من وحي التربية والتعليم

اشارة

سرشناسه : علوی عادل - 1955 عنوان و نام پديدآور : من وحی التربیه و التعلیم بقلم عادل العلوی مشخصات نشر : قم موسسه الاسلامیه العامه للتبلیغ و الارشاد، 1378. مشخصات ظاهری : ص 80 فروست : (موسوعه رسالات اسلامیه شابک : 964-5915-05-8 2000ریال وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی يادداشت : عربی يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا. یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس موضوع : اخلاق اسلامی موضوع : تربیت خانوادگی (اسلام رده بندی کنگره : BP247/8 /ع 8م 9 رده بندی دیویی : 297/61 شماره کتابشناسی ملی : م 78-20854

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

لك الحمد يا إلهي الكريم على ما أنعمت وأوليت وخلقت وهديت وربّيت ، فأنت ربّ العالمين . ولك الشكر والمنّة على آلائك الجمّة التي لا تعدّ ، ونعمك اللامتناهية التي لا تحصى ، فالحمد لله الذي خلق الخلق ليعرفوه ، وجعل معرفة النفس أنفع المعارف وسبيلا لمعرفته ، وألهم النفس فجورها وتقواها ، وأنار طريق الإنسان وهداه الصراط المستقيم بالكتب والرسل ، وختم النبوّة بمحمّد (صلى الله عليه وآله)والكتب السماويّة بالقرآن الكريم ، فالصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد وآله الطاهرين.

كثرة المحن تغيّر الأحوال ، وفي تقلّب الحال يعرف جواهر الرجال ، فخطر على بالي حينما تغيّر حالي ، وتلاقفتني أيدي المشاكل ، وضمّتني أحضان المسائل إلى صدرها الخوّان ، وقلبها الفتّان ، وقلّدتني من شغفها أساور المصائب ، وزيّنتني من حبّها قلائد المتاعب ، وطوّقتني بأطواق البلايا ، وأرضعتني من ثدي الرزايا ، فلا سرور ولا مرح ولا طرب ولا فرح

، فهي الدنيا الفانية والأيّام البالية ، تغرّ الرجال وتريك الأهوال ، فلا تدري ما ضمّ لك الدهر الخوّان ، ولا تعلم ما يجري عليك في

هذا الزمان ، فالناس حيارى وما هم بسكارى ، غرّتهم الدنيا بابتسامتها القاتلة ، ووعودها الخادعة.

فطوبى لمن عرف حقيقتها ووقف على عيوبها ، فتحذّرها وطلّقها وخلّ سبيلها ، طوبى لمن فهم الحياة واستعدّ لما بعد الممات وتزوّد بخير الزاد وما فيه السداد وبه الرشاد ... فهيّا يا إخوان الصفا وخلاّن الوفا ، هبّوا لمعرفة أنفسكم وإضاءة سبلكم ، واطرقوا أبواب علم النفس قبل التسويف والآمال وحلول الرمس وانقضاء الآجال . وعليكم بتربية النفوس وتكميلها ، وتزكية الأرواح وتهذيبها ، ولا تغرّنكم الدنيا الدنيّة بزينتها ، ولا الشهوات والملاذّ بطغيانها ، بل تزوّدوا ، فإنّ العمر قصير والسفر طويل ، وإنّ خير الزاد التقوى ، ومخالفة النفس والهوى ، رحمنا الله وإيّاكم وأسعدنا لما فيه الخير والصلاح والكمال والفلاح.

هذا وحينما كنت في حيص وبيص الزمان ومشكلات الحدثان ، توكلّت على الله الحنّان ذي المواهب والإحسان ، أن أكتب ما يفيد الإنسان ، معتذراً من سوء البيان وزلّة البنان ، وإنّ الله سبحانه لا يكلّف النفس إلاّ وسعها ولا يحمّلها إلاّ ما آتاها ، فسامحوني من العثرات ، واعفوني في الهفوات ، ولا تؤاخذوني بالشهوات ، وجزاكم الله خير الجزاء على ما تفضّلتم من الإغماض والإعفاء[1].

---

[1]لقد رأيت هذه الكلمات في قصاصات أوراقي الماضية ، وأظنّها ترجع إلى العقد الثاني من عمري ، وإنّها مقدّمة لكتاب أردت تحريره في علم الأخلاق والمعرفة ، وكنت _ آنذاك _ أعيش مع علمائنا الماضين في مصنّفاتهم القيّمة ومؤلفاتهم الثمينة ، وبطبيعة الحال يتأثّر المطالع باُسلوبهم القديم

من السجع والنثر الخاصّ ، فكنت أحذو منهجهم في التأليف والكتابة من السبك القديم.

التربية و التعليم

التربية دواء ناجح للأسقام والأمراض البشريّة ، وشفاء للأجيال ، وإنّه بالتربية يرتقي الإنسان إلى أوج الرفعة ويطوي مدارج الكمال المنشود في جبلّته ، والتربية بمنزلة الأكسير الأعظم لتبديل الأرواح وتعديلها وتهذيبها ، حتّى تشعّ في ميدانها بكواكب درّيّة وتتجلّى بأنوار باهرة ، فإنّها العامل المهمّ في سعادة البشر ، وإنّها الفنّ المتمّ للقوى الإنسانيّة وغرائزها المتأصّلة تحرّك الرجال نحو الأهداف المقدّسة وتتطّلع إلى قمم الفضائل ، وتؤمّن حياة الأجيال بقوانينها الرصينة ، فإنّها عين الحياة ورمز النجاة ، وإنّها تنظّم الغرائز والأحاسيس والعواطف في الإنسان ، مع تأمين سعادته ورفاه عيشه.

فالتربية كوكبة درّيّة توقد من أصل مبارك ، تنير الدروب ، وتعلّم الناس كيف يعيشوا وكيف يموتوا.

التربية تكشف رموز الحياة والأسرار الطبيعية ، وتبيّن الحقائق والدقائق في العوالم الخلقيّة ، توقظ الاستعدادات الروحيّة والمعنويّة في النفوس ، وتكمّل نهج السعادة في الأرواح المستعدّة.

ومن الواضح أنّ كثير من الآلام والمصائب والبلايا والمتاعب والشقاء والأسقام الروحيّة وانحطاط المجتمعات والاُمم ، إنّما كان من أثر الجهل وسوء التربية وفسادها.

فالتربية في قمّة الشموخ ، وفي اُفق الرفعة والجلال ، يقول أفلاطون الحكيم في شأنها : «لا فنّ أغلى وأثمن من التربية».

والتربية غير التعليم ، وإنّه فرق بين المعلّم والمربّي ، فإنّ المعلّم يعلّم العلوم والفنون بالأقوال والألفاظ ، والمربّي يربّي وينمّي القوى والاستعدادات بأحسن وجه وأتمّ صورة ، وأ نّه كيف يستعمل العلم ، ليكون من العلم النافع ، فالمربّي يساعد طلاّبه على إظهار تلك القوى التي في الروح من دائرة القوّة والإمكان إلى ساحة الفعل والعمل والوجود الوجوبي ، كما أنّ التربية أعمّ

من العلم ، فإنّها تعمّ الجمادات والنباتات والحيوانات ، لا سيّما الإنسان ، والتعليم يختصّ بالحيوانات والإنسان ، فالتعليم أحد أجزاء قوانين التربية ، والتربية من عمل العباقرة ، وإنّها فعلٌ جبّار.

وإنّ من أسماء الله الحسنى (الربّ) ، فهو المربّي الأوّل لما سواه جلّ جلاله ، فإنّه ربّ العالمين وربّ الأرباب.

يقول الفارابي[1] _ المعلّم الثاني _ في التربية والتعليم : إنّ التعليم هو إيجاد الفضائل النظرية في الاُمم والمدن ، والتأديب هو طريق إيجاد الفضائل الخلقيّة والصناعات العلمية في الاُمم ، والتعليم يكون بالقول واللفظ فقط ، والتأديب هو أن يعوّد الاُمم والشعوب الأفعال المتبلورة عن الملكات العلميّة ، بأن تنهض عزائمهم نحو فعلها ، وأن تصير تلك وأفعالها مستولية على نفوسهم ويكونوا كالعاشقين لها والمخلصين في تقبّلها والتفاعل معها.

---

[1]تحصيل السعادة : 29.

العقل و القلب

ثمّ الإنسان الذي كرّمه الله على مخلوقاته ، وتمدّح بخلقه في قوله تعالى :

(فَتَبارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخالِقينَ)[1].

امتاز عن الكائنات الحيّة بعقله وقلبه ، وكمال العقل وتبلوره بالفكر ، كما أنّ كمال القلب وتربيته وتهذيبه بالذكر ، وطريق الوصول إلى الأوّل بالدراسة والمطالعة والتثقيف العامّ ، كما أنّ بداية التعلّم والدرس إنّما تكون من أيّام الصبا إلى أواسط العمر ، ومن هذا الباب (العلم في الصغر كالنقش على الحجر ، والعلم في الكبر كالنقش على البحر) ، بمجرّد أن تكتب حرف الألف وتنتقل إلى حرف الباء ، فإنّ الألف ينمحي وكأ نّه لم يكتب ، كما لو كتب على البحر المتلاطم والموّاج ، فلا ثبوت له ولا استقرار فيه.

وأمّا الطريق إلى الثاني فهو بالانكشاف والشهود ، وذلك بالموعظة والذكر والمناجاة والدعاء ، وإنّه من المهد إلى اللحد (إطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)

، فلا يكسل الإنسان في طلبه حتّى آخر لحظة من حياته ، فهو يتشوّق إلى الدعاء والذكر والمناجاة ، وإن كان يملّ من الدرس وأقاويل المدارس.

فالروايات التي تشير إلى طلب العلم من المهد إلى اللحد ، وأنّ الجنين يستحبّ الأذان في اُذنه اليمنى والإقامة في اليسرى ناظرة إلى هذا العلم في طريق القلب ، ومثل هذا العلم لا يحقّ أن يؤخذ من أيّ عالم كان ، بل (فلينظر إلى طعامه) أي إلى عمله ممّن يأخذه ، (وإذا رأيتم العالم مقبلا على دنياه فاتّهموه) ، أي لا تأخذوا دينكم وعلمكم هذا منه ، فإنّه مفتون بدنياه ، فهو متّهم في قوله وفعله ، فكيف يتبع أثره ، كما أ نّه يعاشر من يذكره الله رؤيته ، ويزيد في علمه منطقه ، ويرغّبه في الآخرة عمله ، وأمّا الروايات التي تقول : الحكمة ضالّة المؤمن يأخذها ولو من رأس مجنون ، أو أ نّه (اُنظر إلى ما قال لا إلى من قال) ، أو قوله تعالى :

(الَّذينَ يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعونَ أحْسَنَهُ)[2].

فهذا ناظر إلى طريق العقل والتفكّر ، فيحقّ للإنسان أن يستمع الآراء والأقوال ليتّبع أحسنه وما فيه الفائدة والمنافع.

فأهمّ عنصرين في الإنسان هما : العقل والقلب ، وتربية الأوّل بالفكر ، وتربية الثاني بالذكر.

وبعبارة اُخرى :

الرؤية الكونيّة ومشاهدة هذا الكون والعالم الوسيع والرحب ، إمّا أن تكون بنزعة مادّية هيولانية ، أو بنزعة روحيّة إلهيّة ، فالإنسان إمّا أن يكون ملحداً كافراً ومن زاوية إلحاده وفكره وحكومة المادّة والماديّات في وجوده وعقله وأ نّه لا يؤمن إلاّ بالحسّيّات ، فمن هذا المنطلق ينظر إلى الدنيا وما حوله والعالم الطبيعي ، فلا يؤمن بما وراء الطبيعة وما وراء

الكون والمغيبات . وإمّا أن يكون مؤمناً موحّداً ومن منطلق إلهي وإيماني واعتقاده بالغيب وبما وراء الطبيعة بالميتافيزيقيّات ينظر إلى هذا الكون الرحب.

فالأوّل تفكّراته تكون مادية وإنّها سير من الخلق إلى الخلق بالخلق ، والسالك إنّما يدور في عالم المادّة المحضة الهيولانية الظلماء العمياء ، فضعف الطالب والمطلوب . وأمّا الثاني فإنّه يحمل تفكّر إلهي نوراني ، وإنّه :

1 _ سير من الحقّ إلى الحقّ.

2 _ ومن الحقّ إلى الخلق.

3 _ ومن الخلق إلى الحقّ.

4 _ ومن الخلق إلى الخلق.

كلّ ذلك بمعونة الحقّ ولطفه العامّ والخاصّ ، برحمانيّته ورحيميّته . فهذه أسفار أربعة ، وهي إمّا بمركب العقل وزاد الفكر ، وإمّا بمركب القلب وزاد الذكر ، فالأوّل يتلقّى المعارف والعلوم بالعقل والفكر وبالنظر والبراهين العقليّة والاستدلالات المنطقيّة ، والثاني يتلقّاها بالقلب وصيقلته حتّى يكون كالمرآة وانطباع الأشياء والحقائق الكونيّة وما وراءها فيها ، وبالشهود والمكاشفة.

والأوّل مسلك الحكماء والفلاسفة ، والثاني مسلك العرفاء وأصحاب الكشف والشهود ، وفرق بين المسلكين كالسماء والأرض ، فالحكيم يفكّر ويفهم ويعلم ، والعارف يبصر فيشاهد ويعلم.

والأوّل سير غيبي ، والثاني سير شهودي ، ويقال : ما يصل إليه العارف وما يقدّمه من نتائج أهمّ وأبلغ ممّا عند الفيلسوف.

وربما الإنسان بلطف من الله يجمع بين المسلكين ، فيكون عارفاً حكيماً ، وهو الذي يسمّى بالكون الجامع ، فيجمع بين الفلسفة والعرفان ، وبين البرهان والشهود ، وهو كمال الإيمان ، وكلّه في السنّة الشريفة والقرآن.

والسلوك العرفاني تارةً بالأسباب والعلل الظاهريّة ، أي بمظاهر أسماء الله الحسنى ، صغارها كالرحيم تحت الكبار كالرحمن ، وكبارها تحت الإسم الأعظم وهو اسم الجلالة (الله) الجامع لكلّ الأسماء الحسنى والمستجمع لجميع صفات الجمال والجلال

والكمال ، واُخرى بالقلب ، والأوّل طريق عامّ ، والثاني طريق خاصّ للخواصّ[3].

---

[1]المؤمنون : 14.

[2]الزمر : 18.

[3]اقتباس من (كيف أكون موفّقاً في الحياة) للمؤلف ، وللبحث صلة ، فراجع.

الواصل وطفيلي الوجود

قيل : من آلاف آلاف الذرّات الجماديّة واحدة تكون تراباً ، ومن آلاف آلاف ذرات التراب واحد يتكوّن منها النبات الذي يحمل النفس النباتيّة من القوى الثلاثة التعذية والرشد وتوليد المثل ، ومن آلاف النباتات جزء منها يتكوّن منه الحيوان الذي يحمل الحياة الحيوانيّة من القوى الثلاثة بأ نّه جسم نامي وأ نّه حسّاس متحرّك بالإرادة ، ومن آلاف الحيوانات جزء منها يتكوّن الإنسان الذي يحمل النفس الإنسانية الناطقة الدرّاكة للكلّيّات ، فهذه أطوار أربعة : الجماد ثمّ النبات ثمّ الحيوان ثمّ الإنسان.

ثمّ من ألف أجزاء وأعضاء وجوارح الإنسان جزء منها يكون المني ، ومن آلاف ذرات المني جزء يكون منه النطفة ، ومن آلاف أجزاء النطفة جزء يكون منه المولود ، ومن آلاف المتولّدين واحد منهم يعيش ، ومن آلاف الذين يعيشون واحد يكون من المسلمين ، ومن آلاف المسلمين واحد يؤمن بالله حقّاً كاملا ، ومن آلاف المؤمنين واحد يكون طالباً لله سبحانه ، ومن آلاف الطالبين واحد يكون من أهل العلم ، ومن آلاف العلماء واحد يكون سالكاً ، ومن آلاف السالكين واحد يكون واصلا إلى الله عزّ وجلّ بعد طيّ منازل السير والسلوك الوعرة ذات الأشواك الخطرة ، فالناس كلّهم هالكون إلاّ العلماء ، والعلماء كلّهم هالكون إلاّ العاملين ،

والعاملون كلّهم هالكون إلاّ المخلصين ، والمخلصون على خطر عظيم.

والمقصود من جملة الكائنات والمخلوقات العِلوية والسفليّة ، السماوية والأرضيّة هو ذلك الواصل إلى الحقّ جلّ جلاله ، وهو الإنسان الكامل الذي أصبح مظهر

أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ، ذلك الإنسان الذي خاطبه الله في حديثه القدسيّ : «خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي» ، وأمّا ما سواه فهو طفيلي الموجودات.

وقد دعا الله سبحانه كلّ إنسان إلى هذا المقام العظيم الشامخ (مقام الوصل والفناء في الله سبحانه).

وهذا يعني أنّ كلّ واحد منّا بإمكانه وباختياره وجهده وجهاده _ الأصغر والأكبر _ يتمكّن من الوصول إلى هذا المقام الرفيع والمنزلة السامية ، لأنّ الله كلّفنا بذلك ، ولا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها . والوسع بمعنى أ نّه لو كان لنا قدرة حمل خمسين كيلو حنطة فأمرنا الله أن نحمل نصفها فهذا من الوسع ، فلمّا كلّفنا الله عزّ وجلّ بمثل هذا المقام الشامخ ، فإنّه يدلّ على أ نّه بقدرتنا أكثر من ذلك ، فتدبّر . فإنّه بوسعنا أن نصل في القوس الصعودي إلى جنّة الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، مع الذين أنعم الله عليهم من الأنبياء والأولياء (إنّا لله وإنّا إليه راجعون) ، وإلى ربّك المنتهى ...

«إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك ، وأنِر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك ، إلهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك ، ولاحظته فصعق لجلالك ، فناجيته سرّاً وعمل لك جهراً ...»[1].

---

[1]من دعاء الشعبانية _ مفاتيح الجنان : 159.

العلم النافع والعمل الصالح

ومن أحسن من الله قولا ممّن دعا إلى الله.

أعتقد أنّ الحوزات الدينية هي التي تحفظ رسالات الأنبياء ، فعلماء الدين هم الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً ، وخلاصة الرسالات السماوية السمحاء هو صنع الإنسان وتكامله ، ووصوله إلى غايته ، والعالم

اليوم متعطّش إلى العلماء الصالحين الواعين.

فإنّ هذا العالم الذي نعيش فيه ، وإنّا على مائدته لأيام قلائل ، يريد الإنسان سعادتها فيها ، وإنّه يفرّ من الشقاء ، ويبحث عن العيش الرغيد والحياة السعيدة ، ويريد أن يعرف نفسه ويعرف وظائفه ، وارتباط الإنسان مع نفسه ومع ربّه ومع الآخرين فيه كلام كثير ومباحث طويلة وعريضة ، فهناك المذاهب والعقائد والآراء في ذلك ، وكلّ يدّعي الوصل بليلى ، إلاّ أ نّهم لم يتمكّنوا من معرفة الوجود ، وما هو دور الإنسان في ذلك ؟ !

وأخيراً لم يتّضح الجواب الأخير ، وبقيت اُمّهات الأسئلة يسلّط عليها الأضواء ، ويبحث عن أجوبتها ، فبقيت الأسئلة : من أين أتيت ؟ وإلى أين أذهب ؟ ومع من ؟ وماذا يراد منّي ؟ وما هو المصير ؟ وكيف الخلاص ؟

والأجوبة إنّما هي عند الأنبياء أصحاب الوحي ورسالات السماء ، لأ نّهم أشرفوا على الطبيعة ، ووقفوا على أسرارها ، لارتباطهم مع الوحي ، فيحقّ لهم أن يقولوا للناس : هكذا تكون الحياة ، وهكذا كونوا أ يّها الناس ، والأنبياء خلفاء الله في الأرض.

والعلماء ورثة الأنبياء واُمناء الله في الأرض ، يحقّ لهم إرائة الطريق وهداية الناس أيضاً ، فإنّهم تخلّقوا بأخلاق الله ، فحكمة الخلق وفلسفة الحياة والجواب الأخير لاُمّهات السؤالات إنّما يكون في الدين ، إلاّ أنّ البشر لا يسمع ذلك ولا يعقل ، فلا بدّ أن نصنع شيئاً يكون الإنسان به ذا سمع وبصر ، يرى الحقّ حقّاً فيتّبعه ، ويسمع نغماته ويصلح سريرته وطبيعته ، ويهذّب فطرته ونفسه ، وإلاّ فإنّ أيّ شيء يقع بيد الإنسان لو حكمته الأنانية وحبّ الذات وجرّ النار إلى

قرصه ، فإنّه يحرّف موارد استعماله الصحيح.

والمذهب اليوم بيد العلماء الصلحاء الأخيار الأبرار الأتقياء ، فهم الذين يأخذون بيد الإنسان ليصعد إلى الأعلى ، ويريه ما وراء الطبيعة من الملكوت والجبروت ، وإنّما فعل العلماء ذلك بعد كمالهم وإيمانهم الراسخ بما فعلوا ، فإنّهم ائتمروا أوّلا ثمّ أمروا ، وانتهوا ثمّ نهوا ، فبدأوا بأنفسهم إصلاحاً وصلاحاً وتهذيباً وتكميلا ، فطبّقوا الأحكام الإلهيّة في حياتهم الفردية والاجتماعية الظاهرية والباطنيّة ، واطمأنّوا بذكر الله ، بعد جهادهم الأكبر ومحاربة أنفسهم الأمّارة بالسوء ، والغلبة على الهوى ، ولولا هذا كلّه لأنكر البشر نفسه ، ووقع في حضيض الجهالة والتعاسة.

فالتقوى والعمل الصالح والعلم النافع يوجب نفوذ الكلام وتصحيح المسير وسعادة الدارين.

من عيون الأخبار في العلم والعلماء

قال الله تعالى :

(قُلْ هَلْ يَسْتَوي الَّذينَ يَعْلَمونَ وَالَّذينَ لا يَعْلَمونَ إنَّما يَتَذَكَّرُ اُولوا الألْبابِ)[1].

(يَرْفَعُ اللهُ الَّذينَ آمَنوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ اُوتوا العِلْمَ دَرَجات)[2].

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :

«يا أبا ذرّ ، الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحبّ إلى الله من قيام ألف ليلة يصلّي في كلّ ليلة ألف ركعة ، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحبّ إلى الله من ألف غزوة وقراءة القرآن كلّه»[3].

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) :

رأس الفضائل العلم ، غاية الفضائل العلم.

قال الإمام الباقر (عليه السلام) :

قال أبو ذرّ : إنّ قلباً ليس فيه شيء من العلم كالبيت الخراب الذي لا عامر له.

قال الإمام الصادق (عليه السلام) :

العلم أصل كلّ حال سنيّ ، ومنتهى كلّ منزلة رفيعة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :

إنّ العلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى ، وقوّة الأبدان من الضعف.

وعنه (عليه السلام) ، قال :

سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : طلب العلم فريضة

على كلّ مسلم ... به يطاع الربّ ، وبه توصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال والحرام ، العلم أمام العمل ، والعمل تابعه ، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء.

عن سعيد بن الأوس الأنصاري ، قال : سمعت الخليل بن أحمد يقول : أحثّ كلمة على طلب العلم قول علي بن أبي طالب (عليه السلام) : «قدر كلّ امرء ما يحسن».

«أكثر الناس قيمةً أكثرهم علماً ، وأقلّ الناس قيمةً أقلّهم علماً» (الرسول الأكرم).

قال الإمام الصادق (عليه السلام) :

إعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا ، فإنّا لا نعدّ الفقيه منهم فقيهاً حتّى يكون محدّثاً ، فقيل له : أو يكون المؤمن محدّثاً ؟ قال : يكون مفهماً ، والمفهم محدّث.

قال النبي (صلى الله عليه وآله) :

«النظر في وجوه العلماء عبادة» . سئل جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) عنه ، فقال : هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكّرك الآخرة ، ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة.

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) :

لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج.

عن الإمام الكاظم (عليه السلام) :

طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ، ألا إنّ الله يحبّ بغاة العلم.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :

لطالب العلم عزّ الدنيا وفوز الاُخرى.

«ومن جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة» (الرسول الأكرم).

«إنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم حتّى يطأ عليها رضاً به».

«من غدا في طلب العلم أضلّت عليه الملائكة ، وبورك له في معيشته ، ولم ينقص من رزقه» . (الرسول الأكرم).

عن الإمام الصادق (عليه السلام) :

«طالب العلم يستغفر له كلّ شيء حتّى الحيتان في البحار والطير في جوّ السماء».

عن الإمام الباقر (عليه

السلام) :

«إنّ جميع دوابّ الأرض لتصلّي على طالب العلم حتّى الحيتان في البحر».

عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) :

«من خرج من بيته يطلب علماً شيّعه سبعون ألف ملك يستغفرون له».

عن المسيح (عليه السلام) :

من عَلِمَ وعمل وعَلَّم عُدّ في الملكوت الأعظم عظيماً.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) :

من تعلّم لله عزّ وجلّ وعمل لله وعلّم لله ، دُعي في ملكوت السماوات عظيماً.

وقيل : تعلّم لله وعلّم لله.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :

تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه حسنة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وهو أنيس في الوحشة وصاحب في الوحدة ، وسلاح على الأعداء ، وزين الأخلاّء ، يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم ، ترمق أعمالهم ، وتقتبس آثارهم.

وقال (عليه السلام) :

لو أنّ حملة العلم حملوه بحقّه لأحبّهم الله وملائكته وأهل طاعته من خلقه ، ولكنّهم حملوه لطلب الدنيا فمقتهم الله ، وهانوا على الناس.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :

علماء هذه الاُمّة رجلان : رجلٌ آتاه الله علماً فطلب به وجه الله والدار الآخرة وبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعاً ولم يشترِ به ثمناً قليلا ، فذلك يستغفر له من في البحور ودوابّ البحر والبرّ والطير في جوّ السماء ويقدم على الله سيّداً شريفاً . ورجلٌ آتاه علماً فبخل به على عباده وأخذ عليه طمعاً ، واشترى به ثمناً قليلا فذلك يلجم يوم القيامة بلجام من نار.

وقال (صلى الله عليه وآله) :

من طلب العلم لله لم يصب منه باباً إلاّ ازداد في نفسه ذلا ، وفي الناس تواضعاً ، ولله خوفاً ، وفي الدين اجتهاداً ، وذلك الذي ينتفع بعلمه فليتعلّمه

، ومن طلب العلم للدنيا والمنزلة عند الناس والحظوة عند السلطان ، لم يصب منه باباً إلاّ ازداد في نفسه عظمة ، وعلى الناس عند استطالة ، وبالله اغتراراً ، ومن الدين جفاءً ، فذلك الذي لا ينتفع بالعلم فليكفّ وليمسك عن الحجّة على نفسه والندامة والخزي يوم القيامة.

«من تعلّم العلم رياءً وسمعةً يريد به الدنيا نزع الله بركته وضيّق عليه معيشته ، ووكّله الله إلى نفسه ، ومن وكله الله إلى نفسه هلك».

عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، عن رسول لله (صلى الله عليه وآله) :

أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه : قل للذين يتفقّهون لغير الدين ويتعلّمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا لغير الآخرة ، يلبسون للناس مسوك الكِباش ، وقلوبهم كقلوب الذئاب ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وأعمالهم أمرّ من الصبر : إيّاي يخادعون ؟ وبي يستهزؤون ، لاُتيحنّ لهم فتنة تذر الحكيم حيراناً.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :

ثمرة العلم العمل به.

ثمرة العلم العبادة.

ثمرة العلم إخلاص العمل.

رأس العلم التواضع ... ومن ثمراته التقوى واجتناب الهوى واتّباع الهدى ومجانبة الذنوب ومودّة الإخوان والاستماع من العلماء والقبول منهم ، ومن ثمراته ترك الانتقام عند القدرة ، واستقباح مقارفة الباطل ، واستحسان متابعة الحقّ وقول الصدق ، والتجافي عن سرور في غفلة ، ومن فعل ما يعقب ندامة.

العلم يزيد العاقل عقلا ، ويورث متعلّمه صفات حمد ، فيجعل الحليم أميراً ، وذا مشورة وزيراً ، ويقمع الحرص ، ويخلع المكر ، ويميت البخل ، ويجعل مطلق الوحش مأسوراً ، وبعيد السداد قريباً».

عن الإمام الصادق (عليه السلام) :

الخشية ميراث العلم ، والعلم شعاع المعرفة وقلب الإيمان ، ومن حرم الخشية لا يكون عالماً ، وإن

شقّ الشعر في متشابهات العلم ، قال الله عزّ وجلّ : (إنَّما يَخْشى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ).

وقال (عليه السلام) :

العلم مقرون إلى العمل ، فمن علم عمل ، ومن عمل علم ، والعلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلاّ ارتحل.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :

«إنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه».

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :

«إنّ العلم الذي هبط به آدم وجميع ما فضّلت به النبيّون إلى محمّد خاتم النبيّين في عترة محمّد (صلى الله عليه وآله)»[4].

---

[1]الزمر : 9.

[2]المجادلة : 11.

[3]البحار 1 : 203.

[4]الروايات من ميزان الحكمة 6 : 534.

من حياة العظماء

حقّاً حياة العظماء والعلماء مدارس وعبر ، ونبراس هداية وصمود للأجيال.

وما أروع العالم الذي يصدّق قوله فعله وفعله قوله ، ومن اُولئك العباقرة سيّدنا الاُستاذ آية الله العظمى السيّد شهاب الدين المرعشي النجفي (قدس سره).

والتمسته يوماً أن يحدّثني عن شمّة من حياته التي انطبعت بطابع الآلام والمتاعب من أجل العلم وطلبه.

فقال دامت بركاته :

ماذا أقول من حياتي ، وكيف تحمّلت العناء والصعاب في طلب العلم ، وأتعجّب من طلاّب العلم في هذا العصر كيف لا يشكرون الله بالعمل وطلب العلم على ما تفضّل عليهم من وسائل الرفاهيّة والراحة ؟ وكيف لا يجدّون في طلب العلم ؟ فأين الكهرباء في أيام شبابي ، وكنت أعيش في غرفة صغيرة رطبة للغاية ، وكنت أكثر من ثلاثين عاماً مستأجراً ، وبين آونة واُخرى أتنقّل من دار إلى دار ، وأذكر بعد عشرين يوماً من زواجي لم يكن لي طعام وإدام ، فأعطاني أحد المؤمنين اُجرة صلاة الوحشة لميّته ، فصلّيتها واشتريت بالنقود كأساً من لبن وقرص خبز وذلك في شهر رمضان وأتيت أهلي العروس

فأعطيتها اللبن والخبز وقلت لها : إنّي في هذه الليلة ضيف ونويت أن أكون ضيف السيّدة المعصومة كريمة أهل البيت (عليهم السلام) ، فأتيت الحرم الشريف وبعد ساعة أتيت الدار ونمت جائعاً ، وكثير من أيامي قضيتها بهذا الحال ، وما أكثر الكتب التي اشتريتها من اُجرة صلاة الاستئجار.

ولا زلت أذكر ، ففي أيام شبابي في النجف الأشرف كانت أدرس في النهار وأعمل في الليل من أجل لقمة العيش ، وكان عملي تهبيش الأرز وتنظيفه ، وذلك لمدّة ستّة أشهر.

ثمّ حكى لي بعض الحكايات الاُخرى.

فقلت في نفسي : هنيئاً لكم يا أبطال العلم بمثل هذا تنالون شرف المرجعيّة وقيادة الاُمّة ، ولا يأتي العلم إلاّ بالفقر والغربة.

فأنتم أهل الخشوع والخشية والولاية الحقّة.

روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : الخشية ميزان العلم ، والعلم شعاع المعرفة ، وقلب الإيمان ، ومن حرم الخشية لا يكون عالماً ، وإن يشق الشَعْر لمتشابهات العلم.

في محضر شيخ من شيوخ الأخلاق

فطرة الإنسان من نعومة أظفاره ومنذ البداية في تأريخ البشرية تطلب الكمال المطلق ومطلق الكمال ، فهو بطبيعته وجبلّته وما أودع الله فيه من أسراره توّاق إلى نيل تلك الغاية القصوى وإلى الله المنتهى ، ويحلّق الإنسان في آفاق التكامل في سيره الآفاقي والأنفسي بجناحي العلم النافع والعمل الصالح ، بالعلوم المفيدة والأخلاق الحميدة ، بالمعرفة والإيمان ، والسالك إلى الله سبحانه وطالب العلم ، لا بدّ له في مسيرة حياته العلمية والعمليّة من حكيم يرشده ، ويريه الطريق والسبيل الصحيح والمنهاج القويم ، إذ هلك من لم يكن له حكيم يرشده.

ومنذ الصبا برعاية سماحة الوالد الحنون دخلت سلك أهل العلم ، وفي اليوم الأوّل من بلوغي بالسنة الهلالية (6 شهر رمضان 1391

ه_) في حفلة جماهيرية في الجامع العلوي _ بغداد _ ألبسني زيّهم _ العمّة والقباء والعباءة _ وامتثالا لأمره الشريف إرتقيت المنبر في الجامع ، ودرّست الناس في ليالي شهر رمضان المبارك المسائل الشرعيّة (أحكام الصوم من منهاج الصالحين) ، كما كنت أدرس عند الوالد قدّس سرّه الشريف المقدّمات من دروس الحوزة.

وبعد الهجرة إلى مدينة قم المقدّسة _ إيران _ اشتغلت بدروسها الحوزوية ، وقد منّ الله عليَّ إذ وفّقني أن أتشرّف بحضور محافل علماء الأخلاق والعرفان ، وقبل إكمال العقد الثاني من عمري ، حالفني التوفيق أن أحضى مع مجموعة من إخوان الصفا وخلاّن الوفا شرف الحضور بمحضر شيخ كبير كريم حامد ، من أولياء الله وأوتاد الأرض ، بجوار مولانا ثامن الحجج الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه أشرف الصلاة والسلام ، وكان المحفل القدسي والمجلس الاُنسي يعقد في كلّ ليلة من الساعة الحادية عشرة إلى أذان الصبح _ وكنت في خدمته لمدّة خمس سنوات حتّى وافاه الأجل ، فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً _ ، وما أروع تلك السهرات واللحظات الملكوتية ، حيث كنّا ننسى الدنيا وما فيها ، ونعيش في أجواء روحانيّة وفضاء ملكوتي قلّ نظيره ، قد فقدناها مع رحلة الاُستاذ إلى جوار ربّه الكريم ، قدّس الله سرّه وعطّر الله رمسه وأسكنه فسيح جنانه ، وحشره مع أوليائه محمّد وآله عليهم السلام.

وقد كتبت مقتطفات من تلك المحافل المحفوفة بهالة من القدس والكرامة ، ولكن هيهات أن تنقل الألفاظ حلاوة المعاني ، لا سيّما من عالم عامل ، تخرج الكلمات من قلبه لتدخل في القلب ، لا من مثلي وقد ضيّعت عمري بالآمال والتسويف ، وسوّدت

صحيفة أعمالي بالغفلات والذنوب ، وجاوزتني قافلة الأبرار والصالحين.

اُحبّ الصالحين ولست منهم *** لعلّ الله يرزقني الصلاحا

ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

وإليك نبذة يسيرة من جلسة واحدة من جلسات مذاكرة العلم التي قال في فضلها النبيّ الأكرم لأبي ذرّ : يا أبا ذرّ ، الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحبّ إلى الله من قيام ألف ليلة يصلّي في كلّ ليلة ألف ركعة ، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحبّ الى الله من ألف غزوة وقراءة القرآن كلّه[1] ، وهذا يعني أنّ الإنسان يتقرّب إلى الله في ساعة بمذاكرة العلم أكثر من ألف ركعة في ألف ليلة بل أفضل من ألف غزوة وتلاوة القرآن كلّه ، كما أنّ ليلة القدر خير من ألف ليلة ، فتدبّر.

فإليك أ يّها القارئ الكريم مقتطفات من كلامه في جلسة واحدة ، حيث قال سماحته :

أثر الزهد :

عليكم بالزهد ، فما زَهِدَ عبدٌ إلاّ أسلك الله الحكمةَ على قلبه ، وأجرى بها لسانه ، وبصّره بعيوب نفسه ، وخرج منها إلى الآخرة سالماً ، فالعمدة في السير والسلوك الزهد في الدنيا ، ولا يكون ذلك إلاّ بمدد ومعونة من الله سبحانه ، وفي زيارة أمين الله _ الزيارة الثانية لأمير المؤمنين (عليه السلام) كما في مفاتيح الجنان _ «وسبل الراغبين إليك شارعة» ; فالقصد إلى الله يوجب فتح الباب ولو في الليلة الاُولى ، «وأعلام القاصدين إليك واضحة» ; فمن سلك طريقاً ويريد أن تكون فيه علامة وعلماً يهتدى به ، فما كان لله سبحانه فهو من الأعلام الواضحة ، فالمقصود هو العمل لله سبحانه.

وفي هذه الزيارة معارف ومطالب مهمّة ، كقوله : اللّهم اجعل نفسي مطمئنّة بقضائك ،

محبوبةً في أرضك وسمائك _ ولكن إنّما يطلب من الله أن تكون محبوبة في الأرض عند الناس وفي السماء عند الملائكة لا لنفسه ، بل لله سبحانه _ مشتاقةً إلى فرحة لقائك _ أي الموت وما بعده ، فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين ، أي غاية أعمالكم هو الموت ، ولكن لا يتمنّونه بما قدّمت أيديهم ، قيل لأبي ذرّ : لماذا نكره الموت ؟ فقال : عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة ، فلا بدّ من كثرة الدعاء والتوسّل بالله وبالرسول وأهل بيته لكي يصل الإنسان إلى هذه المقامات الربّانيّة ، فإنّ الدعاء مخّ العبادة ، ولكن لا يدعو لنفسه بل لله سبحانه ، فإنّ المؤمن حتّى في دعائه يرى رضا الله وحبّه ، فإنّ الإمام الحسين (عليه السلام) عندما يسأل الله الحور العين لا شوقاً وشغفاً بهن ، فإنّ الحور خلقت من نوره الكريم ، بل لأنّ الله يحبّ مثل هذا الدعاء ، فهو يدعو حبّاً لله سبحانه.

قيمة المرء بعقله :

العاقل من عرف قدره ، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره ، والعاقل من وضع الأشياء في مواضعها ، وإنّما نعرف قدرنا لو وضعنا أنفسنا في طاعة الله ، فإنّ مسير العقل إلى الله سبحانه وتعالى ، وأوّل ما خلق الله العقل ، فقال له : أقبل فأقبل ، فهو مطيع محض ، ولكنّ النفس تميل إلى مشتهياتها ورغباتها ، ومن الصعب أن نجعل هذه النفس الأمّارة بالسوء أن تميل إلى الله ، وفي مناجاة الزاهدين للإمام زين العابدين (عليه السلام) _ وأخرج حبّ الدنيا من قلبي ... واغرس أشجار محبّتك _ فلا بدّ من إخراج حبّ الدنيا من القلب أوّلا حتّى يحلّ محلّه

حبّ الله ، وهذا ما يسمّى عند علماء الأخلاق بمرحلة التخلية ثمّ التحلية ، أي يخرج من قلبه الصفات الذميمة ثمّ يحلّيه بالصفات الحميدة ، ثمّ يجلّيها في مرحلة التجلية ، والله جبّار يجبر العظم الكسير ويبدل السيّئات حسنات ، ومن تقدّم إلى الله خطوة فإنّه سبحانه يتقدّم إليه بخطوات ، فإنّه يحبّ عبده ويحبّ هدايته ويريد له الخير والصلاح والكمال ، وإنّما أرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل ذلك فهو اللطيف الخبير.

المقصود والكمال :

من تساوى يوماه فهو مغبون ، فلا بدّ أن يكون كلّ يوم نحو الكمال ، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان ، فدوماً لا بدّ من الزيادة وإلاّ فإلى النقصان ، والزيادة في النفس بمعنى زيادة الأخلاق الحسنة وإبعاد الأخلاق الذميمة عن نفسه ، لا الزيادة في الأعمال ، ومن كان إلى النقصان فالموت خيرٌ له من الحياة ، إذ النفس قماشها هكذا ، إذا لم تكن في كمال وزيادة فهي في انحطاط وخسارة.

كلمة التوحيد :

من قال : لا إله إلاّ الله صادقاً فقد فاز وفلح ، قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا ، والمراد من القول العمل ، فالمؤمن يكون موحّداً في كلّ أعماله لا يشرك بعبادة ربّه أحداً ، وكلّ من يشغلك عن ربّك فهو صنمك ، أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه ، فمن قال : لا إله إلاّ الله صادقاً فقد فلح ، وعلامة صدقه الورع عن محارم الله ، ونتيجة صدقه التقرّب من الله سبحانه ، وبهذا أمرنا الله أن نكون مع الصادقين المقرّبين ، وإلاّ فلا يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، بل يكون من الكاذبين _ في الدرك الأسفل من

الجحيم _ .

التوبة الصادقة :

من السارقين الماهرين فضيل بن عياض ، رجع إلى الله سبحانه عندما سمع الآية الشريفة (ألَمْ يَأنِ لِلَّذينَ آمَنوا أنْ تَخْشَعَ قُلوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) ، فقال : نعم آن ذلك ، فرجع إلى الله صادقاً ، ومن صدق الرجوع أن يرضي خصمائه ، فأرضاهم ، وبقي عليه ما سرقه من رجل يهوديّ ، فجائه ليرضيه ، فقال له : لا أرضى عليك حتّى تحفر لي هذه الأرض ، فهنا كنزاً ، فحفر عياض وأخرج كنزاً ، فقال له اليهودي : لم يكن في هذه البقعة كنزاً ، ولكن سمعت : من تاب صدقاً وقبلت توبته ، فلو حفر الأرض لأخرج كنزاً ، فأردت أن أمتحن توبتك.

في الخبر الشريف : أنين المذنبين أحبّ إليَّ من تسبيح المسبّحين ، فمن كان له ربّ جميل هكذا ، فلو لم نكن معه فقد خسرنا وذلك هو الخسران المبين.

طوبى لك أ يّها الشابّ :

قال عيسى بن مريم روح الله للحواريّين : يوجد في مدينة كذا كنزاً ، فذهب وذهب معه الحواريّون ، وفي الطريق وجد الحواريّون كنزاً ، فأناخوا رحلهم عنده ، فقال لهم المسيح : لم أقصد كنزاً خارج المدينة بل هو في المدينة ، فذهب وحده ، وحلّ ضيفاً عند امرأة عجوز ، ولها ولد شابّ حطّاب قابع في زاوية الدار عليه علائم الحزن والكآبة ، فقال له المسيح : ما بالك ، وماذا بك ؟ فقال له الشابّ : أنت ضيفنا ، ولا يسرّني أن اُزعجك ، فقال المسيح : لعلّي اُصلح أمرك . فقال له الشابّ : لقد رأيت بنت الملك ، فأشغفني حبّها وعشقها ، ولا حيلة لي وأنا حطّاب إلاّ

الموت . فقال له المسيح : غداً اُزوّجها لك . وفي غد ، عندما أسفر الصبح ، قال المسيح للشابّ : إذهب واخطب من الملك بنته . فذهب ، وما أن وصل قصر الملك وأخبر البوّاب بحاجته ، إلاّ وعلا الضحك واستهزئ به ، حتّى وصل خبره إلى الملك ، فطلبه ليضحك عليه ، وليقضي وقته بالسخرية من هذا الشاب ، وما أن دخل الشاب إلاّ والملك قال له ، لو تخطب بنتي فمهرها سبعة أطباق من الجواهر واللآلئ ، كلّ طبق بلون . فخرج الشابّ وجاء إلى المسيح وأخبره بذلك . فقال له روح الله عيسى بن مريم : عليّ بالأطباق . وجعل في كلّ طبق حصى رفعها من الأرض ونظر إليها بنظرة ربّانية ، فانقلبت بإذن الله إلى جواهر في كلّ طبق لون . فجاء بها إلى الملك . وما أن رأى الملك ذلك إلاّ وقال له : قد استخرجت كنزاً ، فقال الشاب : ليس كذلك ، إنّما عندنا ضيف فعل هذا ، فقال الملك : لعلّه كلمة الله المسيح ، فجئني به . فجاء مع عيسى المسيح ، وزوّج الملك ابنته ، ثمّ قال : ليس لي ولد ليخلفني ، فهذا الشاب صهري ووليّ عهدي ، فوضع التاج على رأسه ، ثمّ مات الملك ، فتربّع الشابّ على عرش الملوكيّة بين ليلة وضحاها . وعند وداع المسيح سأله الشابّ : أنت الذي دفعتني إلى هذا المقام ، فلماذا أنت هكذا تعيش بزهد ؟ فقال المسيح : نحن خلقنا لشيء آخر . وأخذ يحدّثه عن التوحيد والمعارف الإلهية . فقال الشاب : عجباً ، أخذت الأصل وأعطيتني الفرع ، لا يكون هذا

أبداً ، بل اتّبعك وأكون معك في الحياة والممات . فترك المُلك الدنيوي لينال الشرف الاُخروي ، وخرج مع عيسى وأصبح من حواريه ، وترك الدنيا لأهلها ، وعند خروجهما من المدينة التقيا بالحواريّين ، فقال عيسى لهم : إنّما قصدت من الكنز هذا الشابّ.

فقال الاُستاذ _ نقلا عن شيخه في السير والسلوك ، وكان من المقرّبين ومن أوتاد الأرض _ : إنّه عندما سمع هذه القصّة كان ذكره القلبي لمدّة شهرين : (طوبى لك أ يّها الشابّ) فرآه في عالم المكاشفة قائلا : (طوبى لكم أنتم اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) ، نحن نتمنّى مقامكم) . فقال له : وأنتم اُمّة عيسى (عليه السلام) ، فقال : أين نحن من اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله).

حلاوة الإيمان :

نعم ، لا بدّ من الصدق ، ولا يجد المؤمن حلاوة الإيمان حتّى يدع الكذب جِدّه وهَزله ، في قوله وعمله وسلوكه ، بل وفي فكره وأحاسيسه ، والتملّق من الكذب ، وإذا قيل لشخص في مجلس : تريد الشاي ؟ فقال : لا ، خجلا ، وهو يريده ، فهذا من

الكذب أيضاً.

الاُنس بالله :

يا أبا ذرّ ، لا تصاحب إلاّ مؤمناً . يا أبا ذرّ ، لا تأكل طعام الفاسقين ، ولا يأكل منك إلاّ تقيّ ، وكل طعام من يحبّك في الله ، وأطعم طعامك مَن تحبّه في الله . لو أردنا أن نعمل بهذه الرواية النبويّة الشريفة ، فإنّه تضيق الدنيا علينا قهراً ، وحينئذ يكون رفيقنا ومؤنسنا هو الله سبحانه ، يا رفيق من لا رفيق له ، ويا مؤنس من لا مؤنس له ، ويا صديق من لا صديق له.

كان أحد

العرفاء جالساً في بيت فدخل عليه تلميذه ، فقال : أراك وحدك ، فقال الاُستاذ : بل الآن أصبحت وحدي ، إذ كنت من قبل اُناجي ربّي.

وقال الإمام العسكري (عليه السلام) : من استأنس بالله استوحش من الناس.

الرفيق الحيّ :

بكى شخص على موت رفيقه ، فمرّ عليه حكيم ، فقال له : منك السبب ، لماذا اخترت رفيقاً يموت ؟ فقال : وهل هناك من لا يموت ؟ قال : نعم ، هو الله ، وهو رفيق من لا رفيق له ، وأسفاً على عبد لا يكون مع هذا الربّ الرحيم الودود.

رحمة الله وصلة الرحم :

حينما ناجى موسى ربّه ، جاء الخطاب : لا تكثر في كلامك يا ابن لاوي . فغُشي على موسى إلى ثلاث مرّات . فقال ربّه : يا موسى ، قد ناداك قارون ثلاث مرّات : يا موسى ، _ حينما كانت الأرض تبتلعه _ وأنت لم تكترث بقوله ، ولو سألني مرّة لأجبته.

ولمّا قبضته الأرض وكانت الملائكة تهوي به إلى قعرها ، سمع في يوم مناجاةً ، فسأل الملائكة عن صاحبها ، فقالوا : إنّه يونس في بطن الحوت . فسأل من الملائكة الموكلين بعذابه أن يلتقي به ، فأذن الله ، والتقى به ، فسأله عن هارون ، فقال له : قد مات ، فسأل عن الغيور موسى بن عمران ، فقال له : قد مات ، وأخذ يسأل عن أرحامه ويونس يخبره بموتهم ، فرقّ قلبه عليهم ، فجاء الخطاب للملائكة أن ارفعوا عنه العذاب إلى يوم القيامة ; لرقّة قلبه على أرحامه.

حبّ الله :

القرآن الكريم هدىً للمتّقين ، والهداية لها مراتب ، فالنازلة منها أن يأتي المؤمن

بالواجبات ويترك المحرّمات ، والعالية أن يواظب على قلبه ، ويجلس على بابه ، ولا يدخل فيه غير الله ، فإنّ قلب المؤمن حرم الله وعرش الله ، والقلب السليم النافع يوم القيامة ، ذلك القلب الذي لا يكون فيه سوى الله سبحانه ، وما فيه اسم الله (اللهمّ إنّي أسألك حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ كلّ عمل يوصلني إلى قربك) ، فما نعمة أعظم على العبد من أن لا يجعل في قلبه إلاّ حبّ الله ، فإنّ حبّه نور للهداية ونار لمحو الذنوب.

التقرّب إلى الله :

الشيطان اللعين يقسم على الله بمحمّد وعترته الطاهرين (عليهم السلام) أن ينجو من عذاب الله ، فسُئل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : وهل ينفعه ذلك ؟ فقال : يخفّف عنه العذاب . فيا هذا أمن الأنصاف أن يكون لنا مثل هذا الربّ الرحيم ، ومثل هذا النبيّ العظيم ، ومثل أهل بيته الأطهار ، ولا نتقرّب إلى الله سبحانه ونعبده حبّاً وشوقاً.

المؤمنون الكُمَّل :

لو لم يكن في الأرض مؤمنون كاملون لرفعنا الله إليه ، فبقينا من أجلهم ، لو خُليت لانقلبت . وفي الخبر الشريف : اطلبوهم ، فإن وجدتموهم فزتم . المؤمن أعزّ من الكبريت الأحمر ، فمن منكم وجد الكبريت الأحمر ، والمؤمنة أعزّ من المؤمن ، فنادراً ما يجد الإنسان المؤمن الكامل.

مناجاة المريدين :

عليكم بتلاوة المناجاة الخمس عشرة لمولانا زين العابدين (عليه السلام) ، لا سيّما عليكم في كلّ ليلة قراءة مناجاة المريدين ، وفيها : قرّب علينا البعيد ، وسهّل علينا العسير الشديد . والحقّ أنّ المناجاة ليست إلاّ بحكم النسخة الطبّية ، فتارةً يبتلى الإنسان بمرض الذنوب فعليه بمناجاة التائبين ، واُخرى

بشكوك النفس الأمّارة فعليه بمناجاة الشاكّين ، وهكذا . وإذا قرأ ذلك لله فإنّ الله يجبر الضرر ، وإذا أراد نفسه فليس له ذلك.

حسن الظنّ بالله :

عندما سمع الأعرابي أنّ الحساب يوم القيامة بيد الله فرح بذلك ، وقال : لو كان بيد غيره للبثنا خمسين ألف سنة ، فإنّ الله سريع الحساب ، وعلينا أن نحسن الظنّ بالله سبحانه ، وحسن الظنّ بالله أن لا نرجو إلاّ الله ولا نخاف إلاّ من ذنبنا ، فخيره إلينا نازل ، وشرّنا إليه صاعد ، فأنت نعم الرّ وأنا بئس العبد ، فاجعلني كما تحبّ يا ربّ ، فكفيبي عزّاً أن أكون لك عبداً ، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً ، أنت كما اُحبّ فاجعلني كما تحبّ ، برحمتك يا أرحم الراحمين.

---

[1]البحار 1 : 303.

من كرامات الطالب والمطلوب

شيخي هذا في السير والسلوك كان من حواري الشيخ رجب علي الخياط وأصحاب سرّه ، فإنّه رافقه أكثر من خمسة وعشرين عاماً ، وكان شيخي ابن تاجر معروف في طهران ، إلاّ أ نّه ترك تجارة والده ودنياه ، وواكب جناب الشيخ الذي كان يمتهن الخياطة ، وتتلمذ عنده في العلم والعمل.

كان جناب الشيخ رجب علي الخياط الملقّب ب_ (نكوگويان) _ أي حسن الكلام _ من أوتاد الأرض صاحب الكرامات والبركات والمقام الشامخ ، قد فح الله بصره وبصيرته ، وسمعه وقلبه ، حتّى كان يرى ما لا يرى غيره ويسمع ما لا يسمع غيره ، كان يرى عالم المعنى وعالم البرزخ ، وتعلّقت روحه بما وراء الطبيعة ، وكسر قشور العالم المادّي ليرتبط بالعالم العِلويى والغيبي التجرّدي.

ومن حكم العالم الطبيعي المادّي أنّ فرخ البيض ، ما دام لم يتكامل

جسده ولم يبلغ رشده ، فإنّه يبقى محبوساً في قفص البيضة ، وربما تفسد ويموت الفرخ فيها ، ولو يتمكّن من قفسها حتّى يخرج إلى فضاء رحب ووسيع.

وكذلك الإنسان الذي انطوى فيه العالم الأكبر ، وكرّمه الله على خلقه ، فإنّه في بيضة دنياه الدنيّة ، وإنّه ما دام لم يتكامل في روحه ويبلغ رشده العقلي ، يبقى محبوساً بين جدران بيضة الدنيا ، وإذا تكامل ووصل إلى مرحلة البلوغ والنضوج العقلي _ ذلك العقل الذي يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان _ فإنّه يكسر جدار بيضة الحياة الماديّة ، ويفقس قشر الدنيا ، ويخرج إلى العالم الغيبي التجرّدي ويحلّق في أجواء ما وراء الطبيعة وفي سماء الميتافيزيقية ، فيرى هناك عالماً آخراً يختلف تماماً عن هذه النشأة المادية والحضيض الهيولاني ، ويشاهد عالماً يحكمه النور ، ولا يقاس بهذا العالم الهيولاني السفلي ، وإذا خرج من بيضة العالم الدنيوي ، فإنّه حينئذ بإمكانه أن يتصوّر بقلبه الذي هو حرم الله وعرش الرحمن ويفسّر الآيات الكريمة والروايات الشريفة الواردة عن الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) الذين هم أركان وسادات ذلك العالم التوحيدي العِلوي والغيبي ، كما هم أرباب وسادات السماوات والأرضين وما فيهنّ.

حينئذ يدرك قول الإمام الصادق (عليه السلام) في الجبر والتفويض ، وأ نّه لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين الأمرين ، لا يعني أ نّه الأمر البيني المركّب والمخلوط من الجبر والتفويض وأ نّه جزء من هذا وشقص من ذاك ، بل هو عالم آخر ومقولة اُخرى غير المقولتين بلا جبر ولا تفويض ولا المركّب منهما.

وكذلك الكلام في كلّ ما ورد عنهم (عليهم السلام) في مثل هذه المعارف السامية والمطالب

العالية والموضوعات الدقيقة ، فتنكشف له الحقائق وتتّضح عنده سلسلة العلل والمعاليل في الوجود ، فيعرف فلسفة الحياة وسرّ الخليقة.

ثمّ إنّما يتمكّن الإنسان الكامل من كسر قشور البيض الدنيوي ، حينما يصل إلى مقام المضطرّيّة ثمّ الدعاء .

(أمَّنْ يُجيبُ المُضْطَرَّ إذا دِعاهُ وَيَكْشِفَ السُّوءَ).

(قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاءكُمْ).

وذلك البلوغ والوصول يكون بالصبر ، فإنّ (الصبر مفتاح الفرج) وإنّه (من صبر ظفر) ، كما إنّ من أهمّ وسائله الموصلة إلى ذلك المقام الرفيع هو التقوى والورع عن المحارم والعمل بما علم :

(اتَّقوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ).

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً).

(ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم) ، و (ليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء أن يهديه) ، و (ليس العلم في السماء).

فهذا كلّه من العلم اللدنّي والوراثي الإلهي الذي به يفتح أقفال أسرار الكون المعقّد.

وشيخنا الخيّاط (قدس سره) كان من اُولئك القلائل الأفذاذ الذين وصلوا إلى مقام الولاية بتهذيبهم وتزكية أنفسهم وتربيتها تربية إلهية وقدسيّة رحيميّة ، حتّى كان من المقرّبين.

وإنّي تعلّقت بهذا الشيخ قلباً وروحاً وطلبته سيراً وسلوكاً من خلال أساتذتي الذين أدركوا فيض حضوره.

فوددت أن اُدوّن ما سمعته أو قرأته عنه ، عسى أن أكون مسرجاً ومنوّراً بضوء نوره طريق السالكين إلى الله سبحانه ، وأتقرّب إلى الله بذلك.

وكنت في بداية الأمر أبحث عن سبب رفعته وعلوّه في هذا المسلك والمرام ، وكيف بلغ هذه الدرجة من الروحانيّات ، مع أ نّه لم يحضر عند اُستاذ أو يدرس في مدرسة ، أو يدخل حوزة ...

1 _ فحدّثني اُستاذي يوماً : إنّه لمّا كان جناب الشيخ صبيّاً وقبل بلوغه[1] ، كان والده

في فراش الاحتضار وحوله إخوته وأقاربه ، فنظر إليهم ثمّ نظر إلى ولده الصغير ، فقال له : ولدي رجبعلي ، إنّي على فراش الموت وذاهب إلى ربّي ، نظرت إلى أعمامك وأخوالك وأردت أن اُوصيهم بكَ خيراً ويتكفّلوا أمرك ، ولكن امتنعت عن ذلك لأنّي اُريد أن اُوصي الله بكَ خيراً ، فجعلته عليك وكيلا ووليّاً ، فأنت في عين الله ، ثمّ فاضت روحه الطاهرة من ساعته ، ومن ذلك اليوم كان الله سبحانه يأخذ بيد الشيخ ويباريه ويهديه إلى الصراط المستقيم ، حتّى بلغ الكمال الإنساني.

2 _ كما أنّ الشيخ كان يقول : ومن أسباب توفيقي في السير والسلوك أنّي يوماً عملتُ عملا مستحبّاً وأهديته إلى أحد الأموات ، فدعا لي ذلك الميّت المؤمن فاستجاب الله دعاءه فهداني بعناية خاصّة.

3 _ كما إنّه في أيّام شبابه _ الظاهر كان عمره 22 سنة _ اختلت به امرأة جميلة قد عشقته ، فحبسته في دار وطلبت منه ما طلبت زليخا من يوسف ، فامتنع عن ذلك خوفاً من الله ، وكان يقول : قلت في نفسي : يا رجبعلي ، إلى يومك هذا كان الله يمتحنك ، واليوم تعال وامتحن ربّك ، فقلت : يا إلهي ، أترك لك هذا الذنب وأنت تكفّل بتربيتي ، فأخذ الله بيدي وفتح بصري البرزخي ، فرأيت _ آنذاك _ ما لا يراه غيري وسمعت ما لا يسمعه غيري.

كان الشيخ يوصي دائماً بالذكر والإخلاص والإحسان إلى الخلق ، فإنّه من ذكر الله سبحانه أحيا قلبه ونوّر عقله ولبّه ، ومداومة الذكر قوّة الأرواح ، والذكر مفتاح الاُنس ، ومن أكثر ذكر الله أحبّه.

ومن أخلص لله أربعين يوماً جرت

ينابيع الحكمة من قلبه ، والإخلاص سرّ من أسرار الله ، وليكن لك في كلّ شيء نيّة صالحة حتّى في النوم والأكل ، أخلص تنل ، ومن كان لله كان الله له.

خير الناس من نفع الناس وانتفع الناس منه.

فكان يوصي بالإحسان على الخلق وعلى المؤمنين ، لا سيّما كان يوصي بالإطعام والضيافة.

كان قلب الشيخ مرآة الحقّ تنطبع فيه الحقائق الربانية ، فإنّه وصل إلى ربّه عارفاً به في بحر جوده وفيضه وعظمته.

كان يعمل ويأكل بعرق جبينه ، فاحترف الخياطة واشتهر بها ، فإنّ الكاسب حبيب الله ، والكادّ لعياله كالمجاهد في سبيل الله ، فكان يقنع بما يكفيه وعياله ، ويوزّع الزائد على الفقراء والمساكين ، ولم يدّخر لنفسه شيئاً ، ويرى كلّ ذلك من فضل ربّه.

سرّ توفيقه كان في حبّه لله وإخلاصه في جميع أعماله ، ومن خلال الأدعية والأوراد والأذكار وقف على بواطن الأشياء وحقائقها.

4 _ في يوم من الأيام سأله شخص عن سبب موت ولده الشاب ، فأطرق رأسه ثمّ قال له : هل كان عندكم في البيت بقرة ، فأجاب : نعم ، فقال : قد ذبحتم عجلها أمام عينها . فقال : نعم ، فقال : إنّها دعت عليكم بفقد ولدكم كما أفقتم عجلها فاستجاب الله لها.

5 _ كان الشيخ يعرف لسان النباتات وقد علّمه الله منطق الحيوانات ، يقول : عندما كنت مريضاً واستعملت الأقراص الطبّيّة للتداوي رأيتها تستأذن وليّ الله (عليه السلام) في تأثيرها لإزالة المرض.

6 _ وفي يوم : يأتيه صاحب مطعم يشكو كساد عمله بعدما كان ناجحاً ، فأجابه الشيخ : ومنك السبب . فقال : وكيف ذلك وأنا اُداري زبائني حتّى الأطفال ؟ فقال له

الشيخ : أتذكر يوماً دخل عليك سيّد وأكل عندك ولم يكن عنده مال وإلى ثلاثة أيام ، ففي اليوم الثالث دفعته من حانوتك فانكسر قلبه ، فابتلاك الله بنقص في الأموال ، فتذكّر صاحب المطعم ذلك فتاب إلى ربّه وأرضى السيّد وتعاهد مع نفسه بإكرام الفقاء في مطعمه ، وكان يقدّم الطعام إلى المحتاجين بالنسيئة والدين ، فتحسّن أمره وزاد رزقه.

عرفه الناس بالتواضع وحسن الخلق والخير للناس ، وقد أخذ العلم من أفواه الرجال ، من العلماء الأعلام والخطباء الكرام ، وعمل بما علم فأورثه الله علم ما لم يعلم ، فكان يجاهد نفسه ويزكّي قلبه ، ويصيقلها حتّى كان وعاءً لفيوضات الله وللعلوم والمعارف الإلهية والنبويّة والولويّة ، فكان قلبه مرآة الحقائق.

زهد في دنياه وأخلص في عمله وأحبّ الله وعشقه واعتقده في كلّ وجوده وناجاه في سرّه وسريرته كان ناصحاً واعظاً متّعظاً آمراً بالمعروف مؤتمراً ، ناهياً عن المنكر منتهياً ، متّقياً ورعاً متوكّلا على ربّه في كلّ الاُمور.

7 _ وحينما يذهب مع أصحابه إلى زيارة قبر من قبور الصالحين يخبرونه أنّ الجسر في الطريق غير صالح ولا يمكن العبور فيقول لهم : توكّلوا على الله ، فيذهبون ويرون الجسر قد عمّروه وأصلحوه.

كان معلّماً لأفاضل أهل العلم ، يعلّمهم حبّ الله ، والإخلاص له ، وأ نّهم لو أخلصوا لفتح الله عليهم أبواب السماوات والأرض مدراراً ، فكان خلاصة كلامه : «العمل لله فقط».

كان يدعو الناس إلى الخيرات والمبرّات والأعمال الصالحة ، وكان يخبرهم عن بعض الأسرار الكونيّة ليجذبهم إلى الله سبحانه ، حتّى كان يبيح بما يجري عليه وتظهر على يديه بعض الكرامات لهداية الناس.

8 _ قال يوماً : كنت في السوق فخطر

على ذهني ذنب ، فاستغفرت الله سريعاً ، ثمّ مرّت عليَّ قافلة جمال فأراد أحدها أن يصيبني بركلة فتنحّيت عنها ونجوت منها ، فأتيت المسجد مصلّياً ففكّرت في ركلة البعير أ نّه لماذا حدث هذا الأمر ، فأخبروني في عالم المعنى أ نّك فكّرت بذنب ، فقلت : ولم أفعله ، فقالوا : ولم يصبك من البعير أذىً أيضاً . فكان يقصد من هذه الحكايات تربية السامعين لا أن يمدح نفسه ويزكّيها.

9 _ وفي ضيافة يرى اضطراب إخوانه من قلّة الطعام (الأرز) فيقول لهم : لا تخافوا ، ويقول : إن شاء الله لم ينقص . وإذا به يطعم خلقاً كثيراً ويبارك فيه فيأكل الجميع حتّى من كان في الباب واقفاً.

إنّه كان ينصح من يستنصحه فيرى باطنه فيوعظه بما فيه من النقص.

كان يرى خير الأفعال في السير والسلوك أربعة أشياء :

أ _ الطلب من الله والاستغناء عمّا في أيدي الناس.

ب _ الدعاء والتوسّل بالأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، فهم باب الله الذي منه يؤتى وإليهم يتوجّه الأولياء.

ج _ الإحسان إلى الخلائق فخير الناس من نفع الناس وانتفعوا به ومنه.

د _ التخلّق بأخلاق الله عزّ وجلّ.

كان يدعو الناس دائماً إلى محبّة الله والإخلاص له ، وقد ربّى في هذا الوادي مجموعة من الصالحين والعلماء العاملين من خيرتهم اُستاذنا الحامد قدّس سرّه الشريف.

10 _ في يوم من الأيّام استدعى خطيباً وقال له : يا سيّد ، خدمة الحسين (عليه السلام) لا يؤخّرون صلاتهم إلى آخر الوقت ، فلا بدّ أن تصلّي في أوّل وقتها.

11 _ حدّثني اُستاذي : أنّ شخصاً كان يخدم في مجالس سيّد الشهداء (عليه السلام)وكان يترنّم ببيت من الشعر باللغة الفارسية (من حسين دارم

چه غم دارم) يعني أنا عندي حسين فلا غمّ لي إذن ، فكان جناب الشيخ رجبعلي يقول في نفسه : إنّ الإمام (عليه السلام) سيتفضّل على هذا الشخص يوم القيامة ويخلّصه من أهوالها وهمومها وغمّها ، فرأى في ليلة يوم المحشر وإذا بالإمام الحسين (عليه السلام) يحاسب الناس وهذا الشخص في أوائل الصفوف ، فيقول الشيخ : قلت في نفسي هذايومك يا رجل هنيئاً لك ، وإذا به أرى الإمام الحسين يأمر ملكاً أن يجعل ذلك الرجل إلى آخر الصفوف ثمّ التفت إليّ وقال : يا شيخ رجبعلي نحن لسنا رؤساء السارقين ، قال ذلك بغضب ، فتعجّبت من ذلك واستيقظت ، فبحثت عن عمل الرجل وإذا به أجده عاملا للدولة ، ويأخذ السكّر ليبيع على الناس بقيمة الحكومي ، وإذا به يسرق مال الناس متحيّلا على الدولة والحكومة آنذاك.

كان الشيخ يحيي اسم الله في قلوب سامعيه ومخاطبيه ، فكان يتأثّر به كلّ من يسمع كلامه ويتزوّد به في حياته العملية ، فكان يدعو الناس إلى أن يتحلّوا بصفات الله العليا وأسمائه الحسنى ويتخلّقوا بأخلاقه ويتأدّبوا بآدابه ، فكان يقول للناس حسناً يدعوهم إلى ربّهم وأن يعرفوا أنفسهم ، ولا يرافقوا الأشرار والفسّاق حتّى يفتح لهم سرادق الغيب وحضيرة الملائكة وساحات الأخيار ، فإنّ قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل.

ثمّ كان محور دعوته هو الإخلاص وحبّ الله ، وإنّه لو كنّا نخاف من عقاب الله جلّ جلاله بمقدار خوفنا من العقرب ولذعته لا نصلح أمرنا وتحسّنت أحوالنا.

ثمّ لا بدّ من تغيير وتبديل كلمة (أنا) الدالّة على الأنانيّة وحبّ الذات إلى نكرانها وربّانيّتها ، وإنّ من أراد غير الله فإنّه أصمّ عن الحقّ وأعمى عن الحقيقة ،

وإنّ القلب حرم الله جلّ جلاله ، فصاحب القلب هو ربّ العالمين ، فلا تسكن غير الله فيه ، والقلب مرآة علم الله ، فلا يطبع فيه سوى الله ، ولا تعملوا للثواب أو خوفاً من العقاب ، بل عليكم بعبادة الأحرار والشاكرين . ومن أراد الراحة فعليه أن يعطي عمره لله سبحانه ، وكمال الإنسان في أن يكون مظهراً لصفات الله ، ومن أراد الدنيا وزبرجها فإنّه يصل إليها ، ولكن لا تنفعه بل تكون وبالا عليه ، وإذا أردت أن يناجيك ربّك في سرّك ويأخذ بيدك فعليك أن تعرفه وتتفاعل معه ، ولو وقفتم على باب قلوبكم ولم تدخلوا غير الله فيها ، فإنّكم ترون عالم الملكوت ، ترون ما لا يراه غيركم وتسمعون ما لا يسمعه غيركم ، ومن عمل لله انفتح عين قلبه ، وإنّ الله لطيف بعبده ، حتّى يرد العبد وكأ نّه هو العبد الوحيد لله من كثرة لطفه وإحسانه وهدايته ، فإنّه في كلّ لحظة وكأ نّه يرى الله يكلّمه ويهديه قائلا : افعل هذا ولا تفعل هذا ، حتّى يصلح أمره.

من أراد الدنيا فإنّه في عالم المعنى والباطن يكون كلباً ، ومن أراد الآخرة ، فإنّه بحكم الخنثى ، ومن أراد المولى جلّ جلاله فهو الرجل حقّاً . ومن عمل عملا عليه أن يتقنه ويحكمه ، فإنّ الخياط عليه أن يستعمل الإبرة الجيّدة والخيط الجيّد ويخيّط جيّداً ، وهكذا في كلّ عمل وفعل فإنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول : ولكن الله يحبّ عبداً إذا عمل عملا أحكمه.

من أحبّ شخصاً صرف عليه المال ، ونحن لو أحببنا الله سبحانه لا بدّ أن نصرف المال في

سبيله ، كما على المؤمن في كلّ صغيرة وكبيرة أن يكون عمله باسم الله ، فإن لو لم يبدأ باسم الله فهو أبتر غير مبارك ، مقطوع الأثر ، وعلى المؤمن أن تكون أعماله عليها صبغة الله وسمته . وكلّ ما عملتموه فانسبوه إلى ربّكم ، فمنه وإليه ، وإنّه من فضل الله عزّ وجلّ . هذا من فضل ربّي.

قبل رحيلكم من دنياكم اعملوا ما تتمنّاه الأموات فإنّهم يتمنّون الرجوع إلى هذه الدنيا ليعملوا الصالحات :

(رَبِّ ارْجِعوني لَعَلِّي أعْمَلْ صالِحاً).

ليكسبوا رضى الله.

الدين هو ما يقال على المنابر من قبل العلماء والخطباء ، إلاّ أ نّه ينقصه حبّ الله والإخلاص له.

فعليكم بحبّ الله والعمل الخالص والنيّة الخالصة ، ومن عمل لله وكان لله كان الله له ، فيدخل في ملكه وملكوته وسلطنته.

كلّنا نتصوّر بأ نّا مؤمنين ، ولكن عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ، وتعرف جواهر الرجال ، فكل نَفَس يتنفّسه الإنسان هو في امتحان ربّه ، فانظروا هل أنفساكم للرحمن وإنّها أنفاس إلهيّة ، أو أ نّها مرتع للشيطان وأنفاس شيطانية تحفّها نوايا ونفحات شيطانية إبليسيّة.

كلّ واحد عند موته وبعده يقول : صدق الله ورسوله لما يعاين من الحقائق ، ولكن الذي ينفعه قوله ذلك قبل الموت وفي حياته قولا وعملا.

لا تهتمّوا ولا تحزنوا لرزقكم فإنّه مكتبو لكلّ واحد ما له من سهم.

طلبت من الله أن يوقفني على سرّ خلقته ، فعرفت أ نّه الإحسان إلى الخلق ، فلا تغفلوا عن ذلك.

أشقى الناس من ابتلي ببليّة وغفل عن ربّه ، وعليكم بتقدير واحترام ذراري رسول الله (صلى الله عليه وآله).

هذا الدين ليس للنتائج ، إنّما هو للمحبّة وعشق الله سبحانه ، خالفوا أنفسكم واعلموا

أنّ لقمة الحلال والحرام لها تأثير بالغ حتّى كاد أن يكون ابن الحلال من أثر لقمة الحرام أن يفعل ما يفعله ابن الحرام وكذلك العكس.

لا تعتمدوا على مكاشفاتكم ، ولا تتيقّنوا بها ، فمنها ما هي شيطانية ، إنّما قادتكم واُسوتكم أئمّتكم الأطهار (عليهم السلام).

الملعقة للأكل ، والفنجان للشاي ، والإنسان إنّما خلق ليكون إنساناً كاملا.

كان الشيخ يأمر إخوانه بمدّ موائد الأطعمة في بيوتكم لما فيها من البركات والخيرات وإنّها من أهمّ مصاديق الإحسان.

كان يقول : التقوى هو الاجتناب عن غير الله سبحانه ، فلا محبّة في سويداء القلب سوى محبّته جلّ جلاله ، وعلى العارف بالله أن يجلس في باب قلبه ويمنع الأغيار عن دخوله ، وسيّد الأغيار النفس الأمّارة بالسوء ، فلا بدّ من مخالفتها ، فقد أفلح من زلّها وقد خاب من دسّها.

كما أنّ الحيلة والمكر لا يتلاءم مع روح التقوى ، ولكن من المؤسف أنّ أكثر تجّارنا وكسبتنا اليوم يحاولون تحليل القضايا بحيل شرعيّة ، كبني إسرائيل حين منعهم الله عن الصيد يوم السبت ، فإنّهم كانوا يتحيّلون في جمع السمك يوم السبت لصيدها في اليوم الآخر.

من يصل إلى مرتبة العقل فإنّه لا يخالف ربّه ولا يعصيه ، فإنّ العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان.

نحن لا ندري ماذا أعدّ وراء الستار وماذا يكون وراء الغيب ، فربّ قول أو فعل يوجب سخط الله وله آثار وضعيّة خطرة نغفل عنها فتؤثّر في حياتنا وتزداد محننا ومشاكلنا ومصائبنا وحتّى تؤثّر في أولادنا ، فلا بدّ من الاستغفار كثيراً ، ليل نهار.

من كان موحّداً ويتجلّى فيه كلمة التوحيد (لا إله إلاّ الله) فإنّه لا يعبد سواه ولا يتعلّق قلبه بغيره ، ولا

تقدر النفس والشيطان حينئذ عليه.

من زهد في الدنيا فإنّه يدخل في حظيرة الله وقدسه ، ويسير المعرفة يوجب الزهد ، والقلب حرم الله وعرشه ، فلا يمليه ولا يطمئنّ إلاّ بذكر الله.

(ألا بِذِكْرِ اللهِ تطْمَئِنُّ القُلوبُ)[2].

ومن كان ربّه في قلبه ، فإنّه يتمكّن أن يجعل جميع أعماله لله سبحانه ، وإلاّ فإنّ من تعلّق بغيره ، فإنّه يتشكّل به في عالم البرزخ والمعنى ، فالمرء مع من أحبّ ، فلا بدّ لمن أراد الوصول إلى صانعه أن يكون مريده ، ويطيعه شوقاً وحبّاً ، وإنّ الله يأمر بالعدل والإحسان ، والإحسان هي المرتبة العالية في المعاملات والأفعال.

وقد تكفّل الله رزق العباد :

(وَما مِنْ دابَّة إلاّ عَلى اللهِ رِزْقُها)[3].

فليس المطلوب منّا ذلك ، إلاّ أ نّه نركض وراءه وكأنّ الله لم يتكفّل ، ونسينا أ نّه خلقنا للآخرة والوصول إلى الله سبحانه ، وإلى ربّك المنتهى ، وإنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه.

الإنسان تجلّى فيه روح الله :

(وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ روحي).

فعليه أن يفعل فعل الله ، فإنّ روح البقرة تفعل فعل البقرة من الخوار ، وروح الديك يفعل فعل الديك من الصياح ، وروح الإنسان الذي هو من روح الله لا بدّ أن يفعل فعل الله ويقول بقول الله ، ومن أحسن من الله صبغة ومن أصدق من الله قيلا.

هذه جملة وصايا[4] شيخنا الأجلّ في مجالسه الروحانية ، ومن أخلاقه الرفيعة كرمه وجوده واحترامه الضيوف كثيراً ، وأكثر من ذلك احترامه وتقديره لذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكان يراعي آداب الضيافة غاية المراعاة.

كان يهتمّ بالنوافل والمستحبّات حتّى صار مصداق قوله تعالى :

(سَيَجْعَلْ لَهُمُ الرَّحْمنُ وِدَّاً)[5].

فدخل في القلوب فملكها وأحبّه الجميع.

إنّه كان في خدمة

الناس ، يريهم ما فيه الخير والصلاح بفراسة من الله ونوره.

12 _ حينما شكى بعض الفلاحين في مازندران قلّة المطر والجدب ، يأمرهم أن يذبحوا بقرة ويطعموا الناس والفقراء ، فلمّا فعلوا ذلك ، وقبل أن يجمعوا المائدة ، نزلت الأمطار الغزيرة برحمة الله الواسعة.

أفتح الله بصر الشيخ في رؤية المغيّبات وسلسلة العلل والمعاليل في هذا الكون الرحب الوسيع ، وانكشفت له بعض الأسرار الكونيّة ، وما وراء الطبيعة ، كلّ ذلك لكفّ نفسه عن المحرّمات والورع حتّى عن المكروهات ، وعشقه لله وإخلاصه في العمل ، فكان يقرأ الضمائر ويرى البواطن.

13 _ يحدّث أحد المؤمنين أنّي كنت في حضرة الشيخ فخطر على ذهني أ نّه هل يمكن أن يكون للإنسان الدنيا والآخرة معاً ؟ فالتفت إليَّ الشيخ وقال : إقرأ كثيراً :

(رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

14 _ وعندما يلتقي بأحد العلماء الذين توغّلوا في المنهج العقلاني والفلسفيات ، ويطلب من الشيخ النصيحة ، فيقول له : ماذا أقول لمن يعتمد على علومه أكثر ممّا يعتمد على فضل ربّه.

فيطرق العالم رأسه غارقاً في نفسه ، وبعد برهة يرفع عمامته ويضرب رأسه بالحائط باكياً متأثّراً بكلام الشيخ.

15 _ وعندما يدخل عليه الخطيب والشيخ في مناجاته مع إخوانه فيقول الخطيب في نفسه : لو كان الشيخ من المقرّبين عند الله لتحسّن حالي ومجالسي في هذه السنة ، وكان يقصد الجانب المادّي والاقتصادي ، وإذا بالشيخ وهو في وسط تلاوة الدعاء يقول : أنا أقول له دع المال ، وهو يمتحنني بالمال ، ثمّ استمرّ في دعائه.

16 _ وعندما يدخل مقبرة كاشان مع أصحابه يشمّ رائحة الوردة الحمراء ، فيسأل صاحب المقبرة

عمّن دُفن في هذا اليوم ، فيشير إليه بقبر جديد ، فيأتيه الشيخ ويقول : لقد جاء سيّد الشهداء (عليه السلام) لرؤية صاحب هذا القبر ، وهذه الرائحة الطيّبة إنّما هي منه (عليه السلام) ، وقد رفع الله العذاب عن أهل هذه القبور ببركة سيّد الشهداء (عليه السلام).

17 _ وعندما يرى الشيخ شاباً في شبّاك الإمام الرضا (عليه السلام) يبكي ويدعو ربّه في طلب حاجة ، يقول الشيخ لأحد أصحابه : إذهب وأخبر هذا الشابّ أ نّه قضيت حاجتك . فيسألون الشيخ عن القصّة فيجيبهم أ نّه يطلب زواج بنت امتنع أهلها عن تزويجه إيّاها ، فرأيت الإمام (عليه السلام) يقول بقضاء حاجته.

18 _ ولشخص آخر يخبره أ نّك أردت ولداً من الإمام الرضا (عليه السلام) ، فإنّه يعطي لكَ ذلك بفضل الإمام وسمّه (رضا).

19 _ وفي يوم من الأيام يعطي مالا لأحد أصحابه ليوصله إلى إمام جماعة مسجد في طهران ، وبعد ذلك يسألونه فيقول إمام الجماعة : في ذلك اليوم أتاني ضيفٌ ولم يكن لديّ شيٌ اُقري به الضيف ، فتوسّلت بصاحب الزمان (عليه السلام) ، فأتاني المال المطلوب من قبل الشيخ (قدس سره).

20 _ وحينما يسأله أحد أصحابه أن يدعو له بولد طالباً ذلك من الإمام الرضا (عليه السلام) فيقول له : سيولد لك مولدان ، فاذبح لكلّ واحد منهما بقرة لله سبحانه واطعم الناس منها . ففعل للأوّل بعد ولادته ، ولكن للثاني اعترض عليه الناس على أ نّه من يقول بأنّ كلام الشيخ صحيح ، فلم يذبح ، فمات الولد الثاني ، ولمّا أخبروا الشيخ بذلك قال : على المسلم أن يفِ بوعده وعهده.

(أوْفوا بِعَهْدي اُوفِ بِعَهْدِكُمْ).

21 _ وعندما يسرق

مال كثير من شخص قد أعدّه لشراء دار ، وكلّما يبحث عنه لم يجده ، حتّى توسّل بصاحب الزمان (عليه السلام) فاُشير عليه بأن يذهب إلى الشيخ ، فيأتيه ، فيدلّه على دار في كرج وأنّ المال بجنب تنّور في منديل أحمر من حرير ، يأخذه ويخرج سريعاً من الدار ، ويدعوه إلى شرب الشاي فلا يستجب لهم ، فكان الأمر كما قال الشيخ ، وكانت الدار لخادم صاحب المال.

وهذه كرامات أراد الله سبحانه لأوليائه وخصّها بهم.

(وَجَعَلَني مِنَ المُكْرَمينَ)[6].

فيكون وليّ الله في حياته وبعد مماته نجماً ساطعاً وكوكباً دُرّيّاً يهتدى به ، فهو الذي يديم خطّ الأنبياء وشرائعهم السماوية ، وهو يرث العلماء في علومهم وأخلاقهم وبركاتهم ، فهو الأمين والشهيد الشاهد على المجتمع في رعايتهم المبادئ القيّمة والعقائد السليمة ، فمن سنن الله جلّ جلاله أن تظهر النبل والكرامات على يد أوليائه لتكون الحجّة البالغة لله سبحانه ، وتظهر آثار الأمانة والثقة والمسؤولية من الكرامات على يد الصلحاء الأخيار ليهتدي من يهتدي على بيّنة من أمره وبصيرة تامّة في حياته.

فظهرت الكرامات على يد هذا الرجل العظيم الذي أوقف نفسه لله ، فأحبّه وقرّبه وقدّم له الذكر العليّ والثناء الجليّ.

22 _ عندما يدخل داراً ليبارك صاحبها بعرس ولده ، وقد فتح الشاب الطائش الگرامافون ليرقصوا حوله ، فينهرهم صاحب الدار احتراماً للشيخ ، إلاّ أ نّهم لم يرتدعوا ، فيخرج الشيخ ، فيعطل الگرامافون ، فيبدّلوه بآخر ، فكذلك يعطّل ، فعرفوا أنّ هذا من كرامات الشيخ.

23 _ وحينما يخبروه أنّ أحد أولاد أقربائه قد اُصيب بحادث سيّارة ، وهو في المستشفى في حالة خطرة ، يأمر أهله أن يذبحوا شاة ويطعم بها الفقراء ،

وأربعين نفراً من عمّال الفواكه ، ويدعون له ، فيفعلون ، وإذا بالولد سريعاً ما يشفى ببركة الإحسان إلى الناس.

24 _ ولمّا يدخل عليه أحد أصحابه وقد رأى في الطريق امرأة جميلة أخذت قلبه ، فيقول له الشيخ : يا هذا ، أرى فيك الظلمة ، فيقول الرجل في نفسه : (يا ستّار العيوب) ، فيضحك الشيخ ويقول : ماذا فعلت ؟ فإنّه محي عنك ما كنت أراه.

25 _ وفيما يطلب منه أحد أصحابه أن يرزقه الله ولداً ، فيأمره بإطعام الطعام ، وإذا ولد له مولوداً يسمّيه (مهدي) ، ففعل ذلك الرجل وجمع إخوانه في وليمة وقرأ مجلس عزاء سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ، وفي اليوم التالي لمّا أتى الشيخ أخبره الشيخ بكلّ ما جرى في المجلس حتّى قال له : وكان بيدك إناء أخضر تصبّ فيه الماء وسط المائدة ، ففي تلك اللحظة كان سيّد الشهداء (عليه السلام) بجنب المنبر جالساً وقد دعا لك بالولد ، وبعد زمان قصير رزقه الله ولداً سمّاه (مهدي).

26 _ وعندما يطلب منه صاحب منصب عال في الحكومة أن يدعو له في شفاء رجله ، فيقول له : كانت لك سكرتيرة كتبت لك يوماً خطّاً غير جيّد ، فوبّختها ، فانكسر قلبها وبكت ، وكانت تلك المرأة من العلويّات من ذرّية رسول الله ، فإذا أردت الشفاء والصحّة فعليك أن تطيّب خاطرها وتعتذر منها ، فبحث عنها حتّى وجدها فأرضاها واعتذر فشافاه الله سبحانه.

27 _ ولمّا يدخل عليه سائق سيّارة يخاطبه الشيخ : ماذا فعلت بالأمس ، فإنّي أرى فيك نوراً . وكان السائق في أمسه أعان أعمى على عبور الشارع وأركبه سيّارته وأوصله إلى مقصده

مجاناً.

28 _ وامرأة تضرب ولدها ضرباً مبرحاً لخطأ صدر منه ، فتبتلى بالحمّى الشديدة ، وفي طريقها إلى المستشفى في السيّارة بمعيّة الشيخ يشكو زوجها انحراف صحّة زوجته للشيخ فيقول لهما : لا يضرب الطفل هكذا ، فعليها بالاستغفار وأن ترضي ولدها ، ففعلت فتعافت.

29 _ وأحد أصحابه في رجوعه من زيارة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يسأل عن سبب عدم توفيقه الدخول في يوم إلى الحرم الشريف حيث أنّ الكيشوان لم يستلم حذاءه ولثلاث مرّات حتّى يبكي تحت الميزاب فيتوفّق للدخول . فيقول الشيخ : إنّما السبب منك ، فإنّك كنت تذهب إلى عطّار المحلّة عصراً وتجلس عنده ، فأنت زائر الإمام فلماذا هذا الجلوس ؟

30 _ وشخص قد اُصيب برأسه جرحاً ، فيسأل الشيخ عن السبب ، فيقول له : لقد آذيت طفلا في مصنعك ، فما دام لم يرضَ عنك فإنّ عقابك يتكرّر ، فيصدّقه ويرضي الطفل ، فيرتفع عنه البلاء.

31 _ وحكم على شابّ بالأعدام ، فيطلب منه الشيخ خلاصه ، فيقول : عليكم باُمّه ، فإن رضت فإنّه ينجو ، فيأتون باُمّه ، فتقول : وأنا أدعو له بالخلاص أيضاً ، إلاّ أ نّهم يحفّونها بالسؤال فتقول : نعم ، لقد انكسر قلبي منه يوماً ، في بداية زواجه ، كنت وزوجته وهو على مائدة الطعام ، وبعد الأكل جمعت المائدة وسلّمتها إلى زوجته لتأخذها إلى المطبخ ، فقام ولدي وأخذها من يدها وقال مغضباً : إنّي لم آت لكِ بخادمة ، فتألّمت كثيراً ، ولكن الآن رضيت عنه ، ففي اليوم الثاني نجا الشابّ من الإعدام وخرج من السجن على أ نّه وقع اشتباه بالنسبة إليه.

كلّ هذه الكرامات إنّما

هي من تقوى الشيخ وإخلاصه وإيمانه الراسخ وإطاعته لله سبحانه.

في الحديث القدسي الشريف : «عبدي أطعني أجعلك مثلي ، أقول للشيء : كُن فيكون ، وتقول للشيء : كُن فيكون».

32 _ حدّثني اُستاذي : إنّه كان مع الشيخ في ضيافة أحد إخوانه في طهران ، وقبل الحديث قال لصاحب الدار : أحسّ بضعف ، فاُتي له بنصف قرصة خبز صغيرة تصنع في الدار فأكلها الشيخ ، وكان من دأبه أ نّه بعد صلاته يسلّم على الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، وكان يسمع الجواب _ كما جاء في زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) : (أشهد أ نّك تسمع كلامي وتردّ سلامي) إلاّ أنّ الذنوب هي التي تحجب ذلك _ وفي ذلك اليوم سلّم بعد الصلاة فلم يسمع جواباً ، فعلم أ نّه صدر منه ما منعه من الجواب ، فكلّما حاسب نفسه لم يهتدِ إلى السبب ، فتوسّل بالأئمة (عليهم السلام) فأعلموه في عالم المعنى أ نّه : يا شيخ ، لقد أكلت كلّ القرصة وكان نصفها يرفع الضعف ، فلماذا أكلت كلّها ؟ وهذا معنى قولهم (عليهم السلام) : «وفي حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، وفي الشبهات عتاب» ، وإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، فربما أكل القرصة لا مانع فيه لعامّة الناس ، ولكن مثل الشيخ يعاتب على ذلك ويحاسب ، فإنّه من أولياء الله وأوتاد الأرض.

33 _ وفي يوم يسرق حذاؤه ، فأراد الشيخ أن يعرف السبب ، فقالوا له في عالم المعنى : إنّك وضعت قصاصة القماش الذي تخيطه للناس في حذائك _ وكانت هذه القصاصات لا قيمة لها وترمى في المزبلة _ إلاّ أ نّه مثل الشيخ يحاسب عليها.

34

_ وفي يوم في القطار يحسّ بظلمة القلب والباطن ، فيتوسّل بالله ليعرف السبب ، فيقال له : إنّ الشاي الذي شربته في القطار إنّما هو من مال الحكومة الظالمة.

35 _ ولمّا يسأله أحد إخوانه عن سبب فقد حالاته الروحانيّة والمعنويّة يقول في جوابه : السبب هو الكباب الذي أكلته ، فإنّه من مال فلان التاجر الذي أعدّه من أموال عجوزة قد غصبها.

36 _ وحينما يشيّع جنازة آية الله العظمى السيّد البروجردي (قدس سره) يسأله في عالم البرزخ عن سبب كثرة المشيّعين ، فيقول له السيّد (قدس سره) : لأ نّي درّست طلاّب العلم كلّهم لله سبحانه.

37 _ ويحدّث الشيخ عن نفسه لهداية الناس قائلا : لمّا أراد ولدي أن يدخل الجنديّة أردت أن أسعى له لخلاصه ، إلاّ أ نّه جاءني في ذلك اليوم رجل وامرأة في حاجة فبقيت معهما حتّى قضيتها ، ولم اُوفّق لخلاص ولدي ، فرجع وأخبرني بتسريحه وقال : إنّه قبل أن يصل إلى المعسكر اُصيب بصداع شديد وورم عجيب في رأسه ، فلمّا فحصه الدكتور أعفاه عن الجنديّة ، فما أن خرج إلاّ وذهب الورم والصداع وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً ، فقال الشيخ : نعم واحدة بواحدة ، قضينا حاجة الناس فقضا الله حاجتنا.

38 _ قال يوماً : كانت لي حاجة عند الله ، كنت أدعو ليل نهار في قضائها ولم اُوفّق ، فقلت في نفسي : ندعو للناس بهذا الدعاء فيستجاب ، ولكن لنا لم يستجب الله فكأ نّه حتّى رسول الله وعترته الطاهرين (عليهم السلام) لم يفكّروا بنا ، يقول الشيخ : فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليه الغبار قائلا : ما بك يا

شيخ ؟ نحن قبل ألف سنة من خلقة آدم كنّا نفكّر بكم ...

39 _ يقول الشيخ : كنت أقول : أفدي نفسي لمن كان قلبه ولسانه واحداً ، فأراني الله سلمان رضوان الله عليه ، وقالوا لي : هذا لسانه وقلبه واحد ، ونريد أن نفديك إيّاه ، فامتنعت عن ذلك ، لأ نّي اُريد أن أفدي نفسي لمحمّد وآله ، وعلمت _ آنذاك _ أنّ كلّ ما نقوله نحاسب عليه ، فقلت من بعد هذا : أنا خادم لمن كان لسانه وقلبه واحد ، لأ نّي اُريد خدمة سلمان المحمّدي رضوان الله عليه.

---

[1]كان عمره آنذاك 12 سنة وهو الوحيد لوالده المرحوم مشهدي باقر ، أسكنهما الله فسيح جنانه.

[2]الرعد : 28.

[3]هود : 6.

[4]اقتباس من كتاب (تنديس اخلاص) حياة الشيخ رجبعلي الخيّاط باللغة الفارسية ، بقلم الشيخ ري شهري.

[5]مريم : 96.

[6]يس : 27.

من وصايا جناب الشيخ

كان يوصي قدّس الله نفسه الزكيّة وأسكنه فسيح جنانه مع محمّد وآله : بتلاوة سورة الحشر ودعاء عديلة لرفع المشاكل وقضاء الحوائج.

كما كان يوصي بدعاء (يستشير) ، ومناجاة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسجد الكوفة (مولاي يا مولاي) ، والمناجاة الخمسة عشر لزين العابدين (عليه السلام) لا سيّما مناجاة المريدين . وكان يرى أنّ سورة الصافّات في الصباح والحشر في الليل يوجب صفاء الباطن ، كما أنّ لسورة الواقعة آثاراً كثيرة.

كان يوصي للغلبة على النفس الأمّارة بالسوء بهذا الذكر : (يا دائم يا قائم) ، ولمحبّة الله ألف مرّة الصلاة على النبيّ وآله (اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد) إلى أربعين ليلة ، ولمخالفة النفس ثلاثة عشر مرّة كلّ يوم (اللهمّ لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان) ، وللغلبة على النفس الأمّارة بالسوء

يداوم على هذا الذكر (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم) ، ومن المؤثّرات في تهذيب النفس ذكر (يا غنيّ يا كريم) بعد كلّ صلاة مئتي مرّة ، وكذلك ممّا يوجب التوفيق في الحياة قراءة زيارة عاشوراء في كلّ يوم ، وكذلك ذكر (يا زاكي الطاهر من كلّ آفة بقدسه) ، فإنّ الشيخ كان يقول بهذا الذكر دخلت وادي السير والسلوك حتّى ماتت النفس الأمّارة.

ولمن أراد أن يتشرّف بلقاء الحجّة المنتظر (عليه السلام) يكرّر في الليل (ربّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً) ، مئة مرّة إلى أربعين ليلة.

41 _ وقد علّم الشيخ هذا الذكر لأحد مريديه ، فبعد أن عمله أتى عند الشيخ وأخبره أ نّه لم يرَ صاحب الزمان (عليه السلام) ، فقال له الشيخ : ألست كنت تصلّي في المسجد وبجنبك سيّد ، فقال لك : يكره التختّم باليسار ، فقلت له : كلّ مكروه جائز ؟ قال : نعم . قال الشيخ : ذلك هو صاحب الزمان (عليه السلام) ولم تعرفه.

42 _ وأعطى الذكر لشخص آخر صاحب حانوت (عطّار) ، فقبل الأربعين ليلة ، جاءه طفل من اُسرة علويّة يطلب منه صابوناً ، فقال له : كأنّ اُمّك لا تعرف غيرنا عطّاراً ترسلك دائماً إلينا لتأخذ بالدَّين ... فسمع في منتصف الليل صوتاً من فناء داره ، فكان يخرج من غرفته فلم يرَ أحداً ، وإلى ثلاث مرّات ، وفي الثالثة فتح باب الدار فوجد سيّداً أدار ظهره عليه وقال : نحن بإمكاننا أن ندبّر اُمور أولادنا إلاّ أ نّه أردنا أنتم تصلون إلى درجة ، ثمّ ذهب.

ولا يخفى أنّ الإجازة في الأذكار لها

تأثير خاصّ ، فإنّي سألت سيّدنا الاُستاذ آية الله العظمى السيّد النجفي المرعشي عن سند أخذ الإجازة في الأوراد والأذكار ، فقال : لم يكن عندنا نصّ في ذلك ، إلاّ أ نّه ثبت بالتجربة أ نّها مع الإجازة (ممّن له وتصل إلى صاحب الأمر (عليه السلام” لها تأثير خاصّ.

وأخيراً : ولد الشيخ سنة 1303 هجري ، وتوفّي 10 ربيع الثاني سنة 1382 هجري قمري.

فكان عمره ثمانين عاماً إلاّ سنة ، وكانت كلماته الأخيرة دعاء اليوم الذي فيه وقوله : العفو يا عظيم العفو ، العفو يا كريم العفو . ودُفن في صحن مزار المحدّث الكبير ابن بابويه في ري _ طهران.

عاش سعيداً عالماً متّقياً خدوماً محسناً محبّاً خالصاً ، ومات سعيداً شهيداً ، وخلّف لسان صدق في الآخرين.

فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً.

ورزقنا الله من أنفاسه القدسيّة ودعائه المستجاب وروحه الطاهرة زاداً في سيرنا وسلوكنا إلى الله عزّ وجلّ ، وحشرنا وإيّاه مع أوليائنا الأطهار وآله الأبرار ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

من أدب محافل العلماء

العلماء ورثة الأنبياء في علومهم ومعارفهم وسلوكهم ومسؤوليّاتهم وهدايتهم الناس إلى الخير والصلاح والتقوى والعلم والعمل به ، فهم اُمناء الله في الخلق ، وسفراء الرحمن في الأرض ، وهداة الدين ، وقادة الاُمم في مناهل الإحسان والعدل والخير ، عليهم سيماء الصالحين . يتذكّر الإنسان ربّه في محيّاهم ، ويزداد علماً في منطقهم ، ويرغب في الآخرة في عملهم.

وما أروع الأحاديث الشريفة عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) التي تحثّ الناس على طلب العلم ومجالسة الحكماء والعلماء وحضور محافلهم القيّمة ، فربّ علم لا تجده بين السطور ، إنّما

يؤخذ من أفواه الرجال وصدور العلماء فإنّه من دقائق العقول.

ومن هذا المنطلق جاء في الحديث الشريف : زاحم العلماء ولو بركبتك . وهذا يدلّ بوضوح على مدى اهتمام الإسلام في معاشرة العلماء الأعلام ، والطواف حول كعبة علومهم وفنونهم ورشحات أفكارهم الظريفة ، التي قلّما نجدها بين طيّات الكتب والأسفار ، وفي رفوف وزوايا المكتبات.

وقد ورد في الخبر النبويّ الشريف في فضل زيارة العلماء : زيارة العلماء أحبّ إلى الله تعالى من سبعين طوافاً حول البيت ، وأفضل من سبعين حجّة وعمرة مبرورة مقبولة ، ورفع الله تعالى له سبعين درجة ، وأنزل الله عليه الرحمة ، وشهدت له الملائكة أنّ الجنّة وجبت له[1].

وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : العالم كالكعبة يزار ولا يزور . وهذا يعني أنّ الناس عليهم أن يزوروا العلماء ويطوفوا حولهم كالكعبة ، وإذا كان النظر إلى الكعبة عبادة ، بمعنى أ نّه يوجب تعبيد الطريق إلى الله والتقرّب منه ، ويتذكّر الله بالكعبة فكذلك النظر إلى وجه العالم عبادة ، بل إلى باب داره عبادة ، لأ نّه مظهر الزهد في الدنيا ، حتّى داره ، فيتذكّر الإنسان بذلك ربّه ، ويعرف خساسة الدنيا ورذالتها ، فإنّه مثل هذا العالم العاقل تركها ، وهذا يدلّ على دناءتها وانحطاطها في عين الله وأوليائه المقرّبين ، فزيارة العالم أفضل من سبعين طوافاً ، أي زيارته تعادل في التقرّب إلى الله بسبعين طوافاً وأكثر ، بل بسبعين حجّة وعمرة مقبولة ، بل ويرفع الله له سبعين درجة كما يرفع الذين آمنوا والذين اُوتوا العلم درجات ، وتشمله الرحمة الإلهية ويكون من أهل الجنّة كما تشهد الملائكة بذلك ، فما أعظم محافل

العلماء وزيارتهم ، ولماذا كلّ هذا الثواب والفضل ؟ ! أليس إلاّ من أجل السعادة المنشودة والكمال المطلوب والهداية المقصودة.

ومن سعادتي وألذّ ساعات حياتي ، تلك السويعات التي أحضى فيها بمجالسة العلماء الربّانيّين والعرفاء الإلهيّين ، وأجثو على الركب أمامهم لأستلهم المعرفة من مناهلهم الرويّة ، واُضيء طريق حياتي بمصابيح كلامهم ، واُحيي قلبي بنفحاتهم القدسية ، ومواعظهم الملكوتية ، وكثيراً ما ينسى الإنسان الدنيا وما فيها ، غارقاً في بحار أنوارهم ، ومجالس اُنسهم.

ومن تلك المجالس التي تعطي للقلب نشاطاً وحيوية ، وللعقل نوراً وهداية ، حينما نالني الشرف وأسعفني الحظّ بلقاء شيخ كريم من المشايخ الكرام سماحة الحجّة العارف بالله الشيخ محمد باقر المحسني دامت بركاته ، فحدّثنا بأحاديث شيّقة من دقائق الآيات ولطائف الروايات وأحوال العلماء والعرفاء ونبذ من أشعارهم العرفانيّة ، ودار الحديث حول رجال الدين الذين هم بركات الأرض.

زهد الشيخ المؤسس :

فقال دام عزّه : كنت في حضرة شيخنا الاُستاذ مؤسّس الحوزة العلمية في قم آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري (قدس سره) ، وذلك عندما حطّ الرحال في قم المقدّسة عشّ آل محمد (صلى الله عليه وآله) ، فدخلت علينا امرأة من الأشراف ، فقالت لشيخنا الاُستاذ : هل عليك قرض ؟ فأجابها بالإثبات ، وهو ستّة آلاف تومان استقرضها لخبز فقراء قم لمدّة عام ، فدفعت إليه اثني عشر ألف تومان ، ستّة للقرض وستّة اُخرى للعام الثاني.

ثمّ قالت : أيّ مقدار تصرف من المال لمعيشتك مع العائلة في كلّ شهر ؟

فقال الشيخ : ستّين تومان.

فتعجّبت المرأة وقالت : ستّين تومان ، أي في كلّ يوم تومانان (درهمان) ؟

قال : نعم.

فقالت : اُريد أن اُقدّم لسماحتكم لكلّ

شهر ثلاثمائة تومان ولمدّة ستّة سنوات.

فتعجّب الشيخ من قولها وقال لها : لا بل ستّين تومان لكلّ شهر ولمدّة ستّة أشهر فقط.

فأعطت المرأة ذلك ودموعها جارية متعجّبة من زهد الشيخ ، فقال لها الشيخ العظيم : لقد فرّجتِ عنّا فرّج الله عنكِ ، فقد أرحتينا من سهم الإمام (عليه السلام) لمدّة ستّة أشهر.

فإذا كان مراجعنا وأساتذتنا حياتهم ذلك فماذا نقول ؟

مراعاة الفقراء :

ثمّ حكى الشيخ دام مجده حكايةً اُخرى ، فقال : كنت أنزل من السلّم في مدرسة الفيضية وأنا أرتدي القباء والجبّة الصوفية الثمينة ، وكان الشيخ المؤسّس يصعد السلّم ، فلمّا رآني أخذ كمّي بيده وقال متعجّباً : شيخ محمّد باقر ، شيخ محمد باقر ! فذهب ، فعلمت بعدم استئناسه من هذه الملابس ، فذهبت ليلا واشتريت قماشاً كلّ متر بثلاث قرانات (القران يساوي الفلس) وأعطيته الخيّاط فخاطه في نفس الليلة بأربع قرانات ، وصباحاً ارتديته وحضرت درس الاُستاذ ، فلمّا رآني تبسّم ، وبعد برهة قال : عليك أن تراعي فقراء الطلبة في ملبسك (ومأكلك) فهناك من الطلاّب ما ليس له أن يشتري ويلبس كما تلبس ، فلا بدّ من مراعاتهم.

كرامة الإمام الرضا (عليه السلام) :

ثمّ دار الحديث عن العرفاء وولائهم لأهل البيت (عليهم السلام) ، فاغتنمت الفرصة إذ سمعت من قبل إنّه تشرّف بلقاء مولانا الإمام الرضا (عليه السلام) في عالم المكاشفة ، فسألته عمّا حدث له في السنين الغابرة من ألطاف وعنايات لا سيّما الاستخارة _ فإنّه معروف ومشهور بذلك _ فأجابني مبتسماً : سأذكر لك ذلك إجمالا ممّا يجوز لي نقله وأترك بعض المواقف.

قبل سنين _ وكنت في ريعان الشباب ، ولم أتجاوز الخمسة والعشرين من عمري _

سكنت خراسان مشهد مولانا الرضا (عليه السلام) ، وكان بجنب الصحن الشريف (ولا يزال) مدرسة علميّة باسم (مدرسة بالا سر = مدرسة فوق الرأس) وفيها حجرة معروفة باسم ملاّ هادي السبزواري صاحب المنظومة في الحكمة والمنطق ، ويذكرون لها خصائص روحانيّة ، وفيها نافذة مدوّرة تطلّ على الحرم الشريف ، وكانت الغرفة مقفلة ، فأعطيت الخادم مئتي تومان وأخذت منه مفتاح الحجرة ، وكنت في كلّ ليلة أسهر وأجلس أمام الحرم الشريف ، ولم أتوسّد ولم أمدّ رجلي ، بل وبكلّ أدب وتعظيم أجلس أمام ضريح مولانا الإمام الرضا (عليه السلام) ، ومن النافذة تشعّ الغرفة بأنوار الحرم الشريف ومصابيحها المضيئة ، وطال هذا الأمر والحال لمدّة ثلاث سنوات وثمان أشهر ، وبعد هذه المدّة يوماً ما دخلت الحرم الشريف ، وعند الباب المقدّس رأيت رجلا عليه العمّة الخضراء صبيح الوجه أسمر اللون وبيده صحن فيه الأرز ، ونظرت داخل الحرم الشريف فرأيت من الذوات المقدّسة بنفس الهيئة جالسين حول الضريح المقدّس ، فسلّمت على ذلك السيّد الجليل فأعطاني الصحن ، فأكلت ما فيه ، فأفاض الله عليَّ من ذلك ما أفاض ، ومنها الاستخارة.

ثمّ ابتليت بمرض الرعاف لمدّة أربعة أشهر ، وكان شديداً للغاية ، حتّى منعني من الكلام الجهوري ، ومن المشي وأكل الخبز ، وسلب منّي الراحة بتمام المعنى ، فآل الأمر إلى أن أتداوى في همدان عند دكتور أخصّائي معروف آنذاك ، فقبل ركوبي السيّارة خطر على بالي الأبيات التي كتبها المحقّق خاتم المحدّثين الشيخ عبّاس القمّي في مفاتيح الجنان مخاطباً مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ومطلعها :

إذا متّ فادفنّي إلى جنبِ حيدر *** أبي شبّر أكرم به وشبيرِ

فلستُ أخاف

النار عند جوارهِ *** ولا أتّقي من منكر ونكيرِ

فعارٌ على حامي الحمى وهو في الحمى *** إذا ضلّ في البيدا عقال بعيرِ

وأخذت اُناجي ربّي وأندب مولاي الرضا (عليه السلام) وأ نّي بحماك وأخرج من بلدتك الطيّبة وأنا مبتلى بهذا الداء العضال ، وعند المسير ارتجّت السيّارة ، حيث كان الانتظار أن أقذف دماً ، ولكن لم أرَ شيئاً من الدم ، فتعجّبت وتعجّب الركّاب معي ، وعند الغداء أكلت الخبز ولم يكن ذلك بمقدوري من قبل ، فأدركت أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) تلطّف عليَّ بالشفاء بإذن الله سبحانه وتعالى . ولمّا وصلت إلى همدان

كنت لا أحسّ بشيء من الألم والوجع ، وعندما حضرت الطبيب قلت له : لقد شافاني مولانا الرضا (عليه السلام) ، وكان عنده بعض الجلساء ، فأخذ أحدهم يستهزئ بي ، فغضبت لذلك ، وأخذت أتكلّم وبكلّ حماس ودفاع ولائي ، وأذكر له فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ، وأ نّهم السبيل الأعظم والرحمة الموصولة والباب المبتلى به الناس ، من أتاهم نجى ، ومن تخلّف عنهم غرق وهوى ، وطال المجلس أكثر من ساعة ، وحينئذ سألت عن المستهزئ فقالوا : هو الشيخ عارف القزويني الزنديق.

ثمّ حدّثنا الشيخ دام علاه بأحاديث شيّقة اُخرى ، ولمّا حان موعد صلاة الظهر خرجنا منه وكلّنا شوق وسرور واطمئنان ، ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب.

نعم ، أهل البيت (عليهم السلام) أنوار زاهية في دياجي حياة البشر ، ومشاعل وضّاءة لمن أراد السعادة والعيش الرغيد ، ويبذل الجهد من أجل هناء المجتمع ، فإنّهم سفينة النجاة للمذنبين ومصباح الهدى للمتّقين ، وجه الله الذي يتوجّه إليه الأولياء ، وباب الله الذي يطرقه الأتقياء ، وقد

بقروا العلوم ، وفتحوا أبوابها ، وبيّنوا ما يسعد الإنسان ، وتعرّضوا لكلّ جوانب الحياة الفردية والاجتماعيّة بتمام مظاهرها من الثقافة والسياسة والأخلاق والاقتصاد وغير ذلك ، فهم دعاة الخلق إلى طاعة الله وساسة العباد إلى الخير ، فقولهم : (زاحم العلماء ولو بركبتيك) فيه أسرار وفوائد جمّة ، سيّما للذين آلوا على أنفسهم أن يسيروا بنهجهم ، ويستنيروا بنورهم ، ويقتدوا بسيرتهم ، فإنّهم اُسوة حسنة وقدوة صالحة ، فخير المجالس مجالس العلم والعلماء العاملين بعلمهم ، الذين لا فرق بين قولهم وعملهم ، وهم حكّام على الناس وعلى الملوك ، وهم اُمناء الله على الدين والدنيا ، وهم ورثة الأنبياء في مسؤولياتهم العظمى.

---

[1]عدّة الداعي : 66.

رؤيا صالحة فيها منقبة للعلاّمة المجلسي

جاء في الخبر الشريف : «من ورّخ مؤمناً فقد أحياه» ، والتأريخ اشتقّ من ورّخ بعد القلب والإبدال.

وقال الله تعالى في كتابه المجيد : (وَمَنْ أحْياها فَكَأ نَّما أحْيى النَّاسَ جَميعاً)فتأريخ المؤمن حياة الاُمّة ، ومن قال أو كتب عن حياة مؤمن فقد أحياه ومن أحياه فكأ نّما أحيى الناس جميعاً طوال الأحقاب والدهور جيلا بعد جيل.

إذ الإنسان ذو بعدين : بعد جسمي وبعد زماني ، والبعد الأوّل عند الأوائل عبارة عن الامتداد الثلاث ، أي : الطول والعرض والعمق ، وهو البعد المكاني ، ولا يختصّ بالإنسان ، بل كلّ جسم هو كذلك.

وعند المعاصرين للجسم بعداً رابعاً وهو البعد الزماني ، والتأريخ عن حياة شخصيّة أو حياة مجتمع واُمّة ليس إلاّ حديث البعد الزماني وحكايته ، فهو أشعّة الإنسان عبر الزمن ، ليس إلاّ ذكرى حياة إنسان صنع التأريخ بعبقريّته ونبوغه ونصاله وجهاده وعلمه وأدبه ، أو حياة شعب فاق الشعوب أو انحطّ وسقط في الهاوية.

وإحياء

المؤمن بالثناء عليه وجعل لسان صدق في الآخرين بمكارمه وفضائله وحياته الخصبة بالخير والإحسان لأفضل بكثير من إحياء جسده الذي مآله التراب إذ منه وإليه.

فالبعد الزماني هو الذي يكوّن للمؤمن شخصيّة خالدة بين الناس وفي المجتمع الإنساني طوال السنين والدهور.

ومن ذكر أو كتب عن حياة المؤمن ونشاطه وجهوده وتضحياته فقد أحياه ، ومن ذكر العلماء بخير وكشف القناع عن آثارهم العلميّة والعمليّة فقد أحياهم.

ومن هذا المنطلق علينا أن نذكر علماءنا الأعلام ، ونترجم حياتهم ، فإنّهم نبراس هدىً ومشاعل حقّ في طريق الاُمّة والجماهير ، فإنّهم القدوة الصالحة والاُسوة الحسنة لمن أراد سعادته وسعادة المجتمع ، وكان يفكّر في إصلاح نفسه ، وفي إصلاح الآخرين ، ويكون كالشمعة يحترق ليضيء الطريق.

ومن أعاظم علمائنا الأبرار ومن المؤمنين الأخيار وحيد عصره وفريد زمانه ، العلم العلاّمة فخر الاُمّة الفيض القدسي الشيخ محمّد باقر المجلسي (قدس سره) ، الذي ذاع صيته في الآفاق واشتهر بتصانيفه القيّمة ، وفي طليعتها بحار الأنوار ، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار.

ولد عام 1037 ه_ وتوفّي 1111 هجري ، في 27 رمضان ، وقد أجمع العلماء على جلالة قدره وتبرّزه في العلوم النقليّة والعقليّة والحديث والرجال والأدب ، فهو من أكابر الرجال في علوم الدين والشريعة الإسلاميّة ، والقلم يعجز عن بيان مآثره ، واللسان يكلّ عن ذكر محاسنه ومفاخره ، فإنّه باب الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، وإنّه قدوة العلماء الأخيار ، فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً ، وإنّا على دربه ونهجه وعلمه لسائرون.

حدّثني سيّدنا الاُستاذ آية الله العظمى السيّد النجفي المرعشي قدّس سرّه الشريف : إنّه في العقد الثالث من عمره في ليلة رأى في عالم الرؤيا

قد قامت القيامة ، وحشرت الخلائق ، واجتمع الناس في المحشر الرهيب ، وكان كما ورد في أخباره وعوالمه في الآيات القرآنية والروايات الشريفة ، يوم تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت ، ويفرّ المرء من أخيه واُمّه وبنيه وفصيلته التي تؤويه ، وترى الناس حيارى سكارى وما هم بسكارى ، لكلّ امرء يومئذ شأنٌ يغنيه ، ثمّ سمعت نداءً بأنّ العلماء يحشرون في مكان خاصّ ، وعلمت في المنام أنّ الله يفعل ذلك رحمة ورفقة بهم حفظاً لماء وجههم ، لم يجعل حسابهم أمام الناس الذين كانوا يعتقدون بهم في الدنيا ، بل حسابهم حساب خاصّ وفي مكان خاصّ ، فدخلنا في مثل صالون كبير جدّاً ، فرأيت صفوفاً واقفة ، فسألت ما هذه الصفوف فقالوا : كلّ صفّ عبارة عن قرن من القرون ، فأوقفوني في الصفّ الرابع عشر على أ نّي من علماء قرنه ، ثمّ رأيت رسول الله هو الذي يحاسب العلماء وبجنبيه عن اليمين واليسار رجلان جليلان أمامهما كتب ، وكان أحدهما أكثر من الآخر ، ولمّا كان النبيّ يحاسب عالماً ، فإذا تلعثم عندما يُسأل عن فتوى أفتاها أو عمل عمله ، كنت أرى الرجلين يشفعان له ، وكان صاحب الكتب الأكثر يشفع أكثر من الآخر ، فقلت في نفسي : لا بأس أن أعرفهما حتّى إذا ما احتجت إلى شفاعتهما أتوسّل بهما ، فسألت من كان بجنبي عنهما فقال : أحدهما شيخ الطائفة الشيخ الطوسي وهو صاحب الكتب القليلة ، والآخر باب الأئمة (عليهم السلام) العلاّمة المجلسي ، فاستيقظت من النوم وعلمت أنّ للشيخ منزلة عظيمة عند رسول الله وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام).

ثمّ حدّثني سيّدنا الاُستاذ بخلق من

أخلاق العلاّمة المجلسي ، بأ نّه وجد في كتاب خطّي قديم من زمن العلاّمة المجلسي أ نّه كتب على جلده من الداخل : من أخلاق العلاّمة المجلسي ، ثمّ حكى لي هذه القصّة : إنّه يوماً أراد بعض شباب إصفهان من شقاواتها أن يمتحنوا حلم العلاّمة وأ نّه كعلمه في الغزارة ، فاتّفقوا على أن يبعثوا إليه أجرأهم ، فجاء إلى الشيخ بعد منتصف الليل في ليلة ينزل فيها الثلج من ليالي الشتاء القارسة ، فدقّ الباب فخرج إليه الخادم ، وسأله عن حاجته إلاّ أنّ الشاب طلب العلاّمة بنفسه فخرج إليه على كبر سنّه ورحبّ به ، ثمّ قال : سل حاجتك يا ولدي ، فقال الشابّ : وكان يقصد إثارته : هيبتك يا شيخ أنستني الحاجة والمسألة . فقال له العلاّمة متلطّفاً ببشر وابتسامة : إذهب ومتى ما تذكّرتها فارجع واسأل حاجتك . فذهب الشابّ وبعد سويعة رجع ودقّ الباب فخرج العلاّمة إليه مرّة اُخرى ، فقال الشابّ : إنّي نسيتها مرّة اُخرى ، فقال العلاّمة : لا بأس عليك اذهب ومتى تذكّرتها فارجع واسأل . فذهب وقريب السحر رجع الشابّ وخرج إليه العلاّمة بكلّ رحابة صدر فقال الشابّ : لقد تذكّرت مسألتي ، فقال العلاّمة : هاتها ، فقال الشابّ بكلّ وقاحة : يا شيخ ، أخبرني عن طعم العذرة ؟ فقال العلاّمة : أوّله حلو ، ثمّ يكون حامضاً ، ثمّ يصبح مرّاً ، فانذهل الشابّ من علمه وحلمه وزاد في وقاحته قائلا : يا شيخ ، كيف عرفت ذلك ، فإنّ هذا الإخبار كإخبار من تذوّقه في مرّات ثلاثة . فقال العلاّمة : ليس كذلك ، إنّما عرفت هذا من

الآثار ، فإنّ الأثر يدلّ على المؤثّر ، فإنّي رأيت لمّا يضع الإنسان غائطه يجتمع حوله الذباب ، فعلمت أنّ طعمه حلو ، لأنّ الذباب إنّما يجتمع حلو الحلويّات ، ثمّ بعد مدّة رأيت حشرات الخلّ تجتمع حول العذرة ، فعلمت أنّ طعمها أصبح حامضاً ، وبعد برهة من الزمن رأيت خروج الدود من العذرة ، والدود إنّما يتولّد في مكان مرّ، فعلمت أنّ طعمها صار مرّاً.

فتعجّب الشابّ من هذا الحلم الرفيع والعلم الوسيع ، وأخبر أصحابه بذلك ، فاجتمعوا بالشيخ بتوبة نصوحة وأصبحوا من مردة الشيخ الفدائيين ، وهذا معنى : «العلم أمير ووزيره الحلم» ، فاعتبروا يا أهل العلم النافع والعمل الصالح.

كرامة لمولانا أبي الفضل العباس (عليه السلام)

قال سماحة العارف بالله سيّدنا الأجلّ السيّد عبد الكريم الكشميري دام ظلّه :

كنت أزور أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في النجف الأشرف ، وقبل قدومي إلى إيران رأيت _ في إحدى الأيام _ داخل الحرم الشريف امرأة عربيّة قرويّة معصّبة الرأس تأخذ للناس الاستخارة ، وتأخذ لكلّ استخارة درهماً من المستخير ، وكانت تخبر بنيّة السائل بالتفصيل ، فتعجّبت من أمرها ، فدنوت منها وطلبت منها الاستخارة ، وكانت في نيّتي الهجرة إلى إيران ، فأجابت بالتفصيل وأخبرتني بكلّ ما يجري عليَّ في سفرتي هذه بالأرقام ، فعلمت أنّ هذا من معدن خاصّ ، فاستخبرتها الحال ، ومن أين لها هذا العلم ، فامتنعت في بداية الأمر ، إلاّ أ نّي أقسمت عليها وبعد الإلحاح أجابت قائلةً : لقد مات زوجي ولم يكن لي من يكفلني ، ومن عاداتنا العربية في القرى أن لا تتزوّج المرأة بعد طلاقها أو فوت زوجها ، فضاقت بي الاُمور ولم يكن لي حيلة ، فتوجّهت

إلى حرم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) ، وتوسّلت بجاهه عند الله سبحانه فإنّه باب الحوائج ، وشكوت له أحوالي ، وفي أثناء التوسّل تمثّل لي العباس (عليه السلام) وقال : كلّ يوم اجلسي في الحرم وخذي من الناس درهماً لمن أراد منكِ الاستخارة لإمرار معاشكِ ، وأنا اُخبركِ بنوايا الناس وحوائجهم ، ما يكون لهم في المستقبل ، فكلّ من يأخذ عندي الاستخارة أرى أبا الفضل (عليه السلام) ويخبرني بالوقائع والحوادث ونيّة المستخير ، وأنا اُخبر السائل ، كما أخبرتك عندما استخرت عندي ، وهذا من عناية أبي الفضل العباس (عليه السلام) ، لا يخيّب من رجاه ولا يقطع أمل من قصده صادقاً ، فإنّه الوجيه عند الله سبحانه وتعالى.

في يوم السبت ؟؟؟ محرّم الحرام سنة 1418 ه_ قرأت ما كتبته على سماحة سيّدنا الأجلّ السيّد الكشميري دام ظلّه بحضور جماعة من تلامذته ، فسمعت قصص وكرامات اُخرى جرت لسماحته ، كما سمعت بعض أحواله وكثرة أذكاره ، فإنّه في يوم واحد كان يذكر اسماً من أسماء الله سبعين ألف مرّة.

ومن طريف ما سمعت أ نّه _ دامت إفاضاته _ التقى به آية الله الشهيد السيّد مصطفى الخميني (قدس سره) في النجف الأشرف ، فأخبر والده السيّد الإمام الخميني (قدس سره) أ نّه التقى بوليّ من أولياء الله وتعرّف عليه ، وأخذ يذكر أحواله وخصائصه وفضائله ، فقال السيّد الإمام : تعلم أنّي لا أقبل هذا الادّعاء بسهوله ومن دون دليل وبرهان ، فلو كان كما تقول ، فإنّه عندي حاجة هلاّ أخبرني بها ؟ !

جاء السيّد مصطفى إلى سيّدنا الأجلّ وأخبره بمقولة أبيه ، فقال له السيّد : أمهلني هذه الليلة ، وغداً

ساُخبرك بحاجته . وبعد الأدعية والأذكار في السحر ، صباحاً جاءه السيّد مصطفى ، فقال له سيّدنا الأجلّ : أخبر أباك أنّ حاجته أ نّه قد رأى مناماً من قبل ولا يزال يقلقه ، فقل له : لا تخف ، إنّك لا تموت في النجف الأشرف ، بل ستذهب إلى إيران منتصراً.

وقل لوالدك : لقد رأيتَ في المنام أ نّك نائم وتحت يدك حجارة تؤذيك ، فمرّ عليك أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، فسأل عن راحتك وقال : كيف أنت يا روح الله ؟ فأجبته : سيّدي هذه الحجارة تؤذيني ، فرفعها لك واسترحت حينئذ ، وكنت تفسّر هذه الرؤيا بأ نّك ستموت في النجف الأشرف وتدفن فيها ، ولكن ستذهب إلى إيران.

وقد صدق الله وعده ، ومن ذلك اليوم كان السيّد الإمام (قدس سره) يستخير عند السيّد الأجلّ ، فإنّه كان ولا يزال معروفاً بالاستخارة.

وقد كتب فضيلة الشيخ جعفر الناصري دام عزّه _ وهو من حواريه _ مقتطفات عن حياته وسيرته الذاتيّة ، ولا زالت مخطوطة ، نسأل الله أن يوفّقه في طبعها ونشرها خدمةً للدين والعلم والعلماء الصالحين.

نصائح عامّة لعامّة الناس

أيا إخوان الصفا وخِلاّن الوفا إليكم :

وإلى الطليعة المؤمنة ، إلى الشباب المسلم المثقّف ، إلى من يحبّ أن يعيش حرّاً وإنساناً كاملا ، إلى من يبغي الحياة الطيّبة والعيش السليم ، إلى من يسعى منذ نعومة أظفاره وراء سعادته ، إلى المجتمع الإنساني والبشرية جمعاء ، وإلى القارئ الكريم ، اُقدّم هذه المواعظ القرآنية ، والوصايا النبويّة ، والحِكَم العلوية ، والنصائح الولويّة ، والدرر العلميّة ، والجواهر الأخلاقيّة ، وزبدة الأفكار ، وخلاصة الأثمار ، جعلتها تذكرة لمن شاء ذكره.

إنّما أعظكم بواحدة

: أن تقوموا لله مثنىً وفرادى ، فاتّقِ الله حقّ تقاته ولا تكُ من عصاته ، واعمل الصالحات ، وتجنّب الشهوات ، واعتصم بحبل الله المتين ، وتمسّك بعروة أهل اليقين.

وأقم الصلاة ، وآتِ الزكاة ، واقتصد فما عال من اقتصد ، فخذ من الاُمور أوسطها ، فخيرها أوسطها.

وأحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لنفسك.

وكن في الحديث صادقاً ، وفي الأمانة أميناً ، وفي الوعد موفياً ، وفي الشدائد وقوراً ، وفي المكاره صبوراً ، وفي الرخاء شكوراً.

وتفضّل على من شئت تكن أميره ، واستغنِ عمّن شئت تكن نظيره ، واسأل من شئت تكن أسيره.

وكن عند الله خير الناس ، وعند نفسك شرّ الناس ، وعند الناس واحداً من الناس.

ولا تؤذِ جارك ، ولا تخن من استشارك ، ولا تفشي سرّك ، واسكت عمّا لا يعنيك ، وأحسن إلى من يؤذيك ، واشكر من يعطيك.

من أتاك معروفاً فكافئه ، ومن دعاك فأجبه ، ومن سألك بالله فاعطه.

وأحسن خُلقك ، وجاهد نفسك ، واعبد ربّك.

وكن عالماً أو متعلّماً أو محبّاً لهما ، ولا تكن الرابع فتهلك.

وكن حليماً كريماً جواداً دائم الابتسام ، قليل الكلام ، راحم الأيتام ، واصل الأرحام ، مفشي السلام ، قليل الطعام.

ولا تكون حسوداً بخيلا مرائياً متكبّراً ، واجعل العلم لك شعاراً ودثاراً ، واتّخذ الحلم زينة ووقاراً ، وطالع الكتب ليلا ونهاراً.

واصبر على الشدائد والمصائب ، واستقم في المشاكل والمتاعب.

وكن سليم القلب والجوارح ، عفيف اللسان والجوانح ، زاهداً في الدنيا ، راغباً في الآخرة ، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، مجاهداً في سبيل الله ، موالياً لأولياء الله ، معادياً لأعداء الله.

واحترم الكبير ووقّره

، واعطف على الصغير ولاطفه ، وتواضع فلا تتكبّر ، وبالحسب والمال لا تتفاخر.

وليكن العقل قائدك ، والتقوى زادك ، والدنيا حانوتك ، والقبر منزلك ، والليل والنهار رأس مالك ، والجنّة مأواك.

فاعمل ما شئت فإنّك ملاقيه ، واحبب من شئت فإنّك مفارقه ، وعِش ما شئت فإنّك ميّت.

واعمل لدنياك كأ نّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأ نّك تموت غداً.

وإذا صنعت المعروف فاستره ، وإذا اصطنع إليك فانشره.

واستكثر الإساءة منك ، واستصغر الإساءة عليك.

ولا تقل ما لا ينبغي فإنّك تسمع ما لا تشتهي ، وأكثر عوارفك تكثر معارفك.

ولا تطمع فإنّ الحرّ عبد إذا طمع ، والعبد حرّ إذا قنع.

ولا تضيّع الفرصة فإنّها غصّة ، وهي سريعة الفوت بطيئة العود.

ولا تجالس السفهاء ، ولا تعاشر الأغبياء ، ولا ترافق الأشرار ، ولا تصادق الفجّار ، بل جالس العلماء ، وعاشر الحكماء ، ورافق الأخيار ، وصادق الأبرار.

واستغنِ عمّا في أيدي الناس تكن عزيزاً ، واعمل الخيرات والصالحات تكن مفلحاً.

وفكّر قبل العمل ودع عنك الضجر والكسل.

ولا تحزن على ما فات ، ولا تفرح بما هو آت ، واغتنم الساعة التي أنت فيها.

وازرع الجميل والإحسان أينما نزلت ، واعمل الخيرات أينما حللت.

ولا تكن ظالماً أو ناصراً له ، بل كن للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.

وعليك بالاتّحاد ، وسلوك طريق الرشاد ، والتقوى وقول السداد.

وانصف الناس من نفسك ، وكن ذا مروّة ، فلا تغتب ولا تكن ذا لئامة.

وابتعد عن القيل والقال ، واذكر الله على كلّ حال ، واستعن به ، وتوكّل عليه ، واعمل لمرضاته.

وزكِّ نفسك فقد أفلح من زكّاها ، وقد خاب من دسّاها ، ونجح من تحلّى بالسجايا الحميدة بعد التخلية من الأخلاق الرذيلة.

فطب نفساً

، وعش سعيداً.

والسلام على من اتّبع الهدى ، وخالف النفس والهوى ، فإنّ الجنّة هي المأوى.

نصائح عامّة لطلاّب العلوم الدينية

طالب علوم الأنبياء والأولياء يسعد في الدارين ، وينال السبق في كمال الإنسانية ، ويصل القمّة في الفضائل والمعارف ، فيرث الأنبياء في علومهم ، وتكون مسؤوليّته هداية الناس إلى الخير والرشاد والسعادة ، ويبلغ المقام الشامخ وينال كالأنبياء وسام رُبّان سفينة نجاة البشرية من الظلمات والجهل ، إلى شاطئ العلم والسلامة ، وساحل الأمن والعيش الرغيد ، ويكون سفير الله في الأرض ، ونجوم يهتدى بهم في ظلمات الحياة وشموع وضّاءة في دروب العقيدة والجهاد ، فطوبى له ، والجنّة مأواهم.

ولكن يا طلاّب العلم والعمل الصالح ، لا ينال ذلك إلاّ بالمثابرة والمجاهدة ، وإليكم هذه النصائح العامّة :

1 _ عليكم بالتقوى ; لقوله تعالى : (اتَّقوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْء عَليمْ)[1].

(فَاتَّقوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إلاّ وَأنْتُمْ مُسْلِمونَ)[2].

2 _ عليكم بالأخلاق السامية وحسن الخلق مع الصديق والعدوّ ، وبين الأحباب تسمو الآداب ، ويسقط التكلّف ، فإنّ شرّ الإخوان من تُكلّف له.

3 _ عليكم بالفصاحة والبلاغة وقوّة البيان للخطابة ، والقلم للكتابة ، فكثيراً ما يحتاجهما طالب العلم ، إذ مسؤوليّته هداية الناس ، ووعظهم وإرشادهم وخلاصهم من الموبقات الفردية والاجتماعية ، ونشر الفضائل والمكارم بينهم ، فسلاحهم وأدوات دعوتهم الكلمة والكلام ، وجاءت الأنبياء بكلمة الله العليا ، والعلماء ورثة الأنبياء.

4 _ على طالب العلم أن يكون وجوده منشأ الخيرات والبركات ، ويكون زهرة المجتمع أينما حلّ ، فإنّه يعطّر الأجواء والفضاء وينتفع منه الناس على اختلاف طبقاتهم ، فعليكم بتأسيس المدارس وبناء المستشفيات والمراكز الثقافية ، وكلّ ما ينتفع منه الناس.

5 _

على طالب العلم أن يكون يقظاً فطناً ذكيّاً واعياً ، يعرف أهل زمانه ، ويأخذ من جميع العلوم والفنون الحظّ الوافر ، فيتعلّم العلوم جميعاً مهما أمكن ، وإلاّ فلباب العلوم وجواهرها ، وعليه في هذا العصر ، أن يتعلّم العلوم الثلاثة : علم السياسة والاقتصاد والاجتماع ، ليعرف كيف يدير دفّة المجتمع ، ويسوق الناس إلى ما هو الأصلح والأولى ، ويهديهم إلى الله وإلى الخيرات والحسنى.

6 _ يا إخواني في العلم ، الله الله بالدعاء ، فعليكم بالتوسّل بالله وشفاعة رسوله وأهل بيته (عليهم السلام) ; لقوله تعالى : (ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعائكُمْ وَابْتَغوا إلى اللهِ الوَسيلَةَ) ، والدعاء مخّ العبادة ، وخلقنا لها ، وإنّما يصل الإنسان إلى ما يتمنّاه بالعمل والدعاء والشفاعة.

7 _ العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء ، والملائكة لا يدخلون بيتاً فيه تماثيل وكلاب ، فقلب طالب العلم لو كان فيه تماثيل وأصنام ، وفيه الكلاب الضارية ، وهي الصفات الذميمة والأخلاق السبعيّة الهمجيّة ، فكيف تدخل الملائكة في ذلك القلب ؟ وكيف تحمل نور الله ؟ وتحمل نور العلم إلى ذلك القلب ؟ فعليكم بترك المعاصي والذنوب . وممّا يحكى أنّ شاباً كان كثير الحفظ والمطالعة ، ويوماً وقع بصره على امرأة جميلة ، فتشتّت فكره ، وفقد حافظته ، فشكى ذلك إلى اُستاذه وكيع ، فأشار إليه بترك المعاصي :

شكوتُ إلى وكيع سوء حظّي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأنّ العلم نورٌ *** ونور الله لا يُهدى لعاصي

8 _ عليكم يا أحبّائي الكرام بتدوين العلم وتقييده بالكتابة ، فما حُفظ فرّ ، وما كُتب قرّ ، وقيّدوا العلم بالكتابة ، فإنّها تنفعكم

وتنفع الأبناء والأجيال القادمة ، وإنّ العلم وحشيّ إن تركته يمشي ، فلا بدّ من تقييد العلم بالكتابة ، ومن ثمّ يكون طالب العلم من المصنّفين والمؤلفين.

9 _ أغلى وأثمن شيء للإنسان حياته وعمره ، وهو يمرّ كمرّ السحاب ، فيا طالب العلم والعمل الصالح ، عليك أن تستغلّ عمرك العزيز ، ولا تضيّعه بالقيل والقال والبطالة والكسل ، الله الله في عمرك الغالي ، لا سيّما أيام شبابك ، فمن أتعب نفسه في شبابه فقد نال الراحة في شيبته ، فاغتنم شبابك قبل هرمك ، وصحّتك قبل سقمك ، وحياتك قبل موتك ، وإنّ العلم إذا أعطيته كلّك أعطاك بعضه ، فلا بدّ أن تكون في طلب العلم ليل نهار ، فإنّه يطلب من المهد إلى اللحد _ هذا من حيث الزمان _ وإنّه يطلب ولو كان في الصين _ وهذا من حيث المكان ، فإنّه إشارة إلى البلاد النائية _ وإنّه يطلب ولو بسفك المهج وخوض اللجج ، كما ورد في الأخبار _ وهذا من حيث الكمّ والكيف _ فإنّ طالب العلم يبذل النفس والنفيس وما في وسعه من أجل طلب العلم.

10 _ الله الله في الإخلاص والنيّة الخالصة (أخلص تنل) ، وإنّما الأعمال بالنيّات ، وللمرء ما نوى ، فاطلب العلم لله وفي الله ومن الله وإلى الله ، ولا يغرّنك زهرة الحياة الدنيا ، ودع الدنيا لأهل الدنيا ، وكن من أهل الدين ، ومن الذين يريدون حرث الآخرة ، ولا يُلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم.

11 _ الله الله في الإصلاح ، فعليك أن تصلح السريرة ، فإنّ من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، وعليك أن تصلح بينك وبين الله

، فإنّ من أصلح بينه وبين الله أصلح الله بينه وبين الناس ، وعليك أن تصلح آخرتك ، فإنّ من أصلح آخرته أصلح الله دنياه ، وابدأ بنفسك أوّلا ، وكن إمامها ، ومن ثمّ تكن بعهدتك إمامة الناس وهداية الاُمّة ، ومن لم يتمكّن على نفسه كيف يمتكّن على غيره ؟ !

12 _ بركة العلم في تعظيم الاُستاذ ، فوقّر العلماء واحترم أساتذتك وعظّمهم واخدمهم ، لتنال بركات العلوم ، وتسعد في طلب العلم والعمل به . ومن تواضع لله رفعه الله ، ولا رافع لمن وضعه الله ، ولا واضع لمن رفعه ، فتعامل مع الله في كلّ حالاتك وحركاتك وسكناتك ، وتوجّه إليه ، فإنّه يكفيك الوجوه ، وليكن كلّ عمرك وقفاً لله ، وفي خدمة دين الله وخلقه ، فخير الناس من نفع الناس.

---

[1]البقرة : 282.

[2]آل عمران : 102.

شرائط المتعلّم

إنّما يتمّ الشيء ويكتمل ويتحقّق بناؤه بوجود المقتضي وعدم المانع وتحقّق الشرائط والمعدّات ، كما في وجود المعلول بوجود علّته التامّة ، فلا تخلو الأشياء في حدوثها وبقائها من شرائط.

والناس على ثلاث : إمّا عالم ربّاني ، أو متعلّم على سبيل النجاة ، أو همج رعاع ينعقون مع كلّ ناعق ويميلون مع كلّ ريح.

وللمتعلّم شرائط ، يشار إليها بما يلي :

1 _ تزكية النفس.

2 _ تحصيل الإخلاص.

3 _ تقليل العلائق الدنيويّة.

4 _ ترك الكسل.

5 _ بذل الجهد لنيل المعالي.

6 _ أن يوطّن نفسه على طلب العلم والتعلّم إلى آخر حياته.

7 _ أن يختار من المعلّم من هو ناصح عاقل أمين ورع تقي عادل.

8 _ أن لا يدع المتعلّم فنّاً من فنون العلم ، ونوعاً من أنواعه ، إلاّ وينظر فيه نظراً يطّلع

به على غايته ومقصده وطريقته.

9 _ مذاكرة الأقران ومناظرتهم.

10 _ أن لا يؤخّر شغل يومه إلى غده.

11 _ أن يعرف معنى شرف العلم ورتبته ووثاقته من البرهان.

12 _ أن يشفع طلب علمه بالدعاء والتوسّل بالله بحقّ رسوله وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام).

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.