سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -
عنوان و نام پديدآور:مع الخطیب! فی خطوطه العریضه/ بقلم لطف الله الصافی.
مشخصات نشر:تهران: مکتبه الصدر، [1390ق.]= 1348.
مشخصات ظاهری:و، [216] ص.
وضعیت فهرست نویسی:برو ن سپاری.
يادداشت:عربی.
یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.
عنوان دیگر:خطوطه العریضه.
موضوع:خطیب، محب الدین، . الخطوط العریضه -- نقد و تفسیر
موضوع:اسلام -- دفاعیه ها
شناسه افزوده:خطیب، محب الدین. الخطوط العریضه
رده بندی کنگره:BP228/4/خ6خ6086 1348
رده بندی دیویی:297/479
شماره کتابشناسی ملی:1923006
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
ص: 3
مع الخطيب في خطوطه العريضة
الفقیه الکبیرالمرجع الدیني الأعلی سماحة آیة الله العظمی
الشیخ لطف الله الصافي الگلپایگاني (مدّ ظلّه الشریف)مکتب تنظیم ونشر آثار آیة الله العظمی الصافي الگلپایگاني (مدّظلّه الشریف)
ص: 4
كتبت هذا النقد بعد ما انتشركتاب «الخطوط العريضة» بطبعته الاُولی سنة 1380، ثم رأيت أنّ الأولی في هذا العص-ر الّذي تواترت فيه الكوارث والفتن علی المسلمين ترك نش-ره، فخفت أن يكون التعرّض للجواب أيضاً سبباً للشقاق والضعف، والفشل والتفرقة المنهيّ عنها، فذكرت قوله تعالی: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْ-حَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؛((1)) وقوله تعالی: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾؛((2)) وقوله تعالی: ﴿وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾.((3))
فقلت في نفسي: دع الخطيب ومن يحذو حذوه يكتب، ويتقوّل علی الشيعة ويفتري علیهم کلّ ما يريد، فالله سبحانه يقول: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.((4))
فالحريّ بنا وبکلّ مسلم غيور علی دينه واُمّته ترك هذه المناقشات
ص: 5
المثيرة، والظروف والأحوال علی ما يشاهد في العالم الإسلامي، فالفتن والكوارث قد أحاطت بنا من کلّ جانب، وجحافل الإلحاد بکلّ أفكاره ومبادئه الشرقية والغربية، والاستعمار الصهيوني، والصليبي أخذ يحاربنا، وبلا هوادة مستعملاً کافّة الأساليب الخدّاعة والمخطّطات الهدّامة، فهم الآن ومنذ زمن غير قريب يغزوننا في عقر دارنا، يهتكون حرماتنا، ويخربون مساجدنا، ويسعون لهدم جميع آثار الإسلام، وصروح الفضيلة والش-رف والأخلاق الكريمة الّتي أشادتها رسالة نبيّنا محمد(صلی الله علیه و آله و سلم).
فالإسلام مهدّد من جانب الاستعمار، ومهدّد من جانب الصهيونیة، ومن جانب المبشّرين الصليبيّين، مهدّد من جانب المجوسية، مهدّد من جانب الشيوعية، مهدّد من جانب الصحف والمجلّات الأجيرة لإشاعة الخلاعة والدعارة، مهدّد من جانب النعرات القومية، مهدّد من جانب ما يسمّی بالعلمانية، مهدّد ... ومهدّد ... ومهدّد ...
فها هي ذي حرمات الله مساجدنا في فلسطين تهتك، وتدنّس بکلّ وسائل اللهو والخلاعة والمجون.
وها هو ذا المسجد الأقصی المبارك الّذي أضرمت فيه إسرائيل نيران حقدها الدفين علی الإسلام والمسلمين، وأعلنت بحرقه نواياها الصهيونية الخبيثة.
ص: 6
وهذه فلسطيننا الحبيبة مازالت تئنّ تحت نير احتلال العدوّ، وتوجّه منها في کلّ يوم الاعتداءات الإسرائيلية نحو الأراضي الإسلامية والمحيطة بها.
وهذه مآت الاُلوف من إخواننا المسلمين المشرّدين من أبناء فلسطين ما برحوا لاجئين، يعيشون في المخيّمات، ويقاسون أنواعاً من الحرمان والاضطهاد. فيا أخي ما قيمة كتاب «الخطوط العريضة» ونحن في هذه الأحوال الدقيقة الحرجة؟ وما فائدة هذه الأقلام للإسلام والمسلمين؟ ومن ينتفع بمثل هذه النشريّات غير أعداء الدين؟ وهل وراء ذلك غير اليد الصهيونية الاستعمارية الأثيمة؟
واجبنا والظروف والأحوال هذه هو الجهاد، والتضحية في سبيل الله بنفوسنا وأموالنا وألسنتنا، لتكون كلمة الله هي العلیا وكلمة الّذين كفروا السفلی.
واجبنا سيّما القادة والعلماء، والكُتّاب والأثرياء، وذوي القدرة، أن نبذل کلّ إمكانيّاتنا لتحرير الأراضي المغتصبة، ومقدّساتنا في القدس العزيز، وأن نتسلّح بسلاح الإيمان، والاعتصام بحبل الله والاتّحاد، وأن ندعو المسلمين إلی التحابب والتوادد، لا أن نشتغل بالبحث عن المفاضلة بين الصحابة، والخلافات المذهبية، ونجعل ذلك سبباً للجفوة والبغضاء، ونوقد ناراً أخمدتها الأزمنة والدهور، ونحیي أحقاداً أماتتها الشدائد.
ص: 7
فمن أمرِّ الاُمور علینا، وممّا يملأ القلوب حسرةً هو أن يری فريق من المسلمين - في رحاب الحرمين الشريفين، وفي أعظم مؤتمر إسلامي سنوي كرّم الله به هذه الاُمّة، ويأمّه المسلمون من جميع الأصقاع والأقطار - جعلوا همّهم تفريق كلمة الاُمّة والدعوة إلی التباغض والتقاطع والتنافر، بينما كان من الواجب علیهم أن يوجّهوا هذا المؤتمر الإسلامي العظيم إلی معالجة ما ابتلي به المسلمون جميعاً من دعايات الإلحاد والكفر، فيتّخذوا الأساليب الناجحة لدفع هذه النعرات الضالّة المضلّة، وأن يستنهضوا بهذه الجموع الحاشدة - الّتي جاءت من کلّ فجّ عميق ليذكروا اسم الله،وليطّوّفوا بالبيت العتيق الاُمم الإسلامية في شرق الأرض وغربها للجهاد والنضال والعمل لكلّ ما يحقّق النصر، ورفع الظلامة الّتي حاقت باُولی القبلتين.
إذا لم نتفهّم هذه الحقيقة البسيطة فكيف نتوقّع أن يعود إلينا مجدنا الذاهب لنعيش كما عاش آباؤنا الّذين أكرمهم الله، فألّف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة الله إخواناً.
فصاروا في جميع الأرض حرّاً***وص---رنا في أم---اكننا عبيداً
ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
نعم إنّي تركت نشر هذا النقد، وأوكلت أمر الخطيب وما أتی به من البهتان إلی يوم الجزاء، يوم يحكم الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، ﴿يَوْمَ
ص: 8
تَشْهَدُ عَلَيهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْديهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.((1))
ولكن لمّا هو والأيادي الأثيمة الّتي كانت ولا تزال وراء هذه النشريّات، لم يقتنعوا بطبعته الاُولی فكرّروا طبعه ثانياً في جدّة وثالثاً ورابعاً في الديار الشامية، وخامساً في القاهرة سنة 1388، وترجم إلی اللغة الاُوردية كأنّهم عثروا علی كنز مخفيّ يجب نشره، أو علی صحيفة علم لم يطّلع علیها أحد.
ثم كرّر طبعه للمرّة السادسة محرّفاً، ووزّع مجّاناً في هذه السنة (1389) في الموسم وفي أرض التوحيد، وفي المملكة العربية الّتي يدعو عاهلها المسلمين إلی الاتّحاد والاتّفاق والوحدة الإسلامية، بين الحجّاج الوافدين إلی بيت الله الحرام ليحملوا هذه الدعوة الممزّقة المفرّقة إلی بلادهم، ويثيروا نار الفتن الدامية بين المسلمين، حتی يهدّد كياننا من الداخل، ويتشجّع أعداؤنا علینا من الخارج.
فلعن الله الاستعمار، والصليبية، والصهيونية، ولا أخالُك تظنّ أنّ أيّ عمل يرتكز علی إثارة العصبيات المذهبية بين المسلمين كهذا العمل عملاً بسيطاً يقدم علیه متعصّب لمذهبه، فما وراء هذهالنش-ريّات يا أخي إلّا يد الاستعمار والصهاينة، وليس المنفق علی هذه الدعايات إلّا أعداء الإسلام من إسرائيل وحلفائها.
ص: 9
فلهذا طلب منّي جمع من الأذكياء بما وراء مثل هذه الكتابات، نش-ر هذا النقد، لئلّا يقع بعض من لا معرفة له بعقائد الفرق في مكائد هذه الأقلام، ويعرف أنّ ما في كتاب «الخطوط العريضة» إمّا بهتان محض وافتراء بحت، أو ما ليس الالتزام به منافياً لاُصول الإسلام وما علیه السلف والخلف، خصوصاً إذا كان عن التأوّل والاجتهاد، فأجبتهم إلی سؤلهم متوكّلاً علی الله تعالی.
ولا يخفی علیك أنّي في هذا الكتاب استهدفت الحقيقة والتاريخ بروح موضوعيّة مجرّدة عن کلّ تعصّب وانحياز، فمن الإنصاف لقارئ الكريم الّذي ينشد الحقيقة أيضاً ألّا يتسرّع إلی الحكم حتی يشبع الكتاب دراسة واستيعاباً، وحتی يتجرّد عن کلّ تعصّب مقيت، وله بعد ذلك أن يحكم له أو أن يحكم علیه، وعند ذلك فالاختلاف والاتّفاق قيمة علمية، وبيّنة قائمة مادام الرائد هو الإنصاف، والحقّ هو المنشود.
قم المقدّسة
لطف الله الصافي الگلپایگاني
29 ذي الحجّة 1389ه-
ص: 10
لا ريب في أنّ الدعوة الإسلامية إنّما قامت علی عقيدة التوحيد، وتوحيد العقيدة، وتوحيد الكلمة، وتوحيد الأنظمة والقواعد، وتوحيد المجتمع، وتوحيد الحكومة، وتوحيد المقاصد.
فعقيدة التوحيد هي المبنی الوحيد لجميع الفضائل، وهي الحجر الأساسي للحرّيّة، واشتراك الجميع في الحقوق المدنية.
فلا فضل لعربي علی عجمي، ولا لأبيض علی أسود، وكلّ الناس أمام الحقّ والشرع سواء، والناس كلّهم من آدم، وآدم من تراب، و ﴿إِنَّمَا الْ-مُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾؛((1)) و ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ﴾؛((2)) و «إنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً»؛((3)) و «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكی بعضه تداعی له سائر الأعضاء بالسهر والحمّی»؛((4)) و «من
ص: 11
أصبح ولا يهتمّ باُمور المسلمين فليس منهم».((1))
أصبح المسلمون بنعمة الله إخواناً معتصمين بحبل الله تعالی، قلوبهم مؤتلفة، وأغراضهم واحدة، أشدّاء علی الكفّار، رحماء بينهم، فتحوا الأصقاع والبلدان، وصاروا سادات الأرض، ودعاة الناس إلی الحرّيّة والإنسانية، وقوّاد الإصلاح والعدالة الاجتماعية.
هدّموا قصور الجبابرة المستبدّين، وأنقذوا الضعفاء من استعبادالأقوياء الظالمين، وأخرجوا الناس من ذلّ سلطان الطواغيت وعبادة العباد، وأدخلوهم في عزّ سلطان الله وسلطان أحكامه وعبادته.
هكذا كان المسلمون الّذين أخلصوا دينهم لله، ولولا ما نجم فيهم من النفاق وحبّ الرئاسة والحكومة، والمنافرات الّتي وقعت بينهم في الإمارة، لما كان اليوم علی الأرض اُمّة غير مسلمة.
ولكن فعلت فيهم السياسة فعلها الفاتك، ففرّقت كلمتهم، وأزالت وحدتهم ومجدهم، فصاروا خصوماً متباعدين، بعد ما كانوا إخواناً متحابّين، واشتغلوا بالحروب الداخلية عوضاً عن دفع خصومهم وأعدائهم، ونسوا ما ذكّروا به من الأمر بالاتّحاد، والاُخوّة الدينية، فص-رنا
ص: 12
في بلادنا أذلّة بعد أن كنّا في غير أوطاننا أعزّة.
وأكثر هذه المفاسد إنمّا أتتنا من أرباب السياسات، ورؤساء الحكومات، الّذين لم يكن لهم إلّا الاستيلاء علی عباد الله، ليجعلوهم خولاً، ومال الله دولاً، فأثاروا الفتن، وقلّبوا الإسلام رأساً علی عقب، وضيّعوا السنن والأحکام، وعطّلوا الحدود، وأحيَوا البدع وقضوا بالجور والتهمة، واستخدموا عبدة الدراهم والدنانير، وأمروهم بوضع الأحاديث لتأييد سياساتهم، وفسّروا القرآن وحملوا ظواهر السنّة وفق آرائهم، ومنعوا الناس عن الرجوع إلی علماء أهل البيت الّذين جعلهم النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) عِدلاً للقرآن، وأمر بالتمسّك بهم. ((1)) فراجع بعين البصيرة والإنصاف كتب التاريخ والحديث حتی تعرف أثر أفاعيل السياسة الغاشمة وما هناﻙ من الفظائع
ص: 13
الّتي ملأت التاريخ والحديث حتی تعرف الأثر.
ولا تنس أيضاً أثر سياسات خصوم الإسلام من المسيحيّين واليهود وغيرهما في تأجيج نار الشحناء والبغضاء بين المسلمين، فإنّهم لم يسلبوا سلطاناً ولم يملكوا بلادنا إلّا بما أوقعوا بيننا من التفرّق والتشتّت، وبما بذلوا من القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة لبثّ التنافر والتباغض بين المسلمين، ومنعهم من الاتّحاد، فهم لا يزالون يضعون حواجز في طريق تقارب الحكومات الإسلامية، ويص-رفونهم عن الدفاع عن وطنهم الإسلامي الكبير ليؤسّسوا حكومات مستعمرة، وأوطاناً مفتعلة، من غير أن يعتبروهاأجزاءاً لوطننا الإسلامي ويطالبونهم بالدفاع عن حدود هذه الأوطان الّتي أحدثها المستعمرون، وذلك لتفريق كلمة المسلمين، وتضاربهم فيما بينهم حتی تقف کلّ حكومة منهم في وجه الاُخری.
تأبی الرماح إذا اجتمعن تكسّراً***وإذا افت--رقن تكسّرت آحاداً
والعارفون بأهداف الاستعمار يعلمون أنّ تجزئة الاُمّة الإسلامية أعظم وسيلة تمسّك بها المستعمرون للاحتفاظ بسلطتهم.
فيا أخي ما قيمة الوطن الّذي افتعله الأجنبيّ لمصلحة نفسه، وأيّ امتياز جوهري بين السودانيّ والمصريّ والاُردني والسوري، واليماني والباكستاني، والعربي والعجمي، بعد أن كانوا مسلمين خاضعين لسلطان أحكام الإسلام، وأيّ رابطة أوثق من الروابط الإسلامية والاُخوّة الدينية؟
ص: 14
المسلمون كلّهم أولاد علّات، أبوهم واحد وهو الإسلام، واُمّهاتهم شتّی، بلادهم منهم ولكن الاستعمار صيّرهم أقواماً متمايزة، وأراد أن يكون في کلّ بلد وإقليم حكومة خاصّة، وشعائر تميّز بعضها من بعض، والله تعالی أراد أن يكون الجميع اُمّة واحدة.
قال الله سبحانه: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾.((1))
وقال عزّ من قائل: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَ-هُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.((2))
فالمسلم أخو المسلم، سواء كان من أهل قطره أم لا، المسلم الفلسطيني أخ للمسلم العراقي، وللمسلم الإيراني، وللمسلم الصيني، وللمسلم الأرجنتيني، و و و.
جميع بلاد الإسلام وطن لكلّ مسلم، والإسلام حكومته، وقانونه وسياسته، وعقيدته ودينه، وأمّا الحكومات العميلة الّتي لا يتّصل بعضها ببعض بالصلات الإسلامية الوثيقة، والّتي جعلت شعارها القوميات الضيّقة المحدودة، وتشدّقت بالدفاع عنها، ولم تكترثبأوضاع العالم الإسلامي، وما يصيب المسلمين في غير إقليمها من الضعف والاضطهاد،
ص: 15
فلا تخدم إلّا أعداء الإسلام ما لم تجعل شعارها الوحيد الاحتفاظ بمصالح المسلمين وتحقيق أهداف الإسلام في شرق الأرض وغربها.
فيا الله يا منزل القرآن ويا منزل سورة التوحيد وحِّدْ حكوماتنا، وخلّص المسلمين من کلّ حكومة انفصالية إقليمية، وأجمعهم تحت راية حكومة إسلامية واحدة.
المسلمون شعارهم واحد، ومقصدهم واحد، وعقيدتهم واحدة، لا يعين المسلم غير المسلم علی أخيه المسلم، ولا يرغب المسلم في حكومة قامت علی خيانة المسلمين، ولا يذلّ نفسه عند الكفّار ليعینوه حاكماً علی المسلمين.
المسلم لا يكتب ما يوجب اشتداد البغضاء والتنافر بين إخوانه، ويمنعهم عن التقارب والتفاهم.
هذا شيء يسير من تأثير السياسات الغاشمة في الاُمّة الإسلامية، ولم يبق منها في هذا العصر ما يمنع من التوفيق بين المذاهب، واتّحاد المسلمين واجتماعهم تحت لواء الإسلام إلّا بعض العصبيّات الجامدة الّتي ليس وراءها حقيقة، ولا مصلحة للمسلمين، وإلّا دعايات الاستعماريّین «من الشيوعيّين والرأسماليّین» وقد قام بينهما الصراع في استعمار ممالك المسلمين، وكلّ منهما يريد أن يستعمر، ولا يری إلّا ما فيه مصلحة لنفسه أبعدهما الله
ص: 16
عن المسلمين وممالكهم، وخذل عمّالهما وكلّ حكومة تؤسّست علی رعاية منافعهما، وموادّة من حادّ الله ورسوله.
هذا بلاء المسلمين في عصرنا، ومنه يتوجّه الخطر علیهم، وهذه السياسة هي الّتي لا تتوخّی إلّا فقر المسلم وجهله، وهذه هي الّتي تشيع الفحشاء في المسلمين، وتبيح بيع الخمر والقمار والربا، تدعو إلی السفور، وتروّج الدعارة والتحلّل، وخروج النساء سافرات عاريات.
هذه السياسة هي الّتي تريد اشتغال المسلمين بالملاهي والمعازف، وانصرافهم عن حقائق الإسلام والقرآن، وتروّج البطالة، ولا تحبّاشتغال المسلمين بالعلوم النافعة والصنائع وتأسيس المعامل حتی لا يباع في أسواقهم إلّا متاع المستعمرين.
وأمّا السياسات العاملة لتفريق المسلمين في القرون الاُولی والوسطی فقد قضی علیها الزمان، فمضت العصور الّتي استعبدت الناس فيها جبابرة الاُمويّين والعباسيّين، ومضت الأعصار الّتي كان فيها تأليف الكتب وجوامع الحديث تحت مراقبة جواسيس الحكومة.
مضت العصور الّتي كان العلماء فيها تحت اضطهاد شديد، والعمّال والولاة يتقرّبون إلی الخلفاء والاُمراء بقتل الأبرياء، ونفيهم عن أوطانهم وتعذيبهم في السجون، وقطع أیديهم وأرجلهم.
ص: 17
مضی الّذين شجّعوا العمل علی التفرقة واختلاف الكلمة، وإشعال الحروب الداخلية.
مضت السياسات الّتي سلبت عن مثل النسائي حرّيّة العقيدة والرأي وقتلته شرّ قتلة.
مضی عهد الجبابرة الّذين صرفوا بيوت أموال المسلمين في سبيل شهواتهم، واتّخاذ القينات والمعازف هواية لهم.
مضت العصور الّتي سبّوا فيها علی المنابر أعظم شخصيّة ظهرت في الإسلام، لا يريدون بسبّه إلّا سبّ الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم).
مضت الأزمنة الّتي كان يرمي فيها بعض المسلمين بعضهم بالافتراء والبهتان وحتی الكفر والإلحاد.
مضت العصور المظلمة الّتي عاشت فيها کلّ فرقة وطائفة من المسلمين كاُمّة خاصّة لا يهمّها ما ينزل علی غيرها من المصائب والشدائد، ولم يكن بينهم أيّ تعاون أو أدنی تجاوب.
نعم قد مضت تلك العصور، وظهرت في تاريخ الإسلام صحائف مشرقة مملوءة بنور الإيمان والاُخوّة الإسلامية، فقامت جماعة من المصلحين المجاهدين بالدعوة إلی الإصلاح والاتّحاد، فأدركوا أنّ آخر هذا الدين لا يصلح إلّا بما صلح به أوّله، وأعلنوا أنّ المستقبل للإسلام، و ﴿إِنَّ الْأَرْضَ للهِ
ص: 18
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُلِلْمُتَّقينَ ﴾.((1))
فدعَوْا إلی اتّباع الكتاب والسنّة، ورفض العصبيات: العصبية الشعوبية، والعصبية المذهبية والقبَلية، فأدَّوْا رسالتهم في شرق البلاد الإسلامية وغربها، رزقهم الله التوفيق في توحيد الكلمة، وجمع شمل الاُمّة، فأثّرت أعمالهم الإصلاحية في نفوس المسلمين أثراً جميلاً، ولبّی دعوتهم جمٌّ غفير من الغياری علی الإسلام من العلماء الأفذاذ وغيرهم.
فكان من ثمرات هذه الجهود الكبری بل ومن أحلی ثمارها تأسيس «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية» في القاهرة، وإصدار مجلّة «رسالة الإسلام» العالمية الّتي جعلت شعارها قوله تعالی: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾((2)) و كتب فيها من كتّاب المذاهب ودعاة الخير والإصلاح، ورجالات الإسلام جماعة من المشايخ والأساتذة، فحقّقت مساعيهم كثيراً من أهدافهم في رفع التدابر والتنافر.
وكان من فوائد هذه الجهود عرض عقائد کلّ من الفريقين علی الآخر بعد أن لم يكن لأكثرهم معرفة بمذهب غيرهم في الاُصول والفروع، وكان هذا الجهل سبباً لتكفير بعضهم بعضاً في الأزمنة الماضية، فعرفوا اتّفاق
ص: 19
الكلّ في الاُصول، وأنّ بعض الخلافات الّتي أدّی إليها اجتهاد کلّ فريق لا يضرّ بالتقريب والتفاهم بعد اتّفاق الجميع في الاُصول.
وسيبزغ بفضل هذا الجهاد فجر وحدة المسلمين، ويصبحون كما أصبح أسلافهم في حياة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) إخواناً، ويدخل هذا الدين علی ما دخل علیه الليل ولا تبقی قرية إلّا ونودي فيها بکلمة التوحيد.
نعم، إنّ قوماً إلههم واحد، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، وشعائر دينهم واحدة، وقد جعلهم الله اُمّةً واحدة، أتری ليس إلی دفع مشاجراتهم واختلافاتهم سبيل؟إنّ الإسلام يدعو إلی وحدة الاُمم، ووحدة الأقوام والطوائف في مشارق الأرض ومغاربها.
دين الإسلام دين التوحيد، ودين خلع العصبيات، ورفض ما يوجب الشحناء والعداوات، دين يسيّر بأبناء البشر نحو حكومة عادلة ومساواة إنسانية كاملة، ونظام عدل للاقتصاد والاجتماع، ونظام للحكم والدستور ونظام للتربية والتعلیم، ونظام في جميع نواحي الحياة، ونظام للجموع وهم فيه سواء.
أتری أنّ هذا النظام الإلهي لا يقدر علی فصل الخصومات، وحسم المنازعات بين أبنائه؟
ص: 20
أتری أنّ الإسلام لم تكن له أساليب وتعاليم صحيحة لتمكين الاُمّة في الوطن الإسلامي الكبير الّذي يشمل جميع المسلمين، أحمرهم، وأبيضهم وأسودهم؟
أتری أنّه لا يعرض علی أبنائه دواء لدائهم؟
أتری أنّه لا يقدر علی رفع المشاجرات الّتي أحدثها عمّال السياسات الغاشمة، وأيدي الاستعمار الظالمة تلك المشاجرات الّتي يعود کلّ فائدتها لأعدائنا؟
أتری أنّ الله حرّم علی هذه الاُمّة أن يجلسوا علی صعيد واحد ويعيشوا في ظلّ حكومة واحدة فأقفل علیهم باب التفاهم والتجاوب؟
هذا هو القنوط من رحمة الله واليأس من رَوْحه، وكلّ دائنا يرجع إلی ذلك، ودواؤه الثقة بالله، والإيمان بأنّ النص-رمن عنده، وأنّ جند الله هم الغالبون، وأنّ العالم سيلجأ إلی الإسلام، وأنّه هو الدافع الفذّ للمشاكل الّتي أحاطت بالجامعة الإنسانية، وأنّ المسلمين هم الّذين يجب علیهم أن يؤدّوا رسالة الإسلام إلی غيرهم، وقد آن وقت ذلك وإن لم يأنِ فعن قريب سيجيء إن شاء الله تعالی.
فإذن لا عجب أن قامت في المسلمين نهضات للإصلاح، ورفع التفرقة وجمع الشمل، وإعادة كيانهم المجيد، ومجدهم العزيز.
ص: 21
ونسأل الله تعالی الاستقامة والصبر للمصلحين، ولمن يوازرهم علی توحيد كلمة المسلمين إنّه لما يشاء قدير.
ربّنا أفرغ علینا صبراً، وثبّت أقدامنا، وانصرنا علی القوم الكافرين.
ص: 22
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ﴾
﴿الْ-حَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحيم * مَالِكِ يَوْمِ الدِّين * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعينَ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْ-مُسْتَقيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْ-مَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾.((1))
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ أَمِينِكَ عَلَى وَحْيِكَ، وَنَجِيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَصَفِيِّكَ مِنْ عِبَادِكَ، إِمَامِ الرَّحْمَةِ، وَقَائِدِ الْ-خَيْرِ، وَمِفْتَاحِ الْبَرَكَةِ وَعَلَی آلِهِ الطَّاهِرينَ.
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّا ً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحيمٌ﴾.((2))
وکان من دعائه(علیه السلام) في الصلاة علی أتباع الرّسل ومصدّقیهم:((3))
اَللَّهُمَّ وَأَتْباعُ الرُّسُلِ وَمُصَدِّقُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالْغَيْبِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْ-مُعَانِدِينَ لَ-هُمْ بِالتَّكْذيبِ وَالْاِشْتِيَاقِ إِلَى الْ-مُرْسَلينَ بِحَقائِقِ الْإيمَانِ فِي کُلّ دَهْرٍ وَزَمَانٍ أَرْسَلْتَ فِيهِ رَسُولاً وَأقَمْتَ لِأَهْلِهِ دَليلاً مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى الله علیهِ وَآلِهِ مِنْ أَئِمّةِ الْ-هُدَى وَقَادَةِ أَهْلِ التُّقَى عَلَى جَمِيعِهِمُ السَّلَامُ فَاذْكُرْهُمْ مِنْكَ بِمَغْفِرَةٍ وَرِضْوَانٍ.
ص: 23
اَللَّهُمَّ وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّی اللهُ عَلَیُهِ وَآلِهِ - خَاصَّةً الَّذِينَ احْسَنُوا الصَّحَابَةَ وَالَّذينَ أَبْلَوُا الْبَلَاءَ الْ-حَسَنَ في نَصْرِهِ وَكَانَفُوهُ وَأَسْرَعُوا إلَى وِفَادَتِهِ وَسَابَقُوا إِلَى دَعْوَتِهِ وَاسْتَجابُوا لَهُ حَيْثُ أَسْمَعَهُمْ حُجَّةَ رِسَالَاتِهِ وَفارَقُوا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ فِي إِظْهَارِ كَلِمَتِهِ وَقَاتَلُوا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ فِي تَثْبِيتِ نُبُوَّتِهِ وَانْتَصَرُوا بِهِ وَمَنْ كَانُوا مُنْطَوِينَ عَلَى مَحَبَّتِهِ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ في مَوَدَّتِهِ وَالَّذينَ هَجَرَتْهُمُ الْعَشَائِرُ إِذْ تَعَلَّقُوا بِعُرْوَتِهِ وَانْتَفَتْ مِنْهُمْ الْقَرَابَاتُ إِذْ سَكَنُوا فِي ظِلِّ قَرَابَتِهِ فَلَا تَنْسَ لَ-هُمْ.
اَللَّهُمَّ مَا تَرَكُوا لَكَ وَفِيكَ وَأَرْضِهِمْ مِنْ رِضْوَانِكَ وَبِمَا حَاشُوا الْ-خَلْقَ علیكَ وَكَانُوا مَعَ رَسُولِكَ دُعَاةً لَكَ إلَيْكَ وَاشْكُرْهُمْ عَلَى هَجْرِهِمْ فِيكَ دِيَارَ قَوْمِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ مِنْ سَعَةِ الْ-مَعَاشِ إِلَى ضَيْقِهِ وَمَنْ كَثَّرْتَ فِي اعْزَازِ دِينِكَ مِنْ مَظْلُومِهِمْ.اَللَّهُمَّ وَأَوْصِلْ إِلَى التَّابِعِينَ لَ-هُمْ بِإِحْسَانٍ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ خَيْرَ جَزَائِكَ الَّذِينَ قَصَدُوا سَمْتَهُمْ وَتَحَرَّوْا وِجْهَتَهُمْ وَمَضَوْا عَلَى شَاكِلَتِهِم...
اَللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى التَّابِعِينَ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَعَلَى ذُرِّيَّاتِهِمْ وَعَلَى مَنْ أَطَاعَكَ مِنْهُمْ، صَلَاةً تَعْصِمُهُمْ بِهَا مِنْ مَعْصِيَتِك((1))...(إلی آخر الدعاء الشریف).
ص: 24
المسلمون
كما أسلفنا الإيعاز إليه في حاجة ماسّة إلی الاتّحاد، ورفض ما أوجب الشحناء بينهم في الأجيال الماضية، وإذا كانت بينهم بعض الخلافات فيجب علیهم أن لا يجعلوها سبباً للتنازع والتخاصم. قال الله تعالی: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.((1))
سيّما في هذا العصر الّذي تداعی علینا الاُمم كما تداعی الأكلة علی القصاع.((2))
وأولی الناس برعاية هذا الواجب هم الكتّاب والمصنّفون، فإنّهم أدلّاء العامّة، وهداة الحركات الفكرية، فكما تكون لبعض المقالات والمؤلّفات
ص: 25
آثار قيّمة لجمع الشمل وعزّ الإسلام، يكون لبعضها الآخر من مصارع السوء، والآثار المخزیة ما لا يمكن دفعها إلّا بعد مجاهدات ومجاهدات، فيجب علی المؤلّفين الاحتراز عمّا يوجب إثارة الضغائن المدفونة كما أنّه يجب علیهم التجنّب عن الافتراء والبهتان، ورعاية الأمانة والصدق، ونصيحة الاُمّة.
فإن أراد كاتب أن يكتب حول مذهب ما، كلمة أو كتاباً فالواجب علیه الرجوع إلی مصنّفات علماء هذا المذهب في العقائد والفقه، وملاحظة آراء أكابرهم، والنظرات المشهورة بين أهل هذا المذهب، وترك الآراء الشاذّة المتروكة بينهم، وأن لا يأخذ البريء منهم بجرم المس-يء، ولا ينسب إلی الجميع ما ذهب إليه بعض من ابتلي بالشذوذ في الرأي، فإنّه ليس من مذهب إلّا ويوجد فيه من له بعضالآراء الشاذّة.
ولعمر الحقّ لو راعی الكُتّاب والمؤلّفون هذا الأمر حقّ رعايته لذهبوا بكثير من أسباب المنازعات والمخالفات، ولما وقعت بين المسلمين هذه المنافرات، ولما بهت المسلم أخاه المسلم بالكفر والش-رك، وهذا أدب يجب علی کلّ كاتب أن يرعاه وإن لم يكن مسلماً.
إذا طهرت الصحف والأقلام من دنس الأغراض والعصبيّات وانتزعت من أيدي الجهّال وغير الخبراء، أدّی ذلك إلی تخلّص نفوس العامّة من الأحقاد والضغائن، ومن إساءة الظنّ بالأبرياء.
ص: 26
هذا، ونحن لا نخفي أسفنا الشديد علی ما يصدر عن بعض الكتّاب ممّا لا ينتفع به إلّا أعداؤنا، وليست فيه أيّة فائدة إلّا الضعف والفشل، وخدمة الاستعمار الغاشم مضافاً إلی ما في كلماتهم من الافتراء والبهتان.
ونحن نحسن الظنّ بإخواننا المسلمين، ولا نحبّ أن يصدر عن مسلم بصير بعقائد أهل السنّة والشيعة وآرائهم مثل هذه المقالات التافهة، ونرجو أن لا يكون بين المسلمين من يتعمّد ذلك، ونكره أن يكون بين الاُمّة من يخون الإسلام بلسانه وقلمه، ولا يشعر بضرره علی قومه واُمّته.
وربّما عذرنا بعض الكتّاب الّذين يكتبون في الأجيال الماضية عن الشيعة أو أهل السنّة، ويسندون إليهم المقالات المكذوبة علیهم، حيث لم يكن العثور علی كتب الفريقين وآرائهم في وسع کلّ كاتب، وأمّا في هذا العص-ر الّذي أصبح كتب الفريقين في متناول جميع الباحثين، ويمكن استعلام عقيدة کلّ طائفة من علمائها بکلّ الوسائل والسبل، فلا عذر لمن يرمي أخاه بما ليس فيه، ويتّهمه بمجرّد سوء الظنّ، وقد قال الله تعالی: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾.((1))
ومن الكتب الّتي نسبت إلی الشيعة المخاريق العجيبة، وسلكت مسلك أنصار الاُمويّين وغيرهم من أعداء عترة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) كتاب سمّاه مؤلّفه
ص: 27
[الخطوط العريضة للاُسس الّتي قام علیها دين الشيعة الإمامية الاثني عش-ریة] فبالغ في البهتان والافتراء، وتجريح عواطف الشيعة وأهل السنّة، وفيه من الكذب الظاهر والفحش البيّن، والخروج عن أدب البحث والتنقيب ما لا يصدر إلّا عن جاهل بحت، أو من كان في قلبه مرض النفاق، وأراد تفرقة المسلمين وإفساد ذات بينهم، وقد قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فيما رواه الترمذي وأحمد وأبو داود:((1))«ألا اُخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟»، قالوا: بلی، قال: «إصلاح ذات البين فإنّ فساد ذات البين هو الحالقة».
وفي خبر من طرقنا أنّه(صلی الله علیه و آله و سلم) قال:
«إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام».((2))
وأخرج الطبراني عنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «من ذكر امرءاً بما ليس فيه ليعيبه بما لیس فيه حبسه الله في نار جهنّم حتی يأتي بنفاذ ما قال فيه».((3))
ص: 28
فما ظنّك يا أخي بمن أشاع علی طائفة من المسلمين الّذين آمنوا بالله ورسوله، وكتابه وباليوم الآخر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويصومون ويحجّون، ويحرّمون ما حرّم الله في كتابه وسنّة نبيّه، ويحلّون ما أحلّ الله ورسوله، ما هم منه أبرياء.
وقد طعن في هذا الكتاب علی أئمّة المذهب ومفاخر الإسلام، ودافع عن سيرة يزيد بن معاوية، وأظهر انحرافه عن أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام)
الّذي لا يحبّه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّا منافق،((1)) ليهيّج الشيعة ويستنهضهم علی أهل السنّة حتی يعارضوا ذلك بالمثل، فيتحقّق أمله وأمل أعداء الدين من المستعمرين وغيرهم بإثارة خصومة حادّة بين المسلمين، فإنّ الاستعمار لا يحبّ أن يری الشيعي والسنّي يغزوانه في صفّ واحد، ولا يريد اتّفاقهما في الدفاع عن الصهيونية، ولا يريد اتّحاد المسلمين في إحياء مجدهم واسترجاع تراثهم الإسلامي، واستعادة البلاد والأراضي المغتصبة منهم.
الاستعمار يريد الشقاق والنفاق حتی يصفو له الجوّ وتتحقّق أهدافه، ومحبّ الدين الخطيب كاتب الخطوط العريضة، ومن يسلكسبيله، يمهّد له
ص: 29
الوصول إلی مطامعه الخبيثة من حيث يعلم أو لا يعلم.
ولكن لا يبلغ الاستعمار آماله إن شاء الله تعالی، وسينجح المصلحون، ولا تهِنُ عزائمهم بهذه الكلمات، فإنّهم أعلم بمقالات أرباب المذاهب وآرائهم، والتقريب فكرة إصلاحية كلّما مرّ علیها الزمان يزداد المؤمنون بها، وإن يری محبّ الدين استحالتها لأنّه لم يفهم أو لم يشأ أن يفهم معناها.
وبعد ذلك كلّه فنحن نكره أن نتکلّم في نيّة محبّ الدين، وأنّه أراد إثارة الفتن، وخدمة أعداء الإسلام، وإعانتهم علی هدم كيان المسلمين فالله هو العالم بالضمائر، فلا نريد أن نسير معه في مقالاته، ونوضّح أخطاءه وعثراته، بل نريد تخليص أذهان بعض إخواننا من أهل السنّة، وتطهيرها من هذه التهم والافتراءات، وجعلنا كتاب الخطوط العريضة مورد البحث والنقد؛ لأنّه بالغ في التهجّم علی الشيعة، وأتی بکلّ ما أراد من الكذب والبهتان، ولم نعارضه بالمثل ف- ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ََ﴾((1)) بل لم نتعرّض لما عند أهل السنّة من آراء شاذّة في الفروع والاُصول، وما نسب أهل الاعتزال إلی الأشاعرة، والأشاعرة إلی المعتزلة، وأتباع بعض المذاهب إلی غيرهم، وما حدث بينهم من المجادلات الكلامية في الكلام وخلق القرآن وغيره، وتكفير بعضهم بعضاً إلّا ما دعت
ص: 30
الحاجة إليه لتوضيح المراد وتحقيق البحث والتنقيب، فإنّا لا نری فائدة في نقل هذه المناقشات إلّا ضعف المسلمين، وتشويه منظر الدين، ونأخذ بما أدّبنا الله تعالی به فقال سبحانه:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْ-حَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.((1))
ونقول:﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّا ً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيم ٌ﴾.((2))
ص: 31
قال محبّ الدين الخطيب في ص 5: «ونض-رب لذلك مثلاً بمسألة التقريب من أهل السنّة والشيعة ...»، ثمّ هاجم دار التقريب بشدّة، لأنّ غرضه الأصلي من تأليفه الخطوط العريضة مهاجمة مبدأ التقريب.
من سبر أحوال المجتمع الإسلامي في أمسه ويومه، ووقف علی الصراع الطائفي الّذي أردی المسلمين في مثل هذا الضعف والانحلال، والسقوط في أحضان الاستعمار، وجد أنّ سبب هذا التنافر والتشاجر جلّه أو كلّه يرجع إلی سياسات غابرة انتهت وكانت من نتائجها إبادة أربابها، ويدرك كما أدرك المصلحون ودعاة الوحدة والتقارب أنّ الإسلام لن تعود إليه دولته الذاهبة إلّا إذا عادت إلی المسلمين وحدتهم في ظلّ الإسلام.
والواقع: أنّ من أعظم الأسباب في نشوب هذه المعارك المذهبية إنّما هو جهل کلّ طائفة بآراء الطائفة الاُخری، وإنّ التقارب بين المذاهب الإسلامية أمر ممكن إذا ما قدّر للمسلمين أن يعيشوا في اُفق أعلی وأنزه ممّا عاشوه في بعض أجيالهم الماضية.
بل إنّ ذلك ضرورة حتمية لمصيرهم ومستقبلهم، وليس ذلك من
ص: 32
المستحيل كما زعمه الخطيب، بل يمكن أن يعيش المسلمون في محبّة ووئام، كما عاش خيار الصحابة في صدر الإسلام، مع اختلافهم في الرأي والفتيا، حيث كانوا إخوة أحبّاء، تتميّز اُخوّتهم بالتفادي والإيثار، ولم يفض اختلافهم في الرأي إلی جفوةٍ أو بغضاء، أو تدابر أو تقاطع أو شحناء.
نعم، أدرك المصلحون أنّ المجتمع الإسلامي في عص-رنا هذا لا يقبل تكفير المسلم المؤمن بكتاب الله وسنّة رسوله(صلی الله علیه و آله و سلم) بمجرّد المزاعموالافترائات والخلافات الفرعية.((1))
فليس إذن فكرة التقريب فكرةً شيعية أو فكرةً سنّية فضلاً عن أن تكون وليدة فكرة حكومة شيعية أو سنّية، ولم تؤسّس دار التقريب للتقريب بين السنّة والشيعة فقط، بل تؤسّست للتقريب بين جميع المذاهب الإسلامية، وقد ساهم في تأسيسها من رجال العلم والدين أفذاذ لا يشكّ في صدق نيّاتهم.
وأمّا ما ذكر من إنفاق دولة شيعية علی دار التقريب فنحيل الفاحص عن ذلك إلی أقطاب جمعية التقريب السنّة وغيرهم.
ص: 33
ولو سلّم كون التقريب فكرة شيعية، وصدر من مبدأ شيعي فلماذا لا يقبله السنّي لأنّه فكرة شيعية! ما الّذي يمنع من التفكّر والتأمّل حول آراء الطرفين؟
وماذا يخسر السنّي إذا ما عرض له الشيعي آراءه وعقائده لئلّا يسيء إليه الظنّ ولا يتّهمه بالفسق أو الكفر؟
إنّ الشيعي لا يری بذلك بأساً ولا يحسّ ضرراً من أن يدرس عقائد أهل السنّة ومذاهبهم فهو حرّ في دراسة جميع العقائد يقرأ كتب أهل السنّة وصحفهم ومجلّاتهم.
فهذه مكتبات قم، والنجف وطهران، وجبل عامل وغيرها من البلاد والعواصم الشيعية، والجامعات العلمية مملوءة من كتب السنّيين القدماء ومن الصحاح، وجوامع الحديث والتفاسير والتواريخ، يدرسونها في مدارسهم، ومن كتب المتأخّرین، والمعاصرين أمثال الشيخ محمد عبده، ومحمد فريد وجدي والعقّاد، ورشيد رضا، وهيكل، والطنطاوي وأحمد أمين، والسيّد قطب، ومحمد قطب، والندوي، والمودودي وعفيف طبّارة، ومحمد الغزالي، وعبد الرزّاق نوفل، والشيخ منصور عليّ ناصف مؤلّف «التاج
الجامع للاُصول» والشيخ المراغي والشيخ نديم الجسر وغيرهم.
وهذه محاضرات الشيعة في الفقه يدرسون فيها أقوال جميع أئمّة الفقه،
ص: 34
ورؤساء المذاهب، ويذكرون خلافاتهم، ويبحثون في أدلّة الأقوال، ويأخذون بما هو أوفق بالكتاب والسنّة باجتهادهم من غير تعصّب لرأي، وكانت هذه سيرتهم من القديم، فراجع كتاب «الخلاف» للشيخ الإمام أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، و «التذكرة» للعلّامة الحلّي وغيرهما، لم يمنع أحد من العلماء تلامذته، وطلبة العلوم من مراجعة كتب أهل السنّة، ولا ينكر أحد علی أحد شراء وبيع كتب أهل السنّة في العقائد والحديث والكلام، ولا يرون بذلك كلّه بأساً، بل يستحسنونه ويستحثّون علیه.
ص: 35
حكی الخطيب((1)) في ص 6 نسبةً بشِعة من بعض كتب الشيعة إلی الخليفة عمر بن الخطّاب، ونسب نشر الكتاب الّذي ذكر فيه هذه النسبة إلی علماء النجف، ونسب إليهم أنّهم قالوا فيه عنه كذا ...
من أوضح ما يظهر منه سوء نيّة الخطيب، وأنّه لم يُرد إلّا إثارة الفتن والشقاق والخلاف بين المسلمين بافتراءاته النابية إسناد نش-ر الكتاب المذكور إلی علماء النجف، وحكايته عنهم أنّهم قالوا فيه عن عمر بن الخطّاب إنّه كان...
ولو أسند نشره إلی ناشر معيّن وذكر اسمه واسم مؤلّفه لكان له عذر في نقلها، ولكنّه أسند نشره كذباً وبهتاناً إلی علماء النجف يعني به جميعهم، وهم من أحوط الناس علی رعاية حرمة الإسلام والمسلمين، لا تجري أقلامهم وألسنتهم الطیّبة النزيهة إلّا في الإصلاح بين المسلمين وتوحيد كلمتهم، ودعوتهم وإرشادهم إلی الخير، ورفض البغضاء والشحناء، فهم في طليعة المصلحين المجاهدين لتحقيق الوحدة الإسلامية، ونبذ ما يوجب الخلاف والشقاق.
ص: 36
إذن فلا شكّ أنّه لم يُرد بما حكاه عنهم إلّا تجريح العواطف وتهييج الفتنة، وافتراق كلمة المسلمين أو النيل من الخليفة بنش-ر هذه النسبة إليه، وتسجيل نقلها عن علماء النجف الأشرف، وفيهم من رجالات الدين والعلم والمعرفة بتواريخ الإسلام، وتراجم الرجال مَن آراؤه وأقواله في غاية الاعتبار والاعتماد، فكأنّه أراد بتسجيل ما حكاه
علی علماء النجف الأشرف تسجيل أصل النسبة علی الخليفة وإشاعتها، فإنّ الكتاب الّذي ذكر فيه هذه النسبة - إن كان الخطيب صادقاً فيما حكاه - ليس معروفاً وفي متناول أيدي الشيعة وأهل السنّة، فنحن لم نقف علیه ولا علی اسم كاتبه بعدُ، مع الفحصالكثير في المكتبات، ولم نطّلع علی ما فيه إلّا بحكاية الخطيب في كتابه الّذي نشره في أرجاء العالم الإسلامي، وجعله في متناول أيدي أعداء الإسلام، والمتتبّعين لعورات المسلمين، وكان الواجب علی الحكومات السنّية مؤاخذة الخطيب ومصادرة كتابه بإشاعته هذه النسبة، وحكايته في كتاب يقرأه المسلمون وغيرهم.
وعلی کلّ حال لا حاجة لنا بتبرئة علماء النجف عمّا حكی عنهم، فإنّ شأنهم الرفيع أكبر وأنبل من ذكر الاُمور الشائكة في كتبهم، فهم معتمدون في مقالاتهم وآرائهم في المذهب والفقه والعلوم الإسلامية علی أقوی الأدلّة العلمية.
ص: 37
هذا، ولو فرضنا ذكر شيء من هذا القبيل في نقلٍ لا يعتمد علیه، أ يجوز له أن ينسب ذلك إلی الشيعة!؟ وإلّا فيجوز أن ينسب إلی السنّيين عقائد النواصب الّذين سبّوا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیه السلام)، وأحدثوا في الإسلام ما أحدثوا، وقتلوا سبطي رسول الله وريحانتيه(صلی الله علیه و آله و سلم).
والعجب أنّ الخطيب تارةً يقول: إنّ التقيّة عند الشيعة عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر بغير ما يبطنون، واُخری يقول بتظاهرهم بأمر، لو كانت التقيّة من دينهم لكان الواجب علیهم أن يستروه، لا أن يذيعوه ويكتبوه، وينشروه حتی يقرأه کلّ معاضد ومعاند، فتأمّل ما في كلماته من التهافت والتناقض، ومجانبة الحقّ والإنصاف، عصمنا الله تعالی منها.
ص: 38
قال الخطيب في ص 7: «ومن أتفه وسائل التعارف أن يبدأ منها بالفروع قبل الاُصول، فالفقه عند أهل السنّة وعند الشيعة لا يرجع إلی اُصول مسلّمة عند الفريقين، والتشريع الفقهي عند الأئمّة الأربعة من أهل السنّة قائم علی غير الاُسس الّتي يقوم علیها التشريع الفقهي عند الشيعة، وما لم يحصل التفاهم علی هذه الاُسس والاُصول قبل الاشتغال بفروعها، وما لم يتمّ التجاوب في ذلك من الباحثين في المعاهد العلمية الدينية للطائفتين فلا فائدة من إضاعة الوقت في الفروع قبل الاُصول، ولا نعني بذلك اُصول الفقه بل اُصول الدين من جذورها الاُولی... إلخ».
إن كان مراده من الاُصول تلك الّتي قامت علیها دعوة الإسلام، فلا اختلاف فيها بين المسلمين من الشيعیّین والسنّیین، لا اختلاف بينهم في أنّ الله واحد أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وليس كمثله شيء، ولا في أنّه علیم قدير، سميع بصير، له الأسماء الحسنی، ولا في نبوّة الأنبياء السلف، ولا في نبوّة خاتم الأنبياء وسيّدهم محمد بن عبد الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا في أنّ القرآن كتاب الله الّذي اُنزل إليه ليخرج الناس من الظلمات إلی
ص: 39
النور، ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾.((1))
ولا اختلاف بينهم في المعاد، والثواب والعقاب، والجنّة والنار، وغير ذلك من الاُمور الاعتقادية الّتي يعرفها المسلمون، ويؤمنون بها كلّهم، كما لا خلاف بينهم في وجوب الصلاة، والصوم، والحجّ والزكاة وغيرها من التشریعات الماليّة والبدنيّة، والاجتماعية والسياسية.
وإن كان مراده من الاُصول مسائل اُخری ممّا اختلف فيهالصحابة أو التابعون، أو الفقهاء فليست هذه المسائل من تلك، وإذا كان الخطيب يعرف أصلاً من الاُصول الّتي قامت علیها دعوة الإسلام ممّا يعدّ الإيمان في عصر النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) والصحابة عند الجميع من شرائط الإسلام، ولا يعرفه المسلمون من أهل السنّة أو الشيعة في هذا العصر فنحن نطالبه به.
ص: 40
وأمّا ما ذكره من أنّ الفقه عند أهل السنّة وعند الشيعة لا يرجع إلی اُصول مسلّمة عند الفريقين، وأنّ التشريع الفقهي عند الأئمّة الأربعة من أهل السنّة قائم علی غير الاُسس الّتي يقوم علیها التش-ريع الفقهي عند الشيعة.
فجوابه: أنّ الفقه عند جميع المسلمين من الشيعة وأهل السنّة يرجع إلی الكتاب والسنّة، والشيعة من أشدّ الناس تمسّكاً بهما إن لم نقل إنّهم أشدّ الفريقين في ذلك، ومع ذلك كيف تكون الاُسس الّتي قام علیها التش-ريع الفقهي عند أهل السنّة غير الاُسس الّتي قام علیها عند الشيعة، وما الفرق بين السنّي والشيعي في هذه الاُسس؟((1)) نعم لا يجوز عند الشيعة إعمال
ص: 41
القياس والاستحسان والرأي في الشريعة، كما هو المعمول به عند بعض رؤساء المذاهب الأربعة، لأنّ القول بجواز العمل بالقياس والاستحسان يفضي عندهم إلی القول بنقص الش-ريعة الّتي لم تترك شيئاً من الاُمور الدينية والدنيوية إلّا وقد بيّنتحكمها، ولعدم مسيس الحاجة إلی إعمال القياس، لإمكان استخراج أحكام جميع الوقائع والأحداث والقضايا من الكتاب والسنّة، وعدم وجود واقعة لا يمكن إدراجها تحت الأحکام الكلّيّة، وذلك لم يكن من مختصّات الشيعة.
ولا يخفی علیك أنّ أكثر الخلافات الواقعة في الفقه يرجع إلی اختلاف الاجتهاد في استخراج الحكم من النصوص، وثبوت بعض الأحاديث عند مجتهد، وعدم ثبوتها عند مجتهد آخر.
هذا مضافاً إلی أنّه لا إلزام لتبعيّة المجتهد للاُسس الّتي قام علیها
ص: 42
التشريع الفقهي بحسب مذهب خاصّ، ولا أن يكون مقيّداً بطريقة إمام خاصّ كالشافعي وأبي حنيفة وغيرهما، بل يجب أن يكون المتّبع هو الاُسس الّتي قام علیها التشريع الإسلامي «الكتاب والسنّة» سواء وافق رأي أهل مذهب خاصّ أم لم يوافق، فإن وافق اجتهاد مجتهد في مسألة فتوی الشافعي، وفي مسألة فتوی الحنفي، وفي مسألة فتوی المالکي، وفي مسألة فتوی مجتهد شيعي لا بأس به، فإنّ المحذور مخالفة الاُصول الّتي قام علیها التشريع الإسلامي لا الاُسس الّتي قام علیها اجتهاد مجتهد خاصّ.
وقد كان المسلمون قبل حصر المذاهب في الأربعة يجتهدون في الكتاب والسنّة، كما هو سيرة الشيعة الإمامية في الاجتهاد إلی اليوم.
وأمّا صحة الاجتهاد في فتوی مجتهد خاصّ فلم يدلّ علیها دليل، ولم يقم علی اعتباره لغيره من المجتهدين حجّة من الكتاب والسنّة، مضافاً إلی أنّه يوجب سدّ باب الاجتهاد وسلب الحرّيّة عن المجتهدين ووقوف الفقه الإسلامي عن مسيره، وحرمان العلماء عن التفكير والتأمّل في الكتاب والسنّة، وأظنّ أنّ الأئمّة الأربعة أيضاً لم يريدوا أن يكون مسلكهم في الفقه حجّة لسائر المجتهدين، وسبباً لإقفال باب الاجتهاد علیهم، لتنحص-ر المذاهب في الأربعة((1)) كما أظنّ أنّالمجتهدين لو جعلوا نصب أعينهم
ص: 43
التشریع الإسلامي، والكتاب والسنّة، ولم يقيّدوا أنفسهم باتّباع مذهب مجتهد معيّن، كما كان علیه المسلمون قبل تأسيس هذه المذاهب، لزال كثير من هذه الاختلافات والمنافرات، ولسار الفقه الإسلامي نحو عالم أرقی وأوفق بالكتاب والسنّة وبمزاج العصر، ولمزيد البحث في ذلك مجال آخر.
ص: 44
قال الخطيب في ص 7: «وأوّل موانع التجاوب الصادق بإخلاص بيننا وبينهم ما يسمّونه «التقيّة» فإنّها عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر لنا بغير ما يبطنون... إلخ».
بعد تصنيف الشيعة في عقائدهم وفقههم كتباً كثيرة لا يمكن إحصاؤها، وبعد ما اطّلع علیه الخاصّ والعامّ من معتقدات الإمامية، وبعد عرضهم مذاهبهم بما كتب علماؤهم في التفسير والحديث والكلام والفقه علی الملأ الإسلامي، وبعد إعلانهم عقائدهم علی رؤوس المنابر، وفي الجرائد والمجلّات، وبعد هذه الحوارات الحاصلة بين الفريقين، وبعد المشافهات الّتي وقعت بين عظمائهم من العلماء وغيرهم حيث يزور إخواننا من أهل السنّة بلاد الشيعة، ومعاهد علومهم الدينية، ويشاهدون بأعينهم التزام الشيعة بشعائر الإسلام، ويحضرون دروسهم، ومحاضراتهم في العقائد وفي الفقه، هل يمكن للشيعة التظاهر في عقائدهم بغير ما يبطنون؟ وهل ينتفعون بإخفاء عقائدهم؟
أيزعم الخطيب أنّ علماء الأزهر، وأقطاب التقريب لم يطّلعوا علی ما اطّلع علیه من كتب الشيعة، ولم يدركوا حقيقة مذهب الإمامية وآرائهم في
ص: 45
التقيّة وغيرها؟
أليس شيخ الأزهر أبصر من الخطيب ونظرائه بالمذاهب الإسلامية؟ هذا المصلح الّذي أدرك بعلمه الواسع وغيرته علی الإسلام والمسلمين ضرورة الاتّحاد والاتّفاق، وإمكان التقريب بين الطائفتين، فقام لله وأدّی ما علیه من نصيحة الاُمّة، ورفع الجفوة، فأيّد الزعماء المصلحين، وأسلافه من مشايخ الأزهر كالعلّامة الكبير الشيخ عبد المجيد سليم بإصدار فتواه التاريخية بجواز التعبّد بمذهب الإمامية وجواز الانتقال من سائر المذاهب إلی هذا المذهب.
ألا يصير اُضحوكة الناس من يقول: إنّ الشيعة حيث يقولون بالتقيّة لا يقبل منهم إقرار واعتراف في عقائدهم، وإنّهم يبطنونخلاف ما يظهرون؟
أليست التقيّة جائزة عند أهل السنّة؟
ألم يعمل بالتقيّة الصحابي الجليل عمّار بن ياسر ونزل فيه هذه الآیة الشریفة: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾.((1))
قال الواحدي في أسباب النزول: قال ابن عبّاس: نزلت - يعني قوله تعالی: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ ﴾((2)) - في عمّار بن ياسر، وذلك إنّ
ص: 46
المشركين أخذوه وأباه ياسراً، واُمّه سميّة وصهيباً وبلالاً وخبّاباً وسالماً، فأمّا سميّة فإنّها ربطت بين بعيرين، ووجئ قلبها بحربة، وقيل لها: إنّك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت، وقتل زوجها ياسر، وهما أوّل قتيلين قتلا في الإسلام، وأمّا عمّار فإنّه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً، فاُخبر النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) بأنّ عمّاراً كفر، فقال: «كلّا إنّ عمّاراً مليء إيماناً من قرنه إلی قدمه، واُخلط الإيمان بلحمه ودمه»، فأتی عمّار رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وهو يبكي، فجعل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يمسح عينيه ویقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت»، فأنزل الله هذه الآية.((1))
ونحن ننقل كلمات بعض أعلام الفريقين في التقيّة حتی يعلم أنّ القول بها متّفق علیه بين فرق المسلمين غير الخوارج، فإنّه ينقل أنّهم منعوا التقيّة مطلقاً.
قال الفخر الرازي في تفسيره المسمّی بمفاتيح الغيب في تفسير قوله تعالی: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْ-مُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْ-مُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾.((2))
المسألة الرابعة: اعلم أنّ للتقيّة أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها:
الحكم الأوّل: إنّ التقيّة إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار، ويخاف
ص: 47
منهم علی نفسه وماله فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبّة والموالاة، لكن بشرط أن يضمر خلافه، وأن يعرّض في کلّ ما يقول، فإنّ التقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.
الحكم الثاني للتقيّة: هو أنّه لو أفصح بالإيمان والحقّ حيث يجوز له التقيّة كان ذلك أفضل، ودليله ما ذكرنا في قصّة مسيلمة.
الحكم الثالث للتقيّة: أنّها إنّما تجوز فيما يتعلّق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضاً فيما يتعلّق بإظهار الدين، فأمّا ما يرجع ضرره إلی الغير كالقتل والزنی، وغصب الأموال والشهادة بالزور، وقذف المحصنات واطّلاع الكفّار علی عورات المسلمين، فذلك غيرجائز البتّة.
الحكم الرابع: ظاهر الآية يدلّ علی أنّ التقيّة إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين إلّا أنّ مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقيّة محاماة علی النفس.
الحكم الخامس: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز؛ لقوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «حرمة مال المسلم كحرمة دمه»، ولقوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من قتل دون ماله فهو شهيد». ولأنّ الحاجة إلی المال شديدة، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الاقتصار
علی
ص: 48
التيمّم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز هاهنا؟ والله أعلم.
الحكم السادس: قال مجاهد: هذا الحكم كان ثابتاً في أوّل الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأمّا بعد قوّة دولة الإسلام فلا.
روی عوف عن الحسن أنّه قال: التقيّة جائزة للمؤمنين إلی يوم القيامة، وهذا القول أولی؛ لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان((1)) (انتهی كلامه).
وقال الشيخ الطوسي في التفسير المسمّی بالتبيان في تفسير الآية المذكورة: والتقيّة عندنا واجبة عند الخوف علی النفس، وقد روي رخصة في جواز الإفصاح بالحقّ عندها، ثم ذكر ما روی الحسن في قصّة مسيلمة وقال: فعلی هذا، التقيّة رخصة، والإفصاح بالحقّ فضيلة، وظاهر أخبارنا يدلّ علی أنّها واجبة وخلافها خطأ.((2))
وقال الطبرسي في مجمع البيان: وفي هذه الآية دلالة علی أنّ التقيّة جائزة في الدين عند الخوف علی النفس، وقال أصحابنا: إنّها جائزة في الأحوال كلّها عند الضرورة، وربّما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح، وليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب علی الظنّ أنّه استفساد
ص: 49
في الدين، قال المفيد: إنّها قد تجب أحياناًوتكون فرضاً، ويجوز أحياناً من غير وجوب، وتكون في وقت أفضل من تركها، وقد يكون تركها أفضل، وإن كان فاعلها معذوراً ومعفوّاً عنه، ومتفضّلاً علیه بترك اللوم علیها.((1))
فهذه جملة من كلمات علماء الفريقين مفصحة بجواز التقيّة في الجملة، معلنة بتقارب آرائهم فيها، وأنّ الكلّ معتمدون في القول بها علی الكتاب والسنّة.
إذن فما ذنب الشيعة في القول بها؟ وما وجه مؤاخذتهم علیها إلّا التعصّب والجهل، نعم رأي الشيعة جواز التقيّة، وقد عملوا بها في الأجيال الّتي تغلّبت فيها علی البلاد الإسلاميّة اُمراء الجور، وحكّام جبابرة مثل معاوية، ويزيد، والوليد، والمنصور، والهادي، وهارون، وزياد، والحجّاج، والمتوكّل، وغيرهم ممّن عذّبوا أئمّة أهل البيت … أئمّة الخير، وقدوة العلم والزهد والدين، وعذّبوا أشياعهم شرّ تعذيب، وقتلوهم أبشع قتلة.((2))
وفي العصور الّتي كان فيها أخذ الحديث من أئمّة أهل البيت وعترة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وممّن يحبّهم أو يفضّلهم علی غيرهم من أعظم الجرائم السياسيّة،
ص: 50
في العصور الّتي سلبت عن المسلمين الحريّة الّتي هتف بها الإسلام، وكان سبّ أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) سنّة جارية لا يجترئ أحد أن ينكره.
نعم، عملوا بالتقيّة في الأزمنة الّتي كان فيها من بني فاطمة الزهراء بضعة الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) من يخفي انتسابه إليها وإلی بعلها‘ ليسلم من القتل والسجن والسوط، وأنواع التعذيب للمتش-رّفين بهذه النسبة الش-ريفة الطاهرة الزكيّة، وفي الأجيال الّتي لا يعدّ الرجل فيها من أهل السنّة إلّا إذا كان في نفسه عن أمير المؤمنين وفاطمة وسائر أهل البيت(علیهم السلام) شيء من البغض، أو يتظاهر بذلك ويترك أحاديث فضائلهم.هذا الخطيب البغدادي يذكر في تاريخه أنّ نص-ر بن عليّ الجهضميّ المحدّث الكبير لمّا حدّث بهذا الحديث عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من أحبّني وأحبّ هذين - وأشار إلی الحسن والحسين(علیهما السلام)- وأباهما واُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة» أمر المتوكّل بضربه ألف سوط، وكلّمه جعفر بن عبد الواحد، وجعل يقول: هذا الرجل من أهل السنّة، ولم يزل به حتی تركه.((1))
فهل تجد في مثل هذا العصر بدّاً من التقيّة؟ فتأمّل في مغزی هذه القصّة وأمثالها، وقد عمل بالتقيّة في هذه العصور كثير من المحدّثين والعلماء من
ص: 51
أهل السنّة أمثال أبي حنيفة والنسائي، ولم يكن للمحدّثين وأرباب الصحاح والمسانيد كأحمد وغيره حرّيّة في تخريج ما يخالف سياسة الحكومة وأهواء الاُمراء، ولم يكن للمصنّفين في تأليف الكتب ونقل الروايات بدّ من التقيّة؛ لكونهم تحت اضطهاد شديد ومراقبة عيون الحكومة الّتي بثّت جواسيسها في البلاد للفحص عمّن يری أو يروي لأهل البيت منقبةً وفضيلةً. ولقد أجاد إمام الحنفيّة في الأشعار المنسوبة إليه:
حبّ اليهود لآل موسی ظاهر***وولاهمُ لبني أخيه بادي
وإمامهم من نسل هارون الاُولی***بهم اقتدَوا ولكلّ قومٍ هادي
وكذا النصاری يكرمون محبّة***ل-مسيحهم نجراً من الأعوادِ
فمتی يوال آل أحمد مسلم***قتلوه أو سمّوه بالإلحادِ
هذا هو الداء العياء ل-مثله***ضلّت حلوم حواضر وبوادي
ل-م يحفظوا حتی النبيّ محمّد***في آله والله بال-مرصاد ((1))
هكذا كان حال المسلمين وعلمائهم في تلك القرون المظلمة، وأمّا في هذا العص-ر فالعلماء والباحثون أحرار في إظهار آرائهم حول المباحث الإسلامية، وليس بين الشيعي والسنّي ذلك التنافر الّذيأوجدته السياسة
ص: 52
في تلك العصور، فلا خوف ولا قتل ولا سجن لبيان الرأي، ولا يقاس هذا الزمان بعصر الاُمويّين والعباسيّين، وعصر الحجّاج والمتوكّل، ذلك زمان وهذا زمان،((1)) ولكنّ الخطيب لمّا رأی أنّ تصريحات علماء الشيعة في رسالة الإسلام، وفي كتبهم في العقائد وغيرها بدأت يدفع عنهم ما افترت علیهم السياسة والتعصّب والجهل ويذهب بالتنافر الّذي بقي بين المسلمين أكثر من 13 قرناً لم يتمكّن أن یقول شيئاً غير مقالة إنّ الشيعة يتظاهرون بغير ما يبطنون.
وسواء أراد الخطيب وناشر كتابه أم لم يرد فقد حسن التجاوب بين الفريقين، والتفاهم في ما بينهم، إلی حدّ أن صدرت عن شيخ الأزهر فتواه التاريخيه بجواز التعبّد بمذهب الإمامية كما صدرت عن علماء الشيعة مثل السيّد شرف الدين والسيد محسن الأمين والشيخ محمد حسين آل كاشف
ص: 53
الغطاء، وغيرهم مقالات وكتب قضت علی الافترائات قضاءً حاسماً.((1))
ص: 54
قال الخطيب في ص 8: «وحتی القرآن الّذي كان ينبغي أن يكون المرجع الجامع لنا ولهم علی التقارب نحو الوحدة، فإنّ اُصول الدين عندهم قائمة من جذورها علی تأويل آياته وصرف معانيها إلی غير ما فهمه منها الصحابة عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وإلی غير ما فهمه منها أئمّة الإسلام عن الجيل الّذي نزل علیه القرآن».
عقائد الشيعة مأخوذة من الكتاب والسنّة القطعية، ومن الأدلّة العقليّة القاطعة، وتمام الملاك والمناط الفذّ والمرجع الوحيد في تمييز العقيدة الصحيحة عن السقيمة عندهم هو العقل وظواهر القرآن والسنّة، فالشيعي لا يعتقد بما خالف ظواهر الكتاب أو السنّة، نعم إذا صادم الظاهر ما قام علیه البرهان القطعي العقلي أو تعارض ما دلّ علیه نصّ أو صريح من الكتاب أو السنّة لا يعتمدون علیه، كما برهنوا علیه في الاُصول، ويأوّلون هذا الظاهر بتأويل صحيح مقبول لدی العقل والش-رع، ومع ذلك لا يستندون إلی هذا التأويل، ولا يأسّسون الاُمور الاعتقادية، بل والمسائل العملية الفرعية علی تلك التأويلات.
ص: 55
وعند الشيعة روايات بطرقهم عن أئمّة أهل البيت(علیهم السلام)، إسناد بعضها صحيحة وبعضها سقيمة، في تفسير الآيات وبيان مصاديقها، وشأن نزولها وتقييد بعض مطلقاتها، وتخصيص بعض عموماتها، وبيان خاصّها وعامّها، وغير ذلك. وأفرد بعضهم في هذا القسم من التفسير، وجمع فيه تلك الروايات وليست مقبولة عند الشيعة، وهو بينهم كتفسير السيوطي المسمّی «بالدرّ المنثور في التفسير بالمأثور» عند الجمهور.
والعجب من الخطيب إنّه يرمي الشيعة بتأويل الآيات، ويغمض النظر عن تأويلات أكابر أهل السنّة، وأقطابهم من المتصوّفة وغيرهم ممّا لا يقبله الطبع السليم والذهن المستقيم، وممّا تضحك بهالثكلی.
فاقرأ يا أخي قليلاً من هذه التأويلات الخياليّة الباطلة في تفسير النيسابوري «غرائب
القرآن». وراجع التفاسير المشهورة المعتمدة عند الشيعة كالتبيان للشيخ الطوسي، ومجمع البيان لأمين الإسلام الطبرسي حتی تعرف نزاهة الشيعة عن هذه التأويلات الوهمية الشعرية وعدم اعتدادهم بها.
ص: 56
قال الخطيب في ص 8: «بل إنّ أحد كبار علماء النجف وهو الحاج ميرزا حسين بن محمد تقيّ النوري الطبرسي الّذي بلغ من إجلالهم له عند وفاته سنة 1320 أنّهم دفنوه في بناء المشهد المرتضوي بالنجف، في إيوان حجرة بانو العظمی بنت السلطان الناصر لدين الله، وهو إيوان الحجرة القبلية عن يمين الداخل إلی الحصن المرتضوي من باب القبلة في النجف الأشرف بأقدس البقاع عندهم.
هذا العالم النجفي ألّف في سنة 1292ه- وهو في النجف عند القبر المنسوب ((1)) إلی الإمام عليّ كتاباً سمّاه «فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأرباب» جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة ومجتهديهم في مختلف العصور بأنّ القرآن قد زيد فيه ونقّص منه، وقد طبع كتاب الطبرسي هذا في إيران سنة 1298ه- وعند طبعه قامت حوله ضجّة لأنّهم كانوا يريدون أن يبقی التشكيك في صحّة القرآن محصوراً بين خاصّتهم ومتفرّقاً
ص: 57
في مئات الكتب المعتبرة عندهم، وأن لا يجمع ذلك في كتاب واحد تطبع منه اُلوف من النسخ، ويطّلع علیه خصومهم فيكون حجّة علیهم، ماثلة أمام أنظار الجميع، ولمّا أبدی عقلاؤهم هذه الملاحظات خالفهم فيها مؤلّفه، وألّف كتاباً اُخر سمّاه: «ردّ بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأرباب» وقد كتب هذا الدفاع في آخر حياته قبل موته بنحو سنتين، وقد كافأوه علی هذا المجهود في إثبات أنّ القرآن محرّف بأن دفنوه في ذلك المكان الممتاز من بناء المشهد العلويّ في النجف... إلخ».
القرآن معجزة نبيّنا محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) الخالدة، وهو الكتاب الّذي لا يأتيهالباطل من بين يدیه ولا من خلفه، قد عجز الفصحاء عن الإتيان بمثله، وبمثل سورة وآية منه، وحيّر عقول البلغاء وفطاحل الاُدباء، قد بيّن الله تعالی فيه أرقی المباني، وأسمی المبادئ، وأنزله علی نبيّه دليلاً علی رسالته، ونوراً للناس، وشفاءً لما في الصدور، وهدیً ورحمةً للمؤمنين.
قال سيّدنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیه السلام): «واعلموا أنّ هذا القرآن((1)) هو الناصح الّذي لا يغشّ، والهادي الّذي لا يضلّ، والمحدّث الّذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنده بزيادة أو نقصان، زيادة في هدیً،
ص: 58
ونقصان من عمیً، واعلموا أنّه ليس علی أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنیً، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به علی لأوائكم».((1))
ولا ينحص-ر إعجاز القرآن في كونه في الدرجة العلیا من الفصاحة والبلاغة، وسلاسة الترتيب، وسلامة التركيب، والتأليف العجيب، والاُسلوب البكر فحسب، بل هو معجزة أيضاً لأنّه حوی اُصول الدين والدنيا، وسعادة النشأتين.
ومعجزة لأنّه أنبأ بأخبار حوادث كثيرة تحقّقت بعده.
كما أنّه معجزة في التاريخ، وبما فيه من أخبار القرون السالفة، والأمم البائدة، الّتي لم يكن لها تاريخ في عص-ر الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) ممّا أثبتت الكشوف الأثرية صحّتها.
ومعجزة لأنّ فيه اُصول علم الحياة والصحّة والوراثة، وماوراء الطبيعة، والاقتصاد والهندسة والزراعة.
ومعجزة في الاحتجاج.
وإعجاز في الأخلاق والآداب وما إلی ذلك.
وقد مرّت علیه أربعة عشر قرناً ولم يقدر في طول هذه القرون أحد من البلغاء أن يأتي بمثله، ولن يقدر علی ذلك أحد في القرون الآتية والأعصار
ص: 59
المستقبلة، ويظهر کلّ يوم صدق ما أخبر الله تعالی به: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾.((1))
هذا هو القرآن، وهو روح الاُمّة الإسلامية، وحياتها ووجودها وقوامها، ولولا القرآن لما كان لنا كيان.
هذا القرآن هو کلّ ما بين الدفّتين، ليس فيه شيء من كلام البش-ر، کلّ سورة من سوره وكلّ آية من آياته متواترة مقطوع بها، لا ريب فيها، دلّت علیه الضرورة والعقل، والنقل القطعي المتواتر.
هذا هو القرآن عند الشيعة ليس إلی القول فيه بالنقيصة فضلاً عن الزيادة سبيل، ولا يرتاب في ذلك إلّا الجاهل أو المبتلی بالشذوذ.وإليك بعض تصريحات أعلام الإمامية ورجالاتهم في العلم والدين، الّذين لا يجتري شيعي علی ردّ آرائهم سيّما في اُصول الدين، وفي أمثال هذه المسائل، لجلالتهم في العلم والتتبّع وكثرة إحاطتهم، وقوّة حذاقتهم في الفنون الإسلامية.
قال شيخ المحدّثين محمد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القميّ الملقّب بالصدوق (م. 381ق.) ومؤلّف كتاب «من لا يحض-ره الفقيه»، وعش-رات من الكتب القيّمة، في رسالته المعروفة «باعتقادات الصدوق»: اعتقادنا أنّ
ص: 60
القرآن الّذي أنزله الله علی نبيّه محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك - إلی أن قال - : ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب»، ثمّ شرع(رحمة الله) في إقامة البرهان علی ذلك،((1)) فراجع تمام كلامه.
وقال الشيخ المفيد(رحمة الله): وأمّا النقصان... وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنّه لم ينقص من كلمة، ولا من آية ولا من سورة، ولكن حذف ما كان ثبتاً في مصحف أمير المؤمنين(علیه السلام) من تأويله وتفسير معانيه علی حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً منزلاً، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالی الّذي هو القرآن المعجز، وقد يسمّی تأويل القرآن قرآناً قال تعالی: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْض-َى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾((2)) فسمّي تأويل القرآن قرآناً، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف، وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعی نقصان كلم من نفس القرآن علی الحقيقة دون التأويل، وإليه أميل والله أسأل توفيقه للصواب. وأمّا الزيادة فيه فمقطوع علی فسادها.((3))
وقال الشيخ الجليل أبو علي أمين الإسلام الطبرسي أحد أعلام الشيعة
ص: 61
في علوم القرآن، في تفسيره القيّم المسمّی بمجمع البيان: فأمّا الزيادة فيه فمجمع علی بطلانها، وأمّا النقصان منه فقد روی جماعةمن أصحابنا وقوم من حشويّة اهل السنّة أنّ في القرآن تغییراً أو نقصاناً، والصحيح من مذهبنا خلافه، وهو الّذي نص-ره المرتضی - قدّس الله روحه - واستوفی الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيّات، وذكر في مواضع أنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث الکبار، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتدّت، والدواعي توفّرت علی نقله وحراسته، وبلغت إلی حدّ لم یبلغه فيما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوّة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحکام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتی عرفوا کلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته، وحروفه وآياته، فكيف یجوز أن يكون مُغَيَّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟((1))
قال: وقال أيضاً - قدّس الله روحه -: إنّ العلم بتفسیر القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، وجری ذلك مجری ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة، ككتاب سيبويه والمزني، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصیلهما ما يعلمون من جملتهما، حتی لو أنَّ مُدخِلاً أدخل من النحو في
ص: 62
كتاب سيبويه باباً في النحو لیس من الکتاب، لعُرف ومُيّز، وعلم أنّه ملحق ليس من أصل الكتاب، وکذلك القول في کتاب المزني ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أكثر من العناية بضبط كتاب سيبويه، ودواوين الشعراء.
قال: «وذكر أيضاً: أنّ القرآن كان علی عهد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) مجموعاً مؤلّفاً علی ما هو علیه الآن، واستدلّ علی ذلك بأنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتی عيّن علی جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنّه كان يعرض علی النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) ويتلی علیه وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود، واُبيّ بن كعب وغيرهما، ختموا القرآن علی النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) عدّة ختمات، کلّ ذلك يدلّ بأدنی تأمّل علی أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبتوت، وذكر أنّ من خالف ذلك من الإمامية والحشوية من أهل السنّة لا يعتدّبخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلی قوم من أصحاب الحديث، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحّته.((1))
وقال شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (م. 460ق.) مؤلّف كتاب الخلاف والمبسوط، والتهذيب والاستبصار وغيرها، في تفسيره المسمّی بالتبيان:
ص: 63
أمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق به أيضاً، لأنّ الزيادة فيه مجمع علی بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الّذي نص-ره المرتضی (رحمة الله)، وهو الظاهر في الروايات - إلی أن قال -: ورواياتنا متناصرة بالحثّ علی قراءته، والتمسّك بما فيه، وردّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه، وعرضها علیه، فما وافقه عمل علیه، وما خالفه یجنّب ولم يلتفت إليه.
وقد روي عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) رواية لا يدفعها أحد أنّه قال: «إنّي مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتی يردا علَيَّ الحوض»((1)) وهذا يدلّ علی أنّه موجود في کلّ عص-ر، لأنّه لا يجور أن يأمر بالتمسّك بما لا يقدر علی التمسّك
به، كما أنّ أهل البيت ومن يجب اتّباع قوله حاصل في کلّ وقت، وإذا كان الموجود بيننا مجمعاً علی صحّته فينبغي أن نتشاغل بتفسيره وبيان معانيه وترك ما سواه.((2))
وقال العالم الجليل الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه المسمّی «بكشف الغطاء»: السابع في زيادته: لا زيادة فيه من سورة ولا آية، من بسملة وغيرها، لا كلمة ولا حرف، وجميع ما بين الدفّتين ممّا يتلی كلام الله تعالی
ص: 64
بالضرورة من المذهب بل الدين وإجماع المسلمين، وأخبار النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمّة الطاهرين(علیهم السلام). وقال: الثامن فينقصه، لا ريب في أنّه محفوظ من النقصان، بحفظ الملك الديّان، كما دلّ علیه صريح القرآن، وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر، وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العلم بظاهرها،((1)) إلی آخر كلامه المتين.
وقال الشيخ الأكبر العالم الشهير، نابغة الزمان، الشيخ محمد بهاء الدين العاملي علی ما حكی عنه في آلاء الرحمن: الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك، زيادة كان أو نقصاناً، ويدلّ علیه قوله تعالی: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَ-حَافِظُونَ ﴾((2))،((3)) وقال في كتاب الزبدة: القرآن متواتر لتوفّر الدواعي علی نقله.((4))
وممّن صنّف في نفي النقيصة، بعد الإجماع علی عدم الزيادة، الشيخ العلّامة الجليل عليّ بن عبد العالي الكركي، المعروف بالمحقّق الثاني.
وقال العلّامة الكبير المولی محمد إبراهيم الكلباسي في كتاب «الإشارات» بعد استقراء كلمات علماء الإسلام بأصنافهم في كتبهم الكلامية والاُصولية
ص: 65
والتفسيرية، وما اشتمل علی الخطابات والقصص، وما يتعلّق بعلم القرآن بأصنافه: ومنه علم القراءة والتواريخ وغيرها، مع كمال اهتمامهم في ضبط ما يتعلّق بکلّ واحد منها يتبيّن أنّ النقصان في الكتاب ممّا لا أصل له، وإلّا لاشتهر وتواتر، نظراً إلی العادة في الحوادث العظيمة، وهذا منها بل من أعظمها.
وقال العلّامة المغفور له المجاهد المعاصر الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في «أصل الشيعة واُصولها»: إنّ الكتاب الموجود بين المسلمين هو الكتاب الّذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدّي،... وإنّه لانقص ولا تحريف، ولا زيادة فيه، و علی هذا إجماعهم.((1))
وممّن فنّد القول بالتحريف زيادةً ونقيصةً، وردّ کلّ شبهة في ذلك بأتمّ بيان وأوضح برهان، العالم الجليل المفسّر المتكلّم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي صاحب الكتب الممتّعة، والتصانيف القيّمة، في مقدّمة تفسيره المعروف والمسمّی بآلاء الرحمن، فإنّه قد أدّی حقّ المقام، ودافع عن قداسة القرآن، وأظهر الحقّ وأبطل الباطل،((2)) فراجعه حتی تعرف قيمة خدمات الشيعة للإسلام والقرآن، وغيرتهم علی الدين والكتاب.
وقال الشريف المصلح السيّد عبد الحسين شرف الدين في الفصول المهمّة
ص: 66
في تأليف الاُمّة: «والقرآن الحكيم الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، إنّما هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس، لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، ولا تبديل فيه لكلمة بکلمة، ولا لحرف بحرف، وكلّ حرف من حروفه متواتر في کلّ جيل تواتراً قطعياً إلی عهد الوحي والنبوّة، وكان مجموعاً علی ذلك العهد الأقدس مؤلّفاً علی ما هو علیه الآن، وكان جبرائيل(علیه السلام) يعارض رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) مراراً عديدة،... وهذا كلّه من الاُمور المعلومة الضروریة لدی المحقّقين من علماء الإمامية، ولا عبرة بالحشوية فإنّهم لا يفقهون».((1))
وقال العالم المتتبّع، والرجالي الكبير السيّد محسن الأمين الحسيني العاملي في أعيان
الشيعة: لا يقول أحد من الإمامية لا قديماً ولا حديثاً إنّ القرآن مزيد فيه قليل أو كثير فضلاً عن كلّهم، بل كلّهم متّفقون علی عدم الزيادة، ومن يعتدّ بقوله من محقّقيهم متّفقون علی أنّه لم ينقص منه.((2))
وقال العالم المفسّ-ر الشيخ محمد النهاوندي في مقدّمة تفسيره نفحات الرحمن: قد ثبت أنّ القرآن كان مجموعاً في زمان النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وكان شدّةاهتمام المسلمين في حفظ ذلك المجموع بعد النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وفي زمان احتمل بعض وقوع التحريف فيه، كاهتمامهم في حفظ أنفسهم وأعراضهم،((3)) إلی آخر كلامه التام.
ص: 67
وممّن صنّف في الإمامية في ردّ شبهة التحريف العالم الرئيس السيّد محمد حسين الشهرستاني، فإنّه صنف في ذلك كتاباً أسماه «رسالة في حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف» وقال فيه - علی ما حُكي عنه، بعد ردّ ما في فصل الخطاب من الشبهات -: لا شبهة في أنّ هذا القرآن الموجود بين الدفّتين منزل علی رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) للإعجاز؛ للتسالم علی نفي زيادة الآية والسورة فيها، والشكّ إنّما هو في نزول ما عداه إعجازاً والأصل عدمه.
وممّن أدّی حقّ الكلام في بطلان القول بالتحريف، العالم الجليل والمرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي في تفسيره المسمّی بالبيان فراجع ما أفاده، قد أثبت بما لا مزيد علیه أنّ مسألة نقصان الكتاب ممّا لا أصل له، وقال في آخر كلامه:
قد تبيّن للقارئ ممّا ذكرناه أنّ حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخیال لا يقول به إلّا من ضعف عقله، أو من لم يتأمّل في أطرافه حقّ التأمّل، أو من ألجأ إليه یجب القول به، والحبّ يُعمي ويُصمّ، أمّا العاقل المنصف المتدبّر فلا يشكّ في بطلانه.((1)) انتهی كلامه.
ولنعم ما أفاده العلّامة الفقيه، والمرجع الديني السيّد محمد رضا الگلپايگاني بعد التصريح بأنّ ما بين الدفّتين هو القرآن المجيد: ذلك
ص: 68
الكتاب الّذي لا ريب فيه، والمجموع المرتّب في عص-ر الرسالة بأمر الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) بلا تحريف ولا تغيير، ولا زيادة ولا نقصان.
وإقامة البرهان علیه: أنّ احتمال التغيير زيادة ونقيصة في القرآن كاحتمال تغيير المرسل به، واحتمال كون القبلة غير الكعبة في غاية السقوط لا يقبله العقل وهو مستقلّ بامتناعه عادة.
ولو رمنا استقصاء كلمات علمائنا الأعاظم في کلّ جيل لطال بناالكلام، ولا يَسعُ ذلك كتاب كبير ضخم، ويكفي في ذلك تص-ريح اُستاذنا الإمام راوية أحاديث أهل البيت وحامل علومهم، نابغة العص-ر ومجدّد العلم والمذهب في القرن الرابع عش-ر، السيّد الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي - حشره الله مع جدّه النبيّ الكريم - فإنّه أفاد في بعض أبحاثه في الاُصول كما كتبنا عنه في تقريرات بحثه، بطلان القول بالتحريف، وقداسة القرآن عن وقوع الزيادة فيه، وأنّ الضرورة قائمة علی خلافه، وضعّف أخبار النقيصة غاية التضعيف سنداً ودلالةً وقال:
إنّ بعض هذه الروايات مشتمل علی ما يخالف القطع والض-رورة، وما يخالف مصلحة النبوّة، وقال في آخر كلامه الشريف:
ثمّ العجب کلّ العجب من قوم يزعمون أنّ الأخبار محفوظة في الألسن
ص: 69
والكتب في مدّة تزيد علی ألف وثلاث مائة سنة، وأنّه لو حدث فيها نقص لظهر، ومع ذلك يحتملون تطرّق النقيصة في القرآن المجيد.
ص: 70
اعلم أنّ الواجب علی کلّ مسلم غيور علی الدين والقرآن أن يدفع عن الكتاب الكريم هذه الشبهة، وأن يحتاط في نسبة القول بالتحريف أو التشكيك في القرآن إلی أحد من المسلمين، ويعلم أنّه مسؤول عند الله تعالی عمّا يقول ويكتب.
وكان الاُولی بالخطيب أن يتمسّك بأقوال العلماء ذوي الاختصاص والمهارة من الشيعة والسنّة في صيانة القرآن من النقصان والزيادة، لا أن يركض وراء القول بالتحريف، ويسجّل ذلك
علی طائفة كبيرة من المسلمين.
وقد أراد الخطيب بذلك تشويه سمعة التشيّع، ولم يعلم أنّه شوّه سمعة الدين، وضرب الكتاب المبين، وخدم أعداء الدين، وفتح السبل أمام شبهات المبشّرين، وقد نسي هذا الكاتب أنّه يهدم بهذه الفرية علی الشيعة أساس الإسلام، والشيعة أشدّ الناس غيرةً علی كتاب الله تعالی، وأدفعهم عن جلالة القرآن وقداسته، ينكرون القول بالزيادة والنقيصة أشدّ الإنكار، وكتبهم مشحونة بالدلائل العقلية والنقلية علی تنزّه القرآن عن الريب والشبهات.
ص: 71
فاقرأ أيّها الخطيب كتبهم في التفسير والعقائد والحديث، واقرأ فيها الأحاديث المتواترة القطعية الدالّة علی أنّ القرآن هو هذا الّذي بيد المسلمين، وانظر إلی الأخبار المأثورة علی طرقهم في ثواب قراءة القرآن وقراءة سوره وآياته وكلماته، وفي وجوب الرجوع إليه والتمسّك به يقرؤون القرآن في صلاتهم، ويتلونه في ليلهم ونهارهم، يعظّمونه كمال التعظيم، ليس عندهم كتاب أعظم من القرآن، فارجع إلی كتبهم في الفقه والحديث، والدعاء إن كنت أهلاً للإنصاف.
ولا يسوؤنا والله نسبة هذه الفرية إلی الشيعة كما يسوؤنا ما يمسّ منها كرامة الدين الحنيف والقرآن المجيد.
أيّها الخطيب لو قال لك بعض المبشّرين أو غيرهم: إنّ من مذهبالشيعة وهم طائفة كبيرة من المسلمين، وقوع التحريف في الكتاب كما تسجّل علیهم، وفيهم من العلماء والمحقّقين، وأساتذة فنّ التاريخ والحديث، والعلوم الإسلامية رجال لا يستهان بشأنهم وجلالتهم، وهم يسندون عقائدهم وعلومهم إلی أهل بيت النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) أعدال الكتاب بدلالة حديث الثقلين، ما تقول في جوابه؟
أتقول: إنّهم كفّار؟ أو تقول: إنّهم يسبّون الصحابة؟
أو تقول: إنّهم يقرأون دعاء صنمي قريش؟ قل ما تقول في جوابه أيّها الكاتب الإسلامي؟
ص: 72
لو تعلم أنّك وأمثالك كم توقعون بالإسلام والمسلمين من الض-رر، والضعف والفشل، بهذيانكم وافتراءاتكم علی الشيعة، لتركتم هذه المخاصمات الباردة، والمناقشات الّتي لا طائل تحتها، ولغسلتم عن كتبكم هذه المهازل والمخاريق.
وكم من فرق بين الخطيب وبين العلّامة الشيخ رحمة الله الهندي! فالخطيب يسند إلی الشيعة فرية يتبرّأ منها کلّ شيعيّ، ولا يلتفت إلی أنّ تلك النسبة إنّما تجعل القرآن معرضاً للشكّ، والعلّامة الشيخ رحمة الله الّذي يعدّ من أكبر علماء أهل السنّة ومن أحوطهم علی الإسلام أدرك أنّ هذه النسبة هي منتهی أمل المبشّرين وغاية مناهم، وأنّ الواجب علی السنّي كالشيعي أن يدفعها عن الشيعة فأثبت في كتابه «إظهار الحقّ» الّذي هو من نفائس كتب المسلمين في الردّ علی المسيحيّين، بل قيل: لم يكتب مثله في ردّ المبشّرين، بطلان هذه النسبة، وأدّی ما علیه من إظهار الحقّ وإزهاق الباطل، وإماتة الشبهة، وقد دفع عن حريم القرآن هذه التهمة، حيث قال في الفصل الرابع من الجزء الثاني:
القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الاثني عش-رية محفوظ عن التغيير والتبديل، ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه فقوله مردود غير مقبول عندهم، ثم نقل كلمات جماعة من أعلام الشيعة كالصدوق والسيّد
ص: 73
المرتضی والطبرسي والقاضي نور الله، والمولی صالح القزويني شارح الكافي، والشيخ محمد الحرّ العاملي، وقال:
فظهر أنّ المذهب المحقّق عند علماء الفرقة الإمامية الاثني عش-رية أنّ القرآن الّذي أنزله الله علی نبيّه هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، وأنه كان مجموعاً مؤلّفاً في عهد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وحفظه ونقله اُلوف من الصحابة كعبد الله بن مسعود، واُبيّ بن كعب وغيرهما، ختموا القرآن علی النبيّ عدّة ختمات، ويظهر القرآن ويشهر بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عش-ر - رضي الله عنه - إلی أن قال -: وقد قال الله تعالی: ﴿إِنَّا نَحْنُنَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَ-حَافِظُون َ﴾؛((1)) (قال) في تفسير «الصراط المستقيم»، الّذي هو تفسير معتبر عند علماء الشيعة: أي إنّا لحافظون من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، انتهی كلامه.((2))
ص: 74
قبل إبداء الرأي حول كتاب فصل الخطاب نلفت من يحتجّ علی الشيعة بهذا الكتاب، ويزعم تفرّدهم بهذا التأليف إلی كتاب اسمه «الفرقان» جمع فيه مؤلّفه وهو من إخواننا أهل السنّة من أمثال ما في فصل الخطاب من الأحاديث الضعيفة المرويّة عن طرق أهل السنّة، وإليك نصّ الاُستاذ الشيخ محمد محمد المدني عميد كلّيّة الشريعة بالجامعة الأزهرية قال:
وأمّا إنّ الإمامية يعتقدون نقص القرآن فمعاذ الله، وإنّما هي روايات رويت في كتبهم، كما روي مثلها في كتبنا، وأهل التحقيق من الفريقين قد زيّفوها وبيّنوا بطلانها، وليس في الشيعة الإمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك، كما أنّه ليس في السنّة من يعتقده.
ويستطيع من شاء أن يرجع إلی مثل كتاب الإتقان للسيوطي((1)) ليری فيه أمثال هذه الروايات الّتي نضرب عنها صفحاً، وقد ألّف أحد المص-ريّين في سنة 1948 كتاباً أسماه «الفرقان» حشاه بكثير من أمثال هذه الروايات السقيمة، المدخولة المرفوضة، ناقلاً لها عن الكتب والمصادر عند أهل السنّة،
ص: 75
وقد طلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بعد أن بيّن بالدليل والبحث العلمي أوجُه البطلان والفساد فيه فاستجابت الحكومة لهذا الطلب، وصادرت الكتاب فرفع صاحبه دعوی يطلب فيها تعويضاً فحكم القضاء الإداري في مجلس الدولة برفضها.
أفيقال: إنّ أهل السنّة ينكرون قداسة القرآن؟ أو يعتقدون نقص القرآن لرواية رواها فلان؟ أو كتاب ألّفه فلان؟ فكذلك الشيعة الإماميّة إنّما هي روايات في بعض كتبهم كالروايات الّتي في بعض كتبنا، وفي ذلك يقول الإمام العلّامة السعيد أبو الفضل بن الحسن الطبرسي من كبار علماء الإماميّة في القرن السادس الهجري فيكتابه «مجمع البيان لعلوم القرآن»،((1)) ثم نقل كلام صاحب المجمع الّذي سبق ذكره.
وبعد هذا كلّه نقول: لم نر في علماء الإمامية ومشايخهم من يعتني بكتاب فصل الخطاب، ويستند إليه، وليس بينهم من يعظّم المحدّث النوري لهذا التأليف، ولو لم يصنّف هذا الكتاب لكان تقدير العلماء عن جهوده في تأليفه غيره من المآثر الرائعة كالمستدرك وكشف الأستار وغيرهما أزيد من ذلك بكثير، ولنال من التقدير والإكبار أكثر ما حازه من العلماء وأهل الفضل، ودفنه في المكان المشرّف ليس لأجل تأليفه هذا الكتاب، إنّما المقام مقدّس
ص: 76
يدفن فيه من ناله التوفيق، وقد دفن فيه من العلماء وغيرهم من ذوي الثروة والسلطة والعوامّ جمع كثير.
وليس جلالة قدر الرجل في العلم والتتبّع والإحاطة بالحديث ممّا يقبل الإنكار، وإنّ خطأه بسبب تأليف هذا الكتاب وصيّر هدفاً لسهام التوبيخ والاعتراض، فنبذ كتابه هذا وقوبل بالطعن والإنكار الشديد((1)) بل صنّف بعضهم في ردّه وفي إثبات عدم التحريف كتباً مفردة، كالعلّامة الشهير السيّد محمد حسين الشهرستاني مؤلّف «رسالة حفظ الكتاب الش-ريف عن شبهة القول بالتحريف»، والعالم المحقّق الشيخ محمود الطهراني حيث ردّه بكتاب «كشف الارتياب».
ومع ذلك كلّه نقول: من أمعن النظر في كتاب «فصل الخطاب» يری أنّ المحدّث النوري لم ينكر ما قام علیه الإجماع واتّفاق المسلمين من عدم الزيادة، ولم يقل: إنّ القرآن قد زيد فيه، بل قد صرّح في (ص 23) بامتناع زيادة السورة أو تبديلها، فقال: هما منتفيان بالإجماع، وليس في الأخبار ما يدلّ علی وقوعها، بل فيها ما ينفيه كما يأتي، وقد اعترف المحدّث المذكور
ص: 77
بخطائه في تسمية هذا الكتاب كما حكی عنه تلميذه الشهير وخرّيج مدرسته العالم الثقة الثبت الشيخ آقا بزرگ الطهراني مؤلّف «الذريعة»، و «أعلام الشيعة»، وغيرهما من الكتب القيّمة، فقال في ذيل ص 550 من الجزء الأوّل من القسم الثاني من كتابه «أعلام الشيعة»:
ذكرنا في حرف الفاء من «الذريعة» عند ذكرنا لهذا الكتاب مرام شيخنا النوري في تأليفه فصل الخطاب، وذلك حسبما شافهنا به، وسمعناه من لسانه في أواخر أيّامه فإنّه كان يقول: أخطأت في تسمية الكتاب، وكان الأجدر أن يسمّی بفصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب، لأنّي أثبتُّ فيه أنّ كتاب الإسلام «القرآن الشريف» الموجود بين الدفّتين المنتشر في أقطار العالم وحي إلهيّ بجميع سوره وآياته وجمله، ولم يطرأ علیه تغيير أو تبديل، ولا زيادة ولا نقصان منلدن جمعه حتی اليوم، وقد وصل إلينا المجموع الأوّلي بالتواتر القطعي، ولا شكّ لأحد من الإمامية فيه، فبعد ذا أمِنَ الإنصاف أن يقاس الموصوف بهذه الأوصاف بالعهدين أو الأناجيل المعلومة أحوالها لدی کلّ خبير؟ كما أنّي أهملت التص-ريح بمرامي في مواضع متعدّدة من الكتاب، حتی لا تسدّد نحوي سهام العتاب والملامة، بل صرّحت غفلة بخلافه، وإنّما اكتفيت بالتلميح إلی مرامي في ص 22.
إذن المهمّ حصول اليقين بعدم وجود بقيّة للمجموع بين الدفّتين، كما
ص: 78
نقلنا هذا العنوان عن الشيخ المفيد في ص 26 - إلی أن قال -: هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه، وأمّا عمله فقد رأيناه وهو لا يقيم لما ورد في مضامين الأخبار وزناً، بل يراها أخبار آحاد لا تثبت بها القرآنية بل يضرب بخصوصيّاتها عرض الجدار سيرة السلف الصالح من أكابر الإمامية كالسيّد المرتضی والشيخ الطوسي وأمين الإسلام الطبرسي وغيرهم، ولم يكن - العياذ بالله - يلصق شيئاً منها بكرامة القرآن، وإن ألصق ذلك بكرامة شيخنا+ من لم يطّلع علی مرامه، وقد كان باعتراف جميع معاصريه رجالي عصره، والوحيد في فنّه، ولم يكن جاهلاً بأحوال تلك الأحاديث.
ولمزيد التوضيح ننقل كلاماً آخر من الشيخ المذكور في ذيل ص 311 من الجزء الثالث من الذريعة قال:
إنّ من الض-روريات الأوّلية عند الاُمم کافّة أنّ الكتاب المقدّس في الإسلام وهو المسمّی بالقرآن الشريف، وإنّه ليس للمسلمين كتاب مقدّس إلهيّ سواه، وهو هذا الموجود بين الدفّتين المنتشر مطبوعه في الآفاق، كما أنّ من الضروريات الدينية عند المعتنقين للإسلام أنّ جميع ما يوجد فيما بين هاتين الدفّتين من السور والآيات وأجزائها كلّها وحي إلهي نزل به الروح الأمين، من عند ربّ العالمين، علی قلب سيّد المرسلين(صلی الله علیه و آله و سلم)، قد بلغ بالتواتر عنه إلی أفراد المسلمين، وإنّه ليس بين هاتين الدفّتين شيء غير الوحي
ص: 79
الإلهي لا سورة ولا آية، ولا جملة ذات إعجاز، وبذلك صار مقدّساً محترماً بجميع أجزائه، وموضوعاً كذلك للأحكام من تحريم مسّ كتابته بغير طهارة،وتحريم تنجيسه، ووجوب إزالة النجاسة عنه، وغيرها من الأحکام الثابتة، - إلی أن قال -:
وقد كتبنا في إثبات تنزيه القرآن عمّا ألصقه الحشوية بكرامته، واعتقدت فيه من التحريف مؤلّفاً سمّيناه ب- «النقد اللطيف في نفي التحريف عن القرآن الشريف» وأثبتنا فيه أنّ هذا القرآن المجيد الّذي هو بأيدينا ليس موضوعاً لأيّ خلاف يذكر، ولا سيّما البحث المشهور المعنون مسامحة بالتحريف... إلخ.
وقال نحواً من هذا الكلام أيضاً في الجزء العاشر من الذريعة (ص 78 - 79) وقال في جملته:
إنّ كتاب الإسلام المشهور في الآفاق هو الموسوم بالقرآن الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس هو إلّا هذا الموجود بين الدفّتين الواصل إلينا بالتواتر عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأثبتنا أنّه بجميع سوره وآياته وجملاته وحي إلهيّ - إلی أن قال -: فهو منزّه عن کلّ ما يشينه من التغيير والتبديل، والتصحيف والتحريف، وغيرها باتّفاق جميع المسلمين، وليس لأحد منهم خلاف أو شبهة أو اعتراض فيه، واختلاف القراءات إنّما هو اختلاف في لهجات الطوائف (إلی اُخر ما أفاده).
ص: 80
هذا كتاب فصل الخطاب، وهذا قدره عند علماء الشيعة، وهذا كلام مؤلّفه فيه، وهذا ما يقول عنه أكبر تلامذة مؤلّفه، وهذه عقيدة مؤلّفه وتلامذته فيه.
ص: 81
قال الخطيب: «وممّا استشهد به هذا العالم النجفي علی وقوع النقص في القرآن إيراده في الصفحة 180 من كتابه سورة تسمّيها الشيعة سورة الولاية، مذكور فيها ولاية عليّ: يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا بالنبيّ والوليّ اللذَيْنِ بعثناهما يهديانكم إلی الص-راط المستقيم...إلخ، وقد اطّلع الثقة المأمون الاُستاذ محمد عليّ سعودي الّذي كان كبير خبراء وزارة العدل بمصر، ومن خواصّ تلاميذ الشيخ محمد عبده علی مصحف إيراني مخطوط عند المستشرق «براين»، فنقل منه هذه السورة بالفتوغراف، وفوق سطورها العربية ترجمتها باللغة الإيرانية، وكما أثبتها الطبرسي في كتابه «فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأرباب»، فإنّها ثابتة أيضاً في كتابهم «دبستان مذاهب» باللغة الإيرانية لمؤلّفه محسن فاني الكشميري، وهو مطبوع في إيران طبعات متعدّدة، ونقل عنه هذه السورة المكذوبة علی الله العلّامة المستش-رق فولدكن، في كتابه تاريخ المصاحف ج 2 ص 102، ونشرتها الجريدة الآسيوية الفرنسية سنة 1842م (ص 431 - 439)... إلخ».
ص: 82
السور القرآنية كانت مؤلّفة مشهورة في عص-ر الرسالة بأمر النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكان المسلمون يعرفونها بحدودها، وآياتها وتدلّ علی ذلك الروايات الكثيرة المتواترة الواردة في فضل السور وثواب قراءتها، وأنّ من قرأ سورة يس أو سورة البقرة فله كذا وكذا من الأجر والثواب، وما ورد في أنّ الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) قرأ سورة البقرة وسورة آل عمران في صلاة الآيات، وما ورد في نزول بعض السور جملة، وغيرها من الروايات الدالّة علی كون سور القرآن مؤلّفة معيّنة بآياتها في عهد الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا خلاف بين الشيعة في أنّ سور القرآن ليست أكثر من هذه السور المعروفة مائة وأربع عش-رة سورة، واتّفق فقهاؤهم بعد الاتّفاق علی وجوب قراءة سورة كاملة بعدالحمد في الاُوليين علی كفاية قراءة أيّ سورة من سور القرآن في الصلاة عدا سورتي الضحی وألم نشرح، فإنّهما سورة واحدة، وسورة الفيل ولإيلاف قريش، فهما أيضاً واحدة، ولا تجد في أصل من اُصولهم وفي أحاديثهم ورواياتهم سورة اُخری غير هذه السور الموجودة بين الدفّتين.
ولا خلاف معتدّ به بين أهل السنّة أيضاً في ذلك، أي كون القرآن مائة وأربع عشرة سورة، نعم قال بعضهم، بأنّها مائة وثلاث عشرة، فعدّ الأنفال والبراءة سورة واحدة، كما قد حكي عن بعضهم موافقتهم مع الشيعة في كون الضحی وألم نش-رح سورة واحدة، والفيل ولإيلاف أيضاً سورة
ص: 83
واحدة،((1)) ولكن أخرج أهل السنّة في كتبهم روايات دلّت علی زيادة سور القرآن علی ما بين الدفّتين كسورتي القنوت «الحفد والخلع» وأنّ مصحف اُبيّ كان عدد سورها مائة وستّ عشرة، لأنّه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع.((2))
وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد صحّ عن ابن مسعود إنكار ذلك (يعني إنكار كون المعوّذتين من القرآن). فأخرج أحمد وابن حبّان عنه أنّه کان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه.((3))
وقال هبة الله بن سلامة (ت 410) في الناسخ والمنسوخ ((4)) فيما نسخ خطّه وحكمه: وأمّا ما نسخ حكمه وخطّه فمثل ما روي عن أنس بن مالك - رض - أنّه قال: كنّا نقرأ علی عهد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) سورة تعدلها سورة التوبة، ما أحفظ منه غير آية واحدة: «ولو أنّ لابن آدم واديان من ذهب لابتغی إليهما ثالثاً، ولو أنّ له ثالثاً لابتغی إليها رابعاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله علی من تاب».
ص: 84
وهذه الأخبار وإن كانت مطروحة لا يجوز الاتّكال علیها، وقامت الضرورة والإجماع من الفريقين علی خلافها، ولا يشكّ من له معرفة بکلام العرب وفنون الأدب أنّ هذه الجمل لا تشبه بلاغة القرآن، مضافاً إلی ما في بعضها من الأغلاط اللفظية أو المعنوية الّتي أشار إليها المفسّ-ر الشيعي الشهير البلاغي، في مقدّمة تفسيره، إلّا أنّ المنصف يعرف منها أنّه لو جاز نسبة القول بوقوع نقص السورة في القرآن إلی الشيعة أو أهل السنّة (ولا يجوز ذلك البتّة) لكان أهل السنّة أولی بها، فإنّهم نقلوا في كتبهم المعتبرة وتفاسيرهم ذلك، وإن سمّی بعضهم بعض هذه بمنسوخ التلاوة والحكم، أو منسوخ التلاوة فقط، فإنّ ذلك لا يدفع الإشكال، لأنّ وقوع النسخمحتاج إلی الإثبات، واتّفقت كلمة العلماء علی عدم جواز نسخ القرآن بخبر الواحد، مضافاً إلی أنّ بعض هذه الأخبار آبٍ عن هذا التأويل، وقد تردّد الاُصوليّون من السنّة في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته، وفي جواز مسّ المحدث كتابته واختار بعضهم عدم الجواز.
وأمّا الشيعة: فلم يقل أحد منهم بنقص سورة من القرآن، ولا بزيادة سورة أو آية أو كلمة علیه، وليس في رواياتهم ما يدلّ علی نقص سورة أو زيادتها، والسورة الّتي نسب اختلاقها إلی الشيعة، وسمّاها سورة الولاية لا تری في اُصول الشيعة وكتبهم منها عيناً ولا أثراً، ومقام الشيعة وفيهم اُلوف من زعماء
ص: 85
فنّ البلاغة والأدب المشهورين أرفع وأجلّ من أن يلصقوا بكرامة القرآن هذه الجمل الّتي يظهر فيها أثر الوضع، ويعرف ضعف تأليفها وخروجها عن اُسلوب القرآن من كان له اُنس بکلام الفصحاء والبلغاء.
ولا عجب من نسبة محبّ الدين هذا الافتراء إلی الشيعة، فإنّه جعل هذا دأبه في كتابه، ولا يضرّ الشيعة ذلك بعد كون كتبهم ومصنّفاتهم في معرض مطالعة العلماء، ولكنّ العجب منه أنّه قال، ولم يخش من ظهور كذبه عند الناس كالشمس في رائعة النهار: «وممّا استشهد به هذا العالم النجفي علی وقوع النقص من القرآن إيراده في ص 180 من كتابه سورة تسمّيها الشيعة سورة الولاية» مذكور فيها ولاية عليّ - إلی أن قال -: فكما أثبتها الطبرسي في كتابه فإنّها ثابتة أيضاً في كتابهم «دبستان مذاهب» باللغة الإيرانية لمؤلّفه محسن فاني كشميري، وهو مطبوع في إيران طبعات متعدّدة.
فانظر ما في كلامه هذا من الكذب الفاحش والافتراء البيّن.
الکذبة الاُولی: ليس في فصل الخطاب لا في ص 180 ولا في غيرها من أوّل الكتاب إلی آخره ذكر لهذه السورة المكذوبة علی الله تعالی، الّتي يقول الخطيب: إنّ الشيعة تسمّيها سورة الولاية مذكورة فيها ولاية عليّ (يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا بالنبيّ والوليّ اللذين بعثناهما يهديانكم إلی الص-راط المستقيم... إلخ).
ص: 86
الکذبة الثانیة: ما معنی المصحف الإيراني أيّها الخطيب؟ ألاتستحيي من الله تعالی؟ ما هذا المصحف الّذي لم يعرفه الإيرانيّون، ولم يوجد بعد عند خاصّتهم وعامّتهم، ولم يطّلع علیه أحد إلّا محمد عليّ سعودي المص-ري عند براين المسيحي؟
أيّها العلماء أيّها المنصفون أيّها المصلحون، ما هذه الافتراءات، وما عذر الخطيب وناشر كتابه محمد نصيف ... من أهالي جدّة الحجاز وأمثالهما عند الله تعالی؟ وما يريدون بانتشار هذه الأكاذيب؟ وما يطلبون من شيعة أهل البيت؟ وما عذر من يتغافل من زعماء السنّة وعلمائهم وحكوماتهم عمّا يرد من هذه الأقلام علی الإسلام والمسلمين من الضرر والفشل؟
أليس في إخواننا أهل السنّة والجماعة من يرشدهما إلی ما فيه مصلحة نفسهما، ومصلحة اُمّتهما، ومصلحة المسلمين؟
أيّها المسلمون اسألوا من إخوانكم السنّة من أهالي إيران ومن اُلوف من الّذين زاروا إيران ويزورونها في کلّ شهر ويوم، هل سمعتم في إيران بمصحف غير هذا المصحف المطبوع المشهور في جميع الأقطار؟
أم هل وجدتم عند إيرانيٍّ كتاباً يعتقد أنّه وحي إلهي يقرأه آناء الليل وأطراف النهار غير القرآن، ذلك الكتاب الّذي لا ريب فيه ويؤمن به جميع المسلمين؟ ولكن «إذا قلّ دين المرء قلّ حياؤه»، لا يستحيي من الكذب من
ص: 87
اعتاده، ولا يخاف من تشويه سمعة الدِّين، وإيراد الطعن علی الكتاب المبين، من لا يعقل ما يقول، أو باع دينه بدنياه، واعتنق خدمة أعداء المسلمين.
الإيرانيّون أشدّ الناس احتراماً للقرآن المجيد، ولآياته وكلماته وحروفه، أسواقهم ومجالسهم وإذاعاتهم وبيوتهم ومدارسهم وكلّيّاتهم عامرة بقراءته، لهم في کلّ قرية وبلد مجالس ومدارس لتعلیم التجويد، وقراءة القرآن والتفسير، يهتمّون بتعلیم القرآن كمال الاهتمام، ويؤدّبون أولادهم علی قراءته، لم يسمع أحد منهم لا قديماً ولا حديثاً بهذا المصحف الّذي تقول، ولم يطّلع علیه أحد من علمائهم ولا ادّعی رؤيته من كان فيهم من أهل الفحص والتنقيب.
نعم، يوجد عندهم وفي مكتباتهم الكبيرة مثل مكتبة «آستان قدس»في المشهد الرضوي وغيرها أقدم النسخ المخطوطة من القرآن وأنفسها، يرجع تاريخ كتابته إلی صدر الإسلام، وتنسب كتابة بعضها إلی سيّدنا الإمام أمير المؤمنين، وبعضها إلی الإمام السبط الحسن المجتبی، وبعضها إلی الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(علیهم السلام)، لا تجد لهذه النسخ اختلافاً ما، حتی في حرف واحد مع هذه المصاحف المطبوعة إلّا في رسم الخطّ.
الکذبة الثالثة: وكذبه الآخر قوله بثبوت هذه السورة في «دبستان
مذاهب» مع أنّه ليس لهذه السورة ذكر في هذا الكتاب أيضاً.
ص: 88
الکذبة الرابعة: ومن افتراءاته علی الشيعة إسناده كتاب «دبستان
مذاهب» إليهم، وهو كتاب في الملل والنحل، جمع مؤلّفه فيه بين الغثّ والسمين، والحقّ والباطل، وفيه حكايات يأبی العقل احتمال صحّتها، واستند في نقل أكثر ما فيه إلی النقل عن المجاهيل، ويظهر من أسمائهم أنّهم كانوا من دراويش الهند، ولم يعلم مذهب مؤلّفه ولا اسمه علی التحقيق، فقد أخفی مؤلّفه اسمه ومذهبه، لا يوجد في أصل الكتاب اسمه ولا اسم مذهبه، كما هو الشأن في غير هذا الكتاب من ذكر اسم المؤلّف ومذهبه. وغرضه من ذلك أن لا يحمل كلامه علی العصبيّة، واختلف في اسمه فحكي عن «سِرجام ملكم» أنّ اسم مولّفه محسن الكشميري المتخلّص في شعره بالفاني وتجد ترجمته في كتاب «صبح گلشن» من غير أن يذكر له هذا التأليف وحكي عن مؤلّف «مآثر
الاُمراء» أنّ اسمه كان ذو الفقار، وقيل: إنّه لسيّاح، عاش في أواسط القرن الحادي عش-ر. وعن بعض المستش-رقين أنّ في مكتبة بروكسل نسخة منه مذكور فيها أنّ اسم مؤلّفه كان «محمد فاني».
وفي «كشف الظنون» أنّه تأليف موبد شاه المهتدي، صنّفه لأكبر شاه، وعن مقدّمة قزارستان أنّه تأليف موبد أفراسياب، وقيل: إنّ اسم مؤلّفه كان كيخسرو ابن آذر كيوان، ولم أجد لهذه الأقوال شاهداً قويّاً لا في نفس الكتاب ولا في غيره.
ص: 89
وأمّا مذهب مؤلّفه، فيلوح من بعض ما ذكر فيه عدم اعتقاده بالنبوّات وبعث الأنبياء، فراجع ما ذكره في بحث الأديان، وما حكی فيه من المباحث الواقعة بين النصاری والمسلمين، وبين أهل السنّةوالشيعة، وما ذكر فيه من اختلاف الفرق، ويوجد فيه من نقل أعاجيب الأكاذيب ما ليس في غيره، وذكر فيه مذاهب أهل السنّة ثم تعرّض لمذهب الشيعة، ويظهر من بعض مواضيعه أنّه كان إلی مذاهب أهل السنّة أميل، ونسبه بعض علماء الشيعة المتتبّعين إلی الزندقة والإلحاد، والله العالم بحقيقة حاله، وهو علیم بما في الصدور، ومع ذلك كلّه كيف يقول الخطيب: إنّه كان من الشيعة الإيرانيّين؟ ثم يقول علی سبيل الجزم: إنّه تأليف محسن الفاني الكشميري؟
ومن الأعاجيب الّتي تضحك الثكلی ما نقل في «دبستان مذاهب» عن الشيعة من إسقاط سورة من القرآن (غير السورة الّتي نقلها الخطيب كذباً عنه) ولم يستند في ذلك إلی كتاب أو نقل عن مجهول، ونقلها في فصل الخطاب فيما نقل عن كتب أهل السنّة، وهذه السورة المختلقة مشتملة علی الأغلاط اللفظية والمعنوية، وركاكة الاُسلوب يعرف من تدبّر فيها أنّها من اختلاقات أعداء الإسلام، ولا يرتاب من له معرفة بکلام العرب أنّها دون كلام سوقتهم فضلاً عن فصحائهم، وفضلاً عن كلام الله تعالی، وقد أوضح ذلك غاية الإيضاح العالم الشيعي الجليل الشيخ البلاغي في مقدّمة
ص: 90
تفسيره فراجع، واقض العجب عمّن يستند إلی هذه الكتب أو ينقل مثل هذه المهزلة في كتابه.
والحاصل: أنّ نسبة القول إلی نقص سورة من القرآن إلی الشيعة كذب محض، لم يقل به أحد من الشيعة، وليس في رواياتهم منها عين ولا أثر، كما أنّ نسبة تأليف كتاب «دبستان مذاهب» إليهم أيضاً كذب محض، لا شاهد له في نفس الكتاب ولا في غيره، ولم يعتمد أحد من الشيعة علی هذا الكتاب.
الكذبة الخامسة: في كلامه هنا قوله بطبع «دبستان مذاهب» في إيران طبعات متعدّدة، وليت شعري من أين قال ذلك؟ وأيّ نسخة من هذا الكتاب طبع في إيران؟ وما اسم المطابع الّتي طبع فيها طبعات متعدّدة؟ ولِمَ لم ينقل تاريخ طبعه في إيران وسائر خصوصياته؟ وما فائدة هذه الأكاذيب؟نعم؛ قد عثرنا بعد فحص كثير في عدّة مكتبات كبيرة علی ثلاث نسخ مطبوعة، الاُولی: طبعت في بمبئي الهند، سنة 1262 والثانية: في سنة 1267 غير أنّه لم يذكر فيها مكان الطبع، والثالثة: طبعت أيضاً في بمبئي سنة 1277، ظنّي أنّ النسخة الثانية أيضاً مطبوعة في الهند، ومع هذا كيف يقول: إنّه مطبوع في إيران طبعات متعدّدة؟!
ص: 91
المستشرقون دعاة الاستعمار((1))
من أعظم البلاء علی المسلمين بل عامّة الاُمم الش-رقية افتتان بعض شبّانهم ومثقّفيهم بمقالات الغربيّين، سيّما المتسمّين منهم بالمستش-رقين، واعتمادهم علی ثقافتهم وآرائهم في المسائل الراجعة إلی الش-رق وإلی الإسلام، مع أنّ كثيراً منهم لا يريدون بالاستشراق إلّا الوقيعة بالمسلمين، وتتبّع عوراتهم، وتفريق كلمتهم، وبعضهم يروّجون الحضارات الّتي كانت قبل الإسلام، ويضعّفون العلائق الدينية، يريدون بذلك إرجاعهم إلی الجاهلية، وإحياء شعائر الاُمم الكافرة الّتي قضی علیها الإسلام قضاءً حاسماً.
ففي إيران يروّجون أساطير كورش وداريوش، وعادات المجوس،
ص: 92
وأيّامهم وأعيادهم، كسده ومهرجان، وفي مصر يبعثون جمعيّات للتحقيق في تاريخ الفراعنة وما يوصل مص-ر الحديثة بالقديمة. وهذا ما يسمّونه «بالفولكور» أي ترويج الدراسات الشعبيه؛ والفحص عن عادات الشعب وعقائد أبنائه، ومدنيّتهم وآثارهم وقصصهم في الأجيال الماضية، وكشف آثار الأقدمين، فيدعون الأدباء والكُتّاب إلی البحث عن العقائد الّتي نسيها الزمان، والعادات والبرامج المتروكة، ويشوّقون بعض الشبّان وضعفاء العقول، ويصرفون الدراهم والدنانير والدولارات لتأليف الكتب وطبعها، ويستأجرون أقلام الصحف والمجلّات والجرائد لترويج أهدافهم.
وهذا من أضرّ ألاعيب الاستعمار علی المسلمين، لم يقصدوابذلك إلّا إحياء الحضارات السابقة علی الإسلام، وتكثير العصبيّات القومية وتفريق الكلمة، ويری آثار هذه السياسات الغاشمة في مص-ر والشام، والعراق وإيران، وتركيا وشمال أفريقية، وهند وأندونیسا، ولبعض المستش-رقین قدم راسخ في تحقیق أهداف الاستعمار، وتضعيف علائق الاتّحاد الإسلامي، وإنشاء روح العصبية القبَلية، والنخوة الجاهلية الّتي حاربها الإسلام.
ومن أعظم البليّة أنّ بعض من لا خبرة له بالتاريخ، ومصادر التش-ريع الإسلامي وأهداف الدين القويم، يحسب آراء المستشرقين من أصحّ الآراء، ويستشهد بها مبتهجاً بذلك.
ص: 93
ولبعضهم حول البحوث الإسلامية، وتاريخ رجال الدين وزعماء الشرق كتب ومقالات ربّما لا تجد فيه خلافاً مع ما علیه المسلمون إلّا في نقطة واحدة، ولكنّه لم يقصد بتأليف كتاب ضخم إلّا إبداء الشبهة في هذه النقطة، وإنكار حقيقة واحدة.
وللاُستاذ عبد الوهّاب حمودة مقال تحت عنوان «من زلّات المستش-رقين»((1)) ذكر فيه زلّات المستش-رقين المتكرّرة، وهفواتهم الشائعة وتصيّدهم للروايات الضعيفة، ونقد كتاب «العقيدة والشريعة» لجولدتسيهر وكتاب «الإسلام» لجيوم وغيرهما.
وربّما لم يكن لعناية بعض من لا إحاطة له بالمسائل التاريخية والمباحث الإسلامية إلی أقوال المستشرقين إلّا انخداعهم بالأسماء الّتي يحسبون أنّ لها شأناً كبيراً، أمثال: «براون» و «نولدكن»، و «هنري لامنس» و «إميل درمنغم»، فيحسب المسكين أنّ تحت هذه الأسماء حقائق عالية، وآراء ثاقبة، وليس ذلك إلّا لضعف الش-رق، واستيلاء الغرب علیه، حتی أنّ بعض أبناء الشرق يعتقد صعوبة المناقشة في آراء المستش-رقين ونظرات الغربيّين والردّ علیهم، لأنّه يحسبهم من رجالات العلم والإطّلاع في جميع العلوم، ويظنّ أنّ تقدّمهم في الصناعات والطبّ والبيطرة مستلزم لتقدّمهم في سائر
ص: 94
العلوم، وأن يكونوا أخبر بحال الش-رق وطباع أبنائه وتاريخ الإسلام، واُصول التشريع، وعقائد الفرق الإسلامية من علماء المسلمين، ولم يعقل أنّ ما حصل للمستشرقين من العلوم الإسلامية والبحوث التاريخية لم يحصل إلّا لأجل الغور في علوم المسلمين، ومطالعة كتب علمائهم.((1))هذا مضافاً إلی أنّهم لا يريدون باستش-راقهم إلّا خدمة اُمّتهم وحكوماتهم، وليست آراؤهم العلمية خالية عن النزعات السياسية، ومع ذلك أليس من أبشع ما في كتاب الخطيب استشهاده بنقل ما وجد عند «براين» وحكاية «فولدكن» والجريدة الآسيوية الفرنسية.
أليس هذا - لو كان الخطيب صادقاً في نقله - شاهداً لما قلنا من أنّ كثيراً من المستش-رقين لا يخدمون باستش-راقهم إلّا سياسات حكوماتهم؛ ولا يطلبون إلّا بقاء سيادة الغرب علی الشرق، واستعباد الاُمم الش-رقية سيّما الإسلامية منها، بإلقاء الخصومات والخلافات بينهم؟ وإلّا فأيّ مستش-رق
ص: 95
بصير عارف بلسان العرب وتاريخ الإسلام، ومقالات الشيعة وكتبهم، لا يعلم اختلاق هذه النسبة علی الشيعة، ولا يعلم أنّ هذه الألفاظ لا تمسّ كرامة القرآن، وليس للشيعة علم واطّلاع علی هذه السورة المكذوبة علی الله تعالی؟ فكأنّ الخطيب لم يقرأ قوله تعالی:
﴿إِنْ جَاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمينَ ﴾.((1))
ص: 96
لا نريد أن نعارض الخطيب بالمثل، ولا نحبّ نقل هذه الأخبار المطروحة السقيمة، سواء أ كان من طرق الشيعة أم من طرق أهل السنّة، حذراً من أن يتوهّم جاهل لُصوق بعض ما في هذه الأخبار بكرامة الكتاب، أو يتمسّك به بعض المستش-رقين والمبشّ-رين عند من ليس له تضلّع في التاريخ والحديث، ولكن ما ذنبنا بعدما يرمي الخطيب وأقرانه الشيعة بهذا البهتانات؟ ومع ذلك لا نأتي بمتون هذه الروايات، ونشير إلی مواضعها في كتب القوم علی سبيل الاختصار، ونبيّن الجواب عنها بحول الله وقوّته فنقول:
إنّ نقل الروايات حول هذا الموضوع لم يكن من مختصّات بعض كتب الشيعة كما أسلفنا مراراً، ولا يمنع من التقريب، ولا يجوز الطعن علی الشيعة بذلك، فإنّ الروايات عن طرق أهل السنّة في هذه المسألة أيضاً كثيرة جدّاً، وقد ذكرنا بعض ما ورد عن طرقهم ممّا يدلّ علی نقص سورة تامّة، بل في أحاديثهم ما يدلّ علی نقص سورة كسورة براءة في الطول والشدّة، وبعضها يدلّ علی نقص آية أو أكثر، والتغيير والتبديل، بل وبعضها يدلّ
ص: 97
علی وقوع الزيادة، فراجع الإتقان،((1)) ومسند أحمد،((2)) وصحيح البخاري باب رجم الحبلی من الزنی إذا اُحصنت،((3)) وتاريخ
مدینة دمشق لابن عساكر ترجمة اُبيّ بن كعب،((4)) وكتاب الإحکام للآمدي،((5)) وتفسير
الطبري في تفسيرآية: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾؛((6)) وراجع تفسير الفخر أيضاً في ذلك، وراجع صحيح البخاري في باب: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾((7)) من كتاب التفسير((8)) وفي باب: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾؛((9)) وراجع أيضاً ما في كتاب الاحکام في اُصول الأحکام من أنّ ابن مسعود أنكر
ص: 98
كون المعوّذتين والفاتحة من القرآن،((1)) وقد صرّح في الجزء الأوّل باختلافهم في كون البسملة من القرآن.((2))
فعلی قول من يقول بعدم كون البسملة من القرآن كأبي حنيفة((3)) يلزم زيادة البسملة في مائة وثلاث عشر موضعاً، وراجع أيضاً صحيح مسلم باب: «لو كان لابن آدم» من كتاب الزكاة؛((4)) وذكر في فصل الخطاب أكثر من تسعين حديثاً في هذا الباب من كتب العامّة.
وروي عن عمر في آية الرجم أنّه قال: لولا أن تقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها، يعني آية الرجم، فراجع الإتقان.((5)) وذكر اليعقوبي المؤرّخ الشيعي أنّ عمر قال هذا حين حضرته الوفاة.((6))
وفي هذه الروايات - علی ما حقّقه وبيّنه بعض علماء الشيعة - من الاضطراب والتدافع، والتناقض في مضامينها، ومعارضتها بغيرها من الأخبار الكثيرة الصحيحة، وركاكة الاُسلوب وضعف المعاني، وانحطاط
ص: 99
الفقرات، وعدم مشابهتها بآيات القرآن ما لا يكاد يخفی علی من له أدنی معرفة بأساليب الكلام وقواعد البلاغة.((1))
وأمّا الروايات المأثورة عن طرق الشيعة فهي إلّا النزر القليل منها غير مخرّجة في اُصولهم المعتبرة كالكتب الأربعة، ومطعون فيها بضعف السند أو الدلالة أو هما معاً، ويمكن حمل أكثرها علی التفسير، وبيان بعض المصاديق الظاهرة، وغير ذلك من المحامل الصحيحة الّتي يقبلها العقل والعرف.
أضف إلی ذلك أنّك لا تجد في أحاديثهم رواية تدلّ علی نقص سورة أو زيادتها كما يوجد في روايات أهل السنّة، وقد عرفت أقوالأكابر الشيعة وحال هذه الروايات عندهم، وأنّها مضافاً إلی كونها مطروحة متعارضة معارضة بالأخبار المتواترة القطعية.
هذا مختصر الكلام حول الأحاديث، وغرضنا من ذلك هنا أنّ اعتراض الخطيب وبعض من لا خبرة له بالمسائل الإسلامية علی الشيعة مع وجود مثلها بل أصرح منها في كتب أهل السنّة وصحاحهم، ليس في محلّه، والاعتذار عن ذلك بأنّها من منسوخ التلاوة ومنسوخ الحكم، أو منسوخ التلاوة فقط، عين الاعتراف بأنّ ما نزل قرآناً كان أكثر من هذا الموجود بين
ص: 100
الدفّتين، مع أنّ إثبات النسخ بخبر الواحد ممنوع، بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر - كما حكي عنهم - بامتناع نسخ القرآن بالسنّة المتواترة،((1)) ولو تمّ لهم هذا الاعتذار فلا اختصاص لهم به لأنّهم والشيعة فيه سواء.
ولكنّ التحقيق في الجواب إنكار أصل نزول أكثر من هذا الموجود بين الدفّتين، كما حقّقه محقّقو الشيعة، وبرهنوا علیه، لا الاعتراف بالنزول ثمّ التمسّك بنسخ التلاوة، وعلی کلّ حال فهذه النقول لا تمسّ كرامة القرآن المجيد، ولا تقاوم الضرورة وإجماع الفريقين والأخبار المتواترة القطعيّة.
ص: 101
قال في ص 14: «والحقيقة الخطيرة الّتي نلفت إليها أنظار حكومتنا الإسلامية أنّ أصل مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية الّتي تسمّی أيضاً بالجعفرية قائم علی اعتبار جميع الحكومات من يوم وفاة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) إلی هذه الساعة عدا سنوات حكم عليّ بن أبي طالب حكومات غير شرعية، ولا يجوّز الشيعي أن يدين لها بالولاء والإخلاص من صميم قلبه... إلخ».
زاد في الطنبور نغمة اُخری ليزيد الفتنة تأجّجاً، ويثير بها أولياء الحكومات علی الشيعة، فقال: إنّ أصل مذهب الشيعة قائم علی اعتبار جميع الحكومات غير شرعية.
والجواب: هل يعتبر أهل السنّة والخطيب - إن كان منهم - هذه الحكومات الّتي تؤسّست في بلاد المسلمين كلّها شرعية؟ وهل يعتبر الحكومات الّتي أسّسها المستعمرون والحكومات الّتي لا عناية لها بشعائر الإسلام والحكومات الّتي قامت بتفكيك الاُمور السياسية ونظام الحكومة عن الإسلام حكومات شرعية، تلك الحكومات الّتي ألغت اُصول الإسلام ومناهجه السياسية والاجتماعية، والنظامية والعمرانية، ومنعت الإسلام
ص: 102
عن التدخّل في شؤون الحكومة، وخضعت لأعداء المسلمين واعتنقت نير المذلّة، حتی بدّل بعضها التاريخ الهجري الإسلامي بالتاريخ الميلادي المسيحي؟
هل يعتبر السنّي حكومة يقول زعيمها «جمال كورسل» علی ما في بعض الجرائد:((1)) «يجب علی الإسلام والمسلمين الخروج عن استعمار اللسان العربي في صلواتهم وأذانهم ودعائهم» حكومة شرعية؟
وهل يعتقد شرعية حكومة ألغت نظام الإسلام في الميراثوالطلاق وغيرهما؟
أمّا نحن معاشر الشيعة فنؤيّد کلّ حكومة إسلامية تخدم الإسلام وتقوم بحفظ مصالح المسلمين، وتدافع عن شرفهم وكيانهم وحقوقهم، ونری تضعيفها والخروج علیها من الموبقات العظيمة، والشيعة تراعي مع کلّ حكومة مصلحة الإسلام، لم يخرج منهم من خرج في الأعصار الماضية علی بعض الحكومات لكون أوليائه من أهل السنّة، ولم يتركوا نصيحة الخلفاء والاُمراء سيّما في ما يرجع إلی قوّة الإسلام وظهور المسلمين علی غيرهم.
وكان الإمام عليّ(علیه السلام) في خلافة أبي بكر و عمر ناصحاً لهما يشير علیهما بآرائه السديدة في معضلات الاُمور، ودخل في الأعمال الحكومية آنذاك جمع
ص: 103
من الصحابة من شيعة الإمام كسلمان، وأبي ذرّ، والمقداد، وعمّار، وغيرهم، وكان عليّ(علیه السلام) في خلافة عثمان أيضاً من أخلص نصحائه وأحوطهم علیه، ولو قبل عثمان نصيحته لكان تاريخ الإسلام غير هذا.
نعم، إنّ الشيعة لا يعتبرون الحكومات اليزيدية حكومات شرعية، كما لا تعتبر حكومة الطواغيت الظالمين المستحلّين لآل محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) ما حرّم الله ورسوله ومبغضيهم وأعدائهم من أهل النفاق حكومة شرعية، لا تعتبر حکومة معاویة الّتي حاربت أمیر المؤمنین علیّاً(علیه السلام) الّذي قال فيه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم):
«إنّ علیّاً منّي وأنا من عليّ، وهو وليّ کلّ مؤمن بعدي»؛((1))
وقال: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»؛((2))
ص: 104
وقال: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي»؛((1))
وقال له ولفاطمة والحسن والحسین(علیهم السلام):«أنا حرب لمن حاربتم وسلمٌ لمن سالمتم».((2))
ص: 105
حكومةً شرعيةً، تلك الحكومة الّتي أعلنت سبّ عليّ علی المنابر، ودسّت السمّ إلی الحسن(علیه السلام) سيّد شباب أهل الجنّة((1)) ولا تؤيّد حكومة يزيد الفاسق المعلن بالمنكرات والكفر، وقاتل الحسين(علیه السلام)، والمتمثّل بأشعار ابن الزبعري المعروف فرحاً بحمل رأس ابن بنت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، والّذي أباح بأمره مسلم بن عقبة المدينة ثلاثاً فقتل خلقاً من الصحابة ونهبت بأمره المدينة، وافتضّ في هذه الواقعة الّتي سوّدت صحائف التاريخ ألف عذراء حتی ولدت الأبكار لا يعرف من أولدهنّ وهو الّذي أمر بغزو الكعبة.((2))
الشيعة لا تقول بش-رعية هذه الحكومة ولا بش-رعية حكومة عبدالملك الغادر الناهي عن الأمر بالمعروف، الّذي قال السيوطي في حقّه: لو لم يكن من مساويه إلّا الحجّاج وتوليته إيّاه علی المسلمين وعلی الصحابة، يهينهم ويذلّهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة والتابعين ما لا يحصی فضلاً عن غيرهم، وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختماً يريد
ص: 106
بذلك ذلّهم فلا رحمه الله ولا عفا عنه.((1))
نحن لا نقول بشرعية حكومة الوليد بن يزيد الفاسق الش-رّيب للخمر، والمتهتّك لحرمات الله تعالی، الّذي أراد الحجّ ليش-رب الخمر فوق ظهر الكعبة فمقّته الناس لفسقه، وهو الّذي فتح المصحف فخرج: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾((2)) فألقاه ورماه بالسهم، وقال ما قال، وحكي عنه من قبائح الأعمال((3)) ما بقي عاره علی من يعتبر تلك الحكومات حكومات شرعية إسلامية.
نحن لا نفتي بش-رعية حكومة هؤلاء، ولا حكومة أكثر الخلفاء العباسيّين، والجبابرة الّذين خانوا الإسلام، وأظهروا الفسق، وارتكبوا الفجور، كما لم يعتبر أبو حنيفة حكومة المنصور العبّاسي حكومة شرعية، وأفتی بجواز الخروج علیها،((4)) وكما لم يعتبر الاُمّة المصرية حكومة فاروق حكومة شرعية فخلعته عن الحكم.
ص: 107
ولا تؤيّد الشيعة حكومة تعمل لإثارة الفتن بين المسلمين، وتسعی سعيها لتجديد ذكر الاُمويّين، وخدمة الاستعمار، وتتبع سبيل «هنري لامنس» المسيحي المستشرق الخبيث عدوّ الإسلام والمسلمين.
وعلیك أيّها القاري العزيز بالتأمّل في هذا الحديث، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) قال لكعب بن عجرة:
«اُعيذك بالله من إمارة السفهاء». قال: وما ذاك يا رسول الله؟قال: «اُمراء
سيكونون من بعدي من دخل علیهم فصدّقهم بكذبهم وأعانهم علی ظلمهم فليسوا منّي ولست منهم، ولم يردوا علَيَّ الحوض، ومن لم يدخل علیهم ولم يصدّقهم بكذبهم ولم يعنهم علی ظلمهم فاُولئك منّي وأنا منهم، واُولئك يردون علَيَّ الحوض».((1))
وأخرج في اُسدالغابة عن أبي سلامة الأسلمي قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم):
«سيكون علیكم أئمّة يملكون أرزاقكم، وإنّهم يحدّثونكم فيكذبونكم، ويعملون فيسيؤون، ولا يرضون منكم حتی تحسّنوا قبيحهم، وتصدّقوا كذبهم، فأعطوهم الحقّ ما رضوا به، فإذا تجوّروا فقاتلوهم، فمن قتل علی ذلك فإنّه منّي وأنا منه»، أخرجه الثلاثة.((2))
ص: 108
وفي حديث آخر وصف فيه حال الفقهاء والقرّاء الّذين يأتون الاُمراء الظالمين:
«إنّ ناساً من اُمّتي سيتفقّهون في الدين، ويقرأون القرآن، ويقولون نأتي الاُمراء فنصيب من دنياهم، ونعتزل بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يجتنی من القتاد إلّا الشوك، كذلك لا يجتني من قربهم إلّا....». قال الراوي: كأنّه يعني الخطايا.((1))
ونِعم ما وصف به فيلسوف المعرّة حال الاُمّة مع هولاء الاُمراء حیث قال:
قلّ المقام فك--م اُع--اشر اُمّ---ةً***أمرت بغير صلاحها اُمراؤها
ظلموا الرعيّة واستجازوا كيدها***فعَدَوْا مصالحها وهم اُجراؤها
والأساس المتين الّذي يجب أن تقوم علیه کلّ حكومة إسلامية لتكون شرعية يجب علی الناس تأييدها، أن تكون صالحة عادلة، مصدر تحقيق رسالة الإسلام، ومظهر نظامه الاجتماعي والسياسيوالاقتصادي، مجتهدة في رفع ألوِية العلم والدين، تضع أزمَّة الاُمور في أنظف الأيدي، وتعترف للجميع حقوقهم، وتحترم الحريّات الّتي منحها الإسلام، ويكون رجالها خدّاماً للإسلام، حرّاساً لحقوق المسلمين.
ص: 109
هذا وقد أيّد الشيعة الحكومة الإسلامية، ودافعوا عن حقوق کافّة المسلمين، ودعاياتهم علی الحكومات المستعمرة في المؤتمرات العالمية وغيرها، فالعالم الإسلامي لا ينسی مساعي الشيعة في سبيل استقلال دولة الجزائر المسلمة والباكستان وأندونيسيا وحمايتهم عن حكومة الجمهورية العربية المصریة في واقعة قتال السويس، ولم يكن فرح أبناء الشيعة بهذه الفتوح أقلّ من فرح إخوانهم أبناء الجماعة إن لم يكن أكثر.
ص: 110
نقل الخطيب في ص 15 بواسطة بعض الكتب عن كتاب مسائل الرجال مكاتبة محمد بن عليّ بن عيسی إلی الإمام أبي الحسن عليّ بن محمد بن عليّ بن موسی الكاظم(علیه السلام)، ثم فسّر ما فيها من السؤال عن الناصب، والجواب عن ذلك واستخرج من تفسيره تحامل الشيعة علی الشيخين، وأنّه يكفي لأن يُعدَّ أيّ إنسان ناصباً وعدوّاً لآل البيت إذ قدّمهما واعتقد إمامتهما.
إنّ ما افتری علی الشيعة وملأ به مجموعته، إمّا أن لا يكون له مصدر و إمّا أن لیس له مصدر سوی كتاب مجهول، أو شخص مجهول، أو متن شاذّ، أو ما لا يؤيّد دعواه إلّا إذا فسّره بما يوافق هواه، أو ما فيه کلّ هذه العلل، ومن جملة ذلك هذه المكاتبة، فمصدرها كتاب مسائل الرجال كتاب مجهول لم نظفر بعد الفحص الكثير علی اسم جامعه ومؤلّفه، ومحمد بن عليّ بن عيسی أيضاً مجهول، ولم يفسّرها الخطيب بما فسّره إلّا ليهيّج به أهل السنّة علی الشيعة، ويوقد نار النزاع، ويفرّق بين المسلمين، ويوقظ الفتن الراقدة الّتي ترجع تمام فائدتها إلی أعداء الدين، فما تستفيد الاُمّة من ذكر هذه الاُمور الّتي أبلاها الدهر، وأنساها الزمان؟ وما فائدة استعراض هذه
ص: 111
المباحث إلّا التفرّق المنهيّ عنه في الإسلام؟ وما لنا والدخول في هذه المناقشات، وماذا نخسر لو حملناها
علی المحامل الصحيحة، وما يحمل الخطيب أن يفسّر مثل هذه المكاتبة الّتي عرفت علّتها بهذا التفسير الشائك؟
وما فائدة الاهتمام في تكثير الفوارق بين المسلمين؟ ولِ-مَ لم يكتب بعد كاتب مصلح كتاباً في مشتركاتهم الأساسية، وما اتّفق علیه كلمة الكلّ من العقائد الإسلامية الّتي هي الملاك الفذّ للحكم بالإسلام؟
وما يمنع الخطيب من مراجعة كتب الشيعة المعتمدة وأحاديثهم الصحيحة، وفتاوی فقهائهم حتی يعرف أنّ الناصب عندهم وفياصطلاحهم - كما صرّح به أكابر علمائهم - من ينصب العداوة لأهل البيت، ويسبّهم ويبغضهم؟((1))
قال شيخ المحدّثين محمد بن عليّ بن الحسين الملقّب بالصدوق (م.381ق.) في من لا يحضره الفقيه وهو أحد الجوامع الأربعة الّتي يدور علیها فقه الشيعة الإمامية في جُلّ أبوابه بل كلّها: والجهّال يتوهّمون أنّ کلّ مخالف ناصب، وليس كذلك.((2))
ص: 112
وبعد ذلك كلّه نسير في هذا البحث علی نحوٍ عامّ، بحيث يظهر منه أنّ مجرّد تخريج خبر في كتاب لا يصحّح الاحتجاج به حتی علی مؤلّفه فضلاً عن أهل مذهبه، فتخريج الأحاديث وجمعها وحفظها مطلب، وملاحظة أسنادها ومتونها ودلالة ألفاظها و عامّها وخاصّها ومطلقها ومقيّدها، والنظر في متابعاتها أو معارضاتها، مطلب آخر.
فنقول أوّلاً: لو كان إخراج کلّ رواية في كتاب من كتب أهل السنّة أو الشيعة حجّة علیهم وإن لم تكن الرواية معتبرة عندهم حتی عند مخرّجيها حسبما ذكروه في كتب الحديث والدراية والرجال لكان حجّة الشيعة علی أهل السنّة أقوی، فيستندون بروايات عن طرقهم في الاُصول والفروع وفي صفات الله تعالی ممّا خالف ضرورة العقل والكتاب والسنّة ويحتجّون علی أهل السنّة بعقائد بعض مشايخهم من المتصوّفة وغيرهم ممّا لا نحبّ ذكره.
وثانياً: إنّ الشيعة لا يعملون بالأحاديث إلّا بعد الفحص والتنقيب عن حال رواتها ومخرّجيها، وبعد حصول الاطمئنان بكون رواة الحديث في جميع الطبقات من الثقات الأثبات، أو حصول الوثوق بصدور الحديث من الأمارات المذكورة في محلّها، ولو كان حديثاً معارضاً بحديث آخر، يأخذون بما وافق منهما الكتاب والسنّة القطعية، ولهم في ذلك اُصول
ص: 113
تكشف عن كمال تدقيقهم في تمييز الأحاديث الصحاح والحسان من الضعاف، ويعتبرون في حجّية الحديث أن يكون معمولاً به بين رؤساء المذهب وقدماء الشيعة المعاصرين لأئمّة أهل البيت، أو من قارب عصرهم، فلو كان حديثاً متروكاً لم يعمل به الفقهاء أو لم يعمل به إلّا الشاذّ منهم وأعرض عن الفتوی والعمل به المشهور، لا يعتمدون علیه ولا يفتون بظاهره، فلا يحتجّ علی طائفة هذا مسلكهم في العمل بالأحاديث والأخبار بکلّ حديث خرّجوه في كتب الحديث فضلاً عن غيره.
فلا ينبغي معاتبة الشيعة وغيرهم والحكم علیهم بمحض تخريج خبر في بعض كتبهم قبل الفحص عن حال الكتاب، وقبل النظر في سند الخبر وفي متنه، وأنّه وقع مورد القبول عند علمائهم وحكموابالصحّة والاعتبار أم لا.
وثالثاً: الحديث الّذي تحمّله الراوي مشافهة قراءة أو سماعاً أقرب إلی الصحّة والاعتبار عند الشيعة من الحديث الّذي تحمّله بالمكاتبة، لأنّ في كثير من الموارد بواسطة وقوع الاشتباه في تشخيص خطّ المرويّ عنه، وعدم حصول الوثوق بذلك، ودخالة اجتهاد الراوي وحدسه في تشخيص الخطّ يسقط الحديث عن الاعتبار، نعم لو كانت هناك قرائن معتبرة تدلّ علی وقوع المكاتبة وكون الكتاب بخطّ المرويّ عنه لا كلام في اعتباره.
ورابعاً: هب أنّ في الشيعة من يتحامل علی بعض الصحابة ولا يری
ص: 114
بأساً بحسب اجتهاده، أيكون هذا مانعاً من التقريب والتجاوب؟ أو يوجب خروجه عن الإيمان، أتری أنّ الله تعالی يقبل عذر بعض الصحابة في مشاتمات وسباب وقعت بينهم بحض-رة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) أو بعد ارتحاله إلی الرفيق الأعلی، وفي محاربات وقعت بينهم، وشهادة بعضهم علی بعض بالزنی وشرب الخمر، وقتل النفس والسرقة والكفر((1)) ولا يقبل عذر من يتحامل علی بعضهم اجتهاداً ونزولاً علی حكم الأدلّة الش-رعية، فليس هذا معذوراً مأجوراً، أ ليس هذا أولی بقبول عذره من الأوّل؟
قال ابن حزم: من سبّ أحداً من الصحابة - رضي الله عنهم - فإن كان جاهلاً فمعذور، وإن قامت علیه الحجّة فتمادی غير معاند فهو فاسق، كمن زنی وسرق، وإن عاند الله تعالی في ذلك ورسوله(صلی الله علیه و آله و سلم) فهو كافر، وقد قال عمر - رض - بحضرة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) عن حاطب - وحاطب مهاجر بدريّ -: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فما كان عمر بتكفيره حاطباً كافراً، بل كان مخطئاً متأوّلاً.((2)) وقال: من كان علی غير الإسلام وقد بلغه أمر الإسلام
ص: 115
فهو كافر، ومن تأوّل من أهل الإسلام فأخطأ فإن كان لم تقم علیه الحجّة، ولا تبيّن له الحقّ فهو معذور مأجور أجراً واحداً لطلبه الحقّ وقصده إليه مغفور له خطأه... إلخ.((1))
وقال أيضاً: أمّا الشيعة فعمدة كلامهم في الإمامة والمفاضلة بين أصحاب النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم.((2))
ولا ريب أنّ الشيعة لم تقل في الإمامة والمفاضلة ما قالت إلّا بالحجج الّتي عندها من الكتاب والسنّة، ولو كانوا بزعم غيرهم مخطئين متأوّلين فهم معذورون مأجورون علی کلّ حال، ويأتي مزيد إيضاح لذلك إن شاء الله تعالی في بعض المباحث الآتية، والله الهادي إلی الصواب.
ص: 116
وفي ص 15 نقل عن مفتاح الجنان دعاء ثم فسّ-ره بما يهين بعض الصحابة، وقال: هو يعني كتاب مفتاح الجنان بمنزلة دلائل الخيرات((1)) في بلاد العالم الإسلامي، إلخ.
لم أجد هذا الدعاء في أصل من اُصول الشيعة، ولم أسمع بواحد من مشايخي، ولا بأحد من الشيعة يقرأ هذا الدعاء، ولم أعثر بعد علیه إلّا في كتاب الخطيب، والكتاب الّذي ذكره ليس من الكتب المعتمدة، وليس له هذا الشأن والاعتبار والاشتهار فقد تفحّصت عنه في عدّة من المكتبات فلم أجد فيها وفي فهارسها منه عيناً ولا أثراً.
نعم يوجد عند الشيعة كتاب دعاء أسماه مؤلّفه المحدّث الشيخ عبّاس القمّي «مفاتيح الجنان» ليس فيه هذا الدعاء، ويوجد فيه طعن شديد علی الكتاب الموسوم بمفتاح الجنان، ولعلّه هو الكتاب الّذي ذكره الخطيب،
ص: 117
وهذا الكتاب لو كان أصله من تأليف بعض الشيعة لا شكّ في وقوع التصرّف والدسّ فيه، وذكر المحدّث القمّي أنّ فيه زيادات ليست في كتب الأدعية المعتبرة، قد دسّها فيه الوضّاعون، والمحدّث المذكور صنّف المفاتيح لتخليص المفتاح عن هذه الزوائد، وما لا مأخذ له في كتب الدعاء.
وعلی کلّ حال فلم أر لهذا الدعاء فيما بأيدينا من كتب الشيعة رواية، والأدعية الّتي يداوم الشيعة علی قراءتها هي الأدعية المأثورة عن أهل البيت(علیهم السلام).
ومن أراد أن يری الشيعة في مرآة أدعيتهم ينبغي له الرجوع إلی الكتب الّتي صنّفها علماؤهم الأجلّاء، كالشيخ الطوسي، والسيّد ابن طاوس، وغيرهما في الدعاء، وقد أفردوا في جوامعهم في الحديثأيضاً كتباً في الدعاء لا تری لهذا الدعاء فيها اسماً ولا أثراً، وهذه الأدعية مشتملة علی المطالب العالية في المعارف والأخلاق الإسلامية، والآداب الاجتماعية بأفصح الألفاظ، وأبلغ العبارات، تهذّب الأخلاق وتصفّي الأرواح، وتكمل النفوس وتطهّرها عن الأوساخ المادّيّة، وتزيد في الوعي الإسلامي، فاقرأ الدعاء الّذي علّمه الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين(علیهما السلام)أبا حمزة الثمالي، والدعاء الّذي علّمه سيّدنا أمير المؤمنين(علیه السلام) كميل بن زياد، ودعاء الحسين(علیه السلام) في يوم عرفة، واقرأ الصحيفة السجّادية وسائر الأدعية حتی
ص: 118
تعرف مبلغ ثروة الشيعة العلمية والروحية في الدعاء، وتعرف أنّ الخطيب وزملاءه ممّن يعيب الشيعة بدعاء صنمي قريش الّذي عرفت حاله، ويتركون هذه الأدعية لا يريدون إلّا إثارة الضغائن المدفونة بالافتراء وتتبّع عورات المسلمين.
ص: 119
قال في ص 16: «وقد بلغ من حنقهم علی مطفئ نار المجوسية في إيران، والسبب في دخول أسلاف أهلها في الإسلام سيّدنا عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - سمّوا قاتله أبا لؤلؤة المجوسي «بأبي شجاع الدين» روی عليّ بن مظاهر من رجالهم، عن أحمد بن إسحاق القميّ الأحوص شيخ الشيعة ووافدهم أنّ يوم قتل عمر بن الخطّاب هو يوم العيد الأكبر، ويوم المفاخرة، ويوم التبجيل، ويوم الزكاة العظمی، ويوم البركة، ويوم التسلية... إلخ».
الشيعة طائفة كبيرة من المسلمين منتشرون في الممالك الإسلامية وغيرها كسوريا، ولبنان، وإمارات الخليج، والمملكة العربية، والأفغان، والهند، والباكستان، وإيران، والعراق، واليمن وتركيا، وتايلاند، وأندونيسيا، وتانزانیا، وبِرما، وسائر بلاد آسيا و اُوروبا وأمريكا، وأكثر قدمائهم كانوا من عظماء المهاجرين والأنصار والتابعين، وليس جميعهم إيرانيّين حتی يقال عنهم إنّهم سمّوا أبا لولؤة «بأبي شجاع الدين» تعصّباً للمجوسية، وحنقاً علی الخليفة.
ص: 120
ومطفئ نار المجوسية في إيران هو مطفئ نار الكفر والش-رك وعبادة الأوثان في البلاد العربية، وسائر الممالك الإسلامية، والسبب في دخول أسلاف أهلها في الإسلام هو السبب في دخول جميع المسلمين من الصحابة وغيرهم في الإسلام، وليس هو إلّا الرسول الأعظم سيّدنا محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) المبعوث إلی کافّة الناس، والّذي أرسله رحمة للعالمين، وبالهدی ودين الحقّ، ليظهره علی الدين كلّه، وهو أكرم خلق الله وأعزّهم وأحبّهم إلی الشيعة، ومن كان في قلبه حنق علیه مثقال ذرّة وأقلّ من ذلك فهو كافر عندهم خارج عن الإسلام، والقسط الأكبر والسهم الأوفر في نص-رة الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) لإطفاء نار الوثنيّة والمجوسية وسائر أنواع الكفر والش-رك لأصحابه المجاهدين الأوّلين السابقين الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس من المهاجرينوالأنصار الّذين بذلوا أنفسهم دونه، وجاهدوا في سبيل الله وقاتلوا وقتلوا: كأبي دجانة الأنصاري وسيّد الشهداء حمزة، وجعفر الطيّار، وبطل الإسلام ومجاهده الأكبر، رجل الحقّ والتضحية، فارس الغزوات وقاتل صناديد الشرك عليّ بن أبي طالب.
وكلّ باحث في التاريخ يعلم أنّ سبب فتوحات المسلمين بعد ارتحال النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) إلی الرفيق الأعلی هو إيمان المجاهدين بحقيقة الرسالة، وخلوص عقائدهم، وصدق نيّاتهم وقوّة عزائمهم، وثباتهم وصبرهم عند
ص: 121
لقاء العدوّ، وحبّهم للتضحية والشهادة، والجهاد في سبيل الله.
فهذه الفتوحات فتوحات الدين، فتوحات الإيمان والعقيدة، فتوحات التربية المحمدية، وفتوحات الاُمّة الإسلامية لا تنسب إلی شخص واحد أو قوم واحد، لأنّها ليس كغيرها من فتوحات الجبابرة مثل إسكندر ونابلئون الّتي ليس وراءها قصد إلّا استعباد الناس، وبسط السلطة والملك، واغتصاب الأراضي، وليس الغلبة فيها بالسلاح وكثرة العدّة والعدد، بل كان بقوّة الإيمان والثقة بالله، وأنّ النصر منه، والأرض له يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.
وأمّا دخول أسلاف أهل إيران في الإسلام فإنّه لم يكن بالإكراه والإجبار حتی يوجب الحنق علی من أدخلهم فيه، بل كان عن كمال الاشتياق والاختيار، فقد فتحت حقيقة دعوة الإسلام وخلوصها عن الش-رك وسماحة شرائعه وأحكامه، وجامعية تعالیمه وأكمليته قلوب الإيرانيّين إلی الإسلام، وثباتهم علی العقيدة الإسلامية، وشدّة تمسّكهم بمباديه إلی اليوم، وخدماتهم للإسلام كما تأتي الإشارة إليها سجّلت في التاريخ الإسلامي، والخطيب يفتري علیهم ويرميهم بالتعصّب للمجوس، وينسی حنق المنافقين علی عليّ بن أبي طالب لأنّه قتل آباءهم وأبناءهم وأقاربهم في سبيل الله، وحنق الاُمويّين وغيرهم من مبغض-ي أهل البيت علی الإسلام وعلی الإمام عليّ، فلم يسند ما ظهر من الفتن الدامية بين
ص: 122
المسلمين إلی حنق هؤلاء الّذين لم تذبّ بالإسلام عصبيّاتهم الجاهلية، وبقيت قلوبهم مملوءة بالحقد والحنق علی النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته، و علی المجاهدين الأبطال الّذين جعل الله بسيوفهم ومجاهداتهم كلمة الإسلام هي العلیا وكلمة الّذين كفروا السفلی.
فراجع ما ذكره المسعودي في مروج الذهب في حوادث سنة اثنتي عش-رة ومأتين من سبب أمر المأمون بلعن معاوية علی المنابر((1)) حتی تعرف حنق هؤلاء علی الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) وعلی أهل بيته.
وعلی کلّ حال فالمؤمنون كلّهم إخوة، لا فرق بين إيرانيّهم وعربيّهم، وأبيضهم وأسودهم إلّا بالتقوی، قال الله تعالی: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْعِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ﴾.((2))
وأمّا ما ذكره من رواية عليّ بن مظاهر فهي رواية ضعيفة المتن وضعيفة السند، لم نجدها في الجوامع والاُصول المعتبرة عند الإمامية، كما لم نجد ترجمة عليّ بن مظاهر الّذي عدّه الخطيب من رجال الشيعة لا في كتب الرجال ولا في غيرها، ولا يستغرب وجود مثل هذا النقل عن مجهول في بعض المجاميع الكبيرة المبسوطة الّتي اعتاد مؤلّفوها بجمع الأخبار من غير
ص: 123
أن يكترثوا لاعتبار أسنادها وتحقيق متونها، وأمثالها في كتب أهل السنّة أيضاً فلا ينبغي مؤاخذة السنّي أو الشيعي بهذه الأخبار، بل يجب الرجوع إلی مهرة علم الحديث من علماء الفريقَينِ العارفِينَ.
وما ذكره من أنّ أبا لؤلؤة كان مجوسيّاً فلم يثبت، بل قيل - كما حكي عن الذهبي والطبري -: إنّه كان نصرانياً حبشيّاً،((1)) وروي أنّه كان مجوسيّاً،((2)) وهو عمّ أبي الزناد الّذي كان عالم أهل السنّة في المدينة، وإمامهم في الحساب والفرائض، والفقه والحديث والشعر، وكان عبداً للمغيرة بن شعبة،((3)) وهل كان معتنقاً للإسلام حين ما كان في المدينة المنوّرة أم لم يكن قد أسلم بعدُ الظاهر أنّه اعتنق الإسلام، لأنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أمر بإخراج الكفّار من المدينة المنوّرة المكرّمة، فلو كان كافراً لم يكن مأذوناً من الخليفة في المُقام بالمدينة، والدخول في مسجد النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، والوقوف في صفّ المصلّين. ((4))
ص: 124
وعلی کلّ لو كان فيمن يتولّی حبيبة الرسول فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين ويبالغ في ولايتها من سمع بمقالة النظام ((1)) أو قرأ كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة((2)) وغيره فسمّی - بزعم الخطيب - أبا لؤلؤة بأبي شجاع الدين لا يخرجه ذلك من الإيمان، ولا يجوز تفسيقه إذا كان عن اجتهاد، بل
ص: 125
لا يجوز تكفير قاتله إن ثبت إسلامه ولم تقم قرينة علی معاندته للحقّ، وخصومته للإسلام، بل كان ذلك منه تشفّياً لغيظه وغضبه علی عمر، لأنّه لم يكثر خراجه، ولم ينتصف له بزعمه من المغيرة.
فالمسلمون لم يكفّروا من نقم علی عثمان من الصحابة وغيرهم ولم يكفّروا قتلته، وفي أهل السنّة من لا يكفّر عمران بن حطّان الناصبي الّذي مدح أشقی الآخرین، وشقيق عاقر ناقة صالح عبد الرحمن بن ملجم المرادي بأبياته المشهورة الخبيثة، بل أخذوا عنه الحديث، بل اجترأ بعضهم وعدّ ابن ملجم من الصحابة مع قولهم بأنّالصحابة كلّهم عدول.((1))
ص: 126
فمن لم يكفّر أمثال عمران بن حطّان، وحريز بن عثمان الرحبي الّذي قال عنه يحيی بن صالح: صلّيت معه سبع سنين فكان لا يخرج من المسجد حتی يلعن علیّاً - علیه الصلاة والسلام - سبعين مرّة((1)) وغيرهما من مبغضي عليّ بن أبي طالب،((2))ويأخذ منهم، ومن شمر بن ذي الجوشن وعمر بن سعد... الحديث. ويذكر ابن ملجم في عداد الصحابة، كيف يعاتب الشيعة بزعم أنّ فيهم من يمدح أبا لؤلؤة، ويسمّيه بأبي شجاع الدين، ويعدّ ذلك مانعاً من التقريب واتّحاد كلمة المسلمين؟
فاُمّ المؤمنين عائشة سجدت لقتل الإمام عليّ شكراً، وقالت ماقالت حتی عابها الناس،((3))
وهذا معاوية أظهر الس-رور بقتل أمير المؤمنين
ص: 127
والحسن(علیهما السلام)، وسبّه وأمر بسبّه علی رؤوس المنابر، ألم يظهر العثمانيّون والمروانيّون الس-رور بقتل الحسين(علیه السلام)، واتّخذوا يوم عاشوراء عيداً، ووضعوا في فضيلته الأحاديث؟
فإذا كان إظهار الفرح بقتل عمر بن الخطّاب سبباً للفسق أو الكفر أو العتاب فلم لا تعاتبون ولا تكفّرون هؤلاء الّذين أظهروا سرورهم بقتل أهل بيت النبيّ والوصيّ(علیهم السلام) واتّخذوا يوم قتلهم عيداً؟
كانت مآتم بالعراق تعدّها***اُمويّة بالشام من أعيادها
فإذاً ما ذكره الخطيب لا يمنع من التقريب والتجاوب، والتفاهم واتّحاد الكلمة، بعد الاتّفاق
علی الاُسس الّتي قام علیها الإسلام، وعلی المسلمين أن لا يتركوا الاعتصام بحبل الله لهذه الآراء الّتي أحدثتها سياسة الأُمراء الجبّارين، وأن يتمسّكوا بالدعوة المحمدية، وهدی القرآن والسنّة، ويأخذوا بقوله تعالی: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَ-هَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلَا
ص: 128
تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.((1))
وأن لا يجدّدوا هذه المناقشات، ولا يخوضوا في هذه المباحث، فإنّه ليس علیهم حساب الأموات، ولا ينبغي أن يكون لهم غرض إلّا نشدان الحقيقة، فإنّ الله علیم بما في صدور العالمين.
ص: 129
یجب علی کلّ مسلم في شرق الأرض وغربها أن يقدّر خدمات الفرس للإسلام وعلومه، وأن يفتخر بهم وبمساعيهم الجميلة في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ومعارفه وآدابه، قوم مدحهم الله في كتابه، فقال سبحانه وتعالی: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾.((1))
أخرج البغوي عن أبي هريرة أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) تلا هذه الآية: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾((2)) قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الّذين إن تولّينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب علی فخذ سلمان الفارسي ثم قال: «هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريّا لتناله رجال من الفرس».((3))
وأخرج أيضاً عن أبي هريرة قال: ذكرت الأعاجم عند رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
ص: 130
فقال النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) : «لأنا بهم أو ببعضهم أوثق منّي بكم أو ببعضكم».((1))
وأخرج أيضاً عن أبي هريرة قال: كنّا جلوساً عند النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) إذ نزلت علیه سورة الجمعة فلمّا نزلت هذه: ﴿وَآخَرينَ مِنْهُمْ لَ-مَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾((2)) قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: وفينا سلمان الفارسي، قال: فوضع النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) يده علی سلمان ثمّ قال: «لو كان الإيمان عند الثريّا لناله رجال من هؤلاء».((3)) وأخرج ابن الأثير عن قيس بن سعد: «لو كان العلم متعلّقاً بالثريّا لناله ناس من فارس».((4))
وأخرج السيوطي في «مفحمات الأقران في تفسير مبهمات القرآن» «سورة الجمعة»: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَ-مَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ أخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً إنّهم قوم سلمان، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هم الأعاجم.((5))
وأخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: كنّا جلوساً عند النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) فأنزلت علیه سورة الجمعة: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَ-مَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ قال: قلت:
ص: 131
من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتی سأل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يده علی سلمان، ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريّا لناله رجال أو رجل من هؤلاء»،((1)) وأخرج مسلم نحوه في كتاب الفضائل باب فضل فارس.((2))
وأخرج الحافظ أبو نعيم بإسناده أحاديث رويت عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) في فضل الإيرانيّين وأنّهم المبشّرون بمنال الإيمان والتحقّق به وإن كان عند الثريّا، ولفظ بعضها: «لو كان الدين عند الثريّا لذهب رجل أو قال: رجال من أبناء فارس حتی يتناولوه». وفي بعضها أنّه قال(صلی الله علیه و آله و سلم):
«أعظم
الناس نصيباً في الإسلام أهل فارس، لو كان الإسلام في الثريّا لتناوله رجال من أهل فارس»، وفي بعضها: «لو كان الدين معلّقاً»، وفي بعضها: «لو كان هذا العلم بالثريّا لناله قوم من أهل فارس»، وفي بعضها: «لو كان الخیر منوطاً بالثريّا لتناوله منكم رجال...((3)) إلخ».
قوم نشأ فيهم من رجالات العلم والفقه والحديث والتاريخ، والفلاسفة والمتكلّمين، وأساتذة البلاغة والأدب من يفتخر بهم الملأ الإسلامي،
ص: 132
كالبخاري والنسائي، وأبي داود السجستاني، والترمذي وابن ماجة ومسلم من أرباب السنن، والطبري وابن ماكولا الجرفاذقاني «الگپايگاني» والحاكم النيسابوري، والفخر الرازي والبيضاوي والفيروز آبادي وغيرهم من أعلام السنّيين.
وكالصدوق والكليني والشيخ الطوسي، وأمين الإسلام الطبرسي والطبري الشيعي، وابن شهر آشوب، والأردبيلي، والسيّد علي خان الشيرازي وقطب الدين الرازي، والشيخ الرضي مؤلّف كتاب شرح الرضي، والعلّامة المجلسي، والفيلسوف أبي نصر الفارابي، وأبي علي سينا البلخي، والخواجة نصير الدين الطوسي وابن مسكويه، والحكيم الإلهي السيّد الداماد، وصدر المتألّهين الشيرازي والفاضلالآوي، وسلّار الديلمي، والشيخ بهاء الدين محمد العاملي، والوحيد البهبهاني، والفاضل النراقي، والشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي، وفي هذا العص-ر ترجمان العلوم الإسلامية اُستاذنا السيّد الزعيم آغا حسين الطباطبائي البروجردي المتوفّی سنة 1380 ((1)) وغيرهم من أعلام الشيعة.
ص: 133
فحقّ للإيراني بل لكلّ مسلم أن يفتخر باُلوف من أمثال هؤلاء الجهابذة، والنوابغ الّذين لا ينسی التاريخ مساعيهم المشكورة في خدمة الإسلام، وجهودهم في الاحتفاظ بشعائر الدين الحنيف، وهذه كتبهم ومدارسهم ومساجدهم تنبي عن قدمهم الراسخة في الغيرة علی الإسلام وكتابه واُمّته، وعن خلوص نيّاتهم في سبيل إعلاء كلمة التوحيد وإن نسب إليهم الخطيب التعصّب للمجوس فالله تعالی يقول: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾؛((1))
ويقول عزّ شأنه: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾.((2))
ص: 134
ممّا اتّفق علیه المسلمون خلفاً عن سلف، وتواترت فيه الأخبار عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم): أنّه لابدّ من إمام يخرج في آخر الزمان من نسل عليّ وفاطمة يسمّی باسم الرسول ويلقّب بالمهديّ، ويستولي علی الأرض ويملك الشرق والغرب، ويتّبعه المسلمون ويهزم جنود الكفر، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، وينزل عيسی من السماء ويصلّي خلفه....
وأخرج جمع من أعلام أهل السنّة والجماعة روايات كثيرة في أنّه من عترة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ومن ولد فاطمة، ومن ولد الحسين، وأنّه يملأ الأرض عدلاً، وأنّ له غيبتين إحداهما تطول، وأنّه الخليفة الثاني عش-ر من الخلفاء الّذين أخبر النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) بأنّهم يملكون أمر هذه الاُمّة، وأنّه لا يزال هذا الدين منيعاً إلی اثني عشر، وفي شمائله وخَلقه وخُلقه، وسيرته بين الناس، وشدّته علی العمّال، وجوده بالمال، ورحمته بالمساكين، وفي اسم صاحب رايته وما كتب فيها، وكيفيّة المبايعة معه بين الركن والمقام، وما يقع قبل ظهوره من الفتن وذهاب ثلثي الناس بالقتل والموت، وخروج السفياني واليماني والدجّال، ووقوع الخسف بالبيداء، وقتل النفس الزكيّة، وفي علائم ظهوره وأنّه ينادي
ص: 135
ملك فوق رأسه: «هذا المهديّ خليفة الله فاتّبعوه» وأنّ شيعته يسيرون إليه من أطراف الأرض، وتطوی لهم الأرض طيّاً حتی يبايعوه، وأنّه يستولي علی البلدان، وأنّ الاُمّة ينعّمون في زمنه نعمة لم ينعّموا مثلها. وغيرها من العلائم والأوصاف الّتي اقتطفناها من روايات أهل السنّة، فراجع كتبهم المفردة في ذلك كأربعين الحافظ أبي نعيم الأصبهاني، والبيان في أخبار صاحب الزمان لأبي عبد الله محمد بن يوسف الگنجي الشافعي (م.658 ق.) و البرهان في علامات مهديّ آخر الزمان للعلّامة المتّقي صاحب كنز العمّال (م. 975 ق.) والعُرف الورديّ في أخبار المهديّ للسيوطي (م.911 ق.) والقول المختصر في علامات المهديّ المنتظر لابن حجر (م. 974ق.) وعقد الدرر في أخبار المنتظر للشيخ جمال الدين يوسف الدمشقي من أعلام القرن السابع، والتوضيح في تواتر ما جاء في المهديّ المنتظر، والدجّال والمسيح للشوكاني (م. 1250ق.).
أضف إلی ذلك روايات أخرجها أكابر المحدّثين منهم في كتبهم وصحاحهم ومسانيدهم كأحمد، وأبي داود، وابن ماجة، والترمذي، ومسلم، والبخاري، والنسائي، والبيهقي، والماوردي، والطبراني، والسمعاني، والروياني، والعبدري، وابن عساكر، والدار قطني، وأبي عمرو الداني، وابن حبّان والبغوي، وابن الأثير وابن الديبع، والحاكم
ص: 136
النيسابوري، والسهيلي، وابن عبد البرّ، والشبلنجي، والصبّان، والشيخ منصور علي ناصف، وغيرهم ممّن يطول الكلام بذكر أسمائهم.
وأضف إليها تصريحات جماعة من علمائهم بتواتر الأحاديث الواردة في المهديّ(علیه السلام).((1))
فلا خلاف بين المسلمين في ظهور المهديّ الّذي يملأ الأرض عدلاً، وإنّما الخلاف وقع بينهم في أنّه ولد أو سيولد، فالشيعة الإمامية يقولون بولادته، وبوجوده وحياته وغيبته وإنّه سيظهر بإذن الله تعالی، وإنّه الإمام الثاني عشر، وهو ابن الحسن بن عليّ بن محمد بن عليّ بن موسی بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(علیهم السلام).
ورواياتهم في ذلك تجاوزت حدّ التواتر معتبرة في غاية الاعتبار، مؤيّدة بعضها ببعض، وكثير منها من الصحاح بل مقطوع الصدور، رواها في جميع
ص: 137
الطبقات الأثبات الثقات، من الأجلّاء الّذين لا طريق للغمز فيهم، وإن شئت أن تعرف مقدار ذلك فارجع إلی ما ألّفه الحافظ الجليل الثقة أبو عبد الله النعماني بأسناده العالية وما ألّفه الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي الإمام في جميع العلوم الإسلامية، وكتاب كمال الدين وتمام النعمة تأليف الشيخ المحدّث الكبير محمد بن عليّ بن الحسين الصدوق (م.381ق.) وكتابنا منتخب
الأثر ومئات من الكتب المصنّفة في ذلك.
وهذه الروايات مخرّجة في اُصول الشيعة وكتبهم المؤلّفة قبل ولادة الإمام الحجّة بن الحسن العسكري(علیهما السلام)، بل قبل ولادة أبيه وجدّه(علیهم السلام).منها كتاب المشيخة لإمام أهل الحديث الشيخ الثقة الثبت الحسن بن محبوب السرّاد الّذي كتابه هذا في كتب الشيعة أشهر من كتاب المزني ونظرائه، وصنّفه قبل ولادة المهديّ بأكثر من مائة سنة، وذكر فيه أخبار الغيبة فوافق الخبر المخبر، وحصل كلّما تضمّنه الخبر بلا اختلاف.
وأمّا ولادته(علیه السلام): «فقد ثبتت بأوكد ما ثبت به أنساب الجمهور من الناس إذ كان النسب يثبت بقول القابلة ومثلها من النساء اللاتي جرت عادتهم بحضور ولادة النساء وتولّي معونتهنّ علیه، وباعتراف صاحب الفراش وحده بذلك دون من سواه، وبشهادة رجلين من المسلمين علی إقرار الأب بنسب الابن منه، وقد ثبتت أخبار عن جماعة من أهل الديانة والفضل، والورع والزهد، والعبادة والفقه، عن الحسن بن عليّ(علیهما السلام)أنّه
ص: 138
اعترف بولادة المهديّ(علیه السلام)، وآذنهم بوجوده، ونصّ لهم علی إمامته من بعده، وبمشاهدة بعضهم له طفلاً، وبعضهم له يافعاً، وشابّاً كاملاً».((1))
وهذا الفضل بن شاذان العالم المحدّث المتوفّی قبل وفاة الإمام أبي محمد الحسن العسكري(علیه السلام)، روی عنه في كتابه في الغيبة خبر ولادة ابنه المهديّ، وكيفيّتها وتاريخها، وكانت ولادته(علیه السلام) بين الشيعة وخواصّ أبيه من الاُمور المعلومة المعروفة، وقد أمر أبوه(علیه السلام) أن يعقّ عنه ثلاث مائة شاة، وعرضه علی أصحابه يوم الثالث من ولادته.
والأخبار الصحيحة الواردة بأسناد عالية في ذلك كثيرة متواترة جدّاً، وقد أحصی بعض العلماء أسماء جماعة ممّن فازوا بلقائه في حياة أبيه وبعدها، كما قد نقل عن بعض أهل السنّة الإجتماع به(علیه السلام)، بل أخرج بعض حفّاظهم مثل حافظ زمانه أحمد بن محمد بن هاشم البلاذري الحديث عنه(علیه السلام).
نعم كان أبوه وشيعته يسترون ولادته عن أعدائه من بني العبّاس وغيرهم، وكان السرّ في ذلك أنّ بني العباس لمّا علموا من الأخبار المرويّة عن النبيّ والأئمّة من أهل البيت(علیهم السلام) أنّ المهديّ هو الثاني عشر من الأئمّة، وهو الّذي يملأ الأرض عدلاً، ويفتح حصونالضلالة ويزيل دولة الجبابرة، أرادوا إطفاء نوره بقتله، فلذا عيّنوا العيون والجواسيس للتفتيش
ص: 139
عن بيت أبيه، ولكن أبی الله إلّا أن يجري في حجّته المهديّ سنّة نبيّه موسی(علیهما السلام)، وقد ورد في الروايات الكثيرة عن آبائه(علیهم السلام) خفاء ولادته، ومشابهته في ذلك بموسی(علیه السلام)، فراجع الباب الثاني والثلاثين من الفصل الثاني من كتابنا منتخب الأثر.
فعلی هذا لم ينبعث الإيمان بظهور المهديّ(علیه السلام) إلّا من الإيمان بنبوّة جدّه محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وليس في الخصوصيّات المذكورة أمر غير مألوف ممّا لم نجد مثله في هذه الاُمّة أو الاُمم السالفة، فلابدّ لمن يؤمن بالله وبالنبيّ الصادق المصدّق بعد العلم بهذه الأخبار الكثيرة، الإيمان بظهور المهديّ المنتظر صاحب هذا النسب المعلوم، والسمات والنعوت المشهورة، ولا يجوز مؤاخذة الشيعي بانتظار هذا الظهور، ولا يصحّ دفع ذلك بمحض الاستبعاد.
فالمسلم الّذي يؤمن بحياة عيسی، بل وحياة الدجّال الكافر، وخروجه في آخر الزمان، وبحياة خضر وإدريس، ويروي عن نبيّه في أصحّ كتبه في الحديث((1)) أنّه احتمل كون ابن صيّاد هو الدجّال، ويروي عن تميم الداري ما هو صريح في أنّ الدجّال كان حيّاً في عصر النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وأنّه يخرج في آخر
ص: 140
الزمان، ويؤمن بطول عمر نوح ويقرأ في القرآن: ﴿فَلَبِثَ فيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّاخَمْسينَ عَاماً﴾؛((1)) وقوله تعالی: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْ-مُسَبِّحينَ * لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾؛((2)) وأمثال هذه الاُمور ممّا يستغربه بعض الأذهان لقلّة الاُنس به كيف يعيب الشيعة علی قولهم ببقاء الإمام المنتظر، وينسبهم إلی الجهل وعدم العقل، ومفاسد هذه الاستبعادات فيالمسائل الدينية كثيرة، ولو فتح هذا الباب لأمكن إنكار كثير من المسائل الاعتقادية وغيرها ممّا دلّ علیه صحيح النقل بالاستبعاد، ويلزم من ذلك طرح ظواهر الأخبار والآيات بل وصريحها، ولا أظنّ بمسلم أن يرضی بذلك وإن كان الخطيب ربّما لا يأبی عن ذلك ويراه نوعاً من الثقافة.
ووافق الإماميّة من أعلام أهل السنّة في أنّ المهديّ هو ابن الحسن العسكري(علیهما السلام)جمع كثير كصاحب روضة
الأحباب، وابن الصبّاغ مؤلّف «الفصول المهمّة»((3)) وسبط ابن الجوزي مؤلّف «تذكرة الخواصّ»((4)) والشيخ نور الدين عبد الرحمن الجامي الحنفي في كتاب «شواهد النبوّة»((5)) والحافظ
ص: 141
محمد بن يوسف الگنجي الشافعي مؤلّف «البيان في أخبار صاحب الزمان» والحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي الفقيه في «شعب الإيمان» فإنّه يظهر منه - علی ما حكي عنه - الميل إلی موافقة الشيعة بل اختيار قولهم، وذلك لأنّه نقل عقيدة الشيعة ولم ينكرها، وكمال الدين محمد بن طلحة الشافعي صاحب «العقد
الفريد» صرّح بذلك في كتابه «الدرّ المنتظم»((1)) و «مطالب
السؤول»((2)) وله في مدحه(علیه السلام) أبيات، والقاضي فضل بن روزبهان شارح الشمائل للترمذي، ومؤلّف «إبطال نهج الباطل» وابن الخشّاب والشيخ محيي الدين، والشعراني، والخواجة محمد پارسا، وملك العلماء القاضي شهاب الدين دولت آبادي في «هداية السعداء» والشيخ سليمان المعروف بخواجه كلان البلخي القندوزي في «ينابيع المودّة»((3)) والشيخ عامر بن عامر البصري صاحب القصيدة التائيّة المسمّاة بذات الأنوار وغيرهم من العلماء ممّن يطول بذكرهم الكلام.
وقد صرّح بولادته جماعة من علماء أهل السنّة الأساتذة فيالنسب والتاريخ والحديث كابن خلّكان في «الوفيات»((4)) وابن الأزرق في «تاريخ
ص: 142
ميافارقين» علی ما حكی عنه ابن خلّكان،((1)) وابن طولون في «الشذرات الذهبيّة»((2)) وابن الوردي علی ما نقل عنه في «نور الأبصار»((3)) والسويدي مؤلّف «سبائك الذهب»((4)) وابن الأثير في «الكامل»((5)) وأبي الفداء في «المختصر»((6)) وحمد الله المستوفي في «تاريخ گزيده»((7)) والشبراوي الشافعي شيخ الأزهر في عصره في «الإتحاف»((8)) والشبلنجي في «نور الأبصار»((9)) بل يظهر منه اعتقاده بإمامته، وأنّه المهديّ المبشّر بظهوره، وإن شئت أن تقف علی أكثر من ذلك فراجع كتابنا منتخب الأثر الباب الأوّل من الفصل الثالث منه.
ومع هذا أ ليس من عجيب جرأة الخطيب وعناده وتحامله علی الشيعة إنكاره في ص 16 و 29 ولادة المهديّ(علیه السلام) لأنّها لم تسجّل بزعمه في سجلّ
ص: 143
مواليد العلويّين؟ وقد خرج هنا عن حدود الأدب وبالغ في الفحش والافتراء، وأظهر سجيّته «وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح» ولم يستند فيما ذكره من الأراجيف والأضاليل إلی البرهان، وادّعی أنّ ولادته لم تسجّل في مواليد العلويّين، كأنّهم جعلوا سجلّ مواليدهم عنده، وكان هو النقيب القائم علی سجلّ ولاداتهم، وعلم أنساب أهل البيت مذخور عنده دون غيره من العلويّين وشيعتهمودون أرباب التواريخ وعلماء الأنساب فمن لم يعرفه الخطيب ليس منهم.
أيّها الخطيب! ما هذا السجلّ الّذي سجّل فيه ولادة العلويّين في عص-ر الإمام أبي محمد الحسن العسكري(علیه السلام)، ومن أين يطلب؟ ومن أخبرك به؟ ومن أطلعك علی مواليد جميع العلويّين؟ ومن كان النقيب في تلك الأعصار؟ ومن أين تقول: إنّ العلويّين لا يعرفون ولداً للحسن العسكري(علیه السلام)، مع أنّ كثيراً منه من أخلص الناس ولاء له؟ وهل يوجد طريق لإثبات ولادة المولود أوثق من إخبار والده وقابلته، وخواصّ أهل بيته؟ أيشكّ عاقل في ولادة من رآه مئات من الناس، والأخيار الأثبات، وظهرت منه الكرامات الكثيرة؟
إذا كان هذا ومثله معرضاً للشكّ فلا يبقی اعتماد علی ما نقله التاريخ من حوادث الأعصار ووقائع الأمصار.
ص: 144
نعم، قد خفيت ولادته عن أعدائهم لأنّهم كانوا ساعين في إطفاء نوره والاستيلاء علیه، لما وصل إليهم من الأخبار المبشّ-رة بظهوره وأنّه هو الشخص الّذي يزيل دولة الجبابرة، فهذا المعتضد الخليفة العبّاسي يرسل الجواسيس إلی بيت الإمام الحسن بن عليّ العسكري(علیهما السلام)لأخد ابنه.((1))
ومن الأغلاط الفاحشة الّتي أسندها هذا الرجل - تبعاً لأسلافه - إلی الشيعة، هو أنّ الإمام المنتظر مخبوء في سرداب بيت أبيه، وأسند اختراع هذه الفكرة إلی محمد بن الحسن النميري المعروف بين الشيعة بالكفر والزندقة والإلحاد، والملعون في لسان الإمام أبي الحسن عليّ الهادي(علیه السلام)، وأعجب من ذلك عدّه النوّاب ووكلاء الإمامأبواباً للس-رداب إلی آخر ما قال من الهذيان والافتراء.
أقول: هذه كتب الشيعة المؤلّفة قبل ولادة المهديّ وولادة أبيه وجدّه(علیهم السلام)
ص: 145
إلی هذا الزمان ليس فيها لهذا البهتان أثر في كتاب واحد من أصاغر علماء الشيعة فضلاً عن أكابرهم كالكليني والصدوق والنعماني، والمفيد، والشيخ، والسيّدين المرتضی والرضيّ، وغيرهم، فراجع كتب الشيعة حتی تقف علی مبلغ عصبيّة الخطيب ونظرائه وعنادهم، وتعرف ميزان ثقافتهم وعلمهم بآراء الفرق والمذاهب.
نعم لو قرأ هو وأسلافه كتب الشيعة لوجدوها مشحونة من أحاديث تكذّب هذه النسبة، ولكنّهم لم يعتادوا الفحص والتتبّع والتحقيق سيّما في الفرق والمذاهب فيقولون فيهم ما يشاؤون، ويتّبعون ما لا يعلمون وما لهم بذلك من علم إن هم إلّا يظنّون.
ص: 146
وقع البحث بين الشيعة وغيرهم في مسألة الرجعة منذ عهد قديم، ممّا يرجع تاريخه إلی المائة الاُولی من الهجرة، ولهم فيها مقالات وبحوث واحتجاجات، يجدها المتتبّع في كتب الفريقين، وكان القول بالرجعة رأي العترة الطاهرة، وكان البحث فيها رائجاً بينهم وبين غيرهم، ومستندهم في ذلك آيات من القرآن المجيد، وروايات رووها بأسنادهم الذهبيّة عن جدّهم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).
فالحقيقة الّتي لا يمكن إنكارها لدی الباحثين في المسائل الإسلامية أنّ المصدر في العقيدة بالرجعة أئمّة أهل البيت الّذين ثبت وجوب التمسّك بهم بحديث الثقلين وغيره.
فالشيعة تقول بالرجعة علی نحو الإجمال؛ لاستلزام إنكارها ردّ القرآن والروايات المتواترة المخرّجة في كتبهم المعتبرة، ولعدم مانع عقلي أو شرعي من القول بها.
واستشهدوا لأصل إمكان الرجعة ووقوعها وعدم استحالتها بوقوعها في الاُمم السالفة، وقد أخبر الله تعالی عنه في آيات، منها قوله تعالی:
ص: 147
﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْ-مَوْتِ فَقَالَ لَ-هُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾؛((1)) وقوله تعالی: ﴿أَوْ كَالَّذي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾.((2))
ويمكن الاستشهاد له أيضاً بقوله تعالی: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾.((3))واستدلّوا بأنّها سيقع في هذه الاُمّة لا محالة بقوله تعالی:
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُمِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾؛ ((4)) فإنّ هذا اليوم ليس يوم القيامة لأنّ فيها يحشر الله تعالی جميع الناس، لقوله تعالی: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾.((5))
فأخبر الله تعالی في الآيتين بأنّ الحش-ر حش-ران: حش-ر عامّ، وحش-ر خاصّ، فاليوم الّذي يحشر فيه من کلّ اُمّة فوجاً لابدّ أن يكون غير يوم القيامة وهو يوم الرجعة، واعتمدوا أيضاً فيها علی روايات كثيرة، منها الخبر المعروف بين الفريقين: «لتتبعنّ سنن من کان قبلكم شبراً بشبر،
ص: 148
وذراعاً بذراع، حتی لو دخلوا جحرضبٍّ تبعتموهم».((1))
فيجب أن يكون من هذه الاُمّة قوم يرجعون إلی الدنيا بعد موتهم كما وقع ذلك في الملأ الّذين خرجوا من ديارهم وفي غيرهم.
فلا وجه لأن يستبعد الرجعة من يؤمن بالله تعالی وبقدرته، بعد دلالة العقل والنقل علی إمكانها، وبعد وقوعها في الاُمم السابقة وإخبار النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته بوقوعها في هذه الاُمّة، ولا قيمة للاستبعاد في إنكارها، وإلّا لجاز أن يردّ به كثير من معجزات الأنبياء، وإحياء الموتی يوم القيامة، وعذاب القبر، وغيرها من المطالب الثابتة بالنقل.
وأمّا ما ذكر الخطيب في ص 16 و 17 وغيرهما حول تفاصيل الرجعة وكيفيّتها فليس أكثره ممّا دلّت
علیه آية، أو وردت فيه رواية معتمدة صحيحة، بل لا يلزم الاعتقاد ببعض هذه التفاصيل وإن وردت فيه رواية، لعدم حجّيّة أخبار الآحاد في المسائل الاعتقادية.
هذا مضافاً إلی ضعف كثير من هذه الأخبار الدالّة علی التفاصيل إمّا من جهة الدلالة أو من جهة السند، ومع هذا كيف أسند هذا المفتري علی الشيعة ما ذكره في ص 20 من الاعتقاد برجعة الشيخين وصلبهما علی
ص: 149
شجرة في زمان المهديّ(علیه السلام)، وأعجب من ذلك إسناده هذه العقيدة إلی السيّد الشريف المرتضی الّذي اشتهر عنه عدم جواز الاحتجاج بأخبار الآحاد في الفروع الفقهية، فضلاً عن مثل هذه المسألة، وهذا كتاب المسائل الناصريّات موجود عندنا، لم نجد فيه بحثاً عن الرجعة.
وممّا ينبغي التنبيه علیه: أنّ القول بالرجعة ليس مورد اتّفاق جميع الشيعة((1)) وليس التشيّع منوطاً به، ولا من لم يتحصلّه خارجاًعنه، ولم يؤمن بها من آمن بها إلّا تسليماً بما أخبر به النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وتصديقاً لما أنبأ عن المغيّبات، ولكنّ القوم ينكرون ذلك علی الشيعة ويؤاخذونهم به كأنّهم عبدوا حجراً أو صنماً.
فعلی ما ذكر ليس في العقيدة بالرجعة سيمّا علی وجه الإجمال ما يمنع من التفاهم والتقريب، ولا منافاة بين هذه العقيدة وبين جميع ما يجب أن يلتزم به المسلم من أركان الدين وما بني علیه الإسلام.
ص: 150
نسب الخطيب في ص 20 إلی الشريف المرتضی وأخيه الشريف الرضيّ الاشتراك في تزوير الزيادات علی نهج البلاغة: فقال فيما ذكر أخيراً في الرجعة: «السيّد المرتضی مؤلّف كتاب أمالي المرتضی وهو أخو الش-ريف الرضيّ الشاعر، وشريكه في تزوير الزيادات علی نهج
البلاغة، ولعلّها أكثر من ثلث تلك الكتاب، وهي الّتي فيها تعريض للصحابة وتحامل علیهم...» إلخ.
إذاوصف الطائيّ بالبخل مادرُ***وعيّرقسّاً بالفهاهة باقلُ
وقال السُّهی للشمس: أنتِ خفيّةٌ***وقال الدجی للصبح: لونك حائلُ
وطاولت الأرض السماء ترفّعاً***وفاخرت الشهب الحصی والجنادلُ
فيا موت! زُر إنّ الحياة ذميمةٌ***ويا نفس! جِدّي إنّ دهرك هازلُ
من هوان الدنيا أنّ من ملأ كتاباً بأبشع الأكاذيب، وخان الإسلام بقلمه وتزويراته، ينسب إلی التزوير من بلغ في الصدق والأمانة والتثبّت درجة قلّما يوجد نظيره في العلماء الأثبات الثقات، وإنّي أری أنّ الإعراض
ص: 151
والصفح الجميل عن سوء أدبه بالسيّدين أولی، فإنّ تحامل مثله علیهما لا يمسّ ما هما علیه من الجلالة وقداسة النفس والشخصية والعبقرية وعلوّ المقام، فهما المثلان البارزان في العلم والأدب والبلاغة، وإباء النفس وعلوّ الطبع، والتقوی وكرائم الأخلاق ومحامد الأوصاف.
وقد شهد بعظمة قدرهما ونبوغهما في العلم والأدب والورع والدين عظماء الفريقين، وترجمهما علماء التاريخ والرجال، ومؤلّفو المعاجم، وأثنوا علیهما بکلّ الثناء.
وهذه عش-رات من تصانيفهما تنبئ عن شموخ مقامهما، وخدماتهما للعلوم الإسلامية والأدب العربي، فجدير بکلّ مسلم فيشرق الأرض وغربها أن يعتزّ بهما.
وقد تخرّج من مدرستهما جماعة من العلماء الفطاحل الأفذاذ، وشُدّت إليهما الرحال، ووفد إليهما الناس من کلّ الأصقاع ليس فيهما وضع غمز، ومكان عيب.
والحقّ أنّهما معجزتان من معجزات الإسلام، ومفخرتان لأهل بيت سيّد الأنام، وآيتان ظاهرتان من آيات الله البيّنات، وشأن من هذا مكانته في الجلالة والتقوی أعلی وأنبل من التزوير والكذب، ولو كان مثل السيّدين معرضاً لتهمة الكذب والتزوير لما بقي في العلماء ونقلة الأحاديث من يعتمد علی أقواله ورواياته.
ص: 152
ولو كان جميع ما في نهج البلاغة ممّا يوافق هوی الخطيب لكان الش-ريف الرضيّ عنده من أوثق الرواة، وكان كتابه عنده في المرتبة العلیا من الاعتبار.
ص: 153
إليك ما قاله الاُستاذ الشيخ محمد حسن نائل الرصفي في مقدّمة كتابه شرح نهج البلاغة:
أمّا كتاب نهج البلاغة فهو «الكتاب الّذي أقامه الله حجّة واضحة
علی أنّ علیّاً - رضي الله عنه - قد كان أحسن مثالٍ حيّ لنور القرآن وحكمته، وعلمه وهدايته، وإعجازه وفصاحته، اجتمع لعليّ في هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء، وأفذاذ الفلاسفة، ونوابغ الربّانيّين من آيات الحكمة السامية، وقواعد السياسة المستقيمة، ومن کلّ موعظة باهرة، وحجّة بالغة تشهد له بالفضل وحسن الأثر، خاض عليّ في هذا الكتاب لجّة العلم والسياسة والدين، فكان في کلّ هذه المسائل نابغة مبرّزاً، ولئن سألت عن مكان كتابه من العلم فليس في وسع الكاتب المسترسل، والخطيب المصقع، والشاعر المفلق أن يبلغ الغاية من وصفه، والنهاية من تقريظه، وحسبنا أن نقول: إنّه الملتقی الفذّ الّذي التقی فيه جمال الحضارة وجزالة البداوة، والمنزل الفرد الّذي اختارته الحقيقة لنفسها منزلاً تطمئنّ فيه، وتأوي إليه
ص: 154
بعد أن زلّت به المنازل في کلّ لغة».((1))
«وهو كتاب تتجلّی فيه روح شريفة يكسب القارئ في هذا الكتاب منها العصبيّة للحقّ، والشدّة في الدين، والقصد في الحكمة والسياسة، وعندنا أنّ الّذين يسمّون إلی الإصلاح في هذا البلاد يجب علیهم أن يتّخذوا هذا الكتاب إماماً في إصلاحهم من جهاته اللغوية، والعلمية والدينية، وأنّ الناشئين لو تأثّروا هذا الكتاب في العبارة وصدق النظر، لبلغوا من قوّتي العقل واللسان تلك المنزلة الّتي نتمنّی لهم ونودّ أن لو يصلون إليها في وقت قريب».((2))
والّذي لا يعتريه الشكّ هو كون الجامع لهذا الكتاب الش-ريف الرضيّ، قد ثبت ذلك بالتواتر القطعي، وصرّح به في غيره من تصانيفه((3)) وفي الجزء الخامس من تفسيره،((4)) ونسخة كتبت في عص-ر الش-ريف الرضيّ وشّحت بخطّه الش-ريف((5)) موجودة مشهورة، لم يشترك معه أحد في جمعه
ص: 155
لا الش-ريف المرتضی ولا غيره، وهذا غنيّ عن البيان.
ولا شكّ أيضاً في أنّ الشريف الرضيّ اختار ما فيه من الخطب والكلمات المأثورة عن أمير المؤمنين(علیه السلام) في الكتب المعروفة، والاُصول المعتمدة المعتبرة، وكانت هذه الخطب والكتب والكلمات وحتی الخطبة الشقشقيّة أيضاً من خطب أمير المؤمنين(علیه السلام) المعروفة بين العلماء والمؤلّفين، أثبتوها في الكتب قبل ولادة الرضيّ والمرتضی وولادة أبيهما، وقد سبق الرضيّ «في جمع خطب أمير المؤمنين» أبو سليمان زيد الجهني، فألّف في عص-ر أمير المؤمنين كتاب «الخطب» جمع في ما أملاه أمير المؤمنين(علیه السلام) كما قد شرح خطب أمير المؤمنين «قبل تأليف نهج البلاغة» جماعة كأبي الحسين أحمد بن يحيی الراوندي (المتوفّی سنة 245ه-)، والقاضي أبي حنيفة نعمان المغربي (المتوفّی سنة 363ه-).
وكيف يقبل العقل أن يزوّر مثل الشريف علی مثل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیه السلام) في كتاب اطّلع علیه السنّي والشيعي في عص-ره، سيّما في مدينة بغداد الحافلة بجماهير من العلماء، من غير أن ينكر ذلك أحد علیه أو يردّه، مع وجود الدواعي الشديدة لهم في تكذيبه، وإظهار تزويره، فاحتمال ذلك حتی بالنسبة إلی كلمة من هذا الكتاب مقطوع العدم، وإن شكّ الخطيب فيها، فمثل العلّامة الشيخ محمد عبده يصرّح بأنّ جميع ألفاظ كتاب
ص: 156
نهج البلاغة صادر عن الإمام عليّ(علیه السلام)،((1)) ويجعل ما فيه حجّة علی معاجم اللغة، فراجع ما كتبه الاُستاذ محمد محيي الدين المدرّس في كلّية اللغة العربية بالجامع الأزهر مقدّمة علی نهج البلاغة وشرحه، وراجع أيضاً مقدّمة شرح الشيخ محمد عبده، وشرح ابن أبي الحديد وغيرها من الشروح، وكتاب «ما هو نهج البلاغة» و «الذريعة»((2)) و «كتاب مدارك نهج البلاغة» ودفع الشبهات عنه حتی تعرف مبلغاً من مكانة هذا الكتاب وقوّة اعتباره.
ص: 157
نقل الخطيب في ص 21 عن بعض الشيعة أنّه نفی نعمة الإيمان عن أبي بكر وعمر، لأنّه قال في كتابه: وإن قالوا: إنّ أبا بكر وعمر من أهل بيعة الرضوان الّذين نصّ علی الرضا عنهم في القرآن في قوله في هذه السورة (يعني الفتح): ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْ-مُؤْمِنينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾،((1)) قلنا: إنّه لو قال: لقد رضي الله عن الّذين يبايعونك تحت الشجرة أو عن الّذين بايعوك لكان في الآية دلالة علی الرضا عن کلّ من بايع، ولكن لمّا قال: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْ-مُؤْمِنينَ إِذْيُبايِعُونَكَ﴾،((2)) فلا دلالة فيها إلّا علی الرضا عمّن محّض الإيمان.
«ثمّ قال الخطيب»: ومعنی ذلك أنّ أبا بكر وعمر لم يمحّضا الإيمان فلا يشملهما رضا الله.
نحن نسوق الكلام أوّلاً فيما يستفاد من الآية، وثانياً في أنّ نفي الإيمان عن بعض الصحابة إذا كان النافي مجتهداً متأوّلاً هل يوجب الكفر أو الفسق
ص: 158
عند أهل السنّة أم لا؟ ونبحث في كلتا الجهتين من ناحيتهما العلمية.
أمّا الكلام في الآية الكريمة فلا شكّ في دلالتها علی فضل بيعة الرضوان وفضل المؤمنين الّذين بايعوا الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) تحت الشجرة، ولكن لا دلالة لها علی الرضا عن کلّ من بايعه حتی المنافقين الّذين لا دافع لاحتمال دخول بعضهم في المبايعين.
فالحكم بالرضا عن شخص معيّن إنّما يصحّ إذا كان إيمانه محقّقاً معلوماً فلا يشمل من ليس مؤمناً وإن كان من المبايعين، كما لا تشمل الآية المؤمن الّذي لم يكن حاضراً تحت الشجرة فلم يبايع هناك، كما لا يجوز التمسّك بالآية لإثبات إيمان بعض معيّن من المبايعين لو صار معرضاً للشكّ، كائناً من كان، فإنّه هو التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقية الّذي برهن في الاُصول علی عدم صحّته، نعم لو قال: لقد رضي الله عن الّذين بايعوك تشمل کلّ من بايعه كائناً من كان وإن شكّ في إيمانه، ولكن لا يجوز التمسّك به فيمن شككنا في أصل بيعته، كما لا يثبت إيمان من شككنا في إيمانه بقوله: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْ-مُؤْمِنينَ َ﴾((1)) وهذا كلام متين في غاية المتانة، ولذا سكت الخطيب عن جوابه.
وأيضاً هذه الآية لا تدلّ علی حسن خاتمة أمر جميع المبايعين المؤمنين،
ص: 159
وإن فسق بعضهم أو نافق، لأنّها لا تدلّ علی أزيد من أنّ الله تعالی رضي عنهم ببيعتهم هذه، أي قبل عنهم هذه البيعة ويثيبهم علیها، وهذا مش-روط بعدم إحداث المانع من قبلهم.
والحاصل: أنّ اتّصاف الشخص بكونه مرضيّاً لا يكون إلّا بواسطة عمله المرضيّ، والعامل لا يتّصف بنفسه بهذه الصفة، فهذه صفة تعرض الشخص بواسطة عمله، فإذا صدر عنه الفعل الحسن والعمل المرضيّ يوصف العامل بهذه الصفة أيضاً، ولا دلالة للآية علی أنّ من رضي الله عنه بواسطة عمله يكون مرضيّاً طول عمره، وإن صدرت منه المعاصي الموبقة بعد ذلك، ورضا الله تعالی عن أهل بيعة الحديبيّة ليس مستلزماً لرضاه عنهم إلی الأبد، والدليل علی ذلك قوله تعالی في هذه السورة في شأن أهل هذه البيعة وتعظيمها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عليهُ اللهَ فَسَيُؤْتيهِ أَجْراً عَظيماً﴾.((1))
فلو لم يجز أن يكون في المبايعين من ينكث بيعته وكان رضا الله عنهم مستلزماً لرضاه عنهم إلی الأبد لا فائدة لقوله تعالی: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾.((2))
ص: 160
وأيضاً قد دلّت آيات من القرآن وأحاديث صحيحة علی وقوع غضب الله تعالی وسخطه علی من يرتكب بعض المعاصي، ومع ذلك لم يقل أحد بأنّ هذا مانع من حسن إيمانه في المسقبل، وذلك مثل قوله تعالی:
﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْ-مَصيرُ﴾.((1))
فإذا لم يكن بوء شخص أو قوم إلی غضب الله مانعاً من حسن حاله في المستقبل لم يكن رضاه أيضاً سبباً لعدم صدور فسق أو كفر من العبد بعد ذلك.والقول بدلالة الآية علی حسن حال المبايعين مطلقاً، وعدم تأثير صدور الفسق عنهم في ذلك، مستلزم للقول بوقوع التعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال المذكورة فيمن ولّی دبره عن الجهاد من المبايعين، لأنّها أيضاً تدلّ بإطلاقها علی سوء حال من يولّي دبره، وعدم تأثير صدور الحسنات في رفع ذلك.
هذا وقد أخرج مالك في الموطّأ في باب الشهداء في سبيل الله، من كتاب الجهاد عن أبي النضر مولی عمر بن عبيد الله: أنّه بلغه أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال لشهداء اُحد: «هؤلاء أشهد علیهم»، فقال أبو بكر الصدّيق: يا رسول الله،
ص: 161
ألسنا بإخوانهم أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال رسول الله: «بلی ولا أدري ما يحدّثون بعدي»، قال: فبكی أبو بكر، ثم بكی، ثم قال: أئنّا لكائنون بعدك؟((1))
وهذا الحديث صريح بأنّ حسن خاتمة مثل أبي بكر من الصحابة المبايعين المهاجرين موقوف علی ما يحدث بعد الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم).
هذا مختصر الكلام حول مدلول الآية الكريمة، وعلیه ليس المستفاد منها أنّ أبا بكر وعمر لم يمحّضا الإيمان، نعم لا يثبت بها إيمان واحد معيّن من المبايعين علی نحو التفصيل، فلا يصحّ التمسّك بها في إثبات إيمان صحابي خاصّ وعدم نفاقه، أو حسن حاله إذا شكّ فيه، وإن كان الخطيب يری دلالتها علی أكثر من هذا، فليبيّن لنا حتّی ننظر فيه.
ص: 162
لا حاجة إلی الإشارة إلی ما ورد في ذمّ سبّ المؤمن، فإنّ هذا معلوم بالضرورة من الدين، وإنكار أصل حرمته موجب للكفر، ولا شكّ في أنّ المناقشات الحادثة بين المسلمين مناقشات صغروية، مثل عدالة شخص أو إيمانه، أو فسقه أو نفاقه، فالنزاع في هذه الاُمور وأشباهها يرجع إلی إثباتها بالأدلّة الشرعية وعدمه، ويذهب کلّ من اختار أحد الطرفين إلی ما تقتضيه الأدلّة باجتهاده، ولو علموا جميعاً ثبوت شيء في الدين أو عدم ثبوته لم يختلفوا فيه، وقلّما يوجد من حملته العصبية واللجاج علی إنكار الحقّ فلا ريب في أنّ أكثر المسلمين من الطائفة الاُولی لا ينكرون ما ثبت عندهم بالأدلّة الشرعية.
فمن أنكر من المسلمين أمراً يراه غيره من الدين لعدم ثبوته عنده أو ثبوت خلافه ليس كافراً ولا فاسقاً، وإذا كان الحال هذا لا اعتراض علی من قال الخطيب في ص 21: إنّ معنی كلامه أنّ أبا بكر وعمر لم يمحّضا الإيمان فلا يشملهما رضا الله، ولا يحكم بكفره وفسقه إذا كان ذلك منه عن اجتهاد
ص: 163
وتأوّل، وقد قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في حديث أخرجه البخاري ما نصّه: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر».((1))
وهذا ابن حزم يقول: وذهبت طائفة إلی أنّه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وأنّ کلّ من اجتهد في شيء من ذلك، فدان بما رأی أنّه الحقّ فإنّه مأجور علی کلّ حال، وإن أصاب فأجران وإن أخطأ فأجرٌ واحد.
(قال:) وهذا قول ابن أبي ليلی وأبي حنيفة، والشافعي وسفيان الثوري، وداود بن عليّ، وهو قول کلّ من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة لا نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلاً.((2))
وقال الفاضل النبهاني في أوائل كتابه «شواهد الحقّ» - علی ما حكي عنه((3)) -: اعلم أنّي لا أعتقد ولا أقول بتكفير أحد من أهل القبلة، لا الوهّابيّة ولا غيرهم، وكلّهم مسلمون تجمعهم مع سائر المسلمين كلمة التوحيد والإيمان بسيّدنا محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وما جاء من دين الإسلام.
وبالغ في ذلك الشيخ أبو طاهر القزويني - علی ما حكي عنه - في كتابه (سراج العقول) فقال بإثبات الإسلام لكلّ فرد من أهل القبلة، وجزم بنجاة
ص: 164
الجميع من کلّ فرق الإسلام،((1)) وحكی عن شيخ السادة الحنفيّة ابن عابدين في باب المرتدّ من كتاب الجهاد ص 302: أنّه حكم قاطعاً بإسلام من يتأوّل في سبّ الصحابة، مصرّحاً بأنّ القول بتكفير المتأوّلين في ذلك مخالف لإجماع الفقهاء.((2))
وقد أسلفنا في بعض المباحث السابقة مقالة ابن حزم فيمن سبّ أحداً من الصحابة، وما قال في تكفير عمر بحض-رة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) حاطباً، وهو صحابي مهاجر بدري.((3)) ولا يخفی أنّه لو كان في من ينتحل دين الإسلام من سبّ بعض الصحابة أو غيرهم من المسلمين عناداً لله ورسوله فلا شكّ في كفره، وأمّا إذا كان السابّ جاهلاً أو أوردته الشبهة ذلك المورد يكون علی ما صرّح به ابن حزم معذوراً.
وعن الأوزاعي أنّه قال: لئن نش-رت لا أقول بتكفير أحد من أهل الشهادتين.((4))
وعن صاحب الاختيار: اتّفق الأئمّة علی تضليل أهل البدع أجمع
ص: 165
وتخطئتهم، وسبّ أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفراً لكن يضلّل.((1))
وعن صاحب فتح القدير: أنّه قطع بعدم كفر من يكفّر الصحابة ويسبّهم، وذكر أنّ ما وقع في كلام أهل المذهب في تكفيرهم ليس من كلام الفقهاء الّذين هم المجتهدون إنّما هو من كلام غيرهم.((2))
وصرّح ابن حجر بأنّ مذهبه فيمن لعن أنّه لا يكفّر بذلك.((3))
ولو سردنا الكلام في نقل فتاوی أعلام أهل السنّة في ذلك خرجناعن طريق الإيجاز، ومقتضی كلام غير واحد من هؤلاء أنّ السابّ لا يكفّر وإن كان متعمّداً في ذلك، عالماً بحرمته، مثل أن يسبّه لمناقشة وقعت بينهما.
وأضف إلی جميع ذلك كلّه النصوص الكثيرة المخرّجة في الصحاح الستّة الحاكمة علی أهل الأركان الخمسة بالإسلام ودخول الجنّة، وإذا كان الخوارج الّذين استحلّوا دماء المسلمين، وكفّروا الصحابة، وحاربوا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیه السلام)، ونصّ النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)
علی أنّهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ثم لا يعودون فيه،((4)) وأنّهم شرّ الخلق
ص: 166
والخليقة،((1)) وطوبی لمن قتلهم وقتلوه،((2)) عند أهل السنّة من المسلمين والمعذورين في مذهبهم، فغيرهم ممّن تمسّكوا بالثقلين وتمذهبوا بمذاهب أهل البيت أعدال الكتاب، واقتفوا أثرهم واهتدوا بهداهم أولی بذلك.
ومن شاء أن يطّلع علی الكلام الفصل في ذلك فعلیه بكتاب «الفصول
المهمّة في تأليف الاُمّة» للعلّامة المصلح السيّد عبد الحسين شرف الدين، فإنّه - رضوان الله علیه - قد أدّی حقّ التحقيق والإفادة في ذلك، وسعی في جمع الشمل ولمّ الشعث، فراجع كتابه هذا ومراجعاته، وكتابه «إلی المجمع العلمي العربي» وكتاب «أبي هريرة» وغيرها من تصانيفه القيّمة.
والحاصل: أنّ نفي الإيمان عن بعض الصحابة وسبّهم إذا كان النافي والسابّ مجتهداً لا يضرّ بالإسلام عند أكابر أهل السنّة، وليس مانعاً من التقريب ورفض الشحناء والبغضاء، واعتصام الجميع بحبل الله تعالی، والعجب ممّن لا يكفّر ولا يفسّق معاوية وأتباعه فيسبّ أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) علی منابر المسلمين، ويفسّق من سبّ الشيخين تأوّلاً واجتهاداً
ص: 167
أعاذنا الله تعالی من العصبية واللجاج.
ينبغي لمن يری جواز سبّ أحد من المسلمين أن لا يعلن بذلك، ولا يجهر به بمشهد منه أو بمشهد أقاربه، ومن لا يری رأيه، بل يحرم ذلك في بعض الموارد إذا كان السبّ إيذاء لمسلم حاضر أو سبباً لتجريح العواطف، وحدوث الفتن وضعف المسلمين، وظهور التخاصم والتنازع بينهم.
ص: 168
ذكر الخطيب في ص 22: أنّ الشيعة يرفعون أئمّتهم من منزلة البش-ر، ونقل عناوين أبواب من الجامع المعروف بالكافي في علوم الأئمّة وأنّ کلّ شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل، وأنّهم يعلمون علم القرآن كلّه وغير ذلك، وافتری علی الشيعة بأنّهم يثبتون لأئمّتهم علم الغيب وينكرون علی النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) ما أوحی الله به من أمر الغيب... إلخ.
الشيعة لا يعتقدون فضيلة ومنقبة لأئمّتهم إلّا ويعتقدون لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) تلك الفضيلة علی النحو الأتمّ الأكمل، ولا يفضّلون أحداً من السابقين واللاحقين من الأنبياء والأئمّة، والملائكة وغيرهم علی رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، بل يفضلّونه علی جميع المخلوقات ويعدّون الإمام من أتباع الرسول ومن اُمّته، لا يعدل النبيّ عند الشيعة أحد من اُمّته، والإمام مأمور بطاعة الرسول لا يسعه غير اتّباعه، ولا يرفعون النبيّ ولا أحداً من الأئمّة من منزلة البشر، والنبيّ والأئمّة هم المثل الأعلی لكمال الإنسان اختصّهم الله بعناياته الخاصّة، والإمامة عندهم منصب يختار الله له من كان مستأهلاً لتقلّده، ويأمر نبيّه بالنصّ علیه، وصنّفوا في هذه النصوص كتباً مفردة،
ص: 169
خرّجوا فيها طائفة من تلك النصوص عن الكتب المعتمدة عند أهل السنّة وصحاحهم.
ومن النصوص المعروفة المتواترة علی كون الأئمّة اثني عشر الأحاديث الّتي خرّجها مسلم، وأحمد، والبخاري، والترمذي، والطيالسي، وأبو نعيم الأصبهاني، والسجستاني، والحاكم، والمتّقي، وابن الديبع، والخطيب، والسيوطي وغيرهم، في عدد الأئمّة عن غير واحد من الصحابة كجابر بن سمرة وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، ومن المعلوم أنّ هذا العدد لا ينطبق إلّا علی الأئمّة الاثني عشر.
وأفرد في هذه الأحاديث العلّامة محمد معين السندي كتاباً أسماه «مواهب سيّد البشر في حديث الأئمّة الاثني عشر».
ويدلّ علی وجوب التمسّك بأئمّة أهل البيت، وأخذ العلم عنهم، وعصمتهم، وبقائهم إلی يوم القيامة، وعدم خلوّ الزمان من إمام منهم، وكونهم أعلم الناس بعد النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنّ التمسّك بهم أمن من الضلال، وانحصار سبيل النجاة في التمسّك بهم، وبالكتاب الكريم، أحاديث الثقلين المتواترة وأحاديث الأمان، وأحاديث السفينة، وغيرها من النصوص الكثيرة، وقد صرّح بجميع ذلك جمع من أعلام أهل السنّة ذكرنا أسماءهم ومقالاتهم في كتاب أفردناه في وجوب الرجوع إلی أئمّة
ص: 170
أهل البيت(علیهم السلام) في الفقه والمعارف الإسلامية، وفي وجوب العمل بالأحاديث المخرّجة في جوامع الشيعة.
ولو قرأ الخطيب كتب الإمامية، ودرس العلوم المأثورة عن أئمّتهم لأقرّ بأنّ الأبواب المعنونة في الكافي ليس إلّا عناوين لبعض ما ورثوا عن جدّهم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولعرف أنّ من أشدّ ما ابتلي به المسلمون، وأضرّه علیهم انصرافهم عن أهل بيت نبيّهم، وإعراضهم عمّن أوجب الله تعالی ورسوله علیهم الرجوع إليه في الاُمور الدينية، والأحکام الشرعية.
ومن تتبّع قليلاً في الكتب الإسلامية يعرف اختصاص أئمّة أهل البيت سيّما أمير المؤمنين
عليّ(علیه السلام) بعلوم كثيرة من التفسير، والفقه، والحديث، والتوحيد، وغيرها ممّا ليس عند غيرهم.
هذه عقيدة الشيعة في أهل البيت وعلومهم، وإليك بعض ما قال سيّدنا أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) في ذلك:
قال: «لا يقاس بآل محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) من هذه الاُمّة أحد، ولا يسوّی بهم من جرت نعمتهم علیه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة».((1))
وقال: «موضع سرّه، ولجاُ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه،
ص: 171
وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه».((1))
وقال: «فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يسبقوا».((2))
وقال: «هم عيش العلم، وموت الجهل، ويخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وسمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحقّ، ولا يختلفون
فيه، هم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحقّفي نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فإنّ رواة العلم كثير، ورعاته قليل».((3))
وقال: «وإنّما الأئمّة قوام الله علی خلقه، وعرفاؤه علی عباده، لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلّا من أنكرهم وأنكروه». ((4))
هذا ما يقول الشيعة في أئمّة أهل البيت(علیهم السلام) لم يقولوا ما قالوا فيهم اختراعاً واقتراحاً من عند أنفسهم، بل أخذوه من الأحاديث النبويّة، والنصوص العلويّة، والأخبار المرويّة عن أهل بيت النبوّة، وأئمّة العترة(علیهم السلام).
ص: 172
قال في ص 22 و 23: «وبينما يدّعون لأئمّتهم الاثني عش-ر ما لا يدّعيه هؤلاء لأنفسهم من علم الغيب، وأنّهم فوق البش-رية، فإنّهم - أي الشيعة - ينكرون علی النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) ما أوحی الله به إليه من أمر الغيب كخلق السماوات والأرض، وصفة الجنّة والنار، وقد سجّلت ذلك مجلّة «رسالة الإسلام» الّتي تصدرها دار التقريب في القاهرة إذ نشرت في عددها الرابع من السنة الرابعة صفحة 368 بقلم رئيس المحكمة العلیا الشرعية الشيعية في لبنان، ويعدّونه من ألمع علمائهم العصريّين، مقالاً عنوانه «من اجتهادات الشيعة الإمامية» نقل فيه عن مجتهدهم الشيخ محمد حسن الآشتياني أنّه قال في كتابه «بحر الفوائد» (ج 1 ص 267): إنّ الرسول إذا أخبر عن الأحکام الشرعية - أي مثل نواقض الوضوء وأحكام الحيض والنفاس - يجب تصديقه، والعمل بما أخبر به، وإذا أخبر عن الاُمور الغيبية مثل خلق السماوات والأرض، والحور والقصور فلا يجب التديّن به بعد العلم به (أي بعد العلم بصحّة صدوره عن الرسول) فضلاً عن الظنّ به...(إلخ)».
ذكرنا عقيدة الشيعة في النبوّة والإمامة، وأنّ النبيّ ينصّ علی الإمام بأمر
ص: 173
من الله، وأنّه تبع للنبيّ، والنبيّ مفضّل علیه في جميع الكمالات، فالنبيّ كالأصل والإمام فرعه، وليس في الشيعة من يستبيح لنفسه الشكّ فيما أخبر به النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) فضلاً عن إنكاره، سواء كان المخبر به من الاُمور العاديّة كقيام زيد وقعود عمرو، أم من الاُمور الدينيّة، فالنبيّ هو الصادق المصدّق في جميع ما أخبر به، ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْ-هَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾،((1)) ومن أنكر أو أظهر الشكّ فيما أخبر به النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) من أمر الغيب كخلق السماوات والأرض، وصفة الجنّة والنار بعد حصول اليقين بإخباره عنه كافر، لا شكّ عندالشيعة في كفره.
ولكنّ الخطيب حيث عجز عن فهم كلام العلّامة الآشتياني، وكلام رئيس المحكمة العلیا الش-رعية في لبنان((2)) الّذي هو من ألمع العلماء المجاهدين المعاصرين، حمله علی ما يوافق هواه، وخاض في الافتراء والهذيان، فادّعی أنّ الشیعة ينكرون علی النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) ما أوحی الله به من أمر الغيب.
وحيث إنّ المسألة المبحوث عنها في كلام المحقّق الآشتياني في نفسها من المسائل العلمية النظرية لا بأس بالإشارة إليها هنا، حتی يعلم أنّ الأولی
ص: 174
للخطيب ونظرائه عدم الخوض في هذه المسائل، وإيكال البحث عنها إلی أهلها.
فنقول في توضيح ما أفاده الآشتياني:
إنّ ما أخبر به النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) علی قسمين: أوّلهما: ما يكون من الاُمور العاديّة كقيام زيد ومجيء عمرو، ولا يكون مرتبطاً بالدين لا باُموره الاعتقادية، ولا بأحكامه الشرعية، ولا بأحكامه العملية، كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها.
وثانيهما: ما يكون من الدين، وهذا أيضاً علی قسمين: أحدهما ما يكون في الاُمور الاعتقادية، وما يجب أن يعتقده المسلم كالتوحيد والنبوّة والمعاد وغيرها.
وثانيهما: ما يکون في الأحکام الدينية العملية كالصلاة والزكاة والصوم وغيرها.
فالقسم الأوّل: أعني ما ليس مرتبطاً بالدين كالإخبار عن الاُمور العادية والإخبار ببعض كيفيّات خلق السماوات والأرض، والكواكب وبدء الخلق، وبعض تفاصيل الجنّة والجحيم، وخصوصيات الحور والقصور، وأشجار الجنّة وأنهارها و مياهها((1)) ليس من الاُمور الاعتقادية الّتي بني
ص: 175
علیها الإسلام، ولا يحكم بإسلام من لم يكن عارفاً بها، فمن لم يؤمن بالله أو لم يعتقد النبوّة أو المعاد، أو أنكر الثواب والعقاب، والجنّة والنار، كافر خارج عن الإسلام، أمّا من لم يعرف بعض خصوصيات الجنّة وبعض أنواع الملائكة وأسمائهم، وكيفيّة مبدء خلق السماء وعدد قصور الجنّة أو عدد ولدانها، ولم يقرع سمعه ما ورد في ذلك من الأحاديث لا يض-رّ ذلك بإسلامه، ولا يكلّف بتحصيل هذه المعارف، وهذا كالاطّلاع
علی عدد غزوات النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وعدد أولاده وزوجاته، فإنّ المعرفة بهذه الاُمور والأحوال وإن كانت في حدّ نفسها راجحة مرغوباً فيها، لكن ليست من الاُمور الاعتقادية الّتي يدور مدار معرفتها ترتيب آثار الإسلام،ويحكم بكفر منكرها.
نعم من ثبت عنده إخبار الرسول عن هذه الخصوصيات والتفاصيل يحصل له الاعتقاد بها لاعتقاده صدق الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) في کلّ ما أخبر به، وإظهار الشكّ فيها أو إنكارها بعد العلم بإخبار النبيّ عنها موجب للكفر قطعاً لرجوع ذلك إلی تكذيب النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم).
وأمّا القسم الثاني: فيجب الاعتقاد، وتحصيل الإيمان والمعرفة به، لم يختلف في ذلك اثنان من الشيعة.
وأمّا القسم الثالث: أي إخباره عن الأحکام العملية فيجب العمل به،
ص: 176
ولا يجوز إنكاره بعد ثبوته عنده، وإنكاره بعد العلم بإخباره موجب للكفر والخروج عن الإسلام، ((1)) ولا یتفاوت في ذلك أي عدم وجوب التديّن
ص: 177
بالاُمور العاديّة، وخصوصيّات الاُمور المذكورة بين إخبار النبيّ وإخبار الإمام‘، ووجوب تصديق النبيّ في إخباره عن المغيّبات أولی من وجوب تصديق الإمام، ومقدّم علیه بحسب المرتبة، فإنّ وجوب تصديق الإمام فرع وجوب تصديق النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) هذا حاصل كلام الآشتياني في المقام.
وقد صرّح في موضعين من عباراته في ص 276 بكفر من أنكر إخبار الرسول في الاُمور العاديّة، ولكنّ الخطيب يفتري علی الشيعة، ويقول: إنّهم يرفعون مرتبة أئمّتهم في إخبارهم عن الاُمور الغيبية - والعياذ بالله -
ص: 178
فوق مرتبة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) ونسي أنّ في أهل السنّة من يقول إنّ النبيّ كان فيما قال وعمل في الاُمور الدينيّة ممّا لا نصّ فيه مجتهداً كسائر المجتهدين.((1))
ثم إنّه لم يقنع بذلك فقال: إنّ جميع رواة الغيبيّات عن الأئمّة الاثني عش-ر معروفون عند علماء الجرح والتعديل من أهل السنّة بأنّهم كانوا كذبة، وهذا من أبشع افتراءاته علی علماء الجرح والتعديل، فإنّ كرامات الأئمّة الاثني عشر(علیهم السلام)، وإخبارهم عن الاُمور الغيبية بما هو مخزون عندهم من علوم جدّهم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وورثوا عنه ثابتة بالتواتر، قد خرّج طائفةً منها جمع عن أعلام أهل السنّة، لا سيّما ماصدر منها عن أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام)، ولا عجب في ذلك لأنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) اختصّهم بعلوم ليست عندهم، ولذلك أمر اُمّته بالرجوع إليهم، وجعل الأمان والنجاة والأمن من الضلال في التمسّك بهم.
وقد احتجّ بروايات رجال الشيعة جمع من علماء أهل السنّة،((2)) رواة
ص: 179
أحاديث الشيعة الأثبات الثقات معروفون في كتب الرجال، ومن راجع كتب الجرح والتعديل للشيعة يقف علی اهتمامهم بتعرّف أحوال الرجال، وعدم احتجاجهم بأحاديث الضعاف سواء كان الراوي شيعياً أم سنّياً، ولو كان للخطيب أدنی خبرة بكتب الشيعة لعلم مبلغ اعتنائهم بتحقيق حال الرواة، ولو قرأ كتاب «تأسيس الشيعة» لعرف تقدّمهم في علم الحديث، والفحص عن أحوال الرواة وسائر الفنون الإسلاميّة.
والاُصول الّتي يعتمد علیها الشيعة في استخراج الأحاديث الصحاح والحسان في غاية المتانة والانضباط.
والحاصل: أنّ كثيراً من الروايات المأثورة في أخبارهم عن الحوادث المستقبلة والاُمور الغيبية من صحاح الأحاديث، رواها الثقات بأسناد عالية. ولا يرتاب المتتبّع في تواترها إجمالاً بل بعضها متواتر تفصيلاً، وإنكار جميع هذه الروايات زلّة كبيرة، فمن أين علم الخطيب أنّ جميع رواة هذه الأحاديث معروفون بالكذب؟ ومن أين اطّلع علی جميع تلك الأحاديث ورواتها، مع أنّه لا يعرف من أسماء كتب الشيعة واحداً من الاُلوف؟ وفي
ص: 180
أيّ كتاب ذكر علماء الجرح والتعديل من أهل السنّة أنّ جميع رواة تلك الأحاديث كانوا كذبة؟ ولِمَ لَم يأت بأسماء هؤلاء المعروفين؟وهذه أخبار أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) عن المغيّبات مخرّجة في كتب أهل السنّة في التاريخ والحديث، وبعضها ثابت بالتواتر التفصيلي وبعضها بالتواتر الإجمالي.
والعجب من جماعة يثبتون لرؤساء الصوفيّة والدراويش أخباراً عن الاُمور الغيبية، وكرامات يأبی العقل قبولها، ثم يستبعدون ما صدر عن أئمّة أهل البيت مثل أمير المؤمنين وسبطي رسول الله، والسجّاد والباقر(علیهم السلام) وغيرهم أعدال الكتاب، وعدول أهل البيت الّذين بشّ-ر النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) بأنّهم ينفون عن الكتاب تحريف الغالين، وإبطال المبطلين، ويقدحون في رجال هذه الأخبار بأنّهم كانوا كذبة، مع أنّه لا ذنب لهم إلّا روايتهم بعض فضائل أهل البيت والنصوص المأثورة في إمامتهم وعلومهم من الأحاديث الّتي كانت روايتها في عصر الأمويّين والعباسيّين من أكبر الجرائم السياسية.
وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب أفردناه لإثبات حجّية روايات اُصول الشيعة، ووجوب الرجوع إليها والتمسّك بها في الفقه، كما قد أفردنا لتخريج مناقب کلّ واحد من الأئمّة الاثني عشر وتاريخ حياتهم عن كتب أهل السنّة كتاباً «لكلّ واحد من الأئمّة كتاباً».
نسأل الله تعالی أن يوفّقنا لإتمامها ونشرها.
ص: 181
نسب الخطيب في ص 24 إلی الشيعة أنّهم يتملّقون أيَّ حكومة من الحكومات الإسلامية بألسنتهم إذا كانت قويّة، فإذا ضعفت أو هوجمت من عدوٍّ انحازوا إلی صفوفه، واستشهد أخيراً علی خروج المغول وما صدر منهم في بغداد من سفك الدماء وهتك الأعراض، وغيرها من الجرائم العظيمة، واتّهم حكيم الشيعة وفيلسوف الإسلام الخواجة نصير الدين الطوسي الشهير، وابن أبي الحديد المعتزلي من السنّية، وابن العلقمي مؤيّد الدين الوزير بالتدخّل في هذه الفاجعة... إلخ.
كان الأولی أن يترك الكلام عن أفعال الشيعة، وما صدر بزعمه عنهم فإنّ عقيدة طائفة ورأيها شيء وعملها شيء آخر، وربّما لا يوافق أعمال بعض الناس عقيدتهم، ولا يجوز الاعتماد في استنباط آراء الفرق وعقائدهم علی مجرّد أعمال بعضهم، فإنّه ما من قوم إلّا ويوجد فيهم من يخون قومه، ويقدّم علی ضرر اُمّته، ولو جعلنا تاريخ الإسلام نصب أعيننا لعثرنا علی خيانات كثيرة من عصر الرسالة إلی هذا الزمان صدرت من المنافقين
ص: 182
وفسّاق المسلمين، واُولئك الّذين أوهن قلوبهم حبّ الدنيا وكراهية الموت.
وهل تأخّر المسلمون عن غيرهم إلّا لخيانات صدرت من عمّال السياسة وعبدة الرئاسة وأتباع الشيطان؟ اُنظر بعينك أيّها المنصف إلی الملأ الإسلامي، وانظر إلی القوّاد العملاء والاُمراء العبيد للاستعمار الّذين لم تقع الاُمّة فيما وقعت فيه إلّا بخياناتهم افتری سبباً لبقاء الحكومة الغاصبة الاسرائيلية الّتي أنشأها المستعمرون في بلاد المسلمين غير خيانة بعض الحكّام والاُمراء، أنسيت ما فعلت يد الخيانة بالجيش المص-ري في حكومة فاروق؟ ألم تقرأ في الصحف والمجلّات خيانات تصدر من بعض رؤساء الحكومات المسمّاة بالإسلامية علی الإسلام وأبنائه؟
ألم يقرع اُذنك ما وقعت فيه الاُمّة في الحرب العالمية الاُولی بسبب خيانة بعض القوّاد وطلّاب الرئاسة والحكومة، فتمزّقت الوحدة الإسلامية، وتأسّست في کلّ قطر حكومة ضعيفة مستعمرة، وأصاب المجتمع الإسلامي ما أصاب، حتی ألغی بعض تلك الحكومات سنن ديننا الحنيف في جميع الشؤون الحكوميّة؟ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
ولو نظرت إلی التاريخ وقايست بين الشيعة وأهل السنّة في ذلك لطمست ما كتبت أيّها الخطيب ولعلمت أنّ أيّ الفريقين أحقّ باللوم والتوبيخ.
وممّا هو جدير هنا بالذكر نموذجاً لهذه المخاصمات الّتي أهبت مجد
ص: 183
المسلمين وسلطانهم، ما أصاب الناس من القتل والسبي والنهب عند افتتاح جيوش التتار بلدة أصبهان، وذلك بعد أن عجزوا عن افتتاحها ونزلوا علیها مراراً في سنة سبع وعش-رين وستّمائة، ووقع الحرب بينهم وبين أهلها، وقتل من الفريقين خلق كثير، ومع ذلك لم يبلغوا التتار غرضهم حتی وقع الاختلاف بين أهل أصبهان في سنة ثلاث وثلاثين وستّمائة وهم طائفتان: حنفيّة وشافعيّة، وبينهم حروب متّصلة، وعصبية ظاهرة.
فخرج قوم من أصحاب الشافعي إلی من يجاورهم من التتار، فقالوا لهم: اقصدوا بلدنا حتی نسلّمه إليكم، وكان ذلك في سلطنة ابن چنگيز خان قاآن، فأرسل جيوشاً نزلوا علی أصبهان في سنة ثلاث وثلاثين المذكورة، فحصروها فاختلف سيفا الشافعيّة والحنفيّة في المدينة حتی قتل كثير منهم، وفتحت أبواب المدينة، فتحها الشافعيّة علی عهدٍ كان بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية، ويعفو عن الشافعية، فلمّا دخلوا البلد قتلوهما جميعاً وبدأوا بالشافعية فقتلوهم قتلاً ذريعاً، ولم يلتزموا بالعهد الّذي عاهدوهم علیه، ثم قتلوا الحنفية ثم قتلوا سائر الناس، وسبَوْا النساء وشقّوا بطون الحبالی، ونهبوا الأموال، وصادروا الأغنياء ثم أضرموا النار فأحرقوا أصبهان حتی صارت تلولاً من الرماد؛((1)) وأمثال هذه الحادثة بين
ص: 184
أرباب المذاهب ليست بقليلة، مثل الفتنة الكبری الّتي هاجت ببغداد لاختلاف الحنابلة وغيرهم في معنی قوله تعالی: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً﴾،((1)) فقالت الحنابلة؛ معناها يقعده الله علی عرشه، وقال غيرهم: بل هي الشفاعة، ودام الخصام، واقتتلوا حتی قتل جماعة كثيرة،((2)) ومع ذلك لا لوم علی جميع أهل هذه المذاهب، إنّما اللوم والذنب علی سفهائهم وجهّالهم، و علی الّذين اتّخذوا هذه المذاهب سبباً للاختلاف والتفرقة بين المسلمين وتفسيق غيرهم من سائر الفرق، وجعلوهاوسيلةً لتحقيق أغراضهم الدنيّة.
ثم إنّ التملّق لأرباب السلطة والحكومات كيف صار من خصائص الشيعة، وكيف نسي تملّق بعض السنّيّين من الحكومات في عص-ر الاُمويين والعباسيّين، فاقرأ دواوين الشعراء وانظر إلی جماعة زيّنوا للناس قبائح أعمال الاُمراء في تلك العصور المظلمة، وانظر إلی العلماء والمحدّثين الّذين لم يطعنوا في سيرة هؤلاء وتركوا نصيحتهم، ولم يطلبوا منهم الرجوع إلی الكتاب والسنّة في حين أنّهم يفتون بوجوب إطاعتهم، ويعدّون الخروج علیهم من أعظم المحرّمات، فلو تملّق بزعم الخطيب بعض الشيعة لجبابرة
ص: 185
الملوك عملاً بالتقيّة وحقناً للدم، وحفظاً للعرض تملّق بعض السنّيّين للحطام الدنيوي، والزخارف الفانية.
ويكفيك مثلاً وشاهداً ما وقع لغياث بن إبراهيم النخعي حيث دخل علی المهديّ العبّاسي فوجده يلعب بالحمام، فساق في الحال إسناداً إلی النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: «لا سبق إلّا في نصل أو خفّ أو حافر أو جناح» اتّباعاً لهوی المهديّ، فأمر له المهديّ ببدرة، فلمّا قام قال المهديّ: أشهد علی قفاك أنّه قفا كذّاب علی رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم أمر بذبح الحمام لكن لم يتعرّض له ولم يأخذ ما أعطاه، حتی فعل نحواً من ذلك مع هارون الرشيد.((1))
وخبر شقّ أبي البختري وهب بن وهب أمان الرشيد ليحيی بن عبد الله بن الحسن بالسكّين، فوهب له هارون بذلك ألف ألف وستّمائة ألف، وولّاه القضاء.((2))
ونظائر ذلك كثيرة لا سيّما في استيلاء بني اُميّة وبني العبّاس، وإذا كان هذا حال بعض السنّيّين فهل يجوز أن يسند ذلك إلی جميعهم؟ وهل تجد
ص: 186
قوماً أو اُمّة لم يكن فيهم أمثال هؤلاء؟فلا يجوز لأهل السنّة مؤاخذة الشيعة علی ما صدر عن بعضهم كما لا يجوز للشيعي أيضاً أن يؤاخذ السنّي بأعمال الحجّاج ومسلم بن عقبة وغيرهما من الجبابرة.
هذا، ولا ريب في أنّ استيلاء التتار علی بغداد كان من أعظم مصائب المسلمين في التاريخ ولكن هل كان ابتلاؤهم بهذه الفاجعة أعظم أم ابتلاؤهم بحكومة معاوية، ومحاربته أمير المؤمنين علیّاً(علیه السلام)؟ فما ترتّب بعدُ علی حادثةٍ ما ترتّب علی أفاعيل معاوية ومحاربته علیّاً(علیه السلام) من المفاسد.
قال أحد كبار علماء الألمان في الآستانة لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكّة: إنّه ينبغي لنا أن نقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا «برلين».
قيل له لماذا؟ قال: لأنّه هو الّذي حوّل نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلی عصبيّة الغلّب، ولولا ذلك لعمّ الإسلام العالم كلّه، ولكنّا نحن الألمان وسائر شعوب اُوربة عرباً مسلمين.((1))
ص: 187
قال الله تعالی: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾.((1))
تحكّمواواستطالوا في حكومتهم***وعن قليلٍ كأنّ الحكم لم يكن
لو أنصفوا أنصفوا لكن بغَوْا فبغی***علیهم الدهر بالآفات والمحن
وأصبحوا ولسان الحال ينشدهم***هذا بذاك ولا عتب علی الزمن
كانت حادثة خروج التتار حادثةً عظمی، ومصيبةً كبری، عمّت الخلائق وخصّ المسلمون بشدّة بلائها، لم يطرق الأسماع بمثلها، شوّهت تاريخ الإنسانية وما قيل في شرحها من قتل العلماء والصلحاء، والخواصّ والعوامّ، وتخريب البلاد، وشقّ بطون الحوامل، وقتل الأجنّة، وهدم الجوامع والمعابد، وإحراق الكتب وهتك الأعراض في کلّ مدينة افتتحوها ليس إلّا إجمال عن تفاصيل هذه الأحوال، فشملت الفتنة المسلمين وممالك
ص: 188
الإسلام، فَإِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وكانت مدينة بغداد من البلاد الّتي أصيبت في هذه الحادثة بأشدّ المظالم، وبلغ عدد من قتل فيها - علی ما قيل - أكثر من مليون نسمة، بل قيل: إنّه لم يسلم إلّا من اختفی في بئر أو قناة، ووقع فيها من القتل الفظيع وهتك الأعراض ونهب الأموال وغرق الناس في دجلة وضياع الكتب ما قلّ نظيره في تاريخ العمران، ولم تكن خسارة الشيعة في هذه الكارثة لا في بغداد ولا في غيرها من بلاد خراسان وما وراء النهر بأقلّ من خسارة أهل السنّة، فقتلوا فيمنقتل، وكان في القتلی من الأشراف والفاطميّين ما لا يحصی.
وكان من أقوی أسباب انهزام المسلمين ((1)) ما حدث بينهم من المنازعات والحروب الداخلية، والرغبة في الملك والسلطان، وانهماكهم في المعاصي
ص: 189
والشهوات، وضعف الخلفاء في تدبير الاُمور،((1)) وظهور العصبيّات الباردة في المسائل الكلامية، والخلافات المذهبية،((2)) واشتغال أرباب المناصب بالملاهي وتكبّر الخليفة المستعصم، وبخله بالأموال، فكان كما وصفه في تاريخ الخلفاء تائهاً في لذّاته لا يطّلع علی الاُمور، وليس له غرض في المصلحة.((3))
وقال ابن كثير: ثم دخلت سنة ستّ وخمسين وستّمائة؛ استهلّت هذه السنة، وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين علی مقدّمة عساكر سلطان التتار هولاكوخان... إلی قوله: وأحاطت التتار بدار
ص: 190
الخلافة يرشقونها بالنبال من کلّ جانب، حتی أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولّدة تسمّی (عرفة) جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها، وهي ترقص بين يدي الخليفة فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً.((1))
وقال ابن الطقطقي في الفخري في الآداب السلطانية:((2)) كان المستعصم آخر الخلفاء شديد الكلف باللّهو واللّعب، وسماع الأغاني، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة واحدة، وكان ندماؤه وحاشيتهجميعهم منهمكين معه علی التنغّم واللذّات، لا يراعون له صلاحاً.
وفي بعض الأمثال: (الحائن لا يسمع صياحاً)، وكتب له الرّقاع من العوامّ وفيها أنواع التحذير، وألقيت وفيها الأشعار في دار الخلافة، فمن ذلك: «مجتثّ».
قل للخليفة مهلاً***أتاك ما لا تحبُّ
ها قد دهتك فنونٌ***من المصائب غربُ
فانهض بعزم وإلّا***غشاك ويل وحربُ
كس-رٌ وهتكٌ وأسرٌ***ضربٌ ونهبٌ وسلبُ
ص: 191
وفي ذلك يقول بعض شعراء الدولة المستعصمية من قصيدة أوّلها:
ياسائلي ولمحض الحقّ يرتاد***أضح فعن--دي نشدان وإنشادُ
وا ضيعة الناس والدين الحنيف وما***تلقاه من حادثات الدهر بغدادُ
قتلٌ، وهتكٌ، وأحداثٌ يشيب بها***رأس ال-وليد، وتعذيب وإصفاد((1))
كلّ ذلك، وهو عاكف علی سماع الأغاني، واستماع المثالث والمثاني، وملكه قد أصبح واهي المباني، وممّا اشتهر عنه أنّه كتب إلی بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يطلب منه جماعة من ذوي الطرب، وفي تلك الحال وصل رسول السلطان هلاكو إليه، يطلب منه منجنيقات وآلات الحصار، فقال بدر الدين: انظروا إلی المطلوبين وابكوا علی الإسلام وأهله، وبلغني أنّ الوزير مؤيّد الدين محمد ابن العلقمي كان في أواخر الدولة المستعصمية ينشد دائماً«خفيف»:
كيف يرجی الصلاح من أمر قومٍ***ضيّع--وا الح--زم فيه أيّ ضياع
فمطاعٌ، ولي---س في---ه س--دادٌ***وس--ديد المق--ال غير مط--اعِ
ص: 192
«انتهی كلام الفخري».
وكان من حبّه للمال أنّ الملك الناصر داود المعظّم أودع عنده في سنة سبع وأربعين وديعةً قيمتها مائة ألف دينار، فجحدها الخليفة، فاستقبح هذا من مثله، وهو مستقبح ممّن دونه بكثير، بل ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْك َ﴾((1)). ((2))
وكان من بخله أن فارق كثير من الجند بغداد لانقطاع أرزاقهم، ولحقوا ببلاد الشام في سنة خمسين وستّمائة.((3))
وكان من قلّة تدبيره وضعفه تركه ما أشار علیه به الوزير من المهادنة وإرسال التحف والهدايا إلی هلاكو وخواصّه وقوّاده، بعدما قبل أوّلاً، فترك الحزم واقتصر علی إنفاذ شيء يسير،((4)) وأخذ برأي أعداء الوزير
ص: 193
وحسّاده، فإنّهم خطّأوه وشجّعوا الخليفة علی الحرب وترك المهادنة.((1))
وقد كان أبوه المستنصر قد استکثر من الجند جدّاً، ومع ذلك كانيصانع التتار ويهادنهم ويرضيهم،((2)) ولعلّه لو قبل هذه النصيحة، وسلك
علی منهاج أبيه لدفع عن المسلمين هذه المصيبة العظمی.
ويظهر ممّا أنشأه الشيخ الأديب الشاعر سعدي الشيرازي في مرثية المستعصم أنّ الملك أبا بكر بن سعد الزنگي أيضاً أشار إلی المستعصم بالمصانعة والمهادنة فلم يقبل نصيحته، وقد دفع هذا الملك التتار بالمصانعة والتدبير عن بلاد فارس.
وذكروا ((3))من تكبّر الخليفة أنّه كان في طريق بلاطه حجر كالحجر الأسود علیه غطاء أطلس أسود، وكان الملوك والسلاطين وكبراء الناس وغيرهم يزورون ذلك الغطاء ويستلمون الحجر، وذكروا أنّ العالم المتورّع مجد الدين إسماعيل الفالي الّذي أرسله أتابك مظفّر الدين سعد رسولاً إلی
ص: 194
الخليفة امتنع عن تقبيل الحجر المذكور ونعم ما فعل، فإنّه يجب علی کلّ مسلم موحّد مؤمن بالله ورسوله أن يمتنع عن ذلك، فلمّا ألزموه وضع المصحف الشريف علی الحجر وقبّل المصحف.
ومن أفظع الوقائع الحادثة في خلافة المستعصم تخريب محلّة الكرخ في بغداد، وقتل جماعة كثيرة من الشيعة من بني هاشم وغيرهم، ونهب أموالهم وأسر البنات، وحملهنّ عاريات علی الخيول في السوق بأمر أبي العبّاس أحمد بن المستعصم.((1))
ص: 195
وعلی کلّ حال احتمال كون اتّهام الوزير العلقمي بالمواضعة مع هلاكو من مختلقات المتعصّبين((1)) وأعداء الشيعة قريب جدّاً لا يدفعه شيء، وإسناد
ص: 196
الاشتراك في هذه الجرائم الفظيعة إلی أحد من المسلمين من غير دليل قطعيّ لا يجوز عند العقل والشرع.
ولأجل زيادة التوضيح ننقل كلام «ابن الطقطقي» في الفخري قال: كان - يعني العلقمي - رجلاً فاضلاً كاملاً لبيباً كريماً وقوراً محبّاً
ص: 197
للرئاسة، كثير التجمّل، رئيساً متمسّكاً بقوانين الرئاسة، خبيراً بأدوات السياسة، لبيق الأعطاف بآلات الوزارة، وكان يحبّ أهل الأدب، ويقرّب أهل العلم، اقتنی كتباً كثيرة نفيسة - إلی أن قال -: وكان مؤيّد الدين الوزير عفيفاً عن أموال الديوان وأموال الرعيّة، متنزّهاً مترفّعاً. قيل: إنّ بدر الدين صاحب الموصل أهدی إليه هديّة تشتمل علی كتب وثياب ولطائف قيمتها عشرة آلاف دينار، فلمّا وصلت إلی الوزير حملها إلی خدمة الخليفة وقال: إنّ صاحب الموصل قد أهدی لي هذا، واستحييت منه أن أردّه إليه، وقد حملته وأسأل قبوله فقبل، ثم إنّه أهدی إلی بدر الدين عوض هديّته شيئاً من لطائف بغداد قيمته اثنا عشر ألف دينار، والتمس منه أن لا يهدي إليه شيئاً بعد ذلك.
وكان خواصّ الخليفة جميعاً يكرهونه ويحسدونه، وكان الخليفة يعتقد فيه ويحبّه، وكثروا علیه عنده، فكفّ يده عن أكثر الاُمور،ونسبه الناس إلی أنّه خامر، وليس ذلك بصحيح.
قال: وفي آخر أيّامه قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة السلطان هلاكو فلم يحرّك ذلك منه - يعني المستعصم - عزماً ولا ننبّه منه همّة، ولا أحدث عنده همّاً، وكان كلّما سمع عن السلطان من الاحتياط والاستعداد شيء ظهر من الخليفة نقيضه من التفریط والإهمال - إلی أن
ص: 198
قال -: وكان وزيره مؤيّد الدين ابن العلقمي يعرف حقيقة الحال في ذلك، ويكاتبه بالتحذير والتنبيه، ويشير علیه بالتيقّظ والاحتياط والاستعداد، وهو لا يزداد إلّا غفولاً، وكان خواصّه يوهمونه أنّه ليس في هذا كبير خطر... ((1)) إلخ.
وليس عندي ببعيد أنّ نسبة الخيانة إلی الوزير العلقمي صدرت أوّلاً من بعض المتعصّبين كما أسلفنا الإيعاز إليه، ثم نقلها بعض الشيعة ممّن جرح عواطفهم ما صدر من العباسيّين وعمّالهم علی الشيعة من سلب الحرّيّة والاضطهاد، والقتل والتعذيب، ممّا تقشعرُّ من ذكره الأبدان، فكأنّه أراد بنقل ذلك شفاء ما في صدره من هذه الأعمال الفجيعة، والسياسات الظالمة، ومن نقلها من السنّيّين لم يسندها إلی مصدر معتبر موثوق به، ولم أعثر في كتب التراجم والمعاجم الشيعية ذكراً لهذه النسبة، فضلاً عن الافتخار به، ولو كان فيهم من يفتخر بذلك - العياذ بالله - لذكروا في كتبهم المؤلّفة في عصر الخواجة والعلقمي.
وهذه كتب العلّامة الحلّي في الإمامة وخلاف الاُمّة ليس فيها ذكر عن ذلك، مع أنّه كان من تلامذة الخواجة في المعقول، نعم في الأعصار الأخيرة ذكر ذلك القاضي نور الله الشهيد المتوفّی سنة 1021 في مجالس المؤمنين،
ص: 199
وتبعه مؤلّف روضات الجنّات المتوفّی سنة 1313 من غير استناد إلی أصل موثوق به، وسواء أكان تدخّل ابن العلقمي في هذه الحادثة معلوماً أم مشكوكاً، فاُصول الشيعة تأبی عن الرضا بهذه الكارثة، وما جری فيها من القتل العامّ، وذبح المسلمين والمسلمات، فالشيعي لا يجوّز قتل مسلم واحد سنّياً كان أوشيعياً إلّا بالحقّ، فكيف يرضی بهذه المذبحة العامّة وقتل الشيوخ والأطفال، وتغلّب الكفّار
علی المسلمين، وليس في فقهاء الشيعة من أفتی بجواز قتل واحد من أهل السنّة لأنّه سنّي، فضلاً عن قتل عامّة أهل بغداد مع ما فيهم من العلماء والأشراف من السنّيّين والشيعيين.
وأمّا الخواجة نصير الدين المحقّق الطوسي فشأنه أجلّ وأنبل من التدخّل في هذه الفاجعة، وقد كان هلاكو قبل استخلاصه الخواجة من يد الإسماعيلية أرسل إلی الخليفة وطلب منه أن يعينه بالجنود والعساكر، وكان غرضه من ذلك توطئة الوسيلة للخروج علیه، وفتح بغداد كغيره من البلاد، ولم يكن لمنع ال-خواجة في فسخ عزيمته قليل تأثير، فهو وإن كان مكرّماً عنده ظاهراً، وكان هلاكو يفتخر بوجوده في البلاط السلطاني، وأراد أن ينتفع بعلمه وحكمته، لكن لم يكن الخواجة ممّن لازم السطان وصحبه بالاختيار، بل كان مكرهاً مجبوراً في ذلك، لم يكن له بدّ من صحبة السلطان، وما كان حاله عند هلاكو أحسن من حاله عند الإسماعيلية.
ص: 200
وممّا يبعّد نسبة وجود مواضعة بين هذا الفيلسوف وابن العلقمي أنّ ابن العلقمي كتب إلی الأمير ناصر الدين المحتشم أنّ نصير الدين الطوسي قد ابتدأ بمكاتبة الخليفة، وأنشأ قصيدةً في مدحه، وأراد الخروج من عندك، وهذا لا يوافق الرأي فلا تغفل عن هذا، فلمّا قرأ المحتشم كتابه حبس المحقّق.((1))
وعلی کلّ حال فمثل هذا الحكيم الفيلسوف الّذي قلّما يجود الزمان بمثله في العلم والأخلاق، والفضائل النفسانية، والكمالات الإنسانية، ويضرب به المثل في التواضع والحلم، والرحمة البشرية، لا يقدم علی أمر لا يقدم علیه إلّا من ألقی جلباب الإنسانية عن نفسه، ورفع الله الرحمة عن قلبه، وأين هذا من رجل كان معلّم الأخلاق، ولايزال يكون تصانيفه في الحكمة العملية من مصادر التربية وتعلیم إصلاح الباطن وتهذيب النفس.((2))نعم ليس لمثل ال-خواجة ذنب غير حبّ أهل البيت، فصار بهذا الذنب غرضاً لسهام الجهّال، كما أنّ الشارح المعتزلي السنّي الّذي توفّي قبل استيلاء
ص: 201
المغول علی بغداد ((1)) ليس له ذنب غير شرح نهج البلاغة، وما أبان فيه من الحقائق التاريخية، وفضائل أهل البيت، ومثالب مبغضيهم، فلم يحرمه الخطيب من افتراءاته، ونسب إليه الاشتراك في هذه الفاجعة، ولم يسند ذلك إلی أيّ كتاب من كتب التراجم والتاريخ، ولم يأت في تحامله علی هذا الشرح الّذي يُعدّ من نفائس كتب المسلمين في الأدب والتاريخ واللغة، والكلام وغيرها، إلّا بالفحش والشتم، والخروج عن أدب الكتابة.
هذا مختصر الكلام حول هذه الحادثة وأسبابها، ولا ريب أنّها من أعظم عبر التاريخ، ويجب علی المسلمين الاعتبار بها وإن يعرفوا ضرر التنازع والتدابر، والانهماك في المعاصي، والاشتغال بالملاهي والملذّات.
﴿فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.((2))
ص: 202
علی الشيعة
لم يدَعِ الخطيب شيئاً من الافتراء والبهتان إلّا أسنده إلی الشيعة، وترك عنان القلم في ذلك حتی قال في ص 27: إنّهم لا يرضون من المسلمين إلّا بأن يتبرّأوا من کلّ من ليس شيعيّاً، حتی آل البيت من بنات رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).
الشيعة أعظم الناس احتراماً وأشدّ حفظاً للرسول في عترته وذرّيّته، ليس عندهم أعزّ من أبناء رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وبناته وذرّيّته، ويتوسّلون إلی الله تعالی بحبّهم، ويتقرّبون إلی رسوله بولايتهم، ولم ينفكّ شيعيّ عن ذلك قطّ، ولا تجد لهذا الافتراء أثراً عند الشيعة، لا في كتبهم ومقالاتهم، ولا في محافلهم وأنديَتهم، فاذهب أيّها المفتري إلی مجالس الشيعة حتی تعلم مبلغ تحسّرهم وصراخهم، وصياحهم عند ذكر مصيبة الرسول بفقد ولده العزيز إبراهيم، وعند ذكر ما جری علی زينب بنت رسول الله من هبار، وحاشا ثم حاشا أن تكون في نفوس الشيعة إلّا محبّة أولاد الرسول وشيعتهم ومحبّيهم.
وهل التشيّع غير الولاء الخالص لأهل البيت، وكم من الفرق بينهم وبين من هو عندك معدود من أهل السنّة ممّن سبّ علیّاً وسائر أهل
ص: 203
البيت(علیهم السلام) وترك التمسّك بهم وتقرّب بذلك إلی الاُمراء طمعاً في جوائزهم وصلاتهم.
نعم الشيعة يفضّلون فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين علی إخوتها وأخواتها وغيرهنّ من النساء، لفضائلها ومناقبها الّتي عرفها الخاصّ والعامّ، ولاختصاصها بأبيها.
قالت عائشة: ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكانت إذا دخلت علیه رحّب بها وقام إليها، وأخذ بيدها فقبّلها وأجلسها في مجلسه.((1))وفي رواية اُخری عنها: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ولا دلّا ًوهدياً برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في قیامها و قعودها من فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم). قالت: وكانت إذا دخلت علی النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) إذا دخل علیها قامت من مجلسها فقبّلته واجلسته في مجلسها.((2))
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني».((3))
ص: 204
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «هي بضعة منّي، وهي قلبي، وهي روحي الّتي بين جنبيَّ من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذی الله».((1))
ص: 205
أخذ الخطيب عن أسلافه المنحرفين عن أهل البيت(علیهم السلام) ما اخترعوه من الكذب الفاحش، والافتراء البيّن علی الشيعة، ومن أفحش هذه الافتراءات البراءة من زيد بن عليّ بن الحسين وغيره من أكابر أهل البيت(علیهم السلام)، وهذا بهتان يكذّبه كتب الشيعة ورواياتهم، فإنّ من أظهر شعائر التشيّع الحبّ الخالص والولاء لأهل البيت والعلويّين، لاسيّما الفاطميّين منهم.
فهذه كتب التاريخ تنبئ عن ذلك، وتشهد علی مواقفهم ومشاهدهم في سبيل الدفاع عن أهل البيت، وتخبرك عمّن قتل منهم دون العلويّين.
وهذه الشيعة ضيّقوا علیهم أعداء أهل البيت والنواصب، وابتلوهم بأنواع الاضطهاد والمصائب والفتن، من القتل وقطع الأيدي والأرجل، والسجن والجلد، والقذف بالكفر والخروج عن الدين، والآراء المفتعلة، وليست لهم جريمة إلّا حبّ عليّ وفاطمة وابنيهما، والتمذهب بمذهبهم.
وهؤلاء الشيعة تخاصمهم أنت ونظراؤك لأنّهم يكرمون أبناء عليّ وفاطمة، ويعرفون لهم ما حباهم الله من الكرامة والفضيلة، ثم تنسبون إليهم أنّهم لا
ص: 206
يرضون من المسلمين إلّا أن يتبرّأوا من آل الرسول مثل زيد الشهيد.
وهذه كتب الإمامية في التراجم والنسب، مشحونة بالثناء البليغ لزيد الشهيد،((1)) ووصفه بکلّ جميل، وجلالة قدره وكرامة مقامه عند الشيعة، أشهر من أن يذكر، وأمره في الورع والعلم، والبسالة وشدّة البأس وإباء النفس، والحرص علی الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلی ما فيه الصلاح وخير الاُمّة غنيّ عن البيان،حاز الش-رف النبويّ، والمجد العلويّ، والسؤدد الفاطمي، والروح الحسيني، خرّج الشيعة عنه الأحاديث((2)) وأثنی علیه، ومدحه شعراؤهم وأبّنوه،((3)) وللإمامية في ترجمته كتب مفردة تنبئ عن منزلته عندهم،((4)) وخرّجوا أيضاً في شأنه وفضله روايات كثيرة عن النبيّ والوصيّ، والإمام الباقر والصادق والرضا(علیهم السلام).((5))
هذا حال الشيعة وسيرتهم في احترام العلويّين، وأهل هذا البيت المبارك،
ص: 207
فيا أهل الإنصاف هذه كتب التراجم والتاريخ اقرأوا فيها كيف هدر دم زيد خلفاء الاُمويّين وأتباعهم الّذين يفتخر الخطيب بهم، ويعتبر حكوماتهم شرعية، وينقم علی الشيعة بأنّهم لا يعتبرونها شرعية.
اسألوا الخطيب عن أسماء قتلة زيد، وعمّن أمر بقتله ومن قطع رأسه الشريف، والخليفة الّذي أمر بإحراقه، وبعث رأسه إلی المدينة، فنصب عند قبر الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) يوماً وليلة واسألوه عن الخليفة الّذي أمر أبا خالد القس-ري بقطع لسان الكميت ويده بقصيدة رثی بها زيداً، وابنه يحيی، هل كان هؤلاء من الشيعة أو من أسلاف الخطيب؟
أيّها الخطيب أو ليس محمد بن إبراهيم المخزومي عامل خليفتكم بالمدينة يعقد الحفلات بها سبعة أيّام، ويخرج إليها، ويحضر الخطباء فيلعنون هناك علیّاً وزيداً وشيعته من قومك الماضين؟ أو ليس الحكم الأعور القائل: صلبنا لكم زيداً علی جذع نخلة ... إلخ، من شعراء رهطك الأوّلين؟((1))
اقرأ كتب التاريخ، وانظر هل تقدر علی إحصاء أسماء من قتل من الشرفاء الأجلّاء، ثم انظر هل تجد في قاتليهم غير بني العبّاس وبني اُميّة
ص: 208
وعمّالهم؟ واسأل عن مذاهبهم، هل كانوا من الشيعة أم من غيرهم؟
اسألوا الخطيب عن أبي البختري وهب بن وهب الّذي شقّ أمان الرشيد ليحيی بن عبد الله بن الحسن بالسكّين، وجعل يشقّه ويده ترتعد حتی صيّره سيوراً، فأجازه الرشيد بألف ألف وستّمائة ألف، أنّه كان من قضاة الشيعة أو من أصحاب مذهبه، وأرباب نحلته؟
هذا كتاب مقاتل الطالبيّين، اقرأ فيه شيئاً من مصائب أهل البيت ومحنهم، وما أصابهم من الخلفاء وحكوماتهم الش-رعية من الظلم والقتل، وقطع الأيدي والأرجل والحبس في أعماق السجون، وتعذيبهم بمنع الماء والطعام، وارجع إلی نفسك وانظر هل تقرّ القولبش-رعية حكومة هؤلاء الجبابرة؟ وهل تری من أيّد تلك الحكومات وأفتی بوجوب طاعتها، واشترك في مظالمها وجرائمها علی الإسلام والمسلمين لحطام الدنيا، لم يرتكب ذنباً ولم يقترف إثماً؟
ص: 209
من الحقائق المسلّمة التاريخية، والاُمور الّتي لا تقبل الريب والإنكار كون مدفن أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) في المكان المشهور الّذي يتش-رّف الناس بزيارته، وقد أخفی أهل بيته وأولاده قبره الشريف عن أعدائه من بني اُميّة وغيرهم، فلم يعرف هؤلاء موضع مضجعه، وأهل بيته وأولاده كانوا عارفين بموضع قبر أبيهم(علیه السلام). وقد أخبروا بذلك شيعتهم وخواصّهم، وكانوا يزورونه في هذا المكان الطيّب، فزاره عليّ بن الحسين زين العابدين(علیه السلام) بالزيارة المأثورة عنه، المعروفة بأمين الله، وزاره أيضاً أبو عبد الله جعفر بن محمد(علیهما السلام)وغيرهم من الأئمّة ومشايخ أهل البيت، والنصوص في تعيين محلّ القبر وأنّه بالغريّ في هذا المكان الّذي يزار فيه عن الإمام الحسن والحسين وزين العابدين وابنيه محمد الباقر وزيد الشهيد، وأبي عبد الله الصادق، وموسی بن جعفر، و عليّ بن موسی الرضا، ومحمد بن عليّ الجواد، وغيرهم من الأئمّة وأكابر أهل البيت متواترة، ومن يكون أعرف بموضع قبر الميّت من أبنائه، وأقاربه، وعشيرته وخواصّه؟
وأخرج أبو الفرج في مقاتل الطالبيّين بسنده عن الحسن بن عليّ الخلّال،
ص: 210
قال: قلت للحسن بن عليّ: أين دفنتم أمير المؤمنين؟ قال: خرجنا به ليلاً من منزله، حتی مررنا به علی مسجد الأشعث حتی خرجنا به إلی الظهر بجنب الغريّ.((1))
وأخرج ابن أعثم الكوفي أيضاً في تاريخه - علی ما في ترجمته - عن الحسن بن عليّ(علیهما السلام)أنّه قال: دفنّاه بالغريّ.((2))
وأخرج أيضاً بسنده عن أبي قرّة قال: خرجت مع زيد بن عليّليلاً إلی الجبّان، وهو مرخيّ اليدين لا شيء معه، فقال لي: يا أبا قرّة أجائع أنت؟ قلت: نعم، فناولني كمّثراة ملء الكفّ، ما أدري أريحها أطيب أم طعمها؟ ثم قال لي: يا أبا قرّة أتدري أين نحن؟ نحن في روضة من رياض الجنّة، نحن عند قبر أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام).((3))
وأخرج الحافظ الصغاني في «الشمس المنيرة» أنّ من المشهور أنّ زيد بن عليّ(علیه السلام) الّذي ينتسب إليه أهل هذا المذهب الزيدي قال لأصحابه، وهم يسلكون معه طريق الغريّ: أتدرون أين نحن؟ نحن في روضة من رياض الجنّة، نحن عند قبر أمير المؤمنين(علیه السلام).
ص: 211
وأخرج العلّامة المحدّث الثقة ابن قولويه (المتوفّی سنة 367 أو سنة 368) في كامل الزيارات، والسيّد ابن طاوس في فرحة الغريّ النصوص المأثورة المتواترة في ذلك عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين، والحسن والحسين والسجّاد، وسائر الأئمّة(علیهم السلام).((1))
نقول هذا، وفيه الكفاية وفوق الكفاية، غير متعرّضين لما ظهر من كرامات كثيرة، وآيات بيّنة عند الض-ريح المقدّس، ممّا لا تسعه الأوراق، وتعجز عن إحصائه الأقلام، ذكر طائفة منها العلماء والمحدّثون في كتبهم بأسناد معتبرة، وصرّح بذلك ابن بطوطة في رحلته وذكر بعض ما يتعلّق بليلة المحيا ليلة السابع والعشرين من رجب.((2))
وقد أفرد الباحثون والمحقّقون في تعيين قبره، وأنّه مدفون بالنجف، وفي تاريخ هذا المشهد الشريف مؤلّفات قيّمة، منها كتاب فرحة الغريّ للسيّد النقيب العلّامة غياث الدين عبد الكريم بن طاووس (المتوفّی سنة 693)، وهو كتاب حسن نافع جيّد جدّاً.
وكتاب «موضع قبر أمير المؤمنين» لأبي الحسن محمد بن عليّ بن الفضل بن تمام الكوفي الدهقان أحد أعلام القرن الرابع.
ص: 212
وأیضاً کتاب «موضع قبر أمیر المؤمنین» لأبي جعفر محمد بن بکران بن حمدان الرازي من القرن المذکور.
وکتاب «الدلائل البرهانیة في تصحیح الحض-رة العلویة» للعلّامة الحلّي؛ وکتاب «نزهة الغريّ» للشیخ محمد الکوفي.
وکتاب «نزهة أهل الحرمین في تعمیر المشهدین (الغروي والحائري)» للسیّد العلّامة السیّد حسن الصدر.
و«ماضي النجف وحاضرها» للشیخ جعفر النجفي آل محبوبة.
و«الیتیمة الغرویّة» للسیّد حسّون المتوفّی 1333ه-.
و«لؤلؤ الصدق» للسيّد عبد الله ثقة الإسلام الأصبهاني.
وحدّ الغريّ وغيره، وصرّح بكون القبر في الغريّ جمع من أكابرالمورّخين كاليعقوبي المتوفّی سنة 292ه- فقال علی سبيل الجزم في تاريخه: ودفن بالكوفة في موضع يقال له الغريّ.
وقال أبو الفداء في المختص-ر: والأصحّ وهو الّذي ارتضاه ابن الأثير وغيره أنّ قبره هو المشهور بالنجف وهو الّذي يزار اليوم.((1))
وقال ابن الطقطقي في الفخري: وأمّا مدفن أمير المؤمنين(علیه السلام) فإنّه دفن ليلاً بالغريّ ثم عفي قبره إلی أن ظهر حيث مشهده الآن صلوات الله
ص: 213
وسلامه علیه.((1))
وفي معجم البلدان: وهو - يعني النجف - بظهر الكوفة كالمسنّاة تمنع مسيل الماء أن يعلو الكوفة ومقابرها، والنجف: قشور الصِّليّان، وبالقرب من هذا الموضع قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.((2)) وفيه أيضاً: والغريّان طربالان، وهما بناءان كالصومعتين بظاهر الكوفة، قرب قبر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.((3))
وفي مراصد
الاطّلاع: والنجف أيضاً بظهر الكوفة كالمسنّاة تمنع مسيل الماء أن يعلو الكوفة ومقابرها، وبالقرب من هذا الموضع قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب المشهور.((4))
وأخرج الگنجي الشافعي بسنده عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ بإسناد رفعه قال: لمّا حضرت وفاة عليّ(علیه السلام) قال للحسن والحسين(علیهما السلام): «إذا أنا متّ فاحملاني علی سرير ثم أخرجاني ليلاً ثم أتيا بي الغريّين، فإنّكما ستريان صخرة بيضاء تلمع نوراً فاحتفرا فإنّكما ستجدان فيها ساحة فادفناني فيها فدفنّاه وانصرفنا».((5))
ص: 214
وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: وقبره بالغري - إلیأن قال -: وأولاده أعرف بقبره، وأولاد کلّ الناس أعرف بقبور آبائهم من الأجانب، وهذا القبر الّذي زار بنوه لمّا قدموا العراق، منهم جعفر بن محمد(علیه السلام) وغيره من أكابرهم وأعيانهم.((1))
وقال أيضاً في شرح نهج البلاغة: «وهذا القبر الّذي بالغريّ هو الّذي كان بنو عليّ يزورونه قديماً وحديثاً، ويقولون: هذا قبر أبينا، لا يشكّ أحد في ذلك من الشيعة ولا من غيرهم، أعني بني عليّ من ظهر الحسن والحسين وغيرهما من سلالته المتقدّمين منهم والمتأخّرین ما زاروا، ولا وقفوا إلّا علی هذا القبر بعينه.
وقد روی أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ الجوزي في تاريخه المعروف «بالمنتظم» وفاة أبي الغنائم محمد بن عليّ بن ميمون الرسّي المعروف باُبيّ لجودة قراءته قال: توفّي أبو الغنائم هذا في سنة عشر وخمسمأة، وكان محدّثاً من أهل الكوفة، ثقة حافظاً، وكان من قوّام الليل، ومن أهل السنّة، وكان يقول: ما بالكوفة من هو علی مذهب أهل السنّة وأصحاب الحديث غيري، وكان يقول: مات بالكوفة ثلاثمائة صحابيّ ليس قبر أحد منهم معروفاً إلّا قبر أمير المؤمنين، وهو هذا القبر الّذي يزوره الناس الآن، جاء
ص: 215
جعفر بن محمد، وأبوه محمد بن
عليّ بن الحسين(علیهما السلام)فزاراه... إلخ».((1))
وقد زاره أيضاً جمع من الخلفاء كالمنصور والرشيد والمقتفي، والناصر، والمستنصر، والمستعصم.((2))
وفي كتاب «السيّدة زينب» الّذي وضعته لجنة نش-ر العلوم والمعارف الإسلامية بالقاهرة: "وخفي قبره إلی أن ظهر حيث مشهده الآن، (وفيه): قد ثبت أنّ زين العابدين عليّ بن الحسين، وجعفراً الصادق، وابنه موسی زاروه في المكان المذكور، ولم يزل قبره مستوراً لا يعرفه إلّا خواصّ أولاده، ومن يثقون به بوصيّةكانت، لما علم من دولة بني اُميّة في عداوتهم له، فلم يزل مختفياً حتی كان زمن هارون الرشيد، ثم ذكر حكاية خروج هارون إلی ظهر الكوفة للصيد، وما رأی من كرامة الإمام (علیه السلام)، وظهور القبر له بدلالة بعض شيوخ الكوفة، وأمره ببناء قبّة علیه».((3))
ص: 216
هذا، وإيضاح موضع دفن جثمان الإمام(علیه السلام) وأنّه في النجف في المحلّ الّذي يزار الآن غنيّ عن البيان، قام علیه اتّفاق أهل بيته والأئمّة من ولده وشيعته، لم يختلف في ذلك منهم اثنان، ولكنّ الخطيب أنكر هذا الواقع المسلّم حسداً وبغضاً، لأنّ في رحاب هذا المشهد تحيی مآثر العترة الطاهرة، وتاُسّست منذ ألف سنة أعظم جامعة إسلامية لا تزال ترسل أشعّتها إلی أرجاء العالم الإسلامي.
يحسد الخطيب أهل البيت علی ما آتاهم الله من فضله، ومنحهم من المحبّة في قلوب المؤمنين، وعلی أيّامهم ومشاهدهم ومواقفهم الّتي ترسخ في النفوس حبّ الشرف والفضيلة.
هذه المشاهد تقول: إنّ أعداء الحقّ وأتباع الباطل، وإن جهدوا جهدهم وسعوا سعيهم، وقتلوا أصحاب الحقّ وهدموا بيوتهم، وفرّقوا جموعهم، وعذّبوهم في قعر السجون، وسبّوهم
علی المنابر، لا يقدرون علی إطفاء نور الله، ويأبی الله إلّا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.
هذه المشاهد تصيح في وجوه الظلمة وتنادي البش-ريّة وتقول: كونوا أحراراً وأنصاراً لدين الله، وأعواناً لعباد الله، وادفعوا عن كيان الإسلام، وشرف الإنسان يبقی لكم الذكر الخالد وتقول:
قف دون رأيك في الحياة***إنّ الحياة عقيدة وجهاد
ص: 217
هذه القبور شعائر الحرّيّة، وشعائر إخلاص أبناء البش-ر، وأهلالإباء والحميّة، وتدعو الناس إلی إعانة المظلوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدفاع عن حقوق الإنسانية الكبری.
هذه القبور تقول: إنّ أنصار الحقّ هم الغالبون، وإنّ حزب الله هم المفلحون، وإنّ المستقبل لهم، وإنّ الدهر لا ينساهم، والله يورثهم الأرض ويجعلهم الأئمّة ويجعلهم الوارثين.
لقد حارب هذه القبور، وأراد هدمها، ومنع الناس عن زيارتها جبابرة الأرض وأعداء الحرّيّة، والخطيب ومن كان فيه نزعة اُمويّة يتبع أثر هؤلاء فيثقل علیه ما يری من ميل النفوس إلی زيارة هذه المشاهد، فكأنّهم يحبّون أن يكون هذه الضرائح الّتي تهوی إليها الأفئدة، وتحنّ إليها القلوب، لأعداء أهل البيت وجبابرة التاريخ الّذين حاربوا الفضائل الإنسانية، وسعَوْا في إطفاء نور الحقّ وكان من ألذّ الأشياء عندهم قتل الأبرياء، وتعذيب الصلحاء، فيقول في جملة من كلماته الّتي يظهر منها التعصّب والعناد، وبغض أهل البيت(علیهم السلام)، بعد تكرار افتراءاته السابقة علی الشيعة من القول بوقوع التحريف في القرآن في ص 27 و 28: وقد زعموا ذلك -
يعني القول بالتحريف((1)) - في جميع عصورهم وطبقاتهم علی ما نقله عنهم،
ص: 218
وسجّله لهم نابغتهم العزيز علیهم، الحبيب إلی قلوبهم الحاج ميرزا حسين بن محمد تقيّ النوري الطبرسي في كتابه «فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأرباب» الّذي اقترف جناية كتابة کلّ سطر منه في جانب قبر الصحابيّ الجليل أمير الكوفة المغيرة بن شعبة (رض) الّذي تزعم الشيعة أنّه قبر عليّ بن أبي طالب.((1))
ص: 219
اُنظر إلی هذه الكلمات بعين الإنصاف، اقض العجب عمّا يريد الرجل من التفريق بين المؤمنين، وانظر كيف يكرّر افتراءاته، وكيف يأتي بکلّ ما يهيّج السنّة علی الشيعة وبالعكس، فيتعرّض لما لا يعدّ من الخلافات المذهبيّة، ولا مساس له بتحقيق الوحدة الإسلامية.
اُنظر كيف يثني علی المغيرة بن شعبة، ويأبی ذلك في حقّ من هو مجمع الأوصاف المحمودة الإنسانية، فيأتي بعد هذا الثناء علی المغيرة بذكر اسم أمير المؤمنين(علیه السلام) مجرّداً عن جميع أوصافه وألقابه.
وانظر كيف لا يستحيي من العلماء، ومن قلمه وقرطاسه، فيقول جازماً من دون أن يذكر خلافاً في ذلك: إنّ الّذي تزعم الشيعة أنّه قبر عليّ بن أبي طالب هو قبر المغيرة، كأنّه من أولاد المغيرة، أو كان حاضراً حين واروه في التراب.
فاسألوه من أين عرفت موضع قبر المغيرة؟ ومن أين ثبت ذلك عندك؟ ومن أيّ مصدر صحيح أخذته؟ وهذا العلّامة الشهير السبط ابن الجوزي يقول: لم يعرف له قبر، وقيل: إنّه مات بالشام، وهذا ابن حبّان يقول - علی ما حكي عنه - في معجم البلدان في «الثويّة»: إنّ المغيرة بن شعبة دفن بالكوفة
ص: 220
بموضع يقال له الثويّة، وهناك دفنأبو موسی الأشعري في سنة خمسين،((1)) وقال في «مراصد الاطّلاع» قيل: بالثويّة دفن المغيرة وأبو موسی الأشعري وزياد.((2))
أم كيف ينكر معرفة ولد أمير المؤمنين الّذين دفنوا أباهم، وزاروه في هذا الموضع الّذي عرّفوا الناس به، وكيف ينكر معرفة شيعته بقبره، فمن كان أبصر وأعلم منهم بذلك؟ وما قيمة إنكار شخص بعيد عن الميّت بعد إخبار أولاده وخواصّه بقبره؟ ومن يعتدّ بکلام مثل هذا المجازف الّذي لا مأخذ له، وأبطله الأخبار المتواترة المذكورة، وتص-ريحات أعلام المؤرّخين، وظهور الكرامات الكثيرة عنه(علیه السلام) عند القبر الشريف؟
ص: 221
لم يقنع كاتب «الخطوط العريضة» في إظهار الانحراف عن أهل البيت، أصحاب الكساء وبني فاطمة(علیهم السلام)، والميل إلی أعدائهم ومبغضيهم بما افتری علی الشيعة حتی مدح في ص 31 سيرة يزيد بن معاوية، وكفی به عبقريّةً أن يكون من أمجاده يزيد الخمور الّذي أخجل تاريخ الإنسانية بما يرتكبه من أنواع الجرائم والمنكرات.((1))
ص: 222
أعلن الخطيب عقيدته في ص 32، وخالف جميع الاُمّة فرفع أبا بكر وعمر وعثمان، وحتی عمرو بن العاص، حتی جعل منزلتهم أعلی من مرتبة جميع الأنبياء، وجبرئيل وميكائيل وسائر الملائكة، وجميع خلق الله، فانظر كيف يعلن بذلك ويص-رّح بتفضيل الشيخين وعثمان، وحتی مثل عمرو بن العاص علی الأنبياء والمرسلين، كسيّدنا إبراهيم وموسی وعيسی وغيرهم(علیهم السلام)، وعلی جميع خلق الله، وهو الّذي يمقت الشيعة لقولهم بتفضيل الإمام عليّ علی سائر الصحابة، ويفتري علیهم بأنّهم - ونعوذ بالله من ذلك - يرفعون مرتبة أئمّتهم عن مرتبة الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم).
وإنّما ذكر عمرو بن العاص فيمن فضّله علی جميع خلق الله تلويحاً بتفضيل معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة، ومن يحذو حذوهما في بغض أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وسفك الدماء، وقتل الأبرياء علی الأنبياء(علیهم السلام) أيضاً.
ص: 223
قال في صفحة 33: إنّ استحالة التقريب بين طوائف المسلمين، وبين فرق الشيعة هي بسبب مخالفتهم لسائر المسلمين في الاُصول، قال: وممّا لا ريب فيه أنّ الشيعة الإمامية هي الّتي لا ترضی بالتقريب... إلخ.
الشيعة الإمامية كما تشهد به كتبهم القديمة والحديثة المطبوعة وغيرها لا تخالف سائر المسلمين في اُصول الإسلام: التوحيد والنبوّة والمعاد، يؤمنون بالله الواحد الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ويؤمنون بأنبياء الله ورسله، ومعجزاتهم وكتبهم لا يفرّقون بين أحد منهم، ويؤمنون بما اُنزل علی سيّدنا محمد خاتم الأنبياء(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنّه لا نبيّ بعده، وبشريعته الّتي ختمت الشرائع، وأنّ القرآن المجيد هذا الكتاب الكريم الّذي يقرأه أهل السنّة والشيعة هو الكتاب المنزل علیه، ويؤمنون بسؤال القبر، وقيام الساعة، وإحياء الأموات للحساب، وبالجنّة والنار، والص-راط والميزان وبملائكة الله، لا سبيل للشكّ في هذه العقائد عند شيعيّ، وأيضاً يؤمنون بوجوب الصلوات المفروضة وغيرها من الواجبات، كما يؤمنون بحرمة الخمر والميس-ر، والميتة ولحم الخنزير، والكذب والغيبة، والربا
ص: 224
والزنی، واللواط ونكاح المحارم، وغيرها من المحرّمات المعلومة الثابتة بالكتاب والسنّة المعدودة من ضروريّات الدين الحنيف، فمن شكّ في ذلك ليس من الشيعة بشيء بل لا يحكمون علیه بالإسلام، ويحكم جميع فقهائهم علیه بالكفر والارتداد، وهكذا يؤمنون بسائر أحكام الله تعالی في المعاملات، والقضاء، والنكاح، والطلاق، والظهار والإيلاء، والحدود والديات.
ولا يضرّ في الحكم بالإسلام عندهم اختلاف أرباب المذاهب في الفروع الفقهيّة فيحكمون بإسلام المعتنقين بالمذاهب الأربعة المعروفة، بل ومن لم يعتنق خصوص مذهب من هذه المذاهب، لأنّ باب الاجتهاد عندهم مفتوح، فليس علی المسلم إلّا أن يأخذ بالكتاب والسنّة، وليس لحص-ر المذاهب في الأربعة المشهورة أصل صحيح، بل يجب علی من أدّی اجتهاده إلی خلاف هذه المذاهب اتّباع اجتهاده، ومع هذا كيف لا ترضی الشيعة بالتقريب؟
وأمّا افتراؤه في ص 33 و 34 علیهم بأنّهم يرفعون الأئمّة عن مرتبة البشر إلی مرتبة آلهة اليونانيّين فبهتان محض، يعرف كذب هذا الافتراء کلّ من كان له قليل معرفة بكتب الشيعة وعقائدهم، فهم أبعد الفريقين من هذه المقالات، لا يقولون بمثل ذلك في رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فضلاً عن الأئمّة،
ص: 225
ويعتقدون فيهم أنّهم عباد الله تعالی، مخلوقون مربوبون، محتاجون إليه، وأنّ من غلی فيهم فاعتقد تأليههم، أو اشتراكهم مع الله تعالی في أمر الخلق والرزق، والإماتة، والإحياء وغيرها كافر مرتدّ خارج عن الإسلام يحكمون بنجاسته.
وأظنّ أنّ الخطيب أيضاً كان عالماً بتنزّه الشيعة عن هذه المقالات والعقائد الباطلة، ولكن لمّا لم يجد شيئاً يمنع عن التقريب والتجاوب بين الطرفين جاء بهذا البهتان العظيم، ونسب الشرك والكفر بالقول بتأليه أئمّة آل البيت إلی طائفة كبيرة من المسلمين المؤمنين الموحّدين، الّذين يشهدون في مآذنهم وإذاعاتهم بکلمة التوحيد، ويتبرّؤون عمّن يعتقد تأليه الأئمّة وغيرهم، أو يرفعهم عن مرتبة البشر.
فليس ما بينهم شيء يمنع عن التقريب والتجاوب، وليس معنی التقريب أن يترك الشيعيّ مذهبه ويصير سنّياً أو بالعكس،((1)) بل معناه أن يُترك کلّ علی اجتهاده فيعيشوا في مجال أوسع من هذا المجال، وأن يتركوا العصبيّات الباردة، ويعترف کلّ واحد منهم للآخر بالحقوق الإسلامية، لا يتّهم السنّي الشيعي بالش-رك والكفر، والاستهانة بالفرائض وفعل
ص: 226
المحرّمات، ولا يتّهم الشيعي السنّي بالنصب وعداوة آل البيت، فلا يسيرون إلّا علی ضوء الحقائق فيأوِّلون بعض ما يصدر عنهم بحسب اجتهادهم في الكتاب والسنّة بما يتأوّلون بعض ما صدر من السلف، فإنّ حاجة المسلمين بهذه التأوّلات فيما بين أنفسهم في عص-رنا أكثر وأشدّ من حاجتهم إلی تأويل أعمال السلف، فإنّ حسابهم علی الله، والزمان حال بيننا وبينهم.
إنّ الشيعة لا يعتمدون علی الافتراء والأكاذيب حين يناقشون غيرهم، بل يعتمدون علی الكتب المعتبرة الموثوق بها عندهم، ولا يقابلون الشتيمة بمثلها كشتائم الخطيب وغيره ممّن لا نريد سردأسمائهم، وسيحكم الله بينهم وبين هؤلاء يوم يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
فالشيعة أرضی الفريقين بالتقريب، وقد خطت في سبيله خطواتها الواسعة، ولكن من يريد بقاء الملأ الإسلامي في ظلمة المناقشات المنافرات لتبقی علیهم سلطة الاستعمار لا يحبّ التقريب وتحقّق الاُخوّة الإسلامية بين الطائفتين، لا يحبّ أن يعيش أهل القبلة كلّهم في عالم واحد معتصمين بحبل الله، فيفتري علی الشيعة اُموراً لم تخطر علی قلب شيعي، وينسب إليهم من العقائد ما هم أبعد منه من المش-رق إلی المغرب كالقول بتأليه الأئمّه ونبوّتهم، وتارةً يكفّرهم بآراء لا توجب الكفر بل ولا الفسق إذا
ص: 227
كانوا مجتهدين، وذلك مثل التبرّي من أعداء أهل البيت كمعاوية وعمرو بن العاص، والحجّاج ويزيد، وغيرهم ممّن ثبتت عداوته لأهل البيت وبغضه لعليّ(علیه السلام)، وقاتلوا علیّاً وحسناً وحسيناً، فإنّ ترك التبرّي لا يعدّ من اُصول الدين، ولا بمرغوب فيه شرعاً، بل دلّت الروايات الصحيحة علی وجوبه.
وأمّا ما قال في ص 34 من مخالفة اُصول الشيعة لجميع اُصول المسلمين، فنسأل الخطيب عن معنی الأصل والاُصول، وما قصد من اُصول الشيعة واُصول المسلمين.
فإن كان مراده من اُصول الشيعة ما امتازوا به عن أهل السنّة وغيرهم من فرق المسلمين من التمذهب بمذهب أهل البيت أعدال الكتاب وسفن النجاة، فلا تجد فرقة من الفرق إلّا ولها جهة امتياز عن غيرها، وليس معنی ذلك أنّها تخالف اُصول الإسلام.
وإن كان مراده أنّ اُصول الشيعة تخالف اُصول الإسلام والاُسس الّتي علیها يقوم الإيمان، وأنّ الشيعة لم تأخذ باُصول الإسلام الثابتة بالكتاب الكريم والسنّة، فهذا بهتان علی الشيعة، فإنّهم من أشدّ الناس أخذاً باُصول الإسلام وبالكتاب والسنّة، ولا ذنب لهم، سوی أنّهم لم يؤمنوا بش-رعية حكومة أمثال معاوية ويزيد والوليد من الحكام الجبابرة
ص: 228
والطواغيت، واهتدوا بهدی أهل البيت(علیهم السلام) فهل تری الرجوع إليهم في العلوم الشرعية والتمسّك بهم وبالكتاب المأمور به فيحديث الثقلين موجباً لجواز تكفير الشيعة أو تفسيقهم؟
وهل يكون الإيمان بصحّة خلافة الشيخين وعثمان من اُصول الإسلام؟
وهل يجوز تكفير مسلم إن أدّی اجتهاده إلی عدم صحّتها؟
فإن جاز ذلك فلم لا تحكمون بكفر النواصب والخوارج، وأصحاب الجمل وصفّين، وبني اُميّة وأتباعهم من الّذين أنكروا خلافة عليّ(علیه السلام) الشرعية بإجماع الفريقين وفعلوا ما فعلوا؟
ألا تری أنّه لم يكفّر أحد من الصحابة المسلمين الّذين خرجوا علی عثمان حتی قتل، وكان في من نقم علیه اُمّ المؤمنين عائشة، ولا ينكر ذلك علیها.
وإذا كانت فاطمة‘ بنت رسول الله وسيّدة نساء العالمين لم ترض بحكومة أبي بكر ولم تقرّها، ولم تعتبرها شرعية، وماتت واجدة علیه، كيف يجوز تفسيق من اتّبع مذهبها مجتهداً في ذلك، ولو كان الإيمان بش-رعية هذه الحكومات من اُصول الإسلام كيف خفي علی سيّدة نساء أهل الجنّة، و علی بعلها باب علم النبيّ، و علی غيرهما من بني هاشم، كالعبّاس
ص: 229
والصحابة الّذين امتنعوا عن البيعة.((1))
فيعلم من ذلك كلّه أنّ الاعتقاد بشرعية هذه الحكومات ليس من اُصول الإسلام في شيء، ولا يجوز تفسيق من أدّی اجتهاده إلی عدم شرعيّتها، ولا يجوز لأهل السنّة تكفير من لا يری حكومة مضت علیها الدهور وباد أهلها شرعيّة، ولا ينبغي للمسلمين الاشتغال بهذه المباحث الّتي قضت علیها الأزمنة، وليس حساب أهلها علینا، إنحسابهم إلّا علی الله، وتلك اُمّة قد خلت ولا مساس للقول بسوء صنيع هذه الأفراد، والقول بحسن حالهم بالإسلام، فإنّه أوسع من هذه المجادلات، فإذا لا ينبغي مناقشة الشيعي بما يری من جواز التبرّي من أعداء آل محمد ومبغضيهم، وليس هذا مانعاً من التقريب والتجاوب، فكلّ في تلك المسائل علی مذهبة، لا يضرّ ذلك بالتقريب بعد اتّفاق الفريقين علی اتّباع الكتاب والسنّة، فإنّ
ص: 230
الخلافات ترجع إلی الاختلاف في فهم مدلول الكتاب أو السنّة، واعتبار بعض الأحاديث وعدمه، فإحدی الطائفتين إن أدّی اجتهادها في مسألة إلی خلاف ما اختارته الاُخری فإنّما اختارته تمسّكاً بالكتاب أو السنّة، كما أنّ الطائفة الاُخری أيضاً اختارت كذلك، وإن كان في أهل السنّة من يعمل بالقياس فالشيعة لا يعملون به، ولا يحتجّون إلّا بالكتاب والسنّة، فلا يليق أن يكون مجرّد ذلك سبباً للجفوة والتباعد، ولا يوجب اختیار رأي في هذه المسائل، لا سيّما إذا كان عن اجتهاد، وكان عارياً عن العصبيّة والعناد، موجباً للخروج عن الإسلام أو جواز التفسيق، أو استحقاق اللوم والتوبيخ.
ص: 231
زعم الخطيب في ص 34 أنّ الشيوعيّة الّتي تفاقمت في العراق و باسم حزب توده في إيران أكثر ممّا كان لها من أثر في سائر العالم الإسلامي هي وليدة التشيّع، والشيوعيّون في ذينك القطرين من صميم أبناء الشيعة...إلخ.
الشيوعيّة لم تؤثّر في ذينك القطرين لا سيّما في إيران أكثر ممّا أثّرت في سائر العالم الإسلامي، وقد بذلت في سبيل تحقّق اُمنيّاتها في إيران منذ ظهرت إلی الآن أموالاً كثيرة، وفعلت السياسة الهدّامة، وعاونها في ذلك عوامل استراتيجية، وكون إيران محاددة لاُمّ الحكومات الشيوعية، وأعظمها سلطة وقدرة، ورغّبها في بسط نفوذها الغاشم في إيران ما فيها من آبار الزيت وغيرها، وكونها طريقاً للاستيلاء علی الهند والباكستان، ولقد احتلّ الجيش الروسي في الحرب العالمية الثانية إقليم خراسان، ومازندران، وآذربايجان وجيلان فاُسّست في آذربايجان تحت اضطهاد الجنود الأجنبيّة وإشرافها حكومة شيوعية ومع ذلك لم تنجح مساعيها في إيران ولم تنل ما أرادت من السلطة علی إيران الشیعي، فقاومت آذربايجان الاتّجاهات
ص: 232
الأجنبيّة، واستقامت بالقوّة الروحية الإسلامية، وتحمّلت الكوارث والمحن الشديدة، حتی فشلت دعايات الشيوعيّين، فلم تؤثّر في الآذربايجانيّين ولا في غيرهم، لكونهم من صميم أبناء الشيعة، وأغنياء من الأساليب الاقتصاديّة الّتي تعرض علیهم الشيوعية، ولأنّهم مؤمنون بأنّ التعاليم الإسلاميّة تضمّنت جميع ما يحتاجه الإنسان من النظم الاقتصادية والاجتماعية.
ولو كان التشيّع سبب تأثّر إيران والعراق بالشيوعية فما سببه في تأثّر البلاد السنّية منها؟ ففي بعض الممالك السنّية نری الحزب الشيوعي من أقوی الأحزاب تأثيراً في الثورات والحوادث السياسية، وبعضها كألبانيا اعتنقت الشيوعية، وهذه كتب علمائهم ومثقّفيهم، حتی الإسلامية منها بين أيدينا قد تأثّر بعضها بآراء الشيوعيّين، ويری القارئ ميل مصنّفيها إلی النظام الشيوعي، وتفسير تعالیم الإسلام علی نحو يوافق ذلك النظام، وأضف إلی ذلك جرائد الأحزاب الشيوعية ومجلّاتها، ودعاياتها بمتلفّ الأساليب في تلك البلاد.
وأمّا في إيران فقد فشلت تلك الدعايات، وقضی علیها الإسلام والتشيّع قضاء حاسماً، واستنكرها الخواصّ والعوامّ استنكاراً شديداً.
ونسأل الله تعالی أن يحفظ بلاد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من شرّ الأعداء، وأن يمنّ علیها بالخير والبركة والأمان والسلام.
ص: 233
والحقّ أنّ الشيوعيّة مهما ظهرت وأنّی ظهرت في بلاد المسلمين ليست إلّا وليدة جنايات المستعمرين، فإنّ الاستعمار يمنع اجتماع المسلمين حول أحكام القرآن، ويسعی سعيه لتفريق كلمتهم ليحفظ سلطته علی الممالك الإسلامية، ولينهب ما في أيديهم من الثروة ويقضي علی مجدهم وكيانهم.
إنّ الاستعمار يری الإسلام صخرة تقاوم مقاصده وأغراضه، فيسعی سعيه لتحطيمها، ولئلّا تكون الحكومات رمزاً لعلائق المسلمين، ولا تتحقّق مقاصد الاستعمار في بلادنا إلّا إذا عمّ الجهل والفقر، وشملت أبناءنا الرجعية والتقهقر إلی الجاهلية، فالاستعمار يريد اضمحلال المعارف الإسلامية الّتي هي أرقی المعارف البشرية ليسلب من المسلمين حرّيّاتهم الّتي منحهم الإسلام، ولا يريد إلّا أن يصبحوا أرقّاءه وعبيده.
الاستعمار هو الّذي يرغّب الفتيان والفتيات وأرباب المناصب والرؤساء والمترفين بترك الآداب الإسلامية، ورفض الشعائر الدينية، ويشوّقهم إلی الاشتغال بالملاهي والمعازف، وشرب الخمر والقمار، والفحشاء واختلاط النساء بالرجال، ويستأجر الأقلام لتشويق المجتمع إلی الفساد والمنكرات.
ص: 234
وإنّ خوف الاستعمار من اتّحاد المسلمين وتيقّظهم، واجتماعهم حول كلمة التوحيد أشدّ من خوفه من استيلاء الشيوعية، لأنّ العالم الإسلامي لو استيقظ من رقدته يدافع عن الانسانية وحقوقها المغتصبة، ويعرض علیها أرقی الأساليب والنظم الاجتماعية، وأنفعها في حياتها الاجتماعية والروحية، والاقتصادية والمدنية، وينقذ الناس من مظالم المستعمرين، واستبداد الشيوعيين، ويقضي علی استثمار الناس بعضهم بعضاً.
ولا تدخل الشيوعية في إقليم إلّا بعد دخول الاستعمار فيه، فالاستعمار يمهّد السبيل للشيوعية لأنّه يأتي بالفقر والمشاكل الاقتصادية ويذهب بالحرّية، ويمنع عن التقدّم وعن قيام الاُمّة بما فيه صلاح نفسها وعلاج دائها.
الاستعمار هو السبب للضعف وذهاب قوّة الاُمّة، ويقض-ي علی الدين والآداب، والشعائر الإسلامية.
فالاستعمار ينتهي إلی الشيوعية، فإذا بلغ مظالمه غايتها أخلی السبيل للشيوعيّين للقضاء علی ما بقيّ من الحرّيّات والفضائل، ولم تفتتن الجماعات بما يعرض علیها الشيوعية من أساليبها الخادعة إلّا بما جنت علیها أيدي المستعمرين الجبّارين.
الاستعمار يفرّق بين المسلمين، ويؤسّس في کلّ إقليم حكومة مستعمرة
ص: 235
لتحفّظ مصالحه، ويسعی سعيه كي لا تستولي علیه الشيوعية ولا تذهب بسلطانه، ولا يدري أنّ الشيوعية وليدته، وأنّ التخلّص من نكباتها خصوصاً في الممالك الإسلامية لا يتحقّق إلّا بهدم جميع البنايات الاستعمارية وإيكال اُمور المسلمين إلی أنفسهم.
الإسلام ديننا، وعزّنا ومجدنا وتاريخنا، وتعاليمه وأحكامه آدابنا وشريعتنا، وسياسته سياستنا، وحكومته حكومتنا، وبلاده في شرق الأرض وغربها وطننا، لا يصلح اُمورنا إلّا الإسلام، ولم يفسد ما فسد منها إلّا البعد عن الإسلام، والمستعمر يريد هدم هذه المباني فيجعل لأهل کلّ قطر تاريخاً ووطناً، ويشجّع العصبيّات القومية،((1)) ويكثّرون أسباب الامتياز بين
ص: 236
الأقاليم الإسلامية، ويحيون آثار الأقدمين، ويربطون کلّ شعب بالعصور البائدة والحياة القبَليّة، لأنّ ذلك يقطع أسباب الارتباط بين المسلمين، فيجب علی أيّ شعب من المسلمين الاهتمام بإحياء أيّام الإسلام وشعائره، دون ما ليس منه شيء من أيّامهم الماضية، وشعائرهم الّتي أبطلها الإسلام، وأن يعظّموا رجالاتهم لأنّهم رجالات الإسلام، وأن يعتزّوا بتاريخ شعبهم لأنّه صفحة من صفحات تاريخ الإسلام المش-رقة لا لأنّه تاريخ شعبخاصّ أو مملكة أو اُمّة خاصّة، لأنّ هذا من أضرّ مكائد الاستعمار علی الوحدة الإسلامية.
اللّهمّ ادفع عنّا شرّ الأعداء واجمعنا في ظلّ راية الإسلام واجعلنا معتصمين بحبلك وانصرنا
علی القوم الكافرين.
ص: 237
زعم الخطيب في ص 34: أنّ عليّ محمد الشيرازي الّذي ادّعی قبل مائة سنة أنّه باب المهديّ المنتظر ثم ادّعی أنّه هو المهديّ نفي إلی آذربايجان لأنّها مباءة السنّيين من أهل المذهب الحنفي، ولم تقم الحكومة بنفيه إلی بلد شيعي لأنّ من طبيعة مذهب الشيعي قبول أهله لهذه الأوهام.
هذا من آثار جهله العجيب أحوال البلدان، ولا تثريب علیه لأنّه لا يحترز من القول بغير علم، فيقول ما يوافق هواه، بل ينكر الحقائق الظاهرة، فإنّ إقليم آذربايجان من الأقاليم العريقة بالتشيّع والولاء الكامل الخالص لأهل البيت(علیهم السلام)، ومعاهد الشيعة العلمية ومدارسهم وجوامعهم فيها كثيرة، وسكّان هذا الإقليم مهتمّون غاية الاهتمام بالالتزام بالشعائر الإسلامية. وقد أبلوا في سبيل الله والتشيّع بلاءاً حسناً، ظهر فيه ثباتهم وصدق عزائمهم وحسن إسلامهم، وقوّة إيمانهم، ونفي عليّ محمد إلی آذربايجان كان لأسباب سياسية اُشير إلی بعضها في كتاب «بي
بهائی باب وبها» وكتاب «يادداشت های
كينياز دالكوركی الروسی» وقد منع أهل آذربايجان من الافتتان بدعاوي عليّ محمد تشيّعهم والتزامهم باُصول
ص: 238
الإسلام، وولاء أهل البيت(علیهم السلام)، فصلب عليّ محمد هناك (في تبريز) بعد أن تاب ورجع عن دعاواه، وأظهر الإسلام وكتب توبته بخطّه، لكن لم تقبل منه لعدم قبول توبة المرتدّ عن الفطرة في الظاهر.
وليعلم أنّ حركة البابية والبهائية في جميع مراحلها كانت تحت حماية السياسة الاستعمارية،((1)) فهي الّتي ربّتها وقامت بنفقاتها،فاستعملتها أوّلاً الحكومة الروسية لأهداف سياسية معيّنة، فشجّعت عمّالها هذه الحركة للقضاء علی الحكومة الإيرانيه، أو التدخّل في الشؤون الحكومية وتفريق كلمة المسلمين، وكانت حكومة إيران في تلك الأزمنة لأسباب معلومة مضطرّة إلی المسامحة في الاُمور مع حكومة روسيا، ولكن مع ذلك لم تنجح سياسة حكومة روسيا، ولم تتحقّق اُمنيّاتها لأنّ إيران الشيعية قامت في وجه هذه السياسات وأخمدت نار فتنها.
ص: 239
ثم دخلت هذه الفرقة في مرحلة جديدة، حيث استخدمتها حكومة إنكلترا للعمل في إداراتها الجاسوسية إلی أن اتّخذت لها «حيفا» و «عكّا» مركزاً للدعاية، لأنّهم أدركوا أنّ الظروف والأحوال في إيران لا تساعد علی قبول مثل هذه الدعايات السخيفة، فخدم الحزب البهائي حكومة إنكلترا خدمات خانوا بها الشرق والإسلام والمسلمين، لا سيّما في الحرب العالمية الاُولی، فالتمس عبّاس أفندي رئيس البهائية من القائد الإنكليزي اللورد النّبي الّذي دخل بيت المقدس في الحرب العظمی الاُولی وقال: اليوم فقد انتهت الحروب الصليبية أن يحصل له لقب «سر» فحصل له، فكانت البهائية في أحضان جواسيس إنكلترا إلی أن شاركتهم في ذلك حكومة آمريكا لتستخدمها أيضاً في مقاصدها السياسية في الشرق الأوسط وغيره، فأصبحت البهائية حركة صهيونية أمريكية.
قال الكاتب الكبير الدكتور شلبي في كتابه مقارنة الأديان، فيما كتبه حول الجمعيات السرّية الخطرة الّتي كانت ولا تزال من أهمّ المؤسّسات الّتي اعتمد علیها اليهود لتنفيذ أغراضهم، والوصول إلی هدفهم، فعدّ منها البابية والبهائية: ومن الواضح أنّ حياة البهائية في عكّا بين جماعات اليهود أثّرت فيها تأثيراً واسعاً، وقطعت ما كان باقياً بينها وبين الإسلام من صلات طفيفة إن وجدت فأصبحت البهائية وجهاً آخر
ص: 240
لليهودية وللصهيونية.((1))
وقال بعد ذكر موت البهاء: وخلّفه ابنه «عبّاس أفندي» الّذي كان في خدمة الحلفاء خلال الحرب العالمية الاُولی فأنعمت علیه بريطانيا برتبة «فارس» مع لقب سر، وتوفّي سنة 1931م فخلّفه ابن بنته شوقي ربّاني الّذي مات بعد ذلك دون أن ينجب ولداً، وفي ظلّ الفكر الجديد للبهائية دفعها اليهود إلی أقطار الأرض ورعوها بالمال، ومنحوها الرعاية التامّة فأصبحت البهائية «حركة صهيونية أمريكية» كما يسمّي الكُتّاب والمحدّثون، وأسفرت البهائية عن وجههاالصهيوني إذ بعد وفاة ميرزا شوقي ربّاني اجتمع المجلس الأعلی للطائفة البهائية في إسرائيل وانتخب صهيونياً آمريكياً اسمه «ميسون» ليكون رئيساً روحيّاً لجميع أفراد الطائفة البهائية في العالم «انتهی كلام الدكتور شلبي».((2))
وليس لتدخّل البهائية في بعض الاُمور سبباً غير السياسة، وليس لأكثرهم لولا الكلّ سيّما زعمائهم ورؤسائهم إيمان بالبهائية، فلم يعتنقوها للتديّن بها بل اعتنقوها ليتقرّبوا بها إلی أعداء الإسلام ويكسبوا الدراهم والدنانير.
ص: 241
هذا، وأخيراً نلفت أنظار الباحثين في تاريخ البابية والبهائية وآرائهم، ولعب السياسات بهم إلی كتاب «تاريخ الباب أو مفتاح باب الأبواب» المطبوع في مصر مطبعة المنار، سنة 1321ه-، تأليف الدكتور محمد مهدي زعيم الدولة، وصاحب جريدة «الحكمة» نزيل القاهرة، وكتاب «مهازل البهائية علی مسرح السياسة والدين»، تأليف أنور ودود المطبوع في حيفا مطبعة الكشّاف، وكتاب «ساخته های بهائيت در صحنه دين و سياست» له أيضاً وكتاب «بی بهائی باب وبهاء» تأليف محمد علی الخادمي الشيرازي، وكتاب «يادداشت های كينياز» تأليف كينياز دالكوركي الروسي الوزير المفوّض للحكومة الروسية في طهران، وكتاب «محاكمه وبررسی در تاريخ باب و بهاء» تأليف الدكتور ح. م. ت وكتاب «نصائح الهدی» تأليف العلّامة البلاغي، وكتاب «بز بگير شرح دزد بگير»، وكتاب «يار قلی» وغيرها.
كما نلفت الأنظار أيضاً إلی التواريخ المؤلّفة في عصر حدوث فتنة الباب مثل «روضة الصفا» و «ناسخ التواريخ» وغيرهما، وإلی كتاب «كشف الحيل» في ثلاثة أجزاء للفاضل البحّاثة «الآيتي» الملقّب عند البهائية ب-«آواره»، وهذا الرجل كان داعيتهم العظيم ونحريرهم الكبير، ومنتهی أملهم، وكانوا يعتزّون به كمال الاعتزاز فاستبص-ر وتاب عن ضلالاته، واعتنق
ص: 242
الإسلام وأظهر بطلانمقالات هذه الطائفة، وأظهر حیلهم ومخازيهم وشنائع أعمال رؤسائهم، وصنّف في ذلك كتباً كثيرة ككتاب «كشف الحيل»، ومجلّة «نمكدان» وغيرهما.((1))
ص: 243
وقد ردّ علیهم أيضاً «الميرزا حسن نيكو» في كتاب أسماه: «فلسفه
نيكو» في ثلاثة أجزاء، وكان هو أيضاً معدوداً من دعاة البهائية، ولكنّه أنكر اعتناقه هذا المسلك السخيف، واعتذر أنّه إنّما دخل فيهم للفحص عن حقيقة مسلكهم وبواطن اُمورهم وأسرارهم.
هذا آخر ما وفّقنا الله تعالی في نقد «الخطوط العريضة» مع ضيق المجال وكثرة الاشتغال، والله الهادي إلی سواء الص-راط، وهوحسبي ونعم الوكيل، وصلّی الله علی سيّدنا ونبيّنا محمد، وآله الهداة وأصحابه الأبرار، والتابعين لهم بإحسان.
لطف الله الصافي
شوّال المكرّم 1382ه-
ص: 244
1. القرآن الکریم.
2. أبو الشهداء الحسین بن علي، العقّاد، عبّاس محمود، طهران، المجمع العالمي للتقریب بین المذاهب الإسلامیة، 1425ق.
3. الإتحاف بحبّ الأشراف، الشبراوي، عبد الله بن محمد (م. 1172ق.)، قم، دار الكتاب، 1423ق.
4. الإتقان في علوم القرآن، السیوطي، جلال الدین (م.911ق.)، بیروت، دار الفکر، 1416ق.
5. الاحکام في اُصول الأحکام، الآمدي، عليّ بن محمد (م.631ق.)، الریاض، المکتب الإسلامي، 1387ق.
6. أخبار مکّة المشرّفة، الأزرقي، محمد بن عبد الله (م. 241 ق.) بيروت، دار الأندلس، 1416ق.
7. الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة، الحسيني القنوجي البخاري، سيّد محمد صديق حسن (م. 1357ق.)، دار ابن كثير، 1420ق.
8. أسباب نزول القرآن، الواحدي، عليّ بن أحمد (م. 468ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1411ق.
ص: 245
9. الاستذکار، ابن عبد البرّ، یوسف بن عبد الله القرطبي (م. 463ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 2000م.
10. الاستیعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البرّ، یوسف بن عبد الله القرطبي (م. 463ق.)، بیروت، دار الجیل، 1412ق.
11. اُسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثیر الجزري، عليّ بن محمد (م.630ق.)، طهران، منشورات إسماعیلیان.
12. إسعاف الراغبین في سیرة المصطفی وفضائل أهل بیته الطاهرین، الصبّان، محمد بن عليّ، حضرموت، دار المیراث النبوي.
13. الإصابة في تمییز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (م. 852ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیّة، 1415ق.
14. أصل الشیعة واُصولها، کاشف الغطاء، محمد حسین (م.1373ق.)، مؤسّسة الإمام عليّ(علیه السلام)، 1415ق.
15. أضواء علی السنّة المحمدیّة، أبو ریّة، محمود.
16. إظهار الحقّ، الهندي، رحمة الله بن خلیل الرحمن (م. 1308ق.).
17. الاعتقادات في دین الإمامیة، الصدوق، محمد بن عليّ (م.381ق.)، بیروت، دار المفید، 1414ق.
18. الأعلام، الزرکلي، خیر الدین (م. 1397ق.)، بیروت، دار العلم للملایین، 1980م.
ص: 246
19. أعیان الشیعة، الأمین العاملي، السیّد محسن (م.1371ق.)، بیروت، دار التعارف، 1403ق.
20. الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، عليّ بن الحسین (م. 356ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1415ق.
21. إکلیل المنهج في تحقیق المطلب، الخراساني الکرباسي، محمد جعفر بن محمد طاهر (م. 1175ق.)، قم، دار الحدیث، 1425ق.
22. آلاء الرحمن في تفسیر القرآن، البلاغي النجفي، محمّد جواد (م. 1352ق.)، قم، مؤسّسة البعثة، 1420ق.
23. الألفاظ الکتابیة، الهمداني، عبد الرحمن بن عيسی (م. 320 ق.).
الإمامة والسیاسة، ابن قتیبة الدینوري، عبد الله بن مسلم
24. (م. 276ق.)، قم، منشورات الشریف الرضيّ، 1413ق.
25. الانتصار، الشریف المرتضی، عليّ بن الحسین (م. 436ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1415ق.
26. أوائل المقالات في المذاهب والمختارات، المفید، محمد بن محمد (م. 413ق.)، بیروت، دار المفید، 1414ق.
27. الباعث الحثیث شرح اختصار علوم الحدیث، شاکر، أحمد محمد.
28. بحر الفوائد في شرح الفرائد، الآشتیاني، میرزا محمد حسن (م. 1319ق.).
ص: 247
29. البدء والتاریخ، المقدسي، مطهّر بن طاهر (م. 355ق.)، مکتبة الثقافة الدینیّة.
30. البدایة والنهایة، ابن کثیر، إسماعیل بن عمر (م. 774ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1408ق.
31. البرهان في علامات مهدي آخر الزمان(علیه السلام)، المتّقي الهندي، علاء الدین عليّ (م. 975ق.).
32. البیان في تفسیر القرآن، الخوئي، السیّد أبو القاسم الموسوي (م. 1413ق.)، منشورات أنوار الهدی، 1401ق.
33. تاریخ الإسلام ووفیات المشاهیر والأعلام، الذهبي، محمد بن أحمد (م. 748ق.)، بیروت، دار الکتاب العربي، 1407ق.
34. تاریخ الاُمم والملوك، الطبري، محمد بن جریر (م.310ق.)، بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1403ق.
35. تاریخ بغداد، الخطیب البغدادي، أحمد بن عليّ (م. 463ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1417ق.
36. تاریخ جهانگشا، الجویني، علاء الدین عطا ملك (م. 681ق.).
37. تاریخ الخلفاء، السیوطي، جلال الدین (م.911ق)، بیروت، دار التعاون.
38. تاريخ گزيده، المستوفي، حمد الله (م. 750ق.).
ص: 248
39. تاریخ مختصر الدول، ابن العبري، غریغوریوس الملطي (م. 685ق.)، بیروت، دار الشرق، 1992ق.
40.تاریخ روضة الصفاء، میرخواند، میر محمد بن سیّد برهان الدین خواوندشاه (م. 903ق.)، طهران، منشورات الخیّام، 1339ش.
41.تاریخ مدینة دمشق، ابن عساکر، عليّ بن الحسن (م.571ق.)، بیروت، دار الفکر، 1415ق.
42. تاریخ المدینة المنوّرة، ابن شبّة النمیري، عمر بن شبّة (م. 262ق.)، قم، دار الفکر، 1410ق.
43. تاریخ وصّاف الحض-رة، وصّاف الحض-رة، عبد الله بن فضل الله (م. قرن 8).
44. تاریخ الیعقوبي، الیعقوبي، أحمد بن أبي یعقوب (م. 292ق.)، بیروت، دار صادر.
45. التبیان في تفسیر القرآن، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي.
46. تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار(رحلة ابن بطوطة)، ابن بطوطة، محمد بن عبد الله (م. 779ق.)، الرباط، آکادمیّة المملکة المغربیة، 1417ق.
47. تذکرة الخواصّ، سبط ابن الجوزي، یوسف بن حسام الدین
ص: 249
(م. 654ق.)، قم، منشورات الشریف الرضيّ، 1418ق.
48. تذکرة الفقهاء، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1414ق.
49. تفسیر القرآن الحکیم (تفسیر المنار)، رشید رضا، محمد (م. 1354ق.)، بیروت، دار المعرفة، 1414ق.
50. التفسیر الکبیر (مفاتیح الغیب)، الفخر الرازي، محمد بن عمر (م. 606ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1420ق.
51. تفسیر نفحات الرحمان، النهاوندي، محمد (م. 1330ق.)، قم، مؤسّسة بوستان کتاب، 1391ش.
52. تهذیب التهذیب، ابن حجر العسقلاني، أحمد بن عليّ (م.852 ق.)، بیروت، دار الفکر، 1404ق.
53. ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، قم، منشورات الشریف الرضي، 1368ش.
54.جامع البیان في تفسیر القرآن، الطبري، محمد بن جریر(م.310 ق.)، بیروت، دار المعرفة، 1412ق.
55. جامع التواریخ، الهمداني، رشید الدین فضل الله (م. 718ق.).
56. جامع الرواة، الأردبیلي، محمد عليّ (م. 1101ق.)، قم، مکتبة المرعشي النجفي، 1403ق.
ص: 250
57. الجامع الصغیر في أحادیث البشیر النذیر، السیوطي، جلال الدین (م. 911ق.)، بیروت، دار الفکر، 1401ق.
58. حاشیة ردّ المحتار علی الدرّ المختار، ابن عابدین، محمد عليّ (م. 1252ق.)، بیروت، دار الفکر، 1415ق.
59. حقائق التأویل في متشابه التنزیل، السیّد الرضيّ، محمد بن الحسین (م. 406ق.)، قم، دار الکتب الإسلامیة.
60. حلیة الأولیاء وطبقات الأصفیاء، أبو نعیم الأصفهاني، أحمد بن عبد الله (م. 430ق.)، بیروت، دار الکتاب العربي، 1405ق.
61. الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة، ابن الفوطي، کمال الدین أبو الفضل عبد الرزّاق بن أحمد البغدادي (م. 723ق.)، بیروت، دار الفکر الحدیث، 1407ق.
62. حیاة الحیوان الکبری، الدمیري، کمال الدین (م. 808ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1424ق.
63. خصائص أمیر المؤمنین عليّ بن أبي طالب، النسائي، أحمد بن شعیب (م. 303ق.)، طهران، مکتبة النینوی الحدیثة.
64. الدرّ المنثور في التفسیر بالمأثور، السیوطي، جلال الدین (م. 911ق.)، قم، مکبتة المرعشي النجفي، 1404ق.
65. ذخائر العقبی في مناقب ذوي القربی، الطبري، أحمد بن عبد الله
ص: 251
(م. 604ق.)، القاهرة، مکتبة القدسي، 1356ق.
66. الذریعة إلی تصانیف الشیعة، آقا بزرگ الطهراني، محمد محسن (م. 1389ق.)، بیروت، دار الأضواء، 1403ق.
67. رجال النجاشي، النجاشي، أحمد بن عليّ (م. 450ق.)، مؤسّسة النش-ر الإسلامي، 1416ق.
68.رسائل الش-ریف المرتضی، الش-ریف المرتضی، عليّ بن الحسین (م. 436ق.)، قم، دار القرآن الکریم، 1405ق.
69. الروضة المختارة (شرح القصائد الهاشمیّات)، کمیت بن زید الأسدي (م. 126ق.)، بیروت، مؤسّسة الأعلمي.
70. روضة الواعظین و بصیرة المتّعظین، الفتّال النیشابوري، محمد بن الحسن(م. 508ق.)، قم، منشورات الشریف الرضيّ، 1375ش.
71. الریاض النض-رة في مناقب العش-رة، الطبري، أحمد بن عبد الله (م. 694ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة.
72. زبدة الاُصول، البهائي، محمد بن حسین (م. 1031ق.)، منشورات مرصاد، 1423ق.
73. سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب، السویدي، محمد أمین، بیروت، دار الکتب العلمیّة، 1406ق.
74. سبل الهدی والرشاد في سیرة خیر العباد، الصالحي الشامي، محمد بن
ص: 252
یوسف (م. 942ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1414ق.
75. سموّ المعنی فی سمّو الذات أو اشعة من حیاه الحسین، علایلی، عبد الله، مصر، مطبعة عیسی البابی الحلبی وشرکاه، 1385ق.
76. سنن ابن ماجة، ابن ماجة القزویني، محمد بن یزید (م. 275ق.)،
دار الفکر.
77. سنن أبي داود، أبو داود السجستاني، سلیمان بن الأشعث (م. 275ق.)، بیروت، دار الفکر، 1410ق.
78. سنن الترمذي، الترمذي، محمد بن عیسی (م. 279ق.)، بیروت، دار الفکر، 1402ق.
79. سنن الدارمي، الدارمي، عبد الله بن الرحمن (م. 255ق.)، دمشق، مطبعة الاعتدال، 1349ق.
80. السنن الکبری، البیهقي، أحمد بن الحسین (م. 458ق.)، بیروت، دار الفکر، 1416ق
81. السنن الکبری، النسائي، أحمد بن شعیب (م. 303ق.)، بیروت،دار الکتب العلمیة، 1411ق.
82. السیّدة زینب، القاهرة، لجنة نشر العلوم والمعارف الإسلامیة.
83. سير أعلام النبلاء، الذهبي، محمد بن أحمد (م. 748 ق.)، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1413ق.
ص: 253
84. السیرة النبویّة، ابن کثیر، إسماعیل بن عمر (م. 774ق.)، بیروت، دار المعرفة، 1396ق.
85. السیرة النبویّة، ابن هشام، عبد الملك الحمیري (م. 8-213ق.)، القاهرة، مکتبة محمد عليّ صبیح وأولاده، 1383ق.
86. الشذرات الذهبيّة في تراجم الأئمّة الاثني عشر عند الإمامية، ابن طولون، شمس الدین محمد (م. 953ق.)، بیروت، دار صادر.
87. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحدید، عزّ الدین (م. 656ق.)، دار إحیاء الکتب العربیة، 1378ق.
88. شعب الإیمان، البیهقي، أحمد بن الحسین (م. 458ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1410ق.
89. الشفاء بتعریف حقوق المصطفی(صلی الله علیه و آله و سلم)، الیحصبي، قاضي عیاض (م. 544ق.)، بیروت، دار الفکر، 1409ق.
90. شواهد النبوّة ، الجامي، عبد الرحمن (م. 898ق.)، طهران، منشورات میر کسری، 1379ش.
91. صحیح البخاري، البخاري، محمد بن إسماعیل (م. 256ق.)، بیروت، دار الفکر، 1401ق.
92. صحیح مسلم، مسلم النیسابوري، مسلم بن الحجّاج (م. 261ق.)، بیروت، دار الفکر.
ص: 254
93. الصحیفة السجّادیّة، الإمام عليّ بن الحسین(علیهما السلام)، قم، مؤسّسة الإمام المهديّ(علیه السلام)، 1411ق.
94. الصواعق المحرقة، الهیتمي، أحمد بن حجر (م. 974ق.).
95. صورة الأرض، ابن حوقل، محمد بن حوقل (م. 367ق.)، بیروت، دار صادر، 1938م.
96.الطبقات الکبری، ابن سعد، محمد بن سعد (م. 230ق.)،1. بیروت، دار صادر.
97. العدّة في اُصول الفقه، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، قم، مطبعة ستارة، 1417ق.
98. العقد الفريد، ابن عبد ربّه، أحمد بن محمد (م. 328 ق.)، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1407ق.
99. غایة المأمول، ناصف، منصور عليّ.
100. الغدیر في الکتاب والسّنة والأدب، الأمیني، عبد الحسین (م. 1392ق.)، بیروت، دار الکتاب العربي، 1397ق.
101. فتح الباري شرح صحیح البخاري، ابن حجر العسقلاني، أحمد بن حجر (م. 852ق.)، بیروت، دار المعرفة.
102. فتح القدیر، الشوکاني، محمد بن علي (م. 1250ق.).
103. فتح الملك العليّ بصحّة حدیث باب مدینة العلم عليّ، المغربي، أحمد بن
ص: 255
محمد بن الصدّیق الحسني (م. 1380ق.)، أصفهان، مکتبة الإمام أمیر المؤمنین عليّ(علیه السلام) العامّة، 1403ق.
104. الفتوح، ابن أعثم الکوفي، أحمد بن عليّ (م. 314ق.)، بیروت، دار الأضواء، 1411ق.
105. الفتوحات الإسلامیة بعد مض-يّ الفتوحات النبويّة، دحلان، السیّد أحمد بن زیني، مصر، مطبعة مصطفی محمد، 1354ق.
106. الفخري في الآداب السلطانیة والدول الإسلامیة، ابن الطقطقي، محمد بن عليّ بن طباطبا (م. 709ق.)، بیروت، دار القلم العربي، 1418ق.
107. فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين(علیه السلام)، ابن طاووس، سيّد عبد الكريم بن أحمد (م. 693 ق.).
108. الفصل في الملل والنحل، ابن حزم الأندلس-ي، عليّ بن أحمد (م. 456ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1416ق.
109. الفصول العش-رة في الغیبة، المفید، محمد بن محمد (م. 413ق.)، بیروت، دار المفید، 1414ق.
110. الفصول المهمّة في تألیف الاُمّة، شرف الدین الموسوي، السیّد عبد الحسین (م. 1377ق.)، طهران، المجمع العالمي للتقریب بین المذاهب الإسلامیة، 1423ق.
111. الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، ابن الصبّاغ المالکي، عليّ بن محمد
ص: 256
(م. 855ق.)، قم، دار الحدیث، 1422ق.
112. فلسفه نیکو ، نیکو، المیرزا حسن (م. 1341ق.).
113. فیض القدیر شرح الجامع الصغیر من أحادیث البشیر النذیر، المناوي، محمد بن عليّ (م. 1031ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1415ق.
114. الکافي، الکلیني، محمد بن یعقوب (م. 329ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1363ش.
115. کامل الزیارات، ابن قولویه القمّي، جعفر بن محمد (م. 368ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1417ق.
116. الکامل في التاریخ، ابن الأثیر الجزري، عليّ بن محمد (م. 630ق.)، بیروت، دار صادر، 1386ق.
117. الکشّاف عن حقائق غوامض التنزیل وعیون الأقاویل في وجوه التأویل، الزمخشری، محمود بن عمر (م. 538ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1407ق.
118. کشف الحیل، الآیتي، عبد الحسین (م. 1332ق.).
119. کشف الغطاء عن مبهمات الش-ریعة الغرّاء، کاشف الغطاء، جعفر (م. 1228ق.)، قم، مکتب الإعلام الإسلامي، 1422ق.
120. کفایة الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب(علیه السلام)، الگنجي الشافعي محمد بن یوسف (م. 658ق.)، النجف الأشرف، المطبعة الحیدریة، 1390ق.
121. کنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، المتّقي الهندي، علاء الدین عليّ
ص: 257
(م. 975ق.)، بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1409ق.
122. ما هو نهج البلاغة، الشهرستاني، هبة الدین (م. ق.).
123المجازات النبویّة، الشریف الرضيّ، محمد بن الحسین (م.1. 406ق.)، قم، مکتبة بصیرتي.
124. مجالس المؤمنین، التسترّي، قاضي نور الله (م. 1019ق.)، المطبعة الإسلامیة، 1377ش.
125. مجمع البیان في تفسیر القرآن، فضل بن الحسن (م. 548ق.)، طهران، منشورات ناصر خسرو، 1372ش.
126. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، الهیثمي، عليّ بن أبي بکر (م. 807ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1408ق.
127. المجموع شرح المهذّب، النووي، محیي الدین بن شرف (م. 676ق.)، دار الفکر.
128. المختصر في أخبار البش-ر (تاریخ أبي الفداء)، أبو الفداء، إسماعیل (م. 732ق.)، بیروت، دار المعرفة.
129. مراصد الاطّلاع، علی أسماء الأمكنة والبقاع، عبد المؤمن بن عبد الحقّ (م. 739 ق.)، بيروت، دار الجيل، 1412ق.
130. مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي، عليّ بن الحسین (م. 345ق.)، قم، دار الهجرة، 1409ق.
ص: 258
131. المستدرك علی الصحیحین، الحاکم النیسابوري، محمد بن عبد الله (م. 405ق.)، بیروت، دار المعرفة.
132. المستصفی في علم الاُصول، الغزالي، محمد بن محمد (م. 505ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1417ق.
133. مسند أبي داود الطیالس-ي، الطيالسي، سلیمان بن داود (م. 204ق.)، بیروت، دار المعرفة.
134. مسند أبي یعلی الموصلي، أبو یعلی الموصلي، أحمد بن عليّ (م. 307ق.)، دمشق، دار المأمون للتراث.
135. مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل (م. 241ق.)، بیروت، دار صادر.
136. مسند الشامیّین، الطبراني، سلیمان بن أحمد (م. 360ق.)، بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1417ق.
137. مشکل الآثار، الطحاوي، أحمد بن محمد (م. 321ق.)، بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1408ق.
138. مصابیح السنّة، البغوي، حسین بن مسعود (م. 510ق.).
139. مطالب السؤول في مناقب آل الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)، ابن طلحة الشافعي، محمد بن طلحة (م. 652ق.).
140. معالم التنزیل (تفسیر البغوي)، البغوي، حسین بن مسعود
ص: 259
(م. 510ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1420ق.
141. المعتبر في شرح المختص-ر، المحقّق الحلّي، جعفر بن حسن (م. 676ق.)، قم، مؤسّسة سیّد الشهداء(علیه السلام)، 1364ش.
142. المعجم الأوسط، الطبراني، سلیمان بن أحمد (م. 360ق.)، دار الحرمین، 1415ق.
143. معجم البلدان، یاقوت الحموي، یاقوت بن عبدالله (م. 626ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1399ق.
144. معجم رجال الحدیث وتفصیل طبقات الرواة، الخوئي، السیّد أبو القاسم الموسوي (م. 1413ق)، 1413ق.
145. مفحمات الأقران في مبهمات القرآن، السیوطي، جلال الدین (م. 911ق.).
146. مقاتل الطالبیّین، أبو الفرج الأصفهاني، عليّ بن الحسین (م. 356ق.)، بیروت، دار المعرفة.
147. مقالید الکنوز، شاکر، أحمد محمد.
148. الملاحم والفتن (التشریف بالمنن في التعریف بالفتن)، ابن طاووس، السیّد عليّ بن موسی (م. 664ق.)، أصفهان، مؤسّسة صاحب الأمر(علیه السلام)، 1416ق.
149. الملل والنحل، الشهرستاني، محمد بن عبد الکریم (م. 548ق.)،
ص: 260
بیروت، دار المعرفة، 1422ق.
150. من لا یحضره الفقیه، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404ق.
151. منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر(علیه السلام)، الصافي الگلپایگاني، لطف الله.
152. منتهی المطلب في تحقیق المذهب، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، مشهد، آستان القدس الرضوي، 1412ق.
153. الموضوعات، ابن الجوزي، عبد الرحمن بن عليّ (م. 597ق.)، المدینة المنوّرة، المکتبة السلفیّة، 1386ق.
154. الموطّأ، مالك بن أنس (م. 179ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1406ق.
155. الناسخ والمنسوخ، ابن سلامة، محمد (م. 454ق.).
156. نخبة الفکر، ابن حجر العسقلاني، أحمد بن حجر (م.852ق.).
157. نزهة النظر في توضیح نخبة الفکر، ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (م. 852ق.).
158. النصائح الکافیة لمن یتولّی معاویة، ابن عقیل العلوي، السیّد محمد بن عقیل (م. 1350ق.)، قم، دار الثقافة، 1412ق.
159. نفحات الرحمن في تفسیر القرآن وإیضاح الفرقان، النهاوندي، محمد (م. 1330ق.).
ص: 261
160. نهج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب(علیه السلام)، الشریف الرضيّ، تحقیق وشرح محمد عبده، بیروت، دار المعرفة، 1412ق.
161. نواسخ القرآن، ابن الجوزي، عبد الرحمن بن عليّ (م. 597ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة.
162. نور الأبصار في مناقب آل بیت النبيّ المختار(صلی الله علیه و آله و سلم)، الشبلنجي، مؤمن بن حسن (م. قرن 13)، قم، منشورات الشریف الرضيّ.
163. نیل الأوطار من أحادیث سیّد الأخیار، الشوکاني، محمد بن عليّ (م. 1250ق.)، بیروت، دار الجیل، 1973م.
164. الوافي بالوفیات، الصفدي، خليل بن ايبك (م. 746 ق.)، بيروت، دار إحياء التراث، 1420ق.
165. واقع التقیّة عند المذاهب والفرق الإسلامیة من غیر الشیعة الإمامیة، العمیدي، ثامر هاشم حبیب.
166. وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، الحرّ العاملي، محمد بن الحسن (م. 1104ق)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1414ق.
167.وفيات الأعیان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلّکان، أحمد بن محمد(م. 681ق.)، بیروت، دار الثقافة.
168. ینابیع المودّة لذوي القربی، القندوزي، سلیمان بن إبراهیم (م. 1294ق.)، دار الاُسوة، 1416ق.
ص: 262
المقدّمة الاُولی. 5
المقدّمة الثانیة. 11
الخطوط العريضة. 25
كيف تمّت فكرة التقريب.. 32
فرية الخطيب علی علماء النجف.. 36
الاُصول قبل الفروع. 39
الاُسس الّتي يقوم علیها التشريع الفقهي. 41
التقيّة لا تمنع من التجاوب والتفاهم. 45
تأويل آيات الكتاب، وتفسيرها عند الشيعة. 55
صيانة الكتاب من التحريف.. 57
الواجب
علی المسلم. 72
فصل الخطاب في فصل الخطاب.. 76
سورة الولاية، وكتاب دبستان مذاهب.. 83
«دبستان مذاهب» ليس من كتب الشيعة. 90
المستشرقون دعاة الاستعمار. 93
الكلام حول أحاديث المسألة. 98
الشيعة تؤيّد کلّ حكومة إسلاميّة. 103
معنی الناصب.. 112
الدعاء الّذي نقله عن مفتاح الجنان. 118
افتراؤه علی الشيعة بالتعصّب للمجوسية. 121
خدمات الفرس للإسلام والمسلمين. 131
الإيمان بظهور المهديّ(علیه السلام) فكرة إسلامية. 136
ص: 263
الشيعة والعقيدة بالرجعة. 148
من سوء أدب الخطيب بنسبة التزوير إلی السيّدين. 152
نهج البلاغة. 155
بيعة الرضوان. 159
حكم من نفی الإيمان عن بعض الصحابة و سبّ بعضهم عند أهل السنّة. 164
نصيحة وتذكرة 169
منزلة النبيّ والإمام عند الشيعة. 170
غلط الخطيب في فهم كلام العلّامة الآشتياني. 174
افتراء الخطيب علی الشيعة بالتملّق للحكومات وتدخّل الخواجة وابن العلقمي... 183
كارثة خروج المغول واستیلائهم علی بلاد المسلمين وأسباب سقوط بغداد 189
من عجيب افتراءات الخطيب علی الشيعة. 204
منزلة زيد الشهيد وسائر أهل البيت عند الشيعة. 207
المشهد العلويّ المقدّس... 212
سيرة يزيد 224
غلوّ الخطيب في الصحابة. 225
عقائد الشيعة والتقريب بين المذاهب.. 226
الشيوعيّة والتشيّع. 234
الشيوعيّة وليدة مظالم المستعمرين. 236
آذربايجان إقليم شيعي. 240
حركة البابية والبهائية. 241
مصادر التحقیق.. 247
ص: 264
الصورة
ص: 265
الصورة
ص: 266
الصورة
ص: 267
الصورة
ص: 268
الصورة
ص: 269
الصورة
ص: 270
الصورة
ص: 271
الصورة
ص: 272