الشيطان على ضوء القرآن

اشارة

سرشناسه : علوی عادل 1955-

عنوان و نام پديدآور : کتاب الشیطان علی ضوء القرآن تالیف عادل العلوی

مشخصات نشر : قم بیروت: موسسه الاسلامیه العامه للتبلیغ و الارشاد:موسسة ام القری للتحقیق و النشر ، 1424ق = 1381.

مشخصات ظاهری : 152 ص.

شابک : دوره 964591518x ؛ 9645915333

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

عنوان دیگر : الشیطان علی ضوء القرآن موضوع : شیطان -- جنبه های قرآنی

رده بندی کنگره : BP104 /ش 9 ع8 1379

رده بندی دیویی : 297/159

شماره کتابشناسی ملی : م 79-4991

المقدّمة

الحمد لله الذي كرّم الإنسان وأمره أن يستعيذ من الشيطان ، والصلاة والسلام على سيّد الإنس والجانّ ، وأشرف الأكوان ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، محمّد وآله المعصومين الطاهرين .

من هو العدوّ الأوّل ؟ !

قال الله تعالى في محكم كتابه ومبرم خطابه :

( يَا أ يُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيراً وَنِسَاءً ) ( [2]) .

( وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أنْبِئُونِي بِأسْمِاءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأسْمِائِهِمْ فَلَمَّا أنْبَأهُمْ بِأسْمِائِهِمْ قَالَ أ لَمْ أقُلْ لَكُمْ إنِّي أعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ أبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتَُما

وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ * فَأزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِين * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإمَّا يَأتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَاىَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا اُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( [3]) .

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهجه في صفة خلق آدم : « ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنّها بالماء حتّى خلصت ، ولاطها بالبلّة حتّى لزبت ، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول وأعضاء وفضول ، أجمدها حتّى استمسكت وأصلدها حتّى صلصلت ، لوقت معدود وأجل معلوم ، ثمّ نفخ فيها من روحه فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها ، وفكر يتصرّف بها ، وجوارح يختدمها ، وأدوات يقلّبها ، ومعرفة يفرّق بها بين الحقّ والباطل ، والأذواق والمشام والألوان والأجناس ، معجوناً بطينة الألوان المختلفة ، والأشباه المؤتلفة ، والأضداد المتعادية ، والأخلاط المتباينة من الحرّ والبرد والبلّة والجمود والمساءة والسرور ، واستأدى الله سبحانه وتعالى الملائكة وديعته لديهم ، وعهد وصيّته إليهم في الإذعان بالسجود له والخنوع لتكرمته ، فقال سبحانه وتعالى : ( اسجدوا لآدم ) فسجدوا إلاّ إبليس وقبيلته اعترتهم الحميّة ، وغلبت عليهم الشقوة ، وتعزّزوا بخلقة النار ، واستوهنوا خلق الصلصال ، فأعطاه الله النظرة استحقاقاً للسخطة ، واستتماماً للبليّة ، وإنجازاً للعدة ، فقال : ( فَإنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ ) ( [4]) ، ثمّ أسكن سبحانه

آدم داراً أرغد فيها عيشه وآمن فيها محلّته ، وحذّره إبليس وعداوته ، فاغترّه عدوّه نفاسةً عليه بدار المقام ومرافقة الأبرار ، فباع اليقين بشكّه ، والعزيمة بوهنه ، واستبدل بالجدل وجلا وبالاغترار ندماً ، ثمّ بسط الله سبحانه له في توبته ، ولقّاه كلمة رحمته ، ووعده المردّ إلى جنّته ، فأهبطه إلى دار البليّة ، وتناسل الذرّية ... »( [5]) .

وقال سبحانه وتعالى :

( إنْ يُوحَى إلَيَّ إلاَّ أ نَّمَا أ نَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِين * فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أجْمَعُونَ * إلاَّ إ بْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ * قَالَ يَا إ بْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أاسْتَكْبَرْتَ أمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ * قَالَ أ نَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإنَّكَ رَجِيمٌ * وَإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ * قَالَ فَالحَقُّ وَالحَقَّ أقُولُ * لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أجْمَعِينَ ) ( [6]) .

وقد وردت الآيات الكريمة في بيان قصّة خلق آدم وحوّاء (عليهما السلام) ، وكيف أمر الله ملائكته بالسجود ، وكان الشيطان إبليس معهم فكفر وعصى ربّه ، وتكرّرت هذه القصّة في القرآن الكريم في موارد وسور كثيرة منها :

( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أ لاَّ

تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قَالَ أ نَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبَِما أغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتَُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلاَّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُور فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآ تُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أ لَمْ أنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنفُسَنَا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِين * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أمَرَنَا بِهَا

قُلْ إنَّ اللهَ لا يَأمُرُ بِالفَحْشَاءِ أتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أ نَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) ( [7]) .

ومنها : ( الحجر : 28 _ 43 ) ، ( النحل : 99 _ 100 ) ، ( الإسراء : 61 _ 70 ) ، ( الكهف : 50 ) ، ( طه : 116 _ 127 ) .

ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في خطبته القاصعة :

« الحمد لله الذي لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حِمىً وحرماً على غيره ، وأصطفاهما لجلاله ، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده ، ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ، محجوبات الغيوب ، إنّي خالق بشراً من طين ، فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، فسجد الملائكة كلّهم أجمعون إلاّ إبليس اعترضته الحميّة ، فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصّب عليه لأصله ، فعدوّ الله إمام المتعصّبين وسلف المستكبرين ، الذي وضع أساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبريّة ، وادّرع لباس التعزّز ، وخلع قناع التذلّل ، ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره ، ووضعه بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحوراً ، وأعدّ له في الآخرة سعيراً ، ولو أراد الله سبحانه أن يخلق آدم من نور يختطف الأبصار ضياؤه ، ويبهر العقول رواؤه _ أي المنظر الحسن _ وطيب يأخذ الإنسان

عرفه لفعل ، ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة ، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة ، ولكنّ الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزاً بالاختبار لهم ، ونفياً للاستكبار عنهم ، وإبعاداً للخيلاء منهم ، فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ، وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة ، لا يُدرى أمِن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة عن كِبر ساعة واحدة ، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله سبحانه بمثل معصيته ، كلاّ ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج منها ملكاً ، إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد ، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة _ أي الميل والصلح _ في إباحته حِمى حرّمه الله على العالمين ، فاحذروا عباد الله عدوّ الله أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد ، وأغرق لكم بالنزع الشديد ، ورماكم من كلّ مكان قريب ، وقال : ربّ بما أغويتني لاُزيننّ لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين » الخطبة( [8]) .

فالشيطان هو العدوّ الأوّل للإنسان ، وإذا أردنا أن نقف على فلسفة خلقته وعدائه ، فإنّه يمكن ذلك من خلال الرجوع إلى كتاب الله الكريم والروايات الشريفة المرويّة عن الرسول الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته عترته الطاهرين الأئمة الهداة المهديّين ، فإنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، وفي هذا الكون الرحب الوسيع ، فإنّ الله أوقفهم على أسرار خلقه ، وحقائق الأشياء كما هي .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابن مسعود وهو يعظه :

يا بن مسعود ، اتّخذ الشيطان عدوّاً ، فإنّ الله تعالى يقول : ( إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ) ( [9]) .

قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : احذروا عدوّاً نفذ في الصدور خفيّاً ، ونفث في الآذان نجيّاً .

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في مناجاته : إلهي أشكو إليك عدوّاً يضلّني ، وشيطاناً يغويني ، قد ملأ بالوسواس صدري ، وأحاطت هواجسه بقلبي ، يعاضد لي الهوى ، ويزيّن لي حبّ الدنيا ، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور ، فما يقصد فيها إلاّ أولياءنا .

وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) لمّا سئل عن أوجب الأعداء مجاهدةً : أقربهم إليك وأعداهم لك ... ومن يحرّض أعداءك عليك وهو إبليس .

فعن هشام بن الحكم قال : سأل الزنديق أبا عبد الله (عليه السلام) فقال : أفمن حكمته أن جعل لنفسه عدوّاً وقد كان ولا عدوّ له ، فخلق كما زعمت إبليس فسلّطه على عبيده يدعوهم إلى خلاف طاعته ويأمرهم بمعصيته ، وجعل له من القوّة كما زعمت يصل بلطف الحيلة إلى قلوبهم فيوسوس إليهم ، فيشكّكهم في ربّهم ، ويلبس عليهم دينهم ، فيزيلهم عن معرفته ، حتّى أنكر قوم لما وسوس إليهم ربوبيّته ، وعبدوا سواه ، فلِمَ سلّط عدوّه على عبيده ، وجعل له السبيل إلى إغوائهم ؟ قال : إنّ هذا العدوّ الذي ذكرت لا يضرّه عداوته ، ولا ينفعه ولايته ، وعداوته لا تنقص من ملكه شيئاً ، وولايته لا تزيد فيه شيئاً ، وإنّما يتّقى العدوّ إذا كان في قوّة يضرّ وينفع ، إن همّ بملك

أخذه ، أو بسلطان قهره ، فأمّا إبليس فعبد خلقه ليعبده ويوحّده ، وقد علم حين خلقه ما هو وإلى ما يصير إليه ، فلم يزل يعبده مع ملائكته حتّى امتحنه بسجود آدم ، فامتنع من ذلك حسداً وشقاوة غلبت عليه ، فلعنه عند ذلك وأخرجه عن صفوف الملائكة ، وأنزله إلى الأرض ملعوناً مدحوراً ، فصار عدوّ آدم وولده بذلك السبب ، وما له من السلطنة على ولده إلاّ الوسوسة والدعاء إلى غير سبيل ، وقد أقرّ مع معصيته لربّه بربوبيّته( [10]) .

فأوّل عدوّ للإنسان هو الشيطان ، وكلّما كثر إيمان الشخص كثرت عداوة الشيطان له .

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ الشياطين أكثر على المؤمنين من الزنابير على اللحم » .

ويقول (عليه السلام) : « لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور ، فما يقصد فيها إلاّ أولياءنا » .

ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « إذا مات المؤمن خلّي على جيرانه من الشياطين عدد ربيعة ومضر كانوا مشتغلين به » .

فإنّ ربيعة ومضر من أكبر القبائل العربية ، فذكرهما كناية عن الكثرة ، أي الآلاف المؤلفة من الشياطين يحومون حول دار المؤمن من اليوم الأوّل من ولادته ، وحتّى اليوم الأخير يوم رحلته من هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها ، فإنّ شغلهم هو غواية المؤمن وإضلاله ، وإذا مات فإنّهم ينتقلون إلى مؤمن آخر ، وهكذا حتّى اليوم المعلوم .

ثمّ ورد في الخبر النبوي الشريف : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم( [11]) .

قال القمّي في سفينته : الشيطان فيعال من شطن إذا تباعد ، فكأ نّه يتباعد إذا ذكر

الله تعالى ، وقيل : إنّه فعلان من شاط يشيط إذا احترق غضباً ، لأ نّه يحترق ويغضب إذا أطاع العبد ، فيقول (صلى الله عليه وآله) : إنّ الشيطان لا يزال يراقب العبد ويوسوس في نومه ويقظته ، وهو جسم لطيف هوائي يمكنه أن يصل إلى ذلك ، والإنسان غار غافل ، فيوصل كلامه ووسواسه إلى باطن اُذنه فيصير إلى قلبه ، والله تعالى هو العالم بكيفيّة ذلك ، فأمّا وسواسه فلا شكّ فيه ، والشيطان هنا اسم جنس ولا يريد به إبليس وحسب ، وذلك لأ نّه له أولاد وأحفاد .

قال المجلسي عليه الرحمة : لا خلاف بين الإمامية بل بين المسلمين في أنّ الجنّ والشياطين أجسام لطيفة يُرَون في بعض الأحيان ، ولا يرون في بعضها ، ولهم حركات سريعة وقدرة على أعمال قوية ، ويجرون في أجساد بني آدم مجرى الدم ، وقد يشكّلهم الله بحسب المصالح بأشكال مختلفة وصور متنوّعة ، كما ذهب إلى هذا القول علم الهدى السيّد المرتضى عليه الرحمة ، وجعل الله لهم القدرة على ذلك كما هو الأظهر من الأخبار .

والكافي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ما من قلب إلاّ وله اُذنان على أحدهما ملك مرشد وعلى الآخر شيطان مفتّن ، هذا يأمره وهذا يزجره : الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها ، وهو قول الله عزّ وجلّ : ( عَنِ الَيمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْل إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ( [12]) .

قلب الإنسان مثال بيت له أبواب تنصب إليها الأحوال من كلّ باب ، وكالمرآة تمرّ عليها صور مختلفة ، وهي التي تسمّى بالخواطر المحرّكة للرغبة

، وإنّها تنقسم إلى خواطر خير ، وهي ما تدعو إلى الخير ما ينفع في الآخرة وهي خواطر نوريّة ، وخواطر شرّ وما يضرّ في العاقبة وهي خواطر ناريّة ، والأوّل يسمّى بالخاطر المحمود ، ويسمّى إلهاماً ، والثاني بالخاطر المذموم ويسمّى وسواساً ، ولكلّ حادث سبب ، وسبب الأوّل يسمّى ملكاً ، وسبب الثاني يسمّى شيطاناً ، واللطف الذي به يتهيّأ القلب لقبول إلهام الملك يسمّى توفيقاً ، والذي به يتهيّأ لقبول وسواس الشيطان يسمّى إغواء وخذلاناً ، فإنّ المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة .

والملك عبارة عن خلق خلقه الله شأنه إفاضة الخير ، وإفادة العلم ، وكشف الحقّ والوعد بالمعروف ، وقد خلقه الله وسخّره لذلك ، والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضدّ ذلك ، وهو الوعد بالشرّ والأمر بالفحشاء ، والتخويف عند الهمّ بالخير بالفقر ، والوسوسة في مقابلة الإلهام ، والشيطان في مقابلة الملك ، والتوفيق في مقابلة الخذلان ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :

( وَمِنْ كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( [13]) .

فإنّ الموجودات كلّها متقابلة مزدوجة إلاّ الله تعالى فإنّه لا مقابل له ، بل هو الواحد الحقّ الخالق للأزواج كلّها .

ثمّ هذا الصراع بين الحقّ والباطل ، والنور والظلمة ، والخير والشرّ ، والفضائل والرذائل ، كان من بدو الخلقة ولا يزال ، وسيبقى إلى اليوم المعلوم ، وكان معسكر الحقّ والخير يتمثّل بآدم (عليه السلام) ، ومعسكر الشرّ والباطل يتمثّل بإبليس ، ولكلّ موسى فرعون .

والقلب الإنساني متجاذب بين الشيطان والملك ، بين الحقّ والباطل ، وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : للقلب لمّتان ، لمّة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحقّ ،

فمن وجد ذلك فليعلم أ نّه من الله فليحمد الله ، ولمّة من العدوّ إيعاد بالشرّ وتكذيب الحقّ ، ونهي عن الخير ، فمن وجد ذلك فليتعوّذ من الشيطان ، ثمّ تلا : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ) ( [14]) .

ثمّ من العدل الإلهي يكون القلب بأصل الخلقة والفطرة صالحاً لقبول آثار الملائكة والشياطين على حدّ سواء ، وإنّما يترجّح أحدهما على الآخر باتّباع الهوى والشهوات والغضب ، فإنّه باتباع الهوى وطول الأمل يظهر تسلّط الشيطان عليه ، ويصير القلب عشّه ومعدنه ، فإنّ الهوى مرعاه ومرتعه ، وإن جاهد الشهوات وتشبّه بأخلاق الملائكة صار قلبه مستقرّ الملائكة ومهبطهم .

ولمّا كان القلب لا يخلو من الصفات الرذيلة صار ميداناً لوسوسة الشيطان ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ما منكم من أحد إلاّ وله شيطان .

وإذا كان العقل هو الحاكم في وجود الإنسان فلا تكون الشهوة إلاّ فيما ينبغي وإلى الحدّ الذي ينبغي ، فلا تدعوه إلى الشرّ ، فيكون مهبط الملائكة ، وإذا غلب على القلب حبّ الدنيا وذكرها ومقتضيات الهوى ، فإنّ الشيطان يجد مجالا لوسوسته وإغوائه .

فكلمّا انصرف القلب لذكر الله تباعد الشيطان ووسوسته ، وأقبل الملك وإلهامه ، فالعراك بين جنود الملائكة وجنود الشياطين ، بين جنود العقل وجنود الجهل في ميادين القلب دائم إلى أن يتغلّب أحدهما على الآخر ، وأكثر القلوب قد فتحها جنود الشيطان وملكوها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة على الآخرة ، وتقديم الدنيا ونسيان ذكر الله ، ومبدأ استيلائها اتباع الهوى ، ولا يمكن فتح القلب بعدها إلاّ بتخلية القلب من الرذائل ، وجنود الشيطان بمخالفة الهوى وذكر الله وعبادته ، حتّى لا

يكون للشيطان سلطان :

( إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) ( [15]) .

وكلّ من اتّبع الهوى فهو عبد الهوى فيتسلّط عليه الشيطان :

( أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ ) ( [16]) .

ولا يمحو وسوسة الشيطان عن القلب إلاّ ذكر الله سبحانه ، ولا يعالج الشيطان إلاّ بضدّه ، وهو ذكر الله والاستعاذة من شرّ الوسواس الخنّاس :

( إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) ( [17]) .

قال مجاهد في قوله : ( مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ ) ( [18]) ، قال : هو منبسط على قلب الإنسان ، فإذا ذكر الله سبحانه خنس وانقبض ، وإذا غفل انبسط على قلبه ، فالتطارد بين ذكر الله ووسوسة الشيطان كالتطارد بين النور والظلام ، وبين الليل والنهار ، ولتطاردهما قال الله تعالى : ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ ) ( [19]) .

وفي الحديث : إنّ الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس ، وإن نسي الله التقم قلبه .

ولأجل اكتناف الشهوات بالقلب من جوانبه الأربعة :

( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) ( [20]) .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ الشيطان قعد لابن آدم في طرقه ، فقعد له بطريق الإسلام ، فقال له : أتسلم وتترك دينك ودين آبائك ؟ فعصاه فأسلم .

ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك ونساءك ؟ فعصاه فهاجر .

ثمّ قعد له بطريق الجهاد فقال : أتجاهد وهو تلف النفس والمال ؟ فتقاتل فتقتل فتنكح نساؤك وتقسم مالك ؟ فعصاه فجاهد

.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فمن فعل ذلك فمات كان حقّاً على الله أن يدخله الجنّة .

فالشيطان هو العدوّ الأوّل للإنسان ، وقد عرّفه الله سبحانه وعرّف عداوته في مواضع كثيرة من كتابه الكريم ليؤمن به ويحترز عنه فقال تعالى :

( إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أصْحَابِ السَّعِيرِ ) ( [21]) .

فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدوّ عن نفسه وعياله :

( قُوا أنفُسَكُمْ وَأهْلِيكُمْ نَاراً ) ( [22]) .

وينبغي أن يسأل عن كيفية الخلاص من عدوّه المبين ، وما هي الأسلحة التي تهلكه وتبعده عنه .

وهذا ما ستقف عليه في هذه العجالة إن شاء الله تعالى .

وعن الكافي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : إنّ للقلب اُذنين ، فإذا همّ العبد بذنب قال له روح الإيمان : لا تفعل ، أو قال له الشيطان : افعل ! وإذا كان على بطنها _ أي المرأة المزني بها _ نزع منه روح الإيمان( [23]) .

قال العلاّمة المجلسي في بيان هذا الخبر الشريف : للنفس طريق إلى الخير وطريق إلى الشرّ ، وللخير مشقّة حاضرة زائلة ، ولذّة غائبة دائمة ، وللشرّ بعكس ذلك لذّة حاضرة فانية ، ومشقّة غائبة باقية ، والنفس _ لنزعتها المادية _ تطلب اللذّة وتهرب عن المشقّة ، فهي دائماً متردّدة بين الخير والشرّ ، فروح الإيمان يأمره بالخير ، وينهاه عن الشرّ ، والشيطان بالعكس .

وبالنسبة إلى روح الإيمان ذكروا وجوهاً :

1 _ أن يكون المراد به الملك ، كما صرّح به في بعض الأخبار وسمّي بروح الإيمان لأ نّه مؤيّد له ، وسبب لبقائه ، فكأ نّه روحه

وبه حياته .

2 _ أن يراد به العقل ، فإنّه أيضاً كذلك ، ومتى لم يغلب الهوى والشهوات النفسانية العقل ، لم يرتكب الخطيئة ، فكأنّ العقل يفارقه في تلك الحالة .

3 _ أن يراد به الروح الإنساني من حيث اتّصافه بالإيمان ، فإنّها من هذه الجهة روح الإيمان ، فإذا غلبها الهوى ولم يعمل بمقتضاها فكأ نّها فارقته .

4 _ أن يراد به قوّة الإيمان وكماله ونوره ، فإنّ كمال الإيمان باليقين ، واليقين بالله واليوم الآخر لا يجتمع مع ارتكاب الكبائر والذنوب الموبقة ، فمفارقته كناية عن ضعفه ، فإذا ندم بعد انكسار الشهوة ممّا فعل وتفكّر في الآخرة وبقائها وشدّة عقوباتها وخلوص لذّاتها يقوى يقينه فكأ نّه يعود إليه .

5 _ أن يراد به نفس الإيمان وتكون الإضافة للبيان ، فإنّ الإيمان الحقيقي ينافي ارتكاب موبقات المعاصي ، كما اُشير إليه بقولهم (عليهم السلام) : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » ، فإنّ من آمن وأيقن بوجود النار وإيعاد الله تعالى على الزنا أشدّ العذاب فيها ، كيف يجترئ على الزنا وأمثالها ، إذ لو أوعده بعض الملوك على فعل من الأفعال ضرباً شديداً أو قتلا بل ضرباً خفيفاً أو إهانة وعلم أنّ الملك سيطّلع عليه لا يرتكب هذا الفعل ، وكذا لو كان صبي من غلمانه أو ضعيف من بعض خدمه _ فكيف الأجانب _ حاضراً لا يفعل الاُمور القبيحة ، فكيف يجتمع الإيمان بأنّ الملك القادر القاهر الناهي الآمر المطّلع على السرائر ولا يخفى عليه الضمائر ، مع ارتكاب الكبائر بحضرته ، وهل هذا إلاّ من ضعف الإيمان ، ولذا قيل : الفاسق إمّا كافر أو مجنون

.

6 _ أن يقال : في الكافر ثلاثة أرواح هي موجودة في الحيوانات ، وهي الروح الحيوانية والقوّة البدنية والقوّة الشهوانية ، فإنّهم ضيّقوا الروح _ الإيمانية _ التي بها يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان وجعلوها تابعة للشهوات النفسانية والقوى البهيمية ، فإمّا أن تفارقهم بالكلّية كما قيل ، أو لمّا صارت باطلة معطّلة ، فكأ نّها فارقتهم ، ولذا قال تعالى :

( إنْ هُمْ إلاَّ كَالأ نْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبِيلا ) ( [24]) .

وفي المؤمنين أربعة أرواح ، فإنّه يتعلّق بهم روح يصيرون به أحياء بالحياة المعنوية الأبدية ، فهي مع الأرواح البدنية تصير أربعاً ، وفي الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) روح خامس : هو روح القدس ، وهذا على بعض الوجوه قريب من الوجه الثالث .

والحاصل : أنّ الإنسان في بدو الأمر عند كونه نطفة جماد ، ولها صورة جمادية ثمّ يترقّى إلى درجة النباتات ، فتتعلّق به نفس نباتية ، ثمّ يترقّى إلى أن تتعلّق به نفس حيوانية هي مبدأ للحسّ والحركة ، ثمّ يترقّى إلى أن يتعلّق به روح آخر هو مبدأ الإيمان ، ومنشأ سائر الكمالات ، ثمّ يترقّى إلى أن يتعلّق به روح القدس فيحيط بجميع العوالم ، ويصير محلا للإلهامات الربانية والإفاضات السبحانية .

وقال بعضهم بناءً على القول بالحركة في الجوهر _ كما عند صدر المتألهين الشيرازي _ أنّ الصورة النوعية الجمادية المنويّة تترقّى وتتحرّك إلى أن تصير نفساً نباتية ، ثمّ تترقّى إلى أن تصير نفساً حيوانية ، وروحاً حيوانياً ، ثمّ تترقّى إلى أن تصير نفساً مجرّداً على زعمه مدركة للكليات ، ثمّ تترقّى إلى أن تصير نفساً قدسياً ، وروح القدس على زعمه يتّحد

بالعقل .

هذا ما حضر لي ممّا يمكن أن يقال في حلّ هذه الأخبار ، باختلاف مسالك العلماء ومذاهبهم في تلك الاُمور ، والأوّل أظهر على قواعد متكلّمي الإمامية وظواهر الأخبار ، والله المطّلع على غوامض الأسرار ، وحججه صلوات الله عليهم ما تعاقب الليل والنهار _ انتهى كلامه رفع الله مقامه .

وعن الكافي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : ما من مؤمن إلاّ ولقلبه اُذنان في جوفه : اُذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس ، واُذن ينفث فيها الملك ، فيؤيّد الله المؤمن بالملك ، وذلك قوله : ( وَأيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ ) ( [25]) .

فالإنسان له قلب صنوبري في قفص صدره على الجانب الأيسر يضخّ منه الدم ، ومن ورائه قلب معنوي ، إمّا أن يكون حرم الله ، أو يسرقه الشيطان فيعشّش فيه ويفرّخ ، فيصير بيت الشيطان ، فقلب الإنسان إمّا حرم الرحمان وعرشه أو بيت الشيطان وعشّه( [26]) ، ثمّ له اُذنان ، إحداهما للرحمن ، فما يسمع بها يكون من الإلهام ، والاُخرى للشيطان ، وما يسمع بها يكون من الوسواس ، فالإنسان دائماً بين جذبتين ودعوتين : جذبة ودعوة الرحمن ، وجذبة ودعوة الشيطان ، وأخيراً إمّا أن يكون رحمانياً إلهيّاً أو شيطانياً إبليسياً ، وهذا الصراع مع الإنسان منذ اليوم الأوّل ، فهو بين نزعتين : نزعة مثالية توحيدية ، ونزعة مادّية كفريّة . فالحاكم في وجوده إمّا الحقّ والخير والنور فيسعد في الدارين ، وإمّا الباطل والشرّ والظلام فيشقى في الدنيا والآخرة . شاءت حكمة الله ذلك ، ولن تجد لسنّة الله تبديلا ولا تحويلا .

ثمّ هذا الكتاب الذي بين يديك يحتوي بعد المقدّمة

على فصول وخاتمة ، ومن الله التوفيق والتسديد ، وهو خير ناصر ومعين .

وعلى الإنسان أن يعتبر من كلّ شيء حيّ ، ومن الشيطان وما جرى عليه ، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : « فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ( الجميل ) وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يدرى أمِن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة عن كِبر ساعة واحدة » .

وعلينا أن نعبد الله كما أراد سبحانه وكما أمر ونهى ، لا كما تشتهي أنفسنا ، وكما نرتأيه وكما يحلو لنا ، فإنّ بعض الناس عندما يضرّه الصوم ويحرم عليه ذلك ، يقول قلبي يريد الصوم ، وكأ نّما إرادته مقدّمة على إرادة الله سبحانه ، وهذا من الشيطان أيضاً .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : أمر الله إبليس بالسجود لآدم فقال : يا ربّ ، وعزّتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادةً ما عبدك أحد قطّ مثلها ، قال الله جلّ جلاله : إنّي اُحبّ أن اُطاع من حيث اُريد .

الفصل الأوّل

معالم الشيطان

إذا أردنا أن نعرف الأشياء ، فإمّا أن نعرفها بنفسها وبالمباشرة ، ونقف على العلّة ابتداءً ومن دون واسطة ، أو نعرف الشيء من خلال آثاره ومعلولاته ، فتارةً نرى الشمس ، واُخرى نحسّ بحرارتها وأشعّتها ، وإنّما نعرف الأشياء بنفسها لو كانت في حوزتنا وفي حيّز حواسّنا الظاهريّة ، كما لو كانت من الأجسام ، أمّا لو كانت من المجرّدات كالعقل ، فإنّما نعرفه ونعلم به من خلال آثاره ومعالمه ومعاليله ، وهذا أمر واضح لا غبار عليه .

وحينئذ لمّا لم نتمكّن من معرفة

عدوّنا الأوّل وهو الشيطان مباشرةً ووجهاً لوجه ، فلا بدّ أن نعرفه من خلال معالمه وآثاره ، وإنّما نتغلّب على العدوّ لو عرفناه أوّلا ، وعرفنا ما عنده من السلاح ، ومن العُدّة والعِدّة ، وعرفنا مخطّطاته وجنوده وأعوانه من الجنّ والإنس .

وإنّما يعرف حقيقة الشيطان وواقعه ، من كان صانعه وخالقه ومحيطاً به ، وهو الله سبحانه وتعالى ، فإذا أردنا أن نعرف الشيطان فإنّما نعرفه حقّاً بتعريف وتوصيف من الله عزّ وجلّ ، ومن ثَمّ إنّما نقف على حقيقة عدوّنا الأوّل من خلال القرآن الكريم كتاب الله الحكيم أوّلا ، وثانياً من خلال أقوال النبيّ الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين .

وإليك بعض المعالم لمعرفة الشيطان ، فاعرف عدوّك حتّى تعرف كيف تحاربه وتنتصر عليه ، والله المستعان .

( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) ( [27]) .

( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أ نْفُسَكُمْ ) ( [28]) .

قال الإمام الكاظم (عليه السلام) في وصيّته لهشام :

فله _ أي لإبليس _ فلتشتدّ عداوتك ، ولا يكوننّ أصبر على مجاهدته لك منك على صبرك لمجاهدته ، فإنّه أضعف منك ركناً في قوّته ، وأقلّ منك ضرراً في كثرة شرّه ، إذ أنت اعتصمت بالله فقد هديتَ إلى صراط مستقيم .

قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) :

قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدباراً ، ولا الشرّ فيه إلاّ إقبالا ، ولا الشيطان في هلاك الناس إلاّ طمعاً ، فهذا أوان قويت عدّته ، وعمّت مكيدته

، وأمكنت فريسته( [29]) .

( لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلاُضِلَّنَّهُمْ وَلاُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأ نْعَامِ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً ) ( [30]) .

قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) :

يا كميل ، إنّ إبليس لا يعِد عن نفسه وإنّما يعِد عن ربّه ، ليحملهم على معصيته فيورّطهم .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) :

لمّا نزلت هذه الآية : ( وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ) ( [31]) ، صعد إبليس جبلا بمكّة يقال له ثور ، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه ، فقالوا : يا سيّدنا لِمَ دعوتنا ؟ قال : نزلت هذه الآية فمن لها ؟ فقام عفريت من الشياطين فقال : أنا لها بكذا وكذا ، فقال : لست لها ، فقام آخر فقال مثل ذلك ، فقال : لست لها ، فقال الوسواس الخنّاس : أنا لها ، قال : بماذا ؟ قال : أعدهم واُمنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة ، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار ، فقال : أنت لها . فوكّله بها إلى يوم القيامة .

وقال (عليه السلام) : إنّ الشيطان يدير ابن آدم في كلّ شيء ، فإذا أعياه جثم له عند المال فأخذ برقبته .

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :

إنّ الشيطان يُسنّي لكم طريقه ، ويريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم بالجماعة الفُرقة .

وعنه (عليه السلام) : الشيطان موكّل به _ أي العبد _ يزيّن له المعصية ليركبها ، ويمنّيه التوبة ليسوّفها .

وأمّا معالم الشيطان وعوالمه فهي كثيرة ، أهمّها :

1 _ دعوة الشيطان ووعوده :

قال الله تعالى :

( إنَّمَا يَأمُرُكُمْ بِالسُّوءِ

وَالفَحْشَاءِ وَأنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( [32]) .

( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا ) ( [33]) .

( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ) ( [34]) .

( إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنتَهُونَ ) ( [35]) .

( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللهَ وَعَدَ كُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أ نْفُسَكُمْ مَا أ نَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أ نْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ ) ( [36]) .

وعن جابر الأنصاري عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، قال : كان إبليس أوّل من ناح ، وأوّل من تغنّى ، وأوّل من حدا ، قال : لمّا أكل آدم من الشجرة تغنّى ، فلمّا اُهبط حدا به ، فلمّا استقرّ على الأرض ناح ، فأذكره ما في الجنّة ، فقال آدم : ربّ هذا الذي جعلت بيني وبينه العداوة لم أقوَ عليه وأنا في الجنّة ، وإن لم تعنّي عليه لم أقوَ عليه ، فقال الله : السيّئة بالسيّئة والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ، قال : ربّ زد لي ؟ قال : لا يولد لك ولد إلاّ جعلت معه ملكاً أو ملكين يحفظانه ، قال : ربّ زدني ؟ قال : التوبة مفروضة في الجسد ما دام فيها الروح ، قال : ربّ زدني ؟ قال : أغفر الذنوب ولا اُبالي ، قال : حسبي . قال : فقال إبليس : ربّ هذا الذي كرّمت

عليّ وفضّلته وإن لم تفضّل عليّ لم أقوَ عليه ، قال : لا يولد له ولد إلاّ ولد لك ولدان ، قال : ربّ زدني ؟ قال : تجري منه مجرى الدم في العروق ، قال : ربّ زدني ؟ قال : تتّخذ أنت وذرّيتك في صدورهم مساكن ، قال : ربّ زدني ؟ قال : تعدهم وتمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلاّ غروراً( [37]) .

وعن أبي عبد الرحمن ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ربما حزنت فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد ، وربما فرحت فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد ، فقال : إنّه ليس من أحد إلاّ ومعه ملك وشيطان ، فإذا كان فرحه كان دنوّ الملك منه ، وإذا كان حزنه كان دنوّ الشيطان منه ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( [38]) .

قال العلاّمة المجلسي في بيانه : كان المراد أنّ هذا الهمّ لأجل وساوس الشيطان ، لكنّه لا يتفطّن به الإنسان فيظنّ أ نّه بلا سبب . أو المراد : أ نّه لمّا كان شأن الشيطان يصير محض دنوّه سبباً للهمّ ، أو أراد السائل عدم كونه لفوت تلك الاُمور في الماضي ويجري جميع الاُمور في الملك أيضاً .

وقال (عليه السلام) : ما من قلب إلاّ وله اُذنان على أحدهما ملك مرشد ، وعلى الآخر شيطان مفتّن ، هذا يأمره وهذا يزجره ، الشيطان يأمره بالمعاصي ، والملك يزجره عنها ، وهو قول الله عزّ وجلّ : ( عَنِ الَيمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ

مِنْ قَوْل إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ( [39]) .

وقال (عليه السلام) : إنّ للقلب اُذنين ، فإذا همّ العبد بذنب قال له روح الإيمان : لا تفعل ، وقال له الشيطان : افعل ، وإذا كان على بطنها نزع منه روح الإيمان( [40]) .

فكلّ واحد بالوجدان يحسّ في نفسه وقلبه أنّ هناك دعوتين : دعوة رحمانية إلى الخير والعمل الصالح ، ودعوة شيطانية إلى الشرّ والعمل الطالح ، فبين إلهام ووسواس ، وصراع بين الحقّ والباطل ، بين النور والظلام ، بين الخير والشرّ ، بين الوجود والعدم .

2 _ حزب الشيطان وجنوده :

إنّ للشيطان الرجيم حزب وأعوان وجنود من الجنّ والإنس كما قال سبحانه :

( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالغَاوُونَ * وَجُنُودُ إبْلِيسَ أجْمَعُونَ ) ( [41]) .

وقد ورد في الخبر الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ليس لإبليس جند أشدّ من النساء والغضب( [42]) .

أي يتسلّط على الإنسان بعاملين أساسيين ، أحدهما من الخارج وهم النساء ، والآخر من الداخل وهو الغضب .

من كتاب لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) إلى الحارث الهمداني : احذر الغضب فإنّه جند عظيم من جنود إبليس .

وقال (عليه السلام) : اتّخذوا التواضع مسلحةً بينكم وبين عدوّكم إبليس وجنوده ، فإنّ له من كلّ اُمّة جنوداً وأعواناً ورجلا وفرساناً .

وقال (عليه السلام) : ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم ، ولا تطيعوا الأدعياء ، اتّخذهم إبليس مطايا ضلال وجنداً بهم يصول على الناس ، وتراجمة ينطق على ألسنتهم( [43]) .

( إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أصْحَابِ السَّعِيرِ ) ( [44]) .

وحزب الشيطان من كان في خطّه كناكثي البيعة في صدر الإسلام

، ففي الخبر الصادقي (عليه السلام) في قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) في غدير خم : « من كنت مولاه فعليٌّ مولاه » : فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر ، وحثّوا التراب على رؤوسهم ، فقال لهم إبليس : ما لكم ؟ قالوا : إنّ هذا الرجل قد عقد اليوم عقدة لا يحلّها شيء إلى يوم القيامة ، فقال لهم إبليس : كلاّ ، إنّ الذين حوله قد وعدوني فيه عدة لن يخلفوني ، فأنزل الله على رسوله : ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إ بْلِيسُ ظَنَّهُ ) ( [45]) .

ثمّ المقصود من الحزب هو المعنى اللغوي ، أي بمعنى الجماعة ، فحزب الشيطان يعني جماعة الشيطان وأتباعه ، وأمّا المعنى المصطلح ، الذي كان أساسه من رجل يهودي في القرن الثامن عشر الميلادي فإنّه بمعنى الاخطبوطي أو الخيوط التي تمتدّ إلى رأس واحد ، أو بمعنى الشكل الهرمي كالجبل الذي له قمّة وقاعدة ، ومن ثمّ تكون هناك كوادر حزبية وحلقات حزبية بين القمّة والقاعدة ، يضمّهم نظام حزبي خاصّ ، لهم أهداف وبرامج خاصة للوصول إلى أهدافهم الحزبيّة ، وهذا المعنى ينطبق على الحزب الشيطاني كما يلي :

تأريخ تأسيس الحزب :

يرجع تأريخه إلى بدء خلق آدم نبيّ الله أبي البشر (عليه السلام) ، وقد هبط مع آدم وحوّاء على الأرض ليكون عدوّاً لهما ولذرّيتهما إلى اليوم المعلوم .

أمير سرّ الحزب :

الاسم واللقب : الاسم ( إبليس ) وقد ذكر في القرآن الكريم ( 11 ) مرّة ، واشتهر باسم ( الشيطان ) ، وقد ذكر في القرآن ( 88 ) مرّة بصيغة الجمع والمفرد ، واللقب ( الرجيم ) ، وقد ذكر في

القرآن ( 6 ) مرّات ، وهو من طائفة الجنّ ، ومقصوده إغواء الإنسان وهلاكه إلى يوم القيامة .

ومن أخلاقياته أ نّه :

1 _ متكبّر :

( قَالَ أأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) ( [46]) .

2 _ يخلف الوعد :

( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلإنسَانِ ا كْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنِّي أخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ) ( [47]) .

( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللهَ وَعَدَ كُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أ نْفُسَكُمْ ) ( [48]) .

3 _ يوسوس إلاّ أنّ كيده كان ضعيفاً :

( إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) ( [49]) .

ومع الشياطين من صنفه :

أحدهم يوحي إلى الآخر :

( وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) ( [50]) .

رموز توفيقاته الحزبية :

التسلّط على الإنسان من خلال نقاط ضعفه :

1 _ يضلّ الناس :

( قَالَ رَبِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي لاَُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ ) ( [51]) .

2 _ يزيّن لهم أعمالهم :

( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( [52]) .

3 _ يتسلّط عليهم من طريق البطن :

( كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) ( [53]) .

4 _ يخوّفهم بالفقر :

( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( [54]) .

5 _ يخوّفهم بالحرب ونتائجها :

( إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ( [55]) .

6 _ الاستفادة من الوسائل الخطرة :

( يَا أ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( [56]) .

( إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ) ( [57]) .

7 _ الوسوسة في الصدور :

( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا ) ( [58]) .

( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) ( [59]) .

8 _ النجوى وإيذاء المؤمنين :

( إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ( [60]) .

9 _ الأولاد والأموال :

( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ) ( [61]) .

10 _ رَصد طرق الهداية ليضلّ الناس :

( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ ) ( [62]) .

11 _ الهجوم المضاعف :

( ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) ( [63]) .

12 _ تخريب العلاقات :

( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً ) ( [64]) .

العلاقات الحزبية :

1 _ مع الله سبحانه :

غير شاكر :

( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) ( [65]) .

يعصي الله :

( إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً ) ( [66]) .

2 _ مع عامة الناس :

لهم قرين :

( وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ) ( [67]) .

الكادر والقيادة المركزية :

1 _ المبذّرون :

( إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) ( [68]) .

2 _ الكفّار :

( إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( [69]) .

3 _ المرتدّون عن الحقّ :

( إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأمْلَى لَهُمْ ) ( [70]) .

4 _

المنافقون :

(

اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ اُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ) ( [71]) .

5 _ الناسون ذكر الله :

( فَأنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) ( [72]) .

6 _ المكذّبون :

( هَلْ اُ نَبِّؤُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أفَّاك أثِيم ) ( [73]) .

7 _ لاعب القمار والسكّير :

( إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( [74]) .

8 _ المذنبون :

( كُلِّ أفَّاك أثِيم ) ( [75]) .

9 _ الذين يحاربون الحقّ :

( وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) ( [76]) .

وأمّا نظام الحزب :

1 _ مع الله : عدم الإطاعة وعدم الشكر :

( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) ( [77]) .

( إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً ) ( [78]) .

2 _ مع الأنبياء : المحاربة .

3 _ مع الناس : الكذب والخدعة وزينة الدنيا ونسيان الله والقيامة .

وأمّا الأهداف الحزبية :

1 _ الخذلان :

( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولا ) ( [79]) .

2 _ الفقر :

( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ) ( [80]) .

3 _ الانحراف عن الحقّ :

( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيداً ) ( [81]) .

4 _ ترويج وإشاعة الفحشاء والمنكر :

( وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ ) ( [82]) .

5 _ محاربة الحقّ :

( لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) ( [83]) .

وأمّا الأوامر الحزبيّة والدساتير التي يمليها الشيطان على قاعدة حزبه ، ومن يدور في فلك الحزب ، فمنها :

1 _ الأمر بالمنكرات والمعاصي :

( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ ) ( [84]) .

2 _ نسيان الله :

( فَأنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) ( [85]) .

3 _ الوساوس :

( فَوَسْوَسَ

لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا ) ( [86]) .

4 _ التفرقة والاختلاف :

( إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ ) ( [87]) .

5 _ تزيين القبائح :

( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( [88]) .

6 _ الأماني والوعود الباطلة :

( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ) ( [89]) .

7 _ الإسراف والتبذير :

( إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) ( [90]) .

وأمّا انطباع الناس واتجاههم بالنسبة إلى الحزب الشيطاني ومقدار تفاعلهم : فهم على طوائف ثلاثة :

1 _ المخلصون : فإنّهم لا يدخلون في الحزب ، بل يحاربونه ، ولا يقدر الشيطان على إغوائهم وجذبهم إلى حزبه :

( وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ ) ( [91]) .

2 _ المسلمون : إنّ الشيطان يحاول أن يجرّهم إلى الحزب ، فيوسوس لهم ، ويأتيهم بسياسة قدم بقدم وخطوة خطوة _ كما سنذكر تفصيل ذلك _ فمنهم من يسمع نجواه ويدخل في حزبه ، ومنهم من ينكر عليه ذلك ويدخل في زمرة المخلصين ، وهم حزب الله سبحانه وهم قليلون :

( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ ) ( [92]) .

وإلاّ فإنّ أكثر الناس من حزب الشيطان :

( وَأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ( [93]) .

فالشيطان مع هؤلاء في جزر ومدّ :

( يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) ( [94]) .

3 _ المنافقون والكفّار : فإنّ الشيطان استحوذ عليهم وأدخلهم في حزبه فكانوا من أوليائه وأنصاره :

( إنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ ) ( [95]) .

( وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيَائِهِمْ ) ( [96]) .

فهذا هو حزب الشيطان ومرامه ونظامه ، ومثله الأحزاب الشيطانية المستوردة من الشرق أو

الغرب ، فاحذره كلّ الحذر ، ولا تثني عزيمتك في خلافهم ونضالهم ومحاربتهم حتّى القضاء عليهم ، ولا بدّ من نصرة الحقّ وخذلان الباطل ، وهناك من لم ينصر الباطل إلاّ أ نّه يخذل الحقّ عندما يكون في حياد عنه كعبد الله بن الحرّ في قصّة كربلاء .

3 _ شرك الشيطان وحبائله :

إنّ الشيطان اللعين يشارك الإنسان في كلّ شيء حتّى في الأولاد والأموال كما قال سبحانه :

( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ) ( [97]) .

وقال إبليس لنوح نبيّ الله : اذكرني في ثلاثة مواطن ، فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في إحداهن : اذكرني إذا غضبت ، واذكرني إذا حكمت بين اثنين ، واذكرني إذا كنت مع امرأة خالياً ليس معكما أحد( [98]) .

ومن عوامل مشاركة الشيطان مع الإنسان هو ترك التسمية بالله سبحانه في مقدّمة أعماله ، كما أ نّه من ترك البسملة فإنّ عمله مبتور أي مقطوع البركة ، فكلّ عمل لم يذكر فيه اسم الله فهو أبتر ، كما ورد في الخبر .

4 _ صوت الشيطان وخيله :

إنّ للقلب اُذنان : اُذن يهمس فيه الشيطان وأعوانه ليرتكب الإنسان الأعمال القبيحة والمعاصي والذنوب ويفتر عن الواجبات والعبادات ، واُذن اُخرى تهمس فيها الملائكة لهداية الناس :

( فَأ لْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) ( [99]) .

فالإنسان بين دعوتين ، وإنّه دائماً في صراع ملائكي وشيطاني حتّى يتغلّب أحدهما على الآخر باختيار الإنسان ، فهديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً ، وليس للإنسان إلاّ ما سعى ، وإنّ سعيه سوف يُرى .

فالشيطان يأتي الإنسان بصوته ، وربما بعض يسمع ذلك الصوت ويحسّ بوحي الشيطان ، فإنّ

الشياطين يوحون إلى أوليائهم ، فيستفزّ اُولئك الذين يتبعونه .

والله سبحانه يقول :

( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ) ( [100]) .

5 _ سعة ميدان عمل الشيطان :

إنّ الشيطان اُعطي له بحكمة من الله سبحانه صلاحيات وسيعة ، وميادين طوليّة وعرضيّة ، من أجل إضلال بني آدم ، فإنّه من اليوم الأوّل ، وقبل الهبوط إلى الأرض قد دخل في عروق آدم ، وتسلّط على بدنه إلاّ القلب ، فإنّ الله منعه عن ذلك ، إذ جعل قلب المؤمن حرمه وعرشه سبحانه ، فهو محلّ علمه وأنواره القدسيّة ، وإنّه مرآة الحقائق ومهبط الألطاف الإلهيّة الخفيّة .

فالشيطان بسط يده في غيّ الإنسان وانحرافه عن الصراط المستقيم ، فإنّه يأتيه من الجهات الأربعة : من خلفه ومن بين يديه ، وعن يمينه وشماله ، يوسوس له بكلّ شيء ، حتّى بالدين ليخرجه عن الدين ، ويقسم بالله كذباً إنّه لمن الناصحين ، فميدان عمل الإنسان وسيع جدّاً . فقال لعنه الله أبد الآبدين في مقام المخاصمة مع ربّ العالمين :

( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) ( [101]) .

وقد ورد في الخبر الشريف عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : الصراط الذي قال إبليس هو علي (عليه السلام) ( [102]) .

كما أنّ من ميدانية الشيطان الوسيعة أن يطمع في إضلال كلّ الخلق حتّى الأنبياء والأولياء .

قال الصادق (عليه السلام) : جاء إبليس إلى موسى بن عمران (عليه السلام) وهو يناجي ربّه ، فقال له ملك

من الملائكة : ما ترجو منه وهو في هذه الحال يناجي ربّه ؟ فقال : أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم( [103]) .

ومقصود الشيطان هو إغواء كلّ الناس ، إلاّ أ نّه قد فرغ عن الكثير فبقي القليل القليل ، وهم المؤمنون حقّاً أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، كما أخبر بذلك الإمام الباقر (عليه السلام) حيث قال زرارة : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : قوله : ( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) ( [104]) ؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام) : يا زرارة ، إنّما صمد _ عمد _ لك ولأصحابك ، فأمّا الآخرين فقد فرغ منهم( [105]) .

وإنّما يتسلّط على أبدانهم لا أديانهم وعقائدهم الحقّة ، فعن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سمعته يقول : ( فَإذَا قَرَأتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) ( [106]) ، قال : فقال : يا أبا محمّد ، يسلّط والله من المؤمنين على أبدانهم ولا يسلّط على أديانهم ، قد سلّط على أيوب فشوّه خلقه ، ولم يسلّط على دينه ، قلت له : قوله : ( إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) ؟ قال : الذين هم بالله مشركون يسلّط على أبدانهم وعلى أديانهم( [107]) .

وعن قتادة ، قال : لمّا هبط إبليس قال آدم : أي ربّ قد لعنته فما علمه ؟

قال : السحر . قال : فما قراءته ؟ قال : الشعر . قال : فما كتابته ؟ قال : الوشم . قال : فما طعامه ؟ قال : كلّ ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه . قال : فما شرابه ؟ قال : كلّ مسكر . قال : فأين مسكنه ؟ قال : الحمّام . قال : فأين مجلسه ؟ قال : الأسواق . قال : فما صوته ؟ قال : المزمار . قال : فما مصائده ؟ قال : النساء( [108]) .

قال رسول الله : قال إبليس لربّه تعالى : يا ربّ قد اُهبط آدم وقد علمت أ نّه سيكون كتب ورسل ، فما كتبهم ورسلهم ؟ قال : رسلهم الملائكة والنبيّون ، وكتبهم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، قال : فما كتابي ؟ قال : كتابك الوشم ، وقراءتك السحر ، ورسلك الكهنة ، وطعامك ما لم يذكر اسم الله عليه ، وشرابك كلّ مسكر ، وصدقك الكذب ، وبيتك الحمّام ، ومصائدك النساء ، ومؤذّنك المزمار ، ومسجدك الأسواق( [109]) .

وروي أنّ الله تعالى قال لإبليس : لا أخلق لآدم ذرّية إلاّ ذرأت لك مثلها ، فليس أحد من ولد آدم إلاّ وله شيطان قد قرن به( [110]) .

وقيل : إنّ الشياطين فيهم الذكور والإناث يتوالدون من ذلك ، وأمّا إبليس فإنّ الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكراً وفي اليسرى فرجاً فهو ينكح هذه بهذا ، فيخرج له كلّ يوم عشر بيضات ، يخرج من كلّ بيضة سبعون شيطاناً وشيطانة .

في الخبر الصادقي (عليه السلام) : والذي بعث بالحقّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) للعفاريت والأبالسة على المؤمن

أكثر من الزنابير على اللحم ، والمؤمن أشدّ من الجبل ، والجبل تدنو إليه بالفأس فتنحت منه ، والمؤمن لا يستقلّ من دينه( [111]) .

عن أبي جعفر (عليه السلام) : إنّ إبليس عليه لعائن الله يبثّ جنود الليل من حين تغيب الشمس وتطلع ، فأكثروا ذكر الله في هاتين الساعتين ، وتعوّذوا بالله من شرّ إبليس وجنوده وعوّذوا صغاركم من هاتين الساعتين فإنّهما ساعتا غفلة .

هذا باعتبار الزمان والمكان وكذلك الأشخاص ، ومن الروايات في ذلك ما جاء في تفسير العياشي : ما من مولود يولد إلاّ وإبليس من الأبالسة بحضرته ، فإن لم يكن من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) أثبت سبّابته في دبره ، فكان مأبوناً ، أو في فرجها فكانت فاجرة ، فعند ذلك يبكي الصبيّ والله بعد ذلك يمحو ما يشاء ويثبت( [112]) .

وهذا يعني أنّ غير الموالي لأهل البيت (عليهم السلام) فيه أرضية الفساد وسرعان ما يقع في مثل الزنا _ والعياذ بالله _ فإنّ حبّ أهل البيت (عليهم السلام) صمّام أمان من مثل هذه الكبائر والموبقات ، فتدبّر .

قال الله تعالى :

( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إ بْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلاَّ فَرِيقاً مِنَ المُؤْمِنِينَ ) ( [113]) .

( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلا ) ( [114]) .

قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : فاحذروا _ عباد الله _ عدوّ الله أن يعدكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد ، وأغرق إليكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب ، فقال : ( رَبِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي لاَُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ ) ( [115])

قذفاً بغيب بعيد ، ورجماً بظنّ غير مصيب ، صدّقه به أبناء الحميّة ، وإخوان العصبيّة ، وفرسان الكِبر والجاهلية .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ صَدَّقَ ) فصرخ إبليس صرخةً فرجعت إليه العفاريت فقالوا : يا سيّدنا ، ما هذه الصرخة الاُخرى ؟ فقال : ويحكم حكى الله والله كلامي قرآناً وأنزل عليه : ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إ بْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلاَّ فَرِيقاً مِنَ المُؤْمِنِينَ ) ثمّ رفع رأسه إلى السماء ثمّ قال : وعزّتك وجلالك لألحقنّ الفريق بالجميع . قال : فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : بسم الله الرحمن الرحيم ( إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) ( [116]) .

وإنّما سلّط الله الشيطان على الإنسان للابتلاء ، حتّى يميّز الخبيث من الطيّب ، ويعرف الحقّ من الباطل ، والخير من الشرّ .

قال الله تعالى :

( وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء حَفِيظٌ ) ( [117]) .

قال الإمام الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: ( لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلا ) ( [118]) ، أ نّه عزّ وجلّ خلق خلقه ليبلوهم بتكليف طاعته وعبادته ، لا على سبيل الامتحان والتجربة ، لأ نّه لم يزل عليماً بكلّ شيء .

ثمّ الشيطان اللعين بحكمة من الله اُنظر إلى يوم معلوم ، وإنّه يقتل على يد رسول الله وأمير المؤمنين (عليهما السلام) كما جاء في الخبر الصادقي (عليه السلام) : ذكر فيه قتال بين أمير المؤمنين (عليه السلام) في أصحابه وبين إبليس في أصحابه في أرض من أراضي الفرات قتالا لم يقتتل مثله ، منذ خلق

الله تعالى ، فيرجع أصحاب علي (عليه السلام) إلى خلفهم مائة قدم ، فتنزل الملائكة وقضي الأمر برسول الله (صلى الله عليه وآله) أمامه بيده حربة من نور ، فإذا نظر إليه إبليس رجع القهقرى ناكصاً على عقبيه ، فيقولون له أصحابه : أين تريد وقد ظفرت ؟ فيقول : ( إنِّي أرَى مَا لا تَرَوْنَ ) ( [119]) ، فيلحقه النبيّ (صلى الله عليه وآله) فيطعنه بين كتفيه فيكون هلاكه وهلاك جميع أشياعه ، فعند ذلك يعبد الله عزّ وجلّ ولا يشرك به شيئاً( [120]) .

وفي رواية : يذبح رسول الله إبليس على الصخرة التي كانت في بيت المقدس( [121]) .

وذكر مجاهد أنّ من ذرّية إبليس : لاقيس وولها وهو صاحب الطهارة والصلاة ، والهفاف وهو صاحب الصحاري ، ومرّة وبه يكنّى ، وزلنبور وهو صاحب الأسواق ويزيّن اللغو والحلف الكاذب ومدح السلعة ، وبئر وهو صاحب المصائب يزيّن خمش الوجوه ولطم الخدود وشقّ الجيوب ، والأبيض وهو الذي يوسوس للأنبياء ، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة ، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلّم ولم يذكر اسم الله تعالى دخل معه ، فإذا دخل الرجل بيته ولم يسلّم ولم يذكر الله ورأى شيئاً يكره فليقل : ( داسم داسم أعوذ بالله منه ) ، ومطرش وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ، ولا يكون لها أصل ولا حقيقة( [122]) .

والعلاّمة المجلسي له مباحث مفصّلة في بحاره عن الجنّ والملائكة والشياطين والفرق بينها وأحكامها وغير ذلك من الفوائد ، فراجع( [123]) .

الفصل الثاني

تمثّل الشيطان وحكاياته

خلق الشيطان من النار ، وإنّه من طائفة الجنّ ، فهو

عنصر ناري ليس فيه كثافة مادية ملموسة ومحسوسة ، إلاّ أ نّه بإمكانه أن يتمثّل بالأجسام وبالإنسان ، إلاّ الأنبياء والأوصياء .

قال العلاّمة المجلسي في بحاره : لا خلاف بين الإمامية بل بين المسلمين في أنّ الجنّ والشياطين أجسام لطيفة يرون في بعض الأحيان ولا يرون في بعضها ، ولهم حركات سريعة وقدرة على أعمال قويّة ، ويجرون في أجساد بني آدم مجرى الدم ، وقد يشكّلهم الله بحسب المصالح بأشكال مختلفة وصور متنوّعة كما ذهب إليه السيّد المرتضى (رضي الله عنه) أو جعل الله لهم القدرة على ذلك كما هو الأظهر من الأخبار والآثار .

قال صاحب المقاصد : ظاهر الكتاب والسنّة وهو قول أكثر الاُمة أنّ الملائكة أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة كاملة في العلم والقدرة على الأفعال الشاقة _ وساق الكلام إلى قوله _ : والجنّ أجسام لطيفة هوائية متشكّل بأشكال مختلفة ويظهر منها أفعال عجيبة ، منهم المؤمن والكافر والمطيع والعاصي ، والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء النفس في الفساد والغواية بتذكير أسباب المعاصي واللذّات ، وإنساء منافع الطاعات وما أشبه ذلك ، على ما قال تعالى حكايةً عن الشيطان : ( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ

لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أ نْفُسَكُمْ ) ( [124]) ، وقيل : تركيب الأنواع الثلاثة من امتزاج العناصر الأربعة إلاّ أنّ الغالب على الشيطان عنصر النار ، وعلى الآخرين عنصر الهواء ...

ثمّ ذكر مذاهب الحكماء في ذلك فقال : والقائلون من الفلاسفة بالجنّ والشيطان زعموا أنّ الجنّ جواهر مجرّدة لها تصرّف وتأثير في الأجسام العنصرية من غير تعلّق بها تعلّق النفوس البشرية بأبدانها والشياطين هي القوى المتخيّلة في

أفراد الإنسان من حيث استيلائها على القوى العقلية وصرفها عن جانب القدس واكتساب الكمالات العقلية إلى اتّباع الشهوات واللذات الحسيّة والوهمية .

ومنهم من زعم أنّ النفوس البشرية بعد مفارقتها عن الأبدان وقطع العلاقة عنها إن كانت خيّرة مطيعة للدواعي العقلية فهم الجنّ ، وإن كانت شرّيرة باعثة على الشرور والقبائح معينة على الضلال والانهماك في الغواية فهم الشياطين( [125]) .

وعند الأكثر أنّ الشيطان ليس من الملائكة بل هو من الجنّ كما جاء ذلك في الأخبار وهو مذهب الإمامية وكثير من المعتزلة وأصحاب الحديث .

وأمّا بالنسبة إلى كيفية تكاثره وتوالده ، فإنّ لسان الروايات في ذلك مختلفة ، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : الآباء ثلاثة : آدم ولد مؤمناً ، والجان ولد كافراً ، وإبليس ولد كافراً ، وليس فيهم نتاج ، إنّما يبيض ويفرخ ، وولده ذكور ليس فيهم إناث( [126]) .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ الله عزّ وجلّ حين أمر آدم أن يهبط هبط آدم

وزوجته ، وهبط إبليس ولا زوجة له ، وهبطت الحيّة ولا زوج لها ، فكان أوّل من يلوط بنفسه إبليس فكانت ذرّيته من نفسه ، وكذلك الحيّة ، وكانت ذرّية آدم من زوجته ، فأخبرهما أ نّهما عدوّان لهما( [127]) .

وسمّي إبليس لأ نّه أبلس من الخير كلّه يوم آدم (عليه السلام) ( [128]) ، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) : أنّ اسم إبليس الحارث ، وإنّما قول الله عزّ وجلّ : يا إبليس يا عاصي ، وسمّي إبليس لأ نّه ابلس من رحمة الله . قال الراغب : الإبلاس : الحزن المعترض من شدّة اليأس ، يقال : أبلس ومنه اشتقّ

إبليس فيما يقال ، قال تعالى : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الُمجْرِمُونَ ) ( [129]) .

ويسمّى بالرجمى ومعناه _ عن الإمام العسكري (عليه السلام) _ أ نّه مرجوم باللعن مطرود من مواضع الخير ، لا يذكره المؤمن إلاّ لعنه ، وإنّ في علم الله السابق أ نّه إذا خرج القائم (عليه السلام) لا يبقى مؤمن في زمانه إلاّ رجمه بالحجارة كما كان قبل ذلك مرجوماً باللعن( [130]) .

وأمّا تمثّل الشيطان :

عن تفسير الفرات : بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : رأى أمير المؤمنين (عليه السلام) على بابه شيخاً فعرفه أ نّه الشيطان فصارعه وصرعه ، قال : قم عنّي يا علي حتّى اُبشّرك ، فقام عنه ، فقال : بِمَ تبشّرني يا ملعون ؟ قال : إذا كان يوم القيامة صار الحسن عن يمين العرش والحسين عن يسار العرش يعطيان شيعتهما الجواز من النار ، قال : فقام إليه وقال : اُصارعك ؟ قال : مرّة اُخرى ، قال : نعم ، فصرعه أمير المؤمنين قال : قم عنّي حتّى اُبشّرك ، فقام عنه فقال : لمّا خلق الله آدم خرج ذرّيته من ظهره مثل الذرّ فأخذ ميثاقهم فقال : ( أ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) ( [131]) ، قال : فأشهدهم على أنفسهم فأخذ ميثاق محمّد وميثاقك فعرف وجهك الوجوه وروحك الأرواح ، فلا يقول لك أحد : اُحبّك ، إلاّ عرفته ، ولا يقول لك أحد : اُبغضك ، إلاّ عرفته ، قال : قم صارعني ، قال : ثلاثة ، قال : نعم ، فصارعه وصرعه فقال : يا عليّ لا تبغضني وقم عنّي حتّى اُبشّرك ،

قال : بلى وأبرأ منك وألعنك ، قال : والله يا بن أبي طالب ما أحد يبغضك إلاّ شركت في رحم اُمّه وفي ولده فقال له : أما قرأت كتاب الله ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) ( [132]) .

وفي تفسير علي بن إبراهيم القمّي بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام) في قصّة طويلة في حجّ إبراهيم وذبحه ابنه إلى أن قال : وسلّما لأمر الله وأقبل شيخ فقال : يا إبراهيم ما تريد من هذا الغلام ؟ قال : اُريد ذبحه ، فقال : سبحان الله تذبح غلاماً لم يعصِ الله عزّ وجلّ طرفة عين ؟ _ يرجى الانتباه كيف الشيطان يريد إخراج نبيّ الله إبراهيم من الدين باسم الدين وباسم الوظيفة الدينية ، وهكذا يفعل الشيطان بالمؤمنين ، فإنّ وسوسته إيّاهم في بداية خطواته ليس بالخمر والزنا ، بل بالصلاة والصوم بما يتلائم مع النفس ، لا بما يريده الله ، فتأمّل _ فقال إبراهيم : إنّ الله أمرني بذلك ، فقال : ربّك ينهاك عن ذلك وإنّما أمرك بهذا الشيطان ، فقال له إبراهيم : إنّ الذي بلغني هذا المبلغ هو الذي أمرني به ، والكلام الذي وقع في اُذني ، فقال : لا والله ما أمرك بهذا إلاّ الشيطان ، فقال إبراهيم : لا والله لا اُكلّمك .

ثمّ عزم إبراهيم على الذبح فقال : يا إبراهيم إنّك إمام يقتدى بك ، وإنّك إذا ذبحته ذبح الناس أولادهم ، فلم يكلّمه وأقبل على الغلام واستشاره في الذبح _ وساق الحديث في الفداء إلى قوله : _ ولحق إبليس باُمّ الغلام حين نظرت إلى الكعبة في وسط الوادي بحذاء البيت فقال لها :

ما شيخ رأيته ؟ قال : إنّ ذلك بعلي ، قال : فوصيف رأيته معه ؟ قالت : ذلك ابني ، قال : فإنّي رأيته وقد أضجعه وأخذ المدية ليذبحه ، فقالت : كذبت إنّ إبراهيم أرحم الناس كيف يذبح ابنه ؟ قال : فوَ ربّ السماء والأرض وربّ هذا البيت لقد رأيته أضجعه وأخذ المدية ، فقالت : ولِمَ ؟ قال : يزعم أنّ ربّه أمره بذلك ، قالت : فحقّ له أن يطيع ربّه( [133]) .

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : ظهر إبليس ليحيى بن زكريا (عليه السلام) وإذا عليه معاليق من كلّ شيء ، فقال له يحيى : ماهذه المعاليق يا إبليس ؟ فقال : هذه الشهوات التي أصبتها من ابن آدم ، قال : فهل لي منها شيء ؟ قال : ربما شبعت فثقّلتك عن الصلاة والذكر ، قال يحيى : لله عليّ أن لا أملأ بطني من طعام أبداً ، فقال إبليس : لله عليّ أن لا أنصح مسلماً أبداً ، ثمّ قال أبو عبد الله (عليه السلام) : يا حفص ولله على جعفر وآل جعفر أن لا يملؤوا بطونهم من طعام أبداً ، ولله على جعفر وآل جعفر أن لا يعملوا للدنيا أبداً .

عن الإمام الرضا ، عن آبائه (عليهم السلام) : أنّ إبليس كان يأتي الأنبياء (عليهم السلام) من لدن آدم (عليه السلام) إلى أن بعث الله المسيح (عليه السلام) يتحدّث عندهم ويسائلهم ، ولم يكن بأحد منهم أشدّ اُنساً منه بيحيى بن زكريا (عليه السلام) ، فقال له يحيى : يا أبا مرّة إنّ لي إليك حاجة ، فقال له : أنت أعظم من

أردّك بمسألة ، فاسألني ما شئت فإنّي غير مخالفك في أمر تريده .

فقال يحيى : يا أبا مرّة اُحبّ أن تعرض عليَّ مصائدك وفخوخك التي تصطاد بها بني آدم ، فقال له إبليس : حبّاً وكرامة ، وواعده لغد ، فلمّا أصبح يحيى (عليه السلام) قعد في بيته ينتظر الموعد وأغلق عليه الباب إغلاقاً ، فما شعر حتّى ساواه من خوخة _ شباك _ كانت في بيته ، فإذا وجهه صورة وجه القرد ، وجسده على صورة الخنزير ، وإذا عيناه مشقوقتان طولا ، وإذا أسنانه وفمه مشقوقاً طولا عظماً واحداً ، بلا ذقن ولا لحية ، وله أربعة أيد : يدان في صدره ويدان في منكبه ، وإذا عراقيبه قوادمه ، وأصابعه خلفه ، وعليه قباء قد شدّ وسطه بمنطقة فيها خيوط معلّقة بين أحمر وأصفر وأخضر وجميع الألوان ، وإذا بيده جرس عظيم ، وعلى رأسه بيضة ، وإذا في البيضة حديدة معلّقة شبيهة بالكلاّب .

فلمّا تأمّله يحيى (عليه السلام) قال له : ما هذه المنطقة التي في وسطك ؟ فقال : هذه المجوسية أنا الذي سننتها وزيّنتها لهم ، فقال له : ما هذه الخيوط والألوان ؟ قال له : هذه جميع أصناع النساء لا تزال المرأة تصنع الصنيع حتّى يقع مع لونها ، فأفتن الناس بها ، فقال له : فما هذا الجرس الذي بيدك ؟ قال : هذه مجمع كلّ لذّة من طنبور وبربط ومغرفة وطبل وناي وصرناي ، _ وهذه من الآلات الموسيقية ، وما أكثرها في عصرنا الراهن ، وما أكثر الناس الذين افتتنوا بها ، وزيّن لهم الشيطان ذلك ، باسم الفنّ والفنانين ، حتّى في مثل

البلاد الإسلامية وعند المسلمين ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم _ وإنّ القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذّونه فاُحرّك الجرس فيما بينهم ، فإذا سمعوه استخفّهم الطرب ، فمن بين من يرقص ، ومن بين من يفرقع أصبعه ، ومن بين من يشقّ ثيابه ، فقال له : وأيّ الأشياء أقرّ لعينك ؟ قال : النساء هنّ فخوخي ومصائدي ، فإنّي إذا اجتمعت عليّ دعوات الصالحين ولعناتهم ، صرت إلى النساء فطابت نفسي بهنّ ، فقال له يحيى (عليه السلام) : فما هذه البيضة _ أي الدرع _ التي على رأسك ؟ قال : بها أتوقّى دعوة المؤمنين ، قال : فما هذه الحديدة التي أرى فيها ؟ قال : بهذه أقلب قلوب الصالحين ، فقال يحيى (عليه السلام) : فهل ظفرت بي ساعة قطّ ؟ قال : لا ولكن فيك خصلة تعجبني . قال يحيى : فما هي ؟ قال : أنت رجل أكول فإذا أفطرت أكلت وبشمت _ أي شبعت _ فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل ، قال يحيى (عليه السلام) : فإنّي اُعطي الله عهداً أ نّي لا أشبع من الطعام حتّى ألقاه ، قال له إبليس : وأنا اُعطي الله عهداً أ نّي لا أنصح مسلماً حتّى ألقاه ، ثمّ خرج فما عاد إليه بعد ذلك( [134]) .

عن عبد السلام ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قال : يا عبد السلام احذر الناس ونفسك . فقلت : بأبي أنت واُمّي أمّا الناس فقد أقدر على أن أحذرهم ، وأمّا نفسي فكيف ؟ قال : إنّ الخبيث يسترق السمع يجيئك فيسترق ثمّ يخرج

في صورة آدمي فيقول : قال عبد السلام ، فقلت : بأبي انت واُمّي هذا ما لا حيلة له ، قال : هو ذاك( [135]) .

عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنّا بمنى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ بصرنا برجل ساجد وراكع ومتضرّع ، فقلنا : يا رسول الله ما أحسن صلاته ؟ فقال (صلى الله عليه وآله) : هو الذي أخرج أباكم من الجنّة ، فمضى إليه علي (عليه السلام) غير مكترث ، فزّه هزّة أدخل أضلاعه اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى ، ثمّ قال : لأقتلنّك إن شاء الله تعالى ، فقال : لن تقدر على ذلك إلى أجل معلوم من عند ربّي ، ما لك تريد قتلي ؟ فوالله ما أبغضك أحد إلاّ سبقت نطفتي إلى رحم اُمّه قبل نطفة أبيه ، ولقد شاركت مبغضيك في الأموال والأولاد ، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : صدق يا علي ، لا يبغضك من قريش إلاّ سفاحي ، ولا من الأنصار إلاّ يهودي ، ولا من العرب إلاّ دعيّ ، ولا من سائر الناس إلاّ شقي ، ولا من النساء إلاّ سلقليقة وهي التي تحيض من دبرها ، ثمّ أطرق مليّاً ، ثمّ رفع رأسه فقال : معاشر الأنصار أعرضوا أولادكم على محبّة علي ، قال جابر بن عبد الله : فكنّا نعرض حبّ عليّ على أولادنا ، فمن أحبّ علياً (عليه السلام) علمنا أ نّه من أولادنا ، ومن أبغض علياً انتفينا منه( [136]) .

وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، قال : كنت جالساً عند الكعبة فإذا شيخ محدودب قد سقط حاجباه على عينيه من

شدّة الكبر وفي يده عكازة وعلى رأسه بُرنس أحمر ، وعليه مدرعة من الشعر ، فدنا إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) والنبيّ مسند ظهره على الكعبة ، فقال : يا رسول الله ادعُ لي بالمغفرة ، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : خاب سعيك يا شيخ وضلّ علمك ، فلمّا تولّى الشيخ قال لي : يا أبا الحسن أتعرفه ؟ قلت : لا ، قال : ذلك اللعين إبليس ، قال عليّ (عليه السلام) : فعدوت خلفه حتّى لحقته وصرعته إلى الأرض وجلست على صدره ووضعت يدي في حلقه لأخنقه فقال لي : لا تفعل يا أبا الحسن فإنّي من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ، والله يا عليّ إنّي لاُحبّك جدّاً ، وما أبغضك أحد إلاّ شركت أباه في اُمّه فصار ولد زنا ، فضحكت وخلّيت سبيله( [137]) .

قال أبو عبد الله (عليه السلام) : صعد عيسى (عليه السلام) على جبل بالشام يقال له : أريحا ، فأتاه إبليس في صورة ملك فلسطين فقال له : يا روح الله أحييت الموتى وأبرأت الأكمه والأرص ، فاطرح نفسك عن الجبل ، فقال (عليه السلام) : إنّ ذلك اُذن لي ، وإنّ هذا لم يؤذن لي فيه( [138]) .

وعنه (عليه السلام) قال : جاء إبليس إلى عيسى فقال : أليس تزعم أ نّك تحيي الموتى ؟ قال عيسى : بلى ، قال إبليس : فاطرح نفسك من فوق الحائط ، فقال عيسى (عليه السلام) : ويلك العبد لا يجرّب ربّه ، وقال إبليس : يا عيسى ، هل يقدر ربّك على أن يدخل الأرض في بيضة والبيضة كهيئتها ؟ فقال : إنّ الله تعالى

عزّ وعلا ، لا يوصف بالعجز ، والذي قلت لا يكون _ أي هو مستحيل في نفسه كجمع الضدّين _ .

وآخر يوم يتمثّل إبليس هو ما جاء في خبر إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول إبليس : ( رَبِّ فَأنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ ) ( [139]) ، قال له وهب : جعلت فداك أيّ يوم هو ؟ قال : يا وهب ، أتحسب أ نّه يوم يبعث الله فيه الناس ؟ إنّ الله أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا ، فإذا بعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة ، وجاء إبليس حتّى يجثو بين يديه على ركبتيه فيقول : يا ويله من هذا اليوم ، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه ، فذلك يوم الوقت المعلوم( [140]) .

والشيطان يتمثّل بصورة إنسان ، فعن زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : سمعته يقول : كان الحجّاج ابن شيطان يباضع ذي الردهة ، ثمّ قال : إنّ يوسف دخل على اُمّ الحجّاج فأراد أن يصيبها فقالت : أليس إنّما عهدك بذلك الساعة ؟ فأمسك عنها فولدت الحجّاج( [141]) .

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : لقد سمعت رنّة الشيطان حين اُنزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله) ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ فقال : هذا الشيطان قد آيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلاّ أ نّك لست بنبيّ ، ولكنّك وزير ، وإنّك لعلى خير( [142]) .

عن أبي حمزة الثمالي ، عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين

(عليه السلام) ، قال : كان عابد من بني إسرائيل فقال إبليس لجنده : من له فإنّه قد غمّني ، فقال واحد منهم : أنا له ، فقال : في أيّ شيء ؟ قال : اُزيّن له الدنيا ، قال : لست بصاحبه ، قال الآخر : فأنا له ، قال : في أيّ شيء ؟ قال : في النساء ، قال : لست بصاحبه ، قال الثالث : أنا له ، قال : في أيّ شيء ؟ قال : في عبادته ، قال : أنت له ، فلمّا جنّه الليل طرقه فقال : ضيف ، فأدخله ، فمكث ليلته يصلّي حتّى أصبح ، فمكث ثلاثاً يصلّي ولا يأكل ولا يشرب ، فقال له العابد : يا عبد الله ما رأيت مثلك ، فقال له : إنّك لم تصب شيئاً من الذنوب وأنت ضعيف العبادة ، قال : وما الذنوب التي اُصيبها ؟ قال : خذ أربعة دراهم فتأتي فلانة البغيّة فتعطيها درهماً للحم ودرهماً للشراب ودرهماً لطيبها ودرهماً لها فتقضي لها فتقضي حاجتك منها ؟ قال : فنزل وأخذ أربعة دراهم فأتى بابها فقال : يا فلانة يا فلانة ، فخرجت فلمّا رأته قالت : مفتون والله ، مفتون والله ، قالت له : ما تريد ؟ قال : خذي أربعة دراهم فهيّئي لي طعاماً وشراباً وطيباً وتعالي حتّى آتيك ، فذهبت فدارت فإذا هي بقطعة من حمار ميّت فأخذته ، ثمّ عمدت إلى بول عتيق فجعلته في كوز ، ثمّ جاءت به إليه ، فقال : هذا طعامكِ ؟ قالت : نعم ، قال : لا حاجة لي فيه ، وهذا شرابكِ ؟

فلا حاجة لي فيه ، اذهبي فتهيّئي ، فتقذّرت جهدها ، ثمّ جاءته فلمّا شمّها قال : لا حاجة لي فيكِ ، فلمّا أصبحت كتب على بابها : إنّ الله قد غفر لفلانة البغيّة بفلان العابد( [143]) .

عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : كان عابد في بني إسرائيل لم يقارف من أمر الدنيا شيئاً ، فنخر إبليس نخرة فاجتمعت إليه جنوده ، فقال : من لي بفلان ؟ فقال بعضهم : أنا ، فقال : من أين تأتيه ؟ فقال : من ناحية النساء ، قال : لست له لم يجرّب النساء ، فقال له آخر : فأنا له ، قال : من أين تأتيه ؟ قال : من ناحية الشراب واللذّات ، قال : لست له ، ليس هذا بهذا ، قال آخر : فأنا له ، قال : من أين تأتيه ؟ قال : من ناحية البرّ ، قال : انطلق فأنت صاحبه ، فانطلق إلى موضع الرجل فقام حذاءه يصلّي ، قال : وكان الرجل ينام ، والشيطان لا ينام ، ويستريح والشيطان لا يستريح .

فتحوّل إليه الرجل وقد تقاصرت إليه نفسه واستصغر عمله ، فقال : يا عبد الله بأي شيء قويت على هذه الصلاة ؟ فلم يجبه ، ثمّ عاد عليه فلم يجبه ، ثمّ عاد عليه فقال : يا عبد الله إنّي أذنبت ذنباً وأنا تائب منه ، فإذا ذكرت الذنب قويت على الصلاة ، قال : فأخبرني بذنبك حتّى أعمله وأتوب ، فإذا فعلته قويت على الصلاة ، فقال : ادخل المدينة فسل عن فلانة البغيّة فأعطها درهمين ونل منها ، قال : ومن أين

لي درهمين ؟ ما أدري ما الدرهمين ؟ فتناول الشيطان من تحت قدمه درهمين فناوله إيّاهما ، فقام فدخل المدينة بجلابيبه يسأل عن فلانة البغية ، فأرشدوه الناس وظنّوا أ نّه جاء يعظها ، فأرشدوه فجاء إليها فرمى إليها بالدرهمين وقال : قومي ، فقامت فدخلت منزلها وقالت : ادخل ، وقالت : إنّك جئتني في هيئة ليس يؤتى مثلي في مثلها ، فأخبرني بخبرك ، فأخبرها ، فقالت له : يا عبد الله إنّ ترك الذنب أهون من طلب التوبة ، وليس كلّ من طلب التوبة وجدها ، وإنّما ينبغي أن يكون هذا شيطاناً مثّل ذلك ، فانصرف فإنّك لا ترى شيئاً ، فانصرف ، وماتت من ليلتها ، فأصبحت فإذا على بابها مكتوب : احضروا فلانة فإنّها من أهل الجنّة ، فارتاب الناس فمكثوا ثلاثاً لا يدفنونها ارتياباً في أمرها ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى نبيّ من الأنبياء الا أعلمه إلاّ موسى بن عمران (عليه السلام) أن ائتِ فلانة فصلّ عليها ومُر الناس أن يصلّوا عليها فإنّي قد غفرت لها ، وأوجبت لها الجنّة ، بتثبيطها عبدي فلاناً عن معصيتي( [144]) .

وعن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله فطلبهم إبليس الطلب الشديد ، وكان من فضلهم وخيرتهم أ نّهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم وتبقى النساء خلفهم ، لم يزل إبليس يعتادهم وكانوا إذا رجعوا خرّب إبليس ما يعملون ، فقال بعضهم لبعض : تعالوا نرصد هذا الذي يخرّب متاعنا ، فرصدوه ، فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان ، فقالوا له : أنت الذي تخرب متاعنا مرّة بعد اُخرى

، فأجمع رأيهم على أن يقتلوه ، فبيّتوه عند رجل ، فلمّا كان الليل صاح فقال له : ما لك ؟ فقال : كان أبي ينوّمني على بطنه ، فقال له : تعال فنم على بطني ، قال : فلم يزل يدلك الرجل حتّى علمه أن يفعل بنفسه ، فأوّلا علّمه إبليس والثانية علّمه هو ، ثمّ انسلّ ففرّ منهم فأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام ويعجبهم منه وهم لا يعرفونه ، فوضعوا أيديهم فيه حتّى اكتفى الرجال بعضهم ببعض ، ثمّ جعلوا يرصدون مارّة الطريق فيفعلون بهم حتّى تنكّب مدينتهم الناس ، ثمّ صار الشيطان إلى النساء فصيّر نفسه امرأة ، ثمّ قال : إنّ رجالكنّ يفعل بعضهم ببعض ؟ قالوا : نعم قد رأينا ذلك ، وكلّ ذلك يعظهم لوط (عليه السلام) ويوصيهم ، وإبليس يغويهم حتّى استغنى النساء بالنساء . الحديث طويل( [145]) .

فكان الشيطان يتمثّل للأنبياء والأولياء وغيرهم فيما سبق ، كحديثه مع نوح وما جرى بينهما في الكرم والنخل( [146]) ، وما جرى على أيوب من إبليس لعنه الله ( [147]) ، وما جرى بينه وبين موسى( [148]) ، وشكاية الشياطين الذين كانوا يعملون لسليمان بن داود (عليه السلام) إلى إبليس ، وما قال في جوابهم الذي صار سبباً للتشديد عليهم( [149]) ، وشركته في قتل زكريا (عليه السلام) ( [150]) ، وحديثه مع عيسى في إدخال البيضة في الأرض وجوابه ، وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال : لقى إبليس ( لعنه الله) عيسى بن مريم فقال : هل نالني من حبائلك شيء ؟ قال : جدّتك التي ( قَالَتْ رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا اُنْثَى وَاللهُ أعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ

وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُنْثَى وَإنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإنِّي اُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) ( [151]) ، يعني كيف ينالك من حبائلي وجدّتك دعت حين ولدت والدتك أن يعيذها الله وذرّيتها من شرّ الشيطان الرجيم وأنت من ذرّيتها( [152]) .

وقصّته يوم بدر ، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : كان إبليس يوم بدر يقلّل المؤمنين في أعين الكفّار ويكثّر الكفّار في أعين الناس ، فشدّ عليه جبرئيل بالسيف فهرب منه وهو يقول : يا جبرئيل إنّي مؤجّل ، حتّى وقع في البحر( [153]) .

وكان صورته بصورة سُراقة بن مالك ، وللشيخ المفيد في ذلك كلام( [154]) .

وصيحته ( لعنه الله) ليلة بيعة الأنصار : يا معشر قريش والعرب ، هذا محمّد (صلى الله عليه وآله) والصباة من الأوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم( [155]) .

واجتماعه مع كفّار قريش في دار الندوة للمشاورة في أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ( [156]) .

وتمثّله في دار الندوة بصورة أعور ثقيف( [157]) .

وصيحته يوم اُحد : قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ( [158]) .

ونداؤه ( لعنه الله ) حين وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) : إنّ نبيّكم طاهر مطهّر ، فادفنوه ولا تغسّلوه ، وجواب أمير المؤمنين (عليه السلام) : إخسأ عدوّ الله ، فإنّه أمرني بغسله وكفنه ودفنه وذاك سنّة( [159]) .

وظهوره لسلمى بنت عمرو وقوله لها : إنّ هاشم بن عبد مناف رجل ملول للنساء كثير الطلاق جبان في الحروب ، لئلاّ ترغب في هاشم حين جاء خاطباً لها( [160]) ، وبكاء إبليس حين ذكر هاشم ما يمهره لسلمى وقوله لأبيها : اطلب الزيادة ، فروي أ نّه كلّما زاد هاشم

أشار إبليس بالزيادة ، وكان ( لعنه الله ) بصورة شيخ في جملة من حضر النكاح مع اليهود إلى أن صابح به أبو سلمى وقال : يا شيخ السوء اخرج( [161]) .

وهذا يدلّ على أنّ من يزيد في مهر النساء فإنّه من النعرات الشيطانية ، فتدبّر .

وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) له حين رآه بصورة شيخ وكان يصلّي فهزّه هزّة أدخل أضلاعه اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى ، فقال (عليه السلام) : لأقتلنّك إن شاء الله( [162]) .

وإغوائه مرحب اليهودي حين فرّ من مبارزة أمير المؤمنين (عليه السلام) خوفاً ممّا حذّرته ظئره( [163]) .

وبيعته في السقيفة لبعض أعداء الله على صورة شيخ كبير متوكّئاً على عصاه بين عينيه سجّادة شديد التشمير( [164]) .

ووقوفه على باب فاطمة وعلي (عليهما السلام) وسؤاله أن يطعموه ممّا كانوا يأكلون من طعام الجنّة .

وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّها لمحرمة على هذا السائل ، وقول إبليس لرسول الله : اشتقت إلى رؤية علي (عليه السلام) فجئت آخذ منه الحظّ الأوفر ، وأيم الله إنّي من أودّائه وإنّي لاُواليه( [165]) .

وتمثّله بصورة الفيلة في المسجد الحرام ، وبصورة شيخ محدودب قد سقط حاجباه على عينيه يسأل النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يدعو له بالمغفرة ، وبصورة رجل راكع ساجد متضرّع بمنى ، وبصورة راع على جبل بقرب المدينة ، وسؤال أمير المؤمنين (عليه السلام) إيّاه : هل مرّ بك رسول الله ؟ وجوابه : ما لله من رسول ، فأخذ علي (عليه السلام) جندله ، وفي رواية اُخرى : فغضب علي (عليه السلام) وتناول حجراً ورماه فأصاب بين عينيه ، فصرخ الراعي فإذا الجبل قد امتلأ

بالخيل والرَّجِل ، فما زالوا يرمونه بالجندل ، واكتنف علياً طائران أبيضان ، فما زال يمضي ويرمونه حتّى لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فأخبره : إنّ الراعي إبليس ، والطائران : جبرئيل وميكائيل( [166]) .

وهناك حكايات كثيرة ومثيرة للإعجاب وللتأمّل ، وللموعظة والتدبّر ، لم نتعرّض لها طلباً للاختصار .

الفصل الثالث

خطوات الشيطان

سياسة خطوة خطوة وقدم بعد قدم :

من صفات العدوّ أ نّه يخطّط لخصمه ، وينتظر به الفرص ، ليقع به بشتّى الطرق والحيل ، وحتّى في ساحات الوغى وميادين القتال وفي الحروب والنضال ، كلّ واحد من الطرفين في المنازعة والمخاصمة والحرب يحاول أن يستغلّ غفلة الطرف الآخر ونقاط ضعفه ، فيخطّط له ويأتيه خطوات ، حتّى يقضي عليه .

وكذلك الشيطان عدوّ الإنسان ، فإنّه يتغلّب على بني آدم خطوة خطوة ، فيبدأ بالمراحل الأوّلية ، فإن استجاب الإنسان دعوته ، فإنّه يأمره بشيء آخر أعظم من الأوّل ، حتّى ينتهي به إلى الكفر ، لأنّ الشيطان لا يرضى من الإنسان إلاّ بكفره ، ولكن لا يقول له في أوّل مرّة اكفر بالله ، بل في أوّل الأمر يوسوس له بارتكابه المكروهات ، فإن تسلّط عليه فإنّه يأمره بالمحرّمات الخفيفة ، ثمّ المنكرات الثقيلة ، وهكذا حتّى يصل به إلى الكفر وأن يسجد له ، كما في قصّة العابد برسيسا .

والقرآن الكريم يشير إلى مقصود إبليس وحزبه الشيطاني أوّلا ، ثمّ يذكّر الإنسان أنّ هذا العدوّ اللدود يأتيك من كلّ الجوانب الأربعة ، كما أ نّه يستعمل كلّ الأساليب والمخطّطات التي ينفذ من خلالها في وجودك ، ليضلّك عن سبيل الله سبحانه ، فاحذره غاية الحذر ، ولا تخف منه فإنّ

كيده مهما يكن في مقابل كيد الله ونصرته ، كان ضعيفاً ، فلا تستجب لدعوته من البداية ، فإنّه ربما يأتيك في فكرك من طريق حلال ، حتّى يوقعك في آخر الأمر في الحرام ، وربما باسم الدين يخرجك من الدين ، كما أخرج آدم وأغرّه بقوله :

( إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) ( [167]) .

فباسم النصيحة أخرجه من حضيرة القدس وجنّة الله .

في تفسير الميزان( [168]) : إنّ المراد من اتّباع خطوات الشيطان ليس اتباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل ، بل اتّباعه فيما يدعو إليه من أمر الدين ، بأن يزيّن شيئاً من طرق الباطل بزينة الحقّ ، ويسمّي ما ليس من الدين باسم الدين ، فيأخذ به الإنسان من غير علم .

عن الإمام الباقر (عليه السلام) لمّا قرأ ( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) ( [169]) ، قال : كلّ يمين بغير الله تعالى فهي من خطوات الشيطان( [170]) .

وعن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) : إنّ من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق ، والنذور في المعاصي ، وكلّ يمين بغير الله .

عن ابن عبّاس ، قال : ما خالف القرآن فهو من خطوات الشيطان( [171]) .

فإليك أ يّها الإنسان الكريم ما يريده الشيطان منك في دعوته الجهنّمية ، ثمّ كيف يخطّط لك في خطواته النارية ، ثمّ بيان أهمّ الأساليب الشيطانية .

ولا يخفى على ذوي النهى أنّ الله في كتابه يخاطب الناس بنحوين تارةً بخطاب عام ، وكأ نّما يخاطب عامّة الناس ، كما يقول بأنّ كتابه الكريم هو هداية للناس وهذا من الهداية العامة ومن الرحمة الرحمانية ، واُخرى يخاطب الخواصّ من الناس ، ويقول بأنّ كتابه الحكيم

إنّما هو هداية للمتقين ( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) ( [172]) ، فمن خطاب العامة حينما يريد أن يدعوهم إلى التوحيد ومعرفته سبحانه وتعالى يخاطبهم بقوله :

( أ فَلا يَنْظُرُونَ إلَى الإ بِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) ( [173]) .

( أ فَرَأيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ) ( [174]) .

( أفَرَأيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ) ( [175]) .

وأمّا خطاب الخاصّة فيقول :

( أ لَمْ تَرَ إلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) ( [176]) .

فإنّ المرئي في الأوّل هو مثل الإبل والمني والماء ، ولكن في الثاني هو الله خالق الخلق سبحانه وتعالى .

والمثال الآخر في الخطاب الأوّل قوله تعالى :

( وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) ( [177]) .

فيدعو الناس إلى عبادة الله من خلال التوجّه إلى الكعبة الشريفة في صلاتهم .

ولكن في الخطاب الثاني يختلف لسان الدعوة الإلهية في عبادته قائلا عزّ وجلّ :

( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ ) ( [178]) .

ففي الأوّل أشار سبحانه إلى البيت ، وأمّا الثاني فإلى ربّ البيت .

فتدبّر في آيات الله لتقف على بعض أسرار وتأويل الآيات ، فإنّ القرآن الكريم يصوّر لك الحقائق وكأ نّك ترى وتسمع ، فإنّ حواره الفنّي يمثّل لك الصوت والصورة .

وفي عداء الشيطان للإنسان يصوّر لنا القرآن تكتيكات الشيطان الحربيّة ، وأ نّه يستغلّ الموقف خطوة خطوة ، فلا يهجم على الإنسان بكلّ ما عنده ، ولا يطلب منه الكفر رأساً ، فإنّه من الواضح لمن كان مؤمناً متمسّكاً بدين الله سبحانه من الصعب الصعاب أن يقال له اترك دينك واكفر بالله ، أو اشرب الخمر ، وافعل الزنا ، بل يأتيه من ارتكاب المكروهات ثمّ ترك المستحبّات والنوافل ، ثمّ ارتكاب المحرّمات وترك الواجبات

.

ومن هذا المنطلق يحذّرنا الله اللطيف بعباده أن لا يتّبعوا آثار الشيطان ولا يقتفوا خطواته في قوله تعالى :

( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ( [179]) .

فإنّه نتيجة الاتباع هو الكفر ، فإنّ الشيطان لا يرضى من الإنسان إلاّ بذلك ، وإن كان في نهاية الأمر يخذله ، بل ويتبرّأ منه ، محتجّاً عليه أ نّه يخاف الله سبحانه ، كما قال عزّ وجلّ :

( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلإنسَانِ ا كْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنِّي أخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ) ( [180]) .

فمتى يعقل الإنسان ويرى ما حوله ، وما يفعله الشيطان .

( وَلَقَدْ أضَلَّ مِنْكُمْ جِبلاّ كَثِيراً أ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) ( [181]) .

فإنّه :

( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ) ( [182]) .

وهلاّ حان الوقت لتخشع القلوب لذكر الله ، ومتى نتّبع قوله تعالى :

( وَأطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أ نَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ ) ( [183]) .

فمن لم يدخل في ولاية الله ورسوله وأهل بيته اُولى الأمر وطاعتهم ، فإنّه يدخل لا محالة في ولاية الشيطان .

(

وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً ) ( [184]) .

( إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( [185]) .

فلا تتّبعوا خطوات الشيطان ولا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرّموا الحلال وتحلّلوا الحرام ( إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ( [186]) ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة وأصحاب العقل السليم ، وإن كان في بداية الأمر يظهر الموالاة لمن يغويه ، ولذلك سمّاه ولياً في قوله تعالى : ( أوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ) ( [187]) .

ومن

خصائصه البارزة أ نّه يخرجهم من النور إلى الظلمات ، من الأخلاق الطيّبة إلى الرذائل والخسائس ، كمن كان سخيّاً ، فيخرجه من نور السخاء إلى ظلمة البخل بتخويفه الفقر ، وكذلك الصفات الاُخرى :

( إنَّمَا يَأمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالفَحْشَاءِ ) ( [188]) .

وهذا من التحذير لبيان عداوة الشيطان ووجوب التحرّز منه ، واستعير الأمر ( أي قوله تعالى : إنّما يأمركم ) لتزيينه وبعثه لهم على الشرّ تسفيهاً لرأيهم وتحقيراً لشأنهم ، والسوء والفحشاء ما أنكره العقل واستقبحه الشرع ، والعطف لاختلاف الوصفين فإنّه سوء لاغتمام العاقل به وفحشاء باستقباحه إيّاه .

وقيل : السوء يعمّ القبائح ، والفحشاء ما يجاوز الحدّ في القبح من الكبائر .

وقيل : الأوّل ما لا حدّ فيه ، والثاني ما شرع فيه الحدّ ( وَأنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( [189]) ، كاتّخاذ الأنداد وتحليل المحرّمات وتحريم الطيّبات .

قال فخر الرازي : اعلم أنّ أمر الشيطان وسوسوته عبارة عن هذه الخواطر التي نجدها في أنفسنا ، وقد اختلف الناس في هذه الخواطر من وجوه :

أحدها : اختلفوا في ماهيّاتها ، فقال بعض : إنّها حروف وأصوات خفيّة ، قالت الفلاسفة : إنّها تصوّرات الحروف والأصوات وأشباهها وتخيّلاتها على مثال الصور المنطبعة في المرايا ، فإنّ تلك الصور تشبه تلك الأشياء من بعض الوجوه وإن لم تكن متشابهة لها من كلّ الوجوه .

ثمّ هذه الخواطر الشيطانية إنّما هي بوسوسة الشيطان ، كما هناك إلهامات ملائكيّة يشير إليها قوله تعالى : ( إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى المَلائِكَةِ أ نِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) ( [190]) ، أي ألهموهم بالثبات ، كما جاء في الأخبار : « للشيطان لمّة

بابن آدم ، وللملك لمّة » ، وفي الحديث : إذا ولد المولود لبني آدم قرن إبليس به شيطاناً وقرن الله به ملكاً ، فالشيطان جاثم على اُذن قلبه الأيسر ، والملك قائم على اُذن قلبه الأيمن ، فهما يدعوانه .

ومن الفلاسفة من فسّر الملك الداعي إلى الخير بالقوّة العقليّة ، والداعي إلى الشرّ هو الشيطان ، وفسّر بالقوّة الشهوانية والغضبيّة .

ثمّ قوله تعالى : ( إنّما يأمركم ) دلّت الآية على الحصر ، لمكان أنّ الشيطان لا يدعو ولا يأمر إلاّ بالقبائح ، وإذا دعا إلى الخير في بعض الموارد فإنّ غرضه أن يجرّه منه إلى الشرّ ، فإنّه ربما باسم الدين يخرج الإنسان من الدين ، كما نجد ذلك من بعض أصحاب المذاهب الفاسدة ، فربما باسم الخير يدعو في النهاية إلى الشرّ ، وهذا أيضاً من خطوات الشيطان ، فربما يجرّه من الأفضل إلى الفاضل السهل ، ومن السهل إلى الأفضل الأشقّ ليصير ازدياد المشقّة سبباً لحصول النفرة عن الطاعة بالكلّية .

ومن خطواته : أ نّه ( يعدكم الفقر ) فإبليس وسائر الشياطين من الجنّ والإنس ، بل وحتّى النفس الأمّارة بالسوء تخوّف الإنسان بالفقر ، فللشيطان لمّة وهي الإيعاد بالشرّ والفقر ، كما للملك لمّة وهي الوعد بالخير والغنى ، فمن وجد ذلك من نفسه فإنّه من الله وليشكر الله على ذلك ، ومن وجد الأوّل فإنّه من الشيطان وليتعوّذ بالله منه ( إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَاءَهُ ) ( [191]) بالوسوسة ، ولكن ليعلم كلّ واحد من المؤمنين ( إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) ( [192]) ، لأنّ الله ينصر أوليائه والشيطان ينصر أولياءه ، ولا شكّ أن نصرة

الشيطان لأوليائه أضعف من نصرة الله لأوليائه ، ألا ترى أنّ أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الحميد على مرّ الدهور والأحقاب ، وإن كانوا حال حياتهم يعادوهم الناس ، ويعيشون الفقر والانعزال ، وأمّا الملوك والجبابرة فإنّهم إذا ماتوا انقرضوا ولا يبقى لهم ذكر إلاّ بالسوء واللعنة .

( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ) بإنزال الكتب السماوية وإرسال الرسل ( لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ ) في خطواته بالكفر والضلال ( إلاَّ قَلِيلا ) ( [193]) منكم تفضّل الله عليه بعقل راجح وقلب سليم وفطرة طاهرة اهتدى بها إلى الحقّ والصواب والصراط المستقيم ، وعصمه الله عن متابعة الشيطان .

فالشيطان ينتهي في الإنسان في مقام العداء والبغض إلى الكفر وعبادة الأصنام ( إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاَّ إنَاثاً ) يعني اللات والعزّى ومناة ونحوها ، فإنّه كان لكلّ حيّ صنم يعبدونه ويسمّونه اُنثى بني فلان ، وذلك إمّا لتأنيث أسمائها ، أو لأ نّها كانت جمادات ، والجمادات تؤنّث لشباهتها بالإناث لانفعالها ، ولعلّه سبحانه وتعالى ذكر الأصنام بهذا الاسم تنبيهاً على أ نّهم يعبدون ما يسمّونه إناثاً لأ نّه ينفعل ولا يفعل ، والحال من حقّ المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل ، وقيل : المراد ( الملائكة ) لقولهم بنات الله ( وإنْ يَدْعُونَ ) ويعبدون بعبادتها ( إلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً ) ( [194]) لأ نّه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها ، فكان طاعته في ذلك عبادة له . والمارد والمريد : الذي لا يعلق بالخير وأصل التركيب للملابسة ، ومنه صرح ممرّد وغلام أمرد .

والله يلعن الشيطان ( لعنه الله ) فإنّ من فرط عداوته للإنسان قال : ( لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً *

وَلاُضِلَّنَّهُمْ )( [195]) عن الحقّ ( وَلاُمَنِّيَنَّهُمْ ) الأماني الباطلة ، لطول البقاء في الحياة الدنيوية ، وأ نّه لا بعث ولا عقاب ( وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأ نْعَامِ ) ويشقّونها لتحريم ما أحلّه الله وهذا إشارة إلى تحريم كلّ ما أحلّ الله ، ونقص كلّ ما خلق كاملا بالفعل أو بالقوّة ( وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ) عن وجهه وصورته ووصفه ، ويندرج فيه ما قيل : من فقء عين الحامي وخصاء العبيد والوشر والوشم واللواط والسحق وغير ذلك ، وعبادة الشمس والقمر ، وتغيير فطرة الله التي هي الإسلام ، واستعمال الجوارح والقوى في ما لا يعود على النفس كمالا ، ولا يوجب لها من الله زلفاً وقرباً ، ( وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ ) بتقديم قوله على قول الله فيتجاوز طاعة الله إلى طاعة الشيطان فإنّه ( فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً ) ( [196]) فإنّه ضيّع رأس ماله وعمره الغالي بشيء بخس ورذيل ، وبدّل مكانه من الجنّة بمكان من النار ، وما ذلك من الشيطان في خطواته إلاّ ( يَعِدُهُمْ ) ما لا ينجز لهم ( وَيُمَنِّيهِمْ ) ما لا ينالون ويصلون إليه ، ( وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ) ( [197]) بإظهار النفع فيما فيه الضرر ، وإبراز الباطل بلباس الحقّ ، وتلوين الكفر بلون الدين ، وتزيين الجهل بتيجان العلم ، كلّ ذلك بالوساوس والخواطر ، ومن خلال لسان أوليائه المردة من شياطين الجنّ والإنس ( وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ) ( [198]) ومعدّلا ومهرباً ( [199]) .

قال الطبرسي (رحمه الله) : في تفسير الكلبي عن ابن عباس : إنّ إبليس جعل جنده فريقين :

فبعث فريقاً منهم إلى الإنس ، وفريقاً إلى الجنّ ، فشياطين الإنس والجنّ أعداء الرسل والمؤمنين فتلقي شيطاين الإنس وشياطين الجنّ في كلّ حين فيقول بعضهم لبعض : أضللت صاحبي بكذا فاُضلّ صاحبك بمثلها ، فكذلك يوحي بعضهم إلى بعض .

وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أ نّه قال : إنّ الشياطين يلقي بعضهم بعضاً فيلقي إليه ما يغوي به الخلق حتّى يتعلّم بعضهم من بعض فيوحي زخرف القول المموّه المزيّن الذي يستحسن ظاهره ولا حقيقة له ولا أصل فيغرونهم بذلك غروراً ، وإنّ الشياطين علماء الكفر ورؤساءهم المتمرّدين في كفرهم ، يوحون ويشيرون إلى أوليائهم الذين اتّبعوهم في الكفر ، ليجادلوا المؤمنين في مثل استحلال الميتة ، فشياطين من الجنّ ليوحون إلى أوليائهم من الإنس ، والوحي هنا بمعنى إلقاء المعنى إلى النفس من وجه خفي ، فيلقون الوسوسة إلى قلوب أهل الشرك والنفاق والفسوق والفجور .

وهذا كلّه من خطوات إبليس اللعين الذي توعّد بني آدم في إضلالهم ( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ ) وأرصد لهم لأقطع سبيلهم ( صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ ) ( [200]) ودين الحقّ القويم ( ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ ) ( [201]) ومن جميع الجهات الأربعة وبأي وجه ممكن ، ومن جهة دنياهم وآخرتهم ومن جهة حسناتهم وسيّئاتهم ، فيزيّن لهم الدنيا ويخوّفهم الفقر ويقول لهم : لا جنّة ولا نار ولا بعث وحساب ويثبط عزيمتهم عن الحسنات ويشغلهم عنها ويحبّب لهم السيّئات والمعاصي ويحثّهم عليها ، ولم يأت من فوقهم لأ نّه جهة نزول الرحمة من السماء فلا سبيل له إلى ذلك ، ولم يأتهم من تحت أرجلهم لأنّ الإتيان منه موحش ، فيأتيهم من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث

يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم من حيث لا يبصرون ، فيهوّن على الناس أمر آخرتهم ويأمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم ويفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة وبتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم ، فلا تجد أكثر الناس شاكرين مطيعين كما ظنّ إبليس بذلك ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إ بْلِيسُ ظَنَّهُ ) ( [202]) .

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أ نّه قال : إنّ الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال له : تدع دين آبائك ؟ فعصاه فأسلم .

ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال له : تدع ديارك وتتغرّب ؟ فعصاه فهاجر .

ثمّ قعد له بطريق الجهاد فقال له : تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك ؟ فعصاه فقاتل .

وهذا الخبر يدلّ على أنّ الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلاّ ويلقيها في القلب .

فالحذار الحذار من وساوس الشياطين ومآربهم وخططهم ... فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم .

ونقل عن شقيق أ نّه قال : ما من صباح إلاّ ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع : من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي .

أمّا بين يدي فيقول : لا تخف فإنّ الله غفور رحيم ، فاقرأ : ( وَإنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ) ( [203]) .

وأمّا من خلفي فيخوّفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ : ( وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الأرْضِ إلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ) ( [204]) .

وأمّا من قبل يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ : ( وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( [205]) .

وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قِبَل الشهوات فأقرأ : ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ )

( [206]) .

فالشيطان الملعون يبالغ في إلقاء الوسوسة ، ولا يقصّر في وجه من الوجوه الممكنة ، ويأتي الإنسان في خطوات ، من دون أن يشعر به( [207]) .

ثمّ الملائكة _ كما ورد في الخبر الشريف _ رقّت قلوبها على البشر لمّا قال الشيطان ذلك فقالوا : يا إلهنا كيف يتخلّص الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأربع ؟ فأوحى الله إليهم أ نّه بقي للإنسان جهتان : الفوق والتحت ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع ، أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع ، غفرت له ذنب سبعين سنة( [208]) .

ثمّ في قول الشيطان ( ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) ( [209]) ، أنّ التعدية بحرفي الجرّ ( من وعن ) في الأوّلين بمن وفي الآخرين بعن ، ربما كان باعتبار أنّ المراد من قوله : ( مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) الخيال والوهم والضرر الناشي منهما هو حصول العقائد الباطلة وهو الكفر ، ومن قوله : ( وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) الشهوة والغضب وذلك هو المعصية ، ولا شكّ أنّ الضرر الحاصل من الكفر لازم لأنّ عقابه دائم ، وأمّا الضرر الحاصل من المعصية فسهل ، لأنّ عقابه منقطع ، فلهذا خصّ هذين القسمين بكلمة ( عن ) تنبيهاً على أنّ هذين القسمين في اللزوم والاتصال دون القسم الأوّل .

ثمّ قول الشيطان ( وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) ( [210]) أ نّه جعل للنفس تسع عشر قوّة ، وكلّها تدعو النفس إلى اللذات الجسمانية والطيّبات الشهوانية ، فعشرة منها الحواسّ الظاهرة والباطنة ، وإثنان

: الشهوة والغضب ، وسبعة هي القوى الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والموّلدة ، فمجموعها تسعة عشر وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وترغّبها في طلب اللذات الدنيوية والبدنية ، وأمّا العقل فهو قوّة واحدة وهي التي تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى والتقرّب منه والفوز بالسعادة الروحانية .

ومن المعلوم أنّ استيلاء تسع عشر قوّة أكمل من استيلاء القوّة الواحدة( [211]) .

ولمثل هذا تجد أكثر الناس غير شاكرين ، مع أنّ الله هداهم النجدين : نجد وطريق الخير ، ونجد وسبيل الشرّ ، وأيّد العقل بالشرع وبالأنبياء والكتب السماوية والعلماء الصلحاء والمؤمنين الأبرار ، ووعد على من يؤمن ويعمل صالحاً جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار ، والشيطان يعد الإنسان إلاّ أ نّه يخلف في وعده ، والله لا يخلف الميعاد .

( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللهَ وَعَدَ كُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي ) ( [212]) .

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أ نّه إذا جمع الله الخلق وقضي الأمر بينهم يقول الكافر : قد وجد المسلمون من شفع لهم ، فمن يشفع لنا ؟ ما هو إلاّ إبليس هو الذي أضلّنا ، فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول ( إنَّ اللهَ وَعَدَ كُمْ وَعْدَ الحَقِّ ) وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفّى لكم ( وَوَعَدْتُكُمْ ) خلاف ذلك ( فَأخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان ) من قدرة ومكنة وتسلّط وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي واُلجئكم إليها ( إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ ) بخطوات بوسوستي وتزييني ( فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) مع أ نّكم

لم تروني وحذّركم الله من عداوتي وإنّي لكم عدوّ مبين ( فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أنْفُسَكُمْ ) فإنّه لم يكن منّي إلاّ الوسوسة وكنتم سمعتم دلائل الله ، وشاهدتم بصائره ، ورأيتم أنبياءه ، وقرأتم كتبه ، فكان عليكم أن لا تغترّوا بقولي ولا تلتفتوا إليّ ، فلمّا رجّحتم قولي على الدلائل الظاهرة والبراهين الواضحة ، كان اللوم عليكم لا على غيركم ، فما فعلتموه إنّما هو باختياركم فلوموا أنفسكم ، ولا قدرة لي عليكم في إزالة عقولكم وتعويج أعضائكم وتصريعكم و ( مَا أ نَا بِمُصْرِخِكُمْ ) ومغيثكم من العذاب ( وَمَا أ نْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ ) (2) في دار الدنيا .

والشيطان من اليوم الأوّل قسم بعزّة الله أن يغوي الجميع إلاّ القليل ، بل وحتّى القليل يطمع في غوايتهم ، فهذا بلعم بن باعوراء ، كان من العلماء ، وكان يعرف الاسم الأعظم فيدعو به فيستجاب له ، فمال إلى فرعون ، فلمّا مرّ فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم : ادعُ الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا ، فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى ... وانسلخ الاسم من لسانه وهو قوله :

( فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) ( [213]) .

وهو مثل ضربه ليكون عبرةً للناس ودرساً للمؤمنين .

ويقول الإمام العسكري (عليه السلام) : قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) : ومن شرّ خلق الله بعد إبليس وفرعون و ... ؟ قال : العلماء إذا فسدوا( [214]) .

وفساد العلماء ليس كفساد عامة الناس ،

فإنّ الشيطان لا يأتيهم من طريق الزنا وشرب الخمر ، إنّما يأتيهم من طريق الدين ، وباسم الدين يخرجهم من الدين ، يأتيهم من طريق العلم فيفسد عليهم علمهم حتّى يفسدوا ، وإذا فسد العالِم فسد العالَم .

فغواية العلماء من طريق حبّ المقام والرئاسة والجاه والغرور والجدال والتطاول على الناس .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إنّ من العلماء من يحبّ أن يخزن علمه ولا يؤخذ عنه ، فذاك في الدرك الأوّل من النار ، ومن العلماء من إذا وعظ أنف وإذا وعظ عَنُف ، فذاك في الدرك الثاني من النار ، ومن العلماء من يرى أن يضع العلم عند ذوي الثروة والشرف ولا يرى له في المساكين وضعاً فذاك في الدرك الثالث من النار ، ومن العلماء من يذهب في علمه مذهب الجبابرة والسلاطين ، فإن رُدّ عليه شيء من قوله أو قصّر في شيء من أمره غضب ، فذاك في الدرك الرابع من النار ، ومن العلماء من يطلب أحاديث اليهود والنصارى ليغزُرَ به علمُه ويكثُرَ به حديثه ، فذاك في الدرك الخامس من النار ، ومن العلماء من يضع نفسه للفتيا ويقول : ( سلوني ) ولعلّه لا يصيب حرفاً واحداً ، والله لا يحبّ المتكلّفين فذاك في الدرك السادس من النار ، ومن العلماء من يتّخذ علمَه مروّة وعقلا فذاك في الدرك السابع من النار( [215]) .

هذا وإليك بيان خطوات الشيطان ، كما يستفاد ذلك من كرائم القرآن المجيد :

1 _ الوسوسة :

يبدو لي أنّ الوسوسة الشيطانية تعدّ من الخطوات الاُولى للشيطان ، فإنّه في بداية الأمر يوسوس في صدره ، فإن استجاب له فيأتيه بخطوة اُخرى ، وإلاّ فإنّه يبقى

في دائرة الوساوس يصارع الإنسان حتّى يتغلّب عليه ، أو إذا تذكّر المتّقي فيما إذا مسّه طائف من الشيطان وتبصّر فيرجع إلى نقاوته وتقواه ، فإنّ الشيطان يندحر عنه ، وينكص ويتراجع أمامه :

( إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) ( [216]) .

فالخطوة الاُولى للشيطان هي الوسوسة :

( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) ( [217]) .

قال العلاّمة المجلسي : فإن قال قائل : بيّنوا لنا حقيقة الوسوسة ؟

قلنا : الفعل إنّما يصدر عن الإنسان لحصول اُمور أربعة يترتّب بعضها على البعض ترتيباً لازماً طبيعياً .

بيانه : أنّ أعضاء الإنسان بحكم السلامة الأصليّة والصلاحية الطبيعية صالحة للفعل والترك والإقدام والإحجام ، فلمّا لم يحصل في القلب ميل إلى ترجيح الفعل على الترك أو بالعكس فإنّه يمتنع صدور الفعل ، وذلك الميل هو الإرادة الجازمة والقصد الجازم .

ثمّ إنّ تلك الإرادة الجازمة لا تحصل إلاّ عند حصول علم واعتقاد أو ظنّ بأنّ ذلك الفعل سبب للنفع أو سبب للضرر ، فإن لم يحصل فيه هذا الاعتقاد لم يحصل ميل ، لا إلى الفعل ولا إلى الترك .

فالحاصل : أنّ الإنسان إذا أحسّ بشيء ترتّب عليه شعور بكونه ملائماً له أو بكونه منافراً له ، أو بكونه غير ملائم ولا منافر ، فإن حصل الشعور بكونه ملائماً له ترتّب عليه الميل الجازم إلى الفعل ، وإن حصل الشعور بكونه منافراً له ترتّب عليه الميل الجازم إلى الترك ، وإن لم يحصل لا هذا ولا ذاك لم يحصل ميل لا إلى الشيء ولا إلى ضدّه ، بل بقي الإنسان كما كان ، وعند حصول ذلك الميل الجازم يصير القدرة مع ذلك الميل موجباً للفعل

.

إذا عرفت هذا فنقول : صدور الفعل عن مجموعي القدرة والداعي الخالص أمر واجب ، فلا يكون للشيطان مدخل فيه ، وحصول تصوّر كونه خيراً أو تصوّر كونه شرّاً غير مطلق الشعور بذاته أمر لازم فلا مدخل للشيطان فيه ، فلم يبقَ للشيطان مدخل في هذه المقامات إلاّ في أن يذكره شيئاً بأن يلقي إليه حديثه ، مثل أن كان الإنسان غافلا عن صورة امرأة فيلقي الشيطان حديثها في صدره وفي خاطره ، والشيطان لا قدرة له إلاّ في هذا المقام ، وهو عين ما حكى الله تعالى عنه أ نّه قال :

( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) ( [218]) .

يعني ما كان منّي إلاّ هجس _ وخطور بالبال _ هذه الدعوة ، فأمّا بقية المراتب ما صدرت منّي وما كان لي أثر قطعاً .

ثمّ يتعرّض العلاّمة إلى بيان كيف يتعقّل تمكّن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه ، فراجع( [219]) .

وخلاصة الكلام : إنّ الشيطان لا يكون جسماً يحتاج إلى الولوج في داخل البدن بل جوهر روحاني خبيث الفعل مجبول على الشرّ ، والنفس الإنسانية كذلك ، فلا يبعد على هذا التقدير أن يلقي شكّ من تلك الأرواح أنواعاً من الوساوس والأباطيل إلى جوهر النفس الإنسانية . ويذكر في المقام احتمالات اُخرى .

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : لمّا نزلت هذه الآية : ( وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ) ( [220]) ، صعد إبليس جبلا بمكّة يقال له : ثور ، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا : يا سيّدنا لِمَ دعوتنا ؟

قال :

نزلت هذه الآية ، فمن لها ؟

فقام عفريت من الشياطين فقال : أنا لها بكذا وكذا .

قال : لست لها .

فقام آخر فقال مثل ذلك ، فقال : لست لها .

فقال الوسواس الخنّاس : أنا لها .

قال : بماذا ؟

قال : أعدهم واُمنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة ، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار .

فقال : أنت لها . فوكّله بها إلى يوم القيامة .( [221])

وجاء في تفسير ( مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ ) ( [222]) ، اسم الشيطان في صدور الناس يوسوس فيها ويؤيّسهم من الخير ويعدهم الفقر ويحملهم على المعاصي والفواحش ، وهو قول الله : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ ) ( [223]) .

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) : إذا قرأت ( قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ ) ( [224]) فقل في نفسك : أعوذ بربّ الفلق ، وإذا قرأت ( قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) ( [225]) فقل في نفسك : أعوذ بربّ الناس( [226]) .

وعن ابن عباس في قوله ( مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ ) ( [227]) : يريد الشيطان على قلب ابن آدم له خرطوم مثل خرطوم الخنزير ، يوسوس ابن آدم إذا أقبل على الدنيا وما لا يحبّ الله ، فإذا ذكر الله عزّ وجلّ انخنس ، يريد رجع ، قال الله : ( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) ( [228]) ، ثمّ أخبر أ نّه من الجنّ والإنس ، فقال عزّ وجلّ : ( مِنْ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) ( [229]) ، يريد من الجنّ والإنس ( [230]) .

قال الإمام السجّاد (عليه السلام) : فليس في غنى الدنيا راحة ، ولكنّ الشيطان يوسوس إلى ابن آدم أنّ له

في جمع ذلك راحة ، وإنّما يسوقه إلى التعب في الدنيا والحساب عليه في الآخرة( [231]) .

فجمع الأموال وتكديس الثروة وحرص الدنيا وحبّها ، والاهتمام بفتح المعامل والحوانيت والدكاكين والمخازن وما شابه ذلك ، إنّما هو من وساوس الشيطان ، فإنّه يتعبك في الدنيا بجمعها ، وفي الآخرة بجواب حسابها ، ففكّر قليلا ولا تغفل ولا تغترّ فإنّك تقف على حقيقة ما أقول ، والله المستعان .

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : آثروا عاجلا وأخّروا آجلا وتركوا صافياً وشربوا آجاناً ، ازدحموا على الحطام وتشاحّوا على الحرام ، ودعاهم الشيطان فاستجابوا وأقبلوا( [232]) .

2 _ الهمزة :

فإنّ الشيطان بعد وسوسته يلمز ويهمز في دعوته الشيطانية ، وعلى المؤمن بالله المعتصم به والمتوكّل عليه أن يتعوّذ بالله سبحانه ، ويلجأ إليه من همزات الشياطين :

( وَقُلْ رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحْضُرُونِ ) ( [233]) .

وهذا يعني أنّ الهمزة مقدّمة الحضور ، واُمّ مريم قبل ولادتها تدعو الله سبحانه قائلةً :

( وَإنِّي اُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) ( [234]) .

وهذا يدلّ على أن ندعو لأبنائنا بل وذرّيتنا جيلا بعد جيل أن لا يتسلّط عليهم الشيطان ، فنوكل أمرهم وأمرنا إلى الله سبحانه ، ونتعوّذ من همزاته ونفخاته ونفثاته .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : تعوّذوا بالله من الشيطان الرجيم ، فإنّ من تعوّذ بالله أعاذه الله ، وتعوّذوا من همزاته ونفخاته ونفثاته ، أتدرون ما هي ؟ أمّا همزاته : فما يلقيه في قلوبكم من بغضنا أهل البيت .

قالوا : يا رسول الله ، وكيف نبغضكم بعدما عرفنا محلّكم من الله ومنزلتكم ؟

قال : أن تبغضوا

أولياءنا وتحبّوا أعداءنا .

قيل : يا رسول الله ، وما نفخاتهم ؟

قال : هي ما ينفخون به عند الغضب في الإنسان الذي يحملونه على هلاكه في دينه ودنياه ، وقد ينفخون في غير حال الغضب بما يهلكون به ، أتدرون ما أشدّ ما ينفخون ؟ وهو ما ينفخون بأن يوهموا أنّ أحداً من هذه الاُمّة فاضل علينا أو عدل لنا اهل البيت ، وأمّا نفثاته : فإنّه يرى أحدكم أنّ شيئاً بعد القرآن أشفى له من ذكرنا أهل البيت ومن الصلاة علينا( [235]) .

3 _ النزغة :

فإنّ الشيطان بعد وسوسته وهمزه وحضوره يغمز الإنسان وينزغه ، ويقرصه في إضلاله ليحسّ به ، وعلى المؤمن أن يستعيذ بالله من نزغته :

( وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( [236]) .

( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً ) ( [237]) .

فالنزغ وسوسة من الشيطان في القلب ، وقيل : الإزعاج بالإغواء ونخسة في القلب ، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب ، وأصله الإزعاج بالحركة ، وقيل : الفساد ، ومنه :

( نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إخْوَتِي ) ( [238]) .

وأصله من نخس الرائض الدابة وحملها على الجري ، فتأتي النزغة بمعنى الطعنة والرمي .

وقال الزجّاج : النزغ أدنى حركة تكون ، ومن الشيطان أدنى وسوسة ( فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ) ، أي سل الله عزّ اسمه أن يعيذك منه ( إنَّهُ سَمِيعٌ ) للمسموعات ( عَلِيمٌ ) بالخفيّات ، سميع لدعائك عليم بما عرض لك ، وقيل : النزغ أوّل الوسوسة ، والمسّ لا يكون إلاّ بعد التمكّن ، ولذلك فصّل الله

سبحانه بين النبيّ وغيره ، فقال للنبيّ : ( وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ ) ، وقال للناس : ( إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ ) فوسوس إليهم الشيطان وأغراهم بمعاصيه ( تَذَكَّرُوا ) ما عليهم من العقاب بذلك فيجتنبونه ويتركونه ( فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) للرشد والصواب والصراط المستقيم .

وفي الدعاء والمناجاة : ( إلهي أشكوا إليك عدوّاً يضلّني وشيطاناً يغويني قد ملأ بالوسواس صدري ، وأحاطت هواجسه بقلبي ، يعاضد لي الهوى ويزيّن لي حبّ الدنيا ، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى ) .

4 _ الزلّة :

إنّ الشيطان بعد أن يوسوس في الصدور ويهمز في النفوس وينزغ في الأرواح فيرتكب الإنسان المعاصي ويكتسب الذنوب ، فيسترسله الشيطان ويستزلّه ، ويوقعه في الزلاّت واحدة بعد الاُخرى :

( إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ) ( [239]) .

فيكون التفاعل بين دعوة الشيطان واستجابة الإنسان ، ومن ثمّ يقع في الزلاّت ثمّ الهلاك لولا التوبة والإنابة والرجوع إلى الله سبحانه بنيّة صادقة خالصة .

5 _ الغواية :

بعدما يوسوس الشيطان ويهمز للإنسان وينزغه فيتبعه ليغويه عن الصراط المستقيم ، فإنّ الإنسان في بداية أمره ، لما يحمل من الفطرة السليمة والعقل السليم يكون في صراط الله المستقيم ، إلاّ أ نّه بوسوسة الشيطان ينحرف عن الصواب ، ويدخل في غواية الشيطان :

(

قَالَ فَبَِما أغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أجْمَعِينَ ) ( [240]) .

وقال سبحانه :

( وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَأ مَسْنُون * فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي

فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أجْمَعُونَ *إلاَّ إبْلِيسَ أبَى أنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إبْلِيسُ مَا لَكَ أ لاّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَأ مَسْنُون * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإنَّكَ رَجِيمٌ * وَإنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأ نْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي لاَُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ * وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أجْمَعِينَ ) ( [241]) .

6 _ المقارنة :

إذا اتّبع الإنسان شيطانه ، فإنّ الشيطان يفتح ذراعيه ليضمّه إلى صدره ، فيصادقه في العداء والإغواء ويكون له خليلا وقريناً ، فمعه في رحله وترحاله ، في سكونه وحركاته ، ويزيّن له أعماله السيّئة كما قال سبحانه :

( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ) ( [242]) .

( وَإنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أ نَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) ( [243]) .

( حَتَّى إذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ ) ( [244]) .

( وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ) ( [245]) .

7 _ الحزب :

فإنّ الشيطان بعد أن يكون قريناً للإنسان فإنّه يدخله في حزبه الخاسر :

( ألا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ) ( [246]) .

وإذا أردت أن تعرف صفات الذين ينتمون إلى حزب الشيطان الذي أساسه الشرك والكفر فاقرأ معي هذه الآيات الكريمة :

( أ لَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ

مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ا تَّخَذُوا أيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً اُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أ نَّهُمْ عَلَى شَيْء ألا إنَّهُمْ هُمُ الكَاذِ بُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ اُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ألا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ) ( [247]) .

وقد ذكرت تفصيل معالم الحزب الشيطاني كما مرّ ، فراجع .

8 _ الاُخوّة :

بعد أن كان الشيطان قرين الإنسان ورفيقه في مسيرة الحياة ودخوله في التحزّب الشيطاني ، فإنّه يؤاخيه في الضلال والكفر ، فيأمره بالظلم والإسراف والتبذير :

( إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) ( [248]) .

ومن الواضح أنّ الاُخوّة تكون نتيجة كثرة المقارنة وقربها ، وهي تكون نتيجة الزلاّت الكثيرة والإغواء الشديد ومتابعة الوساوس والنزغات الشيطانية .

9 _ الاستحواذ :

بعد تلك المراحل والخطوات الشيطانية فإنّ الشيطان اللعين يستحوذ عليه ، أي يستلبه بسرعة ويتغلّب عليه ، وذلك عندما يرى نفسه ، وتحكمه أنانيته ، ويعجب بنفسه ، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :

بينما موسى (عليه السلام) جالس إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان ، فلمّا دنا من موسى خلع البرنس وقام إلى موسى فسلّم عليه ، فقال له موسى : من أنت ؟ قال : أنا إبليس ، قال : أنت ؟ فلا قرّب الله دارك ، قال : إنّي إنّما جئت لاُسلّم عليك لمكانك من الله

، قال : فقال له موسى : فما هذا البرنس ؟ قال : به أختطف قلوب بني آدم ، فقال له موسى : فأخبرني عن الذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ؟ قال : إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينيه ذنبه( [249]) .

ولمثل هذه الذنوب استحوذ الشيطان على جيش معاوية ويزيد في حرب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وولديه الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) ، كما قال سيّد الشهداء (عليه السلام) في وصف جيش عمر بن سعد : لقد استحوذ عليهم الشيطان .

10 _ الولاية الشيطانية :

بعد أن يقارن الشيطان الإنسان ويكون له أخ وقرين ، فإنّه لا يرضى بذلك ، بل يكون عليه ولياً ، وكأنّ الإنسان يكون طفلا بيده فيتولّى أمره ، كما يتولّى الوالد أمر ولده ، فيخرج من ولاية الله ورسوله واُولى الأمر ليدخل في ولاية الشيطان ، وذلك حينما يصل إلى مرحلة الكفر وعدم الإيمان ، كما قال سبحانه :

( إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( [250]) .

( وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ) ( [251]) .

( وَلاُضِلَّنَّهُمْ وَلاُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأ نْعَامِ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً ) ( [252]) .

( إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ ) ( [253]) .

( فَقَاتِلُوا أوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ) ( [254]) .

( يَا أبَتِ إنِّي أخَافُ أنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً ) ( [255]) .

( إنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ ) ( [256]) .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إذا استحقّت ولاية الله والسعادة جاء الأجل

بين العينين وذهب الأمل وراء الظهر ، وإذا استحقّت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر( [257]) .

11 _ الوحي الشيطاني والتنزّل :

بعد أن دخل الإنسان في ولاية الشيطان فإنّه يوحي إليه المنكرات والمعاصي وما فيه ضلاله وإضلال غيره ، والله يخبرنا على من يتنزّل الشيطان في قوله تعالى :

( هَلْ اُ نَبِّؤُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أفَّاك أثِيم * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ * أ لَمْ تَرَ أ نَّهُمْ فِي كُلِّ وَاد يَهِيمُونَ * وَأ نَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ ) ( [258]) .

( أ لَمْ تَرَ أ نَّا أرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أزّاً ) ( [259]) .

( وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ ) ( [260]) .

12 _ الاستحمار :

لا تعجب من هذا العنوان ، فإنّ الشيطان في نهاية المطاف يستحمر من يدخل في ولايته ، وهذا ما قاله من بدو الخلقة بأن يجعل زمامه في حنك كثير من الناس فيمتطي ظهورهم ويسوقهم ويهديهم نحو جهنّم وعذاب السعير :

( قَالَ أرَأيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أخَّرْتَنِي إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاََحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلاَّ قَلِيلا ) ( [261]) .

فإنّ الشيطان قال مقولته النكراء لله سبحانه ، وكان يتوقّع ذلك إلى يوم القيامة ، كما يتوقّع إضلال البشرية كلّها إلاّ قليلا :

( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إ بْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلاَّ فَرِيقاً مِنَ المُؤْمِنِينَ ) ( [262]) .

( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلا ) ( [263]) .

فلا تجد

أكثرهم من الشاكرين ، بل وقليل من عبادي الشكور ... كما يتجلّى هذا المعنى في قصّة كربلاء وواقعة الطفّ يوم عاشوراء ، فإنّ في معسكر يزيد شارب الخمور ثلاثين ألفاً استحوذ عليهم الشيطان ، وفي معسكر الإمام الحسين سيّد الشهداء (عليه السلام) اثنان وسبعون نفراً من الطيّبين الأبرار الأخيار عليهم رضوان الله أبد الآبدين ، وكلّ واحد في كلّ زمان ومكان لا بدّ أن يرى نفسه في أيّ المعسكرين : معسكر الحقّ الحسيني أو الباطل اليزيدي ، فإنّ كلّ أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء ، وقفوهم إنّهم مسؤولون .

وجاء في الخبر الشريف : ... ثمّ رفع رأسه _ الشيطان _ ثمّ قال : وعزّتك وجلالك لألحقنّ الفريق بالجميع ، قال : فقال النبيّ : بسم الله الرحمن الرحيم : إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان .

( إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( [264]) .

( إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ ) ( [265]) .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فإذا أردتم أن تديموا على إبليس سخنة عينه ، وألم جراحاته فداوموا على طاعة الله وذكره والصلاة على محمّد وآله ، وإن زلتم عن ذلك كنتم اُسراء ، فيركب أقفيتكم بعض مردته( [266]) .

وركوب القفى يعني الاستحمار ...

أجل ، حبّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، من أعظم العوامل لطرد الشيطان والخلاص من خطواته وأعوانه ، وإنّ الكبريت الأحمر والأكسير الأعظم هو حبّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأهل بيته وموالاتهم ، فما أكثر الروايات في هذا المقام .

فقد جاء في المناقب في حديث طويل عن علي بن محمّد الصوفي ، أ نّه

لقي إبليس وسأله فقال له : من أنت ؟

قال : أنا من ولد آدم .

فقال : لا إله إلاّ الله ، أنت من قوم يزعمون أ نّهم يحبّون الله ويعصونه ويبغضون إبليس ويطيعونه .

فقال : من أنت ؟

فقال : أنا صاحب الميسم والاسم الكبير والطبل العظيم ، وأنا قاتل هابيل ، وأنا راكب مع نوح في الفلك ، أنا عاقر ناقة صالح ، أنا صاحب نار إبراهيم ، أنا مدبّر قتل يحيى ، أنا ممكّن قوم فرعون من النيل ، أنا مخيّل السحر وقائده إلى موسى ، أنا صانع العجل لبني إسرائيل ، أنا صاحب منشار زكريا ، أنا السائر مع أبرهة إلى الكعبة بالفيل ، أنا المجمّع لقتال محمّد يوم اُحد وحنين ، أنا ملقي الحسد يوم السقيفة في قلوب المنافقين ، أنا صاحب الهودج يوم الخريبة ( يوم البصرة ) والبعير ، أنا الواقف في عسكر صفّين ، أنا الشامت يوم كربلاء بالمؤمنين ، أنا إمام المنافقين ، أنا مهلك الأوّلين ، أنا مضلّ الآخرين ، أنا شيخ الناكثين ، أنا ركن القاسطين ، أنا ظلّ المارقين ، أنا أبو مرّة ، مخلوق من نار لا من طين ، أنا الذي غضب الله عليه ربّ العالمين .

فقال الصوفي : بحقّ الله عليك إلاّ دللتني على عمل أتقرّب به إلى الله وأستعين به على نوائب دهري ؟

فقال : اقنع من دنياك بالعفاف والكفاف ، واستعن على الآخرة بحبّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وبغض أعدائه ، فإنّي عبدت الله في سبع سماواته وعصيته في سبع أرضيه ، فلا وجدت ملكاً مقرّباً ولا نبيّاً مرسلا إلاّ وهو يتقرّب بحبّه .

قال : ثمّ غاب عن

بصري ، فأتيت أبا جعفر فأخبرته بخبره فقال : آمن الملعون بلسانه وكفر بقلبه( [267]) .

أجل ، الغاوون اُولئك الذين اتّبعوا الشيطان وقد وصفهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في ذمّهم :

« اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً ، واتّخذهم له أشراكاً ، فباض وفرّخ في صدورهم ، ودبّ ودرج في جحورهم ، فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم ، فركب بهم الزلل ، وزيّن لهم الخطل ، فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه ، ونطق بالباطل على لسانه »( [268]) .

13 _ الإضلال :

بعد أن يركب الشيطان ظهر الإنسان ويمتطيه ويكون زمامه بيده ، فإنّه يسوقه إلى ما فيه الضلال والهلاك :

( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيداً ) ( [269]) .

فهذا من كيد الشيطان وإن كان ضعيفاً :

( إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) ( [270]) .

( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلا ) ( [271]) .

والعجب ولا العجب فإنّ الشيطان عدوّ الإنسان ، فلا يرضى بالضلال القليل والقريب ، بل ضلالا بعيداً ينتهي إلى الكفر والهلاك واستحقاق النار والعقاب _ اللهمّ أعذنا من شرور أنفسنا ومن شرّ الشيطان الرجيم ومن حزبه وأعوانه من الجنّ والإنس _ .

14 _ الكفر :

الشيطان عندما يستحمر أتباعه ليسوقهم إلى وادي الكفر والضلال :

( إذْ قَالَ لِلإنسَانِ ا كْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ) ( [272]) .

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) : ما من أحد يحضره الموت إلاّ وكّل به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر ويشكّكه في دينه حتّى تخرج نفسه ، فمن كان مؤمناً لم يقدر عليه .

وما أكثر الشواهد على ذلك ، فما يضمره الإنسان من حبّ الدنيا والملاذ يظهره

عند الاحتضار وعند الموت ، حتّى يصعب على المرء قول الشهادتين ، وربما يموت كافراً _ والعياذ بالله _ .

( فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أ نَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) ( [273]) .

( اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) ( [274]) .

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : ألا وإنّ شرائع الدين واحدة ، وسبله قاصدة ، من أخذ بها اُلحق وغنم ، ومن وقف عنها ضلّ وندم( [275]) .

وعنه (عليه السلام) : انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم ... لا تسبقوهم فتضلّوا ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا . ضلّ من اهتدى بغير هدى الله . ولمّا مرّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقتلى الخوارج يوم النهروان قال : بؤساً لكم ، لقد ضرّكم من غرّكم ، فقيل له : من غرّهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال : الشيطان المضلّ والأنفس الأمّارة بالسوء .

وفي كتاب إلى معاوية بن أبي سفيان قال (عليه السلام) : فقد سلكت مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل فراراً من الحقّ وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك ، ممّا قد وعاه سمعك ، وملئ به صدرك ، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال المبين( [276]) .

15 _ عبادة الشيطان :

يقولون : ليت الشيطان كان يكتفي بكفر الإنسان ، إلاّ أ نّه لم يرضَ له ، إلاّ أن يعبده ، وهذا نهاية خطواته الشرّيرة ، والله سبحانه قد عهد على الإنسان من اليوم الأوّل في قوله تعالى :

( أ لَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ( [277]) .

فسبحانه كما

يريد من الإنسان الرفض والإثبات بأن يرفض كلّ آلهة ومحبوب ومعبود ، ويؤمن بالله الذي لا شريك له ، كما في كلمة التوحيد ( لا إلَهَ إلاّ اللهَ ) كذلك الشيطان فإنّه لا يرضى بكفر الإنسان بالله ، بل يريد أن يؤمن به ويعبدونه دون غيره ، والعجب أنّ الشيطان كان كيده ضعيفاً ، ولكن ما زال يتغلّب على الإنسان في خطواته ، حتّى يصل الأمر إلى أن يترك عبادة الله الجميل الرحمن إلى عبادة القبيح الشيطان ، والله بلطفه العميم يحذّر الإنسان من مغبّة الشيطان وعبادته .

يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في ذمّ أتباع الشيطان :

اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً ، واتّخذهم له أشراكاً ، فباض وفرّخ في صدورهم ، ودبّ ودرج في جحورهم ، فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم ، فركب بهم الزلل ، وزيّن لهم الخطل ، فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه ، ونطق بالباطل على لسانه .

وهذا كلّه من آثار عبادة الشيطان ، كما من آثار عبادة الله _ كما ورد في الخبر الشريف _ أنّ العبد يتقرّب إلى الله بالنوافل ، حتّى يحبّه الله سبحانه ، فإذا أحبّه كان سمعه الذي يسمع به ولسانه الذي ينطق به وعينه الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، أي تكون يده يد الله سبحانه ، ويد الله فوق أيديهم .

ومن كتاب لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) إلى معاوية قال : فإنّك مترفٌ قد أخذ الشيطان منك مأخذه ، وبلغ فيك أمله ، وجرى منك مجرى الروح والدم( [278]) .

وعنه (عليه السلام) : إنّ رجلا كان يتعبّد في الصومعة ، وإنّ امرأة كان لها إخوة فعرض لها شيء ، فأتوه بها

، فزيّنت له نفسه فوقع عليها ، فجاءه الشيطان فقال : اقتلها ، فإنّهم إن ظهروا عليك افتضحت ، فقتلها ودفعها ، فجاؤوه فأحذروه فذهبوا به ، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال : إنّي أنا الذي زيّنت لك فاسجد لي سجدة اُنجيك ، فسجد له ، فذلك قوله : ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلإنسَانِ ا كْفُرْ ) ( [279]) ( [280]) .

وهناك صراع منذ البداية بين الرحمن والشيطان ، ويجري هذا الصراع في الزمان والمكان وفي وجود الإنسان ، كأن تكون الاُذن لله ، حتّى يسمع الإنسان بها الموعظة والنصيحة فيتأثّر بها ، وتكون العيون للشيطان حتّى يرى بها الملاذ والشهوات فيغويه ويرديه ... وهكذا في المكان كأن تكون أمريكا للشيطان وإيران للرحمن ، وإذا بإيران الإسلام تثور لتكون ثورتها انفجار نور ، ومن غلبة الرحمن على الشيطان الأكبر : ( لاََغْلِبَنَّ أ نَا وَرُسُلِي ) ( [281]) . فتدبّر وقس عليه الموارد الاُخرى . واستعن بالله الكريم .

الفصل الرابع

أساليب الشيطان

لا شكّ أ نّه في مقام الحرب والمخاصمة يستعمل كلّ واحد اُسلوبه الخاصّ للغلبة والانتصار ، والشيطان في عداوته يتّخذ أساليب خاصّة ليتسلّط على الإنسان ، ومن أهمّها :

1 _ التسويل :

فإنّ الإنسان المؤمن والمهتدي والذي عرف الحقّ واهتدى له ، ربما يصاب بالانحراف عن ذلك ، وكم يذكر لنا التأريخ أنّ اُناساً كانوا في بداية أمرهم من أهل الورع والتقوى ومن أتباع الحقّ ، ولكن في عاقبة الأمر غلبت عليهم شقوتهم ، فكانوا من الفاسقين والملحدين .

فكم من شاب كان يصلّي ويصوم ولكن في وسط الطريق انقلب على عقبه ، فصار شيوعياً أو بعثيّاً وما شابه ذلك ، فترك دينه وابتلي

بالفساد والظلم والجور وشرب الخمور وغير ذلك من المنكرات والمفاسد ، ليس ذلك إلاّ من تسويل الشيطان اللعين ، كما قال سبحانه وتعالى :

( إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأمْلَى لَهُمْ ) ( [282]) .

ومن تسويلات الشيطان تصوير الباطل وتزيينه ، وتمويه الحقّ وتشويهه ، فيحسب أ نّه يحسن صنعاً ، وإلى هذا المعنى يشير الإمام السجّاد (عليه السلام) في دعائه قائلا : « فلولا أنّ الشيطان يخدعهم عن طاعتك ما عصاك عاص ، ولولا أ نّه صوّر لهم الباطل في مثال الحقّ ما ضلّ عن طريقتك ضالّ »( [283]) .

ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « إنّ الشيطان يسني لكم طرقه ، ويريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة ويعطيكم بالجماعة الفرقة »( [284]) .

2 _ الإفك والإثم :

الذنوب والمعاصي ومنها الكذب والإفك والآثام ، إنّما هي من سنخ الشيطان ، لأ نّه مظهرها ، والفلاسفة تقول : ( السنخيّة علّة الانضمام ) ، والجنس مع الجنس يميل ، فمن يرتكب الذنوب فإنّه يميل إلى شيطانه ، والشيطان يستغلّه في مآربه وشيطنته ، فيكون الفاسق والفاجر من أعوان الشيطان لإضلال الناس ، فكلّ من فسق عن أمر ربّه ، فقد شارك الشيطان في ذلك ، فيدخل في حزبه ، فهو القمّة والقيادة والأوّل لمثل تلك القاعدة والحزب ، فيملي الشيطان على أعوانه ، وينزل عليهم بسرق أخبار السماء ليضلّوا العباد ويخرّبوا البلاد ، ويفسدوا فيها ، فتكون حكومة البلاد بيد الأفّاكين الآثمين المفسدين الشياطين ، فعلى نحو الموجبة الكلية إنّما ينزل الشيطان ويوحي إليه هو كلّ أفّاك أثيم ، كما قال سبحانه :

( هَلْ اُ

نَبِّؤُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أفَّاك أثِيم ) ( [285]) .

3 _ الغفلة عن ذكر الله :

فمن أساليب الشيطان نسيان ذكر الله والغفلة عنه ، فإنّ المتذكّر والمعتصم بالله لا يقدر الشيطان أن يستحوذه ويتسلّط عليه ، فإنّه لا سلطان له على عباد الله المخلصين ، ومن نسي الله ولم يذكره في مقام فعل الحرام ، فإنّه يرتكب المعاصي والآثام بسهولة ، وهذا من أهداف الشيطان ، فإنّه أقسم بعزّة الله أن يغوي الناس ويضلّهم ويدخلهم جهنّم وذلك هو الخسران المبين ، ليس ذلك إلاّ كما قال سبحانه :

( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ اُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ) ( [286]) .

فالمجتمع الذي لم يذكر الله سبحانه ، فإنّه مجتمع شيطاني وإنّه من حزب الشيطان .

بينما موسى نبيّ الله جالساً إذ أقبل إبليس ، قال موسى : أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ؟ قال : إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه( [287]) .

وهذا يدلّ على أنّ هذه الاُمور إنّما هي مقدّمة نسيان ذكر الله بعد استيلاء الشيطان .

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان ومحضرة للشيطان( [288]) .

من شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات وارتبك في الهلكات ومدّت به شياطينه في طغيانه وزيّنت له سيّئ أعماله .

4 _ المجادلة بغير علم :

الجدال في نفسه غير ممدوح ، وإنّما يمدح ويجوز لو كان يترتّب عليه ما يحسّنه كإثبات حقّ ، والجدال بالتي هي أحسن :

( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ ) ( [289]) .

وهذا الجدال الحسن إنّما يتمّ ويضفى عليه لباس الحسن لو كان عن علم ومن أجل العلم وإحقاق الحقّ

، فإنّه من الله وإلى الله وفي سبيل الله ، ولكن من يجادل بغير علم وبصيرة ، إنّما اتباعاً للهوى والرذيلة كالتعصّب لشخص أو قبيلة ، فإنّه بجداله اتبع الشيطان وتولاّه وربما هو لا يدري ، فلا بدّ له أن يترك المراء والجدال حتّى ولو كان محقّاً ، فإنّه سبحانه يقول :

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَان مَرِيد * كُتِبَ عَلَيْهِ أ نَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأ نَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) ( [290]) .

فالجدال بغير العلم من فتن الشيطان في إضلال الإنسان وغوايته ، لينتهي إلى عذاب السعير .

وقال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : سيكون فتن يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، إلاّ من أحياه الله بالعلم .

( وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) ( [291]) .

5 _ دخول الفتن :

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « كن في الفتنة كابن اللبون ، لا ظهر فيركب ، ولا ضرع فيحلب » . وهذا يعني أنّ الإنسان يبتلى في حياته بالفتن والاُمور الملتبسة وغير واضحة السبيل ، وليس عليها برهان ودليل ، بل تكون كالليل المظلم والسواد المدلهم ، وهذا من أساليب الشيطان وفتنه ، والله سبحانه يحذّر الناس بقوله تعالى :

( يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ) ( [292]) .

فإنّ الشيطان كثير الفتن والمخاطر والمهالك ، فاحذروا كلّ الحذر فلا يفتننكم _ بنون الثقيلة الدالّة على التأكيد _ فيضلّكم عن الصراط المستقيم .

يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « الفتن ثلاث : حبّ النساء وهو سيف الشيطان ، وشرب الخمر وهو فخّ الشيطان ، وحبّ الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان »

.

الدنيا وإن كانت دار امتحان واختبار ، وكلّ واحد يفتن فيها ، فحنّه لم يخلق عبثاً وسدىً من دون حساب وكتاب ، إلاّ أ نّه تارةً يبتلى الإنسان ببلاء حسن ، ومن لطف الله سبحانه فإنّ البلاء للولاء ، وكلّما كثر الإنسان قربه من الله كثر بلائه ومحنته في هذه الحياة ، فإنّ الجنّة حفّت بالمكاره ، والنار حفّت بالشهوات ، وربما يبتلى ببلاء سيّئ بما كسبت يديه ، والشيطان ربما يفتن الإنسان ويغرّه عن الصواب ، وهذه هي الفتنة المذمومة في الآيات والروايات وإنّ المؤمن يكون فيها كابن اللبون لا ضرع فيحلب ولا ظهر فيركب ، والله سبحانه يحذّر خلقه من فتنة الشيطان :

( إنَّ الشَّيْطَانَ للإنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ( [293]) .

( لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) ( [294]) .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ لكلّ اُمّة فتنة ، وفتنة اُمّتي المال .

قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان : رجلٌ وكّله الله إليه نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به .

وقال (عليه السلام) : أ يّها الناس ، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ستكون فتن يصبح الرجل فيها مؤمناً ويُمسي كافراً إلاّ من أحياه الله تعالى بالعلم .

وقال (صلى الله عليه وآله) : كفى بالمرء في دينه فتنةً أن يكثر خطؤه ، وينقص عمله ، وتقلّ حقيقته ، جيفة بالليل بطّال بالنهار كسول هلوع رتوع .

وقال (صلى الله عليه وآله) : ليغشينّ اُمّتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم يصبح

الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل .

وقال (عليه السلام) : كن في الفتنة كابن اللبون ، لا ظهر فيركب ، ولا ضرع فيحلب( [295]) .

6 _ التزيّن :

فإنّ الشيطان يزيّن أعمال المفسدين والفاسقين ، وهذا من أهمّ أساليب الشياطين من الجنّ والإنس بعضهم مع بعض ، فكلّ واحد يزيّن للآخر عمله ، حتّى يبقى في الضلال ، كما لا يبقى وحده في وادي الجهل والضلال :

( وَإذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أعْمَالَهُمْ ) ، أي اذكروا إذ زيّن الشيطان للمشركين أعمالهم فحسّنها في نفوسهم ، فإنّ إبليس حسّن لقريش مسيرهم إلى بدر لقتال النبيّ : ( وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ ) ، أي لا يغلبكم أحد من الناس لكثرة عددكم وقوّتكم ( وَإنِّي ) مع ذلك ( جَارٌ لَكُمْ ) وناصر لكم ودافع عنكم السوء ، وإنّي عاقد لكم عقد الأمان من عدوّكم ( فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ ) أي التقت الفرقتان ( نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ) أي رجع القهقرى منهزماً وراءه ( وَقَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنِّي أرَى مَا لا تَرَوْنَ ) فكان يرى من الملائكة الذين جاؤوا لنصر المسلمين ( إنِّي أخَافُ اللهَ ) أي عذابه على أيدي من أراهم ( وَاللهُ شَدِيدُ العِقَابِ ) ( [296]) .

ونتيجة الذنوب قساوة القلوب ، ونتيجة القساوة أنّ الشيطان يزيّن الأعمال لمن قسى قلبه :

( وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( [297]) .

( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) ( [298]) .

( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) ( [299]) .

( تَاللهِ لَقَدْ أرْسَلْنَا

إلَى اُمَم مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أعْمَالَهُمْ ) ( [300]) .

7 _ تغيّر خلق الله :

من أساليب الشيطان كما قال : ( وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ) ( [301]) ، هو تغيّر خلق الله .

وقد ورد في الخبر الشريف عن جابر ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، في قول الله ( وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ) ، قال : دين الله ، وفي خبر آخر قال : أمر الله بما أمر به .

وقال الطبرسي (رحمه الله) : قيل : يريد دين الله وأمره ، عن ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة ، وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، ويؤيّده قوله سبحانه : ( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) ( [302]) ، وأراد بذلك تحريم الحلال وتحليل الحرام ، وقيل : أراد الخصاء ، وقيل : إنّه الوشم ، وقيل : إنّه أراد الشمس والقمر والحجارة عدلوا عن الانتفاع بها إلى عبادتها( [303]) .

8 _ زخرف القول :

( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْض زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) ( [304]) .

9 _ أكل الربا :

من الفواحش والأساليب الشيطانية في المجتمع السالم أكل الربا وترويجه ، حتّى تنهار اُسس الاقتصاد السليم ، فمن يأكل الربا إنّما هو من أتباع الشيطان :

( الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ المَسِّ ) ( [305]) .

والناس يقولون في الربا : ( إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ( [306]) ، ولكنّ الله سبحانه يراه حرباً معه جلّ جلاله : ( فَأذَنُوا

بِحَرْب مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) ( [307]) .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : شرّ الكسب كسب الربا .

وقال : إنّ الله عزّ وجلّ لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه .

وقال : سيأتي زمان لا يبقى منهم أحد إلاّ أكل الربا ، فإن لم يأكله أصابه من غباره .

قال الإمام الرضا (عليه السلام) : اعلم يرحمك الله أنّ الربا حرام سحت من الكبائر وممّا وعد الله عليه النار فتعوّذ بالله منها ، وهو محرّم على لسان كلّ نبيّ وفي كلّ كتاب .

عن الإمام الصادق (عليه السلام) :

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لمّا اُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟

قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ .

وقال (صلى الله عليه وآله) : أتيت ليلة اُسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها حيّات ترى من خارج بطونهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتّى يتخبّطه الشيطان .

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من أكل الربا ملأ الله عزّ وجلّ بطنه من نار جهنّم بقدر ما أكل وإن اكتسب منه مالا لا يقبل الله تعالى منه شيئاً من عمله ، ولم يزل في لعنة الله والملائكة ما كان عنده منه قيراط واحد .

قال الصادق (عليه السلام) : درهم ربا يأكله أعظم عند الله من ثلاثين زنية كلّها بذات محرم مثل خاله وعمّه .

وقال : درهم ربا

أعظم عند الله من سبعين زنية بذات محرم في بيت الله الحرام .

وإنّما حرّم الربا لما فيه من فساد الأموال ومنع المعروف ولترك الناس التجارات المحلّلة التي تنفع البلاد ، ومن اتّجر بغير فقه ارتطم في الربا ثمّ ارتطم ، فلا بدّ من الفقه والفهم في الدين وفي أحكام التجارة ، وإذا كثر المال بالربا فإنّه يوجب محق الدين وزواله .

وما أكثر الروايات في ذمّ الربا والمرابي( [308]) .

10 _ الخمر والميسر :

من أعمال الشيطان ومنكراته التي تهدم صرح المجتمع وتفشي فيه الفساد هو الخمر والقمار :

( إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) ( [309]) .

( إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ) ( [310]) .

وعندنا المئات من الأخبار الشريفة عن النبيّ والعترة (عليهم السلام) في ذمّ الخمر والقمار ، لم نتعرّض لها طلباً للاختصار .

11 _ النجوى :

( إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ( [311]) .

النجوى يعني أن يتكلّم همساً أحد الجليسين مثلا في اُذن الآخر مع حضور الآخرين .

ويقول الله سبحانه :

( أ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأنَّ اللهَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ) ( [312]) .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث .

وقال (صلى الله عليه وآله) : إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتّى يختلطوا بالناس ، فإنّ ذلك يحزنه( [313]) .

وترك النجوى من الأخلاق الإسلامية ، كما أنّ النجوى من فعل الشيطان ليؤذي ويحزن المؤمنين .

12 _ الأمر بالفحشاء والمنكر :

إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان ، والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر ، وبالظلم والعداء والتجاوز وبالشرّ والشين

والفجور :

( وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ ) ( [314]) .

( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ( [315]) .

13 _ الرجز :

( وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ) ( [316]) .

والآية الشريفة نزلت في قصّة بدر وهي أوّل غزوة في الإسلام ، وتشير وغيرها من الآيات كيف نصر الله المؤمنين بالملائكة ، وأنزل عليهم من السماء ماءً ليطهّرهم به ويذهب عنهم رجز الشيطان وليربط على قلوبهم ويثبّت به الأقدام( [317]) ، والرجز هو الرجس والقذارة والمراد برجز الشيطان القذارة التي يطرأ القلب من وسوسته وتسويله . ومعنى الآية : إنّ النصر والإمذاد بالبشرى واطمئنان القلوب كان في وقت يأخذكم النعاس للأمن الذي أفاضه الله على قلوبكم ، فنمتم ولو كنتم خائفين مرتاعين لم يأخذكم نعاسٌ ولا نوم ، وينزل عليكم المطر ليطهّركم به ويذهب عنكم وسوسة الشيطان وليربط على قلوبكم ويشدّ عليها _ وهو كناية عن التشجيع _ وليثبّت بالمطر أقدامكم في الحرب بتلبّد الرمل أو بثبات القلوب .

14 _ النسيان :

يقال إنّ الإنسان خلق من النسيان ، فإنّه كثيراً ما يبتلى بالنسيان ، ولكنّ المؤمن متذكّر يذكر الله سبحانه ، فهو قليل النسيان ، وربما يبتليه الشيطان بالنسيان كما قال من كان مع موسى بن عمران (عليه السلام) :

( فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أ نْسَانِي إلاَّ الشَّيْطَانُ أنْ أذْكُرَهُ ) ( [318]) .

( وَإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( [319]) .

( إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ) ( [320]) .

( فَأنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ) (

[321]) .

وهذا نتيجة النسيان لذكر الله ولو لحظة من اللحظات ، إنّه مثل يوسف النبي (عليه السلام) يسجن سبع سنوات أو يزيد في تركه الأولى ، فكيف باُولئك الذين :

( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ ) ( [322]) .

15 _ الأماني :

من الأساليب الشيطانية التمنّي الفارغ في الحياة ، حتّى المقرّبين ربما يبتلون بهذا الاُسلوب الذي يعدّ مقدّمة للضلال والهلاك :

( وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إذَا تَمَنَّى أ لْقَى الشَّيْطَانُ فِي اُمْنِيَّتِهِ ) ( [323]) .

( فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ ) (7) .

( لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) ( [324]) .

16 _ التجارة الشيطانية :

إنّ عيسى بن مريم (عليه السلام) لقى إبليس وهو يسوق خمسة أحمرة عليها أحمال ، فسأله عن الأحمال فقال : تجارة أطلب لها مشتريهن .

فقال : وما هي التجارة ؟

قال : إحداها الجور .

قال : ومن يشتريه ؟

قال : السلاطين .

ثمّ ذكر الكبر ويشتريه الدهاقين ، ثمّ الحسد ويشتريه العلماء ، والخيانة ويشتريها عمّال التجّار ، والكيد ويشتريه النساء( [325]) .

إنّ كيدهن لعظيم ، فإنّه من تجارة الشيطان .

17 _ الحسد والبغي :

إنّما دخل الشيطان النار بحسده وكِبره ، وإنّه حسد آدم على علمه وتكبّر عليه بعدم التواضع له بالسجود ، فبغى على نفسه ثمّ على ذرّية آدم ، وألقى الحسد بين الناس لا سيّما بين العلماء ، كما ورد في الخبر أ نّه كان يحمل أمتعة على عشرة من الإبل ، فسئل عنها ، فأجاب : إنّه الحسد ، تسعة منها للعلماء ، وواحدة لجميع الناس ، واشترك العلماء فيه أيضاً .

قال أمير المؤمنين

(عليه السلام) : الله الله في عاجل البغي وآجله ، وخامة الظلم وسوء عاقبة الكبر ، فإنّها مصيدة إبليس العظمى ومكيدته الكبرى( [326]) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : يقول إبليس لجنوده : ألقوا بينهم الحسد والبغي ، فإنّهما يعدلان عند الله الشرك .

وكلّ شيء نرجع علمه إلى الله ورسوله ، إلى القرآن الكريم وعترة النبيّ (عليهم السلام) .

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : انظر أ يّها السائل ، فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به ، واستضيء بنور هدايته ، وما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأئمة الهدى أثره فكِلْ علمه إلى الله سبحانه ، فإنّ ذلك منتهى حقّ الله عليك( [327]) .

الفصل الخامس

كيف الخلاص من الشيطان ؟

إذا عرفت أنّ عدوّك اللدود الذي أعدّ نفسه وجنده لهلاكك وكفرك وتحطيم إنسانيتك وكيانك وشخصيّتك ، وأ نّه لك بالمرصاد ليل نهار ، ولا يغفل عن غوايتك وضلالك أبداً ، ما دمت لم تعتصم بالله سبحانه ، فيأتيك بخطوات وسوسته وصوته ، ثمّ بخيله ورجله ، وهكذا حتّى يقول لك : اكفر بالله ثمّ يتبرّأ منك ، إذا عرفت هذا الشيطان عدوّك ، فإنّك ومن العقل السليم أن تجاهده وتحاربه وتتخلّص من شروره وفتنه وأحزابه وأعوانه وجنده ، فتبحث عن أهمّ الوسائل الحربية للخلاص من كيده ومكره وحِيله ، فإنّه وكما ورد في الأمثال : الحديد بالحديد يُفلح ، فتعال معي لنأخذ دروس وأسلحة الخلاص من شرّ الشياطين ، وذلك من كلام الوحي وأهله ، من الرسول الأكرم وعترته الطاهرين .

فمن أدوات الخلاص :

1 _ التواضع :

فإنّ من تواضع لله رفعه ، ومن يتسلّح بسلاح التواضع للحقّ

، فإنّه يتخلّص من كيد الشياطين ، فإنّ الشيطان إنّما حرّم من رحمة الله وجنّات عرضها السماوات والأرض ، ومن قرب الله ورضوانه بالتكبّر ، فإنّه أخذته العزّة بالإثم ، ولم يتواضع

لآدم ولما عنده من العلم ، فاستكبر وكان من الكافرين ، فمن يحمل صفة التكبّر من دون الله ، فإنّه من الشيطان ، وما يقابل التكبّر التواضع ، فخير سلاح للخلاص من شرّ الشيطان كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : اتّخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوّكم إبليس وجنوده ، فإنّ له من كلّ اُمّة جنوداً وأعواناً ورَجِلا وفرساناً( [328]) .

أتى إبليس نوح لمّا ركب السفينة فقال له نوح : من أنت ؟ قال : أنا إبليس ، قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت تسأل ربّك هل لي من توبة ؟ فأوحى الله إليه : أنّ توبته أن يأتي قبر آدم فيسجد له ، قال : أمّا أنا لم أسجد له حيّاً أسجد له ميّتاً ؟ قال : فاستكبر وكان من الكافرين( [329]) .

2 _ الصوم والصدقة والحبّ في الله :

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ألا اُخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم تباعد المشرق والمغرب ؟ قالوا : بلى ، قال : الصوم يسوّد وجهه ، والصدقة تكسر ظهره ، والحبّ في الله والمؤازرة على العمل الصالح يقطعان دابره ، والاستغفار يقطع وتينه( [330]) .

قال الإمام الباقر (عليه السلام) : عليكم بالصدقة ، فبكّروا بها فإنّها تسوّد وجه إبليس( [331]) .

قال إبليس لموسى نبيّ الله : إذا هممت بصدقة فامضها ، وإذا همّ العبد بصدقة

كنت صاحبه دون أصحابي حتّى أحول بينه وبينها( [332]) .

وهذا يعني

أنّ الشيطان الأكبر بنفسه يأتي ليضلّ هذا العبد الذي نوى أن يتصدّق في سبيل الله سبحانه ، وبنظري إنّ النيّة الاُولى في الصدقة لله ، فإنّ المرء في بداية الأمر ينوي أن يعطي مالا في سبيل الله كتزويج فقير مثلا ألف دينار ، ولكن بعد لحظات يرى أنّ نيّته انقلبت من الألف إلى النصف ، فهذه من الشيطان ، فالشعلة الاُولى من الله ، ولكن الثانية من الشيطان وهكذا حتّى يترك الإنسان صدقته وتطفي الشعلة ، فيظلّم الإنسان بعدما كان نورانياً بنيّة الصدقة ودفعها ، فلا بدّ من المبادرة ، فإنّ خير البرّ عاجله .

3 _ الاعتصام بالله والاتكال عليه :

ما أكثر الآيات التي تقول بالاعتصام بالله وبحبله الكريم :

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً ) ( [333]) .

والاتكال عليه :

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( [334]) .

وما أكثر الروايات في مثل هذه الاُمور الإلهيّة والأخلاق الربانية ، وإنّها من أهمّ الوسائل التي يتخلّص الإنسان من شرور الشيطان .

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : قال إبليس : خمسة أشياء ليس لي فيهنّ حيلة ، وسائر الناس في قبضتي : من اعتصم بالله عن نيّه صادقة ، واتّكل عليه في جميع اُموره ، ومن كثر تسبيحه في ليله ونهاره ، ومن رضي لأخيه المؤمن ما يرضاه لنفسه ، ومن لم يجزع عن المصيبة حين تصيبه ، ومن رضي بما قسم الله له ولم يهتمّ لرزقه( [335]) .

4 _ الدعاء :

الدعاء مخّ العبادة وسلاح المؤمن ، ولولاه لما اعتنى الله بالإنسان ، وإنّ المتكبّر عن عبادة الله من لم يدعُ ، فالدعاء من أمضى الأسلحة في وجه الشيطان وكيده .

يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : أكثر

الدعاء تسلم من سورة الشيطان( [336]) .

والدعاء يعني الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى .

5 _ الولاية الرحمانية ( [337]) :

الله الله بالولاية ، فما أدراك ما الولاية ، تلك ولاية الله ورسوله وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) فإنّها حصن الله الحصين ، ومن دخل حصن الله أمن من عذاب الله ، وأمن من مكر الشيطان وكانت عاقبته على خير ، وأ نّه يتوفّق للتوبة ويرجع إلى ربّه منيباً تائباً مستغفراً ، وهذا كلّه من بركات الولاية .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : ( إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) ( [338]) ، ليس له أن يزيلهم عن الولاية ، فأمّا الذنوب وأشباه ذلك فإنّه ينال منهم كما ينال من غيرهم( [339]) .

وقال الشيطان لمحمّد الصوفي لمّا قال له : بحقّ الله عليك إلاّ دللتني على عمل أتقرّب به إلى الله وأستعين به على نوائب دهري ، فقال : اقنع من دنياك العفاف والكفاف واستعن على الآخرة بحبّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وبغض أعدائه ، فإنّي عبدت الله في سبع سماواته وعصيته في سبع أرضيه ، فلا وجدت ملكاً مقرّباً ولا نبيّاً مرسلا إلاّ وهو يتقرّب بحبّه . قال : ثمّ غاب عن بصري ، فأتيت أبا جعفر (عليه السلام) فأخبرته بخبره فقال : آمن الملعون بلسانه وكفر بقلبه( [340]) .

6 _ ذكر الله والصلاة على محمّد وآله ( [341]) :

فإنّ الشيطان يفرّ من الذاكر لله ومن يصلّى على محمّد وآله . أخبرنا بذلك الرسول الأكرم في قوله (صلى الله عليه وآله) : ألا فاذكروا يا اُمّة محمّد محمّداً وآله عند نوائبكم وشدائدكم لينصر الله بهم ملائكتكم

على الشياطين الذين يقصدونكم ، فإنّ كلّ واحد منكم معه ملك عن يمينه يكتب حسناته ، وملك عن يساره يكتب سيّئاته ، ومعه شيطانان من عند إبليس يغويانه ، فإذا وسوسا في قلبه ذكر الله وقال : ( لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم وصلّى على محمّد وآله ) ، حبس الشيطانان ، ثمّ سار إلى إبليس فشكواه وقالا له : قد أعيانا أمره فأمددنا بالمردة ، فلا يزال يمدّهما حتّى يمدّهما بألف مارد فيأتونه ، فكلّما راموه ذكر الله وصلّى على محمّد وآله الطيّبين لم يجدوا عليه طريقاً ولا منفذاً ، قالوا لإبليس : ليس له غيرك تباشره بجنودك فتغلبه وتغويه ، فيقصده إبليس بجنوده فيقول الله تعالى للملائكة : هذا إبليس قد قصد عبدي فلاناً ، أو أمتي فلانة بجنوده ، ألا فقاتلوه فيقاتلهم بإزاء كلّ شيطان رجيم منهم ألف ملك ، وهم على أفراس من نار بأيديهم سيوف من نار ورماح من نار وقسيّ ونشاشيب وسكاكين وأسلحتهم من نار ، فلا يزالون يخرجونهم ويقتلونهم بها ويأسرون إبليس فيضعفون عليه تلك الأسلحة فيقول : يا ربّ وعدك وعدك ، قد أجّلتني إلى يوم الوقت المعلوم ، فيقول الله تعالى للملائكة : وعدته أن لا اُميته ، ولم أعده أن لا اُسلّط عليه السلاح والعذاب والآلام ، اشتفوا منه ضرباً بأسلحتكم فإنّي لااُميته ، فيثخنونه بالجراحات ، ثمّ يدعونه فلا يزال سخين العين على نفسه وأولاده المقتولين المقتّلين ، ولا يندمل شيء من جراحاته إلاّ بسماعه أصوات المشركين بكفرهم ، فإن بقي هذا المؤمن على طاعة الله وذكره والصلاة على محمّد وآله بقي إبليس على تلك الجراحات ، وإن زال العبد عن

ذلك وانهمك في مخالفة الله عزّ وجلّ ومعاصيه اندملت جراحات إبليس ، ثمّ قوي على هلاك العبد حتّى يلجمه ويسرّج على ظهره ويركبه ، ثمّ ينزل عنه ويركب ظهره شيطاناً من شياطينه ويقول لأصحابه : أما تذكرون ما أصابنا من شأن هذا ؟ ذلّ وانقاد لنا الآن حتّى صار يركبه هذا ، ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فإن أردتم أن تديموا على إبليس سخنة عينه وألم جراحاته ، فداوموا على طاعة الله وذكره والصلاة على محمّد وآله ، وإن زلتم عن ذلك كنتم اُسراء فيركب أقفيتكم بعض مردته( [342]) .

7 _ الاستغفار :

من أهمّ العوامل للخلاص من شرّ الشيطان الاستغفار والرجوع إلى الله فإنّه التوّاب الرحيم ، أي يتوب على العبد كثيراً _ بصيغة المبالغة _ الدالّة على الكثرة وهي تستلزم كثرة الذنوب ، فلا ييأس المذنب مهما فعل من الذنوب . فإنّ الله يغفرها جميعاً إلاّ ما اُشرك به .

وكما ورد في الدعاء : ( اللهمّ إنّي أطعتك في أحبّ الأشياء إليك وهو التوحيد ، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر ، فاغفر لي ما بينهما ) ، أي ما دام كان موحّداً ولم يكن كافراً فإنّ الله يغفر جميع ذنوبه ما بين التوحيد والكفر )( [343]) .

فخير دواء للذنوب والآثام هو الاستغفار والتوبة والرجوع والإنابة إلى الله سبحانه ، وإنّ إبليس وجنده ليعجزون عن الثواب ، كما ورد في الخبر الشريف : بلغنا أنّ إبليس تمثّل ليحيى بن زكريا (عليه السلام) فقال له : أنصحك ؟ فقال : لا اُريد ذلك ، ولكن أخبرني عن بني آدم فقال : هم عندنا ثلاثة أصناف : صنف منهم أشدّ

الأصناف عندنا ، نقبل على أحدهم حتّى نفتنه في دينه ونستمكن منه ، فيفزع إلى الاستغفار والتوبة فيفسد علينا كلّ شيء حاجتنا فنحن معه في عناء ، وصنف هم في أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم ، نتلقّفهم كيف شئنا ، قد كفينا مؤونة أنفسهم ، وصنف منهم مثلك معصومون لا نقدر منهم على شيء( [344]) .

عن النبيّ في حديث : الاستغفار يقطع وتين الشيطان ( الوتين عرق في القلب إذا قطع مات صاحبه ) .

8 _ التسمية :

التسمية باسم الله سبحانه في كلّ شيء يوجب الحصانة من شرّ الشيطان ، كما يوجب البركة الإلهية من الخير المستمرّ والمستقرّ ، ولنا في هذا الباب نصوص كثيرة . وإنّه لا بدّ من مراعاة التسمية من أوّل الحياة قبل انعقاد النطفة ، فإنّه حين المقاربة من لم يسمّ بالله ويذكر الله فإنّ الشيطان يلعب دوره ، ويشارك الإنسان في نطفته ، كما أخبرنا بذلك من اتّصل بالوحي والرسالة .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إذا أتى أحدكم أهله فليذكر الله ، فإنّ من لم يذكر الله عند الجماع فكان منه ولد ، كان شرك الشيطان ، ويعرف ذلك بحبّنا وبغضنا( [345]) .

وقال (عليه السلام) : إنّ الرجل إذا أتى المرأة وجلس مجلسه حضره الشيطان ، فإن هو ذكر اسم الله تنحّى الشيطان عنه ، وإن فعل ولم يسمّ أدخل الشيطان ذكره ، فكان العمل منهما جميعاً ، والنطفة واحدة ، قلت : فبأيّ شيء يعرف هذا جعلت فداك ؟ قال : بحبّنا وبغضنا( [346]) .

عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ

فحّاش بذيء قليل الحياء ، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له ، فإنّك إن فتّشته لم تجده

إلاّ لغيّة _ أي زنية _ أو شرك شيطان ، قيل : يا رسول الله ، وفي الناس شرك شيطان ؟ فقال (صلى الله عليه وآله) : أما تقرأ قول الله عزّ وجلّ : ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) ( [347]) .

الكافي بإسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) حيث علّمه الدعاء إذا دخلت عليه امرأته ، وقال فيه : ولا تجعل فيه شركاً للشيطان ، قال : قلت : وبأيّ شيء يعرف ذلك ؟ قال : أما تقرأ كتاب الله عزّ وجلّ : ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) ؟ ثمّ قال : إنّ الشيطان ليجيء حتّى يقعد من المرأة كما يقعد الرجل منها ، ويحدث كما يحدث ، وينكح كما ينكح ، قلت : بأيّ شيء يعرف ذلك ؟ قال : بحبّنا وبغضنا ، فمن أحبّنا كان نطفة العبد ، ومن أبغضنا كان نطفة الشيطان .

وقال في حديث آخر : وإنّ الشيطان يجيء فيقعد كما يقعد الرجل ، وينزل كما ينزل الرجل .

وفي رواية اُخرى عن هشام ، عنه (عليه السلام) في النطفتين اللتين للآدمي والشيطان إذا اشتركا ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ربما خلق من أحدهما ، وربما خلق منهما جميعاً( [348]) .

هذا في الجماع الذي كثيراً ما ينسى الإنسان نفسه لغلبة الشهوة ، فكيف لا ينسى الله ، فلا بدّ أن يكون المؤمن دائم التذكّر والذِكر ، حتّى يذكر ربّه في تلك اللحظات الحيوانية ، ثمّ هناك حالات اُخرى تذكر على سبيل الأمثلة ( وَتِلْكَ

الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ( [349]) ، وإلاّ فإنّ المؤمن يذكر الله في كلّ الحالات ، بل إذا كان يذكره عند الجماع وعند التبوّل والتغوّط ، فبطريق أولى يذكره

في الأماكن والأزمنة الاُخرى .

قال أبو جعفر (عليه السلام) : إذا انكشف أحدكم لبول أو لغير ذلك فليقل : بسم الله ، فإنّ الشيطان يغضّ بصره عنه حتّى يفرغ( [350]) .

عن الرضا (عليه السلام) ، قال : إذا خرجت من منزلك في سفر أو حضر فقل : بسم الله ، آمنت بالله ، توكّلت على الله ، ما شاء الله ، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ، فتلقاه الشياطين فتضرب الملائكة وجوهها ، وتقول : ما سبيلكم عليه وقد سمّى الله وآمن به وتوكّل على الله ؟ وقال : ما شاء الله لا حول ولا قوّة إلاّ بالله .

قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إنّ على ذروة كلّ جسر شيطاناً ، فإذا انتهيت إليه فقل : ( بسم الله ) ، يرحل عنك .

وقال (عليه السلام) : إذا أكلت الطعام فقل : بسم الله ، في أوّله وآخره ، فإنّ العبد إذا سمّى في طعامه قبل أن يأكل لم يأكل معه الشيطان ، وإذا سمّى بعدما يأكل وأكل الشيطان منه ، تقيّأ ما أكل .

وقال (عليه السلام) : إذا وضع الغداء والعشاء فقل : ( بسم الله ) ، فإنّ الشيطان يقول لأصحابه : اخرجوا فليس هنا عشاء ولا مبيت ، وإن هو نسي أن يسمّي قال لأصحابه : تعالوا فإنّ لكم هنا عشاء ومبيتاً .

وقال (عليه السلام) في خبر آخر : إذا توضّأ أحدكم ولم يسمِّ كان للشيطان في وضوئه

شرك ، وإن أكل أو شرب أو لبس لباساً ينبغي أن يسمّي عليه ، فإن لم يفعل كان للشيطان فيه شرك .

عن أبي الحسن (عليه السلام) ، قال : قال رسول الله : إذا ركب الرجل الدابّة فسمّى ، ردفه ملك يحفظه حتّى ينزل ، وإذا ركب ولم يسمّ ردفه شيطان فيقول له : تغنّ ، فإنّ قال له : لا اُحسن ، قال له : تمنّ ، فلا يزال يتمنّى حتّى ينزل .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا تؤووا منديل اللحم في البيت فإنّه مربض الشيطان ، ولا تؤووا التراب خلف الباب فإنّه مأوى الشيطان ، فإذا بلغ أحدكم باب حجرته فليسمّ ، فإنّ يفرّ الشيطان ، وإذا سمعتم نياح الكلاب ونهيق الحمير ، فتعوّذوا بالله من الشيطان الرجيم ، فإنّهم يرون ولا ترون فافعلوا ما تؤمرون( [351]) .

قال عليّ بن الحسين (عليهما السلام) لأبي حمزة الثمالي : يا ثمالي ، إنّ الصلاة إذا اُقيمت جاء الشيطان إلى قرين الإمام فيقول : هل ذكر ربّه ؟ فإن قال : نعم ، ذهب ، وإن قال : لا ، ركب على كتفيه فكان إمام القوم حتّى ينصرفوا ، قال : فقلت : جعلت فداك ليس يقرأون القرآن ؟ قال : بلى ، ليس حيث تذهب يا ثمالي ، إنّما هو الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم( [352]) .

واذكر الله على كلّ حال وفي جميع الأحوال ، ولا تنسَ اسم الله والبسملة في كلّ شيء .

9 _ إطالة السجود :

ومن المخلّصات من شرور الشياطين إطالة السجود ، فعن أبي عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال : إنّ العبد إذا سجد فأطال السجود

، نادى إبليس : يا ويله ، أطاع وعصيت ، وسجد وأبيت( [353]) .

وإنّما تنفع السجدة الطويلة لو كان من أهل الحقّ مهتدياً إلى سبيل النجاة ، وهم أهل البيت (عليهم السلام) سفن النجاة .

فقد قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : الإيمان بالقلب هو التسليم للربّ ، ومن يسلّم الاُمور لمالكها لم يستكبر عن أمره ، كما استكبر إبليس عن السجود لآدم واستكبر أكثر الاُمم عن طاعة أنبيائهم فلم ينفعهم التوحيد ، كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل ، فإنّه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام ، لم يرد بها غير زخرف الدنيا ، والتمكين من النظرة ، فكذلك لا تنفع الصلاة والصدقة إلاّ مع الاهتداء إلى سبيل النجاة وطريق الحقّ( [354]) .

فروح العمل هو الولاية العظمى لله سبحانه ولرسوله (صلى الله عليه وآله) ولاُولي الأمر الأئمة المعصومين الهداة الميامين (عليهم السلام) ( [355]) .

10 _ التفقّه في الدين :

ومن المخلّصات التفقّه في الدين ، فإنّ الشيطان يفرح لموت الفقيه ، لأنّ الفقه يمنع من سلطنته ونفوذه وسبله ، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : ما من أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس من موت فقيه( [356]) .

والفقه يعني فهم الدين في اُصوله وفروعه وأخلاقه ، ومن ثمّ العمل ، فإنّ المعرفة والعلم يدعو الإنسان إلى العمل الصالح .

11 _ ترك الحسد والحرص :

ومن المخلّصات ترك الحسد والحرص ، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : لمّا هبط نوح (عليه السلام) من السفينة أتاه إبليس فقال له : ما في الأرض رجل أعظم منّة عليّ منك ، دعوت الله على هؤلاء الفسّاق فارحتني منهم ، ألا اُعلّمك

خصلتين ؟ إيّاك والحسد فهو الذي عمل بي ما عمل ، وإيّاك والحرص فهو الذي عمل بآدم ما عمل( [357]) .

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : جاء نوح (عليه السلام) إلى الحمار ليدخله السفينة فامتنع عليه ، وكان إبليس بين أرجل الحمار ، فقال : يا شيطان ادخل ، فدخل الحمار ودخل الشيطان ، فقال إبليس : اُعلّمك خصلتين ، فقال نوح (عليه السلام) : لا حاجة لي في كلامك ، فقال إبليس : إيّاك والحرص فإنّه أخرج أبويك من الجنّة ، وإيّاك والحسد فإنّه أخرجني من الجنّة ، فأوحى الله : اقبلهما وإن كان ملعوناً( [358]) .

عن الإمام عليّ بن محمّد العسكري (عليه السلام) ، قال : جاء إبليس إلى نوح (عليه السلام) فقال : إنّ لك عندي يداً عظيمة فانتصحني ، فإنّي لا أخونك ، فتأثّم نوح بكلامه ومساءلته ، فأوحى الله إليه أن كلّمه ، فإنّي ساُنطقه بحجّة عليه ، فقال نوح (عليه السلام) : تكلّم ، فقال إبليس : إذا وجدنا ابن آدم شحيحاً _ أي بخيلا _ أو حريصاً أو حسوداً أو جبّاراً أو عجولا تلقّفناه تلقّف الكرة ، فإن اجتمعت لنا هذه الأخلاق سمّيناه شيطاناً مريداً ، فقال نوح (عليه السلام) : ما اليد العظيمة التي صنعت ؟ قال : إنّك دعوت الله على أهل الأرض فألحقتهم في ساعة بالنار ، فصرت فارغاً ، ولولا دعوتك لشغلت بهم دهراً طويلا( [359]) .

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : يقول إبليس لجنوده : ألقوا بينهم الحسد والبغي فإنّهما يعدلان عند الله الشرك .

12 _ ترك الغضب وعدم الخلوة بامرأة أجنبية :

ومنها : ترك الغضب وترك

الخلوة مع النساء الأجنبيّات .

فعن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : لمّا دعا نوح (عليه السلام) ربّه عزّ وجلّ على قومه أتاه إبليس لعنه الله فقال : يا نوح ، إنّ لك عندي يداً اُريد أن اُكافيك عليها ، فقال نوح (عليه السلام) : إنّه ليبغض إليّ أن يكون لك عندي يد ، فما هي ؟ قال : بلى ، دعوت الله على قومك فأغرقتهم فلم يبقَ أحد أغويه ، فأنا مستريح حتّى ينشأ قوم آخرون واُغويهم ، فقال له نوح (عليه السلام) : ما الذي تريد أن تكافئني به ؟ قال : اذكرني في ثلاث مواطن ، فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في إحداهن : اذكرني إذا غضبت ، واذكرني إذا حكمت بين اثنين ، واذكرني إذا كنت مع امرأة خالياً ليس معكما أحد( [360]) .

قال نوح للشيطان : متى تكون أقدر على ابن آدم ؟ قال : عند الغضب( [361]) .

وقال الشيطان لموسى : لا تخل بامرأة لا تحلّ لك ، فإنّه لا يخلو رجل بامرأة لا تحلّ له ، إلاّ كنت صاحبه دون أصحابي .

عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان ، توقد في قلب ابن آدم ، وإنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه ، وانتفخت أوداجه ، ودخل الشيطان فيه ، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه ، فليلزم الأرض ، فإنّ رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك( [362]) .

13 _ صرف الأموال في محلّها :

فإنّ من عوامل إغواء الشيطان عدم صرف الأموال في مواضعها الشرعيّة والمعقولة ، فإنّ الشيطان إذا عجز في إضلال بني آدم في أمر من الاُمور

أو معصية من المعاصي ، فلا يعجز عن إضلاله في أحد هذه الاُمور الثلاثة ، فإنّه يغويه في واحدة منها غالباً ، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : يقول إبليس لعنه الله : ما أعياني في ابن آدم فلم يعييني منه واحدة من ثلاثة : أخذ مال من غير محلّه ، أو منعه من حقّه ، أو وضعه في غير وجهه( [363]) .

وعنه (عليه السلام) : إنّ الشيطان يدبّر ابن آدم في كلّ شيء ، فإذا أعياه جثم له عند المال فأخذ برقبته .

وما أكثر الناس الذين سقطوا في مثل هذا الامتحان والاختبار ، بل من الزلاّت التي تسقط العلماء والصلحاء ، فاحذر عدوّك الشيطان في الأموال والثروات ، وإنّه ليدخلك في المتاهات والمنهيّات يوسوس لك ويزيّن عملك ويوجّه ما تفعله بتوجيهات ربما تكون عليها صبغة دينية وشرعيّة ، فلا تغفل وتبصّر واحذر عدوّك اللدود الشيطان الرجيم .

14 _ ترك العجب :

قال الشيطان لموسى (عليه السلام) عندما سأله : أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ؟ قال : ذلك إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله ، وصغر في نفسه ذنبه ... وإيّاك أن تعاهد الله عهداً ، فإنّه ما عاهد الله أحد إلاّ كنت صاحبه دون أصحابي ، حتّى أحول بينه وبين الوفاء به( [364]) .

15 _ الاستعاذة :

عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : إنّ إبليس عليه لعائن الله يبثّ جنود الليل من حين تغيب الشمس وتطلع ، فأكثروا ذكر الله عزّ وجلّ في هاتين الساعتين ، وتعوّذوا بالله من شرّ إبليس وجنوده ، وعوّذوا صغاركم في هاتين الساعتين ، فإنّهما ساعتا غفلة( [365]) .

وعن أبي عبد

الله (عليه السلام) ، قال : ما اجتمع ثلاثة من المؤمنين فصاعداً إلاّ حضر من الملائكة مثلهم فإن دعوا بخير أمّنوا ، وإن استعاذوا من شرّ دعوا الله ليصرفه عنهم ، وإن سألوا حاجة تشفّعوا إلى الله وسألوه قضاها ، وما اجتمع ثلاثة من الجاحدين إلاّ حضرهم عشرة أضعافهم من الشياطين ، فإن تكلّموا تكلّم الشياطين

بنحو كلامهم ، وإذا ضحكوا ضحكوا معهم ، وإذا نالوا من أولياء الله نالوا معهم ، فمن ابتلى من المؤمنين بهم ، فإذا خاضوا في ذلك فليقم ولا يكن شرك الشيطان ولا جليسه ، فإنّ غضب الله عزّ وجلّ لا يقوم له شيء ، ولعنته لا يردّها شيء ، ثمّ قال : فإن لم يستطع فلينكر بقلبه وليقم ، ولو حلب شاة أو فواق ناقة .

16 _ التلقين عند الاحتضار :

يستحبّ تلقين المحتضر الشهادتين ، والاعتراف بالأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، وكذلك الميّت حينما يوضع في قبره ، وقبل دفنه .

فعن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : ما من أحد يحضره الموت إلاّ وكل به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر ويشكّكه في دينه حتّى تخرج نفسه ، فمن كان مؤمناً لم يقدر عليه ، فإذا حضرتم موتاكم فلقّنوهم شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله حتّى يموت( [366]) .

وفي رواية اُخرى قال : فلقّنه كلمات الفرج والشهادتين وتسمّى له الإقرار بالأئمة (عليهم السلام) واحداً بعد واحد حتّى ينقطع عنه الكلام( [367]) .

ومن المستحبّات المؤكّدة تلقين المحتضر والميّت في لحده قبل دفنه .

17 _ زيارة الإخوان :

عن أبي المغرا ، قال : سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول : ليس شيء أنكى لإبليس وجنوده من

زيارة الإخوان في الله بعضهم لبعض ، وقال : إنّ المؤمنين يلتقيان

فيذكران الله ، ثمّ يذكران فضلنا أهل البيت ، فلا يبقى على وجه إبليس مضغة ، إلاّ تخدّد _ أي جرح _ حتّى أنّ روحه لتستغيث من شدّة ما تجد من الألم ، فتحسّ ملائكة السماء وخزّان الجنان ، فيلعنونه حتّى لا يبقى ملك مقرّب إلاّ لعنه فيقع خاسئاً حسيراً مدحوراً( [368]) .

فعليك بزيارة إخوانك المؤمنين لله وفي الله ، فإنّ من زار أخاه المؤمن كأ نّما زار الله في عرشه ، وإنّ الأئمة الأطهار (عليهم السلام) يحبّون تلك المجالس التي يذكر فيها مناقبهم ومصائبهم ومثالب أعدائهم ( رحم الله عبداً أحيا أمرنا ) ، فزيارة الإخوان فيه ما فيه من المنافع الدنيوية والاُخروية ، وممّا يوجب سعادة الدارين( [369]) .

18 _ طيّ الملابس في الليل :

عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : اطووا ثيابكم بالليل ، فإنّها إذا كانت منشورة لبسها الشيطان .

يقال : المراد من الشيطان الشيء الخبيث والرجيم ، وربما المقصود هنا ما يسمّى في العلم الحديث بالميكروبات والذرّات المضرّة ، وذلك لتناسب الحكم والموضوع في أمثال المقام ، فلا يراد من الشيطان المعنى المشهور ، وربما يكون هو المقصود للظاهر .

19 _ تخريب بيت العنكبوت :

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : بيت الشيطان من بيوتكم بيوت العنكبوت( [370]) .

فيستحبّ قتل العنكبوت وإزالة بيته وتنظيف الدار من آثاره .

20 _ غلق الأبواب :

عن سماعة ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إغلاق الأبواب والإيكاء الأواني وإطفاء السراج ، فقال : اغلق بابك ، فإنّ الشيطان لا يكشف مخمّراً

، يعني مغطّى .

21 _ ترك بعض الأحوال :

عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهما ، قال : لا تشرب وأنت قائم ، ولا تبل في ماء نقيع ، ولا تطف بقبر ، ولا تخل في بيت وحدك ، ولا تمشِ بنعل واحدة ، فإنّ الشيطان أسرع ما يكون إلى العبد إذا كان على بعض هذه الأحوال ، وقال : إنّه ما أصاب أحداً شيء على هذه الحال فكاد أن يفارقه ، إلاّ أن يشاء الله عزّ وجلّ( [371]) . ( لا تطف بقبر أي لا تتغوّط ) .

ففي مثل هذه الحالات يكون الشيطان قريباً من الإنسان ، بمعنى أنّ هذه الاُمور ممّا تساعد الشيطان على الحضور ، وتمهّد له الطريق وتفسح له المجال ، فلا بدّ

من الوعي واليقظة والتحذّر .

22 _ ترك النوم في الليل :

فإنّ من يقوم الليل وقسماً منه في مناجاة ربّه بصلاة الليل وتلاوة القرآن وقراءة الأدعية سيّما في السحر ، فإنّ الشيطان يبتعد عنه ، وإلاّ فمن تثاقل عن اليقظة ، فإنّ الشيطان قريب منه .

عن أبي عبد الله (عليه السلام) أ نّه قال : ليس من عبد إلاّ ويوقظ في كلّ ليلة مرّة أو مرّتين أو مراراً ، فإن قام كان ذلك ، وإلاّ فحج الشيطان فبال في اُذنه ، أو لا يرى أحدكم أ نّه إذا قام ولم يكن ذلك منه ، قام وهو متخثّر ثقيل كسلان( [372]) .

توضيح : كان بول الشيطان كناية عن قوّة استيلائه وغلبته عليه ، وإن احتمل الحقيقة أيضاً ( فحج الشيطان ) أي فرّق بين رجليه وباعد ما بينهما ، والفحج تباعد ما بين الفخذين . ومعنى بال في اُذنه سخر منه

وظهر عليه حتّى نام عن طاعة الله ، وفيه تمثيل لتثاقل نومه وعدم تنبّهه بصوت المؤذّن بحال من بول في اُذنه وفسد حسّه .

وهكذا يفعل الشيطان بالإنسان ، وما علينا إلاّ الاستعاذة بالله من شرّ وساوسه وجنده وحبائله .

23 _ الاقتصاد :

الاقتصاد هو : الحدّ الوسط في المعيشة من دون تقتير ولا إسراف ، فإنّ ذلك من علامات العاقل المؤمن ، والإمام العسكري (عليه السلام) يقول : عليك بالاقتصاد ،

وإيّاك والإسراف ، فإنّه من فعل الشيطنة( [373]) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : ويركبوا قصداً ، أترى الله ائتمن رجلا على مال خوّل له أن يشتري فرساً بعشرة آلاف درهم ، ويجزيه فرس بعشرين درهماً ، وقال : ( وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( [374]) .

وقال (عليه السلام) : المال مال الله جعله الله ودائع عند خلقه ، وأمرهم أن يأكلوا منه قصداً ويركبوا قصداً ، فمن تعدّى ذلك كلّه أكله حرام وما ركبه منه حرام( [375]) .

قال أبو طيفور المتطبّب : سألني أبو الحسن الإمام الهادي (عليه السلام) : أي شيء تركب ؟ قلت : حماراً ، قال : بكم ابتعته ؟ قلت : بثلاثة عشر ديناراً ، قال : إنّ هذا لهو السرف ، أن تشتري حماراً بثلاثة عشر ديناراً وتدع برذوناً( [376]) .

عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : ذكر رسول الله الفرش ، فقال : فراش للرجل وفراش للمرأة وفراش للضيف والرابع للشيطان( [377]) .

وقال (صلى الله عليه وآله) : من أكل ما يشتهي ولبس ما يشتهي وركب ما يشتهي ، لم ينظر الله إليه حتّى ينزع أو يترك( [378]) .

وقال الأمير : عليكم بالقصد في

المطاعم ، فإنّه أبعد من السرف وأصحّ للبدن

وأعون على العبادة( [379]) .

عن الإمام الرضا لمّا سأله السائل في النفقة على العيال فقال (عليه السلام) : بين المكروهين ، فقلت : جعلت فداك ، لا والله ماأعرف المكروهين ، قال : فقال له : يرحمك الله أما تعرف أنّ الله عزّ وجلّ كره الإسراف وكره الاقتار فقال :

( وَالَّذِينَ إذَا أنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ) ( [380]) .

وقال النبيّ : إيّاكم والسرف في المال والنفقة ، وعليكم بالاقتصاد ، فما افتقر قوم اقتصدوا( [381]) .

والأمير فيما وصف المتّقين ، قال : وملبسهم الاقتصاد .

قال النبيّ : من بنى بنياناً رياءً وسمعة حمله يوم القيامة إلى سبع أرضين ، ثمّ يطوّقه ناراً توقد في عنقه ، ثمّ يرمى به في النار ، فقلنا : يا رسول الله ، كيف يبنى رياء وسمعة ؟ قال : يبنى فضلا على ما يكفيه ، أو يبنى مباهاة( [382]) .

قال الأمير (عليه السلام) : ألا وإنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير وإسراف .

( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( [383]) .

( وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ) ( [384]) .

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : كلّ ما زاد على الاقتصاد إسراف( [385]) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إنّ القصد أمر يحبّه الله عزّ وجلّ ، وإنّ السرف أمر يبغضه الله عزّ وجلّ ، حتّى طرحك النواة فإنّها تصلح لشيء ، وحتّى صبّك فضل شرابك( [386]) .

قال الإمام الكاظم (عليه السلام) : من اقتصد وقنع بقيت عليه النعمة ، ومن بذّر وأسرف زالت عنه النعمة( [387])

.

( وَأهْلَكْنَا المُسْرِفِينَ ) ( [388]) .

( إنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) ( [389]) .

( وَأنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أصْحَابُ النَّارِ ) ( [390]) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : أربعة لا يستجاب لهم : دعوة ... ، ورجل كان له مال فأفسده ، فيقول : يا ربّ ارزقني ، فيقول : ألم آمرك بالاقتصاد( [391]) .

قال النبيّ : من اقتصد في معيشته رزقه الله ، ومن بذّر حرمه الله .

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : لو أنّ الرجل أنفق ما في يديه في سبيل من سبيل الله ما كان أحسن ولا وفّق ، أليس يقول الله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلَى

التَّهْلُكَةِ وَأحْسِنُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ ) ( [392]) ، يعني المقتصدين ( [393]) .

قال الإمام الرضا (عليه السلام) : وليكن نفقتك على نفسك وعيالك قصداً ، فإنّ الله تعالى يقول : ( وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ العَفْوَ ) ( [394]) ، العفو الوسط ، وقال الله : ( وَالَّذِينَ إذَا أنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) ( [395]) .

24 _ التعوّذ بالله عند نباح الكلب ونهيق الحمار :

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا تؤووا منديل اللحم في البيت ، فإنّه مربض الشيطان ، ولا تؤووا التراب خلف الباب فإنّه مأوى الشيطان ، وإذا بلغ أحدكم باب حجرته فليسمّ فإنّه يضرّ الشيطان ، وإذا سمعتم بنباح الكلب ونهيق الحمير ، فتعوّذوا بالله من الشيطان الرجيم ، فإنّهم يرون ولا ترون ، فافعلوا ما تؤمرون( [396]) .

25 _ ترك الكحل الشيطاني :

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنّ لإبليس لعنه الله كحلا وسفوفاً ولعوقاً ، فأمّا كحله

فالنوم ، وأمّا سفوفه فالغضب ، وأمّا لعوقه فالكذب( [397]) .

بيان : مناسبة الكحل للنوم ظاهر ، وأمّا السفوف للغضب ، فلأنّ أكثر

السفوفات من المسهّلات التي توجب خروج الاُمور الرديّة ، والغضب أيضاً يوجب صدور ما لا ينبغي من الإنسان وبروز الأخلاق الذميمة منه ، وأمّا اللعوق فلأ نّه غالباً ممّا يتلذّذ به ويكثر منه ، والكذب كذلك .

26 _ ترك اللين والراحة :

قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام) : إيّاك أن تركب مثيرة حمراء فإنّها ميثرة إبليس( [398]) .

بيان : الميثرة مفعلة من الوثارة ، يقال : وثر وثارةً فهو وثير ، أي وطيّ ليّن ، وهي من مراكب العجم تعمل من حرير أو ديباج يُحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب تحته على الرحال .

وإذا كان مثل هذه المثيرة هي من إبليس فكذلك كلّ ما يكون فيه اللين والنعومة والرحة والدعة ، وذلك بالأولوية كما لا يخفى ، فإنّها تثير وساوس الشيطان وإغواءاته .

27 _ الإحسان إلى الأولياء :

قال الصادق (عليه السلام) لإسحاق بن عمّار : أحسن يا إسحاق إلى أوليائي ما استطعت ، فما أحسن مؤمن إلى مؤمن ، ولا أعانه إلاّ خمش وجه إبليس ، وقرح قلبه( [399]) .

28 _ سدّ طريق إبليس وجنوده :

قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : وأمّا أعداءك من الجنّ فإبليس وجنوده ، فإذا أتاك فقال : مات ابنك ، فقل : إنّما خلق الأحياء ليموتوا ، وتدخل بضعة منّي الجنّة إنّه ليسرّني ، فإذا أتاك وقال : قد ذهب مالك ، فقل : الحمد لله الذي أعطى وأخذ وأذهب عنّي الزكاة فلا زكاة عليّ ، وإذا أتاك وقال لك : الناس يظلمونك وأنت

لا تظلم ، فقل : إنّما السبيل يوم القيامة على الذين يظلمون الناس ، وما على المحسنين سبيل ، وإذا أتاك وقال لك : ما أكثر إحسانك ! يريد أن يدخلك العجب فقل : إساءتي أكثر من إحساني ، وإذا أتاك فقال لك : ما أكثر صلاتك ؟ فقل : غفلتي أكثر من صلاتي ، وإذا قال لك : كم تعطي الناس ؟ فقل : ما آخذ أكثر ممّا اُعطي ، وإذا قال لك : ما أكثر من ظلمك ؟ فقل : من ظلمته أكثر ، وإذا أتاك فقال لك : كم تعمل ! فقل : طالما عصيت( [400]) .

وهكذا أ يّها الأخ المؤمن عليك أن تسدّ طرق الشيطان ومواضع نفوذه ، وتحارب عدوّك اللعين بكلّ ما آتاك الله من قوّة ومن أسلحة الإيمان ، ولا تيأس من روح الله ، فإنّه من كان مع الله كان الله معه ، وإن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم ، وهو بكلّ شيء عليم وعلى كلّ شيء قدير ، وما توفيقنا إلاّ بالله العليّ العظيم .

الخاتمة

أدعية الخلاص

الدعاء مخّ العبادة ، وسلاح المؤمن وترسه ، ولولاه ما يعبأ به ربّه ، فهو القرآن الصاعد والعمل الصالح المرفوع ، وحرز الله وحصنه .

وقد ورد عن الرسول وأهل بيته الأئمة الأطهار (عليهم السلام) الأدعية والأوراد والأذكار الكثيرة جدّاً للخلاص من شرور الشياطين وأعوانهم من الجنّ والإنس ، نذكر جملة منها :

ممّا علّم جبرئيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) للخلاص من شرّ عفريت من الجنّ في يده شعلة من نار فقل :

( أعُوذُ بِوَجْهِ اللهِ الكَرِيمِ وَكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ التي لا يُجَاوِزْهُنَّ بَرٌّ وَلا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ

، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا ، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأ فِي الأرْضِ ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَمِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِق إلاّ طَارِقَاً يَطْرُقُ بِخَيْر ، يَا رَحْمَنُ )( [401]) .

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.