معالم الصدیق و الصداقه

اشارة

سرشناسه : علوی عادل - 1955 عنوان و نام پديدآور : معالم الصدیق و الصداقه عادل العلوی مشخصات نشر : قم موسسه الاسلامیه العامه للتبلیغ و الارشاد، 1378. مشخصات ظاهری : ص 107 فروست : (موسوعه رسالات اسلامیه شابک : 964-91907-9-1 4000ریال وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی يادداشت : عربی يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا. يادداشت : عنوان دیگر: رساله معالم الصدیق و الصداقه فی رحاب احادیث اهل البیت علیهم السلام یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس عنوان دیگر : رساله معالم الصدیق و الصداقه فی رحاب احادیث اهل البیت علیهم السلام موضوع : دوستی (اسلام موضوع : آداب معاشرت اسلامی موضوع : دوستی -- احادیث رده بندی کنگره : BP254/2 /ع 76م 6 رده بندی دیویی : 297/652 شماره کتابشناسی ملی : م 78-15076

الإهداء

إلى كلّ من يبحث عن الصديق الصادق ، والشفيق الحاذق ، والأخ الموافق .

إلى من يطلب خير الأخلاق في دنيا الأصدقاء .

إلى كلّ أصدقائي وأحبّائي اُقدّم هذه العجالة وميض من معالم الصديق والصداقة في رحاب أحاديث أهل البيت (عليهم السلام).

سائلا العليّ القدير أن يوفّقهم ويسدّد خطاهم ويسعدهم في الدارين ونلتقي معهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، على سُرر متقابلين .

مع فائق التحيّات ، وسلامٌ من ربّ العالمين .

أخوكم في الدين

العبد

عادل العلوي

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد لله الذي أمرنا لنكون مع الصادقين ، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد الصادق الأمين ، وعلى آله الأئمة الصادقين الهداة المهديّين ، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين ، عجّل الله فرجه الشريف.

« يا صديق من لا صديق له »[1].

وردت هذه المقطوعة النورانية في كثير من مناجاة وأدعية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، هي تشير إلى أنّ الصديق الأوّل الذي يستحقّ كلّ الصداقة ، وتتجلّى معه مفاهيمها وحقيقتها ، وإنّها لا يقاس بها في حسنها وفضلها وضرورتها وتقدّمها ، هو الله سبحانه وتعالى.

فإنّه خير رفيق لمن لا رفيق له ، وخير صديق لمن لا صديق له ، خير مؤنس لمن لا مؤنس له ، عماد من لا عماد له ، ذخر من لا ذخر له ، سند من لا سند له ...

فهو الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال والجمال ، فإنّه مطلق الكمال والكمال المطلق ، ومن عظمته ورحمته وشفقته ، أن يكون صديقاً لعبده الذي لا يملك شيئاً ، الجاهل العاجز ، فما أكرمه وأعظمه ؟ ! وما أروع صداقته ورفاقته ؟ !

وهل يفتقر الإنسان إلى صديق آخر بعد صداقته ؟ إلاّ إلى اُولئك الذين

هم مظهر صدق الله ، فإنّ صداقتهم من صداقة الله ، كالأنبياء والأولياء ومن يحذو حذوهم من العلماء والصلحاء.

أجل : ماذا يقصد ويراد من الصداقة ؟ وما هي أهدافها ؟ أليس المؤانسة ورفع الهمّ والغمّ وقضاء الحاجة ، والدفاع عند مداهمة العدوّ ، ورفع المشاكل ودفع المصاعب ، وتمشية الاُمور ، وتطوير العمل والتحدّث والمذاكرة وغير ذلك من القضايا الفردية والاجتماعية التي يتوخّاها الإنسان من الصداقة ؟

وكلّ هذا يصل إليه المؤمن ويحصل عليه لو صادق ربّه الكريم ، فإنّه ينال كلّ ذلك على النحو الأتمّ والأفضل ، بل لا يقاس به شيء ، فمن كان ربّه العالم بكلّ شيء ، القادر على كلّ شيء ، صديقه ورفيقه في الحياة ، فإنّ ذلك يعني أنّ العلم المطلق والقدرة المطلقة والحياة المطلقة ، وباقي الصفات العليا والأسماء الحسنى ، على نحو الأبدية والأزلية والسرمدية ، وبلا نهاية تواكبه وتسايره في حياته الروحية الدنيوية والاُخروية ، حتّى يصل إلى قاب قوسين أو أدنى ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، صادق في وعده وكرمه وجوده ، فماذا يحتاج الإنسان بعد هذا ؟ ! أليس من كان لله كان لله له ؟ وهل بعد هذا المقام العظيم مقام ودرجة ورفعة ؟ هيهات هيهات ، ولا يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم.

فالصديق الأوّل هو الله سبحانه وتعالى ، وهو أحقّ بالصداقة ، ثمّ يستحقّها كلّ من عليه اسم الله عزّ وجلّ ، فإنّه موضع الصداقة حقّاً . وإنّها أحقّ بالموافاة والبذل ، كصداقة الأنبياء والأوصياء والأولياء ، ومن يسلك مسلكهم ، وينهج منهجهم ، فإنّه أولى بالصداقة ، ولا بأس لو سمّيناها بالصداقة الدينية أو الاُخرويّة ، فإنّ بدايتها وأساسها

على الدين ، ونهايتها وغايتها الآخرة ، فمثل هذه الصداقة تدوم إلى يوم القيامة ، يوم يكون الأخلاّء والأصدقاء بعضهم لبعض عدوّاً إلاّ المتّقين ، فإنّهم أسّسوا صداقتهم من اليوم الأوّل على التقوى ، فهي أحقّ أن تقام وتبقى ، وتؤتي اُكلها ، وتعطي ثمراتها في الدنيا والآخرة ، فصداقتهم صداقة تقوائية إلهيّة ربّانية ، تحوطها هالات قدسية ونفحات سبحانية ، خلافاً لأهل الدنيا وصداقتهم الماديّة الدنيوية ، التي تؤسَّس على المطامع والمصالح المزيّفة والزائلة ، وعلى المال والجاه والرئاسة وحبّ الدنيا والوسوسات الشيطانية ، فمثل هذه الصداقة بنيت على جرف هار ، نهايتها نار جهنّم وبئس المصير.

فلا بدّ أن نعرف من هو الصديق الصادق المصدّق في حياتنا الدنيويّة ، الذي تتمثّل فيه الصداقة الإلهيّة ، والتي تصاحبنا إلى يوم القيامة ، يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.

فلا بدّ أن نعرف من نعاشره في حياتنا ، فإنّ الطبع يكسب في الصفات والأخلاق ، وأنّ المرء يُعرف بخليله وصاحبه وصديقه ، فمن هو الصديق حقاً ؟ وما هي الصداقة الواقعيّة ؟

هذا ما أردنا أن نصل إليه من خلال هذه الرسالة المجملة والمختصرة ، وقد صغت مباحثها في مقدّمة وفصول ستّة وخاتمة : المقدّمة : ضرورة الصديق في حياة الإنسان. الفصل الأوّل : نماذج ممّن تضرّ معاشرتهم. الفصل الثاني : كيفية كسب الأصدقاء ومودّتهم. الفصل الثالث : أفضل صاحب وأكمل صديق. الفصل الرابع : أجواء الصداقة وأرضيّتها. الفصل الخامس : من آداب الصداقة. الفصل السادس : المؤثّرات في عالم الصداقة. الخاتمة : حقوق الاُسرة والأقرباء.

كلّ ذلك من خلال الآيات القرآنية وفي رحاب أحاديث أئمّة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام).

ومن الله

التوفيق والسداد.

---

[1]من كتاب « مفاتيح الجنان » ، في دعاء جوشن الكبير.

المقدّمة - ضرورة الصديق في حياة الإنسان

الحياة الإنسانية تمتاز عن العجماوات بالعقل وبالاُلفة وروح التفاهم والعلاقات الاجتماعية والصداقات الحميمة.

واعلم أنّ عالم الأصدقاء الذي له دعائم واُسس خاصّة لا تقوم ولا تدوم إلاّ بتوافرها وتعضّدها بسنن وآداب خاصّة ، وقد اهتمّ علماء الاجتماع والنفس والأخلاق بتشييدها وبيانها ودراستها في كلّ جوانبها وحقولها ، وإن كان القدر الجامع لتلك الاُسس هو عبارة عن المحبّة والتمسّك بالأخلاق الحميدة والآداب المجيدة.

فصنّف العلماء في وادي الصداقة والأصدقاء مصنّفاتهم القيّمة ومؤلّفاتهم الثمينة ، كلّ واحد ينظر إليها من منظاره الخاصّ ، ولما يحمل من خلفيّات ثقافيّة ، ربما تنحرف عن الحقائق والواقع ، لعدم إحاطتهم بمكنونات الإنسان وزوايا ضميره وجوانحه ، فيحسب أنّه عرف الإنسان ، وقدّم له ما يصلحه ويعالج أمراضه الفردية والاجتماعيّة ، ولكن كالظمآن الذي يحسب السراب ماءً.

ولكن من ارتبط بالوحي ، وكان علمه من الله جلّ جلاله العالم بالخفايا والسرائر ، كالأنبياء وأوصيائهم ، فإنّهم في تربية الإنسان يصيبون الهدف ولم ينحرفوا عن الصواب والحقيقة ، لما يحملونه من العلم اللّدنّي المطابق للواقع.

ومن هذا المنطلق إنّما نذكر في هذه العجالة التي تدور مباحثها حول الصديق والصداقة بعض الأحاديث[1] الشريفة الواردة عن الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) لنقف بكلّ صدق وإخلاص على معالم الصداقة والأصدقاء ، فإنّ من نهج وسار على كتاب الله القرآن الكريم ، وسنّة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)ومنهاج الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فقد سعد في الدنيا والآخرة ، ونال شرف الإنسانية ، وتسلّق قمم الكمال ، وحلّق في آفاق الحياة الطيّبة والعيش الرغيد.

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ناصحاً ولده : « بُنيّ : الصديق

ثمّ الطريق » ، فمن أراد أن يسلك طريق الحياة بزاد وراحلة وأمان وسلامة ، لا بدّ له من الصديق الذي يكنّ لأخيه الصدق والصفاء والمحبّة والوفاء ، فيعينه في حلّ مشاكل الحياة ويرافقه في الضرّاء والسرّاء ، حاملا عنه أعباء المصاعب والمتاعب ، فإنّ الصداقة صناعة وفنّ ، يعني أن نتحلّى بالذوق السليم ، والفكر الصائب والقلب الحنون والضمير الواعي ، والأصدقاء الطيّبون كنوز وخزائن يجب البحث عنهم في أطراف الأرض ، حتّى لا يختلط الحجر بالجوهر : ( فسافر ففي الأسفار خمس فوائد : تفرّج همٍّ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد ) . ويلزم علينا أن نترجم الأخلاق الفاضلة في عالم الصداقة إلى واقع عملي ، فإنّ حسن المعاشرة والصداقة من العبادات ، وعليها تدور رحى الحضارات والمدنيّات والتقدّم والازدهار ، وإلاّ فحينما تنهار الاُسس الأخلاقية والمبادئ القيّمة في أيّ مجتمع ، فإنّه سرعان ما يسقط ويهوى إن عاجلا أو آجلا ، وسيعاني من أزمات خلقيّة واحدة تلو الاُخرى.

قال رسول (صلى الله عليه وآله) : « أبى الله عزّ وجل لصاحب الخلق السيّء بالتوبة ، فقيل له : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ فقال : إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه » ، وهذا يصدق في الجماعات والمجتمعات أيضاً . وأمّا حسن الخلق فبه يعمر البلاد.

كما قال الرسول الأكرم : « أكثر ما تلج به اُمّتي الجنّة : تقوى الله وحسن الخلق ، وهما يعمران البلاد ويزيدان في الأعمار ».

ولقد كانت دعوة الأنبياء هي إصلاح الناس وهدايتهم نحو الله ، وما فيه الخير والسعادة ، قال النبيّ الأعظم : « إنّما بُعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق » ، كما

إنّ روح العبادات والطقوس الدينية ، إنّما هي الإصلاح الأخلاقي ، فعندما تمدح امرأة عند الإمام الصادق (عليه السلام) بالصوم والصلاة يسأل (عليه السلام) عن كيفيّة معاملتها مع جيرانها ، فيذمّوها ، فيقول (عليه السلام) : « إذن لا خير في صلاتها وصيامها ».

ويقول الحديث الشريف : « كم من صائم ليس له من صومه إلاّ الجوع والعطش ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلاّ السهر والتعب » وكم من إنسان جرّه حسن خلقه إلى جنّات النعيم.

فلا بدّ لنا من حسن الخلق ، وعلينا أن ننتخب ونختار الصديق الجيّد ، فإنّ الجليس يؤثّر في طباع الإنسان ( لا تربط الجرباء حول صحيحة خوفي على الصحيحة أن تجرب ) ، ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إيّاكم ومجالسة الملوك وأبناء الدنيا ، ففي ذلك ذهاب دينكم ويعقبكم نفاقاً ، وذلك داء دويّ لا شفاء له ، ويورث قساوة القلب ويسلبكم الخشوع ، وعليكم بالأشكال من الناس والأوساط منهم فعندهم تجدون معادن الجواهر ».

ويقول لقمان الحكيم لولده : « يا بني ، صاحب العلماء واقرب منهم وجالسهم وزرهم في بيوتهم ، فلعلّك تشبههم فتكون معهم ، واجلس مع صلحائهم فربما أصابهم الله برحمة فتدخل فيها فيصيبك ، وإن كنت صالحاً فابعد من الأشرار والسفهاء فربما أصابهم الله بعذاب فيصيبك معهم »[2].

ويقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) : « المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخلل ».

ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) : « لا تواخِ أحداً حتّى تعرف موارده ومصادره ، فإذا استطبت الخبرة ورضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة والمواساة في العُسرة ».

وقال الله سبحانه : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ

الرَّحْمنِ نُقَيِّضُ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرينٌ )[3] ، ويقول سبحانه : ( وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنوا لَهُمْ ما بَيْنَ أيْديهمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ في اُمَم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الجِنِّ )[4] ، وما أروع هذه الآية الشريفة التي تبيّن مصير قرين السوء ومن يتركه في الدنيا ، فيقول على لسانه : ( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إنَّهُ كانَ لي قَرينٌ يَقولُ إنَّكَ لَمِنَ الصَّادِقينَ أإذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أإنَّا لَمَدينونَ قالَ هَلْ أنْتُمْ مُطَّلِعونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ في سَواءِ الجَحيمِ قالَ تاللهِ إنْ كِدْتَ لَتُرْدينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتَ مِنَ الُمحْضَرينَ )[5] ، ومثل هؤلاء الأصدقاء الذين يشكّكون بالمعاد وبمفاهيم الدين ومعالمه ليردوا بأصحابهم عاقبتهم سوء الجحيم ، وعلينا أن لا نخالطهم إلاّ من أجل هدايتهم وإصلاحهم.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « خياركم أحسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويؤلفون » ; فالإسلام يدعو إلى التحابب والتآلف والصداقة التي تبتنى على التقوى ، فإنّ الأخلاء كما قال الله تعالى : ( بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إلاّ المُتَّقينَ )[6].

وقال النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) : « إنّ المؤمن يسكن إلى أخيه ما يسكن الظمآن إلى الماء البارد ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « لكلّ شيء شيء يستريح إليه ، وإنّ المؤمن

يستريح إلى أخيه ما يستريح الطير إلى شكله ».

وودّ المؤمن للمؤمن من أفضل شعب الإيمان ، فلا بدّ من صديق وخليل مؤمن في الحياة ، بل الله سبحانه اتّخذ لنفسه خليلا ، حيث يقول سبحانه في كتابه الكريم : ( وَاتَّخَذَ اللهُ إبْراهيمَ خَليلا )[7].

ويقول الرسول الأكرم : « ما استفاد امرئ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في

الله ».

ويقول الأمير (عليه السلام) : « خير الإخوان من كانت في الله مودّته » ، « على التواخي في الله تخلص المحبّة » ، « إخوان الدين أقرب للمودّة » ، فالصداقة في الإسلام ليست من أجل المصالح الشخصيّة والدنيا الدنيّة ، وإنّما هي من أجل المبادئ الدينية ، والقيم الأخلاقية ، ونعيم الجنّة.

وعلينا أن نعاشر الناس خير معاشرة فيقول الأمير (عليه السلام) : « خالطوا الناس مخالطة إن عشتم معها حنّوا إليكم وإن متّم معها بكوا عليكم ».

ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : « أحبّكم إلى الله الذين يألفون ويؤلفون ، وأبغضكم إلى الله المشّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الإخوان ».

كلّ ذلك إيماء إلى المسلم بالحياة الجماعية والابتعاد عن العزلة المذمومة : ( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )[8].

ويقول الأمير (عليه السلام) : « لقاء الإخوان مغنم جسيم وإن قلّوا » ، « أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان ، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم » ، « المرء كثيرٌ بإخوانه ».

يقولون إنّ الموت صعبٌ على الفتى *** مفارقة الأحباب والله أصعب

* * *

تكثر من الإخوان ما استطعت إنّهم *** كنوز إذا ما استنجدوا وظهور

وليس كثيراً ألفُ خلٍّ وصاحب *** وإن عدوّاً واحداً لكثيرُ

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « أكثروا من الأصدقاء فإنّهم ينفعون في الدنيا والآخرة ، أمّا الدنيا فحوائج يقومون بها ، وأمّا الآخرة فأهل جهنّم قالوا : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ».

ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « ما أحدث عبد أخاً في الله إلاّ وأحدث الله له درجة

في الجنّة ».

ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) : « من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنّة ».

ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « من استفاد أخاً في الله على إيمان الله ووفاء بلقائه طالباً لمرضاة الله فقد استفاد شعاعاً من نور الله وأماناً من عذاب الله وحجّة يفلح بها ».

فالصديق والأخ في الله ، فيه فوائد جمّة في الدنيا والآخرة ، والاعتزال الممدوح ما كان عن القوم الفاسقين ، كما فعل إبراهيم الخليل وأصحاب الكهف ، ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « الوحدة خير من قرين السوء » ، ويقول (صلى الله عليه وآله) : « من كان يؤمن بالله واليوم الإخر فلا يجلس في مجلس يُسبُّ فيه إمام ويعاب فيه مسلم ، إنّ الله يقول : ( وَإذا رَأيْتَ الَّذينَ يَخوضونَ في آياتِنا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخوضوا في حَديث غَيْرِهِ فَإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمينَ )[9].

ويقول الأمير (عليه السلام) : « إيّاك ومصاحبة الفُسّاق ، فإنّ الشرّ بالشرّ يلحق » ، فالعاقل يأنس بذكر الله ويستوحش من الناس ومن مجتمع مضمحلّ ، ويسودها الرذالة والخباثة ، والمكر والحيلة ، والتكالب كالحيوانات الضارية.

وأمّا مع إخوان الثقة فيسعى إلى معاشرتهم ومرافقتهم بكلّ ما في وسعه[10] ، فإنّ الحياة تحلو مع إخوان الصفا والمحبّة ، ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « من لانت عريكته وجبت محبّته ، من خشنت عريكته أفقرت حاشيته » ، فليس بأخ من ضيّعت حقوقه » ، فعلى كلّ واحد أن يراعي حقوق الصداقة بكلّ اتّزان واعتدال ، بلا تفريط ولا إفراط ، كما جاء في الحديث الشريف : « أحبب

حبيبك هوناً ما ، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما ، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما ».

ثمّ الأصدقاء على نوعين ، كما صنّف ذلك أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ، فقال : « الإخوان صنفان : إخوان الثقة وإخوان المكاشرة ، فإخوان الثقة كالكفّ والجناح والأهل والمال ،: فإذا كنت في أخيك على ثقة ، فابذل له مالك ويدك ، وصافِ من صافاه وعادِ من عاداه واكتم سرّه ، وأظهر منه الحسن ، واعلم أنّهم أقلّ من الكبريت الأحمر ! وأمّا إخوان المكاشرة فإنّك تصيب منهم لذّتك ولا تقطعنّ ذلك منهم ولا تطلبنّ ما وراء ذلك من ضميرهم ، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان ».

والإمام الصادق (عليه السلام) يقسّم الأصدقاء إلى ثلاثة أقسام : « الإخوان ثلاثة : واحد كالغذاء الذي يحتاج إليه في كلّ وقت وهو العاقل ، والثاني في معنى الداء وهو الأحمق ، والثالث في معنى الدواء وهو اللبيب ».

وإذا أردت أن تعرف إخوانك ومن أيّ صنف هم فاختبرهم ، فيقول الأمير (عليه السلام) : « لا يعرف الناس إلاّ بالاختبار » ، و « لا تثق بالصديق قبل الخبرة » ، و « لا ترغبنّ في مودّة من لم تكتشفه » ، و « من قلّب الإخوان عرف جواهر الرجال » ، فتختبره بقلبك أوّلا : فهل تحبّه وتهواه ، فإنّ « الأرواح جنود مجنّدة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » . فالقلوب شواهد ، وجاء في الحديث الشريف : « إعرف المودّة لك في قلب أخيك بما له في قلبك » ، و « انظر قلبك

فإن أنكر صاحبك فإنّ أحدكما قد أحدث شيئاً » ، وثانياً : الاختبار بالمال ومقدار نصرته المالية عند احتياجك ، فقد جاء في الحديث الشريف : « ثلاثة لا تعرف إلاّ في ثلاثة : لا يعرف الحليم إلاّ عند الغضب ، ولا الشجاع إلاّ عند الحرب ، ولا الأخ إلاّ عند الحاجة » ، ومن أبرز الحاجات بذل الروح والمال ، فالأخ المواسي في الفاقة والحاجة هو الصديق حقّاً ، وقد ضرب أصحاب الإمام الحسين أروع مثال في معالم الصداقة والفداء وذلك ليلة عاشوراء حينما أيقنوا بالشهادة والموت فقالوا : « أبا عبد الله أكلتنا السباع أحياء إن فارقناك ، ووالله لو كانت الحياة باقية ، وما كان بعد الموت شيء ، لآثرنا الموت معك على الحياة مع هؤلاء ».

ثمّ الصديق المحبّ له علامات ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « صديق المحبّة في ثلاثة : يختار كلام حبيبه على كلام غيره ، ويختار مجالسة حبيبه على مجالسة غيره ، ويختار رضى حبيبه على رضى غيره » ، وعليك أن تمتحن صديقك في الشدائد كما تمتحن فيها ، وفي الحديث الشريف : « يمتحن الصديق في ثلاثة ، فإن كان مؤاتياً فيها فهو الصديق المصافي ، وإلاّ كان صديق رخاء لا صديق شدّة : تبتغي منه مالا أو تأمنه على مال أو مشاركة في مكروه » ، و « اختبر صديقك في مصيبتك ».

ويقول الأمير (عليه السلام) : « في الضيق يظهر حسن مواساة الصديق ».

ما أكثر الإخوان حين تعدّهم *** لكنّهم في النائبات قليلُ

ويقول (عليه السلام) : « لا تعدّنّ صديقاً من لم يواسِ بماله » ، كما من طرق

الاختبار : الإغضاب ، ففي الحديث الشريف : « إذا أردت أن تعلم صحّة ما عند أخيك فاغضبه فإن ثبت لك على المودّة فهو أخوك وإلاّ فلا » ، وفي آخر : « من غضب عليك من إخوانك ثلاث مرّات ولم يقل فيك مكروهاً فأعدّه ( أي ادّخره ) لنفسك » ، كما من عوامل الامتحان : السفر ، فقد جاء في الحديث الشريف : « لا تسمّي الرجل صديقاً حتّى تختبره بثلاثة خصال : حين تغضبه فتنظر غضبه أيخرجه من حقّ إلى باطل ؟ وحين تسافر معه ، وحتّى تختبره بالدينار والدرهم ».

ثمّ علينا أن نختار من بين الناس أصدقاء ، ومن بين الأصدقاء إخواناً تجتمع فيهم الصفات التالية :

العلم : فإنّه ورد في الحديث : « خذ العلم من أفواه الرجال » ، ويقول الأمير (عليه السلام) : « خير من صاحبت ذوو العلم والحلم » ، و « عجبت لمن يرغب في التكثّر من الأصحاب كيف لا يصحب العلماء » ، ويقول (عليه السلام) : « ينبغي للعاقل أن يكثر من صحبة العلماء والأبرار » ، وفي آخر : « اعلموا أنّ صحبة العالم واتبّاعه دين يدان به وطاعته مكسبة للحسنات ، ممحاة للسيّئات ، وذخيرة للمؤمنين ، ورفعة في حياتهم وفي مماتهم ، وجميل الاُحدوثة عند موتهم » ، وفي آخر : « من مشى إلى العالم خطوتين وجلس عنده لحظتين ، سمع منه مسألتين ، بنى الله له جنّتين ، كلّ جنّة أكبر من الدنيا مرّتين ».

ولقمان الحكيم ينصح ولده قائلا : « من يحالس العلماء يغنم » ، « يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإنّ القلوب لتحيا بالحكمة

كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر ».

وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : زيارة العلماء أحبّ إلى الله تعالى من سبعين طوافاً حول البيت ، وأفضل من سبعين حجّة وعمرة مبرورة مقبولة ، ورفع الله تعالى له سبعين درجة ، وأنزل الله عليه الرحمة ، وشهدت له الملائكة أنّ الجنّة وجبت له.

وقال (صلى الله عليه وآله) : ما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إلاّ ناداه ربّه عزّ وجلّ : جلست إلى حبيبي ، وعزّتي وجلالي لأسكنتك الجنّة معه ، ولا اُبالي.

وقال (صلى الله عليه وآله) : يا أبا ذرّ ، الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحبّ إلى الله من قيام ألف ليلة يصلّي في كلّ ليلة ألف ركعة ، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحبّ إلى الله من ألف غزوة ، وقراءة القرآن كلّه.

كما علينا أن نعاشر الحكماء ومن صقلته التجارب ، يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « سائلوا العلماء وخاطبوا الحكماء وجالسوا الفقراء ».

ويقول الأمير (عليه السلام) : « صاحب الحكماء وجالس العلماء وأعرض عن الدنيا » ، فالحكيم يهديك المشورة الصالحة والمفيدة في حياتك ، وهلك من لم يكن له حكيم يرشده ، فإنّ نصائح الحكيم تعدّ بمنزلة المشاعل الوهّاجة في دروب الحياة . كما علينا أن نصادق من كان عاقلا ، ففي الحديث الشريف : « عدوّ عاقل خير من صديق جاهل » ، فإنّ الجاهل الأحمق يريد أن ينفعك فيضرّك ، فيفسد عليك العمل وإن كان طيّب القلب ، وقد جاء في الحديث الشريف : « فساد الأخلاق معاشرة السفهاء ، وصلاح الأخلاق معاشرة العقلاء » ، وفي آخر : « لا تصحب إلاّ عاقلا تقيّاً ،

ولا تخالط إلاّ عالماً زكيّاً ، ولا تودع سرّك إلاّ مؤمناً وفيّاً » . والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ركّزوا على هذه العلامات : العاقل التقي والعالم الزكي والمؤمن الوفي ، وهدوا الناس إلى من يحسن معاشرته وحذّروهم عمّن يشين مصادقته ، فإنّ الصديق يؤثّر على قلب الإنسان ، ويقول الأمير (عليه السلام) : « عمارة القلوب في معاشرة ذوي العقول » ، ويقول (عليه السلام) : « من صاحب العقلاء وقر » ، وفي آخر : « معاشرة العقلاء تزيد في الشرف » ، كما علينا أن نعاشر من كان زاهداً في دنياه ويذكّرنا بعمله عوالم الآخرة ويشوّقنا إلى نعيم الجنّة ، ففي الحديث الشريف : « ليكن جلساؤك الأبرار وإخوانك الأتقياء والزهّاد ; لأنّ الله تعالى يقول في كتابه : ( الأخِلاّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إلاّ المُتَّقينَ ).

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « إحذر أن تواخي من أرادك لطمع أو خوف أو فشل أو أكل أو شرب ، واطلب مؤاخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض ، وإن أفنيت عمرك في طلبهم ، فإن الله عزّ وجلّ لم يخلق على وجه الأرض أفضل منهم بعد النبيّين ، وما أنعم الله على العبد بمثل ما أنعم به من التوفيق لصحبتهم » ، وفي حديث آخر : « إذا رأيتم الرجل قد اُعطي الزهد في الدنيا فاقتربوا منه فإنّه يلقي الحكمة » ، وفي آخر : « مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة ، ومجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح ، وآداب العلماء زيادة في العقل » فعلينا أن نبحث عن الأتقياء الزهّاد لنعاشرهم ونتكامل في مصادقتهم ومراودتهم ، وليس الزهد أن لا تملك شيئاً ،

بل أن لا يملكك شيء ، وقد جمع الزهد في هاتين الكلمتين : ( لِكَيْ لا تَأسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحوا بِما أتاكُمْ ).

وإذا كنت تبحث عن السعادة فقد جاء في الحديث الشريف : « أسعد الناس من خالط كرام الناس » ، وفي آخر : « من عاشر أهل الفضائل تنبّل » ، أي يكون نبيلا فاضلا ، وفي الحديث الشريف : « قارن أهل الخير تكن منهم ، وبائن أهل الشرّ تبن عنهم » ، وفي آخر : « عليك بإخوان الصدق فإنّهم زينة في الرخاء وعصمة في البلاء » ، وفي آخر : « أخوك من لا يخذلك عند الشدّة ، ولا يقعد عنك عند الجريرة ، ولا يخدعك حين تسأله » ، وفي آخر : « من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممّن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت اُخوّته ».

ويقول الإمام الكاظم (عليه السلام) : « إيّاك ومخالطة الناس والاُنس بهم ، إلاّ أن تجد منهم عاقلا ومأموناً فأنس به ، واهرب من سائرهم كهربك من السباع الضارية » . وفي الحديث النبويّ الشريف : « لا تجالسوا إلاّ عند من يدعوكم من خمس إلى خمس : من الشكّ إلى اليقين ، ومن الكبر إلى التواضع ، ومن العداوة إلى المحبّة ، ومن الرياء إلى الإخلاص ، ومن الرغبة في الدنيا إلى الزهد » ، وصديقك : « من إن سألته أعطاك ، وإن سكتّ عنه ابتداك » ، ففتّش عن الصديق الذي تجتمع فيه المكارم والفضائل لتسعد في الدارين ، فإنّ من سعادة المرء الصديق المؤمن الوفي.

---

[1]نقلت الأحاديث من كتاب «

الصداقة والأصدقاء » للسيّد هادي المدرّسي ، ونهجت في هذه الرسالة منهج كتابه ، وقد جاء معظم الروايات في كتاب « مصادقة الإخوان » للشيخ الصدوق عليه الرحمة ، وكتاب « كيف تكسب الأصدقاء » للسيّد الحيدري ، و « ميزان الحكمة » للشيخ ريشهري 5 : 292 _ 315 و 1 : 42 _ 64 باب الاُخوّة ، وبحار الأنوار 77 و 74 : 173 باب فضل الصديق وحدود الصداقة والصفحة 183 باب من ينبغي مجالسته ومصادقته ومصاحبته ، وكتاب « الصحبة » من كنز العمّال 9 : 3 و 273 ، وقد كتب علماء الغرب في هذا المضمار أيضاً ، منهم الكاتب الشهير ديل كارنجي وكتابه المعروف « كيف تكسب الأصدقاء » ، فراجع الروايات الشريفة ، وقد ذكرت كثيراً منها في هذه الرسالة لتقف على الحقيقة التي قالها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قبل أربعة عشر قرناً ، وحتّى ترى من هو أحقّ أن يتّبع ؟ ( أفَمَنْ يَهْدي إلى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهْدي إلاّ أنْ يُهْدى ) ( القرآن الكريم ، يونس : 35 )

[2]وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « صحبة الأشرار تكسب الشرّ كالريح إذا مرّت بالنتن حملت نتناً »

قال (عليه السلام) : « مصاحب الأشرار كراكب البحر إن سلم من الغرق لم يسلم من الفرق » ، و « إيّاك ومصاحبة الشرّير ، فإنّه كالسيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « اصحب من تتزيّن به ، ولا تصحب من يتزيّن بك ».

وقال الأمير (عليه السلام) : « أكثر الصواب والصلاح في صحبة اُولي النُهى والألباب » ، (

صاحب الحكماء وجالس الحلماء ، وأعرض عن الدنيا تسكن جنّة المأوى » ، « صاحب العقلاء وجالس العلماء واغلب الهوى ترافق الملأ الأعلى » ، « صحبة اللبيب حياة الروح » ، « عجبت لمن يرغب في التكثّر من الأصحاب كيف لا يصحب العلماء الألبّاء الأتقياء الذين يغنم فضائلهم وتهذّبه علومهم وتزيّنه صحبتهم » ، « من دعاك إلى الدار الباقية وأعانك على العمل فهو الصديق الشفيق ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « اُنظر كلّ من لا يفيدك منفعة في دينك فلا تعتدنّ به ولا ترغبنّ في صحبته ، فإنّ كلّ ما سوى الله تبارك وتعالى مضمحلّ وخيم عاقبته ».

وقال الأمير (عليه السلام) : « من لا يصحبك معيناً على نفسك فصحبته وبال عليك إن علمت ».

ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : « من لم تنتفع بدينه ودنياه فلا خير لك في مجالسته ، ومن لم يوجب لك فلا توجب له ولا كرامة » ، « احذر مصاحبة الفسّاق والفجّار والمجاهرين بمعاصي الله » ، « احذر من الناس ثلاثة : الخائن والظلوم والنمّام ، لأنّ من خان لك خانك ، ومن ظلم لك سيظلمك ، ومن نمّ إليك سينمّ عليك » ، « إذا سمعت أحداً يتناول أعراض الناس فاجتهد أن لا يعرفك فإنّ أشقى الأشخاص به معارفه » ، « لا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل الذي يرى لنفسه » ، « اتّقوا من تبغضه قلوبكم » ، « إيّاك ومعاشرة متتبّعي عيوب الناس فإنّه لم يسلم مصاحبهم منهم » ، « لا تصاحب همّازاً فتعدّ مرتاباً » ، « صديق الجاهل متعوب منكوب » ، «

عدوّ عاقل خيرٌ من صديق أحمق » ، « ألا كلّ خلّة كانت في الدنيا في غير الله عزّ وجلّ فإنّها تصير عداوة يوم القيامة » ، « توقّوا مصاحبة كلّ ضعيف الخير قويّ الشرّ خبيث النفس ، إذا خاف خنس وإذا أمن بطش » ، « إيّاك ومخالطة السفلة فإنّ مخالطة السفلة لا تودّي إلى خير » ، « إيّاك وصحبة من ألهاك وأغراك فإنّه يخذلك ويوبقك ».

قال الإمام السجّاد : « يا بني ، إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه ، فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاث مواضع » ، « إيّاك ومصاحبة الكذّاب ، فإن اضطررت إليه فلا تصدّقه ولا تعلمه أنت تكذّبه ، فإنّه ينتقل عن ودّك ولا ينتقل عن طبعه ».

راجع ميزان الحكمة 5 : 305.

[3]الزخرف : 36.

[4]فصّلت : 25.

[5]الصافّات : 53.

[6]الزخرف : 67.

[7]النساء : 125.

[8]الحمد : 4 _ 7.

[9]الأنعام : 68.

[10]عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : « الصديق أقرب الأقارب » ، « الصديق أفضل الذخرين » ، « من لا صديق له لا ذخر له » ، « الأصدقاء نفس واحدة في جسوم متفرّقة ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « لقد عظمت منزلة الصديق حتّى أهل النار ليستغيثون به ويدعون به في النار قبل القريب الحميم ، قال الله مخبراً عنهم : ( فَما لَنا مِنْ شافِعينَ وَلا صَديق حَميم ) ( ميزان الحكمة 5 : 296 ).

الفصل الأوّل - نماذج ممّن تضرّ معاشرتهم

لقد مرّ علينا في المقدّمة ضرورة الصديق في حياة الإنسان ، وذكرنا أبرز معالمه الحسنة من الأخلاق القيّمة ، وبعض حدود المعاشرة ، ومن تنفع مصادقته في الدارين . وإليك في هذا الفصل بعض النماذج من اُولئك الذين

تضرّ معاشرتهم ولا تنفع ، ثمّ نذكر أهمّ الحقوق التي يجب علينا أن نراعيها في عالم الصداقة.

فأمّا من لا تصحّ معاشرته ، ويوجب عزله إصلاحه ، أو سلامة المجتمع من التلوّث به ، فهم : الأحمق ، والبخيل ، والفاجر ، والكذّاب . فإنّ من أراد أن يكون صالحاً ، عليه أن يعاشر الصلحاء ، فإنّ الإنسان يكتسب ممّن يعيش معهم ، فعلينا أن نعرض عن الجاهلين . قال الله تعالى : ( وَإذا رَأيْتَ الَّذينَ يَخوضونَ في آياتِنا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخوضوا في حَديث غَيْرهُ )[1] ، ويقول سبحانه : ( يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقولُ يا لَيْتَني اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسولِ سَبيلا )[2] ، ( يا وَيْلَتي لَيْتَني لَمْ أتَّخِذْ فُلاناً خَليلا لَقَدْ أضَلَّني عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ أنْ جاءَني وَكانَ الشَّيْطانُ لِلإنْسانِ خَذولا ) ، ويقول سبحانه : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذَّينَ يَدْعونَ رَبَّهَمْ بِالغَداةِ وَالعَشِيِّ يُريدونَ وَجْهَهُ )[3].

ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « أحكم الناس من فرّ من جهّال الناس ».

وإنّ المرء يعرف بقرينه ، يقول الأمير (عليه السلام) : « من اشتبه عليكم أمره لم تعرفوا دينه فانظروا إلى خلطائه » ، ومن لم يجد الصديق العاقل الذي يجتمع فيه مواصفات الصديق حقاً ، فعليه أن يعتزل الجهّال والفسّاق ورجال السوء ، فإنّ « الوحدة خيرٌ من صديق السوء » ، ويقول الأمير (عليه السلام) ناصحاً ولده : « يا بني ، إيّاك ومصادقة الأحمق ، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « من لم يتجنّب مصادقة الأحمق يوشك أن يتخلّق بأخلاقه » ، ويقول (عليه السلام) : « إيّاك وصحبة الأحمق

فإنّه أقرب ما تكون منه أقرب ما يكون من مساءتك » ، وفي آخر : « إيّاك وصحبة الأحمق الكذّاب فإنّه يريد نفعك فيضرّك ويقرّب منك البعيد ، ويبعّد عنك القريب ، إن ائتمنته خانك ، وإن ائتمنك أهانك ، وإن حدّثك كذبك ، وأنت منه بمنزلة السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ».

ويقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) : « أربع يمتن القلب : الذنب على الذنب ، وكثرة مناقشة النساء ، ومماراة الأحمق ، ومجالسة الموتى . فقيل : وما الموتى يا رسول الله ؟ فقال : كلّ غنيّ مترف هذا ميّت الأحياء ».

ويقول الأمير (عليه السلام) : « العافية عشرة أجزاء ، تسعة منها في الصمت ، وواحد في ترك مجالسة السفهاء ».

وأمّا البخيل ، فقد قال الأمير (عليه السلام) : « إيّاك ومصادقة البخيل ، فإنّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه ».

والله سبحانه يقول : ( وَأمَّا مَنْ بَخَلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى وَما يُغْني عَنْهُ مالُهُ إذا تَرَدَّى )[4] ، وقال سبحانه : ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاُولئِكَ هُمُ المُفْلِحونَ )[5].

فالمفلح من طهّر نفسه من البخل ، ولقد سمع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) رجلا يقول : إنّ الشحيح أعذر من الظالم ، فالتفت إليه الإمام وقال : « كذبت ، إنّ الظالم قد يتوب ويستغفر ويردّ الظلامة على أهلها ، ولكنّ الشحيح إذا شحّ منع الزكاة والصدقة وصلة الرحم والنفقة في سبيل الله وإقراء الضيف وأبواب البرّ كلّها ، وحرام على الجنّة أن يدخلها الشاحّ ».

ويكفينا شاهداً قصّة ثعلبة بن حاطب ، حيث قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله)

: ادعُ الله أن يرزقني مالا ، والذي بعثك بالحقّ لإن رزقني الله مالا لاُعطينّ كلّ ذي حقٍّ حقّه ، فدعا له النبيّ ورزق مالا كثيراً ، ولمّا أرسل إليه النبيّ جباة الزكاة أنكر عليهم ذلك ، فنزلت الآية تصرّح بنفاقه إلى يوم القيامة في قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكونَنَّ مِنَ الصَّالِحينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخلوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضونَ فَأعْقَبَهُمُ نِفاقاً في قُلوبِهِمْ إلى يَوْمَ يَلْقَوْنَهَ بِما أخْلَفوا الله ما وَعَدوهُ وَبِما كانوا يَكْذِبونَ )[6].

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ثلاثٌ إذا كنّ في الرجل فلا تحرج أن تقول إنّه في جهنّم : الجفاء والجبن والبخل » ، ويقول (عليه السلام) : « خياركم سمحاؤكم وشراركم بخلاؤكم » ، وفي آخر : « البخل جامع لمساوئ العيوب ، وهو زمام يقاد به إلى كلّ سوء ».

ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « السخيّ قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنّة ، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار ».

وأمّا مصادقة الفاجر فيقول الأمير (عليه السلام) : « وإيّاك ومصادقة الفاجر فإنّه يبيعك بالتافه » ، فإنّ معاشرة الفجّار يمنعك عن مصاحبة الأبرار.

يقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يواخينّ كافراً ولا يخالطنّ فاجراً ، ومن آخى كافراً أو خالط فاجراً كان كافراً فاجراً ».

ويقول الأمير (عليه السلام) : « مجالسة الأشرار تورث سوء الظنّ بالأخيار ».

كما إنّ الفاجر يشين بصاحبه ، كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا تصحب الفاجر فيعلّمك من فجوره » ،

ولا يرى لك حرمة ، كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « خمس من خمس محال : النصيحة من الحاسد ، والشفقة من العدوّ ، والحرمة من الفاسق ، والوفاء من المرأة ، والهيبة من الفقير» . ويقول (عليه السلام) : « كان أبي يقول : قم بالحقّ ، ولا تعرض لما نابك ، واعتزل عمّا لا يعنيك ، وتجنّب عدوّك ، واحذر صديقك من الأقوام ، إلاّ الأمين الذي يخشى الله ، ولا تصحب الفاجر ولا تطلعه على سرّك ».

وقال الإمام السجّاد (عليه السلام) : « إيّاك ومصاحبة الفاسق فإنّه يبيعك بأقلّه وبأقلّ من ذلك ».

ويقول الإمام الجواد (عليه السلام) : « إيّاك ومصاحبة الشرّير ، فإنّه كالسيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا ينبغي للمسلم أن يواخي الفاجر ولا الأحمق ولا الكذّاب ».

وأمّا معاشرة الكذّاب ، فيقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « وإيّاك ومصادقة الكذّاب ، فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعّد عليك القريب ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ الكذّاب يهلك بالبيّنات ويهلك أتباعه بالشبهات ».

ويقول الأمير (عليه السلام) : « ليس لكذوب أمانة وصيانة » ، وفي آخر : « لا خير في الكذّابين ولا في العلماء الأفّاكين ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ الله عزّ وجلّ جعل للشرّ أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، وأكثر من الشراب الكذب ».

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إنّ لإبليس كحلا ولعوقاً وسعوطاً ، فكحله النعاس ولعوقه الكذب وسعوطه الكبر ».

وقال الإمام العسكري (عليه السلام) : « جعلت الخبائث في بيت ، وجعل مفتاحه الكذب ».

ويقول الإمام

الصادق (عليه السلام) : « كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إذا صعد المنبر قال : ينبغي للمسلم أن يتجنّب مواخاة ثلاثة : الماجن والأحمق والكذّاب ، أمّا الماجن : فيزيّن لك فعله ويحبّ أن تكون مثله ، ولا يعينك على أمر دينك ومعادك ومقارنته جفاء وقسوة ، ومدخله ومخرجه عليك عار ، وأمّا الأحمق : فإنّه لا يشير عليك بخير ، ولا يرجى لصرف السوء عنك ولو أجهد نفسه ، وربما أراد منفعتك فضرّك ، فموته خير من حياته ، وسكوته خير من نطقه ، وبعده خير من قربه ، وأمّا الكذّاب فإنّه لا يهنئك معه عيش ينقد حديثك وينقل إليك الحديث كلّما أفنى اُحدوثة ، مطّها باُخرى ، حتّى يحدّث بالصدق فما يصدّق ، ويغري بين الناس بالعداوة ، فينبت السخائم في الصدور ، فاتّقوا الله وانظروا لأنفسكم ».

وأمّا الحقوق الأوّلية في عالم الصادقة حيث يجب على كلّ مسلم أن يلتزم بها ويراعيها ولا يضيّعها.

إليك جملةً منها : مداراة الصديق . فقد جاء في الحديث الشريف : « مداراة الإخوان من العقل » ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « رأس العقل بعد الإيمان بالله عزّ وجلّ التحبّب إلى الناس » ، وفي آخر : « لا يكون الصديق صديقاً حتّى يحفظ أخاه في ثلاث : في غيبته ونكبته ووفاته » ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة من الله تعالى : أن يجلّه في عينه ، وأن يودّه في صدره ، وأن يواسيه في ماله ، وأن يحرم له في غيبته ، وأن يعوده في مرضه ، وأن يشيّع جنازته

، وأن لا يقول عنه بعد الموت إلاّ خيراً ».

ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « من خالطت فإن استطعت أن تكون يدك العليا عليه فافعل ».

ويقول الرسول الأكرم : « أجيبوا الداعي وعودوا المريض واقبلوا الهديّة ولا تظلموا المسلمين ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « عودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم وصلّوا معهم في مساجدهم حتّى ينقطع النفس وحتّى يكون المباينة ».

ويقول الإمام السجّاد في رسالة الحقوق : « وأمّا الصاحب فإن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلا ، وأن تكرمه كما يكرمك وتحفظه كما يحفظك ولا يسبقك فيما بينك وبينه إلى مكرمة ، فإن سبقك كافأته ، ولا تقصر به عمّا يستحقّ من المودّة ، تلزم نفسك نصيحته وحياطته ومعاضدته على طاعة ربّه ، ومعونته على نفسه فيما يهمّ به من معصية ربّه ، ثمّ تكون عليه رحمة ولا تكون عليه عذاباً » ، وجاء في الحديث الشريف : « إن كان أخوك عليك عاتباً فلا تفارقه حتّى تسل سخيمته » أي تنزع من قلبه الحقد والضغينة . يقول رسول الله : « حسن البشر يذهب بالسخيمة » ، وفي حديث شريف : « أحبب أخاك وأحبّ له ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لنفسك ، وإذا احتجت فسله ، وإذا سألك فاعطه ، ولا تدّخر عنه خيراً فإنّه لا يدّخره عنك ، وإن شهد فزره وأجلّه وأكرمه فإنّه منك وأنت منه » ، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « الصداقة محدودة فمن لم تكن فيه تلك الحدود فلا تنسبه إلى كمال الصداقة ، أوّلها : أن تكون سريرته وعلانيته واحدة ، والثانية : أن يرى زينك زينه وشينك شينه ، والثالثة

: أن لا يغيّره مال ولا ولد . والرابعة : أن لا يمسك شيئاً ممّا تصل إليه مقدرته . والخامسة : أن لا يسلمك عند النكبات ».

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « للمسلم على أخيه المسلم ثلاثون حقّاً ، لا براءة له منها إلاّ بأدائها أو العفو : يغفر زلّته ، ويرحم عبرته ، ويستر عورته ، ويقيل عثرته ، ويردّ غيبته ، ويقبل معذرته ، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلّته ، ويرعى دعوته ، ويشهد ميتته ، ويجيب دعوته ، ويقبل هديّته ، ويكافي صلته ، وأن يشكر نعمته ، ويحسن نصرته ، ويحفظ حليلته ، ويقضي حاجته ، ويستنجح مسألته ، ويسمّت عطسته ، ويرشد ضالّته ، ويردّ سلامه ، ويطيّب كلامه ، ويوالي وليّه ، ولا يعاديه ، وينصره ظالماً ومظلوماً ، ولا يسلمه ، ويحبّ له من الخير ما يحبّ لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه » ، ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « من حقّ المؤمن على أخيه المؤمن : أن يشبع جوعته ، ويواري عورته ، ويفرّج عن كربته ، ويقضي دينه ، فإذا مات خلفه في أهله وولده ».

وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : « من اغتاب مؤمناً بأمر هو فيه لم يجمع الله بينهما في الجنّة ، ومن اغتاب مؤمناً بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما ، وكان المغتاب في النار خالداً فيها وبئس المصير » ، وعن سليمان بن جابر قال : جئت إلى رسول الله فقلت له : علّمني خيراً ينفعني الله به يوم القيامة ، فقال رسول الله : « لا تحقّرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تصبّ

من دلوك في إناء المستسقي ، وأن تلقي أخاك ببشر حسن ، وإذا أدبر فلا تغتابه » ، ويقول رسول الله : « كذب من زعم أنّه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة » ، « الغيبة أشدّ من الزنا ، فقيل : وكيف يا رسول الله ؟ فقال : لأنّ الرجل يزني ثمّ يتوب فيتوب الله عليه ، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه » ، وجاء في الحديث النبويّ الشريف : « ما عُمّر مجلس بالغيبة إلاّ وخرب » ، وقال الله تعالى : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا اجْتَنِبوا كَثيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أيُحِبُّ أحَدُكُمْ أنْ يَأكُل لَحْمَ أخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُموهُ وَاتَّقوا اللهَ إنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحيمٌ )[7].

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « لا تضيّعنّ حقّ أخيك اتّكالا على ما بينك وبينه ، فإنّه ليس لك بأخ من ضيّعت حقّه ، ولا يكن أهلك أشقى الناس بك ، إقبل عذر أخيك ، وإن لم يكن له عذر فالتمس له عذراً ، لا يكلّف أحدكم أخاه الطلب إذا عرف حاجته ، لا ترغبنّ فيمن زهد فيك ، ولا تزهدنّ فيمن رغب فيك ، إذا كان للمحافظة موضعاً ، لا تكثرنّ العتاب ، فإنّه يورث الضغنة ويجرّ إلى البغضة ، وكثرته من سوء الأدب » ، وعلينا أن ننصح إخواننا بكلّ إخلاص ، فإنّه قال الأمير (عليه السلام) : « النصح يثمر المحبّة » ، « النصيحة من أخلاق الكرام ».

ثمّ لا يخفى أنّ لكلّ حقّ من الحقوق التي مرّت علينا شواهد كثيرة من الآيات والروايات

ذكرها يخرجنا عن إطار العجالة والخلاصة المقصودة في هذه الرسالة.

ففي حسن نصرة أخيك المؤمن ، يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « من ردّ عن عرض أخيه المؤمن وجبت له الجنّة » ، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ما من امرئ يخذل أخاه المؤمن وهو يقدر على نصرته إلاّ خذله الله » ، وجاء في الحديث الشريف : « إن نصرت أخاك كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام » ، ويقول الأمير (عليه السلام) : « شرّ الإخوان الخاذل » ، ويقول الرسول الأكرم : « من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة » ، ويقول الأمير (عليه السلام) : « في الشدّة تتبيّن مودّة الصديق » ، وفي الحديث الشريف : « من قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له حوائج كثيرة إحداها الجنّة ، ومن كسى أخاه المؤمن من عري كساه الله من سندس الجنّة واستبرقها وحريرها ولم يزل يخوض في رضوان الله ما دام على المكسوّ من ستره ، ومن سقى أخاه من ظمأ سقاه الله من رحيق مختوم ، ومن أخدم أخاه خادمه أخدمه الله من الولدان المخلّدين ، وأسكنه مع أوليائه الطاهرين ، ومن حمل أخاه المؤمن على رحلة في الطريق حمله الله على نوق الجنّة » . هذا كلّه بشرط النيّة الخالصة لله سبحانه : « ومن زوّج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشدّ عضده ويستريح إليها زوّجه الله من الحور العين ، ومن أعان أخاه على سلطان جائر أعانه الله على جواز الصراط عند مزلّة الأقدام » ، ويقول الرسول الأعظم : « المؤمنون إخوة يقضي بعضهم حوائج

بعض وأقضي حوائجهم يوم القيامة » ، وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : « إعلم أنّ لله تحت عرشه ظلالا سكينة ، لا يظلّ فيها إلاّ من أسدى إلى أخيه معروفاً ، أو نفّس عنه كربة ، أو أدخل على قلبه سروراً » ، ويقول الإمام الحسين (عليه السلام) : « إنّ حوائج الناس من نعم الله عليكم فلا تملّوا النِعَم » ، ثمّ هذه الحدود والحقوق لا تنحصر على الصديق بل تعمّ صديق الصديق ، فإنّ الأصدقاء ثلاثة كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « صديقك وصديق صديقك وعدوّ عدوّك ، وأعداؤك ثلاثة : عدوّك وصديق عدوّك وعدوّ صديقك » ، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « المؤمن أخو المؤمن لا يظلمه ولا يخذله ولا يغشّه ولا يغتابه ولا يخونه ولا يكذبه » ، ويقول الأمير (عليه السلام) : « كفى بك أدباً أن تكره لنفسك ما كرهته لغيرك » ، وأن تحبّ لغيرك ما تحبّه لنفسك ، فيا صاحبي الكريم ، ويا أخي العزيز : بالله عليك ، هل أدّيت حقوق الصداقة مع إخوانك وأصدقائك ؟

ولا تنتظر من صديقك أن يحمل هذه الصفات ، بل كن أنت الذي تحمل هذه الصفات له ، فكن له كما تريد أن يكون لك ، فإنّ من يزرع الجميل يحصد جميلا ، كمن يزرع الحنطة فإنّه يحصد الحنطة . والدنيا دار مكافاة ، وكما تعطي تأخذ ، وكما تتعامل مع الناس يتعاملون معك ، فلنبدأ بأنفسنا أوّلا ، ثمّ نسأل الله سبحانه التوفيق والتسديد ، وأن يجعلنا للمتّقين إماماً.

---

[1]الأنعام : 67.

[2]الفرقان : 27.

[3]الفرقان : 28.

[4]الليل : 8 _ 11.

[5]الحشر : 9.

[6]التوبة : 75.

[7]الحجرات :

12.

الفصل الثاني - كيفية كسب الأصدقاء ومودّتهم

كلام أهل بيت رسول الله (عليهم السلام) نورٌ يُضاء به درب السالكين والعارفين ، وأمرهم رشد ، ووصيّتهم التقوى ، وفعلهم الخير ، وعادتهم الإحسان ، وسجيّتهم الكرم ، وشأنهم الحقّ والصدق والرفق ، وقولهم حُكم وحتم ، ورأيهم علم وحلم وحزم ، فهم عدل القرآن الكريم لن يفترقا في كلّ شيء إلى يوم القيامة ، ففي بيوتهم نزل الكتاب ، وهم أدرى بما في البيت ، وبحقيقة الإنسان ، وما يصلحه وما يشينه ، ولم يتركوا شيئاً ، فما من صغيرة وكبيرة إلاّ في كتاب وإمام مبين.

وقد مرّ علينا بعض أحاديثهم الشريفة وأخبارهم المقدّسة ، حول أهمّ معالم الصداقة والأصدقاء ، وحقوقهم وحدودهم ، وضرورة الاُخوّة في حياة الإنسان ، وفي هذا القسم نتعرّض إلى كيفية كسب الأصدقاء ومودّتهم ، فإنّ كسب الأصدقاء فنّ لا يحسنه كلّ واحد ، فلا بدّ من استذواقه والتشوّق إليه أوّلا ، ثمّ التمرين المداوم عليه ، حتّى تكون ملكة في نفس الإنسان.

فأوّل ما يكسب الصديق هو الاحترام ، فلا يحقّ لشخص أن يحقّر الناس . فأمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول : « الناس : إمّا أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق » ، وفي الحديث الشريف : « لا تحقّروا المؤمنين فإنّ صغيرهم عند الله كبير » ، فاحترام الجميع هو الخطوة الاُولى لكسب الأصدقاء ، ثمّ لا تعظّم نفسك وتضخّم شخصيّتك أمامهم ، بل كما جاء في الحكمة : ( كن أحكم الناس إذا استطعت ، ولكن لا تقل للناس ذلك » ، ثمّ لا تبخس الناس أشيائهم ، قال الله تعالى : ( وَلا تَبْخَسوا النَّاسَ أشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدوا في الأرْضِ

بَعْدَ إصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ )[1] ، فلا بدّ من تكريم الصديق وتقديره والتواضع له وإعطاء حقّه ، واحبب لأخيك ما تحبّه لنفسك ، واكره له ما تكره لنفسك ، فإنّ هذا أدنى مراحل الصداقة ، وإلاّ فإنّ الصديق الوفيّ يضحّي بنفسه وأهله وماله ، من أجل حفظ مودّة الصديق وحرمة صداقته ، و ( كما تدين تدان ) . وفي الحديث الشريف : « ضع يدك على رأس من شئت ، وأحبب له ما تحبّ لنفسك » ، وامدح محاسن صديقك ، وافتح لسان الثناء على ألطافه ، واشكر خدماته أمام الآخرين . يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في رسالته إلى مالك الأشتر لمّا كان والياً على مصر : « وأخصّ أهل النجدة في أملهم إلى منتهى غاية آمالك من النصيحة بالبذل وحسن الثناء عليهم ، ولطيف التعهّد لهم رجلا رجلا ، وما اُبلي في كلّ مشهد ، فإنّ كثرة الذكر لحسن فعالهم تهزّ الشجاع وتحرّض الناكل » . ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) في وصف الأخ : « وإن رأى منك حسنة عدّها » . ويقول الإمام السجّاد (عليه السلام) : « إيّاك أن تعجب من نفسك ، وإيّاك أن تتكلّم بما يسبق القلوب إنكاره ، إنّ عليك أن تجعل المسلمين بمنزلة أهل بيتك ، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك ، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك ، وتجعل تربة بمنزلة أخيك ، فأيّ هؤلاء تظلم ؟ » . فلا أحد يظلم أباه وابنه وأخاه ولا من يحبّه.

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا يلقى المؤمن أحداً إلاّ قال : هو خيرٌ منّي وأتقى ، فإذا التقى الذي هو خيرٌ منه

تواضع له ليلحق به ، وإذا لقي الذي هو شرّ منه وأدنى قال : لعلّ شرّ هذا ظاهر وخيره باطن ، فإذا فعل ذلك علا وساد أهل زمانه » . وفي الحديث الشريف : « من غشّ أخاه وحقّره وناوأه جعل الله النار مأواه » ، وفي آخر : « إنّ الذي يستخفّ بدينه هو ذلك الذي يحقّر إخوانه ».

وكان النبيّ الأكرم يبسط رداءه لمن صاحبه ، وإذا صافحه أحد لا يسحب يده منه ، إلاّ إذا سحب الآخر يده ، ولم يلتفت إلى من يكلّمه بوجهه قطّ ، بل بكلّ مقاديم بدنه ، وإذا أشار إلى شخص أشار بكلّ كفّه لا بإصبعه ، وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته ، وكان يقسّم لحظاته ونظراته بين الناس بالسويّة ، وكان لا يدع أحد يمشي معه إذا كان راكباً حتّى يحمله معه ، وإذا لقي أحد من أصحابه قام معه ، ولا ينصرف عنه حتّى ينصرف الرجل منه ، وقد اُتي إليه بشيء من قبل أصحاب الصفة _ وهم مجموعة كانوا فقراء لا يملكون شيئاً يبيتون في المسجد ، وكان إذا حصل رسول الله على شيء قسمه بينهم بالتساوي _ فقسمه عليهم ولم يسعهم جميعاً فخصّ اُناساً منهم ، فخاف أن يكون دخل قلوب الآخرين شيء فخرج إليهم قائلا : « المعذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم يا أهل الصفّة ، إنّا اُوتينا بشيء فأردنا أن نقسمه بينكم فلم يسعكم فأعطيناه اُناساً منكم خشينا جزعهم وهلعهم » ، وبهذا بيّن لهم أنّ عدم عطائهم لم يكن بسبب نقص فيهم بل لأنّهم لا يجزعون ، وهكذا كان الرسول الأكرم يتعامل مع الناس ، ولنا في رسول

الله اُسوة حسنة ، فنحترم الآخرين لا سيّما الأصدقاء ، ونقدّر مشاعرهم وأحاسيسهم ، نمدح فضائلهم ومحاسنهم ، ونشكر خدماتهم ، ففي الحديث الشريف : « من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق » ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « يؤتى بعبد يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عزّ وجلّ فيؤمر به إلى النار ، فيقول : أي ربِّ ، أمرت بي إلى النار وقد قرأت

القرآن ؟ فيقول الله عزّ وجلّ : أي عبدي ، إنّي أنعمت عليك ولم تشكر نعمتي ، فيقول العبد : أي ربّ ، أنعمت عليّ بكذا فشكرتك بكذا وأنعمت عليَّ بكذا فشكرتك بكذا ، فلا يزال يحصي النعم ويعدّد الشكر ، فيقول الله تعالى : صدقت عبدي ، إلاّ أ نّك لم تشكر من اجريت لك نعمتي على يديه ، وإنّي آليت على نفسي أن لا أقبل شكر عبد لنعمة أنعمتها عليه حتّى يشكر من ساقها من خلقي إليه » . ويقول أمير المؤمنين لمالك الأشتر لمّا ولاّه مصر : « ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء » ، فمن لم يشكر الآخرين فإنّه يدلّ على جهله وأنانيّته وحبّه لذاته ، وكلّ واحد يحبّ أن يذكر ويشار إليه ، فإنّ ذلك من غرائز الإنسان ، فلماذا لا ننشر الفضيلة ونذكرها مادحين أصحابها والمتحلّين بها ؟ ! ومن يقدّر جهود الآخرين يملك قلوبهم ، ويقول رسول الله : « خير إخوانك من ذكر إحسانك إليك » ، إلاّ أنّه بلا إفراط ولا تفريط ، بل كلّ على حسب ما عنده ، وبمقدار ما يستحقّ ، فإنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول : « الثناء بأكثر

من الاستحقاق ملق ، والتقصير عن الاستحقاق عيّ وحسد » ، فالمطلوب هو التقدير ، لا التملّق وحلاوة اللسان بنفاق ، ومن قصّر ، فإنّ ذلك إمّا من عجزه وعيّه أو من حسده ، وعلينا أن نشجّع الآخرين على العمل بالتشويق والمدح المعقول والثناء الممدوح ، فكثير من العظماء والعباقرة إنّما تسلّقوا سلّم التكامل والشهرة من مدح مادح ، وثناء مثنّي ، في بداية حياتهم الاجتماعية . فالتشجيع المناسب ينمّي المواهب ، فالاحترام وتقدير عواطف الأصدقاء من الكلمة الطيّبة ، وقال الله سبحانه : ( مَثَلُ كَلِمَة طَيِّبَة كَشَجَرَة طَيِّبَة أصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها في السَّماءِ تُؤْتي اُكُلَها كُلّ حين بِإذْنِ رَبِّها )[2] ، وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) يمدح أصحابه قائلا : « أنتم الأنصار على الحقّ ، والإخوان في الدين ،

والجنن ( الوقاية ) يوم البأس ، والبطانة دون الناس ، بكم أضرب المدبر ، وأرجو طاعة المقبل ، فأعينوني بمناصحة خالية من الغشّ ، سليمة من الريب ، فوالله إنّي لأولى الناس بالناس » ، فعلينا أن نخلص في مدح الإخوان ، وإلاّ فقد قال الإمام العسكري (عليه السلام) : « بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين ، يُطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً ، إذا اُعطي حسده ، وإذا ابتلي خذله ».

ثمّ علينا أن نتعلّم فنّ الإصغاء لكلام الآخرين ، فإنّه من العوامل المهمّة لكسب الأصدقاء ، فكثير منّا يملك فنّ الخطابة ، ويفقد فنّ الإصغاء والاستماع للآخرين ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من تحدّث في كلام أخيه فكأ نّما شرخ وجهه » ، وفي آخر : « من المروءة أن ينصت الأخ لأخيه إذا

حدّثه ، وحسن المماشاة أن يقف الأخ لأخيه إذا انقطع شسع نعله » ، وبمثل هذه الأخلاق الطيّبة تشتدّ أواصر الصداقة ، وقد مدح الله اُناساً ( الَّذينَ يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعونَ أحْسَنَهُ )[3] . وأمرنا أن نستمع للقرآن : ( وَإذا قُريءَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعوا لَهُ وَأنْصِتوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمونَ )[4] ، فكثير من اُولئك الناجحين في حياتهم الاجتماعية كان بسبب حسن الإصغاء لحديث الآخرين ، وفي بعض المواقف أفضل سلاح لمن يشتمك أن تنصت إليه ، ثمّ تغضّ عنه ، كما قال الله سبحانه : ( وَإذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) ، ويقول الشاعر :

لو كلّ كلب عوى ألقمته حجراً *** لأصبح الصخر مثقالا بدينارِ

وأكثر الناس يذهبون إلى الطبيب لا ليفحصهم ، وإنّما ليستمع إليهم ، ومن يتكلّم عن نفسه دوماً فإنّه يصغر في أعين الناس ، ففنّ الإصغاء هو نصف المحادثة والحوار ، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ممّا يستدلّ به على إصابة الرأي حسن اللقاء وحسن الاستماع » ، وقال (عليه السلام) : « من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع ، والمعارضة قبل أن يفهم ، والحكم بما لا يعلم » ، « وإذا كان الكلام من فضّة ، فإنّ السكوت من ذهب » . ويقول الإمام الكاظم (عليه السلام) : « لكلّ شيء دليل ، ودليل العاقل التفكّر ، ودليل التفكّر الصمت » ، ثمّ الإصغاء مهارة عقلية يمكن تنميتها بالتدريب العملي ، وإذا كنّا من اُولئك الذين لا يحسنون الإصغاء فسرعان ما ينفذ صبرنا ، ومن ثمّ تضيع الفكرة والموضوع المستهدف من الكلام والخطاب ، فنخسر الصفقة في عالم الصداقة والاُلفة والعمل.

ومن أهمّ العوامل الناجحة في كسب الأصدقاء

: ترك مجادلتهم في النقاش ، فإنّ الجدال جذوره من حبّ الذات والأنانيّة الممقوتة والشيطانية ، وعلينا أن يكون النقاش في جوّ هادئ معطّر بالمحبّة والصفاء والوصول إلى الصواب والحقّ ، لا فرض الرأي وإن كان مخطئ على الآخرين ، فإن الله أدّب نبيّه أن يجادل الكفّار ولكن ( وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أحْسَنُ فَإذا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأ نَّهُ وَليٌّ حَميمٌ )[5] ، واحسم الجدال بتركه ففي الحديث النبويّ الشريف : « لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى يترك المراء وإن كان محقّاً » ، وفي آخر : « من ترك المراء وهو محقّ يبني له بيت في أعلى الجنّة ، ومن ترك المراء وهو مبطل يبني له بيت في ربض الجنّة » ، ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) : « لا تمارينّ حليماً ولا سفيهاً ، فإنّ الحليم يقنيك ، والسفيه يؤذيك » ، فالحليم يترك من كان مجادلا ، والسفيه يحاول أن ينتقم . وفي الحديث الشريف : « إيّاكم والخصومة فإنّها تشغل القلب وتورث النفاق وتكسب الضغائن » . وقال الأمير (عليه السلام) : « إيّاكم والمراء والخصومة ، فإنّهما يمرضان القلوب على الإخوان وينبت عليهما النفاق » ، « إيّاك والمراء ، فإنّك تغري بنفسك السفهاء » ، « لا تماري فيذهب بهاؤك » . وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إن أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينّه ولا تباهينّه ولا تشادّنّه » . ويقول الإمام الهادي (عليه السلام) : « المراء يفسد الصداقة القديمة ويحلّل العقدة الوثيقة ، وأقلّ ما فيه أن تكون فيه المغالبة ، والمغالبة اُسّ أسباب القطيعة » . والجدال السليم

ما كان المقصود منه الحقّ ، وبلا إهانة الطرف الآخر ، ولا بذائة في الحوار ، وإثبات ما نؤمن بصحّته من دون تمزيق آراء الآخرين ، فإنّ من أثبت أنّ لبنه حلو ، فإنّه يغنيه عن أن يثبت أن لبن الآخرين حامض ، فإنّ من يذوق لبنه ينجذب إليه لا محالة بالفطرة والطبيعة.

ومن أجل كسب الأصدقاء علينا أن نترك اللوم والعتاب فيما يمكن الإغماض عنه ، فإنّ من كان عسلا في أخلاقه يستذوقه الجميع ، وأمّا من كان حنظلا ومرّاً في سلوكيّاته وحالاته ، فمن الصعب أن يلتفّ حوله الناس ، بل نكون مع الصديق كالمرآة[6] ، فإنّها كما تحكي حسن المشاهد فيها كذلك تذكر عيون المتطلّع إليها إلاّ أنّها لا تصغر المعيب حتّى لا يبالي بإزالته ويصاب بعقدة اللامبالاة ، ولا تكبّره وتضخّمه حتّى ييأس من إصلاحه ويصاب بعقدة الحقارة ، بل بنفس الحجم والمقدار ، يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « عاتب أخاك بالإحسان إليه واربط شرّه بالإنعام عليه » ، وفي آخر : « احتمل أخاك على ما فيه ، ولا تكثر العتاب فإنّه يورث الضغينة » ، و « من عاتب أخاه على كلّ ذنب كثر عدوّه » ، ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « العتاب مفتاح التقالي » أي التباغض والتشاحن ، بل علينا أن نقبل عذر الصديق ، علينا أن نلتمس له عذراً إن لم يكن له ما يبرّر خطأه . ففي الحديث الشريف : « اقبل عذر أخيك وإن لم يكن له عذر فالتمس له عذراً » ، وفي آخر : « لا يعتذر إليك أحد إلاّ قبلت عذره وإن علمت أنّه كاذب » ،

فما أروع هذا المنطق الذي يشعّ منه المحبّة والصفاء والاُخوّة والتنازل من أجل خلق الأجواء المريحة التي يحسّ الإنسان فيها بالسعادة ، ويقول الشاعر بشأن اللوم والعتاب :

إنّي ليهجرني الصديق تجنّباً *** فأراه أنّ لهجره أسبابا

وأراه إن عاتبته أغريته *** فأرى له ترك العتاب عتابا

وإذا ابتليت بجاهل متحلّم *** يجد المحال في الاُمور صوابا

أوليته منّي السكوت وربما *** كان السكوت على الجواب جوابا

فالصمت وترك العتاب أفضل طريقة للعتاب والردّ على الكلام المزيّف في حقّك ، فكن في حياتك كالزهرة والوردة ، يعطّ منها الطيب والروح ويشتاق إليها الجميع ، وعلينا أن نعالج أخطاء الآخرين كما يعالج الطبيب مريضه بكلّ شفقة وحنان ، وعلينا أن نبدأ بأنفسنا بإصلاح العيوب والأخطاء التي تصدر منّا ، ففي الحديث الشريف : « كفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عن نفسه ، وأن يعيّر الناس بما لا يستطيع تركه ، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه » ، « طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس » ، « من نظر عيب نفسه انشغل عن عيب غيره » . ويقول الإمام السجّاد (عليه السلام) : « وإنّك لعلى يقين من ذنبك وفي شكّ من ذنوب غيرك » . ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « معرفة المرء بعيوبه أنفع المعارف » . وفي الحديث الشريف : « استقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك » . وقال الأمير (عليه السلام) : « إذا تمّت همّتك لإخلاص الناس فابدأ بنفسك ، فإنّ تعاطيك صلاح غيرك وأنت فاسد أكبر العيوب » ، وحذاري أن نكون مصداقاً للآية الكريمة : ( وَإذا قيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ

فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصيرِ )[7] . وإذا كنت خاطئاً في شيء فلا بدّ من الاعتراف به ، فإنّ الاعتراف بالخطأ فضيلة ، وعلينا أن نكون في حياتنا إيجابيين ، ننظر إلى ما حولنا من خلال رؤية سليمة ومنصفة ، ونقيم العلاقات الاجتماعية مع الناس والأصدقاء على الطيب وحسن الظنّ ، يقول الأمير (عليه السلام) : « أعقل الناس من كان بعيبه بصيراً وعن عيوب غيره ضريراً » ، وفي آخر : « تتبّع العورات من أعظم السوءات » . ويقول الرسول الأكرم : « من تتبّع عثرات أخيه تتبّع الله عثراته » . وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : « أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يواخي أخاه فيفحص عليه عثراته وزلاّته ليعنّفه بها يوماً ما » ، بل علينا أن نحسن الظنّ مع إخوتنا وأصدقائنا ، ففي الحديث الشريف : « إحمل فعل أخيك المؤمن على سبعين محملا من الصحّة » ، وفي آخر : « كذّب سمعك وبصرك سبعين مرّة » ، و « كذّب سمعك وبصرك وصدّق أخاك » ، أو تدري من يحبّ أن ينشر عيوب الآخرين ؟ ففي الحديث الشريف : « ذوو العيوب يحبّون إشاعة معايب الناس ليشعّ القذر في معايبهم » . ويقول الأمير (عليه السلام) : « من تتبّع خفيات العيوب حرمه الله مودّات القلوب » ، وفي الحديث الشريف : « ليكن أبغض الناس إليك وأبعدهم أطلبهم لمعايب الناس » ، وكان موسى بن عمران نبيّ الله يشتكي إلى الله تعالى معاصي العباد ، فأوحى الله إليه ذات مرّة : ( أن يا موسى حبّب إليَّ عبادي

وحبّبني إليهم » . وعلينا أن لا نجرح مشاعر

وكبرياء الأصدقاء إذا ارتكبوا الخطأ ، بل بكلّ حكمة وقول سديد ، نذكره للإصلاح ، فإذا رأينا الخطأ منه فمن الأفضل أن يقال له : وهناك رأي آخر ، وربما أكون مخطئاً فيه ، فحبذا أن نصحّح الإخطاء ونختبر الحقائق ، وبهذا تكسب ودّ صديقك ، وسرعان ما ينصاع إلى الحقّ ، ويذعن إلى الحقيقة من دون أن تأخذه العزّة بالإثم ، والقرآن الكريم يعلّمنا إلى مثل هذا الحوار المنصف ويؤدّب رسوله الأكرم في حديثه مع الكفّار _ فكيف مع الأصدقاء _ في قوله تعالى : ( وَإنَّا وَإيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أوْ في ضَلال مُبين )[8] . ويقول الأمير (عليه السلام) : « يا عبد الله ، لا تعجل في عيب أحد بذنب فلعلّه مغفور له ، ولا تأمن على نفسك صغيرة معصية فلعلّك معذّب عليه » ، « ليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه ، وليكن الشكر شاغلا له على معافاته عمّا ابتلي به » . وعلينا أن نشكر ونحترم من يهدي إلينا عيوبنا ، ففي الحديث الشريف : « أحبّ الإخوان إليّ من أهدى إليَّ عيوبي » ، وفي آخر : « ليكن أحبّ الناس إليك من هداك إلى مراشدك وكشف لك عن معايبك » ، وفي آخر : « من كاشف في عيبك حفظك في غيبك » ، « ومن داهنك في عيبك عابك في غيبك » . ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « وإنّما سُمّي الصديق صديقاً لأنّه يصدقك في نفسك ومعايبك ، فمن فعل ذلك فاستلم إليه ، وإنّما سُمّي العدوّ عدوّاً لأنّه يعود عليك ويتجاوزك ، فمن داهنك في معايبك فهو

العدوّ العادي عليك » ، وقال الله تعالى : ( وَقُلْ لِعِبادي يَقولوا الَّتي هِيَ أحْسَنُ إنَّ الشَّيطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيطانَ كانَ لِلإنْسانِ عَدُوَّاً مُبيناً )[9].

وهناك ما يفسد الصداقة ، فعلى من أراد أن يكسب الأصدقاء ، وتبقى العلاقة

الحميمة معهم ، أن يتجنّب ما تفسد عليه روح الاُخوّة وتهدّم أركان الصداقة ، قال الإمام الكاظم (عليه السلام) : « لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك ، وابقِ منها ، فإنّ ذهابها ذهاب الحياء » . وقال الأمير (عليه السلام) : « إذا احتشم الرجل أخاه فقد فارقه » . وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إن أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينّه ولا تباهينّه ولا تشارّنّه » . وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من أطاع الواشي ضيّع الصديق » ، وفي آخر : « حسد الصديق من سقم المودّة » . ومن وصاياه (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفيّة : « إيّاك والعجب وسوء الخلق وقلّة الصبر ، فإنّه لا تستقيم لك على هذه الخصال الثلاث صاحب ، ولا يزال لك عليها من الناس مجانب » ، و « لا يغلبنّ عليك سوء الظنّ فإنّه لا يدع بينك وبين صديق صفحاً » . وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « الاستقصاء فرقة ، الانتقاد عداوة » ، وفي آخر : « لا يطمعنّ الخبّ في كثرة الصديق » . وقال الأمير (عليه السلام) : « من استقصى على صديقه انقطعت مودّته » ، وفي آخر : « من ناقش الإخوان قلّ صديقه » . وقال الإمام العسكري (عليه السلام) : « من كان الورع سجيّته ،

والكرم طبيعته ، والحلم خلّته ، كثر صديقه ، والثناء عليه ، وانتصر من أعدائه بحسن الثناء فيه » . ومن الواضح تعرف الأشياء بأضدادها ، فمن لم يكن ورعاًولا كريماً ولا حليماً فإنّه يقلّ أصدقائه ، وقال الأمير (عليه السلام) : « من لانت عريكته وجبت محبّته ، من لان عوده كثفت أغصانه ».

وأخيراً وليس بآخر : جاء في مواعظ[10] الإمام السجّاد علي بن الحسين (عليه السلام)للزهري ، وقد رآه حزيناً ممّا رأى من جهة الحسّاد ومن أحسن إليه : « أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك ، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك ، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك ، وتجعل تربك بمنزلة أخيك ، فأيّ هؤلاء تحبّ أن تظلم ؟ ! وإن عرض لك إبليس لعنه الله ، أنّ لك فضلا على أحد من أهل القبلة ، فانظر إن كان أكبر منك فقل قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خيرٌ منّي ، وإن كان أصغر منك فقل قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير منّي ، وإن كان تربك فقل : أنا على يقين من ذنبي وفي شكّ من أمره ، فما أدع يقيني لشكّي ، وإن رأيت المسلمين يعظمّونك ويوقّرونك ويبجّلونك فقل : هذا فضل أخذوا به ، وإن رأيت منهم جفاء وانقباضاً عنك ، فقل هذا لذنب أحدثته _ ومعنى ذلك أ نّك دوماً تسيء الظنّ بنفسك وتحسن الظنّ بالآخرين _ فإنّك إن فعلت ذلك سهّل الله عليك عيشك ، وكثر أصدقاؤك ، وقلّ أعداؤك ».

ولا يخفى أنّ أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ينابيع العلوم ومناهل الفضائل ، فهم عدل القرآن الكريم ، والثقل الثاني الذي خلّفه رسول الله ، ما

إن تمسّك الإنسان بهما لن يضلّ أبداً ، وكما أنّ للقرآن وجوه وبطون ومناهل عذبة ، يرتوي منه كلّ ظمآن ، في أيّ علم من العلوم ، وأدب من الآداب ، وفنّ من الفنون ، كذلك الأخبار الواردة عن الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار ، الأئمة المعصومين الأبرار (عليهم السلام) ، فيمكن للقارئ النبيل أن يستخرج من حديث شريف عشرات اللالي والجواهر ، ويستضيء بنوره ، ويشعل مئات المشاعل الوهّاجة ، لتنير دروب البشرية ، وتسوق الناس إلى شاطئ السعادة الأبديّة ، فارجع البصر كرّة اُخرى لتقف على الحقيقة ، ودمت موفّقاً ومسدّداً.

---

[1]الأعراف : 85 .

[2]إبراهيم : 24.

[3]الزمر : 18.

[4]الأعراف : 204.

[5]فصّلت : 34.

[6]لقد ورد في الخبر النبويّ الشريف : « المؤمن مرآة المؤمن » ، وقد ذكرت 55 معنى لهذا الحديث الشريف ، وطبع في مجلّة ( نور الإسلام ) البيروتية ومجلّة ( الكوثر ) المطبوعة بقم ، العدد الثاني ، فراجع.

[7]البقرة : 206.

[8]سبأ : 24.

[9]الإسراء : 53.

[10]مرّ هذا الحديث الشريف إجمالا ، فأعدناه للتفصيل وللتركيز.

الفصل الثالث - أفضل صاحب وأكمل صديق

أليس الإنسان العاقل يبحث دائماً في كلّ شيء عمّا هو الأجود والأحسن والأضل والأرقى ؟

فهذه مسألة فطريّة يقرّ ويعترف بها كلّ واحد من ذوي الألباب والنهى ، وفي عالم الصحبة والصداقة ، لا بدّ أن نبحث أيضاً عن أفضل صاحب ، وأكمل صديق ، وخير الإخوان.

فقيل للنبيّ الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) : أيّ الأصحاب أفضل ؟ قال : إذا ذكرت أعانك ، وإذا نسيت ذكّرك ».

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « المعين على الطاعة خير الأصحاب » . وفي الحديث النبويّ الشريف : « خير الأصحاب من قلّ شقاقه وكثر وفاقه » . و

« إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له وزيراً صالحاً ، إن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه » . وقال الأمير (عليه السلام) في غرر حكمه : خير الإخوان : أقلّهم مصانعة في النصيحة ، من عنّفك في طاعة الله سبحانه ، من واساك ، وخير منه من كفاك ، من إذا احتجت إليه كفاك ، وإذا احتاج إليك أعفاك ، من واساك بخيره ، وخير منه من أغناك عن غيره ، من كانت في الله مودّته ، ومن لم تكن على الدنيا اُخوّته ، من إذا فقدته لم تحبّ البقاء بعده ، من سارع إلى الخير وجذبك إليه وأمرك بالبرّ وأعانك عليه ، من دعاك إلى صدق المقال بصدق مقاله ، وندبك إلى أفضل الأعمال بحسن أعماله ، من أعانك على طاعة الله وصدّك عن معاصيه وأمرك برضاه ، من دلّك على هدىً وأكسبك تقىً وصدّك عن اتّباع الهوى ، المساعد على أعمال الآخرة ، من أعان على المكارم ، من لم يكن على اخوّته مستقصياً ، من كثر إغضابه لك في الحقّ ، من لا يحوج إخوانه إلى سواه ، من أهدى إليكم عيوبكم.

وما أروع ما يقوله الإمام الحسن (عليه السلام) في وصف الأخ ، فقال (عليه السلام) : أ يّها الناس ، إنّما اُخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه ، كان خارجاً من سلطان بطنه ، فلا يشتهي ما لا يجد ، ولا يكثر إذا وجد ، كان خارجاً من سلطان فرجه ، فلا يستخفّ له عقله ولا رأيه ، كان خارجاً من سلطان الجهالة ، فلا

يمدّ يده إلاّ على ثقة لمنفعة ، كان لا يتشهّى ولا يتسخّط ولا يتبرّم ، كان أكثر دهره صمّاتاً ، فإذا قال بذّ القائلين ، كان لا يدخل في مراء ولا يشارك في دعوى ، ولا يدلي بحجّة حتّى يرى قاضياً ، وكان لا يغفل عن إخوانه ، ولا يخصّ نفسه بشيء دونهم ، كان ضعيفاً مستضعفاً فإذا جاء الجدّ ، كان ليثاً عادياً . كان لا يلوم أحداً فيما يقع العذر في مثله ، حتّى يرى اعتذاراً ، كان يفعل ما يقول ويفعل ما لا يقول ، كان إذا ابتزّه أمران لا يدري أ يّهما أفضل ، نظر إلى الهوى فخالفه ، وكان لا يشكو وجعاً إلاّ عند من يرجو عنده البرء ، ولا يستشير إلاّ من يرجو عنده النصيحة ، كان لا يتبرّم ، ولا يتسخّط ، ولا يتشكّى ، ولا يتشهّى ، ولا ينتقم ، ولا يغفل عن العدوّ ، فعليكم بمثل هذه الأخلاق الكريمة إن أطقتموها ، فإن لم تطيقوها كلّها ، فأخذ القليل خيرٌ من ترك الكثير ».

وهذا يعني أنّه نحاول في كسب الفضائل والمكارم أوّلا ، كما نبحث مهما أمكن عن الأخ والصديق الذي تجتمع فيه هذه الصفات أو بعضها ، وإلاّ فإنّ الأصدقاء طبقات كما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ الذين تراهم لك أصدقاء إذا بلوتهم وجدتهم على طبقات شتّى ، فمنهم كالأسد في عظم الأكل وشدّة الصولة ، ومنهم كالذئب في المضرّة ، ومنهم كالكلب في البصبصة ، ومنهم كالثعلب في الروغان والسرقة ، صورهم مختلفة والحرفة واحدة ، ما تصنع غداً إذا تركت فرداً وحيداً ، لا أهل لك ولا ولد ، إلاّ

الله ربّ العالمين ».

ويقول (عليه السلام) : « إذا كان الزمان زمان جور ، وأهله أهل غدر ، فالطمأنينة إلى كلّ أحد عجز » ، وفي حديث : « الطمأنينة إلى كلّ أحد قبل الاختبار عجز » ، و « لا تثق بالصديق قبل الخبرة ».

ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « تجنّب عدوّك واحذر صديقك من الأقوام ، إلاّ الأمين من خشي الله ».

ويقول الأمير (عليه السلام) : « إبذل لصديقك كلّ مودّة ، ولا تبذل له كلّ الطمأنينة ، وأعطه من نفسك كلّ المواساة ، ولا تفضي إليه بكلّ أسرارك » . وقال (عليه السلام) : « لا يعرف الناس إلاّ بالاختبار ، فاختبر أهلك وولدك في غيبتك ، وصديقك في مصيبتك ، وذا القرابة عند فراقك ، وذا التودّد والملق عند عطلتك ، لتعلم بذلك منزلتك عندهم » ، وقال (عليه السلام) : « قدّم الاختيار وأجدّ الاستظهار في اختيار الإخوان ، وإلاّ ألجأك الاضطرار إلى مقارنة الأشرار ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « اختبروا إخوانكم بخصلتين ، فإن كانتا فيهم وإلاّ فاعزب ثمّ اعزب : المحافظة على الصلوات في مواقيتها ، والبرّ بالإخوان في العسر واليسر ».

وقال الرسول الأكرم : « إذا رأيت من أخيك ثلاث خصال فارجه : الحياء والأمانة والصدق ، وإذا لم ترها فلا ترجه ».

أجل علينا أن نبحث عن الأخ الكامل والصديق الوفي ، ولكن لا يعني هذا العزلة عن الناس إذا لم نجدهم ، فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول : « من لم يواخِ إلاّ من لا عيب فيه قلّ صديقه » ، و « لا تفتّش الناس عن أديانهم فتبقى بلا صديق ».

ويقول

الأمير (عليه السلام) : « من حاسب الإخوان على كلّ ذنب قلّ أصدقائه ».

وقال الرسول الأكرم : « يأتي على الناس زمان إذا سمعت باسم الرجل خيرٌ من أن تلقاه ، فإذا لقيته خير من أن تجرّبه ، ولو جرّبته أظهر لك أحوالا ».

فعلينا بالاختبار إذا أردنا من الصديق ، أن يكون لنا أخ في الثقة ، فإنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول : « أقلّ ما يكون في آخر الزمان أخ يوثق به أو درهم من حلال » ، « يأتي على الناس زمان ليس فيه شيء أعزّ من أخ أنيس ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « إحذر أن تواخي من أرادك لطمع أو خوف أو ميل أو للأكل والشرب ، واطلب مواخاة الأتقياء ، وإن أفنيت عمرك في طلبهم ».

ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « بئس الأخ أخ يرعاك غنياً ، ويقطعك فقيراً ».

ويقول الأمير (عليه السلام) : « ليس لك بأخ من احتجت إلى مداراته » ، و « لا ترغبنّ فيمن زهد فيك ، ولا تزهد فيمن رغب فيك » ، و « لا خير في صحبة من لم يرَ لك مثل الذي يرى لنفسه » ، و « لا تواخِ من يستر مناقبك وينشر مثالبك ».

ثمّ احفظ قديم الإخوان والأصدقاء ، فقال الأمير (عليه السلام) : « إختر من كلّ شيء جديده ، ومن الإخوان أقدمهم » ، و « من كرم المرء بكائه على ما مضى من زمانه ، وحنينه إلى أوطانه ، وحفظ قديم إخوانه ».

ويقول النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « إنّ الله تعالى يحبّ المداومة على الإخاء القديم فداوموا عليه

».

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إنّ أخاك حقّاً من غفر زلّتك ، وسدّ خلّتك ، وقبل عذرك ، وستر عورتك ، ونفى وجلك ، وحقّق أملك » ، « أخوك الذي لا يخذلك عند الشدّة ، ولا يغفل عنك عند الجريرة ولا يخدعك حين تسأله ».

وخلاصة الكلام كما مرّ أنّ الإخوان صنفان : إخوان الثقة وإخوان المكاشرة ، فإذا كنت من صديقك وأخيك على ثقة ، فابذل له مالك وبدنك ، وصافِ من صافاه وعادِ من عاداه واكتم سرّه وعيبه وأظهر منه الحسن.

ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من لم تكن مودّته في الله فاحذره ، فإنّ مودّته لئيمة ، وصحبته مشؤومة » ، و « كلّ مودّة مبنيّة على غير ذات الله سبحانه ضلال ، والاعتماد عليها محال » ، و « من آخى في الله غنم ، ومن آخى للدنيا حُرم » ، و « على قدر التواخي في الله تخلص المحبّة » ، و « إخوان الدين أبقى مودّة ، وإخوان الصدق أفضل عدّة » ، و « الإخوان في الله تدوم مودّتهم لدوام سببها » ، و « الأخ المكتسب في الله أقرب الأقرباء ، وأرحم من الاُمّهات والآباء » ، و « لكلّ إخاء منقطع ، إلاّ إخاء كان على غير الطمع » ، و « كلّ مودّة عقدها الطمع حلّها اليأس » ، و « مودّة أبناء الدنيا تزول لأدنى عارض » ، و « من ودّك لأمر ولّى عند انقضائه » ، و « أسرع المودّات انقطاعاً مودّات الأشرار » ، و « الناس إخوان ، فمن كانت اُخوّته في غير ذات الله فهي

عداوة ، وذلك قوله عزّ وجلّ : ( الأخِلاّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إلاّ المُتَّقينَ ) ».

وبهذا أ يّها القارئ الكريم تعرف لماذا تكون علاقة حميمة بين اثنين ، أو يصادقك شخص أو تصادقه ، ثمّ سرعان ما ينقلب الأمر وينعكس وتنقطع المودّة ، بل في بعض الموارد _ والعياذ بالله _ يكون الصديق عدوّاً ، وربما من ألدّ أعدائك.

فالعمدة أن يكون الإخاء والصداقة في الله سبحانه ، يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « بالتواخي في الله تثمر الاُخوّة » ، و « من فقد أخاً في الله فكأ نّما فقد أشرف أعضاءه ».

ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « من استفاد أخاً في الله على إيمان الله ووفاء بإخائه ، طلباً لمرضاة الله ، فقد استفاد شعاعاً من نور الله » . ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) : « من استفاد أخاً في الله عزّ وجلّ ، استفاد بيتاً في الجنّة ».

وقال الرسول الأكرم : « النظر إلى الأخ تودّه في الله عزّ وجلّ عبادة ».

فعلينا بإخوان الصدق ، لله وفي الله ، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « عليك بإخوان الصدق ، فأكثر من اكتسابهم فإنّهم عدّة عند الرخاء ، وجنّة عند البلاء » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من لم يرغب في الاستكثار من الإخوان ابتلي بالخسران » ، « المرء كثير بأخيه » ، وقال الرسول الأكرم : « من جدّد أخاً في الإسلام بنى الله له برجاً في الجنّة » ، وقال الأمير (عليه السلام) : « أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان ، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم

» ، وقال (عليه السلام) : « أخ تستفيده خير من أخ تستزيده » ، ويقول النبيّ : « استكثروا من الإخوان ، فإنّ لكلّ مؤمن شفاعة يوم القيامة ».

وهذا يعني بكلّ وضوح ، أنّه لا بدّ من كثرة الأصدقاء والإخوان ، ولكن بشرطها وشروطها _ كما وقفت على جملة منها من خلال الفصول التي مرّت ، فراجع كرّة اخرى ، فإنّ في كلام أهل البيت نور ، وفي أمرهم رشد ، ووصيّتهم التقوى ، وفعلهم الخير _ وعلينا أن نودّ الإخوان بكلّ صفاء وإخلاص ، فقد قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « إذا لم تحبّ أخاك فلست أخاه » ، و « لا يكوننّ أخوك أقوى منك على المودّة » ، « أحبب الإخوان على قدر التقوى ».

وقال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « ألا وإنّ المؤمنين إذا تحابّا في الله عزّ وجلّ وتصافيا في الله كانا كالجسد الواحد ، إذا اشتكى أحدهما من جسده وجد الآخر ألم ذلك ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من حبّ الرجل دينه حبّه أخاه ».

وعلينا أن نراعي حقوق الاُخوّة ، وأدب الإخاء وحدود الصداقة كما مرّ ذلك ، ويقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : « لا تضيعنّ حقّ أخيك اتّكالا على ما بينك وبينه ، فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « تحتاج الاُخوّة فيما بينهم إلى ثلاثة أشياء ، فإن استعملوها وإلاّ تباينوا وتباغضوا ، وهي : التناصف والتراحم ونفي الحسد ».

ويقول الإمام الحسين (عليه السلام) : « احفظ عليك لسانك تملك به إخوانك ».

وقال الحارث الأعور لأمير المؤمنين (عليه السلام) : «

يا أمير المؤمنين أنا والله اُحبّك ، فقال له : يا حارث ، أمّا إذا أحببتني فلا تخاصمني ولا تلاعبني ولا تجاريني[1]ولا تمازحني ولا تواضعني ولا ترافعني ».

وقال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) : « إذا أخى أحدكم رجلا ، فليسأله عن اسمه ، واسم أبيه ، وقبيلته ومنزله ، فإنّه من واجب الحقّ وصافي الإخاء ، وإلاّ فهي مودّة حمقاء » ، وقال : « إلقَ أخاك بوجه منبسط » ،

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا يسيء محضر إخوانه إلاّ من ولد على غير فراش أبيه » . كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأله عنه ، فإن كان غائباً دعا له ، وإن كان شاهداً زاره ، وإن كان مريضاً عاده.

ولنا في رسول الله وأهل بيته الأطهار اُسوة حسنة وقدوة صالحة . وعلينا أن نسعى في خدمة الصديق الوفيّ والأخ المؤمن ، نعم ، إذا رأيت أخاك يستخدمك فلا تخدمه ، كما ورد في الحديث الشريف.

وأمّا فضيلة قضاء حاجة الإخوان فقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له يوم القيامة مئة ألف حاجة » . وقال (عليه السلام) : « إذا ضاق أحدكم فيُعلم أخاه ولا يعين على نفسه » ، وقال : « الله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه » ، و « كفى بالمرء اعتماداً على أخيه أن ينزل به حاجته » ، « أ يّما مؤمن أوصل إلى أخيه المؤمن معروفاً فقد أوصل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) » . وقال الإمام الكاظم (عليه السلام)

: « من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله فلم يجره ، بعد أن يقدر عليه ، فقد قطع ولاية الله عزّ وجلّ » ، وقال (عليه السلام) : « إنّ لله حسنة ادّخرها لثلاثة : إمام عادل ، ومؤمن حكّم أخاه في ماله ، ومن سعى لأخيه المؤمن في حاجته » . وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « قضاء حقوق الإخوان أشرف أعمال المتّقين » . وقال الرسول الأكرم في إكرام الإخوان : « من أكرم أخاه المسلم بكلمة يلطفه بها ومجلس يكرمه به لم يزل في ظلّ الله عزّ وجلّ ممدوداً عليه بالرحمة ما كان في ذلك » . وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من أتاه أخوه المؤمن فأكرمه فإنّما أكرم الله عزّ وجلّ » ، « من قال لأخيه مرحباً كتب الله له مرحباً إلى يوم القيامة » ، « لا يعظّم حرمة المسلمين إلاّ من عظّم الله حرمته على المسلمين ، ومن كان أبلغ حرمةً لله ورسوله كان أشدّ حرمة للمسلمين » ، « من عظّم دينه عظّم إخوانه ، ومن استخفّ بدينه استخفّ بإخوانه » . وقال الرسول الأكرم : « ما في اُمّتي عبد ألطف أخاه في الله بشيء من لطف ، إلاّ أخدمه الله من خدم الجنّة » ، جعلنا الله وإيّاكم من أهل الجنّة ، وذلك نهاية السعادة كما قال الله تعالى : ( وَأمَّا الَّذينَ سُعِدوا في الجَنَّةِ خالِدينَ فيها )[2].

وأخيراً وليس بآخر ، قال الإمام الحسين (عليه السلام) : « أمّا حقّ الصاحب فأن تصحبه بالتفضّل والإنصاف ، وتكرمه كما يكرمك ، ولا تدعه يسبق إلى مكرمة

، فإن سبق كافأته ، وتودّه كما يودّك ، وتزجره عمّا يهمّ به من معصية ، وكن عليه رحمة ، ولا تكن عليه عذاباً » . وقال (عليه السلام) : « وحقّ الخليط أن لا تغرّه ولا تغشّه ولا تخدعه وتتّقي الله تبارك وتعالى في أمره » . وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « لا تقطع صديقاً وإن كفر » ربما كفران النعمة والفضل الذي بدرته بهما ، فليكن ما فعلته لله سبحانه وتعالى ، ولا تنتظر من صديقك الشكر والمكافأة ، وإن كان جزاء الإحسان إحساناً ، فمن وظيفته الدينية والأخلاقية والإنسانية أن يعوّض ما فعلته من الفضل والنعمة بالشكر والإحسان ، لا بالكفر والخذلان ، ولكن كن في ما قدّمته إليه مخلصاً لله سبحانه _ لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً _ فلا تقطع صديقاً وإن كفر في مقام العمل ، ولم يجازي معروفك وإحسانك . وعن المفضل قال : دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لي : من صحبك ؟ فقلت : رجل من إخواني . قال : فما فعل ؟ فقلت : منذ دخلت المدينة لم أعرف مكانه . فقال لي : أما علمت أنّ من صحب مؤمناً أربعين خطوة ، سأله الله عنه يوم القيامة ؟

فماذا تقول يا صاحبي الكريم أ يّها القارئ الجليل ؟ لعلّك تقول ما ذكر في مثل هذه الأحاديث الشريفة ، إنّما نلمسها ونراها في مثل المدينة الفاضلة التي يدعو إليها الفلاسفة ، ولكن ليس كذلك ، فإنّ ما جاء في الأخبار لم يكن من التكليف بما لا يطاق ، بل صفات جميلة ، لا بدّ لنا أن نتحلّى بها ، ونبحث عن

أصحابها للصداقة والمعاشرة ، وليس ذلك بعزيز ، فمن جدّ وجد ، ومن طرق الباب ولجّ ، ولج _ أي دخل بعد كثرة الطروقة _ فاطلب الأتقياء ، فإنّهم أحقّ بالإخاء ، وابحث عن سعادتك وعمّن فيه نجاتك في الدارين.

---

[1]هي أن يجري الإنسان مع غيره في المناظرة ليظهر علمه إلى الناس رياءً وسمعة وترفّعاً ، وفي بعض النسخ « ولا تحاربني » ، وفي ثالث : « ولا تجازيني » ، وفي رابع : « ولا تجاربني » . ( ميزان الحكمة 1 : 45 ).

[2]هود : 108.

الفصل الرابع - أجواء الصداقة وأرضيّتها

لقد وقفنا في الحلقات والفصول السابقة ولو إجمالا ، على ضرورة الصديق والصداقة في حياة الإنسان ، وعرفنا أهمّ معالم الصداقة والأصدقاء ، وحقوقهم ، وحدود الاُخوّة وآدابها ، وقدسيّتها ، وأبرز الفنون لكسب الأصدقاء ، وفي هذا الفصل نبغي أن نعيش أجواء الصداقة ، وأرضيّتها ومصاديقها ، ثمّ كيف نتعامل مع الناس ، والصداقة إنّما تنمو في محيطها وأجوائها الخاصّة ، لولاها لفسدت وماتت.

فلا بدّ أوّلا في عالم الاُخوّة والصداقة من الثقة المتبادلة ، والاحترام المتقابل ، كما مرّ ذلك ، فإنّ سوء الظنّ بين الصديقين يوجب العداء والنكد والفرقة والتشاحن ، والثقة إنّما تكون بالشكل المتعارف ، والحدّ المعتدل ، بلا إفراط ولا تفريط ، قال الله تعالى : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا اجْتَنِبوا كَثيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ )[1] . نعم ورد في الحديث الشريف : إذا صلح الزمان فأحسن الظنّ أوّلا ، وإذا فسد فإنّ « سوء الظنّ من حسن الفطن » ، كما عن أمير المؤمنين . والجمع بين المعنيين : من ناحية يقال : ( بعض الظنّ

إثم ) ومن ناحية اُخرى يقال : ( سوء الظنّ من حُسن الظنّ ) ، هو : أن نتعامل مع الحذر والحزم من دون أن نرتّب أثراً عمليّاً على سوء الظنّ ، وقد جاء في الحديث الشريف : « أحبب حبيبك هوناً عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وابغض بغيضك هوناً ما ، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما » ، وهذا المعنى جربّناه كثيراً ، فما من واحد ، إلاّ وله عشرات من الأمثلة والنماذج التي جرت عليه ، أو على غيره من الأصدقاء ، الذين كنت تودّهم وتبذل كلّ شيء من أجلهم ، وإذا به بمرور الزمان لاُمور تافهة ، ينقلب عليك ويكون عدوّك ، والسعيد من اتّعظ بغيره.

فبعد اختبار صديقك ، واختياره عن علم ، عليك أن تترك سوء الظنّ معه ، فقد جاء في الحديث الشريف : « احمل فعل أخيك على سبعين محمل » ، و « ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما تقبله منه » ، « ولا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً ، وأنت تجد لها في الخير محملا » ، والشيطان هو الذي يزرع بذرة سوء الظنّ في قلب الإنسان : ( إنَّما يُريدُ الشَّيْطانُ أنْ يوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ وَالبَغْضاءَ )[2] ، وقال الله تعالى : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنوا أنْ تُصيبوا قَوْماً بِجَهالَة فَتَصْبَحوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمينَ )[3] ، ويقول الإمام السجّاد (عليه السلام) : « المؤمن أخ المؤمن لا يشتمه ولا يحرمه ولا يسيء الظنّ به » ، وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « لا يفسدك الظنّ على صديق أصلحه اليقين

» ، وقال (عليه السلام) : « من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق ، فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرجال ، أما إنّه قد يرمي الرامي وتخطي السهام ويحيل الكلام » ، وفي آخر : « من أطاع الواشي ضيّع الصديق » ، فالأصل في الصداقة والأصدقاء ، هو الثقة المتبادلة ، وحسن الظنّ ، ولا تسمعنّ فيهم واشياً ولا تصغي عليهم لفاسق ، وعلينا أن لا نعرض أنفسنا في مواضع التهمة ، ففي الحديث الشريف : « من عرّض نفسه للتهمة فلا يلومنّ من أساء به الظنّ » ، وفي آخر : « اتّقوا مواضع التهم ».

ثمّ من أرضيّة الصداقة : التواضع ولين العريكة وخفض الجناح ، والتواضع فنّ ، كسائر الفنون التي تحتاج إلى التدريب والتمرين حتّى تكون ملكة للإنسان ، ويعني التواضع : الذلّة واللّين من موضع القوّة للمؤمنين ، كما في قوله تعالى : ( أذِلَّة عَلى المُؤْمِنينَ )[4] ، لا التصاغر المصحوب بالشعور بالدناءة والاحتقار والخسّة والنقص ، بل التواضع الممدوح يعني احترام الآخرين ، فالمؤمن كما في وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) : « سهل الخليقة لين العريكة لنفسه ، أصلب من الصلد وهو أذلّ من العبد » فالمؤمن صلب ولكن مع ذلك هو ذليل للحقّ ، وهذا هو جوهر التواضع وحقيقته ، ومن تواضع لله رفعه الله ، ولنأخذ درساً قيّماً من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في طريقة التواضع ، فقد جاء في الأثر أنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) مرّ برجل من أهل السواد ذميم المنظر ، وكان الإمام راكباً ، فنزل من فرسه وجلس عنده ، وحاوره في حديث طويل ، ولمّا أراد الانصراف (عليه

السلام) قال له بعض الحاضرين مستغرباً : يا ابن رسول الله ، أتنزل إلى هذا المستوى رغم منزلتك وشرفك وعلمك ؟ فقال (عليه السلام) : ولم لا ؟ إنّه « عبد من عبيد الله ، وأخ في كتاب الله ، وجارٌ في بلاد الله ، يجمعنا وإيّاه خير الآباء آدم وأفضل الأديان الإسلام » . وإنّ الإمام الرضا (عليه السلام) دعا إلى مائدة في خراسان فجمع عليها مواليه والعبيد فقال له أحد المدعوّين : جعلت فداك ، لو عزلت هؤلاء _ يعني الموالي والعبيد _ فقال (عليه السلام) : « مه يا هذا ، إنّ الربّ تبارك وتعالى واحد ، والاُمّ واحدة ، والأب واحد ، والجزاء بالأعمال » . فالتواضع أن تبسط جناح الذلّ من الرحمة ، وأن ترضى بالجلوس في أيّ مكان ينتهي بك المجلس.

عن عباد بن عبد الله الأسدي قال : كنت جالساً يوم الجمعة وعلي (عليه السلام)يخطب على منبر من آجر ، وابن صوحان جالس ، فجاء الأشعث فجعل يتخطّى الناس وهو يريد الجلوس في الصفوف الاُولى ، فقال : يا أمير المؤمنين ، غلبتنا هذه الحمراء على وجهك ، فغضب الإمام من كلامه فقال ابن صوحان : ليبيّن اليوم أمير المؤمنين من أمر العرب ما كان يخفى ، فقال علي (عليه السلام) : « من يعذرني من هؤلاء الضياطرة ، يتقلّب أحدهم على حشاياه ، ويهجّر قوم لذكر الله ؟ ! فيأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين ، الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لقد سمعت محمّد (صلى الله عليه وآله)يقول : ليضربنّكم والله على الدين عوداً ، كما ضربتموهم عليه بدءاً » ، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) :

« من التواضع أن يجلس الرجل دون شرفه » ، وفي آخر : « أن تحمل حاجاتك بين يديك » ، وكان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حاكماً على خمسين دولة ، وكان يمشي في الأزقّة ، حاملا متاعه على كتفيه ويقول : « صاحب العيال أحقّ بحمله » ، « لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما يحمله من شيء إلى عياله » ، ومن التواضع « أن تقوم بما يقوم به الناس » ، قال الرسول الأكرم : « من اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برء من الكبر » ، والمقصود من عقل البعير أن يقوم الناس بواجباته الشخصيّة بنفسه ، فإنّ الرسول الأكرم كان يقول : « إنّما أنا عبد أكل من الأرض وألبس الصوف وأعقل البعير وألعق أصابعي واُجيب دعوة المملوك ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي » ، ومن التواضع أن لا يتميّز الإنسان بين أصدقائه وأصحابه ، فمن أخلاق النبيّ الذي مدح الله خلقه ، أنّه كان في أصحابه كأحدهم ، حتّى الداخل عليهم لا يميّزه من بينهم « كُلُّكُمْ مِنْ آدَمْ ، وَآدَمُ مِنْ تُراب » ، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل جالس وبين يديه ( اُناس ) قيام » ، و « هلك من يخفق النعال خلفه » ، و « من أخفق النعال خلفه فهو ضالّ ومضلّ » ، ومن التواضع كما ورد عن أبي الحسن (عليه السلام) : « أن تعطي للناس ما تحبّ أن تُعطى » ، ولنا في رسول الله اُسوة حسنة ، فإنّه (صلى الله عليه

وآله) : « كان يعقل البعير ، ويكنس البيت ، ويجلب الشاة ، ويصلح النعل ، ويرقع الثوب بيديه ، ويأكل مع خادمه ، ويطحن عنه إذا تعب ، ويشتري من السوق ، ولا يمنعه الحياء أن يلعق أصابعه من الطعام بعده ، وكان يصافح الغني والفقير والكبير والصغير والأسود والأبيض ، ويبادر بالسلام ، ولم يسبقه أحد ، وإذا دعي أجاب الدعوة ولو كانت من مملوك أو فقير ، كان هيّن المؤونة ليّن الخلق كريم الطبع جميل المعاشرة طلق الوجه دائم البشر ، حازماً في لين ، متواضعاً من غير صغار ، حليماً من غير استسلام » ، والله سبحانه كما قاله في كتابه الكريم : ( إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرينَ )[5] والتكبّر مع المتكبّرين عبادة ، والكبرياء رداء الله ، فمن نازع الله في ردائه ، أكبّه الله على منخريه في النار _ كما ورد في الحديث الشريف _ ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ما من رجل تكبّر أو تجبّر إلاّ لذلّة وجدها في نفسه » ، وفي آخر : « من حقّر الناس وتجبّر عليهم فذلك الجبّار » ، ويقول (عليه السلام) : « لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر » ، ويقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) : « بئس العبد عبد تجبّر واعتلى ونسي الجباء الأعلى ... تبختر واحتال ونسي الكبير المتعال ، غفل وسهى ونسي المقابر البلى ... وعتى وبغى ونسي المبدأ والمنتهى » ، ويحشر المتكبّرون يوم القيامة بصور الذرّ ، أذلاّء حقراء تطؤهم الناس لهوانهم على الله _ كما في الخبر الشريف _ ويقول الأمير (عليه السلام)

: « كفى بالمرء غروراً أن يثق بكلّ ما تسوّل له نفسه ، وكفى بالمرء منقصة أن يعظم نفسه » ، وفي آخر : « من تكبّر على الناس ذلّ » ، « شرّ آفات العقل الكبر » ، « ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر ، إلاّ نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك ، قلّ أو كثر » ، ويقول الأمير (عليه السلام) : « اعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ، وقد كان عبد الله ستّة آلاف سنة لا يُدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة ؟

ومن كان أوّله نطفة ندرة ، وآخره جيفة قذرة ، وما بينهما يحمل العذرة ، كيف يتكبّر على الناس ، فمن الحماقة والجنون من أدرك هذه الحقيقة ، وعرف الواقع ولا يزال يتكبّر على الناس ، فإنّه يروى أنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مرّ برجل مصروع وقد اجتمع الناس حوله ، فقال النبيّ : على ما اجتمع الناس ؟ فقيل : على مجنون مصروع ، فقال (صلى الله عليه وآله) : « ما هذا مجنون ، وإنّما هذا المبتلى ، ألا اُخبركم بالمجنون حقّاً ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . فقال : إنّ المجنون حقّاً المتبختر في مشيه ، الناظر في عطفه ، المحرّك جنبيه بمنكبيه ، الذي يرجو من الله رحمته وهو مقيم على معصيته ، فذاك المجنون حقّاً » ، فيا هذا هل للتكبّر بعد هذا من مجال ؟ وهل بعد الحقّ إلاّ الضلال.

وأمّا كيفيّة التعامل مع الناس ولا سيّما الأصدقاء ، فأفضل سلوك هو أن تحبّ لهم ما تحبّ

لنفسك . قال رسول الله : « لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه » ، فالناس لهم مشاعر وأحاسيس وعواطف ورغبات كما لك ذلك ، وكما تحبّ أن يتعامل معك من الإحسان والمعاشرة الطيّبة والبذل والعطاء والتنازل وكلّ شيء ، فكذلك عليك أن تراعي الآخرين ، والناس يحبّون من يبجّلهم ويعطيهم الثقة

بقدارتهم وقواهم ، وإذا كان صيّاد السمك ، إنّما يصطاد بما يحبّه السمك من الديدان لا بما يحبّه الصيّاد ، فلماذا لا نستخدم هذه الطريقة في كسب الأصدقاء واصطيادهم ، ولنتكلّم عمّا يحبّه الصديق لا عمّا نحبّه ، فهناك سرّ للنجاح ، وهو القدرة على إدراك وجهة نظر الشخص الآخر ، والنظر إلى الأشياء بالمنظار الذي ينظر به إليها ، وإنّما يرتاح الناس إلى من يعبّر عن ضمائرهم وأحاسيسهم ، وبهذا الاُسلوب الرصين في القرآن الكريم يجذب الناس إلى الإيمان بقيم السماء ورسالات الأنبياء كما في قوله تعالى : ( وَلَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَالأرْضِ )[6] ، فكلّ واحد يريد البركة من السماء والأرض ويحبّ ذلك ، فالقرآن يدعوه إلى الإيمان من خلال من يحبّه ، وقد جاء في الحديث القدسي عن الله سبحانه : « يا عبادي ، إنّي لم أخلقكم لأربح عليكم بل لتربحوا عليّ » ، والربح هنا في الدنيا والآخرة ، أمّا في الدنيا فقوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَج; وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبْ )[7] ، وأمّا الآخرة فقوله سبحانه وتعالى : ( وَسارِعوا إلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٌ عَرْضُها السَّماواتُ وَالأرْضُ اُعِدَّتْ لِلْمُتَّقينَ )[8] ، واُسلوب الأنبياء في هداية الناس أوّلا بالتبشير وإذا لم

ينفع فبالإنذار كما قال عزّ وجلّ : ( كانَ النَّاسُ اُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ وَأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيما اخْتَلَفوا فيهِ )[9] ، ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « أحسن إلى من شئت تكن أميره ، وارغب إلى من شئت تكن أسيره ، واستغنِ عمّن شئت تكن نظيره » ،

وقد وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « كان فينا كأحدنا ».

ويقول (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) : « يا بني ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحبّ أن تُظلم ، وأحسن كما تحبّ أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك » ، والإسلام لا يطالب بأن نحبّ للآخرين كما نحبّ لأنفسنا وحسب ، بل يحثّنا على أن نؤثر الآخرين على أنفسنا ، وهذه من الروح السامية ، ومن يضحّي من أجل الآخرين ، يكون بالطبع سيّدهم وعظيماً فيهم ، كما خلّد التأريخ كثير من العظماء من أجل تضحيتهم لشعوبهم وجماهيرهم ، والله سبحانه يقول : ( وَيُؤْثِرونَ عَلى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَة )[10] ، أي حتّى لو كان الشيء يخصّهم ومن حقّهم ، ولكن مع ذلك يتنازلون للآخرين ، ويؤثرونهم على أنفسهم ، وهذه من آيات الرفعة وسموّ الروح وتعاليها ، ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « ذلّلوا أخلاقكم بالمحاسن ، وقودوها إلى المكارم ، وعوّدوها الحلم ، وصبّروا على الإيثار أنفسكم » ، وفي الحديث الشريف : « إنّ لله جنّة لا يدخلها إلاّ

ثلاثة : رجل حكم على نفسه بالحقّ ، ورجل زار أخاه في الله ، ورجل آثر أخاه المؤمن » ، وأهل البيت هم القدوة في الإيثار ، كما جاء قصّتهم في سورة الدهر : ( وَيُطْعِمونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكيناً وَيَتيماً وَأسيراً إنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكوراً )[11]فباتوا ثلاثة أيام جياع بعد أن صاموا نهارها _ عليهم صلوات الله _ .

ثمّ إنّما تدوم الصداقة وتنفذ في أعماق قلب الصديق بالأخلاق الحسنة وبدوافع الخير عند الناس ، يقول رسول الله مخاطباً عشيرته : « يا بني عبد المطلب ، إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم » . فعلينا أن نتعامل مع الآخرين بخلق رفيع فيشاطرك بذلك ، فمن يخاطب الناس بكلام لطيف وسلوك جميل فكذلك ، الناس يتعاملون معه ، فإنّ الفطرة السليمة تستدعي ذلك ، وحينما تبني لشخص في قلبك قصراً من زجاج شفّاف ، فإنّه لن يحاول أن يرميه بالحجر ، ومن تقول له إنّي أتوسّم فيك الخير ، وأنت من أهل الإحسان والصلاح ، فإنّه يعمل الخير ، ويستجيب لطلباتك ، ولا يردّك خائباً ، لأ نّك توسّلت بدافع النبل والخير التي أودعها الله في وجوده ونفسه ( فَألْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها )[12] ، والقرآن الكريم إنّما يخاطب الناس على أنّهم عظماء مكرمون ، ويثير فيهم الدوافع النبيلة من الرحمة والإنسانيّة والكرم والشجاعة والفطرة السليمة وإيمانهم بالخالق فيقول تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَمَ )[13] ، وقوله سبحانه : ( وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ )[14] ، فمن قدّر عواطف الناس وخاطبهم بكلمات الأدب والعفّة والعظمة فإنّهم يستجيبون لنداءاته برغبة ورحابة صدر ، يقول الأمير (عليه السلام)

: « قلوب الناس وحشية فمن تألفها أقبلت عليه » ، ويقول الله سبحانه : ( لا إكْراهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ )[15] ، فالرفق واللين والحنان والشفقة والعطف والاحترام تكسب لك الأصدقاء ، وتكون ناجحاً في عالم الصداقة : قال الله تعالى : ( قولوا لِلْنَّاسِ حُسْناً )[16] ، ويقول عزّ وجلّ مخاطباً نبيّه الأكرم : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَليظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )[17] . فلا بدّ من العطاء قبل الأخذ فإنّه كما قال الأمير (عليه السلام) : « من منع عن الناس يده منع عنهم يداً واحدة ومنعت عنه أيادي كثيرة » ، وعلينا بالرفق والمسامحة فإنّ رسول الله يقول : « من حرم الرفق حرم الخير كلّه » ، و « من استعمل الرفق لان له الشديد » ، « الرفق مفتاح النجاح » ، و « إن شئت أن تكرم فلِن ، وإن شئت أن تهان فاخشن » ، « الرفق عنوان النبل » ، « ارفق توفّق » ، « أكبر البرّ الرفق » ، « الرفق بالأسباع من كرم الطباع » ، « الرفق تيسير للصعاب » ، و « إذا عاقبت فارفق » ، « من لانت كلمته وجبت محبّته » ، وقال رسول الله : « أوَ اُخبركم من تحرم النار عليه غداً ؟ تحرم على كلّ ليّن » ، و « من اُعطي الخلق والرفق فقد اُعطي الخيرة والراحة ، وحسن حاله في دنياه وآخرته ، ومن حرم خلق الرفق كان ذلك سبيلا إلى كلّ شيء ، وبليّة إلاّ من عصمه الله تعالى » ، ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) :

« المؤمنون هيّنون ليّنون » ، ولكن « كن ليّناً من غير ضعف ، وشديداً من غير عنف ».

ثمّ علينا في عالم الصداقة أن نقدّر وجهة نظر الآخرين ، وإذا دخلنا معهم في نقاش لا يكون المقصود الغلبة والتفوّق والانتصار عليه ، بل الهدف تحرّي الحقائق ، ومعرفة الواقع ، والتمسّك بالحقّ ، فنحاول في إثبات الحقيقة أن لا يتّخذ الطرف المقابل موقفاً مضادّاً منذ البداية ، فإنّ كلمة ( لا ) عقبة كأداء يصعب التغلّب عليها ، فإنّ كلمة ( لا ) إنّما هي مكوّنة من حرفين لا أكثر ، ولكن إنّما يكون خلفها كيان إنساني بأسره باتّجاه الرفض ، فلا بدّ أن نقتل الاختلاف في كونه الابتدائي ونطفته الاُولى ، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « مع الخلاف والاختلاف لا يكون ائتلاف » ، « الخلاف يهذّب الأبرار » ، وفي آخر : « الاُمور المنظّمة يفسدها الخلاف » ، ويقول الإمام الجواد (عليه السلام) : « من علامة المحبّة كثرة الموافقة وقلّة المخالفة » ، ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) : « الشرف موافقة الإخوان وحفظ الجيران ، حسب المرء من صداقته كثرة موافقته وقلّة مخالفته » ، وعلينا أن نأخذ في ما كان الاختلاف ما هو القدر المشترك ونركّز عليه ، حتّى يتغلّب على نقطة الاختلاف والشقاق ، فإنّ كلّ ما فيه عنوان الاثنينية والكثرة والاختلاف ، إنّما يتكوّن ممّا به الاشتراك وما به الامتياز ، فإذا أخذنا ما به الاشتراك وتغلّبنا على ما به الامتياز ، فإنّه يلزمه الوحدة والاتّحاد والموافقة وهذا من سبيل الوحدة . وأنّ فهم وجهة نظر الطرف الآخر يساعد الإنسان على النجاح في معاملة الآخرين

، ومن الجهل معارضة الآخرين قبل دركهم وفهمهم ، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « من أخلاق الجاهل : الإجابة قبل أن يسمع ، والمعارضة قبل أن يفهم ، والحكم بما لا يعلم » ، وما أروع ما لو قيل للصديق : قد اُخالفك في الرأي ، ولكنّي مستعدّ للقتال دفاعاً عن وجهة نظرك الصائب ، ومعاشر الأنبياء _ كما ورد في الخبر _ أمرهم الله أن يكلّموا الناس على قدر عقولهم ، ويقول رسول الله : « رأس العقل بعد الدين : التودّد إلى الناس والاستماع الخيّر إلى كلّ أحد برّ أو فاجر » . وقال الله تعالى ( وَقولوا لِلْنَّاسِ حُسْناً )[18] ، وعلينا أن لا نجرح صديقنا أمام الآخرين ، بل لو كنّا في مقام الوعظ والإرشاد والنصيحة ، فينبغي أن نخلو به ونسرّه بذلك ، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « النصح بين الملأ تقريع » ، وقال (عليه السلام) : « من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد شانه » ، وفي آخر : « تلويح زلّة العاقل له أمضى عقاب » ، وفي آخر : « العبد يقرع بالعصى ، والحرّ تكفيه الإشارة » ، و « عقوبة العقلاء التلويح لا التصريح » ، « من اكتفى بالتلويح استغنى عن التقريع » ، ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) : « إذا لوّحت فقد أوجعته عتاباً ».

فلا تقرع صديقك أمام الآخرين ، وإذا أردت أن تذكّره في السرّ فلوّح له واكتفي بالإشارة ، إلاّ إذا كان الأمر يقتضي التصريح ، ولولاه ما نفعت النصيحة والموعظة والإرشاد ، فحينئذ لا بأس به ، إلاّ

أنّه مهما أمكن عليك أن تراعي حسن القول ولطائف الكلام ، فإنّه أبلغ في التأثير ، وإذا أردت منه شيئاً حتّى مع اُسرتك وأولادك ، فحاول أن تطلب ذلك في صورة التمنيات ، من دون إصدار الأوامر ، حتّى لو أردت الماء من ولدك ، فما يمنعك أن تقول له : لطفاً تفضّل عليَّ يا ولدي بالماء ، أو أرجوك أو ما شابه ذلك ، كما أدّبنا القرآن الكريم بذلك ، فبدلا أن يصدر الأوامر ، يذكر صفات المتّقين وما لهم من النعيم الخالد « فالتمنيات تدفع الآخرين إلى الاستجابة لها في إطار ( العطاء ) بينما الأوامر تدفعهم إلى تنفيذها بمقدار ما يقدر العذر ، وفرق كبير بين العطاء وبين التنفيذ ».

ثمّ حاول أن لا تُرق ماء وجه الصديق بل كلّ واحد من الناس ، فإنّ كرامة الإنسان ملك الله ، لا يحقّ لأحد أن يتنازل عنها بإراقة ماء وجهه ، يقول الحديث الشريف : « إنّ الله أوكل إلى عبده المؤمن كلّ شيء ولم يوكل إليه أن يذلّ نفسه » ، فلا يجوز لنا أن نجرح مشاعر الآخرين ونؤذيهم بكلمات جارحة.

جراحات السنان لها التيام *** ولا يلتام ما جرح اللسان

فلا تفرط في الملامة ، فإنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول : « الإفراط في الملامة يشبّ نيران اللجاج » ، وفي آخر : « إيّاك أن تكرّر العتب فإنّ ذلك يغري بالذنب ويهوّن العتب ».

وعندما دخلت سفانة ابنة حاتم الطائي على النبيّ محمد بعد أسرها ، ففكّها من الأسر وقومها ، كرامة لها ، ثمّ أمر النبيّ بحمر النعم ( الإبل والبقر ) فأعطى لها حقّها حتّى سدّ ما بين جبلين ،

فقالت : يا محمد ، هذا عطاء من لا يخاف الفقر ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « هكذا أدّبني ربّي فأحسن تأديبي » ، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله) قولته المشهورة : « ارحموا ثلاثة ، وحقّ أن يرحموا : عزيزاً ذلّ من بعد عزّه ، وعالماً ضاع بين جهّال ، وغنيّاً افتقر من بعد غناه ».

ثمّ علينا أن نذكر حسنات الأصدقاء والناس ، ونشجّعهم على أعمال البرّ والخيرات ، يقول الأمير (عليه السلام) : « لكلّ مسلم على من أثنى عليه مثوبة من جزاء وعارفة من عطاء » ، ويقول في عهده لمالك الأشتر : « ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة في الإساءة ، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه » ، فاُسلوب التشجيع والتكريم والتعظيم من أنجح الأساليب في إصلاح المجتمع والصديق والاُسرة ، وكان النبيّ الأكرم إذا رأى خطأ من شخص لم يقرعه مباشرة ، بل كان يصعد المنبر ويقول : « ما بال أقوام ... » ثمّ يذكر الخطأ على نحو كلّي وعامّ.

ثمّ أعط للناس ثقتك بأنّهم قادرون على الإصلاح ، فلا تبخل في كلامك بزرع الثقة في نفوسهم ، فإنّ إعطاء الثقة للطرف الآخر ، لا سيّما الصديق والتظاهر بقدرته على تحقيق أمر ما ، سيدفعه إلى محاولة الاحتفاظ بهذه الثقة ، وإلى عدم تخييب ظنّك فيه ، فإذا أردت أن تجعل من إنسان خطيباً ، فأخبره بأنّ له موهبة عظيمة في الخطابة ، فهذا ما سيدفعه إلى التمرين والتدريب حتّى يجيدها كما هو المطلوب.

وعلينا أن نتظاهر في بداية الأمر

بالفضائل ، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إن لم تكن حليماً فتحلّم ، فإنّه قلّ من تشبّه بقوم ، إلاّ أوشك أن يكون منهم » ، « خير الحلم التحلّم » ، « من لم يتحلّم لم يحلم » ، « من تحلّم حلم » ، « إن لم تكن حليماً فتحلّم » ، وهكذا في جميع مكارم الأخلاق والصفات الحميدة ، فمن تزهّد يزهد ، ومن تعلّم يتعلّم ، ومن تكرّم يكن كريماً ، والحكمة تقول : « تظاهر بفضيلة إن لم تكن فيك » ، وكذلك مع الآخرين ، فأعطهم عنواناً حسناً ، يقومون على الاحتفاظ به وتشييده ، ويبذلون كلّ ما في جهدهم ، حتّى لا تخيب الظنون بهم.

ثمّ اعطِ للطرف الآخر مسؤولية ، فإنّ الرئاسة تصنع الرئيس ، ويوجب ذلك أن يترك ما لا يليق بالرئيس ، حتّى في عالم الأطفال تشاهد ذلك بكلّ وضوح ، وهذا يعني أنّه من غرائز وفطرة الإنسان ذلك.

فهذه نصائح عامة ، وقواعد مهمّة ، في إصلاح الصديق والمجتمع ، وسوقهم نحو السعادة والعيش الرغيد والحياة الطيّبة ، والله المعين والموفّق.

---

[1]الحجرات : 12.

[2]المائدة : 9.

[3]الحجرات : 6.

[4]المائدة : 54.

[5]النحل : 23.

[6]الأعراف : 96.

[7]الطلاق : 3.

[8]آل عمران : 133.

[9]البقرة : 213.

[10]الحشر : 9.

[11]الإنسان : 8 .

[12]الشمس : 11.

[13]الإسراء : 70.

[14]آل عمران : 139.

[15]البقرة : 256.

[16]البقرة : 83.

[17]آل عمران : 159.

[18]البقرة : 83 .

الفصل الخامس - من آداب الصداقة

« قال الإمام الصادق (عليه السلام) لجميل : خياركم سمحاؤكم ، وشراركم بخلاؤكم ، ومن صالح الأعمال البرّ بالإخوان ، والسعي في حوائجهم ، وفي ذلك مرغمة للشيطان ، وتزحزح عن النيران ، ودخول الجنان ، ثمّ قال : يا جميل !

أخبر بهذا الحديث غرر أصحابك ، قلت : ومن غرر أصحابي ؟ قال (عليه السلام) : هم البارّون بالإخوان في العسر واليسر ».

لقد ذكرنا في الفصول السابقة بعض الأخبار المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام)في حدود الصداقة ، وقضاء حوائج المؤمنين ، وبقي علينا أن نشير إلى بعض آداب الصداقة ، فإنّ لكلّ شيء حريم وإطار وحدود ، من يتعدّها يفقد ذلك الشيء المقصود ، وكذلك عالم الصداقة والأصدقاء ، له حريم وآداب خاصّة ، لا بدّ من مراعاتها ، حتّى تدوم الصداقة ، ويدوم الصفاء والمحبّة والوفاء والإخاء والخلّة.

وقد اشتهر على لسان الناس المثل المعروف : ( بين الأحباب تسقط الآداب ) ، فإذا كان يعني ذلك كما هو الظاهر الكلفة والتكلّف ، فهذا صحيح « فإنّ شرّ الإخوان من تكلّف له » كما ورد في الحديث الشريف ، ولكن إذا كان بمعنى سقوط الاحترام والحشمة ، فهذا من الكلم القبيح ، لأنّ الآداب الحميدة من الحسن ، فإذا كان ذلك حسناً من الغرباء ، فلماذا تبخل به على الأصدقاء ، فهم أولى بذلك ، فإنّ بين الأحباب تسمو الآداب ، وتنمو وتعين على قوّة الارتباط ، وشدّ أواصر العلاقة الأخويّة والخلّة المبدئية والصداقة الإيمانية.

ثمّ هناك مجموعة من الآداب القيّمة قد شرّعها الإسلام لسعادة الناس ، ولتؤتي الصداقة ثمارها ، ويعيش الجميع في أجواء هادئة ، تسودها الطمأنينة والإخاء ، متعاضدين ومتلاحمين في الحياة.

فمنها : الاستئذان للدخول ، فإنّ الدخول على الصديق في داره أو حجرته من دون الاستئذان أو الإخبار بالقدوم ، فيه استهانة بالآخرين وإهانة للنفس ، فربما يسمع منه تقريعاً في ذلك ، وقال الله سبحانه في كتابه الكريم : (

يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَدْخُلوا بُيوتاً غَيْرَ بُيوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأنِسوا وَتُسَلِّموا عَلى أهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ )[1] . وقال عزّ من قائل : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا لِيَسْتَأذِنكُمُ الَّذينَ مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ وَالَّذينَ لَمْ يَبْلُغوا الحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وَحينَ تَضَعونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشاءِ ثَلاث عَوْرات لَكُمْ وَإذا بَلَغَ الأطْفالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأذِنوا كَما اسْتَأذَنَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )[2] . ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ليستأذن أحدكم من وراء الباب قبل أن ينظر إلى قعر البيوت ، فإنّما اُمرتم بالاستئذان من أجل العين ، فإن قيل : ادخل ، فليدخل ، وإن قيل : ارجع ، فليرجع ، ولا أن يسمع أهل البيت . والثانية : يأخذ أهل البيت حذرهم ، والثالثة : يختار أهل البيت إن شاؤوا أذنوا ، وإن شاؤوا لم يأذنوا ».

وفي الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله)يريد فاطمة (عليها السلام) وأنا معه ، فلمّا انتهينا إلى الباب وضع يده الشريفتين عليه ثمّ قال : السلام عليكم ، قالت فاطمة : وعليكم السلام يا رسول الله ؟ قال : أدخل ؟ قالت : إدخل يا رسول الله ، قال : أأدخل أنا ومن معي ؟ قالت : يا رسول الله ليس على رأسي قناع . فقال : يا فاطمة خذي فضلا من مدحتك ، فغطّي به رأسك ، ففعلت ، وبدأ رسول الله يستأذن من جديد ، ثمّ قال : السلام عليكم . فقالت : وعليكم السلام يا رسول الله ، قال : أأدخل ؟ قالت : نعم

يا رسول الله ، قال : أنا ومن معي ؟ قالت : ومن معك ، ودخل رسول الله ودخلت معه ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ليستأذن الرجل على بنته واُخته إذا كانتا متزوّجتين ».

ومنها : السلام قبل الكلام ، فإنّ قولك : ( السلام عليكم ) لمن تلقّاه إنّما هو دعاء له بالسلامة والصحّة والعافية وإعلان الحبّ والصداقة والاُخوّة ، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه » . ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « إنّ الله يحبّ إفشاء السلام » ، فإنّ السلام من أسمائه جلّ جلاله ، ويحبّ الله أن تظهر لأسمائه مظاهر ، فهو السلام ويحبّ إفشاء السلام ، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « من التواضع أن تسلّم على من لقيت » ، ويقول (عليه السلام) : « ليسلّم المارّ على القاعد ، والراكب على الجالس ، والعدد القليل على الكثير ».

وفي الحديث الشريف : « من تواضع لله رفعه » ، وفي آخر : « لا رافع لمن وضعت ولا واضع لمن رفعت » ، ومن التواضع أن تسلّم على كلّ من تلقاه ، والنتيجة أنّ الله يرفعك ويعزّك بين الناس ، ولا يمكن لأحد أن يضعك ويقلّ من شأنك ، فإنّ الله يرفعك ، ولا واضع لمن رفعه الله سبحانه ، فاغتنم السلام ، وانشره في المجتمع الإسلامي ليسوده السلام.

ومنها : احترام الصديق إذا دخل في مجلس ، فإنّه ورد في الحديث الشريف : « المؤمن أعظم حرمةً من الكعبة » ، ويقول الإمام الكاظم (عليه السلام) : « لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك

، وابقَ منها ، فإنّ ذهابها ذهاب الحياة » ، وقال الرسول الأكرم : « إذا أتاكم سيّد قوم فاعرفوا سؤدده » ، فاحترام القادم لازم ، لا سيّما الصديق فيقام له إجلالا وإكباراً ، إلاّ أنّه ورد في مكارم الأخلاق للمرحوم الطبرسي : أنّ النبيّ كان يكره القيام له ، وكان يقول : « لا يقومنّ بعضكم لبعض كما يقوم العجم بل تزحزحوا عن مكانكم » ، ولكن ورد في الخبر أيضاً : « من قام لأخيه المؤمن سلخه الله من ذنوبه كما تسلخ الحيّة جلدها » ، والجمع بين الروايتين كما يظهر من التعليل في الاُولى والتشبيه بالعجم ، أنّه تارة يقام لشخص لمكانته الدنيوية ، كالغني وإن كان فاسقاً ، أو السلطان وإن كان جائراً ، أو العالم وإن كان سوءاً ، فهذا من قيام العجم ، كما يحدّثنا التأريخ به فهو مذموم ، وكان النبيّ يكره ذلك ، ولنا في رسول الله اُسوة حسنة ، واُخرى نقوم للشخص لإيمانه وتقواه ، وإن كان فقيراً وأسوداً حبشياً ، فإنّ النار لمن عصى الله وإن كان سيّداً قرشياً ، والجنّة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً ، فمثل هذا القيام الذي يكون لله سبحانه ، وتعظيماً لمقام العلم المقرون بالحلم والعمل الصالح ، وتكريماً للإيمان المقرون مع التقوى ، فإنّه ممدوح ويوجب غفران الذنوب ، فتأمّل.

ومنها : التوسّع في المجلس ، فإنّ من حقّ الداخل إلى المجلس ، لا سيّما الصديق والأخ على أخيه ، أن يكرمه بالتوسّع له في المجلس ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « ثلاث يصفين ودّ المرء لأخيه المسلم : يلقاه بالبشر إذا لقيه ،

ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه ، ويدعوه بأحبّ الأسماء إليه » ، وفي آخر : « إذا أخذ القوم مجالسهم فإذا دعا رجل أخاه فأوسع له في مجلسه ، فليأتِ ، فإنّما هي كرامة أكرمه بها أخوه ، وإن لم يوسع له أحد ، فلينظر أوسع مكان يجده فليجلس فيه » ، وقال : « لئن يوسع أحدكم لأخيه في المجلس خير من عتق رقبة » ، ولقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام)عن السبب الذي دعى جماعة إلى أن يقولوا لنبيّهم : إنّا نراك من المحسنين ، فقال (عليه السلام) : « كان يوسع للجليس ويستقرض للمحتاج ويعين الضعيف » . وقال الله سبحانه وتعالى : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا إذا قيلَ لَكُمْ تَفَسَّحوا في الَمجالِسِ فَافْسَحوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ )[3] ، كان رسول الله إذا دخل منزلا ، قعد في أدنى المجلس حين يدخل ، وقال الإمام العسكري (عليه السلام) : « من رضي بدون الشرف من المجلس لم يزل الله وملائكته يصلّون عليه حتّى يقوم » ، « إذا أخذ القوم في مجالسهم فإن دعا رجل أخاه ، وأوسع له في مجلسه فليأته ، فإنّما هي كرامة أكرمه بها أخوه ، وإن لم يوسع له أحد فلينظر أوسع مكان يجده فليجلس فيه ».

ومنها : أن تذكره بكنيته في حضوره ، وتسمّه في غيابه ، فإنّ في الكنية احتراماً للصديق . يقول الإمام الرضا (عليه السلام) : « إذا كان الرجل حاضراً فكنّه ، وإذا كان غائباً فسمّه » ، فإنّك عندما تذكر صديقك في حضوره بكنيته وتناديه ( يا أبا فلان ) فإنّ ذلك يدلّ على تقديرك له واحترامك

إيّاه ، ولكن لو كان غائباً وأردت تعريفه ، فتذكره بالإسم.

ومنها : مراعاة أدب الجلوس والحضور معه ، فإنّه ينمّ ويخبر عن الاحترام والتقدير له ، ويكون الجلوس بكلّ تواضع ولين ، ولا يتخطّى الرقاب لأجل أن يجلس في صدر المجلس ، فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول : لا ينبغي للمؤمن أن يجلس إلاّ حيث ينتهي به الجلوس ، فإنّ تخطّي أعناق الرجال سخافة » ، « أمّا حقّ جليسك ، فأن تلين له جانبك ، وتنصفه في مجاراة اللفظ ، ولا تقوم من مجلسك إلاّ بإذنه ، ومن يجلس إليك يجوز له القيام عنك بغير إذنه ، وتنسى زلاّته وتحفظ خيراته ، ولا تسمعه إلاّ خيراً » . ومن أوصاف النبيّ أنّه ما رئي مقدّماً رجله بين يدي جليس له قطّ.

ومنها : أن يسمّي عطسته ، فإنّ العطسة علامة الصحّة والارتياح والنشاط ، وهو من الله سبحانه ، كما أنّ التثاؤب من الشيطان ، وهو علامة الكسل والنوم ، فإذا عطس أخيك المؤمن فهنّئه بالعافية والصحّة ، وادعو له قائلا : ( يرحمك الله ) أو ( يغفر الله لك ) والعاطس يجيبه ( أثابكم الله ) . وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : كان إذا عطس فقيل له : يرحمك الله ، كان يقول : يغفر الله لكم ويرحمكم ، وإذا عطس عنده إنسان قال له : يرحمكم الله ، ولمّا كان النبيّ وأمير المؤمنين علي يعطس أحدهما ، كان يقول الآخر : ( رفع الله شأنك على كعابك ) ، والعطسة إنّما تنبئ عن العافية والسلامة كما في علم الطبّ ، وقد ورد في الحديث الشريف : لو عطس ثلاث عطسات

فإنّها عافية وعلامتها ، وأمّا إذا عطس أربعة فإنّه يخبر عن المرض ، كما ورد من عطس لا يموت إلى سبعة أيام ، ولمثل هذا يشكر الإنسان ربّه على السلامة والعافية والرحمة ، فيسمت السامع العاطس قائلا : ( يرحمك الله ) يعني أنّ الرحمة الإلهية شملتك ، وأنّ الغفران الإلهي عمّك ، فيجيبه العاطس : الله يثيبك على ما تفضّلت قائلا : ( أثابك الله ) ، وسعيد حقّاً ذلك المجتمع الذي يسوده الودّ والمحبّة والدعاء ، وما أسعد الصديقان اللذان يدعو أحدهما للآخر بالسلامة والعافية والصحّة.

ومنها : ترك المزاح الجارح ، وأصل المزاح بمعنى إدخال السرور في قلب المؤمن والدعابة المريحة ، فإنّه مباح بل يستحبّ ذلك ، لا سيّما في السفر كما ورد في الخبر ، كما جاء في الحديث الشريف : « مزاح المؤمن عبادة » ، وفي آخر : « إنّ هذه الأرواح تملّ كما تملّ الأجساد ، فروّحوا عنها بطرائف الحكم » . وهذا يعني أنّه في عين أنّه بتمازج لا بدّ أن يكون في ذلك أيضاً طريفة حكمية ، لا مجرّد اللقلقة والقهقهة ، بل لا يتجاوز في مزاحه الحقّ . وقال رسول الله : « إنّي لأمزح ولا أقول إلاّ حقّاً » ، « المؤمن دعب لعب ، والمنافق قطب غضب » ، « ما من مؤمن إلاّ وفيه دعابة _ أي مزاح _ ».

ولكن إذا كان المزاح بمعنى كثرة الضحك والسفاهة وجرح مشاعر الآخرين وإهانتهم ، فإنّه لم يكن مذموماً وحسب ، بل يكون محرّماً ، وما لم يصل إلى درجة الحرام وخرج عن الاستحباب ، فإنّه يكون مكروهاً ، وربما الروايات التي تذمّ المزاح من

هذا المنطلق ، ففي الحديث الشريف : « كثرة الضحك تمجّ الإيمان مجّاً » ، وفي آخر : « إيّاكم والمزاح فإنّه يذهب بماء الوجه » ، وفي آخر : « إذا أحببت رجلا فلا تمازحه ولا تماريه » ، وفي آخر : « إذا أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينّه ولا تشارينّه » ، « إيّاكم والمزاح فإنّه يجرّ السخيمة ويورث الضغينة وهو السبّ الأصغر » . ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « إيّاكم والمزاح فإنّه يذهب بماء الوجه ومهابة الرجل » ، ثمّ قال : وكان أصحاب رسول الله يجلسون فيلهون ويتحدّثون ويضحكون ، حتّى أنزل الله قوله : ( ألَمْ يَأنِ لِلَّذينَ آمَنوا أنْ تَخْشَعَ قُلوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ )[4] فلمّا قرأ رسول الله عليهم هذه الآية تركوا حديث اللهو والمزاح . وهناك روايات تمدح المزاح ولكن بشروط ، قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ الله يحبّ المداعبة بالجماعة بلا رفث » ، أي بلا فسوق وجدل وجرح المشاعر . وفي الحديث الشريف : « ما من مؤمن إلاّ وفيه دعابة » ، وكان النبيّ كثير التبسّم ، بشره في وجهه ، وهذا يعني مدح التبسّم ، ولكنّ الضحك والقهقهة بالخصوص فإنّه مذموم ، كما ورد في الخبر الشريف : « القهقهة من الشيطان » ، وقال الأمير (عليه السلام) : « إحذر الهزل واللعب وكثرة الضحك والمزح والترّهات » ، « من قلّ عقله كثر هزله » ، « الكامل من غلب جدّه هزله » ، « كثرة الهزل آية الجهل » ، « غلبة الهزل تبطل عزيمة الجدّ » ، « لا تهزل فتحقر

» ، « من كثر مزاحه قلّ وقاره » ، « الإفراط في المزاح خرق ».

ومنها : ترك التناجي أمام الآخرين ، فيما كان المجلس خاصّاً يضمّ عدداً قليلا من الأصدقاء والأحبّاء ، قال الله تعالى : ( إنَّما النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ ليحْزن الَّذينَ آمَنوا )[5] ، ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إذا كان القوم ثلاثة من المؤمنين فلا يتناج منهم اثنان دون صاحبهما ، فإنّ ذلك ممّا يحزنه ويؤذيه » ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتّى يختلطوا بالناس ، فإنّ ذلك يحزنه » ، قال الله تعالى : ( ألَمْ يَعْلَموا أنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأنَّ اللهَ عَلاّمُ الغُيوبِ )[6].

والنجوى بين الإثنين مع حضور ثالث كإنّما يخمش وجهه ، والخمش من فعل الحيوانات الضارية ، فيدلّ على الروح السبعيّة التي لم تهذّب ، وتسلّطت القوّة الغضبيّة السبعيّة على باقي القوى ، فمثل هذا يكون في حدّ الحيوانية ، ولم يصل إلى جوهره وحقيقته وحدّه الإنساني الملاكي ، فإنّ الإنسان بين أن يعلو ويصل إلى قاب قوسين أو أدنى ، وتخدمه الملائكة وتفرش له أجنحتها كطالب العلم كما ورد في الخبر الشريف ، وبين أن يكون في الهاوية كالأنعام بل أضلّ سبيلا ، وذلك لما يحمل الإنسان من الروح الإلهيّة ( وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ روحي )[7] من جانب ، ولما يحمل من النفس الحيوانية من جانب آخر ، وحينئذ لو لم يصل إلى كمالاته المكنونة في جبلته ، ولم تنتهي تلك الروح إلى مفيضها الأوّل سبحانه وتعالى ، بل تغلّبت عليه النفس الحيوانية من اتّباع الشهوات والوهميات ، فإنّه

يكون أضلّ من الأنعام ، فإنّ الأنعام لم تكن لها الروح الإنسانية والنفس الناطقة ، وهذا كان له ، ومع ذلك أصبح كالأنعام ، فلا ريب يكون أضلّ سبيلا ، فتدبّر.

ومنها : الزيارة في الحضر ، فإنّه من زار أخاه المؤمن ، كأ نّما زار الله في عرشه كما ورد في الخبر الشريف ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من زار أخاه المؤمن إلى منزله ، لا حاجة منه إليه ، كتب من زوّار الله ، وكان حقيقاً على الله أن يكرم زائره » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من زار أخاه في الله عزّ وجلّ قال الله : ( إيّاي زرت ، وثوابك عليّ ، ولست أرضى لك ثواباً دون الجنّة ) » . وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : « ليس شيء أنكى لإبليس وجنوده عن زيارة الإخوان في الله بعضهم » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من زار أخاه في الله ولله ، جاء يوم القيامة يخطر بين قباطي من نور ، لا يمرّ بشيء إلاّ أضاء له » ، « ما زار مسلم أخاه في الله ولله ، إلاّ ناداه الله عزّ وجلّ : أيّها الزائر طبت وطابت لك الجنّة » ، وقال الأمير (عليه السلام) : « لقاء أهل الخير عمارة القلوب » ، وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : « تزاوروا في بيوتكم فإنّ ذلك حياة لأمرنا ، رحم الله عبداً أحيا أمرنا » . ولازم مثل هذا التزاور أن يذكر فيه فضائل ومناقب أهل البيت ومثالب أعدائهم ، حتّى يتمّ معنى إحياء أمر الأئمة الأطهار (عليهم السلام)وولايتهم الكبرى

التي هي من ولاية الله ورسوله ، والتي لا تتمّ إلاّ بالتولّي والتبرّي.

ومنها : المكاتبة في السفر ، فإنّها من أسباب المودّة والعلاقة الوثيقة بين الصديقين ، فإنّ من يكتب لأخيه وصديقه ، إنّما يسجّل له حبّه وتقديره للتأريخ ، فعلينا أن نعوّد أنفسنا على كتابة الرسالة ، كما علينا أن نجيب الرسائل ، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ردّ جواب الكتابة واجب كوجوب ردّ السلام » ، وقال (عليه السلام) : « يستدلّ بكتاب الرجل على عقله وموضع بصيرته ، وبرسوله على فهمه وفطنته » ، قال الأمير (عليه السلام) : « كتابك أبلغ ما ينطق عنك » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « التواصل بين الإخوان في الحضر التزاور ، والتواصل في السفر المكاتبة ».

ومنها : ترك خيانة الصديق ، فإنّ علاقة الصداقة من العلائق المقدّسة ، والخيانة تضرم النار فيها وتحرقها وتفنيها ، والخيانة في عالم الصداقة تعني أن يبطن الصديق لصديقه عكس ما يظهره ، ففي الوجه كالمرآة ، ولكن في الخلف خنجر قتّال . قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « المسلم أخ المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يغشّه ولا يغتابه ولا يخونه ولا يكذبه » ، فالصديق حقّاً من يصدق معك في كلّ الحالات ، في الغيبة والحضور ، في الظاهر والباطن ، سرّاً وعلناً ، في السرّاء والضرّاء ، في الفقر والغنى ، عنه (عليه السلام) : « لا تغشش الناس فتبقى بغير صديق » ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من غشّنا فليس منّا ».

وعلينا أن نكتم أسرار الصديق ، ففي الحديث الشريف : « سرّك في

دمك فلا يجر في غير أوداجك » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من الخيانة أن تحدّث بسرّ أخيك » ، ولا تخون الصديق عند الاستشارة ، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من أشار على أخيه بأمر يعلم أنّ الرشد في غيره فقد خانه ».

ولا نضمر السوء للأصدقاء ، يقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « عليكم بتقوى الله ، ولا يضمرنّ أحدكم لأخيه أمراً لا يحبّه لنفسه ، فإنّه ما من عبد يضمر لأخيه أمراً لا يحبّه لنفسه ، إلاّ جعل الله ذلك سبباً للنفاق في قلبه » ، يقول الشاعر :

يعطيك من طرف اللسان حلاوة *** ويروغ عنك كما يروغ الثعلبُ

والنفاق ثقيل على النفس ، فلماذا لا نتعامل مع الناس ومع الأصدقاء بصدق ، فلنحبّ بصدق ولنكره بصدق ، ومن صدق الصداقة أن لا يحفظ على الصديق زلاّته ، يقول رسول الله : « أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه الكلمة فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها ، اُولئك لا خلاق لهم » ، ومن الصدق أن لا تكذب على الصديق ، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « كبرت خيانة أنّ تحدّث أخاك حديثاً هو لك به مصدّق ، وأنت له به كاذب » . ومن الصدق حفظ الصديق أن لا يسقط ، قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من رأى أخاه على أمر يكرهه ولم يردعه فقد خانه ، وله الحقّ غداً عليه ».

والصداقة تنمو برعايتها وسقايتها بماء الحبّ والإخلاص ، فأخبر من تحبّه بذلك كما وردت الروايات في ذلك ، بل قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من كان

لأخيه المسلم في قلبه مودّة ، ولم يعلمه فقد خانه ».

وتحرم الغيبة بأن يذكر في الطرف الآخر ما لو سمعه كرهه ، ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : « من روى عن أخيه رواية يريد بها هدم مروءته وسلبه ، أوبقه الله بخطيئته حتّى يأتي بمخرج ممّا قال ، ولن يأتي بالمخرج أبداً » ، ويقول الله سبحانه : ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أيُحِبُّ أحَدُكُمْ أنْ يَأكُلَ لَحْمَ أخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُموهُ )[8].

ثمّ علينا أن نغتنم فرصة إقبال الناس علينا ، فإنّه ورد في الحديث الشريف :

« ما اكتسب العبد بعد الإيمان أفضل من أخ في الله» ، فلا تزهد فيمن رغب فيك ، يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « زهدك في راغب فيك نقصان حظّ ، ورغبتك في زاهد فيك ذلّ نفس » ، والمؤمن عزيز بعزّة الله سبحانه ، ولا يحقّ له أن يذلّ نفسه مهما كانت الظروف ، فلا يرضى بالذلّ والهوان والخنوع ، فمن يزهد فيك ولا يرغب في صداقتك كيف ترغب إليه ؟ ! !

وعلينا أن لا نفرّط بالأصدقاء القدامى ، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إنّ الله يحبّ المداومة على الإخاء القديم فداوموا عليه » ، ويقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : « إختر من كلّ شيء جديده ، ومن الأخوان أقدمهم » ، وقال (عليه السلام) : « من علامة كرم النفس بكاؤه على ما مضى من زمانه ، وحنين إلى أوطانه ، وحفظه قديم إخوانه » ، وجاء في وصيّة النبيّ داود لولده سليمان قائلا : « يا بني لا تستبدلنّ أخاً قديماً مستفاداً ما استقام لك ، ولا

تستقلنّ أن يكون لك عدوّ واحد ولا تستكثرنّ أن يكون لك ألف صديق » ، « عدوّ واحد كثير وألف صديق قليل » ، بل علينا أن نراعي حقوق أصدقاء الوالد أيضاً ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « لا تقطع أوداء أبيك فيطفئ نورك » ، كما على الصديق أن يحفظ أولاد صديقه ، فيزورهم ويتعهّدهم ، ويقضي حوائجهم ويكرمهم ويعزّهم ، وورد في الحديث الشريف : « يحفظ المرء في ولده ».

ولا نصادق من يكون ملولا ، فيقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا تثق بمودّة ملول ، فإنّه أوثق ما كانت به خذلك وأوصل ما كنت قطعك » ، وقال (عليه السلام) : « ليس لملول علم ولا لملول صديق ولا لملول حظّ في هذه الحياة » ، وقال (عليه السلام) : « الملل يفسد الاُخوّة » ، فلا بدّ من المحافظة على الأصدقاء القدماء ، ولا نملّ من كسب الصداقة الجديدة.

وإذا قطع الصديق علاقته لسوء تفاهم مثلا ، فعلينا أن نبادر في صلته ، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إحمل نفسك من أخيك عند صرفه على الصلة إذا قطعك ، وعند جموده على البذل ، وعند تباعده على الدنوّ ، وعند شدّته على اللين ، وعند جرمه على العذر ، حتّى كأ نّك له عبد ».

وقال (عليه السلام) : « عاتب أخاك بالإحسان إليه واردد شرّه بالإنعام عليه » ، « عجبت لمن يشتري العبيد بأمواله ، كيف لا يشتري الأحرار بإحسانه » ، صحيح ما ورد في الحديث الشريف : « إنّ الله أوكل إلى عبده المؤمن كلّ شيء ولم يوكل إليه أن

يذلّ نفسه » ، فالمؤمن عزيز لا يذلّ نفسه ، وهيهات منه الذلّة ، فكيف يكون لصديقه عبداً ؟ فأجاب أمير المؤمنين على ذلك قائلا : « وإيّاك أن تضع ذلك في غير موضعه ، أو أن تفعله لغير أهله » ، فالتواضع والتذلّل لأهله ممدوح ، كما قال سبحانه وتعالى : ( أذِلَّة عَلى المُؤْمِنينَ أعِزَّة عَلى الكافِرينَ ) ، فلا بدّ من معرفة كميّة المجاملة والتذلّل وكيفيّتها ، ومع من يكون ذلك ؟ فإنّ الصديق لو كان متكبّراً ؟ فقد ورد في الحديث الشريف : « التكبّر على المتكبّر عبادة » ، فالتواضع والصلة مع أهلها جيّدة . والعاقل العادل الذي يضع الأشياء في مواضعها.

وجاء في دعاء مكارم الأخلاق للإمام السجّاد (عليه السلام) : « اللّهم سدّدني لأن اُعارض من غشّني بالنصح وأجزي من هجرني بالبرّ ، واُصيب من حرمني بالبذل ، واُكافئ من قطعني بالصلة ، واُخالف من اغتابني إلى حسن الذكر ، وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيّئة ».

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « أطع أخاك وإن عصاك ، وصله وإن جفاك » ، وقال (عليه السلام) : « من المروءة احتمال جنايات الإخوان ».

وعلى المرء أن يكون متواضعاً كالبحر ، فيلمّ بين طيّاته الكنوز واللآلي ، ثمّ إذا شاءت الظروف قطيعة الصديق ، فحاول أن تجعل لنفسك خطاً للرجوع ، ولا تكسر كلّ الجسور خلفك ، يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « إن أردت قطيعة أخيك فاستبقِ له من نفسك بقيّة ، يرجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ما ».

ثمّ علينا أن نصافي بين صديقين متنازعين ، قال أمير المؤمنين في أواخر لحظات حياته الشريفة

في وصيّة لولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) : « اُوصيكما وجميع أهلي وولدي ومن بلغه كتابي هذا بتقوى الله ونظم أمركم ... الله الله في إصلاح ذات بينكم فإنّي سمعت جدّكما رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « صدقة يحبّها الله : الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا ، والتقريب بينهم إذا تباعدوا » ، وقال : « كلّ كذب مسؤول عنه يوم القيامة إلاّ ثلاثة : رجل كائد في حربه ، فهو موضوع عنه ، ورجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى هذا ، ورجل وعد أهله شيئاً ولا يريد أن يتمّ لهم عليه ، يريد بذلك دفعاً » . فكن أ يّها الأخ الكريم حاملا لوردة الإصلاح ، حينما يكون الخلاف بين صديقين وقريبين ، وسوف تلمس وتحسّ بلذّة عملك هذا ، فسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها السماوات والأرض.

---

[1]النور : 27.

[2]النور 57 _ 58.

[3]المجادلة : 11.

[4]الحديد : 16.

[5]المجادلة : 10.

[6]التوبة : 78.

[7]الحجر : 29.

[8]الحجرات : 11.

الفصل السادس - المؤثّرات في عالم الصداقة

ربما يزعم الإنسان أنّه جرم صغير حينما يرى سعة الكون ورحبه ، ولكنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول في الديوان المنسوب إليه :

أتزعم أ نّك جرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

ومثل الإنسان في عالم الإمكان لكثير ، ممّا يتصوّره الإنسان أنّه ذو حجم صغير لا قيمة له ، ولكن يرى أنّه يصنع العجائب والغرائب ، وكذلك الأمر في عالم الصداقة ، فهناك اُمور صغيرة في بداية الأمر ، ربما يتصوّر أن لا أثر لها ولا قيمة ، ولكن يمكنها أن تصنع المعجزات في أواصر العلاقة مع

الناس ، وتكسب المزيد من الأصدقاء ، وتوطّد العلاقة الحميمة معهم.

فمنها : الهدية فإنّها رمز المحبّة ، فإنّ الصدقة تحرم على النبيّ الأكرم وأهل بيته ، ولكن يستحبّ أن يهدي له بهدية ، ويقول (صلى الله عليه وآله) : « لو اُهدي لي كراع لقبلت » ، ويقول الإمام الكاظم (عليه السلام) : « لو حمل إلينا زكاة وعلمنا أنّها زكاة رددناها ، وإذا كانت هديّة قبلناها » ، فتكرم أخاك وصديقك بالهديّة وليست في قيمتها المادية بل في قيمتها المعنوية.

ومن حقّ الاُخوّة قبول الهدايا ، فقد قال رسول الله في حقوق الأخ : « أن يقبل تحفته ، ويتحفه بما عنده ، ولا يتكلّف له شيء » ، فإنّ الهديّة أقصر الطرق إلى قلوب الناس ، فإنّك تعقد حبل المودّة بينك وبينهم ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « الهدية تورث المحبّة » ، كما إنّ الهديّة تجدّد العلاقة بين الأصدقاء ، يقول النبيّ الأكرم : « الهديّة تجدّد الاُخوّة وتذهب بالضغينة » ، وقال : « تهادوا فإنّ الهدية تغسل السخائم ( الأحقاد ) كما إنّها تقضي الحاجات » ، قال النبي الأعظم : « نعمت الهدية عند الحاجة » . « الهدية مفتاح الحوائج » ، « الهدية تفتح الباب المصمت ».

فإذا انغلقت الأبواب فعليك بالهدايا ، فإنّها خير مفتاح ، وهي تخالف الرشوة فإنّها لفتح الباب عليك من دون أن تغلق أبواب الآخرين ، ولكنّ الرشوة تعني غلق باب الآخرين ، وهضم الحقوق ، ومخالفة الحقوق . ثمّ الهدية ردّ جميل على الهدايا ، والرسول الأكرم يقول : « تهادوا وتحابّوا » ، فتردّ الهدية بهدية ، وهذا

ممّا يزيد في المحبّة ، وجاء في الحديث الشريف : « إنّ التهادي من عمل حور العين ».

ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « ما استعطف السلطان ولا استسلّ سخيمة الغضبان ، ولا استميل المهجور ، ولا استنجح صعاب الاُمور ، ولا استدفعت الشرور بمثل الهدية » ، وليس المطلوب أن تكون الهدايا مادية ، فربما تكون كلمة طيّبة وقول معروف ، والله يقول : ( قَوْلٌ مَعْروفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَة يَتْبَعُها أذىً )[1].

ويقول الرسول الأكرم : « ما أهدى المرء المسلم إلى أخيه هدية أفضل من حكمة يزيده الله بها هدىً أو يردّ عنه ردى » ، « إنّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان ، فاهدوا إليها طرائف الحكم » ، وقال جبرئيل لرسول الله : إنّ الله أرسلني إليك بهديّة لم يعطها أحداً قبلك ، فقال النبيّ : وما هي ؟ فقال جبرئيل : الصبر ، وأحسن منه الرضى.

ومنها : زيارة الأصدقاء والأحبّة ، فإنّ الابتعاد يجعل الإنسان منسيّاً ، كما في الزيارة ثواب وأجر ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « سر سنتين برّ والديك ، وسر سنة صل رحمك ، وسر ميلا عد مريضاً ، وسر ميلين شيّع جنازة ، وسر ثلاثة أميال أجب دعوة ، وسر أربعة أميال زر أخاك لله ، وسر خمسة أميال اُنصر مظلوماً ، وسر ستّة أميال أغث ملهوفاً ، وعليك بالاستغفار » ، وقال : « من زار أخاه في بيته قال تعالى : أنت ضيفي وزائري وقد أوجبت لك الجنّة لزيارتك إيّاه ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « تزاوروا فإنّ زيارتكم إحياء لقلوبكم ، وإحياء القلوب وذكر

الأحاديث يعطف بعضكم على بعض ، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، فإن تركتموها ظلمتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم » ، وقال (عليه السلام)لبعض أصحابه : « أبلغ من ترى من مواليي السلام ، وأوصهم بتقوى الله العظيم ، وأن يعود صحيحهم على مريضهم ، وأن يعطف غنيّهم على فقيرهم ، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم ، وأن يتلاقوا في بيوتهم ، فإنّ لقاء بعضهم لبعض حياة لأمرنا ، فرحم الله عبداً أحيا أمرنا ».

ويقول أبو الحسن (عليه السلام) : « ليس شيء أنكى لإبليس وجنوده من زيارة الإخوان في الله بعضهم لبعض ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « ملاقاة الإخوان نشرة العقل وإن كان نزراً قليلا » ، وقال (عليه السلام) : « إنّ من روح الله تعالى ثلاثة : التعبّد في الليل ، وإفطار الصائم ، ولقاء الإخوان » ، وفي آخر : « زر أخاك في الله فإنّما منزلة أخيك منزلة يديك تزور هذه عن هذه ».

وعن رسول الله : « إنّ ملكاً لقي رجلا قائماً على باب دار فقال له : يا عبد الله ، ما حاجتك في هذه الدار ؟ قال : أخٌ لي فيها أردت أن اُسلّم عليه ، قال الملك : هل بينك وبينه رحم ماسّة ؟ أو نزعتك إليه حاجة ؟ فقال لرجل : ما لي إليه حاجة غير أ نّي أتعهّده في الله ربّ العالمين . فقال له الملك : إنّي رسول الله إليك ، وهو يقرأك السلام ويقول : إيّاي زرت فقد أوجبت لك الجنّة ، وقد عافيتك من غضبي ومن النار لحبّك إيّاه فيّ » ، وفي حديث آخر :

« إنّ الله يوم القيامة يعاتب بعض الناس قائلا لهم : مرضت فلم تعودوني واحتجت فلم تعطوني ؟ فيقولون : كيف مرضت وأنت ربّ العزّة ؟ وكيف احتجت وأنت خالق السماوات والأرض ؟ فيقول تعالى : عبدي المؤمن صار مريضاً ، إنّ زيارته زيارتي ، وقضاء حاجته قضاء حاجتي ، فلِمَ لم تزوروه ولم تقضوا حاجته ؟ ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : ثلاثة من خاصّة الله عزّ وجلّ يوم القيامة : رجل زار أخاه في الله فهو زائر الله ، وعلى الله أن يكرمه ويعطيه ما سأل ، ورجل دخل المسجد فصلّى ثمّ عقّب فيه انتظاراً للصلاة الاُخرى ، والثالث الحاجّ والمعتمر فهما وفد الله وحقّ على الله أن يكرم وفده » . ويقول (عليه السلام) : « إنّ العبد ليخرج إلى أخيه في الله ليزوره ، فما يرجع حتّى تغفر له ذنوبه ، وتقضى له حوائج الدنيا والآخرة ».

وقال الإمام السجّاد (عليه السلام) : « نظر المؤمن في وجه المؤمن للمودّة والمحبّة عبادة » ، وفي آخر : « النظر إلى وجه المؤمن عبادة ».

وإنّما تكون الزيارة واللقاء معتدلا بلا إفراط ولا تفريط ، فإذا رأينا الإحراج في زيارة الصديق فلنقلّل منها ، قال رسول الله : « زر غُبّاً تزدد حبّاً ».

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من كثرت زيارته قلّت بشاشته » ، وقال (عليه السلام) : « إغباب الزيارة أمان من الملالة ».

ومنها : المصافحة والمعانقة ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « مصافحة المؤمن أفضل من مصافحة الملائكة » فمن يبتسم في وجه الآخرين ويصافحهم بحرارة ، ويعانقهم بمودّة ، ويقبّلهم بإخلاص ، يكون

ناجحاً مع الناس وفي عالم الصداقة ، والمصافحة من رموز المحبّة ، قال رسول الله : « إذا لقي أحدكم أخاه فليصافحه وليسلّم عليه ، فإنّ الله أكرم بذلك الملائكة » ، وقال : « تصافحوا فإنّه يذهب بالسخيمة » ، وفي آخر : « المصافحة تذهب الغلّ » ، « مصافحة المؤمن بألف حسنة ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ المؤمن ليلقى أخاه فيصافحه فينظر الله إليهما والذنوب تحات عنهما حتّى يفترقا كما تحتّ الريح الشديد الورق عن الشجر » ، وقال (عليه السلام) : « إنّ المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أنزل الله بينهما مئة رحمة ، تسعة وتسعون منها لأشدّهما حبّاً لصاحبه ، وإذا اعتنقا غمرتهما الرحمة ».

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : « إنّ المؤمن إذا صافح المؤمن تفرّقا من غير ذنب » ، فحيّي أصدقاءك بابتسامة مشرقة ، وبثّ فيهم روح الصداقة في كلّ مصافحة ، ويقول المثل الصيني القديم : ( إنّ الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم لا ينبغي له أن يفتّح متجراً ) ، فالابتسامة والمصافحة والمعانقة لا تكلّف شيئاً ، ولكن تعود عليك بالخير الكثير في الدنيا والآخرة ، وأمّا تقبيل الصديق كما لو كان في سفر ، فإنّ المصافحة في الحضر والتقبيل في السفر ، كما ورد في الخبر الشريف ، فله أثر بالغ في تعميق المحبّة ، وأفضل موضع لتقبيل المؤمن هو بين عينيه ، أي موضع النور من جبهته.

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) : « بني ، إذا رأيت مؤمناً ، فقبّل موضع النور من جبهته » ، فهو موضع السجود لله فلِمَ لا يقبّل.

ومنها : إطعام

الطعام ، ( فَلْيَعْبُدوا رَبَّ هذا البَيْتِ الَّذي أطْعَمَهُمْ مِنْ جوع وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف )[2] ، فالإطعام من خلق الله ، وقد ورد في الحديث الشريف : « تخلّقوا بأخلاق الله » ، فإنّ الإطعام له أثر كبير في توطيد دعائم الصداقة والاُخوّة في المجتمع ، كما عليه الأجر والثواب الكثير ، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « لئن أصنع صاعاً من طعام وأجمع عليه إخواني في الله أحبّ إليَّ من أن أعتق رقبة ».

قال أبو بصير : قلت للإمام الصادق (عليه السلام) : لا أتغدّى ولا أتعشّى إلاّ ومعي اثنان أو ثلاثة أو أقلّ أو أكثر ، فقال (عليه السلام) : فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم . فقلت : جعلت فداك كيف وأنا اُطعمهم طعامي واُنفق عليهم من مالي ويخدمهم خدمي وأهلي وهم أصحاب الفضل عليّ ؟ ! فقال الإمام (عليه السلام) : « إنّهم إذا دخلوا عليك دخلوا برزق كثير وإذا خرجوا خرجوا بالفقر ، فالضيف يدخل برزقه ويذهب بذنوب أهل الدار ، فهو صاحب الفضل عليك ، وهذا الرزق ليس من عندك بل هو من عند الله عزّ وجلّ وفي بيتك على كلّ لقمة مكتوب : هذا لفلان بن فلان لا يأكل رزقك غيرك ولن تأكل رزق الآخرين ».

ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) : « إنّهم يأكلون أرزاقهم ويخرجون بذنوبك وذنوب عيالك ».

ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنّة ، ومن سقاه من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « ثلاثة من أفضل الأعمال : شبعة جوعة المؤمن وتنفيس كربته وإكساء

عورته » ، « المنجيات التي تنجي الإنسان من العذاب : إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام ».

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « ما من مسلم أكرم أخاه المسلم بتكرمة ، يريد بها وجه الله إلاّ نظر الله إليه ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من لقم مؤمناً لقمة حلاوة صرف الله بها عنهما مرارة يوم القيامة ».

وقال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « والذي نفس محمّد بيده ، لا يؤمن بي عبد يبيت شبعاناً وأخاه المسلم جائع » ، وقال : « من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ أشدّكم حبّاً لنا أحسنكم أكلا عندنا ».

ومنها : الدعاء للصديق ، فإنّ الصداقة في الإسلام علاقة حقيقية وحميمة بين المؤمنين ، فالدعاء جزء من حقّ الأخ على أخيه والصديق على صديقه : « اللّهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات » ، والدعاء بظهر الغيب وللآخرين أقرب للاستجابة ، يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « لا تستحقروا دعوة أحد فإنّه يستجاب لليهودي فيكم ، ولا يستجاب له في نفسه ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « الدعاء يردّ القضاء بعد ما اُبرم إبراماً ، فأكثروا من الدعاء إنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلّ حاجة ولا ينال ما عند الله إلاّ بالدعاء » ، قال الله تعالى : ( قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ )[3].

ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «من قدّم أربعين رجلا من إخوانه قبل أن يدعو لنفسه ، استجيب له فيهم وفي نفسه » ، « دعوة الرجل

لأخيه في ظاهر الغيب لا تردّ ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « أربعة لا تردّ لهم دعوة : الإمام العادل لرعيّته ، والأخ لأخيه بالغيب ، ويوكل له ملك يقول : ولك مثل ما دعوت لأخيك ، والوالد لولده ، والمظلوم » ، وقال (عليه السلام) : « من دعا لأخيه المؤمن رفع الله عنه البلاء وردّ عليه الرزق ».

ومنها : إخبار الصديق بحبّك إيّاه ، فإنّ ذلك ممّا يثير مشاعر الحبّ المتبادل ، فإنّ كلمة ( اُحبّك ) وإن كانت صغيرة إلاّ أنّها تترك أثراً كبيراً في النفس والقلب ، قال رسول الله : « إذا أحبّ أحدكم أحداً فليخبره » ، وقال : « من كان له في قلب أخيه المؤمن مودّة ولم يعلنه فقد خان » ، وقال رسول الله : « إذا أحبّ أحدكم أخاه فليعلمه ، فإنّه أصلح لذات البين ».

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : « فإنّه أبقى للمودّة وخير في الأنفة وأكثر في الاجتماع ».

ومنها : المبادلة بين الأصدقاء ، فالتحيّة يبادلها بتحيّة مثلها أو أحسن منها ، والهدية بهدية ، والحبّ بالحبّ ، والكلمة بالكلمة الطيّبة ، والاحترام بالاحترام ، وهكذا في كلّ شيء ، فلا تعني الصداقة الأخذ فقط ، بل أخذ وعطاء وعطاء وأخذ ، ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « فليس بأخ من ضيّعت حقوقه ».

ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من صاحب الناس كالذي يحبّ أن يصاحبوه ، كان عدلا ».

وقال الأمير (عليه السلام) : « لأخيك عليك مثل الذي لك عليه » ، « إن لم تحبّ أخاك فلست أخاه ».

وقال الإمام السجّاد (عليه السلام) :

« وأن تكرمه كما يكرمك وتحفظه كما يحفظك ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا خير في صحبة من لم يرَ لك مثل الذي يرى لنفسه » ، « ما أقبح رجل أن يعرف أخوه حقّه ، ولا يعرف حقّ أخيه » ، وقال (عليه السلام) : « أيسر حبّ المؤمن ما تحبّه له وما تحبّه لنفسك ، وأن تكره له ما تكره لنفسك » ، والمؤمن مرآة أخيه المؤمن ، يهب له نفسه ، ويعيره ماله ، ويتبع رضاه ، ويتجنّب سخطه ، ما دام في طاعة الله سبحانه.

ومنها : إدخال السرور في قلب الصديق ، فيملأ قلبه غبطة وثقة وانشراحاً ، ذات مرّة أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود النبي (عليه السلام) قائلا : يا داود إنّ العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة فاُبيح له جنّتي واُحكّمه فيها ، قال داود : وما تلك الحسنة ؟ قال : يدخل على عبدي المؤمن السرور . فقال داود : يا ربّ ، حقّ لمن عرفك أن لا يقطع رجاءه منك ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج ( مثال ) يقدم أمامه ، وكلّما رأى المؤمن هولا من أهوال يوم القيامة ، قال له المثال : لا تفزع ولا تخف ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزّ وجلّ ، فما يزال يبشّره بالكرامة من الله عزّ وجلّ حتّى يقف بين يدي الله ، ويحاسبه الله حساباً يسيراً ، ويؤمر به إلى الجنّة ، والمثال أمامه ، فيقول له المؤمن : رحمك الله نعم الخارج معي أنت من قبري ما زلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله عزّ وجلّ

أوصلتني إلى الجنّة فمن أنت ؟ فيقول له المثال : أنا السرور الذي أوصلته إلى قلب المؤمن في دار الدنيا ».

ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك سروراً ، أو تقضي عنه دينه ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « يا بن جندب ، من سرّه أن يزوّجه الله من الحور العين ويتوجّه بالنور فليدخل على أخيه المؤمن السرور ».

وقال الرسول (صلى الله عليه وآله) : « من لقي أخاه المؤمن بما يسوؤه ، أساءه الله ، وبعّده الله يوم القيامة ».

ومنها : أن تتحدّث معه فيما يهمّه ويخصّه ، فإنّ التكلّم فيما يتّصل باهتماماته سوف تجده ينساق إليك ويرتاح من مجلسك ، فابدأ في ما يهتمّ به ثمّ عرّج على ما تهتمّ به أنت ، فالسبيل المؤدّي إلى القلب أن تتحدّث فيما يسرّه ، ثمّ تبلّغه رسالتك ، ثمّ عليك أن تكتم سرّه . يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إنّما المجالس بالأمانة ، ولا يحلّ لأحد أن يفشي على صاحبه سرّه » ، وقال لأبي ذرّ الغفاري : « يا أبا ذرّ : المجالس بالأمانة ، وإفشاء سرّ أخيك خيانة ».

وقال الأمير (عليه السلام) : « لا تثق بمن يضيّع سرّك ، ومن الخيانة أن تحدّث بسرّ أخيك » ، وقال (عليه السلام) ، وما أروع ما قال : « ولا تطلع صديقك من سرّك ، إلاّ على ما لو اطّلع عليه عدوّك لن يضرّك » ، وقال (عليه السلام) : « لا تودع سرّك إلاّ مؤمناً وفيّاً ».

ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « قم بالحقّ ، والتزم ما لا يعنيك

، وتجنّب عدوّك ، واحذر صديقك من الأقوام إلاّ المؤمنين ».

ثمّ عليك بمصادقة أصدقاء صديقك ومعاداة أعدائه ، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)يقول : « أصدقاؤك ثلاثة ، واعداؤك ثلاثة : فأصدقاؤك : صديقك وصديق صديقك وعدوّ عدوّك ، وأعداؤك ثلاثة : عدوّك وعدوّ صديقك وصديق عدوّك ».

ومن الأدب حفظ اسم الصديق ، ولنذكر أحبّ الأسماء إليه ، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إذا جاءك الرجل فاسأله عن اسمه واسم أبيه وممّن هو ، فإنّه أوصل للمودّة » ، وقال : « ثلاثة يصفّين ودّ المرء لأخيه المسلم : يلقاه بالبشر وطلاقة الوجه ، ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه ، ويذكره بأحبّ الأسماء إليه » ، فإنّ بعض المجتمعات يكون الاحترام فيها للإسم الأوّل ، وبعضها فيها للكنية كما في العراق أو اللقب كما في إيران.

ثمّ علينا أن نفي بالوعد مع الله ومع أنفسنا ومع الصديق ، فإنّ للمؤمن ثلاث علامات : إذا أوعد لم يخلف ، وإذا حدّث لم يكذب ، وإذا ائتمن لم يخن ، وللمنافق ثلاث علامات وإن صلّى وصام : إذا أوعد أخلف ، وإذا حدّث كذب ، وإذا ائتمن خان ، وهذا من الصحيح في الخبر الشريف عن الصادقين (عليهما السلام) ، ولا يخفى أنّ المراد من المنافق في العمل ، كما عندنا منافق في العقيدة والإيمان ، وبينهما عموم من وجه ، فتأمّل.

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « ولا تعتمد على مودّة من لا يوفي بعهده » ، وقال (عليه السلام) : « الوفاء توأم الأمانة وزين الاُخوّة » ، وقال رسول الله : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر

فليفي إذا وعد » ، ويقول الأمير (عليه السلام) : « سبب الائتلاف الوفاء » ، وقال (عليه السلام) : « من أحسن الوفاء استحقّ الاصطفاء ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « عدة المؤمن أخاه نذر ، لا كفّارة له ، فمن أخلف ، بخلف الله بدأ ولنقمته تعرّض ».

ثمّ إنّ الله سبحانه كما ورد في الخبر الشريف : « جميل ويحبّ الجمال » ، فقال (عليه السلام) : « إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ الجمال والتجمّل ، ويبغض البؤس والتباؤس » ، وفي آخر : « إنّ الله يحبّ الجمال والتجمّل ، فإنّ الله إذا أنعم على عبده بنعمة أحبّ أن يرى عليه أثرها ، قيل : كيف ذلك ؟ قال : ينظّف ثوبه ويطيّب ريحه ويجصّص داره ويكنس أفنيته ، حتّى أنّ السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق » . فمن الأولى أن يتزيّن الإنسان لأصدقائه وأصحابه ويتجمّل ويتعطّر ، فإنّ ذلك يوجب الراحة ودوام الصداقة.

كان رسول الله ينظر في المرآة أو في الماء ويرجل جمّته ويتمشّط ، وكان يتجمّل لأصحابه فضلا على تجمّله لأهله ، ويقول : « إنّ الله يحبّ من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيّأ لهم ويتجمّل » ، وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « التجمّل من أخلاق المؤمن » ، « التجمّل مروءة ظاهرة » ، وفي سيرة النبيّ الأكرم كان ينفق أكثر من نصف ماله الشخصي في شراء الطيب ، وإذا مشى في زقاق ملأ المكان رائحة طيّبة ، ولنا في رسول الله حبيبنا وطبيب نفوسنا اُسوة حسنة.

وأخيراً عليك أن تتعرّف على مكان الصديق ، واُسرته ، وعنوان داره ،

وعمله ، وهاتفه ، فإنّ من صحب مؤمناً أربعين خطوة سأله الله عنه يوم القيامة ، ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إذا آخى أحدكم رجلا فليسأله عن اسمه واسم أبيه وقبيلته ومنزله ، فإنّه من الحقّ الواجب وصدق الإخاء ، وإلاّ فهي مودّة حمقاء » ، وبمثل هذه الأخلاق العالية والآداب السامية تدوم الصداقة والخلّة ، وتتجذّر في النفوس والأرواح المؤتلفة ، وتنفع في الدنيا والآخرة ، ولمثلها فليتنافس المتنافسون.

---

[1]البقرة : 263.

[2]قريش : 3.

[3]

الخاتمة - حقوق الاُسرة والأقرباء

( الأقربون أولى بالمعروف ).

ومن هذا المنطلق الإسلامي كلّما تحدّثنا عن حدود الصداقة وآدابها ومعالمها ، فإنّ الأقربين أولى بها ، فإذا تقيّدنا والتزمنا بقواعد الصداقة مع الغرباء على أنّه كما ورد في الخبر الشريف : « ربّ أخ لك لم تلده لك اُمّك » ، ولكنّ الاُسرة والعائلة والعشيرة والجيران أولى بهذه القواعد والاُسس والسنن الإسلامية الصحيحة ، وهذا ما يشهد عليه الوجدان والبرهان ، من العقل والسنّة والقرآن.

فالعلاقة مع الأبوين ، ثمّ الزوجة والأولاد ، ومع الإخوة والأعمام والأخوال وأبنائهم ، ليست علاقة نسبيّة وسببيّة ميكانيكية خالصة ، بل علينا أن نكون أصدقاء معهم ، تربطنا إضافة إلى العلاقة النسبية والسببية ، علاقات إنسانية شامخة ، وصداقات حميمة ، ترفل عليها رايات الحبّ والمودّة والتفادي والإخلاص والالتزام بكلّ ما تتطلّبه الصداقة مع الأغراب ، فقد ورد في الحديث الشريف : « القرابة إلى المودّة أحوج من المودّة إلى القرابة » ، فالمودّة والمحبّة فوق القرابة وأهمّ منها ، فإنّ القرابة تحتاج إلى المودّة ولا عكس.

وإذا أردنا أن نراعي حقوق الاُسرة والعائلة من الأبوين والزوجة والأولاد ، فما أروع ما يقوله الإمام السجّاد زين العبّاد علي

بن الحسين (عليهما السلام) في رسالة الحقوق قائلا : « وأمّا حقّ اُمّك : فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً ، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي لأحد أحداً ، ووقتك بجوارحها ، ولم تبالِ أن تجوع وتطعمك ، وتعطش وتسقيك ، وتعرى وتكسوك ، وتضحي وتظلّك ، وتهجر النوم لأجلك ، ووقتك الحرّ والبرد لتكون لها ، فإنّك لا تطيق شكرها إلاّ بعون الله وتوفيقه.

وأمّا حقّ أبيك : فتعلم أنّه أحبّك وأنّه لولاه لم تكن ، فمهما رأيته في نفسك ممّا يعجبك ، فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك ، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك.

وأمّا حقّ ولدك : فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه ، إن عمل ابنك عملا حسناً قال له الناس : رحم الله أباك ، وإن عمل سوءاً قال الناس : لعن الله أباك ، وأ نّك مسؤول عمّا وليّته به ، من حسن الأدب والدلالة على ربّه عزّ وجلّ والمعونة على طاعته ، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان ، معاقب على الإساءة إليه ».

ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « لا يلعننّ أحدكم أباه ، قالوا : يا رسول الله ، وهل يلعن أحدٌ منّا أباه ؟ قال : نعم ، يصنع عملا سيّئاً فيلعن الناس أباه ، فكأنّه هو الذي لعنه » ، فعلى الآباء رعاية حسن آداب أبنائهم بمصادقتهم وتربيتهم وتعليمهم اُصول الأخلاق والدين ، وإرشادهم إلى الحقّ والصواب ، فإنّ الآباء يشاركون أبنائهم في الثواب والعقاب ، ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « لعن الله والدين حملا

ولدهما على عقوقهما » ، ثمّ القاعدة العامّة في الإسلام تجاه الوالدين هي قاعدة الإحسان لا قاعدة العدل ، والقول الكريم لا قاعدة البرهان والدليل . قال الله تعالى : ( قُلْ تَعالوا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشْرِكوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوالِدَيْنِ إحْساناً وَلا تَقْتُلوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإيَّاهُمْ )[1] ، وقال عزّ من قائل : ( وَوَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً )[2] ، وقال سبحانه : ( وَقَضى رَبُّكَ ألاّ تَعْبُدوا إلاّ إيَّاهُ وَبِالوالِدَيْنِ إحْساناً )[3] ، فإنّه سبحانه قارن بين عبادته والإحسان إلى الوالدين ، وهذا يدلّ على عظمة الإحسان إليهما ، فإنّ فلسفة الحياة هي عبادة الله لقوله تعالى : ( ما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدونِ )[4] ، فالإحسان إلى الأبوين يضاهي فلسفة الحياة ، وقال عزّ وجلّ : ( إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرُ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما اُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلا كَريماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلٍّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُما كَما رَبَّياني صَغيراً )[5].

ولقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) : ما معنى الإحسان ؟ فقال : « الإحسان أن تحسن صحبة والديك ، وأن تكون صحبتك معهما وثيقة ومتينة ، وأن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئاً ممّا يحتاجان إليه ، وأضاف (عليه السلام) : وأمّا قوله ( إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرُ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما اُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما ) يعني : إن أضجراك فلا تقل لهما اُفٍّ ، ولا تنهر والدك حتّى ولو ضربك ، ولا تملّ عينيك من النظر إليهما إلاّ برحمة ورأفة ، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ، ولا يدك فوق أيديهما ، ولا تتقدّم أمامهما ،

وهذا هو الإحسان » ، وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : « ثلاث لم يجعل الله لأحد فيهنّ رخصة : أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر ، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر ، وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين » ، نعم كما قال الله تعالى : ( وَإنْ جاهَداكَ عَلى أنْ تُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلا مَعْروفاً ) ، فلا بدّ من إطاعة الوالدين إلاّ إذا كان يوجب تحريم الحلال ، أو تحليل الحرام ، فإنّه من الشرك المنهي عنه ، وقل لهما قولا معروفاً وكريماً وبالتي هي أحسن . يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أربع من كنّ فيه نشر الله عليه كنفه وأدخله الجنّة في رحمته : حسن خلق يعيش به في الناس ، ورزقاً بالمكروب ، وشفقة على الوالدين ، وإحساناً إلى المملوك ».

ثمّ لا يخفى أنّ الله تارةً يأمر أن نقول للناس قولا حسناً ، ولكن مع الوالدين نقول قولا كريماً ، والفرق بينهما أنّ الكلام الحسن ما كان فيه المنطقية والاستدلال والبرهان ، فمع الناس لا بدّ أن يكون كلامنا مبتنياً على الاستدلال والبرهان ، فإنّه كما يقال : نحن أبناء الدليل ، أينما مال نميل ، ولكن مع الأبوين يختلف لحن الكلام ، فإنّ الله يأمرنا أن نتكلّم معهم بقول كريم ، بمعنى أن نقبل قولهما ونرضخ لهما ونخفض جناح الذلّ لهما ، حتّى ولو لم يكن كلامهما منطقياً . فلا يقال _ كما نشاهد من بعض الشباب في محاورتهم مع الآباء _ أنّ كلامهما لا يبتني على الاستدلال والبرهان العقلي ، فلا بدّ من مخالفتهما والوقوف أمامهما ومعارضتهما ،

حتّى يصل الأمر إلى عقوقهما الذي يوجب النار والخسران والحرمان من التوفيقات الإلهية ، فهذا من المنطق الشيطاني وليس من الكلام الإلهي الرحماني ، فإنّ الله أمرنا أن نتكلّم معهما بقول كريم ونتعامل معهما بلطف وخضوع وأن نتصاغر أمامهما ونتواضع ، فكلّما ازددنا تواضعاً لهما زادنا الله رفعة ، ووفّقنا في حياتنا العلمية والعمليّة ، كما جرّبنا ذلك تكراراً ومراراً ، وما أكثر اُولئك الذين فشلوا في حياتهم لا سيّما مع أبناءهم لسوء معاملتهم مع آباءهم ، فإنّ الدنيا دار المكافاة ، فتدان كما تدين ، وبالعكس . فلا تغفل وليكن ديدنك مع الوالدين القول الكريم والمعاشرة الكريمة ، وقبولهما بكرامة ، وإطاعتهما في كلّ شيء ، حتّى ولو قالا للأبيض أسوداً أو بالعكس ، ما دام لم يصل إلى حدّ الشرك ، فإنّه إن جاهداك على أن تشرك بالله فلا تطعهما ، ومفهومه عليك بإطاعتهما مطلقاً إلاّ الشرك ، فتدبّر.

وأمّا أهلك وأقرباءك وأحبّاءك وعشيرتك التي ورد في نهج أمير المؤمنين (عليه السلام)إنّهم بمنزلة جناحيك التي تطير بهما ، فعليك أن تبرّهم ، وتؤدّي حقوقهم وتواسيهم وتصلهم ، حتّى لو آذوك وقطعوك وحرموك ، فكن في حياتك كالنخلة ، كلّما ضربها الأطفال بالحجارة ألقت عليهم رطباً شهياً حلواً ، والإنسان أعظم المخلوقات وأشرفها فهو أكرم من النخلة ، فما من أحد آذاك إلاّ وأحسنت إليه وألقيت عليه من رطبك الشهيّ وكلماتك الحلوة وأخلاقك الحسنة ، فلا ترفض الأقرباء والأهل إلاّ فيما أمرك الله بذلك ، وذلك في موارد خاصّة ، كما لو كان الإنسان القاطع في مقام إصلاحهم وتربيتهم تربية إسلامية صحيحة ، وإلاّ فلا يحقّ لك الرفض حتّى ولو يصل أذاهم إليك.

وجاء في الحديث

الشريف : جاء رجل إلى رسول الله وقال : إنّ لي أهلا قد كنت أصلهم وهم يؤذوني ، وقد أردت رفضهم . فقال له رسول الله : إذن يرفضكم الله جميعاً ! فقال : فكيف أصنع ؟ فقال له رسول الله : « تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو عمّن ظلمك ، فإذا فعلت ذلك كان الله لك ظهيراً ».

وأمّا الآيات والروايات في صلة الرحم فإنّها كثيرة جدّاً ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من سرّه أن يمدّ الله في عمره ، ويبسط في رزقه ، فليصل رحمه ، فإنّ الرحم تقول : يا ربّي ، صِل من وصلني واقطع من قطعني ، والرجل يرى بسبيل خير إذا أتته الرحم التي قطعها فتهوي به إلى أسفل قعر في النار ».

فعلى كلّ واحد أن يصل أرحامه بالصداقة ومراعاة حقوق الاُخوّة والرحم بإيصال المعروف إليهم ، ولا يصحّ أن تكون علاقة الإنسان بالناس جيّدة ، ولكن مع أهله سيئة ، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) : « لا يكوننّ أهلك أشقى الخلق بك » ، وقال رسول الرحمة محمد (صلى الله عليه وآله) : « خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي » ، وقال الأمير (عليه السلام) : « الاستهتار بالنساء حمق » ، وقال : « الزوجة الصالحة أحد الكسبين » ، ومن سعادة المرء الزوجة الصالحة المطيعة إذا نظر إليها سرّته لأمانتها وأخلاقها وتدبيرها الحسن ، وقال الرسول الأكرم : « ما زال جبرئيل يوصيني بالنساء حتّى ظننت أنّه سيحرّم طلاقهنّ » ، وفي آخر : « ما أظنّ رجلا يزداد في الإيمان

خيراً إلاّ ازداد حبّاً للنساء » ، و « كلّ من اشتدّ لنا حبّاً اشتدّ للنساء حبّاً » ، و « كلّما ازداد المرء إيماناً ازداد حبّاً بالنساء » ، و « المرأة ريحانة وليست قهرمانة » ، فإنّها وردة الحياة وزهرتها وريحانتها ، مرهفة الأحاسيس والعواطف كالقوارير والزجاج البلّور ن سرعان ما تنكسر وتجرح الأيدي لو لم نراعِ حقوقها ومشاعرها وخصائصها.

وأمّا الحديث عن الزوجة وتربية الأولاد فهو من الأحاديث التي يصعب الإلمام به ولو في مصنّفات قطورة ، ولكن إنّما نذكر كجرعة من ذلك البحر الموّاج ، وكخطوة اُولى لمن أراد أن يسير ألف ميل ، فالزوجة إنّما هي شريكة الحياة وزميلة الرجل في العيش ، كلّ واحد يكمّل الآخر ، وخير صاحب في الدنيا لو كانت تفهم وتدرك زوجها ، كما يدركها الزوج ، ولو قدّم للجائع الأكل في مزبلة فإنّه لا يطيقه ، ويفضّل الجوع على الأكل ، لأنّه لا ينسجم مع روحه ، وإن كان بدنه يشتاق إلى الطعام ، فالإنسان مركّب من روح وجسد ، وآداب الروح أقوى من الجسد ، فالرجل يبحث عن الجنس ، ولكن لا بأيّ شكل من الأشكال ، بل يبغي الجنس الذي يتلائم مع روحه ، كما يشبع شبقه الجنسي ، فهو يريد أن يشبع رغباته المادية والمعنوية ضمن الإطار الإنساني ، وكذلك المرأة من دون تفاوت في هذا المضمار أصلا ، وهذه من سنن الحياة ، من تلك السنن الإلهية التي لن تجد لسنّة الله تحويلا ولا تبديلا ، هكذا خلق الله الذكور والإناث ، فعلى كلّ واحد أن يساهم في عقد المودّة والصداقة ويكون الاحترام المتبادل بينهما ، قال رسول الله (صلى الله

عليه وآله) : « لو كان السجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » ، وقال الله تعالى : ( وِمِنْ آياتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْواجاً لِتَسْكُنوا إلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَة )[6] ، فما أسعد الحياة لو كان يسودها الرحمة والعطف والحنان ، والزوجة الناجحة هي التي تقدّر منجزات زوجها ضمن الإطار الشرعي ، وكذلك الزوج ، وعليه أن يمنح التقدير المخلص لها ، وأن تثق بنفسها ، ويشكر خدماتها ، ولا يستعمل الزوج الغلظة والفضاضة والغضاضة ، بل يستعين بالكياسة واللين وحسن الكلام ومراعاة الآداب والرفق ، فلا نجرح مشاعرها بكلمات جارحة ، ولا نقاطعها في الحديث ، ونعطي لها تمام شخصيتها ، ونحترم كيانها ، وكلّ واحد يسعد بالآخر ، وما أروع ما قاله أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « ولا يكوننّ أهلك أشقى الخلق بك » ، فكيف يكون العطف والرفق للغريب ، ولا يكون للقريب ؟ ! وعلينا أن نخلع همومنا وأحزاننا التي نبتلي بها خارج الدار عند دخولها ، كما نخلع أحذيتنا عند عتبة الدار ، فلا نؤذي الاُسرة بمشاكلنا الخارجية ، ثمّ لو أثنينا ومدحنا أزواجنا على الخيرات والأعمال الصالحة فإنّ ذلك يكون دافعاً قويّاً للإلتزام بها ، ويقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق : « وأمّا حقّ زوجتك فأن تعلم أنّ الله عزّ وجلّ جعلها لك سكناً واُنساً » ، فهي نعمة عظيمة من نعم الله الجسام ، فواجبك أن تشكر هذه النعمة بالقول والعمل ،

وإن شكرتم لأزيدنّكم بحياة سعيدة وهانئة ، وعيشة راضية مرضيّة ، « وإن كان حقّك عليها أوجب » ، كما قاله الإمام السجّاد (عليه السلام)

، ثمّ قال : « إنّ عليك أن ترحمها لأنّها أسيرتك ، ولا بدّ أن تطعمها وتكسوها وإذا جهلت عفوت عنها » ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « اتّقوا الله في النساء ، فإنّهن عوان ( أي أسيرات ) بين أيديكم ، أخذتموهنّ على أمانات الله لما استحللتم من فروجهنّ بكلمة الله وكتابه ، فإنّ لهنّ عليكم حقّاً واجباً ، كما استحللتم من أجسامهنّ ، وبما واصلتم من أبدانهنّ ، ويحملن أولادكم في أحشائهنّ ، فأشفقوا عليهنّ وطيّبوا قلوبهنّ » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا غنىً لزوج عن ثلاثة فيما بينه وبين زوجته : الأوّل : الموافقة ، الثاني : حسن الخلق معها واستمالة قلبها بالهيئة الحسنة ، الثالث : توسعته عليها » ، وهذا ممّا يزيد في الرزق كما ورد في الأخبار الشريفة ، وأمّا حقّ الزوج فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أ يّما امرأة لم ترفق بزوجها ، وحملته على ما لا يقدر عليه وما لا يطيق لم تقبل منها حسنة ، وتلقى الله وهو عليها غضبان » ، فلا بدّ من الانسجام الكامل بين الزوجين كلّ واحد يراعي حقوقه تجاه الآخر ، ويعمل بحسب الموازين الشرعية والإنسانية ، والظروف الزمانية والمكانية ، والعاقل تكفيه الإشارة ، فدع زوجتك تنطلق على سجيّتها لتشعر بالسعادة ، ما دام لم تخالف الشرع المقدّس ، ودعي زوجك ينطلق على سجيّته ، فإنّ لكلّ واحد أسبابه الخاصّة للشعور بالسعادة ، فلا نحاول أن نكون عقبة كؤودة في طريق الآخرين ، ودع التوافه فإنّها تجدها في قرارة كلّ شقاء زوجي كما قيل ، وإيّاك والنكد فإنّه

يؤدّي إلى الشعور بالشقاء ، فدع القلق وابدأ الحياة وعش سعيداً رغيداً نشيطاً ، واعلم أنّ الإسلام دين الله القويم قد اهتمّ وبكلّ تأكيد بالنوعيّة والكيفيّة ، وبالزمان والمكان ، وبالاُمور المرتبطة بالعلاقات الزوجية العامّة والخاصّة ، بما فيها اُمور الجنس وقضايا التمتّع بين الزوجين ، ولقد أثبتت التجارب أنّ كثيراً من أسباب هدم صرح البيت والعشّ الذهبي الزوجي ، إنّما هو نتيجة جهل الزوجين ، فعليهما ببذل الجهد والسعي لتكاملهما بالعلم والعمل الصالح.

ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أعظم الناس حقّاً على المرأة زوجها ، وأعظم الناس حقّاً على الرجل اُمّه » ، وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : « لا شفيع للمرأة أنجح عند ربّها من رضا زوجها ، ولمّا ماتت فاطمة (عليها السلام) قام عليها أمير المؤمنين (عليه السلام)وقال : اللّهم إنّي راض عن ابنة نبيّك ، اللّهم إنّها قد أوحست فآنسها » ، وفي الحديث النبوي الشريف : « ويلٌ لامرأة أغضبت زوجها ، وطوبى لامرأة رضي عنها زوجها » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا غنى بالزوجة فيما بينها وبين زوجها الموافق لها عن ثلاث خصال ، وهنّ : صيانة نفسها عن كلّ دنس حتّى يطمئنّ قلبه إلى الثقة بها في حال المحبوب والمكروه ، وحياطته ليكون ذلك عاطفاً عليها عند زلّة تكون منها ، وإظهار العشق له بالخلابة والهيئة الحسنة لها في عينه » ، وأمّا حق الزوجة فقد قال رسول الله : « حقّ المرأة على زوجها يسدّ جوعتها وأن يستر عورتها ولا يقبّح لها وجهاً » ، وقال الإمام الحسين (عليه السلام) : « وأمّا حقّ الزوجة فأن تعلم أنّ

الله عزّ وجلّ جعلها لك سكناً واُنساً ، فتعلم أنّ ذلك نعمة من الله عليك فتكرمها وترفق بها وإن كان حقّك عليها أوجب ، فإنّ لها عليك أن ترحمها ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خلال يتكلّفها وإن لم يكن في طبعه ذلك : معاشرة جميلة ، وسعة بتقدير ، وغيرة بتحصّن » ، وقال نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه وآله) : « قول الرجل للمرأة إنّي اُحبّك لا يذهب من قلبها أبداً » ، ما أروع هذا الاُسلوب في التعامل الزوجي ، فإنّه انطلاقاً من كلمة الحبّ ، يكفيك أن تملك مشاعر زوجتك إلى آخر الحياة لو قلت لها بإخلاص وصدق : ( إنّي اُحبّكِ ) ، فإنّها أجمل كلمة عند المرأة ، كما إنّ أمرّ كلمة وأشقى كلمة ( كلمة الطلاق ) ( اُطلّقكِ ) ، فإنّ الدنيا تسودّ في عينيها ، إسألوا نساءكم في حقيقة هاتين الكلمتين : كلمة الحبّ والوفاق ، وكلمة البغض والفراق ...

وعن إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : « ما حقّ المرأة على زوجها الذي إذا فعله كان محسناً ؟ قال : يشبعها ويكسوها وإن جهلت غفر لها ».

ولا بدّ من الخدمة المتبادلة بين الزوجين ، سألت اُمّ سلمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)عن فضل النساء في خدمة أزواجهنّ ، فقال : أ يّما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تريد به صلاحاً إلاّ نظر الله إليها ، ومن نظر الله إليه لم يعذّبه » ، وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : « جهاد المرأة حسن التبعّل

» ، وقال (عليه السلام) : « ما من امرأة تسقي زوجها شربة من ماء إلاّ كان خيراً لها من عبادة سنة » ، وقال رسول الله : « إذا سقى الرجل امرأته اُجر » ، وقال : « لا يخدم العيال إلاّ صدّيق أو شهيد أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة » ، « اتّقوا الله في الضعيفين : اليتيم والمرأة ، فإنّ خياركم خياركم لأهله » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من حسن برّه بأهله زاد الله في عمره » ، وقال رسول الله : « جلوس المرء عند عياله أحبّ إلى الله تعالى من اعتكافه في مسجدي هذا » ، و « إنّ الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إلى فم امرأته » ، وهناك كثير من الروايات تبيّن ثواب وأجر الخدمة ، وإذا كان للخدمة مثل هذا الثواب والآثار الاُخرويّة ، فما ظنّك بالآثار الوضعيّة في الدنيا ، فما أسعد الزوجين اللذين يلقم أحدهما الآخر لقمة الحبّ والمودّة ، وما أسعد الأولاد الذين يعيشون في مثل هذه الأجواء التي تسودها الصفاء والصداقة والحنان والشفقة.

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها وتغمّه ، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم زوجها ولا تؤذيه ، وتطيعه في جميع أحواله » ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ، ولا سنة من عملها حتّى تعينه وترضيه ، وإن صامت الدهر ، وعلى الرجل مثل ذلك الوزر إذا كان لها مؤذياً ظالماً » ، « ألا وإنّ الله ورسوله بريئان ممّن أضرّ بامرأة حتّى تختلع منه »

، وقال (عليه السلام) : « إنّي أعجب ممّن يضرب امرأته وهو بالضرب أولى منها ».

هذا تقريع من الإمام المعصوم (عليه السلام) لاُولئك الرجال الذين يرون رجولتهم إنّما تتكامل لا سيّما أمام النساء والضعيفات ، ولا سيّما زوجته الأسيرة بين يديه ، إنّما تتجلّى بالخشونة والضرب والإهانة والغلظة ، فكلّما ضرب زوجته يحسّ باللذّة ، ويتصوّر أنّه الرجل حقّاً ، وأنّه أدرك حقيقة الرجولة ، ووصل إلى قمّة الكمال والسعادة.

مسكين مثل هذا الرجل الغافل الشقيّ ، فإنّه أولى بالضرب من زوجته ، فهو الذي يستحقّ التربية الإنسانية ، لأنّه يعيش في نطاق حيواني ، وتغلّبت عليه القوّة السبعيّة والكلبيّة ، فهو أولى بها من التربيّة . فتدبّر ثمّ عليك بالصبر عند سوء خلق الزوجة.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من صبر على سوء خلق امرأته واحتسبه أعطاه الله بكلّ مرّة يصبر عليها من الثواب ما أعطى أيّوب (عليه السلام) على بلائه ، وكان عليها من الوزر في كلّ يوم وليلة مثل رمل عالج ، ومن صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها مثل ثواب آسية بنت مزاحم ».

وما أجمل الحياة وأسعد الرجل لو كانت شريكة حياته زوجة صالحة ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عزّ وجلّ خيراً له من زوجة صالحة » ، « خير متاع الدنيا المرأة الصالحة » ، « من سعادة المرء الزوجة الصالحة » ، « الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة ، وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : « ما أفاد عبد فائدة خيراً من زوجة صالحة ، إذا رآها سرّته ، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها

وماله » ، « شرّ الأشياء المرأة السوء » ، « أغلب الأعداء للمؤمن زوجة السوء » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « كان من دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أعوذ بك من امرأة تشيّبني قبل مشيبي » ، وفي تفسير قوله تعالى : ( رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) قال أمير المؤمنين : حسنة الدنيا المرأة الصالحة ، وقنا عذاب النار : المرأة السيّئة الخلق.

ثمّ على الزوج أن يفيض الخير والإحسان على أهله وعياله ، ويكون مظهراً تامّاً لربوبيّة الله ، فإنّ الرجل ربّ البيت والاُسرة ، فلا بدّ أن تظهر أسماء الله الحسنى في مقام تربية الاُسرة ، فإنّه يقال : لله سبحانه ألف وواحد من الأسماء ، فالتي تدلّ على الغضب كالقهّار والمنتقم تعدّ بالأصابع ، وأمّا باقي أسمائه الكريمة كالجواد والودود والشفيق والرحيم والبصير والسميع والعليم واللطيف والرحمن والغفّار والستّار وغيرها كما في ( دعاء جوشن ) فإنّها تدلّ على الرحمة العامّة والخاصّة ، فيما من سبقت رحمته غضبه ، وخيره إلينا نازل وشرّنا إليه صاعد ، ولا بدّ لربّ الاُسرة أن يتّصف بهذه الصفات الإلهيّة والأخلاق الربّانية ( تخلّقوا بأخلاق الله ) ، فلا بدّ من التفضيل والإسباغ والتكرّم على الاُسرة.

وقال الإمام الحسين (عليه السلام) : « إنّ أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله » ، وقال رسول الله : « إنّ المؤمن يأخذ بأدب الله إذا أوسع الله عليه اتّسع ، وإذا أمسك عنه أمسك » ، و « من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله ، كان كحامل صدفة إلى قوم محاويج ، وليبدأ بالإناث

قبل الذكور » ، وهذا يعني أنّه يراعي العواطف والأحاسيس ، ثمّ يستعين بالله تعالى على تربية أولاده كما قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) : « اللّهم أعنّي على تربية أولادي » ، فإنّ التربية من الصعب المستصعب ، لها آدابها وحدودها ومعالمها الخاصّة ، طرق أبوابها لا يسعها مثل هذه الرسالة الموجزة ، إنّما نرجع القرّاء الكرام إلى علماء الأخلاق والنفس والتربية والتعليم ، ومصنّفاتهم القيّمة ، ومؤلّفاتهم الثمينة.

وما توفيقنا إلاّ بالله العليّ العظيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

---

[1]الأنعام : 151.

[2]العنكبوت : 8 .

[3]البقرة : 83 .

[4]الذاريات : 56.

[5]الإسراء : 23.

[6]الروم : 21.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.