سرشناسه : علوی عادل - 1955 عنوان و نام پديدآور : سر الخلیفه و فلسفه الحیاه تالیف عادل العلوی مشخصات نشر : قم موسسه الاسلامیه العامه للتبلیغ و الارشاد، 1420ق = 1379. مشخصات ظاهری : ص 32 فروست : (موسوعه رسالات اسلامیه شابک : 964-5915-18-x (دوره ؛ 964-5915-24-4 يادداشت : عربی يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا. یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس عنوان دیگر : رساله سرالخلیفه و فلسفه الحیاه موضوع : آفرینش -- جنبه های قرآنی موضوع : خدا و انسان موضوع : عبادت (اسلام -- جنبه های قرآنی رده بندی کنگره : BP232/4 /ع 8س 4 رده بندی دیویی : 297/42 شماره کتابشناسی ملی : م 79-5167
سرّ الخليقة و فلسفة الحياة([1])
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه ومبرم خطابه :
( أفَحَسِبْتُمْ أ نَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً )([2]) .
( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبينَ )([3]) .
مهما بلغ الإنسان في سير تقدّمه العلمي وتمدّنه الحضاري المزدهر بأحدث الصناعات والتكنولوجيا ، فإنّه لا يزال يدور في فلك من المجهولات الآفاقيّة والأنفسيّة ، فلو تسلّق سُلّم العلوم والفنون وسخّر الفضاء والقمر ، فإنّه لا يكاد يرى نفسه إلاّ في بداية الطريق ، وأنّ معلوماته وما كشفه ليست إلاّ كالقطرة أمام البحر الهائج من مجهولات الكون وأسراره ، ولو وضع جهله تحت أقدامه لنطح رأسه السماء السابعة ، ولا زالت جبال المجهولات لم تفتح قممها الشامخة التي تعلو السحاب ، فإنّه ما اُوتيتم من العلم إلاّ قليلا ، وفوق كلّ ذي علم عليم .
ولكن مهما كان من الأمر فإنّ الإنسان خُلق مفطوراً على التفكير ، وقد
أودع الله سبحانه فيه حبّ الاستطلاع وكشف الحقائق وفكّ رموز أسرار الحياة ، فهو بجبلته لحكمة ربانية ، يمتاز بالطموح والعمل الدؤوب المتواصل ، يبحث دوماً عن المجهولات الكونية ، ليكشفها ويرفع القناع والستار عن حقيقتها وذاتها ، فلا يفتر في طلب العلم ، وإنّه يسفك المهج ويخوض اللجج من أجله .
ومن أعظم وأكبر مجهولاته ، والذي ساير موكب البشرية منذ البداية وإلى يومنا هذا وغداً ، هو أن يكشف سرّ الحياة وفلسفة الخلقة والهدف من هذا الكون الرحب ، فما هي فلسفة الحياة ؟ !
مهما تعمّق الباحث عن الحقيقة في هذا السؤال الرهيب ، فإنّه يرى نفسه قد انغمر في بحار متلاطمة الأمواج ، بعيدة الغور والمدى ، وبلا ساحل يُرتجى ، ومن مثلي _ قصير الباع قليل المتاع ، وفي مثل هذه العجالة _ من الصعب بل كاد أن يكون مستحيلا أنّ اُوفّي وأقضي حقّ الموضوع ، ولكن أوّل الغيث قطرة ، وبالميسور لا يسقط المعسور ، فوددت أن أذكر رؤوس أقلام في جواب هذا السؤال ، عسى أن أفتح قلاع أفكار القارئ الكريم ، فإنّ فيه انطوى العالم الأكبر ، كما جاء في الأثر :
أتزعم أ نّك جرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبرُ
فأقول مقدّمةً : إنّ الإنسان منذ أن خُلق وعرف نفسه ، فإنّه يسأل عن علّة وجوده وحكمة خلقه وفلسفة حياته ، ومن ثمّ ما هو الهدف والغاية من خلقة هذا الكون العظيم الدقيق بكلّ ما فيه من ذرّاته ، ومن حركة الألكترون والنترون وإلى مجرّاته وحركة المجموعة الشمسيّة ؟ ولماذا هذه الدنيا التي شُحنت بألوان الشقاء والعذاب والأهوال والأحداث كالزلازل والفيضانات والحروب ، وكثير من الناس يشعر بالتعاسة
والبؤس والحرمان ؟ !
قد اختلف الجواب عن ذلك ، فمن كان متوغّلا في الملاذّ والشهوات وتغلّبت عليه القوّة البهيميّة ، وجذبته المادّة وزخارف العيش ، يجيب عن السؤال : بأ نّه خُلقنا للأكل والشرب والتزوّد من الملذّات الدنيويّة ، وأنّ السعيد من حاز على
نصيب أوفر منها . فإنّهم لم يؤمنوا بالمعاد وبحياة اُخرى ، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم عن لسانهم :
( وَقَالُوا مَا هِي إلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ )([4]) .
( وَالَّذينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأكُلُونَ كَمَا تَأكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوَىً لَهُمْ )([5]) .
ومنهم من يجيب أ نّه خُلقنا للشقاء ، فإنّ الحياة كلّها شقاء ونصب وتعب ، ومنهم من يقول : خُلِق بعضنا للسعادة والبعض الآخر للشقاء ، وهذا رأي الأشاعرة . وهذا كلّه من الجهل والرجم بالغيب . وقال بعض المتكلّمين : إنّ التكليف من الله سبحانه هو وجه الحكمة الذي لأجله حسن من الله تعالى خلق العالم بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد ، فالله سبحانه خلق كلّ شيء للإنسان وخلق الإنسان ليكلّفه ثم يُثيبه ، فإنّ الثواب هو العطاء الاستحقاقي والنفع المستحقّ على الله تعالى على سبيل التعظيم والإجلال ولا يكون إلاّ للمكلّفين ، كثمرة التكليف حسب استحقاقهم ذلك . وقال بعضهم : خلق الله الخلق لأنّ الأمر أمره ، والملك ملكه ، ولا ينفعهم ولا يضرّهم ، ولا لوجه يخرج به عن كونه عبثاً . وقال آخر : خلق الله الخلق لإظهار قدرته وقوّته ، فبعض الخلق للنار ، وبعض للجنّة . وذهب بعض الحكماء : إلى أنّ الخلق لا لغرض أعلى من صدوره
لغرض ، لما فيه من احتمال النقص لو صدر لغرض . وعند بعض الفلاسفة خلاف ذلك بأنّ الخلق لا لغرض هو الذي يدلّ على النقص .
والرأي الصائب كما هو معتقد الإماميّة :
إنّما خلق الله الأشياء من أجل الإنسان :
( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً )([6]) .
وخُلق الإنسان من أجل تكامله ، فخلقنا لنتكامل ونتزوّد بالعلم والمعرفة والتقوى لنيل النعيم الأبدي ، وليكون الإنسان خليفة الله في ظهور أسمائه الحسنى وصفاته العليا ، فخلقنا من الرحمة الإلهيّة ونشأنا بالرحمة ، ونرجع بالعلم والعبادة إلى رحمة الله تعالى ، كما عليه الآيات الكريمة والروايات الشريفة ، وزبدة المخاض أنّ فلسفة الحياة هو التكامل ، وذلك بالرحمة والعلم والعبادة ، فالعلم من الله في قوس نزولي ، والعبادة من الإنسان في قوس صعودي ، وظاهر القوس الدائري وباطنه الرحمة الرحمانيّة والرحيميّة .
توضيح ذلك : أنّ المعاني والمفاهيم على قسمين : إمّا حقيقيّة _ كالإنسان والحيوان _ بحيث لا يتوقّف تصوّرها وتعقّلها على معان اُخرى ، وإمّا إضافيّة _ أي بالإضافة إلى الغير _ فإنّ تعقّلها وتصوّرها يتوقّف على معان اُخرى كالعلم والعشق ، حيث العلم رابط بين العالم والمعلوم ، وإنّما نتصوّر العشق بعد تصوّر العاشق والمعشوق .
والخلق مصدر من ( خَلَقَ ، يَخلُقُ ، خَلقاً ) يتوقّف تصوّره على معنى الخالق والمخلوق فهو رابط بينهما والحاصل منهما ، فإذا أردنا أن نقف على سرّ الخلق والخليقة فلا بدّ أن نتصوّر سرّ الخالق وسرّ المخلوق ، وبعبارة اُخرى سرّ العلّة الاُولى والمسمّى بعلّة العلل وهو واجب الوجود لذاته ، وسرّ المعلول ، وهو ما سوى الله سبحانه وتعالى وهو ممكن الوجود لذاته ،
فإنّ الله سبحانه وتعالى على حسب تعبير فلاسفة المشّاء هو علّة العلل ، وما سواه المعلولات وإن كانت بعضها لبعض عللا .
وربما يقال : إنّ الله سبحانه فوق أن يوصف بذلك ، فهو خالق العلّة والمعلول فكيف يتأطّر بمخلوقه ويدخل ضمن نظام العلّة والمعلول ، كما يلزم قدم العالم بقدم علّته ، إذ لا انفكاك بين العلّة والمعلول ، فيلزم أن يكون موجباً ويسلب منه القدرة والاختيار ، وكيف يكون ذلك ؟ فإنّ لازمه نفي الذات ، فإنّ القدرة عينها ، فلا بدّ من معرفة الخالق والمخلوق حتّى نُشرف على سرّ الخلق . وهذا يحتّم علينا أن نسلّط الأضواء على غاية خلق هذا الكون تارة من ناحية الصانع والخالق الموجد الأوّل ، بأ نّه لماذا خلق وصدر عنه المخلوقات بمراتبها وعدم نهايتها ؟ واُخرى نبحث من ناحية المخلوقات بأ نّها لماذا صدرت عن الله سبحانه ؟ وما هو السرّ وهو الحكيم العليم الخبير ؟ وأ نّه لم يخلق السماوات والأرض عبثاً ولا لهواً ولا لعباً ، كما يحكم بذلك العقل السليم والفطرة المستقيمة ، وتصرّح بذلك الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة .
ريما يقال لا يمكن معرفة سرّ الخالق ، إذ الإنسان الممكن الفقير في وجوده وبقائه إنّما هو محاط بعلم الله وقدرته ، فإنّ الله هو المحيط العليم القدير ، فكيف المحاط يدرك المحيط، وكيف بالإنسان يدرك سرّ الله سبحانه في خالقيّته؟ فإنّه يستحيل ذلك.
ولكنّ الحديث ليس في ذات الله وسرّ كنهه حتّى يلزم الضلال والحيرة والكفر ، لأ نّا نُهينا أن نفكّر في ذات الله سبحانه ، وإنّما اُمرنا أن نفكّر في صفاته وأسمائه ، بل الحديث عن صفة من صفات الفعل ، وهي
صفة الخالقيّة ، فإنّ الله هو الخالق والصانع والمصوّر الأوّل ، وإليه تنتهي سلسلة العلل والمعاليل من الممكنات والمخلوقات ، فربما من هذا المنطلق يمكن أن نستضيء ببصيص من نور واجب الوجود لذاته ، لنعلم به من علمه السرّ في خلقه .
فلمّا كان سبحانه وتعالى هو الوجود البحت المطلق المستجمع لجميع الصفات الجماليّة والكماليّة على نحو الإطلاق وبلا نهاية ، فهو العالم القادر الحيّ المطلق في علمه وقدرته وحياته ، كما تدلّ على ذلك البراهين الواضحة والأدلّة الساطعة ، فهو الكمال المطلق والمطلق في الكمال .
والله المطلق في صفاته الثبوتية الذاتية والفعلية سبحانه وتعالى ، من كماله المطلق : أن تتجلّى صفاته في مصنوعاته ومخلوقاته ، فإنّ من يُجيد هندسة الطائرة النفّاثة إنّما تظهر جودته وكماله في هندسته ، لو صنع لنا الطائرة ، وفاق أقرانه في إيجادها وإتقانها وطيرانها . فلولا الصنع لما عرفنا كماله ، ومن الوجدانيّات _ والوجداني من البديهيّات _ أنّ من يملك الصوت الجميل مثلا ، فإنّه يحاول بين الأقران والأخلاّء أن يُغرّد ويظهر صوته ، فيتغنّى ويترنّم ، بل حتّى لو كان وحده فإنّه يصدح ويعلو صوته ، وذلك من كمال الصوت الجميل ، فمقتضى الكمال وطبيعته الذاتية أن يظهر نفسه ، فهو الظاهر بنفسه والمظهر لغيره كالنور . ولمّا كان الله سبحانه مطلق الكمال والكمال المطلق فمقتضى ذاته _ ولا يعلمها إلاّ هو _ أن يتجلّى في صفاته وجماله وجلاله ، فيظهر علمه وقدرته وحياته وأسمائه الحسنى في مخلوقاته ومصنوعاته ، الأقرب فالأقرب ، والصادر الأوّل منه الذي يحمل أسماء الله وصفاته على وجه أتمّ ، وهو الإنسان الجامع والذي يعبّر عنه بالحقيقة المحمّديّة ... .
ورد في الحديث
القدسي عن الله سبحانه : ( كنت كنزاً مخفيّاً فخلقت الخلق لكي اُعرف ) ، فخلق ليظهر قدرته كما ورد في الحديث الشريف _ كما سنذكره _ فالخلق مظهر لأسماء الله وصفاته . وإنّما يقف على كُنه هذه الحقيقة وسرّها الأنبياء والأوصياء والأولياء الأمثل فالأمثل ، كما جاء في زيارة الجامعة في زيارة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) : ( السلام على حَمَلَة سرّ الله ) ، فأهل البيت (عليهم السلام)هم حملة الأسرار وهم أدرى بما في البيت ، فلا نطرق باب سرّ الخالق أكثر من أن نقول _ إن صحّ التعبير والقول _ : إنّ الله سبحانه هو الكمال المطلق ، ومن كمال كماله أن يتجلّى ويظهر في كلّ شيء كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله ومعه وبعده ) ، وقد ورد في دعاء سحر شهر رمضان : ( اللهمّ إنّي أسألك من كمالك بأكمله وكلّ كمالك كامل ، اللهمّ إنّي أسألك بكمالك كلّه ) ، وأنّ الله جميل ويحبّ الجمال ، ومن جماله أن يظهر جماله ( اللهمّ إنّي أسألك من جمالك بأجمله وكلّ جمالك جميل ، اللهمّ إنّي أسألك بجمالك كلّه ) .
هذا و إنّما نطلق العنان في سرّ المخلوق ، فإنّ الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما من أجل الإنسان كما في قوله تعالى :
( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْض )([7]) .
وجاء في الحديث القدسي في خطاب الله سبحانه للإنسان : ( خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي ) .
فإنّ الله جلّ جلاله خلق الكائنات وما في الطبيعة وما وراءها من أجل الإنسان ، وخلق الإنسان
ذلك الكائن الذي لا يزال مجهولا من أجله سبحانه ، فهو خليفة الله في الأرض :
( إنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً )([8]) .
والقرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم يلخّص لنا سرّ الخلق وفلسفة الحياة في حقائق ثلاثة : الرحمة والعلم والعبادة .
آية الرحمة :
قال الله تعالى :
( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ )([9]) .
آية العلم :
وقال سبحانه :
( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الأرْضِ مَثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ وَأنَّ اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْماً )([10]) .
آية العبادة :
وقال جلّ جلاله :
( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ )([11]) .
وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله : ( إلاّ لِيَعْبُدُونِ ) أي : إلاّ ليعرفون ، فإنّ العبادة لا تتمّ ولا تصحّ إلاّ بعد المعرفة ، فما خلق الجنّ والإنس إلاّ ليعرفوه وإذا عرفوه عبدوه ، فهو من باب إطلاق السبب على المسبّب .
في كتاب تحف العقول عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، قال : ( لا يقبل عمل إلاّ بمعرفة ، ولا معرفة إلاّ بعمل ، ومن عرف دلّته معرفته على العمل ، ومن لم يعرف فلا عمل ) .
وجاء في علل الشرائع([12]) ، بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : خرج الحسين ابن عليّ (عليهما السلام) على أصحابه فقال : أ يّها الناس إنّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه ، فقال له رجل : يا بن رسول الله ، بأبي أنت واُمّي ، فما
معرفة الله ؟ قال (عليه السلام) : معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته .
قال مصنّف الكتاب الشيخ الصدوق عليه الرحمة : يعني بذلك أن يعلم أهل كلّ زمان أنّ الله هو الذي لا يُخلّيهم في كلّ زمان عن إمام معصوم ، فمن عبد ربّاً لم يقم لهم الحجّة ، فإنّما عبد غير الله عزّ وجلّ .
وإنّ الأئمة الأطهار _ كما هو ثابت في محلّه _ هم باب الله الذي منه يؤتى ، ولولاهم لما عرف الله سبحانه ، وإنّهم السبب المتّصل بين السماء والأرض ، ووجه الله الذي يتوجّه إليه الأولياء([13]) .
عن ابن عمارة عن أبيه قال : سألت الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) ، فقلت له : لِمَ خلق الله الخلق ؟ فقال : إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ، ولم يتركهم سُدىً ، بل خلقهم لإظهار قدرته ، وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه ، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرّة ، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد .
في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : يقول الله تعالى : يا بن آدم لم أخلقك لأربح عليك ، إنّما خلقتك لتربح عليّ ، فاتّخذني بدلا من كلّ شيء فإنّي ناصرٌ لك من كلّ شيء .
عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ ) ، قال : خلقهم ليأمرهم بالعبادة ، قال : وسألته عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) ، قال : خلقهم ليفعلوا ما
يستوجبون به رحمته فيرحمهم .
عن جميل بن درّاج ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : جعلت فداك ، ما معنى قول الله عزّ وجلّ : ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ ) ، فقال : خلقهم للعبادة ، قلت : خاصّة أم عامّة ؟ قال : بل عامّة .
جاء في تفسير الميزان([14]) للعلاّمة الطباطبائي (قدس سره)في قوله تعالى : ( إلاّ لِيَعْبُدُونِ ) اللام فيه للغرض ، إذ أ نّه استثناء من النفي ، ولا ريب في ظهوره في أنّ للخلقة غرضاً ، وأنّ الغرض العبادة ، بمعنى كونهم عابدين لله ، لا كونه معبوداً ، فقد قال : ( لِيَعْبُدُونِ ) ولم يقل : ( لأعبد ) أو ( لأكون معبوداً لهم ) فالعبادة غرض لخلقة الإنسان ، وكمال عائد إليه ، ولو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها والخلوص لله ، كان هو الغرض الأقصى والعبادة غرضاً متوسّطاً _ وربما هذا معنى قول الإمام (عليه السلام) : ( ليعرفون ) _ .
لا يقال : كون اللام في ( ليعبدون ) للغرض يعارضه قوله تعالى : ( لا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) ، فإنّ الظاهر كون الغرض من الخلقة الاختلاف .
كما يعارض قوله تعالى : ( وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإنْسِ )([15]) ، فظاهره كون الغرض من خلق كثير من الجنّ والإنس دخول جهنّم .
لأ نّه يقال : أمّا الآية الاُولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف ، وأمّا الثانية فاللام للغرض لكنّه غرض تبعي وبالقصد الثاني ، لا كما في ( لِيَعْبُدُونِ ) .
فإن قلت : مراد الله لا يتخلّف عن
إرادته ، فإذا أراد الله شيئاً أن يقول له كن فيكون ، فلو كان اللام للغرض لما تخلّف الناس عن العبادة ، ومن المعلوم المشاهد أنّ كثيراً من الناس لا يعبدونه تعالى ، فاللام ليس للغرض .
فالجواب : إنّما يرد الإشكال لو كان اللام من الجنّ والإنس للاستغراق ، فيكون تخلّف الغرض في بعض الأفراد منافياً له وتخلّفاً من الغرض ، والظاهر _ والظواهر حجّة _ أنّ اللام فيهما للجنس دون الاستغراق ووجود العبادة في النوع في الجملة تحقّق للغرض ، ولا يضرّه تخلّفه في بعض الأفراد . نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلاناً للغرض ، ولله سبحانه في النوع غرض ، كما أنّ له في الفرد غرضاً .
وإن قيل : اللام للغرض ولكنّ المراد من العبادة العبادة التكوينية وليست التشريعية _ التي هي عبارة عن التكاليف الشرعية التي فيها الثواب والعقاب _ فيكون كما في قوله تعالى : ( وَإنْ مِنْ شَيْء إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )([16]) ، فالعبادة تكوينية للجنّ والإنس كالتسبيح التكويني لكلّ شيء .
فالجواب : لو كانت تكوينيّة ، فلماذا قد خصّص الله الجنّ والإنس بهما ؟ كما أنّ سياقها سياق توبيخ الكفّار على ترك عبادة الله التشريعية ، وتهديدهم على إنكار المعاد ، وذلك يتعلّق بالعبادة التشريعية دون التكوينية .
فاللام في ( ليعبدون ) للغرض ، وفي ( الجنّ والإنس ) للجنس ، والمراد من العبادة العبادة التشريعية ، بمعنى أنّ ما يأتي به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام وركوع ونحوهما ، غرض مطلوب لأجل غرض آخر ، هو المثول بين يدي الله سبحانه .
فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلّة والعبودية ، وتوجيه وجهه
إلى مقام ربّه ، وهذا هو مراد من فسّر العبادة بالمعرفة ، يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة .
فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخِلقة ، وهي أن ينقطع العبد عن نفسه وعن كلّ شيء ويذكر ربّه الغني المحض والعزيز المطلق ، فيرى نفسه فقيراً مملوكاً لربّ العالمين ، فيسلّم أمره إليه ، فإنّه هو الضارّ وهو النافع . والإنسان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا حياةً ولا نشوراً .
وأوّل العلم معرفة الجبّار ، وآخر العلم تفويض الأمر إليه ، فالإنسان الكامل من كان بين المعرفة والتفويض ، متزيّناً بالعبادة ، والدعاء روح العبادة :
( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ )([17]) .
وعبادتكم ، فإنّ الدعاء مخّ العبادة _ كما ورد في الخبر الشريف _ والعبادة هي غرض الفعل ، أي كمال عائد إليه لا إلى الفاعل .
ويظهر من النفي والاستثناء في الآية الشريفة ، الذي هو من القصر _ كما في علم البلاغة _ أن لا عناية لله بمن لا يعبده ، كما يفيده قوله تعالى :
( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ ) .
وهذا يدلّ على أهمية الدعاء والعبادة . ولعلّ تقديم الجنّ على الإنس في آية ( ليعبدون ) لسبق خلقهم على خلق الإنس ، قال تعالى :
( وَالجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ )([18]) .
ثمّ قد وقع نزاع بين الأعلام في علم الكلام في معرفة الله سبحانه ، بأ نّها اكتسابية ونظرية ، أو أ نّها بديهيّة وضروريّة . والحقّ أ نّها من النظريات كما عند محقّقي المتكلّمين في قولهم : إنّ النظر أوّل الواجبات على المكلّفين .
وإنّ الآيات القرآنية والروايات الشريفة تحثّ الإنسان على النظر والاستدلال والتعقّل والتفكّر
والتدبّر ، في المعرفة بالله تعالى وتوحيده وكمال قدرته وعلمه وغاية حكمته . قال الله تعالى :
( أوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهَ مِنْ شَيْء )([19]) .
وقال سبحانه وتعالى :
( الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أ يُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلا )([20]) .
فخلقنا برحمة الله للعبادة بعلم ومعرفة ، وثمرة العلم العبادة :
( إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ )([21]) .
وإنّما الدنيا دار امتحان ، والغاية منه تكميل النفوس وتقرّبها إلى بارئها ، فإلى الله المنتهى ، وإنّ الإنسان كادح إلى ربّه كدحاً فملاقيه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
والمعرفة لا تكون نصيب النفوس المنافقة والمريضة الرجسة والمتلوّنة بالذنوب والمعاصي والصفات الرذيلة ، بل لا بدّ من قلب زكي نقي طاهر لا فساد فيه ولا مرض ، ولا يكون ذلك إلاّ بالعبادة والخضوع لله سبحانه والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه ، فبرحمة الله خلق الإنسان ، ولإيصال رحمة الله _ الرحمانيّة العامّة للمؤمنين والكفّار ، والرحيميّة الخاصّة بالمحسنين _ كلّف العباد من غير حاجة منه سبحانه في خلقهم ولا في تكليفهم ولا ليربح عليهم ، وما أرسل الرسل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب ، إلاّ لتعميق وترسيخ هذه المعرفة ، وتركيز الحبّ الإلهي والعشق الربّاني الصمداني في النفوس الطاهرة والأرواح الزكيّة :
( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ اُمَّة رَسُولا أنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )([22]) .
فلا بدّ في إيمان العبد ومعرفته من إثبات ( أن اعبدوا الله ) ورفض ( اجتنبوا الطاغوت ) فعلى الإنسان أن يبذل كلّ ما في وسعه في تحصيل معرفة الله ، ويبلغ الغاية التي خلق لأجلها .
وبالمعرفة يصل الإنسان الكامل إلى قاب قوسين أو أدنى ، إلى جنّة عرضها
السماوات والأرض :
( سَابِقُوا إلَى مَغْفَرِة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالأرْض اُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )([23]) .
ورأس التقوى : المعرفة والعلم .
( وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ )([24]) .
أجل : العلم والعبادة جوهران لأجلهما خلقت السماوات والأرض وما بينهما ، ولأجلهما اُنزلت الكتب من السماء واُرسلت الرسل ، فهما كلّ شيء ، ولولاهما لكان الإنسان كالأنعام بل أضلّ سبيلا ، ولكان قلبه كالحجارة بل أشدّ قسوة .
فحقيق علينا وعلى كلّ إنسان فهم الحياة وكشف سرّ الخلقة ، أن لا يشتغل إلاّ بهما ، ولا ينظر إلاّ فيهما ، فما سواهما لغو لا حاصل له . ولمثل هذا يقول الإمام السجّاد (عليه السلام) : ( لو علمتم ما في طلب العلم لطلبتموه ولو بسفك المُهج وخوض اللجج ) هذا في مقدار وكيفيّة السعي ، وأمّا في الزمان فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( اطلب العلم من المهد إلى اللحد ) أي طيلة الحياة ، وأمّا في المكان فقد قال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) : ( اطلبوا العلم ولو في الصين ) كناية عن البعد المكاني .
وأشرف الجوهرين : العلم ، فقد جاء في الكافي([25]) عن مولانا الباقر (عليه السلام) : ( عالم ينتفع بعلمه _ هو ينتفع من علمه كما أنّ الناس ينتفعون من علمه _ أفضل من سبعين ألف عابد ) .
فلا بدّ للعلم من عمل وعبادة ، وهذا معنى العلم النافع والانتفاع به وأنّ ثمرة العلم العبادة ، وإلاّ كان العلم هو الحجاب الأكبر ، ولم يزدد صاحبه من الله إلاّ بُعداً _ كما ورد في الخبر _ فالعلم بلا عمل كليلة بلا قمر _ كناية عن
الظلام والظلمة _ وإنّ العلم بمنزلة الشجرة اليانعة ، والعمل والعبادة بمنزلة ثمرة من ثمراتها ، فالشرف للشجرة ، إذ هي الأصل ، لكن الانتفاع بثمرتها ، فلا بدّ أن يكون لنا من كلا الأمرين حظّ ونصيب _ فمن أخذ أخذ بحظّ وافر _ وإنّ العلم علم الدين والباقي فضل : ( إنّما العلم ثلاث : آية محكمة _ علم العقائد _ وفريضة عادلة _ علم الفقه _ وسُنّة قائمة _ علم الكلام _ وما سواهنّ فهو فضل )([26]) . فعلم الدين فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ، وبالعلم يكون الإيمان ، والعبادة الصحيحة إنّما تورث في القلب صفاءً يجعله مستعدّاً لحصول نور فيه ، وليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يريد الله أن يهديه([27]) ، ومن علم وعمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم ، ومن تعلّم لله وعمل لله وعلّم لله دُعي في السماوات عظيماً . وليس العلم في السماء فينزل إليكم ولا في الأرض فيخرج إليكم ، إنّما العلم في قلوبكم ، تخلّقوا بأخلاق الروحانيّين يظهر لكم .
إنّ تحصيل العلم مقدّم على العبادة ، فإنّ من لم يعرف المعبود ولا صيغة العبادة ولا آثارها كيف وأ نّى تأت له العبادة الصحيحة ؟ وكيف يكون عمله صائباً ؟
فثمرة العلم الطاعة والعبادة ، وإنّ العلم أمام العمل ، والعمل تابعه .
اعلم أنّ العبادة في كيفيّتها على قسمين :
التي هي من تقوى الجوارح والأبدان ، كفعل الطاعات الظاهرة ، كالصلاة والصوم والحجّ والزكاة وغير ذلك من العبادات والمعاملات ، وترك المعاصي الواضحة كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك ممّا يوجب دخول النار .
ويسمّى العلم المتعلّق بذلك : علم الشريعة وعلم الفقه .
التي هي من تقوى القلوب والأرواح ، وإذا صلح القلب صلحت الجوارح ، فإنّ القلب سلطان البدن ، والناس على دين ملوكهم ، فتقوى القلب وإصلاح السريرة والسيرة أبلغ في الوصول من العمل بالجوارح ، كالتخلّق بالصفات الحميدة من الإخلاص والتوكّل على الله والصبر والشكر وغير ذلك ، والتجنّب عن الملكات الرذيلة كالحسد والكبر والعجب والرياء وقول الزور والظلم .
وسمّي العلم المتعلّق بذلك علم السرّ وعلم الأخلاق .
وكلتا العبادتين فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ، لورود الأمر بهما جميعاً في الكتاب والسنّة كقوله تعالى :
( وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )([28]) .
والتكليف بكلتيهما إنّما هو بقدر الوسع والطاقة :
( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ وُسْعَهَا )([29]) .
والقلوب أوعية ، ولكن خيرها أوعاها ، فلكلّ منهما درجات في الكمال والنقص وزيادة القرب من الحقّ بحسب اختلاف الناس درجاتهم في تحمّلها والعمل بها ، وإنّ الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق .
ولكنّ الناس في العبادة على أقسام ثلاثة _ كما ورد في الخبر الشريف _ فمنهم من يعبد الله خوفاً من ناره وعذابه ، وهذا مثل عمل وعبادة العبيد ، ومنهم من يعبد الله طمعاً في جنّته وثوابه ، وهذا مثل فعل التجّار ، فعملهم إنّما هو للربح ، الأكثر فالأكثر ، ومن الناس وهم أولياء الله المقرّبون والخلّص من عباد الله ، يعبدونه شوقاً وحبّاً وشكراً على نعمائه وآلائه
، ووجدوا أنّ الله أهلا للعبادة .
سفينة البحار([30]) ، عن الكافي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : إنّ العبادة ثلاثة : قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاُجراء ، وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة .
وإنّ أولياء الله وأحبّاءه يحبّون عبادة الله سبحانه ، حتّى أنّ أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل .
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : قليل العمل مع كثير العلم خيرٌ من كثير العمل مع قليل العلم والشكّ والشبهة .
بصائر الدرجات ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال: عالم أفضل من ألف عابد ومن ألف زاهد . وقال : عالم ينتفع بعلمه أفضل من عبادة سبعين ألف عابد .
والروايات في فضل العالم على العابد كثيرة . فلا بدّ للعالم من عبادة وللعابد من علم ، وإنّما يحلّق الإنسان في سماء المكارم والفضائل ويصل إلى قمّة الكمال والجمال بالعلم والعبادة .
قال الراغب في مفرداته ما ملخّصه : إنّ العبوديّة إظهار التذلّل ، والعبادة أبلغ منها لأ نّها غاية التذلّل ، ولا يستحقّها إلاّ من له غاية الأفضال وهو الله تعالى ، ولهذا قال :
( أ لاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيَّاهُ ) .
والعبادة ضربان :
عبادة بالتسخير _ أي عبادة تكوينيّة _ كسجود الحيوانات والنباتات والظلال ، قال الله تعالى :
( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ )([31]) .
فهذا سجود تسخير ، وهو الدلالة الصامتة الناطقة المنتبهة على
كونها مخلوقة وأ نّها خلق فاعل حكيم .
والضرب الثاني عبادة بالاختيار _ عبادة تشريعيّة _ وهي لذوي النطق ، وهي المأمور بها في نحو قوله تعالى: ( اعْبُدُوا رَبَّكُمْ ) .
والعبد يقال على أربعة أضرب :
الأوّل : عبد بحكم الشرع ، وهو الإنسان الذي يصحّ بيعه وابتياعه نحو العبد بالعبد .
الثاني : عبد بالإيجاد ، وليس ليس إلاّ لله ، قال تعالى:
( إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً )([32]) .
الثالث : عبد بالعبادة والخدمة ، والناس في هذا ضربان : عبد لله مخلصاً ، كقوله تعالى: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ) ، ( إنَّ عِبَادِي ) ، ( عَبْدَنَا أ يُّوب ) ، ( عَبْداً شَكُوراً ) ، ونحو ذلك ، وعبد للدنيا وأعراضها وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها ، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار .
وعلى هذا النحو يصحّ أن يقال : ليس كلّ إنسان عبداً لله ، فإنّ العبد على هذا بمعنى العابد ، لكنّ العبد أبلغ من العابد ، والناس كلّهم عباد الله ، بل الأشياء كلّها كذلك ، لكن بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار . انتهى .
ثمّ كما ورد في الأخبار : أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً ، وأقلّ الناس قيمة أقلّهم علماً ، وقيمة كلّ امرئ مايحسنه من العلم والمعرفة ، ومن سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنّة ، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً به ، وإنّه ليستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتّى الحوت في البحر ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر ،
وإنّ العلماء ورثة الأنبياء ، فمن أخذ منه أخذ بحظّ وافر .
قال الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) : أولى العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلاّ به ، وأوجب العمل عليك ما أنت مسؤول عن العمل به ، وألزم العلم لك ما دلّك على صلاح قلبك وأظهر لك فساده ، وأحمد العلم عاقبة ما زاد في علمك العاجل ، فلا تشتغلنّ بعلم ما لا يضرّك جهله ، ولا تغفلنّ عن علم ما يزيد في جهلك تركه([33]) .
عن الصادق (عليه السلام) ، قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله عزّ وجلّ الناس في صعيد واحد ووضعت الموازين فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء([34]) .
كان عليّ بن الحسين (عليه السلام)إذا جاءه طالب علم فقال: مرحباً بوصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثمّ يقول : إنّ طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجليه على رطب ولا يابس من الأرض إلاّ سبّحت له إلى الأرضين السابعة .
فكن عالماً أو متعلّماً على سبيل النجاة ، فتحضر مجالس العلماء الصالحين الأخيار الذين زهدوا في الدنيا ، ومن لم يحضر فيصاب بالخدلان الإلهي: ( أو لعلّك فقدّتني من مجالس العلماء فخذلتني )([35]) .
جامع الأخبار ، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : سيأتي زمان على الناس يفرّون من العلماء كما يفرّ الغنم من الذئب ، ابتلاهم الله تعالى بثلاثة أشياء :
الأوّل : يرفع البركة من أموالهم .
والثاني : سلّط عليهم سلطاناً جائراً .
والثالث : يخرجون من الدنيا بلا إيمان([36]) .
فغاية الخلق وسرّ الحياة : العلم والعبادة المتبلورة بالرحمة الإلهية ، والجنّ والإنس إنّما كلّفوا بكسب العلم والعبادة ،
وعلى كلّ فرد أن يكون عارفاً بالله عابداً إيّاه :
( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِين )([37]) .
وأمّا الامتحان والابتلاء والبلاء الإلهي والفتن والحوادث الكونية إنّما هي ليعلم الناس أ يّهم أحسن عملا ، ومن ثمّ أحسن عقلا ومعرفة ، إذ حسن العمل والعبادة بعد حسن المعرفة والعلم بعلم الله وقدرته ، ونتيجة ذلك تكامل الإنسان ، وبلوغ القمّة والوصول إلى الله سبحانه .
( الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أ يُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ )([38]) .
والله سبحانه إنّما يريد حسن العمل لا كثرته من دون الحسن ، وحسن العمل إنّما هو بالعلم والتقوى :
( اُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ مَا عَمِلُوا )([39]) .
( إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ )([40]) .
وما أروع ما يقوله صدر المتأ لّهين الشيرازي([41]) : ( فلا غاية له _ أي لله
سبحانه _ في فعل الوجود إلاّ إفاضة الخير والجود ، بل ليس لجوده غاية سوى وجوده إذ هو غاية الغايات ونهاية النهايات ، إليه ينتهي كلّ موجود ، وبه يقضى كلّ حاجة ومقصود ، إنّما الغاية في فعله لما سواه من ذوي الفقر والحاجة واُولي المسكنة والفاقة وهو إيصال كلّ واحد إلى كماله ، وإرواء كلّ وارد من مشرب جماله ، إذ لم يخلق هذا الجسماني الفسيح والفلك والدوّار المسيح ، إلاّ لأمر عظيم خطير ، أعظم من هذا المحسوس الحقير ) .
فالغاية والمقصود من المخلوقات ( هو إيصال كلّ واحد إلى كماله ) .
وقد ورد عن الإمامين الصادقين (عليهما السلام) :
( الكمال كلّ الكمال : التفقّه في الدين والصبر على النائبة والتقدير في المعيشة ).
وهذا يعني أنّ كمال الإنسان في كلّ أبعاده ، العلمي والعملي ، والفردي والاجتماعي ،
المادّي والمعنوي ، إنّما هو في حركات ثلاثة ، واستفدنا الحركة من قوله (عليه السلام) : ( الكمال كلّ الكمال ) ، فإنّ الكمال فيما سوى الله سبحانه لازمه الحركة ، وأمّا في الله سبحانه فإنّه الثابت فلا يتّصف بالحركة والسكون ، فكمال الإنسان في حركات ثلاثة :
1 _ الحركة العلمية ( التفقّه في الدين ) فإنّ الفقه بمعنى الفهم وهو يرادف العلم أو يلازمه .
2 _ الحركة الأخلاقية ( الصبر على النائبة ) فإنّ أساس الأخلاقيات هو الصبر والفرد الشاخص له هو الصبر على النائبة .
3 _ الحركة الاقتصادية ( التقدير في المعيشة ) فيكون عيشه بقدر معلوم من دون إفراط وتفريط ، فيراعي الجانب الاقتصادي في حياته .
وخلاصة الكلام يتّضح بهذا المخطّط :
فلسفة الحياة
التكامل
بالرحمة والعلم والعبادة
حركة الإنسان
بدايتها خلافة الله في الأرض
نهايتها إلى الله المنتهى
« فمن الله وإلى الله بالرحمة والعلم والعبادة »
هذا والدعاء والتوسّل بالله سبحانه وتعالى وشفاعة أوليائه الكرام البررة ، له التأثير البالغ في تكامل روح الإنسان وتعاليه وبلوغ مناه ، فنسأله عزّ وجلّ ، بلطفه وكرمه وجوده ، أن يوفّقنا لكلّ خير ، ولما يحبّ ويرضى ، ويسعدنا وجميع المؤمنين والمؤمنات وقرّاءنا الأعزّاء في الدارين ، آمين ربّ العالمين .
( إلهي انظر إليَّ نظر من ناديته فأجابك ، واستعملته بمعونتك فأطاعك ، يا قريباً لا يبعد عن المغترّ به ، ويا جواداً لا يبخل عمّن رجا ثوابه ، إلهي هب لي قلباً يُدنيه منك شوقه ، ولساناً يرفع إليك صدقه ، ونظراً يُقرّبه منك حقّه ، إلهي إنّ من تعرّف بك غير مجهول ، ومن لاذ بك غير مخذول ، ومن أقبلت عليه غير مملوك ( ملول ) ، إلهي إنّ من انتهج بك لمستنير ، وإنّ من اعتصم بك لمستجير ، وقد لذتُ بك يا إلهي فلا تخيّب ظنّي من رحمتك ، ولا تحجبني عن رأفتك ، إلهي أقمني في أهل ولايتك مقام من رجا الزيادة من محبّتك ، ألهمني ولهاً بذكرك إلى ذكرك وهمّتي في روح نجاح أسمائك ومحلّ قدسك ، إلهي بك عليك إلاّ ألحقتني بمحلّ أهل طاعتك والمثوى الصالح من مرضاتك ، فإنّي لا أقدرُ لنفسي دفعاً ، ولا أملك لها نفعاً ، إلهي أنا عبدك الضعيف المذنب ومملوكك المنيب ( المعيب ) ، فلا تجعلني ممّن صرفت عنه وجهك ، وحجبه سهوه عن عفوك ، إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك ، وأنر
أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتّى تخرق أبصار القلوب حُجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك ، إلهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك ، ولاحظته فصعق لجلالك ، فناجيته سرّاً وعمل لك جهراً ، إلهي لم اُسلّط على حسن ظنّي قنوط الأياس ولا انقطع رجائي من جميل كرمك ، إلهي إن كانت الخطايا قد أسقطتني لديك فاصفح عنّي بحسن توكّلي عليك ، إلهي إن حطّتني الذنوب من مكارم لطفك فقد نبّهني اليقين إلى كرم عطفك ، إلهي إن أنامتني الغفلة عن الاستعداد للقائك فقد نبّهتني المعرفة بكرم آلائك ، إلهي إن دعاني إلى النار عظيم عقابك فقد دعاني إلى الجنّة جزيل ثوابك ، إلهي فلك أسأل وإليك أبتهل وأرغب ، وأسألك أن تصلّي على محمّد وآل محمّد وأن تجعلني ممّن يديم ذكرك ، ولا ينقص عهدك ولا يغفل عن شكرك ، ولا يستخفّ بأمرك ، إلهي وألحقني بنور عزّك الأبهج فأكون لك عارفاً ، وعن سواك منحرفاً ، ومنك خائفاً مترقّباً ، يا ذا الجلال والإكرام ، وصلّى الله على محمّد ورسوله وآله الطاهرين وسلّم تسليماً كثيراً )([42]) .
_ftnref1([1]) طبع في مجلة ( الكوثر ) ، العدد الأوّل سنة 1415 ه_ .
_ftnref2([2]) المؤمنون : 115 .
_ftnref3([3]) الأنبياء : 16 .
_ftnref4([4]) الجاثية : 24 .
_ftnref5([5]) محمّد : 12 .
_ftnref6([6]) الجاثية : 13 .
_ftnref7([7]) الجاثية : 13 .
_ftnref8([8]) البقرة : 30 .
_ftnref9([9]) هود : 119 .
_ftnref10([10]) الطلاق : 12 .
_ftnref11([11]) الذاريات : 59 .
_ftnref12([12]) علل الشرائع : 9 .
_ftnref13([13]) ذكرت تفصيل ذلك في كتاب ( هذه هي الولاية ) ، فراجع .
_ftnref14([14]) الميزان 18 : 385 .
_ftnref15([15]) الأعراف : 179 .
_ftnref16([16]) الإسراء :
44 .
_ftnref17([17]) الفرقان : 77 .
_ftnref18([18]) الحجر : 27 .
_ftnref19([19]) الأعراف : 18 .
_ftnref20([20]) الملك : 2 .
_ftnref21([21]) فاطر : 28 .
_ftnref22([22]) النحل : 36 .
_ftnref23([23]) آل عمران : 133 .
_ftnref24([24]) البقرة : 282 .
_ftnref25([25]) الكافي 1 : 33 .
_ftnref26([26]) لقد ذكرنا بيان هذه الرواية النبويّة في كتاب ( عقائد المؤمنين ) ، و ( دروس اليقين في معرفة اُصول الدين ) ، فراجع .
_ftnref27([27]) جاء في الخبر ذلك . البحار 1 : 225 .
_ftnref28([28]) 6 : 151 .
_ftnref29([29]) 2 : 282 .
_ftnref30([30]) سفينة البحار 6 : 9 .
_ftnref31([31]) الرعد : 15 .
_ftnref32([32]) مريم : 93 .
_ftnref33([33]) سفينة البحار 6 : 344 .
_ftnref34([34]) البحار 7 : 226 .
_ftnref35([35]) مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي .
_ftnref36([36]) السفينة 6 : 347 .
_ftnref37([37]) الحمد : 3 .
_ftnref38([38]) الملك : 2 .
_ftnref39([39]) الأحقاف : 16 .
_ftnref40([40]) المائدة : 27 .
_ftnref41([41]) الواردات القلبية في معرفة الربوبيّة : 58 .
_ftnref42([42]) من دعاء ( المناجاة الشعبانيّة ) في مفاتيح الجنان ، وقد ذكرت بيان ذلك في كتاب ( عقائد المؤمنين ) و ( دروس اليقين في معرفة اُصول الدين ) وكتاب ( التوبة والتائبون ) ، فراجع .