبلة، رقم: 3.
بیانات لإثبات الإطلاق:
بیان المیرزا

قال المحقّق النائینی(1):

أوّلاً: إنّ الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط لیست مولویة بل هی إرشادیّة، وإعتبار القدرة علی الإمتثال إنّما هو فی الأوامر المولویّة لا الإرشادیّة. وإذا ارتفع هذا المشکل صحّ القول بإطلاق مثل: «إذا جلست فتشهّد»، وتکون النتیجة بطلان صلاة الناسی للتشهّد.

لکنّ المهمّ هو وجه حمل تلک الأوامر علی الإرشادیّة، وقد ذکر لذلک وجهان:

الوجه الأوّل: إنّه لو کان الأمر بالجزء أو الشرط مولویّاً، لکان المکلّف به واجباً فی واجب، فینقطع علاقة الکلیّة والجزئیّة وعلاقة الشرطیّة والمشروطیّة. وهذا باطل بالضرورة من الفقه.

والوجه الثانی: إنّ وزان الأوامر والنواهی فی العبادات وزان الأمر والنواهی فی المعاملات، فکما أنّ الأمر بالموالاة بین الإیجاب والقبول والنهی عن الغرر، إرشادٌ إلی الشرطیّة والمانعیّة ولیس مولویّاً، کذلک الأوامر والنواهی المتعلّقة بالعبادات المرکّبة.

وثانیاً: إنّ الأوامر المتعلّقة بأجزاء المرکّب إنّما هی تفصیلٌ للمرکّب، فالشارع بعد أنْ أمر بالصّلاة، وهی مرکبة من التکبیر والقیام والرکوع والسّجود

ص: 394


1- 1. أجود التقریرات 3 / 520 _ 521.

والتشهّد، أمر بکلٍّ من تلک الأجزاء علی نحو التفصیل، فلیست بأوامر أُخری غیر الأمر بالمرکّب. وعلیه، فکما أنّ الصّلاة منوطة بالقدرة، کذلک الأجزاء التی ورد الأمر بها واحداً واحداً، فهی منوطة بالقدرة. ولمّا کان الناسی عاجزاً عن الإمتثال بالنسبة إلی التشهّد، فإنّ المرکّب یسقط عنه، وتکون الصّلاة باطلة.

وتحصّل من ذلک عدم الفرق بین ما إذا کان دلیل الجزئیّة أو الشرطیّة بصیغة الأمر أو غیرها، فإنّ الجزئیّة أو الشرطیّة مطلقة، والمرکّب ینتفی بانتفاء جزئه والمشروط ینتفی بانتفاء شرطه.

بیان العراقی

وقال المحقّق العراقی(1): بأنّ الدلیل _ سواء کان بلسان الأمر أو بلسانٍ آخر _ یدلّ علی الجزئیّة أو الشرطیّة المطلقة، وتکون النتیجة بطلان المرکّب بفقد الجزء أو الشرط علی أثر النسیان، وذلک لوجهین:

الأوّل: إن أدلّة الأجزاء _ وکذا الشرائط _ لها ظهوران، أحدهما: فی التکلیف، والآخر: فی الوضع.

ثمّ إنّ الأحکام العقلیّة منها ضروریّة ومنها نظریّة. ولمّا کانت الضروریّة حافّة بالکلام، فإنّها تکون قرینةً علی سقوط ظاهر الکلام من أصله. أمّا النظریّة _ المحتاجة إلی النظر والإستدلال _ فإنّ حکمها حکم القرینة المنفصلة، فلا یسقط أصل الظهور وإنّما تسقط حجیّة الظاهر.

ص: 395


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 420 _ 421.

وفیما نحن فیه، فإنّ إعتبار القدرة علی الإمتثال وأنّ النّاسی لا یعقل توجّه الخطاب إلیه، من الأحکام العقلیّة النظریّة _ لا من الضروریّة _ لأنّه یحتاج إلی النظر والاستدلال، ولیس فی الوضوح کبطلان إجتماع الضدّین، وعلی هذا، فإنّ ظهور «تشهّد» فی المولویّة یسقط حجیّةً، وأمّا أصل الظهور، فباق. فهو ظاهر فی الحکم الوضعی _ الجزئیّة _ وحینئذٍ، یکون مطلقاً. وعلیه، تکون الصّلاة الفاقدة للتشهّد عن النسیان باطلةً.

والثانی: إنّ کلّ أمرٍ مثل «تشهّد» ففیه مادّة وهیئة کما هو واضح، وکلٌّ منهما مطلق. فإذا قال «تشهّد» دلّ من حیث المادّة علی مطلوبیّة التشهّد فی کلّ حالٍ، ودلّ من حیث الهیئة _ وهی صیغة الأمر _ علی الوجوب، وهو مطلق ولا قید له. لکنّ دلیل قبح تکلیف النّاسی یقیّد مدلول الهیئة، دون المادّة، وحینئذٍ، یسقط الطلب فی حال النسیان. أمّا الحکم الوضعی _ وهو الجزئیّة _ المتعلّق بالمادّة، فیکون باقیاً علی إطلاقه.

بیان الإصفهانی

وقال المحقّق الإصفهانی(1): إنّ الشارع فی مقام الشارعیّة، لا فی مقام بیان الواقع، فلمّا قال: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب» أراد بیان الحکم الوضعی. أی: إنّ فاتحة الکتاب جزء من أجزاء المأمور به الذی تعلّق به الغرض. وهو الصّلاة، نعم. لو کان یرید بیان الغرض، فالغرض یمکن أن یکون مطلقاً، أی: إنّه موجود فی مورد الناسی والذاکر معاً.

ص: 396


1- 1. نهایة البدایة 4 / 340.
المناقشة

أجاب الأُستاذ: صحیح أنّ المولی فی مقام بیان أجزاء المأمور به، لکنّ قوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب» المشتمل علی النفی والإستثناء، ظاهر فی دوران الصّلاة وجوداً وعدماً مدار الفاتحة، فإذا انتفت الفاتحة انتفت الصّلاة، وهذا لیس إلاّ الجزئیّة المطلقة للفاتحة بالنسبة إلی الصّلاة.

التحقیق فی المقام

تارةً: نقول بتبعیّة الدلالة الإلتزامیّة للدلالة المطابقیّة فی الحجیّة، وأُخری لا نقول.

إنّه لا ریب فی أنّ اللاّزم تابع للملزوم فی عالم الثبوت. أمّا فی عالم الإثبات فکذلک، فإذا قام الدلیل علی النّار کان دلیلاً علی الحرارة أیضاً. إنّما الکلام فی مرحلة الحجیّة، بأنّه لو سقط الدلیل القائم علی الملزوم أو اللاّزم عن الحجیّة تسقط دلالته علی حجیّة الآخر أوْ لا؟

والوجهان المتقدّمان عن المحقّق العراقی مبنیّان علی هذا البحث.

إنّه یکشف الأمر بالصّلاة عن جزئیّة التشهّد، فالدلالة علی جزئیّته تابعة لدلالة الأمر بالصّلاة، فلو سقط الأمر عن الحجیّة، هل تسقط جزئیّة التشهّد؟ مثلاً: لو سقط الدلیل علی طلوع الشمس هل تبقی الحجّة علی وجود النهار؟

إن کانت الحجیّة للاّزم باقیةً، تمّ ما ذکر العراقی فی المقام.

لکنّ التحقیق خلاف ذلک. وعلیه، فإذا سقط الأمر عن الحجیّة بسبب النسیان،

ص: 397

من جهة عدم إمکان تکلیف العاجز، کانت الجزئیّة أیضاً ساقطة ولا حجّة علیها.

هذا بالنسبة إلی الوجه الأوّل فی کلام المحقّق العراقی.

وأمّا الثانی، وهو بقاء إطلاق المادة بعد سقوط إطلاق الهیئة وحاصله:

إنّ مدلول الهیئة هو الطلب الوجوبی، وهو مقیّد بالقدرة عقلاً، والناسی عاجز، فلا طلب بالنسبة إلیه. لکنّ المادة _ وهی التشهّد _ غیر منوطة بالقدرة، فالإطلاق فیها باق.

ففیه: إنّه لا طریق إلی جزئیّة التشهّد إلاّ الأمر، وعلیه، فإنّ إطلاق المادّة متفرّع علی إطلاق الهیئة، وإذا سقط إطلاق الهیئة سقط إطلاق المادّة.

وتلخّص: سقوط الوجهین علی أساس تبعیّة اللاّزم للملزوم فی الحجیّة وجوداً وعدماً.

وأمّا بالنسبة إلی کلام المحقّق المیرزا _ من أنّ الأوامر والنواهی فی الأجزاء إرشاد إلی الجزئیّة والمانعیّة، وفی الشرائط إرشاد إلی الشرطیّة وهو مبنی العراقی والخوئی أیضاً، فکلّها أحکام وضعیّة منسلخة عن التکلیف، فکأنّه بقوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب» یرید أنّ الفاتحة جزءٌ من الصّلاة، فهی لبّاً جملة خبریّة _ فإنّ المرجع فی مثل هذه الموارد هو العرف والإرتکاز العرفی والقواعد مع لحاظ الخصوصیّات.

إنّ «التشهّد» فیه مادّة وهیئة، ومدلول الهیئة دائماً هو الطلب، فما البرهان علی انسلاخها عن مدلولها فی خصوص هذه الموارد؟

إنّه فی العرف، عندما یطلب صنع معجون فیؤمر بأجزائه، فإنّ الأمر بکلّ

ص: 398

واحد یکشف عن أنّ الأمر به لیس استقلالیّاً. هذا المقدار صحیح، وأمّا أنْ لا یدلّ علی الطلب أصلاً، فما هو البرهان علی ذلک؟

والحاصل: إنّ التکلیف موجود، لکن لا بنحو الإستقلال بل بنحو الضمنیّة للمرکّب. هذا صحیح، وأمّا أنْ یدلّ علی الضمنیّة والجزئیّة فقط، ولا دلالة علی المطلوبیّة فمن أین؟

ویشهد بذلک ما ذکره المحقّق المیرزا فی الوجه الآخر، من أنّ الأمر بکلّ جزءٍ أمرٌ بقطعةٍ من المرکّب، فهی أوامر تفصیلیّة لما دلّ علیه الأمر بالکلّ علی وجه الإجمال.

ثمّ إنّ القائلین بالإرشادیّة متّفقون علی أنّ الجزئیّة والشرطیّة لیست ممّا یقبل الجعل بالإستقلال، بل من الأُمور الإنتزاعیّة، فالجزئیّة تنتزع من الأمر المتوجّه إلی الجزء، وهکذا الشرطیّة، وقد صرّحوا بذلک فی بحث البراءة، کما لا یخفی علی من یراجع التقاریر فی مفاد حدیث الرّفع. وصرّح المحقّق العراقی بأنّ الأمر بالجزء إرشاد، أی: أنّه یکشف عن تعلّق الأمر بالجزء فی ضمن الکلّ، ومن المعلوم أنّ الکاشف لا یمکن أن یکون أوسع دائرةً من المنکشف، ولمّا لم یکن للمنکشف إطلاقٌ لیشمل الناسی، کیف یمکن أن یکون للکاشف إطلاق یشمله؟

وبعد هذا نقول:

إنّ الوجوه التی ذکرت إن لم تکن دلیلاً علی نفی الإطلاق وتقیّد الأمر بالذاکر، فلا أقلّ من صلاحیّتها لأنْ تکون ما یحتمل القرینیّة والصارفیّة، فلا ینعقد الإطلاق.

ص: 399

خلاصة الکلام:

وتلخّص أنّه: إن کان دلیل المرکّب ودلیل الجزء مطلقین، فلا کلام فی بطلان الصّلاة الفاقدة للتشهّد.

وکذا إن کان دلیل الجزء مطلقاً دون دلیل الکلّ.

وإنْ کان دلیل الکلّ مطلقاً دون دلیل الجزء، فالصّلاة الفاقدة للجزء صحیحة، لأنّ القدر المتیقّن من جزئیّة الجزء حال الذکر، إنْ کان الخطاب بصیغة الأمر.

الصّورة الرابعة

وهی عدم الإطلاق لا للکلّ ولا للجزء، فما هو مقتضی القاعدة من جهة الأصول العملیّة؟

تارةً: یکون متعلّق التکلیف هو الفرد، وأُخری هو الطبیعی.

فی الأوّل: کما لو أمر بالإمساک یوماً، فنسی الإمساک ساعةً، فهل یجب الإمساک فی بقیّة النهار أوْ لا؟ المفروض عدم الإطلاق، وعدم الدلیل الخاصّ علی وجوب الإمساک، وتصل النوبة إلی الأصل، وهو فی الدرجة الأُولی: الإستصحاب. أی: أصالة عدم تعلّق التکلیف بما بقی من النهار.

ویتلخّص: جریان أصالة عدم الوجوب.

وهذا الإستصحاب مقدّم علی البراءة بالحکومة.

ولو تنزّلنا عن الإستصحاب تصل النوبة إلی البراءة الشرعیّة، لحدیث الرّفع، ثمّ العقلیّة، لقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

وفی الثانی: کأن یکون الأمر بالإتیان بالصّلاة بین الحدّین، فنسی جزءً أو

ص: 400

اضطرّ إلی ترکه، فهل یجب إعادة العمل أوْ لا؟

المفروض عدم الإطلاق وعدم الدلیل بالخصوص.

فإنْ قلنا: باستحالة تکلیف الناسی، فلا یکلّف بالباقی، بل لابدّ من إعادة العمل، وذلک لحکم العقل بلزوم حفظ الأغراض الإلزامیّة للمولی وتحصیلها، لأنّا علی یقینٍ من أنّ للشارع من هذا الحکم غرضاً، ونشکّ فی محصلیّة العمل الفاقد للجزء، فیلزم إعادة العمل، فالأصل الجاری هنا هو الإشتغال.

وإنْ قلنا: بإمکان تکلیف الناسی بغیر المنسی، رجع الشک إلی مقتضی الأصل فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الإرتباطیین، وذلک للیقین بواجبٍ فی العهدة، مع الشکّ فی أنّ الجزئیّة للتشهّد مقیّدة بحال الذکر أو مطلقة؟ فإنْ کانت مقیّدةً، وجب ما بقی، وإنْ کانت مطلقة، فالواجب کلّ العمل. فالمورد من صغریات تلک الکبری، والأصل هو البراءة.

هذا تمام الکلام فی التنبیه الأوّل.

ص: 401

التنبیه الثانی: فی حکم الزیادة والنقیصة فی الأجزاء

اشارة

لا یخفی أنّ المرکّبات الشرعیّة _ کالصّلاة _ مرکّبة من حقائق متباینة قد حصل الترکیب الإعتباری فیها، فیقع البحث فی حکم الزیادة والنقیصة فی أجزاء المرکّب. وکلّ منهما تارةً: یکون عن عمد، وأُخری: عن سهو.

وتفصیل ذلک فی أربعة مقامات، إذْ یبحثُ حول کلٍّ من الموضوع والحکم فی مقامین.

فی المقام الأوّل:

1_ هل یعقل تحقّق الزیادة فی المرکّب الإعتباری؟

2_ بأیّ شیء تتحقّق الزیادة؟

وفی المقام الثانی:

1_ ما هو حکم الزیادة بحسب القاعدة؟

2_ ما هو حکم الزیادة بحسب النصوص؟

ص: 402

البحث الموضوعی:
1_ هل یعقل تحقّق الزیادة فی المرکّب الإعتباری؟
اشارة

قیل:

لا یعقل. وذلک: لأنّ أجزاء المرکّب لا تکون مهملةً بالنسبة إلی الزائد، فإمّا هی لا بشرط عن الزائد وإمّا هی بشرط لا.

فإنْ کان الرکوع _ مثلاً _ بشرط لا عن الزیادة، فإنّ الزیادة محال، لرجوع الزیادة إلی النقیصة، لأنّ الجزء هو الرکوع بشرط عدم الزیادة، فکان الجزء مقیّداً ومشروطاً بقید عدم الزیادة، وکلّ مقیّد ینتفی بانتفاء قیده، وکلّ مشروط ینتفی بانتفاء شرطه، فوقعت النقیصة لا الزیادة.

وإن کان الرکوع لا بشرط عن الزیادة، أی إنّ الرکوع قد اعتبر فی المرکّب مطلقاً من حیث الزیادة وعدمها، فإنّ اللاّبشرط یجتمع مع ألف شرط، ویصدق علی کلٍّ من الأفراد صدقاً حقیقیّاً. فالرکوع اللاّبشرط عن الزیادة یصدق مع الرکوع الواحد ومع الرکوع عشر مرّات، فالزیادة مستحیلة، لأنّها ترجع إلی النقیصة، وهما ضدّان لا یجتمعان.

الجواب عن دلیل العدم:

وقد أجاب المیرزا(1) وغیره عن هذا الإستدلال بوجهین:

ص: 403


1- 1. أجود التقریرات 3 / 524.

الأوّل:

إنّ هذا الإستدلال عقلی، والخطابات العرفیّة ملقاة إلی العرف العام، فنحن تابعون للعرف فی تشخیص موضوعات الخطابات، لا للعقل، والعرف یری تحقّق الزیادة بالإتیان بالوجود الثانی للجزء.

وفیه تأمّل

لأنّه وإنْ کان المرجع هو العرف، لکن العرف الفاهم الدقیق الذی یفهم انتفاء المقیّد بانتفاء القید والمشروط بانتفاء الشرط، وما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّه إذا شرح وبُیّن للعرف فَهِمَه وحکم بالإستحالة.

وعلی الجملة، إن کان المتَّبع نظر العرف حتی فی مثل هذه القضایا العقلیّة البرهانیّة، تمّ الجواب وإلاّ فهو غیر تام.

مثلاً: العقل یری أنّ البخار هو الماء، لکنّ العرف یری أنّ الماء غیر البخار، وفی مثله یتّبع نظر العرف لا العلم والعقل، أمّا لو شرح الموضوع للعُرف وأدرکه، فإنّ المناط هو نظر العرف الدقیق. وما نحن فیه من هذا القبیل.

الثانی:

إنّ ما ذکر إنّما یتمُّ لو کان متعلّق إعتبار الجزئیّة هو الطبیعیّ اللاّبشرط عن الوحدة والتعدّد، لکنّ المتعلّق هو صرف الوجود، وهو یتحقّق بتحقّق الوجود الأوّل کما هو واضح، فإذا تحقّق، حصل الإنطباق قهراً ووقع الإجزاء عقلاً، فیکون الوجود الثانی زائداً.

وهذا الجواب هو الصحیح.

ص: 404

2_ بماذا تتحقّق الزیادة؟

إنّ تحقّق الزیادة فی المرکّبات الخارجیّة لا یتوقّف علی القصد والإعتبار کما لا یخفی، فهل الأمر فی المرکّب الإعتباری کذلک؟ کلاّ، بل الزیادة إنّما تتحقّق بالقصد، لأنّ المرکّب نفسه إعتباری، فلو زاد فی الصّلاة قراءةً بقصد الجزئیّة صدقت الزیادة وإلاّ لم تصدق.

هذا بحسب الفهم العرفی.

نعم، قد ورد التعبیر بالزیادة فی النصّ الوارد فی سجدة العزائم، إذ قال علیه السّلام: (لا تقرأ فی المکتوبة بشیء من العزائم فإنّ السّجود زیادة فی المکتوبة)(1) أی: وإنْ کانت السّجدة سهویّة.

وقد اعتبر الفقهاء ذلک أیضاً فی الرکوع الزائد بالأولویّة، فحکموا ببطلان الصّلاة کذلک.

إنّما الکلام فی غیر هذین الموردین، فهل یحکم ببطلان الصّلاة؟

البحث الحکمی
اشارة

بعد أن تقرّر أنّ القاعدة العرفیّة عدم صدق الزیادة مع عدم قصد الجزئیّة _ هذه القاعدة التی خُصّصت بسجدة العزیمة نصّاً والرکوع بالأولویة _ هل یحکم ببطلان صلاة من زاد فی صلاته لا بقصد الجزئیّة؟ هنا مقامان:

ص: 405


1- 1. وسائل الشیعة 6 / 105، الباب 40 من أبواب القراءة فی الصّلاة، رقم: 1.
1_ فی حکم الزیادة بحسب القاعدة

تارة: تقع الزیادة فی الرکن، وأُخری: فی غیر الرکن.

وعلی کلّ تقدیر، تارةً: هی عن عمد، وأُخری: عن سهو.

وأیضاً: تارةً المرکّب توصّلی، وأُخری: تعبّدی.

واعلم أنّ المبنی فی الزیادة مطلقاً _ رکناً أو غیر رکن، عمداً أو سهواً _ هو المختار فی بحث الأقلّ والأکثر، لأنّ البحث یعود إلی أنّ هل هذا المرکّب الإعتباری مقیّد بعدم الزیادة علیه أوْ لا؟ مشروط بعدم زیادة شیء علیه أو هو لا بشرط؟

وبعبارة أُخری: هل للزیادة مانعیّة أوْ لا؟ إن کان لها المانعیّة، فالمرکّب مقیّد بعدمها، وإلاّ فهو لا بشرط.

وهذا الأقلّ والأکثر إرتباطی، إنّ الأقلّ هو اللاّبشرط بالنسبة إلی عدم الزیادة، والواجب بشرط عدم الزیادة هو الأکثر.

هذا صغری البحث.

وأمّا الکبری _ أی الأقلّ والأکثر الإرتباطیّان _ ففیها ثلاثة مسالک:

1_ الإشتغال. وعلیه، فالحکم هو البطلان.

2_ البراءة عقلاً وشرعاً.

3_ البراءة شرعاً والإشتغال عقلاً. وهو مختار صاحب الکفایة.

وحینئذٍ، یقع البحث عن إنطباق الکبری علی الصّغری.

ولا یخفی أنّ کون المسألة من صغریات تلک الکبری، إنّما هو بناءً علی

ص: 406

إمکان الزیادة فی المرکّب الإعتباری وإلاّ فلا صغرویّة.

وعلی المختار فی الکبری، فالحکم هو صحّة هذه الصّلاة، سواء کانت الزیادة عن عمدٍ أو سهو، وسواء کان رکناً أوْ لا. هذا مقتضی القاعدة.

إلاّ أنّ فی العبادات بحثاً إضافیّاً، لأنّ العبادة متوقّفة علی قصد القربة، وهذا إنّما یتحقّق بقصد الأمر، فلو اعتقد أنّه قد أُمر برکوعین _ مع أنّه فی الواقع رکوع واحد _ فجاء بالصّلاة برکوعین، فما هو مقتضی القاعدة؟

تارةً: یقصد فی عمله الأمر الواقعی، إلاّ أنّه قد أخطأ فی عقیدته، فالعمل صحیح بمقتضی القاعدة، لأنّ الزیادة غیر مانعة، وقد أتی بالعمل واجداً للشرائط والأجزاء وفاقداً للموانع. وأُخری: یعتقد أنّ الرکوع الواجب فی الصّلاة واحد، فیقصد الأمر به، لکن یأتی برکوعین تشریعاً، فهنا وجهان:

تارةً: یقال بأنّ التشریع مفسد للعبادة مطلقاً _ سواء فی الأمر أو فی تطبیق الأمر _ فالصّلاة باطلة. وأُخری: یقال بمفسدیّة التشریع فی أصل الأمر، بأن یأتی بالعبادة بداعی أمرٍ غیر موجودٍ، فالبطلان، لکون العمل فاقداً للأمر. وأمّا لو أتی بالعمل بداعی الأمر الواقعی معتقداً بتعلّقه برکوعین، فهو غیر باطل.

هذا تمام الکلام فی حکم الزیادة بحسب القاعدة.

2_ حکم الزیادة بحسب النصوص

وأمّا بحسب النصوص، فإنّها علی قسمین فی خصوص الصّلاة، منها: ما یدلّ علی البطلان بالزیادة مطلقاً، کقوله علیه السّلام: (من زاد فی صلاته فعلیه

ص: 407

الإعادة)(1). ومنها ما ورد بعنوان قولهم علیهم السّلام: (لا تعاد الصّلاة إلاّ من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والرکوع، والسّجود)(2).

الکلام فی حدیث لا تعاد

ویقع البحث فی حدیث «لا تعاد» فی جهات:

(الجهة الأُولی) هل هو مختصّ بالنقیصة أو أعم منها ومن الزیادة؟

هنا وجهان:

الأوّل: إنّ الحدیث مختصّ بنقص الجزء أو الشرط، لأنّ الطّهور والقبلة والوقت لا تقبل التعدّد، فلا یصدق الزیادة فیها، وتقبل النقیصة، وهذا هو المراد.

الثانی: إنّ مدلول الحدیث أعمّ من الزیادة والنقیصة، لعدم وجود کلمة «النقص» فیه، وکون الثلاثة لا تقبل الزیادة لا یوجب الإختصاص. فمعنی الحدیث: أنّ الإخلال فی الأجزاء والشرائط فی غیر الأرکان لا یوجب البطلان، وأمّا فیها فهو موجب للبطلان.

(الجهة الثانیة) فی النسبة بین الحدیث وأدلّة الأجزاء والشرائط.

إنّ النسبة هی الحکومة، لوجود ضابطة الحکومة هنا، وهی أن یکون أحد الدلیلین ناظراً إلی الآخر، فالناظر هو الحاکم. أو أن یکون الدلیلان بحیث یکون أحدهما بقطع النظر عن الآخر فاقداً للموضوع، فالفاقد یکون هو الحاکم والواجد

ص: 408


1- 1. وسائل الشیعة 8 / 231، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، رقم: 2.
2- 2. وسائل الشیعة 1 / 372 _ 383، الباب 3 من أبواب الوضوء، رقم: 8.

للموضوع هو المحکوم.

ومن الواضح إنطباق الضابطة علی الحدیث، فهو الحاکم، فإنّه ناظر إلی تلک الأدلّة ولولاها یکون لغواً.

(الجهة الثالثة) فی النسبة بین الحدیث وحدیث: من زاد فی صلاته فعلیه الإعادة.

فإنّ حدیث (من زاد) ظاهر فی مانعیّة الزیادة، لکن حدیث (لا تعاد) یقول بعدم الإعادة، لأنّ الزیادة لیست من الخمس. لکنّ حدیث من زاد موضوعه «الزیادة» وهو مطلق بالنسبة إلی الأرکان وغیر الأرکان، والسّهو والعمد، فهو من جهة أخصّ ومن جهةٍ أعم، وحیث «لا تعاد» یختصّ بغیر العمد _ السّهو أو السّهو والجهل عن قصور معاً؟

المشهور: الإختصاص بالسّهو والنسیان. وجماعة علی عمومه للجاهل القاصر، لکنّه أعم من الزیادة والنقیصة. فالنسبة العموم من وجه.

لکن لا تعارض بینهما فی الزیادة العمدیّة رکناً أو غیر رکن.

وتلخّص: بطلان الزیادة العمدیّة مطلقاً، بالنصّ وبالقاعدة.

لکنّ الإشکال فیما لو زاد فی غیر الأرکان، فعموم (من زاد فی صلاته) شامل له ویوجب البطلان، لکنّ عقد المستثنی منه فی (لا تعاد) یفید أنّ الإخلال بالزیادة عن سهو غیر مضر، فالنسبة العموم من وجه، ومقتضی القاعدة التساقط.

لکن تقدّم أنّ لا تعاد حاکم، ومن المعلوم تقدّم النصّ علی القاعدة الأوّلیّة التی اقتضت البطلان فی کلّ زیادة.

ص: 409

وتحصّل:

إنّ مقتضی (لا تعاد) هو أنّ الصّلاة لا تعاد بالإخلال فی أجزائها وشرائطها إلاّ فی الخمسة، وحیث أنّ الزیادة _ بمقتضی (من زاد فی صلاته) _ إخلالٌ أیضاً، إلاّ أنّه بمقتضی (لا تعاد) لا یوجب الإعادة، لحکومته علی (من زاد)، لأنّه لیس من الخمسة، غیر أنّ ثلاثةً من الخمسة لا یتصوّر فیها الزیادة.

فإن کانت الزیادة عمدیّة، بطلت الصّلاة رکناً أو غیر رکن، وإنْ کانت غیر عمدیّة، بطلت إن کانت فی الرکن وهو الرکوع والسّجود.

رأی الإصفهانی

وذکر المحقّق الإصفهانی أنّ مقتضی الأخبار: عدم مبطلیّة الزیادة غیر العمدیّة فی الأرکان. ثمّ أمر بالتأمّل(1). وتوضیح کلامه هو:

إنّ ظاهر الأمر بالإعادة إن ترک جزءً عن سهوٍ، هو ترک جمیع أجزاء المرکّب، أی: بطلان الصّلاة، لأنّ «لا تعاد» یشتمل علی نفیٍ وإثبات، فهو نافٍ بالنسبة إلی غیر الخمسة ومثبت بالنسبة إلیها، فهو یدلّ علی وجوب الإعادة بالنسبة إلی الخمسة، ومن المعلوم أنْ لیس الإعادة من فعل الخمسة، فهی لا محالة من ترکها ونقصانها. فیکون حاصل الحدیث: أنّه لو ترک شیء من الخمسة سهواً وجب إعادة الصّلاة، ولا تعاد لو ترک شیء من غیر الخمسة. هذا مطلب.

ومطلب آخر هو: إنّ ظاهر (لا تعاد) نفی الإعادة بالنسبة إلی مطلق الأجزاء، سواء الجزء الوجودی أو العدمی، مثل عدم الصّلاة فیما لا یؤکل لحمه وعدم

ص: 410


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 378.

التکلّم وعدم القهقهة. ومن الأجزاء العدمیّة: «عدم الزیادة»، فهو جزء عدمی للصّلاة، یعمّه إطلاق لا تعاد، ویدلّ علی عدم وجوب إعادة الصّلاة بسبب انعدام هذا الجزء وهو «عدم الزیادة»، أی بسبب وقوع الزیادة فی الصّلاة.

وبقی الحدیث یدلّ علی بطلان الصّلاة بنقص الأرکان الخمسة.

النظر فیه:

والجواب هو: إنّه لیس ظاهر الحدیث الفعل أو الترک حتی یؤخذ بإطلاقه من هذه الجهة، بل إنّه ظاهر فی «الإخلال» أی: لا تعاد الصّلاة بحدوث الإخلال فیها، إلاّ إذا وقع فی الخمسة، أی: زیادة أو نقیصةً، فهی لا تعاد لو وقع الإخلال فی شیء من أجزائها أو شرائطها أو موانعها، إلاّ إذا وقع فی الخمسة، فإنّ الإخلال فیها زیادةً لها أو نقیصة لها یوجب بطلان الصّلاة، عمداً کان أو سهواً.

والحاصل: إنّ المتعلّق هو «الإخلال» لا «الفعل» أو «الترک»، فهو یوجب البطلان فی الخمسة زیادةً ونقیصة عمداً أو سهواً، وإن کانت الزیادة غیر متصوّرة فی ثلاثة من الخمسة.

ولعلّ ما ذکرنا هو السرّ فی الأمر (بالتأمّل).

هذا کلّه فی الصّلاة.

وأمّا فی غیر الصّلاة من المرکّبات الإعتباریّة کالحج مثلاً، فقد تقدّم أنّ مقتضی الأصل _ لولا الدلیل _ هو عدم البطلان بالزیادة السّهویّة، فلو زاد فی الطواف، لم تکن الزیادة مانعةً عن صحّته، إلاّ إذا تمّ الخبر: (الطواف بالبیت صلاة) سنداً، بأنْ یکون عمل الأصحاب جابراً له. وهو محلّ الکلام صغریً وکبری،

ص: 411

فیؤخذ بإطلاقه ویرتّب علی الطواف کلّ أحکام الصّلاة.

وأمّا بالنظر إلی نصوص الطواف، فإنّ الزیادة العمدیّة فیه مبطلة، وأمّا السّهویّة، فإن کان قد اجتاز الحجر ولم یبلغ الرکن، فالطواف صحیح، وإن اجتاز الرکن أیضاً، تخیّر بین إلغاء الزیادة، والطواف محکوم بالصحّة، أو جعلها جزءً من الطواف الثانی.

ولو زاد فی السّعی کان حکمه حکم الطّواف.

الإستصحاب
اشارة

بقی الکلام فی أنّه هل یمکن التمسّک بالإستصحاب لرفع مانعیّة الزیادة فی الصّلاة أوْ لا یمکن؟

تقریبات الإستصحاب والکلام علیها

وقد ذکروا لتقریب الإستصحاب هنا وجوهاً، نذکرها ونتکلّم علیها باختصار:

الأوّل:

أنْ یستصحب «الوجوب» الجامع بین الوجوب النفسی المتعلّق بکلّ الأجزاء، والوجوب الغیری المتعلّق بکلّ فردٍ فردٍ من الأجزاء، بأنْ یقال: إنّه لمّا تعذر أحد الأجزاء، فلا شکّ فی إنتفاء الوجوب عن البقیّة من حیث النفسیّة، لفرض تعلّقه بالکلّ وقد زال یقیناً، ولکنّ الشکّ فی بقائه بالنظر إلی الوجوب

ص: 412

الغیری لها موجود، فیستصحب الجامع.

الإشکال علیه

ویرد علیه وجوه من الإشکال، ویکفی منها عدم اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری. وأمّا الوجوب النفسی، فقد ارتفع یقیناً. هذا أوّلاً. وثانیاً: سلّمنا، لکنّ هذا الإستصحاب لا أثر له، لأنّ الوجوب الغیری لا یستتبع إشتغال الذمّة ولا یُستحق علیه العقاب.

الثانی:

أنْ یستصحب الوجوب الجامع بین الإستقلالی والضمنی، بأنْ یقال: قد کانت الأجزاء الباقیة واجبةً بالوجوب الضمنی، ومع الشکّ فی بقاء هذا الوجوب _ بعد ارتفاع الوجوب الإستقلالی _ یکون الإستصحاب جاریاً.

الإشکال علیه

ویرد علیه کذلک توقّفه علی أنْ یکون کلّ جزءٍ واجباً بالوجوب الضّمنی، وهذا خلاف التحقیق. وعلی فرض التسلیم، فإنّه من موارد ما لا یجری فیه الإستصحاب من أقسام إستصحاب الکلّی. فتدبّر.

الثالث:

أنْ یستصحب التکلیف بالصّلاة، فإنّها قبل تعذّر الجزء کانت واجبةً، فیشکّ بعده فی زوال الوجوب فیستصحب.

الإشکال علیه

إنّ «الوجوب» و«التکلیف» من الأُمور ذات التعلّق _ لا بمعنی أنّه من

ص: 413

العوارض کما فی کلمات بعض الأکابر _ أی: أن ذاتها التعلّق بالغیر، فلا معنی لاستصحاب الوجوب بدون المتعلّق، فلا محالة یرجع الأمر إلی الأجزاء ویعود الإشکال.

الرابع:

أنْ یستصحب الوجوب الإستقلالی المتعلّق بالمرکّب، فإنّه بعد تعذّر أحد أجزائه یشک فی بقائه، فیجری الإستصحاب ویحکم بوجوب الأجزاء الباقیة.

الإشکال علیه

إنّ هذا الإستصحاب یتوقّف علی أنْ لا یکون الجزء المتعذّر من الأجزاء المقوّمة للمرکّب، وإلاّ، فالموضوع متغیّر فلا یجری الإستصحاب. ونحن لا طریق عندنا لاستکشاف ذلک.

وتلخّص: عدم تمامیّة الإستصحاب فی المقام.

وهذا تمام الکلام فی الزیادة.

الکلام فی نقصان الجزء أو الشرط
1_ مقتضی القاعدة:

أمّا لو نقص جزء أو شرط، فإنّ مقتضی الأصل بطلان الصّلاة _ عکس الزیادة _ ، لأنّ الناقص إن لم یکن جزءً أو شرطاً، فهذا خلف، لمفروض الکلام، وإن کان جزءً أو شرطاً، فإنّ الکلّ ینتفی بانتفاء الجزء، والمشروط ینتفی بانتفاء شرطه.

ص: 414

2_ مقتضی النصوص

أمّا إن کان النقص عمدیّاً، فالبطلان بلا کلام.

وأمّا إن کان سهویّاً، فإنّ حدیث (لا تعاد) أفاد التفصیل بین الأرکان وغیرها. ففی الأرکان البطلان وفی غیرها الصحّة.

ثمّ إنّ ما ذکرناه فی التنبیه الأوّل آتٍ هنا، لأنّ دلیل الجزء أو الشرط إن کان مطلقاً بالنسبة إلی العمد والسهو، فالبطلان، وإلاّ فلا بطلان فی صورة السّهو، فلا تصل النوبة إلی قاعدة لا تعاد، بل الدلیل نفسه یقتضی الصحّة بإطلاقه.

ومع عدم الإطلاق، فإن أمکن الأمر ببقیّة الأجزاء، فالأصل الجاری عند الشک هو البراءة، وإن کان غیر ممکن، فالإشتغال، للشک فی وفاء المأتی به للمأمور به.

هذا بالنسبة إلی الصّلاة.

وکذلک الحال بالنسبة إلی الحج، ولابدّ من لحاظ النصّ الخاصّ.

وأمّا النقص السّهوی فی الطواف، فالنصوص تدلّ علی أنّه إن تذکّر فی المحلّ أتی به، وإن تذکّر فی أثناء السعی قطع ورجع وأتمّ الطواف، ثمّ رجع لإتمام السعی، وإن تذکّر بعد السعی، عاد ورفع نقیصة الطواف، وإن رجع إلی أهله، فإن أمکنه الإتیان بنفسه فهو وإلاّ إستناب.

وحکم السّعی حکم الطواف.

هذا تمام التنبیه الثانی.

ص: 415

التنبیه الثالث: لو تعذّر جزء أو شرطٌ فما حکم الباقی والمشروط؟

1_ مقتضی القاعدة

أمّا علی القاعدة، فقد تقدّم فی التنبیه الأوّل، حیث قلنا بأنّ البحث أعمّ من نسیان الجزء والشرط أو الإکراه والإضطرار.

2_ مقتضی الأصل العملی

ذهب الشیخ(1) إلی أنّه مع تعذّر الجزء أو الشرط، تجری البراءة عن الباقی والمشروط.

وقال بعضهم بجریان الإستصحاب.

لکنّ هذا الإستصحاب من القسم الثالث من أقسام إستصحاب الکلّی.

وتمسّک صاحب الکفایة(2) بحدیث الرّفع، وأنّ نسبة هذا الحدیث إلی أدلّة الأجزاء والشرائط نسبة الإستثناء، فهو یجری فی نسیان الجزء، وحینئذٍ، یکون مقتضی الأدلّة الأوّلیّة وجوب الباقی.

ص: 416


1- 1. فرائد الأصول 2 / 387.
2- 2. کفایة الأصول: 368.

والجواب: هو إنّ جزئیّة الأجزاء إن کانت مجعولةً بالإستقلال حتی وصل إلی التشهّد فنساه، أمکن رفعها بالحدیث وبقی الباقی. لکنّ الصحیح أنّ جزئیّة الأجزاء _ کلّ واحدٍ منها _ مجعولةٌ بالأمر المتعلّق بالکلّ، وإذا کان الوضع هکذا فالرّفع کذلک، ولا یبقی الأمر بالنسبة إلی الباقی.

3_ مقتضی النصوص:

هل یمکن التمسّک بقاعدة المیسور ونحوه قبل الرجوع إلی الأصل العملی؟

الکلام فی قاعدة المیسور
اشارة

هنا ثلاثة روایات وهذه ألفاظها:

1_ إذا أمرتکم بشیء فاْتوا منه ما استطعتم.

2_ ما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه.

3_ المیسور لا یسقط بالمعسور.

وقد وقع الکلام فیها سنداً ودلالةً:

الروایة الأُولی
اشارة

لا توجد إلاّ فی کتاب (عوالی اللئالی)(1).

ص: 417


1- 1. عوالی اللئالی 4 / 58، رقم: 205 وفیه: لا یترک المعسور بالمیسور.

وفی کتب العامّة(1) أیضاً، وهی عن أبیهریرة قال: خطبنا رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله فقال: أیّها الناس، قد فرض اللّه علیکم الحج فحجّوا. فقال رجل: أکلّ عام یا رسول اللّه؟ فسکت. حتی قالها ثلاثاً. فقال رسول اللّه: لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم، ثمّ قال: ذرونی ما ترکتکم، فإنّما هلک من کان قبلکم بکثرة سؤالهم واختلافهم علی أنبیائهم، فإذا أمرتکم بشیء فاتوا منه ما استطعتم، وإذا نهیتکم عن شیء فدعوه.

حول السند

ذکر المحقّق العراقی(2) أنّ اشتهار الحدیث یغنی عن البحث السندی.

ولکن القول باعتبار، أیّ خبرٍ من الأخبار یکون إمّا بوجود السند المعتبر أو الوثوق بالصّدور، ولا طریق ثالث، والإشتهار حتّی فی الکتب المعتبرة لا یکون دلیل الإعتبار. اللهمّ إلاّ إذا عمل الأصحاب بالرّوایة، فإنّ عملهم یوجب إعتباره علی مبنی القائلین بذلک. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ عمل الأصحاب بهذه الروایة غیر محرز، وفتوی الفقهاء بالإتیان بالمیسور فی الصّلاة دلیلها الخبر: «إنّها لا تدع الصّلاة علی حال»(3)، ولا یوجد دلیلٌ فی مطلق المرکّبات بوجوب الإتیان بغیر المتعذّر کالحج.

وثالثاً: عمل المشهور لو کان، لا یوجب الإعتبار تعبّداً، وإنّما یکون منشأ للوثوق الشخصی بالصّدور، وحصوله هنا فی غایة الإشکال، أو یکون توثیقاً عملیّاً

ص: 418


1- 1. مسند أحمد 2 / 258، سنن النسائی 5 / 110 _ 111.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 455.
3- 3. وسائل الشیعة 2 / 605، الباب 1 من أبواب الإستحاضة، رقم: 5.

للسّند کما قیل، ولکنّه یختصُّ بالروایة المسندة، وهذه الروایة مرسلة.

حول الدلالة

إن متن الحدیث مختلف، ففی روایة: (فاتوا منه ما استطعتم) وفی أُخری: (فاتوا به ما استطعتم). والثانی خارج عن البحث، لکنّ المهم أنّ الحدیث الواحد إذا نقل بلفظین مختلفین فی المعنی، ولا ندری أیّ اللّفظین هو الصّادر، فإنّه یسقط بالإجمال. نعم، لو نقل بسندین، فالأصل هو التعدّد، ولیس هذا الحدیث کذلک.

وبعد التنزّل عمّا ذکر، فهل یدلّ (فاتوا منه ما استطعتم) علی وجوب الإتیان بالباقی؟

إنّ الإستدلال یتوقّف علی عموم «الشیء» فی الروایة بالنسبة إلی الکلّ والکلّی، حیث أنّ الشیء المأمور به، إن کان کلاًّ، فعند تعذّر بعض الأجزاء یجب الإتیان بما استطیع وهو البقیة. وإنّ کلیّاً، فعند تعذّر بعض الأفراد، یجب الإتیان بما استطیع.

ولکنّ کلا الإحتمالین ساقط.

وذلک، لأنّ مورد السؤال فی الروایة هو الحج، فإنّه قد سئل صلّی اللّه علیه وآله عن وجوب الحج فی کلّ عام، والجواب بناءً علی الإحتمالین یکون أجنبیّاً عن السؤال، فلیس المراد ذلک، إذ لا یجب الحجّ إلاّ مرّةً واحدة بالضرورة، ولا مخالف إلاّ الشیخ الصّدوق بالنسبة إلی أهل جدّة والمتمکّنین، مستدلاًّ بروایةٍ معارضةٍ بالنصوص والإجماع.

ص: 419

وتلخّص: أنّ الروایة ظاهرة فی أنّ علی المکلّفین الإتیان بالشیء المأمور به مع القدرة، وإنّه یسقط عن الوجوب مع العجز.

الروایة الثانیة
اشارة

ما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه

وفیها بحثان:

السند و الدلالة

السند:

وهذه الروایة مرسلة. وما تقدّم فی الأُولی آتٍ هنا.

والدلالة:

أمّا ما یحتمل فیها ثبوتاً، فأربعة إحتمالات:

1_ أن یکون «کلّ» فی الجملتین إستغراقیّاً. وهذا باطل قطعاً، لأنّه إذا کان الکلّ غیر مقدور فلا یمکن عدم ترکه.

2_ أن یکون «کلّ» فیهما مجموعیّاً. وهذا باطل کذلک.

3_ أن یکون «کلّ» الأوّل إستغراقیّاً والثانی مجموعیّاً. والمعنی: ما کان جمیع أفراده غیر قابل لتعلّق القدرة، فلا یُترک مجموع أفراده. وهذا أیضاً محال.

4_ أن یکون الأوّل مجموعیّاً والثانی إستغراقیّاً. والمعنی: ما کان غیر مقدورٍ بمجموعه فلا یترک کلّه. وهذا المعنی معقول.

فظهر أنّ الإحتمالات الثبوتیّة ثلاثة منها باطلة، لأنّه تکلیفٌ بغیر المقدور، ومقتضی القاعدة هو حمل الکلام علی المعنی المعقول، لأنّ المفروض کونه من کلام الحکیم، ولابدّ من صون کلامه عن اللّغویّة.

ص: 420

فما هو مدلول الروایة حینئذٍ؟

هذه الجملة خبریّة، وقد ذهب جماعة کالنراقی(1) إلی أنّ الجملة الخبریّة لا ظهور لها فی البعث والزجر، فلا تدلّ علی الوجوب والحرمة.

لکنّ التحقیق خلافه.

وقیل: لا یدلّ إلاّ علی الإستحباب والکراهة. وهذا خلاف التحقیق کذلک.

وتلخّص دلالة الروایة علی الوجه الرابع.

رأی صاحب الکفایة

فأشکل فی الکفایة(2): بأنّ ظهور النهی فی التحریم یعارضه إطلاق الموصول الشامل للمستحبّات أیضاً، وحیث لا مرجّح لأحدهما علی الآخر، فإنّه لا یستفاد منها إلاّ رجحان الإتیان بما هو مقدور دون وجوبه.

الکلام حول الإشکال علیه

وأشکل علیه فی مصباح الأصول(3) بوجهین:

أوّلاً: إنّ الوجوب غیر داخل فی مفهوم الأمر ولا الحرمة فی مفهوم النهی، بل هو بحکم العقل، وعلیه، فإنّ الأمر مستعمل فی موارد الوجوب والإستحباب فی معنی واحدٍ وهو طلب الفعل، غیر أنّ المولی لم یرخّص فی الترک فی الأوّل

ص: 421


1- 1. مناهج الأصول: 41.
2- 2. کفایة الأصول: 371.
3- 3. مصباح الأصول: 481.

ورخّص فی الثانی. والنهی مستعمل فی موارد الحرمة والکراهة فی معنی واحدٍ وهو طلب الترک، غیر أنّ المولی لم یرخّص فی الفعل فی الأوّل ورخّص فی الثانی. فتحصّل: أنّ شمول الموصول للمستحبات لا ینافی ظهور النهی فی التحریم، لأنّ الترخیص بترک المقدور من أجزاءها لا ینافی حکم العقل بلزوم الإتیان بالمقدور من أجزاء الواجب بعد عدم ثبوت الترخیص فی ترکها.

إنّ هذا الّذی ذکره مبنائی، لأنّ صاحب الکفایة یری دلالة الأمر علی الوجوب والنهی علی الحرمة.

وثانیاً: إنّ رجحان الإتیان بغیر المتعذّر من أجزاء الواجب یستلزم وجوبه، لعدم القول بالفصل، فإنّ الأمر دائر بین کونه واجباً أو غیر مشروع، فرجحانه مستلزم لوجوبه.

أوّلاً: من أین نحرز عدم الفصل؟

وثانیاً: سلّمنا، لکن هذا الإجماع محتمل المدرک.

الإشکال علی الإستدلال بالروایة

وأشکل السیّد الخوئی(1) علی الاستدلال بالروایة فقال: والتحقیق فی الجواب أن یقال:

إن أمر الروایة دائر بین حملها علی تعذّر الإتیان بمجموع أجزاء المرکّب مع التمکّن من بعضها، لیکون الوجوب المستفاد منها مولویّاً، وبین حملها علی تعذّر

ص: 422


1- 1. مصباح الأصول: 482.

بعض أفراد الواجب مع التمکّن من البعث الآخر، لیکون الوجوب إرشادیّاً إلی حکم العقل بعدم سقوط واجب بتعذّر غیره، وحیث أنّه لا جامع بین الوجوب المولوی والإرشادی لتکون الروایة شاملةً لهما، ولا قرینة علی تعیین أحدهما، فتکون الروایة مجملة.

توضیح ذلک:

إنّ هذا الحدیث مطلق بالنسبة إلی الکلّ ذی الأجزاء والکلّی ذی الأفراد، وعدم جواز الترک مع تعذّر بعض أفراد الکلّی لما هو المقدور المیسور، حکم عقلی، لأنّ کلّ واحدٍ من أفراد الکلّی له حکم یخصّه _ فالأحکام للکلّی متعدّدة بعدد أفراده _ ، فلو قال: أکرم کلّ من فی المدرسة، کان لکلّ فردٍ حکمه من حیث الإطاعة والعصیان، فإذا تعذّر إکرام أحدهم، لم یسقط عقلاً وجوب إکرام غیره، بل یجب إکرام البقیّة. وأمّا فی الکلّ ذی الأجزاء، فإنّ وجوب الإتیان بالنسبة إلی بقیّة الأجزاء _ مع تعذّر البعض _ مولوی، وحیث لا جامع بین المولویّة والإرشادیّة، فالروایة مجملة.

أقول:

إنّما یتوجّه هذا الإشکال علی الإستدلال بالروایة فیما لو قلنا بأنّ هیئة الأمر فی الروایة مستعملة فی خصوص الحرمة العقلیّة أو المولویّة، بأنْ یکون المدلول هذا أو ذاک، لأنّ اللّفظ الواحد لیس له إلاّ مدلول واحد. وأمّا بناءً علی أنّ مدلول الأمر فی الروایة هو الطلب والبعث، ومدلول النهی هو الزجر، فالمدلول واحد، والمولویّة والإرشادیّة خارجة عن المدلول، بل تکون الداعی إلی الطلب والزجر،

ص: 423

کما هو الحال فی الأوامر الإمتحانیّة والتعجیزیّة وغیر ذلک. فهذا الجواب غیر وافٍ، بل الإستدلال بالبیان المذکور تام. لکنّ الخبر غیر تام سنداً.

هذا تمام الکلام فی هذه الروایة.

الروایة الثالثة:
اشارة

المیسور لا یسقط بالمعسور

حول السند و الدلالة

أمّا سنداً:

فهی فی کتاب (العوالی)(1) مرسلةً، والکلام الکلام.

وأمّا دلالةً:

فإنّ لفظ الحدیث وإن کان إخباراً لکنّه إنشاء لبّاً، فهو نهی عن ترک المیسور من الأجزاء بسبب تعذّر ما تعذّر منها. أو أنّه إخبارٌ علی الحقیقة؟ وجهان.

أمّا علی الوجه الأوّل، فیرد إشکال الکفایة من أنّه مطلق یعم الواجبات والمستحبات، فیقع التعارض مع الحکم بوجوب الإتیان بالبقیّة المیسورة. والکلام الکلام.

ویرد إشکال السیّد الخوئی من عدم اجتماع الإرشادیّة والمولویّة، وانتهاء الأمر إلی الإجمال. والکلام الکلام،

مضافاً إلی أنّ السیّد الخوئی نفسه یری عدم مجیء هذا الإشکال هنا، لأنّ النهی _ مولویّاً کان أو إرشادیّاً _ لابدّ وأن یتعلّق بفعل المکلّف وما هو تحت قدرته، وسقوط الواجب عن ذمّة المکلّف کثبوته بید الشارع.

ص: 424


1- 1. عوالی اللئالی 4 / 58، رقم: 205.
الإشکال علی الإستدلال

وأمّا علی الوجه الثانی، وأنّ الجملة خبریة محضة أرید بها الإخبار عن عدم سقوط الواجب والمستحب إذا تعذّر بعض أجزاء الکلّ أو بعض أفراد الکلّی، فإنّه کما یصحّ إسناد السقوط والثبوت إلی الحکم، کذلک یصحّ إسنادهما إلی نفس الواجب والمستحب، فیقال سقط الوجوب مثلاً.

فقد أشکل السیّد الخوئی(1): بأنّ السقوط فرع الثبوت، فالروایة مختصّة بتعذّر بعض أفراد الکلّی، لکون وجوب الأفراد غیر المتعذّرة ثابتاً من قبل _ لأنّ الوجوب المتعلّق بالکلّی ینحلّ إلی وجوبات مستقلّة بعدد الأفراد _ فیصدق أنّه لا یسقط بتعذّر غیره، ولا تجری الروایة فی تعذّر بعض أجزاء المرکّب، لأنّه کان واجباً بالوجوب الضّمنی، وقد سقط هذا الوجوب بتعذّر المرکّب من حیث المجموع، فلو کان یجب الإتیان بالبقیّة، لکان وجوبه بوجوبٍ إستقلالی حادث.

المناقشة

إنّه یبتنی علی أن یکون للأجزاء وجوبات متعدّدة ضمنیّة.

لکنّ التحقیق هو أنّ الوجوب المتعلّق بالصّلاة وجوب واحد بسیط، فکما نلحظ ونتصوّر المرکّب لحاظاً واحداً، کذلک نحکم علیه بحکمٍ واحد، فإذا تعذّر بعض أجزاء المرکّب تغیّر الموضوع، وبذلک یرتفع الوجوب عن الباقی، ویحتاج وجوبه إلی حکمٍ جدید.

ص: 425


1- 1. مصباح الأصول: 484.
دفع الحائری الإشکال

والشیخ الحائری دفع الإشکال عن الإستدلال(1) بوجهین:

أحدهما: إنّ الوجوب الغیری الذی تعلّق بالأجزاء قبل تعذّر بعضها هو عند العرف نفس الوجوب النفسی الحادث بعد التعذّر والحاصل: إنّ الحکم واحد. وحینئذٍ یصدق: المیسور لا یسقط بالمعسور.

المناقشة

أوّلاً: لیس الوجوب بعد التعذّر عند العرف نفس الوجوب الذی کان قبل التعذّر حتی یصدق المیسور لا یسقط بالمعسور، فإنّ العرف لا یری أنّ الأمر بنصب السلّم هو الأمر بالکون علی السّطح.

وثانیاً: إتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری محال، لأنّ الأجزاء عین الکلّ فی الحقیقة.

فالوجه الأوّل من الشیخ الحائری مندفع ثبوتاً وإثباتاً.

والثانی: إنّه کما أنّا فی الإستصحاب تبع لوحدة الموضوع عرفاً، ویکفی لجریانه کون الموضوع عند العرف بقاءً نفس الموضوع حدوثاً، کذلک هنا، فإنّ العرف یری «المیسور» عین «المعسور»، ووحدة الموضوع کافیة لتمامیّة الإستدلال بالروایة.

والحاصل: إنّ الموضوع واحد. نعم، یعتبر أن یکون الباقی من الأجزاء

ص: 426


1- 1. درر الأصول: 501.

مقداراً یصح معه عرفاً أن یقال ببقاء الموضوع.

وفیه:

إنّه لیس الموضوع باقیاً عند العرف الدقیق بعد فقد جزءٍ من أجزاء المرکّب أو شرطٍ من شروطه.

التحقیق

والتحقیق أن یقال:

أمّا نقضاً: فقد جاءت کلمة «لا تسقط» فی النصّ الصریح إذ قال علیه السّلام «الصّلاة لا تسقط بحالٍ». فکلّما یقال هناک یقال فی الرّوایة.

وأمّا حلاّ: فإنّ حمل کلمة «السّقوط» علی المعنی الحقیقی فی المرکّب غیر ممکن، لأنّا سواء قلنا بوجوب المقدّمات الداخلیّة بالوجوب الغیری أو الضّمنی، فإنّ الوجوب بعد تعذّر البعض قد سقط یقیناً، لأنّ الوجوب الغیری یتبع النفسی المتعلّق بالکلّ، وهو معلول له، فکیف یبقی بعد زواله، فلو حدث وجوبٌ آخر فإنّه ثبوتٌ ولیس عدم السّقوط.

وکذلک الوجوب الضّمنی، فإنّه فرع النفسی المتعلّق بالکلّ، لأنّ معنی الوجوب الضّمنی هو أن یأخذ کلّ جزءٍ من الأجزاء حصّة لنفسه من الوجوب المتعلّق بالکلّ، فإذا زال المتعلّق بالکلّ لم یبق شیء.

وما قیل: من أنّ هناک إرادة قد تعلّقت بالأجزاء، ونسبة الإرادة إلی الأجزاء نسبة البیاض إلی الجدار، فکما لو زال قسمٌ من بیاض الجدار یکون الباقی موجوداً، کذلک الحال بالنسبة إلی الأجزاء.

ص: 427

ففیه: إنّ الأرادة أمر بسیط، وإنّما الترکّب فی متعلّقها وهو الصّلاة، وحکم الإرادة بالنسبة إلی الأجزاء حکم اللّحاظ، فإنّ أجزاء الصّلاة تتعلّق بها الإرادة الواحدة کما تلحظ باللّحاظ الواحد.

خلاصة الکلام

وتحصّل: عدم إمکان حمل السقوط علی المعنی الحقیقی، والمراد هو المعنی المجازی. لکن لا یخفی أنّ هذا یتم فی الأجزاء، وأمّا عدم سقوط الوجوب عن الأفراد الباقیة بعد تعذّر البعض، فحقیقی لا مجازی، لکون کلّ فردٍ منها ذا وجوب مستقلّ، فلا یسقط وجوب الباقی بسقوطه عن المتعذّر، فلو أرید تعمیم الروایة إلی الکلّ والکلّی یلزم إرادة الحقیقة والمجاز معاً من اللّفظ الواحد فی الإستعمال الواحد. وهذا إشکال آخر فی الدلالة.

هذا تمام الکلام علی هذا الحدیث سنداً ودلالةً.

ویبقی الکلام علی موضوعه، فما المراد من «المعسور» و«المیسور»؟

فی المراد من المیسور والمعسور

وهذا البحث الموضوعی إنّما یحتاج إلیه بناء علی اعتبار الخبر، ونحن نتعرّض له تکمیلاً للمطلب.

ولا یخفی: أنّ المیسور یصدق حتی مع بقاء الجزء الواحد من الصّلاة أو الحج، لکنّ أحداً لا یفتی بوجوب الإتیان به عملاً بالحدیث. هذا أوّلاً.

ص: 428

وثانیاً: لا ذکر للأجزاء فی الخبر، فیحتاج إلی التقدیر. والمعنی: إنّ المیسور من الأجزاء لا یسقط بالمعسور منها. وعلیه، فلابدّ أن تکون الأجزاء ذات مراتب، فلو أنّ إصبعاً من الید انکسر فصار جبیرةً وَجَب العمل بقاعدة المیسور فی سائر أجزاء الید، لأنّه إذا فقدت مرتبة وجبت الأُخری. والقیام الکامل فی الصّلاة إذا تعذّر، وجب المیسور منه، ولکن ماذا نفعل لو تعذّر جزءٌ من المرکّب ولا ندری هل هو رکن أو لا؟ لأنّ الغرض الشرعی من العبادة غیر معلوم؟ هل هو باق بعد تعذّر الجزء؟ ولا ندری أیّ جزء مقوّم للمرکّب وأیّ جزءٍ غیر مقوّم له؟ فکیف نتمسّک بالقاعدة، وهو من التمسّک بالعام فی الشّبهة الموضوعیّة، للجهل بأنّ الباقی هو المیسور من الواجب أو لا؟

قیل: المرجع فی هذه الحالة عمل المشهور، ومتی لم یعملوا بالحدیث لا نعمل.

وفیه: إنّ عمل المشهور _ إن کان جابراً _ یجبر ضعف السّند لا ضعف الدلالة، اللهمّ إلاّ أن یکشف عن رأی المعصوم، وإلاّ، فإنّ فهمهم لا یکون حجّةً علی غیرهم. ولذا قال المیرزا برفع الید عن الخبر فی هکذا موارد. والإستصحاب أیضاً لا یحلّ المشکلة، لعدم الیقین بوحدة الموضوع، لأنّا لا ندری هل الجزء الفائت رکنٌ أو لا، مقوّم للغرض أو لا؟ فکیف نستصحب بقاء الأمر بالصّلاة.

وقال العراقی: المرجع فی تمییز الرکن هو العرف.

وفیه: إنّما یرجع إلی العرف فی تشخیص مفاهیم الألفاظ، أمّا المصادیق

ص: 429

فلا، وشکّنا من الثانی. وبعبارة أُخری: العرف هو المرجع فی الشبهات المفهومیّة لا المصداقیّة.

ویمکن أن یقال: إنّ الشارع إذا جعل الحکم ولم یرد عنه بیانٌ بالنسبة إلی الموضوع، وجب الرجوع فیه إلی العرف، لئلاّ تلزم لغویّة الحکم. فما ذکره العراقی هو الصحیح بعد ضمّ هذه المقدّمة إلیه.

هذا تمام الکلام علی التنبیه الثالث.

ص: 430

التنبیه الرابع: لو تردّد الأمر بین أن یکون الشیء جزءً للمرکّب أو شرطاً وأن یکون مانعاً أو قاطعاً، فما هو مقتضی القاعدة؟

اشارة

مثلاً: لو لم یکن له إلاّ الثوب الواحد لیستر به عورته فی الصّلاة، لکنّ الثوب نجس، فلا ندری هل شرط الصّلاة محقّق له فیصلّی فیه أو أنّ النجاسة مانعة عن الصّلاة ووظیفته الصّلاة عاریاً ... وتفصیل المطلب فی مسائل:

فیه مسائل

المسألة الأُولی:

ما إذا کان الحال من قبیل المثال المذکور والوقت ضیّق، حیث الواجب واحد شخصی ولیس له أفراد طولیّة ولا عرضیّة.

والحکم ههنا هو التخییر، لعدم إمکان الموافقة القطعیّة، والمخالفة بترک الصّلاة غیر جائزة یقیناً، فلابدّ من الموافقة الإحتمالیّة، وهی تحصل بأحد الطرفین، من الصّلاة فی الثوب أو الصّلاة عاریاً، لأنّ العقل یحکم فی دوران الأمر بین المحذورین مع عدم إمکان الموافقة القطعیّة والمخالفة القطعیّة، بضرورة الإتیان بما یحصّل غرض المولی، وأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها.

وأمّا بالنظر إلی الأصل العملی، فإنّ البراءة عن خصوص الصّلاة عاریاً وکذا

ص: 431

عن خصوص الصّلاة مع الثوب النجس جاریة، والنتیجة هی التخییر العقلی.

المسألة الثانیة:

ما إذا کان المأمور به هو الطبیعی کذلک، وله أفراد طولیّة والإحتیاط _ بالإتیان مرةً مع الثوب وأُخری عاریاً _ ممکن، لسعة الوقت، فهل یجب الإتیان بالصّلاة کذلک تحصیلاً للعلم بالموافقة أو لا، بل هو التخییر کذلک؟ قولان.

ظاهر کلام الشیخ: إبتناء هذه المسألة علی المختار فی الأقلّ والأکثر، وحیث أنّ المختار هناک هو البراءة، فهنا کذلک. والوجه فی جریان البراءة هو: أنّ الحکم یدور مدار الأفراد، وکلّ فردٍ یدور أمره بین المحذورین، فهذا الفرد من الصّلاة دائر أمره بین الإتیان به فی الثوب النجس أو عاریاً، فالأصل البراءة، وکذلک الفرد الثانی فی الساعة الثانیة وهکذا. وهذا ما علیه الشیخ(1).

وفی المقابل القول بالإحتیاط، _ وهذا مختار جماعة وعلیه السیّد الخوئی(2) _ وهو التحقیق. والوجه فی ذلک: أنّ الواجب فی الواجبات الموسّعة لیس الأفراد بل الطبیعی، فإنّ الأمر بالصّلاة لا یتعلّق بهذه الصّلاة الواقعة فی هذه السّاعة أو تلک الواقعة فی الثانیة، ولذا لا یقصد الأمر بالفرد عند الإتیان بالصّلاة لعدم تعلّقه به، بل قد تعلّق بالصّلاة، ولمّا کان کذلک، وجب رعایة قانون العلم الإجمالی حتی تحصل الموافقة القطعیّة لفرض سعة الوقت، وعلیه الإتیان بالصّلاة مرّتین. ومن المعلوم عدم جریان الأصل فی أطراف العلم، إمّا بتعارضها وتساقطها

ص: 432


1- 1. فرائد الأصول 2 / 400.
2- 2. مصباح الأصول: 487.

_ علی مسلک الإقتضاء _ وإمّا بعدم جریانها علی مسلک العلیّة.

المسألة الثالثة:

ما إذا کانت الوقائع متعدّدة وإن لم یکن للواجب أفراد طولیّة ولا عرضیّة، کما لو دار الأمر بین أن یکون الشیء شرطاً فی الصّوم أو مانعاً عنه.

والحکم فی هذه المسألة یبتنی علی منجّزیّة العلم الإجمالی فی التدریجیّات وعدمها، فعلی القول بالعدم، فهو فی کلّ یومٍ مخیّر بین الإتیان بذلک الشیء المشکوک فیه وترکه، وعلی القول بالمنجّزیّة _ کما هو المختار _ یکون العلم منجّزاً، وتکون النتیجة التخییر الإبتدائی، بأن یختار الفعل فی کلّ یوم یوم أو الترک فی کلّ یوم یوم إلی آخر الشهر، ولیس هو مخیّراً بالإستمرار، بأن یفعل فی بعض الأیام ویترک فی بعضٍ، للزوم المخالفة القطعیّة.

هذا تمام الکلام فی التنبیهات.

ویقع الکلام فی شرائط الأصول.

ص: 433

ص: 434

شرائط جریان الأصول

اشارة

ص: 435

ص: 436

خاتمة

فی شرائط الأصول

عندما یفقد الفقیه «العلم» بالنسبة إلی الحکم الشرعی، ویفقد «العلمی» أی «الأمارات»، تصل النوبة فی مقام الإستنباط إلی الأصول العملیّة، ولکنْ لإجرائها شرائط وأحکام.

ولا یخفی أنّ مرحلة النظر فی الشرائط متأخّرة عن مرحلة وجود المقتضی، فلولا تمامیّة المقتضی لا یلحظ الشرط، ولذا فإنّهم وإن جعلوا العنوان «شرائط الأصول»، فلابدّ وأن یریدوا من «الشرائط» الأعم منها ومن المقتضی. وتوضیح ذلک:

إنّ «الشرط» فی الإصلاح: هو المتمّم لفاعلیّة الفاعل أو لقابلیّة القابل، فهو «متمّم» لقابلیّة «النار» ل_«الإحراق» مثلاً، أمّا لو لم تکن «النار» موجودةً، فلا یبحث عن شرط الإحراق.

وفیما نحن فیه: البراءة العقلیّة قبل الفحص عن «البیان» الشرعی لا مقتضی لجریانه أصلاً، فالفحص عن البیان هو لتحقّق المقتضی لا إنّه شرط. بخلاف البراءة

ص: 437

الشرعیّة، فإنّ موضوعها (ما لا یعلمون) والفحص عن الدلیل فیها شرط، وإنّما یفحص عن الدلیل فی مورده، للإجماع وغیره ممّا دلّ علی سقوط إطلاق (رفع ما لا یعلمون) وتقیّده بما بعد الفحص.

فظهر أنّ المقصود من «شرائط الأصول» فی عنوان البحث أعمّ من الشرط الإصطلاحی.

ثمّ إنّ من الأصول ما هو مضیّق علی المکلّف وهو الإحتیاط، ومنها ما هو موسّع وهو البراءة، ومنها ما قد یکون مضیّقاً وقد یکون موسّعاً وهو الإستصحاب. وأمّا التخییر، فمورده دوران الأمر بین المحذورین.

والأصل: تارة: عقلی وهو الإشتغال والإحتیاط والبراءة العقلیّة، وتارة: شرعی، وهو الإستصحاب والبراءة النقلیّة.

شرط الإحتیاط

اشارة

إنّه عندما یحتمل الواقع، یأتی دور إحراز الواقع عن طریق الإحتیاط، فهو فی الحقیقة التحفّظ علی أغراض المولی وأحکامه، فموضوع الإحتیاط هو «إحتمال الواقع» لا «إحراز الواقع» کما فی کلام بعض الأعلام.

ولا ریب فی حسن الإحتیاط عقلاً وشرعاً. وأضاف صاحب الکفایة قید: ما لم یؤدّ إلی اختلال النظام، ولکن التحقیق عدم الحاجة إلیه، لأنّ الإحتیاط _ کما تقدّم _ هو إحراز مطلوب المولی غَرَضاً أو حکماً، وحیث یختلّ النظام فلا غرض للمولی، فلا موضوع للإحتیاط، لا أنّه یرتفع قیده.

ص: 438

وبعبارة أُخری: نحن نرید حفظ أغراض المولی وأحکامه بواسطة الإحتیاط، أمّا لو ترتّبت المفسدة أو لزم فوت المصلحة، ینقلب الإحتیاط بالإتیان إلی الترک.

الإشکالات
اشارة

وبعد، فلننظر فی الإشکالات المطروحة علی الإحتیاط:

الأول
اشارة

الأوّل: إنّه إذا قامت الأمارة الظنّیّة فإن إحتمال الخلاف یلغی، ویُرتّب الأثر علیها، لقول الإمام علیه السّلام: (لا عذر لأحدٍ من موالینا فی التشکیک فیما یؤدّیه عنّا ثقاتنا»(1)، وعلیه السّیرة العقلائیّة، فإنّ قوام العمل بالأمارة هو إلغاء إحتمال الخلاف.

لکنّ حقیقة الإحتیاط هو الإعتناء باحتمال الخلاف وترتیب الأثر علیه، وهذا خلاف الشرع، فکیف یکون حَسَناً؟

الجواب:

لا ریب فی أنّ العقلاء یلغون إحتمال الخلاف فی خبر الثقة ویجعلونه طریقاً إلی الواقع وکاشفاً عنه، فقول الراوی للإمام علیه السّلام: (أ فیونس بن عبدالرحمن ثقة، آخذ عنه مااحتاج إلیه من معالم دینی؟)(2) یکشف عن کون کبری إلغاء الخلاف عن خبر الثقة أمراً فطریّاً، وإنّما سؤاله عن الصغری، ومتی کان

ص: 439


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 38، الباب 2 من أبواب مقدّمة العبادات، رقم: 22.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 147، باب وجوب الرجوع فی القضاء والفتوی إلی رواة الحدیث، رقم: 33.

السؤال عن الصغری فالکبری عقلائیة، ومتی کان السؤال عن الکبری، فالکبری شرعیّة تعبّدیّة.

فالحاصل: إنّه لا کلام فی إلغاء العقلاء إحتمال الخلاف، والأدلّة الشرعیّة کقوله علیه السّلام: «لا عذر» إمّا تعبّدیّة وإمّا إرشاد إلی السیر العقلائیّة. لکنّ النکتة هی: إنّ إلغائهم الخلاف هو فی مقام العمل بقول الثقة، لا أنّهم یرون خبره حاملاً للواقع بحیث یترکون الإحتیاط لرجاء درک الواقع، ولذا نراهم إذا أرادوا درک الواقع _ حتی مع قیام خبر الثقة _ یحتاطون بالإتیان للأطراف المحتمل وجود الواقع فیها، من أجل الوصول إلیه.

وبعبارة أُخری: إنّهم فی الوقت الذی یأخذون بخبر الثقة، یرون حسن الإحتیاط أیضاً، بل یقومون بذلک فی الموارد الکثیرة، خاصّة المهمّة منها، وهذا یکشف عن أن إلغائهم إحتمال الخلاف إنّما هو لترتیب الأثر علی خبر الثقة فی مقام العمل.

والحاصل: إنّ قولنا: خبر الثقة کاشفٌ عند العقلاء، لیس بمعنی منعهم عن الإحتیاط من أجل درک الواقع.

الثانی:
اشارة

الإشکال الثانی:

التنافی بین الإحتیاط والإنشاء. وذلک، لأنّ الإحتیاط حسنٌ فی الشبهات البدویّة فی التوصّلیّات بلا کلام، لوجود المقتضی وعدم المانع، وکذلک لا کلام فی لزومه فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی.

أمّا فی العقود والإیقاعات، فإنّه یعتبر الإنشاء، ویعتبر الجزم فی الإنشاء،

ص: 440

ولکنّ الإحتیاط إنّما هو حیث لا جزم، فکیف یکون الإحتیاط فی العقود والإیقاعات؟

الجواب:

إنّ الإنشاء علی جمیع المبانی فی حقیقته _ تسبّب الإنشاء فی إیجاد المنشأ من علقة الزوجیّة والبینونة وغیر ذلک. أو الإعتبار والإبراز. أو إیجاد المعنی بالوجود اللّفظی _ أمر قصدی، ولا تردّد للشخص فی أصل الإنشاء، وإنّما یتردّد ویشکّ فی تحقّقه فی النکاح _ مثلاً _ بصیغة «أنکحت» أو «زوّجت»، فیأتی بکلیهما من باب الإحتیاط حتی یتیقّن بتحقّق الإنشاء المؤثّر.

وبعبارة أُخری: هو جازم فی إنشائه وغیر جازم فی آلة الإنشاء، فیأتی بجمیع ما یحتمل آلیّته حتی یتحقّق المنشأ، من النکاح والطلاق والبیع وغیر ذلک.

وأمّا الکلام فی العبادات:

فتارةً: یستلزم الإحتیاط التکرار للعبادة، کما فی مسألة التسبیحات الأربع، هل الواجب المرة أو الثلاث، وأُخری، یتردّد فی الواجب، هل هذا الفرد أو ذاک؟ کما فی ظهر یوم الجمعة، حیث لا یدری هل الواجب صلاة الظهر أو صلاة الجمعة. وثالثةً: یتردّد فی أنّ المأمور به أیّ الحالین، الصّلاة فی الثوب النجس أو الصّلاة عاریاً.

أمّا إن لم یستلزم التکرار لنفس العمل، یقع الإشکال فی:

1_ قصد الوجه والتمییز فی العبادة

فإنّه علی القول باعتباره فی العبادة، غیر حاصل فی صورة العمل الإحتیاطی.

ص: 441

الجواب

والجواب:

إحتمال إعتبار قصد الوجه والتمییز یندفع بالإطلاقات اللّفظیّة، وذلک، لأنّ التمسّک بالإطلاق بالنسبة إلی الإنقسامات المتأخّرة عن الأمر غیر المترتّبة علیه، جائز بلا کلام، کالصّلاة فی المسجد أو المدرسة. وأمّا الإنقسامات المترتّبة علیه، کقصد الوجه والقربة، فالمشهور العدم، إذ ما لم یتعلّق الأمر بالشیء فلا معنی لقصده، فکان الإطلاق متوقّفاً علی الأمر، وهذا هو الدّور، واجتماع التقدّم والتأخّر فی الشیء الواحد، لأنّ الإطلاق معناه لحاظ الشیء ورفض القیود عنه، فیکون مقدّماً، لکنّ قصد الوجه من الإنقسامات المتأخّرة عن الأمر اللاّحقة به.

وهذا هو الإشکال المعروف المشهور.

فأُجیب: بإمکان الإطلاق بالخطاب الثانی المعبّر عنه بمتمّم الجعل. فقیل: لا یکون بالجملة الإنشائیّة ولابدّ من الخبریّة. وقیل: بإمکانه بالإنشائیّة أیضاً.

والتحقیق عندنا: جواز التمسّک بالإطلاق للإنقسامات المتأخّرة.

والحاصل: إذا أمکن الإطلاق _ بأیّ مسلکٍ _ سقط إعتبار قصد الوجه والتمییز، وإذا سقط، أمکن الإحتیاط، فیندفع الإشکال.

وأمّا علی القول بعدم إمکان الإطلاق لا بالأمر الأوّل ولا بالأمر الثانی، تصل النوبة إلی الجواب عن الإشکال بالتمسّک بالإطلاق الحالی.

ومع التنزّل، تصل النوبة إلی الأصل العملی، حیث یشکّ فی إعتبار دخل قصد الوجه فی العبادة، ومقتضی الأصل وهو الإستصحاب العدم.

ومع التنزّل، فالبراءة العقلیّة والشرعیّة.

ص: 442

2_ إعتبار الجزم فی النیّة فی العبادة

وذلک: لأنّ الإنبعاث یجب أن یکون من أمر المولی، وهذا غیر حاصل فی مورد الإحتیاط، بل الإحتیاط یکون إنبعاثه من إحتمال الأمر، وهذا لا یفید، لأنّ من کان بإمکانه الفحص عن أمر المولی والإنبعاث عنه علی وجه التفصیل، لا معنی لأن یأتی بالعمل بداعی إحتمال الأمر.

الجواب

والجواب:

أمّا نقضاً، فإنّه فی موارد العلم بالأمر، یکون الإنبعاث من العلم بالأمر لا من الأمر، وکذا فی موارد قیام العلمی. وبالجملة: لیس الباعث فی جمیع الموارد هو الأمر الخارجی بل الصّورة الذهنیّة للأمر.

وأمّا حلاًّ، فإنّ حقیقة الحکم وجوب الإطاعة للمولی والإتیان بالمأمور به مضافاً إلیه فی التعبّدیّات، والحاکم بهذا هو العقل _ ولذا کانت الأوامر والنواهی الواردة فی لسان الشارع إرشاداً إلی حکم العقل _ ، والعمل المأتی به بقصد إحتمال الأمر واجدٌ لهذه الخصوصیّة، أی الإضافة إلی المولی، فیکون محبوباً إلیه ومقرّباً لدیه، بل هذا أحبّ إلیه ممّا یکون هناک علمٌ بالأمر أو علمی.

أمّا أن یقال بأنّ النوبة لا تصل إلی الإمتثال بداعی إحتمال الأمر مع إمکانه بداعی الأمر المعلوم تفصیلاً، فهذا لا برهان علیه.

ومع التنزل عمّا ذکر، والشک فی إعتبار الجزم بالنیّة فی العبادة، فإن رجع الشکّ إلی أصل الإعتبار والتکلیف، فالبراءة، وإن رجع إلی تحقّق الإمتثال بلا جزم فی النیّة، فقاعدة الإشتغال.

ص: 443

وأمّا إن کان الإحتیاط مستلزماً لتکرار العبادة، فیقع إشکال آخر _ زائداً علی ما تقدّم _ وهو لزوم العبث واللّعب بأمر المولی، وهذا ینافی مقام العبودیّة.

والجواب:

إنّ الإحتیاط _ کما تقدّم _ هو الجمع بین المحتملات، والمفروض أنّ المکلَّف فی مقام الإمتثال ویرید الإطاعة لأمر المولی، فلو لم یفحص عن الأمر أو فحص ویئس وکرّر العبادة، لتوقّف الإمتثال علی تکرارها، بالإتیان بالطّرفین أو جمیع الأطراف المحتمل وجود الأمر فیها وتحقّق الإمتثال بها، عدّ منقاداً للمولی ومهتمّاً بالعبودیّة له، فضلاً عن أن یکون عابثاً ومتلاعباً بأحکامه.

هذا تمام الکلام فی جریان الإحتیاط فی مورده، وشرط الجریان بالمعنی الذی ذکرناه.

شرط البراءة العقلیّة

اشارة

وأمّا شرط البراءة العقلیّة، فهو الفحص عن البیان، فلا یجوز التمسّک بها إلاّ بعده.

الإستدلال لوجوب الفحص

وقد استدلّ لوجوب الفحص بوجهین:

الوجه الأوّل:

إنّ البیان الذی هو موضوع القاعدة هو البیان القابل للوصول إلی المکلّف،

ص: 444

وإذا کان البیان کذلک، وجب الفحص عنه، وإلاّ إستحق العقاب علی مخالفته والأخذ بالقاعدة.

وبعبارة أُخری: لمّا یکون البیان فی معرض الوصول، ولا ندری هل یوجد فی المسألة بیانٌ أو لا، یجب الفحص عنه وإلاّ یکون التمسّک بالقاعدة تمسّکاً بالدلیل فی الشّبهة الموضوعیّة.

الوجه الثانی:

إنّه مع العلم بإقامة المولی البیان علی أغراضه بنحوٍ یمکن وصوله إلی العبد وعثوره علیه، کان علی العبد الفحص عنه للعمل به من أجل تحقّقه، فلو ترک الفحص وأخذ بالقاعدة، فقد خالف وظیفة العبودیّة، ومخالفة الوظیفة ظلم علی المولی، والظلم علیه موجب لاستحقاق العقاب.

فعلی المجتهد المتمکّن من الفحص عن الأدلّة أن یفحص، وما لم یفحص لم یجز له الأخذ بالقاعدة.

ولا یخفی الفرق بین الوجهین، لأنّه فی ترک الفحص یستحق العقاب علی مخالفة الواقع علی الوجه الأوّل، وعلی نفس ترک الفحص علی الوجه الثانی.

إشکال المحقق الإصفهانی

وأشکل المحقق الإصفهانی(1):

ص: 445


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 406.

أمّا علی الوجه الأوّل، وهو الّذی اعتمده الأعاظم، فبما حاصله:

إنّ الغرض من الفحص عن البیان تنجیز الحکم الواقعی وعدم جریان القاعدة، ولکنّ تنجّز التکلیف الواقعی فی مرتبةٍ متأخّرة عن فعلیّته، والفعلیّة متقوّمة بالوصول، وإذ لا وصول فلا فعلیّة فلا تنجّز.

والوجه فی هذا المدّعی هو: إنّ حقیقة الحکم هو البعث والزجر، وهما ما لم یصلا إلی العبد فلا إمکان للداعویّة والزاجریّة، ومع عدم إمکانهما، فلا حکم، حتی یجب الفحص عنه.

الجواب:

إنّ هذا الإشکال مبنیٌّ علی ما ذکر من دوران فعلیّة الأحکام مدار الوصول إلی المکلّف، وإذ لا فعلیّة فلا تنجّز فلا یجب الإمتثال. لکنّ الصحیح أنّ الحکم لیس إلاّ الإعتبار، وهو متقوّم بالإنشاء وکون الموضوع مفروض الوجود، فإذا تحقّق إنشاء الحکم من المولی وکان موضوعه مفروض الوجود، کان فعلیّاً، کما فی « وَلِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَن اسْتَطَاعَ إلَیْهِ سَبِیلاَ ». فإنّه إنشاء من المولی، وبمجرّد تحقّق الإستطاعة یکون الحکم فعلیّاً. غیر أنّ المکلّف تارةً: عالمٌ به تفصیلاً، فیجب علیه العمل به، وأُخری: عالم به إجمالاً، فقانون العلم الإجمالی، وثالثة: یحتمل وجوده، فیجب علیه الفحص عنه.

فالإشکال مندفع، لعدم تمامیّة المبنی.

وأمّا علی الوجه الثانی:

فبأن الظلم إنّما یتحقّق بمخالفة التکلیف الواصل، ووصول التکلیف إمّا

ص: 446

بالعلم التفصیلی وإمّا بالعلم الإجمالی، بأن یعلم بالوجوب إمّا هنا أو هناک، وإمّا أن یعلم بوجود أحکامٍ للمولی بالنسبة إلی موضوعات معیّنة، ففی هذه الحالات الثلاث یتحقّق الظلم من العبد علی المولی إن لم یعتنِ بأحکامه، بل لابدّ من الإحتیاط بالنسبة إلیها.

وأمّا حیث لا یوجد العلم مطلقاً، بل هو مجرّد إحتمال، فإنّ عدم إعتنائه بالمحتمل وترکه الإحتیاط بالنسبة إلیه، لیس ظلماً علی المولی. ومورد البحث فی البراءة العقلیّة من هذا القبیل.

الجواب:

إن فرض الکلام هو فی مورد المولی الذی علیه أن یبیّن إرادته بواسطة المبلّغین عنه، وأنّ علی العبد تحصیل تلک البیانات والعثور علیها، فبیاناته کالکعبة تزار ولا تزور. وعلی هذا، یکون الواجب علی العبد الفحص وإلاّ یکون ظالماً. نعم، لو کان بناء المولی علی عدم إیصال التکالیف إلی العبد، لم یجب علی العبد الفحص عمّا لم یصل إلیه.

وهذا تمام الکلام فی البراءة العقلیّة.

شرائط البراءة الشرعیّة

اشارة

وفی البراءة الشرعیّة یعتبر الفحص أیضاً. لکنّ الفرق بین حدیث الرّفع وقاعدة قبح العقاب هو: أنّ الحدیث یصدق فی الشّبهة الحکمیّة، سواء فُحص أو لا، لأنّ الجهل موجود قطعاً. ولکن وقع الکلام بینهم فی ثبوت الإطلاق للحدیث.

ص: 447

رأی المحقّق العراقی

فالمحقّق العراقی علی ثبوته فیه فی الشبهات الحکمیّة، واستدلّ(1) بتمسّک الفقهاء بالحدیث فی الشبهات الموضوعیّة، وأنّهم لا یوجبون الفحص فی التکالیف، إلاّ فی موارد معیّنة، کنصاب الزکاة والدَّین والفروج والدماء، وأمّا فی غیرها، فإطلاق الحدیث قبل الفحص محکّم، وإلاّ لم یتمسّکوا به فی الشبهات الموضوعیّة.

الإشکال علیه

لکن فیه: أنّ الإستدلال بفعل الفقهاء معناه أن یکون فهمهم _ بتمامیّة مقدّمات الإطلاق فی الحدیث _ حجةً علی الآخرین، وهذا غیر صحیح. لأن عمل الفقهاء لو کان جابراً لضعف الحدیث، فلیس بجابر للدلالة. هذا أوّلاً.

وثانیاً: من أین ثبت أنّ مستندهم هو حدیث (رفع ما لا یعلمون)، فلعلّه الحدیث: (والأشیاء کلّها علی هذا حتی تستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البیّنة)(2)؟

ثمرة البحث

والثمرة للإطلاق وعدمه _ مع وجوب الفحص علی کلّ حال _ هی أنّه إن لم یکن الحدیث مطلقاً، فلا مقتضی للتمسّک به، وإن کان مطلقاً، فلوجود المانع فی هذا البحث. إذن، لا فرق من الناحیة العملیّة، فی مسألة وجوب الفحص، وعدم جواز التمسّک بالحدیث قبله. هذه ثمرة.

ص: 448


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 469.
2- 2. وسائل الشیعة 17 / 89، کتاب التجارة، باب عدم جواز الإنفاق من کسب الحرام، رقم: 4.

والثمرة الثانیة: إن کان الحدیث مطلقاً، کان بیاناً علی عدم التکلیف، فیتحقّق الموضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان، فلا تجری القاعدة مع وجوده، ویکون مقدّماً علیها فی المرتبة، وإن لم یکن مطلقاً یکونان فی العرض.

والثمرة الثالثة: إنّه إن تمّ الإطلاق فی الحدیث، کان دلیلاً علی عدم وجوب الفحص فی الشبهات الموضوعیّة، لعدم وجود الدلیل المانع، أمّا فی الشبهات الحکمیّة، فیوجد المانع عن التمسّک بالإطلاق.

الکلام فی إطلاق حدیث الرفع

ولکنّ البحث _ کما أشرنا _ فی أصل ثبوت الإطلاق.

والعمدة للقول بعدم کونه مطلقاً هو:

إنّ الإطلاق یتوقّف علی عدم وجود القرینة اللّفظیّة والعقلیّة وما یحتمل القرینیّة، وهنا یوجد الحکم العقلی المانع من ثبوت الإطلاق، وکما ذکرنا _ فی المباحث السّابقة _ الحکم العقلی علی قسمین:

فمنه أحکام عقلیّة نظریّة، وهذه الأحکام تصلح لأن تکون بحکم المخصّص أو المقیّد المنفصل، فلا یبقی معها الإطلاق أو العموم.

ومنه أحکام عقلیّة ضروریّة، وهذه الأحکام إذا حفّت بالکلام منعت من أصل إنعقاد الإطلاق أو العموم.

وفیما نحن فیه: حدیث الرفع محفوف بالحکم العقلی القائم علی ضرورة الفحص من باب وظیفة العبودیّة کما تقدّم.

ص: 449

وفیه:

إنّ الأحکام العقلیّة منها تنجیزیّة ومنها تعلیقیّة، والقسم الأوّل یمنع من إنعقاد الإطلاق والعموم، دون الثانی، وما نحن فیه من القسم الأوّل. فالعقل یحکم بلزوم الفحص عن أحکام المولی من أجل حفظ أغراضه وأحکامه، ولکنّه معلّق علی عدم الترخیص والتوسعة من ناحیة المولی، وحدیث الرفع ترخیصٌ، فلو أراد الحکم العقلی تقییده یلزم المحال. وذلک، لأنّ المقتضی للإطلاق فی الحدیث موجود، فإن منع الحکم العقلی المذکور عن تمامیة الإطلاق فهو وإلاّ فالإطلاق تام. ولکنّ الحکم القطعی المذکور _ لکونه معلّقاً علی عدم ترخیص المولی _ لا یمکنه المانعیّة، فمانعیّته موقوفة علی عدم إطلاق حدیث الرّفع، وعدم إطلاقه موقوف علی مانعیّة الحکم العقلی. وهذا دور.

التحقیق عدم الإطلاق

ولکنّ التحقیق عدم الإطلاق لوجهین:

الأوّل: إنّ جمیع الأُمور التسعة المذکورة فی حدیث الرّفع أعذار للعبد أمام المولی، ومنها الجهل بأحکامه، والجهل إنّما یکون عذراً له فیما لو فحص عن الأحکام، وأمّا قبله فلا ... .

وهذه قرینة فی داخل الحدیث تمنع من إنعقاد الإطلاق.

والثانی: إنّ مذاق الشارع کما یدلّ علیه الکتاب والسنّة هو التفقّه فی الدین والعمل علی وجه الیقین قدر الإمکان، وإذا کان هذا مذاقه، فکیف یعطی الترخیص

ص: 450

للعبد ویسمح له العمل عن الجهل؟

وهذه قرینة من خارج الحدیث تمنع من الإطلاق.

و علی فرض الإطلاق هل من مقید؟

وعلی فرض الإطلاق؟

وعلی فرض الإطلاق للحدیث بالنسبة إلی الشبهات الحکمیّة، فهناک مقیّدان:

المقیّد الأوّل: الإجماع.

فقد ادّعی الإجماع علی عدم جواز الأخذ بحدیث الرّفع فی الشبهات الحکمیّة قبل الفحص.

وفیه:

هذا الإجماع لا کلام فیه صغرویّاً، إلاّ أنّه یحتمل أن یکون مدرکیّاً، فلیس بالإجماع الحجّة.

المقیّد الثانی: العلم الإجمالی.

فإنّ الفقیه یعلم إجمالاً بوجود المحرّمات والواجبات فی الشریعة، ویحتمل وجود الحکم فی المورد من الشّبهة الحکمیّة، ومعه کیف یجوز له أن یتمسّک بحدیث الرّفع؟ لأنّ الترخیص به فی جمیع أطراف الشّبهة یستلزم المعصیة بلا کلام، وفی بعضها دون بعضٍ ترجیح بلا مرجّح. فالحدیث ساقط فی جمیع الشبهات الحکمیّة قبل الفحص عن الحکم.

ص: 451

الإشکال علی الدلیل المقیّد
اشارة

وقد أُشکل هنا بوجهین:

الأوّل: إنّه أعمّ من المدّعی

إنّ مورد بحث الفقهاء هو: إن حدیث الرفع لا یجری مع وجود التکالیف الإلزامیّة فی الکتب المعتبرة. لکنّ الدلیل أعمّ من الکتب المعتبرة وغیرها.

الجواب:

إنّ المقام من قبیل دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، ومقتضی القاعدة هو إنحلال الأکثر بالأقلّ، وعلیه، فإنّ الأحکام الشرعیّة المعلومة بالإجمال هی بین الأمارات المعتبرة وغیر المعتبرة، لکنّ هذا العلم الإجمالی الکبیر ینحلُّ بالعلم الإجمالی المتوسّط، وهو وجود الأحکام بین الأمارات المعتبرة الموجودة بین أیدینا، لکنّ هذا العلم الإجمالی أیضاً ینحلّ بالعلم الإجمالی بأنّ الأمارات المعتبرة مجتمعة فی کتاب «وسائل الشیعة» الجامع بین «الکتب الأربعة». فلیس الدلیل أعمّ من المدّعی.

الثانی: إنّه أخصّ من المدّعی

وهو: إنّ المدّعی وجوب الفحص فی الشبهات الحکمیّة کلّها، والعلم الإجمالی مانع عن التمسّک بحدیث الرّفع. ولکن لا ریب فی أنّه بعد الظفر بمقدارٍ من الأحکام ینحلُّ العلم الإجمالی، فلا یجب الفحص عن بقیّة موارد الشّبهة

ص: 452

الحکمیّة. أورده صاحب الکفایة(1).

جواب المحقّق النائینی

أجاب المیرزا عن الإشکال(2): بأنّ متعلّق العلم الإجمالی عنوان «ما فی الکتب الأربعة» إذن، یجب الفحص عن بقیّة الشبهات فی الکتب الأربعة. کما لو علم إجمالاً بأنّ علیه دیوناً مسجّلة فی دفاتره، فعثر علی مقدارٍ منها، فهو لا یزال یفحص عنها فی سائر الدفاتر ولا یقول بانحلال العلم.

المناقشة

وفیه: إنّ عنوان «ما فی الکتب الأربعة» لیس له موضوعیّة، بل هو عنوان مشیر إلی الأحکام الموجودة فی تلک الکتب، فالمهم هو النظر إلی المشار إلیه، والمفروض دوران أمره بین الأقلّ والأکثر، وقد تقرّر إنحلال العلم الإجمالی المردّد بین الأقلّ والأکثر بعد الظفر بمقدارٍ من الأطراف، والرجوع فی الباقی إلی حدیث الرّفع. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ المیرزا من القائلین باقتضائیّة العلم الإجمالی بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة. ومعنی ذلک: أنّ منجّزیّة العلم بالنسبة إلی الموافقة تدور مدار تعارض الأصول، وأنّه بمجرّد انتفاء التعارض فیما بینها یسقط العلم عن المنجّزیّة. وبناءً

ص: 453


1- 1. کفایة الأصول: 375.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 558.

علی هذا، فإنّه بمجرّد العثور علی قسمٍ من الأحکام، یکون العلم بالنسبة إلی هذا القسم تفصیلیّاً، ویتحقّق الموضوع للأصل وهو الشک بالنسبة إلی غیره، فیجری فیه بلا معارض.

فظهر سقوط جواب المیرزا علی مبناه أیضاً.

جواب المحقّق العراقی

وأجاب المحقّق العراقی(1) عن إشکال شیخه: بأنّ متعلّق العلم الإجمالی هنا هو «مجموع ما فی الکتب الأربعة». وعلیه، فکلّ حدیثٍ حدیثٍ فیها طرفٌ لاحتمال التکلیف، فیکون التکلیف منجّزاً، والعقل یحکم بضرورة الإمتثال بالإحتیاط بالنسبة إلی المجموع، لأنّ المفروض تنجّز التکلیف بالنسبة إلی المجموع، إذ یحتمل إنطباق عنوان «المجموع» علی کلّ طرفٍ، ولا فائدة فی جریان الأصل فی بعض الأطراف، لأنّ العراقی یری علیّة العلم الإجمالی بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة، فالأصل الجاری هو الإشتغال.

المناقشة

وفیه: إنّ مورد الکلام هو العلم الإجمالی بوجود الأحکام الإلزامیّة التی لو تفحّصنا عنها لعثرنا علیها، هذا من جهة. ومن جهة أُخری: فإنّ هذا العلم مردّد بین الأقلّ والأکثر. ومن جهة ثالثة: فإنّ المفروض أنّ ما عثرنا علیه یکون أمارةً علی

ص: 454


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 470.

الحکم الإلزامی بالنسبة إلی ما قامت الأمارة علیه من الأطراف.

وبعد الإلتفات إلی هذه الجهات الموجودة فی البحث: فإنّه مع العثور علی مقدارٍ من الأمارات، ینحلُّ العلم الإجمالی حتی بناءً علی العلیّة، لأنّ الطرف الذی قامت علیه الأمارة یخرج عن دائرة الإحتمال یقیناً، بل یجب العمل بالقائمة علیه بالإتفاق. ولمّا کانت الأطراف من قبیل الأقلّ والأکثر، فإنّ الأقلّ یکون هو المتیقّن والأکثر یکون المشکوک فیه، ویجری فیه الأصل.

جواب المحقّق الخوئی

وأجاب السیّد الخوئی فی مصباح الأصول(1) عن إشکال الکفایة بأنّ: أحادیث الوقوف عند الشّبهة تعارض حدیث الرّفع وغیره من أدلّة البراءة، والنسبة بینها هی التباین، لأنّ روایة (الوقوف) تفید وجوب الإحتیاط قبل الفحص، وحدیث الرّفع یفید البراءة قبل الفحص وبعده. لکن بعض أخبار الوقوف خاصّ بصورة قبل الفحص وهو قوله علیه السّلام: (أرجه حتی تلقی أمامک)(2)، وهذا البعض یخصّص عموم (أخبار الوقوف)، وحینئذٍ تنقلب النسبة بین (أخبار الوقوف) و(أخبار البراءة)، وتصبح تلک أخصّ من هذه، فتقیّد (أخبار الوقوف) إطلاق (أخبار البراءة).

ص: 455


1- 1. مصباح الأصول: 494.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 107، کتاب القضاء، باب وجوه الجمع بین الأحادیث المختلفة، رقم: 1.
المناقشة

أوّلاً: أخبار البراءة مقدّمة علی أخبار الوقوف بالحکومة، لأنّها ترخیصٌ من الشارع فلا یبقی شبهةٌ.

وثانیاً: أخبار الوقوف إرشادیّة، لکونها معلّلة بقوله علیه السّلام: (فإنّ الوقوف عند الشّبهة خیر من الإقتحام فی الهلکة)(1).

وثالثاً: قوله علیه السّلام (أرجه حتّی تلقی إمامک) قد جاء فی مقبولة عمر بن حنظلة بعد سقوط جمیع المرجّحات، وأیّ علاقة له بمورد بحثنا حیث لا فحص أصلاً؟ هذا أوّلاً.

وثانیاً: بحثنا فی زمن الغیبة، و(أرجه حتی تلقی إمامک) ظاهر فی زمن الحضور.

وثالثاً: روایة (أرجه) معارضة بموثقة سماعة حیث قال علیه السّلام: (فهو فی سعة)(2). ولو تنزّلنا، فإنّ الإحتیاط غیر لازم بالإتفاق، بل المرجع إمّا التخییر وإمّا التساقط بین الخبرین المتعارضین، وإمّا الأخذ بالأحدث کما علیه المحقّق النراقی.

الجواب الصحیح عن إشکال الکفایة:

هو الرجوع إلی النصوص الّتی دلّت علی وجوب الفحص:

ص: 456


1- 1. وسائل الشیعة 20 / 259، کتاب النکاح، باب وجوب الإحتیاط فی النکاح فتوی وعملاً، رقم: 2.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 108، کتاب القضاء، باب وجوه الجمع بین الأحادیث المختلفة، رقم: 5.

1_ الخبر فی (هلاّ عملت) قال: لم أکن أعلم. قال: (هلاّ تعلّمت؟)(1). فلو أخذنا بإطلاق حدیث الرّفع لزم لغویّة هذه النصوص. فهذه النصوص تقیّد حدیث الرّفع، وهو إنّما یجری بعد الفحص.

2_ روایة عبدالرحمن بن الحجّاج، إذ سأل الإمام علیه السّلام عن حکم رجلین أصابا صیداً فی حال الإحرام، فهل علی کلیهما الجزاء؟ قال علیه السّلام لعبدالرحمن إذا سئلت عن مسألةٍ لا تدری الحکم فیها فلا تجب حتی تسأل.

وهذا تمام الکلام فی البراءة الشرعیّة.

ثمرة البحث عن إطلاق حدیث الرفع

وللبحث عن الإطلاق فی حدیث الرفع وعدمه ثمراتٍ، منها:

إنّه بناءً علی الإطلاق بالنسبة إلی الشبهات قبل الفحص وتمامیّة المقتضی، یقع الکلام حول وجود المانع، أمّا فی الشبهة الحکمیّة، فالمانع موجود کما تقدّم، وأمّا فی الشبهة الموضوعیّة فهو مفقود، فلذا یُفتی بجواز الإرتکاب فیها من دون الفحص، اللهمّ إلاّ أنْ یقوم دلیل آخر، کالدّلیل علی لزوم الفحص فی الأموال من حیث الشکّ فی بلوغ المال حدّ النصاب أو تعلّق الخمس به، فیکون ذلک الدلیل هو المرجع، ویفتی بوجوب الفحص وإنْ کانت الشبهة موضوعیّة.

وأمّا بناءً علی قصور الحدیث عن الشمول للشبهات قبل الفحص، وجب الفحص حتی فی الشبهات الموضوعیّة.

ص: 457


1- 1. الأمالی للشیخ المفید: 228، الأمالی للشیخ الطوسی: 9 _ 10.
شرط الإستصحاب

وإنّه إمّا مثبت للتکلیف، وإمّا ناف له. فإن کان مثبتاً، کان حکمه حکم الإحتیاط قبل الفحص، فلا مشکلة من حیث العمل. لکن المشکلة من الناحیة العلمیّة هی أنّ موضوع الإستصحاب هو الشک، فإن کان الفحص ولم یحصل الظفر بالحجّة علی الوجوب أو الحرمة، تمّت أرکان الإستصحاب، أمّا مع عدم الفحص، فإنّ إجرائه یتوقّف علی وجود الشک، ومع عدم الفحص وإحتمال الظفر لو فحصنا، هل یتحقّق الشک فی التکلیف؟ لا ریب أنّه مع الفحص والظفر بالدلیل، لا یبقی مجال للإستصحاب، لأنّه یزیل الشک.

فظهر أنّه یعتبر الفحص فی الإستصحاب وإن کان مثبتاً للتکلیف، من الناحیة العلمیّة، وإن کان لنا من الناحیة العملیّة إبقاء الحکم السّابق.

وأمّا إن کان نافیاً للتکلیف، فالفحص لازم کما فی البراءة، لأنّ الدلیل إمّا وارد علی الإستصحاب وإمّا حاکم علیه کما هو التحقیق.

شرط التخییر
اشارة

فإنّه إن کان من قبیل دوران الأمر بین المحذورین، أمکن توهّم عدم لزوم الإحتیاط، لعدم إمکان الموافقة القطعیّة. لکنّ مقتضی التحقیق هو الإحتیاط بالفحص، لأنّ أصالة التخییر فی دوران الأمر بین المحذورین حکم عقلی _ لأنّ المکلّف إمّا فاعل وإمّا تارک _ وقیل: بأنّ کلاًّ من الطرفین _ من الوجوب والحرمة _ مشکوک الحکم، فکلٌّ منهما مجری للبراءة، لکنّ الأصلین لا یجریان للزوم

ص: 458

الترخیص الشرعی فی المخالفة القطعیّة، وهو إمّا قبیح وإمّا محال _ کما هو التحقیق _ فیسقط الأصلان، وتلزم المخالفة الإلتزامیّة حینئذٍ، ولا محذور فیها.

وعلی کلا المسلکین، یجب الفحص عن الدلیل. أمّا علی المسلک الثانی، فلعدم الموضوع لحدیث الرفع قبل الفحص، لقصوره عن الشمول لما قبل الفحص فی الشّبهة الحکمیّة، أو لوجود المانع عن جریانه من حدیث التعلّم وغیره.

وأمّا علی المسلک الأوّل، فلأنّ حکم العقل بالتخییر مقیّد بعدم إمکان الموافقة للحکم الواقعی، وأمّا مع إمکانه، فلا یحکم العقل بالتخییر، لأنّه مع إحتمال العثور علی الحجّة من ناحیة المولی، یحکم بلزوم المتابعة للحجّة والعمل علی طبقها، حتی لا تلزم المخالفة العملیّة.

وههنا تنبیهات:

ص: 459

التنبیه الأوّل: أیّ مقدار یجب الفحص؟
اشارة

والکلام تارةً فی الشّبهة الحکمیّة، وأُخری فی الشّبهة الموضوعیّة.

وأیضاً یقع الکلام تارةً: فی وجوبه علی المقلّد، وأُخری: فی وجوبه علی المجتهد.

وجوب الفحص علی المقلِّد فی الشّبهة الحکمیّة

أمّا المقلِّد، فیجب علیه الفحص فی الشّبهة الحکمیّة عن الحجّة. والحجّة للمقلِّد فی الشّبهة الحکمیّة علی الحکم الشرعی هی فتوی المجتهد الأعلم، فعلیه أن یفحص عن الأعلم، وعن فتواه فی المسألة، فإن حصل له العلم بأعلمیّة هذا المجتهد وبأنّ فتواه کذا، عمل. لکنّ حصول العلم بالأمرین غیر میسّر لکلّ المقلّدین، فتصل النوبة إلی الإطمینان. لکن یقع البحث فی حجیّة الإطمینان بالأعلمیّة وبالفتوی، وعلیه الفحص حینئذٍ عن حجیّة الإطمینان.

ص: 460

وجوب الفحص علی المجتهد فی الشّبهة الحکمیّة

وأمّا المجتهد، فإنّ البحث تارةً فی أُصول الدین، وأُخری فی فروع الدین، ومسائل الفروع، منها ما هو مورد للإبتلاء المجتهد عملاً أیضاً، ومنها ما لیس کذلک، فیحتاج إلی الحکم لکی یفتی فقط، ووجوب الفحص فیها کفائی لا عینی.

ثمّ إنّ الفحص فی المسألة الأصولیّة، یعتبر فیه الوصول إلی العلم الوجدانی، وأمّا فی الفرعیّة، فالمعتبر هو الحصول علی الحجّة علماً أو علمیّاً، أو أصلاً من الأصول العملیّة.

والحاصل: إنّ الفحص واجب علی المجتهد، علی التفصیل المذکور، ویختلف مقدار الفحص بالنسبة إلیه باختلاف الإحتمالات عنده، فإذا فحص فی دائرةٍ من الإحتمالات، واحتمل وجود روایةٍ أو قولٍ فی خارج تلک الدائرة، وجب علیه الفحص هناک أیضاً.

وجوب الفحص من أیّ قسمٍ من أقسام الوجوب؟

ثمّ یقع الکلام فی أنّ وجوب الفحص من أیّ قسمٍ من أقسام الوجوب، فهنا أقوال والعمدة منها أربعة:

الأوّل: إنّه وجوب طریقی، لغرض التحفّظ علی الواقعیّات من الأحکام الشرعیّة. وهذا هو المشهور، وعلیه، تکون المؤاخذة علی الواقع.

الثانی: إنّه وجوب نفسی، وعلیه صاحب المدارک والأردبیلی. فلو ترک الفحص عوقب علی ترکه، سواء صادف الواقع أو لا. لکن یقع البحث فیما لو

ص: 461

لم یخالف الواقع، هل یستحق أن یعاقب علی التجرّی علی المولی أو لا؟

والثالث: إنّه وجوبٌ بحیث یعاقب علی ترک الفحص إنْ صادف الواقع، وعلیه الشیخ والمیرزا.

والرابع: إنّه وجوب إرشادی إلی حکم العقل. وعلیه العراقی، فیجب الفحص بحکم العقل لوجوب تحصیل أحکام المولی، بمناط إحتمال العقاب قبل الفحص.

أدلّة القول بوجوب التعلّم والفحص وجوباً نفسیّاً

هذا القول الذی ذهب إلیه صاحب المدارک والأردبیلی(1)، استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّه مقتضی الأصل.

والمقصود من ذلک إنّه مقتضی الإطلاق، أی إطلاق الخطاب. فإنّه یقتضی أن یکون الوجوب نفسیّاً عینیّاً تعیینیّاً، لأنّ کونه غیریّاً أو کفائیّاً أو تخییریّاً یحتاج إلی مؤنةٍ زائدة فی مقام الثبوت لاحتیاجه إلی اللّحاظ الزائد، وفی مقام الإثبات، إذ یحتاج إلی بیانٍ زائد. ومن المعلوم أنّ الأصل عدم المؤنة الزائدة.

فالوجه الأوّل هو الإطلاق اللّفظی.

الوجه الثانی: إنّ تارک الفحص غافلٌ عند العمل عن أنّ عمله مخالف لأمر المولی، ولا ریب فی قبح معاقبة الغافل. فلو کان إستحقاق العقاب علی الواقع

ص: 462


1- 1. مجمع الفائدة 2 / 110، مدارک الأحکام: 123.

_ لا علی مخالفة الأمر بالفحص بعنوان نفسه _ لزم عقاب الغافل. فاستحقاق العقاب یکون علی نفس ترک الفحص.

الوجه الثالث: مشکلة الواجبات المشروطة، وذلک:

تارةً: یکون الواجب مطلقاً غیر موقتٍ وغیر مشروط، فالفحص واجب من أجل الوصول إلیه.

وأُخری: یکون الواجب مشروطاً، کالصّلاة المشروط وجوبها بالزوال. ففی هذا القسم لا وجوب للصّلاة قبل الزوال لفقد الشرط، إذن، لا وجوب للفحص قبل الزوال. وأمّا بعد الزوال، فلو ترک المکلّف الفحص، کان غافلاً عن التکلیف أو عاجزاً عنه، والتکلیف لا یتوجّه إلی العاجز والغافل، فلا وجوب بعد الزوال أیضاً لفقد الشرط. إذن، یبطل وجوب الفحص مطلقاً. فالقول بوجوب الفحص لا یتمُّ إلاّ بناءً علی الوجوب النفسی للفحص.

الجواب عن أدلّة القول بالوجوب النفسی للتعلّم والفحص

أمّا الوجه الأوّل:

فلا إشکال فی الکبری، إنّما الکلام فی الصّغری، لأنّ تمامیّة الإطلاق متوقّفة علی إنعقاده، بعدم وجود القرینة المتّصلة _ حالیةً أو لفظیةً علی التقیید _ ، وعلی حجیّته، بعدم وجود القرینة المنفصلة علی التقیید.

وهنا القرینة موجودة فی کلتا المرحلتین. أمّا فی أصل الإطلاق، فلأنّ الفحص والسؤال والتعلّم إنّما هو من أجل الوصول إلی المطلب والعمل.

ص: 463

وقد ذکر السیّد الخوئی(1) أنّ دلیل وجوب التعلّم هو آیة السؤال.

وأجاب: بأنّ للسؤال الطریقیّة ولیس له موضوعیّة ونفسیّة.

ولکنّ الإستدلال بالآیة لمقامنا والجواب عنه بما ذکر فی غیر محلّه. لأنّ السؤال فی الآیة لیس عن الطریق. هذا أوّلاً.

وثانیاً: السؤال فی الآیة لیس مقدّمةً للعمل، بل هو مقدّمة للعلم، کما فی الآیة نفسها.

وثالثاً: الآیة واردة فی أصول الدین، فلا علاقة لها بالبحث.

بل القرینة المانعة عن الإطلاق هی الصحیحة الواردة فی الصّید(2)، حیث اشترک جمعٌ فی صیدٍ وهم فی حال الإحرام، فسئل عن الجزاء هل علیهم جزاء واحد أو علی کلّ واحدٍ. فقال علیه السّلام للراوی: فی مثل هذا المورد حیث لا تعلم بالحکم توقّف حتی تلقی الامام.

فالسؤال فی هذه الروایة مقدّمة للعمل، فالأمر بوجوب الفحص لیس علی إطلاقه، حتی یکون الفحص واجباً نفسیّاً.

والقرینة المنفصلة، ما ورد فی احتجاج اللّه تعالی علی العباد یوم القیامة: (هلاّ تعلّمت) بعد السؤال عن (هلاّ عملت) والإعتذار بالجهل. فإنّ هذه(3) الأخبار ظاهرة فی أنّ السؤال من أجل العلم مقدّمة للعمل.

ص: 464


1- 1. مصباح الأصول: 496 _ 497.
2- 2. وسائل الشیعة 13 / 46، الباب 18 من أبواب کفّارات الصید.
3- 3. السنن الکبری للبیهقی 1 / 226.

وأیضاً: ما ورد فی غسل المجدور الذی أجنب فاغتسل، حیث أدّی الغسل إلی الموت، وقد کانت الوظیفة التیمّم قال علیه السّلام: (ما لهم، قتلوه، قتلهم اللّه _ ثلاثاً _ )(1) .

وتلخّص: أنّ الوجه الأوّل للقول بنفسیّة وجوب التعلّم والفحص غیر تام.

وأمّا الوجه الثانی:

فالجواب عنه: صحیح أنّ الغافل لا یعاقب، لکن فرقٌ بین الغفلة المسبّبة عن القصور وعن التقصیر. وما نحن فیه من قبیل الثانی، ولذا تقرّرت القاعدة بأنّ الإمتناع بالإختیار لا ینافی الإختیار.

ثمّ إنّ المفروض تنجّز التکالیف الواقعیّة علی المکلّف وإستحقاق العقاب علی مخالفتها، فلو قیل باستحقاق العقاب علی ترک الفحص أیضاً _ لکون الفحص واجباً نفسیّاً _ لزم الإلتزام بترتّب العقابین عند ترک الفحص والوقوع فی خلاف الواقع. ولا یلتزم به أحد.

وأمّا الوجه الثالث: فقد أُجیب عنه بوجوه:

الأوّل: ما یستفاد من کلمات الشیخ(2) من التمسّک بالسّیرة العقلائیّة والإرتکاز العقلائی، فإنّهم لا یفرّقون بین الواجبات المطلقة المشروطة فی إستحقاق العقاب علی ترکها علی أثر عدم الفحص والتعلّم.

وفیه: إنّ هذا الجواب لا یکفی، لأنّ السّیرة مستندة إلی دلیلٍ، فما هو الدلیل

ص: 465


1- 1. بحارالأنوار 2 / 29 رقم 10. وقد تقدّم.
2- 2. فرائد الأصول 2 / 422.

علی سیرتهم علی إستحقاق العقاب علی ترک الفحص فی الواجبات المشروطة؟

الثانی: ما أفاده صاحب الکفایة(1) من أنّه لابدّ من الإلتزام بالوجوب النفسی أو القول بأنّ الواجبات المشروطة ترجع إلی الواجبات المعلّقة، بأن یکون الشرط شرطاً للواجب لا للوجوب.

وتوضیحه: إنّ الواجب المشروط هو کون الوجوب مشروطاً بالشرط ومقیّداً بالقید. فإذا قال: «إذا دخل الوقت فصلّ» یکون مدلول الهیئة «صلّ» معلّقاً علی دخول الوقت، ومقتضی ذلک عدم الوجوب قبل الوقت. والواجب المعلّق هو أن یکون القید متعلّقاً بالمادة «الصّلاة»، فلم یدلّ الخطاب علی عدم وجوب الصّلاة قبل الوقت، بل الوجوب قبل الوقت فعلیٌ، لکنّ الواجب وهو «الصّلاة» استقبالی معلّق علی الوقت.

الثالث: ما ذکره المحقّق العراقی من الإرادة المنوطة.

وتوضیح ذلک: لقد ذهب المحقّق العراقی إلی أنّ الإرادة تنقسم إلی المطلقة والمنوطة. وفی الواجبات المشروطة لا توجد الإرادة المطلقة قبل الشرط، أمّا الإرادة المنوطة فموجودة، فإنّ المولی یلحظ المشروط عند تحقّق شرطه ویتحقّق له الشوق إلیه.

وعلی هذا المبنی یندفع الإشکال، ولا یلزم القول بکون وجوب التعلّم نفسیّاً، لأنّ أساس الإشکال هو عدم وجود الوجوب قبل تحقّق الشرط، والمحقّق العراقی یری وجوده علی نحو الإناطة.

ص: 466


1- 1. کفایة الأصول: 376.

ولکنّ المبنی غیر صحیح، کما بحث عنه فی محلّه من مباحث الألفاظ.

الرابع: ما ذکره السیّد الخوئی فی مصباح الأصول(1)، وهو الجواب المقبول، وهو أنّ للمسألة صوراً:

الصّورة الأُولی:

قد یکون الواجب فعلیّاً مع اتّساع الوقت لتعلّمه والإتیان به، فلا إشکال فی عدم وجوب التعلّم علیه قبل الوقت، لعدم فعلیّة وجوب الواجب فإنّه بعد الوقت مخیّر بین التعلّم والإمتثال التفصیلی، والأخذ بالإحتیاط والإکتفاء بالإمتثال الإجمالی، سواء کان الإحتیاط مستلزماً للتکرار أم لا، بناءً علی ما تقدّم بیانه من أنّ الصحیح جواز الإکتفاء بالإمتثال الإجمالی، ولو کان مستلزماً للتکرار، مع التمکّن من الإمتثال التفصیلی.

الصّورة الثانیة:

وقد یکون الواجب فعلیّاً مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللإتیان به، ولکن المکلّف یتمکّن من الإحتیاط والإمتثال الإجمالی، ولا إشکال أیضاً فی عدم وجوب التعلّم علیه قبل الوقت، لعدم فعلیّة وجوب الواجب، ولا بعد الوقت، لعدم اتّساع الوقت له وللإتیان بالواجب علی الفرض، فله أن یتعلّم قبل الوقت، وله أن یحتاط بعد دخوله. وتوهّم _ أنّ الإمتثال الإجمالی إنّما هو فی طول الإمتثال التفصیلی، فمع القدرة علی الثانی لا یجوز الإکتفاء بالأوّل _ غیر جار فی هذا الفرض، لعدم التمکّن من الإمتثال التفصیلی فی ظرف العمل، نعم، هو متمکّن من

ص: 467


1- 1. مصباح الأصول: 498.

التعلّم قبل الوقت، إلاّ أنّه لا یجب علیه حفظ القدرة علی العمل قبل الوقت ولم یقل بوجوبه أحد.

الصّورة الثالثة:

وقد یکون الواجب فعلیّاً مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللإتیان به، ولا یکون المکلّف متمکّناً من الإحتیاط، ولکنّه متمکّن من الإمتثال الإحتمالی فقط، کما إذا شکّ فی الرکوع حال الهویّ إلی السّجود، مع عدم تعلّمه لحکم ذلک قبل العمل، فإنّه لا یتمکّن من الإحتیاط وإحراز الإمتثال، إذ فی الرجوع والإتیان بالرکوع إحتمال زیادة الرکن، وهو مبطل للصّلاة وفی المضیّ فی الصّلاة وعدم الإعتناء بالشکّ إحتمال نقصان الرکن، وهو أیضاً مبطل للصّلاة فلا یتمکّن من الإحتیاط. وفی کلّ من الرجوع والإتیان بالرکوع والمضیّ فی الصّلاة إحتمال الإمتثال. هذا إذا کان الشکّ متعلّقاً بالأرکان کما مثلناه.

وأمّا إن کان متعلّقاً بغیر الأرکان، فهو متمکّن من الإحتیاط والإتیان بالمشکوک فیه رجاء، وهو خارج عن هذا الفرض، ففی هذا الفرض وجب علیه التعلّم قبل الإبتلاء بالشکّ بحکم العقل بملاک دفع العقاب المحتمل عند فعلیّة الشکّ وتشمله أدلّة وجوب التعلّم أیضاً، فإنّه لو یم یتعلّم قبل الإبتلاء واکتفی بالإمتثال الإحتمالی فلم یصادف الواقع، کانت صلاته باطلة وصحّ عقابه، ولا یصحّ اعتذاره بأنّی ما علمت، لأنّه یقال له هلاّ تعلّمت حتی عملت کما فی الروایة. ومن هذا الباب فتوی لأصحاب بوجوب تعلّم مسائل الشکّ والسّهو قبل الإبتلاء، حتّی أفتوا بفسق من لم یتعلّم. وأنت تری أنّ الإشکال المذکور من ناحیة وجوب التعلّم

ص: 468

غیر جار فی هذه الصورة یقیناً. فلاحظ.

الصّورة الرابعة:

وقد لا یکون الواجب فعلیّاً بعد دخول الوقت، لکونه غافلاً ولو کانت غفلته مستندة إلی ترک التعلّم أو لکونه غیر قادر، ولو کان عجزه مستنداً إلی ترک التعلّم قبل الوقت، مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللإتیان بالواجب. والإشکال المذکور مختصّ بهذه الصّورة.

قال:

والّذی ینبغی أن یقال: إنّه إن کانت القدرة المعتبرة فی مثل هذا الواجب معتبرة عقلاً من باب قبح التکلیف بغیر المقدور، وغیر دخیلة فی الملاک کما إذا ألقی أحد نفسه من شاهق إلی الأرض، فإنّه أثناء الهبوط إلی الأرض وإن لم یکن مکلّفاً بحفظ نفسه، لعدم قدرته علیه، إلاّ أن قدرته لیست دخیلة فی الملاک ومبغوضیّة الفعل للمولی باقیة بحالها، ففی مثل ذلک، لا ینبغی الشکّ فی وجوب التعلّم قبل الوقت للتّحفظ علی الملاک الملزم فی ظرفه، وإن لم یکن التکلیف فعلیّاً فی الوقت، لما تقدّم سابقاً من أنّ العقل یحکم بقبح تفویت الملاک الملزم، کما یحکم بقبح مخالفة التکلیف الفعلی.

وإن کانت القدرة معتبرة شرعاً ودخیلة فی الملاک، فلا یجب التعلّم قبل الوقت حینئذ، بلا فرق بین القول بوجوبه طریقیّاً والقول بوجوبه نفسیّاً. أمّا علی القول بالوجوب الطریقی، فالأمر واضح، إذ لا یترتّب علی ترک التعلّم فوات واجب فعلی ولا ملاک ملزم. وأمّا علی القول بالوجوب النفسی، فلأنّ الواجب إنّما

ص: 469

هو تعلّم الأحکام المتوجّهة إلی شخص المکلّف، والمفروض أنّه لم یتوجّه إلیه تکلیف ولو لعجزه، ولا یجب علی المکلّف تعلّم الأحکام المتوجّهة إلی غیره، وهو القادر، ولذا لا یجب علی الرجل تعلّم أحکام الحیض.

قال:

وظهر بما ذکرناه أنّه لا ثمرة عملیّة بیننا وبین المحقّق الأردبیلی رحمه اللّه، إذ قد عرفت عدم وجوب التعلّم فی هذا الفرض علی کلا القولین، فلا یجدی الإلتزام بالوجوب النفسی فی دفع الإشکال المذکور، بل الحقّ هو الإلتزام بالإشکال وعدم وجوب التعلّم، ولا یلزم منه محذور.

هل إستحقاق العقاب علی ترک الواقع أو ترک التعلّم؟

قد ظهر أنّ تارک التعلّم یستحق العقاب، لکن علی ترک الواقع، لأنّ وجوب التعلّم طریقی لا نفسی، فهو طریق لحفظ المصالح والأحکام.

رأی المیرزا

وذهب المیرزا(1) إلی أنّ إستحقاق العقاب لیس علی ترک التعلّم، سواء وقع فی خلاف الواقع أو لا کما قال المقدّس الأردبیلی، ولیس علی ترک الواقع کما قال المشهور، وإنّما علی ترک التعلّم المستلزم لترک الواقع. وهذا قول برزخ بین القولین، وهو المستفاد من کلمات الشیخ.

ص: 470


1- 1. فوائد الأصول 4 / 281.

یقول المیرزا: إنّ الخطابات الشرعیّة علی قسمین، منها ما هو خطابٌ لأجل خطابٍ آخر، ومنها ما لیس لأجل خطابٍ آخر. والثانی هو الواجب النفسی والأوّل هو الواجب الغیری.

وینقسم الثانی إلی أقسام، فقد یکون متعلّق الخطاب نفس ما یقوم به الغرض، کما فی معرفة اللّه سبحانه، فإنّ معرفته واجبة وهی الغرض من الأمر بالمعرفة، وقد یکون الأمر سبباً لتولّد الغرض، کأنْ یأمر بالإلقاء فی النار، فإنّه سبب لتحقّق الإحراق. وقد یکون الأمر مقدّمة إعدادیّة لحصول الغرض، کأنْ یأمر بالصّلاة لحصول الغرض منها وهو الإنتهاء من الفحشاء والمنکر.

فکان لهذا القسم ثلاثة أقسام.

وأمّا القسم الأوّل، فهو علی قسمین:

الأوّل: أنْ یکون الخطاب الآخر مغنیاً عن الأمر بالشیء، کأنْ یکون المطلوب هو الصّعود إلی السطح المتوقّف علی نصب السلّم، لکنّ الأمر بالصّعود یکفی عن الأمر بنصبه.

والثانی: أنْ لا یکون مغنیاً عنه، بل لابدّ من التصریح به، فیحتاج إلی الخطابین، ولهذا أقسام:

الأوّل: ما لا یمکن تحقّق الواجب والوصول إلی جمیع أجزائه وشرائطه إلاّ بالخطاب الآخر. مثل الصّلاة وقصد القربة بها، فإنّ الأمر بقصد القربة بالصّلاة هو لأجل الصّلاة، ولولاه لما تحقّقت.

الثانی: ما لا یمکن الوصول إلی الواجب إلاّ بالخطاب الآخر، لعدم القدرة

ص: 471

علیه، مثل الحج، فإنّه یجب علی المکلّف، ولکن لا قدرة علیه إلاّ بالسّیر إلی مکّة، فیأتی خطاب آخر یتعلّق بالسّیر. والفرق بین القسمین واضح.

الثالث: أن یکون الخطاب من أجل خطابٍ آخر، للتحفّظ علی متعلّق الخطاب الآخر، مثل الأمر بالإحتیاط، ومثل الأمر بترتیب الأثر علی الطریق کقوله: صدّق العادل. فإنّ المقصود من الأمر بالإحتیاط، ومن الأمر بترتیب الأثر علی الطریق هو حفظ الواقع. وهذا معنی الوجوب الطریقی عند المیرزا.

فیقول المیرزا: إنّ الخطاب بالتعلّم والفحص هو لأجل خطابٍ آخر، لا من قبیل الخطاب بقصد القربة ولا من قبیل المقدّمة، ولا من قبیل السیر للوصول إلی مکّة من أجل الحج، بل هو قسمٌ رابع، فإنّه من أجل التحفّظ علی الخطابات الواقعیّة کما فی صدّق العادل، إذ الغرض مترتّب علی حفظ الواقع.

وعلی هذا، فإنّ إستحقاق العقاب لیس لترک الفحص مطلقاً _ کما قال الأردبیلی، ولا علی ترک الواقع کما هو المشهور، لعدم البیان علی الواقع فیکون العقاب علی مخالفته قبیحاً، بل علی ترک التعلّم المستلزم لترک الواقع.

وقد جاء هذا المطلب فی تقریر السیّد الخوئی بعبارةٍ أُخری وملخّصها:

إنّ موضوع إستحقاق العقاب مرکّب من جزئین، فهو ترک الفحص واستلزامه مخالفة الواقع، لأنّ العقاب علی ترک التعلّم فقط لا یصح، لکونه خطاباً من أجل خطابٍ آخر، ولا یعقل إستحقاق العقاب علی ترک مثله، ولأنّ العقاب علی ترک الواقع فقط یخالف قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ص: 472

الإشکال علیه

ویتوجّه علیه الإشکال: بأن البیان المصحّح للعقاب لیس العلم الوجدانی أو العلم التعبّدی فحسب، إذْ لا خصوصیّة لذلک، بل المراد منه هو «الحجة»، الأعمّ من العلم والأصول المحرزة وغیر المحرزة. وفیما نحن فیه: الأخبار الواردة فی التعلّم حجّةٌ وبیانٌ علی الواقع، ومعها لا یکون العقاب بلا بیان.

ولقد ذهب السید الخوئی إلی أنّ الخطابات الواردة فی باب الطرق طریقیّة، والقول بعدم کونها حجةً علی الواقع، باطل بالضرورة، وإذا کانت حجّةً، فإنّ الحجّة هی ما یصحّ الإحتجاج به والعقاب علی مخالفته، فلا مجال معها لقاعدة قبح العقاب.

فظهر سقوط هذا الوجه نقضاً وحلاًّ.

رأی العراقی

وذهب المحقّق العراقی(1) إلی أنّ العقاب علی ترک الواقع، لکنّ الأخبار الواردة فی وجوب التعلّم مثل «هلاّ تعلّمت» محمولة علی الإرشاد، لا علی الوجوب الطریقی کما علیه المیرزا. ولبیان نظره مقدّمة هی:

إنّ لوجوب تعلّم الأحکام فی عالم الثبوت أنحاء:

1_ الوجوب النفسی الإستقلالی. بأن یکون تعلّم الأحکام الشرعیّة واجباً نفسیّاً، کما هو الحال فی وجوب معرفة اللّه.

2_ الوجوب النفسی التهیّؤی. بأن یکون المکلّف علی أثر التعلّم متهیّئاً للإمتثال.

ص: 473


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 476.

3_ الوجوب الشرطی. أی: یجب تعلّم الأحکام والفحص عنها لیتحقّق شرط إجراء الإستصحاب والبراءة، فإنّ شرط جریانهما عدم وجود خبر الثقة مثلاً.

4_ الوجوب المقدّمی. فیکون التعلّم مقدّمة للعمل، کنصب السلّم للصّعود إلی السّطح.

5_ الوجوب الطریقی. فیکون من قبیل صدّق العادل، فهو لحفظ الواقع.

6_ الوجوب الإرشادی. فلا جعل من المولی، بل إنّ العقل یدرک ضرورة التعلّم والشارع یرشد إلیه.

وفی مقام الإثبات:

الوجوب النفسی باطل، سواء الإستقلالی والتهیّؤی.

والوجوب الشرطی، باطلٌ، لأن ظاهر «هلاّ تعلّمت» هو التعلّم بلحاظ العمل.

وکذا الوجوب المقدّمی، لأنّ معنی المقدّمة توقّف ذی المقدّمة علیها وترتّبه علیها. لکنّ العمل بالواقع غیر متوقّف علی التعلّم، بل یمکن درکه بالإحتیاط. نعم، لو کان ترک التعلّم _ بعد تحقّق شرط التکلیف _ موجباً للعجز عن الإمتثال، کان التعلّم واجباً.

فتعیّن أنّه وجوب طریقی للتحفّظ علی الواقع کما هو الإحتیاط، فللمکلّف أنْ یترک التعلّم ویعمل بالإحتیاط، وجواز ذلک یکشف عن أنّ الغرض هو حفظ الواقع، ولا خصوصیّة للتعلّم.

لکنّ المحقّق العراقی ذهب إلی أنّه لا وجوب مولوی، بل هو درکٌ من

ص: 474

العقل، وما ورد عن الشارع من الأمر بالتعلّم إرشاد إلی حکم العقل. وقال مستشکلاً علی المیرزا بما حاصله:

إنّ الوجوب الطریقی للتحفّظ علی الواقع، إنّما هو حیث یکون موضوع الأمر الطریقی متّحداً مع موضوع الحکم الواقعی، کما هو الحال فی صدّق العادل، فإنّه أمر بتصدیق العادل المخبر عن وجوب صلاة الجمعة مثلاً، فإنّ معناه صلّ صلاة الجمعة التی أخبر العادل بوجوبها. وکذلک الحال فی الأوامر المتعلّقة بالإحتیاط، فإن موضوعها وموضوع الواقع المحتاط فیه واحد.

وأمّا فی مثل الأمر بالتعلّم والأمر بالحکم الواقعی، فلیس الموضوع واحداً، فلیس أمره بالتعلّم طریقیّاً.

المناقشة

وفیه: إنّه لا یوجد أی دلیل من الکتاب والسنّة، ولا أی برهان عقلی، علی اعتبار وحدة الموضوع، فالکبری التی ذکرها العراقی غیر تامّة.

نعم، إشکاله علی المیرزا وارد، من جهة أنّه _ کما ذکر مقرّره المحقّق الخوئی _ معترف بضرورة الإتّحاد الموضوعی، وهو مفقود بین وجوب التعلّم والأحکام الواقعیّة.

وتلخّص:

أنّ وجوب التعلّم طریقی. وأنّ إستحقاق العقاب إنّما هو «علی ترک الواقع» کما علیه «المشهور». وما ذهب إلیه المیرزا من أنّه علی ترک التعلّم المنتهی إلی ترک

ص: 475

الواقع، قد عرفت الإشکال فیه، إذ قلنا بأنّ الواقع قد قام علیه البیان، وهو الخبر الوارد فی وجوب التعلّم.

ویرد علی المیرزا إشکالات أُخری أیضاً.

التنبیه الثانی: حکم العمل المأتیّ به بلا فحص
اشارة

لو عمل المکلّف بلا فحصٍ _ سواء کان مجتهداً، فلم یفحص، أی لم یستخدم ملکة الإجتهاد لإستنباط الحکم الشرعی، أو مقلِّداً، أی: لم یفحص عن رأی المقلَّد الأعلم فی المسألة _ فوقع العمل منه لا عن إجتهاد ولا تقلید، فما هو الحکم؟

ولا یخفی أنّ علی کلّ مکلّف أن یمتثل الحکم الشرعی علی الوجه الصّحیح، لأنّ الأثر _ سواء فی العبادات والمعاملات _ إنّما یترتّب علی العمل الصحیح الواقعی، لأنّ الأمارات کلّها طریق إلی الواقع کما هو القول الحق.

وأیضاً: إنّ الأوامر الظاهریّة لا تدلّ علی الإجزاء واقعاً، وإنّما تفید الإجزاء فی عالم الظاهر، أی ما لم ینکشف الخلاف.

فنقول:

لو أتی بالعمل مع عدم التعلّم والفحص، کان العمل باطلاً ظاهراً. أی لا یترتّب علیه الأثر _ عبادةً کان أو معاملةً _ فی عالم الظاهر. وإنّما نقول: فی عالم الظاهر، لاحتمال کونه مطابقاً للواقع.

ص: 476

والدلیل علی بطلانه ظاهراً:

أمّا فی المعاملات، فهو أصالة الفساد، لأنّ المعاملة قد وقعت مع الشک فی جامعیّتها للأجزاء والشرائط، أو الشک فی فقدها للموانع، فیقع الشکّ حینئذٍ فی إفادتها للنقل والإنتقال، والأصل بقاء کلٍّ من المالین علی ملک صاحبه.

وإن شئت فقل: إنّه حینئذٍ یشک فی صحّة هذه المعاملة، بمعنی هل أنّ الشارع جعل الصحّة علی مثلها أو لا؟ والأصل عدم جعل الصحّة علیها.

وأمّا فی العبادات:

فلأنّ المکلّف إذا کانت ذمّته مشغولةً بالصّلاة الواقعیّة _ مثلاً _ ، ثمّ أتی بها قبل الفحص عن أحکامها، فإنّه یشک فی فراغ ذمّته، وإستصحاب الإشتغال یوجب الحکم بالبطلان، ومع التنزّل عن الإستصحاب فالمرجع قاعدة الإشتغال.

هذا، ولا یخفی أنّه لابدّ فی المعاملات من قصد الإنشاء جدّاً، فلو قصد لا کذلک وقعت المعاملة باطلة ظاهراً. أمّا مع عدم القصد، فالمعاملة باطلة واقعاً.

وفی العبادات کذلک، فإنّه لو جاء بالعبادة بقصد الرجاء بطلت ظاهراً. وأمّا مع عدم قصد القربة فهی باطلة واقعاً.

هذا کلّه، لو عمل قبل الفحص والظفر بالحجّة الشرعیّة.

وأمّا لو ترک الفحص وعمل، ثم ظفر بالحجّة، فللعمل أربع صور، فتارةً: هو مطابق للحجّة فی حینه وللحجّة الفعلیّة. وأُخری: هو مخالف للحجّة فی حینه والحجّة الفعلیّة. وثالثةً: موافق للحجّة فی حینه ومخالف للحجّة الفعلیّة. ورابعة: موافق للحجّة الفعلیّة ومخالف للحجّة فی حینه.

ص: 477

مثلاً: لو ترک المقلّد الفحص عن رأی المجتهد الذی قوله حجّة علیه، ثمّ ظهر مطابقة عمله مع قول المجتهد الذی کان رأیه الحجّة عند العمل، وقول المجتهد الذی قوله حجّةٌ فعلاً علیه لموت ذلک المجتهد. ففی هذه الصّورة _ حیث وقع العمل مطابقاً للحجّة عند العمل والحجّة الفعلیّة _ یحکم بصحّة العمل، أی یترتّب علیه الآثار، عبادةً کان أو معاملةً. نعم، بترکه الفحص یکون متجریّاً ویستحقّ العقاب لذلک.

أمّا لو ظهر مخالفة عمله لکلیهما، فلا شبهة فی بطلانه.

فالحکم فی هاتین الصّورتین بلا کلام.

الصّورة الثالثة: ما لو طابق عمله للحجّة حین العمل وخالف الحجّة الفعلیّة، فما هو حکم العمل؟ وهل یستحق العقاب؟

أمّا بالنسبة إلی العمل، فلابدّ من رعایة الحجّة الفعلیّة لا الحجّة عند العمل، فلو کان فتوی مقلَّده حین العمل صحّة صلاته، وفتوی مقلَّده فعلاً البطلان، حکم ببطلان صلاته. هذا بالنسبة إلی العامّی.

وأمّا المجتهد، فلو لم یفحص عند العمل، مع أنّه کانت روایة لو فحص عنها لعثر علیها، والآن قد عثر علی روایة معارضة لتلک الروایة، والترجیح مع هذه الروایة الدالّة علی البطلان، فالحکم هو البطلان کذلک.

ووجه البطلان هو: إنّ فتوی المرجع الفعلی هو الطریق للمکلَّف العامی. کما أنّ الروایة الثانیة هی الطریق للمجتهد، بناءً علی الطریقیّة والمنجّزیّة کلیهما.

والحاصل: إنّ مقتضی إستصحاب إشتغال الذمّة وقاعدة الإشتغال هو البطلان.

ص: 478

وقد قیل: بالصحّة. لقاعدة الإجزاء، أی: إجزاء الأمر الظاهری عن الأمر الواقعی.

لکنّ هذا الوجه مبنی علی تمامیّة مقدّمتین: إحداهما: أصل الإجزاء، فإنّه خلاف الأصل والقاعدة. نعم، یتمّ الإجزاء حیث لا ینکشف الواقع بالعلم أو العلمی، والمفروض هنا الإنکشاف. هذا أوّلاً.

وثانیاً: علی فرض تمامیّة الکبری، فإنّ إجزاء الأمر الظاهری عن الواقعی هو حیث یکون المکلَّف مستنداً فی عمله إلی الأمر الظاهری، وإلاّ فلا.

نعم، قام الدلیل الخاصّ علی الإجزاء فی الصّلاة إن کان الخلل فی غیر الأرکان، وهو قاعدة لا تعاد، فلو اقتضت الحجّة الفعلیّة البطلان، کانت القاعدة دلیلاً علی الصحّة.

لکنّ الکلام فی عموم القاعدة للجاهل المقصّر کما فی ما نحن فیه، ففیها قولان، فعلی القول باختصاصها بالقاصر کالناسی، لم تجر القاعدة هنا.

الصّورة الرّابعة: ما لو طابق العمل الحجّة الفعلیّة وخالف الحجّة حین العمل. فإنْ کان الإنکشاف فی خارج الوقت، فلا قضاء علیه، لأنّ المفروض مطابقة الصّلاة للحجّة فهی صحیحة، وإن کان الإنکشاف فی داخل الوقت فعلیه الإعادة.

الکلام حول موارد الإستثناء

إلاّ أنّ هناک موارد قام النصّ والإتفاق فیها علی الصحّة، وهی:

1_ الصّلاة جهراً فی موضع الإخفات، وبالعکس.

ص: 479

2_ الصّلاة تماماً فی موضع القصر.

3_ الصّوم فی السّفر.

فالحکم فی هذه الموارد هو الصحّة مع الجهل ولو عن تقصیرٍ، وإنْ کان مستحقّاً للعقاب علی مخالفة الواقع بسبب ترک الفحص والتعلّم.

وقد وقع الکلام بینهم فی کیفیّة الجمع بین الحکم بصحّة العمل المأتیّ به والحکم باستحقاق العقاب علی ترک التعلّم؟ فذکروا وجوهاً، ونحن نذکرها ونتکلّم علیها باختصار:

طریق الکفایة

فالوجه الأوّل: ما ذکره صاحب الکفایة(1)، وهو: إنّ الصّلاة الإخفاتیة أو الجهریة _ مثلاً _ مشتملة علی مصلحة زائدةٍ، لکنّ الصّلاة المأتی بها حال الجهل _ إذ جهر فی موضع الإخفات أو أخفت فی موضع الجهر _ مشتملة علی مصلحةٍ ملزمة، فهی صحیحة لذلک إلاّ أن تلک المصلحة الزائدة قد فاتت بسبب التقصیر، فاستحقّ العقاب علی تفویتها، ولا منافاة.

الإشکال علیه

وأورد علیه فی مصباح الأصول(2) بوجهین أحدهما: أنّ المصلحتین إن کانتا إرتباطیتین، فلا وجه للحکم بصحّة المأتی به مع فرض عدم حصول المصلحة

ص: 480


1- 1. کفایة الأصول: 378.
2- 2. مصباح الأصول: 507.

الأُخری، وإن کانتا إستقلالیتین، لزم تعدّد الواجب وتعدّد العقاب عند ترک الصّلاة رأساً، وهو خلاف الضّرورة.

طریق کاشف الغطاء

والوجه الثانی ما ذکره الشیخ الکبیر فی کشف الغطاء(1) من الإلتزام بالترتّب، لکون الواجب هو صلاة القصر مثلاً، وعلی تقدیر ترکه وإستحقاق العقاب علی المعصیة، فالواجب هو التمام، فلا منافاة، کما ذکر فی محلّه تفصیلاً.

الإشکال علیه

وأورد علیه المحقّقان النائینی والإصفهانی(2) بعدم تمامیّته ثبوتاً. وتوضیح ذلک: إنّ الترتّب یدور مدار عدم القدرة علی الإمتثال أو التزاحم بین الغرضین. مثال الثانی: ما إذا کان یملک 25 من الإبل وزکاته خمس شیاه، فصارت فی أثناء السنة 26 وزکاته إبل واحد، فیدور أمره بین دفع الخمسة شیاه ودفع الإبل، وهو قادر علی کلیهما، إلاّ أنّ الدلیل أفاد عدم وجوب الزکاتین فی السنة الواحدة، فکان المحذور هو الجمع بین الملاکین. ومثال الأوّل: هو قضیّة دوران الأمر بین الصّلاة وإزالة النجاسة عن المسجد.

وما نحن فیه لیس من موارد تزاحم الغرضین لوجود القدرة علی الغرض، ولیس من موارد عدم القدرة، لأنّ الخطاب الترتّبی کان موضوعه عصیان الأهم،

ص: 481


1- 1. کشف الغطاء: 27.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 572، نهایة الدرایة 4 / 430.

وهذا غیر ممکن هنا، لأنّ المکلّف بمجرّد إلتفاته إلی العصیان یخرج عن الجهل، فلا یحکم بصحّة ما أتی به، وإنْ لم یلتفت إلی ذلک، لم یعقل کون الحکم المجعول محرّکاً بالنّسبة إلیه فی مقام العمل. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ وجوب الصّلاة موسّع، ولا یتحقّق العصیان له إلاّ بخروج الوقت، وعلیه، لا یعقل تحقّق العصیان فی أثناء الوقت الّذی فرض کونه الموضوع للحکم الثانی.

وأضاف المیرزا الإشکال الإثباتی: بأنّه لو سلّم إمکان الترتّب هنا فلا دلیل علی وقوعه.

الجواب

أجاب المحقّق الخوئی(1) عن الإشکالات فقال:

أمّا الوجهان الأوّلان، فقد ذکرنا فی محلّه أنّ الإلتزام بالخطاب الترتّبی لا یتوقّف علی أنْ یکون موضوعه عصیان التکلیف الأهم، بل یصحّ مع کون الموضوع فیه مطلق الترک. فیصحّ أن یقال هنا: إنّ القصر واجب مطلق، والتمام واجب مشروط بترک القصر جهلاً بوجوبه.

وأمّا الوجه الأخیر، فلأنّ الدلیل علی صحّة العمل المأتی به قائم، غیر أنّ المشکلة فی کیفیّة الجمع بین الصحّة وإستحقاق العقاب، وهی منحلّة بالترتّب.

لکنّ الترتّب غیر جارٍ هنا، لاستلزامه أوّلاً: تعدّد العقاب فی صورة ترک الصّلاة رأساً. وثانیاً: إنّه ینافی الروایات الکثیرة الدالّة علی أنّ الواجب فی کلّ یوم

ص: 482


1- 1. مصباح الأصول: 508.

ولیلة خمس صلوات، والقول بالترتّب یستلزم أن یکون الواجب علی من أتمّ صلاته وهو مسافر ثمان صلوات. وکذا علی من جهر فی موضع الإخفات وبالعکس.

أقول:

أمّا مناقشة المیرزا مع کاشف الغطاء فی جریان الترتّب وعدم جریانه، فترجع إلی المبنی فی شرط وجوب المهم، وأنّه هل هو العزم علی ترک الأهمّ أو معصیة الأمر به أو مطلق الترک؟

والکلام الآن فی إشکالی السیّد الخوئی:

فأمّا الأوّل، فیمکن الجواب عنه بالفرق بین ما نحن فیه ومسألة دوران الأمر بین الصّلاة وإزالة النجاسة، وذلک، لأنّ الواجب هناک واجبان ولکلٍّ منهما غرض، فلو ترکهما إستحقّ العقابین، أمّا فیما نحن فیه، فالغرض واحد تشکیکی، لأنّ الغرض من الصّلاة الجهریّة لا یختلف عمّا لو أُتی بها إخفاتاً إلاّ أنّه مع الجهر أتم منه مع الإخفات، فلو ترک الصّلاة رأساً لم یستحقّ إلاّ عقاباً واحداً.

وأمّا الثانی، فإنّ تحصیل الإجماع علی وجوب الصّلوات الخمس حتّی بالنّسبة إلی المکلّف الجاهل المقصّر مشکل جدّاً. وعلی فرض ثبوته، فکاشفیّته عن رأی المعصوم أوّل الکلام، خاصّةً مع وجود النصوص، فالمرجع هو النصوص، ولکنّها مطلقات قابلة للتقیید.

وتلخّص: أنّ کلّ ما أُشکل به علی کاشف الغطاء فهو قابل للبحث والمناقشة، ویکون حاصل کلامه فی وجه الجمع: أنّ الّذی وجب علی المکلّف

ص: 483

فی السّفر هو القصر، لکنّه إذا ترک القصر عن الجهل والتقصیر، وجب علیه التمام من باب الترتّب. ولا یرد علی هذا الوجه إشکال لا عقلاً ولا نقلاً.

طریق العراقی

والوجه الثالث: ما ذکره المحقّق العراقی(1)، وتقریب ذلک: أن هنا مصلحةً قائمة بالجامع بین القصر والتمام، والجهر والإخفات، وهی مصلحة لزومیّة، ومصلحة أُخری قائمة بالحصّة من هذا الجامع وهی صلاة القصر من المسافر مثلاً، وبین المصلحتین تضادُّ فلا یمکن الجمع بینهما، فإذا صلّی المسافر تماماً فقد أدرک المصلحة القائمة بالجامع وصحّت صلاته، لکنّه فوّت المصلحة القائمة بالحصّة _ وهی الصّلاة قصراً _ فاستحقّ العقاب علی تفویتها.

المناقشة

وهذا الوجه یرجع إلی طریق صاحب الکفایة، فیرد علیه ما ورد علیه.

وقد أورد علیه المحقّق الإصفهانی(2) بما حاصله: أنّ الأمر بالجامع وبالحصّة غیر معقول، لأنّه إنْ کان بعنوان الوجوب التخییری، لزم التخییر بین الشیء ونفسه، لکون الکلّی نفس الفرد، وإن کان بعنوان الوجوب التعیینی، لزم إجتماع الوجوبین فی الشیء الواحد.

فأجاب شیخنا عن ذلک _ بعد ما تقرّر من أنّ کلّ حکمٍ فهو مقصور علی

ص: 484


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 484.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 433.

متعلَّقه ولا یسری إلی غیره، وأنّ الخارج دائماً ظرف سقوط الحکم لا ثبوته _ بأنّ هنا أمراً قد تعلّق بالجامع بین القصر والإتمام ولا یسری إلی الحصّة، وأمراً آخر قد تعلّق بحصّة القصر، فکان لکلٍّ منهما متعلّقه، فالوجوب تعیینی لا تخییری، ولا یلزم الإجتماع، لکون الحصّة متعلّقةً للتکلیف المتعلّق بالجامع.

قال: لکنّ الإشکال الوارد علی المحقّق العراقی هو: لزوم اللغویّة، لأنّ الغرض من الأمر إیجاد الدّاعی علی الإمتثال، ومع تعلّقه بالحصّة قد تحقّق الدّاعی، فما فائدة تعلّقه مرّةً أُخری بالجامع؟

طریق الخوئی

والوجه الرابع: ما ذکره المحقّق الخوئی(1) بقوله:

والّذی ینبغی أنْ یقال فی مقام الجواب عن أصل الإشکال: أنّا لا نلتزم بإستحقاق العقاب فی هذه الموارد، لأن إستحقاقه وعدم الإستحقاق له من الأحکام العقلیّة، ولا دخل للإجماع فی ذلک، علی أنّ الإجماع غیر متحقّق.

المناقشة

قال شیخنا بعد توضیح هذا الوجه: إنّه وجه وجیه، لکنّ مقام الإثبات لا یساعد علیه، لأنّ الوجه المذکور یرجع إلی الوجوب التخییری، وهذا ما لا یناسبه «لا ینبغی» الوارد فی النصوص.

ص: 485


1- 1. مصباح الأصول: 508.
طریق النائینی

والوجه الخامس: ما ذکره المحقّق النائینی(1) ویتلخّص فی أن: مقتضی النصّ الصّحیح أنّ صلاة من جهر فیما لا ینبغی الجهر فیه تامّة صحیحة. وأمّا إستحقاق العقاب علی التقصیر، فلأنّ الأصل الأوّلی فی واجبات الصّلاة هو الإرتباطیّة لا الإستقلالیّة، ومقتضی ذلک بطلان الصّلاة بترک أحد الأجزاء والشرائط، والجهر والإخفات فی القراءة یمکن تصویرهما ثبوتاً بنحو وحدة المطلوب والإشتراط، بأنْ تکون القراءة مقیّدة فی الجهریّة بالجهر مثلاً، أو بنحو تعدّد المطلوب، أی الظرف والمظروف، والواجب فی الواجب، فکانت الصّلاة صحیحةً بدلیل النصّ، وکان إستحقاق العقاب لترک الشرط أو الواجب، والدلیل علیه هو الإجماع.

المناقشة

وفیه: إن جعل الواجب فی الواجب للجاهل المقصر لغو، لعدم الداعویّة له بالنّسبة إلیه کما هو واضح، وهذا کافٍ للإشکال علی هذا الوجه.

طریق شیخنا الأُستاذ

وذکر شیخنا الأُستاذ أوّلاً: أن لا دلیل علی إستحقاق العقاب فی المقام إلاّ الإجماع المدّعی، لکنّه غیر ثابت، والمنقول لیس بحجّةٍ، وعلی فرض الثبوت،

ص: 486


1- 1. أجود التقریرات 3 / 575.

فکاشفیّته عن رأی المعصوم غیر ثابتة، علی أنّه فی مسألةٍ عقلیّة، وهو فیها غیر معتبر.

ثمّ أفاد أنّه لابدّ من التأمّل فی نصوص المسألة، فذکر بعد الدّقة والتأمّل أنّها ظاهرة فی جعل البدل فی مقام الإمتثال إمتناناً علی المکلَّف، فهی نظیر أخبار قاعدة لا تعاد من جهة التصرّف فی مقام الإمتثال والتوسعة علی المکلّفین، وإنْ کانت لا تشمل الجاهل المقصر علی التحقیق وتختصّ بالجاهل القاصر، وهذا هو الظّاهر منها فی مقام الإثبات، وأمّا ثبوتاً فلا مانع منه.

وهذا تمام الکلام فی هذا التنبیه.

وبه ینتهی الکلام علی شرائط الأصول فی الشبهة الحکمیّة.

التنبیه الثالث: فی الفحص فی الشبهة الموضوعیّة
اشارة

إنّ المشهور جواز التمسّک بالأصول وعدم وجوب الفحص فی الشّبهات الموضوعیّة، لإطلاق أدلّة الأصول، مضافاً إلی بعض النصوص الخاصّة، کصحیحة زرارة فی الإستصحاب(1). إلاّ أنّ هنا قولین آخرین:

أحدهما: وجوب الفحص فی الشبهات الموضوعیّة(2) الّتی یتوقّف الحکم فیها علی الفحص عادةً، کأنْ یشک فی أنّه مستطیعٌ للحجّ أوْ لا؟ أو یشک فی

ص: 487


1- 1. تهذیب الأحکام 1 / 8، الباب 1، رقم: 11.
2- 2. فوائد الأصول 4 / 301 ونسبه فی مصباح الأصول: 510 إلی جماعة.

وجوب الخمس علیه؟ أو الفحص عن الوصول إلی المسافة الشرعیّة وعدمه. ففی مثل هذه الموارد الّتی یفوت فیها الحکم الشرعی لولا الفحص، یکون الفحص واجباً.

والثانی: ما ذهب إلیه المحقّق النائینی(1) من وجوبه فیما إذا توقف العلم بالحکم علی مجرَّد النّظر فی الموضوع. کمن توقّف علمه بطلوع الشّمس وعدمه حتّی یصلّی قضاءً أو أداءً علی مجرّد النّظر إلی الأُفق، ففی هذه الحالة لا یجوز له الرجوع إلی الأصل، بل علیه الفحص والنّظر.

تفصیل الکلام

وتفصیل الکلام هو: أنّه لا ریب فی إطلاق أدلّة الأُصول من حدیث الرفع وأدلّة الإستصحاب وغیرها، ودعوی الإنصراف فیها غیر مسموعة، کما أنّه لا مانع عن إقتضاء تلک الأدلّة، ولیس العقل حاکماً بالفحص أو الإحتیاط فی الشّبهات الموضوعیّة ولا السّیرة العقلائیّة قائمة علی ذلک، کما لیس فی المورد دلیلٌ علی وجوب التعلّم کما کان فی الشّبهات الحکمیّة. ولذا کان علی القائلین بالتفصیلین المذکورین إقامة الدلیل کما سیأتی.

ثمّ إنّه قد یقال بأنْ لا مقتضی لجریان البراءة العقلیّة فی الشّبهات الموضوعیّة، لأن موضوعها هو «البیان»، ولیس فی مورد الموضوعات بیانٌ من الشّارع، بل إنّ بیانات الشّارع کلّها أحکام کلیّة.

ص: 488


1- 1. أجود التقریرات 3 / 556.

والتحقیق هو النّظر فی موضوع حکم العقل وهو إستحقاق العقاب وعدمه، ولکنّ حکمه بذلک منوطٌ بالوصول، فإنْ کان الحکم من المولی واصلاً إلی المکلّف، فإنّ العقل یلزمه بالإطاعة ویحکم باستحقاقه للعقاب فی صورة المعصیة، وإلاّ، فإنّه یراه معذوراً أمام المولی. ومن المعلوم أنّ «الوصول» لا یتمُّ إلاّ بتمامیّة الکبری والصغری، بأنْ یعلم المکلّف بخمریّة هذا الإناء ویعلم بحرمة شرب الخمر، وبانتقاء کلٍّ منهما ینتفی الوصول، وتجری القاعدة.

وبعبارة أُخری: یدور الحکم العقلی مدار قیام الحجّة علی المکلّف، ومع قیامها یتمّ المقتضی للحکم العقلی. وهل من مانع؟

ذهب المحقّق الخراسانی(1) إلی انّ السّیرة العقلائیّة قائمة علی وجوب الفحص عن موضوعات الأحکام بین الموالی والعبید.

ولکنّ التحقیق هو التفصیل بین الموارد، ففی مثل حفظ النفوس والأعراض لا نشکّ فی لزوم الإحتیاط، وأمّا فی غیر ذلک ممّا لا یحتاط فیه لحفظ أغراض المولی، فالسّیرة غیر ثابتة.

وتلخّص:

تمامیّة الإطلاق فی أدلّة الأصول، فالمقتضی فیها تام، والمانع عن ذلک مفقود. ویبقی الکلام فی التفصیلین:

أمّا التّفصیل الأوّل، فقد أُجیب عنه(2): بأنّ العلم بتحقّق المسافة فی السفر

ص: 489


1- 1. الحاشیة علی الرسائل: 271.
2- 2. مصباح الأصول: 511.

وبلوغ المال حدّ النصاب أو کفایته للحجّ أو زیادته عن مؤونة السنة، قد یحصل بلا إحتیاج إلی الفحص، وقد یحصل العلم بعدمه، وقد یکون مشکوکاً فیه کبقیّة الموضوعات الخارجیّة. نعم، ربّما یتّفق توقّف العلم بالموضوعات المذکورة علی الفحص والتوقّف أحیاناً من باب الإتّفاق، وهذا لا یوجب الفحص، وإلاّ لوجب الفحص عن أکثر الموضوعات.

لکنّ هذا الجواب لا یدفع الإستدلال بأنّ ترک الفحص فی هذه الموارد یلازم غالباً فوت الواجب.

ثمّ إنّ الموارد المذکورة منها ما یکون من الشّبهة الموضوعیّة فی الأموال ومنها ما یکون من الشّبهة الموضوعیّة فی الحجّ والصّلاة. أمّا فی القسم الأوّل، فالسّیرة العقلائیّة قائمة قطعاً علی وجوب الفحص، فمن احتمل اختلاط مال الغیر بأمواله وتوقّف الأمر علی الفحص، فإنّه یبادر إلی الفحص یقیناً، وفی مثل هذا المورد یتقیّد إطلاق الأدلّة بالسّیرة العقلائیّة بلا شک.

وأمّا فی القسم الثانی، فإنّ النصوص فی المنع من التهاون فی أمر الحجّ والصّلاة والإستحقاق للعقاب بذلک وإن کانت تقتضی وجوب الفحص، لکنّ أدلّة الإستصحاب تصلح للمنع، فلا یمکن المساعدة مع القائلین بالتفصیل فی هذا القسم.

وأمّا التفصیل الثانی، فهو الحقّ الحقیق بالقبول کذلک.

وما أُجیب به(1): من أنّ مجرّد النّظر وفتح العین من دون إعمال مقدّمة

ص: 490


1- 1. مصباح الأصول: 512.

أُخری وإنْ کان لا یعدّ من الفحص، إلاّ أنّ الفحص بعنوانه لم یؤخذ فی لسان دلیلٍ لیکون الإعتبار بصدقه عرفاً، بل المأخوذ فی أدلّة البراءة إنّما هو الجاهل وغیر العالم، ولا شک فی أنّ المکلّف بالصّوم فی المثال المذکور جاهل بطلوع الشّمس ولا دلیل علی وجوب النظر لیکون مقیّداً لإطلاقات الأدلّة الدالّة علی الإستصحاب أو البراءة، فالإطلاقات محکّمة.

فغیر تام، لأنّ دلیل الإستصحاب أو البراءة منصرف عن مثل هذا المورد.

التنبیه الرابع: فی شرطین ذکرهما الفاضل التونی لجریان البراءة
اشارة

قد ذکر الفاضل التونی(1) لجریان البراءة شرطین آخرین هما:

1_ أن لا یکون مستلزماً لثبوت حکم إلزامی من جهة أُخری، کما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، فإن جریان البراءة عن وجوب الإجتناب عن أحدهما یوجب الإجتناب عن الآخر، للعلم الإجمالی بنجاسة أحدهما.

2_ أنْ لا یکون جریانها موجباً للضّرر علی مسلمٍ أو من بحکمه، کما لو فتح إنسان قفص طائر فطار أو حبس شاةً فمات ولدها أو أمسک رجلاً فهربت دابّته. فإن جریان البراءة فی هذه الموارد یوجب الضّرر علی المالک.

ص: 491


1- 1. الوافیة فی الأصول: 193.
التحقیق فی الشّرط الأوّل

أمّا الشّرط الأوّل، فإن ترتّب الحکم الإلزامی علی جریان البراءة له صور:

الصّورة الأُولی: أن لا یکون بین الحکم والبراءة ترتّب لا شرعاً ولا عقلاً إلاّ أن شیئاً خارجیّاً أوجب ذلک بینهما، کما فی المثال الّذی ذکره، فإن نجاسة أحد الإناءین غیر مترتّبة علی جریان البراءة فی الآخر، بل إنّها مترتّبة علی الأمر الّذی نشأت منه النجاسة، ومن الممکن أنْ یکون ذاک الإناء نجساً وهذا طاهراً، أو یکون کلاهما نجساً فی الواقع. فوجوب الإجتناب فی طرفٍ غیر مترتّب عقلاً ولا شرعاً علی طهارة الطرف الآخر، وإنّما العلم الإجمالی هو الّذی أوجب الترتّب المذکور وکان هو المنشأ لذلک، وهو السّبب لعدم جریان الأصل لا ما ذکره الفاضل التونی من کون الأصل فیه مثبتاً.

الصّورة الثانیة: أن یکون الترتّب عقلیّاً، کما لو حصل التزاحم بین الواجب الأهمّ والواجب المهم، فیتقدّم الأهمّ وإلاّ یلزم التکلیف بالضّدین، فلو وقع الشکّ فی وجوب الأهمّ، ترتّب وجوب المهمّ عقلاً علی جریان البراءة فی الأهمّ، فاشتراط جریان البراءة بعدم ترتّب الحکم الإلزامی باطل.

الصّورة الثالثة: أن یکون الترتّب شرعیّاً، کأنْ یشکّ المکلّف فی أنّه مدیون أوْ لا، فإنْ کان مدیناً بدینٍ حالٍّ وجب علیه أداء الدین ویخرج عن الإستطاعة للحجّ، وإلاّ وجب علیه الحج، ومع الشکّ فی کونه مدیناً یجری أصل البراءة عن الدین، وبمجرّد جریانه یترتّب وجوب الحجّ شرعاً، وفی هذه الصّورة لا مناص من إجراء أصالة البراءة. فالقول باشتراط جریانها بعدم ترتّب حکمٍ إلزامی باطل.

ص: 492

التحقیق فی الشّرط الثانی

قال: إنّه یترتّب الضّرر علی المالک بجریان البراءة عن الحکم التکلیفی أو الوضعی _ وهو الضّمان _ فی الموارد الّتی ذکرها، لکنّ الضّرر منفیّ فی الشّریعة، فعدم ترتّبه شرط فی جریانها. وأیضاً، فإنّ المنشأ لعدم الجریان هو وجود العلم الإجمالی بترتّب أحد الحکمین علی تلک الأفعال، إذ الأصول لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی. فأشکل الشیخ علی التقریب الأوّل: بأنّ عدم جریان أصالة البراءة _ مع جریان قاعدة لا ضرر _ مستند إلی وجود الدلیل، فإنّ الأصول لا تجری حیث یوجد الدلیل، وقاعدة لا ضرر من الأدلّة. وإنْ لم یکن القاعدة جاریةً، فإنّ مجرّد إحتمال کون الفاعل متلفاً لمال الغیر لا یمنع من جریان البراءة.

وعلی التقریب الثانی: بأنّ الرجل الّذی فعل أحد تلک الأفعال إنْ کان متعمّداً، فهو آثمٌ وضامن قطعاً، وإنْ لم یکن متعمّداً، فلا علم إجمالی.

هذا، وکلام الفاضل التونی وإنْ کان فیه مناقشات عدیدة، ومن ذلک تقییده قاعدة لا ضرر بالضّرر غیر المتدارک، فإنّ هذا القید غیر موجود فی أدلّة هذه القاعدة، لکنّ المختار فی معنی أدلّتها هو أنّ الحکم الضّرری غیر مجعولٍ فی الإسلام، فلو شککنا فی حکم الفاعل هل هو آثم وضامنٌ أوْ لا؟ یکون التمسّک بحدیث الرفع فی مورده تشریعاً للحکم الضرری، وهذا منفیّ عن الشّریعة، وهذا تقریب کلام الفاضل، لأنّ جریان البراءة فی الموارد المذکورة هو لزوم تشریع الحکم الضرری، ولیس فی الشریعة المطهّرة.

ص: 493

لکنّ من المعلوم أنّ الموضوع لأصالة البراءة هو «الشک» ومع وجود الإجماع علی أنّ من أتلف مال الغیر فهو له ضامن، لا یبقی الشکّ فی الإثم والضّمان. ولو تنزّلنا عن دعوی الإجماع، فلا ریب فی قیام السّیرة العقلائیّة علی أنّ الإتلاف یوجب الضمان. وحینئذٍ، لا موضوع لجریان البراءة، وهذا هو المانع عن جریانها لا قاعدة لا ضرر. فما ذکره الفاضل التونی مردود.

وهذا تمام البحث فی أصالة البراءة وأصالة الإشتغال.

والحمد للّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد وآله الطاهرین.

ویقع الکلام فی الإستصحاب إن شاء اللّه.

ص: 494

المحتویات

کلمة المؤلف ··· 5

أصالة التخییر

فی دوران الأمر بین المحذورین؟

7 _ 87

الکلام فی دوران الأمر بین المحذورین التوصلیین ··· 10

الوجوه فی الشّبهة الحکمیّة ··· 11

الوجه الأوّل: التوقّف ··· 11

الوجه الثانی: التخییر العقلی والإباحة الشرعیّة ··· 13

إشکال الاصفهانی ··· 16

المناقشة ··· 17

ص: 495

إشکال المیرزا ··· 20

المناقشة ··· 20

إشکال العراقی ··· 23

المناقشة ··· 23

التحقیق فی الإشکال علی صاحب الکفایة ··· 23

الکلام حول قیاس ما نحن فیه بتعارض الخبرین ··· 27

توضیح کلام الکفایة ··· 27

النظر فیه ··· 30

کلام السیّد الأُستاذ ··· 32

الوجه الثالث: التخییر ··· 34

الوجه الرابع: تقدیم جانب الحرمة ··· 35

الوجه الخامس: البراءة ··· 35

الإشکالات ··· 36

جواب السیّد الخوئی ··· 40

المختار فی دوران الأمر بین المحذورین ··· 42

عدم جریان أصالة الإباحة ··· 42

عدم جریان البراءة الشرعیة ··· 43

عدم جریان البراءة العقلیة ··· 43

ص: 496

جریان الإستصحاب ··· 44

الکلام حول الموانع عنه ··· 45

هل الحکم بالتخییر مطلق؟ ··· 48

التحقیق فی المقام ··· 50

إن کان منشأ الدوران تعارض الخبرین ··· 52

دوران الأمر بین المحذورین _ فی الشّبهة الموضوعیّة ··· 53

دوران الأمر بین المحذورین التوصّلیین أو أحدهما غیر المعیَّن توصّلی ··· 56

لو کانا تعبّدیین أو أحدهما ··· 56

الإشکال علی الشیخ والکفایة ··· 57

إشکال العراقی علی الکفایة وردّه ··· 57

التحقیق ··· 59

تعدّد الواقعة ··· 61

الأقوال فی المسألة ··· 61

1_ التخییر الابتدائی ··· 62

2_ التخییر الاستمراری ··· 63

النظر فی کلمات الشیخ ··· 64

التحقیق ··· 66

رأی الکفایة ··· 69

ص: 497

توجیه المخالفة العملیّة ··· 70

3_ تفصیل المیرزا ··· 72

المناقشة ··· 73

رأی المحقّق العراقی ··· 74

خلاصة الکلام والتحقیق فی المقام ··· 75

رأی السیّد الأستاذ ··· 78

لو کانت احدی الواقعتین محتمل الأهمیّة ··· 80

کلام الشیخ فی الخبرین ··· 81

الإشکال علی الشیخ والنظر فیه ··· 83

أصالة الإشتغال

87 _ 93

مقدّمات ··· 89

دوران الأمر بین المتباینین

93 _ 157

طریق الکفایة وتوضیحه ضمن مقدمات ··· 95

نتیجة المقدّمات ··· 99

ص: 498

إشکال الإصفهانی ··· 100

الجواب ··· 101

الإشکال الثانی ··· 101

إشکال الإیروانی ··· 103

الإشکال الوارد علی صاحب الکفایة ··· 103

طریق المیرزا ··· 105

الکلام علی الطریق المذکور ··· 107

التحقیق فی المقام ··· 110

طریق الاصفهانی وله مقدمات ··· 112

خلاصة المقدّمات ··· 116

الکلام حول الطریق المذکور ··· 117

فی المقدّمة الأُولی ··· 117

فی المقدّمة الثانیة ··· 119

فی المقدّمة الرابعة ··· 120

المختار فی المقام ··· 121

الکلام فی وجوب الموافقة القطعیّة ··· 123

نظریّة العلیّة والاستدلال لها بوجهین: ··· 124

الوجه الأول: ما ذکره صاحب الکفایة ··· 124

ص: 499

إشکال السیّد الخوئی ··· 124

نصّ عبارة الکفایة ··· 125

النظر فی إشکال السیّد الخوئی ··· 127

الوجه الثانی: ما ذکره العراقی وله مقدّمات: ··· 127

المقدّمة الأُولی ··· 127

المقدّمة الثانیّة ··· 128

المقدّمة الثالثة ··· 128

المقدّمة الرابعة ··· 129

المقدّمة الخامسة ··· 130

إشکالات السیّد الخوئی ··· 131

المناقشة ··· 132

ثمرة هذا الوجه ··· 134

نظریة الإقتضاء ··· 135

إشکالان من العراقی ··· 136

الجواب عن الإشکال الأوّل ··· 137

الجواب عن الإشکال الثانی ··· 138

إشکال الکفایة ··· 139

الجواب ··· 139

ص: 500

إشکال الإصفهانی علی نظریة جعل البدل ··· 140

المناقشة ··· 142

القول بالتخییر ··· 146

الجواب ··· 147

تقریب العراقی ··· 148

الجواب ··· 148

تقریب العراقی بوجه آخر ··· 149

التحقیق فی الجواب عنه ··· 150

الکلام علی التخییر ··· 150

التحقیق فی الجواب عن التخییر ··· 152

کلام الشیخ الحائری ونقده ··· 153

تتمیمٌ وفیه أمران ··· 155

تنبیهات دوران الأمر بین المتباینین

157 _ 305

التنبیه الأوّل: فی الأُصول الجاریة فی أطراف العلم ··· 159

رأی السیّد الخوئی ··· 161

رأی المیرزا ··· 162

ص: 501

التنبیه الثانی: هل یعتبر کون عنوان المعلوم بالإجمال معیّناً؟ ··· 168

دلیل قول صاحب الحدائق ··· 168

کلام المحقّق العراقی ··· 169

التنبیه الثالث: فی المأتیّ به بناءً علی الموافقة الإحتمالیّة ··· 172

التنبیه الرّابع: فیما لو کان بعض الأطراف خارجاً عن الإبتلاء ··· 174

التحقیق ··· 175

التنبیه الخامس: فیما لو کان لأحد الطرفین أثر زائد ··· 177

التنبیه السادس: فیما لو کان متعلَّق العلم تدریجیّاً ··· 179

المقام الأوّل ··· 183

دلیل القول بالتفصیل ··· 183

دلیل القول بالتنجیز مطلقاً ··· 187

بیان المیرزا ··· 187

بیان العراقی ··· 188

بیان الإصفهانی ··· 189

المقام الثانی ··· 193

رأی الشیخ والکلام حوله ··· 194

رأی المیرزا ··· 196

رأی العراقی ··· 197

ص: 502

التحقیق ··· 199

التنبیه السّابع: فی الشّبهة غیر المحصورة ··· 202

تعریفها ··· 202

دلیل عدم تنجیز العلم فی الشّبهة غیر المحصورة ··· 203

ما ذکره الشیخ ··· 203

ما ذکره فی الکفایة ··· 204

الإشکال علی صاحب الکفایة ··· 204

الإشکال الوارد ··· 206

ما ذکره المیرزا ··· 207

ما ذکره العراقی ··· 208

روایة الجبن ··· 209

أُمورٌ تتعلّق بالشّبهة غیر المحصورة ··· 212

الأمر الأوّل (هل العلم کلا علم أو أنّ الشبهة تزول؟) ··· 212

الأمر الثانی (لو وقع الشک فی کون الشبهة غیر محصورة) ··· 213

الأمر الثالث (فی شبهة الکثیر فی الکثیر) ··· 216

التنبیه الثامن: لو اضطرّ إلی إرتکاب أحد الأطراف ··· 218

المقام الأوّل _ فی الإضطرار إلی الفرد المعیّن. وفیه صور: ··· 218

الصورة الأُولی ··· 218

ص: 503

الصّورة الثانیة _ وفیها قولان ··· 219

رأی السیّد الأُستاذ ··· 222

الإستدلال بالإستصحاب للقول الأوّل ··· 223

المناقشة ··· 224

الصورة الثالثة _ وفیها قولان ··· 226

الأوّل: عدم التنجیز، ذهب إلیه الخراسانی ··· 226

الثانی: التنجیز ··· 226

بیان الشیخ ··· 227

بیان المحقّق الخراسانی ··· 228

بیان المحقّق العراقی ··· 229

بیان المحقّق النائینی ··· 230

خلاصة البحث ··· 230

المقام الثانی: لو اضطرّ إلی إرتکاب الفرد غیر المعیَّن ··· 231

دلیل عدم التنجیز _ الوجه الأوّل ··· 231

جواب الشیخ ··· 232

الإشکال علیه ··· 232

الوجه الثانی ··· 233

المختار عند الشیخ الأُستاذ ··· 234

ص: 504

تنبیه ··· 235

خلاصة البحث ··· 241

التنبیه التاسع: فی الابتلاء وعدمه ··· 243

بیان الشیخ ··· 244

بیان المحقّق الخراسانی ··· 247

إشکال الأُستاذ ··· 247

بیان المیرزا لدفع الإشکال ··· 248

قال الأُستاذ ··· 249

بیان المحقّق الاصفهانی ··· 249

المناقشة ··· 251

نظریة أُخری ··· 252

الإشکال علیها بوجوه ··· 254

إشکالٌ علی القول باعتبار الابتلاء ··· 259

مطلب آخر فی حقیقة الحکم التکلیفی والعرفی ··· 260

المسألة الأُولی: لو وقع الشک فی إعتبار الإبتلاء وعدمه ··· 263

کلام الشیخ ··· 263

إشکالات المحقّق الخراسانی علیه ··· 264

الجواب عن الإشکال الأوّل ··· 265

ص: 505

الجواب عن الثانی ··· 266

الجواب عن الثالث ··· 267

إشکال الإصفهانی علی الشیخ ··· 267

الجواب ··· 268

المسألة الثانیة: لو کان الشک بنحو الشّبهة المفهومیّة ··· 269

المسألة الثالثة: لو کان الشک بنحو الشّبهة الموضوعیّة ··· 270

دلیل القول بعدم التنجیز ··· 270

دلیل القول بالتنجیز ··· 270

بیان المیرزا ··· 271

إشکال الأُستاذ ··· 272

بیان العراقی ··· 273

إشکال الأُستاذ ··· 273

التنبیه العاشر: فی عدم التنجیز فی الأصول الطولیّة ··· 275

التنبیه الحادیعشر: حکم ملاقی بعض أطراف الشّبهة المحصورة ··· 278

ذکر أُمور قبل البحث: الأوّل ··· 278

الأمر الثانی ··· 279

الأمر الثالث ··· 280

الکلام فی نماء وفائدة أحد طرفی العلم ··· 284

ص: 506

ملاقی الشّبهة المحصورة وله صور: ··· 287

الصّورة الأُولی ··· 287

دلیل القول بوجوب الإجتناب من الکتاب ··· 287

الإشکال علیه ··· 288

من السنّة ··· 288

الإشکال علیه ··· 289

من العقل ··· 289

الإشکال علیه ··· 289

الجواب ··· 290

المناقشة ··· 290

جواب آخر عن الاستدلال العقلی ··· 291

المناقشة ··· 291

تفصیل السیّد الخوئی ··· 292

التحقیق فی المقام ویقع فیمقامین: ··· 292

المقام الأوّل ··· 293

المقام الثانی ··· 294

الصّورة الثانیة وهی علی ثلاثة أقسام ··· 295

دلیل القول بعدم الإجتناب فی القسم الأوّل ··· 296

ص: 507

دلیل القول بالاجتناب فی القسم الأوّل ··· 297

المناقشة والجواب ··· 298

القسم الثانی من الصّورة الثانیة، وفیه قولان ··· 299

الصّورة الثالثة، وفیها قولان ··· 302

دلیل وجوب الإجتناب ··· 302

دلیل عدم وجوب الإجتناب ··· 303

دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر

305 _ 387

الفرق بین دوران الأمر بین المتباینین والأقلّ والأکثر ··· 307

نظریة العراقی والکلام حولها ··· 307

نظریة المحقّق صاحب الحاشیة والکلام حولها ··· 309

مقدّمتان ··· 311

1_ فی تقسیم الأقلّ والأکثر ··· 311

2_ هل البحث کبروی أو صغروی؟ ··· 312

الأقوال فی الأقل والأکثر الإرتباطیین ··· 312

أدلّة القول بالبراءة ··· 313

طریق الشیخ، وفیه وجهان، الأوّل ··· 313

ص: 508

إشکال المحقّق الخراسانی ببرهانین ··· 314

بیان البرهان الأوّل ··· 315

بیان البرهان الثانی ··· 315

جواب السیّد الخوئی عن کلا البرهانین ··· 316

المناقشة ··· 317

الإشکال الثانی علی إستدلال الشیخ ··· 318

التحقیق فی المقام ··· 320

الوجه الثانی ··· 322

توضیح السیّد الخوئی ··· 323

المناقشة ··· 324

طریق المحقق الاصفهانی ··· 326

المناقشة ··· 327

طریق المحقّق العراقی ··· 328

المناقشة ··· 330

أدلّة القول بعدم جریان البراءة العقلیّة ··· 332

الوجه الأوّل ··· 332

الجواب ··· 332

الوجه الثانی ··· 333

ص: 509

إشکال السیّد الخوئی ··· 334

التحقیق فی المقام ··· 334

الوجه الثالث ··· 336

جواب الشیخ بوجهین ··· 336

إشکال الخوئی علی الوجه الثانی ··· 337

إشکال النائینی ··· 339

الإشکال علیه من السیّد الخوئی ··· 340

التحقیق فی المقام ··· 341

البرائة الشرعیّة ··· 342

دلیل المحقّق الخراسانی للجریان ··· 343

إشکالان ··· 343

إشکال الإصفهانی والعراقی علی الکفایة ··· 345

التحقیق فی المقام ··· 346

إشکالان والجواب عنهما ··· 348

الإستصحاب ··· 351

الإستدلال بالإستصحاب للإشتغال ··· 351

المناقشة ··· 352

الإستدلال بالإستصحاب للبراءة ··· 353

ص: 510

إشکال وجواب ··· 353

دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الأجزاء التحلیلیّة ··· 355

هی علی ثلاثة أقسام ··· 355

کلام الکفایة فی القسمین الأوّلین ··· 356

الإشکال علیه بوجهین ··· 357

مناقشة الإشکال الأوّل ··· 357

مناقشة الإشکال الثانی ··· 358

التحقیق ··· 359

کلام المحقّق الإصفهانی ··· 359

کلام المحقّق العراقی ··· 361

التحقیق ··· 362

الکلام فی القسم الثالث ··· 364

القول بالإشتغال ··· 364

الکلام فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر ··· 365

القسم الأوّل ··· 365

القسم الثانی ··· 366

القسم الثالث، وهو علی ثلاثة صور ··· 368

مقدّمة ··· 369

ص: 511

الصّورة الأُولی ··· 370

الصّورة الثانیة ··· 371

الصّورة الثالثة ··· 371

دلیل القول بالتعیین ··· 372

الوجه الأوّل ··· 372

الإشکال علیه ··· 372

المناقشة ··· 374

الوجه الثانی ··· 375

الإشکال علیه ··· 376

المناقشة ··· 377

الوجه الثالث ··· 379

الإشکال علیه ··· 379

التحقیق ··· 380

الوجه الرابع ··· 381

النظر فیه ··· 382

التحقیق فی المقام والرأی المختار ··· 384

تنبیهات دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر

387 _ 435

ص: 512

التنبیه الأوّل: هل الجزئیّة مخصوصة بحال الذکر أو مطلقة؟ ··· 389

القول الأوّل ودلیله ··· 390

الوجه الأوّل للقول الثانی ··· 390

الإشکال علی الوجه الأوّل ··· 391

الوجه الثانی وهو الصحیح ··· 391

تفصیل أصل المطلب ··· 392

بیانات لإثبات الإطلاق ··· 394

بیان المیرزا ··· 394

بیان العراقی ··· 395

بیان الإصفهانی ··· 396

المناقشة ··· 397

التحقیق فی المقام ··· 397

خلاصة الکلام ··· 400

التنبیه الثانی: فی حکم الزیادة والنقیصة فی الأجزاء ··· 402

البحث الموضوعی: 1_ هل یعقل تحقّق الزیادة فی المرکّب الإعتباری ··· 403

الجواب عن دلیل العدم ··· 403

2_ بماذا تتحقّق الزیادة؟ ··· 405

البحث الحکمی ··· 405

ص: 513

1_ فی حکم الزیادة بحسب القاعدة ··· 406

2_ فی حکم الزیادة بحسب النصوص ··· 407

الکلام فی حدیث لا تعاد ··· 408

رأی الإصفهانی ··· 410

النظر فیه ··· 411

الإستصحاب ··· 412

تقریبات الإستصحاب والکلام علیها ··· 412

الکلام فی نقصان الجزء أو الشرط ··· 414

1_ مقتضی القاعدة ··· 414

2_ مقتضی النصوص ··· 415

التنبیه الثالث: لو تعذّر جزء أو شرطٌ فما حکم الباقی والمشروط؟ ··· 416

1_ مقتضی القاعدة ··· 416

2_ مقتضی الأصل العملی ··· 416

3_ مقتضی النصوص ··· 417

الکلام فی قاعدة المیسور ··· 417

الروایة الأولی ··· 417

حول السند ··· 418

حول الدلالة ··· 419

ص: 514

الروایة الثانیة ··· 420

السند والدلالة ··· 420

رأی صاحب الکفایة ··· 421

الکلام حول الإشکال علیه ··· 421

الإشکال علی الإستدلال بالروایة ··· 422

الروایة الثالثة ··· 424

حول السند والدلالة ··· 424

الإشکال علی الإستدلال ··· 425

المناقشة ··· 425

دفع الحائری الإشکال ··· 426

المناقشة ··· 426

التحقیق ··· 427

خلاصة الکلام ··· 428

فی المراد من المیسور والمعسور ··· 428

التنبیه الرابع: لو تردّد الأمر بین أن یکون الشیء جزءً للمرکّب أو شرطاً وأن یکون مانعاً أو قاطعاً، فما هو مقتضی القاعدة؟ ··· 431

فیه مسائل ··· 431

شرائط جریان الأصول

435 _ 495

ص: 515

شرط الإحتیاط ··· 438

الإشکالات ··· 439

الأوّل ··· 439

الجواب ··· 439

الثانی ··· 440

الجواب ··· 441

1_ قصد الوجه والتمییز فی العبادة ··· 441

الجواب ··· 442

2_ اعتبار الجزم فی النیّة فی العبادة ··· 443

الجواب ··· 443

شرط البراءة العقلیّة ··· 444

الإستدلال لوجوب الفحص ··· 444

إشکال المحقق الإصفهانی ··· 445

الجواب ··· 446

شرائط البراءة الشرعیّة ··· 447

رأی المحقّق العراقی ··· 448

الإشکال علیه ··· 448

ثمرة البحث ··· 448

ص: 516

الکلام فی إطلاق حدیث الرفع ··· 449

التحقیق عدم الإطلاق ··· 450

وعلی فرض الإطلاق هل من مقیّد؟ ··· 451

الإشکال علی الدلیل المقیّد ··· 452

أوّلاً: إنّه أعمّ من المدّعی ··· 452

ثانیاً: إنّه أخصّ من المدّعی ··· 452

جواب المحقّق النائینی ··· 453

المناقشة ··· 453

جواب المحقّق العراقی ··· 454

المناقشة ··· 454

جواب المحقّق الخوئی ··· 455

المناقشة ··· 456

الجواب الصحیح عن إشکال الکفایة ··· 456

ثمرة البحث عن إطلاق حدیث الرفع ··· 457

شرط الإستصحاب ··· 458

شرط التخییر ··· 458

التنبیه الأوّل: أیّ مقدار یجب الفحص؟ ··· 460

وجوب الفحص علی المقلِّد فی الشّبهة الحکمیّة ··· 460

ص: 517

وجوب الفحص علی المجتهد فی الشّبهة الحکمیّة ··· 461

وجوب الفحص من أیّ قسمٍ من أقسام الوجوب؟ ··· 461

أدلّة القول بوجوب التعلّم والفحص وجوباً نفسیّاً ··· 462

الجواب عن أدلّة القول بالوجوب النفسی للتعلّم والفحص ··· 463

هل إستحقاق العقاب علی ترک الواقع أو ترک التعلّم؟ ··· 470

رأی المیرزا ··· 470

الإشکال علیه ··· 473

رأی العراقی ··· 473

المناقشة ··· 475

التنبیه الثانی: حکم العمل المأتیّ به بلا فحص ··· 476

الکلام حول موارد الإستثناء ··· 479

طریق الکفایة ··· 480

الإشکال علیه ··· 480

طریق کاشف الغطاء ··· 481

الإشکال علیه ··· 481

الجواب ··· 482

طریق العراقی ··· 484

المناقشة ··· 484

ص: 518

طریق الخوئی ··· 485

المناقشة ··· 485

طریق النائینی ··· 486

المناقشة ··· 486

طریق شیخنا الأُستاذ ··· 486

التنبیه الثالث: فی الفحص فی الشبهة الموضوعیّة ··· 487

تفصیل الکلام ··· 488

التنبیه الرابع: فی شرطین ذکرهما الفاضل التونی لجریان البراءة ··· 491

التحقیق فی الشّرط الأوّل ··· 492

التحقیق فی الشّرط الثانی ··· 493

الفهرس ··· 495

المحتویات···

ص: 519

المجلد 9

اشارة

ص : 1

ص: 2

ص: 3

ص: 4

کلمة المؤلف

الحمد للّه ربّ العالمین، والصّلاة والسّلام علی خیر خلقه محمد وآله الطّاهرین، ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعین.

وبعد:

فهذا هو الجزء التاسع من کتابنا (تحقیق الأُصول). وهو فی مباحث الإستصحاب، نقدّمه إلی العلماء الأعلام والفضلاء الکرام فی الحوزات العلمیّة، ونسأل اللّه سبحانه أنْ ینفع به وأن یوفقنا للعلم والعمل الصالح بمحمّد وآله.

علی الحسینی المیلانی

1438

ص: 5

ص: 6

الإستصحاب

اشارة

ص: 7

ص: 8

مقدّمة فی أهمیّة الإستصحاب وموقعه فی علم الأُصول

لا یخفی أنّ وظیفة المجتهد هو تحصیل الحجّة علی الأحکام الشرعیّة، فإنْ أمکنه تحصیل العلم بالحکم الشرعی وجب علیه ذلک والعمل علی طبق العلم، ولا تصل النوبة مع العلم بالحکم إلی العمل الظنّی، لأنّ الموضوع للحجج الظنیّة هو الشکّ، ومع وجود العلم ینتفی الموضوع لسائر الحجج علی الأحکام.

ومع انتفاء العلم بالحکم، تصل النوبة إلی الطرق الشرعیّة الظنیّة، حیث أنّ الشّارع قد تعبّدنا بإلغاء إحتمال الخلاف فیها ووجوب العمل علی طبقها، والقدر المسلّم به من تلک الطرق هو خبر الثقة، فإنّه یجب العمل به بعد تمامیّته سنداً ودلالةً، وبعد عدم وجود المعارِض له، فهو الحجّة _ بعد العلم _ عند تمامیّته إقتضاءً وعدم المانع عنه.

وفی هذه المرحلة یبحث عن (حجّیة ظاهر الکتاب) و(الإجماع) و(الشهرة الفتوائیّة) وغیر ذلک.

فهذه هی الحجج الشرعیّة علی الأحکام الکلیّة الإلآهیّة، وهی المعبَّر عنها ب_(الأمارات).

ص: 9

وتصل النوبة _ فی المرتبة الثالثة _ إلی الأُصول العملیّة، فإنّه بعد عدم العلم والعلمی _ وهو الطرق المذکورة فی المرتبة الثانیة _ یکون الحجّة علی الحکم الشرعی أحد الأُصول العملیّة الأربعة، من البراءة والاحتیاط والتخییر والإستصحاب.

ولا یخفی الفرق بین (الطرق والأمارات الشرعیّة) و(الأُصول العملیّة). ففی تلک یؤخذ الشکّ فی الموضوع فی مقام الثبوت، أمّا فی مقام الإثبات، فإنّ الشکّ یرفض ویلغی إحتمال الخلاف، ولذا قال علیه السّلام: «لا عذر لأحدٍ فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا».(1) أمّا فی الأُصول العملیّة، فإنّ الشک مأخوذ ثبوتاً وإثباتاً، ففی دلیل البراءة مثلاً: «رفع ما لا یعلمون»(2) وفی دلیل الإستصحاب: «لا تنقض الیقین بالشّک».(3)

لکنّ الفرق بین البراءة والإستصحاب هو أنّه فی الإستصحاب یؤخذ الشکّ فی الموضوع ویرفض فی المحمول، قال علیه السّلام: لا تنقض الیقین بالشّک.

ومن هنا یعلم: إعتبار وجود الحالة السّابقة المتیقّنة فی الإستصحاب دون غیره من الأُصول الأربعة، ومن هنا قالوا عن الإستصحاب بأنّه فرش الأمارات وعرش الأُصول، فهو برزخ بین (الأمارات) و(الأُصول العملیّة).

وبعد، فههنا أُمور:

ص: 10


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 149، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم 40.
2- 2. کتاب الخصال: 417.
3- 3. ستأتی النصوص قریباً.

الأمر الأوّل: فی تعریف الإستصحاب

الإستصحاب لغةً

قال فی المصباح: وکلّ شیء لازم شیئاً فقد استصحبه. قال ابن فارس وغیره: واستصحبت الکتاب وغیره: حملته صحبتی. ومن هنا قیل: استصحبت الحال إذا تمسّک بما کان ثابتاً، کأنّک جعلت تلک الحالة مصاحِبةً غیر مفارقة.(1)

وفی القاموس: استصحبه: دعاه إلی الصحبة ولازمه.(2)

وقال الشیخ: هو لغةً: أخذ الشیء مصاحباً، ومنه إستصحاب أجزاء ما لا یؤکل لحمه فی الصّلاة.

فأشکل علیه المحقّق الخراسانی بقوله: الظاهر أنّه بحسب اللّغة أوسع دائرةً ممّا یوهمه ظاهر ذلک، لوضوح عدم صدق المصاحبة عرفاً فی جمیع موارد صدق الإستصحاب کذلک. فالأولی أنْ یعبّر عنه بأنّه أخذ الشیء معه.(3)

وقد وقع هذا الکلام مورد البحث من الجهتین:

أمّا إشکاله علی الشیخ، فکأنّه یرید أنّه إذا کان هذا معناه فی اللّغة، فاللاّزم أنْ

ص: 11


1- 1. المصباح المنیر: 333.
2- 2. القاموس المحیط 2 / 798. أقول: إذنْ، یعتبر فی الصحبة «الملازمة» فیرد علی العامة تعریفهم الصّحابی بمطلق من رأی النبی صلّی اللّه علیه وآله أو رآه النبی، إلاّ أنْ یدّعی الإصطلاح، ودون إثباته خرط القتاد.
3- 3. درر الفوائد: 289.

یکون عرفاً کذلک، والحال أنّه لا یصدق عرفاً فی جمیع موارد صدقه لغةً.

لکنْ یرد علیه: أنْ لا دلیل علی ضرورة الصّدق العرفی علی جمیع موارد الصّدق اللّغوی، بل الواقع خلاف ذلک، فکم من کلمةٍ توجد المغایرة فی مفهومها بین اللّغة والعرف، کلفظ الدابّة، حیث أنّ مفهومه فی اللّغة ما یدبّ علی الأرض من الحیوان أمّا فی العرف فهو خصوص الفرس کما قال الراغب.(1)

وأمّا التعبیر عنه بأنّه أخذ الشیء معه، فقد أُورد علیه بوجوه، ویکفی أنّ مقتضی ذلک هو الترادف بین «الإستصحاب» و«الإتّخاذ»، وهو کما تری.

وعلی الجملة، فإنّ کلام الشیخ رحمه اللّه فی المعنی اللّغوی یطابق ما ذکره اللّغویّون کما عرفت.

الإستصحاب اصطلاحاً
اشارة

واختلفت کلمات الأُصولیین فی تعریف الإستصحاب. قال الشیخ:

تعریف الشیخ

عرّف بتعاریف أسدّها وأخصرها: إبقاء ما کان.

أقول:

قد ذکر الشیخ رحمه اللّه بعض التعاریف، کتعریف الشیخ البهائی بأنّه «إثبات الحکم فی الزمان الثانی تعویلاً علی ثبوته فی الزمن الأوّل».(2)

ص: 12


1- 1. المفردات فی غریب القرآن: 306.
2- 2. زبدة الأُصول: 72 _ 73.

قال الشیخ: بل نسبه شارح الدروس إلی القوم.(1)

وعن الوافیة: إنّه «التمسّک بثبوت ما ثبت فی وقتٍ أو حالٍ علی بقائه فیما بعد ذلک الوقت وفی غیر تلک الحال».(2)

وعن القوانین: إنّه «کون حکمٍ أو وصفٍ یقینی الحصول فی الآن السّابق مشکوک البقاء فی الآن اللاّحق».(3)

وعن کشف الغطاء: إنّه «الحکم باستمرار ما کان إلی أنْ یعلم زواله».(4)

وعن الفصول: إنّه «إبقاء ما علم ثبوته فی الزمان السّابق فیما یحتمل البقاء فیه فی الزمن اللاّحق».(5)

قال فی الکفایة: إلاّ أنّها تشیر إلی مفهومٍ واحدٍ ومعنی فارد.(6)

ولکنْ یقع الکلام فی تعریف الشیخ وما قاله المحقّقون حوله، فنقول:

أمّا أنّ التعریف المذکور أخصرها، فواضح. وأمّا أنّه أسدّها، فإنّه یرید أنّ الإستصحاب إبقاء ما کان، حکماً أو موضوعاً، وقد أفاد أنّ التعلیق علی الوصف مشعرٌ بالعلیّة، أی: إنّه یُبقی ما کان لأنّه کان، فلمّا نقول ببقاء عدالة زیدٍ لاحقاً، فإنّه معلّل بکونه عادلاً فی السّابق.

ص: 13


1- 1. فرائد الأُصول: 3 / 9.
2- 2. الوافیة فی علم الأُصول: 200.
3- 3. قوانین الأُصول: 2 / 53.
4- 4. کشف الغطاء 1 / 200.
5- 5. الفصول الغرویّة: 366.
6- 6. کفایة الأُصول: 384.
کلام المحقّق الهمدانی

وقد فسّر المحقّق الهمدانی کلام الشیخ بنحوٍ آخر قال: یعنی الإلتزام به فی مرحلة الظاهر، بمعنی ترتیب آثار البقاء فی مقام العمل.(1)

لکنْ لا یخفی أنّ «الإلتزام» و«ترتیب آثار البقاء» فعلُ المکلَّف، والحال أنّ الشیخ یرید أنّ الإستصحاب هو حکم الشارع بإبقاء ما کان، وقد صرَّح بذلک فی الإشکال علی کلام السیّد بحر العلوم.

کلام المحقّق الخراسانی

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی قد أشکل علی تعریف الشیخ فی الکفایة والحاشیة بوجوه:

منها: إنّ التعریف ب_«إبقاء ما کان» فاقد لمقوّم الإستصحاب، أی الیقین السّابق والشک اللاّحق، والحال أنّ کلّ تعریفٍ لابدّ وأن یکون مشتملاً علی ما یتقوّم به المعرَّف.

ومنها: إنّ حقیقة الإستصحاب وماهیّته یختلف بحسب اختلاف وجه حجّیته، وذلک لأنّه إن کان معتبراً من باب الأخبار، کان عبارة عن حکم الشارع ببقاء ما لم یعلم ارتفاعه. وإنْ کان من باب الظن، کان عبارة عن ظن خاص به. وإن کان من باب بناء العقلاء علیه عملاً تعبّداً، کان عبارة عن إلتزام العقلاء به فی مقام العمل.

ص: 14


1- 1. الحاشیة علی فرائد الأُصول: 313.

ولا یخفی مخالفة کلّ واحدٍ منها مع الآخر بمثابة لا یکاد أن یحویها جامع عبارة خالیة عن فساد إستعمال اللّفظ فی معنیین بلا تعسّف ورکالة.

وهذا الإشکال دفعه المحقّق الآشتیانی فی شرح الرسائل،(1) وکذا المحقّق العراقی فی نهایة الأفکار،(2) وصوّرا الجامع. فراجع.

ومنها: إنّ الکلام فی الإستصحاب إنّما هو حول حجّیته، والحکم بإبقاء ما کان لا یوصف بالحجّیة.

تعریف المحقّق الخراسانی

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی بعد أن أشکل علی تعریف الشیخ فی الحاشیة قال:

إنّ الأولی أن یعرَّف الإستصحاب بأنّه إلزام الشارع ببقاء ما لم یقم علی بقائه دلیل.(3)

وقال فی الکفایة: هو الحکم ببقاء حکم أو موضوع ذی حکم شک فی بقائه.(4)

أقول:

فأمّا تعریف الحاشیة، فیرد علیه ما تقدّم فی الإیراد علی کلام المحقّق الهمدانی. هذا أوّلاً.

ص: 15


1- 1. بحر الفوائد 6 / 15.
2- 2. نهایة الأفکار 4 / 4.
3- 3. المصدر.
4- 4. کفایة الأُصول: 384.

وثانیاً: یرد علیه عدم جامعیّته للمبانی المختلفة فی حقیقة الإستصحاب. کما أورد علی تعریف الشیخ.

وثالثاً: یرد علیه إختصاصه بالشبهات الحکمیّة. ولذا أضاف فی الکفایة: أو موضوع ذی حکم ... .

وأمّا تعریف الکفایة، فیرد علیه الإشکال الثانی.

تعریف المحقّق النائینی

وذهب المیرزا(1) إلی أنّ تعریف الإستصحاب یجب أن یؤخذ من الروایات، لأنّها هی العمدة فی الدلالة علیه، ولیس مدلول الروایات الحکم بالإبقاء. فما ذکره الشیخ وصاحب الکفایة لا یدلّ علیه شیء من الأخبار.

بل إن مدلولها هو: أن الیقین السّابق باقٍ عملاً فی ظرف الشک اللاّحق.

تعریف المحقّق الخوئی

وقد ذهب إلیه السیّد الخوئی بناءً علی کون الإستصحاب مأخوذاً من الأخبار، فقد فصّل فی تعریف الإستصحاب، بناءً علی المبانی فی حقیقته، فقال ما ملخّصه: أمّا علی القول بکونه أمارة، فلابدّ من تعریفه بما نقله الشیخ عن بعض من أنّه: کون حکمٍ أو وصف یقینیّ الحصول فی الآن السّابق مشکوک البقاء فی الآن اللاّحق. وأمّا علی القول بکونه أصلاً عملیّاً، فالأحسن أن یعرّف بأنّه: الحکم ببقاء

ص: 16


1- 1. أجود التقریرات 4 / 7.

الیقین السّابق فی ظرف الشک من حیث الجری العملی کما هو مفاد الروایات.(1)

ولکنْ لا یخفی وجود التهافت بین کلماته هنا وفی بعض المواضع الأُخری من بحثه.

تعریف السیّد الأُستاذ

وقال السیّد الأُستاذ بعد أن أورد خمسة تعاریف وأنّ جمیع ما ذکر فی تعریفه لا یخلو عن خدشة: والذی نراه فی تعریف الإستصحاب أن یقال: إنّه نفس بقاء المتیقَّن عند الشک. ویراد به ثبوت الحکم فی مرحلة البقاء. ولعلّه إلیه یرجع تعریفه بالإبقاء المفسَّر بالحکم بالبقاء. قال: وتعریفه بما ذکرنا ینسجم مع جمیع مدارک الإستصحاب.(2)

أقول:

إنّ المناسب ل_«الإستصحاب» _ وهو فعل المکلَّف _ هو «الإبقاء»، وحینئذٍ یعود التعریف إلی بعض ما تقدّم.

التحقیق

والتحقیق فی المقام: هو الرجوع إلی الروایات وجعل مفادها هو التعریف الصّحیح للإستصحاب، لأنّها هی العمدة فی الإستدلال علی حجّیته.

والروایات علی ثلاثة أقسام:

ص: 17


1- 1. مبانی الإستنباط: 6 _ 7.
2- 2. منتقی الأُصول 6 / 11 _ 12.

1 _ ما کان لسانه لسان النهی، کقوله علیه السّلام: لا تنقض الیقین بالشک ... وقوله: لیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک.

2 _ ما کان لسانه لسان الأمر کقوله علیه السّلام: إذا شککت فابنِ علی الیقین.

3 _ ما اشتمل علی النهی والأمر، قال علیه السّلام: الیقین لا یدخله الشک، لا یخلط بالشک ... یبنی علی الیقین. فإنّ قوله: «یبنی» أمرٌ بالبناء ... کما فی القسم الثانی.

أمّا القسم الأوّل، حیث تعلَّق النهی بالنقض، فلابدّ من أن یکون المراد النهی عن العمل علی خلاف الیقین السّابق، لأنّ الیقین السّابق قد انتقض بالوجدان بالشک اللاّحق. هذا من جهةٍ. ومن جهة أُخری، فإنّ عدم نقض الیقین لیس بمقدورٍ للمکلَّف، والنهی لا یتعلّق بغیر المقدور. فقوله علیه السّلام: لا تنقض الیقین بالشک، بمعنی: إعمل علی طبق الیقین فی ظرف الشکّ.

وأمّا القسم الثانی، فهو صریح فی وجوب البناء علی الیقین السّابق، وترتیب آثاره علیه.

وکذلک القسم الثالث.

والنتیجة: إنّ المجعول شرعاً فی باب الإستصحاب هو المنع من نقض الیقین ووجوب البناء علیه. فصحیحة زرارة _ مثلاً _ تدلّ علی عدم وجوب الوضوء علیه. أی: أنّ الوضوء الذی کنت متیقّناً به باقٍ، ولک أنْ ترتّب الأثر علیه عملاً.

ص: 18

الأمر الثانی: هل الإستصحاب مسألة أُصولیّة أو قاعدة فقهیّة؟

اشارة

قد تقدّم فی محلّه تعریف المسألة الأُصولیّة وأنّها المسألة التی تقع نتیجتها فی طریق إستنباط الحکم الشرعی. وتعریف القاعدة الفقهیّة، وأنّ نتیجتها تطبَّق علی الموارد المختلفة. وقد قلنا هناک أنّ الأخذ بالمسألة الأُصولیّة عمل المجتهد، وأمّا القاعدة الفقهیّة فللمقلّد أیضاً الأخذ بها.

الأقوال فی المقام

ذکر الشیخ(1) أنّ الإستصحاب إن کان من الأحکام العقلیّة فهو مسألة أُصولیّة. وإنْ کان من الأُصول مأخوذاً من الأخبار، ففی کونه کذلک غموض.

والمیرزا(2) فصّل بین الشبهة الحکمیّة، والشبهة الموضوعیّة، فقال بأنّه فی الحکمیّة مسألة أُصولیّة، وفی الشبهة الموضوعیّة قاعدة فقهیّة.

والمحقّق الخراسانی وجماعة کالسیّد الخوئی(3) علی أنّه مسألة أُصولیّة مطلقاً، فإنّه یستنبط منه الحکم الشرعی _ لوقوعه فی طریق الإستنباط _ سواء علی مسلک القائلین بحجّیته من باب بناء العقلاء أو الظن أو الأخبار.

مضافاً إلی جریان الإستصحاب فی «الحجّیة»، فإنّه إذا شکّ فی بقاء حجّیة

ص: 19


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 17 _ 18.
2- 2. أجود التقریرات 4 / 9.
3- 3. کفایة الأصول: 358، مبانی الإستنباط: 7.

قول المجتهد بعد موته، تستصحب الحجّیة، ولو شکّ فی حجّیة الشهرة الفتوائیّة یستصحب عدم حجّیتها، لعدم حجّیتها سابقاً. ولا ریب فی أنّ «الحجّیة» من مباحث الأُصول لا الفقه.

النظر فی الأقوال

ولکنّ ما ذکره صاحب الکفایة لا یخلو من النّظر، لأنّه لا یجتمع مع تعریفه للمسألة الأُصولیّة فی أوّل الکتاب،(1) لأنّ مقتضاه کون الإستصحاب من القواعد التی ینتهی إلیها المجتهد بعد الیأس عن الدلیل. والإستصحاب من هذا القبیل.

ولذا رفع الإشکال، بأنّ الأحکام الشرعیّة مثل: «الصّلاة واجبة» أحکام لأعمال العباد بلا واسطة، وأمّا الحکم ببقاء الحکم أو الموضوع ذی الحکم _ وهو تعریف الإستصحاب _ فهو عملٌ مع الواسطة، فهو حکم شرعی لکنّه مسألة أُصولیّة لا قاعدة فقهیّة أو مسألة فقهیّة، (ثمّ قال) کیف؟ وإستصحاب الحجّیة لا یعقل أن یکون مسألةً فقهیّة. هذا أوّلاً.

ویرد علیه ثانیاً: بأنّ ما ذکره هنا ینافی کلامه فی التنبیه السابع(2) من أنّ مقتضی أدلّة الإستصحاب إنشاء الحکم المماثل للحکم السّابق. وإذا کان کذلک فإنّه حکم فقهی، فالإستصحاب مسألة فقهیّة لا أُصولیّة.

ویرد علیه الإشکال ثالثاً فیما ذکره من جریان الإستصحاب فی الحجّیة،

ص: 20


1- 1. کفایة الأُصول: 9.
2- 2. المصدر: 414.

فنقول: صحیحٌ أنّ هذا الإستصحاب مسألة أُصولیّة، ولکنّ الإستصحاب فی الأحکام الکلیّة الإلآهیة مسألة فقهیّة، کما لو زال تغیّر الماء فشکّ فی بقاء نجاسته، فإنّه تستصحب النجاسة، وهذا حکم فقهی. فالقول بأنّ إستصحاب الحجّیة مسألة أُصولیّة لا یستلزم أن یکون الإستصحاب فی جمیع الموارد مسألةً أُصولیّة.

هذا تمام الکلام علی ما أفاده المحقّق الخراسانی ومن تبعه.

وأمّا تفصیل المیرزا:

فإنّه قد ذکر فی تعریف المسألة الأُصولیّة بأنّها ما یقع نتیجتها کبری فی قیاس الإستنباط. مثلاً: علم اللّغة یفید أنّ اللّفظ الفلانی ظاهر فی المعنی الکذائی. هذه صغری المسألة. والکبری فی علم الأُصول: کلّما کان ظاهراً فی المراد فهو المراد. وفی علم الرجال: زید ثقة. وفی علم الأُصول خبر الثقة حجّة. والنتیجة حجّیة خبر زید.

وکذلک حال الإستصحاب. یقول المیرزا: إنّ الإستصحاب یفید الوسطیّة فی الإحراز کما هو الحال فی الأمارة _ لکنّ الشک مأخوذ فی الإستصحاب دون الأمارة، ولذا کان الإستصحاب برزخاً بین الأصل والأمارة _ . وعلی هذا، فالإستصحاب لیس بحکمٍ، بل إنّه یجعل الیقین السّابق وسطاً لإحراز المتیقّن فی ظرف الشک فی بقائه.

وببیان آخر یقول: إنّ المیزان فی المسألة الأُصولیّة یقین وشک المجتهد». وفی المسألة الفقهیّة یقین وشکّ المقلّد.

وحاصل کلام المیرزا: أنّ الإستصحاب فی الشبهات الحکمیة مسألة أُصولیّة، وقد ذکر لهذا المدّعی وجهین.

ص: 21

وقد أورد علیه المحقّق العراقی:(1) بأن لازمه القول بکون قاعدة الطهارة فی الشّبهات الحکمیة من المسائل الأُصولیّة، لأنّ الیقین والشک فیها للمجتهد، والحال أنّ الکلّ یجعلونها قاعدة فقهیّة، فلو تولّد الحیوان من الحوانین الطاهر والنجس، جرت علیه القاعدة وحکم بطهارته.

وأمّا العراقی،(2) فقد ذهب إلی أنّ المسألة الأُصولیّة علی قسمین. الأوّل: القاعدة الممهدة الواقعة فی طریق الإستنباط، کحجّیة خبر الواحد. والثانی: ما ینتهی إلیه المجتهد بعد الفحص والیأس عن الدلیل، مثل الإستصحاب والبراءة.

لکنْ یرد علیه ما ورد علی المیرزا، لأن المجتهد هو الذی یشک فی الحیوان المتولّد هل هو طاهر أو نجس؟ ولیس من شأن المقلّد إجراء قاعدة الطهارة، لأنّه غیر متمکّن من الفحص عن الأدلّة حتی یتمسّک بالقاعدة بعد الیأس منها، فالمعتبر فی مثل هذه المسألة یقین وشک المجتهد، فلابدّ وأن تکون المسألة أُصولیّة.

وأیضاً: فإنّ القاعدة فی هذا الفرض تکون ممّا ینتهی إلیه المجتهد بعد الفحص والیأس. لکنّهم متّفقون علی کونها قاعدة فقهیّة.

وذهب السیّد البروجردی(3) إلی أنّ موضوع علم الأُصول هو الحجّة فی الفقه، ولهذا یکون الإستصحاب من المسائل الأُصولیّة، لأنّ البحث فیه عن حجّیة الوجود السّابق بالنسبة إلی زمان الشک، فالبحث فیه عن الحجّة، فیندرج فی مسائل علم الأُصول.

ص: 22


1- 1. أُنظر: فوائد الأُصول 4 / 310، الهامش.
2- 2. نهایة الأفکار 4 / 7.
3- 3. نهایة الأُصول: 11.

وفیه إشکالان:

الأوّل: إنّه قال فی تعریف الإستصحاب بأنّه حکم الشارع بإبقاء ما کان، وقد اختار أنّه مأخوذ من الأخبار، ولیس من باب بناء العقلاء ولا من باب الظن.

وبین الکلامین تهافت.

والثانی: قوله بأنّ الیقین السّابق حجةٌ فی ظرف الشک، هذه الحجّیة إن کانت بحکم العقل، فلیس للعقل هکذا حکم، لکنّکم تقولون بالحجّیة من باب الأخبار، فالدلیل علی إبقاء ما کان هو الأخبار ولیس الحجّیة السّابقة.

نعم، هنا مسلک بأنّ الشارع قد جعل الیقین السّابق حجةً علی وجود المتیقّن فی الظرف اللاّحق. لکنّ هذا المسلک یختلف عمّا ذکره لوجود الفرق بین القول بأنّ الوجود السّابق حجّة، والقول بأنّ الیقین السّابق حجّة.

والسیّد الأُستاذ: أفاد _ بالنّظر إلی ما ذکره فی ضابط المسألة الأُصولیّة من أنّها المسألة التی تتکفّل رفع التردّد فی مقام العمل، وبذلک افترقت عن مسألة الفقهیّة _ أنّ الإستصحاب من مباحث الأُصول، ولا موجب لتخصیص المسألة الأُصولیّة بما یجری فی الشبهات الحکمیّة (قال) ولو فرض عدم کون الأصل الجاری فی الشبهات الموضوعیّة من علم الأُصول، فهو لا ینافی کون الجاری فی الشبهات الحکمیّة منه، فیکون الإستصحاب بلحاظ جریانه فی الشبهات الحکمیّة مسألة أُصولیّة، وبلحاظ جریانه فی الشبهات الموضوعیّة مسألة فقهیّة، ولا مانع من أن تکون المسألة الواحدة ذات جهتین بلحاظ تعدّد موردها بعد عموم دلیلها.(1)

ص: 23


1- 1. منتقی الأصول 6 / 13.
تفصیل المقال فی المقام

أقول: لقد أجاد الأُستاذ فیما أفاد، وتحقیق المقام بالتفصیل هو أن یقال:

إنّ وظیفة الفقیه تحصیل الحجّة علی الحکم الشرعی _ للعلم الإجمالی بوجود التکالیف فی الشریعة، ولحکم العقل علی المکلَّف بالفحص عن الدلیل علی الحکم فی الشبهات الحکمیة فراراً عن إستحقاقه العقاب علی المعصیة _ وقد أُسّس علم الأُصول لتحصیل الحجّة علی الأحکام الشرعیّة المنجزَّة.

إنّما الکلام فی حقیقة الحجّة، فنقول: للحجّة مراتب:

1 _ القطع.

2 _ الظنون والأمارات. وهنا بحثٌ عن صغری وکبری، هل ظاهر الکتاب حجّة؟ هل الأمر ظاهر فی الوجوب؟ هل النهی ظاهر فی الحرمة؟ هل اللقب ذا مفهوم أوْ لا؟ ثمّ هل الظواهر حجّةٌ؟ وبأیّ دلیلٍ؟

فالحاصل: أنّ البحث عن حجّیة الظواهر بحث أُصولیٌّ، وکذا البحث عن قسم من صغریات ذلک، مثل خبر الثقة حجّة أوْ لا؟ أمّا أن خبر زید حجّة أوْ لا؟ فهذا یرجع إلی علم الرجال ولا علاقة له بالأُصول.

ومنه یظهر أنّ بعض الصغریات یبحث عنها فی علم الأُصول وبعضها لا یبحث فیه.

3 _ مرحلة الأُصول العملیّة، حیث لا علم ولا علمی، والموضوع فی هذه المرحلة هو الشک وهو موجود بالوجدان، إذ الفقیه فی شکٍ من الحکم الشرعی، والحاکم فیها إمّا العقل، إذ له أُصول عقلیّة من قاعدة الإشتغال وقبح العقاب بلا بیان، وإمّا الشرع، إذ له قواعد کما هو معلوم. والأُصول العقلیّة مسائل أُصولیّة

ص: 24

لکونها حجّةً بلا إشکالٍ، ولکنّها لا تجری إلاّ مع فقد الأُصول العملیّة الشرعیّة، لتأخّرها عنها فی الرتبة. کما أنّ الأُصول العملیّة تنقسم إلی الأصل المحرز وغیر المحرز، والمحرز هو الإستصحاب، وهو متقدّم رتبة علی البراءة والإحتیاط. والکلام الآن فی أنّ الإستصحاب مسألة أُصولیّة أو فقهیّة؟

إنّه یختلف بحسب المسالک فی مدرک حجّیة الإستصحاب:

فأمّا بناءً علی أنّ الإستصحاب معتبر بحکم العقل، فهو من الأُصول، لأنّه إن کان دلیلاً عقلیّاً علی الحکم الشرعی یکون حجّةً علیه، والمسألة الأُصولیّة هی الحجّة علی الأحکام الشرعیّة، لما تقدّم من أنّ غرض الأُصولی تشخیص الحجج علی الأحکام.

وأمّا بناءً علی اعتبار الإستصحاب من باب الظن بالحکم الشرعی وبقائه بعد الیقین السّابق به، فهو من المسائل الأُصولیّة کذلک، لکون الظنّ حجّةً حینئذٍ.

وأمّا بناءً علی کونه مأخوذاً من الروایات، فهنا مسلکان:

فقال جماعةٌ: بأنّ مفاد الأخبار هو أماریة الیقین السّابق علی بقاء الحکم فی ظرف الشک فیه. وعلی هذا المبنی یکون الإستصحاب فی الشبهات الحکمیّة مسألة أُصولیّة، کما أنّ مسألة حجّیة خبر الثقة أُصولیّة، لأنّ الغرض تحصیل الحجّة، وهو حاصل علی هذا المبنی.

وقال آخرون: بأنّ مفاد الأخبار هو أنّ الإستصحاب یعیّن التکلیف الشرعی فی ظرف الشک فیه، فهو أصل عملی مبرز للجعل الشرعی فی الزمان اللاّحق. وإذا کان الإستصحاب هو الحکم الشرعی ببقاء المتیقَّن السّابق _ کما علیه هؤلاء _ فهل هو مسألة أُصولیّة؟

ص: 25

لا یخفی: أنّ الموضوع للإستصحاب هو الیقین بالحکم والشک فیه، فالمتعلَّق لهما هو الحکم الإلآهی، والمحمول هو التعبّد بالمتیقّن السّابق. فإنْ کان المتیقّن السّابق حکماً إلزامیّاً یصیر الإستصحاب منجِّزاً له، وإن لم یکن کذلک، یصیر معذّراً بالنسبة إلیه، ومن الواضح أنّ غرض الفقیه تحصیل الحجّة علی الفعل والترک، فالإستصحاب علی هذا المبنی أیضاً مسألة أُصولیّة.

وممّا ذکرنا ظهر تعریف المسألة الأُصولیّة، فکلّ مسألةٍ أفادت الحجّة _ العقلیّة کالقطع أو الشرعیّة کخبر الواحد _ علی الحکم الکلّی الشرعی إثباتاً أو نفیاً. وبعبارة أُخری: کلّ مسألةٍ أنتجت التنجیز أو التعذیر بالنسبة إلی الأحکام الواقعیّة الکلیّة، فهی مسألة أُصولیّة، والإستصحاب من هذا القبیل. ولیس القاعدة الفقهیّة کذلک.

وبذلک ظهر الفرق بین المسألة الأُصولیّة والقاعدة الفقهیّة.

وتبقی شبهة قاعدة الطهارة فی الشبهات الحکمیّة الکلیّة، حیث أنّ هذا التعریف یشملها، إذ هی فی مثل الحیوان المتولّد المذکور سابقاً معذّرة فیما لو کان نجساً فی الواقع. ولکنّها قاعدة فقهیّة ولیست مسألةً أُصولیّة.

فإنْ قلنا _ کما قال البعض _ إنّه یعتبر فی المسألة الأُصولیّة جریانها فی جمیع الأبواب الفقهیّة، کخبر الثقة، والإستصحاب، وقاعدة الطهارة لیست کذلک، لکونها مختصّةً بکتاب الطهارة. فالإشکال مندفع.

وإنْ لم نقل بذلک، فلا مناص من الإلتزام بکونها مسألةً أُصولیّة کما قال آخرون. وإنّما لم تطرح فی الأُصول، لوضوحها فی المدرک والدلالة.

وأمّا الإستصحاب فی الموضوعات، فلیس من المسائل الأُصولیّة، لکونه

ص: 26

حجّةً علی الحکم الجزئی. وقد ذکرنا أنّ المسألة الأُصولیّة هی التی تفید الحجّة للفقیه علی الحکم الکلّی.

فظهر بتعریف المسألة الأُصولیّة بأنّها المسألة التی تنتج الحجّة علی الحکم الکلّی الإلآهی أُمور:

الأوّل: إنّ الإستصحاب فی الأحکام الکلیّة مسألة أُصولیّة.

الثانی: إنّ الإستصحاب فی الموضوعات لیس بمسألة أُصولیّة.

الثالث: إنّ قاعدة الطهارة خارجة علی وجهٍ وداخلةٌ علی وجهٍ آخر.

ویبقی الکلام فی تعریف المسألة الفقهیّة:

قالوا: هی عبارة عن کلّ مسألةٍ کان المحمول فیها إعتباراً شرعیّاً من حیث الإقتضاء والتخییر، التکلیف والوضع.

وهذا التعریف ینطبق علی جمیع الأبواب الفقهیّة، لأنّ الأحکام الشرعیّة منها وضعی کالصّحة واللزوم، ومنها تکلیفی، وهو إمّا إلزامی، فالوجوب والحرمة. وإمّا تخییری، وهو الإستحباب والکراهة والإباحة.

والمسألة الفقهیّة لیست بحجّة، بل هی محتاجة إلی قیام الحجّة بالنسبة إلیها.

وبما ذکرنا ظهر الفرق بین المسألة الأُصولیّة والمسألة الفقهیّة.

کما ظهر ممّا تقدّم الفرق بین المسألة الأُصولیّة والقاعدة الفقهیّة، حیث أنّ القاعدة الفقهیّة حکم شرعی محمول علی موضوعٍ ینحلّ إلی موضوعات متعدّدة، کقولنا: «الشرط نافذ» غیر القاعدة الفقهیّة الجاریة فی سائر الأبواب الفقهیّة، فهی کالمسألة الأُصولیّة من هذه الناحیة. وأیضاً القاعدة الفقهیّة غیر متوجّهة إلی

ص: 27

المقلّدین، وإنّما تطبیقها بید الفقیه کالمسألة الأُصولیّة، بخلاف المسألة الفقهیّة، فإنّها ملقاة إلی المقلّدین أیضاً.

هذا، وقد جاء فی تقریر بحث السیّد الخوئی ما نصّه:

وأمّا البحث عن جریان الإستصحاب فی الشبهات الموضوعیّة، فهو بحث عن قاعدة فقهیّة، إذ نتیجة الإستصحاب الجاری فیها دائماً تکون أمراً جزئیّاً، فإذا شککنا فی عدالة زید بقاءً واستصحبناها، لزمنا الحکم ببقائها. ومن المعلوم أنّ هذا أمر جزئی، والمدار فی جریانه علی یقین کلّ أحد وشکّه بالإضافة إلی نفسه، فلو شکّ المقلّد فی بقاء وضوئه بعد الیقین به، بنا علی بقائه وإنْ کان مجتهده یعلم بعدم بقاء وضوئه.

وبما أنّ المختار عندنا هو إختصاص جریانه بالشبهات الموضوعیّة، لما سیأتی من إبتلائه فی الأحکام دائماً بالمعارض، فلیست مسألة الإستصحاب من المسائل الأُصولیّة، بل هی قاعدة فقهیّة.(1)

وهذا الکلام یشتمل علی أمرین:

الأوّل: إنّ القاعدة الفقهیّة إنّما تجری فی الشبهات الموضوعیّة دون الحکمیّة.

والثانی: إنّ الإستصحاب لا یجری فی الشبهات الحکمیّة لابتلائه فیها دائماً بالمعارض.

أمّا الأمر الأوّل، فلأن قاعدة لا ضرر _ مثلاً _ ناظرة إلی الضرر الشخصی لا النوعی، وعلی هذا، فهی تنحلُّ علی حسب الأشخاص، فتکون جاریةً فی الشبهات

ص: 28


1- 1. مبانی الإستنباط: 8.

الموضوعیّة والقضایا الشخصیّة فقط، ولا مجری لها فی الأحکام الکلیّة الإلآهیة.

ویرد علیه: إنّه لا ریب فی أنّ البحث عن خیار الغبن وثبوته للمغبون وعدم ثبوته من المباحث الخاصّة بالفقیه، فهو بحث عن حکم کلّی إلآهی، لأن الأصل فی البیع هو اللزوم، وثبوت الخیار یحتاج إلی الدلیل، وإقامة الدلیل من عمل الفقیه لا المقلّد. وقد تقرّر فی محلّه أنّ عمدة الدلیل علیه هو قاعدة لا ضرر، وأنّ حکم الشارع بلزوم البیع ضررٌ علی المغبون، فله فسخ العقد، فتتقدم قاعدة لا ضرر علی عمومات وإطلاقات نفوذ البیع ووجوب الوفاء به.

فإذن، جرت قاعدة لا ضرر _ وهی قاعدة فقهیّة _ فی شبهة حکمیّة کلیّة، فالقول باختصاص القواعد الفقهیّة بالشبهات الموضوعیّة ممنوع.

وأمّا الأمر الثانی، فلا یخفی _ کما سیأتی بالتفصیل _ أنّ الأقوال فی الإستصحاب فی الأحکام الکلیّة ثلاثة:

أحدها: الجریان مطلقاً، وأنّه لا تعارض أصلاً. وهو قول المشهور.

والثانی: عدم الجریان مطلقاً، للمعارضة بین إستصحاب بقاء المجعول مع إستصحاب عدم الجعل. وهو قول المحقّق النراقی.

والثالث: التفصیل بین الأحکام الکلیّة الإلزامیّة، فلا یجری للمعارضة، والأحکام الکلیّة الترخیصیّة، کالطهارة والحلیة والإباحة، فیجری.

وهذا الثالث مختار السیّد الخوئی.

إذن، فإنّ الإستصحاب یجری فی بعض الشبهات الحکمیّة، لا أنّه لا یجری فیها مطلقاً. وعلیه، یکون الإستصحاب مسألة أُصولیّة فی موارد جریانه فی الشبهات الحکمیّة.

ص: 29

وعلی الجملة، فإنّ مباحث الطرق والحجّج وکذا الأُصول العملیّة، إنّما یدخل منها فی الأُصول ما کان متعلّقاً بالأحکام الکلیّة، وأمّا ما یتعلّق بالأحکام الجزئیّة فلا. وأیضاً، فما کان منها متعلّقاً بعمل الفقیه فهو مسألة أُصولیّة کمسألة حجّیة خبر الواحد فی الأحکام. وأمّا ما کان متعلّقاً بالمقلِّد فلا، کمسألة حجّیة خبر الواحد فی الموضوعات، فإنّه عمل المقلّد، بل هی مسألة فقهیّة.

وعلی هذا، فالإستصحاب منه أُصولی، وهو ما کان جاریاً فی الأحکام، وهو عمل الفقیه، ومنه فقهی، وهو ما یجری فی الموضوعات وهو عمل المقلِّد. فلابدّ من التفصیل.

الأمر الثالث: فی الفرق بین الإستصحاب وقاعدة المقتضی والمانع وقاعدة الیقین

اشارة

تارةً: یبحث عن الفرق بینها حکماً.

وهذا ما سیأتی فیما بعد إن شاء اللّه.

وأُخری: یبحث عن الفرق بینها موضوعاً.

وهذا هو المقصود هنا، فنقول:

قاعدة المقتضی والمانع

وقوام هذه القاعدة هو: أنّ الیقین یتعلَّق بشیءٍ وهو المقتضی، والشکّ یتعلَّق بشیءٍ آخر وهو المانع، فالمتعلَّقان مختلفان ماهیّةً ووجوداً.

ص: 30

وهذه القاعدة تجری فی ثلاثة موارد:

1 _ التکوینیّات. مثلاً: النار تقتضی الإحراق. والرطوبة مانعة عنه. فیتعلَّق الیقین بوجود النار والشکّ بوجود الرطوبة فی الحطب.

2 _ التشریعیّات. مثلاً: ملاقات الماء مع النجاسة تقتضی النجاسة للماء الملاقی، وکریّة الماء مانعة. فیتعلَّق الیقین بالملاقاة والشکّ بکریّة الماء.

وقد ذهب إلی جریان القاعدة فی التشریعیّات الشیخ هادی الطهرانی وتلامذته.

3 _ الملاکات. مثلاً: یحرز المصلحة أو المفسدة للشیء. ثمّ یشکّ فی کونها ملزمةً أوْ لا؟

قاعدة الیقین

وهذه القاعدة قوامها إختلاف ظرف الیقین مع ظرف الشک، مع کون المتعلَّق لهما واحداً ماهیةً ووجوداً.

مثلاً: یتیقَّن بعدالة زیدٍ فی یوم الجمعة، ثمّ یشکّ فی عدالة زیدٍ فیه بسبب شکّه فی عدالته فی یوم السّبت.

ولذا یعبَّر عن هذه القاعدة بالشکّ السّاری. فإنّه لمّا یشکّ فی عدالة زید فی یوم السّبت، یسری هذا الشک إلی یوم الجمعة فیزول الیقین بعدالته فی یوم الجمعة.

والفرق بین هذه القاعدة والإستصحاب واضح. لأنّه فی الإستصحاب _ وإنْ کان المتعلَّقان للیقین والشکّ واحداً _ لا یشترط إختلاف الزمان، بل یمکن أن یکون الیقین بالحدوث والشکّ بالزوال فی یوم الجمعة. وأمّا فی قاعدة الیقین، فإنّ اجتماع الیقین والشکّ فی الزمان محال.

ص: 31

هذا هو الفرق. ولذا ینقسم الإستصحاب إلی ثلاثة أقسام:

1 _ أن یتعلّق الیقین بالشیء فیشک فی بقائه وإستمراره.

2 _ أن یتعلّق الیقین بالشیء الموجود بالفعل، ویشکّ فی أنّه یبقی أوْ لا؟ وهذا ما یسمّی بالإستصحاب الإستقبالی. کأنْ یکون معذوراً فی أوّل الوقت ولا یدری هل یبقی العذر إلی آخر الوقت أو لا.

3 _ أن یتعلّق الیقین بالشیء الموجود بالفعل، ویشک فی أنّه کان سابقاً کذلک أوْ لا؟ مثل أنّ هذا اللّفظ ظاهر فی المعنی الکذائی یقیناً، وهل هو کان سابقاً ظاهراً فیه کما هو الآن أوْ لا؟ وهذا ما یسمّی بالإستصحاب القهقرائی.

فیقع البحث فی شمول دلیل الإستصحاب لجمیع الأقسام، أو أنّه لا یشمل الثالث؟

هذا تمام الکلام فی المقدّمات.

ویقع البحث فی:

ص: 32

أدلّة الإستصحاب

اشارة

ص: 33

ص: 34

قد استدلّ لحجّیة الإستصحاب بوجوه:

1 _ السیرة العقلائیّة

اشارة

لقد قامت السّیرة العقلائیّة علی الأخذ بالحالة السّابقة.

وهذا الوجه یتوقّف علی تمامیّة الصغری والکبری.

الکلام فی الصغری

أمّا الصّغری، فلابدّ من ثبوت هذه السّیرة من العقلاء أوّلاً، ثمّ هو ثابت بما هم عقلاء، أو أنّه ممّا جبّل علیه الإنسان؟ وثالثاً: ما هو حدّ بنائهم، هل هو مطلق بأن یأخذوا بالحالة السّابقة فی جمیع الأُمور المعاشیة والمعادیة، أو فی أُمورهم الدنیویّة والمعاشیّة فقط؟. ورابعاً: هل عملهم من باب الأمارة أو الأصل بمعنی کونه أصلاً یرجعون إلیه عند التحیّر؟ وخامساً: هل بناؤهم علی التعبّد بالأخذ بالحالة السّابقة أو أنّه مستندٌ إلی دلیل؟ وسادساً: هل لو لم یأخذ أحد بالحالة السّابقة یلام ویؤاخذ علی ذلک أو لا لابدیّة للعمل علی طبقها؟ ثمّ لا یخفی أنّ هذا الوجه من العلاّمة فما بعد، وقد تبعه الوحید وکاشف الغطاء.

ص: 35

فمنهم من قال بثبوت هذه السّیرة علی وجه الإطلاق.

ومنهم من نفی وجودها علی وجه الإطلاق.

ومنهم من فصّل:

فمنهم من قال بالتفصیل بین الشک فی المقتضی والشک فی الرافع، فلو لم یحرز الإقتضاء للبقاء فلا سیرة عند العقلاء.

ومنهم من قال بالتفصیل بین الموارد التی یغلب فیها البقاء وغیرها، فالسّیرة قائمة علی القسم الأوّل لا مطلقاً، وهذا ما تفیده کلمات الشیخ. مثلاً: لو ورد الحکم من المولی ثمّ شکّ فی نسخه له، فحیث أنّ الغالب عدم النسخ، فإنّ السّیرة قائمة علی البناء علی بقاء الحکم.

ومنهم من قال بالتفصیل بین مورد الظن بالبقاء وغیره. وهو المستفاد من کلمات المحقّق القمی.

حول الدلیل علی دعوی السّیرة

هذا، وقد استدلّ لثبوت السّیرة فی أصلها بوجهین:

الأوّل: إنّ الأخذ بالحالة السّابقة من الأُمور الفطریّة الجبلیّة، فهو فوق البناء العقلائی. بل هذه الحالة موجودة فی الحیوانات، فالسّیرة العقلائیّة الإنسانیّة ناشئة من الفطرة.

وفیه:

أوّلاً: إن کان کذلک، فالدلیل لیس السّیرة وبناء العقلاء.

وثانیاً: هذه الحالة موجودة عند الحیوانات، ولکن هل تأخذ الحیوانات

ص: 36

بالحالة السّابقة مع الشک أوْ لا؟ هذا غیر معلوم لنا.

الثانی: إنّه لو وصل الأمر إلی العبد من المولی، ثمّ احتمل العبد عدول المولی عن أمره، فإنّ بناء العقلاء علی لزوم العمل علی طبق الأمر وعدم الإعتناء بالإحتمال والشک اللاّحق، ولذا لو ترک العبد الإمتثال معتذراً بالشک اللاّحق، لم یسمع منه ویکون مستحقّاً للعقاب عند العقلاء.

وفیه:

هذا صحیح، ولکن من أین یثبت أنّ لزوم العمل بالیقین السّابق هو من باب الإستصحاب، فلعلّه من باب قاعدة الإشتغال، إذ یحکم العقل والعقلاء علی أساسه بلزوم الإتیان بما تیقّن به من أمر المولی حتّی یحصل الفراغ. ومجرّد إحتمال إبتناء سیرتهم علی قاعدة الإشتغال یُسقط الإستدلال.

وأضاف المحقّق الخراسانی:(1) إنّه ربّما یعمل العقلاء علی طبق الحالة السّابقة من أجل الإطمینان ببقاءها، فکان عملهم مستنداً إلی الإطمینان اللاّحق لا الإستصحاب بمعنی إبقاء الحالة السّابقة مع الشک فیها لاحقاً. ولذا، فإنّ العقلاء فی الأُمور المهمّة والکبیرة لا یکتفون بمجرّد الیقین السّابق، فمثلاً: لا یرسل الإنسان العاقل المال الکثیر إلی الشخص الذی لا یعلم بوجوده الآن، إستناداً إلی العلم السّابق بوجوده، بل یستخبر عن وجوده وحاله فعلاً ثمّ یرسل إلیه المال.

ومن الموارد ما یرتِّب العقلاء الأثر علی الیقین السّابق من باب الإحتیاط

ص: 37


1- 1. کفایة الأُصول: 378.

لا من باب الإستصحاب، کما لو کان له ولد فی بلدٍ حصل فیه الإضطراب، واحتمل موت الولد، ولکنّه من جهةٍ أُخری یحتمل وجوده واحتیاجه الشدید إلی المال. فإنّه یرسل إلیه المال إحتیاطاً لئلاّ یموت من الجوع.

وتحصّل: أنّه لابدّ من ثبوت عمل العقلاء علی طبق الحالة السّابقة من باب الإستصحاب، حتّی یستدلّ علیه ببناء العقلاء، فلو احتمل وقوع العمل علی طبق قاعدة الإشتغال أو الإحتیاط أو الإطمینان لم یتم الإستدلال.

إشکال آخر:

وأیضاً: إنّه لا ریب فی عدم وجود التعبّد فی السّیرة العقلائیّة مطلقاً، لأنّ التعبّد إنّما یکون بین المولی والعبد، وأمّا بین العقلاء بما هم عقلاء، فلا یوجد التعبّد، وإذا انتفی التعبّد، فهل البناء علی الحالة السّابقة من الأُمور العقلائیّة الثابتة والمرتکزة فی أذهان العقلاء؟

مثلاً: عندما یقع البیع والشراء، فإنّ المرتکز عند المتعاملین سلامة العوضین ولزوم تسلیمهما ... هذا شیء مرتکز فی أذهان العقلاء؟ فهل الأخذ بالحالة السّابقة مرتکز مثله؟

کلاّ ... وإنّما المنشأ للأخذ هو الإحتیاط أو الإطمینان أو الإشتغال ... ؟

تلخّص:

إنّ الفقیه یحتاج إلی الحجّة، والإنصاف أنّ السّیرة العقلائیّة لیست الحجّة علی الإستصحاب ... .

ولو سلّمنا ثبوت السّیرة ... فهل لو لم یعمل أحدٌ علی طبق الحالة السّابقة وتوقّف، یؤاخذه العقلاء؟ کلاّ ... فأین الحجّة؟

ص: 38

تفصیل المحقّق النائینی

وفصّل المیرزا، فوافق علی قیام السّیرة العقلائیّة علی العمل بالحالة السّابقة فی موارد الشک فی الرافع، أمّا مع الشک فی المقتضی فلا، قال: إنّه لا مجال لإنکار قیام السّیرة العقلائیّة والطریقة العرفیّة علی الأخذ بالحالة السّابقة وعدم الإعتناء بالشک فی ارتفاعها، ولم یردع عنها الشارع _. ولکنّ القدر المتیقّن هو الأخذ بالحالة السّابقة عند الشک فی الرافع، ضرورة أن الشک فی بقاء الحیاة لو أوجب التوقّف فی ترتیب آثار الحیاة لانسدّت أبواب المراسلات والمواصلات والتجارات، بل لم یقم للعقلاء سوق. وأمّا عند الشک فی المقتضی، فبناؤهم علی التوقّف والفحص إلی أن یتبیّن الحال.(1)

الإشکال علیه

أوّلاً: دعوی بناء العقلاء علی إجراء الإستصحاب فی مطلق موارد الشک فی الرافع ممنوعة، بل إنّه مقیَّد بموارد الشکّ المتساوی الطرفین، فلو ظُنّ بزوال الحالة السّابقة لا یجری عندهم الإستصحاب.

وأیضاً: فإنّ العقلاء فی کثیرٍ من الموارد لا یجرون الإستصحاب، کما لو کان إجراؤه علی خلاف الإحتیاط. وبعبارة أُخری: إذا کان الإستصحاب مخالفاً للإحتیاط، فلا سیرة علی إجرائه قطعاً.

فالقول بعدم إجرائهم الجریان مع الشک فی المقتضی صحیح، لکنّ القول

ص: 39


1- 1. فوائد الأُصول 4 / 332 _ 333.

بإجرائهم الإستصحاب مطلقاً مع الشک فی الرافع ممنوع.

وثانیاً: إنّه لیس عدم العمل علی طبق الحالة السّابقة موجباً لاختلال النظام فی جمیع الموارد، لأنّ هذا المحذور إنّما یتوجّه فیما لو توقّف عن العمل بالحالة السّابقة بمجرّد الشک فی الرافع، لکنّ کثیراً من موارد العمل إنّما هو من أجل الجهات الأُخری لا الإستصحاب. مثلاً: یرسل المال إلی الشخص فی البلد الآخر من أجل العلاج، مع احتمال کونه میّتاً، لأنّ هذا الإرسال هو مقتضی الإحتیاط فی حفظ النفس.

أو أنّه یعمل علی طبق الحالة السّابقة إعتماداً علی وثوقه ببقائها، فلا یکون عمله من باب الإستصحاب.

تفصیل المحقّق العراقی

وفصّل العراقی(1) بنحوٍ آخر، فقال بأنّ العقلاء یجرون الإستصحاب فی أُمورهم المعاشیّة، لأن ذلک مقتضی الإرتکاز عندهم. وأمّا فی الأُمور الدینیّة فلا یوجد فی أذهانهم هکذا إرتکاز. (قال) لأنّه لو کان هکذا إرتکاز فی أذهان العقلاء لما أنکر جماعة کبیرة من العلماء حجّیة الإستصحاب مع کونهم من کبار العقلاء.

الإشکال علیه

أوّلاً: قبوله وجود الإرتکاز العقلائی فی الأُمور غیر الشرعیّة، منقوض بموارد:

1 _ موارد الشک فی المقتضی.

ص: 40


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 34.

2 _ موارد الظنّ بالخلاف.

3 _ موارد الإحتیاط.

ثانیاً: قوله بعدم وجود الإرتکاز فی الأُمور الدینیّة وإلاّ لما أنکر جمع من العلماء حجّیة الإستصحاب. منقوض بمسألة خبر الواحد الثقة، فإنّ حجّیّته من الإرتکازات العقلائیّة قطعاً، مع أنّ مثل ابن إدریس وغیره ینکرون حجّیة خبر الواحد الثقة.

ثالثاً: قوله بعدم وجود الإرتکاز عند العقلاء فی الأُمور الدینیّة ووجوده فی غیرها، مردود بأنّه لا فرق فی نظر العقلاء بین القسمین المذکورین من الأُمور، فالمسیحی کما یجری الإستصحاب بالنسبة إلی حیاة التاجر الذی یتعامل معه فی البلد الآخر، کذلک یجری الإستصحاب بالنسبة إلی حیاة العالم المسیحی الذی یأخذ منه أحکام دینه.

ورابعاً: إنّ العراقی نفسه یوافق علی عموم التعلیل الموجود فی نصوص الإستصحاب کما سیأتی.

وخامساً: التعلیل الموجود فی «لأنّک کنت علی یقینٍ من وضوئک» دلیلٌ علی إرتکازیّة العمل علی طبق الحالة السّابقة فی الأُمور الشرعیّة کالوضوء.

وهذا تمام الکلام فی صغری السّیرة العقلائیّة.

الکلام فی الکبری

إنّ هذه السّیرة علی فرض ثبوتها یتوقّف حجّیتها علی قبول الشارع لها بالإمضاء أو عدم الردع.

ص: 41

رأی المحقّق الخراسانی
اشارة

فقال المحقّق الخراسانی:(1) هذه السّیرة مردوعة بوجهین:

أحدهما: الآیات الناهیة عن العمل بغیر علم، وإبقاء الحالة السّابقة مع الشک فی بقائها عملٌ بغیر علم، واللّه عزّ وجلّ یقول «لا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ ».(2)

والثانی: إنّ الوظیفة فی الشبهات الحکمیة _ سواء الوجوبیّة والتحریمیّة _ والموضوعیّة هی إمّا البراءة وإمّا الإحتیاط _ حسب الإختلاف بین العلماء _ ، فالمجعول الشرعی فی الشبهات أحد الأصلین، فلا مجری للإستصحاب فیها، وهذا یکشف عن عدم إعتبار الشارع للإستصحاب المعتبر ببناء العقلاء.

فهذه السّیرة علی فرض ثبوتها مردوعة.

الإشکال علیه

وقد أشکل علیه العلماء _ عدا المحقّق العراقی _ بأن: هذا الکلام یناقض کلامه فی مسألة حجّیة خبر الواحد، فقد ذکر السّیرة العقلائیّة دلیلاً علی حجّیة خبر الواحد، ثمّ قال: لا یتوهّم کون السّیرة مردوعةً بأدلّة النهی عن العمل بغیر علم.

فما أفاده هنا قد ذکره هناک بعنوان «التوهّم» ثمّ أجاب عنه بأنّ هذه الرادعیّة مستحیلة، للزوم الدور، لأنّ النسبة بین السّیرة و«لا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ »نسبة الخاص إلی العام، فرادعیّة الآیة عن السّیرة موقوفة علی عدم تخصیص السّیرة

ص: 42


1- 1. کفایة الأُصول: 387.
2- 2. سورة الإسراء، الآیة 36.

للآیة (فلو خصصت الآیة لم تشمل السّیرة) لکنّ تخصیص السّیرة للآیة متوقّف علی رادعیّة الآیة، فلو تمّت الرادعیّة لما تحقّق التخصیص.

وحاصل کلامه هناک: عدم کون السّیرة مردوعةً، ولمّا کانت بمرأی من الشارع فهی ممضاة عنده.

وهذا یناقض کلامه هنا، حیث قال بالرادعیّة، لکنّ الرادعیّة مستلزمة للدور.

بل مخصصیّة السّیرة أیضاً مستلزمة للدور، لأنّها إنّما تخصّص إذا لم تکن الآیة رادعةً لأنّ السّیرة المردوعة غیر قابلة للتخصیص، فکان مخصصیّة السّیرة متوقّفة علی عدم رادعیّة الآیة، وعدم الرادعیّة متوقّفة علی تخصیص السّیرة لها.

الجواب

فأجاب المحقّق الخراسانی: بأنّه لا حاجة فی حجّیة السّیرة إلی إحراز عدم الردع عنها، بل یکفی عدم ثبوت الردع من الشارع بعد الفراغ عن وجودها عند العقلاء. أمّا وجود السّیرة العقلائیّة بالعمل بخبر الثقة، فلا ریب فیه، وأمّا عدم ثبوت الردع، فقد ظهر أنّ رادعیّة الآیة مستلزمة للدور، ولا رادع غیرها.

ثمّ إنّه ذکر وجهاً آخر لعدم الرادعیّة وهو:(1)

إنّ السّیرة علی العمل بخبر الثقة قائمة قبل نزول الآیة، فلو شککنا فی رادعیّتها عنها بعد نزولها نستصحب عدم الرادعیّة.

وأیضاً: لمّا کانت السّیرة قبل الآیة، فإنّه بعد نزولها یدور الأمر بین أن تکون الآیة ناسخة للسّیرة أو تکون السّیرة مخصّصة للآیة، وعند دوران الأمر یتقدّم

ص: 43


1- 1. کفایة الأُصول: 304، الهامش.

التخصیص لکونه أغلب من النسخ.

وأیضاً: إنّ الآیة متعلّقة بأُصول الدین ولا علاقة لها بالفروع.

إشکال المحقّق النائینی

وأشکل المیرزا: بأنّ جمیع ما ذکره المحقّق الخراسانی لعدم رادعیّة الآیات عن السّیرة فی خبر الواحد، یجری فی السّیرة بالعمل بالإستصحاب، وإلاّ یلزم التهافت والتناقض فی کلماته.

دفاع المحقّق العراقی

ودافع المحقّق العراقی(1) عن شیخه مجیباً عن إشکال المیرزا بالفرق بین مسألتی خبر الواحد والإستصحاب، وذلک:

بأنّ ظاهر قوله تعالی «لا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ » هو النهی عن اتّباع غیر العلم، وهذه الآیة تنطبق علی الإستصحاب ولا تنطبق علی خبر الواحد، لأنّ العقلاء فی خبر الواحد یلغون احتمال الخلاف، فیکون بمنزلة العلم، ولیس الحال فی الإستصحاب کذلک، بل هم یجعلونه أصلاً یرجعون إلیه فی حال الشک والتحیّر. فتکون الآیة رادعة عن العمل بالإستصحاب وغیر رادعة فی خبر الواحد.

النظر فیه:

ولکنّ هذا الدفاع لا یفید:

ص: 44


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 36.

أوّلاً: لأنّ المحقّق الخراسانی ذکر هناک أنّ الآیة لا علاقة لها بفروع الدین، وفی الإستصحاب ذکر أنّها رادعة. وهذا تهافت.

وثانیاً: قد استدلّ فی خبر الواحد بلزوم الدور، ولم یستدل بکونه أمارةً لیقع الفرق بینه وبین الإستصحاب.

رأی المحقّق الخوئی
اشارة

ووافق السیّد الخوئی صاحب الکفایة فی خبر الواحد بدلیلین:

1 _ کون الآیات متعلِّقة بأُصول الدین.

2 _ لزوم الدور.

النظر فیه:

ولکنّ کون الآیات متعلّقة بأُصول الدین أوّل الکلام، فقوله «لا تَقْفُ ... » آبٍ عن التخصیص، لکونه معلّلاً ب_«إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ... ». وهذا یعم.

وما دلّ علی النهی عن العمل بالظن أیضاً آبٍ عن التخصیص، لکونه معلّلاً ب_«إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا » وهذا یعم.

وأمّا الدور، فقد ذکر السیّد الخوئی _ فی خبر الواحد _ أنّ مخصصیّة السّیرة مستلزمة للدور، لکنّ رادعیّة الآیات عن السّیرة غیر مستلزمة له.

أمّا إستلزام مخصصیّة السّیرة للدور، فلأنّ السّیرة ما لم تصر حجّةً لا تکون مخصّصةً، لأنّ الصلاحیّة للتخصیص فرع الحجّیة، وعلیه، فالسّیرة موقوفة علی الإمضاء حتّی تکون حجّةً، والآیات دالّة علی عدم الإمضاء. والحاصل: إنّ

ص: 45

مخصصیّة السّیرة للآیات تتوقّف علی ثبوت عدم الردع من الشارع _ لا عدم ثبوت الردع _ ، إذن، لابدّ من إحراز عدم الردع ولا یکفی عدم ثبوته، وإحرازه یتوقّف علی عدم رادعیّة الآیات، وعدم الرادعیّة متوقّف علی حجّیة السّیرة بالإمضاء.

وأمّا عدم إستلزام رادعیّة الآیات عن السّیرة للدور، فلأن الآیات عامّة بلا ریبٍ، تعم کلّ ما کان بغیر العلم من العمل، وخروجها عن تحت الآیات یحتاج إلی دلیلٍ، ومجرّد عدم ثبوت مخصصیّة السّیرة للآیات کاف لبقائها تحتها، وقد تقدّم أنّ المخصّصیّة مستلزمة للدور.

وتلخّص: إنطباق «لا تَقْفُ » علی العمل بخبر الواحد.

أقول:

هذا إشکال السیّد الخوئی علی صاحب الکفایة فی بحث خبر الواحد.

ونفس هذا الإشکال یرد علی السیّد فی بحث الإستصحاب، حیث وافق المحقّق الخراسانی علی عدم الرادعیّة.

التحقیق

والتحقیق عدم إمکان رادعیّة الآیات عن کلّ سیرةٍ عقلائیّة ثابتة. وذلک: لأن الآیات ملقاة إلی العقلاء، وهی لا تصلح للرادعیّة عن السّیرة الثابتة عندهم بما هم عقلاء، لأنّها إنّما تنهی عن العمل بغیر العلم، ومن المعلوم أنّ المراد من «العلم» هو العلم الوجدانی أو ما ینتهی إلی العلم. وبعبارة أُخری: هی تنهی عن إتباع غیر الحجّة، ومتی کان العمل عن حجّةٍ، فإنّه لا یُستحق العقاب علیه إن کان مخالفاً للواقع، ولذا لو قامت الحجّة علی براءة الذمّة فترک العمل وظهر وجوبُه فی الواقع،

ص: 46

لم یکن مستحقّاً للعقاب. وکذا لو عمل بقاعدة الحلّ مثلاً، وهکذا.

وعلی هذا، فإنّه یکون العمل الواقع عن الحجّة خارجاً عن تحت الآیات تخصّصاً، والسّیرة العملیّة الثابتة من العقلاء بما هم عقلاء والتی تقع المؤاخذة عندهم علیها من هذا القبیل، أی إن الآیات تکون منصرفةً هذه السّیرة.

وبعبارة أُخری: إذا کانت السّیرة عند العقلاء بهذه المثابة، والخطابات ملقاةٌ إلیهم، فإن سیرتهم تکون قرینة حافّةً بالکلام وموجبةً لانصرافه إلی غیرها، لأنّهم یرون الحالة السّابقة حجّةً یجوز لهم العمل علی طبقها.

وهذا تمام الکلام علی حجّیّة الإستصحاب بالسّیرة العقلائیّة.

2 _ الظن

اشارة

وتقریب الإستدلال لحجّیّة الإستصحاب من باب الظنّ هو: إنّ الیقین بالوجود السّابق موجب للظن ببقائه فی الزمان اللاّحق، وهذا الظن معتبر. فههنا صغری وکبری کذلک، وقد وقع الکلام فی کلیهما.

الإشکال فی الصغری
اشارة

أمّا الصّغری، ففیها وجوه من الإشکال؛ منها:

الوجه الأوّل

إنّ الدلیل لا یطابق المدّعی، لأن المفروض حجّیة الإستصحاب، سواء کان الظنّ موافقاً للحالة السّابقة أو مخالفاً، وسواء کانت الحالة اللاّحقة الشک المتساوی الطرفین أو الظن.

ص: 47

وهذا الدلیل أخص من المدّعی، لأنّه یختص بالظنّ الموافق للیقین السّابق.

الوجه الثانی

إنّه قد لا یوجب الیقین السّابق للظنّ بالبقاء لاحقاً، وفی موارد إفادة الظن: قد یکون الظنّ بالبقاء مؤقّتاً بیومین مثلاً، ونحن نرید فی الإستصحاب الظنّ ببقاء المتیقّن السّابق فی ظرف الشک اللاّحق بصورةٍ دائمة.

الإشکال فی الکبری

وأمّا الکبری، فلو فرض تمامیّة الصّغری، فلا دلیل علی إعتبار هذا الظنّ، بعد قیام الأدلّة الأربعة علی عدم حجّیة الظن إلاّ ما خرج بالدلیل.

3 _ الإجماع

اشارة

ومن الأدلّة علی حجّیّة الإستصحاب: إجماع العلماء، وقد ادّعی هذا الإجماع المحقّق فی المعارج بعبارة: أطبق العلماء.(1) وعن العلاّمة فی بعض کتبه(2) دعوی الإجماع صریحاً، وعن بعض الأکابر(3) دعوی الإتفاق.

الکلام علیه

وقد وقع الکلام بین العلماء الأعلام فی هذا الإجماع من حیث الصغری

ص: 48


1- 1. معارج الأُصول: 287.
2- 2. مبادئ الوصول: 251.
3- 3. أُنظر: فرائد الأُصول 3 / 54.

ومن حیث الکبری کذلک:

أمّا من حیث الصغری، فهو غیر ثابت، لأنّ صاحب المعالم(1) قال: أنکره الأصحاب. والمرتضی أنکر حجّیة الإستصحاب.(2)

نعم، دعوی (الإجماع) تجتمع مع مخالفة البعض، لإختلاف المسالک فی الإجماع، فعلی مسلک اللطف _ مثلاً _ یصحّ دعوی الإجماع باتّفاق أهل العصر الواحد. أمّا دعوی (الإتّفاق) فلا تجتمع مع المخالفة.

وأمّا من حیث الکبری، فإن الإجماع المعتبر ما کان منه کاشفاً عن رأی المعصوم أو عن دلیلٍ معتبرٍ عندنا. ومن المعلوم وجود الأدلّة الأُخری علی حجّیة الإجماع، حتّی أنّ العلاّمة والمحقّق قد أقاما الأدلّة العدیدة. فهو إجماع مدرکی.

4 _ النصوص

اشارة

وعمدة الدلیل علی حجّیة الإستصحاب (الروایات). وأمّا غیرها من الأدلّة فلا یعتبر به کما عرفت.

صحیحة زرارة الأُولی
اشارة

وهذه نصوص المسألة.

وأوّلها صحیحة زرارة الواردة فی الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء من کتاب الطهارة:

ص: 49


1- 1. معالم الأُصول: 253.
2- 2. الذریعة إلی أُصول الشریعة 2 / 829.

قال قلت له: الرجل ینام وهو علی وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان علیه الوضوء؟

فقال: یا زرارة، قد تنام العین ولا ینام القلب والاذن، فإذا نامت العین والاذن والقلب وجب الوضوء.

قلت: فإن حُرّک إلی جنبه شیء ولم یعلم به؟

قال: لا، حتّی یستیقن أنّه قد نام، حتّی یجیء من ذلک أمر بیّن، وإلاّ، فإنّه علی یقین من وضوئه ولا ینقض الیقین أبداً بالشک، وإنّما ینقضه بیقین آخر.(1)

وجه الاستدلال:

أمّا سنداً، فلا ینبغی الشک فی صحّة الروایة، فإنّ السند إلی زرارة صحیح بلا إشکال، وزرارة لا یروی عن غیر المعصوم، لا سیّما مثل هذه الروایة، فلا یضرّ الإضمار، لا سیّما وأنّ غیر واحدٍ من الفقهاء(2) رواها مسندةً إلی الإمام أبیجعفر علیه السّلام، فکأنّهم وجدوها مسندةً فی الأُصول، ورووها کذلک، وصاحب الوسائل لم یعثر علیها، واللّه العالم.

إلاّ أن یقال بأنّ القرائن التی أوجبت إعتبار نسخة الأصل عند السیّد وغیره کلّها حدسیّة، وحدس الفقیه لا یکون حجّةً علی الفقیه الآخر. فتأمّل.

والعمدة أنّ زرارة لا یروی عن غیر المعصوم.

وأمّا فقه الحدیث. ففی الروایة سؤالان: (أحدهما): عن حکم الخفقة أی

ص: 50


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 245، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، رقم 1.
2- 2. کالسیّد بحر العلوم فی الفوائد الأُصولیّة: 110 والمحدّث البحرانی فی الحدائق الناضرة.

السِنَة. وهذا السؤال لا علاقة له بالإستصحاب، ومنشؤه: الشک فی مفهوم النوم سعةً وضیقاً، أو الشک فی حکم السنة. فأجاب الإمام بما حاصله: أنّ السنة غیر النوم. _ وکذلک القرآن الکریم فی آیة الکرسی «لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ » _ وحکمها غیر حکمه.

(والسؤال الثانی) عن حکم ما إذا شک فی تحقّق النوم الناقض للوضوء.

وهذه شبهة موضوعیّة، فهو یسأل عن الطریق للعلم بالنوم.

وهذا السؤال یرتبط بالإستصحاب، وحاصل جواب الإمام:

إنّ هذا الرجل کان متیقّناً بوضوئه، والآن هو علی یقینه السّابق.

الإشکال فی الإستدلال:

وقد أُشکل فی الإستدلال بالصّحیحة بوجوه:

(الأوّل) إنّ الإستصحاب لا یجری فی الأحکام الفرعیّة فقط، بل یجری فی الأحکام الأُصولیّة أیضاً، کما لو شک فی حجّیة حجّةٍ کالبیّنة بقاءً، فإنّه تستصحب الحجّیة، أو حدوثاً، فإنّه یستصحب عدم الحجّیة کالظنّ.

لکنّ الصّحیحة خبر واحدٍ، والخبر الواحد غیر جارٍ فی المسألة الأُصولیّة.

(الجواب) إنّ خبر الواحد جارٍ فی المسألة الأُصولیّة أیضاً کالمسألة الفرعیّة، وفی الأحکام الوضعیّة کالأحکام التکلیفیّة. وإنّما لا یجری خبر الواحد فی أُصول الدین، لأن المعتبر فیها هو العلم والیقین.

(الثانی) إنّ القول بحجّیة الإستصحاب بالصّحیحة یستلزم عدم حجّیة الإستصحاب. لأنّ الإستصحاب نفسه من الحوادث، لأنّه إعتبار شرعی وضعی

ص: 51

حَدَث من الشارع، وعلیه، فهو مسبوق بالعدم. فإذا کان الإستصحاب حجّةً یلزم عدم حجّیته، لأن أرکان الإستصحاب موجودة فی نفس حجّیة الإستصحاب.

(الجواب) إنّ موضوع الإستصحاب هو الیقین بأمرٍ ثمّ الشک فی بقائه، لکنّ أدلّة خبر الواحد تفید عدم الإعتناء بالشک وإلغاء إحتمال الخلاف، کقوله علیه السّلام: «لا عذر لأحدٍ فی التشکیک فیما یرویه عن ثقاتنا».

فخبر الواحد یفید العلم تعبّداً، وما قام علیه الخبر غیر مشکوک فیه، فالصّحیحة تفید العلم بحجّیة الإستصحاب، فلا شک فی حجّیّته تعبّداً، فلا یجری إستصحاب عدم حجّیة الإستصحاب.

(الثالث) إنّ هذه الصّحیحة تنهی عن نقض الیقین بالشک، والحال أنّه منقوض به وجداناً، فکیف یتعلّق النهی به؟

(الجواب) إنّ المنهی عنه مقدورٌ وهو نقض الیقین بالشک عملاً.

المحتملات الخمسة فی الصّحیحة

وهل تدلّ الصّحیحة علی قاعدة کلیّة أو هی خاصّة بموردها؟

إنّه لا ریب فی دلالة الصّحیحة علی حجّیة الإستصحاب مع الظنّ بالخلاف، لأنّه لمّا «حرّک فی جنبه شیء وهو لا یعلم» فإنّه ظانٌّ بنومه. إذن، فالإستصحاب جارٍ مع الظن بالخلاف. نعم، لو کان حجّیة الإستصحاب من باب السّیرة العقلائیّة، فإنّهم لا یجرونه مع الظن بالخلاف. هذا مطلب.

والمطلب الآخر هو: إنّ مورد الصّحیحة شبهة موضوعیّة، فلو کانت مختصّة به، کان الإستصحاب قاعدة فقهیّة لا مسألة أُصولیّة. وحینئذٍ نقول:

ص: 52

قد دلّت الصّحیحة علی أنّه لو کان علی وضوءٍ فشک فی حدوث النوم الناقض، فلا یجب علیه الوضوء، ولکن هل هی مختصّة بهذه المسألة، أی مسألة الوضوء والشک فی الناقض _ وهو النوم _ خاصّةً أو الأعم منه ومن کلّ ناقض؟

وأیضاً: هل تعمّ الصّحیحة الشبهة الحکمیة أیضاً أو تختصّ بالموضوعیّة؟

لقد سأل زرارة: «إنْ حرّک فی جنبه شیء وهو لا یعلم» فأجاب الإمام بما حاصله «لا یجب علیه الوضوء»، ثمّ أکّد علیه السّلام الإمام الجواب بقوله: «حتّی یستیقن أنّه قد نام».

لکنّ قوله علیه السّلام بعد ذلک: «وإلاّ ...» مطلبٌ جدید، فإنّه یعطی قاعدةً کلیّةً، فما هو المقصود؟

قد اختلفت أنظار العلماء فی معنی هذه الجملة، علی وجوه:

أن یکون قوله «وإلاّ ...» شرطاً، وکلّ شرط فلابدّ له من جزاء. وقوله: «فإنّه علی یقینٍ من وضوئه» تمهید للجزاء، والجزاء قوله «فلا ینقض الیقین بالشک»، لکنّ «الفاء» دخلت علی الجملة الممهّدة.

أن لا یکون «ولا ینقض»، هو الجزاء، لأن الجزاء یکون مع «الفاء» وبدون «الفاء»، أمّا أن یکون مع «الواو» فلا. إذن، ما هو الجزاء؟ هنا إحتمالات قال بکلٍّ منها قائل:

أن یکون الجزاء هو «فإنّه علی یقین من وضوئه». لأنّ معنی الروایة: «وإلاّ» أی: وإن لم یکن متیقّناً من نومه، «فإنّه علی یقین من وضوئه».

فوقع الإشکال: بأنّ الجزاء یترتّب دائماً علی الشرط، لوجود العلقة بینهما، ولکن الیقین بالوضوء غیر مترتّبٍ علی عدم الیقین بالنوم، لأنّه _ سواء کان علی

ص: 53

یقینٍ من نومه أو لم یکن _ متیقّن من وضوئه من قبل. وعلی هذا، لا یعقل أن یکون «فإنّه علی یقین من وضوء» جزاءً للشرط «وإن لم یستیقن أنّه قد نام».

واختلفت أنظارهم فی توجیه کون مدخول «الفاء» وهو «فإنّه علی یقین ...» هو الجزاء للشرط، مع عدم الإرتباط بین الجملتین کما تقدّم:

فقیل: إنّ قوله «فإنّه علی یقینٍ» جملة خبریّة، غیر أنّها لیست معلولاً للشرط، بل هی علّة للشرط، فکأن الإمام علیه السّلام یخبر عن أمرٍ خارجی هو یقین هذا الشخص بالوضوء، وجعل هذا الیقین جزاءً للشرط، والعلّة قد تقع جزاءً، کقولک: إن کان النهار موجوداً فالشمس طالعة. فمعنی الروایة حینئذٍ: إن لم یتیقّن بالنوم فلا یجب علیه الوضوء لکونه متیقّناً سابقاً بالوضوء.

وهذا الوجه مستفادٌ من کلام المحقّق الإصفهانی.(1)

وقیل: إن قوله «فإنّه علی یقینٍ» جملة خبریّة، لکنّها فی المعنی إنشائیّة، فمعنی الروایة: إن لم یستیقن بالنوم فلیس له أن ینقض وضوئه عملاً.

والفرق بین هذا القول وسابقه واضح، إذ الجزاء أصبح معلولاً، وکان المعنی: إن لم یستیقن بالنوم لا یجوز له نقض الوضوء عملاً.

وهذا رأی المیرزا.(2)

وتلخّص ممّا ذکرنا إلی الآن: أنّ الأقوال فی مدلول الروایة مختلفة:

1 _ حجّیة الإستصحاب فی مورد الیقین بالوضوء والشکّ فی النوم.

ص: 54


1- 1. نهایة الدرایة 5 / 41 _ 42.
2- 2. أجود التقریرات 4 / 33.

2 _ حجّیة الإستصحاب فی مورد الیقین بالوضوء والشکّ فی الناقض نوماً أو غیره.

3 _ حجّیة الإستصحاب فی مطلق المتیقّن والمشکوک.

واختلفت أنظار القائلین بالقول الثالث فی معنی الروایة:

1 _ أن الجملة «وإلاّ» شرطیة، وجوابها نفس «فإنّه علی یقینٍ ...»

فقیل: إنّ الجملة المذکورة إخباریّة فی معنی الطلب. أی: إن لم یستیقن من نومه یجب علیه العمل علی الیقین السّابق.

وقیل: إنّ الجملة المذکورة بیان لإعتبار الیقین السّابق، أی: إن الشارع یخبر عن إعتباره للیقین السّابق بالوضوء فی ظرف الشک بالنوم.

وقیل: إنّ الجملة المذکورة خبریةٌ حقیقیّةً، فهو یخبر عن أنّ المتیقّن سابقاً بالوضوء متیقّنٌ به إن شک فی بقائه.

وقیل: إنّ الجملة «وإلاّ» شرطیّة، لکنّ جزائها لیس جملة «فإنّه علی یقین» بل إنّ هذه الجملة تمهید للجزاء، والجزاء هو «ولا یتفض الیقین بالشک».

وقال الشیخ وصاحب الکفایة:(1) الجملة «وإلاّ» شرطیّة، أی: وإن لم یستیقن أنّه قد نام، لکنّ «فإنّه علی یقین» لیس هو الجزاء _ لعدم وجود الترتّب بین هذه الجملة وجملة الشرط، مع أنّ الترتّب ضروری، مثل: إن جاءک زید فأکرمه، حیث ترتّب الإکرام علی المجیء. ولیس هذا الترتّب موجوداً بین الجملتین، لأن الیقین بالوضوء غیر مترتّب علی عدم الیقین بالنوم، لأن الیقین بالوضوء موجود سواء یتیقّن بالنوم أو لا _ بل الجزاء جملة محذوفة تقدیرها: لا یجب علیه الوضوء.

ص: 55


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 56، کفایة الأُصول: 389.

والمعنی علی هذا: وإن لم یستیقن أنّه قد نام فلا یجب علیه الوضوء، لأنّه علی یقین من وضوئه. فکانت جملة: «فإنّه علی یقین» علّةً لعدم وجوب الوضوء، وقد قامت هذه الجملة مقام جزاء الشرط.

ونظائر هذا فی القرآن والإستعمالات الفصیحة کثیرة، کقوله تعالی «وَمَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّه َ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمینَ » ومن الواضح إنّ غنی اللّه عن العالمین لا یرتبط بالکفر، فسواء کفر أحدٌ أو لم یکفر، فإنّ اللّه غنی عن العالمین. فلیس «فَإِنَّ اللّه َ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمینَ » جزاءً للشرط وإن ورد علیه «الفاء»، بل الجزاء محذوف.

هذا تمام الکلام فی بیان المحتملات.

بیان دلالة الصّحیحة

وما ذکراه هو الأقرب، والصّحیحة دالّة علی حجّیة الإستصحاب مطلقاً، وقد اختار السیّد الخوئی هذا الرأی.(1) وأشکل علی رأی أُستاذیه المیرزا والإصفهانی قدّس اللّه سرّهم.

ولو لم یتم النظر المذکور، فإنّ دلالة الصّحیحة علی حجّیة الإستصحاب مطلقاً تامّة، لأُمور عدیدةٍ موجودةٍ فیها:

منها:

إنّ هذه القضیّة واردة فی غیر الوضوء أیضاً، کالشک فی عدد الرکعات وغیره ممّا سیأتی. فالکبری عدم نقض الیقین بالشک غیر مختصّة بالوضوء.

ص: 56


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 16.

ومنها:

التأکید الموجود فی الصّحیحة: «لا، حتّی یستیقن أنّه قد نام» «حتّی یجیء من ذلک أمر بیّن» و«إلاّ فإنّه علی یقین» و«ولا ینقض الیقین بالشک» و«بل ینقضه بیقین آخر» کلّ ذلک لإفادة قاعدة کلیّة.

ومنها:

إسناد کلمة (النقض)، فإن مفهومها کلّ أمر مبرمٍ محکمٍ قوی. فالصّحیحة أفادت أنّ المهمّ هو (الیقین)، سواء کان المتیقَّن هو الوضوء أو غیره من عدالة زیدٍ أو نجاسة ثوبٍ أو حرمة ماءٍ أو صحّة عملٍ ... وهکذا.

ومنها:

التأکید بکلمة «أبداً».

ومنها:

إعتماد الإمام فی الصّحیحة علی أمرٍ إرتکازی هو: أنّ الإنسان إذا تیقَّن بشیء لا یرفع الید عنه بمجرّد الشک فیه.

إشکال علی الصّحیحة

وذکر المحقّق الإصفهانی(1) إشکالاً علی الإستدلال بالصّحیحة حاصله: إنّه إن کانت مسبوقةً بالنکرة سقط ظهورها فی إفادة معنی الجنس وحملت علی العهد، کما فی قوله تعالی: «إِنّا أَرْسَلْنا إِلَیْکُمْ رَسُولاً شاهِدًا عَلَیْکُمْ کَما أَرْسَلْنا إِلی

ص: 57


1- 1. نهایة الدرایة 5 / 43.

فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصی فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذًا وَبیلاً ».(1) وعلیه، فإنّ اللاّم فی «لا ینقض الیقین بالشک» تکون للعهد، مشیرةً إلی قوله علیه السّلام قبل ذلک: «فإنّه علی یقینٍ من وضوئه» لکون «علی یقین» نکرةً، وحیث أنّ المتعلَّق للیقین هو الوضوء، فلا محالة یکون قوله: «لا ینقض الیقین بالشک» مختصّاً بالوضوء، فتسقط الصّحیحة عن الدلالة علی حجّیّة الإستصحاب مطلقاً.

الجواب

ویمکن الجواب عن هذا الإشکال بملاحظة المناسبات وجمیع ما یحتفُّ بالروایة من القرائن والخصوصیّات، کما هو مقتضی القاعدة فی الإستظهار من النصوص وسائر الأقوال، بأن یقال:

إنّه وإن کان الأصل فی القیود هو الإحترازیّة، فیقتضی تقیید «الیقین» ب_«الوضوء»، ولکنّ مورد ذلک هو ما إذا لم یکن الموضوع من المفاهیم الإضافیّة، کما لو قال: أکرم العالم العادل، لعدم کون العدالة من المفاهیم ذات التعلّق، وأمّا فی «الیقین» وأمثاله، حیث أنّ المفهوم متقوّم بالغیر، فإنّ الأصل فی قیدیّة الغیر له یسقط، بل یصیر الکلام ظاهراً فی أنّ «الیقین» هو تمام الموضوع، وإنّما ذکر «الوضوء» معه لاحتیاجه إلی المتعلَّق ولکون الوضوء هو مورد السؤال والجواب.

وبما ذکرنا یظهر أنّ اللاّم فی «الیقین» للجنس لا للعهد، بخلافها فی الآیة المبارکة، فالقیاس مع الفارق.

ص: 58


1- 1. سورة المزمّل، الآیة 15 _ 16.

وقد یشکل: بأن إستدلال الإمام علیه السّلام فی الصّحیحة ینافی القاعدة الثابتة: قاعدة الشکّ السّببی والمسبّبی، حیث تقرّر أنّه إذا کان هناک أمران بینهما سببیّة ومسببیّة، وأمکن إجراء الأصل فی طرف السّبب، فإنّه یجری، ومع جریانه فیه لا یبقی الشک وهو الموضوع المسبّب. ومثاله المعروف ما إذا غسل الثوب بماءٍ مشکوک الطهارة، فإنّه یقع الشک فی طهارة الثوب، ومع جریان الأصل فی طرف الماء لا یبقی الشک فی طرف الثوب.

وفی مورد الصّحیحة: الشک فی بقاء الوضوء مسبَّب عن الشک فی تحقّق النوم، ومقتضی القاعدة المزبورة هو التمسک بأصالة عدم النوم، فلا یبقی الشک بالنسبة إلی الوضوء.

لکنّ الإمام علیه السّلام تمسّک بالإستصحاب فی طرف المسبّب وقال: «وإلاّ، فإنّه علی یقینٍ من وضوئه ولا ینقض الیقین بالشکّ».

وجوه الجواب والنظر فیها:

وقد ذکر للجواب عن هذا الإشکال وجوه:

1 _ إنّ الإمام علیه السّلام قد أجری الإستصحاب فی الوضوء کنایةً عن جریانه فی عدم النوم، من باب ذکر اللاّزم وإرادة الملزوم، ولهذا نظائر کثیرة فی الإستعمالات الفصیحة.

وفیه:

إن هذا مجاز، یحتاج إلی القرینة، وهی مفقودة، وأصالة الظهور تدفع هذا الإحتمال.

ص: 59

2 _ إنّ أساس القاعدة فی السّبب والمسبَّب أن یکون أحد المستصحبین موضوعاً والآخر حکماً، فهناک یکون الأصل السّببی حاکماً علی المسبَّبی. وهذا الأساس مفقود فیما نحن فیه، بل النسبة هنا نسبة أحد الضدّین إلی وجود الآخر. وذلک:

لأنّ تحقّق النوم یضادّ بقاء الطهارة، والطهارة من الحدث ضدّ النوم، وعدم أحد الضدّین من اللّوازم العقلیّة لوجود الضدّ الآخر، لا من الأسباب الشرعیّة، ومن المعلوم أنّ الإستصحاب غیر جارٍ فی اللّوازم العقلیّة.

وبعبارة أُخری: السرّ فی عدم إجراء الإمام الإستصحاب فی عدم النوم هو عدم وجود السّببیّة الشرعیة بین النوم وبقاء الوضوء، بل بینهما ملازمة عقلیّة، لأن عدم أحد الضدین یلازم وجود الضدّ الآخر عقلاً.

هذا، وقد تقرّر فی بحث الضدّ بطلان مقدمیّة عدم الضدّین لوجود الضدّ الآخر.

ولو سلّمنا، فإنّ الأساس فی الإستصحاب السّببی والمسبّبی أن تکون مقدمیّة أحدهما للآخر مقدمیّةً شرعیّة، کمثال الماء والثوب المغسول به، فیکون الأصل فی طرف السّبب حاکماً علی الأصل فی طرف المسبّب.

والحاصل: إنّه لا سببیّة ومسببیّة بین عدم النوم وبقاء الوضوء.

وعلی فرض وجودها، هی عقلیّة لا شرعیّة.

وفیه:

إنّ العقل هو الحاکم بکون السّببیّة عقلیّة فی مواردها، والشرع هو الحاکم بکونها شرعیّةً فی مواردها.

ص: 60

إنّ کون الشیء مسبّباً أی معلولاً للشیء الآخر _ سواء فی السّببیّة الشرعیّة والعقلیّة _ یتوقّف علی توفّر ثلاثة أُمور: المقتضی والشرط وعدم المانع. فلو فقد أحدها لم تتحقّق المعلولیّة والمسبّبیّة، کما هو الحال فی القضایا التکوینیّة، کالنار وإحراقها للحطب.

ولمّا کان المطلب فیما نحن فیه _ وهو الحدث والطهارة من الحدث _ شرعیّاً، لعدم دخالة العقل فی مثل هذا المطلب، فلابدّ من الرجوع إلی الأدلّة الشرعیّة للتعرّف علی أنّ (المقتضی) للطهارة ما هو؟ و(الشرط) لتحقّق ذلک ما هو؟ وما هو (المانع) عن تحقّق الحدث؟

فالطهارة من الحَدَث أمر مسبّبٌ معلولٌ، والمانع عنها فی الصّحیحة هو النوم، فکان عدم النوم من أجزاء السّبب لبقاء الطهارة، وقد عرفت أنّ السّببیّة هذه شرعیّة لا عقلیّة.

3 _ إنّ السّبب فی إجراء الإستصحاب فی طرف (الوضوء) هو عدم جریانه فی طرف (النوم)، لأنّ الشبهة فی النوم (مفهومیّة) والإستصحاب غیر جارٍ فی الشبهات المفهومیّة.

توضیحه:

إنّ هذا الوجه یتکوّن من صغری وکبری.

أمّا الکبری، فالأُصولیّون فیها علی قولین.

ووجه عدم الجریان هو أنّ المفهوم لیس موضوعاً لحکمٍ من الأحکام الشرعیّة، والإستصحاب إنّما یجری فی الأحکام وموضوعات الأحکام الشرعیّة،

ص: 61

ولذا لا یجری الإستصحاب فی (الغروب) إذا شُکّ فی تحقّقه بأنْ یقال: الأصل عدم الغروب، لأنّ الآثار لا تترتّب علی مفهوم الغروب وإنّما تترتّب علی واقع الغروب ومصداقه، وأمره یدور بین الوجود والعدم، فقبل إستتار القرص لا شکّ، وبعد إستتار القرص لا شک، وزوال الحمرة لا شکّ فی عدم تحقّقه.

وأمّا الصّغری، فلأن سؤال زرارة هو: هل فی هذه الحالة «یحرّک شیء فی جنبه» یصدق عنوان النوم أو لا؟ فالشبهة مفهومیّة کمثال الغروب، والإستصحاب غیر جارٍ فیها.

وفیه:

أوّلاً: لیس السؤال من قبیل الشبهة المفهومیّة، بل هو من قبیل الشبهة الموضوعیّة، لأن ظاهر الروایة أنّ السؤال عن تحقّق النوم وعدم تحقّقه لمن «حرّک فی جنبه شیء»، ولیس عن مفهوم النوم.

وثانیاً: لو کانت الشبهة مفهومیّةً، کان علی الإمام علیه السّلام بیانها، لرجوع الأمر إلی الحکم الشرعی، وعدم جوابه علیه السّلام وتمسّکه باستصحاب الطهارة یکشف عن عدم کون الشبهة مفهومیّةً.

4 _ إنّ حکومة الأصل السّببی علی الأصل المسبّبی إنّما هی حیث یکون الأصلان متخالفین، کما فی مثال الماء والثوب المغسول به، أمّا إذا کانا متوافقین من حیث الأثر، فلا حکومة، وما نحن فیه من قبیل الثانی.

وفیه:

إن معنی الحکومة هو إزالة أحد الدلیلین لموضوع الدلیل الآخر أو إیجاده

ص: 62

الموضوع للدلیل الآخر بالتعبّد الشرعی، کما فی مثل «الطواف بالبیت صلاة»،(1) حیث یوجد الموضوع شرعاً، وکما فی «لا ربا بین الولد والوالد»،(2) حیث یزیل الموضوع شرعاً.

وفیما نحن فیه: الشکُّ هو موضوع الإستصحاب، فإذا جری الإستصحاب بالصّحیحة فی طرف السّبب، ارتفع الشک _ وهو الموضوع _ فی طرف المسبّب بالتعبّد الشرعی، وإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحکم بالضرورة ... وعلی هذا، فإنّه بجریان الإستصحاب فی طرف عدم النوم، لم یبق الشکّ فی بقاء الطهارة، وهذه هی الحکومة، سواء کان الأصلان متوافقین أو متخالفین.

التحقیق

والحق فی الجواب عن الإشکال ما أفاده شیخنا دام بقاه، وهو: إنّ للحکومة _ فی مورد الأصل الحاکم والمحکوم _ أثرین، أحدهما علمی والآخر عملی.

أمّا العلمی، فقد ذکرنا أنّ مقتضی القاعدة إجراء الأصل فی طرف الحاکم دون المحکوم، کما لو کانت الحالة السّابقة فی الشیء هی الطهارة، فإنّ الفقیه یفتی بالطهارة استناداً إلی الإستصحاب ولا یتمسّک للطهارة بقاعدة الطهارة وإن کانت النتیجة واحدةً، لأنّ الإستصحاب حاکم علیها ولا یبقی الشک.

وأمّا العملی، فإن کان الأصلان متخالفین، فلابدّ من إجراء الأصل الحاکم،

ص: 63


1- 1. مستدرک الوسائل 9 / 410.
2- 2. وسائل الشیعة 18 / 135، الباب 7 من أبواب الربا، رقم 1.

کما فی مثال الماء والثوب، وأمّا إن کانا متوافقین، فلا یلزم ذلک، لوحدة الأثر عملاً وعدم لزوم أی محذورٍ. ویشهد بذلک تمسّک الإمام علیه السّلام _ فی موثّقة مسعدة بن صدقة _(1) بقاعدة (الحلّ)، مع کون المورد هو الثوب یشتری من السوق «لعلّه سرقةٌ أو خیانة»، فإنّ (قاعدة الید) تجری فیه وهی مقدّمة علی (قاعدة الحلّ). وکما فی المرأة یرید زواجها ویحتمل کونها أُختاً له، فإنّ الأصل هو (إستصحاب) عدم وجود النسب بینهما أزلاً. ولکنّ الإمام تمسّک بقاعدة (الحلّ).

فالحق فی الجواب: أنّ الإمام قد أجری الإستصحاب فی طرف المسبّب، لوحدة الأثر عملاً.

الصّحیحة الثانیة
اشارة

قال زرارة:

قلت له: أصاب ثوبی دم رعاف أو غیره أو شیء من المنی، فعلّمت أثره إلی أن أصیب له الماء، فحضرت الصّلاة ونسیت أن بثوبی شیئاً، وصلّیت، ثمّ إنّی ذکرت بعد ذلک؟

قال علیه السّلام: تعید الصّلاة وتغسله.

قلت: فإن لم أکن رأیت موضعه وعلمت أنّه أصابه، فطلبته فلم أقدر علیه، فلمّا صلّیت وجدته؟

قال: تغسله وتعید.

ص: 64


1- 1. وسائل الشیعة: 17 / 89، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، الرقم 4.

قلت: وإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتیقّن ذلک، فنظرت فلم أر شیئاً، فصلّیت فیه فرأیت فیه؟

قال علیه السّلام: تغسله ولا تعید الصّلاة.

قلت: لم ذلک؟

قال علیه السّلام: لأنّک کنت علی یقین من طهارتک فشککت، فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک أبداً.

قلت: فإنّی قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أین هو فاغسله؟

قال علیه السّلام: تغسل من ثوبک الناحیة التی تری أنّه قد أصابها حتّی تکون علی یقین من طهارتک.

قلت: فهل علیّ إن شککت فی أنّه أصابه شیء أن أنظر فیه؟

قال علیه السّلام: لا، ولکنّک إنّما ترید أن تذهب الشک الذی وقع فی نفسک.

قلت: إن رأیته فی ثوبی وأنا فی الصّلاة؟

قال علیه السّلام: تنقض الصّلاة وتعید إذا شککت فی موضع منه ثمّ رأیته، وإن لم تشک ثمّ رأیته رطباً، قطعت الصّلاة وغسلته، ثمّ بنیت علی الصّلاة، لأنّک لا تدری لعلّه شیء أوقع علیک، فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک.

البحث فی جهات ثلاث:

ویقع الکلام فی هذه الروایة فی السند وفقه الحدیث ومورد الإستدلال:

ص: 65

السند

أمّا السند، فهذه الروایة رواها الشیخ الصدوق فی العلل والشیخ الطوسی فی التهذیب، وهی فی الوسائل فی الباب 41 من أبواب النجاسات(1) عن الشیخ مضمرة، ولکنّ روایة الصّدوق مسندة إلی أبیجعفر علیه السّلام، وسندها صحیح، لأن إبراهیم بن هاشم عندنا ثقة.

وأمّا إسناد الشیخ فی الفهرست، فصحیحٌ بلا إشکال.

وبعد، فإنّ زرارة لا یروی عن غیر الإمام، فإضماره بحکم الإسناد.

المتن

ففی الصّحیحة ست أو سبع مسائل کما لا یخفی، فقد سأل:

أوّلاً: عن حکم نسیان نجاسة الثوب عند الصّلاة بعد العلم بالنجاسة. فأجاب علیه السّلام بوجوب إعادة الصّلاة.

ثانیاً: عن حکم العلم الإجمالیبإصابة النجاسة للثوب. فأجاب بوجوب الإعادة کذلک. کما هو مقتضی قاعدة العلم الإجمالی المنجز.

ثالثاً: عن حکم ما إذا ظنّ بإصابة النجاسة للثوب، ففحص عنها فلم یجدها وصلّی ثمّ رآها بعد الصّلاة. (قالوا) یحتمل أن یکون ظنّه بعد الفحص زائلاً بل یکون متیقّناً بالعدم. ویحتمل أن یبقی علی حاله أو یتبدّل إلی الشک.

وقد أجاب علیه السّلام بوجوب الغَسل وعدم لزوم إعادة الصّلاة، علی کلا التقدیرین.

ص: 66


1- 1. وسائل الشیعة 3 / 477.

ثمّ إنّ الإمام ذکر وجه عدم الإعادة بقوله: «لأنّک کنت علی یقین ...»، وقد دلّ ذلک علی أنّ إحراز الطهارة فی حال الصّلاة کاف فی الصّحة وإن کانت النجاسة موجودة علی الثوب فی الواقع.

رابعاً: عن حکم ما إذا علم بإصابة النجاسة لأحد أطراف الثوب إجمالاً. فأجاب بوجوب غسل جمیع أطراف العلم الإجمالی من الثوب، قائلاً: «تغسل من ثوبک ...».

خامساً: عن حکم الفحص عند إحتمال إصابة النجاسة. فأجاب بعدم وجوب الفحص قائلاً «لا، ولکنّک إنّما ترید ...».

وسادساً: عن حکم ما إذا رأی النجاسة علی ثوبه فی أثناء الصّلاة. فأجاب بالتفصیل حیث قال بوجوب الإعادة فی صورة سبق العلم بالإصابة والشک فی موضعها. وبوجوب الغَسل فی الأثناء فی صورة عدم سبق العلم بذلک. قال: «وإن لم تشک ثمّ رأیته رطباً ...».

موضع الإستدلال

وموضع الإستدلال علی حجّیة الإستصحاب فی هذه الصّحیحة هو:

السؤال الثالث، حیث قال علیه السّلام: «لأنّک کنت علی یقینٍ فی طهارتک ...».

والسؤال السّادس، حیث قال علیه السّلام: «لأنّک لا تدری، لعلّه شیء أوقع علیک، فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک».

أمّا جواب الإمام عن السؤال السّادس، فدلالته علی الإستصحاب تامّة بلا کلام.

ص: 67

إنّما الکلام فی الإستدلال بما أفاده فی الجواب عن السؤال الثالث، قال فی الکفایة:

«نعم، دلالته فی المورد الأوّل علی الإستصحاب مبنی علی أن یکون المراد من «الیقین» فی قوله علیه السّلام: «لأنّک کنت علی یقین من طهارتک» الیقین بالطهارة قبل ظن الإصابة کما هو الظاهر. فإنّه لو کان المراد منه الیقین الحاصل بالنظر والفحص بعده، الزائل بالرؤیة بعد الصّلاة، کان مفاده قاعدة الیقین، کما لا یخفی».(1)

أقول:

حاصل کلامه: إن هنا یقینین، أحدهما: الیقین بالطهارة التی کانت قبل إحتمال الإصابة. والثانی: هو الیقین بالطهارة بعد إحتمال الإصابة والفحص عن النجاسة. فإن کان المراد من «الیقین» هو الأوّل، فدلالة الصّحیحة علی الإستصحاب تامّة. وإن کان الثانی، فلا تدل علیه، بل هی دلیل علی قاعدة الیقین، لأن یقینه بالطهارة الحاصل بعد الفحص قد زال بعد رؤیة النجاسة بعد الصّلاة، وحینئذٍ، یسری الشک إلی الیقین السّابق، ویظهر عدم تمامیته قبل الصّلاة.

ذکر هذا الإحتمال الثانی فی «الیقین» وإن جعل الأوّل «هو الظاهر».

وتوضیح إندفاع الإحتمال المذکور، وبیان تمامیّة الإستدلال بالصّحیحة علی الإستصحاب هو:

إنّ «قاعدة الیقین» هی: ما إذا تیقّن بالشیء فی زمانٍ، وشُکّ فیه فی الزمان اللاّحق، ثمّ سری الشکّ إلی الیقین السّابق وأزاله، کما لو تیقّن بعدالة زیدٍ فی یوم الجمعة،

ص: 68


1- 1. کفایة الأُصول: 393.

ثمّ شکّ فی یوم السّبت فی عدالته واحتمل عدمها فی یوم الجمعة أیضاً، فیکون الشکّ ساریاً من الزمان اللاّحق إلی الزمان السّابق وموجباً لزواله فی ذلک الزمان.

هذا هو قاعدة الیقین.

ولیس الحال فی الصّحیحة هکذا، لأنّ «الیقین» فیها هو الیقین بطهارة الثوب سابقاً، أی قبل الظن بإصابة النجاسة، وأمّا بعد الظن بها، فلا ذکر للیقین أصلاً، أی هو غیر متیقّن بعدم الإصابة، فیکون المشکوک فیه هو نفس المتیقَّن سابقاً وهو الطهارة. وهذا هو الإستصحاب.

إشکالٌ فی تطبیق الإستصحاب علی المورد

إنّما المهمُّ هو الإشکال، بأنّ ضابطة الإستصحاب، أی: الیقین السّابق والشکّ اللاّحق، غیر منطبقة علی مورد الصّحیحة، لأن «النقض» الموجود فیها «نقضٌ بالیقین»، لأنْ المفروض هو العلم بنجاسة الثوب حین الصّلاة، فکیف یکون تعلیل الإمام عدم الإعادة بقوله: «لأنّک کنت علی یقین ...»؟

وجوه الجواب
الجواب الأوّل
اشارة

ولهم فی رفع هذا الإشکال وجوه:

قال فی الکفایة:(1) ولا یکاد یمکن التفصّی عن هذا الإشکال إلاّ بأن یقال:

إنّ الشرط فی الصّلاة فعلاً حین الإلتفات إلی الطهارة هو إحرازها _ ولو

ص: 69


1- 1. کفایة الأُصول: 393 _ 394.

بأصلٍ أو قاعدة _ لا نفسها، فیکون قضیّة إستصحاب الطهارة حال الصّلاة عدم إعادتها، ولو انکشف وقوعها فی النجاسة بعدها، کما أنّ إعادتها بعد الکشف یکشف عن جواز النقض وعدم حجّیة الإستصحاب حالها، کما لا یخفی.

أقول:

وحاصله: ضرورة التوسعة فی شرط الصّلاة من (الطهارة) نفسها، إلی (إحراز الطهارة). فکان دخوله فی الصّلاة بالإستصحاب، وهو أصل محرز، أو قاعدة الطهارة.

وبعبارة أُخری: إنّ الإشکال مبنیٌّ علی أن یکون شرط الثوب فی الصّلاة خصوص الطهارة، أمّا مع کون الشرط إحراز الطهارة، فالإشکال مرتفع.

والدلیل علی التوسعة المذکورة وأن یکون الشرط کذلک، هو نفس هذه الصّحیحة ونسبتها إلی ما دلّ علی إعتبار الطهارة فی الصّلاة، فکان الشرط أعمّ من الطهارة الواقعیّة والتعبدیّة.

یقول: أنْ لا طریق لحلّ الإشکال إلاّ ما ذکره.

لکنّه وقع فی إشکالٍ آخر هو: إنّ «إحراز الطهارة» لیس من الأحکام الشرعیّة ولا من موضوعات الأحکام الشرعیّة، والإستصحاب لا یجری فی غیرهما. فأجاب بقوله:

إنّ الطهارة وإنْ لم تکن شرطاً فعلاً، إلاّ أنّها غیر منعزلة عن الشرطیّة رأساً، بل هی شرط واقعی إقتضائی، کما هو قضیّة التوفیق بین بعض الإطلاقات ومثل هذا الخطاب. هذا، مع کفایة کونها من قیود الشرط، حیث أنّه کان إحرازها

ص: 70

_ بخصوصها لا غیرها _ شرطاً.

وحاصل کلامه: الجواب عن الإشکال بوجهین:

أحدهما: إنّ الشرط تارةً فعلی وأُخری إقتضائی، وإنّما لا یجری الإستصحاب فی الطهارة إن لم تکن شرطاً _ لا فعلیّاً ولا إقتضائیّاً _ . وأمّا إذا کان لها حظّ من الشرطیّة، ولو إقتضاءً، جری فیها الإستصحاب، ومقتضی الجمع والتوفیق هو کون الطهارة شرطاً إقتضائیّاً، فأصبحت مجعولاً شرعیّاً یجری فیها دلیل الإستصحاب.

الثانی: إنّه لمّا کان إحراز الطهارة _ لا نفسها _ شرطاً، کانت الطهارة من قیود الشرط، لأن «الإحراز» من المفاهیم الإضافیّة، فإذا تعلّق ب_«الطهارة» أصبحت الطهارة من قیود الموضوع الشرعی، وهذا کاف لجریان الإستصحاب.

ثمّ أورد علی نفسه الإشکال: سلّمنا ذلک، لکنّ قضیّته أن یکون علّة عدم الإعادة حینئذٍ _ بعد إنکشاف وقوع الصّلاة فی النجاسة _ هو إحراز الطهارة حالها باستصحابها، لا الطهارة المحرزة بالإستصحاب. مع أنّ قضیّة التعلیل أن یکون العلّة له هی نفسها لا إحرازها، ضرورة أن نتیجة قوله «لأنّک کنت علی یقین ...» أنّه علی الطهارة لا أنّه مستصحبها کما لا یخفی.

فأجاب بوجهین:

أحدهما قوله: نعم، ولکنّ التعلیل إنّما هو بلحاظ حال قبل إنکشاف الحال، لنکتة التنبیه علی حجّیة الإستصحاب وأنّه کان هناک استصحابٌ.

والثانی قوله: مع وضوح إستلزام ذلک لأنْ یکون المجدی بعد الإنکشاف هو ذاک الإستصحاب لا الطهارة، وإلاّ لما کانت الإعادة نقضاً. کما عرفت فی الإشکال.

ص: 71

هذا تمام کلام صاحب الکفایة فی هذا المقام.

الإشکال علی الکفایة

وقد أورد علی جوابه عن الإشکال بوجوه:

1 _ إنّ السّؤال کان «فإنْ ظننت أنّه قد أصابه ولم أتیقّن ذلک، فنظرت فلم أر شیئاً، فصلّیت، فرأیت فیه. قال علیه السّلام: تغسله ولا تعید الصّلاة. قلت: لم ذلک؟ قال: لأنّک کنت علی یقینٍ من طهارتک فشککت ...».

فسؤال زرارة عن السّبب فی التفکیک بین الغَسل والإعادة _ بخلاف السّؤالین السّابقین حیث أمر فیهما بالغسل والإعادة کلیهما _ وذلک، لأنّه إذا کان الثوب نجساً یجب غسله، فقد وقعت الصّلاة فی الثوب النجس، فهی فاقدة للطهارة التی هی شرط أو واجدة للنجاسة التی هی المانع _ علی القولین _ . فلماذا لا تعاد؟

لکنّ الجواب المذکور لا یرتبط بالسّؤال عن السّبب للتفکیک بین الغسل والإعادة، وإنّما یرتبط بما إذا کان السؤال عن السّبب المجوّز للدخول فی الصّلاة، لأنّه کان حین الدخول فیها علی یقین من طهارته السّابقة، وهو شاکّ فی بقائها، ولا ینقض الیقین بالشک.

فالإشکال باقٍ ولا یندفع بما ذکره.

2 _ إن ما ذکره فی جواب السؤال الأوّل _ من أنّ «إحراز الطهارة» لیس بحکمٍ ولا هو موضوع لحکمٍ، فکیف یستصحب؟ _ بأنّ الطهارة شرط إقتضائی، لا یرفع المشکلة. وتوضیح ذلک:

ص: 72

إن المحقّق الخراسانی یری للحکم مراتب أربع هی:

1 _ مرتبة الإقتضاء

2 _ مرتبة الإنشاء

3 _ مرتبة الفعلیّة

4 _ مرتبة التنجّز.

وعلی أساس هذا المبنی، تکون مرحلة الإقتضاء هی مرحلة الملاکات من المصالح والمفاسد، فلا تکون مرحلة الإقتضاء بوحدها منشأً للحکم، بل لابدّ للحکم من وجود المقتضی وعدم المانع.

وعلیه، فالطهارة إذا کانت إقتضائیّة، فإنّ جمیع قیود الحکم _ من الشرائط وعدم المانع _ غیر متحقّقة، حتّی یتحقّق الحکم، وتحقّقه بدونها محال.

وبعبارة أُخری: إقتضاء الحکم شیء وتحقّق الحکم شیء آخر، والأثر یترتّب علی الحکم لا علی إقتضاء الحکم، والإستصحاب إنّما یجری فیما له الأثر لا فیما لا أثر له.

فعلی مبنی الکفایة: تکون الطهارة فی ظرف الشکّ فی مرتبة الإقتضاء _ أی مرتبة الملاکات _ ، وإنّما یشترط إحراز الطهارة فی مرتبة الفعلیّة، فأرکان الإستصحاب غیر متوفّرة.

3 _ وإنّ ما ذکره فی الجواب الثانی عن السّؤال الأوّل _ وهو قوله: هذا مع کفایة ... _ غیر صحیح. لأن «الإحراز» من الصّفات النفسانیّة الإضافیّة، کالشوق والحبّ والبغض، فکانت الطهارة مقدّمة للإحراز. لکن لمّا کان الإحراز أمراً

ص: 73

نفسانیّاً، فلابدّ من أن تکون الطهارة المقوّمة له نفسانیّة لا خارجیّة، لأنّ الأُمور النفسانیّة لا تتعلّق بالأُمور الخارجیّة، وإلاّ یلزم أن یکون الخارجی نفسیّاً أو النفسی خارجیّاً. وکلاهما محال.

لکنّ شرط الصّلاة هو الطهارة الخارجیّة، وهی التی یترتّب علیها الأثر الشرعی، لا الطهارة الذهنیّة.

وهذا الإشکال من المحقّق الإصفهانی.

الجواب الثانی

وهو فی الکفایة أیضاً مع نقده حیث قال:

ثمّ إنّه لا یکاد یصح التعلیل لو قیل باقتضاء الأمر الظاهری للإجزاء کما قیل، ضرورة أنّ العلّة علیه إنّما هو إقتضاء ذاک الخطاب الظاهری حال الصّلاة للإجزاء وعدم إعادتها، لا لزوم النقض من الإعادة کما لا یخفی.

(قال): اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ التعلیل به إنّما هو بملاحظة ضمیمة إقتضاء الأمر الظاهری للإجزاء. بتقریب: أن الإعادة لو قیل بوجوبها کانت موجبة لنقض الیقین بالشک فی الطهارة قبل الإنکشاف وعدم حرمته شرعاً، وإلاّ للزم عدم اقتضاء ذاک الأمر له کما لا یخفی، مع إقتضائه شرعاً أو عقلاً. فتأمّل.(1)

حاصله: إن التعلیل هو «لأنّک کنت علی یقینٍ من طهارتک فشککت ...»، ولیس فیه أی إشارة إلی إجزاء الأمر الظاهری عن الأمر الواقعی. إنّ التعلیل لعدم

ص: 74


1- 1. کفایة الأُصول: 395.

الإعادة هو «الإستصحاب»، وهو أمر ظاهری، لکنّ الکبری وهی: «إجزاء الأمر الظاهری عن الأمر الواقعی» لا علاقة لها بالإستصحاب.

وقد أوضح وجه التأمّل بقوله: وجه التأمّل: إن إقتضاء الأمر الظاهری للإجزاء لیس بذاک الوضوح کی یحسن بملاحظته التعلیل بلزوم النقض من الإعادة.

الجواب الثالث
اشارة

وهو من المیرزا النائینی.

فقد تکلّم علی هذا الإشکال(1) بالتفصیل، وهذا محصّل کلامه:

إنّ من الأخبار ما یدلّ علی أنّ الصّلاة فی الثوب الذی علم بنجاسته باطلة وإن کانت عن نسیان. ومن الأخبار ما یدلّ أنّه لو صلّی فی النجاسة عن غفلةٍ عنها، کانت صلاته صحیحةً، سواء کانت الطهارة شرطاً أو النجاسة مانعاً.

وحاصل ذلک: دوران الصّحة والبطلان مدار العلم.

لکنّ العلم یؤخذ فی الموضوع، تارةً: بما أنّه صفة خاصّة، وفی هذه الصّورة لا یقوم شیء مقام العلم. وأُخری: بما أنّه محرزٌ للواقع، وفی هذه الصّورة تقوم الأمارة کخبر الواحد والأصل کالإستصحاب _ لکونه أصلاً محرزاً _ مقام العلم. وثالثة: بما أنّه منجّز ومعذّر. وفی هذه الصّورة تقوم الأمارات والأُصول المحرزة وغیر المحرزة مقام العلم.

وفی مسألة لباس المصلّی، تفید النصوص إعتبار العلم، أی أنّ الشرط هو العلم

ص: 75


1- 1. فوائد الأُصول 5 / 341.

بالطهارة أو المانع هو العلم بالنجاسة، لکنّ هذا العلم قد أخذ بما هو منجّز أو معذّر، وعلیه، فإنّ الإستصحاب یقوم مقامه، وحینئذٍ، یتم تطبیق الإستصحاب علی المورد.

فکأن الإمام لمّا قال «لأنّک کنت علی یقینٍ ...» ذکر العلّة لعدم الإعادة، وذلک: کون هذه الصّلاة واجدةً للشرط أو فاقدة للمانع _ علی المسلکین _ ببرکة الإستصحاب.

الإشکال علی المیرزا

إنّه لا یخلو حال «العلم بطهارة اللباس والبدن» من أحد ثلاثة حالات: إمّا هو طریقٌ محض، وإمّا هو الموضوع، وإمّا هو جزء الموضوع _ ولا شیء رابع _ .

فإن کان العلم بالطهارة طریقاً إلی الواقع وکاشفاً عنه، فالأمارات والأُصول المحرزة تقوم مقامه بلا کلام، لکنّ العلم لیس إلاّ کاشفاً، والشرط هو الطهارة _ أو النجاسة هی المانع _ ولمّا ینکشف وقوع الصّلاة فی النجاسة، یظهر فقدها للشرط أو وجدانها للمانع، وتکون الصّلاة باطلة ویجب إعادتها.

وإن کان للعلم بالطهارة موضوعیّة، فإن کان جزء الموضوع، کان الجزء الآخر هو الطهارة _ أو عدم النجاسة _ . ولمّا إنکشف وقوع الصّلاة فی النجاسة، وجب إعادتها.

وإن کان العلم تمام الموضوع للحکم بصحّة الصّلاة، فلا أثر لاستصحاب الطهارة، لعدم الموضوعیّة لها.

لکنّ الإمام علیه السّلام حکم بالصّحة إستناداً إلی الإستصحاب.

فظهر سقوط هذا الوجه.

ولا یخفی: أن «الیقین» فی «لا تنقض الیقین بالشک» موضوعٌ ورکنٌ للإستصحاب، وهو فی نفس الوقت طریقٌ إلی المستصحب _ کعدالة زید مثلاً _

ص: 76

ولیس تمام الموضوع بالنسبة إلیه.

الجواب الرابع

وأجاب السیّد الخوئی(1) عن الإشکال _ بعد الإیراد علی کلام الکفایة والمیرزا _ بما ملخّصه: إن فی الصّحیحة ثلاثة صور مفروضة:

الصّورة الأُولی: ما إذا کان عالماً بالنجاسة تفصیلاً، وقد حکم فیها الإمام علیه السّلام بالإعادة.

والصّورة الثانیة: ما إذا کان عالماً بالنجاسة إجمالاً، وقد حکم فیها بالإعادة کذلک.

ومن الواضح عدم جریان الإستصحاب مع وجود العلم تفصیلاً أو إجمالاً.

أمّا فی الصّورة الثالثة، فلم یفرض العلم بالنجاسة، وفیها لم یحکم الإمام بالإعادة، واستدل لذلک بوجود الحکم الظاهری قائلاً «لأنّک کنت علی یقین ...». فهذه صغری المسألة، والکبری هی إجزاء الأمر الظاهری بالإستصحاب عن الأمر الواقعی، وقد کان مفروغاً عنه عند زرارة.

وهذا هو الوجه للحکم بعدم الإعادة.

وفیه:

إنّ هذا الإستدلال موقوف علی کون الکبری مفروغاً عنها عند زرارة، لأنّها غیر مقبولة إلاّ فی الطهارة، ولا طریق لنا لإثبات أن زرارة کان عالماً بهذه الکبری فی باب الطهارة.

ص: 77


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 68.
الجواب الخامس

ما أفاده المحقّق العراقی،(1) فإنّه ذکر بأنّ الإشکال مبنی علی أنّ النجاسة المرئیّة بعد الصّلاة هی النجاسة المعلومة قبلها، فإن مقتضی القاعدة حینئذٍ عدم جریان الإستصحاب، لانتقاض الیقین بالیقین.

أمّا مع إحتمال أن لا تکون نفس النجاسة المعلومة سابقاً، فالإستصحاب تام والإشکال مندفع.

ووجه هذا الإحتمال هو: إن زرارة قال فی السؤال المتقدّم: «فوجدته»، وهذا ظاهر فی وجدان نفس النجاسة السّابقة، أمّا فی هذا السؤال فیقول: «رأیت»، فقد تغیّر التعبیر، وهذا یوجب الشک فی کون ما رآه نفس ما تیقّن به سابقاً، وإذا حدث الشک تمّت أرکان الإستصحاب.

ثمّ أشکل علی نفسه: إن ظاهر قول زرارة «ولم ذلک» هو التعجّب من تغیّر الحکم، حیث حکم فی السؤال السّابق بالإعادة، وفی هذا السّؤال بعدمها، وتعجّب زرارة یکشف عن وحدة الموضوع فی السؤالین وإلاّ لما تعجّب.

وأجاب: بأنّ زرارة لم یکن متعجّباً، واختلاف تعبیره فی السؤالین _ حیث فی الأوّل جاء بالضمیر «فوجدته» وفی الثانی لا یوجد الضمیر _ کافٍ لإیجاد الإحتمال بکون النجاسة المرئیّة بعد الصّلاة غیر المتیقّنة قبلها.

أقول:

إنّا إذا دقّقنا النظر فی الأسئلة وجدنا الثالث فی نفس موضوع السؤالین

ص: 78


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 47.

السّابقین، غیر أنّه فی الأوّل عالم تفصیلاً، وفی الثانی عالم إجمالاً، وفی الثالث شاکّ، أی هو شاک فی نفس ما کان عالماً به فی السؤالین، وهو النجاسة المتیقّنة سابقاً.

وکذلک الحال فی السؤال الرابع والخامس ... فلا منشأ للإحتمال الذی طرحه هذا المحقّق.

نعم، فی السؤال الثالث قال: «رأیت» ولم یقل «رأیته» وهذا کثیر فی الإستعمالات، خاصّةً بعد وجود الضمیر «وجدته» فی السؤال السّابق، فهو قد رأی نفس ما کان وجده فی السؤال السّابق _ غیر أنّه کان هناک عالماً بالنجاسة وهنا شاک _ . ویشهد بما ذکرنا مجیء الضمیر «رأیته» فی السؤال السّادس.

وتلخّص: إن هذا الوجه خلاف ظاهر الصّحیحة.

وبعد:

فإن تمّ شیء من الأجوبة الخمسة فهو، وإلاّ، فإنّ الإستدلال بالصّحیحة لحجّیة الإستصحاب تام، وإن جهلنا کیفیّة إنطباقه علی المورد، کما فی الکفایة وغیرها.

الصّحیحة الثالثة
اشارة

عن زرارة عن أحدهما: قال: قلت له: من لم یدر فی أربع هو أم فی ثنتین وقد أحرز ثنتین؟

قال علیه السّلام: یرکع برکعتین وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الکتاب ویتشهّد ولا شیء علیه.

ص: 79

وإذا لم یدر فی ثلاث هو أو فی أربع وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إلیها أُخری ولا شیء علیه، ولا ینقض الیقین بالشک، ولا یدخل الشک فی الیقین ولا یخلط أحدهما بالآخر، ولکنّه ینقض الشک بالیقین ... .(1)

وهذه الروایة صحیحة ومسندة، وفیها «محمد بن إسماعیل النیسابوری» راویة «الفضل بن شاذان» وهو عندنا ثقة.

وموضع الإستدلال قوله علیه السّلام: ولا ینقض الیقین بالشک.

وذلک: لأنّ سبب أمره بالبناء علی عدم الإتیان بالرکعة الرابعة هو کونه متیقّناً بذلک سابقاً وشاکّاً فیه لاحقاً.

إشکالات ذکرها الشیخ

إشکالات ذکرها الشیخ(2)

وهی ترجع إمّا إلی عدم المقتضی وإمّا إلی وجود المانع.

ما یتعلّق بالمقتضی:

إنّ أمر الإمام بأن یؤتی بالرکعة لا یخلو من حالین، فإمّا هی متّصلة بالثلاث وإمّا هی منفصلة عنها. فإنْ أُتی بها متّصلةً، دلّت الصّحیحة علی الإستصحاب، لأنّه أصل محرز _ والأُصول المحرزة تقوم مقام العلم _ فلو کان عالماً بعدم مجیء الرکعة الرابعة کان علیه الإتیان بها متّصلة، فالإستصحاب یدلّ علی ذلک کذلک.

لکنّ هذا خلاف ضرورة المذهب، لأنّها قائمة علی الإتیان بالرکعة

ص: 80


1- 1. وسائل الشیعة 8 / 216، الباب 10 من أبواب الخلل فی الصّلاة، رقم 3.
2- 2. فرائد الأُصول 3 / 62.

المشکوک فیها منفصلةً لا متّصلة.

إذنْ، لابدّ من حمل «الیقین» فی الصّحیحة علی الیقین بالفراغ والبراءة، لأنّ الإشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیّة، فیأتی بها منفصلةً، فإن کانت الصّلاة ناقصة تمّت وإلاّ کانت الرکعة نافلةً، وهذه هی رکعة الإحتیاط.

إذن، سقط الإستدلال.

مضافاً إلی أن الفقهاء عامةً إستفادوا من الصّحیحة قاعدة الیقین.

ویشهد بذلک: أنّ الإمام علیه السّلام أجاب عن السؤال بالشک فی الرکعتین الأولیین بین الإثنین والأربع بالإتیان بالرکعتین مع فاتحة الکتاب، أمّا فی السّؤال عن الشک بین الثلاث والأربع، فإنّها إن کانت الرکعة متّصلةً لکان مخیّراً بین الفاتحة والتسبیحات، والتخییر لا یجتمع مع الإستصحاب، بل الفاتحة تجتمع مع المنفصلة.

مضافاً إلی أنّ فی موثقة عمّار من أخبار باب الشک فی عدد الرکعات «إذا شککت فابنِ علی الیقین. قال: هذا أصل؟ قال: نعم».(1) والیقین فیها هو الیقین بالبراءة، والأخبار یفسّر بعضها بعضاً.

ما یتعلّق بالمانع

بعد التنزّل عمّا ذکر، فإنّه إن کانت الصّحیحة تتعلّق بالإستصحاب، وجب الإتیان بالرکعة متصلةً، وهذا (أوّلاً) ینافی المشهور من الروایات فی الباب، ویقع التعارض، ولابدّ من الأخذ بالمشهور بین الأصحاب. (وثانیاً) الصّحیحة موافقة للعامّة، فأصالة الجهة فیها غیر تامّة.

ص: 81


1- 1. وسائل الشیعة 8 / 212، الباب 8 من أبواب الخلل فی الصّلاة، رقم 3.

ومقتضی الدقة فی المقام، إرجاع الإشکال إلی مقام المقتضی، فإنّه مع عدم تمامیّة جهة (الجهة) لا مقتضی للصحّة حتّی یقع التعارض والترجیح بالشهرة.

الکلام علی الإشکالات

1 _ ذکر الشیخ: أنّ أمر الإمام بالإتیان الرکعتین بفاتحة الکتاب یشهد بکونهما مفصولتین، وهذا قرینة علی أنّ المراد قاعدة الیقین.

وفیه: إنّ التکلیف فی الرکعتین الموصولتین هو التخییر، فلعلّ الإمام ذکر أحد فردی التخییر، ولم یکن مراده القراءة بالفاتحة تعییناً.

سلّمنا، لکنّ عدم ذکر الإمام التشهد والتسلیم ظاهر فی کونهما موصولتین، لأنّ الرکعة المفصولة إنّما تکون بعد التشهد والتسلیم، وعدم ذکر الإمام ذلک یشهد بکونهما متّصلتین، فیقع التعارض بین ظهور إشتمال الصّدر علی القراءة بالفاتحة، وظهور عدم إشتمال الذیل علی التشهد والتسلیم.

فإن قلنا: لمّا کان المقام مقام العمل، فالقرینة فی الذیل مقدّمة علی القرینة فی الصّدر، فالظهور یستقر علی الرکعة الموصولة. وإن لم نقل، فالصّحیحة مجملة.

2 _ إستشهد الشیخ بفهم الأصحاب.

وفیه: إنّ الذی إستظهر من الصّحیحة قاعدة الیقین فیما نعلم، هو (السیّد المرتضی) وأمّا غیره، فلا علم لنا بآرائهم فی معنی الصّحیحة، فلعلّهم یقولون بدلالتها علی الإستصحاب کما سیأتی.

3 _ قال: إن وزان هذه الصّحیحة وزان موثّقة عمّار، فکما أن «الیقین» هناک هو الیقین بالبراءة لا الیقین فی الإستصحاب، کذلک هنا.

ص: 82

وبعبارة أُخری: نحمل الصّحیحة علی «الیقین» بالبراءة بقرینة موثّقة عمّار.

وفیه:

أوّلاً: لقائل أن یقول: لماذا لا یکون العکس، بأن نرفع الید عن ظاهر الموثّقة بظاهر الصّحیحة؟

وثانیاً: مقتضی القاعدة هو النظر فی کلّ روایةٍ علی حدة. نعم، لو کانت (الموثّقة) متّصلةً (بالصّحیحة) لکان لما ذکر وجه.

4 _ قال: إن الصّحیحة إن حملت علی (الیقین بالبراءة) لکان (أصالة الجهة) محفوظةً. أمّا بناءً علی ظهورها فی (الإستصحاب) فلابدّ من حملها علی (التقیّة).

وفیه:

إنّ معنی (أصالة الجهة) هو حمل کلام المتکلّم علی الجدیّة عند الشک، أی: إنّه إذا شککنا هل مراده هو المعنی المستعمل فیه اللّفظ أو غیره؟ فإن الأصل هو إرادة المعنی المستعمل فیه، وأنّ الإرادة الجدیّة لم تتخلّف عن الإرادة الإستعمالیّة، والدلیل علی هذا الأصل هو البناء العقلائی.

وعلیه، فالحمل علی التقیّة _ یعنی عدم إرادة المعنی المستعمل فیه جدّاً _ یحتاج إلی القرینة.

أمّا لو کان المعنی المستعمل فیه معلوماً، فتردّد بین معنیین، فلا أصل لتعیین المراد الجدّی فی أحدهما، وما نحن فیه من هذا القبیل.

وفیما نحن فیه: لفظ «الیقین» تردّد بین «الیقین» المقصود فی باب (الإستصحاب) و(الیقین) المقصود فی (الیقین بالبراءة). فالمعنی الموضوع له

ص: 83

اللّفظ والمستعمل فیه معلوم، لکنّ المراد الجدّی تردّد بین الأمرین، فما هو الأصل؟ لا یوجد أصل فی المقام، والقضیّة خارجة عن موارد الحمل علی التقیّة.

وهذا هو الجواب عمّا ذکره الشیخ.

وأشکل صاحب الکفایة(1) علی المطلب الأخیر وهو الحمل علی التقیّة بما حاصله:

إنّ المقام من صغریات الإستصحاب، ومقتضی إطلاق دلیله وجوب الإتیان بالرکعة، إلاّ أنّه یتقیّد بالنصوص الواردة فی أنّ الرکعة لابدّ من الإتیان بها منفصلةً، خلافاً للعامّة.

أجاب السیّد الخوئی:(2) إنّ الصّحیحة إذا کانت محمولةً علی الإستصحاب تکون النسبة بینها وبین النصوص نسبة التباین لا الإطلاق والتقیید، فیعود إشکال الشیخ.

توضیح ذلک: إن مفاد (لا تنقض) هو عدم الإتیان بالرکعة الرابعة یقیناً کما تقدّم، فیجب الإتیان بها متّصلةً، لکنّ النصوص صریحة فی وجوب الإتیان بها منفصلة، وبین الإتصال والإنفصال تباین.

ویمکن الجواب عن ذلک: بأن ملاک التباین هو: أن یتّصل الخبران المنفصلان أحدهما بالآخر، فإن حصل التنافی بینهما فهما متباینان، وإن أصبح أحدهما قرینةً علی الآخر فلا تباین، کما هو الحال فی: أکرم العلماء، ولا تکرم الفسّاق من العلماء، وإذا لم یکن التنافی فی حال الإتصال فهو غیر موجود فی حال الإنفصال بالضرورة.

ص: 84


1- 1. کفایة الأُصول: 396.
2- 2. مصباح الأُصول 3 / 74.

وهنا لو وصلنا الصّحیحة بنصوص الإحتیاط یکون الحاصل: لا تنقض الیقین بالشک، فیجب الإتیان بالرکعة المشکوک فیها منفصلة عن الرکعات الثلاث.

والحاصل: إنّ الصّحیحة تفید وجوب الإتیان، والنصوص تفید کیفیّة الإتیان، فهی فی الحقیقة شارحة للصّحیحة، لا منافیة لها.

وهذا تمام الکلام علی إشکالات الشیخ، وقد ظهر عدم ورود شیء منها.

إشکالان للمحقق العراقی
اشارة

إشکالان للمحقّق العراقی(1)

الأوّل

إن عدم جریان الإستصحاب فی رکعات الصّلاة إنّما هو علی القواعد ولو لم یکن لنا أدلّة خاصّة بالبناء علی الأکثر فی الشکوک الصّحیحة، وذلک بوجوب التشهد والتسلیم فی الرکعة الرابعة، وفی الشک بین الثلاث والأربع یفید الإستصحاب عدم الإتیان بالرابعة، وبعد الإتیان برکعةٍ أُخری لا سبیل إلی إثبات کونها هی الرابعة لیقع التشهد والتسلیم فیها إلاّ البناء علی القول بالأصل المثبت.

توضیحه:

إنّ مفاد الإستصحاب هو (لیس التامّة) أی: إنّ الرکعة الرابعة لم تتحقّق، لکنّ الأثر مترتّب علی مفاد (لیس الناقصة). فالذی أفاد الإستصحاب عدم تحقّق الرابعة، والذی نریده رابعیّة الموجود، لأنّ التشهد والتسلیم یکونان فی الرکعة الرابعة. نعم، اللاّزم العقلی لعدم تحقّق الرابعة أن یکون المأتی به هو الرابعة، وهذا أصل مثبت.

ص: 85


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 60.

الجواب

وقد ردّ علیه السیّد الخوئی(1) بوجهین:

1 _ إنّه لا دلیل علی وجوب إیقاع التشهد والتسلیم فی الرکعة الرابعة بعنوانه حتّی نحتاج إلی إثبات کون هذه هی الرکعة الرابعة ... .

وفیه:

إنّه یوجد الدلیل علی ذلک، وهو معتبرة أبیبصیر وفیها: «فإذا جلست فی الرابعة فقل: بسم اللّه وباللّه، الحمد للّه، وخیر الأسماء للّه، أشهد أنْ لا إلآه إلاّ اللّه وحده لا شریک له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ... .(2)

فهی صریحة فی وجوب الإتیان بالتشهد والتسلیم فی آخر الرابعة.

2 _ وعلی تقدیر تسلیم قیام الدلیل علی وجوب إیقاع التشهد والتسلیم فی الرکعة الرابعة، فإنّه لا مانع من جریان الإستصحاب لولا الأخبار الخاصّة.(3)

أقول:

وهذا الجواب هو الصّحیح. وتوضیحه: لمّا یشک هل هذه هی الثالثة أو الرابعة، یستصحب عدم الإتیان بالرابعة، فیأتی برکعةٍ، فإذا رکع وسجد وجلس، یتیقّن بکونه فی الرابعة فیتشهد ویسلّم.

ص: 86


1- 1. مبانی الإستنباط: 31، مصباح الأُصول 3 / 73.
2- 2. وسائل الشیعة 6 / 393، الباب الثالث من أبواب التشهّد.
3- 3. المصدر 8 / 225 _ 226، الباب 15 من أبواب الخلل فی الصّلاة.
الثانی

وأشکل: بأنّ هذا الإستصحاب إستصحابٌ فی الفرد المردّد، وهو غیر جارٍ.

توضیحه: إنّ الذی یترتّب علیه الأثر الشرعی هو واقع الرکعة الرابعة لا مفهومها _ لأن الحکم الشرعی لا یترتّب علی المفهوم. أی: لیس المفهوم موضوعاً للحکم الشرعی _ والواقع هنا مردّد، لأن هذه الرکعة المشکوک فیها، إمّا هی الثالثة واقعاً، فالرابعة غیر متحقّقة واقعاً، وإمّا هی الرابعة، فهی متحقّقة. فالفرد الواقعی مردّد، والإستصحاب غیر جارٍ فی الفرد المردّد.

مثلاً: الموضوع للحکم بالإفطار هو غروب الشمس واقعاً، لا مفهوم الغروب، والغروب الواقعی إمّا هو إستتار القرص وإمّا زوال الحمرة. فلو إستتر القرص والزوال للحمرة غیر حاصل وشکّ فی تحقّق الغروب، لم یکن لاستصحاب مفهوم عدم الغروب أثر، فإن أرید إستصحاب الإستتار، فلا شک فیه حتّی یستصحب، وإن أرید إستصحاب زوال الحمرة، فلا شک فی عدم زواله.

وفیما نحن فیه: الموضوع المستصحَب هو واقع الرکعة الرابعة، فإن کانت الرکعة التی هو فیها هی الثالثة، فالرابعة غیر متحقّقة یقیناً، وإن کانت هی الرابعة فهی متحقّقة یقیناً.

وفیه:

إنّه لمّا یشکّ فی أنّه أتی بالرابعة أو لا؟ فإنّ نفس هذا الشک یکون موضوعاً للحکم الظاهری الشرعی بوجوب الإتیان بالرکعة، وهذه هی قاعدة الإشتغال، لأنّ مجرّد الشک موضوعٌ لهذه القاعدة، والمفروض تحقّق الشک، ومع جریانها

ص: 87

لا حاجة إلی الإستصحاب. هذا بالنسبة إلی الحکم الظاهری.

وأمّا الحکم الواقعی، فالموضوع له «من لم یأت بالرکعة واقعاً»، فإنّ تکلیفه واقعاً هو الإتیان بها. فإن لم یکن قد أتی بها، کان وجوب الإتیان بها حکماً واقعیّاً، وإن کان قد أتی بها، فلا وجوب واقعاً. وحیث أن ما بیده مردّد بین الثالثة والرابعة، فهو شاک بالوجدان فی أنّه أتی بالرابعة أو لا؟ وفی هذه الحالة یستصحب عدم الإتیان بالرابعة.

نظیر ما إذا تنجّس ثوبه یقیناً وتردّدت النجاسة بین البول والدم، فإن غسله مرّةً شک بالوجدان فی زوال النجاسة، لأنّه إن کان دماً فقد زال یقیناً وإن کان بولاً لم یزل یقیناً. وحینئذٍ، یستصحب بقاء النجاسة إتفاقاً.

ولا یقاس المقام بمسألة الشک فی الغروب، لأن المشکوک فیه هناک لیس الخارج، لأن الواقع فی الخارج لا شک فیه، إن کان الإستتار فواقع یقیناً، وإن کان زوال الحمرة فغیر واقع یقیناً، وموضوع الحکم الشرعی هو أحد الأمرین، وحیث لا شک فلا إستصحاب.

التحقیق

وبعد، فإنّ التحقیق عدم تمامیّة الإستدلال بالصّحیحة هذه لحجیّة الإستصحاب، لأن النصوص ثلاثة:

1 _ إذا شککت فخذ بالأکثر.

2 _ إذا شککت فاعمل علی الأکثر.

3 _ موثّقة عمار: إذا شککت فابنِ علی الأکثر.

ص: 88

وعلیه، فلو شک بین الثلاث والأربع یبنی علی الأربع، وهذا حکم تعبّدی، ومقتضی الإستصحاب فی الصّحیحة عدم البناء علی الأکثر. وحینئذٍ یلزم التعبّد _ فی عدم الإتیان بالرابعة _ بالمتنافیین، فالصّحیحة مجملة.

ولا یخفی أنّ المراد من «الیقین» فی «لا تنقض الیقین ...» هو الیقین الفعلی، لا الیقین الذی یحصل فیما بعد، حتّی یکون دلیلاً علی الیقین بالبراءة الحاصل بعد الإتیان برکعة الإحتیاط، فلولا إشکالنا المذکور، لما کان فی دلالة الصّحیحة علی الإستصحاب تأمّل، لاندفاع جمیع الإیرادات.

الروایة الرابعة: موثّقة إسحاق بن عمّار
اشارة

قال علیه السّلام:

إذا شککت فابنِ علی الیقین.

قلت: هذا أصل؟

قال: نعم.(1)

تقریب الإستدلال: إنّ الإمام علیه السّلام أمر بالبناء علی الیقین بالشیء متی شکّ فیه بعد الیقین فیه. وسؤال إسحاق: هذا أصل؟ إشارة إلی ما ورد عنهم علیهم السّلام فی الخطاب لأصحابهم: إنّما علینا إلقاء الأُصول وعلیکم التفریع.(2)

ص: 89


1- 1. وسائل الشیعة 8 / 212، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع فی الصّلاة، الرقم 2.
2- 2. المصدر: 27 / 62، الباب 6 من أبواب صفات القاضی وما یجوز أن یقضی به، الرقم 52.

فالبناء علی الیقین عند الشک أصلٌ من الأُصول التی تتفرّع منها الأحکام.

الإشکال علیه

وقد أشکل: بأن من موارد ذلک ما إذا شک هل أتی بالرکعة الرابعة أو لا؟ فإن مقتضی البناء علی الیقین أن یأتی بالرابعة متّصلة. فیرد علی الإستدلال بالموثّقة ما ورد علی الصّحیحة.

الجواب:

قد ذکرنا أنّ مقتضی الإستصحاب هو الإتیان بالرابعة. أمّا أن تکون متّصلة؟ فلا دلالة علی ذلک. فالصّحیحة مطلقة ویقیّد إطلاقها بما دلّ علی وجوب الإتیان برکعة الإحتیاط منفصلةً. هذا أوّلاً.

وثانیاً: قد عرفت سقوط الإستدلال بالصّحیحة، للتناقض بینها وبین النصوص الأُخری.

وأمّا الموثّقة، فسالمة عمّا ورد علی الصّحیحة، لأنّها کانت فی خصوص الشک فی الرکعات، والموثّقة أصل عام کما عرفت، فالیقین فیها مطلق والشک مطلق، وإطلاقها فی مسألة الرکعات یتقیّد بالنصوص الأُخری.

والحاصل:

إنّ الموثّقة دلیل علی الإستصحاب لوجهین:

الأوّل: إطلاقها بالنسبة إلی الشک فی الرکعات وغیره.

والثانی: ما تقدّم من أنّ ظاهر عنوان «الیقین» هو الیقین الفعلی، وهذا ظاهر فی الإستصحاب، لأن (الیقین) بالبراءة، لیس فعلیّاً، وإنّما یحصل بعد تحقّق

ص: 90

العمل، مثل الإتیان برکعة الإحتیاط عند الشک فی الرکعات.

فدلالة الموثّقة علی الإستصحاب تامّة.

الروایة الخامسة: روایة الخصال
اشارة

قال علیه السّلام:

«من کان علی یقینٍ فشکّ، فلیمض علی یقینه، فإنّ الیقین لا ینقض بالشک»(1) أو «من کان علی یقین فأصابه شک فلیمض علی یقینه، فإنّ الیقین لا یدفع بالشک».(2)

والکلام فیها سنداً ودلالةً.

سند الروایة

قال الشیخ: لکنّ سند الروایة ضعیفٌ بالقاسم بن یحیی، لتضعیف العلاّمة له فی الخلاصة، وإن ضعف ذلک بعض باستناده إلی تضعیف ابن الضغائری المعروف عدم قدحه. فتأمّل.(3)

وقال السیّد الخوئی: إنّ الروایة ضعیفة غیر قابلة للإستدلال بها، لکون قاسم بن یحیی فی سندها وعدم توثیق أهل الرجال إیّاه، بل ضعّفه العلاّمة. وروایة

ص: 91


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 246، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الرقم 6.
2- 2. المستدرک 1 / 228.
3- 3. فرائد الأُصول 3 / 71.

الثقات عنه لا یدلّ علی التوثیق علی ما هو مذکور فی محلّه.(1)

أقول:

قد وقع الکلام فی آراء العلاّمة فی الرجال من جهات:

1 _ کونه من المتأخّرین، فآراؤه حدسیّة.

2 _ کونه یقول بأصالة العدالة.

3 _ إعتماده فی التضعیفات علی ابن الغضائری، وهو غیر معتمد.

فأجاب شیخنا عن الوجهین الأوّلین فی بحث الفقه، واختار الإعتماد علی أقوال العلاّمة. وأمّا الوجه الثالث، فذکر أنّ سبب الإشکال فی تضعیفات ابن الغضائری هو عدم ثبوت نسبة الکتاب إلیه، لکنّ النسخة کانت موجودةً عند العلاّمة.

ولکنّ غیر واحدٍ من الأعلام کالمیرزا والعراقی لم یتعرّضوا للسّند، ممّا یدلّ علی قبولهم الرّوایة.

وصاحب الکفایة وإن ضعّف القاسم قال: إنّ ضعف سند الروایة لا یضرّ بالإستدلال بها بعد وقوع مورد الإستدلال منها فی الصّحاح ... .(2)

وأمّا شیخنا الأُستاذ، فقد أفاد أنّ الشیخ الصّدوق(3) قد وثّق القاسم بن یحیی، حیث قال فی زیارة من زیارات الإمام الحسین علیه السّلام مرویّة بواسطته بأنّها أصحّ الزیارات. وعلی هذا، فإن هذا التوثیق یتقدّم علی تضعیف العلاّمة، بعد سلامته من الإشکالین المذکورین.

ص: 92


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 79.
2- 2. درر الفوائد: 312.
3- 3. من لا یحضره الفقیه: 2 / 598.

أقول:

اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنّ تصحیح الصّدوق تلک الزیارة لا یدلّ علی وثاقة الرّاوی، لکونه بمعنی الوثوق بالصّدور، کما هو مصطلح قدماء الأصحاب، فیبقی تضعیف العلاّمة علی حاله.

دلالة الروایة

ثمّ إنّه قد وقع الکلام فی دلالة الروایة علی الإستصحاب، فقد أشکل الشیخ:(1)

بأنّ الروایة فی مورد (قاعدة الیقین) لا (الإستصحاب). وتوضیح الفرق بین القاعدتین هو:

إنّه یعتبر فی (الإستصحاب) وجود (الیقین) و(الشک) وتقدّم (المتیقَّن) علی (المشکوک) فی الزمان، فالمتیقّن حدوث الشیء والمشکوک فیه بقاؤه، أمّا نفس (الیقین) و(الشک) فلا یشترط الإختلاف الزمانی بینهما، بل یمکن أن یکونا فی زمانٍ واحد، أو یتقدّم الشک علی الیقین. بل المهمّ فی الإستصحاب هو الإختلاف زماناً بین المتیقَّن والمشکوک.

أمّا فی قاعدة الیقین، فیعتبر الإتّحاد بین المتیقَّن والمشکوک فیه من حیث الزمان، والإختلاف بین الیقین والشک من حیث الزمان، وذلک، لأنّه إن کان المتیقَّن متّحداً مع المشکوک فیه إستحال إتّحاد زمان الشک والیقین، إذ لا یعقل أن یکون الشیء الواحد متیقَّناً ومشکوکاً فیه معاً.

ص: 93


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 69.

مثاله: ما إذا تیقّن بعدالة زید فی یوم الجمعة، ثمّ شکّ فی عدالته فی نفس یوم الجمعة، فهذا هو قاعدة الیقین. أمّا فی الإستصحاب، فإنّه یشک فی یوم السّبت فی بقاء العدالة، فکان زمان المشکوک والمتیقّن واحداً فی قاعدة الیقین ومختلفاً فی الإستصحاب.

إذا عرفت هذا الفرق:

فقد أشکل الشیخ: بأنّ الروایة فی مورد (قاعدة الیقین) لا الإستصحاب، وذلک:

لأنّ الروایة: من کان علی یقینٍ، فشکَّ، ... وقد جاءت کلمة «کان» و«فشکّ» بصیغة (الماضی) ومدلول هذه الصیغة هی النسبة التحقّقیّة، وهذه النسبة تلازم الزمان الماضی، فهی ظاهرة فی تحقّق (الیقین) سابقاً.

هذا من جهةٍ.

ومن جهةٍ ثانیة: إن «الفاء» هنا تقیّد الترتّب والتفرّع، فمدخولها متفرّع علی ما قبلها.

وعلی هاتین الجهتین: تکون الروایة فی مورد (قاعدة الیقین) لأن موردها أن یتحقّق الیقین ثمّ الشکّ فالزمان مختلف، لکن زمان المتیقَّن متّحد مع زمان المشکوک فیه.

وهنا جهة ثالثة وهی: إنّ کلمة «النقض» إنّما تستعمل حیث یکون متعلَّق الیقین والشک (واحداً)، فلو اختلفا لم یصدق عنوان (النقض) فی صورة المخالفة مع الیقین.

ومن هنا قال العلماء بأنّ تطبیق «لا تنقض ...» علی موارد الإستصحاب تعبّدی، لعدم تحقّق مفهوم النقض فیه حقیقةً.

ص: 94

الأجوبة عن إشکال الشیخ

ثمّ إنّه وإن عدل الشیخ عن الإشکال، وذکر(1) أنّ الإنصاف دلالة الروایة علی الإستصحاب، ولکن قد اهتمّ المتأخّرون عنه بالإشکال المذکور وأجابوا عنه بوجوه:

الوجه الأوّل

ما ذکره صاحب الکفایة حیث قال:(2) وهو وإن کان یحتمل قاعدة الیقین لظهوره فی إختلاف زمان الوصفین، وإنّما ذلک فی القاعدة دون الإستصحاب ضرورة إمکان إتّحاد زمانهما. إلاّ أن المتداول فی التعبیر عن مورده هو مثل هذه العبارة، ولعلّه بملاحظة إختلاف زمان الموصوفین وسرایته إلی الوصفین، لما بین الیقین والمتیقّن من نحوٍ من الإتّحاد.

وحاصله: إنّ المتیقَّن والمشکوک یکونان فی الإستصحاب فی زمانین، لأنّ المتیقَّن هو حدوث الشیء والمشکوک فیه بقاؤه، لکنّ الیقین متّحد مع المتیقَّن والشک متّحد مع المشکوک فیه. وإن شئت فقل: إنّ الیقین فانٍ فی المتیقّن والشک فانٍ فی المشکوک فیه، فیسری إختلاف زمان الموصوفین إلی الوصفین، وصحّ أن یقال: من کان علی یقینٍ فشکّ.

وفیه:

لکن یرد علیه: إنّه وإن کان الیقین والشک صفتین نفسانیّتین لا ینظر إلیهما إلاّ بالنظر الطریقیّ، لکونهما فانیین فی المتیقَّن والمشکوک کما تقدّم، وکذلک

ص: 95


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 70.
2- 2. کفایة الأُصول: 397.

العلم والظنّ. إلاّ أنّ هذه الجهة لا توجب رفع الید عن ظاهر اللّفظ المجعول موضوعاً لحکمٍ من الأحکام، لأنّه فی هذه الحالة یکون ملحوظاً علی نحو الإستقلال، کما فی: إذا علمت فاشهد وإذا کنت شاکّاً فلا، وکما فی: لا تتّبع الظنّ.

وما نحن فیه من هذا القبیل، فالإمام علیه السّلام لمّا قال: من کان علی یقینٍ فشکّ فلیمض علی یقینه، قد أخذ الیقین والشک علی نحو الموضوعیّة، وحمله علی الطریقیّة بلا وجه.

الوجه الثانی

ما ذکره غیر واحدٍ(1) عن السیّد المیرزا الشیرازی: من أنّ الأصل فی الزمان هو الظرفیّة، وحمل ما کان کذلک علی القیدیّة یحتاج إلی المؤنة.

وفیما نحن فیه: الشک والیقین إنّما یکونان فی الزمان، وحملهما علی القیدیّة _ کما فی قاعدة الیقین _ خلاف الأصل. إنّ الشک فی القاعدة یسری إلی الیقین السّابق، أمّا فی الإستصحاب، فإنّه یطرأ فیما بعد ولا یسری.

والحاصل: إنّه لابدّ من أن یکون «کان علی یقینٍ» ظرفاً کما هو مقتضی الأصل، فیکون الروایة دلیلاً علی الإستصحاب، ولیس قیداً حتّی یکون من أدلّة قاعدة الیقین.

وفیه:

ویرد علیه: إنّه لیس الزمان فی القاعدة قیداً، بل هو ظرف کذلک. وبعبارة

ص: 96


1- 1. أجود التقریرات 4 / 55، مصباح الأُصول 3 / 78.

أُخری: لیست القاعدة متقوّمةً بقیدیّة الزمان، بل قوامها الإتّحاد بین المتیقَّن والمشکوک، بخلاف الإستصحاب.

الوجه الثالث

ما ذکره المحقّق العراقی(1) من أنّ «کان» و«الفاء» کما یستعملان فی السّبق واللّحوق الزمانی، کذلک یستعملان فی السّبق واللّحوق الذاتی والسّبق واللّحوق الرتبی، کما یقال: کانت العلّة فتحقّق المعلول.

وفیه:

ویرد علیه: صحیحٌ أنّ السّبق واللّحوق فی الروایة _ حیث قال: من کان علی یقین فشکّ فلیمض علی یقینه _ لیس زمانیّاً، بل قد حکم بالمضیّ علی الیقین، وتأخّر الحکم عن الموضوع رتبی لا زمانی. لکنّ مراد الشیخ شیء آخر، إنّه یقول: بأنّ «کان» فعل ماضٍ یدلّ علی النسبة التحقّقیّة، فإن کانت هذه النسبة فی الزمانیّات استلزمت التقدّم والتأخّر الزمانی، وإن کانت فی غیر الزمانیّات مثل الخبر: «کان اللّه ولم یکن معه شیء»(2) إنسلخت عن الزمان، وکان التقدّم والتأخّر ذاتیّاً. وفی الروایة: «من کان علی یقین» یکون فی الزمان، و«الفاء» وردت علی الشک. ومن المعلوم أنّ النسبة بین الیقین والشک لیس نسبة العلّة والمعلول حتّی یکون التقدّم والتأخّر ذاتیّاً، ولا نسبة الحکم إلی الموضوع، حتّی یکون رتبیّاً، فهو _ لا محالة _ زمانی، وهو فی مورد قاعدة الیقین.

ص: 97


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 63.
2- 2. الفصول المهمّة فی أُصول الأئمّة 1 / 154.

الوجه الرابع

ما ذکره المحقّق العراقی _ وأخذه السیّد الخوئی _ وهو الجواب الصّحیح.

وذلک: إنّ الأصل فی العناوین هو الفعلیّة، فإذا قیل: أکرم العلماء، کان المراد هو العالم بالفعل لا من کان أو سیکون، وعلیه، فإنّ «من کان علی یقینٍ فشک فلیمض علی یقینه» ظاهر فی الیقین الفعلی، لا أنّه کان فی وقتٍ من الأوقات علی یقینٍ فشکّ، وحینئذٍ، یکون ظاهراً فی الإستصحاب، لأن الیقین فی قاعدة الیقین زائل بسرایة الشک إلیه، ولولا فعلیّة الیقین لم یصح أن یقول فلیمض علی یقینه.

ویؤیّد ذلک، ورود نفس العبارة فی سائر النصوص الدالّة عل الإستصحاب، فإنّ المدار فی تلک النصوص هو الوحدة العرفیّة بین متعلّقی الیقین والشک.

وتلخّص: تمامیّة الإستدلال بروایة الخصال وإندفاع الإشکال دلالةً.

الروایة السادسة: مکاتبة الکاشانی
اشارة

روی الصفّار عن علی بن محمّد القاشانی قال:

کتبت إلیه _ وأنا بالمدینة _ أسأله عن الیوم الذی یشکّ فیه من رمضان، هل یصام أم لا؟

فکتب علیه السّلام: الیقین لا یدخل فیه الشک، صُم للرؤیة وأفطر للرؤیة».(1)

ص: 98


1- 1. وسائل الشیعة 10 / 255، الباب الثالث من أحکام شهر رمضان، رقم 13.

قال الشیخ:(1) والإنصاف أن هذه الروایة أظهر ما فی هذا الباب من أخبار الإستصحاب، إلاّ أن سندها غیر سلیم.(2)

الکلام فی الدلالة

توضیح المطلب وتقریب الإستدلال هو: إنّ السؤال عن حکم یوم الشکّ، وکان جواب الإمام أنّ الیقین لا یدخل فیه الشک، وهذه قاعدة عامّة، وقد فرّع عنها: صم للرؤیة وأفطر للرؤیة. ولا یخفی أنّ یوم الشک قد یکون آخر شعبان حیث یشک فی دخول رمضان، فیستصحب عدم دخوله فلا یصوم. وقد یکون آخر رمضان، حیث یشک فی خروج رمضان، فیستصحب بقاء شهر رمضان فیصوم.

ووجه أظهریّة هذه الروایة من غیرها هو: أنّ «اللاّم» فی صحیحة زرارة مثلاً: «لا ینقض الیقین بالشک» یحتمل أن تکون للعهد، أی الیقین بالوضوء خاصّة فلا تکون الصّحیحة قاعدة کلیّة. وفی صحیحته الأُخری _ فی الشک فی عدد الرکعات _ کان یحتمل أن یکون المراد من «الیقین» هو الیقین بالفراغ من الصّلاة والبراءة، فلا تدلّ علی الإستصحاب. وفی الموثّقة احتمل کون المراد قاعدة الیقین.

أمّا هذه الروایة، فلا یتوجّه إلیها شیء من الإحتمالات. مضافاً إلی أنّ الإمام قد أعطی فی الجواب قاعدة کلیّةً، وقد کان بإمکانه أن یجیب بقدر السؤال فی خصوص صوم یوم الشک ویقول: صم للرؤیة وأفطر للرؤیة.

ص: 99


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 71.
2- 2. المصدر.
الإشکال علی الإستدلال

أورد علی الإستدلال بوجهین:

(الأوّل) من الکفایة وتبعه المیرزا، وهو یرجع إلی ناحیة المقتضی، قال:(1)

وربّما یقال: إنّ مراجعة الأخبار الواردة فی یوم الشک یشرف القطع بأنّ المراد بالیقین هو الیقین بدخول شهر رمضان، وأنّه لابدّ فی وجوب الصّوم ووجوب الإفطار من الیقین بدخول شهر رمضان وخروجه، وأین هذا من الإستصحاب.

الجواب

ویجاب عن هذا الإشکال بوجهین:

أحدهما: إنّ المراد من «الیقین» و«الشک» هو الیقین والشک الفعلیّان، ومن شکّ فی أن هذا الیوم من شعبان، و من رمضان، من رمضان أو من شوال، فهو علی یقین فعلاً بعدم دخول رمضان وبقاء شعبان وببقاء رمضان وعدم دخول شوال، وهذا الیقین یوافق الإستصحاب.

والثانی: ما ذکره السیّد الخوئی:(2) من أنّ ما أفاده صاحب الکفایة لا ینطبق علی آخر الروایة، وهو تفریع الإمام علیه السّلام بقوله: صم للرؤیة وأفطر للرؤیة. (قال) لأنّه لو کان عدم إدخال الیوم المشکوک فیه فی رمضان لما کان التفریع بالنسبة إلی «وأفطر للرؤیة» صحیحاً ... .

ص: 100


1- 1. کفایة الأُصول: 379، أجود التقریرات 4 / 57.
2- 2. مصباح الأُصول 3 / 80.

وبالجملة، فإنّ نتیجة الإشکال عدم وجوب الصّوم فی الیوم المشکوک کونه من رمضان أو شوّال، وهذا باطل، لوجوب صومه بالضّرورة، وهذا هو مقتضی الإستصحاب. کما کان الواجب عدم وجوب الصّوم فی الیوم المشکوک کونه من شعبان أو رمضان.

ثمّ إنّ المیرزا أضاف: بأنّ قوله علیه السّلام: «الیقین لا یدخله الشک» یناسب قاعدة الیقین بالنسبة إلی شهر رمضان. أمّا فی الإستصحاب فالتعبیر هو عدم نقض الیقین بالشک.

وفیه: إنّ التعبیر المذکور وارد فی صحیحة زرارة الثالثة أیضاً. علی أنّه لا فرق لغةً بین «النقض» و«لا یدخل».

(الثانی) من المحقّق العراقی، وهو یرجع إلی ناحیة المانع، قال ما حاصله:(1)

إنّ هذا الإستصحاب، أی: إستصحاب بقاء شعبان، وإستصحاب بقاء رمضان ... أصل مثبت، لأنّ الأثر الشرعی _ وهو وجوب الصّوم فی رمضان _ مترتّب علی شهر رمضان، لکنّ إستصحاب بقاء شهر رمضان لا یفید وقوع الصّوم فی رمضان إلاّ علی الأصل المثبت، لأن اللاّزم العقلی لبقاء شهر رمضان وقوع صوم یوم الشک فی شهر رمضان.

وبعبارة أُخری: إن نتیجة الإستصحاب هو: إن شهر رمضان باق وشهر شوال لم یدخل. وهذا مفاد کان التامّة ولیس التامّة، لکنّ الأثر یترتّب علی مفاد کان الناقصة: هذا الیوم من رمضان. وهذا لازمٌ عقلی للإستصحاب.

ص: 101


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 65.

الجواب

والجواب عن هذا الإشکال یتمّ بالنظر إلی کلمات المحقّق العراقی نفسه، وذلک إنّه _ فی التنبیه الرابع من تنبیهات الإستصحاب(1) _ ینصُّ علی أنّه لا حاجة فی وجوب الصّوم إلی ظرفیّة رمضان له، بل تکفی المعیّة فی الوجود بین الصّوم ورمضان.

فما ذکره هنا یناقض کلامه هناک.

هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّه یقول فی ذیل کلامه هناک بجواز التمسّک بالإستصحاب حتّی علی القول بلزوم الظرفیّة بأن یقال إذا شک فی الزمان: إن هذا الصّوم الواقع فی یوم الشکّ لو کان واقعاً فی الیوم السّابق علیه لکان من صوم شهر رمضان، فالآن أیضاً کذلک.

أقول:

أمّا الوجه الثانی، فمبنیّ علی جریان الإستصحاب التعلیقی، وسیأتی الکلام علی حجّیة الإستصحاب التعلیقی وعدم حجّیته، وأنّه بناءً علی الحجّیة هل هو حجّة فی الأحکام فقط أو فیها وفی الموضوعات؟

لکنّ المحقّق العراقی قائل بالحجّیة. فیقع التناقض بین کلامیه.

والتحقیق: أنّ الإستصحاب التعلیقی غیر جارٍ، لا فی الأحکام ولا فی الموضوعات، ویبقی الوجه الأوّل.

والذی فی أکثر النصوص فی الأبواب المختلفة «صیام شهر رمضان». إلاّ أنّ

ص: 102


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 155.

فی خبر الصّدوق فی العلل عن الرضا علیه السّلام «صیام فی شهر رمضان».(1) وبینهما _ فی بدو النظر _ تعارض، ویکون «صیام شهر رمضان» هو الموافق للکتاب فی قوله: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ ».(2) لکنّ الصّحیح أنّ النسبة هی الإطلاق والتقیید، فتلک تفید وجوب صوم شهر رمضان، وروایة العلل تفید الخصوصیّة، وتکون النتیجة: ضرورة وقوع الصّوم فی شهر رمضان _ بمفاد کان الناقصة _ وحینئذٍ، یکون إستصحاب بقاء شهر رمضان بالنسبة إلی وقوع الصّوم فی شهر رمضان أصلاً مثبتاً. فیتمّ إشکال المحقّق العراقی، لعدم حجّیة الأصل المثبت.

لکنّ الصّحیح هو النظر فی مدلول النصوص، لیظهر هل المعتبر وقوع الصّوم فی شهر رمضان بمعنی الظرفیّة، أو أنّ الموضوع مرکّب من الصّوم ومن شهر رمضان، ویکفی إجتماع الأمرین فی الوجود؟ والتحقیق هو الثانی، لأن الأدلّة الدالّة علیه معتبرة بلا کلام، وأمّا روایة العلل المشتملة علی «فی»، فهی مخدوشة سنداً. علی أنّه وإن کان الصّدر مشتملاً علی ذلک، لکنّ فی الذیل «صوم شهر رمضان»، فیحمل الصّدر بقرینة الذیل علی عدم القیدیّة للظرف. بل إنّ أهل العرف متی أرادوا الکلام عن الأمر الزمانیّ عبّروا بالظرف، وحینئذٍ، تکون نصوص شهر رمضان سالمةً عن المعارض.

هذا، مضافاً إلی أن النسبة بین الشیئین تارةً: تکون نسبة العرض إلی الجوهر، بأن یکون أحدهما قائماً بالآخر، والأصل الأوّلی فی ذلک هو مفاد کان الناقصة،

ص: 103


1- 1. بحار الأنوار 93 / 370.
2- 2. سورة البقرة، الآیة 185.

فعدالة زید مثلاً قائمة بزیدٍ ویقال: زید عادل، لا أن هناک موضوعین بمفاد کان التامّة، أحدهما زید والآخر عدالته. والظاهر أن «الصّوم» و«شهر رمضان» من القبیل الثانی، إذ لیس أحدهما قائماً بالآخر، بل لکلٍّ منهما وجود مستقل، غیر أنّ الصّوم _ لمّا کان زمانیّاً _ لا یتحقّق بدون الزمان. وکذلک البیاض والجدار.

وعلی هذا، فإنّ إستصحاب بقاء الشهر یکفی للحکم بوجوب الصّوم، وکذلک إستصحاب بقاء الیوم یوجب الحکم بوجوب الصّلاة الیومیّة.

وتلخّص، إندفاع شبهة مثبتیّة الإستصحاب.

فلا إشکال فی دلالة المکاتبة علی الإستصحاب.

الکلام فی السند

ویبقی الکلام فی علی بن محمّد القاسانی، فأمّا النجاشی(1) فقال: کان فقیهاً. ثمّ نقل عن أحمد بن محمّد بن عیسی أنّه سمع منه أشیاء منکرة. ثمّ قال لم نجد فی أقواله وکتبه منکراً. وأمّا الشیخ،(2) فقد ضعّفه لما حکی عن أحمد بن محمّد بن عیسی وتبعه بعض الأکابر.

لکنّ صاحب کتاب نقد الرجال(3) حمل تضعیف الشیخ علی السّهو، فکأنّه إشتبه علی بن محمّد القاسانی برجلٍ آخر. فإن تمّ ذلک، بقی کلام النجاشی بلا معارض، کما أنّ العلاّمة وثّقه.

ص: 104


1- 1. رجال النجاشی: 255.
2- 2. رجال الشیخ: 388.
3- 3. نقد الرجال 3 / 272.

والأظهر وثاقته وفاقاً لشیخنا الأُستاذ، فإنّه لو تنزّلنا عمّا تقدّم واستقرّ التّعارض بین کلامی الشیخ والنجاشی، فالمقرّر عندهم تقدّم کلام النجاشی.

وهذا تمام الکلام علی المکاتبة.

کلام الشیخ فی نصوص الإستصحاب

وبعد الفراغ من ذکر النصوص المستدلّ بها للإستصحاب قال الشیخ:

هذه جملة ما وقفت علیه من الأخبار المستدل بها للإستصحاب، وقد عرفت عدم ظهور الصّحیح منها وعدم صحّة الظاهر منها. فلعلّ الإستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد.(1)

أقول:

فی هذه العبارة مطلبان، أحدهما: أن لا خبر من النصوص المذکورة بتامّ السّند والدلالة علی حجّیّة الإستصحاب. والآخر: جواز الإستدلال بمجموع الأخبار المذکورة باعتبار التجابر والتعاضد.

فأمّا الأوّل، فقد ظهر ممّا تقدّم وجود الروایة التامّة دلالةً والمعتبرة سنداً بین الروایات المذکورة، وکونها واردةً فی باب خاصّ کباب الطّهارة غیر مضرّ بالإستدلال، بعد اشتمالها علی القاعدة الکلیّة من أنّ الیقین لا ینقض بالشک.

وأمّا الثانی، فما هو مراده من هذا الکلام بعد دعوی عدم وجود خبرٍ صحیح السّند وتام الدلالة؟ کأنّه یرید جبر دلالة الصّحیح سنداً بتمامیّة دلالة الخبر

ص: 105


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 71.

غیر الصّحیح، وجبر سند الخبر التام دلالةً بصحّة سند الخبر غیر التامّ دلالةً. وبالجملة: أن یجبر کسر کلٍّ من السند والدلالة بتمامیّته فی الطرف الآخر. وهل هذا صحیحٌ؟

وقال تلمیذه المحقّق الآشتیانی: بأنّ مراده أنّ ضمّ الإحتمالات بعضها إلی البعض یفید الوثوق. وهذه قاعدة عقلیّة وعقلائیّة.(1)

ولکنّه خلاف ظاهر العبارة، علی أنّه یتوقّف علی وصول عدد الروایات إلی الحدّ المفید للوثوق لذلک. وبالجملة، فإنّه إن حصل الوثوق بالصّدور کان الوثوق به هو الدلیل علی المبنی، وإلاّ لزم التحقیق عن مراد الشیخ، فإنّه إذا تمّ الإستدلال بالمجموع من باب التجابر والتعاضد، فسیکون قاعدةً کبرویّة تفید فی موارد کثیرة فی الفقه والأُصول.

روایتان بضمیمة عدم الفصل
اشارة

ذکر الشیخ إحداهما وقال: فیها دلالة واضحة. واستدلّ المحقّق العراقی بالأُخری. إلاّ أنّ الإستدلال بهما للإستصحاب یتوقّف علی ثبوت عدم القول بالفصل.

کلام الشیخ

قال الشیخ: وربّما یؤیّد ذلک بالأخبار الواردة فی الموارد الخاصّة، مثل روایة عبداللّه بن سنان.(2)

ص: 106


1- 1. بحر الفوائد 6 / 273.
2- 2. فرائد الأُصول 3 / 72.

أقول:

قال عبداللّه بن سنان: سأل أبی أبا عبداللّه وأنا حاضر: إنّی أعیر الذمّی ثوبی وأنا أعلم أنّه یشرب الخمر ویأکل لحم الخنزیر فیردّه علیَّ، فأغسله قبل أن أُصلّی فیه؟

فقال أبوعبداللّه: صلّ فیه ولا تغسله من أجل ذلک، فإنّک أعرته إیّاه وهو طاهر ولم تستیقن أنّه نجّسه، فلا بأس أنْ تصلّی فیه حتّی تستیقن أنّه نجّسه.(1)

قال الشیخ: وفیها دلالة واضحة ... نعم، هی مختصة بإستصحاب الطهارة دون غیرها. ولا یبعد عدم القول بالفصل بینها وبین غیرها ممّا یشک فی إرتفاعه بالرافع.

الإشکال علیه

أشکل علیه المحقّق الخراسانی:(2) بأنّ الموضوع فی الخبر هو عدم الإستیقان بالنجاسة، فالموضوع هو الشک فی النجاسة، وإذا کان کذلک فالروایة تدلّ علی قاعدة الطهارة لا الإستصحاب.

الجواب

لکن یجاب عنه: بأنّ مقتضی الأصل هو التطابق بین مقامی الثبوت والإثبات، وکلام الإمام علیه السّلام مشتمل علی «لا تغسله من أجل ذلک» ثمّ التعلیل بقوله «فإنّک أعرته ...». ولو کان المراد قاعدة الطهارة لم تکن حاجة إلی التعلیل بما ذکر، بل کان تمام الموضوع «عدم الإستیقان». فمن مقام الإثبات یستکشف مقام الثبوت، وأنّ المقصود هو الإستصحاب.

ص: 107


1- 1. وسائل الشیعة 3 / 521، الباب 74 من أبواب النجاسات، الرقم 1.
2- 2. درر الفوائد: 312.
الإشکال الصّحیح

نعم، یرد علی الشیخ دعوی عدم القول بالفصل، فإنّ الفصل موجود، لخلاف السیّدین المرتضی وابن زهرة، لأنّهما یقولان بالإستصحاب إستناداً إلی الروایة، فی خصوص کتاب الطهارة فقط.

سلّمنا، لکنّ قول بعض الفقهاء بالإستصحاب فی سایر الأبواب الفقهیّة هو من باب إفادة الظن، وبعضهم یقولون بذلک من باب بناء العقلاء، فلیسوا مجمعین علی کونه من باب الأخبار.

کلام المحقّق العراقی

وقال المحقّق العراقی(1) بدلالة الخبر:

عن ابن بکیر عن أبیه قال قال لی أبوعبداللّه علیه السّلام: إذا استیقنت أنّک قد أحدثت فتوضّأ. وإیّاک أن تحدث وضوءً أبداً حتّی تستیقن أنّک قد أحدثت.(2)

قال: یدلّ علی الإستصحاب بضمیمة عدم الفصل بین الوضوء وغیره.

ولا یخفی أنّ النهی متعلِّق بإحداث الوضوء لا بتجدید الوضوء، فإنّ الوضوء علی الوضوء نور علی نور.

الإشکال علیه

ویرد علیه ما تقدّم علی إستدلال الشیخ، فإنّ السیّدین مخالفان فی المسألة.

ص: 108


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 66.
2- 2. وسائل الشیعة 1 / 247، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، رقم 7.

ویرد علی إستدلالهما معاً وجه آخر، وهو: إنّ القضیّة فی کلتا الروایتین شبهة موضوعیّة، والإستصحاب فی الشبهات الموضوعیّة قاعدة فقهیّة، وهو فی الشبهات الحکمیّة مسألة أُصولیّة، ومن الفقهاء من لا یری جریان الإستصحاب فی الشبهات الحکمیّة. کما سیأتی فی محلّه إن شاء اللّه.

روایات أُخری
اشارة

واستدلّ جماعة من الأکابر کصاحبی الفصول والکفایة(1) بأخبار قاعدة الطهارة، مثل قوله علیه السّلام: «کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فلیس علیک ...».

وهذه الروایة مطلقة.

وقوله علیه السّلام: «الماء کلّه طاهر حتّی یعلم أنّه قذر».(2)

وهذه فی خصوص الماء.

وبأخبار قاعدة الحلّ کقوله علیه السّلام: «کلّ شیء لک حلال حتّی تعرف أنّه حرام».(3)

الإحتمالات فی هذه الروایات

وقد ذکروا لهذه الأخبار سبعة وجوه:

ص: 109


1- 1. الفصول الغرویّة: 373، کفایة الأُصول: 398.
2- 2. وسائل الشیعة 1 / 134، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، رقم 5.
3- 3. المصدر 17 / 87، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به.

الأوّل: أن یکون المراد الأحکام الواقعیّة للأشیاء.

الثانی: أن یکون المراد الطّهارة والحلیّة الظاهریّة لکلّ شیء شکّ فی طهارته وحلیّته.

الثالث: أن یکون المراد قاعدة الإستصحاب.

الرابع: أن یکون المراد الأعم من الطّهارة الواقعیّة والظاهریّة.

الخامس: أن یکون المراد الطّهارة الظاهریّة والإستصحاب.

السّادس: أن یکون المراد الطّهارة الواقعیّة والإستصحاب.

السّابع: أن یکون المراد الطّهارة الواقعیّة والطّهارة الظاهریّة والإستصحاب.

واختلفت أنظار الأعلام فی المراد من هذه الأخبار، واختار کلٌّ منهم وجهاً من الإحتمالات، ولا یخفی أنّ أربعة منها لها علاقة بمسألة الإستصحاب:

مختار المحقّق الخراسانی فی الحاشیة

فاختار المحقّق الخراسانی فی حاشیة الرسائل(1) الإحتمال السّابع، فالمجعول بها ثلاثة أحکام:

حکمٌ واقعی، وحکمٌ ظاهری وهو الإستصحاب وهو أصل محرز، وحکم ظاهری آخر وهو الطهارة، وهو أصل غیر محرز.

وتقریب ذلک: إن «کلّ شیء» له عموم أفرادی، فکلّ فردٍ من أفراد مفهوم «الشیء» محکومٌ بالطهارة الواقعیّة، و«الشیء» له إطلاق أحوالی، لأنّه تارة: مشکوک

ص: 110


1- 1. درر الفوائد: 312.

فیه من حیث الطهارة والنجاسة. وأُخری: غیر مشکوک فیه، وبهذا الإطلاق تُجعل الطهارة الظاهریّة. هذا بالنسبة إلی الصّدر.

وأمّا الذیل، فمفاده إستمرار الطهارتین، الواقعیّة والظاهریّة، حتّی العلم بالنجاسة.

ثمّ إنّه أفاد: بأنّ «کلّ شیء لک طاهر» مخصّص بلا ریب، لأن البول مثلاً نجس فی الشریعة، فلو أُرید التمسّک بالعموم فی المائع المشکوک کونه ماءً أو بولاً، کان من التمسک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة.

فأجاب: بأنّه إنّما یلزم ذلک إن کان التمسّک بالعام من حیث الطهارة الواقعیّة، لکنّا نتمسّک به من حیث الطهارة الظاهریّة ولا یتوجّه علیه الإشکال.

ثمّ أورد علی نفسه: بأنّ الشک من أحوال «المکلّف» لا من أحوال «الشیء» حتّی یتمّ الإطلاق الأحوالی.

فأجاب: بأنّ «الشیء» _ أی شیء من الأشیاء _ له عنوان أوّلی، وهو الماء والتراب والحجر والشجر ... وله عنوان ثانوی، وهو المشکوک الطهارة والنجاسة. فالمشکوک فی طهارته ونجاسته شیءٌ، وإذا دخل فی مفهوم الشیء شمله العموم الأفرادی، ولا حاجة إلی التمسّک بالعموم الأحوالی لیرد الإشکال.

وتلخّص:

إنّ الروایة تفید الطهارتین الواقعیّة والظاهریّة، والتمسّک به فی مورد الشک فی الطهارة الظاهریّة لیس تمسّکاً بالعام فی الشبهة الموضوعیّة. وأیضاً: لیس التمسّک بالإطلاق الأحوالی لیرد الإشکال المذکور، بل هو بالعموم الأفرادی.

ص: 111

الإشکال علیه أوّلاً:

لکنّ المحقّقین المیرزا والفشارکی والعراقی(1) أشکلوا علیه: کیف یجعل الطهارة الواقعیّة والظاهریّة معاً بقوله: کلّ شیء لک طاهر، مع أنّ الحکم الظاهری متأخّر رتبةً عن الحکم الواقعی، لأن موضوعه هو الشک فی الحکم الواقعی؟

جواب المحقّق الإصفهانی

وقد أجاب المحقّق الإصفهانی:(2) بأنّ الأُمور النفسانیّة متقوّمة فی مرحلة الوجود بالنفس لا بالوجود الخارجی، وإلاّ یلزم أن یصیر النفسانی خارجیّاً أو الخارجی نفسانیّاً.

فهذه مقدّمة.

والمقدّمة الثانیة هی: إن الحکم فعلٌ نفسانی من أفعال الحاکم، لأنّه اعتبارٌ منه بحسب المصالح والمفاسد _ إمّا فی نفس الحکم وإمّا فی متعلقَّه _ وإذا کان نفسانیّاً فمتعلّقه نفسانی کذلک کما تقدّم.

وحینئذٍ نقول: إنّ الطهارة الظاهریّة المجعولة بالروایة اعتبارٌ من الشارع، فهو أمر نفسانی، وموضوعه _ وهو الشک _ لیس الشک الخارجی القائم بالمکلَّف حتّی یرد الإشکال.

والحاصل: إنّ هنا شکّین، أحدهما الصّورة النفسانیّة للشک، وهذا هو

ص: 112


1- 1. أجود التقریرات 4 / 60، درر الأُصول: 531، نهایة الأفکار 4 / 68 _ 69.
2- 2. نهایة الدرایة 5 / 95.

الموضوع لاعتبار الشارع الطهارة الظاهریّة. والآخر: هو الشک القائم بالمکلَّف. وهذا لیس الموضوع للحکم، لأنّ الخارج لا یأتی إلی النفس. وإذا کان الموضوع نفسانیّاً والحکم نفسانیّاً، کان التقدّم والتأخّر بینهما طبیعیّاً، والمتقدّم والمتأخّر الطبیعیّان یوجدان بوجود واحدٍ، کالواحد والاثنین، فإنّه لمّا یوجد الإثنان یوجدان بوجود واحد. فالإشکال مندفع.

الجواب

وناقشه الأُستاذ: بأنّ ما ذکره تام، إلاّ أن تطبیقه علی المورد غیر صحیح، وذلک: لأنّ الحکم الشرعی تابع للملاکات، والملاکات قائمة بالخارج لا بالنفس. فالحکم بالطهارة المجعول تبعاً لمصلحة التسهیل غیر مترتّب علی الشک فی نفس الحاکم بل علی الشک الخارجی، فالذی یتوجّه إلیه الحکم بالطهارة هو المشکوک فیه الخارجی.

هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ للأحکام ثلاثة أوعیة، وعاء نفس الحاکم ووعاء الخارج ووعاء الإعتبار. فلمّا یجعل الحاکم الحکم، فإنّه یوجد أوّلاً فی وعاء نفسه، ثمّ یوجد فی وعاء الإعتبار، فعدم کون الحکم فی الخارج لا یلازم کونه فی ذهن الحاکم فقط، بل هو فی عالم الإعتبار موجود وإن زال من ذهن الحاکم بسبب موته مثلاً.

والحاصل: إنّ الأحکام مطلقاً لها وجود فی عالم الإعتبار وإن مات الحاکم، فموضوع الطهارة الظاهریّة هو الشک القائم بنفس المکلّف، ولا ریب فی أنّ متعلَّق هذا الشک هو الحکم الواقعی المتقدّم رتبةً علی الحکم الظاهری. فإشکال القوم

ص: 113

وارد ولا یندفع بما أفاد هذا المحقّق علی دقّته.

هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الإثبات، فإنّ النسبة بین قاعدة الطهارة والطهارة الواقعیّة هی نسبة الحاکم إلی المحکوم، لأن دلیل القاعدة یوسّع دائرة الطهارة الواقعیّة من حیث الآثار، کما فی «الطواف بالبیت صلاة»، فالآثار مترتّبة ما لم یتحقّق العلم بالخلاف، وإذا کان أحدهما حاکماً والآخر محکوماً کیف یُجعلان بالجعل الواحد؟

فالإشکال من المحقّقین تام ثبوتاً وإثباتاً.

رأی المحقّق الخوئی

ثمّ إنّ المحقّق الخوئی(1) بعد أن ذکر إشکال القوم علی صاحب الکفایة، إعترف بوروده علیه بناءً علی مسلکه ومسلک المیرزا من أنّ الإنشاء إیجاد المعنی باللّفظ، لأنّه لا یمکن إیجاد الشیئین الطّولیین بجعلٍ واحدٍ. ثمّ قال:

وأمّا علی ما سلکناه من أنّ الإنشاء لیس بمعنی إیجاد المعنی باللّفظ، إذ لیس اللّفظ إلاّ وجوداً لنفسه، والمعنی إعتبار نفسانی لا یکون اللّفظ موجداً له، بل هو مبرز له، ولا فرق بین الخبر والإنشاء من هذه الجهة، فکما أنّ الخبر مبرز لأمر نفسانی فکذا الإنشاء، إنّما الفرق بینهما فی المبرز _ بالفتح _ فإنّ المبرز فی الإنشاء مجرّد إعتبار نفسانی، ولیس وراءه شیء لیتّصف بالصدق والکذب، وهذا بخلاف الجملة الخبریّة، فإنّ المبرز بها هو قصد الحکایة عن شیء فی الخارج، فهنا شیء

ص: 114


1- 1. محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 85. وانظر مبانی الاستنباط: 42.

وراء القصد وهو المحکی عنه، وباعتباره یکون الخبر محتملاً للصدق والکذب، وقد ذکرنا تفصیل ذلک فی مقام الفرق بین الخبر والإنشاء. فلا مانع من أن یبرز حکمین یکون أحدهما فی طول الآخر بلفظ واحد، بأن یعتبر أوّلاً الحکم الواقعی لموضوعه، ثمّ یفرض الشک فیه فیعتبر الحکم الظاهری، وبعد هذین الإعتبارین یبرز کلیهما بلفظ واحد، ولا یلزم منه محذور.

الإشکال علیه

ولکنّ شیخنا أشکل علیه:

أوّلا: صاحب الکفایة یری أنّ الإنشاءات أسبابٌ لوجود المنشآت.

وثانیاً: إن المشکلة لا تنحلّ علی مسلک السیّد الخوئی أیضاً، لأن الحکم بناءً علیه هو الإعتبار المبرز _ لا الإعتبار النفسانی وحده _ وحینئذٍ، فإنّ إبراز الطهارتین الواقعیّة والظاهریّة بقوله: کلّ شیء لک طاهر، مع وجود الإختلاف بینهما فی المرتبة غیر ممکن، فیعود الإشکال.

هذا کلّه فی إشکال القوم علی المحقّق الخراسانی، وقد ظهر وروده علیه.

الإشکال علیه ثانیاً

ویرد علیه _ کما ذکر السیّد الخوئی أیضاً _ بأنّ غایة ما یقتضیه شمول إطلاق الشیء علی الشیء المشکوک فی حکمه هو ثبوت الحکم له بما أنّه شیء لا بما أنّه یشک فی حکمه، (توضیح ذلک): إنّ الأحکام الواقعیّة إنّما تتعلّق بموضوعاتها بما هی من دون أن یکون لخصوصیّات الأفراد دخل فی الموضوع أصلاً، فإنّ

ص: 115

الموضوع فی قضیّة «الخمر حرام» مثلاً هو ذات الخمر بما هی، وأمّا خصوصیّات الأفراد من کون بعضها قلیلاً وبعضها کثیراً وبعضها معلوماً وبعضها مشکوکاً فیه، فهی خارجة عن حدود الموضوع بالمرّة. وهذا بخلاف الأحکام الظاهریّة، فإنّها تتعلّق بموضوعاتها بوصف کونها یشک فی حکمها. وعلیه لا یمکن الجمع بین موضوعی الحکمین فی إطلاق واحد، إذ النسبة بینهما نسبة اللاّبشرط وبشرط شیء کما هو واضح.

وبعبارة أُخری: إنّ مفاد الإطلاق إنّما هو رفض القیود وإلغاء الخصوصیّات لا الجمع بینها، فإطلاق لفظ الشیء وإن کان یقتضی ثبوت الطهارة أو الحلیّة المجعولة فی الروایات لکلّ ما یصدق علیه مفهوم الشیء حتّی مشکوک النجاسة أو الحرمة، لکن لا بوصف کونه مشکوک النجاسة أو الحرمة، بل بما أنّه شیء ومصداق لمفهومه، فحینئذ، لا تکون الطّهارة أو الحلیّة الثابتة له بالإطلاق طهارة أو حلیّة ظاهریّة، لتقوّم الحکم بالطّهارة أو الحلیّة الظاهریّة بأخذ الشک فی موضوعها، علی ما هو الشأن فی موضوع کلّ حکم ظاهری.

قال: وهذا الإشکال متین جدّاً.(1)

الإشکال علیه ثالثاً

ویرد علیه کذلک: إنّ تعدّد مدلول الروایة _ بأن تدلّ علی الطهارة الواقعیّة والطهارة الظاهریّة _ من أین؟ إن کان من طرف الموضوع، فإن الموضوع فی

ص: 116


1- 1. مبانی الإستنباط: 43.

الروایة هو «الشیء» الملغی عنه الخصوصیّات، وإن کان من طرف المحمول، فإنّه «طاهر» وهو محمول واحد. وإذا کان الموضوع واحداً والمحمول واحداً، فما هو المنشأ للإختلاف والتعدّد؟

الدفاع عنه بوجهٍ آخر

وربّما یقال: بأنّ بیانات الأئمّة حاکیة عن الأحکام ولیست جاعلةً، فالإمام بقوله: «کلّ شیء لک طاهر» یخبر عن الطهارتین بهذه الجملة الواحدة.

وفیه:

لابدّ من المطابقة بین الحاکی والمحکی، والتخلّف لا یکون إلاّ عن السّهو أو العمد، والإمام بریء عنهما. وإذا کان الحاکی «کلّ شیء لک طاهر» والمحکی «کلّ شیء طاهر» و«کلّ شیء مشکوک الطهارة والنجاسة طاهر» لزم التخلّف.

هذا تمام الکلام علی ما ذکره المحقّق الخراسانی فی معنی صدر الروایة.

وأمّا أن یستفاد الإستصحاب من ذیل الروایة، ففیه:

إنّه سواء علی قول الشیخ: بأن الإستصحاب إستمرار بقاء ما کان، أو قول الکفایة: التعبّد ببقاء الحکم أو الموضوع، أو قول المیرزا: حرمة نقض الیقین عملاً، أو قول الإصفهانی: إبقاء الیقین السّابق إعتباراً، فإنّه _ علی جمیع الأقوال _ تکون أدلّة الإستصحاب متکفّلةً لجعل الإستمرار، والروایة: «کلّ شیء لک طاهر» و«کلّ شیء لک حلال» متکفّلة لاستمرار الطهارة والحلیّة، فهی جاءت لجعل الحکم المستمر، لکنّ جعل الحکم المستمرّ شیء، وجعل إستمرار الحکم شیء آخر. فلا دلالة علی الإستصحاب. هذا أوّلاً.

ص: 117

وثانیاً: فرقٌ بین مدلول دلیل الإستصحاب ومدلول الروایة، ففی الروایة جعل العلم بالخلاف غایةً للطهارة والحلیّة، فیمکن أن یکون المقیّد هو الموضوع وهو «الشیء»، وأن یکون المقیّد الحکم وهو «الطهارة» و«الحلّ»، وأن یکون «النسبة» مقیَّدةً. لکن العلم فی الإستصحاب قیدُ إستمرار الحکم وإستمرار الموضوع، فعدالة زید باقیةٌ إلی حین العلم بالفسق، وحرمة الشیء باقیة إلی حین العلم بالخلاف.

(فالعلم) قیدٌ (للإستمرار والبقاء) فی (الإستصحاب). أمّا فی (الروایة) هو قید (للموضوع) أو (الحکم) أو (النسبة).

فلیس مدلول الروایة هو الإستصحاب.

هذا تمام الکلام علی مختار المحقّق الخراسانی فی حاشیة الرسائل، فالإحتمال السّابع ساقط.

سقوط الإحتمال الثالث

وبما ذکرنا من عدم إمکان الجمع بین الطهارتین، یظهر النظر فی إحتمال أن المدلول هو الطهارتان بلا دلالةٍ علی الإستصحاب.

رأی المحقّق الخراسانی فی الکفایة

وممّا ذکرنا یظهر النظر فی رأی الکفایة، حیث إختار أنّ المجعول فی الروایة هو الطهارة الواقعیّة والإستصحاب، فکلّ شیء طاهر واقعاً، وهی باقیة إلی زمان العلم بالقذارة، وهو الإحتمال السّادس.

ص: 118

لأن (العلم) فی الروایة قید، فالموضوع مقیَّد بعدم العلم، فأصبحت الطهارة الواقعیّة لِما لم یعلم بنجاسته وطهارته، لأنّها حملت علی الشیء بما أنّه شیء، لکنّ الغایة قیّدت الموضوع بالعلم، والجمع بین العلم وعدم العلم، أی بین الإطلاق والتقیید محال.

نعم، یمکن الجمع بین (الطهارة الواقعیّة) و(الإستصحاب) ببیانٍ آخر، کأن یقول: کلّ شیء طاهر. ثمّ یقول: وهذه الطهارة باقیة إلی العلم بالقذارة. أمّا الروایة، فلا تفید ذلک إلاّ مع التقدیر.

فهذا الإحتمال أیضاً ساقط.

رأی صاحب الفصول

ونظر صاحب الفصول من أن المجعول الطهارة الظاهریّة والإستصحاب، وهو الإحتمال الخامس، غیر صحیح أیضاً:

أمّا أوّلاً: فلأنّ جعل الطهارة الظاهریّة یغنی عن جعل الإستصحاب، وکذا العکس، فلا أثر عملی لجعلهما معاً.

وأمّا ثانیاً: فلأنّ الروایة ظاهرة فی جعل الطهارة المستمرة، والإستصحاب هو جعل إستمرار الطهارة، کما تقدّم.

فهذا الإحتمال أیضاً ساقط.

الإحتمال الأخیر

وأمّا الإحتمال الآخر من أنّ المجعول هو الحکم الواقعی (الطهارة)

ص: 119

و(الحلیّة) و(العلم) طریقٌ. أی: کلّ شیء ظاهر ما لم تعلم بملاقاته للنجاسة، وکلّ شیء حلال ما لم تعلم بحرمته، وهو الإحتمال الأوّل.(1)

ففیه:

إنّ الأصل فی العناوین هو (الموضوعیّة)، والحمل علی (الطریقیّة) بلا دلیل غیر جائز.

التحقیق

والحق فی الروایات المذکورة عند شیخنا والسیّد الأُستاذ(2) هو: أنّها جاءت لإفادة (الطهارة الظاهریّة) و(الحلیّة الظاهریّة) وهو الإحتمال الثانی، وهذا هو المنسوب إلی المشهور، فالإحتمالات غیره کلّها ساقطة، إمّا ثبوتاً وإثباتاً، وإمّا إثباتاً فقط، وإمّا ثبوتاً فقط، فهی أجنبیّة عن الإستصحاب.

ص: 120


1- 1. نسب إلی صاحب الحدائق 2 / 136.
2- 2. منتقی الأُصول 6 / 130.

التفصیلات فی الإستصحاب

اشارة

ص: 121

ص: 122

قد وقع الخلاف بین القائلین بحجّیة الإستصحاب علی أقوالٍ هی فی الحقیقة تفصیلات فی المسألة.

وتوضیح ذلک: إنّ الإستصحاب یتشکّل من المتیقَّن والیقین والشک، وبلحاظ هذه الأُمور _ وکذا بلحاظ دلیل الإستصحاب _ یتحقّق التفصیل. فما وقع فیه الخلاف وانتهی الحال إلی التفصیل أُمور أربعة، وذلک لأن:

(المتیقّن) السّابق المستصحب، قد یکون وجودیّاً وقد یکون عدمیّاً. والعدمی تارةً: عدم نعتی وأُخری: عدم أزلی. وهنا وقع الخلاف فی جریان الإستصحاب فی العدم الأزلی.

وأیضاً، فإنّ المتیقّن قد یکون الموضوع للحاکم الشرعی، وقد یکون الحکم الشرعی، وقد قیل بعدم جریان الإستصحاب فی الشبهات الحکمیة.

وإن کان الموضوع، فقد یکون أمراً قارّاً وقد یکون غیر قارٍّ أی متدرّج الوجود. وهذا علی قسمین: غیر القارّ بالذات وهو الزمان، وغیر القارّ بالعرض وهو الزمانیّات، فقیل بعدم جریان الإستصحاب فی الأُمور غیر القارّة.

وإن کان الحکم، فقد یکون حکماً جزئیّاً وقد یکون کلیّاً. وهنا وقع الخلاف.

ص: 123

وأیضاً: هو إمّا حکم وضعی وإمّا حکم تکلیفی. وقد قیل بعدم جریانه فی الأوّل.

وأیضاً: الحکم قد یکون معلَّقاً، مثل: «العنب إذا غلا یحرم» فقیل بعدم جریانه فی الأحکام التعلیقیّة.

وأیضاً: الحکم إمّا شرعی وإمّا عقلی. فقیل بعدم جریانه فی الثانی.

و(دلیل الإستصحاب) إمّا السّیرة أو حکم العقل أو الأخبار.

و(المتیقّن) المستصحب، له دلیل، وهو شرعی أو عقلی. وقد وقع الخلاف فیه.

و(الیقین) بالحکم، تارةً: وجدانی، کما لو حصل من الخبر المتواتر. وأُخری: تعبّدی، کما لو حصل من خبر الواحد. وقد وقع فیه التفصیل وقیل بعدم جریان الإستصحاب إن کان الیقین تعبدیّاً مستفاداً من الدلیل الظنّی.

ثمّ (الشکّ) تارةً: یکون فی المقتضی، وأُخری: فی الرافع، وثالثة: فی رافعیّة الموجود. وهنا وقع الخلاف. فذهب الشیخ _ تبعاً للخونساری تبعاً للمحقّق الحلّی، وتبعه المیرزا النائینی _ إلی إختصاص جریان الإستصحاب بالشک فی الرافع، وأمّا مع الشک فی المقتضی فلا یجری.

وخالف صاحب الکفایة ومن تبعه، وذهبوا إلی الجریان فی الشک فی المقتضی أیضاً.

ص: 124

تفصیل الشیخ بین الشک فی المقتضی والرافع

المراد من المقتضی

وقد وقع الکلام فی مراد الشیخ من المقتضی، بسبب الإبهام والإجمال فی کلماته، فذکر فیه إحتمالات.(1) وملخّص القول فی ذلک هو أنّ (المقتضی) یأتی علی أربعة معان:

1 _ ما یترشّح منه الأثر فی باب العلل والمعالیل التکوینیّة، وهو أحد الأجزاء الثلاثة للعلّة التامّة.

2 _ موضوع الحکم، کقولهم: إنّ المقتضی لوجوب الحج هو المکلَّف، وقولهم: البیع سببٌ للملکیّة، وهکذا ... .

3 _ ملاک الحکم، فیقال: لیس لهذا الحکم مقتضٍ، أی لا ملاک له من المصلحة والمفسدة.

4 _ قابلیّة المستصحب للبقاء وإستعداده.

ص: 125


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 23، مبانی الإستنباط: 51.

قالوا: ومراده هذا المعنی الرّابع.

ثمّ اعلم أنّ الشیخ قد مثّل فی بحثه باللّیل والنهار وبخیار الغبن بعد الزمان الأوّل، فما کان من هذا القبیل فهو من الشک فی المقتضی، وما کان من قبیل الحدث بعد الوضوء، فهو من الشک فی الرافع ... فالمعنی الرابع هو مراد الشیخ.

لکنّ هذا فی الموضوع واضح، کمثال المصباح حیث أنّ زیته محدود وإذا انتهی ینطفئ، ففی هذه الحالة لا یجری الإستصحاب، بخلاف ما إذا کان المصباح مضیئاً وشکّ فی انطفائه بالهواء، فإنّه من الشک فی الرافع.

ویوجد فی الأحکام ما یکون من الشک فی المقتضی، وهو مورد النسخ، لأنّه إنتهاء أمد الحکم، فلو شک فی بقائه کان من الشک فی المقتضی. وأمّا ما فی غیر مورد النسخ، فإنّ الحکم قد یقع الشک فی أنّه محدودٌ فی أصل جعله، کما فی خیار الفسخ بالغبن والعیب وخیار الحیوان، ففی هذه الموارد یرجع إلی الشک فی المقتضی، وأمّا فی خیار المجلس فإنّ الشک یرجع إلی الرافع.

وفی الزوجیّة المنقطعة، یرجع الشک فی بقائها إلی الشک فی المقتضی، بخلاف الدائمة، فإنّه یشک فی تحقّق الطلاق مثلاً، وهو شکٌ فی الرافع.

وبالجملة، فإنّ المجعولات الشرعیّة إمّا مغیّاة وإمّا غیر مغیّاة، فإن کان من الثانی، رجع الشک إلی الرافع، وإن کان من الأوّل، فقبل تحقّق الغایة یحکم بالبقاء، لأن الشک فی الرافع، وأمّا بعد تحقّق الغایة، فتارةً: تکون الغایة من قبیل الشبهة الموضوعیّة، وأُخری: من قبیل الشبهة الحکمیّة. وفی الثانی تارةً: یُشک فی صدق المفهوم، فالشبهة مفهومیّة، وأُخری: یکون منشأ الشک تعارض الدلیلین أو إجمالهما.

ص: 126

مثلاً: الصّوم مغیّی بالغروب، والغروب هو إستتار القرص، فالشبهة حینئذٍ موضوعیّة، والشک یرجع إلی المقتضی، لأنّا لا ندری هل أمد الصّوم 12 ساعة أو أکثر. وما فی مصباح الأُصول من أنّه من الشک فی الرافع عرفاً. ففیه: إنّه لیس نظر العرف محکّماً فی مثل المورد، بل المرجع هو العقل.

وبالجملة، فإنّ مورد الرجوع إلی العرف معیّن، وکذا مورد الرجوع إلی السّیرة العقلائیّة، وأمّا فی مثل الغروب حیث یشک فی إستتار القرص وعدمه، فإنّه من الشک فی المقتضی، لأنّ الإستتار أصبح الغایة لوجوب صلاة العصر، فاستصحاب بقاء الوجوب من الشک فی المقتضی.

وکذا فی الشبهة المفهومیّة، کما لو شک فی مفهوم الغروب المجعول غایةً لوجوب الصّلاة، هل هو إستتار القرص أو زوال الحمرة المشرقیّة، فلو إستتر والحمرة موجودة وشک فی بقاء وجوب صلاة العصر، فإنّه من الشک فی المقتضی.

وإن کان منشأ الشک التعارض أو الإجمال، کما لو تردّد وقت قضاء صلاة العشاء بین نصف اللّیل أو طلوع الفجر، فإنّه بعد نصف اللّیل وقبل الطلوع، یشک فی بقاء وقت صلاة العشاء، وهو من الشک فی المقتضی، لأن الغایة هی الزمان.

فظهر ممّا ذکرنا موارد الشکّ فی المقتضی فی الموضوعات والمقتضی فی الأحکام.

والحاصل: أنّ کلّ ما کان من شأنه الزوال، فالشک فی بقائه من الشک فی المقتضی، وکلّ ما کان من شأنه الإستمرار، فالشک فی بقائه من الشک فی الرافع،

ص: 127

کالملکیّة والطهارة والنجاسة والزوجیّة الدائمة.

وبما ذکرنا یظهر عدم تمامیّة بعض ما أُورد علی الشیخ فی الکتب، کقول بعضهم(1) فیما لو شک فی بقاء الملکیّة فالأصل العملی هو اللّزوم. وفی المعاطاة: لو شک فی اللّزوم فهو من الشک فی المقتضی، لکون المعاطاة من العقود الجائزة بالذات. وفیه: إنّ المعاطاة جائزة بالذات، لکنّ الملکیّة الحاصلة _ سواء بالعقد اللاّزم أو الجائز _ تحتاج إلی الرافع. وکذا فی الملکیّة الحاصلة من الهبة _ وإن کانت من العقود اللاّزمة _ فإنّها من الشک فی الرافع وهو رجوع الواهب فی هبته.

والکلام الآن فی خلاف:

دلیل التفصیل

ویتوقّف فهم دلیل الشیخ علی بیان أمرین:

الأوّل: إذا ورد اللّفظ فی لسان الدلیل الشرعی، فإن أمکن حمله علی المعنی المتیقّن، لزم ذلک بمقتضی أصالة الحقیقة، وإلاّ حمل علی المعنی المجازی له، فإن تعدّد المجاز، لزم حمله علی أقرب المجازات إلی المعنی الحقیقی.

والثانی: إذا کان فی الکلام متعلِّق ومتعلَّق، ودار الأمر بین الأخذ بعموم المتعلَّق أو رفع الید عن ظاهر المتعلِّق، أُخذ بظاهر المتعلِّق وخصّص به عموم المتعلَّق، کما لو قال: لا تضرب أحداً. فإنّ (أحداً) عامٌ یشمل الحیّ والمیّت. لکنّ «الضرب» ظاهر فی «الإیلام» وهو لا یتحقَّق فی «المیّت»، ففی هذه الحالة یبقی

ص: 128


1- 1. حاشیة السیّد علی المکاسب: 73. الطبعة القدیمة.

«الضرب» علی ظاهره، ویتخصّص العام ب_«الحی».

وبعد هاتین المقدمتین المسلّم بهما نقول فی تقریب الدلیل علی التفصیل:

إن دلیل الإستصحاب هو قوله علیه السّلام: «لا تنقض الیقین بالشک»، فاشتمل علی لفظ (النقض) المتعلِّق ب_«الیقین». لکنّ المعنی الحقیقی ل_(النقض) فی اللّغة هو «حلّ الشیء المحکم»، قال تعالی: «کَالَّتی نَقَضَتْ غَزْلَها »(1) وحمل الکلمة فی الروایة علی هذا المعنی غیر ممکن، فتسقط أصالة الحقیقة، ولابدّ من الأخذ بالمعنی المجازی وهو «رفع الید عن الشیء». لکنّ المتعلَّق لرفع الید قد یکون أمراً مستمرّاً محکماً، وقد یکون أمراً غیر قابل للإستمرار، وإذا دار الأمر بین الحمل علی هذا أو ذاک، تعیَّن الأوّل، لکونه الأقرب إلی المعنی الحقیقی. فلابدّ وأن یکون المنقوض أمراً محکماً مستمرّاً جاء النهی عن رفع الید عنه.

ونتیجة ذلک: أنّ المنهی عنه فی الروایة هو رفع الید عن الأمر القابل للبقاء والإستمرار، لا الشیء غیر القابل لذلک.

إشکالٌ ذکره الشیخ وأجاب عنه

والإشکال هو: إنّ لازم هذا الکلام إرتکاب مجازٍ علاوةً علی المجاز اللاّزم إرتکابه بالضرورة _ أعنی ما تقدّم ذکره فی کلمة النقض _ وهو لزوم حمل «الیقین» علی «المتیقَّن». وذلک: لأنّ «المتیقَّن» أصبح علی قسمین، ما له إقتضاء البقاء والإستمرار، وما لیس له إقتضاء البقاء والإستمرار، فلازم ذلک حمل «الیقین» علی

ص: 129


1- 1. سورة النحل، الآیة 92.

«المتیقَّن»، وهذا خلاف أصالة الحقیقة.

فأجاب رحمه اللّه: بأنّ إرتکاب هذا المجاز الزائد لازم، سواء قلنا بعموم الدلیل للشکّ فی المقتضی أو قلنا بالتفصیل، فلابدّ من حمل «الیقین» علی «المتیقَّن» علی کلّ حال. وذلک: لأنّ النهی قد تعلَّق بالنقض، وهذا یستلزم أن یکون المنهیّ عنه اختیاریّاً للمکلَّف، إذ النهی لا یتعلَّق بغیر المقدور _ کما أن البعث لا یتعلَّق بغیر المقدور _ فلابدّ من حمل الیقین علی المتیقَّن، لأنّ النهی عن الیقین غیر معقول، لعدم إمکان الإنتهاء عنه لخروجه عن الإختیار والقدرة، لکونه فعل القلب.

هذا هو دلیل الشیخ علی التفصیل.(1)

إشکالات المحقّق الخراسانی

وقد أورد المحقّق الخراسانی علی تفصیل الشیخ بوجوه:(2)

الأوّل: قولکم: إنّ أقرب المجازات هو (المتیقّن) القابل للبقاء. فیه: إنّ إسناد (النقض) إلی (المتیقَّن) غیر صحیح. یدلّ علی ذلک: أنّ الحجر المستقر فی مکان قابل للبقاء فیه إلاّ أن یرفعه رافع، لکن لا یقال: نقضت الحَجَر من مکانه. وهذا یکشف عن أن صحّة إسناد النقض لیس بلحاظ إقتضاء البقاء للمتعلَّق.

الثانی: إنّ إسناد (النقض) إلی (المتیقّن) وهو الحمل علی المجاز، منوط

ص: 130


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 78.
2- 2. کفایة الأُصول: 390، درر الفوائد: 316.

بعدم صحّة إسناده إلی المعنی الحقیقی وهو (الیقین)، لکن الإسناد المذکور لازم فضلاً عن إمکانه، لأن (الیقین) أمر محکم، وکلّ أمرٍ محکم یصحّ إسناد النقض إلیه، کالمیثاق والعهد والبیعة وغیر ذلک.

الثالث: لو کان صحّة إسناد النقض وتعلّقه منحصراً بما إذا کان ممّا یستمرّ ویبقی، لزم عدم صحّة قولنا: «نحن علی یقینٍ باشتعال السراج» مع الشکّ بمقدار الزیت فیه، والحال أنّ الکلام المذکور صحیح، کما لو کان فی حال العلم بوجود الزیت الکثیر فیه الموجب لاستمرار الإشتعال.

الرابع: إن مجرّد الأقربیّة إلی المعنی الحقیقی لا یکفی لحمل اللّفظ علیه، فإنّ قاعدة الأقرب یمنع الأبعد جاریة فی الإرث، وأمّا جریانها فی کلّ موردٍ فیحتاج إلی الدلیل، والملاک فی باب ظواهر الألفاظ هو الظهور، أی قالبیّة اللّفظ للمعنی عرفاً.

والخلاصة:

إنّ (النقض) یُسند إلی (الیقین) نفسه، لأن الیقین أمر محکم، فکان أعمّ من مورد الشک فی المقتضی والشک فی الرافع، فالیقین من هذا الحیث مطلق، وقد قال الشیخ برفع الید عن الإطلاق، کما رفعت الید عن العموم فی (أحداً) فی المثال الذی ذکره. لکنّ رفع الید عن الإطلاق إنّما یصح فیما لو حمل الیقین علی المتیقَّن، وقد أبطل هذا المحقّق ذلک بمثال الحجر.

ما أورده علی نفسه وأجاب عنه

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی أشکل علی نفسه بوجهین وأجاب عنهما:

ص: 131

1 _ إنّ «النقض» متعلِّق بالمنقوض من جهةٍ وبالناقض من جهة، قال علیه السّلام: «لا تنقض الیقین بالشک». وإنّما یصدق نقض الیقین بالشک فیما إذا لم یجتمعا فی الوجود، ضرورة أنّ النقض لا یجتمع مع المنقوض، فصدق النقض متقوّم بعدم إجتماعهما، حتّی یتحقّق رفع المنقوض بالناقض.

وهذا الأمر تام فی قاعدة الیقین، لأنّ الشکّ والیقین یتعلَّقان بالشیء الواحد، کالیقین بعدالة زید فی یوم الجمعة، والشک فی عدالته فی یوم الجمعة، فهما متعلِّقان بالشیء الواحد لکنّهما غیر موجودین فی وقتٍ واحد. أمّا فی الإستصحاب، فإنّ متعلَّق الیقین هو الحدوث ومتعلَّق الشک هو البقاء، فکان الیقین والشک مجتمعین فی الوجود، فأنا الآن علی یقین من الطهارة بالأمس وعلی شکّ من بقاء الطهارة بعد الأمس، وإذا اجتمعا فی الوجود وکلّ منهما متعلِّق بغیر ما تعلَّق به الآخر، لم یصدق عنوان «النقض»، فإن لم یکن للمتیقَّن إقتضاء البقاء، لم یصدق النقض لا حقیقةً ولا مجازاً، وإن کان له إقتضاء البقاء، صدق العنوان مجازاً، وإذا فرض الإقتضاء حتّی یصدق العنوان مجازاً تمّ نظر الشیخ.

فأجاب:

بأنّ المفروض هو النظر إلی المتعلَّق بالنظر العرفی _ وعلیه الشیخ أیضاً _ وحینئذٍ، لابدّ علی جمیع المبانی فی الإستصحاب من إلغاء خصوصیّة الحدوث والبقاء، وهذا ما تفیده النصوص أیضاً بعد التأمّل، إذ یقول علیه السّلام: «لأنّک کنت علی یقینٍ من طهارتک فشککت»، حیث تعلَّق الیقین والشکّ بالطهارة، لا بالحدوث والبقاء للطهارة، وإذا أُلغیت الخصوصیّة صدق (النقض)، أی: لا ترفع

ص: 132

الید عن الیقین بالشک.

2 _ إنّ المنهی عنه لا یخلو عن أن یکون هو (النقض) بنفسه، أو (آثار النقض) ولا ثالث لهما.

أمّا عن (الیقین) نفسه، فلا یتحقّق (النقض)، لأن إنتقاض الیقین بالشک لیس أمراً إختیاریّاً حتّی یُنهی عنه. هذا أوّلاً. وثانیاً: لا معنی للنهی عن الیقین بنفسه، لأن الأحکام والآثار مترتّبة علی (المتیقَّن).

وأمّا عن (الآثار)، فإن النهی عن النقض باطل کذلک، لأنّه لو کان للیقین موضوعیّة الإستصحاب، أمکن النهی عن نقضه بلحاظ آثاره، لکنّ الیقین طریقی، وإذا کانت الآثار للمتیقَّن لم یصح النهی عن النقض بلحاظ الآثار.

وإذا سقط تعلّق النهی عن النقض نفسه والآثار، تعیَّن تعلُّقه ب_(المتیقَّن)، وعلی هذا یتمُّ نظر الشیخ.

فأجاب:

إنّ الیقین الذی یتحقَّق فی النفس طریقیٌّ فی ذاته، والنظر إلیه بالنظر الموضوعی خلاف الطبع، فإنّ الإنسان دائماً غافل عن یقینه وإنّما یلحظ المتیقَّن. فحکم (الیقین) من هذه الجهة حکم (النور)، حیث أنّه ینظر به إلی الأشیاء، ولیس هو المنظور إلیه. فصحیحٌ أنّ المأخوذ فی النصوص هو کلّی الیقین، لکنّ حیثیّة الطریقیّة موجودة فی ذات جزئیّ الیقین. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ مقتضی إسناد النقض إلی الیقین مع کون الیقین أمراً غیر إختیاری، هو أن یکون المقصود النهی عن النقض عملاً.

ص: 133

والحاصل: إنّ الیقین طریقٌ إلی المتیقَّن، فالنظر هو إلی آثار المتیقَّن لا الیقین وإن کان الإسناد إلی الیقین، وهذا النقض عملی ولیس بالمعنی الحقیقی. فالإشکال مندفع.

والتحقیق جریان الإستصحاب مطلقاً وسقوط تفصیل الشیخ، لأنّ المقتضی لعموم الإستصحاب موجود، وهو إطلاق النصوص، والمانع مفقودٌ، لأنّه لیس إلاّ توهّم عدم تمامیّة إسناد النقض مع عدم إحراز المقتضی، وقد بطل هذا التوهّم بوجوه عدیدة، وظهر أن إسناد النقض إلی الیقین صحیحٌ، والیقین مأخوذ طریقاً إلی المتیقَّن، وإسناده إلیه صحیح کذلک، لأن الیقین أمر محکمٌ، وهذا الأمر المحکم لا ترفع الید عنه بالشکّ.

تنقیح المطلب

هذا، ویعود البحث کلّه إلی وجود المقتضی لإسناد «النقض» إلی «الیقین» وعدم المانع عنه، فإنّه إن کان المقتضی لإسناد النقض إلی الیقین بما هو یقینٌ _ أی بقطع النظر عن منشأ حدوثه وعن متعلَّقه _ موجوداً، وانتفی المانع عن ذلک، کان الإستصحاب جاریاً مع الشک فی المقتضی والشک فی الرافع، کما هو رأی المحقّق الخراسانی ومن تبعه. وإن لم یکن المقتضی موجوداً، أو وجد المانع عنه، لم یجر مع الشک فی المقتضی، وإختصّ بمورد الشک فی الرافع. کما هو رأی الشیخ ومن تبعه، فیقع الکلام فی مرحلتین:

مرحلة الإقتضاء
اشارة

وفیها ثلاثة آراء:

ص: 134

1 _ رأی المحقّق النائینی

یقول المیرزا:(1) إنّ للإنسان حالةً نفسانیّةً لا یحتمل الخلاف معها. وهذه الحالة یعبَّر عنها بالعلم وبالقطع وبالیقین، لکنّ مادّة «النقض» لا تسند إلی العلم والقطع، وإنّما تسند إلی الیقین فقط. والسرّ فی ذلک هو: إنّ التعبیر عن تلک الحالة بالعلم والقطع إنّما یکون حیث یراد لحاظ المقابل للحالة، وهو حالة الشک أو الظنّ، وأمّا التعبیر بالیقین، فإنّما هو حیث یوجد المقتضی للجری العملی علی طبق المتیقَّن، لأنّ من حصل له الیقین بشیء فإنّه یتحرّک بطبعه نحو العمل علی طبق ما یتیقَّن به. فالإختلاف فی الألفاظ الثلاثة هو بحسب الموارد، وقد عرفت الخصوصیّة فی «الیقین»، وهی أنّه متی حصل لم یکن منفکّاً عن العمل، کما هو الحال لمن حصل له الیقین بالقیامة، فإنّه لا یقعد عن العمل المنجی له فی ذلک العالَم.

وإذا کانت هذه خصوصیّة الیقین، فإنّ إقتضاء الجری العملی علی طبق المتیقَّن إنّما یکون إذا کان للمتیقَّن إقتضاء البقاء فی عمود الزمان، فإذا لم یکن کذلک لم یسند إلیه النقض.

ومن هنا یظهر وجه موافقة المیرزا للشیخ فی التفصیل فی الإستصحاب.

وفیه:

والنظر فی ما أفاده المیرزا یتّضح بما جاء فی الصّحیحة الثالثة، حیث قال علیه السّلام: «الیقین لا ینقض بالشک ولکنّه ینقض الشک بالیقین»، فإنّه أسند

ص: 135


1- 1. فوائد الأُصول 4 / 373، أجود التقریرات 4 / 67.

«النقض» إلی «الیقین» وإلی «الشک» معاً، مع أنّ «الشک» لا یستتبع الحرکة علی طبقه، ولیس له إقتضاء البقاء.

فما ذکره رحمه اللّه مردود.

2 _ رأی السیّد الخوئی

وذهب السیّد الخوئی(1) إلی أن «النقض» یُسند إلی «الیقین»، بلحاظ حیثیّة «الثُبات» الذی تدلّ علیه مادّة الیقین.

وفیه:

إنّ مادّة الیقین لا تتعلَّق إلاّ بالأمر الثابت. هذا صحیحٌ، وفی اللّغة کذلک، حیث یطلق الیقین علی الأمر الثابت، فلولا ثبوته لم یکن الیقین به. لکنّ الذی نریده هو الثبات فی نفس مادّة الیقین، ولا دلیل علیه. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إن ما ذکره مردود بما فی الصّحیحة، حیث أُسند النقض إلی الشک کما أُسند إلی الیقین، مع أنّ الشکّ لا ثبات له.

3 _ رأی المحقّق الخراسانی

فإنّه ذکر أنّ إسناد النقض إلی الیقین هو بلحاظ إستحکامه وإبرامه، ففی لسان العرب(2) أن النقض إفساد ما أبرمته من بناءٍ أو عقد، وفی الکتاب «نَقَضَتْ

ص: 136


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 30، مبانی الإستنباط: 58.
2- 2. لسان العرب 7 / 242.

غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ».(1) وفی الأخبار کذلک. والحاصل: إنّ النقض إنّما یتعلَّق بما هو مبرم مستحکمٌ، لغةً وکتاباً وسنّةً، وکذلک تستعمل الکلمة فی البحوث العلمیّة حیث یقال هذا الرأی منقوضٌ بکذا. وعلی هذا، فلابدّ من حمل ما ورد فی الصّحیحة الثالثة علی المجاز.

ونتیجة ذلک: تمامیّة الإقتضاء لحمل النقض علی الأعمّ ممّا له قابلیّة البقاء وما لا قابلیّة فیه للبقاء فی عمود الزمان، فالإستصحاب جارٍ فی الطرفین، والتفصیل مردود.

مرحلة المانع

وقد ذکر وجهان للمنع:

أحدهما: ما تقدّم من أنّ إسناد النقض لا یخلو، إمّا أن یکون للیقین نفسه وإمّا لآثار المتیقّن.

وقد تقدّم الجواب عنه.

والثانی: هو إنّ التمسک بدلیل الإستصحاب مع الشک فی المقتضی من التمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیّة. ذکره المیرزا.

توضیحه:

لا یخفی أنّه قد وقع الکلام فی التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة للمخصّص، والمشهور عدم الجواز، وهو الصّحیح. وقد ذهب السیّد صاحب العروة إلی الجواز.

ص: 137


1- 1. سورة النحل، الآیة 92.

وأمّا التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة لنفس الدلیل العام، فلا خلاف فی عدم جوازه، لأن من البدیهی أن کلّ حکم فهو متفرّعٌ علی الموضوع، وما لم یحرز الموضوع فلا یجوز التمسّک بالدلیل القائم علی الحکم، لأنّ الحکم لا یثبت الموضوع.

وبعد هذه المقدّمة:

إن الموضوع فی دلیل الإستصحاب هو «النقض»، وقد تعلّق به النهی، فکان غیر جائز. إذن، لابدّ دائماً عند التمسّک بدلیل الإستصحاب من إحراز النقض، وإلاّ یکون من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة للعام.

وهذه الکبری مسلّمة.

وأمّا من ناحیة الصّغری، فلو کانت الزوجیّة منقطعة وأمدها الشهر الواحد، فإنّه إذا جاء رأس الشهر تصبح الزوجیّة منتقضةً. وأمّا إذا کانت دائمةً، ووقع الطلاق بعد شهرٍ، کانت الزوجیّة منقوضةً ووقع النقض علی الیقین بالزوجیّة. ولا یخفی الفرق بین «النقض» و«الإنتقاض». وعلی هذا، فلو شککنا فی أنّ الزوجیّة منقطعة حتّی تکون منتقضةً عند رأس الشهر، أو هی دائمة فجاء الطلاق ونقضها، وقع التردّد بین «النقض والإنتقاض»، وکان التمسّک بدلیل الإستصحاب من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة للدلیل العام.

وعلی هذا، فإنّه فی موارد الشک فی المقتضی _ کما فی المثال المذکور، حیث یشک فی بقاء الزوجیّة بعد الشهر _ یکون الشکّ فی صدق عنوان «النقض» ومعه لا یجوز التمسّک بالدلیل.

ص: 138

الجواب

أمّا نقضاً:

فقد ذکر المیرزا فی فوائد الأُصول فیما لو تردّد شهر رمضان بین (29) یوماً و(30) یوماً أن له إستصحاب بقاء شهر رمضان. ولا ریب أن الشهر إن کان (29) یوماً، فقد انتقض الشهر فی الیوم التالی، ولا یصدق عنوان النقض، کما هو الحال فی الزوجیّة الإنقطاعیّة.

وأیضاً: إنّه فی مبحث إستصحاب الزمان،(1) قال بجریان الإستصحاب فی بقاء اللّیل وبقاء النهار. ومن الواضح أنّ منشأ التردّد بین بقاء اللّیل وبقاء النهار هو الشکّ فی أنّ اللّیل (11) ساعة أو (12) ساعة مثلاً. إن کان (12) ساعة فقد انقضی اللّیل، وإن کان (11) ساعة فهو باق. لکن لا ریب فی أنّ اللّیل بعد (12) ساعة منتقض بالنهار، ولا یصدق هنا عنوان «النقض». مع أنّه أجری فیه الإستصحاب.

وأیضاً: ففی التنبیه(2) السّابع، والبحث عن جریان الإستصحاب فی أحکام الشرائع السّابقة، قال بجریان الإستصحاب، مع أنّ الشکّ فی بقاء الشرائع السّابقة من قبیل الشک فی المقتضی لا الرافع.

وأیضاً: فإنّه ذهب إلی الجریان _ فی التنبیه السّادس _ فی موارد الشک فی النسخ، ونصّ علی عدم الإشکال فیه.

ص: 139


1- 1. فوائد الأُصول 4 / 435.
2- 2. المصدر 4 / 478.

وأیضاً: ذهب إلی الجریان فی جمیع موارد الشکّ فی تحقّق الغایة، فی الشبهة الحکمیة، کالشک فی أنّ غایة وجوب صلاة العشاء هو نصف اللّیل أو طلوع الفجر؟ وفی الشبهة الموضوعیّة، کالشکّ فی تحقّق اللّیل فی قوله تعالی «أَتِمُّوا الصِّیامَ إِلَی اللَّیْلِ ».(1) مع أنّ الشک فی المقتضی!

هذا کلّه نقضاً.

وأمّا حلاًّ: فإنّ المشکلة التی ذکرها هی دوران الأمر فی مورد الشک فی المقتضی بین النقض والإنتقاض، فالنقض مشکوک فیه، ویکون التمسّک بدلیل الإستصحاب _ وموضوعه النقض _ من التمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیّة لنفس الدلیل. فنقول:

إنّ الشبهة التی تتحقّق للمجتهد هی الموضوعیّة والحکمیّة، لکنّ التی تتحقّق للمقلِّد هی الموضوعیّة فقط _ وإن کان یقع فی الشبهة الحکمیّة بتبع الشک فی الموضوع، لکنّها حینئذٍ شبهة فی الحکم الجزئی _ . وأمّا الشبهة الحکمیّة الکلیّة فلا تقع إلاّ للمجتهد، ومنشأ الشک فیها فقد الدلیل أو إجماله أو التعارض. کما أنّه فی الموضوعیّة هو الأُمور الخارجیّة، کما لو قال أکرم العالم وتردّد حال زید بین أن یکون داخلاً تحت هذا العموم أو یکون خارجاً.

والموضوع فی قضیّة «لا تنقض الیقین بالشک» هو الیقین بالحدوث والشک فی البقاء، فإن تحقّق هذا الموضوع حرم النقض العملی قطعاً، وإن وقع الشک فیه کانت الشبهة

ص: 140


1- 1. سورة البقرة، الآیة 187.

موضوعیّة. لکنّ التردّد والشک فی الصّفات النفسانیّة غیر معقول، فأمر الیقین والشک یدور مدار الوجود والعدم، والعلم بوجودهما أو عدمهما علمٌ حضوری لا حصولی.

فلو وقع الشکّ فی المقتضی للبقاء، کما فی النکاح المنقطع، تعلَّق الیقین بحدوث الزوجیّة والشک فی بقائها بعد الشهر، وکلاهما متحقّق بالوجدان، فالإستصحاب جارٍ بلا کلام. نعم، لو کان الأجل فی الواقع هو الشهر، فإن الزوجیّة منتفیة یقیناً، لکنّ هذا المعنی فی الزوجیّة الدائمة أیضاً _ حیث الشک فی الرافع وهو الطلاق _ موجود. فإن أُرید لحاظ الواقع، لم یکن فرق بین الشک فی المقتضی والشک فی الرافع. وإن أُرید لحاظ تعلّق الیقین والشک، لم یکن فرق بینهما، وشمول الدلیل لهما ثابت، لتمامیّة الأرکان. فالقول بأنّ دلیل الإستصحاب لا ینطبق علی مورد الشبهة الموضوعیّة، غیر صحیح.

فظهر: إنّ أرکان الإستصحاب مع الشک فی المقتضی تامّة، والنهی متعلّق بنقض الیقین، الأمر المحکم المبرم الذی هو موجود فی مورد الشکّ فی المقتضی کالشکّ فی الرافع.

إشکالان من المحقّق العراقی

وأشکل المحقّق العراقی علی المیرزا _ والشیخ أیضاً _ بوجهین:(1)

أحدهما: إنّ هذا التفصیل یستلزم إختصاص الإستصحاب بالأحکام الوضعیّة دون التکلیفیّة.

ص: 141


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 85، تعالیق فوائد الأُصول 4 / 373.

توضیحه:

إنّ الأشیاء التکوینیّة منها ما یحتاج فی حدوثه فقط إلی العلّة، ومنها ما یحتاج إلیها حدوثاً وبقاءً. والإعتباریّات کذلک، فالملاک فی الأحکام الوضعیّة هو الجعل. ففی الملکیّة والزوجیّة ونحوهما یکون المصلحة فی نفس جعلها. وأمّا فی الأحکام التکلیفیّة، فإنّ الملاک فی المتعلَّق کالصّلاة والصیام ونحوهما، وهو المصلحة، والمفسدة فی شرب الخمر والقمار ونحوهما، والحکم بالوجوب أو الحرمة موجود حدوثاً وبقاءً.

ولمّا کان الحکم التکلیفی یدور مدار الملاک فی المتعلَّق، فإنّ الشک فی المقتضی یعود بالضّرورة إلی الشک فی الملاک، فلو شک فی بقاء حرمة الخمر علی أثر المرض _ مثلاً _ وقع الشک فی مفسدة الشرب فی هذا الحال، فلا مجال للإستصحاب علی مبنی الشیخ، وأمّا فی الأحکام الوضعیّة، فإنّ الشک فی البقاء لا یرجع إلی الملاک _ لأنّ الملاک لیس فی المتعلَّق _ فالإستصحاب جارٍ.

الجواب:

ویمکن الجواب عن هذا الإشکال بأنّه إنّما یرد لو کان المراد من (المقتضی) هو (الملاک). لکن المیرزا یقول بأنّ (المقتضی) هو (القابلیّة للبقاء). وعلیه، فمتی شک فی القابلیّة للبقاء لم یجر الإستصحاب، کما فی النکاح المنقطع. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إن حقیقة الحکم _ وضعاً وتکلیفاً _ هو الإعتبار، وهذا الإعتبار لیس مهملاً بالنسبة إلی الزمان، فإمّا الإطلاق وإمّا التقیید، والحکم الوضعی لمّا یعتبر،

ص: 142

فإمّا هو مطلق وإمّا مقیَّد بزمانٍ، والتقیید لا یکون بلا ملاک، وکذا الإطلاق، إذ الإطلاق والتقیید بلا ملاکٍ محالٌ علی المولی الحکیم، فإن کان فی أصل جعل الحکم الوضعی ملاک، فلا ریب فی وجوده له بقاءً فی عمود الزمان.

الإشکال الثانی

إنّ القول باختصاص دلیل الإستصحاب بالشکّ فی الرافع وعدم جریانه فی مورد الشک فی المقتضی، یستلزم أمرین: أحدهما: القول بعدم قیام الإستصحاب مقام العلم الموضوعی. والثانی: القول بعدم حکومة الإستصحاب علی قاعدتی الحلّ والطهارة. والحال أنّ الشیخ والمیرزا یقولان بقیام الإستصحاب مقام العلم الموضوعی، ویقولان بالحکومة. فبین ما ذکراه هنا وهناک تهافت.

توضیحه:

أمّا فی الأمر الأوّل: فإنّه متی أُخذ العلم فی لسان الدلیل موضوعاً للحکم الشرعی _ تمام الموضوع أو جزء الموضوع _ فإنّ الإستصحاب بلحاظ دلیل إعتباره یقوم مقام العلم، وذلک لأن للعلم جهات، منها: أنّه صفة نفسانیّة. ومنها: أنّه طریق إلی المعلوم وکاشف عنه. ومنها: إنّه إذا حصل تحقّق البناء القلبی علی طبقه. ومنها:إنّه إذا حصل تحرّک الإنسان عملاً علی طبقه.

لکنّ المأخوذ فی لسان الأدلّة الشرعیّة هو أخذ العلم بلحاظ العمل وترتیب الأثر علیه، فتارةً: یکون الأثر لنفس العلم، کقوله: إذا علمت فاشهد. وأُخری: یکون الأثر للمعلوم، مثل: إذا علمت بطهارة ثوبک فصلّ فیه.

وبلحاظ الآثار فی العلم والمعلوم، یقوم خبر الواحد مقام العلم، أمّا مثل

ص: 143

قاعدة الطهارة، فلا یقوم مقام العلم فی أثره، وإنّما یقوم مقامه فی أثره المعلوم.

ووقع الخلاف بینهم فی قیام الإستصحاب مقام العلم فی آثار المعلوم فقط أو فی آثار العلم والمعلوم معاً؟ علی قولین، والشیخ والمیرزا علی الثانی.

لکنّ لازم التعبّد بلحاظ المتیقَّن _ فی دلیل الإستصحاب _ الذی هو مبنی عدم جریانه مع الشک فی المقتضی، هو عدم قیام الإستصحاب مقام العلم الموضوعی.

وأمّا فی الأمر الثانی، فإنّ الشیخ والمیرزا یقولان بحکومة الأصل المحرز کالإستصحاب علی الأصل غیر المحرز کقاعدة الطهارة، فإنّ الموضوع فی قوله علیه السّلام: «کلّ شیء لک طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» هو الشکّ، والغایة لهذا الحکم الظاهری هو العلم بالقذارة. وکذا الکلام فی «کلّ شیء لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام».

فإذا جری إستصحاب الطهارة فی موردٍ، کان حاکماً علی قاعدة الطهارة، لأن بجریانه یرتفع موضوع القاعدة أی الشکّ، وتتحقّق الغایة.

هذا هو الأصل المسلّم. وهو الحق.

لکنّ المیرزا لمّا کان یقول فی الإستصحاب بأنّ التعبّد فیه لیس بلحاظ الیقین وإنّما هو بلحاظ المتیقَّن _ وهذا هو مبنی القول بعدم جریانه فی مورد الشکّ فی المقتضی _ یقع فی التهافت، لأن جریان الإستصحاب فی الطهارة _ وکذا الحلیّة _ علی القول المذکور لا یحقّق «العلم» المأخوذ «غایةً» فی القاعدتین، وإذا لم یتحقّق، فالموضوع _ وهو «الشک» _ موجودٌ، فلا تقدّم للإستصحاب علی

ص: 144

القاعدتین بالحکومة، لأنّه لو جری وتقدّم لارتفع الشکّ وحصل الیقین التعبّدی.

فعلی المیرزا رفع الید إمّا عن قوله بالتفصیل وإمّا عن قوله بالحکومة.

الجواب:

والجواب عن الإشکال فی الأمر الثانی هو أن المیرزا فی قاعدتی الطهارة والحلّ یقول: بأن معنی القاعدتین هو البناء علی الطهارة والحلّ مادام الشکُّ فیهما، أی مادام لم یعلم بالطهارة أو الحلیّة الواقعیّة، فالحکم الشرعی هو الطهارة والحلیّة ظاهراً، فلو علم بذلک وجداناً أو تعبّداً إرتفع موضوع القاعدتین. وعلی هذا، یتمّ تقدّم الإستصحاب علی القاعدتین بالحکومة، لأنّه یفید العلم التعبّدی.

فبالدقة فی کلام المیرزا یندفع الإشکال.

وأمّا الإشکال علی کلام المیرزا فی الأمر الأوّل، فالإنصاف أنّه وارد، لأنّه _ علی ما فی تقریر الشیخ الکاظمی _ یصرّح بأنّ التعبّد فی الإستصحاب هو بلحاظ آثار المتیقَّن، وعلی هذا، فإنّه یعتبر فی المتیقَّن أن یکون قابلاً للبقاء والإستمرار.

إنّ إشکال المحقّق العراقی علی هذا الکلام وارد، لأن دلیل الإستصحاب _ بناءً علیه _ غیر متعرّض لآثار الیقین، وفی العلم الموضوعی یترتّب الأثر علی نفس العلم والیقین.

ولکن یمکن الجمع بین کلام المیرزا فی المقام، وکلامه فی أوّل بحث القطع، وبذلک یرتفع الإشکال بأن یقال:

لقد ذکر المیرزا هناک أنّه إذا کان الموضوع للحکم مرکّباً من جزئین أحدهما العلم، فإنّ التعبّد بالعلم یوجب التعبّد بالجزء الآخر. مثلاً: الموضوع فی «صلّ

ص: 145

خلف معلوم العدالة» مرکّب من العدالة والعلم بالعدالة. فلو تعبّد بالعلم بالعدالة عن طریق الإستصحاب، حَصَل التعبّد بالعدالة کذلک وتحقّق الموضوع. وکذا فی «معلوم الخمریة یحرم شربه».

فظهر من کلامه أنّه إذا أُخذ (العلم) فی (الموضوع) وتعبّد ببقائه، یترتّب أثر العلم وأثر المعلوم کلیهما. وعلی هذا، ففی الإستصحاب، وإن کان الملحوظ هو المتیقَّن لا الیقین، لکنّ مورد التعبّد هو «الیقین»، أی: لا تنقض الیقین بالشکّ عملاً، ونتیجة ذلک: ترتّب أثر الیقین وأثر المتیقَّن معاً.

فالإشکال من هذه الجهة أیضاً مندفع.

وهذا تمام الکلام علی تفصیل الشیخ.

ص: 146

التفصیل بین الشبهات الحکمیّة والموضوعیّة

اشارة

ذهب إلیه المحقّق الخوئی ونسبه إلی المحقّق النراقی، ونسب إلی بعض الأخباریین أیضاً کالأسترآبادی وصاحب الحدائق.

فالإستصحاب جارٍ فی الشبهات الموضوعیّة دون الحکمیّة.

مقدّمة

لا یخفی الفرق بین الشبهة الموضوعیّة والشبهة الحکمیّة.

ففی الأولی: یکون الموضوع واضحاً للمکلَّف بجمیع قیوده وحدوده، غیر أن إنطباقه علی المورد مشکوک فیه، کما فی «أکرم العادل» فإنّ مفهوم (العادل) معلومٌ تماماً، والمشکوک فیه إنطباقه علی (زید) وأنّه مصداقٌ للعادل حتّی یجب إکرامه أو لا فلا یجب؟

وأیضاً: فإنّ رفع هذا الموضوع، أی عدم إنطباقه علی المورد، لیس بید الشارع، بل بید المکلَّف.

فهاتان خصوصیّتان للشبهة الموضوعیّة.

ص: 147

فإن لم یکن للموضوع حالة سابقة، کأن لا ندری هل کان زید عادلاً سابقاً أو لا، فهذا خارج عن البحث. وإن کان لنا علم بحاله فی السّابق، والآن نشک فی بقائه علی تلک الحال، حتّی یترتّب الأثر الشرعی من الصّلاة خلفه وغیر ذلک أو لا یترتّب؟ فهنا یجری الإستصحاب عند الکلّ _ إلاّ من ینکر حجّیة الإستصحاب مطلقاً _ لکنّه یصیر قاعدةً فقهیّة، کما تقدّم فی أوائل بحث الإستصحاب. وهذا هو السرّ فی قول الأخباریین بجریان الإستصحاب فی الشبهة الموضوعیّة، لعدم کونه من مسائل الأُصول.

وأمّا فی الثانیة: فالموضوع واضح کذلک تماماً، غیر أنّ الشبهة فی الحکم.

والشبهة الحکمیّة تارةً: فی الحکم الجزئی. ومنشأ الشبهة حینئذٍ هو الشک فی الموضوع، کأن نشک فی مطهریّة هذا المائع بسبب الشک فی أنّه ماء مطلقٌ أو لا؟ أو أنّه کرٌّ أو لا؟ وفی هذه الشبهة تجری قاعدة الشک السّببی والمسبّبی. ولا یتمسّک بالإستصحاب إلاّ فی طرف الکریّة، فیستصحب بقاؤها إن کان کُرّاً، وعدم بقائها إن لم یکن، وحینئذٍ، ینتفی الشکّ فی طرف المسبّب، أی الثوب المغسول بهذا الماء.

وأُخری: فی الحکم الکلّی. وهذا مورد البحث فی هذا المقام.

ومنشأ الشک فی الشبهة الحکمیّة الکلیّة أحد أُمور ثلاثة:

إمّا فقد الدلیل، وإمّا إجمال الدلیل، وإمّا التعارض.

ورفع الشبهة الحکمیّة الکلیّة بید الشارع لا المکلَّف، بخلاف الشبهة الحکمیّة الجزئیّة.

ص: 148

والأمر فی الشبهة الحکمیّة الکلیّة راجع إلی الفقیه فقط.

وإذا جری الإستصحاب فی هذه الشبهة کان مسألة أُصولیّة، ومن هنا قال جماعة من الأخباریین بعدم الجریان، لأنّهم مخالفون لعلم الأُصول.

هذا ... والشبهة الحکمیّة الکلیّة علی قسمین، لأنّه تارةً: یقع الشک فی مرتبة الجعل. وأُخری: فی مرتبة المجعول. وتوضیحه:

إن للحکم مرتبتین _ خلافاً لصاحب الکفایة القائل بأربعة مراتب _ وهما (مرتبة جعل الحکم)، حیث یُجعل الحکم بنحو القضیّة الحقیقیّة. و(مرتبة فعلیّة الحکم) بفعلیّة موضوعه. وإذا کان کذلک، فإنّه قد یقع الشک فی (الجعل) فلا ندری هل الحکم قد جعل لعشر سنین أو عشرین، وهذا البحث هو موضوع إستصحاب عدم النسخ. وقد یقع الشک فی (المجعول) ومنشأ الشک فقدان النص أو إجماله أو التعارض. وهذا محلّ البحث.

دلیل التفصیل

والمثال الذی ذکره المحقّق النراقی للتفصیل _ وفیه الإشارة إلی الدلیل کما سیأتی بالتفصیل _ هو ما لو علم بوجوب الجلوس _ مثلاً _ فی یوم الجمعة إلی الزوال وشک فی وجوبه بعد الزوال، فاستصحاب بقاء الوجوب یجری، لکنّه معارض باستصحاب بقاء عدم الوجوب أزلاً. وهذا التعارض أحد الأدلّة وسنتکلّم علیه. فلنذکرها بالتفصیل:

الأوّل

ما یستفاد من کلمات بعض المحدّثین، وهو: التمانع بین أخبار الإحتیاط

ص: 149

وأخبار الإستصحاب. فأخبار الإحتیاط مثل قوله علیه السّلام: «أخوک دینک فاحتط لدینک»(1) و«قفوا عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خیر من الإقتحام فی الهلکة»(2) ونحو ذلک، جاریة فی الشبهة الحکمیّة. وجریان الإستصحاب فی هذه الشبهة لا یجتمع مع هذه الأخبار.

الجواب

ویجاب عن هذا الوجه:

أوّلاً: بأنّ الإحتیاط فی الشرع غیر واجب إلاّ فی موردین، أحدهما: فی أطراف العلم الإجمالی بالتکالیف الإلزامیّة. والآخر: فی موارد الشبهة البدویة قبل الفحص. أمّا فی غیرهما، فلا دلیل علی وجوب الإحتیاط.

والتحقیق عدم جریان الإستصحاب فی الموردین المذکورین، وعلیه أعاظم الأُصولیین، أمّا فی الأوّل، فللتعارض، وأمّا فی الثانی، فلعدم المقتضی.

وثانیاً: إنّه لو فرض عدم شمول أخبار الإحتیاط للشبهة البدویة بعد الفحص أیضاً، فإنّ النسبة حینئذٍ بین دلیل الإحتیاط ودلیل الإستصحاب هی حکومة الثانی علی الأوّل أو وروده علیه، لأنّ دلیل الإحتیاط لا یکون مهملاً، والإطلاق _ بمعنی جریانه حتّی مع وجود المؤمّن من الشارع _ محال. فیکون مقیّداً عقلاً بما لا یکون هناک مرخّص. فکان دلیل وجوب الإحتیاط معلَّقاً علی عدم مجیء المرخّص، والإستصحاب مرخّص شرعی.

ص: 150


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 167، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، رقم 46.
2- 2. المصدر 27 / 159.

الثانی

إنّ أخبار الإستصحاب کلّها واردة فی الشبهات الموضوعیّة، ولا یوجد خبر فی جریانه فی الحکمیّة. وهذا یوجب إنصراف إطلاق دلیل الإستصحاب إلی الشبهة الموضوعیّة. أو أنّ هذه الشبهة هی القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب، فلا ینعقد الإطلاق.

الجواب

إن کان المراد ورود النصوص فی مورد الشبهات الموضوعیّة.

فإنّ المورد غیر مخصّص.

وإن کان المراد أنّ الموضوع فی النصوص هو الشبهة الموضوعیّة، فالجواب:

أوّلاً: إنّ المورد الذی ورد فیه الإطلاق لیس القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب، وإلاّ یلزم عدم جواز التمسّک بأیّ مطلقٍ. وثانیاً: کون القدر المتیقّن مانعاً من إنعقاد الإطلاق _ وإن قال به صاحب الکفایة _ غیر تام.

الثالث

إنّ الکبری الواردة فی نصوص الإستصحاب مثل: «لیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک» لمّا کانت مسبوقة بالیقین بالطهارة والشک فی الحَدَث، فالظاهر أنّ (اللاّم) فی (الیقین) و(الشک) هی (للعهد)، فالمراد هو یقین زرارة بالطهارة وشکّه فی الحدث، وتلک شبهة موضوعیّة، فالإستصحاب خاصّ بها.

وبعبارة أُخری، فإن الدلیل محفوفٌ بما یحتمل القرینیّة، فلا ینعقد الإطلاق لیشمل الشبهة الحکمیّة.

ص: 151

الجواب

لو حمل (اللاّم) علی (العهدیّة) کان الوجه صحیحاً، ولکنّه لا یحمل علی ذلک، لأنّ قوله «لیس ینبغی ...» إشارة إلی أمرٍ عقلیّ وتعلیلٌ به، وهو أنّ العقل لا یجوّز رفع الید عن الیقین بالشک، وهذا التعلیل یوجب إلغاء الخصوصیّة، ویجعل الروایة عامّة للشبهتین.

الرابع

إنّ أدلّة الإستصحاب ملقاة إلی العرف، فالمقصود منها ما هو المتعارف وما علیه الإرتکاز العقلائی. وبعبارة أُخری: إنّ تلک النصوص واردة فیما علیه العقلاء ومحفوفة بالإرتکاز العقلائی. ومن المعلوم أنّ الغالب فی عمل العقلاء بالإستصحاب هو موارد الشبهة الموضوعیّة، فهم إذا حَدَث موضوعٌ کان بناؤهم فی الغالب علی بقاء ذلک الموضوع، لأن الغالب فی الموضوعات هو البقاء.

والحاصل: إنّ هذه الغلبة فی الإرتکاز تمنع من إنعقاد الإطلاق للأخبار.

الجواب

قد تقدّم أنّ عمل العقلاء وبنائهم علی عدم الإعتناء بالشک بعد الیقین، إمّا هو من باب الإطمینان بالبقاء، وإمّا من باب الإحتیاط، أو من باب الرجاء. فدعوی قیام السّیرة العقلائیّة علی التعبّد بالعمل علی الحالة السّابقة _ إعتماداً علی الیقین بالحدوث والشک فی البقاء _ غیر تامّة، وعلیه، فإن إطلاق الأخبار محکّم.

الخامس

إنّ التمسّک بالدلیل للقول بجریانه فی الشبهة الحکمیّة من التمسّک بالدلیل

ص: 152

فی الشبهة الموضوعیّة، وهو باطل بالإتفاق.

وتوضیح ذلک: إنّ موضوع الحکم تارةً: محرز الإطلاق، وأُخری: محرز التقیید، وثالثةً: یکون الموضوع مقیَّداً بقیدٍ ثمّ یقع التبدّل والتغیّر فی الموضوع فیوجب الشک فی الحکم، لأنّ الحکم تابع للموضوع، فمتی وقع الشک فی الحکم کان هذا الشک ناشئاً من الشک فی الموضوع، فلو أرید التمسّک بالدلیل حینئذٍ لإبقاء الحکم، کان من التمسّک بالدلیل فی شبهته الموضوعیّة، ولزم إسراء الحکم من موضوع إلی آخر. وهذا باطل.

وبالجملة، فإن جریان الإستصحاب فی الشبهة الحکمیّة غیر ممکنٍ ثبوتاً، لأنّا عندما نشکُّ فی الشبهة الحکمیّة فی الحکم، فإنّ هذا الشک ناشئ من الشک فی الموضوع، أی ناشئ من إحتمال تبدّل الموضوع (وهو النقض)، وإذا کان الموضوع مشکوکاً فیه، کیف یتمسّک ب_(لا تنقض) مع الشک فی موضوعه وهو (النقض)؟

الجواب

ویکفی فی الجواب عن هذا الوجه أن نقول: بأنّه إنّما یتمّ لو کان موضوع الإستصحاب مأخوذاً من العقل. لکنّ المقرّر أنّه یؤخذ من العرف، وعلی هذا، فلا تحصل الشبهة الموضوعیّة لمفهوم النقض.

توضیحه:

إنّ کلّ لفظٍ أُخذ موضوعاً فی لسان الدلیل، فلابدّ من معرفة مفهومه العرفی ثمّ تطبیقه علی المورد. فإذا قال الشارع: «توضّأ بالماء». لزم معرفة مفهوم لفظ الماء عند العرف، ثمّ نری بعقلنا هل هذا المائع المعیَّن ماءٌ أو لا، فالمفهوم عرفی وتطبیقه عقلی.

ص: 153

ثمّ إنّ الموضوع، إن کان باقیاً علی حاله، فالحکم کذلک، وإن احتمل التبدّل فیه، فإنّ التبدّل یکون تارةً: فی قِوام الشیء، وأُخری: فی أحواله، فإن کان فی المقوّمات، کان الإستصحاب إسراء الحکم من الموضوع إلی الموضوع الآخر. وأمّا إن کان فی الأحوال فلا، لأنّ العرف لا یری إلاّ نفس الموضوع.

والحاصل: إنّ المعتبر فی الإستصحاب بقاء الموضوع بنظر العرف، والعرف یری ذلک إن کان التغیّر الموجب للشک فی الحالات لا فی المقوّمات.

هل المحقّق النراقی قائل بالتفصیل؟

قد ذکرنا عن السیّد الخوئی نسبة التفصیل إلیه، وذکرنا المثال وهو الجلوس إلی الزوال، ولکن قال شیخنا دام بقاه: فی النسبة نظر، فنقول:

ذکر المحقّق النراقی: أنّ الأُمور علی قسمین، وهی الأُمور الخارجیّة والأحکام الشرعیّة، وکلٌّ منهما ینقسم إلی ما له اقتضاء البقاء إلاّ أن یرفعه رافع، وما لیس له إقتضاء البقاء. وقد جَعَل الأحکام الوضعیّة _ من الأحکام الشرعیّة _ ممّا له إقتضاء البقاء، کالطهارة والنجاسة والقضاوة والزوجیّة والملکیّة ونحو ذلک. وأمّا الأحکام التکلیفیّة، فقد قسّمها إلی ثلاثة أقسام، فمنها ما هو مقیّد، فله حدٌّ وغایة، ومنها ما هو مطلق، ومنها ما هو مهمل بالنسبة إلی الغایة والزمان. فأمّا الأوّل کوجوب الصّوم إلی اللّیل، فإن الحکم فیه ینتفی بتحقّق الغایة، فلا مجال فیه للإستصحاب، لعدم إقتضاء البقاء بعد الغایة. وأمّا الثانی، کحرمة شرب الخمر، فإن زواله یکون بمجیء الرافع، کالضرر مثلاً، وهذا مجری الإستصحاب. وأمّا الثالث _ وهو الحکم غیر المقیَّد وغیر المطلق _ فهو مورد تعارض الإستصحابین:

ص: 154

إستصحاب بقاء الحکم وإستصحاب عدم الحکم بعد القید المشکوک فیه.

والحاصل: إنّه یقول بجریان الإستصحاب فی الأحکام الوضعیّة مطلقاً، وفی قسمٍ من الأحکام التکلیفیّة، وهو عمدة الأحکام وأکثرها. وإنّما یری التعارض بین الإستصحابین فی قسمٍ واحدٍ من الأحکام التکلیفیّة.

هذا خلاصة ما أفاده فی المناهج.(1)

وأمّا فی المستند،(2) ففی مسألة جفاف النجاسة، ذکر بأنّه قد یحصل الجفاف بالشمس، فالموضع طاهر. وقد یحصل بالهواء، فنجاسة الموضع باقیة. أمّا لو جفَّ الموضع النجس بإشراق الشمس والهواء معاً، فهل یطهر أو لا؟

(قال): یُلحظ المتقدّم، فإن کان الشمس فطاهر، وإن کان الهواء فالنجاسة باقیة. (ثمّ ذکر): أنّه لو أشرقت الشمس علی الموضع ولکنّه جفَّ بالهواء، وقع التعارض بین موثقة الحضرمی: «ما أشرقت علیه الشمس فقد طَهُرَ»(3) وصحیحة زرارة: «إذا جفّفته الشمس طَهُر».(4) حیث أنّ الموثّقة مطلقة بالنسبة إلی کون الجفاف بالهواء بعد الشمس، وحصوله بالشمس فقط، أمّا الصّحیحة فمفهومها عدم الطهارة إن کان الجفاف بغیر الشمس، (قال) وإذا تعارضا تساقطا، وکان المرجع إستصحاب النجاسة.

وإذا کان هذا مبنی المحقّق النراقی فی أُصول وفقهه، فإنّ نسبة القول بالتفصیل إلیه غیر تامّة.

ص: 155


1- 1. مناهج الأحکام والأُصول: 242.
2- 2. مستند الشیعة 2 / 495.
3- 3. وسائل الشیعة 3 / 453، الباب 30 من أبواب النجاسات، رقم 5.
4- 4. المصدر، 3 / 451، الباب 29، رقم 1. باختلاف.
الدلیل المهم للقول بالتفصیل

تعرّضنا لوجوه القول بالتفصیل ونقدها، وبقی الوجه المهمّ من بینها، وتقریبه:

قد ذکرنا أنّ للحکم مرتبتین: مرتبة الجعل ومرتبة المجعول، فمرتبة الجعل مقام الإنشاء والإعتبار، ومرتبة المجعول مقام الفعلیّة، فإنّ الحاکم یفرض وجود الموضوع ویعتبر الحکم علیه بنحو القضیّة الحقیقیّة، کما فی آیة الحج، وکذلک فی الأحکام الوضعیّة. وأمّا مقام الفعلیّة، فوجود الموضوع فی الخارج ضروری. فهذه جهةٌ للفرق بین المرتبتین. والجهة الأُخری: أنّه لا أثر من حیث الطاعة والمعصیة علی المرتبة الأولی، بخلاف الثانیة، فإنّها ظرف تحقّق الطّاعة والمعصیة.

فهذه مقدّمة.

والمقدّمة الثانیة هی: إنّ الأحکام بأجمعها مسبوقة بالعدم، فالماء القلیل لم یکن نجساً بالملاقاة قبل التشریع، فلمّا جاءت الشریعة حکم بنجاسته، فإن تمّم کرّاً وَقَع الشکّ فی بقاء النجاسة السّابقة وعدم بقائها. وبعبارة أُخری: یقع الشک فی أنّ الشارع هل جعل لهذا الماء حکم الطهارة علی خلاف الحکم السّابق، لأنّ الکرّ طاهر، أو لم یجعل؟ فالمرجع هو: «لا تنقض الیقین بالشک». فالمجعول وهو النجاسة للماء القلیل باقٍ بالإستصحاب.

لکنّ هذا الإستصحاب یعارضه عدم الجعل الأزلی، فإنّ الأصل فی هذا الماء المتمَّم کرّاً عدم جعل النجاسة له، فیقع التعارض بین الإستصحابین.

وهذا التحقیق من السیّد الخوئی، ولا یوجد فی کلمات المحقّق النراقی.

ص: 156

الکلام حول التفصیل بالتفصیل
اشارة

وقد وقع هذا التفصیل موقع البحث الطّویل بین الأعلام، فقد ردّ علیه الشیخ وصاحب الکفایة والمیرزا وغیرهم، ودافع عنه السیّد الخوئی واختاره، وإلیک التفصیل:

الإشکالات علی هذا التفصیل
اشارة

وقد ذکر المحقّق الخوئی ما أشکل به الشّیخ وصاحب الکفایة وغیرهما علی هذا التفصیل وحاول الرّد علیها، وأورد شیخنا الأُستاذ دام بقاه الإشکالات والردود وتکلّم علیها:

إشکال الشیخ

لقد أشکل الشیخ(1) وأجاب عن مثال الجلوس فی یوم الجمعة إلی الزوال بما حاصله:

إنّ الزمان إن کان مأخوذاً علی نحوٍ یکون قیداً للوجوب، فلا مجال لإجراء الإستصحاب بعد الزوال، للقطع بارتفاع الوجوب، وإلاّ یلزم إسراء الحکم من موضوعٍ إلی آخر، فلا مجری إلاّ لاستصحاب العدم الأزلی، وإن کان مأخوذاً علی نحوٍ یکون ظرفاً للجلوس الواجب، فإنّ الإستصحاب یجری فی وجوب الجلوس، لبقاء موضوعه، ولا یجری إستصحاب العدم الأزلی، لانتقاضه بالوجود المطلق غیر المقیَّد بزمانٍ معیَّن کما هو المفروض.

ص: 157


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 210.

الجواب

ویجاب عن هذا الإشکال:(1) بأنّ الزمان إذا لوحظ ظرفاً للجلوس، فإنّ الإستصحاب کما یجری فی الجلوس لتمامیّة الأرکان فیه، کذلک یجری فی العدم الأزلی، لأنّ وجوب الجلوس أمر حادث مسبوقٌ بالعدم المطلق، والقدر الذی نعلم بانتقاضه هو وجوب الجلوس إلی الزوال، وأمّا بعد الزوال فوجوب الجلوس مشکوک فیه، فیجری إستصحاب العدم الأزلی کذلک، ویقع التعارض بین الإستصحابین.

وهو جواب متین.

إشکال الکفایة

وحاصله: إنّ الزمان ظرف عرفاً لا قید، لأن أهل العرف یرون الموضوع _ وهو الجلوس _ بعد تصرّم الزمان باقیاً، هذه هی الصغری. والکبری: إن العبرة فی بقاء الموضوع ووحدته فی القضیتین بفهم أهل العرف لا بالدقّة العقلیّة. فالإستصحاب الوجودی جارٍ، لتمامیّة أرکانه، ولا یبقی مجال لجریان إستصحاب العدم الأزلی لیعارضه.(2)

الجواب

إنّه لا کلام فی ضرورة وحدة الموضوع بالنظر العرفی، ولکن هنا

ص: 158


1- 1. مبانی الإستنباط: 71 _ 72.
2- 2. کفایة الأُصول: 409 _ 410.

إستصحابان، فإنّ الجلوس بعد الزوال المشکوک فی وجوبه مسبوق بالیقین بوجود وجوبه، فیجری الإستصحاب الوجودی. ومسبوقٌ أیضاً بالیقین بعدم وجوبه، فیجری الإستصحاب العدمی. وإذا جری الإستصحابان وقع التعارض بینهما.

وهذا الجواب متین.

إشکال المحقّق النائینی

وأشکل المیرزا بما حاصله:(1) أنّه یعتبر فی صحّة الإستصحاب کون زمان المشکوک فیه متّصلاً بزمان المتیقّن، وأمّا إتّصال نفس صفة الیقین بصفة الشک، فغیر معتبر قطعاً. ولذا لو تیقّن أحد بعدالة شخص فنام ثمّ شک بعد الإنتباه فی بقاء عدالته، یصح جریان الإستصحاب فیها بلا إشکال، مع أنّ صفة الیقین قد انفصلت عن صفة الشک بالنوم. وعلیه فلا یمکن جریان إستصحاب عدم التکلیف فی مفروض المثال، لانفصال زمان المتیقّن عن زمان المشکوک فیه بالیقین بوجوب الجلوس قبل الزوال، کما لا یخفی.

الجواب

أجاب تلمیذه المحقّق بأن: کبری کون العبرة فی صحّة جریان الإستصحاب باتّصال زمان المشکوک فیه بزمان المتیقّن وإن کانت صحیحة کما ذکر، إلاّ أنّ المقام أیضاً من صغریات تلک الکبری، ولیس خارجاً عنها، وذلک، لما علم ممّا بیّنّاه من أنّ المراد من العدم المستصحب لیس هو العدم السّابق علی فعلیّة

ص: 159


1- 1. أجود التقریرات 4 / 111.

التکلیف، بل المراد منه هو العدم الأزلی السّابق علی جعل الأحکام وتشریعها، حیث أنّا نشک فی أنّ وجوب الجلوس فی مفروض المثال هل جعل _ حینما جعل _ وسیعاً بحیث یشمل ما بعد الزوال، أو کان مضیّقاً ومختصّاً بما قبل الزوال؟ وعلیه فیتّصل زمان المشکوک فیه بزمان المتیقّن. کما لا یخفی.

وهذا الجواب متین.

إشکال آخر

وأورد المحقّق النائینی علی التفصیل بوجهٍ آخر، بعد أن دافع عنه بالردّ علی إشکال الشیخ، وشرح ذلک هو: إنّ الشیخ أجاب عمّا ذکر الفاضل النراقی فی مثال الجلوس إلی الزوال بما حاصله: إنّ الزمان _ وهو الزوال _ إمّا قیدٌ للواجب أو الوجوب وإمّا ظرف، فإن کان قیداً، فلا مجعول حتّی یستصحب عدم لیعارض الوجود، وإن کان ظرفاً فلا استصحاب للعدم، ویبقی إستصحاب الوجوب بلا معارض.

فدفع المیرزا الإشکال: بأنّ العدم الأزلی لمّا انقلب إلی الوجود لم یکن العدم بعد وجوده من العدم الأزلی حتّی یستصحب.

لکنّه أورد علی النراقی: بأنّ الأثر للمجعول لا للجعل حتّی یجری إستصحاب عدم الجعل، وتوضیحه:

إنّ للحکم مرتبتین هما مرتبة الإنشاء ومرتبة الفعلیّة _ خلافاً للمحقّق الخراسانی بأنّها أربع مراتب _ ولکن لا خلاف فی أنّ الوجود الحقیقی للحکم هو وجوده فی مرتبة الفعلیّة، ونسبة الوجود الإنشائی للحکم إلی الوجود الحقیقی الفعلی نسبة القوّة إلی الفعلیّة، فإنشاء الحکم لیس الحکم بالفعل، وإنّما یُفرض

ص: 160

وجود الموضوع للحکم فی مرتبة الإنشاء، لکون الأحکام الشرعیّة بنحو القضایا الحقیقیّة، وفعلیّة الحکم متوقّفة علی فعلیّة موضوعه، ولولا فعلیّة الموضوع لم یتحقّق للحکم الفعلیّة، إذ الحکم بلا موضوعٍ محال.

ثمّ إنّ الأثر یترتّب دائماً علی الحکم الفعلی، ولیس له فی مرتبة الإنشاء أثر، والمراد من الأثر هو وجوب الطاعة وحرمة المعصیة للحکم الشرعی الفعلی المتحقّق بتحقّق موضوعه.

وعلی ما تقدّم، فإنّه لابدّ من الأثر للتعبّد الإستصحابی وإلاّ یکون لغواً، فإن استصحب وجود الحکم تحقّق الموضوع للأثر، وإن استصحب عدم الحکم رفع موضوع الأثر.

وبما ذکرنا یظهر تمامیّة أرکان الإستصحاب فی ناحیة عدم جعل الحکم، فالماء الذی زال تغیّره یوجد الیقین بعدم جعل النجاسة له أزلاً، کما أنّ الشک فی بقاء ذلک العدم موجود کذلک، إلاّ أنّ الإشکال فی وجود الأثر لهذا الإستصحاب، لأنّ «عدم الجعل» لیس حکماً شرعیّاً، ولیس موضوعاً لحکم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصیة، لأن موضوع هذا الحکم العقلی هو مجعول المولی لا جعله، إذ الأثر المذکور یترتّب علی الإستطاعة الفعلیّة التی بها یتحقّق الحکم الشرعی بوجوب الحج لا علی قوله تعالی: «وَللّه ِِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبیلاً ».(1)

فالحاصل: عدم جریان إستصحاب عدم الجعل، لعدم الأثر له، لأنّ الأثر العقلی یترتّب علی الحکم الشرعی، وإنشاء الحکم لیس بالحکم.

ص: 161


1- 1. سورة آل عمران، الآیة 97.

الجواب

أجاب المحقّق الخوئی عن إشکال شیخه بناءً علی ما ذهب إلیه من أنّ حقیقة الإنشاء هو الإعتبار والإبراز، وأن وزان الإعتبار وزان التصوّر، فکما أنّ المتصوَّر تارةً فعلی وأُخری إستقبالی، کذلک المعتَبر، فقد یکون فعلیّاً کاعتبار الزوجیّة بین زیدٍ وهند، وقد یکون إستقبالیّاً کما فی کتاب الوصیّة، حیث أنّ الإعتبار فعلی والمعتَبر إستقبالی، والأحکام الشرعیّة أیضاً کذلک، فما کان منها مشروطاً بشرطٍ کان المعتَبر فیه إستقبالیّاً، وما لم یتحقّق الشرط لم یترتّب علیه الأثر، کما فی إذا زالت الشمس فصلّ، و«وَللّه ِِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ ... ».

ثمّ إنّه لا یعتبر فی الإستصحاب کون المستصحب ذا أثرٍ حدوثاً، بل إنّه یعتبر وجود الأثر له بقاءً، وقد تقدّم سابقاً أنّ حقیقة الإستصحاب هو التعبّد بالبقاء من الشارع.

وبناءً علی ما ذکر یظهر ما فی کلام المیرزا من أنّه لا أثر للوجود الإنشائی للحکم، لأنّه بمجرّد تحقّق الموضوع یصیر الشرط منشأً للأثر.

نظر الأُستاذ

إنّ من الواضح أن لا مجال لهذا البحث بناءً علی الإتّحاد بین الجعل والمجعول کالإیجاد والوجود، إذ لا معنی حینئذٍ لإبقاء المجعول بالإستصحاب وإستصحاب عدم الجعل، والقول بالتعارض بینهما. وإنّما یجری البحث بناءً علی المغایرة بینهما، بأن تکون النسبة بینهما هی السّببیّة والمسببیّة، فالجعل عبارة عن الإنشاء والإعتبار، والمبرز والمجعول عبارة عن المعتَبر وما یتحقّق بسبب الإنشاء.

ولکنّ صریح کلمات السیّد الخوئی فی الفقه والأُصول فی المواضع الکثیرة

ص: 162

المختلفة هو أنّ الجعل والمجعول واحد حقیقةً، والفرق بینهما إعتباری کالإیجاد والوجود.

وهل یتمّ ما ذکره بناءً علی التعدّد والمغایرة بین الجعل والمجعول؟

التحقیق: لا. لوجهین، أحدهما: ما تقدّم من أنّ الموضوع لحکم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصیة هو المعتَبر للمولی والمسبَّب لا الإعتبار والسّبب.

والثانی: إنّ السّعة والضیق فی الإعتبار یدوران مدار سعة وضیق المتعلَّق والمعتَبر، فإذا کانت النجاسة مجعولةً للماء المتغیّر فقط أوله وللماء الذی زال عنه التغیّر، کان الجعل والإنشاء والإعتبار فی کلیهما واحداً، وإذا کان وجوب العتق للرقبة مطلقاً أو لخصوص المؤمنة، کان العتق فی کلیهما واحداً، وکذلک فی إکرام العالم والعالم العادل، فإنّه لا أکثریّة وأقلیّة فی الإعتبار حتّی یجری الإستصحاب بالنسبة إلی العدم عند الشکّ فی تبدّل عدم الإعتبار إلی الوجود والجعل.

والحاصل: إنّ الحق مع المشهور القائلین بجریان الإستصحاب فی المجعول وعدم جریانه فی طرف عدم الجعل.

رأی المحقّق العراقی

وما ذکرناه هو الإشکال الصّحیح الوارد علی التفصیل.

وأمّا ما أفاده المحقّق العراقی(1) من أن مشکلة الإستصحاب هی عدم بقاء الموضوع بعد زوال القید وتبدّله، فلا یجری لعدم وحدة الموضوع بین القضیّتین، وأنّه یمکن حلّها بتقریب: إنّه لا یمکن تقیید الموضوع بالحکم وعلل الحکم، لأنّ القید فی مرتبة المقیَّد ولا یتأخّر عنه، وکلّ حکم فهو متأخّر رتبةً عن الموضوع.

ص: 163


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 10.

وعلیه، ففی مثل: الماء إذا تغیّر ینجس، یکون التغیّر علّةً للحکم، وإذا لم یتقیّد الموضوع بعلّة الحکم، کانت وحدة الموضوع _ وهو ذات الماء _ محفوظةً فی القضیّتین، فیجری الإستصحاب ویتمّ القول بالتفصیل. وتوضیح ذلک:

إنّ القیود علی قسمین، فمنها ما هو قیدٌ للحکم ومنها ما هو قیدٌ للموضوع، والفرق بینهما هو أن قید الحکم دخیلٌ فی أصل مصلحة الحکم فهو علّةٌ لتحقّق المصلحة، کالزوال بالنسبة إلی الصّلاة، وأمّا قید الموضوع، فهو علّة لتحقّق الشیء ذی المصلحة، کالطهارة بالنسبة إلی الصّلاة. والتغیّر فی المثال المذکور من قبیل القسم الأوّل، ولمّا إستحال أن یکون قیداً للموضوع وهو الماء، فإنّ الموضوع فی القضیّتین واحد والإستصحاب جارٍ.

فإن قیل: إنّه لمّا حکم بنجاسة الماء المتغیّر، لم یعقل الإهمال فی الموضوع، فهو إمّا مطلق عن التغیّر وإمّا مقیَّد به، لکنّ الإطلاق أیضاً ساقط، فلا محالة یکون الموضوع _ وهو الماء _ مقیّداً بالتغیّر، فیعود الاشکال.

فالجواب ما ذهب إلیه المحقّق العراقی من القول بالحصّة التوأمة، فلیس الموضوع مطلقاً بالنسبة إلی التغیّر ولا مقیّداً به، بل الموضوع للحکم بالنجاسة هو الحصّة من الماء التی کانت توأماً مع التغیّر، فکما أنّ «الوجود» فی قولنا زید موجودٌ، محمولٌ علی ذات زیدٍ لا بشرط وجوده وإلاّ یلزم إجتماع المثلین، ولا بشرط عدمه، وإلاّ یلزم إجتماع النقیضین، ولا بشرط من الوجود والعدم، کذلک الحال فی علل الأحکام بالنسبة إلی موضوعاتها.

وعلی الجملة، فإنّ مشکلة التفصیل هی عدم جریان الإستصحاب، لعدم

ص: 164

وحدة الموضوع، وهی مرتفعة بما ذکره من عدم تقیّد الموضوع بالتغیّر، فهو محفوظ فی القضیّتین وأرکان الإستصحاب تامّة.

الإشکال علیه

فقد أشکل علیه شیخنا دام بقاه، بأنّه لا ریب فی إختلاف المرتبة بین الحکم والموضوع، وأمّا بین علّة الحکم والموضوع، فلا یوجد الملاک للتقدّم والتأخّر فی المرتبة أصلاً. ویشهد بذلک إنقسام الماء إلی المتغیّر وغیر المتغیّر وقابلیّة تقیید المقسم بالقسم، فقوله بعدم إمکان تقیّد الماء بالتغیّر ممنوع.

المطلب الأخیر

قد ظهر أنّ الإشکال الوارد علی التفصیل هو عدم جریان إستصحاب عدم الجعل، لعدم الأثر.

ولقائل أن یقول بوجود الأثر لهذا الإستصحاب، فیکون جاریاً ویقع التعارض ویتمّ القول بالتفصیل، والأثر هو جواز الإفتاء والإخبار عن الحکم الشرعی. فقد کان الماء المتغیّر بالنجاسة محکوماً علیه بالنجاسة، ثمّ لمّا زال التغیّر وشک فی بقاء النجاسة، استصحبت النجاسة وحکم بوجوب الإجتناب عن هذا الماء. وهذا الأثر جارٍ فی جمیع موارد الشبهة الحکمیّة.

والجواب: إنّ جواز الإخبار عن حکم اللّه یدور مدار العلم به، قال تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ »(1) والعلم _ کما هو معلوم _ تارةً وجدانی، وأُخری

ص: 165


1- 1. سورة الإسراء، الآیة 36.

تعبّدی، کما فی خبر الثقة بناءً علی الطریقیّة کما هو التحقیق، فیقوم مقام العلم الطریقی والموضوعی. وأمّا الإستصحاب، فهو أصل محرز، ویدلّ دلیله علی قیامه مقام العلم الطریقی، بأن یترتّب علیه أثر الواقع، وأمّا قیامه مقام العلم الموضوعی فلا، لأنّ الشک مأخوذٌ فی نصوص أدلّته _ بخلاف الأمارة کخبر الواحد، حیث أُلغی فیها الشک _ فکیف یکون مفیداً للعلم تعبّداً؟ ومع عدم إفادته للعلم، کیف یجوز الإخبار؟

وأمّا السیّد الخوئی _ القائل بالتفصیل _ فقد اختلف کلامه، أمّا فی کتاب الهدایة فی علم الأُصول، فقد صرّح بعدم قیام الإستصحاب مقام العلم الموضوعی، وأمّا فی مصباح الأُصول، فقد صرّح فی مورد بکونه من الأمارات، وفی موضع آخر بکونه من الأُصول، فنصّ فی موردٍ بقیامه مقام العلم وفی آخر بالعدم.

وعلی الجملة، فإنّ الشک مأخوذ فی أدلّة الإستصحاب. هذا أوّلاً.

وثانیاً: لیس الإستصحاب فی السّیرة العقلائیّة من الأمارات، بل إنّ أدلّة الإستصحاب تفید عدم نقض الیقین بالشک من حیث العمل، سواءً وجد الظنّ بالبقاء أو لا.

ومع التنزّل عما ذکر، فلا أقل من الشک فی تنزیل الإستصحاب بمنزلة العلم الموضوعی، والقدر المتیقّن هو تنزیله بمنزلة العلم الطریقی فقط.

إشکال آخر

وأورد علی التفصیل: بأن إستصحاب بقاء المجعول یقتضی بقاء النجاسة فی الماء المتمّم کرّاً، وإستصحاب العدم الأزلی یقتضی عدم نجاسته. لکنّ هذا الإستصحاب _ إستصحاب العدم الأزلی _ إنّما یجری لیعارض إستصحاب بقاء المجعول، إن لم یکن له معارض فی مرتبته، إلاّ أن إستصحاب عدم الجعل أزلاً

ص: 166

یعارضه إستصحاب عدم جعل الطهارة، لأنّ الطهارة أیضاً حکم مجعول وحالته السّابقة العدم فیجری الإستصحاب، وإذا تعارضا تساقطا، وبقی إستصحاب بقاء المجعول جاریاً بلا معارض.

الجواب

ذهب السیّد الخوئی إلی أنّه لا یجری إستصحاب عدم جعل الطهارة والإباحة، وذلک، لأنّ الأحکام المجعولة فی الشریعة هی الأحکام الإلزامیّة، وأمّا الأحکام الترخیصیّة، فلا مانع من جریان الإستصحاب فیها ... .

هذا أوّلاً.

أقول:

سیأتی الکلام علی هذا الجواب الذی هو التفصیل فی التفصیل.

وثانیاً: إنّ إستصحاب عدم جعل الطهارة أزلاً یجری ولکنّه لا ینافی إستصحاب عدم النجاسة کذلک.

توضیح ذلک:

إنّه یوجد فی المقام علمٌ إجمالی إمّا بجعل الإباحة أو الطهارة، وإمّا بجعل الحرمة أو النجاسة، ففی المرأة المنقطع عنها الدم علمٌ إجمالی إمّا بحرمة الوطی وإمّا بجوازه، لأنّ کلاًّ من الحکمین مقتضی الإستصحاب، فیتعارض الإستصحابان. وهنا مسالک:

1 _ مسلک الشیخ، عدم جریان الإستصحاب فی أطراف العلم، لوقوع التعارض بین صدر دلیل الإستصحاب وذیله. لأن الصدر یقول بعدم النقض،

ص: 167

وذیل یقول بالنقض بالیقین سواء کان تفصیلیّاً أو إجمالیّاً، فالإشکال إثباتی.

وأُجیب فی محلّه بعدم لزوم التناقض، لأن مجری الإستصحاب هو الخصوصیّة، ولا توجد الیقین بالخلاف فی الخصوصیّتین، فإن الیقین هو بعدم جعل الإلزام والشک هو فی بقاء هذا العدم، والیقین بعدم جعل الإباحة والشک هو فی بقاء هذا العدم، وقد تعلّق الیقین فی العلم الإجمالی ب_«الأحد» لا ب_«الخصوصیّة». فالذی تعلّق به الیقین لا یجری فیه الإستصحاب _ لعدم جریان الإستصحاب فی «أحدهما» _ والذی یجری فیه الإستصحاب «کلّ واحدٍ من الخصوصیّتین».

2 _ مسلک المیرزا: عدم الجریان، لعدم إمکان التعبّد بمقتضی الإستصحابین لمنافاتهما مع العلم الوجدانی علی خلاف أحدهما. فالإشکال ثبوتی.

وقد أُجیب فی محلّه: بأنّ الموافقة الإلتزامیّة غیر واجبة، فلا مانع من جریان الأصلین وإن کان أحدهما مخالفاً للواقع.

رأی السیّد الأُستاذ

والسیّد الأُستاذ _ بعد أن قرّب التفصیل وردّ علی إشکالی الشیخ وصاحب الکفایة _ قال:

والتحقیق: إنّ ما أفاده النراقی وتابعه علیه السیّد الخوئی بالتقریب المتقدّم یبتنی علی أُمور:

أحدها: إنّ إستصحاب عدم الجعل ممّا یترتّب علیه أثر عملی مباشر وإلاّ کان لغواً أو مثبتاً.

ص: 168

الثانی: إنّ عدم الجعل ممّا یمکن أن یکون مورداً للتعبّد الشرعی وإلاّ لم یصح أن یجری فیه الإستصحاب، لأنّه لیس بمجعول شرعی ولیس بموضوع شرعی لأثر شرعی.

الثالث: إنّ الجعل یختلف سعة وضیقاً باختلاف المجعول سعة وضیقاً، وإلاّ فلو فرض أنّه بنحو واحد کان المجعول متّسعاً أو ضیقاً لم یجر إستصحاب عدم الجعل فیما نحن فیه کما سیتّضح إن شاء اللّه تعالی.

وجمیع هذه الأُمور محل بحث وکلام، ولأجل ذلک لابدّ من إیقاع البحث فی جهات:

الجهة الأُولی: فی أنّ إستصحاب عدم الجعل هل یمکن أن یجری فی نفسه لترتّب أثر عملی علیه أو لا؟.

وقد ذهب المحقّق النائینی رحمه اللّه إلی الثانی، ببیان: انّ الآثار العملیّة العقلیّة من لزوم الإطاعة والتنجیز ونحوها إنّما یترتّب علی الحکم المجعول الفعلی بفعلیّة موضوعه، وإمّا الجعل بنفسه فلا یترتّب علیه أی أثر عملی.

وعلیه، فیکون التعبّد بعدم الجعل لغواً، لعدم أثر عملی مترتّب علیه، فلا یصح جریان الإستصحاب فیه لوضوح انّ التعبّد الإستصحابی إنّما هو بلحاظ الأثر العملی ... .(1)

ثمّ أورد ردّ المحقّق العراقی علی هذا الإشکال وأجاب عنه ... ثمّ تکلّم علی الأمرین الآخرین.

ص: 169


1- 1. منتقی الأُصول 6 / 75.

وعلی الجملة، فإنّ مسلکه متطابق مع مسلک شیخنا الأُستاذ الذی تبعناه علیه، والعمدة فی الجواب عن التفصیل هو إشکال المحقّق النائینی المذکور.

تفصیل فی التفصیل

هذا، وقد فصّل المحقّق الخوئی فی التفصیل المذکور: بأنّ التعارض بین الإستصحابین یختصّ بالأحکام الإلزامیّة، وأمّا الأحکام الترخیصیّة وهی الإباحة والحلیّة، والطهارة الخبثیّة، والطهارة الحدثیّة، فلا یقع فیها التعارض بین إستصحاب بقاء المجعول وإستصحاب عدم الجعل.

وقد إستدلّ لما ذهب إلیه بوجهین:

أحدهما: ما یدلّ علیه قوله علیه السّلام: «أُسکتوا عمّا سکت اللّه عنه»(1) وقوله علیه السّلام: «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».(2) فإنّ هذه الأخبار ظاهرة فی عدم تحقّق الشکّ فی الحلیّة والإباحة حتّی یجری إستصحاب عدم الجعل.

والثانی: إنّ الشریعة إنّما جاءت لبیان الأحکام الإلزامیّة من الواجبات والمحرّمات، والحلیّة والطهارة لا یحتاجان إلی البیان، لأن الأشیاء کلّها علی الحلیّة والطهارة.

الإشکال علیه

وقد أشکل علیه بوجوه منها:

أوّلاً: إنّ الکلام هنا فی الإباحة الواقعیّة، وحدیث الحجب عند السیّد الخوئی

ص: 170


1- 1. بحار الأنوار 2 / 260.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 163، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، رقم 33.

من أدلّة البراءة الشرعیّة، وهی حلیّة وإباحة ظاهریّة.

وأمّا الخبر: أُسکتوا عمّا سکت اللّه عنه، فمخدوش سنداً ودلالةً.

وثانیاً: کون الأشیاء کلّها فی الشرائع السّابقة علی الحلیّة والطهارة أوّل الکلام، بل لعلّ الدلیل علی خلافه.

وثالثاً: إنّ الطهارة حکم شرعی وضعی، والحلیّة حکم شرعی تکلیفی، وکلاهما مجعولان فی الشریعة بحسب ظواهر الکتاب والسنّة کما لا یخفی.

خلاصة الکلام فی المقام

إنّه بعد الفراغ عمّا تقدّم، لابدّ من النظر فی أمر الإستصحابین من جهتین:

جهة المقتضی:

والتحقیق جریان الإستصحابین، لتمامیّة أرکانهما، فالیقین أزلاً بعدم جعل الحرمة لوطئ المرأة _ مثلاً _ قد تبدّل إلی الیقین بجعل الحرمة فی حال الحیض بقوله تعالی: «فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِی الَْمحیضِ »،(1) وأمّا إذا إنقطع الدم وشک فی جعل الحرمة، فإنّه یستصحب عدم الجعل السّابق.

وکذلک الحال بالنسبة إلی إستصحاب عدم الإباحة أزلاً، فإنّه مع الشک فی تبدّل عدم جعل الحلیّة إلی جعل الحلیّة والإباحة، یستصحب العدم.

ومثل ذلک ما إذا شک فی طهارة الماء ونجاسته بعد زوال التغیّر عنه.

وإنّما الکلام فی:

ص: 171


1- 1. سورة البقرة، الآیة 222.

جهة المانع، وتساقط الإستصحابین لوقوع التعارض فیما بینهما، فما هو المنشأ للمعارضة؟ وجوه:

أحدها: استحالة التعبّد بالمتناقضین کالحرمة وعدم الحرمة، أو الضدّین، کالطهارة والنجاسة.

ولکنّ هذا المحذور منتفٍ هنا، إذ لا مانع من عدم جعل الحرمة وعدم جعل الإباحة للشیء الواحد، بأن یکون خالیاً من الحکمین، وکذا عدم الطهارة وعدم النجاسة، کما فی الماء المتغیّر، لعدم التناقض أو التضادّ، کما هو واضح.

والثانی: لزوم التمانع فی حکم العقل، لأنّ العقل یحکم بالإمتثال إنبعاثاً أو إنزجاراً وبالرخصة، فإذا جُعل الحکمان من جعل الحرمة وجعل عدمها، یحصل التمانع فی حکم العقل.

وهذا المحذور منتفٍ کذلک، لأنّ المفروض عدم جعل الحرمة وعدم جعل الإباحة، وأنّ الموضوع خالٍ من الحکمین المتضادّین أو المتناقضین.

والثالث: لزوم الترخیص فی المعصیة والمخالفة العملیّة، ولذا لا یجری الأصلان فی أطراف العلم الإجمالی.

وهذا المحذور أیضاً منتفٍ، لعدم وجود الحکم الإلزامی فی المقام.

وتلخّص إلی الآن أن لا مانع من جریان الأصلین، لعدم وجود المعارضة فیما بینهما.

ویبقی المحذور المهم المانع من جریان الإستصحابین والذی وقع الکلام حوله بین الأعلام، وهو:

ص: 172

إنّه قد تقرّر لدی المحقّقین قیام الإستصحاب مقام العلم الموضوعی کقیامه مقام العلم الطریقی، وعلیه، فإنّ للمجتهد الذی إستصحب عدم جعل الحرمة وعدم جعل الإباحة أن یخبر _ بعد إنقطاع الدم عن المرأة _ عن عدم حرمة وطیها وعدم إباحة وطیها، کما هو مقتضی الإستصحابین، ولکنّه یعلم إجمالاً ببطلان أحدهما وکذبه.

إذن، لا یجری الأصلان فلا یتمّ القول بالتفصیل.

الجواب:

ویمکن الجواب عن هذا الإشکال ورفع المحذور بأن یقال: صحیحٌ أنّ الإطلاق حجّة، ومقتضی إطلاق أدلّة الإستصحاب قیامه مقام العلم الطریقی والموضوعی، بأن یترتّب علی الإستصحاب أثر العلم والمعلوم کلیهما، إلاّ أن الإطلاق یتقیّد بالمقیِّد الشرعی أو العقلی وترفع الید عنه بقدر قیام المقیِّد. وفیما نحن فیه، لابدّ من رفع الید عن قیام الإستصحاب مقام القطع الموضوعی، لأنّ قیامه مقامه یستلزم جواز الإخبار بما هو مخالف للواقع، وهذا غیر جائزٍ عقلاً، وتکون النتیجة جریان الإستصحاب ورفع الید عن الإطلاق بقدر قیام المقیِّد العقلی، وبذلک یتمّ التفصیل.

فإن قیل:

إنّه یعتبر فی الإستصحاب الیقین السّابق والشک اللاّحق وترتّب الأثر، فأمّا إستصحاب بقاء المجعول، فأثره التأمین من العقاب، لکنّ هذا الأثر حاصل بالوجدان، لعدم البیان علی الجعل کما هو المفروض، فإثباته بالتعبّد غیر معقول لأنّه تحصیلٌ للحاصل.

ص: 173

فالجواب:

أمّا نقضاً، فإن العلماء یتمسّکون بالبراءة الشرعیّة مع وجود البراءة العقلیّة.

وأمّا حلاًّ، فإنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان هو عدم البیان من الشارع، لکنّ البیان الشرعی علی العدم بیانٌ، فلا موضوع للقاعدة، ولهذا نقول بعدم المجال للبراءة العقلیّة مع وجود البراءة الشرعیّة.

وکیف کان:

فإنّ الإشکال بعدم الأثر الذی تقدّم ذکره الوارد علی هذا التفصیل کافٍ للردّ علیه، فالحق ما علیه المشهور من عدم الفرق بین الأحکام الکلیّة وغیرها.

ص: 174

التفصیلُ بین الأحکام المستنبطةِ من الأدلّة الشرعیّة والأحکام المستنبطة من حکم العقل

اشارة

ذهب الشیخ إلی عدم جریان الإستصحاب فی الأحکام الثابتة بالدلیل العقلی. والمراد هنا ما حکم به العقل بعد درکه الملاک الملزم، حیث أنّ الشارع یحکم علی طبقه بمقتضی تبعیّة أحکامه للملاکات، کما علیه العدلیّة، للملازمة الموجودة بین حکم العقل وحکم الشرع.

فقال الشیخ: بأنّ الحکم الشرعی إن کان مستنداً إلی الکتاب أو السنّة أو الإجماع، فمع وقوع تغیّرٍ مّا فی الموضوع، یقع الشک فی بقاء الحکم المتیقّن سابقاً فیحکم ببقائه بالإستصحاب، وأمّا الحکم المستند إلی قاعدة الملازمة، فلا یجری فیه الإستصحاب.

توضیح التفصیل

ویتّضح مرام الشیخ فی هذا التفصیل _ الذی قیل إنّه لم یسبقه إلیه أحد _ بذکر الأُمور التالیة:

الأوّل: إنّه یعتبر فی الإستصحاب الشک فی بقاء المتیقّن السّابق، ولا یتحقّق

ص: 175

الشک إلاّ بحصول تغیّرٍ مّا فی أحوال الموضوع.

والثانی: إنّه یعتبر فی الإستصحاب وحدة الموضوع فی القضیّتین، ولذا لو تبدلّ الموضوع بأن کان التغیّر فی مقوّماته لا أحواله لم یجر الإستصحاب بلا کلام.

والثالث: إنّه لا یعقل أن یشک الحاکم فی موضوع حکمه، سواء الشارع أو العقل، للتضادّ الموجود بین الحکم والشک کما لا یخفی.

والرابع: الحکم العقلی علی قسمین، نظریّ، کحکمه باستحالة اجتماع الضدّین. وعملیٌّ، کحکمه بقبح الظلم وحُسن العدل. والموضوع للحکم العقلی مطلقاً هو علّة الحکم. وأمّا فی الأحکام الشرعیّة، فالعلّة للحکم غیر الموضوع له، کما فی نجاسة الماء المتغیّر، حیث أنّ الموضوع هو الماء والحکم هو النجاسة والعلّة هو التغیّر، فکانت العلّة فی الأحکام الشرعیّة هی الملاک لها. نعم، قد تصیر العلّة فی بعض الأحکام هی الموضوع، کما فی لا تشرب الخمر لأنّه مسکر، إذ المسکر هو المحرَّم، وأمّا فی الأحکام العقلیّة، فإن العلّة هی الموضوع دائماً، فلو قیل: ضرب الیتیم لا للتأدیب قبیح، کان الموضوع للقبح هو الظلم، وإنّما کان ضربه قبیحاً لأنّه مصداقٌ للظلم. فالعلل فی الأحکام الشرعیّة خارجة عن الموضوعیّة، أمّا فی الأحکام العقلیّة فهی الموضوعات لها.

تقریب التفصیل

ویستدلّ لهذا التفصیل:

أوّلاً: إنّ العقل لا یشک فی حکمه کما تقدّم، وکلّما کان علّةً وملاکاً فهو فی الأحکام العقلیّة موضوع للحکم کما تقدّم أیضاً، وإذا کان الموضوع متیقّناً ولا یقع الشک فی الحکم، فلا موضوع للإستصحاب.

ص: 176

وثانیاً: إنّ الإستصحاب متقوّم بکون الموضوع واحداً محفوظاً فی القضیّتین، فلا إستصحاب مع عدم وحدة الموضوع أو الشک فیه بل هو من إسراء الحکم من موضوعٍ إلی آخر، فیکون أشبه شیء بالقیاس.

وهذان التقریبان موجودان فی کلمات الشیخ قدّس سرّه، أحدهما إلی قوله «ألا تری» والآخر ما أفاده بعده.(1)

إشکال المحقّق الخراسانی

وقد أورد علیه المحقّق الخراسانی(2) بما توضیحه:

إنّه لا خلاف فی أنّ للحکم مرتبة الشأنیة ومرتبة الفعلیّة، أمّا فی الحکم الشرعی، فمرتبة الشأنیّة هی مرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعلیّة هی مرتبة تحقّق الموضوع. وأمّا فی الحکم العقلی، فمرتبة الشأنیّة هی مرتبة الملاک، ومرتبة الفعلیّة هی حکم العقل بعد إحراز الملاک.

ثمّ إنّ الحکم الشرعی یتبع الحکم العقلی الفعلی، فهو تابع له فی مقام الإثبات _ دون مقام الثبوت الذی هو مرتبة الملاکات _ . فإذا حکم العقل بحسن الشیء لوجود المصلحة فیه، حکم الشرع بوجوبه إن کانت المصلحة ملزمةً، ولکنّ هذا فی مقام الإثبات والکشف، وأمّا بالنسبة إلی الواقع، فإن الأحکام الشرعیّة تابعة للملاکات نفس الأمریّة، إذ الشارع عالم محیط بالملاکات، وأمّا العقل، فلا إحاطة له بها، ولذا یحتمل أن یکون حکمه من باب القدر المتیقّن من

ص: 177


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 38 _ 39.
2- 2. درر الفوائد: 298 _ 299، کفایة الأُصول: 386.

الملاک، ویحتمل أن یکون الملاک للحکم الشرعی أوسع دائرةً من ملاک حکم العقل، کأن یأخذ العقل فی ملاک حکمه قیداً ولا یکون دخیلاً فی ملاک الحکم الشرعی. وهذا الإحتمال یکفی لوقوع الشک عند زوال القید فی بقاء الحکم الشرعی الذی جاء تبعاً لحکم العقل، فیحکم ببقائه وإن إرتفع الحکم العقلی بسبب زوال القید، لتمامیّة أرکان الإستصحاب فیه.

وذکر المحقّق الخراسانی أیضاً: إحتمال تعدّد الملاک، فإنّه وإن کشف الملاک عن طریق الحکم العقلی وثبت الحکم الشرعی بقانون الملازمة، إلاّ أنّه یحتمل وجود ملاک آخر للحکم الشرعی لم یتمکّن العقل من درکه، وهذا الإحتمال یوجب الشک فی بقاء الحکم ویجری الإستصحاب.

ولا یتوهّم دفع هذا الاحتمال بأصالة عدم وجود الملاک الآخر، لکونه أصلاً مثبتاً.

وهذا بیان ما أورده المحقّق الخراسانی.

إشکال المحقّق النائینی

وأورد المحقّق النائینی علی التفصیل: بأنّه إذا أخذ العقل فی موضوع حکمه خصوصیّةً، کانت الخصوصیّة مقوّمة لحکمه وبزوالها ینتفی الحکم، وأمّا الحکم الشرعی، فإن العرف هو المشخّص لکون الخصوصیّة مقوّمةً أو هی من الحالات، لأن الأحکام ملقاة إلیه، فإذا رأی أنّها من الحالات جری الإستصحاب.

هذا ملخّص کلامه، وإلیک نصّه:

ما أفاده قدّس سرّه فی ذلک یترکّب من مقدّمتین:

الأُولی: أنّ العقل إذا حکم بحسن شیء أو قبحه، فلابدّ وأن یکون موضوع

ص: 178

حکمه بتمامه وکماله مبیّناً عنده؛ إذ لا یعقل الإهمال أو الإجمال فی موضوع الحکم عند الحاکم به، عقلاً کان أو غیره، فما لم یتغیّر موضوع الحکم بتغیّر مّا یستحیل إرتفاع الحکم العقلی عنه، ومع تغیّره وتبدّل الموضوع عمّا هو علیه یرتفع الحکم العقلی بارتفاع موضوعه لا محالة.

الثانیة: أنّ الحکم الشرعی المستکشف بالدلیل العقلی حیث إنّ المفروض تبعیّته للحکم العقلی، فکلّ قید اعتبر فی موضوعه یکون معتبراً فی موضوعه لا محالة، وإلاّ لزم عدم تبعیّته له، وحینئذٍ، فإذا تغیّر موضوع الحکم العقلی وتبدّل بعض خصوصیّاته، فلا محالة یکون الحکم الشرعی متبدّلاً أیضاً، ویرتفع الحکم الشرعی بتبع إرتفاع الحکم العقلی، والشکّ فی کونه محکوماً بمثل الحکم السّابق شرعاً إنّما یکون شکّاً فی الحدوث لا فی البقاء؛ لعدم اتّحاد القضیّة المتیقّنة مع المشکوکة علی الفرض.

والحقّ فساد هذا التفصیل، وعدم التفاوت فی جریان الإستصحاب بذلک؛ فإنّ ما أفاده فی المقدّمة الأُولی _ من لزوم کون موضوع حکم العقل مبیّناً بتمامه عنده _ إنّما یصحّ فیما إذا کان حکم العقل بقبح شیء منحلاًّ إلی حکمین:

أحدهما: الحکم بقبحه. وثانیهما: الحکم بعدم قبح غیره نظیر القضیّة الشرطیّة الدالّة علی المفهوم. ومن الضروری أنّ الأمر لیس کذلک؛ إذ هو فرع أن یکون العقل محیطاً بتمام الجهات الواقعیّة المحسّنة والمقبّحة، وکثیراً ما یستقلّ العقل بحسن شیء أو قبحه باعتبار کونه القدر المتیقّن فی ذلک وإن کان یحتمل بقاء ملاک حکمه مع إنتفاء بعض الخصوصیّات أیضاً.

فإذا فرضنا الشکّ فی بقاء الحکم العقلی مع انتفاء بعض الخصوصیّات غیر المقوّم للموضوع بنظر العرف، فلا محالة یشکّ فی بقاء الحکم الشرعی أیضاً،

ص: 179

ویجری الإستصحاب؛ لاتّحاد القضیّة المتیقّنة مع المشکوکة.

سلّمنا أنّ موضوع حکم العقل لابدّ من کونه مبیّناً عنده بتمامه، والقطع بانتفائه عند إنتفاء بعض خصوصیّاته، إلاّ أنّ ما أفاده _ من إرتفاع الحکم الشرعی بارتفاعه، کما أُفید فی المقدّمة الثانیة _ ممنوع، فإنّ الحکم الشرعی إنّما یتبع الحکم العقلی فی مقام الإستکشاف والإثبات لا فی مقام الثبوت والواقع، فربّما یکون قید له دَخْلٌ فی استقلال العقل بشیء إلاّ أنّه غیر دخیل فیما هو الملاک عند الشارع أصلاً، فإنّ الحکم الشرعی تابع للمصالح والمفاسد النفس الأمریّة، کانت مستکشفةً عند العقل أو لم تکن، فإذا فرضنا إرتفاع الحکم العقلی التابع لاستکشافه الملاک الواقعی، فلا یلزم من ذلک إرتفاع الحکم الشرعی التابع لنفس الملاک الواقعی المحتمل بقاؤه؛ لاحتمال عدم دَخْل تلک الخصوصیّة فیه حدوثاً وبقاءً أو بقاءً فقط، فلا محالة یشکّ فی بقاء الحکم الشرعی، ومع عدم کون تلک الخصوصیّة مقوّمةً للموضوع بنظر العرف بل من حالاته الواسطة فی ثبوت الحکم للموضوع، تکون القضیّة المشکوکة متّحدةً مع القضیّة المتیقّنة، فیجری الإستصحاب لا محالة.

ونظیر ذلک ما سیجیء من جریان الإستصحاب عند تغیّر بعض الخصوصیّات المأخوذة فی الدلیل اللّفظی، کما إذا قال المولی: «الماء المتغیّر نجس» أو «الماء إذا تغیّر ینجس» أو «المتغیّر بالنجاسة ینجس». فإنّ التغیّر حیث إنّه لا یعرضه النجاسة التی هی من قبیل الأعراض الخارجیّة القائمة بالجسم فی نظر العرف، فلا محالة یکون التغیّر علّةً لثبوت النجاسة للماء الخارجی، فإذا زال التغیّر عن الماء بنفسه وشکّ فی بقاء نجاسته، فالمشکوک فی نجاسته فعلاً _ وهو الماء _ هو الذی کان متیقّن النجاسة سابقاً، فلو بنی علی المسامحة فی الموضوع واتّباع

ص: 180

نظر العرف فیه من جهة مناسبات الأحکام مع موضوعاتها، فلا فرق فی ذلک بین ما إذا کان دلیل المستصحب عقلیّاً أو شرعیّاً، وإلاّ فلا یجری الإستصحاب فی مطلق ما إذا کان الشکّ فی البقاء ناشئاً عن تغیّر بعض خصوصیّات الموضوع، من دون فرق بین الدلیل اللّفظی والعقلی.(1)

النظر فیه:

وقد تنظّر شیخنا فی هذا الوجه _ فی الدورتین _ بما حاصله: أنّه إنّما یتمّ فی الأحکام الشرعیّة الملقاة إلی العرف، لأنّه لمّا خاطب العرف ولم یبیّن الخصوصیّة، فقد أوکل تشخیصها إلیهم وإلاّ یلزم الإغراء بالجهل. لکنّ الکلام فی الحکم الشرعی التابع للحکم العقلی بقانون الملازمة، فإذا زال أحد القیود المأخوذة وتردّد حاله بین المقومیّة وعدمها، لم یجز التمسّک بدلیل الإستصحاب، لکونه شبهةً موضوعیّةً له.

التحقیق فی المقام

والتحقیق أن یقال بعد إتّفاق الکلّ علی أن لیس للعقل حکم بل الأحکام العقلیّة هی المدرکات العقلیّة، فقولهم «کلّما حکم به العقل ...» مسامحة فی التعبیر:

إنّ الأحکام العقلیّة علی قسمین، أحدهما: الأحکام العقلیّة النظریّة. والآخر: الأحکام العقلیّة العملیّة. أمّا القسم الأوّل، فخارج عن البحث هنا. وأمّا القسم الثانی، فینقسم إلی حکم العقل فی باب الملاکات، حیث یکشف العقل المصلحة والمفسدة، وإلی حکم العقل فی باب الحسن والقبح، حیث یکشف حسن الفعل

ص: 181


1- 1. أجود التقریرات 4 / 20 _ 22.

وقبحه. فإن کشف العقل عن الملاک الملزم فی موردٍ، کان للشارع حکمٌ بحسب ذلک الملاک بناءً علی مذهب العدلیّة، بمقتضی قاعدة الملازمة. ولکن لمّا کان العقل قاصراً عن درک الملاکات کلّها، فقد یکون هناک ملاک آخر حکم الشارع حکمه بلحاظه، وهذا الإحتمال یکون منشأً للشک وبذلک یجری الإستصحاب فی الحکم الشرعی. فما ذکره المحقّق الخراسانی فی هذا القسم هو الصّحیح.

وأمّا فی القسم الآخر، وهو المدرکات العقلیّة فی باب الحسن والقبح، فالصّحیح ما ذهب إلیه الشیخ، لأنّ العقل إذا أدرک حسن العدل، کان للشارع بعثٌ نحوه لا محالة _ لأنّ الأفعال کما ذکر المحقّق الإصفهانی علی ثلاثة أقسام، فمنها: ما لیس فیه إقتضاء الحسن والقبح، کالأکل والشرب ونحوهما. ومنها: ما فیه إقتضاء ذلک کالکذب، إذ قد یکون حسناً وقد یکون قبیحاً. ومنها: ما یکون حسناً ولا ینقلب عمّا هو علیه کالعدل أو قبیحاً ولا ینقلب کالظلم _ فإذا حکم العقل بحسن ضرب الیتیم تأدیباً، حکم الشرع بذلک، ورجع الحکم فیه إلی حسن العدل، وإذا حکم بقبح ضربه لا للتأدیب، حکم الشرع بالحرمة، ورجع الحکم إلی قبح الظلم، فإن فرض أخذ العقل خصوصیّةً فی موضوع حکمه فی هذا الباب ووقع الشک فی کون الفعل حسناً أو قبیحاً، لم یکن للإستصحاب مجالٌ، لکونها شبهةً موضوعیّة لدلیل الإستصحاب، فیکون الحق مع الشیخ.

رأی السیّد الأُستاذ

ثمّ إنّ سیّدنا الأُستاذ بعد أن قرّب التفصیل بوجهین ولم یرتضهما قال:

الوجه الثالث: دعوی أنّ الخصوصیّة المتبدّلة أو المشکوکة مقوّمة بنظر

ص: 182

العرف، فلا مجال للإستصحاب حینئذٍ. وذلک بأحد بیانین:

البیان الأوّل: إن الکلام فیما نحن فیه فی الأحکام العقلیّة المستتبعة لحکم الشرع _ بناءً علی الملازمة _ ، وهی تختص بأحکامه فی باب التحسین والتقبیح.

وعلیه، فنقول: إن کلّ خصوصیّة تکون دخیلة فی حکم العقل بالحسن أو القبح، فهی تکون قیداً لفعل المکلّف المحکوم بالحسن أو القبح لا قیداً فی الموضوع. وبعبارة أُخری: إنّ الخصوصیّات المأخوذة فی حکم العقل العارض علی فعل المکلّف مأخوذة قیداً لمتعلّق الحکم لا لموضوعه، فلا محالة یتقیّد متعلّق الحکم الشرعی المستکشف عن الحکم بتلک الخصوصیّات تبعاً للحکم العقلی.

فإذا حکم العقل بقبح الصّدق الضار، کان متعلّق الحکم الشرعی بالحرمة هو الصّدق المضر.

وقد تقرّر أن کلّ خصوصیّة تؤخذ فی المتعلّق تکون مقوّمة بنظر العرف، ولیس الحال فیه کالحال فی الموضوع. فمع الشک فی تلک الخصوصیّة یمتنع الإستصحاب، وسیأتی بیان هذه الجهة فی محلّه.

البیان الثانی: إن الحکم العقلی بالقبح لم یتعلّق بالصّدق _ مثلاً _ حال إضراره کی یقع الکلام فی أن جهة الضرر مقوّمة عرفاً أؤ لیست مقوّمة، بل لیس لدینا إلاّ الحکم العقلی بحسن الإحسان وقبح الظلم. والحکم بقبح الصّدق المهلک أو حسن الکذب النافع، من باب أن الأوّل مصداق الظلم القبیح عقلاً والثانی مصداق الإحسان الحسن عقلاً، لا أن الحکم العقلی بالقبح تعلّق بالصّدق مباشرة بملاحظة اضراره.

إذن، فمتعلّق الحکم العقلی هو نفس الخصوصیّة، وهذه الأفعال مصادیق

ص: 183

للخصوصیّة، ویتبعه فی ذلک الحکم الشرعی، فالحرام هو الظلم والمحبوب هو الإحسان.

وعلیه، فمع الشک فی بقاء الخصوصیّة یشک فی ثبوت متعلّق الحکم مباشرة، فلا معنی للإستصحاب. فهو نظیر إستصحاب حرمة ما ثبت حرمته بالدلیل الشرعی عند الشک فی إنطباق موضوع الحرمة علیه، کما لو کان کلام کذباً، ثمّ شکّ فی أنّه کذب أو لیس بکذب، فإنّه لا معنی لإستصحاب حرمته مع الشک المزبور.

وهکذا الحال فی الشبهة الحکمیّة، کما لو فرض زوال عنوان الظلم عن الصّدق، ومع هذا احتمل أن یبقی علی حرمته، فإنّه لا معنی لإستصحاب حرمته، إذ متعلّق الحرمة السّابقة زال قطعاً، والصّدق فعلاً لیس من أفراده جزماً، فیمتنع صدق البقاء. فتدبّر.

وهذا الوجه ببیانیه متین لا دافع له، وهو ممّا یمکن إستفادته من عبارة الشیخ رحمه اللّه خصوصاً بالبیان الأوّل _ لقوله: «لأن الجهات المقتضیّة للحکم العقلی للحسن والقبح کلّها راجعة إلی قیود فعل المکلّف» _ وإن کانت لا تخلو عن نوع إجمال.

ومنه تعرف بُعد ما أفاده صاحب الکفایة وغیره عنه وعدم إرتباطه به.

وبالجملة: التأمّل فی کلام الشیخ یقتضی أن یستظهر أن مراده ما ذکرناه، لا ما فهمه الأعلام قدس اللّه سرّهم، واللّه سبحانه العاصم العالم.(1)

أقول:

فلیتأمّل هل یعود هذا إلی بعض ما تقدّم؟ وهل یساعد علیه ظاهر کلام الشیخ؟.

ص: 184


1- 1. منتقی الأُصول 6 / 18 _ 20.

التفصیل بین الأحکام الوضعیّة والأحکام التکلیفیّة

اشارة

قد نسب إلی الفاضل التونی التفصیل بین القسمین من الأحکام الشرعیّة، وأنّه ینکر جریان الإستصحاب فی الأحکام الوضعیّة، قال: والمَنشأ له هو توهّم أنّها لیست مجعولةً ابتداءً من قبل الشارع. فأجاب بأنّها مجعولة له ولو بالواسطة.

قال السیّد الخوئی: ربّما یتوهّم عدم صحّة جریان الإستصحاب فی الأحکام الوضعیّة کما عن الفاضل التونی ... .(1)

نصّ کلام الفاضل التونی

ولکنّ الأولی أن نورد نصّ ما جاء فی کتاب الوافیة _ کما فعل الشیخ، فإنّه قال: نسبه الفاضل التونی إلی نفسه وإن لم یلزم ممّا حقّقه فی کلامه. ثمّ أورد نصّ عبارته _ فإنّه قال بعد ذکر الإختلاف فی حجیّة الإستصحاب:

ولتحقیق المقام، لابدّ من إیراد کلامٍ یتّضح به حقیقة الحال فنقول: الأحکام الشرعیّة تنقسم إلی ستّة أقسام:

ص: 185


1- 1. مبانی الإستنباط: 77.

الأوّل والثانی: الأحکام الإقتضائیة المطلوب فیها الفعل، وهی الواجب والمندوب.

والثالث والرابع: الإقتضائیّة المطلوب فیها الکفُّ والترک، وهی الحرام والمکروه.

والخامس: الأحکام التخییریّة الدالّة علی الإباحة.

والسّادس: الأحکام الوضعیّة، کالحکم علی الشیء بأنّه سبب لأمر، أو شرط له أو مانع عنه. والمضایقة بمنع أنّ الخطاب الوضعیّ داخل فی الحکم الشرعیّ ممّا لا یضرُّ فیما نحن بصدده.

إذا عرفت هذا! فإذا ورد أمر بطلب شیءٍ، فلا یخلو إمّا أن یکون مؤقّتاً، أو لا.

وعلی الأوّل: یکون وجوب ذلک الشیء أو ندبه فی کلّ جزءٍ من أجزاء ذلک الوقت، ثابتاً بذلک الأمر؛ فالتمسّک حینئذٍ فی ثبوت ذلک الحکم فی الزمان الثانی بالنصّ، لا بالثبوت فی الزمان الأوّل، حتّی یکون إستصحاباً، وهو ظاهر.

وعلی الثانی: أیضاً کذلک، إن قلنا بإفادة الأمر التکرار، وإلاّ فذمّة المکلّف مشغولة حتّی یأتی به فی أیّ زمان کان، ونسبة أجزاء الزمان إلیه نسبة واحدة فی کونه أداءً فی کلّ جزءٍ منها، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور، أو لا.

والتوهّم بأنّ الأمر إذا کان للفور، یکون من قبیل المؤقّت المضیّق؛ إشتباه غیر مخفیّ علی المتأمِّل.

فهذا أیضاً لیس من الإستصحاب فی شیء.

ولا یمکن أن یقال: بأنّ إثبات الحکم فی القسم الأوّل فیما بعد وقته من الإستصحاب؛ فإنّ هذا لم یقل به أحد، ولا یجوز إجماعاً.

وکذا الکلام فی النهی، بل هو أولی بعدم توهّم الإستصحاب فیه، لأنّ مطلقه لا یفید التکرار.

ص: 186

والتخییری أیضاً کذلک.

فالأحکام الخمسة: _ المجرّدة عن الأحکام الوضعیّة _ لا یُتصوَّر فیها الإستدلال بالإستصحاب.

وأمّا الأحکام الوضعیّة: فإذا جعل الشارع شیئاً سبباً لحکمٍ من الأحکام الخمسة _ کالدّلوک لوجوب الظهر، والکسوف لوجوب صلاته، والزلزلة لصلاتها، والإیجاب والقبول لإباحة التصرّفات والإستمتاعات فی الملک والنکاح، وفیه لتحریم أُمِّ الزوجة، والحیض والنفاس لتحریم الصّوم والصّلاة، إلی غیر ذلک _ فینبغی أن یُنْظَر إلی کیفیّة سببیّة السّبب، هل هی علی الإطلاق؟ کما فی الإیجاب والقبول، فإنّ سببیّته علی نحو خاصّ، وهو الدوام إلی أن یتحقّق مُزیل، وکذا الزلزلة؛ أو فی وقت معیّن، کالدلوک ونحوه ممّا لم یکن السّبب وقتاً، وکالکسوف والحیض ونحوهما ممّا یکون السّبب وقتاً للحکم، فإنّ السّببیّة فی هذه الأشیاء علی نحو آخر، فإنّها أسباب للحکم فی أوقات معیّنة، وجمیع ذلک لیس من الإستصحاب فی شیءٍ، فإنّ ثبوت الحکم فی شیءٍ من أجزاء الزمان الثابت فیه الحکم لیس تابعاً للثبوت فی جزءٍ آخر، بل نسبة السّبب فی إقتضاء الحکم فی کلِّ جزءٍ نسبة واحدة.

وکذا الکلام فی الشرط والمانع.

فظهر ممّا مرَّ: أنّ الإستصحاب المختلَف فیه لا یکون إلاّ فی الأحکام الوضعیّة _ أعنی: الأسباب، والشرائط، والموانع، للأحکام الخمسة _ من حیث أنّها کذلک. ووقوعه فی الأحکام الخمسة إنّما هو بتبعیّتها، کما یقال فی الماء الکرِّ المتغیِّر بالنجاسة إذا زال تغیُّره من قِبَل نفسه: بأنّه یجب الإجتناب عنه فی الصّلاة، لوجوبه قبل زوال تغیُّره، فإنّ مرجعه إلی: أنّ النجاسة کانت ثابتة قبل زوال تغیُّره،

ص: 187

فتکون کذلک بعده. ویقال فی المتیمِّم إذا وجد الماء فی أثناء الصّلاة: إنّ صلاته کانت صحیحة قبل الوجدان، فکذا بعده، أی: کان مکلَّفاً ومأموراً بالصّلاة بتیمُّمه قبله، فکذا بعده، فإنّ مرجعه إلی: أنّه کان متطهِّراً قبل وجدان الماء، فکذا بعده، والطهارة من الشروط.

فالحقُّ _ مع قطع النظر عن الروایات _ : عدم حُجِّیة الإستصحاب، لأنّ العلم بوجود السّبب أو الشرط أو المانع فی وقت، لا یقتضی العلم بل ولا الظنَّ بوجوده فی غیر ذلک الوقت، کما لا یخفی، فکیف یکون الحکم المعلَّق علیه ثابتاً فی غیر ذلک الوقت؟

فالذی یقتضیه النظر، بدون ملاحظة الروایات: أنّه إذا علم تحقُّق العلامة الوضعیّة، تعلّق الحکم بالمکلَّف، وإذا زال ذلک العلم، بطروِّ شکّ _ بل وظنّ أیضاً _ یتوقّف عن الحکم بثبوت الحکم الثابت أوّلاً.

إلاّ أنّ الظاهر من الأخبار: أنّه إذا عُلِم وجود شیءٍ، فإنّه یُحکَم به، حتّی یُعلم زواله. روی زرارة فی الصّحیح ... .(1)

الإشکال علی کلام الفاضل التونی

ولا یخفی أنّ الفاضل التونی قد ذهب إلی عدم حجیّة الإستصحاب بقطع النظر عن الروایات، ثمّ صرّح بدلالة الأخبار علی حجیّته مطلقاً.

ویرد علیه _ کما أشار الشیخ إلیه _(2) أنّ بقاء الطلب الموقّت قد لا یفی به

ص: 188


1- 1. الوافیة فی علم الأُصول: 200 _ 203.
2- 2. فرائد الأُصول 3 / 131.

الدلیل، فتقع الحاجة إلی التمسّک فی ثبوت ذلک الحکم بالإستصحاب، ففی صلاة المغرب والعشاء قد وقع الکلام فی انتهاء الوقت فی نصف اللّیل أو إمتداده إلی الفجر، ومع الشکّ فی بقاء الوقت بعد نصف اللّیل لابدّ من الإستصحاب.

وکذلک الحال فی الطلب المطلق، فقد یدلّ الدلیل علی أصل الوجوب، وأمّا الدلالة علی کونه مطلقاً أو موقّتاً فلا. مثلاً: صلاة الآیات عند الکسوف واجبة، ولکن یقع الکلام فی أنّها موقّتة بانجلاء القرص أو یؤتی بها حتّی بعده؟ ففی مثله لا مناص من التمسّک بالإستصحاب.

هذا فی الأحکام التکلیفیّة.

وکذلک فی الأحکام الوضعیّة، إذ یدور أمر الشرطیّة بین کونها موقتةً أو مطلقة، ومع الشک فی بقائها بعد الوقت یکون الدلیل قاصراً والمرجع هو الإستصحاب. ففی غسل الجمعة _ مثلاً _ لا ریب فی شرطیّة الوقت، ولکن هل هو إلی الزوال أو إلی المغرب؟

ولو وقع الشک فی بقاء حکمٍ موقّتٍ أو مطلق ثابت، لوقوع تغیّر فی خصوصیّات موضوعه، فإنّه لا رافع للشک إلاّ الإستصحاب.

وأیضاً، فإنّه کثیراً مّا یقع الإجمال فی ألفاظ الأدلّة الشرعیّة بسببٍ من الأسباب ویسقط الإستدلال به لذلک، وحینئذٍ، یحتاج إلی الإستصحاب، حیث لا طریق لإثبات الحکم إلاّ به.

وتلخّص: عدم تمامیّة ما ذهب إلیه الفاضل التونی.

ص: 189

الکلام حول الأحکام الوضعیّة
اشارة

لکنّ الأعلام قد تعرّضوا فی هذا المقام للبحث عن حقیقة الحکم الوضعی؟ وأنّه قابل للجعل أو لا؟ وعلی الأوّل، فهل یقبله إستقلالاً أو عرضاً کما عبّر المحقّق الإصفهانی، أو تبعاً کما عبّر المحقّق الخراسانی؟ أو بعضه غیر قابلٍ وبعضه قابل تبعاً أو عرضاً وبعضه قابل تبعاً وإستقلالاً؟ وهذا الأخیر قال به المحقّق الخراسانی؟

رأی صاحب الکفایة

قال فی الکفایة:

لا خلاف کما لا إشکال فی إختلاف التکلیف والوضع مفهوماً وإختلافهما فی الجملة مورداً، لبداهة ما بین مفهوم السّببیّة أو الشرطیّة ومفهوم مثل الإیجاب أو الإستحباب من المخالفة والمباینة. کما لا ینبغی النزاع فی صحّة تقسیم الحکم الشرعی إلی التکلیفی والوضعی ... وکذا لا وقع للنزاع فی أنّه محصور فی أُمور مخصوصة ... أو لیس بمحصور، بل کلّما لیس بتکلیف ممّا له دخل فیه أو فی متعلَّقه وموضوعه أو لم یکن له دخل ممّا أُطلق علیه الحکم فی کلماتهم ... .

إنّما المهمّ فی النزاع هو أنّ الوضع کالتکلیف فی أنّه مجعول تشریعاً بحیث یصحّ إنتزاعه بمجرد إنشائه، أو غیر مجعول کذلک، بل إنّما هو منتزع عن التکلیف ومجعول بتبعه وبجعله.

والتحقیق أن ما عُدّ من الوضع علی أنحاء.

منها: ما لا یکاد یتطرّق إلیه الجعل تشریعاً أصلاً، لا إستقلالاً ولا تبعاً، وإن

ص: 190

کان مجعولاً تکویناً عرضاً بعین جعل موضوعه کذلک.

ومنها: ما لا یکاد یتطرّق إلیه الجعل التشریعی إلاّ تبعاً للتکلیف.

ومنها: ما یمکن فیه الجعل استقلالاً بإنشائه، وتبعاً للتکلیف بکونه منشأً لانتزاعه، وإن کان الصّحیح إنتزاعه من إنشائه وجعله، وکون التکلیف من آثاره وأحکامه، علی ما یأتی الإشارة إلیه.

أمّا النحو الأوّل: فهو کالسّببیّة والشرطیّة والمانعیّة والرافعیّة لما هو سبب التکلیف وشرطه ومانعه ورافعه، حیث أنّه لا یکاد یعقل انتزاع هذه العناوین لها من التکلیف المتأخّر عنها ذاتاً، حدوثاً أو إرتفاعاً، کما أنّ إتّصافها بها لیس إلاّ لأجل ما علیها من الخصوصیّة المستدعیة لذلک تکویناً، للزوم أن یکون فی العلّة بأجزائها من ربط خاص، به کانت مؤثرة فی معلولها، لا فی غیره، ولا غیرها فیه، وإلاّ لزم أن یکون کلّ شیء مؤثراً فی کلّ شیء، وتلک الخصوصیّة لا یکاد یوجد فیها بمجرّد إنشاء مفاهیم العناوین، ومثل قول: دلوک الشمس سبب لوجوب الصّلاة إنشاءً أو إخباراً، ضرورة بقاء الدلوک علی ما هو علیه قبل إنشاء السّببیّة له، من کونه واجداً لخصوصیّةٍ مقتضیة لوجوبها أو فاقداً لها، وإن الصّلاة لا تکاد تکون واجبة عند الدلوک ما لم یکن هناک ما یدعو إلی وجوبها، ومعه تکون واجبةً لا محالة وإن لم ینشأ السّببیّة للدُّلوک أصلاً.

ومنه انقدح أیضاً، عدم صحّة إنتزاع السّببیّة له حقیقةً من إیجاب الصّلاة عنده، لعدم إتّصافه بها بذلک ضرورة.

نعم، لا بأس باتّصافه بها عنایةً، وإطلاق السّبب علیه مجازاً، کما لا بأس بأن

ص: 191

یعبّر عن إنشاء وجوب الصّلاة عند الدّلوک _ مثلاً _ بأنّه سبب لوجوبها فکنیّ به عن الوجوب عنده.

فظهر بذلک أنّه لا منشأ لانتزاع السّببیّة وسائر ما لأجزاء العلّة للتکلیف، إلاّ ما هی علیها من الخصوصیّة الموجبة لدخل کلّ فیه علی نحو غیر دخل الآخر، فتدبّر جیّداً.

وأمّا النحو الثانی: فهو کالجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة والقاطعیّة، لما هو جزء المکلّف به وشرطه ومانعه وقاطعه، حیث أنّ إتّصاف شیء بجزئیّة المأمور به أو شرطیّته أو غیرهما لا یکاد یکون إلاّ بالأمر بجملة أُمور مقیّدة بأمر وجودی أو عدمی، ولا یکاد یتّصف شیء بذلک _ أی کونه جزءً أو شرطاً للمأمور به _ إلاّ بتبع ملاحظة الأمر بما یشتمل علیه مقیّداً بأمر آخر، وما لم یتعلّق بها الأمر کذلک لما کاد إتّصف بالجزئیّة أو الشرطیّة، وإن أنشأ الشارع له الجزئیّة أو الشرطیّة، وجعل الماهیّة واختراعها لیس إلاّ تصویر ما فیه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها، فتصوّرها بأجزائها وقیودها لا یوجب إتّصاف شیء منها بجزئیّة المأمور به أو شرطه قبل الأمر بها، فالجزئیّة للمأمور به أو الشرطیّة له إنّما ینتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به، بلا حاجة إلی جعلها له، وبدون الأمر به لا اتّصاف بها أصلاً، وإن إتّصف بالجزئیّة أو الشرطیّة للمتصوّر أو لذی المصلحة، کما لا یخفی.

وأمّا النحو الثالث: فهو کالحجیّة والقضاوة والولایة والنیابة والحریّة والرقیّة والزوجیّة والملکیّة إلی غیر ذلک، حیث أنّها وإن کان من الممکن انتزاعها من الأحکام التکلیفیّة التی تکون فی مواردهما _ کما قیل _ ومن جعلها بإنشاء أنسفها، إلاّ أنّه لا یکاد یشک فی صحّة إنتزاعها من مجرّد جعله تعالی، أو من بیده الأمر من

ص: 192

قبله _ جلّ وعلا _ لها بإنشائها، بحیث یترتّب علیها آثارها، کما یشهد به ضرورة صحّة إنتزاع الملکیّة والزوجیّة والطلاق والعتاق بمجرد العقد أو الایقاع ممّن بیده الإختیار بلا ملاحظة التکالیف والآثار، ولو کانت منتزعة عنها لما کاد یصح إعتبارها إلاّ بملاحظتها، وللزم أن لا یقع ما قصد، ووقع ما لم یقصد.

کما لا ینبغی أن یشک فی عدم صحّة إنتزاعها عن مجرّد التکلیف فی موردها، فلا ینتزع الملکیّة عن إباحة التصرّفات، ولا الزوجیّة من جواز الوطئ، وهکذا سائر الإعتبارات فی أبواب العقود والإیقاعات.

فانقدح بذلک أن مثل هذه الإعتبارات إنّما تکون مجعولة بنفسها، یصح إنتزاعها بمجرّد إنشائها کالتکلیف، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه ... .

إذا عرفت إختلاف الوضع فی الجعل، فقد عرفت أنّه لا مجال لاستصحاب دخل ما له الدخل فی التکلیف إذا شک فی بقائه علی ما کان علیه من الدخل، لعدم کونه حکماً شرعیّاً ولا یترتّب علیه أثر شرعی، والتکلیف وإن کان مترتّباً علیه إلاّ أنّه لیس بترتّب شرعی. فافهم.

وأنّه لا إشکال فی جریان الإستصحاب فی الوضع المستقلّ بالجعل، حیث أنّه کالتکلیف. وکذا ما کان مجعولاً بالتّبع، فإنّ أمر وضعه ورفعه بید الشارع ولو بتبع منشأ إنتزاعه. وعدم تسمیته حکماً شرعیّاً _ لو سلّم _ غیر ضائر بعد کونه ممّا تناله بید التصرّف شرعاً. نعم، لا مجال لاستصحابه لاستصحاب سببه ومنشأ إنتزاعه. فافهم.(1)

ص: 193


1- 1. کفایة الأُصول: 399 _ 404.

هذا تمام کلام صاحب الکفایة، وقد جعل عنوان التقسیم «ما عُدّ من الوضع»، فالإیراد علیه بأنّه قسّم الأحکام الوضعیّة إلی ثلاثة أقسام مع أنّه لا یری أحد الأقسام قابلاً للجعل، غفلة عن کلامه.

وقد وقعت الأقسام الثلاثة المذکورة فی الکفایة موقع البحث والنظر من قبل الأعلام، وقبل الورود فی ذلک نذکر المطالب التالیة:

حقیقة الحکم

قال فی مصباح الأُصول:(1)

الحکم التکلیفی الشرعی من سنخ الفعل الإختیاری الصّادر من الشّارع، ولیس هو عبارة عن الإرادة والکراهة والرضا والغضب، فإنّها من مبادئ الأحکام تعرض للنفس بغیر إختیار، ولیست من سنخ الأفعال الإختیاریّة، بل هو إعتبار نفسانی من المولی وبالإنشاء یبرز هذا الإعتبار النفسانی، وهو إعتبار من حیث الإقتضاء والتخییر. ویقابله الحکم الوضعی، فکلّ اعتبار من الشارع سوی الأحکام الخمسة حکم وضعی.

ویرد علیه: أنّه إن کان الحکم الشرعی عبارة عن الفعل الإختیاری للشارع، فإنّ الفعل _ سواء کان جوارحیّاً أو جوانحیّاً _ من الموجودات الخارجیّة، فکیف یکون من الإعتباریّات؟

وأیضاً، کیف الجمع بین القول بأن الحکم الوضعی اعتبار شرعی، والقول: بأن من الحکم الوضعیّ ما هو أمر تکوینی غیر قابل للإعتبار الشرعی؟ بل الصّحیح

ص: 194


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 92 _ 93.

أنّ هذا القسم خارج تخصّصاً وإن عدّ من الوضع کما عبّر فی الکفایة.

نعم، ما ذکره من أنّ التکلیفی ما فیه جهة الإقتضاء أو التخییر، والوضعی ما لیس کذلک، هو الصّحیح، کما فی غیره من الکلمات.

هل الحکم التکلیفی وجودیّ فقط؟

الأحکام الخمسة وجودیّة فقط أو عدمها أیضاً أحکام؟

قد یقال: بأنّ العدم لا یقبل الجعل.

وفیه: إنّ هذا فی التکوینیّات، وأمّا فی الإعتباریّات، فلا مانع من اعتبار عدم الوجوب وعدم الحرمة وعدم الإستحباب. هذا ثبوتاً. وأمّا إثباتاً، فقد یکون المجعول عدم الحکم کما فی حدیث الرفع.

هل الحکم التکلیفی یقبل الجعل بالاستقلال؟

قالوا: نعم، کأن یجعل الشارع بالإنشاء الوجوب مثلاً. وخالف المحقّق العراقی،(1) فقال بأنّه غیر مجعول، لأنّ المجعول الشرعی ما یوجد بالإرادة والقصد، والإنشاء سبب، کأن یُنشأ ملکیّة الدار لزیدٍ، فیقول: ملّکت، قاصداً إیجاد الملکیّة له، والحکم التکلیفی لا یوجد فی مرتبةٍ من مراتبه القصد والإنشاء، لأنّه إرادة أو کراهة مبرزة تابعة للمصلحة أو المفسدة، وکلّ ذلک تکوینی، ومن إبرازها ینتزع العقل الحکم الشرعیّ من دون التفاتٍ لهذه الناحیة من المرید حتّی یکون قاصداً لإبرازها ویکون جاعلاً.

ص: 195


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 88.

وما ذهب إلیه مندفعٌ کما لا یخفی. أمّا ثبوتاً، فإنّ الوجوب _ مثلاً _ قابل للجعل عند العرف والعقلاء. وأمّا إثباتاً، فظواهر الکتاب والسنّة فی جعل الشارع کثیرة، کقوله تعالی: «وَللّه ِِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ ... »(1) وقوله: «أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهیمَةُ الاْءَنْعامِ ... »(2) وقوله تعالی: «حُرِّمَ عَلَیْکُمْ ...»الآیة،(3) فما ذهب إلیه إنکار لأصالة الظهور، فإنّ جمیع هذه الموارد جعلٌ من الشارع علی ذمّة المکلَّفین، فالوجوب والحرمة وغیرهما أحکام مجعولة شرعاً وعرفاً ولغةً، یعتبر بالأوّل اللاّبدیّة وبالثانی حرمان المکلَّف من الشیء. وقد یأتی بصیغةٍ تدلّ علی البعث ویعتبر العقلاء اللاّبدیّة کقوله «صل»، أو تدلّ علی الزجر ویعتبر العقلاء الزجر کقوله «لا تفعل کذا»، لأنّهما یقومان مقام البعث والزجر التکوینیین. فما ذهب إلیه فی مصباح الأُصول من أنّ «صلّ» إعتبارٌ وإبرازٌ مخدوش.

تفصیل الکلام حول أقسام الأحکام الوضعیّة

قد تقدّم کلام صاحب الکفایة فی أقسام الأحکام الوضعیّة، فاختار فی القسم الأوّل منها، وهو السّببیّة والشرطیّة والمانعیّة والقاطعیّة، أنّها غیر مجعولة، لا بالجعل الإستقلالی، ولا بالجعل الإنتزاعی، لکون التکلیف متأخّراً عنها، فلو أُرید إنتزاعها من التکلیف لزم تأخّر ما هو المتقدّم وتقدّم ما هو المتأخّر.

ص: 196


1- 1. سورة آل عمران، الآیة 97.
2- 2. سورة المائدة، الآیة 1.
3- 3. سورة المائدة، الآیة 96.
رأی المحقّق الإصفهانی

فأشکل المحقّق الإصفهانی:(1)

أوّلاً: إن ما ذکره خلط بین السّبب والسّببیّة والشرط والشرطیّة والمانع والمانعیّة والقاطع والقاطعیّة، لأنّ ما هو المتقدّم علی التکلیف هو السّبب والشرط، وأمّا السّببیّة والشرطیّة فهما بعد تحقّق التکلیف، وذلک، لأنّ السّبب متقدّم علی المسبَّب والشرط متقدّم علی المشروط، والنسبة بین السّببیّة والمسبّبیّة هو التضایف، وکذا بین الشرطیّة والمشروطیّة والمانعیّة والممنوعیّة والقاطعیّة والمقطوعیّة، والمتضایفان متکافئان فی القوّة والفعلیّة، وإذا کانت السّببیّة والمسبّبیّة _ وکذا غیرهما _ فی مرتبةٍ واحدة، ولا ریب فی أنّ المسبّبیّة فی مرتبة متأخّرة عن التکلیف، فالسّببیّة کذلک، فیکون المتقدّم علیه هو السّبب.

وفیه:

إنّه غفلة عن کلام الکفایة، فإنّه یؤکّد علی وجود خصوصیّةٍ تکوینیّة هی المنشأ لجعل الحکم الشرعی کما فی دلوک الشمس بالنسبة إلی وجوب الصّلاة، وإلاّ لزم أن یکون کلّ شیء مؤثّراً فی کلّ شیء، وکذلک الکسوف بالنسبة إلی صلاة الآیات، وهذه الخصوصیّة لا یعقل أن تکون منتزعةً من التکلیف وإلاّ یلزم تأخّر المتقدّم.

وثانیاً: إنّ السّبب للتکلیف هو إرادة المولی الحکم، وهذه الأُمور منشأ للحکم بعد لحاظها، فلها دخلٌ فی الحکم، ففی الشروط مثلاً یوجد ربطٌ ذاتی بین الشرط والمشروط، فإذا کان البلوغ شرطاً للتکلیف والطهارة شرطاً للصّلاة،

ص: 197


1- 1. نهایة الدرایة 5 / 106.

وهکذا، فإنّ فی ذلک خصوصیّةً ذاتیّةً تجعل البلوغ والطهارة شرطاً، وتکون متمّمةً لفاعلیّة وقابلیّة القابل. ثمّ إنّ تلک الخصوصیّة تصیر فعلیّةً عند وجود الشرط، وهذه الحیثیّة أیضاً غیر مجعولة وإنّما توجد بوجود الشرط تکویناً بالوجود التبعی.

وأمّا فی مرحلة إنشاء الحکم من المولی، فإنّه إذا قال «صلّ»، فقد صدر منه الإنشاء بداعی جعل الداعی للمکلّف لأن یمتثل، فإن لم یکن مشروطاً بشرطٍ فلا حالة إنتظاریّة له بل هو فعلیٌّ، وإن کان مشروطاً کأن قال: صلّ عند دلوک الشمس، کانت فعلیّته منوطةً بالدلوک.

فظهر أنّ الشرطیّة بمعنی المتمّمیّة لفاعلیّة الفاعل وقابلیّة القابل أمر تکوینی غیر مجعول شرعاً ولکنّها فی مرحلة التکلیف أمر جعلی یدور أمره مدار أخذ الشارع، فإن أخذه کان قیداً لحکمه وإن رفضه کان الحکم مطلقاً.

وکذلک الحال بالنسبة إلی السّببیّة والمانعیّة والقاطعیّة.

وهذا الإشکال من هذا المحقّق وارد.

رأی المحقّق النائینی

وأفاد المیرزا فی هذا المقام ما توضیحه: إنّ القضایا الشرعیّة منها خارجیّة ومنها حقیقیّة، وإن کان الأساس فیها أن تکون بنحو القضایا الحقیقیّة. ولهذه القضایا مرتبتان، مرتبة جعل الحکم حیث یفرض الموضوع ویتوجّه إلیه الحکم، ومرتبة المجعولات الشرعیّة حیث یتحقّق الحکم. ثمّ إنّ کلّ شرطٍ فهو موضوع وکلّ موضوعٍ فهو شرط، ومن هنا یظهر أنّ الشرط والسّبب والموضوع واحد.

ثمّ إنّ لکلٍّ من الجعل والمجعول أسباباً وشرائط، فأمّا شرائط الجعل وأسبابه

ص: 198

فهی الأُمور التی تکون الداعی للشارع إلی جعل الحکم، وهی فی مقام اللّحاظ مقدّمة علی الجعل ومؤخّرة عن الجعل والمجعول فی مقام الوجود، فالأغراض والملاکات هی أسباب الجعل وعلله وهی مقدّمة فی اللّحاظ علی الجعل ومؤخّرة فی الوجود کأیّ علّة غائیّة أُخری. وأمّا شرائط المجعول، فإنّها موضوعات للمجعول، والموضوع دائماً متقدّم علی الحکم تقدّم العلّة علی المعلول.

ثمّ أورد المیرزا علی صاحب الکفایة فقال:

فکم من فرقٍ بین شرائط الجعل _ أعنی بها ما یقتضی جعل الحکم علی موضوعه _ وبین شرائط المجعول _ أعنی بها القیود المأخوذة فی موضوع التکلیف _ . فما هو قابل للجعل ومنتزع من التکلیف أو الوضع هی الشرطیّة المتّصفة بها شرائط المجعول، وما هو من الأُمور الواقعیّة التکوینیّة هی الشرائط المتّصفة بها شرائط الجعل. وقد أشرنا إلی أنّ خفاء ذلک علی المحقّق صاحب الکفایة قدّس سرّه أوقعه فی الخلط بینهما فی کثیر من الموارد.(1)

أقول:

والإنصاف متانة هذا الکلام وورود الإشکال علی الکفایة.

وأمّا إشکال المحقّق الإصفهانی: بأنّ الجعل والمجعول واحد حقیقةً، فلمّا جعل شرائط الجعل غیر شرائط المجعول. فغفلة عن مرام المیرزا، فإن ما ذکره إصطلاح منه لکلٍّ من مرحلتی إنشاء الحکم وفعلیّة الحکم، وإلاّ، فلا خلاف فی إتّحاد الجعل والمجعول.

ص: 199


1- 1. أجود التقریرات 4 / 79.

وکذا ما أورده المحقّق العراقی دفاعاً عن الکفایة: من أنّ مراد المحقّق الخراسانی من قوله بعدم قابلیّة سببیّة التکلیف وشرطیّة التکلیف للجعل هو المؤثریّة فی إرادة الحاکم، لکونها أمراً تکوینیّاً غیر قابلٍ للجعل والتشریع.

وذلک: إن صاحب الکفایة قد قسّم «ما عُدّ من الوضع» إلی ثلاثة أقسام: ما هو سبب أو شرط أو مانع أو قاطع للتکلیف، وما هو سبب أو شرط أو مانع أو قاطع للمکلَّف به، وما هو من قبیل الولایة والقضاوة والملکیّة والزوجیّة ممّا هو مجعول بالإستقلال. فقال فی القسم الثانی بالمجعولیّة التبعیّة، بمعنی إنتزاعه من الأمر بالکلّ وبالمشروط، فالشرطیّة للتکلیف لیست مجعولةً عنده من قبل الشارع وإلاّ یلزم الغلط فی التقسیم، لأن الأقسام فی کلّ تقسیمٍ بعضها قسیم للبعض والتقسیم قاطع للشرکة، فما کان للمکلّف به فهو مجعول وما کان یتعلّق بالتکلیف فغیر مجعول.

فأشکل المیرزا بعدم الفرق، فکما أنّ الشرط للمکلَّف به _ کالطهارة بالنسبة إلی الصّلاة _ دخیلٌ واقعاً، ولولاها لما ترتّبت المصلحة علی الصّلاة، کذلک الإستطاعة، فإنّها دخیلة فی التکلیف، إذ لحظها الشارع وأخذها قیداً لتکلیفه بالحج.

وهذا تمام الکلام فی القسمین الأوّل والثانی من الأقسام الثلاثة.

رأی الشیخ فی الأحکام الوضعیّة والبحث حوله

ویقع الکلام فی القسم الثالث من قبیل: الزوجیّة والملکیّة والقضاوة والولایة والحریّة والرقیة وأمثالها، وأوّل ما یتعرّض له هو رأی الشیخ قدّس سرّه،(1) فإنّه ذهب إلی أنّ الأحکام الوضعیّة متنزعة من الأحکام التکلیفیّة، ونسب

ص: 200


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 128.

ذلک إلی المشهور، فوقع رأیه موقع البحث والنظر من الأعلام المتأخّرین عنه:

لقد قال بذلک فی سائر الأحکام الوضعیّة، حتّی فی الموارد التی لا فعلیّة للحکم فیها، کما لو أتلف الصبیّ مال الغیر والحکم الوضعی هو الضمان، فإنّ هذا الحکم منتزع من حکم الشارع بوجوب ردّ المال علی مالکه بعد بلوغ الصبیّ.

وقد إستدلّ لما ذهب إلیه بالوجدان، بمعنی أنّه إذا قال: إن جاءک زید فأکرمه، فقد أنشأ وجوب إکرامه عند مجیئه، ومن هذا الحکم ینتزع شرطیّة المجیء للإکرام، وکذا فی: إذا زالت الشمس فصلّ، فالمُنشأ لیس الشرطیّة بل الحکم والشرطیّة منتزعة منه، والملکیّة تنتزع من جواز التصرّف فی الشیء.

نعم، الطهارة والنجاسة عند الشیخ من الأُمور الواقعیّة التی کشف عنها الشارع، وسیأتی الکلام علی ذلک.

فالشیخ _ کما عرفت _ لم یذکر دلیلاً إلاّ الوجدان، إلاّ أن تلمیذه الآشتیانی(1) حاول أن یبرهن علی ذلک، وملخّص کلامه هو: إنّ الأحکام الشرعیّة أفعال خارجیّة للحاکم، ولو کانت السّببیّة والشرطیّة والملکیّة والخارجیّة وغیرها أحکاماً شرعیّة لزم أن تکون خارجیّة، وإذ لیس لها وجود فی الخارج کسائر أفعال الحاکم فلابدّ وأن تکون منتزعة من أحکامه.

ولکنّ هذا البرهان مردود. أمّا من حیث المبنی، فالأحکام الشرعیّة لیست أفعالاً خارجیّة للشارع، بل الصّادر منه هو الإنشاء، وإنشاء الحکم غیر الحکم وإنّما

ص: 201


1- 1. بحر الفوائد 6 / 452.

هو المُنشَأ بالإنشاء، وهو أمر إعتباری. وأمّا من حیث البناء، فإنّها لمّا لم تکن خارجیّة فهی أحکام مشرّعة من الشارع.

وأمّا الوجدان الذی ذکره الشیخ، فإنّه لو تمّ فی بعض الموارد، فإنّه لا یتم فی مثل قوله تعالی: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَأَنَّ للّه ِِ خُمُسَهُ ... »،(1) فإنّه یدلّ علی الملکیّة ولیس من قبیل ما ذکره. وکذا فی مثل: الغریم ضامن، وفی مثل: من حاز ملک ... ففی هذه الموارد لا یوجد الحکم المنتزع منه بل جعل الحکم الوضعی بالإستقلال.

وأمّا ما تقدّم فی خصوص الصبیّ، فلیس عندنا دلیل مفاده: الصبیّ إن أتلف مال الغیر وجب علیه ردّه علیه بلوغه، حتّی ینتزع منه الضمان.

ولو سلّمنا وجود هکذا دلیل، فإنّ الأمر الإنتزاعی متّحد فی الوجود دائماً بحکم العقل مع منشأ إنتزاعه، وهذا المعنی غیر متحقّق فی هذا المورد.

وعلی الجملة، فإنّه لا دلیل مقبول علی مختار الشیخ، اللهمّ إلاّ بنحو القضیّة الجزئیّة کما فی مثل: إذا زالت الشمس فصلّ، وإن جاءک زید فأکرمه.

وأورد المحقّق المیرزا علی الشیخ بأنّ الطریقیّة ونحوها من الأحکام الوضعیّة مجعولة بالإستقلال لعدم وجود أحکام تکلیفیّة تنتزع منها. وقد وافقه المحقّق العراقی إلاّ أن یقال بأنّ المجعول فی باب خبر الثقة هو المنجزیّة.

ولکن یمکن أن یجاب عن الإشکال بأنّه إذا کان آیة النبأ هی المستند لحجیّة خبر الثقة، کان المجعول عدم وجوب التبیّن من خبر العادل، فینتزع منه طریقیّة

ص: 202


1- 1. سورة الأنفال، الآیة 41.

خبر الثقة إلی الواقع وکاشفیّته عنه. وکذا من الأخبار المستفاد منها حجیّة خبر الثقة، مثل: «أفیونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه معالم دینی؟».(1)

وبالجملة، فإنّ ما ذهب إلیه الشیخ ممنوع لما ذکرنا.

والتحقیق: إن الأحکام الوضعیّة مجعولةٌ، بعضها بالإستقلال وهی الملکیّة والقضاوة والولایة وأمثالها، وبعضها بالتبع، وهی شروط التکلیف وشروط المکلّف به، والدلیل علی ذلک هو بناء العقلاء فی جمیع الأحکام الشرعیّة فی أبواب المعاملات والحکومات، فإنّها أحکام إمضائیّة لا تأسیسیّة، والسّیرة العقلائیّة قائمة علی أنّه إذا جعلت الملکیّة للشیء قالوا فالتصرفات فیه جائزة، ولیس الأمر بالعکس کما اختار الشیخ، فالتأمّل فی ظواهر النصوص کقوله علیه السّلام: «لا یحلّ لأحدٍ أن یتصرّف فی مال غیره إلاّ بإذنه»،(2) وفی السّیرة العقلائیّة یوجب القول بجعل الأحکام الوضعیّة بالإستقلال، بل ما ذکره الشیخ باطل بالبرهان، لأنّ کلّ أمر إنتزاعی فهو متأخّر عن منشأ الإنتزاع، فلو قلنا بانتزاع الملکیّة من حرمة التصرّف فی ملک الغیر، لزم تأخّر ما هو المقدّم وتقدّم ما هو المؤخّر.

وتلخّص: سقوط رأی الشیخ، وسقوط قول الکفایة بالتفصیل بین أحکام التکلیف وأحکام المکلّف به.

ص: 203


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 144، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم 33.
2- 2. المصدر 9 / 541، الباب 3 من أبواب الأنفال، الرقم 7.
الکلام فی الطهارة والنجاسة
اشارة

واختلفت الأنظار فی «الطهارة» و«النجاسة». فقال الشهید:(1) النجاسة عبارة عن الحکم بوجوب الإجتناب إستقذاراً. وقال جماعة:(2) هما من الأحکام الوضعیّة المستقلّة بالجعل. وفی کلمات بعضهم:(3) هما منتزعان من الحکم الشرعی. ونسب المیرزا(4) إلی الشیخ القول بأنّهما من الأُمور الواقعیّة التی کشف عنها الشارع، وکأنّ الأصل فی هذه النسبة کلام الشیخ فی کتاب الطهارة(5) بعد نقل کلام الشهید: إنّ القذارة والطهارة من أوصاف الأشیاء الخارجیّة، فلیستا من الأحکام الشرعیّة. ثمّ وجّه کلام الشهید بأن مراده کونهما منتزعین من الحکم الشرعیّ، فردّ ذلک وصرّح بکونهما من الأُمور الواقعیّة المجهولة الکنه کشف عنها الشارع، قال: وهذا هو المستفاد من الکتاب والسنّة.

لکنْ فی الرسائل(6) فی النظر فی کلام الفاضل التونی: الملکیّة والطهارة والنجاسة مردّدة بین کونها أُموراً واقعیّة کشف عنها الشارع وکونها إعتباریّة. وقال فی موضعٍ آخر: الطهارة والنجاسة إعتباران شرعیّان.(7)

ص: 204


1- 1. القواعد 1 / 30.
2- 2. أجود التقریرات 4 / 80، مصباح الأُصول 3 / 101، مبانی الإستنباط: 88.
3- 3. أُنظر: فرائد الأُصول 3 / 126.
4- 4. أجود التقریرات 4 / 80.
5- 5. کتاب الطهارة: 335.
6- 6. فرائد الأُصول 3 / 130.
7- 7. المصدر 3 / 143.

وعلی الجملة، فإنّ کلمات الشیخ مضطربة ولا یمکن الجزم بما نسب إلیه، والقدر المسلّم به أنّه لا یقول ذلک فی الطهارة والنجاسة الظاهریّتین، لأنّ الأحکام الظاهریّة عند الشیخ کلّها تعبّد شرعی فی طول الواقع بالنسبة إلی الموضوعات والأحکام. فما فی مصباح الأُصول من أنّه لا معنی لأن تکون الأحکام الظاهریّة إخباراً عن الواقع مع إمکان کون الشیء فی الواقع نجساً، غیر وارد علی الشیخ.

کلام المحقّق النائینی

وکیف کان، فقد ردّ المیرزا النائینی علی القول بکونهما أمرین واقعیین فقال ما نصّه:

وأمّا الطهارة والنجاسة، فقد جعلهما الشیخ قدّس سرّه من الأُمور الواقعیّة التی کشف عنها الشارع، جریاً علی مبناه من أنّ الأحکام الوضعیّة لا تنالها ید الجعل الشرعی، فهی بین ما تکون منتزعة عن التکلیف کالملکیّة والزوجیّة ونحو ذلک، وبین ما تکون من الأُمور الواقعیّة کالطهارة والنجاسة.

ویا لیت، بیّن مراده من ذلک، فإنّه إن کان المقصود أنّ حکم الشارع بطهارة بعض الأشیاء ونجاسة آخر إنّما هو لأجل إشتمال الطاهر والنجس علی النظافة والقذارة المعنویّة، فهذا لا یختصّ بباب الطهارة والنجاسة، بل جمیع موضوعات التکالیف ومتعلّقات الأحکام الشرعیّة تشتمل علی خصوصیّة واقعیّة حکم الشارع علی طبقها، فإنّ الواجبات الشرعیّة کلّها ألطاف فی الواجبات العقلیّة. وإن کان المقصود أنّ أصل الطهارة والنجاسة من الأُمور الواقعیّة الخارجیّة، فهذا ممّا

ص: 205

لا سبیل إلی دعواه، بداهة أن الطهارة والنجاسة بمعنی النظافة والقذارة من الأُمور الإعتباریّة العرفیّة، کما یشاهد أنّ العرف والعقلاء یستقذرون عن بعض الأشیاء ولا یستقذرون عن بعضها، غایته أنّ الشارع قد أضاف إلی ما بید العرف بعض المصادیق کنجاسة الخمر، مع أنّه ممّا لا یستقذر منه العرف، إلاّ أنّ هذا لا یقتضی عدم کون الطهارة والنجاسة من الأُمور الإعتباریّة العرفیّة، فإنّ الشارع کثیراً مّا یخطّئ العرف فی المصداق مع کون المفهوم عرفیّاً.

وبالجملة، لم یظهر لنا فرق بین الطهارة والنجاسة وبین الملکیّة والزوجیّة، فإنّ فی باب الطهارة والنجاسة أُموراً ثلاثة، الأوّل: مفهوم الطهارة والنجاسة. الثانی: ما ینطبق علیه المفهوم وما هو المعروض للطهارة والنجاسة کالمؤمن والکافر والبول والماء. الثالث: حکم الشارع بجواز إستعمال الطاهر وحرمة إستعمال النجس.

أمّا الأوّل، فهو کسائر المفاهیم العرفیّة والإعتبارات العقلائیّة، کالملکیّة والزوجیّة والرقیة.

وأمّا الثانی، فهو عبارة عن المصداق الذی ینطبق علیه المفهوم، کمصادیق الملکیّة والزوجیّة، غایته أنّ تطبیق المفهوم علی المصداق تارة: ممّا یدرکه العرف، وأُخری: لا یدرکه إلاّ العالم بالواقعیّات، کما إذا لم یدرک العرف أنّ العقد الکذائی یکون سبباً للملکیّة، إلاّ أنّ الشارع یری تحقّق الملکیّة عقیب العقد، فتکون الملکیّة الحاصلة عقیب ذلک العقد من مصادیق الملکیّة الإعتباریّة العرفیّة.

وأمّا الثالث، فحکم الشارع بجواز إستعمال الطاهر وحرمة إستعمال النجس لیس إلاّ کحکمه بجواز التصرف فی الملک وحرمة أکل المال بالباطل.

ص: 206

فظهر أنّه لا فرق بین الطهارة والنجاسة وبین سائر الإعتبارات العرفیّة. فالأقوی أنّ الطهارة والنجاسة من الأحکام الوضعیّة ولیسا من الأُمور الواقعیّة.(1)

أقول:

ولکنّ دعوی أنّ الطهارة والنجاسة مفهومان مثل الملکیّة والزوجیّة أوّل الکلام، فإنّ للشیخ أن یقول بأنّ فی الطهارة والنجاسة خصوصیّةً واقعیّة یتنفّر الطبع من الثانیة وینشرح من الأُولی، فبینهما وبین الأحکام الإعتباریّة کالملکیّة والزوجیّة فرق، لأنّ الإعتبار بید المعتبر یوجد بواسطته ویرتفع، بخلاف القذارة فی العذرة مثلاً، فإنّها أمر واقعی هو منشأ للتنفّر ... نعم، القذارة الموجودة فی بعض الأعیان النجسة کجسم الکافر لا یدرکها الإنسان وإنّما کشف عنها الشارع.

وأمّا القول بأنّ الطهارة والنجاسة من الإعتبارات، فتارة یخطّئ الشارع العرف وأُخری یصدق، فظاهره التهافت، لأنّه لا تخطئة فی الإعتبارات، لکونها بید المعتبر کما تقدّم، فکیف یکون مورداً للتخطئة؟ وبعبارة أُخری: الحاکم معتبر والعرف معتبر، ولکلٍّ إعتباره.

فالصّحیح هو التفصیل، لأنّ من مصادیق الطهارة والنجاسة ما هو واقعی ومنها ما هو إعتباری، کموارد إعتبارهما بالتبعیّة، فهما فی هذا القسم قابلان للجعل الإستقلالی.

ص: 207


1- 1. فوائد الأُصول 4 / 401 _ 402.
کلام المحقّق العراقی

وقال المحقّق العراقی:

وأمّا الطهارة والنجاسة، فهما بمعنی النظافة والقذارة، وقد جعلهما الشیخ قدّس سرّه من الأُمور الواقعیّة، وهو کما أفاده قدّس سرّه فی النظافة والقذارة العرفیّة المحسوسة، إذ لا ینبغی الإشکال فی کونهما من الأمور الواقعیّة الخارجیّة التی یدرکها العرف والعقلاء، ولذلک تراهم یستقذرون عن بعض الأشیاء، کعذرة الإنسان ولا یستقذرون عن البعض الآخر.

وإنّما الکلام فیهما شرعاً فیما لم یکن فی البین جهة محسوسة عرفیّة، کنجاسة الخمر والکافر ونحوهما، فی أنّهما أیضاً من الأُمور الواقعیّة الخارجیّة التی کشف عنها الشارع لنا بحکمه بوجوب الإجتناب، أو أنّهما من الإعتبارات الجعلیّة؟

ویمکن ترجیح الثانی، بجعلهما من الإعتبارات الجعلیّة الراجعة إلی نحو إدّعاء من الشارع بنجاسة ما یراه العرف طاهراً وبالعکس بلحاظ ما یری من المناط المصحّح لهذا الإدّعاء، بحیث لو اطّلع العرف علیه لرتّبوا علیه آثار النجاسة، کما یشاهد نظیره فی العرف، حیث یری عندهم بعض المصادیق الإدّعائیّة للطهارة والنجاسة، کاستقذارهم من أیدی غسّال الموتی وأیدی من شغله تنظیف البالوعة وإخراج الغائط منها، وإباء طبعهم عن المؤاکلة مع هؤلاء من إناء واحد، ولو کانت أیادیهم حین الأکل فی کمال النظافة الظاهریّة، وعدم إستقذارهم من أیدی مثل الفلاّح المستعمل للفواکه، ولو کانت أیدیهم من جهة إستعمال الفواکه من الوسخ ما بلغ. ومن المعلوم أنّ ذلک لا یکون إلاّ من جهة إدّعائهم القذارة فی الأوّل

ص: 208

الموجب لترتیبهم لآثار القذارة الخارجیّة علیه، وعدم إعتبارهم إیّاها فی الثانی.

وعلیه نقول: إنّه یمکن أن یکون حکم الشارع بنجاسة ما لا یراه العرف قذراً کالخمر والکافر ونحوهما من هذا القبیل، فیکون مرجعه إلی نحو إدّعاء من الشارع بقذارة ما یراه العرف طاهراً، وبالعکس بلحاظ ما یری منه من المناط المصحّح لهذا الإدّعاء، بحیث لو یراه العرف أیضاً لرتّبوا علیه آثار قذاراتهم، من دون أن یکون المناط المزبور هو عین الطهارة والنجاسة الشرعیّة، کی تکونان من الأُمور الواقعیّة التی کشف الشارع عنها ببیانه کما توهم. وبالجملة فرق بین کون الشیء طاهراً أو قذراً خارجیّاً، وبین کونه طاهراً أو قذراً إدّعائیّاً لمناط مخصوص.

وعلیه، لا وجه لجعلها بقول مطلق من الأُمور الواقعیّة. نعم، علی کلّ تقدیر لا تکونان من الأحکام الوضعیّة حتّی یأتی فیهما النزاع فی کونهما مجعولة أو منتزعة من التکلیف، إذ هما إمّا من الأُمور الواقعیّة، وإمّا من الأُمور الإدّعائیّة. فعلی الأوّل، لا تکونان من الأُمور الوضعیّة ولا مرتبطة بالجعل. وعلی الثانی، وإن کانتا مجعولة، ولکن بالجعل بمعنی الإدّعاء لا الجعل الحقیقی کما هو ظاهر.(1)

أقول:

وهذا وجه جیّد، إلاّ أنّ الکلام فی تمامیّة الإدّعاء الذی ذکره فی مقام الإثبات، بل إنّ ظواهر الأدلّة جعلٌ للنجاسة لا بعنوان الإدّعاء.

ص: 209


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 98 _ 99.
کلام المحقّق الخوئی

وفی مصباح الأُصول(1) ثلاثة وجوه من الإشکال علی الشیخ بعد أن نسب القول إلیه کذلک:

أحدها: إنّه خلاف ظواهر الأدلّة ...

والثانی: إنّه خلاف الوجدان بالنسبة إلی بعض الموارد.

والثالث: إنّه لا یمکن القول بأنّ الحکم بالطهارة إخبار عن النظافة الواقعیّة فی الطهارة الظاهریّة، إذ الحکم بطهارة الشیء المشکوک فیه الذی یمکن أن یکون نجساً فی الواقع، لا یمکن أن یکون إخباراً عن النظافة الواقعیّة، ولابدّ من القول بمجعولیّة الطهارة فی مثله.

أقول:

والعمدة هو الوجه الثالث، وتقریبه: إنّ جعل الطهارة بقوله علیه السّلام: «کلّ شیء لک طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» لِما هو طاهر فی الواقع، جمع بین المثلین، وإن کان نجساً فی الواقع فیلزم الجمع بین الضدّین.

وهو کما تری، لأنّ الأمر الواقعی هو الطهارة الواقعیّة، وأمّا المجعول بقاعدة الطهارة فهو الطهارة الظاهریّة، ولا منافاة.

فالحقّ فی الطهارة والنجاسة هو التفصیل، فقسم واقعی، وقسم جعلی، وقسمٌ واقعی کشف عنه الشارع.

ص: 210


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 100 _ 101.
الکلام فی الصّحة والفساد

واختلفت الأنظار کذلک فی «الصّحة» و«الفساد» فقیل: هما أمران واقعیّان. وقیل: هما أمران مجعولان. وفصّل صاحب الکفایة(1) فقال هما فی المعاملات مجعولان وفی العبادات واقعیّان، بتقریب أنّهما فی العبادات منتَزعان من مطابقة المأتی به للمأمور به خارجاً وعدم المطابقة بینهما، والمطابقة أمر واقعی کما لا یخفی، وأمّا فی المعاملات، فهما منتزعان من ترتّب الأثر علی المعاملة وعدم ترتّبه، ومن المعلوم أنّ هذا المعنی یقبل الجعل.

فأورد علیه المحقّق الخوئی:(2) بأنّ المتّصف بالصّحة والفساد فی المعاملات لیس إلاّ الموجود خارجاً کالعبادات، فهما فی المعاملات أیضاً منتزعة من المطابقة بین العقد الواقع فی الخارج وما إعتبره الشارع مؤثّراً، وعدم المطابقة بینهما، فالعبادات والمعاملات من وادٍ واحد.

أقول:

ویرد علیه: أنّ الذی یتّصف بالصّحة والفساد هو المرکّب، وأمّا البسیط فیدور أمره بین الوجود والعدم. ثمّ إنّ الصّحیح فی المرکّب ما کان جامعاً للأجزاء والشرائط، والفاسد بخلافه، ولذا وقع الکلام بین العلماء منذ القدیم فی أنّ أسماء العبادات والمعاملات موضوعة لخصوص الصّحیح أو الأعم من الصّحیح والفاسد؟

ص: 211


1- 1. کفایة الأُصول: 183 _ 184.
2- 2. مبانی الإستنباط: 88، مصباح الأُصول 3 / 102.

وعلی هذا، فالصّحة الفعلیّة تنتزع من المطابقة بین الفرد والطبیعة، فطبیعیّ البیع الجامع للشرائط المعتبرة هو الذی یترتّب علیه الأثر، أی النقل والإنتقال، فإن کان البیع الصّادر فرداً من أفراده إتّصف بالصّحة وإلاّ إتّصف بالفساد. فظهر أنّ هنا صحّةً وفساداً فعلیّین، وصحّة وفساداً فی الطبیعی. وقد وقع الخلط فی کلام المستشکل.

والتحقیق أن یقال:

إنّ الصّحة والفساد أمران تکوینیّان، لأنّ الجامعیّة لجمیع الأجزاء والشرائط وعدمها لیست بجعل جاعلٍ وإعتبارٍ منه، غیر أنّ الشارع قد یعتبر الفاقد صحیحاً مفرّغاً للذمّة فی مقام الإمتثال، فتکون الصّحة حینئذٍ مجعولةً.

الکلام فی الحجیّة

والحجیّة أیضاً ممّا وقع الکلام فیه، فهل هی من الأحکام الوضعیّة المجعولة أو لا؟

والتحقیق أن یقال: إن کان المراد من «الحجیّة» هو «ما یصلح لأن یحتجّ به»، فإنّ هذا المعنی قد یکون ذاتیّاً للشیء کالقطع، وقد یکون بالجعل والإعتبار کفتوی الفقیه کما ورد «فإنّهم حجّتی علیکم»،(1) وعلیه السّیرة العقلائیّة أیضاً.

وإن کان المراد منها «المنجّزیّة والمعذّریّة» فلا تقبل الجعل، لأنّ موضوع حکم العقل فی التنجیز واستحقاق العقاب والتعذیر وعدم استحقاق العقاب هو

ص: 212


1- 1. کمال الدین: 484.

البیان وعدمه، فلو أراد الشارع جعل المنجّز مع عدم البیان علیه، لزم وقوع التخصیص فی حکم العقل، لکنّ الأحکام العقلیّة لا تقبل التخصیص کما لا یخفی.

ولکنّ التحقیق أن یقال: بالمغایرة بین «الحجیّة» و«المنجّزیّة والمعذّریّة» وأنّ نسبة الحجیّة إلیهما نسبة الموضوع إلی الحکم، کما أنّ مقتضی الدقّة أن یقال بأنّ موضوع حکم العقل هو «الحجّة» لا البیان، فإن قامت الحجّة جاز العقاب وإلاّ کان قبیحاً.

وإذا عرفت هذا، فإنّ «الحجیّة» بحسب الإرتکاز العقلائی قابلة للجعل، والمنجّزیّة والمعذّریّة غیر قابلة.

الکلام فی الطریقیّة

أمّا طریقیّة القطع وکاشفیّته عن الواقع، فغیر قابلة للجعل. وأمّا ما یکون طریقاً یکشف عن الواقع الکشف الناقص لاحتمال الخطأ فیه، کخبر الثقة، فیمکن جعل الطریقیّة له بإلغاء إحتمال الخلاف والتعبّد بمفاده، فیکون الطریقیّة بمعنی تتمیم الکشف قابلةً للجعل والإعتبار.

الکلام فی العزیمة والرخصة

وأمّا العزیمة والرخصة، فلیستا من الأحکام الوضعیّة، لأنّ العزیمة هی الثبوت والرخصة عدم الثبوت، وهما أمران واقعیّان.

نتیجة البحث

إنّ الأحکام علی قسمین، تکلیفیّة ووضعیّة، والأحکام الوضعیّة علی قسمین،

ص: 213

فمنها المجعول بالإستقلال، کالملکیّة والزوجیّة والحکومة والولایة والحریّة والرقیة وغیر ذلک، ومنها المجعول بالتبع، کالجزئیّة والشرطیّة للمکلّف به، وشرائط التکلیف. وأمّا الأسباب الواقعیّة التی ینشأ منها الجعل، فهی أُمور واقعیّة.

فکلّ ما کان مجعولاً شرعاً إستقلالاً أو تبعاً فهو مورد للإستصحاب، کأن یُشک فی بقاء الملکیّة أو الزوجیّة ونحو ذلک، فإنّه یجری ویترتّب علیه الأثر، فهذه الأحکام _ کالأحکام التکلیفیّة _ یجری فیها الإستصحاب.

ص: 214

التفصیل بین الشک فی وجود الرافع والشک فی رافعیّة الموجود

اشارة

ذهب إلیه المحقّق السّبزواری،(1)

فحجیّة الإستصحاب مختصّة بمورد الشک فی وجود الرافع للمتیقَّن السّابق، فلا یجری فیما إذا کان الشک فی رافعیّة الأمر الموجود.

دلیل التفصیل

واستدلّ له: بأنّ رفع الید عن الحالة السّابقة فی مورد الشکّ فی رافعیّة الموجود لا یصدق علیه عنوان نقض الیقین بالشک، فلا تشمله أدلّة الإستصحاب.

مثلاً: لو رعف وشک فی کونه رافعاً للطهارة من جهة الشبهة الحکمیّة، أو خرج منه البلل وشک فی رافعیّته لها من جهة الشبهة الموضوعیّة، کان رفع الید عن الطهارة السّابقة مستنداً إلی الیقین بوجود الرعاف أو البلل لا إلی الشک فی

ص: 215


1- 1. أُنظر: فرائد الأُصول 3 / 165.

کونهما رافعین لها، لتحقّق هذا الشک قبل الیقین بوجودهما ومع ذلک لم یکن موضوع النقض، وإنّما تحقّق حین الیقین بوجودهما، فیکون النقض مستنداً إلیه، فعدم البقاء علی الطهارة السّابقة بعد الیقین بهما لا یکون من نقض الیقین بالشک. بخلاف مورد الشکّ فی وجود الرافع.

الإشکال علیه

وفیه: إنّه قد حصل له الیقین بوجود ما یحتمل رافعیّته، وهو البلل أو الرعاف، ولم یحصل له الیقین بارتفاع المتیقَّن السّابق، لأن المفروض أنّه قد تعلّق بوجود الرعاف أو البلل لا بارتفاع الطهارة، فلو رفع الید عن ا لطهارة باحتمال کون الرعاف أو البلل رافعاً لها فقد نقض الیقین بالشک، وذلک ما نهی علیه دلیل الإستصحاب، بل علیه التمسّک بالدلیل وإبقاء الطهارة. وبذلک یظهر ما فی کلامه الأخیر من أنّ الشک فی رافعیّة الرّعاف أو البلل کان حاصلاً قبل الیقین بوجودهما مع أنّه لا یتصوّر معه نقض ... .

وهذا تمام الکلام فی الأقوال والتفصیلات. ویقع الکلام فی التنبیهات.

ص: 216

تنبیهات الإستصحاب

اشارة

ص: 217

ص: 218

التنبیه الأوّل: هل یعتبر فعلیّة الشک؟

اشارة

هل الموضوع فی الإستصحاب هو الیقین والشکّ الفعلی أو أنّ المراد منه الأعم من الفعلی والتقدیری؟

قد طرح هذا البحث من زمن السیّد بحرالعلوم والسیّد صاحب الریاض، وترتّب علیه الأثر والثمرة الفقهیّة.

مثال البحث:

فلو أحدث فغفل عن حدثه ودخل فی الصّلاة، ثمّ التفت بعد الفراغ إلی حدثه، وشکّ فی أنّه تطهّر منه ودخل فی الصّلاة أو لا؟ قولان.

فعلی القول الأوّل: لم یکن عنده یقین وشک فعلی، فلیس له إجراء إستصحاب بقاء الحدث، وبعد الفراغ تکون الصّلاة صحیحةً، بناءً علی جریان قاعدة الفراغ.

وعلی القول الثانی: لم یکن عنده یقین وشک فعلی، لکنّه کان بحیث لو التفت لشکّ، فأرکان الإستصحاب فی حقّه تامّة. وعلیه، فالصّلاة باطلة، لأنّه قد دخل فیها محدثاً.

ص: 219

وقد اختار الشیخ وصاحب الکفایة القول الأوّل.(1)

أدلّة القول الثانی
اشارة

ویستدلّ للقول الثانی _ وهو أعمیّة الیقین والشک من الفعلی والتقدیری: بوجهین:

الوجه الأوّل

إنّه لا موضوعیّة للیقین والشک فی الإستصحاب، بل الموضوع ثبوت الشیء وعدم ثبوته واقعاً، کما فی تعریف الإستصحاب من أنّه إبقاء ما کان. وعنوان الیقین والشک طریقٌ لکشف الثبوت وعدمه ولا موضوعیّة لهما.

توضیحه:

صحیح أنّ الأصل فی العناوین المأخوذة هو الموضوعیّة، فهذا لا ینکر، ولکن من العناوین ما هو کاشف ذاتاً ولا موضوعیّة له، والیقین من هذا القبیل. ویشهد بذلک أن المتیقّن مع وجود الیقین عنده یغفل عن یقینه، ویکون الیقین عنده ممّا به ینظر، نظیر النور.

الجواب

إنّ المهمّ هو لحاظ کیفیّة أخذ الموضوع وترتیب الحکم علیه فی لسان الدلیل، ففی مثل: إذا علمت فاشهد، قد أُخذ العلم فی الشهادة بنحو الموضوعیّة، وأنّه إذا لم یکن یعلم تحرم علیه الشهادة، والحال أنّ العلم له حیثیّة الطریقیّة

ص: 220


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 25، کفایة الأُصول: 404.

والکاشفیّة. وکذلک حال الیقین المأخوذ موضوعاً فی دلیل الإستصحاب، فإنّ الحکم بالنقض وعدم النقض قد ترتّب علی نفس الیقین والشکّ لا المتعلَّق لهما حتّی یقال بأنّهما مأخوذان علی نحو الطریقیّة والکاشفیّة.

الوجه الثانی

إنّ أخبار الإستصحاب قد اشتملت علی جملتین: إحداهما: «لا تنقض الیقین بالشک» والأُخری: «ولکنْ تنقضه بیقینٍ آخر». ومعنی ذلک أنّ الیقین لا ینقض بغیر الیقین، وهذا مفاد أدلّة الإستصحاب. ومن الواضح أن عدم نقض الیقین بغیر الیقین _ أی الشک _ له فردان، أحدهما: الشکّ الفعلی والآخر الشک التقدیری.

الجواب

إنّ الحکم الشرعی فی أدلّة الإستصحاب عدم نقض الیقین بالشک. وأمّا أنّ الیقین ینقض بیقینٍ آخر، فحکم عقلی لا شرعی، ولا ینبغی الخلط بین حکم الشرع وحکم العقل، فإنّ حکم الشرع یتعبّد به، ولا تعبّد بالنسبة إلی حکم العقل، والذی یجب التعبّد به موضوعه: لا تنقض الیقین بالشک.

هذا أوّلاً.

وثانیاً: الجملة الثانیة متصیّدة من الجملة الأُولی، والأُولی هی الصّادرة عن المعصوم علیه الصّلاة والسّلام.

وثالثاً: بعض الروایات فاقدة للجملة الثانیة.

ص: 221

أدلّة القول الأوّل
اشارة

ویستدلّ للقول الأوّل بثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل

أصالة الموضوعیّة فی العناوین، وأنّ الأصل فی کلّ عنوانٍ فعلیّة مفهومه، وإلاّ یلزم المجاز، وهو خلاف الأصل. فإذا جاء: الخمر حرام، أو لا تشرب الخمر، فالمقصود هو الخمر الفعلی لا ما هو خمر بالقوّة، فإنّه مجاز کمجازیّة إطلاق الإنسان علی النطفة.

الوجه الثانی

إنّ الأحکام المترتّبة علی الموضوعات علی قسمین، فمنها: ما یترتّب علی الموضوع من حیث أنّه طبیعی، فیقال: الإنسان نوع، أی من حیث أنّه طبیعة من الطبائع. ومنها: ما یترتّب علی الموضوع الموجود بالفعل، فإذا قال: جئنی بماءٍ، فإنّ مناسبة الحکم والموضوع تقتضی فعلیّة الماء.

وما نحن فیه کذلک، فلا یعقل أن یکون المراد من الیقین من حیث أنّه طبیعة من الیقین، فإنّ طبیعیّ الیقین لا یقبل النقض، وإنّما القابل له هو الیقین الفعلی الموجود. وکذلک الشک.

ولا یخفی أنّ المقصود هو الیقین والشکّ فی الإستصحاب المنجِّز للتکلیف والمعذِّر للمکلَّف، وإلاّ، فإنّ الیقین والشک فی مرحلة الجعل مأخوذان بنحو فرض الوجود، کما هو الحال فی جمیع الخطابات الشرعیّة، لکونها بنحو القضایا الحقیقیّة.

ص: 222

الوجه الثالث

إنّ الأحکام، منها: واقعیّة ومنها: ظاهریّة کما لا یخفی. فأمّا الواقعیّة، فإنّها تدور مدار الوجود الواقعی للموضوع، فإذا تحقّق الموضوع تحقّق الحکم، سواء علم به أو لا، فإنّه بمجرّد تحقّق البالغ العاقل المستطیع یترتّب وجوب الحج مثلاً، سواء علم بذلک أو لا. نعم، العلم یؤثر فی مرحلة التنجیز، أی: إنّه مع العلم بالموضوع والحکم یُستحقُّ العقاب علی المخالفة.

أمّا فی الأحکام الظاهریّة، فإنّ فعلیّة الحکم تساوق تنجّزه، لأن الغرض فیها هو إیصال الواقع بواسطة الطرق والأمارات. أمّا فی الأُصول، فإنّ الأُصول مجعولة للتحفّظ علی الواقع. وبعبارة أُخری: الطرق والأمارات کاشفة علی الواقع تعبّداً وبذلک تکون منجّزةً، والأُصول لا کاشفیّة لها عن الواقع وإنّما هی مجعولة للتحفّظ علیه، کما فی الإحتیاط والتسهیل بالنسبة إلیه کما فی البراءة ونحوها، ولذا یعبّر عن الإحتیاط: بالأصل غیر المرخّص، وعن البراءة وقاعدة الحلّ بالأُصول المرخّصة. ولذا یکون الإحتیاط منجّزاً للتکلیف کما فی الدماء والفروج، والبراءة عذراً للمکلَّف، والأُصول بصورة عامّةٍ إمّا منجزة أو معذّرة. وکذلک الأمارة، فقد تکون منجّزةً، وذلک فیما إذا قامت علی ثبوت التکلیف کاشفةً عن الواقع، وقد تکون معذرةً فیما إذا قامت علی نفی الحکم فتکون معذّرةً.

لکنّ الفرق بین الأمارة والأصل من حیث التنجیز والتعذیر هو: أنّ الحکم الواقعی لا یدور مدار العلم. أی: إنّ حکم الحرمة فعلی للخمر سواء علم المکلَّف أو لا. بخلاف الحکم الظاهری، فإن الأمارة القائمة علی حرمة الشیء _ کخبر الثقة مثلاً _ لا تکون حجّةً إلاّ إذا وصلت إلی المکلَّف.

ص: 223

اللهمّ إلاّ علی مبنی المحقّق الإصفهانی، فإنّه یری إناطة فعلیّة الأحکام الواقعیّة أیضاً بالوصول، لأنّ الإنشاء للحکم هو بداعی جعل الداعی، ولولا الوصول لم تتحقّق الداعویّة للإنشاء. أی: إنّه ما لم یصل الحکم إلی المکلَّف _ الخالیة نفسه من موانع العبودیّة _ لا یمکن أن یکون داعیاً له إلی الإمتثال والطّاعة.

والکلام الآن فی الإستصحاب.

ولا یخفی أنّ حقیقة الإستصحاب عدم نقض الیقین بالشک عملاً، وهذا المعنی یقتضی الفعلیّة. أی: إن تصوّر حقیقة الإستصحاب یقتضی التصدیق بضرورة کون الیقین والشک فعلیّین، إذ لولا الفعلیّة لهما لم یکن معنی لأن یقال لا ترفع الید عن ذاک بهذا.

وثمرة الإستصحاب تنجیز الواقع إن کان مثبتاً للتکلیف، والتعذیر عنه إن کان نافیاً، ویستحیل ترتّب هذه الثمرة إلاّ فی حال کون الیقین والشک فعلیّین.

ثمرة الخلاف
اشارة

وتظهر ثمرة الخلاف کما أفاد الشیخ وصاحب الکفایة فی موضعین:

الثمرة الأُولی
اشارة

لو کان محدثاً وغفل وصلّی، ثمّ بعد الصّلاة شک فی کونه قد صلّی محدثاً أو متطهّراً، فعلی القول بالفعلیّة لم یکن عنده قبل الصّلاة إستصحاب الحدث، لعدم الشکّ بسبب الغفلة، وإنّما تحقّق الشک بعد الصّلاة، ویکون موضوعاً لقاعدة

ص: 224

الفراغ، إذ ورد فی نصوصها: کلّما شککت فیه مما قد مضی فامضه کما هو.(1)

والنتیجة: صحّة الصّلاة.

نعم، قد تحقّقت عنده بعد الصّلاة أرکان الإستصحاب، لکنّ هذا یفید للصّلاة اللاّحقة، أمّا بالنسبة إلی الصّلاة المأتیّ بها، فالقاعدة متقدّمة علی الإستصحاب، إمّا حکومةً وإمّا تخصیصاً. وعلی کلا المسلکین، لا أثر للإستصحاب بعد الصّلاة بالنسبة إلی الصّلاة المأتیّ بها.

أمّا علی القول بأعمّیة الیقین والشک من الفعلی والتقدیری، فلابدّ من الفتوی ببطلان الصّلاة، لکونه قد دخل فیها مع إستصحاب الحدث.

الإشکال الأوّل

وقد أشکل المحقّق العراقی علی الثمرة بقوله:

أقول: ولا یخفی علیک ما فی الإبتناء والتفریع المزبور، فإن کلّ طریق أو أصل معتبر، عقلیّاً کان أو شرعیّاً، عند قیامه علی شیء، إنّما یجب اتّباعه ویترتّب علیه الأثر من المنجّزیّة أو المعذریّة، فی ظرف وجوده وبقائه علی حجّیّته، لا مطلقاً حتّی فی ظرف إنعدامه أو خروجه عن الحجّیّة، وإلاّ، فلا یکفی مجرّد وجوده وحجّیّته فی زمان فی ترتّب الأثر علیه للتالی حتّی فی أزمنة إنعدامه أو خروجه عن الحجّیّة، وبعد ذلک نقول:

ص: 225


1- 1. وسائل الشیعة 8 / 237.

إنّه بناء علی کفایة الشک التقدیری وإن کان یجری إستصحاب الحدث فی ظرف الغفلة قبل الصّلاة، ولکنّه لا یترتّب علیه إلاّ بطلان الصّلاة سابقاً، وأمّا وجوب الإعادة أو القضاء فی ظرف بعد الفراغ، فلا یترتّب علی الإستصحاب المزبور، لأنّه من آثار الإستصحاب الجاری فی ظرف بعد الفراغ، لا من آثار إستصحاب الحدث الجاری فی ظرف الغفلة قبل الصّلاة، وإنّما أثر ذلک هو عدم جواز الدخول فی الصّلاة وجواز قطعها فی فرض دخوله فیها غفلة، فإذا کان الإستصحاب الجاری فی ظرف بعد الفراغ محکوماً بالقاعدة، فمن حین الفراغ لابدّ من الحکم بالصّحة للقاعدة لا البطلان لعدم جریان الإستصحاب من ذلک الحین، ولا أثر للحکم بالبطلان سابقاً بعد کون العمل محکوماً بالصّحة من الحین بمقتضی القاعدة.

نعم، لو کان القاعدة فی جریانها منوطة بعدم کون المصلّی محکوماً بالمحدثیّة سابقاً، کان لأخذ الثمرة مجال، ولکن الأمر لیس کذلک قطعاً، لعدم کون هذا القید شرطاً فی القاعدة، وإنّما الشرط فیها مجرّد کون الشک فی الصّحة حادثاً بعد الفراغ من العمل، ومن هنا لا تجری فیما لو حدث الإلتفات والشک قبل الفراغ ولو لم یجر إستصحاب الحدث ولا کان المکلّف محکوماً بالمحدثیّة حین الشروع فی الصّلاة، کما فی موارد توارد الحالتین التی لا یجری فیها الإستصحاب، إمّا لعدم جریانه فی نفسه مع العلم الإجمالی، أو من جهة سقوطه بالمعارضة.

وبذلک ظهر إندفاع توهم إقتضاء البیان المزبور للحکم بصحّة الصّلاة وعدم وجوب إعادتها، حتّی فی فرض الیقین بالحدث والشک الفعلی فی الطّهارة قبل الصّلاة، لفرض عدم إقتضاء محکومیّة الصّلاة بالفساد حال الإتیان بها بالإستصحاب

ص: 226

الجاری قبل الصّلاة لبطلانها بعد الفراغ، وحکومة القاعدة علی إستصحاب الحدث الجاری فی ظرف الفراغ؛ وهذا ممّا لا یلتزم به أحد من الأصحاب.(1)

أقول:

وملخّص هذا الإیراد هو: إنّه لا أثر للإستصحاب قبل الدخول فی الصّلاة فی الإعادة والقضاء، وأمّا فی أثناء الصّلاة فأثره جواز قطعها، فالإعادة والقضاء أثر الإستصحاب بعد الفراغ منها، لکنّ الصّلاة حینئذٍ محکومة بالصّحة بقاعدة الفراغ، سواء جری الإستصحاب أو لا، فلا ثمرة.

وقد أجاب شیخنا دام بقاه عن هذا الإیراد بما حاصله: إنّ الشارع إنّما یجعل الأُصول للتّحفّظ علی الأحکام الواقعیّة، أو لتنجیزها والتعذیر بالنسبة إلیها، ولا ریب فی عدم ترتّب التّحفّظ أو التعذیر والتنجیز إلاّ مع إلتفات المکلَّف إلی الموضوع والحکم الظاهری، فلولا الإلتفات لما تحقّق الغرض من جعل الحکم فتلزم اللّغویّة من جعله، لأنّه إن لم یکن المکلَّف ملتفتاً لم یکن منبعثاً والغرض من جعل الحکم _ کما هو معلوم _ هو إیجاد الداعی للإنبعاث.

وعلی هذا، فإنّه بناءً علی کفایة الشک التقدیری، یکون الإستصحاب مجعولاً، لکنّ المفروض أنّ المکلَّف قبل الصّلاة غافل غیر ملتفت، فلا أثر للإستصحاب، کما لا أثر له فی أثناء الصّلاة، فلو کان بلا أثرٍ بعد الصّلاة لجریان قاعدة الفراغ، یلزم لغویّة الجعل، وقد تقدّم إستحالته.

ص: 227


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 15.

وأمّا بناءً علی عدم کفایة الشک التقدیری، فلا إستصحاب، بل تجری قاعدة الفراغ، لوجود المقتضی لجریانها وعدم المانع عنه.

فظهر تمامیّة الثمرة وإندفاع الإشکال.

الإشکال الثانی

وأشکل السیّد الخوئی(1) علی الثمرة من جهة أُخری، وهی عدم جریان قاعدة الفراغ _ سواء جری الإستصحاب أو لا _ فلا طریق لتصحیح الصّلاة.

وتوضیح هذا الإشکال یستدعی البحث عن دلیل القاعدة، فنقول إجمالاً:

موجز الکلام فی قاعدة الفراغ:
اشارة

فی القاعدة ثلاثة أقوال:

1 _ إنّ قاعدة الفراغ من الأمارات.

2 _ إنّها من الأُصول.

وعلی الثانی:

قیل: بأنّ عموم «کلّ شیء شککت فیه مما قد مضی فامضه کما هو» یتقیّد بالتعلیل الموجود فی بعض نصوص القاعدة ب_«لأنّه حین العمل أذکر» ونحو ذلک.

وقیل: لا یتقیّد العموم.

فهذه ثلاثة أقوال.

ص: 228


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 109.
تقریب القول الأوّل

أمّا القول الأوّل فتقریبه: إن المکلّف المختار الذی یرید الإتیان بالعمل ممتثلاً للتکلیف، لا یوجد الخلل فی العمل إلاّ عن العمد أو الإشتباه، ولا ثالث. أمّا العمد، فلا یحتمل فی حقّه، وأمّا الإشتباه والخطأ، فالأصل عدمه.

وعلی هذا، فإنّ کلّ عملٍ یصدر من الإنسان فی مقام القیام بالوظیفة، محکومٌ بالسّیرة العقلائیّة بالصّحة وموجبٌ عندهم لفراغ الذمّة، وأدلّة قاعدة الفراغ ناظرة إلی هذا الحکم العقلائی، فتکون القاعدة من الأمارات، لإفادتها حینئذٍ الظنّ النوعی العقلائی الذی هو الملاک لکل أمارة من الأمارات.

وبناءً علی هذا القول، لا مجال لجریان القاعدة، سواء قلنا بالفعلیّة أو الأعم، لأنّه علی هذا المبنی، یعتبر فی القاعدة إحتمال ذکر المکلَّف قبل العمل، حتّی تجری أصالة عدم الغفلة کما تقدّم، ولکنّ المفروض فی المقام هو القطع بالغفلة عن الحدث والدخول فی الصّلاة معها، فلا موضوع للقاعدة. بل یحکم ببطلان الصّلاة علی القولین، ولا ثمرة للبحث.

تقریب القول الثانی

وأمّا القول الثانی، فقد تقدّم الإشارة إلی وجهه. وذلک: إن نصوص القاعدة:

منها: ما هو معلَّلٌ ب_«لأنّه حین العمل أذکر منه حین یشک»(1) أو ب_«لأنّه حین العمل أقرب منه إلی الحق».(2)

ص: 229


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 471، الباب 42 من أبواب الوضوء، رقم 7.
2- 2. المصدر 8 / 246، الباب 27 من أبواب الخلل، رقم 3.

ومنها: غیر معلّل بذلک، وإنّما جاء: «کلّما شککت فیه ممّا قد مضی فامضه کما هو».(1)

ومقتضی القاعدة هو تقیید هذا المطلق بما جاء معلَّلاً.

وبناءً علیه، لا تجری القاعدة کذلک، للقطع بعدم کونه متذکّراً حین العمل حتی یکون أقرب إلی الحق ... فلا موضوع لها حتّی تجری لتصحیح الصّلاة.

تقریب القول الثالث

وبناءً علی القول الثالث وعدم تقیید العام أو المطلق بما ورد مشتملاً علی «لأنّه ...»، فالوجه فی عدم التقیید هو أن «لأنّه ...» حکمة ولیس بعلّة حتّی تقیّد، فیبقی النصّ: «کلّما شککت ...» علی حاله من العموم والإطلاق.

وأثر ذلک هو: تمامیّة الثمرة، وذلک، لأنّه بناءً علی الأعمّیة، یکون الإستصحاب جاریاً ولا تجری القاعدة، لأن موضوعها هو الشکّ بعد العمل، والمفروض أنّه مع جریان الإستصحاب قبل الصّلاة لا شکّ عنده.

أمّا بناءً علی الفعلیّة، فلا یکون الإستصحاب جاریاً، فالموضوع للقاعدة محقَّق، فهی تجری بلا مانعٍ.

وتلخَّص تمامیّة الثمرة علی المبنی الثالث فقط.

الجواب

وفی کلامه مواقع للنظر:

ص: 230


1- 1. وسائل الشیعة 8 / 237، الباب 23، رقم 3.

1 _ قوله بأنّ القاعدة إن کانت من الأُصول فهی حاکمة علی الإستصحاب، سواء کان قبل الصّلاة أو بعدها، فالقاعدة جاریة حتّی علی القول بالأعمّیة.

وفیه:

أوّلاً: سیأتی أنّ السیّد الخوئی یری أن الإستصحاب من الأمارات _ ولکن مثبتاته لیست بحجّة _ فإذا کان أمارةً والقاعدة أصلاً، کیف تتقدّم القاعدة علی الإستصحاب؟

وثانیاً: إنّ الإستصحاب یتقدّم علی القاعدة تقدَّم الأمارة علی الأصل.

وثالثاً: إن کان الإستصحاب من الأُصول، والقاعدة من الأُصول، کیف تتقدَّم القاعدة بالحکومة؟

نعم، إن کان هناک أصلان، أحدهما محرز کالإستصحاب، والآخر غیر محرز کالبراءة، یتقدّم المحرز.

لکنّ المفروض عندهم أنّ القاعدة _ بناءً علی کونها أصلاً _ من الأصول المحرزة، والإستصحاب کذلک بلا کلام، فکیف التقدّم؟ بل إنّهما یتعارضان.

2 _ قوله بتقدّم القاعدة حتّی علی الإستصحاب قبل الصّلاة.

أمّا بالنسبة إلی بعد الصّلاة، فالإستصحاب ساقط والقاعدة تتقدّم، إمّا بالحکومة وإمّا بالتخصیص. وإلاّ یلزم لغویة قاعدة الفراغ. والتحقیق فی وجه التقدّم هو التخصیص، وبیان ذلک هو: أنّه لو لم تتقدّم القاعدة یلزم تخصیص الأکثر فیها، لأنّه مع جریان الإستصحاب لا یبقی مورد للقاعدة، إلاّ مورد التعارض بین الإستصحابین، ومورد کون القاعدة موافقةً للاستصحاب. وإذا لزمت اللّغویّة بتخصیص الأکثر یلزم تقدّم القاعدة.

ص: 231

وأمّا بالنسبة إلی قبل الصّلاة، فالحق أن القاعدة مشروطة. والوجه فی ذلک هو:

إنّه حتّی بناءً علی کون القاعدة أصلاً، وعلی عدم تقیید نصوص القاعدة، فإنّ النصوص المشتملة علی «لأنّه» _ سواء کانت علةً أو حکمةً _ تقتضی عدم جریان القاعدة مع جریان الإستصحاب من قبل، لأنّه مع الإستصحاب لا یحتمل الأقربیّة إلی الواقع أو الأذکریّة. وعلی الجملة، فإنّ مع وجود إستصحاب عدم الإتیان بالجزء _ مثلاً _ کالرکوع، لا یمکن التمسّک ب_«لأنّه ...»، لعدم إحتمال صدق الأقربیّة. فمع الإستصحاب لا تجری القاعدة.

والحاصل: إنّ جریان القاعدة مشروط بعدم قیام الحجّة سابقاً علی عدم الإتیان بالمشکوک فیه. هذا بحسب النصوص.

وکذا الحال بحسب السّیرة العقلائیّة، فإن العقلاء لا یعتنون بالشک بعد العمل، ویحملون العمل الواقع علی الصّحة، هذا صحیح. ولکن ما لم یقم دلیلٌ علی فساده. وفیما نحن فیه: إذا کان عنده حجّةٌ علی الفساد فی أثناء العمل، وهو الإستصحاب، کیف یحملون العمل علی الصّحة بعد الفراغ منه؟

هذا، والنصوص فی المسألة ملقاةٌ إلی العرف، فلا ینعقد الإطلاق فیها.

وبعد، فالثمرة أین تتحقّق؟

إن کانت القاعدة من الأمارات، فلا ثمرة بین القولین، لسقوط القاعدة، وأنّ الصّلاة باطلة علی کلا القولین.

وإن کانت من الأُصول، فعلی القول بتقیّد الأخبار ب_«لأنّه ...»، فلا ثمرة کذلک. وعلی القول بعدم التقیّد، فالثمرة مترتّبة کما قال الشیخ وأتباعه.

ص: 232

وهذا تمام الکلام فی الثمرة الأُولی.

الثمرة الثانیة
اشارة

أن یکون علی یقینٍ من الحدث ثمّ یشک فی الطهارة، فیستصحب الحدث، ثمّ یغفل عن ذلک ویدخل فی الصّلاة.

ذکر الشیخ(1) وغیره أنّ أرکان الإستصحاب فی هذه الصّورة تامّة، فیکون قد صلّی مستصحباً للحدث، فالصّلاة محکومةٌ بالبطلان. وذلک: لأنّ المورد علی هذا من موارد الإستصحاب الفعلی لا التقدیری.

الإشکال علی الشیخ

قد یقال: إن حجّیة کلّ حجّةٍ منوطة بوجود موضوعها حدوثاً وبقاءً، فلو کان الموضوع حادثاً وغیر باقٍ بعد الحدوث لم تتم الحجّة. وفیما نحن فیه، بمجرّد الغفلة ینتفی الشک، فلا موضوع للإستصحاب.

دفاع المحقّق الإصفهانی

أفاد المحقّق الإصفهانی(2) بأنّه مع الغفلة لا یزول الشکّ حتّی لا یجری الإستصحاب، لأنّ الشک باق فی أُفق النفس.

أقول:

إن کان المراد من الغفلة هنا زوال الشک بحیث یحتاج إلی تحصیلٍ جدید،

ص: 233


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 25.
2- 2. نهایة الدرایة 5 / 128.

فالإستصحاب غیر جارٍ کما لا یخفی، وإن کان من قبیل غفلة المصلّی عن الصّلاة مثلاً، بحیث إنّه إذا سئل ماذا تفعل یقول: أُصلّی، کان الحق مع المحقّق الإصفهانی.

وبناءً علی عدم جریان الإستصحاب، لا مجال للقول بصحّة هذه الصّلاة عن طریق قاعدة الفراغ، لأن المعتبر فیها کون الشک حادثاً بعد العمل، والشک الفعلی فی المقام وإن کان غیر الشک السّابق بالدقّة، لتخلّل الغفلة بینهما، إلاّ أنّه هو عرفاً. فلا تجری القاعدة.

ثمرات أُخری

هذا، والتحقیق وجود ثمرات أُخری ولکن للمجتهد. وذلک: لأنّه إن قلنا بعدم جریان الإستصحاب إلاّ مع الشک الفعلی، فإنّه مع الیقین والشک الفعلیّین یجری الإستصحاب، وللمجتهد أن یقول أنت محدث، وإلاّ فلا یجری. وفی حال عدم الجریان، تصل النوبة إلی الأصل المحکوم للإستصحاب وهو البراءة. وعلیه، لیس للمجتهد أن یقول أنت محدث.

ص: 234

التنبیه الثانی: هل یجری الإستصحاب فی مؤدّیات الطرق والأمارات؟

اشارة

وهذا البحث قد إنفرد به صاحب الکفایة عمّن قبله کما قیل.

وذلک: إنّ موضوع الإستصحاب هو الیقین السّابق والشک اللاّحق کما هو معلوم، ولکنّ الأغلب فی الشبهات الحکمیّة والموضوعیّة ثبوت الحکم أو الموضوع بالأمارات والطّرق، وهی غیر مفیدة للیقین کما لا یخفی، فلو أراد الفقیه إجراء الإستصحاب فی الشبهة الحکمیّة، لم یکن له یقینٌ به إلاّ فی موردین:

أحدهما: مورد قیام النصّ القطعی علی الحکم الشرعی بحیث یکون الفقیه متیقّناً بثبوته، ثمّ إنّه لو شک فیه یستصحب بقائه.

والثانی: مورد الإستلزامات العقلیّة، کما لو کان هناک أمر بشیء وقلنا باستلزامه للنهی عن ضدّه عقلاً، فإنّه یتیقّن الفقیه بالحکم الشرعی، فإذا شک بعد ذلک یستصحب.

ولا ریب فی ندرة هذین الموردین. وأمّا فی سائر موارد الشبهة الحکمیّة فلا یقین له بالحکم، لأنّه إن کان مستنبطاً من الکتاب فهو ظنّی الدلالة، وإن کان

ص: 235

مستنبطاً من السنّة فهو ظنّی الصّدور، فکیف یستصحب بقائه لو شکّ فیه لاحقاً؟

وکذلک الحال فی الشبهات الموضوعیّة، إذا أراد هو أو العامی التمسّک بالإستصحاب؟

وقد یثبت الحکم أو الموضوع بمقتضی الأُصول، ومن الواضح عدم إفادة ذلک للیقین، فکیف یجری فیه الإستصحاب؟

تفصیل الکلام

ویقع الکلام فی مقامین:

المقام الأوّل: فی موارد قیام الأمارات
طریق الکفایة

أجاب صاحب الکفایة:(1) أمّا علی مسلک المشهور فی الأمارات والطریق _ من أن المجعول فی مواردها هو الحکم الظاهری، کما عبّر العلاّمة من أنّ ظنّیة الطریق لا تنافی قطعیّة الحکم _ ، فالإشکال مندفع، لأن الأمارة تفید الیقین، غایة الأمر الیقین بالحکم الظاهری، والمشکوک فیه هو الحکم الواقعی.

توضیح ذلک:

أنّه إذا قامت الأمارة علی ملاقاة الماء للنجاسة وتغیّره بها، فإنّه یترتّب

ص: 236


1- 1. کفایة الأُصول: 405.

الحکم بنجاسة الماء، فإن کان مطابقاً للواقع، فهذا الحکم قطعی، وإلاّ کان قیام الأمارة محقِّقاً للحکم بالنجاسة ظاهراً، فیکون الحکم الظاهری بالنجاسة متیَّقناً ما دامت الأمارة موجودةً.

والحاصل: إنّه مع قیام الأمارة یوجد الیقین بالحکم إمّا واقعاً وإمّا ظاهریّاً.

وأمّا الرکن الثانی _ وهو الشک _ فمتحقّق کذلک، لأنّه بعد الیقین یتردّد أمر المتعلّق _ وهو النجاسة فی المثال _ بین أن یکون مقطوع الزوال أو مقطوع البقاء، وذلک، لأنّه بعد قیام الأمارة علی تغیّر هذا الماء بالملاقاة، حصل الیقین بالنجاسة إمّا واقعاً وإمّا ظاهراً. فلو زال التغیّر وشک فی بقاء النجاسة، فإن کان الماء غیر نجسٍ فی الواقع، فقد زال الحکم الظاهری بنجاسته قطعاً، لما تقدَّم من دوران أمر الحکم الظاهری مدار وجود الأمارة، والمفروض قیامها علی حدوث النجاسة بالتغیّر، فإذا زال التغیّر ولا أمارة علی بقائه، فلا حکم بالنجاسة بقاءً. وإن کان الماء نجساً فی الواقع، فنحن علی یقینٍ بحدوث کلّی حکم النجاسة _ الملغی عنه خصوصیّة الواقعی والظاهری _ وعلی شکٍ بالوجدان فی بقائه، فأرکان الإستصحاب تامّة.

فإن قلت: یعتبر فی موضوع الإستصحاب _ الیقین والشک _ الفعلیّة، فإذا فرض قیام الأمارة علی الحدوث، وهی بالنسبة إلی البقاء مفقودة، فلا فعلیّة للحکم بالنجاسة بقاءً، فلا یجری الإستصحاب.

قلنا: الفعلیّة المعتبرة للحکم بقاءً أعمّ من الفعلیّة ببرکة الإستصحاب. وفیما نحن فیه، یکون الحکم فعلیّاً ببرکته، فکان حدوث الحکم ببرکة الأمارة، وبقاؤه ببرکة الإستصحاب.

ص: 237

الإشکال علی الکفایة

وقد أشکل علیه: بأنّ المورد بالنسبة إلی مرحلة الشک فی البقاء من قبیل الإستصحاب فی القسم الثالث من أقسام الکلّی، وهو لیس بحجّة. وذلک: لأنّه لمّا قامت الأمارة حصل الیقین بحکمٍ، وعند زوالها قطعاً ینتفی الحکم، غیر أنّه یحتمل وجود الحکم الواقعی فی ظرف زوال الأمارة، فهو من قبیل القسم الثالث.

الجواب

إنّه من قبیل القسم الثانی لا الثالث، وتوضیحه:

إن مسلک المشهور هو: أنّه عندما تقوم الأمارة، فإمّا هی مطابقة للواقع أو مخالفة. فإن کانت مطابقةً، فمفادها هو الحکم الواقعی، وإن کانت مخالفةً، فإنّه بها یتحقّق الحکم الظاهری من قبل الشارع. ففی جمیع موارد الأمارة یتحقّق الیقین بالحکم، إمّا الواقعی وإمّا الظاهری، فإن کان ظاهریّاً، زال بزوال الأمارة، وإن کان واقعیّاً فهو باق قطعاً. فالمورد من القسم الثانی، وهو تردّد الفرد بین مقطوع الزوال ومقطوع البقاء.

الإشکال الصّحیح

ویرد علیه:

أوّلاً: إن هذا الجواب مبنیٌّ علی القول بحدوث الحکم بقیام الأمارة، وهذا هو مسلک السّببیّة المردود.

وثانیاً: لو سلّمنا، فإنّه یحلّ المشکلة فی الشبهة الحکمیّة دون الموضوعیّة، مثلاً: عندما تقوم الأمارة علی عدالة زیدٍ، ثمّ یقع الشک فی بقائها، فإنّ المستصحَب هو العدالة، وهی لیست حکماً مردّداً بین الواقعی والظاهری لتدخل تحت عنوان إستصحاب الکلّی القسم الثانی.

ص: 238

الجواب علی مسلک المنجزیّة والمعذریّة

وأمّا الجواب عن الإشکال علی مبنی المنجّزیة والمعذّریة، فقد قال صاحب الکفایة ما حاصله:

إنّ مدلول أدلّة الإستصحاب هو جعل الملازمة بین الحدوث والبقاء، فهی تتعبّد ببقاء ما حَدَث وثبت. وعلی هذا، فإن کنّا علی یقینٍ بالحدوث، فإنّ الإستصحاب یفید البقاء بالملازمة، وإن لم یکن عندنا یقین، فإنّ الأمارة تفید ثبوت الشیء، وببرکة دلالة الإستصحاب علی الملازمة یتمّ البقاء. فلا یقال: إنّ الأمارة لا تفید الیقین، لأنّا نقول: بأنّ الیقین مأخوذ فی دلیل الإستصحاب علی وجه الکاشفیّة عن الواقع لا علی وجه الموضوعیّة، فالیقین قد أُخذ فی دلیل الإستصحاب من حیث أنّه حجّةٌ، ولذا تقوم الأمارة مقامه، سواء کانت قائمة علی عدالة زید أو وجوب الجمعة.

والحاصل: إنّ الیقین فی دلیل الإستصحاب هو «الحجّة»، فتقوم الأمارة مقامه.

هذا حدوثاً. ودلیل الإستصحاب یفید بالملازمة البقاء. فالإشکال مندفع.

إشکال المحقّق النائینی

وأشکل المیرزا(1) بما ملخّصه: إنّ هذا الجواب علی مبنی المنجّزیة والمعذّریة لا یتم، لأن المنجّزیة والمعذّریة غیر قابلة للجعل.

توضیحه:

إنّ التنجیز معناه إستحقاق العقاب علی المخالفة، ومفهوم التعذیر کون

ص: 239


1- 1. أجود التقریرات 4 / 82.

المکلَّف فی أمنٍ من العقاب، وکلاهما حکم عقلی، ولیس من المجعولات الشرعیّة. نعم، موضوع هذا الحکم العقلی وصول الحکم من الشارع. وهذا واضح.

الجواب

لیس المنجّزیة والمعذّریة فی الأمارات مبنی صاحب الکفایة، لیرد علیه ما ذکر. وذلک: لأنّه فی مبحث إمکان التعبّد بالأمارات قال: لأنّ التعبّد بطریقٍ غیر علمی إنّما هو بجعل حجّیته، والحجّیة المجعولة غیر مستتبعة لإنشاء أحکام تکلیفیّة بحسب ما أدّی إلیه الطریق، بل إنّما تکون موجبةً لتنجّز التکلیف إذا أصاب وصحّة الإعتذار به إذا أخطأ.(1)

فإن صریح هذا الکلام أنّ المجعول فی الأمارات هو «الحجّیة». هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ مقتضی القاعدة حمل المتشابه من الکلام علی المحکم. إنّه رحمه اللّه قال(2) فی بحث القطع:

فالأولی أن یقال: إنّ المکلَّف إمّا أن یحصل له القطع أو لا، وعلی الثانی: إمّا أن یقوم عنده طریق معتبر أو لا.

وهذا الکلام صریح فی الطریقیّة، لأنّه ذکر أنّ الطریق المعتبر بعد القطع فی المرتبة، فلو کان یری المعذّریة والمنجّزیة فی الأمارات فما معنی الطریق المعتبر؟

وقال فی بیان أقسام القطع: فإن الدلیل الدال علی إلغاء الإحتمال ... .(3)

ص: 240


1- 1. کفایة الأُصول: 277.
2- 2. المصدر: 258.
3- 3. المصدر: 264.

فقضیّة إلغاء إحتمال الخلاف _ التی ذهب إلیها المیرزا _ موجودة فی کلمات المحقّق الخراسانی.

وقال(1) فی مبحث الإنسداد: غایته أنّ العلم الإجمالی بنصب طرقٍ وافیة یوجب إنحلال العلم بالتکالیف الواقعیّة بما هو مضامین الطرق المنصوبة.

أقول:

وفیما نحن فیه قال: علی ما هو التحقیق من أنّ قضیّة حجّیة الأمارة لیست إلاّ تنجّز التکالیف مع الإصابة والعذر مع المخالفة، کما هو قضیّة الحجّة المعتبرة، کالقطع والظن فی حال الإنسداد علی الحکومة، لا إنشاء أحکام فعلیّة شرعیّة ظاهریّة کما هو ظاهر الأصحاب.

فهو یقول: بأنّ مقتضی قیام الأمارة هذا، والأمارة طریق کما عبَّر بقوله بعد ذلک، فقال: ... الذی هو مؤدّی الطریق حینئذٍ.(2)

وبالجملة. فإشکال المیرزا مندفع.

إشکال المحقّق الخوئی

وأشکل السیّد الخوئی: بأنّ الملازمة المدّعاة بین الثبوت والبقاء فی کلامه، إن کان المراد منها الملازمة الواقعیّة، بأن یکون مفاد أدلّة الإستصحاب هو الإخبار عن الملازمة الواقعیّة بین الحدوث والبقاء، فهو مع کونه مخالفاً للواقع _ لعدم

ص: 241


1- 1. کفایة الأُصول: 318.
2- 2. المصدر: 405.

الملازمة بین الحدوث والبقاء فی جمیع الأشیاء، لکونها مختلفة فی البقاء غایة الإختلاف، فبعضها آنی البقاء وبعضها یبقی إلی ساعة وبعضها إلی یوم وهکذا _ مستلزم لکون أدلّة الإستصحاب من الأمارات الدالّة علی الملازمة الواقعیّة بین الحدوث والبقاء، وبعد إثبات هذه الملازمة، تکون الأمارة الدالّة علی الثبوت دالةً علی البقاء، إذ الدلیل علی الملزوم دلیل علی اللاّزم، والإخبار عن الملزوم إخبار عن اللاّزم، وإن کان المخبر غیر ملتفت إلی الملازمة، کما سیجیء فی بحث الأصل المثبت إن شاء اللّه تعالی، فیکون التعبّد بالبقاء تعبّداً به للأمارة لا للأصل العملی المجعول فی ظرف الشک، فینقلب الإستصحاب أمارةً بعد کونه من الأُصول العملیّة، وتکون الملازمة فی المقام نظیر الملازمة الواقعیّة الثابتة بین قصر الصّلاة وإفطار الصّوم بمقتضی الروایات(1) الدالّة علی أنّه کلّما أفطرت قصّرت وکلّما قصّرت أفطرت، فبعد ثبوت هذه الملازمة یکون الدلیل علی وجوب القصر دالاًّ علی وجوب الإفطار وبالعکس. فکذا فی المقام بعد ثبوت الملازمة الواقعیّة بین الحدوث والبقاء بمقتضی أدلّة الإستصحاب، یکون نفس الدلیل علی الحدوث دلیلاً علی البقاء، فیکون التعبّد بالبقاء تعبّداً به للأمارة لا للأصل العملی.

وإن کان المراد من الملازمة هی الملازمة الظاهریّة بین الحدوث والبقاء، فلازمه الملازمة الظاهریّة بین حدوث التنجیز وبقائه، ولا یمکن الإلتزام بها، إذ فی موارد العلم الإجمالی بالحرمة _ مثلاً _ یکون التکلیف منجّزاً، ثمّ لو قامت بیّنة علی

ص: 242


1- 1. وسائل الشیعة 8 / 503، الباب 5 من أبواب صلاة المسافر، رقم 17.

حرمة بعض الأطراف بالخصوص ینحلّ العلم الإجمالی، وبانحلاله یرتفع التنجّز، فإنّه تابع للمنجّز ومقدّر بقدره، فلا ملازمة بین حدوث التنجیز وبقائه ولا یلتزم بها صاحب الکفایة أیضاً، فإنّه وغیره أجابوا عن إستدلال الأخباریین لوجوب الإحتیاط بالعلم الإجمالی بواجبات ومحرمات کثیرة، بأنّ العلم الإجمالی قد انحلّ بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال من الواجبات والمحرمات، وبعد إنحلاله تنقلب الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی إلی الشبهة البدویّة، فیرجع إلی البراءة. وهذا الجواب ینادی بعد الملازمة بین حدوث التنجّز وبقائه کما تری.

فالإنصاف، أنّه علی القول بأنّ معنی جعل حجّیّة الأمارات لیس إلاّ التنجیز فی صورة الإصابة والتعذیر مع المخالفة کما علیه صاحب الکفایة وجماعة من الأصحاب، لا دافع لهذا الإشکال.(1)

الجواب

إنّ الصّحیح هو الشق الثانی، لأن صریح کلام المحقّق الخراسانی أن مفاد دلیل الإستصحاب هو التعبّد بالبقاء بعد الثبوت، فمراده هو التلازم الظاهری.

وأمّا النقض، فملخّصه هو: إذا حدث العلم الإجمالی، فإنّه بحدوثه ینجّز جمیع الأطراف، لکن لا توجد الملازمة بین الحدوث والبقاء، لأنّ العلم الإجمالی یتبدّل بالتفصیلی بقیام الأمارة أو الأُصول المثبتة للتکلیف بالنسبة إلی بعض الأطراف، فیکون الشک بالنسبة إلی الباقی بدویّاً، فلو کانت الملازمة موجودة لوجب الإجتناب

ص: 243


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 116 _ 118.

عن البقیّة _ أی موارد الشبهة البدویة _ کما یقول الأخباریّون، وهو باطل.

لکن یرد علیه الفرق، وذلک، لأنّه مع قیام الأمارة علی بعض الأطراف لا وجود للعلم المنجِّز حدوثاً، بل یزول بالمرّة، بخلاف مورد الإستصحاب، فالأمارة باقیة. مثلاً: إذا تیقّن بحدوث النجاسة أو عدالة زید ثمّ شکّ، فالمحقّق الخراسانی یقول بأنّ مفاد الإستصحاب هو بقاء ما تیقّن به. فالأمارة الموجبة لحدوث الیقین بالنجاسة أو العدالة باقیةٌ فی ظرف الشکّ ببرکة الإستصحاب.

وعلی الجملة: ففی مورد العلم الإجمالی إذا قامت الأمارة علی بعض الأطراف لا منجِّز بالنسبة إلی البقیّة. أمّا فی الإستصحاب لما یشک فی بقاء ما تنجَّز یری بقاء الحجّة القائمة علی الثبوت.

فالفرق واضح والنقض ساقط.

الإشکال الصّحیح

والحق فی الإشکال علی صاحب الکفایة هو:

أوّلاً: إنّه قد أخذ لفظ «الیقین» فی دلیل الإستصحاب بمعنی «الحجّة»، فأسقطه عن الموضوعیّة، والحال أنّه رکن الإستصحاب، قال علیه السّلام: «لیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک». فإنّ هذا یفید أنّ «الیقین» کاشفٌ عن المتیقّن المستصحَب، وموضوع الإستصحاب.

وثانیاً: إنّه قد أُخذ الشک فی دلیل الإستصحاب رکناً له، ولا شک أنّ المراد هو الشک الفعلی لا التقدیری _ کما تقدّم _ . ومن الواضح أنّ الشک الفعلی بلا یقینٍ محال، ولکنّ الأمارة لا تفید الیقین. فالإشکال باق.

ص: 244

فطریق صاحب الکفایة لم یحل المشکلة، والعمدة فی الإشکال علیه عدم مساعدة مقام الإثبات، وهذا هو الإشکال الباقی علیه عند السیّد الأُستاذ:

رأی السیّد الأُستاذ

فإنّه بعد أن أجاب عن جمیع ما أُورد به علی صاحب الکفایة قال:

نعم، یبقی سؤال واحد وهو: إن ما أفاده لا یساعده مقام الإثبات وإن کان خالیاً عن الإشکال فی مقام الثبوت، لأنّ ظاهر دلیل الإستصحاب کون موضوع التعبّد هو الیقین فکیف یلغی عن الموضوعیّة، ویدّعی أنّ نفس الحدوث هو الموضوع؟

والجواب عن ذلک واضح علی ما إلتزم به صاحب الکفایة ووافقناه من أنّ الیقین ههنا لوحظ مرآةً لمتعلَّقه، وأنّ المراد به هو المتیقَّن، نظیر: صم للرؤیة وأفطر للرؤیة، فی عدم کون الرؤیة بما هی موضوعاً، وقد أوضحناه فیما تقدّم عند الکلام فی صحیحة زرارة الأولی. فراجع،(1) انتهی. فتأمّل.

طریق المیرزا والعراقی

وذکر المحقّقان المیرزا والعراقی(2) مع اختلافٍ بسیط، طریقاً آخر، وتبعهما السیّد الخوئی ومحصّله:

إنّ الموضوع فی دلیل الإستصحاب هو «الیقین». وأدلّة إعتبار الأمارة تعبّدنا بأنّها تفید الیقین، لکون لسانها لسان إلغاء إحتمال الخلاف. فالأمارة وإن لم تکن بعلمٍ وجداناً، فهی تفیده من باب إلغاء إحتمال الخلاف وتتمیم الکشف، وهذا

ص: 245


1- 1. منتقی الأُصول 6 / 156.
2- 2. أجود التقریرات 4 / 83، نهایة الأفکار 4 / 106.

معنی الیقین التعبّدی، وحینئذٍ، تترتّب علی الأمارة آثار الیقین.

وعلی هذا، فإنّ أثر الیقین المأخوذ موضوعاً فی دلیل الإستصحاب یترتّب علی الأمارة، وهو عدم جواز النقض. فکما لا یجوز نقض الیقین بالشک، کذلک لا یجوز نقض الأمارة بالشک فی الزمن اللاّحق.

نظیر قضیّة الحکومة، فإنّ حکم «الصّلاة» وهو الطهارة یترتّب علی «الطواف» ببرکة «الطواف بالبیت صلاة» فتعتبر الطهارة فی الطواف کما فی الصّلاة.

وبهذا البیان یندفع الإشکال بأنّ الأمارة لا تفید الیقین.

الإشکال علیه

وهذا الطریق وإن کان أمتن، لکن یرد علیه: أن الدلیل أخصّ من المدّعی.

إنّ المدّعی إفادة جمیع الأمارات للیقین تعبّداً، وأنّها تقوم مقام الیقین الوجدانی، لکنّ ما ذکر إنّما یتم فی البیّنة وخبر الواحد. وأمّا فی «أماریّة الید» علی الملکیّة فلا، وذلک، لأنّ إحتمال الخلاف قد أُلغی فی البیّنة، أمّا فی «الید» فهو محفوظ کما فی الروایة: «لعلّه سرقه».

وکذلک: یترتّب الأثر علی إخبار المرأة بأنّها خلیّةٌ، لکنّ إحتمال الخلاف موجود عقلاءً، وکذا فی إخبارها عن الحیض والعدّة.

إذن، نحتاج إلی دلیلٍ عامٍ یشمل جمیع الأمارات، فنقول:

طریقان آخران

یمکن حلّ المشکلة بطریقین آخرین:

ص: 246

أحدهما:

وهو یبتنی علی ثلاثة أُمور:

الأوّل: إنّه یعتبر فی الشهادة العلم.

والثانی: إنّ الأمارات تتقدّم علی الإستصحاب، سواء کان أصلاً کما هو الحق أو أمارةً کما ذهب إلیه المحقّق الخوئی.

والثالث: إنّه تجوز الشهادة بناءً علی الإستصحاب کما فی صحیحة معاویة بن وهب،(1) حیث أجاز الإمام علیه السّلام الشهادة بکون الغلام الآبق عبداً مملوکاً لفلانٍ، إستناداً إلی کونه ملکاً له سابقاً، مع إحتمال أنّه قد باعه أو وهبه أو أعتقه.

وبالجمع بین هذه الأُمور یظهر: أنّ الإستصحاب یقوم مقام العلم بإلغاء إحتمال الخلاف فیه، فإن کان أصلاً، فالأمارات بالأولویّة، وإن کان أمارةً _ وهو أمارة ضعیفة _ فسائر الأمارات بالأولویّة.

الثانی:

إنّ دلیل الإستصحاب یشتمل علی صدر وذیل، وقد أُخذ «الیقین» فی کلیهما. قال علیه السّلام: «لا تنقض الیقین بالشک بل انقضه بیقینٍ آخر». ففیه یقین ناقض ویقین منقوض، ولا ترفع الید عن الیقین إلاّ بالیقین.

ولکن عندنا موارد کثیرة فی الشریعة قد رفعت الید فیها عن الیقین السّابق بالأمارة مع عدم کونها مفیدةً للیقین، مثلاً:

ص: 247


1- 1. وسائل الشیعة: 27 / 336، الباب 17 من أبواب کتاب الشهادات، الرقم 2.

الأصل فی اللّحوم عدم التذکیة، ومع ذلک ترفع الید عنه بید المسلم.

وسوق المسلمین _ وفیه المؤمن وغیر المؤمن، والعادل والفاسق _ من الأمارات، ترفع الید به عن أصالة عدم التذکیة، فکان ناقضاً _ کالید _ لإستصحاب عدم التذکیة.

وقول الحجّام أمارة علی طهارة الموضع، سواء کان ثقةً أو لا، وبذلک ترفع الید عن إستصحاب نجاسته بالحجامة، مع أنّ الشارع قال: بل انقضه بیقین آخر.

والحاصل: إنّ الأمارة تقوم مقام الیقین، سواءً الناقض أو المنقوض، فالإشکال مندفع.

المقام الثانی: فی موارد الأُصول
اشارة

إذا حکمنا بطهارة الشیء إستناداً إلی قاعدة الطهارة مثلاً، ثمّ شککنا فی بقائها، فهل یمکن الحکم ببقائها فی الزمان اللاّحق بالإستصحاب؟

فیه ثلاثة أقوال:

1 _ جریان الإستصحاب مطلقاً.

2 _ عدم جریانه مطلقاً.

3 _ التفصیل. ذهب إلیه السیّد الخوئی(1) تبعاً للمیرزا. وتوضیحه:

توضیح التفصیل

تارةً: یکون مؤدّی الأصل بنحوٍ یتکفّل بقاء الحکم وإستمراره فی جمیع

ص: 248


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 119.

الأزمنة، فلا یجری الإستصحاب، لأنّ المفروض تکفّل قاعدة الطهارة _ مثلاً _ بقاء الحکم بطهارة الشیء مع جمیع الأزمنة _ لا فی الزمان الأوّل فقط _ حتّی لو شک فی ملاقاته للنجاسة فیما بعد.

وکذا لو حکم بحلیّة الشیء بمقتضی: «کلّ شیء لک حلال»، فإنّه یفید حلیّة الشیء فی جمیع الأزمنة، فلا معنی للتمسّک بالإستصحاب حینئذٍ.

وکذا لو حکم بطهارة الشیء وحلیّته بمقتضی الإستصحاب، ثمّ شکّ فی بقاء الحلیّة أو الطهارة فی الزمان اللاّحق.

وأُخری: لا یکون متکفّلاً للحکم کذلک، کما لو غُسل الثوب المتنجّس بماءٍ مشکوک الطهارة والنجاسة، فإنّ مقتضی الأصل فی الثوب بقاء النجاسة السّابقة، ومقتضی قاعدة الطهارة فی الماء هو طهارته، لکنّ الإستصحاب مقدَّم علی القاعدة، لکونه أصلاً محرزاً والقاعدة لیست بأصل محرز.

إلاّ أنّ الشک فی بقاء نجاسة الثوب مسبّب علی الشکّ فی طهارة الماء، وحینئذٍ، تتقدّم القاعدة علی الإستصحاب بالحکومة، لأنّه مع جریان القاعدة فی الماء یکون محکوماً بالطهارة، فیکون الثوب مغسولاً بالماء الطاهر شرعاً فهو طاهر.

ومن المعلوم أنّ هذا الماء قد تسبّب فی طهارة الثوب حدوثاً فقط، فیحتاج إلی الإستصحاب للزمان اللاّحق، لأنّه لمّا غُسل هذا الثوب وأصبح طاهراً، ثمّ وقع الشک فی طهارته باحتمال ملاقاته للنجاسة مثلاً، فإنّ قاعدة الطهارة لا تتکفّل طهارته، بل المرجع لها حینئذٍ هو الإستصحاب. بخلاف القسم الأوّل، حیث کانت القاعدة مفیدة للطهارة فی الزمان اللاّحق وکلّ الأزمنة.

هذا هو التفصیل.

ص: 249

الإشکال علیه

وفیه: إنّ الرافع للطهارة الواقعیّة هو النجاسة الواقعیّة لا المحتملة، فضلاً عن الطهارة الظاهریّة، لکنّ الطهارة الظاهریّة تجتمع مع النجاسة الواقعیّة، وإنّما یرفعها العلم بالنجاسة، قال علیه السّلام: «کلّ شیء لک طاهر حتّی تعلم أنّه قذر». فالعلم هو الرافع للطهارة الظاهریّة فی مقام الإثبات، ولا یرفعها ثبوتاً إلاّ العلم کذلک. ومن هنا نقول:

لمّا غسل الثوب بالماء المحکوم بالطهارة بحسب القاعدة وطَهُر بذلک، لم تکن طهارته واقعیّةً بل هی ظاهریّة _ لاحتمال نجاسة الماء _ ، والطهارة الظاهریّة لا ترفع مع إحتمال النجاسة، فتکون القاعدة المفیدة للطهارة الظاهریّة فی الثوب متکفّلةً لبقاء الطهارة فیه.

فالتفصیل المذکور غیر تام.

ص: 250

التنبیه الثالث: فی إستصحاب الکلّی

اشارة

إنّ حقیقة الإستصحاب هو إبقاء المتیقَّن عملاً، أی الجری العملی علیه فی ظرف الشک فی بقائه.

والمتیقَّن قد یکون (الموضوع) وقد یکون (الحکم).

وکلٌّ منهما، قد یکون (الفرد) وقد یکون (الکلّی).

و(الفرد) قد یکون معیّناً وقد یکون مردّداً.

و(الکلّی) قد یکون کلّیاً طبیعیّاً کالإنسان، وقد یکون کلّیاً إعتباریّاً کالوجوب والحرمة، وقد یکون کلّیاً إنتزاعیّاً کعنوان الأبیض والأسود، لأن الموجود حقیقةً هو الجسم والبیاض، وینتزع من ذلک عنوان الأبیض مثلاً.

أقسام الکلّی

ثمّ إنّ المتیقَّن الکلّی الذی یُشک فی بقائه علی خمسة أقسام:

الأوّل _ الیقین بوجود فردٍ والشک فی بقاء الفرد. ویلازم هذا الیقین أو

ص: 251

الشک الیقین والشکّ فی الکلّی، لأن وجود الکلّی إنّما هو بوجود فرده، فالیقین بالفرد یلازم الیقین بالکلّی، والشک فی بقائه یستلزم الشک فی بقاء الکلّی.

الثانی _ أن یکون الفرد الموجود مردّداً بین مقطوع الزوال ومقطوع البقاء، فیکون هذا التردّد منشأً للشک فی بقاء الکلّی، فتتمّ أرکان الإستصحاب فی الکلّی. کما لو تیقّن بالحدث وتردّد بین الحدث الصغیر والکبیر، فإذا توضّأ یکون الصغیر زائلاً یقیناً، أمّا لو کان الکبیر فهو باقٍ یقیناً.

الثالث والرابع _ أن یکون علی یقینٍ من حدوث الفرد ومن زواله، ویحتمل حدوث فردٍ آخر مع زوال الأوّل. وحدوث الآخر، تارةً: یکون مقارناً لحدوث الأوّل، فیقع الیقین بوجود الکلّی والشک فی بقائه. وهذا هو القسم الأوّل من الثالث من أقسام إستصحاب الکلّی. وأُخری: یکون مقارناً لزوال الأوّل. وهذا هو القسم الثانی من الثالث من أقسام الکلّی.

والخامس _ هو: إستصحاب الکلّی فی الحقائق المشکّکة، کالعدالة والإجتهاد ونحوهما.

وهناک قسم سادس، سیأتی ذکره.

ثمّ إنّه قد ذکرنا بأنّ الفرد المستصحب، تارةً: معیَّن، وأُخری: مردّد.

رأی صاحب العروة فی الفرد المردّد

فإن کان معیَّناً، فلا کلام فی جریان الإستصحاب فیه. وأمّا إن کان مردّداً، فقد ذهب السیّد الیزدی إلی جریان الإستصحاب، لاجتماع أرکان الإستصحاب فیه،

ص: 252

وقد وقع موقع البحث والإشکال بین المتأخّرین عنه. وللبحث أهمیّة وآثار عملیّة کبیرة کما سیظهر.

وقد ذکر السیّد هذا المبنی فی حاشیة المکاسب، وفی کتاب الوقف له.

أمّا فی الحاشیة،(1) فقد ذکر الشیخ فی المعاطاة وأنّها تفید الملک اللاّزم أو الجائز: لو فسخ أحد الطرفین المعاملة، وشکّ فی بقاء الملکیّة للآخر وعدم بقائها، یکون المورد من قبیل دوران الأمر بین مقطوع الزوال _ وهو ما إذا کانت الملکیّة جائزة _ ومقطوع البقاء، وهو ما إذا کانت لازمةً. فذهب الشیخ إلی جریان إستصحاب الملکیّة.

فقال السیّد: بأنّ هذا الإستصحاب من قبیل القسم الثانی من أقسام إستصحاب الکلّی، والشکّ فی بقاء کلّی الملکیّة مسبّب عن الشک فی بقاء الملکیّة اللاّزمة، وإذا جری الأصل فی السّبب لم یجر فی المسبّب. فإذن، لا یجری إستصحاب الکلّی.

ثمّ اختار السیّد جریان الإستصحاب _ فی جمیع الموارد من هذا القبیل _ فی «أحد الأمرین» من غیر حاجة إلی إجرائه فی الکلّی، لأنّ أرکان الإستصحاب فی نفس الفرد المردّد بین الزائل والباقی تامّة، إذ الیقین بالحدوث موجود، کما فی مسألة الیقین بالحدث قبل الوضوء، والشک أیضاً موجود، وهو حاصلٌ بعد الوضوء، لأن الواقع غیر خالٍ من أحد الأمرین، فإمّا الحدث هو الصغیر أو الکبیر، وإنّما تردّد هو فی علمنا لا فی الواقع، وأمّا الأثر، فهو مترتّب کما لا یخفی. فالأرکان تامّة.

ص: 253


1- 1. حاشیة المکاسب: 73.

وفی کتاب الوقف، فی مسألة ما إذا کان الموقوف علیه هو «أحدهما» کما إذا أوقف علی أحد الفقیهین مثلاً، حیث ذهب البعض إلی البطلان، لکون الملکیّة لا تقوم بالفرد المردّد کما لا تقوم العوارض کالبیاض والسواد علی أحد الجسمین. فقال السیّد بالفرق بین الملکیّة والعوارض، لکونها موجودةً فی الخارج وإن فی الموضوع، أمّا الملکیّة فهی أمر إعتباری، والأُمور الإعتباریّة تدور مدار کیفیّة إعتبار المعتبر لها، ولا مانع عن أن یعتبر الواقف ملکیّة داره لأحد الفقیهین.(1)

إشکال المحقّق النائینی

وقد أورد علیه المحقّق النائینی:(2) بضرورة وحدة المتعلَّق للیقین والشک کما فی النصوص: «من کان علی یقین فشک»، فإن ظاهره أن یشک فیما تیقّن به، وهذا هو المقوّم للإستصحاب، وهو غیر متحقّقٍ فی الفرد المردّد، لأنّ الیقین بالحدوث فیه موجود، أمّا الشک فی بقائه فلا، لأنّه بعد تحقّق أحد الفردین لیس المشکوک فیه نفس المتیقّن سابقاً، کما لا یخفی.

دفاع المحقّق العراقی

وقد دافع المحقّق العراقی(3) عن رأی السیّد بدفع إشکال المیرزا نقضاً وحلاًّ. فقال ما حاصله:

ص: 254


1- 1. ملحقات العروة الوثقی: 209.
2- 2. أجود التقریرات 4 / 90.
3- 3. فوائد الأُصول 4 / 413 _ 414، الهامش.

أمّا نقضاً، فبأنّ هذا الإشکال یرد علیکم فی جمیع موارد القسم الثانی من أقسام إستصحاب الکلّی، لأنّ نسبة الکلّی إلی أفراده لیس نسبة الأب الواحد إلی أبنائه بل نسبة الآباء إلی الأبناء، فقولهم: «إنّ الطبیعی موجود بوجود أفراده» بمعنی أنّ الطبیعی یتعدّد بعدد الأفراد، فالإنسان الموجود مع زید غیر الإنسان الموجود مع عمرو. وعلیه، فالذی حصل التیقّن به فی القسم الثانی هو أحد الحصّتین، کما إذا تیقّن بالحدث وتردّد بین الأصغر والأکبر، فلما توضّأ دار أمر الحدث بین المرتفع وهو الأصغر والباقی وهو الأکبر، فکان متعلَّق الشک غیر متعلَّق الیقین.

وأمّا حلاًّ، فإن «الیقین» و«الشک» من المفاهیم الإضافیّة. وکلّ مفهومٍ إضافیٍ فإنّه لا یتجاوز عن متعلَّقه. وعلی هذا، فإنّه لمّا تعلَّق الیقین ب_«الحدث» وهو جامعٌ بین الأصغر والأکبر، فإنّه لا یتجاوز إلیهما، وبعد الوضوء، یقع الشک فی بقاء نفس الحدث، فی أنّه إن کان هو الأصغر فقد إرتفع، وإن کان هو الأکبر فهو باقٍ، والمفروض أنّ الشک لا یتجاوز عن متعلَّقه، فکان متعلَّق الشکّ نفس متعلَّق الیقین، وحینئذٍ، یجری الإستصحاب، ویتمّ ما ذهب إلیه السیّد.

التحقیق

أفاد شیخنا الأُستاذ دام بقاه وسیّدنا الأُستاذ رحمه اللّه ما حاصله: عدم تمامیّة أرکان الإستصحاب فی الفرد المردّد، فکلام السیّد ودفاع العراقی عنه فی الإشکال علی المیرزا، مردود.

وذلک: لأنّه یعتبر فی الإستصحاب وحدة القضیّتین کما هو معلوم، وهذه غیر حاصلة فی الفرد المردّد، لأن القضیّة المتیقّنة هی: إنّ الواجب یقیناً ظهر یوم الجمعة

ص: 255

صلاة واحدة، لکنّها مردّدة بین الظهر والجمعة. هذا حدوثاً. وأمّا بقاءً، فیلزم أن یکون ذلک نفسه متعلّق الشک حتّی یتم الإستصحاب. ومن المعلوم أنّه إذا صلّی الظهر _ مثلاً _ لا یکون مردّداً بین الفردین، وإنّما الشک فی وجوب الجمعة علیه وعدم وجوبها، فاختلف الموضوع فی القضیّتین، فلا یجری الإستصحاب.

وکذا الحال فی مثال الحدث.

وعلی الجملة، فإنّ مورد التعبّد الإستصحابی لا یمکن أن یکون الفرد المردّد، لأن الفرد المردّد لا ذات له ولا وجود، ولا یمکن أن یکون المفهوم المردّد، لأنّ المفهوم المردّد لیس بموضوعٍ لأثرٍ، ولا یمکن أن یکون الجامع الإنتزاعی، بأن یتعلّق الیقین بنجاسة أحد الإناءین أو وجوب إحدی الصّلاتین، ثمّ یستصحب الجامع بعد الإتیان بصلاةٍ أو خروج فرد من الإناءین من طرف الإبتلاء مثلاً. ووجه عدم الإمکان:

أوّلاً: إختلاف الموضوع فی القضیّتین، کما هو واضح.

وثانیاً: عدم ترتّب الأثر الشرعی فی الفقه علی الجامع الإنتزاعی فی موردٍ من الموارد، بل الموضوع ذو الأثر هو إمّا الخصوصیّة وإمّا الجامع الحقیقی.

الکلام فی إستصحاب الکلی

وبعد الفراغ عن الکلام حول دعوی جریان الإستصحاب فی الفرد المردّد، نشرع فی البحث ونقول:

القسم الأوّل

قالوا: لا کلام ولا إشکال فی جریان الإستصحاب فی القسم الأوّل من أقسام

ص: 256

الکلّی، وذلک، لتمامیّة الأرکان فیه، فإنّه لو تیقّن بوجود الفرد، ثمّ شک فی بقاء فردٍ، فإنّه مع الیقین بالوجود حصل الیقین بوجود الکلّی، فلو شک بعد ذلک فی وجود فردٍ من الکلّی وعدم وجوده، إستصحب بقاء الکلّی.

ولکن یمکن أن یقال بوجود الإشکال فی هذا القسم، لأنّ المفروض أن وجود الکلّی بوجود الفرد، وأنّ الأثر یترتّب علی وجود الموضوع لا مفهومه، فکیف تتمّ الأرکان فی الفرد وفی الکلّی معاً؟

وأیضاً: سیأتی فی القسم الثانی أنّ منشأ الشک فی بقاء الکلّی هو الشک فی حدوث الفرد الطویل، ومعنی ذلک: أنّ الشک فی بقاء الکلّی ناشئ دائماً من الشک فی الفرد، فهو من قبیل الشک السّببی والمسبّبی، وقد تقرّر تقدّم الأصل فی السّبب.

لکن هذا الإشکال فی القسم الأوّل یندفع باندفاعه فی القسم الثانی کما سیأتی.

القسم الثانی

وهو ما إذا دار أمر الفرد بین الزائل والباقی. وهذا القسم جارٍ فی الموضوعات والأحکام بلا فرق، ومع الشک فی المقتضی وفی الرافع.

مثال الحکم: ما لو تعلّق الوجوب إمّا بصلاة الظهر وإمّا صلاة الجمعة. لکنّ وقت صلاة الجمعة مضیّق ووقت صلاة الظهر موسّع. فلمّا إنقضی وقت الجمعة یقع الشکّ بأنّه إن کان الواجب الجمعة فقد سقط، وإن کان الظهر، فهو باق. هذا مثال الحکم.

ومثال الموضوع هو الحدث. فلو کان عالماً بالحدث ثمّ توضّأ، فإنّه یشکُّ فی بقاء الحدث، ویتردّد أمره بین الصغیر والکبیر _ والمفروض عدم الحالة السّابقة لأحدهما _ فإن کان الصغیر، فقد زال وإن کان الکبیر، فهو باق.

ص: 257

ومثال الشک فی المقتضی: ما لو تیقّن بحدوث الزوجیّة، ثمّ بعد الشهر دار أمرها بین الإنقطاع والدوام، لأنّه إن کانت منقطعة فقد زالت، وإن کانت دائمة فهی باقیة.

هذا، ولا یخفی أنّه یعتبر فی التعبّد الإستصحابی وجود الأثر وأن یترتّب علی نفس المتعبَّد به لا علی غیره، سواء کان ذلک الغیر هو اللاّزم أو الملزوم أو الملازم، وسواء کان المتعبّد به هو الفرد أو الکلّی، وإن کان وجودهما واحداً.

إنّه فی إستصحاب الحدث أثرٌ یترتّب علی الکلّی کحرمة مسّ الکتاب، وأثر یترتّب علی الحدث الصغیر کوجوب الوضوء، وأثر علی الکبیر کوجوب الغسل، فإذا کان المستصحب هو کلّی الحدث، فلابدّ من تمامیّة الأرکان فی هذا المستصحب، وإن کان بقاؤه ملازماً للجنابة ووجوب الغسل.

وإذ ظهر موضوع البحث فی القسم الثانی، سواء فی الشبهة الحکمیّة أو الموضوعیّة، فإنّه یقع الکلام فی کلتا جهتی وجود المقتضی وعدم المانع.

أمّا بالنسبة إلی جهة الإقتضاء، فلا ریب فی تمامیّته، لتمامیّة الأرکان.

إنّما الکلام فی جهة المانع. ففیها إشکالات ثلاث:

الإشکال الأوّل

إنّ الکلّی المستصحب یتردّد أمره بین مقطوع الزوال ومقطوع البقاء، فالموضوع غیر متحقّق علی التحقیق، وإن کان المقتضی لجریان الإستصحاب تامّاً کما تقدّم.

توضیحه: إنّ وجود الکلّی هو بوجود الفرد، فوجوده بالعَرَض ووجود الفرد بالذات، فإذا اختلّت الأرکان فی الفرد إستحال تمامیّتها فی الکلّی، والمفروض أنّ

ص: 258

أمر الفرد مردّد بین مقطوع الزوال فیما إذا کان الحدث صغیراً، ومقطوع البقاء فیما إذا کان کبیراً. إذن، لا تتمّ الأرکان فی کلّی الحدث.

الجواب

ویظهر من کلام الآشتیانی(1) أنّ الشیخ أحال هذا الأمر فی مجلس الدرس إلی العرف، بأنّ أهل العرف یرون الشک فی بقاء کلّی الحدث بعد الوضوء. وإن کان الإشکال وارداً بالدقّة العقلیّة، فالأرکان بالنظر العرفی تامّة، ونظر العرف هو الملاک فی الإستصحاب، لأن الخطابات الشرعیّة ملقاة إلیهم.

وفیه:

إنّه یتوقّف علی المغایرة بین نظر العرف والنظر العقلی، فکلاهما یری وجود الکلّی بوجود الفرد، والإشکال باق.

ویستفاد من کلمات بعض المحقّقین، بأنّ الإشکال المزبور مبنیّ علی القول بانتزاعیّة الکلّی من الفرد. لأنّ کلّ أمرٍ منتزع فهو تابع لمنشأ الإنتزاع، فإذا تردّد المنشأ بین الزائل والباقی فالمنتزع کذلک. وأمّا بناءً علی عدم إنتزاع الکلّی من الفرد، فلا یرد الإشکال.

وفیه:

إنّه وارد حتّی علی القول بعدم الإنتزاع کما هو الحق، فإن الکلّی موجود بعین وجود الفرد، فکیف یعقل تردّد الفرد وعدم تردّد الکلّی؟

ص: 259


1- 1. بحر الفوائد 6 / 605.

التحقیق

أن یقال: إنّ وجود الکلّی عین وجود الفرد، بمعنی أنّه إن لوحظ الإنسان لا مع المشخّصات کان الکلّی، وإن لوحظ مع المشخّصات کان زید. فالمهم هو لحاظ أمارات التشخّص وعدم لحاظها، فیصحّ _ حقیقةً عقلاً وعرفاً _ أن یشار إلی الفرد فیقال هذا زید، وأن یقال: هذا إنسان، وإن کان الموجود خارجاً هو الفرد. وحینئذٍ، فکما یمکن تعلّق الیقین بالفرد بالإضافة إلی خصوصیّةٍ من الزمان والمکان وغیر ذلک، وتعلّق الشک به بالإضافة إلی خصوصیّةٍ أُخری، فزیدٌ _ مثلاً _ الذی حصل الیقین بمکان قتله یحصل الشک فی زمان قتله، وهذا أمر واقع. کذلک الحال فی زیدٍ بلحاظ الفردیّة والکلیّة، فیکون لوجوده فی الخارج إضافة إلی الفرد، وهو من هذا الحیث إمّا زائل وإمّا باق، وإضافة إلی الطبیعة، ویکون من هذا الحیث مشکوک الزوال والبقاء.

وبهذا البیان یتم الإستصحاب فی القسم الثانی. ومثاله المعروف هو الحیوان المردّد بین البعوضة والفیل، فإنّه یحصل الیقین بوجود الحیوان فی الدار، ویتردّد أمره بین هذا وذاک، وبعد أیّام یقع الشک فی البقاء، فإن کان بعوضةً فهی میتة، لأنّها لا تعیش هذه الأیام، وإن کان هو الفیل، فهو باق علی قید الحیاة، فیستصحب بقاء الحیوان.

الإشکال الثانی

إنّ الشک فی بقاء کلّی الحدث _ مثلاً _ مسبّب عن الشک فی حدوث الحدث الکبیر، لأنّ المفروض أنّه قد توضّأ وارتفع الشک بالنسبة إلی الحدث

ص: 260

الصغیر، فلولا إحتمال حدوث الکبیر لم یشک فی عدم بقاء الکلّی، فإذا إستصحب عدم حدوث الکبیر کان حاکماً علی إستصحاب الکلّی ورافعاً للشک فی بقائه، فلا مجال لجریان إستصحاب الکلّی.

وجوه الجواب
اشارة

أجاب فی الکفایة بثلاثة وجوه:(1)

الوجه الأوّل:
اشارة

إنّ الشک فی بقاء کلّی الحدث فی المثال لیس مسبّباً عن الشک فی حدوث الحدث الکبیر، بل هو مسبّب عن أنّ الحدث المتیقَّن حدوثه هل تحقّق فی ضمن الفرد المتیقَّن بقاؤه _ وهو الکبیر _ بعد الوضوء، أو فی ضمن الفرد المتیقَّن إرتفاعه بالوضوء وهو الصغیر. وأصالة عدم تحقّقه فی ضمن الکبیر لا تجری، إذ لم یکن زمانٌ قد حصل ذلک حتّی یستصحب، بل الحدث الکلّی متحقّق من أوّل الأمر إمّا فی ضمن هذا الفرد أو ذاک.

الإشکال علیه

وأشکل علیه السیّد الخوئی بقوله: وفیه بناءً علی ما هو الحق من صحّة جریان إستصحاب العدم الأزلی کما إختاره هو أیضاً. إنّه لا مانع من جریان إستصحاب عدم تحقّقه فی الفرد المحتمل بقاؤه، وهذا المقدار یکفی فی المقام،

ص: 261


1- 1. کفایة الأُصول: 406.

لأن المفروض أنّه علی تقدیر حدوثه فی ضمن الفرد الآخر قد إرتفع وجداناً.(1)

أقول:

الأقوال فی إستصحاب العدم الأزلی مختلفة. فالمیرزا منکر مطلقاً. والقائلون بالجریان منهم من یقول بجریانه فی الأوصاف کقرشیّة المرأة، ومنهم من یقول بجریانه فی الذاتیّات مثل کلبیّة الکلب، کالسیّد الخوئی. وصاحب الکفایة المنکر لجریانه فی الأوصاف منکرٌ لجریانه فی الذاتیّات بالأولویّة.

فالإشکال علیه إنّما یتوجّه بناءً علی القول بجریان إستصحاب العدم الأزلی فی العناوین الذاتیّة، فهو مبنائی.

الوجه الثانی:
اشارة

إن بقاء الحدث الکلّی فی المثال لیس مسبّباً عن حدوث الفرد الکبیر بل هو عین بقائه.

الإشکال علیه

وأشکل السیّد الخوئی فی هذا الجواب بأنّه مؤکّد للإشکال، لأن إستصحاب عدم حدوث الفرد الکبیر لو کان حاکماً علی إستصحاب الکلّی علی تقدیر کون بقائه مسبّباً عن حدوثه، فهو أولی بالحکومة علی تقدیر کون بقائه عین بقاء الفرد.

أقول:

قد ذکرنا سابقاً إنّه وإن کان الکلّی عین الفرد إلاّ أن لهذا الوجود إضافتین،

ص: 262


1- 1. مبانی الإستنباط: 101.

إضافة إلی الطّبیعة وإضافة إلی الفرد، ولکلٍّ من الإضافتین حکم. مثلاً: کان فی الدار زید أو بکر، فإن کان زید هو الموجود سابقاً فقد خرج یقیناً، وإن کان بکراً فهو فی الدار یقیناً، ولکنّا نشک فیما بعد فی أصل وجود الإنسان فی الدار، وهذا الشک وجدانی، مع أنّ الإنسانیّة قائمة بزیدٍ وقد خرج أبوبکر وهو موجود، إذن، مع تحقّق القطع بالنسبة إلی الفردین یصحّ الشک فی بقاء الطبیعیّ فی الدار.

ولکنّ مراد المحقّق الخراسانی هنا أنّه وإن کان یوجد إضافتان إلاّ أنّه لا سببیّة ومسبّبیّة، فدعوی الحکومة باطلة. وعلی هذا، فلا یرد علیه الإشکال.

الوجه الثالث:
اشارة

قال: علی أنّه لو سلّم أنّه من لوازم حدوث المشکوک، فلا شبهة فی کون اللّزوم عقلیّاً، ولا یکاد یترتّب بأصالة عدم الحدوث إلاّ ما هو من لوازمه وأحکامه شرعاً.

أقول:

وقد وافقه علی هذا الجواب السیّد الخوئی وغیره. وتوضیحه:

إنّه یعتبر فی حکومة الأصل السّببی ثلاثة أُمور: أحدها: السّببیّة. والثانی: أن تکون السّببیّة شرعیّة لا عقلیّة. والثالث: أن یرفع الأصل فی السّبب موضوع الأصل فی المسبّب، أی الشکّ.

والمثال المعروف لحکومة الأصل السّببی هو غسل الثوب بالماء المشکوک فی طهارته.

ص: 263

یقول هنا: إنّه أوّلاً: لا سببیّة. وثانیاً: لو سلّمنا، فإنّ السّببیّة هنا عقلیّة لا شرعیّة، لأنّا لمّا نشک فی بقاء وارتفاع الکلّی، وأن طبیعی الحدث باقٍ بعد الوضوء أو لا، فإنّ ترتّب عدم کلّی الحدث علی عدم الفرد، أو ترتّب وجوده علی وجود الفرد، لیس ترتّباً شرعیّاً بل هو عقلی.

وحاصل هذا الجواب هو عدم وجود المقتضی لجریان الأصل السّببی.

جواب المیرزا عن الإشکال

وأجاب المیرزا:(1) بأنّ حکومة الأصل السّببی علی الأصل المسبّبی فرعٌ لجریان الأصل السّببیّ، ولکنّه لا یجری لابتلائه بالمعارض، لأن أصالة عدم حدوث الحدث الکبیر معارضة بأصالة عدم حدوث الحدث الصغیر، فیبقی الأصل المسبّبی _ وهو أصالة عدم حدوث الکلّی _ بلا معارض.

وحاصل هذا الجواب: وجود المانع عن جریان الأصل السّببی.

الإشکال علیه

وأورد علیه السیّد الخوئی بما حاصله:(2) إنّ من موارد إستصحاب الکلّی ما یکون لکلٍّ من الفردین أثره الخاصّ به، ویکون للکلّی أیضاً أثره. فکلّی الحدث أثره عدم جواز مسّ الکتاب، والحدث الصغیر أثره وجوب الوضوء للصّلاة، والکبیر أثره وجوب الغسل لها. ولابدّ لترتیب کلّ أثرٍ من تمامیّة أرکان

ص: 264


1- 1. أجود التقریرات 4 / 92، فوائد الأُصول 4 / 418.
2- 2. مصباح الأُصول 3 / 127.

الإستصحاب فی المستصحَب، ولکنّ الأصل فی الکلّی غیر جارٍ هنا، لأنّ للمکلَّف علماً إجمالیّاً بتحقّق أحد الحدثین منه، فلو توضّأ واغتسل معاً جاز له مسّ کتابة القرآن، ویکون التمسّک بأصالة عدم کلّی الحدث لغواً، فلا یجری هذا الإستصحاب لیقع التعارض.

ومن الموارد ما لا یکون لکلٍّ من الفردین أثر، بل یکون للکبیر فقط، کما لو تردّدت النجاسة فی الثوب بین البول فیغسل مرّتین، وبین الدم فلا یجب تعدّد الغَسل، فلو غسل مرّةً یشک فی زوال النجاسة وبقائها، لأنّه إن کان الدم فقد زال وإن کان البول فلا، ولکن لا یجری إستصحاب کلّی النجاسة، لأنّ الشک فی بقاء النجاسة وإرتفاعها مسبَّب عن الشک فی حدوث البول _ أو: کون الحادث بولاً، فیعود الأمر إلی جریان إستصحاب العدم الأزلی، أی أصالة عدم بولیّة هذا البلل أزلاً، ویکون حاکماً علی إستصحاب کلّی النجاسة، ومعه لا یجری أصالة عدم کونه دماً لیعارض، وإنّما لا یجری لعدم الأثر.

وذلک، لأن الغَسل مرةً قد تحقّق، فإن کان البلل بولاً، وجب الغَسل مرّةً أُخری. وإن کان غیره، فلا یجب، فإذن، یجب الغَسل مرّةً أُخری بمقتضی هذا العلم الإجمالی، ولا أثر للإستصحاب.

وتلخّص، بطلان جواب المیرزا عن طریق المعارضة.

النظر فی هذا الإشکال

ویرد علی السیّد الخوئی نقضاً وحلاًّ.

أمّا نقضاً: فقد تقدّم منه _ فی التنبیه الثامن من تنبیهات الإشتغال _ أن

ص: 265

إستصحاب عدم الفرد القصیر حدوثاً یعارض إستصحاب عدم حدوث الطویل ویتساقطان، ویجری إستصحاب الکلّی.

وأیضاً: إذا کان إستصحاب الکلّی لغواً فی صورة وجود العلم الإجمالی، وکان إستصحاب عدم الفرد الطویل _ فی الصّورة الثانیة _ حاکماً علی إستصحاب الکلّی، فأین یجری إستصحاب الکلّی؟

وأمّا حلاًّ: فإن دعوی اللّغویّة مردودة. وتوضیح ذلک: إنّ الأصل المحکوم _ مع وجود الأصل الحاکم _ لا یجری، لأنّه رافع لموضوع المحکوم إمّا وجداناً وإمّا تعبّداً، وإن کان الأصلان متّحدین فی الأثر، کاستصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة، إذ التحقیق أنّه مع وجود إستصحاب الطهارة لا تجری القاعدة، لأنّه أصل محرز ومعه لا شک حتّی تجری قاعدة الطهارة.

وفیما نحن فیه: إنّ العلم الإجمالی بوجوب إحدی الصّلاتین من الجمعة والظهر مبنیّ علی قاعدة الإشتغال، ولذا لمّا صلّی الجمعة وشک فی فراغ الذمّة وجب علیه الظهر، لأنّ الإشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیّة. فکان العلم الإجمالی راجعاً إلی قاعدة الإشتغال. ومن المعلوم أنّ القاعدة المزبورة _ کغیرها من الأحکام العقلیّة _ معلَّقة علی عدم مجی ء الحکم من الشارع.

وحینئذٍ نقول: قولکم بلغویّة إستصحاب الکلّی لوجود العلم الإجمالی مردود، بأنّ الإستصحاب جارٍ، لأنّه حکم شرعی مقدّم علی الحکم العقلی ورافع لموضوعه.

ویشهد بذلک: أنّه کما یتمسّک فی موارد الشک فی التکلیف بقاعدة قبح

ص: 266

العقاب بلا بیان _ لعدم البیان الشرعی _ کذلک یجوز التمسّک باستصحاب عدم البیان علی التکلیف من ناحیة الشارع، ویکون مقدّماً علی القاعدة المزبورة.

خلاصة الکلام

ویتلخّص الکلام فی القسم الثانی: إنّ الشک فی بقاء الکلّی غیر مسبَّبٍ عن الشک فی حدوث الفرد الطویل، بل هو مسبَّب من أنّ الحادث هو الفرد القصیر أو الطویل، هذا أوّلاً.

وثانیاً: لو سلّمنا أنّه من الشک السّببی والمسبّبی، فإنّ الأصل فی السّبب غیر جارٍ، لکون السّببیّة عقلیّة لا شرعیّة.

وثالثاً: لو تنزّلنا، فما ذکره المیرزا تام بعد دفع الإشکال عنه.

الشبهة العبائیّة

وهذه الشبهة طرحها السیّد حیدر الصّدر فی بحث المیرزا فی هذا المقام، ومجملها: إنّه لو علم إجمالاً بنجاسة أحد أطراف العباءة، ثمّ غسل طرفها الأسفل مثلاً، فإنّ الطرف الأسفل یکون طاهراً بلا کلام، لکنّه لا یمنع من جریان کلّی النجاسة المعلوم حدوثها، لاحتمال کونها فی الطرف الأعلی. ثمّ لو لاقی شیء جمیع أطراف العباءة، کان مقتضی جریان الإستصحاب فی کلّی النجاسة هو الحکم بنجاسة الملاقی، مع أنّ الحکم المذکور باطل بالضرورة، لوضوح أن ملاقاة الطرف الأسفل لا أثر لها لکونه طاهراً بالغَسل، والطرف الأعلی وإن کان محتمل النجاسة إلاّ أنّه لا یؤثّر فی نجاسة الملاقی، لما تقرّر عندهم من أنّ ملاقاة بعض

ص: 267

أطراف الشبهة المحصورة لا توجب نجاسة الملاقی.

وعلیه، فلابدّ إمّا من رفع الید عن القول باستصحاب الکلّی، أو الإلتزام بنجاسة ما لاقی بعض أطراف الشبهة المحصورة.

جواب المحقّق النائینی

وقد أجاب المحقّق المیرزا عن هذه الشبهة بوجهین:

الأوّل: ما ذکره فی الدورة الأُولی، وهذا نصّ کلامه: لا یخفی علیک أن محلّ الکلام فی إستصحاب الکلّی إنّما هو فیما إذا کان نفس المتیقّن السّابق بهویّته وحقیقته مردّداً بین ما هو مقطوع الإرتفاع وما هو مقطوع البقاء. وأمّا إذا کان الإجمال والتردید فی محلّ المتیقّن وموضوعه لا فی نفسه وهویّته، فهذا لا یکون من إستصحاب الکلّی، بل یکون کاستصحاب الفرد المردّد الذی قد تقدّم المنع عن جریان الإستصحاب فیه عند إرتفاع أحد فردی التردید.

فلو علم بوجود الحیوان الخاصّ فی الدار، وتردّد بین أن یکون فی الجانب الشرقی أو فی الجانب الغربی، ثمّ إنهدم الجانب الغربی وإحتمل أن یکون الحیوان تلف بانهدامه. أو علم بوجود درهم خاصّ لزید فیما بین هذه الدراهم العشر، ثمّ ضاع أحد الدراهم، وإحتمل أن یکون هو درهم زید. أو علم بإصابة العباء نجاسة خاصّة وتردّد محلّها بین کونها فی الطرف الأسفل أو الأعلی ثمّ طهر طرفها الأسفل، ففی جمیع هذه الأمثلة إستصحاب بقاء المتیقّن لا یجری؛ ولا یکون من الإستصحاب الکلّی، لأنّ المتیقّن السّابق أمر جزئیّ حقیقیّ لا تردید فیه، وإنّما

ص: 268

التردید فی المحلّ والموضوع، فهو أشبه باستصحاب الفرد المردّد عند إرتفاع أحد فردی التردید، ولیس من الإستصحاب الکلّی. ومنه یظهر الجواب عن الشبهة العبائیّة المشهورة.(1)

أقول:

وجواب هذا الوجه واضح کما ذکروا، لعدم المانع من جریان الإستصحاب فی نفس الفرد المتیقّن وجوده سابقاً، فحیاة زید _ مثلاً _ متیقَّنٌ بها سابقاً، ولمّا شک فی بقائها وعدم بقائها لإحتمال کونه فی الجانب الغربی المنهدم، یمکن إستصحابها لتمامیة أرکان الإستصحاب بالنسبة إلیها.

وعلی الجملة، فإنّه وإن کان الإستصحاب غیر جارٍ فی الکلّی، لکنّه یجری فی الموارد المذکورة.

والثانی: ما ذکره فی الدّورة الثانیة، وهذا نصّه:

التحقیق عدم جریان إستصحاب النجاسة فی المثال أصلاً، لعدم أثر شرعی مترتّب علیها، إذ عدم جواز الدخول فی الصّلاة وأمثاله إنّما یترتّب علی نفس الشک بقاعدة الإشتغال، ولا یمکن التمسّک بالإستصحاب فی موردها. وأمّا نجاسة الملاقی، فهی مترتبة علی أمرین:

أحدهما: إحراز الملاقاة. وثانیهما: إحراز نجاسة الملاقی. ومن المعلوم أن إستصحاب النجاسة الکلیّة المردّدة بین الطرف الأعلی والأسفل لا یثبت تحقّق

ص: 269


1- 1. فوائد الأُصول 4 / 421 _ 422.

ملاقاة النجاسة الذی هو الموضوع لنجاسة الملاقی، والمفروض أن أحد طرفی العباءة مقطوع الطّهارة والآخر مشکوک الطّهارة والنجاسة، فلا یحکم بنجاسة ملاقیهما.(1)

الإشکال علیه

فأورد علیه السیّد الخوئی: بأن موضوع نجاسة الملاقی _ وهو الملاقاة ونجاسة الملاقی _ محرز، غایة الأمر أن أحد جزئیه محرز بالوجدان وجزؤه الآخر بالأصل. وذلک، لأن جزءً من العباءة کان نجساً علی الفرض، وقد لاقاه الملاقی وجداناً، لفرض أنّه لاقی جمیع أجزائها، فإذا حکم بنجاسته بالإستصحاب ترتّب علیه نجاسة الملاقی لا محالة. نعم، لو کان المستصحب وجود النجاسة فی العباءة لم یمکن إثبات الملاقاة بالإستصحاب، إلاّ أن المفروض جریان الإستصحاب فی نجاسة الجزء الملاقی علی واقعه من غیر تمییز، وعلیه، فلا وجه لإنکار ترتّب نجاسة الملاقی علی جریان إستصحاب الکلّی.(2)

نظر الأُستاذ

قال شیخنا فی الدورتین: إنّ الجواب الثانی من المیرزا فی غایة القوّة والمتانة، وقد أجاب عن إشکال السیّد الخوئی کما فی مصباح الأُصول، ثمّ قال:

ص: 270


1- 1. أجود التقریرات 4 / 94.
2- 2. مبانی الإستنباط: 115.

إنّ الجواب الصّحیح عن الشبهة العبائیّة هو أن یقال: بأنّ المستصحب لا یخلو، إمّا أن یکون کلّ واحدٍ من الطرفین علی وجه التعیین، أو أحدهما لا علی وجه التعیین. وعلی الثانی، فإمّا أن یکون المستصحب هو الواحد المردّد أو یکون الأحد الإنتزاعی.

أمّا أن یکون الفرد المعیّن، فالمفروض أنّ أحد الطرفین من العباءة طاهر یقیناً بالغَسل، والطرف الآخر مشکوک النجاسة من أوّل الأمر. فالإستصحاب غیر جارٍ لا فی هذا الطرف ولا فی ذاک.

وأمّا الواحد المردّد بین الطرفین، فلا ماهیّة له ولا وجود.

وأمّا الأحد الإنتزاعی، فإنّ الأحد الإنتزاعی لا یتعلّق به شیء من الأحکام الوضعیّة من الطهارة والنجاسة والملکیّة والزوجیّة، ومورد البحث هو النجاسة، وهی لا تعرض الأحد الإنتزاعی.

وتلخّص: عدم جریان إستصحاب کلّی النجاسة فی مورد البحث، فالشبهة مندفعة.

وهذا تمام الکلام فی إستصحاب الکلّی القسم الثانی.

القسم الثالث من أقسام إستصحاب الکلّی
اشارة

وموضوع هذا القسم ما إذا کان الشک فی بقاء الکلّی ناشئاً من إحتمال تحقّق فردٍ آخر من الکلّی وقیامه مقام الفرد الزائل. وصوره ثلاث:

ص: 271

الصّورة الأُولی

أن یکون الشک فی بقاء الکلّی ناشئاً من إحتمال وجود الفرد الآخر مقارناً لوجود الفرد الأوّل، بحیث یحتمل إجتماعهما فی الوجود. کما إذا علم بوجود زید فی الدار، واحتمل وجود عمرو معه فیها، ثمّ علم بخروج زیدٍ من الدار.

الصّورة الثانیة

أن یکون الشک فی بقاء الکلّی ناشئاً من إحتمال تحقّق فرد آخر من الکلّی عند زوال الفرد الأوّل الذی تیقّن بوجوده، بحیث لا یحتمل إجتماعهما فی الوجود. کما إذا علم بوجود زید فی الدار، ثمّ علم بخروجه منها واحتمل دخول عمرو عند خروج زید منها.

وهاتان الصورتان فی الکلّی المتواطی.

الصّورة الثالثة _ وهی فی الکلّی المشکّک:

کأن یکون الشک فی بقاء الکلّی ناشئاً من إحتمال حدوث مرتبة أُخری من مراتب الفرد المعلوم عند ارتفاعها، کما إذا علم بوجود مرتبةٍ شدیدةٍ من السواد ثمّ علم بارتفاع تلک المرتبة واحتمل قیام مرتبة ضعیفة منه مقامها عند زوالها.

فهل یجری الإستصحاب؟ وجوه بل أقوال ثلاثة:

أحدها: الجریان مطلقاً.

والثانی: عدم الجریان مطلقاً.

والثالث: التفصیل.

ص: 272

الإتّفاق علی الجریان فی الصّورة الثالثة

ذهب الشیخ(1) إلی جریان الإستصحاب فی الصّورة الثالثة، ووافقه علیه المحقّقون. فیجری الإستصحاب فی الفرد وفی الکلّی، لوجود المقتضی وعدم المانع. وذلک: لأن أرکان الإستصحاب من الیقین السّابق والشک اللاّحق متوفّرة، ووحدة الموضوع فی القضیّة المتیقّنة والقضیّة المشکوک فیها متحقّقة، لأن وجود الکلّی فی المرتبة الشدیدة هو عین وجوده فی المرتبة الضعیفة.

ومن فروع هذه الصّورة فی الفقه:

ما إذا علم بوجود مرتبة قویّة من الشک الکثیر، ثمّ علم بارتفاع تلک المرتبة واحتمل قیام مرتبة ضعیفة من الشک مقامها عند إرتفاعها، فإنّه یصحّ له إستصحاب بقاء کلّی کثرة الشک، فلا تبطل صلاته لو شک فی الثنائیّة والثلاثیّة وفی الأولیین من الرباعیّة، لأن حکم کثیر الشک هو عدم الإعتناء بالشک.

وکما لو علم بوجود المرتبة الشدیدة من ملکة الإستنباط عند زید، ثمّ علم بزوال تلک المرتبة لکنّ الیقین بأصل الملکة موجود.

وکما لو علم بعدالة زید ... .

الإختلاف فی الصّورتین الأولیین

وأمّا فی الصّورتین الأولیین، فقد وقع الخلاف علی ثلاثة أقوال: فقیل بالجریان فیهما، وقیل بعدم الجریان فیهما، وقیل بالجریان فی الأُولی دون الثانیة.

ص: 273


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 196.
رأی الشیخ

والثالث _ وهو التفصیل _ للشیخ قدّس سرّه. وقد استدلّ له:(1) بأنّه لمّا تحقّق الفرد المقطوع بزواله، حصل الیقین بوجود الکلّی فی الدار، وبما أنّا نحتمل وجود الفرد الآخر فی الدار مقارناً لزواله، فنحن فی شکٍ من بقاء الکلّی فیها. فتتمّ أرکان الإستصحاب فی الکلّی.

الإشکال علیه

وأشکل علیه نقضاً وحلاًّ.

أمّا نقضاً، فبأنّ لازم قول الشیخ بجریان إستصحاب الکلّی فی الصّورة الأولی: هو عدم جواز الدخول فی الصّلاة بالوضوء قبل الغسل لمن انتبه من نومه وإحتمل جنابته فی النوم _ لأن المعلوم إرتفاعه حینئذٍ هو حدث النوم فقط، وأمّا کلّی الحدث، فیحتمل بقاؤه لاحتمال بقائه فی ضمن الجنابة الحاصلة مقارنةً لحدث النوم _ وهذا ما لا یقول به أحدٌ.

وقد أُجیب عن هذا الإشکال: بأنّ ظاهر الآیة: «یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ ... وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا »(2) هو وجوب الوضوء علی المکلّف إذا قام من نومه إلی الصّلاة، إلاّ إذا کان جنباً فیجب علیه الغسل. فکان وجوب الوضوء مترتّباً علی أمرٍ وجودی وهو الحدث الصغیر، وأمرٍ عدمی وهو

ص: 274


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 196.
2- 2. سورة المائدة، الآیة 6.

الحدث الکبیر. ونتیجة ذلک: عدم وجوب الوضوء إذا وجب الغسل بالجنابة، لأنّ التفصیل قاطع للشرکة.

وفی المسألة المفروضة، یکون المکلّف محرزاً لموضوع وجوب الوضوء المرکّب من الأمرین، أمّا الأوّل وهو النوم فبالوجدان، وأمّا الثانی فبالأصل، أی أصالة عدم تحقّق الجنابة، فلا یجب علیه إلاّ الوضوء. فالنقض غیر وارد.

وأمّا حلاًّ، فیرد علی الشیخ أن لا وحدة للموضوع بین القضیّتین حتّی یجری الإستصحاب فی الکلّی. وتوضیحه یتقوّم بمقدّمتین معلومتین:

الأُولی: إنّ العلم بوجود الکلّی فی الخارج معلولٌ للعلم بوجود الفرد فیه.

والثانیة: إنّ أفراد الکلّی متباینة فی الوجود.

وفیما نحن فیه: لمّا علمنا بوجود زید فی الدار، فقد علمنا بوجود حصّةٍ من الإنسان متخصّصة بخصوصیّة زید، وأمّا الحصّة المتخصّصة بخصوصیّة عمرو فتحقّقها فی الدّار مشکوک فیه، وعلیه، فلا تکون الحصّة المتیقّن بحدوثها متّحدة مع الحصّة المشکوک فیها، ومعه کیف یصح إستصحاب کلّی الإنسان بعد إرتفاع زیدٍ؟

لا یقال: إن الحال فی القسم الثانی من أقسام الکلّی کذلک، فلماذا قلتم هناک بالجریان؟

لأنّ الفرق هو: تعلّق الشک هناک بنفس الحصّة المعلوم حدوثها فی ضمن الفرد المردّد، من جهة إحتمال حدوثها فی ضمن ما یحتمل أو یتیقّن بقاؤه. بخلاف ما نحن فیه، فإنّ الشک هنا إنّما هو فی حدوث حصّة أُخری غیر ما علم بحدوثه وإرتفاعه.

ص: 275

وعلیه، فإنّ إستصحاب الکلّی لا یجری فی الصّورة الأُولی، کما لا یجری فی الثانیة. فالتفصیل مردود.

وهذا تمام الکلام فی هذا التنبیه.

ص: 276

التنبیه الرابع: فی الإستصحاب فی الأُمور التدریجیّة

اشارة

وأنّه هل یجری فی الزمان والزمانیّات أو لا؟

ووجه الإشکال هو: التصرّم والمضیّ، فلا یوجد الشکّ فی البقاء حتّی یستصحب.

ویقع الکلام فی نفس الزمان، کالیوم واللّیلة. وفی الفعل الزمانی، وبحوث أُخری.

فی نفس الزمان

ویکون الشک فیه علی نحوین، فتارةً: یکون بمفاد کان ولیس التامّتین. کما لو شک فی أصل تحقّق النهار؟ أو فی أصل بقائه؟. وأُخری: یکون بمفاد کان الناقصة، کما لو شک فی أنّ الوقت الحاضر هو من اللّیل أو من النهار.

فإن کان الشک لا فی أصل التحقّق بل فی مفاد کان الناقصة، فلا ریب فی عدم صحّة الإستصحاب، لعدم الیقین السّابق، لأنّ هذا الوقت الحاضر إنّما حَدَثَ

ص: 277

من اللّیل أو من النهار، فلیس کونه من أحدهما متیقّناً حتّی یستصحب بقاؤه. والتمسّک باستصحاب بقاء نفس اللّیل أو النهار من أجل إثبات کون الوقت الحاضر من هذا أو ذاک، یتوقّف علی حجّیة الأصل المثبت.

الکلام فی الزمان بنحو کان التامّة

وإن کان الشک فی أصل التحقّق بمفاد کان أو لیس التامّة، فهذا موضع البحث والکلام، وقد ذکروا لتصحیح الإستصحاب فیه طرقاً عدیدةً:

الطریق الأوّل

التمسّک بالإستصحاب فی ضدّ الزمان المشکوک فیه، فلمّا یشکّ فی أنّ النهار باقٍ أو لا، _ وأرکان الإستصحاب غیر تامّة لما ذکرنا من الإشکال _ یجری الإستصحاب فی اللّیل، بأن یقال: لم یکن اللّیل متحقّقاً یقیناً والآن نشک فی تحقّقه، فالأصل عدم تحقّق اللّیل.

ولکنّ بقاء النهار هو لازم إستصحاب عدم دخول اللّیل، فالأصل مثبت.

الطریق الثانی

التمسّک بالإستصحاب فی الحکم، فلمّا یُشک فی تحقّق النهار. أی طلوع الشمس، فإنّ الحکم المترتّب علیه هو فوات وقت صلاة الصّبح، وبما أنّ الإستصحاب غیر جارٍ فی نفس النهار وطلوع الشمس، فإنّه یتمسّک به فی بقاء حکم صلاة الصّبح، إذ کانت واجبةً أداءً، والآن یُشک فی بقاء وجوبها کذلک، فیستصحب ویُؤتی بها بقصد الأداء.

ص: 278

ولکن _ هذا الذی ذهب إلیه الشیخ _(1) یرد علیه: أنّه إن کان الغرض فی إستصحاب الحکم بقاء نفس الوجوب، فمع إمکان الإستصحاب الموضوعی کما سیأتی، لا تصل النوبة إلی الإستصحاب الحکمی. وإن کان الغرض من إستصحاب الحکم عدم طلوع الشمس، فهذا أصل مثبت.

الطریق الثالث

إنّ منشأ الإشکال فی المقام هو النظر إلی الزمان بالدقّة العقلیّة، لأنّه مرکّب من أجزاء هی بین موجود ومعدوم، فلا بقاء للزمان حتّی یستصحب، والإستصحاب هو التعبّد ببقاء ما ثبت. لکنّ الزمان بالنظر العرفی أمر واحدٌ مستمر، والملاک فی الإستصحاب هو النظر العرفی. وعلیه، فمتی شک فی بقاء النهار أو دخول اللّیل أو غیر ذلک، فإن أرکان الإستصحاب تامّة، لا سیّما وأنّه لیس فی أدلّة الإستصحاب عنوان البقاء، وإنّما جاء فیها عدم نقض الیقین بالشک، والمدار فی تحقّق هذا العنوان هو الفهم العرفی.

قال الأُستاذ:

صحیحٌ أنّ الخطابات ملقاة إلی العرف، وأنّ النظر العرفی هو الملاک، لکنّ هذا الوجه الذی أفاده المحقّق العراقی(2) مشتملٌ علی أمرین غیر صحیحین:

أحدهما: ما ذکره من أنّ الزمان متحقّق من الآنات التی هی بین موجود ومعدوم.

ص: 279


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 204.
2- 2. نهایة الأفکار 4 / 146.

وفیه: إن هذا یستلزم الإلتزام بالجزء الذی لا یتجزّء، والجزء الذی لا یتجزّء باطل برهاناً.

والآخر: ما ذکره من عدم وجود عنوان البقاء فی أخبار الإستصحاب.

وفیه: إنّ هذا العنوان مستفادٌ من نفس «لا تنقض الیقین بالشک»، فإنّ معنی ذلک هو إبقاء المتیقَّن السّابق عملاً.

الطریق الرابع

وهو حلّ المشکلة عقلاً، وهو طریق صاحب الکفایة،(1) وقد ذکر وجهین:

الوجه الأوّل: ما ذکره بقوله: فإنّ الأُمور غیر القارّة وإن کان وجودها ینصرم ولا یتحقّق منه جزء إلاّ بعد ما انصرم منه جزء وانعدم، إلاّ أنّه ما لم یتخلّل فی البین العدم، بل وإن تخلّل بما لا یخلّ بالإتصال عرفاً وإن إنفصل حقیقةً، کانت باقیةً مطلقاً أو عرفاً، ویکون رفع الید عنها مع الشک فی إستمرارها وإنقطاعها نقضاً، ولا یعتبر فی الإستصحاب _ بحسب تعریفه وأخبار الباب وغیرها من أدلّته _ غیر صدق النقض والبقاء کذلک قطعاً.

توضیحه: إنّ من الموجودات ما هو متشابک مع العدم، ومنها ما لیس کذلک، والزمان من القسم الأوّل، فإنّه متقوّم فی ذاته بالعدم، فیوجد آن وینعدم ثمّ یوجد آن آخر وینعدم. وهکذا، وإذا کان حقیقة الزمان کذلک، فإنّ العدم لا یعقل أن یکون ناقضاً ورافعاً له، لاستحالة کون مقوّم الشیء رافعاً له.

ص: 280


1- 1. کفایة الأُصول: 407.

والحاصل: إنّ أجزاء الزمان متّصلة، والموضوع فی القضیّتین واحد، لأنّ العدم الموجود بین الأجزاء مقومٌ للزمان، ولیس عدماً متخلّلاً بین الأجزاء کالتنفّس المتخلّل بین آنات الکتابة والتکلّم مثلاً.

والنتیجة: إنّه کما یصدق عنوان النقض عرفاً، فإنّه صادقٌ عقلاً، وأرکان الإستصحاب تامّة عقلاً وعرفاً.

الوجه الثانی: ما ذکره بقوله:(1) مع أنّ الإنصرام والتدرّج فی الوجود فی الحرکة فی الأین وغیره، إنّما هو فی الحرکة القطعیّة، وهی کون الشیء فی کلّ آنٍ فی حدٍّ أو مکان، لا التوسطیّة وهی کونه بین المبدء والمنتهی، فإنّه بهذا المعنی یکون قارّاً مستمرّاً.

توضیحه: إنّ الحرکة علی قسمین: الحرکة القطعیّة، وهی کون الشیء فی کلّ آنٍ فی مکانٍ، کحرکة زید من الدار إلی المدرسة، أو کون الشیء فی حدٍّ غیر الحدّ السّابق، إذا کانت الحرکة فی غیر المکان، کحرکة الطفل من حالٍ إلی حالٍ فی طریق الرشد مثلاً.

والحرکة التوسطیّة، وهی کون الشیء بین المبدء والمنتهی، کأن یکون زید بین المدرسة والدار. وتختلف هذه الحرکة عن الحرکة القطعیّة بأنّ الأکوان المتّصلة المتعاقبة تکون جزئیات لها، لکون کلّ واحدٍ من الأکوان فی هذه الحرکة واقعاً بین المبدء والمنتهی، والکون بین الحدّین واحد شخصی غیر متعدّد.

ص: 281


1- 1. کفایة الأُصول: 408.

والتدرّج والإنصرام فی الوجود بسبب تعدّد الموضوع المانع عن جریان الإستصحاب إنّما هو فی الحرکة القطعیّة التی یلاحظ فیها کون الشیء فی کلّ آنٍ فی غیر الآن السّابق، إذ الموضوع یکون متبدّلاً، دون الحرکة التوسطیّة، فإنّ الموضوع باقٍ، ولذا یکون من الأُمور القارّة. فإذا شک فی بلوغ الشمس مثلاً إلی نقطة الغروب، جری إستصحاب عدم بلوغها إلیها، وصحّ أن یقال: النهار باق، وکذا إذا شک فی وصول زیدٍ إلی المدرسة، فإنّه یستصحب عدم وصوله إلیها.

الکلام فی الزمان بنحو کان الناقصة

ووقع الکلام والخلاف بینهم فی جریان الإستصحاب فی الزمان بنحو کان الناقصة، کأن یشک هل هذه السّاعة من رمضان أو لا؟ هل هذه السّاعة من النهار أو اللّیل؟ فالشک فی رمضانیّة هذه القطعة من الزمان أو لیلیّتها.

قال الشیخ بعدم الجریان، قال:(1) وأمّا نفس الزمان، فلا إشکال فی عدم جریان الإستصحاب فیه، لتشخیص کون الجزء المشکوک فیه من أجزاء اللّیل والنهار، لأن نفس الجزء لم یتحقّق فی السّابق فضلاً عن وصف کونه نهاراً أو لیلاً.

وتبعه المیرزا.(2)

وذهب العراقی إلی الجریان.(3)

ص: 282


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 203.
2- 2. أجود التقریرات 4 / 103.
3- 3. نهایة الأفکار 4 / 147.
وجه عدم الجریان

عدم تحقّق أرکان الإستصحاب، لکون المستصحب _ وهو السّاعة من الزمان _ مردّداً بین أن یکون من النهار أو اللّیل، من شهر رمضان أو شوال. فإن أُرید إجراؤه فی وصف النهاریّة مثلاً، فلا یقین سابق، وإن أُرید إجراؤه فی بقاء النهار لتکون السّاعة منه، فهذا أصل مثبت.

وجه الجریان

وأفاد المحقّق العراقی: بأنّه کما أنّ النهار یتحقّق آناً فآناً فهو موجود مستمر، کذلک الوصف القائم به وهو النهاریّة، وکذلک اللّیلیّة والرمضانیّة ونحوها، فکما یکون رمضان موجوداً بنحو کان التامّة، فإن وصف الرمضانیّة موجود معه کذلک. فما کان مصحّحاً لجریان الإستصحاب فی الزمان بنحو کان التامّة، فهو المصحّح لجریانه فیه بنحو کان الناقصة.

نظر الأُستاذ

عدم الجریان. وما ذکره العراقی قیاسٌ مع الفارق، لأنّ المفروض تحقّق الیقین بالنهار بنحو کان التامّة، فیشک فی بقائه فیستصحب کما تقدّم. أمّا فی مفاد کان الناقصة، فالأمر مشکوک فیه من الأوّل ولا یقین سابق.

الکلام فی الأُمور التدریجیّة الأُخری

ووقع الکلام فی جریان الإستصحاب فی مثل «الجریان» و«السیلان»، حیث

ص: 283

وقعا موضوعاً فی أدلّة الأحکام الشرعیّة. کما لو کان الماء جاریاً سابقاً والآن یشک فی جریانه، وکان لدم الحیض سیلان والآن یشک، فهل یجری الإستصحاب فی مثل هذه الأُمور التدریجیّة؟

والکلام هنا نفس الکلام فی نفس الزمان، والإشکال هو الإشکال والجواب هو الجواب.

صور المسألة والکلام فیها

نعم، هنا ثلاث صور:

تارةً: یشک فی بقاء الجریان لاحتمال تحقّق المانع عنه.

وأُخری: یشک فیه لاحتمال عدم المقتضی للجریان.

والحق جریان الإستصحاب فی کلتا الصّورتین، خلافاً للشیخ فی الثانیة علی المبنی.

وثالثةً: یتیقَّن بعدم جریان الماء للیقین بزوال مادّته، ولکن یحتمل تحقّق مادّةٍ أُخری له.

وفی هذه الصّورة یکون الشک فی بقاء الجریان مسبّباً عن الشک فی حدوث المادة الأُخری، فإذا جری الأصل فی السّبب انتفی الشک فی المسبّب.

لکن فیه: إنّ هذه السّببیّة تکوینیّة لا شرعیّة، وقد تقرّر إعتبار کونها شرعیّة حتّی یکون الأصل فی السّبب حاکماً علی الأصل فی المسبّب. إذن، لا مانع من جریان الإستصحاب فی «الجریان».

ص: 284

وهذا هو الإشکال الأوّل فی جریان الإستصحاب فی هذه الصّورة والجواب عنه.

والإشکال الثانی علی جریان الإستصحاب فی «الجریان» فی هذه الصّورة:

ما ذکره المیرزا واعتمده، وهو: إنّ الجریان المستند إلی المادّة الأُخری المحتملة غیر الجریان الذی کان عن المادّة الأُولی المتیقّن زوالها. فما کان متیقّناً فقد زال، وما یراد إستصحابه فهو مشکوک الحدوث.

والجواب: إنّ المهم وحدة الموضوع وصدق عنوان النقض، ومسلک المیرزا تبعاً للشیخ أنّه فی مورد الشک فی المقتضی لا یصدق عنوان النقض، فلا یجری الإستصحاب. ولقد کان الأولی بالمیرزا أن یمنع الإستصحاب فیما نحن فیه من باب إنتفاء المقتضی لا من باب تعدّد الموضوع!

لکن التحقیق: عدم تعدّد «الجریان» فیما نحن فیه عند أهل العرف، إن لم یکن کذلک عقلاً، لأن المفروض إتّصاله وعدم تخلّل العدم فی البین، غیر أنّ المادّة قد تبدّلت، وذلک لا یضرّ بصدق وحدة الجریان الذی هو الموضوع المستصحب، وصدق النقض سواء کان الشک فی المقتضی أو الرافع کما تقدّم فی محلّه.

فالحق جریان الإستصحاب.

الکلام فی الأفعال المتقیّدة بالأزمنة الخاصّة

ویبقی الکلام فی جریان الإستصحاب وعدمه فی الأفعال المتقیّدة بالأزمنة الخاصّة، کالإمساک المقیّد بنهار شهر رمضان، والوقوف المقیّد بما بین الزوال والغروب بعرفات وغیر ذلک.

ص: 285

صور المسألة والکلام فیها

وهنا صور:

فقد یکون القید عدم الضد، فإذا قلنا بأنّ الإمساک فی رمضان مقیَّد بعدم دخول اللّیل، کان جواز الأکل والشرب مقیَّداً بعدم طلوع الفجر.

وقد یکون القید حصّةً خاصّةً من الزمان، کالنهار قیداً للصّلاة النهاریّة، واللّیل قیداً للصّلاة اللّیلیّة.

ثمّ إنّ القید یکون تارةً: قیداً لمفاد الهیئة أی الوجوب. وأُخری: لمفاد المادّة، أی الواجب. وفی الثانی تارةً: یکون الشک فی بقاء القید من ناحیة الشک فی الموضوع، فالشبهة موضوعیّة، وأُخری: یکون من ناحیة الشک فی الحکم، فالشبهة حکمیّة. والحکمیّة تنقسم إلی: ما إذا کان منشأ الشک فی الحکم هو الشک فی المفهوم، کما لو شک فی مفهوم الغروب الذی هو الحدّ للنهار المجعول قیداً للصّلاة، هل هو إستتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقیّة. وإلی ما إذا کان منشأ الشک هو الدلیل، من جهة إجماله أو وجود المعارض له، مثل قضیّة آخر وقت صلاة العشاء، هل هو نصف اللّیل أو طلوع الفجر، حیث النصوص مختلفة.

ثمّ إنّه حیث یکون الزمان قیداً، فقد یقع الشک فی بقاء الحکم بعد إنتهائه، من جهة إحتمال کون التکلیف بنحو وحدة المطلوب أو تعدّد المطلوب، کما فی صلاة اللّیل، فإنّ وقته محدود بنصف اللّیل إلی طلوع الفجر علی المشهور، ولکن هل کونه إلی طلوع الفجر بنحو وحدة المطلوب فلا یکون مطلوباً بعد طلوعه، أو هو بنحو تعدّد المطلوب فیکون لها درجة من المطلوبیّة بعد طلوعه؟

ص: 286

إن کان الزمان قیداً لا من حیث الوجود بل القید عدم الضدّ، کأن یکون جواز الأکل والشرب فی لیالی شهر رمضان مقیّداً بعدم طلوع الفجر، فتارةً: یکون المستفاد من الأدلّة دوران جواز ذلک مدار بقاء اللّیل، وأُخری: یکون المستفاد دوران ذلک مدار عدم طلوع الفجر. وکذلک وجوب الإمساک فی النهار، یکون تارةً: مقیَّداً بالنهار إلی الغروب، وأُخری: مقیَّداً بعدم دخول اللّیل.

وأرکان الإستصحاب فی هذه الصّورة تامّة.

نعم، یبقی الکلام لو شُک فی بقاء جواز الأکل والشرب من جهة الشک فی اللّیل بنحو الشبهة المفهومیّة.

وإن کان الزمان قیداً من حیث الوجود، کأن یکون النهار قیداً لوجوب الإمساک، أو الزوال قیداً لوجوب الصّلاة، وهکذا. فلا إشکال فی تمامیّة أرکان الإستصحاب، فیستصحب عدم تحقّق النهار أو الزوال.

وإن کان الزمان قیداً للمادّة _ أی الواجب أو المستحب _ کأن تکون نافلة اللّیل مقیَّدة بالثلث الأخیر من اللّیل، فأرکان الإستصحاب تامّة بلا إشکال. وکذلک کون النهار قیداً للصّلاة الیومیّة، حیث یشک فی بقاء النهار فیستصحب.

نعم، إذا أُرید من إجراء إستصحاب بقاء الزمان ظرفیّة الزمان للواجب أو المستحب، بأن تکون الصّلاة واقعةً فی النهار _ مثلاً _ کان من الأصل المثبت. ومن هنا عدل الشیخ عن إستصحاب الزمان إلی إستصحاب الحکم، فیستصحب بقاء وجوب الصّلاة فی النهار أو الإمساک فی النهار، إلی غیر ذلک من الموارد، وحینئذٍ یستمرُّ علی صومه حتّی یتیقّن بانتهاء النهار.

ص: 287

وأُشکل علی الشیخ: بأنّ هذا یستلزم إسراء الحکم من موضوع إلی آخر، لأن متعلَّق الحکم هو الإمساک فی نهار رمضان، ومع الشک فی کونه من رمضان أو شوال، فإنّ إبقاء وجوب الصّوم بالإستصحاب یحتمل وقوعه فی شوال، فجواب الشیخ لا یحلّ المشکلة.

وأجاب المیرزا عن المشکلة فی الدورة السّابقة بما توضیحه:(1)

إنّ المفروض تمامیّة الأرکان فی إستصحاب الوجوب، لأن وجوب الإمساک سابقاً یقینی، والشک فی بقائه علی أثر الشک فی إنقضاء رمضان محقّق، والأثر مترتّب، لکون المستصحب حکماً شرعیّاً، ومع تمامیّة الأرکان یتم التعبّد الشرعی ببقاء الوجوب بجمیع خصوصیّاته، منها وقوع الإمساک الواجب فی النهار. قال: ولولا ذلک لکان الإستصحاب لغواً.

وفیه:

إنّ هذا من الأصل المثبت، ولو تمّ ما ذکره للزم القول بحجّیة الأصل المثبت فی جمیع الموارد من هذا القبیل، وذلک، لأنّ وقوع الإمساک فی نهار رمضان خصوصیّة عقلیّة لا شرعیّة. وأمّا لزوم اللّغویّة، فإنّما یکون فیما لو کان الدلیل علی بقاء الحکم نصّاً خاصّاً، لکنّ المفروض أنّ الدلیل هو إطلاق أدلّة الإستصحاب، وأنّ شمول دلیل الإستصحاب لمثل ما نحن فیه مستلزم للدور، لأن شمول «لا تنقض» له یتوقّف علی إحراز کون الواجب _ وهو الإمساک _ واجداً للشرط

ص: 288


1- 1. فوائد الأُصول 4 / 438.

_ وهو الوقوع فی رمضان _ ولا طریق إلی الإحراز سوی شمول «لا تنقض» له.

وبما ذکرنا ظهر الفرق بین ما إذا کان الشمول بدلیلٍ خاصٍّ أو عام، فإنّه إن کان بدلیلٍ خاصٍّ، فإن نفس الدلیل یفید إحراز جمیع الخصوصیّات، وإن کان بدلیلٍ عام، فلابدّ من إحراز جمیع الخصوصیّات فی المتعلّق حتّی یتم إبقاء الحکم بالإستصحاب.

وأجاب العراقی عن المشکلة بما حاصله:(1) إن کان الإمساک المشکوک وقوعه فی نهار رمضان واقعاً فی الیوم المتقدّم، کان فی رمضان یقیناً، والآن کذلک.

وفیه:

إنّ هذا الجواب مبنیّ علی حجّیة الإستصحاب التعلیقی. وعلی القول بجریانه، فمبنی علی جریانه فی الموضوعات کالأحکام _ لأنّ القائلین بجریانه علی قولین _ . وسیأتی عدم تمامیّة کلا المسلکین.

وأجاب المیرزا _ فی الدورة اللاّحقة _(2) بجوابٍ یشتمل علی کبری وصغری.

أمّا الکبری فهی: إنّه إن کان موضوع الحکم عبارةً عن وصفٍ من الأوصاف، وشک فی وجوده لترتیب الحکم علیه، لزم التمسّک باستصحاب وجوده بنحو کان الناقصة، کالعدالة المعتبرة فی إمام الجماعة مثلاً. وأمّا إن کان الموضوع مرکّباً من

ص: 289


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 148 _ 149.
2- 2. أجود التقریرات 4 / 107.

جوهرین أو عرضین أو جوهر وعرض غیر قائم بذاک الجوهر، أمکن إحرازهما بالوجدان أو بالتعبّد أو إحراز أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبّد بنحو کان التامّة، ولا حاجة إلی إستصحاب الظرفیّة بنحو کان الناقصة.

وهذه الکبری منطبقة علی ما نحن فیه، فإنّ الإمساک فی نهار رمضان لیس وصفاً للزمان ولا عارضاً علیه، بل هما وجودان مستقل أحدهما عن الآخر، یکفی إحراز تحقّقهما بنحو کان التامّة. أمّا الإمساک فمحرز بالوجدان، وأمّا الزمان فیحرز بالإستصحاب.

وفیه:

إن ما ذکره خلاف النصوص فی أبواب المواقیت، وأعداد الفرائض، حیث أُخذ الزمان فیها ظرفاً، أی بنحو کان الناقصة لا بنحو الترکیب الذی ذکره المیرزا، منها:

صحیحة الحلبی فی حدیث: ولکن یصلّی العصر فیما بقی من وقتها.(1)

وعن أبیبصیر: من صلّی فی غیر وقتٍ فلا صلاة له.(2)

أی: من صلّی فی وقت فله صلاة.

وعن الحلبی: إذا صلّیت فی السّفر شیئاً من الصّلاة فی غیر وقتها فلا یضرّک.(3)

ص: 290


1- 1. وسائل الشیعة 4 / 129، رقم 18.
2- 2. المصدر 4 / 168، رقم 7.
3- 3. المصدر 4 / 168، رقم 9.

وعن الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السّلام فی حدیثٍ: وثمان رکعات فی السّحر.(1)

وعن زرارة قال: سألت أباجعفر عمّا فرض اللّه عزّ وجلّ من الصّلاة؟ فقال: خمس صلوات فی اللّیل والنهار.(2)

وهذه الروایة صحیحة.

هذا، ولیس فی المقابل إلاّ: إذا زالت الشمس دخل وقت الصّلاتین.(3)

وهذه الروایة ساکتة عن کیفیّة دخل الوقت فی الصّلاة. لکنّ النصوص السّابقة ناطقة بذلک ومبیّنة.

فما ذکره المیرزا فی الکبری لو سلّم غیر منطبق علی ما نحن فیه.

لکنّ الإشکال فی الکبری أیضاً _ بقطع النظر عن النصوص _ فإنّ الأصل هو الظرفیّة والتقیّد لا الترکیب، لأنّ ذلک هو النسبة عرفاً بین زمانٍ وزمانیّ، ومکانٍ ومکانیٍّ، فیقال صلّیت فی المسجد، صلّیت فی السّاعة الفلانیّة، ولا یقال صلّیت مع السّاعة الفلانیّة.

وأجاب الإصفهانی(4) عن المشکلة: بالفرق بین أن یکون الواجب هو

ص: 291


1- 1. وسائل الشیعة 4 / 55، الباب 13 من أبواب أعداد الفرائض، رقم 23.
2- 2. المصدر 4 / 10، الباب 2، رقم 1.
3- 3. المصدر 4 / 125، الباب 4 من أبواب المواقیت.
4- 4. نهایة الدرایة 5 / 157.

الإمساک النهاری أو یکون هو الإمساک فی النهار. فإن کان الأوّل، فاستصحاب بقاء النهار أصل مثبت، لکون الإمساک متّصفاً بالنهاریّة. أمّا إن کان الثانی، فلا. وما نحن فیه من هذا القبیل. ولمّا کان الغرض هو الإتیان بما اشتغلت به الذمّة والخروج عن عهدة التکلیف، فلا فرق بین أن یکون بثبوت النهار _ المفروض وقوع الإمساک فیه _ بالوجدان أو بالتعبّد، ومع إستصحاب بقاء النهار یثبت النهار بالتعبّد، ویکون الإمساک المأتی به بالوجدان واقعاً فی النهار ویتحقّق الإمتثال.

وفیه:

صحیحٌ أنّ الواجب هو الإمساک فی النهار، وقد تقدّم فی الإشکال علی المیرزا أنّ هذا هو المستفاد من النصوص، ولکن ما معنی النهار التعبّدی؟ إنّ الذی فی النصوص هو اللّیل والنهار، والمتبادر من ذلک هو النهار الواقعی، أی کون الشمس بین الحدّین، لا النهار التعبّدی. ویشهد بذلک أنّه إذا کان ثبوت النهار تعبّدیّاً، لزم إضافة قید التعبّد وأن یقال: نهارٌ تعبّداً، لکنّ الموجود فی النصوص هو النهار، أی النهار الواقعی، وهذا هو الدخیل فی الحکم کغیره من العناوین، من الماء والتراب وغیر ذلک ... وحینئذٍ یعود الإشکال، لأنّ دلیل الإستصحاب إنّما یثبت النهار تعبّداً لو کان له أثر شرعاً، وإذا کان الأثر وقوع الصّلاة بالوجدان فی النهار فهذا دور، لتوقّف تعبّد الشارع بنهاریّة هذه القطعة من الزمان علی الأثر، والأثر لیس إلاّ وقوع الصّلاة فی النهار، لکنّ وقوعها فیه متوقّف علی ثبوت النهاریّة بإتیان الصّلاة فیه.

ص: 292

وأجاب صاحب الکفایة:(1) باستصحاب الفعل المقیّد بالزمان، بأن کان المأمور به الإمساک فی النهار، وهذا متیقَّنٌ به سابقاً، فلمّا نشک فی بقائه نستصحبه. ثمّ أمر بالتأمّل.

أقول: لعلّ التأمّل من جهة إختلاف الموضوع، فالفعل السّابق کان فی النهار، وأمّا اللاّحق فمشکوک کونه فی النهار.

خلاصة البحث

إنّه إن إرتفع الإشکال بأحد الطرق فهو، وإلاّ، فإنّه مع الشکّ فی کون الإمساک واقعاً فی نهار شهر رمضان، والمفروض إشتغال الذمّة یقیناً بإیقاع الإمساک فی النهار الواقعی، لابدّ من الفراغ الیقینی، فیلزم عقلاً الإتیان بالإمساک حتّی یتحقّق الفراغ یقیناً.

ولا یخفی أنّ ذکرنا «الإمساک» من باب التمثیل، وإلاّ ففی وجوب الإمساک فی یوم الشک یوجد نصٌّ خاص ولا حاجة إلی الإستصحاب. نعم، نحتاج إلیه فی الصّلاة لعدم وجود الدلیل.

ویبقی الکلام فی مسألتین:

إحداهما: فی کیفیّة النیّة فی هذا الإمساک.

والثانیة، فی أنّه هل یجب الإتیان بالإمساک مرّةً أُخری قضاءً أو لا؟

هذا کلّه فی الشک فی بقاء الزمان من جهة الشبهة الموضوعیّة.

ص: 293


1- 1. کفایة الأُصول: 409.
الکلام فی الشبهة الحکمیّة

وإن کان الشک فی الحکم من ناحیة الشک فی بقاء الزمان من جهة الشبهة الحکمیّة، فقد تقدّم أنّه تارةً: یکون منشأ الشبهة هو الشک فی مفهوم الزمان المأخوذ فی الحکم مثل «الغروب» حیث یتردّد بین استتار القرص وذهاب الحمرة المشرقیّة، فإذا إستتر نشک فی بقاء الحکم وهو صلاة العصر مثلاً أو الإمساک، فإن کان المراد من الغروب الإستتار فقد تحقّق یقیناً، وإن کان ذهاب الحمرة فهو غیر متحقّق یقیناً، فلا إستصحاب فی الموضوع، وهل یجری الإستصحاب الحکمی، بأن نقول: کان الإمساک واجباً قبل الإستتار والآن نشک فیُستصحب؟

والتحقیق: عدم الجریان، لأنّ الموضوع فی أدلّة الإستصحاب هو عنوان «النقض»، فلابدّ من إحرازه، وهو غیر ممکن هنا، ویکون التمسّک بدلیل الإستصحاب من قبیل التمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیّة لنفس الدلیل.

وذلک، لأن حدّ الإمساک الواجب إمّا الإستتار وإمّا ذهاب الحمرة، فإن کان الأوّل، فإبقاء الحکم بعده حتّی ذهاب الحمرة یکون من إسراء الحکم من متعلَّقٍ إلی متعلَّقٍ آخر. وإن کان الثانی، المفروض عدم تحقّقه، فإنّ النقض غیر حاصل یقیناً.

وتارةً: یکون منشأ الشبهة إجمال الدلیل أو وجود المعارض له، کما لو وقع الشک فی حکم صلاة العشاء من جهة تعارض الأدلّة بأنّ وقتها محدود بنصف اللّیل أو طلوع الفجر.

أمّا إستصحاب الموضوع، فلا یجری، لأنّ الأمر یدور بین المحقَّق یقیناً وغیر المحقَّق یقیناً.

ص: 294

وأمّا إستصحاب الحکم، فکذلک، لما تقدّم من مشکلة إسراء الحکم من موضوع إلی آخر.

الکلام فی تردّد القید بین کونه للطلب أو مرتبةٍ منه

لو أُخذ الزمان غایةً وقیداً لحکمٍ، ولا شک فی الحکم إلاّ من جهة أنّ الغایة قیدٌ لأصل الطلب أو هو قیدٌ لمرتبةٍ من مراتبه.

مثلاً: الغروب غایةٌ لوجوب صلاة العصر، فهل له دخلٌ فی أصل مطلوبیّة الصّلاة، بأن لا تکون مطلوبةً بعده أصلاً، أو هی مطلوبة لکن فی مرتبةٍ دانیة؟

رأی الشیخ

ذکر الشیخ(1) أنّه إن کانت الغایة مأخوذةً علی وجه الظرفیّة، فالإستصحاب جارٍ، لوجود المقتضی وعدم المانع. وإن کانت مأخوذة علی وجه القیدیّة، فإنّ المقیّد ینتفی بانتفاء القید، فلا وجوب للصّلاة بعد الغروب أصلاً، بل یجری إستصحاب عدم الوجوب.

رأی صاحب الکفایة

وقال صاحب الکفایة:(2) إن کان المطلوب تشکیکیّاً، له مراتب، فالإستصحاب جارٍ وإلاّ فلا.

ص: 295


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 206.
2- 2. کفایة الأُصول: 409.
رأی المحقّق المیرزا

وقال المیرزا(1) بعدم جریان الإستصحاب مطلقاً.

توضیحه: ذهب المیرزا إلی عدم جریان الإستصحاب، لا الوجودی ولا العدمی. أمّا عدم جریان إستصحاب بقاء الوجوب، فلأنّ المفروض کون الغروب قیداً لوجوب الصّلاة، ومع إنتفائه ینتفی، لانتفاء المقیَّد بانتفاء قیده. وأمّا عدم جریان إستصحاب عدم الوجوب المقیَّد، فلأن الوجود والعدم متناقضان، _ والمتناقضان فی مرتبةٍ واحدة _ فوجود الوجوب المقیّد بالغروب نقیضه هو العدم المقیَّد، أی: عدم وجود الوجوب بعد الغروب، لکنّ إستصحاب العدم الأزلی لتحقّق هذا العدم الخاصّ أصل مثبت.

والحاصل: إنّ الغروب قید للوجوب، ونقیضه هو العدم فی هذا الظرف، لا العدم الأزلی المطلق، فلا حالة سابقة حتّی یتمّ الإستصحاب، بل المرجع هو البراءة أو الاشتغال.

الإشکال علیه

إنّه إن کان نقیض الوجود المقیَّد هو العدم المقیَّد فالحق مع المیرزا.

لکنّ التحقیق أنّه لیس المناط فی التناقض أن یکون العدم متّصفاً بما کان الوجود متّصفاً به، فالرافع للوجوب الخاص المحدود بالحدّ هو عدم الوجوب

ص: 296


1- 1. أجود التقریرات 4 / 109.

لا عدم الوجوب المقیَّد، فالإستصحاب تام، والنتیجة عدم مطلوبیّة الصّلاة بعد الغروب. أمّا إن کان الزمان ظرفاً فلما ذکره الشیخ، وأمّا إن کان قیداً فلإستصحاب العدم الأزلی.

رأی السیّد الخوئی

وذهب السیّد الخوئی(1) إلی أنّ المورد من صغریات القسم الثانی من أقسام إستصحاب الکلّی، فهو جارٍ من هذا الباب. قال: وأمّا إذا کان الشک فی بقائه ناشئاً من إحتمال کون العمل بذاته مطلوباً مطلقاً، ووقوعه فی الوقت مطلوباً آخر، کما إذا احتمل کون ذات الصّلاة مطلوبة مطلقاً، ووقوعها فی الوقت مطلوباً آخر، کان المورد من صغریّات القسم الثانی من إستصحاب الکلّی، ضرورة أنّه یدور أمر متعلّق الوجوب بین الفرد القصیر المختص بالوقت والفرد الطویل المطلق. فبناءً علی جریان الإستصحاب فی الأحکام الکلیّة _ کما علیه الأکثر _ یحکم ببقاء الوجوب تمسّکاً باستصحاب الکلّی، لإحتمال تعلّق الوجوب بالفرد الطویل المقطوع بقاؤه، وعلیه یتفرّع القول بتبعیّة القضاء للأداء، لأنّ الأمر الأوّل باق بعدُ ولم یسقط علی الفرض.

وأمّا بناءً علی المختار من عدم جریان الإستصحاب فی الأحکام الکلیّة، لکونه مبتلی بالمعارض دائماً، فلا یمکن التمسّک باستصحاب بقاء الوجوب. وعلیه یتفرّع القول بکون القضاء بأمر جدیدٍ کما نقول به.

ص: 297


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 157.

وفیه:

إنّ الکلام کلّه فی أنّ المورد من قبیل إستصحاب الأمر الشخصی لا من قبیل إستصحاب الکلّی. فما ذکره غیر تام.

وهذا تمام الکلام فی التنبیه الرابع.

ص: 298

التنبیه الخامس: فی الإستصحاب التعلیقی

اشارة

وهو من البحوث المهمّة فی الإستصحاب، وله آثار عملیّة فی أبواب العبادات والمعاملات وفی أبواب الشهادات والدیات والقصاص. وقد طرح لأوّل مرّة من زمن السیّد بحر العلوم _ فی رسالته فی العصیر العنبی _ والسیّدین صاحب الریاض والمجاهد، واختاره الشیخ وعدّة من الأکابر.

بیان مورد البحث

ومورد البحث فی کلام السیّد الخوئی هو الحکم الفعلی من بعض الجهات، فی مقابل الفعلی من جمیع الجهات وهو التنجیزی.

ولکن هذا غیر صحیح، لأنّ الحکم أمر بسیط یدور أمره بین الوجود والعدم، ولا یتصوّر فیه الجهات العدیدة، سواء التکلیفی والوضعی. بل الحکم الفعلی هو ما کان موضوعه متحقّقاً بجمیع قیوده، فالفعلیّة مساوقة للوجود، ولا تبعّض فی الفعلیّة.

ص: 299

فالتحقیق أن یقال: الموضوع للحکم إن کان فعلیّاً من جمیع الجهات فهو تنجیزی، وإن لم یکن کذلک فهو تعلیقی. والموضوع تارةً: مرکّب من أجزاء. وأُخری: من المقتضی والشرط. والمثال المعروف للبحث هو: «العنب إذا غلا یحرم». فالعنب جزء، والغلیان جزء آخر. فی مقابل التنجیزی، أی ما إذا تحقّق الموضوع بجمیع خصوصیّاته، فإن تحقّق بجمیع خصوصیّاته ثمّ حصل تغیّرٌ فیه استصحب بقاؤه. أمّا لو لم یتحقّق کذلک، کأن تحقّق العنب ولم یتحقّق الغلیان، ثمّ حصل تغیّرٌ فی حال العنب، فلو تحقّق الغلیان حینئذٍ هل یترتّب الحرمة بجریان الإستصحاب فیه أو لا یجری الإستصحاب؟

هنا مقدّمتان:

الأُولی: فی إنقسامات الواجب، فإنّه تارة: یکون الوجوب مشروطاً بشرطٍ، مثل إذا دخل الوقت فصلّ. فهذا هو الواجب المشروط. وأُخری: یکون الوجوب محقَّقاً وقد تحقّق موضوعه بجمیع شروطه وقیوده. وهذا هو الواجب المنجّز. وثالثةً: یکون الوجوب الآن محقّقاً وشرطه غیر متحقّق، وهذا هو الواجب المعلّق، کما فی الحج المعلّق علی الإستطاعة.

ومن هنا ظهر أنّ الواجب المعلّق من أقسام الواجب المشروط، غیر أنّ الشرط فیه متأخّر، فمن جهة الهیئة، یکون الوجوب مشروطاً بالشرط المتأخّر، ومن جهة المادّة، یکون الواجب بعد شهرین مثلاً، أی إن ظرفه یوم عرفة. وفی مقابلهما هو الواجب المنجّز، وهو ما إذا تحقّق الوجوب وتحقّق الواجب بجمیع شرائطه.

ص: 300

ومورد الإستصحاب التعلیقی، ما إذا کان الحکم _ من الوجوب والحرمة وغیرهما _ مشروطاً بشرطٍ، کما فی «العنب إذا غلا یحرم»، فإنّه إذا لم یحصل الشرط (الغلیان) فإن الحکم (الحرمة) غیر موجود. لکنّ البحث هو: هل یمکن إجراء الإستصحاب فی الحرمة المشروطة بالغلیان، قبل تحقّق الشرط، فیما لو حصل تغیّرٌ فی العنب وغلا، أو لا یمکن؟

الثانیة: فی هذه القضیّة الشرطیّة «العنب إذا غلا یحرم» أمران، أحدهما: الحکم المشروط والشرط المعلّق علیه. والآخر: الملازمة بین الحرمة والغلیان.

ویقع البحث فی جریان الإستصحاب فی الحرمة، وأیضاً یقع فی جریانه فی الملازمة، بأنّ هذه الملازمة قد کانت بین العنبیّة والغلیان، والآن صار العنب زبیباً فهل هی باقیة أو لا؟

والإستصحاب الثانی تنجیزی. والأوّل تعلیقی.

وقد طرح الشیخ البحث فی کلیهما، وأجری الإستصحاب فی کلیهما.

بعد الفراغ من المقدّمتین

نقول: إنّه یقع البحث فی الإستصحاب التعلیقی فی الحکم المعلَّق، کما فی المثال المعروف، وقد یقع فی الموضوع المعلَّق، کما فی: الصّلاة إن کانت فی هذا الثوب فقد کانت فیما یؤکل لحمه، والآن حصل تغیّرٌ فی الثوب، فهل یستصحب بقاء الصّلاة فیما یؤکل لحمه أو لا؟

الکلام فی إستصحاب الحرمة
اشارة

ویقع البحث فی إستصحاب الحرمة _ بناءً علی القول بجریان الإستصحاب فی الأحکام الکلیّة الإلآهیّة _ تارةً: فی مرحلة المقتضی، وأُخری: فی مرحلة المانع.

ص: 301

فالبحث فی مقامین:

المقام الأوّل، وقد ذکر القائلون بجریان الإستصحاب لهذا المقام طرقاً:

طریق الشیخ

ذکر الشیخ:(1) أن ما لا یقبل جریان الإستصحاب فیه هو المعدوم المطلق، أی ما لا فعلیّة مطلقاً. وأمّا ما له الفعلیّة ولو من بعض الجهات، فیجری فیه الإستصحاب، وما نحن فیه من هذا القبیل.

وذلک، لأن الشارع لمّا قال «العنب إذا غلا یحرم»، فقد جعل الحکم _ وهو الحرمة _ علی تقدیر تحقّق الشرط _ وهو الغلیان، فهو مجعولٌ لکن علی تقدیر، وهذا کاف لأن تشمله عمومات الإستصحاب.

وفیه:

إنّه فرقٌ بین التکوینیّات والإعتباریّات. ففی عالم التکوین، یکون للمقتضی وجودٌ بوجود المقتضی له، فالعلقة موجودة بوجود النطفة، وکذلک غیرها من التکوینیّات. أمّا فی عالم الإعتبار، فلیس الأمر کذلک، فلا یکون للحکم المترتّب علی (العنب إذا غلا) وهو (الحرمة) وجودٌ بوجود (العنب) بدون (الغلیان)، وذلک لعدم تعقّل ما تقدّم ذکره فی الأُمور الإعتباریّة، لأنّ الأمر الاعتباری یدور مدار کیفیة إعتبار المعتبر، وإذا کان المعتبر قد إعتبر الحرمة بالنسبة إلی العنب والغلیان، فجعل موضوع الحکم مرکّباً من العنب والشرط، فهو ینتفی بانتفاءه، ومن الواضح إنتفاؤه عند عدم الغلیان، فلا حکم حینئذٍ أصلاً، لا أنّه فی مرحلة القوّة والإقتضاء کما تقدّم فی التکوینیّات.

ص: 302


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 223.

وعلی الجملة، فإنّ المعتبَر فی الإستصحاب هو الوجود الیقینی للمستصحب سابقاً، وهذا إنّما یکون فی الإستصحاب التنجیزی، وأمّا فی التعلیقی، فإنّ الحکم تقدیریٌّ فلا تعمّه أدلّة الإستصحاب.

وبعبارة أُخری: (التقدیر) یقابل (التحقیق). ونحن فی الإستصحاب نحتاج إلی الوجود السّابق التحقیقی لا التقدیری فإنّه وجود فرضی. وقوله: (العنب إذا غلا یحرم) قبل تحقّق العنب والغلیان معاً إنشاءٌ للحکم، وهذا الإنشاء لا شک فیه حتّی یجری فیه الإستصحاب.

طریق صاحب الکفایة

وذکر صاحب الکفایة(1) ما حاصله: إنّ الحکم قبل الغلیان حاصلٌ إلاّ أنّه غیر فعلی، ولمّا یتحقّق الغلیان یصیر فعلیّاً، وبذلک یجری الإستصحاب، لتمامیّة أرکانه، کما هی تامّة فی الحکم المنجّز، مع الفرق بینه وبین المنجّز، لأنّه الفعلی من جمیع الجهات.

والحاصل: إنّ المهم هو الیقین بأصل وجود الحکم المستصحَب، وأمّا کونه فعلیّاً، فلا دخل له فی الإستصحاب.

وفیه:

ما تقدّم فی الإشکال علی الشیخ، فقد کان تعبیر الشیخ ب_«التقدیر» وصاحب الکفایة یعبّر ب_«الفعلیّة». فقد قلنا: بأنّ الشارع قد رتّب الحکم فی عالم الإعتبار علی الموضوع المقدَّر الوجود، فإن تحقّق الموضوع تحقّق الحکم وإلاّ فلا وجود للحکم أصلاً، وإلاّ یلزم وجود الحکم بلا موضوع.

ص: 303


1- 1. کفایة الأُصول: 411.

وعلی الجملة، فإنّ الفعلیّة مساوقة للوجود، وإذ لم یکن الغلیان فعلیّاً فلا وجود له فلا حرمة حینئذٍ.

طریق المحقّق العراقی

وذکر المحقّق العراقی(1) طریقاً آخر له ثلاث مقدّمات.

(المقدّمة الأُولی) إنّ الحکم تارة: مطلق بالنسبة إلی موضوعه. وأُخری: معلَّق علیه. والتعلیق تارةً: عقلی وأُخری: شرعی.

فإن کان مطلقاً، وجب تحصیله، کما لو أمر الطبیب المریض بشرب الدواء. فإن علیه تحصیله.

وإن کان معلّقاً، والتعلیق عقلی، کما لو قال: أکرم العالم. فإنّ العقل یری تعلیق وجوب الإکرام علی تحقّق الموضوع وهو العلم، فهو یدرک أن معنی هذا الکلام أنّه إذا تحقّق العالم وجب إکرامه، وإلاّ فلا یجب تحصیل العالِم.

وأمّا التعلیق الشرعی، فهو مثل: «العنب إذا غلا یحرم»، حیث کان الحکم منوطاً بالغلیان بحکم الشارع.

(المقدّمة الثانیة) إنّ القید تارة: قید للوجوب _ الهیئة. وأُخری: قیدٌ للمادّة أی الواجب. ولا یخفی أنّ کلا القسمین له دخل فی مصلحة الحکم، إلاّ أنّ قید الهیئة له دخل فی وجود أصل المصلحة، فصلاة الظهر _ مثلاً _ لا مصلحة لها قبل الزوال، وقید المادّة یحقّق الفعلیّة للمصلحة، کالطهارة بالنسبة إلی صلاة الظهر الواقعة بعد الزوال. فموقع قید الوجوب فی سلسلة علل الحکم، وموقع قید الواجب فی

ص: 304


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 162.

سلسلة المعلولات للحکم.

ونتیجة هذه المقدّمة هی: إنّه کما لا یُعقل تقیّد المعلول بعلّته، ولا تقیّد العلّة بالمعلول، لاختلاف المرتبة بین العلّة والمعلول، لکنّ القید والمقیَّد فی مرتبةٍ واحدة. کذلک لا یُعقل بین الموضوع والحکم، فإنّه وإن لم تکن النسبة بینهما هی العلیّة والمعلولیّة، لکنّ ملاک العلیّة والمعلولیّة موجود بینهما، وهو التقدّم والتأخّر الرتبی. فلو کان شیء علّةً للموضوع أو الحکم، لم یعقل تقیّد الموضوع أو الحکم به للاختلاف الرتبی، مثلاً: وجوب الصّلاة متأخّر عن المصلحة، والمصلحة متأخّرة عن زوال الشمس. وأیضاً: ففی: العنب إذا غلا یحرم، الحرمة مقیَّدة بالغلیان، فیکون الغلیان دخیلاً فی الملاک، فلا یعقل تقیّد الحکم _ وهو الحرمة _ بعلّة الملاک له.

والحاصل: إنّه لا یعقل تقیّد الحکم بالملاک.

لکنّ (التقیّد) أمرٌ و(التضیّق) القهری أمر آخر، فصحیح أنّ الحکم لا یتقیّد بموضوعه ولا یتقیّد بعلّة الموضوع، لکنّ دائرة الحکم دائماً مضیَّقة بدائرة الموضوع، ولا یعقل أن یکون الحکم أوسع دائرةً من موضوعه. مثلاً: الحرارة الناشئة من النار لا تتقیّد بالنار، لکون النار مقدّمةً رتبةً علی الحرارة، لکنّ دائرة هذه الحرارة مضیّقة بالنار، إذ الحرارة الناشئة من النار غیر الناشئة من الشمس.

(المقدّمة الثالثة) وهی مهمّة، وحاصلها: إنّ ما تقرّر عند الکلّ من أنّ الأحکام الشرعیّة بنحو القضایا الحقیقیّة، سواء التکلیفیّة مثل: الخمر حرام، والوضعیّة مثل: البیع لازم _ وفی التکوینیّات کذلک مثل: النارة حارّة. فإنّه: کلّما تحقّق شیء واتّصف بأنّه نار فهو منشأ للحرارة _ . یقول العراقی: لیس علی إطلاقه، فهو صحیح فی الأحکام الوضعیّة دون التکلیفیّة فی الأحکام الخمسة کلّها.

ص: 305

أمّا فی الوضعیّة، فإن الحکم الوضعی قوامه الاعتبار من المعتبر، فهو یعتبر الزوجیّة والبینونة والملکیّة وهکذا ... ولکن الأحکام التکلیفیّة قوامها الإرادة أو الکراهة من المولی، فإذا أُبرزت الإرادة التشریعیّة من المولی أو الکراهة إنتزع العقل من ذلک البعث أو الزجر.

والحاصل، إنّه یکون العروض والإتّصاف _ فی القضایا التکوینیّة وفی الأحکام الوضعیّة _ فی الخارج، فهی قضایا حقیقیّة. وأمّا الأحکام التکلیفیّة، فإن قوامها الإرادة والکراهة، وهما من الأُمور النفسانیّة ذات التعلّق، مثل الشّوق والحبّ والبغض، فهی متقوّمة بالمتعلَّق، ولمّا کانت نفسانیّة، فإن المتعلَّق لها نفسانی کذلک، وإلاّ یلزم أن یصیر النفسانی خارجیّاً والخارجی نفسانیّاً، وکلاهما محال، أو یلزم تحقّق الإرادة بلا مراد والکراهة بلا مکروه، وهذا محال کذلک.

ثمّ إنّ الإرادة والکراهة ینقسمان عند المحقّق العراقی إلی: المنوطة وغیر المنوطة، ففی «العنب إذا غلا یحرم»، حیث الحکم هو الکراهة وقد أُبرزت بکلمة یحرم، تکون الکراهة منوطةً بالغلیان، بخلاف: الخمر حرام، فإن الخمر أُبرزت الکراهة بالنسبة إلیه بلا إناطة. وکذا الحال فی الإرادة، فقد یقول: أکرم زیداً، بلا إناطة. وقد یقول: إن جاءک زید فأکرمه، فأناط وجوب الإکرام بالمجیء.

وحاصل ذلک: إنّه فی جمیع الواجبات والمحرمات المطلقة، تکون الإرادة والکراهة غیر منوطة، وفی المقیّدة یکونان منوطتین.

وإذا تمّ هذا تمّ الإستصحاب التعلیقی.

وذلک: لأن «العنب إذا غلا یحرم» قد خرج عن القضایا الحقیقیّة، لأنّ الغلیان فیه لیس الغلیان الخارجی بل النفسانی _ لِما تقدّم من أن الحرمة هی

ص: 306

الکراهة النفسانیّة، فلا تعقل أن تُناط بأمرٍ خارجی _ وعلیه، فالکراهة النفسانیّة موجودة قبل الغلیان الخارجی، وحینئذ، لو حصل تغیّرٌ فی العنب ووقع الشک فی بقاء الکراهة السّابقة، حکم ببقائها بمقتضی دلیل الإستصحاب.

والحاصل: إنّ الإرادة فی النفس، والمراد فی النفس. وکذلک الکراهة. وعلیه، فالحکم موجود قبل تحقّق الغلیان فی الخارج، ومع الشک یستصحب.

ولا یخفی أنّ کون الإرادة والکراهة فی النفس، لا ینافی کون محرکیّة الإرادة والکراهة فی الخارج، إذ الإرادة والکراهة شیء، ومحرکیّتهما نحو الإمتثال شیء آخر.

الإشکال علیه

إنّه سیأتی الإشکال المبنائی علی هذا المحقّق فی حقیقة الحکم کما ذکر فی المقدّمة الثالثة. بل المهم الإشکال فی ما ذکره فی المقدّمة الثانیة، وذلک:

لأن العمدة فی عدم جریان الإستصحاب التعلیقی هو: إنّ قید الحکم دخیل فی الموضوع، فکان الغلیان الذی هو قید الحرمة جزءً للموضوع، فمع عدم تحقّق الغلیان لم یتحقّق الموضوع للحکم بالحرمة، فلا حکم قبل الغلیان حتّی یستصحب.

فذکر العراقی _ فی المقدّمة الثانیة _ أنّ قید الحکم من علل الحکم، والموضوع للحکم لا یتقیّد بعلّة الحکم، فلیس الغلیان قیداً للحکم، فأرکان الإستصحاب تامّة.

وهنا موضع الإشکال علیه.

وتوضیحه: إنّه لا ریب فی وجود الإختلاف الرتبی بین الموضوع والحکم، وهذا الإختلاف طبعی کالاختلاف بین الواحد والاثنین، والملاک فی إختلاف المرتبة طبعاً هو إحتیاج أحد الطرفین إلی الآخر واستغناء الآخر عن طرفه، فالاثنین محتاج

ص: 307

_ فی عالم التصوّر وفی عالم التحقّق _ إلی الواحد، لکنّ الواحد غیر محتاج إلی الاثنین. والموضوع والحکم کذلک، فإن الإکرام محتاج إلی زید العالم، ولکنّ زید العالم غیر محتاج إلی الإکرام ... هذا ملاک التقدّم والتأخّر الطبعی بین الموضوع والحکم.

لکنّ الکلام فی القید مثل الغلیان الذی هو قیدٌ للحرمة، فلولا الغلیان لم یوجد الحرمة، فهو العلّة للحکم.

أی إنّ الغلیان هو الموجب للمفسدة للعنب فیترتّب الحکم وهو الحرمة، فالغلیان قیدٌ للحکم وهو فی مرتبة العلّة له، إلاّ أنّ الکلام کلّه هو النسبة بین الغلیان والموضوع، فإن کان الغلیان متأخّراً رتبةً عن الموضوع _ لکونه أی الغلیان قیداً وعلّة للحکم وهو متأخّر عن الموضوع _ فالحق مع العراقی، وإلاّ بطلت نظریّته؟

لقد ذکرنا ملاک التقدّم والتأخّر بین الموضوع والحکم، فهل الملاک المذکور موجودٌ بین الموضوع وقید الحکم لیتم ما ذهب إلیه؟

الحق أنّه: لا.

لأنّ الموضوع لا علاقة له بالغلیان، لا فی عالم التصوّر ولا فی عالم التحقّق، إنّ الموضوع وهو العنب لا یحرم بدون الغلیان، لکن لا تقدّم وتأخّر طبعاً بین العنب والغلیان.

إنّ الغلیان مثل العلم، فکما کان العلم قیداً لوجوب الإکرام، ولولا العلم فلا إکرام فهو علّةٌ للإکرام، لکنّ العلم وزید الموضوع لوجوب الإکرام فی مرتبةٍ واحدةٍ، ولیس بینهما ملاک التقدّم والتأخّر کما تقدّم، کذلک الغلیان بالنسبة إلی حرمة شرب العنب، فهو علّةٌ للحرمة لکنّه فی مرتبة الموضوع.

ص: 308

وتحصّل: أنّ الغلیان علّة للحکم وهو فی مرتبة الموضوع أی العنب وقیدٌ له، لعدم وجود ملاک التقدّم والتأخّر الطبعی بین العنب والغلیان، لعدم توقّف ذات العنب علی الغلیان، کما أنّ الواحد غیر متوقّف علی الاثنین، وذات الغلیان أیضاً غیر متوقّف علی العنب لتحقّقه فی الماء أیضاً.

والعراقی یقول: لا یمکن تقیید العنب بالغلیان، لکون الغلیان علةً للحرمة، لکونهما فی مرتبتین.

لکن ظهر بطلانه نقضاً وحلاًّ. أمّا نقضاً، فبمثل وجوب إکرام زید العالم. وأمّا حلاًّ، فلعدم إختلاف المرتبة.

وممّا یؤکّد ما ذکرنا: القانون المسلّم به عند الکلّ، من أنّ الحاکم الملتفت إلی إنقسامات موضوع حکمه، غیر مهمل له، فإمّا هو مطلق وإمّا مقیِّد. وفی المثال: لا شکّ فی وجود القید وهو الغلیان فی مقام الإثبات، فکان الحکم وهو الحرمة منوطاً بالغلیان، کإناطة وجوب العتق بالإیمان.

هذا کلّه بغضّ النظر عن الإشکال المبنائی، وذلک أن الحکم لیس الإرادة والکراهة، بل هو جعل المولی. نعم، الإرادة والکراهة هما المنشأ للحکم بالوجوب أو الحرمة.

طریق المحقّق الحائری

وذهب الشیخ الحائری(1) وتلامذته تبعاً له إلی جریان الإستصحاب

ص: 309


1- 1. درر الأُصول: 545.

التعلیقی. وحاصل کلامه: تمامیّة الأرکان ووجود الأثر فی الزمان اللاّحق، لأنّ اللاّزم فی الإستصحاب أن یکون المستصحب ذا أثر فی مرحلة الشک، وأن یکون الیقین السّابق والشک اللاّحق فعلیین، وکلّ ذلک حاصل هنا.

توضیح ذلک: إنّ للحاکم فی الأحکام المعلَّقة إنشاءً، فهو لمّا یقول: «العنب إذا غلا یحرم» یُوجد شیئاً لم یکن _ لأن حقیقة الإنشاء هو الإیجاد، وهذا لا فرق فیه بین الأحکام المعلّقة والأحکام التنجیزیّة _ والإیجاد لا ینفک عن الوجود. وعلیه، فقد حصل حکم للعنب إذا غلا وهو الحرمة، فلو حصل تغیّرٌ فی العنب قبل الغلیان، یقع الشک فی بقاء تلک القضیّة الشرطیّة المجعولة؟

لقد کان الیقین بالقضیّة موجوداً، والشک فی بقائها موجود الآن، ومقتضی دلیل الإستصحاب هو التعبّد بالبقاء.

والحاصل: إنّه کما للشارع إنشاءٌ فی الأحکام المطلقة المنجّزة، کذلک فی المعلّقة، وإذا کان الحکم معلّقاً، کان فعلیّاً من جهةٍ وغیر فعلی من جهة. وهذا هو الفرق بین المعلّق والمطلق، ولا فرق غیره، فکما یجری الإستصحاب هناک لتمامیّة الأرکان، کذلک هنا.

والمحقّق الإصفهانی(1) قرّر هذا المطلب ببیانٍ آخر وحاصله:

إنّ حقیقة الحکم عبارة عن الإنشاء بداعی جعل الداعی فی الواجبات، وبداعی جعل الزاجر فی المحرّمات، فهو ما یمکن أن یکون باعثاً للمکلّف أو زاجراً فی نفس المکلّف الخالی عن شوائب الموانع عن العبودیّة.

ص: 310


1- 1. نهایة الدرایة 5 / 173.

وهذا حاصل فی «العنب إذا غلا یحرم»، فهو حکم بحرمة الشرب معلّقاً علی الغلیان، فلو حصل تغیّرٌ فی العنب، وشک فی بقاء الحکم، فالمرجع عموم لا تنقض.

النظر فیه:

لقد ذکروا أنّ هنا إنشاءً، والإنشاء هو الإیجاد، وهذا یستلزم أن یکون هناک وجودٌ لأنّ الإیجاد والوجود واحدٌ حقیقةً، متعدّد إعتباراً. هذا صحیح، ولکنّه مبنیٌّ علی أن یکون (الإنشاء) هو (الإیجاد) وهو أوّل الکلام. إذ یرد علیه:

أمّا نقضاً، فإنّ الملکیّة من الإنشائیّات، فلو أوصی بملکیّة الدار لزیدٍ قائلاً: ملّکتک داری بعد مماتی، کان إنشاءً، لکنّ المنشأ _ وهو الملکیّة _ معلّق علی الموت ... فلو کان الإنشاء إیجاداً _ والإیجاد هو الوجود فی الحقیقة _ لزم أن تکون الملکیّة فعلیّةً لا أن تکون بعد الموت.

وأمّا حلاًّ، فإن حقیقة (الإنشاء) لیس (الإیجاد) بل قیل هو (الإعتبار والإبراز) وهو قولٌ قویّ، وعلیه، یکون الإعتبار فعلیّاً، والمعتبر وهو الملکیّة بعد الموت، ولذا لیس للوصی التصرّف فی الدار مادام الموصی حیّاً.

وفی «العنب إذا غلا یحرم» کذلک، فقد أبرز إعتبار الحکم الآن، لکنّ الحرمة معلّقة علی الغلیان، وحیث لا غلیان فلا حرمة سابقاً حتّی تُستصحب.

وذکر المحقّق العراقی دلیلاً نقضیّاً للقول بالجریان وهو:

إنّه إذا کان الإشکال علی الإستصحاب التعلیقی عدم تحقّق الموضوع المتیقَّن _ لکون الغلیان جزءً للموضوع وهو غیر متحقّق _ فإن هذا الإشکال موجود فی جمیع موارد الإستصحاب فی الشبهات الحکمیّة، مع أنّ المشهور

ص: 311

تمامیّة الإستصحاب فیها. مثلاً: الماء المتغیّر بالنجاسة نجس، فلو علمنا بنجاسة الماء للتغیّر بالنجاسة، ثمّ زال التغیّر وشُک فی بقاء النجاسة، یجری إستصحاب النجاسة، مع زوال التغیّر الذی کان جزءً للموضوع.

وفیه: إنّ موضوع (النجاسة) هو (الماء المتغیّر بالنجاسة)، والفقیه یفرض وجود الماء والتغیّر ویفتی بالنجاسة، فإذا زال التغیّر حصل الشک فی بقاء النجاسة فیتمسّک بالإستصحاب. فالشکّ حاصل بعد تحقّق الموضوع.

أمّا فی الإستصحاب التعلیقی، فالمفروض تحقّق جزءٍ للموضوع وهو العنب، دون الجزء الآخر وهو الغلیان.

وهذا الفرق کاف لعدم تمامیّة النقض.

الکلام فی إستصحاب الملازمة
اشارة

ثمّ إنّ الشیخ(1) جوّز فی المقام جریان الإستصحاب فی الملازمة، وهو إستصحاب تنجیزی، لأنّ الملازمة بین الغلیان والحرمة کانت موجودةً یقیناً، أی إنّ الشارع بإنشائه «العنب إذا غلا یحرم» جَعَل هذه الملازمة والسّببیّة بلا ریب. سواء کان العنب أو الغلیان موجوداً أو لا.

وهذه الملازمة شرعیة، بلا ریب.

ثمّ حصل الشک فی بقائها علی أثر التغیّر فی العنب.

فأرکان الإستصحاب تامّة، ولیس من الإستصحاب التعلیقی، لأنّه لا یعتبر فی

ص: 312


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 223.

الملازمة بین الشیئین تحقّق الطرفین بالضرورة، قال تعالی «لَوْ کانَ فیهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتا »،(1) فالملازمة موجودة، مع القطع بعدم وجود الآلهة وعدم وجود الفساد.

الإشکال علیه

وقد أُورد علیه: بأنّ المستصحَب إمّا الموضوع وإمّا الحکم. والملازمة لیس منهما.

ولکن یمکن الجواب عنه: بأن لا دلیل علی حصر المستصحَب فیهما، بل کلّما أمکن للشارع جعله والتعبّد به أمکن إجراء الإستصحاب فیه، والملازمة أمر إنتزاعی موجود بمنشأ إنتزاعه، ولمّا کان المنشأ شرعیّاً، فهو مجعولٌ من الشارع بتبعه.

والذی یرد علی الشیخ هو: إنّ الأمر الإنتزاعی غیر مستقلّ فی تحقّقه بل قائم بمنشأ الإنتزاع، فتارةً: یکون وجوده مع وجود المنشأ، کما فی الفوقیّة بالنسبة إلی الفوق. وأُخری: یکون وجوده منحازاً عن وجود المنشأ، کما فی الملازمة.

لکنّه علی کلّ حال قائم بوجود المنشأ، فلو لم یتحقّق المنشأ فلا وجود له.

وعلی هذا، فإنّه مع عدم تحقّق الغلیان والحرمة، لا وجود للملازمة، ومع عدم وجودهما سابقاً لم یتم الإستصحاب.

فالإستصحاب التنجیزی فی الملازمة باطل.

بل هذا الإستصحاب تعلیقی، لأن الملازمة متأخّرة رتبةً عن الغلیان والحرمة، إذ الحقیقة هی أنّه لو تحقّق الغلیان فی العنب لکان ملازماً مع الحرمة.

فما ذکره الشیخ باطلٌ من جهتین.

ص: 313


1- 1. سورة الأنبیاء، الآیة 22.
الکلام فی مرحلة المانع

ولو سلّمنا تمامیّة المقتضی لجریان الإستصحاب، فهل من مانع؟

إنّه إستصحاب الإباحة لشرب هذا العصیر، فأمّا علی مسلک التضادّ بین الأحکام، کما علیه صاحب الکفایة، فالتعارض لا محالة. وأمّا علی مسلک عدم التضادّ بینها کما علیه المحقّق الإصفهانی _ لکونها أُموراً إعتباریّة ولا تضادّ بین الإعتباریّات _ فالتعارض یقع فی حکم العقل، لأنّ إستصحاب الحرمة ینتج الموضوع لحکم العقل بالتنجیز، وإستصحاب الإباحة ینتج الموضوع لحکمه بالتعذیر، وبین التنجیز والتعذیر تعارض. ویقع أیضاً فی مرحلة الإمتثال، کما هو واضح.

فالإستصحاب التعلیقی ساقط بالمعارضة علی کلّ تقدیر، وحینئذٍ، فالمرجع عموم «کلّ شیء لک حلال حتّی تعرف أنّه حرام» بناءً علی شموله للشبهتین، وأمّا بناءً علی إختصاصه بالشبهة الموضوعیّة فالمرجع فی الحکمیّة هو أصالة البراءة.

وذهب الشیخ وتبعه المیرزا(1) إلی حکومة الإستصحاب التعلیقی للحرمة علی الإستصحاب التنجیزی للإباحة، لأنّه إذا جری رفع الشک فی الإباحة، فلا تعارض.

ویجاب عن ذلک: بأنّ شرط الحکومة هو إختلاف المرتبة بین الحکم والمحکوم، بأن تکون نسبة أحدهما إلی الآخر نسبة الموضوع إلی الحکم أو السّبب إلی المسبّب، وإذ لا توجد بین الشکّین لا هذه ولا تلک، فلا حکومة.

وذکر صاحب الکفایة(2) وجهاً آخر لرفع المعارضة ومحصّله:

ص: 314


1- 1. أجود التقریرات 4 / 126، فوائد الأُصول 4 / 473.
2- 2. کفایة الأُصول: 411 _ 412.

إنّ الحلیّة الثابتة للزبیب قبل الغلیان غیر قابلة للبقاء، ولا یجری فیها الإستصحاب، لوجود أصل حاکم علیه، وذلک، لأنّ الحلیّة فی العنب کانت مغیّاة بالغلیان، إذ الحرمة فیه کانت معلّقةً علی الغلیان، ویستحیل إجتماع الحلیّة المطلقة مع الحرمة علی تقدیر الغلیان کما هو واضح. وأمّا الحلیّة فی الزّبیب، فهی وإن کانت متیقّنة، إلاّ أنّها مردّدة بین أنّها هل هی الحلیّة التی کانت ثابتة للعنب بعینها _ حتّی تکون مغیّاة بالغلیان _ أو أنّها حادثة للزبیب بعنوانه، فتکون باقیةً ولو بالإستصحاب. والأصل عدم حدوث حلیّة جدیدة وبقاء الحلیّة السّابقة المغیّاة بالغلیان، وهی ترتفع به، فلا تکون قابلةً للإستصحاب، فالمعارضة منتفیة.

قال السیّد الخوئی:

وهذا الجواب متین.(1)

الکلام فی الإستصحاب التعلیقی فی الموضوعات
اشارة

ثمّ إنّه قد وقع الکلام بین الأعلام فی جریان الإستصحاب التعلیقی فی الموضوعات ومتعلّقات الأحکام، مثلاً: لو وقعت الصّلاة فی اللّباس المشکوک کونه من أجزاء ما لا یؤکل لحمه، هل یصحّ أن یقال: هذه الصّلاة قبل لبس هذا اللّباس لو کانت واقعةً خارجاً لم تکن فی أجزاء ما لا یؤکل لحمه، والآن کذلک؟

ولا یخفی الفرق بین القول بأنّه یشترط فی صحّة الصّلاة أن لا تکون فیما لا یؤکل لحمه، والقول بأنّ ما لا یؤکل لحمه مانع عن صحّة الصّلاة، لأنّه إن کانت الصّلاة مشروطة بعدم وقوعها فیه، فمع الشک فی تحقّق الشّرط تحکّم قاعدة الإشتغال.

ص: 315


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 170.

وأمّا إن کان ما لا یؤکل لحمه مانعاً، فمع الشک فی المانعیّة فالأصل عدمها.

وعلی الجملة، هل یجری الإستصحاب التعلیقی فی موضوعات الأحکام أو لا؟

لابدّ من البحث فی مقامین:

1 _ مقام المقتضی

أمّا من حیث الإقتضاء، فمن قال بجریان الإستصحاب التعلیقی فی الأحکام لا یقول به فی الموضوعات، لأنّ الموضوع ذا الأثر هو الوجود التحقیقی لا التعلیقی، فالوجود الفرضی التعلیقی لیس بموضوعٍ للحکم الشّرعی ولا العقلی، فلا تشمله أدلّة الإستصحاب، وعلی فرض جریانه فیه، کان لازمه وقوع الصّلاة فی غیر ما لا یؤکل لحمه، وهو أصل مثبت.

2 _ مقام المانع

وعلی فرض الجریان، فإنّ الإستصحاب التعلیقی فی الموضوع المقتضی لوقوع الصّلاة فی غیر مأکول اللّحم، معارَض دائماً بالإستصحاب التنجیزی، فإنّه یقتضی عدم وقوع الصّلاة بتلک الصّفة، وإذا تعارضا تساقطا.

ص: 316

التنبیه السادس: فی إستصحاب عدم النسخ

اشارة

ویقع البحث فی مقامین:

1 _ إستصحاب عدم النسخ بالنسبة إلی أحکام الشرائع السّابقة.

2 _ إستصحاب عدم النسخ بالنسبة إلی أحکام هذه الشریعة.

وفی المقام الأوّل:

تارةً: یشک فی بقاء المجعول.

وأُخری: یشک فی بقاء الجعل.

الکلام فی إستصحاب عدم النسخ حیث یشکُّ فی بقاء الجعل السّابق

فنقول: إنّ من الأحکام ما جعل سابقاً بعنوان (النصاری) و(الیهود). وهذا القسم خارجٌ عن البحث.

ومن الأحکام ما جعل بعنوان (یا بنیإسرائیل) مثلاً. وهذا یدخل فی البحث فیما لو أسلم أحدٌ من بنیإسرائیل.

ص: 317

ولکن المهمّ: ما جعل فی الشرائع السّابقة بعنوان (الناس) ونحو ذلک.

والبحث فی مقامین:

1 _ مقام المقتضی

والإشکال فی أصل جریان هذا الإستصحاب هو عدم تمامیّة الأرکان، لأنّ من هو من أهل شریعة الإسلام یشک فی شمول الأحکام المجعولة فی شریعة عیسی علیه السّلام له، وإذا کان فی شک کذلک، فلا یقین عنده بثبوت الحکم له، ومع عدم الیقین السّابق فلا شک، لأن الشک لاحقاً متفرّع علی الیقین السّابق.

بیان الشیخ بوجهین
اشارة

بیان الشیخ(1) بوجهین:

الوجه الأوّل:
اشارة

إنّ الإشکال یتمُّ بالنسبة لمن لم یدرک الشریعة السّابقة. وأمّا من أدرک الشریعتین _ مثل (سلمان الفارسی) علیه السّلام _ فقد کان الحکم متوجّهاً إلیه سابقاً، ومع الشک فی بقائه یستصحب البقاء. ولو شک فی نسخه یستصحب عدم النسخ. وإذا تمّ الإستصحاب بالنسبة إلی هذا الشخص المدرک للشریعتین، یکون الإستصحاب تامّاً لغیر المدرک أیضاً، بقانون الإشتراک.

الإشکال علی الشیخ

وما ذکره الشیخ مردود:

ص: 318


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 225.

أوّلاً: إن کان دلیل قاعدة الإشتراک لفظیّاً تمّ فیه الإطلاق، فیعم الأحکام الواقعیّة والظاهریّة، لکنّ دلیله الإجماع وهو دلیل لبّی، فیؤخذ بالقدر المتیقَّن، وهو الحکم الواقعی. والإستصحاب من الأحکام الظاهریّة.

ثانیاً: سلّمنا الإطلاق. لکنّ موضوع قانون الإشتراک هو الوحدة الصنفیّة. مثلاً: المسلمون مشترکون فی أحکام الصّلاة، فیقال: من سافر یقصّر، وفی الخمس فیقال: من اغتنم فعلیه الخمس. فیعمّ هذا الحکم جمیع المسلمین، لعدم الإختلاف فی الموضوع وهو عنوان المسافر، والمغتنم. وأمّا مع الإختلاف فی الصّنف، فلا تجری القاعدة، ولذا لا یعمّ أخبار «من سافر یقصّر» من کان (حاضراً)، لأنّ (الحاضر) و(المسافر) صنفان.

وما نحن فیه کذلک. لأن (من أدرک الشریعتین) غیر (من لم یدرک) فکیف یتمّ ما ثبت للأوّل بالنسبة إلی الثانی بقانون الإشتراک؟

دفاع الشیخ الحائری

وأجاب الشیخ الحائری(1) عن الإشکال الثانی: بأنّ مراد الشیخ هو: إن غیر المدرک کان علی یقینٍ بثبوت الأحکام السّابقة فی حقّ المدرک، فلو شک فی بقائها بالنسبة إلی المدرک بسبب مجیء الشریعة اللاّحقة، إستصحب بقائها بالنسبة إلیه، وإذا تمّ ذلک بالنسبة إلی المدرک، تم بالنسبة إلی غیر المدرک بقانون الاشتراک

ص: 319


1- 1. درر الأُصول: 548.

فی التکلیف بینه وبین المدرک.

وفیه:

ویرد علی ما أفاده الحائری إشکالان:

الأوّل: إنّ الإستصحاب _ وسائر الأُصول العملیّة _ وظیفة الشاک نفسه «من کان علی یقینٍ فشک»، فلا تعمّ أدلّة الإستصحاب أن یشکّ شخص فی ما یتعلّق بغیره من الأحکام.

نعم. قام الدلیل علی إجراء المجتهد الإستصحاب فی مورد مقلِّده. کما لو کان مقلِّداً لشخصٍ یتیقَّن بأعلمیّته، فمات المجتهد وشک فی أعلمیّة الحیّ من الفقیه المیّت. فإنّ المجتهد یجری إستصحاب أعلمیّة المیّت فی حقّ المقلِّد ویقول له: یجب علیک البقاء علی تقلید المیّت، وذلک، لأن المقلِّد العامی عاجز عن التمسّک بالإستصحاب، فیقوم الفقیه مقامه فی ذلک. کما تقرّر فی باب الإجتهاد والتقلید.

الثانی: سلّمنا. لکن یعتبر الوحدة الصّنفیّة فی جریان قانون الإشتراک کما تقدّم.

وتلخّص: عدم تمامیّة ما ذکره الشیخ فی الوجه الأوّل جواباً عن الإشکال.

الوجه الثانی:
اشارة

إنّ الأحکام الشرعیّة کلّها علی نحو القضایا الحقیقیّة، فکلّ من کان فی الوجود وکان مکلَّفاً، فهو مخاطب بالأحکام الواردة فی الشرائع السّابقة.

ص: 320

نعم، لو کانت بنحو القضایا الخارجیّة، لکان المخاطب بها أهل تلک الشرائع دون الشریعة الإسلامیّة.

وعلی هذا، فأرکان الإستصحاب تامّة، والإشکال مندفع.

وقد وافق المحقّقون علی هذا الوجه إلاّ السیّد الخوئی.

الإشکال علی الشیخ

فأشکل رحمه اللّه بما حاصله:(1)

أوّلاً: إنّ النسخ دفع للحکم ولیس برفع، وإلاّ یلزم نسبة الجهل إلی اللّه.

توضیحه: إنّ الحکم بلا ملاک محال، وإذا جُعل فله ملاک، ورفعه مع وجود الملاک له محال کذلک. فحقیقة نسخ الحکم إنتهاء أمده.

وثانیاً: إنّ کلّ حاکمٍ، فهو إمّا مطلق لموضوع حکمه، وإمّا مقیِّد، لأن المفروض کونه ملتفتاً فلیس بمهمل.

وفیما نحن فیه: فإن أحکام الشریعة السّابقة لیست بمهملةٍ، فهی إمّا مطلقة تشمل من لم یدرک تلک الشریعة، أو مقیَّدة بأهلها فقط الذین مضوا. لکنّ مقتضی المقدّمة الأُولی أنّ الملاک قد یکون محدوداً فینسخ الحکم ولا یبقی. وعلی هذا، فلو شک أهل الشریعة اللاّحقة فی شمول الحکم له، لم یکن للحکم حالة سابقة حتّی یستصحب بقاؤها.

ص: 321


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 177.

فما ذکره الشیخ لتوجیه الإستصحاب مردود.

النظر فی هذا الإشکال

ومقتضی الدقّة اندفاع هذا الإشکال، لما أشرنا سابقاً من أنّ موضوع الحکم تارةً: هو عنوان (النصاری) فلا یعمّ غیرهم یقیناً. وأُخری: عنوان (المؤمنین) فیعمّ من أدرک الشریعتین. وثالثةً: عنوان (الناس)، وهذا لا إشکال فی عمومه. فالعناوین ثلاثة، فلا عموم لأحدها یقیناً ولا حاجة للنسخ. والثانی مشکوک العموم. والثالث مقطوعٌ بعمومه وشموله، والکلام الآن فی الثالث فنقول:

إنّ أهل الشریعة اللاّحقة لا یشک فی شمول العنوان وعموم الحکم له، وإنّما یشک فی بقاء الحکم وزواله، فیستصحب، لتمامیّة أرکانه. فهو نظیر ما إذا تیقّن بحرمة الخمر مثلاً، ثمّ شک فی بقاء الحرمة، أو تیقَّن بتحقّق الزوجیّة غیر أنّه شاک فی کونها منقطعة أو دائمة.

فأرکان الإستصحاب تامّة. وقد وافق المیرزا الشیخ من هذه الجهة، إلاّ أنّه أشکل علی هذا الإستصحاب من جهةٍ أُخری:

إشکال المیرزا

وهی أنّه أصل مثبت.(1) وذلک، لعدم جواز العمل بالشریعة السّابقة إلاّ إذا وقع الإمضاء لها من قبل الشریعة اللاّحقة، والإمضاء أمر وجودی، فلو أُرید إثبات

ص: 322


1- 1. أجود التقریرات 4 / 128.

الإمضاء باستصحاب عدم النسخ کان من الأصل المثبت، لأن حقیقة الإمضاء هو الإعتبار المماثل، وإثبات الإعتبار المماثل باستصحاب عدم النسخ أصل مثبت، لکونه من اللّوازم العقلیّة لعدم النسخ.

والجواب: صحیحٌ أنّ الإمضاء هو الإعتبار المماثل، لکن لا حاجة لإثباته إلی الدلیل الخاص، بل یکفی الدلیل العام، وعموم دلیل الإستصحاب یفی بذلک. فکأن الشارع یقول: کلّ ما شُرّع فی شریعة عیسی علیه السّلام یقیناً، وشُکّ فی بقائه، فلا یجوز نقضه ویجب العمل به.

الإشکال ببیانٍ آخر

ویتوجّه الإشکال بأنّه أصل مثبتٌ، ببیان آخر، وهو:

إنّ کلّ حکم فله مرحلتان، مرحلة الإنشاء حیث یجعل الحکم فی هذه المرحلة، سواء کان الموضوع محقَّقاً أو لا، إذ یکفی فرض وجود الموضوع. ومرحلة الفعلیّة، حیث یتحقّق الموضوع للحکم خارجاً.

ثمّ إنّ الأثر المترتّب علی مرحلة الإنشاء هو فتوی الفقیه، فإنّ نفس إنشاء الحکم یکون موضوعاً للفتوی. وأمّا الأثر العملی، فهو یترتّب علی مرحلة الفعلیّة، فهی مرحلة الإطاعة والمعصیة.

وعلی هذا، فإنّ إستصحاب عدم النسخ یعنی بقاء حکم الشارع وإنشائه، وبقاؤه یستلزم تحقّق الموضوع إستلزاماً عقلیّاً، وهذا هو الأصل المثبت.

ص: 323

وبعبارة أُخری: إنّه لا فعلیّة للحکم قبل تحقّق الموضوع _ لاستحالة الحکم بلا موضوع _ فالمستصحَب هو الإنشاء والإعتبار فقط. وأمّا المعتبر _ أی الوجوب واللّزوم _ فهو بعد تحقّق الموضوع. فکان لازم إستصحاب الحکم وجود الموضوع، وهذا هو الأصل المثبت.

النظر فیه:

ویختلف الجواب عن هذا الإشکال بحسب إختلاف المسالک.

فهو یندفع بناءً علی أنّ حقیقة الحکم عبارة عن الإرادة، والإرادة تتحقّق بملاحظة الموضوع وتصوّره من دون حاجة إلی وجوده خارجاً، فالمولی یلحظ الإستطاعة فیرید الحج، وإن کانت هذه الإرادة باعثةً للعبد إذا تحقّقت الإستطاعة خارجاً. لکنّ الباعثیّة خارجة عن حقیقة الحکم.

فعلی هذا المبنی یندفع الإشکال، لأنّ المستصحب هو الحکم الشرعی ولا مشکلة.

وکذا علی مبنی جریان الإستصحاب التعلیقی فی الموضوعات، کما ذهب إلیه المحقّق العراقی، بتقریب أنّ هذا المکلَّف إن کان من الموجودین، کان محکوماً بالحکم الصّادر من المولی، والآن أیضاً کذلک.

وأمّا علی مبنی القائلین بأنّ الحکم عبارة عن الأمر الاعتباری المنشأ بالإنشاء مثل آیة الحج، حیث اعتبر وجوب الحج علی المستطیع. وآیة تحریم الخمر والمیسر ... فلا یندفع الإشکال، لأنّ الحکم لا یکون فعلیّاً إلاّ بعد تحقّق الموضوع.

ص: 324

إشکال آخر

وهنا إشکال آخر، وتوضیحه:

1 _ إنّه لابدّ من الیقین السّابق والشک اللاّحق.

2 _ وإنّه لا نسخ قبل العمل بالحکم ولو مرّةً واحدة، وإلاّ تلزم اللّغویّة من جعله، وهو محال.

3 _ وإنّ الموضوع فی القضیّة الحقیقیّة هو الأفراد الأعم من المحقَّقة الوجود والمفروضة الوجود، بخلاف القضیّة الخارجیّة، فموضوعها الفرد المحقَّق وجوده. والطبیعیّة التی موضوعها نفس الطبیعة مثل الإنسان حیوان ناطق.

ثمّ إنّ عنوان (الکون فی الدار) مثلاً فی: (أکرم من فی الدار) یکون دخیلاً فی الحکم فی القضیّة الحقیقیّة، ولا دخل له فیه فی ما لو کانت القضیّة خارجیّة، وقد تقرّر أنّ الأحکام الشرعیّة بنحو القضایا الحقیقیّة، فهی لجمیع المکلَّفین إلی یوم القیامة، ولذا تنحلّ القضیّة الشرعیّة ویتعدّد الحکم بعدد أفراد الموضوع.

وإذا ظهر ذلک، توجّه الإشکال: بأنّ نسخ الحکم بالنسبة إلی المعدومین یکون من نسخ الحکم قبل وقت العمل به، لأنّه لمّا قال: کلّ من وُجد واتّصف بأنّه مستطیع یجب علیه الحج، فإنّ هذا الحکم باقٍ إلی یوم القیامة وینحلّ بعدد الأفراد، فلو نسخ، کان بالنسبة إلی المعدومین من النسخ للحکم قبل حضور وقت العمل به.

لا یقال: المفروض عمل الموجودین به، فلا یکون من النسخ قبل العمل.

لأنّا نقول: إن المفروض تعدّد الحکم المجعول بعدد الأفراد، فهو بالنسبة إلی المعدومین من النسخ قبل العمل، وهو محال. فالإستصحاب محال.

ص: 325

الجواب عن هذا الإشکال

لکنّ هذا الإشکال أیضاً قابلٌ للدفع، وأنّ الحق جریان النسخ عقلاً فی القضایا الحقیقیّة أیضاً.

وتوضیح الدفع هو: إنّ کلّ حکمٍ شرعی مجعول فهو بنحو القضیّة الحقیقیّة، سواء کان تکلیفیّاً مثل: المستطیع یجب علیه الحج. أو وضعیّاً مثل: البیع لازم. وهو مطلق من جهتین: الإطلاق الأفرادی، وبذلک ینحلّ الحکم بعدد الأفراد، والإطلاق الأزمانی، أی فی کلّ زمانٍ من الأزمنة، إذ لو کان مختصّاً بزمانٍ لزم تقییده فی مقام الإثبات. والإطلاقان المذکوران تارةً: یکون الدلیل علیهما فی مقام الإرادة الإستعمالیّة هو اللّفظ، وأُخری: یکون نفس عدم التقیید وکون المستعمل فیه صِرف طبیعة المکلَّف المستطیع، وطبیعة البیع ... وهکذا ... وعلی هذا، فلو جاء المقیّد المنفصل تحدّد به المراد الجدّی، وإن کان المراد الإستعمالی علی سعته وإطلاقه لحکمةٍ فی ذلک.

وبهذا البیان یظهر أنّ الناسخ مقیّد للإطلاق الأزمانی، وأنّ الحکم کان من أوّل الأمر محدوداً بهذا الزمان الخاصّ، غیر أنّ هذا المقیّد لم یُبیّن لحکمةٍ. فإن أُحرز بقاء الحکم زماناً من ناحیة الإطلاق الأزمانی أو دلیلٍ خاصٍّ قائم علی إستمرار الحکم مثل: «حلال محمّد حلال إلی یوم القیامة» فلا کلام. وإن لا یحرز ذلک، یقع الشکّ، وحینئذٍ، یتمسّک بالإستصحاب ویحکم ببقاء الحکم.

فالإشکال بأنّه من النسخ قبل وقت العمل، مندفع: بأنّ الناسخ مقیِّد زمانی من أوّل الأمر، وأنّ المراد الجدّی کان محدوداً بهذا الحدّ، غیر أنّ الحکمة إقتضت

ص: 326

تأخیر البیان. کما هو الحال فی المقیِّد الأفرادی، فلو ورد أکرم العلماء، ثمّ ورد منفصلاً: لا تکرم الفسّاق من العلماء. کشف عن أنّ المراد الجدّی من إکرام العلماء کان محدوداً بالعلماء العدول، غیر أنّ المصلحة إقتضت تأخیر بیان ذلک.

والحاصل: إنّ المراد الإستعمالی فی القضایا الحقیقیّة مطلق، والمراد الجدّی مقیّد بأمدٍ معیّن، ویکون الدلیل الکاشف عن التقیید هو الناسخ المقیّد للحکم من حیث الزمان.

مقام المانع

وبناءً علی تمامیّة مقام المقتضی لجریان الإستصحاب کما تقدّم، فهل من مانع؟

إنّ المانع عن هذا الإستصحاب هو العلم الإجمالی بوقوع النسخ فی قسمٍ من الشرائع، فإجراؤه فی جمیع الأحکام مخالف للعلم، وفی البعض دون بعضٍ ترجیح بلا مرجّح.

والجواب: إنّ هذا العلم منحلٌّ، لکونه دائراً بین الأقل والأکثر، فمن الشرائع ما هو منسوخ قطعاً، فیکون بالنسبة إلی البقیة شبهةً بدویّةً، فالمانع عن الإستصحاب مفقود بعد تمامیّة المقتضی.

التحقیق

لکنّ التحقیق عدم وجود المقتضی لهذا الإستصحاب، لعدم وجود المثبت للأحکام فی الشریعة السّابقة، لأنّ أحکام التوراة والإنجیل منها ما هو مقطوع النسخ، وأمّا بالنسبة إلی البقیة فما هو المثبت؟

ص: 327

إن التوراة الأصلیّة غیر موجودة، وکذا الإنجیل، وما هو موجود فمحرّف، وفیهما ما هو محالٌ، وما هو باطلٌ ... .

وعلی الجملة، فإنّ هذا البحث لا أساس له وإن طرحه العلماء فی الکتب.

ص: 328

التنبیه السابع: فی حجّیة مثبتات الأُصول وعدمها؟

اشارة

إنّ المشهور حجّیة مثبتات الأمارات، کما أنّ المشهور عدم حجّیة مثبتات الأُصول.

وقبل الورود فی البحث وذکر أدلّة عدم الحجّیة، نحرّر محلّ النزاع، ثمّ نذکر الفرق بین الأمارة والأصل.

تحریر محلّ البحث

أمّا تحریر محلّ البحث فنقول:

إنّ المستصحب إمّا هو الحکم وإمّا هو الموضوع. فإن کان (الحکم). فإنّ أثره:

أوّلاً: بقاء المتیقَّن السّابق فی ظرف الشک. وهذا لا خلاف فیه، وإنّما الخلاف فی أنّ المجعول بالإستصحاب هو الحکم المماثل للواقع، کما علیه صاحب الکفایة. أو حرمة نقض الیقین بالشک من حیث العمل، کما علیه المیرزا. أو التعبّد ببقاء المتیقَّن السّابق کما علیه السیّد الخوئی؟

ص: 329

وثانیاً: یترتّب علیه حکم العقل بلزوم الإطاعة للحکم الشرعی، سواء کان واقعیّاً کما علیه المیرزا والإصفهانی، أو ظاهریّاً کما علیه صاحب الکفایة.

وثالثاً: إنّ الحکم المستصحَب إن کان له أحکام شرعیّة، فإنّها تترتّب، لأنّ أثر الأثر أثرٌ لذلک الشیء.

وإن کان المستصحب هو (الموضوع)، کما لو تیقّن بأنّ الإناء خمر ثمّ شک فی خمریّته، فإنّه یستصحب خمریّة هذا المائع بلا خلاف _ وإن وقع الخلاف فی وجه ذلک، کما تقدّم فی الحکم _ وإذا کان خمراً ترتّب علیه آثار شرب الخمر من الحرمة ولزوم الفسق.

ومورد البحث هنا هو أنّه إذا جری الإستصحاب فی الحکم أو الموضوع، وکان له لازم عقلی أو ملزوم عقلی أو عادی أو ملازم عقلی أو عادی، فهل یترتّب أو لا؟ المشهور: لا. وقیل یترتّب مطلقاً. ولکلٍّ من الشیخ وصاحب الکفایة تفصیل.

الفرق بین مثبتات الأُصول والأمارات
اشارة

وأمّا الفرق بین مثبتات الأمارات ومثبتات الأُصول، بالحجّیة فی الأُولی دون الثانیة، فقد اختلفت بیاناتهم لذلک، ونحن نذکرها وما وقع بینهم من الکلام حولها:

البیان الأوّل
اشارة

ذکر المیرزا:(1) إنّه قد أُخذ الشک فی الواقع فی موضوع الأُصول کما فی دلیل

ص: 330


1- 1. أجود التقریرات 4 / 129.

الإستصحاب، إذ قال علیه السّلام «لا تنقض الیقین بالشک» ولم یؤخذ ذلک فی موضوع الأمارات کخبر الواحد، کما فی الخبر: «أفیونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه معالم دینی؟»(1) وإن کان الجهل والشک موجوداً فی مورد الأمارة، وإلاّ لما سأل.

هذا هو الفرق الأوّل.

والفرق الثانی: إنّ الأمارة کاشفة عن الواقع وحاکٍ عنه وطریق إلیه، ولیس الأصل کذلک، نعم، هذه الکاشفیّة ناقصة.

والفرق الثالث: إنّ أدلّة إعتبار الأمارات تفید إلغاء إحتمال الخلاف وتتمیم الکشف عن الواقع.

هذا کلّه فی طرف الموضوع.

وأمّا فی طرف الحکم، فقد قال المیرزا: إنّ الجهات الموجودة فی العلم هی: إنّه صفةٌ نفسانیّة، وإنّه کاشف عن الواقع، وإنّه محرّک نحو العمل، وإنّه موجبٌ للتنجیز والتعذیر. أمّا فی الأمارات، فالمجعول جهة الکاشفیّة کما فی: «لا عذر لأحدٍ فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا»، وأمثال ذلک. وأمّا فی الأُصول، فالمجعول جهة المحرّکیّة وترتیب الأثر عملاً.

وخلاصة کلام المیرزا:

إن الموضوع فی (الأصل) مقیَّد بالشک فی الواقع. وأمّا (الأمارة) فالموضوع فیها نفس الواقع، والشک فی المورد.

ص: 331


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 149، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم 40.

وإنّ المحمول فی (الأصل) هو الجری العمل علی طبقه. وأمّا (الأمارة) فالمحمول المجعول فیها هو الکاشفیّة عن الواقع.

فأشکل السیّد الخوئی(1) علی أُستاذه من جهة (مقام الإثبات) بأنّ ما ذکره من عدم أخذ الجهل والشک فی موضوع الأمارة ینافی الدلیل القائم علی حجّیة الأمارة وهو قوله تعالی: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ».(2) فهذه الآیة المستدلّ بها فی مباحث (حجّیة الخبر) و(حجّیة الفتوی) قد أخذ فی موضوعها (عدم العلم)، فلا فرق بین الأمارة والأصل، فکما قال فی الأصل «رفع ما لا یعلمون» قال فی الأمارة: «إن کنتم لا تعلمون».

لکن یردّه: إضطراب کلماته رحمه اللّه فی هذه الآیة، سواء فی الفقه والأُصول. فقد صرّح فی مبحث خبر الواحد بعدم دلالة الآیة علی حجّیته، وکذا فی التنقیح فی مباحث الإجتهاد والتقلید.

والتحقیق: إنّ الآیة غیر دالّةٍ علی حجّیة الفتوی ولا علی حجّیة خبر الواحد، لکونها فی أُصول الدین، إذ هی إرشاد إلی الفحص والتحقیق فی النبوّة. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ الغایة فیها من (السؤال) هو (العلم)، والمراد هو العلم الوجدانی لا العلم التعبّدی _ لأن إطلاق العلم علی العلم التعبّدی مجازٌ _ فمعنی الآیة: إسئلوا عن نبوّة النبی حتّی یحصل لکم العلم الوجدانی بنبوّته.

ص: 332


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 182.
2- 2. سورة النحل، الآیة 43، سورة الأنبیاء، الآیة 7.
الجواب الصّحیح عن البیان

بل الحق فی الجواب عمّا ذکر المیرزا هو (الإشکال الثبوتی) وهنا مقدّمتان:

1 _ إنّ المقیِّد للإطلاق الشرعی یمکن أن یکون هو الحکم العقلی، کما فی (أکرم العالم) فإنّه مقیَّد عقلاً بالقدرة.

2 _ إنّ نسبة الموضوع إلی المجعول نسبة العلّة إلی المعلول، ولا یمکن أن تکون دائرة المحمول أوسع من دائرة الموضوع ولا أضیق.

وبعد المقدّمتین:

لا ریب فی أنّ جعل الحجّیة للأمارة إنّما هو للجاهل، فلا یعقل أن تُجعل للعالم، فکان المحمول مضیَّقاً، فلو کان الموضوع أعم من الجاهل والعالم، لزم أن یکون دائرته أوسع من دائرة المحمول، فالموضوع فی الأمارة مقیَّد بالجهل کذلک فیکون مثل الأصل، ولا فرق.

هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ الإهمال من الحاکم الملتفت محال، فالغرض إمّا مقیَّد وإمّا مطلق. وعلیه، فلمّا کان المحمول فی الأمارة هو (الحجّیة) وهی للجاهل فقط، هل الموضوع مطلق؟ إنّه مقیَّد بالجهل.

فما ذکره فی الفرق بین (الأمارة) و(الأصل) غیر تام.

وأمّا ما ذکره المیرزا فی الفرق بین مثبتات الأمارة والأُصول، فقد أُشکل علیه بثلاثة وجوه:

ص: 333

(الأوّل) إنّ ما ذکره من أنّ المجعول فی الأمارة هو الکاشفیّة عن الواقع، وأنّ الشارع قد رتّب علیها أثر العلم الوجدانی التکوینی فیه:

إنّ هذا العلم الذی تفیده الأمارة وکاشفیّتها علی الواقع بالتعبّد الشرعی هو العلم الإدّعائی یقیناً، لأن العلم الحقیقی التکوینی لا یتحقّق بالجعل التشریعی. وإذا کان علماً ادّعائیّاً _ کما فی «زید أسد» علی مذهب السکّاکی _ فإنّه یرجع إلی التنزیل، أی تنزیل ما أفادته الأمارة بمنزلة العلم، وهذا فی الشرع موجود، کما فی «الطواف بالبیت صلاة»، وفی «لا شک لکثیر الشک»، ونحو ذلک. ومن المعلوم أنّ التنزیل دائماً یکون بلحاظ الأثر. وعلی هذا، فإنّ الشارع إذا نزّل الخبر بمنزلة العلم، فلابدّ وأن یکون بمقدار الأثر الذی تحقّق التنزیل بلحاظه، فلو أخبر الثقة زیداً بعدم وجود الحاجب علی یده، کان مقتضی دلیل إعتبار الخبر بعد تنزیله بمنزلة العلم هو ترتیب أثر المخبر به وهو عدم وجود الحاجب. وأمّا وصول الماء إلی البشرة إذا توضّأ، فإنّه لم یکن المخبر به، بل من لوازمه، فلا یکون حجّةً فیه.

(الثانی) إنّ المنزَّل دائماً فرع للمنزَّل علیه، هذا أوّلاً. وثانیاً: إنّ العلم بلوازم المنزَّل علیه وترتیب الأثر علیها یتوقّف علی الإلتفات إلی الملازمة. لکنّ العلم الوجدانی _ وهو الملزوم _ قد ینفکُّ عن لوازمه علی أثر عدم الإلتفات بالملازمة. فالقول بعدم الإنفکاک بین العلم التعبّدی ولوازمه، وأنّ التعبّد له یشمل آثاره یستلزم زیادة الفرع علی الأصل، وهو محال.

(الثالث) إنّه إذا کان المستند فی حجّیة مثبتات الأمارة هو تنزیل الأمارة بمنزلة العلم الوجدانی إدّعاءً، فیترتّب علیه الآثار العقلیّة والعادّیة کما تترتّب علی

ص: 334

العلم الوجدانی. ففیه:

إنّ مقتضی دلیل الإستصحاب جعل العلم التعبّدی کذلک، لأنّه یفید التعبّد بالیقین فی ظرف الشک، فلتکن لوازمه حجّةً کالأمارة، فلماذا الفرق؟

ولکنّ هذا الوجه الثالث _ وهو الإشکال النقضی _ مخدوش بوجوه:

1 _ إنّه إنّما یتوجّه علی المیرزا لو کان یقول بإفادة أدلّة الإستصحاب للیقین التعبّدی فی ظرف الشک. ولکنّ المیرزا یقول بإفادتها للجری العملی علی طبق الیقین لا إحراز الواقع. بخلاف الأمارة، فقد إختار أنّ أدلّتها تفید إحراز الواقع والکاشفیّة عنه.

2 _ علی أنّه لیس فی شیء من أدلّة الإستصحاب ما یدلّ علی ما ذکر، بل إنّ الشکّ مأخوذ فی أدلّته کما هو معلوم، بخلاف أدلّة إعتبار الأمارة حیث لم یؤخذ فیها الشک أصلاً کما عرفت. فالفرق بینهما واضح.

3 _ إنّ الحکم الوارد فی أدلّة الإستصحاب هو النهی عن النقض، والنقض _ کما لا یخفی _ من المفاهیم الإضافیّة، أمّا الناقض فهو الشک، وأمّا المنقوض فهو الیقین، ولولا وجود الشک کان النّهی لغواً، فکانت نسبة الشک إلی النهی نسبة الموضوع إلی الحکم. وأمّا فی الأمارة، فلم یُحتمل الخلاف بل کون ملغیّاً، وهذا هو مراد المیرزا.

البیان الثانی
اشارة

وقال صاحب الکفایة:(1) إنّه لا شبهة فی أنّ مقتضی أخبار الإستصحاب هو

ص: 335


1- 1. کفایة الأُصول: 414.

إنشاء حکم مماثل للمستصحب فی إستصحاب الأحکام، ولأحکامه فی إستصحاب الموضوعات. ولا شبهة فی ترتیب ما للحکم المنشأ بالإستصحاب من الآثار الشرعیّة والعقلیّة. وإنّما الإشکال فی ترتیب الآثار الشرعیّة المترتّبة علی المستصحب بواسطةٍ غیر شرعیّة، عادیّة کانت أو عقلیّة. ومنشؤه أنّ مفاد الأخبار هل هو تنزیل المستصحب والتعبّد به وحده بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة، أو تنزیله بلوازمه العقلیّة أو العادیّة، کما هو الحال فی تنزیل مؤدّیات الطرق والأمارات، أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بواسطة، بناءً علی صحّة التنزیل بلحاظ أثر الواسطة أیضاً لأجل أنّ أثر الأثر أثر؟

وملخّص ما أفاده _ وتبعه المحقّق العراقی _ :(1) إنّ التعبّد والتنزیل فی الإستصحاب یختصّ بنفس ما تعلّق به الیقین والشک، فلو شک فی وجود الحاجب علی أعضاء الوضوء، یستصحب المتیقّن سابقاً وهو العدم ویتعبّد ببقائه فی الزّمان اللاّحق، ویتنزّل هذا المشکوک فیه بمنزلة المتیقّن، وأمّا تحقّق الغسل _ وهو اللاّزم العقلی لعدم الحاجب _ فلیس بالمتیقّن حتّی یتعبّد ببقائه. وعلی الجملة، فإنّ مرکز التعبّد هو المتیقّن السّابق والمشکوک فیه لاحقاً، فلا تترتّب إلاّ آثاره.

وأمّا فی الأمارات، فإنّها حاکیة عن الواقع، فلها حکایات عن اللاّزم والملزوم، وتکون کلّها معتبرةً بإطلاق أدلّة حجّیّة الأمارات، وبذلک تترتّب الأحکام الشرعیّة للملزوم وللاّزم العقلی أو العادی.

ص: 336


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 178.
الإشکال علیه

وقد أُورد علیه المحقّق الإصفهانی(1) بما حاصله: أنّ الحکایة دلالةٌ، وهی إمّا تصوّریّة أو تصدیقیّة، والدلالة التصدیقیّة لا تتحقّق إلاّ مع الإلتفات والقصد، وإذا قامت الأمارة علی شیء کانت حاکیةً عمّا یتعلّق القصد بها وهو المخبر به، وأمّا لوازمه فلا تحکی عنها لعدم الإلتفات إلیها وتعلّق القصد بها، فلو قامت البیّنة علی کفر زیدٍ، لم تکن ملتفتةً إلی نجاسته حتّی یکون إخبارها عن کفره إخباراً وحکایةً عنها، فما ذکر من الفرق بین الأصل والأمارة والمثبتات لهما غیر تام.

والإنصاف ورود هذا الإشکال وإن حاول المحقّق العراقی دفعه، فراجع.(2)

البیان الثالث
اشارة

ما أفاده المحقّق الإصفهانی، فإنّه ذکر ثلاثة وجوه للفرق، وجعل ما تقدّم عن الکفایة أوسطها، وإختاره بعد أن أورد علیه بما عرفت، ودفع عنه الإشکال ببیانٍ آخر له فقال:

والتحقیق: إنّ أوسط الوجوه أوسطها. ویندفع الإشکال عنه بتقریب: إنّ الأمارة تارةً: تقوم علی الموضوعات کالبیّنة علی شیء، فاللاّزم حینئذٍ کون ما یخبر به الشاهدان من عمدٍ وقصد ملتفتاً إلیه نوعاً. وأُخری: کالخبر عن الإمام علیه السّلام، فإن شأن المخبر بما هو مخبر حکایة الکلام الصّادر عن الإمام علیه السّلام

ص: 337


1- 1. نهایة الدرایة 5 / 193.
2- 2. نهایة الأفکار 4 / 184 _ 185.

بما له من المعنی الملتفت إلیه بجمیع خصوصیّاته للإمام علیه السّلام لا للمخبر، إذ ربّ حامل فقهٍ ولیس بفقیه، وربّ حامل فقه إلی من هو أفقه منه، فمجرّد عدم إلتفات المخبر بلوازم الکلام المخبر عنه لا یوجب عدم حجّیّة المدالیل الإلتزامیّة للکلام الصّادر عن الإمام علیه السّلام، فإنّ کلّها ملتفت إلیها للمتکلّم بها.(1)

الإشکال علیه

وأورد علیه شیخنا: بأن المجعول بدلیل حجّیّة الخبر عند المحقّق المذکور هو الحکم بعنوان أنّه الواقع، وعلیه، فإن ما قاله الإمام علیه السّلام هو الواقع الواقعی، وأمّا ما رواه عنه الرّاوی فهو الواقع العنوانی، أمّا الإمام علیه السّلام فلیس کلامه بعنوان أنّه الواقع حتّی یترتّب علیه اللّوازم والملزومات، وأمّا الراوی المخبر عن قوله بعنوان أنّه الواقع، فهو غیر ملتفت إلی اللّوازم والملزومات وغیر قاصد لها. فما ذکره هذا المحقّق لا یحلّ المشکلة.

البیان الرابع
اشارة

ما ذکره السیّد الخوئی من أنّ مثبتات الأمارة حجّة فی باب الأخبار فقط، لقیام السّیرة القطعیّة من العقلاء علی ترتیب اللّوازم علی الإخبار بالملزوم ولو مع الوسائط الکثیرة، ففی مثل الإقرار والبیّنة وخبر العادل یترتّب جمیع الآثار، ولو کانت بواسطة اللّوازم العقلیّة أو العادیة. وهذا مختص بباب الأخبار وما یصدق

ص: 338


1- 1. نهایة الدرایة 5 / 193 _ 194.

علیه عنوان الحکایة دون غیره من الأمارات.(1)

المختار عند الأُستاذ

وظاهر شیخنا الأُستاذ هو البیان المذکور، فإنّه أفاد ما محصّله:

إنّ من الأمارات ما هو حجّةٌ فی السّیرة العقلائیّة والشارع قد أمضاها. ففی هذا القسم تکون اللّوازم حجّةً، لقیام السّیرة علی ذلک. کما فی خبر الثقة، فإنّهم یرتّبون اللّوازم العادّیة والعقلیّة، کما فی مسألة الحاجب علی الید، فإنّهم یرتّبون أثر وصول الماء إلی البشرة.

ومن الأمارات ما هو حجّةٌ عند الشارع دون العقلاء، فله هناک تأسیس، مثل الظنّ بالقبلة. فلو لزم منه الظن بالوقت، لم یرتّب علیه الأثر لعدم السّیرة العقلائیّة.

ومن الظنون ما فیه بحث من حیث أنّه أمارة أو لا. کالإقرار. فالفقهاء علی أنّه أمارة، لکن المختار أنّ الأمارة ما تفید الظنّ النوعی والکاشفیّة النوعیّة عن الواقع، والإقرار إنّما یترتّب علیه الأثر لکونه بضرر المقرّ، ولذا یُقبل من الثقة وغیر الثقة، فلیس بأمارة وإن کان حجّةً عند العقلاء وعند الشارع، ولکن هل العقلاء یحتجّون به بالنسبة إلی اللّوازم غیر الملتفت إلیها المقرّ عند إقراره؟ هذا فیه بحثٌ.

نقد القول بأنّ الإستصحاب من الأمارات

وذهب السیّد الخوئی إلی أنّ الإستصحاب من الأمارات، لکن مثبتاته لیست بحجّةٍ.

ص: 339


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 186.

وخلاصة الوجه فی ذلک هو: إنّ «مفاد لا تنقض»: أنّ الیقین بالحدوث کاشف عن البقاء، وهذه هی الأماریّة. ولکن لا سیرة عقلائیّة علی ترتیب آثار الیقین العقلیّة والعادّیة، قال: إنّ المستفاد من أدلّة حجّیة الإستصحاب هو جعل الطریقیّة، فإنّ الظاهر من قوله: «لا تنقض ...» هو إلغاء إحتمال الخلاف وفرض المؤدّی ثابتاً واقعاً، بل التحقیق أنّ الإستصحاب من جملة الأمارات، ولا ینافی هذا تقدّم الأمارات علیه، فإنّ الأمارات یتقدّم بعضها علی بعض، ضرورة أنّ البیّنة تتقدّم علی الید، وحکم الحاکم مقدّم علی البیّنة، والإقرار مقدّم علی حکم الحاکم.(1)

وفیه:

إنّه قد تقدّم أنّ الأمارة هی الکاشف عند نوع العقلاء. لکنّ الأمارة عند العقلاء علی قسمین، منها: ما لا یحتمل العقلاء فیها الخلاف، کخبر الثقة. ومنها: ما یحتمل الخلاف عندهم مثل الظنّ بالقبلة.

وفی الإستصحاب: المفروض هو الیقین بالحدوث فقط، وهو غیر کاشف عن البقاء دائماً، فلذا لا یکون أمارةً، وهذا هو المستفاد من کلامه فی أوّل الإستصحاب، حیث جعل الدلیل هو الأخبار لا السّیرة العقلائیّة وإفادة الظن. وأنّه إذا کان دلیل الإستصحاب هو الأخبار فهو أصل من الأُصول.

الحاصل

حجّیة مثبتات الأمارة لما ذکرنا.

ص: 340


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 185.

وأمّا الإستصحاب، فمثبتاته لیست بحجّة، لعدم کونه من الأمارات عند العقلاء. وأمّا الشارع، فقد تعبّد بعدم نقض الیقین بالشکّ، ولا وجه للتعدّی إلی لوازم المتیقَّن.

الکلام فی مرحلة المانع

والحاصل: إنّه لا مقتضیَ لحجّیة مثبتات الإستصحاب.

وعلی فرض القول بذلک _ کما علیه جماعة من القدماء، لإطلاق «لا تنقض ...» الدالّ علی ترتیب جمیع الآثار علیه _ فهل من مانع؟

قال صاحب الفصول تبعاً لکاشف الغطاء بوجود المانع وهو المعارضة.(1)

أجاب الشیخ بما حاصله: وجود الحکومة، ومعها لا معارضة.(2)

وقد أورد السیّد الخوئی(3) المطلب وناقش الشیخ وأثبت المعارضة علی بعض المبانی فی دلیل الإستصحاب.

أقول:

قد سبقه المحقّق الآشتیانی(4) إلی ذلک. وقد أورد الأُستاذ کلامه. ثمّ أکّد المعارضة وأثبتها بما یشابه کلام السیّد الخوئی.

ص: 341


1- 1. أُنظر: فرائد الأُصول 3 / 236.
2- 2. المصدر 3 / 237.
3- 3. مصباح الأُصول 3 / 187.
4- 4. بحر الفوائد 7 / 140.
تفصیل الشیخ فی مثبتات الإستصحاب

قد عرفت أنّ الصحیح ما علیه المشهور من عدم حجّیّة مثبتات الإستصحاب مطلقاً، خلافاً لمن قال بذلک من القدماء کذلک.

وذهب الشیخ إلی التفصیل بین الواسطة الخفیّة فالحجّیّة، والواسطة الجلیّة فلا، فقال ما نصّه:

إنّ بعض الموضوعات الخارجیّة المتوسّطة بین المستصحب وبین الحکم الشرعیّ، من الوسائط الخفیّة، بحیث یُعدّ فی العرف الأحکام الشرعیّة المترتّبة علیها أحکاماً لنفس المستصحب، وهذا المعنی یختلف وضوحاً وخفاءً، باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف.

منها: ما إذا إستصحب رطوبة النجس من المتلاقیین مع جَفاف الآخر، فإنّه لا یبعد الحکم بنجاسته، مع أنّ تنجّسه لیس من أحکام ملاقاته للنجس رطباً، بل من أحکام سرایة رطوبة النجاسة إلیه وتأثّره بها، بحیث یوجد فی الثوب رطوبة متنجّسة، ومن المعلوم أنّ إستصحاب طوبة النجس الراجع إلی بقاء جزءٍ مأتیٍّ قابلٍ للتأثیر لا یُثبِت تأثّر الثوب وتنجّسه بها، فهو أشبه مثالٍ بمسألة بقاء الماء فی الحوض، المثبِت لانغسال الثوب به.

وحکی فی الذکری عن المحقّق تعلیلَ الحکم بطهارة الثوب الذی طارت الذبابة عن النجاسة إلیه، بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة، وارتضاه. فیحتمل أن یکون لعدم إثبات الإستصحاب لوصول الرطوبة إلی الثوب کما ذکرنا. ویحتمل أن یکون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب إغماضاً عن قاعدة حکومة بعض

ص: 342

الإستصحاب علی بعض کما یظهر من المحقّق؛ حیث عارض إستصحاب طهارة الشاکّ فی الحدث باستصحاب إشتغال ذمّته.

ومنها: أصالة عدم دخول هلال شوّال فی یوم الشکّ، المثبِت لکون غده یوم العید، فیترتّب علیه أحکام العید، من الصّلاة والغسل وغیرهما. فإنّ مجرّد عدم الهلال فی یومٍ لا یُثبت آخریّته، ولا أوّلیّة غده للشهر اللاّحق، لکنّ العرف لا یفهمون من وجوب ترتیب آثار عدم إنقضاء رمضان وعدم دخول شوّال، إلاّ ترتیب أحکام آخریّة ذلک الیوم لشهرٍ وأوّلیّة غده لشهرٍ آخر، فالأوّل عندهم ما لم یُسبق بمثله، والآخر ما اتّصل بزمانٍ حُکم بکونه أوّل الشهر الآخر.

وکیف کان، فالمعیار خفاء توسّط الأمر العادّی والعقلیّ بحیث یعدّ آثاره آثاراً لنفس المستصحب.(1)

هذا نصّ کلامه، وقد أوردناه بطوله لأهمیّة المطلب کما لا یخفی.

الإشکال علیه

فأشکل المیرزا:(2) إن هذا الذی نسبتموه إلی العرف هل هو نظر العرف الحقیقی أو المسامحی؟

إن کان العرف یری ثبوت الأثر للملزوم حقیقةً، بمناسبة الحکم والموضوع، فلا وجه للإستثناء.

ص: 343


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 344 _ 345.
2- 2. أجود التقریرات 4 / 135 _ 136.

وإن کان العرف یری ذلک بالنظر المسامحی، فإنّ مرجعیّة العرف فی موردین فقط، أحدهما: فی تشخیص مفاهیم الألفاظ، والآخر: فی بیان حدّ المفهوم. وأمّا فی غیر الموردین، فلا مرجعیّة للعرف حتّی یؤخذه بنظره.

ثمّ إنّ العرف یتسامح فی کثیر من الموارد، کما فی الموازین والمسافات والمکاییل، والحال أنّه یعتبر فیها الدقّة العقلیّة، وما نحن فیه کذلک.

دفاع المحقّق العراقی

ودافع المحقّق العراقی(1) عن نظر الشیخ: بأنّ المقصود هو إن خفاء الواسطة یکون سبباً لأن یری العرف أعمیّة (النقض) الذی هو موضوع الأدلّة فی الإستصحاب، فالمورد من موارد الرجوع إلی العرف فی تعیین المفهوم، کما نرجع إلی العرف لتعیین (التغیّر) الذی هو الموضوع فی «الماء إذا تغیّر ینجس».

إنّه لمّا تکون الواسطة خفیّةً، فإنّ مفهوم النقض یصدق حقیقةً، ولمّا کان النقض منهیّاً عنه فالإستصحاب جارٍ.

نقد الدفاع

إنّه لا کلام فی الکبری التی ذکرها. إنّما الکلام فی تطبیقها، وذلک، لأنّ العرف الدقیق یسند الحکم فیما نحن فیه إلی الواسطة، لا إلی ذی الواسطة، أی الملزوم المستصحَب. وإسناده إلی الملزوم مسامحة، فرجع الأمر إلی المسامحة فی صدق عنوان النقض، وقد إتّفق الطرفان علی سقوط النظر المسامحی.

ص: 344


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 188 _ 189.
الکلام فی مثالی الشیخ

وقد طبّق الشیخ الکبری فی موردین:

أحدهما: فی المتلاقیین.

فوقع الإشکال: بأنّ موضوع (الإنفعال) إن کان (مرکّباً) من (الملاقاة والرطوبة فی الملاقی)، فالمورد خارج عن الأصل المثبت، فلا معنی للإستثناء. لأنّ أحد الجزئین وهو الملاقاة حاصل بالوجدان، والآخر حاصل بالتعبّد وهو الإستصحاب. فالموضوع محقّق والحکم وهو النجاسة مترتّب.

وإن کان الموضوع (بسیطاً) وهو (السّرایة) أی: إنتقال النجاسة من الملاقی إلی الملاقی، فالمفروض أنّ الإنتقال من لوازم بقاء الرطوبة فی الملاقی. وجعله من آثار المستصحَب _ أی الرطوبة _ مسامحةٌ، ولا عبرة بالمسامحة.

والحقُّ هو الثانی. فإنّ الموضوع بحسب الإرتکاز العقلائی بسیط غیر مرکّب.

فما ذکره الشیخ مردود.

وقد دافع المحقّق العراقی:(1) بأنّ «الرطوبة المسریة» و«السّرایة» واحد عرفاً، فالإشکال مندفع.

وفیه:

لقد اعترفتم بأنّ الأثر والحکم مترتّب علی «السّرایة»، أی إنتقال النجاسة من الملاقی إلی الملاقی، لکنّ الإستصحاب أفاد (وجود الرطوبة). فکان وجود

ص: 345


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 190.

الرطوبة هو «المؤثّر» و«السّرایة» هو «الأثر»، وکیف یکون المؤثر والأثر واحداً؟

والثانی: فی قضیّة یوم الشک.

ووقع الإشکال فیه بأنّ: الموضوع للأحکام المذکورة إن کان مرکّباً من جزئین، تحقّق أحدهما بالوجدان، وهو کون الیوم من شهر شوال، والآخر بالتعبّد، وهو عدم شهر شوال قبل الیوم، تمّ ما ذکره الشیخ.

وأمّا إن کان بسیطاً _ کما هو الصّحیح، لأن عنوان «الأوّل من شهر شوال» لیس مرکّباً _ فإنّ ترتّبه علی إستصحاب عدم شوال قبل الیوم، من الأصل المثبت قطعاً.

وأجاب المحقّقان العراقی والنائینی:(1)

لیس المقصود من إستصحاب عدم شهر شوال حتّی الیوم إثبات «أولیّة» الیوم حتّی یلزم الإشکال، بل نستند إلی الأخبار فی أنّ شهر رمضان إنّما یثبت برؤیة الهلال أو مضیّ ثلاثین یوماً، فإن مفادها أنّ الیوم التالی للثلاثین من رمضان هو الأوّل من شوال. وهذا لیس من باب الإستصحاب.

وأشکل السیّد الخوئی:(2) بأنّ النصوص المشار إلیها واردة فی خصوص آخر شهر رمضان ویوم عید الفطر، ولا شاهد فیها للتعدّی إلی غیر ذلک من الشهور.

(قال) بل الطریق الصّحیح لإجراء الإستصحاب لجمیع الشهور هو: أنّه إذا شک _ مثلاً _ فی یومٍ أنّه هو التاسع من شهر ذی الحجّة أو العاشر منه، نحکم بکونه

ص: 346


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 192، أجود التقریرات 4 / 139.
2- 2. مبانی الإستنباط: 170.

الیوم التاسع، لأنّه بمجرّد مضیّ دقیقةٍ منه نقطع بدخوله ونشکّ فی مضیّه وبقائه، فیستصحب بقاؤه، وتترتّب علیه آثاره من أحکام یوم عرفة.

وفی یوم الشک کذلک، فإنّه بعد مضیّ دقیقةٍ من الیوم المشکوک فی کونه أوّل الشهر نقطع بدخول أوّله، لکن لا ندری هل الیوم الأوّل من الشهر هو هذا الیوم لیکون باقیاً أو الیوم السّابق لیکون ماضیاً؟ فیجری إستصحاب بقائه ویترتّب علیه جمیع آثاره، ولیس من الأصل المثبت فی شیء أصلاً.

النظر فیه:

قال الأُستاذ:

أوّلاً: عندنا نصوص فی غیر شهر رمضان وعید الفطر. وهی فی الباب (3) و(5) من أبواب أحکام شهر رمضان.(1) فروایة أبیخالد الواسطی موردها شهر شعبان، وصحیحة محمّد بن مسلم _ مثلاً _ تدلّ علی الحکم فی بقیّة الشهور.

وکذا ما ورد بتفسیر قوله تعالی: «وَلِتُکْمِلُوا الْعِدَّةَ »،(2) ممّا یدلّ علی عدم الإختصاص بشهر رمضان.

وثانیاً: إنّ ما ذکره من الوجه لجریان الإستصحاب لا یخلو من النظر، وذلک: لأنّ التردّد تارةً: یکون فی بقاء وارتفاع الشیء الخاصّ، من جهة الشک فی المقتضی أو حدوث المانع، کما فی الزوجیّة إذا شک فی أنّها منقطعة أو دائمة. أو شک فی الدائمة

ص: 347


1- 1. وسائل الشیعة 10 / 252 و 261.
2- 2. سورة البقرة، الآیة 185.

فی وقوع الطلاق وعدم وقوعه. ففی هذه الصّورة یتمسّک بالإستصحاب بلا کلام.

وأُخری: یکون التردّد فی أصل ذات الشیء. وفی هذه الصّورة لا یجری الإستصحاب إلاّ فی الکلّی الذی یکون الفرد الواقع فیه التردّد فرداً له، بشرط أن یکون الکلّی ذا أثرٍ شرعی. فإنّه إذا کان الکلّی ذا أثر، فإن التردّد فی الفرد یکون منشأً للشک فی بقاء الکلّی، وتکون أرکان الإستصحاب تامّةً، أمّا إذا لم یکن الکلّی ذا أثر بطل الإستصحاب.

وعلیه، فإن عنون (أوّل الشهر) لیس موضوعاً لحکمٍ شرعی وإن کانت الأرکان تامّة فیه، بل المعنون لهذا العنوان هو الموضوع، وحینئذٍ، یکون الفرد المردّد الموضوع للحکم غیر واجدٍ لأرکان الإستصحاب، لأن الیوم الماضی قطعی الزوال، والیوم «أوّل الشهر» مشکوک الحدوث، وأمّا الکلّی الجامع بین الفردین _ الیوم والأمس _ فلا أثر له وإن اجتمعت فیه الأرکان. بخلاف (الحدث) الجامع بین (الصغیر والکبیر)، فإنّ أثره حرمة مسّ الکتاب، فلذا یجری الإستصحاب هناک ولا یجری هنا.

أقول: هنا فروع أخری لا نتعرّض لها.

تفصیل صاحب الکفایة

وذهب صاحب الکفایة _ بعد أن لم یستبعد تفصیل الشیخ _ إلی القول بحجّیّة الأُصول المثبتة فی موارد الواسطة الجلیّة أیضاً فقال فی الکفایة ما نصّه:

کما لا یبعد ترتیب ما کان بوساطة ما لا یمکن التفکیک عرفاً بینه وبین

ص: 348

المستصحب تنزیلاً، کما لا تفکیک بینهما واقعاً، أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له أو ملازمته معه بمثابة عدّ أثره أثراً لهما. فإن عدم ترتیب مثل هذا الأثر علیه یکون نقضاً لیقینه بالشک أیضاً بحسب ما یفهم من النهی عن نقضه عرفاً. فافهم.(1)

وقال فی الحاشیة بعد توجیه رأی الشیخ:

قلت: ویلحق بذلک _ أی خفاء الواسطة _ جلائها ووضوحها فیما کان وضوحه بمثابة یورث الملازمة فی مقام التنزیل عرفاً، بحیث کان دلیل تنزیل أحدهما دلیلاً علی تنزیل الآخر، کما هو کذلک فی المتضایفین، لأن الظاهر أن تنزیل أُبوّة زید لعمرو _ مثلاً _ یلازم تنزیل بنوّة عمرو له، فیدلّ تنزیل أحدهما علی تنزیل الآخر ولزوم ترتیب ما له من الأثر ... .(2)

الإشکال علیه

وقد أجابوا عن هذا التفصیل بما حاصله:

أمّا بین المتلازمین کما فی موارد العلل والمعالیل کالنار والحرارة مثلاً، فإن العلّة إن کانت علّةً تامّةً، فإنّ المعلول یکون مورداً لأدلّة الإستصحاب، لتعلّق الیقین والشک به، فیجری فیه ولا یکون من الأصل المثبت. وإن کانت علّةً ناقصة، فالتفکیک بین التعبّد بالعلّة الناقصة والتعبّد بالمعلول ممکن عرفاً، فلیس صغریً لما ذکره.

وأمّا بین المتضایفین کالأُبوّة والبنوّة، فإنّ التعبّد بأبوّة زیدٍ المتیقّنة مستلزمٌ

ص: 349


1- 1. کفایة الأُصول: 415 _ 416.
2- 2. درر الفوائد: 355 _ 356.

للتعبّد ببنوّة عمر لکونها متیقّنةً کذلک، وإذا کان کلّ منهما متعلَّقاً للیقین، فلو شک فی بقائه لاحقاً توفّرت فیه أرکان الإستصحاب، وکان جاریاً فی کلٍّ منهما کما یجری فی الآخر، ولا یکون من الأصل المثبت.

وهذا تمام الکلام فی هذا التنبیه.

ص: 350

التنبیه الثامن: فی بحوثٍ متعلّقة بمسألة الأصل المثبت

اشارة

وبقیت بحوثٌ متعلّقة بمسألة الأصل المثبت، قد عقد لها فی الکفایة التنبیهین الثامن والتاسع، ونحن نتعرّض لها ضمن هذا التنبیه.

الإشکال فی جریان الإستصحاب فی الموضوعات
اشارة

إنّه إذا کان الأصل المثبت غیر حجّة، لزم الإشکال فی جریان الإستصحاب فی الموضوعات. ووجه الإشکال هو: ترتّب الأثر علی الکلّی مع کون المستصحب فرداً. مثلاً: لو وقع الشکّ فی أنّ هذا الإناء باق علی خمریّته أو انقلب خلاًّ، فإنّه تستصحب الخمریّة، لکنّ الأثر _ وهو حرمة الشرب مثلاً _ مترتّب علی «الخمر» لا علی خصوص ما فی «الإناء». فالخمر بما هو خمر حرام، سواء ما کان فی هذا الإناء وغیره.

فوقع التغایر بین المستصحب وهو الفرد، وما ترتّب علیه الأثر وهو الکلّی الذی هو من لوازم الفرد عقلاً.

ص: 351

جواب الکفایة

فذهب صاحب الکفایة(1) إلی أنّه إن کانت النسبة بین المستصحب وذی الأثر نسبة الفرد والکلّی کما ذکر فی المثال، فلا إشکال فی الإستصحاب وترتّب الأثر، لأنّه وإن کان الکلّی مغایراً للفرد مفهوماً إلاّ أنّه عین الفرد وجوداً، وکلّما کان المستصحَب وذو الأثر واحداً وجوداً فلا إشکال، لأنّ الأثر یترتّب علی الوجود، والمفروض هو الإتّحاد بینهما فی الوجود.

الإشکال علیه

وأشکل علیه السیّد الخوئی:(2) بأنّ ترتّب الأثر لیس من جهة إتّحاد الواسطة مع المستصحب، بل هو جهة أنّ الآثار آثار لنفس المستصحب. وذلک، لأن أخذ الطبیعی موضوعاً فی القضیّة الحقیقیّة إنّما هو باعتبار وجوده لا باعتبار نفس الطبیعی من حیث هو، لأن الطبیعی من حیث هو لیس إلاّ هو، ولا یکون محکوماً بشیء من الأحکام الشرعیّة، فموضوع الأحکام إنّما هو الأفراد الملغی عنها الخصوصیّات الفردیّة، فإنّ وجود الفرد عین وجود الطبیعی إذا أُلغیت عنه الخصوصیّات الفردیّة. فالحرمة والنجاسة فی مفروض المثال من آثار نفس الخمر المستصحب، غایة الأمر أنّ الخصوصیّات الفردیّة من القلّة والکثرة والبیاض

ص: 352


1- 1. کفایة الأُصول: 416 _ 417.
2- 2. مصباح الأُصول 3 / 204.

والحمرة غیر دخیلة فی الموضوع.

وفیه:

إنّ هذا الإشکال مرکّب من قسمین، أحدهما: فیما ذکره صاحب الکفایة من أنّ الموضوع هو الکلّی. وهذا غیر تام، لأنّ الموضوع فی القضایا الشرعیّة هو الموجود خارجاً، فلا یعقل أن یکون الکلّی هو الموضوع المترتّب علیه الأثر. والثانی: فیما ذکره من أنّ الکلّی کالمرآة للفرد، وأنّه یترتّب الأثر علی الفرد بواسطة الکلّی. فنقول:

أمّا أنّ الکلّی من حیث أنّه کلّی لا یکون موضوعاً للآثار الشرعیّة. ففیه:

إنّه غفلةٌ عن مبنی صاحب الکفایة، فقد صرّح فی مقصد الأوامر فی مبحث تعلّق الأمر بالفرد أو الطبیعة: بأنّ الکلّی من حیث أنّه کلّی لا یقع متعلَّقاً الطلب، بل إنّ طلب المولی یتعلَّق دائماً بالوجود، لأن حقیقة الأمر طلب الإیجاد، غایة الأمر إنّه إیجاد للطبیعة. فالحاصل أنّ الغرض لیس قائماً بالکلّی من حیث أنّه کلّی.

وما ذهب إلیه هو الصّحیح، وتوضیحه: إن للوجود إضافتین، إضافة إلی الفرد وإضافة إلی الکلّی، فإن أُضیف إلی الفرد کان (زید) وإن أُضیف إلی الکلّی کان (الإنسان)، والکلّی موجود خارجاً بوجود الفرد. والمطلوب من الشارع فی باب الأوامر هو الوجود المضاف إلی الکلّی لا المضاف إلی الفرد. مثلاً: الموضوع للأثر هو شهادة العادل، وهی قائمة بوجود الفرد، لکنّ الأثر غیر مترتّب علی عدالة

ص: 353

زید بما هو زید بل بما هو عادلٌ. وکذا تقلید المجتهد، فإنّه الموضوع للأثر لا تقلید زید أو عمر أو بکر، وإن کان تقلید المجتهد قائماً بزید مثلاً.

فالحاصل: إنّ الأثر مترتّب علی الوجود المضاف إلی الکلّی لا الفرد، وإن کان وجود الکلّی بوجود الفرد، ولیس وجود أحدهما فی الخارج منحازاً عن الآخر. نعم، لکلّ فردٍ عوارض مشخّصة تمیّزه عن الأفراد الأُخری، لأنّ مع کلّ فردٍ توجد مقولة الأین والکیف وغیر ذلک. هذا أوّلاً.

وثانیاً: فإنّ السیّد الخوئی نفسه فی مبحث تعلّق الأمر بالفرد أو الطبیعة قائل بتعلّقه بالطبیعة لا الفرد، ویستدلُّ هناک بالوجدان، وأنّه _ مثلاً _ إذا عطش الإنسان، فإنّ الرافع لعطشه هو طبیعی الماء لا الفرد الخاصّ من الماء.

فبین ما ذکره هنا وهناک تهافت.

والحاصل: إنّ متعلَّق الغرض والأمر فی العبادات _ عدا الصّوم _ هو الطبیعی، والفرد لیس هو المتعلَّق بل هو المسقط للأمر والمحقِّق للطلب. وکذا الحال فی النواهی، فإنّ الحامل للمفسدة وجود الخمر لا هذا الخمر الخاص أو ذاک.

وبما ذکرنا یظهر النظر فی القسم الثانی من کلامه، فإنّ الکلّی لا یکون مرآة للفرد، بل هو بنفسه متعلَّق الأمر والطلب. والقول بأنّ المتعلّق هو الفرد الملغی عنه الخصوصیّات الفردیّة جمعٌ بین المتضادّین.

ویرد علیه ثالثاً: ما ذکره فی إستصحاب الکلّی القسم الثانی، من أنّ الأثر یترتّب

ص: 354

تارةً علی الکلّی وأُخری علی الحصّة، فلابدّ فی الإستصحاب من إستصحاب موضوع الأثر، فقد یکون طبیعیّ الحدث کما فی مسّ الکتاب، حیث لا یجوز لغیر المتطهّر، وقد یکون الحصّة، کما فی دخول المسجد حیث لا یجوز للجنب.

فالقول بأنّ متعلّق التکلیف هو الفرد یناقض ما ذکره فی إستصحاب الکلّی.

وعلی الجملة، فالإشکال المذکور مردود.

الإشکال الصّحیح

بل الإشکال الوارد علی الکفایة: هو إنّه وإن کان بین الکلّی والفرد إتّحاد فی الوجود، لکنّ الإتّحاد فی الوجود لا یلازم الإتّحاد فی التعبّد الشرعی، لعدم الدلیل علی الملازمة بینهما، لا شرعاً ولا عقلاً ولا عرفاً، إذ یمکن التعبّد بوجود الکلّی وعدم التعبّد بوجود الفرد وبالعکس.

حلّ الإشکال

وبعد أن ظهر عدم تمامیّة جواب الکفایة عن الإشکال، وعدم تمامیّة جواب مصباح الأُصول من أنّ الکلّی مرآة للفرد. فالصّحیح فی حلّ الإشکال أن یقال:

إنّه کما لا إنفکاک بین الکلّی والفرد فی الوجود خارجاً، کذلک لا إنفکاک بینهما فی التصوّر. وحینئذٍ، فإنّ الیقین بالفرد لا ینفک عن الیقین بالکلّی، وکذلک الشک. وعلی هذا، فإذا تحقّق الیقین بالفرد تحقّق الیقین بالکلّی، ومع الشک فی

ص: 355

بقاء الفرد یُشک فی بقاء الکلّی، فأرکان الإستصحاب فی الکلّی تامّةٌ، ولا حاجة إلی إجراء الإستصحاب فی الفرد لیلزم الأصل المثبت.

هذا کلّه فی صورة کون النسبة نسبة الفرد والکلّی.

الإشکال فی جریان الإستصحاب فی منشأ الإنتزاع
اشارة

وکیف یجری الإستصحاب فی منشأ الإنتزاع لتترتّب علیه الأحکام المترتّبة علی الأُمور الإنتزاعیّة، أی الأُمور الّتی لیس بحذائها شیء فی الخارج کالملکیّة والزوجیّة، فإنّ الأثر الشرعی وإن کان أثراً للأمر الإنتزاعی، لکنّه لیس بحذائه شیء خارجاً، فیکون الأثر فی الحقیقة لمنشأ الإنتزاع، وهذا من الأصل المثبت؟

أجاب فی الکفایة بما حاصله: إنّه لمّا کان الأمر الإنتزاعی موجوداً بعین وجود منشأ الإنتزاع، فإنّه یصحُّ ترتیب أثر المستصحب _ منشأ الإنتزاع _ علی الأمر الإنتزاعی، کما لو کان للفوق أثر، فإنّه یستصحب بقاء السّقف ویرتّب أثره علی الفوقیّة. وکما فی الملکیّة، فإنّها قائمةٌ بعین وجود الملک، ولیس لها وجود منحاز عنه، فلو إستصحب بقاء الدار جاز ترتیب الأثر علی الملکیّة، لأنّ الأثر للملک لا لخصوص دار زید.

والحاصل: إنّ الإتّحاد الوجودی بین الأمر الإنتزاعی ومنشأ إنتزاعه یصحّح ترتیب أثر المستصحب _ وهو المنشأ _ علی الأمر الإنتزاعی، ولا یرد إشکال الإثبات.

ص: 356

الإشکال علیه

ویرد علیه ما تقدّم فی الکلّی والفرد، لأنّ الأثر الشرعی قد یکون مرتّباً علی نفس الأمر الانتزاعی، وحینئذٍ، یکون إستصحاب المنشأ لترتیب الأثر علی الأمر الإنتزاعی من الأصل المثبت، کأن یکون الأثر لخصوص الزوجیّة بین هند وزیدٍ، فإنّ الزوجیّة وإن کانت غیر منحازة فی الوجود عن زوجیّة هند لزیدٍ، لکنّ إستصحاب تلک الزوجیّة لترتیب الأثر علی الزوجیّة أصل مثبت.

الإشکال فی إستصحاب الشروط والموانع

ووقع الإشکال فی إستصحاب الشروط والموانع. وتوضیحه:

إنّ الشرط علی قسمین: شرط التکلیف، ویعبّر عنه بقید الهیئة، کالبلوغ. وشرط المکلَّف به، ویعبّر عنه بقید المادّة، مثل إستقبال القبلة بالنسبة إلی الصّلاة.

والمانع علی قسمین: المانع عن التکلیف، کالنسیان. والمانع عن المکلّف به، مثل وجود ما لا یؤکل لحمه فی لباس المصلّی.

والفرق بین الشرط والمانع، هو فی کیفیّة الإعتبار، إذ أنّ الأوّل یؤخذ وجوده. والثانی یؤخذ عدمه.

فلو وقع الشک _ مثلاً _ علی أثر إنحرافٍ مّا عن القبلة: هل ما زال المصلّی مستقبلاً القبلة أو لا؟ فهل یجری الإستصحاب؟

ص: 357

ومنشأ الإشکال هو: إنْ إستصحاب بقاء الإستقبال لیس له أثر شرعی، وإنّما له الأثر العقلی، وهو جواز الدخول فی الصّلاة، فهو أصل مثبت.

وذلک، لأنّه یعتبر فی المستصحَب أن یکون حکماً شرعیّاً أو موضوعاً لحکم شرعی، والإستقبال لیس من أحدهما، وإنّما هو شرط للصّلاة، وأثر إستصحابه هو جواز الدخول فیها، وهذا أثر عقلی، لأنّ المفروض إشتراط الصّلاة بالإستقبال، فإذا تحقّق الشرط بالإستصحاب حکم العقل بجواز الدخول فیها، لتحقّق الشرط الدخیل فی غرض المولی من الصّلاة.

هذا هو الإشکال.

الجواب:

وقد أُجیب عن ذلک بوجهین:

(الأوّل) وهو للسیّد الخوئی،(1) وحاصله إنکار المبنی. أی: لا یلزم أن یکون المستصحب حکماً شرعیّاً أو موضوعاً لحکمٍ شرعی، بل اللاّزم فی المستصحَب أن یکون ممّا یصلح لأن یتعبّد به الشارع، ولا یکون تعبّده لغواً.

(الثانی) للکفایة(2) فذکر ما توضیحه: إنّ المجعولات الشرعیّة علی قسمین،

ص: 358


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 208.
2- 2. کفایة الأُصول: 417.

فقسم منها مجعولٌ بالجعل الإبتدائی، کوجوب الصّلاة والصّیام ... وغیرهما من التکلیفیّات، وحلیّة البیع والصّلح ... وغیرها من الوضعیّات. وقسم منها مجعولٌ بالواسطة، کالجزئیّة والمانعیّة والشرطیّة. فالمانعیّة _ مثلاً _ غیر مجعولة إبتداءً بل هی مستفادة من النهی عن الصّلاة فیما لا یؤکل لحمه مثلاً، والجزئیّة مستفادة من تقیّد الصّلاة بالرکوع مثلاً ... وهکذا. فهی عناوین منتزعة من الخطابات الشرعیّة.

وعلی هذا یندفع الإشکال القائل بأنّ الشرطیّة والجزئیّة والمانعیّة لا یجری فیها الإستصحاب، لعدم کونها أحکاماً شرعیّة أو موضوعات لأحکام شرعیّة. ووجه الإندفاع: إنّها مجعولات لکن مع الواسطة، والإستصحاب جارٍ فیالمجعولات الشرعیّة مطلقاً، سواء المجعول إبتداءً أو مع الواسطة.

وأشکل السیّد الخوئی علی جواب الکفایة: بأنّ ما ذکره إنّما یتمُّ لو کان الشرط وجود الإستقبال مثلاً. لکنّ شرط الصّلاة هو ذات الإستقبال، سواء کان موجوداً أو لا. فالکبری تامّة لکنّها غیر منطبقة.

ویرد علیه ثلاثة إشکالات:

(الأوّل) فی قوله: «فکما أنّ وجوب نفس الصّلاة غیر مرهون بوجود الصّلاة فی الخارج، بل هو مرهون بتعلّق أمر الشارع بها، سواء أتی بها المکلّف أم لا، کذلک جزئیّة السّورة ...».

ص: 359

فإنّه قیاس مع الفارق، لأنّ تعلّق الوجوب _ سواء کان حقیقته هو البعث، أو الطلب مع المنع من الترک، أو إعتبار الفعل علی ذمّة المکلّف _ بالوجود محال، لأنّه تحصیلٌ للحاصل، بل الوجوب محصِّل للوجود ومحقّق للمتعلَّق. أمّا فی الشرط، فإنّ المحقّق لغرض المولی تحقّقه، فلیس المتعلَّق ذات الإستقبال بل وجوده. قال تعالی «فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ».(1)

(الثانی) بالنظر إلی مسلکه _ وهو الحق _ من أنّ الأوامر والنواهی المتعلّقة بالشروط إرشادیّة لا مولویّة، وکذا فی الموانع والأجزاء ... وعلی هذا، فالمرشد إلیه هو ما یکون دخیلاً فی تحقّق الغرض، وهو وجود الإستقبال، لا ذات الإستقبال.

(الثالث) بالنظر إلی البرهان، لأن الإهمال فی متعلَّق الأوامر والنواهی محال، سواء المولویّة أو الإرشادیّة، لأنّها تابعة للملاکات والأغراض، وهی أُمور واقعیّة، فلا تقبل الإهمال. وعلی هذا، فإنّ الإستقبال إمّا مطلق وإمّا مقیّد بالوجود، والإطلاق محال، لأن لازمه أن یکون عدم الإستقبال شرطاً للصّلاة، فتعیّن کون وجود الإستقبال هو الشرط للصّلاة.

الإشکال فی إستصحاب عدم التکلیف
اشارة

ووقع الکلام بین الشیخ وصاحب الکفایة فی إستصحاب عدم التکلیف،

ص: 360


1- 1. سورة البقرة، الآیة 144.

لعدم کونه من المجعولات الشرعیّة، ولأنّ الأثر المترتّب علیه _ وهو إستحقاق العقاب أو عدم إستحقاقه _ عقلیٌّ لا شرعی.

أمّا الشّیخ، فکلماته مختلفة، ففی مبحث حجّیة الظنّ، لم یمنع من التمسّک بأصالة عدم الحجّیة، وإنّما قال بعدم الحاجة إلی ذلک، لکون الشک فی الحجّیة مساوقاً لعدمها. وإذا کان الأصل یجری فی عدم الحجّیة _ وهو حکم وضعی _ فهو جارٍ فی عدم الحکم التکلیفی.

وفی مسألة أصالة عدم التذکیّة، لم یمنع من جریان أصالة عدم کون الشیء من الطیّبات، وإنّما جعله معارضاً بعدم جعله من الخبائث، وحکم بعد تساقط الأصلین بالرجوع إلی أصالة الإباحة.

أمّا فی قاعدة لا ضرر، فذهب إلی عدم جریان أصالة العدم.

لکنّ صاحب الکفایة إختار جریان أصالة عدم الجعل والتکلیف.

والمحقّق الإصفهانی ذهب فی مبحث البراءة فی معنی حدیث الرفع إلی أنّ المجعول هو عدم التکلیف. أمّا فیما نحن فیه فقال بأنّ العدم غیر مجعولٍ، لأنّ القدرة لا تتعلّق به.

التحقیق فی المقام

والمهم هو التحقیق فی المسألة.

ص: 361

أمّا فی عالم التکوین، فإنّ الإرادة لا تتعلّق بالعدم بل «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئًا أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ ».(1)

وأمّا فی عالم الإعتبار، فإنّ العدم یقبل الإعتبار، فیعتبر عدم الوجوب أو عدم الحرمة. أمّا ثبوتاً، فهو أمر معقول. وأمّا فی عالم الإثبات، فما فی کلام المحقّق الإصفهانی مخدوشٌ، لأنّ مدلول حدیث الرفع هو أن ما لا یعلمون مرفوعٌ لا أن عدمه مجعولٌ. إذن، فالإشکال یعود إلی مقام الإثبات.

ولو تنزّلنا عمّا ذکرناه بالنسبة إلی مقام الثبوت، فلا ریب فی تعقّل تعلّق عدم الجعل بتبع إمکان الجعل، فإنّ الشارع إذا أمکنه جعل التکلیف فی موردٍ، فإن بإمکانه جعل عدم التکلیف فیه، لأنّه إذا کان قادراً علی جعل التکلیف جاز نسبة عدم جعله إلیه، ولذا تنسب إلیه الأعدام الأزلیّة، فیقال: بأنّ الأصل عدم نجاسة کذا، وعدم وجوب کذا عند الشارع، لأنّه کان بإمکانه تبدیل العدم إلی الوجود، فالحکم العدمی غیر منتسب إلی الشارع حدوثاً، لکنّه منتسبٌ إلیه بقاءً، ومجرّد إمکان نسبة الحکم إلیه یکفی لأن یتعبّد به.

وتلخّص إندفاع الإشکال من ناحیة عدم إمکان جعل العدم.

وأمّا الإشکال(2) من ناحیة کون الأثر عقلیّاً لا شرعیّاً، فتوضیح إندفاعه هو:

ص: 362


1- 1. سورة یس، الآیة 82.
2- 2. وهذا موضوع التنبیه التاسع فی الکفایة: 517.

إنّ الذی ثبت عدم ترتّب اللّوازم العقلیّة والعادّیة للواقع بواسطة الإستصحاب، وأنّ الأحکام الشرعیّة لتلک اللّوازم تترتّب بالإستصحاب علی موضوعاتها _ بل إنّ الإستصحاب یفید فقط التعبّد بالآثار الشرعیّة أو بموضوعات الآثار الشرعیّة _ وذلک، لأنّ الإستصحاب من الأُصول لا من الأمارات، علی ما تقدّم، فلا یکون لوازمه العقلیّة والعادّیة حجّةً.

لکنّ ذلک یختصُّ باللّوازم العقلیّة للواقع، أمّا لو کان اللاّزم من لوازم الأعم من الواقع والظاهر، فإنّ الإستصحاب یفید حجّیته. وبیان ذلک هو:

إنّ وجوب الإطاعة وحرمة المعصیة حکمان عقلیّان، والعقل یحکم باستحقاق العقاب علی المخالفة، وکلّ ما ورد عن الشارع من الأمر بالطاعة والنهی عن المعصیة، فإرشاد إلی حکم العقل، کما تقرّر فی محلّه. لکنّ الموضوع للحکمین المذکورین هو حکم الشارع، وهو الحکم الأعم من الواقعی والظاهری، فکلّ ما کان حکماً من الشارع _ واقعیّاً کان أو ظاهریّاً _ تجب إطاعته وتحرم معصیته بحکم العقل، ویُستحق العقاب علی مخالفته، وهذان الحکمان العقلیّان یترتّبان بالإستصحاب.

أمّا أنّ الحکمین موجودان بالنسبة إلی الحکم الشرعی الأعم من الواقعی والظاهری، فلما ذکرنا مراراً من أنّ العقل وظیفته حفظ المکلَّف عن الوقوع فی ورطة مخالفة المولی وإستحقاق العقاب، لأنّ العقل یری أنّ وظیفة العبودیّة

ص: 363

للمولی تقتضی الطاعة وعدم المعصیة، وأنّ المعصیة تقتضی إستحقاق العقاب، فهو دائماً یذکّر المکلّف بأوامر المولی ونواهیه، سواء کانت واقعیّةً أو ظاهریّةً. وبعبارة أُخری: یذکّره بالنسبة إلی کلّ ما یستتبع إستحقاق العقاب علی مخالفته، وهو أعمّ من الواقعی والظاهری، فکلّ حکم ثبت من ناحیة الشارع فهذا أثره، سواء کان ثبوته بأمارةٍ أو أصلٍ محرز أو غیر محرز، ومن ذلک الإستصحاب، لأن الشارع قال «لا تنقض الیقین بالشک» وهو حکم ظاهری قد یتخلّف عن الواقع، لکنّه حکم من الشارع تجب طاعته.

وعلی هذا، فإنّ إستصحاب عدم التکلیف _ وإن لم یکن عدم التکلیف من الأحکام الشرعیّة _ موضوع للحکم العقلی، لکون الحکم الشرعی الذی هو الموضوع للحکم العقلی أعم من الواقعی والظاهری.

وهذا ممّا إستفدته من شیخنا دام بقاه.

ص: 364

التنبیه التاسع: فی أنّ التعبّد الإستصحابی ناظر إلی مرحلة البقاء لا مرحلة الحدوث

وتوضیح ذلک:

إنّ موضوعات الأحکام الشرعیّة: منها: ما یکون موضوعاً للأثر حدوثاً وبقاءً.

ومنها: ما یکون موضوعاً حدوثاً فقط.

ومنها: ما یکون موضوعاً بقاءً فقط.

أمّا القسم الأوّل، فلا شبهة فی جریان الإستصحاب فیه.

وأمّا القسم الثانی، فلا شبهة فی عدم جریانه فیه، لأنّ التعبّد الشرعی هو بلحاظ الأثر، فلو لم یکن له أثر بقاءً یکون التعبّد بالبقاء لغواً.

وأمّا القسم الثالث، فمورده فی المجعولات الشرعیّة هو: عدم التکلیف فی الأزل. وإذا کان المتیقّن هو عدم التکلیف فی الأزل، فهو لیس بحکمٍ شرعی

ص: 365

ولا یقبل الإستناد إلی الشارع. لکنّه من حیث البقاء قابل لذلک، لأن بإمکان الشارع أن یبدّل عدم الوجوب إلی الوجوب، وإذا کان بإمکانه ذلک، کان عدم الحکم بقاءً حکماً شرعیّاً، ویترتّب علیه الأثر العقلی، وهو الترخیص.

وعلی هذا، فإنّ الصّحیح تمامیّة أرکان الإستصحاب، فی إستصحاب البراءة، بأن نقول: لم یکن فی الأزل حکم مجعولٌ، فیستصحب عدم المجعول، وینسب ذلک إلی الشارع.

هذا بالنسبة إلی عدم الحکم.

وأمّا بالنسبة إلی موضوعات الأحکام، فکذلک. فإن الإستصحاب جارٍ فی الموضوع ذی الأثر حدوثاً وبقاءً. وأمّا ما کان له الأثر بقاءً فقط کحیاة الولد، فإنّه لا أثر له بالنسبة إلی الإرث مع وجود الأب، أمّا من حیث البقاء، فإنّ حیاة الولد عند وفاة أبیه ذو أثر من حیث الإرث.

فالحاصل: إن ما لا أثر له حدوثاً وبقاءً خارج عن بحث الإستصحاب. وما هو داخل فی البحث هو ما یمکن إسناده إلی الشارع بقاءً مثل عدم التکلیف، وما له أثر حدوثاً وبقاءً، وما له أثر بقاءً.

ص: 366

التنبیه العاشر: فی أصالة تأخّر الحادث

اشارة

إنّ المستصحب تارةً: حکم شرعی. وأُخری: موضوع لحکم شرعی.

والموضوع قد یکون هو الزمان الخاص وجوداً أو عدماً، وقد یکون الزمانیّ الخاصّ وجوداً أو عدماً.

تحریر محلّ البحث

إن کان الأثر لوجود الشیء الخاصّ فی الزمن الخاصّ کیوم الجمعة، فإنّه مع الشک فی ذلک لا یجری الإستصحاب، لعدم الیقین السّابق بالوجود، لکنّ إستصحاب عدم الشیء الخاصّ فی ذلک الزمان الخاصّ جارٍ، لتمامیّة أرکانه، فیکون عدم الخاصّ رافعاً للوجود الخاصّ. نعم، لو وقع التخصّص فی نفس العدم، بأن کان العدم مقیّداً وحصّةً من العدم، لم یجر الإستصحاب، لعدم الحالة السّابقة.

فالحاصل: إذا کان الأثر للوجود الخاصّ لم یجر الإستصحاب، لکنّه جارٍ فی عدمه، کما لو شکّ فی إسلام زید فی یوم الجمعة، فإنّه لمّا کان من الحوادث

ص: 367

ومسبوق بالعدم أزلاً، جری الإستصحاب وأفاد نفی الإسلام فیه.

وأمّا لو کان الأثر للعدم بنحو الترکیب والمقارنة بین الأمر الخاصّ والزمان الخاصّ لا التقیید، کالصّوم ویوم الجمعة، کان الإستصحاب جاریاً، لأن الصّوم مسبوق بالعدم فیحرز بالتعبّد، ویوم الجمعة محرز بالوجدان.

هذا حکم المستصحب بأقسامه.

وأمّا لو کان الأثر مترتّباً علی لازم المستصحب، کما لو تیقّن بوجود زیدٍ فی یوم الجمعة وشک فی وجوده یوم الخمیس، فتمسّک بإستصحاب عدم زیدٍ إلی یوم الجمعة، لتمامیّة أرکانه، فإن کان الأثر لعدم زید فی یوم الخمیس، ترتّب بلا کلام. وإن کان لتأخّر وجوده عن یوم الخمیس أو لحدوث وجوده فی یوم الجمعة، فهل یجری الإستصحاب؟

لقد کان المتیقَّن وجود زید فی یوم الجمعة، وعدم وجوده فی یوم الخمیس بالإستصحاب، ولکن إذا کان الأثر لوجوده فی یوم الجمعة، فهل یترتّب بالإستصحاب؟

هذا أصلٌ مثبتٌ، لأن المفروض عدم وجوده قبل یوم الجمعة بحکم الإستصحاب، ووجوده فی یوم الجمعة بالوجدان، فإنّ اللاّزم العقلی للأمرین حدوثه فی یوم الجمعة. لکنّ هذا مبنیٌ علی أن یکون «الحدوث» بسیطاً، أی أنّه الوجود المسبوق بالعدم. وأمّا بناءً علی کونه مرکّباً من الوجود والعدم السّابق، فالأثر مترتّب، لکون الوجود فی یوم الجمعة محرزاً بالوجدان وعدمه إلی یوم الجمعة محرزاً بالإستصحاب.

ص: 368

ومن هنا قال فی الکفایة(1) بجریان إستصحاب عدم الوجود إلی یوم الجمعة لترتیب أثر العدم، وأمّا إجراؤه لترتیب أثر تأخّر وجود زید عن یوم الخمیس وترتیب أثر حدوثه فی یوم الجمعة، فیتوقّف علی القول بحجّیة الأصل المثبت، أو علی حجّیته مع خفاء الواسطة أو التلازم فی التعبّد بین الملزوم واللاّزم.

فأشکل علیه المحقّق الإصفهانی:(2) بأنّه ما وجه ترتیب أثر وجود زیدٍ فی یوم الجمعة باستصحاب عدمه إلی هذا الیوم؟ مع أنّه لیست النسبة بین العدم إلی یوم الجمعة والتأخّر عنه نسبة العلیّة ولا نسبة التضایف، وأنتم لا تقولون بحجّیة الأصل المثبت وبترتیب أثر اللاّزم العقلی إلاّ مع وجود إحدی النسبتین؟ وإذا کنتم تقولون بترتیب الأثر هنا لوجود التلازم العقلی بین العدم إلی یوم الجمعة وتأخّر الوجود عن یوم الخمیس، فلابدّ من الإلتزام بحجّیة الأصل المثبت فی کلّ موردٍ من هذا القبیل.

وفیه: إنّه قد خفی علی هذا المحقّق ما ورد فی کلام صاحب الکفایة، فإنّه لم یحصر حجّیة الأصل المثبت بالموردین، وإنّما ذکرهما مصداقاً لکبری الملازمة. ویشهد بذلک تصریحه فی حاشیة الرسائل بأنّ ملاک حجّیة الأصل المثبت أن یکون بین الطرفین ملازمة عرفیّة، فلو تعبّد الشارع بطرفٍ ورأی العرف بینه وبین الطرف الآخر ملازمةً، جری التعبّد فیه کذلک.

فظهر أنّه لا یری ذلک فی مطلق المتلازمین، ولا یری إختصاص ذلک بالموردین، بل هو فی کلّ أمرین متلازمین عرفاً وقع التعبّد بأحدهما، فإنّه یتعبّد بالآخر.

ص: 369


1- 1. کفایة الأُصول: 419.
2- 2. نهایة الدرایة 5 / 202.

وما نحن فیه من هذا القبیل إن ادّعی التلازم المذکور، ولذا قال: «إلاّ علی دعوی».

ولهذه المسألة نظائر کثیرة فی أبواب الفقه ولا یختصّ بموت الوالد وإسلام الولد عند موته. فمثلاً: فی غسل مسّ المیّت، یعتبر فی وجوبه أن یکون المسّ فی حال برد جسد المیّت، فلو تیقّن بالمسّ والموت، وشکّ فی وقوع المسّ قبل برد الجسد أو بعده.

فظهر أنّ للبحث فروعاً من کتاب الطهارة إلی کتاب الإرث، حیث یشک فی تقدّم موت الأب علی إسلام الولد أو بالعکس، فما هو أثر الإستصحاب؟

هذا فی الموضوعات.

وکذلک فی الأحکام، فلو کان عندنا حکمان، أحدهما ناسخ والآخر منسوخ، ووقع الشکّ فیهما، لأن الناسخ متأخّر دائماً عن المنسوخ وهو متقدّم.

لکنّ المطروح فی الکتب الأُصولیّة هو الموضوع، والمثال المعروف هو موت الأب المورّث وإسلام الولد الوارث. ولا یخفی أنّ الموضوع فیه مرکّب من أمرین، لأن المیراث یترتّب علی کلیهما. فلو لم یکن الموت أو لم یکن إسلام الولد فلا إرث، فلابدّ من إحراز الموضوع المرکّب بجزئیه. وإحرازه تارةً یکون بإحرازهما بالوجدان. وأُخری بالتعبّد. وثالثةً بالوجدان فی أحد الجزئین والتعبّد فی الآخر.

فإن قیل: لو کان إحراز الجزئین بالإستصحاب، وکان المرکّب من الجزئین مشکوکاً فیه، جری إستصحاب عدم المرکّب، وحینئذٍ، تقع المعارضة بین الإستصحابین.

قلنا: إنّه لمّا کان الموضوع مرکّباً من الجزئین، وقد أُحرزا بالإستصحاب، فلا یقع الشک فی الموضوع، لیجری فیه الأصل ویقع التعارض.

ص: 370

فنحن نستصحب عدم موت الأب، ثمّ نستصحب عدم إسلام الولد، ومعهما لا معنی لأن یشکّ فی الموضوع المرکّب منهما، لأنّه قد ثبت بالإستصحاب حیاة الأب، وثبت به عدم إسلام الولد.

وقال المیرزا:(1) إنّ الشک فی وجود المرکّب وعدمه مسبّب عن الشکّ فی وجود الجزء، فیجری الأصل فی طرف الجزء ویکون حاکماً علی الأصل فی طرف المرکّب، کما هو الحال فی المثال المشهور من غسل الثوب المتنجّس بالماء المشکوک الطهارة.

وفیه: إنّ حکومة الأصل السّببی علی الأصل المسبّبی مشروطة بأن تکون السّببیّة شرعیّة کما فی المثال، وإلاّ فلا حکومة. وفیما نحن فیه _ حیث یکون تحقّق الجزء سبباً لتحقّق الکلّ المرکّب _ لیست السّببیّة شرعیّة بل عقلیّة.

فما ذکرناه فی جواب الإشکال هو الصّحیح.

إذا علم بتحقّق أحد الجزئین وجهل المتقدّم والمتأخّر

لقد ظهر إلی الآن أنّ الموضوع للأثر _ وهو الإرث _ مرکّب من جزئین، هما موت الأب وإسلام الولد عند موته، وکذلک الحال فی الأمثلة الأُخری فی أبواب الفقه، کمثال غسل مسّ المیّت. فیقع البحث فی المسألة وعنوانها هو ما إذا علم بتحقّق الجزئین وجهل بالمتقدّم والمتأخّر منهما، لأنّه إن کان الموت متقدّماً فالإرث لا یترتّب، وإن کان الإسلام متقدّماً فالإرث یترتّب.

ص: 371


1- 1. أجود التقریرات 4 / 147.

فتارةً: یکون أحد الجزئین معلوم التاریخ، وأُخری یکون کلاهما مجهول التاریخ.

إذا کانا مجهولی التاریخ

فإن جهل بتاریخهما معاً، کما لو علم فی یوم الأربعاء بحیاة الأب وکفر الولد، فمات الأب وکان الولد مسلماً بعد یوم الأربعاء، أمّا أیّهما المتقدّم والمتأخّر؟

کلام الشیخ

فذکر الشیخ:(1) أنّ الأثر الشرعی یکون تارةً: مترتّباً علی تأخّر حدوث أحد الأمرین. وأُخری: یکون مترتّباً علی عدم أحدهما إلی زمان عدم الآخر. وفی الصّورة الثانیة: تارة: یکون لعدم کلٍّ منهما أثر، وأُخری: یکون عدم أحدهما موضوعاً لأثر شرعی ولا یکون للعدم الآخر أثر.

ثمّ فی حال الجهل بتاریخهما، قد یحتمل وقوعهما فی وقتٍ واحدٍ، وقد لا یحتمل.

هذه هی الشقوق التی ذکرها الشیخ فی ما إذا کانا مجهولی التاریخ. ثمّ أفاد:

إن کان الأثر الشرعی لتأخّر أحدهما عن الآخر، بأن یکون موضوع الأثر الشرعی هو «التأخّر» فلا أصل. _ وهذا ما یعبَّر عنه بأصالة تأخّر الحادث _ وذلک: لعدم الحالة السّابقة ل_«التأخّر»، وحینئذٍ، لا محرز له تعبّداً کما لا محرز له وجداناً.

وإن کان الأثر ل_«العدم» فتارة: یکون لعدم أحدهما. مثلاً: إن کان موضوع الأثر هو عدم إسلام الولد حتّی زمن موت الأب، فهنا یجری الإستصحاب لتمامیّة

ص: 372


1- 1. فرائد الأُصول 3 / 248.

أرکانه، ویترتّب علیه الأثر وهو عدم الإرث. لکنّ إستصحاب عدم موت الأب حتّی إسلام الولد، لا یجری، لعدم الأثر الشرعی وهو الإرث، لعدم موت الأب مع إسلام الولد. وأُخری: یکون الأثر لعدم کلیهما:

فإن لم یحتمل وقوعهما فی وقتٍ واحدٍ، جری الأصل فی کلٍّ منهما، لتمامیّة أرکانه، لأنّ الموت مسبوقٌ بالعدم، والإسلام کذلک مسبوق بالعدم، وکلٌّ منهما مشکوک فیه، ولکلٍّ من الإستصحابین أثره. لکن المشکلة هی لزوم المخالفة العملیّة من جریانهما، للعلم بمخالفة أحدهما للواقع، للعلم الإجمالی بتحقّق أحدهما قبل الآخر، فلا تشملهما أدلّة الإستصحاب، وشمولها لأحدهما المعیّن دون الآخر ترجیح بلا مرجح، وغیر المعیّن لا وجود له ولا ماهیة. فیتعارض الإستصحابان ویتساقطان.

وإن احتمل وقوعهما فی وقتٍ واحدٍ، جری الإستصحاب، لتمامیّة الأرکان ویترتّب الأثر، ولا علم بمخالفة أحدهما للواقع، فیجری إستصحاب عدم ذاک إلی زمان حدوث هذا، وإستصحاب عدم هذا إلی زمان حدوث ذاک، فهما یجریان لتمامیّة المقتضی وعدم المانع. لکنّ المشکلة أنّه من الأصل المثبت، لأنّ لازم عدم تقدّم ذاک علی هذا، وعدم تقدّم هذا علی ذاک، أن یکون تحقّقهما فی وقتٍ واحدٍ، وهذا اللاّزم عقلیٌّ. فإن کانت الواسطة خفیّة _ کما هو کذلک _ فالإشکال مندفعٌ علی المبنی کما تقدّم سابقاً.

هذا بیان ما أفاده الشیخ فی مجهولی التاریخ بجمیع الصّور.

کلام صاحب الکفایة

وقبل ذکر کلامه لابدّ من مقدّمة فیها بیان أمرین:

ص: 373

أحدهما: فی معنی کان ولیس التامّتین والناقصتین. أمّا التامّة، فإنّ معنی (کان) التامّة هو «الوجود» ومعنی لیس التامّة هو «عدم الوجود». وهذا هو مقصودهم من الوجود المحمولی وعدم الوجود المحمولی. یعنی: إنّ الوجود أو العدم هو المحمول. ولذا یکون «کان» بمعنی الفعل وزید بمعنی الفاعل أی: وُجد زید، ولیس زید، بمعنی عدم وجود زید.

وأمّا الناقصة، فإن کان الناقصة لإفادة الربط بین المبتدأ والخبر فیقال: کان زید قائماً. ولیس الناقصة لسلب الربط بینهما.

وبعبارة أُخری: تکون کان الناقصة لإفادة ثبوت شیء لشیءٍ، ولیس الناقصة لإفادة عدم ثبوت شیء لشیء. فی مقابل التامّة، فإن کان تفید ثبوت الشیء ولیس تفید عدم الشیء.

والثانی: إنّ المعتبر فی الإستصحاب هو الیقین السّابق والشک اللاّحق والأثر الشرعی للمتیقّن المستصحب بقاءً. وإنّما قلنا «بقاءً» لأنّه قد لا یکون ذا أثر فی مرحلة الحدوث، ولذا، ففی إستصحاب العدم الأزلی لا أثر للعدم فی الأزل لکنّه فی مرحلة البقاء ذو أثر. وهذا واضح. ولکنّ المقصود بیانه فی هذه المقدّمة هو:

إنّ ظاهر دلیل الإستصحاب _ لوجود فاء التفریع _ هو لزوم إتّصال الشک بالیقین قال: «من کان علی یقینٍ فشکّ» هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّه یعتبر فی الإستصحاب أن یکون الموضوع محرزاً، وإلاّ یکون التمسّک بدلیل الإستصحاب من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة للدلیل، وهو غیر جائز بالإتفاق إلاّ من السیّد صاحب العروة.

هذا تمام الکلام فی المقدّمة فنقول:

ص: 374

لقد جعل صاحب الکفایة(1) مجهولی التاریخ علی أربع صور: فلو کان الأب حیّاً والولد غیر مسلمٍ، ثمّ حصل الیقین بموت الأب وإسلام الولد، لکن لا یعلم المتقدّم والمتأخّر منهما، فتارةً: تترتّب المسألة علی مفاد کان التامّة. وأُخری: علی مفاد کان الناقصة. وثالثة: علی مفاد لیس التامّة. ورابعة: علی مفاد لیس الناقصة.

فإن کان الأثر الشرعی مترتّباً علی وجود تقدّم الإسلام أو الإسلام المتقدّم _ وهو مفاد کان التامّة _ . فقد یکون الأثر لکلا الطرفین، وقد یکون للطرف الواحد. وعلی الأوّل، تارةً: یوجد العلم الإجمالی بعدم خلوّ الأمر منهما. وأُخری: لا یوجد.

وأمّا إن کان الأثر لتقدّم إسلام الولد فقط، فالإستصحاب جارٍ فی «التقدّم»، لأن التقدّم أمر حادثٌ مسبوق بالعدم، فیستصحب عدمه إلی حین موت الأب، ویترتّب علیه عدم الإرث. فالحاصل: جریان الإستصحاب فی هذه الصّورة، لتمامیّة المقتضی وعدم المانع أی المعارض.

وأمّا إن کان الأثر لتقدّم الإسلام، ولتأخّر موت الأب، والأمر دائر بینهما، فالإستصحاب جارٍ فی «التقدّم» و«التأخّر»، لکون کلیهما مسبوقین بالعدم، فالمقتضی موجودٌ، ولکلٍّ أثرٌ، لکنّ العلم الإجمالی مانعٌ من جریانهما، لاستلزامه المخالفة العملیّة القطعیّة، فیتعارضان.

وأمّا إن کان الأثر لکلیهما کذلک، ولکن احتمل تقارنهما، فالإستصحابان جاریان، لوجود المقتضی وعدم المانع.

وأمّا إن کان الأثر مترتّباً علی الوجود لکن بمفاد کان الناقصة، بأن کان الموضوع

ص: 375


1- 1. کفایة الأُصول: 419.

مثلاً هو الإسلام المقیَّد بالتقدّم علی الموت، فلا یجری الإستصحاب، لعدم الحالة السّابقة للوجود النعتی، وهو مفاد کان الناقصة، کما صرّح بذلک فی مبحث العام والخاص تحت عنوان «إیقاظ».(1) وله موارد کثیرة فی الفقه، ومن ذلک: مسألة أمد الحیض، فقیل: إلی الخمسین سنة، وقیل: إلی الستّین، وقیل: بالتفصیل بین القرشیّة وغیر القرشیّة _ علی بحث طویلٍ فی محلّه _ . ولمّا کان «القرشیّة» وصفاً وجودیّاً قائماً بالمرأة بمفاد کان الناقصة، لم یجر فیه الإستصحاب عند صاحب الکفایة، لعدم الحالة السّابقة لهذا الوصف، بخلاف عدم القرشیّة، فإن له حالةً سابقةً، ولذا قال بجریان الإستصحاب فی الأعدام الأزلیّة، وهو المختار خلافاً للمحقّق النائینی.

وأمّا إن کان موضوع الأثر هو العدم بمفاد لیس الناقصة کأن یکون: الإسلام المتّصف بعدم التقدّم علی موت الأب، فلا یجری الإستصحاب. لأنّ الإتّصاف المذکور فرع وجود الإسلام، والمفروض وجود الشک فی أصل وجود الإسلام، إذ لا ندری هل حدث هذا الحادث متّصفاً بعدم التقدّم أو غیر متّصف به؟ فلا حالة سابقة.

إلاّ أنّ الکلام فی نفس الإتّصاف بعدم التقدّم، حیث أنّ «الإتّصاف» أمر وجودی، فهو مسبوقٌ بالعدم، نظیر العمی، فإنّه یکون وصفاً ویقال: زید أعمی کما یقال زید بصیر، لکونه عدم البصر، فهل یجری فیه الإستصحاب؟ قال صاحب الکفایة: بالجریان.

ونسبة القول بالعدم إلیه کما عن السیّد الخوئی غفلة عن قول صاحب

ص: 376


1- 1. کفایة الأُصول: 223.

الکفایة: «بل بکلّ عنوانٍ لم یکن ذاک بعنوان الخاص».(1)

وأمّا إن کان موضوع الأثر هو العدم بمفاد لیس التامّة، فموضوع الأثر هو عدم الإسلام إلی زمان الموت، فلا یجری الإستصحاب بلا خلاف.

الخلاف بین الشیخ وصاحب الکفایة فی الصّورة الرابعة

غیر أنّه قال الشیخ بعدم الجریان لوجود المانع عنه مع وجود المقتضی لتمامیّة الأرکان، وهو العلم الإجمالی بمخالفة أحد الإستصحابین الجاریین فی الطّرفین فی صورة وجود الأثر لهما، فیقع التعارض. وأمّا إن کان الأثر لأحدهما المعیّن فقط، جری الإستصحاب فیه لوجود الحالة السّابقة له أزلاً.

وذهب صاحب الکفایة إلی عدم الجریان لعدم وجود المقتضی.

النظر فی أدلّة قول صاحب الکفایة

وقد ذکر لتقریب عدم المقتضی وجوه:

الوجه الأوّل ما ذکره المیرزا:(2)

إنّه لمّا نعلم یقیناً بتحقّق أحد الأمرین _ الإسلام والموت _ قبل الآخر، فهنا ثلاثة أزمنة: زمان العلم بعدم الإسلام وعدم الموت وهو یوم الخمیس. ثمّ فی یوم الجمعة نعلم بتحقّق أحدهما، فإن کان الإسلام فی یوم الجمعة فالموت یوم السّبت، وإن کان الموت فی یوم الجمعة فالإسلام فی یوم السّبت. فیوم الخمیس

ص: 377


1- 1. کفایة الأُصول: 223.
2- 2. أجود التقریرات 4 / 149.

یوم العلم بعدمهما. ویوم الجمعة یوم إحتمال وجود أحدهما، ویوم السّبت هو یوم العلم الإجمالی بوقوع أحدهما فیه ووقوع الآخر فی یوم الجمعة.

وعلی هذا، فإنّ الیوم الذی وقع الشک فیه فی تحقّق الإسلام فی زمن الموت هو یوم السّبت لا یوم الجمعة، فیکون ظرف الشک _ وهو یوم السّبت _ منفصلاً عن ظرف الیقین _ وهو یوم الخمیس _ والفاصل هو یوم الجمعة.

وإذا وقع الفصل بین زمن الیقین وزمن الشک لم تشمله أدلّة الإستصحاب.

وفیه:

وهذا الوجه لا یوافق کلام صاحب الکفایة _ لا المتن ولا الحاشیة _ . لأن المشکلة فی نظره کون المورد شبهةً موضوعیّةً لدلیل الإستصحاب، کما لو شک فی عدالة زید، حیث لا یصحّ التمسّک بعموم أکرم العالم العادل.

الوجه الثانی ما ذکره السیّد الخوئی(1) وهو:

إنّه یعتبر فی الإستصحاب بحسب أدلّته إتّصال زمان الشک بزمان الیقین، أی الیقین المتعقّب بالشک، وفی مجهولی التاریخ لا یحرز الإتصال، لأن المشکوک فیه تحقّق إسلام الولد فی زمن موت الأب، وقد تردّد الموت بین الجمعة والسّبت. فإن کان یوم الجمعة، فالإتصال متحقّق، وإن کان یوم السّبت فالإنفصال متحقّق، فیکون المورد شبهةً موضوعیّة للاتّصال.

والفرق بین هذا الوجه وسابقه هو الشکّ فی الإتّصال، وأمّا فی السّابق، فقد أُحرز عدم الإتّصال.

ص: 378


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 220 _ 221.

وهذا الوجه موافق لکلام صاحب الکفایة.

وفیه:

وأشکل السیّد الخوئی علی هذا الوجه بعدم لزوم الإتّصال فی الإستصحاب، بل المناط فیه عدم نقض الیقین بالشک، کما هو ظاهر عموم التعلیل فی الدلیل، سواء کان الزمان متّصلاً أو لا. وما فی ظاهر الصّحیحة من إعتبار الإتّصال، فهو محمول علی الغالب.

الوجه الثالث ما ذکره العراقی:(1)

وحاصله: إنّ المستفاد من أدلّة الإستصحاب هو النهی عن نقض الیقین بالشک والأمر بنقضه بیقینٍ آخر، وظاهر ذلک أن لا یفصل بین الیقین بالحدوث والشک فی البقاء یقینٌ آخر.

ومفروض المسألة هو الیقین بعدم الأمرین فی یوم الخمیس، ثمّ العلم الإجمالی فی یوم الجمعة بتحقّق أحدهما، ثمّ العلم فی یوم السّبت بتحقّق کلیهما مع الشک فی أنّه قد تحقّق الإسلام یوم الجمعة أو تحقّق الموت. فإن کان یوم الجمعة ظرف تحقّق الموت، کان عدم الإسلام مستمرّاً، ولم یفصل یقینٌ بین الیقین بعدمه فی یوم الخمیس والشک فی تحقّقه فی یوم السّبت، أمّا إن کان یوم الجمعة یوم الإسلام والموت وقع فی یوم السّبت، کان الیقین بالإسلام یوم الجمعة فاصلاً بین عدمه یوم الخمیس والشک فیه یوم السّبت، فلا یجری الإستصحاب. وحیث أنّ الأمر مردّد فهی شبهة موضوعیّة.

ص: 379


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 207.

والحاصل: إحتمال نقض الیقین بالیقین، فلا یجوز التمسّک بدلیل الإستصحاب.

وفیه:

إنّ الیقین _ وکذا الشک _ إنّما یتعلّق بالأُمور الخارجیّة، وأمّا الأُمور النفسانیّة وما یکون فی ذهن الإنسان، فلا یتعلّق به الیقین والشک. والبرهان علی ذلک هو أنّ العلم بالأُمور الخارجیّة حصولی، فقد یکون حاصلاً وقد لا، وأمّا بالأُمور النفسانیّة فحضوری، ولا یعقل الشک بالأمر الحضوری، ولذا لا یتحقّق الشکّ فی الحبّ والبغض وأمثالهما، بل یدور أمرها بین الوجود والعدم.

وعلی هذا، فإنّ الشبهة الموضوعیّة تکون دائماً فی موارد الأُمور الخارجیّة.

فالقول بأنّه إن کان الإسلام فی یوم الجمعة والموت فی یوم السّبت، کان الیقین بالإسلام یوم الجمعة فاصلاً بین الیقین بعدمه یوم الخمیس والشک فی وجوده یوم السّبت، معناه الشک فی الیقین، وهذا باطل.

الوجه الرابع ما ذکره الإصفهانی:(1)

إنّ المتعبَّد به بأدلّة الإستصحاب هو إبقاء المتیقَّن السّابق عملاً، والتعبّد بالإبقاء متقوّم باتّصال المشکوک بالمتیقَّن، فلو إنفصل عنه لم یتحقّق الإبقاء له، بل یکون وجوداً جدیداً.

وفیما نحن فیه: المتیقَّن هو عدم إسلام الولد، والمشکوک فیه بقاء هذا العدم إلی زمن موت الأب، وإذا کان المتیقَّن هو عدم الإسلام فی یوم الخمیس، فإنّه مع

ص: 380


1- 1. نهایة الدرایة 5 / 207.

تحقّقه فی یوم الجمعة یقع الإنفصال، لأنّ المتیقَّن هو عدم الإسلام فی یوم الخمیس، والمشکوک هو عدم الإسلام فی زمن موت الأب، والمفروض کون الموت مردّداً بین الجمعة والسّبت، فإن کان الموت فی یوم السّبت والإسلام فی یوم الجمعة، إنفصل الیقین بعدم الإسلام یوم الخمیس عن الشک فی بقاء هذا العدم إلی وقت الموت.

وفیه:

إنّ اللاّزم هو إتّصال المشکوک بالمتیقَّن، لکن إتّصال المشکوک بما هو مشکوک بالمتیقَّن بما هو متیقَّن، وأمّا إنفصال ذات المتیقَّن عن ذات المشکوک فلا یضرّ.

وفیما نحن فیه: إذا تیقَّن بعدم الإسلام یوم الخمیس وشک فی بقاء هذا العدم إلی زمن موت الأب، فإنّه لا إنفصال بین الیقین والشک فی أُفق النفس، وإنّما یحتمل الإنفصال بین الأمرین الخارجیین، وذلک فیما لو وقع الإسلام فی یوم الجمعة والموت یوم السّبت، وهذا لیس ملاک الإستصحاب، والبرهان علی الإتّصال هو أنّ المتیقَّن عدم الإسلام یوم الخمیس، ثمّ یقع الشک، فإمّا تحقّق الإسلام فی زمن الموت وإمّا لم یتحقّق، وإمّا یُشک فی ذلک. وإذ لا یقین بالتحقّق ولا یقین بعدمه، فهو مشکوک فیه. فلا إنفصال بین المتیقّن والمشکوک فیه.

خلاصة البحث

إنّ الحقّ مع الشیخ، أی إنّ المقتضی للجریان موجود، لتمامیّة أرکان الإستصحاب خلافاً لصاحب الکفایة. ویبقی الکلام فی وجود المانع، وهناک تظهر ثمرة الخلاف، فإنّه إذا کان للإستصحاب فی کلٍّ من الطرفین أثر وجری فیهما، فإنّهما یتعارضان ویتساقطان، وأمّا إذا لم یکن لأحد الطرفین أثر شرعی،

ص: 381

جری فی الطرف الذی له أثر ویترتّب، لتمامیّة المقتضی وعدم المانع، عند الشیخ.

وهذا تمام الکلام فی صورة مجهولی التاریخ.

لو عُلم بتاریخ أحد الأمرین

لو علم بأنّ موت الأب کان فی یوم السّبت وجهل تاریخ إسلام الابن، فقد اتّفقوا علی جریان الإستصحاب بالنسبة إلی مجهول التاریخ وهو الإسلام، وعدم جریانه بالنسبة إلی معلومه وهو الموت، واختلفت کلماتهم فی وجه عدم جریانه فی الموت.

بیان الشیخ

قال الشیخ ما محصّله فی جریان الإستصحاب فی مجهول التاریخ وهو الإسلام: بأنّ الأرکان فیه تامّة، فالمقتضی للجریان موجود، فلو جری فی معلوم التاریخ _ وهو الموت _ تحقّق المانع، لکن لا یجری، وذلک لعدم الشک فی تحقّق الموت. أمّا قبل یوم السّبت، فلا شک فی عدم تحقّقه، وأمّا فی یوم السّبت، فلا شک فی تحقّقه.

ولا یجری بالإضافة إلی خصوصیّة إسلام الولد، لأنّ الإسلام قد وقع إمّا قبل یوم السّبت وإمّا بعده، ولا حالة سابقة للإسلام قبل السّبت ولا للإسلام بعد السّبت.

وهذا تقریب صاحب الکفایة لرأی الشیخ.(1)

وقرّبه الآشتیانی:(2) بأنّ الموضوع المستصحب لیس عدم الموت، بل هو عدم الموت فی زمن الإسلام، ولیس لهذا العدم الخاصّ حالة سابقة فی الأزل، فلا یجری الإستصحاب.

ص: 382


1- 1. درر الفوائد: 361 _ 362.
2- 2. بحر الفوائد 7 / 158.
الإشکال علیه

أمّا بناءً علی التقریب الأوّل: فیرد الإشکال بأن لا مانع من إجراء الإستصحاب فی عدم الإسلام، لأنّ وجود الإسلام قبل یوم السّبت حادث مسبوقٌ بالعدم، وکذلک وجوده بعد یوم السّبت، فأرکان الإستصحاب تامّة فی «عدم الإسلام». نعم، هو لا یجری فی «وجود الإسلام» قبله أو بعده، لعدم الیقین السّابق کما ذکر.

فالحاصل: جریان الإستصحاب فی معلوم التاریخ وهو الموت بالإضافة إلی عدم الخصوصیّة، أی الموت المضاف إلی عدم الإسلام، فالمانع موجود، ویقع التعارض.

وأمّا بناءً علی التقریب الثانی: فإنّ «الوجود الخاصّ» غیر «وجود الخاص»، إذ الأوّل مفاد کان التامّة، والثانی مفاد کان الناقصة، أی الوجود المتّصف بالخصوصیّة، ویعبَّر عن الأوّل بالوجود المحمولی وعن الثانی بالوجود النعتی.

وعلیه، فإنّ «عدم الإسلام فی زمن الموت» وهو «عدم الخاصّ» أمر حادث وله حالة سابقة فی العدم، ولکنّ «عدم الإسلام المتّصف بوقوعه فی زمن الموت» وهو «العدم الخاصّ» لیس له حالة سابقة.

والمستصحب فیما نحن فیه هو الأوّل، أی عدم الإسلام فی زمن الموت، لا العدم المتّصف بوصف الوقوع فی زمن الموت.

والخلاصة: إنّ أرکان الإستصحاب تامّة _ علی کلا التقریبین _ فی مجهول التاریخ وفی معلوم التاریخ معاً. نعم، هو لا یجری فی معلوم التاریخ بالنسبة إلی الزمان، وإنّما یجری بالنسبة إلی الزمانیّ أی الحادث الآخر.

فاستصحاب عدم إسلام الولد إلی حین موت الأب، تام. وکذا إستصحاب

ص: 383

عدم موت الأب إلی زمان إسلام الولد.

وهذا تمام الکلام علی بیان الشیخ.

بیان الکفایة

وذکر صاحب الکفایة(1) فی هذا المورد عدّة صور:

(الصّورة الأُولی) أن یکون موضوع الأثر هو الوجود الخاص، أی الوجود المحمولی وهو مفاد کان التامّة، کتقدّم الإسلام علی الموت.

وأرکان الإستصحاب فی هذه الصّورة تامّة. فإن کان الوجود الخاصّ الذی فی الطرف الآخر ذا أثر کذلک وتمّت الأرکان فیه، جری الإستصحاب، ووقع التعارض، وسقط الإستصحابان، کأن یکون الأثر مترتّباً علی تقدّم الإسلام وعلی تأخّره وعلی التقارن بین الإسلام والموت، ففی هذه الحالة یقع التساقط، للعلم الإجمالی بمخالفة أحدهما للواقع.

(الصّورة الثانیة) أن یکون موضوع الأثر هو الوجود المتّصف بالخصوصیّة، أی الوجود النعتی، وهو مفاد کان الناقصة، وهو الإسلام المتّصف بالتقدّم.

وفی هذه الصّورة لا یجری الإستصحاب، لعدم تمامیّة أرکانه، أی عدم الحالة السّابقة لهذا الموضوع، فلا مقتضی للجریان.

وفیه:

إنّه إذا کان موضوع الأثر هو الإتّصاف بمفاد کان الناقصة، أی الإسلام

ص: 384


1- 1. کفایة الأُصول: 421.

المتّصف بوصف التقدّم علی الموت، فإنّ الإستصحاب جارٍ، لأن الإتّصاف من الأُمور الحادثة، مسبوق بالعدم الأزلی، فوجوده لا یستصحب، أمّا عدمه، فله حالة سابقة والأرکان تامّة.

فما ذکره هنا ینافی ما قرّره فی بحث العموم والخصوص، حیث إختار جریان إستصحاب عدم الإنتساب إلی قریش فی: المرأة تحیض إلی خمسین إلاّ القرشیّة، لأن إتّصافها بالقرشیّة هو بمفاد کان الناقصة. فکما یجری الإستصحاب فی عدم الإتّصاف بالقرشیّة، یجری فی عدم الإتّصاف بالتقدّم علی الموت.

(الصّورة الثالثة) أن یکون موضوع الأثر بمفاد لیس الناقصة. أی العدم النعتی، کأن یکون الإسلام المتّصف بعدم التقدّم. وهذا لا حالة سابقة له، لأنّ کلّ وصف عدمی فهو متأخّر رتبةً عن الموضوع، فالعمی متأخّر وجوداً عن الأعمی _ وکذلک کلّ عدم ملکة _ فلا یجری إستصحاب العدم الأزلی فیه.

وفیه:

إنّ عدم الملکة وإن کان ذا حیثٍ عدمیٍّ بالدقّة، لکنّه وصف للموضوع، وإتّصاف الموضوع به أمرٌ حادثً له سابقة فی العدم الأزلی، وکذلک إتّصاف الأعمی بالعمی وغیره من أمثلة عدم الملکة. وحینئذٍ، فالإستصحاب یجری لرفع الأثر وهو الإرث.

(الصّورة الرابعة) أن یکون موضوع الأثر بمفاد لیس التامّة، أی العدم المحمولی، وهو عدم إسلام الولد فی حین موت الأب الواقع فی یوم السّبت مثلاً.

فقال صاحب الکفایة _ وتبعه العراقی والمیرزا وغیرهم _ بجریان الإستصحاب

ص: 385

فی عدم الإسلام، وعدم جریانه فی معلوم التاریخ وهو الموت. واختلفت کلماتهم فی الإستدلال، ولکنّ شیئاً منها لا یخلو من النّظر عند شیخنا الأُستاذ:

فقال صاحب الکفایة: بعدم جریان الإستصحاب فی معلوم التاریخ، للیقین بعدم الموت قبل السّبت والیقین بالموت یوم السّبت، فلا شک لاحقاً. وأمّا إجراؤه فیه بالإضافة إلی إسلام الولد عند الموت، فالأرکان تامّة، لأنّه قبل السّبت لا موت ولا إسلام، ثمّ تحقّق الموت فی یوم السّبت، فوقع الشک فی تقدّم الإسلام علی السّبت وتأخّره عنه، وإستصحاب عدم الإسلام إلی السّبت تمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیّة، لأنّه إن کان الإسلام یوم السّبت، کان المستصحب _ وهو عدم الإسلام قبل السّبت _ باقیاً حتّی السّبت، وصحّ الإستصحاب، لعدم الفصل بین المتیقَّن والمشکوک فیه. وأمّا إن کان الإسلام قبل یوم السّبت الذی وقع فیه الموت، إنفصل الشک فی الإسلام یوم السّبت، عن الیقین بعدم الإسلام قبل یوم السّبت، بالیقین بالإسلام قبل یوم السّبت.

وإذا کان التمسّک بالإستصحاب لمعلوم التاریخ بالنسبة إلی مجهول التاریخ شبهةً موضوعیّة لنقض الیقین بالشک، فالإستصحاب غیر جارٍ فیه، لعدم جواز التمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیّة؛ لأنّ الدلیل إنّما یفید الحکم حیث یکون الموضوع متحقّقاً لا مشکوکاً فیه.

وفیه:

إنّه لابدّ من التأمّل فی المقام، لننظر هل إنّ أرکان الإستصحاب فی معلوم التاریخ من الیقین والشک والأثر تامّة أو لا؟

ص: 386

صورة المسألة هی: عدم الإسلام والموت قبل یوم السّبت یقیناً.

والموت فی یوم السّبت یقیناً.

والإسلام متحقّقٌ یقیناً.

فلو نظرنا إلی الموت، کنّا علی یقینٍ بعدم تحقّقه فی زمن الإسلام قبل یوم السّبت، فلمّا جاء یوم السّبت نشکّ فی تحقّق الموت فی زمن الإسلام، والأصل عدم تحقّقه فیه.

وهذا الإستصحاب تام من حیث الأرکان، ولم یقع الفصل فیه بین الیقین بعدم الموت فی زمن الإسلام والشک فی تحقّقه فی زمن الإسلام، فلیست الشبهة موضوعیّة.

فالإستصحاب فی معلوم التاریخ بالقیاس إلی مجهول التاریخ صحیحٌ.

کما أنّه فی مجهول التاریخ صحیحٌ.

فیقع التعارض.

وقال المحقّق النائینی(1) فی وجه عدم الجریان فی معلوم التاریخ: أمّا بلحاظ الزمان، فلا یجری، لعدم الشک کما ذکر صاحب الکفایة. وأمّا بلحاظ الحادث الآخر _ وهو الإسلام _ فإن إستصحاب عدم الموت فی زمن الإسلام لا یخلو عن حالین، فإمّا یترتّب الأثر علی عدم الموت المقیّد بزمن الإسلام، وإمّا علی عدم الموت فی ظرف تحقّق الإسلام، فزمان الإسلام إمّا قید وإمّا ظرف. فإن

ص: 387


1- 1. أجود التقریرات 4 / 146 _ 147.

کان قیداً، فإنّ عدم الموت المقیَّد بزمن الإسلام لا حالة سابقة له. وإن کان ظرفاً، فإنّه لا شک لاحقاً، لأنّه إمّا متیقَّن العدم وإمّا متیقَّن الوجود، کما هو الحال فی إجراء الإستصحاب بلحاظ الزمان.

وفیه:

أمّا بلحاظ کون الإسلام قیداً، بأن یکون الموضوع عدم الموت مقیّداً بزمان الإسلام، فما ذکره تام، لکنّ إتّصاف الموت بعدم کونه فی زمن الإسلام أمر حادث مسبوق بالعدم الأزلی، فالأرکان تامّة، کما هو الحال فی جمیع موارد عدم الملکة، فإن إتّصاف الإنسان الأعمی بعدم البصر أمر حادث مسبوق بالعدم الأزلی.

وأمّا بلحاظ کون الإسلام ظرفاً، فالجواب: أنّه تارةً یلحظ الإسلام وأُخری یلحظ زمن الإسلام، وبینهما فرق. فهذه مقدّمة.

ومقدّمة أُخری هی: إن الحکم یکون دائماً علی حدّ الموضوع، فلا أضیق منه ولا أوسع، والحکم فی الإستصحاب هو النهی عن النقض عملاً، والنقض متعلِّق بالیقین، والمتیقَّن هو عدم الموت فی ظرف وجود الاسلام. لکن لا یخفی أنّ «الزمان» عنوان مشیر، ولا دخل له فی الحکم ولا أثر، بل الأثر هو للموت مع وجود الإسلام، فنهی الشارع عن نقض عدم الموت مع وجود الإسلام، وإذا کان کذلک فأرکان الإستصحاب تامّة، لأنّ یوم السّبت یوم الموت یقیناً، فکان یوم الجمعة ظرف عدم الموت، أمّا بالنسبة إلی الإسلام فالشک لاحقاً موجود، لأنّه قبل السّبت لا موت ولا إسلام، وفی یوم السّبت تحقّق الموت، ولا یعلم هل تحقّق الموت فی ظرف وجود الإسلام أو لا؟ فیستصحب العدم.

ص: 388

وحینئذٍ یقع التعارض.

وقال المحقّق العراقی ما حاصله:(1)

أوّلاً: إنّ التعبّد الإستصحابی هو التعبّد بإبقاء ما تُیقّن بحدوثه.

وثانیاً: إنّه لابدّ وأن یطبّق علی جمیع أزمنة الشک. مثلاً: لو کنّا نعلم قبل سنةٍ بعدالة زیدٍ ثمّ شککنا فی بقائها، فإن دلیل الإستصحاب یفید التعبّد ببقائها، بأن یمکن بقاؤها فی جمیع آنات السنة.

وتطبیق هذا علی ما نحن فیه: أمّا بالنسبة إلی مجهول التاریخ، فواضح، فإنّه یتعبّد بعدم الإسلام فی جمیع أزمنة الشک. وأمّا بالنسبة إلی معلوم التاریخ فلا، لأن المفروض تحقّق الموت فی یوم السّبت وأنّ تاریخ إسلام الولد قبل السّبت أو بعده مجهول، فاستصحاب عدم الموت فی زمن الإسلام لا یخلو من حالین، إذ الإسلام إن کان قبل الموت، صحّ التعبّد بعدم الموت إلی زمان الإسلام، وأمّا إن کان بعد الموت، لم یتم التعبّد فی جمیع الأزمنة، لأنّا نقطع بتحقّق الموت قبل یوم الإسلام، فلا یصحّ تعبّد الشارع بعدم تحقّق الموت حتّی الإسلام المفروض وقوعه بعد الموت.

والحاصل: إنّ قوام التعبّد الإستصحابی متحقّق فی صورة ما إذا کان الإسلام قبل الموت، وغیر متحقّق فی صورة ما إذا کان بعد الموت. فلا یجری الإستصحاب فی معلوم التاریخ.

ص: 389


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 205 _ 206.

وفیه:

إنّه لابدّ من دقّة النظر فی المتعبَّد به ومعرفته بتمام حدوده، وهو إمّا الموضوع وإمّا الحکم. هذا أوّلاً. وثانیاً: إنّ للتعبّد به لوازم وملزومات، لکنّ شیئاً منها غیر دخیلٍ فی التعبّد الإستصحابی.

نقول: إن موضوع الأثر نفس تحقّق الموت فی ظرف تحقّق الإسلام، وأمّا أزمنة تحقّق الإسلام فهی لوازم _ لأن الاسلام أمر زمانیّ ولابدّ من وقوعه فی الزمان _ وهی خارجة عن التعبّد الشرعی، وإذا کانت خارجةً، فلا دخل لتطبیق التعبّد علی جمیع أزمنة الإسلام، فبطل کلام هذا المحقّق.

خلاصة البحث

إنّه کما یوجد المقتضی لجریان الإستصحاب فی مجهول التاریخ، یوجد فی معلوم التاریخ أیضاً، فإن کان کلاهما ذا أثرٍ شرعی وقع التعارض والتساقط. وإن کان أحدهما ذا أثر دون الآخر جری بلا معارض.

لو تعاقب الحادثان

لو علمنا بوقوع النجاسة والطهارة فی اللّباس _ مثلاً _ وشککنا فی المتقدّم والمتأخّر منهما، فما هو مقتضی الإستصحاب؟ قولان.

ولا یخفی الفرق بین هذه المسألة والمسألة السّابقة.

القول بوجود المقتضی فی کلیهما

قال السیّد الخوئی:(1) إنّه یوجد المقتضی لکلیهما، لتمامیّة الأرکان فیهما،

ص: 390


1- 1. مصباح الأُصول 3 / 245.

فیجری الإستصحاب فی الطهارة والنجاسة معاً ویتعارضان ویتساقطان، للزوم التعبّد بالضدّین وهو محال فی مرحلة الإمتثال، ویکون المرجع حینئذ هو الأصل المحکوم، وهو فی المثال قاعدة الطهارة.

القول بعدم وجود المقتضی

إنّه لا مقتضی للجریان. وعلیه المحقّقان صاحب الکفایة والعراقی.

(بیان صاحب الکفایة)(1) إنّه إذا شک فی تقدّم الحدث وتأخّر الوضوء وبالعکس، فهنا ثلاثة ساعات، وذلک: لأنّه إذا شک عند الزوال _ مثلاً _ فی أنّ طهارته باقیةٌ أو لا؟ فإن هذا الشک یکون من جهة الواقع منه فی السّاعة الأولی من النهار، فإن کان هو الحدث، فالطهارة واقعة فی السّاعة الثانیة، وإن کان هو الطهارة، فالحدث فی السّاعة الثانیة. فعلی تقدیر وقوع الطهارة فی السّاعة الثانیة، فزمان الشک متّصل بزمان الیقین والإستصحاب تام. وأمّا علی تقدیر وقوع الطهارة فی السّاعة الأولی، فلا إتّصال للیقین بارتفاع الطهارة بالحدث الواقع فی السّاعة الثانیة. وحیث أنّ وقوع الطهارة فی السّاعة الثانیة غیر محرز _ لاحتمال وقوعها فی الأولی _ فالإتّصال غیر محرز، فالإستصحاب غیر جارٍ، لأنّها شبهة موضوعیّة للاتصال المعتبر فی الإستصحاب.

وفیه:

إنّ المبنی غیر صحیح، فإنّ الملاک فی الإستصحاب هو الیقین الوجدانی

ص: 391


1- 1. کفایة الأُصول: 422.

لا الأمر الخارجی.

وتوضیح ذلک: إنّ الموضوع فی دلیل الإستصحاب هو الیقین والشک. وهما أمران نفسانیّان وجدانیّان، ولیس الخارج، أی المتیقَّن والمشکوک فیه، وإذا کان الموضوع ما ذکرناه، فإنّ الشک متّصل بالیقین ولا إنفصال بینهما، ولذا قلنا سابقاً بأن لا شبهة موضوعیّة فی الوجدانیّات.

(بیان العراقی)(1) وهو وجوه:

الوجه الأوّل: إنّه یعتبر فی الإستصحاب تعیّن ما هو الواقع قبل الشک حتّی یستصحب، سواء کان وجودیّاً أو عدمیّاً، وهذا هو المنصَرف إلیه أدلّة الإستصحاب، وهذا الأمر غیر متحقّق فی مسألتنا، وذلک: لأنّا لمّا ننظر إلی الحالة السّابقة علی ساعة الشک، نتیقّن بتحقّق الطهارة والحدث، وأنّ کلاًّ منهما وقع فی ساعةٍ، ولکنّ الطهارة إن کانت فی الثانیة فهی موجودة والحدث مرتفع، وإن کانت فی الأولی فهی مرتفعة بالحدث، فالواقع فی السّاعة السّابقة علی الشک غیر متیقَّن، فلا یجری الإستصحاب، لأنّا نرید إستصحاب وجود الطهارة أو وجود الحدث الواقع قبل ساعة الشک، فلابدّ من تعیّنه.

وفیه:

إنّ دعوی إنصراف أدلّة الإستصحاب إلی ما ذکر أوّل الکلام، وقد تقرّر فی محلّه أنّ المنشأ المقبول للإنصراف هو التشکیک فی الصّدق، وهو هنا غیر موجود.

ص: 392


1- 1. نهایة الأفکار 4 / 196.

الوجه الثانی: إنّه یوجد فیما نحن فیه شبهة الإنفصال بین الشک والیقین فی طرف، وعدم وجود الیقین والشک فی الطرف الآخر. وتوضیح ذلک:

إنّه توجد ثلاثة ساعات کما تقدّم، فقد کان یقینٌ بعدم الحدث وعدم الطهارة، ثمّ جاءت ساعة الطهارة وساعة الحدث، وبعدهما ساعة الشک فی أنّه الآن متطهّر أو محدث.

فعلی تقدیر وقوع الحدث فی السّاعة الأُولی، یکون الآن متطهّراً. وعلی تقدیر وقوع الطهارة فیها یکون الآن محدثاً، فعلی تقدیر وقوع الحدث فی السّاعة الأولی یقع الإنفصال بین الشک والیقین، وعلی تقدیر وقوعه فی السّاعة الثانیة لا شک فی بقائه الآن حتّی یستصحب.

وکذا الحال علی تقدیر وقوع الطهارة فی السّاعة الأُولی.

وفیه:

إنّه قد تقدّم فی الإشکال علی الکفایة أنّ الملاحَظ فی أدلّة الإستصحاب هو الیقین والشک الوجدانیّان فی النفس، ولا وجه لإشراب الخارج بما فی النفس، وعلی هذا، فلا إنفصال بین الیقین والشک. نعم، لو کان النظر فی دلیل الإستصحاب إلی الخارج، _ أی المتیقّن والمشکوک فیه _ فإنّ الإنفصال متحقّق.

هذه بالنسبة إلی الإنفصال.

وأمّا بالنسبة إلی ما ذکره من عدم الشک اللاّحق إن کان الحدث أو الطهارة فی السّاعة الثانیة، وإذ لا شک فلا إستصحاب. فالجواب: إن هذا صحیح بالنظر إلی ما فی الخارج، وقد تقدّم أنّ الملاحَظ هو ما فی النفس، وأنّه نفس الیقین والشک، والشکّ فی بقاء الحدث أو الطهارة الواقع فی السّاعة الثانیة موجودٌ الآن، أی فی السّاعة الثالثة بالوجدان.

ص: 393

وهذا تمام الکلام فی هذا التنبیه.

وقد ظهر أنّ الإستصحاب له إقتضاء الجریان فی الطرف الآخر فی جمیع مسائله، فإن کان ذا أثرٍ وقع التعارض والتساقط.

ص: 394

التنبیه الحادی عشر: فی جریان الإستصحاب فی الإعتقادیّات وعدم جریانه

اشارة

قال فی الکفایة: قد عرفت أنّ مورد الإستصحاب لابدّ أن یکون حکماً شرعیّاً أو موضوعاً لحکم کذلک، فلا إشکال فیما کان المستصحب من الأحکام الفرعیّة أو الموضوعات الصّرفة الخارجیّة أو اللّغویّة إذا کانت ذات أحکام شرعیّة.

وأمّا الأُمور الإعتقادیّة التی کان المهمّ فیها شرعاً هو الإنقیاد والتسلیم والإعتقاد بمعنی عقد القلب علیها من الأعمال القلبیّة الإختیاریّة، فکذا لا إشکال فی الإستصحاب فیها حکماً وکذا موضوعاً، فیما کان هناک یقین سابق وشک لاحق. لصحّة التنزیل وعموم الدلیل. وکونه أصلاً عملیّاً إنّما هو بمعنی أنّه وظیفة الشاکّ تعبّداً _ قبالاً للأمارات الحاکیة عن الواقعیّات _ فیعمّ العمل بالجوانح کالجوارح.

ص: 395

وأمّا التی کان المهمّ فیها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها، فلا مجال له موضوعاً ویجری حکماً. فلو کان متیقّناً بوجوب تحصیل القطع بشیء _ کتفاصیل القیامة _ فی زمانٍ وشک فی بقاء وجوبه، یستصحب.

فی الأُمور الإعتقادیّة

ومحصّل الکلام: إنّ الأُمور الإعتقادیّة علی قسمین:

القسم الأوّل

ما لا یعتبر فیه الیقین. وفی هذا القسم یجری الإستصحاب، سواء فی الشبهة الحکمیّة، کأن یکون عالماً بوجوب البناء القلبی علی شیء ثمّ یشک فی بقاء الوجوب، فأرکان الإستصحاب تامّة، أو فی الشبهة الموضوعیّة، فالأرکان تامّة کذلک. ووجه الجریان هو عموم إطلاق أدلّة الإستصحاب، وأنّه غیر مختصٍّ بالعمل الجوارحی.

القسم الثانی

ما یعتبر فیه الیقین، کالتوحید والنبوّة والإمامة والمعاد. وفی هذا القسم لا یجری الإستصحاب، لأن مفاد دلیل الإستصحاب هو التعبّد بإبقاء ما کان _ کما تقدّم فی محلّه _ فالتعبّد فی مثل الأُمور المذکورة غیر جار. وأمّا بناءً علی أنّه من باب إفادته الظن، فعدم جریانه واضح.

ص: 396

وعلی الجملة، فإنّ ما یکون وظیفة المکلّف فیه هو تحصیل الیقین المحکم الذی لا یتزعزع، لا معنی لإجراء الإستصحاب فیه.

نعم، بناءً علی أنّ النبوّة والإمامة من المناصب الوضعیّة الجعلیّة، یجری الإستصحاب، لکنّ المبنی باطل، لأن الإمامة من المناصب التکوینیّة الإلآهیّة، وهذا ما تدلّ علیه کافّة النصوص وغیرها، کما قرّر فی محلّه.

فی نفس النبوّة

وذهب صاحب الکفایة إلی عدم جریان الإستصحاب فی نفس النبوّة، لوجوه:(1)

(الأوّل) عدم تمامیّة الأرکان، من حیث أنّ النبوّة مرتبة من کمال النفس تحصل للنبیّ ولا تقبل الزوال. فلا شک فی بقائها حتّی تستصحب.

(الثانی) إنّ الإستصحاب إنّما یجری فی المجعولات الشرعیّة، والنبوّة من الأُمور الخارجیّة ولیس لها أثر شرعی، وإنّما الأثر المترتّب _ وهو وجوب الإطاعة المطلقة _ عقلیّ، فلا یتعلّق بها الجعل التشریعی، وإذا لم تکن من المجعولات الشرعیّة لم یجر فیها الإستصحاب.

ص: 397


1- 1. کفایة الأُصول: 423.

(والثالث) إنّ إجراء الإستصحاب فی النبوّة یستلزم الدور، وذلک:

لأنّ الشکّ فی بقاء النبوّة یستلزم الشک فی حجّیة شریعة النبیّ، ومن أحکام شریعته حجّیة الإستصحاب، فلو أُرید إثبات نبوّته بالإستصحاب لزم الدور، لتوقّف استصحابها علی جریان الإستصحاب، وجریانه متوقّف علی حجّیته، وهی متوقّفة علی ثبوت نبوّة النبی.

وذکر المحقّق الإصفهانی طریقاً آخر لعدم الجریان وحاصله:(1)

إنّ منشأ الشک فی بقاء النبوّة لا یخلو عن ثلاثة إحتمالات، فإمّا أن یحتمل زوال النبوّة عنه، وإمّا أن یحتمل سلبها عنه بموته، وإمّا أن یحتمل زوالها بسبب مجیء النبی الأکمل منه.

أمّا الإحتمال الثالث، فلا مجال له، لعدم التزاحم بین الأکمل والکامل.

وأمّا الإحتمال الثانی، فمندفعٌ بأنّ الملکات راسخة فی النفس ولا تزول بالموت، وإذا کانت الملکات التحصیلیّة لا تزول عن النفس بالموت، فالحصولیّة بطریقٍ أولی.

وأمّا الإحتمال الأوّل، فمندفعٌ بأنّ النبوّة من الکمالات التحقّقیّة، وهی غیر قابلة للزوال ولا تنقلب عمّا هی علیه، بخلاف الکمالات التخلّقیّة، أی

ص: 398


1- 1. نهایة الدرایة 5 / 214.

الکمالات الخُلُقیّة التی یحصل علیها الإنسان، فإنّها قابلة لذلک، مثل العلم، فلذا قال تعالی «لِکَیْلا یَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَیْئًا ».(1)

رأی الأُستاذ

وذکر شیخنا الأُستاذ: أن لا مانع عقلاً من أن یسلب اللّه النبوّة، فهو تعالی کما له إعطاء منصب النبوّة، کذلک بیده أخذه، وفی الآیات إشارة إلی ذلک، قال تعالی: «وَعَلَّمَکَ ما لَمْ تَکُنْ تَعْلَمُ وَکانَ فَضْلُ اللّه ِ عَلَیْکَ عَظیمًا ».(2)

وکذلک الإمامة، فهی جعلٌ إلآهی، ووجوب الإطاعة المطلقة ملک کبیرٌ آتاه اللّه آل إبراهیم، هذا، وفی الخبر الصّحیح عن أمّ سلمة أنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله کان یناجی ربّه فقال: اللهمّ لا تنزع عنّی صالح ما أعطیتنی.(3)

إنّ هذه المنازل العظیمة التی أعطاها اللّه لأولیائه، حتّی أن إرادة الرّب فی مقادیر أُموره تهبط إلیهم وتصدر من بیوتهم(4) کلّها بید اللّه، ومن الممکن إنتزاعها.

لکنّ الإنتزاع غیر واقعٍ، لأنّ اللّه تعالی إنّما أعطاهم إیّاها بعد الإختبار والإمتحان فکانوا أهلاً لذلک.

ص: 399


1- 1. سورة الحج، الآیة 5.
2- 2. سورة النساء، الآیة 113.
3- 3. البرهان فی تفسیر القرآن 3 / 834.
4- 4. أُنظر: وسائل الشیعة 14 / 492، الباب 62 من أبواب المزار، الرقم 1.

فالإستصحاب لا یجری لعدم الشکّ فی أنّ اللّه بعد أن أعطاهم المنازل، فهی باقیةٌ لهم وهم مستمرّون فیها یقیناً.

فی إستدلال الکتابی

وإذا کانت أدلّة الإستصحاب عامّةً لنفس النبوّة، فهل للکتابیّ أن یتمسّک به للقول ببقاء نبوّة النبیّ الذی یتبعه فیبقی علی دینه؟

کلام الکفایة

قد تعرّض صاحب الکفایة لذلک حیث قال ما نصّه:(1)

لا یخفی أنّ الإستصحاب لا یکاد یلزم به الخصم إلاّ إذا إعترف بأنّه علی یقینٍ فشکّ فیما صحّ هناک التعبّد والتنزیل ودلّ علیه الدلیل، کما لا یصحّ أن یقنع به إلاّ مع الیقین والشک والدلیل علی التنزیل. ومنه إنقدح أنّه لا موقع لتشبّث الکتابیّ باستصحاب نبوّة موسی أصلاً، لا إلزاماً للمسلم، لعدم الشکّ فی بقائها قائمةً بنفسه المقدّسة، والیقین بنسخ شریعته وإلاّ لم یکن بمسلم، مع أنّه لا یکاد یلزم به ما لم یعترف بأنّه علی یقین وشک. ولا إقناعاً مع الشکّ، للزوم معرفة النبیّ بالنظر إلی حالاته ومعجزاته عقلاً، وعدم الدلیل علی التعبّد بشریعته لا عقلاً ولا شرعاً. والإتّکال علی قیامه فی شریعتنا لا یکاد یجدیه إلاّ علی نحو محال.

ص: 400


1- 1. کفایة الأُصول: 423 _ 424.

ووجوب العمل بالإحتیاط عقلاً فی حال عدم المعرفة بمراعاة الشریعتین ما لم یلزم منه الإختلال، للعلم بثبوت إحداهما علی الإجمال، إلاّ إذا علم بلزوم البناء علی الشریعة السّابقة ما لم یعلم الحال.

تفصیل الکلام فی المقام

لقد أشار صاحب الکفایة أنّ الکتابی یتشبّث بالإستصحاب لنبوّة نبیّه تارةً: لإقناع نفسه، وأُخری: لإلزام المسلم.

ویترتّب علی ذلک وجوب العمل بشریعته. ولکن لا سبیل له للتمسّک بالإستصحاب مطلقاً، بالنظر إلی أرکان الإستصحاب، وإلی أنّه لا یجوز إجراؤه _ کغیره من الأُصول العملیّة کما ذکر بالتفصیل فی محلّه _ إلاّ بعد الفحص والیأس. وتوضیح ذلک:

أمّا من أجل إقناع نفسه بالبقاء علی القول بنبوّة نبیّه وشریعته، فلأنّه إن کان متیقّناً بذلک فلا شک عنده حتّی یستصحب، وإن کان فی شکٍ من بقائها، وجب علیه الفحص والتحقیق فی أدلّة الدین الإسلامی، فإنّه إذا نظر فی أدلّة هذا الدین حصل له الیقین بحقّیته ورفع الید عن دینه، وعلی فرض عدم حصول الیقین له بذلک لم یجر الإستصحاب کذلک، لأنّ النبوّة لیست من الأُمور التعبّدیّة کی تثبت بالإستصحاب الذی هو من الأُصول العملیّة. علی أنّ الدلیل علی حجّیّة الإستصحاب إن کان من الشریعة التی یقول بها، فالمفروض أنّها محلّ الشک، وإن

ص: 401

کان من الشریعة الإسلامیّة، فالمفروض أنّه غیر معتقد بها. فظهر أن لا سبیل له للتمسّک بالإستصحاب للبقاء علی النبوّة السّابقة وشریعتها.

وأمّا من أجل إلزام المسلم، فإنّ المسلم معتقد بنسخ الشریعة السّابقة، کما هو ظاهر، ولو فرض کونه شاکّاً وجب علیه الفحص کما تقدّم، وعلی فرض عدم تیقّنه بالفحص، لا یمکن إلزامه بالتدیّن بالنبی السّابق وبالشریعة السّابقة بالإستصحاب، إذ لا علم له بوجود ذلک النبیّ وشریعته إلاّ عن طریق القرآن وإخبار نبیّ الإسلام، ومن المعلوم ثبوت النسخ لذلک بالقرآن وإخبارات نبیّ الإسلام.

وهذا آخر التنبیه الحادی عشر.

ص: 402

التنبیه الثانی عشر: فی إستصحاب حکم المخصّص

اشارة

إذا ورد التخصیص علی عموم دلیلٍ وعلم بخروج بعض الأفراد منه عن الحکم فی قطعةٍ من الزمان، ثمّ شکّ فی أن خروجه یختص بتلک القطعة من الزمان أو أنّه مستمرٌ وجارٍ فی جمیع الأزمنة، فهل المرجع فیه هو عموم العام أو إستصحاب المخصّص؟

مثلاً: عندنا عمومات فی حلّ أکل لحوم الطیر، وقد خصّ تلک العمومات بدلیل الجلل، فیحرم أکل لحکم الحیوان الذی أکل النجس إلاّ إذا زال الجلل. فلو وقع الشک فی زوال الجلل عن الحیوان، هل یستصحب حکم حال الجلل وهو حرمة الأکل، أو یرجع إلی مقتضی العمومات وهو حلیّة الأکل؟

هذا فی الأحکام.

وفی المعاملات: عندنا عموم «أَحَلَّ اللّه ُ الْبَیْعَ » و«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ». وعندنا دلیلٌ علی ثبوت خیار الغبن، وأنّه لا یجب الوفاء بالعقد الغبنی. ثمّ وقع البحث فی

ص: 403

أنّ ثبوت الغبن یختصّ بأوّل أوقات ظهور الغبن فیکون الخیار فوریاً، أو أنّه یستمرّ ویکون باقیاً، فهل المرجع _ فی آنات بعد ظهور الغبن _ هو عموم الوفاء أو إستصحاب دلیل الخیار؟

ومن هذین المثالین وغیرهما یظهر أنّ البحث صغروی. وأمّا من حیث الکبری، فلا کلام فی تقدّم الدلیل علی الأصل العملی. والمقصود تشخیص أن المورد من موارد الرجوع إلی عموم الدلیل أو أنّه یتمسّک باستصحاب حکم المخصّص؟

وفی هذه المسألة المهمّة ثلاثة وجوه:

الأوّل: الرجوع إلی العام مطلقاً.

والثانی: الرجوع إلی الإستصحاب مطلقاً.

والثالث: التفصیل فی العام، بأنّه إن کان مجموعیّاً فالإستصحاب، وإن کان إستغراقیّاً فالعام.

وهذا هو مختار الشیخ.

قول الشیخ بالتفصیل

وقد اهتمّ الأعلام بتفصیل الشیخ فی هذا المقام، واختلفت الأنظار حوله. ومخلّص رأیه هو:(1)

ص: 404


1- 1. فرائد الأُصول: 274.

إنّ الزمان فی العام قد یؤخذ مفرّداً، وقد یؤخذ ظرفاً.

فإن کان علی النحو الأوّل _ وهو العام الإستغراقی _ فإنّ الحکم المجعول فیه ینحلُّ إلی أحکام عدیدة بعدد الآنات، ویکون لکلّ آنٍ حکم بخصوصه، فلو إرتفع الحکم فی آنٍ منها بالمخصّص، بقی الحکم بالنسبة إلی البقیة علی حاله. کما لو قال: أکرم العلماء کلّ یوم. ثمّ قال: لا تکرم زیداً فی یوم الجمعة.

وبعبارة أُخری: یکون المورد من موارد الشک فی التخصیص الأکثر، والمرجع هو عموم العام.

وإن کان علی النحو الثانی _ وهو العام المجموعی _ فإنّ الحکم المجعول لا یکون إلاّ حکماً واحداً منبسطاً علی مجموع الآنات من المبدأ إلی المنتهی، فإذا جاء المخصّص إرتفع الحکم، ولا وجه للرجوع إلی العام، بل لابدّ من التمسّک باستصحاب حکم المخصّص.

نظر صاحب الکفایة

وذهب صاحب الکفایة(1) إلی أنّ التقسیم المذکور للعام جارٍ فی المخصّص کذلک، فکما قد یکون الزمان فی العام ظرفاً ویکون کلّه محکوماً بحکمٍ واحدٍ منبسط علی جمیع الآنات، وقد یکون قیداً مفرّداً بحیث یکون لکلّ

ص: 405


1- 1. کفایة الأُصول: 424.

آن حکم مستقلّ عن الآخر، کذلک الخاص، فإنّه یمکن أن یکون الزمان ظرف إستمرار حکم المخصّص، ویمکن أن یکون مکثّراً ومفرّداً له.

فالزمان کما یمکن أن یلحظ فی طرف العام علی نحو العام المجموعی أو الإستغراقی، کذلک فی طرف المخصّص، فإنّه یمکن أخذه ظرفاً وأخذه قیداً.

وعلی هذا، فلابدّ من لحاظ الزمان فی طرف العام وفی طرف الخاصّ، فالأقسام حینئذ أربعة:

1 _ أن یؤخذ فی العام والخاصّ معاً ظرفاً لاستمرار الحکم فیهما.

وفی هذه الصّورة لا یمکن التمسّک بعموم العام، للعلم بارتفاعه بالمخصّص، بل المرجع هو إستصحاب حکم المخصّص.

2 _ أن یؤخذ فی کلیهما علی نحو المکثّریّة للحکم، فیکون الحکم متعدّداً فی کلیهما بحسب تعدّد آنات الزمان.

وفی هذه الصّورة لا مناص عن التمسّک بعموم العام، لأنّ إرتفاع الحکم عن آنٍ بالتخصیص، لا یوجب رفع الید عن حکم الآن الآخر المفروض کونه حکماً مستقلاً، بل لا مجال للرجوع إلی إستصحاب حکم المخصّص حتّی مع عدم إمکان التمسّک بالعام لمانعٍ، لما ذکرنا من إستقلالیّة حکم کلّ آنٍ عن حکم غیره من الآنات.

3 _ أن یؤخذ الزمان فی حکم العام مکثّراً للموضوع وموجباً لتعدّده، أمّا فی حکم المخصّص فیؤخذ علی نحو الظرفیّة لاستمراره.

وفی هذه الصّورة وإن أمکن إستصحاب حکم المخصّص لعدم تبدّل

ص: 406

الموضوع، إلاّ أنّ العامّ قابل للتمسّک به، لما تقدّم من أن لکلّ آنٍ حکماً مستقلاًّ، فلا تصل النوبة إلی الإستصحاب، لأنّه أصل عملی والعام دلیل لفظی، وهو مقدَّم علی الإستصحاب.

4 _ أن یؤخذ الزمان فی حکم العام ظرفاً وغیر مکثّر، وفی حکم المخصّص مکثّراً للموضوع.

وفی هذه الصّورة لا یرجع إلی العام، لکونه حکماً واحداً منبسطاً علی مجموع الآنات وقد ارتفع بالمخصّص. ولا إلی الإستصحاب، لتبدّل الموضوع بتبدّل الزمان _ لأن السّبت غیر الجمعة _ بل المرجع هو البراءة أو الإشتغال.

ونتیجة ذلک هو الإشکال علی الشیخ فی قوله بجواز التمسّک باستصحاب حکم المخصّص إذا کان العام مجموعیّاً، بأنّ ذلک إنّما یتم إذا کان الزمان فی طرف المخصّص مأخوذاً علی نحو الظرفیّة لاستمرار الحکم، دون ما إذا کان مأخوذاً علی نحوٍ یکون مکثّراً للموضوع، فإنّه یتبدّل الموضوع. لأن الخارج هو الإکرام فی یوم الجمعة، والإکرام فی یوم السّبت موضوع آخر، فلا یجری الإستصحاب.

وأیضاً، قوله بعدم جریان الإستصحاب فیما إذا کان العموم إستغراقیّاً، غیر صحیح علی إطلاقه، بل إنّما یصح فیما إذا کان الزمان مأخوذاً فی طرف المخصّص علی نحوٍ یکون مکثّراً للموضوع. وأمّا إذا کان مأخوذاً علی نحو الظرفیّة لاستمرار حکمه، فلا، لأن أرکان الإستصحاب فی نفسه تامّة هنا، وإنّما لا یتمسّک به لوجود

ص: 407

المانع وهو العموم، لتقدّم الدلیل اللّفظی علی الأصل العملی.

قال ما حاصله:

هذا کلّه إن کان التخصیص وارداً فی الوسط، کما فی مثال الغبن، فإنّ خروج المعاملة الغبنیّة بأدلّة خیار الغبن عن عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » إنّما هو بعد ظهور الغبن لا من أوّل تحقّق العقد.

وأمّا إن کان التخصیص وارداً من الأوّل کما فی خیار المجلس، فإنّ خروجه عن عموم الآیة إنّما هو من أوّل زمان تحقّق العقد، فحینئذٍ، یصح التمسّک بعموم العام فی الزائد عن المقدار المعلوم خروجه بالمخصّص وإن کان عموم العام مجموعیّاً، لعدم إرتفاع الحکم حینئذٍ بالمرّة، وإنّما إرتفع إستمراره، أی إستمرار وجوب الوفاء، فیتمسّک بعموم وجوب الوفاء بعد إنقضاء المجلس، ویکون هو أوّل زمان إستمرار الحکم، لأنّ لازم کون أدلّة خیار المجلس رافعةً لکلٍّ من أصل وجوب الوفاء وإستمراره هو التخصیص الأفرادی لا الأزمانی فقط، لأنّه یلزم حینئذٍ أن یخرج عقد البیع عن عموم دلیل وجوب الوفاء بالمرّة، لا فی بعض الأزمنة فقط.

أقول:

لقد دافع شیخنا عن الشیخ، وأفاد بأن الصّور الأربع موجودة فی کلامه حیث قال: إذا فرض الإستثناء قرینةً علی أخذ کلّ زمان فرداً مستقلاًّ فحینئذٍ یعمل عند

ص: 408

الشک بالعموم ولا یجری الإستصحاب، بل لو لم یکن عموم وجب الرجوع إلی سائر الأُصول لعدم قابلیّة المورد للإستصحاب.(1)

ثمّ إنّه أشکل علی الشیخ فی مثاله فی صورة الإجمال، بأنّه:

أوّلاً من الشکّ فی المقتضی، وهو لا یری جریان الإستصحاب فیه.

وثانیاً: بأنّه شبهة مفهومیّة، والإستصحاب غیر جارٍ فی الشبهات المفهومیّة.

الإشکال علی الشیخ وصاحب الکفایة

لقد اتّفق الشیخ وصاحب الکفایة علی أنّه إذا أُخذ الزمان قیداً مفرّداً للحکم، فعند دوران الأمر یتمسّک بعموم العام، وإذا أُخذ ظرفاً لاستمرار الحکم، فالمرجع إستصحاب حکم المخصّص.

واختلفا فیما إذا کان المخصّص وارداً علی العام من الأوّل مثل خیار المجلس، ففی هذا المورد یکون المرجع هو عموم العام أو حکم المخصّص.

فأورد علیهما شیخنا:

أمّا نقضاً: فبأنّه إذا ورد الحکم علی العام، ثمّ جاء المخصّص، فإنّه یتمسّک بالعام فی الزائد عن المخصّص، بلا فرق بین العام المجموعی والإستغراقی. فلو قال: أکرم کلّ عالم. ثمّ خرج أحد الأفراد بالمخصّص وجب إکرام الباقی. هذا فی الإستغراقی. وکذلک فی المجموعی، کالصّلاة مثلاً، فإنّها مرکّبة من الأجزاء

ص: 409


1- 1. فرائد الأُصول: 274.

المختلفة، ولها حکم واحد بنحو العام المجموعی، فلو خرج جزءٌ بالمخصّص کدلیل الإضطرار _ مثلاً _ ، بقی الباقی علی وجوبه.

والحاصل عدم الفرق بین العام الإستغراقی والمجموعی. نعم الخارج هناک هو الفرد، وفی المجموعی هو الجزء، فلماذا التفصیل؟

وأمّا حلاًّ، فإنّ الحکم الشرعی عندما یتعلّق بالصّلاة مثلاً، هو حکم واحدٌ لکنّ المتعلَّق متعدّدٌ، لکون الصّلاة مرکّبةً من أجزاء عدیدة أوّلها التکبیر وآخرها التسلیم، فهی أُمور واجبةٌ بشرط الإجتماع وتحقّق الوحدة الشخصیّة بینها، فلو ورد التخصیص علی جزءٍ ثمّ شک فی خروج غیره من الأجزاء من تحت الأمر، فإنّه یتمسّک بالأمر ویثبت وجوب بقیة الأجزاء، من غیر فرق بین العام المجموعی والإستغراقی. وسرّ المطلب هو أنّه یجتمع الدلیل الأوّل القائم علی الوجوب مع الدلیل المخصّص الذی أخرج الفرد أو الجزء. أی: إنّ مجیء المخصّص یکشف عن أنّ المراد الجدّی غیر متعلّق من أوّل الأمر بذلک الفرد أو الجزء، فوجوب الإکرام لم یجئ علی زید حتّی یرتفع ب_ لا تکرم زیداً. بل إنّ وجوب الإکرام غیر متوجّه إلی زید من أوّل الأثر. ولا فرق فی ذلک بین العام المجموعی والإستغراقی.

رأی المحقّق النائینی

والمیرزا النائینی _ لمّا رأی قوّة الإشکال _ حاول التخلّص منه ببیانٍ آخر للمطلب، وعلیه حمل کلام الشیخ، وملخّص ما أفاده کما فی تقریر الکاظمی هو:

ص: 410

إنّه إن کان العموم الزمانی مأخوذاً فی متعلَّق الحکم ثمّ شک فی بقاء الحکم وإرتفاعه، فالمرجع هو عموم العام لا الإستصحاب، کما لو قال: یجب علیک الإکرام أبداً وتواضع دائماً، بأن یکون الإستمرار قیداً للمتعلَّق، والحکم عارضاً علی الإستمرار. وإن کان مأخوذاً فی نفس الحکم، وقیداً له، کما فی لزوم العقد، فإنّ الحکم یکون معروضاً للاستمرار، لکنّ عروض الشیء للشیء فرع لثبوت المعروض خارجاً، فالدلیل المثبت للحکم لا یمکن أن یثبت إستمراره، لأنّ الإستمرار متأخّر رتبةً عن الحکم، وعلیه، فلو شکّ فی أصل التخصیص أو فی مقداره لم یجز التمسّک بالعموم، بل المرجع إستصحاب حکم المخصّص.

والحاصل: إنّه فی کلّ موردٍ یکون الزمان قیداً مأخوذاً فی ناحیة متعلَّق الحکم، فهو مورد التمسّک بالعموم. وفی کلّ موردٍ یکون الزمان مأخوذاً فی نفس الحکم، فهو مورد الرجوع إلی إستصحاب حکم المخصّص.

الإشکال علیه

لقد صرّح المیرزا _ کما فی تقریر الکاظمی _ بأنّ نسبة إستمرار الحکم إلی الحکم نسبة العارض إلی المعروض ونسبة الحکم إلی الموضوع، فهنا ماهیّتان لهما وجودان أحدهما قائم بالآخر. وهذا باطل بالبرهان.

وهذا هو الإشکال الأوّل.

والإشکال الثانی: إنّ دعوی إختلاف المرتبة بین الحکم وإستمراره، أوّل الکلام، لأنّ ملاک إختلاف المرتبة هو العلیّة والمعلولیّة، هو مفقود هنا، لأنّ الإستمرار هو بقاء الحادث.

ص: 411

التحقیق فی المقام

أفاد شیخنا: إنّ الحکم المجعول من الشارع علی الموضوع علی ثلاثة أقسام:

1 _ أن یجعل الأحکام المتعدّدة علی الموضوعات المتعدّدة حقیقةً.

2 _ أن یجعل الحکم الواحد بالوحدة السنخیّة علی طبیعیّ الموضوع، مثل الحکم بالوفاء بالنذر والعهد، فلیس بأحکامٍ متعدّدة، ولیس بالحکم الواحد بالوحدة الشخصیّة، فهو یقول «فِ بنذرک». فقد یفی بنذرٍ ولا یفی بآخر، ولکلّ فردٍ حکمه.

3 _ أن یجعل الحکم الواحد بالوحدة الشخصیّة والمتعلَّق واحد کذلک، وإن کان مرکّباً من الأجزاء المرتبط بعضها ببعض کالصّلاة، أو کان عاماً مجموعیّاً.

فإن کان الحکم متعدّداً ثبوتاً وإثباتاً، فلا ریب فی مرجعیّة العام لو دار الأمر بینه وبین الإستصحاب.

وکذا إن کان الحکم واحداً بالسنخ.

إنّما الکلام فی الواحد بالوحدة الشخصیّة، فهل المرجع عموم العام أو إستصحاب حکم المخصّص؟

هنا مقدّمتان:

(الأُولی): قد یجعل الحکم علی المرکّب ثمّ یرتفع عنه، کما فی الصّلاة، فإنّها تجب، ولکن یرتفع وجوبها بنسیان جزءٍ من الأجزاء، لأنّه مع نسیان الجزء لا یرتفع وجوب الجزء فقط، لأنّه کما جاء الوجوب علی هذا الجزء بمجیئه علی الکلّ، کذلک یرتفع وجوب الکلّ إن ارتفع عن الجزء، اللهمّ إلاّ علی مبنی صاحب

ص: 412

الکفایة وتبعه السیّد الخوئی، من أنّ نسبة حدیث الرفع إلی دلیل الوجوب نسبة الإستثناء، فیبقی الوجوب علی بقیّة الأجزاء.

لکنّ رفع الحکم بالتخصیص والتقیید یختلف عن رفعه عن المرکّب، والمخصّص: تارةً متّصل، وأُخری منفصل، والفرق بینهما واضح، إذ المتّصل یتصرّف فی المراد الإستعمالی، والمنفصل یتصرّف فی المراد الجدّی.

(الثانیة) إنّه یستحیل الإهمال فی مقام الثبوت من المولی الملتفت، وذلک لأن حکمه تابعٌ للغرض ولا یتخلّف عنه، فإمّا یکون مطلقاً أو یکون مقیّداً، یکون مستمرّاً أو غیر مستمر.

وبعد

فلو قال المولی: «أکرم من فی المسجد» فهذا حکمٌ واحد شخصی، أفاد تعلّق غرضه بإکرام هذه المجموعة من الناس، بحیث لو لم یکن واحد منهم لم یتحقّق الغرض من الأمر، فالغرض واحد، والحکم واحد، والمتعلّق واحد. فلو جاء المخصّص منفصلاً بقوله «إلاّ زیداً» کشف عن عدم تعلّق الغرض الجدّی به من أوّل الأمر، لا أنّه کان تحت الطلب ثمّ خرج بالإستثناء.

وبالنسبة إلی البیع، فتارةً: یتعلّق الغرض بالبیع علی الدوام والإستمرار فیکون لازماً، وأُخری: یتعلّق به بصورةٍ موقّتةٍ وهو البیع القابل للفسخ بالخیار. فاللزوم قابل للإنقسام إلی الدائم والموقّت. ولمّا کان الحاکم ملتفتاً إلی هذا الإنقسام، وکانت أحکامه تابعةً للأغراض ولا إهمال، فإنّه یأتی بالحکم علی طبق غرضه، فإن جاء المخصّص المنفصل وأفاد جواز الفسخ بظهور الغبن، کشف عن

ص: 413

المراد الجدّی من أوّل الأمر أن المجعول هو لزوم العقد دائماً إلاّ حین یظهر الغبن، لا أن دلیل الغبن أخرج زمان ظهوره عن تحت الحکم.

وتلخّص: أن الحکم قد صدر شاملاً لجمیع الأفراد والأزمنة إلاّ الفرد أو المقدار من الزمن الذی قامت القرینة فیه علی الخلاف، فحینئذ، ترفع الید عنه ویتمسّک فی الباقی بالعموم أو الإطلاق.

فظهر الحق فی المسألة، والإشکال فی کلام المیرزا القائل بأن الحکم لا یتکفّل الإستمرار، إذ ظهر أنّ الإستمرار وعدم الإستمرار قسمان للحکم، وکلّ مقسم فهو متکفّل لأقسامه ولا إهمال.

والحاصل: هو التمسّک بالعموم خلافاً للشیخ وصاحب الکفایة، وأنّ الحق فی خیار الغبن هو الفوریّة ولزوم العقد فی الآنات اللاّحقة.

وهذا تمام الکلام فی هذا التنبیه.

ص: 414

التنبیه الثالث عشر: فی المراد من «الشک»

اشارة

لقد أُخذ «الشک» فی أدلّة الإستصحاب وکان أحد الأرکان، فهل المراد منه خصوص إستواء الطرفین أو الأعم منه والظن؟

المراد هو الأعم من استواء الطرفین

إتّفقوا علی أنّ المراد هو الأعم. واستدلّ لذلک بوجوه:

(الوجه الأوّل) الإجماع. إستدلّ به الشیخ.

(وفیه نظر) من حیث الصغری والکبری. أمّا الصّغری، فقد تقدّم فی أوّل الإستصحاب أنّ المسالک فی حجّیته ثلاثة، وهی: إفادته الظن النوعی، وإفادته الظن الشخصی. والأخبار. وأمّا الکبری، فمن المحتمل إن لم یکن المتیقّن کونه مستنداً. وهو غیر حجّة.

(الوجه الثانی) ما إستدلّ به الشیخ أیضاً من أنّ الظنّ المزبور إن کان ممّا قام الدلیل الخاصّ علی عدم إعتباره شرعاً کالظنّ القیاسی، فهذا وجوده کعدمه شرعاً.

ص: 415

وإن کان ممّا یشک فی إعتباره ولا دلیل علی اعتباره وعدم إعتباره، فحاله حال الشک فی أنّ رفع الید عن الیقین بسببه نقض للیقین ورفع للید عن الدلیل بما لیس بدلیل.

(وفیه) أمّا الشقّ الأوّل، فإنّ الدلیل القائم علی عدم إعتبار الظنّ القیاسی أفاد عدم حجّیته، أمّا لزوم ترتیب آثار الشک علیه، فلا یدلّ علیه، بل یحتاج إلی دلیل آخر.

وأمّا الشقّ الثانی _ من أنّ کلّ ظن لم یقم دلیل علی عدم إعتباره فهو مشکوک الإعتبار _ ففیه: إن من الظنون ما قام الدلیل علی إعتباره، کخبر الواحد. وأمّا ما لم یقم الدلیل علی إعتباره، فقد قام الدلیل علی عدم إعتباره، إمّا بالخصوص کالظنّ القیاسی وأمّا بالعموم کقوله تعالی «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا ».

(الوجه الثالث) قول اللّغویین بالأعمیّة.

(وفیه) أوّلاً: الکلمات مختلفة. وثانیاً: ما الدلیل علی حجّیة قول أهل اللّغة، خاصّة وأنّهم غالباً یذکرون موارد الإستعمال لا المعانی الحقیقیّة للألفاظ.

(الوجه الرابع) أخبار الإستصحاب. وهذا هو العمدة. فإنّ المستفاد من صحیحة زرارة الأولی أنّ رجحان الإحتمال غیر مانع عن الإستصحاب ما لم یبلغ حدّ الیقین، إذ جاء فیها: «لا، حتّی یستیقن أنّه قد نام».

وکذا قوله فیها: «ولا ینقض الیقین بالشک أبداً ولکن ینقضه بیقینٍ آخر» فإنّه ظاهرٌ فی إنحصار جواز النقض فی الیقین.

انتهی الإستصحاب والحمد للّه.

ص: 416

الخاتمة: فی شروط جریان الإستصحاب

اشارة

ص: 417

ص: 418

لقد اشترطوا لجریان الإستصحاب أُموراً نذکرها باختصار:

الأمر الأوّل: وحدة الموضوع والمحمول فی القضیّتین

فلابدّ من أن یکون ما تعلّق به الیقین نفس ما تعلّق به الشک، فلا یجری الإستصحاب مع تغایر الموضوع، کما إذا کان المتیقّن (عدالة زید) والمشکوک (عدالة عمرو). أو تغایر المحمول، کما إذا کان المتیقّن (عدالة زید) والمشکوک (إجتهاد زید). أو تغایرهما، کما إذا کان المتیقّن (عدالة زید) والمشکوک (إجتهاد عمرو).

والدلیل علی ذلک: نفس أخبار الإستصحاب.

وفی الکفایة: ضرورة أنّه بدونه لا یکون الشک فی البقاء بل فی الحدوث، ولا رفع الید عن الیقین فی محل الشک نقض الیقین بالشک. فاعتبار البقاء بهذا المعنی لا یحتاج إلی زیادة بیان وإقامة برهان.

وتعرّض لاستدلال الشیخ فقال: والإستدلال علیه باستحالة إنتقال العرض إلی موضوع آخر لتقوّمه بالموضوع وتشخّصه به. غریب. بداهة أن إستحالة حقیقة

ص: 419

غیر مستلزم لاستحالته تعبّداً والإلتزام بآثاره شرعاً.(1)

نعم، لابدّ من حصول تغیّرٍ مّا فی خصوصیّةٍ من غیر المقوّمات حتّی یتحقّق الشک، فیستصحب البقاء ... .

ثمّ إنّ الوحدة المعتبرة هل هی بنظر العقل أو دلیل الحکم أو العرف؟

وقد تقرّر عندهم أنّ المعتبر هو الوحدة العرفیّة، والدلیل علی ذلک هو: أنّ الأدلّة ملقاة إلی العرف، وتعیین المفاهیم شأن أهل العرف.

الأمر الثانی: عدم جریان الإستصحاب مع وجود الأمارة المعتبرة

لا شبهة فی ذلک.

إنّما الکلام فی وجه تقدّم الأمارة، هل هو الورود، أو الحکومة، أو التوفیق بین دلیل الأمارة والإستصحاب، أی التخصیص؟

فیه خلاف:

إختار فی الکفایة الورود.

واختار الشیخ الحکومة.

قال صاحب الکفایة: وأمّا الحکومة، فلا أصل لها أصلاً، فإنّه لا نظر لدلیلها إلی مدلول دلیله إثباتاً ... .(2)

ص: 420


1- 1. کفایة الأُصول: 427.
2- 2. المصدر: 429.

وقد أجاب السیّد الخوئی عن ذلک بالتفصیل.(1)

وأمّا التخصیص، فقد ذکر السیّد الخوئی أنّ أدلّة الإستصحاب آبیة عنه.

وعلی الجملة، فقد اختار المحقّقون کالمیرزا والإصفهانی والعراقی والخوئی الحکومة تبعاً للشیخ، وهو المختار عند شیخنا الأُستاذ.

الأمر الثالث: النسبة بین الإستصحاب وسائر الأُصول العملیّة

أمّا النسبة بینه وبین الأُصول العملیّة النقلیّة کالبراءة الشرعیّة، فهی نسبة الأمارة إلی الإستصحاب، علی ما تقدّم من الخلاف بین الأعلام. وأمّا تقدّمه علی العقلیّة فهو بالورود عند الکلّ.

الأمر الرّابع: فی تعارض الإستصحابین

اشارة

إنّ الإستصحابین قد یکونان متزاحمین، أی أنّ المحذور فی جعلهما یرجع إلی مقام الإمتثال، کما لو إستصحب بقاء الوقت فی حال ضیقه، فکانت الصّلاة واجبةً، وإستصحب بقاء النجاسة فی المسجد، ولا قدرة علی القیام بالصّلاة وتطهیر المسجد معاً. فهنا تطبّق قاعدة باب التزاحم، وهی تقدّم الأهم علی المهم،

ص: 421


1- 1. مبانی الإستنباط: 288.

ولا شک أنّ الصّلاة أهم لأنّها لا تترک بحال، ومع عدم أهمیّة أحد الطرفین، یکون الحکم هو التخییر.

وإن کان التنافی بین الإستصحابین راجعاً إلی مقام الجعل لا إلی مقام الإمتثال، فهناک مورد التعارض. وهذا ینقسم إلی قسمین، لأنّهما قد یکونان فی العَرض، کما لو علم إجمالاً بطهارة أحد الإناءین ونجاسة الآخر، فجری الإستصحاب فیهما، فإنّ الحکم بطهارتهما معاً یستلزم المخالفة العملیة مع التکلیف القطعی بالإجتناب عن أحدهما، فإن أُرید إجراء الطهارة فی أحدهما المعیّن، کان ترجیحاً بلا مرجّح، وأحدهما غیر المعیّن لا ماهیة له ولا وجود، فمقتضی القاعدة فی هذه الصّورة تساقط الإستصحابین.

وقد یکونان فی الطّول، بأن یکون أحدهما سبباً للآخر. وفی هذه الصّورة قرّروا تقدّم الأصل السّببی علی المسبّبی، واختلفوا فی وجه التقدّم علی قولین:

فصاحب الکفایة والمحقّق الإصفهانی علی الورود، کلٌّ بوجهٍ.

ومثاله: ما إذا غسل الثوب النجس بماء مشکوک الطهارة، فشکّ فی بقاء نجاسة الثوب، فإنّه یستصحب النجاسة فیه، ویُشک فی طروّ النجاسة علی الماء المسبوق بالطهارة ویستصحب طهارته، لکن لا یمکن إجتماع الإستصحابین، لأنّ بقاء طهارة الماء یستلزم طهارة الثوب، لکن نتیجة إستصحاب نجاسة الثوب هو الحکم بنجاسته، ولا تجتمع النجاسة والطهارة.

وأمّا القول بتساقط الإستصحابین بالمعارضة _ کما عن بعض القدماء _ فقد اتّفق المحقّقون علی بطلانه.

ص: 422

دلیل التقدّم بالورود

واستدلّ صاحب الکفایة علی الورود:(1) بأنّ الإستصحاب فی طرف السّبب _ وهو طهارة الماء _ لا یترتّب علیه أی محذور، وینتج طهارة الثوب المغسول به، لأنّها من آثار طهارة الماء. بخلاف ما إذا أُجری الإستصحاب فی طرف المسبّب، لأنّه یستلزم إمّا التخصیص بلا مخصّص وهو باطل، وإمّا التخصیص علی وجه الدور، وهو باطل کذلک.

وتوضیحه: إنّه مع إستصحاب النجاسة فی الثوب، لا یجری الإستصحاب فی طرف الماء، فیقع السّؤال عن المخصّص لدلیل الإستصحاب بالنسبة إلی الماء، وأنّه لماذا لم یجر الإستصحاب مع تمامیّة أرکانه؟ فتخصیص أدلّة «لا تنقض» تخصیص بلا مخصّص. وإن جُعل المخصّص إستصحاب بقاء النجاسة فی الثوب، لزم الدور، لأن مخصّصیّة هذا الإستصحاب لدلیل الإستصحاب فی طرف الماء، یتوقّف علی عدم جریان الإستصحاب فی طرف الماء _ لأنّه إذا جری حکم بطهارة الثوب، فلا یبقی الموضوع للإستصحاب فی الثوب _ لکن عدم جریان إستصحاب الطهارة فی الماء یتوقّف علی تخصیص دلیل الإستصحاب فی الثوب. وهذا دور.

والحاصل: إن الإستصحاب فی طرف الماء بلا محذور، لکنّه فی طرف الثوب له محذور.

ص: 423


1- 1. کفایة الأُصول: 429.
الإشکال علیه

ویرد علیه: إنّه یعتبر فی الإستصحاب وحدة المتعلَّق للیقین المنقوض والیقین الناقض، قال علیه السّلام: «لا تنقض الیقین بالشک بل انقضه بیقینٍ آخر»، والحال أنّ المتعلَّق متعدّد.

وذلک: لأن صاحب الکفایة قال بأنّا لما أجرینا الإستصحاب فی طهارة الماء حصل لنا الیقین بطهارة الثوب، لأنّها من آثار طهارة الماء، والإستصحاب فی طرف الماء وارد علی الإستصحاب لنجاسة الثوب، لأنّه إنّما یجری حیث یشک فی طهارته، ومع جریان الإستصحاب فی طرف الماء لا شک فی طهارة الثوب. وهذا هو الورود.

والإشکال علیه هو: إنّ الثوب یکون طاهراً بالطهارة الظاهریّة، ومن المعلوم أنّ الطهارة الظاهریّة لا تنقض النجاسة الواقعیّة التی هی الحالة السّابقة للثوب، وإنّما الرافع للنجاسة الواقعیّة هو الطهارة الواقعیّة، والإستصحاب لا یفید ذلک، فتعدّد المتعلَّق لهذا الیقین وذاک، ومع تعدّده لا یجری الإستصحاب.

دلیل التقدّم بالحکومة

وذهب الشیخ _ وتبعه المیرزا والحائری والخوئی وغیرهم _ إلی الحکومة، وأنّ الأصل السّببی حاکم علی المسبّبی. وأحسن ما قیل فی الباب ما ذکره المیرزا والحائری، وهذا تقریب ما أفاد المیرزا:(1)

ص: 424


1- 1. أجود التقریرات 4 / 263.

إنّه یوجد بین السّبب والمسبّب الاختلاف فی المرتبة. وذلک:

لأنّ الشکّ فی المسبّب معلولٌ للشکّ فی السّبب، فالنسبة بینهما نسبة العلیّة والمعلولیّة، کما هو الحال بین الموضوع والحکم، فإن «لا تنقض الیقین بالشک» موضوع وحکم، فالموضوع هو «الیقین والشک» والحکم هو «لا تنقض»، وقد تقرّر أنّ الأحکام الشرعیّة قضایا حقیقیّة، فالحکم یتعدّد علی عدد الموضوعات الموجودة فی الخارج، فالشک السّببی موضوع وله حکمه، فالحکم بالنسبة إلی الماء المتیقّن طهارته سابقاً هو الطهارة، والشک المسبّبی موضوع آخر وله حکمه، فالحکم بالنسبة إلی الثوب المتیقّن نجاسته سابقاً هو النجاسة.

والحاصل: هنا مراتب، فالأُولی للموضوع وهو الشک، والثانیة للحکم وهو عدم جواز النقض، والثالثة حکم الشک فی الثوب. ففی المرتبة الأُولی نشکّ فی طهارة الماء وترتّب الحکم بعدم النقض، وإذا تمّ الموضوع والحکم ولا معارض جری الإستصحاب، فالماء محکوم بالطهارة، وإذا کان کذلک، فقد غسل الثوب بماءٍ طاهر فهو طاهر، لأنّه یزول الشک عن ذلک بالتعبّد.

وبعبارة أُخری: یکون الحکم بالنسبة إلی السّبب فی مرتبة الموضوع للحکم بالنسبة إلی المسبّب، ومن الواضح تأخّر حکم المسبّب عن موضوعه، فیکون حکم المسبّب متأخّراً عن حکم السّبب بمرتبتین.

وبناءً علی ذلک، فإنّه لا یعقل التعارض بین الأصلین، لأن التعارض فرع کونهما فی العرض کما لا یخفی.

ص: 425

الإشکال علیه

وقد أورد علی ما ذکر بوجوه:

(الأوّل)

إنّه لا علّیّة ومعلولیّة بین الشکّین حتی یکون بینهما إختلاف فی المرتبة، بل الشک فی طهارة الماء موجود، سواء وجد الثوب أو لا؟ والشک فی نجاسة الثوب موجود، سواء وجد الماء أو لا؟

إنّه لیس الشک فی طهارة الماء هو السّبب للشک فی طهارة الثوب ونجاسته، فلیس الشک فی النجاسة معلولاً للشک فی طهارة الماء، بل إنّ منشأ الشک فی طهارة الماء المتیقّنة سابقاً ملاقاته للثوب النجس، والشک فی طرف الثوب النجس یقیناً سابقاً ناشئ من غسله بالماء المشکوک الطهارة لاحقاً.

(الثانی)

لو سلّمنا بأنّ الشک فی بقاء نجاسة الثوب ناشئ من الشک فی طهارة الماء، فإنّه لا إختلاف فی المرتبة بین الحکمین، لأن إختلاف المرتبة یحتاج إلی الملاک وهو العلّیّة والمعلولیّة، أو کون أحدهما موضوعاً والآخر حکماً، ولولا الملاک فهو محال، وهذا الملاک فی المقام مفقود، لأنّ النهی عن النقض متوجّه إلی کلا الطرفین علی السّواء.

نعم، الحکم بطهارة الثوب متأخّر عن الحکم بطهارة الماء، أی أنّ الشارع جعل المغسول بالماء الطاهر طاهراً، فکان من آثار طهارة الماء طهارة الثوب، فیکون بینهما إختلاف فی المرتبة، لا أنّ الشک فی الثوب متأخّر عن الشک فی

ص: 426

الماء، ولا أنّ «لا تنقض» فی الثوب متأخّر عنه فی الماء.

(الثالث)

ولو سلّمنا إختلاف المرتبة بین الشکّین وبین الحکمین، فإنّه فی عالم العقل، وإلاّ ففی الوجود والتحقّق هما موجودان معاً _ کما هو الحال فی النار والحرارة، إذ الاختلاف فی المرتبة بینهما موجودٌ لکن لیس فی وجودهما خارجاً تقدّم وتأخّر _ والأدلّة الشرعیّة موضوعاتها ما فی الخارج لا ما فی المرتبة. وعلیه، فالشکّان والحکمان موجودان فی الزمان الواحد، فیقع بینهما التعارض.

رأی الأُستاذ

ثمّ إنّ الأُستاذ بعد أن ذکر آراء الأعاظم فی المسألة قال ما حاصله:

إنّ التحقیق هو التفکیک بین الشکّین والمشکوکین، فهنا شکّان ومشکوکان:

فالمشکوک فیه فی ناحیة السّبب هو (الطهارة)، والمشکوک فیه فی ناحیة الثوب هو (النجاسة)، فما هی النسبة بینهما؟ هل هی السّببیّة والمسبّبیّة، بأن یکون أحدهما ناشئاً من الآخر ومتولّداً منه، مثل سببیّة النار للحرارة والشمس للضوء؟ إنّه لیست النسبة بینهما من هذا القبیل، لأنّهما حکمان شرعیّان، والسّبب للأحکام الشرعیّة هو إرادة الشارع _ وکذلک فی الأحکام العرفیّة _ ، فجعل النسبة بین متعلَّقی الشکّین من باب السّببیّة والمسبّبیّة باطل قطعاً، فما هی النسبة؟

ص: 427

إنّها نسبة الموضوع إلی الحکم. أی: إن أحد المشکوکین هو الموضوع والمشکوک فیه الآخر حکم یترتّب علی ذلک الموضوع، فطهارة الماء موضوع لطهارة ما غسل به، ونجاسة الماء موضوع لنجاسة ما غسل به، ولیست النسبة بین الموضوع والحکم فی الأحکام الشرعیّة نسبة السّبب إلی المسبّب. نعم، بینهما طولیّة وترتّب وکونهما فی العَرض محال، لکنّه لیس من باب العلّیّة والمعلولیّة، بل إنّه ترتّب طبیعی، وتوضیح ذلک:

تارةً: ینظر إلی الموضوع والحکم بلحاظ الموضوعیّة والحکمیّة، بأن تلحظ طهارة الماء بما هی موضوع للحکم ویلحظ الحکم فی الثوب _ کما تلحظ العدالة فی زید بما هو موضوع لجواز الإقتداء به فی الصّلاة ویلحظ جواز الإقتداء بما هو الأثر لعدالة زید _ وفی هذا اللحاظ تکون النسبة بین الموضوع والحکم نسبة التضایف، فیکونان فی العَرض ولا طولیّة، فهما کالابوّة والنبوّة، من مقولة الإضافة، حیث ینظر إلی زیدٍ بما هو أب ولعمرو بما هو ابن له.

وأُخری: ینظر إلیهما لا بالعنوان المذکور، بل یلحظان بذاتهما، وحینئذٍ یکونان فی الطّول ویتقدّم الموضوع علی الحکم بالتقدّم والتأخّر الطبعی، والملاک فی هذا التقدّم والتأخّر هو توقّف المتأخّر فی وجوده علی المتقدّم وعدم توقّف وجود المتقدّم علی المتأخّر، کما هو الحال بین الواحد والاثنین، حیث أنّهما بذاتهما کذلک وإن کانا متضائفین بلحاظ أن هذا واحد وذاک إثنان.

ص: 428

فظهر أنّ طهارة الماء متقدّمة ذاتاً علی نجاسة الثوب بالتقدّم الطبعی، ونجاسة الثوب متأخّرة بالتأخّر الطبعی، وأنّ طهارة الثوب متوقّفة فی مرحلة التحقّق خارجاً علی طهارة الماء، لکنّ طهارة الماء غیر متوقّفة علی طهارة الثوب، فهما فی الطّول بهذا اللحاظ لکن لا من باب العلّیّة والمعلولیّة والسّببیّة والمسبّبیّة. ولو لوحظا بما هما موضوع وحکم کانا فی العَرض لکونهما متضائفین.

هذا فی المشکوکین.

وأمّا بالنسبة إلی الشکّین، فالأمر یختلف، والسّببیّة والمسبّبیّة بینهما متحقّقة، وتوضیح ذلک:

لقد کان الثوب متیقّن النجاسة، وقد غسل بماءٍ مستصحب الطهارة، فإن کان الماء نجساً فی الواقع، فالثوب باق علی نجاسته، وإن کان طاهراً کذلک، فالنجاسة زائلة. فکان منشأ التردّد فی الثوب هو التردّد فی الماء، وقد حصل التردّد فی الثوب بعد غسله بالماء المشکوک الطهارة وإلاّ لم یکن ریبٌ فی نجاسته.

فالصّحیح هو التفکیک بین الشکّین والمشکوکین علی ما ذکرنا.

وبعد:

فما هو الملاک لتقدّم إستصحاب طهارة الماء علی إستصحاب نجاسة الثوب؟

ص: 429

هنا مقدّمتان:

(الأُولی)

إنّه فی موارد الأُصول العملیّة یوجد الجهل من جهتین: یوجد الجهل والشک بالنسبة إلی الواقع، وهذا هو موضوع الحکم فی الأصل العملی، وهذا الجهل باقٍ، وإلاّ یلزم إنتفاء الموضوع. ویوجد الجهل بالنسبة إلی الوظیفة الفعلیّة، لکن هذا الجهل یرتفع بجعل الحکم الظاهری أی الأصل العملی.

(الثانیة)

إنّه فی جمیع موارد الشک السّببی والمسبّبی لا توجد السّببیّة والمسبّبیّة بالمعنی الحقیقی، وإنّما هو الحکم والموضوع، وبینهما تقدّم وتأخّر طبعاً. فالأصل الجاری فی السّبب یعنی الأصل الجاری فی الموضوع، وهذا الأصل لا یرفع الشک فی الحکم الواقعی.

فظهر أنّه لا ورود ولا حکومة بالنسبة إلی الحکم الواقعی، وإنّما یرتفع الشک فی حکم الثوب فی مقام الوظیفة العملیّة بجریان الأصل فی الماء، ولا تبقی الحیرة فی الحکم العملی بالنسبة إلی الثوب. وهذا معنی التقدّم.

وبعبارة أُخری: إنّه مع الشک فی طهارة الماء یجری فیه الإستصحاب، لوجود المقتضی وهو الیقین السّابق والشک اللاّحق، عدم المانع، ولأنّه لا مانع عن

ص: 430

جریان الأصل فی مرتبة الشک فی الموضوع. وأمّا من جهة الأصل الحکمی فالتعارض باطل بالضرورة، وإلاّ یلزم التخصیص بلا مخصّص أو التخصیص علی وجه الدور، کما تقدّم. وإذا جری الأصل فی طرف الموضوع _ وهو الماء _ لتمامیّة المقتضی وعدم المانع، دلَّ الدلیل _ وهو «لا تنقض» _ علی أمرین، أحدهما: طهارة الماء بالدلالة المطابقیّة، والآخر: طهارة الثوب بالدلالة الإلتزامیّة، فلا تنقض عملاً الیقین السّابق بالشک اللاّحق، ورتّب علی ذلک آثار الطهارة.

فالأصل السّببی یعنی الأصل الموضوعی، والأصل المسبّبی یعنی الأصل الحکمی، والأصل الحکمی لا یعارض الأصل الموضوعی، بل یجری الموضوعی بالضرورة، وبه ینتفی الشکّ فی الوظیفة العملیّة بالنسبة إلی الحکم.

فلبّ المطلب هو الورود لکن لا بتقریب الکفایة بالتصرّف فی لفظ «الیقین» حیث أخذ الیقین بمعنی «الحکم الظاهری»، ولا بتقریب المحقّق الإصفهانی بالتصرّف فیه، حیث أخذه بمعنی «الحجّة». بل عن طریق أنّ الموضوع فی الأصل الحکمی _ وإن کان إثباتاً هو الشک فی الواقع _ لکنّه ثبوتاً هو الحیرة فی الوظیفة العملیّة، والأصل فی طرف الموضوع یرفع ببرکة التعبّد وجداناً تلک الحیرة.

وهذا تمام الکلام فی المقام.

وبه یتمُّ الکلام فی علم الأُصول.

ص: 431

وقد وقع الفراغ من بحث الخارج من علم الأُصول فی الدورة الأُولی، فی مدرسة سیّدنا الأُستاذ الگلپایگانی قدّس سرّه فی الحوزة العلمیّة بقم المقدّسة علی ثلّة من الفضلاء بتاریخ شهر ذی الحجّة من سنة 1435.

وشرعنا فی الدورة الثانیة.

وسنباشر بطبع مبحث التعادل والتراجیح فی مجلَّد، فور الفراغ من تدریسه إن شاء اللّه.

والحمد للّه أوّلاً وآخراً، وصلّی اللّه علی محمّد وآله الطّاهرین.

ص: 432

المحتویات

الإستصحاب

7 _ 33

مقدّمة فی أهمیّة الإستصحاب وموقعه فی علم الأُصول ··· 9

الأمر الأوّل: فی تعریف الإستصحاب ··· 11

الإستصحاب لغةً ··· 11

الإستصحاب اصطلاحاً ··· 12

تعریف الشیخ ··· 12

کلام المحقّق الهمدانی ··· 14

کلام المحقّق الخراسانی ··· 14

تعریف المحقّق الخراسانی ··· 15

تعریف المحقّق النائینی ··· 16

تعریف المحقّق الخوئی ··· 16

ص: 433

تعریف السیّد الأُستاذ ··· 17

الأمر الثانی: هل الإستصحاب مسألة أُصولیّة أو قاعدة فقهیّة؟ ··· 19

الأقوال فی المقام ··· 19

النظر فی الأقوال ··· 20

تفصیل المقال فی المقام ··· 24

الأمر الثالث: فی الفرق بین الإستصحاب وقاعدة المقتضی والمانع وقاعدة الیقین ··· 30

قاعدة المقتضی والمانع ··· 30

قاعدة الیقین ··· 31

أدلّة الإستصحاب

33 _ 121

1 _ السیرة العقلائیّة ··· 35

الکلام فی الصغری ··· 35

حول الدلیل علی دعوی السّیرة ··· 36

تفصیل المحقّق النائینی ··· 39

الإشکال علیه ··· 39

تفصیل المحقّق العراقی ··· 40

الإشکال علیه ··· 40

ص: 434

الکلام فی الکبری ··· 41

رأی المحقّق الخراسانی ··· 42

الإشکال علیه ··· 42

إشکال المحقّق النائینی ··· 44

دفاع المحقّق العراقی ··· 44

النظر فیه ··· 44

رأی المحقّق الخوئی ··· 45

النظر فیه ··· 45

2 _ الظن ··· 47

الإشکال فی الصغری ··· 47

الوجه الأوّل ··· 47

الوجه الثانی ··· 48

الإشکال فی الکبری ··· 48

3 _ الإجماع ··· 48

الکلام علیه ··· 48

4 _ النصوص ··· 49

صحیحة زرارة الأُولی ··· 49

الإشکال فی الإستدلال ··· 51

المحتملات الخمسة فی الصّحیحة ··· 52

ص: 435

بیان دلالة الصّحیحة ··· 56

إشکال علی الصّحیحة ··· 57

وجوه الجواب والنظر فیها ··· 59

الصّحیحة الثانیة ··· 64

السند ··· 66

المتن ··· 66

موضع الإستدلال ··· 67

إشکالٌ فی تطبیق الإستصحاب علی المورد ··· 69

وجوه الجواب _ الأوّل ··· 69

الإشکال علی الکفایة ··· 72

الجواب الثانی ··· 74

الجواب الثالث ··· 75

الإشکال علی المیرزا ··· 76

الجواب الرابع ··· 77

الجواب الخامس ··· 78

الصّحیحة الثالثة ··· 79

إشکالات ذکرها الشیخ ··· 80

الکلام علی الإشکالات ··· 82

إشکالان للمحقّق العراقی ··· 85

ص: 436

الأوّل ··· 85

الثانی ··· 87

الروایة الرابعة: موثّقة إسحاق بن عمّار ··· 89

الإشکال علیه ··· 90

الروایة الخامسة: روایة الخصال ··· 91

سند الروایة ··· 91

دلالة الروایة ··· 93

الأجوبة عن إشکال الشیخ ··· 95

الروایة السادسة: مکاتبة الکاشانی ··· 98

الکلام فی الدلالة ··· 99

الإشکال علی الإستدلال ··· 100

الکلام فی السند ··· 104

کلام الشیخ فی نصوص الإستصحاب ··· 105

روایتان بضمیمة عدم الفصل ··· 106

کلام الشیخ ··· 106

الإشکال علیه ··· 107

الإشکال الصّحیح ··· 108

کلام المحقّق العراقی ··· 108

الإشکال علیه ··· 108

ص: 437

روایات أُخری ··· 109

الإحتمالات فی هذه الروایات ··· 109

مختار المحقّق الخراسانی فی الحاشیة ··· 110

الإشکال علیه أوّلاً ··· 112

جواب المحقّق الإصفهانی ··· 112

رأی المحقّق الخوئی ··· 114

الإشکال علیه ··· 115

الإشکال علیه ثانیاً ··· 115

الإشکال علیه ثالثاً ··· 116

سقوط الإحتمال الثالث ··· 118

رأی المحقّق الخراسانی فی الکفایة ··· 118

رأی صاحب الفصول ··· 119

الإحتمال الأخیر ··· 119

التفصیلات فی الإستصحاب

121 _ 217

تفصیل الشیخ بین الشک فی المقتضی والرافع ··· 125

المراد من المقتضی ··· 125

دلیل التفصیل ··· 128

ص: 438

إشکالٌ ذکره الشیخ وأجاب عنه ··· 129

إشکالات المحقّق الخراسانی ··· 130

ما أورده علی نفسه وأجاب عنه ··· 131

تنقیح المطلب ··· 134

مرحلة الإقتضاء ··· 134

1 _ رأی المحقّق النائینی ··· 135

2 _ رأی السیّد الخوئی ··· 136

3 _ رأی المحقّق الخراسانی ··· 136

مرحلة المانع ··· 137

إشکالان من المحقّق العراقی ··· 141

التفصیل بین الشبهات الحکمیّة والموضوعیّة ··· 147

مقدّمة ··· 147

دلیل التفصیل ··· 149

هل المحقّق النراقی قائل بالتفصیل؟ ··· 154

الدلیل المهم للقول بالتفصیل ··· 156

الکلام حول التفصیل بالتفصیل ··· 157

الإشکالات علی هذا التفصیل ··· 157

إشکال الشیخ ··· 157

إشکال الکفایة ··· 158

ص: 439

إشکال المحقّق النائینی ··· 159

إشکال آخر ··· 160

نظر الأُستاذ ··· 162

رأی المحقّق العراقی ··· 163

الإشکال علیه ··· 165

المطلب الأخیر ··· 165

إشکال آخر ··· 166

رأی السیّد الأُستاذ ··· 168

تفصیل فی التفصیل ··· 170

الإشکال علیه ··· 170

خلاصة الکلام فی المقام ··· 171

التفصیلُ بین الأحکام المستنبطةِ من الأدلّة الشرعیّة والأحکام المستنبطة من حکم العقل ··· 175

توضیح التفصیل ··· 175

تقریب التفصیل ··· 176

إشکال المحقّق الخراسانی ··· 177

إشکال المحقّق النائینی ··· 178

النظر فیه ··· 181

التحقیق فی المقام ··· 181

ص: 440

رأی السیّد الأُستاذ ··· 182

التفصیل بین الأحکام الوضعیّة والأحکام التکلیفیّة ··· 185

نصّ کلام الفاضل التونی ··· 185

الإشکال علی کلام الفاضل التونی ··· 188

الکلام حول الأحکام الوضعیّة ··· 190

رأی صاحب الکفایة ··· 190

حقیقة الحکم ··· 194

هل الحکم التکلیفی وجودیّ فقط؟ ··· 195

هل الحکم التکلیفی یقبل الجعل بالاستقلال؟ ··· 195

تفصیل الکلام حول أقسام الأحکام الوضعیّة ··· 196

رأی المحقّق الإصفهانی ··· 197

رأی المحقّق النائینی ··· 198

رأی الشیخ فی الأحکام الوضعیّة والبحث حوله ··· 200

الکلام فی الطهارة والنجاسة ··· 204

کلام المحقّق النائینی ··· 205

کلام المحقّق العراقی ··· 208

کلام المحقّق الخوئی ··· 210

الکلام فی الصّحة والفساد ··· 211

الکلام فی الحجیّة ··· 212

ص: 441

الکلام فی الطریقیّة ··· 213

الکلام فی العزیمة والرخصة ··· 213

نتیجة البحث ··· 213

التفصیل بین الشک فی وجود الرافع والشک فی رافعیّة الموجود ··· 215

دلیل التفصیل ··· 215

الإشکال علیه ··· 216

تنبیهات الإستصحاب

217 _ 417

التنبیه الأوّل: هل یعتبر فعلیّة الشک؟ ··· 219

أدلّة القول الثانی ··· 220

الوجه الأوّل ··· 220

الوجه الثانی ··· 221

أدلّة القول الأوّل ··· 222

الوجه الأوّل ··· 222

الوجه الثانی ··· 222

الوجه الثالث ··· 223

ثمرة الخلاف ··· 224

الثمرة الأُولی ··· 224

ص: 442

الإشکال الأوّل ··· 225

الإشکال الثانی ··· 228

موجز الکلام فی قاعدة الفراغ: ··· 228

تقریب القول الأوّل ··· 229

تقریب القول الثانی ··· 229

تقریب القول الثالث ··· 230

الثمرة الثانیة ··· 233

الإشکال علی الشیخ ··· 233

دفاع المحقّق الإصفهانی ··· 233

ثمرات أُخری ··· 234

التنبیه الثانی: هل یجری الإستصحاب فی مؤدّیات الطرق والأمارات؟ ··· 235

تفصیل الکلام ··· 236

المقام الأوّل: فی موارد قیام الأمارات ··· 236

طریق الکفایة ··· 236

الإشکال علی الکفایة ··· 238

الإشکال الصّحیح ··· 238

الجواب علی مسلک المنجزیّة والمعذریّة ··· 239

إشکال المحقّق النائینی ··· 239

إشکال المحقّق الخوئی ··· 241

ص: 443

الإشکال الصّحیح ··· 244

رأی السیّد الأُستاذ ··· 245

طریق المیرزا والعراقی ··· 245

الإشکال علیه ··· 246

طریقان آخران ··· 246

المقام الثانی: فی موارد الأُصول ··· 248

توضیح التفصیل ··· 248

الإشکال علیه ··· 250

التنبیه الثالث: فی إستصحاب الکلّی ··· 251

أقسام الکلّی ··· 251

رأی صاحب العروة فی الفرد المردّد ··· 252

إشکال المحقّق النائینی ··· 254

دفاع المحقّق العراقی ··· 254

الکلام فی إستصحاب الکلی ··· 256

الإشکال الأوّل ··· 258

الإشکال الثانی ··· 260

وجوه الجواب ··· 261

الوجه الأوّل ··· 261

الإشکال علیه ··· 261

ص: 444

الوجه الثانی ··· 262

الإشکال علیه ··· 262

الوجه الثالث ··· 263

جواب المیرزا عن الإشکال ··· 264

الإشکال علیه ··· 264

النظر فی هذا الإشکال ··· 265

خلاصة الکلام ··· 267

الشبهة العبائیّة ··· 267

جواب المحقّق النائینی ··· 268

الإشکال علیه ··· 270

نظر الأُستاذ ··· 270

القسم الثالث من أقسام إستصحاب الکلّی ··· 271

الإتّفاق علی الجریان فی الصّورة الثالثة ··· 273

الإختلاف فی الصّورتین الأولیین ··· 273

رأی الشیخ ··· 274

الإشکال علیه ··· 274

التنبیه الرابع: فی الإستصحاب فی الأُمور التدریجیّة ··· 277

فی نفس الزمان ··· 277

الکلام فی الزمان بنحو کان التامّة ··· 278

ص: 445

الکلام فی الزمان بنحو کان الناقصة ··· 282

وجه عدم الجریان ··· 283

وجه الجریان ··· 283

نظر الأُستاذ ··· 283

الکلام فی الأُمور التدریجیّة الأُخری ··· 283

صور المسألة والکلام فیها ··· 284

الکلام فی الأفعال المتقیّدة بالأزمنة الخاصّة ··· 285

صور المسألة والکلام فیها ··· 286

الکلام فی الشبهة الحکمیّة ··· 294

الکلام فی تردّد القید بین کونه للطلب أو مرتبةٍ منه ··· 295

رأی الشیخ ··· 295

رأی صاحب الکفایة ··· 295

رأی المحقّق المیرزا ··· 296

الإشکال علیه ··· 296

رأی السیّد الخوئی ··· 297

التنبیه الخامس: فی الإستصحاب التعلیقی ··· 299

بیان مورد البحث ··· 299

الکلام فی إستصحاب الحرمة ··· 301

طریق الشیخ ··· 302

ص: 446

طریق صاحب الکفایة ··· 303

طریق المحقّق العراقی ··· 304

الإشکال علیه ··· 307

طریق المحقّق الحائری ··· 309

النظر فیه ··· 311

الکلام فی إستصحاب الملازمة ··· 312

الإشکال علیه ··· 313

الکلام فی مرحلة المانع ··· 314

الکلام فی الإستصحاب التعلیقی فی الموضوعات ··· 315

1 _ مقام المقتضی ··· 316

2 _ مقام المانع ··· 316

التنبیه السادس: فی إستصحاب عدم النسخ ··· 317

الکلام فی إستصحاب عدم النسخ حیث یشکُّ فی بقاء الجعل السّابق ··· 317

1 _ مقام المقتضی ··· 318

بیان الشیخ بوجهین ··· 318

الوجه الأوّل ··· 318

الإشکال علی الشیخ ··· 318

دفاع الشیخ الحائری ··· 319

الوجه الثانی ··· 320

ص: 447

الإشکال علی الشیخ ··· 321

النظر فی هذا الإشکال ··· 322

إشکال المیرزا ··· 322

الإشکال ببیانٍ آخر ··· 323

النظر فیه ··· 324

إشکال آخر ··· 325

الجواب عن هذا الإشکال ··· 326

مقام المانع ··· 327

التنبیه السابع: فی حجّیة مثبتات الأُصول وعدمها؟ ··· 329

تحریر محلّ البحث ··· 329

الفرق بین مثبتات الأُصول والأمارات ··· 330

البیان الأوّل ··· 330

الجواب الصّحیح عن البیان ··· 333

البیان الثانی ··· 335

الإشکال علیه ··· 337

البیان الثالث ··· 337

الإشکال علیه ··· 338

البیان الرابع ··· 338

المختار عند الأُستاذ ··· 339

ص: 448

نقد القول بأنّ الإستصحاب من الأمارات ··· 339

الحاصل ··· 340

الکلام فی مرحلة المانع ··· 341

تفصیل الشیخ فی مثبتات الإستصحاب ··· 342

الإشکال علیه ··· 343

دفاع المحقّق العراقی ··· 344

نقد الدفاع ··· 344

الکلام فی مثالی الشیخ ··· 345

النظر فیه ··· 347

تفصیل صاحب الکفایة ··· 348

الإشکال علیه ··· 349

التنبیه الثامن: فی بحوثٍ متعلّقة بمسألة الأصل المثبت ··· 351

الإشکال فی جریان الإستصحاب فی الموضوعات ··· 351

جواب الکفایة ··· 352

الإشکال علیه ··· 352

الإشکال الصّحیح ··· 355

حلّ الإشکال ··· 355

الإشکال فی جریان الإستصحاب فی منشأ الإنتزاع ··· 356

الإشکال علیه ··· 357

ص: 449

الإشکال فی إستصحاب الشروط والموانع ··· 357

الإشکال فی إستصحاب عدم التکلیف ··· 360

التحقیق فی المقام ··· 361

التنبیه التاسع: فی أنّ التعبّد الإستصحابی ناظر إلی مرحلة البقاء لا مرحلة الحدوث ··· 365

التنبیه العاشر: فی أصالة تأخّر الحادث ··· 367

تحریر محلّ البحث ··· 367

إذا علم بتحقّق أحد الجزئین وجهل المتقدّم والمتأخّر ··· 371

إذا کانا مجهولی التاریخ ··· 372

کلام الشیخ ··· 372

کلام صاحب الکفایة ··· 373

الخلاف بین الشیخ وصاحب الکفایة فی الصّورة الرابعة ··· 377

النظر فی أدلّة قول صاحب الکفایة ··· 377

خلاصة البحث ··· 381

لو عُلم بتاریخ أحد الأمرین ··· 382

بیان الشیخ ··· 382

الإشکال علیه ··· 383

بیان الکفایة ··· 384

خلاصة البحث ··· 390

ص: 450

لو تعاقب الحادثان ··· 390

القول بوجود المقتضی فی کلیهما ··· 390

القول بعدم وجود المقتضی ··· 391

التنبیه الحادی عشر: فی جریان الإستصحاب فی الإعتقادیّات وعدم جریانه ··· 395

فی الأُمور الإعتقادیّة ··· 396

فی نفس النبوّة ··· 397

رأی الأُستاذ ··· 399

فی إستدلال الکتابی ··· 400

کلام الکفایة ··· 400

تفصیل الکلام فی المقام ··· 401

التنبیه الثانی عشر: فی إستصحاب حکم المخصّص ··· 403

قول الشیخ بالتفصیل ··· 404

نظر صاحب الکفایة ··· 405

الإشکال علی الشیخ وصاحب الکفایة ··· 409

رأی المحقّق النائینی ··· 410

الإشکال علیه ··· 411

التحقیق فی المقام ··· 412

التنبیه الثالث عشر: فی المراد من «الشک» ··· 415

ص: 451

المراد هو الأعم من استواء الطرفین ··· 415

الخاتمة: فی شروط جریان الإستصحاب

417 _ 433

الأمر الأوّل: وحدة الموضوع والمحمول فی القضیّتین ··· 419

الأمر الثانی: عدم جریان الإستصحاب مع وجود الأمارة المعتبرة ··· 420

الأمر الثالث: النسبة بین الإستصحاب وسائر الأُصول العملیّة ··· 421

الأمر الرّابع: فی تعارض الإستصحابین ··· 421

دلیل التقدّم بالورود ··· 423

الإشکال علیه ··· 424

دلیل التقدّم بالحکومة ··· 424

الإشکال علیه ··· 426

رأی الأُستاذ ··· 427

المحتویات ··· 433

452. ··· تحقیق الاصول / ج 9

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.