فاطمة الزهراء قدوة الصديقين

اشارة

پديدآورنده : سيدمحمدتقي مدرسي

سال نشر : 1382

ناشر : دار محبي الحسين (ع)

المقدمة

إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاَبْتَرُ صَدَقَ اللهُ العَليُّ العَظيمْ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي نبينا الأكرم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

تتوالي الأيام، وتتقادم الليالي، وفاطمة الزهراء عليها السلام قمر يشع، ولا يبلي بهاؤه.. إنها كلمة طيبة ترددها شفاه المؤمنين، ومنهاج يقتدي به الصالحون.. إنها شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

صحيح إن فاطمة رحلت عن هذه الدنيا إلي عالم الآخرة قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، إلا أنها لم تسكن في زاوية من زوايا التاريخ، ولم ينحصر ذكرها في أسطر مكتوية في صفحات مطويات، بل هي حاضرة في ضمائر المؤمنين في كل عصر ومصر، كما هي حاضرة في ضمائر الأحرار والحرائر من أبناء آدم وبنات حواء. ذلك لأنها نموذج الحق، وقمة الإيمان، ورمز تحدي الظلم ومواجهة الطغيان..

ومن الملفت للنظر؛ أن المؤمنين ع_اشوا حياة فاطمة عليها السلام في عقولهم، في سلوكياتهم، في عواطفهم، في طموحاتهم..دون أن يتثاقلوا منها يوما،بل لم يمل منها أحد، وإنما تجد الأرواح تتلهف إليها حبا، والقلوب تهوي إليها شوقا.. دون أن ينصرفوا عنها إلي غيرها، لأنهم وجدوا فيها وعندها كل خير؛ كما الشمس تشرق كل يوم، والناس لا ينظرون إليها إلا حنانا وعطفا ورغبة، لأنها مصدر كل خير ومعدن كل عظمة.

هذا الذي جعل الزهراء عليها السلام عنوان كبير لتأليف مئات الكتب من قبل كبار علماء الأمة وأدبائها.. ولم يتوقف قلم التأليف عنها، بل وهو بذكرها ينعم، وبمآثرها ومواقفها يفتخر.

وها نحن أيضا نكتب عن فاطمة عليها السلام، وقد وجدناها معين ثر، لا ينقص منه شيء

مهما غرفت منه.

وقد يقف البعض حائرا أمام شخصية الزهراء عليها السلام، متسائلا ً: كيف دخلت فاطمة التاريخ من أوسع أبوابه، فسجل اسمها علي جبين الدهر، وحفظ حبها في قلوب المؤمنين..ووقف الزمان لها إجلالا بكل لحظاته وعلي امتداد أيامه، وهي لم تعش في هذه الدنيا أكثر من ثمانية عشر سنة وأشهرا؟ فما أقصره من زمن، وما أعظمه من بركة.فيا تري بماذا صارت فاطمة فاطمة؟

إنها ما نالت هذه العظمة إلا من عظمة الإسلام، وقد تجلي الإسلام في كلماتها وشخصيتها وسلوكياتها، حتي أن من يقرأ حياتها يتصور أنه قرأ الإسلام في أفكاره ومعتقداته.. ولم تبخل فاطمة بلحظة من حياتها لتكون في خدمة الإسلام. فمنذ أن فتحت عينيها علي الحياة وإذا بها في شعب أبي طالب تعاني مع الرعيل الأول من المسلمين برفقة رسول الله صلي الله عليه وآله وأم المؤمنين خديجة سلام الله عليها من حصار مشركي قريش، الذي أذاقهم الجوع والعطش، وأبعدهم عن الناس.. عند ذاك لم تنتظر فاطمة أن تكبر حتي تلتحق بصفوف المناصرين للرسول والرسالة، والمجاهدين في سبيل الله، وإنما علي صغر سنها بادرت بأعمال كبيرة، مما دعا رسول الله أن يناديها بأم أبيها.

ولم ينته دور فاطمة عليها السلام في مكة المكرمة، وإنما امتد مع هجرتها إلي المدينة المنورة، حتي آخر لحظة من حياتها الشريفة، حيث لم تتوان في الدفاع عن إمام زمانها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد نصرته بكل وجودها حتي استشهدت وهي تحمل معها إلي الآخرة آثار الظلم الذي أصابها؛ الضلع المكسور، والوجه الملطوم، والمتن المسود من الضرب..

وبالرغم من القساوة التي واجهتها الزهراء عليها السلام، وشدة الظلم الذي تحملته..غير إن هذا لم يعد عليها وعلي

أبنائها ومواليها.. إلا بالروح الوثابة ضد الظالمين، والإصرار علي مواصلة المسيرة الرسالية في الدفاع عن الحق المبين.

وبذلك صارت فاطمة مدرسة عبر التاريخ، يتعلم منها الناس الشجاعة والشهامة، والإباء والتحدي..

وبقيت فاطمة قمرا منيرا لا يأفل، يستضيء بها كل من يرفض الظلام، ويستهدي بها كل من يرفض الضلال.

ولأجل أن نحصل علي شيء من نور فاطمة، من معارفها، من أخلاقها.. اقتطفنا بعضاً من محاضرات سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي التي ألقاها في مناسبات عديدة فيما يخص السيدة فاطمة عليها السلام، ووضعناها في كتاب تحت عنوان: فاطمة الزهراء قدوة الصديقين. راجين من الله تعالي أن يعم نفعها المؤمنين، والله من وراء القصد.

القسم الثقافي

في مكتب آية الله السيد محمد تقي المدرسي

5 / جماد الثاني / 1421 ه_

هذه هي الزهراء

عن الامام الصادق عليه السلام: هي فاطمة الصديقة الكبري وعلي معرفتها دارت القرون الأولي. [1] .

الامام الحسين عليه السلام: أمي -فاطمة- خير منّي. [2] .

الامام الحسن العسكري: وهي -فاطمة- حجة علينا. [3] .

عن علي عليه السلام: دخلت يوماً منزلي فاذا رسول الله صلي الله عليه وآله جالس والحسن عن يمينه، والحسين عن يساره، وفاطمة بين يديه، وهو يقول: يا حسن ويا حسين، انتما كفتا الميزان وفاطمة لسانه، ولا تعدل الكفتان إلاّ باللسان، ولا يقوم اللسان إلاّ علي الكفتين… أنتما الامامان ولأمكما الشفاعة. [4] .

روي عن مجاهد، أنه قال: خرج النبي صلي الله عليه وآله وهو آخذ بيد فاطمة، فقال: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فق_د

آذاني، ومن آذاني فقد آذي الله. [5] .

قال رس_ول الله صلي الله عليه وآله وسلم: فاطمة بهجة قلبي، وأبناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والائمة من ولدها أمناء ربي وحبله الممدود بينه وبين خلقه، من اعتصم به نجا، ومن تخلف عنه هوي. [6] .

روي عن سعد بن أبي وقاص، أنه قال: سمعت النبي صلي الله عليه وآله يقول: فاطمة بضعة مني، من سرها فقد سرني، ومن ساءها فقد ساءني. فاطمة أعز البرية عليّ. [7] .

قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: إن فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً. [8] .

قال النبي صلي الله عليه وآله: يا فاطمة؛ ابشري فإن الله تعالي اصطفاك علي نساء العالمين، وعلي نساء الإسلام وهو خير الدين. [9] .

قال رسول الله صلي الله عليه وآل_ه: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة. [10] .

قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: إنما سميت ابنتي فاطمة، لأن الله فطمها وفطم من أحبها من النار. [11] .

قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: يا سلمان؛ من أحب فاطمة بنتي فهو في الجنة معي، ومن أبغضها فهو في النار.

يا سلمان: حب فاطمة ينفع في مأة من المواطن أيسر ذلك المواطن: الموت والقبر والميزان والمحشر والصراط والمحاسبة، فمن رضيت عنه إبنتي فاطمة رضيتُ عنه، ومن رضيتُ عنه رضي الله عنه، ومن غضبت عليه غضبتُ عليه، ومن غضبتُ عليه غضب الله عليه.

يا سلمان؛ ويل لمن يظلمها ويظلم بعلها أمير المؤمنين علياً، وويل لمن يظلم ذريتها وشيعتها. [12] .

قال الإمام علي عليه السلام عن فاطمة عليها السلام: "فو الله ما أغضبتها ولا أكرهتها عل_ي أمر حتي قبضها الله عز وجل، ولا أغضبتني ولا عَصَت

لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان. [13] .

وروي عن عائشة زوجة النبي إنها قالت: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول الله صلي الله عليه وسلم في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم.

قالت: وكانت إذا دخلت علي رسول الله صلي الله عليه وسلم قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلي الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها. [14] .

وروي عن عائشة أيضاً أنها قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها صلي الله عليه وسلم. [15] .

الزهراء مدرسة متكاملة

جاءت النظرة الإلهية لتنسف روح الاستعلاء، والسيطرة العنصرية للرجل علي المرأة، هذه السيطرة التي ظلت سائدة في مجال التعامل الاجتماعي مع المرأة طيلة قرون عديدة، وهي للأسف مازالت سائدة حتي في المجتمعات الغربية التي تدّعي تحرير المرأة، وإعطائها حقوقها.

وكان من نتيجة تلك النظرة العادلة ان ظهرت نساء ارتفعن وسمون الي منازل القدوة في جميع الخصال والصفات الرفيعة السامية، فتراهن مثال الشجاعة والصبر والمقاومة والتحمل حين الإقدام، والمبادرة الي رفض الظلم والتجبر والطغيان.. فإذا بهن قمم شامخة في الشجاعة والجرأة والعلم والتقوي، وكل معالم الفضيلة، والأخلاق الرفيعة، وآفاقها الواسعة.

ولا شك ان فاطمة الزهراء عليها السلام تقف في مقدمة هؤلاء النساء الرافضات للظلم والطغيان، والمعلمات للمرأة دروس الجهاد والمشاركة في تحمل اعباء المسؤولية الرسالية.

والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو: لماذا كان هذا النور الإلهي الذي انبثق من صلب خاتم النبيين والرسل محمد صلي الله عليه وآله، فتجسد في شخصية فاطمة الزهراء عليها السلام، وامتد في حياة ووجود الرسالة،

وكان ركنا أساسيا في بقائها واستمرارها الي يومنا هذا، ولماذا اقتصرت ذريته الكريمة صلي الله عليه وآله علي هذه الريحانة الطاهرة المباركة؟

السبب في ذلك دون شك أن فاطمة، هذه الصديقة الطاهرة، هي جزء لا يتجزأ من نور الرسالة، ودعامة أساسية من دعامات الإيمان. فالزهراء البتول عليها السلام غدت من خلال سيرتها الطاهرة، وظلامتها التي تتصدر كل ظلامة في التاريخ البشري؛ غدت مسيرة رسالية جهادية، وملاك رحمة للعالمين. فهي بذرة الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهي جوهر أهل البيت الطاهر الذي شاء الله عزّ وجلّ له أن يكون مشكاة لنور يسطع وهاجاً في ضمير الزمان، وعلي امتداد الدهور. ففاطمة عليها السلام هي أم أبيها قبل أن تكون أما لأحد عشر كوكبا يسطع في سماء الإمامة، وعالم الرسالة.

منطلق ذرية الرسول

فما هي الحكمة -يا تري- في ان تشاء الإرادة الإلهية أن تكون ذرية الرسول صلي الله عليه وآله منطلقة من ريحانته الزهراء عليها السلام؟

أن هذه الحكمة تتضح لنا اذا ما عرفنا أن المرأة التي أصبحت في أحيان كثيرة عرضة للاستضعاف والاستغلال وسلب حريتها وكرامتها، هي أحوج ما تكون الي من تقتدي بها في سلوكها وتصرفاتها في نطاق المجتمع والأسرة، لتكون هذه القدوة هي المدافعة عن حقوقها وكرامتها من الإجحاف والتطاول، ولتبثّ في النسوة كافة المعنوية العالية، والثقة بالنفس للدف_اع ع_ن كرامتهن، والمطالبة بحقوقهن، واستنكار الانحراف والاعوجاج في التعامل الاجتماعي معهنّ، وخصوصا فيما يتعلق باستبداد الرجال واستضعافهم لهنّ.

فلو تعرضت المرأة للظلم الاجتماعي ولم يكن بمقدور أي احد ان يطالب بحقوقها لأسباب قاهرة، فما الذي تصنعه المرأة في هذه الحالة، وكيف تواجه هذا الظلم والإجحاف، وهل تتخذ موقف السكوت والصمت فتتنازل وتتراجع وتستسلم للهزيمة؟

أن

ذلك لا يمكن مادامت هناك فاطمة في التأريخ تتحدّي، وتقف في وجه الانحراف والظلم. فهي القدوة التي وقفت تطالب بحقها، لا طمعا فيه، بل لانه حق يجب أن لا تسكت عنه. وفي نفس الوقت فان مطالبتها هذه هي درس لكل الاجيال، وخصوصا الشطر النسوي من المجتمع بأن لا يسكتن عن المطالبة بالحق، وتحقيق العدالة عندما ترتكب المظالم، وتسحق الكرامات.

فالزهراء عليها السلام نزلت الي الساحة السياسية ودافعت عن حقها الذي كان ينطوي في حقيقته علي الدفاع عن الإمامة، والتراث النبوي، وأولوية أهل بيت العصمة عليهم السلام في الإمساك بزمام أمور الأمة.

والمهم في قضية الزهراء عليها السلام تصدّيها بنفسها للدفاع عن الحق، حيث ان هذا الدفاع يمثل في حد ذاته قيمة إلهية، ولاسيّما عندما تنطلق صرخات الاحتجاج والمعارضة من فم امرأة مظلومة كفاطمة.

ومن ذلك كل_ه تتجل_ي أمامن_ا الحكمة الإلهي_ة الت_ي اقتضت أن تك__ون

الصديقة الطاهرة عليها السلام هي العقب الطاهر، والامتداد الكريم لرسول رب العالمين. فقد شاء الله تبارك وتعالي أن يمنّ علي البشرية في آخر عهد من عهود الرسالات الإلهية برجل فوق كل الرجال سموّاً وعلوّاً وأخلاقاً رفيعة، وهو محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله؛ وبامرأة هي سيدة نساء أهل الدنيا والآخرة، ورثت علم النبوة والرسالة من أبيها، فكانت المدافعة عن تراثه صلي الله عليه وآله حتي آخر رمق من حياتها الشريفة.

وهكذا لم يكن من اللهو والعبث أو العاطفة الأبوية المحضة قوله صلي الله عليه وآله: "فاطمة؛ أم أبيه_ا" [16] ، وحاشاه من ذلك وهو كما قال تعالي: ما ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي (النجم/2-5)، فقوله ذلك وقوله الآخر

الذي اجمع عليه أهل القبلة كما في موسوعة بحار الأنوار: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا" [17] لم يصدرا منه اعتباطا، بل هما تأكيد علي الامتداد والبقاء الرسالي في فاطمة وعلي والذرية الطاهرة من أبناء الحسين عليهم السلام أجمعين.

وهذه الأحاديث وغيرها تعني ان قيم ومفاهيم وتعاليم الإسلام وتشريعاته كادت ان تمحي لولا الجهود التي بذلتها فاطمة الزهراء عليها السلام، ولولا تصدّيها، وهدير خطبتها التاريخية في نساء الأنصار عندما وضعت النقاط علي الحروف، وأبانت الحقائق لكل ذي لبّ.

وهكذا فمن أجل أن تدفع المرأة عن نفسها التردي والابتذال الرخيص اللذين ابتليت بهما في العصر الراهن، فانها لابد لها ان تدافع عن نفسها، وتستنكر التيارات الجاهلية التي تستهدف النيل من عفّتها وكرامتها، وذلك من خلال الاقتداء بالزهراء عليها السلام المرشدة والمعلمة الاولي لكل نساء العالم وعلي امتداد التأريخ. فقد علّمت هذه المرأة العظيمة النساء درس العفاف، وصيانة الشرف والكرامة، وحذّرتهن من الوقوع في شرك الشهوات الرخيصة، وسدّت عليهن عبر سيرتها المباركة أبسط منفذ من الممكن ان يؤدي بهنّ الي الانحطاط والابتذال.. فدعت المرأة الي ان تحفظ كرامتها وعزّتها، وتصون استقلالها وشخصيتها، وان لاترتضي لنفسها ان تكون دمية واداة بيد طلاّب الشهوات، وحذّرتها من التبرج والتهتك المؤديين الي الانحلال والفساد والانحطاط الأخلاقي.

حجة الله علي النساء

وهكذا فان هذا الامتداد الرسالي الذي تمثله سيدة نساء العالمين عليها السلام، هو مصداق قول النبي صلي الله عليه وآله: "فاطمة أم ابيها"، وبذلك فإنها عنوان المرأة المتكاملة، والقدوة والمثل الأعلي لكل النساء اللاتي يردن لأنفسهن الشرف والاستقلال والحشمة، وعدم الابتذال والتهتك. ومن ذلك يتضح أن حق فاطمة عليها السلام علي النساء هو حق عظيم. فهي الحجة عليهنّ أولاً، قبل ان تكون حجة بالغة علي

المؤمنين.

وعلي هذا الصعيد نشاهد اليوم بوضوح موجة العودة الي العفاف والتمسك بالحجاب، وفي المقابل نجد أذيال الاستكبار ورواد الفساد والتحلل واتباعهم يحاولون التصدي لهذه الموجة من خلال محاربة الحجاب، وشنّ الحملات الإعلاميّة الظالمة ضدّه. ولا غرابة في ان يصدر ذلك منهم، لأن انتشار هذا المدّ المبارك يعني انهدام ركن أساسي من أركانهم التسلّطية التي يقومون عليها، وبالتالي فانه سيؤدي إلي دمارهم ونهايتهم.

انهم يشجّعون التهتك والفساد بمختلف وسائلهم الدنيئة، بغية إله_اء الشعوب المسلمة، وصرفها عن التفكير في مصائرها، واغفالها عما يجري من نهب لثرواتها، وسحق لكراماتها.. وعلي هذا فان نشر الفساد، والخلاع_ة، ومظاهر التبرج انما هو هدف سياسي استعماري قديم. ومن هنا يجب علي المرأة ان تعي هذه الحقيقة لكي لا تتحول الي وسيلة لتحقيق تلك الأه_داف، وبالتالي تكون السبب في نزول الضرر والدمار عليها وعلي أبناء جيلها.

الحجاب سيف في وجه الطغيان

لقد أصبح الحجاب اليوم سيفاً مشهوراً في وجه الطغيان والفساد، واذا ما حملته المرأة المسلمة بشكل متواصل فانه يعني الإحباط والهزيمة والزوال للمستكبرين، وشياطين الإنس المفسدين. فالحجاب يعني بالنسبة الي المرأة الاستق_لال الذاتي والعزة والكرامة، وهذه الحقيقة يجب أن تفهمها كل نساء الدنيا.

والحجاب ليس أمراً مفروضاً علي إرادة المرأة، بل انه من جملة التشريعات التي تنسجم مع طبيعتها التكوينية التي هي أحوج ما تكون الي الستر والحشمة والعفاف، فهذه الأمور مما تناسب المرأة، وتجعلها تبدو اكثر هيبة وعظمة. ومحافظة علي المواهب الطبيعية التي وهبها الخالق عزّ وجلّ لها.

فالحجاب هو من باب حفظ المرأة من التهتك والابتذال والخلاعة والميوعة، وهو لا يمكن ان يتعارض مطلقاً مع دورها الاجتماعي، بل انه يزيد من مسؤوليتها في تحمل أعباء هذه الأدوار، لان الحجاب هو بالنسبة الي المرأة شعار

الالتزام بالمبادئ، ورفض الوقوع في فخّ دعوات الابتذال والفجور والخلاعة، وصرخة احتجاج تطلقها المرأة ازاء أعداء الإسلام الذين يحاولون تجريدها من مسؤوليّاتها الرسالية لتنشغل في توافه الأمور وسفاسفها. فالحياء يمثل جزءً لا يتجزء من الطبيعة التي فطرت عليها المرأة، وجزءً من كيانها الذاتي. وهذه الحقيقة لا يخالفها إلاّ الإنسان الجاهل، الذي لا يريد الانصياع لنور الحقائق الواضحة.

وليس ثمة مبالغة إن قلنا إن المرأة المسلمة اليوم وبفضل سيرة الزهراء الطاهرة أصبحت مستعدة لأن تضحّي بكل أتعابها وجهودها التي بذلتها خلال دراستها او عملها في سبيل ان تحافظ علي كرامتها الإنسانية واستقلالها المتمثل في الحجاب والعفاف والإصرار علي العودة الي الذات المصونة، والفطرة النقية السليمة، والقيم الإنسانية النبيلة التي رفعت رايتها عالياً أم الرسالة الإسلامية، وربّة النجابة والعفاف، وسيدة الطهر، ومعدن التقوي والعلم والهدي والإيمان؛ ألا وهي الراضية المرضية الزهراء البتول التي لا تتّسع صفحات الكتب لوصفها لأنها الكوثر، وكلمات الله التي لا تنفد، والقمة والذروة والمثال والمقتدي لجميع النساء في العالم، وخصوصا النساء المسلمات اللاتي يجب أن يتخذن من هذه المرأة العظيمة قدوة لهنّ وهنّ يواجهن، ويتصدّين لأعداء الإسلام الذين يحاولون حرفهنّ عن المسيرة التي سارت فيها من قبل الزهراء عليها السلام. وبذلك ستبقي فاطمة الزهراء عليها السلام مدرسة ينهل منها -جيل بعد جيل- كل القيم الرسالية والتعاليم الإسلامية.

الزهراء تجسيد الرسالة الإلهية

اشاره

لابد للمبادئ من ان تتجلي في واقع حي، وعندما هبطت الرسالة الخاتمة علي قلب نبينا الأعظم، إمام الهدي، وقدوة الصديقين محمد صلي الله عليه وآله، تجلت هذه الرسالة بعد هذا النبي العظيم في شخصية من الرجال، وأخري من النساء؛ فتجلت في علي ابن ابي طالب عليه السلام الذي كان المثل الأعلي للقرآن، وتجسدت كذلك في فاطمة

الزهراء عليها السلام.

ان تجلي الرسالة في شخصية الرجل هي عملية يمكن فهمها واستيعابها، لان الرجل يمتلك بحد ذاته قوة الكمال والاستعداد. ولكن عندما تصوغ رسالات الله عز وجل امرأة لتضعها في الذري العالية، والقمم السامقة، فان هذا لمعجزة دونها كل معجزة.

وهكذا فإذا كان علي بن أبي طالب عليه السلام معجزة رسول الله صلي الله عليه وآله، والدليل الي الإسلام، والهادي الي حقائق القرآن وعلومه.. فان فاطمة الزهراء عليها السلام ستكون الشاهدة الكبري، والدليل الأعظم. والي هذه الحقيقة يشير الحديث القدسي المروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري ع_ن رسول الله صلي الله عليه وآله عن الله تب_ارك وتعالي انه قال:

"يا احمد لولاك لما خلقت الأفلاك، ولو لا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما" [18] .

ان امرأة - رغم ما جعل الله في طبعها من عوامل الضعف البشري - تتحدي كل هذه العوامل، وتقطع كل صلة لها بالتراب، وتقف من أول الليل وحتي الفجر لتدعو ولكن ليس لنفسها وإنما للآخرين، وتقول لابنها الحسن المجتبي عليه السلام توصيه بالإحسان الي الجيران: "يا بنيّ الجار ثم الدار" [19] هذه المرأة قد وصلت الي مرحلة من السمو والكمال، بحيث إن الله تعالي باهي بها ملائكته، وأولياءه، وحملة العرش.

فاطمة مجد الرسالة الإلهية

إن فاطمة عليها السلام هي مجد الرسالة الإلهية، وتجسيد لكل ما في القرآن الكريم من لطائف العبر، ودقائق الفكر، وعظمة الحق.. فلابد لكل رسالة من ان تقدم نموذجا، ورسالة الإسلام هي أعظم رسالة، فلابد أن يكون الأنموذج الذي تقدمه هذه الرسالة هو الأنموذج الاعظم، فكانت فاطمة الزهراء عليها السلام التي هي قدوة لكل إنسان؛ ذكرا كان أم أنثي.

وهكذا تسامت هذه المرأة العظيمة نحو معالي القيم

والأخلاق، وذابت في الرسالة، وتحولت من مجرد شخص إلي نموذج رسالي.

ان رسول الله صلي الله عليه وآله الذي جاء سراجاً منيراً، وبشيراً هادياً، ورحمة للعالمين.. كان يركز كل تعاليمه، وبرامجه التربوية في ابنته فاطمة عليها السلام، وعلي بن أبي طالب الذي ربّاه علي يديه الكريمتين، وإلا فكيف يمكن ان لا ينجح صلي الله عليه وآله في تربية فاطمة عليها السلام وهو الذي أثر في التاريخ، وصنع أجيالا من المؤمنين الرساليين يعجز اللسان عن وصف سموّهم وطهارتهم ونقائهم. ولذلك فقد كانت الزهراء عليها السلام مقياسا وميزانا للعفاف، ومثالا لتجلي الأخلاق الحسنة، لأنها خلاصة التربية القرآنية، وعصارة شخصية تمثل القرآن الكريم.

والقرآن الكريم ينقل لنا جانباً من حياة فاطمة وسلوكياتها في سورة كاملة، هي سورة "الانسان"، حيث تثني علي فاطمة الزهراء لأنها -وهي ربّة العائلة وسيّدة البيت - هي التي حملت رغيفها في البدء، ثم جمعت أرغفة أطفالها الصغار وهم صائمون لتعطيها خلال ثلاثة أيام متتالية الي المسكين واليتيم والأسير، متجاوزة بذلك -في سبيل العقيدة- عواطفها وطبيعتها كأمّ تفضّل أطفالها علي غيرهم، وضاربة بذلك أروع الأمثلة في الذوبان في الرسالة الإلهية، والاندماج فيها، وتفضيلها علي كل العلائق الدنيوية، ولكي تقول للمرأة المسلمة، ان المرأة بإمكانها اذا ما تربّت في أحضان الرسالة، وعاشت في أجواء القرآن والوحي أن تتحول الي أنموذج في التسامي والتكامل وتحدي غرائز وعوامل الضعف في النفس البشرية.

بمثل هذه المواقف الرائعة جسدت فاطمة الزهراء قيم الرسالة ومبادئ الدين، وبذلك أصبحت حجة بالغة علي البشرية جمعاء.

الزهراء خلق عظيم

اشاره

إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي ءَادَمَ وَنُوحاً وءَالَ إِبْرَاهِيمَ وءَالَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ اِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي

بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ اِنِّي وَضَعْتُهَآ اُنْثَي وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَي وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي اُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّي لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (آل عمران/33-37)

ونحن في رحاب الصديقة الكبري فاطمة الزهراء سلام الله عليها، ينبغي أن نتعرف علي مدي علاقتنا بسيدتنا الكبري عليها السلام. بل وكيف نستطيع أن نكون من شيعتها حقيقة وقد فطم الله شيعتها من نار جهنم؟ إذ جاء في حديث شريف: "إنما سميت ابنتي فاطمة لأن الله سبحانه وتعالي فطمها وفطم من احبها من النار" [20] فإن لها سلام الله عليها وقفة علي باب الجنة، -كما في الرواية-. فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت، فيقول الله: يا بنت حبيبي ما التفاتك وقد أمرت بك إلي جنتي ارجعي فانظري من كان في قلبه حب لك أو لأحد من ذريتك خذي بيده فأدخليه الجنة؛ قال ابو جعفر عليه السلام: والله يا جابر إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة يلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا يقول الله: يا أحبائي ما التفاتكم وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟ فيقولون: يا رب أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم، فيقول الله: يا أحبائي ارجعوا وانظروا من أحبكم لحب فاطمة، انظروا من اطعمكم لحب فاطمة، انظروا من كساكم لحب فاطمة، انظروا من سقاكم شربة في

حب فاطمة، انظروا من رد عنكم غيبة في حب فاطمة فخذوا بيده وادخلوه الجنة؛ قال أبو جعفر عليه السلام: والله لا يبقي في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق. [21] .

وهنا يبرز سؤال مهم، بل وخطير بالنسبة لنا كموالين ومحبين لأهل البيت عليهم السلام، سؤال يرتبط ارتباطاً بمصيرنا وبمستقبلنا، ألا وهو ما المطلوب منا، بل ما الذي ينبغي علينا فعله في هذه الدنيا كي نكتب في الآخرة من شيعة فاطمة الزهراء عليها السلام، ومن الموالين لها؟

التاريخ واقع يروي والحاضر تاريخ يري

لعل التمهيد للإجابة عما يرتبط بمستقبل الإنسان يتطلب منا معرفة أمور شتي، منها أن التاريخ هو واقع مضي لكنه اليوم يروي. وأن الحاضر الذي نعيشه إنما هو تاريخ يري. إذ ليس من شيء في هذا العالم ينقضي أثره، بل هي الصورة التي تتبدل. فما مضي من التاريخ ما زال يتفاعل مع الحاضر، وليس هو الا جذور لهذا الحاضر والمستقبل. ومثل هذه الحقيقة مثل شجرة امتدت أغصانها وفروعها في الفضاء، فهي وان تبدو للعيان كيانا قائماً بذاته، لكنها في الحقيقة ترتبط ارتباطاً وثيقاً حياتياً بما لها من جذور امتدت وتغلغلت في أعماق الأرض. كذلك هو الإنسان بكيانه المشاهد للعيان، فأي فرد يعيش الآن إنما يحمل معه حقائق تاريخية وصلت إليه عبر أجداده، وتلك التي تبدو عليه بشكل أو بآخر من خلال أفكاره وتحركاته وتصرفاته أحياناً، بل وحتي في ملامحه الشخصية الظاهرية. فلو تسني للإنسان أن يري صورة جده الرابع مثلاً، لا شك أنه سيلحظ فيه ولو بعضاً من ملامحه الخاصة.

ونحن حين نحترم السا دة من ذرية الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله وسلم. لأن جذورهم تتصل بشكل ما بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم، ولان دم الرسول

الطاهر ما يزال يجري في عروقهم، ولان أخلاقه مازالت موجودة فيهم ولو بنسبة ضئيلة جداً قد لا تتجاوز الواحد من المليون. لذا فما روي في الحديث الشريف عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم: "احترموا أولادي وذريتي. الصالحون لأنفسهم والطالحون لي " يعمّ كل سيّد من ذرية الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، فمن كان منهم صالحاً يحترم لنسبه ولصلاحه، ومن كان طالحاً منحرفاً يحترم لنسبه لجده.

وحين يقف الإنسان أمام مرقد أحد من ذرية الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وهو لا يعرفه لافتقاد شجرته، أو يقف في أحد أضرحة ذرية الأئمة عليهم السلام ليسلم علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم ويبسط حوائجه في حضرة الباري عز وجل متوسلاً بالرسول وبذريته، إنما يعني ذلك احتراماً للرسول الأكرم صلي الله عليه وآله وسلم، في ذريته وعترته وإطاع_ة لأمره.

ونحن إذ نقتدي ونسترشد فإنما نسترشد بالإمام علي عليه السلام فانه وبعد وفاة الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام كان يبكي كثيراً، وحين يسأله عمار عن هذا الجزع، يقول عليه السلام لعمار: كان مشيها مشي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. كذلك كانت حركاتها وصورتها. فهو عليه السلام كان يري فيها شخص الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله وسلم فلم يعد يصبر بفقدها.

فالتاريخ إذ يتمثل بالحاضر، وليس الحاضر إلاّ وليد الماضي وابن للتاريخ، بل الحاضر ليس إلا صورة له، وإنما الفرق أن ذلك حديث يروي وهذا واقع يري. وانطلاقاً من هذه الزاوية فإننا حين نمحّص أنفسنا لنعرف مدي ولائنا لسيدتنا الزهراء عليها السلام، نقف علي حقيقة أن موالاتنا لابد وان تكون بالشكل وبالطريقة التي نجعل من ذلك التاريخ وتلك السيرة العطرة الوضاءة الزكية واقعاً تنبض

به الحياة الحاضرة.

الصديقة قدوة الرجال والنساء

عندما يطلب من المرأة أن تكون قدوة للنساء، إنما يكون باعتبار الجنس وبملاحظة التقارب في السلوكية والتشابه في الخلقة. فتقول علي النساء أن يقتدين بالسيدة زينب عليها السلام باعتبارها نموذجاً وقدوة لكافة النساء، ولأنها امرأة والنساء نساء فعليهن أن يقتدين بها ويجعلنها أسوة لهن. لكن القول في الصدّيقة الكبري لعله يأخذ صورة أخري. فهي ليست قدوة للنساء فحسب، بل وقدوة للرجال أيضاً، بل هي قدوة للرجال ومن ثم النساء. ذلك لان الله تعالي خلق نوراً واحداً ثم قسمه ثلاثة أقسام؛ قسم منه هو نور نبينا الأعظم محمد صلي الله عليه وآله وسلم، الثاني هو نور الإمام علي عليه السلام والأئمة من ولده، وأما الثالث من الأقسام فهو نور فاطمة الزهراء عليها السلام الذي خلق الله منه السموات والأرض.

وهذا يعني فيما يعني أنها سلام الله عليها كانت في رتبة قريبة من رتبة أبيها سيد البشرية جمعاء رجالاً ونساء. كيف لا وهي بضعة منه، وليس بعدئذ لقائل أن يزعم إنها امرأة فحسب فيختص كونها قدوة للنساء دون الرجال، لانها شطر وقسم من نفس النور الإلهي. فلابد للرجل وللمرأة علي السواء أن يتخذن منها بخلقها الكريم وسيرتها العطرة الزكية قدوة ومناراً يهتدي به، ويرسم الإنسان به شخصيته ويحدد معالمها.

كيف نقتدي بفاطمة؟

الاعتقاد بولاية أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين انما يعني فيما يعنيه الاعتقاد بولايتهم في نهجهم وسيرتهم، بل ويعني موالاتهم في رؤاهم وبصائرهم والتخلق بأخلاقهم واخذ المعارف والعلوم عنهم عليهم السلام. ومن هذا المنطلق يجدر بالإنسان أن يسأل نفسه عن مدي معرفته بثقافة الصديقة الكبري سلام الله عليها، وعن حدود اطلاعه علي معارفها وكلماتها. فقد يتعلل البعض بالافتقار لصحيفتها التي كانت بإملاء جبرائيل عليه السلام، بإملاء النبي صلي

الله عليه وآله وسلم وكتابة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وإنها ليست موجودة فعلا بين ظهرانينا بل هي موجودة عند الإمام الحجة سلام الله عليه. الكتاب الذي ضم - كما في أحاديثنا - حتي اصغر الأمور في الشرائع. لكن هذا تعلل مرفوض وعذر مردود، فكلماتها المضيئة مازالت وستبقي تفيض بالحياة وترسم لشيعتها بل وللناس أجمعين مسار الإنسانية القويم من خلال خطبتها التي تلألأت بين خطب الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله وسلم والإمام علي والإمام الحسين وسيد الساجدين عليهم افضل الصلاة والسلام.

فالصديقة الكبري المفجوعة بفقد أبيها، تقف والحال هذه أمام رجال خذلوها وغصبوا حقها ولم ينصروها، وترتجل في مسجد أبيها خطبة عصماء، تلك الخطبة المعروفة ب_ " الخطبة الفدكية ". والتي هي خلاصة للفكر الإسلامي والمعارف الإلهية بما انطوت عليه كلماتها من سلاسة في الأسلوب وعمق في المحتوي، قد يعجز المتخصصون عن كشف مضامينها والوقوف علي خصائصها، لما احتوته من بيان فلسفة الخلق وحكمة خلق الإنسان وحكمة الشرائع الإلهية وبيان الواقع الاجتماعي قبل البعثة وأبانه_ا وبعدها.

ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة حينما نذكر انه كانت لنا جلسات عديدة سادتها مناقشة واسعة مفتوحة مع العشرات من علماء طهران وخطبائها.. لكننا ومع بذل الساعات العديدة والليالي المديدة لم نستطع ان نفسر الا القليل اليسير الذي لم يتجاوز عُشر خطبة الصديقة سلام الله عليها، تلك الخطبة العصماء التي روتها سيدتنا زينب عليها السلام وعمرها الشريف آنذاك لم يكن يتجاوز السادسة، ولعله مما يثلج قلوبنا ويقع موقع الاعتزاز والفخر ان نري اليوم فقيها ومرجعا كبيرا وقد انبري لكتابة كتاب وسماه ب_ "فقه الزهراء" [22] استنبط فيه الفروع الفقهية الغزيرة التي تضمنتها كلمات السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، فليس

بعد هذا وذاك من الإنصاف ولا المروءة بمكان ان يركن من يدعي ولايته للصديقة الكبري سلام الله عليها إلي إضاعة هذه السويعات الثمينة من حياته وحياة أبنائه بالجلوس أمام التلفاز لمشاهدة قصص خيالية من الصين أو اليابان، بما فيها من الترهات، مبرراً عزوبه عن هذه الفضائل والحقائق المتمثلة بتعاليم فاطمة الزهراء سلام الله عليها بضعف في حافظته مثلا أو ما شابه ذلك من التبريرات الواهية، بدلا من ان يسعي لتحفيظ أبنائه إياها وان لم يدركوا معانيها وحقائقها لتكون زادهم في الدنيا والآخرة، وتلك هي الخطوة الأولي لمن أراد ان يتمثل بالصديقة عليها السلام.

من أخلاق الصديقة الكبري

وصف الله تعالي نبينا محمد صلي الله عليه وآله وسلم، فقال عزّ من قائل: وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ، وفاطمة سلام الله عليها نشأت متخلقة بخلق ابيها ذلك الخلق السامي العظيم، ولعلنا ومهما حاولنا إيفاء جميع جوانب تلك الأخلاق السامية او ان نستوعبها خلال وريقات قليلة نجد أنفسنا قاصرين عاجزين عن إداء كل معانيها، لذا فان بيان ثلاثة جوانب من ذلك السمو الخلقي ربما يفي بما نحن فيه.

عبادة فاطمة الزهراء

تجد في صلاتها الخلوص للواحد الأحد، والخشوع والخضوع والاعتراف بالعبودية لله تبارك وتعالي. حيث كانت عليها السلام وكما قال الامام الحسن عليه السلام: رأيت أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتي اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني! الجار ثم الدار. [23] ومن يدري لعلها سلام الله عليها كانت تدعو في جوف الليل والاسحار لشيعتها ومواليها، لانها كانت تجسد معني الانسانية بخلقها الكريم، اذ هي سيدتنا وسيدة نساء العالمين وقدوة المؤمنات والمؤمنين.

وهذا الخلق المتجسد في صلاتها وتعقيباتها إن هو إلاّ مثلاًً يقتدي به كل موالٍ لها، لان الصلاة سمة المؤمن ومعراجه، بل هي الرابطة بين العبد وربه، فالله سبحانه وتعالي يقول:وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي وبذكره تنجلي النفوس وتسموا وترتفع وتنتهي عن كل فاحشة ومنكر إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَي عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ.

ثم ان الإنسان العاقل يجد في ذاته القدرة علي ان يحدد موقعه في مختلف مناحي حياته، فهو ولا ريب يمكنه ان يتعرف بذاته علي مدي إيمانه من قوة وضعف، ميزانه في ذلك صلاته. فالخلوص والإحساس بالخضوع والخشوع لله جلّ

وعلاّ أثناء الوقوف بين يديه للصلاة علامة للإنسان بان إيمانه بخير، كما ان الاستعداد والتهيؤ للصلاة بقلب ينبض بالحيوية والشوق عند سماع المؤذن ينادي " حي علي الصلاة " إن هو إلا دلالة وعلامة يستدل بها ويتعرف علي قوة إيمانه ورسوخه في قلبه، والعكس صحيح هنا أيضا، فلا يدل التثاقل والتكاسل عن تلبية نداء الرب، الا علي عدم رسوخ الإيمان. كما ان من علامات تزلزل الإيمان وعدم رسوخه، أداؤها باعتبارها واجبا فحسب يتخلص منه الإنسان، فيقف راكعا ساجدا دونما خلوص او خشوع، كصلاة ذاك الإعرابي حين وقف يصلي في المسجد والنبي صلي الله عليه وآله جالس مع أصحابه، فقال متعجبا من صلاة الإعرابي: "نقر كنقر الغراب، لو مات هذا وهذه صلاته لم يكن من امتي" [24] .

القدرة علي اكتشاف مواطن الضعف وبالتالي اصلاحها هي من سمات الإنسان اللبيب، فهو حين يشعر بضعف ما كأن يصيبه دوار في رأسه او ألم في موضع من بدنه، لا شك انه سوف يبحث عن العلاج فيسارع الي الطبيب ليشخص الداء ويصف له الدواء. كذلك الحال حينما يتبين له ان إيمانه لم يترسخ بعد في قلبه، او أنه يعاني من ضعف في الإيمان، لابد وان يبحث عن مكمن هذا الضعف ومنشئه بميزان عقله الذي وهبه الله إياه، وان يتفحص موضع المشكلة والخطأ ليشخص موضع الصواب، وبالتالي ليصلح نفسه. وبتعبير آخر؛ متي أراد الإنسان ان يعرف ميزان الإيمان في قلبه وان يعرف حدود تكامل شخصيته وهل هي قوية صابرة إيمانية، لابد له ان ينظر إلي صلاته، لان الصلاة قربان كل مؤمن، وهذه الوسيلة للنجاة وهذه الرابطة بين العبد وربه إن هي الا سبع عشرة ركعة بالضرورة، والصلاة الحقيقية إحدي وخمسون

ركعة، منها إحدي عشرة ركعة نافلة الليل، وركعتان نافلة الصبح. وثماني ركعات نافلة الظهر قبل الفريضة، وثماني ركعات نافلة العصر قبل الفريضة أيضا وأربع ركعات نافلة المغرب بعد الفريضة، وركعتان من جلوس نافلة العشاء؛ تحسب بركعة من قيام، هذه النوافل مع الفرائض إن هي الا إحدي وخمسين ركعة هي من علامات المؤمن، بل وبركة لعمره يرتقي الإنسان الي مراتب السمو والعروج الي الله تعالي والقرب منه.

وربما يتساءل البعض عن إمكان أداء نافلة الليل قبل الذهاب إلي النوم متعللا بأسباب قد تبدوا من وجهة نظره وجيهة، إذ ان وقت صلاة الليل من بعد صلاة العشاء الي الفجر، والواقع كذلك، فهناك من لا يستيقظ لصلاة الليل لعلة او أخري، ولكن الأفضل ان تصلي النافلة بعد منتصف الليل والأفضل ان تصلي في الثلث الأخير منه، وأداؤها كذلك ربما يصعب علي البعض او يمنعه الشيطان عن أدائها، لكن الإرادة الإيمانية القويمة هي التي تنتشل المؤمن من هذه المعاناة، وليست هي الا تجربة وتمرين، فالإنسان إذا ما صلي في ليلة ركعتين هدي ثوابها للصديقة الكبري سلام الله عليها، ومرّن نفسه علي ذلك ليال ثم يزيدها إلي أربع ركعات ومن بعدها إلي ست ركعات ثم ثمان ثم عشرة ثم إحدي عشرة، وبمرور الليالي سينهض في الثلث الأخير من الليل وكأن أحدا يوقظه، بل سيكون في موقع جدير بأن يوكل الله تعالي ملكا خاصا به ينهضه للصلاة، وتلك سجية المؤمن بالله تعالي وخلق الموالي للصديقة سلام الله عليها.

ونحن اذ ندعو الي الصلاة نعلم يقين_ا ان من ندعوه من اهل الصلاة، لكننا بدعوانا نود ان نؤك_د علي ضرورة التعمق بالصلاة أولاً، ولان النوافل تجبر الفرائض ثانياً، ففي حديث للامام الص_ادق عليه

السلام ما معناه ان الانسان إذا اراد ان تكون صلواته اليومية المفروضة صحيح_ة لابد ان يجبرها بالنوافل.

تصدي الصديقة الكبري لشؤون الأمة

تصدي الصديقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها سمة من سمات خلقها العظيم. فلم تكن يوما ما بمعزل عن أمة أبيها، سيما وهي التي نشأت وترعرت في بيت الرسالة المحمدية السمحاء التي جاءت لإنقاذ مجتمع خيم عليه ظلام الجهل واستحوذت عليه العصبية القبلية، وليس ادل علي ذلك من وقوفها سلام الله عليها إلي جنب الرسالة وحضورها في الساحة ابان البعثة وفيما بعدها في كل قضية وكل موقع وموقف، فقد كانت ومنذ صغرها خير مواسي لأبيها وهو يتعرض لأذي الحاقدين علي الرسالة الجديدة، فتراها تمسح جبينه الشريف بيديها الشريفتين الصغيرتين، وبعد رحيله صلي الله عليه وآله ما فتأت تدافع عن الدين وتدافع عن الرسالة والقيم، وكان وقوفها الي جنب إمامها وقسيمها في النور الإلهي حين أنكر عليه وعليها المنكرون، وجحدهما الجاحدون، وراحت تتصدي لشؤون أمة أبيها. ولعل آخر موقف بينها وبين أمير المؤمنين عليه السلام بكاؤها، حيث يقول لها الإمام عليه السلام: يا بنت رسول الله لم بكاؤك؟ فتقول عليها السلام: أبكي لما تلقي أنت يا علي من بعدي. وهذا يعني فيما يعنيه تصديها لشؤون الأمة واهتمامها بمستقبل الإسلام والمسلمين بعد رحيلها لما سيلقاه أمامها عليه السلام من المتاعب والمصاعب.

ولاية الصديقة لإمامها مطلقة

معرفة ما هو حق والاعتراف والإذعان بهذا الحق من الأخلاق السامية النبيلة التي يتحلي بها الإنسان، وفاطمة عليها السلام أولي بهذه السمة وهذا الخلق الرفيع، لانها نشأت علي الحق.

فهي أول من كان علي حق ومع الحق، وأول من كان ينتفض علي الباطل. ومن هنا كانت ولايتها للإمام أمير المؤمنين عليه السلام مطلقة لا تشوبها شائبة، ثم ان مقام الصديقة الكبري سلام الله عليها هو مقام الكفء للإمام علي عليه السلام، ولولا علي لما وجد كفء لها.

وهي سلام الله عليها شطر النور الذي قسمه الله تبارك وتعالي علي نبيه ووصيه والأئمة من ولده وعلي فاطمة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين، ومع ذلك كله ومع هذه المرتبة السامية للصديقة سلام الله عليها كانت موالية ولاية مطلقة لأمير المؤمنين عليه السلام، فهي حينما تعود من إلقاء خطبتها تستحث الإمام لطلب حقها من الغاصبين، فيقول لها: احتسبي الله- وما يكون منها سلام الله عليها الا ان - قالت: حسبي الله، وأمسكت. [25] ولم تنبس ببنت شفة بعدئذ. فهي بذلك جسدت موقفا جليلا بحد ذاته عظيما في معناه ومحتواه، فلقد جسدت معني الطاعة والخضوع لإمامها وأظهرت معني الولاية، وهي ابنة سيد الخلائق أجمعين، ذلك الخضوع والتسليم للإمام الذي رافقها حتي بعد وفاتها سلام الله عليها، وبعد ما وضعت في قبرها الشريف ودفنت حيث سألوها عن إمامها فقالت: إمامي هذا الجالس علي القبر. وتلك هي سمات علو المرتبة وصفات المؤمن التي ينبغي ان يتصف بها ويتحلي بها كل موالي للصديقة الكبري سلام الله عليها، وتلك هي الأخلاق السامية التي لابد ان نتمثلها في حياتنا، وحينها تقوي أواصرنا وتتوثق علاقتنا بسيدتنا الزهراء سلام الله عليها، فننال شفاعتها يوم القيامة يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَي اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. بقلب خالص يحب أهل البيت ومتخلق بأخلاقهم صلوات الله عليهم أجمعين.

عظمة فاطمة

القرآن الكريم يحدثنا عن مريم ابنة عمران عليها السلام وهي ما زالت موجودة في بطن أمها، وذلك قبل ما يقارب الألفي عام، والله سبحانه وتعالي انما ذكر قصة مريم لانها قصة حية مازالت تحيا في الأمة الإسلامية مفسرة بفاطمة الزهراء سلام الله عليها، واختيار الله الواحد الأحد لمريم وتقبله إياها وهي في بطن أمها، حيث

يقول القرآن الكريم: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وكان ذلك عندما دعت أمها وقالت: وَإِنِّي اُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّي لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ حينما جعلت ام مريم ما في بطنها محرراً لله تعالي، فتقبلها واصطفاها وهي صغيرة، وكان ذلك قبل قرون مديدة من بزوغ نور الإسلام.

والاية الكريمة وردت تفسيرها في مريم عليها السلام، وتأويلها وحقيقتها وجوهرها وعمقها في سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء سلام الله عليها، جعلنا الله من شيعتها ومواليها وأنالنا شفاعتها يوم الدين، سائلين ان يقيض لنا ابنها الإمام الحجة المنتظر سلام الله عليه ليثأر لها ويأخذ بظلامتها ويعرّف الناس بعض حقها.

الزهراء نموذج الفضائل

إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي ءَادَمَ وَنُوحاً وءَالَ إِبْرَاهِيمَ وءَالَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ اِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ اِنِّي وَضَعْتُهَآ اُنْثَي وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَي وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي اُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّي لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (آل عمران/33-37)

في ذلك اليوم؛ حيث كان الرسول الأكرم محمد صلي الله عليه وآله وسلم قد جمع حوله علياً وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين، كان النبي إذ ذاك يملؤه الفرح والسرور

وتبدو علي وجهه ابتسامة الرضا والبهجة، حيث كان يتنقل بنظره بين أفراد أسرته النبوية الشريفة.

قالت أم أيمن: … ثمَّ نظر إلي علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام نظراً عرفنا فيه السرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً ثم وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا، ثم خر ساجداً وهو ينشج فأطال النشوج وعلا نحيبه، وجرت دموعه ثم رفع رأسه وأطرق إلي الأرض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر. فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين وحزنت معهم لما رأينا من رسول الله صلي الله عليه وآله وهبناه أن نسأله حتي إذا طال ذلك، قال له علي وقالت له فاطمة: ما يبكيك يا رسول الله لا أبكي الله عينيك، فقد أقرح قلوبنا ما نري من حالك؟

فقال: يا أخي سررت بكم سروراً ما سررت مثله قط وإني لأنظر إليكم وأحمد الله علي نعمته عليَّ فيكم، إذ هبط عليّ جبرائيل فقال يا محمد إن الله تبارك وتعالي اطّلع علي ما في نفسك وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك، فأكمل لك النعمة، وهناّك العطية بأن جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة لا يفرق بينك وبينهم يحبون كما تحبي، ويعطون كما تعطي، حتي ترضي وفوق الرضا، علي بلوي كثيرة تنالهم في الدنيا، ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملّتك ويزعمون أنهم من أمتك براء من الله ومنك خبطاً خبطا وقتلاً قتلا شتي مصارعهم، نائية قبورهم خيرة من الله لهم، وانك فيهم، فاحمد الله جل وعز علي خيرته وارض بقضائه، فحمدت الله ورضيت بقضائه بما اختاره لكم. [26] .

بعدئذٍ أخذ الأمين جبرائيل يقصّ عليَّ ما سيحدث عليكم من بعدي يا عليّ…

وإذ ذاك تحول اجتماع الفرح الي عزاء شارك فيه

أف_راد البيت النب__وي

الكريم بأجمعهم.

ولكن لنا ان نتساءل -إزاء هذه الرواية وما تلتها من وقائع مأساوية مؤكدة لها- عن ان النبي الاكرم الذي هو سيد خلق الله ومحور خليقته وحكمتها الربانية، ألم يكن له الحقّ في ان يتمتع- ولو للحظات- برؤية آل بيته الكرام في ظلّ اجواء من السرور ليتساوي مع ما يتمتع به أرباب العوائل الاخري؟ وما هي الحكمة في أنّ هذا البيت النبوي، وهو الذي قال عنه تعالي: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ان يكون محطّة للمصائب والمحن والملمّات؟ ثم إننا إذا طالعنا سيرة سيّد الانبياء والمرسلين، قلّما لحظنا ساعة راحة او فرحة، بدءاً بولادته فترعرعه يتيماً ثم فقده لجدّه عبد المطلب وحاميه أبي طالب، ثم الاذي الذي تع_رّض ل_ه في مطلع البعثة والحصار الرهيب في شعب ابي طالب، ومن ثم تشكيل الدولة الإسلامية في المدينة المنورة وحوادث ووقائع اثنتين وثمانين معركة وغزوة وسرية؟ فما هي الحكمة التي تقف وراء كل تلك الآلام؟

يبدو ان الحكمة من كل ذلك ان الله تبارك وتعالي حينما خلق الناس، اراد لهم ان يهتدوا الي رحمته في الدنيا قبل الآخرة، وفي الآخرة بعد الدنيا، ولكي يصل هؤلاء الي الرحمة الإلهية فهم بحاجة الي قدوات صالحة تضيء لهم الطريق المظلم، وتعلمهم كيف يتجاوزون المصاعب ويرفعون العقبات. ولكنّ تلكم القدوات لم تخلق للدنيا، وإنما خلقت للآخرة؛ مثلها مثل الشمعة التي تحترق لتضئ ما حولها. فتلك القدوات طرق الله وآياته للخلق منذ اليوم الاول للميثاق الاول، ثم الميثاق الثاني في عالم الذر، حيث شرط الله عليهم الزهد في الدنيا، فلمّا شرطوا له ذلك وعلم بأنهم سيفون بهذا الشرط أعطاهم الولاية.

إنّ النخبة المصطفاة تختلف عن سائر البشر، من

حيث ان امتحان الناس يختص في دار الدنيا، وإذا ما أراد أحدهم التقدم في طريق المجد، فلابدّ له من السعي والاجتهاد لإثبات جدارته. ولكنّ انبياء الله والأئمة المعصومين عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه لم يبعثوا ليمتحنوا في هذه الدنيا، وذلك لأنّ الله كان قد امتحنهم في عالم آخر. ولأنّه قد امتحنهم من قبل، فقد بعثهم الواحد تلو الآخر، حتي انك لتري أحدهم قد بعث في المهد صبياً وأوتي العلم والحكم، ولم تكن أمامه ثمة فرصة للإعداد والاستعداد..

والآية الأوضح في قضية كون الانبياء والائمة المعصومين عليهم السلام يختلفون عن سائر البشر، هي أنّ مهمة النبوة او خلافة الانبياء - كما في أئمة اهل البيت- تخلو عن إثبات الجدارة في الدنيا والخروج منها بنجاح. فالمسألة منتفية أساساً، تبعاً لما تقدم في هذا المقام.

اما الفكرة القائلة بأن الانبياء كسائر البشر او انّ الائمة كسائر الافراد وان عليهم ان يجربوا ويمتحنوا، فهي فكرة ضلالة، مخالفة لآيات القرآن الكريم، ومخالفة لحكمة الخلق. فالله سبحانه وتعالي لم يخلق الشمس كرة ثم أمرها ان تلهب نفسها، أو ان تتعلّم كيف تصبح شمساً، بل الله خلق الشمس شمساً، وجعل القمر قمراً، وذلك لحكمة هو ادري بها.

كذلك الله خلق الرسل رسلاً وجعلهم افضل خلقه منذ اليوم الاول. والآيات القرآنية الكريمة التي ذكرناها في بداية الموضوع تبين وتصرّح بهذه الحقيقة، حيث تقول: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي ءَادَمَ وَنُوحاً وءَالَ إِبْرَاهِيمَ وءَالَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ وعملية الاصطفاء هذه شملت الذرية التي بعضها من بعض، وفي روايات اهل البيت عليهم السلام فسرت عبارة "آل إبراهيم" ب_ "آل محمد"، و" آل عمران" ب_ "آل علي". وعملية الاصطفاء قد تمت منذ اليوم الاول. وعليه؛ فلا يجوز لأحد

ان ينكر ذلك او يستنكره او يتعجب له، والاّ لكان عليه التعجب لشرف الرأس علي الرجل، او العين علي اليد، او العقل علي الحواس.. فهذه قضايا تتعلق بإرادة الله في خلقه. وما يكفينا معرفته، هو ان الله عزّ وجلّ كان يعلم بأن الذين اصطفاهم او سيصطفيهم سيفون بعهد الله ويؤدّون وظائفهم علي الوجه المطلوب، وأن غير المصطفين ليس بإمكانهم الوفاء ما لم يمتحنوا او يمحصوا في الدنيا بأنواع التمحيص.

والأئمة المعصومون وفاطمة الزهراء سلام الله عليهم، حينما خلقوا أئمّة وجعلوا أنواراً محدقين بعرش الرحمن، حتي منّ الله علي البشرية بهم فأنزلهم، حينما فعل ذلك شرط عليهم الزهد في الدنيا، لأنهم ليسوا من هذه الدنيا ولا لها.

وفاطمة الزهراء عليها السلام منذ أن كانت في بطن امها- كما هي مريم- تحررت؛ أي تحررت من القيود والأمور الدنيوية. ومريم التي صيغت شخصيتها وصيغ وجودها منذ كانت في رحم امها وكانت سيدة نساء عالمها، كذلك هي فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.

فهل يمكننا تصور ان الله سبحانه لم يفعل بفاطمة الزهراء ما فعله بالصديقة مريم؟ عقلاً لا يمكن تصور ذلك بوجه من الوجوه، فالروايات الموثّقة توضّح وتشير الي وجه التشابه هذا، بل وتفضل مقام الصديقة الزهراء علي غيرها من النساء علي مرّ التاريخ الإنساني عموماً.

امّا الحديث الخاص بشأن فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام، فيمكن التقديم ل_ه بالقول؛ بأن هناك ثلاث فترات او لحظات لها اهمية قصوي في حياة الانسان ووجوده، وهي: لحظة الولادة، ولحظة الوفاة، ولحظة البعث.

فكل إنسان لابد ان يتمتع بولادة هادئة وسليمة. ولكن كيف ولدت الزهراء؟ إنّها ولدت مظلومة، بل هي ظُلمت حتي قبل ولادتها، وذلك حين هجرت نساء قريش امّها خديجة الكبري عليها

السلام بداعي إسلامها ونصرتها لزوجها رسول الله، فظلت وحيدة تحدثها ابنتها الزهراء من رحمها وتسلّيها. فإذا كانت فاطمة أم ابيها باعتبارها كانت تهدّئ عليه مصائبه وآلامه في مكة حين البعثة، او في المدينة جرّاء الحروب والمعارك، فتري كم كان عمرها حينئذ لتقوم بهذه المهام الجسيمة؟

وقد يتساءل البعض عن العلاقة بين واقع الذرية الطيبة المصطفاة، وواقع المأساة والشظف في العيش؟

والجواب: هو انّ حكمة الله اقتضت أن تكون الزهراء رمز الفضيلة في المجتمع الجاهلي الذي كان يكيل للمرأة انواع الظلم والكبت والقهر؛ الظلم الذي كان يعبر عن فلسفة الحياة الجاهلية وانتكاسته الفكرية آنذاك، فإذا قرأت الشعر والقصص الجاهلية تجد صفحات الافتخار والتشرف بظلم المرأة ووأدها، حتي جاء في الرواية أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قبّل الحسن والحسين عليهم السلام فقال الأقرع بن حابس: أن لي عشرة من الأولاد ما قبّلت واحداً منهم -كأنه يتفاخر بذلك- فقال صلي الله عليه وآله: ما عليَّ إن نزع الله الرحمة منك. [27] .

انّ ظلم المرأة اصبح قاعدة اساسية لدي العرب في ذلك اليوم، فكان ان خلق الله سبحانه فاطمة الزهراء لتكون النموذج الأعلي للأخلاق والفضيلة، حتي قال عنها النبي: "ولو كان الحُسن شخصاً لكان فاطمة، بل هي أعظم، ان فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً". [28] .

فالكمال الإنساني تجسد بصورة مباشرة في وجود الزهراء، وعبرها تمكن الرسول الاكرم هدم قلعة الظلم وتغيير القلوب الفظّة القاسية.

لقد أصبحت الزهراء قدوة أبديّة في إطار تحطيم الصنمية والعنصرية الجنسية، وهي النموذج الأعلي للمرأة، كيلا تصبح موجوداً مقهوراً. امّا المرأة التي تقهر في البيت وهي بنت او اخت او زوجة او أم، فإنها تعجز عن انجاب

او تربية رجال افذاذ، بل ينبغي توقّع ان يكونوا محطّمين مقهورين. وعليه فإنك إذا اردت تربية مجتمع شجاع مجاهد متحدٍ للظلم مقاوم للجريمة، فلابد ان تربي المرأة والزوجة علي هذه الصفات، وتجعل منها كائناً حيّاً مؤثراً.

وكان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يكن المزيد من الاحترام والتعظيم لابنته الزهراء، لانّه كان يعرف جدارتها التامة في التربية وانجاب الرجال الافذاذ في مدرسة أهل البيت، التي حفظت الإسلام علي اسني وجه.

ولطالما قبّل النبي يد ابنته، وكذلك كان عليّ زوجها يفعل، ولطالما كان علي لايولّيها ظهره إذا اراد مغادرتها.

ففاطمة الصديقة حجة الله في زمانها وحجته في كل زمان، وهذه هي فلسفة قول الرسول الكريم: "وأما ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين" [29] .

وإن قال قائل بأن الزهراء كانت إنساناً معصوماً، وهذا ما قد يفصل بينها وبين البشر العاديين، فإنني اجيبه بوضوح بأن وظيفة المسلمين تجاه الزهراء الأخذ من نورها ما يستطيعون استيعابه. فليس لهذا القائل ان يدّعي بأنّه لا يستضيء بنور الشمس، لأنّ كتلة الشمس محرقة...

ثم إنّ المرأة المسلمة إذا طالعت سيرة الزهراء وتبينت لها شخصيتها من خلال تدبر معاني الآيات والروايات، ستجد نفسها ملزمة بالصعود الي مقام شخصيتها الحقيقية، وكذلك ستجد نفسها ملزمة بأداء وظائفها الشرعية الحقيقية، من امر بمعروف أو نهي عن منكر او دفع زوجها وأولادها نحو ان يكونوا شخصيات اجتماعية فذة.

وفاطمة الزهراء سلام الله عليها حجة علي الرجال ايضاً؛ فالزهراء التي قاومت أعتي الدكتاتوريات في زمانها، ودافعت عن حقوقها وحقوق زوجها وحقوق الاسلام عموماً.. حجة علي الرجال الذين ينهارون ويتنازلون عن شخصياتهم وحقوقهم.

إذاً؛ فراية الزهراء هي راية الدفاع عن المظلوم ومقاومة الظلم في كل زمان ومكان.

إنّ

الزهراء التي خلقها الله امرأة كانت حجّة علي الائمة انفسهم، حتي ان الامام الحجة ارواحنا فداه قال لشيعته: "ولولا ما عندنا من محبة صلاحكم ورحمتكم والانشقاق عليكم لكنّا عن مخاطبتكم في شغل، مما قد امتحنا من منازع_ة الظالم العتلّ، الضال المتاع في غيه، المضاد لربه، المدّعي ما ليس ل_ه، الجاحد حق من افترض الله طاعته، الظالم الغاصب. وفي ابنة رسول الله صلي الله عليه وآله لي أسوة حسنة، وسيردي الجاهل رداءة عمله، وسيعلم الكافر لمن عقبي الدار". [30] .

فهي كانت امرأة، ولكنها في الوقت نفسه كانت شرفاً للرجال وشرفاً للمجاهدين وقدوة للصدّيقين وحجة الله علي الائمة المعصومين. وهذا كلّه يمثل الحكمة من خلقها ووجودها؛ الوجود الذي امتلأ بالمأساة منذ اللحظة الاولي لولادتها، وحتي آخر لحظة من حياتها، بل إنّها في القيامة ستدافع عن حقوقها وحقوق شيعتها أمام محكمة العدل الالهي، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

الزهراء وتر لا يغمد

اشاره

وَلَقَدَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَات مُّبَيِّنَات وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ، اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ٌّيُوقَدُ مِن شَجَرَة مُبَارَكَة زَيْتُونَة لاَّ شَرْقِيِّة وَلاَ غَرْبِيَّة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (النور/34-38)

لم يكن خلق الإنسان عبثاً، فحاشي لله الحكيم العليم. كذلك

السماوات والأرض هي الأخري ما صنعت لهواً ولا عبثاً، بل خلقت مرتبطة بمصير الإنسان وحياته علي هذا الكوكب البسيط. لذا لما كانت لهذا الخلق وهذه الصنعة والحياة هدفيّة، فكان لابد للنظم من أن يوكل إلي الإنسان حين الخلق، ولم يكن هذا أن يكال إكراهاً، ذلك لأن الله سبحانه وتعالي جعل الاختيار والحرية للإنسان في اتخاذ مسالكه ومناهله، وفي ذات الوقت بيّن له -إلي جانب ذلك- سبيل الهدي والرشاد والصلاح عن طريق الآيات الإلهية والرسل والأنبياء.

وفيما يخص بحثنا هذا، نشير إلي أن واحدة من تلكم النظم نظام الأسرة، كأحد أهم نظم الاجتماع؛ الأسرة التي تجسد اللبنة الأولي والركيزة الأساسية في هيكل البناء الاجتماعي للإنسان، حيث يشمخ هذا البناء برصانة بالغة إذا ما كانت نواته وخليته الأسرية تشدها أواصر المحبة، وقائمة علي أسس التعاون والإخلاص والتنسيق وتبادل العمل وروح النشاط والمثابرة.

فلقد أراد الله تبارك وتعالي أن يكون الصرح الاجتماعي الفاضل مقاماً علي أساس الأسرة الذي هندسته وخططته الرسالة الإسلامية الرشيدة، ومن مجموع الأسر المتينة المتماسكة يكوّن ويتألّف البناء الأسري الرصين، وتتكامل مناحي الحياة الطبيعية بأنسياب نحو تحقيق الكمال وعبادة الكامل المطلق.

ولعل أبرز وأعظم ما خطط ل_ه الإسلام العظيم وأمر بامتثاله هو التنظيم الأسري القائم والمنطلق من أعماق الفطرة الإنسانية؛ أي تلك المجموعة من السنن والقوانين والأنظمة الإلهية والغرائز المهّذبة الموجّهة بالنحو الإيجابي والسليم، التي أودعها الله سبحانه في ذات الإنسان، سواء كان ذكراً أم أنثي.

ولو أمعنا النظر وتدبّرنا في مصدر الرقي والتقدم الحضاري لرأينا ذلك كله ينطلق من التنظيم الأسري المتماسك. فالأسرة هي التي تحمل هوية المجتمع وسمات الأمة. ولو مثلناها بشكلٍ هرميِّ لوجدنا أن الأب يمثل القمة، باعتباره المسؤول عن رعاية وحماية

الزوجة -الأم- الركيزة الثانية للأسرة كمسؤولة عن رعاية وحماية وتربية الأولاد، فالرجل موظف بمعاملة المرأة بلطف ورقّة، وهو مسؤول عن الإنفاق عليها والوفاء بحقوقها، حيث أن الرجل الأب يحتل موقع القيادة والقيمومة التي جاءت في قوله تعال_ي: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَي النِّسَآءِ، وهذه القيمومة ليست أمراً مفروضاً أو دخيلاً، بل إنها تجسيد للفطرة والغريزة المنسجمة وطبيعة التكوين الأسري، حيث تبعث علي الرضا والطمأنينة والسكينة بين أعضاء الخلية الاجتماعية الأولي.

إن هذه القيمومة هي التي تثير الإحساس وتدفع بالرجل إلي التضحية بأعز ساعات نومه وراحته، وإلي النهوض وظلمة الليل لا تزال تخيّم علي الأفق، فتراه يخرج في البرد القارص وربما أثناء هطول المطر والثلج، طلباً للرزق ولقمة العيش، في كد وكدح وبذل الجهد طيلة ساعات النهار، وهذا كلّه انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية تجاه عائلته، فهو المحكوم أوّلاً وآخراً بتوفير الرزق والأمن، وهما العاملان الأساسيان في مصداقية الحياة للأسرة..

وهذه الفطرة والسنّة الإلهية لا تجدها مقتصرة علي ابن آدم، بل هي تعم معظم الكائنات الحيّة.. فالأمومة والأبوة تلحظها في سيرة جميع الحيوانات ولو لمدة زمنية محدودة. فالله سبحانه وتعالي قد ألهم الكائنات فطرة من شانها تنظيم واقع وشؤون الأسرة، ولا يمكن بحال من الأحوال إلغاء هذا الإلهام السماوي والاستعاضة عنه بنحو آخر ببساطة، إذ الأمر ليس هيناً كما يتصور البعض، فالتغيير والتبديل القهري المناقض لفطرة الإنسان وطبيعته الغريزية يكلّف فرضُه الكثير من الخسائر، حيث تكون علي حساب كرامة الإنسان وحريته. بل ويخرجه من عالم الآدمية إلي دنيا أحط وأردأ من الحيوانيّة.

بين القيمومة والاستبداد

حينما سُنَّتْ القيمومة للرجل علي المرأة وكيان الأسرة عموماً، برز إلي جانب ذلك الفهم السلبيّ المتجسّد بالاستبداد، حيث يفرض الرجل -علناً أو خُفيةً- آراءه وأحكامه الصارمة الظالمة

علي أعضاء أسرته.

فاليونانيون القدماء اعتبروا المرأة مجرد آلة يستخدمها الرجل.

والهند لم يتصوروا المرأة إلاّ جزءاً حقيراً من الرجل؛ ينبغي القضاء عليه فور وفاة الرجل.

والعرب قبل الإسلام اعتبروا الأنثي عاراً لابد من دفنه ولمّا يري نور الحياة بعد، تبعاً للجهل والعواطف البليدة وضنك العيش وعدم الإيمان بالخالق الذي تكفّل بإيصال الرزق إلي مخلوقه.

ومقابل هذه الرؤي الضيقة الفاسدة والصناعة الفلسفية الفاشلة وغيرها من التشريعات، جاءت النظرة الإلهية والحكمة الربانية لتنسف روح الاستعلاء والسيطرة العنصرية، فاقتضت تلك الحكمة الحقّ أن تبرز بين فترة وأخري فتيات ونساء يرتفعن ويسمون إلي منازل القدوة والنموذج الطيّب في شتي الخصال الرفيعة، فتراهن مثال الشجاعة والصبر والمقاومة.

نماذج المرأة الصالحة

وإذا ما أشرنا إليهن فبدأنا من عمق التاريخ والعصور الغابرة، فإن آسيا بنت مزاحم ثم مريم بنت عمران وأم المؤمنين خديجة الكبري سلام الله عليهنّ، ثم سيدّتهن وقدوتهن جميعاً الطاهرة البتول والراضية المرضية فاطمة الزهراء سلام الله وصلواته عليها.

فتري لماذا كان هذا النور الإلهي الذي انبثق من صلب خاتم النبيين صلي الله عليه وآله فتجسد بشخص فاطمة الزهراء عليها السلام، وامتد في حياة ووجود الرسالة، وكان ركناً أساسياً في بقائها إلي يومنا هذا؟ ولماذا كان عقب وذرية الرسول الأكرم المباركة قد اقتصر علي ريحانته الصديقة الطاهرة المطهرة الزهراء سلام الله عليها، ولم يكن في أحد أبنائه؟

إن الزهراء البتول وُلدت كبرعم تفتّح في ربيع الحياة، أو كنسمة فوّاحة انسابت علي سهل الحياة، أو كسحابة خير هطلت فاهتزّت لها صحراء الوجود، أو كومضة سطعت علي آفاق العالم المظلم، ذلك لأن الزهراء جزءٌ لا يتجزّأ من نور الرسالة، وركن أساسي من الإيمان، حيث عاشت صلوات الله عليها كربيع عجّل انقضاؤه قيض الحقد اللئيم،

لكنها -رغم ذلك- بقيت عطراً ممتداً وبركة لا تنقطع، فهي بذرة الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وهي جوهر أهل البيت الطاهر الذي شاء الله له أن يكون مشكاة لنور يسطع وهّاجاً في ضمير الزمن وعلي امتداد الدهور.

وهذه الحكمة هي التي كانت وراء أن تكون الزهراء القدوة الأولي لنساء العالم ليقمن بوجه الاستبداد والظلم وسلب الحقوق والإجحاف والتطاول الذي يتعرضن له من قبل الظالمين والمستبدين علي اختلاف أنواعهم وأشكالهم.

فلو كانت المرأة تتعرض للظلم الاجتماعي، ولم يكن بمقدور الزوج أو الابن أن يأخذوا لها حقّها، فما الذي تصنعه هذه المرأة؟ هل تتخذ موقف الصمت فتتنازل وتقبل بالهزيمة؟

الجواب: كلا؛ لن يكون ذلك منها مادامت هناك فاطمة الزهراء عليها السلام تقف علي قم_ة الزمن تتحدي وتصرخ بوجه الظلم والإنحراف، فهي القدوة التي وقفت تطالب بحقها؛ لا طمعاً بما ينطوي عليه هذا الحق، بل لمجرد كونه حقّاً، حيث لا ينبغي لها أن تسكت، وكانت مطالبتها تلك - من ناحية أخري- درساً لكل الأجيال، لا سيما الشطر النسوي منه.

فالزهراء عليها السلام دخلت الساحة السياسية مدافعة عن فدكها الذي كان يتضمن في حقيقة الأمر الدفاع عن الإمام علي عليه السلام ومجمل التراث النبوي الشريف، فهي دافعت في الواقع عن أحقيّة أهل البيت في تولي قيادة الأمة، إنها نزلت إلي المعترك رغم المصائب الجسدية والنفسية التي تعرضت لها وهدّت قواها، فقد تراكم علي قلبها هموم الأيام بفقدانها أباها النبي الأكرم، فعاشت في تلكم الأيام بعد رحيل النبي وهي تري تراثه نهباً يتلاقفه القوم، وهي تري زوجها الذي قام الإسلام بجهوده الجبّارة، تراه يضطهد ولا من مدافع، وتري الإمامين السبطين الحسن

والحسين عليهما السلام لا حول ولا قوة لهما في إصلاح ما أفسدته الجاهلية الثانية التي اختلقها الطامعون. إنها رغم كل ذلك تقف شامخة كالطود العظيم تدافع عن الحق والحقوق المهدورة؛ تلقي بالحجج البالغات والدلائل الدامغات وتشهّدُ من شاهد وشهد، تدافع عن القضية التي كانت فدك عنواناً ومفتاحاً لها.

وجذوة القول؛ إن المهم في سيرة الزهراء سلام الله عليها هو تصدّيها بنفسها للدفاع عن الحق، فهو -الدفاع- قيمة إلهية عظمي، وهو قمة الخلق السامي والرفعة الإنسانية. ومن هذا كله تتجلّي أمام أنظارنا الحكمة الربانية القاضية بأن تكون الصديقة الزهراء هي العقب الطاهر والامتداد الكريم لرسول ربِّ العالمين، فلم يكن من العبث بمكان أبداً أن يقول الرسول الأكرم: "فاطمة أمَّ أبيها" وهو الذي لا ينطق عن الهوي إن هو -نطقه- إلاّ وحيٌ يوحي. وهذا يعني أن قيم ومفاهيم الرسالة كادت تتلاشي لولا وجود وجهود الزهراء، حيث أوضحت الحقائق وكشفت عن خفايا الطمع والجاهلية لكل ذي سمع ونظر وعقل.

درس من الزهراء

لعل النظرة إلي المرأة من منظار الجاهليتين؛ الأولي والحديثة قد تكون واحدةً، وهي نظرة التشاؤم والاستبداد، إلاّ أنهما تختلفان في أسل_وب التعامل معه_ا.

فالجاهلية الأولي كانت تدفع بالرجل للتخلص من المرأة باعتبارها نذير شؤم له، فكانت المرأة تتعرض للوأد أو التشريد أو الحرمان أو الاستعباد. أما الجاهلية الثانية المعاصرة فهي تتعامل مع المرأة علي أنها مجرد دمية ووسيلة ترفيه، وكأنها خلقت دونما كرامة واحترام وشخصية.

فهي إذا كانت في الجاهلية الأولي تستعبد في خدمة الرجل، فهي اليوم لا همَّ لها إلاّ الاهتمام بمنظرها وزينتها، وكل ذلك يصبّ في مصلحة الرجل بصورة أنانية مباشرة أيضاً. فهي -حسب الجاهلية الثانية- ليست إلاّ سلعة عامة تجتذب الرجال عن طريق عرض المفاتن، وبين

هذا وذاك أضحت دون كرامة أو إنسانية؛ فإمّا تراها في حالة إشباع الغرائز الرخيصة، وإما تراها في حالة الانتقام الوحشي من ذلك الاستغلال البشع.

ولكننا نري الزهراء سلام الله عليها تجيب عن التساؤل عما هو خير للمرأة، فتقول: "خير لهن أن لا يرين الرجال ولا يرونهن" [31] أي أن علي المرأة أن تصون كرامتها وعزتها بما استطاعت من العفاف.

لا شك في أن أعظم دورٍ وأفضل نشاط تقوم به المرأة بحيث ينسجم وطبيعتها التكوينية والنفسية، هو ما تؤدّيه في محيط بيتها وأسرتها. يشاطرنا في ذلك كل منصف لم يتأثر بأبواق الدعاية المفسدة، ولم ينجرف مع التيارات المنحرفة التي تريد للمرأة الضياع في عوالم الانحلال والفساد.

ويعتقد الكثير منّا أن الرجل هو الخيمة، وهذا هو ظاهر الأمر، ولكنني اعتقد بأن المرأة هي عمود هذه الخيمة، وهي المحور الذي تلتفّ حوله الأسرة وينجذب نحوه أعضاؤها. فالمرأة - علي هذا الأساس -تمثل مركز انسجام الأسرة، بينما الرجل يأخذ منصب الراعي والحامي والمدبّر والمسؤول عن توفير ضرورات العيش والاستمرار.

وإذا كان ليس خافياً تأثير الأم علي أولادها من حيث التربية والرعاية العاطفية والتنمية الإنسانية، فإنه لابد من الإشارة إلي قضية لا تقل أهمية عن ذلك، وهي تاثير الأمّ علي جنينها الذي هو في بطنها، وقد فصّل العلم الحديث مصداقية قول الرسول الأعظم محمد صلي الله عليه وآله وسلم، حيث قال: "السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه" [32] نظراً إلي ما تتركه الأم من آثار لا تنكر علي جنينها، وهو خاضع بصورة مباشرة منذ كونه نطفة في الرحم وحتي بلوغه الخامسة عشرة من عمره علي أقل التقادير، مما يحمل المرأة علي ضرورة وعي موقعها

ومكانتها تجاه أسرتها، ويحملها أيضاً علي النهوض بمستواها العاطفي والثقافي حتي تكون في موضع يؤهلها لتكون مركزاً ومحوراً لحركة أسرتها.

وليس بخافٍ علي أحد من المسلمين أن فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت الرمز الأوضح في النبل والعفة والطهارة، حتي أنها استطاعت عبر ذلك إنجاب ذرية كالإمامين الحسن والحسين وزينب عليهم السلام، وكفاها بذلك فخراً، وكفاهم بأمّهم فخراً، حيث حفظ الإسلام بوجود وجهود هذا البيت الطاهر.

الزهراء محور بيت الرسالة

اشاره

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْاَنُ مَآءً حَتَّي إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ (النور/36-40)

من المؤكد انّ الله تبارك وتعالي قد خلق الخلق برحمته، وأنّ رحمة الله هي الغاية والهدف الذي تتكامل عنده معالم الخلق. فتري ما هي هذه الرحمة؟ وأين هي؟ وكيف تجلت؟..

حينما أراد الله جلّ وعلا ان يزيح الظلمات عن الأرض خلق شمساً مضيئة وقمراً منيراً. وحينما أراد ان يسقينا ماءً خلق السحاب وجعلها وسيلة لذلك. وحينما أراد ان يرسي الأرض علي قواعدها خلق الجبال. والمقصود مما تقدم؛ ان ربنا سبحانه حينما يريد شيئاً فهو يهيء أسبابه، فما هي أسباب ووسائل الرحمة؟ وأين هي؟

وبصراحة مطلقة أقول:

ان أسباب الرحمة هي محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين، إذ أن الله لما أراد أن يرحم العباد شاء أن تتجلي فيهم رحمته، فخلق أنواراً جعلها بعرشه محدقة؛ تسبّح وتهلّل وتكبّر، ثم خلق من هذه الأنوار السماوات والأرض والملائكة، وهلّلت الأنوار فهلّل معها كل شيء، وسبّحت فسبح معها كل شيء، وخلق الله الجنة من الأنوار المحيطة بالعرش، فجعلها الله وسيلة رحمته، وكما قال النبي الأكرم صلي الله عليه وآله وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة" [33] وعليه فلا فرق لدينا في ان يقول القائل: اللهم ارحمني برحمتك، أو: اللهم ارحمني بمحمد وآل محمد، فالنبي وآله هم رحمة الله وهدف الخلق.

فاطمة الزهراء هي المحور

ج_اء في س_ورة النور المباركة: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ٌّيُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيِّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

انهم عباد مكرمون

إن الله سبحانه وتعالي حينما يستعرض من خلال القرآن واقعاً معيناً او قصة تاريخية إنما يريد ان يذكرنا بعبرتها، ولعل العبرة من الآيات المتلوة هي منع الناس دون ان يخيّلوا لأنفسهم بأن النبي وأهل بيته لهم ذاتية، او كونهم آلهة صغار -والعياذ بالله-. فهم بدورهم يسبحون الله اكثر من غيرهم، واذا كان الجهل والغفلة أمرين طبيعيين في الإنسان، فإن الله بعد الإشارة الي عظمة هذه البيوت وأوحديتها في التاريخ يعطف عليها بقوله المجيد: وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَار.

ان المعادلة ثابتة كل الثبات؛ فكما أن الإنسان ينام باطمئنان بالغ اذا ما كان بيته خالياً مما يثير طمع السراق، او انه لا يطبق له جفن إذا كان في بيته الأموال الطائلة. كذلك كلما تضاعفت رحمة الله علي الإنسان، كلما خشي من فقدانها او التفريط بها اكث_ر. ولان رحمة الله قد تجلت في النبي وأهل بيته عليهم السلام، فخشيتهم من الله اكثر، لانهم مع ثقتهم بالله لكن معرفتهم بالله اكبر، ولذلك فخشيتهم منه اكثر. فالله تعالي يقول: إِنَّمَا يَخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَآءُ (فاطر/28)

نبينا هو نبي الرحمة، واميرنا قسيم الجنة والنار، وسيدة نساء العالمين شفيعة الأمة، ولكنهم يخافون يوماً تتقلب

فيه القلوب والأبصار، خوفاً يدفع بهم الي الطاعة المطلقة، والابتعاد عن الذنوب. وهذا الإحساس بالخوف والعصمة المتكرسة لديهم هو الأمر المتناسب تماماً مع ما سيجزيهم الله من حسن الثواب وما سيزيدهم من رزقه غير النافذ ابداً.

اما الذين لا نور لهم، فلا يمكن ان يكون لهم من الحظ شيئاً، قال الله تعالي: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْاَنُ مَآءً حَتَّي إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ وفي ذلك إشارة واضحة الي أهمية انتباه المسلم وضرورة محاولته الحصول علي النور من مصدره الحقيقي والصحيح، وهو مدرسة أهل البيت عليهم السلام. ولذة الحصول علي النور ما بعدها لذة ولا اروع منها، اذ هي منتهي الرغبات وغاية الغايات.

مسؤوليتنا تجاه اهل بيت الرسالة

ويقفز الي السطح سؤال ملح جداً؛ والإجابة عليه علي درجة بالغة من الخطورة: ما هي مسسؤوليتنا تجاه هذا النور والرحمة الإلهية وأهل بيت الرسالة؟

وبعد مزيد من التفحص يبدو إن الإجابة تكمن عبر تأدية ثلاث مسؤوليات جسام، ومن دون اداء هذه المسؤوليات لن ينفع الإنسان ما يعمل، نظرا لانه سيعمل دون عقيدة صحيحة أو قلب سليم.

المسؤولية الأولي: التسليم بحق ومنزلة أهل البيت عليهم السلام، وهذا يستدعي تطهير نفوسنا من أمراض الضغينة والحسد والكبر. ان البعض من المسلمين يحاول برأيه الشخصي الصادر عن غير تفكر وإخلاص وحسن نية، بل يسعي البعض الي تجيير وقولبة العقيدة الإسلامية، ولو في الأصول المتفق عليها -حسب ما تمليه عليه رغباته ومصالحه وما وجد

عليه آباءه- والأخطر من ذلك وأدهي ان بعض من يحشر نفسه في صف الموالين لفاطمة الزهراء وأهل البيت يحاول بطريقة أو أخري ان يحذف أو يختصر بعض الأحاديث مداهنة لأعداء الدين، أو جهلاً بعلم الحديث والتفسير، فضلاً عن عدم إلمامه بفصول اللغة والبلاغة التي هي العنوان الأول في شكل وصورة الروايات.

ربنا سبحانه وتعالي يؤكد: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْاَنُ مَآءً حَتَّي إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب فالاعتقاد السليم هو الأساس في العمل الصالح، ومن دونه سيكون العمل مهما كانت صورته صالحة وجميلة سراباً لا حقيقة ل_ه، بل الباطل والانحراف والخيال هو الأساس في خداع الإنسان وإضلاله، حتي يفاج_أ بمصيره المحتوم، إذ يلقي الله من دون أي رصيد حقيقي صالح.

وما اتعس الإنسان واحقر به ان يستمر في حياته علي أساس كذبة تاريخية كبري تؤدي به في نهاية المطاف الي السقوط في مهاوي جهنم وبئس المصير.. فأن يمشي المرء بطيئاً ويصل الي هدفه في الآخرة، خير من ان يسابق الريح والزمن ولكنه يسير في الانحراف ولا يصل الاّ الي ما يكره، وكما تقول الرواية الشريفة عن أبي عبد الله عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام جميعاً قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: عليكم بسنة، فعمل قليل في سنة خير من عمل كثير علي بدعة. [34] .

المسؤولية الثانية: لكي لا يكون ولاؤنا وارتباطنا بأهل البيت، وبالأخص منهم سيدة نساء العالمين ولاءً وارتباطاً هامشياً او مجرد حلم، لابد ان نعي مقامها وحقها ودورها في العقيدة الإسلامية، فإنه لا يكفي مجرد معرفة انها بنت الرسول او زوجة الوصي او ام الأئمة؛ فالمعرفة الواقعية

بفضل فاطمة الزهراء وبقية آل الرسول هي العامل المكرّس للتسليم بأمرهم.

المسؤولية الثالثة: الاتباع والاقتداء بسيرة فاطمة الزهراء عليها السلام. فنحن اذا نظرنا الي تفاصيل ملحمة مطالبتها بفدك نظرة واعية فستكون أمامنا من الدروس والعبر ما لا حصر لها. فهي أولاً لم تتقاعس عن مطالبتها بحقها او استعراض مظلوميتها، رغم ان الظروف الاجتماعية والسياسية والصحية التي ألمت بها كانت صعبة للغاية.

وهي في طريقها الي المسجد لمباهلة الخليفة الأول التزمت - بما للكلمة من معني - بشروط العفّة والشرف، وضربت بذلك أروع مثال لجميع نساء العالم..

ومهما يكن؛ فان سورة النور التي ترسم صورة الأسرة المسلمة الفاضلة، وتحدد نوعية العلاقة بين الزوجة أو الام ببقية أفراد العائلة، إنما هي تبين فضيلة فاطمة الزهراء سلام الله عليها. ولا يخفي ان فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت المحور لأسرة آل الرسول، فهي البنت والزوجة والام لخير خلق الله.

كما ان علاقة هذه الحوراء الإنسية بالنساء وتأثيرها الإيجابي عليهن كان قمة في الأداء والروعة. فهي كانت تحدثهن حول الفضيلة والعلم ومنزلة العلماء، حتي تزيل الحواجز بينها وبينهن فيستزدن منها المعرفة والإجابات التفصيلية علي كل ما يشكل عندهن.

ولا يغيب عنا؛ اننا اذا سمعنا قول الله تعالي: ولَكُمْ في رَسُولِ الله أسْوَة حَسَنَة فذلك يعني؛ كما لكم في رسول الله أسوة حسنة، كذلك في فاطمة وبعلها وبنيها، لإنهم كلهم نور واحد. وعليه يجب ان نتأسي بهم، ونتبع خطاهم، ونقتدي بهديهم.. وبذلك نحاول ان نتمثل أشخاصهم وسلوكهم في حياتنا، لأن سلوكهم وسيرتهم وكلامهم حجة علينا.

هكذا تجلت الرحمة الإلهي_ة في شخصية فاطمة الزهراء وأبوها وبعله_ا وبنوها عليهم صلوات الله أجمعين. غير ان ما يؤسف عليه ان المسلمين لم يؤدوا حق

هذه الرحمة، الي درجة ان بعض أهل العلم؛ بعض الكتّاب؛ بعض الخطباء.. راح يشيع ان المصائب التي جرت علي أهل بيت الرسالة والتي تذكرها كتب التاريخ والتي يرويها الخطباء ويحرره_ا الكتّاب، إنما هي مبالغ فيها. فحسب قول أحدهم: هل من المعقول ان يأتي من يجمع الحطب علي باب بيت فاطمة عليها السلام ويضرم فيه النار؟ هل من المعقول ان يفتحوا باب بيت فاطمة عليها السلام عنوة ويعصروها خلف الباب؟ هل من المعقول انهم بفعلهم هذا اسقطوا جنينه_ا؟ هل من المعقول انهم تجرأوا علي ضرب فاطمة عليها السلام علي مرأي من المسلمين؟..

لماذا نستبعد ذلك، وقد نشاهد بأم أعيننا اليوم أعداء أهل البيت كيف عمدوا الي هدم قبورهم في المدينة المنورة، وكيف يحجبون الناس عن مرقد النبي صلي الله عليه وآله ويمنعون الناس من الدنو من مراقد الأئمة المعصومين في البقيع؟؟

وبص_راحة أقول: ان ما ذكره المؤرخون لنا من مظلومية أهل البيت عليهم السلام، وما جري عليهم من اضطهاد ليس إلاّ نزر يسير، وما اخفوه اكثر من ذلك واعظم بكثير. وذلك خشية من سطوة الطغاة الحاكمين، وطمعاً بالدنيا وملذاتها..

وعلي هذا يجب ان نحذر الوساوس الشيطانية، وان نجعل مظلومية هذه السيدة الجليلة الزهراء البتول وأهل بيت العصمة عليهم السلام -سواء في الماضي او في الحاضر- منطلقاً الي التمسك بخطها الاسلامي الاصيل وجعلها نبراساً لإيماننا وميزاناً دقيقاً لعقيدتنا.

الزهراء قدوة و رمز

اشاره

فاطمة الزهراء عليها السلام، هي تلك الصديقة التي كانت سراجاً منيراً تجلي فيه نور الرسالة عبر والدها العظيم النبي محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله. وما اجدرنا ونحن نمتلك في تاريخنا هذه القدوة المثلي ان نقارنها بواقع المرأة اليوم. فنحن نعيش الآن أزمة أفرزتها الجاهلية الجديدة التي

تكاد تحطم البشرية، وتسحق كرامتها؛ ألا وهي مشكلة المرأة التي تحولت الي مشكلة حادة من مشاكل العصر.

ان هناك في عالم اليوم منظمات ومؤسسات تدعو الي ما تسمّيه ب_ (حقوق المرأة)، في حين إنها -في الواقع- لا تدعو إلاّ الي تفوق الرجل علي المرأة، وإطلاق يد الوحشية الذكرية ضد ضعف الأنثي. هذه الوحشية التي تبدّد اليوم كل طاقات الإنسان.

قبل خمسين عاما لم يكن يخطر علي بال احد بأن من الممكن ان تكون النوايا الحقيقية لدعاة حقوق المرأة هي سحق كرامتها، والدعوة الي اغتصاب حقوقها، وتحطيم كيانها.. ولم يكونوا يدركون ان هذه الدعوة ما هي إلا دعوي شيطانية تطلقها ابواق الضلالة والفساد في الأرض. بل لم يكونوا يعلمون ان وراء هذه المؤسسات أيادي صهيونية ماكرة تريد ان تقوّض كيان المجتمعات، وتحولها الي قطعان من الغنم تسوقها حيثما شاءت أهواءها.

واليوم وبعد ان انجرفت الجاهلية الحديثة الي ما انجرفت اليه من حضيض الفساد والميوعة والانحلال الأخلاقي، والملايين من المشاكل الفردية والاجتماعية.. نستطيع الآن ان نقول وبكل قوة وثقة، ان تلك الدعوي لم تكن إلا فخّاً لاصطياد الكرامة والقيم، والإنسان والإنسانية.

وقبل ان نسلط الأضواء علي حقوق المرأة، لابد ان نوضح فلسفة وحكمة ضعف المرأة أمام الرجل، وقيمومية الرجل عليها، حيث قال الله تعالي: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَي النِّسَآءِ (النساء/34).

ان الحكمة الرئيسية، هي الحاجات المتبادلة بين جنسين يتكاملان، ليكملا مسيرة الحياة عبر التربية الحضارية التي تتوارثها الاجيال. والحكم_ة في هذه (التكاملية) معروفة. فقد خلق الله عز وجل الكون بحيث يعكس كل شيء فيه الدلالة علي انه هو الحي القيوم الغني بذاته. فالحكمة ه_ي التعاون بعد التعارف، وهذه الحكمة هي التي أودعت الحاجة المتبادل_ة بين الرجل والمرأة. ففي

كل تجمع صغيراً كان ام كبيراً هناك حاجة الي اختيار رجل كقائد ل_ه، وبإمكانه ان يتحمل الواجبات والمسؤوليات المضاعفة.

ولذلك فان هناك ضعفا طبيعيا في المرأة امام الرجل، وهذا الضعف لابد ان نعترف به لنبدأ بمعالجته، ولنبدأ أيضا بتحديد الجانب القويّ، الذي من شأنه ان يتحول إلي وسيلة للاعتداء علي الجانب الضعيف.

احترام الضعيف سر التحضر

إن احترام الإنسان الضعيف هو سرّ كلّ تحضّر وتقدّم في التأريخ. فالحضارة التي تحترم القوي لقوته، وتسحق الضعيف لضعفه وعجزه ليست بحضارة. فليس متحضرا ذلك الإنسان الذي يحترم القويّ، بل ان الإنسان المتحضّر هو الذي يكن الاحترام ويشفق علي الضعيف، ويحاول أن لا يعتدي عليه سواء كان متمثلا في المرأة، أو اليتيم، أو أي إنسان مستضعف.

وهكذا فان المجتمع المتمدن هو المجتمع الذي يكون الضعيف فيه محترماً، والمظلوم منصوراً حتي يؤخذ له بحقه.

ومن ضمن الحقوق التي يجب ان يحترمها المجتمع حقوق المرأة؛ هذه الحقوق التي يجب ان تؤخذ من الرجل القوي الذي قد يفرض إرادته عليها، وهنا تأتي التشريعات والقوانين والأخلاق الإسلامية لتأخذ للمرأة حقها من الرجل.

ومن حقنا ان نتساءل في هذا المجال: من الذي يأخذ حق المرأة من الرجل، ومن الذي يستطيع ان يكبح جماح اعتداء الرجل علي المرأة، سواء كانت أختاً أم زوجة؟

للجواب علي هذا التساؤل نقول: أن هناك ثلاث قوي بإمكانها أن تأخذ حق المرأة من الرجل، وهي:

1- القانون.

2- العقل.

3- قوة المرأة التي هي القوة الأهم.

أن المرأة القويّة تستطيع ان تأخذ حقها من الرجل، وان لا تدعه يغتصب هذا الحق منها. فالإسلام لا يوصي الرجل باحترام المرأة فحسب، ولا يوصي المجتمع باعطائها المنزلة اللائقة بها، ولا يكتفي بأن يأمر الرجل باحترام والدته، بل

انه يمنح قبل ذلك المرأة القدرة والهيبة والصلابة والإرادة القوية لكي تأخذ حقها من الرجل. وهذا هو المهم.

فالإسلام يجعل الإنسان مؤمناً بقواه وقدراته، واثقاً من نفسه، وذلك من خلال طرح القدوات الصالحة أمامه، والتي تجعله يؤمن بقدراته. ففي التأريخ نري أن الأنبياء عليهم السلام كانوا من البشر، وهذه الظاهرة تدفعنا الي التساؤل: لماذا لم يبعث الله تبارك وتعالي أنبياءه من الملائكة؟ ولماذا يؤكد تعالي علي أن النبيّ لابد أن يكون من البشر؟

إنما لكي يكون ق_دوة، ولذلك تأتي الآيات القرآنية الكريمة مؤكدة هذه الحقيقة، كقوله تعالي: قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إلَيَّ (الكهف/110).

وهذا التأكيد المتوالي دليل علي أن بشرية الرسول هي قضية مقصودة، والسر في ذلك هو لكي يتغلب الإنسان علي أهواء نفسه من خلال الاقتداء بالصديقين والأولياء والصالحين، الذين تغلبوا علي طبيعتهم البشرية وما فيها من عناصر وعوامل الضعف، فاقتحموا العقبات وقاوموا المشاكل واستسهلوا الصعاب وضحّوا بأنفسهم.. وعندما يري الإنسان كل ذلك، تنبعث في نفسه الشجاعة والإرادة القوية.

وفاطمة الزهراء عليها السلام هي قدوة الم_رأة. هذه القدوة التي تدفعها الي ان تناهض أولئ_ك الذين ي_ري_دون اغتصاب حقوقها، والاعتداء عل___ي

حرماتها؛ والذين قد تكاثروا في العصر الحديث.

ان الدعاة المزيفين لحقوق المرأة قالوا: إنها لابد من ان تشارك الرجل في جميع أعماله، وهذا يعني في رؤيتهم ان تكلّف المرأة بما لا تطيقه من الأعمال الصعبة المجهدة. ثم قالوا بعد ذلك ان من ضمن حقوق المرأة ان تخرج متبرّجة سافرة الي الشوارع والأسواق، وعندما خرجت كذلك كان المستفيد هو الرجل وشهوته.

الحضارة الغربية والتفسخ الأخلاقي

ونتيجة هذا التوجه، ونتيجة للانفلات والانحلال الخلقيين السائدين فيه، فان هناك إحصائيات تؤكد ان ما يقرب من (15) مليون امرأة قد اغتصبن

بالقوة في الولايات المتحدة الأميركية. وهذا يعني ان المرأة في الغرب قد تحولت الي سلعة رخيصة!

تري ما هذا التوحش الذي راحت ضحيته المرأة اليوم في ظل ما يسمونه بالحضارة؟ إن المرأة أصبحت منبوذة وخصوصا عندما يتقدم بها السنّ، حيث تنقل الي دور العجزة لتجرّ حسراتها هناك، وتعاني من الوحدة، وتموت في آلامها.

وفي مقابل ذلك نري ان الإسلام يوصي بالأم ثلاث مرات قبل ان يوصي بالأب، كما ويوصي بالإنسان الطاعن في السنّ معبّرا عنه انه كالنبيّ في قومه. كما ان الإسلام يعطي الكثير من الحقوق والامتيازات للمرأة؛ فالزواج بيديها وهي التي تملك أن ترفض الزواج إذا كان لا يوافق مصلحتها، كما أن لها حق تعيين المهر، ولها الحق أيضاً في أن تحتفظ بولدها لفترة طويلة في حالة الطلاق لانها أم، والإسلام أوصي بالأم قائلاً: " الجنة تحت أقدام الأمهات" [35] .

وبالإضافة الي ذلك فقد أكد الإسلام علي ان تكون المرأة مصونة، لكي لا تذهب ضحيّة النزعة الوحشية لدي بعض الرجال. وذلك من خلال جعلها سيدة الموقف بإرادتها، لان المرأة التي تترك المساهمة في الحياة، وتنبذ مسؤولياتها جانبا، عندئذٍ لا تلبث أن تتحول الي قمر يدور في فلك الآخرين. ومثل هذه المرأة لا قيمة لها، لان من المفترض فيها ان تتحمل المسؤولية في جميع الاوامر والواجبات الشرعية باستثناء الحالات المنصوص عليها شرعا.

ولذلك فان القرآن الكريم لايوجّه خطابه الي الرجل فحسب، بل يقول: "يا ايها الناس... " و "يا أيها الذين آمنوا... " لكي يشمل هذا الخطاب كلاًّ من الرجل والمرأة. فالمرأة مطالبة بأداء كل الواجبات من خلال تزويد نفسها بالإرادة التي من الممكن ان تستوحيها من نساء عظيمات مثل فاطمة الزهراء عليها السلام

هذه المرأة التي تعتبر المثل الأعلي للتربية القرآنية، والقدوة المثلي للمرأة المسلمة.

تجلي الرسالة في النساء

وكما أن الرسالة قد تجلت في الرجال، وخصوصاً في رسول الله محمد صلي الله عليه وآله، الذي كان خلقه القرآن، وكان المجسّد للرسالة. فان هذه الرسالة قد تجسّدت أيضاً في النس_اء، وفي مقدمتهنّ شخصي_ة سيدتن_ا فاطمة الزهراء عليه_ا

السلام، التي عاصرت الإسلام منذ أيامه الأولي، وهي في بيت الوحي.

وكان رسول الله صلي الله عليه وآله هو معلمها الأول. لذا لم تنته الزهراء عليها السلام في شخصيتها، بل امتدت عبر ذريتها الطاهرة..

صحيح ان المرأة المسلمة يفصلها اليوم عن فاطمة عليها السلام أربعة عشر قرنا، ولكن سيرتها الوضاءة تستطيع ان تلهمها وان تكون مدرسة لها. وسنقوم فيما يلي بعرض جوانب بسيطة من عظمتها وشموخها اللذان استمدّتهما من عظمة وشموخ الرسالة الإلهية. فرسول الله صلي الله عليه وآله الذي فقد حنان الأم وعطف الأب منذ سنّ مبكّرة من عمره الشريف، كان يحسّ بهذه العاطفة المفقودة في حياته، لأنه بشر كسائر البشر كما يقول تعالي: قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. ولكنه سرعان ماوجد هذه العاطفة المفقودة في شخصية ابنته الزهراء عليها السلام.

لقد كان النبي صلي الله عليه وآله عندما يعود من صراعه مع الجاهلية، وعندما يفرغ من دعوته للمشركين الي نبذ آلهتهم؛ كان صلي الله عليه وآله يسارع الي ابنته فاطمة التي كانت بدورها تحوم حوله، لتحوط هذا القلب الكبير بعاطفتها الجياشة، ولتضمد جراحاته، وتسكن آلامه.. تماما كما كانت تفعل ذلك والدتها خديجة الكبري رضوان الله عليها. وهذا ما دفع النبي صلي الله عليه وآله الي آن يقول: "إن فاطمة أم أبيها" [36] ، و"إن الله عز وجل ليغضب لغضب فاطمة ويرضي لرضاها" [37]

.

وفي خلال الحصار الذي ضربه المشركون علي بني هاشم في شعب أبي طالب؛ في تلك الفترة الحرجة من حياة الرسالة الإسلامية لم تكن فاطمة تشعر بالخوف، رغم انها كانت في سنّ مبكّرة من حياتها، ورغم إنها كانت قد فقدت والدتها في تلك الفترة، ولكن صبرها الذي استوحته من قدرة التوكل علي الله تعالي وثقتها به، هذا الصبر كان يمنحها الثبات والمقاومة والصمود.

ومن الدروس التي نستطيع أن نستلهمها من حياة فاطمة الزهراء عليها السلام، هو درس الفاعلية والنشاط. فلم يعرف عنها أنها قد توقفت عن هذا النشاط، ولو للحظة واحدة من حياتها. فقد كانت تقضي ليلها في العبادة والضراعة والدعاء للمؤمنين، ونهارها في مؤازرة والدها وزوجها، والقيام بمهام الرسالة سواء قبل الهجرة أو بعدها.

ويا ليتنا نقتبس من هذه الشعلة الإلهية درس الصبر والجهاد والشجاعة والعطاء.. فان ركن هذه المرأة لم ينهّد رغم المصائب والآلام التي نزلت بها، والتي كانت في مقدمتها وفاة والدها وما جري عليها بعد ذلك من ظلم وإجحاف. فكان همّها الأول بعد ذلك الابقاء علي الخطّ الرسالي السليم والدفاع عنه، وعدم السماح بهبوط الروح الإسلامية في الأمة، ودخول عدد من المنافقين في أوساطها.

وفي حياة الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء دروس ودروس؛ فمن أراد أن يقتدي بها لابد له أن يتعرف عليها، وأن يعيشها في واقعه.

الزهراء في واقع المسلمين

اشاره

بعد أن يسمو الشهيد الي الله سبحانه وتعالي ويلتحق بالرفيق الأعلي ينقسم الناس أزاءه الي ثلاث فرق؛ ففرقة تؤمن به وبقضيته وتعمل في سبيل إحياء أمره، وفرقة تكفر به وبمبادئه وتعمل في سبيل إخماد ذكره وإماتة أمره، وهاتان الفرقتان إنما تمثلان الأقلية السحيقة، أما الفرقة الثالثة فهي التي ينضوي تحتها أغلب الناس؛ وهي الفئة التي

كل جهدها أن تذرف الدموع علي الشهيد؛ فيما هي في واقع الأمر تصفق لأعدائه وتؤيدهم فعلاً.

الامة بعد استشهاد الزهراء

لقد ذهبت السيدة الصديقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، وهي أول شهيدة بعد رحيل الرسول الأكرم بظلامتها وحسرتها وآلامها وأحزانها الي ربها. ذهبت فاطمة، ولكن ماذا كان فعل المسلمين وأهل المدينة منهم بالخصوص تجاه هذا الخطب الفجيع الذي يحمل في طياته معالم الردّة والانقلاب علي الأعقاب؟

لقد انقسم الناس حياله الي ثلاثة أقسام -كما هي العادة- فقسم منهم بكي علي سيدته الجليلة قاطعاً علي نفسه عهداً باتباع سيرتها والاستضاءة بنورها، وكان من هذا القسم رجال كسلمان المحمدي –الفارسي- وأبي ذر والمقداد وعمار وابن التيّهان.

وقسم بقي علي بغضه لها وحبّه لعدوّها، وهؤلاء كانوا أعداداً بسيط_ة كالمغيرة الذي ضرب السيدة الزهراء بيده الخبيثة في أحد أزقّة المدين_ة وبقي علي بغضه حتي آخر لحظة من حياته البغيضة المليئة بالأحقاد عل_ي مبادئ الإسلام. أما القسم الثالث، فكان يمثل الأغلبية من أهل المدينة، فق_د بكوا الصديقة الزهراء وتعاطفوا معها قلباً، ولكنهم في الوقت ذاته خالفوه_ا ومبادئها عملاً وصفّقوا لأعدائها ووقفوا مع الذين قتلوها واستباحوا حقوقه_ا.

ازمة المسلمين الاولي

إن الأزمة التاريخية الحقيقية في حياة المسلمين هي هذه الازدواجية في السلوك؛ الأزمة التي رفضها القرآن الكريم رفضاً قاطعاً، معتبراً ظهور بوادرها أول ظهور الانكسار والردة والتخلّف. وها هي الآن الملايين تبكي الحسين عليه السلام في أيام عاشوراء ذكري استشهاده المقدس، بل ويلطمون ويجرحون أنفسهم للدلالة علي حزنهم وتضامنهم معه، غير أن المنصف إذا م_ا اعتبر أعم_الهم مقياساً لإيمانهم فسيعرف أنّ الكثير منهم لاينتمي الي جبهة الحسين عليه السلام. فالعين تدمع من أجل الحسين، واليد تصفق ليزيد ولكل من كان معه وخطه في هذا العصر.

والأئمة عليهم السلام كانوا قد شخصوا ذلك من قبل، حتي أنهم وضعوا نصوص الزيارات الشريفة لسيد الشهداء التي جاء

فيها: "اللهم العن أول ظالم ظلم حقّ محمد وآل محمد وآخر تابع ل_ه علي ذلك... اللهم العن العصابة التي جاهدت الحسين وشايعت وبايعت وتابعت علي قتله " [38] .

ونق_رأ في زيارة الوارث، وهي من الزيارات المعتبرة فنقول: " بأبي أنت وأمي يا أبا عبدالله، بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله، لقد عظمت الرزّية وجلت وعظمت المصيبة بك علينا وعلي جميع أهل السماوات والأرض، فلعن الله أمة أسرجت وألجمت وتهيّأت لقتالك... " [39] .

فأولئك الذين ظلموا آل الرسول وأولئك الذين خالفوا الرسول في أهل بيته قد ماتوا، ولكنهم أورثوا حقدهم وظلمهم وبغضهم لأبنائهم وتابعيه_م، ولذلك نجد الكثير من هم في خط يزيد بن معاوية. فحكام الع__راق الآن - دون أدني شك - هم التابعون والوارثون الحقيقيون لظلم الأمويين والعباسيين. وإني إذ أبكي الحسين وأتابع أعدائه عملاً، إنما أكون مشايعاً لقتلة الحسين وورثتهم؛ بمعني أن دمعتي وبكائي الطويل لن ينفعني بمقدار أنملة، ولن يغير من الواقع والحقيقة شيئاً أبداً.

إن المشكلة ليست في تلك الأقلية التي تبغض أهل البيت عليهم السلام قلباً وقالباً، فهذه الأقلية كالكفرة الذين يعلنون كفرهم، وبالتالي فإن من الممكن التحسب لهم وأخذ الحيطة منهم. ولم تكن المشكلة في يوم من الأيام في الأقلية التي تعلن ولاءها لأهل البيت وتقلدهم في كل صغيرة وكبيرة، ولو أدي ذلك الي خوض المصاعب والمحن كما أثبت التاريخ. فهذه الأقلية تحتل قمّة الإيمان، وهي قلب الدين النابض، لكن المشكلة في هذه الأكثرية المصابة بمرض الازدواجية، حيث تؤمن بأهل البيت كأئمة حق وتعمل ضد ما يأمرون به وينهون عنه.

ولقد صدق القائل حينما وصف للإمام الحسين عليه السلام واقع أهل الكوفة حيث التقاه في طريقه اليها

بقوله: يا ابن رسول الله؛ قلوب القوم معك وسيوفهم عليك.

نحن والزهراء

بداعي التفاوت في روايات استشهاد الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام نعيش عدة أيام هذه الذكري الأليمة. والسؤال المطروح الآن هو: أين نحن من سيرة سيدة نساء العالمين التي نعتبرها المعيار والقدوة، لاسيما وأننا نطلب شفاعتها ونؤكد أننا من شيعتها؟ فهل نحن كذلك فعلاً؟ وكيف نكون معها ولا نكون في الجبهة المعادية لها؟

والجواب يبدو واضحاً وجليّاً للغاية، وبإمكاننا معرفته بواسطة مقارنة سلوكنا بأفعالها ومواقفها أولاً، وبمقارنة أقوالنا بأقوالها. والأمر ليس مستعصياً أن يتعرف كلّ واحد منّا علي فعل الزهراء، حتي يقيس نفسه بها.

وأقولها بكل صراحة: إنّ من المستحيل أن تتبع أمة من الأمم نهج فاطمة الزهراء وموازينها ثم تكون أمة متخلفة. فأمة تتبع الزهراء لا تستضعف ولا تذل. وعلي ذلك كلّه، فان التخلف والذلّة والاستضعاف إنما منشأه نحن أولاً وأخيراً، وليس في معايير الزهراء.

وتبدو الازدواجية ظاهرة كل الظهور علينا، حيث نعيش هاجس ال_خوف

والرعب من أن تتخطفنا الأمم من حولنا، ومع ذلك ندعي بصلافة بالغة اتب_اع الزهراء ومحبتها. فهذا هو التناقض بعينه والخرافة بعينها، إذ لا يمكن مطلقاً أن يكون نهج الزهراء نهجاً يحملنا الالتزام به الي التخلف والفرق_ة وال_ذل.

إن أبرز ما خلدته الزهراء من سيرة فاضلة مجاهدة هو أنها لم تعش لنفسها أو تفكر في نفسها كإنسانة وكصديقة، بل هي عاشت لنهج الإسلام الأصيل؛ دين أبيها محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله وسلم، ومن نماذج هذه الحقيقة أنها حينما عادت من المسجد لاحتجاجها علي مصادرة الحق من قبل الخليفة الأول، وجدت أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام جالساً في زاوية من زوايا البيت وقد احتضن ركبتيه حزيناً

متفكراً بشأن هذه الأمة التي خالفت رسولها فور وفاته، بالرغم من أن الرسول كان قد أخبره بكل شيء سيحدث بعده … اشتكت الزهراء لزوجها أمير المؤمنين ظلامتها محرّضة إياه علي الأخذ بحقها لاسيما وهو بطل الابطال وصاحب ذي الفقار وفاتح خيبر.. فأجابها أمير المؤمنين بكلمات؛ الغرض منها التهدئة والتخيير بين الأخذ بحقها وبين بقاء الدين. فهي إن أرادت حقّها - الذي يبدو في الظاهر شخصياً - لابد أن تعرف أن لا يبقي للإسلام وجود، وإن هي أرادت بقاء الدين لابد أن تحتسب إلي الله ظلامتها وآلامها. حيث قال عليه السلام: فاحتسبي الله، فقالت عليها السلام: حسبي الله وأمسكت [40] ثم لم تشتكي لأمير المؤمنين أبداً، وهي التي كانت تعلم علم اليقين أنها لو اقترحت عليه الأخذ بحقها للبّي الطلب، إذ هي فاطمة التي جاء فيها "وان الله عز وجل ليغضب لغضب فاطمة ويرضي لرضاها" [41] .

وإذ تبين لنا أن مصلحة الدين هي الأساس في سلوك الزهراء عليها السلام، لنعد الي أنفسنا وننظر إلي مستوي وجود هذا الأساس والمعيار في سلوكنا، فهل خالفنا مصالحنا الشخصية من أجل مصلحة الدين؟ وهل خالفنا منافعنا لصالح قضية دينية؟

منهج الزهراء في التربية

من القضايا والمؤشرات المهمة في حياة سيدتنا ومولاتنا الصديقة الزهراء سلام الله عليها قضية التربية، حيث أن ما عرفناه عنها أنها أنجبت الذرّية الطيبة التي لا تدانيها ذرية إنسانية أخري في الصلاح علي مدي التاريخ، فهي القمة فوق القمم، وهي المثل الأعلي في الخير والأصالة.

ومن الطبيعي أن كانت لهذه التربية قواعد وأصول وضوابط؛ قد ألهمها الله للصديقة الزهراء. كما علّمها أبوها صلي الله عليه وآله وسلّم.

فيا تري متي بدأت الزهراء وكيف ربّت أبناءها وبناتها؟

فالحقيقة تؤكّد لنا أن

فاطمة الزهراء عليها السلام قد أنشأت بطريقتها التربوية أعلي مدرسة مثالية؛ تخرّج عنها الحسنان وزينب عليهم السلام.

ولمعرفة أبعاد كل ذلك تطالعنا بادئ بدء قصّة عبادة وتهجّد الزهراء، حيث كانت تحرص كلّ الحرص علي اصطحاب أولادها إلي محراب عبادتها في آناء الليل وأطراف النهار، وتعلمهم بذلك أنواع التبتل والتهجد، حيث يروي الإمام الحسن المجتبي عليه السلام أن والدته الزهراء البتول قد أجلسته إلي جانب سجّادتها غارقة في التضرع إلي الله تعالي من أول الليل إلي انفجار الصبح، وهي آخذة بالدعاء لكل الناس؛ الأقرب فالأقرب من حيث الجيرة، ولكنها لم تشمل بدعوتها تلك أولادها، مما أثار فيه -الإمام الحسن- السؤال عن السر وراء ذلك، فأجابته بنظرة ملؤها العطف والحنان: يا بني الجار ثم الدار.

هذا من ناحية التربية الدينية التي تكاد تكون فريدة من نوعها. أما من الناحية العلمية؛ فقد ذكرت لنا روايات التاريخ الفاطمي -علي شحتها- كيف أن الزهراء كانت تعلم الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام خطب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وهما لما يبلغا الخامسة من العمر بعد، حيث كانت تطلب إليهما -كطريقة من طرق التعليم- إعادة ما سمعاه من خطاب الرسول الأكرم علي مسامعها، ثم إنها كانت تعيد الكرّة بحضور أمير المؤمنين عليه السلام ليطمئنّ قلبه علي سيرتهما التربوية.

ولقد شاهد التاريخ المستوي الفريد من نوعه الذي بلغه هذان الإمامان الفذّان في العبادة والخطابة، حتي أن العبّاد والخطباء كانوا في ذلك الزمن وما تلاه يقرّون لهم بالفضل والأولوية في هذين المجالين. فمعاوية علي جرأته القاسية المعهودة كان يتمني -ولو لمرة واحدة- أن يتفوق علي الإمام الحسن في الحديث أو يحرجه في الكلام، فكان يجمع إليه العتاة المردة، أمثال عمرو بن العاص

ومروان والمغيرة وغيرهم ممّن لا تأخذهم في الباطل لومة لائم، فيبدؤون بمهاتراتهم الكلامية محاولين إيقاع الإمام الحسن المجتبي في المطبات الكلامية، إلاّ أنهم لم يكونوا ليجدوا منه سوي الحكمة والعلم والأخلاق ورباطة الجأش، حتي يقول قائلهم: لقد زُقَّ الحسنَ بن علي العلمَ زقّاً، وأن الله أعلم حيث يجعل رسالته.

وهذا هو الحسين الشهيد عليه السلام نراه في واقعة الطف الدامية كالأسد الهصور في خطاباته كما هو في نزاله، حيث لم يكن بوسع فرد من أفراد جيش الأمويين الجرار الذي تكالب علي قتاله، أن يدانيه في الخطاب وإلقاء الحجة والبيان، مما اضطرهم في نهاية المطاف إلي رميه بالحجارة والنبال علي بعد، تحاشياً عن مواجهة هيبته عن قرب.

وها هي الزهراء أيضاً نجدها في خطبتها الفدكية الشهيرة تختص ابنتها زينب بالإصطحاب إلي مسجد أبيها النبي الأكرم لتقارع الردّة والعناد والطمع الذي أصاب نفوس القوم بعد وفاة الرسول؛ الأمر الذي يشير إلي وعي الزهراء عليها السلام للحقائق والأحداث التاريخية، والمستقبلية، حيث كانت -بذلك- تنمي قابليات ابنتها زينب لتحدي الطغيان والفساد الذي سيصيب الأمة الظالمة في عهد الإمام الحسين عليه السلام.

وما أروع عقيلة الهاشميين حيث وقفت إلي جانب أخيها سيد الشهداء محامية عنه وعن أطفاله وأطفال وعوائل سائر الشهداء، بالإضافة إلي وقوفها إلي جنب الإمام المعصوم زين العابدين في محنه، حتي أنه وصف قلب عمته بقوله: "قلبها كزبر الحديد".

ولقد سجلت صفحات التاريخ بأحرف من نور خطابات السيدة زينب عليها السلام في مسجد الكوفة -وهو مسجد أبيها، كما كان مسجد المدينة مسجد النبي أبي الزهراء- حيث قارعت فيه طغيان عبيد الله بن زياد، وكشفت مفاسده علي مرأي ومسمع من الناس، وكذلك لا ينسي التاريخ خطاباتها الأخري التي ألقتها

في شوارع الكوفة ودمشق وفي قصر يزيد لعنة الله عليه، تلكم الخطب التي إن نمت عن شيء فإنما تنم علي مستوي الوعي والحكمة والعظمة التي تحملتها زينب بنت علي لدي خوضها معترك السياسة والولاية.

وهذا بطبيعة الحال لم يكن ليحدث أو ليكون لولا ما بذلته سيدة نساء العالمين فاطمة البتول عليها السلام من جهود جبارة في تربية أولادها الكرام البررة.

وبين هذا وذاك، لا يسعنا سوي القول بأن بداية الانطلاق في تربية الأطفال وتنشئتهم إنّما تكون منذ أن يروا نور الحياة. فالزهراء عليها السلام كانت علي درجة رفيعة للغاية في امتلاكها لثقافة الأمومة التي من أول معطياتها النظر باحترام بالغ إلي الأولاد الأطفال وبالتالي التعامل مع كل فرد منهم علي أنه إنسان مكتمل مؤهل لتلقي التربية والتعليم، وليس الانتظار به حتي يكمل السادسة والسابعة من عمره حتي يعلّم أو يُربّي، كما هو حادث في زمننا المعاصر.

فأن تتعلم البنت قبل أن تكون أمّاً ثقافة الحياة وثقافة الأمومة، خير لها من أن تتعلّم علوم الحياة الأخري، رغم عدم وجود المانع من ذلك.

فالبنت مسؤولة قبل كل شيء سواء أمام الله تعالي أو أمام مجتمعها عن تعلّم أسس التربية والتعليم، بما يضم ذلك من القواعد الصحية خاصة بسلامتها وسلامة طفلها، ومن النواحي الروحية والعاطفية التي لابد للطفل من أن يأخذ نصيبه الوافر منها، للحيلولة دونه ودون ابتلائه وتعرضه للأزمات النفسية التي تجرّ إلي الويلات الاجتماعية فيما بعد.

وكذلك من الأبعاد الدينية، حيث يتوجب علي الأم ومنذ فترة انعقاد نطفة جنينها الإلتزام بتعاليم الدين الخاصة بطهارة المولد ونقاء الجنين أو الوليد أو الطفل اليافع من الحرام، فهذا كله ذو تأثير بالغ علي حياته ومستقبله. فالخادمة الكافرة أو المسلمة

غير الملتزمة علي الأقل، واللتين نراهما بكثرة في بيوت المسلمين لا يمكنهما بحال من الأحوال أن تأخذا مكان ومنزلة الأم، سواء علي صعيد إرضاع الطفل أو تربيته والشفقة عليه.

وفي نهاية المطاف أودّ القول بأن الأم المسلمة لابد لها أن تعي موقعها الحساس في المجتمع، إذ أن كل حركة أو سكنة تصدر منها لها الأثر البالغ علي طبيعة أولادها وأجيالهم فيما بعد، وهذا الوعي من طبيعته أن يشمل النواحي الصحية والعاطفية والدينية والعلمية.

ولا يمكن بشكل من الأشكال أن تعي المرأة الأم كل ذلك بمجرد انها أصبحت أمّاً، بل لابد من التمهيد لذلك عبر نشر ثقافة الأمومة، التي هي تجسيد لثقافة الحياة علي وسعها، حيث تتكرس ضرورة تلقي البنات ومنذ نعومة إظفارهن تلكم الثقافة، لتجري فيهن مجري الدم في العروق، ولا أحسن من تدوين تفاصيل ثقافة الأمومة عبر الدراسة الدقيقة والواعية لحياة قدوات النساء المسلمات، وفي مقدمتهن الزهراء البتول والسيدة زينب عليهما صلوات الله وسلامه.

تأملات في خطبة الزهراء

خطبة الزهراء عليها السلام التي ألقتها علي مسامع الناس بعيد وفاة أبيها وفي مسجده صلي الله عليه وآله تعد من أهمّ ما صدر عن لسان أهل البيت عليهم الصلاة والسلام. فهي تعتبر منشوراً متكاملاً وميثاقاً مهماً للحق والعدل والحرية عبر التأريخ، وقد ضمّنت الزهراء خطبتها الحكم المثلي ابتداءً من حكمة الخلق ومروراً بحكمة القيم الشرعية، وانتهاء بحكمة الوفود علي الله تبارك وتعالي في يوم المحشر، فضلاً عن تبيينها لفلسفة الرسالة ومقام الرسول والولاية لأهل البيت عليهم السلام، واتباع نهجهم المنبثق أساساً عن القرآن الكريم لا غير..

ونحن إذ نفتخر بالانتماء إلي مذهب آل البيت، لابد لنا من التعرف علي أن هذا المذهب يعرج بجناحين -وهي الفكرة التي تمثل الروح في

خطبة السيدة الزهراء- فالجناح الأول فيه العلم والحكمة والقيم المثلي والعقلانية والفهم الصحيح والمنطقي للدين. والجناح الآخر فيه الحماسة والولاية والعواطف والتضحية..

الجناح الأول يتمثل في كلمات الوحي وكلمات الرسول الأكرم وآل بيته الطيبين الطاهرين، بدءاً بعليِّ أمير المؤمنين، وانتهاءً بالإمام الثاني عش__ر

المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف.

بينما الجناح الآخر يتمثل في الفهم والتعاطف والدفاع عن حقوقهم وعمّا بذلوه -آل البيت- للدين من الطاقات الجبّارة والدماء الزكية، حيث لم يدعوا طاقة في أنفسهم ولا شيئاً أو إمكانية لديهم إلاّ بذلوها في سبيل وجه الله الكريم.

وإذا كانت الزهراء قد خطبت خطبتها المعروفة بالخطبة الفدكية في أجواء من الظلم واغتصاب الحقوق وانتهاك المحرمات والكرامات والمنازل المخصوصة لآل البيت ولها سلام الله عليها ولزوجها عليه السلام بالذات، فإنها لم تنسَ -وحاشي لها- أن تبين للأمة المنقلبة علي عقبها ضرورة فهم الدين بالصورة الصحيحة، وضرورة العودة إلي جادة الحق التي اختطها الله في قرآنه الكريم وعلي لسان نبيّه المصطفي صلي الله عليه وآله.

إذن؛ فالاكتفاء بواحد من الجناحين لايعدّ تمسّكاً بمذهب أهل البيت، وإنما المفروض فهم أسسه بالعقل والتفاعل معه عاطفياً. وإذا رأيت من يعلن التمسك بأهل البيت متخلفاً مستضعفاً، فاعلم أن ثمَّ خللاً في أدّعائه هذا، قد يكون في شكل وطريقة اتباعه لحكمتهم وفي طريقة التعبير عن التعاطف معهم.

ونحن إذا أردنا التمسك بكلا الجانبين فأمامنا خطبة السيدة الزهراء التي بيّنت فيها الأوامر والنواهي، كما حددت فيها معالم العدل والظلم إلي يوم القيامة، ولو أن مؤلفاً أو مفسّراً دوّن عشر مجلدات في تفسير هذه الخطبة العصماء وبيان أبعادها وآفاقها، ما بلغ حق هذه الخطبة، وهكذا الأمر بالنسبة لخطب وأحاديث أهل البيت الأخري، إذ هي صادرة

عن أناس يستلهمون من الله مباشرة من دون معلّم، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

وإليك خطبة الزهراء عليها السلام، بنصها الكامل، حيث قالت عليها السلام:

" الحمد لله علي ما أنعم، وله الشكرُ علي ما ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نعمٍ ابتدأها، وسبوغ آلاءٍ أسداها، وتمام مننٍ والاها، جمَّ عن الاحصاء عددها، ونأي عن الجزاء أمدها، وتفاوتَ عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها، واستحمد إلي الخلائق باجزالها، وثنّي بالندب إلي أمثالها.

وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك ل_ه، كلمةٌ جعل الإخلاص تأويلها، وضمّن القلوب موصولها، وأنار في الفكر معقولها. الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الاشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء امثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيئته، من غير حاجة منه إلي تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلاّ تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً علي طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريّته، وإعزازاً لدعوته. ثم جعل الثواب علي طاعته، ووضع العقاب علي معصيته، ذيادةً لعباده عن نقمته، وحياشة منه إلي جنّته.

وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسمّاه قبل أن اجتبله، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالي بمآيل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور ابتعثه الله إتماماً لأمره، وعزيمة علي إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه، فرأي الأمم فرقاً في أديانها، عكّفاً علي نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار الله بمحمد صلي الله عليه وآله ظُلمها، وكشف عن القلوب بُهَمَها، وجلّي عن الأبصار غُمَمَها، وقام في الناس بالهداية، وانقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية، وهداهم إلي الدين

القويم، ودعاهم إلي الطريق المستقيم، ثم قبضه الله إليه قبض رأفةٍ واختيارٍ ورغبةٍ وإيثار، محمد عن تعب هذه الدار في راحة، قد حُفَّ بالملائكة الأبرار ورضوان الربَ الغفّار ومجاورةِ الملك الجبّار، صلّي الله علي أبي نبيه وأمينه علي الوحي وصفيّه وخيرته من الخلق ورضيَّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته ".

وقالت مخاطبة الأنصار والمهاجرين: " أنتم عبادَ الله نُصْبُ أمره ونهيه، وحَمَلةُ دينه ووحيه، وأمناءُ الله علي أنفسكم، وبُلَغاؤه إلي الأمم، وزعمتم حقُّ لكم، لله فيكم عهد قدّمه إليكم، وبقيةٌ استخلفها عليكم، كتابُ الله الناطق والقرآن الصادق والنور الساطع والضياء اللاّمع، بيّنةٌ بصائره، منكشفةٌ سرائره، متجليةٌ ظواهره، مغتبطٌ به أشياعه، قائدٌ إلي الرضوان أتباعه، مؤدٍّ إلي النجاة إسماعه، به تُنال حجج اللهِ المنوّرة وعزائمه المفسَّرة ومحارمه المخدَّرة وبيّناته الجالية وبراهينه الكافية وفضائله المندوبة ورخصه الموهوبة وشرائعه المكتوبة.

فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تن_زيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحجَّ تشديداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام، والصبر معونة علي استيعاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبرَّ الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، والمكائيل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تن_زيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفّة، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية، فاتّقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتُنَّ إلاّ وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه إنما يخشي اللهَ من عباده العلماء ".

ثم قالت: " أيها الناس! اعلموا أني فاطمة، وأبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم، أقول عوداً

وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تَعزُوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخ ابن عمي دون رجالكم، ولنعمَ المعزيُّ إليه صلي الله عليه وآله وسلم، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثَبجَهم، آخذاً بإكظامهم، داعياً إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام وينكب الهامَ، حتي انهزم الجمع وولوا الدبر، حتي تفرَّ الليلُ عن صبحه، وأسفر الحقُّ عن مَحضِه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلّت عُقدُ الكفر والشقاق، وفُهتم بكلمة الإخلاص في نفرٍ من البيض الخماص، وكنتم علي شفا حفرةٍ من النار، مُذْقةَ الشارب، ونُهزةَ الطامع، وقُبسةَ العِجلان، وموطأَ الأقدام، تشربون الطرُقَ، وتقتاتون الورق، أذلّة خاسئين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالي بمحمد صلي الله عليه وآله وسلم؛ بعد اللتياّ والّتي، وبعد أن مُنِيَ ببُهمِ الرجال وذؤبان العرب ومردةِ أهل الكتاب، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نَجَمَ قرنٌ للشيطان، وفغرتْ فاغرةٌ من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتي يطأ صماخها بأخمصه، ويُخمدَ لهبَها بسيفه، مكدوداً في ذات الله؛ مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيد أولياء الله؛ مشمّراً ناصحاً مجدّاً كادحاً، وأنتم في بُلْهَنِيَةٍ من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربّصون بنا الدوائر، وتتوكّفون الأخبار، وتنكصُون عند الن_زال، وتفرّون عند القتال.

فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوي أصفيائه، ظهر فيكم حسيكةُ النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مِغرَزِه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللعزّة

فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتُم غير إبلكم، وأوردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لما يقبر، ابتذاراً زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنم لمحيطة بالكافرين. فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنّي تؤفكون؛ وكتاب الله بين أظهرِكم، أموره زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، قد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس الظالمين بدلاً، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ثم لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتُها ويسلس قيادها، ثم اخذتم تورون وقدتَها وتهيّجون جمرتَها وتستجيبون هتافَ الشيطانِ الغويِّ وإطفاء نور الدين الجليِّ، وإهمادِ سننِ النبيِّ الصفيِّ، تُسرّون حسواً في ارتغاء، وتمشون لأهله وولدهِ في الخمرِ والضرّاء، ونصبر منكم علي مثل حزِّ المدي ووخزِ السنان في الحشا، وأنتم تزعمون أن لا إرثَ لنا، أفحكم الجاهلية تبغون، ومَن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون أفلا تعلمون؟ بلي تجلّي لكم كالشمس الضاحية.

إنّي ابنتُه أيّها المسلمون، ء أغلب علي آرثيه.

يا أبن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرثُ أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً، أعلي عمدٍ تركتم كتابَ الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: وورث سليمانُ داودً، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيي بن زكريا: إذ قال ربِّ هب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب، وقال: وأولو الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله، وقال: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظِّ الأنثيين، وقال: إنْ ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً علي المتقين؟ وزعمتم أن لا حظوة لي ولا أرث من أبي ولا رحمَ بيننا، أفخصّكم الله

بآيةٍ أخرجَ منها أبي؟ أم هل تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان، ولستُ أنا وأبي من أهل ملّةٍ واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكها مخطومةً مرحولةً تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكمُ الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة ما يخسرون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكلّ نبأ مستقرٌ، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، ويحلُّ عليه عذاب مقيم ".

ثم اتجهت بنظرها إلي الأنصار وقالت عليها السلام:

" يا معشر الفتية واعضاد الملّة وأنصار الإسلام! ما هذه الغميزة في حقي، والسِنَةُ عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أبي يقول: المرءُ يحفظ في ولده؟ سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة، ولكم طاقةٌ بما أحاول وقوّةٌ علي ما أطلب وازاول، اتقولون: مات محمد صلي الله عليه وآله وسلم؟ فخطبٌ جليلٌ استوسع وهنه، واستنهز فتقه، وانفتق رتقه، واُظلمتِ الأرض لغيبته، وكسفتِ النجوم لمصيبته، وأكدتِ الآمال، وخشعت الجبال، وأزيل الحريم، وأزيلتِ الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبري والمصيبة العظمي، لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتابُ الله جل ثناؤه في أفنيتكم وفي مُمساكم ومصبحكم، هتافاً وصراخاً وتلاوة وإلحافاً، ولَقبلُه ما حلّ بأنبياء الله ورسله، حُكمٌ فصلٌ وقضاءٌ حتمٌ، وما محمدٌ إلاّ رسول قد خلتْ من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضرَّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ".

أيْهاً بني قَيْلة! أهضمُ تراث أبي وأنتم بمرأيً مني ومسمعٍ ومبتدئٍ ومجمعٍ، تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدّة والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجُنّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنَجَبَةِ التي

انتُجبت، والخيرة التي اختيرت، قاتلتم العرب وتحمّلتم الكدَّ والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البُهم، فلا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون، حتي إذا دارت بنا رَحي الإسلام ودرّ حَلَبُ الأيام وخضعت نعرة الشرك وسكنت فوزةُ الإفك وخمدت نيران الكفر وهدأت دعوة الهرج واستوثق نظام الدين، فأنّي حُرتم بعد البيان واسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الإقدام وأشركتم بعد الإيمان، ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيْمانَهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أوّل مرّة، اتخشونهم؟ فالله أحقُّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ألا قد أري أن اخلدتم إلي الخفضِ وأبعدتم من هو أحقُّ بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة، ونجوتم من الضيق بالسعة، فمججتم ما وعيتم، ودستم الذي تسوّغتم، فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً؛ فإن الله لغنيٌّ حميد، ألا وقد قلتُ علي معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتْها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس ونفثة الغيظ وخور القنا وبثّة الصدر وتقدِمةُ الحجّة.

فدونكموها، فاحتقبوها دبرةَ الظهر، نقيّة الخفِّ، باقية العار، موسومة بغضب الله، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة؛ التي تطّلع علي الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون، وأنا ابنة نذيرٍ لكم بين يديْ عذابٍ أليمٍ، فاعملوا إنّا عاملون، وانتظروا إنّا منتظرون".

ثم أنها أخذت في دحض مغالطات الخليفة الأوّل واستدلاله بما كان ينسبه من أباطيل تخالف كتاب الله للنبي صلي الله عليه وآله، وذلك علي مرأي ومسمع من الصحابة، ولكن قليلاً من الناس ما يعقلون، إذ أن أدلّة الزهراء في بطلان الطرف الآخر لم تكن لتعدو آيات القرآن الكريم وما شاهده الناس من فضل وكرامة لأهل البيت عليهم السلام، فما يدلّل علي صدقهم وحقهم فيما أدّعوا به، كالولاية علي الناس وحقّهم في فدك، إلاّ أن

الارتداد عن الحق والخوف من التنكيل واللامبالاة والحقد القديم والطمع، كان كل ذلك قد أخذ مأخذه من طبيعة تفكير وقرار المسلمين بعدم نصرة أهل البيت وطعن الرسالة المحمدية في الصميم.

وليس ذلك بمستغرب إذا ما طالع الإنسان المنصف طبيعة تعامل الكثير ممّن يدّعي صحبة الرسول صلّي الله عليه وآله، تعاملاً تحوطه الشكوك وعدم الاحترام لشخص النبي، فضلاً عن أهل بيته، فكيف بهم إذا ما استراحوا من شخصه وعادوا إلي الجاهلية ونزعوا عنهم لباس النفاق…

وهذه الحقيقة تبدو واضحة غاية الوضوح في قصة حمل أمير المؤمنين عليه السلام في المبايعة القسرية لأبي بكر، رغم أن أعداء الإمام عليه السلام قد اطمأنوا إلي قلّة عدد مؤيديه، ورغم علمهم أيضاً بأن عليّاً عليه السلام لن يستخدم الطرق الملتوية للوصول إلي السلطة، وأنه لا يهتم لها أي اهتمام..

ولذلك فإن قصة اقتحام بيت الزهراء عليها السلام وأسلوب العنف الوحشي الذي انتهي بكسر ضلعها وإسقاط جنينها وضغطها خلف باب الدار بعد إحراقه بتلك الصلافة المعهودة عن أعداء الدين والمنافقين، تلك القصة لا تعبر إلاّ عن مستوي الكفر والوحشية التي كان أعداء الزهراء يبطنونها لها ولأهل بيتها، بالإضافة إلي أن من شأن طبيعة الاعتداءات تلك أن تسري إلي مَن يليهم من الحكّام، ليمارسوا وفقها أنواع القتل والتعذيب والتشريد والظلم بحق أولاد وذرية النبي وآل بيته، وبحق من والاهم من شيعتهم ومحبيهم.

فلا غرابة في ممارسات الطغاة عبر التاريخ، الذين لا يتقاعسون لحظة واحدة عن توجيه الضربات المستميتة لدحض الإسلام، ولكن يأبي الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فهذا خط النبي والزهراء وخط الأئمة الطاهرين وأتباعهم وشيعتهم يقف بالمرصاد لكل من يسعي إلي إطفاء شعلة الإسلام، والعاقبة للمتّقين.

پاورقي

[1] من

فقه الزهراء عليها السلام عن امالي الطوسي، ج2، ص280.

[2] الارشاد للشيخ المفيد، ص232، ط بيروت.

[3] تفسير اطيب البيان، ج13، ص225.

[4] كشف الغمة، ج1، ص506.

[5] علي بن احمد المالكي الشهير بابن الصباغ، الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة عليهم السلام، ص146.

[6] الشيخ إبراهيم بن محمد الجويني، فرائد السمطين في فضائل المرتضي والبتول والسبطين والأئمة من ذريتهم عليهم السلام، ج2، ص66.

[7] الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص30.

[8] الشيخ إبراهيم بن محمد الجويني، فرائد السمطين، ج2، ص68.

[9] الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص36.

[10] الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ج43، ص37.

[11] الشيخ إبراهيم بن محمد الجويني، فرائد السمطين، ج2، ص58.

[12] الشيخ إبراهيم بن محمد الجويني، فرائد السمطين، ج2، ص67.

[13] الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ج43، ص134.

[14] ذخائر العقبي للطبري، ص41، الحافظ محب الدين احمد بن عبد الله الطبري.

[15] المصدر السابق، ص 44.

[16] فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفي، عن المناقب، ج3، ص357.

[17] بحار الانوار ج43 ص291، ح54.

[18] كشف اللآلي وملتقي البحرين، ص14.

[19] بحار الانوار،ج43، ص81، رواية 3.

[20] بحار الانوار، ج43،ص15.

[21] بحار الانوار، ج8، ص52.

[22] العالم الذي كتب "فقه الزهراء" آية الله العظمي السيد محمد الشيرازي.

[23] بحار الأنوار، ج43، ص 81.

[24] بحار الانوار، ج81، ص234.

[25] بحار الأنوار، ج8، ص112.

[26] بحار الانوار، ج28، ص58 باب اخبار الله تعالي نبيه واخبار النبي امته.

[27] ميزان الحكمة، مجلد 10، ص700.

[28] فرائد السمطين، ج2، ص68.

[29] بحار الأنوار، ج28، ص38.

[30] بحار الأنوار، ج53، ص179-180.

[31] فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفي عن حلية الأولياء،ج2، ص41.

[32] ميزان الحكمة، ج5، ص129.

[33] بحار الانوار، ج16، ص115.

[34] بحار الأنوار، ج2، ص261.

[35] ميزان الحكمة، ج10، ص712.

[36] فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفي عن المناقب، ج3، ص357.

[37] فاطمة الزهراء بهجة

قلب المصطفي عن فرائد السمطين، ج2، ص46.

[38] مفاتيح الجنان للشيخ القمي.

[39] المصدر.

[40] بحار الأنوار، ج8، ص112.

[41] فرائد السمطين، ج2، ص46.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.