دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه

اشارة

سرشناسه: حسيني ميلاني، علي 1326 - عنوان قراردادي: منهاج الكرامة في معرفة الامامه. شرح

منهاج السنة النبويه في نقض الشيعة القدريه. شرح عنوان و نام پديدآور: دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيمية: مدخل لشرح منهاج الكرامة تاليف علي الحسيني الميلاني. مشخصات نشر: قم مركزالحقايق الاسلاميه 1428 ق. 1386. مشخصات ظاهري: 640 ص. شابك: 964-2501-01-5 يادداشت: عربي. يادداشت: چاپ قبلي: علي حسيني 1419ق = 1377. يادداشت: چاپ سوم. يادداشت: اين كتاب شرحي بر كتاب "منهاج السنه" تاليف ابن تيميه مي باشد كه خود نيز رديه اي بر كتاب "منهاج الكرامه في معرفه الامامه" تاليف علامه حلي است. يادداشت: كتابنامه: ص. [611]- 614؛ همچنين به صورت زيرنويس. موضوع: علي بن ابي طالب (ع) ، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- اثبات خلافت موضوع: ابن تيميه، احمد بن عبد الحليم، 661- 728 ق . منهاج السنة النبويه في نقض الشيعة القدريه -- نقد و تفسير موضوع: علامه حلي، حسن بن يوسف، 648-726ق. منهاج الكرامة في معرفة الامامه -- نقد و تفسير موضوع: امامت -- دفاعيه ها و رديه ها موضوع: شيعه -- دفاعيه ها و رديه ها شناسه افزوده: ابن تيميه، احمد بن عبد الحليم، 661- 728 ق . منهاج السنة النبويه في نقض الشيعة القدريه. شرح شناسه افزوده: علامه حلي، حسن بن يوسف، 648-726ق. منهاج الكرامة في معرفة الامامه. شرح رده بندي كنگره: BP223 /ع75م802152 1386 رده بندي ديويي: 297/45 شماره كتابشناسي ملي: 2025715

كلمة المؤلّف … ص: 5

الحمد للَّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام علي سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

وبعد:

فقد ألّف فقيه الشيعة في عصره جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف ابن المطّهر الحلّي، الشهير بالعلّامة، المتوفي سنة 726، كتباً في العقائد والإمامة، إشتهر من بينها كتابان هما: كتاب (نهج الحق) وكتاب (منهاج الكرامة) …

وكان الكتابان محطّ أنظار المخالفين والمؤالفين، حتي ردّ علي الأوّل منهما الفضل ابن روزبهان الخنجي، في كتابٍ أسماه ب (إبطال الباطل)، فانبري السيّد نور اللَّه القاضي التستري للردّ عليه

والدفاع عمّا جاء به العلّامة، في كتابه الكبير (إحقاق الحق)، ثم نسج علي منواله وسار علي خطاه الشيخ محمّد حسن المظفّر في كتابه (دلائل الصّدق لنهج الحق).

واشتهر الشيخ عبد الحليم ابن تيميّة الحرّاني المتوفّي سنة 728 بالردّ علي الكتاب الثاني، وكان كتابه (منهاج السنّة) من أهمّ كتب أهل السنّة المعتمد عليها والمرجوع إليها في العقائد، وفي خصوص الإمامة منها.

ولمّا طُلب منّي وضع شرح لكتاب (منهاج الكرامة) كان من الطبيعي أن دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 6

أنظر إلي ردود ابن تيميّة عليه في كلّ مسألةٍ، فجاء الشرح- في الحقيقة- كالمحاكمة بين (المنهاجين) …

وشرعت في الأثناء في كتابة المقدّمة للشّرح، للتعريف بالكتابين ومؤلّفيهما، فاضطرّني ذلك إلي قراءة كتاب (منهاج السنّة) بالدقّة، من أوّله إلي آخره «1»، فوجدت ابن تيميّة قد جمع كلّ قواه ليستفرغ في كتابه هذا كلّ ما وسعه استفراغه للحدّ من تأثير (منهاج الكرامة) الذي كان مصدر قلقٍ لكثيرٍ ممّن هم حول ابن تيميّة- تماماً كما فعل ابن حجر المكّي في (صواعقه) وصرّح في ديباجته بالقلق من انتشار التشيّع في زمنه في مكّة- بأساليب قد لا توجد في أيّ مؤلَّف آخر في الصراع العقيدي بين المسلمين.

ومن هنا … فقد رأينا أنّ (منهاج السنّة) هو المدخل الأمثل للتعرّف علي مؤلّفه (ابن تيميّة)، فبدلًا من أن نرجع إلي كلمات العلماء- من المعاصرين له والمتأخّرين عنه- فإنّ كتابه هذا خير مصدر يعرّفنا روحه، ونفسه، ومنطقه، وثقافته، وآفاقه، وعقائده، وفقهه، ومنهجه في التعامل مع مصادر التّشريع الإسلامي ومع التاريخ الإسلامي ووقائعه، حتي ليصدق القول: إنّ من لم يتدبّر (منهاج السنة) لم يعرف ابن تيمية معرفةً صحيحةً كاملةً.

إنّ الذي قصدناه في هذه (الدراسات) هو التعرّف علي ابن

تيميّة والتعريف به، التعريف الأصدق والأتم، وإعطاء الصّورة الحقيقيّة لرجلٍ تنازع فيه قومه طويلًا، وانشعبوا حوله شعباً، فمنهم من تعصّب له حتي سماّه (شيخ الإسلام)، وجعله المفتاح الأوحد لمعرفة عقائد الإسلام … ومنهم من عكس وتعصّب، حتي __________________________________________________

(1) اعتمدنا علي طبعته الحديثة في 9 أجزاء بتحقيق الدكتور محمّد رشاد سالم.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 7

كفّر من يلقّبه بذاك اللّقب، ومنذ عصره كان النزاع فيه بين أقوامٍ بالغوا في تعظيمه، وآخرين كالوا عليه شتّي التّهم …

فرأينا أنّ الأحري أن نرجع إلي ابن تيمية نفسه لمعرفته علي حقيقته، بعيداً عن كلّ ما قيل فيه، ولا ريب أن أهم كتبه وأكبرها وأشهرها هو (منهاج السنّة) …

وكان من المناسب تقديم التعريف بالعلّامة الحلّي وكتابه (منهاج الكرامة)، لكونه المردود بكتاب (منهاج السنّة) …

فكانت هذه (الدراسات). وباللَّه التوفيق.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 9

المدخل: العلّامة الحلّي ومنهاج الكرامة … ص: 9

اشارة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 11

العلامة الحلّي: … ص: 11

اشارة

جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن مطهّر الحلّي.

و «الحلة» مدينة كبيرة بين الكوفة وبغداد، كانت تسمّي الجامعين، … وكان أوّل من عمرها ونزلها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي … وبني بها المساكن الجليلة والدور الفاخرة، وتأنّق أصحابه في مثل ذلك، فصارت ملجأً، وقد قصدها التجّار، فصارت أفخر بلاد العراق وأحسنها مدة حياة سيف الدولة، فلما قتل بقيت علي عمارتها … وللشّعراء فيها أشعار كثيرة» «1».

ولد رحمه اللَّه في شهر رمضان سنة 648، في أسرة جليلةٍ عريقة في العلم والفضيلة، نتعرّض من بينهم لأشهرهم، أعني والده العظيم وخاله المحقق:

والده:

سديد الدّين يوسف بن علي بن المطهّر، كان: فقيهاً، محقّقاً، عظيم الشأن من أعلام القرن السابع، ترجم له العلماء ووصفوه ب: «الإمام الأعظم» و «الحجّة» و «شيخ الإسلام» ونحو ذلك من الأوصاف «2».

__________________________________________________

(1) معجم البلدان- الحلّة- 2/ 294.

(2) رجال ابن داود- تنقيح المقال- باب يوسف 3/ 336 وغيرهما.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 12

خاله:

نجم الدين جعفر بن الحسن الهذلي، المعروف بالمحقق الحلّي، كان أفضل أهل عصره في الفقه، ووصفوه ب «المحقّق المدقّق الإمام العلّامة».

وحاله في الفضل، والنبالة، والعلم، والفقه، والجلالة، والفصاحة، والشعر، والأدب، والإنشاء، أشهر من أن يذكر، وأظهر من أن يسطر.

صنّف في الفقه والاصولين كتباً لا زالت محطّ أنظار الفقهاء والعلماء، ومن أشهرها: (شرائع الإسلام في الحلال والحرام) الذي تناوله أكابر الفقه بالشرح والتّعليق.

ولد سنة: 602، وتوفّي سنة: 676 «1».

نجله:

واشتهر من بعد العلّامة ولده:

أبو طالب فخر الدين محمّد بن الحسن، كان: فاضلًا، محقّقاً، فقيهاً، ثقة، جليلًا، من أجلّ تلامذة والده.

له كتب في علومٍ مختلفة، أشهرها:

(إيضاح الفوائد في شرح القواعد) لوالده، في الفقه.

ولد سنة 682 وتوفّي سنة 771 «2».

__________________________________________________

(1) لؤلؤة البحرين: 229، أعيان الشيعة الترجمة 3457، ابو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن 6: 128، وغيرهما.

(2) أمل الآمل 2/ 260، أعيان الشيعة، الترجمة 9210 فخر الدين محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي 13: 400.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 13

مشايخه:

قال الشيخ الحرّ العاملي؛ «قرأ العلامة أيضاً علي جماعةٍ كثيرين جدّاً من العامّة والخاصّة» «1». فمن أشهرهم من الخاصّة:

والده الشيخ سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر.

ونجم الدين جعفر بن الحسن الحلي، وهو خاله.

والخواجة نصير الدين محمّد بن الحسن الطوسي.

والشيخ نجيب الدين يحيي بن سعيد الحلّي، وهو ابن عمّ والدته.

والشيخ كمال الدين ميثم بن علي البحراني.

والشيخ مفيد الدين محمّد بن جهيم.

والسّادة أبناء طاووس.

ومن أشهرهم من العامّة:

الشيخ نجم الدين علي بن عمر الكاتب القزويني الشافعي، المعروف ب (دبيران) صاحب (الشمسيّة) في المنطق.

والشيخ حسن بن محمّد الصغّاني، صاحب المؤلّفات في الحديث واللّغة.

والشيخ برهان الدين النسفي الحنفي، المصنّف في الجدل.

والشيخ شمس الدين محمّد بن محمّد بن أحمد الكيشي، وهو ابن اخت قطب الدين الشيرازي.

__________________________________________________

(1) أمل الآمل الترجمة 224، الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي 2: 81.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 14

أستاذه نصير الدين الطوسي … ص: 14

وقد اشتهر من بينهم: الخواجة نصير الدين الطوسي، مع أنّه لم يقرأ عليه كثيراً، قال: «قرأت عليه إلهيّات الشفا لأبي علي بن سينا، وبعض التذكرة في الهيئة تصنيفه رحمه اللَّه، ثم أدركه الموت المحتوم» «1».

وممّا يؤكّد ذلك أنه كان عند وفاة شيخه ابن الأربع والعشرين سنة.

وقد نقل عنه في كتابه (منهاج الكرامة) طريقة استنتاج وجوب اتّباع مذهب الإمامية من

الحديثين الواردين في اختلاف الامّة إلي ثلاثة وسبعين فرقةٍ، وفي تشبيه أهل البيت بسفينة نوح.

وهذا ممّا اغتاظ منه ابن تيميّة وأتباعه، فقال ابن تيمية في حقّ النصير الطوسي ما نصّه:

«إنّ هذا الرجل قد اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزير الملاحدة الباطنيّة الإسماعيلية بالألموت، ثمّ لمّا قدم الترك المشركون إلي بلاد المسلمين وجاءوا إلي بغداد دار الخلافة، كان هذا منجّماً مشيراً لملك الترك المشركين هولاكو، أشار عليه بقتل الخليفة وقتل أهل العلم والدين، واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا، وأنّه استولي علي الوقف الذي للمسلمين، وكان يعطي منه ما شاء اللَّه لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السّحرة وأمثالهم، وأنّه لما بني الرصد الذي بمراغة علي طريقة الصّابئة المشركين كان أبخس الناس نصيباً منه من كان إلي أهل الملل أقرب، وأوفرهم نصيباً من كان __________________________________________________

(1) أمل الآمل- الترجمة 904، خواجه نصير الدين محمّد بن الحسن الطوسي 2/ 299، بحار الأنوار، كتاب الاجازات 104/ 62.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 15

أبعدهم عن الملل، مثل الصابئة المشركين ومثل المعطّلة وسائر المشركين، وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك.

ومن المشهور عنه وعن أتباعه الإستهتار بواجبات الإسلام ومحرّماته، لا يحافظون علي الفرائض كالصّلوات، ولا ينزعون عن محارم اللَّه من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات، حتي أنّهم في شهر رمضان يذكر عنهم من إضاعة الصلوات وارتكاب الفواحش وشرب الخمور ما يعرفه أهل الخبرة بهم، ولم يكن لهم قوّة وظهور إلّا مع المشركين، الذين دينهم شرٌّ من دين اليهود والنصاري

ولهذا كان كلّما قوي الإسلام في المغل وغيرهم من الترك، ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله …

وبالجملة، فأمر هذا الطّوسي وأتباعه عند المسلمين، أشهر وأعرف من أن

يعرف ويوصف.

ومع هذا، فقد قيل: إنه كان في آخر عمره يحافظ علي الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوي وبالفقه ونحو ذلك. فإن كان قد تاب من الإلحاد، فاللَّه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات، واللَّه تعالي يقول «يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَي أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً».

لكنّ ما ذكره هذا عنه، إن كان قبل التوبة لم يقبل قوله، وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض بل من الإلحاد وحده، وعلي التقديرين فلا يقبل قوله.

والأظهر أنه إنما كان يجتمع به وبأمثاله لمّا كان منجّماً للمغل المشركين، والإلحاد معروف من حاله إذ ذاك.

فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، ويطعن علي مثل مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 16

حنبل وأتباعهم، ويعيّرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء، كيف يليق به أن يحتجّ لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون باللَّه ولا باليوم الآخر، ولا يحرّمون ما حرّم اللَّه ورسوله، ولا يدينون دين الحق، من الذين أُوتوا الكتاب حتي يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، ويستحلّون المحرّمات المجمع علي تحريمها كالفواحش والخمر في مثل شهر رمضان، الذين أضاعوا الصّلاة واتّبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشّرائع، واستخفّوا بحرمات الدين، وسلكوا غير طريق المؤمنين. فهم كما قيل فيهم:

الدين يشكو بليّةً من فرقةٍ فلسفيّة

لا يشهدون صلاة إلّا لأجل التقيّة

ولا تري الشرع إلّا سياسة مدنيّة

ويؤثرون عليه مناهجاً فلسفيّة

ولكنّ هذا حال الرافضة، دائماً يعادون أولياء اللَّه المتّقين، من السّابقين الأوّلين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتّبعوهم بإحسان، ويوالون الكفّار والمنافقين. فإن أعظم الناس نفاقاً في المنتسبين إلي الإسلام هم

الملاحدة الباطنية الإسماعيليّة، فمن احتجّ بأقوالهم في نصرة قوله مع ما تقدّم من طعنه علي أقوال أئمة المسلمين كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق ومعاداةً لأهل الإيمان.

ومن العجب: أن هذا المصنّف الرافضي الخبيث الكذّاب المفتري، يذكر أبا بكر وعمر وعثمان وسائر السّابقين الأوّلين والتابعين وسائر أئمة المسلمين من أهل العلم والدين، بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه، ويجي ء إلي من قد اشتهر عند المسلمين بمحادّته للَّه ورسوله فيقول: قال شيخنا الأعظم، ويقول: قدّس اللَّه روحه، مع شهادته بالكفر عليه وعلي أمثاله، ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 17

الأولين والآخرين، وهؤلاء داخلون في معني قوله تعالي «أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَي مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلًا* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً»» «1».

هل كان للطوسي ضلع في قتل المستعصم؟ … ص: 17

أقول:

هذا كلام ابن تيميّة في سبّ الطوسي والعلامة وعامة الإمامية وشتمهم وتكفيرهم … ولا نري ضرورةً للإجابة علي ما ذكره بشي ء.

إنّ الإستدلال الذي نقله العلامة عن شيخه نصير الدين الطوسي استدلالٌ متين مستند إلي حديثين عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، متّفق عليهما …

ولا جواب عن هذا الإستدلال بعد تماميّة سنديهما ووضوح دلالتهما وصحّة الاستنتاج منهما، وكان لابدّ وأن يقابل هذا الإستدلال بالسبّ والشتم والتكفيير …

كسائر المسائل والإستدلالات الواردة في الكتاب!!

وأيضاً: فإنّ نصير الدين الطوسي من كبار الفلاسفة، ومن أعلام العلوم العقلية في الإسلام، وابن تيميّة يجهل هذه العلوم، و «الناس أعداء ما جهلوا» كما عن أميرالمؤمنين عليه السّلام.

وأيضاً: فإنّ كتاب (التجريد) للنصير الطّوسي من أتقن الكتب الكلامية وأمتن المتون الإعتقاديّة، أثبت فيه عقائد الإمامية بالبراهين العقليّة

والأدلّة المعتبرة النقليّة، وهذا ما يثير غضب القوم من أمثال ابن تيمية عليه.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 445- 451.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 18

كلّ هذه الامور واضحة، وهي تسبّب بل توجب شتمه وسبّه عند ابن تيميّة ومن كان علي مذهبه …

لكنّ المهمّ- الآن- التحقيق عمّا اتّهمه به من إشارته علي هولاكو بقتل المستعصم وسائر المسلمين في فتح بغداد!!

لقد كانت الواقعة في بغداد سنة: 656، وابن تيميّة ولد سنة: 661 في حرّان، ومات في قلعة دمشق سنة: 728.

فالرجل لم يشهد الواقعة، ولم يكن من أهل بغداد، بل لم يقدم إلي العراق أصلًا … فلا يجوز الإعتماد علي أقوالٍ منه كهذه، بغضّ النظر عمّا هنالك من أغراضٍ ودوافع!!

فلنرجع إلي من عاصر الواقعة من أهل بغداد، لا أقول من الشيعة … وليكن من أهل السنّة!!

ولعلّ خير كتابٍ يمكننا الرجوع إليه والإعتماد عليه في هذه القضية كتاب (الحوادث الجامعة) لابن الفوطي الحنبلي البغدادي، المتوفّي سنة: 723.

قال الحافظ الذهبي: «إبن الفوطي- العالم البارع المتفنّن، المحدّث المفيد، مؤرّخ الآفاق، مفخر أهل العراق، كمال الدين أبو الفضائل عبد الرزاق بن أحمد بن محمّد بن أبي المعالي الشيباني، ابن الفوطي، نسبةً إلي جدّ أبيه لأمّه، ويعرف أيضاً بابن الصّابوني، ينتسب إلي الأمير معن بن زائدة، وأصله مروزي.

مولده في المحرم سنة اثنتين وأربعين وستّ مائة ببغداد، وأسر في الوقعة «1» وهو حَدَث.

__________________________________________________

(1)

يريد بالوقعة: سقوط بغداد علي أيدي المغول.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 19

ثم صار إلي استاذه ومعلّمه خواجا نصير الطّوسي في سنة ستين وستِّ مائة فأخذ عنه علوم الأوائل، ومهر علي غيره في الأدب، ومهر في التاريخ والشعر وأيّام الناس، وله النظم والنثر، والباع الأطول في ترصيع تراجم الناس،

وله ذكاء مفرط وخط منسوب رشيق، وفضائل كثيرة، سمع الكثير وعني بهذا الشأن … » «1».

وذكره الذهبي في كتابه (المعجم المختص) بتراجم مشايخه.

ووصفه ابن شاكر الكتبي ب «الشيخ الإمام المحدّث المؤرّخ الأخباري الفيلسوف» «2».

وقال ابن كثير: «الإمام المؤرخ كمال الدين الفوطي أبو الفضل عبد الرزاق … ولد سنة 642 ببغداد وأسر في واقعة التتار، ثم تخلّص من الأسر فكان مشرفاً علي الكتب بالمستنصرية، وقد صنف تاريخاً في خمس وخمسين مجلداً، وآخر في نحو عشرين، وله مصنفات كثيرة، وشعر حسن، وقد سمع الحديث من محيي الدين ابن الجوزي.

توفي ثالث المحرم، ودفن بالشونيزية» «3».

فهذا العالم المؤرّخ الحنبلي البغدادي، الذي اسر في الوقعة، وعاصرها وعاشر النصير الطوسي، وألّف كتابه المذكور بعد الوقعة بسنة واحدةٍ «4» … لا يوجد في شرحه للوقائع ما يشير إلي شي ءٍ ممّا جاء في كلام ابن تيميّة … !!

__________________________________________________

(1) تذكرة الحفاظ، الترجمة 1173 4/ 1493.

(2) فوات الوفيات، الترجمة 272، 2/ 319.

(3) البداية والنهاية- حوادث سنة 723، 14/ 122.

(4) لأن تاريخ تأليفه سنة 657.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 20

ثم نجد ابن الطقطقي المولود سنة: 660 والمتوفي سنة: 709 «1» يروي الحوادث بواسطةٍ واحدةٍ، ولا ذكر لنصير الدين الطوسي فيها إلّا في موردٍ واحدٍ، قال- وهو يبيّن دخول ابن العلقمي علي هولاكو-: «وكان الذي تولّي ترتيبه في الحضرة السلطانية: الوزير السعيد نصير الدين محمّد الطوسي، قدس اللَّه روحه» «2».

ثم ننتقل إلي تاريخ أبي الفداء المولود سنة: 672 والمتوفّي سنة: 732، فنراه يذكر استيلاء التتر علي بغداد وانقراض الدولة العباسيّة سنة: 656، وهذا نصّ عبارته:

«في أوّل هذه السنة قصد هولاكو ملك التتر بغداد، وملكها في العشرين من المحرّم، وقتل الخليفة المستعصم باللَّه. وسبب ذلك:

إن وزير الخليفة مؤيّد الدين ابن العلقمي كان رافضيّاً، وكان أهل الكرخ أيضاً روافض، فجرت فتنة بين السنّية والشّيعة ببغداد علي جاري عادتهم، فأمر أبو بكر ابن الخليفة وركن الدين الدوادار العسكر فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهنّ الفواحش، فعظم ذلك علي الوزير ابن العلقمي، وكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد، وكان عسكر بغداد يبلغ مائة ألف فارس، فقطعهم المستعصم ليحمل إلي التتر متحصل اقطاعاتهم،

__________________________________________________

(1) هو: محمّد بن علي بن طباطبا، المعروف بابن الطقطقي، المتوفّي سنة: 709، صاحب كتاب: (الفخري في الآداب السّلطانية والدول الإسلامية)، وهو كتاب معتمد عند الجمهور، لالتزام مؤلّفه فيه بما ذكره بقوله: «والتزمت فيه أمرين: أحدهما ألّا أميل فيه إلّا مع الحق، ولا أنطق فيه إلّا بالعدل، وأن أعزل سلطان الهوي وأخرج من حكم المنشأ والمربي، وأفرض نفسي غريباً منهم وأجنبيّاً بينهم. وثانيهما: أن اعبّر عن المعاني بعباراتٍ واضحة … ».

(2) الفخري في الآداب السّلطانية، ويلاحظ تعبيره عنه ب «الوزير السعيد» وقوله: «قدّس اللَّه روحه».

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 21

وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس، وأرسل ابن العلقمي إلي التتر أخاه يستدعيهم، فساروا قاصدين بغداد في جحفلٍ عظيم، وخرج عسكر الخليفة لقتالهم ومقدمهم ركن الدين الدوادار، والتقوا علي مرحلتين من بغداد واقتتلوا قتالًا شديداً، فانهزم عسكر الخليفة، ودخل بعضهم بغداد، وسار بعضهم إلي جهة الشام، ونزل هولاكو علي بغداد من الجانب الشرقي، ونزل باجو- وهو مقدم كبير- في الجانب الغربي، علي قرية قبالة دار الخلافة. وخرج مؤيّد الدين الوزير ابن العلقمي إلي هولاكو فتوثّق منه لنفسه، وعاد إلي الخليفة المستعصم وقال: إن هولاكو يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم، ويريد أن يزوّج ابنته من ابنك أبي بكر،

وحسّن له الخروج إلي هولاكو، فخرج إليه المستعصم في جمعٍ من أكابر أصحابه، فأنزل في خيمته، ثم استدعي الوزير الفقهاء والأماثل، فاجتمع هناك جميع سادات بغداد والمدرّسون، وكان منهم محيي الدين ابن الجوزي وأولاده، وكذلك بقي يخرج إلي التتر طائفة بعد طائفة. فلمّا تكاملوا قتلهم التتر عن آخرهم، ثم مدّوا الجسر وعدي باجو ومن معه، وبذلوا السيف في بغداد، وهجموا دار الخلافة وقتلوا كلّ من كان فيها من الأشراف، ولم يسلم إلّا من كان صغيراً فاخذ أسيراً، ودام القتل والنهب في بغداد نحو أربعين يوماً، ثم نودي بالأمان.

وأمّا الخليفة فإنهم قتلوه ولم يقع الإطّلاع علي كيفيّة قتله، فقيل: خنق، وقيل: وضع في عدل ورفسوه حتي مات، وقيل: غرق في دجلة. واللَّه أعلم بحقيقة ذلك.

وكان هذا المستعصم … ضعيف الرأي، قد غلب عليه امراء دولته لسوء

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 22

تدبيره … وهو آخر الخلفاء العباسيين» «1».

وهذا الذهبي، المولود سنة: 673، والمتوفي سنة: 748- وهو من أتباع ابن تيميّة في كثيرٍ من المسائل، وحتّي أنّه لخّص (منهاج السنّة)- يقول في حوادث سنة: 656:

«كان المؤيّد ابن العلقمي قد كاتب التتار وحرّضهم علي قصد بغداد، لأجل ما جري علي إخوانه الرافضة من النهب والخزي … » «2» فذكر الواقعة كما تقدّم عن أبي الفداء، وليس فيها ذكر لنصير الدين الطوسي أصلًا.

وهذا ابن شاكر الكتبي المولود سنة: 686 كما قيل، والمتوفي سنة: 764، يترجم في كتابه الخليفة العباسي (المستعصم) وللطوسي (نصير الدين) وللسلطان التتري (هولاكو) فلا يذكر شيئاً مما نسبه ابن تيميّة إلي نصير الدين الطوسي أصلًا.

وهذا ما جاء بترجمة الخليفة: «كان متديناً متمسّكاً بمذهب أهل السنّة والجماعة علي ما كان عليه والده وجدّه- رحمهم اللَّه

تعالي ، ولم يكن علي ما كانوا عليه من التيقّظ والهمّة، بل كان قليل المعرفة والتدبير والتيقّظ، نازل الهمّة، محبّاً للمال، مهملًا للُامور، يتّكل فيها علي غيره، ولو لم يكن فيه إلّا ما فعله مع الملك الناصر داود في الوديعة لكفاه ذلك عاراً وشناراً، واللَّه لو كان الناصر من الشعراء وقد قصده وتردّد عليه علي بعد المسافة ومدحه بعدّة قصائد كان يتعيّن عليه أن __________________________________________________

(1) المختصر في أخبار البشر سنة 656، ذكر استيلاء التتر علي بغداد وانقراض الدولة العباسية 3: 193- 194.

(2) العبر في خبر من غبر سنة 656، 2: 269.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 23

ينعم عليه بقريب من قيمة وديعته من ماله، فقد كان في أجداد المستعصم باللَّه من استفاد منه آحاد الشعراء أكثر من ذلك، إلي غير ذلك من الامور التي كانت تصدر عنه، مما لا يناسب منصب الخلافة، ولم يتخلّق بها الخلفاء قبله، فكانت هذه الأسباب كلّها مقدمات لما أراد اللَّه تعالي بالخليفة والعراق وأهله، وإذا أراد اللَّه تعالي أمراً هيّأ أسبابه.

واختلفوا كيف كان قتله، قيل: إن هولاكو لما ملك بغداد أمر بخنقه، وقيل:

رفس إلي أن مات، وقيل: غرق. وقيل: لفّ في بساط وخنق، واللَّه أعلم بحقيقة الحال.

وكانت واقعة بغداد وقتل الخليفة من أعظم الوقائع … » «1».

وهذا الصفدي المولود سنة 696 تقريباً، والمتوفي سنة: 764، ترجم الخليفة فقال: «كان حليماً، كريماً، سليم الباطن، حسن الديانة، متمسّكاً بالسنّة، ولكنه لم يكن كما كان عليه أبوه وجدّه من الحزم والتيقّظ، وكان الدوادار والشرابي لهم الأمر، وركن إلي ابن العلقمي الوزير فأهلك الحرث والنسل، وحسّن له جمع الأموال والاقتصار علي بعض العساكر، وكان فيه شحّ وقلّة معرفة وعدم تدبير.

جاء هولاكو البلاد

في نحو مائتي ألف فارس، وطلب الخليفة وحده، فطلع ومعه القضاة والمدرّسون والأعيان نحو سبع مائة نفس، فلمّا وصلوا إلي الحربيّة جاء الأمر بحضور الخليفة وحده ومعه سبعة عشر نفساً، فساقوا مع الخليفة وأنزلوا من بقي عن خيلهم وضربوا رقابهم، ووقع السيف في بغداد، وعمل القتل أربعين يوماً، وأنزلوا الخليفة في خيمةٍ وحده والسبعة عشر في خيمة اخري

ثمّ إن هولاكو أحضر الخليفة وجرت له معه ومع ابنه أبي بكر محاورات،

__________________________________________________

(1) فوات الوفيات، الترجمة 237، 2/ 230.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 24

واخرجا ورفسوهما إلي أن ماتا وعفّي أثرهما …

وحدّثني شيخنا ابن الدباهي قال: لمّا بقي بين التتار وبين بغداد يومان اعلم الخليفة حينئذٍ، فقال: عدلين يروحون يبصرون هذا الخبر إن كان صحيحٌ» «1».

وهذا ابن خلدون المولود سنة: 732، والمتوفي سنة: 808، يذكر في تاريخه خبر المستعصم آخر بني العباس ببغداد، فلم يصف الخليفة بما وصفه به غيره من الصفات الدنيئة الموجبة للعار والشّنار، والمسبّبة لما وقع به وبأهل بغداد، بل وصفه بقوله: «كان فقيهاً محدّثاً»!! ثم ذكر ما كان من السنّة ضدّ الشيعة في الكرخ، بأمرٍ من الخليفة علي يد ابنه أبي بكر وركن الدين الدوادار، ثم زحف هلاكو إلي العراق ودخول بغداد وقتل الخليفة وغيره …

وليس في شي ء مما قال ذكر لنصير الدين الطوسي أصلًا «2».

وذكر الجلال السّيوطي المتوفي سنة: 911 أخبار التتر، وورودهم إلي بغداد، وقتل الخليفة … وغير ذلك، في صفحاتٍ عديدة من تاريخه، وليس فيها ذكر لنصير الدين الطوسي ولا مرةً واحدة «3».

آراء تلامذة ابن تيمية في هذه القضية … ص: 24

وكان من المناسب أن نرجع إلي تلامذة ابن تيميّة، لننظر هل يوافقونه علي اتّهام نصير الدين الطوسي في قتل المستعصم العباسي:

فرجعنا إلي الذهبي وابن كثير

وابن قيّم الجوزيّة …

__________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات الترجمة 6502، أمير المؤمنين المستعصم باللَّه، 17: 343- 344.

(2) تاريخ ابن خلدون وفاة المستنصر وخلافة المستعصم آخر بني العباس ببغداد، 3: 536- 543.

(3) تاريخ الخلفاء- المستعصم باللَّه، أبو أحمد: 464- 473.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 25

أمّا الذهبي فقد تقدمت عبارته عن (العبر)، ووجدناه لا يشير لا من قريب ولا من بعيد، بارتباط الطوسي بقتل الخليفة.

وكذلك بترجمة المستعصم من (سير أعلام النبلاء) حيث ذكر الوقعة ناقلًا شرحها عن جمال الدين سليمان بن رطلين الحنبلي، والظهير الكازروني وغيرهما، وليس في ذلك ذكر لنصير الدين الطوسي أصلًا «1».

وأمّا ابن كثير المولود سنة: 700 والمتوفّي سنة: 774، فترجم لنصير الدين الطوسي، ولم ينسبه إلي شي ء ممّا نسبه ابن تيميّة إليه من الإخلال بالصلوات، وشرب الخمر، وارتكاب الفواحش … !! وإنّما ذكر ما نسب إليه من الإشارة علي هولاكو بقتل الخليفة، بعبارةٍ ظاهرة جدّاً في التشكيك بذلك، وهذا نصّها:

«ومن الناس من يزعم أنه أشار علي هولاكو خان بقتل الخليفة، فاللَّه أعلم» فكلمة «من الناس» بإبهام القائل، وليس سوي ابن تيمية!! وكلمة «يزعم» ثم كلمة «فاللَّه اعلم» … تفيد عدم موافقته لشيخه فيما زعمه، ثم إنه أفصح عن رأيه حيث عقّب ذلك بقوله: «وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل، وقد ذكره بعض البغاددة فأنثي عليه وقال: كان عاقلًا فاضلًا كريم الأخلاق، ودفن في مشهد موسي بن جعفر، في سرداب كان قد اعدّ للخليفة الناصر لدين اللَّه» «2».

وأمّا ابن قيّم الجوزيّة … فقد تبع شيخه ابن تيمية وزاد عليه أشياء وأفرط كما هو دأبه في أكثر المسائل والقضايا!! فقال:

«نصير الشرك والكفر والملحد، وزير الملاحدة، النصير الطوسي، وزير

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء

الترجمة 109، المستعصم باللَّه، 23: 181.

(2) البداية والنهاية حوادث سنة 672، النصير الطوسي 13: 313.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 26

هولاكو، شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم علي السيف، حتي شفا إخوانه من الملاحدة واشتفي هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدّثين، واستبقي الفلاسفة والمنجّمين والطبائعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم وجعلهم خاصّته وأولياءه، ونصر في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب جلّ جلاله، من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره … واتّخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل (إشارات) إمام الملحدين ابن سينا مكان (القرآن) فلم يقدر علي ذلك، فقال: هي قرآن الخواص وذاك قرآن العوام، ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر، وتعلّم السحر في آخر الأمر فكان ساحراً يعبد الأصنام»!! «1»

إطراء العلماء لنصير الدين الطوسي … ص: 26

واذْ تبيّن كذب دعوي سعي نصير الدين الطوسي في قتل المستعصم العبّاسي، فلا بأس بإيراد نتفٍ من كلمات القوم في مدحه والثناء عليه والإطراء له، ليظهر أنّ ما جاء به ابن تيميّة وابن القيّم أكاذيب وافتراءات، لا تصدر من مسلمٍ بحق أدني المسلمين، فكيف بمثل هذا العالم المحقق الجليل!!

قال ابن كثير: «محمّد بن عبداللَّه الطوسي «2»، كان يقال له: المولي نصير الدين، ويقال: الخواجا نصير الدين، إشتغل في شبيبته، وحصّل علم الأوائل جيّداً، وصنّف في ذلك في علم الكلام، وشرح الإشارات لابن سينا، ووزر

__________________________________________________

(1) اغاثة اللهفان- النصير الطوسي وزير هولاكو نصير الشرك والكفر 2/ 263.

(2) كذا، وهو سهو.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 27

لأصحاب قلاع الألموت من الإسماعيليّة، ثم وزر لهولاكو، وكان معه في واقعة بغداد، ومن الناس من يزعم أنه أشار علي هولاكو خان بقتل الخليفة، فاللَّه أعلم.

وعندي: إن هذا لا يصدر

من عاقل ولا فاضل، وقد ذكره بعض البغاددة فأثني عليه وقال: كان عاقلًا فاضلًا كريم الأخلاق، ودفن في مشهد موسي بن جعفر، في سرداب كان قد اعدّ للخليفة الناصر لدين اللَّه، وهو الذي كان قد بني الرصد بمراغة، ورتّب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلّمين والفقهاء والمحدّثين والأطباء، وغيرهم من أنواع الفضلاء، وبني له فيه قبّة عظيمة، وجعل فيه كتباً كثيرة جدّاً.

توفي في بغداد في ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة، وله خمس وسبعون سنة. وله شعر جيّد قوي. وأصل اشتغاله علي المعين سالم بن بدران بن علي المصري المعتزلي المتشيع، فنزع فيه عروق كثيرة منه حتي أفسد اعتقاده» «1».

وقال الذهبي- في وفيات سنة 672-: «وكبير الفلاسفة، خواجا نصير الدين محمّد بن محمّد بن حسن الطوسي، صاحب الرصد» «2».

وقال أيضاً: «وخواجا نصير الطوسي، أبو عبد اللَّه محمّد بن محمّد بن حسن، مات في ذي الحجة ببغداد وقد نيّف علي الثمانين، وكان رأساً في علم الأوائل، ذا منزلة من هولاكو» «3».

وقال أبو الفداء: «وفيها- في يوم الاثنين ثامن عشر ذي الحجة- توفّي الشيخ العلامة نصير الدين الطوسي، واسمه؛ محمّد بن محمّد بن الحسين «4»، الإمام __________________________________________________

(1) البداية والنهاية حوادث السنة 672، النصير الطوسي 13: 313.

(2) تذكرة الحفاظ الترجمة 1171 علي بن عبد الكافي 4: 1491.

(3) العبر في خبر من غبر السنة 672، 2: 301.

(4) كذا، وهو سهو.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 28

المشهور، وكان يخدم صاحب الألموت، ثمّ خدم هولاكو، وحظي عنده، وعمل لهولاكو رصداً بمراغة، وزيجاً، وله مصنّفات عديدة كلّها نفيسة، منها: إقليدس، يتضمّن اختلاط الأوضاع، وكذلك المجسطي، وتذكرة في الهيئة لم يصنّف في فنّها مثلها، وشرح الإشارات، وأجاب عن غالب إيرادات فخر

الدين الرازي، وكانت ولادته في حادي عشر جمادي الاولي سنة سبع وتسعين وخمسمائة. وكانت وفاته ببغداد، ودفن في مشهد موسي الجواد «1»» «2».

وقال الصفدي: «الخواجا نصير الدين طوسي: محمّد بن محمّد بن الحسن، نصير الدين أبو عبداللَّه الطوسي، الفيلسوف، صاحب علم الرياضي والرصد، كان رأساً في علم الأوائل، لا سيّما في الأرصاد والمجسطي، فإنّه فاق الكبار، قرأ علي المعين سالم بن بدران المصري المعتزلي الرافضي وغيره، وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو، وكان يطيعه فيما يشير به عليه، والأموال في تصريفه، فابتني بمدينة مراغة رصداً عظيماً، واتّخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء وملأها من الكتب التي نهبت من: بغداد والشام والجزيرة، حتي تجمع فيها زيادة علي أربعمائة ألف مجلّد، وقرّر بالرصد المنجّمين والفلاسفة والفضلاء، وجعل لهم الجامكية، وكان حسن الصورة، سمحاً، كريماً، جواداً، حليماً، حسن العشرة، غزير الفضائل، جليل القدر، داهية.

حكي لي أنّه لمّآ أراد العمل للرصد رأي هولاكو ما ينصرف عليه، فقال له:

هذا العلم المتعلّق بالنجوم ما فائدته؟ أيدفع ما قدّر أن يكون؟ فقال: أنا أضرب __________________________________________________

(1) كذا، والصحيح: موسي والجواد.

(2) المختصر في أخبار البشر 4/ 8.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 29

لمنفعته مثالًا: القان يأمر من يطلع إلي أعلي هذا المكان ويدعه يرمي من أعلاه طست نحاسٍ كبيراً من غير أن يعلم به أحد، ففعل ذلك، فلما وقع ذلك كانت له وقعة عظيمة هائلة، روّعت كلّ من هناك وكاد بعضهم يصعق، وأمّا هو وهولاكو فإنّهما ما تغيّر عليهما شي ء، لعلمهما بأنّ ذلك يقع، فقال له: هذا العلم النجومي له هذه الفائدة، يعلم المتحدث فيه ما يحدث فلا يحصل له من الروعة والاكتراث ما يحصل للذاهل الغافل عنه. فقال:

لا بأس بهذا. وأمره بالشروع فيه أو كما قيل.

ومن دهائه ما حكي لي أنه حصل لهولاكو غضب علي علاء الدين الجويني صاحب الديوان فيما أظُنّ، فأمر بقتله، فجاء أخوه إليه وذكر له ذلك وطلب منه ابطال ذلك، فقال: هذا القان وهؤلاء القوم إذا أمروا بأمرٍ ما يمكن ردّه، خصوصاً إذا برز إلي الخارج، فقال له: لابدّ من الحيلة في ذلك، فتوجّه إلي هولاكو (فذكر القصّة وحاصلها أمر هولاكو بإطلاق جميع من في الإعتقال والعفو عمّن له جناية) وأطلق صاحب الديوان في جملة الناس، ولم يذكره النصير الطوسي. وهذا غاية في الدهاء، بلغ به مقصده ودفع عن الناس أذاهم وعن بعضهم ازهاق أرواحهم.

ومن حلمه ما وقفت له علي أنّ ورقةً حضرت إليه من شخص، من جملة ما فيها يقول له: يا كلب يا ابن الكلب. فكان الجواب: وأمّا قوله كذا، فليس بصحيح، لأن الكلب من ذوات الأربع وهو نابح طويل الأظفار، وأنا فمنتصب القامة، بادي البشرة، عريض الأظفار، ناطق ضاحك. فهذه الفصول والخواص غير تلك الفصول والخواص. وأطال في نقض كلّ ما قاله. هكذا برطوبة وتأنّ غير منزعج، ولم يقل في الجواب كلمة قبيحة …

ومن تصانيفه …

وقال الشمس ابن المؤيد العرضي: أخذ النصير العلم عن الشيخ كمال الدين دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 30

ابن يونس الموصلي، ومعين الدين سالم بن بدران المصري المعتزلي وغيرهما قال:

وكان منجّماً لأبغا بعد أبيه وكان يعمل الوزارة لهولاكو من غير أن يدخل يده في الأموال … وولّاه هولاكو جميع الأوقاف في سائر بلاده، وكان له في كلّ بلدٍ نائب يستغل الأوقاف ويأخذ عشرها ويحمل إليه ليصرفه في جامكيات المقيمين بالرصد، ولما يحتاج إليه من الأعمال بسبب الأرصاد.

وكان للمسلمين

به نفع، خصوصاً الشيعة والعلويين والحكماء وغيرهم، وكان يبرّهم ويقضي أشغالهم ويحمي أوقافهم، وكان- مع هذا كلّه- فيه تواضع وحسن ملتقي

وقال شمس الدين الجزري قال حسن بن أحمد الحكيم صاحبنا: سافرت إلي مراغة وتفرّجت في هذا الرصد، ومتولّيه صدر الدين علي بن الخواجا نصير الدين الطوسي، وكان شابّاً فاضلًا في التنجيم والشعر بالفارسية، وصادفت شمس الدين محمّد ابن المؤيد العرضي، وشمس الدين الشرواني، والشيخ كمال الدين الإيكي، وحسام الدين الشامي، فرأيت فيه من آلات الرصد شيئاً كثيراً …

وكان النصير قد قدم من مراغة إلي بغداد ومعه جماعة كثيرة من تلامذته وأصحابه، فأقام بها مدّة أشهر ومات …

ومولد النصير بطوس سنة 597، وتوفي في ذي الحجة سنة: 672 ببغداد، وَقد نيَّف علي الثمانين أو قاربها، وشيّعه صاحب الديوان والكبار، وكانت جنازة حفلة، ودفن في مشهد الكاظم» «1».

وقال ابن شاكر آخذاً من الصفدي «نصير الدين الطوسي، محمّد بن محمّد

__________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات- الترجمة 114 الخواجا نصير الدين الطوسي- 1/ 147- 151.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 31

ابن الحسن، نصير الدين، الطوسي، الفيلسوف، صاحب علوم الرياضي، كان رأساً في علم الأوائل لا سيّما في الأرصاد والمجسطي، فإنه فاق الكبار، قرأ علي المعين سالم بن بدران المعتزلي الرافضي وغيره، وكان ذا حرمةٍ وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو، وكان يطيعه فيما يشير به عليه، والأموال في تصريفه، فابتني بمراغة قبّة وَ رصداً عظيماً، واتّخذ في ذلك خزانةً عظيمة فسيحة الأرجاء، وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة، حتي تجمّع فيها زيادةً علي أربع مائة ألف مجلّد، وقرّر بالرّصد المنجّمين والفلاسفة، وجعل له الأوقاف. وكان حسن الصورة سمحاً كريماً جواداً حليماً حسن العشرة غزير الفضل … »

فذكر قصّة إلقاء الطست، وقصّة علاء الدين الجويني، وقصة الورقة التي حضرت إليه وفيها سبّه …

ثم ذكر تصانيفه … وكلام الشمس ابن المؤيد العرضي، وكلام شمس الدين الجزري …

ثمّ ذكر وفاته ومولده … قال: «ودفن في مشهد الكاظم. رحمه اللَّه تعالي آمين» «1».

وذكره ابن تغري بردي في وفيات سنة 672 «2».

وكذا غير هؤلاء من المؤرّخين … ولا نطيل بإيراد كلماتهم في الثناء الجميل عليه.

__________________________________________________

(1) فوات الوفيات- الترجمة 414 نصير الدين الطوسي- 3/ 246- 252.

(2) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- سنة اثنتين وسبعين وستمائة- 7/ 212.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 32

كتاب تجريد الكلام … ص: 32

كما أنّه يذكر في مؤلّفي الكتب الكلاميّة المهمّة، بمناسبة كتابه (التجريد) الذي أصبح من أهمّ المتون في هذا العلم، حيث كان يدرَّس في الأوساط العلميّة، ولذا كتبت له الشروح ووضعت عليه التعاليق من علماء الشيعة والسنّة، قال كاشف الظنون:

«تجريد الكلام، للعلّامة المحقق، نصير الدين أبي جعفر، محمّد بن محمّد الطوسي، المتوفي سنة اثنتين وسبعين وستمائه … وهو كتاب مشهور، إعتني عليه الفحول وتكلّموا فيه بالردّ والقبول، له شروح كثيرة وحواش عليها، فأوّل من شرحه جمال الدين حسن بن يوسف بن مطهّر الحلّي شيخ الشيعة، المتوفي سنة 726 … وشرحه شمس الدين محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الإصفهاني، المتوفي سنة 746 … وقد اشتهر هذا الشرح بين الطلّاب بالشرح القديم، وعليه حاشيةٌ عظيمة للعلّامة المحقق السيد الشريف … ».

ثمّ ذكر الحواشي علي حاشية الشريف. إلي أن قال:

«ثم شرح المولي المحقق علاء الدين علي بن محمّد الشهير بقوشجي المتوفي سنة 879 شرحاً لطيفاً ممزوجاً … وقد اشتهر هذا الشرح بالشرح الجديد، قال في ديباجته- بعد مدح الفن والمصنّف-:

إن كتاب التجريد الذي

صنّفه المولي الأعظم، قدوة العلماء الراسخين، اسوة الحكماء المتألّهين، نصير الحق والملّة والدين، تصنيف مخزون بالعجائب وتأليف مشحون بالغرائب، فهو وإن كان صغير الحجم، وجيز النظم، فهو كثير العلم، جليل الشأن، حسن النظام، مقبول الأئمّة العظام، لم يظفر بمثله علماء الأعصار،

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 33

مشتمل علي إشاراتٍ إلي مطالب هي الامّهات، مملوء بجواهر كلّها كالفصوص، متضمّن لبياناتٍ معجزة في عباراتٍ موجزة … وهو في الإشتهار كالشمس في رابعة النهار، تداولته أيدي النظّار.

ثم إنّ كثيراً من الفضلاء وجّهوا نظرهم إلي شرح هذا الكتاب ونشر معانيه، ومن تلك الشروح وألطفها مسلكاً هو الذي صنّفه العالم الربّاني مولانا شمس الدين الاصبهاني، فإنّه بقدر طاقته حام حول مقاصده وتلقّاه الفضلاء بحسن القبول، حتي أنّ السيد الفاضل قد علّق عليه حواشي تشتمل علي تحقيقاتٍ رائقةٍ وتدقيقات شائقة، تنفجر من ينابيع تحريراته أنهار الحقائق، وتنحدر من علوّ تقريراته سيول الدقائق.

ومع ذلك، كان كثير من مخفيّات رموز ذلك الكتاب باقياً علي حاله، بل كان الكتاب علي ما كان كونه كنزاً مخفيّاً وسرّاً مطويّاً، كدرّة لم تثقب، لأنه كتاب غريب في صنعته، يضاهي الألغاز لغاية ايجازه، ويحاكي الإعجاز في إظهار المقصود وإبرازه.

وإني- بعد أن صرفت في الكشف عن حقائق هذا العلم شطراً من عمري، ووقفت علي الفحص عن دقائقه قدراً من دهري، فما من كتابٍ في هذا العلم إلّا تصفّحت سينه وشينه،- أبت نفسي أن يبقي تلك البدائع تحت غطاءٍ من الإبهام، فرأيت أن أشرحه شرحاً يذلّل صعابه، ويكشف نقابه، واضيف إليه فوائد التقطتها من سائر الكتب، وزوائد استنبطتها بفكري القاصر، فتصدّيت بما عنيت …

فجاء بحمد اللَّه تعالي كما يحبّه الأودّاء لا مطوّلًا فيملّ ولا مختصراً فيخلّ، مع تقرير

لقواعده، وتحرير لمعاقده، وتفسير لمقاصده.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 34

انتهي ملخّصاً.

وإنما أوردته ليعلم قدر المتن والماتن، وفضل الشرح والشارح» «1».

ثم ذكر كاشف الظنون الحواشي والتعاليق علي الشرحين القديم والحديث، ثم الحواشي علي الحواشي …

أقول:

بعد هذه الجولة الواسعة في مصادر ترجمة المحقق النصير الطوسي رحمه اللَّه، والتي ليس فيها مصدر شيعي واحد، أصبحت براءته مما ينسبه إليه ابن تيميّة لا جدال فيها، إذ لو كان له ضلع في قتل المستعصم وحوادث بغداد، لذكر القوم ذلك، ولما أثنوا عليه إلي هذا الحد.

وأيضاً: لو كان نصير الدين موصوفاً بأقلّ قليلٍ ممّا قال عنه ابن تيمية …

لصرّحوا به ونصّوا عليه، فكيف لو كان مشهوراً بالعظائم كما زعم ابن تيمية!!

إنّ من دأب المؤرّخين والمترجمين أن يذكروا عن الرجل ما رأوه وشاهدوه فيه أو بلغهم وسمعوه عنه، حتي وإن لم يكن حقّاً ثابتاً، لا سيّما في مثل الإخلال بالصلوات وشرب المسكرات، ونحو ذلك، وحتي لو كان المقول فيه ذلك من المشاهير من أهل السنة في الفقه والحديث مثلًا، كما ذكروا في حقّ (زاهر بن طاهر الشحامي) وأمثاله ممّن لا نريد الإطالة بالتعرّض لما جاء في تراجمهم «2»، فكيف وهو المخالف لهم في المذهب؟!

وبعد: فهذا مشهد من مشاهد منهاج ابن تيمية في الحجاج، وفي التعامل مع __________________________________________________

(1) كشف الظنون 1/ 346- 351.

(2) نعم لا نريد ذلك، وإلّا فعندنا أسماء كثيرين ممّن يصفونهم بالعلم والحفظ ونحو ذلك من الصفات، ذكروابتراجمهم الإخلال بالصّلوات وارتكاب الفواحش.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 35

التاريخ، إصطدمنا به إضطراراً علي عجل … فلنكتف بهذا القدر.

تنبيه … ص: 35

قد اختلفت كلمات المؤرّخين واضطربت آراؤهم في دور الوزير ابن العلقمي في وقعة بغداد وقتل المستعصم، وقد كان الغرض

من نقل تلك الكلمات هو تبرئة ساحة نصير الدين الطّوسي عمّا رماه به ابن تيمية ونسبه إليه، وللتحقيق حول ما كان من ابن العلقمي في تلك القضيّة مجال آخر.

ويكفينا هنا أنّ ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي، المعاصر للوقعة، والقريب جدّاً من ابن العلقمي، يبرّي ء ابن العلقمي تمام التبرئة، بل في كلامه ما يدل علي الدور المعاكس لما قيل عنه، وقد نظم ابن أبي الحديد قصيدةً رائعةً يصف فيها شجاعة ابن العلقمي وجهاده ضدّ المغول.

عودةٌ إلي ترجمة العلّامة … ص: 35

وأمّا العلّامة … فإنّه وإن وصفه ابن تيميّة- متي ما ذكره في كتابه- بالسبّ والشتم … فقد وصفه أعلام أهل السنّة- من المعاصرين له والمتأخرين عنه- بالإمامة في العلوم، وطيب الخلق، ومحاسن الصّفات:

قال الصّفدي: «الشيخ جمال الدين ابن المطهر، الحسين «1» بن يوسف بن المطهر، الإمام العلامة ذو الفنون جمال الدين ابن المطهر الأسدي الحلي المعتزلي، عالم الشيعة وفقيههم، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته. تقدّم في دولة خربندا تقدّماً زائداً، وكان له مماليك وإدرارات كثيرة، وأملاك جيّدة، وكان __________________________________________________

(1) والصحيح: الحسن.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 36

يصنّف وهو راكب، شرح مختصر ابن الحاجب، وهو مشهور في حياته، وله كتاب في الإمامة ردَّ عليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ثلاث مجلدات، وكان يسمّيه ابن المنجّس. وكان ابن المطهر ريّض الأخلاق مشتهر الذكر، تخرّج به أقوام كثيرة وحجّ أواخر عمره، وخمل وانزوي إلي الحلّة، وتوفّي سنة 25 وقيل: سنة ست وعشرين وسبع مائة، في شهر المحرم وقد ناهز الثمانين. وكان إماماً في الكلام والمعقولات. قال الشيخ شمس الدين: قيل اسمه يوسف، وله الأسرار الخفيّة في العلوم العقليّة» «1».

وقال ابن حجر العسقلاني: «الحسين «2» بن يوسف بن المطهر الحلي المعتزلي

جمال الدين الشيعي، ولد في سنة بضع وأربعين وستمائة، ولازم النصير الطوسي مدةً، واشتغل في العلوم العقلية فمهر فيها، وصنّف في الاصول والحكمة، وكان صاحب أموال وغلمان، وحفدة، وكان رأس الشيعة بالحلّة، واشتهرت تصانيفه وتخرّج به جماعة، وشرحه علي مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن في حلّ ألفاظه وتقريب معانيه. وصنّف في فقه الإمامية، وكان قيّماً بذلك داعية إليه. وله كتاب في الإمامة ردَّ عليه فيه ابن تيمية بالكتاب المشهور المسمّي بالرد علي الرافضي، وقد أطنب فيه وأسهب وأجاد في الرد إلّا أنه تحامل في مواضع عديدة، وردّ أحاديث موجودة وإن كانت ضعيفة بأنها مختلقة، وإيّاه عني الشيخ تقي الدين السبكي بقوله:

وابن المطّهر لم تطهر خلائقه داع إلي الرفض غال في تعصّبه __________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات- الترجمة 3725 الشيخ جمال الدين ابن المطّهر- 13/ 54- 55.

(2) والصحيح: الحسن.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 37

ولابن تيمية ردّ عليه له أجاد في الرد واستيفاء أضربه الأبيات.

وله كتاب الأسرار الخفية في العلوم العقلية، وغير ذلك. وبلغت تصانيفه مائة وعشرين مجلدة فيما يقال. ولما وصل إليه كتاب ابن تيمية في الردّ عليه كتب أبياتاً أوّلها:

لو كنت تعلم كلّ ما علم الوري طرّاً لصرت صديق كلّ العالم الأبيات.

وقد أجابه الشمس الموصلي علي لسان ابن تيمية.

ويقال: إنه تقدّم في دولة خربندا وكثرت أمواله، وكان مع ذلك في غاية الشح، وحجّ في أواخر عمره، وتخرّج به جماعة في عدّة فنون.

وكانت وفاته في شهر المحرم سنة: 726 أو في آخر سنة 725.

وقيل: اسمه الحسن بفتحتين. وقد تقدم التنبيه عليه» «1».

وقال ابن حجر أيضاً: «الحسين بن يوسف بن المطهر الحلّي. عالم الشيعة وإمامهم ومصنّفهم، وكان آية في الذكاء. شرح مختصر ابن الحاجب شرحاً

جيّداً سهل المأخذ، غاية في الإيضاح، واشتهرت تصانيفه في حياته، وهو الذي ردّ عليه الشيخ تقي الدين ابن تيميِّة في كتابه المعروف بالردّ علي الرافضي.

وكان ابن المطهر مشتهر الذكر ريض الأخلاق. ولمّا بلغه بعض كتاب ابن تيمية قال: لو كان يفهم ما أقول أجبته.

__________________________________________________

(1) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة الترجمة 1618، الحسين بن يوسف بن المطهّر الحلّي 2/ 71- 72. وفيه مواقع للنظر.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 38

ومات في المحرم سنة 726 عن 80 سنة. وكان في آخر عمره انقطع في الحلّة إلي أن مات» «1».

وهكذا تجد الكلمات في غير هذه الكتب من المصادر الجليلة، في الثناء علي العلّامة الحلّي وكتبه وآثاره.

إذن، فقد شذّ ابن تيميّة في كلّ ما قاله في التنقيص من النصير الطوسي وابن المطهّر الحلّي والحطّ عليهما …

مؤلَّفاته الكلاميّة … ص: 38

لقد ترك العلامة قدس اللَّه روحه آثاراً جليلة في شتي العلوم الإسلاميّة، ونحن نكتفي هنا بذكر أهمّ كتبه في علم الكلام والإمامة:

1- كشف المراد- شرح تجريد الإعتقاد.

2- كشف الفوائد- شرح قواعد العقائد.

3- كشف اليقين في فضائل أميرالمؤمنين.

4- مناهج المتّقين في اصول الدين.

5- نهج المسترشدين في اصول الدين.

6- كتاب الألفين الفارق بين الصّدق والمين.

7- نهاية المرام في علم الكلام.

8- الباب الحادي عشر- في اصول الدين.

__________________________________________________

(1) لسان الميزان الترجمة 2841، الحسين بن يوسف بن المطهّر الحلّي، 2: 587. ولا يخفي أنه لم يصفه هنا ب «المعتزلي» ولا ب «الشحّ».

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 39

9- نهج الحق وكشف الصّدق.

10- منهاج الكرامة في الإمامة.

كتاب (منهاج الكرامة) … ص: 39

اشارة

هذا الكتاب سماّه العلّامة- كما في ديباجته-: (منهاج الكرامة في معرفة الإمامة)، وهكذا سماّه في كتابه (خلاصة الأقوال في علم الرّجال) في عداد مؤلَّفاته حيث ترجم لنفسه «1».

فهذا اسمه وإن ابدل في بعض الكتب كلمة «معرفة» بكلمة «إثبات» «2» أو كلمة «منهاج» بكلمة «نهج» مع إسقاط كلمة «معرفة» «3» أو إثباتها «4».

أمّا (كاشف الظّنون) فأورده مرّة بعنوان (منهاج الإستقامة في إثبات الإمامة) فقال: «لشيخ الرافضة جمال الدين أبي منصور ابن مطهّر حسن بن يوسف الحلّي الشيعي المتوفي سنة 726. قال ابن كثير: وقد خبط فيه في المعقول والمنقول، ولم يدر كيف يتوجّه، إذ خرج عن الإستقامة. وقد انتدب للردّ عليه في ذلك الشيخ أبو العبّاس أحمد ابن تيمية، في مجلَّدات، أتي فيها بأشياء حسنة، وهو كتاب حافل سماّه (منهاج السنّة)» «5».

ومرةً بعنوان (منهاج السلامة إلي معراج الكرامة) قائلًا: «لابن المطهر

__________________________________________________

(1) خلاصة الاقوال في علم الرجال: 48 ط النجف الأشرف.

(2) الذريعة إلي تصانيف الشيعة- 8534- 23/ 172.

(3) أمل الآمل الترجمة 224، 2/ 84.

(4)

بحار الأنوار- كتاب الإجازات 104/ 54.

(5) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2/ 1870.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 40

الحلّي، من أفاضل الشيعة، فيه مطاعن علي أهل السنّة. وعليه ردّ لزين الدين سريحا بن محمّد الملطي المتوفي سنة 788، سماّه: سدّ الفتيق المظهر وصدّ الفسيق ابن المطهر» «1».

لكنّه سماّه ب (منهاج الكرامة) حيث ذكر (منهاج السنّة) فقال: «منهاج السنّة النبويّة في نقض كلام الشيعة والقدرية، للشيخ تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي، المتوفي سنة 728. ألّفه ردّاً علي (منهاج الكرامة). قال التقي السبكي: رأيته قد أجاد في الردّ عليه، لكن صرّح باعتقاد حوادث لا أوّل لها وأنّها قائمة بذات الباري» «2».

سبب تأليفه … ص: 40

وقال العلّامة رحمه اللَّه في المقدمة: «أما بعد، فهذه رسالة شريفة ومقالة لطيفة، إشتملت علي أهمّ المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين، وهي مسألة الإمامة، التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة، وهي أحد أركان الإيمان، المستحق بسببه الخلود في الجنان، والتخلّص من غضب الرحمان، فقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليّة …

قد لخّصت فيها خلاصة الدلائل، وأشرت إلي رؤوس المسائل … » «3».

وقد قدّم الكتاب إلي: السلطان محمّد خدا بنده …

__________________________________________________

(1) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2/ 1872.

(2) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2/ 1872.

(3) منهاج الكرامة في معرفة الإمامة: 27- 29.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 41

فالغرض من الكتاب- سواء كان تأليفه بطلبٍ من السلطان أو غيره، أو لم يكن بطلبٍ من أحد- هو معرفة الإمامة وتبيين الدلائل علي إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام وخلافته بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه

عليه وآله وسلّم، من العقل والنقل … وليس في كلام العلّامة ما يشير إلي صدور أمرٍ من السلطان المذكور بتأليف هذا الكتاب كما توهّم، إلّا أن يكون في قوله: «خدمت بها خزانة السلطان … » «1» دلالة علي ذلك.

نعم قد صرّح في مقدّمة كتابه الآخر (نهج الحق وكشف الصّدق) بأنّ وضعه كان بمرسوم من السلطان، حيث قال: «وإنما وضعنا هذا الكتاب حسبةً للَّه ورجاءً لثوابه، وطلباً للخلاص من أليم عقابه؛ بكتمان الحق وترك إرشاد الخلق، وامتثلت فيه مرسوم سلطان … » «2».

وكيف كان … فإنّ الغرض من تأليف هذا الكتاب هو «معرفة الإمامة» وبيان عقائد الشيعة الإمامية الاثني عشريّة فيها «من غير تطويل مملّ ولا إيجاز مخلّ».

وكذلك دأب العلّامة في غير هذا الكتاب من كتبه الكلاميّة.

هذا، ولا يخفي أن الكتب الموضوعة في العقائد- وخاصّة في الإمامة- من قبل علماء الشّيعة الاثني عشرية، منذ القرون الأولي قد وضعت إمّا بياناً للعقيدة وذكر أدلّتها من الكتاب والسنّة وغيرهما، كما هو الحال في كتب العلّامة، من أمثال (كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد) و (مناهج المتقين في أصول الدين) و (نهج __________________________________________________

(1) منهاج الكرامة في معرفة الإمامة: 27.

(2) نهج الحق وكشف الصدق: 38.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 42

الحق وكشف الصّدق) و (منهاج الكرامة في معرفة الإمامة) … وإمّا دفاعاً عن العقيدة وردّاً علي تهجّم الآخرين عليهم، ومن هذا القبيل كتاب (الشّافي في الإمامة في الرد علي المغني) و (بناء المقالة الفاطميّة في الردّ علي الرسالة العثمانية) و (إحقاق الحق وإزهاق الباطل في الردّ علي ابن روزبهان) و (عبقات الأنوار في الردّ علي التحفة الاثني عشرية) وكثيرٌ غيرها …

أمّا أن يؤلّف العالم الشّيعي كتاباً يتهجّم فيه

علي أهل السنّة ويشتم ويسبّ ويفتري ويكذب، فلا يوجد هكذا كتاب إطلاقاً.

إلتزامه بآداب البحث وقواعد المناظرة … ص: 42

بل إنّ علماء الإمامية- منذ اليوم الأول- ملتزمون في بحوثهم واستدلالاتهم بآداب البحث وقواعد المناظرة، فلا ينسبون إلي الخصم إلّا ما ثبت قوله به، ولا ينقلون إلّا عن الكتب المعتبرة عنده، ولا يخاصمونه إلّا بما ثبتت حجّيته لديه … ثم الإبتعاد عن السبّ والشتم، والإجتناب عن أيّ إهانةٍ وتحقير …

وهكذا كان العلّامة في (منهاج الكرامة) وغيره من كتبه … فتراه يراعي الأمانة والدقّة في نقل آراء الآخرين وعقائدهم، بأدبٍ ووقارٍ ومتانة، وأُسلوب هادي ء رفيع، لا يورد دليلًا علي إمامة أميرالمؤمنين وأهل البيت عليهم السّلام، إلّا من كتب أهل السنّة المعروفة المشهورة، وإليك سرداً لأسماء الكتب التي نقل عنها، والعلماء الذين اعتمدهم العلامة في (منهاج الكرامة):

الكتب التي نقل عنها والعلماء الذين اعتمدهم … ص: 42

أمّا الكتب التي ورد اسمها ونقل عنها فهي:

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 43

الجمع بين الصحاح الستّة/ لأبي الحسين رزين بن معاوية الأندلسي، المتوفّي سنة: 535.

حلية الأولياء/ لأبي نعيم الأصبهاني، المتوفي سنة: 430.

ربيع الأبرار/ لجار اللَّه الزمخشري، المتوفي سنة: 528.

شرح الوجيز/ لعبد الكريم بن محمّد الرافعي، المتوفي سنة: 623.

الصحيح/ للبخاري، المتوفي سنة: 256.

الصحيح/ لمسلم بن الحجاج، المتوفي سنة: 261.

الطبقات الكبري لابن سعد، المتوفي سنة: 230.

مثالب الصحابة/ للكلبي، المتوفي سنة: 146.

المسند/ لأحمد بن حنبل، المتوفي سنة: 241.

الهداية/ للمرغيناني الحنفي، المتوفي سنة: 593.

والعلماء الذين روي عنهم واعتمد عليهم هم:

أصحاب الكتب الستّة.

وأحمد بن حنبل.

وأبو عمرو الزاهد.

وشيرويه الديلمي صاحب الفردوس.

وأبو نعيم الاصفهاني.

وابن عبد البر القرطبي.

وأبو بكر النقّاش صاحب التفسير.

والثعلبي، صاحب التفسير.

وأبو بكر البيهقي.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 44

وأبو الفتح الشهرستاني صاحب الملل والنحل.

وابن خالويه.

وأخطب خوارزم.

وأبو عبد اللَّه الشافعي، وهو الكنجي.

والفقيه ابن المغازلي.

وابن الجوزي الحنبلي.

وهؤلاء من أعلام أهل السنّة في الحديث والتفسير وغيرهما من العلوم.

شرح فصوله … ص: 44

وهو يتضمّن مقدمةً وستة فصول.

أما المقدمة، فقد ذكر فيها أهمية مسألة الإمامة وضرورة الإعتقاد بها عقلًا ونقلًا.

وأمّا الفصول:

فالفصل الأول: في نقل المذاهب في هذه المسألة.

والفصل الثاني: في أنّ مذهب الإماميّة واجب الاتّباع.

والفصل الثالث: في الأدلّة الدالّة علي إمامة علي أميرالمؤمنين بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

والفصل الرابع: في إمامة باقي الأئمة الإثني عشر.

والفصل الخامس: في أن من تقدَّم علي علي لم يكن إماماً.

والفصل السادس: في نسخ حجج القائلين بإمامة أبي بكر بعد النبي.

خلاصة الفصل الأول:

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 45

بيان ضرورة وجود الإمام في كلّ زمان، وذلك لأنّ اللَّه عدل حكيم لا يفعل إلّا ما فيه صلاح العباد، فأرسل الرّسل لإرشادهم، فكان نبيّنا صلّي

اللَّه عليه وآله وسلّم آخرهم، فنصب من بعده أئمةً معصومين، وهم اثنا عشر، أوّلهم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، وآخرهم محمّد بن الحسن المهدي. فهذا موجز عقيدة الامامية.

وأمّا أهل السنّة فذهبوا إلي خلاف ذلك كلّه، فلم يثبتوا العدل والحكمة في أفعال اللَّه، وأنّه لا يفعل ما هو الأصلح للعباد، بل ما هو الفساد في الحقيقة، وأن الأنبياء غير معصومين، وأن النبيّ لم ينص علي إمامٍ، وأنه مات بغير وصية.

فقالوا بإمامة أبي بكر من بعده لمبايعة عمر برضا أربعة.

ثم من بعده عمر بنصّ أبي بكر عليه.

ثم عثمان بنصّ عمر علي ستة هو أحدهم، فاختاره بعضهم.

ثم علي أميرالمؤمنين لمبايعة الخلق له.

ثم إنهم اختلفوا في الإمام من بعده، ثم ساقوا الإمامة في بني اميّة، حتي ظهر السفّاح فساقوها في بني العبّاس.

ففي هذا الفصل أشار إلي بعض المسائل الكلاميّة عند الفريقين، لكي يبيّن الأسس الأصليّة لما يذهب إليه كلٌّ منهما، فإنّ الإماميّة لمّا قالت بعدل اللَّه وحكمته، وأنه يفعل ما هو الأصلح للعباد والأنفع لهم في الدنيا والآخرة، كان مقتضي ذلك أن يرسل إليهم رسلًا مبشّرين ومنذرين، وكانوا معصومين في كلّ أفعالهم وأقوالهم، وإلّا لم يبق وثوق بأقوالهم وأفعالهم، فتنتفي فائدة البعثة، وهذا خلاف المصلحة ونقض للغرض، وذلك محال.

ولمّا كان نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم معصوماً، وقد نصَّ علي أنّ الخليفة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 46

من بعده علي بن أبي طالب، ثمّ من بعده علي ولده الحسن الزكي … وهكذا حتي المهدي المنتظر، عليهم السلام، كان الإعتقاد بإمامة هؤلاء- دون غيرهم- هو الواجب من قِبَل اللَّه سبحانه …

أمّا أهل السنّة فلمّا لم يثبتوا العدل والحكمة في أفعال اللَّه، وجوّزوا عليه فعل القبيح، وأن لا يفعل

ما هو الأصلح للعباد … لم يقولوا بعصمة الأنبياء، بل جوّزوا عليهم الخطأ بل الكذب، وعلي هذا لم يروا أنفسهم ملزمين بما أخبر أو أمر به النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وجوّزوا لأصحابه الإجتهاد في مقابل نصوصه.

ولمّا كانوا يقولون بجواز إخلال اللَّه تعالي بالواجب، قالوا بأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم مات بغير وصيّةٍ، وترك الشّريعة والامّة بغير إمامٍ وولّي، فاضطرّوا إلي الإعتقاد بما وقع، من إمامة أبي بكر بعده، ببيعة واحدٍ فقط وهو عمر ابن الخطاب، وإمامة عمر لنصّ أبي بكر عليه، وإمامة عثمان لنصّ عمر علي ستّةٍ هو أحدهم فاختاره بعضهم. ثم جعلوا عليّاً الخليفة الرّابع لا لنص أو وصيّة بل بدليل مبايعة الخلق له …

حتي اضطرّوا إلي القول بإمامة يزيد، وبني مروان، والسفّاح، والمتوكّل، وأمثالهم، وإلي يومنا هذا!!

خلاصة الفصل الثاني:

وفي الفصل الثّاني يذكر مقدّمةً يشير فيها إلي أمرٍ لا ريب فيه، وهو وقوع الإختلاف بين الناس بعد وفاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وتعدّد آرائهم، وينبّه علي أنّ كون الكثرة في طرفٍ لا يستلزم الحق والصواب، فإذاً لابدَّ للمسلم- شرعاً وعقلًا- من النظر في الحق واعتماد الإنصاف وإقرار الحقّ مقرّه.

ثم ذكر ستّة وجوهٍ علي أنّ مذهب الإماميّة هو الحقّ الواجب اتّباعه:

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 47

الوجه الأول منها هو: أن مذهب الإمامية أحسن المذاهب في الأصول والفروع. وهنا يعرض بإيجاز لمذهب الإمامية في الصفات والقدر، والقول بعصمة الأنبياء والأئمة. أما في المسائل الفرعية فإن الإمامية يأخذون أحكامهم عن الأئمة المعصومين ويرفضون الرأي والإجتهاد والقياس والإستحسان.

ويقارن بعد ذلك مذهب الإمامية بالمذاهب الأخري فيعرض لأقوال الأشاعرة والحشوية والمشبِّهة والكرّامية في مسألة الصفات، ثم يعرض لما يعدّه

مذهب أكثر المسلمين في القدر، ومقتضاه القول بأن اللَّه يفعل كلّ شي ء حتي المعاصي والكفر والقبائح، وأن العبد لا تأثير له في ذلك، ولا غرض للَّه تعالي في أفعاله، ولا يراعي مصلحة العباد في فعله لها، وكلّ فعل للعبد فإنما يقع بإرادة اللَّه تعالي ثم يسرد النتائج الشنيعة التي تترتب علي هذه الآراء، إذ لا يبقي هناك فرق بين الطاعة والمعصية والثواب والعقاب، وتنتفي الثقة باللَّه تعالي ورسله وأنبيائه.

ويعود فيعرض بالتفصيل لما أجمله من قبل، فينقد رأي الأشاعرة في إمكان رؤية اللَّه، وفي أن كلام اللَّه قديم، ويشرح مرة أخري رأي مخالفي الإمامية في مسألة عصمة الأئمة، ويبين الأضرار الناجمة عن الأخذ بالقياس والرأي في أحكام الشريعة.

والوجه الثاني- من الوجوه الدالة علي وجوب اتّباع مذهب الإمامية- قائم علي حديث الرسول صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عن افتراق الأمة إلي ثلاث وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية والباقي في النار، والفرقة الناجية هي الفرقة الإماميّة الاثنا عشرّية، لحديث السفينة المتفق عليه بين الفريقين.

وقد ذكر أنّه أخذ هذا الإستدلال من شيخه نصير الدين الطوسي.

أمّا الوجه الثالث فهو: أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم يوم القيامة،

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 48

علي عكس أهل السنّة.

والوجه الرابع: مبني علي أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين المشهورين بالعلم والفضائل المختلفة. وهنا يأخذ في الكلام عن فضائل كلّ إمامٍ من الأئمة الاثني عشر واحداً واحداً، لكن بإيجاز.

والوجه الخامس: في أنّ الاماميّة لم يذهبوا إلي التعصّب في غير الحق، أمّا أهل السنّة فقد غيّروا الشّريعة وبدّلوا الأحكام، ثم ابتدعوا أشياء واعترفوا بأنها بدعة، وهي ما زالت موجودة بينهم، كذكر خلفائهم في الخطبة، وغسل الرجلين في الوضوء، وإنكار المتعتين، ومنع الإرث

عن فاطمة عليها السّلام، وتسمية أبي بكر بالخليفة، وعمر بالفاروق، وتعظيم عائشة علي باقي نسوان النّبي، وتسمية معاوية خال المؤمنين دون محمّد بن أبي بكر، وبكاتب الوحي ولم يكتب منه ولا حرفاً، مع ما كان عليه من الموبقات، كمحاربة علي وسمّ الحسن … وكتسمية خالد سيف اللَّه.

وتمادي بعضهم في التعصّب حتي اعتقدوا إمامة يزيد بن معاوية، مع ما صدر عنه من الأفعال القبيحة، من قتل الإمام الحسين عليه السّلام …

والوجه السادس هو: إن الإماميّة لما رأوا فضائل أميرالمؤمنين عليه السلام وكمالاته التي لا تحصي قد رواها المخالف والمؤالف، ورأوا الجمهور قد نقلوا عن غيره من الصحابة مطاعن كثيرة ولم ينقلوا في علي عليه السلام طعناً ألبتة، إتّبعوا قوله وجعلوه إماماً لهم وتركوا غيره، فذكر طرفاً من تلك الفضائل والمطاعن.

وكلّ وجهٍ من هذه الوجوه صالحٌ لأن يعتمده الباحث المنصف عن المذهب الحق والطريق الصحيح الموجب لنيل الكرامة عند اللَّه، فالوجه الأول ناظرٌ إلي الأُصول العقائدية عند الشيعة والسنّة، فإذا لوحظ ما تقول به الشيعة الإمامية وما

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 49

تذهب إليه الطوائف الاخري كما جاء في كتبهم الإعتقادية المعتبرة- وجد عقائد الإمامية هي المطابقة لحكم الدين ودرك العقل السّليم.

وإذا كان الباحث عن المذهب الحق منصفاً، فإنّه لا يتردّد في اتّباع ما وافق الدين والعقل، واعتناقه مذهباً مبرءاً للذمّة وموجباً للنجاة.

والوجه الثاني ناظرٌ إلي استدلالٍ متينٍ قائم علي أساس حديثين واردين عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عند كلا الفريقين بأسانيدٍ معتبرة، يعلن في الأوّل منهما أن امّته ستفترق من بعده كما افترقت الأُمم السّابقة، ومن الواضح أن لا نجاة لجميع الفرق المختلفة، لكون الحق مع فرقةٍ واحدةٍ فقط من

بينها، فكان عليه أن يحذّر الامّة من الاختلاف والتفرّق، ويذكّرهم بأن الناجية من تلك الفرق فرقة واحدة فقط.

لكنّ رأفته بالأمّة وعطفه عليهم وحبّه لنجاتهم، كلّ ذلك دعاه لأن لا يترك المطلب علي إجماله، فبيّن لهم- في الحديث الثاني- وعيّن الفرقة النّاجية، مشبّهاً أهل بيته بسفينة نوحٍ، فأرشدهم طريق النجاة والخلاص، ودعاهم إلي اتّباع أهل بيته والإنقياد لهم، وأنّه كما غرق قوم نوحٍ أجمعون إلّا من ركب السفينة، فإنّ قومه كلّهم هالكون إلّا من اتّبع أهل البيت.

وإذا كان هذان الحديثان واردين بطرق صحيحة عند الفريقين، وكانت دلالتهما علي هذه النتيجة واضحةً جدّاً لكلّ عاقل منصف، وجب عليه اتّباع مذهب أهل البيت ولم يبق له عذر أبداً.

والوجه الثالث ناظر إلي قضيّة عقليّة عقلائيّة، يصوّر فيه حال الباحث الحائر، والدائر أمره بين الأخذ بمذهب الامامية أو الأخذ بمذهب أهل السنّة، ويرشده إلي مراجعة العقل والرجوع إلي السيرة العقلائية المستوحاة من عقولهم،

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 50

فإنّهم- في مثل هذه الحالات- لا يبقون في الحيرة ولا يتيهون، بل يأخذون بالحزم ويتّبعون اليقين، فمن خالفه ذمّوه، ولو انكشف الخلاف كان معذوراً عندهم.

ولعلّه استفاد هذا الوجه من استدلال الإمام الرضا عليه السلام علي الزنديق وقوله له: «أيّها الرجل، أرأيت إن كان القول قولكم- وليس هو كما تقولون- ألسنا وإيّاكم شرعاً سواء، لا يضرّنا ما صلّينا وصمنا وزكّينا وأقررنا؟

فسكت الرجل. ثم قال أبو الحسن عليه السّلام: وإن كان القول قولنا- وهو قولنا- ألستم قد هلكتم ونجونا؟» «1».

والوجه الرّابع ناظرٌ إلي أئمّة القريقين وقادتهما، فالشيعة الإثنا عشريّة أئمتهم معصومون، مشهورون بالفضل والعلم والزّهد والورع عند جميع المسلمين، وأمّا أئمّة أهل السنّة فلم يدّع أحد العصمة لواحدٍ منهم، ولم يكونوا مشهورين-

حتي عند القائلين بإمامتهم- بالفضل والعلم والورع والزهد وأمثالها من الصّفات اللّازم توفّرها في كلّ إمام حق متّبع، بل علي العكس من ذلك، فقد ثبت عنهم الظلم والجهل والجبن، بل اشتهر أكثرهم بالفسق والفجور والمعاصي …

فلو أنّ الباحث المنصف قارن بين هؤلاء الأئمة، وأئمة أهل بيت النبي- صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- وأراد أن يتّخذ أئمةً يقودونه إلي النجاة والجنّة، إتّخذ أئمة الإماميّة أئمةً وقادةً، وأطاعهم عقيدةً وعملًا.

والوجه الخامس ناظرٌ إلي المقارنة بين الفرقتين- الشيعة والسنّة- من النواحي العمليّة والأخلاقيّة، والتعبّد بما جاء في الكتاب والسنّة الثابتة من الاصول الإعتقادية والأحكام الشرعية … فذكر أن الإماميّة لم يذهبوا إلي التعصّب __________________________________________________

(1) الكافي 1/ 78.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 51

في غير الحق، ولم يخالفوا المشروع في اعتقادٍ أو عمل، أمّا أهل السنّة فقد نقل عن كتبهم موارد كثيرة خالفوا فيها المشروع في الإسلام، بل ابتدعوا أشياء والتزموا بها إلي يومنا هذا.

لقد وضع الباحث المنصف- في هذا الوجه- أمام مذهبين أحدهما ملتزم بما جاء به الدين الحنيف ولا يتعدّي حدوده ولا في حكمٍ من أحكامه، والآخر يفتي ويعمل بخلاف المشروع مع الإعتراف بذلك!! ويفتي ويعمل بالبدع والمحدثات التي لا أصل لها في الشّريعة!!.

فمن الواضح أنه سوف لا يتّبع إلّا مذهب الإماميّة.

والوجه السّادس ناظرٌ إلي تعيّن أمير المؤمنين عليه السّلام للإمامة والخلافة بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، بالنظر إلي فضائله وكمالاته التي لا تحصي، والتي رواها الفريقان في كتبهم المعتبرة، وانتفائها عن أئمة أهل السنّة، بل وجود مطاعن تطعن في إمامتهم يرويها المعتقدون بها قبل غيرهم.

ثم يشرع بذكر طرفٍ من فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام ومطاعن مناوئيه، معتمداً في ذلك كلّه علي

كتب أهل السنّة ورواياتهم.

فإذا وقف الباحثُ المنصف علي فضائل علي ومطاعن غيره، فمن يتّبع ويتّخذ إماماً؟!

خلاصة الفصل الثالث:

وقد جعل هذا الفصل في الأدلّة الدالة علي إمامة أميرالمؤمنين عليه السّلام بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بلا فصل، فقال: «الأدلّة علي ذلك كثيرة لا تحصي لكن نذكر المهم منها وننظمه أربعة مناهج».

ذكر في الأول أدلّة من العقل، وفي الثاني من الكتاب، وفي الثالث من السنّة،

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 52

وفي الرابع من أحواله عليه الصلاة والسلام.

الدليل علي إمامة علي من العقل … ص: 52

المنهج الأول في الأدلة العقليّة وهي خمسة:

فالأول من هذه الأدلّة يتلخّص في: إنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً، لأنّ الناس لا تنتظم أمورهم إلّا بإمام معصوم يرشدهم إلي الحق ويصدّهم عن الباطل، ولو لم يكن معصوماً لاحتاج إلي إمام، فإن لم يكن ذاك معصوماً لاحتاج إلي إمام آخر، فيلزم التسلسل.

هذا، وأبو بكر وعمر وعثمان لم يكونوا معصومين، وعلي عليه السّلام معصوم، فيكون هو الإمام.

أمّا عدم عصمة أولئك فبالإتّفاق. وأمّا عصمته فلآية التطهير وغيرها من الأدلّة من الكتاب والسنّة.

والثّاني خلاصته: إن الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه من اللَّه ورسوله، وغير علي عليه السلام من أئمتهم لم يكن منصوصاً عليه بالإجماع، فتعيّن أن يكون هو الإمام.

أمّا أنّ أبا بكر وتالييه غير منصوص عليهم بالإجماع، فقد اعترف بذلك كبار علمائهم في الحديث والكلام، وبه أحاديث في كتبهم الموسومة بالصّحاح.

وأمّا أن علياً عليه السّلام هو المنصوص عليه، فبالإجماع أيضاً، أمّا الشيعة فقولهم بذلك معلوم، وأمّا السنّة فرواياتهم الدالّة علي ذلك لا تحصي.

والثالث حاصله: إن الإمام يجب أن يكون حافظاً للشرع، والحافظ للشرع يجب أن يكون منصوباً من اللَّه تعالي معصوماً من الخطأ والزلل، وإلّا

دراسات في منهاج

السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 53

لا يكون حافظاً، وغير علي عليه السلام لم يكن كذلك بالإجماع.

أي: وغير علي لم يكن منصوباً معصوماً بالإجماع، كما تقدّم.

والرّابع موجزه: أنّ اللَّه تعالي قادر علي نصب إمامٍ معصوم، وحاجة العالم داعية إليه، ولا مفسدة فيه. فيجب نصبه. وغير علي عليه السلام لم يكن كذلك بالإجماع، فتعيّن أن يكون الإمام هو علي عليه السّلام، وقد أشرنا إلي أنّ القوم أيضاً بعترفون بعدم كون أئمتهم منصوبين من قِبَل اللَّه ورسوله.

والخامس: إن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته، وعلي عليه السّلام أفضل الناس بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فيكون هو الإمام، لقبح تقديم المفضول علي الفاضل عقلًا ونقلًا.

ولا يخفي أن ابن تيميّة من القائلين باشتراط الأفضلية في الإمام، لقبح تقديم المفضول علي الفاضل، حيث قال ما حاصله: تولية المفضول مع وجود الأفضل ظلم «1».

أمّا أن علياً هو الأفضل فللأدلّة من العقل والنقل، المذكورة في هذا الكتاب وغيره.

الدليل علي إمامة علي من الكتاب … ص: 53

والمنهج الثاني: في الأدلّة المأخوذة من القرآن.

والبراهين الدالّة علي إمامة علي عليه السلام من الكتاب العزيز- في هذا الكتاب- أربعون برهاناً:

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 475، 8/ 223، 228 وغيرها.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 54

1- قوله تعالي «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» «1»

.2- قوله تعالي «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» «2»

.3- قوله تعالي «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً» «3»

.4- قوله تعالي «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي» «4»

.5- قوله تعالي «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ

عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «5»

.6- قوله تعالي «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ» «6»

.7- قوله تعالي «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «7»

.8- قوله تعالي «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ» «8»

.9- قوله تعالي «فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَي __________________________________________________

(1) سورة المائدة: 55.

(2) سورة المائدة: 67.

(3) سورة المائدة: 3.

(4) سورة النجم: 1- 2.

(5) سورة الأحزاب: 33.

(6) سورة النور: 36.

(7) سورة الشوري 23.

(8) سورة البقرة: 207.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 55

الْكَاذِبِينَ» «1»

.10- قوله تعالي «فَتَلَقَّي آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ» «2»

.11- قوله تعالي «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «3»

.12- قوله تعالي «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً» «4»

.13- قوله تعالي «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» «5»

.14- قوله تعالي «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ» «6»

.15- قوله تعالي «وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» «7»

.16- قوله تعالي «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» «8»

.17- قوله تعالي «الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ» «9»

.18- قوله تعالي «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ __________________________________________________

(1) سورة آل عمران: 61.

(2) سورة البقرة: 37.

(3) سورة البقرة: 124.

(4) سوره مريم: 96.

(5) سورة الرعد: 7.

(6) سورة الصافات: 24.

(7) سورة محمّد: 30.

(8) سورة الواقعة: 11.

(9) سورة التوبة: 20.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 56

نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً» «1»

.19- قوله تعالي «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا»

«2»

.20- قوله تعالي «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ» «3»

.21- قوله تعالي «هَلْ أَتَي … » السّورة.

22- قوله تعالي «وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ» «4»

.23- قوله تعالي «هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ» «5»

.24- قوله تعالي «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «6»

.25- قوله تعالي «فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» «7»

.26- قوله تعالي «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ» «8»

.27- قوله تعالي «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً» «9»

.28- قوله تعالي «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ … » في القرآن …

29- قوله تعالي «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ … » «10»

.__________________________________________________

(1) سورة المجادلة: 12.

(2) سورة الزخرف: 45.

(3) سورة الحاقّة: 12.

(4) سورة الزمر: 33.

(5) سورة الأنفال: 62.

(6) سورة الأنفال: 64.

(7) سورة المائدة: 54.

(8) سورة الحديد: 19.

(9) سورة البقرة: 274.

(10) سورة الأحزاب: 56.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 57

30- قوله تعالي «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ» «1»

.31- قوله تعالي «وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «2»

.32- قوله تعالي «يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» «3»

.33- قوله تعالي «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» «4»

.34- قوله تعالي «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً» «5»

.35- قوله تعالي «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ» «6»

.36- قوله تعالي «وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ» «7»

.37- قوله تعالي «وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي» «8»

.38- قوله تعالي «إِخْوَاناً عَلَي سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ» «9»

.39- قوله تعالي «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» «10»

.40- قوله تعالي «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ …

» «11»

.__________________________________________________

(1) سورة الرحمان: 19.

(2) سورة الرعد: 43.

(3) سورة التحريم: 8.

(4) سورة البيّنة: 7.

(5) سورة الفرقان: 54.

(6) سورة التوبة: 119.

(7) سورة البقرة: 43.

(8) سورة طه: 29.

(9) سورة الحجر: 47.

(10) سورة الاعراف: 172.

(11) سورة التحريم: 4.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 58

أقول:

أولًا: الآيات النازلة في أميرالمؤمنين عليه السّلام وأهل البيت أكثر من هذا العدد، لكنّه اكتفي بهذا القدر.

وثانياً: قد اعتمد في نزول هذه الآيات علي روايات أهل السنّة فقط.

الدليل علي إمامة علي من السنّة … ص: 58

والمنهج الثالث: في الأدلّة المستندة إلي السنّة المنقولة عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وهي اثنا عشر:

1- حديث يوم الدّار، ونزول الآية: «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» «1»

.2- حديث خطبة الغدير، ونزول الآية: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ … » «2»

.3- حديث المنزلة.

4- إستخلاف النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إيّاه علي المدينة، مع قصر مدّة الغيبة.

5- حديث: أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني.

6- حديث المؤاخاة.

7- حديث خيبر وإعطاء الرّاية.

8- حديث الطائر.

9- حديث: سلّموا علي علي بإمرة المؤمنين …

__________________________________________________

(1) سورة الشعراء: 214.

(2) سورة المائدة: 67.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 59

10- حديث الثقلين.

11- حديث وجوب محبّته وموالاته.

12- حديث: من ناصب عليّاً الخلافة من بعدي فهو كافر.

وهذه الأحاديث غيض من فيض، وقد رواها عن كتب العامّة فحسب.

الدليل علي إمامة علي من أحواله وصفاته … ص: 59

والمنهج الرابع: في الأدلة الدالّة علي إمامته المستنبطة من أحواله عليه السلام، وهي اثنا عشر:

1- كان أزهد الناس.

2- كان أعبد الناس.

3- كان أعلم الناس.

4- كان أشجع الناس.

5- إخباره بالغائب والكائن قبل كونه.

6- كونه مستجاب الدّعوة.

7- قصّته مع الراهب في طريق صفّين وإسلامه علي يده.

8- قصّته مع كفّار الجن في خروج النبي إلي بني المصطلق وقتله إيّاهم.

9- رجوع الشمس له عليه السلام مرّتين.

10- ما رواه أهل السّير: إن الماء زاد في الكوفة وخافوا الغرق ففزعوا إليه، فنزل علي شاطي ء الفرات، فصلّي ثم دعا وضرب صفحة الماء بقضيب في يده، فغاض الماء …

11- قصّة الثعبان.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 60

12- تفوّقه في فضائله النفسانية والبدنية والخارجية.

والأخبار من هذا القبيل في كتب الفريقين كثيرة، وهذا القدر منها يكفي دليلًا علي إمامته عليه السّلام، إذ لم يوجد في غيره شي ء من هذا القبيل أصلًا.

خلاصة الفصل الرّابع واستعرض في

الفصل الرابع أدلّة إمامة باقي الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، فذكر:

1- النص.

2- العصمة.

3- الأفضليّة.

وقد ثبت في علم الكلام أنّ عمدة ما يثبت به الإمامة طريقان، هما: النص، والأفضليّة.. وإمامة الأئمة الاثني عشر ثابتة بكلا الطريقين.

خلاصة الفصل الخامس:

وفي الفصل الخامس راح يذكر قضايا واردة في كتب أهل السنّة ومن طرقهم، تدلّ علي أن من تقدّمه لم يكن إماماً، فذكر أشياء منها، هي:

1- قول أبي بكر: «إن لي شيطاناً يعتريني … ».

2- قول عمر: «كانت بيعة أبي بكر فلتة … ».

3- قصورهم في العلم، وإلتجاؤهم في أكثر الأحكام إلي علي عليه السّلام.

4- الوقائع الصادرة منهم، وقد ذكر أكثرها في المطاعن.

5- شركهم باللَّه سابقاً وقد قال تعالي «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1»

.__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 124.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 61

6- قول أبي بكر: «أقيلوني … ».

7- قول أبي بكر عند موته: «ليتني سألت رسول اللَّه … ».

8- قول أبي بكر عند موته: «ليتني كنت تركت بيت فاطمة … ».

9- التخلّف عن جيش اسامة.

10- عدم تولية النبي أبا بكر شيئاً من الأعمال.

11- قصّة إبلاغ سورة براءة.

12- قول عمر: «إن محمّداً لم يمت».

13- ابتداع عمر صلاة التراويح.

14- إن عثمان فعل اموراً لا يجوز فعلها …

لقد كان من الضروري- بعد ذكر أدلّة إمامة أميرالمؤمنين والأئمة من أهل البيت- إيراد ما يدلّ علي عدم كون من تقدّمه إماماً، ونسخ الحجج المدّعاة من قبل العامّة علي إمامة أبي بكر، كي يتمّ المطلب بجميع جهاته.

فكان الفصل الخامس لما يدل علي أن من تقدّمه لم يكن إماماً.

والفصل السادس لنسخ الحجج المزعومة.

خلاصة الفصل السادس:

ويتضمّن الفصل السادس الجواب عما احتجّ القوم به لإمامة أبي بكر، وهو وجوه:

الأول: الإجماع.

والثاني: حديث: «إقتدوا باللذين من بعدي

أبي بكر وعمر».

والثالث: فضائله. وهي آية الغار، وقوله تعالي «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَي* الَّذِي دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 62

يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّي» «1»

وقوله تعالي «قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَي قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» «2»

. وكونه أنيس النبي، وإنفاقه عليه، تقديمه في الصّلاة.

أجاب عن الإجماع بأنّه غير واقع. وعن الحديث بالمنع منه، وعن آية الغار بأنّه لا فضلية له فيها، وأنّ المراد من «وَسَيُجَنَّبُهَا … » هو أبو الدحداح، والمراد من «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ» الذين تخلّفوا عن الحديبيّة، وأن كونه أنيس النبي في العريش يوم بدر لا فضل فيه، وإنفاقه عليه كذب، وتقديمه في الصلاة خطأ.

طبعاته … ص: 62

لم يطبع كتاب (منهاج الكرامة في إثبات الإمامة) غير ثلاث مرات فيما نعلم.

فطبع مرّة بإيران طبعة حجرية رديئة.

وطبع مرةً اخري مع كتاب (منهاج السنّة) لابن تيمية.

وقد طبع أخيراً.

مخطوطاته «3»: … ص: 62

1- مخطوطة كتبها كمال الدين بن عبداللَّه بن سعيد الجرجاني، بخط نسخي جميل مشكول، وله تعاليق فارسية وعربية خلال السطور، في منتصف رجب سنة 878، في جامعة طهران بأوّل المجموعة رقم 879، ذكرت في فهرسها

__________________________________________________

(1) سورة الليل: 17- 18.

(2) سورة الفتح: 16.

(3) مكتبة العلامة الحلّي- الترجمة 105 منهاج الكرامة في اثبات الامامة: 200- 204.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 63

3/ 631- 634.

2- مخطوطة القرن التاسع، في مكتبة (سنا) السابق في طهران، بآخر المجموعة رقم 164 من 49- 192، ذكرت في فهرسها 1/ 82.

3- مخطوطة كتبت سنة 900، في مكتبة مدرسة الآخوند في همدان، رقم 214، ذكرت في فهرسها: 199.

4- مخطوطة فرغ منها الكاتب آخر جمادي الآخرة سنة 901، بأوّل مجموعة في مكتبة السيد المرعشي رقم 2523 من 1- 67 ب، ذكرت في فهرسها 5/ 109.

5- مخطوطة كتبت سنة 909، في جامعة كمبريج في إنگلترا، رقم 11021.، ذكرت في فهرسها: 112.

6- مخطوطة كتبت سنة 909، في مكتبة الإمام الرضا عليه السّلام، في المجموعة رقم 11310.

7- مخطوطة فرغ منها الكاتب في 28 جمادي الأولي سنة 919، في مكتبة السيّد المرعشي، رقم 8452، ذكرت في فهرسها 22/ 43.

8- مخطوطة كتبت سنة 921، معها قبلها استقصاء النظر للمؤلّف أيضاً، وهي من مخطوطات مكتبة المدرسة الباقرية في مشهد رقم 20.

9- ونسخة أُخري فيها أيضاً، ضمن المجموعة رقم 19، كتبت في رجب سنة 1006.

10- مخطوطة كتبها إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم المظاهري المازندراني في الحلّة، وفرغ منها يوم الجمعة ثالث رجب

سنة 936، في جامعة طهران، ضمن المجموعة رقم 4543، وأوّلها شرح الفصول النصيرية للسيد عبدالوهاب الإسترابادي، كتبها في النجف الأشرف، في دار غياث الدين، مذكورة في فهرسها

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 64

13/ 3487.

11- مخطوطة كتبها مسعود بن جار اللَّه المطلبي، بخط نسخي مشكول، وفرغ منها 5 ربيع الأول سنة 941، في مكتبة السيد المرعشي العامة في قم، ضمن المجموعة رقم 49، ذكرت في فهرسها 1/ 60- 61.

12- نسخة كتبت سنة 966، في مكتبة الإمام الرضا عليه السلام في مشهد، في المجموعة رقم 14652.

13- مخطوطة كتبت سنة 974، في مكتبة الإمام الرضا عليه السلام في مشهد، رقم 13754.

14- مخطوطة اخري فيها، رقم 14347، كتبت سنة 983.

15- مخطوطة كتبها محمود بن عبداللَّه الساوجي، وفرغ منها في 3 شعبان سنة 978، في جامعة طهران بأول المجموعة، رقم 1627 من 1- 54.

16- مخطوطة كتبت سنة 987، في مكتبة كليّة الإلهيّات في طهران، في المجموعة رقم 342، وقبلها كتاب الإستغاثة، ذكرت في فهرسها 1/ 282.

17- مخطوطة كتبها عبد الحي بن القاضي رضي الدين المسيبي الخزاعي، وفرغ منها في 19 جمادي الاولي سنة 997، في جامعة طهران، بآخر المجموعة رقم 1990، ذكرت في فهرسها 8/ 598- 599.

18- مخطوطة القرن العاشر، في مكتبة المجلس، بآخر المجموعة رقم 10212.

19- مخطوطة في مدرسة نواب في مشهد، معها طرائف ابن طاووس، كتبت سنة 1069، عنها مصوّرة في جامعة طهران رقم 212.

20- مخطوطة القرن العاشر، في مكتبة السيد المرعشي العامة في قم، رقم دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 65

4462، ذكرت في فهرسها 12/ 49.

21- مخطوطة القرن العاشر، في مكتبة العلّامة الطباطبائي في كليّة الطب في شيراز.

22- مخطوطة سنة 1006، كتبها

محمّد بن محمود بن جلال الدين الحسيني الأردستاني نزيل (جزه) من قهپايه أصبهان. وبعده ترجمة نفحات اللاهوت للمحقق الكركي إلي الفارسية، لتلميذه محمّد بن أبي طالب الاسترآبادي، في مكتبة الإمام الهادي العامة في مشهد رقم 15.

23- مخطوط كتبه عبد اللَّه الاردوبادي المتوفي في رجب سنة 1035، ومعه ترجمته بالفارسية بالخط والتاريخ، عنه مصوّر في جامعة طهران رقم 4076، ذكر في فهرس مصوّراتها 3/ 12.

شروحه: … ص: 65

شرح منهاج الكرامة مخطوطة في مكتبة البلاط الإيراني رقم 2923.

ترجماته: … ص: 65

1- ترجمة منهاج الكرامة، نسخة في مكتبة جامعة طهران رقم 2609، ذكرت في فهرسها 9/ 1463.

2- ترجمة منهاج الكرامة، نسخة في مكتبة سپه سالار رقم 456.

3- ترجمة منهاج الكرامة، نسخة من القرن 8 و 9، في مكتبة فرهاد معتمد، نشرية 3/ 160.

4- ترجمة في مكتبة (سنا)، ذكرت في فهرسها 1/ 292.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 66

5- ترجمة منهاج الكرامة، نسخة القرن العاشر، في مكتبة العلّامة الطباطبائي في كليّة الطب في شيراز رقم 940.

أوّله شكر وسپاس پروردگاري را كه متقدس است بكمال.

آخره: تمت الرسالة الكلامية في معرفة الإمامة علي يد … علي بن محمّد بن قوام … في عاشر شهر رمضان المبارك سنة 949.

فلعلّه المترجم، وربما كان هو الكاتب والترجمة أقدم من هذا.

6- ترجمة مصورة في جامعة طهران، رقم الفيلم 4079، ذكرت في فهرس مصوّراتها 3/ 12.

7- ترجمة منهاج الكرامة للسيد نعمت اللَّه الرضوي المشهدي.

أوّله: حمد بي حد وشكر بي عد محمودي را سزدكه.

نسخة في مكتبة السيّد المرعشي في المجموعة رقم 3008/ 7، من 131- 148.

8- ذخيرة القيامة في ترجمة منهاج الكرامة، لجمال الدين محمّد بن حسين الخونساري الاصفهاني المتوفي سنة 1125.

مخطوطة تاريخها 8 شهر رمضان سنة 1059 في مكتبة السيّد المرعشي، بأول المجموعة 103، ذكرت في فهرسها 1/ 124.

9- كرامة المنهاج، لمحمّد إسماعيل بن محمّد باقر المستوفي الخراساني.

هو ترجمة منهاج الكرامة إلي الفارسية، أوله: (سپاس فراوان خداوند قديم يگانه..).

مخطوطة كتبها أحد الخطاطين للمؤلّف وعلي نسخة الأصل ليهديها المؤلف إلي السلطان حسين ميرزا القاجاري، ويسترخصه في السفر إلي العراق لزيارة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 67

الحسين عليه السّلام.

وهذه النسخة في مكتبة

السيّد المرعشي رقم 279، ذكرت في فهرسها 1/ 307.

كلمة ابن تيمية حول (منهاج الكرامة) … ص: 67

وبعد أن عرّفنا العلامة الحلي وكتابه، وذكرنا منهجه فيه، رأينا من المناسب ذكر كلام ابن تيمية حول هذا الكتاب:

«أما بعد، فإنّه قد أحضر إليّ طائفة من أهل السنّة والجماعة كتاباً صنّفه بعض شيوخ الرّافضة في عصرنا، منفقاً لهذه البضاعة، يدعو به إلي مذهب الرّافضة الإماميّة من أمكنه دعوته من ولاة الامور وغيرهم أهل الجاهليّة، ممّن قلّت معرفتهم بالعلم والدين، ولم يعرفوا أصل دين المسلمين، وأعانه علي ذلك من عادتهم إعانة الرافضة من المتظاهرين بالإسلام من أصناف الباطنيّة الملحدين، الذين هم في الباطن من الصابئة الفلاسفة الخارجين عن حقيقة متابعة المرسلين الذين لا يوجبون اتّباع دين الإسلام …

وذكر من أحضر هذا الكتاب أنه من أعظم الأسباب في تقرير مذاهبهم عند من مال إليهم من الملوك وغيرهم. وقد صنّفه للملك المعروف الذي سماّه فيه خدا بنده. وطلبوا منّي بيان ما في هذا الكتاب من الضلال وباطل الخطاب، لما في ذلك من نصر عباد اللَّه المؤمنين وبيان بطلان أقوال المفترين الملحدين.

فأخبرتهم أن هذا الكتاب وإن كان من أعلي ما يقولونه في باب الحجة والدليل، فالقوم من أضلّ الناس عن سواء السبيل …

فلمّا ألحّوا في طلب الرد لهذا الضلال المبين، ذاكرين أنّ في الإعراض عن ذلك دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 68

خذلاناً للمؤمنين، وظن أهل الطغيان نوعاً من العجز عن ردّ هذا البهتان، فكتبت ما يسّره اللَّه من البيان …

وهذا المصنّف سمّي كتابه (منهاج الكرامة في معرفة الإمامة) وهو خليق بأن يسمّي (منهاج الندامة). كما أنّ من ادّعي الطهارة وهو من الذين لم يرد اللَّه أن يطهّر قلوبهم، بل من أهل الجبت والطاغوت والنفاق، كان وصفه بالنجاسة

والتكدير أولي من وصفه بالتطهير …

ونحن نبيّن- إن شاء اللَّه تعالي طريق الإستقامة في معرفة هذا الكتاب (منهاج الندامة) بحول اللَّه وقوّته.

وهذا الرجل سلك مسلك سلفه شيوخ الرافضة، كابن النعمان المفيد ومتّبعيه: كالكراجكي، وأبي القاسم الموسوي، والطوسي، وأمثالهم.

فإنّ الرافضة في الأصل ليسوا أهل علم وخبرة بطريق النظر والمناظرة ومعرفة الأدلّة، وما يدخل فيها من المنع والمعارضة، كما أنّهم من أجهل الناس بمعرفة المنقولات والأحاديث والآثار والتمييز بين صحيحها وضعيفها، وإنما عمدتهم في المنقولات علي تواريخ منقطعة الإسناد، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب بل وبالإلحاد …

وقد اتّفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد علي أنّ الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم … » «1».

أقول:

__________________________________________________

(1) منهاج السنة: 4/ 59.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 69

هكذا يبدأ ابن تيميّة كتابه ويشرع في الردّ علي العلّامة «1» والإماميّة …

وكتابه مشحون بالسبّ والشّتم … وسنورد طرفاً من عباراته من هذا القبيل تحت عنوانٍ خاص بذلك …

لكنّ الغرض هنا هو التعريف بكتاب (منهاج الكرامة) وبيان مطالبه وأُسلوبه في البحث، ولكي يظهر الفرق بين (المنهاجين) ومؤلّفيهما.

نظرةٌ إجماليّة في كتاب (منهاج الكرامة) … ص: 69

وفي نظرةٍ إجماليّة في كتاب (منهاج الكرامة) تراه كتاباً جامعاً- علي صغره- بين الاصول والفروع، عند كلتا الطائفتين، الشيعة والسنّة، فهو يعطيك- بعد الإشارة إلي اختلاف المسلمين بعد رحيل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إلي فرقتين كبيرتين- موجز عقائد الشيعة الإمامية الاصولية، مع الإشارة إلي أدلّتها من الكتاب والسنّة والعقل، ثم ينتقل إلي مبحث الإمامة، فيعرّف أوّلًا بالأئمة الاثني عشر- عليهم الصلاة والسّلام- بالإجمال، ثم يذكر أدلّة الإمامية علي إمامة هؤلاء الإثني عشر، من النقل والعقل.

ويتعرّض لعقائد الجمهور في الاصول، وإلي بعض آرائهم وفتاويهم، ويتطرّق بالتالي إلي أدلّتهم علي إمامة أبي

بكرٍ فمن بعده، وينقدها نقلًا وعقلًا.

فالكتاب- في الحقيقة- تبيان لمذهب طائفتين، ومحاكمة بين فريقين، بذكر عقائدهما وآرائهما، لينظر في ذلك القاري ء المنصف الذي يريد اللَّه واليوم الآخر بتدبّر، فيختار أيّهما شاء ويجعله الحجّة بينه وبين ربّه سبحانه وتعالي.

__________________________________________________

(1)

هذا لقبه عند الشيعة الإماميّة، فإنّهم متي أطلقوا لقب «العلّامة» أرادوا الشيخ الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي … وسنعبّر عنه كذلك في كتابنا.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 71

دراسات في منهاج السنّة … ص: 71

اشارة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 73

والآن … وبعد أن عرفنا علّامة الشيعة، وسبرنا كتابه، ودرسنا (منهاجه) فلندرس (منهاج السنّة) لنعرفه، ونتعرّف به علي مؤلّفه (ابن تيميّة) عقيدةً، وعلماً، وعدالةً … بنقل كلماته وآرائه بكلّ أمانةٍ وإخلاص … وسيكون دورنا- في هذه (الدراسات)- نظير دور العلّامة الحلي في (المنهاج)، لأنّنا إنّما نقتصر علي التعريف بالكتابين والمؤلَّفين مع نقودٍ وردود لآراء ابن تيمية، بالإستناد إلي كتب أهل السنّة المعتبرة.

وعلي الجملة، فإن هذه (الدراسات)- كما قلنا سابقاً- هي في الحقيقة محاكمة بين (المنهاجين) ومؤلّفيهما، والقاري ء النبيه المنصف حرّ في اتّباع ما شاء منهما، إذا رآه حجةً بينه وبين ربّه.

وستكون (الدراسات) هذه في أبواب، وكلّ باب في فصول، بدءاً بالعقائد، من التجسيم والتشبيه، وما يرتبط بذلك، والعصمة، والشفاعة، ونحوها، ثمّ مباحث الإمامة والولاية، من المناقب والأفضليّة، وهكذا موقف ابن تيمية من أميرالمؤمنين وأهل البيت وشيعتهم، ثم سعيه وراء الدفاع عن خصوم أهل البيت وتبرير أفعالهم … ثم ذكر أهمّ مناهج (منهاج السنّة)، وبالتالي نتعرّض لمواقف العلماء من ابن تيمية وكتبه وآراءه.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 75

الباب الاول: ابن تيميّة والقول بالتجسيم والتشبيه … ص: 75

اشارة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 77

كلام العلامة في بيان عقيدة الإمامية … ص: 77

ذكر العلّامة طاب ثراه مذهب الإمامية، وأنهم «اعتقدوا أنّ اللَّه تعالي هو المخصوص بالأزليّة والقدم، وأنّ كلّ ما سواه محدث لأنّه واحد، وأنّه ليس بجسم ولا في مكان، والّا لكان محدثاً، بل نزهّوه عن مشابهة المخلوقات» «1».

ثم ذكر عقيدة غير الإمامية الاثني عشرية قائلًا: «وأمّا باقي المسلمين، فقد ذهبوا كلّ مذهب:

فقال بعضهم- وهم جماعة الأشاعرة- إنّ القدماء كثيرون مع اللَّه تعالي وهي المعاني التي يثبتونها موجودةً في الخارج، كالقدرة والعلم وغير ذلك، فجعلوه تعالي مفتقراً في كونه عالماً إلي ثبوت معني هو العلم، وفي كونه قادراً إلي ثبوت معني هو القدرة، وغير ذلك، ولم يجعلوه قادراً لذاته، ولا عالماً لذاته، ولا رحيماً لذاته، ولا مدركاً لذاته، بل لمعانٍ قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها، فجعلوه محتاجاً ناقصاً في ذاته كاملًا بغيره، تعالي اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً …

وقال جماعة الحشوية والمشبّهة: إنّ اللَّه تعالي جسم له طول وعرض وعمق، وأنّه يجوز عليه المصافحة، وأنّ المخلصين من المسلمين يعانقونه في الدنيا.

وحكي الكعبي عن بعضهم: أنه كان يجوّز رؤيته في الدنيا، وأنّه يزورهم ويزورونه.

__________________________________________________

(1) منهاج الكرامة في معرفة الامامة- الفصل الثاني: 37.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 78

وحكي عن داود الظاهري «1» أنه قال: أعفوني عن اللحية والفرج واسألوني عمّا وراء ذلك، وقال: إن معبوده جسم ولحم ودم، وله جوارح وأعضاء وكبد ورجل ولسان وعينين واذنين. وحكي أنه قال: هو مجوّف من أعلاه إلي صدره مصمت ما سوي ذلك، وله شعر قطط، حتي قالوا: اشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكي علي طوفان نوح حتي رمدت عيناه، وأنه يفضل من العرش من كلّ جانب أربع أصابع.

… وقالت

الكراميّة: إن اللَّه تعالي في جهة فوق. ولم يعلموا أن كلّ ما هو في جهة فهو محدَثٌ ومحتاج إلي تلك الجهة» «2».

كلام الشهرستاني في بيان عقيدة أهل السنة … ص: 78

أقول:

قال الشهرستاني: «إعلم أن جماعةً كثيرة من السلف كانوا يثبتون للَّه تعالي صفات أزليّة: من العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والجلال، والإكرام، والجود، والإنعام، والعزّة، والعظمة، ولا يفرّقون بين صفات الذات وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً. وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل: اليدين، والوجه، ولا يؤوّلون ذلك، إلّا أنّهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسمّيها صفات خبرية.

ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون، سميّ السلف: صفاتيّة، والمعتزلة: معطّلة.

فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلي حدّ التشبيه بصفات المحدثات،

__________________________________________________

(1) كذا هنا لا «الطائي» كما نسب إلي العلّامة وجعل يتحامل عليه 2/ 260، وفي الملل والنحل: «الجواربي» وفي منهاج السنة 1/ 259 الطبعة القديمة: «الجواهري».

(2) منهاج الكرامة في معرفة الإمامة- الفصل الثاني: 37- 40.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 79

واقتصر بعضهم علي صفاتٍ دلّت الأفعال عليها، وما ورد به الخبر، فافترقوا فيه فرقتين، فمنهم: من أوّله علي وجهٍ يحتمل اللفظ ذلك، ومنهم: من توقّف في التأويل وقال: عرفنا بمقتضي العقل أن اللَّه تعالي ليس كمثله شي ء، فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شي ء منها، وقطعنا بذلك، إلّا أنّا لا نعرف معني اللفظ الوارد فيه، مثل قوله تعالي «الرَّحْمَنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي» ومثل قوله: «خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» ومثل قوله: «وَجَاء رَبُّكَ» إلي غير ذلك، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها، بل التكليف قد ورد بالإعتقاد بأنّه لا شريك له، وليس كمثله شي ء، وذلك قد أثبتناه يقيناً.

ثم إنّ جماعةً من المتأخّرين زادوا علي ما قاله السلف فقالوا: لابدّ من

إجرائها علي ظاهرها، والقول بتفسيرها كما وردت، من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر، فوقعوا في التشبيه الصرف، وذلك علي خلاف ما اعتقده السلف.

ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود، لا في كلّهم، بل في القرائين منهم، إذ وجدوا في التوراة ألفاظاً كثيرة تدل علي ذلك …

حتي انتهي الزمان إلي عبد اللَّه بن سعيد الكلابي، وأبي العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي، وهؤلاء كانوا من جملة السلف، إلّا أنهم باشروا علم الكلام، وأيّدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين اصولية، وصنّف بعضهم، ودرّس بعض، حتي جري بين أبي الحسن الأشعري وبين استاذه مناظرة في مسألةٍ من مسائل الصّلاح والأصلح فتخاصما، وانحاز الأشعري إلي هذه الطائفة، فأيّد مقالتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك مذهباً لأهل السنّة والجماعة، وانتقلت سمة الصفاتيّة إلي الأشعريّة.

ولمّا كانت «المشبّهة» و «الكرامية» من مثبتي الصفات، عددناهم فرقتين دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 80

من جملة الصفاتية» «1».

وقال تحت عنوان «المشبّهة»:

«إعلم أن السلف من أصحاب الحديث لمّا رأوا توغّل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنّة التي عهدوها من الأئمّة الراشدين، ونصرهم جماعة من أمراء بني أمية علي قولهم بالقدر «2» وجماعة من خلفاء بني العباس علي قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن … تحيّروا في تقرير مذهب أهل السنّة والجماعة في متشابهات آيات الكتاب الحكيم وأخبار النبي الأمين صلّي اللَّه عليه وسلّم.

فأمّا أحمد بن حنبل وداود بن علي الإصفهاني وجماعة من أئمة السلف، فجروا علي منهاج السلف المتقدّمين عليهم من أصحاب الحديث، مثل مالك بن أنس ومقاتل بن سليمان، وسلكوا طريق السلامة فقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنّة، ولا نتعرّض للتأويل، بعد أن نعلم قطعاً أن اللَّه عزّوجلّ لا يشبه شيئاً

من المخلوقات، وأنّ كلّ ما تمثّل في الوهم فإنه خالقه ومقدّره، وكانوا يحترزون عن التشبيه إلي غاية أن قالوا: من حرّك يده عند قراءة قوله تعالي «خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» أو أشار بأصبعيه عند روايته: قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن، وجب قطع يده وقلع أصبعيه. وقالوا: إنما توقّفنا في تفسير الآيات وتأويلها لأمرين:

أحدهما: المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالي «فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الألْبَابِ» فنحن نحترز عن __________________________________________________

(1) الملل والنحل 1/ 84- 85، الباب الثالث: الصفاتية.

(2) انظر: طبقات ابن سعد 7/ 167.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 81

الزيغ. والثاني: إن التأويل أمر مظنون بالاتفاق والقول في صفات الباري بالظن غير جائز …

أما مشبّهة الحشوية:

فحكي الأشعري عن محمّد بن عيسي أنه حكي عن مضر، وكهمس، وأحمد الهجيمي: أنهم أجازوا علي ربّهم: الملامسة والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة، إذا بلغوا في الرياضة والإجتهاد إلي حدّ الإخلاص والإتحاد المحض.

وحكي الكعبي عن بعضهم؛ إنه كان يجوّز الرؤية في دار الدنيا، وأن يزوروه ويزورهم.

وحكي عن داود الجواربي أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك. وقال: إن معبوده جسم ولحم ودم، وله جوارح وأعضاء، من: يد ورجل ورأس ولسان وعينين واذنين …

وحكي عنه أنه قال: هو أجوف من أعلاه إلي صدره، مصمت ما سوي ذلك، وأن له وفرة سوداء، وله شعر قطط.

وأمّا ما ورد في التنزيل من: الإستواء، والوجه، واليدين، والجنب، والمجي ء، والإتيان، والفوقية … وغير ذلك، فأجروها علي ظاهرها، أعني ما

يفهم عند الإطلاق علي الأجسام، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها …

أجروها علي ما يتعارف في صفات الأجسام.

وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلي النبي عليه السّلام، وأكثرها مقتبسة من اليهود، فإن التشبيه فيهم طباع، حتي قالوا: إشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكي علي طوفان نوحٍ حتي رمدت عيناه، وأنّ العرش ليئط من دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 82

تحته كأطيط الرحل الجديد، وأنه ليفضل من كلّ جانب أربع أصابع … » «1».

وقال تحت عنوان الكرّامية: «أصحاب أبي عبداللَّه محمّد بن كرّام … نصَّ أبو عبداللَّه علي أن معبوده علي العرش استقراراً، وعلي أنه بجهة فوق ذاتاً، وأطلق عليه اسم الجوهر، فقال في كتابه المسمي عذاب القبر: إنّه أحدي الذات، أحدي الجوهر، وأنّه مماس للعرش من الصفحة العليا. وجوّز: الإنتقال والتحوّل والنزول. ومنهم من قال: إنه علي بعض أجزاء العرش. وقال بعضهم: إمتلأ العرش به. وصار المتأخّرون منهم: إلي أنه تعالي بجهة فوق، وأنه محاذ للعرش … وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه … ومن مذهبهم جميعاً: جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالي وزعموا أن في ذاته سبحانه حوادث كثيرة … وقد اجتهد ابن الهيصم في إرمام مقالة أبي عبداللَّه في كل مسألةٍ، حتي ردّها من المحال الفاحش … » «2».

أقول:

قد أوردنا نصوص عبارات الشهرستاني، المتوفي سنة: 548، أي قبل وفاة العلّامة بقرنين تقريباً- لأسباب:

الأول: إثبات أنّه لم يقل بمثل هذه المقالات أحد من الشيعة الإماميّة الاثني عشرية.

والثاني: إثبات أنّ العلّامة لم ينسب إلي أحدٍ ما لم يقله.

والثالث: إن هذه العقائد هي في الأصل عقائد اليهود، وسيأتي التصريح __________________________________________________

(1) الملل والنحل 1/ 95- 97.

(2) الملل والنحل 1/ 99- 102.

دراسات في

منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 83

بذلك في بعض الكلمات، حتي من ابن تيمية.

كلام شيخ محمد أبو زهرة … ص: 83

والرابع: إثبات أن ابن تيميّة إنما حاول إحياء هذه المذاهب. قال الشيخ محمّد أبو زهرة:

« … وعلي ذلك يقرّر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كلّ ما جاء في القرآن من فوقية وتحتية واستواء علي العرش، ووجهٍ ويد ومحبة وبغض، وما جاء في السنّة من ذلك أيضاً من غير تأويل وبالظاهر الحرفي. فهل هذا هو مذهب السلف حقاً؟؛ ونقول في الإجابة عن ذلك: لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بينا، وادّعوا أن ذلك مذهب السلف. وناقشهم العلماء في ذلك الوقت، وأثبتوا أنه يؤدي إلي التشبيه والجسمية لا محالة. وكيف لا يؤدّي إليهما والإشارة الحسيّة إليه جائزة. ولذا تصدّي لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي، ونفي أن يكون ذلك مذهب السلف، ونفي أيضاً أن يكون ذلك رأي الإمام أحمد.

وقال ابن الجوزي في ذلك: رأيت من أصحابنا من تكلّم في الأصول بما لا يصلح.. فصنّفوا كتباً شانوا بها المذهب.

ورأيتهم قد نزلوا إلي مرتبة العوام، فحملوا الصفات علي مقتضي الحس، فسمعوا أن اللَّه خلق آدم علي صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً علي الذات، وفماً ولهوات وأضراساً وأضواء لوجهه ويدين وأصبعين وكفّاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين. وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس.

وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسمّوها بالصفات تسمية مبتدعة. ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلي النصوص الصارفة عن الظواهر إلي المعاني الواجبة للَّه تعالي ولا إلي إلغاء ما توجبه الظواهر من صفات الحدث، ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتي قالوا صفة ذات.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه،

ص: 84

ثم لمّا أثبتوا أنها صفات قالوا: لا نحملها علي توجيه اللغة مثل يد علي نعمة وقدرة، ولا مجي ء وإتيان علي معاني برّ ولطف، ولا ساق علي شدّة. بل قالوا:

نحملها علي ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشي ء إنما يحمل علي حقيقته إن أمكن، فإن صرف صارفٌ حُمِلَ علي المجاز.

ثم يتحرّجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السنّة، وكلامهم صريح في التشبيه، وقد تبعهم خلق من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع وقلت يا أصحابنا، أنتم أصحاب نقل واتّباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه اللَّه يقول- وهو تحت السياط-: كيف أقول ما لم يُقَل، فإيّاكم أن تبتدعوا من مذهبه ما ليس منه.

ثم قلتم في الأحاديث تحمل علي ظاهرها، فظاهر القدم الجارحة، ومن قال استوي بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجري الحسيات. وينبغي ألّا يهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل. فإنا به عرفنا اللَّه تعالي وحكمنا له بالقِدَم. فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت ما أنكر أحد عليكم، وإنّما حملكم إيّاه علي الظاهر قبيح. فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل السلفي ما ليس فيه.

وقد استفاض ابن الجوزي في بيان بطلان ما اعتمدوا عليه من أقوال. ولقد قال ذلك القول الذي ينقده ابن الجوزي القاضي أبو يعلي الفقيه الحنبلي المشهور المتوفي سنة 457، وكان مثار نقد شديد وجّه إليه، حتي لقد قال فيه بعض فقهاء الحنابلة: لقد شان أبو يعلي الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحار. وقال مثل ذلك القول من الحنابلة ابن الزاغوني المتوفي سنة 527. وقال فيه بعض الحنابلة أيضاً:

إن في قوله من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه.

وهكذا استنكر الحنابلة ذلك الإتجاه، عندما شاع في القرن الرابع والقرن

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 85

الخامس، ولذلك استتر هذا المذهب حتي أعلنه ابن تيمية في جرأة وقوة … » «1».

كلمات ابن تيمية … ص: 85

نعم، لقد جاء ابن تيمية ليعلن من جديدٍ- وبكلّ جرأة- ذاك الإعتقاد الفاسد، ويعارض الذين استدلّوا بقوله تعالي «فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ … وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ … » وينفي أن يكون في ظاهر اللفظ محذور، بل المراد من ألفاظ الكتاب ظواهرها، وليس فيها ما لا يفهمه أحد، فيقول:

«وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذي يتأولونه علي غير تأويله، ويدّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلي غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك، ويدّعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل، ويصرفونه إلي معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه، فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه. فإن كان الثابت حقاً ممكناً كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلًا ممتنعاً كان الثابت مثله» …

ثم يقول … «وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقاً ويحتجّون بقوله تعالي

«وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ» قد يظنّون أنّا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد أو بما لا معني له، أو بما لا يفهم منه شي ء، وهذا مع أنه باطل فهو متناقض» «2».

وينسب إلي السّلف إجراء الألفاظ علي ظواهرها، فيقول: «إن مذهب السلف إجراؤها علي ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها» «3».

لكن أيّ معني لإجراء اللفظ علي ظاهره مع نفي الكيفيّة والتشبيه؟

ويقول: «فالذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها: أن يوصف اللَّه بما وصف به __________________________________________________

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية- الجزء الأول في السياسة والعقائد، السلفية والأشاعرة 217- 219.

(2) الرسالة التدمرية: 72.

(3) الفتاوي الكبري 5/ 129.

دراسات في

منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 86

نفسه، وبما وصفه به رسوله صلّي اللَّه عليه وسلّم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل» «1».

ثم يورد مثالًا يوضّح رأيه فيقول: «وقال أبو عثمان النيسابوري الملقّب بشيخ الإسلام في رسالته المشهورة في السنّة قال: ويثبت أهل الحديث نزول الرب سبحانه في كلّ ليلة إلي السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون له ما أثبته له رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره علي ظاهره، ويكلون علمه إلي اللَّه. وكذلك يثبتون ما أنزل اللَّه في كتابه من ذكر المجي ء والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة وقوله عزّوجلّ: «وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً»» «2».

فابن تيمية يخالف غيره- ممن سبق ذكرهم- في تصوير مذهب السلف، حيث قال بظاهر النصوص، ثم تناقض مع نفسه فقال: «إجراؤها علي ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها».

أمّا غيره فقال: إن الظاهر الموهم للتشبيه غير مراد، ثم فوّض المعني بعد ذلك إلي اللَّه تعالي

وسيأتي التصريح بذلك منه في بعض الكلمات الآتية أيضاً.

لكنَّ كبار العلماء من السّابقين واللّاحقين يبطلون ذلك الإعتقاد، وينفون أنْ يكون مذهب السّلف، وأن يكون رأي أحمد بن حنبل … كما تقدّم في كلام الشيخ محمّد أبو زهرة.

__________________________________________________

(1) شرح العقيدة الإصفهانية: مذهب السلف في الأسماء والصفات: 32.

(2) شرح العقيدة الإصفهانية: اقوال السلف في هذا الأصل: 63.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 87

وقال الشيخ الزرقاني: «إرشاد وتحذير: لقد أسرف بعض الناس في هذا العصر فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق، وأتوا في حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به اللَّه، ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل

التشبيه والتنزيه وتحتمل الكفر والإيمان، حتي باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات. ومن الموسف أنهم يواجهون العامة وأشباههم بهذا. ومن المحزن أنهم ينسبون ما يقولون إلي سلفنا الصالح ويخيّلون إلي الناس إلي أنهم سلفيّون.

كلام الزرقاني … ص: 87

من ذلك قولهم: إن اللَّه تعالي يشار إليه بالإشارة الحسيّة، وله من الجهات الست جهة الفوق. ويقولون: إنه استوي علي عرشه بذاته إستواء حقيقيّاً، بمعني أنه استقر فوقه استقراراً حقيقياً، غير أنهم يعودون فيقولون ليس كاستقرارنا وليس علي ما نعرف. وهكذا يتناولون أمثال هذه الآية. وليس لهم مستند فيما نعلم إلّا التشبّث بالظواهر. ولقد تجلي لك مذهب السلف والخلف فلا نطيل بإعادته.

ولقد علمت أن حمل المتشابهات في الصفات علي ظواهرها مع القول بأنها باقية علي حقيقتها ليس رأياً لأحد من المسلمين، وإنما هو رأي لبعض أصحاب الأديان الأخري كاليهود والنصاري وأهل النحل الضالة كالمشبّهة والمجسّمة.

أمّا نحن- معاشر المسلمين- فالعمدة عندنا في أمور العقائد هي الأدلّة القطعيّة التي توافرت علي أنه تعالي ليس جسماً، ولا متحيزاً، ولا متجزئاً، ولا متركباً، ولا محتاجاً لأحدٍ، ولا إلي مكان، ولا إلي زمان، ولا نحو ذلك.

ولقد جاء القرآن بهذا في محكماته إذ يقول «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ» … ويقول «إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَي لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» ويقول «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَي اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» وغير هذا كثير في الكتاب والسنّة.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 88

فكلّ ما جاء مخالفاً بظاهره لتلك القطعيات والمحكمات، فهو من المتشابهات التي لا يجوز إتباعها، كما تبين لك فيما سلف.

ثم إنّ هؤلاء

المتمسحين في السلف متناقضون، لأنهم يثبتون تلك المتشابهات علي حقائقها، ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث، كالجسمية والتجزء والحركة والإنتقال، لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات علي حقائقها ينفون هذه اللوازم، مع أن القول بثبوت الملزومات ونفي لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلًا عن طالب أو عالم.

فقولهم في مسألة الإستواء الآنفة: إن الإستواء باق علي حقيقته، يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيّز. وقولهم بعد ذلك: ليس هذا الإستواء علي ما نعرف، يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسميّة والتحيّز. فكأنّهم يقولون: إنه مستوٍ غير مستو، ومستقر فوق العرش غير مستقر، أو متحيز غير متحيز، وجسم غير جسم. أو أن الإستواء علي العرش ليس هو الإستواء علي العرش. والإستقرار فوقه ليس هو الإستقرار فوقه. إلي غير ذلك من الإسفاف والتهافت.

فإن أرادوا بقولهم: الاستواء علي حقيقته: أنه علي حقيقته التي يعلمها اللَّه ولا نعلمها نحن، فقد اتّفقنا، ولكن بقي أن تعبيرهم هذا موهم … لا يجوز أن يصدر من مؤمن، خصوصاً في مقام التعليم والإرشاد وفي موقف النقاش والحجاج.

لأن القول بأن اللفظ حقيقة أو مجاز لا ينظر فيه إلي علم اللَّه وما هو عنده، ولكن ينظر فيه إلي المعني الذي وضع له اللفظ في عرف اللّغة. والإستواء في اللغة العربية يدلّ علي ما هو مستحيل علي اللَّه في ظاهره، فلابدّ إذن من صرفه عن هذا الظاهر. واللفظ إذا صرف عما وضع له واستعمل في غير ما وضع له، خرج عن دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 89

الحقيقة إلي المجاز لا محالة، ما دامت هناك قرينة مانعة من إرادة المعني الأصلي …

كلام الكوثري … ص: 89

ثمّ إن كلامهم بهذه الصورة فيه تلبيس علي العامة وفتنة

لهم فكيف يواجهونهم به ويحملونهم عليه، وفي ذلك ما فيه من الإضلال وتمزيق وحدة الأمة، الأمر الذي نهانا القرآن عنه والذي جعل عمر يفعل ما يفعل بصبغ أو بابن صبيغ، وجعل مالكاً يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بالذي سأله عن الإستواء، وقد مرّ بك هذا وذاك.

لو أنصف هؤلاء لسكتوا عن الآيات والأخبار المتشابهة، واكتفوا بتنزيه اللَّه تعالي عمّا توهمه ظواهرها من الحدوث ولوازمه، ثم فوّضوا الأمر في تعيين معانيها إلي اللَّه وحده، وبذلك يكونون سلفيين حقاً … » «1».

وقال محمّد بن زاهد بن الحسن الكوثري:

« … والحاصل أن التفويض مع التنزيه مذهب جمهور السلف لانتفاء الضرورة في عهدهم. والتأويل مع التنزيه مذهب جمهور الخلف حيث عن لهم ضرورة التأويل لكثرة الساعين في الإضلال في زمنهم. وليس بين الفريقين خلاف حقيقي لأن كليهما منزه. ومن أهل العلم من توسّط بين هؤلاء وهؤلاء كما أشرت إليه.

وأما المشبّهة فتراهم يقولون: نحن لا نؤول بل نحمل آيات الصفات وأخبارها علي ظاهرها. وهم في قولهم هذا غير منتبهين إلي أن استعمال اللفظ في اللَّه سبحانه بالمعني المراد عند استعماله في الخلق تشبيه صريح، وحمله علي معني سواه تأويل.

__________________________________________________

(1) مناهل العرفان في علوم القرآن- المبحث الخامس عشر في محكم القرآن ومتشابهه- 2/ 544- 545.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 90

علي أن الأخبار المحتج بها في الصفات إنما هي الصحاح المشاهير دون الوحدان والمفاريد والمناكير والمنقطعات والضعاف والموضوعات، مع أنهم يسوقون جميعها في مساق واحد، في كتب يسمونها التوحيد أو الصفات أو السنّة أو العلو أو نحوها.

ومن الأدلة القاطعة علي ردّ مزاعم الحشوية في دعوي التمسك بالظاهر في اعتقاد الجلوس علي العرش خاصة قوله تعالي «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي

عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ» وقوله تعالي «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» وقوله تعالي «وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» وقوله تعالي «واللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُّحِيط» وقوله تعالي «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ» … إلي غير ذلك مما لا يحصي في الكتاب والسنّة المشهورة، مما ينافي الجلوس علي العرش. وأهل السنّة يرونها أدلّة علي تنزيه اللَّه سبحانه عن المكان كما هو الحق.

فلا يبقي للحشوية أن يعملوا شيئاً إزاء أمثال تلك النصوص غير محاولة تأويلها مجازفة، أو العدول عن القول بالإستقرار المكاني. فأين التمسك بالظاهر في هاتين الحالتين؟ وهكذا سائر مزاعمهم.

علي أن من عرف أقسام النظم باعتبار الوضوح والخفاء، وأقرّ بكون آيات الصّفات وأخبارها من المتشابه، كيف يتصوّر في هذا المقام ظاهراً يحمل المتشابه عليه، وإنما حقّه أن يحمل المتشابه في الصفات علي محكم قوله تعالي «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» بالتأويل الإجمالي.

ومن الحشوية من يزعم أن الآية المذكورة متشابهة ليتنكب الحل المذكور، بل منهم من بلغ الكفر إلي حدّ أن يقول: له ساق كساقي هذه، والمراد بالآية نفي المماثلة في الإلهية لا في كلّ أمر، كما تجد ذلك في كتب العبدري الظاهري في تاريخ ابن دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 91

عساكر، وهذا كفر بواح. فتلاوة المشبه الآية المذكورة لا تفيد بمجردها التنزيه بالمعني الذي يفهمه أهل الحق من الآية، فلا تغفل ولا تنخدع.

فمن المضحك المبكي تمسّكهم مرّةً في نفي العلم بالتأويل بقوله تعالي «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ» باعتبار الوقف علي الاسم الكريم مع دعوي الحمل علي الظاهر، وزعمهم اخري أن التأويل بمعني التفسير مع الوقف علي «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» مدّعين أنهم يعلمون تأويل المتشابه باعتبار أنهم من الراسخين في العلم، ومجترئين علي النطق

بكلمات في المتشابهات لا ينطق بمثلها من يخاف مقام ربّه.

وأما أهل الحق، فلا يدّعون معرفة جميع التأويل، بل يفوّضون علمه إلي اللَّه ويردّون المتشابه إلي المحكم جملة وتفصيلًا، ولا يحملون لفظ التأويل في تلك الحالة علي خلاف معناه المعلوم من السياق …

بل يحمل بعض المحققين منهم النفي في الآية- بالوقف علي لفظة اللَّه كما هو المؤيد دراية ورواية- علي سلب العموم دون عموم السلب، بالنظر إلي أن التأويل مصدر مضاف فيكون من ألفاظ العموم، فبانصباب النفي علي العموم يكون المعني:

ما يعلم غيره تعالي بنفسه جميع التأويل. وهذا لا يمانع معرفة الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم جميع التأويل بتعليم اللَّه سبحانه وحياً، ولا يمنع أهل العلم من الأمة من السعي في معرفة ما دون الجميع من التأويل.

وبهذا تعرف قيمة ما أطال به ابن تيمية الكلام في تفسير سورة الإخلاص، متظاهراً بالمسايرة مع الخلف مخادعة منه في صدد توهين الوقف علي لفظة «اللَّه» مع إخراج التأويل علي معناه، ليتمكن من حمل المتشابهات علي معتقد الحشوية.

فإذا تدبرت كلامه الطويل هناك تحت نور هذا البيان تجده يضمحل ويذهب هباءً.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 92

ومن الطريف تأويل التأويل ممن ينكر التأويل ويدّعي الأخذ بالظاهر … » «1».

كلام الفخر الرازي … ص: 92

وقد سبقهم إلي ذلك جماعة من كبار العلماء:

قال الفخر الرازي في أساس التقديس:

«حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد اللَّه تعالي منها شي ء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلي اللَّه تعالي ولا يجوز الخوض في تفسيرها» «2».

كلام الغزالي … ص: 92

ويقول أبو حامد الغزالي في إلجام العوام عن علم الكلام:

«إعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف- أعني مذهب الصحابة والتابعين- وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه فأقول:

حقيقة مذهب السلف- وهو الحق عندنا- أن كلّ من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور: التقديس ثم التصديق، ثم الإعتراف بالعجز، ثم السكوت، ثم الإمساك، ثم الكف، ثم التسليم لأهل المعرفة.

أما التقديس، فأعني به تنزيه الربّ تعالي عن الجسمية وتوابعها. وأمّا التصديق، فهو الإيمان بما قاله صلّي اللَّه عليه وسلّم، وأن ما ذكره حق، وهو فيما قاله صادق، وأنه حق علي الوجه الذي قاله وأراده. وأمّا الإعتراف بالعجز، فهو أن يقرّ بأن معرفة مراده ليس علي قدر طاقته، وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته. وأمّا السكوت، فأن لا يسأل عن معناه ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة وأنه __________________________________________________

(1) الرد علي نونيّة ابن القيمّ: 133.

(2) أساس التقديس- القسم الثالث، الفصل الرابع في تقرير مذهب السلف: 137- 138.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 93

في خوضه فيه مخاطر بدينه، وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر.

وأمّا الإمساك، فأن لا يتصرف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخري والزيادة فيه والنقصان منه والجمع والتفريق، بل لا ينطق إلّا بذلك اللفظ وعلي ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف

والصيغة. وأمّا الكف، فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكر فيه. وأمّا التسليم لأهله، فأن لا يعتقد أن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد خفي علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أو علي الصدّيقين والأولياء.

فهذه سبع وظائف، إعتقد كافة السلف وجوبها علي كلّ العوام، لا ينبغي أن يظنّ بالسلف الخلاف في شي ء منها» «1».

كلام آخر للرزقاني … ص: 93

وفي مناهل العرفان للزرقاني:

«علماؤنا- أجزل اللَّه مثوبتهم- قد اتفقوا علي ثلاثة أمور تتعلق بهذه المتشابهات ثم اختلفوا فيما وراءها. فأوّل ما اتفقوا عليه: صرفها عن ظواهرها المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعاً، كيف وهذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة، وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته؟ ثانيه: أنه إذا توقّف الدفاع عن الإسلام علي التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويرد طعن الطاعنين. ثالثه: أن المتشابه إن كان تأويل واحد يفهم منه فهماً قريباً وجب القول به إجماعاً، وذلك كقوله سبحانه «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ» «2»

فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعاً، وليس لها بعد ذلك إلّا

__________________________________________________

(1) الجام العوام- الباب الأوّل في شرح اعتقاد السلف: 4- 5.

(2) سورة الحديد: 4.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 94

تأويل واحد هو الكينونة معهم بالإحاطة علماً وسمعاً وبصراً وقدرة وإرادة.

وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك، فقد وقع علي ثلاثة مذاهب المذهب الأوّل: مذهب السلف، ويسمي مذهب المفوضة- بكسر الواو وتشديدها- وهو تفويض معاني هذه المتشابهات إلي اللَّه وحده بعد تنزيهه تعالي عن ظواهرها المستحيلة» «1».

وقد بيّن بعد ذلك الدليل علي مذهب السلف، كما بيّن المذهب الثاني وهو مذهب الخلف، أمّا المذهب الثالث فقال:

«المذهب الثالث: مذهب المتوسطين، وقد نقل السيوطي هذا المذهب فقال:

وتوسط ابن دقيق

العيد فقال: إذا كان التأويل قريباً من لسان العرب لم ينكر أو بعيداً، توقفنا عنه وآمنّا بمعناه علي الوجه الذي أريد به مع التنزيه، وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهراً مفهوماً من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف، كما في قوله تعالي «يَا حَسْرَتَي علَي مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ» «2»

فنحمله علي حق اللَّه وما يجب له …

تطبيق وتمثيل: ولنطبق هذه المذاهب علي قوله سبحانه «الرَّحْمَنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي» … فنقول: يتفق الجميع من سلف وخلف علي أن ظاهر الإستواء علي العرش- وهو الجلوس عليه مع التمكن والتحيّز- مستحيل، لأن الأدلة القاطعة تنزّه اللَّه عن أن يشبه خلقه أو يحتاج إلي شي ء منه، سواء كان مكاناً يحلّ فيه أم غيره. وكذلك اتفق السلف والخلف علي أن هذا الظاهر غير مراد للَّه قطعاً،

__________________________________________________

(1) مناهل العرفان في علوم القرآن- الرأي الرشيد في متشابه الصفات: 540- 541.

(2) سورة الزمر: 56.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 95

لأنه تعالي نفي عن نفسه المماثلة لخلقه وأثبت لنفسه الغني عنهم فقال: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» «1»

وقال «لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» «2»

فلو أراد هذا الظاهر لكان متناقضاً. ثم اختلف السلف والخلف بعدما تقدم، فرأي السلفيون أن يفوّضوا تعيين معني الإستواء إلي اللَّه، هو أعلم بما نسبه إلي نفسه وأعلم بما يليق به، ولا دليل عندهم علي هذا التعيين».

ثم ينقل مذهب الأشاعرة والمتأخّرين من الخلف … ثم يقول:

«وقل مثل ذلك في نحو «وَيَبْقَي وَجْهُ رَبِّكَ» «وَلِتُصْنَعَ عَلَي عَيْنِي» «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» «وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» «يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ» «وَجَاء رَبُّكَ» «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ» … فالسلف: يفوّضون في معانيها تفويضاً مطلقاً بعد تنزيه اللَّه عن ظواهرها المستحيلة. والأشاعرة: يفسّرونها بصفات سمعية زائدة

علي الصفات التي تعلمها، ولكنهم يفوّضون الأمر في تعيين هذه الصفات إلي اللَّه.

فهم مؤوّلون من وجه مفوّضون من وجه. والمتأخّرون: يفسّرون الوجه بالذات ولفظ «وَلِتُصْنَعَ عَلَي عَيْنِي» بتربية موسي ملحوظاً بعناية اللَّه وجميل رعايته، ولفظ اليد بالقدرة ولفظ اليمين بالقوة. والفوقية بالعلو المعنوي دون الحسي، والمجي ء في قوله «وَجَاء رَبُّكَ» بمجي ء أمره، والعندية في قوله «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ» بالإحاطة والتمكن أو بمثل ذلك … » «3».

__________________________________________________

(1)

سورة الشوري 11.

(2) سورة الحديد: 24.

(3) مناهل العرفان في علوم القرآن- الرأي الرشيد في متشابه الصفات، تطبيق وتمثيل: 542- 543.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 96

الحقيقة والمجاز عند ابن تيمية … ص: 96

ثم إن ابن تيميّة يضطرّ- لأجل إضفاء صبغةٍ علميّة علي ما زعمه من عدم وجود ما لا يفهمه أحدٌ في القرآن الكريم، وضرورة حمل ألفاظه علي ظواهرها- إلي إنكار المجاز في اللّغة العربية، وأنّه ليس فيها إلّا الحقيقة، وعلي هذا فلا يوجد في الكتاب والسنّة مجاز أصلًا!!

يقول: «فهذا التقسيم هو إصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة، لم يتكلّم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم، كمالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي» ثم يقول:

«أوّل من عرف أنّه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثني «1».

ويقول: «وتقسيم اللغة إلي حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف، والخلف فيه علي قولين، وليس النزاع فيه لفظيّاً، بل يقال: نفس هذا التقسيم باطل لا يتميّز هذا عن هذا، ولهذا كان كلّ ما يذكرونه من الفروق يبين أنها فروق باطلة … وقولهم: اللّفظ إن دلّ بلا قرينة فهو حقيقة وإن لم يدل إلّا معها فهو مجاز، فقد تبيّن بطلانه» «2».

ونقول: «هذا التقسيم لا حقيقة له،

وليس لمن فرّق بينهما حدّ صحيح يميّز به بين هذا وهذا، فعلم أنّ هذا التقسيم باطل، وهو تقسيم من لم يتصوّر ما يقول بل يتكلَّم بلا علم، فهؤلاء مبتدعة في الشرع مخالفون للعقل» «3».

__________________________________________________

(1) الإيمان- فصل في أن دلالة الإيمان علي الأعمال حقيقة لا مجاز: 72- 73.

(2) المصدر نفسه: 94- 95.

(3) المصدر نفسه: 80.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 97

وهذا رأي باطل مردود بإجماع علماء اللغة والأدب وغيرهم.

بل لا يتمكّن هو من الإلتزام به أيضاً، لذلك نراه يناقض نفسه حيث يقول في كتابه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) « … ولفظ «مع» جاءت في القرآن عامة وخاصة؛ فالعامة في هذه الآية وفي آية المجادلة «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَي ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَي مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم. ولهذا قال ابن عباس والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل: هو معهم بعلمه. وأما المعية الخاصة ففي قوله تعالي «إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ» وقوله تعالي لموسي «إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَي» وقوله تعالي «إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا».. يعني النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وأبا بكر رضي اللَّه عنه. فهو مع موسي وهارون دون فرعون، ومع محمّد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين.

فلو كان معني المعية أنه بذاته في كلّ مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام. بل المعني أنه

مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك. وقوله تعالي «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ» أي هو إله من في السموات وإله من في الأرض، كما قال تعالي «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَي فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» وكذلك قوله تعالي «وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ» كما فسّره أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره أنه المعبود في السموات والأرض» «1».

__________________________________________________

(1) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: 107- 108.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 98

فما أقرّه ابن تيمية هنا من التفسير للمعيّة ومن التفسير للظرفية بالمعني الذي يليق باللَّه تعالي … فيه إخراج للكلام عن مقتضي الظاهر … وإن لم يعترف هو بهذا الإخراج.

إنه قد خالف منهجه الظاهري في فهم القرآن إضطراراً، وذلك لضرورة أن الظاهر يتعارض مع مذهبه هو … وإلّا فَلِمَ لم يلتزم هنا ما التزمه في غير هذا الموضع … ولِمَ لم يقل هنا ما قاله في آية «الرَّحْمَنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي» مثلًا أو العكس … لم لم يقل في تلك وغيرها ما قاله هنا؟.

إن المنهج السليم يجب أن يطّرد تطبيقه وينتظم طريقه، أما أن يتحكّم ابن تيمية في المنهج فيفسّر بالظاهر في آية دون أخري … فهذا لا يقرّه المنهج العقلي السليم.

ولكن ابن تيمية لم يعترف بتناقضه … ولا بخروجه عن مناهجه، كما سيأتي عند الكلام علي فهمه في قوله تعالي «الرَّحْمَنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي» … وسيتضح هناك إن شاء اللَّه أن في دفاعه أدلة إدانته.

أما ابن القيّم- تلميذ ابن تيمية- فهو علي نمط شيخه للفهم الظاهري، وعلي نمطه أيضاً في الخروج عن المنهج الذي ارتضياه.. بل وعلي نمطه كذلك في عدم الإعتراف بالإنحراف عن ذلك المنهج.

لا عجب في ذلك … ولكن العجب

في أنهما عند الخروج علي منهجهما ينقلان عن السلف المعاني اللائقة وصرفهم للفظ عن ظاهره، أما عند التمسك بالمنهج الظاهري فإنهما إن وجدا نصاً عن السلف يناقض فهمهما أنكراه أو أوّلاه. فهما يحلّان التأويل تارة ويحرّمانه تارة أخري وسواء سمَّيا ذلك تأويلًا أو حقيقة أو تفسيراً أو مجازاً! وسواء اعترفا بالمجاز أو لم يعترفا، فإنّهما متناقضان مع مذهبهما …

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 99

قال ابن القيّم: «وأما قوله تعالي «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» فهذه الآية لها شأن، وقد اختلف فيها السلف والخلف علي قولين: فقالت طائفة: نحن أقرب إليه بالعلم والقدرة والإحاطة. وعلي هذا فيكون المراد قربه سبحانه بنفسه وهو نفوذ قدرته ومشيئته فيه وإحاطة علمه به. والقول الثاني: إن المراد قرب ملائكته منه، وأضاف ذلك إلي نفسه بصيغة ضمير الجمع علي عادة العظماء في إضافة أفعال عبيدها إليها بأوامرهم ومراسيمهم إليهم، فيقول الملك نحن قتلناهم وهزمناهم. قال تعالي «فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ» وجبرائيل هو الذي يقرؤه علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وقال: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ» فأضاف قتل المشركين يوم بدر إليه، وملائكته هم الذين باشروه إذ هو بأمره. وهذا القول هو أصحّ من الأول … » «1».

وعن المَعِيَّة قال « … وغاية ما تدل عليه «مع» المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور، وذا الإقتران في كلّ موضع بحسبه يلزمه لوازم بحسب متعلقه.

فإذا قيل: اللَّه مع خلقه بطريق العموم، كان من لوازم ذلك علمه بهم وتدبيره لهم وقدرته عليهم، وإذا كان ذلك خاصّاً كقوله «إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ» كان من لوازم ذلك معيّته

لهم بالنصرة والتأييد والمعونة» «2».

__________________________________________________

(1) الصواعق المرسلة: 411.

(2) المصدر: 409.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 100

أقوال ابن تيميّة في التجسيم … ص: 100

اشارة

وبعد … فقد اشتهرت عن ابن تيميّة أقوال بالتجسيم، وإن حاول بعض المؤرخين التكتّم علي ذلك:

كابن تغري بردي الذي قال: «وكان سجن بقلعة دمشق لُامور حكيناها في غير هذا المكان» «1».

وقال الصفدي: «طلب إلي مصر أيام ركن الدين بيبرس الجاشنكير وعقد له مجلس في مقالةٍ قال بها» «2».

لكنّ ابن الوردي كشف النقاب عن ذلك بقوله: «استدعي الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية من دمشق إلي مصر، وعقد له مجلس، واعتقل بما نسب إليه من التجسيم» «3».

وقال الزرقاني في وصف عمامة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وسبب جعله لها ذؤابة: «وذكر ابن تيميّة أنه صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّآ رأي ربّه واضعاً يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة» قال: «لكن قال العراقي بعد أن ذكره: لم نجد لذلك أصلًا» وقال: «قال المكي علي الشمائل: هذا من ضلال ابن القيّم وشيخه ابن __________________________________________________

(1) النجوم الزاهرة السنة تاسعة عشرة من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة علي مصر، 9: 196.

(2) الوافي بالوفيات الترجمة 619، العلّامة تقي الدين ابن تيميّة، 7: 14.

(3) تتمة المختصر سنة 705، 2: 363.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 101

تيمية، إذ هو مبني علي مذهبهما من إثبات الجهة والجسمية. قال المناوي: أمّا كونهما من المبتدعة فمسلَّم، وأمّا كون هذا بخصوصه بنياه علي التجسيم فلا … » «1».

وجاء عند ابن حجر الحافظ بترجمته: « … فذكروا أنّه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال: كنزولي هذا. فنسب إلي التجسيم» «2».

لكنّ ابن بطوطة يشرح لنا القصّة كما شاهدها، فيقول:

«وكان بدمشق من كبار الفقهاء

الحنابلة تقي الدين ابن تيميّة، كبير الشام، يتكلّم في الفنون إلّا أن في عقله شيئاً … وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة- وهو يعظ الناس علي منبر الجامع ويذكّرهم- فكان من جملة كلامه أن قال: إنّ اللَّه ينزل إلي سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر. فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلّم به. فقامت العامّة إلي هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً، حتي سقطت عمامته وظهر علي رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها، واحتملوه إلي دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزّره بعد ذلك. فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلي ملك الامراء سيف الدين تنكيز، وكان من خيار الامراء وصلحائهم، فكتب إلي الملك الناصر بذلك وكتب عقداً شرعياً علي ابن تيمية بامور منكرة، منها: إن المطلّق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلّا طلقة واحدة.

ومنها: المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف- زاده اللَّه طيباً- لا يقصّر الصلاة. وسوي ذلك ما يشبهه. وبعث العقد إلي الملك الناصر، فأمر بسجن ابن __________________________________________________

(1) شرح المواهب اللدنيّة 5/ 12.

(2) الدرر الكامنة- الترجمة 409، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام 1/ 154.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 102

تيمية بالقلعة، فسجن بها حتي مات في السجن» «1».

هذا، وكلام ابن تيمية في التجسيم يتقسم علي أربعة أبعاد، وهي كما يلي: «2» 1- إسناد المكان والجهة إلي اللَّه تعالي

2- زعمه أن الحوادث تقوم باللَّه سبحانه.

3- زعمه أنّ كلام اللَّه تعالي بصوتٍ وحرف.

4- كلامه في مسألة الجسم.

إسناد ابن تيميّة المكانيّة والجهة إلي اللَّه تعالي … ص: 102

يقول ابن تيميّة في الردّ علي العلّامة: «قوله: كلّ ما هو في جهةٍ فهو محدث، لم يذكر

عليه دليلًا، وغايته ما تقدم من أنّ اللَّه لو كان في جهةٍ لكان جسماً، وكلّ جسم محدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. وكلّ هذه المقدمات فيها نزاع، فمن الناس من يقول: قد يكون في الجهة ما ليس بجسم، فإذا قيل له: هذا خلاف المعقول. قال: هذا أقرب إلي العقل من قول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، فإن قبل العقل ذاك قبل هذا بطريق الأولي وان ردّ هذا ردّ ذاك بطريق الأولي وإذا ردّ ذاك تعيّن أن يكون في الجهة، فثبت أنّه في الجهة علي التقديرين» «3».

__________________________________________________

(1) رحلة ابن بطوطة 1/ 57- 58.

(2) رجعنا إلي كتبه الاخري أيضاً في هذه المباحث لأهميّتها.

(3) منهاج السنة 2/ 648- 649.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 103

قال: «وجمهور الخلق علي أن اللَّه فوق العالم وإن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ الجهة، فهم يعتقدون بقلوبهم ويقولون بألسنتهم أن ربّهم فوق، ويقولون إن هذا أمر فطروا عليه وجبلوا عليه، كما قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني لبعض من أخذ ينكر الإستواء ويقولون: لو استوي علي العرش لقامت به الحوادث. فقال أبو جعفر ما معناه: إن الإستواء علم بالسّمع، ولو لم يرد به لم نعرفه، وأنت قد تتأوّله، فدعنا من هذا وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنّه ما قال عارف قط يا اللَّه إلّا وقبل أن ينطق بلسانه يجد في قلبه معني يطلب العلو، لا يلتفت يمنةً ولا يسرة، فهل عندك من حيلة في دفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ فلطم المتكلّم رأسه وقال: حيّرني الهمداني، حيّرني الهمداني، حيّرني الهمداني.

ومضمون كلامه: أن دليلك علي النفي لو صح

فهو نظري ونحن نجد عندنا علماً ضرورياً بهذا، فنحن مضطرّون إلي هذا العلم وإلي هذا القصد، فهل عندك من حيلة في دفع هذا العلم الضروري والقصد الضروري الذين يلزمنا لزوماً لا يمكننا دفعه عن أنفسنا؟ ثم بعد ذلك قرّر نقيضه، وأما دفع الضروريات بالنظريات فغير ممكن، لأنّ النظريّات غايتها أن يحتجّ عليها بمقدمات ضرورية، فالضروريات أصل النظريّات، فلو قدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحاً في أصل النظريات، فتبطل الضروريات والنظريات، فيلزمنا بطلان قدحه علي كل تقدير، إذ كان قدح الفرع في أصله يقتضي فساده في نفسه، وإذا فسد في نفسه بطل قدحه، فيكون قدحه باطلًا علي تقدير صحته وعلي تقدير فساده، فإنّ صحّته مستلزمة لصحّة أصله، فإذا صحَّ كان أصله صحيحاً، وفساده لا يستلزم فساد أصله، إذ قد يكون الفساد منه، ولو قدح في أصله للزم فساده، وإذا كان فاسداً لم يقبل قدحه، فلا يقبل قدحه بحال …

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 104

وأيضاً: فإن هؤلاء قرّروا ذلك بأدلّة عقليّة، كقولهم: كلّ موجودين إمّا متباينان وإمّا متداخلان، وقالوا: إن العلم بذلك ضروري، وقالوا: إثبات موجود لا يشار إليه مكابرة للحس والعقل.

وأيضاً: فمن المعلوم إن القرآن نطق بالعلو في مواضع كثيرة جدّاً، حتي قد قيل إنها نحو ثلثمائة موضع، والسنن متواترة عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بمثل ذلك، وكلام السلف المنقول عنهم بالتواتر يقتضي إتفاقهم علي ذلك، وأنه لم يكن فيهم من ينكره.

ومن يريد التشنيع علي الناس، ودفع هذه الأدلّة الشرعية والعقليّة، لابدّ أن يذكر حجّة» «1».

ويقول في الرسالة التدمرية بعنوان «تنازع الناس في الجهة والتحيّز»:

« … وقد علم أن ما ثمَّ موجود إلّا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالي …

ليس في مخلوقاته شي ء من ذاته … ولا في ذاته شي ء من مخلوقاته …

فيقال لمن نفي: أتريد بالجهة ما وراء العالم … فلا ريب أن اللَّه فوق العالم مباين للمخلوقات. ويقال لمن قال: اللَّه في جهة: أتريد بذلك: أن اللَّه فوق العالم … أو تريد به أن اللَّه داخل في شي ء من المخلوقات … فإن أردت الأول فهو حق … وإن أردت الثاني فهو باطل … وكذلك لفظ التحيّز …

.. إن أراد به أن اللَّه تحوزه المخلوقات، فاللَّه أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيّه السموات والأرض.. وقد قال تعالي «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 642- 645.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 105

قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ»، وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه قال: يقبض اللَّه الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول:

أنا الملك، أين ملوك الأرض. وفي حديث آخر: وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة. وفي حديث ابن عباس: ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلّا كخردلة في يد أحدكم.

… وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها منفصل عنها ليس حالًا فيها.. فهو سبحانه- كما قال أئمة السنّة- فوق سماواته علي عرشه، بائن من خلقه … » «1».

ويقول ردّاً منه علي من طلب منه نفي الجهة والحيّز:

«.. أما القول الذي لا يوجد في كلام اللَّه ورسوله لا منصوصاً ولا مستنبطاً بل يوجد في الكتاب والسنّة مما يناقضه ما لا يحصيه إلّا اللَّه. فكيف يجب علي المؤمنين عامة أو خاصة اعتقاده ويجعل ذلك محنة لهم.

ومن المعلوم أنه ليس في الكتاب والسنّة، ولا في كلام أحد من سلف الأمّة

ما يدلّ نصاً ولا استنباطاً علي أن اللَّه ليس فوق العرش، وأنه ليس فوق المخلوقات وأنه ما فوق العالم رب يعبد ولا علي العرش إله يدعي ويقصد، وما هناك إلّا العدم المحض، وسواء سمّي ثبوت هذا المعني قولًا بالجهة والتحيّز أو لم يسمّ. فتنوع العبارات لا يضر إذا عرف المعني المقصود … » «2».

وابن تيمية.. إذ يفصح عن خصومته العنيفة لنفاة الجهة والحيّز عن اللَّه __________________________________________________

(1) الرسالة التدمرية: 43.

(2) الفتاوي الكبري 5/ 28.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 106

تعالي … يتّهمهم بالنفاق … يقول:

« … وأما إن تضمّن هذا الكلام أن اللَّه ليس علي العرش ولا فوق العالم فليصرح بذلك تصريحاً بيّناً، حتي يفهم المؤمنون قوله وكلامه ويعلموا مقصوده ومرامه. فإذا كشف للمسلمين حقيقة هذا القول، وأن مضمونه أنه ليس فوق السماوات رب ولا علي العرش إله، وأن الملائكة لا تعرج إلي اللَّه ولا تصعد إليه ولا تنزل من عنده، وأن عيسي لم يرفع إليه، ومحمّد لم يعرج به إليه، وأن العباد لا يتوجّهون بقلوبهم إلي إله هناك يدعونه ويقصدونه، ولا يرفعون أيديهم في دعائهم اليه. فحينئذ ينكشف للناس حقيقة هذا الكلام، ويظهر الضوء من الظلام.

ومن المعلوم أن قائل ذلك لا يجتري ء أن يقوله في ملأ من المؤمنين، وإنما يقوله بين إخوانه من المنافقين … الذين إذا اجتمعوا يتناجون وإذا افترقوا يتهاجون، وهم وإن زعموا أنهم أهل المعرفة المحققين، فقد شابهوا من سبق من إخوانهم المنافقين … » «1».

ويقول:

«.. والباري ء سبحانه فوق العالم فوقيّة حقيقيّة ليس فوقية الرّتبة، كما أن التقدم علي الشي ء قد يقال إنه بمجرد الرتبة- كما يكون بالمكان- مثل تقدم العالم علي الجاهل وتقدم الإمام علي المأموم … فتقدم اللَّه

علي العالم ليس بمجرد ذلك. بل هو قبلية حقيقية.. وكذلك العلو علي العالم.

وقد يقال: إنه يكون بمجرد الرتبة كما يقال العالم فوق الجاهل، وعلو اللَّه علي العالم ليس بمجرد ذلك، بل هو عال عليه علوّاً حقيقياً، العلو المعروف والتقدم __________________________________________________

(1) الفتاوي الكبري 5/ 30.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 107

المعروف».

فيقول الكوثري في تعليقه علي هذا النص:

«.. فهل يشك عاقل أن ابن- تيمية يريد بذلك الفوقية الحسيّة والعلو الحسي- تعالي اللَّه عما يؤفكون- واستعمال العلوّ ومشتقاته في اللغة العربية بمعني علو الشأن في غاية الشهرة، رغم تقوّل المجسمة» «1».

ومن العجب أن ابن تيمية يقرّ أن من معاني العلو: علوّ الشأن، كما يقال:

العالم فوق الجاهل.. ومع ذلك ينفي هذا المعني ويثبت العلو الحسّي.

ويقول: «إنّ اللَّه تعالي يجلس علي الكرسي، وقد أخلي منه مكاناً يقعد فيه معه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم».

يقول هذا في (كتاب العرش) قال الزبيدي: «قال السبكي: وكتاب العرش من أقبح كتبه، ولمّا وقف عليه الشيخ أبو حيّان ما زال يلعنه حتي مات، بعد أن كان يعظّمه» «2».

وذكره كاشف الظنون بقوله: «كتاب العرش وصفته … لابن تيمية، ذكر فيه أن اللَّه تعالي يجلس علي الكرسي، وقد أخلي مكاناً يقعد معه فيه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، ذكره أبو حيّان في النهر في قوله سبحانه وتعالي «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ» وقال: قرأت في كتاب العرش لأحمد بن تيميّة ما صورته بخطّه … » «3».

ويقول ابن القيّم في ذمّ المخالفين لشيخه ابن تيميّة في نونيّته:

وإذا أردت تري مصارع من خلا من امة التعطيل والكفران __________________________________________________

(1) الردّ علي النونية: 87.

(2) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 2/ 173.

(3) كشف الظنون 2/ 1438.

دراسات في

منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 108

وتراهم أسري حقيرٌ شأنهم أيديهم غلّت إلي الأذقان وتراهم تحت السيوف رديئة ما فيهم من فارسٍ طعّان وتراهم تحت السيوف تنوشهم من عن شمائلهم وعن أيمان وتراهم انسلخوا من الوحيين والعقل الصحيح ومقتضي القرآن وتراهم- واللَّه- ضحكة ساخر ولطالما سخروا من الإيمان قد أوحشت منهم ربوع زادها الجبّار إيحاشاً مدي الأزمان وخلت ديارهم وشتت شملهم ما فيهم رجلان مجتمعان قد عطّل الرحمن أفئدةً لهم من كلّ معرفة ومن إيمان إذ عطّلوا الرحمن من أوصافه والعرش أخلوه من الرحمن بل عطّلوه عن الكلام وعن صفات كماله بالجهل والبهتان فاقرأ تصانيف الإمام حقيقةً شيخ الوجود العالم الربّاني أعني أبا العباس أحمد ذلك البحر المحيط بسائر الخلجان فقال شارحه- وهو الدكتور هرّاس-:

«جميع الحكماء قد اتّفقوا علي أنّ اللَّه وملائكته في السماء، كما اتّفقت جميع الشرائع علي ذلك. وممّن حكي هذا الإجماع كذلك شيخ الإسلام أبو العبّاس أحمد ابن عبد الحليم ابن تيميّة الحرّاني الدمشقي، الذي لم يأتِ الزمان بنظير له … » «1».

وهكذا يدّعي ابن تيميّة الإجماع ويكفّر من لا يقول بقوله! فيقول: « … وأما قولهم: الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي عن اللَّه التحيّز. فالجواب من وجوه:

أحدها: أن هذا اللفظ ومعناه الذي أرادوه ليس هو في شي ء من كتب اللَّه __________________________________________________

(1) شرح العقيدة النونية: 533.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 109

المنزلة من عنده، ولا هو مأثور عن أحد من أنبياء اللَّه ورسله لا خاتم المرسلين ولا غيره، ولا هو أيضاً محفوظاً عن أحد من سلف الأمّة وأئمتها أصلًا، وإذا كان بهذه المثابة.. وقد علم أن اللَّه أكمل لهذه الأمة دينها، وأن اللَّه بيّن لهذه ما تتقيه كما

قال:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» الآية وقال: «وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّي يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ» وأن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بيّن للأمة الإيمان الذي أمرهم اللَّه به وكذلك سلف الأمة وأئمتها علم بمجموع هذين الأمرين: أن هذا الكلام ليس من دين اللَّه، ولا من الإيمان، ولا من سبيل المؤمنين، ولا من طاعة اللَّه ورسوله. وإذا كان كذلك فمن التزم اعتقاده فقد جعله من الإيمان والدين، وذلك تبديل للدّين كما بدّل من بدّل من مبتدعة اليهود والنصاري ومبتدعة هذه الأمة دين المرسلين.

يوضّح ذلك (الوجه الثاني) وهو أن اللَّه نزّه نفسه في كتابه عن النقائص، تارة بنفيها وتارة بإثبات أضدادها، كقوله تعالي «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ» وقوله تعالي «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ» … وكذلك الأحاديث عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم موافقة لكتاب اللَّه، كقوله صلّي اللَّه عليه وسلّم في الحديث الصحيح: إنّ اللَّه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور أو النار، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه. وقوله صلّي اللَّه عليه وسلّم أيضاً فيما يروي عن ربه:

شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذّبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، فأما شتمه إيّاي فقوله: إني اتّخذت ولداً! وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، وأما تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني! وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته.

وقوله في حديث السنن للأعرابي: ويحك إن اللَّه لا

يستشفع به علي أحد من دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 110

خلقه، شأن اللَّه أعظم من ذلك، إن عرشه علي سمواته، أو قال بيده مثل القبة، وإنه ليئطّ به أطيط الرحل الحديد براكبه. وقوله في الحديث الصحيح: أنت الأول فليس قبلك شي ء، وأنت الآخر فليس بعدك شي ء، وأنت الظاهر فليس فوقك شي ء، وأنت الباطن فليس دونك شي ء. إلي أمثال ذلك.

وليس في شي ء من ذلك نفي الجهة والتحيّز عن اللَّه، ولا وصفه بما يستلزم لزوماً بيّنا نفي ذلك، فكيف يصحّ مع كمال الدين وتمامه ومع كون الرسول قد بلّغ البلاغ المبين، أن يكون هذا من الدين والإيمان ثم لا يذكره اللَّه ولا رسوله قطّ؟

وكيف يجوز أن يدعي الناس ويؤمرون باعتقادٍ في أصول الدين ليس له أصل عمّن جاء بالدين، هل هذا إلّا صريح تبديل الدين … » «1».

وهكذا ينكر بشدّة علي من ينفي الجهة والتحيّز عن اللَّه تعالي فيلزمه علي ذلك القول بإثبات الجهة والتحيّز. فحيث نفي نفي الجهة لم يبق إلّا الإثبات … وعلي هذا يمكن أن نقول إنه قال بثبوت الجهة والتحيّز باعتبار لازم كلامه … لاسيّما تحمّسه في بيانه، وقد عدّ الخارجين علي رأيه خارجين علي دين اللَّه.. فنفاة الجهة والتحيّز قد بدّلوا دين اللَّه.. علي زعمه.

وهكذا يستمرّ في كلامه فيقول: « … الوجه الرابع: إنهم طلبوا اعتقاد نفي الجهة والحيز عن اللَّه، ومعلوم أن الأمر بالإعتقاد لقول من الأقوال إما أن يكون تقليداً للآمر أو لأجل الحجة والدليل، فإن كانوا أمروا بأن يعتقد هذا تقليداً لهم ولمن قال ذلك، فهذا باطل بإجماع المسلمين منهم ومن غيرهم، وهم يسلّمون أنه لا يجب التقليد في مثل ذلك لغير الرسول، لا سيما

وعندهم هذا القول لم يعلم بأدلّة

__________________________________________________

(1) الفتاوي الكبري 5/ 20- 22.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 111

الكتاب والسنّة والإجماع … وإن كان الأمر بهذا الإعتقاد لقيام الحجة عليه، فهم لم يذكروا حجة لا مجملة ولا مفصّلة ولا أحالوا عليها، بل هم يفرّون من المناظرة والمحاجة بخطاب أو كتاب. فقد ثبت أن أمرهم لهذا الإعتقاد حرام باطل علي التقديرين بإجماع المسلمين، وإن فعل ذلك من أفعال الأئمة المضلّين.. وأنه أمر للناس أن يقولوا علي اللَّه ما لا يعلمون … » «1».

هذه بعض نصوصه … وإلّا فكلامه في هذا كثير جدّاً.

لكنّ الرجل قد ناقض نفسه في مواضع اخري، فشمله التّضليل والتكفير، من ذلك قوله:

«ولمّا قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لصاحبه في الغار: لا تحزن إنّ اللَّه معنا، كان هذا أيضاً حقّاً علي ظاهره، ودلّت الحال علي أنّ حكم هذه المعيّة هنا: معيّة الإطلاع والتأييد والنّصر» «2».

وأيضاً يشمل كبار أئمة القوم كالغزالي والرّازي … وأمثالهما!

يقول الغزالي:

« … إذا سمع لفظ الفوق في قوله تعالي «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ» وفي قوله تعالي «يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ» فليعلم أن الفوق إسم مشترك يطلق لمعنيين:

أحدهما نسبة جسم إلي جسم بأن يكون أحدهما أعلي والآخر أسفل، يعني أن الأعلي من جانب رأس الأسفل، وقد يطلق لفوقية الرتبة وبهذا المعني يقال:

الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الوزير وكما يقال العلم فوق العمل، والأول __________________________________________________

(1) الفتاوي الكبري 5/ 23.

(2) الرسالة الحموية الكبري 156.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 112

يستدعي جسماً ينسب إلي جسم، والثاني لا يستدعيه.

فليعتقد المؤمن قطعاً أن الأول غير مراد، وأنه علي اللَّه تعالي محال، فإنه من لوازم الأجسام أو لوازم أعراض الأجسام. وإذا عرف نفي هذا

المحال فلا عليه إن لم يعرف أنه لماذا أُطلق وماذا أريد. فقس علي ما ذكرناه مالم نذكره» «1».

وقد أثبت الفخر الرازي القرينة اللفظية التي تمنع من إرادة المعني الظاهر …

قال في الفصل الخامس في تفاريع مذهب السلف وهي أربع:

«.. الفرع الرابع إنه كما لا يجوز الجمع بين متفرق، فكذلك لا يجوز التفرّق بين مجتمع، فقوله تعالي «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ» لا يدل علي جواز أن يقال: إنه تعالي فوق، لأنه لما ذكر «القاهر» قبله ظهر أن المراد بهذه الفوقية: الفوقية بمعني القهر لا بمعني الجهة، بل لا يجوز أن يقال وهو القاهر فوق غيره بل ينبغي أن يقال فوق عباده، لأن ذكر العبودية عند وصف اللَّه تعالي بالفوقية يدل علي أن المراد من تلك الفوقية فوقية السيادة والإلهية..

.. واعلم أن اللَّه تعالي لم يذكر لفظ المتشابهات إلّا وقرن بها قرينة تدل علي زوال الوهم الباطل، مثاله: أنه تعالي قال: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» ذكر بعده آية قرآنية فأضاف النور إلي نفسه. ولو كان تعالي نفس النور لما أضاف النور إلي نفسه. لأن إضافة الشي ء إلي نفسه ممتنعة، ولمّا قال تعالي «الرَّحْمَنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي» ذكر قبله «تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَي».. وبعده «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَي» فقد ذكر أن هاتين الآيتين __________________________________________________

(1) إلجام العوام: 9.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 113

تدلّان علي أن كلّ ما كان مختصاً بجهة الفوقية مخلوق محدث» «1».

.. ثمّ إنّ الواجب أن ينظر إلي القرآن الكريم ككل، فإذا ما قرأنا آيات التنزيه كقوله تعالي «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» وقوله تعالي «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*

وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ» وغيرها … كانت تلك الآيات وأمثالها قرائن تنزّه اللَّه عزّوجلّ عن أن تفسر آيات أخري علي ظاهرها الموهم للمشابهة، بل تتناسق الآيات بعضها مع بعض. والقرآن يصدّق بعضه بعضاً.

… وللردّ علي مطعن ابن تيمية فيمن يصرف اللفظ عن ظاهره بقوله:

« … ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم، لأن مردّهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عميً وضلالة … » «2» … ننقل رد الغزالي علي مثل هذه الشبهات:

« … إن قال قائل: ما الذي دعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي إطلاق هذه الألفاظ الموهمة مع الإستغناء عنها، أكان لا يدري أنه يوهم التشبيه ويغلط الخلق ويسوقهم إلي اعتقاد الباطل في ذات اللَّه تعالي وصفاته، وحاشا منصب النبوة أن يخفي عليه ذلك، أو عرف لكن لم يبال بجهل الجهّال وضلالة الضلّال، وهذا أبعد وأشنع، لأنه بعث شارحاً لا مبهماً ملبّساً ملغّزاً؟

وهذا إشكال له وقع في القلوب، حتي جرّ بعض الخلق إلي سوء الإعتقاد فيه فقالوا: لو كان نبيّاً لعرف اللَّه، ولو عرفه لما وصفه بما يستحيل عليه في ذاته وصفاته. ومالت طائفة أخري إلي اعتقاد الظواهر وقالوا: لو لم يكن حقّاً لما ذكره __________________________________________________

(1) أساس التقديس: 188- 189.

(2) الرسالة الحموية: 97.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 114

كذلك مطلقاً، ولعدل عنها إلي غيرها أو قرنها بما يزيل الإبهام عنها؛ فما سبيل حلّ هذا الإشكال العظيم؟».

ويجيب الغزالي:

« … الجواب: إن هذا الإشكال منحلّ عند أهل البصيرة وبيانه: إن هذه الكلمات ما جمعها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم دفعة واحدة وما ذكرها، وإنما جمعها المشبّهة، وقد بينّا أن لجمعها من

التأثير في الإيهام والتلبيس علي الأفهام ما ليس لآحادها المفرقه، وإنما هي كلمات لهج بها في جميع عمره في أوقات متباعدة، وإذا اقتصر منها علي ما في القرآن والأخبار المتواترة رجعت إلي كلمات يسيرة معدودة، وإن أضيفت إليها الأخبار الصحيحة فهي أيضاً قليلة، وإنما كثرت الروايات الشاذة الضعيفة التي لا يجوز التعويل عليها، ثم ما تواتر منها إنّ صح نقلها عن العدول فهي آحاد كلمات، وما ذكر صلّي اللَّه عليه وسلّم كلمة منها إلّا مع قرائن وإشارات يزول معها إيهام التشبيه وقد أدركها الحاضرون المشاهدون، فإذا نقل الألفاظ مجردة عن تلك القرائن ظهر الإيهام. وأعظم القرائن في زوال الإيهام المعرفة السابقة بتقديس اللَّه تعالي عن قبول هذه الظواهر، ومن سبقت معرفته بذلك كانت تلك المعرفة ذخيرة له راسخة في نفسه مقارنة لكل ما يسمع، فينمحق معه الإيهام انمحاقا لا يشك فيه، ويعرف هذا بأمثلة:

الأول: إنه صلّي اللَّه عليه وسلّم سمّي الكعبة بيت اللَّه تعالي وإطلاق هذا يوهم عند الصبيان وعند من تقرب درجتهم منهم أن الكعبة وطنه ومثواه لكن العوام الذين اعتقدوا أنه في السماء وأن استقراره علي العرش ينمحق في حقّهم هذا الإيهام علي وجه لا يشكّون فيه. فلو قيل لهم: ما الذي دعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي إطلاق هذا اللفظ الموهم المخيل إلي السامع أن الكعبة مسكنه،

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 115

لبادروا بأجمعهم وقالوا: هذا إنما يوهم في حق الصبيان والحمقي أما من تكرّر علي سمعه أن اللَّه مستقر علي عرشه فلا يشك عند سماع هذا اللفظ أنه ليس المراد به أن البيت مسكنه ومأواه، بل يعلم علي البديهة أن المراد بهذه الإضافة تشريف البيت

أو معني سواه غير ما وضع له لفظ البيت المضاف إلي ربه وساكنه. أليس كان اعتقاده أنه علي العرش قرينةً أفادته علماً قطعياً بأنه ما أريد بكون الكعبة بيته أنه مأواه، وأن هذا يوهم في حق من لم يسبق إلي هذه العقيدة؟

فكذلك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم خاطب بهذه الألفاظ جماعة سبقوا إلي علم التقديس ونفي التشبيه، وأنه منزّه عن الجسمية وعوارضها، وكان ذلك قرينة قطعية مزيلة للإيهام لا يبقي معه شك، وإن جاز أن يبقي لبعضهم تردد في تأويله وتعيين المراد به من جملة ما يحتمله اللفظ ويليق بجلال اللَّه تعالي … ».

وقد أتي الغزالي بأمثلة كثيرة أخري … ثم أعقبها بقوله:

« … فكذلك هذه الظواهر الموهمة، انقلبت عن الإيهام بسبب تلك القرائن الكثيرة التي بعضها هي المعارف، والواحدة منها معرفتهم أنهم لم يؤمروا بعبادة الأصنام، وأن من عبد جسماً فقد عبد صنماً، كان الجسم صغيراً أو كبيراً، قبيحاً أو جميلًا، سافلًا أو عالياً.. علي الأرض أو علي العرش، وكان نفي الجسمية ونفي لوازمها معلوماً لكافّتهم علي القطع ولضرورة إعلام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم المبالغة في التنزيه بقوله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» وسورة الإخلاص، وقوله «فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً»، وبألفاظ كثيرة لا حصر لها، مع قرائن قاطعة لا يمكن حكايتها، وعلم ذلك لا ريب فيه.

وكان ذلك كافياً في تعريفهم استحالة «يد» هي عضو مركّب من لحم وعظم، وكذا في سائر الظواهر، لأنها لا تدل إلّا علي الجسمية وعوارضها لو أطلق دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 116

علي جسم، وإذا أطلق علم غير الجسم علي ضرورة أنه ما أريد به ظاهره بل معني آخر مما يجوز علي اللَّه تعالي ربما

يتعين ذلك المعني وربما لا يتعين، فهذا مما يزيل الإشكال» «1».

ومما ذكره الكوثري:

«.. والوارد في القرآن الكريم «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ».. ومن الخرق أن يظن من قوله تعالي عن القبط «وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ» ركوب القبط علي أكتاف بني- إسرائيل، مع إمكان ركوب جسم علي جسم، وكيف يتصور ذلك في اللَّه تعالي المنزّه عن الجسم ولوازم الجسمية، واعتبار ذات اللَّه فوق عباده فوقية مكانية إلحاد ليس من مدلول الآية في شي ء. وكون ذاته جلّ جلاله فوق احدي السموات فوقية مكانيّة، وفوق كلّ مكان فوقية مكانية مثل ما قيل في الزيغ، وأين في القرآن ما يوهم ذلك … » «2».

وقال: « … هذا، ولم يرد لفظ الجهة في حديثٍ مّا، بل قال أبو يعلي الحنبلي في (المعتمد في المعتقد): ولا يجوز عليه الحدّ ولا النهاية، ولا قبل ولا بعد ولا تحت ولا قدّام ولا خلف، لأنها صفات لم يرد الشرع بها، وهي صفات توجب المكان.

ولعلّه آخر مؤلفاته، بدليل أن امتحانه في الصفات كان سنة 429 قبل وفاته بنحو ثلاثين سنة. فمن أثبت له جهة فقد أثبت له أمثالًا وأشباهاً، مع أنه لا مثل له ولا شبيه، قال تعالي «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» وقال تعالي «أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ».

فلعائن اللَّه علي من يثبت له تعالي ما لم يثبت له الكتاب ولا السنّة، من الجهة ونحوها».

__________________________________________________

(1) الجام العوام- الباب الثالث في فصول متفرقة وأبواب نافعة في هذا الفن: 49- 54.

(2) الرد علي النونية: 39.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 117

« … ولم يقع ذكر الجهة في حق اللَّه سبحانه في كتاب اللَّه، ولا في سنّة رسوله، ولا في لفظ صحابي أو تابعي، ولا في كلام أحد ممّن

تكلّم في ذات اللَّه وصفاته من الفرق، سوي أقحاح المجسّمة … وأتحدّي من يدّعي خلاف ذلك أن يسند هذا اللفظ إلي أحد منهم بسند صحيح، فلن يجد إلي ذلك سبيلًا، فضلًا عن أن يتمكن من إسناده إلي الجماهير بأسانيد صحيحة … » «1».

كما بيّن الكوثري بطلان الإستدلال بحديث الجارية، لما فيه من الإضطراب سنداً ومتناً.. وللبراهين القائمة بالتنزيه «2».

وكأنّ ابن تيميّة التفت إلي ما وقع فيه من التخبّط والتناقض، وإلي كبر الكلمة التي خرجت من فيه، فاضطرّ إلي التخلّص والتملّص بالكذب!!، فقال:

«أما قول القائل: الذي نطلب منه أن يعتقده: أن ينفي الجهة عن اللَّه والتحيّز، فليس في كلامي إثبات لهذا اللفظ، لأنّ إطلاق هذا اللّفظ نفياً وإثباتاً بدعة، وأنا لا أقول إلّا ما جاء به الكتاب والسنّة واتّفق عليه سلف الامّة» «3».

اللهم إلّا أن يكون قد نسي أقواله التي نقلناها آنفاً عن (منهاج السنّة)!!

لكن يكون قد حكم بهذا الكلام علي نفسه، فهو إذاً مبتدعٌ!!

ثمّ إن كان لا يقول إلّا بما جاء في الكتاب والسنّة، فأين ورد فيهما لفظ «فوق سماواته» ونحوه، مما جاء في كلماته؟! وكيف ينسب ما يقول إلي «سلف الامّة»، ويردّ علي الّذين يفسّرون «العرش» ب «الملك» و «الإستواء» ب «التمكّن» قائلًا

__________________________________________________

(1) الردّ علي النونيّة: 101 و 102.

(2) المصدر: 94- 96.

(3) الفتاوي الكبري 5/ 6.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 118

«أولئك ما قدروا اللَّه حق قدره وما عرفوه حق معرفته» «1».

بل يزعم أنّ أحداً من الصّحابة لم يتأوّل شيئاً من آيات الصفات أو أحاديثها بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف «2».. مع العلم بأنّ ابن عباس- مثلًا- الذي وصفه بقوله: «كان من كبار أهل البيت وأعلمهم بتفسير القرآن» «3» قد أوّل «الكرسي» ب

«العلم» في قبال من فسّره ب «العرش الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم» و «موضع القدمين» ونحو ذلك، قال الطبري: «وأمّا الذي يدلّ علي صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عبّاس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد ابن جبير عنه أنه قال: هو علمه، وذلك لدلالة قوله تعالي ذكره «وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا» علي أن ذلك كذلك، فأخبر أنّه لا يؤوده حفظ ما علم وأحاط به ممّا في السماوات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنّهم قالوا في دعائهم «رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً» فأخبر تعالي ذكره أنّ علمه وسع كلّ شي ء، فكذلك قوله «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» وأصل الكرسي: العلم، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب: كرّاسة … » «4».

وعن ابن عبّاس: «إنه سئل عن قوله عزّوجلّ «يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ» قال:

إذا خفي عليكم شي ء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير 1/ 270.

(2) مقدمة في اصول التفسير: 51.

(3) منهاج السنة 4/ 26.

(4) تفسير الطبري 3/ 16- 17، سورة البقرة الآية 255، الحديث 4524.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 119

إصبر عناق إنه ترباق قد سن قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا عن ساق قال ابن عبّاس: هذا يوم كربٍ وشدّة» «1».

وقال الحافظ ابن حجر: «ولا يلزم عن كون جهتي العلوّ والسفل محالًا علي اللَّه أن لا يوصف بالعلوّ، لأن وصفه بالعلوّ من جهة المعني والمستحيل كون ذلك من جهة الحس، ولذلك ورد في صفته: العالي والعلي والمتعالي، ولم يرد ضد ذلك، وإن كان قد أحاط بكلّ شي ء علماً جلّ وعزّ» «2».

هذا، ثم إنه أجاب بزعمه عن قول العلّامة «ولم يعلموا أن كلّ ما هو

في جهة فوق فهو محدث ومحتاج إلي تلك الجهة» فقال:

«فمن فهم عن الكرامية وغيرهم من طوائف الإثبات أنهم يقولون: إن اللَّه محتاج إلي العرش فقد افتري عليهم» ثم قال: «وإذا كان اللَّه فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجاً إليه، فإنّ اللَّه قد خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه محتاجاً إلي سافله، فالهواء فوق الأرض وليس محتاجاً إليها، وكذلك السحاب فوقها وليس محتاجاً إليها، وكذلك السماوات فوق السحاب والهواء والأرض وليست محتاجةً إلي ذلك، والعرش فوق السماوات والأرض وليس محتاجاً إلي ذلك، فكيف يكون العلي الأعلي خالق كلّ شي ء محتاجاً إلي مخلوقاته لكونه فوقها عالياً عليها» «3».

ولا يخفي ما فيه من الدلالة علي الجهة، حيث أبدل لفظ «علي العرش» بلفظ «فوق العرش» من قياس الخالق علي المخلوق، وهو باطل … لكنّ «الجهة» بالمعني اللغوي المعروف تستلزم أموراً مستحيلة علي اللَّه، لذلك شرع في محاولةٍ

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين- كتاب التفسير، تفسير سورة ن والقلم 2/ 542 وصحّحه ووافقه الذهبي.

(2) فتح الباري 6/ 102، كتاب الجهاد، باب التكبير إذا علا شرفاً.

(3) منهاج السنة 2/ 646.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 120

يائسة يتنحّل المعاذير، وفي مغالطة فاشلة يتكلّف الأقاويل، فيقول: «وقد قدّمنا فيما مضي أن لفظ «الجهة» يراد به أمر موجود وأمر معدوم، فمن قال إنه فوق العالم كلّه لم يقل إنه في جهةٍ موجودة إلّا أن يراد بالجهة العرش، ويراد بكونه فيها أنه عليها … » «1».

لكنّ «الجهة منها أمر وجودي ومنها أمر عدمي» لم يرد عن السّلف ولا عن غيرهم، وقد قرّر هو أن «إطلاق لفظ الجهة نفياً وإثباتاً بدعة»!!

ولو سلّمنا جدلًا كون «الجهة» كما ذكر، فالذي أثبته كونها أمراً وجوديّاً، فليس

فهم ذلك- عنه وعن الكرامية- افتراءً … وهل يلزم من هذا إلّا التجسيم والتحيّز؟

ثم إنّ الإستدلال الذي ذكره العلّامة موجود في كلمات بعض الأئمة المشاهير من أهل السنة، فقد قال الفخر الرّازي ما نصّه:

«البرهان الثاني: في بيان أنّه يمتنع أن يكون مختصاً بالحيّز والجهة، أنه لو كان مختصّاً بالحيز والجهة لكان محتاجاً في وجوده إلي ذلك الحيّز وتلك الجهة، وهذا محال، فكونه في الحيّز والجهة محال.

بيان الملازمة: أن الحيّز والجهة أمر موجود، والدليل عليه وجوه: (الأول) هو أن الأحياز الفوقانية مخالفة في الحقيقة والماهية للأحياز التحتانية، بدليل أنهم قالوا: يجب أن يكون اللَّه تعالي مختصاً بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز، يعني التحت واليمين واليسار، ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيّات، لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالي في جهة فوق ويمتنع حصوله في سائر

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 648.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 121

الجهات، وإذا ثبت أن هذه الأحياز مختلفة في الماهيّة، وجب كونها أموراً موجودة، لأن العدم المحض يمتنع كونه كذلك.

(الثّاني) هو أن الجهات مختلفة بحسب الإشارات، فإن جهة الفوق متميّزة عن جهة التحت في الإشارة، والعدم المحض والنفي الصرف يمتنع تمييز بعضه عن بعض في الإشارة الحسيّة.

(الثالث) أن الجوهر إذا انتقل من حيّز إلي حيّز فالمتروك مغاير لا محالة للمطلوب، والمتنقل عنه مغاير للمنتقل إليه.

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الحيّز والجهة أمر موجود.

ثم إن المسمي بالحيّز والجهة أمر مستغن في وجوده عمّا يتمكن ويستقر فيه، وأما الذي يكون مختصاً بالحيّز والجهة فإنه يكون مفتقراً إلي الحيز والجهة، فإنّ الشي ء الذي يمكن حصوله في الحيّز مستحيل عقلًا حصوله لا مختصّاً بالجهة، فثبت أنه تعالي لو كان مختصّاً بالحيّز والجهة لكان

مفتقراً في وجوده إلي الغير. وإنما قلنا إن ذلك محال لوجوه:

(الأول) أن المفتقر في وجوده إلي الغير يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه، وكلّ ما كان كذلك كان ممكناً لذاته، وذلك في حق واجب الوجود لذاته محال.

(الثاني) أن المسمي بالحيز والجهة أمر متركب من الأجزاء والأبعاض، لما بيّنا أنه يمكن تقديره بالذراع والشبر، ويمكن وصفه بالزائد والناقص، وكلّ ما كان كذلك كان مفتقراً إلي غيره، والمفتقر إلي غيره ممكن لذاته، فالشي ء المسمّي بالحيز والجهة ممكن لذاته، فلو كان اللَّه تعالي مفتقراً إليه لكان مفتقراً إلي الممكن، والمفتقر إلي الممكن أولي أن يكون ممكناً لذاته، فالواجب ممكن لذاته وهو محال.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 122

(الثالث) لو كان الباري تعالي أزلًا وأبداً مختصّاً بالحيز والجهة، لكان الحيز والجهة موجودين في الأزل، فيلزم إثبات قديم غير اللَّه تعالي وذلك محال بإجماع المسلمين.

فثبت بهذه الوجوه أنه لو كان في الحيز والجهة يلزم هذه المحذورات، فيلزم امتناع كونه تعالي في الحيز والجهة … » «1».

وقد ساق الرازي أدلّة كثيرة عقلية وشرعية علي استحالة التحيز والجهة علي اللَّه تعالي … وردّ علي شبهات الكرامية الذين سبقوا ابن تيمية … وقد اقتبس ابن تيمية من آرائهم وشبهاتهم الكثير جداً، ونسبها مؤيّدوه إليه ثم أضفوا عليه صفة الجامع للمعقول والمنقول.

ويقول القرطبي في قوله تعالي «يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ»: «أي عقاب ربّهم وعذابه، لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء، وقيل: المعني يخافون قدرة ربّهم التي هي فوق قدرتهم، ففي الكلام حذف. وقيل: معني «يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ» يعني الملائكة يخافون ربهم، وهي من فوق ما في الأرض من دابّة ومع ذلك يخافون، فلأن يخاف من دونهم

أولي. دليل هذا القول قوله تعالي «وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ» يعني الملائكة» «2».

وقال تقي الدين السبكي في الردّ علي ابن القيم في نونيّته، وسبّه طوائف العلماء بأنهم ملاحدة وزنادقة، وأنهم أتباع فرعون وهامان وجنكزخان:

«.. وهو يزعم بكذبه أنه متمسك بالقرآن. وأين قال اللَّه في القرآن إنه فوق __________________________________________________

(1) أساس التقديس- القسم الأول، الفصل الرابع في اقامة البراهين … 44- 46.

(2) الجامع لأحكام القرآن- سورة النحل، الآية 50- 10/ 113.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 123

السماء؟ وأين قال إنه بائن من خلقه؟ وأين قال إنه فوق العرش بهذا اللفظ؟ وأين قال إن القدمين فوق الكرسي؟ وأين قال إنه يسمع خلقه ويراهم من فوق؟

وأين قال إن محمّداً قاعد معه علي العرش؟ … إلي بقية ما ذكره جميعه.

والمتّبع للقرآن لا يغيّره ولا يغير لفظه.. بل يتمسك به من غير زيادة ولا نقصان، وكذا الأحاديث الصحيحة يقف عند ألفاظها ولا يزيد في معناها ولا ينقص.

وهكذا أكثر ما ذكره لم يجي ء لفظه في قرآن ولا سنّة، بل هو زيادة من عنده قد كذب فيها علي اللَّه وعلي رسوله وفهمها علي خلاف الحق، ونسب إلي علماء المسلمين البرئاء من السوء كلّ قبيح، وجعل ذلك طريقاً للخروج من الدين والإنسلاخ من الإيمان وانتهاك الحرام وعدم اعتقاد شي ء.

فهل وصلت الزنادقة والملاحدة والطاعنون في الشريعة إلي أكثر من هذا؟

بل ولا عشر هذا! وإيهامه الجّهال أنه هو المتمسك بالقرآن والسنة لينفق عندهم كلامه ويخفي عنهم سقامه» «1».

هذا، وألّف الشيخ أحمد بن يحيي الكلابي الحلبي المعروف بابن جهبل المتوفي سنة: 733 رسالةً في نفي الجهة ردّاً علي ابن تيمية، أوردها تاج الدين السبكي في (الطبقات) بترجمته «2» كما ترجم له في الدرر الكامنة 1/

350، وطبقات الشافعية للأسنوي 1/ 390، ومرآة الجنان 4/ 288، والبداية والنهاية 14/ 163 وغيرها من المصادر.

__________________________________________________

(1) الرد علي نونيّة ابن القيم: 55.

(2) طبقات الشافعية الكبري الترجمة 1302، أحمد بن يحيي بن إسماعيل 9/ 35.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 124

قوله بقيام الحوادث باللَّه عزّوجل … ص: 124

قال العلّامة طاب ثراه: «وأنّ أمره ونهيه وإخباره حادث، لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره».

فقال ابن تيميّة: «فيقال: هذه مسألة كلام اللَّه تعالي والناس فيها مضطربون … » إلي أن قال:

«فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب!

قلنا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دلّ عليه الشرع والعقل» «1».

وقال أيضاً: «فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به!

قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنّة تتضمّن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته، ولفظ الحوادث مجمل.. فقد يراد به الأمراض والنقائص واللَّه تعالي منزّه عن ذلك … ولكن يقوم به ما يشاؤه ويقدر عليه، من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دلّ عليه الكتاب والسنّة» «2».

ويقول في فتاويه:

«وقد ظنّ من ذكر من هؤلاء كأبي يعلي وأبي الحسن ابن الزاغوني أنّ الامّة

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2/ 380.

(2) منهاج السنة 2/ 381.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 125

قاطبةً اتّفقت علي أنه لا تقوم به الحوادث، وجعلوا ذلك الأصل الذي اعتمدوه، وهذا مبلغهم من العلم. وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات الباطلة المدّعاة في الكلام ونحوه وما أكثرها، فمن تدبّرها وجد عامّة المقالات الفاسدة يبنونها علي مقدّمات لا تثبت إلّا بإجماع مدّعي أو قياس، وكلاهما عند التحقيق يكون باطلًا.

ثمّ من العجب أنّ بعض متكلّمة أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم يدّعون مثل هذا

الإجماع مع النصوص الكثيرة عن أصحابهم بنقيض ذلك، بل عن إمامهم وغيره من الأئمة» «1».

هذا، وقد استدلّ لما ذهب إليه في منهاج السنّة «2» بما هذا ملخّصه كما ذكر أحد أتباعه بقوله: «هل يجوّز ابن تيميّة قيام الحوادث بذاته تعالي الجواب: إن ابن تيميّة لا يري من ذلك مانعاً، لا من جهة العقل ولا من جهة النقل، بل يري أن العقل والنقل متضافران علي وجوب قيام الامور الإختيارية به تعالي وأما تلك المقدّمة القائلة: إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهي صحيحة إن اريد آحاد الحوادث وأفرادها المتعاقبة في الوجود، فإنّ لكلّ واحدٍ منها مبدأً ونهايةً، فما لم يخل منها فهو إمّا أن يكون معها أو بعدها، وعلي التقديرين يكون حادثاً، وأما إن اريد جنس الحوادث فهي باطلة، فإن الجنس يجوز أن يكون قديماً، إن كان كلّ فرد من أفراده حادثاً، حيث أنه لا يلزم من حدوث كلّ فردٍ حدوث الجملة، لأن حكم الجملة غير حكم الأفراد» «3».

ثمّ قال الشيخ هراس:

__________________________________________________

(1) الفتاوي الكبري 5/ 107.

(2) منهاج السنة 2/ 272- 273.

(3) ابن تيمية السلفي: 107.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 126

«إن ابن تيميّة قد بني علي هذه القاعدة (قدم الجنس وحدوث الأفراد) كثيراً من العقائد، وجعلها مفتاحاً لحلّ مشاكل كثيرة في علم الكلام، وهي قاعدة لا يطمئن إليها العقل كثيراً، فإن الجملة ليست شيئاً أكثر من الأفراد مجتمعةً، فإذا فرض أن كلّ فردٍ منها حادث لزم من ذلك حدوث الجملة قطعاً».

قال: «فإن ابن تيمية بعد أن أورد المذاهب المختلفة أخذ في تقرير مذهبه الذي يدّعي أنه مذهب السلف، ولكن عليه من المآخذ ما سبق أن أشرنا إليه من تجويز قيام

الحوادث بذاته تعالي وابتنائه علي تلك القاعدة الفلسفيّة التي تقول بقدم الجنس مع حدوث أفراده، وهي قاعدة يصعب تصوّرها كما قلنا» «1».

فهذا الشيخ المدافع عنه والمؤيّد لعقائده يقرّر أن قوله بقيام الحوادث بذاته تعالي مما أُخذ علي ابن تيميّة، وأنّه قد تبع الكراميّة في ذلك، وهم من المجسّمة …

ويصرّح بأنّ القاعدة المذكورة يصعب تصوّرها … وهذا عجيب.

لكنّ الأعجب اعتراف ابن تيمية نفسه بأنّه متناقض! فإنّه يقول:

«.. إن كان القابل للشي ء لا يخلو عنه وعن ضدّه لزم تسلسل الحوادث، وتسلسل الحوادث إن كان ممكناً كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلماً إذا شاء، كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنّة، وإن لم يكن جائزاً أمكن أن يقوم به الحادث بعد أن لم يكن قائماً به كما يفعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلًا لها وكان قولنا هو الصحيح، فقولكم أنتم باطل علي كلا التقديرين. فإن قلتم لنا: أنتم توافقونا علي امتناع تسلسل الحوادث، وهو حجتنا وحجتكم علي نفي قدم العالم. قلنا لكم: موافقتنا لكم حجة جدلية، وإذا كنا

__________________________________________________

(1) ابن تيمية السلفي: 131.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 127

قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم، وقلنا بأن القابل للشي ء قد يخلو عنه وعن ضدّه مخالفة لكم. وأنتم تقولون: إن قبل الحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك. قلنا: إن صحّت هاتان المقدمتان- ونحن لا نقول بموجبهما- لزم خطؤنا إما في هذه وإمّا في هذه، وليس خطؤنا فيما سلّمناهُ لكم بأولي من خطئنا فيما خالفناكم فيه، فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث، لا في قولنا إن القابل للشي ء يخلو عنه وعن ضدّه، فلا يكون خطؤنا في

إحدي المسألتين دليلًا علي صوابكم في الأخري التي خالفناكم فيها.

أكثر ما في هذا الباب أنا نكون متناقضين، والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلّم في هذه المسألة ونظائرها..» «1».

ومن ناحية أخري فقد سبق إيراد قوله «.. فإذا قالوا لنا فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به. قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة … » … إلي أن قال … «.. ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته، ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به: الأمراض والنقائص واللَّه تعالي منزّه عن ذلك.. ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه» «2».

وهنا يمكن الردّ علي ابن تيمية بما أقرّه … لقد أقرّ بأن اللَّه منزه عن النقائص ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه … ونحن نسأله: هل هناك حوادث متّصفة بالكمال الذي يليق باللَّه.. كمال لا يلحقه نقص.. حتي تجيز قيام هذا النوع من الحوادث بذات اللَّه تعالي

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 383- 384.

(2) منهاج السنة 2/ 381.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 128

كلّا، ولو سلّمنا جدلًا بهذه المقدمة الخاطئة التي لا تستند إلي شي ء من العقل أو الشرع.. فإن عجز كلامه يرد عليه … لقد قال: ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه. وهل المشاء إلّا مخلوقاً؟ وهل المقدور إلّا مخلوقاً؟ وهنا سؤال آخر:

هل المخلوق كامل أم ناقص؟ لا شك أن المخلوق ناقص مفتقر إلي غيره بدليل أنه مشاء وأنه مقدور.

إن دعوي ابن تيمية هي: قيام الحوادث بذات اللَّه تعالي . وبعبارة أخري

قيام المخلوق بذات اللَّه تعالي لأن الحادث مخلوق.. وبعبارة ثالثة: قيام الناقص باللَّه الكامل.. وبعبارة رابعة: إتصاف اللَّه الكامل بالناقص.. وهكذا.

إن الكامل لا يحلّ به نقص أبداً.. وإلّا تنافي كونه كاملًا..

ولكان حادثاً..

واللَّه تعالي منزّه عن الحدوث.. فجواز اتصاف الكامل بالناقص خُلف، إذ يكون كاملًا لا كاملًا.. وهذا باطل، فيستحيل أن تقوم الحوادث باللَّه تعالي إذ يستحيل أن يقوم به ناقص ويتصف به.

ويقول الكوثري:

«.. نسبة القول بقيام الفعل الحادث باللَّه سبحانه إلي أحمد وجعفر الصّادق وابن عبّاس رضي اللَّه عنهم، نسبة كاذبة وفرية مكشوفة. وقول أحمد: إن اللَّه لم يزل متكلّماً إن شاء، بمعني أن الكلام صفة قديمة، وأنه تعالي يكلم أنبياءه متي شاء بدون حرف ولا صوت بالوحي ومن وراء حجاب أو بإرسال رسول، وهو متكلم خالق قبل أن يكلم الرسول ويخلق الخلق، كما صرح بذلك غلام الخلال من قدماء الحنابلة في المقنع. وأما عثمان بن سعيد الدارمي السجزي مؤلف النقض علي المريسي، فكان فيما سبق لا يخوض في صفات اللَّه سبحانه كما هو طريقة السلف.. ثم انخدع بالكرامية وأصبح مجسّماً مختل العقل عند تأليفه المذكور، وهو حقيق بأن دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 129

يكون قدوةً للناظم.. ونسجل هنا علي الناظم اعتقاده قيام الحوادث بذات اللَّه سبحانه وتعالي واعتقاده أن هذه الحوادث لا أول لها.

وإني ألفت نظر حضرة القاري ء إلي هذه العقيدة، وهل تتّفق مع دعوي أنه إمام دونه كلّ إمام؟ بل هل تتفق هذه العقيدة مع دعوي أنه في عداد المسلمين؟» «1».

ويقول: «إتفقت فرق المسلمين سوي الكرامية وصنوف المجسمة علي أن اللَّه سبحانه منزّه عن أن تقوم به الحوادث وأن تحلّ به الحوادث … وأن يحلّ في شي ء من الحوادث، بل ذلك مما علم من الدين بالضرورة. ودعوي أن اللَّه لم يزل فاعلًا متابعة منه للفلاسفة القائلين بسلب الإختيار عن اللَّه عزّوجلّ، وبصدور العالم منه بالإيجاب، ونسبة ذلك إلي أحمد

والبخاري وغيرهما من السلف كذب صريح وتقوّل قبيح، ودعوي أن تسلسل الحوادث في جانب الماضي تصوّر غير محال لا يصدر ممّن يعي ما يقول، فمن تصوّر حوادث لا أوّل لها تصوّر أنه ما من حادث محقق إلّا وقبله حادث محقق، وأن ما دخل بالفعل تحت العدّ والإحصاء غير متناه.

وأما من قال بحوادث لا آخر لها، فهو قائل بأن حوادث المستقبل لا تنتهي إلي حادث محقق إلّا وبعده حادث مقدر، فأين دعوي عدم تناهي ما دخل تحت الوجود في جانب الماضي من دعوي عدم تناهي ما لم يدخل تحت الوجود في المستقبل؟» «2».

ويقول أبو الحسن تقي الدين السبكي:

__________________________________________________

(1) الردّ علي النونيّة: 71.

(2) الردّ علي النونيّة: 16.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 130

«.. وأما الحشوية، فهي طائفة رذيلة جهال ينتسبون إلي أحمد، وأحمد مبرّأ منهم، وسبب نسبتهم إليه أنه قام في دفع المعتزلة، وثبت في المحنة رضي اللَّه عنه، ونقلت كليمات ما فهمها هؤلاء الجهال فاعتقدوا هذا الإعتقاد السي ء، وصار المتأخر منهم يتبع المتقدم إلّا من عصمه اللَّه، وما زالوا من حين نبغوا مستذلين ليس لهم رأس ولا من يناظر، وإنما كانت لهم في كلّ وقت ثورات ويتعلّقون ببعض أتباع الدول ويكفي اللَّه شرّهم. وما تعلّقوا بأحد إلّا كانت عاقبته إلي سوء، وأفسدوا اعتقاد جماعة شذوذ من الشافعية وغيرهم، ولا سيّما بعض المحدّثين الذين نقصت عقولهم، أو غلب عليها من أضلّهم فاعتقدوا أنهم يقولون بالحديث.

ولقد كان أفضل المحدّثين في زمانه بدمشق ابن عساكر يمتنع من تحديثهم ولا يمكّنهم أن يحضروا مجلسه، وكان ذلك أيام نور الدين الشهيد وكانوا مستذلين غاية الذلّة.

ثم جاء في أواخر المائة السابعة رجل له فضل ذكاء واطّلاع، ولم يجد شيخاً يهديه،

وهو علي مذهبهم وهو جسور متجرد لتقرير مذهبه، ويجد أموراً بعيدة فبجسارته يلتزمها، فقال بقيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالي وأن اللَّه سبحانه ما زال فاعلًا، وأن التسلسل ليس بمحال فيما مضي كما هو فيما سيأتي، وشق العصا وشوّش عقائد المسلمين، وأغري بينهم، ولم يقتصر ضرره علي العقائد في علم الكلام حتي تعدّي وقال: إن السفر لزيارة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم معصية» «1».

ثمّ إن ابن تيمية نفسه لم يستطع إثبات أن لفظ (قيام الحوادث بذاته تعالي

__________________________________________________

(1) السيف الصقيل: 15- 17.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 131

قد ورد عن السلف، بل من العجيب أنه نقل الإجماع علي خلاف رأيه كما سبق وأوردنا.

ولما كان الإجماع لا يوافق مذهبه إدّعي أنه من الإجماعات الباطلة …

«.. وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات الباطلة المدّعاة في الكلام ونحوه وما أكثرها … ». ثم يعجب من أن بعض أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم يخالفونه ويثبتون الإجماع علي استحالة قيام الحوادث بذاته تعالي . « … ثم من العجب أن بعض متكلّمة أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم يدّعون مثل هذا الإجماع..».

فابن تيمية لا يعترف بالإجماع إلّا إذا كان موافقاً لرأيه! ولا يعترف بأصحاب أحمد إلّا إذا وافقوه! فالإجماع باطل بمخالفته لابن تيمية.. وأصحاب أحمد ليسوا بسلف بمخالفتهم لابن تيمية.

وقد بيّن العلماء بطلان التسلسل للحوادث من جهة الماضي- وهو ما أجازه ابن تيمية- ببراهين واضحة.. نذكر منها برهان التطبيق المشهور.. نقلًا عن حاشية البيجوري علي جوهرة التوحيد:

«.. وإنما كان التسلسل مستحيلًا لأدلّة أقامها المتكلّمون.. أجلّها برهان التطبيق. وتقريره: أنك لو فرضت سلسلتين، وجعلت إحداهما من الآن إلي ما لا نهاية له، والأخري من الطوفان إلي ما

لا نهاية له، وطبقت بينهما بأن قابلت بين أفرادهما من أوّلهما، فكلّما طرحت من الآنية واحداً وهكذا.. فلا يخلو إما أن يفرغا معاً فيكون كلّ منهما له نهاية وهو خلاف الفرض، وإن لم يفرغا لزم مساواة الناقص للكامل وهو باطل.. وإن فرغت الطوفانية دون الآنية كانت الطوفانية متناهية والآنية أيضاً كذلك، لأنها إنما زادت علي الطوفانية بقدر متناه وهو ما من دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 132

الطوفان إلي الآن، ومن المعلوم أن الزائد علي شي ء متناه بقدر متناه يكون متناهياً بالضرورة» «1».

ويقول الكوثري:

«.. والناظم المسكين قائل بحوادث لا أوّل لها؛ إنخداعاً منه بشبهة أوردها الفلاسفة في بحث الحدوث، غير متصور إتصاف اللَّه سبحانه بصفاته العليا قبل صدور الأفعال منه تعالي واستنكار شيخه (كان اللَّه ولم يكن شي ء معه) مما استبشعه ابن حجر في فتح الباري جدّ الإستبشاع.

وحدوث الأفعال فيما لا يزال لا يلزم منه تعطيل الصّفات أصلًا، لا في زمن حدوث الأفعال ولا في غيره، وهو تعالي سريع الحساب وشديد العقاب قبل خلق الكون وقبل النشور، وهل يتصور عاقل أن يحاسب اللَّه خلقه أو يعاقبهم قبل أن يخلقهم؟ وهذا يهدّ مزاعم الناظم الذي يجري الصفات علي مجري واحد..» «2».

وقال «.. لو كان الناظم سعي في تعلّم أصول الدين عند أهل العلم قبل أن يحاول الإمامة في الدين، لبان له الفرق بين الماضي والمستقبل في ذلك، ولعلم أن كلّ ما دخل في الوجود من الحوادث متناه محصور، وأما المستقبل فلا يحدث فيه حدث محقق إلّا وبعده حادث مقدر لا إلي غير نهاية بخلاف الماضي كما سبق … ».

.. ثمّ قال «.. عدم فناء النوع في الأزل بمعني قدمه، وأين قدم النوع مع

حدوث أفراده؟ وهذا لا يصدر إلّا ممّن به مس، بخلاف المستقبل وقد سبق بيان ذلك. وقال أبو يعلي الحنبلي في المعتمد (محفوظ تحت رقم 45 من التوحيد في __________________________________________________

(1) حاشية البيجوري علي جوهرة التوحيد: 28.

(2) الرد علي النونية: 31.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 133

ظاهرية دمشق): والحوادث لها أول ابتدأت منه خلافاً للملحدة. وهو من أئمة الناظم. فيكون هو وشيخه من الملاحدة علي رأي أبي يعلي هذا.. فيكونان أسوأ حالًا منه في الزيغ، نسأل اللَّه السلامة» «1».

إثبات أن قول ابن تيمية يحمل معه دليل بطلانه:

ولو سلّمنا جدلًا بزعم ابن تيمية بأن الحوادث قديمة بالنوع حادثة الأفراد..

وبأن حدوث الأفراد لا يستدعي حدوث الجنس. فليقل لنا ابن تيمية: ما الذي يجعله قائماً بذات اللَّه تعالي جنس الحوادث أم أفرادها؟ فالأمر لا يخلو من أحدهما.

فإن كان ما يجعله قائماً بذاته تعالي هو الأفراد.. فهو مسلّم بأن الأفراد حادثة.. ومسلّم أيضاً بأن قيام ذلك بذات اللَّه يستلزم حدوث اللَّه تعالي . إذ سلّم بالقضية القائلة بأن ما لا يخلو من الحادث فهو حادث.

.. نقل ذلك هرّاس عنه عن منهاج السنة «.. وأما تلك المقدمة القائلة إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهي صحيحة إن أريد آحاد الحوادث وأفرادها … » «2».

وإن كان ما يجعله قائماً بذات اللَّه تعالي هو جنس الحوادث.. والجنس قديم عنده، فعلي هذا نقول له: هذا الجنس القديم في زعمك إما أن يكون عدميّاً وإما أن يكون وجوديّاً. فإن كان أمراً عدميّاً لا وجود له.. ولا تحقق له في الأفراد.. فيكون __________________________________________________

(1) الرد علي النونية: 74- 75.

(2) منهاج السنة 1/ 426- 427.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 134

وصف المعدوم

بالقدم عبثاً مصادماً لبداهة العقل وضرورة الفكر.. إذ كيف يكون المعدوم قديماً. وإن كان هذا الجنس القديم أمراً وجوديّاً.. فيلزم عليه أمور:

أولًا: يكون ابن تيمية قد خالف أساس دعواه.. وناقض نفسه بنفسه.. لأنه ادّعي قيام الحادث بذات اللَّه تعالي . وهنا يقول بأن الجنس قديم.

ثانياً: إما أن يكون هذا الجنس القديم القائم بذات اللَّه تعالي قد قام بمشيئة اللَّه أم لا. فإن قام بمشيئته يكون الخلف، لأن كونه مشاءً يفيد أنه لم يكن موجوداً ثم وجد.. لضرورة ثبوت الإختيارية للَّه تعالي لأننا إذا لم نقل بأن هذا الجنس لم يكن موجوداً ثم وجد، ترتب علي ذلك سلب الإختيار عن اللَّه عزّوجلّ وهو باطل، فعلي هذا يكون الجنس حادثاً قديماً، وهذا خلف.

وبالتالي: إن كان الجنس القديم موجوداً بغير إرادة ومشيئة، لكان في هذا سلب الإختيار عن اللَّه وهو محال.. فالقول بالقدم النوعي محال.

ثالثاً: إذا كان هذا الجنس قديماً وجودياً فهو غير اللَّه تعالي بلا ريب- بدليل أن أفراد هذا الجنس حادثة باتّفاق.. فيلزم علي هذا تعدّد القدماء.. وتعدّد القدماء باطل عقلًا وشرعاً.

وبعد.. فقد مضينا في مناقشة ابن تيمية هنا علي طريق التسليم الجدلي فقط لا الواقعي.. وإلّا فإن الواقع كما تقرر سابقاً هو: إن الجملة ليست شيئاً أكثر من الأفراد مجتمعة.. فإذا تقرّر أن كلّ فرد منها حادث لزم من ذلك حدوث الجملة قطعاً، فعلي هذا يستحيل وجود حوادث لا أول لها.

ثمّ أين هذا الجدل والشرود الضار بالعقيدة.. وهذا التخبط الفلسفي.. أين هذا من صفاء السلف وضياء بصيرتهم وقوة إيمانهم.. وطهارة فطرتهم وسلامة عقيدتهم … كما يدّعي لهم في تراجمهم؟

فما أبعد ما خاض فيه إبن تيمية … ما أبعده مما كان عليه أئمة السلف.

دراسات في

منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 135

زعمه بأنّ كلام اللَّه تعالي بصوتٍ وحرف … ص: 135

يقول ابن تيمية كما في فتاويه:

«.. وأن اللَّه تعالي متكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد، لا صوت القاري ء ولا غيره، وأن اللَّه ليس كمثله شي ء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته، فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق، ولا معانيه تشبه معانيه، ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد..» «1».

وقال:

«.. عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يقول اللَّه: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت إن اللَّه يأمرك أن تخرج من ذريّتك بعثاً إلي النار … » «2».

وقال:

«.. ويذكر عن جابر بن عبداللَّه؛ عن عبداللَّه بن أنيس، سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: يحشر اللَّه العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديّان..» «3».

__________________________________________________

(1) الفتاوي الكبري 5/ 124.

(2) المصدر 5/ 128.

(3) المصدر 5/ 117.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 136

الردّ علي ابن تيمية:

ونبدأ ذلك بذكر تناقض ابن تيمية وردّه علي نفسه.. فإن التناقض هو أوّل مراتب الفساد كما يقول هو نفسه.

يقول ابن تيمية كما في فتاويه:

«(الوجه الرابع عشر) وأما قولهم: ولا يقول أن كلام اللَّه حرف وصوت قائمٌ به بل هو معني قائم بذاته، فقد قلت في الجواب المختصر البديهي: ليس في كلامي هذا أيضاً، ولا قلته قط، بل قول القائل إن القرآن حرف وصوت قائمٌ به بدعة، وقوله إنه معني قائم به بدعة، لم يقل أحد من السلف لا هذا ولا هذا، وأنا ليس في كلامي شي ء من البدع، بل في كلامي

ما أجمع عليه السلف إن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق» «1».

ثم نتساءل: هل الإدّعاء بأن كلام اللَّه بصوت وحرف ثم القول بعد ذلك لا كأصواتنا ولا كحروفنا.. هل هذا كافٍ في التنزيه ونفي التشبيه؟ لنترك ابن تيمية يجيب علي هذا التساؤل ليكون حجة علي نفسه … قال:

«.. وأما في طرق الإثبات، فمعلوم أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه، إذ لو كفي في إثباته مجرد نفي التشبيه، لجاز أن يوصف سبحانه من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصي مما هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه، وكما لو قال المفتري يأكل لا كأكل العباد ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم، كما يقال يضحك لا كضحكهم __________________________________________________

(1) الفتاوي الكبري 5/ 33.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 137

ويفرح لا كفرحهم ويتكلّم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل: له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم حتي يذكر المعدة والأمعاء والذكر وغير ذلك، مما يتعالي اللَّه عزّوجلّ عنه سبحانه وتعالي عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً..» «1».

إذن، التسليم بالإشتراك في المعني العام وهو الصوت والحرف، ثم القول بأنه لا كالأصوات ولا كالحروف.. هذا لا ينفي التشبيه وإن ادعي صاحبه ذلك.. لأن ما سلّم به هو معني من معاني الحدوث، فكأنه يقول حادث لا كالحوادث.. وهذا تناقض صريح.. باعتبار ما أقرّ به ابن تيمية نفسه.

ثم نسأل ابن تيمية: هل هناك وجه لمخالفة صوته (تعالي اللَّه عن ذلك) لأصواتنا؟ … هنا يجيب ابن تيمية … يقول:

«.. إن صوت اللَّه لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت اللَّه يسمعه من بعد

كما يسمعه من قرب» «2».

فلا وجه إذاً للمخالفة … غير أن صوته يسمع من قرب كما يسمع من بعد..

ولا ندري ماذا يكون موقف ابن تيمية فيما توصل إليه البشر من تقريب الأصوات حتي سمعت من بعد كما سمعت من قرب بوسائل الإعلام والإتصال الحديثة، هل كان يصرّ علي رأيه بأن السماع من بعد كالسماع من قرب كافٍ في المخالفة للحوادث والتنزيه؟

.. ثمّ يمضي ابن تيمية في تقرير معاني التشبيه.. فيقول:

__________________________________________________

(1) الرسالة التدمرية: 88.

(2) شرح العقيدة الاصفهانية: مذهب السلف حول الصوت الذي تكلم اللَّه به: 67.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 138

«.. وحديث ابن مسعود: إذا تكلّم اللَّه بالوحي سمع له صوت كجرّ السلسلة علي الصفوان» «1».

ويقول:

«.. وحديث الزهري قال: لما سمع موسي كلام ربّه قال: يا ربّ هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسي هو كلامي، وإنما كلّمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوّة الألسن كلّها، وأنا أقوي من ذلك، وإنما كلّمتك علي قدر ما تطيق بذلك، ولو كلّمتك بأكثر من ذلك لمت. قال: فلما رجع موسي إلي قومه قالوا:

صف لنا كلام ربك، فقال: سبحان اللَّه وهل أستطيع أن أصفه لكم؟ قالوا فشبّهه، قال: أسمعتم الصواعق التي تقبل في أحلي حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله.

فقوله: إنما كلّمتك بقوّة عشرة آلاف لسان، أي لغة. ولي قوة الألسن كلّها، أي اللغات كلّها، وأنا أقوي من ذلك، فيه بيان أن الكلام بقوة اللَّه وقدرته، وأنه يقدر أن يتكلّم بكلام أقوي من كلام. وهذا صريح في قول هؤلاء كما هو صريح في أنه كلّمه بصوت وكان يمكنه أن يتكلّم بأقوي من ذلك الصوت وبدون ذلك الصوت» «2».

ولا ندري لِمَ عدل ابن تيمية عن الظاهر- علي

غير عادته- وفسّر قوّة الألسن باللغة، ولكن هذا لا ينفي التشبيه، بل يكاد تعبيره ينفح بالجارحة، فهل اللغات إلّا حروفاً ولهجات؟ ومن العجيب أن ابن تيمية لم يقل- كعادته في جدله- لغات لا كلغاتنا.

__________________________________________________

(1) شرح العقيدة الاصفهانية: الكلام في الايمان والقدر وأشراط الساعة وغيرها: 66.

(2) الفتاوي الكبري 5/ 110.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 139

وقول ابن تيمية بأنه (يقدر أن يتكلّم بكلام أقوي إثبات للتفاوت بين كلام اللَّه تعالي بل هو إثبات للنقص (تعالي اللَّه عن ذلك)، لأن ما تكلّم به يعتبر ناقصاً بالنسبة للأقوي الذي لم يتكلّم به سبحانه وتعالي

وابن تيمية حينما أثبت التفاوت بين كلام اللَّه تعالي لم يقتصر علي إثبات التفاوت في قوة الألسن باعتبار اللغات كما فسّره أولًا، بل أردف ذلك بإثبات التفاوت في الصوت فقال: «وكان يمكنه أن يتكلّم بأقوي من ذلك الصوت وبدون ذلك الصوت».. فقد أثبت صوتاً يرتفع وينخفض ويقوي ويقلّ عن ذي قبل.

فهل هناك معني أن يقال بجانب ذلك هو صوت لا كأصواتنا؟

ثم إن هذا النص يحمل معه دليل فساد نقله وبطلانه … إذ كيف تكون الصواعق في أحلي حلاوة تسمع … والقرآن الكريم يتحدّث عن الصواعق بخلاف ذلك، قال تعالي «وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء». وقال تعالي «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ» وقال تعالي «يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ» … وغير ذلك.

ومن دلائل ابن تيمية ما ذكره بقوله:

«.. من المعلوم أن العجز عن النطق والفعل صفة نقص، فالنطق والقدرة صفة كمال» «1».

نقول: لقد زعمت أنك سلفيٌّ تصف اللَّه بما وصف به نفسه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه.. وبما ورد في الكتاب

والسنة.. فقل لنا- يا ابن تيمية- أين ورد لفظ «النطق» وصفاً للَّه تعالي

__________________________________________________

(1) شرح العقيدة الاصفهانية: الطرق العقلية للسلف في تقرير مسألة الكلام: 133.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 140

إن الذي ورد به الوصف أنه تعالي قال «وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَي تَكْلِيماً» فلِمَ لم تلتزم ما ألزمت نفسك به؟ أليس هذا مناقضاً لمنهجك الذي تدّعيه لنفسك؟.

فضلًا عن مخالفتك للسلف، باختراعك لهذا اللفظ الذي فيه من الإستلزامات الباطلة المستحيلة علي اللَّه تعالي

وأمّا عمّا استدل به ابن تيمية من نصوص … فقد نقل الكوثري عن أبي بكر ابن العربي في العارضة ما يلي:

«.. لا يحلّ لمسلم أن يعتقد أن كلام اللَّه صوت وحرف، لا من طريق العقل ولا من طريق الشرع، فأما طريق العقل فلأن الصوت والحرف مخلوقان محصوران، وكلام اللَّه يجلّ عن ذلك كلّه. وأما طريق الشرع فلأنه لم يرد في كلام اللَّه صوت وحرف من طريق صحيحة.. ولهذا لم نجد طريقاً صحيحة لحديث ابن أنيس وابن مسعود».

.. وأنت تعلم مبلغ استبحار ابن العربي في الحديث في نظرهم، وجزء (الصوت) للحافظ أبي الحسن المقدسي لا يدع أيّ متمسك في الروايات في هذا الصدد لهؤلاء الزائغين، ومن رأي نصوص فتاوي العزّ بن عبد السلام وابن الحاجب الحصيري والعلم السخاوي ومن قبلهم ومن بعدهم من أهل التحقيق- كما هو مدون في (نجم المهتدي) و (دفع الشبه) وغيرهما- يعلم مبلغ الخطورة في دعوي أن كلام اللَّه حرف وصوت. ولا تصح نسبة الصوت إلي اللَّه تعالي إلّا نسبة ملك وخلق. لكن هؤلاء رغم تضافر البراهين ضدّهم، ودثور الآثار التي يريدون البناء عليها، يعاندون الحق، ويظنّون أن كلام اللَّه من قبيل كلام البشر الذي هو كيفية اهتزازية تحصل للهواء

من ضغطه باللهاة واللسان، تعالي اللَّه عن ذلك.

ويدور أمرهم بين التشبيه بالصنم أو التشبيه بابن آدم.. أولئك كالأنعام بل هم دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 141

أضل. يقول الكوثري:

«.. بل من قال إن كلام معبوده حرف وصوت قائمان به، فهو الذي نحت عجلًا جسداً له خوار، يحمل أشياعه علي تعبّده» «1».

ويقول: «إن كان يريد حديث جابر بن عبداللَّه عن عبداللَّه بن أنيس:

ويحشر اللَّه العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب..»

الحديث.. فهو حديث ضعيف علّقه البخاري بقوله: ويُذكَر عن جابر، دلالة علي أنه ليس من شروطه، ومداره عن عبداللَّه بن محمّد بن عقيل، وهو ضعيف باتّفاق، وقد انفرد عنه القاسم بن عبد الواحد وعنه قالوا: إنه ممّن لا يحتجّ به.

وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في الحديث المذكور.

وأما إن كان يريد حديث أبي سعيد الخدري: يقول يا آدم يقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن اللَّه يأمرك.. الحديث. فلفظ (ينادي) فيه علي صيغة المفعول جزماً بدليل (إن اللَّه يأمرك) ولو كان علي صيغة الفاعل لكان إني آمرك، كما لا يخفي علي أن لفظ (بصوت) انفرد بن حفص به غياث، وخالفه وكيع وجرير وغيرهما فلم يذكروا الصوت، وسئل أحمد عن حفص هذا فقال: كان يخلط في حديثه كما ذكره ابن الجوزي. فأين حجة الناظم في مثله؟

علي أن الناظم نفسه خرّج في حادي الأرواح وفي هامشه أعلام الموقعين (2- 97) عن الدار قطني من حديث أبي موسي يبعث اللَّه يوم القيامة منادياً بصوت يسمعه أولهم وآخرهم … الحديث. وهذا يعين أن الإسناد مجازي علي __________________________________________________

(1) الرد علي النونية: 172.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 142

تقدير ثبوت الحديثين..

فظهر بذلك أن الناظم متمسك في ذلك بالسراب» «1».

ويقول تقي الدين السبكي:

«.. اللفظ الذي في البخاري (فينادي بصوت) وهذا محتمل لأن تكون الدال مفتوحة والفعل لم يسمّ فاعله، وأن تكون مكسورة فيكون المنادي هو اللَّه. فنقله عن البخاري نداء اللَّه ليس بصحيح (قال ابن القيم: وأذكر حديثاً في صحيح محمّد ذاك البخاري، فيه نداء اللَّه يوم معادنا بالصوت) والعدالة في النقل أن ينقل المحتمل محتملًا. وإذا ثبت أن الدال مكسورة فلِمَ يقول إن الصوت منه؟ فقد يكون من بعض ملائكته أو من يشاء اللَّه..» «2».

.. هذا، وقد سبق نقل ما قاله ابن القيم بتأويل «القرب» في قوله تعالي «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» وترجيحه القول بأن المراد قرب ملائكته منه، سواء سمي ذلك تأويلًا أم لم يسمّه.

وأما ما ذكره من حديث: أن اللَّه تعالي كلّم موسي بصوت يشبه الصواعق، فهو حديث موضوع.. ذكره ابن الجوزي في الموضوعات.. وعلّق عليه بقوله:

وليس به لبس بصحيح.. والفضل متروك. نقل ذلك عنه السيوطي في كتابه:

اللآلي ء المصنوعة «3».

وقد ذكر القاضي الباقلاني البصري المتوفي سنة 403 في كتابه (الإنصاف) فيضاً من الأدلة علي تنزيه اللَّه عن الحرف والصوت.. ونقل من ذلك قول الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام: «إن اللَّه تعالي كلّم موسي عليه السلام بلا جوارح ولا

__________________________________________________

(1) الرد علي النونية: 63.

(2) الردّ علي النونيّة: 64.

(3) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة- كتاب التوحيد 1/ 12.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 143

أدوات ولا حروف ولا شفة ولا لهوات، سبحانه عن تكيف الصفات» «1».

وقال:

«.. وأيضاً: فإن الحروف تحتاج إلي مخارج، فحرف الشفة غير حرف اللسان، وحرف الحلق غيرهما، فلو كان تعالي يحتاج في كلامه إلي الحروف لاحتاج إلي المخارج، وهو منزه عن

جميع ذلك سبحانه وتعالي عما يشركون.

وأيضاً: فإن الحروف متناهية معدودة محدودة، وكلام اللَّه تعالي قديم لا مفتتح لوجوده ولا نهاية لدوامه، كعلمه وقدرته ونحو ذلك من صفات ذاته، وقد أكّد تعالي ذلك بغاية التأكيد، وأن كلامه لا يدخله العد والحصر والحد بقوله تعالي «قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً». وقال «وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ» فأخبر تعالي في هاتين الآيتين أنه لا نهاية لكلامه، إذ كلّ ما له نهاية له بداية، وإنما تتصور النهاية في حق من يتصوّر في حقه البداية» «2».

وقد ردّ الباقلاني علي ما أورده المخالفون من الأحاديث، وأجاب بأجوبة عديدة.. منها قوله: بأن حديث ابن أنيس قد روي فيه ما يدل علي أن الصوت من غير اللَّه بأمره … ثم قال:

«.. فصح أن النداء من غيره، لكن لما كان بأمره أضيف النداء إليه كما يقال:

نادي الخليفة في بغداد بكذا وكذا. ويقال أمر الخليفة منادياً فنادي بأمره في بغداد بكذا وكذا. ولا فرق بين الموضعين. فإن كلّ عاقل يعلم أن الخليفة لم يباشر النداء

__________________________________________________

(1) الانصاف- مسألة في بيان عدم اتصاف كلام اللَّه بالحروف والاصوات: 151- 152.

(2) الإنصاف: 154.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 144

بنفسه، لكن لما كان بأمره جاز أن يضيفه إلي نفسه وأن يضاف إليه وإن لم يكن هو المنادي بنفسه. ويصحح جميع ذلك القرآن قال اللَّه «وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ* يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ»».

«ومن عجيب الأمر، أن الجهال لا يجوزون أن يكون النداء صفة المخلوق، إذا كان رفيع

القدر في الدنيا كالخليفة والأمير وينفون عنه ذلك، ثم يجوّزونه في حق رب العالمين.

جواب آخر: وهو أن كلّ ما أضيف إلي اللَّه تعالي لا يجب أن يكون صفة له، فمن زعم هذا فقد كفر وأشرك لا محالة، لأن الخبر قد جاء بقول اللَّه تعالي: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، جعت فلم تطعمني، عطشت فلم تسقني، عريت فلم تكسني. فأضاف هذه الأشياء إليه في الخبر، ومن زعم أنه يجوع ويعطش ويمرض ويعري فقد كفر وأشرك لا محالة. وكذلك قال تعالي «يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ» علي قراءة من قرأ بالنون [المفتوحة] والنافخ إسرافيل، وقال تعالي «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ» فأضاف الأذية إليه. ومن زعم أن الأذية من صفته فقد كفر لا محالة» «1».

وأما ما رواه ابن تيمية عن ابن مسعود: إذا تكلّم اللَّه بالوحي سُمِعَ له صوت كجرّ السلسلة علي الصفوان.. فإنّه مع وقفه يجاب عنه بأجوبة:

أوّلها:.. أنه قد روي أبو الضحي عن مسروق عن عبد اللَّه أنه قال: إذا تكلّم اللَّه بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة علي الصفوان.. وفي رواية: سمع أهل السماء للسماء صلصلة..

ثانيها:.. روي مسلم عن النواس بن سمعان قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه __________________________________________________

(1) الانصاف- فصل الرد علي من زعم اتصاف كلام اللَّه بالصوت: 183- 184.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 145

عليه وآله وسلّم: إذا تكلّم اللَّه بالوحي أخذت السماوات منه رجفة شديدة من خوف اللَّه تعالي فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخرّوا سجّداً، وأوّل من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيتكلّم اللَّه من وحيه بما أراد، فينتهي به جبريل عليه السلام علي الملائكة كلّما مرّ بسماء سأل أهلها ماذا قال ربّنا؟ فيقول جبريل:

الحق وهو

العلي الكبير. فثبت أن ما سمعوا هو صوت رجفة السماوات لا كلام اللَّه تعالي … ولذا سألوا جبريل عليه السلام؛ ماذا قال ربّنا؟ فدلّ علي أنهم لم يسمعوا كلامه.. لأنهم لو سمعوا كما سمع جبريل لفهموا كما فهم.

ثالثاً: روي البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال:

إذا قضي اللَّه الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة علي صفوان.. فالصوت هذا مضاف هنا إلي أجنحة الملائكة لا إلي كلام اللَّه تعالي

ومن جملة هذه الأجوبة يصير الخبر حجة علي ابن تيمية لا حجة له.

كلامه في الجسم ونسبته للَّه تعالي … ص: 145
اشارة

قال ابن تيميّة في تعريف الجسم:

«وأمّا لفظ الجسم، فإنّ الجسم عند أهل اللغة- كما ذكره الأصمعي وأبو زيد وغيرهما- هو الجسد والبدن. وقال تعالي «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» وقال تعالي «وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ» فهو يدل في اللغة علي معني الكثافة والغلظ كلفظ الجسد، ثم قد يراد به نفس الغليظ، وقد يراد به غلظه فيقال: لهذا الثوب جسم، أي غلظ وكثافة … ثم صار الجسم في اصطلاح دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 146

أهل الكلام أعم من ذلك، فيسمّون الهواء وغيره من الامور اللّطيفة جسماً وإن كانت العرب لا تسمي هذا جسماً … والنظّار كلهم متّفقون- فيما أعلم- علي أنّ الجسم يشار إليه» «1».

فإذا كان هذا معني الجسم عنده، فقد قال ما نصّه:

«وأمّا لفظ الجسم والجوهر المتحيّز والجهة ونحو ذلك، فلم ينطق كتاب ولا سنّة بذلك في حقّ اللَّه لا نفياً ولا إثباتاً، وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت، فلم ينطق أحد منهم

بذلك في حق اللَّه لا نفياً ولا إثباتاً» «2».

فهذه هي المرحلة الأولي … فيكون النافي للجسميّة عن اللَّه تعالي مخالفاً للكتاب، والسنّة، ولإجماع الصحابة والتابعين، ولإجماع أهل البيت …

إذن، ليس لأحد- لا من الشيعة ولا من السنّة- أن يقول بنفي الجسميّة عن اللَّه عزّوجلّ «3».

بل يصرّح بأنّ النفي- كالإثبات- بدعة، فيقول: «الكلام في وصف اللَّه بالجسم نفياً وإثباتاً بدعة، لم يقل أحد من سلف الامة وأئمّتها إنّ اللَّه ليس بجسم، كما لم يقولوا إن اللَّه جسم» «4».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 530 وانظر ما بعدها.

(2) منهاج السنة 2/ 527- 528.

(3) والحال أنّ الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام في تنزيه اللَّه سبحانه عن الجسميّة كثيرة جداً، فراجع خطب أميرالمؤمنين في (نهج البلاغة) و (كتاب التوحيد) لابن بابويه، و (الكافي) للكليني وغيرها.

(4) الفتاوي الكبري 5/ 195.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 147

وفي المرحلة الثانية … يقول منكراً علي من يذم المجسّمة: «وأمّا ذكر التجسيم وذم المجسّمة، فهذا لا يعرف في كلام أحدٍ من السلف والأئمة، كما لا يعرف في كلامهم أيضاً القول بأنّ اللَّه جسم أو ليس بجسم، بل ذكروا في كلامهم الذي أنكروه علي الجسميّة نفي الجسم».

فهذا الكلام ميل إلي الإثبات، وإلّا فإنّه يناقض كلامه السابق، في أن النفي والإثبات كليهما بدعة.

ثم يقول: «وإن قال: يستلزم أن يكون الربّ مشاراً إليه ترفع الأيدي إليه في الدعاء، وتعرج الملائكة والروح إليه، وعرج بمحمّد- صلّي اللَّه عليه وسلّم- إليه، وتنزل الملائكة من عنده، وينزل منه القرآن، ونحو ذلك من اللوازم التي نطق بها الكتاب والسنة وما كان في معناها. قيل له: لا نسلّم انتفاء هذا اللازم» «1».

ويقول: «وقد بسط الكلام علي هذه الامور في

مواضع، وبيّن أنّ ما تنفيه نفاة الصفات التي نطق بها الكتاب والسنّة في علوّ اللَّه سبحانه وتعالي علي خلقه وغير ذلك، كما أنه لم ينطق بما ذكروه كتاب اللَّه ولا سنّة رسوله ولا قال بقولهم أحد من المرسلين ولا الصحابة والتابعين ولم يدل عليه أيضاً دليل عقلي، بل الأدلّة العقلية الصريحة موافقة للأدلة السمعيّة الصّحيحة … وأمّا الرسل- صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين- فيثبتون إثباتاً مفصّلًا وينفون نفياً مجملًا، يثبتون للَّه الصفات علي وجه التفصيل وينفون عنه التمثيل، وقد علم أن التوراة مملوأة بإثبات الصّفات التي تسمّيها النفاة تجسيماً، ومع هذا فلم ينكر رسول اللَّه- صلّي اللَّه عليه وسلّم- وأصحابه علي اليهود شيئاً من ذلك، ولا قالوا: أنتم مجسّمون، بل كان __________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 559- 560.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 148

أحبار اليهود إذا ذكروا عند النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم شيئاً من الصفات أقرّهم الرسول علي ذلك، وذكر ما يصدّقه، كما في حديث الحبر الذي ذكر له إمساك الرب سبحانه وتعالي للسماوات والأرض المذكور في تفسير قوله تعالي «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» الآية. وقد ثبت ما يوافق حديث الحبر في الصّحاح عن النبي صلّي اللَّه عليه من غير وجه، من حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما، ولو قدّر بأنّ النفي حق فالرسل لم تخبر به ولم توجب علي الناس اعتقاده، فمن اعتقده وأوجبه فقد علم بالإضطرار من دين الاسلام أن دينه مخالف لدين النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم» «1».

ثم إنه أفصح عن معتقده بوضوح أكثر حيث قال:

«الوجه التاسع والخمسون … وأمّا قوله: فإن تعسف من المقلّدين متعسّف وأثبت الرب تعالي جسماً مركباً من أبعاض متألّفاً من جوارح، نقلنا الكلام معه

إلي إبطال الجسم وإيضاح تقدّس الرب عن التبعيض والتأليف والتركيب.

فيقال له: الكلام في وصف اللَّه بالجسم نفياً وإثباتاً بدعة، لم يقل أحد من سلف الامّة وأئمتها إن اللَّه ليس بجسم، كما لم يقولوا إن اللَّه جسم، بل من أطلق أحد اللفظين استفصل عما أراد بذلك، فإن في لفظ الجسم بين الناطقين به نزاعاً كثيراً، فإن أراد تنزيهه عن معني يجب تنزيهه عنه، مثل أن ينزّهه عن مماثلة المخلوقات، فهذا حق، ولا ريب أن من جعل الربّ جسماً من جنس المخلوقات فهو من أعظم المبتدعة ضلالًا، دع من يقول منهم أنّه لحم ودم ونحو ذلك من الضلالات المنقولة عنهم. وإن أراد نفي ما ثبت بالنصوص وحقيقة العقل أيضاً مما وصف اللَّه ورسوله منه وله، فهذا حق وإن سمّي ذلك تجسيماً، أو قيل: إن هذه الصفات لا تكون إلّا

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 561- 563.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 149

لجسم. فما ثبت بالكتاب والسنّة وأجمع عليه سلف الأُمّة هو حق، وإذا لزم من ذلك أن يكون هو الذي يعنيه بعض المتكلّمين بلفظ الجسم، فلازم الحق حق» «1».

ولا يخفي أنّ هذا مبني علي فهمه للنصوص فهماً ظاهريّاً، وأن الألفاظ كلّها محمولة علي المعاني الحقيقة ولا مجاز مطلقاً … فالنصوص- علي هذا- غير دالّة علي الجسميّة، وإنّما جاءت الدلالة من فهم ابن تيمية منها.

وابن تيمية يثبت التركيب في حق اللَّه تعالي … وهو في إثباته التركيب يحاول جاهداً أن يبيّن أن ما أثبته من التركيب لا يتنافي مع الوحدة. وسنري العجب في دفاعه:

يقول: «.. ولكن إذا قلنا إن اللَّه لم يزل بصفاته كلّها، أليس إنما نصف إلهاً واحداً بجميع صفاته؟ وضربنا لهم مثلًا في ذلك فقلنا

لهم: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار، واسمها اسم واحد سميت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك اللَّه جل ثناؤه» «2».

ويقول: «.. إن اللَّه تبارك وتعالي إذا أراد أن يخوّف أهل الأرض أبدي عن بعضه..» ثم يقول «أما قوله أبدي عن بعضه، فهو علي ظاهره وأنه راجع إلي الذات» «3».

ومما اهتم ابن تيمية به إبطال القول بتماثل الأجسام.. فيقول: «.. ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل … » ثم قال «.. وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك».. إلي أن قال «.. وقد بسطنا الكلام علي هذا في غير هذا الموضع، وبيّنا فيه __________________________________________________

(1) الفتاوي الكبري 5/ 195.

(2) الفتاوي الكبري 5/ 95.

(3) المصدر 5/ 79.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 150

حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفي ذلك.. وبينّا فساد قول من يقول بتماثلها» «1».

ولنا أن نتسائل: ما صلة اهتمام ابن تيمية بإبطال مماثلة الأجسام بما يدّعيه من أنه سلفي؟ وهل في كلامه هذا منهج للسلف؟ إن كان ابن تيمية نافياً عن اللَّه الجسمية فلا تضيره دعوي مماثلة الأجسام، ولا تثير قلمه، ولا توجب غضبه واستنكاره. وأما إن كان ابن تيمية ممن يقول بإثبات الجسمية للَّه تعالي إلّا أنه يقول جسم لا كالأجسام … فما أحوجه إلي أن يكافح جاهداً في إبطال مماثلةَ الأجسام؟..

ويقول: «.. ولهذا لمّا كان الردّ علي من وصف اللَّه تعالي بالنقائص بهذه الطريق طريقاً فاسداً، لم يسلكه أحد من السلف والأئمة، فلم ينطق أحد منهم في حق اللَّه بالجسم لا نفياً ولا إثباتاً، ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك.. لأنها عبارات مجملة لا تحق حقاً ولا تبطل باطلًا.. ولهذا لم يذكر اللَّه في كتابه فيما أنكره

علي اليهود وغيرهم من الكفّار ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة..» «2».

فهو يري أن الردّ علي من وصف اللَّه بالنقائص لا يكون بطريق نفي الجسمية.. لأنه طريق فاسد.. وكعادته يزعم أن ذلك لم يرد عن أحد من السلف.

وأعجب من ذلك إقراره عقيدة اليهود فيما يتعلّق بالتجسيم.. بل جعل من ينكر علي اليهود وغيرهم من المجسمة مبتدعاً.. وكلام من ينكر التجسيم علي معتقديه، من __________________________________________________

(1) الرسالة التدمرية: 78.

(2) الرسالة التدمرية: 87.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 151

الكلام المبتدع الذي أنكره السلف.

فابن تيمية يري أن عقيدة التجسيم عند اليهود وغيرهم لا يحق لمؤمن أن ينفيها، فإن قام مؤمن ينفيها يقال له: إنك لم تبطل باطلًا ولم تحق حقاً، بل سلكت طريقاً فاسدة وخالفت السلف.. بل أنت مبتدع. ونحن نسأل ابن تيمية: هل القول بالتجسيم يكون اتّباعاً للسلف أم اتّباعاً لليهود؟

ثم لنقرأ ما قاله في الرسالة التدمرية: «(اللَّه الصمد) والصمد الذي لا جوف له..».. ثم قال.. «.. والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزّه عن آلات ذلك، بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل» … فقد جعل ابن تيمية اليد آلة العمل.. فجعلها جارحة من الجوارح.. فهو علي هذا يثبت آلة كمال وينفي آلة نقص.. لذلك قال بعد ذلك «.. وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه» «1» وهو هنا لا يدري أن التعبير بالآلة تجسيم ونقص ومحال … والتعبير بلفظ الآلة إنما هو من ابتداع ابن تيمية. وإذا كان هذا شأن هذا الرجل في الفهم.. فلا عجب أن يترك من معاني الصمد (المقصود في

الحوائج)- وهو المروي عن ابي وابن مسعود وسعيد بن- جبير وغيرهم-.. ويؤثر المعني الذي ينضح بالتجسيم من قوله «الصمد الذي لا جوف له».

وهنا ننقل كلام الكوثري في الرد علي النونية:

«.. قال ابن تيمية في التأسيس في رد أساس التقديس- المحفوظ في ظاهرية دمشق في ضمن المجلد رقم 25 من الكواكب الدراري- وهذا الكتاب مخبأة ووكر

__________________________________________________

(1) الرسالة التدمرية: 92- 93.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 152

لكتبهم في التجسيم، وقد بيّنت ذلك فيما علقته علي المصعد الأحمد ص 31: «.. فمن المعلوم أن الكتاب والسنّة والإجماع لم ينطق بأن الأجسام كلّها محدثة، وأن اللَّه ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميّز منه شي ء من شي ء، وعبّرتم عن ذلك بأنه تعالي ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حدّ له ولا غاية، تريدون بذلك أنه يمتنع عليه أن يكون له حد وقدر، أو يكون له قدر لا يتناهي، فكيف ساغ هذا النفي بلا كتاب ولا سنّة.

وفي ذلك عبر للمعتبر.. وهل يتصور لمارق أن يكون أصرح من هذا بين قوم مسلمين … » «1».

ويقول الغزالي: «فإن خطر بباله أن اللَّه جسم مركّب من أعضاء فهو عابد صنم، فإن كلّ جسم فهو مخلوق، وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كانت كفراً لأنه مخلوق، وكان مخلوقاً لأنه جسم، فمن عبد جسماً فهو كافر بإجماع الأئمة، السلف منهم والخلف» «2».

وابن تيمية حين يهاجم نفاة الجسم ونفاة التركيب.. يصفهم بأشنع وأقبح الصفات.. ويسمّي أقوالهم في فتاويه أنها من أعظم أصول الشرك والإلحاد، وأنهم أفسدوا بها التوحيد.. وهم أضرّ علي الأمة من الخوارج المارقين الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.. «3» ولكن لندع ذلك حتي

لا يطول البحث.. ولنقرأ كلامه في قضية التركيب:

يقول في (بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول): «.. وأما قولك ليس __________________________________________________

(1) الردّ علي النونية: 40.

(2) إلجام العوام- الباب الأول في شرح اعتقاد السلف، الوظيفة الاولي، التقديس: 7.

(3) الفتاوي الكبري 5/ 196.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 153

مركّباً.. فإن أردت به أنه سبحانه ركّبه مركّب وكان مفرقاً فتركّب وأنه يمكن تفرّقه وانفصاله، فاللَّه تعالي منزه عن ذلك».

فمن هذا النص نري أن ما ينفيه من التركيب بالنسبة للَّه تعالي ليس ذات التركيب.. بل ما ينفيه هو أن يركّبه مركّب، أو أن يكون مفرّقاً فتركّب … وما سوي ذلك فإنه لا يجوز عند ابن تيمية نفيه.. ولنرجع لبقية نصه.. يقول:

«.. وإن أردت أنه موصوف بالصّفات مباين للمخلوقات، فهذا المعني حق ولا يجوز ردّه لأجل تسميتك له مركباً.. فهذا ونحوه مما يجاب به. وإذا قدّر أن المعارض أصرّ علي تسمية المعاني الصحيحة التي ينفيها بألفاظه الإصطلاحية المحدثة، مثل أن يدّعي أن ثبوت الصفات ومباينة المخلوقات يستحق أن يسمّي في اللغة تجسيماً وتركيباً ونحو ذلك، قيل له: هب أنه سمّي بهذا الاسم.. فنفيك له: إمّا أن يكون بالشرع وإمّا أن يكون بالعقل، أما الشرع فليس فيه ذكر هذه الأسماء في حق اللَّه لا بنفي ولا إثبات، ولم ينطق أحد ممن سلف الأمة وأئمتها في حق اللَّه تعالي بذلك لا نفياً ولا إثباتاً..» «1».

ويقول في نفس الأمر في فتاويه: «.. وإن أردت بهذه الألفاظ (أراد قول القائل: أنه مقدس عن التجزي والتبعيض والتعدد والتركيب والتأليف) أنه لا يتميز منه شي ء من شي ء، فهذا باطل بالضرورة وباطل باتّفاق العقلاء، وهو لازم لمن نفاه لزوماً لا محيد عنه..» «2».

وعدم تمييز شي ء من شي ء..

قد وضّح ابن تيمية مراده منه.. في نفس __________________________________________________

(1) بيان موافقة صريح المعقول، علي هامش الطبعة القديمة لمنهاج السنة 1/ 142- 143.

(2) الفتاوي 5/ 195.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 154

الكتاب:

«.. وإنما مرادهم بذلك، أنه لا يشهد ولا يري منه شي ء دون شي ء ولا يدرك منه شي ء دون شي ء، ولا يعلم منه شي ء دون شي ء … بحيث أنه ليس له في نفسه حقيقة عندهم قائمة بنفسها يمكنه هو أن يشير منها إلي شي ء دون شي ء، أو يري عباده منها شيئاً دون شي ء، بحيث إذا تجلّي لعباده يريهم من نفسه المقدسة ما شاء».. إلي أن قال: «.. فهذا ونحوه هو المراد عندهم بكونه لا ينقسم، ويسمّون ذلك نفي التجسيم، إذ كلّ ما ثبت له ذلك كان جسماً منقسماً مركباً، والباري منزّه عندهم عن هذه المعاني..» «1».

فهو هنا يتهكم ويستنكر نفيهم التبعيض والتجزي.. الخ.. وأنهم يسمون ذلك نفي التجسيم. ثم بيّن في جرأة عجيبة ما هو ملي ء بالتبعيض والتقسيم في حق اللَّه تعالي … وما لم نورده أشنع مما أوردناه … ما يدعنا نتساءل:.. ما هي الجسمية التي ينفيها عن اللَّه عزّوجلّ؟.

ابن تيمية وحديث النزول: … ص: 154

يقول الشيخ هراس:

«.. ولكن هل معني هذا أن ابن تيمية يقول بالنزول الحقيقي الذي يقتضي هبوط الباري جلّ شأنه من علي العرش إلي السماء الدنيا؟ وهل هو يجوّز عليه الحركة والإنتقال؟ لم أجد لابن تيمية نصّاً يفيد هذا، بل مذهبه الصريح الذي يذكره في عامّة كتبه أن اللَّه فوق سماواته علي عرشه، بائن من خلقه، وأنه لا يحصره ولا

__________________________________________________

(1) الفتاوي الكبري 5/ 206- 207.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 155

يحيط به شي ء من مخلوقاته، كما أنه لا يحلّ في شي ء منها

… » «1».

.. نقول: الواقع أن ابن تيمية فيه جرأة عجيبة في ألفاظه وتقريره.. بشكل لا يلمس القاري ء فيه القلب الخائف من جلال اللَّه.. إنما هي ألفاظ جريئة لم ترد عن أحد سبقه.. ألفاظ قد لا يستطيع القاري ء أن يأخذ عليه فيها مأخذاً لو نظر إليها نظرة عابرة.. خاصّة أنه يأتي بألفاظ متشابهة، ولكن تناقضه العجيب يفضحه مع أول نظرة باحثة.. هذا مع كون الباطل لا استقامة له أبداً.

ونقول للشيخ هراس.. الذي لم يجد لابن تيمية نصّاً يفيد النزول الحقيقي..

نقول له ها هو النص الذي تبحث عنه!:

يقول ابن تيمية:

«وأمّا أحاديث النزول إلي السماء الدنيا كلّ ليلةٍ فهي الأحاديث المعروفة الثابتة عند أهل العلم بالحديث، وكذلك حديث دنوّه عشيّة عرفة، رواه مسلم في صحيحه. وأما النزول ليلة النصف من شعبان، ففيه حديث اختلف في إسناده. ثم إن جمهور أهل السنة يقولون: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما، ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته إلي مسدّد» «2».

«.. وأما دعواك أن تفسير القيّوم الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك، فلا يقبل منك هذا التفسير إلّا بأثر صحيح مأثور عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أو عن بعض أصحابه أو التابعين، لأن الحي القيّوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء ويهبط

__________________________________________________

(1) ابن تيميّة السلفي: 156.

(2) منهاج السنّة 2/ 637- 639.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 156

ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن ذلك أمارة ما بين الحيّ والميت، لأن كلّ متحرك لا محالة حي وكلّ ميت غير متحرك لا محالة، ومن يلتفت إلي تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة

ورسول ربّ العزّة؟ إذ فسّر نزوله مشروحاً منصوصاً، ووقّت له وقتاً موضوحاً، لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبساً … » «1».

ويؤكد ذلك فيقول «.. وكلام أهل الحديث والسنّة في هذا الأصل كثير جدّاً، وأما الآيات والأحاديث الدالة علي هذا الأصل فكثيرة جداً» «2».

وابن تيمية لا يكتفي بأن يثبت الحركة فقط، بل يعتبر نفيها من ابتداع الجهمية.. يقول في فتاويه: «.. فهذا لا يصح إلّا بما ابتدعته الجهمية من قولهم: لا يتحرك ولا تحلّ به الحوادث. وبذلك نفوا أن يكون استوي علي العرش بعد أن لم يكن مستوياً، وأن يجي ء يوم القيامة، وغير ذلك..» «3».

وللردّ علي ابن تيمية فيما زعمه.. ننقل أوّلًا بعض أقوال العلماء في مسألة النزول:

يقول الفخر الرازي: «.. الرابع: أنه تعالي حكي عن الخليل عليه السّلام أنه طعن في إلهيّة الكواكب والقمر والشمس بقوله «لا أُحِبُّ الآفِلِينَ» ولا معني للأُفول إلّا الغيبة والحضور، فمن جوّز الغيبة والحضور علي الإله تعالي فقد طعن في دليل الخليل، وكذب اللَّه في تصديق الخليل في ذلك حيث قال «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا

__________________________________________________

(1) شرح العقيدة الأصفهانية: قول محمّد بن الهيصم عن حمل الكلام: 78.

(2) شرح العقيدة الاصفهانية- الرد علي الجهمية في الصفات: 81.

(3) الفتاوي الكبري: 5/ 108.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 157

إِبْرَاهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ» «1»

.ويقول الغزالي: «.. إذا قرع سمعه النزول في قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم (ينزل اللَّه تعالي في كل ليلة إلي السماء الدنيا) فالواجب عليه أن يعلم أن النزول إسم مشترك، قد يطلق إطلاقاً يفتقر إلي ثلاثة أجسام، جسم عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل كذلك، وجسم متنقل من السافل إلي العالي ومن العالي إلي السافل.

فإن كان من أسفل إلي علو سمّي

صعوداً وعروجاً ورقياً، وإن كان من علو إلي أسفل سمّي نزولًا وهبوطاً، وقد يطلق علي معني آخر ولا يفتقر إلي تقدير انتقال وحركة في جسم كما قال اللَّه تعالي «وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ» وما رؤي البعير والبقر نازلًا من السماء بالإنتقال، بل هي مخلوقة في الأرحام، ولإنزالها معني لا محالة، كما قال الشافعي رضي اللَّه عنه: «دخلت مصر فلم يفهموا كلامي فنزلت ثم نزلت ثم نزلت» فلم يرد به انتقال جسد إلي أسفل، فتحقق المؤمن قطعاً أن النزول في حق اللَّه تعالي ليس بالمعني الأول، وهو انتقال شخص وجسد من علو إلي أسفل، فإن الشخص والجسد أجسام والرب جلّ جلاله ليس بجسم، فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا فما الذي أراد؛ فيقال له: أنت إذا عجزت عن فهم نزول البعير من الماء فأنت عن فهم نزول اللَّه تعالي أعجز «فليس هذا بعشّك فأدرجي» واشتغل بعبادتك أو حرفتك واسكت، واعلم أنه أريد به معني من المعاني التي يجوز أن يراد بالنزول في لغة العرب، ويليق ذلك المعني بجلال اللَّه تعالي وعظمته وإن كنت لا تعلم حقيقته وكيفيته» «2».

__________________________________________________

(1). أساس التقديس- القسم الثاني، الفصل التاسع في الحجي ء والنزول: 83.

(2) إلجام العوام- الباب الأول في شرح اعتقاد السلف، الوظيفة الاولي 9- 10.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 158

ويقول الشيخ الزرقاني: «.. فكيف تأخذون بظاهر هذا الخبر، مع أن الليل مختلف في البلاد باختلاف المشارق والمغارب، وإذا كان ينزل لأهل كلّ أفق نزولًا حقيقياً في ثلث ليلهم الأخير، فمتي يستوي علي عرشه حقيقة كما تقولون؟ ومتي يكون في السماء حقيقة كما تقولون؟ مع أن الأرض لا تخلو من الليل في وقت من الأوقات

ولا في ساعة من الساعات، كما هو ثابت مسطور لا يماري فيه إلّا جهول مأفون» «1».

.. هذا.. ومن ناحية اخري يقال لهؤلاء: إن حديث النزول قد فسّره الحديث الذي رواه النسائي بسند صحيح من حديث أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إن اللَّه يمهل حتي إذا مضي شطر من الليل الأوّل أمر منادياً فينادي: هل من داعٍ فيستجاب له.. الحديث.. وعلي هذا يكون النزول معناه نزول الملك بأمر اللَّه. وهذا التفسير أولي من تفسير الإمام مالك وغيره للنزول بأنه نزول رحمة لا نزول نقلة … وغير ذلك.. لأن خير ما يفسّر به الحديث هو ما ورد من الحديث.. يقول الحافظ العراقي في ألفيّته في المصطلح: «وخير ما فسّرته بالوارد».

أمّا ما نسبه ابن تيمية إلي الأئمة بإثبات الحركة للَّه تعالي … فحسبنا ما رواه البيهقي في (مناقب أحمد) بإسناده عن أحمد أنه قال: «.. إحتجّوا عليّ يومئذ- يعني يوم نوظر- فقالوا: تجي ء سورة البقرة يوم القيامة وتجي ء سورة تبارك. فقلت لهم:

إنما هو الثواب.. قال تعالي «وَجَاء رَبُّكَ» إنما تأتي قدرته.. وإنما القرآن أمثالٌ ومواعظٌ». قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح. وقوله إنما تأتي قدرته: أراد بذلك أثر

__________________________________________________

(1) مناهل العرفان- ارشاد وتحذير: 547.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 159

قدرته.. وهذا من باب مجاز الحذف.

وروي البيهقي فيه أيضاً نقلًا عن إمام الحنابلة أبي الفضل التميمي ما نصّه: «..

أنكر أحمد علي من قال بالجسم.. وقال: إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم علي ذي طول وعرض وسمكٍ وتركيب وصورة وتأليف، واللَّه خارج عن ذلك كلّه، فلم يجز أن يسمي جسماً لخروجه عن معني الجسمية.. ولم يجي ء في الشريعة ذلك، فبطل». انتهي

بحروفه.

إعتقاده بحوادث لا أول لها وقوله بأزلية نوع العالم … ص: 159

.. وهذه المسألة من أكثر ما أفاض فيه ابن تيمية.. وحصر مقالاته فيها يطول.. ولذلك نكتفي بنقل بعض عباراته، وبعض الردود عليها..

يقول في (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول):

«.. قلت: هذا مضمون ما نبّه عليه في غير هذا الموضع: أن حدوث كلّ من الأعيان لا يستلزم حدوث النوع الذي لم يزل ولا يزال..» إلي أن قال..: «.. بل يكون الحادث اليومي مسبوقاً بحوادث لا أوّل لها، ولِمَ قلتم إن ذلك غير جائز؟» «1».

.. وهو ينكر مكابرةً منه حقيقة أن الجملة ليست إلّا مجموع الآحاد.. وأنه إن كانت الآحاد حادثة فجملتها حادثة بداهة.. ينكر ابن تيمية هذه الحقيقة في نفس __________________________________________________

(1) ط علي هامش منهاج السنة 2/ 291.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 160

الكتاب.. يقول: «.. فإنه لا يلزم من الحكم علي الآحاد أن يكون حكماً علي الجملة.. بل جاز أن يكون كلّ واحدٍ من آحاد الجملة غير أزلي والجملة أزليّة..» «1».

وابن تيمية إذ يقرّر أزليّة نوع العالم.. يتعجّب من نقل ابن حزم الإجماع علي أن ما سوي اللَّه مخلوق.. وهو ما نقله ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع) بقوله:

«باب من الإجماع في الإعتقادات يكفّر من خالفه بإجماع: إتفقوا أن اللَّه عزّوجلّ وحده لا شريك له، خالق كلّ شي ء غيره، وأنه تعالي لم يزل وحده ولا شي ء غيره معه، ثم خلق الأشياء كلّها كما شاء، وأن النفس مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كلّه مخلوق..» «2».

يقول ابن تيمية في تعليقه المسمّي (نقد مراتب الإجماع):

«.. فصارت حكايته لهذا الإجماع مبنية علي هاتين المقدمتين اللتين ثبت النزاع في كلّ منهما، وأعجب من ذلك حكايته الإجماع علي كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا شي ء غيره معه»

«3».

وفي كتابه (شرح حديث عمران بن الحصين) يقول ابن تيمية:

«.. وإن قدّر أن نوعها لم يزل معه.. فهذه المعيّة لم ينفها شرع ولا عقل.. بل هي من كماله، قال تعالي «أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ» والخلق لا يزالون معه» «4».

وابن تيمية في سبيل تقرير دعواه الفاسدة بقدم نوع العالم.. يردّ الروايات __________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 127.

(2) مراتب الاجماع: 167.

(3) نقد مراتب الإجماع: 168.

(4) شرح حديث عمران بن حصين: 193.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 161

الصحيحة في بدء الخلق.. التي رواها البخاري وغيره.. لكونها لا توافق معتقده..

فيردّ الرواية التي لفظها (كان اللَّه ولم يكن شي ء غيره) ورواية (كان اللَّه ولم يكن شي ء معه).. وقد رواهما البخاري في صحيحه.. وتحكّم بترجيح رواية (كان اللَّه ولم يكن شي ء قبله) تحكّماً عجيباً متهافتاً. فهذه الرواية التي رجحها تدلّ عند ابن- تيمية علي أنه ليس يوجد شي ء قد سبق اللَّه بالوجود.. ولا تمنع أن يكون ثم موجوداً قديماً بقدم اللَّه أزلياً بأزلية اللَّه. بل إنه في (منهاج السنة النبوية) يصرح بكلّ جرأة فيقول «لا مانع من أن يكون نوع العالم غير مخلوقٍ للَّه». فالرجل يهدم هنا أوّل البراهين التي اهتدينا بها إلي وجوب وجود اللَّه.. ذلك حقيقة حدوث العالم بأسره.. فكلّ ما سوي اللَّه حادث مخلوق.. أُحدِث بعد عدم، وهل ثم تعجب من نقل ابن حزم الإجماع علي كفر هذه الشرذمة … وكذا نقل الإمام الزركشي في كتابه (تشنيف المسامع) كفر من يقول بأزلية نوع العالم وحدوث أفراده.. وكفر من يقول بأزلية العالم نوعه وأفراده، وكذا القاضي عياض في الشفاء، وغيرهم؟

وقد قال السبكي في ابن تيمية: «جعل الحادث قديماً والقديم محدثاً» يعني بالثاني إثبات ابن تيمية ما يستلزم

حدوث اللَّه تعالي … من القول بالحيّز والمكان والحدّ والجسمية وقيام الحوادث بذاته-.. ثم قال السبكي «ولم يجمع أحدٌ هذين القولين في ملّة من الملل ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسّبعين التي افترقت عليها الأمّة.. ولا وقفت به مع أمة من الأمم همة.. وكلّ ذلك وإن كان كفراً شنيعاً مما تقلّ جملته بالنسبة إلي ما أحدث في الفروع … » ذكر السبكي ذلك في مقدمة (الدرّة المضيّة).

ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري:

«.. قوله (كان اللَّه ولم يكن شي ء قبله) تقدم في بدء الخلق بلفظ (ولم يكن دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 162

شي ء غيره) وفي رواية أبي معاوية: كان اللَّه قبل كل شي ء، وهو بمعني كان اللَّه ولا شي ء معه، وهي أصرح في الرد علي من أثبت حوادث لا أوّل لها من رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية، ووقفت في كلام له علي هذا الحديث يرجّح الرواية التي في هذا الباب علي غيرها، مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه علي التي في بدء الخلق لا العكس، والجمع يقدّم علي الترجيح بالإتفاق» «1».

ويقول الحافظ أبو الفضل عبد اللَّه الغماري: «.. بدعة القول بحوادث لا أوّل لها وهي منقولة عن ابن تيمية كما في فتح الباري ولأجلها رجّح رواية حديث (كان اللَّه ولم يكن شي ء قبله) علي رواية (كان اللَّه ولم يكن شي ء غيره) وعلي رواية (كان اللَّه قبل كلّ شي ء)..».. إلي أن قال «.. ولأجلها أيضاً انتقد علي ابن حزم حكاية الإجماع علي أن ما سوي اللَّه مخلوق، كما تجد ذلك في تعليقاته علي مراتب الإجماع.

وهذه العقيدة أخذها عن عبداللَّه

بن ميمون الإسرائيلي صاحب كتاب دلالة الحائرين! فأعجب لرجل يشدّد النكير علي المبتدعين في الفروع ثم يبتدع بدعة في الأصول، ويرد لأجلها الأحاديث الصحيحة، ويستنكر إجماعاً مليّا أيّده العقل والنقل» «2».

ويقول تقي الدين الحصني: «ومما انتقد عليه- وهو من أقبح القبائح- ما ذكره في مصنفه المسمي بحوادث لا أوّل لها.. وهذه التسمية من أقوي الأدلّة علي جهله، فإن الحادث مسبوق بالعدم، والأول ليس كذلك» «3».

__________________________________________________

(1) فتح الباري- كتاب التوحيد، باب كان عرشه علي الماء وهو رب العرش العظيم 13/ 410.

(2) إتقان الصنعة: 32- 33.

(3) دفع الشبه- مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم: 118.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 163

الباب الثاني: عقيدة ابن تيميّة في: … ص: 163

اشارة

رؤية الباري خلق القرآن أفعال العباد

عصمة الأنبياء والأئمة

التقيّة

الشفاعة

زيارة القبور

إقامة العزاء

البكاء علي الأموات دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 165

رؤية الباري … ص: 165

وذكر ابن تيمية عقيدته في رؤية الباري في مواضع عديدة:

يقول العلامة- في بيان عقائد الإمامية-: «وأنه تعالي غير مرئي ولا مدرك بشي ءٍ من الحواس، لقوله تعالي «لَّا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ»، ولأنه ليس في جهةٍ» «1».

ويقول: في بيان عقائد أهل السنّة وهم الأشاعرة-: «وذهبت الأشاعرة إلي أنّ اللَّه يري بالعين، مع أنّه مجرد عن الجهات، وقد قال اللَّه تعالي «لَّا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ». وخالفوا الضرورة من أنّ المدرك بالعين يكون مقابلًا أو في حكمه وخالفوا جميع العقلاء في ذلك … » «2».

فاعترف ابن تيمية وأقرّ بهذه العقيدة، ونسبها إلي الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، وسائر أهل السنّة والحديث، والطوائف المنتسبين إلي السنّة والجماعة.

وبالجملة، فإنّه قال بتواتر الأحاديث وإجماع السّلف علي إثبات الرؤية بالعين في الآخرة ونفيها في الدنيا. (قال): إلّا الخلاف في النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

ثم ذكر مشكلة القائلين منهم «بأنّ اللَّه يري بلا مقابلة» مع قولهم بأن «اللَّه ليس فوق العالم» قال: «فلما كانوا مثبتين للرؤية نافين للعلوّ احتاجوا إلي الجمع __________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 315.

(2) منهاج السنة 3/ 340.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 166

بين هاتين المسألتين».

ثم قال: «وهذا قول طائفة من الكلابية والأشعرية ليس هو قول كلّهم، بل ولا قول أئمتهم، بل أئمة القوم يقولون: إن اللَّه بذاته فوق العرش».

ثم جعل- بعد تجويز أن يكون بعض أهل السنّة المثبتين للرؤية قد أخطأوا في بعض أحكامها، وإنّ ذلك لم يكن قدحاً في مذهب أهل السنّة والجماعة- يلف ويدور، لعلّه يوجّه الرأي الذي ينتهي إلي التناقض …

إلّا أنه رجع عمّا

ذكره للجمع بين المسألتين ورفع التناقض، فقال للعلّامة:

«وإن لم يمكن لزم خطؤنا في إحدي المسألتين … وأنتم نفيتم الرؤية ونفيتم العلوّ والمباينة، فكان قولكم أبعد عن المعقول والمنقول من قولنا، وقولنا أقرب من قولكم. وإن كان في قولنا تناقض فالتناقض في قولكم أكثر، ومخالفتكم لنصوص الكتاب والسنّة وإجماع سلف الامة أظهر، وهذا بيّن» «1».

أقول:

ولم يكتف بنسبة القول بالرؤية إلي الكتاب والسنّة وإجماع السّلف، وأنّ الإمامية مخالفة لكلّ ذلك، بل نسب ذلك إلي أئمة أهل البيت، وأنّ الإمامية تخالف الأئمة أيضاً «2» وسنذكر عبارته هذه.

وبالجملة، فمن نظر في كلامه في المسألة بتدبّر يستنتج أنه يريد الردّ علي الإماميّة، ولو بالإلتزام باللّا صحيح واللّا معقول …

إنّه يقول في نهاية المطلب: «فنقول: قول الأشعرية المتناقضين خير من قول __________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 342- 344.

(2) منهاج السنة 2/ 368.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 167

هؤلاء، وذلك أنا إذا عرضنا علي العقل وجود موجودٍ لا يشار إليه ولا يقرب منه شي ء، ولا يصعد إليه شي ء، ولا ينزل منه شي ء، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا ترفع إليه الأيدي ونحو ذلك، كانت الفطرة منكرة لذلك.

والعقلاء جميعهم الذين لم تتغيّر فطرتهم ينكرون ذلك، ولا يقرّ بذلك إلّا من لقّن أقوال النفاة وحجّتهم، وإلّا فالفطر السليمة متفقة علي إنكار ذلك … فنقول:

إنّ كان قول النفاة حقاً مقبولًا في العقل، فإثبات وجود الربّ علي العرش من غير أن يكون جسماً أقرب إلي العقل وأولي بالقبول، وإذا ثبت أنه فوق العرش فرؤية ما هو فوق الإنسان وإن لم يكن جسماً أقرب إلي العقل وأولي بالقبول من إثبات قول النفاة.

فتبيّن أن الرؤية علي قول هؤلاء أقرب إلي العقل من قول النفاة» «1».

خلق القرآن … ص: 167

وقال

العلّامة في بيان عقائد الإماميّة: «وأنّ أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره … ».

وقال في عقائد الاشاعرة: «وذهبت الأشاعرة إلي أنّ اللَّه أمرنا ونهانا في الأزل ولا مخلوق عنده … ».

وفي هذه المسألة أيضاً بذل ابن تيميّة سعياً حثيثاً في المغالطة وتشويش ذهن القاري ء، لكنّه بالتالي يصرّح بأنّه قال ما لا يعتقد، إنه نصّ بعد كلامٍ له طويل:

«وبالجملة، فنحن ليس مقصودنا هنا نصر قول من يقول: القرآن قديم،

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 347- 348.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 168

فإنّ هذا القول أوّل من عرف أنه قاله في الإسلام أبو محمّد عبداللَّه بن سعيد بن كلاب، واتّبعه علي ذلك طوائف، فصاروا حزبين: حزباً يقول: القديم هو معني قائم بالذات، وحزباً يقول: هو حروف أو حروف وأصوات.

وقد صار إلي كلّ من القولين طوائف من المنتسبين إلي السنّة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وليس هذا القول ولا هذا القول قول أحدٍ من الأئمة الأربعة، بل الأئمة الأربعة وسائر الأئمة متّفقون علي أن كلام اللَّه منزّل غير مخلوق …

لكن اشتهر النزاع فيها في المحنة المشهورة لما امتحن أئمّة الإسلام، وكان الذي ثبّته اللَّه في المحنة وأقامه لنصر السنّة هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه تعالي وكلامه وكلام غيره في ذلك موجود في كتبٍ كثيرة، وإن كان طائفة من متأخّري أصحابه وافقوا ابن كلاب علي قوله: إن القرآن قديم، فأئمّة أصحابه علي نفي ذلك وأن كلامه قديم، بمعني أنّه لم يزل متكلّماً بمشيئته وقدرته … وأحمد وغيره من السلف يقولون: إن اللَّه تعالي يتكلّم بصوت، لكن لم يقل أحد منهم: إن ذلك الصوت المعيّن قديم» «1».

أقول:

أولًا: إذا لم يكن ابن تيمية يقصد

نصرة هذا القول فلماذا هذه التطويلات؟

وثانياً: إنه يُقرّ بأنّ القول المذكور هو لطوائف من أهل السنّة، فما ذكره العلّامة حق، وكان عليه الإعتراف بذلك بصراحة.

وثالثاً: ظاهر كلامه هنا أنّ هذا القول بدعة، بل لقد نصّ علي كونه بدعة في __________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 369- 370.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 169

مكانٍ آخر «1».

ورابعاً: لقد حاول التفريق بين قول القائلين: «كلام اللَّه قديم» و «القرآن الكريم» وبين القول بأنّ «كلام اللَّه غير مخلوق» و «القرآن غير مخلوق» بعد اعترافه بأنّ القائلين بقدم القرآن هم «بعض المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، ويقوله ابن سالم وأصحابه، وطائفة من أهل الكلام والحديث» لكنه يقول: «فليس في هؤلاء أحد من السّلف، وإن كان الشهرستاني ذكر في نهاية الإقدام أنّ هذا قول السلف والحنابلة» «2».

فإن كان صادقاً في نسبة ما ذكر إلي أحمد، فقد فهم هو وحده ما لم يفهمه أصحابه ولا أصحاب الشافعي ومالك وسائر العلماء والمحقّقين!

لكنّ أحداً لا يصدّقه فيما يقول ويفهم دونهم … وحينئذ، كيف يصدَّق قوله في معتقد أئمة أهل البيت وأتباعهم حين يقول- في الردّ علي كلام العلّامة-: «أكثر أئمة الشيعة يقولون: القرآن غير مخلوق، وهو الثابت عن أئمة أهل البيت» «3».

«وأمّا الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة … وقدماؤهم كانوا يقولون: القرآن غير مخلوق، كما يقوله أهل السنّة والحديث، وهذا القول هو المعروف عن أهل البيت، كعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر ابن محمّد الصادق وغيرهم …

ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أُصولهم، فليس في أئمة أهل- البيت- مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمّد الصادق- من __________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/

421.

(2) منهاج السنة 5/ 420.

(3) منهاج السنة 3/ 353.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 170

كان ينكر الرؤية أو يقول بخلق القرآن، أو ينكر القدر، أو يقول بالنص علي علي، أو بعصمة الأئمة الاثني عشر، أو يسبّ أبا بكر وعمر.

والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة، وكانت ممّا يعتمد عليه أهل السنّة» «1».

أقول:

قد بحث علماؤنا في محلّه المسألة بالتفصيل، وأقاموا الأدلة القويمة من نفس القرآن الكريم علي حدوثه- وكذلك بعض علماء أهل السنّة- كالآيات الكثيرة التي وصف فيها القرآن ب «الوحي» و «الحديث» و «الحكاية» و «الكلمات» و «الكتاب» و «القصص» ونحو ذلك.

إنما المهمُّ نسبة القول بقدمه- كذباً- إلي أهل البيت، فإنّهم برآء من ذلك، وكتاب نهج البلاغة أصدق شاهد، فمن كلام أميرالمؤمنين المروي فيه في وصف القرآن: «جعله اللَّه ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجَّ لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلًا وثيقاً عروته …

وهديً لمن اءتمّ به … وبرهاناً لمن تكلّم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجّ به … وآيةً لمن توسّم، وجنةً لمن استلأم، وعلماً لمن وعي وحديثاً لمن روي وحكماً لمن قضي «2».

ففي كلامه أوصاف عديدة تدل علي حدوثه، لا سيّما قوله: «وحديثاً لمن روي و «الحديث» ضد «القديم».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 367- 369.

(2) نهج البلاغة- الخطبة 196.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 171

ومثل هذا عنه وعن غيره من أئمة أهل البيت كثير فلا نطيل.

أفعال العباد … ص: 171

وقال العلّامة: «وذهب الأكثر منهم إلي أنّ اللَّه عزّوجلّ يفعل القبائح، وأنّ جميع أنواع المعاصي والكفر وأنواع الفساد واقعة بقضاء اللَّه وقدره، وأنّ العبد لا تأثير له في ذلك … وهذا يستلزم

أشياء شنيعة».

فنصّ ابن تيميّة علي أنّه: «قد دلّت الدلائل اليقينيّة علي أنّ كلّ حادث فاللَّه خالقه، وفعل العبد من جملة الحوادث، وكلّ ممكن يقبل الوجود والعدم، فإن شاء اللَّه كان وإن لم يشأ لم يكن، وفعل العبد من جملة الممكنات … » «1».

العصمة … ص: 171

وذكر العلّامة رحمه اللَّه في عقائد الإماميّة: «ذهبت الإمامية إلي … أنه تعالي كلّفهم تخييراً لا إجباراً، ووعدهم الثواب وتوعّدهم بالعقاب علي لسان أنبيائه ورسله المعصومين، بحيث لا يجوز عليهم الخطأ ولا النسيان ولا المعاصي، وإلّا لم يبق وثوق بأقوالهم وأفعالهم، فتنتفي فائدة البعثة. ثم أردف الرسالة بعد موت الرسول بالإمامة، فنصب أولياء معصومين، ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم وخطئهم، فينقادون إلي أوامرهم … » «2».

وأيضاً، قال: «وأنّ الأنبياء معصومون عن الخطأ والسّهو والمعصية

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 29- 30.

(2) منهاج السنة 1/ 123- 124.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 172

صغيرها وكبيرها، من أول العمر إلي آخره، وإلّا لم يبق وثوق بما يبلّغونه، فانتفت فائدة البعثة ولزم التنفير عنهم» «1».

وذكر في عقائد غيرهم: «وأهل السنّة ذهبوا إلي خلاف ذلك كلّه … وأنّ الأنبياء غير معصومين، بل قد يقع منهم الخطأ والزلل والفسوق والكذب والسهو وغير ذلك» «2».

وقال: «وذهب جميع من عدا الإماميّة والإسماعيلية إلي أن الأنبياء والأئمة غير معصومين، فجوّزوا بعثة من يجوز عليه الكذب والسهو والخطأ والسرقة، فأيّ وثوقٍ يبقي للعامّة في أقوالهم؟ وكيف يحصل الإنقياد إليهم؟ وكيف يجب اتّباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأً؟» «3».

أقول:

هنا مطالب، الأول: المراد من العصمة المبحوث عنها. والثاني: العصمة في الأئمة. والثالث: العصمة في الأنبياء.

المراد من العصمة

الذي جاء في كلام العلّامة هو: العصمة من المعصية كبيرها وصغيرها والخطأ والسّهو والنسيان، من

أوّل العمر إلي آخره.

أمّا ابن تيميّة فيفسّرها كما يلي: «والعصمة مطلقاً التي هي: فعل المأمور وترك المحظور … » «4» أي: أن يكون فاعلًا للطاعة وتاركاً للمعصية.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 99.

(2) منهاج السنة 1/ 125- 126.

(3) منهاج السنّة 3/ 371.

(4) منهاج السنة 7/ 85.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 173

وإذ عرفنا معني «العصمة» عند ابن تيميّة، فالغريب أن ينكر «العصمة» التي فسّرها هكذا عن الأئمة وعن الأنبياء!!.

عصمة الأئمّة

فقد عرفنا أنّ العلّامة يثبت «العصمة» بالمعني الذي ذكره لجميع «الأئمّة الاثني عشر» عليهم السّلام …

وهذا ما يدّعي ابن تيمية كونه بدعةً، وأن أوّل من ابتدع هذه البدعة هو «ابن سبأ»: «وهذا معروف عن ابن سبأ وأتباعه، وهو الذي ابتدع النص في علي وابتدع أنه معصوم، فالرافضة الإمامية هم أتباع المرتدين وغلمان الملحدين وورثة المنافقين، لم يكونوا أعيان المرتدّين الملحدين» «1».

ثم جعل ينقض بأنّ دعوي العصمة لأبي بكر وعمر أولي من دعوة عصمة علي، بل إنّ أتباع بني اميّة بل أكثرهم كانوا يعتقدون ذلك في أئمتهم وهم ملوك بني اميّة، فإذا جاز أنْ تدّعي العصمة للأئمة الاثني عشر جاز لهم أنْ يقولوا بكفاية عصمة الامام الذي أتمّت به» «2»

أقول:

ومن هنا يفهم لماذا فسّر العصمة بما ذكره!!

عصمة الأنبياء

وأمّا في عصمة الأنبياء، فقد اعترف بأن عقيدتهم هي أن الأنبياء معصومون في التبليغ فقط، والقول بأكثر من ذلك غلوّ في الأنبياء كغلوّ النصاري ثم ادّعي __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 220.

(2) منهاج السنة 6/ 430- 432.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 174

وقوع النزاع بين الإماميّة في عصمة الأنبياء. ثم قال بأنّ قول من قال من أهل- السنّة بجواز السرقة والكذب ونحو ذلك عليهم لا ينسب إلي أهل

السنّة كلّهم.

فهذه خلاصة كلامه في المسألة، وإليك قدر الحاجة من نصوص عباراته:

قال في عقيدة قومه: «فإنهم متّفقون علي أن الأنبياء معصومون فيما يبلّغونه عن اللَّه تعالي «1».

وقال: «وقد ذكرنا غير مرّة أنه إذا كان في بعض المسلمين من قال قولًا خطأ لم يكن ذلك قدحاً في المسلمين».

ثم جعل يتهجّم ويسبّ: «ولو كان كذلك لكان خطأ الرافضة عيباً في دين المسلمين، فلا يعرف في الطوائف أكثر خطأ وكذباً منهم، وذلك لا يضرّ المسلمين شيئاً، فكذلك لا يضرّهم وجود مخطي ء آخر غير الرافضة» «2».

وقال: «إنّ الإمامية متنازعون في عصمة الأنبياء» «3» أرسله إرسال المسلّم ثمّ نقل كلاماً عن الأشعري في (المقالات) في إثبات ذلك!!

أقول:

مذهب ابن تيمية أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم معصوم في تلقّي الوحي وتبليغ الأحكام الشرعية فقط.

ولكنّ الحق عصمته في جميع الامور، كما ثبت في محله … ولا نزاع بين الإمامية في ذلك، ودعوي النزاع بينهم فيه باطلة.

إلّا أنّ مقتضي أحاديث القوم عدم عصمته حتي في تلقّي الوحي، ومن ذلك __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 470، 3/ 372.

(2) منهاج السنة 3/ 372.

(3) منهاج السنة 2/ 293.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 175

حديث الغرانيق، حتي قال أبو السعود العمادي في تفسير سورة النجم: «إن في هذه الآية دلالة علي جواز السّهو علي الأنبياء وتطرّق الوسوسة إليهم» وقد جزم بالواقعة بعض أئمتهم أخذاً بالحديث الوارد بطرقٍ صحيحة عندهم، كالشيخ عبدالعزيز الدهلوي صاحب التحفة الاثنا عشرية.

لكنّ آخرين منهم كالقاضي عياض والفخر الرّازي وغيرهما يبطلون هذا الحديث، حتي قال الأول منهما بعد كلام طويل: «ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث علي بعض مغفّلي المحدّثين، ليلبس به علي ضعفاء المسلمين» «1».

عصمة

الامّة

ثم إنّ ابن تيمية يدّعي عصمة الامّة فيقول:

«لا نسلّم أن الحاجة داعية إلي نصب إمام معصوم، وذلك لأنّ عصمة الامّة مغنية عن عصمته» «2».

أقول:

يكفي في سقوطه إخبارات النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في الأحاديث المتواترات بوقوع الفتن والضلالات، بل في أحاديث الحوض خاصّةً- الصحيحة قطعاً- التصريح بضلال أكثر أصحابه!!

__________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي- القسم الثالث، الباب الأول، الفصل السادس 2/ 135.

(2) منهاج السنة 6/ 466.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 176

التقيَّة … ص: 176

وتعرّض ابن تيميّة للتقيّة لغرض السبّ والتهجم علي الإماميّة، وزعم أنّها أساس دينهم!!:

قال: «رأس مال الرافضة التقيّة، وهي أن يظهر خلاف ما يبطن كما يفعل المنافق. وقد كان المسلمون في أوّل الإسلام في غاية الضعف والقلّة وهم يظهرون دينهم لا يكتمونه، والرافضة يزعمون أنهم يعملون بهذه الآية: قوله تعالي «لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ» ويزعمون أنهم هم المؤمنون وسائر أهل القبلة كفّار، مع أنّ لهم في تكفير الجمهور قولين، لكن قد رأيت غير واحدٍ من أئمّتهم يصرّح في كتبه وفتاويه بكفر الجمهور، وأنهم مرتدّون، ودارهم دار ردّة، يحكم بنجاسة مائعها …

والرافضة من أعظم الناس إظهاراً لمودّة أهل السنّة، ولا يظهر أحدهم دينه، حتي أنّهم يحفظون من فضائل الصحابة والقصائد التي في مدحهم وهجاء الرافضة ما يتودّدون به إلي أهل السنّة، ولا يُظهر أحدهم دينه، كما كان المؤمنون يظهرون دينهم للمشركين وأهل الكتاب. فعلم أنهم من أبعد الناس عن العمل بهذه الآية.

وأمّا قوله تعالي «إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً» قال مجاهد: إلّا مصانعة.

والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي

فإنّ هذا نفاق.

ولكن أفعل ما أقدر عليه … وكتمان الدين شي ء وإظهار الدين الباطل شي ء آخر …

والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين … فإنّ دينه الذي في قلبه دين فاسد

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 177

يحمله علي الكذب والخيانة وغشّ الناس وإرادة السوء بهم … » «1».

قال: «وقال عامّة علامات النفاق وأسبابه ليست في أحدٍ من أصناف الامّة أظهر منها في الرافضة، حتي يوجد فيهم من النفاق الغليظ الظاهر ما لا يوجد في غيرهم، وشعار دينهم التقيّة التي هي أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وهذا علامة النفاق … » «2».

قال: «والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف، بل لابدّ لكلّ منهم من شعبة نفاق، فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه، كما أخبر اللَّه تعالي عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسمّيه التقية، وتحكي هذا عن أئمة أهل البيت الذين برّأهم اللَّه عن ذلك، حتي يحكوا عن جعفر الصادق أنه قال: التقيّة ديني ودين آبائي. وقد نزّه اللَّه المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك، بل كانوا من أعظم الناس صدقاً وتحقيقاً للإيمان، وكان دينهم التقوي لا التقيّة» «3».

أقول:

نكتفي بهذا القدر، وأهل العلم والفضل يعلمون بحقيقة رأي الإمامية ومقصودهم من التقيّة، ويفهمون معني الروايات الواردة فيها عندهم … بل عند أهل السنّة أنفسهم، بل قصّة آل ياسر وتقيّة عمارٍ ونزول الآية المباركة فيها … بل __________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 421- 428.

(2) منهاج السنة 7/ 151.

(3) منهاج السنة 2/ 46.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 178

في سيرة النبيّ مع أصحابه، وروايتهم

لمثل هذا عجيب «1» وفي سير الصحابة والتابعين وكبار العلماء في مختلف القرون والأدوار شواهد عملية كثيرة علي استعمال التقيّة، ومن تلك الموارد المشهورة إجابة كثير من أئمّتهم في محنة خلق القرآن تقيةً «2» …

ومن تلك الموارد ما ذكره ابن تيمية نفسه حيث قال:

«والرافضة … لمّآ قاموا في دولة خدا بنده- الذي صنّف له هذا الرافضي هذا الكتاب- فأرادوا إظهار مذهب الرافضة وإطفاء مذهب أهل السنّة، وعقدوا ألوية الفتنة، وأطلقوا عنان البدعة، وأظهروا من الشر والفساد ما لا يعلمه إلّا رب العباد، كان ممّا احتالوا به أن استفتوا بعض المنتسبين إلي السنّة في ذكر الخلفاء في الخطبة هل يجب؟ فأفتي من أفتي بأنه لا يجب، إمّا جهلًا بمقصودهم وإما خوفاً منهم وتقيةً لهم.

وهؤلاء إنما كان مقصودهم منع ذكر الخلفاء، ثم عوّضوا عن ذلك بذكر علي والأحد عشر الذين يزعمون أنهم المعصومون.

فالمفتي إذا علم أن مقصود المستفتي له أن يترك ذكر الخلفاء وأن يذكر الاثني عشر، وينادي ب «حيّ علي خير العمل» ليبطل الأذان المنقول بالتواتر من عهد النبي … لم يحل للمفتي أن يفتي بما يجرّ إلي هذه المفاسد» «3».

__________________________________________________

(1)

سير اعلام النبلاء، الترجمة 1، عبادة بن الصامت 2/ 6.

(2) انظر مثلًا: سير أعلام النبلاء الترجمة 60، أبو مُسْهَر 10/ 230. والترجمة 157، سعدويه 10/ 482. والترجمة 199، أبو نصر التمّار 10/ 573.

(3) منهاج السنة 4/ 165- 166.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 179

أقول:

قال النووي في (شرح الأربعين):

«لا مبالاة بإثبات التقية وجوازها، وإنما تكره عامّة الناس لفظها، لكونها من معتقدات الشيعة، وإلّا فالعالم مجبول علي استعمالها، وبعضهم يسميها مداراة، وبعضهم مصانعة، وبعضهم عقلًا معاشياً، ودلّ عليها دليل الشرع».

وقال في شرح مسلم، باب تحريم الكذب

وبيان ما يباح منه:

«وقوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً أو ينمي خيراً …

قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور- يعني الصور التي رواها مسلم من الكذب في الحرب ونحوه-، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو علي إطلاقه، وأجازوا قول مالم يكن في هذه المواضع للمصلحة، وقالوا الكذب المذموم ما فيه مضرّة، واحتجّوا بقول إبراهيم صلّي اللَّه عليه وسلّم «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» و «إِنِّي سَقِيمٌ» وقوله: «إنها أُختي» وقول منادي يوسف «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ» قالوا: ولا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجلٍ هو عنده مختف، وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو؟» «1».

فقد ظهر أنّ «التقيّة» لا تختص بما إذا كان الذي يخاف منه كافراً … وظهر أنّ الشرع دلّ عليها، وأنّ القوم إنما يكرهونها لكونها من معتقدات الشيعة، كسائر الأُمور المشروعة التي تركها القوم بُغضاً وعناداً للشيعة.

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم بشرح النووي- كتاب البرو الصلة ج 8، جزء 16: 157- 158.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 180

الشّفاعة … ص: 180

ولا ينكر ابن تيمية شفاعة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم للامّة في يوم القيامة، إلّا أنّ ظاهر عبارته أنّها إنّما تكون بعد دخول النّار، فيخرج بشفاعته منها من في قلبه مثقال ذرّةٍ من إيمان «1».

أقول:

الشفاعة ثابتة بالكتاب والسنّة وإجماع المسلمين، أمّا الشيعة فمعلوم، وأمّا غيرهم فكذلك، قال شارح العقيدة الطحاوية: «أمّا أهل السنة والجماعة فيقرّون بشفاعة نبيّنا صلّي اللَّه عليه وسلّم في أهل الكبائر وشفاعة غيره، لكن لا يشفع أحد حتي يأذن اللَّه له ويحدّ له حدّاً كما في الحديث الصحيح» «2»، وهي للنبي صلّي اللَّه عليه

وآله وسلّم وأهل بيته والعلماء والشهداء، وللمؤمنين أيضاً يشفع بعضهم لبعض.

وأدلّة الشفاعة غير مقيّدة بالنجاة من النار بعد دخولها، بل هي عامّة كما هو ظاهر قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «شفاعتي لأهل الكبائر من امّتي» «3».

والتفصيل في محلّه.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 337.

(2) شرح العقيدة الطحاوية- ثبوت شفاعة الرسول لأهل الكبائر من امّته 1/ 359.

(3) مسند أحمد- مسند انس بن مالك، الحديث 12810- 4/ 78 المستدرك- كتاب الايمان، الحديث 228- 1/ 139، المعجم الصغير- باب الخاء، من اسمه خير، 1/ 160.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 181

البناء علي القبور وزيارتها والبكاء علي الأموات وإنشاء القصائد في الرّثاء … ص: 181

وقد أقام ابن تيمية القيامة علي من يبني القبور ويزورها مطلقاً، سواء كان من الشيعة أو السنّة، وما أكثر سبّه واتّهامه، وأشدّ طعنه وافترائه لمن يفعل ذلك.

فلقد عدّ من حماقات الشيعة: «إظهارهم لما يجعلونه مشهداً» قال: «فكم كذبوا الناس وادّعوا أن في هذا المكان ميّتاً من أهل البيت، وربما جعلوه مقتولًا، فيبنون ذلك مشهداً، وقد يكون ذلك قبر كافر أو قبر بعض الناس، ويظهر ذلك بعلامات كثيرة» «1».

ثم ذكر في مشابهات الشيعة للنصاري اموراً، منها: «وكذلك الرافضة غلوا في الرسل، بل في الأئمة، حتي اتّخذوهم أرباباً من دون اللَّه، فتركوا عبادة اللَّه وحده لا شريك له التي أمرهم بها الرسل، وكذّبوا الرسول فيما أخبر به، من توبة الأنبياء واستغفارهم، فتجدهم يعطّلون المساجد التي أمر اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا يصلّون فيها جمعةً ولا جماعة، وليس لها عندهم كبير حرمة، وإن صلّوا فيها صلّوا فيها وحداناً، ويعظّمون المشاهد المبنية علي القبور، فيعكفون عليها مشابهةً للمشركين، ويحجّون إليها كما يحجّ الحاجُّ إلي البيت العتيق، ومنهم من يجعل الحج إليها أعظم من الحج إلي الكعبة، بل يسبّون

من لا يستغني بالحج إليها عن الحج الذي فرضه اللَّه علي عباده، ومن لا يستغني بها عن الجمعة والجماعة. وهذا من جنس دين النصاري والمشركين الذين يفضّلون عبادة الأوثان علي عبادة

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 50.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 182

الرحمن … وقد صنّف شيخهم ابن النعمان المعروف عندهم بالمفيد- وهو شيخ الموسوي والطوسي- كتاباً سماّه مناسك المشاهد، جعل قبور المخلوقين تحجّ كما تحجّ الكعبة البيت الحرام الذي جعله اللَّه قياماً للناس … وقد علم بالإضطرار من دين الإسلام أن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يأمر بما ذكروه من أمر المشاهد، ولا شرّع لُامّته مناسك عند قبور الأنبياء والصالحين، بل هذا من دين المشركين … واللَّه أمر في كتابه بعمارة المساجد ولم يذكر المشاهد، فالرافضة بدّلوا دين اللَّه، فعمّروا المشاهد وعطّلوا المساجد مضاهاةً للمشركين، ومخالفةً للمؤمنين …

وأيضاً، فقد علم بالنقل المتواتر بل علم بالإضطرار من دين الإسلام أن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم شرّع لأُمته عمارة المساجد بالصلوات والإجتماع للصلوات الخمس، ولصلاة الجمعة والعيدين وغير ذلك، وأنه لم يشرّع لُامّته أن يبنوا علي قبر نبي ولا رجلٍ صالح، لا من أهل البيت ولا غيرهم، لا مسجداً ولا مشهداً … » «1».

وهنا تعرّض لأهل السنّة، الذين يبنون المشاهد ويزورونها، قال: «فإن قيل: ما وصفت به الرافضة من الغلوّ والشرك والبدع موجود كثير منه في كثير من المنتسبين إلي السنّة، فإن في كثير منهم غلواً في مشايخهم وإشراكاً بهم وابتداعاً لعباداتٍ غير مشروعة، وكثير منهم يقصد قبر من يحسن الظنّ به إمّا ليسأله حاجاته، وإمّا ليسأل اللَّه به حاجةً، وإمّا لظنّه أن الدعاء عند قبره أجوب منه في المساجد، ومنهم من يفضّل زيارة

قبور شيوخهم علي الحج، ومنهم من يجد عند قبر من يعظّمه من الرقة والخشوع ما لا يجده في المساجد والبيوت، وغير ذلك مما

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 474- 479.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 183

يوجد في الشيعة. ويروون أحاديث مكذوبة من جنس أكاذيب الرافضة …

قيل: هذا كلّه ممّا نهي اللَّه عنه ورسوله، وكلّ ما نهي اللَّه عنه ورسوله فهو مذموم منهي عنه، سواء كان فاعله منتسباً إلي السنّة أو إلي التشيع».

ثمّ لم يتمالك نفسه فأبدي غيظه وحقده علي الشّيعة فقال: «ولكن الامور المذمومة المخالفة للكتاب والسنّة في هذا وغيره هي في الرافضة أكثر منها في أهل السنّة، فما يوجد في أهل السنّة من الشرّ ففي الرافضة أكثر منه، وما يوجد في الرافضة من الخير ففي أهل السنّة أكثر منه» «1».

وفي مشابهات الشيعة والنصاري قال أيضاً:

«وكذلك الغلاة في العصمة، يعرضون عمّا أمروا به من طاعة أمرهم والإقتداء بأفعالهم إلي ما نهوا عنه من الغلو والإشراك بهم، فيتخذونهم أرباباً من دون اللَّه، يستغيثون بهم في مغيبهم وبعد مماتهم وعند قبورهم … فالمشاهد المبنيّة علي قبور الأنبياء والصالحين من العامّة ومن أهل البيت كلّها من البدع المحدثة المحرّمة في دين الإسلام … » «2».

حتّي تعرّض لزيارة قبر النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فقال:

«والأحاديث المأثورة عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في زيارة قبره، كلّها ضعيفة بل موضوعة … » «3».

وتكلّم علي إقامة المآتم … فجعل ذلك من حماقات الشيعة: «ومن حماقتهم إقامة المأتم والنياحة علي من قد قتل من سنين عديدة. ومن المعلوم أن المقتول __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 482- 483.

(2) منهاج السنة 2/ 435- 437.

(3) منهاج السنة 2/ 441.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه،

ص: 184

وغيره من الموتي إذا فعل مثل ذلك بهم عقب موتهم، كان ذلك ممّا حرّمه اللَّه ورسوله …

وهؤلاء يأتون من لطم الخدود وشق الجيوب ودعوي الجاهلية وغير ذلك من المنكرات بعد موت الميت بسنين كثيرة، ما لو فعلوه عقب موته لكان ذلك من أعظم المنكرات التي حرّمها اللَّه ورسوله، فكيف بعد هذه المدة الطويلة …

ومن المعلوم أنه قد قتل من الأنبياء وغير الأنبياء ظلماً وعدواناً من هو أفضل من الحسين … » «1».

وأفصح عن تضجّره لإقامة الشيعة المآتم علي السبط الشهيد عليه السّلام فقال: «وكذلك حديث عاشوراء … وأقبح من ذلك وأعظم: ما تفعله الرافضة من اتّخاذه مأتماً يقرأ فيه المصرع، وينشد فيه قصائد النياحة … » «2».

وحتي الحزن … حتّي علي فقد النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ينهي عنه ابن تيمية ويمنعه:

«ثمّ إنّ هؤلاء الشيعة وغيرهم يحكون عن فاطمة من حزنها علي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ما لا يوصف، وأنها بنت بيت الأحزان، ولا يجعلون ذلك ذمّاً لها، مع أنه حزن علي أمرٍ فائت لا يعود. وأبو بكر إنما حزن عليه في حياته خوف أن يقتل، وهو حزن يتضمّن الإحتراس، ولهذا لمّا مات لم يحزن هذا الحزن، لأنّه لا فائدة فيه!» «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 52- 55.

(2) منهاج السنة 8/ 151.

(3) منهاج السنة 8/ 459.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 185

أقول:

كان الغرض من ذكر هذه النصوص معرفة ابن تيميّة عقيدةً وعلماً وعدالةً.

وقد كفانا علماء الفريقين مؤنة الجواب عن ذلك كلّه … بذكر الأدلّة الكثيرة عن النبي، الدالّة علي جواز زيارة القبور والبكاء علي الميّت، قولًا وفعلًا وتقريراً، والمخرّج جملةٌ منها في الصحيحين وغيرهما من الكتب الستّة، وكذا عن غيره صلّي

اللَّه عليه وآله وسلّم قولًا وفعلًا وتقريراً، متابعةً له وعملًا بسنّته، وإنّ المستفاد من مجموعها أنّ المنع إنّما كان سنّةً من عمر بن الخطّاب.

وأما في خصوص زيارة قبر النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فقد كتب عدّة من أئمة المذاهب ردوداً علي ابن تيمية، حتي أنّ بعض من كان من أصحابه انحرف عنه وباعده لأجل ذلك و ردّ عليه، وستعرف طرفاً من ذلك في آخر هذه (الدراسات).

وأما البناء علي القبور، فالشواهد العملية من المسلمين علي جوازه كثيرة جدّاً، ممّا يدلّ علي قيام السيرة القطعيّة منهم الكاشفة عن رضا الشارع، ومن ذلك ما جاء في كلام الحافظ الذهبي بترجمة العباس عمّ النبي: «ودفن بالبقيع وعلي قبره اليوم قبّة عظيمة من بناء خلفاء آل العبّاس» «1».

وأمّا التوسّل والاستغاثة والاستشفاع … فقد ألّفوا في جواز ذلك كتباً كثيرة، ويكفينا هنا قول الذهبي- وكأنّه يقصد التعريض بابن تيمية-: «فو اللَّه، ما يحصل الإنزعاج لمسلم والصّياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء، إلّا وهو محبّ للَّه ولرسوله، فحبّه المعيار والفارق بين أهل الجنة وأهل النار، فزيارة قبره من أفضل __________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء الترجمة 11، العباس عمّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم 2/ 97.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 186

القرب … فشدّ الرحال إلي نبيّنا مستلزم لشدّ الرحل إلي مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع، إذ لا وصول إلي حجرته إلّا بعد الدخول إلي مسجده، فليبدأ بتحيّة المسجد، ثم بتحيّة صاحب المسجد، رزقنا اللَّه وإيّاكم، آمين» «1».

وقوله بترجمة معروف الكرخي: «وعن إبراهيم الحربي قال: قبر معروف الترياق المجرّب.

يريد إجابة دعاء المضطرّ عنده، لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء … » «2».

وقوله بترجمة غير واحد:

«كان ورعاً، تقيّاً، محتشماً يتبرّك بقبره» «3».

«قبره

مشهور يزار ويدعي عنده» «4».

«قبره يقصد بالزيارة» «5».

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء الترجمة 185، الحسن 4/ 484- 485. وانظر الترجمة 162، هشام بن عبد الملك 5/ 358- 359.

(2) سير أعلام النبلاء الترجمة 111، معروف الكرخي 9/ 343- 344.

(3) سير أعلام النبلاء- 47، الذهلي 18/ 101.

(4) سير أعلام النبلاء- 32، أبو الفرج الحنبلي 19/ 53.

(5) سير أعلام النبلاء- 56، العجلي 20/ 96.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 187

الباب الثالث: ابن تيميّة وعقيدته في الإمامة والخلافة … ص: 187

اشارة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 189

1- خلافة أبي بكر وأفضليّته … ص: 189

اشارة

لا ريب في أنّ ابن تيميّة إنما ألّف (منهاج السنّة) للدفاع عن أبي بكر وخلافته بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وتفضيله علي سائر الأصحاب، لكن من يقرأ كتابه بإمعانٍ يجده مضطرباً في كيفيّة إقامة الدليل علي ذلك.

لقد كان الشروع في البحث عن إمامة أبي بكر من حيث قال العلّامة بأنّ أهل السنّة يقولون: «إن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لم ينص علي إمامة أحد، وإنّه مات من غير وصيّة» «1».

النص علي إمامة أبي بكر: … ص: 189

فاعترف ابن تيميّة بذلك، غير أنّه قال: «ليس هذا قول جميعهم» قال: «بل قد ذهبت طوائف من أهل السنّة إلي أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص» وبدلًا من أن يذكر الطوائف والنصوص التي يدّعونها قال: «والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره من الأئمة، وقد ذكر القاضي أبو يعلي في ذلك روايتين عن أحمد، إحداهما: أنها ثبتت بالإختيار. قال: وبهذا قال جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية. وهذا اختيار القاضي أبي يعلي وغيره. والثانية: إنها ثبتت بالنص __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 486 و 499.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 190

الخفي والإشارة. قال: وبهذا قال الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث، وبكر ابن اخت عبد الواحد، والبيهسية من الخوارج» «1» انتهي ما نقله عن القاضي أبي يعلي

إذن، عن أحمد قولان، وبكلٍّ قال قوم، أحدهما: الإختيار، والآخر:

الإشارة، فأين الأقوام القائلون بالنص؟

ثم نقل كلاماً لابن حامد الحنبلي تضمّن بعض الأحاديث والآثار التي في أسانيدها بحث وكلام لا يخفي وهي ليست بنصوصٍ علي الخلافة، كقوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «إقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر» وكقضية صلاة أبي بكر في مرض النبي.

ثم نقل كلاماً لابن حزم يقول: «إختلف

الناس في الإمامة بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقالت طائفة: إن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يستخلف أحداً، ثم اختلفوا فقال بعضهم: لكن لمّا استخلف أبا بكر علي الصلاة كان ذلك دليلًا علي أنه أولاهم بالإمامة والخلافة علي الأمر. وقال بعضهم: لا، ولكن كان أبينهم فضلًا فقدّموه لذلك، وقالت طائفة: بل نصّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم علي استخلاف أبي بكر بعده علي امور الناس نصّاً جليّاً» «2».

إذن، أكثر القوم علي القولين الأولين، فلا وصيّة ولا نصّ، كما قال العلّامة، ونسب القول بالنص إلي طائفة ولم يسم منهم أحداً، ولكن ما هو رأي ابن حزم؟

إنه يقول بالنص، وهذه عبارته: «قال أبو محمّد: وبهذا نقول، لبراهين»

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 486- 487.

(2) منهاج السنة 1/ 493.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 191

ولكن ما هي البراهين؟

قال: «أحدها: إطباق الناس كلّهم … علي أن سمّوه خليفة رسول اللَّه … »!!

ثم ذكر أشياء مروية عن عائشة وأسرة أبي بكر، ثم قال: «واحتجّ من قال:

لم يستخلف أبا بكر، بالخبر المأثور عن عبداللَّه بن عمر عن عمر أنه قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منّي- يعني أبا بكر- وإلّا استخلف فلم يستخلف من هو خير منّي. يعني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وبما روي عن عائشة رضي اللَّه عنها إذ سئلت: من كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مستخلفاً لو استخلف».

فأجاب «ومن المحال أن يعارض إجماع الصحابة … ».

فاضطر ابن حزم الي التمسك بالإجماع، والخروج عن دعوي النص … !!

وابن تيميّة- بعد نقل كلّ هذا- يجد نفسه مضطرّاً إلي أن يقول:

«قلت: والكلام في تثبيت خلافة أبي بكر وغيره مبسوط في غير هذا

الموضع»!!

قال: «فقد تبيّن أنّ كثيراً من السلف والخلف قالوا فيها بالنص الجلي أو الخفي، وحينئذٍ فقد بطل قدح الرافضي … » «1»!!

أين تبيّن؟ ومَن الكثير من السلف والخلف؟ ولو سلّمنا، فكيف الجمع بين هذه الدعوي وبين الإقرار بأنه «لا كان في الصّحابة من يقول: إن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا أئمة، ولا كانت خلافتهم صحيحة، ولا من يقول: إن خلافتهم __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 497- 499.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 192

ثابتة بالنص» «1»؟ وكيف الجواب عن هذا التناقض والتكاذب؟!

وكأنّ الرجل يعلم- في قرارة نفسه- أنّ الذي يقوله ما هو إلّا كذب وزور، وأنّه ليس هناك نصّ علي أبي بكر وعمر، فلا يجد محيصاً من إبطال كلام ابن حزم وإن أورده علي طوله واستشهد به، فيقول: «والتحقيق: إن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم دلّ المسلمين علي استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بامور متعدّدة من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامِد له، وعزم علي أن يكتب بذلك عهداً! ثم علم أنّ المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاءً بذلك … » «2»!!

إذن، لا يوجد نص، وإنّما علمٌ من رسول اللَّه- فيما يزعم- بأن المسلمين سيجتمعون عليه، وسكوتٌ منه علي ما سيفعلونه!!

الاجماع علي إمامة أبي بكر؟! … ص: 192

فرجع الأمر إلي «اجتماع المسلمين» علي خلافة أبي بكر، لكنّ قضايا السقيفة تعترضه، وكذا الكلمات المنقولة عن أبي بكر وعمر، فتراه وقد اسقط ما في يده، لا يدري ما يقول!!

أمّا بالنسبة إلي تخلّف أميرالمؤمنين عليه السّلام عن البيعة مدّة ستة أشهر- وهو ما أخرجه البخاري من طريق الزهري، وابن تيمية طالما يعتمد علي كتاب البخاري، ويثني علي الزهري، كما ستعلم من غضون الكتاب- فينسبه إلي «القيل» وينقل إلي جنب هذا الخبر

ما لا يوازيه، لكونه قولًا لا يعرف قائله __________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 338.

(2) منهاج السنة 1/ 516.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 193

وراويه فيقول: «لكن قيل: علي تأخّرت بيعته ستة أشهر، وقيل: بل بايعه ثاني يوم» «1».

وأمّا بالنسبة إلي تخلّف غير أميرالمؤمنين عليه السّلام، من بني هاشم، فلم ينكر تخلّفهم، غير أنّه قال: «لم يمت أحدٌ منهم إلّا وهو مبايع له» «2».

واضطرب كلامه، فتارةً أنكر تخلّف غير سعدٍ وقال: «قد علم بالتواتر أنّه لم يتخلّف عن بيعته إلّا سعد بن عبادة» «3». واخري اعترف بتخلّف غير سعدٍ بصراحةٍ حيث قال: «لم يتخلّف عنها إلّا نفر يسير كسعد بن عبادة» «4». وقال في الكلام عن من تخلّف عن بيعة علي: «وأما تخلف من تخلّف عن مبايعته فعذرهم في ذلك أظهر من عذر سعد بن عبادة وغيره لمّا تخلّفوا عن بيعة أبي بكر، وإن كان لم يستقر تخلّف أحدٍ إلّا سعد وحده، وأمّا علي وغيره فبايعوا الصّديق بلا خلاف بين الناس، لكن قيل: إنهم تأخّروا عن مبايعته ستة أشهر ثم بايعوه» «5».

ففي هذا الكلام يعترف بتخلّف غير سعدٍ، وهم أميرالمؤمنين وغيره، فيصرّح بأنهم تأخّروا عن مبايعته ستة أشهر، مع نسبة هذا الخبر- وهو الذي أخرجه البخاري من طريق الزهري- إلي «القيل» … وقد جاء في هذا الخبر أنّهم إنما بايعوه بعد أن توفّيت الزهراء الطاهرة وبقي علي وحده وأعرضت وجوه الناس عنه، فاضطرّوا إلي البيعة … لكنّ ابن تيميّة لا ينقل هذا الحديث الصريح في كون بيعتهم- وذلك بعد ستة أشهر- عن اضطرارٍ وإكراه! بل يعبّر عن موقفهم هذا ب «التأخّر» ويجعل «التخلّف» مختصّاً بسعد بن عبادة!! لكنّ العجب أنّه في موضعٍ __________________________________________________

(1) منهاج السنة

8/ 330.

(2) منهاج السنة 8/ 330.

(3) منهاج السنة 8/ 330.

(4) منهاج السنة 4/ 325.

(5) منهاج السنة 4/ 388.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 194

آخر يناقض نفسه، فيزعم أن سعداً أذعن لأبي بكر بالإمارة، وهذا عين كلامه:

«بل قد روي الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه في مسند الصدّيق عن عفّان، عن أبي عوانة، عن داود بن عبداللَّه الأودي عن حميد بن عبد الرحمن- هو الحميري- فذكر حديث السقيفة وفيه: إن الصدّيق قال: ولقد علمت يا سعد أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبرّ الناس تبع لبرّهم وفاجرهم تبع لفاجرهم. قال فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الامراء.

فهذا مرسل حسن، ولعّل حميداً أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا ذلك، وفيه فائدة جليلة جداً، وهي أنّ سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأوّل في دعوي الإمارة، وأذعن للصدّيق بالإمارة، فرضي اللَّه عنهم أجمعين» «1».

والواقع: إن المتخلّفين عن بيعة أبي بكر كثيرون، وكان علي رأسهم أمير المؤمنين وسعد بن عبادة، إلّا أن علياً ومن تابعه اضطرّوا إلي البيعة بعد الستة أشهر لفقدهم فاطمة، ولقد سبق من أبي بكر- حين أشار عليه أصحابه بإكراه علي علي البيعة- أن قال: «لا أكرهه علي شي ءٍ ما كانت فاطمة إلي جنبه» «2»، وأمّا سعد، فقد استمر لوقوف الأنصار دونه «لأنهم كانوا قد عيّنوه للإمارة، فبقي في نفسه ما يبقي في نفوس البشر» كما نصَّ عليه ابن تيمية نفسه «3».

ومن العجب أيضاً، أنّه يناقض نفسه مرةً اخري إذ ينصّ هنا علي أن الأنصار عيّنوه للإمارة، ويعترف بهذه الحقيقية في أوائل الكتاب، ثم يأتي في الجزء

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 536- 537.

(2) الإمامة والسياسة-

كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب 1/ 20.

(3) منهاج السنة 1/ 536.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 195

السادس ويكذّبه قائلًا: «فما ذكره الشهرستاني من أنّ الأنصار اتّفقوا علي تقديمهم سعد بن عبادة، هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل، والأحاديث الثابتة بخلاف ذلك» «1».

وعلي الجملة … فإن الرّجل يعلم بأن لا إجماع!! بل المتخلّفون من أهل الشوكة ومن السابقين الأولين كثيرون، ولذا فإنّه في حين يدّعي الإجماع علي أبي بكر «2» يلتجأ إلي أن يقول في أواخر الكتاب: «لا نحتاج في تقرير إمامة الصديق رضي اللَّه عنه ولا غيره إلي هذا الإجماع»!! «3».

فلماذا قدّموه؟

قدّموه لكونه أفضل!! … ص: 195

زعم أنّهم قدّموا أبا بكر لكونه أفضل …

وإذا وصل الأمر إلي الأفضليّة … فالأمر هيّن!

إنّ أوّل من ينفي أفضليّته هو أبو بكر نفسه! وقد أعلن ذلك مراراً:

منها: قوله في السقيفة: رضيت لكم أحد هذين الرجلين. أخرجه البخاري عن عمر.

منها: إعلانه بعد البيعة أنّه ليس بخير الامّة، وأنّ له شيطاناً يعتريه، وأن عليهم أن يستعملوا من هو أقوي منه وأضبط … «4»

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 326.

(2) منهاج السنة 4/ 326.

(3) منهاج السنة 8/ 344.

(4) رواه ابن سعد، وعنه السيوطي وابن حجر المكي، وابن راهويه وعنه المتقي الهندي، وحمزة بن الحارث وأبو السمّان وعنهما محبّ الدين الطبري، وأبو جعفر الطبري في التاريخ وعنه ابن أبي الحديد.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 196

ومنها: تمنّياته عند موته، ليتني … وليتني … و … «1»

أقول:

«كم بين من شكَّ في خلافته وبين من قيل إنه اللَّه؟» «2»

ثم إن قولة عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة … أخرجها البخاري عن عمر، دالّة علي أن خلافة أبي بكر لم تكن مرضيّةً عند القوم، فلذا هدّد

عمر بقتل من عاد إلي مثلها!! ومن هنا فقد اضطرب القوم في هذه الكلمة وحاولوا صرفها إلي غير معناها …

وقبل ذلك كلّه: تأمير النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم اسامة علي أبي بكر، وأمره بخروجه معه، ثم لعنه من تخلّف، وقد كان أبو بكر من جملة المتخلّفين …

وهذه القضية كافية لعدم صلاحيّة الرجل للإمامة والخلافة …

وابن تيميّة ملتفت إلي ذلك، فلم يكن له مناص من تكذيبه مرةً بعد اخري وتأكيده التكذيب بأنّ عدم كونه في جيش اسامة مما اتّفق عليه أهل العلم، فيقول:

«إن هذا من الكذب المتّفق علي أنه كذب عند كلّ من يعرف السيرة، ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش اسامة، وإنما روي ذلك في عمر، وكيف يرسل أبا بكر في جيش اسامة وقد استخلفه يصلّي بالمسلمين مدة مرضه؟» «3».

وقال: «فأمّا تأمير اسامة عليه فمن الكذب المتفق علي كذبه» «4».

__________________________________________________

(1) تاريخ الطبري، السنة الثالثة عشر 2/ 619- 620.

(2) الدرر الكامنة، الترجمة 2477، عبد القوي بن عبد الكريم القرافي الحنبلي الطرفي الرافضي 2/ 396.

(3) منهاج السنة 5/ 486.

(4) منهاج السنة 5/ 491.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 197

وقال: «هذا إنما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة، وأعظم الناس تعمّداً للكذب، وإلّا فالرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلي بالناس … » «1».

وقال: «إن هذا كذب بإجماع علماء النقل، فلم يكن في جيش أسامة لا أبو بكر ولا عثمان، وإنما قد قيل إنه كان فيه عمر. وقد تواتر عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه استخلف أبا بكر علي الصلاة حتي

مات … فكيف يكون مع هذا قد أمره أن يخرج في جيش اسامة؟» «2».

وقال: «وأمّا قوله: إنه أمّر اسامة رضي اللَّه عنه علي الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر، فمن الكذب الذي يعرفه من له أدني معرفة بالحديث، فإن أبا بكر لم يكن في ذلك الجيش، بل كان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يستخلفه في الصّلاة … » «3».

إذن، إذا ثبت كونه في جيش اسامة ثبت كذب أن النبي استخلفه علي الصلاة … هذا معني هذه الكلمات، كما لا يخفي … فلننقل عبارة الحافظ ابن حجر العسقلاني، الصريحة في قيام الإتفاق علي كون أبي بكر في هذا الجيش، فإنه قال في شرح البخاري ما نصّه:

«كان تجهيز اسامة يوم السبت قبل موت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بيومين.. فبدأ برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وجعه في اليوم الثالث، فعقد لُاسامة لواءً بيده، فأخذه اسامة، فدفعه إلي بريدة، وعسكر بالجرف، وكان ممن انتدب مع __________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 320.

(2) منهاج السنة 8/ 292- 293.

(3) منهاج السنة 4/ 276.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 198

اسامة كبار المهاجرين والأنصار، منهم: أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، وسعد، وسعيد، وقتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم، فتكلّم في ذلك قوم … ثم اشتدّ برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وجعه فقال: أنفذوا بعث اسامة.

وقد روي ذلك عن: الواقدي، وابن سعد، وابن إسحاق، وابن الجوزي، وابن عساكر» «1».

كما أنّ من تكذيب ابن تيمية كون أبي بكر في جيش اسامة- مع رواية أئمة التاريخ والحديث والسّيرة ذلك- تظهر قيمة تكذيبه كما أشرنا … من كلمات أبي بكر عند موته … فلا نطيل.

__________________________________________________

(1) فتح الباري، باب بعث النبي اسامة بن زيد- 8/

152.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 199

2- خلافة عمر وأفضليّته … ص: 199

ولعلّ في البحث عن النص، والإجماع، والأفضليّة، في حق أبي بكر، وظهور عدم ثبوت شي ء منها، ما يكفينا عن استقصاء الكلام عما استدلّ به لخلافة عمر من بعده …

لقد أكثر ابن تيمية من دعوي أن عمر أفضل النّاس بعد أبي بكر، وذكر لإثبات ذلك أحاديث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ولكنّ رواة هذه الأحاديث في الأغلب هم: عمر بن الخطاب نفسه، وابنه عبد اللَّه، وأبو هريرة، وعائشة، وهذه هي المخرّجة في كتاب البخاري أو مسلم … وهناك أحاديث نقلها عن السنن أو خارج الكتب الستّة، ومنها ما أرسله إرسالًا كقوله: «وقال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر» «1»، وأورده مرةً اخري وعزاه إلي سنن الترمذي، وليس فيه!!

لكنّ هذا الحديث أدرجه ابن الجوزي في (الموضوعات) وهو الكتاب الذي طالما استند إليه ابن تيمية في ردّ فضائل أميرالمؤمنين!!

وأورد عدّة مناقب لعمر، هي آثار عن الصّحابة وليست عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وفي أسانيد كثيرٍ منها كلام.

لكنّ العمدة هي تولية أبي بكر له …

__________________________________________________

(1)

منهاج السنة 6/ 55.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 200

إلّا أنّ الكلام في أصل ولاية أبي بكر، وفي جواز أن يولّي أحداً من بعده، لا سيّما وأن عمر نفسه نصّ علي أنّ الإمامة يجب أن تكون بمشورةٍ من المسلمين، وأن من بايع من غير مشورة يُقتل!

هذا، مضافاً إلي أنّ غير واحدٍ من أهل الشوكة والسابقين الأوّلين كره ذلك واعترض علي أبي بكر قائلًا: «ما تقول لربّك؟!»، وهذا ما اعترف به ابن تيمية أيضاً «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 321.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن

تيميه، ص: 201

3- خلافة عثمان وأفضليّته … ص: 201

اشارة

واضطربت كلمات ابن تيميّة حول عثمان وقضاياه اضطراباً شديداً، إنه يتحفّظ بشدةٍ عن التصريح بأفضليّته علي علي كتصريحه بأفضليّة أبي بكر عليهما، فحين يدخل في بحث المفاضلة بين علي وعثمان يقول: هما روايتان عن مالك وأحمد، ويذكر أقوالًا تتلخّص في: القول بتقديم علي، والقول بتقديم عثمان والسكوت والتوقف «1» …

إلّا أنّه عند ما يريد تفضيل عثمان ينسب إلي «العلماء» الإستدلال لأفضليّته بطريقين:

الأول: «الطريق التوقيفي، فالنصّ والإجماع. أمّا النص ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: كنّا نقول ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حي: أفضل امّة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بعده: أبو بكر ثم عمر ثمّ عثمان.

وأمّا الإجماع، فالنقل الصحيح قد أثبت أن عمر قد جعل الأمر شوري في ستة، وأن ثلاثة تركوه لثلاثة: عثمان وعلي وعبد الرحمن، وأن الثلاثة اتّفقوا علي أنّ عبد الرحمن يختار واحداً منهما، وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيّام- حلف أنه لم ينم فيها كبير نوم- يشاور المسلمين. وقد اجتمع بالمدينة أهل الحلّ والعقد حتي امراء الأنصار، وبعد ذلك اتّفقوا علي مبايعة عثمان بغير رغبةٍ ولا رهبة، فيلزم أن يكون __________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 73.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 202

عثمان هو الأحق، ومن كان هو الأحق كان هو الأفضل … وإنما قلنا: يلزم أن يكون هو الأحق، لأنه لو لم يكن ذلك للزم إما جهلهم وإما ظلمهم … وكلاهما منتف، لأنهم أعلم بعثمان وعلي منّا … وكونهم علموا الحق وعدلوا عنه أعظم وأعظم، فإن ذلك قدح في عدالتهم! …

وأمّا: الطريق النظريّة، فقد ذكر ذلك من ذكره من العلماء فقالوا:

عثمان كان أعلم بالقرآن، وعلي أعلم بالسنّة، وعثمان أعظم جهاداً بماله، وعلي أعظم جهاداً بنفسه. وعثمان أزهد

في الرياسة، وعلي أزهد في المال. وعثمان أورع عن الدماء، وعلي أورع عن الأموال. وعثمان حصل له من جهاد نفسه حيث صبر عن القتال ولم يقاتل مالم يحصل مثله لعلي … وسيرة عثمان في الولاية كانت أكمل من سيرة علي.

فقالوا: فثبت أن عثمان أفضل، لأن علم القرآن أعظم من علم السنّة …

وعثمان جمع القرآن كلّه بلا ريب، وكان أحياناً يقرؤه في ركعة، وعلي قد اختلف فيه: هل حفظ القرآن كلّه أم لا؟ والجهاد بالمال مقدّم علي الجهاد بالنفس …

وأيضاً، فعثمان له من الجهاد بنفسه بالتدبير في الفتوح ما لم يحصل مثله لعلي … وأمّا الزهد والورع في الرياسة والمال، فلا ريب أن عثمان تولّي ثنتي عشرة سنة، ثم قصد الخارجون عليه قتله وحصروه وهو خليفة الأرض والمسلمون كلّهم رعيّته، وهو مع هذا لم يقتل مسلماً ولا دفع عن نفسه بقتال، بل صبر حتي قتل، لكنه في الأموال كان يعطي لأقاربه من العطاء ما لا يعطيه لغيرهم … وعلي رضي اللَّه عنه لم يخص أحداً من أقاربه بعطاء، لكن ابتدأ بالقتال لمن لم يكن مبتدئاً بالقتال، حتي قتل بينهم ألوف مؤلّفة من المسلمين … والمقصود أن كليهما- رضي اللَّه عنهما- وإن كان ما فعله فيه هو متأوّل مجتهد، يوافقه عليه طائفة من العلماء المجتهدين، الذين دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 203

يقولون بموجب العلم والدليل، ليس لهما عمل يتّهمون فيه، لكن اجتهاد عثمان كان أقرب إلي المصلحة وأبعد عن المفسدة، فإن الدماء خطرها أعظم من الأموال.

ولهذا كانت خلافة عثمان هادية مهديّة ساكنة …

قالوا: وإن كان علي تزوّج بفاطمة رضي اللَّه عنهما، فعثمان قد زوّجه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ابنتين من بناته، وقال: لو

كان عندنا ثالثة لزوّجناها عثمان؛ وسمي ذو النورين بذلك، إذ لم يعرف أحد جمع بين بنتي نبي غيره.

وقد صاهر النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم من بني امية من هو دون عثمان: أبو العاص بن الربيع، فزوّجه زينب أكبر بناته، وشكر مصاهرته محتجّاً به علي علي لمّا أراد أن يتزوّج بنت أبي جهل.. وهكذا مصاهرة عثمان له، لم يزل فيها حميداً، لم يقع منه ما يعتب عليه فيها حتّي قال: لو كان عندنا ثالثة لزوّجناها عثمان، وهذا يدل علي أنّ مصاهرته للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أكمل من مصاهرة علي له. وفاطمة كانت أصغر بناته، وعاشت بعده، واصيبت به، فصار لها من الفضل ما ليس لغيرها. ومعلوم أن كبيرة البنات في العادة تزوّج قبل الصغيرة..

قالوا: وشيعة عثمان المختصّون به كانوا أفضل من شيعة علي المختصّين به وأكثر خيراً وأقلّ شرّاً … فالشرّ والفساد الذي في شيعة علي أضعاف أضعاف الشرّ والفساد الذي في شيعة عثمان، والخير والصّلاح الذي في شيعة عثمان أضعاف أضعاف الخير الذي في شيعة علي. وبنو اميّة كانوا شيعة عثمان، فكان الإسلام وشرائعه في زمنهم أظهر وأوسع ممّا كان بعدهم … » «1».

بل يحاول ابن تيميّة أن ينسب القول بأفضليّة عثمان علي علي عليه السّلام __________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 225- 238.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 204

إلي شيعة علي القدماء، لكن لا يجرأ علي التصريح بذلك، وهذه عبارته: «ولم يتهم أحد ممن الشيعة الأولي بتفضيل علي علي أبي بكر وعمر، بل كانت عامّة الشيعة الاولي الذين يحبّون علياً يفضّلون عليه أبا بكر وعمر! ولكن كان فيهم طائفة ترجّحه علي عثمان، وكان الناس في الفتنة صاروا شيعتين، شيعة عثمانيّة وشيعة علويّة. وليس

كلّ من قاتل مع علي كان يفضّله علي عثمان، بل كان كثير منهم يفضّل عثمان عليه» «1».

الكلام حول النص علي عثمان … ص: 204

أقول:

أمّا النصّ الذي ذكره، فهو ليس عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وإنما قاله ابن عمر عن نفسه وعمّن هو علي شاكلته، هذا علي تقدير صحّة الخبر.

علي أنّ ابن تيمية قد حرّف متن هذا الخبر الذي أخرجه البخاري بإسناده عن نافع عن ابن عمر قال: «كنّا في زمن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لا نفاضل بينهم» «2».

وقد تكلّم الأعلام حول هذا الأثر، وهذه عبارة الحافظ ابن عبد البر:

«أخبرنا أحمد بن زكريا ويحيي بن عبد الرحيم وعبد الرحمن بن يحيي قالوا:

أخبرنا أحمد بن سعيد بن حزم، حدثنا أحمد بن خالد حدّثنا مروان بن عبد الملك __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 132.

(2) صحيح البخاري- باب 38 كتاب فضائل أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم الحديث 216- 3/ 76.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 205

قال: سمعت هارون بن إسحاق يقول: سمعت يحيي بن معين يقول: من قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي اللَّه عنهم، وعرف لعلي سابقته وفضله فهو صاحبه سنّة.

ومن قال: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان، وعرف لعثمان سابقته وفضله فهو صاحب سنّة.

فذكرت له هؤلاء الذين يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان رضي اللَّه عنهم، ويسكتون، فتكلّم فيهم بكلامٍ غليظ.

… وكان يحيي بن معين يقول: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان.

قال أبو عمر: من قال بحديث ابن عمر: كنّا نقول علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم نسكت. يعني: فلا نفاضل، وهو الذي

أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلامٍ غليظ، لأن القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر: إنّ عليّاً أفضل الناس بعد عثمان رضي اللَّه عنه، وهذا ممّا لم يختلفوا فيه.

وإنما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان.

واختلف السلف أيضاً في تفضيل علي وأبي بكر.

وفي إجماع الجميع- الذي وصفنا- دليل علي أن حديث ابن عمر وهم وغلط، وأنه لا يصح معناه وإن كان إسناده صحيحاً … » «1».

فظهر من هنا امور:

الأول: إن ابن تيميّة قد حرّف لفظ الأثر عن ابن عمر.

والثاني: إن ما قاله وهم وغلط.

__________________________________________________

(1) الإستيعاب في معرفة الأصحاب الترجمة 1855- 3/ 1115- 1117.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 206

والثالث: إن السّلف والخلف اختلفوا في تفضيل علي وعثمان، وقد كان يحيي ابن معين- وهو من أقران البخاري- يقول بتقديم علي.

والرابع: ان السلف والخلف اختلفوا في تفضيل علي وأبي بكر.

فظهر سقوط استدلال ابن تيمية بهذا الكلام، وكذبه في نسبة هذا الإستدلال إلي «العلماء»!

وبعد، فالحديث عن ابن عمر، الصّحيح المقبول، هو ما يلي:

«كنّا نقول في زمن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم خير الناس، ثمّ أبو بكر، ثم عمر. ولقد أُوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهنّ أحبُّ إليَّ من حمر النعم: زوّجه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ابنته وولدت له، وسدّ الأبواب إلّا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر.

رواه أحمد وأبو يعلي ورجالهما رجال الصحيح» «1».

أقول:

وهذا الحديث يفسّر الحديث الذي استدل به ابن تيميّة- إن صحّ- والذي تكلّم عليه يحيي بن معين وغيره، فإنّ عبد اللَّه بن عمر كان بصدد التفاضل بين الصحابة عدا

علي عليه السّلام، وأمّا علي فقد كانت له خصائص يفضّل بها علي من سوي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

الكلام حول الإجماع علي عثمان … ص: 206

وأمّا الإستدلال بالإجماع علي إمامة عثمان وأفضليّته- فيما نسبه ابن تيمية إلي __________________________________________________

(1) مجمع الزوائد- كتاب المناقب، باب جامع في مناقب علي رضي اللَّه عنه 9/ 120.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 207

«العلماء» - فالعمدة فيه هو البيعة في الشّوري حيث ادّعي أن أهل الشوري اتّفقوا علي تقديم عثمان علي علي، ثم تبعهم أهل الشوكة والامراء وعموم الناس!

لكن الحقيقة التي أغفلها ابن تيمية قضيّة اشتراط عبد الرحمن بن عوف علي علي وعثمان بالعمل علي سيرة الشيخين، فأبي علي ووافق عثمان فكان الخليفة!

لقد أصبح هذا الشّرط هو المعيار لتعيين الخليفة، لا النصّ ولا الإجماع ولا الشوري وأميرالمؤمنين عليه السّلام رفض الإلتزام به … وقد روي هذا الإشتراط- وعدم قبول علي عليه السلام وقبول عثمان له- غير واحدٍ من المؤرّخين، ولذا قال علي لعبد الرحمن بن عوف:

«حبوته حبو دهر، ليس هذا أول يومٍ تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل واللَّه المستعان علي ما تصفون، واللَّه ما ولّيت عثمان إلّا ليردّ الأمر إليك، واللَّه كلّ يومٍ في شأن» «1».

أقول:

وكأنّ ابن تيميّة يعلم بهذا كلّه، فينسب هذه الإستدلالات إلي «العلماء» محاولةً للخروج عن عهدتها، ولكن كان عليه أن يصرّح بأسماء المستدلّين لنعرفهم ولنرجع إلي كتبهم!!

إنّ الإضطراب علي كلمات ابن تيمية في هذا الموضع أيضاً لائح جدّاً …

وهكذا في كلماته الآتية.

إنّه يصف الذين خرجوا علي عثمان بأنّهم طائفة من أوباش الناس! «2» وهو

__________________________________________________

(1) تاريخ الطبري- سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، قصة الشوري 3/ 297 والكامل في التاريخ- سنة ثلاث وعشرين- ذكر قصة الشوري 3/ 71.

(2) منهاج السنة

8/ 234.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 208

يصرّح بأنّ الصّحابة لم ينصروا عثمان! «1» ويقول في موضع آخر: «والمباشر منهم للقتل- وإن كان قليلًا فكان ردؤهم أهل الشوكة، ولو لا ذلك لم يتمكّنوا» «2».

ومن مشاهد اضطرابه هنا: إنه يقول بأن الخارجين كانوا «أوباش الناس» و «المباشر كان قليلًا» فيوجّه علي نفسه الإشكال بأن «معاوية قد أجمع الناس عليه بعد موت علي، وصار أميراً علي جميع المسلمين، ومع هذا فلم يقتل قتلة عثمان الذين كانوا قدبقوا!!

بل روي عنه أنه لمّا قدم المدينة حاجّاً فسمع الصوت في دار عثمان: يا أميرالمؤمنيناه، يا أمير المؤمنيناه. فقال: ما هذا؟ قالوا: بنت عثمان تندب عثمان.

فصرف الناس، ثم ذهب إليها فقال: يا ابنة عم، إنّ الناس قد بذلوا لنا الطّاعة علي كره، وبذلنا لهم حلماً علي غيظ، فإن رددنا حلمنا ردّوا طاعتهم، ولأن تكوني بنت أميرالمؤمنين خير من أن تكوني واحدة من عرض الناس، فلا أسمعنّك بعد اليوم ذكرت عثمان» «3».

فحتّي لابنة عثمان يقول: «فلا أسمعنّك بعد اليوم ذكرت عثمان»!! فلا يجوز ذكر عثمان بعد الوصول إلي الحكم!! ولا يجب إجراء حكم اللَّه في حقّ من «بقوا» من قتلته «الأوباش» «القليلين»!!

وعندما تصل النّوبة إلي «عائشة» التي كانت من أشدّ المحرّضين علي قتله، تراه يضطرب أشدّ الاضطراب!.

إنه يقول: «أين النقل الثابت عن عائشة بذلك؟».

__________________________________________________

(1)

منهاج السنة 4/ 323.

(2) منهاج السنة 4/ 407.

(3) منهاج السنة 4/ 407- 408.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 209

لكنّه يعلم بوجود النقل الثابت، فيتنازل قائلًا:

«هب أنّ واحداً من الصّحابة، عائشة أو غيرها، قال في ذلك علي وجه الغضب، لإنكاره بعض ما ينكر، فليس قوله حجّة، ولا يقدح ذلك لا في إيمان القائل ولا المقول له،

بل قد يكون كلاهما وليّاً للَّه تعالي من أهل الجنة، ويظنّ أحدهما جواز قتل الآخر، بل يظن كفره، وهو مخطي ء في هذا الظن»! «1» والتجأ- بالتّالي- إلي الإعتراف بما كان من عثمان، غير أنّه ادّعي توبته:

«وعثمان بن عفان- رضي اللَّه عنه- تاب توبةً ظاهرةً من الامور التي صاروا ينكرونها ويظهر له أنها منكر، وهذا مأثور مشهور عنه» «2».

لكن ما الذي تاب منه؟!

وابن تيميّة يقول في قضيّة عبد اللَّه بن أبي سرح: «إن هذا كذب علي عثمان».

وفي أمره بقتل محمّد بن أبي بكر: «فهذا من الكذب المعلوم علي عثمان»!

وبالنسبة إلي ما كان بينه وبين ابن مسعود وعمار: «إن هذا من الكذب البيّن»!

وفي أنه كان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال: «أين النقل الثابت بهذا»؟

وفي قصّة طرد الحكم: «ليست في الصحاح، ولا لها إسناد يعرف به أمرها».

وفي نفي أبي ذر إلي الربذة: «إنّ أباذر سكن الربذة ومات بها، لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس»!

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 330.

(2) منهاج السنة 6/ 208.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 210

وفي تضييعه حدود اللَّه: «هذا أيضاً كذب» «1».

فما هي الذنوب التي تاب منها فلم يجز قتله بعد التوبة؟

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 244- 296.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 211

الباب الرابع: ابن تيميّة وإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام … ص: 211

اشارة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 213

ونستعرض في هذا الباب ما جاء في (منهاج) ابن تيميّة حول أميرالمؤمنين وأهل البيت عليهم آلاف الصلاة والتحيّة، لنعرف مدي صحّة ما ذكروه من نسبة ابن تيمية إلي النّصب والنفاق والعِداء لهم!

قال الحافظ ابن حجر بترجمته: «وافترق الناس فيه شيعاً، فمنهم من نسبه إلي التجسيم.. ومنهم من ينسبه إلي الزندقة … ومنهم من ينسبه إلي النفاق، لقوله

في علي ما تقدم ولقوله: إنه كان مخذولًا حيث ما توجّه، وإنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وإنّما قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله: إنه كان يحب الرياسة وإن عثمان كان يحبّ المال، ولقوله: أبو بكر أسلم شيخاً يدري ما يقول وعلي أسلم صبياً والصبي لا يصح إسلامه علي قول، وبكلامه في قصة خِطبة بنت أبي جهل ومات وما نسبها من الثناء … «1» وقصة أبي العاص بن الربيع وما يؤخذ من مفهومها، فإنه شنّع في ذلك.

فألزموه بالنفاق لقوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: ولا يبغضك إلّا منافق» «2».

ومن درس كتاب (منهاج السنّة) وَجَدَه يطعن ويقدح في جميع شئون أميرالمؤمنين عليه السّلام، وينكر فضائله ومناقبه كلّها، مِن إسلامه، ومن صفاته __________________________________________________

(1) هنا بياض!!

(2) الدرر الكامنة- الترجمة 409، أحمد بن عبد الحليم- 1/ 155.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 214

النفسانيّة كالعلم والعدالة والشجاعة والزّهد، ومن فضائله ومناقبه الواردة في الصّحاح والسنن وغيرها من كتب أهل السنّة، وحتي في إمامته وخلافته بعد عثمان!! بل يكذب عليه، ويطعن فيه، وينال منه … !!

ولكن في كلماته تناقضات لا تحصي …

وهذه جملة من كلماته نذكرها في فصول تحتها عناوين:

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 215

1- حول إسلامه وجهاده … ص: 215

إسلامه وصلاته قبل الناس … ص: 215

إن علياً عليه السلام أوّل من أسلم، بالأدلّة الثابتة عند الفريقين، وهذا ممّا اعترف به كبار الأئمة المتقدّمين علي ابن تيمية والمتأخرين عنه «1»، وهذه فضيلة لم يشركه فيها أحد.

ويريد ابن تيميّة إنكار هذه الفضيلة، لكنّه يضطرب!! فنحن نورد كلماته في المسألة وعليك أن تقارن بينها:

يقول: «قول علي: صلّيت ستة أشهر قبل الناس، فهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة، فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكر وخديجة يوماً أو نحوه، فكيف يصلّي قبل الناس

بستّة أشهر» «2».

فهنا يعترف بإسلامه قبل أبي بكر، ولا ينقل قولًا علي الخلاف.

وفي موضع آخر يشكك في ذلك ويقول: «وتنازعوا في أوّل من نطق بالإسلام بعد خديجة، فإن كان أبو بكر أسلم قبل علي، فقد ثبت أنه أسبق صحبةً كما كان أسبق إيماناً. وإن كان علي أسلم قبله، فلا ريب أن صحبة أبي بكر للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كانت أكمل وأنفع له من صحبة علي ونحوه» «3».

__________________________________________________

(1)

تقدم بعض ما يدل عليه وسنفصّل الكلام فيه في (الشرح).

(2) منهاج السنة 5/ 19.

(3) منهاج السنة 8/ 389.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 216

فيردّد الأمر- مع التصريح بدعوي كون إسلامه بعد خديجة- ثم يفضّل إسلام أبي بكر علي كلّ تقدير.

وفي موضع ثالث ينسب القول بتقدّم إسلام أبي بكر إلي أكثر الناس، فيقول:

«قول القائل: علي أوّل من صلّي مع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ممنوع، بل أكثر الناس علي خلاف ذلك، وأن أبا بكر صلّي قبله» «1».

فلاحِظ كيف يضطرب!

ومما يبيّن شدّة اضطرابه وقوّة نصبه وعدائه: تشكيكه في أصل قبول إسلام الإمام عليه السّلام، إنّه يقول:

«قوله: وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة. ممنوع، فإنّ الناس متنازعون في أوّل من أسلم، فقيل: أبو بكر أوّل من أسلم، فهو أسبق إسلاماً من علي، وقيل: إن عليّاً أسلم قبله، لكن علي كان صغيراً وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء، ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وأنفع، فيكون هو أكمل سبقاً بالإتّفاق، وأسبق علي الإطلاق علي القول الآخر. فكيف يقال: علي أسبق منه بلا حجة تدل علي ذلك» «2».

ولا يكتفي ابن تيمية بهذا القدر، بل يحاول إثبات كفر علي عليه السّلام قبل إسلامه، والتشكيك في إسلامه وهو غير بالغ،

انظر إلي كلامه:

«قبل أن يبعث اللَّه محمّداً صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يكن أحد مؤمناً من قريش، لا رجل ولا صبي ولا امرأة، ولا الثلاثة ولا علي!

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 273.

(2) منهاج السنة 7/ 155.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 217

وإذا قيل عن الرجال: إنهم كانوا يعبدون الأصنام.

فالصبيان كذلك، علي وغيره!!

وإن قيل: كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ.

قيل: ولا إيمان الصبي مثل ايمان البالغ.

فأولئك يثبت لهم حكم الإيمان والكفر وهم بالغون، وعلي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ.

والصبي المولود بين أبوين كافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا باتّفاق المسلمين، وإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ؟ علي قولين للعلماء.

بخلاف البالغ فإنّه يصير مسلماً باتّفاق المسلمين.

فكان إسلام الثلاثة مخرجاً لهم من الكفر باتّفاق المسلمين. وأما إسلام علي فهل يكون مخرجاً له من الكفر؟ علي قولين مشهورين، ومذهب الشافعي أن إسلام الصبي غير مخرج له من الكفر» «1».

الرّافضة تعجز عن إثبات إيمان علي … ص: 217

وقال ابن تيميّة:

«إنّ الرافضة تعجز عن إثبات إيمان عليّ وعدالته، … فإن احتجّوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده، فقد تواتر ذلك عن هؤلاء بل تواتر إسلام معاوية

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 285- 286.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 218

ويزيد وخلفاء بني اميّة وبني العبّاس وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفّار» «1».

أقول:

وهل كان إيمان أميرالمؤمنين وعدالته بحاجةٍ إلي إثبات؟ وكيف يقاس إيمانه بإيمان غيره مطلقاً، فضلًا عن معاوية وغيره ممّن ذكر؟

أمّا معاوية، فقد حارب أميرالمؤمنين، وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله له: «حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب اللَّه، وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ اللَّه، والويل لمن أبغضك بعدي» «2». ولا ريب في أنه كان مبغضاً لأمير المؤمنين، الذي قال رسول اللَّه

«بغضه نفاق» في حديثٍ صحيح متّفق عليه بين الجميع، ومن رواته من الجمهور: مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، والترمذي في صحيحه، والنسائي في خصائصه، وأبو نعيم في حليته، وغيرهم.

وإذا كان هذا حال معاوية فما ظنّك بحال يزيد وغيره!!

فهل عرفت لماذا نسبه بنو قومه إلي النفاق؟!

بين علي وبين الكفّار والمنافقين … ص: 218

يقول ابن تيميّة: «لم يعرف أنّ علياً كان يبغضه الكفار والمنافقون» «3».

وفي موضعٍ آخر يقول: «لم يكن لعلي إلي أحدٍ منهم إساءة، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، ولا قتل أحداً من أقاربهم، فإنّ الذين قتلهم علي لم يكونوا من __________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 62.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3/ 127- 128.

(3) منهاج السنة 7/ 461.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 219

أكبر القبائل، وما من أحدٍ من الصّحابة إلّا وقد قتل أيضاً.

وكان عمر- رضي اللَّه عنه- أشدّ علي الكفّار وأكثر عداوةً لهم من علي، فكلامهم فيه وعداوتهم له معروفة» «1».

إذن! لم يكن لعلي إلي أحدٍ منهم إساءة، والذين قتلهم لم يكونوا من «أكبر القبائل»!! فأنصف ولم يقل: كانوا «من الموالي»!!

أمّا عمر فكان «أشد علي الكفّار وأكثر عداوةً لهم» بأيّ شي ء؟ ومتي لا يصرّح بالقتل والقتال، لأنه يعلم بواقع الحال!!

لكنّه في موضعٍ آخر لا يستحي فيقول: «وقوله: إنّ علياً قتل بسيفه الكفّار.

فلا ريب أنه لم يقتل إلّا بعض الكفار، وكذلك سائر المشهورين بالقتال من الصحابة، كعمر والزبير وحمزة والمقداد وأبي طلحة والبراء بن مالك وغيرهم رضي اللَّه عنهم، ما منهم من أحدٍ إلّا قتل بسيفه طائفةً من الكفار».

وهل قتل عمر بسيفه طائفة من الكفّار؟

هنا يضطر إلي أن يقول: «والقتال يكون بالدعاء كما يكون باليد» «2».

إذن! قتل عمر طائفة من الكفار بالدّعاء!!

وقد كرّر هذا الكلام في موضع آخر، إذ

قال: «وهؤلاء لم يقتل علي أحداً منهم ولا أحداً من الأنصار، وقد كان عمر- رضي اللَّه عنه- أشدّ عداوةً منذ أسلم للمشركين من علي، فكانوا يبغضونه أعظم من بغضهم لسائر الصّحابة، وكان الناس ينفرون عن عمر لغلظته وشدّته أعظم من نفورهم عن علي» «3».

لكنّه- علي كلّ حالٍ- لم يدّع «قتالًا» لأبي بكر، لا «بسيفه» ولا

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 361.

(2) منهاج السنة 4/ 480- 482.

(3) منهاج السنة 6/ 321.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 220

«بالدعاء»!.. بل لمّا أراد ذكره بدلّ التعبير من «القتل» إلي «الجهاد» فكان جهاد أبي بكر وغيرهم أعظم من جهاد علي!

يقول: «وأمّا علي- رضي اللَّه عنه- فلا ريب أنه ممّن يحب اللَّه ويحبّه اللَّه، لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان، ولا كان جهاده للكفّار والمرتدّين أعظم من جهاد هؤلاء، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم مما حصل بهؤلاء» «1».

جهاده الكفار بسيفه وكونه أشجع الناس بعد النبي … ص: 220

يقول العلامة الحلّي: «إنه كان أشجع الناس، وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام، وتشيّدت أركان الإيمان، ما انهزم في موطن قط … ».

فاستمع إلي جواب ابن تيمية:

«أمّا قوله: إنه كان أشجع الناس، فهذا كذب، بل كان أشجع الناس رسول اللَّه … » «2».

باللَّه عليك! فهل كان العلّامة يدّعي كون أميرالمؤمنين أشجع من النبي، صلّي اللَّه عليهما وآلهما وسلّم؟ إنّ هذا الجواب أليق بالحمقي منه بأهل العلم!

إلّا أنّ السرّ في هذه المغالطة هو عدم تمكّنه من دعوي أشجعيّة أبي بكر وعمر … لكنّه كما جعل «القتل» يكون «بالدعاء» كذلك جعل «الشجاعة» تكون «بالقعود» عن الحرب والقتال … قال: «وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 218.

(2) منهاج السنة 8/ 76.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 221

شجاعة

القلب، فلا ريب أنّ أبا بكر كان أشجع من عمر، وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير.. وكان يوم بدرٍ مع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في العريش … » «1».

إذن: كان أبو بكر وغيره فاقدين للشجاعة البدنية، لكنّ الشجاعة المطلوبة من الأئمة هي «شجاعة القلب»، ولا ريب في أن أبا بكر وعمر كانا أشجع من علي.

ألا سائل يسأله- بعد التنزّل عن كلّ ما هنالك- أنّ الشّجاعة البدنيّة تكون بلا شجاعة القلب؟!

وإذا كانوا واجدين لشجاعة القلب وثباته فلماذا انهزموا وفرّوا؟

يقول: «وأمّا قوله: ما انهزم قط. فهو في ذلك كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي اللَّه عنهم، فالقول في أنه ما انهزم كالقول في أنّ هؤلاء ما انهزموا قط، ولم يعرف لأحدٍ من هؤلاء هزيمة … والمسلمون كانت لهم هزيمتان: يوم أحد ويوم حنين. ولم ينقل أن أحداً من هؤلاء انهزم، بل المذكور في السّير والمغازي أن أبا بكر وعمر ثبتا مع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يوم أحد ويوم حنين، ولم ينهزما مع من انهزم. ومن نقل أنهما انهزما يوم حنين فكذبه معلوم. وإنما الذي انهزم يوم احد عثمان، وقد عفا اللَّه عنه. وما نقل من انهزام أبي بكر وعمر بالراية يوم حنين فمن الأكاذيب المختلقة التي افتراها المفترون» «2».

ثمّ إذا طالبته بأحسن موردٍ ظهرت فيه شجاعة أبي بكر، ذكر في الجواب ما

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 79.

(2) منهاج السنة 8/ 91.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 222

في الصحيحين! عن عروة بن الزبير! عن عبداللَّه بن عمرو بن العاص! … يقول ابن تيمية:

«ومن شجاعة الصدّيق ما في الصحيحين، عن عروة بن الزبير قال: سألت عبداللَّه بن عمرو، عن أشدّ ما صنع

المشركون برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو يصلّي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر فدفعه عنه وقال: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ»» «1».

فهذه شجاعة أبي بكر عند أشدّ ما صنع المشركون برسول اللَّه!!

تكميل … ص: 222

من الامور الثابتة بالضرورة فرار أبي بكر وعمر يوم احد ويوم خيبر، أمّا في احد فروي الخبر: أبو داود الطيالسي، وابن سعد، والبزّار، والطبراني، وابن حبان، والدار قطني، وأبو نعيم، وابن عساكر، والضياء المقدسي، وغيرهم من الأئمة الأعلام «2».

وأمّا في خيبر فرواه: أحمد، وابن أبي شيبة، وابن ماجة، والبزار، والطبري، الطبراني، والحاكم، والبيهقي، والضياء، والهيثمي، وجماعة غيرهم فراجع «3».

وأمّا في احُد فالذي صبر مع النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- وعدّ من __________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 85.

(2) كنز العمّال- كتاب الغزوات، غزوة احد، مسند الصديق الحديث 30025- 10/ 424.

(3) كنز العمال- كتاب الغزوات غزوة خيبر، مسند علي، الحديث 30119- 10/ 462 عدّة أحاديث.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 223

خصائصه كما في الحديث الصحيح عن ابن عبّاس- هو علي عليه السّلام «1».

وأمّا في خندق فقد عرف الناس حال القوم، وقعودهم عن البراز إلي ابن عبدود، بما لا يحتاج إلي ذكر!!

وعلي هذه فقس ما سواها!

كلّ ما جاء في مواقفه في الغزوات كذب … ص: 223

وأنكر ابن تيميّة كلّ ما ذكره العلّامة من مواقف ومشاهد أميرالمؤمنين عليه السّلام في حروب رسول اللَّه وغزواته صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فراجع كلماته في (غزاة بدر) و (احد) و (الأحزاب) و (خيبر) و (حنين) وغيرها «2».

كما أنّه أنكر فرار المشايخ في غير واحدٍ من المشاهد.

والعجيب أنّه في جميع إنكاراته ينسب الإنكار إلي «أهل العلم بالمغازي والسّير»!! ولا ندري ما إذا كان يقصد من «أهل العلم» نفسه وبعض من حوله فقط!!

والأعجب من ذلك مطالبته بالنقل المعتبر لما يقوله العلّامة، قائلًا: «بيّن لنا سند هذا»! و: «لابدّ من بيان إسناد كلّ ما يحتجُّ به من المنقول أو عزوه إلي كتابٍ تقوم به الحجة، وإلّا فمن أين يعلم أنّ هذا وقع»!

قلت:

قد ذكرنا في (الشرح) الأسانيد في كلّ موردٍ، كما ذكرنا بعض من __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين- كتاب معرفة الصحابة، ذكر إسلام أميرالمؤمنين علي رضي اللَّه تعالي عنه حديث 4582- 3/ 120.

(2) منهاج السنة 8/ 94- 127.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 224

روي فرار القوم في (احد) و (خيبر) وغيرهما من الغزوات، من أعلام الأئمة الثقات … وفيهم من يعتمد عليه ابن تيمية ويحسبه من كبار الأئمة الحفاظ لسنّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كأحمد بن حنبل والدار قطني وأمثالهما … لكنّه مع ذلك يقول في جواب قول العلامة «وفي غزاة أحد لمّا انهزم الناس كلّهم» يقول:

«قد ذكر في هذه من الأكاذيب العظام التي لا تنفق إلّا علي من لم يعرف الإسلام، وكأنّه يخاطب بهذه الخرافات من لا يعرف ما جري في الغزوات … » «1»!!

إنّه يذكّرك بما اتّفق علي روايته المسلمون من قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«إذا لم تستح فاصنع ما شئت»!!

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 97.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 225

2- حول علومه ومعارفه … ص: 225

اشارة

وكذّب ابن تيميّة كلّ ما يستدل به من الكتاب والسنّة في هذا الباب … فكأنّ أميرالمؤمنين عليه السّلام لم يتعلّم من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم شيئاً، ولم يتعلّم أحد منه من العلوم الإسلامية شيئاً أصلًا!! وهذه كلماته:

كلّ الأدلة من الكتاب والسنة كذب: … ص: 225
1- نزول «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ» فيه … ص: 225

قال العلّامة: «وفيه نزل قوله تعالي «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»».

قال ابن تيميّة: «انّه حديث موضوع باتّفاق أهل العلم» «1».

وقال محقّق كتابه: «لم أجد هذا الحديث»!

أقول:

يوجد هذا الحديث في روايات «أهل العلم» وكتبهم المعروفة، فقد رواه:

محمّد بن جرير الطبري في تفسيره، وأبو بكر البزّار في مسنده، وسعيد بن منصور في سننه، وابن أبي حاتم في تفسيره، وكذا ابن المنذر، وابن مردويه، والفخر الرازي، والزمخشري، والواحدي، والسيوطي في الدر المنثور. ورواه من المحدثين: أبو نعيم في حليته، والضياء المقدسي في المختارة، وابن عساكر، والهيثمي __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 522.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 226

في مجمعه … «1».

إذن: قد «اتّفق» «أهل العلم» علي رواية «هذا الحديث الموضوع»!!

2- حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها» كذب … ص: 226

قال: «وحديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها. أضعف وأوهي ولهذا إنّما يعدّ في الموضوعات وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة. والكذب يعرف من نفس متنه … » «2».

أقول:

حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم- أو المدينة- فليأتها من بابها» من أصحّ الأحاديث سنداً، وأمتنها وأتقنها دلالةً، فكان علي مثل ابن تيمية أن يكذّبه، بل ويعزو روايته إلي الزنادقة!!

وقد بحثنا عن هذا الحديث من جميع جوانبه في الأجزاء 10- 12 من كتابنا الكبير (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار) … وهذه مقتطفات ممّا جاء هناك:

أولًا: رواته من الصحابة: أميرالمؤمنين عليه السّلام، الإمام الحسن السبط، الإمام الحسين السبط، عبداللَّه بن العبّاس، جابر بن عبداللَّه، عبداللَّه بن مسعود، حذيفة بن اليمان، عبداللَّه بن عمر، أنس بن مالك، عمرو بن العاص.

__________________________________________________

(1) لاحظ التفاسير بتفسير الآية من سورة الحاقّة، وهو في مجمع الزوائد- كتاب العلم، باب في طالب العلم وإظهار البشر له 1/ 131، حلية

الأولياء- الترجمة 4 علي بن أبي طالب 1/ 67، كنز العمال- فضائل علي رضي اللَّه عنه، الحديث 36426، 13/ 136، والحديث 36525، 13/ 177.

(2) منهاج السنة 7/ 515.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 227

أمّا من التابعين: فكثيرون جدّاً.

وأمّا من الأئمة وكبار العلماء في مختلف القرون: فأكثر وأكثر، نذكر أشهرهم:

يحيي بن معين، أحمد بن حنبل، الترمذي، البزّار، ابن جرير الطبري، الطبراني، أبو الشّيخ الإصفهاني، ابن بطة، الحاكم، ابن مردويه، أبو نعيم، أبو المظفر السمعاني، البيهقي، إبن الأثير، النووي، العلائي، المزّي، إبن حجر العسقلاني، السّخاوي، السيوطي، السمهودي، ابن حجر المكي، القاري، المنّاوي، الزرقاني، الشوكاني، الآلوسي.

وثانياً: الذين نصّوا علي صحة هذا الحديث من كبار الأئمة: يحيي بن معين، ابن جرير الطبري، الحاكم، صلاح الدين العلائي، ابن الجزري، السخاوي، السيوطي، ابن روزبهان، المتّقي الهندي.. وغيرهم.

وثالثاً: الذين نصّوا علي حسن هذا الحديث أو في بعض طرقه: الترمذي- علي ما نقل عنه الدهلوي في شرح المشكاة- العلائي، الزركشي، المجد الشيرازي، ابن حجر العسقلانيِّ، السخاوي، السيوطي، السمهودي، الصالحي الشامي، ابن عرّاق، ابن حجر المكي، علي القاري، المناوي، العزيزي، الزرقاني، الشوكاني، وغيرهم.

ورابعاً: إن تصحيح «يحيي بن معين» حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها» أصبح هو الأساس لتصحيح جماعة من الأئمة، وذلك لكون «ابن معين» عندهم «إمام الجرح والتعديل».

أمّا تصحيحه فمذكور بترجمة (عبد السلام بن صالح الهروي) من (تهذيب الكمال) و (تهذيب التهذيب) وفي (جمع الجوامع) و (فيض القدير) و (الفوائد المجموعة) وغيرها.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 228

وأمّا وصفهم (ابن معين) بكونه إمام أهل الجرح والتعديل، وأنه المرجوع إليه في هذا الباب، وأنّ قوله حجة … فمذكور بتراجمه في (الانساب- المرّي) و (تهذيب الأسماء واللغات 1/ 156) و (وفيات

الأعيان 6/ 139) و (سير أعلام النبلاء 11/ 71) وغيرها.

وابن تيمية نفسه ينصّ علي كون (يحيي بن معين» المرجع في التمييز بين صدق الحديث وكذبه، في جماعةٍ وصفهم بذلك، حيث قال: «المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلي أهل العلم في الحديث، كما نرجع إلي النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب، ونرجع إلي علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك.

فلكلّ علمٍ رجال يعرفون به.

والعلماء بالحديث أجل هؤلاء قدراً، وأعظمهم صدقاً، وأعلاهم منزلة، وأكثر ديناً، وهُم من أعظم الناس صدقاً وأمانةً وعلماً وخبرةً، فيمايذكرونه من الجرح والتعديل، مثل:

مالك، وشعبة، وسفيان، ويحيي بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي وابن المبارك، ووكيع، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وابن معين … والدارقطني. وأمثال هؤلاء خلق كثير لا يحصي عددهم … » «1».

أقول:

وله كلامٌ- غير هذا الكلام- يقدّم هؤلاء ويفضّلهم علي الإمامين العسكريين __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 34- 35.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 229

من أئمة أهل البيت عليهم السّلام!!

وقد ذكر في هذه الكلمات «يحيي بن معين» و «أحمد بن حنبل» و «الدارقطني»، وهؤلاء من رواة حديث (أنا مدينة العلم). أمّا الأول فقد عرفت، وأمّا أحمد فقد ذكرت روايته في (تذكرة الخواص) و (جواهر العقدين) وغيرهما. وأمّا الدار قطني فقد وقع في سند رواية ابن عساكر.

وخامساً: فإنّ من المخرجين له هو الترمذي، وكتابه أحد الصّحاح الستّة عندهم وقد اعتمد عليه ابن تيمية في غير موضعٍ من كتابه.

وسادساً: فإنّ الحاكم النيسابوري أيضاً من مخرّجيه، ومصحّحيه، وقد اعتمد ابن تيمية علي مستدركه غير مرّةً أيضاً.

هذا، وإن شئت المزيد

فراجع كتابنا المذكور.

3- حديث: «أقضاكم علي» كذب … ص: 229

قال: «فهذا الحديث لم يثبت، وليس له إسناد تقوم به الحجّة … لم يروه أحد في السنن المشهورة ولا المساند المعروفة، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، وإنما يروي من طريق من هو معروف بالكذب» «1».

وقال محقّقه: «لم أجد هذا الحديث».

أقول:

ورد الحديث في أنّ أميرالمؤمنين عليه السّلام «أقضي الأصحاب» أو «أقضي الأمّة» ونحو ذلك عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وعن غير

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 513.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 230

واحدٍ من الصّحابة، فراجع:

صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب الآية «مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا» وكذا في الدر المنثور عن النسائي، وابن الأنباري، ودلائل النبوة للبيهقي.

وهو في الطبقات لابن سعد عن أبي هريرة عن عمر «1»، وفي المسند «2» وبترجمته عليه السلام من سنن ابن ماجة والمستدرك علي الصحيحين- وصحّحه- والاستيعاب، واسد الغابة، وحلية الأولياء، والرياض النضرة. فاقرأ واحكم!!

4- ابن عباس تلميذ علي، كلام باطل … ص: 230

هذا نصّ كلامه وعين عبارته، واستدلّ قائلًا: «فإن رواية ابن عبّاس عن علي قليلة، وغالب أخذه عن عمر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة، وكان يفتي بقول أبي بكر وعمر، ونازع عليّاً في مسائل» «3».

وقال في موضع آخر: «وهذا ابن عبّاس، نقل عنه من التفسير ما شاء اللَّه بالأسانيد الثابتة، ليس في شي ء منها ذكر علي. وابن عبّاس يروي عن غير واحدٍ من الصحابة، يروي عن: عمر، وأبي هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، وعن زيد ابن ثابت، وأبي بن كعب، واسامة بن زيد، وغير واحدٍ من المهاجرين والأنصار، وروايته عن علي قليلة جداً، ولم يخرّج أصحاب الصحيح شيئاً من حديثه عن علي … » «4».

__________________________________________________

(1)

الطبقات الكبري- ترجمة علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه 2/ 259.

(2) مسند أحمد- مسند الأنصار،

حديث أبي بن كعب، الحديث 20581- 6/ 131.

(3) منهاج السنة 7/ 536.

(4) منهاج السنة 8/ 42.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 231

أقول:

الكلام في هذا المجال كثير، ولربما يأتي بعضه هنا، والتفصيل في (الشرح)، فنكتفي بكلام المناوي بشرح الحديث: «علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرقا حتي يردا عليَّ الحوض» قال «وهذا كان أعلم الناس بتفسيره. قال المولي خسرو الرومي- عندما قال القاضي: إنه جمع في تفسيره ما بلغه عن عظماء الصحابة-:

أراد بعظمائهم علياً وابن عبّاس والعبادلة وأُبي وزيد. قال: وصدرهم علي، حتي قال ابن عبّاس: ما أخذت من تفسيره فعن علي. ويتلوه ابن عبّاس … » «1».

5- ابن مسعود وغيره من الصحابة لم يأخذوا عن علي شيئا … ص: 231

وهذه أيضاً عين عبارته «2».

أقول:

ما أشنع هذا الكلام وأنكره عند ذوي الأفهام!!

إنّ من يراجع كلمات الأئمة بترجمة أميرالمؤمنين عليه السّلام، يجد التصريح بأخذ كبار الصحابة منه، ويجد أيضاً أسماء كثيرين منهم أخذوا عنه ورووا عنه، كما يجد ذلك بتراجم الصّحابة أيضاً.

انظر إلي كلام الحافظ المزي عندما يقول: «أحد العلماء الربّانيين، والشجعان المشهورين، والزّهاد المذكورين، وأحد السابقين إلي الإسلام … أما علمه، فكان من العلوم بالمحلّ العالي، روي عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم __________________________________________________

(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير 4/ 470.

(2) منهاج السنة 8/ 42.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 232

خمسمائة حديث وستة وثمانين حديثاً، اتّفق البخاري ومسلم منها علي عشرين، وانفرد البخاري بتسعة ومسلم بخمسة عشر. روي عنه بنوه الثلاثة: الحسن والحسين ومحمّد بن الحنفية، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبو موسي، وعبداللَّه بن جعفر، وعبد اللَّه بن الزبير، وأبو سعيد، وزيد بن أرقم، وجابر بن عبداللَّه، …

وروي عنه من التابعين خلائق مشهورون.

ونقلوا عن ابن مسعود قال: كنّا نتحدّث أن

أقضي أهل المدينة علي.

وقال ابن المسيب: ما كان أحد يقول سلوني، غير علي.

وقال ابن عبّاس: اعطي علي تسعة أعشار العلم، وواللَّه لقد شاركهم في العشر الباقي.

قال: وإذا ثبت لنا الشي ء عن علي لم نعدل إلي غيره.

وسؤال كبار الصحابة له ورجوعهم إلي فتاويه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات مشهور» «1».

وأمّا خصوص (عبداللَّه بن مسعود) فتجد التصريح بروايته عن مولانا أميرالمؤمنين بترجمتهما في الكتب الرجاليّة، نكتفي بذكر ما جاء في واحدٍ منها: ففي (تهذيب الكمال) بترجمة أميرالمؤمنين حيث يذكر الرواة عنه بترتيب الحروف:

«وعبد اللَّه بن عبّاس (خ م د س ق)، و عبداللَّه بن عبد القاري (س) وعبداللَّه بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، (س) مرسل وعبداللَّه بن عمر بن الخطاب، وعبداللَّه بن عمرو بن هند الجملي (ت ص) وعبداللَّه بن مسعود ومات قبله عبداللَّه ابن معقل بن مقرّن المزني … » «2».

__________________________________________________

(1) تهذيب الأسماء واللغات- 429 ترجمة علي بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه 1/ 344- 346.

(2) تهذيب الكمال- الترجمة 4089، علي بن أبي طالب- 20/ 276.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 233

6- معاذ أعلم من علي بالحلال والحرام! … ص: 233

وقال في الجواب عن «أقضاكم علي»: «وقوله: أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، أقوي إسناداً منه … قد رواه الترمذي وأحمد … وإذا كان قوله: أعلم أُمّتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل، أصح إسناداً وأظهر دلالةً، علم أنّ المحتجّ بذلك علي أن عليّاً أعلم من معاذ جاهل، فكيف من أبي بكر وعمر اللذين هما أعلم من معاذ؟

مع أنّ الحديث الذي فيه ذكر معاذ وزيد، بعضهم يضعّفه وبعضهم يحسّنه، والذي فيه ذكر علي فضعيف أو باطل» «1».

أقول:

قد تبيّن مما سبق ويأتي كذب هذا الكلام، وفي (الشرح) بيان مفصّل

في سقوط ما يروونه عن النبي أنه قال: «أعلمكم بالحلال والحرام معاذ» علي ضوء كلمات علمائهم الكبار في الحديث والرجال.

ولعلّ السرّ في وضع هذا الحديث كون معاذ في جملة المهاجمين لبيت فاطمة عليها السلام، لحمل أمير المؤمنين ومن معه علي البيعة لأبي بكر!!

7- تعلّمه من أبي بكر وعمر … ص: 233

ذكر ابن تيميّة أن «عمر فقد استفاد علي منه أكثر مما استفاد عمر منه» «2» ولم __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 513- 515.

(2) منهاج السنة 8/ 279.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 234

يذكر دليلًا علي هذا القول!

وأمّا أبو بكر فقد كرّر أنّ علياً أخذ العلم منه، وقال بأنّ ذلك معروفٌ، وهذه عباراته:

«والمعروف أن عليّاً أخذ العلم عن أبي بكر، كما في السنن عن علي قال:

كنت إذا سمعت من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم حديثاً نفعني اللَّه به ما شاء أن ينفعني، وإذا حدّثني غيره حديثاً استحلفته، فإذا حلف لي صدّقته، وحدّثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: ما من عبدٍ مؤمن يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلّي، ثم يستغفر اللَّه، إلّا غفر اللَّه له» «1».

وقال: «وكان علي وغيره يروون عن أبي بكر، كما في السنن عن علي قال:

كنت … » «2» فذكره.

وقال: «وأيضاً، فعلي تعلم من أبي بكر بعض السنّة، وأبو بكر لم يتعلّم من علي شيئاً» «3»، إنتهي ويقصد من «بعض السنّة» الحديث الذي في السّنن.

وقال في موضع آخر: «فأمّا أبو بكر رضي اللَّه عنه فما ينقل عنه أحد أنه استفاد من علي شيئاً من العلم، والمنقول أنّ علياً هو الذي استفاد منه، كحديث صلاة التوبة وغيره» «4» فأضاف «وغيره» ولم يقل ما هو؟!

لكنّه في موضع آخر أضاف: «وعلي قد

روي عنه واحتذي حذوه واقتدي __________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 513.

(2) منهاج السنة 7/ 501.

(3) منهاج السنة 7/ 510.

(4) منهاج السنة 8/ 61.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 235

بسيرته» «1».

ولا يخفي انّه ليس في كتب أهل السنّة حديثٌ يرويه أميرالمؤمنين عليه السلام عن أبي بكر إلّا هذا الحديث، وهذا الحديث يروونه عن رجلٍ لم يرو إلّا هذا الحديث، ولهذا فإنّهم إنما عرفوا الرجل بهذا الحديث فقط، يقول المزّي «أسماء بن الحكم الفزاري وقيل السلمي، أبو حسّان الكوفي. روي عن علي بن أبي طالب:

كنت إذا سمعت من رسول اللَّه … الحديث. روي عنه: علي بن ربيعة الوالبي» «2».

وقال الذّهبي: «ماله سوي هذا الحديث» «3».

فانظر كيف يتبجّح ابن تيميّة بهذا الحديث المتفرّد به، ويعنون لأجله أنّ علياً تعلّم من أبي بكر، ويكرّر هذا المطلب مرّات، ويجعله من المعروف؟

ثمّ إنّ مدار هذا الحديث علي «عثمان بن المغيرة» كما قال ابن عدي «4».

وقد وقع الكلام بينهم في هذا الحديث وسنده، أمّا الحديث فقد استنكره البخاري «5» والعقيلي «6»، وحاول المزي الدفاع عن هذا الحديث بأخبار قال فيها ابن حجر: ضعيفة جدّاً «7».

وأمّا «عثمان» الذي عليه مداره فقال العقيلي: منكر الحديث «8».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 279.

(2) تهذيب الكمال الترجمة 409، أسماء بن الحكم الفزاري 2/ 533.

(3) ميزان الاعتدال حرف الألف، الترجمة 979، أسماء بن الحكم الفزاري 1/ 256.

(4) الكامل في الضعفاء الترجمة 240، أسماء بن الحكم الفزاري 1/ 341.

(5) ميزان الاعتدال حرف الألف الترجمة 979، أسماء بن الحكم الفزاري 1/ 255 وغيره.

(6) تهذيب التهذيب الترجمة 447، أسماء بن الحكم الفزاري 1/ 243.

(7) تهذيب التهذيب الترجمة 447، أسماء بن الحكم الفزاري 1/ 243.

(8) تهذيب التهذيب الترجمة 447، أسماء بن الحكم

الفزاري 1/ 243 وعنه الضعفاء الكبير بباب اسحاق، الترجمة 126، أسماء بن الحكم الفزاري 1/ 107.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 236

وأمّا «أسماء» نفسه فقد ذكره ابن الجارود في الضعفاء «1» وقال البزار:

مجهول «2».

وهذا القدر يكفي لمعرفة عدالة ابن تيمية وعلمه … !!

8- له فتاوي كثيرة تخالف النصوص … ص: 236

وذكر ابن تيميّة بأنّ لعلي فتاوي كثيرة تخالف النصوص، حتي جمع الشافعي مجلّداً في خلاف علي وابن مسعود، وجمع محمّد بن نصر المروزي كتاباً كبيراً في ذلك «3».

وقال مرّة أخري «وقد جمع الشافعي في كتاب خلاف علي وعبداللَّه من أقوال علي التي تركها الناس، لمخالفتها النص أو معني النص، جزءاً كبيراً. وجمع بعده محمد بن نصر المروزي أكثر من ذلك، فإنّه كان إذا ناظره الكوفيّون يحتجّ بالنصوص، فيقولون نحن أخذنا بقول علي وابن مسعود، فجمع لهم أشياء كثيرة من قول علي وابن مسعود تركوه أو تركه الناس» «4».

أقول:

لا يخفي الفرق بين الكلامين، هل قصدا جمع الفتاوي التي خالف علي وابن مسعود فيها النصوص من الكتاب والسنّة، أو جمع الفتاوي التي تركها الناس أو خالفوها؟

يقول في موضع ثالث: «وقد جمع الشّافعي ومحمّد بن نصر المروزي كتاباً

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب الترجمة 447، أسماء بن الحكم الفزاري 1/ 243.

(2) تهذيب التهذيب الترجمة 447، أسماء بن الحكم الفزاري 1/ 243.

(3) منهاج السنة 7/ 502.

(4) منهاج السنة 8/ 299.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 237

كبيراً فيما لم يأخذ به المسلمون من قول علي … » «1».

ففي هذا الكلام: إنهما جمعا مالم يأخذ به المسلمون من قول علي، وأين هذا من جمعهما ما خالف فيه النصوص!!

علي أنّه ينسب عدم الأخذ بقوله عليه السلام إلي «المسلمين».

لكنه في موضعٍ آخر يصرّح بأنّ الكتابين إنّما أُلّفا للنقض

علي أهل العراق الذين كانوا يدّعون متابعة علي وابن مسعود، فجمعا فيهما ما تركوه من أقواله، وهذا نصّ كلام ابن تيميّة:

«وقد جمع الشافعي في ذلك كتاباً فيه خلاف علي وابن مسعود، لمّا كان أهل العراق يناظروفه في المسألة، فيقولون: قال علي وابن مسعود … وجمع بعده محمّد ابن نصر المروزي كتاباً أكبر من ذلك بكثير، ذكره في مسألة رفع اليدين في الصلاة، لمّا احتجّ عليه فيها بقول ابن مسعود» «2».

وهل من عيبٍ علي علي فيما لو ترك «أهل العراق» أو «المسلمون» كلّهم شيئاً من أقواله؟

أقول:

لكنّ الحقيقة أنّ المروزي جمع كتاباً فيما خالف فيه أبو حنيفة عليّاً وعبداللَّه ابن مسعود، فقد حكي السّبكي والذهبي عن أبي إسحاق الشيرازي: «إن المروزي صنّف كتاباً في ما خالف فيه أبو حنيفة علياً وعبداللَّه رضي اللَّه عنهما» «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 281.

(2) منهاج السنة 6/ 441.

(3) طبقات الشافعية الكبري الترجمة 60، محمد بن نصر المروزي 2/ 247، سير أعلام النبلاء الترجمة 13، محمد بن نصر 14/ 38 عن طبقات الشافعية لأبي إسحاق الشيرازي 106- 107 بترجمة المروزي.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 238

هذه هي الحقيقة وهذه هي أمانة (شيخ الإسلام) كما يلقّبه أتباعه!! «وأترك الحكم للقارئ المنصف الذي يريد اللَّه والدار الآخرة».

وأمّا الشافعي، فالمعروف حبّه لأمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السّلام، وأشعاره في ذلك مشهورة، حتي رمي بالرّفض.. مضافاً إلي أن المنقول عنه: أنّه لمّا أجاب عن مسألةٍ قيل له: خالفت علي بن أبي طالب! فقال له: ثبت لي هذا عن علي بن أبي طالب، حتي أضع خدّي علي التراب وأقول قد أخطأت» «1».

9- حول قول عمر: لو لا علي لهلك عمر … ص: 238

ويجيب ابن تيمية عمّا تواتر من قول عمر كثيراً: «لو لا علي لهلك عمر»:

«هذا

لا يعرف أنّ عمر قاله إلّا في قضيةٍ واحدةٍ، إن صحّ ذلك، وكان عمر يقول مثل هذا لمن هو دون علي» «2».

أقول:

قد قاله عمر في وقائع كثيرة، يجدها المتتبّع لكتب القوم في التفسير والحديث والفقه وغيرها، وبما أن ابن تيميّة يدّعي: «لا يعرف أنّ عمر قاله إلّا في قضيّة واحدة» مع التشكيك في صحتها أيضاً!! فنحن نكتفي بذكر قضيّتين:

1- قضيّة المرأة التي ولدت لستّة أشهر فهمّ عمر برجمها، رواها:

عبدالرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وابن عبد البر، والمحبّ الطبري، والمتقي الهندي، وغيرهم … قال الطبري: «فترك عمر رجمها

__________________________________________________

(1) الفهرست لابن النديم- الفن الثالث من المقالة السادسة في أخبار الشافعي وأصحابه: 259.

(2) منهاج السنة 8/ 62.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 239

وقال: لو لا علي لهلك عمر» «1» بل في رواية ابن عبد البر: «فكان عمر يقول: لو لا علي لهلك عمر» «2».

2- قضية المرأة المجنونة التي زنت، أخرجها عبد الرزاق، والبخاري، وأحمد، والدار قطني وغيرهم، قال المناوي- بشرح قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض-:

«وأخرج أحمد: أن عمر أمر برجم امرأةٍ، فمرّ بها علي، فانتزعها، فأخبر عمر، فقال: ما فعله إلّا لشي ء، فأرسل إليه فسأله، فقال: أما سمعت رسول اللَّه- صلّي اللَّه تعالي عليه وعلي آله وسلم- يقول: رفع القلم عن ثلاث. الحديث؟ قال: نعم.

قال: فهذه مبتلاة بني فلان، فلعلّه أتاها وهو بها. فقال عمر: لو لا علي هلك عمر.

واتّفق له مع أبي بكر نحوه، … » «3».

هذا، ولعمر في هذه الوقائع كلمات اخري في حقّ علي عليه السّلام، كقوله:

«لا أبقاني اللَّه بعدك يا علي» وقوله:

«لا أبقاني اللَّه لمعضلة لست لها يا أبا الحسن» وقوله: «لا كنتُ في بلدٍ لست فيه» وأمثالها، وهي موجودة في الكتب المعتبرة المشهورة.

10- جهله بالسنّة النبويّة والأحكام الشرعيّة … ص: 239

بل يزعم ابن تيميّة أن أميرالمؤمنين عليه السلام مات وهو جاهل بكثير من الأحكام الشرعية والسنن النبوية! فيقول:

__________________________________________________

(1) الرياض النضرة 2/ 194.

(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب- باب علي الترجمة 1855- 3/ 1103.

(3) فيض القدير، شرح الجامع الصغير- الحديث 5594 4/ 470.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 240

«وعلي- رضي اللَّه عنه- قد خفي عليه من سنّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أضعاف ذلك، ومنها ما مات ولم يعرفه» «1».

ويقول: «وعلي قد تبيّن له امور بخلاف ما كان يعتقده فيها أضعاف ذلك، بل ظنّ كثيراً من الأحكام علي خلاف ما هي عليه، ومات علي ذلك» «2».

11- وحتّي القرآن قد اختلف، حفظه أو لا؟ … ص: 240

يقول: «وعثمان جمع القرآن كلّه بلا ريب، وكان أحياناً يقرؤه في ركعة، وعلي قد اختلف فيه: هل حفظ القرآن كلّه أم لا؟» «3».

ولا يخفي علي الخبير البصير كيفيّة التعبير! فعثمان جمع القرآن كلّه بلا ريب، فعلي لم يجمعه؟ وكان أحياناً يقرؤه في ركعة، وعلي لا؟ ففي عثمان لا يدّعي «الحفظ» بل «الجمع» أمّا في علي فلا يذكر «الجمع» بل يذكر «الحفظ» ويجعله مختلفاً فيه!!

12- وحتّي في فهمه فأبو حنيفة ومالك وأحمد أعلم منه … ص: 240

وهذا ما يستنتجه الناظر في كلام ابن تيميّة، وأنا اذكر لك مورداً واحداً فدقّق فيه:

«فإن قال الذابُّ عن علي: هؤلاء الذين قاتلهم علي كانوا بغاة، فقد ثبت في الصحيح أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعمّار بن ياسر- رضي اللَّه عنه- تقتلك الفئة الباغية، وهم قتلوا عمّاراً.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 43.

(2) منهاج السنة 8/ 301.

(3) منهاج السنة 8/ 229.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 241

فههنا للناس أقوال، منهم: من قدح في حديث عمّار.

ومنهم: من تأوّله علي أن الباغي: الطالب. وهو تأويل ضعيف.

وأما السلف والأئمة فيقول أكثرهم، كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم: لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية، فإنّ اللَّه لم يأمر بقتالها ابتداءً، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما، ثم إن بغت إحداهما علي الاخري قوتلت التي تبغي، وهؤلاء قوتلوا ابتداءً قبل أن يبدؤوا بقتال … ولهذا كان هذا القتال عند أحمد وغيره- كمالك- قتال فتنة، وأبو حنيفة يقول: لا يجوز قتال البغاة حتي يبدؤوا بقتال الإمام، وهؤلاء لم يبدؤوه … وأمّا قتال الخوارج فهو ثابت بالنص والإجماع» «1».

فماذا تفهم من هذا الكلام؟

الآية المباركة لا تجوّز قتال من لم يبدأ بالقتال، والذين قاتلهم علي في صفّين والجمل لم يبدؤوا بل علي هو البادي؟ فإمّا أن يكون

ظالماً متهوّراً في إراقة الدماء، وإمّا أن يكون جاهلًا بمعني الآية المباركة!! والأئمة الذين قالوا كذلك أعلم منه!

ثم إنّه يقول هذا، وكأنّ عدم بدء الناكثين والقاسطين بالقتال، أمر ثابت مفروغ منه.

هذا بالنسبة إلي الآية. وأمّا الحديث فقد ذكر في الجواب عنه وجهين أحدهما: عدم صحته، مع كونه في الصحاح. والآخر: التصرف في معناه. أما الثاني فقال: ضعيف. وأما الأول فسكت عنه، وهو طالما يحتجّ في بحوثه بما رواه أرباب الكتب المسماة بالصّحاح!

وسنورد كلماته حول حروب أميرالمؤمنين عليه السّلام.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 390- 391.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 242

13- جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي … ص: 242

هذا كلامه «1».

ومدائن الإسلام في ذلك الزّمان: المدينة المنوّرة، مكة المكرمة، الشام، البصرة، الكوفة، اليمن، فنقول:

المدينة المنوّرة

أمّا (المدينة المنوّرة) فقد قضي عليه الصلاة والسّلام أكثر عمره الشريف فيها، وقد عرفت- ممّا نقلناه من كلام النووي- أنّه كان معلِّم أكابر الصحابة فضلًا عن غيرهم …

مكّة المكرّمة

وأمّا (مكّة المكرّمة) فقد عاش فيها عليه الصلاة والسلام منذ الولادة حتي الهجرة، وقد أتاها بعد الإستيطان في المدينة المنوّرة مرّات عديدة، فكيف يقال بعدم بلوغ العلم عنه إلي أهل مكة؟

علي أنّ تلميذه الخاص به «عبداللَّه بن عبّاس» أقام في مكة زمناً طويلًا يعلّمهم القرآن وينشر العلم، قال الذهبي بترجمة ابن عبّاس: «الأعمش، عن أبي وائل: إستعمل علي ابن عبّاس علي الحج، فخطب يومئذٍ خطبةً لو سمعها الترك والروم لأسلموا. ثم قرأ عليهم سورة النّور، فجعل يفسّرها» «2».

وقال ابن سعد: «أخبرنا محمّد بن عمر، حدّثني واقد بن أبي ياسر عن طلحة بن عبداللَّه بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة: إنها نظرت إلي ابن عبّاس- ومعه الخلق ليالي الحج، وهو يسئل عن المناسك- فقالت: هو أعلم __________________________________________________

(1)

منهاج السنة 7/ 516.

(2) تذكرة الحفاظ- الترجمة 18، عبداللَّه بن عبّاس بن عبد المطلب رضي اللَّه عنهما 1/ 40- 41.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 243

من بقي بالمناسك» «1».

وقال أبو عمر ابن عبد البر: «روي: أن عبداللَّه بن صفوان بن اميّه مرّ يوماً بدار عبداللَّه بن عبّاس بمكة، فرأي فيها جماعة من طالبي الفقه، ومرّ بدار عبيداللَّه ابن عبّاس، فرأي فيها جمعاً ينتابونها للطّعام، فدخل علي ابن الزبير فقال له:

أصبحت واللَّه كما قال الشاعر:

فإن تصبك من الأيّام قارعة لم تبك منك علي دنيا ولا دين قال: وما ذاك يا أعرج؟ قال: هذان ابنا عبّاس: أحدهما يفقّه الناس، والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مكرمة. فدعا عبداللَّه بن مطيع وقال: انطلق إلي ابني عبّاس، فقل لهما: يقول لكما أميرالمؤمنين أخرجا عنّي أنتما ومن أصغي إليكما من أهل العراق، وإلّا فعلت وفعلت. فقال عبداللَّه بن عبّاس لابن الزبير: واللَّه ما يأتينا من الناس إلّا رجلان، رجل يطلب فقهاً، ورجل يطلب فضلًا، فأيّ هذين تمنع!. وكان بالحضرة أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، فجعل يقول:

لا درّ درّ الليالي كيف تضحكنا منها خطوب أعاجيب وتبكينا

ومثل ما تحدث الأيام من عبر في ابن الزبير من الدنيا تسلينا

كنّا نجي ء ابن عبّاس فيسمعنا فقهاً ويكسبنا أجراً ويهدينا

ولا يزال عبيد اللَّه مترعة جفانه مطعماً ضيفاً ومسكينا

فالبر والدين والدنيا بدارهما ننال منها الذي نبغي إذا شينا

إلي آخر الأبيات» «2».

__________________________________________________

(1) الطبقات الكبري- ترجمة ابن عبّاس 2/ 282.

(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب- باب عبداللَّه، الترجمة 1588، 3/ 937- 938.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 244

ولقد ثبت نشر ابن عبّاس- تلميذ أميرالمؤمنين- تفسير القرآن في أهل مكة وتحقّق، حتي اعترف بذلك ابن تيمية

نفسه، ومن هنا وصف أهل مكة بأنهم أعلم الناس بالتفسير، ففي (الإتقان): «قال ابن تيميّة: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما، كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولي ابن عبّاس، وسعيد بن جبير، وطاوس، وغيرهم» «1».

الشام وأما (أهل الشام) فأعلمهم وأفقههم- كما يقال- أبو الدرداء، وهو أخذ من عبداللَّه بن مسعود، وابن مسعود من تلامذة أميرالمؤمنين عليه السلام، قال الذهبي بترجمة أبي الدرداء: «وكان عالم أهل الشام، ومقري ء أهل دمشق، وفقيههم وقاضيهم» «2».

وقال الموفّق بن أحمد المكي: «عن أبي الدرداء رضي اللَّه عنه قال: العلماء ثلاثة، رجل بالشام- يعني نفسه- ورجل بالكوفة- يعني عبداللَّه بن مسعود-، ورجل بالمدينة- يعني علياً عليه السّلام- والذي بالشام يسأل الذي بالكوفة، والذي بالكوفة يسأل الذي بالمدينة، والذي بالمدينة لا يسأل أحداً» «3».

وقال محبّ الدين الطبري: «عن أبي الزعراء عن عبداللَّه قال: علماء الأرض ثلاثة، عالم بالشام، وعالم بالحجاز، وعالم بالعراق، فأمّا عالم أهل الشام فهو أبو الدرداء، وأمّا عالم أهل الحجاز فهو علي بن أبي طالب، وأمّا عالم العراق فأخ لكم، وعالم أهل الشام وعالم أهل العراق يحتاجان إلي عالم أهل الحجاز، وعالم أهل __________________________________________________

(1) الاتقان في علوم القرآن، النوع الثمانون، في طبقات المفسرين، طبقة التابعين 4/ 240.

(2) تذكرة الحفاظ الترجمة 11، أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي اللَّه عنه 1/ 24.

(3) مناقب أميرالمؤمنين الفصل الرابع في بيان غزارة علمه، الحديث 106: 102.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 245

الحجاز لا يحتاج إليهما. أخرجه الحضرمي» «1».

هذا، بالإضافة إلي رجوع معاوية- وهو حاكم أهل الشام- إلي أميرالمؤمنين في المعضلات بكثرة، كما ستطّلع علي تفاصيل ذلك فيما بعد، إن شاء اللَّه، في مبحث الأعلميّة.

البصرة

وأمّا

(البصرة) فورود الإمام عليه السّلام إليها بنفسه، وكثرة خطبه وإرشاداته ومواعظه فيها غير مخفي علي أحدٍ، وإن شئت تفاصيل ذلك، فارجع إلي التواريخ، كتاريخ ابن جرير الطبري وغيره.

كما لا يخفي علي أحد ولاية ابن عبّاس علي البصرة من قبله، وأخذ أهلها منه الفقه والتفسير مدة إقامته فيها.

فلا يبقي أيّ ريب في بلوغ العلم من الإمام عليه السلام إلي أهل البصرة، وإليك بعض الكلمات الصريحة في أخذ أهل البصرة من ابن عبّاس تلميذ الإمام عليه السلام، والوالي عليها من قبله:

«المدائني عن نعيم بن حفص قال أبو بكر قدم ابن عباس علينا البصرة، وما في العرب مثله جسماً وعلماً وبياناً وجمالًا وكمالًا» «2».

وقال ابن سعد: «أخبرنا عبداللَّه بن جعفر الرقي نا معتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن قال: أوّل من عرف بالبصرة عبداللَّه بن عبّاس، قال: وكان مثجة كثير

__________________________________________________

(1) الرياض النضرة- الفصل التاسع في ذكر نبذة من فضائله، ذكر علمه وفقهه 3/ 199- 200.

(2) تذكرة الحفاظ الترجمة 18، عبداللَّه بن عباس بن عبد المطلب رضي أللَّه عنهما 1/ 41. الاصابة الترجمة 4799، عبداللَّه بن العباس بن عبد المطلب 4/ 122. وفيه «حشماً» بدل «جسماً» و «ثياباً» بدل «بياناً».

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 246

العلم. قال: فقرأ سورة البقرة ففسّرها آية آية» «1».

وقال ابن حجر: «وأخرج الزبير بسندٍ له أن ابن عبّاس كان يغشي الناس في رمضان، وهو أمير البصرة، فما ينقضي الشهر حتي يفقّههم» «2».

فظهر أنّ الإمام عليه السلام قد انتشر علمه في جميع البلدان الإسلامية، من مكة والمدينة والشام والبصرة وغيرها، إلّا أنّ ذلك لا يلزم أن يكون كلّ من أخذ منه أو بلغه علمه عليه السلام من التابعين له والقائلين بإمامته، كما

هو واضح.

الكوفة

وأمّا قول ابن تيميّة: «وإنّما كان غالب علمه بالكوفة» ففيه: أنّ علم الإمام عليه السلام- وهو بعينه علم النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- كان في الكثرة والغزارة بحيث لو أخذ منه أهل العالم كلّهم أجمعون لوسعهم من غير أن تنفد علومه، وأنّي كان للكوفة وأهلها أن يسعوا غالب علمه عليه السّلام وهو القائل علي منبر الكوفة: «سلوني قبل أن تفقدوني، فإنما بين الجوانح منّي علم جم، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، هذا ما زقّني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم زقاً من غير وحي أوحي اللَّه إلي، فو اللَّه لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها، لأفتيت لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، حتي ينطق اللَّه التوراة والإنجيل، فيقول: صدق علي، أفتاكم بما أنزل فيّ، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون».

وكان يقول عليه السلام مشيراً إلي صدره الشريف: «كم من علوم ههنا لو

__________________________________________________

(1) الطبقات الكبري- ترجمة ابن عبّاس 2/ 280.

(2) الاصابة- الترجمة 4799، عبداللَّه بن عبّاس بن عبدالمطلب- 4/ 129.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 247

وجدت لها حاملًا».

وقال أيضاً: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير سورة الفاتحة».

وإن أراد ابن تيميّة أنّ غالب ما ظهر من علومه كان بالكوفة، ففيه: إن غالب ذلك كان بالمدينة لا بالكوفة، فإن رجوع الشيوخ الثّلاثة وغيرهم من الأصحاب إليه في المعضلات والمشكلات كان بالمدينة، وأمّا في الكوفه فلم يتفرّغ للتعليم والإرشاد، لاشتغاله عليه السلام فيها غالباً بما يتعلّق بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

قال: «ومع هذا، فأهل الكوفة قد تعلّموا القرآن والسنّة من قبل أن يتولّي عثمان فضلًا عن علي».

أقول: يريد ابن تيميّة تعلّم أهل الكوفة القرآن والسنّة علي عهد عمر

بن الخطاب، ولكن هذاتوهّم باطل وخيال فاسد، وذلك لوجوه:

الأول: إن الكوفة إنما اختطّت للمسلمين في السنة السابعة عشرة، وقد كان موت عمر بن الخطاب في السنة الثالثة والعشرين من الهجرة، فكيف تعلّم أهل الكوفة القرآن والسنّة- أو أكثرهما- في مدة ستة سنوات، مع أنّ عمر بن الخطاب قد تعلّم سورة البقرة وحدها في اثنتي عشرة سنة، كما في (الدر المنثور) «1» وغيره؟

الثاني: كيف يدعي ابن تيميّة تعلّم أهل الكوفة القرآن والسنّة عن عمر بن الخطاب، مع ما ثبت واشتهر من جهل عمر بألفاظ القرآن ومعانيه، ومجانبته للسنّة الشريفة ومعالمها؟ فإن أراد تعلّمهم القرآن والسنّة من أتباعه وأشياعه، فهم كانوا أدني مرتبةً وأقل شأناً من إمامهم.

__________________________________________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور، سورة البقرة 1/ 52.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 248

الثالث: إنّ الذي ورد الكوفة من قبل عمر بن الخطاب هو عمّار بن ياسر يصحبهُ عبد اللَّه بن مسعود، فإن أراد ابن تيميّة تعلّم أهل الكوفة من هذين الرجلين فذاك يضرّه ولا ينفعه، لأن هذين الصحابيّين الجليلين- وإن كان المرسل لهما إلي الكوفة هو عمر بن الخطّاب- من أشهر وأفضل تلامذة أميرالمؤمنين عليه السلام والآخذين عنه، فثبت أنّ أهل الكوفة قد تعلّموا القرآن والسنّة وأخذوهما عن باب مدينة العلم وهو علي، والحمد للَّه علي ظهور الحق. وإليك بعض الشواهد علي ما ذكرناه:

قال ابن سعد: «أخبرنا عفان بن مسلم و موسي بن إسماعيل قالا: نا وهيب عن داود عن عامر: إن مهاجر عبداللَّه بن مسعود كان بحمص، فحدره عمر إلي الكوفة وكتب إليهم: إني- واللَّه لا إله إلّا هو- آثرتكم به علي نفسي، فخذوا منه» «1».

وقال ابن سعد: «أخبرنا وكيع بن الجراح عن سفيان عن أبي

إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: قري ء علينا كتاب عمر بن الخطاب: أمّا بعد: فإني بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميراً وابن مسعود معلّماً ووزيراً، وقد جعلت ابن مسعود علي بيت مالكم، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمّد من أهل بدر، فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بابن أُمّ عبد علي نفسي، وبعثت عثمان بن حنيف علي السواد، ورزقتهم كلّ يوم شاةً، فأجعل شطرها وبطنها لعمّار، والشطر الباقي بين هؤلاء الثلاثة» «2».

وقال ابن عبدالبر: «وبعثه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلي الكوفة، مع __________________________________________________

(1) الطبقات الكبري- ترجمة عبداللَّه بن مسعود 3/ 116.

(2) الطبقات الكبري- ترجمة عمار بن ياسر 3/ 193.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 249

عمّار بن ياسر، وكتب إليهم: إني قد بعثت إليكم بعمّار بن ياسر أميراً وعبداللَّه بن مسعود معلّماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد اللَّه بن مسعود علي نفسي» «1».

وقال: «روي شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: قرأت كتاب عمر إلي أهل الكوفة: أمّا بعد: فإني بعثت إليكم عمّاراً أميراً وعبد اللَّه بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأطيعوا لهما واقتدوا بهما، فإني قد آثرتكم بعبد اللَّه علي نفسي أثرة» «2».

وقال ابن الأثير: «وسيّره عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه الي الكوفة، وكتب إلي أهل الكوفة: إنيّ قد بعثت عمّار بن ياسر أميراً، وعبداللَّه بن مسعود معلّماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من أهل البدر، فاقتدوا بهما» «3».

وقال الذهبي: «الثوري، عن

أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال:

قري ء علينا كتاب عمر: إني قد بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميراً، وعبداللَّه بن مسعود معلّماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا، وقد آثرتكم بعبد اللَّه بن مسعود علي نفسي» «4».

وقال ابن حجر: «وسيّره عمر إلي الكوفة، ليعلّمهم أمور دينهم، وبعث __________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، باب عبداللَّه، الترجمة 1659- 3/ 992.

(2) الاستيعاب في معرفة الاصحاب- باب عطية، الترجمة 1863- 3/ 1140.

(3) أسد الغابة- ترجمة عبداللَّه بن مسعود- 3/ 258.

(4) تذكرة الحفاظ- الترجمة 5، ابن مسعود- 1/ 14.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 250

عماراً أميراً وقال: إنهما من النجباء من أصحاب محمّد، فاقتدوا بهما» «1».

وقال بترجمة عمّار: «ثمّ استعمله عمر علي الكوفة، وكتب إليهم أنه من النجباء من أصحاب محمّد» «2».

ومن جميع ما ذكرنا يظهر بطلان قوله الآخر: «وفقهاء أهل المدينة تعلّموا الدين في خلافة عمر» بالإضافة إلي ما ثبت واشتهر من رجوع عمر بنفسه إلي الإمام عليه السلام في المعضلات بكثرة، فلو أنّ أهل المدينة تعلّموا الدّين في خلافة عمر فلابدّ وأنهم قد تعلّموه من أميرالمؤمنين، باب مدينة علم النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، لا من عمر الذي اشتهر عنه قوله: «لو لا علي لهلك عمر» وقوله: «كلّ الناس أفقه من عمر حتي المخدّرات في الحجال» وقوله: «ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت، ناضلت إمامكم فنضلته».

اليمن وأمّا قوله: «وتعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي، ولهذا روي أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي». فيشتمل علي دعاوي عديدة كلّها باطلة:

1- تعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن.

2-

مقام معاذ بن جبل في أهل اليمن.

3- إن تعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن أكثر من تعليم علي عليه السّلام.

4- إن مقام معاذ فيهم أكثر من مقام علي عليه السّلام.

__________________________________________________

(1) الاصابة- الترجمة 4970، عبداللَّه بن مسعود- 4/ 201.

(2) الاصابة، الترجمة 5720، عمّار بن ياسر- 4/ 473.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 251

5- رواية أهل اليمن عن معاذ.

6- إنّ ما رووه عن معاذ أكثر ممّا رووا عن علي عليه السّلام.

وليس لابن تيميّة أيّ دليل أو شاهد لشي ء من هذه الدعاوي، فذكر هذه الأمور في مقابلة الإمامية ليس إلّا سفاهة ورقاعة، بل إنّ كثيراً منها لا يقبل الإثبات علي ضوء كلمات أهل السنّة ورواياتهم أيضاً، وتفصيل ذلك هو:

إنّ الأصل في هذا المطلب بعث النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أميرالمؤمنين عليه السّلام ومعاذ بن جبل إلي اليمن، لكن بعث الإمام متّفق عليه بين الفريقين. أمّا بعث معاذ، فممّا رواه أهل السنّة خاصة، ولا يجوز لهم إلزام الشيعة به، ولو سلّمنا ذلك لم يكن فيه نفع لابن تيميّة، لعدم الريب في أنّ بعث الإمام عليه السّلام كان للتعليم والإرشاد، وأنّ بعث معاذ بن جبل كان لأجل جبر حالته الدنيويّة كما هو مذكور في كتب القوم. وأما ما ذكره بعض أهل السنّة من أنّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بعث معاذاً إلي اليمن للقضاء، فباطل محض، وافتعال صرف، لم يرد به حديث صحيح، بل الأصل في ذلك الحديث الذي رواه الترمذي، وقدح فيه هو وغيره من أكابر علمائهم، وإن شئت تفصيل الكلام في إثبات وضع هذا الحديث حسب كلمات مشاهير أهل السنّة، فراجع كتاب (إستقصاء الإفحام في الرد علي منتهي الكلام).

وإذا كان بعث معاذ بن جبل إلي

اليمن لأمر دنيوي خاص به، لم يجز القول بأنّه راح إليها للتعليم، فضلًا عن القول بأنّ تعلّم أهل اليمن منه كان أكثر من تعلّمهم من علي، ولو فرض قيام معاذٍ ببعض التعليم مع ذلك، فلا ريب في فساد ما ألقاه إليهم، للأدلّة الكثيرة القائمة علي جهل معاذ بمسائل الحلال والحرام.

ومع تسليم أنّه بعث إلي اليمن للتعليم كما يدّعي المتخرّصون من أهل السنّة، فإنّ ترجيح تعليمه علي تعليم الإمام عليه السّلام غير جائز، لعدم الخلاف بين دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 252

المسلمين في أنّه عليه السلام أفضل من معاذ بن جبل، وعلي هذا، فلو بقي معاذ في أهل اليمن بمقدار عمر نوح، ولم يلبث فيهم الإمام إلّا يسيراً، لرجح تعليم الإمام علي تعليم معاذ، وكان أفضل وأشدّ تأثيراً وأكثر فائدة، وقد ذكروا أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بعث خالد بن الوليد إليهم أولًا، ولبث فيهم خالد ستة أشهر يدعوهم إلي الإسلام فلم يجبه أحد، ثم بعث الإمام عليه السلام فأسلم علي يده همدان في أول يوم، وهذا أصدق شاهد علي أنّ كلام الفاضل أشد تأثيراً من كلام المفضول، وإن كانت إقامته أطول ودعوته أكثر … من هنا يظهر بطلان قياس تعليم الإمام عليه السلام بتعليم غيره، فضلًا عن تعليم معاذ علي تعليمه، ولنعم ما قال عليه السلام: «لا يقاس بآل محمّد صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من هذه الامة أحد، ولا يسوّي بهم من جرت نعمته عليهم أبداً».

وأمّا ما ادّعاه ابن تيميّة في قوله: «وشريح وغيرهم من أكابر التابعين إنما تفقّهوا علي معاذ بن جبل» فكذب شنيع، لا يمكن لأحدٍ من أولياء ابن تيميّة تصحيحه علي اصول السنّية، فضلًا عن طريق

الإمامية، فإنّ تعلّم شريح من معاذ لم يذكره إلّا علي بن المديني غير جازم به، بل حكاه عن قائل مجهول، ففي (الإصابة) بترجمة شريح: «وقال ابن المديني: ولي قضاء الكوفة ثلاثاً وخمسين سنة، ونزل البصرة سبع نسين، يقال: إنه تعلّم من معاذ إذ كان باليمن» «1»، ومن الواضح أنّ هكذا أمر لا يثبت بمجرد قولٍ من مجهول.

بل إنّ التتبّع لكتب الرجال والتراجم يفيد بعض القرائن علي النفي، منها؛ عدم ذكر معاذ فيمن روي عنه شريح، ولو كان متفقّهاً عليه لذكر اسمه فيمن روي __________________________________________________

(1) الاصابة- الترجمة 3899- شريح بن الحارث- 3/ 271.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 253

عنه قبل غيرهم قطعاً، ولا أقل من ذكره فيما بينهم. وإليك نصّ ترجمة ابن حبان لشريح: «شريح بن الحارث القاضي الكندي، حليف لهم.. كنيته أبو أمية، وقد قيل: أبو عبد الرحمن، كان قائفاً، وكان شاعراً، وكان قاضياً، يروي عن عمر بن الخطاب، روي عنه الشعبي، مات سنة سبع وثمانين، وهو ابن مائة سنة وعشر سنين، وقد قيل: إنه مات سنة ثمان وسبعين وهو ابن مائة وعشرين سنة، وكان قد بقي علي القضاء خمساً وسبعين سنة، ما تعطّل فيها إلّا ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير» «1».

وقال النووي: «أدرك النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ولم يلقه، وقيل: لقيه، والمشهور الأول، قال يحيي بن معين: كان في زمن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ولم يسمع منه. روي عن: عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعروة البارقي رضي اللَّه عنهم» «2».

وقال ابن حجر: «روي عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم مرسلًا، وعن عمر وعلي وابن مسعود وعروة البارقي وعبد الرحمن

بن أبي بكر» «3».

وقال الخزرجي: «كان من أجلّة العلماء وأذكي العالم، عن علي وابن مسعود. وعنه: الشعبي وأبو وائل» «4».

وعدم ذكرهم معاذاً فيمن روي عنه شريح قرينة جليّة علي عدم روايته عنه، لأنه لو روي عنه ولو قليلًا لذكر، لأن ابن تيميّة يري أنّ قلّة الرواية دليل علي __________________________________________________

(1) الثقات لابن حبان باب الشين، شريح بن الحارث القاضي الكندي 4/ 352- 353.

(2) تهذيب الأسماء واللغات- 249 ترجمة شريح القاضي 1/ 243.

(3) تهذيب التهذيب- الترجمة 2870، شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم 4/ 298.

(4) خلاصة تذهيب التهذيب: 165.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 254

قلّة الأخذ، فإذ لم يذكر أصلًا فإنه لم يأخذ عنه أبداً.

هذا كلّه بالنسبة إلي دعوي تفقّه شريح علي معاذ.

وأمّا دعوي تفقّه غيره من أكابر التابعين علي معاذ بن جبل، فهي دعوي عارية عن الدليل، ولم يقل بها قائل معروف ولا مجهول.

وأمّا قوله: «ولمّا قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضياً» فكلام لا نفع له فيه أبداً، فأيّ دليلٍ علي صحّة قضاءه في الكوفة قبل ورود الإمام عليه السّلام، وما أكثر الذين نصبوا للقضاء وهم جهّال؟ سلّمنا، لكنّه ممّن روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام كما عرفت. هذا مع أنّه كان يرجع في المعضلات الواردة عليه إلي الإمام عليه السلام وعبيدة السلماني وهو من تلامذة الإمام … كما ستعرف عن قريب، فلم يكن مستغنياً عن الأخذ من الإمام عليه السلام، كما لم يستغن عنه الثلاثة وأكابر الصحابة.

فقوله: «وهو وعبيدة السلماني تفقّها علي غيره» مردود، لأنّ تفقّه شريح علي غير الإمام عليه السلام دعوي بلا دليل، أمّا تفقّهه علي معاذ بن جبل- كما زعم- فقد عرفت عدم الدليل عليه، بل الدليل علي عدمه،

وأمّا تفقّهه علي غير معاذ، فمن هو ذلك الغير؟

وأمّا دعوي تفقّه عبيدة السلماني علي غير الإمام عليه السّلام، فمن أعاجيب الأكاذيب، لإجماع علماء الرجال علي تفقه عبيدة السلماني علي الإمام وعبداللَّه بن مسعود، قال السمعاني: «هو من أصحاب علي وابن مسعود، رضي اللَّه عنهما، حديثه مخرّج في الصحيحين.. وقال أحمد بن عبد اللَّه العجلي: عبيدة السلماني كان أعور، وكان أحد أصحاب عبداللَّه الذين يقرؤن ويفتون، وكان شريح إذا أشكل عليه الشي ء قال: إنّ هاهنا رجلًا في بني سلمة فيه جرأة، فيرسلهم إلي عبيدة،

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 255

وكان ابن سيرين من أروي الناس عنه، وكلّ شي ء روي محمّد بن سيرين عن عبيدة سوي رأيه فهو عن علي. ومات سنة اثنتين وسبعين أو ثلاث من الهجرة» «1».

وقال النووي: «هو مشهور بصحبة علي. روي عنه: الشعبي والنخعي وأبو حصين وابن سيرين وآخرون، نزل الكوفة، وورد المدينة، وحضر مع علي قتال الخوارج، وكان أحد أصحاب ابن مسعود الذين يقرؤن ويفتون، وكان شريح إذا أشكل عليه شي ء أرسلهم إلي عبيدة … » «2».

وقال المزي: «قال أحمد بن عبداللَّه العجلي: كوفي تابعي ثقة جاهليّ، أسلم قبل وفاة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بسنتين، ولم ير النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، وكان من أصحاب علي وعبداللَّه، وكان أعور …، وكان شريح إذا أشكل عليه الشي ء قال: إنّ ها هنا رجلًا في بني سلمان فيه جرأة فيرسلهم إلي عبيدة، وكان ابن سيرين من أروي الناس عنه وكل شي ء روي محمّد بن سيرين عن عبيدة سوي رأيه فهو عن عليّ» «3».

وقال ابن حجر: «وكان من أصحاب علي وعبداللَّه» «4».

وقال أيضاً: «وعدّه علي بن المديني في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود» «5».

__________________________________________________

(1)

الأنساب- باب السين واللام، السلماني 3/ 276- 277.

(2) تهذيب الأسماء واللغات- الترجمة 384، عبيدة السلماني 1/ 317. وفيه «أرسلهم» بدل «أرسل».

(3) تهذيب الكمال- الترجمة 3756، عبيدة بن عمرو 19/ 267- 268.

(4) تهذيب التهذيب الترجمة 4572، عبيدة بن عمرو 7/ 76.

(5) المصدر نفسه 7/ 76.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 256

فظهر أن ما ذكره من تفقّه عبيدة السلماني علي غير الإمام عليه السلام إفك محض وبهت بحت، لأن تفقّهه ليس إلّا عليه إمّا مباشرةً وإمّا بواسطة تلميذه عبداللَّه ابن مسعود، لكنّ التفقّه علي الإمام عليه السلام والأخذ عنه لا يلازم التشيّع والمتابعة، كما ذكرنا، ومن هنا نري أنّ هذين الرجلين لم يكونا علي مذهب الإمام عليه السلام، بل كان بعض فتاويهما في الكوفة علي خلاف رأيه، إلّا أنّ الإمام تركهما علي ذلك خشية الفتنة والإختلاف، ففي البخاري: «حدّثنا علي بن الجعد قال أخبرنا شعبة، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة عن علي رضي اللَّه عنه قال: أقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الإختلاف، حتي يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي» «1».

وقد أوضح ذلك شرّاح البخاري، قال ابن حجر: «قوله: عن علي قال:

أُقضوا كما في رواية الكشميهني علي ما كنتم تقضون. قيل: وفي رواية حماد بن زيد عن أيوب: أنّ ذلك بسبب قول علي في بيع أم الولد، وأنّه كان يري هو وعمر أنهنّ لا يبعن، وأنّه رجع عن ذلك فرأي أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحبّ إليّ من رأيك وحدك في الفرقة، فقال علي ما قال. قلت: وقد وقعت في رواية حماد بن زيد، أخرجها ابن المنذر عن علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم

عنه، وعنده قال لي عبيدة: بعث إليّ علي وإلي شريح فقال: إني أبغض الإختلاف، فاقضوا كما كنتم تقضون، فذكره إلي قوله أصحابي، قال: فقبل علي قبل أن يكون جماعة. قوله: فإني أكره الإختلاف، أي الذي يؤدّي إلي النزاع، قال ابن التين: يعني مخالفة أبي بكر وعمر. وقال غيره: المراد المخالفة التي تؤدّي إلي __________________________________________________

(1) صحيح البخاري- كتاب فضائل أصحاب النبي (ص)، مناقب علي، الحديث 226، 3/ 81.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 257

النزاع والفتنة، ويؤيّده قوله بعد ذلك: حتي يكون الناس جماعة … » «1».

فاندفع ما توخّاه بقوله: «فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة» لما عرفت من أنّ علم الإسلام انتشر في المدائن عن طريق باب مدينة العلم فقط دون غيره، وأنّه لا سبيل إلي علم النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إلّا من هذا الباب، فمن أتاه فقد امتثل أمر النبي، ومن لم يأته هلك وخسر، وكلّ ما خرج من هذا الباب فهو علم ونور وهداية، وكلّ ما كان علي خلافه فهو جهل وظلمة وضلالة.

__________________________________________________

(1) فتح الباري- باب مناقب علي بن أبي طالب- 3707- 7/ 73. وانظر عمدة القاري- باب مناقب علي ابن أبي طالب رضي اللَّه عنه ج 16، الترجمة 203- 8/ 218 وارشاد الساري- كتاب النكاح، باب نكاح المتعة 6/ 118.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 258

3- حول فضائله ومناقبه في القرآن … ص: 258

اشارة

وكذّب ابن تيميّة جميع الأحاديث والأخبار الواردة في كتب أهل السنة في نزول آيات القرآن بشأن أميرالمؤمنين عليه السلام في الموارد المختلفة، فما أكثر الصّحابة والرواة والعلماء من أهل السنّة الذين حكم ابن تيميّة بكذبهم بهذه المناسبة.

ونحن نذكر طائفة من الآيات، وعليها فقس ما سواها:

نزول (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ) في علي، كذب … ص: 258

لقد روي القوم في كتبهم نزول قوله تعالي «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» «1»

في علي عليه السّلام، في قصّة إعطائه الخاتم للسائل:

قال السيوطي: «وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عبّاس في قوله تعالي «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ» الآية. قال: «نزلت في علي بن أبي طالب».

وقال: وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن سلمة بن كهيل قال: «تصدّق علي بخاتمة وهو راكع فنزلت: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ … » الآية» «2».

__________________________________________________

(1)

سورة المائدة: 55.

(2) الدر المنثور في التفسير المأثور، سورة المائدة، الآية 55- 2/ 519- 520.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 259

فهؤلاء جملة من رواة الخبر: الطبراني، والثعلبي، والواحدي، والخطيب البغدادي، وابن الجوزي، والمحبّ الطبري، والهيثمي، والمتقي الهندي «1».

ورواه أيضاً من مشاهير المفسّرين الأعلام: الفخر الرازي، والبغوي، والنسفي، والقرطبي، والبيضاوي، وأبو السعود العمادي، والشوكاني، فراجع تفاسيرهم، بتفسير الآية المباركة.

ورواه الآلوسي الحنفي فقال: «غالب الأخباريين علي أنها نزلت في علي كرّم اللَّه تعالي وجهه … ». وأضاف الآلوسي: أن حساناً أنشد في ذلك أبياتاً، فذكرها.

وذكر الآلوسي: أنه سئل ابن الجوزي: كيف تصدّق علي بالخاتم، والظنّ فيه أن له شغلًا شاغلًا فيها؟ فقال:

يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته عن النديم ولا يلهو عن الناس أطاعه سكره حتي تمكّن من فعل الصحاة، فهذا واحد الناس «2»

أقول:

وابن

الجوزي هو الذي طالما اعتمد عليه ابن تيمية في تكذيب الأحاديث وردّها!

كما أنّ من رواة حديث نزول الآية في علي عليه السّلام هو: أبو جعفر محمّد

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد كتاب التفسير، سورة المائدة 7/ 17، ذخائر العقبي باب في ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ذكر ما نزل فيه من الآي: 88، وذكر صدقته رضي اللَّه عنه: 102، الرياض النضرة الباب الرابع في مناقب أمير المؤمنين علي بن ابي طالب الفصل السادس في خصائصه ذكر اختصاصه بما نزل فيه من الآي 3/ 178، كنز العمّال فضائل علي رضي اللَّه عنه الحديث 36354، 13/ 108. والحديث 36501، 13/ 165.

(2) روح المعاني 6/ 167.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 260

ابن جرير الطبري، وقد اعتمد عليه ابن تيميّة في مواضع ونصَّ علي ثقته، والإحتجاج به، كما أنه أثني علي «عبد الرزاق» و «عبد بن حميد» و «ابن أبي حاتم» «1». و «البغوي» وقد نص في حق هذا الأخير أنه لا يذكر في تفسيره شيئاً من الأحاديث الموضوعة «2».

وبعد، فهذا كلام ابن تيمية في نزول الآية في علي:

«وقد وضع بعض الكذّابين حديثاً مفتري: أن هذه الآية نزلت في علي لمّا تصدّق بخاتمه في الصلاة. وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل، وكذبه بيّن من وجوهٍ كثيرة» «3».

وقال: «أجمع أهل العلم بالنقل علي أنها لم تنزل في علي بخصوصه، وأن عليّاً لم يتصدّق بخاتمه في الصلاة، وأجمع أهل العلم بالحديث علي أنَّ القصة المرويّة في ذلك من الكذب الموضوع» «4».

وقال: «جمهور الأمّة لم تسمع هذا الخبر» «5».

فهنا مطالب:

الأوّل: قد ظهر أنّ ابن تيميّة لا رادع له من الكذب ولا وازع.

والثاني: أنه متي ما أراد الإستدلال بخبرٍ، وإن كان

ضعيفاً أو مرسلًا أو موضوعاً، نسبه إلي العلماء أو أرسله إرسال المسلّم، ومتي أراد ردّ حديثٍ- يرويه __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 13.

(2) منهاج السنة 7/ 12.

(3) منهاج السنّة 2/ 30.

(4) منهاج السنة 7/ 11.

(5) منهاج السنة 7/ 17.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 261

كبار الأئمة في التفسير والفقه والحديث، كهذا الحديث- ينسب إلي «إجماع أهل العلم» القول بأنّه «موضوع» و «كذب» و «مفتري» بل يدّعي «أنّ جمهور الأمة لم تسمع هذا الخبر».

والثالث: أن من بين رواة هذا الحديث وأمثاله من يتمسّك ابن تيمية بروايته ويحتجُّ بكلامه، فإن كانوا «كذّابين» فكيف يحتجّ بهم، وإلّا فكيف يرميهم في مثل هذا الموضع بالكذب والوضع والإفتراء؟

نزول: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً» كذب … ص: 261

وهذه الآية المباركة «1» أيضاً روي كبار أئمة القوم أنها نزلت في أميرالمؤمنين عليه السّلام، ومنهم؛ عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن عساكر، والواحدي، وأبو نعيم، والفخر الرازي، والزمخشري، والمحبّ الطبري، وابن الأثير، والسيوطي، وابن حجر المكّي … «2».

ولنكتف بهؤلاء وننظر ما يقول ابن تيميّة:

«إنّ هذا كذب ليس بثابت، … لكن هذه التفاسير الباطلة يقول مثلها كثير من الجهّال.. فتبيّن أن الذي كَذَبَ هذا كان جاهلًا بدلالة القرآن، والجهل في الرافضة ليس بمنكر» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة البقرة: 274.

(2) الدر المنثور، سورة البقرة الآية 274، 1/ 642.

(3) اسد الغابة ترجمة علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، 4/ 25. الرياض النضرة- الباب الرابع في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الفصل السادس في خصائصه ذكر اختصاص بما نزل من الآي 3/ 178. الصواعق المحرقة الباب التاسع في مآثره وفضائله، الفصل الرابع في نبذ من كراماته وقضاياه: 131. التفسير الكبير- سورة البقرة الآية 274، 4/ 83.

تفسير الكشاف- سورة البقرة الآية 274، 1/ 319.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 262

يقول هذا، وقد وصف ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم- وهم من رواة هذا الحديث- بالعلم والورع والثقة …

وهل يرتضي أتباع ابن تيمية أن يكون رواة هذا الحديث من: عبد الرزاق- وهو شيخ البخاري- وعبد بن حميد، وهو أحد الأئمة أصحاب المسانيد، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأمثالهم، كذبَةً، جهالًا، من الرافضة … ؟!

نزول «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» كذب … ص: 262

وروي الأئمة الأعلام من أهل السنّة أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- لمّا نزلت الآية «1» - قال: أنا المنذر وعلي الهادي، بك- يا علي- يهتدي المهتدون بعدي … ومن رواته:

عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، والطبري، والحاكم، وابن أبي حاتم، والضياء المقدسي، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم، وابن عساكر، وابن النجار، والديلمي، والهيثمي، والسّيوطي، والمتقي الهندي … «2».

قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد».

وقال الهيثمي: «قوله تعالي «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ» عن علي- رضي اللَّه عنه- في قوله: «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» قال: رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم المنذر، والهادي: رجل من بني هاشم.

رواه عبد اللَّه بن أحمد والطبراني في الصغير والأوسط، ورجال السند ثقات».

__________________________________________________

(1)

سورة الرعد: 7.

(2) الدر المنثور، وتفسير الطبري، وتفسير الرازي وغيرها من التفاسير، بتفسير الآية، والمستدرك علي الصحيحين 3/ 129، مجمع الزوائد 7/ 41، كنز العمال.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 263

والضياء المقدسي أخرجه في (المختارة) كما في (الدر المنثور) وهو كتابٌ التزم فيه بالصحّة.

فهذا هو الحديث، وهؤلاء جملة من رواته ومصحّحيه، ويقول ابن تيميّة؛ «إنّ هذا كذب موضوع باتّفاق أهل العلم بالحديث، فيجب تكذيبه وردّه» «1».

ونحن نكتفي بهذا القدر، وإلّا فقد قال في نزول قوله

تعالي «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ … » في علي «كذب باتّفاق أهل العلم بالحديث والسيرة» «2». وفي قوله تعالي «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ»: «إن هذا باطل» «3» وفي قوله تعالي «وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ … »: «الحديث المذكور كذب موضوع» «4» وفي قوله تعالي «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ»: «إن هذا أعظم كذباً وفريةً» «5» …

وهكذا في آياتٍ غيرها …

مع أنّ رواة ما ورد في ذيلها من الأحاديث هم من مشاهير أهل السنة من السّلف والخلف …

وقد سبق تكذيبه نزول قوله تعالي «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ» في علي عليه السلام. كما سيأتي كلامه حول نزول «هَلْ أَتَي … » و «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» و «فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا … ».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 139.

(2) منهاج السنة 7/ 112.

(3) منهاج السنة 7/ 154.

(4) منهاج السنة 7/ 294.

(5) منهاج السنة 7/ 33.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 264

أقول:

وللمزيد من التعرف علي ابن تيميّة ننقل ما يلي:

1- لقد جاء في جوابه عن الإستدلال بقوله تعالي «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» ما هذا نصّه:

«والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل … الثاني: إنّ هذا ممّا هو كذب موضوع باتّفاق العلماء وأهل المعرفة بالمنقولات. الثالث: أن يقال: هذا معارض بمن يقول: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» هم: النواصب، كالخوارج وغيرهم، ويقولون: إنّ من تولّاه فهو كافر مرتد، فلا يدخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويحتجّون علي ذلك بقوله: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» قالوا:

ومن حكّم الرجال في دين اللَّه فقد حكم بغير ما أنزل اللَّه، فيكون كافراً …

فهذا وأمثاله من حجج الخوارج، وهو وإن كان باطلًا بلا ريب، فحجج الرافضة أبطل منه، والخوارج أعقل وأصدق وأتبع للحق من الرافضة، فإنّهم صادقون لا يكذبون، أهل دين ظاهراً وباطناً … » «1».

2- لقد جاء في جوابه عن استدلال الإماميّة بقوله تعالي «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ»: «والجواب من وجوه..» إلي أن قال:

«ولهذا كان من الناس من يقابل كذبهم بما يقدر عليه من الكذب، ولكنّ اللَّه يقذف بالحق علي الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وللكذّابين الويل ممّا يصفون..

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 259.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 265

وكذلك ما تذكره الناس من المعارضات لتأويلات القرامطة والرافضة ونحوهم، كقولهم في قوله «فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ»: طلحة والزبير وأبو بكر وعمر ومعاوية.

فيقابل هذا بقول الخوارج: إنهم علي والحسن والحسين!

وكلّ هذا باطل، لكن الغرض أنهم يقابلون بمثل حجتهم، والدليل علي فسادها يعمّ النوعين، فعلم بطلان الجميع» «1».

وسنذكر فيما بعد كلامه حول قوله تعالي «وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا» وقوله تعالي «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَي».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 295- 297.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 266

4- حول فضائله ومناقبه في السنّة … ص: 266

عدد مناقبه الصحيحة … ص: 266

واضطرب ابن تيميّة تجاه أحاديث فضائل ومناقب مولانا أميرالمؤمنين عليه السّلام، التي رواها الأئمة الأعلام من أهل السنّة عبر القرون … لأنّها كثيرة جدّاً وأسانيدها كثيرة كذلك، فَوَقَع في تناقضات، والتجأ إلي تكذيب الأحاديث الصحيحة بل المتواترت والأقوال المشهورات.. فيحاول أولًا التقليل من عدد ما صحّ منها، فيستشهد بكلام ابن حزم القائل: «الذي صحّ من فضائل علي فهو قول النبي صلّي اللَّه

عليه وسلّم: أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلّا أنه لا نبي بعدي.

وقوله: لُاعطينّ الراية غداً رجلًا يحبّ اللَّه ورسوله ويحبّه اللَّه ورسوله- وهذه صفة واجبة لكلّ مسلم ومؤمن وفاضل- وعهده صلّي اللَّه عليه وسلّم: إن علياً لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق … وأما سائر الأحاديث التي يتعلّق بها الروافض فموضوعة، يعرف ذلك من له أدني علم بالأخبار ونقلتها» «1».

ويعود فيشير إلي هذه الكلمة ويصدّقها في الجواب عن أحد أحاديث الفضائل فيقول: «إن هذا الحديث كذب موضوع باتّفاق أهل العلم بالحديث، وقد تقدّم كلام ابن حزم أن سائر هذه الأحاديث موضوعة، يعلم ذلك من له أدني علم __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 320- 321.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 267

بالأخبار ونقلتها، وقد صدق في ذلك» «1».

فما صحّ من فضائل علي عليه السلام هو هذه الأحاديث الثلاثة … كما قال ابن حزم الشهير بالنصب له عليه السلام.

لكنّه يستشهد في موضع آخر بكلامٍ لأبي الفرج ابن الجوزي وفيه:

«فضائل علي الصحيحة كثيرة» «2».

ثم يأتي فيعدّد فضائل للإمام ممالم يذكره ابن حزم قائلًا: «وأما مناقب علي التي في الصحاح فأصحّها قوله يوم خيبر: لاعطينّ الراية رجلًا … فمجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث … » «3».

وسواءً كانت فضائله الصحيحة كثيرةً عدداً أو قليلة، فإنّه قد نصّ أحمد بن حنبل- الذي طالما يعظّمه ابن تيميّة ويقتدي به- علي أنّه لم يرد في حقّ أحدٍ من الصحابة من الأحاديث المعتبرة ما ورد في حقّ علي … لكن لا مناص لابن تيميّة من تكذيب هذا الخبر، لأنّه عن إمامه وعليه أن يقبله، وحينئذٍ يلزمه الإعتراف بأفضلية علي، وقد قرّر ابن تيميّة أن الأفضل هو المتعيَّن للإمامة

إنّه لا مناص له من تكذيب هذا الخبر، فيقول: «وأحمد بن حنبل لم يقل إنه صحّ لعلي من الفضائل مالم يصح لغيره، بل أحمد أجلّ من أن يقول مثل هذا الكذب، بل نقل عنه أنه قال: روي له مالم يرو لغيره. مع أنّ في نقل هذا عن أحمد كلاماً ليس هذا موضعه» «4».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 354.

(2) منهاج السنة 7/ 422.

(3) منهاج السنة 8/ 420- 421.

(4) منهاج السنة 7/ 374.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 268

ويؤكّد ذلك مرّة اخري قائلًا: «وقول من قال: صحّ لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره، كذب لا يقوله أحمد ولا غيره من أئمة الحديث، لكن قد يقال: روي له مالم يرو لغيره» «1».

فانظر إلي الإضطراب، فهو يكذّب الكلمة المنقولة عن أحمدٍ ويضيف:

«كذب، لا يقوله أحمد ولا غيره من أئمة الحديث» لعلمه بأنه قد قال غير أحمد ذلك أيضاً، ثم يذكر ما نسبه إلي أحمد بعنوان «بل نقل عنه» بقوله: «لكن قد يقال … » فجوّز أن يقال هكذا، ولكنّه في الموضع السّابق قال: «مع أنّ في نقل هذا عن أحمد كلاماً ليس هذا موضعه»!

أقول:

الّذي رواه الحافظ ابن الجوزي الحنبلي المتوفي سنة 597، والذي طالما اعتمد عليه ابن تيميّة هو: «سمعتُ عبداللَّه بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول: ما لأحدٍ من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي رضي اللَّه عنه» «2».

وحتي لو كانت الكلمة المنقولة عن أحمد: «روي له مالم يرو لغيره»، فهل مقصوده روي له من الفضائل، أو المطاعن؟ وإذا كان المقصود الفضائل فهل يقصد الفضائل الثّابتة بالطّرق المعتبرة عنده، أو الأعم من الثّابت والمكذوب؟

انظر إلي ما جاء في (المستدرك) للحاكم و (تليخصه)

للذهبي، يقول الحاكم:

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 421.

(2) مناقب أحمد بن حنبل، الباب العشرون في ذكر اعتقاده في الاصول: 163.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 269

«ومن مناقب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه- ممّا لم يخرّجاه:

سمعت القاضي أبا الحسن علي بن الحسن الجراحي وأبا الحسين محمّد بن المظفر الحافظ يقولان: سمعنا أبا حامد محمّد بن هارون الحضرمي يقول: سمعت محمّد بن منصور الطوسي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما جاء لأحدٍ من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه-» «1».

فإذال كان هذا نصّ كلام أحمد، فماذا فهم منه القوم حتي رووه عنه بالإسناد الصحيح معنعناً بالسّماع؟ وإذا لم يكن المراد هو الفضائل الثّابتة فكيف يأتي الحاكم بهذا الكلام تحت عنوان «ومن مناقب أميرالمؤمنين ممّا لم يخرجاه» وقبل الورود في فضائله التي استدركها عليهما وهي علي شرطهما أو شرط واحدٍ منهما؟

ولو كانت الكلمة مطلقةً، فما معني قول ابن حجر العسقلاني الحافظ بعد نقلها «وفي هذا كفاية»؟ قال في آخر ترجمة الإمام وبعد ذكر طرف من مناقبه:

«وقد روي عن أحمد بن حنبل أنه قال: لم يرو لأحدٍ من الصحابة من الفضائل ما روي لعلي، وكذا قال النسائي وغير واحد. وفي هذا كفاية» «2».

هذا، ولكنّ الكلمة محرّفة عن عمدٍ أو غير عمد، حتّي الرجل الواحد منهم يرويها بالإختلاف في اللّفظ، وإليك البيان:

قال الحافظ ابن عبد البر: «وقال أحمد بن حنبل وإسماعيل بن إسحاق __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين- كتاب معرفة الصحابة، الحديث 4572- 3/ 116.

(2) تهذيب التهذيب- الترجمة 4925، علي بن أبي طالب 7/ 288.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 270

القاضي: لم

يرو في فضائل أحدٍ من الصحابة بالأسانيد الحسان ما روي في فضائل علي بن أبي طالب. وكذلك قال أحمد بن شعيب بن علي النسائي، رحمه اللَّه» «1».

إذن، فضائله التي اختصّ بها دون غيره من الصحابة هي «بالأسانيد الحسان» والقائلون بذلك أحمد وغيره من الأئمة.

وقال الحافظ ابن حجر: «ومناقبه كثيرة حتي قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصّحابة ما نقل لعلي، وقال غيره … وتتبّع النسائي ما خصّ به من دون الصّحابة فجمع من ذلك شيئاً كثيراً بأسانيد أكثرها جياد» «2».

فهنا، وإن اسقط «بالأسانيد الحسان» أو نحوه، إلّا أنه نصّ علي جودة أكثر أسانيد (الخصائص) للنسائي وهو من أصحاب الكلمة، لكن في شرح البخاري، بشرح عنوان «باب مناقب علي بن أبي طالب» ما نصّه: «قال أحمد وإسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري: لم يرد في حقّ أحدٍ من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي» «3».

إذن، فالكلمة الصادرة عن أحمد وغيره من الأئمة لم تكن مطلقةً، بل فيها الإعتراف باعتبار تلك الفضائل التي اختص بها علي دون غيره من الأصحاب، لكنّ القوم حرّفوها، بالإسقاط أو التغيير، عن عمدٍ أو سهو.

وبما ذكرناه غنيً وكفاية لطالب الحق والهداية.

ثم إنّ النسائي قد جمع لأمير المؤمنين عليه السلام فضائل كثيرة تخصُّ به دون غيره وسماها ب (خصائص علي) في جزءٍ من (صحيحه) الذي هو أحد

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب- باب عطية، الترجمة 1855 علي بن أبي طالب 3/ 1115.

(2) الاصابة- الترجمة 5704، علي بن أبي طالب الهاشمي رضي اللَّه عنه- 4/ 464- 465.

(3) فتح الباري، شرح صحيح البخاري- كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب- 7/ 71.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 271

الصّحاح الستّة،

وقد شهد غير واحدٍ من الحفاظ بكونها (خصائص له) وبكون أسانيده معتبرةً، كالحافظ ابن حجر العسقلاني، في عبارته المتقدّمة، وبذلك يظهر كذب ابن تيمية في قوله: «وقد قال العلماء: ما صحَّ لعلي من الفضائل فهي مشتركة» «1».

إذن، لأمير المؤمنين عليه السّلام (خصائص) و (أسانيدها) كلّها (صحاح) و (جياد) و (حسان) … لكنّ ابن تيميّة كذّب أكثر فضائل الإمام وخصائصه، وما اعترف بصحّته- وهو قليل- فقد أنكر كونه من (الخصائص):

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 121.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 272

مّا اعترف بصحّته وأنكر كونه من الخصائص … ص: 272
1- حديث الرّاية يوم خيبر … ص: 272

فحديث الرّاية لم ينكر صحّته، بل قال: «وكذلك قوله: لأُعطينَّ الرّاية رجلًا يحبّ اللَّه ورسوله ويحبّه اللَّه ورسوله، قال: فتطاولنا، فقال: أُدعوا لي عليّاً، فأتاه وبه رمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه، ففتح اللَّه علي يديه.

وهذا الحديث أصح ما روي لعلي من الفضائل، أخرجاه في الصحيحين من غير وجه.

وليس هذا الوصف مختصّاً بالأئمة ولا بعلي، فإنّ اللَّه ورسوله يحبُّ كلّ مؤمن تقي، وكلّ مؤمنٍ تقي يحبُّ اللَّه ورسوله» «1».

فالرجل لا ينكر صحّة هذا الحديث، بل يدّعي كونه أصحّ ما روي «2»، لكنّه ينكر كونه ممّا اختص به علي عليه السّلام؛ فيقول: ليس من الخصائص «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 44.

(2) هذا بغض النظر عن كلامه في الجزء الأخير من كتابه (8/ 123) الذي ناقض نفسه حيث قال في جواب قول العلامة: «وفي غزوة خيبر كان الفتح فيها علي يد أمير المؤمنين، ودفع الراية إلي أبي بكر فانهزم ثم إلي عمر فانهزم … » قال: «والجواب- بعد أن يقال: لعنة اللَّه علي الكاذبين- أن يقال: من ذكر هذا من علماء النقل؟ وأين أسناده وصحّته؟ وهو من الكذب … ».

فنحن نغض النظر عن هذا ونقول: لعنة اللَّه

علي الكاذبين!!

(3) منهاج السنّة 7/ 367.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 273

ولكنّ كلامه التفصيلي حول هذا الحديث- في مقام الجواب «1» عن استدلال العلّامة الحلي به- مضطرب جدّاً، لأنّ العلّامة أورد الحديث- كما سنذكره- وفيه أخذ أبي بكر الرّاية ثم أخذ عمر، ورجوعهما، ثم قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «جيئوني بعلي» ثم وصفه بأنه «يحب اللَّه ورسوله … » «ففتح اللَّه علي يديه» قال العلامة: «ووصفه- عليه السّلام- بهذا الوصف يدل علي انتفائه عن غيره، وهو يدل علي أفضليّته، فيكون هو الإمام».

فيقول ابن تيمية: «والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل.

وأما قوله: «رواه الجمهور» فإن الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا، بل الذي في الصحيح … ولم تكن الرّاية قبل ذلك لأبي بكر ولا لعمر، ولا قربها واحد منهما، بل هذا من الأكاذيب …

وكان هذا التخصيص جزاء مجي ء عليّ مع الرمد، وكان إخبار النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بذلك- وعليّ ليس بحاضر، لا يرجونه- من كراماته صلّي اللَّه عليه وسلّم. فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر وعمر أصلًا».

فهنا يعترف بكون الحديث من (الخصائص) لكن ليس فيه بهما «تنقيص» واعترف مرةً اخري بكونه من (الخصائص) حيث قال بعد كلامٍ له: «فإنه قال:

لُاعطينّ الراية.. فهذا المجموع اختصّ به».

ولمّا اعترف بكونه من (الخصائص) إلتفت إلي أن ذلك يوجب أفضليّته وهذا ما لا يريد الإقرار به، لأنه يري وجوب إمامة الأفضل، فقال: «إنه لو قدّر ثبوت أفضليته في ذلك الوقت، فلا يدل ذلك علي أن غيره لم يكن أفضل منه بعد ذلك»!!

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 365- 368.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 274

فانظر إلي كلمات هذا الرجل بعد ضمّ بعضها إلي البعض الآخر،

فأوّل شي ء ينكر كونه من الخصائص، ثم يضطر إلي الإعتراف، ثم يتنبّه إلي لازم كلامه- وهو ضرورة الإعتراف بالأفضلية فالإمامة بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بلا فصل- فيقول: إن ذلك لا يدل علي أن غيره لم يكن أفضل منه بعد ذلك!! لكن ما المراد من «بعد ذلك»؟ وبأيّ دليل يكون غيره أفضل حينذاك؟

وكأنّ الرّجل نفسه غير مقتنع بما يقول، فيضيف وجهاً رابعاً:

«الرابع: إنه لو قدّرنا أفضليته، لم يدل ذلك علي أنه إمام معصوم منصوص عليه، بل كثير من الشيعة الزيدية ومتأخّري المعتزلة وغيرهم، يعتقدون أفضليّته وأنّ الإمام هو أبو بكر، وتجوز عندهم ولاية المفضول … ».

وهنا قد حكم علي نفسه بنفسه.. لأنّا لو سلّمنا أنّ طائفةً من المسلمين «تجوز عندهم ولاية المفضول» لكنّ «ابن تيميّة» يري أنّ هذا باطل وظلم، وهذا ما ينصُّ عليه غير مرّة ويؤكّده، فالجواب بأنّ فلاناً وفلاناً «تجوز عندهم ولاية المفضول» لا ينفعه أبداً.

وبعد، فالحديث (صحيح) سنداً، وهو من (الخصائص) فيدل علي (الأفضلية) والأفضل هو (الإمام).

لكنّ من الضروري تتميم البحث بذكر امور:

الأمر الأوّل إنه قد أخرج النسائي حديث الراية المشتمل علي فرار الشيخين وقول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم «سأعطي الراية رجلًا … » معاً، في (خصائص) أميرالمؤمنين عليه السلام، وكذا غيره من أئمّة الحديث، ولكنّ البخاريّ ومسلماً اختصراه!!:

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 275

قال الحافظ ابن حجر بشرحه: «وقع في هذه الرواية اختصار، وهو عند أحمد، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، من حديث بريدة بن الحصيب قال: لمّا كان يوم خيبر، أخذ أبو بكر اللواء فرجع ولم يفتح له، فلما كان الغد أخذه عمر، فرجع ولم يفتح له- وقتل محمود بن سلمة «1» - فقال

النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: لأدفعنَّ لوائي غداً إلي رجل. الحديث. وعند ابن إسحاق نحوه من وجهٍ آخر. وفي الباب عن أكثر من عشرة من الصحابة، سردهم الحاكم في الإكليل وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل» «2».

أقول:

لم يختصر البخاري ومسلم الحديث، وإنما أرادا أن لا يروياه علي واقعه، لما فيه من تفضيل أميرالمؤمنين وتنقيص بأبي بكر وعمر، بل إنّ ابن حجر العسقلاني نفسه أيضاً لم يروه كما جاء في تلك الكتب الّتي أشار إليها، فعند الحاكم مثلًا: «عن جابر رضي اللَّه عنه؛ إن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم دفع الراية يوم خيبر إلي عمر- رضي اللَّه عنه-، فانطلق، فرجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه «3».

هذا حديث صحيح علي شرط مسلم، ولم يخرجاه» «4».

وقد أشكل الذّهبي علي هذا الحديث الذي فيه تصريح باسم عمر فقال:

__________________________________________________

(1) كذا، والصحيح «مسلمة» ولا يهمّنا التحقيق في هذا.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري- كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 7/ 476.

(3) وفي كنز العمال- كتاب الغزوات، غزوة خيبر، مسند علي الحديث 30119- 10/ 462 عن ابن أبي شيبة والبزار، قال «وسنده حسن»: «فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه، فجاء يجبّنهم ويجبّنونه، فساء ذلك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال: لأبعثنّ عليهم رجلًا … ليس بفرّار … ».

(4) المستدرك علي الصحيحين، كتاب المغازي والسرايا، الحديث 4341، 3/ 40.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 276

«قلت: القاسم واه».

ولكنّه وافق الحاكم لمّا أخرجه مرةً اخري وأبهم الرجل الذي رجع باللواء وجبن، فلم يُدرَ هو أبو بكر أو عمر- وهو عن جابر أيضاً قال: «لمّا كان يوم خيبر بعث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم رجلًا فجبن … » «1».

وأيضاً: لم يذكر الحافظ ابن

حجر العسقلاني ما في رواية بعض من أشار إليهم، من وصف النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في الحديث علياً عليه السلام بأنّه «ليس بفرار»، والسبب في ذلك واضح، لأن كلامه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم تعريضٌ بأبي بكر وعمر:

فعند النسائي: «لأعطينّ الراية رجلًا … ليس بفرّار» «2».

وعند الحاكم- مع تهذيب الكلمة-: «.. لا يولّي الدبر … » «3».

هذا، وفي بعض المصادر: «كرّار غير فرّار» «4».

الأمر الثّاني لفظ الحديث: «يحبّ اللَّه ورسوله ويحبّه اللَّه ورسوله» «5».

لكنّ بعض الرواة حاول النقص من الحديث بإسقاط الجملة الثانية «ويحبّه اللَّه ورسوله»، وهكذا هو عند البخاري ومسلم أيضاً، وابن تيمية ذكر اللفظ

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين، كتاب المغازي والسرايا، الحديث 4342، 3/ 40.

(2) خصائص أمير المؤمنين- ذكر عبادة علي رضي اللَّه عنه، الحديث 14: 38.

(3) المستدرك علي الصحيحين كتاب المغازي والسرايا، الحديث 4342، 3/ 40.

(4) منتخب كنز العمال.. هامش مسند أحمد 5/ 45 عن الخطيب وابن عساكر.

(5) صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، الباب 4 فضائل علي رضي اللَّه عنه الحديث 2404، 4/ 1871. صحيح البخاري- كتاب فضائل أصحاب النبي باب مناقب علي بن أبي طالب 5/ 80.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 277

المنقوص في موردين، وفي موردٍ ثالث توجد الجملة الثانية في بعض نسخ كتابه دون بعض، كما ذكر محقّقه في الهامش.

وأمّا معني كلام النبيّ هذا، فقد اعترف ببعضه الحافظ ابن حجر بشرحه حيث قال: «وقوله- في الحديثين-: «إن علياً يحب اللَّه ورسوله..» أراد بذلك وجود حقيقة المحبّة، وإلّا فكلّ مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة. وفي الحديث تلميح بقوله تعالي «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ» فكأنّه أشار إلي أن عليّاً تام

الإتّباع لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، حتي اتّصف بصفة محبّة اللَّه له، ولهذا كانت محبّته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق، كما أخرجه مسلم من حديث علي نفسه، قال: والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أن لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق. وله شاهد من حديث أُم سلمة عند أحمد» «1».

إذن، فقد اختص علي دون غيره بهذه الصّفة، فكان أحبّ الناس للَّه ورسوله، وأحبّهم إلي اللَّه ورسوله.. وهذه الصّفة تقتضي الأفضلية، والأفضلية تستلزم الإمامة كما أقرّ ابن تيمية.

الأمر الثالث أخرج مسلم في الحديث: «إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال يوم خيبر: لُاعطينّ هذه الراية رجلًا يفتح اللَّه علي يديه، يحبّ اللَّه ورسوله، ويحبّه اللَّه ورسوله. قالت: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيّهم يعطاها. قال: فلمّا أصبح الناس غدوا علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، كلّهم يرجون أن يعطاها، فقال: أين __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري- كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب 7/ 72.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 278

علي بن أبي طالب؟ … » «1».

هكذا أخرجه مسلم- ولا يهمّنا محاولة بعضهم لإسقاط بعض الجمل أو الكلمات من لفظ الحديث، فإنّها محاولات يائسة- … وهذه الفقرة من الحديث أيضاً دالّة علي كونه من (خصائص) أميرالمؤمنين، وإلّا فما الذي تطاول إليه القوم ورجوه؟ وما الذي جعل هذا الحديث ممّا هو أحبّ إلي سعد بن أبي وقاص من حمر النّعم، وامتنع بذلك من أن يسبّ عليّاً عندما أمره معاوية بالسبّ؟ «2»، فيدلّ هذا الحديث من هذه الناحية كذلك علي (الأفضلية) وتتمّ (الإمامة) والحمد للَّه علي ذلك.

2- قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: أنت منّي وأنا منك … ص: 278

قال العلّامة: «وعن رسول اللَّه صلّي

اللَّه عليه وسلّم أنه قال لعلي: أنت منّي وأنا منك» «3».

فأجاب ابن تيمية: «إن هذا حديث صحيح، أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء بن عازب، لمّا تنازع علي وجعفر وزيد، في ابنة حمزة، فقضي بها لخالتها، وكانت تحت جعفر، وقال لعلي: أنت منّي وأنا منك. وقال لجعفر: أشبهت خَلقي وخُلقي. وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا.

لكن هذا اللّفظ قد قاله النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لطائفةٍ من أصحابه …

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم- كتاب فضائل الصحابة الباب 4، فضائل علي بن أبي طالب الحديث 2406- 4/ 1872.

(2) صحيح مسلم- كتاب فضائل الصحابة الباب 4، فضائل علي بن أبي طالب 2404- 4/ 1871.

(3) منهاج السنة 5/ 28.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 279

فتبيّن أن قوله لعلي: أنت منّي وأنا منك، ليس من خصائصه» «1».

أقول:

وهنا مطلبان:

الأوّل: هذا الحديث صحيح، وقد أقرّ ابن تيمية أيضاً بصحته، فلا كلام في هذه النّاحية.

والثّاني: هذا الحديث من خصائصه، ولذا أخرجه النسائي في (الخصائص) بلفظ: «علي منّي وأنا منه» بأسانيد متعدّدة «2» وفي (صحيح البخاري) ما نصّه:

«باب مناقب علي بن أبي طالب القرشيّ الهاشمي أبي الحسن- رضي اللَّه عنه-.

وقال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لعلي: أنت مني وأنا منك» «3». فأورد هذا الحديث بهذا اللّفظ، وجعله جزءً من العنوان.

وممّا يشهد باختصاص هذا بأميرالمؤمنين عليه السّلام- بحيث لا يعمّ معناه أبا بكر فضلًا عن غيره من أصحاب النبيّ- قول ابن عبّاس متضجّراً ممّن تكلّم في أميرالمؤمنين: «افّ تفّ! وقعوا في رجلٍ له بضع عشرة فضائل ليست لأحدٍ غيره» فعدّ منها أنه «بعث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فلاناً بسورة التوبة، فبعث علياً خلفه فأخذه منه وقال: لا يذهب بها إلّا رجل هو

منّي وأنا منه».

وفي هذا الحديث الذي أخرجه أحمد والنّسائي والحاكم والذهبي «4» بسندٍ

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 29- 30.

(2) خصائص أمير المؤمنين ذكر قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي منّي وأنا منه، الحديث 68 فمابعد: 100.

(3) صحيح البخاري- كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب 5/ 80.

(4) مسند أحمد- مسند علي بن أبي طالب، الحديث 859، 1/ 174.

خصائص أمير المؤمنين، ذكر قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي منّي وأنا منه الحديث 69: 101. لمستدرك علي الصحيحين- كتاب معرفة الصحابة الحديث 4652، 3/ 143. تلخيص المستدرك- هامش المستدرك 4/ 73.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 280

صحيح، ونصّ الأخيران علي صحته، تصريح بكون الفضائل المذكورة فيه (خصائص) لأمير المؤمنين، وكان منها ما دلّ علي أنّ علياً من النبي والنبي من علي- عليهما وآلهما الصَّلاةُ والسّلام- مضافاً إلي أنّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قاله بعد بعث علي وإرجاع أبي بكر.

إذن: هذا الحديث من (الخصائص) وقد قاله النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أكثر من مرّة، منها قضيّة الخصومة في بنت حمزة، علي أنّ الحافظ ابن حجر قال بشرح الحديث في تلك القضية ما نصّه: «وقال لعلي: أنت منّي وأنا منك. أي: في النسب والصهر والسابقة والمحبّة وغير ذلك من المزايا، ولم يرد محض القرابة، وإلّا فجعفر شريكه فيها» «1». فظهر دلالته في هذا الموضع علي (المزايا) و (الخصائص) والحمد للَّه رب العالمين.

3- صعوده علي منكب النبي لكسر الأصنام … ص: 280

يقول ابن تيميّة: «إن هذا الحديث- إن صح- فليس فيه شي ء من خصائص الأئمة ولا خصائص علي، فإنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يصلّي وهو حامل امامة بنت أبي العاص بن الربيع علي منكبه، إذا قام حمَلها وإذا

سجد وضعها. وكان إذا سجد جاء الحسن فارتحله ويقول: إنّ ابني ارتحلني، وكان يقبّل زبيبة الحسن.

فإذا كان يحمل الطفلة والطفل لم يكن في حمله لعلي ما يوجب أن يكون ذلك من __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري- كتاب المغازي، باب عمرة القضاء 7/ 507.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 281

خصائصه … » «1».

أقول:

هذا الحديث أخرجه أحمد بسندٍ صحيح «2» وكذا النسائي «3» والحاكم ونصّ علي أن «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» «4» ووافقه الذّهبي «5».

ومن رواته أيضاً: إبن أبي شيبة، وأبو يعلي، وابن جرير الطبري «6».

إذن، لا كلام في صحة الحديث سنداً.

وكذا لم يناقش أحد في أنه من (خصائصه)، فإنّه الذي صعد علي منكب النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لكسر الأصنام، وأين هذا من حمل النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الحسن المجتبي عليه السلام أو غيره علي منكبه، كي يقال بأن ذلك ليس من خصائصه؟ وهل يجهل ابن تيميّة أو يتجاهل؟!

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 25.

(2) مسند أحمد مسند علي بن أبي طالب، الحديث 645، 1/ 136.

(3) خصائص أمير المؤمنين- ذكر ما خصّ به علي من صعوده علي منكبي النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الحديث 122: 165- 166.

(4) المستدرك علي الصحيحين كتاب التفسير، تفسير سورة بني إسرائيل الحديث 3388: 2/ 398. والحديث 4265: 3/ 6.

(5) تلخيص المستدرك. معه 3: 115.

(6) كنز العمال باب فضائل الصحابة، فضائل علي رضي اللَّه عنه الحديث 36516: 3/ 171.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 282

من الفضائل الّتي كذّبها … ص: 282

اشارة

وتلخّص: أن فضائل أميرالمؤمنين عليه السلام عند ابن تيميّة علي قسمين، فالأول ما يعترف بصحّته- وهو القسم الذي يحاول تقليله عدداً- فيجيب بأنّه ليس من خصائصه. والقسم

الثاني وهو الأكثر فيكذّبه، ردّاً علي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم والصحابة والرواة والمحدّثين، من أهل السنّة، ممّن تقدّم عليه أو تأخّر.

أمّا التي أقرّ بصحّتها وأنكر كونها من الخصائص، فقد ذكرنا ثلاثة أحاديث منها، وبيّنا كونها من الخصائص.

وأمّا التي كذّبها وحكم بوضعها، فنذكر طرفاً منها مع بعض الكلام عليها:

حديث علي مع الحق، كذب … ص: 282

قال العلّامة: «وقد رووا جميعاً: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال: عليّ مع الحق والحق معه يدور معه حيث دار، لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض».

فقال ابن تيميّة: «قوله: إنهم رووا جميعاً … من أعظم الكلام كذباً وجهلًا، فإنّ هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، فكيف يقال: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث؟ وهل يكون أكذب ممّن يروي عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثاً، والحديث لا يعرف عن واحد منهم أصلًا؟

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 283

بل هذا من أظهر الكذب. ولو قيل: رواه بعضهم وكان يمكن صحته لكان ممكناً، فكيف وهو كذب قطعاً علي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم؟» «1».

فانظر كيف يؤكّد علي كذب هذا الحديث، وقد كرّر كلمة الكذب أربع مرّات، ونفي أن يكون مرويّاً عن أحدٍ من الصحابة ولو بإسناد ضعيف، وبالتالي ادّعي القطع علي أنه كذب.

وما ذلك كلّه إلّا لعدم المجال للمناقشة في مدلول هذا الحديث، بتأويلٍ ولو بعيدٍ كلّ البعد عن ظاهر اللّفظ، فإذا أثبتنا كونه مرويّاً عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، لا عن واحدٍ من الصحابة، ولا بإسناد ضعيف، بل صحيح نصّ علي وثاقة رواته من يرجع إليه في أمثال المقام … ظهر صحّة استدلال العلّامة وغيره من أعلام الإمامية بهذا الحديث في

سائر المقامات، ومنها في قضيّة ما كان بين الزهراء الطاهرة وأبي بكر، حول فدك وغير فدك من ممتلكاتها وحقوقها …

وبعد، فقد جاء حديثُ كون علي مع الحق والحق مع علي، وأنه يدور معه حيث دار، ولن يفترقا … عن جمع كبيرٍ من الصّحابة، ونكتفي من رواته عنهم ببعض الأعلام المتقدّمين علي ابن تيمية:

أوّلهم: أميرالمؤمنين عليه السّلام، وأخرجه عنه الترمذي في باب مناقبه، وكذا الحاكم في المستدرك وقال: «هذا حديث صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجاه» «2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 238- 239.

(2) المستدرك علي الصحيحين كتاب معرفة الصحابة ذكر إسلام أمير المؤمنين علي رضي اللَّه عنه، الحديث 4629، 3/ 135.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 284

والثّاني: سيّدتنا امّ سلمة، وأخرجه عنها: الطبراني وأبو بشر الدولابي «1» والخطيب البغدادي «2» وابن عساكر «3».

والثالث: سعد بن أبي وقّاص، أخرجه البزّار، فقد قال الهيثمي: «وعن محمّد بن إبراهيم التيمي: إنّ فلاناً دخل المدينة حاجّاً، فأتاه الناس يسلّمون عليه، فدخل سعد فسلّم، فقال: وهذا لم يعنّا علي حقّنا علي باطل غيرنا. قال: فسكت عنه، فقال: مالك لا تتكلّم؟ فقال: هاجت فتنة وظلمة فقلت لبعيري: اخ اخ، فأنخت حتي انجلت. فقال رجل: إني قرأت كتاب اللَّه من أوّله إلي آخره فلم أر فيه اخ اخ! فقال: أما إذ قلت ذاك، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول:

علي مع الحق أو الحق مع علي حيث كان. قال: من سمع ذلك؟ قال: قاله في بيت امّ سلمة. قال: فأرسل إلي امّ سلمة فسألها. فقالت: قد قاله رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في بيتي. فقال الرجل لسعد: ما كنت عندي قط ألوم منك الآن؟ فقال: ولم؟

قال: لو سمعت هذا

من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم أزل خادماً لعلي حتي أموت.

رواه البزار. وفيه سعد بن شعيب ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح» «4».

أقول:

وإنما أوردته لما فيه من الفوائد:

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد- كتاب المناقب، باب الحق مع علي: 9/ 135. الكني والأسماء- حرف القاف- من كنيته أبو قيس وأبو قيلة 2/ 89.

(2) تاريخ بغداد الترجمة 7643، يوسف بن محمّد بن المؤدب 14/ 321.

(3) ترجمة أميرالمؤمنين من تاريخ دمشق 3/ 118.

(4) مجمع الزوائد- كتاب الفتن، باب فيما كان في الجمل وصفين وغيرهما- 7/ 235- 236.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 285

الأولي الوقوف علي دَجَل القوم، فإنّ «فلاناً» هو «معاوية» و «سعد» هو «ابن أبي وقاص» فسعدٌ كان قد سمع هذا الكلام، ولم يُخبر به أحداً، فكان ممّن كتم الشهادة بالحق، وأيضاً: لم يعمل به، فكان ممّن خذل الحق- كما وصف أمير المؤمنين سعداً وأمثاله بعد عثمان- وإن ثبت بعد ذلك ندمه علي عدم قتاله الفئة الباغية مع علي. ومعاوية كان قد سمع هذا الكلام وغيره من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قطعاً، والآن- وبعد أن تغلّب علي الأمر- يلوم سعداً علي عدم إخباره بهذا الحديث، ويقول- كذباً ولعنة اللَّه عليه- ولو سمعت من النبيّ لم أزل خادماً لعلي حتي أموت.

والثانية: أن في هذا الحديث شهادة اثنين من الصحابة بصدوره عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، أحدهما هو سعد وهو من القاعدين عن نصرته والخاذلين له، ثم امّ سلمة ام المؤمنين، وهي علويّة النزعة، فرحمها اللَّه رحمةً واسعة.

والثالثة: أنّ الحديث أخرجه البزّار، وهو من أعلام الحديث، صاحب المسند الكبير الشهير، رواه عنه أبو بكر الهيثمي، وهو من أعلام الحفّاظ، ونصَّ علي أن

رجاله رجال الصحيح إلّا أنّه لم يعرف منهم «سعد بن شعيب»، وذلك لا يضرُّ بعد أن كان سائر رجال الحديث من رجال الصّحاح، فإنّهم لا يروون عمّن لا يعرفونه، علي أنّ الهيثمي ربما قال هذه الكلمة في أشخاصٍ لا كلام في وثاقتهم، كقوله في فاطمة بنت أميرالمؤمنين عليه السلام: «وفاطمة بنت علي بن أبي طالب لم أعرفها» «1» مع كونها من رجال النسائي وابن ماجة في التفسير، ووثّقها الحافظ

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد- كتاب علامات النبوة، باب حبس الشمس له 8/ 297.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 286

ابن حجر العسقلاني في (تقريب التهذيب) «1».

ومع التنزّل عن هذا كلّه، فإنّ الحديث يصحُّ بمعونة الروايات الاخري الصحيحة حتي عند الهيثمي.

والرّابع: أبو سعيد الخدري، أخرجه أبو يعلي، قال الهيثمي: «وعن أبي سعيد- يعني الخدري- قال: كنّا عند بيت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في نفرٍ من المهاجرين والأنصار فقال: ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلي قال: الموفون الطيّبون؛ إنّ اللَّه يحبّ الحفي التّقي. قال: ومرَّ علي بن أبي طالب، فقال: الحق مع ذا، الحق مع ذا.

رواه أبو يعلي، ورجاله ثقات» «2».

والخامس: كعب بن عجرة، أخرجه الطبراني في الكبير، قال المتقي: «تكون بين الناس فرقة واختلاف، فيكون هذا وأصحابه علي الحقّ- يعني علياً» «3».

والسادس: عائشة، فإنّه لمّا ذكّرها أخوها في البصرة بقول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم جعلت تبكي، وأظهرت الندم علي خروجها «4».

نكتفي بهذا القدر لتبيين كذب ابن تيميّة وتزويره، وهناك صحابة آخرون يروي عنهم هذا الحديث، كأبي ذر وابن عبّاس وغيرهما … ومن شاء فليرجع إلي مظانّه.

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب- باب النساء، الترجمة 8654 فاطمة بنت علي بن أبي طالب: 668.

(2) مجمع الزوائد- كتاب الفتن، باب فيما

كان في الجمل وصفين وغيرهما- 7/ 234- 235.

(3) كنز العمال- كتاب الفضائل من اقسام الافعال- فضائل علي رضي اللَّه عنه، الحديث 33016- 11/ 621.

(4) الامامة والسياسة- التحام الحرب 1/ 73.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 287

حديث المؤاخاة، كذب … ص: 187

ولقد سعي ابن تيميّة جادّاً لتكذيب حديث المؤاخاة، وأصرّ علي كذبه في مواضع عديدة من كتابه، وما ذلك إلّا لعلمه بصحة هذا الحديث وكونه من خصائص أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسّلام، … فلننقل أولًا كلماته:

«أمّا حديث المؤاخاة فباطل موضوع، فإن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يؤاخ أحداً … » «1».

«إن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يؤاخ علياً ولا غيره، وحديث المؤاخاة لعلي، ومؤاخاة أبي بكر لعمر من الأكاذيب» «2».

«إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يؤاخ علياً ولا غيره، بل كلّ ما روي في هذا فهو كذب» «3».

«إن أحاديث المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض والأنصار بعضهم مع بعض، كلّها كذب، والنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يؤاخ علياً» «4».

«إن أحاديث المؤاخاة لعلي كلّها موضوعة» «5».

أقول:

والذي نحن الآن بصدد إثباته هو الاخوّة بين النبي والأمير- عليهما وآلهما

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 32.

(2) منهاج السنة 5/ 71.

(3) منهاج السنة 7/ 117.

(4) منهاج السنة 7/ 279.

(5) منهاج السنة 7/ 361.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 288

الصلاة والسلام- في قصّة «المؤاخاة»، وأمّا خطاب النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي «أنت أخي»، وإعلانه للامّة- في موارد شتي كونهما أخوين، وقول أميرالمؤمنين «أنا عبد اللَّه وأخو رسول اللَّه» ونحو ذلك فكثير جدّاً، بل يعسر استقصاؤه.. فالمقصود هنا هو قصّة المؤاخاة، وابن تيميّة أنكرها وكذّبها لا مرةً بل مرّات …

لقد آخي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بين أصحابه،

وكان من ذلك أن آخي بين أبي بكر وعمر … فقال علي عليه السلام له: آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد؟ فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «أنت أخي في الدنيا والآخرة».

راجع: الترمذي 5/ 595، الطبقات الكبري لابن سعد 3/ 16، المستدرك علي الصحيحين 3/ 15- 16، مصابيح السنّة 4/ 173، الإستيعاب 3/ 1099، البداية والنهاية 7/ 371، الرياض النضرة 3/ 124، مشكاة المصابيح 3/ 1721، الصواعق المحرقة: 122، تاريخ الخلفاء: 170، وغيرها … وهذه الروايات هي عن جمٍّ غفيرٍ من الأصحاب، وعلي رأسهم: أميرالمؤمنين عليه السّلام، ومنهم:

عبداللَّه بن عبّاس، وأبو ذر الغفاري، وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وعبد اللَّه بن عمر، وزيد بن أرقم …

وفي بعض الروايات أجاب علياً بقوله: «والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلّا لنفسي، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسي غير أنه لا نبيّ بعدي، وأنت أخي ووارثي». ومن رواته: أحمد بن حنبل في المناقب، الحديث: 141، وابن عساكر بترجمة علي عليه السلام برقم 148 1/ 108، والمتقي في كنز العمال 13/ 106 عن أحمد في المناقب.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 289

وتجد خبر المؤاخاة، وأنّه آخي بينه وبين علي عليه السّلام في سائر كتب السير والتواريخ، فراجع: سيرة ابن هشام 2/ 150، السيرة النبوية لابن حبان:

149، عيون الأثر لابن سيد الناس 1/ 230، السيرة الحلبية 2/ 20، وفي هامشها سيرة زيني دحلان 1/ 299.

ولقد أحسن غير واحدٍ من الحفّاظ والعلماء الأعلام، حيث عنوا بالردّ علي ابن تيميّة في هذا المقام، وإليك نصّ عبارة الحافظ ابن حجر- وهو عندهم شيخ الإسلام- فإنّه بعدأن ذكر من أخبار المؤاخاة عن: الواقدي،

وابن سعد، وابن إسحاق، وابن عبد البر، والسهيلي، وابن كثير، وغيرهم قال: «وأنكر ابن تيمية في كتاب الردّ علي ابن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لعلي، قال: لأنّ المؤاخاة شرّعت لإرفاق بعضهم بعضاً، ولتأليف قلوب بعضهم علي بعض، فلا معني لمؤاخاة النبي لأحدٍ منهم، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري.

وهذا ردّ للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوي من بعض بالمال والعشيرة والقوي فآخي بين الأعلي والأدني …

قلت: وأخرجه الضياء في المختارة من المعجم الكبير للطبراني. وابن تيمية يصرّح بأن أحاديث المختارة أصحّ وأقوي من أحاديث المستدرك … » «1».

وقال الزرقاني المالكي تحت عنوان «ذكر المؤاخاة بين الصّحابة رضوان اللَّه عليهم أجمعين»: «وكانت- كما قال ابن عبد البر وغيره- مرّتين، الاولي بمكّة قبل الهجرة، بين المهاجرين بعضهم بعضاً علي الحق والمواساة، فآخي بين أبي بكر

__________________________________________________

(1) فتح الباري، كتاب مناقب الأنصار، باب كيف آخي النبي بين الصحابة 7/ 271.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 290

وعمر، و … وهكذا بين كلّ اثنين منهم إلي أن بقي علي فقال: آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال: أنا أخوك.

وجاءت أحاديث كثيرة في مواخاة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لعلي، وقد روي الترمذي وحسّنه والحاكم وصحّحه عن ابن عمر أنه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعلي: أما ترضي أن أكون أخاك؟ قال: بلي قال: أنت أخي في الدنيا والآخرة.

وأنكر ابن تيمية هذه المؤاخاة بين المهاجرين، خصوصاً بين المصطفي وعلي، وزعم أن ذلك من الأكاذيب، وأنّه لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، قال: لأنها شرعت لإرفاق بعضهم بعضاً …

وردّه الحافظ بأنه ردّ للنص بالقياس … » «1».

وبما ذكرنا كفاية لمن

أراد الرشاد والهداية.

حديث الأشباه، كذب … ص: 290

قال العلّامة: «وروي البيهقي بإسناده عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه قال: من أراد أن ينظر إلي آدم في علمه، وإلي نوحٍ في تقواه، وإلي إبراهيم في حلمه، وإلي موسي في هيبته، وإلي عيسي في عبادته، فلينظر إلي علي بن أبي طالب.

فأثبت له ما تفرّق فيهم».

فقال ابن تيمية: «هذا الحديث كذب موضوع علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، بلا ريب عند أهل العلم بالحديث» «2».

__________________________________________________

(1) شرح المواهب اللدنية 1/ 273.

(2) منهاج السنّة 5/ 510.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 291

أقول:

وهذا الحديث يعرف بحديث (الأشباه)، وهو مرويٌّ عن عدّة من الصّحابة، ورواته أئمة مشاهير في مختلف القرون؛ ومن رواته من الأئمة والحفّاظ الكبار:

عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم محمّد بن إدريس الرازي، والحاكم النيسابوري، وأبو بكر البيهقي، وأبو بكر بن مردويه الإصفهاني، وأبو نعيم الإصفهاني، وغيرهم.

ومن أصحّ أسانيده وأجودها: رواية «عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … ».

هكذا قال ياقوت الحموي، بترجمة محمّد بن أحمد بن عبيداللَّه الكاتب المعروف بابن المفجّع «1».

أمّا (ياقوت الحموي) فهو من أشهر العلماء الأدباء عند القوم، وهو مشهور بالميل عن علي عليه السلام، بل بالعداء والنصب له، كما ذكر المترجمون له «2».

وأما (عبد الرزاق) فهو شيخ البخاري، ومن رجال الصحيحين «3».

وأما (معمر) فهو: ابن راشد، من رجال الصحيحين «4».

__________________________________________________

(1) معجم الادباء- الترجمة 793، محمّد بن أحمد بن عبيد اللَّه الكاتب 5/ 137.

(2) شذرات الذهب الجزء سنة ست وعشرين وستمائة 3/ 121.

(3) تقريب التهذيب- حرف العين الترجمة 4064، عبد الرزاق بن همام بن نافع: 296.

(4)

تقريب التهذيب- حرف الميم الترجمة 6809 معمر بن راشد الأزدي: 473.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 292

وأما (الزهري) فهو أيضاً من رجال الصحيحين «1».

وأمّا (سعيد بن المسيّب) فهو أيضاً من رجال الصحيحين «2».

هذا، ولا يخفي علي الخبير بآراء ابن تيميّة في كتاب (منهاج السنّة) ثناؤه واعتماده علي غير واحدٍ من رجال هذا الإسناد، كعبد الرزاق والزّهري.

ولأجل أن هذا الحديث صحيح، ودلالته علي الأفضلية واضحة، كان من جملة ما يستدلُّ به علي إمامة أميرالمؤمنين عليه الصّلاة والسّلام، في كتب الإمامية، ومن أراد التفصيل فيه- سنداً ودلالةً- فليرجع إليها.

وممّا يدل علي ثبوت هذا الحديث أنّ كبار المتكلّمين من أهل السنّة- كالقاضي عضد الدين الإيجي، والشريف الجرجاني، وسعد الدين التفتازاني- لم يرموا الحديث بالكذب والوضع، ولم يناقشوا في سنده، وإنما أجابوا عن الإستدلال به باحتمال تخصيص أبي بكر وعمر منه «3».

وبعبارة علميّة: إنهم لم يتكلّموا في جهة الإقتضاء، وإنما احتملوا وجود المانع عنه فقط.

ويجاب عن ذلك بأنّ مجرَّد الإحتمال لا يكفي، والفضائل المزعومة لأبي بكر وعمر إنما تفرّد بها أهل السنّة- علي فرض ثبوتها عندهم- علي أنّ ابن تيميّة لم يعترض علي هذا الحديث إلّا من جهة المقتضي، وقد عرفت صحة سنده.

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب- حرف الميم، ذكر من اسمه محمّد الترجمة 6296 محمد بن مسلم بن عبيداللَّه: 440.

(2) تقريب التهذيب- حرف السين، ذكر من اسمه سعيد الترجمة 2396، سعيد بن المسيّب 1: 181.

(3) شرح المقاصد الفصل الرابع في الامامة، المبحث السادس الأفضليّة بين الخلفاء الراشدين 5/ 299.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 293

حديث: وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي، كذب … ص: 293

قال ابن تيميّة: «وكذلك قوله: «هو وليُّ كلّ مؤمنٍ بعدي» كذب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم … » «1».

أقول:

هذا

الحديث من أصحّ الأحاديث وأثبتها، وأمتن الأخبار وأدلّها … فكان من الطّبيعي أن يكذّب به ابن تيميّة، وإليك البيان:

لقد جاءت رواية هذا الحديث الشريف عن الصّحابة التّالية أسماؤهم:

1- أميرالمؤمنين عليه السلام.

2- الإمام السبط الحسن المجتبي عليه السّلام.

3- أبو ذر الغفاري.

4- عبد اللَّه بن العبّاس.

5- أبو سعيد الخدري.

6- البراء بن عازب الأنصاري.

7- أبو ليلي الأنصاري.

8- عمران بن الحصين.

9- بريدة بن الحصيب الأسلمي.

10- عبداللَّه بن عمر.

11- عمرو بن العاص.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 391.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 294

12- وهب بن حمزة.

ورواه من الأئمة الاعلام والحفاظ الكبار:

أبو داود الطيالسي، وابن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلي الموصلي، ومحمّد بن جرير الطبري، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، وأبو نعيم، وابن عبد البر، وابن الأثير، والضياء المقدسي، وابن حجر العسقلاني، وجلال الدين السيوطي … وغيرهم.

قال الحافظ ابن عبد البر: «روي أبو داود الطيالسي: قال أخبرنا أبو عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عبّاس: إن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعلي بن أبي طالب: أنت ولي كلّ مؤمن بعدي».

قال ابن عبد البر الحافظ- وتبعه الحافظ المزي-: «هذا إسناد لا مطعن فيه لأحدٍ، لصحّته وثقة نقلته» «1».

وأخرجه ابن أبي شيبة وصحّحه، فقد قال الحافظ السيوطي: «الحديث الأربعون: عن عمران بن الحصين: إن رسول اللَّه- صلّي اللَّه عليه وسلّم- قال: علي مني وأنا من علي وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي.

أخرجه ابن أبي شيبة وصحّحه» «2».

وقال المتّقي الهندي: «علي منّي وأنا من علي وعلي وليّ كلّ مؤمن بعدي.

(ش)، عن عمران بن حصين. صحيح» «3».

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب- باب علي، الترجمة 1855 علي بن أبي طالب 3/ 1091- 1092.

(2) القول الجلي في مناقب

علي. الحديث: 40.

(3) كنز العمال فضائل علي رضي اللَّه عنه الحديث 32941، 11/ 608.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 295

وأخرجه ابن جرير الطبري وصحّحه … «1».

وأخرجه أحمد في (المسند) بسندٍ صحيح «2».

وأخرجه الترمذي وحسّنه «3».

وأخرجه النسائي في (الخصائص) بسندٍ صحيح «4».

وأخرجه ابن حبّان في صحيحه، كما في (الرياض النضرة) «5».

وأخرجه الحاكم وصحّحه علي شرط مسلم «6».

وقال الحافظ ابن حجر بترجمة أميرالمؤمنين: «أخرج الترمذي بإسنادٍ قوي عن عمران بن حصين … » «7».

وبما ذكرناه غنيً وكفاية، لمن يطلب الرشاد والهداية.

__________________________________________________

(1) كنز العمال فضائل علي رضي اللَّه عنه الحديث 36444، 13/ 142.

(2) مسند أحمد حديث عمران بن حصين الحديث 19426، 5/ 606.

(3) صحيح الترمذي كتاب المناقب، مناقب علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، الحديث 3721: 978.

(4) خصائص أميرالمؤمنين- ذكر قول النبي علي وليّ كلّ مؤمن بعدي، الحديث 88 وما بعده: 129.

(5) الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان- كتاب إخباره عن مناقب الصحابة رجالهم ونسائهم مناقب علي رضي اللَّه عنه الحديث 6929، 15/ 374، الرياض النضرة- الباب الرابع في مناقب أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب الفصل السادس في خصائصه، ذكر اختصاصه بأنه من النبي وانه ولي كل مؤمن بعدي 3/ 129- 130.

(6) المستدرك علي الصحيحين كتاب معرفة الصحابة مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الحديث 4579، 3/ 119.

(7) الاصابة في معرفة الصحابة الترجمة 5704 علي بن أبي طالب الهاشمي رضي اللَّه عنه 4/ 468.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 296

حديث: اللهم وال من والاه، كذب … ص: 296

قال ابن تيميّة: «إنّ هذا اللفظ، وهو قوله: اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» كذب باتّفاق أهل المعرفة بالحديث» «1».

أقول:

قوله صلّي اللَّه عليه وآله

وسلّم- بعد قوله: من كنت مولاه … - «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» أخرجه:

أحمد بن حنبل بأسانيد صحيحة «2».

وكذا ابن ابي شيبة «3» وابن راهوية، وابن جرير «4» وسعيد بن منصور، والطبراني عن جمع من الصحابة، هم أكثر من ثلاثين رجلًا، والحاكم، وابو نعيم، والخطيب «5».

وأخرجه النسائي في (الخصائص) بسند صحيح «6».

وأخرجه البزار بأسانيد صحيحه «7».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 55.

(2) مسند أحمد أحاديث رجال من أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الحديث 22633، 6/ 510.

(3) المصنف- كتاب الفضائل، فضائل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، الحديث 28 و 29، 7/ 499 والحديث 55، 7/ 503.

(4) كنز العمال- فضائل علي رضي اللَّه عنه، الحديث 36511، 13/ 169.

(5) كنز العمال- فضائل علي رضي اللَّه عنه، الحديث 32950، 11/ 609.

(6) خصائص أمير المؤمنين- باب قول النبي (ص) من كنت وليّه فعليّ وليّه الحديث 87: 127.

(7) مختصر زوائد البزار- كتاب مناقب الصحابة الحديث 1900- 1907، 2/ 301- 305.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 297

وأخرجه أبو يعلي بسندين صحيحين «1».

وأخرجه ابن حبّان في صحيحه «2».

وقوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله. أخرجه البزار، وابن جرير، والخلعي في الخلعيات.

قال الهيثمي: رجال إسناده ثقات.

قال ابن حجر: ولكنّهم شيعة» «3».

وقال ابن كثير: «رواه أبو العبّاس بن عقدة الحافظ الشيعي، عن الحسن ابن علي بن عفان العامري، عن عبيد اللَّه بن موسي، عن فطر عن عمرو ذي مر وسعيد ابن وهب، وعن زيد بن يثيع، قالوا: سمعنا علياً يقول في الرحبة … فقام ثلاثة عشر رجلًا فشهدوا: أن رسول اللَّه

قال: من كنت مولاه فعلي مولاه. اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه وابغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله.

قال أبو إسحاق حين فرغ من هذا الحديث: يا أبا بكر، أيّ أشياخ هم!» «4».

وأخرجه البزّار: «حدّثنا يوسف بن موسي: نا عبيد اللَّه بن موسي، عن فطر بن خليفة، عن أبي إسحاق، عن عمرو ذي مر، وسعيد بن وهب، وزيد بن __________________________________________________

(1) مسند أبي يعلي- الحديث 6423، 11/ 307، الحديث 567، 1/ 492.

(2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان كتاب إخباره صلّي اللَّه عليه وسلّم عن مناقب الصحابة، باب مناقب علي رضي اللَّه عنه الحديث 6931، 15/ 376.

(3) كنز العمّال- فضائل علي رضي اللَّه عنه، الحديث 36487- 13/ 185.

(4) البداية والنهاية- سنة اربعين من الهجرة، حديث غدير خم- 7/ 384.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 298

يثيع، قالوا … » «1».

وأخرجه الطّحاوي وقال: «هذا الحديث صحيح الإسناد، لا طعن لأحدٍ في رواته» «2».

وأخرجه الدارقطني «3».

وأخرجه ابن عساكر بترجمة أميرالمؤمنين عليه السلام «4».

والنّسائي في (الخصائص) «5».

فهؤلاء من رواة هذا الحديث، أليسوا من «أهل العلم» عند ابن تيميّة؟

أليست أسانيدهم صحيحة وكتبهم معتبرة؟

ونحن أيضاً نقول: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبه وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره واخذل من خذله … آمين يا رب العالمين.

حديث يوم الدار، كذب … ص: 298

قال العلّامة: «المنهج الثالث، في الأدلّة المستندة إلي السنّة المنقولة عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وهي اثنا عشر، الأول: ما نقله الناس كافّة؛ إنه لمّآ نزل قوله تعالي «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» جمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بني عبد المطلب في دار أبي طالب … ».

__________________________________________________

(1) مختصر زوائد مسند البزار-

كتاب مناقب الصحابة، الحديث 1900- 2/ 301.

(2) مشكل الآثار- باب بيان مشكل ما روي من كنت مولاه فعلي مولاه 2/ 308.

(3) كنز العمال- فضائل علي رضي اللَّه عنه، الحديث 36417- 13/ 131.

(4) ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق- الحديث 501، حديث الغدير 2/ 5.

(5) خصائص أميرالمؤمنين- باب قول النبيّ من كنت وليه فعلي وليّه، الحديث 87/ 127.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 299

قال ابن تيمية: «هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالمٍ يعرف الحديث إلّا وهو يعلم أنه كذب موضوع، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأن أدني من له معرفة بالحديث يعلم أنَّ هذا كذب … » «1».

أقول:

تري كيف يقول ابن تيميّة هذا، وقد أخرجه إمام أهل الحديث أحمد بن حنبل في المسند بسندٍ صحيح؟ ففي (المسند): «حدّثنا عبداللَّه، ثنا أبي، ثنا أسود ابن عامر، ثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال، عن عباد بن عبد اللَّه الأسدي، عن علي- رضي اللَّه عنه- قال:

لمّا نزلت هذه الآية «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» قال: جمع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا، قال: فقال لهم: من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة ويكون خليفتي في أهلي؟ فقال رجل- لم يسمّه شريك-: يا رسول اللَّه، أنت كنت بحراً، من يقوم بهذا؟ قال: ثم قال الآخر، قال فعرض ذلك علي أهل بيته. فقال علي- رضي اللَّه عنه-: أنا» «2».

قال الهيثمي بعد أن رواه: «رواه أحمد، ورجاله ثقات» «3».

وفي (المسند) أيضاً: «حدّثنا عبداللَّه، حدّثني أبي، ثنا عفان، ثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة

بن ناجذ، عن علي- رضي اللَّه عنه- قال: جمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم- أو دعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 302.

(2) مسند أحمد- مسند علي بن أبي طالب، الحديث 885- 1/ 178.

(3) مجمع الزوائد- كتاب علامات النبوة- باب معجزته في الطعام وبركته فيه- 8/ 302.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 300

- بني عبد المطلب، فيهم رهط كلّهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مدّاً من طعام فأكلوا حتي شبعوا. قال: وبقي الطعام كما هو كأنّه لم يمس. ثم دعا بغمرٍ فشربوا حتي رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب. فقال: يا بني عبد المطلب! إني بعثت لكم خاصة وإلي الناس بعامّة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيّكم يبايعني علي أن يكون أخي وصاحبي؟ قال: فلم يقم إليه أحد. قال:

فقمت إليه- وكنت أصغر القوم- قال فقال: إجلس. قال: ثلاث مرّات. كلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي: إجلس، حتي كان في الثالثة ضرب بيده علي يدي» «1».

أقول: وهذا السند صحيح كذلك.

وقد أخرجه- بهذا السند- النسائي في (الخصائص) عن ربيعة بن ناجذ:

«أن رجلًا قال لعلي: يا أميرالمؤمنين لِمَ ورثت ابن عمّك دون عمّك» فذكر الإمام عليه السلام حديث يوم الإنذار وفيه: «ثم قال: أنت أخي وصاحبي ووارثي ووزيري» قال عليه السلام: «فبذلك ورثت ابن عمّي دون عمي» «2».

وأخرجه البزّار- وأحمد باختصار- والطبراني في الأوسط باختصار أيضاً … وعنهم الهيثمي، وهذا لفظه:

«وعن علي قال: لمّا نزلت «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا علي، إصنع رجل شاةٍ بصاعٍ من طعام، واجمع لي بني هاشم- وهم يومئذٍ أربعون رجلًا أو أربعون غير

رجل- قال: فدعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بالطّعام، فوضعه بينهم فأكلوا وشبعوا، وإنّ منهم لمن يأكل الجذعة

__________________________________________________

(1) مسند أحمد مسند علي بن أبي طالب- الحديث 1375، 1/ 257.

(2) خصائص أمير المؤمنين- ذكر الاخوة، الحديث 65: 97- 98.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 301

بإدامها … ».

قال الهيثمي: «ورجال أحمد وأحد اسنادي البزّار رجال الصحيح غير شريك، وهو ثقة» «1».

وأخرجه أيضاً: ابن اسحاق، والطبري، والطّحاوي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والضياء المقدسي … وعنهم: المتّقي الهندي «2» قال: وصحّحه الطبري … كما أن الضّياء لا يروي في (المختارة) إلّا الصحيح، وقد تقدّم نصَّ الحافظ ابن حجر علي أنّ ابن تيمية يري بأنّ أحاديث المختارة أصحّ وأقوي من أحاديث المستدرك.

وهذا نصُّ ما رواه المتقي عن: ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم والبيهقي معاً في دلائل النبوّة:

«عن علي قال: لمّا نزلت هذه الآية علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

«وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» دعاني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فقال: يا علي، إنّ اللَّه أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنّي مهما أُناديهم بهذا الأمر أري منهم ما أكره، فصمتُّ عليها، حتي جاءني جبريل فقال: يا محمّد، إنك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربك. فاصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واجعل لنا عسّاً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتي اكلّمهم وابلّغ ما امرت به.

ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذٍ أربعون رجلًا، يزيدون __________________________________________________

(1) مجمع الزوائد كتاب علامات النبوة- باب معجزته صلّي اللَّه عليه وسلم في الطعام وبركته فيه 8/ 303.

(2) كنز العمال باب

فضائل الصحابة فضائل علي رضي اللَّه عنه الحديث 36408، 13/ 129، والحديث 36419، 13/ 131، والحديث 36465، 13/ 149، والحديث 36520، 13/ 174.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 302

رجلًا أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب.. فلمّا وضعته تناول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم جشب حزبة من اللّحم فشقّها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: كلوا بسم اللَّه. فأكل القوم حتي نهلوا عنه، ما نري إلّا آثار أصابعهم، واللَّه إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدّمت لجميعهم، ثم قال: إسق القوم يا علي، فجئتهم بذلك العسّ، فشربوا منه حتي رووا جميعاً، وأيم اللَّه إن كان الرجل منهم ليشرب مثله.

فلمّا أراد النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلي الكلام فقال: لقد سحركم صاحبكم. فتفرّق القوم، ولم يكلّمهم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

فلمّا كان الغد فقال: يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني إلي ما سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أن اكلّمهم. فعد لنا مثل الذي صنعت بالأمس من الطّعام والشراب، ثم اجمعهم لي. ففعلت … ثم تكلّم النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال:

يا بني عبد المطلب، إني واللَّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللَّه أن أدعوكم إليه، فأيّكم يوازرني علي أمري هذا؟

فقلت: وأنا أحدثهم سنّاً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبيّ اللَّه أكون وزيرك عليه.

فأخذ برقبتي فقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي» «1».

__________________________________________________

(1) كنز العمال- فضائل علي رضي اللَّه

عنه، الحديث 36419- 13/ 131- 133.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 303

أقول:

وقد نصَّ بعضهم علي صحّة هذا الخبر، كالحافظ الشهاب الخفاجي، حيث أورده في فصل (معجزاته صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في تكثير الطّعام) قال:

«وتفصيله كما في الدلائل للبيهقي وغيره بسند صحيح: أنّه لمّا نزل عليه … » «1».

وتلخّص: إن الحديث موجود في «كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم المنقولات» فقول ابن تيميّة: «لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات» كذب.

وأن للحديث أسانيد كثيرة صحيحة، وقد نصّ غير واحدٍ من أئمة الحديث علي صحّته، فقول ابن تيمية: «هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالمٍ يعرف الحديث إلّا وهو يعلم أنه كذب موضوع» كذب.

ثم إنّه حاول الطعن في الحديث بأن «بني عبد المطّلب لم يبلغوا أربعين رجلًا حين نزلت هذه الآية» وبأنّه «ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل» ويجاب عن ذلك- بما أجاب به الحافظ ابن حجر عن كلامه في حديث المؤاخاة- بأنّه «ردّ للنص بالقياس».

وعلي الجملة، فالحديث من أدلّ الأدلّة المعتبرة علي إمامة أميرالمؤمنين وخلافته بلا فصل، ومن هنا ذكره العلّامة قبل غيره، كما لا يخفي.

حديث: هذا فاروق أمّتي، كذب … ص: 303

و: ما كنّا نعرف المنافقين.. إلّا ببغضهم علياً، كذب __________________________________________________

(1) نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض- فصل ومن معجزاته تكثير الطعام 3/ 35.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 304

قال ابن تيميّة: «أما هذان الحديثان فلا يستريب أهل المعرفة بالحديث أنهما حديثان موضوعان مكذوبان علي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولم يرو واحد منهما في شي ء من كتب العلم المعتمدة، ولا لواحدٍ منهما إسناد معروف.. ونحن نقنع في هذا الباب بأن يروي الحديث بإسناد معروفين بالصّدق

من أيّ طائفةٍ كانوا …

كلّ من الحديثين يعلم بالدليل أنه كذب، لا يجوز نسبته إلي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم … » «1».

أقول:

لا يخفي أنّ مقولة «ما كنّا نعرف المنافقين علي عهد رسول اللَّه- صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- ليس بحديثٍ عن النبي، وإنّما رواه العلّامة رحمه اللَّه عن ابن عمر، فإن كان ابن تيميّة يكذّب روايته عن النبي، فإنّ أحداً لم ينسبه إليه، وإن كان يكذّب بأن يكون ابن عمر أو غيره من الصّحابة قد قال هذا الكلام، فسيظهر أن ابن تيميّة هو الكاذب.

فأمّا الحديث: هذا فاروق امّتي … ص: 304

فلنذكر أولًا الحديث عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فنقول:

أوّلًا: هذا الحديث رواه جمع من الصحابة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كسلمان وابن عبّاس وأبي ذر وحذيفة وأبي ليلي … وغيرهم. وقد قاله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- بحسب هذه الروايات- مرّتين، مرّةً في سياق أوصاف أميرالمؤمنين عليه السّلام بقوله: «إن هذا أوّل من آمن بي، وأوّل من يصافحني __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 286- 290.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 305

يوم القيامة، وهذا الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق هذه الامة يفرق بين الحق والباطل، وهذا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظالمين» واخري في مقام بيان الإختلاف من بعده والأمر بلزوم أميرالمؤمنين، بقوله: «سيكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فإنّه الفاروق بين الحق والباطل».

وثانياً: من رواته من أئمة الحديث وحفّاظه: الطبراني، والبزّار، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن عبد البر، وابن عساكر، وابن الأثير، وابن حجر، والمحبّ الطبري، والمنّاوي، والمتقي الهندي … وغيرهم.

وثالثاً: هو في الكتب المعتمدة أمثال: مسند البزار، ومعجم الطبراني، وتاريخ دمشق، والاستيعاب واسد الغابة والإصابة بترجمة أميرالمؤمنين، ومجمع الزوائد وكنز العمال

في فضائله، وفي فيض القدير بشرح الجامع الصغير، والرياض النضرة في مناقب العشرة، وذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي

ورابعاً: من أسانيد هذا الحديث «في الكتب المعتمدة» ما أخرجه الطبراني في الكبير بقوله: «حدّثنا علي بن إسحاق الوزير الإصبهاني، حدّثنا إسماعيل بن موسي السدّي، ثنا عمر بن سعيد، عن فضيل بن مرزوق، عن أبي سخيلة، عن أبي ذر وعن سلمان قالا:

أخذ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بيد علي- رضي اللَّه عنه- فقال: إن هذا أوّل من آمن بي، وهو أوّل من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق هذه الامّة يفرق بين الحق والباطل، وهذا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظالم» «1».

__________________________________________________

(1) المعجم الكبير- الحديث 6184، 6/ 269.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 306

ورواه المناوي قال: «ورواه الطبراني والبزّار عن أبي ذر وسلمان مطوّلًا قال: أخذ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بيد علي … » «1» ولم يتكلّم عليه بشي ءٍ أصلًا، وإن تكلّم في غيره، وكذا المتقي الهندي «2».

ولم يورده ابن الجوزي- بهذا السند- لافي (الموضوعات) ولا (العلل) وإن أورده بأسانيد اخري في الأول كما ستعرف.

نعم قال الهيثمي بعد أن رواه: «رواه الطبراني، والبزار عن أبي ذر وحده وقال فيه: أنت أوّل من آمن بي. وقال فيه: والمال يعسوب الكفار. وفيه: عمرو ابن سعيد المصري، وهو ضعيف» «3».

أقول:

الذي في سند الطبراني في الكبير: «عمر بن سعيد» وكذا جاء- بإضافة «البصري» - في أسماء من يروي عنهم «إسماعيل بن موسي» الراوي عنه هذا الخبر، عند المزي «4»، لكنّه بترجمة «فضيل بن مرزوق» في أسماء الرواة عنه ذكر «عمر بن سعد» «5».

فهو- علي كلّ حالٍ- ليس «عمرو بن سعيد». وليس «المصري» بل «البصري».

ثم

راجعنا (الميزان) و (اللسان) فوجدنا: «عمر بن سعد، يروي عن عمر

__________________________________________________

(1) فيض القدير- شرح الجامع الصغير، الحديث 5600- 4/ 472.

(2) كنز العمال- فضائل علي رضي اللَّه عنه، الحديث 32990- 11/ 616.

(3) مجمع الزوائد- كتاب المناقب، باب إسلام علي رضي اللَّه عنه- 9/ 102.

(4) تهذيب الكمال- الترجمة 491، إسماعيل بن موسي الفزاري 3/ 210.

(5) تهذيب الكمال- الترجمة 4769، فضيل بن مرزوق 23/ 306.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 307

ابن عبداللَّه الثقفي، عن أبيه، عن جدّه، حدّث عنه: إسماعيل بن موسي، عداده في البصريين. قال البخاري: لا يصحّ حديثه» «1».

فالصحيح: إنّه «عمر بن سعد البصري» فإن كان الهيثمي قد التبس عليه الأمر واشتبه الرجل برجلٍ آخر فهو، وإن كان الغلط من النسخة، فإنّي لم أجد الرجل في كتب الضعفاء للبخاري والنّسائي والدارقطني، غير أنّ الذهبي وابن حجر نقلا عن البخاري فيه: «لا يصحُّ حديثه».

فإذا كان ابن الجوزي لا يُدرج الحديث بهذا السند في (الموضوعات) ولا (الواهية)، والرجل لم يُدرج في الكتب المعدّة للضعفاء والمتروكين، من البخاري والنسائي والدارقطني، بل لا كلام فيه لأحدٍ وإلّا لذكر في الميزان ولسانه، ولم يتكلّم غير واحدٍ من المحدّثين علي سند هذا الحديث مع روايتهم له، لم يكن قول البخاري «لا يصح حديثه» قدحاً في الرجل نفسه.

ومما يشهد بذلك: أن ابن أبي حاتم أورد الرّجل في كتابه (الجرح والتعديل)- الذي هو في الحقيقة تعقّبات لكتاب (التاريخ الكبير) للبخاري- فلم يذكر فيه طعناً وقدحاً من أحد، وهذه عبارته: «عمر بن سعد النصري «2». روي عن: عمر ابن عبداللَّه الثقفي، وليث بن أبي سليم. روي عنه: أبو سلمة موسي بن إسماعيل المنقري، وإسماعيل بن موسي قريب السدّي، سمعت أبي يقول ذلك» «3».

هذا،

ولا يقال إنّه إن لم يقدح فيه فلم يعدّله، لأنه ذكر عن أبيه وعن __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال- حرف العين الترجمة 6119، عمر بن سعد- 3/ 199. لسان الميزان- الترجمة 6121، عمر بن سعد- 5/ 190- 191.

(2) كذا والصحيح: البصري.

(3) الجرح والتعديل- باب السين، الترجمة 594، عمر بن سعد النصري 6/ 112.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 308

أبي زرعة التصريح بأنَّ «رواية الثقة عن غير المطعون عليه تقوية له» وعقد لهذا باباً «1».

وتلخص: صحّة هذا الحديث بهذا السّند.

* ومن أسانيد هذا الحديث «في الكتب المعتمدة» ما أخرجه البزّار قال:

«حدّثنا عبّاد بن يعقوب، حدّثنا ابن هاشم، حدّثنا محمّد بن عبيداللَّه بن أبي رافع، عن أبيه، عن جدّه أبي رافع، عن أبي ذر، عن النّبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه قال لعلي بن أبي طالب: أنت أوّل … ».

أقول:

رجاله رجال الصّحاح، غير أنّهم شيعة!

فأمّا «عباد بن يعقوب» فقد أخرج عنه البخاري في صحيحه، وكذا غيره من أرباب الصّحاح، قال ابن حجر: «صدوق رافضي» «2».

وأمّا: «ابن هاشم» فهو: علي بن هاشم بن البريد، وهو من رجال مسلم والأربعة، والبخاري في الأدب المفرد، قال ابن حجر: «صدوق يتشيّع» «3».

وأمّا «محمّد بن عبيداللَّه» فهو من رجال الترمذي وابن ماجة كما علّم الذهبي «4» وذكره ابن حبّان في كتاب الثقات «5»، وقد تكلَّم فيه غير واحدٍ منهم لأجل أحاديثه، وبذلك صرّح ابن عدي حيث قال: «وهو في عداد شيعة الكوفة،

__________________________________________________

(1) الجرح والتعديل- باب ما ذكر من معرفة ابن عيينة بالعلم وكلامه في رواة العلم وناقليه 1/ 36.

(2) تقريب التهذيب- حرف العين، ذكر من اسمه عباد، الترجمة 3153 عباد بن يعقوب الرواجني: 234.

(3) تقريب التهذيب- حرف الميم، الترجمة 5730، محمّد بن

إسماعيل بن رجاء الزبيدي: 404.

(4) ميزان الاعتدال- حرف الميم، الترجمة 7904، محمّد بن عبيداللَّه بن أبي رافع المدني: 3/ 634.

(5) تهذيب الكمال- الترجمة 5432، محمّد بن عبيداللَّه بن أبي رافع القرشي الهاشمي- 26/ 38.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 309

ويروي من الفضائل أشياء لا يتابع عليها» «1».

* ومن أسانيد هذا الحديث «في الكتب المعتمدة» ما أخرجه البيهقي قال:

«أنبأنا أبو عبداللَّه محمّد بن عبداللَّه الحاكم قال: سمعت محمّد بن علي الإسفرايني، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن إسماعيل قال: حدّثنا مذكور بن سليمان قال: حدّثنا أبو الصّلت الهروي قال: حدّثنا علي بن هاشم قال: حدّثنا محمّد بن عبيداللَّه بن أبي رافع، مثله سواء، إلّا أنه قال: والمال يعسوب الظلمة».

أقول: وهذا كسابقه. إذ لم يتكلّم إلّا في «أبي الصلت» و «علي بن هاشم» و «محمّد بن عبيداللَّه».

أمّا «علي بن هاشم» و «محمّد بن عبيداللَّه» فقد عرفتهما.

وأمّا «أبو الصّلت الهروي» فقد تعرّضوا لترجمته بمناسبة حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها» ولأجل هذا الحديث ونحوه تكلّم فيه بعضهم … قال ابن حجر:

«صدوق، له مناكير، وكان يتشيّع» «2».

* ومن أسانيد هذا الحديث «في الكتب المعتمدة» ما أخرجه ابن عدي قال: «حدّثنا علي بن سعيد الرازي قال: حدّثنا عبداللَّه بن داهر بن يحيي الرازي قال: حدّثني أبي، عن الأعمش، عن عباية الأسدي، عن ابن عبّاس قال:

ستكون فتنة، فإن أدركها أحد منكم فعليه بخصلتين: كتاب اللَّه وعلي بن أبي طالب، فإني سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول- وهو آخذ بيد علي-: هذا أوّل من آمن بي … ».

__________________________________________________

(1) تهذيب الكمال- الترجمة 5432، محمّد بن عبيداللَّه بن أبي رافع القرشي الهاشمي- 26/ 38.

(2) تقريب التهذيب- حرف العين، الترجمة 4070،

عبد السلام بن صالح بن سليمان: 296.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 310

وما تكلّم في سنده إلّا من ناحية «عبد اللَّه بن داهر» وما تكلّم فيه إلّا لتشيّعه، قال العقيلي: «رافضي خبيث» وقد أفصح ابن عدي كذلك عن السرّ حيث قال: «عامّة ما يرويه في فضائل علي وهو متّهم في ذلك» «1».

وأمّا قول ابن عمر: ما كنّا نعرف …

فإنَّ هذا القول لا يختص به، بل روي أيضاً عن: أبي ذر، وعبداللَّه بن مسعود، وعبداللَّه بن العبّاس، وجابر بن عبداللَّه الأنصاري، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وغيرهم.

ومن رواة تلك الأخبار من الأئمة والحفاظ: أحمد، والترمذي، والبزّار، والطبراني، والحاكم، والخطيب البغدادي، وأبو نعيم الإصفهاني، وابن عساكر، وابن عبد البر، وابن الأثير، والنووي، والهيثمي، والمحب الطبري، والذهبي، والسيوطي، وابن حجر المكي، والمتقي الهندي، والآلوسي …

ومن أسانيده:

* ما أخرجه أحمد قال: «حدّثنا أسود بن عامر قال: حدّثنا إسرائيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: إنّما كنّا نعرف منافقي الأنصار ببغضهم علياً» «2».

أقول:

وهؤلاء كلّهم من رجال الصحاح، وأبو صالح هو ذكوان السماّن.. فالسّند صحيح بلا كلام.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال- حرف العين، الترجمة 4295، عبد اللَّه بن داهر بن يحيي 2/ 417.

(2) فضائل الصحابة- فضائل علي الترجمة 979- 2/ 715.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 311

* وما أخرجه الترمذي: «حدّثنا قتيبة، حدّثنا جعفر بن سليمان، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال: إنّا كنّا لنعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب.

قال: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي هارون، وقد تكلّم شعبة في أبي هارون العبدي.

وقد روي هذا عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد» «1».

أقول:

أمّا السّند الثاني فقد عرفت صحته، وإنما أشار إليه الترمذي ليزيل الإشكال في الأول، لاشتماله علي أبي هارون وهو «عمارة بن جوين العبدي».

لكن يظهر السّب في تكلّمهم في أبي هارون العبدي من العبارة التالية:

«قال ابن عبد البر: أجمعوا علي أنّه ضعيف الحديث، وقد تحامل بعضهم فنسبه إلي الكذب، روي ذلك عن حماد بن زيد، وكان فيه تشيّع، وأهل البصرة يفرطون فيمن يتشيّع بين أظهرهم لأنّهم عثمانيون».

قال ابن حجر: «قلت: كيف لا ينسبونه إلي الكذب؟ وقد روي ابن عدي في الكامل عن الحسن بن سفيان، عن عبد العزيز بن سلام، عن علي بن مهران، عن بهز بن أسد قال: أتيت إلي أبي هارون العبدي فقلت: أخرج إليّ ما سمعت من أبي سعيد، فأخرج لي كتاباً فإذا فيه: حدّثنا أبو سعيد: أن عثمان ادخل حفرته وإنّه لكافر باللَّه. قال قلت: تُقرّ بهذا؟ قال: هو كما تري قال: فدفعت الكتاب في يده وقمت. فهذا كذب ظاهر علي أبي سعيد» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي، كتاب المناقب، مناقب علي بن أبي طالب، الحديث 3726: 979.

(2) تهذيب التهذيب- الترجمة 5018، عمارة بن جوين 7/ 349.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 312

أقول:

هنا نقطة مهمة وهي انّ:

إعتماد ابن حجر علي نقل «بهز بن أسد» مثل هذا عجيب جداً، فإنّ هذا الرجل من النواصب، وقد ذكره ابن حجر في عداد من تكلّم فيه من رجال البخاري لأجل مذهبه «1» وهو من أهل البصرة أيضاً!!

* وما أخرجه ابن عبد البر قال: «وروي عمّار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: ما كنّا نعرف المنافقين إلّا ببغض علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه» «2».

وهذا سند صحيح.

* وما أخرجه الحاكم بإسناده «عن أبي ذر-

رضي اللَّه عنه- قال: ما كنّا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم اللَّه ورسوله، والتخلّف عن الصلوات، والبغض لعلي ابن أبي طالب رضي اللَّه عنه. هذا حديث صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجاه» «3».

حديث: مثل أهل بيتي كسفينة نوح، كذب … ص: 312

قال ابن تيميّة: «وأمّا قوله: مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح. فهذا لا يعرف له إسناد لا صحيح «4»، ولا هو في شي ء من كتب الحديث التي يعتمد عليها، فإن كان __________________________________________________

(1) مقدمة فتح الباري- الفصل التاسع في تمييز أسباب الطعن في المذكورين: 460.

(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب- باب علي، الترجمة 1855، علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه 3/ 1110.

(3) المستدرك علي الصحيحين- كتاب معرفة الصحابة، الحديث 4643، 3/ 139.

(4) في بعض الكتب نقلًا عن منهاج السنة: لا صحيح ولا ضعيف. وقد اسقطت كلمة «ولا ضعيف» في الطبعتين القديمة والحديثة، وكلمة «لا» من «لا صحيح» غير موجودة في القديمة.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 313

قد رواه مثل من يروي أمثاله من حطّاب الليل الذين يروون الموضوعات، فهذا مما يزيده وهناً» «1».

أقول:

هذا الحديث أخرجوه بأسانيدهم عن: أميرالمؤمنين عليه السّلام، وأبي ذر الغفاري، وعبد اللَّه بن عبّاس، وأبي سعيد الخدري، وأبي الطفيل، وأنس بن مالك، وعبد اللَّه بن الزبير، وسلمة بن الأكوع.

ومن رواته من أصحاب «كتب الحديث التي يعتمد عليها»:

أحمد بن حنبل، والبزار، وأبو يعلي، وابن جرير الطبري، والنسائي، والطبراني، والدار قطني، والحاكم، وابن مردويه، وأبو نعيم الإصفهاني، والخطيب البغدادي، وأبو المظفّر السمعاني، والمجد ابن الأثير، والمحبّ الطبري، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، والسيوطي، وابن حجر المكي، والمتقي، والقاري، والمناوي، وغيرهم «2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 395.

(2) تجد رواية هؤلاء في: مشكاة المصابيح- كتاب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم،

الفصل الثالث، الحديث 6174، 3/ 1742. تاريخ الخلفاء، مجمع الزوائد- كتاب المناقب، باب في فضل أهل البيت رضي اللَّه عنهم 9/ 168. المستدرك علي الصحيحين- كتاب التفسير، سورة هود، الحديث 3312، 2/ 373. تاريخ بغداد، الترجمة 6507، علي بن محمد المطراز 12/ 91. النهاية في غريب الحديث- باب الزاي مع الخاء 2/ 298. ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي القسم الأول فيما جاء في القرابة علي وجه العموم باب فضائل أهل البيت، ذكر أنّهم كسفينة نوح عليه السلام: 20. فيض القدير شرح الجامع الصغير- حرف الهمزة الحديث 2442، 2/ 658، والترجمة 8162، 5/ 660. جواهر العقدين- القسم الثاني، الخامس ذكر أنهم أمان الأمة 2/ 120. الصواعق المحرقة الباب الحادي عشر في فضائل أهل البيت النبوي، الفصل الأول في الآيات الواردة فيهم: 152. كنز العمال- الباب الخامس في فضائل اهل البيت، الفصل الأول في فضلهم مجملًا الحديث 34144، 12/ 96 والحديث 34151، 12/ 95 والحديث 34169، 12/ 98 والحديث 34170، 12/ 98. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح- باب مناقب أهل بيت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ورضي اللَّه عنهم، الفصل الثالث 5/ 610. المطالب العالية- كتاب المناقب، باب أهل البيت، الحديث 4003- 4004، 4/ 75. وغيرها.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 314

فإن كان هؤلاء «من حطّاب الليل الذين يروون الموضوعات» فأهلًا وسهلًا!!

ومن أسانيده المعتبرة عندهم:

* ما أخرجه الحاكم، وصحّحه علي شرط مسلم.

* وما أخرجه الخطيب التبريزي في (المشكاة) فإنّه قد التزم فيه- تبعاً للبغوي صاحب (المصابيح)- إخراج الصّحاح والحسان فحسب.

* ثمّ إنّ من أسانيده المعتبرة ما أخرجه الطبراني في (الصغير) قال: «حدّثنا محمّد بن عبد العزيز بن محمّد بن ربيعة الكلابي أبو مليل

الكوفي، حدّثنا أبي، حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حماد المقري، عن أبي سلمة الصائغ، عن عطيّة، عن أبي سعيد الخدري، سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وانما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل، من دخله غفر له.

لم يروه عن أبي سلمة إلّا ابن أبي حمّاد. تفرّد به عبد العزيز بن محمّد» «1».

فهذا الإسناد لا يُتكلَّم فيه إلّا من جهة «عطيّة».. وهو من رجال: البخاري في (الأدب المفرد) وأبي داود في (سننه) والترمذي في (سننه) وابن ماجة في (سننه) وأحمد في (مسنده) …

__________________________________________________

(1) المعجم الصغير- باب الميم، من اسمه محمّد 2/ 22.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 315

ووثّقه ابن سعد، وقال الدوري عن ابن معين: صالح، وقال البزّار: يعدّ في التشيّع، روي عنه جلّة الناس، وقال أبو حاتم وابن عدي: يكتب حديثه.

وعلي الجملة، فهو من رجال غير واحدٍ من الصّحاح والمسانيد، والبخاري في (الأدب المفرد)، وقد تكلّم فيه بعض الرجاليين، لأجل تشيّعه، وهو غير ضائر.

* وما أخرجه الحاكم وصحّحه علي شرط مسلم، ووافق الذهبي علي كونه من شرطه إلّا أنه قال: «قلت: مفضّل خرّج له الترمذي فقط، ضعّفوه».

إذن، هو علي شرط مسلم ومن رجال الترمذي، ولم أعرف السّبب في تضعيفه، بل المستفاد من كلماتهم القدح في رواياته لا فيه بنفسه، فقيل: «منكر الحديث» بل ليست جميع رواياته كذلك، فقد قال ابن عدي: «أنكر ما رأيت له حديث الحسن بن علي، وسائره أرجو أن يكون مستقيماً» «1» وهذا الحديث ليس من حديث الحسن بن علي، فهو من المستقيم عند ابن عدي.

وتلخص: صحّة هذا السند.

*

وما أخرجه غير واحدٍ من أئمّة الحديث بأسانيدهم، كالبزّار والطبراني، عن ابن عباس … ولم يتكلّم فيها إلّا من جهة «الحسن بن أبي جعفر» «2».

أقول:

هذا الرّجل روي عنه: أبو داود الطيالسي، وابن مهدي، ويزيد بن زريع، وعثمان بن مطر، ومسلم بن إبراهيم، وجماعة غيرهم من مشاهير الرواة والأئمة،

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال- حرف الميم، الترجمة 8728، مفضل بن صالح- 4/ 167.

(2) مجمع الزوائد- باب فضائل أهل البيت رضي اللَّه عنهم- 9/ 168.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 316

وروايتهم عنه تدل علي جلالته.

وقال مسلم بن إبراهيم: كان من خيار الناس. وقال عمرو بن علي:

صدوق، وقال أبو بكر بن أبي الأسود: ترك ابن مهدي حديثه ثم حدّث عنه وقال:

ما كان لي حجة عند ربي، وقال ابن عدي: الحسن بن أبي جعفر أحاديثه صالحة، وهو يروي الغرائب، وهو عندي ممن لا يتعمّد الكذب، وهو صدوق. وقال ابن حبان: من خيار عباد اللَّه الخشّن، وكان من المتعبّدين المجابين الدعوة «1».

وتلخص: صحّة هذا السند أيضاً.

* وما أخرجه الحسن بن سفيان الفسوي قال: «حدّثنا عبيد اللَّه، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رجل حدّثه، عن حنش قال: رأيت أبا ذر آخذاً بحلقة باب الكعبة وهو يقول: يا أيّها الناس أنا أبو ذر فمن عرفني؟ ألا وأنا أبو ذر الغفاري، لا احدّثكم إلّا ما سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول. سمعته وهو يقول: أيها الناس إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب اللَّه عزّوجلّ وعترتي أهل بيتي، وأحدهما أفضل من الآخر كتاب اللَّه عزّوجل، ولن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض، وإن مثلهما كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تركها غرق» «2».

وهذا الإسناد رجاله رجال الصّحاح ولا كلام فيه إلّا من

ناحية «عن رجل حدّثه» لكن غير واحدٍ من الأئمة كالأعمش، يرويه عن أبي إسحاق عن حنش، بلا واسطة … فيكون الحديث صحيحاً.

__________________________________________________

(1) راجع تهذيب التهذيب- حرف الحاء- الترجمة 1292، حسن بن أبي جعفر عجلان 2/ 240.

(2) المعرفة والتاريخ- ترجمة عبداللَّه بن عمر بن الخطاب 1/ 296.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 317

حديث الطّير: من المكذوبات الموضوعات … ص: 317

قال ابن تيميّة: «إن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل، قال أبو موسي المديني: قد جمع غير واحدٍ من الحفّاظ طرق أحاديث الطير للإعتبار والمعرفة، كالحاكم النيسابوري وأبي نعيم وابن مردويه، وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال: لا يصح» «1».

أقول:

إنّ حديث الطير من أصحّ الأحاديث وأدلّها علي أفضلية أميرالمؤمنين عليه السلام وإمامته بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم …

فلقد رواه عن النبي اثنا عشر رجلًا من الصّحابة: أوّلهم: علي أميرالمؤمنين، وقد روي حديثه جماعة منهم: الحاكم النيسابوري. والثاني: عبداللَّه بن العبّاس، وقد روي حديثه جماعة منهم: ابن صاعد، والثالث: أبو سعيد الخدري، وقد روي حديثه جماعة منهم: الحاكم، والرابع: سفينة. وقد روي حديثه جماعة منهم: أحمد والحاكم. والخامس: أبو الطفيل. وقد روي حديثه جماعة منهم:

الحاكم. والسادس: أنس بن مالك، وقد روي حديثه جماعة منهم: الترمذي، والبزّار، والنسائي، والحاكم، والبيهقي، وابن حجر … والسابع: سعد بن أبي وقاص، وقد روي حديثه جماعة، منهم: أبو نعيم الإصفهاني. والثامن: عمرو بن العاص، وقد جاءت روايته في كتابٍ له إلي معاوية، رواه الخوارزمي المكي.

والتاسع: أبو مرازم يعلي بن مرّة، وقد روي حديثه: أبو عبداللَّه الكنجي الشافعي.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 371- 372.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 318

والعاشر: جابر بن عبداللَّه الأنصاري، وقد روي حديثه جماعة منهم:

ابن عساكر.

والحادي عشر: أبو رافع، وقد روي حديثه: ابن كثير الشامي. والثاني عشر: حبشي بن جنادة، ويوجد حديثه عند ابن كثير.

فهؤلاء رواة حديث الطير من الصحابة، وتلك جماعة من رواة هذا الحديث … ولنذكر- مع ذلك- أسماء عدّةٍ من الأئمة والحفاظ الكبار الرواة لهذا الحديث:

أبو حنيفة النّعمان بن ثابت، أحمد بن حنبل، أبو حاتم الرازي، الترمذي، البزار، النسائي، أبو يعلي، محمّد بن جرير الطبري، الطبراني، الدار قطني، ابن بطّة العكبري، الحاكم، إبن مردويه، البيهقي، إبن عبد البر، الخطيب، أبو المظفر السمعاني، البغوي، إبن عساكر، إبن الأثير، المزّي، الذهبي، إبن حجر العسقلاني، السيوطي …

ولأهميّة هذا الحديث معنيً وكثرة طرقه أفرده غير واحدٍ بالتأليف، ومنهم:

ابن جرير الطبري، وابن عقدة، والحاكم، وابن مردويه، وأبو نعيم، وأبو طاهر بن حمدان، والذهبي.

ثم إنّ هذا الجمع والإعتناء به قد يدل علي التّصحيح، ولذا قال السبكي في كلامٍ له حول جمع الحاكم طرق هذا الحديث: «قلنا: وغاية جمع هذا الحديث أن يدل علي أن الحاكم يحكم بصحته، ولو لا ذلك لما أودعه المستدرك، ولا يدل ذلك منه علي تقديم علي رضي اللَّه عنه علي شيخ المهاجرين والأنصار أبي بكر … » «1».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية الكبري- الترجمة 328، محمّد بن عبداللَّه بن محمّد بن حمدويه بن نعيم 4/ 165.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 319

بل نصَّ المقدسي والذهبي علي أنه جمع أخبار الطير، وكان يراه صحيحاً علي شرط البخاري ومسلم «1».

قلت: وأخرجه في المستدرك ونصَّ علي صحّته علي شرط الشيخين وأضاف بأنه قد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة علي ثلاثين نفساً.

(قال): «ثمّ صحّت الرّواية عن علي وأبي سعيد الخدري وسفينة» «2».

أمّا الذهبي نفسه فقال: «وأمّا حديث الطير فله طرق

كثيرة جدّاً، قد أفردتها بمصنَّف، ومجموعها هو يوجب أن يكون الحديث له أصل. وأما حديث:

من كنت مولاه، فله طرق جيّدة وقد أفردت ذلك أيضاً» «3».

ومن أسانيده المعتبرة:

* قال الحافظ ابن كثير: «وقد رواه ابن أبي حاتم، عن عمّار بن خالد الواسطي، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن أنس.

وهذا أجود من إسناد الحاكم» «4».

أقول:

أمّا «ابن أبي حاتم» فهو الحافظ الثقة، الإمام المشهور.

وأمّا «عمّار بن خالد الواسطي» فقد ترجم له ابن أبي حاتم قال: «كتبت عنه مع أبي بواسط، وكان ثقة صدوقاً. وحدثنا عبد الرحمن قال سئل أبي عنه __________________________________________________

(1) المنتظم 7/ 275 سير أعلام النبلاء 17/ 168 ترجمة الحاكم.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3/ 130.

(3) تذكرة الحفاظ- الترجمة 962، الحاكم 3/ 1042- 1043.

(4) البداية والنهاية سنة أربعين من الهجرة، حديث الطير 7/ 387- 388.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 320

فقال: صدوق» «1».

وأمّا «إسحاق الأزرق» فهو ثقة، من رجال الكتب الستة «2».

وأمّا «عبد الملك بن أبي سليمان» فكذلك «3».

فالحديث صحيحٌ بلا كلام.

* وما أخرجه الطّبراني قال: «حدّثنا عبيد العجلي، ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، ثنا حسين بن محمّد، ثنا سليمان بن قرم، عن فطر بن خليفة، عن عبدالرحمن بن أبي نعم، عن سفينة مولي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم … » «4».

قال الهيثمي بعده: «رجال الطبراني رجال الصحيح، غير فطر بن خليفة وهو ثقة» «5».

* وما أخرجه الطبراني والحاكم، بسندٍ لم يُتكلّم فيه إلّا من جهة «أحمد بن عياض بن أبي طيبة» قال الهيثمي: «لم أعرفه. وبقيّة رجاله رجال الصحيح» «6» وكذا قال الذهبي «7». وقال الصّلاح العلائي: «رجال هذا السند كلّهم ثقات معروفون، سوي أحمد بن عياض، فلم أر من ذكره

بتوثيق ولا جرح» «8».

__________________________________________________

(1) الجرح و التعديل الترجمة 2201، عمار بن خالد الواسطي 6/ 395.

(2) تقريب التهذيب، حرف الالف، ذكر من اسمه إسحاق- الترجمة 396.

(3) تقريب التهذيب، حرف العين، ذكر من اسمه عبدالمالك،- الترجمة 4184، عبدالمالك بن أبي سليمان: 304.

(4) المعجم الكبير الترجمة 6437، 7/ 95- 96.

(5) مجمع الزوائد كتاب المناقب، باب فيمن يحبه أو يبغضه او يسبه، 9/ 126.

(6) المصدر نفسه.

(7) ميزان الاعتدال حرف الميم، الترجمة 7180 محمد بن أحمد بن عياض 3/ 465.

(8) طبقات الشافعية الكبري- الترجمة 328، محمد بن عبداللَّه بن محمّد بن حمدويه بن نعيم 4/ 170.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 321

أقول: لكن ابن حجر الحافظ تعقّب الذهبي قائلًا: «قلت: ذكره ابن يونس في تاريخ مصر قال: أحمد بن عياض بن عبد الملك بن نصير الفرضي مولي حبيب، من ذا يكني أبا غسّان، يروي عنه يحيي بن حسّان، توفي سنة احدي وتسعين ومائتين، هكذا ذكره ولم يذكر فيه جرحاً. ثم أسند له حديثاً فقال …، وهذا طرف من حديث الطير … » «1».

فالرجل معروف، ولا جرح له، بل مقتضي رواية الحاكم والطبراني وابن يونس حديث الطير عنه يقتضي كونه ثقة. فالسند صحيح.

* هذا، ولحديث الطير أسانيد معتبرة كثيرة، تجد عدّةً منها في المجلدين المختصين به في كتابنا الكبير «2».

وقول ابن تيميّة: «وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال: لا يصح».

مردود بأنّ الحاكم أخرجه في (المستدرك) وأصرّ علي صحّته، كما عن غير واحدٍ من الأئمة أنّ الحاكم جمع أسانيد هذا الحديث في مصنَّف ونصَ علي صحّته علي شرط البخاري ومسلم … لكنّ القوم لمّا رأوا ذلك من الحاكم وضعوا علي لسانه القول بعدم صحّته، كما حاولوا الإجابة عن إخراجه هذا

الحديث في المستدرك، لكن أجوبتهم لا تغني، كما لا يخفي علي من راجع مقدمة حديث الطير من كتابنا الكبير.

__________________________________________________

(1) لسان الميزان- الترجمة 7036، محمد بن أحمد بن عياض 5/ 681.

(2) نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار ج 13 و 14.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 322

5- حول خلافته … ص: 322

اشارة

قد تقدّم قول ابن حجر بترجمة ابن تيمية: «ومنهم من ينسبه إلي النفاق، لقوله.. ولقوله: إنه كان مخذولًا حيث ما توجّه، وإنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله: إنه كان يحب الرياسة، وإن عثمان كان يحبّ المال … ».

وقد عقدنا هذا الفصل لذكر طائفةٍ من كلماته في خلافة أميرالمؤمنين وإمامته، ليظهر أنّ الأمر أكثر ممّا قالوا في حقّ هذا الرجل، فيعرفه من لا يعرفه علي واقعه وحقيقته:

الأقوال في خلافة علي … ص: 322

وأوّل شي ءٍ يكرّره ابن تيمية ويؤكّد عليه: عدم ثبوت خلافة أميرالمؤمنين وإمامته بعد عثمان، إذ الأقوال في ذلك مختلفة، لعدم النصّ المعتبر المتّفق عليه، ولعدم تحقق الإجماع!..

يقول ابن تيميّة:

«إضطرب الناس في خلافة علي علي أقوال: فقالت طائفة: إنه إمام وإنّ معاوية إمام … وقالت طائفة: لم يكن في ذلك الزمان إمام عام، بل كان زمان فتنة …

وقالت طائفة ثالثة: بل علي هو الإمام وهو مصيب في قتاله لمن قاتله، وكذلك من قاتله من الصّحابة كطلحة والزبير، كلّهم مجتهدون مصيبون … وطائفة رابعة: تجعل دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 323

علياً هو الإمام، وكان مجتهداً مصيباً في القتال، ومن قاتله كانوا مجتهدين مخطئين …

وطائفة خامسة تقول: إن علياً مع كونه كان خليفة وهو أقرب إلي الحق من معاوية، فكان ترك القتال أولي، وينبغي الإمساك عن القتال لهؤلاء وهؤلاء» «1».

أقول:

لم يذكر قولًا سادساً، وكأنّ الاماميّة ليسوا من «الناس»! وكأنّ أحداً من غيرهم لا يقول بكون علي إماماً علي الحق وأنّ معاوية علي الباطل، وهو باغ يجب قتاله، وهو وأصحابه وسائر من خرج علي علي من أهل النار!

وعلي الجملة، فالأقوال- في زعمه- مختلفة، فلا إجماع من المسلمين علي أن علياً عليه السلام رابع الخلفاء!

كثير من الصحابة لم يبايعوه، بل قاتلوه وناصبوه الخلافة … ص: 323

وهذا ممّا كرّره أيضاً، فقال: «ونحن نعلم أن عليّاً لمّا تولّي كان كثير من الناس يختار ولاية معاوية وولاية غيرهما» «2» وقال: «ومن جوّز خليفتين في وقت يقول: كلاهما خلافة نبوّة … وإن قيل: إن خلافة علي ثبتت بمبايعة أهل الشوكة كما ثبتت خلافة من كان قبله بذلك، أوردوا علي ذلك أن طلحة بايعه مكرهاً، والذين بايعوه قاتلوه، فلم تتّفق أهل الشوكة علي طاعته. وأيضاً: فإنما تجب مبايعته كمبايعة من قبله

إذا سار سيرة من قبله» «3». وقال: «وأمّا علي فكثير من السّابقين الأوّلين لم يتّبعوه ولم يبايعوه، وكثير من الصّحابة والتابعين __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 537- 539 ملخصاً.

(2) منهاج السنة 2/ 89.

(3) منهاج السنة 4/ 465.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 324

قاتلوه» «1»، وقال- في الجواب عن حديث: «من ناصب علياً الخلافة فهو كافر»:

«إن هذه الأحاديث تقدح في علي وتوجب أنه كان مكذباً باللَّه ورسوله، فيلزم من صحّتها كفر الصحابة كلّهم هو وغيره، أمّا الذين ناصبوه الخلافة فإنهم في هذا الحديث المفتري كفّار، وأمّا علي فإنه لم يعمل بموجب هذه النصوص» «2».

وقال: «ولم يكن كذلك علي، فإنّ كثيراً من الصحابة والتابعين كانوا يبغضونه ويسبّونه ويقاتلونه» «3».

وقال: «ونصف الامّة أو أقل أو أكثر لم يبايعوه، بل كثير منهم قاتلوه وقاتلهم، وكثير منهم لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه … » «4».

أقول:

تأمّل في كلامه: «نصف الامة أو أقل أو أكثر» ما معناه؟ ثم قارن بين هذا الكلام وبين قوله: «أمّا عثمان فلم يتفق علي قتله إلّا طائفة قليلة لا يبلغون نصف عشر عشر عشر الأُمّة» «5».

نسبة الطعن في عدالته إلي رعيّته … ص: 324

ثم يقول ابن تيميّة بالنسبة إلي «النصف» الذين بايعوه، يقول بأنّ نصفهم يطعنون في عدالته!: «لكن نصف رعيّته يطعنون في عدله، فالخوارج يكفّرونه،

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 234.

(2) منهاج السنة 7/ 405.

(3) منهاج السنة 7/ 137- 138.

(4) منهاج السنة 4/ 105.

(5) منهاج السنة 8/ 356.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 325

وغير الخوارج من أهل بيته وغير أهل بيته يقولون إنه لم ينصفهم، وشيعة عثمان يقولون: إنه ممّن ظلم عثمان. وبالجملة؛ لم يظهر لعلي من العدل مع كثرة الرعيّة وانتشارها ما ظهر لعمر ولا قريب منه» «1».

أقول:

وهل الخوارج وشيعة عثمان

يعدّون في رعيّته؟ وما معني أن أهل بيته وغيرهم يقولون: إنه لم ينصفهم؟ ومن هؤلاء؟

عذر من تخلّف عن بيعته أظهر … ص: 325

ثم ذكر ابن تيميّة أن عذر من تخلّف عن بيعة أميرالمؤمنين أظهر من عذر من تخلّف عن بيعة أبي بكر، قال: «وأمّا تخلّف من تخلّف عن مبايعته فعذرهم في ذلك أظهر من عذر سعد بن عبادة وغيره لمّا تخلّفوا عن بيعة أبي بكر، وإن كان لم يستقر تخلّف أحد إلّا سعد وحده» «2».

الخلفاء ثلاثة … ص: 325

بل ذكر عن الشّافعي وغيره أنهم كانوا ينكرون خلافته، قال: «وروي عن الشافعي وغيره أنهم قالوا: الخلفاء ثلاثة، أبو بكر وعمر وعثمان» «3» إنتهي

لكن أين قال الشافعي هذا؟ ومن رواه؟ ومن «غيره»؟

ثم ذكر عن الامويّين أنهم كانوا لا يربّعون بعلي، وأنهم كانوا يربّعون بمعاوية

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 18.

(2) منهاج السنة 4/ 388.

(3) منهاج السنة 4/ 404.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 326

قال:

«والخلفاء الثلاثة فتحوا الأمصار، وأظهروا الدين في مشارق الأرض ومغاربها، ولم يكن معهم رافضي، بل بنو أُميّة بعدهم مع انحراف كثير منهم عن علي وسبّ بعضهم له، غلبوا علي مدائن الإسلام كلّها من مشرق الأرض إلي مغربها، وكان الإسلام في زمنهم أعزّ منه فيما بعد ذلك بكثير … وأظهروا الإسلام فيها وأقاموه … ويقال: إن فيهم من كان يسكت عن علي فلا يربّع به في الخلافة، لأنّ الامة لم تجتمع عليه، ولا يسبّونه كما كان بعض الشيعة يسبّه! وقد صنّف بعض علماء المغرب كتاباً كبيراً في الفتوح، فذكر فتوح النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم وفتوح الخلفاء بعده: أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يذكر علياً مع حبّه له وموالاته له، لأنه لم يكن في زمنه فتوح» «1».

وقال في موضع آخر: «وكان بالأندلس كثير من بني اميّة … يقولون: لم يكن خليفة، وإنما الخليفة من اجتمع الناس عليه، ولم يجتمعوا

علي علي، وكان من هؤلاء من يربّع بمعاوية في خطبة الجمعة، فيذكر الثلاثة ويربّع بمعاوية ولا يذكر عليّاً» «2».

الطعن في خلافته … ص: 326

وقد كرّر ابن تيميّة هذه العبارات في مواضع، طاعناً في خلافة أميرالمؤمنين وولايته وإمامته، من أنه «لم يظهر في خلافته دين الإسلام، بل وقعت الفتنة بين __________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 419- 420.

(2) منهاج السنة 4/ 401- 402.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 327

أهله، وطمع فيهم عدوّهم من الكفّار والنصاري والمجوس» «1» قال: «وأمّا علي فلم يتّفق المسلمون علي مبايعته، بل وقعت الفتنة تلك المدّة، وكان السيف في تلك المدّة مكفوفاً عن الكفّار مسلولًا علي أهل الإسلام … وهذا كان من حجة من كان يربّع بذكر معاوية رضي اللَّه عنه ولا يذكر علياً» «2» قال: «ولم يكن في خلافة علي للمؤمنين الرحمة التي كانت في زمن عمر وعثمان، بل كانوا يقتتلون ويتلاعنون، ولم يكن لهم علي الكفّار سيف، بل الكفّار كانوا قد طمعوا فيهم وأخذوا منهم أموالًا وبلاداً» «3».

أيّ لطف كان في خلافته؟ … ص: 327

فكلّ ما كان في زمنه فتنة وقتال وافتراق … قال: «فإذا لم يوجد من يدّعي الإمامية فيه أنه معصوم وحصل له سلطان بمبايعة ذي الشوكة إلّا علي وحده، وكان مصلحة المكلّفين واللّطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة، علم بالضرورة أن ما يدّعونه من اللّطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعاً» «4».

أيّ عزّ للإسلام والمسلمين به وبخلافته؟ … ص: 327

فما كان من علي وخلافته إلّا الضعف والذلّ للإسلام والمسلمين … وهذا ما

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 117.

(2) منهاج السنة 4/ 161- 162.

(3) منهاج السنة 4/ 485.

(4) منهاج السنة 3/ 379.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 328

صرّح به حيث قال: «ومن ظنّ أن هؤلاء الاثني عشر هم الذين تعتقد الرافضة إمامتهم، فهو في غاية الجهل، فإنّ هؤلاء ليس فيهم من كان له سيف إلّا علي بن أبي طالب، ومع هذا فلم يتمكّن في خلافته من غزو الكفّار، ولا فتح مدينة، ولا قتل كافراً، بل كان المسلمون قد اشتغل بعضهم بقتال بعض، حتي طمع فيهم الكفّار بالشرق والشام من المشركين وأهل الكتاب، حتي يقال: إنهم أخذوا بعض بلاد المسلمين، وإن بعض الكفّار كان يحمل إليه كلام حتي يكفّ عن المسلمين، فأيّ عز للإسلام في هذا؟ …

وأيضاً: فالإسلام عند الإمامية هو ما هم عليه، وهم أذلّ فرق الامّة، فليس في أهل الأهواء أذلّ من الرافضة ولا أكتم لقوله منهم، ولا أكثر استعمالًا للتقيّة منهم، وهم- علي زعمهم- شيعة الاثني عشر وهم في غاية الذلّ، فأيّ عزّ للإسلام بهؤلاء الاثني عشر علي زعمهم؟» «1».

إن عليّاً قاتل علي الولاية … ص: 328

إذن! لا عزّ ولا نفع في إمامته، بل الضرر والفتنة والذل.. لكنَّ الولاية كانت هي الهدف!! «فإنّ علياً قاتل علي الولاية، وقتل بسبب ذلك خلق كثير عظيم، ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفّار ولا فتح لبلادهم، ولا كان المسلمون في زيادة خير» «2» وقال: «فلم تصف له قلوب كثير منهم، ولا أمكنه هو قهرهم حتي يطيعوه، ولا اقتضي رأيه أن يكفّ عن القتال حتي ينظر ما يؤول إليه الأمر، بل __________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 241- 242.

(2) منهاج السنة 6/ 191.

دراسات في منهاج

السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 329

اقتضي رأيه القتال وظن أنّه به تحصل الطّاعة والجماعة، فما زاد الأمر إلّا شدّة وجانبه إلّا ضعفاً، وجانب من حاربه إلّا قوة، والامّة إلّا افتراقاً» «1».

وهل هناك من النصوص ما يمكن أن يكون دليلًا لإمامته؟ … ص: 329

وإذ لا إجماع علي إمامته، فهل هناك من نصّ؟

قال: «جعل طائفة من الناس خلافة علي من هذا الباب وقالوا: لم تثبت بنصٍ ولا إجماع … » «2».

فما رأي ابن تيمية؟

قال: لا يوجد نصّ علي إمامته في الصّحاح، وإنّما هو في السّنن، فهذا أوّل الوهن!: «ليس في الصحيحين ما يدلّ علي خلافته، وإنما روي ذلك أهل السنن» ثم عيّنه بقوله: «وقد طعن بعض أهل الحديث في حديث سفينة» «3» … فهو في «السنن» و «مطعون فيه»!

ونصّ في موضع آخر علي أنّ حديث سفينة- هذا المطعون فيه- عمدة ما يستدلّ به علي خلافته:

«وأحمد بن حنبل- مع أنه أعلم أهل زمانه بالحديث- إحتجّ علي إمامة علي بالحديث الذي في السنن: (تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تصير ملكاً) وبعض الناس ضعّف هذا الحديث، لكن أحمد وغيره يثبتونه. فهذا عمدتهم من النصوص علي خلافة علي، فلو ظفروا بحديث مسند أو مرسل موافق لهذا لفرحوا به.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 452.

(2) منهاج السنة 8/ 243.

(3) منهاج السنة 4/ 389.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 330

فعلم أنّ ما تدّعيه الرافضة من النص هو مما لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، لا قديماً ولا حديثاً … » «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 50.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 331

6- حول جهاده وقتاله في خلافته … ص: 331

اشارة

وبما ذكرنا من كلمات ابن تيميّة عرفنا موقفه من حروب أميرالمؤمنين عليه السلام في زمن خلافته … ولكن لا بأس بنقل مزيدٍ من كلماته في ذلك:

1- قاتل لأن يطاع هو … ص: 331

قال: «وعلي يقاتل ليطاع ويتصرّف في النفوس والأموال، فكيف يجعل هذا قتالًا علي الدين؟» «1».

«ثم يقال لهؤلاء الرّافضة: لو قالت لكم النواصب: علي قد استحلّ دماء المسلمين وقاتلهم بغير أمر اللَّه ورسوله، علي رياسته، وقد قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر. وقال: لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض. فيكون علي كافراً لذلك. لم تكن حجّتكم أقوي من حجّتهم، لأن الأحاديث التي احتجّوا بها صحيحة. وأيضاً: فيقولون: قتل النفوس فساد، فمن قتل النفوس علي طاعته كان مريداً للعلوّ في الأرض والفساد، وهذا حال فرعون، واللَّه تعالي يقول: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» فمن أراد العلوّ في الأرض والفساد لم يكن من أهل السّعادة في الآخرة.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 329- 330.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 332

وليس هذا كقتال الصدّيق للمرتدّين ولمانعي الزكاة، فإنّ الصدّيق إنما قاتلهم علي طاعة اللَّه ورسوله لا علي طاعته، فإنّ الزكاة فرض عليهم، فقاتلهم علي الإقرار بها وعلي أدائها، بخلاف من قاتل ليطاع هو … » «1».

2- كان رأياً رآه ولم يكن عنده نصّ عليه … ص: 332

فكان قتاله في البصرة وصفّين رأياً رآه، قال ابن تيميّة: «والذين قاتلوا من الصحابه لم يأت أحد منهم بحجّة توجب القتال، لا من كتابٍ ولا من سنّةٍ، بل أقرّوا بأن قتالهم كان رأياً رأوه، كما أخبر بذلك علي رضي اللَّه عنه عن نفسه» «2» بل صرّح أنه لم يكن معه علي ذلك نصّ من النبي: «وأمّا قتال الجمل وصفّين فقد ذكر علي رضي اللَّه عنه أنّه لم يكن معه نصّ من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، وإنما كان رأياً، وأكثر الصّحابة لم يوافقوه علي هذا القتال …

» «3».

3- لم يكن واجباً ولا مستحبّا … ص: 332

بل لم يكن قتاله في صفّين والبصرة لا واجباً ولا مستحباً «كان قتال فتنة بتأويل، لم يكن من الجهاد الواجب ولا المستحب» «4».

4- قتل خلقاً كثيراً من المسلمين … ص: 332

وإذ لم يكن بنصٍ، ولم يكن واجباً ولا مستحبّاً «وقتل خلقاً كثيراً من __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 499- 500.

(2) منهاج السنة 8/ 526.

(3) منهاج السنة 6/ 333.

(4) منهاج السنة 7/ 57.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 333

المسلمين، الذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزكاة ويصومون ويصلّون … » «1» فقد فعل حراماً وأخطأ!!

5- لم يحصل إلّا زيادة الشرّ ولم يكن فيه أيّ عز … ص: 333

ثم الذي حصل لم يكن إلّا زيادة الشر، قال: «وأين أخذ المال وارتفاع بعض الرجال، من قتال الرجال الذين قتلوا بصفّين، ولم يكن في ذلك عز ولا ظفر؟.. حرب صفّين التي لم يحصل بها إلّا زيادة الشرّ وتضاعفه، لم يحصل بها من المصلحة شي ء» «2».

6- كان قتاله فتنة وخطأ … ص: 333

ولهذه الامور- قال أهل السنّة- بكون قتاله خطأً وفتنة: « … ولهذا كان أئمة السنّة كمالك وأحمد وغيرهما يقولون: إن قتاله للخوارج مأمور به، وأمّا قتال الجمل وصفين فهو قتال فتنة» «3» «أمّا قتال الجمل وصفين فكان قتال فتنة، كرهه فضلاء الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء، كما دلّت عليه النصوص، حتي الذين حضروه كانوا كارهين له، فكان كارهه في الامّة أكثر وأفضل من حامده» «4».

__________________________________________________

(1)

منهاج السنة 6/ 356.

(2) منهاج السنة 8/ 143.

(3) منهاج السنة 8/ 233.

(4) منهاج السنة 5/ 153.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 334

7- ندمه علي القتال … ص: 334

ثمّ إنّه ندم!: «وعلي بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه- ندم علي امور فعلها من القتال وغيره …

وكان يقول ليالي صفّين: للَّه درّ مقامٍ قامه عبد اللَّه بن عمر وسعد بن مالك، إن كان برّاً إنّ أجره لعظيم، وإن كان إثماً إنّ خطره ليسير.

وكان يقول: يا حسن يا حسن، ما ظنّ أبوك أن الأمر يبلغ إلي هذا، ودّ أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة.

ولمّا رجع من صفّين تغيّر كلامه … وتواترت الآثار بكراهته الأحوال في آخر الأمر، ورؤيته اختلاف الناس وتفرّقهم، وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل» «1» «وكان علي أحياناً يظهر فيه الندم والكراهة للقتال، ممّا يبيّن أنه لم يكن عنده فيه شي ء من الأدلة الشرعية، مما يوجب رضاه وفرحه، بخلاف قتاله للخوارج … » «2».

وقال أيضاً: «ومما يبيّن أنّ علياً لم يكن يعلم المستقبل: أنه ندم علي أشياء ممّا فعلها.. وكان يقول ليالي صفّين: يا حسن يا حسن، ما ظنّ أبوك أن الأمر يبلغ هذا! للَّه درّ مقام قامه سعد بن مالك وعبد اللَّه بن عمر،

إن كان برّاً إن أجره لعظيم وإن كان إثماً إن خطره ليسير. وهذا رواه المصنّفون.

وتواتر عنه أنه كان يتضجّر ويتململ من اختلاف رعيّته عليه، وأنه ما كان __________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 209.

(2) منهاج السنة 8/ 526.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 335

يظنّ أن الأمر يبلغ ما بلغ.

وكان الحسن رأيه ترك القتال، وقد جاء النص الصحيح بتصويب الحسن.

وفي البخاري عن أبي بكر رضي اللَّه عنه: إن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إن ابني هذا سيد وإنّ اللَّه يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. فمدح الحسن علي الإصلاح بين الطائفتين، وسائر الأحاديث الصحيحة تدل علي أن القعود عن القتال والإمساك عن الفتنة كان أحبّ إلي اللَّه ورسوله … » «1».

8- حديث أمره بقتال الناكثين والقاسطين … موضوع … ص: 335

وتلخّص:

إن حربه مع طلحة والزبير وعائشة، ومع معاوية وأصحابه … كانت رأياً رآه، لكي يطاع هو، خطّأه فيه الصحابة والتابعون وغيرهم، حتي من كان معه، حتّي ولده الحسن …

ثم إنّه ندم علي ذلك، ولو كان لا يجهل العواقب لما فَعَل!!

فإن قلت: ففي كتب الفريقين أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان قد أخبره بما يكون وأمره بالقتال؟

قال ابن تيمية: الحديث موضوع: «لم يرو علي- رضي اللَّه عنه- في قتال الجمل وصفين شيئاً، كما رواه في قتال الخوارج، … وأمّا قتال الجمل وصفين فلم يرو أحد منهم فيه نصّاً إلّا القاعدون، فإنهم رووا الأحاديث في ترك القتال في الفتنة.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 145.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 336

وأمّا الحديث الذي يروي أنه أمر بقتل الناكثين والقاسطين والمارقين، فهو حديث موضوع علي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم» «1».

أقول:

هذا الحديث رواه عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: أميرالمؤمنين عليه السلام وجماعة

من أعلام الصحابة، منهم: أبو أيوب الأنصاري، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وعمّار بن ياسر …

ومن الأئمة والحفاظ الذين رووه عن هؤلاء الأصحاب وغيرهم:

1- محمّد بن جرير الطبري.

2- أبو بكر البزار.

3- أبو يعلي الموصلي.

4- ابن مردويه.

5- أبو القاسم الطبراني.

6- الحاكم النيسابوري.

7- الخطيب البغدادي.

8- إبن عساكر الدمشقي.

9- إبن الأثير الجزري.

10- جلال الدين السيوطي.

11- ابن كثير الشامي.

12- المحب الطبري.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 112.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 337

13- أبو بكر الهيثمي.

14- المتقي الهندي.

ونحن نذكر هنا بعض الأسانيد المعتبرة لهذا الحديث:

* أخرج الحافظ أبو بكر الهيثمي في (باب ما كان بينهم يوم صفين): «عن علي قال: عهد إليَّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

وفي روايةٍ: أمرت بقتال الناكثين. فذكره.

رواه البزّار والطبراني في الأوسط. وأحد إسنادي البزّار رجاله رجال الصحيح، غير الرّبيع بن سعيد ووثّقه ابن حبان» «1».

* قال: «وعن أبي سعيد عقيصا قال: سمعت عمّاراً- ونحن نريد صفّين- يقول: أمرني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

رواه الطبراني. وأبو سعيد متروك» «2».

قلت: ليس متروكاً، فقد أخرج الحاكم والذهبي بإسنادهما حديث: «علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرّقا حتي يردا عليّ الحوض» فقالا: «هذا حديث صحيح الإسناد، وأبو سعيد التيمي هو عقيصاء ثقة مأمون» «3».

* قال: «وعن قيس بن أبي حازم قال قال علي: إنفروا إلي بقيّة الأحزاب، إنفروا بنا إلي ما قال اللَّه ورسوله، إنا نقول: صدق اللَّه ورسوله، ويقولون: كذب __________________________________________________

(1) مجمع الزوائد- كتاب الفتن، باب فيما كان بينهم يوم صفين- 7/ 238.

(2) مجمع الزوائد- كتاب الفتن، باب فيما كان بينهم يوم صفين- 7/ 238- 239.

(3) المستدرك علي الصحيحين- كتاب معرفة الصحابة، مناقب

علي بن أبي طالب، الحديث 4628، 3/ 134 وتلخيصه 4/ 94.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 338

اللَّه ورسوله.

رواه البزّار بإسنادين، في أحدهما يونس بن أرقم، وهو لين. وفي الآخر السيد بن عيسي قال الأزدي: ليس بذاك. وبقيّة رجالهما ثقات» «1».

قلت: أمّا «يونس بن أرقم» فيكفي أنّا لم نجد له جرحاً، وإنّما ليّنه ابن خراش فقط، بل إنّ أبا حاتم الرازي- علي تعنّته في الرجال كما وصفه الذهبي بترجمته في سير أعلام النبلاء- لم يقدح فيه «2»، بل وثّقه ابن حبّان «3»، نعم، قال:

«كان يتشيّع» ولعلّه السبب في تليين ابن خراش، لكن قد نصّ ابن حجر علي عدم الإلتفات إليه «4».

فظهر صحّة السند الأول.

وأمّا «السيد بن عيسي» فلم يتكلّم فيه إلّا «الأزدي» وقد نصّ الذهبي علي أنّه لا يلتفت إلي قول الأزدي «5» وقال ابن حجر: «لا يعتبر تجريحه لضعفه هو» «6».

ثم إن ابن حجر ينصّ علي أن ابن حبان ذكر «السيد بن عيسي في الثقات «7».

فظهر صحة السند الثاني أيضاً.

* قال: «وعن زيد بن وهب قال: بينا نحن حول حذيفة إذ قال: كيف أنتم __________________________________________________

(1) مجمع الزوائد- كتاب الفتن، باب فيما كان بينهم يوم صفين رضي اللَّه عنهم 7/ 239.

(2) الجرح والتعديل الترجمة 994، يونس بن أرقم الكندي البصري 9/ 236.

(3) لسان الميزان الترجمة 9501 يونس بن أرقم 7/ 553.

(4) مقدمة فتح الباري الفصل التاسع، حرف العين: 431.

(5) ميزان الاعتدال- حرف الألف، الترجمة 190 إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سرج 1/ 61.

(6) مقدمة فتح الباري- الفصل التاسع، حرف العين: 430.

(7) لسان الميزان- الترجمة 4068، السيد بن عيسي الكوفي- 3/ 461.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 339

وقد خرج أهل بيت

نبيّكم صلّي اللَّه عليه وسلّم فرقتين يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف؟ فقلنا: يا أبا عبداللَّه، وإنّ ذلك لكائن؟ فقال بعض أصحابه: يا أبا عبداللَّه، فكيف نصنع إن أدركنا ذلك الزمان؟ قال: انظروا الفرقة التي تدعوا إلي أمر علي فالزموها فإنّها علي الهدي

رواه البزّار ورجاله ثقات» «1».

أقول:

ونشير هنا إلي قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعائشة في قضيّة «كلاب الحوأب» وقوله للزبير بأنّه سيقاتل علياً وهو له «ظالم» وقوله لعمّار: «تقتلك الفئة الباغية» … فلتراجع المصادر.

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد- كتاب الفتن، باب فيما كان في الجمل وصفين وغيرهما 7/ 236.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 340

7- الكذب عليه … ص: 340

ولم يخل بحثٌ من بحوث كتاب (منهاج ابن تيميّة) من الكذب والإفتراء علي أميرالمؤمنين عليه السّلام في شتّي المجالات …

* فقد تقدّم في فصل (حروبه) أن نسب إلي الإمام عليه السلام الندم علي قتال الجمل وصفّين، وتصريحه بعدم وجود نصٍّ معه علي ذلك، وأنه كان يقول ليالي صفّين: يا حسن يا حسن … وللَّه در مقامٍ قامه سعد بن أبي وقاص وعبد اللَّه ابن عمر …

وهو في هذه الامور لا يذكر أحداً رواها، بل يقول- في موضعٍ واحدٍ- «وهذا رواه المصنّفون»، ولكن من هم؟ وما هي تصانيفهم؟

وكيف يصدَّق أنه كان يقول: «للَّه درّ مقام قامه سعد بن أبي وقاص وعبد اللَّه ابن عمر» وقد ثبت أن الرجلين قد ندما علي تركهما القتال معه ضد الفئة الباغية؟ «1» وأمّا أن الحسن السبط عليه السلام كان مخالفاً لوالده في القتال في صفين والجمل، فلم يذكر له إسناداً ولا من رواته أحداً، بل يدّعي تواتر ذلك، وهذا من الأكاذيب علي الأئمة الأطهار، كما سيأتي في الفصل الخاص بذلك.

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين- كتاب

معرفة الصحابة، باب مناقب علي الحديث 4598 و 4601- 3/ 125- 126.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 341

وكيف ذلك كلّه … مع وجود النصوص المعتبرة مع الإمام عليه السّلام في قتاله في البصرة وصفّين، وقد ذكرنا بعضها؟

وبذلك ظهر كذبه في تكذيب الحديث … !

* وكان في كلماته الماضية أنّ علياً هو الذي ابتدأ بالقتال، وهذا ما كرّره في موارد من كتابه بقصد التأكيد عليه، مدّعياً أنّ قوله تعالي «فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَي الْأُخْرَي فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي … » لا يفيد إلّا قتال المبتدء بالقتال، وهم لم يكونوا مبتدئين، بل الإمام عليه السلام ابتدأ بقتالهم، ولم يكن له مجوّز في الآية من القرآن الكريم، كما لم يكن معه نص من رسول اللَّه …

وبغضّ النظر عن معني الآية المباركة، فإنّ من يلقي نظرة علي الأحداث يعلم بأنّ الإمام عليه السلام لم يكن المبتدء … فما ذكره كذب.

* وذكر أنّ الإمام عليه السّلام كان قد تعلّم من أبي بكر وعمر.

وهذا أيضاً من الأكاذيب.

* وكرّر القول بأنه كان يري أفضليّة أبي بكر وعمر منه ويصرّح بذلك:

«.. كيف؟ وقد ثبت عن علي- من وجوه متواترة- أنه كان يقول: خير هذه الامّة بعد نبيّها أبو بكر وعمر» «1».

«وكذلك علي- رضي اللَّه عنه- قد تواتر عنه من محبّتهما وموالاتهما وتعظيمهما وتقديمهما علي سائر الامّة ما يعلم به حاله في ذلك … وهذا معروف عند من عرف الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصة والعامّة، والمنقولة بأخبار الثقات.

وأمّا من رجع إلي ما ينقله من هو من أجهل الناس بالمنقولات، وأبعد الناس عن __________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 72.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 342

معرفة أمور الإسلام، ومن هو معروف بافتراء الكذب

الكثير الذي لا يروج إلّا علي البهائم ويروج كذبه علي قومٍ لا يعرفون الإسلام … » «1».

«وقد روي بضعة وثمانون نفساً عن علي أنه قال: خير هذه الامّة بعد نبيّها أبو بكر ثم عمر. رواها البخاري في الصحيح عن علي رضي اللَّه عنه. وهذا هو الذي يليق بعلي رضي اللَّه عنه، فإنه من أعلم الصحابة بحق أبي بكر وعمر، وأعرفهم بمكانهما من الإسلام وحسن تأثيرهما في الدين … » «2».

«وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجهاً أنه قال علي منبر الكوفة: خير هذه الامة بعد نبيّها أبو بكر وعمر … » «3».

«وطائفة كانت تفضّله حتي قال: لا يبلغني عن أحدٍ أنّه فضّلني علي أبي بكر وعمر إلّا جلدته جلد المفتري» «4».

أقول:

فانظر كيف يدّعي التواتر لمثل هذا الكلام الكذب، ولا يعترف بتواتر منقبةٍ واحدةٍ من مناقب الإمام المتواترة قطعاً؟

وانظر كيف يدّعي ثبوت هذا التواتر حتّي عند «الخاصّة»؟

ولو وجدنا متّسعاً من الوقت لأثبتنا كذب هذا الأثر عن الإمام حتّي في كتب القوم، وعلي ضوء كلمات علمائهم.

أمّا الأثر «لا يبلغني..» فقد كفانا الدكتور رشاد سالم المؤنة حيث قال في الهامش أنه من أخبار كتاب (فضائل الصحابة) وأن محقّقه قال: «ضعيف».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 178.

(2) منهاج السنة 7/ 284.

(3) منهاج السنة 7/ 511.

(4) منهاج السنة 7/ 511.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 343

وعلي الجملة، فقد ذكرنا في موضعه- نقلًا عن (الفصل لابن حزم) و (الإستيعاب لابن عبد البر)- أن جماعةً كبيرةً من الصّحابة وغيرهم كانوا يقولون بأفضليّة الإمام من أبي بكر وعمر … ثم إنا لم نجد في شي ء من الكتب أنّه جلد أحداً علي هذا القول!!

* وكذب علي الإمام عليه السلام إذ نسب إليه أنّه

لم يكن يعتقد بعصمته:

«.. بل النقول المتواترة عنه تنفي اعتقاده في نفسه العصمة» «1».

فانظر كيف ينسب إليه هذا ويدّعي تواتره، مع عدم ذكر دليلٍ علي دعواه! هذا، مع أنه لا يري العصمة إلّا فعل الواجب وترك المحرّم:

«والعصمة مطلقاً- التي هي فعل المأمور وترك المحظور- ليست مقدورةً عندهم للَّه … » «2».

فانظر أيَّ شي ء ينفيه عن الإمام ناسباً النفي إليه، مدّعياً التواتر عليه!!

* وكذب عليه في قضيّة أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم طرقه وفاطمة قائلًا: «ألا تصلّيان».. وقد كرّر هذا غير مرّة:

قال: «والإحتجاج بالقدر من هذا الباب، كما في الصحيح عن علي- رضي اللَّه عنه- قال: طرقني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وفاطمة فقال: ألا تقومان تصلّيان؟ فقلت: يا رسول اللَّه، إنما أنفسنا بيد اللَّه إن شاء أن يبعثنا بعثنا. قال فولّي وهو يقول: «وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا». فإنه لمّا أمرهم بقيام اللّيل فاعتلّ علي رضي اللَّه عنه بالقدر وأنّه لو شاء اللَّه لأيقظنا، علم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّ هذا

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 440.

(2) منهاج السنة 7/ 85.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 344

ليس فيه إلّا مجرّد الجدل الذي ليس بحق فقال: وكان الإنسان أكثر شي ء جدلًا» «1».

وذكره مرّةً أخري مستشهداً به علي مخالفته لأمر النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم «2».

ومرّةً ثالثةً ضمن الموارد التي آذي فيها الإمام رسول اللَّه وخالفه «3».

أقول:

وهذا الخبر مما كذب به علي الإمام عليه السّلام، وقد أخرجه البخاري أربع مرات «4» وأحمد مرّتين «5» ومسلم في صحيحه «6» ولكنّهم ما رووه إلّا بسندٍ واحدٍ فقط، ممّا يبدو أن الخبر من صنع رجلٍ واحدٍ، وقد وجدنا في سند هذا الخبر الموضوع إزراءً بالإمام

والصدّيقة الطاهرة: (ابن شهاب الزهري) هذا الرجل الذي كان منحرفاً عن الإمام، وكان شرطيّاً لبني اميّة «7»، وله في الحطّ من الإمام __________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 85.

(2) منهاج السنة 6/ 28.

(3) منهاج السنة 7/ 237.

(4) صحيح البخاري، كتاب التهجد بالليل، الباب 721، الحديث 1051، 2/ 493. صحيح البخاري- كتاب التفسير، الباب 389، الحديث 1149، 6/ 440. صحيح البخاري- كتاب الاعتصام، الباب 1183، الحديث 2151، 9/ 765. صحيح البخاري- كتاب التوحيد، الباب 1226، الحديث 2263، 9/ 808.

(5) مسند أحمد مسند علي بن أبي طالب، الحديث 572 و 576، 1/ 124- 125.

(6) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتي أصبح، الحديث 206، 1/ 538.

(7) سير اعلام النبلاء- الترجمة 80، شعبة 7/ 226. ميزان الاعتدال- حرف الخاء، الترجمة 2397، خارجة بن مصعب، 1/ 625.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 345

وأهل البيت عليهم السلام أخبار وأحاديث اخري

وعلي فرض صحة الحديث، فليس فيه أية غضاضة عند العلماء عليه وعلي الزهراء البتول، قال القسطلاني بشرحه:

«وهو يقول «وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا» قيل قاله تسليماً لعذره، وأنّه لا عتب عليه. وقال ابن بطّال: ليس للإمام أن يشدّد في النوافل، فإنه صلّي اللَّه عليه وسلّم قنع بقوله: أنفسنا بيد اللَّه. فهو عذر في النافلة لا في الفريضة» «1».

* وكذب عليه شرب الخمر في قضيةٍ ونزول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَي … » «2»

.أقول:

هذه الرواية رواها الترمذي بإسناده عن أبي عبد الرحمن السّلمي، وفيه غير واحدٍ من المجروحين، لا سيّما السّلمي، فقد نصّوا علي كونه عثمانيّاً «3».

هذا، ولقد أخرج الحاكم وصحّحه، ووافقه الذهبي، عن طريق أحمد بن حنبل عن

علي عليه السلام قال: دعانا رجل من الأنصار- قبل أن تحرم الخمر- فتقدّم رجل فصلّي بهم المغرب، فقرأ «يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ» فالتبس عليه فيها فنزلت «لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَي».

قال الحاكم والذهبي: «في هذا الحديث فوائد كثيرة، وهي أن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلي أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره وقد

__________________________________________________

(1) إرشاد الساري شرح صحيح البخاري- كتاب التهجّد، باب تحريض النبي علي صلاة الليل، 3/ 177.

(2) منهاج السنة 7/ 237.

(3) تهذيب التهذيب الترجمة 3380، عبداللَّه بن حبيب بن ربيعة 5/ 164.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 346

برّأه اللَّه منها، فإنه روي هذا الحديث» «1».

أقول: صريح كلامهما أن من نسب هذا إلي أميرالمؤمنين هم «الخوارج»، فما بال ابن تيمية يحتجُّ بقول الخوارج ويطعن في الإمام، إن لم يكن منهم؟

وممّا يشهد بكذب الخبر أيضاً روايتهم خبراً آخر في شأن نزول الآية، وهو شرب جماعةٍ من الصحابة، وليس فيه ذكر لعلي عليه السّلام، بل روي بعضهم كابن مردويه خبراً- نصّ ابن حجر علي نظافة سنده- فيه وجود أبي بكر وعمر فيهم «2». ولعلّ هذا هو السرّ في وضع الخوارج ما سمعت.

* وكذب عليه بأنّه خطب ابنة أبي جهل، وكرّر هذا في مواضع، وهذا الخبر طعن في النبي والإمام والزّهراء، ممّا حمل بعض الأكابر من العلماء علي إظهار تعجبهم منه ومن راويه! قال الحافظ ابن حجر بشرحه:

«ولا أزال أتعجب من المسور كيف بالغ في تعصبه لعلي بن الحسين حتي قال انّه لو أودع عنده السيف لا يمكّن أحداً منه حتي تزهق روحه، رعاية لكونه ابن ابن فاطمة، محتجاً بحديث الباب؟ ولم يراع خاطره في أن ظاهر سياق الحديث المذكور غضاضة علي علي بن الحسين،

لما فيه من إيهام غض من جدّه علي بن أبي طالب، حيث أقدم علي خطبة بنت أبي جهل علي فاطمة حتي اقتضي أن يقع من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في ذلك من الانكار ما وقع» «3».

وسنتعرّض لهذا الخبر في ما يتعلّق بالزهراء عليها السلام.

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين- كتاب التفسير، تفسير سورة النساء، الحديث 3199، 2/ 336.

(2) فتح الباري في شرح البخاري كتاب الأشربة، باب نزول تحريم الخمر وهي من البسر والتمر 10/ 40.

(3) فتح الباري في شرح البخاري كتاب النكاح، باب ذبّ الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف 9/ 327.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 347

فرية أنه كان في الباطن معادياً للنبي … ص: 347

وبعد ذلك كلّه، فقد طرح ابن تيميّة شبهة أنّ الإمام كان في الباطن معادياً للنبي وللإسلام.. وإليك عبارته في كلام له: «ثم إن قائل هذا إذا قيل له مثل هذا في علي وقيل له: إنه كان في الباطن معادياً للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، وأنّه كان عاجزاً في ولاية الخلفاء الثلاثة عن إفساد ملّته، فلمّا ذهب أكابر الصحابة وبقي هو طلب حينئذٍ إفساد ملّته وإهلاك امّته، ولهذا قتل من المسلمين خلقاً كثيراً، وكان مراده إهلاك الباقين لكن عجز، وأنه بسبب ذلك انتسب إليه الزنادقة المنافقون المبغضون للرسول، كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية، فلا تجد عدّواً للإسلام إلّا وهو يستعين علي ذلك بإظهار موالاة علي، استعانةً لا تمكنه بإظهار موالاة أبي بكر وعمر.

فالشبهة في دعوي موالاة علي للرسول أعظم من الشبهة في دعوي معاداة أبي بكر. وكلاهما باطل معلوم الفساد بالإضطرار. لكنّ الحجج الدالة علي بطلان هذه الدعوي في أبي بكر أعظم من الحجج الدالّة علي بطلانها في حق علي … » «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 435- 436.

دراسات في

منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 349

الباب الخامس: ابن تيميّة وفاطمة الزهراء وسائر أئمّة أهل البيت … ص: 349

اشارة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 351

1- حول الصدّيقة فاطمة الزهراء … ص: 351

اشارة

ولابن تيميّة مواقف مشابهة من مناقب فاطمة الزهراء بضعة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وقضاياها، لابدّ من التعرّض لها، لِما في هذا الموضوع أيضاً من أهميّة:

حديث: إن فاطمة أحصنت … كذب … ص: 351

من ذلك قوله: «والحديث الذي ذكره عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم عن فاطمة، هو كذب باتّفاق أهل المعرفة بالحديث، ويظهر كذبه لغير أهل الحديث أيضاً، فإنّ قوله: إنّ فاطمة أحصنت … » «1».

أقول:

هذا الحديث أخرجه كبار الأئمة والحفّاظ بأسانيدهم، وذكروه في فضائل سيّدة نساء العالمين، في كتبهم المعتبرة:

كالبزّار وأبي يعلي في مسنديهما، وابن شاهين في السنّة، وعنهم السيوطي «2»

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 62.

(2) إحياء الميت بفضائل أهل البيت الحديث 38: 35.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 352

والطّبراني في الكبير «1» والدارقطني «2» والحاكم «3» وأبي نعيم «4» والخطيب «5» وابن عساكر «6» والمزّي «7» والمحب الطبري «8» وابن حجر العسقلاني «9» والزّرقاني «10» والمتّقي الهندي «11» وغيرهم.

وهؤلاء «أهل المعرفة بالحديث»!

وأمّا سند الحديث، فمنهم من صحّحه كالحاكم النيسابوري، ومنهم من رواه ولم يتكلّم بشي ء كالمزّي قال: «روينا … وعن زر بن حبيش عن عبداللَّه بن مسعود..» وكالخطيب وسنذكر روايته، ومنهم من تكلّم فيه لمكان (عمر بن ثابت) في سنده كالذهبي حيث قال: «فالآفة عمرو» «12»، ومنهم من حكم بوضعه كابن الجوزي، إذ أورده بطريقين وقال: «الطريقان علي عمر بن غياث، ويقال __________________________________________________

(1) المعجم الكبير الترجمة 1018، 22/ 406- 407.

(2) العلل الواردة في الأحاديث النبويّة- الثاني من حديث عبداللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه، السؤال 710، 5/ 65.

(3) المستدرك علي الصحيحين كتاب معرفة الصحابة الحديث 4726، 3/ 165.

(4) حلية الأولياء الترجمة 274، زر بن حبيش 4/ 188.

(5) تاريخ بغداد الترجمة 997، محمد بن علي الرضا احد الأئمّة

الاثني عشر 3/ 54.

(6) فيض القدير شرح الجامع الصغير الحديث 2309، 2/ 586.

(7) تهذيب الكمال- الترجمة 7899، فاطمة بنت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، 35/ 251.

(8) ذخائر العقبي ذكر تحريم ذريتها علي النّار: 48.

(9) المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية- كتاب المناقب باب الحسن والحسين، الحديث 3987، 4/ 70.

(10) شرح المواهب اللدنية 3/ 203.

(11) كنز العمال 12/ 108 الرقم 34220 عن: البزار وابن عساكر والطبراني والحاكم.

(12) ميزان الاعتدال- حرف العين، الترجمة 6405، عمرو بن عتاب، 3/ 280.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 353

فيه: عمرو، وقد ضعّفه الدار قطني وقال: كان من شيوخ الشيعة … » «1».

أقول:

أمّا القول بوضعه فباطل، لا سيّما والقائل ابن الجوزي الذي نصّ الأئمة كالنّووي والذهبي والسيوطي علي تسرّعه في الحكم بالوضع ومجازفته في خصوص كتابه الذي أسماه بالموضوعات … وممّا يشهد ببطلان الحكم عليه بالوضع أنّ الذهبي قال في تعقّبه قول الحاكم «صحيح» قال: «بل ضعيف».

ثمّ إنّ الحافظ السيوطي تعقّبه في (اللآلي المصنوعة) فذكر رواية العقيلي وأنه لم يقل بعدها إلّا «في هذا الحديث نظر» وذكر رواية البزّار وقوله بعدها: «لا نعلم رواه هكذا إلّا عمر، ولم يتابع عليه»، ثم ذكر رواية ابن شاهين وابن عساكر وليس فيها «عمر بن غياث» وهي «عن تليد، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود» قال السيوطي: «وهذه متابعة لعمر، وتليد روي له الترمذي، لكنه رافضي»، ثم ذكر رواية المهرواني بسنده عن عاصم عن زر عن حذيفة قال قال رسول اللَّه، وليس فيه لا «عمر بن غياث» ولا «تليد»، ثم ذكر رواية الخطيب الآتية ولم يتكلّم في سندها بشي ء، ثم ذكر للحديث شاهداً «2».

وتلخّص: سقوط القول بوضعه.

وأمّا القول بضعفه، فساقط كذلك، لأن

هذا الرجل- وهو: «عمر بن غياث» أو «عمرو بن غياث» أو «عمر بن عتّاب» - لم يثبت له جرح.

أمّا أوّلًا: فإنّ الحاكم وثّقه، لتصحيحه الحديث وهو في السند.

__________________________________________________

(1) الموضوعات- باب ذكر تزويج فاطمة بعلي، الحديث الثامن في تحريمهما و ذريتهما عن النار 1/ 317.

(2) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة- كتاب السنة، مناقب أهل البيت 1/ 400- 402.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 354

وأمّا ثانياً: فإنّ العقيلي والبزّار لم يقدحا في الرجل كما في (اللآلي المصنوعة) وإنما قال الأوّل «في هذا الحديث نظر» والثاني قال: «لم يتابع عليه».

وأمّا ثالثاً: فإنّ أبا نعيم قال- بعد أن رواه بسنده عن معاوية بن هشام، عن عمرو بن غياث، عن عاصم، عن زر، عن عبداللَّه-: «هذا غريب من حديث عاصم عن زر، تفرّد به معاوية» فلا طعن في «عمرو» أو «عمر» أصلًا.

وأمّا رابعاً: فلأنّ تضعيف الرجل- فيما نقل عن الدارقطني- مستند إلي مذهبه، إذ المنقول عنه: «ضعيف، وكان من شيوخ الشيعة» وأنت تعلم أنّ التشيّع بل الرفض غير مضر، كما قرّر الحافظ ابن حجر في (مقدّمة فتح الباري). أو أنه مستند إلي نكارة أحاديثه- عندهم- كما عن أبي حاتم، قال ابنه: «عمر بن غياث الحضرمي، روي عن عاصم بن أبي النجود. روي عنه معاوية بن هشام وأبو نعيم، سمعت أبي يقول ذلك ويقول: هو منكر الحديث وكان مرجئاً» «1».

لكنه هذه المرّة نسب إلي «الإرجاء»!!

أقول:

فالحق: إنه ثقة والحديث صحيح كما عليه الحاكم ومن تبعه، غير أنّ القوم لمّا رأوا الرّجل يحدّث بفضائل أهل البيت عليهم السلام حاولوا إسقاطه بكلّ وسيلةٍ، فذكروا اسمه علي أنحاء، ونسبوه تارةً إلي التشيّع، وأخري إلي الإرجاء، ومنهم من لم يجزم- كما عن ابن عدي-

فقال: «يقال كان مرجئاً» «2»، ومنهم من قال فقط:

«منكر الحديث».

__________________________________________________

(1) الجرح والتعديل- 698، عمر بن غياث الحضرمي 6/ 128.

(2) لسان الميزان- الترجمة 6168، عمرو بن غياث 5/ 220.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 355

فالحق صحّة هذا الحديث كما نصّ الحاكم، لكنّ بعضهم- كالحافظ المزّي- رواه وسكت عليه، فما كان بالمنصف كالحاكم ولا بالمجحف كمن ضعّف.

ثمّ إنّ للحديث طرقاً غير هذا الطّريق، وله شواهد عن الرسول الأعظم، وقد تقدّمت الإشارة إلي ذلك في كلام السيوطي في (اللآلي): … ونحن نورد هنا ما رواه ابن شاهين والخطيب البغدادي:

قال ابن شاهين: «حدّثنا أحمد بن محمّد بن سعيد بن عبد الرحمن الهمداني، حدّثنا يونس بن سابق- قراءةً- أنبأنا حفص بن عمر الابلي، حدّثنا عبدالملك بن الوليد بن معدان وسلام بن سليم القاري، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: إن فاطمة حصنت فرجها فحرّمها اللَّه وذريّتها عن النار.

حدّثنا أحمد بن محمّد بن سعيد بن عبد الرحمن، حدّثني محمّد بن عبيد بن عتبة، حدّثنا محمّد بن إسحاق البلخي، حدّثنا تليد، عن عاصم، عن زر، عن عبداللَّه قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: إن فاطمة- رضي اللَّه عنها- أحصنت فرجها فحرّمها اللَّه وذريّتها علي النار» «1».

وقال الخطيب بترجمة «محمّد بن علي» وهو الإمام الجواد ابن الإمام الرضا عليهما السّلام «أخبرنا أبو نعيم الحافظ، حدّثنا أحمد بن إسحاق، حدّثنا إبراهيم ابن نائلة، حدّثنا جعفر بن محمّد بن يزيد قال: كنت ببغداد فقال لي محمّد بن منذر ابن مهريز: هل لك أن ادخلك علي ابن الرضا؟ قلت: نعم. قال: فأدخلني، فسلّمنا عليه وجلسنا، فقال له: حديث

النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ فاطمة أحصنت __________________________________________________

(1) فضائل فاطمة الزهراء- الرسالة الاولي، الحديث 11 و 12 ص 17- 18.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 356

فرجها فحرّم اللَّه ذريّتها علي النار؟ قال: خاص بالحسن والحسين» «1».

فمنه يظهر شهرة الحديث، وكون صدوره عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم مفروغاً منه، وإنما سأل الرّاوي عن المراد من «الذريّة» فيه.

أقول:

وأمّا شواهد الحديث فراجع لأجلها (اللآلي المصنوعة) و (فيض القدير) و (شرح المواهب اللدنيّة) … لئلّا يطول بنا المقام بذكرها.

حديث: إنّ اللَّه يغضب لغضبك، كذب … ص: 356

وقال ابن تيميّة: «وأما قوله: ورووا جميعاً أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: يا فاطمة، إن اللَّه يغضب لغضبك ويرضي لرضاك. فهذا كذب منه، ما رووا هذا عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولا يعرف هذا في شي ء من كتب الحديث المعروفة، ولا له إسناد معروف عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، لا صحيح ولا حسن» «2».

أقول:

وهذا الحديث كسابقه، فقد رواه جمع غفير من الأئمة المشاهير والحفاظ الأعلام، في كتبهم في الحديث والفضائل، ومنهم من ذكره بترجمتها عليها السلام، فمن رواته:

أبو زرعة الرازي.

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد- الترجمة 997، محمّد بن علي الرضا أحد الأئمة الاثني عشر 3/ 54.

(2) منهاج السنة 4/ 248.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 357

وابن أبي حاتم الرازي.

وهما في طريق رواية الرافعي «1».

وأبو يعلي الموصلي.

وأبو القاسم الطبراني.

والحاكم النيسابوري.

وأبو نعيم الإصفهاني.

وأبو القاسم ابن عساكر.

رواه عنهم المتقي الهندي «2».

وأبو الحجّاج المزّي «3».

وابن الأثير الجزري «4».

وابن حجر العسقلاني «5».

وجلال الدين السيوطي «6».

والمتقي الهندي «7».

وغيرهم من أعلام الأئمة والحفّاظ.

__________________________________________________

(1) التدوين في أخبار قزوين- باب الذال 3/ 11.

(2) كنز العمال الباب الخامس في فضائل أهل البيت، الفصل الثاني الاكمال، الحديث 34238، 12/ 111.

(3) تهذيب الكمال-

الترجمة 7899، فاطمة بنت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم 35/ 250.

(4) اسد الغابة فاطمة بنت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم 5/ 522.

(5) تهذيب التهذيب الترجمة 9005، فاطمة بنت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم 12/ 392.

(6) الخصائص الكبري باب اختصاصه بتفضيل بناته وزوجاته علي سائر نساء العالمين، 3/ 178.

(7) كنز العمال- الباب الخامس في فضائل أهل البيت، الفصل الثاني، الاكمال، الحديث 34238، 12/ 111.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 358

فانظر من الكاذب؟

ثم إنّ الحاكم قال: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» فالحديث له إسناد معروف إلي النبي وهو صحيح.

وتعقّبه الذهبي في تلخيصه قائلًا: «بل حسين منكر الحديث، لا يحلّ أن يحتج به».

لكن قد ذكر غير واحدٍ من الحفاظ كابن حجر العسقلاني والسبكي وغيرهما أنّه ينبغي التثبّت في الذين يضعّفهم المؤلّف «1» … وهذا الموضع من ذاك، فإنّ «حسين بن زيد بن علي» المذكور، من رجال ابن ماجة، وقد روي عنه جمع من الأكابر «2» ونصَّ الحافظ ابن حجر علي أنّه صدوق «3».

فالحديث صحيح كما قال الحاكم.

وأخرجه الطبراني قال: «حدّثنا محمّد بن عبداللَّه الحضرمي، حدّثنا عبداللَّه ابن محمّد بن سالم القزّاز، حدّثنا حسين بن زيد بن علي … » إلي آخره «4» قال الهيثمي: «وإسناده حسن» «5».

فظهر أنّ الحديث صحيح عند الحاكم، وحسنٌ عند الهيثمي.. فظهر كذب القائل: «ولا يعرف هذا … لا صحيح ولا حسن».

__________________________________________________

(1) راجع مثلًا: لسان الميزان- الترجمة 5889، علي بن صالح الأنماطي 5/ 42.

(2) انظر تهذيب الكمال- الترجمة 1310، حسين بن زيد بن علي 6/ 376.

(3) تقريب التهذيب حرف الحاء- الترجمة 1321، الحسين بن زيد بن علي: 106.

(4) المعجم الكبير- الترجمة 182، 1/ 108.

(5) مجمع الزوائد- كتاب

المناقب، باب مناقب فاطمة 9/ 203.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 359

تزويج علي فاطمة … ص: 359

وعارض ابن تيميّة تزويج أميرالمؤمنين عليه السّلام بالزهراء الطاهرة بأنّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم زوّج عثمان بابنتيه، فكما أن ذاك فضيلة فهذا أيضاً فضيلة:

«وأما تزويجه فاطمة ففضيلة لعلي، كما أن تزويجه بابنتيه فضيلة لعثمان أيضاً، ولذلك سمّي ذو النورين» «1».

لا عتب من النبي علي عثمان وقد عتب علي علي … ص: 359

بل إنّه يفضّل تزويج عثمان! فيقول:

«بل لو قال القائل: إنّه لا يعرف من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه عتب علي عثمان في شي ء، وقد عتب علي علي في غير موضع، لما أبعد. فإنّه لمّا أراد أن يتزوّج بنت أبي جهل اشتكته فاطمة لأبيها … » «2».

وقال: «مصاهرة عثمان له لم يزل فيها حميداً، لم يقع منه ما يعتب عليه فيها حتي قال: لو كان عندنا ثالثة لزوّجناها عثمان. وهذا يدل علي أن مصاهرته للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أكمل من مصاهرة علي له» «3».

أقول:

وهنا مطالب:

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 36.

(2) منهاج السنة 4/ 242.

(3) منهاج السنة 8/ 235.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 360

الأوّل: في أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ردّ أبا بكر وعمر، واعتذر بأنّ زواجها بيد اللَّه، ثم لمّا خطبها علي زوّجها منه وصرّح بأنه كان بأمرٍ من اللَّه.

والأحاديث في هذا كثيرة وصحيحة «1».

ولذا، فقد كان قد تمنّي بعض الصحابة أن يكون صهره علي فاطمة، وأن ذلك أحبّ إليه ممّا طلعت عليه الشّمس «2».

وبالجملة، فهذا كلّه من الخصائص، وبذلك تثبت أفضلية أميرالمؤمنين عليه السلام من أبي بكر وعمر وعثمان، كما هو واضح.

والثاني: في أن زينب التي تزوّجت أبا العاص بن الربيع، ورقيّة وامّ كلثوم اللّتين تزوّجتا عثمان، بنات النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي الحقيقة أولا؟ بحث واسع بين علماء الفريقين منذ القديم … وليس هنا

موضع بسط الكلام فيه.

والثالث: في أنّه لم يكن من عثمان شي ء يستوجب العتب من النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بحث كبير، ليس هنا موضعه، وسيأتي قريباً أنّه عتب علي جميع __________________________________________________

(1) وهي من روايات: النسائي، وابن جرير الطبري، والطبراني، والحاكم، والخطيب، وابن عساكر، والبيهقي، والهيثمي، والمتقي الهندي، وغيرهم، فراجع: الخصائص- الحديث 126، ذكر ما خصّ به علي دون الاولين والآخرين من فاطمة بنت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: 171- 172، رقم 123 فما بعد، ومجمع الزوائد، كتاب المناقب باب في فضلها وتزويجها بعلي رضي اللَّه عنهما، 9/ 204 ونصّ علي أن رجاله ثقات. كنز العمال- كتاب الفضائل، فضائل علي رضي اللَّه عنه الحديث 32891، 11/ 344. فيض القدير شرح الجامع الصغير الحديث 1693، 2/ 271- 272. ذخائر العقبي- ذكر ما جاء في مهرها وكيفية تزويجها: 27- 29 ذكر أن تزويج فاطمة علياً كان بأمر اللَّه عزوجل: 29: 30. ذكر أن اللَّه أمره صلّي اللَّه عليه وسلّم أن يتخذه صهراً: 86.

(2) خصائص أمير المؤمنين- ذكر ما خص به علي دون الأوّلين والآخرين الحديث 126: 171- 172.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 361

الصحابة غير علي.

والرّابع: في أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال: «لو كانت لنا ثالثة» كما ذكر ابن تيمية، أو: «لو كنّ عشراً لزوجتهنّ عثمان» كما ذكر ابن سعد؟ «1»

أمّا ابن تيمية فلم يذكر للخبر راوياً ولا سنداً، وهو ما زال يطالب في البحوث بالسّند الصحيح!! نعم ذكره محقّقه في الهامش ونصّ علي ضعفه.

وأمّا ابن سعد، فقد عنون «امّ كلثوم بنت رسول اللَّه» فذكر امّها وزوجها الأول- وهو عتبة بن أبي لهب- ثم إنّ عثمان خلف عليها وأنّها ماتت عنده

فقال رسول اللَّه: «لو كنّ عشراً لزوّجتهنّ عثمان» فأين الإسناد؟

علي أنّا لو راجعنا أخبار ما جري من عثمان علي البنتين، لعلمنا بالقطع كذب مثل هذين الخبرين!

الخامس: في أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام خطب ابنة أبي جهل، واشتكته فاطمة إلي النبي، فخطب رسول اللَّه فقال …

خِطبة بنت أبي جهل … ص: 361

وقد كرّر ابن تيميّة ذكر هذا الخبر المختلق، واستند إليه في كلّ موضعٍ أحرج ولم يجد مخلصاً:

«وصاهر نبي اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ببناته الثلاثة لبني امية، فزوّج أكبر بناته زينب بأبي العاص بن الربيع بن امية بن عبد شمس، وحمد صهره لمّا أراد علي __________________________________________________

(1) الطبقات الكبري- ذكر بنات رسول اللَّه (ص) الترجمة 4100، ام كلثوم بنت رسول اللَّه، 8/ 31.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 362

أن يتزوّج ببنت أبي جهل … » «1».

فأورده في سياق كلامه في الدفاع عن بني اميّة!!

وقال: «وأمّا قوله: رووا جميعاً: إنّ فاطمة بضعة منّي من آذاها آذاني ومن آذاني آذي اللَّه، فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللّفظ، بل روي بغيره، كما روي في سياق حديث خِطبة علي لابنة أبي جهل، لمّا قام النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم خطيباً فقال … » «2».

قاله مدافعاً عن أبي بكر الذي آذاها … !!

وقال: «المذكور عن أزواجه كالمذكور عمّن شهد له بالجنّة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة، فإن علياً لمّا خطب ابنة أبي جهل … » «3».

قاله في مقام الدفاع عن عائشة وحفصة، اللتين ورد فيهما قوله تعالي «وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَي بَعْضِ أَزْوَاجِهِ … » وقد ثبت في الصحيح أنهما عائشة وحفصة …

وقال: «وكذلك طلبه نكاح بنت أبي جهل حتي غضب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فرجع عن ذلك» «4».

قاله في تبرير

قولة عمر: «إن النبيّ ليهجر»!!

وقال: « … فإن عليّاً لما خطب بنت أبي جهل خطب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم الخطبة المعروفة، وما حصل مثل هذا في حق أبي بكر قط» «5».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 145.

(2) منهاج السنة 4/ 250.

(3) منهاج السنة 4/ 314- 315.

(4) منهاج السنة 6/ 28.

(5) منهاج السنة 7/ 235.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 363

قاله مدافعاً عن أبي بكر وغيره، في الجواب عن قول العلّامة: «ولقد عاتب اللَّه تعالي أصحاب محمّد في القرآن وما ذكر علياً إلّا بخير. وهذا يدلّ علي أنه أفضل فيكون هو الإمام».

مع أنّ هذا الذي ذكره العلّامة إنّما هو نصّ حديثٍ عن ابن عبّاس، أخرجه عنه الطبراني وابن أبي حاتم وغيرهما، قال: «ما أنزل اللَّه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ» إلّا وعلي أميرها وشريفها، ولقد عاتب اللَّه أصحاب محمّد في غير مكان، وما ذكر عليّاً إلّا بخير» «1».

وقال: «وقد همّ بتزوّج بنت أبي جهل حتي غضب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فتركه» «2».

قاله- وبدون مناسبة- ليجيب به عن قول العلّامة بأنَّ الفتح في خيبر كان علي يد أميرالمؤمنين، وقد انهزم أبو بكر وعمر، وكان فتح مكة بواسطته.

وكأنّه يريد بذلك التغطية علي انهزام الشيخين في خيبر، وعلي عجزهما عن القيام بشي ء في فتح مكة!!

وبعد:

فقد حقّقت في رسالةٍ مفردة خبر خِطبة أميرالمؤمنين عليه السلام بنت أبي جهل، في رواية أحمد في المسند، والبخاري ومسلم في الصحيحين، والأربعة في السنن، والحاكم في المستدرك … وأثبتُ كذب هذا الخبر وأنه لا أصل له أصلًا، وإنما وضعه واضعوه للطعن في النبي وأميرالمؤمنين والصدّيقة الطاهرة سلام اللَّه عليهم أجمعين، فليرجع إليها من شاء.

__________________________________________________

(1) تاريخ الخلفاء- أبو السبطين علي بن أبي طالب، فصل

في الأحاديث الواردة في فضله: 171.

(2) منهاج السنة 8/ 123.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 364

كلماته حول ما لاقته من الامّة بعد النبي … ص: 364

واضطربت كلمات ابن تيميّة في مسألة ما كان بين فاطمة الزهراء- عليها السلام- وبين أبي بكر، فأنكر أن تكون الزهراء طالبت بإرثها من أبيها وقولها لأبي بكر: «أترث أباك ولا أرث أبي؟» قال ابن تيمية: «لا يعلم صحّته عنها» «1».

لكنّه بعد ذلك لمّا ذكر بعض الأخبار في القضية قال:

«فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم، وفيها ما يبيّن أن فاطمة- رضي اللَّه عنها- طلبت ميراثها من رسول اللَّه … » «2».

وأنكر- هذه المرّة- أن تكون قد طالبت بشي ء بعنوان النّحلة، قال: «ولم يسمع أن فاطمة- رضي اللَّه عنها- ادّعت أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أعطاها إيّاها، في حديث ثابت متّصل، ولا أنَّ شاهداً شهد لها» «3».

وزعم أنها لمّا طالبت بالإرث وأجابها أبو بكر بأن رسول اللَّه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» سلّمت … «فاخبرت بما كان من رسول اللَّه فسلّمت ورجعت» «4».

ثم تمادي في غيّه وجعل يطعن في بضعة الرسول وقال: «وليس تبرئة الإنسان لفاطمة من الظنّ والهوي بأولي من تبرئة أبي بكر، فإن أبا بكر إمام لا يتصرّف لنفسه بل للمسلمين، والمال لم يأخذه لنفسه بل للمسلمين، وفاطمة

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 194.

(2) منهاج السنة 4/ 234.

(3) منهاج السنة 4/ 230.

(4) منهاج السنة 4/ 234.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 365

تطلب لنفسها، وبالضرورة نعلم أنّ بُعد الحاكم عن اتّباع الهوي أعظم من بُعد الخصم الطالب لنفسه، فإنّ علم أبي بكر وغيره بمثل هذه القضيّة- لكثرة مباشرتهم للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم- أعظم من علم فاطمة.

وإذا كان أبو بكر أولي بعلم مثل ذلك وأولي

بالعدل، فمن جعل فاطمة أعلم منه في ذلك وأعدل، كان من أجهل الناس، لا سيّما وجميع المسلمين الذين لا غرض لهم هم مع أبي بكر في هذه المسألة، فجميع أئمّة الفقهاء عندهم أنّ الأنبياء لا يورّثون مالًا … وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: لا أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة. فكيف يسوغ للُامّة أن تعدل عمّا علمته من سنة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، لما يحكي عن فاطمة في كونها طلبت الميراث تظن أنها ترث» «1».

وقال: «فإذا كان المسلمون كلّهم ليس فيهم من قال: إن فاطمة رضي اللَّه عنها مظلومة، ولا أنّ لها حقاً عند أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، ولا أنهما ظلماها ولا تكلّم أحد في هذا بكلمة واحدة، دلّ ذلك علي أنّ القوم كانوا يعلمون أنها ليست مظلومة، إذ لو علموا أنّها مظلومة، لكان تركهم لنصرتها إمّا عجزاً عن نصرتها، وإمّا إهمالًا وإضاعة لحقّها، وإمّا بغضاً فيها … وكلا الأمرين باطل … » «2».

أقول:

وهنا مطالب نذكرها باختصار:

الأوّل: لقد اعطي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فدكاً لابنته فاطمة عليها السّلام في حياته، ثم إنّ أبا بكر انتزع من فاطمة فدكاً، وهذا ما دلّت عليه أخبار

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 522- 523.

(2) منهاج السنة 4/ 360.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 366

القوم أيضاً، من ذلك ما أخرجه السيوطي بتفسير قوله تعالي «وَآتِ ذَا الْقُرْبَي حَقَّهُ» عن البزار وأبي يعلي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري- رضي اللَّه عنه- قال: لما نزلت هذه الآية «وَآتِ ذَا الْقُرْبَي حَقَّهُ» دعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فاطمة فأعطاها فدك.

(قال): وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس- رضي اللَّه عنهما-

قال: لمّا نزلت «وَآتِ ذَا الْقُرْبَي حَقَّهُ» أقطع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فاطمة فدكاً» «1».

فهذه روايات القوم صريحة في أنه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- في مقام امتثال الأمر بإيتاء ذي القربي حقّه- «أعطي و «أقطع» فاطمة فدكاً.. وأيّ حديث أصرح من هذا؟ ورواته أئمة أعلام يثق بهم ابن تيميّة وسائر أهل السنّة ويعتمدون عليهم!

فقول الرجل: «لم يسمع أن فاطمة- رضي اللَّه عنها- ادّعت أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أعطاها إيّاها … » كذب.

وقد استفدنا من هذا الحديث اموراً:

الأول: كون فاطمة «ذي القربي .

والثاني: إن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أعطاها فدكاً بأمرٍ من اللَّه.

والثالث: إن فاطمة تسلّمت فدكاً من رسول اللَّه.

والرابع: إنها كانت صاحبة اليد علي فدك.

والخامس: إن أبا سعيد الخدري وابن عبّاس من الشهود.

فكان أخذ فدك منها إبطالًا لأمر اللَّه وردّاً علي رسوله، ومخالفةً للشّريعة

__________________________________________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور- سورة الإسراء، الآية 26- 4/ 320.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 367

والدين، كما هو واضح.

والثاني: ثم إنّ فاطمة- بعد أن طلبت من أبي بكر رفع الإستيلاء منه علي هذا الملك الحاصل لها إعطاءً وإقطاعاً من رسول اللَّه، فلم يصدّقها، وأقامت الشّهادة فلم يصدّقهم- جاءت تطلب فدكاً وغير فدك بعنوان الإرث … وبهذا أحاديث صحاح كما اعترف الرجل.

والثالث: إن في نفس هذه الأحاديث تصريحاً بأنّها- سلام اللَّه عليها- ماتت وهي واجدة علي أبي بكر، مهاجرة له «1» … فقوله: «فسلّمت ورجعت» كذب عليها.

والرابع: إنّ ما استند إليه أبو بكر- أمام استدلالاتها من الكتاب الشريف والشريعة المطهّرة- ونسبه إلي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ما هو إلّا شي ء انفرد به أبو بكر، ولم يسمعه أحد من

الرسول … وقد نصَّ غير واحدٍ من أكابر أئمة القوم علي أنّه حديث واحد انفرد به هو:

قال السيوطي: «اختلفوا في ميراثه، فما وجدوا عند أحدٍ من ذلك علماً، فقال أبو بكر: سمعت رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» «2».

وقال ابن حجر المكي مثله «3».

__________________________________________________

(1)

صحيح البخاري- كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، الحديث 704- 3/ 252، صحيح مسلم- كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» الحديث 1759- 3/ 1380.

(2) تاريخ الخلفاء- الخليفة الأول، فصل فيما وقع في خلافته: 73.

(3) الصواعق المحرقة- الباب الأول الفصل الخامس: 38.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 368

بل إن أئمّة القوم في علم الاصول يصرّحون بذلك، وعلي أساس ذلك يبحثون عن جواز تخصيص الكتاب به وعدم جوازه، لكونه خبر واحد، وعندما يبحثون في مسألة جواز التعبد بخبر الواحد يقول القائلون بالجواز بأنّ هذا خبر واحد من أبي بكر وقد عمل به … فراجع «1».

فدعوي رواية غيره لهذا عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كذب.

والخامس: علي أنّ من القوم من ينصُّ علي أن أبا بكر أيضاً لم يسمعه من النبي ولم يروه، وإنما هذا شي ء وضعه (مالك بن اوس بن الحدثان) … !!

لقد قال هذا إمام كبير من أئمّة القوم في الحديث والرّجال، لكنّه لقوله هذا جعل بعضهم- كالذهبي- يسبُّه ويقول فيه القبيح … إنّ هذا الإمام هو: أبو محمّد عبد الرحمن بن يوسف المعروف بابن خراش، البغدادي، المتوفي سنة 283، قال ابن المديني: «كان من المعدودين المذكورين بالحفظ والفهم للحديث والرجال» وقال الخطيب: «كان أحد الرحّالين في الحديث إلي الأمصار وممن يوصف بالحفظ والمعرفة»

وقال أبو نعيم: «ما رأيت أحفظ منه» وقال السيوطي: «ابن خراش الحافظ البارع الناقد» … فهذا ابن خراش، وقد قال عبدان: «قلت لابن خراش:

حديث لا نورّث ما تركنا صدقة؟ قال: باطل. قلت: من تتّهم به؟ قال: مالك بن أوس» «2».

__________________________________________________

(1) شرح مختصر الاصول، المحصول في علم الاصول، كشف الاسرار في شرح الاصول للبزدوي، مسلّم الثبوت في علم الاصول. وغير هذه الكتب.

(2) راجع: تذكرة الحفاظ الترجمة 705 ابن خراش 2/ 685. ميزان الاعتدال- حرف العين، الترجمة 5009، عبد الرحمن بن يوسف بن خراش الحافظ 2/ 600. لسان الميزان الترجمة 5131 عبد الرحمن بن يوسف بن خراش الحافظ 4/ 322. طبقات الحفاظ- الترجمة 681، ابن خراش: 301.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 369

والسادس: إنّ مما يؤكّد بطلان هذا الحديث، فعل عمر وعثمان وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم من أمراء المسلمين عندهم، فإنّهم أعادوا فدكاً إلي أبناء الزهراء، وعملهم مبطل لعمل أبي بكر وقوله.

الهجوم علي بيت الزهراء … ص: 369

ولم ينكر ابن تيميّة هجوم القوم علي بيت الزهراء الطاهرة عليها السلام، واعتدائهم عليها وعلي أهل البيت، وأنّي له ذلك وقد اعترف به أبو بكر نفسه متمنّياً عدم الإقدام عليه حيث قال قبيل موته: «ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكبسه» «1» غير أنّ ابن تيميّة برّر ذلك بسخافةٍ وقلّة حياء: «إنه كبس البيت لينظر هل فيه شي ء من مال اللَّه الذي يقسمه وأن يعطيه لمستحقّه، ثم رأي أنّه لو تركه لهم لجاز، فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفي ء» «2».

أقول:

هذا موجز الكلام في هذا المقام، ومن أراد التفاصيل فليرجع إلي كتب هذا الشأن لعلمائنا الأعلام، وسيوافيك بعضها في (الشرح).

__________________________________________________

(1)

الأموال لابن سلّام الجزء الثاني، باب الحكم في رقاب أهل العنوة من الأساري والنبي،

الحديث 353: 144. تاريخ الطبري السنة 13، ذكر أسماء قضاته وكتّابه وعمّاله علي الصدقات 2/ 619.

(2) منهاج السنة 8/ 291.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 370

2- حول الحسنين … ص: 370

اشارة

وكم كذب ابن تيميّة علي الإمامين السبطين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنّة، وحاول التقليل من شأنهما والحطّ من مقامهما … نتعرّض هنا لبعض ما قال باختصار:

عن بعض الرافضة: الحسن والحسين ما كانا أولاد علي بل أولاد سلمان! … ص: 370

قال العلامة: «إنهم سمّوا عائشة أم المؤمنين ولم يسمّوا غيرها بذلك».

فقال ابن تيمية: «حتّي خفي عليهم أن هذا كذب، وهم ينكرون علي بعض النواصب أنّ الحسين لمّا قال لهم: أما تعلمون أني ابن فاطمة بنت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قالوا: واللَّه ما نعلم ذلك. وهذا لا يقوله ولا يجحد نسب الحسين إلّامتعمّد للكذب والإفتراء، ومن أعمي اللَّه بصيرته باتّباع هواه حتي يخفي عليه مثل هذا، فإنّ عين الهوي عمياء.

والرافضة أعظم جحداً للحق تعمّداً وأعمي من هؤلاء، فإن منهم ومن المنتسبين إليهم، كالنصيرية وغيرهم، من يقول: إنّ الحسن والحسين ما كانا أولاد علي بل أولاد سلمان الفارسي» «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 368.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 371

أقول:

كذبٌ وبهتان علي النواصب وعلي الرّافضة كليهما، أمّا علي هؤلاء فواضح، وأمّا علي أولئك فالمعروف أنّهم أجابوا بالإيجاب، فإن الحسين عليه السلام لمّا قال: فعلي مَ تقاتلونني؟ قالوا: بغضاً منّا لأبيك.

جاهدا في اللَّه حتي قتلا، كذب … ص: 371

قال العلّامة رحمه اللَّه عنهما عليهما السلام: «وجاهدا في اللَّه حق جهاده حتي قتلا».

فقال ابن تيميّة: «فهذا كذب عليهما، فإنّ الحسن تخلّي عن الأمر وسلّمه إلي معاوية ومعه جيوش العراق، وما كان يختار قتال المسلمين قط، وهذا متواتر من سيرته. وأما موته فقد قيل: إنه مات مسموماً، وهذا شهادة له وكرامة في حقّه، لكن لم يمت مقاتلًا. والحسين- رضي اللَّه عنه- ما خرج يريد القتال، ولكن ظنّ أن الناس يطيعونه، فلما رأي انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلي وطنه أو الذهاب إلي الثغر أو إتيان يزيد … » «1».

أقول:

يقول العلامة: «جاهدا في اللَّه» ويقول ابن تيمية «لم يقاتلا» أتري أنه لم يفهم مراد العلّامة ومقصده؟

ثم إن في كلامه عن الإمامين عليهما السلام أكاذيب، فالإمام الحسن

كان يري وجوب قتال معاوية، لكن لمّا لم تطعه جيوش العراق تخلّي عن الحكم بشروطٍ

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 41.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 372

معيّنة، وهذا هو المتواتر من سيرته.

والإمام الحسين عليه السّلام كان يعلم باستشهاده في العراق، ولأجل ذلك خرج، وما طلب من القوم شيئاً مما ذكره ابن تيميّة، فإنّه كذب عليه.

كان الحسن مخالفاً لأبيه؟! … ص: 372

وردّد ابن تيميّة كذباً آخر علي الإمام الحسن، وهو أنّه كان مخالفاً لأميرالمؤمنين عليه السلام، وكان يري ترك القتال في الجمل وصفّين:

«وقد كان ابنه الحسن وأكثر السّابقين الأوّلين لا يرون القتال مصلحة، وكان هذا الرأي أصح من رأي القتال بالدلائل الكثيرة» «1» «وكان الحسن رأيه ترك القتال، وقد جاء النص الصريح بتصويب الحسن، وفي البخاري … إنّ ابني هذا سيّد وإن اللَّه يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. فمدح الحسن علي الإصلاح بين الطائفتين» «2».

أقول:

فانظر كيف يكذب علي الإمام الحسن؟ إنّه لا يعزو ما نسبه إلي الإمام إلي راوٍ من الرواة أو كتابٍ من الكتب، بل يدلّس فيذكر ما يروونه في صلحه مع معاوية في عهد إمامته؟! ثمّ يستنتج قائلًا: «فمدح الحسن علي الإصلاح بين الطائفتين»!

لقد كان رأي الإمام مناهضة معاوية، سواء علي عهد أبيه أو في عهد إمامته،

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 113.

(2) منهاج السنة 8/ 145.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 373

غير أنّه اضطر إلي الصلح في عهده، لكن بشروط هي في الواقع رموز الفوز والغلبة علي معاوية …

ما فعل الحسن كان أفضل وأحب عنداللَّه ممّا فعل الحسين … ص: 373

وقال: «ما فعله الحسن من ترك القتال علي الإمامة، وقصد الإصلاح بين المسلمين، كان محبوباً يحبّه اللَّه ورسوله ولم يكن ذلك مصيبةً، بل كان ذلك أحب إلي اللَّه ورسوله من اقتتال المسلمين … وهذا نقيض ما عليه الرافضة من أن ذلك الصلح كان مصيبةً وكان ذلًا … ولم يكن الحسن أعجز عن القتال من الحسين، بل كان أقدر علي القتال من الحسين، والحسين قاتل حتي قتل. فإن كان ما فعله الحسين هو الأفضل الواجب كان ما فعله الحسن تركاً للواجب أو عجزاً عنه، وإن كان ما فعله الحسن هو الأفضل الأصلح دلّ

علي أن ترك القتال هو الأفضل الأصلح، وأن الذي فعله الحسن أحب إلي اللَّه ورسوله مما فعله غيره … » «1».

«وقد دلّ الواقع علي أن رأي الحسن كان أنفع للمسلمين، لما ظهر من العاقبة في هذا وفي هذا … وكان ما فعله الحسن أفضل عند اللَّه ممّا فعله الحسين … » «2».

أقول:

وفي هذا الكلام من الكذب والتدليس والمغالطة ما لا يخفي

أمّا قتال الإمام فليس إلّا لإعلاء كلمة اللَّه وإبقاء الشريعة المطهّرة، فقوله __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 40- 41.

(2) منهاج السنة 8/ 146.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 374

«القتال علي الإمامة» فرية وبهتان علي الإمام عليه السّلام.

وأما تركه القتال فقد كان بعد أن خذله القوم … كما لا يخفي علي من له اطّلاع بالسير والتواريخ.

وأمّا عقيدة الإمامية في صلحه مع معاوية فهي: إن عمل الإمام عليه السّلام كان هو الحق والصلاح، لأنه إمام معصوم لا يفعل إلّا ما يؤمر به.

وكذلك العقيدة في قيام الإمام الحسين علي يزيد.

ثم إنّ جعل هذا أفضل أو ذاك غلط فاحش، فالصلح كان من الإمام الحسن عليه السلام وطرفه معاوية، والقيام كان من الإمام الحسين عليه السلام وطرفه يزيد، فلا وجه للمقايسة كي يقال هذا أفضل أو ذاك!

وكما كان الإمام الحسين عليه السلام ساكتاً علي معاوية، كأخيه الإمام الحسن، كذلك الإمام الحسن عليه السلام كان يقوم علي يزيد- لو كان في زمانه- كأخيه الإمام الحسين.

ثم إذا كان الإمام الحسن عليه السلام غير قاصد للقتال منذ اليوم الأوّل فلماذا يُبرّر سمّ معاوية له- بعد التشكيك في ذلك- بأنّه «من باب قتال بعضهم بعضاً» «1»؟

ويقول- في الإمام الحسن والإمام الحسين كليهما-: «ليس ما وقع من ذلك بأعظم من قتل الأنبياء، فإنّ

اللَّه تعالي قد أخبر أن بني إسرائيل كانوا يقتلون النبيين بغير حق، وقتل النبي أعظم ذنباً ومصيبة» «2».

وسيأتي مزيد من ذلك في الدفاع عن معاوية ويزيد وبني اميّة.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 471.

(2) منهاج السنة 4/ 550.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 375

لم يكن في فعل الحسين مصلحة بل كان مفسدة … ص: 375

وهذا ما ردّده ابن تيمية غير مرّة، من ذلك قوله: «لم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا دنيا … وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده» «1».

بل يذهب إلي أنّه قد خالف أمر الرسول صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ولو لا ذلك لما حدثت الفتن بعد ذلك «2».

وأوضح من ذلك قوله بأنّ ما حصل منه عليه السّلام «نوع من الإجتهاد مقروناً بالظنّ ونوعٍ من الهوي الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتّباعه فيه، وإن كان من أولياء اللَّه المتّقين» «3».

يزيد لم يأمر بقتل الحسين ولم يُسبِ أهل البيت … ص: 375

وكرّر ابن تيميّة القول بأن يزيد لم يأمر بقتل الإمام الحسين عليه السلام:

«وأمّا قوله: وقتل ابنه يزيد مولانا الحسين ونهب نساءه.

فيقال: إن يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتّفاق أهل النقل، ولكن كتب إلي ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق … فقاتلوه حتي قتل شهيداً مظلوماً رضي اللَّه عنه.

ولمّا بلغ ذلك يزيد أظهر التوجّع علي ذلك، وظهر البكاء في داره، ولم يسب له حريماً

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 530.

(2) منهاج السنة 4/ 531.

(3) منهاج السنة 4/ 543.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 376

أصلًا، بل أكرم أهل بيته وأجازهم حتي ردّهم إلي بلدهم» «1».

تنظير ما فعل بأهل البيت بما فعل بعائشة … ص: 376

ثم إنّه نظّر ما فعل بأهل البيت بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام بما فعل بعائشة عند انتهاء حرب الجمل! فقال: «ولو قال المشنّع: أنتم تقولون إن آل الحسين سبوا لمّا قتل الحسين، ولم يفعل بهم إلّا من جنس ما فعل بعائشة حيث استولي عليها، وردّت إلي بيتها واعطيت نفقتها، وكذلك آل الحسين استولي عليهم وردّوا إلي أهليهم واعطوا نفقة، فإن كان هذا سبياً واستحلالًا للحرمة النبويّة فعائشة قد سبيت واستحلّت حرمة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم … » «2».

معارضة الحديث في عذاب قاتل الحسين بقول النواصب … ص: 376

وعارض ابن تيمية الإستدلال بالحديث النبوي الوارد في عذاب قاتل الإمام الحسين عليه السلام بعد وصفه بأنه «غلو زائد» بقوله: «فهذا الغلو الزائد يقابل بغلو الناصبة الذين يزعمون أن الحسين كان خارجيّاً، وأنه كان يجوز قتله لقول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: من أتاكم وأمركم علي رجل واحدٍ يريد أن يفرّق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان. رواه مسلم.

وأهل السنة والجماعة يردّون غلوّ هؤلاء وهؤلاء» «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 472.

(2) منهاج السنة 4/ 355.

(3) منهاج السنة 4/ 585.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 377

أقول:

قد أجبنا عن أباطيل هذا الرجل فيما يتعلّق بالإمامين الحسن والحسين عليهما السلام في (الشرح) فلا نعيد.. ونقول بالنسبة إلي هذه المعارضة:

بأنّ الحديث متّفق عليه بين الشيعة والسنّة، ومعارضته بقول الناصبة باطلة كما هو واضح.

وفي حديثٍ آخر: أنّ اللَّه أوحي إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: أنّي قتلت بيحيي بن زكريا سبعين ألفاً، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً.

قال الذهبي: «حديث نظيف الإسناد، منكر اللفظ»!! «1».

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء- الترجمة 116، سعيد بن جبير 4/ 342.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 378

3- تكذيبه فضائل أهل البيت … ص: 378

اشارة

وكذّب ابن تيميّة فضائل أهل البيت عليهم السّلام أو كابر فيها بما لا يتفوّه به مسلم منصف، فراجع كلماته في آية المودّة، وآية التطهير، وآية المباهلة، وهل أتي وحديث الثقلين: إني تارك فيكم ثقلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، وحديث السفينة: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك، وغير ذلك.

ونحن نكتفي هنا بآيةٍ وحديث:

نزول سورة هل أتي فيهم، كذب … ص: 378

قال العلّامة: «وهي تدلُّ علي فضائل جمّة لم يسبقه إليها أحد، ولا يلحقه أحد، فيكون أفضل من غيره، فيكون هو الإمام» «1».

فقال ابن تيمية: «إن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتّفاق أهل المعرفة بالحديث، الذي هم أئمة هذا الشأن وحكّامه، وقول هؤلاء هو المنقول في هذا الباب، ولهذا لم يرو هذا الحديث في شي ء من الكتب التي يرجع اليها في النقل، لا في الصحاح ولا في المساند ولا في الجوامع ولا السنن، ولا رواه المصنّفون في الفضائل، وإن كانوا قد يتسامحون في رواية أحاديث ضعيفة …

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 177.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 379

إن الدلائل علي كذب هذا كثيرة، منها: إن علياً إنما تزّوج فاطمة بالمدينة …

وسورة هل أتي مكيّة باتّفاق أهل التفسير والنقل، لم يقل أحد منهم إنها مدنيّة» «1».

أقول:

أمّا أنّ سورة (هل أتي مدنيّة لا مكيّة، ففي تفسير البغوي ما نصّه: «سورة الإنسان، مدنيّة، وهي إحدي وثلاثون آية» «2» وكذا في غيره، بل هو قول الجمهور كما قال الشوكاني «3» والآلوسي عن ابن عادل «4» قال: «وعليه الشيعة».

وأمّا نزولها في أهل البيت عليهم السلام، فذاك ما رواه العلماء المفسّرون المحدّثون بتفسير السّورة، وذكروه بترجمة فاطمة الزهراء عليها السّلام من كتب معرفة الصّحابة وفي كتب المناقب، بل لقد

وصف بعضهم الخبر في شأن نزولها بالشهرة «5».

وإن شئت فراجع:

تفسير الواحدي، والكشّاف، وعنهما الفخر الرازي 15/ 244، والدر المنثور 6/ 485، روح المعاني 15/ 174 عن ابن مردويه، والبيضاوي 2/ 552 والنسفي 2/ 758 والنيسابوري- هامش الطبري 12/ 112، والخازن 4/ 378 وغيرهم من المفسّرين.

وأسد الغابة في معرفة الصحابة 5/ 530، والإصابة 8/ 281 عن أبي موسي __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 177- 179.

(2) تفسير البغوي- سورة الانسان 4/ 426.

(3) فتح القدير- تفسير سورة الانسان- 5/ 343.

(4) روح المعاني- سورة الإنسان 15/ 166.

(5) روح المعاني- سورة الإنسان 5/ 174.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 380

المديني والثعلبي، والرياض النضرة في مناقب العشرة 2/ 180 وفرائد السمطين في فضائل النبي والوصي وفاطمة والسبطين 2/ 53 وكفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب: 348 عن الحاكم النيسابوري والحميدي وأبي الصّلاح، وتذكرة خواص الامّة: 281، ومطالب السؤول في مناقب آل الرسول: 127 عن الواحدي وغيره من أئمة التفسير …

تنبيه إنّ المقصود أصل نزول السورة في حقّ أهل البيت، وأنت لو راجعت الكتب المذكورة وغيرها وجدتهم يروون الحديث بأسانيد عن ابن عبّاس وغيره، وقد جاء ذكر الخبر في تفسير القرطبي 19/ 131- عن النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحدٍ من المفسرين كما قال- بتفصيل يشتمل علي أشعارٍ كثيرة، ثم جَعَلَ يكذّب الخبر بالنظر إلي تلك التفصيلات والأشعار. وابن الجوزي أدرجه في (الموضوعات) موهماً أن لا سند له إلّا ما ذكره: وهو قوله: «أنبأنا محمّد بن ناصر قال: أنبأنا أبو عبداللَّه محمّد بن أبي نصر الحميدي قال، أنبأنا أبو علي الحسن بن عبد الرحمن البيع قال: أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق، أنبأنا عبد اللَّه بن ثابت، حدّثنا أبي عن الهذيل

بن حبيب، عن أبي عبداللَّه السمرقندي، عن محمّد بن كثير الكوفي، عن الأصبغ بن نباتة قال: مرض الحسن والحسين..» قال ابن الجوزي:

«وهذا حديث لا يشك في وضعه، ولو لم يدل علي ذلك إلّا الأشعار الركيكة والأفعال التي يتنزّه عنها أولئك السّادة. قال يحيي بن معين: أصبغ بن نباتة لا يساوي شيئاً، وقال أحمد بن حنبل: حرّقنا حديث محمّد بن كثير. وأمّا أبو عبداللَّه السمرقندي فلا يوثق به» «1».

__________________________________________________

(1) الموضوعات- باب في فضائل علي، الحديث الثالث والأربعون في ذكر الحسن والحسين 1/ 293.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 381

أقول:

لقد أشرنا إلي أنّ المستدلّ به نزول الآيات في حق أهل البيت عليهم السّلام لإطعامهم المسكين واليتيم والأسير، وأمّا ذكر الخبر مع الأشعار وغيرها مما لا نلتزم بصحّته، وجعل ذلك ذريعةً للطّعن في أصل الخبر، فهذا ليس من شأن العلماء المنصفين الأتقياء.

وكذلك نقل الخبر بسندٍ من أسانيده والطعن في أصل الخبر بسبب ذلك السند، وكم لهذا من ابن الجوزي من نظير، ولا سبب له إلّا العناد والتعصّب.

ثمّ إنك إذا لاحظت كلمات القوم في الرجال الذين طعن فيهم ابن الجوزي في هذا السّند، لم تجد دليلًا للطّعن إلّا التشيع ورواية فضائل أهل البيت.

فأمّا (الأصبغ بن نباتة) فهو من التّابعين، وأخرج عنه ابن ماجة، وروي عنه جماعة من الأكابر، ووثّقه بعض الأعلام كالعجلي «1» … وتكلّم فيه غير واحدٍ، وكلّ كلماتهم تعود إلي كونه من شيعة علي عليه السلام وروايته لفضائله، كقول ابن حبان: «فتن بحبّ علي بن أبي طالب عليه السلام، فأتي بالطامّات في الروايات فاستحقّ من أجلها الترك» وقول ابن عدي: «لم أخرج له هاهنا شيئاً، لأنّ عامّة ما يرويه عن علي لا يتابعه أحد عليه»

«2».

فهذا هو السّبب في ترك بعض القوم حديثه.

ثم تأمّل في كلام ابن عدي بعد ذلك: «وإذا حدّث عن الأصبغ ثقة فهو عندي لا بأس بروايته، وإنّما أتي الإنكار من جهة من روي عنه، لأنّ الراوي عنه __________________________________________________

(1) تهذيب الكمال- الترجمة 537، أصبغ بن نباتة التميمي- 3/ 310.

(2) المصدر، تهذيب التهذيب، الترجمة 585، 1/ 328.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 382

لعلّه يكون ضعيفاً» لتعرف الإضطراب منه ومن أمثاله عندما يريدون ردّ حديث رجلٍ بلا دليل وسبب إلّا التشيّع!!

وأمّا (محمّد بن كثير) فكذلك، فابن حنبل يقول: «خرقنا حديثه» ويحيي ابن معين يقول: «هو شيعي لم يكن به بأس … سمعت أنا منه» «1» فالرجل ثقة، لكنّ تشيعه يسبّب لأحمد أن يخرق حديثه! ولابدّ وأن يترك حديثه وهو يروي عن الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زر، عن عبداللَّه بن مسعود، عن علي قال «قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من لم يقل علي خير الناس فقد كفر» «2».

وأمّا (أبو عبد اللَّه السمرقندي) فقد جرحه ابن الجوزي جرحاً غير مفسّر، ونحن لا نشك في أنّ سببه نفس رواية هذا الحديث …

هذا، وقد نصّ ابن تيمية علي أن كون الراوي شيعيّاً لا يستلزم أن تكون رواياته كذباً «3».

ثم اعلم أنّ ابن تيميّة كذّب وجود خادمةٍ لأهل البيت عليهم السلام، وجعل ذلك دليلًا علي كذب حديث المباهلة، لاشتماله علي أنّ فضة خادمتهم نذرت الصّوم تبعاً لهم «4».

ويعدّ هذا الموضع من مئات المواضع التي أنكر فيها ابن تيميّة الحقائق الراهنة!! فإنّ فضّة كانت خادمة لأهل البيت عليهم السلام، وهي معدودة في __________________________________________________

(1) الجرح والتعديل الترجمة 308 محمد بن كثير القرشي 8/ 69، تاريخ بغداد الترجمة 1234 محمد بن

كثيرالقرشي 3/ 191.

(2) تاريخ بغداد الترجمة 1234، محمد بن كثير القرشي، 3/ 192.

(3) منهاج السنة 7/ 312.

(4) منهاج السنة 7/ 182.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 383

الصحابة، كما لا يخفي علي من راجع (اسد الغابة) و (الإصابة).

التشكيك في حديث الثقلين، وإنّ النبي لم يأمر باتّباع العترة! … ص: 383

وحديث الثقلين الذي يعتبر من الأحاديث المقطوع بصدورها عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … يشكّك ابن تيمية في صدوره قائلًا: «إذا كان النبي قد قاله» ثم يصرّح بأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم «لم يأمر باتّباع العترة»! وهذا نصّ كلامه:

«والحديث الذي في مسلم إذا كان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قد قاله، فليس فيه إلّا الوصيّة باتّباع كتاب اللَّه، وهذا أمر قد تقدّمت الوصيّة به في حجة الوداع قبل ذلك، وهو لم يأمر باتّباع العترة، ولكن قال: اذكّركم اللَّه في أهل بيتي» «1».

«وأما قوله: وعترتي أهل بيتي وأنها لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض.

فهذا رواه الترمذي، وقد سئل عنه أحمد بن حنبل فضعّفه، وضعّفه غير واحد من أهل العلم وقالوا: لا يصح» «2».

أقول:

فهذا حديث الثقلين، المقطوع بصدوره عن رسول ربّ العالمين صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … رواه عنه أكثر من ثلاثين صحابي وصحابيّة، وعنهم عشرات من التابعين، ثم المئات من الأئمة والحفّاظ في مختلف القرون … بأسانيد وطرق متكثّرة جداً، متّفقين علي صحّته …

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 318.

(2) منهاج السنة 7/ 394- 395.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 384

ولم نجد أحداً ضعّف هذا الحديث … فأمّا قوله: «سئل عنه أحمد بن حنبل فضعّفه» فلا نثق به، وأمّا قوله: «ضعّفه غير واحد … » فمن هم؟ وليته ذكر واحداً من «غير واحدٍ قالوا: لا يصح»!

نعم وجدنا في خلال القرون كلّها واحداً

أدرجه بسندٍ من أسانيده في كتابه في (الأحاديث الواهية) بزعمه، وهو ابن الجوزي …

لكنّ الأئمة المحقّقين من أهل السنّة خطأوه وحذّروا من الإغترار بفعله.

وكيف كان، فالحديث متواتر مقطوع الصدور عن النبي … وقد بحثنا عنه بالتّفصيل في الأجزاء الثلاثة الأولي من كتابنا الكبير (نفحات الأزهار) وفي ما كتبناه في الردّ علي علي أحمد السالوس، الذي قلّد ابن الجوزي وتبعه في خطئه وخطيئته … ومن أراد التفصيل فليراجع.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 385

4- حول سائر الأئمة الاثني عشر … ص: 385

اشارة

لقد ذكرنا في (الشرح) بتراجم الأئمة الاثني عشر- عليهم السّلام- طرفاً من كلمات أعلام أهل السنّة المتقدّمين منهم والمتأخرين، في مدح الأئمّة والإعتراف بفضائلهم ومناقبهم، من العلم والزّهد والكرامات ونحوها … وهناك كلمات اخري تجدها منهم بتفسير قوله تعالي: «وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» وفي شرح حديث: إني تارك فيكم الثقلين … وحديث: مثل أهل بيتي كسفينة نوح …

وفي مواضع اخري

حتي أنّ بعض المتعصّبين منهم كالفخر الرازي وابن حجر المكي والمولوي عبد العزيز الدهلوي وغيرهم منهم، يدّعون في مقام الردّ علي الإماميّة وغيره: أن أهل السنّة هم المتمسّكون بأهل البيت والتابعون لهم والراكبون سفينتهم والنّاجون بسببهم.

إلّا أنك تجد في المقابل من يتجاسر علي أهل البيت عليهم السّلام ويحطّ من شأنهم ويكذب عليهم وينسب إليهم ما لا يليق … حتي أنّ قائلًا منهم قال: بأنّ الحسين قتل بسيف جدّه. وبعضهم قدح في وثاقة غير واحدٍ من الأئمة الأطهار، ونصّ علي أن في نفسه منهم شيئاً!! …

ولعلّ ابن تيمية من أشهر هذه الفرقة من الناس … فقد أطلق في كتابه لسانه البذي ء عليهم، فحاول سلبهم فضائلهم ومحاسنهم كلّها، وجعلهم كأناسٍ عاديّين لا يفضّلون بعلمٍ ولا زهد ولا أيّ

شي ء آخر يتميّزون به عن غيرهم … بل لقد كذب دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 386

وافتري عليهم …

فهو مثلًا في حين يكذّب تعلّم أبي حنيفة من الإمام الصادق عليه السّلام، يدّعي تعلّم الإمام السجّاد من مثل مروان بن الحكم!

وهو في حين يعظّم الجنيد وسهل التستري وأمثالهما ويصفهم بالزهد، ينفي أن يكون الحسن والحسين عليهم السلام أزهد الناس في عصرهما!

لقد حاول التكتّم علي مناقبهم والتنقيص من مراتبهم، وكذّب حتّي أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لقّب أحدهم ب «زين العابدين» وأحدهم ب «الباقر» وحتي توبة «بشر» بواسطة أحدهم، وكون «معروف» خادماً لأحدهم!! حتي مثل هذه الامور لم يتحمّلها ابن تيميّة …

فلننقل عبارات ابن تيميّة، كي يقارن بينها وبين عبارات غيره في حقّ أئمة أهل البيت عليهم السلام المذكور بعضها (في الشرح)، ولكي يُعرف بالتالي عقيدة ابن تيمية وعدالته.

تسمية رسول اللَّه علي بن الحسين «سيد العابدين»، لا أصل له … ص: 386

قال: «وكذلك ما ذكر من تسمية رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم له سيد العابدين، هو شي ء لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل العلم والدين» «1».

أقول:

ذكرنا جوابه في (الشرح)، فقد رواه غير واحد، حتي قال ابن حجر المكي __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 50.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 387

بترجمته قال: «وكفاه شرفاً أن … » «1» ولذا عنونوه بهذا اللقب في كتب الرجال والتراجم،، كالحلية 3/ 133، وتهذيب التهذيب 7/ 259- 260، ووفيات الأعيان 3/ 266 وغيرها.

أخذه عن فلان وفلانة وتعلّمه من مولي عمر … ص: 387

وذكر جماعةً من الصّحابة والتابعين أخذ عنهم الإمام علي بن الحسين عليه السلام، فذكر فيهم حتي مثل عائشة ومروان بن الحكم.

ثم ذكر خبراً في أنه عليه السلام كان يجلس إلي زيد بن أسلم مولي عمر بن الخطاب، فلمّا سئل عن ذلك قال: إنما يجلس الرّجل حيث يجد صلاح قلبه «2».

أقول:

تكلّمنا علي ذلك في (الشرح) وبيّنا واقع الحال في الخبر المشار إليه، بناءً علي لفظه في (حلية الأولياء) «3» فزيد كان هو المستفيد من الإمام عليه السّلام، بناءً علي صحّة الخبر.

صلاة ألف ركعة، لا يمكن بحال … ص: 387

وذكر العلّامة الحلّي أنّ أميرالمؤمنين علياً عليه السّلام كان يصلّي في كلّ يوم __________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة- الباب الحادي عشر في فضائل أهل البيت النبوي، الفصل الثالث: 201.

(2) منهاج السنة 4/ 48- 49.

(3) حلية الأولياء- الترجمة 229 زين العابدين علي بن الحسين 3/ 138.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 388

وليلةٍ ألف ركعة، قال: وكذلك كان علي بن الحسين عليه السّلام.

فكذّب ابن تيميّة ذلك وقال: «هذا لا يمكن إلّا علي وجه يكره في الشريعة أولا يمكن بحال، فلا يصلح ذكر مثل هذا في المناقب» «1».

أقول:

عندما يذكر هذا في مناقب أئمة أهل البيت عليهم السلام يقال: «لا يمكن … » «فلا يصلح ذكر مثل هذا في المناقب» لكنّه بتراجم غيرهم يذكر ويعدّ من المناقب، فيكون «ممكناً» و «منقبةً»!!

لقد ذكروا بتراجم بعض رجالهم مثل هذا ولم يتكلّموا عليه بشي ء … حتي أنّ الذهبي- تلميذ ابن تيمية- ذكر مثله بترجمة أحد العلماء، وبترجمة آخر أنه ختم من الصبح إلي العصر ثمان ختمات «2» وهذا عجيب!

لكنّ الجدير بالذكر أن مثل هذه العبادات لا يدّعونها لأحدٍ من الثلاثة وأتباعهم من الصّحابة، فتأمّل!

وعلي الجملة، إن هذا من المناقب قطعاً، ولذا يذكرونه

بتراجم بعض رجالهم، والثلاثة وأمثالهم فاقدون لهذه المنقبة.

تسمية النبي محمّد بن علي ب «الباقر»، حديث موضوع … ص: 388

وقال: «ونقل تسميته بالباقر عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لا أصل له عند أهل العلم، بل هو من الأحاديث الموضوعة، وكذلك حديث تبليغ جابر له السلام، هو من الموضوعات عند أهل العلم بالحديث» «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 50.

(2) سير أعلام النبلاء- الترجمة 210 بكر بن سهل 13/ 427.

(3) منهاج السنة 4/ 51.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 389

أقول:

أو ضحنا ذلك وأثبتناه في (الشرح)، عن عدّةٍ من المصادر، وروي ابن قتيبة: «دخل زيد بن عليّ علي هشام فقال: ما فعل أخوك البقرة؟ قال زيد: سماّه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم باقراً وتسمّيه بقرة! لقد اختلفتما» «1».

ومن هنا قال ابن شهر آشوب: «حديث جابر مشهور معروف، رواه فقهاء المدينة والعراق كلّهم» «2».

الزهري أعلم منه! … ص: 389

وكرّر أنّ الزهري أعلم من الإمام محمّد بن علي بن الحسين الباقر عليه السلام «3».

أقول:

قد نبّهنا في (الشرح) علي اختلاف كلام ابن تيمية في هذا المقام، وعلي أنّه لماذا يخصّ الزهري بالذكر في التفضيل علي الإمام عليه السّلام!

أخذه العلم عن فلان وفلان وأبي هريرة … ص: 389

وهذا كذب آخر «4»، وطعن في مقام الإمام عليه السّلام … لا سيّما في روايته __________________________________________________

(1) عيون الأخبار الجزء الثاني، كتاب الحرب، باب من أخبار الدولة والمنصور والطالبيين 1/ 212. وابن قتيبة ممّن اعتمد ابن تيمية علي أخباره.

(2) مناقب آل أبي طالب باب في إمامة أبي جعفر الباقر عليه السلام فصل في علمه 4/ 212.

(3) منهاج السنة 2/ 460، 4/ 51.

(4) منهاج السنة 4/ 51.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 390

عن أبي هريرة، أتري أن يأخذ الإمام عن أبي هريرة المعروف بالكذب عند سائر الأنام؟!

جعفر بن محمّد، قرأ عليه أبو حنيفة، كذب … ص: 390

وقال العلّامة: «وأمّا أبو حنيفة فقرأ علي الصّادق».

فقال ابن تيمية: «إن هذا من الكذب الذي يعرفه من له أدني علم، فإنّ أبا حنيفة من أقران جعفر الصادق، توفّي الصّادق سنة 148، وتوفّي أبو حنيفة سنة 150، وكان أبو حنيفة يفتي في حياة أبي جعفر والد الصادق. وما يعرف أن أبا حنيفة أخذ عن جعفر الصادق ولا عن أبيه مسألة واحدة» «1».

وقال: «وجعفر بن محمّد هو من أقران أبي حنيفة، ولم يكن أبو حنيفة ممن يأخذه عنه مع شهرته بالعلم» «2».

أقول:

قد ذكرنا في (الشرح) تصريح غير واحدٍ من أئمّة القوم بأخذ أبي حنيفة من الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام.

وعليك أيضاً بمراجعة تعليقة محقّق (منهاج السنّة) لتري إذعانه- إلي حدٍّ مّا- بتعلّم أبي حنيفة من الإمام عليه السّلام «3».

ومن العجيب أنّ ابن تيمية ينكر تعلّم أبي حنيفة من الصادق عليه السلام ولا مسألة واحدة، مع اعتراف علماء قومه بتتلمذه علي الإمام، وهو يدّعي تعلّم __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 532.

(2) منهاج السنة 3/ 140.

(3) منهاج السنة 3/ 141 هامش.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 391

الإمام أميرالمؤمنين عليه

السلام من أبي بكر، ولا يذكر في مقام الإثبات إلّا حديثاً واحداً فقط يروونه، وفيه ما فيه!!

علي بن الحسين ومحمّد بن علي وجعفر بن محمّد في الامّة خلق كثير مثلهم وأفضل منهم … ص: 391

واستمع إليه يقول:

«وكان علي بن الحسين، وابنه أبو جعفر، وابنه جعفر بن محمّد، يعلّمون الناس ما علّمهم اللَّه، كما علمه علماء زمانهم، وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للامّة» «1».

أقول:

فمن هذا الأعلم والأنفع؟ لابدّ أنه يقصد الزهري!

ثم يترقّي فيقول:

«وفي الاثني عشر من هو مشهور بالعلم والدين، كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر، وابنه جعفر بن محمّد. وهؤلاء لهم حكم أمثالهم، ففي الامّة خلق كثير مثل هؤلاء وأفضل منهم» «2».

لكن من هذا الخلق الكثير الأفضل منهم؟

لا يذكر أحداً أبداً.

ثم يترقّي ويدّعي أنّهم كانوا يتعلّمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم؟

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 387.

(2) منهاج السنة 4/ 169- 170.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 392

لكن من العلماء الذين كان هؤلاء الأئمة يتعلّمون منهم؟

لا يذكر أحداً. وإنما يذكر كلاماً لشخصٍ لا يُعرف من يكون! كما اعترف محقّق كتابه أيضاً! وهذا كلام ابن تيمية بنصّه:

«ومن المعلوم أن علي بن الحسين وأبا جعفر محمّد بن علي وابنه جعفر بن محمّد، كانوا هم العلماء الفضلاء، وأن من بعدهم من الاثني عشر لم يعرف عنه من العلم ما عرف من هؤلاء.

ومع هذا فكانوا يتعلّمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم، حتي قال أبو عمران بن الأسب «1» القاضي البغدادي: أخبرنا أصحابنا أنه ذكر ربيعة بن أبي عبد الرحمن جعفر بن محمّد وأنه تعلّم العلوم فقال ربيعة: إنه اشتري حائطاً من حيطان المدينة، فبعث إليَّ حتي أكتب له شرطاً في ابتياعه. نقله عنه محمّد بن حاتم ابن ربحوته البخاري «2» في كتاب إثبات إمامة الصدّيق» «3».

فباللَّه عليك! هذا استدلال عاقل فاهم علي

أنّ هؤلاء الأئمة كانوا يتعلّمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم؟ هكذا يستدل لهكذا دعوي كبيرة ضخمة؟ وما الحامل للإنسان علي مثل هذا؟!

توبة بشر الحافي علي يد موسي بن جعفر، من الأكاذيب … ص: 392

وقد أجمل الكلام علي ترجمة ومناقب الإمام موسي بن جعفر عليه السّلام، ثم كذّب قضيّة توبة بشر الحافي علي يده، بدليل أن الإمام عليه السلام كان في __________________________________________________

(1) كذا بدون نقط في جميع النسخ كما ذكر محقّقه قال: ولم أعرف من يكون!

(2) كذا بدون إعجام، ولم اعرف من يكون. قاله محقّقه!

(3) منهاج السنة 2/ 473- 474.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 393

سجن هارون «فلم يكن ممّن يجتاز علي دار بشر وأمثاله» «1».

أقول:

قد ذكرنا في (الشرح) أنّ الإمام عليه السلام أفرج عنه مدّةً، ثم حبس مرةً اخري إلي أن توفّي في الحبس مسموماً شهيداً، لكن ابن تيميّة لعناده مع أهل البيت يجهل أحوالهم ويريد إنكار فضائلهم!

قصة شقيق البلخي، كذب … ص: 393

وكذّب أيضاً ما رواه شقيق البلخي من حال الإمام عليه السّلام في طريق مكّة، بتوهّمات وخيالات منبعثة من العناد لأهل البيت كذلك «2».

أقول:

قد ذكرنا القصّة ورواتها في (الشّرح)، منهم: الحافظ ابن الجوزي الحنبلي المتوفي سنة: 597 «3» وعنه روي العلّامة قائلًا: «قال ابن الجوزي من الحنابلة» وما أكثر اعتماد ابن تيمية عليه في كتابه!

إنّ الرضا كان أزهد الناس وأعلمهم في زمانه، دعوي بلا دليل … ص: 393

يقول هذا متناسياً مناظرات الإمام عليه السّلام مع أصحاب المذاهب المختلفة، واحتجاجاته عليهم وإفحامه لهم، ومتناسياً التماس علماء نيسابور منه أن يحدّثهم ويروي لهم ولو حديثاً واحداً، وأمثال ذلك …

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 57.

(2) منهاج السنة 4/ 57.

(3) صفة الصّفوة- الترجمة 191، موسي بن جعفر بن محمّد بن علي 2/ 185- 187.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 394

وقد ذكرنا طرفاً ممّا أشرنا إليه في (الشرح) … كما يظهر من ذلك ما كذب به ابن تيمية في هذا الموضع.

كون معروف خادماً له، كذب … ص: 394

وكذّب كون معروف الكرخي خادماً له «1» بل أنكر حتّي إجتماعه به، وحتي رؤيته له، فضلًا عن خدمته وإسلامه علي يده «2» متوهّماً أنّ هذه فضيلة فيجب إنكارها!!. وقد أوضحنا واقع الحال في (الشرح) ومن رواة كونه خادماً للإمام وإسلامه علي يده: ابن خلكان في (وفيات الأعيان) بترجمة معروف، وبذلك اعترف القاضي العضد وشارحه الشريف الجرجاني في (شرح المواقف 8/ 372) قال: «هذا ممّا لا شبهة في صحّته».

لم يجعله المأمون وليَّ عهده … ص: 394

وأنكر هذا الأمر الذي يعدّ من الضروريّات التاريخية في الإسلام … كما ذكرنا في (الشرح) عن غير واحدٍ من المصادر المعتمدة عند الجمهور، كالمنتظم لابن الجوزي «3» الذي قلّده ابن تيميّة في غير موضع.

أبيات أبي نؤاس، لا تثبت فضيلةً له … ص: 394

واستشهد العلّامة الحلي بأبياتٍ لأبي نواس في مدح الإمام الرضا عليه __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 60.

(2) منهاج السنة 8/ 44.

(3) المنتظم- السنة 201- 10/ 93- 99.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 395

السلام، فقال ابن تيمية: «القوم جهّال بحقيقة المناقب والمثالب، والطرق التي يعلم بها ذلك، ولهذا يستشهدون بأبيات أبي نواس، وهي لو كانت صدقاً لم تصلح أن تثبت فضائل شخص بشهادة شاعر معروف بالكذب والفجور … » «1».

أقول:

قد ذكرنا بهذه المناسبة ترجمةً لأبي نواس … فراجعها في (الشرح) ففيها فوائد … والعجب من ابن تيمية يقول بأنّ أبياته لا تثبت فضائل شخص، لكونه شاعراً معروفاً بالكذب، مع أنه يستشهد بكلام أبي سفيان في حال كفره، وبكلام المنافقين، لاثبات فضيلةٍ لأبي بكر!!

خبر الجواد مع يحيي بن أكثم، كذب … ص: 395

وقال: «فإنّ هذه الحكاية التي حكاها عن يحيي بن أكثم، من الأكاذيب التي لا يفرح بها إلّا الجهّال، ويحيي بن أكثم كان أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص بأن يسأله عن محرم قتل صيداً … » «2».

أقول:

لا يخفي أنّه لم يصف الإمام عليه السلام بالعلم وإنّما قال: «كان من أعيان بني هاشم وهو معروف بالسخاء والسؤدد، ولهذا سمّي الجواد»، لكنه مع ذلك لم يدّع كون يحيي بن أكثم، أو فلان وفلان … أفقه منه وأعلم … وقد بينّا واقع الأمر بقدر الضرورة في (الشرح) «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 65.

(2) منهاج السنة 4/ 69.

(3) شرح منهاج الكرامة- الفصل الثاني: في ان مذهب الإمامية واجب الاتباع، الإمام محمّد الجواد عليه السّلام 1/ 207.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 396

فتوي الهادي في نذر المتوكّل، إمّا كذب وإمّا جهل … ص: 396

وتكلّم ابن تيميّة علي رواية فتوي الإمام الهادي عليه السّلام في نذر المتوكّل، واستناده عليه السّلام فيها إلي قوله تعالي «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ» بالنظر إلي عدد مواطن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

فقال ابن تيميّة بأنّ هذه الحكاية «إمّا أن تكون كذباً وإمّا أن تكون جهلًا ممّن أفتي بذلك» واستدل «إنّ المواطن كانت سبعاً وعشرين غزاة وستّاً وخمسين سرية، ليس بصحيح، فإنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يغز سبعاً وعشرين غزاةً باتفاق أهل العلم بالسير، بل أقل من ذلك» «1».

أقول:

قد بيّنا واقع الحال في (الشرح) استناداً إلي أقوال «أهل العلم بالسير» كالحافظ الخطيب البغدادي «2» وغيره، وظهر أنّ ابن تيميّة إمّا كاذب وإمّا جاهل.

كون الحسن العسكري عالماً زاهداً … روت عنه العامة كثيراً من الدعاوي المجردة والأكاذيب البيّنة … ص: 396

وقال العلّامة: «وكان ولده الحسن العسكري عالماً زاهداً فاضلًا عابداً أفضل أهل زمانه، وروت عنه العامّة كثيراً».

فقال ابن تيمية: «فهذا من نمط ما قبله، من الدعاوي المجرّدة والأكاذيب __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 81.

(2) تاريخ بغداد- الترجمة 6440، علي بن محمّد أبو الحسن العسكري 12/ 57.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 397

البيّنة، فإنّ العلماء المعروفين بالرّواية الذين كانوا في زمن هذا الحسن بن علي العسكري ليست لهم عنه رواية مشهورة في كتب أهل العلم، وشيوخ أهل الكتب الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، كانوا موجودين في ذلك الزمان وقريباً منه، قبله وبعده … فليس في هؤلاء من روي عن الحسن … » «1».

أقول:

من الواضح أنّ عدم رواية هؤلاء أو غيرهم عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام لا ينفي كونه عليه السلام أفضل أهل زمانه. هذا أولًا.

وثانياً: عدم إخراجهم له في كتبهم لا يثبت عدم روايتهم وعدم أخذهم منه، فكم من حديثٍ سمعوه ورووه

ولم يكتبوه.

وثالثاً: قد كان ابن ماجة من الرواة عن الإمام الرضا عليه السّلام، حيث أخرج عنه في كتابه- الذي يعدّ أحد الكتب الستّة- ومع ذلك نصّ ابن تيمية علي عدم روايةٍ له عليه السلام في الكتب الستّة.

ورابعاً: لقد قال ابن تيميّة في مقام تكذيب خبر شقيق البلخي مع الإمام الكاظم عليه السلام- ما نصّه: «أمّا الحكاية المذكورة عن شقيق البلخي فكذب، فإنّ هذه الحكاية تخالف المعروف من حال موسي بن جعفر، وموسي كان مقيماً بالمدينة بعد موت أبيه جعفر، وجعفر مات سنة ثمان وأربعين، ولم يكن قد جاء إذ ذاك إلي العراق … ».

فنقول: إن الإمام الحسن العسكري عليه السلام كان مقيماً بالمدينة، ثم أُتي __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 85- 86.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 398

به من المدينة إلي العراق، وأسكن في العسكر بسامرّاء، وأصحاب الكتب الستّة لم يكونوا مقيمين لا بالمدينة ولا بسامراء، فإن لم يكونوا أخذوا عنه، فهذا هو السبب.

وخامساً: إن السبب في عدم اشتهار الرواية عن الإمام الحسن العسكري هو قصر مدّته عليه السلام، وأنه قد قضي عمره الشريف تحت الحراسة الشديدة وبعيداً عن الناس …

ومع ذلك كلّه فقد «روت عنه العامّة كثيراً».

وراجع (الشرح) … ففيه التفصيل.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 399

5- حول الإمام الثاني عشر: المهدي المنتظر … ص: 399

اشارة

وما زال ابن تيميّة يكذّب وجود الإمام المهدي ابن الحسن العسكري عليهما السّلام، ويكرّر ذلك، بمناسبةٍ أو لا بمناسبة، في مواضع عديدة من كتابه، من أوّله وإلي آخره …

وفي الحقيقة، لو يُستخرج ما قاله هذا الرجل حول الإمام المهدي عليه السلام من التكذيب والطّعن والإستهزاء، … وما حوته كلماته من الكذب والبهتان والإفتراء،.. لجاء كتاباً مفرداً …

من حماقة الشيعة: الإعتقاد بالإمام المنتظر … ص: 399

قال: «ومن حماقتهم أيضاً: أنهم يجعلون للمنتظر عدّة مشاهد ينتظرونه فيها، كالسّرداب الذي بسامرّاء، الذي يزعمون أنّه غاب فيه، ومشاهد أخر. وقد يقيمون هناك دابّة- إمّا بغلة وإمّا فرساً وإمّا غير ذلك- ليركبها إذا خرج، ويقيمون هناك إمّا في طرفي النهار وإمّا في أوقاتٍ اخر من ينادي عليه بالخروج: يا مولانا اخرج، يا مولانا اخرج، ويشهرون السّلاح ولا أحد هناك يقاتلهم، وفيهم من يقوم في أوقات الصلاة دائماً، لا يصلي خشية أن يخرج وهو في الصّلاة فيشتغل بها عن خروجه وخدمته، وهم في أماكن بعيدة عن مشهده، كمدينة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، إمّا في العشر الأواخر من شهر رمضان وإمّا في غير ذلك، يتوجّهون إلي المشرق وينادونه بأصوات عالية يطلبون خروجه.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 400

ومن المعلوم: أنه لو كان موجوداً وقد أمره اللَّه بالخروج، فإنه يخرج سواء نادوه أو لم ينادوه، وإن لم يؤذن له فهو لا يقبل منهم، وأنه إذا خرج فإنّ اللَّه يؤيّده ويأتيه بما يركبه وبمن يعينه وينصره لا يحتاج إلي أن يوقف له دائماً من الآدميّين من ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً!

واللَّه سبحانه قد عاب في كتابه من يدعو من لا يستجيب له دعاءه … هذا مع أنّ الأصنام موجودة، وكان يكون فيها أحياناً

شياطين تتراءي لهم وتخاطبهم، ومن خاطب معدوماً كانت حالته أسوء من حال من خاطب موجوداً وإن كان جماداً. فمن دعا المنتظر الذي لم يخلقه اللَّه كان ضلاله أعظم من ضلال هؤلاء، وإذا قال: أنا أعتقد وجوده، كان بمنزلة قول أولئك: نحن نعتقد أن هذه الأصنام لها شفاعة عند اللَّه، فيعبدون من دون اللَّه ما لا ينفعهم ولا يضرّهم ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عنداللَّه، والمقصود أن كليهما يدعو من لا ينفع دعاؤه، وإن كان أولئك اتّخذوهم شفعاء آلهة وهؤلاء يقولون: هو إمام معصوم، فهم يوالون عليه ويعادون عليه كموالاة المشركين علي آلهتهم، ويجعلونه ركناً في الإيمان لا يتم الدّين إلّا به، كما يجعل بعض المشركين آلهتهم كذلك … » «1».

لا سبيل إليه فالإيمان به تكليف بما لا يطاق … ص: 400

قال: «وأيضاً: فصاحب الزّمان الذي يدعون إليه، لا سبيل للناس إلي معرفته ولا معرفة ما يأمرهم به وما ينهاهم عنه وما يخبرهم به، فإن كان أحد لا يصير سعيداً إلّا بطاعة هذا الذي لا يعرف أمره ولا نهيه، لزم أنه لا يتمكّن أحد من __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 44- 47.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 401

طريق النجاة والسعادة وطاعة اللَّه، وهذا من أعظم تكليف ما لا يطاق، وهم من أعظم الناس إحالةً له.

وإن قيل: بل هو يأمر بما عليه الإماميّة. قيل: فلا حاجة إلي وجوده ولا شهوده، فإن هذا معروف سواء كان هو حيّاً أو ميّتاً، وسواء كان شاهداً أو غائباً …

لكن الرّافضة من أجهل الناس، وذلك أن فعل الواجبات العقليّة والشرعيّة، وترك المستقبحات العقليّة والشرعيّة، إمّا أن يكون موقوفاً علي معرفة ما يأمر به وينهي عنه هذا المنتظر، وإمّا أن لا يكون موقوفاً، فإن كان موقوفاً لزم تكليف ما لا يطاق، وأن يكون فعل

الواجبات وترك المحرّمات موقوفاً علي شرط لا يقدر عليه عامّة الناس بل ولا أحد منهم، فإنّه ليس في الأرض من يدّعي دعوي صادقة أنه رأي هذا المنتظر أو سمع كلامه. وإن لم يكن موقوفاً علي ذلك أمكن فعل الواجبات العقليّة والشرعيّة وترك القبائح العقلية والشرعية بدون هذا المنتظر، فلا يحتاج إليه ولا يجب وجوده ولا شهوده … » «1».

القول بوجوب اتّباعه غاية الجهل والضلال … ص: 401

قال: «وقد رأيت طائفةً من شيوخ الرافضة كابن العود الحلّي يقول: إذا اختلفت الإمامية علي قولين أحدهما يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله، كان القول الذي لا يعرف قائله هو القول الحق الذي يجب اتّباعه، لأنّ المنتظر المعصوم في تلك الطائفة.

وهذا غاية الجهل والضّلال، فإنّه- بتقدير وجود المنتظر المعصوم- لا يعلم __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 87- 88.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 402

أنه قال ذلك القول، إذ لم ينقله عنه أحد ولا عمّن نقله عنه، فمن أين يجزم بأنه قوله؟ … فكان أصل دين هؤلاء الرّافضة مبنيّاً علي مجهول ومعدوم … » «1».

أيّ لطف ومصلحة يحصل به؟ … ص: 402

قال: «وأيّ من فرض إماماً نافعاً في بعض مصالح الدين والدنيا، كان خيراً ممّن لا ينتفع به في شي ء من مصالح الإمامية.. فهل يكون أبعد عن مقصود الإمامة وعن الخير والكرامة ممّن سلك منهاج الندامة؟» «2».

«وهذا المنتظر لم ينتفع به لا مؤمن به ولا كافر به» «3».

«ومن المعلوم المتيقّن: أنّ هذا المنتظر الغائب المفقود لم يحصل به شي ء من المصلحة واللّطف، سواء كان ميّتاً كما يقوله الجمهور، أو كان حيّاً كما تظنّه الإماميّة، وكذلك أجداده المتقدّمون لم يحصل بهم شي ء من المصلحة واللّطف الحاصلة من إمام معصوم ذي سلطان … » «4».

كلّ من تولّي الامور برّاً أو فاجراً خير منه … ص: 402

قال: «وكلّ من تولّي كان خيراً من المعدوم المنتظر الذي تقول الرافضة إنه الخلف الحجّة … » «5».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 89- 90.

(2) منهاج السنة 1/ 100- 101.

(3) منهاج السنة 1/ 133.

(4) منهاج السنة 3/ 378.

(5) منهاج السنة 1/ 548.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 403

المدّعون للمهدويّة خير منه … ص: 403

قال: «إنّ طوائف ادّعي كلّ منهم أنه المهدي المبشّر به، مثل مهدي القرامطة الباطنية … وممّن ادّعي أنه المهدي، ابن التومرت … ومثل عدّة آخرين …

وبكلّ حال، فهو وأمثاله خير من مهدي الرافضة الذي ليس له عين ولا أثر … » «1».

حصل باعتقاد وجوده الشرّ والفساد … ص: 403

قال: «بل حصل باعتقاد وجوده من الشرّ والفساد ما لا يحصيه إلّا رب العباد» «2».

مات الحسن العسكري بلا نسل ولا عقب … ص: 403

قال: «قد ذكر محمّد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من أهل العلم بالأنساب والتواريخ: إن الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب» «3».

أقول:

هذه جملٌ من أباطيل الرجل وأراجيفه في هذا الباب، وهي أكثر وأكثر …

وقد بحثنا عن هذا المطلب، وأجبنا عمّا ذكر هذا الرجل في (الشرح) ونكتفي __________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 258- 259.

(2) منهاج السنة 8/ 259.

(3) منهاج السنة 4/ 87.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 404

هنا بالإشارة إلي نقاط:

1- نسبة القول بأنّ الإمام العسكري مات بلا عقب إلي (محمّد بن جرير الطبري) كذب، وقد حقّقنا هذا هناك.

وأما (ابن قانع) فلا ندري قال هذا أو لا، وعلي فرضه:

فالرّجل اموي بالولاء.

علي أنّه كان ضعيفاً عند البرقاني وغيره من الأئمة.

وقال الدار قطني: كان يخطي ء ويصرّ علي الخطأ.

قالوا: واختلط قبل موته بسنتين.

وقال ابن حزم: منكر الحديث، تركه أصحاب الحديث جملةً، وجد في حديثه الكذب البحت والبلاء المبين والوضع اللائح، فإمّا تغييراً، وإمّا حملًا عمّن لا خير فيه من كذّابٍ ومغفّل يقبل التلقين، وإمّا الثلاثة وهي أن يكون البلاء من قبله.

وقال حمزة السّهمي: سألت أبا بكر بن عبدان عن ابن قانع فقال: لا يدخل في الصحيح.

وقال ابن فتحون في ذيل الإستيعاب: لم أر أحداً ممن ينسب إلي الحفظ أكثر أوهاماً منه ولا أظلم أسانيد ولا أنكر متوناً … » «1».

فانظر علي من يعتمد ابن تيمية علي تقدير صحّة النسبة!!

وأمّا (غيرهما) فمن هو؟ وأين؟

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء- الترجمة 303، ابن قانع 15/ 526، ميزان الاعتدال- حرف العين، الترجمة 4735، لسان الميزان- الترجمة 4936، 4/ 207- 209.

دراسات في

منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 405

2- إنّ إنكار المصلحة واللّطف من إمامته عليه السلام جهل أو تجاهل بمعني «الامامة»، وخلط- عن عمدٍ أو جهل- بين «الإمامة» و «السّلطنة».

إنّ «الإمامة» نيابة عن «النبوّة» وحكمها حكمها، فكما أنّ «النبوّة» لا تزول ولا تنتفي فائدتها بغيبة «النبيّ»، كذلك «الإمامة»، لا تزول ولا تنتفي مصلحتها وفائدتها بغيبة «الإمام».

وهذا موجز الكلام في هذا المقام، وللتفصيل يراجع (الشرح) وغيره من بحوثنا «1» وبحوث سائر علمائنا الأعلام.

3- إن الشيعة الإماميّة ينتفعون بالإمام الغائب عن الأبصار، ولكنّ المنافقين لا يفقهون.

4- إن ما نسبه إلي الشيعة الإمامية الاثني عشرية من انتظار الإمام في مشاهد عديدة، ينتظرون خروجه منها، وينادونه فيها، ويقيمون هناك الدابّة. كلّ هذا كذب وافتراء وبهتان كما هو ديدنه، واللَّه حسيبه علي ما قال.

5- وكذلك في أقواله في تفضيل ملوك بني اميّة، وسلاطين الجور، والمهديّين الكاذبين، عليه.

6- لقد ذكرنا في (الشرح)، وكذلك سائر علمائنا الأعلام، الأدلّة القويمة المستندة إلي كتب الفريقين في ولادة الإمام ابن الحسن العسكري، وضرورة وجوده، وإمامته.. وغير ذلك من شئونه … فليراجع.

__________________________________________________

(1) يراجع: الامامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الامامية.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 406

6- حول الأئمّة الاثني عشر … ص: 406

اشارة

وبعد، فقد تطاول ابن تيمية علي (الأئمة الاثني عشر) كلّهم، وطعن وقدح فيهم بعنوان (الاثني عشر) أي: الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام والحسنين وسائر الأئمّة حتي المهدي المنتظر … ولنذكر جملةً من كلماته:

المشابهة بين عقيدة النصاري في الحواريين وعقيدة الشيعة في الاثني عشر … ص: 406

ذكر ابن تيمية في المشابهات بين النصاري والشّيعة ما نصّه:

«وأيضاً: فإنّ النصاري يزعمون أن الحواريين الذين اتّبعوا المسيح أفضل من إبراهيم وموسي وغيرهما من الأنبياء والمرسلين، ويزعمون أنّ الحواريين رسل شافههم اللَّه بالخطاب، لأنهم يقولون: إن اللَّه هو المسيح، ويقولون أيضاً: إن المسيح ابن اللَّه.

والرّافضة تجعل الأئمة الإثني عشر أفضل من السّابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار … » «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 481- 482.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 407

الطعن في إمامتهم … ص: 407

وقال: «والكلام في أنّ هؤلاء أئمة فرض اللَّه الإيمان بهم وتلقّي الدين منهم دون غيرهم، ثمّ في عصمتهم عن الخطأ، فإنّ كلًا من هذين القولين ممّا لا يقوله إلّا مفرط في الجهل أو مفرط في اتّباع الهوي أو في كليهما، فمن عرف دين الإسلام وعرف حال هؤلاء، كان عالماً بالإضطرار من دين محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم بطلان هذا القول، لكنّ الجهل لا حدّ له» «1».

الطعن في علمهم ودينهم … ص: 407

وقال: «ويذكرون اثني عشر رجلًا، كلّ واحد من الثلاثة خير من أفضل الاثني عشر وأكمل خلافةً وإمامةً، وأمّا سائر الاثني عشر فهم أصناف، منهم من هو من الصحابة المشهود لهم بالجنّة كالحسن والحسين، وقد شركهم في ذلك من الصحّابة المشهود لهم بالجنّة خلق كثير، وفي السّابقين الأوّلين من هو أفضل منهما مثل أهل بدر، وهما- رضي اللَّه عنهما- وإن كانا سيّدي شباب أهل الجنة، فأبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة، وهذا الصنف أكمل من ذلك الصّنف …

وفي الاثني عشر من هو مشهور بالعلم والدين، كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر وابنه جعفر بن محمّد، وهؤلاء لهم حكم أمثالهم، ففي الامّة خلق كثير مثل هؤلاء وأفضل منهم، وفيهم المنتظر لا وجود له أو مفقود لا منفعة لهم فيه، فهذا ليس في اتّباعه إلّا شرّ محض بلا خير.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 453- 454.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 408

وأمّا سائرهم، ففي بني هاشم من العلويّين والعبّاسيين جماعات مثلهم في العلم والدّين، ومن هو أعلم وأدين منهم، فكيف يجوز أن يعيب ذكر الخلفاء الرّاشدين الذين ليس في الإسلام أفضل منهم، من يعوّض بذكر قوم، في المسلمين خلق كثير أفضل منهم، وقد انتفع المسلمون في دينهم ودنياهم بخلق كثير، أضعاف

أضعاف ما انتفعوا بهؤلاء؟» «1».

لم يحصل بأحدٍ منهم مقاصد الإمامة … ص: 408

قال: «وأيضاً، فالأئمة الاثنا عشر لم يحصل لأحدٍ من الامّة بأحدٍ منهم جميع مقاصد الإمامة … » «2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 168- 170.

(2) منهاج السنة 6/ 387.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 409

جوابه عن حديث «الأئمة إثنا عشر»!! … ص: 409
اشارة

وعندما يطعن في إمامة الأئمة الاثني عشر، وفي علمهم ودينهم، ويفضّل عليهم غيرهم، أو يجعلهم كسائر الاناس العاديّين من عوام المسلمين.. يواجه الحديث المخرّج عندهم في الصحيح عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من أنّ الخلفاء بعده إثنا عشر … فإنّ هذا الحديث نصٌّ في أن الإمامة والخلافة بعده في عددٍ معيّن، فما هو جواب أهل السنّة الذين لم يجعلوا الأئمة محصورين في عددٍ معين؟ وإذا لم يكن المراد الأئمة الإثنا عشر من أهل البيت فمن هم؟

لقد تحيّر ابن تيمية في هذا الموضع، كغيره من أئمّة مذهبه، السابقين عليه والمتأخّرين عنه … وإليك كلامه بعين عباراته:

قال العلّامة رحمه اللَّه: «ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عددٍ معيّن».

فقال ابن تيمية: «فهذا حق، وذلك أنّ اللَّه تعالي قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ» ولم يوقّتهم بعددٍ معيّن.

وكذلك النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم- في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة- لم يوقّت ولاة الامور في عدد معيّن:

ففي الصحيحين عن أبي ذر قال: إنّ خليلي أوصاني أن أسمع واطيع وإن كان عبداً حبشيّاً مجدّع الأطراف.

وفي صحيح مسلم عن ام الحصين: إنها سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بمني أو بعرفات في حجة الوداع يقول: لو استعمل عليكم عبد أسود مجدّع يقودكم دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 410

بكتاب اللَّه فاسمعوا وأطيعوا.

وروي البخاري عن أنس بن مالك قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

إسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد

حبشي كأنّ رأسه زبيبة.

وفي الصحيحين عن جابر أيضاً قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش.

وفي الصحيحين عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلي جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أن أخبرني بشي ء سمعته من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

فكتب إليّ: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يوم جمعة عشيّة رجم الأسلمي قال: لا يزال هذا الدين قائماً حتي تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافر هم تبع لكافرهم.

وعن جابر بن عبداللَّه قال قال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: الناس تبع لقريش في الخير والشر.

وفي البخاري عن معاوية رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلّا كبّه اللَّه علي وجهه ما أقاموا الدين» «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 381- 385.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 411

أقول:

هذا كلّ ما أورده في هذا الفصل نقلته بنصّه … فماذا تفهم من هذا الكلام؟

يقول- في جواب قول العلامة: «ولم يجعلوا الائمة محصورين في عددٍ» -: «هذا حق» ثم يستدل- بزعمه- بأدلّةٍ:

فاستدلّ: بظاهر الآية المباركة …

لكنّ هذه الآية دالّة علي اشتراط العصمة في الائمة «1».

وبما دلّ علي وجوب الإنقياد لكلّ من ولي امور المسلمين «وإن عبّداً حبشيّاً».

لكنّ هذه الأحاديث- وإن دلّت علي عدم انحصار الإمامة في عددٍ معين- مردودة بالإجماع علي ضرورة كون الإمام قرشيّاً، ففي (شرح المواقف): في

شروط الإمام: «أن يكون قرشيّاً، إشترطه الأشاعرة والجبائيّان، ومنعه الخوارج وبعض المعتزلة. لنا: قوله عليه السلام: الأئمة من قريش. ثم إن الصحابة عملوا بمضمون هذا الحديث، فإن أبا بكر- رضي اللَّه عنه- استدلّ به يوم السقيفة علي الأنصار حين نازعوا في الإمامة بمحضر الصحابة فقبلوه، وأجمعوا عليه، فصار دليلًا قاطعاً يفيد اليقين باشتراط القرشيّة. إحتجّوا- أي المانعون من اشتراطها- بقوله عليه السلام: السّمع والطّاعة ولو عبداً حبشيّاً، فإنه يدل علي أن الإمام قد لا يكون قرشيّاً. قلنا: ذلك الحديث فيمن أمّره الإمام، أي جعله أميراً علي سرية وغيرها كناحية، ويجب حمله علي هذا دفعاً للتعارض بينه وبين الإجماع، أو نقول:

__________________________________________________

(1) تفسير الفخر الرازي- سورة النساء، الآية 59، 10/ 144.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 412

هو مبالغة علي سبيل الفرض، ويدل عليه أنه لا يجوز كون الإمام عبداً إجماعاً» «1».

وقال التفتازاني: «واتّفقت الامة علي اشتراط كونه قرشيّاً … » «2».

وكذا قال علماء الحديث بشرحه. فراجع «3».

إذن، فهذه الأخبار خارجة عن البحث.

- ثم استدلّ بأحاديث في أنّ الإمامة في قريش.

وهذه الأحاديث لا تنافي قول الإمامية باعتبار عددٍ معيّنٍ، ولا تدلُّ علي قول غيرهم بعدم جعل الإمامة في عددٍ معيّن.

- ثم استدلّ بأحاديث الأئمة إثنا عشر.

وهذه تدلّ علي قول الإمامية، وعلي بطلان قول غيرهم.

فأين الدليل علي مدّعي ابن تيميّة؟

بل بالعكس … فإنّه دلّل لقول العلّامة- أي لمذهب الإمامية- لأنّ حاصل الأدلّة التي ذكرها اعتبار العصمة في الأئمة، وأنهم من قريش، وأنهم اثنا عشر، وهذا ما عليه الإمامية الاثنا عشرية.

* وكما أشرنا سابقاً … فإنّك إذا ما رجعت إلي كتب القوم- في الحديث والكلام والاصول- وجدتهم يضطربون أشدّ الإضطراب في معني حديث «الأئمة الاثنا عشر»، فيذكرون وجوهاً

كثيرة متضاربةً، ثم يعترفون بالعجز عن فهم __________________________________________________

(1) شرح المواقف المرصد الرابع في الإمامة 8/ 350.

(2) شرح المقاصد الفصل الرابع في الامامة المبحث الثاني الشروط التي تجب في الامام 5/ 244.

(3) فتح الباري- كتاب الأحكام، باب الامراء من قريش 13/ 113- 119، عارضة الاحوذي كتاب الفتن، الباب 46 ما جاء في الخلفاء 5/ 67، تحفة الاحوذي أبواب الفتن باب ما جاء أن الخلفاء من قريش إلي أن تقوم الساعة 6/ 398.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 413

معناه، يقول ابن العربي المالكي: «ولم أعلم للحديث معنيً» «1» وعن ابن البطّال عن المهلّب: «لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث. يعني بشي ءٍ معيّن» «2».

وعن ابن الجوزي: «قد أطلت البحث عن معني هذا الحديث، وتطلّبت مظانّه، وسألت عنه، فلم أقع علي المقصود» «3».

وهكذا … كان حال ابن تيميّة … وهذا كلامه في موضعٍ آخر:

«وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة: إن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلي اثني عشر خليفة كلّهم من قريش. ولفظ البخاري:

اثني عشر أميراً، وفي لفظ: لا يزال أمر الناس ماضياً ولهم اثنا عشر رجلًا. وفي لفظ: لا يزال الإسلام عزيزاً إلي اثني عشر خليفة كلّهم من قريش.

وهكذا كان، فكان الخلفاء: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ثم تولّي من اجتمع الناس عليه وصار له عزّ ومنعة: معاوية، وابنه يزيد، ثم عبد الملك وأولاده الأربعة، وبينهم عمر بن عبد العزيز.

وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام من النقص ما هو باق إلي الآن.

فإنّ بني اميّة تولّوا علي جميع أرض الإسلام، وكانت الدولة في زمنهم عزيزة … وأعظم ما نقمه الناس علي بني اميّة شيئان: أحدهما: تكلّمهم في علي.

والثاني: تأخير الصّلاة عن

وقتها …

ثمّ كان من نعم اللَّه سبحانه ورحمته بالإسلام: أنّ الدولة لمّا انتقلت إلي بني __________________________________________________

(1) عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي- كتاب الفتن الباب 49 ما جاء أن الخلفاء من قريش الي ان تقوم الساعة 5/ 70.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري- كتاب الأحكام، باب الاستخلاف 13/ 211 و 212.

(3) فتح الباري في شرح صحيح البخاري- كتاب الأحكام، باب الاستخلاف 13/ 211 و 212.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 414

هاشم صارت في بني العبّاس.. وإلّا، فلو تولّي والعياذ باللَّه- رافضي يسبّ الخلفاء والسّابقين الأوّلين لقلب الإسلام.

ولكن دخل في غمار الدولة من كانوا لا يرضون باطنه، ومن كان لا يمكنهم دفعه، كما لم يمكن عليّاً قمع الامراء الذين هم أكابر عسكره، كالأشعث بن قيس، والأشتر النخعي، وهاشم المرقال، وأمثالهم.

… وهؤلاء الإثنا عشر خليفة هم المذكورون في التوراة، حيث قال في بشارته بإسماعيل: وسيلد اثني عشر عظيماً.

ومن ظنّ أن هؤلاء الاثني عشر هم الذين تعتقد الرافضة إمامتهم، فهو في غاية الجهل، فإن هؤلاء ليس فيهم من كان له سيف إلّا علي بن أبي طالب، ومع هذا فلم يتمكّن في خلافته من غزو الكفّار، ولا فتح مدينة، ولا قتل كافراً، بل كان المسلمون قد اشتغل بعضهم بقتال بعض، حتي طمع فيهم الكفّار بالشرق والشّام، من المشركين وأهل الكتاب، حتي يقال: إنهم أخذوا بعض بلاد المسلمين، وإنّ بعض الكفّار كان يحمل إليه كلام حتي يكفّ عن المسلمين.

فأيّ عزٍّ للإسلام في هذا، والسيف يعمل في المسلمين، وعدوّهم قد طمع فيهم ونال منهم؟

وأما سائر الأئمّة غير علي، فلم يكن لأحدٍ منهم سيف، لا سيّما المنتظر …

وأيضاً، فالإسلام عند الإمامية هو ما هم عليه، وهم أذلّ فرق الامّة، فليس

في أهل الأهواء أذلّ من الرافضة، ولا أكتم لقوله منهم، ولا أكثر استعمالًا للتقيّة منهم، وهم- علي زعمهم- شيعة الاثني عشر، وهم في غاية الذلّ، فأيّ عزٍ للإسلام بهؤلاء الاثني عشر علي زعمهم؟

وكثير من اليهود إذا أسلم يتشيّع، لأنه رأي في التوراة ذكر الاثني عشر،

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 415

فظنَّ أنّ هؤلاء هم أولئك، وليس الأمر كذلك.

بل الاثنا عشر هم الذين ولّوا علي الامّة من قريشٍ ولايةً عامة، فكان الإسلام في زمنهم عزيزاً، وهذا معروف.

وقد تأوّل ابن هبيرة الحديث علي أنّ المراد: إن قوانين المملكة باثني عشر مثل الوزير والقاضي ونحو ذلك. وهذا ليس بشي ء. بل الحديث علي ظاهره لا يحتاج إلي تكلّف.

وآخرون قالوا فيه مقالةً ضعيفة، كأبي الفرج ابن الجوزي وغيره.

ومنهم من قال: لا أفهم معناه، كأبي بكر بن العربي.

وأما مروان وابن الزبير فلم يكن لواحدٍ منهما ولاية عامة، بل كان زمنه زمن فتنة، لم يحصل فيها من عزّ الإسلام وجهاد أعدائه ما يتناوله الحديث.

ولهذا جعل طائفة من الناس خلافة علي من هذا الباب وقالوا: لم تثبت بنصٍ ولا إجماع … والكلام علي هذه المسألة لبسطه موضع آخر … » «1».

أقول:

وفي هذا الكلام- الذي تتجلّي فيه الروح الامويّة- تري الإضطراب في أعلي مظاهره، وقبل التعليق عليه ننبّه علي أنّ نصّ الحديث في الصّحيحين وغيرهما هو:

من نصوص الحديث … ص: 415

في المسند: «عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول:

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 238- 243.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 416

يكون لهذه الامّة اثنا عشر خليفة» «1».

وفيه: «عن مسروق قال: كنّا جلوساً عند عبداللَّه بن مسعود- وهو يقرؤنا القرآن- فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وسلّم كم تملك هذه الامّة من خليفة؟ فقال عبد اللَّه بن مسعود: ما سألني أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال:

اثنا عشر، كعدّة نقباء بني إسرائيل» «2».

وفيه: «عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلي جابر بن سمرة مع غلامي: أخبرني بشي ء سمعته من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، قال: فكتب إليَّ:

سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم- يوم جمعةٍ عشية رجم الأسلمي- يقول: لا- يزال الدين قائماً حتي تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» «3».

وفي مسلم: «عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي علي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتي يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. قال: ثم تكلّم بكلامٍ خفي عليَّ، قال: فقلت لأبي ما قال؟ قال: كلّهم من قريش».

وفيه: «عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلي جابر بن سمرة … ».

وفيه: «عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول:

__________________________________________________

(1) مسند أحمد- حديث جابر بن سمرة، الحديث 20508- 6/ 119.

(2) مسند أحمد- مسند عبداللَّه بن مسعود، الحديث 3772، 1/ 657.

(3) مسند أحمد- حديث جابر بن سمرة، الحديث 20319، 6/ 93- 94.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 417

لا- يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلًا. ثم تكلّم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بكلمة خفيت عليَّ، فسألت أبي ماذا قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟

فقال: كلّهم من قريش» «1».

وفي البخاري: «سمعت جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: يكون اثنا عشر

أميراً. فقال كلمةً لم أسمعها. فقال أبي إنه قال: كلّهم من قريش» «2».

وفي الترمذي: «عن جابر بن سمرة قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؛ يكون من بعدي اثنا عشر أميراً. ثم تكلّم بشي ءٍ لم أفهمه، فسألت الذي يليني فقال قال: كلّهم من قريش».

قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجهٍ عن جابر بن سمرة … وفي الباب عن ابن مسعود وعبداللَّه بن عمرو» «3».

وفي أبي داود: «عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً إلي اثني عشر خليفة. قال: فكبّر الناس وضجّوا. ثم قال كلمةً خفية، قلت لأبي: يا أبة ما قال؟ قال: كلّهم من قريش» «4».

وفي الطبراني: عن جابر بن سمرة: «يكون لهذه الامّة اثنا عشر قيّماً لا- يضرّهم من خذلهم، كلّهم من قريش» «5».

وفي هذه الأحاديث نقاط:

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم، كتاب الامارة، باب الخلافة في قريش 12/ 201- 203.

(2) صحيح البخاري، كتاب الاحكام، باب الاستخلاف، الباب 1148، الحديث 2034، 4/ 729.

(3) الجامع الصحيح- سنن الترمذي- كتاب الفتن، الباب 46، ما جاء في الخلفاء: 609.

(4) سنن أبي داود، كتاب المهدي، الحديث 4280، 2/ 508.

(5) كنز العمال، الباب الرابع في القبائل، الحديث 33858، 12/ 33، عن الطبراني.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 418

1- إن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قد نصَّ علي هذا الأمر، وأخبر به غير مرّة، وعلي وجه القطع واليقين، وفي مواضع مختلفة …

2- إنّه نصَّ علي أنّ هؤلاء الاثني عشر من بعده «خلفاء» و «امراء» علي الامّة.

3- إنّه نصّ علي أن «خلافة» و «أمارة» هؤلاء باقية إلي قيام السّاعة.

4- إنّه نصّ علي أنّ عزّ الإسلام

وبقاء الدّين منوط بأمارة هؤلاء وخلافتهم.

5- إنّه نصّ علي ثبوت خلافتهم وإمامتهم وإن خولفوا وخذلوا.

وإنه ليبطل- بالنظر إلي هذه الأحاديث وما دلّت عليه- ما ذكره ابن تيمية، وجميع ما ذكره غيره في معني الحديث، وهذا هو الوجه في اعتراف غير واحدٍ من أئمتهم بعدم فهمه.

وبعد:

فإنّ الملاحظ علي كلام ابن تيمية- بعد غض النظر عن الإفتراء علي الشيعة وإهانتهم- امور، أهمّها:

أولًا: إنّه يعدّ معاوية- وجماعةً من بني اميّة بعده- من «الاثني عشر» وهذا يناقض تصريحه في غير مقامٍ بأنّ معاوية وبني اميّة ملوك وليسوا بخلفاء «1». وهذا ما نصّ عليه جمهورهم بل كلّهم، أخذاً بحديث سفينة: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً» وعليه تلميذه والمحامي عنه ابن كثير الدمشقي «2».

__________________________________________________

(1)

منهاج السنّة 4/ 522.

(2) البداية والنهاية- الأخبار عن الأئمة الاثني عشر الذين كلهم من قريش 6/ 279.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 419

وثانياً: إنّه لم يذكر في «الاثني عشر» الإمام الحسن بن علي عليه السلام، وقد نصّ كثير من أعلام القوم علي كونه عليه السّلام من «الخلفاء» ومنهم تلميذه والذابّ عنه: ابن كثير حيث قال: «أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، خلافتهم محقّقة بنص حديث سفينة: الخلافة بعدي ثلاثون سنة. ثم بعدهم: الحسن بن علي كما وقع، لأنّ عليّاً أوصي إليه، وبايعه أهل العراق، وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام حتي اصطلح هو ومعاوية، كما دلّ عليه حديث أبي بكرة في صحيح البخاري» «1».

وثالثاً: إنّه لم يذكر «المهدي» الذي سيلي أمر الامّة، كما في الأحاديث المتواترة، والذي لأجله أورد أبو داود هذا الحديث في «كتاب المهدي» من «صحيحه».

ورابعاً: هل «علي» عليه السلام من هؤلاء «الاثني عشر» أولا؟

إذا كان المراد من «الاثني عشر» في هذه

الأحاديث هم «الذين استولوا علي جميع المملكة الإسلامية، وقهروا جميع أعداء الدين، وكان الإسلام في زيادةٍ وقوّة، عزيزاً في جميع الأرض» فقد نصّ علي أن علياً «لم يتمكّن في خلافته من غزو الكفار، ولا فتح مدينة، ولا قتل كافراً، بل كان المسلمون قد اشتغل بعضهم بقتال بعض، حتي طمع فيهم الكفار … حتي يقال: فأيّ عزٍ للإسلام في هذا … ».

فعلي ليس من هؤلاء … وهذا وإن لم يصرح به ابن تيمية، فهناك من ينصُّ عليه، بناءً علي أنّ المراد من «الاثني عشر» هم «من تجتمع عليه الامّة»، وعلي لم- تجتمع عليه الامّة.. فراجع شروح الصحيحين والترمذي، كالنووي وابن حجر

__________________________________________________

(1) البداية والنهاية- الأخبار عن الائمة الاثني عشر الذين كلهم من قريش- 6/ 279.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 420

وابن العربي وغيرهم، والبداية والنهاية لابن كثير أيضاً …

ثم يقول ابن تيمية- في آخر كلامه في هذا الفصل-: «والمقصود هنا أنّ الحديث الذي فيه ذكر الاثني عشر خليفة- سواء قدّر أنّ علياً دخل فيه أو قدّر أنّه لم يدخل- فالمراد بهم من تقدّم من الخلفاء من قريش، وعلي أحقّ الناس بالخلافة في زمنه، بلا ريب عند أحد من العلماء».

وخامساً: هل كان في زمن من ذكره عزّ للإسلام وقوام للدين؟ وهل كان يزيد مثلًا كذلك؟ أكان في قتل الحسين وإباحة المدينة وهدم الكعبة عزّ للإسلام وقوام للدين؟

وسادساً: هل تصدّقه في قوله: «وأعظم ما نقمه الناس علي بني اميّة … »؟

هل كان «تكلّم» أو كان «سب»؟ وهل كان السبّ فقط، ولم يقع علي شيعته القتل والنّهب؟ وهل كان «تأخير الصّلاة» فقط؟

وسابعاً: لو سلّمنا ما ذكره ابن تيمية في تعيين الاثني عشر، فإنّ الذين ذكرهم قد انتهي أمدهم

في القرن الثاني، والأحاديث دلّت علي بقاء خلافة الاثني عشر وأمارتهم وإمامتهم حتي قيام السّاعة!

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 421

7- حول ما نسبه إلي الأئمّة من العقائد … ص: 421

اشارة

لقد تقدّم- في البحث عن عقيدة ابن تيمية في أميرالمؤمنين وخلافته ومناقبه- ذكر بعض ما نسبه من العقائد إلي الإمام عليه السلام، ولا أساس لتلك النسب من الصحّة …

وهنا نذكر أشياء نسبها إلي سائر الأئمة عليهم السلام في مجال العقيدة:

رؤية الباري … ص: 421

لقد نسب إلي الأئمة عليهم السلام القول برؤية الباري، وهذه عبارته:

«ولكنّ الإمامية تخالف أهل البيت في عامّة أصولهم، فليس في أئمة أهل البيت- مثل علي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وابنه جعفر بن محمّد الصّادق من كان ينكر الرؤية، أو يقول بخلق القرآن، أو ينكر القدر، أو يقول بالنص علي علي، أو بعصمة الأئمّة الاثني عشر، أو يسب أبا بكر وعمر.

والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة، وكانت مما يعتمد عليه أهل السنّة» «1».

أقول:

إنه ينسب إليهم هذه العقائد، ويدّعي تواتر النقل عنهم بها، ويدّعي أن __________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 368- 369.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 422

الإماميّة مخالفون للأئمة فيها، ولكن لا يذكر شيئاً من الأخبار المتواترة في ذلك، ولا يشير إلي رواتها وناقليها!! وكيف أنّ شيئاً من هذه الأخبار لم تصل إلي الإماميّة حتي تتبّعهم في تلك العقائد؟ أو وصلت إليهم وخالفتهم عن علمٍ وعمد؟!

تنبيه: ذكر محقّق (منهاج السنة) في الهامش ما هذا نصّه؟ «في النسخ الخمس: من كان ينكر الرؤية، ولا يقول بخلق القرآن، ولا ينكر القدر، ولا يقول بالنص علي علي، ولا بعصمة الأئمة الاثني عشر، ولا يسبّون أبا بكر وعمر (قال):

وهو نقيض المقصود».

إذن، ففي النسخ الخمس تفيد عبارته نقيض المقصود!

القدر … ص: 422

لكن نسب ابن تيميّة إلي أئمة أهل البيت عليهم السلام «إثبات القدر» في مقام تكذيب ما قاله الإمام موسي بن جعفر عليه السلام، في حال صغر سنّه، لأبي- حنيفة، عندما سأله «ممّن المعصية» فقال عليه السّلام:

«المعصية إمّا من العبد أو من اللَّه أو منهما. فإن كانت من اللَّه فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله. وإن كانت المعصية منهما فهو شريكه، والقوي أولي بإنصاف عبده

الضعيف. وإن كانت المعصية من العبد وحده، فعليه وقع الأمر وإليه توجّه المدح والذم، وهو أحق بالثواب والعقاب ووجب له الجنّة أو النار.

فقال أبو حنيفة: ذريّة بعضها من بعض».

فقال ابن تيمية:

«فموسي بن جعفر وسائر علماء أهل البيت متّفقون علي إثبات القدر، والنقل دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 423

بذلك عنهم ظاهر معروف … » «1».

القرآن غير مخلوق … ص: 423

وكذلك في مسألة خلق القرآن، حيث نسب إلي «أئمة أهل البيت» القول بأنه غير مخلوق، وهذه عبارته:

«أكثر أئمة الشيعة يقولون: القرآن غير مخلوق، وهو الثابت عن أئمّة أهل البيت. وحينئذٍ، فهذا قول من أقوال هؤلاء، فإن لم يكن حقّاً أمكن أن يقال بغيره من أقوالهم» «2».

أقول:

لكن أين هذا «الثابت»؟ ومن هم «أكثر أئمة الشيعة» القائلون بذلك؟

وكأنّه أيضاً غير واثق بما يقول، لأنه يقول: «وحينئذٍ، فهذا قول … »!!

لا نصّ علي علي ولا عصمة للأئمة … ص: 423

بقي ما نسبه إلي الأئمة- عليهم السلام- من إنكار النصّ علي علي أميرالمؤمنين عليه السلام وإنكار العصمة للأئمة الاثني عشر … فإنّا لم نجد في (منهاج السنّة) تصريحاً بذلك، غير العبارة التي نقلناها آنفاً.

فإن كان الصحيح ما جاء في هذه النسخة (المحققة) فقد نسب إلي الأئمة ماهم برآء منه، واللَّه حسيبه علي ما قال، وإن كان الصحيح ما جاء في النسخ الخمس، كان (المحقق) هو المسؤل. واللَّه العالم.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 139.

(2) منهاج السنة 3/ 353.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 424

الرأي والقياس والاستحسان … ص: 424

وقال ابن تيمية ما نصّه: «إنّ الشيعة في هذا مثل غيرهم، ففي أهل السنّة في الرأي والإجتهاد والقياس والإستحسان كما في الشيعة النزاع في ذلك، فالزيديّة تقول بذلك وتروي فيه الروايات عن الأئمة» «1».

أقول:

لكنه في هذا الموضع غالط، فلم يقل «الإمامية» بل قال «الشيعة»، ثم ذكر «الزيديّة».. مع أنّ البحث هو بين «أهل السنّة» وبين «الإمامية الإثني عشريّة» … ومن هنا يحتمل أن يكون مقصوده من «الأئمة» هم أئمّة الزيديّة، لا أئمّة أهل البيت، لكن كلامه غير واضح، وهذا من دجل هذا الرجل وتدليسه …

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 469.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 425

الباب السادس: ابن تيميّة ورجالاتُ الأُسرة الهاشميّة والشّيعةُ الأوائل من أصحاب النبي والأئمة … ص: 425

اشارة

عقائدهم، مناقبهم، أحوالهم دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 427

وكم كذب ابن تيميّة علي أولاد الأئمة عليهم السلام وأصحابهم، وعلي رجالات الشّيعة من الصّحابة المشهورين بالولاية لأمير المؤمنين، كابن عبّاس وأبي ذر وأمثالهما، كمالك الأشتر وهاشم المرقال ومحمّد بن أبي بكر، وكم طعن في عدالتهم، وقدح في مناقبهم، ونسب إليهم مالم يقولوه … ؟!

قول الشيعة الأوائل وأولاد الأئمة بأفضليّة أبي بكر وعمر … ص: 427

فأهمّ شي ء بذل سعيه فيه هو نسبة القول بأفضليّة أبي بكر وعمر من علي عليه السلام إليهم واتّهامهم بذلك، وتكذيب كونهم شيعةً لعلي عليه السّلام …

وهذا ما زال يكرّره ويصرّ عليه في كتابه:

قال: «وإن كذبوا علي أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمّار وغيرهم، فمن المتواتر أنّ هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيماً لأبي بكر وعمر واتّباعاً لهما، وإنّما ينقل عن بعضهم التعنّت علي عثمان، لا علي أبي بكر وعمر» «1».

وقال: «وقد اتّهم بمذهب الزيدية: الحسن بن صالح بن حي، وكان فقيهاً صالحاً زاهداً، وقيل: إن ذلك كذب عليه، ولم ينقل أحد عنه أنّه طعن في أبي بكر وعمر، فضلًا عن أن يشك في إمامتهما.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 94.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 428

واتّهم طائفة من الشيعة الأولي بتفضيل علي علي عثمان، ولم يتّهم أحدٌ من الشيعة الأولي بتفضيل علي علي أبي بكر وعمر، بل كانت عامّة الشيعة الأولي الذين يحبّون عليّاً يفضّلون عليه أبا بكر وعمر، لكن كان فيهم طائفة ترجّحه علي عثمان» «1».

وقال: «حتي أنّ الشّيعة الأولي أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه» «2».

وقال: «بل الشّيعة الأولي الذين كانوا علي عهد علي كانوا يفضّلون أبا بكر وعمر. وقال ابن القاسم: سألت مالكاً عن أبي بكر وعمر، فقال: ما رأيت أحداً

ممن اقتدي به يشكُّ في تقديمهما- يعني علي علي وعثمان- فحكي إجماع أهل المدينة علي تقديمهما» «3».

وقال: «ولهذا كانت الشّيعة المتقدّمون الذين صحبوا علياً أو كانوا في ذلك الزمان، لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر، وإنّما كان نزاعهم في تفضيل علي وعثمان، وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر، حتي ذكر مثل ذلك أبو القاسم البلخي، قال: سأل سائل شريك بن عبداللَّه بن أبي نمر فقال له: أيّهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر … ذكر هذا أبو القاسم البلخي في النقض علي ابن الراوندي اعتراضه علي الجاحظ، نقله عنه القاضي عبد الجبّار الهمداني في كتاب تثبيت النبوّة» «4».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 131- 132.

(2) منهاج السنة 2/ 72.

(3) منهاج السنة 2/ 84- 85.

(4) منهاج السنة 1/ 13- 15.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 429

أقول:

وهنا مطالب:

الأول: فيما يتعلّق بأبي ذر وسلمان وعمّار وغيرهم.. والكلام هنا كثير، لكنّا نكتفي بإيراد كلام لابن عبد البر، وآخر لابن حزم، وكلاهما متقدّمان علي ابن تيمية بكثير، وهما من أئمة أهل السنّة المشاهير، لا سيّما الثاني منهما، فإنّ ابن تيميّة يقتدي ويهتدي به في كثيرٍ من المواضع:

قال ابن عبد البر: «وروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم: أن علي بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه- أوّل من أسلم، وفضّله هؤلاء علي غيره» «1».

وقال ابن حزم: «اختلف المسلمون فيمن هو أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام، فذهب بعض أهل السنّة وبعض المعتزلة وبعض المرجئة وجميع الشيعة، إلي أن أفضل الامّة بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: علي بن أبي- طالب. وقد روينا هذا القول نصّاً

عن بعض الصحابة رضي اللَّه عنهم، وعن جماعة من التابعين والفقهاء» (قال): «وروينا عن نحو عشرين من الصحابة: أن أكرم الناس علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام» «2».

وقال الذهبي: «ليس تفضيل علي برفض ولا هو ببدعة، بل قد ذهب إليه __________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب- باب علي، الترجمة 1855، 3/ 1090.

(2) الفصل في الملل والاهواء والنحل- الكلام في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة 4/ 111 ولا يخفي أنّ وجود الزبير لا يضرّ بالمقصود.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 430

خلق من الصحابة والتابعين» «1».

الثّاني: فيما يتعلّق بالحسن بن صالح بن حي، فابن تيمية كتم هنا واقع الحال في رأيه، وصرّح به في موضع آخر حيث قال:

«وما علمت من نقل عنه في ذلك نزاع من أهل الفتيا، إلّا ما نقل عن الحسن ابن صالح بن حيّ، أنه كان يفضّل علياً» «2».

والثالث: فيما يتعلّق بما حكاه عن «شريك بن عبداللَّه بن أبي نمر» فنقول:

أولًا: ليس هذا الرجل من الشيعة، ولذا لا تجد وصفه بالتشيّع في الكتب التي ذكرته «3».

وثانياً: قد تكلّم غير واحدٍ من الأئمة عندهم في هذا الرجل، حتي أنّ ابن- حزم اتّهمه بالوضع «4».

وثالثاً: قالوا: توفي بعد سنة 140، وعن ابن عبد البر: مات سنة 144، فمتي رأي علياً عليه السلام، وكم كان عمره؟ وابن تيميّة يصرّ في البحث عن المهدي المنتظر أن أفراد هذه الامّة لا تبلغ أعمارهم المائة!!

ورابعاً: إن نقلة هذا الخبر هم المعتزلة، فابن تيميّة عيال عليهم، والإمامية الإثنا عشرية لا يثقون بهم.

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء- الترجمة 332، الدارقطني 16/ 457.

(2) منهاج السنة 7/ 286.

(3) فراجع: سير أعلام النبلاء الترجمة 73، شريك 6/

159. تهذيب الكمال الترجمة 2737، شريك بن عبداللَّه بن أبي نمر 12/ 475، تهذيب التهذيب الترجمة 2884، شريك بن عبداللَّه بن أبي نمر القرشي 4/ 307.

(4) فراجع: سير أعلام النبلاء الترجمة 73، شريك 6/ 159، ميزان الاعتدال- حرف الشين- الترجمة 3696، شريك بن عبداللَّه بن أبي نمر 2/ 269 وغيرها.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 431

سيّدنا أبو طالب عليه السّلام … ص: 431

وأصرّ ابن تيميّة علي كفر سيّدنا أبي طالب- والعياذ باللَّه- وليس السبب في ذلك إلّا البغض لأمير المؤمنين عليه السلام … وهذه عبارته:

«وأيضاً، فهم يقدحون في العبّاس عمّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم الذي تواتر إيمانه، ويمدحون أبا طالب الذي مات كافراً باتّفاق أهل العلم، كما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة، ففي الصحيحين … » «1» ثم أورد الحديث الموضوع المعروف بحديث الضحضاح ونحوه.

أقول:

نعم، إنّ أعظم ما وضعوه في الباب وأشنعه حديث الضّحضاح، وقبل الدخول في البحث عنه- بإيجاز- نذكّر بأنّ ابن حزم الأندلسي- الذي طالما استند إليه ابن تيمية واعتمد عليه- يصرّح بأنّ الإحتجاج بمثل هذه الأحاديث باطل، وهذا نصّ كلامه:

«لا معني لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدّقونا، ولا معني لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدّقها، وإنما يجب أن يحتجّ الخصوم بعضهم علي بعض بما يصدّقه الذي تقام عليه الحجّة به، سواء صدّقه المحتج أو لم يصدّقه، لأنّ من صدّق بشي ء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري، فيصير الخصم __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 351.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 432

يومئذٍ مكابراً منقطعاً إن ثبت علي ما كان عليه» «1».

هذا، مضافاً إلي تصريح ابن تيميّة بوجود أغلاطٍ في الصّحيحين.

أمّا حديث الضّحضاح، فقد أخرجه البخاري في كتابه- الذي هو أصحّ الصحيحين عند جمهورهم- عن:

مسدّد، عن يحيي، عن سفيان، عن عبد الملك، عن عبداللَّه بن الحارث، عن العبّاس بن عبد المطلب.

ويكفي أنّ في طريقه «عبد الملك بن عمير اللّخمي» وهذا الرجل- كما ترجمنا له في بعض بحوثنا- مقدوح ومجروح جدّاً، نجد الكلمات في قدحه بترجمته من (ميزان الإعتدال) و (تهذيب التهذيب) وغيرهما. وقد كان من المبغضين لأهل البيت عليهم السلام، حتي روي أنّه باشر ذبح سفير الحسين بن علي عليهما السلام إلي الكوفة وهو جريح، فلمّا عوتب علي ذلك قال: أردت أن أريحه!!

وروي البخاري- عن: محمود، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه- أنّه لمّا حضرته الوفاة دخل عليه النبي وقال له: أي عم قل لا إله إلّا اللَّه … وفيه نزل قوله تعالي «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ» «2»

.ويكفي أنّ فيه «الزهري»، وهو من أشدّ الناس انحرافاً عن أميرالمؤمنين.

أقول:

والأدلّة علي جلالة قدر سيّدنا أبي طالب عليه السلام وعظيم منزلته عند اللَّه ورسوله- لمواقفه الكريمة ومشاهده الشريفة في الدفاع عن الإسلام ورسوله- كثيرة جدّاً، وهي مذكورة في بطون كتب الفريقين، وقد خصّ ذلك غير واحدٍ من __________________________________________________

(1) الفصل في الملل والاهواء والنحل- الكلام في الامامة والمفاضلة 4/ 94.

(2) صحيح البخاري- كتاب مناقب الانصار، باب قصة أبي طالب، الباب 102، الحديث 389- 3/ 131.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 433

أعلام المسلمين بالتأليف، ردّاً علي المنافقين ودحضاً لشبهات أعداء الدين والنواصب لأمير المؤمنين.

أبوذر … ص: 433

سكن الربذة ومات بها … ص: 433

وحاول ابن تيمية التكتّم علي الحوادث الواقعة بين أبي ذر رضي اللَّه عنه وبين معاوية وعثمان، حمايةً لهما، فكان ظلمه له لا يقلّ عن ظلمهما، حتي أنّه قال في الجواب عن قول العلّامة في مطاعن عثمان: «إنه نفي أبا ذر إلي

الربذة وضربه ضرباً وجيعاً … » قال:

«فالجواب: إن أبا ذر سكن الربذة ومات بها، لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس» «1».

فانظر كيف يصوّر القضيّة وكأنّها طبيعيّة، خرج برغبةٍ منه واختيار إلي الربذة، وسكن بها حتي مات، بسبب ما كان يقع بينه وبين الناس، ولم يكن شي ء من عثمان!! … والتّفصيل في (الشرح).

حديث: ما أقلّت الغبراء … ضعيف بل موضوع … ص: 433

واستدلّ العلّامة بهذا الحديث في موضعين، فقال ابن تيميّة في الموضع __________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 272.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 434

الأوّل: «هذا الحديث لم يروه الجماعة كلّهم، ولا هو في الصدق بل في أنه علم ما أخبر به النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم جملة وتفصيلًا … » «1».

وقال في الموضع الثاني: «والحديث المذكور بهذا اللّفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف، بل موضوع، وليس له إسناد يقوم به» «2».

أقول:

لقد كفانا محقّق كتابه- في الهامش- مؤنة الردّ عليه وإبانة كذبه فقال:

«الحديث في سنن الترمذي 5/ 334 كتاب المناقب، باب مناقب أبي ذر. وقد رواه الترمذي بإسنادين وقال عن الأول: هذا حديث حسن، وعن الثاني وهو عن رواية مطوّلة: هذا حديث حسن وغريب من هذا الوجه. والحديث في سنن ابن ماجة 1/ 55. المقدمة، باب فضل أبي ذر. والحديث في المسند 5/ 197 عن أبي الدرداء 6/ 442 عن أبي ذر. (قال): بأنّه حسن أو صحيح».

عمّار … ص: 434

حديث: تقتل عمّاراً الفئة الباغية … ص: 434

وأطال ابن تيميّة الكلام علي حديث تقتلُ عماراً الفئة الباغية، وحاول تهوينه سنداً ودلالةً، فنسب إلي بعضٍ القول بضعفه، وذكر في كلمة «البغي»

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 264.

(2) منهاج السنة 6/ 276.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 435

و «الباغية» احتمالات.. لكنّها كلّها محاولات يائسة، فإنّ هذا الحديث مقطوع بصدوره عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وهو من أعلام نبوّته …

ونحن نكتفي بكلامه حول سنده في موضعٍ واحد، فإنه قال: «الذي في الصحيح: تقتل عمّاراً الفئة الباغية. وطائفة من العلماء ضعّفوا هذا الحديث، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، ونقل ذلك عن أحمد أيضاً. وأمّا قوله: لا أنالهم اللَّه شفاعتي، فكذب مزيد في الحديث، لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد

معروف» «1».

أقول:

أمّا حديث «تقتل، أو تقتله، أو تقتلك: الفئة الباغية» فحديث أخرجه مسلم وغيره من أرباب الصحاح، وهو متواتر كما نصّ عليه الأئمة المرجوع إليهم في مثل هذه الأمور، كالحافظ المزي والحافظ ابن حجر العسقلاني «2» وغيرهما.

وأما الحسين الكرابيسي- إن صحّت النسبة إليه- فرجل معروف بالإنحراف عن أهل البيت عليهم السّلام.

وأمّا نقل ذلك عن أحمد، فمن النّاقل؟ وأين؟

وأمّا قوله: «لا اللَّه شفاعتي» في الذيل، فهذا أحد أسانيده كما قال الموفّق بن أحمد الخوارزمي:

«أخبرنا الشيخ الزاهد أبو الحسن علي بن أحمد العاصمي، أخبرنا القاضي الإمام شيخ القضاة إسماعيل بن أحمد الواعظ، أخبرنا والدي أحمد بن الحسين __________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 259.

(2) تهذيب الكمال- الترجمة 4174، عمّار بن ياسر العنسي 21/ 224، تهذيب التهذيب- الترجمة 5014، عمّار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة 7/ 346.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 436

البيهقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمّد السبعي النيسابوري بها، حدّثنا أبو العبّاس الأصم، حدّثنا إبراهيم بن مرزوق، حدّثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدّثنا شعبة، عن خالد الحذاء، عن سعيد بن أبي الحسن، عن امّه، عن امّ سلمة:

إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال لعمّار: تقتلك الفئة الباغية … » «1» وفي السند غير واحدٍ من الحفّاظ والأئمة.

كذبوا علي أبي ذر وسلمان وعمّار وغيرهم … ص: 436

وإنما ذكر هؤلاء لأنّهم عرفوا في حياة النبي صلّي اللَّه عليه وآله ب «شيعة علي»، ووردت عنه الأحاديث المعتبرة في لزوم حبّهم، وأنّ الجنة تشتاق إليهم في ثلاثة أو أربعة- ورابعهم: المقداد- وعلي رأسهم علي أميرالمؤمنين عليه السّلام.

أخرج أحمد بسند صحيح عن بريدة قال «قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه عزّوجلّ يحبّ من أصحابي أربعة أخبرني أنه يحبّهم، وأمرني

أن أُحبّهم. قالوا: من هم يا رسول اللَّه؟ قال: إن عليّاً منهم وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود الكندي» «2».

وأخرجه: الترمذي، وابن ماجة، والحاكم، وأبو نعيم في الحلية، وابن الأثير في اسد الغابة، والمحبّ الطبري في الرياض النضرة، والذهبي في تلخيصه وسيره، وابن حجر في الإصابة وتهذيب التهذيب، والسّيوطي في تاريخ الخلفاء وغيرهم.

__________________________________________________

(1) المناقب- الفصل الثالث في بيان قتال أهل الشام أيّام صفين الحديث 227: 191.

(2) مسند أحمد- حديث بريدة الأسلمي، الحديث 22459، 6/ 481.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 437

عبد اللَّه بن العبّاس … ص: 437

اشارة

ونال ابن تيميّة من «عبداللَّه بن العبّاس» كثيراً، ونسب إليه واتّهمه بأشياء هو بري ء منها، وما زال يؤكّد- بأنحاء مختلفة- مفارقته ومخالفته لأمير المؤمنين عليه السلام، ونحن نذكر موارد من ذلك:

كان يفضّل أبا بكر وعمر … ص: 437

قال: «ومن عرف حال ابن عبّاس علم أنّه كان يفضّل أبا بكر وعمر علي علي رضي اللَّه عنه» «1».

«والمتواتر عنه أنّه كان يفضّل عليه أبا بكر وعمر» «2».

كان لا يوجب اتّباع علي … ص: 437

بل كان لا يوجب اتّباع علي: «إنّ علماء العترة- كان عبّاس وغيره- لم يكونوا يوجبون اتّباع علي في كلّ ما يقوله … » «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 317.

(2) منهاج السنة 7/ 232.

(3) منهاج السنة 7/ 395.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 438

كان يفتي بقولهما ويقدّمه … ص: 438

بل كان يفتي بقول أبي بكر وعمر ويقدّمه علي قول غيره: «وثبت عن ابن عبّاس أنه كان يفتي بكتاب اللَّه، فإن لم يجد فبما في سنّة رسول اللَّه، فإن لم يجد أفتي بقول أبي بكر وعمر، ولم يكن يفعل ذلك بعثمان ولا بعلي. وابن عبّاس هو حبر الامّة وأعلم الصحابة في زمانه، وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر مقدّماً لهما علي قول غيرهما، وقد ثبت عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه قال: اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» «1».

كان يوالي غير شيعة علي … ص: 438

بل إنّ ابن عبّاس كان يوالي غير شيعة علي: «من المعلوم المتواتر: إنّ ابن عبّاس كان يوالي غير شيعة علي، أكثر ممّا يوالي كثيراً من الشيعة، حتي الخوارج كان يجالسهم ويفتيهم ويناظرهم» «2».

كان يعيب عليا … ص: 438

بل كان يعيب عليّاً!! «وله معايبات يعيب بها عليّاً، ويأخذ عليه في أشياء من اموره … ومن الثابت عن ابن عبّاس أنّه كان يفتي- إذا لم يكن معه نص- بقول أبي بكر وعمر، فهذا اتّباعه لأبي بكر وعمر، وهذه معارضته لعلي» «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 503.

(2) منهاج السنة 7/ 262.

(3) منهاج السنة 7/ 232- 233.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 439

أخذه أموال البصرة وقوله لعلي: ما فعلته دون ما فعلته من سفك دماء المسلمين … ص: 439

بل ذكر: «وقد ذكر غير واحد- منهم الزبير بن بكّار- مجاوبته لعلي لمّا أخذ ما أخذ من مال البصرة، فأرسل إليه رسالةً فيها تغليظ عليه، فأجاب علياً بجواب يتضمّن: أن ما فعلتُه دون ما فعلته من سفك دماء المسلمين علي الإمارة، ونحو ذلك» «1».

كونه تلميذ علي، باطل، ونازع عليّاً في مسائل … ص: 439

وذكر أنّ «قوله: ابن عبّاس تلميذ علي، كلام باطل، فإنّ رواية ابن عبّاس عن علي قليلة، وغالب أخذه عن: عمر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وغيرهم من الصّحابة، وكان يفتي بقول أبي بكر وعمر، ونازع عليّاً في مسائل» «2».

«وهذا ابن عبّاس، نقل عنه من التفسير ما شاء اللَّه بالأسانيد الثابتة، ليس في شي ء منها ذكر علي. وابن عبّاس يروي عن غير واحدٍ من الصّحابة، يروي عن: عمر، وأبي هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، وعن زيد بن ثابت، وابيّ بن كعب، واسامة بن زيد، وغير واحد من المهاجرين والأنصار، وروايته عن علي قليلة جدّاً، ولم يخرّج أصحاب الصحيح شيئاً من حديثه عن علي» «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 233.

(2) منهاج السنة 7/ 536.

(3) منهاج السنة 8/ 42.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 440

معني قوله: الرزيّة كلّ الرزيّة … ص: 440

وقال العلامة: «وروي أصحاب الستّة من مسند ابن عبّاس: إن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال في مرض موته: إئتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم كتاباً لا تضلّون به بعدي. فقال عمر: إن الرجل ليهجر، حسبنا كتاب اللَّه، فكثر اللّغط، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: اخرجوا عنّي لا ينبغي التنازع لديّ.

فقال ابن عبّاس: الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم».

فأجاب ابن تيميّة:

«وأمّا قصّة الكتاب الذي كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يريد أن يكتبه فقد جاء مبيّناً … والنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قد عزم علي أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة، فلمّا رأي أن الشك قد وقع، علم أنّ الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة، وعلم أنّ اللَّه يجمعهم علي ما عزم عليه كما قال: ويأبي

اللَّه والمؤمنون إلّا أبا بكر.

وقول ابن عبّاس: إن الرزيّة … يقتضي أنّ هذا الحائل كان رزيّة، وهو رزيّة في حقّ من شك في خلافة الصدّيق أو اشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك، فأمّا من علم أنّ خلافته حق فلا رزيّة في حقه، وللَّه الحمد.

ومن توهّم أنّ هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضالٌّ باتّفاق عامّة الناس من علماء السنّة والشيعة. أما أهل السنة فمتّفقون علي تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأمّا الشيعة القائلون بأنّ علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون: إنه قد نصَّ علي إمامته قبل ذلك نصّاً جليّاً ظاهراً معروفاً، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلي كتاب» «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 23- 25.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 441

«وهذا الحديث الصحيح، فيه همّه بأن يكتب لأبي بكر كتاباً بالخلافة لئلّا يقول قائل: أنا أولي … وقد أراد النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم ذلك مرّتين في مرضه..

ولهذا قال ابن عبّاس: إن الرزيّة … فإن ذلك رزيّة في حقّ من شك في خلافة الصدّيق وقدح فيها … » «1».

أقول:

قد تقدّم في غضون البحوث السّابقة ما يبيّن كذب ابن تيميّة في عدّة من الامور التي نسبها إلي ابن عبّاس، وحاصل ذلك: إنّه كان من أقرب تلامذة الإمام وأصحابه وأنصاره، المفضّلين له علي غيره، والمطيعين له في جميع الشئون، وقد ذكرنا في (الشرح) أنّه كان علي قول أميرالمؤمنين عليه السلام في المتعتين، وما نسب إليه من المخالفة فكذب موضوع، وكذا قضيّة تصرّفه في أموال البصرة، كما بيّنا هناك واقع الحال في كلمته: الرزيّة كلّ الرزيّة …

زيد بن علي بن الحسين … ص: 441

كان يتولّي أبا بكر وعمر … ص: 441

وقال بالنسبة إلي زيد بن علي بن الحسين- رضي اللَّه عنه-: «كان ممن يتولّي أبا بكر وعمر»

«2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 571- 573.

(2) منهاج السنة 6/ 341.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 442

قال: «وأيضاً، فليست ذريّة فاطمة كلّهم محرّمين علي النار، بل فيهم البرّ والفاجر، والرافضة تشهد علي كثير منهم بالكفر والفسوق، وهم أهل السنّة منهم المتولّون لأبي بكر وعمر، كزيد بن علي بن الحسين وأمثاله من ذريّة فاطمة … » «1».

أولاد الأئمّة وأعلام بني هاشم … ص: 442

يفضّلونهما علي علي … ص: 442

وفي النصّ السابق أضاف كلمة «أمثاله» فقط، والمدّعي أنهم «يتولّون».

لكنّه في بعض المواضع يصرّح بالتفضيل وينسبه إلي جميع بني هاشم … لاحظ عبارته التالية:

«انّ العترة لم تجتمع علي إمامته ولا أفضليته، بل أئمة العترة كابن عبّاس وغيره يقدّمون أبا بكر وعمر في الإمامة والأفضلية، وكذلك سائر بني هاشم من العباسيّين والجعفريّين وأكثر العلويين، وهم مقرّون بإمامة أبي بكر وعمر …

والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت، من بني هاشم، من التابعين وتابعيهم، من ولد الحسين بن علي وولد الحسن وغيرهما: إنهم كانوا يتولّون أبا بكر وعمر، وكانوا يفضلونهما علي علي، والنقول عنهم ثابتة متواترة» «2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 63- 64.

(2) منهاج السنة 7/ 396.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 443

محمّد بن أبي بكر … ص: 443

اشارة

ولكون محمّد بن أبي بكر «رضي اللَّه عن محمّد» من خلّص شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام، فقد عاداه القوم، وحاولوا التنقيص منه، واتّهموه بما لا يليق، ونسبوا إليه القبيح:

أتي حدّاً فجلده عثمان فبقي في نفسه عليه … ص: 443

قال: «يقال إنه أتي حدّاً فجلده عثمان عليه، فبقي في نفسه علي عثمان، لِما كان في نفسه من تشرّفه بأبيه أبي بكر، فلما قام أهل الفتنة علي عثمان قالوا: إنه كان معهم، وإنّه دخل عليه وأخذ بلحيته، وأن عثمان قال له: لقد أخذت مأخذاً عظيماً ما كان أبوك ليأخذه. ويقال: إنه رجع لما قال له ذلك، وأن الذي قتل عثمان كان غيره» «1».

كان من رجال الفتنة … ص: 443

قال: «ثم إنه كان مع علي في حروبه وولّاه مصر، فقتل بمصر، قتله شيعة عثمان لما كانوا يعلمون أنه كان من الخارجين عليه، وحرق في بطن حمار، قتله معاوية بن خديج.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 375.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 444

والرافضة تغلو في تعظيمه علي عادتهم الفاسدة في أنهم يمدحون رجال الفتنة الذين قاموا علي عثمان، ويبالغون في مدح من قاتل مع علي، حتي يفضّلون محمّد بن أبي بكر علي أبيه أبي بكر، فيلعنون أفضل الامة بعد نبيّها، ويمدحون ابنه الذي ليس له صحبة ولا سابقة ولا فضيلة.. وهم يعظّمونه، وابنه القاسم بن محمّد وابن ابنه عبد الرحمن بن القاسم، خير عند المسلمين منه، ولا يذكرونهما بخير، لكونهما ليسا من رجال الفتنة» «1».

معاوية خير منه وأعلم وأدين … ص: 444

ثم قال بعد كلامٍ له: «بل معاوية خير منه وأعلم وأدين وأحلم وأكرم» «2».

مروان أفضل منه … ص: 444

بل سعي لتفضيل مروان عليه، فإنّه قال: «وليس مروان أولي بالفتنة والشر من محمّد بن أبي بكر، ولا هو أشهر بالعلم والدين منه، بل أخرج أهل الصحاح عدّة أحاديث عن مروان، وله قول مع أهل الفتيا، واختلف في صحبته، ومحمّد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند الناس» «3».

دعت عليه عائشة فأحرق بالنار بمصر … ص: 444

وقال مدافعاً عن عائشة: «وأما العسكر الذين قاتلوها، فلو لا أنه كان في __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 375- 376.

(2) منهاج السنة 4/ 377.

(3) منهاج السنة 6/ 245- 255.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 445

العسكر محمّد بن أبي بكر مدّ يده إليها، لمدّ يده إليها الأجانب، ولهذا دعت عائشة علي من مدّ يده إليها وقالت: يد من هذه؟ أحرقها اللَّه بالنار، فقال: أي اخيّة في الدنيا قبل الآخرة، فقالت: في الدنيا قبل الآخرة. فاحرق بالنار بمصر» «1».

الأشتر النخعي وهاشم المرقال وأمثالهما … ص: 445

وطعن في رجال أميرالمؤمنين عليه السّلام وامراء جيشه، بأنّهم كانوا غير- مرضيّين عند أميرالمؤمنين، وكان يريد قمعهم إلّا أنه لم يمكنه، وقَرَنَهم بمثل الأشعث بن قيس … وهذه عبارته: «ثم كان من نعم اللَّه سبحانه ورحمته بالإسلام أنّ الدولة لمّا انتقلت إلي بني هاشم صارت في بني العبّاس … وإلّا فلو تولّي والعياذ باللَّه- رافضي يسبّ الخلفاء والسّابقين الأوّلين لقلب الإسلام.

ولكن دخل في غمار الدولة من كانوا لا يرضون باطنه، ومن كان لا يمكنهم دفعه، كما لم يمكن عليّاً قمع الامراء الذين هم أكابر عسكره، كالأشعث بن قيس، والأشتر النخعي، وهاشم المرقال، وأمثالهم» «2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 355.

(2) منهاج السنة 8/ 239- 240.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 446

المختار بن أبي عبيدة … ص: 446

كذّابٌ ادّعي النبوة … ص: 446

وتناول المختار بن أبي عبيدة الثقفي بالسبّ والشتم والبهتان … لا لشي ء، وإنّما لقتله قتلة أبي عبد اللَّه الحسين السّبط الشهيد … قال:

«والمنتصرون لعثمان: معاوية وأهل الشام. والمنتصرون من قتلة الحسين:

المختار بن أبي عبيد الثقفي وأعوانه. ولا يشك عاقل أن معاوية رضي اللَّه عنه خير من المختار، فإنّ المختار كذّاب ادّعي النبوّة، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: يكون في ثقيف كذاب ومبير. فالكذّاب هو المختار، والمبير هو الحجّاج بن يوسف … وكان المختار رجل سوء» «1».

وقال مدافعاً عن عمر بن سعد: «ثمّ غاية عمر بن سعد وأمثاله أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصيةٍ يعترف أنها معصية، وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين.

وأمّا الشّيعة فكثير منهم يعترفون بأنّهم إنّما قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام ومعاداة النبي … وأوّل هؤلاء بل خيارهم هو: المختار بن أبي عبيد الكذّاب، فإنه كان أمير الشّيعة، وقتل عبيد اللَّه بن زياد، وأظهر الإنتصار

للحسين حتي قتل قاتله، وتقرّب بذلك إلي محمّد بن الحنفيّة وأهل البيت، ثم ادّعي النبوّة وأن جبريل يأتيه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 329.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 447

قال: سيكون في ثقيف كذاب ومبير، فكان الكذّاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي.

الحجاج خير من المختار … ص: 447

ومن المعلوم أنّ عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين- مع ظلمه وتقديمه الدنيا علي الدين- لم يصل في المعصية إلي فعل المختار بن أبي عبيد الذي أظهر الانتصار للحسين وقتل قاتله، بل كان هذا أكذب وأعظم ذنباً من عمر بن سعد.

فهذا الشيعي شرّ من ذلك الناصبي.

بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد، فإن الحجاج كان مبيراً كما سماّه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، يسفك الدّماء بغير حق، والمختار كان كذّاباً يدّعي النبوّة وإتيان جبريل إليه، وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس، فإن هذا كفر، وإن كان لم يتب منه كان مرتدّاً، والفتنة أعظم من القتل» «1».

أقول:

إن جميع ما ذكره عن بني هاشم وعبداللَّه بن العبّاس وزيد بن علي ومحمّد بن أبي بكر، والأشتر والمرقال، والمختار … كلّه سباب وأكاذيب وافتراءات لا أساس لشي ءٍ منها من الصحّة، وفي بعضها دلالة علي ذلك، لأنك تري مثلًا- في كلامه عن «محمّد بن أبي بكر» لا يذكر روايةً منقولةً عن كتاب، ولا يأتي بشاهدٍ من كلامٍ لأحد، وإنما فيه «يقال» و «قالوا» ونحو ذلك … وفي كلامه عن «الاشتر» و «المرقال» يخبر عن باطنهما وعن باطن أميرالمؤمنين، وأنّه لم يمكنه قمعهما، والحال أنهما من أعلام المجاهدين معه حتي آخر لحظة!!

والشي ء المهمُّ

الذي ينبغي الكلام عليه هو تطبيقه حديث: «إنّ في ثقيف __________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 68- 71.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 448

كذّاباً ومبيراً» علي المختار والحجّاج، بأن يكون «الكذّاب» هو «المختار» لكونه ادّعي نزول الوحي عليه، «والمبير» هو الحجّاج، لكونه أهلك ناساً وسفك دماءً لا تحصي

وقد فسّر غيره أيضاً الحديث المذكور بهذا المعني … فهما وصفان لرجلين.

لكنّ منهم من يجعل من أخبر عنه النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم رجلًا واحداً اجتمع فيه الوصفان فقال: هو المختار لكونه كذب بادّعاء الوحي، وقتل قتلة الحسين عليه السلام …

وقائل هذه المقالة أشدّ تعصّباً، لكونه يري المقتصّ من قتلة الحسين عليه السّلام «مبيراً»، وينسب ذلك إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كاذباً عليه!!

لكنّ وصف «المختار» بشي ءٍ من الوصفين باطل، إذ لا دليل علي ادّعائه الوحي إطلاقاً، كما أنّ وصفه ب «المبير» - وهو صفة ذم- باطلٌ، لأنّه إنما قتل قتلة الإمام الحسين عليه السلام، وشفي بفعله صدور النبي وأهل بيته وصدور قومٍ مؤمنين.

بل الحق أنّ «الكذّاب المبير» هو «الحجّاج». أمّا كونه «مبيراً» فمعلوم عند الكلّ، وأمّا ادّعاؤه الوحي، فقد رواه أهل السنّة أنفسهم بترجمته، وهذه بعض الأخبار في ذلك:

«قال عتّاب بن أسيد بن عتاب: لما قبض النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، جعلت امّ أيمن تبكي ولا تستريح من البكاء، فقال أبو بكر لعمر: قم بنا إلي هذه المرأة، فدخلا عليها فقالا: يا امّ أيمن ما يبكيك؟ قد أفضي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي ما هو خير له من الدنيا. فقالت: ما أبكي لذلك، إني لأعلم أنه قد أفضي إلي ما هو خير من الدنيا، ولكن أبكي علي الوحي انقطع.

دراسات في منهاج

السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 449

فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فقال: كذبت امّ أيمن، ما أعمل إلّا بوحي».

«قال عوف: خرجت يوم عيد فقلت: لأسمعنّ الليلة خطبة الحجّاج، فجئت فجلست علي الدكان، وجاء الحجاج يتمايل حتي صعد المنبر فتكلّم، وكان إذا أكثر وضع يده علي فيه حتي يفهمنا كلامه، ثم قال:

… تزعمون- يا أهل العراق- إن خبر السماء قد انقطع عن أميرالمؤمنين! وكذبتم- واللَّه- يا أهل العراق-، واللَّه ما انقطع خبر السماء عنه، إن عنده منه كذا وعنده منه كذا!».

«حدّث بزيع بن خالد الضبّي قال: سمعت الحجّاج يخطب، فقال في خطبته:

رسول أحدكم في حاجة أكرم عليه أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي: للَّه عليَّ ألّا اصلّي خلفك صلاةً أبداً، وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنّك معهم.

«قال عاصم: سمعت الحجاج- وهو علي المنبر- يقول: إتّقوا اللَّه ما استطعتم، ليس فيها مثوبة، واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثوبة لأمير المؤمنين عبد الملك، واللَّه لو أمرت الناس أن يخرجوا من المسجد فخرجوا من بابٍ آخر، لحلّت لي دماؤهم وأموالهم. واللَّه لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من اللَّه حلالًا.

ويا عذيري من عبد هذيل، يزعم أن قرآنه من عند اللَّه، واللَّه ما هي إلّا رجز من رجز الأعراب، ما أنزلها اللَّه عزّوجلّ علي نبيه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

«قال عوف: سمعت الحجاج يخطب وهو يقول: إن مثل عثمان عند اللَّه كمثل عيسي بن مريم، ثم قرأ هذه الآية يقرؤها ويفسّرها: «إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَي إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ» يشير إلينا بيده وإلي أهل الشام» «1».

__________________________________________________

(1) هذه الكلمات ونحوها في مختصر تاريخ دمشق- الترجمة 141- الحجاج بن يوسف بن الحكم 6/ 214- 215 وتهذيب تاريخ دمشق- ترجمة الحجاج

بن يوسف الثقفي المشهور 4/ 71- 73.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 450

هذا، وقد ذكر ابن تيمية أنّ الحجّاج تزوّج بابنة عبد اللَّه بن جعفر، فخالفته بنو اميّة وحملوه علي طلاقها. فذكر لذلك سبباً غير ما هو الواقع والحقيقة، بل الحقيقة يرويها إمام الشافعية محمّد بن إدريس:

«قال محمّد بن إدريس الشافعي: لمّا تزوّج الحجاج بن يوسف إبنة عبد اللَّه ابن جعفر، قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان: أتركت الحجاج يتزوّج ابنة عبد اللَّه بن جعفر؟ قال: نعم، وما بأس بذلك؟ قال: أشد البأس واللَّه! قال: وكيف؟ قال: واللَّه- يا أميرالمؤمنين- لقد ذهب ما في صدري علي ابن الزبير منذ تزوّجت رملة بنت الزبير. قال: فكأنّه كان نائماً فأيقظه، قال: فكتب إليه يعزم عليه في طلاقها. فطلّقها» «1».

__________________________________________________

(1) مختصر تاريخ دمشق- الترجمة 141، الحجاج بن يوسف بن الحكم 6/ 205.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 451

الباب السابع: ابن تيميّة وشيعة أهل البيت … ص: 451

اشارة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 453

مقدّمة … ص: 453

كنت أقرأ في كتاب (كتب حذّر منها العلماء) «1» فَلفَتَ نظري نقده لكتاب (هموم داعية، لمحمّد الغزالي)، وما ذكره من نظراتٍ له حوله …

لقد جاء في النظرة الاولي

«إن المؤلّف وصف نفسه علي غلاف كتابه بوصف «داعية»، وهذا الوصف لا يتحقّق لصاحبه إلّا بعد أن يستكمل عدّة صفات، من أبرزها ما ورد في قوله تعالي «ادْعُ إِلِي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

فهل هذه الصّفات تنطبق علي من أطلق للسانه العنان ليصف طائفةً من المسلمين- وهم ما يطلق عليهم (السلفيّون)- بصفاتٍ لا تليق بهم لمن عرفهم وأدرك حالهم؟

فهل الذي حصل للمؤلّف من مواقف مع أفراد قلّة من هذه الطائفة، يجوّز له ذلك أن يصفهم بهذه الصفات التي لا يرضي منها واحدةً لنفسه، فكيف يرضاها لغيره؟ وهاك بعضها:

1- ( … جهلة المحدّثين … ) ص 44.

2- ( … فكانوا للأسف بلاءً علي السنّة وفتّانين علي الإسلام كلّه … ) ص 102.

__________________________________________________

(1)

لأحد أتباع ابن تيمية في هذا العصر، يحذّر فيه من قراءة مئات الكتب المؤلّفة ضدّهم، بعد التعريف بهاوبمؤلّفيها، وهم من علماء المسلمين شيعةً وسنّةً.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 454

3- ( … الواقع أن الأمراض النفسيّة عند هؤلاء المتعصّبين … ) ص 12.

4- ( … أصحاب الفكر المختل … ) ص 21.

5- ( … عقول بها مسّ … ) ص 144.

6- ( … فكم ظلمت السنّة ممّن يتشدّقون بها … ) ص 27.

7- ( … خفاف الفقه … ) ص 106.

8- ( … الجهّال القاصرين … ) ص 141.

9- ( … إن الإسلام لا يؤخذ من أصحاب العقد النفسيّة، سواء كانت

غيرتهم من ضعفٍ جنسي أو شبق جنسي … ) ص 143.

10- ( … متكلّمين باسم الإسلام … ) ص 144.

11- ( … أعداد غفيرة من المتحدّثين في الدعوة يشبهون هذا المدرس الجهول … ) ص 150.

12- ( … إنّ فهم هؤلاء الناس للدين غريب، وإثارة هذه القضايا دون غيرها من أساسيّات الإسلام مرض عقلي، إنه ضرب من الخبال … ) ص 152.

13- ( … وإنّنا نحمي السنّة من أفهام الأرذال … ) ص 152.

14- ( … ودين اللَّه أشرف من أن يتحدّث فيه هؤلاء الحمقي … ) ص 161 ثم قال مؤلّف الكتاب المذكور:

«قلت: هذه بعض الصّفات التي وصف بها المؤلّف الجماعة السلفيّة، وأترك الحكم للقاري ء المنصف الذي يريد وجه اللَّه والدار الآخرة … » «1».

__________________________________________________

(1) كتب حذر منها العلماء- كتب تقدح في الدعوة السلفية، 39، هموم داعية، لمحمّد الغزالي، النظرة الاولي- 1/ 215- 217.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 455

ثم إنه ذكر في النظرة الرابعة ما نصّه:

«لمز الأُستاذ بعض علماء الإسلام الأفاضل الذين بذلوا حياتهم خدمة للإسلام والمسلمين، أمثال الحافظ العلامة ابن حجر العسقلاني، والشيخ محمّد بن عبد الوهاب، رحمهما اللَّه تعالي وهاك ما قاله الاستاذ بعد أن أورد قوله تعالي «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ» قال: «فهل وعي ذلك من قبل حديث الغرانيق وقال: إن تظاهر الروايات يجعل له أصلًا مّا، والقائل محدّث كبير؟

وهذا المحدّث الكبير الذي لمزه الاستاذ بعدم الوعي لم يسمّه لنا هنا، ولكن سماّه لنا في كتابٍ آخر بأنه «ابن حجر». سبحان اللَّه! حافظ علّامة عالم ربّاني، رحمه اللَّه تعالي تعتبر كتبه من أعظم الكنوز في المعارف الإسلاميّة، يلمزه الاستاذ- هداه

اللَّه- بقوله: «فهل وعي ؟ هذه الكلمة قد تقال في بعض المتعلّمين، أما جبال العلم أمثال ابن حجر رحمه اللَّه فلا أتصوّر أن الاستاذ يوافقني علي لمزهم بهذا.

ويستطرد الاستاذ قائلًا: «وقد قبل فرية الغرانيق مدّع للسلفيّة كبير، ووضعها في سيرةٍ ألّفها.

نعم، لقد أشار الشيخ محمّد بن عبد الوهاب- رحمه اللَّه- إلي قصّة الغرانيق في مختصر السيرة الذي ألّفه، ولكن هل يعني هذا الخطأ الذي لا يتجاوز ثلاثة أسطر أن يوصف صاحبه بأنه «مدّع للسلفيّة» … » «1».

أقول:

لقد انزعج هذا الرّجل عندما رأي أن أتباع ابن تيميّة وابن عبد الوهاب __________________________________________________

(1) المصدر 1/ 221- 222.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 456

يوصفون ب «الجهّال القاصرين» و «الأراذل» و «الحمقي و «أصحاب العقد النفسيّة» و «الفكر المختل» و «خفاف الفقه» وأمثال ذلك … مِن قِبَل أحد كبار العلماء والكتّاب من أهل السنّة!!

وهم- في نفس الوقت- يصفون إحدي الطائفتين الكبيرتين من المسلمين، أعني «الشيعة الإماميّة الإثني عشرية» بصفاتٍ تعتبر هذه الصفات- التي وصف بها الغزالي الجماعة المتّسمين بالسلفيّة- بالنسبة إليها لا شي ء … !!

وانزعج الرجل من وصف الحافظ ابن حجر ب «عدم الوعي» في قضيّة واحدة معيّنة، وذلك لقبوله خبراً موضوعاً أخرجه بعض أئمة أهل السنّة، يتضمّن نسبة «عدم الوعي» إلي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وذلك قدح وطعن في النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ورسالته الكريمة!!

لكنّهم- في نفس الوقت- يطيلون ألسنتهم وتخرج من أفواههم الكلمات الكبيرة بحقّ الكثيرين من رجالات الإسلام …

إنّ من لا يرضي أن يُقال فيه أقل شي ء أو يلمز بأدني لمز، كيف تصدر منه في حق المسلمين أنواع الافتراءات والإتّهامات … !!

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 457

(1) تحاملات ابن تيميّة علي الإماميّة وإتّهاماته لهم … ص: 457

اشارة

لكن القوم- في كلّ ذلك- تبع لإمامهم …

لقد أنصف ابن حجر العسقلاني- وهو «حافظ علّامة عالم رباني» أحد «جبال العلم» كما وصفه- عندما أشار إلي كتاب (منهاج السنّة) وقال: «إلّا أنّه تحامل في مواضع عديدة» «1».

ولمّا كان الغرض من هذه الدراسات: معرفة ابن تيميّة عقيدة وعلماً وعدالةً، كان من المناسب أن نشير إلي بعض كلمات ابن تيمية، وتحاملاته بحق «الشيعة» و «ابن المطهّر» صاحب (منهاج الكرامة) وغيره من أعلام الإماميّة.

فهذا- أوّلًا- جانب ممّا صدر من ابن تيميّة بحق طائفة الشيعة الإمامية الاثني عشرية:

1- ما نقله عن الشعبي … ص: 457

قال: «وهذا المصنّف سمّي كتابه (منهاج الكرامة في معرفة الإمامة) وهو خليق بأن يسمّي (منهاج الندامة)، كما أنّ من ادّعي الطهارة- وهو من الذين لم يرد اللَّه أن يطهّر قلوبهم، بل من أهل الجبت والطاغوت والنفاق- كان وصفه __________________________________________________

(1) الدرر الكامنة الترجمة 1618 الحسين بن يوسف بن المطهر الحلي 2/ 71.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 458

بالنجاسة والتكدير أولي من وصفه بالتطهير «1» …

ومن أخبر الناس بهم الشعبي وأمثاله من علماء الكوفة، وقد ثبت عن الشعبي أنه قال: ما رأيت أحمق من الخشبيّة، لو كانوا من الطير لكانوا رخماً ولو كانوا من البهائم لكانوا حمراً. واللَّه لو طلبت منهم أن يملئوا لي هذا البيت ذهباً علي أن أكذب علي علي لأعطوني، وواللَّه ما أكذب عليه أبداً.

وقد روي هذا الكلام مبسوطاً عنه أكثر من هذا، لكنّ الأظهر أنّ المبسوط من كلام غيره، كما روي أبو حفص ابن شاهين في كتاب (اللطيف في السنّة):

حدّثنا محمّد بن أبي القاسم بن هارون، حدّثنا أحمد بن الوليد الواسطي، حدّثني جعفر بن نصير الطوسي الواسطي، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، عن أبيه، قال: قال

لي الشعبي:

أحذّركم هذه الأهواء المضلّة، وشرّها الرّافضة، لم يدخلوا في الإسلام رغبةً ولا رهبة، ولكن مقتاً لأهل الإسلام وبغياً عليهم، قد حرّقهم علي- رضي اللَّه عنه- بالنار ونفاهم إلي البلدان، منهم عبد اللَّه بن سبأ، يهودي من يهود صنعاء، نفاه إلي ساباط، وعبد اللَّه بن يسار نفاه إلي خازر.

وآية ذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود. قالت اليهود: لا يصلح الملك إلّا في آل داود، وقالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلّا في ولد علي، وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل اللَّه حتي يخرج المسيح الدجال وينزل سيف من السماء، وقال الرافضة: لا جهاد في سبيل اللَّه حتي يخرج المهدي وينادي منادٍ من السماء …

واليهود لا يرون المسح علي الخفّين وكذلك الرافضة. واليهود يستحلّون أموال __________________________________________________

(1) سيأتي أنه كان يسمي «ابن المطهر» ب «ابن المنجّس».

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 459

الناس كلّهم وكذلك الرافضة … واليهود تبغض جبريل ويقولون: هو عدوّنا من الملائكة، وكذلك الرافضة يقولون: غلط جبريل بالوحي علي محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وكذلك الرافضة وافقوا النصاري في خصلة النصاري ليس لنسائهم صداق، إنما يتمتّعون بهنّ تمتّعاً، وكذلك الرافضة يتزوّجون بالمتعة، ويستحلّون المتعة.

وفضّلت اليهود والنصاري علي الرافضة بخصلتين: سئلت اليهود من خير أهل ملّتكم؟ قالوا: أصحاب موسي. وسئلت النصاري: من خير أهل ملّتكم؟

قالوا: حواريّ عيسي، وسئلت الرافضة: من شرّ أهل ملّتكم؟ قالوا: أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم، امروا بالإستغفار لهم فسبّوهم، فالسيف عليهم مسلول إلي يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، ولا- تجاب لهم دعوة، دعوتهم مدحوضة، وكلمتهم مختلقة، وجمعهم متفرق، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللَّه «1»».

قال ابن تيمية بعد نقله بطوله:

«قلت: هذا

الكلام بعضه ثابت عن الشعبي، كقوله: «لو كانت الشيعة من البهائم لكانوا حمراً، ولو كانت من الطير لكانوا رَخَماً» فإنّ هذا ثابت عنه، قال ابن شاهين: حدّثنا محمّد بن العبّاس النحوي، حدّثنا إبراهيم الحربي، حدّثنا أبو الربيع الزهراني، حدّثنا وكيع بن الجراح، حدّثنا مالك بن مغول. فذكره.

__________________________________________________

(1) هذا أحد المواضع التي ذكر فيها المشابهة بين الشيعة وبين اليهود والنصاري وهناك مواضع عديدة، سنذكر بعضها تحت عنوان يخصّ ذلك.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 460

وأمّا السّياق المذكور فهو معروف عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، عن أبيه، عن الشعبي».

ثم إنه روي الكلام المذكور- مع بعض الإختلاف- مرةً اخري بسندٍ آخر، قال:

«وروي أبو عاصم خشيش بن أصرم في كتابه، ورواه من طريقه أبو عمرو الطلمنكي في كتابه في الاصول. قال أبو عاصم: حدّثنا أحمد بن محمّد وعبد- الوارث بن إبراهيم، حدّثنا السندي بن سليمان الفارسي، حدّثني عبداللَّه بن جعفر الرقي، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، عن أبيه، قال: قلت لعامر الشعبي: ما ردّك عن هؤلاء القوم وقد كنت فيهم رأساً؟ قال … ».

قال ابن تيميّة:

«وقد روي أبو القاسم الطبري في (شرح اصول السنّة) نحو هذا الكلام، من حديث وهب بن بقية الواسطي، عن محمّد بن حجر الباهلي، عن عبد الرحمن ابن مالك بن مغول.

فهذا الأثر قد روي عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، من وجوه متعددة يصدّق بعضها بعضاً، وبعضها يزيد علي بعض».

ثمّ قال ابن تيميّة:

«لكنّ عبد الرحمن بن مالك بن مغول ضعيف».

فقال:

«وذمّ الشعبي لهم ثابت من طرق اخري لكنّه استدرك قائلًا:

«لكنّ لفظ الرافضة إنما ظهر لمّا رفضوا زيد بن علي بن الحسين، في خلافة هشام، وقصّة زيد بن

علي بن الحسين كانت بعد العشرين ومائة، سنة إحدي دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 461

وعشرين أو اثنتين وعشرين ومائة … والشعبي توفّي في أوائل خلافة هشام، أو آخر خلافة يزيد بن عبد الملك أخيه، سنة خمس ومائة أو قريباً من ذلك، فلم- يكن لفظ الرافضة معروفاً إذ ذاك، وبهذا وغيره يعرف كذب لفظ الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة.. فيكون المعبّر عنهم بلفظ الرافضة ذكره بالمعني مع ضعف عبد الرحمن، ومع أن الظاهر أن هذا الكلام إنما هو نظم عبد الرحمن بن مالك بن مغول وتأليفه، وقد سمع طرفاً منه عن الشعبي.

وسواء كان هو ألّفه أو نظمه، لما رآه من امور الشيعة في زمانه، ولما سمعه عنهم، أو لما سمع من أقوال أهل العلم فيهم، أو بعضه، أو مجموع الأمرين، أو بعضه لهذا وبعضه لهذا، فهذا الكلام معروف بالدليل، لا يحتاج إلي نقلٍ وإسناد.

وقول القائل إن الرافضة تفعل كذا وكذا، المراد به بعض الرافضة».

أقول:

لقد استغرق هذا الكلام وما قاله ابن تيمية حوله 14 صفحة من صفحات الجزء الأول من كتابه، من الصفحة 21 إلي الصفحة 36.

ثم عقّب ذلك بفصلٍ أورد فيه أموراً سماّها ب «الحماقات» «1».

فهذا ما افتتح كتابه به.

والغرض من ذلك كلّه سبّ الشّيعة وشتمهم، علي لسان أهل الكوفة، لكونهم أعرف الناس بهم!!

نعم … الغرض من ذلك هو السبّ والشتم، مع علمه واعترافه بسقوط الحكاية سنداً، لتصريحه بضعف «عبد الرحمن بن مالك بن مغول»، ومتناً، لأنّ لفظ «الرافضة» إنّما ظهر بعد موت الشّعبي …

__________________________________________________

(1) سنتعرض لها ولأمثالها في فصل خاص.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 462

فلماذا سوّد صحائفه بذكره؟

ومن هنا يقول في آخر كلامه علي السند:

«فهذا الكلام معروفٌ

بالدليل لا يحتاج إلي نقلٍ وإسناد»!!

ثم يصرّح بحصول «المقصود» - وهو «السبّ والشتم» - بنقل هذا الكلام، سواء كان ثابتاً عن الشعبي أو غير ثابت!!، إنّه يقول في الصفحة 56:

«إن المقصود أنه من ذلك الزمان القديم يصفهم الناس بمثل هذا، من عهد التابعين وتابعيهم، كما ثبت بعض ذلك، إمّا عن الشعبي، وإمّا أن يكون من كلام عبد الرحمن، وعلي التقديرين فالمقصود حاصل، فإن عبد الرحمن كان في زمن تابعي التّابعين، وإنما ذكرنا هذا لأن عبد الرحمن وكثير من الناس لا يحتج بروايته المفردة، إمّا لسوء حفظه وإمّا لتهمته في تحسين الحديث».

نعم، كان هذا هو المقصود!

ويشهد بذلك أيضاً قوله في الصفحة 44.

«وينبغي أيضاً أن يعلم أنّه ليس كلّ ما أنكره بعض الناس عليهم يكون باطلًا … » وقوله في الصفحة 57:

«لكن قد لا يكون هذا كلّه في الإمامية الاثني عشرية، ولا في الزيدية.

ولكن يكون كثير منه في الغالية».

فلماذا كلّ هذا التطويل؟

«فلنترك الحكم للقاري ء المنصف الذي يريد اللَّه والدّار الآخرة».

وهنا نقاط:

الأولي إنه إذا كان ما روي عن الشعبي يتعلّق ب «الغالية» وكان لفظ

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 463

«الرافضة» قد ظهر بعد الشعبي، كان المقصود من الفرقة التي منها «عبد اللَّه بن سبأ» و «عبد اللَّه بن يسار» غير «الإماميّة الإثني عشرية»، فلا علاقة لهذين الرجلين- بناءً علي وجودهما تاريخيّاً- بهذه الطائفة …

وعلي هذا يبطل تشنيعه عليها ب «عبداللَّه بن سبأ» في غير موضعٍ من كتابه «1».

هذا بناءً علي ثبوت الكلام عن الشّعبي.

الثانية: لكنّ هذا الكلام مكذوب موضوع علي الشّعبي، لسقوط أسانيد الخبر كلّها: فالوكيع بن الجراح، في الطريق الأول، تُكلّم فيه، لوقوعه في السّلف وشربه المسكر، ولقد أدرجه الذهبي في (ميزانه) لما ذكر

وغيره.

و «السندي بن سليمان» في الطريق الثاني، مجهول، وكذا غيره فيه.

و «محمّد بن حجر الباهلي» في الطريق الثالث، مجهول لا يعرف كذلك.

ومداره علي «عبد الرحمن بن مالك بن مغول»:

الثالثة: ولم يشر إلي كلمات أئمتهم في الجرح والتعديل في «عبد الرحمن» جهلًا أو عمداً، وقد قال فيه أبو داود: «كذّاب يضع الحديث»، وقال أحمد والدارقطني: متروك، وقال النّسائي وغيره: ليس بثقة، أورده الذهبي في (ميزانه) فنقل هذه الكلمات، ولا كلمة مدح أصلًا «2».

الرابعة: إنّه علي فرض ثبوت الكلام عن الشّعبي، فإنّ هذا الرجل لا يجوز قبول قوله في الحطّ علي الشيعة، لأنّه كان امويّ الهوي منحرفاً عن أهل البيت عليهم السلام، والشواهد علي ذلك عديدة.

__________________________________________________

(1) سنتعرّض لذلك في فصل خاص.

(2) ميزان الاعتدال- حرف العين، الترجمة 4949، عبد الرحمن بن مالك بن مغول 2/ 584.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 464

2- الرّفض ومن ابتدع مذهب الرّافضة … ص: 464

وقال ابن تيميّة:

«ولا ريب أنّ الرفض مشتق من الشرك والإلحاد والنفاق لكن تارةً يظهر لهم ذلك فيه وتارةً يخفي «1».

وكرّر القول بأنّ الذي ابتدع مذهب الرافضة كان زنديقاً … :

1- «إن الذي ابتدع مذهب الرافضة كان زنديقاً ملحداً عدوّاً لدين الإسلام وأهله، ولم يكن من أهل البدع المتأوّلين كالخوارج والقدرية، وإن كان قول الرافضة راج بعد ذلك علي قومٍ فيهم إيمان لفرط جهلهم» «2».

2- «لأنّ أصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين، مقصودهم الطعن في القرآن والرسول ودين الإسلام، فوضعوا من الأحاديث ما يكون التّصديق به طعناً في دين الإسلام، وروّجوها علي أقوام … » «3».

3- «ولا ريب أن الذي ابتدع الرفض لم يكن محبّاً للَّه ورسوله، بل كان عدوّاً للَّه» «4».

ثم إنّه نسب هذا في غير موضعٍ إلي «أهل العلم»:

«هو في

الأصل من ابتداع منافق زنديق، كما قد ذكر ذلك أهل العلم» «5».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 27.

(2) منهاج السنة 4/ 363.

(3) منهاج السنة 7/ 9.

(4) منهاج السنة 7/ 109.

(5) منهاج السنة 6/ 427.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 465

«ما زال أهل العلم يقولون: إنّ الرفض من إحداث الزنادقة الملاحدة، الذين قصدوا إفساد الدين، دين الإسلام، ويأبي اللَّه إلّا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون» «1».

«ولهذا قال أهل العلم: إن الرافضة دسيسة الزندقة وإنّه وضع عليها» «2».

ولا يخفي أنّ كلّ هذه العبارات مجملة، ولأتباع ابن تيمية أن يقولوا بأنّ المقصود من «الرافضة» غير «الشيعة الإمامية الاثني عشرية»، كما أنّ «الزنديق» و «الملحد» و «المنافق» الذي ابتدع ذلك غير معلوم … فلعلّ هناك فرقةً هي «من وضع قومٍ زنادقة منافقين … ».

أقول:

قد يقال هذا دفاعاً عن ابن تيميّة، بعد افتراض وجود فرقةٍ كذلك، لكنّ ابن تيمية لا يدع مجالًا لمثل هذا التوجيه والتأويل …

3- عبد اللَّه بن سبأ شيخ الرّافضة … ص: 465

إنه يقول:

«فإنّ أصل الرفض إنما أحدثه زنديق غرضه إبطال دين الإسلام والقدح في رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كما قد ذكر ذلك العلماء. وكان عبد اللَّه بن سبأ شيخ الرافضة لمّا أظهر الإسلام أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه، كما فعل بولص بدين النصاري فأظهر النسك ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتي __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 409.

(2) منهاج السنة 7/ 459.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 466

سعي في فتنة عثمان وقتله، ثم لمّا قدم علي الكوفة أظهر الغلوّ في علي والنصّ عليه، ليتمكّن بذلك من أغراضه، وبلغ ذلك علياً، فطلب قتله، فهرب منه إلي قرقيسيا، وخبره معروف، وقد ذكره غير واحد من العلماء …

ولهذا كانت الزنادقة

الذين قصدهم إفساد الإسلام، يأمرون بإظهار التشيّع والدخول إلي مقاصدهم من باب الشيعة، كما ذكر ذلك إمامهم صاحب (البلاغ الأكبر) و (الناموس الأعظم)».

ثم نقل كلاماً طويلًا للباقلاني في الطعن علي الباطنيّة، ثم قال:

«قلت: وهذا بيّن، فإنّ الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم، والغلاة النصيرية وغير النصيرية، إنما يظهرون التشيّع وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصاري فدلّ ذلك علي أن التشيع دهليز الكفر والنفاق» «1».

أقول:

ففي هذا الكلام بيّن «المبتدع» وعيّنه، وهو «ابن سبأ»، إلّا أنّه ربّما يقال بأنّ المقصود من «الرافضة» هم «الإسماعيلية» و «النصيرية» وأمثالهما من الغلاة، لا «الإماميّة الإثنا عشريّة» … لا سيّما وأنّه صرّح باسم هاتين الفرقتين في آخر كلامه، بل نصّ عليه في كلام آخر له حيث قال: «من أظهر الناس ردّةً: الغالية الذين حرّقهم علي رضي اللَّه عنه بالنار لمّا ادّعوا فيه الإلاهية، وهم السبائية أتباع عبد اللَّه بن سبأ» «2».

ولكنّ الواقع ليس كذلك، وإليك عبارته التالية:

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 478- 486.

(2) منهاج السنة 3/ 458- 459.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 467

«والعلماء دائماً يذكرون أن الذي ابتدع الرفض كان زنديقاً ملحداً، مقصوده إفساد دين الإسلام، ولهذا صار الرفض مأوي الزنادقة الملحدين من الغالية والمعطّلة، كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم، وأول الفكرة آخر العمل، فالذي ابتدع الرفض كان مقصوده إفساد دين الإسلام ونقض عراه وقلعه بعروشه آخراً، لكن صار يظهر منه ما يكنّه من ذلك، ويأبي اللَّه إلّا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

وهذا معروف عن ابن سبأ وأتباعه، وهو الذي ابتدع النص في علي، وابتدع أنه معصوم، فالرافضة الإماميّة هم أتباع المرتدّين، وغلمان الملحدين، وورثة المنافقين» «1».

وقال- وهو يدافع عثمان-:

«ونشأ في خلافته من دخل في الإسلام كرهاً فكان منافقاً،

مثل ابن سبأ وأمثاله، وهم الذين سعوا في الفتنة بقتله، وفي المؤمنين من يسمع المنافقين … » «2».

ثمّ إنّه نسب قتل عثمان- في غير موضعٍ- إلي الشيعة بصراحة، قال:

«أمّا الفتنة، فإنّما ظهرت في الإسلام من الشيعة، فإنهم أساس كلّ فتنة وشر، وهم قطب رحي الفتن، فإنّ أوّل فتنة كانت في الإسلام قتل عثمان» «3».

تناقضات ابن تيميّة

فههنا مطالب يتبيّن فيها تناقضات ابن تيميّة وأباطيله:

الأول: قد ذكر سابقاً عن الشعبي أن علياً عليه السلام نفي عبد اللَّه بن سبأ

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7/ 219- 220.

(2) منهاج السنة 8/ 315- 316.

(3) منهاج السنة 6/ 364.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 468

إلي ساباط، وهو يقول في كلامه «فهرب منه إلي قرقيسيا»، وبين الخبرين تكاذب.

الثاني: قد ذكر في كلامه أنّ دعوة عبد اللَّه بن سبأ إنّما ظهرت في الكوفة أيّام أميرالمؤمنين عليه السّلام، ثم اتّهم الشيعة- وعلي رأسهم ابن سبأ- بالسّعي في قتل عثمان، وهذا معناه ظهوره قبل أيام علي عليه السلام بمدّةٍ طويلة. وهذا تناقض آخر.

الثالث: إذا كان الشيعة هم الذين سعوا في قتل عثمان، فقد كان لهم من العدد والعدّة ما مكّنهم من قتله، ومن المعلوم أنّ حصول هذا العدد والعدّة يحتاج إلي مدّةٍ مديدةٍ من الزمن، وهذا يعني وجود العدد الهائل من الشيعة في عصر النبوّة وأصحاب الرسول صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

لكنّه في موضعٍ آخر ينكر أن يكون في الصّحابة شيعي، فإنه قال:

«الأحاديث التي في فضائل علي إنّما رواها الصحابة الذين قدحت فيهم، فإن كان القدح صحيحاً بطل النقل، وإن كان النقل صحيحاً بطل القدح.

وإن قال: بنقل الشيعة أو تواترهم.

قيل له: الصّحابة لم يكن فيهم من الرافضة أحد، والرافضة تطعن في جميع الصحابة إلّا نفراً

قليلًا: بضعة عشر، ومثل هذا قد يقال: إنهم قد تواطأوا علي ما نقلوه … » «1».

فهذا تناقض.

وأيضاً، فقد ذكر أن بدء التشيّع والتسمية ب «الشيعة» كان في زمن علي عليه السلام، وهذه عبارته: «إنّما سمّوا شيعة علي لمّا افترق الناس فرقتين: فرقة شايعت __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 106.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 469

أولياء عثمان، وفرقة شايعت علياً» «1».

وهذا تناقض آخر.

الرابع: لقد زعم هنا أن السّاعين في قتل عثمان: هم «الشيعة» أتباع ابن سبأ، الملحد، المنافق، الزنديق … ثم صرّح في موضعٍ آخر بما هذا نصّه:

«وأمّا السّاعون في قتله فكلّهم مخطئون، بل ظالمون باغون معتدون، وإن قدّر أن فيهم من قد يغفر اللَّه له، فهذا لا يمنع كون عثمان قتل مظلوماً» «2».

وهذا معناه أن يكون السّاعون في قتله- كلّهم- أناساً مؤمنين في نظره، فليسوا إلّا أعلام الصحابة والتابعين.

وهذا تناقض آخر منه.

بل في كلام آخر له تصريح بأنّ «أهل الشوكة» - ومراده منهم كبار الصّحابة كطلحة والزبير وسعد وأمثالهم- كان لهم ضلع في القضيّة، وهذه عبارته:

«والمباشر منهم للقتل- وإن كان قليلًا- فكان درؤهم أهل الشوكة، ولو لا ذلك لم يتمكّنوا» «3».

لا يقال: لعلّه يقصد عليّاً عليه السّلام.

لأنه قال قبل هذا الكلام: «هذا كلّه كذب علي علي رضي اللَّه عنه وافتراء عليه، فعلي رضي اللَّه عنه لم يشارك في دم عثمان ولا أمر ولا رضي» «4».

وبعد:

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 91.

(2) منهاج السنة 6/ 297.

(3) منهاج السنة 4/ 407.

(4) منهاج السنة 4/ 406.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 470

فإن الشيعة- قديماً وحديثاً- يتبرّ أوان عن عبداللَّه بن سبأ، وبعض المحقّقين من الشيعة وأهل السنّة علي أن لا وجود لهذا الرجل في التاريخ، وعلي كلّ

حال فإنّ التشيّع لعليّ عليه السلام كان مبدؤه في حياة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وكان سمةً لعدّةٍ من مشاهير أصحابه، وسندلّل علي ذلك في موضعه، مع التعرّض لمكابرة ابن تيميّة.

ثم إن ابن سبأ أقل وأحقر من أن يتّبعه أحدٌ من الشّيعة في عقائدهم، أو واحد من الصّحابة والتابعين في قضاياهم، كقيامهم ضدّ عثمان بن عفان وقتله، وفي العبارات التي نقلناها عن ابن تيمية شواهد علي ذلك.

4- الشيعة تتولّي مسيلمة … ص: 470

ومن الشّواهد- علي أن دعوي ابن تيمية بكون الشيعة أتباعاً لابن سبأ فرية محضة- زعم هذا المفتري أنّ الشيعة يتولّون مسيلمة الكذّاب وأتباعه من المرتدّين، وهذه عبارته:

«أشهر الناس بالردّة خصوم أبي بكر الصدّيق- رضي اللَّه عنه- وأتباعه، كمسيلمة الكذّاب وأتباعه وغيرهم، وهؤلاء تتولّاهم الرافضة، كما ذكر ذلك غير واحدٍ من شيوخهم، مثل هذا الإمامي وغيره، ويقولون: إنّهم كانوا علي الحق، وأنّ الصدّيق قاتلهم بغير حق» «1».

أقول:

وهل فوق هذا سبٌ وشتم؟

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 3/ 458.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 471

وماذا تقول لمن لا يخشي اللَّه والدار الآخرة؟ إنّ الذين تقول الشيعة- إستناداً إلي الأدلّة والشواهد وأقوال المؤرّخين كابن جرير الطبري وغيره- بأنّ أبا بكر قتلهم بغير حق: هم مالك بن نويرة وعشيرته … كما سنفصّل الكلام في بيان واقع الأمر في قضيّتهم في الموضع المناسب له من (الشرح).

5- حماقات الشّيعة … ص: 471

وذكر ابن تيميّة أُموراً عزاها إلي الشيعة وجعلها من حماقاتهم، قال:

«وأما سائر حماقاتهم فكثيرة جدّاً:

مثل: كون بعضهم لا يشرب من نهر حفره يزيد …

ومثل: كونهم يكرهون التكلّم بلفظ العشرة أو فعل شي ء يكون عشرة، حتي في البناء لا يبنون علي عشرة أعمدة، ولا بعشرة جذوع، ونحو ذلك، لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنّة …

وكذلك هجرهم لاسم أبي بكر وعمر وعثمان، ولمن يتسمّي بذلك، حتي أنهم يكرهون معاملته … ثمّ مع هذا، إذا تسمي الرجل عندهم باسم علي أو جعفر أو حسن أو حسين أو نحو ذلك، عاملوه وأكرموه …

ومن حماقاتهم أيضاً أنهم يجعلون للمنتظر عدّة مشاهد ينتظرونه فيها، كالسّرداب الذي بسامراء، الذي يزعمون أنه غاب فيه، ومشاهد اخر، وقد يقيمون هناك دابةً- إما بغلة وإمّا فرساً وإمّا غير ذلك- ليركبها إذا خرج،

ويقيمون هناك- إمّا في طرفي النهار وإما في أوقات اخر- من ينادي عليه بالخروج: يا مولانا اخرج يا مولانا اخرج، ويشهرون السلاح، ولا أحد هناك يقاتلهم، وفيهم من يقوم في أوقات الصلاة دائماً لا يصلّي خشية أن يخرج وهو في الصلاة، فيشتغل بها

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 472

عن خروجه وخدمته، وهم في أماكن بعيدة عن مشهده، كمدينة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، إمّا في العشر الأواخر من شهر رمضان، وإمّا في غير ذلك، يتوجّهون إلي المشرق وينادونه بأصواتٍ عالية يطلبون خروجه …

ومن حماقاتهم تمثيلهم لمن يبغضونه بالجماد أو حيوان، ثم يفعلون بذلك الجماد والحيوان ما يرونه عقوبةً لمن يبغضونه، مثل اتّخاذهم نعجة- وقد تكون نعجة حمراء، لكون عائشة تسمي الحميراء- يجعلونها عائشة ويعذّبونها بنتف شعرها وغير ذلك، ويرون أن ذلك عقوبة لعائشة. ومثل اتخّاذهم حِلساً مملوءاً سمناً ثم يبعجون بطنه فيخرج السّمن فيشربونه ويقولون: هذا مثل ضرب عمر وشرب دمه. ومثل تسمية بعضهم لحمارين من حُمر الرحا أحدهما بأبي بكر والآخر بعمر، ثم يعاقبون الحمارين جعلًا منهم تلك العقوبة عقوبةً لأبي بكر وعمر …

ومن حماقتهم إظهارهم لما يجعلونه مشهداً، فكم كذبوا الناس وادّعوا أن في هذا المكان ميتاً من أهل البيت، وربما جعلوه مقتولًا، فيبنون ذلك مشهداً، وقد يكون ذلك قبر كافر أو قبر بعض الناس، ويظهر ذلك بعلامات كثيرة …

ومن حماقاتهم إقامة المأتم والنياحة علي من قد قتل من سنين عديدة …

وحماقاتهم يطول وصفها لا يحتاج إلي أن تنقل بإسناد» «1».

* وأعاد ذكر هذه الامور مرةً أخري فقال:

«إن فيهم من حرّم لحم الجمل، لأن عائشة قاتلت علي جمل …

ومن تعصّبهم: إنّهم لا يذكرون اسم العشرة …

وكذلك من جهلهم وتعصّبهم أنّهم يبغضون

أهل الشام، لكونهم كان فيهم __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 38- 55 ملخصاً.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 473

أوّلًا من يبغض عليّاً …

وكذلك من جهلهم أنهم يذمّون من ينتفع بشي ء من آثار بني اميّة، كالشرب من نهر يزيد …

ومن فرط جهلهم وتعصّبهم أنهم يعمدون إلي يومٍ أحبّ اللَّه صيامه فيرون فطره، كيوم عاشوراء …

ومن فرط جهلهم وتعصّبهم أنّهم يعمدون إلي دابّةٍ عجماء، فيؤذونها بغير حق … » «1».

* وكرّر هذه القضايا مرةً ثالثة حيث قال:

«وكذلك كراهتهم لأسماء، نظير أسماء من يبغضونه، ومحبّتهم لأسماء نظير أسماء من يحبّونه، من غير نظرٍ إلي المسمّي وكراهتهم لأن يُتكلّم أو يعمل بشي ءٍ عدده عشرة، لكراهتهم نفراً عشرة، واشتفاؤهم ممّن يبغضونه كعمر وعائشة وغيرهما، بأن يقدّروا جماداً كالحيس أو حيواناً كالشاة الحمراء، أنه هو الذي يعادونه، ويعذّبون تلك الشاة تشفّياً من العدو، من الجهل البليغ الذي لم يعرف عن غيرهم.

وكذلك إقامة المآتم والنوح، ولطم الخدود وشق الجيوب وفرش الرماد وتعليق المسوح وأكل المالح حتي يعطش ولا يشرب ماء، تشبّهاً بمن ظلم وقتل وإقامة مأتم بعد خمسمائة أو ستمائة سنة من قتله، لا يعرف لغيرهم من طوائف الامّة» «2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 138- 149. ملخصاً.

(2) منهاج السنة 5/ 176- 177.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 474

تناقضات ابن تيميّة

أمّا صيام يوم عاشوراء، فقد ورد في روايات أهل البيت عليهم السّلام أيضاً، لكنّ أتباعهم يمسكون في هذا اليوم عن الأكل والشرب حزناً علي سيّد الشهداء وأهل بيته وأنصاره وتأسّياً بهم، فالقول بأنّهم يرون إفطاره كذبٌ عليهم، وأتباع آل أبي سفيان يصومونه سروراً بقتل سبط النبيّ وسيد شباب أهل الجنّة.

وأمّا إقامة المأتم علي هذا الإمام الشهيد المظلوم، فتلك سنة جدّه

الطاهر وآله وأصحابه، وليس المانع إلّا عمر.

وأمّا سائر الأمور التي ذكرها ونسبها إلي الشّيعة، فكلّها كذبٌ عليهم، وابن تيميّة عالمٌ بأنه يكذب عليهم فيها، ولذا يقول في أحد الموارد التي عنون فيها هذه القضايا:

«وممّا ينبغي أن يعرف أن ما يوجد في جنس الشيعة من الأقوال والأفعال المذمومة وإن كان أضعاف ما ذكر، لكن قد لا يكون هذا كلّه في الإماميّة الاثني عشرية، ولا في الزيدية، ولكن يكون كثير منه في الغالية، وفي كثير من عوامهم» «1».

وأيضاً، فإنّه يشنّع علي الشيعة ببعض القضايا التي نسبها إليهم، ومع ذلك ينصّ بالتالي علي أن هذا قول عوامهم، وعلماؤهم لا يقولون ذلك!! فانظر إلي كلامه الآتي:

«مثل ما يذكر عنهم من تحريم لحم الجمل، وأن الطّلاق يشترط فيه رضا

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 57.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 475

المرأة، ونحو ذلك، ممّا يقوله بعض عوامهم، وإن كان علماؤهم لا يقولون ذلك» «1».

فيلاحظ:

أولًا: يقول هنا: «مثل يُذكر عنهم» فكأنه يريد الخروج عن عهدة المطلب، مع أنه نسب إلي الشيعة هذه الامور جازماً بالنّسبة «2».

وثانياً: لقد نسب هذا القول إلي كلّ الفرقة، ويقول هنا «يقوله بعض عوامهم» وحتي لا كلّهم!!

وثالثاً: إنّه ينصُّ علي أنّه «كان علماؤهم لا يقولون ذلك» وحتّي لا بعضهم!! فلماذا هذه الشّتائم؟!

«وأترك الحكم للقاري ء المنصف الذي يريد اللَّه والدار الآخرة»!

6- المشابهات بين الشّيعة وبين اليهود والنّصاري … ص: 475

وشبّه ابن تيميّة الشّيعة باليهود والنصاري في وجوهٍ كثيرة زعمها!! تجد ذلك في كتابه في مواضع عديدة من أجزائه، نذكر هنا نصوص عباراته في بعضها:

«والإسلام مبني علي أصلين: أن لا نعبد إلّا اللَّه، وأن نعبده بما شرع، لا- نعبده بالبدع. فالنصاري خرجوا عن الأصلين، وكذلك المبتدعون من هذه الامّة من الرافضة وغيرهم.

وأيضاً، فإنَّ النصاري يزعمون أن

الحواريّين الذين اتّبعوا المسيح أفضل من إبراهيم وموسي وغيرهما من الأنبياء والمرسلين … والرافضة تجعل الأئمة الاثني __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 57.

(2) وانظر أيضاً: منهاج السنة 5/ 176 وفيه النسبة القطعية الي «كثير من عوامهم».

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 476

عشر أفضل من السّابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وغاليتهم يقولون:

إنهم أفضل من الأنبياء، لأنهم يعتقدون فيهم الإلهيّة كما اعتقدته النصاري في المسيح.

والنصاري يقولون: إنّ الدين مسلَّم للأحبار والرهبان، فالحلال ما حلّلوه والحرام ما حرّموه، والدّين ما شرّعوه. والرافضة تزعم أنّ الدين مسلَّم إلي الأئمة، فالحلال ما حلّلوه والحرام ما حرّموه والدّين ما شرّعوه.

وأمّا من دخل في غلوّ الشيعة كالإسماعيليّة، الذين يقولون بإلهيّة الحاكم ونحوه من أئمتهم ويقولون: إنّ محمّد بن إسماعيل نسخ شريعة محمّد بن عبداللَّه، وغير ذلك من المقالات التي هي من مقالات الغالية من الرافضة، فهؤلاء شرّ من أكثر الكفار من اليهود والنصاري والمشركين، وهم ينتسبون إلي الشيعة يتظاهرون بمذاهبهم» «1».

أقول:

لا ريب أنّ مراده من «الرافضة» في هذا الكلام هم «الاثنا عشرية»، لأنّ من عقيدة الشيعة الاثني عشرية أنّ الأئمة الاثني عشر أفضل من جميع أصحاب النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ولهم علي ذلك أدلّة وبراهين من الكتاب والسنّة وغيرهما، ذكر العلّامة طرفاً منها في كتاب (منهاج الكرامة). وأين هذا من تفضيل النصاري إن صحّ عنهم- الحواريين علي الأنبياء والمرسلين، ولا سيّما إبراهيم وموسي وغيرهما من أولي العزم؟!

بل إنهم يقولون «إنهم أفضل من الأنبياء» وهذا ليس بغلوّ، وإنّما للأدلّة

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 481- 482.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 477

المقتضية ذلك، ولا «لأنهم يعتقدون فيهم الإلهيّة كما اعتقدته النصاري في المسيح» لأنّ الإمامية الاثني عشرية لا يعتقدون

في الأئمّة الإلهيّة، وابن تيميّة يعلم بذلك ولا- ينكره.

* وقال ابن تيميّة في جواب قول العلّامة: «فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغيرحق، وبايعه أكثر الناس طلباً للدنيا» قال: «أهل السنّة مع الرافضة كالمسلمين مع النصاري فإنّ المسلمين يؤمنون بأنّ المسيح عبد اللَّه ورسوله ولا- يغلون فيه غلوّ النصاري ولا يجفون جفاء اليهود، والنصاري تدّعي فيه الإلهيّة وتريد أن تفضّله علي محمّد وإبراهيم وموسي، بل تفضّل الحواريين علي هؤلاء الرسل، كما تريد الروافض أن تفضّل من قاتل مع علي كمحمّد بن أبي بكر والأشتر النخعي علي أبي بكر وعمر وعثمان، وجمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار …

ولهذا كانت الرافضة من أجهل الناس وأضلّهم، كما أنّ النصاري من أجهل النّاس، والرّافضة من أخبث النّاس كما أنّ اليهود من أخبث الناس، ففيهم نوع من ضلال النصاري ونوع من خبث اليهود» «1».

* وقال في مبحث عصمة الأنبياء، وهو قول الإمامية الاثني عشرية:

«وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهلٍ، كما قصدت النصاري تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل، فأشركوا بهم واتّخذوهم أرباباً من دون اللَّه، وأعرضوا عن اتّباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه. وكذلك الغلاة في العصمة، يعرضون عمّا امروا به من طاعة أمرهم والإقتداء بأفعالهم، إلي ما نهوا عنه من الغلوّ والإشراك بهم،

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 55، 65.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 478

فيتّخذونهم أرباباً من دون اللَّه، يستغيثون بهم في مغيبهم وبعد مماتهم وعند قبورهم، ويدخلون فيما حرّمه اللَّه تعالي ورسوله من العبادات الشركية التي ضاهوا بها النصاري … » «1» ثم عرّج علي زيارة القبور وبناء المشاهد … كما ذكرنا في محلّه.

* وقال في عصمة الأئمة: «وأما عصمة الأئمة، فلم يقل بها إلّا- كما قال- الإمامية والإسماعيلية، وناهيك بقولٍ

لم يوافقهم عليه إلّا الملاحدة المنافقون الذين شيوخهم الكبار أكفر من اليهود والنصاري والمشركين.

وهذا دأب الرافضة، دائماً يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلي اليهود والنصاري والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك، فهل يوجد أضلّ من قومٍ يعادون السّابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، ويوالون الكفار والمنافقين، وقد قال اللَّه … فهذه الآيات نزلت في المنافقين، وليس المنافقون في طائفةٍ أكثر منهم في الرافضة، حتي أنه ليس في الروافض إلّا من فيه شعبة من شعب النّفاق» «2».

* وقال في الجواب عن قول العلّامة: «إن عائشة كانت في كلّ وقتٍ تأمر بقتل عثمان … » قال: «ما ظهر من عائشة وجمهور الصحابة وجمهور المسلمين من الملام لعلي!! أعظم ممّا ظهر منهم من الملام لعثمان!! … نحن لسنا ندّعي لواحدٍمن هؤلاء العصمة من كلّ ذنب.. ونقول: إنّ الذنوب جائزة علي من هو أفضل منهم من الصدّيقين ومن هو أكبر من الصدّيقين «3»!! ولكنّ الذنوب يرفع عقابها بالتوبة

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 435.

(2) منهاج السنة 3/ 374- 375.

(3) ومن هو «الأكبر من الصديقين» غير الأنبياء؟ أليس هذا الكلام ظاهراً في تجويز الذنوب والمعاصي علي الأنبياء والمرسلين؟!

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 479

والإستغفار …

والكلام في الناس يجب أن يكون بعلمٍ وعدل «1»!!

* وقال: «فالشيعة القائلون بالإمام المعصوم ونحوهم من أبعد الطوائف عن اتّباع هذا المعصوم … ولهذا كانوا يشبهون اليهود في أحوال كثيرة … ولابدّ لهم من نسبةٍ إلي الإسلام يظهرون بها خلاف ما في قلوبهم» «2».

* وقال في العناية بالحديث: «والرافضة أقلّ معرفة وعناية بهذا … وهم في ذلك شبه باليهود والنصاري فإنه ليس لهم إسناد، والإسناد من خصائص هذه الامّة، وهو من خصائص الإسلام، ثم هو في

الإسلام من خصائص أهل السنّة … » «3».

* وقال في الكلام علي آية المباهلة: «فقد تبيّن أن الآية لا دلالة فيها أصلًا علي مطلوب الرافضي، لكنه وأمثاله ممن في قلبه زيغ، كالنصاري الذين يتعلّقون بالألفاظ المجملة، ويدعون النصوص الصريحة» «4».

* وقال: «والنصاري يكثر فيهم المفترون للكذب علي اللَّه، واليهود يكثر فيهم المكذّبون بالحق … وهذا وإن كان يوجد في عامّة الطوائف شي ء منه، فليس في الطوائف أدخل في ذلك من الرافضة، فإنّها أعظم الطوائف كذباً علي اللَّه وعلي رسوله، وعلي الصحابة وعلي ذوي القربي وكذلك هم من أعظم الطوائف تكذيباً

__________________________________________________

(1) يلاحظ: أنّه عندما يصل البحث إلي أنّ عائشة كانت تأمر بقتل عثمان يقول: «الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهلٍ وظلم» كأنّ الإمامية الاثني عشرية ليسوا من «النّاس»؟

(2) منهاج السنة 6/ 417.

(3) منهاج السنة 7/ 37.

(4) منهاج السنة 7/ 128.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 480

بالصدق، فيكذبون بالصّدق الثابت المعلوم من المنقول الصحيح والمعقول الصريح» «1».

* وقال: «وأيضاً: فالإسلام عند الإماميّة هو ما هم عليه، وهم أذلّ فرق الامّة، فليس في أهل الأهواء أذلّ من الرافضة ولا أكتم لقوله منهم، ولا أكثر استعمالًا للتقيّة منهم، وهم علي زعمهم شيعة الاثني عشر، وهم في غاية الذلّ، فأيّ عزّ للإسلام بهؤلاء الاثني عشر علي زعمهم؟! وكثير من اليهود إذا أسلم يتشيّع، لأنه رأي في التوراة ذكر الاثني عشر، فظنّ أن هؤلاء هم أولئك، وليس الأمر كذلك، بل الاثنا عشر هم الذين ولّوا علي الامّة من قريش ولايةً عامّة، فكان الإسلام في زمنهم عزيزاً، وهذا معروف» «2».

7- الرافضة لا تعتني بالقرآن والسنّة … ص: 480

وقال ابن تيميّة ما نصّه: «والرافضة لا تعتني بحفظ القرآن ومعرفة معانيه وتفسيره، وطلب

الأدلة الدالّة علي معانيه، ولا تعتني أيضاً بحديث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، ومعرفة صحيحه من سقيمه، والبحث عن معانيه، ولا تعتني بآثار الصحابة والتابعين حتي تعرف مآخذهم ومسالكهم، ويرد ما تنازعوا فيه إلي اللَّه والرّسول.

بل عمدتها آثار تنقل عن بعض أهل البيت، فيها صدق وكذب … » «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 193.

(2) منهاج السنة 8/ 242.

(3) منهاج السنة 5/ 163- 164.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 481

8- الرافضة لا تصلّي جمعة ولا جماعة مطلقا … ص: 481

قال: «والرافضة لا تصلّي جمعة ولا جماعة، لا خلف أصحابهم ولا غير أصحابهم، ولا يصلّون إلّا خلف المعصوم، ولا معصوم عندهم … » «1».

9- المقارنة بين الشيعة والخوارج والنواصب … ص: 481

وفي كتابه من هذا شي ء كثير، وهو في جميع المواضع يفضّل الخوارج والنواصب علي الشيعة، في الدين والورع والصّدق وغير ذلك … وفي فصل دفاعه عن النواصب والخوارج بعض النماذج، فانتظر.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 175.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 482

(2) تحاملات ابن تيميّة علي العلّامة وأعلام الاماميّة واتّهامهم … ص: 482

هذا، وإنّ من يقرأ كتاب (منهاج الكرامة) لا يجد فيه من مثل هذه الكلمات التي سمعتها من ابن تيمية ولا كلمة.

وحتي لمّا وصل إليه كتاب ابن تيميّة المشحون- من أوّله إلي آخره- بالشتائم والسباب، ذكروا أنه ما قال في الجواب إلّا أن كتب إليه:

«لو كنت تعلم كلّ ما علم الوري طرّاً لصرت صديق كلّ العالم»

الأبيات «1».

وقال: «لو كان يفهم ما أقول أجبته» «2».

بل حكي أنّهما اجتمعا في الحج وتذاكرا، فأعجب ابن تيميّة بكلامه فقال له:

من تكون يا هذا؟ فقال: الذي تسمّيه ابن المنجّس «3».

والمقصود أنّه لم يقابله بالمثل أبداً، لا عندما وصل إليه كتابه، ولا عندما اجتمع به علي ما روي …

بل لقد أفهم العلّامة- بأدبٍ وظرافةٍ- ابن تيمية بما يتحلّي به كغيره ممّن تربّي __________________________________________________

(1) الدرر الكامنة الترجمة 1618، الحسين بن يوسف بن المطهّر الحلّي، 2/ 71.

(2) لسان الميزان الترجمة 2841، الحسين بن يوسف بن المطهّر الحلّي، 2/ 587.

(3) الدرر الكامنة 2/ 72 في الهامش نقلًا عن خط السّخاوي.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 483

بمدرسة أهل البيت- عليهم السلام- من الصفات الجميلة، وبما يتّصف به المتخرّج من مدرسة غيرهم!!

* نعم … لقد ذكروا أنّه كان يعبّر عن العلّامة الحسن بن يوسف بن المطهّر ب «ابن المنجّس» «1».

وجاء في مقدمة منهاجه: «وهذا المصنّف سمّي كتابه منهاج الكرامة في معرفة الإمامة، وهو خليق بأن يسمي منهاج الندامة. كما أن من ادّعي

الطهارة- وهو من الذين لم يرد اللَّه أن يطهّر قلوبهم، بل من أهل الجبت والطاغوت والنفاق- كان وصفه بالنجاسة والتكدير أولي من وصفه بالتطهير» «2».

* وقال: «فالمصنّف قد احتجّ بأحاديث موضوعة كذب باتّفاق أهل المعرفة … » «3».

* وقال: «إنّ هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذّاب المفتري» «4».

* وقال في كلامٍ له: «وهذا أمر معلوم بالضرورة لمن عرف هؤلاء وهؤلاء، واعتبر هذا مما تجده في كلّ زمانٍ من شيوخ السنّة وشيوخ الرّافضة كمصنّف هذا الكتاب، فإنّه عند الإماميّة أفضلهم في زمانه بل يقول بعض الناس: ليس في بلاد المشرق أفضل منه في جنس العلوم مطلقاً، ومع هذا، فكلامه يدلّ علي أنه من أجهل خلق اللَّه بحال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وأقواله وأعماله، فيروي الكذب __________________________________________________

(1) النجوم الزاهرة السنة السابعة عشر من سلطنة الملك الناصر محمّد بن قلاوون الثالثة علي مصر، 9/ 192.

(2) منهاج السنة 1/ 21.

(3) منهاج السنة 1/ 107.

(4) منهاج السنة 3/ 450.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 484

الذي يظهر أنه كذب من وجوهٍ كثيرة، فإن كان عالماً بأنه كذب فقد ثبت عنه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه قال: من حدّث عنّي بحديثٍ وهو يري أنه كذب فهو أحد الكاذبين. وإن كان جاهلًا بذلك دلّ علي أنّه من أجهل الناس بأحوال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كما قيل:

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم» «1»

* وقال: «وهؤلاء الرافضة إمّا منافق وإمّا جاهل.. وشيوخهم المصنّفون فيهم طوائف يعلمون أن كثيراً ممّا يقولونه كذب، ولكن يصنّفون لهم لرياستهم عليهم، وهذا المصنّف يتّهمه الناس بهذا … فهو من جنس علماء اليهود … » «2».

* وقال: «وهذا الرافضي المصنّف وإن كان من

أفضل بني جنسه ومن المبرّزين علي طائفته، فلا ريب أن الطّائفة كلّها جهّال … » «3».

* وقال: «هذا الرافضي الجاهل الظالم، يبني أمره علي مقدمات باطلة، فإنّه لا يعلم في طوائف أهل البدع أوهي من حجج الرافضة … ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة» «4».

* وقال: «هذا الجاهل الذي جعل هذا فضيلة لعلي … لا يقول هذا إلّا زنديق أو جاهل مفرط في الجهل» «5».

* وقال: «هذا الحمار الرافضي الذي هو أحمر من عقلاء اليهود، الذين قال __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 127- 128.

(2) منهاج السنة 5/ 161.

(3) منهاج السنة 6/ 444.

(4) منهاج السنة 7/ 172.

(5) منهاج السنة 7/ 252.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 485

اللَّه فيهم «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً» … » «1».

* وقال: «وهذا الرجل سلك مسلك سلفه شيوخ الرافضة، كابن النعمان المفيد ومتّبعيه، كالكراجكي وأبي القاسم الموسوي والطوسي وأمثالهم، فإن الرافضة في الأصل ليسوا أهل علم وخبرة بطريق النظر والمناظرة ومعرفة الأدلّة …

كما أنهم من أجهل الناس بمعرفة المنقولات والأحاديث والآثار … وإنما عمدتهم في المنقولات علي تواريخ منقطعة الإسناد، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب بل والإلحاد … » «2».

* وقال: «ومصنّف هذا الكتاب وأمثاله من الرافضة، إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بامّة محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم سلفها وخلفها، فإنهم عمدوا إلي خيار أهل الأرض من الأوّلين والآخرين بعد النبيّين والمرسلين، وإلي خيار امّة اخرجت للناس، فجعلوهم شرار الناس، وافتروا عليهم العظائم، وجعلوا حسناتهم سيّئات، وجاؤا إلي شر من انتسب إلي الإسلام من أهل الأهواء وهم الرافضة، بأصنافها غاليّها وإماميّها وزيديّها، واللَّه يعلم وكفي باللَّه عليماً، ليس

في جميع الطوائف المنتسبة إلي الإسلام مع بدعةٍ وضلالة شر منهم، لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم، ولا أقرب إلي الكفر والفسوق والعصيان، وأبعد عن حقائق الإيمان منهم، فزعموا أن هؤلاء هم صفوة اللَّه من عباده … » «3».

* وأمّا سبّه المحقق العظيم الشيخ نصير الدّين الطّوسي … فقد تكلّمنا عليه بالتفصيل في مدخل الدراسات.

أقول: فاللَّه يحكم بينهم وبينه بالعدل، وهو خير الحاكمين.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 290.

(2) منهاج السنة 1/ 59.

(3) منهاج السنة 5/ 160- 161.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 487

الباب الثامن: مواقف ابن تيميّة من المناوئين لعليٍّ وأهل البيت … ص: 487

اشارة

الدفاع عنهم، والثناء عليهم دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 489

وكان موقفه من المناوئين لعلي وأهل البيت عليهم السّلام علي العكس تماماً، فقد حاول الدفاع عنهم، وتبرير ما صدر منهم، والمدح والثناء لهم، بما أمكنه من الأساليب …

وقد تتلخّص أساليب الدفاع عنهم بما يلي:

1- التأويل: فطالما أوّل الأقوال والأفعال ممّا لا يتحمّل التأويل أصلًا، وحتّي في بعض الموارد يصرّح بضرورة التأويل، فمثلًا يذكر- من باب التمهيد- بعد الآيات التي ظاهرها القدح في الأنبياء، كالواردة في قضية آدم وحواء، وفي قضية موسي، ثم يقول: «وإن ادّعي مدّع أنّ هذه النصوص مؤوّلة، قيل له: فيجوز لغيرك أن يتأوّل قول الصدّيق، لما ثبت بالدلائل الكثيرة من إيمانه وعلمه وتقواه وورعه. فإذا ورد لفظ مجمل يعارض ما علم وجب تأويله» «1».

2- المعارضة: حتّي بالأكاذيب والإفتراءات، وحتي بدعاوي النواصب والخوارج، وما أكثر هذه الموارد، (وسنذكر طرفاً منها في موضعها). وقد صرّح باستعماله هذا الاسلوب حيث قال: «ومن الطرق الحسنة في مناظرة هذا، أن يورد عليه من جنس ما يورده علي أهل الحق وما هو أغلظ منه، فإن المعارضة نافعة، وحينئذٍ، فإن فهم الجواب الصحيح

علم الجواب عمّا يورد علي الحق، وإن وقع في __________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 272.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 490

الحيرة والعجز عن الجواب اندفع شرّه بذلك، وقيل له: جوابك عن هذا هو جوابنا عن هذا» «1».

3- السبّ والشتم: للشيعة عامّة ولعلمائهم- العلّامة الحلّي وغيره- خاصةً … وقد ذكرنا من هذا نماذج في فصل خاص … ولنذكر مورداً واحداً: قال العلّامة عن عمر: «إنه ابتدع التراويح … ».

فقال ابن تيمية في الجواب: «فيقال: ما رؤي في طوائف أهل البدع والضلال أجرأ من هذه الطائفة الرافضة علي الكذب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وقولها عليه ما لم يقله، والوقاحة المفرطة في الكذب، وإن كان فيهم من لا يعرف أنها كذب فهو مفرط في الجهل كما قال:

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم» «2»

ثم اعترف بكون هذا الفعل بدعة لم يُفعل من قبل.

4- إنكار الحقائق وتكذيبها، كقوله في انهزام الشيخين في بعض الحروب:

«كذب» «3» وفي أمر عثمان بضرب ابن مسعود: «كذب» «4» وفي كون أبي بكر في بعث اسامة: «كذب» «5» … وهكذا …

5- التصحيح والإلتزام، والإعتذار بما يضحك منه كلّ عاقل، فإنّه بعد أن لم يمكنه لا التكذيب ولا المعارضة ولا التأويل، يلتزم بما كان!، انظر مثلًا إلي قوله-

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 283.

(2) منهاج السنة 8/ 304.

(3) منهاج السنة 8/ 91، 118، 122.

(4) منهاج السنة 6/ 255.

(5) منهاج السنة 5/ 486، 6/ 319، 8/ 292.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 491

في الدفاع عن أبي بكر وعمر وأصحابهما، في الهجوم علي بيت فاطمة:

«غاية ما يقال: إنه كبس البيت لينظر هل فيه شي ء من مال اللَّه الذي يقسمه، وأن

يعطيه لمستحقّه … »!! «1».

أقول:

فهذه عمدة أساليبه في الدّفاع عن مناوئي أميرالمؤمنين وأهل البيت عليهم السلام، ولنذكر ذلك ببعض التفصيل تحت عناوين عامّة ثم عناوين خاصّة:

1- دفاعه عن الشيوخ الثلاثة … ص: 491

إن الكلام في خلافة الثلاثة يقع في جهتين، الأولي في أدلّة خلافتهم، ممّا يدّعي كونه نصّاً أو يدّعي دلالته علي الأفضليّة، في روايات القوم. والثانية: في الموانع عن خلافتهم، ممّا يكون نصّاً في عدم النصّ عليهم، أو يدل علي عدم العدالة بل مطلق الفضيلة فيهم، مما جاء في أقوالهم وأفعالهم …

وقد بحث العلامة في كلتا الجهتين.

ويقول ابن تيميّة: «لا يطعن علي أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما إلّا أحد رجلين: إمّا رجل منافق زنديق ملحد عدوّ للإسلام، يتوصل بالطعن فيهما إلي الطعن في الرسول ودين الإسلام. وهذا حال المعلّم الأول للرافضة، أول من ابتدع الرفض، وحال أئمة الباطنية. وإمّا جاهل مفرط في الجهل والهوي وهو الغالب علي عامّة الشيعة، إذا كانوا مسلمين في الباطن» «2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 291.

(2) منهاج السنة 6/ 115.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 492

يقول العلّامة: «إن الإمامية لمّآ رأوا فضائل أميرالمؤمنين وكمالاته لا- تحصي قد رواها المخالف والموافق، ورأوا الجمهور قد نقلوا عن غيره من الصحابة مطاعن كثيرة، ولم ينقلوا في علي طعناً ألبتة، اتّبعوا قوله وجعلوه إماماً لهم، حيث نزّهه المخالف والموافق، وتركوا غيره حيث روي فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته. ونحن نذكر هنا شيئاً يسيراً ممّا هو صحيح عندهم، ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم، ليكون حجةً عليهم يوم القيامة» «1».

فذكر طرفاً من الأحاديث عن الكتب الستّة وغيرها.

هذا كلام العلّامة. فانظر إلي كلام ابن تيمية، حيث يقول في جوابه:

«والجواب أن يقال: إن

الفضائل الثابتة في الأحاديث الصحيحة لأبي بكر وعمر أكثر وأعظم من الفضائل الثابتة لعلي، والأحاديث التي ذكرها هذا وذكر أنّها في الصحيح عند الجمهور وأنّهم نقلوها في المعتمد من قولهم وكتبهم، هو من أبين الكذب علي علماء الجمهور، فإنّ هذه الأحاديث التي ذكرها أكثرها كذب أو ضعيف باتّفاق أهل المعرفة بالحديث، والصحيح الذي فيها ليس فيه ما يدلّ علي إمامة علي، ولا علي فضيلته علي أبي بكر وعمر، بل وليست من خصائصه …

وأمّا ما ذكره من المطاعن، فلا يمكن أن يوجّه علي الخلفاء الثلاثة من مطعن إلّا وجّه علي علي ما هو مثله أو أعظم منه.

فتبيّن أن ما ذكره في هذا الوجه من أعظم الباطل …

وأمّا قوله: إنهم جعلوه إماماً لهم حيث نزّهه المخالف والموافق …

فيقال: هذا كذب بيّن، فإنّ عليّاً رضي اللَّه عنه لم ينزّهه المخالفون … فإنّ __________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 5.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 493

الخوارج متّفقون علي كفره، وهم عند المسلمين كلّهم خير من الغلاة … والخوارج المكفّرون لعلي يوالون أبا بكر وعمر ويترضّون عنهما، والمروانية الذين ينسبون عليّاً إلي الظلم ويقولون إنّه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر، مع أنهما ليسا من أقاربهم فكيف يقال مع هذا: إن عليّاً نزّهه المؤالف والمخالف … والذين قدحوا في علي رضي اللَّه عنه وجعلوه كافراً وظالماً، ليس فيهم طائفة معروفة بالردّة عن الإسلام، بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة … » «1».

أقول:

قارن بين الكلامين! واقرأ كلامه بإمعان وتفهّم، واحكم بما يقتضيه الدّين والإنصاف!!

2- دفاعه عن الصّحابة عموما … ص: 493

ويقول ابن تيمية بأنّ «الصّحابة كلّهم معروفون بالصّدق» ثم يمثّل ب «بسر ابن أرطاة» في حين يقدح في «الحسن والحسين» قائلًا: «مات النبي وهما صغيران» وفي

سائر الأئمة بأنهم «لم يدركوا النبي» … وهذه عبارته:

«ولهذا كان الصحابة كلّهم ثقات باتّفاق أهل العلم بالحديث والفقه … وحتي بسر بن أبي أرطاة- مع ما عرف منه- … لأنّهم معروفون بالصّدق عن النبي.. وأمّا الحسن والحسين فمات النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وهما صغيران … وأما سائر الاثني عشر فلم يدركوا النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم … » «2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 6.

(2) منهاج السنة 2/ 457- 459.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 494

فهذا من جهة.. ومن جهةٍ اخري ينصّ ويصرُّ علي المنع عن الكلام فيما شجر بين الصّحابة!!:

«وقد أمر اللَّه المسلمين كلّهم إذا تنازعوا في شي ء أن يردّوه إلي اللَّه والرسول فقال تعالي … وهذا واجب علي الامّة في كلّ ما تنازعت فيه من الامور الاعتقاديّة والعمليّة. قال تعالي …

والمقصود هنا: أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم المؤمنين أن لا يتكلّم إلّا بعلمٍ وعدل، ويردّ ذلك إلي اللَّه والرسول، فذاك في أمر الصحابة أظهر … والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرّق … » «1».

3- دفاعه عن بني اميّة … ص: 494

وقد أكثر من الدفاع عن بني اميّة والمدح لهم، … فاقرأ كلامه الآتي:

«فإن بني اميّة تولّوا علي جميع أرض الإسلام، وكانت الدولة في زمنهم عزيزة».

أمّا «الأئمة الإثنا عشر» فأيّ عزٍّ للإسلام منهم؟: «فأيّ عزّ للإسلام بهؤلاء الاثني عشر علي زعمهم»؟

وهل كان في بني اميّة ما يُقدح به فيهم وينقم به عليهم؟

يجيب ابن تيمية: «وأعظم ما نقمه الناس علي بني اميّة شيئان: أحدهما:

تكلّمهم في علي. والثاني: تأخير الصّلاة عن وقتها» «2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 130- 133.

(2) منهاج السنة 8/ 238- 239.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 495

أقول:

فاقرأ واحكم!!

ويقول في موضعٍ آخر: «ثم السنّة كانت

قبل دولة بني العبّاس أظهر منها وأقوي في دولة بني العبّاس».

أي: فكانت «السنّة» في دولة «بني اميّة» أقوي منها في دولة «بني العبّاس».. لماذا؟ يجيب بلا فصل: «فإن بني العبّاس دخل في دولتهم كثير من الشيعة وغيرهم من أهل البدع» «1».

ويدافع عن بني اميّة بإنكاره نزول الآية «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ» فيهم، ويجعل تفسيرها بذلك من تحريفات الشيعة للقرآن الكريم، يقول: «الذين أدخلوا في دين اللَّه ما ليس منه وحرّفوا أحكام الشريعة، ليسوا في طائفةٍ أكثر منهم في الرافضة، فإنّهم أدخلوا في دين اللَّه من الكذب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ما لم يكذبه غيرهم، وردّوا من الصّدق مالم يردّه غيرهم، وحرّفوا القرآن تحريفاً لم يحرّفه غيرهم. مثل قولهم: إنّ قوله تعالي «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» نزلت في علي لمّا تصدّق بخاتمه في الصّلاة … «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ» هم بنو أُمية … » «2».

أقول:

الشجرة الملعونة في القرآن والسنّة: بنو اميّة، كما في المستدرك 4/ 527، تاريخ الخطيب 9/ 44، 8/ 280، الفخر الرازي والخازن والسيوطي بتفسير

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 130.

(2) منهاج السنة 3/ 403- 405.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 496

الآية … بل هو إجماع المفسرين كما في تاريخ أبي الفداء 3/ 115.

ولعن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم مروان وأباه خاصّةً كما في الحديث، أخرجه أحمد في المسند 3/ 88، والحاكم 4/ 528. وقال ابن عبد البر بترجمته: «كان يقال له خيط باطل». وقال الذهبي في الميزان: «له أعمال موبقة، رمي طلحة بسهمٍ، وفعل ما فعل».

4- دفاعه عن بني العبّاس … ص: 496

ومع ذلك، يحمد اللَّه تعالي علي انتقال الدولة إلي «بني العبّاس» لا

إلي «بني علي»، لماذا؟

«ثم كان من نعم اللَّه سبحانه ورحمته بالإسلام: أن الدولة لمّا انتقلت إلي بني هاشم صارت في بني العبّاس، … فلم يظهر في دولتهم إلّا تعظيم الخلفاء الراشدين وذكرهم علي المنابر والثناء عليهم وتعظيم الصحابة … ولكن دخل في غمار الدولة من كانوا لا يرضون باطنه ومن كان لا يمكنهم دفعه … ودخل من أبناء المجوس ومن في قلبه غلّ علي الإسلام من أهل البدع والزنادقة، وتتبّعهم المهدي بقتلهم حتي اندفع بذلك شرّ كبير، وكان من خيار خلفاء بني العبّاس. وكذلك الرشيد، كان فيه من تعظيم العلم والجهاد والدين ما كانت به دولته من خيار دول بني العبّاس، وكأنّها كانت تمام سعادتهم، فلم ينتظم بعدها الأمر لهم … » «1».

أقول:

ولماذا خصّ «المهدي» و «هارون» بالذكر، ولم يذكر «المأمون»؟ فاقرأ واحكم!

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 239- 240.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 497

5- دفاعه عن الولاة الظلمة … ص: 497

ويؤكّد ابن تيمية علي حرمة الخروج علي «الولاة الظلمة» وقتالهم، وعلي وجوب إطاعتهم والإنصياع لهم … فيقول بعد كلامٍ له:

«فهذا أمره بقتال الخوارج، وهذا نهيه عن قتال الولاة الظلمة، وهذا مما يستدلّ به علي أنه ليس كلّ ظالم باغ يجوز قتاله» «1».

وقال في الجواب عمّا ذكره العلّامة من حكم العقل بضرورة كون الإمام معصوماً، وأن لا معصوم إلّا علي، فهو الإمام. قال:

«وأمّا المقدّمة الثانية، فلو قدّر أنه لابدّ من معصوم، فقولهم ليس بمعصومٍ غير علي إتّفاقاً ممنوع، بل كثير من الناس من عبّادهم وصوفيّتهم وجندهم وعامّتهم يعتقدون في كثير من شيوخهم من العصمة …

وأيضاً، فكثير من أتباع بني اميّة أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن الإمام لاحساب عليه ولا عذاب، وأن اللَّه لا يؤاخذهم علي ما يطيعون فيه الإمام، بل

تجب عليهم طاعة الإمام في كلّ شي ء، واللَّه أمرهم بذلك، وكلامهم في ذلك معروف كثير … ولهذا تجد في كلام كثيرٍ من كبار هم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقاً وأن من أطاعه فقد أطاع اللَّه …

وحينئذٍ، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن يقال: كلٌ من هذه الطوائف إذا قيل لها: إنه لابدَّ لها من إمام معصوم تقول: يكفيني عصمة الإمام الذي ائتممت به، لا أحتاج إلي عصمة الاثني عشر، لا علي ولا غيره … بل كثير من الناس يعتقدون __________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 151.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 498

أنّه من يطع الملوك لا ذنب له في ذلك كائناً من كان، ويتأوّلون قوله: «أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ».

فإن قيل: هؤلاء لا يعتدُّ بخلافهم.

قيل: هؤلاء خير من الرافضة الإسماعيلية.

وأيضاً: فإنّ أئمة هؤلاء وشيوخهم خير من معدومٍ لا ينتفع به بحال.

فهم بكلّ حالٍ خير من الرافضة.

وأيضاً: فبطلت حجة الرافضة بقولهم: لم تُدّع العصمة إلّا في علي وأهل بيته … » «1».

أقول:

فاقرأ واحكم!

6- دفاعه عن الذين قاتلوا عليّاً وعن الذين لم يقاتلوا معه … ص: 498

وهذا أيضاً في كلامه كثير، ننقل بعض الجمل:

«وأمّا علي، فلا ريب أنّه قاتل معه طائفة من السّابقين الأولين، كسهل بن حنيف وعمّار بن ياسر، لكن الذين لم يقاتلوا معه كانوا أفضل …

ثم إنّ هؤلاء الذين قاتلوه لم يخذلوا، بل ما زالوا منصورين يفتحون البلاد ويقتلون الكفّار.. والعسكر الذين قاتلوا مع معاوية ما خذلوا قط، بل ولا في قتال علي، فكيف يكون النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: اللّهم اخذل من خذله … بل __________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 430- 432.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 499

الشيعة.. ما زالوا مخذولين مقهورين … » «1».

وهم من أهل الجنّة عند ابن تيمية: «والصّحابة الذين

لم يقاتلوا معه كانوا يعتقدون أن ترك القتال خير من القتال أو أنه معصية، فلم يجب عليهم موافقته في ذلك.

والذين قاتلوه لا يخلو إمّا أن يكونوا عصاة أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين.

وعلي كلّ تقدير، فهذا لا يقدح في إيمانهم ولا يمنعهم الجنّة» «2».

7- دفاعه عن أئمة المذاهب الأربعة … ص: 499

وقال ابن تيمية- في مقام الحطّ من شأن الأئمة عليهم السّلام- ما نصّه:

«ولولا أنّ الناس وجدوا عند مالك والشّافعي وأحمد أكثر ممّا وجدوه عند موسي بن جعفر وعلي بن موسي ومحمّد بن علي، لما عدلوا عن هؤلاء إلي هؤلاء، وإلّا فأيّ غرضٍ لأهل العلم والدين أن يعدلوا عن موسي بن جعفر إلي مالك بن أنس، وكلاهما من بلدٍ واحد في عصر واحد، لو وجدوا عند موسي بن جعفر من علم الرسول ما وجدوه عند مالك؟ …

ثم الشّافعي جاء بعد مالك … فلو وجد عند أحدٍ من بني هاشم أعظم من العلم الذي وجده عند مالك، لكان أشدّ الناس مسارعةً إلي ذلك …

وكذلك أحمد بن حنبل … فلو وجد مطلوبه عند مثل هؤلاء لكان أشدّ الناس رغبةً في ذلك» «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 57- 59.

(2) منهاج السنة 4/ 393.

(3) منهاج السنة 4/ 124- 126.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 500

أقول:

هل الرجل صادق فيما يقول؟ وهل عدم الرواية تدل علي عدم العلم؟ أو عدم الأخذ؟ ولماذا لم يذكر أبا حنيفة؟

إن الشيخين- البخاري ومسلماً- لم يخرّجا عن الشّافعي وأبي حنيفة، ولم يخرّج البخاري عن أحمد إلّا حديثاً واحداً في آخر كتاب الصدقات تعليقاً.

فما يقول ابن تيمية؟

8- دفاعه عن المنافقين … ص: 500

وفي كلماته دفاع عن المنافقين أيضاً:

لقد نصَّ القرآن الكريم في غير سورةٍ وآيةٍ علي وجود المنافقين والذين في قلوبهم مرض، بين من كان مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في مكة وهاجر معه إلي المدينة … يقول سبحانه وتعالي في سورة المدّثر التي لا خلاف في كونها مكيّة: «وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا

إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا … ».

لكنّ ابن تيمية ينكر وجود المنافقين، خلافاً للقرآن الكريم:

«واعلم أنّه ليس في المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار، لأنّ أحداً لم يهاجر إلّا باختياره، والكافر بمكة لم يكن يختار الهجرة ومفارقة وطنه … » «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 449.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 501

قوله:

«والكافر بمكّة لم يكن يختار الهجرة … ».

أقول:

هذا صحيح، لكنّ الكلام في «المنافق بمكة» فإنه يختار الهجرة ومفارقة وطنه طمعاً في الدنيا والرياسة كما هو واضح … والكلام في «المنافق» لا «الكافر».

ولا يخفي أن ابن تيمية قد طرح هذا المطلب في جواب قول العلّامة عن كون أبي بكر مع النبي في الغار، حيث قال: «يجوز أن يستصحبه معه لئلّا يظهر أمره، حذراً منه».

فتأمّل!! فكأنّ في نفس ابن تيمية أيضاً شيئاً عن أبي بكر!!

9- دفاعه عن النواصب … ص: 501

وعن النواصب أيضاً، يدافع بكثرة، ويستند إلي أقوالهم، ويعارض بها الأدلّة القويمة، فمثلًا:

يقول العلّامة في عائشة: «وخرجت في ملأٍ من الناس لتقاتل علياً علي غير ذنب … فأيّ ذنبٍ كان لعلي؟ وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها علي ذلك؟ وبأيّ وجهٍ يلقون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم؟».

فيقول ابن تيميّة في الجواب: «إنّهم يعظّمون عائشة في هذا المقام طعناً في طلحة والزبير، ولا يعلمون أن هذا إن كان متوجّهاً فالطعن في علي بذلك أوجه، فإن طلحة والزبير كانا معظّمين عائشة، موافقين لها، مؤتمرين بأمرها، وهما وهي من أبعد الناس عن الفواحش والمعاونة عليها.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 502

فإن جاز لرافضي أن يقدح فيهما يقول: بأيّ وجهٍ تلقون رسول اللَّه … مع

أن ذلك إنما جعلها بمنزلة الملكة التي يأتمر بأمرها ويطيعها ولم يكن إخراجها لمظانّ الفاحشة. كان لناصبي أن يقول: بأيّ وجهٍ يلقي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من قاتل امرأته وسلّط عليها أعوانه، حتي عقروا بها بعيرها، وسقطت من هودجها …

والمقصود هنا أن ما يذكرونه من القدح في طلحة والزبير ينقلب بما هو أعظم منه في حقّ علي … » «1».

أقول:

فاقرأ واحكم!

ومثلًا: يقول العلّامة: «إنّهم سمّوا عائشة أمّ المؤمنين ولم يسمّوا غيرها بذلك».

أقول:

وهذا سؤالٌ وجيهٌ، لا سيّما وأن ابن تيمية يصرّح بأنّ أهل السنّة ليسوا مجمعين علي أن عائشة أفضل نسائه «2».

فيقول ابن تيمية: «هذا من البهتان الواضح الظاهر لكلّ أحد، وما أدري هل هذا الرجل وأمثاله يتعمّدون الكذب، أم أعمي اللَّه أبصارهم لفرط هواهم حتي خفي عليهم أن هذا كذب، وهم ينكرون علي بعض النواصب أن الحسين لما قال لهم: أما تعلمون أني ابن فاطمة بنت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قالوا:

واللَّه ما نعلم ذلك … !» «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 353- 357.

(2) منهاج السنة 4/ 301- 302.

(3) منهاج السنة 4/ 367.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 503

أقول:

أيّ ناصبي يقول هذا؟ ولماذا يذكره لو قاله قائل منهم؟ وما ارتباطه بالمطلب؟ أكلّ هذا دفاعاً عن عائشة وطلحة والزبير … الذين خرجوا إلي «البصرة» يطلبون قتلة عثمان في «المدينة»، ويخرجون علي إمام زمانهم وولي أمرهم؟ الأمر الذي لأجله- مع امور اخري سمّوها ب «أم المؤمنين» دون غيرها من زوجات النبي ورفعوا منزلتها عليهنّ؟!

ومثلًا: يقول ابن تيمية- دفاعاً عن معاوية-: «وأمّا الرافضي، فإذا قدح في معاوية بأنه كان باغياً ظالماً، قال له الناصبي: وعلي أيضاً كان باغياً ظالماً لمّا قاتل المسلمين علي

إمارته، وبدأهم بالقتال وصال عليهم، وسفك دماء الامّة بغير فائدة … » «1».

أقول:

لا يخفي أن هذا هو رأي ابن تيمية … وقد تقدّمت كلماته حول أميرالمؤمنين عليه السّلام، لا سيّما إصراره علي أن حربه في الجمل وصفين كان فتنةً وشرّاً ونحو ذلك، وأنه كان هو البادي في حرب صفين …

فاعرف- إذن- من «الناصبي»!!

وقال ابن تيمية أيضاً- دفاعاً عن معاوية والفرقة الباغية-: «ثم يقال لهؤلاء الرافضة: لو قالت لكم النواصب: علي قد استحلّ دماء المسلمين وقاتلهم بغير أمر اللَّه ورسوله علي رياسته، وقد قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: سباب المسلم وقتاله كفر … لم تكن حجتكم أقوي من حجّتهم، لأن الأحاديث التي احتجّوا بها صحيحة.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 389.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 504

وأيضاً، يقولون: قتل النفوس فساد، فمن قتل النفوس علي طاعته كان مريداً للعلوّ في الأرض والفساد، وهذا حال فرعون، واللَّه تعالي يقول: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ … » «1»

.أقول:

تقدّمت هذه الكلمات عن ابن تيمية مباشرة من دون نسبة منه لها إلي النواصب … فاقرأ واحكم من «الناصبي»؟

10- دفاعه عن الخوارج … ص: 504

وكذا دفاعه عن الخوارج، ومدحه لهم، وتفضيلهم علي الشيعة، والمعارضة والإستشهاد بكلامهم … كثير جدّاً …

كقوله- في جواب قول العلّامة عن علي عليه السّلام: «وظهرت منه معجزات كثيرة … حتي ادّعي قوم فيه الربوبية وقتلهم» -:

«فإن جاز أن يقال: إنما ادّعيت فيه الإلهية لقوة الشبهة، جاز أن يقال: إنما ادّعي فيه الكفر لقوة الشبهة، وجاز أن يقال: صدرت منه ذنوب اقتضت أن يكفّره بها الخوارج. والخوارج أكثر وأعقل وأدين من الذين ادّعوا فيه الإلهية …

فالخوارج من أعظم الناس صلاة وصياماً وقراءة للقرآن،

ولهم جيوش وعساكر، وهم متديّنون بدين الإسلام باطناً وظاهراً … » «2».

وكقوله- في أنّ السّيف كان مسلولًا في زمان علي بخلاف المتقدّمين عليه-

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 500.

(2) منهاج السنة 4/ 37- 38.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 505

«وإنما كان السيف مسلولًا في خلافة علي، فإن كان هذا قدحاً فالقدح يختص بمن كان السيف في زمانه بين الامّة، وهذه حجّة للخوارج.

وحجّتهم أقوي من حجّة الشيعة، كما أن سيوفهم أقوي من سيوف الشيعة؛ ودينهم أصح، وهم صادقون لا يكذبون» «1».

وكقوله: «والخوارج.. أصدق من الرافضة وأدين وأورع، بل الخوارج لا- نعرف عنهم أنهم يتعمّدون الكذب، بل هم من أصدق الناس» «2».

وكقوله: «الخوارج أعقل وأصدق وأتبع للحق من الرافضة … الرافضة …

كثير من أئمّتهم وعامّتهم زنادقة ملاحدة» «3».

أقول:

وكما وصف «الخوارج» بأنهم «أصدق الناس وأعقلهم» فقد وصف «الشيعة» بأنهم «أكذب الناس وأجهلهم» في غير موضع.

قال في العلّامة: «ولا ريب أن هذا الرافضي الجاهل الظالم يبني أمره علي مقدّمات باطلة، فإنّه لا يعلم في طوائف أهل البدع أوهي من حجج الرافضة، بخلاف المعتزلة ونحوهم، فإنّ لهم حججاً وأدلّة قد تشتبه علي كثير من أهل العلم والعقل. وأما الرافضة فليس لهم حجة قط تنفق إلّا علي جاهل أو ظالم صاحب هوي يقبل ما يوافق هواه، سواء كان حقّاً أو باطلًا.

ولهذا يقال فيهم: ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة.

وقالت طائفة من العلماء: لو علّق حكماً بأجهل الناس لتناول الرافضة، مثل __________________________________________________

(1) منهاج السنة 6/ 344.

(2) منهاج السنة 7/ 36.

(3) منهاج السنة 7/ 260.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 506

أن يحلف: إني ابغض أجهل الناس، ونحو ذلك» «1».

وقال في عموم الشيعة أيضاً: «إن العقلاء

وأهل العلم بالنقل يعلمون أنه ليس في فرق المسلمين أكثر تعمّداً للكذب وتكذيباً للحق من الشيعة. بخلاف غيرهم، فإن الخوارج- وإن كانوا مارقين- فهم يصدقون … » «2».

وقال أيضاً: «لكنّ الرافضي- يقصد العلّامة- أخذ ينكت علي كلّ طائفةٍ بما يظنّ أنه يجرحها به في الاصول والفروع، ظانّاً أن طائفته هي السليمة من الجرح.

وقد اتّفق عقلاء المسلمين علي أنه ليس في طائفة من طوائف أهل القبلة أكثر جهلًا وضلالًا وكذباً وبدعاً، وأقرب إلي كلّ شر، وأبعد عن كلّ خيرٍ، من طائفته» «3».

معاوية … ص: 506

حديث: تقتلك الفئة الباغية … ص: 506

تقدّمت عن ابن تيمية جملة فيه، وهذه جملة اخري إذ يقول:

«فإن قال الذابّ عن علي: هؤلاء الذين قاتلهم علي كانوا بغاة، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعمّار بن ياسر: «تقتلك الفئة الباغية» وهم قتلوا عمّاراً.

فههنا للناس أقوال، منهم من قدح في حديث عمّار. ومنهم من تأوّله علي أن __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 172- 173.

(2) منهاج السنة 8/ 250.

(3) منهاج السنة 2/ 607.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 507

الباغي: الطالب، وهو تأويل ضعيف. وأما السلف والأئمة فيقول أكثرهم- كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم-: لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية، فإن اللَّه لم يأمر بقتالها ابتداءً … ».

معاوية مجتهد … ص: 507

قال: «فإن قال الذابّ عن علي: كان مجتهداً في ذلك.

قال له منازعه: ومعاوية كان مجتهداً في ذلك.

فإن قال: كان مجتهداً مصيباً.

ففي الناس من يقول له: ومعاوية كان مجتهداً مصيباً أيضاً، بناءً علي أن كلّ مجتهد مصيب، وهو قول الأشعري. ومنهم من يقول: بل معاوية مجتهد مخطي ء وخطأ المجتهد مغفور، ومنهم من يقول: بل المصيب أحدهما لا بعينه … » «1».

حديث لعنه وقتله، كذب … ص: 507

قال: «أمّا ما ذكره من أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لعن معاوية وأمر بقتله إذا رؤي علي المنبر. فهذا الحديث ليس في شي ء من كتب الإسلام … كذب موضوع مختلق …

ومما يبيّن كذبه: أن منبر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قد صعد عليه بعد معاوية من كان معاوية خيراً منه باتّفاق المسلمين. فإن كان يجب قتل من صعد عليه لمجرد الصعود علي المنبر، وجب قتل هؤلاء كلّهم.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 391- 392.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 508

ثم هذا خلاف المعلوم بالإضطرار من دين الإسلام، فإنّ مجرّد صعود المنبر لا يبيح قتل المسلم … » «1».

أقول:

أهذا معني الحديث؟

وهذا الحديث موجود «في كتب الإسلام» وقد ذكرنا ذلك في (الشرح) «2» وقد صحّحه الذهبي في الميزان 2/ 380.

كان من أحسن الناس سيرة … ص: 508

وهذا ما قاله عن معاوية عدّة مرّات، ولابدّ وأنه يقصد التعريض بأمير المؤمنين عليه السلام «3».

حجّة من ادّعي ارتداد علي أظهر من حجّة من ادّعي ارتداد معاوية

وهكذا يدافع عن معاوية! يدافع عنه ولو بالطعن في أمير المؤمنين عليه السلام!! بل إنّ الطعن في أمير المؤمنين عليه السّلام هو المقصود!! إنّه يجعل الشيعة قائلين بارتداد معاوية عن الإسلام، ليقول بأنّ حجة من ادّعي ارتداد علي أظهر من حجّة من ادّعي ارتداد معاوية:

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4/ 379- 380.

(2) عن صحيح ابن حبان- الأخبار عن وقعة صفين 15/ 131 تاريخ الطبري- سنة 284، 8/ 186، تاريخ بغداد- الترجمة 88، محمّد بن اسحاق أبو بكر 1/ 259، ميزان الاعتدال- حرف العين، الترجمة 4149، عباد بن يعقوب الأسدي 2/ 380 مجمع الزوائد، كتاب الخلافة 5/ 240.

(3) منهاج السنة 4/ 429، 445، 460، 516، 6/ 150، 232.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه،

ص: 509

«والمدّعي لارتداد معاوية وعثمان وأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهم، ليس هو أظهر حجّة من المدّعي لارتداد علي، فإن كان المدّعي لارتداد علي كاذباً، فالمدّعي لارتداد هؤلاء أظهر كذباً، لأنّ الحجّة علي بقاء إيمان هؤلاء أظهر، وشبهة الخوارج أظهر من شبهة الروافض» «1».

لكنّ الشيعة لا توافق علي أصل إسلام هؤلاء بالمعني الصحيح، لا سيّما معاوية، فإنّهم يجعلون ما صدر عنه قولًا وفعلًا- ممّا هو ضروريٌّ في كتب المسلمين- بالنّسبة إلي النبي والدين وعقائد الإسلام، كواشف عن عدم إسلامه في الأصل، لا أنّه يدلُّ علي ارتداده عن الإسلام.

زياد بن أبي سفيان!! … ص: 509

وقد ارتضي وأمضي ابن تيمية فعلة معاوية واحدوثته في استلحاق زياد بن أبيه..!! إنه يقول في كلامٍ له: «وقد ولّي علي رضي اللَّه عنه زياد بن أبي سفيان- أبا عبيد اللَّه بن زياد، قاتل الحسين- وولّي الأشتر النخعي، وولّي محمّد بن أبي بكر.

وأمثال هؤلاء» «2».

والحال أنّ هذا من جملة موبقات معاوية التي لا تقبل التأويل أو النقاش، وقد ذكر المؤرّخون هذا الخبر في حوادث سنة 44 تحت عنوان: «استلحاق معاوية زياد بن أبيه» فراجع: الطبري وابن الأثير وابن كثير والذهبي وأبي الفداء وغيرهم.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 513.

(2) منهاج السنة 6/ 184.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 510

بل إنّ بعض أئمّة القوم يذكره في عداد ما لا يغفر له من الذنوب، فلاحظ كلمات أعلام الصحابة والتابعين في هذه القضيّة، كقول الحسن البصري- فيما رواه ابن الجوزي بسنده عنه- «أربع خصال كنَّ في معاوية، لو لم يكن فيه إلّا واحدة لكانت موبقة، وهي: أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورة وفي الناس بقايا الصحابة وذوو الفضيلة. واستخلافه ابنه يزيد وكان سكّيراً خمّيراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير. وادّعاؤه زياداً

وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فياويلا له من حجر وأصحاب حجر».

وعقّبه أبو الفداء بما رواه ابن الجوزي أيضاً: «عن الشافعي رحمة اللَّه عليه أنه أسرّ إلي الربيع: أنه لا يقبل شهادة أربعة من الصحابة، وهم: معاوية وعمرو ابن العاص والمغيرة وزياد» «1».

يزيد بن معاوية … ص: 510

لم يأمر بقتل الحسين … ص: 510

وهذا ما قاله غير مرّة «2».

__________________________________________________

(1) المختصر في أخبار البشر- ذكر استلحاق معاوية زياداً، سنة خمس وأربعين 1/ 186.

(2) منهاج السنة 4/ 472، 517.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 511

لم يقصد إهانة الكعبة … ص: 511

قال: «وأمّا ملوك المسلمين، من بني اميّة وبني العبّاس ونوّابهم، فلا ريب أن أحداً منهم لم يقصد إهانة الكعبة، لا نائب يزيد ولا نائب عبد الملك الحجاج بن يوسف، ولا غيرهما، بل كلّ المسلمين كانوا معظّمين للكعبة، وإنّما كان مقصودهم حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان له لا للكعبة، ويزيد لم يهدم الكعبة ولم- يقصد إحراقها، لا هو ولا نوابّه باتّفاق المسلمين.

ولكن ابن الزبير هدمها … » «1».

لم يقتل جميع الأشراف في الحرّة ولا بلغ عدد القتلي 10000 … ص: 511

وهذا كلامه في الدفاع عن يزيد في وقعة الحرّة، بعد أن ألقي بالّلائمة علي أهلها لخلعهم إيّاه، وأبدا العذر ليزيد بأنّه طلب منهم الطّاعة مرة بعد أخري …

«لكن لم يقتل جميع الأشراف، ولا بلغ عدد القتلي عشرة آلاف، ولا وصلت الدماء إلي قبر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولا إلي الروضة، ولا كان القتل في المسجد … » «2».

أقول:

إقرأ خبرها لتعرف علي يقين بأنّ ابن تيمية عندما يقول هذا الكلام يتمنّي أن لو كان الواقع أكثر ممّا وَقَع … إستهانةً بالدّين ودماء المسلمين وحرمهم وأعراضهم، وحبّاً وشغفاً لبني اميّة وعمّالهم وأياديهم …

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 577.

(2) منهاج السنة 4/ 575- 576.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 512

غزوه القسطنطينيّة!! … ص: 512

ثم يذكر فضلًا وجهاداً ليزيد بن معاوية:

« … فمن أن يعلم الإنسان أن يزيد أو غيره من الظلمة لم يتب من هذه؟ أو لم تكن له حسنات ماحية تمحو ظلمه؟ ولم يبتل بمصائب تكفّر عنه؟ … وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

أوّل جيش يغزو القسطنطينيّة مغفور لهم. وأوّل جيش غزاها كان أميرهم يزيد، والجيش عدد معين لا مطلق، وشمول المغفرة لآحاد هذا الجيش أقوي من شمول اللّعنة لكلّ واحدٍ واحدٍ من الظالمين، فإنّ هذا أخص والجيش معيّنون.

ويقال: إنّ يزيد إنما غزا القسطنطينية لأجل هذا الحديث.

ونحن نعلم أن أكثر المسلمين لابدّ لهم من ظلم، فإن فتح هذا الباب ساغ أن يلعن أكثر موتي المسلمين، واللَّه تعالي أمر بالصّلاة علي موتي المسلمين، لم يأمر بلعنتهم» «1».

أقول:

أوّلًا: إذا كان يزيد لم يأمر بقتل الحسين، ولم يهن الكعبة، وكان في وقعة الحرة معذوراً، فأيّ ذنبٍ له حتّي يتوب

منه؟

وثانياً: كم واحد من المسلمين صدر منه ما صدر من يزيد حتي يقال:

«نحن نعلم أن أكثر المسلمين لابدّ لهم من ظلم … »؟

وثالثاً: وهو المهم … إنه ينقل حديثاً عن (صحيح البخاري) في فتح __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 571- 572.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 513

القسطنطينية ثمّ يخبر عن غزو يزيد لها … وقد كفانا محقّقه مؤنة الفحص عن هذا الحديث وتحقيقه بقوله:

«لم أجد الحديث بهذا اللفظ، ولكن وجدت عن عبادة بن الصامت الحديث في البخاري 2/ 450 (كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في قتال الروم) ونصّ الحديث: أول جيش من امّتي يغزون البحر قد أوجبوا. قالت أُمّ حرام: قلت: يا رسول اللَّه: أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم، ثم قال النبي: أول جيش من امّتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. فقلت: أنا فيهم يا رسول اللَّه؟ قال: لا … ».

ثم هل كان غزو يزيد وكونه «مغفوراً له» قبل الوقائع المذكورة أو بعدها؟

وإذا كان يزيد «مغفوراً له» بحكم الحديث الصحيح!! فلماذا أوجب أحمد ابن حنبل وابن الجوزي والتفتازاني- وكثيرون غيرهم- لعن يزيد والبراءة منه؟! وتجد كلماتهم في (الشرح).

خالد بن الوليد … ص: 513

وحاول ابن تيمية الذبَّ عن خالد بن الوليد، بعد اتّهام مالك بن نويرة وقومه بالإرتداد بمتابعة مسيلمة، ودعوي أنّ الذين اعترض عمر علي قتلهم كانوا قوماً آخرين.. لكن من هم؟ قال:

«ومن أعظم فضائل أبي بكر عند الامّة- أوّلهم وآخرهم- أنه قاتل المرتدّين، وأعظم الناس ردّة كان بنو حنيفة، ولم يكن قتاله لهم علي منع الزكاة، بل قاتلهم علي أنّهم آمنوا بمسيلمة الكذّاب … وأمّا الذين قاتلهم علي منع الزّكاة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 514

فأولئك ناس آخرون، ولم يكونوا يؤدّونها وقالوا: لانؤدّيها إليك

… فهؤلاء حصل لعمر أوّلًا شبهة في قتالهم، حتي ناظره الصدّيق وبيّن له وجوب قتالهم، فرجع إليه … » «1».

وقال العلّامة- في أبي بكر-: «وأهمل حدود اللَّه فلم يقتص من خالد بن الوليد، ولا حدّه، حيث قتل مالك بن نويرة وكان مسلماً، وتزوّج امرأته في ليلة قتله وضاجعها، و أشار عليه عمر بقتله فلم يفعل» «2».

فجعل ابن تيميّة يردّ عليه بالمعارضة فقال: «فإنّ عثمان خير من مل ء الأرض من مثل مالك بن نويرة، وهو خليفة المسلمين، وقد قتل مظلوماً شهيداً بلا تأويلٍ مسوّغ لقتله، وعلي لم يقتل قتلته. وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة علي، فإن كان علي له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان، فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوي وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك، فعلي أولي أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان.

وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار علي أبي بكر في هذه القضية الصغيرة، وترك إنكار ما هو أعظم منها علي علي، فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم».

وأيضاً، بالتأويل لخالد بن الوليد: «وإن خالداً قتله متأوّلًا».

ثم قال: «وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جري علي وجهٍ يوجب قتل خالد».

ثم أنكر تزوّجه بامرأته فقال: «وأما ما ذكره من تزوّجه بامرأته ليلة قتله،

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 324- 327.

(2) منهاج السنة 5/ 514.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 515

فهذا مما لم يعرف ثبوته» «1».

أقول:

فاستعمل في هذه القضية الواحدة عدّة أساليب، حمايةً لأبي بكر وخالد بن الوليد … وإن شئت واقع القضية فارجع إلي (الشرح)، وإلي كتابنا (الإمامة في أهمّ الكتب الكلامية).

الحجّاج بن يوسف … ص: 515

وحتّي الحجاج بن يوسف

الثقفي حاول الدفاع عنه، فإنّه تعرّض له في أكثر من موضع، وزعم أنّه اتّهم بقتل الأشراف، فنفي ذلك عنه، ولم يعترف بقتله شيعة أميرالمؤمنين، أمثال الكميل بن زياد النخعي، ولم يتبرء من أفعاله «2»، والحال أن مثل الذهبي- وهو تلميذه والمحامي عنه- يقول: «وكان ظلوماً جبّاراً ناصبيّاً خبيثاً سفّاكاً للدماء … فنسبّه ولا نحبّه، بل نبغضه في اللَّه، فإن ذلك من أوثق عري الإيمان» «3».

أمّا أنه قتل أحداً من بني هاشم أو لا؟ فلابدّ من التحقيق عن ذلك.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 514- 519.

(2) منهاج السنة 5/ 156، 8/ 104.

(3) سير أعلام النبلاء- الترجمة 117، الحجّاج 4/ 343.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 516

ابن ملجم المرادي … ص: 516

اشارة

بل … وحتّي ابن ملجم … قال:

«والذي قتل عليّاً كان يصلّي ويصوم ويقرأ القرآن، وقتله معتقداً أنّ اللَّه ورسوله يحبّ قتل علي، وفعل ذلك محبّةً للَّه ورسوله في زعمه، وإن كان في ذلك ضالًا مبتدعاً» «1».

بل «كان من أعبد الناس» «2» … ص: 516

هكذا يصف «ابن ملجم» ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يصفه ب «أشقي الناس» كعاقر ناقة ثمود، في حديث صحيح، وقد أخرجه:

أحمد في مسنده 1/ 209، والنّسائي في خصائصه: 211- 215، الحديث 153، وابن سعد في طبقاته 3/ 24- 25، والبيهقي في سننه 8/ 59، وابن أبي حاتم وابن مردويه والبغوي وأبو نعيم والطبراني، وعنهم السيوطي في الدر المنثور بتفسير «إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا» والطحاوي في مشكل الآثار 1/ 351، وابن عبد البر وابن الأثير بترجمة الإمام عليه السلام من الإستيعاب واسد الغابة … وغيرهم.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 153.

(2) منهاج السنة 5/ 47.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 517

محمود بن سبكتكين … ص: 517

قال ابن تيميّة- في جواب العلّامة حيث أشار إلي صلاة القفّال علي مذهب أبي حنيفة في محضر الملك محمود بن سبكتكين، في قصّةٍ معروفة-: «وكان من خيار الملوك وأعدلهم، وكان من أشدّ الناس قياماً علي أهل البدع، لا سيّما الرّافضة، فإنّه كان قد أمر بلعنتهم ولعنة أمثالهم في بلاده … » «1».

فهل يقصد من «أهل البدع الرافضة» الشيعة الامامية أو غيرهم؟

لقد ذكروا لهذا الملك تراجم أثنوا عليه فيها ووصفوه بالعدل، مع أنهم أشاروا- في كيفيّة وصوله إلي الحكم وتغلّبه علي الأمر- إلي الدماء الكثيرة التي أراقها في سبيل ذلك. بل ذكروا بترجمته أنه كان يتوصّل إلي أخذ الأموال بكلّ طريق، وأنّه كان يتّهم الناس بالأديان والمذاهب الباطلة ليصادر أموالهم.

هذا، وقد ذكروا أيضاً أنّه جدّد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر علي بن موسي الرضا والرشيد، وأحسن عمارته، وكان أبوه سبكتكين أخربه، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره، فمنعهم عن ذلك. وكان سبب فعله أنّه رأي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في

المنام وهو يقول له: إلي متي هذا؟ فعلم أنّه يريد أمر المشهد. فأمر بعمارته «2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 429- 430.

(2) الكامل في التاريخ- سنة احدي وعشرين وأربعمائة، ذكر بعض سيرة يمين الدولة 9/ 401.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 518

أقول:

وتعمير القبور وتشييدها من سنن الكفّار ومن البدع في الإسلام، عند ابن تيميّة، وهو مع هذا يصف هذا الملك بكونه من أنصار السنّة ومن أشدّ الناس علي أهل البدع!!

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 519

الباب التاسع: ابن تيميّة ومناهجه في منهاجه … ص: 519

اشارة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 521

وهنا نريد أن نتعرَّف علي أساليب ابن تيميّة ومناهجه في كتاب (منهاج السنّة)، وعن هذا الطريق أيضاً نتمكّن من معرفة ابن تيمية علي حقيقته وواقعه، عقيدةً وعلماً وعدالةً …

تنبيه مهم ولابدّ قبل الورود في دراسة كتابه من هذه الناحية، من التنبيه علي أمرٍ مهمّ جدّاً، وهو: إن كتاب (منهاج الكرامة) لم يعتمد في بحوثه إلّا علي كتب أهل السنّة من أهل المذاهب الأربعة، كما أنّه في مجال عقائد الشّيعة لم يذكر إلّا عقائد الشيعة الإثني عشرية، ولم يدافع إلّا عن هذه العقائد، فهو في مقام الردّ علي أهل السنّة لا يستند إلي أقوال الغلاة أو الفرق الاخري من الشيعة، ولا ينسب إليهم أقوال النواصب والخوارج ليطعن بها علي عموم المخالفين للإماميّة الاثني عشرية.

وعلي الجملة، فإنّ منهج العلّامة- يرحمه اللَّه- هو المقارنة بين مذهب (الشيعة الاثني عشرية) و (المذاهب الأربعة) المعروفة التي عليها أهل السنّة، لا عموم القائلين بإمامة الثلاثة، ليشمل النواصب والخوارج وغيرهم.

ولما كان هذا هو منهج كتاب (منهاج الكرامة) المردود عليه، كان مقتضي قواعد البحث وآداب المناظرة أنّ يردّ عليه طبق هذا المنهج.

إلّا أنّ ابن تيميّة خرج في

بحثه عن هذا الإطار، فكثيراً ما خلط بين (الامامية الاثني عشرية) وغيرها من فرق الشيعة، ما كان له واقعية وما لم يكن …

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 522

وأيضاً: كثيراً ما خلط بين (الأشاعرة) و (المعتزلة) من جهة، وبين أرباب (المذاهب الأربعة) وبين (النواصب) و (الخوارج) من جهةٍ اخري

وأكثر ما تجد هذا الخلط في مقام (المعارضة) من أساليبه. مع أنّ المسلمين (الشيعة) و (السنّة) متّفقون علي ضلال (النواصب) و (الخوارج) من القائلين بإمامة الثلاثة و (الغلاة) وأمثالهم من القائلين ببطلان إمامة الثلاثة، وأنّه لا اعتبار لمقالاتهم وضلالاتهم …

وبهذا الموجز يتّضح سقوط كثيرٍ من استدلالات ابن تيمية ومعارضاته، وإليك بعض التفصيل:

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 523

(1) الخلط بين المذاهب … ص: 523

يقول العلّامة:

«وذهب الجميع منهم إلي القول بالقياس، والأخذ بالرأي، فأدخلوا في دين اللَّه ما ليس منه» «1».

وهو لا يقصد من «الجميع منهم» إلّا: (المذاهب الأربعة).

كما أنّ عدم أخذ (الشيعة الاثني عشرية) بالقياس معروف.

فانظر إلي ردّ ابن تيمية:

«إن دعواه علي جميع أهل السنّة المثبتين لإمامة الخلفاء الثلاثة أنّهم يقولون بالقياس، دعوي باطلة، فقد عرف فيهم طوائف لا يقولون بالقياس، كالمعتزلة البغداديين، وكالظاهرية كداود وابن حزم وغيرهما، وطائفة من أهل الحديث والصوفيّة.

وأيضاً، ففي الشيعة من يقول بالقياس كالزيدية.

فصار النزاع فيه بين الشّيعة، كما هو بين أهل السنّة والجماعة» «2».

* وعندما يريد الحطّ علي الشيعة يسوّد صحائف كثيرة من كتابه، ملؤها

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 400.

(2) منهاج السنة 3/ 401.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 524

القذف والإفتراء، والسبّ والشتم.. ثم يقول في التالي في سطرين بأنّ الأشياء التي نسبها إلي الشيعة، وطعن عليهم بسببها «ليست في الاثني عشريّة» منهم …

لاحظ هذا المورد:

«فصل: وهذا المصنّف سمّي كتابه

(منهاج الكرامة في معرفة الإمامة) وهو خليق بأن يسمّي (منهاج الندامة). كما أنّ من ادّعي الطّهارة- وهو من الذين لم يرد اللَّه أن يطهّر قلوبهم، بل هو من أهل الجبت والطاغوت والنفاق- كان وصفه بالنجاسة والتكدير أولي من وصفه بالتطهير» «1» فجعل يشتم العلامة ويسبّه إلي أن قال:

«ومن أخبر الناس بهم الشعبي وأمثاله من علماء الكوفة … » فجعل يقول ما اللَّه حسيبه، من الصفحة (22) إلي الصفحة (57) من الجزء الأول «2» حتي قال «3»:

«ومما ينبغي أن يعرف: أنّ ما يوجد في جنس الشيعة من الأقوال والأفعال المذمومة، وإن كان أضعاف ما ذكر، لكن قد لا يكون هذا كلّه في الإمامية الاثني عشرية … ».

وهكذا ينتهي هذا الفصل الذي بدأه بسبّ العلّامة، ثمّ نسب إليه ما هو وطائفته الاثنا عشرية برآء منه، ثم ختم الكلام بكلمتين!!

* وقال:

«فصل: ونحن نبيّن- إن شاء اللَّه تعالي طريق الإستقامة في معرفة هذا

__________________________________________________

(1) إشارة إلي اسم العلامة، فإنه (الحسن بن يوسف بن المطهّر) وقد كان ابن تيمية يسمّيه ب (ابن المنجس) كما نصّ عليه الصفدي وابن تغري بردي وغيرهما.

(2) هكذا يتضخّم الكتاب!!

(3) وهو محلّ الشاهد، وقد ذكرنا طرفاً من سبابه وشتائمه في تلك الصفحات، في الفصل المخصّص لذلك.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 525

الكتاب (منهاج الندامة) بحول اللَّه وقوّته.

وهذا الرجل سلك مسلك سلفه شيوخ الرافضة، كابن النعمان المفيد، ومتّبعيه كالكراجكي وأبي القاسم الموسوي والطوسي، وأمثالهم … » فجعل يسبُّ … إلي أن قال:

«وقال أبو معاوية: سمعت الأعمش يقول: أدركت الناس وما يسمّونهم إلّا الكذّابين. يعني: أصحاب المغيرة بن سعيد» «1».

فأيّ علاقةٍ بين «العلّامة» و «سلفه» الذين ذكرهم، وبين «أصحاب المغيرة بن سعيد» اللعين؟

ثم قال بعد كلامٍ

له:

«ولهذا ذكر الشافعي ما ذكره أبو حنيفة وأصحابه أنه يردّ شهادة من عرف بالكذب كالخطابيّة» «2».

وأيّ ارتباطٍ بين «العلّامة» و «سلفه» الذين بدأ بهم الفصل، وبين «الخطابيّة»؟!

* ويقول العلّامة:

«إنّ الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين، المشهورين بالفضل والعلم والزهد والورع.. فأوّلهم علي بن أبي طالب … » «3» وهكذا يعدّدهم العلّامة إلي الثاني عشر، عليهم الصلاة والسّلام.

فهو يريد الإمامية الاثني عشرية.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 57- 61.

(2) منهاج السنة 1/ 62.

(3) منهاج السنة 4/ 5- 6.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 526

فيقول ابن تيمية في الجواب:

«قد علم أنّ الشيعة مختلفون اختلافاً كثيراً في مسائل الإمامة والصفات والقدر، وغير ذلك من مسائل اصول دينهم، فأيّ قولٍ لهم هو المأخوذ عن الأئمة المعصومين، حتي مسائل الإمامة قد عرف اضطرابهم فيها.

وقد تقدّم بعض اختلافهم في النص، وفي المنتظر … » فجعل يذكر أقوالًا من بعض الفرق غير الاثني عشرية، فقال بالتالي: «فبطل قولهم: إن أقوالهم مأخوذة عن معصوم» «1».

أقول:

هكذا يُبطَل قول العلّامة؟!

(2) المعارضة … ص: 526

اشارة

و «المعارضة» طريق من طرق «المناظرة» يتّبعه العلماء في بحوثهم واستدلالاتهم، ويستعمله ابن تيمية في كتابه بكثرةٍ، حتي أنه في موضعٍ يصرّح قائلًا:

«كما يلزم مثل ذلك اليهود والنصاري إذا قدحوا في نبوّة محمّد دون نبوة موسي وعيسي فما يورد الكتابي علي نبوّة محمّد سؤالًا إلّا ويرد علي نبوّة موسي __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 17- 18.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 527

وعيسي أعظم منه.

وما يورد الرافضي علي إمامة الثلاثة إلّا ويرد علي إمامة علي ما هو أعظم منه.

وما يورده الفيلسوف علي أهل الملل يرد عليه ما هو أعظم منه.

وهكذا كلّ من كان أبعد عن الحق مِن غيره، يرد عليه أعظم ممّا يرد

علي الأقرب إلي الحق.

ومن الطرق الحسنة في مناظرة هذا «1»، أن يورد عليه من جنس ما يورده علي أهل الحق وما هو أغلظ منه، فإنّ المعارضة نافعة، وحينئذٍ، فإن فهم الجواب الصحيح علم الجواب عمّا يورد علي الحق، وإن وقع في الحيرة والعجز عن الجواب اندفع شرّه بذلك وقيل له: جوابك عن هذا هو جوابنا عن هذا» «2».

أقول:

لكنّ قاعدة «المعارضة» هي «أن يورد عليه من جنس ما يورده» من قائل مقبولٍ عند الطرفين أو عند الطرف المورد عليه في الأقل … وإلّا فكيف يُلزم بكلامِ من يراه علي ضلالٍ في أصل مذهبه؟

ولذا لم نجد العلّامة يورد علي أهل السنّة إلّا من كتبهم المعتمدة من الصحاح وغيرها … وليس في كتاب العلّامة إيراد علي أهل السنّة بقول أحدٍ من «الشيعة الاثني عشريّة» فضلًا عن غيرهم من أرباب الفرق الشيعيّة، الذين لا يرتضيهم السنّة ولا الشّيعة.

__________________________________________________

(1)

يعني العلامة الحلّي.

(2) منهاج السنة 8/ 282- 283 ولا يخفي ما في هذا الكلام وحده من اشكالات!!

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 528

وعلي الجملة، فإن العلامة ملتزم بقاعدة المعارضة في مناظرته.

وأمّا ابن تيمية … فلا … وإليك بيان ذلك:

1- معارضة قول الشيعة الاثني عشرية بقول أهل السنّة: … ص: 528

وهذا في كتابه كثير:

فمن ذلك: قوله في دعوي النصّ علي علي أو أبي بكر:

«ودعوي أولئك للنص الجلي أو الخفي علي أبي بكر، أقوي وأظهر بكثير من دعوي هؤلاء للنص علي علي» «1».

أقول:

كأنّ الرجل لا يفهم أنّ العلّامة يدّعي النص علي علي استناداً إلي كتب أهل السنّة، وأمّا أهل السنّة فلا يوجد لهم دليل علي إمامة أبي بكر في كتب الشيعة الاثني عشرية … فأين المعارضة فضلًا عن تقدّم قول أهل السنّة؟

وأيضاً: فإنّ الشيعة الإمامية الاثني عشرية لا يعتبرون بما يدّعيه أهل

السنّة نصّاً في إمامة أبي بكر، فضلًا عن أن يكون أكثر وأظهر.

وأيضاً: فإن النصوص المزعومة، فيها كلام سنداً ودلالة حتي علي أصول أهل السنّة وبناءً علي آراء علماءهم.

ومن ذلك: في قضية إعطاء أميرالمؤمنين عليه السلام الخاتم في الصّلاة، فقد عارض ابن تيميّة الحديث الوارد والدال علي نزول الآية المباركة في ذلك، بما

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 271.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 529

رواه البخاري ومسلم … وهذا كلامه:

«فمن المعلوم أنّ الصحابة أنفقوا في سبيل اللَّه وقت الحاجة إليه ما هو أعظم قدراً ونفعاً من إعطاء سائل خاتماً، وفي الصحيحين عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه قال: ما نفعني مال كمال أبي بكر … » «1».

أقول:

الحديث الذي تستدلُّ به الإماميّة متّفق عليه بين الطرفين، وهم يروونه عن كثيرٍ من كتب أهل السنّة المعتمدين، فكيف يعارض بما لا يرضي به الإماميّة؟ بل بما هو باطلٌ في نفسه؟

ومن ذلك: في مخالفات عائشة للَّه ولرسوله، فيدّعي معارضة ذلك بما يروونه من خِطبة أميرالمؤمنين عليه السلام ابنة أبي جهل «2».

أقول:

لكنّ قضايا عائشة بلغت حدّ الدراية، وخبر خطبة بنت أبي جهل خبر مفتعل من قِبَل بعض المناوئين لأمير المؤمنين والصدّيقة الطاهرة، كما عرفت في محلّه.

ومن ذلك: في طعن بعض الأصحاب في وصيّة أبي بكر لعمر بالخلافة، فعارضه ابن تيمية بطعن بعضهم في أمارة زيد بن حارثة «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 22.

(2) منهاج السنة 4/ 315.

(3) منهاج السنة 6/ 350.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 530

أقول:

كأنّ الرجل لا يدري أن ذلك الطعن ردٌّ علي اللَّه ورسوله، وأمّا الطعن في صنع أبي بكر فلا يدّعي كونه ردّاً علي اللَّه ورسوله إلّا معتوه لا يفقه ما يقول.

ومن ذلك: في رواية نزول

سورة (هل أتي في أهل البيت. وقد جاء فيها ذكر «فضّة» خادمة أهل البيت. فعارضها ابن تيمية برواية أنّ علياً وفاطمة طلبا خادماً من رسول اللَّه، فلم يعطهما، وعلّمهما التسبيحات «1».

أقول:

كأنّ المسكين لا يفهم كون الواقعتين في وقتين!!

ومن ذلك: معارضة حديث: «الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» المتفق عليه، بما انفرد بعضهم بروايته من أنّه «أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة» وهذه المعارضة باطلة، مع أنّ الحديث المذكور ساقط سنداً، كما أو ضحناه في رسالةٍ لنا في (الأحاديث المقلوبة) …

2- معارضة قول الاثني عشرية بقول غير الاثني عشرية: … ص: 530

ومن هذا القبيل موارد كثيرة، نذكر بعضها:

* يقول العلامة: «الفصل الرابع: في إمامة باقي الأئمة الاثني عشر. لنا في ذلك طرق: أحدها: النص. وقد توارثته الشيعة في البلاد المتباعدة خلفاً عن سلف:

عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه قال للحسين: هذا إمام، ابن إمام، أخو

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 183.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 531

إمام، أبو أئمة تسعة … » «1».

فهو- رحمه اللَّه- يستدل علي إمامة الائمة الاثني عشر بالنص الذي توارثه القائلون بإمامتهم … فيذكر واحداً.

لكن ابن تيميّة يعارض هذا الإستدلال بقول «الزيدية» الذين لا يقولون إلّا بإمامة أربعةٍ منهم، وبقول: «الإسماعيلية» الذين لا يقولون إلّا بإمامة ستةٍ منهم!! فيقول:

«والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: أولًا هذا كذب علي الشيعة، فإنّ هذا لا ينقله إلّا طائفة من طوائف الشيعة، وسائر طوائف الشيعة تكذّب هذا، والزيدية بأسرها تكذّب هذا- وهم أعقل الشيعة وأعلمهم وخيارهم- والإسماعيليّة كلّهم يكذّبون بهذا. وسائر فرق الشيعة تكذّب بهذا إلّا الإثني عشرية، وهم فرقة من نحو سبعين فرقة من طوائف الشيعة.

وبالجملة، فالشيعة فرق متعددة جدّاً، وفرقهم الكبار أكثر من عشرين فرقة، كلّهم تكذّب هذا، إلّا فرقة واحدة، فأين

تواتر الشيعة؟

الثاني: أن يقال: هذا معارض بما نقله غير الإثني عشرية من الشيعة من نص آخر يناقض هذا، كالقائلين بإمامة غير الاثني عشر، وبما نقله الراوندية أيضاً، فإنّ كلّاً من هؤلاء يدّعي من النص … » «2».

أقول: قد ذكر العلّامة طريق الشيعة الاثني عشرية لإثبات إمامة باقي الأئمة الاثني عشر، وكان لابن تيميّة أن يورد علي هذا الطريق بالردّ عليه سنداً أو دلالةً،

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 247.

(2) منهاج السنة 8/ 247- 248.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 532

لا أن يورد عليه بقول من لا يرتضيه لاهو ولا العلّامة طاب ثراه.

* بل إنه يعارض قول الاثني عشرية بقول العباسيّة، وهو قول مردود عند الشيعة والسنّة جميعاً، يقول ابن تيمية بعد كلام له:

«والمقصود هنا أن أقوال الرافضة معارضة بنظيرها، فإنّ دعواهم النصّ علي علي، كدعوي أولئك النص علي العبّاس، وكلا القولين مما يعلم فساده بالإضطرار..» «1».

3- معارضة استدلالات الإمامية بأقاويل النواصب … ص: 532

وموارد ذلك كثيرة:

من ذلك: دعوي المعارضة بين ما روي في مدح الإمام الحسين الشهيد، وذم قاتله، وبين قول النواصب: كان الحسين خارجيّاً، وهذا نصّ كلامه:

«وأمّا الحديث الذي رواه وقوله: إنّ قاتل الحسين في تابوت من نار … فهذا من أحاديث الكذّابين … فهذا الغلوّ الزائد يقابل بغلوّ الناصبة، الذين يزعمون أن الحسين كان خارجياً، وأنه كان يجوز قتله، لقول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: من أتاكم وأمركم علي رجلٍ واحدٍ يريد أن يفرّق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان. رواه مسلم.

وأهل السنّة والجماعة يردّون غلوّ هؤلاء وهؤلاء … » «2».

أقول:

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 504.

(2) منهاج السنة 4/ 585.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 533

فهو يري صحة هذه المعارضة، ويري القول بكون قاتل الحسين في النار غلوّاً،

بل يقدّم قول الناصبة، وكأنّه يستحيي من التصريح بمعتقده، وفي كلامه إيعاز بذلك، لأنّه حكم بكذب ذاك الحديث، وذكر في هذا الحديث: «رواه مسلم» فهو في الحقيقة يقدّم قول الناصبة … وإن كان قد نسب إلي أهل السنّة والجماعة أنّهم يردّون غلوّ هؤلاء وهؤلاء!!

ومن ذلك: في فضائل أميرالمؤمنين، فإنّه لمّا يعجز عن المناقشة في السَّنَد أو في الدلالة، ونحو ذلك من الطرق العلمية المتّبعة في مختلف العلوم، يعارض بأقاويل النواصب والخوارج، وهو بدلًا من أن يعارض بما وضعوه- مثلًا- لأئمّتهم من الروايات، يأتي بأباطيلهم في أصل إيمان أميرالمؤمنين وأهل البيت وعدالتهم ونحو ذلك … وهذا هو الذي قصده بقوله المنقول سابقاً: «وما هو أغلظ منه»!!

كقوله- في جواب قول العلّامة في أميرالمؤمنين عليه السلام: «حتي ادّعي قوم فيه الربوبية فقتلهم» -: «فإن جاز أن يقال: إنّما ادّعيت فيه الإلهية لقوّة الشّبهة، جاز أن يقال: إنما ادعي فيه الكفر لقوة الشّبهة، وجاز أن يقال: صدرت منه ذنوب اقتضت أن يكفّره بها الخوارج» «1».

وكقوله: «إنّ النواصب- من الخوارج وغيرهم- الذين يكفّرون علياً أو يفسّقونه أو يشكّون في عدالته، من المعتزلة والمروانية وغيرهم، لو قالوا لكم: ما الدليل علي إيمان علي وإمامته وعدله؟ لم يكن لكم حجة … » إلي أن قال:

«وأمّا إمامة علي، فهؤلاء ينازعونكم في إمامته هم وغيرهم، فإن احتججتم عليهم بالنص الذي تدّعونه، كان احتجاجهم بالنصوص التي يدّعونها

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 37.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 534

لأبي بكر- بل العبّاس- معارضاً لذلك، ولا ريب عند كلّ من يعرف الحديث أن تلك أولي بالقبول والتّصديق … » «1».

وكقوله- دفاعاً عن معاوية-:

«والمدّعي لارتداد معاوية وعثمان وأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهم، ليس هو أظهر حجةً

من المدّعي لارتداد علي، فإن كان المدّعي لارتداد علي كاذباً، فالمدّعي لارتداد هؤلاء أظهر كذباً، لأن الحجة علي بقاء إيمان هؤلاء أظهر، وشبهة الخوارج أظهر من شبهة الروافض» «2».

وكقوله- في الجواب عن استدلال العلّامة بحديث أبي نعيم عن ابن عبّاس، في قوله تعالي «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» -: «هذا معارض بمن يقول: إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم النواصب، كالخوارج وغيرهم، ويقولون: إنّ من تولّاه فهو كافر مرتد، فلا يدخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويحتجّون علي ذلك بقوله: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» قالوا: ومن حكّم الرجال في دين اللَّه فقد حكم بغير ما أنزل اللَّه، فيكون كافراً، ومن تولّي الكافر فهو كافر لقوله: «وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» … » إلي أن قال: «فهذا وأمثاله من حجج الخوارج، وهو وإن كان باطلًا بلا ريب، فحجج الرافضة أبطل منه، والخوارج أعقل وأصدق وأتبع للحق من الرافضة … » «3».

وكقوله- في جواب استدلال العلّامة بالآية المتمّمة للأربعين، النازلة في __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 386- 387.

(2) منهاج السنة 4/ 513.

(3) منهاج السنة 7/ 259- 260.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 535

فضل أميرالمؤمنين، أخذاً بروايات أهل السنة في تفاسيرها- بأنّ الخوارج فسّروا قوله تعالي «فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ» فقالوا: «إنّهم علي والحسن والحسين». قال:

«وكلّ هذا باطل، لكن الغرض أنهم يقابلون بمثل حجّتهم، والدليل علي فسادها يعمّ النوعين، فعلم بطلان الجميع» «1».

(3) التنظير والقياس غير الصحيح … ص: 535

وهذا طريق آخر من طرق ابن تيميّة … ولا ضمير لو كان استعماله لهذا الطريق صحيحاً وعلي القواعد … ولكن … !

وإليك بعض الموارد:

من ذلك: قوله دفاعاً عن أبي بكر في منعه فاطمة الزهراء

عليها السّلام إرثها من أبيها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «وفاطمة- رضي اللَّه عنها- قد طلبت من النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم مالًا فلم يعطها إيّاه، كما ثبت في الصحيحين عن علي- رضي اللَّه عنه- في حديث الخادم- لمّا ذهبت فاطمة إلي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم تسأله خادماً، فلم يعطها خادماً وعلّمها التسبيح.

وإذا جاز أن تطلب من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ما يمنعها النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم إيّاه، ولا يجب عليه أن يعطيها إيّاه، جاز أن تطلب ذلك من __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 297.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 536

أبي بكر … » «1».

أقول:

أي: فكان لأبي بكر أن لا يعطيها نحلتها أو إرثها، كما أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لم يعطها الخادم … !!

ألا يدري الرّجل: أن طلبها من أبي بكر كان طلباً لملكها أو لحقّها الثابت كتاباً وسنّة؟ وأين هذا الطلب عن طلب الخادم؟!

لقد كان من المحرّم علي أبي بكر الاستيلاء علي ملك الزهراء، وكان الواجب عليه ردّه إليها في أوّل لحظة، وأمّا النبي فقد رأي أن تعليمها التسبيح حينذاك خير لها من إعطاء الخادم، فأين هذا من ذاك؟

ومن ذلك قوله: دفاعاً عن طلحة والزبير في إخراج عائشة إلي البصرة، ثم دفاعاً عن يزيد وبني اميّة وأشياعهم:

«ولو قال المشنّع: أنتم تقولون: إن آل الحسين سُبوا لمّا قتل الحسين، ولم يفعل بهم إلّا من جنس ما فعل بعائشة، حيث استولي عليها ورُدَّت إلي بيتها وأعطيت نفقتها، وكذلك آل الحسين، استولي عليهم ورُدّوا إلي أهليهم واعطوا نفقة. فإن كان هذا سبياً واستحلالًا للحرمة النبوية، فعائشة قد سبيت واستحلّت حرمة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وهم يشنّعون

ويزعمون أن بعض أهل الشام طلب أن يسترقّ فاطمة بنت الحسين، وأنها قالت: لا هاللَّه حتي تكفر بديننا. وهذا إلي كان وقع، فالذين طلبوا من علي رضي اللَّه عنه أن يسبي من قاتلهم من أهل الجمل وصفين ويغنموا

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 246- 247.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 537

أموالهم، أعظم جرماً من هؤلاء، وكان في ذلك لو سبوا عائشة وغيرها … » «1».

أقول:

انظر إلي الروح الامويّة، واحكم بما تمليه عليك أحكام الشريعة المحمديّة!!

(4) النقض غير الوارد … ص: 537

والنقض أيضاً من الطّرق التي سلكها، ونحن نذكر موارد من هذا القبيل، فلاحظها بتدبّر واحكم علي قائلها بما شاء الدين والعلم:

* قال ابن تيمية- دفاعاً عن طلحة والزبير في إخراجهما عائشة إلي حرب البصرة- «والمقصود هنا: إن ما يذكرونه من القدح في طلحة والزبير ينقلب بما هو أعظم منه في حق علي، فإن أجابوا عن ذلك بأنّ علياً كان مجتهداً فيما فعل، وأنه أولي بالحق من طلحة والزبير. قيل: نعم، وطلحة والزبير كانا مجتهدين …

فإن قالوا: هما أحوجا عليّاً إلي ذلك، لأنهما أتيابها، فما فعله علي مضاف إليهما لا إلي علي.

قيل: وهكذا معاوية، لمّا قيل له: قد قتل عمار، وقد قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: تقتلك الفئة الباغية، قال: أو نحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به حتي جعلوه تحت سيوفنا.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 355- 356.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 538

فإن كانت هذه الحجة مردودة، فحجّة من احتجّ بأنّ طلحة والزبير هما فعلا بعائشة ما جري عليها من إهانة عسكر علي لها واستيلائهم عليها، مردودة أيضاً. وإن قبلت هذه الحجة قبلت حجة معاوية» «1».

أقول:

أهكذا يكون النقض؟ أليس من شرطه التسوية بين الأمرين من جميع الجهات؟

أمّا عائشة

فقد أخرجها طلحة والزّبير- بلا كلام- إلي حرب الإمام عليه السلام، ثم لمّا انكسر عسكرهم وتفرّق الناس عن هودجها، أرسل أميرالمؤمنين عليه السلام إليها أخاها محمّداً- الذي يقول ابن تيمية بأنّها دعت عليه فاحرق بالنار بمصر «2» - ثم حملت مكرّمةً إلي بيتها.

فأيّ شي ء فعل علي؟ وما الذي جري عليها بواسطته؟

أمّا عمّار فقد خرج بنفسه إلي قتال القاسطين، بأمرٍ من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وعهدٍ منه، ومعاوية وابن العاص وعسكرهما يعرفونه ويعلمون بذلك، فقتلوه تلك القتلة الشّنيعة.

والحاصل: إنّ حجة معاوية مردودة، وحجّة من قال بأن طلحة والزبير وأنصارهما أخرجوا عائشة مقبولة … وإنكار الفرق مكابرة.

وقال ابن تيميّة- دفاعاً عن أبي بكر في إهماله حدود اللَّه، فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حدّه، حيث قتل مالك بن نويرة وكان مسلماً، وتزوّج امرأته __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 357- 358.

(2) منهاج السنة 4/ 355.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 539

في ليلة قتله وضاجعها-:

«إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما ينكر علي الأئمة، كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان علي علي … وعلي لم يقتل قتلَتَه … » قال:

«وأمّا ما تفعله الرافضة من الإنكار علي أبي بكر في هذه القضيّة الصغيرة، وترك إنكار ما هو أعظم منها علي علي، فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم … » «1».

أقول:

لقد كان لقتل المسلمين عثمان بن عفان أسباب، ومن جملة تلك الأسباب إهماله حدود اللَّه وتبديله لأحكام اللَّه، فلو أنّ أبا بكر لم يهمل حدّ اللَّه وأحكامه في قصة خالد ومالك بن نويرة، لم تصدر تلك الامور من عثمان، حتي نقم عليه لأجلها المسلمون وقتلوه!!

وكم فرق بين زمن أبي بكر وزمن أميرالمؤمنين؟ وهل حصلت لأمير المؤمنين

فرصةٌ للقيام بالأمر؟

وأيضاً، فقد تبرأ أميرالمؤمنين من فعل قتلة عثمان، أمّا أبو بكر فقد برّأ خالداً من الذنب وجعل يعتذر له!

وأيضاً، فقد كان أميرالمؤمنين ينادي بالهدوء والإستقرار حتي يبادر إلي وظائفه، أمّا معاوية فقد استتبّ له الأمر وتغلّب علي الامّة كلها بعد صلح الحسن السبط عليه السلام، فلماذا لم يقتل قتلة عثمان … الأمر الذي استغرب منه حتي ابن تيمية نفسه «2»؟

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 514- 515.

(2) منهاج السنة 4/ 408.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 540

* وقال ابن تيمية- ناقضاً علي العلّامة قوله عن أبي بكر: «خالف أمر النبي في توريث بنت النبي ومَنَعها فدكاً-:

«ثمّ لو احتجّ محتجّ بأنّ عليّاً كان يمنع المال ابن عبّاس وغيره من بني هاشم، حتي أخذ ابن عبّاس بعض مال البصرة وذهب به، لم يكن الجواب عن علي إلّا بأنّه إمام عادل قاصد للحق، لايتّهم في ذلك، وهذا الجواب هو في حق أبي بكر بطريق الأولي والأحري «1».

أقول:

أيّ مالٍ منعه ابن عبّاس وغيره من بني هاشم؟

وأخذ ابن عبّاس بعض مال البصرة أوّل الكلام!

وعلي فرض منع أميرالمؤمنين ابن عبّاس، فالنقض بمنع أبي بكر فاطمة عليها السلام قياس مع الفارق، ففاطمة الزهراء مُنعت نحلتها ثم إرثها من النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، الثابت لها كتاباً وسنةً … وأيّ إرث كان لابن عبّاس عند أميرالمؤمنين؟

(5) التكذيب للحقائق … ص: 540

والتكذيب أوّل ما يتذرّع به ابن تيميّة في بحوثه وأكثره، وهو- في نفس __________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 521.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 541

الوقت- أسخفه وأضعفه …

لقد كذّب أغلب فضائل أميرالمؤمنين وأهل البيت:

فبالنسبة إلي ما نزل في علي وأهل البيت من القرآن:

- نزول قوله تعالي «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ» في علي

«موضوع باتّفاق أهل العلم».

- نزول قوله تعالي «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ … » في علي: «كذبٌ بإجماع أهل العلم بالنقل».

- نزول قوله تعالي «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ … » في علي: «إن هذا كذب».

- نزول قوله تعالي «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» في علي: «إنّ هذا كذب موضوع باتّفاق أهل العلم بالحديث، فيجب تكذيبه وردّه».

- نزول قوله تعالي «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» في علي: «إنّ هذا مما هو كذب موضوع باتّفاق العلماء وأهل المعرفة بالمنقولات».

- نزول سورة (هل أتي في أهل البيت: «إنّ هذا الحديث من الكذب الموضوع باتّفاق أهل المعرفة بالحديث … ».

إلي غير ذلك … من الآيات …

والأحاديث.. كذلك:

فحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»: «يعدّ في الموضوعات … والكذب يعرف من نفس متنه».

وحديث: «أقضاكم علي»: «لم يثبت».

وحديث: «علي مع الحق والحق مع علي»: «كذب قطعاً».

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 542

وحديث: «المؤاخاة»: «باطل موضوع».

وحديث: «الأشباه»: «كذب موضوع».

وحديث: «هو وليّ كلّ مؤمن بعدي»: «كذب علي رسول اللَّه» صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

وحديث: «الإنذار»: «كذب عند أهل المعرفة بالحديث».

وحديث: «هذا فاروق امّتي»: «كذب».

وحديث: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح … »: «لا يعرف له إسناد لا صحيح ولا ضعيف … ».

وحديث «الطير»: «من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل».

وهكذا …

وجميع ما روي في مواقف أميرالمؤمنين في الحروب والغزوات مع رسول اللَّه- صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- كلّه كذب.

وأمره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين من بعده، «موضوع».

- وفي قضايا الزهراء- سلام اللَّه عليها- وحدها، قال كلمة «هذا كذب» ونحوها: (16) مرةً.

وحديث: «إن فاطمة أحصنت … »: «كذب باتّفاق أهل المعرفة بالحديث».

وحديث: «إن اللَّه

يغضب لغضبك … »: «كذب».

- وحول الحسن والحسين عليهما السلام:

كذّب كلّ فضيلةٍ لهما تذكر …

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 543

- وخبر تسمية الإمام علي بن الحسين ب (زين العابدين) قال: «لا أصل له».

- وخبر تسمية الإمام محمّد بن علي ب (الباقر) قال: «حديث موضوع».

- وخبر توبة بشر الحافي علي يد (الكاظم) قال: «من الأكاذيب».

- وخبر كون معروف الكرخي خادماً للإمام (الرضا) وأنه أسلم علي يده:

«كذب».

- وخبر الإمام (الجواد) مع يحيي بن أكثم، قال: «من الأكاذيب».

- وخبر فتوي الإمام (الهادي) في نذر المتوكّل: «كذب أو جهل».

- وكون الإمام (العسكري) عالماً زاهداً روت عنه العامة كثيراً قال: «من الدعاوي المجرّدة والأكاذيب البيّنة».

- والإعتقاد بالإمام المهدي «من حماقات الشيعة».

- بل وحتّي وجود (فضّة) وهي خادمة أهل البيت: «كذب».

أقول:

فأيّ شي ء بقي لعلي وأهل البيت، ليس بكذب!!

تنبيهان:

الأول: إنّه قد لا يكتفي بالتكذيب، بل يضيف موكِّداً بأنّه «لم يرو لا بسند صحيح ولا ضعيف» أو «لم ينقل لا بسند صحيح ولا حسن».

والثاني: إنّه قد لا يكتفي بتكذيبه، بل يعزو التكذيب إلي «أهل العلم» و «أهل المعرفة بالأخبار» و «الإجماع» ونحو ذلك …

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 544

(6) الإنكار للثوابت … ص: 544

بل في كتابه إنكار الحقائق التاريخيّة الراهنة … وهذا من أجلي سِمات كتابه، وأكثر أساليبه استعمالًا فيه … ولعلّ من أوضح مصاديق هذا العنوان إنكاره- بإصرارٍ وتأكيد-، كون أبي بكرٍ وعمر في بعث اسامة، ودعواه أنّ أحداً من أهل السّير لم يرو ذلك أبداً، بل اتّفقوا علي أن أبا بكر بالخصوص لم يكن في هذا البعث … مع أن القضية بالعكس تماماً، وأنّه لا خلاف بينهم في أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أمر أبا بكر وعمر

وغيرهما من مشايخ الصحابة وكبارهم بالخروج مع اسامة، وقد ذكرنا في محلّه نصّ كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري.

ومن ذلك أيضاً: إنكاره وجود المنافق بين المهاجرين «1». مع أنّه مخالفة لما دلّت عليه سور القرآن الكريم وآياته، لا سيّما سورة (المدثر) المكية بالإجماع …

وهذا من المباحث المهمة ذات الأثر الكبير جدّاً، والتفصيل في محلّه.

بل حاول إنكار وجود بعض الأشخاص في هذا العالم، كإنكاره العالم المدرّس في المستنصريّة الذي كان في الباطن إماميّاً، وأوصي بأن يدفن عند الإمام موسي بن جعفر الكاظم عليه السلام في بغداد … وقد أثبتنا هذه الحقيقة في (الشرح).

__________________________________________________

(1)

منهاج السنة 8/ 449، 474.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 545

(7) الكذب الواضح … ص: 545

وأمّا الكذب علي أئمّة أهل البيت، في العقائد والأقوال … وغير ذلك … فما أكثره …

وما أكثره أيضاً … في أصحابهم وشيعتهم …

وقد عرفت طرفاً من ذلك فيما تقدم … فلا نعيد …

لقد كذب علي الأئمة والإماميّة …

وكذب علي مناوئيهم متي ما أراد الدفاع عنهم … فيقول- مثلًا- في قضيّة زواج الحجاج بن يوسف الثقفي من ابنة عبد اللَّه بن جعفر: «فلم يرض بذلك بنو اميّة حتي نزعوها منه، لأنّهم معظّمون لبني هاشم» «1» … وهذا كذب …

فقد قال محمّد بن إدريس الشافعي «لمّا تزوّج الحجاج بن يوسف إبنة عبداللَّه بن جعفر، قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان: أتركت الحجّاج يتزوّج ابنة عبد اللَّه بن جعفر؟ قال: نعم ما بأس بذلك؟ قال: أشد البأس واللَّه. قال: وكيف؟ قال: واللَّه- يا أميرالمؤمنين- لقد ذهب ما في صدري علي ابن الزبير منذ تزوّجت رملة بنت الزبير. قال: فكأنّه كان نائماً فأيقظه. قال: فكتب إليه يعزم عليه في

طلاقها. فطلّقها».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 559.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 546

فلاحظ البون الشاسع بين واقع الأمر وما قاله ابن تيميّة! وهذا أحد الموارد، ولنكتف به …

(8) المغالطة الفاضحة … ص: 546

وقد يلجأ ابن تيميّة في بحوثه إلي المغالطة:

فتراه يجيب عن قول العلّامة: «أنهم سمّوا عائشة رضي اللَّه عنها أمّ المؤمنين ولم يسمّوا غيرها بذلك»: «فهذا من البهتان الواضح الظاهر لكلّ أحد، وما أدري هل هذا الرجل وأمثاله يتعمّدون الكذب، أم أعمي اللَّه أبصارهم لفرط هواهم، حتي خفي عليهم أن هذا كذب؟ وهم ينكرون علي بعض النواصب أن الحسين لمّا قال لهم: أما تعلمون أني ابن فاطمة بنت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قالوا:

واللَّه ما نعلم ذلك. وهذا لا يقوله ولا يجحد نسب الحسين إلّا متعمّد للكذب والافتراء … » «1».

أقول:

أين هذا؟ ومن رواه؟ بل الثابت أنّهم أجابوه، لمّا سألهم: «فلم تقاتلونني؟» بأن قالوا: «بغضاً منّا لأبيك» بل في المصادر أنهم كانوا يخاطبونه «يا

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 367- 368.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 547

ابن فاطمة» «1».

ويجيب عن قول العلّامة في معاوية: «قتل جمعاً كثيراً من خيار الصحابة» بقوله: «الذين قتلوا قتلوا من الطائفتين، قتل هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء … » «2».

أقول:

فقد غالط الرجل، لأن كلام العلّامة مطلق، وليس في خصوص الحرب والقتال.. فالذين قتلهم معاوية- من خيار الصحابة- لا في الحرب جمع كثير …

ويجيب عن استدلال العلّامة لإمامة أميرالمؤمنين: بلزوم كون الإمام معصوماً، وأهل السنّة لا يدّعون العصمة لأحدٍ من أئمتهم، وعلي معصوم فهو الإمام، فيقول ابن تيمية:

«قولهم: ليس بمعصوم غير علي اتّفاقاً. ممنوع … فكثير من أتباع بني اميّة- أو أكثرهم- كانوا يعتقدون أنّ الإمام لا حساب عليه ولا عذاب،

وأن اللَّه لا يؤاخذهم علي ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كلّ شي ء، واللَّه أمرهم بذلك، وكلامهم في ذلك معروف كثير … » «3».

أقول:

فهل هذا معني العصمة؟

ويجيب عن الإستدلال بكون أميرالمؤمنين أوّل من أسلم:

__________________________________________________

(1) مقتل الحسين للخوارزمي المتوفي سنة 568، 2/ 38.

(2) منهاج السنة 4/ 467.

(3) منهاج السنة 6/ 430.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 548

«إن كون الشخص لم يسجد لصنم فضيلة يشاركه فيها جميع من ولد علي الإسلام، مع أنّ السابقين الأوّلين أفضل منه، فكيف يجعل المفضول مستحقاً لهذه المرتبة دون الفاضل؟» «1».

أقول:

إنّ الكلام في المفاضلة بين أميرالمؤمنين عليه السلام وغيره من الصحابة وعلي رأسهم أبو بكر، فالعلّامة يريد إثبات أفضليته لكونه عليه السلام أوّل من أسلم ولم يسجد لصنم قط، دون أولئك كلّهم، فكيف يجعل من ولد علي الإسلام مشاركاً له في هذه الفضيلة؟

ويجيب عن قول العلّامة: «وفي غزوة خيبر كان الفتح فيها علي يد أمير المؤمنين … » فيقول:

«لعنة اللَّه علي الكاذبين، من ذكر هذا من علماء النقل؟ وأين إسناده وصحّته؟ وهو من الكذب، فإن خيبر لم تفتح كلّها في يومٍ واحدٍ، بل كانت حصوناً متفرقة، بعضها فتح عنوة وبعضها فتح صلحاً … » «2».

أقول:

ومتي قال العلّامة كانت حصناً واحدة؟ وفتح كلّها في يوم واحدٍ؟ وهل البحث في هذا؟

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 134.

(2) منهاج السنة 8/ 123.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 549

(9) الإستطراد والخروج عن البحث … ص: 549

وقد يضطرُّ إلي الخروج عن البحث وذكر أمورٍ استطراداً، تخلّصاً من الورطة التي وقع فيها …

وربما يستوعب الإستطراد عشرات الصفحات من كتابه.

فمن ذلك:

الإستطراد في الردّ علي قول الفلاسفة بقدم العالم. وقد استوعب الصفحات 148- 446، من الجزء الأول.

والإستطراد في مناقشة نفاة

الصفات. وقد استوعب الصفحات 563- 581، من الجزء الثاني.

والإستطراد في باب المطاعن. وقد استوعب الصفحات 83- 461 من الجزء الخامس.

والإستطراد في أن العقوبة في الآخرة تندفع بنحو عشرة أسباب. وقد استوعب الصفحات 205- 239، من الجزء السادس.

والإستطراد في التمييز بين الصدق والكذب في المنقولات. وقد استوعب الصفحات: 34- 43. من الجزء السابع.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 550

(10) الإقرار ببعض الحق … ص: 550

وقد يضطرّ إلي أن يقرّ ببعض الامور، وكأنّه يري أن الإقرار بها لا يضرّ بمقاصده الأصليّة، كإقراره بأنه:

«لم يقل أحد من علماء المسلمين أن الحق منحصر في أربعةٍ من علماء المسلمين، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، كما يشنّع بذلك الشّيعة علي أهل السنّة» «1».

ففيه الإقرار- ولو بنحو الإجمال- بكون غير المذاهب الأربعة علي الحق.

وكقوله: «نحن لا نقصد تصويب قول كلّ من انتسب إلي السنّة» و «نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنّة من يقول الخطأ … » «2».

وهذا معناه: أن هناك في أقوال أهل السنة ما لا يمكن توجيهه ولو بارتكاب التمحّلات.. فلابدّ من الإعتراف بوجود تلك الضلالات …

وكإقراره بدلالة آية الوضوء علي مسح الرجلين لا غسلهما «3» وفيه ردّ علي من تنطّع منهم وحاول إنكار ذلك.

وكإقراره بأنّ بعض الأزواج في قوله تعالي «وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَي بَعْضِ __________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 369.

(2) منهاج السنة 3/ 98، 110.

(3) منهاج السنة 4/ 176.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 551

أَزْوَاجِهِ … »: عائشة وحفصة «1».

وكإقراره بذهاب أهل السنّة إلي الفتاوي الشاذّة عن الكتاب والسنّة، عملًا بالقياس «2».

وكقوله: «نحن نعلم أنهم كذبوا في كثير ممّا رووه في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان» «3».

(11) الإستدلال بخارج الصّحاح، أمّا في مقام الردّ فيقول: «ليس في الصحيحين» … ص: 551

ومن مناهجه في كتابه أنّه يحتجُّ برواياتٍ من غير كتابي البخاري ومسلم بل من غير الكتب الستة، وربما يحتجُّ بروايات غير مسندة في كتبٍ غير مشهورة، ككتاب (تثبيت النبوة) للقاضي عبد الجبار المعتزلي، و (كتاب الزينة) لأبي حاتم، و (الإبانة) لابن بطّة … ونحوها.

أمّا في مقام الردّ علي العلّامة فيقول: «ليس في الصحيحين» فلا يرتضي (السنن الأربعة) و (مسند أحمد) وأمثالها، من الكتب المشهورة المعتبرة عندهم.

فلاحظ مثلًا: 3/ 456، 4/

464، 5/ 396.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 313.

(2) منهاج السنة 4/ 338- 340.

(3) منهاج السنة 7/ 41.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 552

(12) التكرار الممل … ص: 552

وقد يكرّر المطلب مرّات، وكأنّه لغرض تضخيم الكتاب، فمن ذلك مثلًا:

إنه تكلّم أكثر من مرة عن الجواهر الفردة أو الأجزاء التي لا تتجزأ، فلاحظ مثلًا 1/ 414، 2/ 134- 139، 208- 209.

(13) الإطناب لئلّا يظهر إقراره بما قاله العلّامة … ص: 552

وهذا أيضاً من أساليبه، فهو لا يعترف رأساً وفي أوّل الأمر بما ينسبه إليهم العلامة من العقائد مثلًا، بل يتكلّم كثيراً ويخلط، وقد يخرج عن البحث، وفي الأثناء- أو في آخر الكلام- يضطرُّ إلي الإعتراف، فيتخيّل أنّ الحق يضيع علي الباحثين.

* فمثلًا تراه في جواب قول العلّامة- في الأمور الشنيعة المترتبة علي مذهب القوم-: «ومنها: أنه يلزم تكليف ما لا يطاق، لأنه تكليف للكافر بالإيمان ولا قدرة له عليه، وهو قبيح عقلًا» يذكر وجوهاً، ويطيل الكلام، ثم يقول في آخره:

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 553

«إن من أهل الإثبات للقدر من يجوّز تكليف ما لا يطاق للعجز عنه، بل من غاليتهم من يجوز تكليف الممتنع لذاته، وبعضهم يدّعي أنّ ذلك واقع في الشريعة … » «1».

* ويقول في جواب قول العلّامة: «ومنها: انّه يلزم أن تكون أفعالنا الإختيارية … كالأفعال الإضطرارية … »:

«والجواب: إن هذا إنما يلزم من يقول: إن العبد لا قدرة له علي أفعاله الإختيارية، وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفةٍ معروفة من طوائف أهل السنّة، بل ولا من طوائف المثبتين للقدر، إلّا ما يحكي عن الجهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنهم سلبوا العبد قدرته … وأشد الطوائف قرباً من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم … وقد قلنا غير مرّة: نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنة من يقول الخطأ، لكن لا يتفّقون علي خطأ كما تتّفق الإمامية

علي خطأ … » «2».

* ويقول في جواب قول العلّامة بأن أهل السنّة يغيّرون بعض الأحكام الشرعية، لكونها أصبحت شعاراً للشيعة الاثني عشرية، كالتختّم باليمين وغيره:

«والجواب من طريقين:

أحدهما: إن هذا الذي ذكره هو بالرافضة ألصق.

والثاني: إن أئمة السنّة برآء من هذا» قاله في الصفحة 137.

ثم يبيّن الطريقين ويطنب في الكلام جدّاً … ويتهجّم فيه علي الشيعة

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 107.

(2) منهاج السنة 3/ 109- 110، ولاحظ الصفحات بعدها.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 554

ويفتري.. إلي أن يقول في الصفحة: 154: وفي الأسطر الأخيرة من الفصل:

«إذا كان في فعلٍ مستحبٍ مفسدة راجحة لم يصر مستحبّاً. ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلي ترك بعض المستحبّات إذا صارت شعاراً لهم، فإنّه لم يترك واجباً بذلك، لكن قال في إظهار ذلك مشابهة لهم، فلا يتميّز السنّي من الرافضي، ومصلحة التميّز عنهم- لأجل هجرانهم ومخالفتهم- أعظم من مصلحة هذا المستحب … » «1».

أقول:

فكيف يقول في أول الكلام: «والجواب من طريقين … »؟ و «إنّ أئمة السنّة برآء من هذا»؟

* ويقول- في جواب العلّامة حيث ذكر من بدع القوم: ذكر الخلفاء في الخطبة-: «الجواب من وجوه» فيظنُّ النّاظر أنّه سيجيب عمّا نسبه العلّامة إليهم في هذا المجال، لكنّه يذكر وجوهاً ويلوف ويدور من الصفحة 156- إلي الصفحة 170 … فتراه يقول في الأثناء ما نصّه:

«وإذا كان ذكر الخلفاء الراشدين هو الذي يحصل به المقاصد المأمور بها عند مثل هذه الأحوال، كان هذا مما يؤمر به في مثل هذه الأحوال، وإن لم يكن من الواجبات التي تجب مطلقاً … » «2».

وهكذا في موارد اخر لا نطيل بذكرها …

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 154.

(2) منهاج السنة 4/ 166.

دراسات في منهاج

السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 555

(14) المطالبة بالسند الصحيح مع الاستدلال بالمرسل وما لا سند له … ص: 555

وذكر ابن تيمية في غير موضعٍ من كتابه بأنه «لابدّ من السّند المعتبر في النقليّات» «1».

فما أكثر الموارد التي طالب فيها بتصحيح السند، بأن يأتي العلّامة لمدّعاه بروايةٍ مسندةٍ بسندٍ صحيح، وإلّا فلا يقبل:

كالمطالبة بصحة النقل في نزول الآيات الكريمة: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي … » «2»

.«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ … » «3»

.«الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ … » «4»

.قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «5»

.وغير ذلك من الآيات، وفي نزول سورة «هَلْ أَتَي» «6»

وفي خُطبة الشقشقية «7» وغير ذلك …

__________________________________________________

(1) انظر: 3/ 138، 5/ 481، 6/ 249، 7/ 42، 7/ 136 وغيرها.

(2) منهاج السنة 7/ 60.

(3) منهاج السنة 7/ 154.

(4) منهاج السنة 7/ 228.

(5) منهاج السنة 7/ 95.

(6) منهاج السنة 7/ 177.

(7) منهاج السنة 7/ 86.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 556

ومع ذلك.. فما أكثر استدلاله، مع عدم ذكر السند وتصحيحه، ولو أردنا ذكر أشياء من هذا القبيل لطال بنا المقام …

بل إنّه يورد رواياتٍ ويرسلها إرسال المسلَّم ولا يعطي أي سندٍ، ولا يذكر الراوي لها أصلًا «1».

وقد يروي الخبر المرسل ويحتجّ به ويعترف بكونه مرسلًا «2».

وقد يروي الخبر بطوله ويستند إليه … ثم بالتالي يعترف بضعف راويه «3».

وقد يُسند الخبر إلي كتابٍ، فيعترف محقق (منهاج السنّة) بعدم وجوده في ذلك الكتاب، أو وجوده فيه بلفظٍ آخر لا دلالة فيه علي مدّعاه.

(15) ردّ السّند الصحيح المتّصل بدعوي الإرسال … ص: 556

وبالرّغم من استدلاله بالمرسل- كما عرفت- يردّ علي بعض الأحاديث التي استدلّ بها العلّامة بدعوي كونها مرسلةً …

كقوله- في حديث عمرو بن ميمون عن ابن عبّاس، المشتمل علي الخصائص العشر لأمير المؤمنين عليه السلام-: «إن هذا ليس مسنداً بل هو مرسل» ثم يشكّك في ثبوته عن عمرو بن ميمون. ثم

يقول: «وفيه ألفاظ هي __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 308.

(2) منهاج السنة 1/ 536.

(3) منهاج السنة 1/ 34.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 557

كذب علي رسول اللَّه … » «1».

والمقصود: أنه إذا كان مرسلًا، والمرسل لا يجوز الاستدلال به، فلماذا تستدلُّ بالمرسل وأنت معترف بإرساله؟

لكنّ حديث عمرو بن ميمون ليس مرسلًا، بل هو مسندٌ، وسنده صحيح، كما عرفت في محلّه …

وإذا صحّ سنده فألفاظه صادقة.

وفي هذا الحديث خصوصيّات يضطرُّ ابن تيميّة إلي الطّعن فيه!

1- صحّة سنده، فلابدّ أن يطعن فيه.

2- اشتماله علي عشرةٍ من خصائص أميرالمؤمنين، وهو ينكر وجود خصائص له عليه السّلام، ووجود الخصائص يدلّ علي أفضليته، فيكون هو الإمام.

3- كون الحديث عن ابن عبّاس، وابن تيميّة يدّعي أن ابن عبّاس كان يقدّم الشيخين علي أميرالمؤمنين.

(16) إنتقاؤه أقوال الحاقدين … ص: 557

وأنتَ إذا ما قارنت كلام ابن تيمية في كتابه بكلام السابقين عليه، وجدتَه __________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 34.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 558

ينتقي أقوال الحاقدين علي الأئمة والإماميّة، من المعتزلة والأشاعرة، فقد أخذ من المعتزلة من جماعةٍ، علي رأسهم:

1- القاضي عبد الجبار صاحب المغني.

2- أبو القاسم البلخي.

3- عمرو بن بحر الجاحظ صاحب العثمانية.

وأخذ من الأشاعرة وأهل السنّة المتعصّبين أمثال:

1- إبن العربي المالكي، صاحب العواصم من القواصم.

2- إبن الجوزي، صاحب كتاب الموضوعات وغيره.

3- إبن حزم الأندلسي، صاحب الفصل وغيره.

4- الفخر الرازي، صاحب التفسير الكبير.

بل يمكن القول بأنّه في جلّ بحوثه عيالٌ علي هؤلاء الأربعة، وان كان في أكثر الأحيان يتحاشي من ذكر الأسماء …

فأكثر دفاعاته عن معاوية ويزيد وبني اميّة متّخذ من (العواصم من القواصم)، وأكثر استدلالاته علي فضائل الثلاثة والدفاع عنهم متّخذ من (الفصل)، وأكثر أجوبته السندية عن فضائل أميرالمؤمنين عليهم السلام متخذ من

(الموضوعات) وأكثر تشكيكاته في دلالاتها متّخذ من (المغني) و (العثمانية).

وهو في البحوث الفلسفية والكلامية عيال علي (الفخر الرازي) لأنه- أي ابن تيمية- راجل فيها، كما اعترف بذلك محقق كتابه في هامشه «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 140 الهامش.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 559

(17) مواقفه من العلماء والكتب … ص: 559

اشارة

ومن سبر كتاب (منهاج السنّة) وتأمّله.. وجد ابن تيميّة يمدح ويثني أو يقدح ويطعن.. في العلماء وكتبهم … حسب ما يهوي … فكلّ حديثٍ وافق هواه، نقله عن الكتاب وجعله حجة وأثني علي مولِّفه، وكلّ حديثٍ يحتجُّ به الإماميّة ويقوّي قولهم، ردّه، وتكلّم في الكتاب المخرج له، وربّما في المؤلّف أيضاً …

ولذا يقع في التناقض بالنسبة إلي عدّةٍ من الكتب، لأنّه حينما يريد الجواب عن استدلال العلّامة يطعن، أمّا حين يريد الإستدلال بحديثٍ- لا يجده إلّا في نفس الكتاب- يحتجّ به …

وهذا من أقوي المؤاخذات علي كتاب (منهاج السنّة) وأظهر التناقضات الموجودة فيه.

ونحن نوضّح هذه الحقيقة بشي ءٍ من التفصيل، فنقول:

من الكتب التي احتجّ بها … ص: 559

إنّ من الكتب التي احتجّ بها ابن تيمية، واستند إلي رواياتها هي الكتب التالية:

البخاري ومسلم واستدلاله بهذين الكتابين مع وصفهما بالصحيحين كثيرٌ، ولا حاجة إلي الإرشاد إلي موارد ذلك.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 560

السّنن الأربعة

واستدلّ بكتب النسائي، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجة … فمن موارد رواياته عن «السنن»: ج 1/ 51، 2/ 436، 3/ 166، 5/ 202.

ومن موارد استدلاله ب (الترمذي): 1/ 48، 4/ 92، 268، 5/ 105، 6/ 14، 7/ 508، 8/ 64، 361.

ومن موارد استدلاله ب (أبي داود): 1/ 469، 540، 4/ 223، 6/ 111، 8/ 361.

ومن موارد استدلاله ب (النسائي): 2/ 114.

ومن موارد استدلاله ب (ابن ماجه): 4/ 551.

وتجدر الإشارة إلي أنّه اعتمد علي روايات الترمذي لفضائل عمر 8/ 64 وعلي تحسينه فضيلةً لعمر هي: «لو لم أبعث فيكم لبعث عمر» 7/ 508.

مسند أحمد ومناقب الصحابة له واحتجّ بروايات أحمد في (المسند) كما في ج 1/ 475، 2/ 159، 6/ 17، 8/ 361.

وبروايته في مناقب الصحابة في 8/ 457.

هذا،

وقد أثني علي أحمد في موضعٍ قائلًا: «أحمد بن حنبل مع أنه أعلم أهل زمانه» «1» وعلي أحاديث مسنده غير مرة، كقوله: «هي أجود من أحاديث سنن __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 50.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 561

أبي داود» «1».

صحيح الحاكم وابن حبان واحتجّ بصحيح ابن حبان في غير موضع كما في ج 1/ 475، 2/ 159، 5/ 202 …

وهكذا بالمستدرك علي الصحيحين للحاكم، كما في: 5/ 105 قائلًا: «الحاكم في صحيحه» و 7/ 372، 8/ 350 و 354.

وذكر الحاكم في جماعةٍ من الأئمة قال: «هؤلاء … أعلم بأحوال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من غيرهم» «2».

كتب التفسير

واحتجّ بروايات كتب التّفسير، كالثعلبي 2/ 247، والطبري 7/ 118، و 141 والبغوي 1/ 457.

وقد جاء في كتابه الثناء علي عدّةٍ كتب من التفسير، قال: «أهل العلم الكبار، أهل التفسير، مثل: تفسير محمّد بن جرير الطبري، وبقي بن مخلّد، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، … وأمثالهم، فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات» «3».

ووصف كتب الطبري، إبن أبي حاتم، ابن المنذر … في جماعةٍ من المفسرين ب «الذين لهم في الإسلام لسان صدق، وتفاسير هم متضمّنة للمنقولات التي يعتمد

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 223 وانظر 7/ 35.

(2) منهاج السنة 7/ 426- 428.

(3) منهاج السنة 7/ 13.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 562

عليها في التفسير» «1».

كتب اخري واحتجّ بكتب اخري

كتاريخ الطبري 1/ 122.

والملل والنحل للشهرستاني 1/ 157.

والحلية لأبي نعيم 5/ 483 و 6/ 8، و 8/ 530.

والسيرة النبوية لابن هشام 8/ 96 وقال: «ابن هشام صاحب السيرة، صادق».

والموضوعات لابن الجوزي، في مواضع، منها: 7/ 63.

والفصل لابن حزم، في مواضع، منها 5/ 443.

وابن أبي الدنيا، 4/

529.

أقول:

إذن، فهذا الكتب يجوز الإستدلال بها، وعلي ابن تيمية أن يخضع لذلك.

من الكتب التي طعن فيها … ص: 562

وطعن ابن تيميّة في كتبٍ وفي أصحابها:

ككتاب (تذكرة الخواص) لسبط ابن الجوزي 4/ 97.

و (مناقب أميرالمؤمنين) للخوارزمي المكي 5/ 41، 7/ 403.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 179.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 563

و (مروج الذهب) للمسعودي 4/ 84.

و (فردوس الأخبار) للديلمي 5/ 73.

و (مناقب أميرالمؤمنين) لابن المغازلي وقال: «وقد جمع الموضوعات» 7/ 15.

و (تاريخ دمشق) لابن عساكر، قال: «فيه ما يعرف أهل العلم بالحديث أنه كذب» 7/ 40.

و (خصائص أميرالمؤمنين) للنسائي، قال: «فيها عدّة أحاديث ضعيفة» 8/ 178 بل موضوعة 5/ 511.

أقول:

وكلّ ذلك لروايتهم فضائل أميرالمؤمنين وأهل البيت.

وطعن في غير واحدٍ من الأئمة والعلماء الكبار، لذلك أيضاً:

فقال في الطحاوي: «والطحاوي ليست عادته نقد الحديث كنقد أهل العلم … فإنّه لم تكن معرفته بالأسناد كمعرفة أهل العلم به، وإن كان كثير الحديث فقيهاً عالماً» «1».

وقال في أبي العبّاس ثعلب: «ليس ثعلب من أئمة الحديث» «2».

وفي روايات ابن خالويه: «الأحاديث التي رواها ابن خالويه كذب موضوعة» «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 195.

(2) منهاج السنة 5/ 512.

(3) منهاج السنة 7/ 401.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 564

أقول:

لو سلّمنا كلّ هذا الذي قاله بالنسبة إلي تلك الكتب وأولئك الأعلام، فقد وقع في التناقض في غير مقام.

تناقضاته … ص: 564

فهو في حين يحتجّ ب (صحيح البخاري) كما عرفت، يضطر إلي التنقيص من شأنه والطعن فيه 5/ 101- 102، 7/ 215 ويقول: «في البخاري أغلاط»!!

فكأنّ الصحيح منه ما وافق هواه فقط!!

وفي الوقت الذي يستند إلي (السنن) بكثرة ويحتجُّ بها، يخاطب الإماميّة إذا احتجّوا بها قائلًا: «والحديث نفسه ليس في الصحيحين، بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث، كابن حزم وغيره، ولكن قد رواه أهل السنن، كأبي داود والترمذي وابن ماجة، ورواه

أهل المسانيد كالإمام أحمد وغيره.

فمن أين لكم علي اصولكم ثبوته حتي تحتجّوا به؟ وبتقدير ثبوته، فهو من أخبار الآحاد» «1».

ويستند إلي كتاب الترمذي، خاصةً في فضائل عمر، لكنه يقول في جواب الإستدلال به في فضائل أميرالمؤمنين «والترمذي في جامعه روي أحاديث كثيرة في فضائل علي، كثير منها ضعيف» «2»، «والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله، وفيها ما هو ضعيف بل موضوع» «3» ويقول في حديث أنا مدينة العلم __________________________________________________

(1) منهاج السنة 3/ 456.

(2) منهاج السنة 8/ 178.

(3) منهاج السنة 5/ 511.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 565

وعلي بابها «إنّما يعّد في الموضوعات وإن رواه الترمذي «1».

ويكثر من الاحتجاج بأحاديث أحمد في (المسند) ويصفه بما عرفت. ولكن عندما يحتجُّ الإماميّة برواياته فيه يقول: «قد يروي الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم» «2»، وفي موضعٍ آخر: «ليس كلّ ما رواه أحمد في المسند وغيره يكون حجةً عنده» «3». وفي موضع ثالث: «مجرّد رواية أحمد لا توجب أن يكون صحيحاً يجب العمل به» «4».

إذن، فما وافق هوي ابن تيمية يكون حجةً عند أحمد، وما خالفه ليس حجةً عنده!!

ويحتجّ برواية الحاكم في المستدرك ويصفه بالصحيح، لكنّه عندما يحتجّ الإماميّة بحديثٍ فيه- صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه- يقول: «اسناده ضعيف» «5».

ويعتمد علي الشهرستاني فيما يشتهيه، أمّا حيث يحكي الشهرستاني ما لا يرتضيه ابن تيمية، أو ما فيه تقوية لقول الإمامية، يتهجّم عليه فيقول:

«الشهرستاني لا خبرة له»! «6» ويعتمد علي الثعلبي في حكاية مطلبٍ عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام __________________________________________________

(1) منهاج السنة 7/ 515.

(2) منهاج السنة 7/ 53.

(3) منهاج السنة 7/ 96- 97.

(4) منهاج السنة 7/ 400.

(5) منهاج السنة 5/ 396.

(6) منهاج السنة 6/

319 وانظر: 6/ 300، 304، 305، 326، 362.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 566

قال: «كما نقل ذلك الثعلبي عنه بإسناده في تفسير قوله: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً» «1»

… لكن عندما يحتجُّ العلّامة بما رواه الثعلبي في تفسيره من فضائل أميرالمؤمنين يقول:

«مجرّد عَزوه إلي الثعلبي … ليس بحجة» «2».

الثعلبي والواحدي، يرويان الموضوعات «3».

بل يقول:

«أجمع أهل العلم بالحديث علي أنّه لا يجوز الإستدلال بمجرّد خبر يرويه الواحد من جنس الثعلبي والنقاش والواحدي» «4».

وكذا قال في أبي نعيم الاصفهاني «5»، وقال: «صاحب الحلية قد روي …

أحاديث … موضوعة» «6».

ورأيته كيف يثني علي تفاسير (الطبري) و (ابن أبي حاتم) و (البغوي) لدي النقل عنها فيما ينفعه …

لكنّه عندما يستدلّ علماء الإماميّة بروايات هؤلاء يقول:

«لم يكن مجرّد رواية واحدٍ من هؤلاء دليلًا» «7» ويصف كتبهم بأنها جامعة بين الغث والسمين، والموضوع المكذوب …

__________________________________________________

(1)

منهاج السنة 2/ 247.

(2) منهاج السنة 7/ 10.

(3) منهاج السنة 7/ 12.

(4) منهاج السنة 7/ 13.

(5) منهاج السنة 7/ 34.

(6) منهاج السنة 5/ 79.

(7) منهاج السنة 7/ 300.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 567

(18) السبُّ والشتم … ص: 567

وقد استغرق كثيراً من كتابه السّباب والشتائم، بحيث لو جمعت في مكانٍ لكانت كتاباً ضخماً.. وقد ذكرنا طرفاً من ذلك فيما تقدم، ولا حاجة إلي الإعادة أو الزيادة.

(19) التجاهل أو سوء الفهم … ص: 567

ومن هذا القبيل أيضاً موارد …

فمثلًا يقول العلّامة أنّ الإماميّة الاثني عشرية جعلوا عليّاً إماماً لهم «حيث نزّهه المخالف والموافق» يعني: حيث نزّهه الموافق لإمامته والقائل بها، والمخالف لإمامته المنكر لها وهم أهل السنّة.

فيقول ابن تيمية في جوابه:

«فيقال: هذا كذب بيّن، فإنّ علياً رضي اللَّه عنه لم ينزّهه المخالفون، بل القادحون في علي طوائف متعددة، وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان، والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه، فإنّ الخوارج متّفقون علي كفره..

فكيف يقال مع هذا: إن علياً نزّهه المؤالف والمخالف»؟ «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 5/ 7- 8.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 568

ويقول العلّامة: إن طلحة والزبير أخرجا عائشة من مكة إلي البصرة، «فبأيّ وجهٍ سيلقون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم؟».

فيقول ابن تيمية في الجواب:

«من تناقضهم أنّهم يعظّمون عائشة في هذا المقام طعناً في طلحة والزبير … » «1».

مع أنه لم يكن في كلام العلامة أيّ تعظيم لعائشة!!

ويقول العلّامة في محمّد بن أبي بكر «فارق أباه».

فيقول ابن تيمية في الجواب: «كذب بيّن، وذلك أنّ محمّد بن أبي بكر في حياة أبيه لم يكن إلّا طفلًا له أقل من ثلاث سنين» «2».

وهل هذا مراد العلّامة؟

وجاء ذكر «الأبطح» في سبب نزول قوله تعالي «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ» في واقعة الغدير، فيقول ابن تيمية؛

«وفي هذا الحديث يذكر أنه بعد أن قال هذا بغدير خم وشاع في البلاد، جاءه الحارث وهو بالأبطح، والأبطح بمكة. فهذا كذب جاهل لم يعلم متي كانت قصة غدير خم»

«3».

فجهل ابن تيمية أو تجاهل معني «الأبطح» في اللغة، فزعم أنه اسم مكان بمكّة. فاعترض بما ذكر … !!

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4/ 353.

(2) منهاج السنة 4/ 394.

(3) منهاج السنة 7/ 45.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 569

(20) التناقض البيّن … ص: 569

وفي كلماته في المباحث المختلفة تناقضات بيّنة، وهي كثيرة جدّاً، وقد بيّنا بعضها في هذه (الدراسات).

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 571

الباب العاشر: ابن تيميّة ومواقف العلماء منه … ص: 571

اشارة

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 573

إن لابن تيميّة مؤلفات كثيرة ومتنوّعة … فله كتب في العقائد والتفسير والفقه … وغير ذلك.. كانت مورد الأخذ والرد، وموضع القبول والنقد، بين علماء طائفته، وما زالت كذلك، وإلي يومنا هذا.

لكنّ الجميع توافقوا علي أنّ كتاب (منهاج السنّة) هو أهمّ وأوسع كتبه، وأنه الكتاب الذي أودع فيه مجمل عقائده، لا سيّما في المسائل الخلافية، سواء بين الشيعة والسنة، أو بين السنّة أنفسهم.

ومن هنا، فقد اهتمّ به مثل الذهبي، حيث اختصره في كتابٍ أسماء ب (المنتقي من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال) «1». ومثل صفي الدين عبد المؤمن البغدادي الحنبلي، المتوفي سنة 739، في كتابٍ أسماه ب (المطالب العوال لتقرير منهاج الاستقامة والاعتدال).

ومما يدل علي اهتمام القوم بهذا الكتاب، كثرة نسخه الخطيّة في مكتبات العالم، ثم استفادة المتأخرين عن ابن تيمية منه واعتمادهم عليه، لا سيّما كتّاب عصرنا، أصحاب المؤلّفات والمقالات في العقائد والفرق، وأرباب الكتب المؤلّفة ضدّ الشيعة الاثني عشرية، فإنّك إذا نظرت إلي كتاباتهم وجدتهم عيالًا علي ابن تيمية، ووجدت مطالبها منقولةً عن كتبه وخاصةً (منهاج السنّة) مع التصريح __________________________________________________

(1) وهو مطبوع بهذا الاسم، وقد يسمّي بغيره أيضاً.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 574

بذلك والإرجاع إليه أو بدون ذلك …

كما قد ذكرنا- في محلّه- كون ابن تيمية عيالًا في كتابه المذكور علي ابن حزم وابن الجوزي وابن العربي المالكي، وقد نبّه الصلاح الصفدي علي كونه عيالًا علي ابن حزم، في كلامه الذي سننقله فيما بعد.

ولهذه الأسباب

… فقد رأينا أن ندرس كتاب (منهاج السنّة) لنري مدي موفقيّته في الردّ علي (منهاج الكرامة) والشيعة الامامية الاثني عشرية، بعد الوقوف علي مناهجه وأساليبه في البحث، وأيضاً لنتعرّف علي ابن تيمية، في عقائده وعلومه ونفسيّاته.

لقد رأينا من الإنصاف أن نترك ما كتب عن الرجل، مدحاً أو قدحاً، وأن نمسك عن الحكم عليه أوله، قبل دراسة كتابه (منهاج السنّة) الذي هو أهمّ كتبه، دراسةً شاملة …

حتي إذا انتهينا من جولتنا العلمية التحقيقية في أعماق هذا الكتاب الكبير، واستخرجنا منه ما يمكن الوقوف به علي واقع عقائد ابن تيمية، وحدود معلوماته، وحقائق نفسيّاته وأخلاقه.. كنّا قد حكمنا علي ضوء ما نطق به لسانه وخطّ قلمه في أهم كتبه ومصنّفانه …

ولو أنّ جميع الأحكام التي تصدر بحقّ الأشخاص استندت إلي أقاريرهم، واعتمدت علي أقوالهم الثابتة عنهم … لم يقع الخلاف حول واحدٍ بين اثنين، ولارتفع كثير من الجدل والخلاف- من هذا النوع- من البين.

لقد ثبت- نتيجة هذه الدراسات- كونه قائلًا بالتجسيم والجهة ونحو ذلك من العقائد … واستخرجنا جملةً من عقائده فيما يتعلّق بالنبوّة وغيرها … ثم عقدنا أبواباً لبيان عقائده وآرائه في مسائل الإمامة والخلافة، وما كان يعتقده في دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 575

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأهل بيت النبيّ، وأصحابهم وشيعتهم … وعمدة ذلك: تنقيص أميرالمؤمنين، وإنكار مناقبه، والتحامل علي الامامية، وخصصنا أحد الأبواب للوقوف علي مناهجه في (منهاجه) والتي من خلالها يمكن التعرف علي نفسياته، وحدود معلوماته، والتزامه بقواعد البحث وآداب المناظرة …

والآن، فقد آن الأوان لنقل كلمات العلماء الأعلام والمحققين الأعيان من أهل السنّة، حول ابن تيمية وعقائده وآرائه وأخلاقه … في خصوص (منهاج السنّة) وسائر كتبه:

كلمات في منهاج السنّة … ص: 575

لقد رأينا غير واحدٍ من الأئمة الأعلام ينسبون إليه ما ذكرناه عنه من العقائد في الصّفات والتجسيم ونحو ذلك، كما جاء في كتابه.. كقول السّبكي، فإنّه وإن أثني علي (منهاج السنة) لكونه مؤلّفاً في الردّ علي الاماميّة، غير أنّه قال:

«يري حوادث لا مبدأ لأوّلها في اللَّه سبحانه عمّا يظنُّ به»

وفي كونه معادياً لأمير المؤمنين مبغضاً له، كقول الحافظ ابن حجر العسقلاني، في موقفه من أميرالمؤمنين وأتباعه: «طالعت الردّ المذكور فوجدته كما قال السبكي في الاستيفاء، لكن وجدته كثير التحامل إلي الغاية في ردّ الأحاديث التي يوردها ابن المطهّر … ردّ في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد … وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدّته أحياناً إلي تنقيص علي رضي اللَّه عنه».

وهذا الكلام من الحافظ ابن حجر العسقلاني مهمّ للغاية، لأنّه قال بترجمة ابن تيمية من (الدرر الكامنة):

«ومنهم من ينسبه إلي الزندقة …

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 576

ومنهم من ينسبه إلي النفاق، لقوله في علي ما تقدّم، ولقوله: إنه كان مخذولًا حيثما توجّه، وأنّه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وانّما قاتل للرياسة لا للديانة … » «1».

وقد وجدنا هذه الكلمات منه في (منهاج السنّة)..

فكان الحافظ الذي نصّ علي أنّ كلامه أدّي إلي «تنقيص علي» ممّن «ينسبه إلي النفاق».

وفي كونه فحّاشاً بذي اللّسان، كقول الصفدي في أنّه كان يقول عن ابن المطهر: «ابن المنجّس» ونحو ذلك …

__________________________________________________

(1) الدرر الكامنة- الترجمة 409، أحمد بن عبد الحليم … بن تيمية الحراني 1/ 155.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 577

بعض النصوص في ابن تيمية وأسماء بعض من انحرف عنه … ص: 577

اشارة

هذا، ولأجل ما ذكرنا من عقائده وحالاته ومناهجه، فقد تكلّم فيه كثير من أئمة المذاهب من أئمة عصره والمتأخرين عنه، وحتي أنّ غير واحد منهم

انحرف عنه وتركه وعاداه بعد أن كان صديقاً له … فرأينا من المناسب أن نذكر هنا أسماء بعض الأعلام من المعاصرين له الذين انحرفوا عنه، أو قاموا عليه، وشطراً من الكلمات في حقّه، المشتملة علي نقاطٍ مهمّة ترجع إلي عقائد أو صفات ابن تيمية، ممّا سيكون مؤيّداً لما استفدناه في (الدراسات) من كلماته، ومؤكّداً لما نسبنا إليه من عقائد وصفات:

صفي الدين الهندي (715) … ص: 577

لمّا عقد بعض المجالس لابن تيمية، عُيّن الصفي الهندي لمناظرته، فقال لابن تيميّة في أثناء البحث:

«أنت مثل العصفور، تنطُّ من هنا إلي هنا، ومن هنا إلي هنا» «1».

__________________________________________________

(1) الدرر الكامنة- الترجمة 29، صفيّ الدين محمّد بن عبد الرحيم بن محمّد الهندي الفقيه الشافعي 4/ 15.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 578

إبن الزملكاني (727) … ص: 578

انحرف عنه.

«وصنّف رسالةً في الردّ علي ابن تيمية في الطلاق، واخري في الردّ عليه في الزيارة» «1».

أبو حيّان الاندلسي (745) … ص: 578

قال الحافظ ابن حجر:

«كان يعظّم ابن تيميّة، ومدحه بقصيدة، ثم انحرف عنه، وذكره في تفسيره الصغير بكلّ سوء، ونسبه إلي التجسيم … قيل: بل وقف له علي كتاب العرش فاعتقد أنه مجسّم» «2».

وأيضاً، فقد نافره بسبب تكلّمه في سيبويه، حتي قال أبو حيّان: «هذا لا يستحق الخطاب».

وقد تقّدم في باب عقيدة ابن تيمية بالتجسيم ماله نفع في المقام.

وأمّا كلامه في تفسيره الصغير، فهذا نصّه بتفسير: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ»: «وقرأت في كتاب لأحمد ابن تيمية، هذا الذي عاصرنا، وهو بخطّه، سماّه كتاب العرش: إنّ اللَّه تعالي يجلس علي الكرسي وقد أخلي منه مكاناً يقعد فيه معه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. تحيّل عليه التاج محمّد بن علي بن عبد الحق __________________________________________________

(1) الدرر الكامنة- الترجمة 210، ابن الزملكاني 4/ 75.

(2) الدرر الكامنة- الترجمة 832، أبو حيّان الاندلسي 4/ 308.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 579

البار نباري، وكان أظهر أنه داعية له، حتي أخذه منه، وقرأنا ذلك فيه» «1».

قال الزبيدي: «قال السبكي: وكتاب العرش من أقبح كتبه.. ولمّا وقف عليه الشيخ أبو حيّان ما زال يلعنه حتي مات بعد أن كان يعظّمه» «2».

الذهبي (748) … ص: 579

والذهبي، وإن كان كتب إلي السّبكي يعاتبه بسبب كلامٍ وقع منه في حق ابن تيمية، فقد قال:

«ينقمون عليه أخلاقاً وأفعالًا»

«كان تعتريه حدّة في البحث وغضب وشظف للخصم، تزرع له عداوةً في النفوس».

«أنا مخالف له في مسائل أصليّة وفرعيّة» «3».

وقال الذهبي:

«هو بشر له ذنوب وخطأ» «4» وقد تقدَّم في فصل زيارة القبور والإستشفاع والتبرّك بها، ماله نفع في المقام، لأنّه قال تلك الكلمات ردّاً علي ابن تيميّة، كما اعترف بذلك محقّق كتابه (سير أعلام النبلاء).

وقال الذهبي في رسالته لابن تيمية المعروفة بالنصيحة

الذهبية … في نسخة

__________________________________________________

(1) النهر الماء من البحر المحيط سورة البقرة، الآية 255- 1/ 372.

(2) إتحاف السادة المتقين 2/ 173.

(3) الدرر الكامنة- الترجمة 409، أحمد بن عبد الحليم … بن تيمية الحراني، 1/ 151.

(4) المعجم المختص: 25.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 580

البرهان ابن جماعة التي كتبها من نسخة الحافظ الصلاح العلائي من خط الذهبي (.. وهي التي عناها الحافظ السخاوي في الإعلان بالتوبيخ: 77).. قال موجهاً كلامه لابن تيمية:

«.. يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات.. وبكثرة استعمال السموم يدمن عليها الجسم وتكمن واللَّه في البدن».. وقال:

«.. يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والإنحلال».. وقال: «فهل معظم أتباعك إلّا قعيد مربوط خفيف العقل، أو عامي كذاب بليد الذهن، أو غريب واجم قوي المكر، أو ناشف صالح عديم الفهم، فإن لم تصدّقني ففتّشهم و زنهم بالعدل» وقال: «إلي متي تمدح كلامك بكيفية لا تمدح بها- واللَّه- أحاديث الصحيحين، يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك. بل في كلّ وقت تغير عليها بالتضعيف والإهدار أو بالتأويل والإنكار، أما آن لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب.. أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل، بلي- واللَّه- ما أذكر أنّك تذكر الموت.. بل تزدري بمن يذكر الموت.. فما أظنّك تقبل علي قولي وتصغي إلي وعظي … ».

تقي الدين السبكي (756) … ص: 580

قال ولده تاج الدين بترجمته من الطبقات، في ذكر مناقبه:

«إمام ناضح عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بنضاله وجاهد بجداله، ولم يلطّخ بالدماء حدّ نصاله، حمي جناب النبوّة الشريف، بقيامه في نصره وتسديد سهامه للذب عنه من كنانة مصره، فلم يخط علي بعد الديار سهمه الراشق ولم يخف مسامَّ تلك الدسائس فهمه الناشق، ثم

لم يزل حتي نقّي الصدور من شبه دنسها

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 581

ووقّي من الوقوع في ظلم حندسها.

قام حين خلّط علي ابن تيمية الأمر، وسوّل له قرينه الخوض في ضحضاح ذلك الجمر، حين سدّ باب الوسيلة، يغفر اللَّه له ولا حرمها، وأنكر شدّ الرحال لمجرّد الزيارة لا واخذه اللَّه وقطع رحمها.

وما برح يدلج ويسير، حتي نصر صاحب ذلك الحمي الذي لا ينتهك نصراً مؤزّراً، وكشف من خبّ الضمائر في الصدور عنه صدراً موغراً، فأمسك ما تماسك من باقي العري وحصّل أجراً في الدنيا وفي الآخرة يري حتي سهّل السبيل إلي زيارة صاحب القبر عليه الصلاة والسلام، وقد كادت تزوّر عنه قسراً صدور الركائب، وتجرّ قهراً أعنّة القلوب وهنّ لوائب، بتلك الشبهة التي كادت شرارتها تعلق بحداد الأوهام، وتمدّ غيهب صداها صدأ علي مزايا الأفهام، وهيهات، كيف يزار المسجد ويخفي صاحبه صلّي اللَّه عليه وسلّم أو يخفيه الإبهام أو تذاد المطي عنه وهي تتراشق إليه كالسهام، ولولاه عليه الصلاة والسلام لما عرف تفضيل ذلك المسجد، ولا يمَّ إلي ذلك المحلّ تأميل المغير ولا المنجد، ولولاه لمّا قدّس الوادي ولا اسّس علي التقوي مسجد في ذلك النادي، وكذلك قبلها، شكر اللَّه له، قام في لزوم ما انعقد عليه الإجماع، وبُعد الظهور بمخالفته علي الأطماع.

ومنع في مسألة الطلاق أن تجري في الكفارة مجري اليمين، وأن تجلي في صورة إن حقّقت لا تبين، خوفاً علي محفوظ الأنساب ومحظوظ الأحساب، لما كانت تؤدّي إليه هذه العظيمة وتستولي عليه هذه المصيبة العميمة.

وصنّف في الرد علي هاتين المسألتين كتابيه، بل جرّد سيفه وأرهف ذبابيه، و ردّ القِرن وهو ألد خصيم، وشدّ عليه وهو يشد علي غير هزيم،

وقابله وهو الشمس التي تعشي الأبصار، وقاتله وكم جهد ما يثبت البطل لعليّ وفي يده دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 582

ذو الفقار.. بجهادٍ أيّد صاحب الشريعة وآزره، و ردّ علي من سدّ باب الذريعة وخَذَلَ ناصره، وأمضي يسابق إليه مرمي طرفه … » «1».

وذكر السبكي بترجمة والده الشعر الذي قرّظ به منهاج السنّة، وفيه إشارة إلي عقائد ابن تيمية ومناهجه في كتابه المذكور:

«أنشدنا شيخ الإسلام الشيخ الإمام لنفسه، وقد وقف علي كتابٍ صنّفه ابن تيمية في الردّ علي ابن المطهّر الرافضي:

ولابن تيمية ردّ عليه وفي بمقصد الردّ واستيفاء أضربه لكنّه خلط الحق المبين بما يشوبه كدراً في صفو مشربه يخالط الحشو أني كان فهو له حثيث سيرٍ بشرقٍ أو بمغربه يري حوادث لا مبدا لأوّلها في اللَّه سبحانه عمّا يظنّ به لو كان حيّاً يري قولي ويفهمه رددت ما قال أقفوا إثر سبسبه كما رددت عليه في الطلاق وفي ترك الزيارة ردّاً غير مشتبه وبعده لا أري للردّ فائدةً هذا وجوهره ممّا أضنُّ به»

إلي آخر الأبيات «2».

صلاح الدين العلائي (761) … ص: 582

وقال الحافظ صلاح الدين العلائي:

«.. ذكر المسائل التي خالف فيها ابن تيمية الناس في الأصول والفروع … » و

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية الكبري الترجمة 1393، علي بن عبد الكافي بن علي بن تمّام، 10/ 149- 151.

(2) طبقات الشافعية 10/ 176- 177.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 583

بعد أن عدد مسائل الفروع التي شذ فيها.. منها أن الحائض يجوز طوافها بالبيت ويصح ولا كفارة، وأن الصلاة إذا تركت عمداً لا يشرع قضاؤها، وأن المكوسَ حلالٌ لمن أقطعها وإذا أخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاة وإن لم تكن باسم الزكاة ولا علي رسمها … وأن المائعات

لا تنجس بموت الفأرة ونحوها فيها.. وأن الجنب يصلي تطوّعه بالليل بالتيمم ولا يؤخّره إلي أن يغتسل … وأن شرط الواقف للوقف غير معتبر بالكليّة.. وأن بيع أمهات الأولاد جائز.. وغير ذلك العديد … ثم قال الصلاح العلائي:

«.. وأما مقالاته في أصول الدين.

فمنها: قوله أن اللَّه سبحانه محلّ الحوادث تعالي اللَّه عمّا يقول علوّاً كبيراً. وأن اللَّه مركّب مفتقر إلي ذاته افتقار الكلّ إلي الجزء. وأن القرآن محدثٌ في ذاته تعالي.

وأن العالم قديمٌ بالنوع ولم يزل مع اللَّه مخلوق دائماً، فجعله موجباً بالذات لا فاعلًا بالإختيار سبحانه ما أحلمه. ومنها قوله بالجسمية والجهة والانتقال وهو معروف. وصرّح في بعض تصانيفه بأن اللَّه تعالي بقدر العرش لا أكبر منه ولا أصغر تعالي اللَّه عن ذلك. وصنف جزءاً في أن علم اللَّه لا يتعلق بما لا يتناهي كنعيم أهل الجنة وأنه لا يحيط بالتناهي وهي التي زلق فيها الإمام.

ومنها أن الأنبياء غير معصومين. وأن نبيّنا عليه وعليهم الصلاة والسلام ليس له جاه ولا يتوسل به أحد إلّا ويكون مخطئاً وصنّف في ذلك عدّة أوراق.

وأن إنشاء السفر لزيارة نبيّنا صلّي اللَّه عليه وسلّم معصية لا تقصر فيها الصلاة، وبالغ في ذلك، ولم يقل به أحد من المسلمين قبله.

وأن عذاب أهل النار ينقطع ولا يتأبد، حكاه بعض الفقهاء عن تصانيفه.

ومن إفراده أيضاً أن التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظهما بل هي باقية علي ما

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 584

أنزلت، وإنما وقع التحريف في تأويلها، وله فيه مصنف.

واستغفر اللَّه من كتابة مثل هذا فضلًا عن اعتقاده» «1».

صلاح الدين الصفدي (764) … ص: 584

وقال صلاح الدين الصفدي بترجمة ابن تيميّة:

«ما أظنّه رأي مثله في الحافظة والإطّلاع.

وأري أنّ مادّته كانت من كلام ابن حزم، حتي

شناعه علي من خالفه.

وكان مغريً بسبّ ابن عربي محيي الدين، والعفيف التلمساني، وابن سبعين، وغيرهم من الذين ينخرطون في سلكهم.

وربّما صرّح بسبّ الغزالي وقال: هو قلاووز الفلاسفة. أو قال ذلك عن الإمام فخر الدين …

وسمعته يقول عن نجم الدين الكاتبي المعروف ب «دبيران. بفتح الدال المهملة وكسر الباء الموحدة» وهو الكاتبي صاحب التواليف البديعة في المنطق، فإذا ذكره لا يقول إلّا «دبيران» بضمّ الدال وفتح الباء.

وسمعته يقول: ابن المنجس يريد ابن المطهّر الحلّي …

وطلب إلي مصر أيام ركن الدين بيبرس الجاشنكير وعقد له مجلس في مقالةٍ قال بها، فطال الأمر، وحكموا بحبسه، فحبس بالإسكندرية. ثم إن الملك الناصر لمّا جاء من الكرك أخرجه فيما أظن …

__________________________________________________

(1) ذخائر القصر في تراجم أهل العصر لشمس الدين ابن طولون، عن نسخته المخطوطة في الخزانة التيمورية تحت رقم 1420 تاريخ، ص 32- 33.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 585

وكان في ربيع الأول سنة 98 قد قام عليه جماعة من الشافعية، وأنكروا عليه كلامه في الصفات، وأخذوا فتياه الحموية وردّوا عليه فيها، وعملوا له مجلساً، فدافع الأفرم عنه ولم يبلّغهم فيه ارباً، ونودي في دمشق بإبطال العقيدة الحموية، فانتصر له جاغان المشد، وكان قد منع من الكلام، ثم إنّه جلس علي عادته يوم الجمعة وتكلّم، ثم حضر عند قاضي القضاة إمام الدين، وبحثوا معه وطال الأمر بينهم …

فلما كان في أيّام القاضي جلال الدين، تكلّموا معه في مسألة الزيارة، وكتب في ذلك إلي مصر، فورد مرسوم السلطان باعتقاله في القلعة، فلم يزل معتقلًا بها إلي أن مات سنة 728» «1».

اليافعي (768) … ص: 585

قال الحافظ ابن حجر بترجمته:

«له كلام في ذمّ ابن تيمية» «2».

قلت:

قال اليافعي ما نصّه في حوادث سنة 705.

«فيها

وقعت فتنة شيخ الحنابلة ابن تيميّة، وسؤالهم عن عقيدته، وعقدوا له ثلاث مجالس، وقرئت عقيدته الملقّبة بالواسطية، وضايقوه، وثارت غوغاء الفقهاء له وعليه. ثم إنّه طلب علي البريد إلي مصر، واقيمت عليه دعوي عند

__________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات- الترجمة 619- 7/ 13- 16.

(2) الدرر الكامنة- الترجمة 2120- 2/ 249.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 586

قاضي المالكيّة، فاستخصمه ابن تيميّة المذكور، وقاموا، فسجن هو وأخوه بضعة عشر يوماً، ثم اخرج ثم حبس بحبس الحاكم، ثم ابعد إلي الإسكندرية، فلمّا تمكّن السلطان سنة تسع طلبه واحترمه، وصالح بينه وبين الحاكم، وكان الذي ادّعي به عليه بمصر أنه يقول: إن الرحمن علي العرش استوي حقيقةً، وأنه يتكلّم بحرف وصوت. ثم نودي بدمشق وغيرها: من كان علي عقيدة ابن تيمية حلّ ماله ودمه» «1».

قال: «ومصنّفاته قيل أكثر من مأتي مجلد، وله مسائل غريبة أنكر عليه فيها، وحبس بسببها، مباينة لمذهب أهل السنة. ومن أقبحها نهيه عن زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام.

وطعنه في مشايخ الصوفية العارفين، كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، والاستاذ الإمام أبي القاسم القشيري، والشيخ ابن العريف، والشيخ أبي الحسن الشاذلي، وخلائق من أولياء اللَّه الكبار الصفوة الأخيار.

وكذلك ما قد عرف من مذهبه، كمسئلة الطلاق وغيرها.

وكذلك عقيدته في الجهة وما نقل عنه فيها من الأقوال الباطلة، وغير ذلك ممّا هو معروف من مذهبه.

ولقد رأيت مناماً طويلًا في وقتٍ مبارك يتعلّق بعضه بعقيدته ويدلّ علي خطائه فيها. وقد قدّمت ذكره في سنة ثمان وخمسين وخمس مائة في ترجمة صاحب البيان. فمن أراد أن يطّلع علي ذلك فليطالع هناك، فهو من المنامات التي تنشرح بها

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان وعبرة اليقظان- سنة خمس وسبعمائة 4/ 240.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن

تيميه، ص: 587

الصدور، ويطمئن به قلب من رآه وينفتح لقبول الهدي والنور» «1».

تاج الدين السبكي (771) … ص: 587

وقال تاج الدين السبكي بترجمة المزيّ من طبقاته:

«واعلم أن هذه الرفقة، أعني: المزي والذهبي والبرزالي وكثيراً من أتباعهم، أضرّبهم أبو العبّاس ابن تيمية إضراراً بيّناً، وحمّلهم من عظائم الامور أمراً ليس هيّناً، وجرّهم الي ما كان التباعد عنه أولي بهم، وأوقفهم في دكادك من نار، المرجوّ من اللَّه أن يتجاوزها لهم ولأصحابهم» «2».

أبو زرعة العراقي (826) … ص: 587

وقال الحافظ ولي الدين أبو زرعة العراقي:

«.. وأما الشيخ ابن تيمية، فهو زاهد في الدنيا، لكنه كما قيل فيه: علمه أكثر من عقله. فأدّاه اجتهاده إلي خرق الإجماع في مسائل كثيرة قيل: إنها تبلغ ستين مسألة. فأخذته الألسنة بسبب ذلك. وتطرّق إليه اللّوم وامتحن بهذا السبب وأسرع علماء عصره للردّ عليه وتخطئته وتبديعه، ومات مسجوناً بسبب ذلك.

والمنتصر له يجعله كغيره من الأئمة في أنه لا تضرّه المخالفة في الفروع إذا كان ذلك عن اجتهاد. لكن المخالف له يقول ليست مسائله كلّها في الفروع بل كثير منها في الأصول. وما كان منها في الفروع فما كان يسوغ له المخالفة فيها بعد انعقاد

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان وعبرة اليقظان، سنة ثمان و عشرين وسبعمائة- 4/ 278.

(2) طبقات الشافعية الكبري- الترجمة 1417، يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف 10/ 400.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 588

الإجماع عليها، ولم يقع للأئمة المتبوعين مخالفة في مسائل انعقد الإجماع عليها قبلهم. بل ما يقع لأحد منهم إلّا وهو مسبوق به عن بعض السلف كما صرّح به غير واحد من الأئمة، وما أبشع مسألتي ابن تيمية في الطلاق والزيارة، وقد ردّ عليه فيهما معاً الشيخ الإمام تقي الدين السبكي رحمه اللَّه، وأفرد في ذلك بالتصنيف فأجاد وأحسن» «1».

أبو بكر الحصني (829) … ص: 588

وقال تقي الدين أبو بكر الحصني الدمشقي الشافعي في كتابه (دفع شبه من شبّه وتمرّد ونسب ذلك إلي السيد الجليل الإمام أحمد):

«.. وقد بالغ جمع من الأخيار من المتعبّدين وغيرهم من العلماء كأهل مكة وغيرها أن أذكر ما وقع لهذا الرجل من الحيدة عن طريق هذه الأئمة، ولو كان أحرفاً يسيرة إما بالتصريح أو بالتلويح مشيرة. فاستخرت اللَّه عزّوجل في ذلك مدة مديدة

ثم قلت لا أبالك، وتأملت ما حصل وحدث بسببه من الإغواء والمهالك، فلم يسعني عند ذلك أن أكتم ما علمت، وإلّا الجمت بلجامٍ من نار ومقتّ.

وها أنا أذكر الرجل وأشير باسمه الذي شاع وذاع واتسع به الباع وسار، بل طار في أهل القري والأمصار، وأذكر بعض ما انطوي باطنه الخبيث عليه وما عوّل في الإفساد بالتصريح أو الإشارة إليه. ولو ذكرت كثيراً مما ذكره ودوّنه في كتبه المختصرات لطال جدّاً فضلًا عن المبسوطات، وله مصنفات أخر لا يمكن أن يطّلع __________________________________________________

(1) الأجوبة المرضيّة علي الأسئلة المكيّة، في جواب سؤال للحافظ ابن فهد المكي. مخطوطة بالظاهرية.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 589

عليها إلّا من تحقق أنه علي عقيدته الخبيثة، ولو عصر هو وأتباعه بالعاصرات لما فيها من الزيغ والقبائح النحسات.

قال بعض العلماء من الحنابلة في الجامع الأموي في ملأ من الناس: لو اطلع الحصني علي ما اطلعنا عليه من كلامه لأخرجه من قبره وأحرقه، وأكّد هؤلاء أن أتعرض لبعض ما وقفت عليه … ».

ثم قال:

«.. فأوّل شي ء سلكه من المكر والخديعة أن انتمي إلي مذهب الإمام أحمد، وشرع يطلب العلم ويتعبّد، فمالت إليه قلوب المشايخ، فشرعوا في إكرامه والتوسعة عليه، فأظهر التعفّف، فزادوه في الرغبة فيه والوقوع عليه، ثم شرع ينظر في كلام العلماء ويعلّق في مسودّاته، حتي ظن أنه صار له قوة في التصنيف والمناظرة، وأخذ يدوّن ويذكر أنه جاءه استفتاء من بلد كذا وليس لذلك حقيقة، فيكتب عليها صورة الجواب ويذكر ما لا ينتقد عليه، وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد إلّا أنه يشير إليه علي وجه التلبيس بحيث لا يقف علي مراده إلّا حاذق عالم متفنّن، فإذا ناظر أمكنه أن يقطع

من ناظره إلّا ذلك المتفنّن الفطن.

ثم شرع يتلقي الناس بالأنس وبسط الوجه ولين الكلام ويذكر أشياء تحلو للنفس، لاسيما الألفاظ العذبة مع اشتمالها علي الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، فطلبوا منه أن يذكّر الناس ففعل، فطار ذكره بالعلم والتعبّد والتعفّف، ففزع الناس إليه بالأسئلة، فكان إذا جاءه أحدٌ يسأله عن مسألة قال له: عاودني فيها، فإذا جاءه قال: هذه مسألة مشكلة، ولكن لك عندي مخرج أقوله لك بشرط فإني أتقلّدها في عنقي، فيقول: أنا أوفي لك، فيقول: أن تكتم عليّ، فيعطيه العهود والمواثيق علي ذلك، فيفتيه بما فيه فرجه، حتي صار له بذلك أتباع كثيرة يقومون دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 590

بنصرته إن عرض له عارض.

ثم إنه علم أن ذلك لا يخلصه، فكان إذا كان في بعض المجالس قال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، قد انفتقت فتوق من أنواع المفاسد يبعد ارتتاقها، ولو كان لي حكم لكنت أجعل فلاناً وزيراً وفلاناً محتسباً وفلاناً دو يداراً وفلاناً أمير البلد، فيسمع أولئك وفي قلوبهم من تلك المناصب، فكانوا يقومون في نصرته.

ثم أعلم أن مثل هؤلاء قد لا يقدرون علي مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره، فجعل له مخلصاً منهم، بأن ينظر إلي من الأمر إليه في ذلك المجلس فيقول له: ما عقيدة إمامك؟ فإذا قال كذا وكذا، قال: أشهد أنها حق وأنا مخطي ء، واشهدوا أني علي عقيدة إمامك. وهذا كان سبب عدم إراقة دمه، فإذا انفضّ المجلس أشاع أتباعه أن الحق في جهته ومعه وأنه قطع الجميع؛ ألا ترون كيف خرج سالماً. حتي حصل بسب ذلك افتتان خلق كثير لا سيما من العوام.

فلما تكرر ذلك منه علموا أنه إنما يفعل ذلك خديعة ومكراً، فكانوا

مع قوله ذلك يسجنونه، ولم يزل ينتقل من سجن إلي سجن حتي أهلكه اللَّه عزّوجلّ في سجن الزندقة والكفر» «1».

«.. ولنرجع إلي ما ذكره ابن شاكر في تاريخه، ذكره في الجزء العشرين قال:

وفي سنة خمس وسبعمائة في ثامن رجب، عقد مجلس بالقضاة والفقهاء بحضرة نائب السلطنة بالقصر الأبلق، فسئل ابن تيمية عن عقيدته، فأملي شيئاً منها، ثم أحضرت عقيدته الواسطية وقرئت في المجلس ووقعت بحوث كثيرة وبقيت مواضع اخّرت إلي مجلس ثان، ثم اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب وحضر

__________________________________________________

(1) دفع شبه من شبّه وتمرّد ونسب ذلك إلي السيد الجليل الإمام أحمد- ابن تيمية الحراني وآراؤه: 75- 78.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 591

المجلس صفي الدين الهندي وبحثوا، ثم اتفقوا علي أن كمال الدين ابن الزملكاني يحاقق ابن تيمية ورضوا كلّهم بذلك، فأفحم كمالُ الدين ابنَ تيمية، وخاف ابن تيمية علي نفسه فأشهد علي نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب، ويعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي، فرضوا منه بذلك وانصرفوا، ثم إن أصحاب ابن تيمية أظهروا أن الحق ظهر مع شيخهم، وأن الحق معه، فأحضروا إلي مجلس القاضي جلال الدين القزويني وأحضروا ابن تيمية وصفع ورسم بتعزيره … » «1».

وقال:

«.. وأنه عقد لهم مجلس بقلعة القاهرة بحضرة القضاة والفقهاء والعلماء والأمراء، فتكلّم الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي، وادّعي علي ابن تيمية في أمر العقيدة، فذكر منها فصولًا، فشرع ابن تيمية فحمد اللَّه تعالي وأثني عليه وتكلّم بما يقتضي الوعظ، فقيل له: يا شيخ، إن الذي تقوله نحن نعرفه وما لنا حاجة إلي وعظك، وقد ادّعي عليك بدعوي شرعية فأجب. فأراد ابن تيمية أن يعيد التحميد فلم يمكّنوه من ذلك بل قيل له: أجب، فتوقف وكرّر

عليه القول مراراً، فلم يزدهم علي ذلك شيئاً، وطال الأمر، فعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه وحبس أخويه معه، فحبسوه في برج من أبراج القلعة، فتردّد إليه جماعة من الأمراء، فسمع القاضي بذلك، فاجتمع بالأمراء وقال: يجب عليه التضييق إذا لم يقتل، وإلّا فقد وجب قتله وثبت كفره» «2».

__________________________________________________

(1) دفع شبه من شبّه وتمرد- تاريخ ابن تيمية الأسود: 90- 91.

(2) المصدر- تاريخ ابن تيمية الأسود: 92.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 592

وقال:

«.. فكتب عليها الإمام العلّامة برهان الدين الفزاري نحو أربعين سطراً بأشياء، وآخر القول أنه أفتي بتكفيره، ووافقه علي ذلك الشيخ شهاب الدين ابن جهبل الشافعي، وكتب تحت خطه كذلك المالكي، وكذلك كتب غيرهم ووقع الإتفاق علي تضليله بذلك وتبديعه وزندقته.

ثم أراد النائب أن يعقد لهم مجلساً ويجمع العلماء والقضاة، فرأي أن الأمر يتسع فيه الكلام ولابد من إعلام السلطان بما وقع، فأخذ الفتوي وجعلها في مطالعه وسيّرها، فجمع السلطان لها القضاة، فلما قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة وكتب عليها: القائل بهذه المقالة ضال مبتدع. ووافقه علي ذلك الحنفي والحنبلي، فصار كفره مجمعاً عليه … » «1».

وقال:

«.. وهذا وغيره مما هو كثير في كلامه، يتحقق به جهله وفساد تصوّره وبلادته. وكان بعضهم يسمّيه حاطب ليل، وبعضهم يسميه الهدّار المهذار، وكان الإمام العلّامة شيخ الإسلام في زمانه أبو الحسن عليّ بن إسماعيل القونوي يصرّح بأنه من الجهلة، بحيث لا يعقل ما يقول … » «2».

ابن حجر العسقلاني (852) … ص: 592

وقال ابن حجر في الدرر الكامنة:

__________________________________________________

(1) دفع شبه من شبّه وتمرّد: 94- 95.

(2) المصدر- كلام ابن تيمية في الاستواء ووثوب الناس عليه: 89- 90.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 593

«استشعر أنّه مجتهد،

فسار يردُّ علي صغير العلماء وكبيرهم، قديمهم وحديثهم. حتي انتهي إلي عمر، فخطّأه في شي ء، فبلغ الشيخ إبراهيم الرقيّ فأنكر عليه، فذهب إليه واعتذر واستغفر. وقال في حق علي: أخطأ في سبعة عشر شيئاً، ثمّ خالف فيها نصّ الكتاب!».

فذكر ابن حجر من تكلّم ابن تيمية في العلماء:

«اغلظ ابن تيمية القول في سيبويه، فنافره أبو حيّان وقطعه بسببه، قال:

يفشّر سيبويه».

«سبّ الغزالي. فقام عليه قوم كادوا يقتلونه».

«كان.. يقع في ابن عربي … ».

وذكر من عقائده:

«حديث النزول، فنزل عن المنبر درجتين فقال: كنزولي هذا».

و «ردّه علي من توسّل بالنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أو استغاث».

قال: «كتب عليه محضر بالتوبة عن القول بالتجسيم … في خامس عشري ربيع الأول سنة 707».

قال: «كان إذا حوقق وألزم يقول: لم ارد هذا، إنما أردت كذا، فيذكر احتمالًا بعيداً».

وذكر من مواقف العلماء معه: كلام الذهبي الآتي، وأنّه:

«انحرف عنه ابن الزملكاني وأبو حيّان».

وأورد الاختلاف بينهم حول ابن تيمية:

«وافترق الناس فيه شيعاً:

فمنهم: من نسبه إلي التجسيم …

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 594

ومنهم: من ينسبه إلي الزندقة..

ومنهم: من ينسبه إلي النفاق، لقوله في علي ما تقدّم، ولقوله: إنه كان مخذولًا حيثما توجّه، وأنه حاول الخلافة مراراً، فلم ينلها، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة …

ونسبه قوم إلي أنه يسعي في الإمامة الكبري فإنّه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه … » «1».

وقال ابن حجر العسقلاني أيضاً بذكر العلّامة:

«صنّف كتاباً في فضائل علي رضي اللَّه عنه، نقضه الشيخ تقي الدين ابن تيميّة، في كتابٍ كبير، وقد أشار الشيخ تقي الدين السبكي إلي ذلك في أبياته المشهورة … ».

قال: «فذكر في بقية الأبيات ما يعاب به ابن تيمية من العقيدة» «2».

قال: «طالعت الردّ المذكور فوجدته

كما قال السبكي في الاستيفاء، لكن وجدته كثير التحامل إلي الغاية في ردّ الأحاديث التي يوردها ابن المطهر … ردّ في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانّها، لأنّه كان لاتّساعه في الحفظ يتّكل علي ما في صدره، والانسان عائد للنسيان.

وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدّته أحياناً إلي تنقيص علي رضي اللَّه عنه. وهذه الترجمة لا تحتمل إيضاح ذلك وإيراد أمثلته» «3».

وقال ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري، كتاب فضل الصلاة في مكة والمدينة:

__________________________________________________

(1) الدرر الكامنة- الترجمة 409، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام- 1/ 144- 160.

(2) ذكرنا الأبيات سابقاً.

(3) لسان الميزان، الترجمة 9465، يوسف والد الحسن بن المطهر الحلي 7/ 529- 530.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 595

«.. والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شدّ الرحل إلي زيارة قبر سيدنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وأنكرنا صورة ذلك، وفي شرح ذلك من الطرفين طول. وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية. ومن جملة ما استدلّ به علي دفع ما ادّعاه غيره من الإجماع علي مشروعية زيارة قبر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ما نقل عن مالك أنه كره أن يقول زرت قبر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنّه كره اللفظ أدباً لا أصل الزيارة، فإنها من أفضل الأعمال وأجلّ القربات الموصلة إلي ذي الجلال، وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع، واللَّه الهادي إلي الصواب» «1».

ابن حجر المكي (974) … ص: 595

وفي فتاوي شهاب الدين ابن حجر الهيتمي المكي:

«.. وسئل نفع اللَّه به بما لفظه: لابن تيميّة اعتراض علي متأخّري الصوفية، وله خوارق في الفقه والأصول، فما محصّل ذلك؟ فأجاب بقوله: ابن تيمية عبدٌ

خذله اللَّه وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه. وبذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق علي إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الإجتهاد أبي الحسن السبكي وولد التاج والشيخ الإمام العز ابن جماعة، وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية.

ولم يقصر اعتراضه علي متأخري الصوفية، بل اعترض علي مثل عمر بن الخطاب __________________________________________________

(1) فتح الباري 3/ 66.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 596

وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهما كما يأتي … » «1».

ثم قال- بعد أن ساق عبارات ابن تيمية و ردّها- في كلامه عن عقيدة أحمد:

«.. وما اشتهر بين جهلة المنسوبين إلي هذا الإمام الأعظم المجتهد، من أنه قائل بشي ء من الجهة أو نحوها، فكذبٌ وبهتانٌ وافتراء عليه، فلعن اللَّه من نسب ذلك إليه أو رماه بشي ء من هذه المثالب التي برّأه اللَّه منها، وقد بيّن الحافظ الحجة القدوة الإمام أبو الفرج ابن الجوزي- من أئمة مذهبه المبرئين من هذه الوصمة القبيحة الشنيعة-: أن كلّ ما نسب إليه من ذلك كذب عليه وافتراء وبهتان، وأن نصوصه صريحة في بطلان ذلك وتنزيه اللَّه تعالي عنه، فاعلم ذلك فإنه مهم.

وإياك أن تصغي إلي ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيّم الجوزية، وغيرهما ممّن اتخذ إلهه هواه وأضلّه اللَّه علي علم وختم علي سمعه وقلبه وجعل علي بصره غشاوة فمن يهديه من بعد اللَّه، وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود وتعدّوا الرسوم وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة، فظنّوا بذلك أنهم علي هديً من ربهم وليسوا كذلك، بل هم علي أسوأ الضلال وأقبح خصال، وأبلغ المقت والخسران وأنهي الكذب والبهتان، فخذل اللَّه متّبعهم وطهّر الأرض من أمثالهم» «2».

وقال ابن

حجر المكي أيضاً، في مسألة الزيارة:

«وابن تيميّة من متأخّري الحنابلة منكر لمشروعيّة ذلك كلّه، كما رآه السبكي في خطّه، وقد أطال ابن تيمية الإستدلال لذلك بما تمجّه الأسماع وتنفر عنه الطباع، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً، وأنه لا تقصر فيه الصّلاة، وأن جميع __________________________________________________

(1) الفتاوي الحديثية- اعتراض ابن تيمية علي متأخري الصوفية: 114- 115.

(2) المصدر- في عقيدة الإمام أحمد: 203- 204.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 597

الأحاديث الواردة فيها موضوعة، وتبعه بعض من تأخّر عنه من أهل مذهبه.

قلت: من هو ابن تيمية حتي ينظر إليه أو يعوّل في شي ء من امور الدين عليه؟ وهل هو إلّا كما قال جماعة، من الأئمة الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة، حتي أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته، كالعزّ ابن جماعة:

عبدٌ أضلّه اللَّه تعالي وأغواه، وألبسه رداء الخزي وأرداه، وبوّأه من قوّة الإفتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان.

ولقد تصدّي شيخ الإسلام وعالم الأنام المجمع علي جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته: التقي السبكي، قدّس اللَّه روحه ونوّر ضريحه، للردّ عليه في تصنيف مستقل، أفاد فيه وأجاد وأصاب، وأوضح بباهر حججه طريق الصواب».

ثم قال:

هذا، وما وقع من ابن تيمية ممّا ذكر وإن كان عثرةً لا تقال أبداً، ومصيبةً يستمرّ شؤمها سرمداً، وليس بعجيب، فإنّه سوّلت له نفسه وهواه وشيطانه أنه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب، وما دري المحروم أنه أتي بأقبح المعائب، إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة، وتدارك علي أئمّتهم سيّما الخلفاء الراشدين باعتراضاتٍ سخيفةٍ شهيرة، حتي تجاوز إلي الجناب الأقدس المنزّه سبحانه عن كلّ نقص والمستحق لكلّ كمال أنفس، فنسب إليه الكبائر والعظائم، وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامّة علي المنابر، من دعوي الجهة والتجسيم،

وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين، حتي قام عليه علماء عصره، وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره، فحبسه إلي أن مات، وخمدت تلك البدع وزالت تلك الضلالات، ثم انتصر له أتباع لم يرفع اللَّه لهم رأساً ولم يظهر لهم جاهاً ولا

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 598

بأساً، بل ضربت عليهم الذلّة والمسكنة وباءوا بغضب من اللَّه، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» «1».

الغماري … ص: 598

وقال الحافظ أبو الفضل عبد اللَّه الغماري:

«.. وابن تيمية يحتج كثير من الناس بكلامه ويسمّيه بعضهم شيخ الإسلام، وهو ناصبيّ عدوّ لعليّ كرم اللَّه وجهه، واتّهم فاطمة عليها السلام بأن فيها شعبة من النفاق، وكان مع ذلك مشبّهاً، إلي بِدَع أخري كانت فيه.

ومن ثمَّ عاقبه اللَّه تعالي … فكانت المبتدعة بعد عصره تلامذة كتبه ونتائج أفكاره وثمار غرسه … » «2».

التهانوي … ص: 598

وقال العلّامة المحدّث ظفر أحمد العثماني التهانوي:

«إنّ لكلّ علمٍ رجالًا يعرفون به، وإن المرجع في معرفة الحديث إلي المحدّثين، ولكنّ منهم من هو متعنّت أو متشدّد أو متعصّب، ومنهم من هو منصف معتدل في الجرح والتعديل.

فهذا ابن تيمية نفسه متشدّد في الجرح، فقد قال الحافظ في لسان الميزان 6/ 319: وجدته كثير التحامل إلي الغاية في ردّ الأحاديث التي يوردها ابن المطهر

__________________________________________________

(1) الجوهر المنظّم في زيارة القبر المكرّم: 12.

(2) الصبح السافر: 54.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 599

- الحلي الرافضي، مصنّف كتاب في فضائل علي رضي اللَّه عنه- وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه ردّ في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر مظانّها حالة التصنيف، لأنه كان لاتّساعه في الحفظ يتّكل علي ما في صدره، والإنسان عائد للنسيان، وكم من مبالغةٍ لتوهين كلام الرافضي أدّته أحياناً إلي تنقيص علي رضي اللَّه تعالي عنه …

قلت: وممّا ردّه ابن تيمية من الأحاديث الجياد في كتابه (منهاج السنة) حديث ردّ الشمس لعلي رضي اللَّه تعالي عنه. ولمّا رأي الطحاويَّ قد حسّنه وأثبته جعل يجرح الطحاوي بلسانٍ ذلق وكلام طلق، وأيم اللَّه، إن درجة الطحاوي في علم الحديث فوق آلاف من مثل ابن تيمية، وأين لابن تيميّة أن يكون كتراب نعليه، فمثل

هؤلاء المتشدّدين لا يحتجُّ بقولهم إلّا بعد التثبّت والتأمّل. واللَّه تعالي أعلم» «1».

* وهذه أسماء مستخرجة من (الدرر الكامنة) فقط، وقد أثني عليهم الحافظ ابن حجر وجعلهم من أعيان المائة الثامنة:

- أبو العبّاس السروجي، «له ردّ علي ابن تيمية، بأدبٍ وسكينةٍ وصحّة ذهن» «2».

- علاء الدين علي بن أسمح اليعقوبي الشافعي: «شديد الحطّ علي ابن تيميّة» «3».

أبو الفضل الإسكندراني، «هو ممّن قام علي الشيخ تقي الدين ابن تيمية،

__________________________________________________

(1) قواعد في علوم الحديث: 441.

(2) الدرر الكامنة- الترجمة 241، 1/ 92.

(3) الدرر الكامنة- الترجمة 57، 3/ 29.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 600

فبالغ في ذلك» «1».

- أبو الحسن المصري، «ممن كان يشدّد علي ابن تيمية لمّا امتحن بالقاهرة..

وكان وثب مرةً علي ابن تيمية ونال منه وأكثر القلاقل» «2».

- أبو الحسن النحوي، المعروف بالشيخ علي، «كان ممّن يحطّ علي ابن تيمية» «3».

- نصر المنبجي، «كان يحطّ علي ابن تيمية من أجل حطّه علي ابن العربي» «4».

- إبن جملة، «كان يبالغ في أذي ابن تيمية وجماعته ويتمقّت ويعجب بنفسه، لكنّه كان يحبّ اللَّه ورسوله، ويؤذي المبتدعة، وفيه ديانة وحسن معتقد» «5».

- صدر الدين ابن الوكيل، «كان لا يقوم بمناظرة ابن تيمية أحد سواه، حتي أنهما تناظرا يوماً بالكلاسة، فاستشهد ابن تيمية بعض الحاضرين، فأنشد الصدر في الحال:

إنّ انتصارك بالإخوان من عجب وهل رأي الناس منصوراً بمنكسر

.. ولمّا بلغت وفاته ابن تيمية قال: أحسن اللَّه عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين … » «6».

__________________________________________________

(1) الدرر الكامنة- الترجمة 700، 1/ 273.

(2) الدرر الكامنة- الترجمة 321، 3/ 141.

(3) الدرر الكامنة- الترجمة 185، 3/ 86.

(4) الدرر الكامنة- الترجمة 1076، 4/ 392.

(5) الدرر الكامنة- الترجمة 1225، 4/ 444.

(6) الدرر الكامنة الترجمة 318،

محمّد بن عمر بن مكي 4/ 116- 123.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 601

أسماء بعض من ناظره أو ردّ عليه من العلماء … ص: 601

.. وبعد.. فذاك بعض ما ذكره العلماء من أمر ابن تيمية.. وها نحن نذكر قائمة بأسماء بعض من ناظره أو ردّ عليه من معاصريه أو مَن تأخر عنه …

فمنهم:

1- القاضي محمّد بن إبراهيم بن جماعة الشافعي.

2- القاضي محمّد بن الحريري الانصاري الحنفي.

3- القاضي محمّد بن أبي بكر المالكي.

4- القاضي أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي.

.. وقد حبس بفتوي موقعة منهم سنة 726 أنظر: (عيون التاريخ) للكتبي، و (نجم المهتدي) لابن المعلم.

5- الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي (756): ردّ عليه في (الإعتبار ببقاء الجنة والنار) و (الدرة المضية) وغيرهما.

6- الإمام الفقيه محمّد بن عمر بن مكي المعروف بابن المرحّل (716):

ناظره.

7- الإمام الحافظ صلاح الدين العلائي (761).

8- القاضي المفسر بدر الدين ابن جماعة (733).

9- الإمام أحمد بن يحيي الكلابي الحلبي المعروف بابن جهبل (733):

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 602

وألّف رسالة في نفي الجهة.

10- الإمام القاضي جلال الدين القزويني: ناظره.

11- القاضي كمال الدين ابن الزملكاني (727): ناظره وأفحمه وردّ عليه في رسالتين.

12- القاضي صفي الدين الهندي (715): ناظره.

13- الفقيه المحدّث علي بن محمّد الباجي الشافعي (714): ناظره في أربعة عشر موضعاً وأفحمه كما في (الدرر الكامنة).

14- المؤرخ الفخر ابن المعلّم القرشي (741): أنظر (نجم المهتدي ورجم المعتدي).

15- الحافظ الذهبي (748): أنظر (بيان زغل العلم والطلب) و (النصيحة الذهبية) وغيرهما.

16- الإمام المفسر اللغوي أبو حيان الأندلسي (745): أنظر (النهر الماد).

17- الفقيه الرحّالة ابن بطوطة (779).

18- الفقيه تاج الدين السبكي (771): انظر (طبقات الشافعية الكبري).

19- تلميذه المؤرخ ابن شاكر الكتبي (764): (عيون التاريخ).

20- الإمام عمر بن أبي اليمن اللخمي الفاكهي المالكي (734):

(الدرة المختارة).

21- القاضي محمّد السعدي المصري الأخناني (750): (المقالة المرضية).

22- الإمام الزواوي (743).

23- الإمام الجوزجاني الحنفي (744): (الأبحاث الجلية في الرد علي ابن تيمية).

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 603

24- الحافظ ابن حجر العسقلاني (852): (الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة) و (لسان الميزان) وغيرهما.

25- الحافظ ولي الدين العراقي (826): (الأجوبة المرضية في الرد علي الأسئلة المكية).

26- الفقيه المؤرخ ابن قاضي شهبة الشافعي (851): (تاريخ ابن قاضي شهبة).

27- الإمام الفقيه تقي الدين أبو بكر الحصني الشافعي (829): (دفع شُبَه من شَبَّه وتمرد).

28- الإمام ابن عرفة التونسي المالكي (803).

29- العلّامة علاء الدين البخاري الحنفي (841): كفّره وكفّر من سماه شيخ الإسلام، قال ابن حجر في (الدرر): «كان شديد الحطّ علي ابن تيمية».

30- الشيخ زروق الفاسي المالكي (899).

31- الحافظ السخاوي (902): (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ).

32- الإمام أحمد بن محمّد الوتري (980): (روضة الناظرين).

33- الإمام الفقيه ابن حجر الهيتمي (974): (الفتاوي الحديثية) و (الجوهر المنظم).

34- الشيخ ابن عراق الدمشقي (933).

35- الإمام جلال الدين الدواني (928): (شرح العضدية).

36- القاضي أبو عبداللَّه المقري: (نظم اللآلي في سلوك الأمالي).

37- المحدّث محمّد بن علي بن علان الصديقي المكي (1057): (المبرد المبكي في رد الصارم المنكي).

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 604

38- الشيخ المناوي الشافعي (1029): (شرح الشمائل).

39- القاضي البياضي الحنفي: (إشارات المرام من عبارات الإمام).

40- الشيخ الخفاجي المصري الحنفي (1069): (شرح الشفا).

41- المؤرخ أبو العبّاس أحمد المقري (1041): (أزهار الرياض).

42- الإمام محمّد الزرقاني المالكي (1122): (شرح المواهب اللدنية).

43- الشيخ عبد الغني النابلسي (1143): ذمّه في أكثر من كتاب.

44- الفقيه محمّد مهدي بن علي الصيادي المشهور بالرواس (1287).

45- الشيخ محمّد أبو الهدي الصيادي (1328): (قلادة الجوهر).

46- العلّامة سلامة

العزامي الشافعي (1376): (البراهين الساطعة).

47- محمود خطاب السبكي (1352): (الدين الخالص).

48- الإمام محمّد زاهد الكوثري، وكيل المشيخة الإسلامية في دار الخلافة العثمانية (1371): (مقالات الكوثري) وغيره من كتبه.

49- المفتي مصطفي بن أحمد الشطي الحنبلي الدمشقي (1348): (النقول الشرعية).

50- الشيخ محمّد بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية (1354): (تطهير الفؤاد من دنس الإعتقاد).

51- الشيخ إبراهيم بن عثمان السمنودي المصري: (نصرة الإمام السبكي بردّ الصارم المنكي).

52- عالم مكة أبو حامد بن مرزوق (1390): (براءة الأشعريين من عقائد المخالفين).

53- الشيخ منصور محمّد عويس: (ابن تيمية ليس سلفياً).

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 605

54- الشيخ الحافظ أبو الفضل عبد اللَّه بن الصديق الغماري: (إتقان الصنعة) و (الصبح السافر) وغيرهما.

55- المسند أبو الأشبال سالم بن جندان الأندونيسي: (الخلاصة الكافية في الأسانيد العالية).

56- المحدّث الفقيه عبد اللَّه الهرري المعروف بالحبشي …

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 606

أسماء بعض الكتب المؤلَّفة في الردّ علي ابن تيمية … ص: 606

اشارة

هذا، ولو رجعت إلي معاجم الكتب والمؤلّفين، أمثال (كشف الظنون) و (هدية العارفين) و (معجم المؤلّفين) وكذا إلي كتب التراجم أمثال (الوافي بالوفيات) و (الدرر الكامنة) و (الضوء اللامع) و (البدر الطالع) و (شذرات الذهب) و (طبقات الشافعية) وغيرها، لأمكنك ترتيب قائمة طويلة جدّاً بأسماء الكتب التي ألّفها علماء أهل السنّة ممن عاصر ابن تيمية أو تأخّر عنه، في الردّ علي عقائد ابن تيمية.

ومنها:

السيف الصقيل شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام الدرة المضيّة في الردّ علي ابن تيمية

وهي لتقي الدين السبكي والتحفة المختارة في الردّ علي منكر الزيارة، لتاج الدين الفاكهاني (731).

والدرّة المضيّة في الردّ علي ابن تيمية، لابن الزملكاني (727).

والردّ علي ابن تيمية في التجسيم والاستواء، للكلابي (733).

ووسيلة الإسلام، لابن قنفذ (810).

والمقالة المرضية في الرد علي ابن تيمية، لقاضي القضاة

الأقناني.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 607

وقد أورد صاحب كتاب (كتب حذّر منها العلماء) «1» وهو من أنصار ابن تيمية في هذا الزمان، عدداً كبيراً من تلك الكتب تحت عنوان (كتب فيها طعن علي ابن تيمية) قال:

«الطاعنون في شيخ الإسلام ابن تيمية كثر، والقدماء منهم معروفون عند المطّلعين والباحثين، ونبتت نابتة بين ظهرانينا ليس لهم ديدن إلّا الكلام علي ابن تيمية، ويعتمدون في هذا علي مجموعة من الكتب، ويردّدون كلمة (العلاء البخاري) و (فرية ابن بطوطة) و (تحامل الهيتمي) و (أباطيل الكوثري) وكلمات تلاميذه».

قال: «ومن أشهر هذه الكتب:

دفع شبه من شبّه وتمّرد ونسب ذلك إلي الإمام أحمد. لتقي الدين أبي بكر بن محمّد الحصني (829).

فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان. لسلامة القضاعي العزامي (1379).

البراهين الساطعة في ردّ بعض البدع الشائعة، لسلامة القضاعي العزّامي (1379) (قال): «فهذا الكتاب مسموم مثل الذي قبله».

شمس الحقيقة والهداية علي أهل الضلالة والغواية. لأحمد علي بدر.

تطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد. لمحمّد بخيت المطيعي (1354) (قال):

«وهذا الكتاب والذي قبله أهون شرّاً مما سبق ومما سيأتي».

قال: «ومن شرّ الكتب التي هاجمت شيخ الإسلام ابن تيمية:

__________________________________________________

(1) انظر الجزء الأول من الصفحة 228 فما بعد.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 608

مقدمة الرسائل السّبكية. لكمال أبو المني.

التوفيق الرباني علي ابن تيمية الحراني».

قال: «محتويات التوفيق الرباني هي ست رسائل في الردّ علي شيخ الإسلام ابن تيمية:

1- الدرة المضية في الرد علي ابن تيمية. للتقي السبكي.

2- نقد الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق. للتقي السبكي.

3- النظر المحقق في الحلف بالطلاق المعلّق. للتقي السبكي.

4- الاعتبار ببقاء الجنة والنار. للتقي السبكي.

5- رسالة في نفي الجهة. لشهاب الدين أحمد الكلابي.

6- النّصيحة الذهبية. رسالة منحولة إلي الإمام

الذهبي.

ثمّ ذكر بعض الكتب الاخري مما طعن فيه علي ابن تيمية، مثل كتاب ابن تيمية ليس سلفيّاً. لمنصور محمّد محمّد عويس. قال:

«كتاب ملي ء بالأباطيل ومحشو بالبدع»!

ثم قال:

«تحاملات وأحقاد أخري علي ابن تيمية:

إن الأحقاد توارثت … ونري ظاهرة الكلام علي ابن تيمية قديمة، فقد قدح فيه:

جلال الدين محمّد بن أسعد الدواني (918) في (شرح العضدية).

ومحمّد بن علي بن طولون الحنفي (953) في (ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر).

وأحمد بن حجر الهيتمي (974) في (فتاواه الحديثية) و (الجوهر المنظم في دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 609

زيارة القبر المعظم).

ومحمّد أمين الكردي.

ويوسف بن إسماعيل النبهاني.

أما المعاصرون فجلّهم كوثريّون، ونبزهم صريح تارة وخفي اخري ونمسك عن ذكرهم مكتفين بما قدّمنا عنهم».

قال:

«أما تحاملات تاج الدين السبكي (771) علي شيخ الإسلام وتلاميذه البررة.. فحدّث عنها ولا حرج … » فأورد كلامه المنقول سابقاً.

ثم ذكر:

«كتابات داود بن سليمان بن جرجيس العاني العراقي (1299).

وصلح الإخوان من أهل الايمان.

وبيان الدين القيّم في تبرئة ابن تيمية وابن القيّم.

والمنحة الوهبية في الرد علي الوهابية.

وانموذج الحقائق. بحث فيها مسألة التوسّل والإستغاثة واستجابة دعاء الصالحين.

قال:

«كتب يوسف بن إسماعيل النبهاني (1350):

كتب يوسف النبهاني فيها كثير من الطامّات، وهو من أوائل من رفع راية العداء للدعوة السلفية وأعلامها الأجلّاء، وعلي رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن أشهر كتبه:

شواهد الحق في الإستغاثة بسيّد الخلق.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 610

الأنوار المحمدية في المواهب اللدنيّة.

الرائيّة الصغري .

وقال حول: الشيخ أحمد زيني دحلان وكتبه:

«قال الشيخ فوزان في كتابه البيان والإشهار ص 45:

وقد سمعت غير واحدٍ ممّن يوثق بهم من أهل العلم يقولون: إنّ دحلان هذا رافضي، لكنه أخفي مذهبه، وتسمّي بتقليد أحد الأئمة الأربعة ستراً لمقاصده الخبيثة ولنيل

المناصب التي يأكل منها، ومن أدلّ دليلٍ علي رفضه الخبيث تأليفه لكتاب: أسني المطالب في نجاة أبي طالب. الذي ردّ فيه بهواه نصوص الكتاب والسنّة الصحيحة المتواترة».

ثم علّق علي نسبته إلي الرفض قائلًا: «وفيه نظر، إذ له كتاب بعنوان: كيف تناقش الرافضة»!

ردود الإمامية علي منهاج السنّة … ص: 610

هذا، وقد كتب غير واحدٍ من علماء الإماميّة ردّاً علي (منهاج السنّة) ودفاعاً عن (منهاج الكرامة)، من ذلك:

الإنصاف والانتصاف لأهل الحق من أهل الإعتساف، لأحد قدماء الاماميّة.

وإكمال السنّة في نقض منهاج السنة، للسيد مهدي الكيشوان.

وإكمال المنّة في نقض منهاج السنة، للشيخ سراج الدين الهندي.

ومنهاج الشريعة في نقض منهاج السنة، للسيد مهدي القزويني.

والإمامة الكبري والخلافة العظمي للسيد محمّد حسن القزويني.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 611

فهرس مصادر الكتاب … ص: 611

1- اتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين- السيد محمد مرتضي الزبيدي م 1205 دار الكتب العلمية- بيروت.

2- الإتقان في علوم القرآن- جلال الدين عبد الرحمن السيوطي- م 911، منشورات الشريف الرضي- قم.

3- اتقان الصنعة في تحقيق معني البدعة- عبداللَّه بن الصدّيق الغماري الحسني- عالم الكتاب.

4- احياء الميت بفضائل أهل البيت- جلال الدين عبدالرحمن السيوطي- م 911 مؤسسة الوفاء بيروت- الطبعة الثانية 1416 ه.

5- ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري- شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن محمّد الشافعي القسطلاني م 923 ه دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الاولي 1416 ه.

6- أساس التقديس في علم الكلام- فخر الدين أبو عبداللَّه محمّد بن عمرو بن الحسين الرازي- م 606 ه- مؤسسة الكتب الثقافية.

7- الاستيعاب في معرفة الأصحاب- لأبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن محمّد بن عبد البر- دار الجيل بيروت الطبعة الاولي 1412 ه.

8- أسد الغابة في معرفة الصحابة- ابن الأثير- دار احياء التراث العربي بيروت.

9- الاصابة في تمييز الصحابة- أحمد بن علي بن حجر العسقلاني م 852 دار الكتب العلمية الطبعة الاولي 1415 ه.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 612

10- الاصول من الكافي- أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن اسحاق الكليني- م 328/ 329 دار الكتب

الاسلامية- الطبعة الثالثة 1388 ه.

11- اعيان الشيعة- السيّد محسن الأمين العاملي- دار التعارف للمطبوعات بيروت- الطبعة الخامسة 1420 ه.

12- اغاثة اللهفان من مصايد الشيطان- أبو عبداللَّه محمّد الشهير بابن قيم الجوزية- م 751 ه- مطبعة مصطفي البابي الحلبي واولاده 1381.

13- الجام العوام عن علم الكلام- أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي- م 1418 ه- المكتبة الأزهرية للتراث.

14- الامامة والسياسة- أبو محمّد عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري- م 276 ه- دار المعرفة بيروت 1378 ه.

15- أمل الآمل- الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي.

16- الأموال- أبو عبيد القاسم بن سلام م 224 ه دار الكتب العلمية الطبعة الاولي 1406.

17- الانساب- أبو سعد عبد الكريم بن محمّد بن منصور التميمي السمعاني م 562.

18- الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به- أبو بكر ابن الطيب الباقلاني البصري م 403 ه- عالم الكتاب.

19- الايمان- تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرّاني الدمشقي- م 728 ه- منشورات المكتب الاسلامي بدمشق 1381 ه.

20- بحار الأنوار- محمّد باقر المجلسي م 1111 ه- دار احياء التراث العربي بيروت الطبعة الثانية 1403 ه.

21- البداية والنهاية- أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي م 774 ه دار احياء التراث العربي بيروت الطبعة الاولي 1413.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 613

22- تاريخ ابن خلدون- عبد الرحمن بن محمّد بن خلدون الحضرمي المغزبي م 808 ه مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت 1391.

23- تاريخ الخلفاء- جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي م 911 ه منشورات الشريف الرضي.

24- تاريخ الطبري- أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت الطبعة الخامسة 1409 ه.

25- تاريخ المذاهب الاسلامية- محمّد أبو زهرة- دار الفكر العربي.

26- تاريخ

بغداد أو مدينة الاسلام- أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي م 463 ه دار الفكر مكتبة الخانجي القاهرة.

27- تتمة المختصر في أخبار البشر (تاريخ ابن الوردي)- زين الدين عمر بن الوردي.

دار المعرفة بيروت.

28- تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي- أبو العلا محمّد عبد الرحمن ابن عبد الرحيم المباركفوري م 1353 دار الكتب العلمية.

29- التدوين في أخبار قزوين- عبد الكريم بن محمّد الرافعي القزويني- (من اعلام القرن السادس) دار الكتب العلميّة بيروت 1408.

30- تذكرة الحفاظ- أبو عبداللَّه شمس الدين محمّد الذهبي م 748 ه دار الكتب العلمية بيروت.

31- تذكرة الخواص- سبط ابن الجوزي م 654 ه منشورات الشريف الرضي 1418 ه.

32- التراجم لرجال الحديث والأثر أو لؤلؤة البحرين في الاجازات- يوسف بن أحمد البحراني م 1186 مطابع دار النعمان. الطبعة الثانية 1969 م.

33- ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق- أبو القاسم علي بن الحسن دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 614

المعروف بابن عساكر م 573 ه- دار المعارف للمطبوعات بيروت- الطبعة الاولي 1395 ه.

34- تفسير البغوي المسمي معالم التنزيل- أبو محمّد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي م 516 ه دار المعرفة بيروت الطبعة الرابعة 1415 ه.

35- التفسير الكبير المسمي مفاتيح الغيب- الفخر الرازي الطبعة الثالثة دار احياء التراث العربي.

36- تفسير البيضاوي المسمي أنوار التنزيل وأسرار التأويل- أبو سعيد عبد اللَّه بن عمر م 791 ه دار الكتب العلمية الطبعة الاولي 1408.

37- تفسير الخازن المسمي لباب التأويل في معاني التنزيل- علاء الدين علي بن محمّد البغدادي الشهير بالخازن م 725 ه دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الاولي 1415 ه.

38- تفسير النسفي المسمي مدارك التنزيل وحقائق التأويل- عبداللَّه بن أحمد بن محمود

النسفي م 710 ه دار الكتب العلمية الطبعة الاولي 1415 ه.

39- تقريب التهذيب- شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي م 852 ه مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الاولي 1416.

40- تنقيح المقال- الشيخ عبداللَّه المامقاني- المطبعة المرتضوية في النجف الأشرف 1352.

41- تهذيب الاسماء واللغات- أبو زكريا محي الدين النووي م 676 ه دار الكتب العلمية بيروت.

42- تهذيب التهذيب- شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني م 852 ه دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الاولي 1415 ه.

43- تهذيب الكمال في أسماء الرجال- جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزي م 742 ه مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية 1405 ه.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 615

44- تهذيب تاريخ دمشق الكبير- أبو القاسم علي بن الحسن الشافعي المعروف بابن عساكر م 571 ه دار المسيرة بيروت الطبعة الثانية 1399 ه.

45- الثقات- أبو حاتم محمّد بن حبان بن أحمد التميمي البستي م 354 ه دار الفكر الطبعة الاولي 1398.

46- جامع البيان عن تأويل آي القرآن- تفسير محمّد بن جرير الطبري م 310 ه دار الفكر 1415 ه.

47- الجامع الصحيح سنن الترمذي- أبو عيسي محمّد بن عيسي بن سورة م 297 ه دار احياء التراث العربي الطبعة الاولي 1421 ه.

48- الجامع لاحكام القرآن- تفسير محمّد بن أحمد الانصاري القرطبي م 671 ه دار احياء التراث العربي بيروت 1405 ه.

49- الجرح والتعديل- أبو محمّد عبد الرحمن بن أبي حاتم الحنظلي الرازي م 327 ه دار احياء التراث العربي الطبعة الاولي 1372 ه.

50- جواهر العقدين في فضل الشرفين- علي بن عبداللَّه الحسني السمهودي م 911 ه مطبعة العاني بغداد 1407 ه.

51- حلية الاولياء وطبقات الأصفياء- أبو نعيم أحمد

بن عبداللَّه الاصفهاني م 430 ه دار الكتب العلمية بيروت.

52- الخصائص الكبري أو كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب- جلال الدين عبد الرحمن أبي بكر السيوطي م 911 ه دار الكتب الحديثية.

53- خصائص أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب- أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي الشافعي م 303 ه مجمع احياء الثقافة الاسلامية الطبعة الاولي 1419 ه.

54- الدرر الكامنة في اعيان المائة الثامنة- ابن حجر العسقلاني م 852 ه دار احياء التراث العربي بيروت.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 616

55- الدر المنثور في التفسير المأثور- جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي م 911 ه دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الاولي 1411 ه.

56- دفع الشبه عن الرسول والرسالة- أبو بكر بن محمّد بن عبد المؤمن تقي الدين الحصني الدمشقي م 829 ه الطبعة الثانية 1418 ه.

57- ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي- محب الدين أحمد بن عبداللَّه الطبري مؤسسة العرفاء بيروت 1401 ه.

58- الذريعة إلي تصانيف الشيعة- آقا بزرگ طهراني 1395 ه الطبعة الاولي.

59- رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار- المكتبة التجارية الكبري 1377.

60- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني- شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي م 127 ه دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الاولي 1415 ه.

61- الرياض النضرة في مناقب العشرة- محبّ الدين الطبري- دار الكتب العلمية بيروت.

62- سير اعلام النبلاء- شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي م 748 ه مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الحادية عشرة 1422 ه.

63- السيرة النبوية- ابن هشام. مطبعة مصطفي البابي الحلبي وأولاده بمصر 1355 ه.

64- السيرة الحلبية- علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي م 1044 ه دار احياء التراث

العربي بيروت.

65- سنن أبي داوود- أبو داود سليمان بن الاشعث السجستاني م 275 ه دار الجنان مؤسسة الكتب الثقافية الطبعة الاولي 1409.

66- السنن الكبري- أحمد بن الحسين بن علي البيهقي. دار الفكر.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 617

67- شذرات الذهب في أخبار من ذهب- أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي م 1089 ه دار الكتب العلمية بيروت.

68- شرح العقيدة الاصفهانية- أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية م 728 ه مكتبة الرشد الطبعة الاولي 1422 ه.

69- شرح العقيدة الطحاوية- علي بن علي بن محمّد بن أبي العز الدمشقي م 792 ه مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثانية 1421 ه.

70- شرح المقاصد- مسعود بن عمر بن عبداللَّه الشهير سعد الدين التفتازاني م 793 منشورات الشريف الرضي الطبعة الاولي 1409 ه.

71- شرح المواقف- عضد الدين عبد الرحمن الايجي م 756 ه منشورات الشريف الرضي الطبعة الاولي 1325 ه.

72- شرح منهاج الكرامة في معرفة الامامة- الجزء الأول السيد علي الحسيني الميلاني الطبعة الاولي 1418 ه.

73- الشفا بتعريف حقوق المصطفي- أبو الفضل عياض بن موسي بن عياض اليحصبي م 544 ه.

74- صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان- الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي م 739 ه مؤسسة الرسالة الطبعة الثالثة 1418 ه.

75- صحيح البخاري- محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري م 256 ه دار العلم بيروت الطبعة الاولي 1407 ه.

76- صحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري بشرح النووي- دار الكتب العلمية بيروت.

77- صفة الصفوة- جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي م 597 ه دار المعرفة بيروت الطبعة الثالثة 1405 ه.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 618

78- الصواعق المحرقة في الرد علي أهل البدع والزندقة-

شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي المكي م 974 ه مكتبة القاهرة.

79- الضعفاء الكبير- أبو جعفر محمّد بن عمرو العقيلي المكّي م 322 ه دار الكتب العلمية الطبعة الاولي 1404 ه.

80- طبقات الحفاظ- جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي م 911 ه دار الكتب العلمية بيروت.

81- طبقات الشافعية الكبري- تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي م 771 ه.

82- الطبقات الكبري- محمد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري المعروف بابن سعد- دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الاولي 1410 ه.

83- عارضة الاحوذي بشرح جامع الترمذي- ابن العربي المالكي م 543 ه دار الفكر 1415 ه.

84- العبر في خبر من غبر- شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي م 748 ه دار الفكر الطبعة الاولي 1418 ه.

85- العلل الواردة في الأحاديث النبوية- أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني م 385 ه دار طيبة للنشر والتوزيع 1422 ه.

86- عمدة القاري- شرح صحيح البخاري- بدر الدين أبو محمّد محمود بن أحمد العيني م 855 ه دار الفكر.

87- عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير- أبو الفتح محمّد بن سيد الناس الشافعي م 734 ه دار الفكر بيروت الطبعة الاولي 1414 ه.

88- عيون الأخبار- أبو محمّد عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري م 276 ه منشورات الشريف الرضي 1343 ه- الطبعة الاولي في إيران 1415 ه.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 619

89- الفتاوي الحديثية- شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي المكي م 974 ه مصطفي البابي الحلبي وأولاده بمصر الطبعة الثانية 1390 ه.

90- الفتاوي الكبري- تقي الدين ابن تيمية الحرّاني م 728 ه دار العلم بيروت الطبعة الاولي 1407.

91- فتح

الباري شرح صحيح البخاري- أحمد بن علي بن حجر العسقلاني م 852 ه دار المعرفة بيروت.

92- فتح القدير- تفسير- محمّد بن علي بن محمّد الشوكاني م 1250 ه دار احياء التراث العربي.

93- الفخري في الآداب السلطانية والدول الاسلامية- محمّد بن علي المعروف بابن الطقطقا م 709 دار صادر بيروت.

94- فرائد السمطين في فضائل المرتضي والبتول والسبطين- إبراهيم بن محمّد الجويني الخراساني م 730 ه- الطبعة الاولي 1398 مؤسسة المحمودي بيروت.

95- الفصل في الملل والأهواء والنحل- أبو محمّد علي بن أحمد بن م 456 ه دار صادر بيروت الطبعة الاولي 1317 ه.

96- فضائل الصحابة- أبو عبداللَّه أحمد بن محمّد بن حنبل م 241 ه دار ابن الجوزي الطبعة الثانية 1420 ه.

97- فوات الوفيات- محمّد بن شاكر الكتبي م 764 ه دار صادر بيروت.

98- الفهرست- ابن النديم- دار المعرفة بيروت الطبعة الثانية 1417 ه.

99- فيض القدير شرح الجامع الصغير من احاديث البشير النذير- محمّد عبد الرؤوف المناوي دار الكتب العلمية الطبعة الاولي 1415 ه.

100- قواعد في علوم الحديث- ظفر أحمد العثماني التهانوي م 1394 مكتب المطبوعات الاسلامية الطبعة الخامسة في الرياض 1404 ه.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 620

101- الكامل في التاريخ- عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمّد المعروف بابن الأثير دار صادر بيروت 1399 ه.

102- الكامل في ضعفاء الرجل- أبو أحمد عبد اللَّه بن عدي الجرجاني م 365 ه دار الفكر الطبعة الثالثة 1409 ه.

103- كتب حذّر منها العلماء- أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان- دار الصميعي- الطبعة الاولي 1415 ه.

104- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل- جار اللَّه محمود بن عمر الزمخشري م 528 ه

نشر البلاغة قم 1415 ه.

105- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون- مصطفي بن عبداللَّه المعروف بحاجي خليفة م 1067 ه دار الفكر بيروت 1402 ه.

106- كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب- محمّد بن يوسف الگنجي الشافعي م 658 ه دار احياء تراث أهل البيت طهران الطبعة الثالثة 1404 ه.

107- كنز العمال- علاء الدين علي المتقي الهندي البرهان فوري م 975 ه مؤسسة الرسالة الطبعة الخامسة 1405 ه.

108- الكني والأسماء- أبو بشر محمّد بن أحمد بن حماد الدولابي م 310 ه- حيدر آباد الدكن الطبعة الاولي 1322 ه.

109- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة- جلال الدين عبد الرحمن السيوطي م 911 ه دار المعرفة بيروت 1453 ه.

110- لسان الميزان- ابن حجر العسقلاني م 852 ه دار الاحياء التراث العربي بيروت الطبعة الاولي 1416 ه.

111- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد- نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي م 807 ه دار الكتب العلمية بيروت 1408 ه.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 621

112- مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر- محمّد بن مكرّم المعروف بابن منظور م 711 ه دار الفكر الطبعة الاولي 1404 ه.

113- مختصر زوائد مسند البزار علي الكتب السنّة ومسند أحمد- شهاب الدين ابن حجر العسقلاني م 852 ه مؤسسة الكتب الثقافية الطبعة الثالثة 1414 ه.

114- المختصر في أخبار البشر- تاريخ أبي الفداء- عماد الدين إسماعيل- دار المعرفة بيروت.

115- مرآة الجنان وعبرة اليقظان- أبو محمّد عبداللَّه بن اسعد اليافعي اليمني المكّي م 768 ه مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت.

116- المستدرك علي الصحيحين- أبو عبداللَّه محمّد بن عبداللَّه الحاكم النيشابوري دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الاولي 1411 ه.

117- المستدرك علي الصحيحين- أبو عبداللَّه محمّد بن عبداللَّه الحاكم

النيسابوري دار المعرفة بيروت الطبعة الاولي 1418 ه.

118- مسند أبي يعلي الموصلي- أحمد بن علي بن المثني التميمي 307 ه دار المأمون للتراث.

119- مسند أحمد- أبو عبداللَّه أحمد بن حنبل الشيباني م 241 ه دار احياء التراث العربي الطبعة الثانية 1414 ه.

120- مسند الإمام أحمد بن حنبل- أبي عبداللَّه الشيباني م 241 ه دار صادر بيروت.

121- مشكاة المصابيح- محمّد بن عبداللَّه الخطيب التبريزي المكتب الإسلامي الطبعة الثانية 1405.

122- مشكل الآثار- أبو جعفر الطحاوي دار صادر بيروت الطبعة الاولي 1333 ه.

123- مصابيح السنة- أبو محمّد الحسين بن مسعود بن محمّد الفرّاء البغوي م 516 ه دار المعرفة بيروت الطبعة الاولي 1407 ه.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 622

124- المصنف في الاحاديث والآثار- عبد اللَّه بن محمّد بن أبي شيبة الكوفي العبسي م 235 ه دار الفكر الطبعة الاولي 1398 ه.

125- مطالب السؤول في مناقب آل الرسول- أبو سالم كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعي م 652 ه مؤسسة البلاغ/ الطبعة الاولي 1419 ه.

126- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية- أحمد بن علي بن حجر العسقلاني م 852 ه دار المعرفة بيروت 1414 ه.

127- معجم الأدباء أو إرشاد الأريب إلي معرفة الأديب- أبو عبداللَّه ياقوت بن عبداللَّه الرومي الحموي م 626 ه دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الاولي 1411 ه.

128- معجم البلدان- أبو عبداللَّه ياقوت بن عبداللَّه الحموي الرومي البغدادي دار صادر بيروت.

129- المعجم الصغير- أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني م 360 ه دار الفكر الطبعة الاولي 1418 ه.

130- المعجم الكبير- أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني م 360 ه دار احياء التراث العربي.

131- المعرفة والتاريخ- أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي

م 277 ه دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الاولي 1419 ه.

132- مقتل الحسين- أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكّي م 568 ه دار أنوار الهدي قم الطبعة الاولي 1418 ه.

133- مكتبة العلامة الحلي- السيد عبد العزيز الطباطبائي م 1416 ه مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث.

134- الملل والنحل- أبو الفتح عبد الكريم الشهرستاني م 548 ه الطبعة الثانية 1367 ه ش قم.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 623

135- المناقب- الموفق بن أحمد بن محمّد المكّي الخوارزمي م 568 مؤسسة النشر الاسلامي الطبعة الرابعة 1421 ه.

136- مناقب آل أبي طالب- أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني دار الاضواء بيروت.

137- مناقب الامام أحمد بن حنبل- أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي لجنة احياء التراث العربي الطبعة الثالثة 1452 ه.

138- مناهل العرفان في علوم القرآن- محمّد عبد العظيم الزرقاني. دار احياء التراث العربي بيروت الطبعة الاولي 1416 ه.

139- المنتظم في تاريخ الملوك والامم- عبد الرحمن بن علي بن محمّد بن الجوزي م 597 ه دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الاولي 1412 ه.

140- المنتقي من فضائل فاطمة الزهراء- لابن شاهين والسيوطي والقلقشندي- مؤسسة الزهراء الطبعة الاولي 1416 ه ق.

141- منهاج السنة النبوية- تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية م 728 ه الطبعة الاولي 1406 ه.

142- منهاج الكرامة في معرفة الامامة- الحسن بن يوسف بن المطهر المعروف ب العلامة الحلي م 726 ه مؤسسة عاشوراء الطبعة الاولي.

143- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح- علي بن سلطان محمّد القاري دار احياء التراث.

144- الموضوعات- أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي م 597 ه دار الكتب العلمية الطبعة الأولي 1415 ه.

145- ميزان الاعتدال

في نقد الرجال- محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي م 748 ه دار الفكر.

دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيميه، ص: 624

146- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي م 874 دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الاولي 1413 ه.

147- نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض- أحمد شهاب الدين الخفاجي دار الفكر.

148- نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار- السيد علي الحسيني الميلاني الطبعة الاولي 1418 ه.

149- النهاية في غريب الحديث والأثر- مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمّد الجزري ابن الأثير م 606 ه مكتبة العلمية بيروت.

150- نهج البلاغة- الشريف الرضي الموسوي مؤسسة الاعلمي للمطبوعات الطبعة الاولي 1413.

151- نهج الحق وكشف الصدق- الحسن بن يوسف المطهر «العلامة الحلي» م 726 ه دار الهجرة قم الطبعة الخامسة 1421 ه.

152- النهر المادّ من البحر المحيط- أبو حيّان الأندلسي م 745 ه دار الجيل بيروت الطبعة الاولي 1416 ه.

153- الوافي بالوفيات- صلاح الدين خليل بن ايبك الصفدي م 764 ه دار احياء التراث العربي بيروت الطبعة الاولي 1420 ه.

154- وفيات الأعيان وأنباء ابناء الزمان- شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان م 681 ه دار صادر بيروت 1397 ه.

155- هدي الساري مقدمة فتح الباري بشرح صحيح البخاري- أحمد بن علي بن حجر العسقلاني م 852 ه دار المعرفة بيروت.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.