اهل البیت سماتهم و حقوقهم: فی القرآن الکریم

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : اهل البیت سماتهم و حقوقهم: فی القرآن الکریم/ تالیف جعفر السبحانی

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق(ع)، 1420ق. = 1378.

مشخصات ظاهری : ص 183

شابک : 964-6243-79-7 ؛ 964-6243-79-7

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عربی

يادداشت : چاپ دوم: 1425ق. = 1383

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع : خاندان نبوت

موضوع : خاندان نبوت -- عصمت

موضوع : خاندان نبوت -- جنبه های قرآنی

شناسه افزوده : موسسه امام صادق(ع)

رده بندی کنگره : BP36/س 15الف 87

رده بندی دیویی : 297/95

شماره کتابشناسی ملی : م 78-22445

[المدخل

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

قال اللَّه تعالى:

«إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»

(الأحزاب: 33)

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 5

المقدّمة

اشارة

الحمد للَّه بارئ النسم، و سابغ النعم، و الصلاة و السلام على أفضل خليقته، و أشرف بريّته، أبي القاسم محمد، و على آله الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً.

أمّا بعد؛

لقد حاز أهل البيت عليهم السلام على أهمية بالغة في القرآن الكريم، و أشار إليهم في غير واحد من آياته ببيان سماتهم، و حقوقهم، و ما يمت إليهم بصلة، لا سيما آية التطهير المعروفة بين المسلمين، أعني: قوله سبحانه: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

و لأجل أهمية الموضوع ألّف غير واحد من علماء الفريقين كتباً و رسائل حوله، أفاضوا فيها الكلام حول هوية أهل البيت و مناقبهم و فضائلهم.

و قد استرعى انتباهي في الفترة الأخيرة كتابان حول أهل البيت: أحدهما: «حقوق أهل البيت عليهم السلام» لابن تيمية (المتوفّى عام 728 ه)، و الآخر: «الشيعة و أهل البيت» للكاتب المعاصر إحسان إلهي ظهير حيث بذلا الوسع لبيان نزول الآية في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و الكتاب الثاني أشدّ بخساً في هذا المجال. و قد أنصف الكتاب الأوّل بعض الإنصاف.

هذا و ذاك ممّا دعاني إلى تقديم هذا الكتاب الماثل بين يديك الذي يبيّن هوية أهل البيت من خلال القرائن الموجودة في الآية و الروايات المتضافرة، مضافاً إلى بيان سماتهم و حقوقهم عسى أن يجبر بعض ما هضم من حقوقهم في ذينك الكتابين خصوصاً الكتاب الأخير.

و أود أن أشير في الختام إلى نكتة و هي انّ آية التطهير لحنها

لحن الثناء و التمجيد على أهل البيت عليهم السلام في حين انّ لحن الآيات الواردة في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم النصح و الوعظ تارة، و التنديد و التوبيخ أُخرى.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 6

أمّا الأوّل فكما في الآيات الواردة في سورة الأحزاب.

يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا». «1»

«يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً». «2»

«يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً». «3»

«وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ». «4»

و أمّا الثاني أي التنديد و التوبيخ ففي الآيات الواردة في سورة التحريم:

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ». «5»

«إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ». «6»

«عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً». «7»

فأُمّهات المؤمنين كسائر الصحابيات لهنّ من الفضل ما لغيرهنّ، و لكن آية التطهير بلغت من الثناء على أهل البيت بمكان تأبى من الانطباق عليهن بما عرفت لهنّ من السمات في الآيات و ستوافيك دلالة الآية على عصمة أهل البيت و تنزيههم من الزلل و الخطأ.

______________________________

(1). الأحزاب: 28.

(2). الأحزاب: 30.

(3). الأحزاب: 32.

(4). الأحزاب: 33.

(5).

التحريم: 1.

(6). التحريم: 4.

(7). التحريم: 5.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 7

أهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم

لقد وردت لفظة «أهل البيت» مرّتين في القرآن الكريم.

قال سبحانه حاكياً عن لسان الرسل: «قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». «1»

و قال تعالى: «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً». «2»

فالآية الأُولى تخاطب أهل بيت خليل اللَّه عند ما جاءتهم الرسل فبشّروا امرأته بإسحاق و من وراء إسحاق بيعقوب.

و لمّا كانت هذه البشارة على خلاف السنن الكونية حيث كان الخليل شيخاً و زوجته طاعنة في السن، فلذلك تعجبت و قالت مخاطبة الرسل: «يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ» «3» فوافاها الجواب من

______________________________

(1). هود: 73.

(2). الأحزاب: 33.

(3). هود: 72.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 8

جانب الرسل الذين كانوا ملائكة و تمثّلوا بصورة الإنسان، قائلين: «أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».

و أمّا الآية الثانية فقد وردت في ثنايا الآيات التي نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم بدعوتهنّ إلى التخلّي عن الدنيا و التحلّي بالتقوى إلى غير ذلك من الوصايا التي وردت ضمن آيات. «1»

و المهم في هذا المقام هو معرفة أهل البيت في الآية الثانية و ما هي سماتهم و حقوقهم في الذكر الحكيم؟

فهناك مباحث ثلاثة:

من هم أهل البيت عليهم السلام؟

و ما هي سماتهم؟

و ما هي حقوقهم؟

و

ها نحن نقوم بدراسة هذه المواضيع في فصول ثلاثة مستمدين من اللَّه العون و التوفيق.

______________________________

(1). انظر سورة الأحزاب، الآيات: 28- 34.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 9

الفصل الأوَّل: من هم أهل البيت عليهم السلام

اشارة

إنّ المعروف بين المفسرين و المحدّثين، هو انّ المراد من أهل البيت في الآية المباركة، العترة الطاهرة الذين عرّفهم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في حديث الثقلين،

و قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه، و عترتي».

غير انّ تحقيق مفاد الآية و تبيين المراد من أهل البيت فيها و انطباقها على حديث الثقلين يستدعي البحث في موردين:

أ. أهل البيت لغة و عرفاً.

ب. أهل البيت في الآية المباركة.

و إليك الكلام فيهما واحداً تلو الآخر.

***

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 10

أ. أهل البيت لغة و عرفاً:

هذا اللفظ مركب من كلمتين و لكل مفهوم، و يمكن تحديد مفهوم «الأهل» من موارد استعماله فيقال:

1. أهل الأمر و النهي. 2. أهل الإنجيل. 3. أهل الكتاب. 4. أهل الإسلام. 5. أهل الرجل. 6. أهل الماء.

و هذه الموارد توقفنا على أنّ كلمة «أهل» تستعمل مضافاً فيمن كان له علاقة قوية بمن أُضيف إليه، فأهل الأمر و النهي هم الذين يمارسون الحكم و البعث و الزجر، و أهل الإنجيل هم الذين لهم اعتقاد به كأهل الكتاب و أهل الإسلام.

و قد اتفقت كلمة أهل اللغة على أنّ الأهل و الآل كلمتان بمعنى واحد، قال ابن منظور: آل الرجل: أهله، و آل اللَّه و آل رسوله:

أولياؤه، أصلها أهل ثمّ أُبدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أأل، فلمّا توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفاً، كما قالوا: آدم و آخر، و في الفعل آمن و آزر.

و قد أنشأ عبد المطلب عند هجوم ابرهة على مكة المكرمة، و قد أخذ حلقة باب الكعبة و قال:

و انصر على آل الصليب و عابديه اليوم آلك

و على ما ذكرنا، فهذا اللفظ إذا أُضيف إلى شي ء يقصد منه المضاف الذي له

علاقة خاصة بالمضاف إليه، فأهل الرجل مثلًا هم أخص الناس به، و أهل

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 11

المسجد، المتردّدون كثيراً إليه، و أهل الغابة القاطنون فيها ... فإذا لاحظنا موارد استعمال هذه الكلمة لا نتردّد في شمولها للزوجة و الأولاد، بل و غيرهم ممّن تربطهم رابطة خاصة بالبيت من غير فرق بين الأولاد و الأزواج، و لأجل ذلك ترى أنّه سبحانه يطلقه على زوجة إبراهيم كما عرفت في الآية.

هذا هو حق الكلام في تحديد مفهوم هذه الكلمة، و لنأت ببعض نصوص أئمّة اللغة.

قال ابن منظور: أهل البيت سكانه، و أهل الرجل أخص الناس به، و أهل بيت النبي: أزواجه و بناته و صهره، أعني: علياً عليه السلام، و قيل:

نساء النبي و الرجال الذين هم آله. «1»

فلقد أحسن الرجل في تحديد المفهوم أوّلًا، و توضيح معناه في القرآن الكريم ثانياً، كما أشار بقوله: «قيل» إلى ضعف القول الآخر، لأنّه نسبه إلى القيل.

و قال ابن فارس ناقلًا عن الخليل بن أحمد: أهل الرجل: زوجه، و التأهّل، التزوّج، و أهل الرجل: أخص الناس به، و أهل البيت:

سكّانه، و أهل الإسلام: من يدين به. «2»

و قال الراغب في «مفرداته»: أهل الرجل من يجمعه و إيّاهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة و بيت و بلد، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه و إيّاهم مسكن واحد، ثمّ تجوز به فقيل: أهل بيت الرجل لمن يجمعه و إيّاهم النسب و تعورف في أُسرة النبي عليه الصلاة و السلام مطلقاً إذا قيل أهل البيت. «3»

و قال الفيروزآبادي: أهل الأمر: ولاته، و للبيت سكّانه، و للمذهب من

______________________________

(1). لسان العرب: 11/ 29، مادة «أهل».

(2).

معجم مقاييس اللغة: 1/ 150.

(3). المفردات: 29.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 12

يدين به، و للرجل زوجته كأهله، و للنبي أزواجه و بناته و صهره علي- رضي اللَّه تعالى عنه- أو نساؤه و الرجال الذين هم آله. «1»

هذه الكلمات و نظائرها بين أعلام أهل اللغة كلّها تعرب عن أنّ مفهوم أهل البيت في اللغة هم الذين لهم صلة وطيدة بالبيت، و أهل الرجل من له صلة به بنسب أو سبب أو غيرهما.

هذا هو الحق الذي لا مرية فيه و العجب من إحسان إلهي ظهير الذي ينقل هذه النصوص من أئمّة اللغة و غيرهما ثمّ يستظهر انّ أهل البيت يطلق أصلًا على الأزواج خاصة، ثمّ يستعمل في الأولاد و الأقارب تجوّزاً، ثمّ يقول: هذا ما يثبت من القرآن الكريم كما وردت هذه اللفظة في قصة إبراهيم بالبشرى، فقال اللَّه عزّ و جلّ في سياق الكلام: «وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ* قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» «2» و قال: فاستعمل اللَّه عزّ و جلّ هذه اللفظة على لسان ملائكته في زوجة إبراهيم عليه السلام لا غير، و هكذا قال اللَّه عزّ و جلّ في كلامه المحكم في قصة موسى عليه الصلاة و السلام: «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً» «3»، فالمراد من الأهل زوجة موسى عليه السلام، و هي بنت شعيب. «4»

______________________________

(1). القاموس المحيط: 3/ 331.

(2). هود: 73.

(3). القصص: 30.

(4). الشيعة

و أهل البيت: 16- 17.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 13

نحن نسأل الكاتب من أين استظهر من كلمات أهل اللغة انّ «الأهل» تطلق أصلًا على الأزواج خاصة، ثمّ تستعمل في الأولاد تجوّزاً؟!

أ ليس قد تقدّم لنا كلام ابن منظور: أهل الرجل: أخص الناس به؟! أ ليس الأولاد أخص الناس بالرجل؟ و من فسره بقوله: أهل الرجل زوجه لا يريد اختصاصه بالزوج، بل يشير إلى أحد موارد استعماله، و لأجل ذلك يستدركه و يصرح بقوله: أهل الرجل: أخص الناس به.

ثمّ نسأله عن دلالة الآيتين على اختصاص الأهل بالأزواج و هل في منطق اللغة و الأدب جعل الاستعمال دليلًا على الانحصار؟ فلا شك انّ الأهل في الآيتين أُطلق على الزوجة، و ليس الإطلاق دليلًا على الانحصار، على أنه أُطلق في قصة الخليل و أُريد الزوجة و الزوج معاً، أي نفس الخليل بشهادة قوله تعالى: «عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» و الإتيان بضمير الجمع المذكر، و إرادة واحد منهما و حمل الخطاب العام على التعظيم، لا وجه له في المقام.

و حصيلة الكلام: انّ مراجعة كتب اللغة، و موارد استعمال الكلمة في الكتاب و السنّة تعرب عن أنّ مفهوم «الأهل» هو المعنى العام و هو يشمل كل من له صلة بالرجل و البيت صلة وطيدة مؤكدة من نسب أو سبب أو غير ذلك، من غير فرق بين الزوجة و الأولاد و غيرهم، و انّ تخصيصها بالزوجة قسوة على الحق، كما أنّ تخصيصها لغة بالأولاد و إخراج الأزواج يخالف نصوص القرآن و استعمالها كما عرفت في الآيات الماضية.

هذا هو الحق في تحديد المفهوم، فهلم معي نبحث عما هو المراد من هذا المفهوم في الآية الكريمة، و هل أُريد

منه كل من انتمى إلى البيت من أزواج و أولاد أو أنّ هناك قرائن خاصة على أنّ المقصود قسم من المنتمين إليه؟ و ليس هذا بشي ء

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 14

غريب، لأنّ المفهوم العام قد يطلق و يراد منه جميع الأصناف و الأقسام كما يطلق و يراد منه حسب القرائن بعضهم، و قد عرفت أنّ المراد من الأهل في قصة موسى زوجته و في قصة إبراهيم زوجته، و على هذا لا شك في شمول كلمة أهل البيت للزوجة و الأولاد و غيرهما إلّا أن تقوم قرائن على أنّ المراد صنف خاص، و المدّعى انّه قد قامت القرائن على إرادة صنف خاص منهم، و تتبيّن ن في البحث الآتي:

[ب.] أهل البيت في الآية المباركة؟

اشارة

اختلف المفسرون في بيان ما هو المراد من «أهل البيت» في الآية المباركة على أقوال، غير انّ العبرة بقولين، و الأقوال الأُخر شاذة لا يعبأ بها، و انّما اختلقت لحل الإشكالات الواردة على القول الثاني كما سيوافيك بيانها في آخر البحث.

1. المراد بنت النبي و صهره و ولداهما الحسن و الحسين عليهم السلام.

2. نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم. «1»

و لا بد من إمعان النظر في تعيين المراد بعد قابلية اللفظ لشمول كلتا الطائفتين، فيقول: إنّ هناك قرائن تدل بوضوح على أنّ المراد من هذه الكلمة جماعة خاصة منتمين إلى البيت النبوي بوشائج خاصة لا كل المنتمين إليه، و إليك تلك القرائن:

[قرائن على أن المراد من أهل البيت جماعة خاصة]

القرينة الأُولى: اللام في «أهل البيت» للعهد

لا شك أنّ اللام قد تطلق و يراد منها الجنس المدخول كقوله سبحانه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ». «2»

______________________________

(1). و هناك أقوال أُخر شاذة جداً ستوافيك في مختتم البحث.

(2). العصر: 2.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 15

و قد يطلق و يراد منها استغراق أفراده كقوله سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ». «1»

و ثالثة تستعمل في العهد باعتبار معهودية مدخولها بين المتكلّم و المخاطب.

و لا يمكن حمل اللام في «البيت» على الجنس أو الاستغراق، لأنّ الأوّل انّما يناسب إذا أراد المتكلم بيان الحكم المتعلّق بالطبيعة كما يعلم من تمثيلهم لذلك بقوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» «2»، و من المعلوم أنّ الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم طبيعة أهل البيت، كما لا يصح أن يحمل على العموم، أي: جميع البيوت في العالم، أو بيوت النبي، و إلّا لناسب الإتيان بصيغة الجمع فيقول:

أهل البيوت، كما أتى به عند ما كان في صدد إفادة ذلك،

و قال في صدر الآية: «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ».

فتعين أن يكون المراد هو الثالث، أي البيت المعهود، فالآية تشير إلى إذهاب الرجس عن أهل بيت خاص، معهود بين المتكلم و المخاطب، و حينئذ يقع الكلام في تعيين هذا البيت المعهود، فما هو هذا البيت؟ هل هو بيت أزواجه، أو بيت فاطمة و زوجها و الحسن و الحسين عليهم السلام؟

لا سبيل إلى الأوّل، لأنّه لم يكن لأزواجه بيت واحد حتى تشير اللام إليه، بل تسكن كل واحدة في بيت خاص، و لو أُريد واحداً من بيوتهن لاختصت الآية بواحدة منهم، و هذا ما اتفقت الأُمّة على خلافه.

أضف إلى ذلك أنّه على هذا يخرج بيت فاطمة مع أنّ الروايات ناطقة بشمولها، و انّما الكلام في شمولها لأزواج النبي كما سيوافيك بيانه.

______________________________

(1). التوبة: 73.

(2). المعارج: 19.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 16

هذا كلّه على تسليم انّ المراد من البيت هو البيت المبني من الأحجار و الآجر و الأخشاب، فقد عرفت أنّ المتعيّن حمله على بيت خاص معهود و لا يصح إلّا حمله على بيت فاطمة، إذ ليس هناك بيت خاص صالح لحمل الآية عليه.

و أمّا لو قلنا بأنّ البيت قد يطلق و يراد منه تارة هذا النسق، كما في قوله تعالى: «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ، و أُخرى غير هذا النمط من البيت، مثل قول القائل: «بيت النبوة» و «بيت الوحي» تشبيهاً لهما على المحسوس، فلا محيص أن يراد منه المنتمون إلى النبوة و الوحي بوشائج معنوية خاصة على وجه يصح مع ملاحظتها، عدّهم أهلًا لذلك البيت، و تلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح و الفكر، و

لا يشمل كل من يرتبط ببيت النبوة عن طريق السبب أو النسب فحسب، و في الوقت نفسه يفتقد الأواصر المعنوية الخاصة، و لقد تفطّن العلّامة الزمخشري صاحب التفسير لهذه النكتة، فهو يقول في تفسير قوله تعالى: «قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» «1»، لأنّها كانت في بيت الآيات و مهبط المعجزات و الأُمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر و لا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، و ان تسبح اللَّه و تمجّده مكان التعجب، و إلى ذلك أشارت الملائكة في قولها: «رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» أرادوا انّ هذه و أمثالها ممّا يكرمكم به رب العزة، و يخصّكم بالأنعام به يا أهل بيت النبوة. «2»

و على ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتسبين عن طريق الأواصر الجسمانية لبيت خاص حتى بيت فاطمة، إلّا أن تكون هناك الوشائج المشار

______________________________

(1). هود: 73.

(2). الكشاف: 2/ 107.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 17

إليها، و لقد ضل من ضل في تفسير الآية بغير تلك الجماعة عليها السلام، فحمل البيت في الآية على البيت المبني من حجر و مدر مع أنّ المراد غيره.

و لقد جرى بين قتادة ذلك المفسر المعروف و بين أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام محادثة لطيفة أرشده الإمام فيها إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه، قال- عند ما جلس أمام الباقر عليه السلام-: لقد جلست بين يدي الفقهاء و قدّام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. قال له أبو جعفر عليه السلام: «ويحك، أ تدري أين أنت؟ أنت بين يدي: «فِي بُيُوتٍ

أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ» «1» فأنت ثمّ و نحن أُولئك» فقال له قتادة: صدقت و اللَّه جعلني اللَّه فداك، و اللَّه ما هي بيوت حجارة و لا طين «2».

و هذه القرينة تحضّ المفسر على التحقيق عن الأفراد الذين يرتبطون بالبيت بأواصر معينة، و بذلك يسقط القول بأنّ المراد منه أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّه لم تكن تلك الوشائج الخاصة باتفاق المسلمين بينهم و أقصى ما عندهن انهن كن مسلمات مؤمنات.

القرينة الثانية: تذكير الضمائر

نرى أنّه سبحانه عند ما يخاطب أزواج النبي يخاطبهن حسب المعتاد بضمائر التأنيث، و لكنّه عند ما يصل إلى قوله: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ ...» يغير الصيغة الخطابية في التأنيث و يأتي بصيغة التذكير، فما هو السر في تبديل الضمائر لو كان المراد أزواج النبي؟ و إليك نص الآيات:

______________________________

(1). النور: 36- 37.

(2). الكافي: 6/ 256- 257.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 18

«يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً». «1»

«وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً». «2»

«وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً». «3»

ترى أنّه سبحانه يخاطبهن في الآية الأُولَى بهذه الخطابات:

1. لستن. 2. اتقيتن. 3. فلا تخضعن. 4. و قلن.

و يخاطبهن في

الآية الثانية بهذه الخطابات:

1. قرن. 2. بيوتكن. 3. لا تبرجن. 4. أقمن. 5. آتين. 6. أطعن.

كما يخاطبهن في الآية الثالثة بقوله:

1. و اذكرن. 2. بيوتكن.

و في الوقت نفسه يتخذ في ثنايا الآية الثانية موقفاً خاصاً في الخطاب و يقول:

1. عنكم. 2. يطهركم.

فما وجه هذا العدول إذا كان المراد نساء النبي؟!

أو ليس هذا يدل على أنّ المراد ليس نساءه صلى الله عليه و آله و سلم.

______________________________

(1). الأحزاب: 32.

(2). الاحزاب: 33.

(3). الأحزاب: 34.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 19

و قد حاول القرطبي التفصّي عن الإشكال فقال: إنّ تذكير الضمير يحتمل لأن يكون خرج مخرج «الأهل» كما يقول لصاحبه: كيف أهلك، أي امرأتك و نساؤك؟ فيقول: هم بخير، قال اللَّه تعالى: «أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ». «1»

و لكن المحاولة فاشلة فانّ ما ذكره من المثال على فرض سماعه من العرب، إنّما إذا تقدّم «الأهل» و تأخّر الضمير، دون العكس كما في الآية، فإنّ أحد الضميرين مقدّم على لفظ «الأهل» في الآية كما يقول: «عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ».

و أمّا الاستشهاد في الآية فغير صحيح، لأنّ الخطاب فيها لإبراهيم و زوجته، فيصح التغليب تغليب الأشرف على غيره في الخطاب و المفروض في المقام انّ الآية نزلت في زوجاته و نسائه خاصة فلا معنى للتغليب.

نعم انّما تصح فكرة التغليب لو قيل بأنّ المراد منه، هو أولاده و صهره و زوجاته، و هو قول ثالث سنبحث عنه في مختتم البحث، و سيوافيك انّ بقية الأقوال كلها مختلقة لتصحيح الإشكالات الواردة على النظرية الثانية، فلاحظ.

القرينة الثالثة: الإرادة تكوينية لا تشريعية

سيوافيك الكلام عند البحث في سمات أهل البيت، انّ من سماتهم، كونهم معصومين من الذنب و ذلك

بدليل كون من الإرادة في قوله: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ ...» الإرادة التكوينية، التي لا ينفك المراد فيها عن الإرادة و تكون متحقّقة و ثابتة في

______________________________

(1). جامع الأحكام: 14/ 182.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 20

الخارج، و بما أنّ المراد هو إذهاب الرجس و إثبات التطهير و تجهيزهم بالأسباب و المعدّات المنتهية إلى العصمة، فلا يصح أن يراد من أهل البيت أزواج النبي، إذ لم يدّع أحد من المسلمين كونهن معصومات من الذنب و مطهرات من الزلل. فلا مناص عن تطبيقه على جماعة خاصة من المنتمين إلى البيت النبوي الذين تحقّق فيهم تعلّقهم بالأسباب و المقتضيات التي تنتهي بصاحبها إلى العصمة و لا ينطبق هذا إلّا على الإمام علي و زوجته و الحسنين عليهم السلام، لأنّ غيرهم مجمع على عدم اتصافهم بهذه الأسباب.

القرينة الرابعة انّ الآيات المربوطة بأزواج النبي تبتدئ من الآية 28 و تنتهي بالآية 34، و هي تخاطبهن تارة بلفظ «الأزواج» و مرتين بلفظ «نساء النبي» الصريحين في زوجاته، فما هو الوجه في العدول عنهما إلى لفظ «أهل البيت» فإنّ العدول قرينة على أنّ المخاطب به غير المخاطب بهما.

أهل البيت في كلام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

قد وقفت على المراد من أهل البيت في الآية المباركة من خلال دراسة مفردات الآية و جملها و هدفها.

و هناك طريق آخر للتعرّف عليهم، و هو دراسة الأحاديث الواردة في كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم فإنّها تكشف عن وجه الحقيقة، فنقول: إنّ للنبي الأكرم عناية وافرة بتعريف أهل البيت لم ير مثلها إلّا في أقلِّ الموارد، حيث قام بتعريفهم بطرق مختلفة سيوافيك بيانها، كما أنّ للمحدّثين و المفسرين و أهل السير و التاريخ عناية كاملة بتعريف

أهل بيت نبيه صلى الله عليه و آله و سلم في مواضع مختلفة حسب المناسبات التي تقتضي طرح هذه المسألة، كما أنّ للشعراء الإسلاميين المخلصين في طوال قرون، عناية بارزة

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 21

ببيان فضائل أهل البيت و التعريف بهم، و التصريح بأسمائهم على وجه يظهر من الجميع اتفاقهم على نزول الآية في حق العترة الطاهرة، و سيوافيك نزر من شعرهم في مختتم البحث.

كل ذلك يعرب عن أنّ الرأي العام بين المسلمين في تفسير أهل البيت هو القول الأوّل، و انّ القول بأنّ المقصود منهم زوجاته كان قولًا شاذاً متروكاً ينقل و لا يعتنى به، و لم ينحرف عن ذلك الطريق المهيع إلّا بعض من اتخذ لنفسه تجاه أهل البيت موقفاً يشبه موقف أهل العداء و النصب.

قام النبي صلى الله عليه و آله و سلم بتعريف أهل البيت بطرق ثلاثة نشير إليها:

1. صرّح بأسماء من نزلت الآية في حقّهم حتى يتعين المنزول فيه باسمه و رسمه.

2. قد أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء، و منع من دخول غيرهم، و أشار بيده إلى السماء و قال: «اللّهم إنّ لكل نبي أهل بيت و هؤلاء أهل بيتي» كما سيوافيك نصه.

3. كان يمر ببيت فاطمة عدة شهور، كلّما خرج إلى الصلاة فيقول: الصلاة أهل البيت: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

و بهذه الطرق الثلاثة حدّد أفراد أهل البيت و عين مصاديقهم على وجه يكون جامعاً لهم و مانعاً عن غيرهم، و نحن ننقل ما ورد حول الطرق الثلاثة في التفسيرين: الطبري و الدر المنثور للسيوطي، ثمّ نأتي بما ورد في الصحاح الستة حسب ما

جمعه ابن الأثير الجزري في كتابه «جامع الاصول» و أخيراً نشير إلى

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 22

الجوامع التي جمعت فيها أحاديث الفريقين حول نزول الآية في حق الخمسة الطيبة، و نترك الباقي إلى القارئ الكريم، فإنّ البحث قرآني لا حديثي و الاستيعاب في الموضوع يحوجنا إلى تأليف مفرد.

الطائفة الأُولَى: التصريح بأسمائهم

1. روى الطبري: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «نزلت هذه الآية في خمسة: في، و في عليّ رضى الله عنه، و حسن رضى الله عنه، و حسين رضى الله عنه، و فاطمة رضي اللَّه عنها: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»».

2. عن أبي سعيد، عن أُم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و آله و سلم انّ هذه الآية نزلت في بيتها «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» قالت: و أنا جالسة على باب البيت، فقلت: أنا يا رسول اللَّه أ لست من أهل البيت؟ قال: «إنّك إلى خير، أنت من أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم» قالت: و في البيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم و علي و فاطمة و الحسن و الحسين رضي اللَّه عنهم.

و في «الدر المنثور» ما يلي:

3. روى السيوطي عن ابن مردويه، عن أُم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» و في البيت سبعة: جبريل، و ميكائيل عليهما السلام، و علي، و فاطمة، و الحسن، و الحسين رضي اللَّه عنهم؛ و أنا على باب البيت، قلت: يا

رسول اللَّه أ لست من أهل البيت؟ قال: «إنّك إلى خير، إنّك من أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم».

4. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه،

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 23

قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «نزلت هذه الآية في خمسة: في، و في علي، و فاطمة، و حسن، و حسين «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

الطائفة الثانية: إدخالهم تحت الكساء

إدخالهم تحت الكساء أو «مرط أو ثوب» أو «عباءة أو قطيفة»: فقد وردت حوله هذه الروايات:

5. أخرج الطبري قال: قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذات غداة و عليه مِرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله معه، ثمّ جاء علي فأدخله معه، ثمّ قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

6. أخرج الطبري قال: عن أُمّ سلمة قالت: كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم عندي و علي و فاطمة و الحسن و الحسين فجعلت لهم خزيرة فأكلوا و ناموا و غطّى عليهم عباءة أو قطيفة ثمّ قال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً».

7. أخرج الطبري: عن أبي عمار قال: إنّي لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليّاً رضى الله عنه فشتموه، فلمّا قاموا قال: اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا، انّي عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ جاءه علي و فاطمة و حسن و حسين فألقى عليهم كساء له ثمّ قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم

اذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً.

8. أخرج الطبري: عن أبي عمار قال: سمعت واثلة بن الأسقع يحدث قال: سألت عن علي بن أبي طالب في منزله، فقالت فاطمة:

قد ذهب يأتي برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ جاء، فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم و دخلت، فجلس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم على الفراش

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 24

و أجلس فاطمة عن يمينه و عليّاً عن يساره و حسناً و حسيناً بين يديه، فلفع عليهم بثوبه، و قال: « «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» اللّهم هؤلاء أهلي اللّهم أهلي».

9. أخرج الطبري: عن أبي سعيد الخدري عن أُمّ سلمة قالت: لمّا نزلت هذه الآية «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً و فاطمة و حسناً و حسيناً، فجلّل عليهم كساءً خيبرياً، فقال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي، اللّهم اذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً»، قالت: أُمّ سلمة قلت: أ لست منهم؟ قال: «أنت إلى خير».

10. أخرج الطبري: عن أبي هريرة، عن أُم سلمة: قالت: جاءت فاطمة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة تحلها على طبق، فوضعته بين يديه فقال: «أين ابن عمك و ابناك؟» فقالت: «في البيت» فقال: «ادعيهم»، فجاءت إلى علي فقالت: «أجب النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنت و ابناك»، قالت أُمّ سلمة: فلما رآهم مقبلين مدَّ يده إلى كساء كان على المنامة فمدّه

و بسطه و أجلسهم عليه، ثمّ أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله فضمه فوق رءوسهم و أومأ بيده اليمنى إلى ربِّه، فقال: «هؤلاء أهل البيت فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً».

11. أخرج الطبري: عن عمر بن أبي سلمة، قال: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في بيت أُمّ سلمة: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» فدعا حسناً و حسيناً و فاطمة فأجلسهم بين يديه، و دعا علياً فأجلسه خلفه، فتجلّل هو و هم بالكساء، ثمّ قال: «هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً»، قالت أُم سلمة: أنا معهم، قال: «مكانك، و أنت على خير».

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 25

12. أخرج الطبري: قال عامر بن سعد، قال: قال سعد: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم حين نزل عليه الوحي فأخذ علياً و ابنيه و فاطمة، و أدخلهم تحت ثوبه ثمّ قال: «رب هؤلاء أهلي و أهل بيتي».

13. أخرج الطبري: عن حكيم بن سعد قال: ذكرنا علي بن أبي طالب رضى الله عنه عند أُم سلمة، قالت: فيه نزلت «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» قالت أُم سلمة: جاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى بيتي فقال: لا تأذني لأحد، فجاءت فاطمة فلم استطع أن أحجبها عن أبيها، ثمّ جاء الحسن فلم استطع أن أمنعه أن يدخل على جدّه و أُمّه، و جاء الحسين فلم استطع أن أحجبه، فاجتمعوا حول النبي صلى الله عليه و آله و سلم على بساط فجللهم نبي اللَّه صلى الله عليه و آله

و سلم بكساء كان عليه ثمّ قال: «هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً»، فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط. قالت فقلت: يا رسول اللَّه: و أنا؟ قال: «إنّك إلى خير».

14. روى السيوطي: و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أُم سلمة رضي اللَّه عنهما زوج النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبري، فجاءت فاطمة رضي اللَّه عنها ببرمة فيها خزيرة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ادعي زوجك و ابنيك حسناً و حسيناً»، فدعتهم، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» فأخذ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بفضلة إزاره فغشاهم إياها، ثمّ أخرج يده من الكساء و أومأ بها إلى السماء ثمّ قال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً»، قالها ثلاث مرات، قالت أُم سلمة- رضي اللَّه عنها-:

فأدخلت رأسي في الستر، فقلت: يا رسول اللَّه و أنا

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 26

معكم؟ فقال: «إنّك إلى خير» مرّتين.

15. روى السيوطي: و أخرج الطبراني عن أُم سلمة- رضي اللَّه عنها- انّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لفاطمة- رضي اللَّه عنها-: «ائتني بزوجك و ابنيه»، فجاءت بهم، فألقى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم عليهم كساءً فدكياً ثمّ وضع يده

عليهم، ثمّ قال: اللّهم إنّ هؤلاء أهل محمد و في لفظ: آل محمد فاجعل صلواتك و بركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد». قالت أُم سلمة- رضي اللَّه عنها-: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي و قال: «إنّك على خير».

16. روى السيوطي: و أخرج الطبراني عن أُم سلمة- رضي اللَّه عنها- قالت: جاءت فاطمة- رضي اللَّه عنها- إلى أبيها بثريدة لها، تحملها في طبق لها حتى وضعتها بين يديه، فقال لها: «أين ابن عمك؟» قالت: «هو في البيت». قال: «اذهبي فادعيه و ابنيك»، فجاءت تقود ابنيها كل واحد منهما في يد و علي رضى الله عنه يمشي في أثرهما حتى دخلوا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأجلسهما في حجره و جلس علي رضى الله عنه عن يمينه و جلست فاطمة- رضي اللَّه عنها- عن يساره، قالت أُمّ سلمة- رضي اللَّه عنها-: فأخذت من تحتي كساء كان بساطنا على المنامة في البيت. «1»

17. روى السيوطي: و أخرج ابن مردويه و الخطيب عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: كان يوم أُمّ سلمة أُم المؤمنين- رضي اللَّه عنها- فنزل جبرئيل عليه السلام على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذه الآية «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» قال: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بحسن و حسين و فاطمة و علي فضمهم إليه و نشر عليهم الثوب، و الحجاب على أُم سلمة مضروب، ثمّ قال:

______________________________

(1). و اجمال الحديث و ابهامه يرتفع بالرجوع إلى سائر ما روي عن أُم سلمة في ذلك المضمار.

اهل البيت

عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 27

«اللّهم هؤلاء أهل بيتي، اللّهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً»، قالت أُم سلمة- رضي اللَّه عنها-: فأنا معهم يا نبي اللَّه؟ قال:

«أنت على مكانك، و أنّك على خير».

18. روى السيوطي: و أخرج الترمذي و صحّحه، و ابن جرير، و ابن المنذر، و الحاكم و صحّحه، و ابن مردويه و البيهقي في سننه، من طرق، عن أُمّ سلمة- رضي اللَّه عنها- قالت: في بيتي نزلت: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» و في البيت فاطمة و علي و الحسن و الحسين فجلّلهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بكساء كان عليه ثمّ قال: «هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً».

19. روى السيوطي: و أخرج ابن أبي شيبة، و أحمد، و مسلم، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و الحاكم عن عائشة- رضي اللَّه عنها- قالت: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم غداة و عليه مرط مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن و الحسين- رضي اللَّه عنهما- فأدخلها معه، ثمّ جاء علي فأدخله معه، ثمّ قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

20. روى السيوطي: و أخرج ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه، عن سعد قال: نزل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم الوحي، فأدخل علياً و فاطمة و ابنيهما تحت ثوبه ثمّ قال: «اللّهم هؤلاء أهلي و أهل بيتي».

21. روى السيوطي: و أخرج ابن أبي شيبة، و أحمد، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و الطبراني، و الحاكم و صححه، و البيهقي

في سننه، عن واثلة ابن الأسقع رضى الله عنه قال: جاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى فاطمة و معه حسن و حسين و علي، حتى دخل فأدنى علياً و فاطمة فأجلسهما بين يديه و أجلس حسناً

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 28

و حسيناً كل واحد منهما على فخذه ثمّ لف عليهم ثوبه و أنا مستدبرهم، ثمّ تلا هذه الآية: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

الطائفة الثالثة: تعيينهم بتلاوة الآية على بابهم

22. أخرج الطبري: عن أنس، انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة، فيقول: الصلاة أهل البيت:

«إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»».

23. أخرج الطبري: أخبرني أبو داود، عن أبي الحمراء، قال: رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: رأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي و فاطمة فقال: الصلاة الصلاة: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

24. أخرج الطبري: عن يونس بن أبي إسحاق باسناده، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم مثله.

25. روى السيوطي: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و حسّنه، و ابن جرير، و ابن المنذر، و الطبراني، و الحاكم و صحّحه، و ابن مردويه، عن أنس رضى الله عنه أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يمرّ بباب فاطمة- رضي اللَّه عنها- إذا خرج إلى صلاة الفجر و يقول: «الصلاة يا أهل البيت: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ

عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»».

26. روى السيوطي: أخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: لما دخل علي رضى الله عنه بفاطمة رضي اللَّه عنها جاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم أربعين

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 29

صباحاً إلى بابها يقول: «السلام عليكم أهل البيت و رحمة اللَّه و بركاته، الصلاة رحمكم اللَّه «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» أنا حرب لمن حاربتم، أنا سلم لمن سالمتم».

27. روى السيوطي: أخرج ابن جرير، و ابن مردويه، عن أبي الحمراء رضى الله عنه قال: حفظت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرّة يخرج إلى صلاة الغداة إلّا أتى إلى باب علي رضى الله عنه فوضع يده على جنبتي الباب ثمّ قال: «الصلاة الصلاة: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»».

28. روى السيوطي: و أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس- رضي اللَّه عنهما- قال: شهدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب رضى الله عنه عند وقت كل صلاة، فيقول: «السلام عليكم و رحمة اللَّه و بركاته أهل البيت «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» الصلاة رحمكم اللَّه» كل يوم خمس مرّات.

29. روى السيوطي: و أخرج الطبراني عن أبي الحمراء رضى الله عنه، قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يأتي باب علي و فاطمة ستة أشهر فيقول: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً». «1»

جولة حول ما رواه العلمان

قد تعرفت على أكثر ما رواه الطبري و السيوطي في تفسيرهما، و تركنا بعض ما

______________________________

(1). لاحظ للوقوف على مصادر هذه الروايات تفسير الطبري: 22/ 5- 7، و الدر المنثور: 5/ 198- 199.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 30

نقلاه في ذلك المجال عن أعلام التابعين، و ما رويناه ينتهي اسناده إلى أقطاب الحديث من الصحابة و عيون الأثر، و هم:

1. أبو سعيد الخدري.

2. أنس بن مالك.

3. ابن عباس.

4. أبو هريرة الدوسي.

5. سعد بن أبي وقاص.

6. واثلة بن الأسقع.

7. أبو الحمراء، أعني: هلال بن الحارث.

8. أُمّهات المؤمنين: عائشة و أُم سلمة.

أ يصح بعد هذا لمناقش أن يشك في صحة نزولها في حق العترة الطاهرة؟! و ليس الطبري و السيوطي فريدين في نقل تلك المأثورة، بل سبقهما، أصحاب الصحاح و المسانيد فنقلوا نزول الآية في حقهم صريحاً أو كناية، و لا بأس بنقل ما جاء في خصوص الصحاح حتى يعضد بعضه بعضاً فنقول:

30. أخرج الترمذي: عن سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه، قال: لمّا نزلت هذه الآية: «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ» «1» الآية، دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم علياً و فاطمة و حسناً و حسيناً فقال: «اللّهم هؤلاء أهلي».

______________________________

(1). آل عمران: 61.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 31

31. أخرج الترمذي: عن أُم سلمة رضي اللَّه عنها: قالت إنّ هذه الآية نزلت في بيتي «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» قالت: و أنا جالسة عند الباب فقلت: يا رسول اللَّه أ لست من أهل البيت؟ فقال: «إنّك إلى خير، أنت

من أزواج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم»، قالت: و في البيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم و علي و فاطمة و حسن و حسين، فجلّلهم بكسائه و قال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً».

و في رواية انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم جلل على الحسن و الحسين و علي و فاطمة ثمّ قال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي و حامَّتي اذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً». قالت أُم سلمة: و أنا معهم يا رسول اللَّه؟ قال: «إنّك إلى خير».

32. أخرج الترمذي: عن عمر بن أبي سلمة قال: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» في بيت أُم سلمة، فدعا النبي صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة و حسناً و حسيناً، فجلّلهم بكساء، و عليٌّ خلف ظهره، ثمّ قال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً». قالت أُم سلمة: و أنا معهم يا نبي اللَّه؟ قال: «أنت على مكانك و أنت على خير».

33. أخرج الترمذي: عن أنس بن مالك: انّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يمرُّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريباً من ستة أشهر يقول: الصلاة أهل البيت «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

34. أخرج مسلم: عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عليه مِرط مُرَحَّل أسود، فجاءه الحسن فأدخله، ثمّ جاءه الحسين فأدخله، ثمّ جاءت فاطمة

اهل البيت عليهم

السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 32

فأدخلها، ثمّ جاء علي فأدخله، ثمّ قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ» الآية.

35. أخرج مسلم: عن زيد بن أرقم: قال يزيد بن حيان: انطلقت أنا و حصين بن سبرة و عمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم و سمعت حديثه، و غزوت معه، و صلّيت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال: يا ابن أخي، و اللَّه لقد كبرت سني، و قدم عهدي، و نسيت بعض الذي كنت أعي من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فما حدثتكم فاقبلوا و ما لا فلا تكلّفونيه، ثمّ قال: قام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى: خماً، بين مكة و المدينة، فحمد اللَّه و أثنى عليه، و وعظ و ذكر، ثمّ قال: «أمّا بعد: ألا أيّها الناس، إنّما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين أوّلهما: كتاب اللَّه فيه الهدى و النور، فخذوا بكتاب اللَّه، و استمسكوا به، فحث على كتاب اللَّه و رغّب فيه، ثمّ قال:

و أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، فقال له حصين: و من أهل بيته يا زيد؟ أ ليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، و لكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال: و من

هم؟ قال: آل علي، و آل عقيل، و آل جعفر، و آل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم، زاد في رواية «كتاب اللَّه فيه الهدى و النور من استمسك به و أخذ به كان على الهدى و من أخطأه ضل».

و في أُخرى نحوه: غير أنّه قال: «و إنّي تارك فيكم ثقلين أحدهما: كتاب اللَّه و هو حبل اللَّه فمن اتبعه كان على الهدى و من تركه كان على ضلالة، و فيها فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه قال: لا و أيم اللَّه انّ المرأة تكون مع الرجل العصر من

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 33

الدهر، ثمّ يطلقها فترجع إلى أبيها و قومها، أهل بيته: أصله و عصبته الذين حرموا الصدقة بعده. «1»

هذا ما رواه أصحاب الصحاح حول نزول الآية في حق العترة الطاهرة و تركنا ما رواه الإمام أحمد في مسنده روماً للاختصار، و في هذا غنى و كفاية لمن رام الحق و اتبعه و عرف الباطل فاجتنبه، و من أراد التوسع فعليه الرجوع إلى المصادر التالية:

1. العمدة للمحدث الحافظ يحيى بن سعيد المتوفّى عام 600 ه الطبعة الحديثة. «2»

2. بحار الأنوار: 35/ 206- 226.

3. غاية المرام: 287 و 294، فقد أورد فيه واحداً و أربعين حديثاً من كتب أهل السنّة، و أربعاً و ثلاثين من كتب الشيعة.

4. تفسير البرهان: 3/ 309- 325، فقد أورد فيه خمساً و ستين حديثاً.

5. نور الثقلين: 4/ 270- 277، أورد فيه خمسة و عشرين حديثاً.

6. إحقاق الحق: 2/ 502- 544، فقد نقل نزول الآية في حق العترة الطاهرة عن كتب أهل السنة حديثاً و تفسيراً، ثمّ استدرك ما فاته في الجزء التاسع و

الرابع عشر.

______________________________

(1). راجع للوقوف على هذه المأثورات جامع الاصول لابن الأثير: 10/ 100- 103، و صحيح مسلم: 7/ 122- 123.

(2). حُقّق تحقيقاً أنيقاً و نشر من قبل مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام في عام 1412 ه.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 34

7. آية التطهير في حديث الفريقين فقد استقصى في جزء خاص الأحاديث الواردة حول الموضوع من طريق الفريقين شكر اللَّه مساعي الجميع.

و بعد هذا، حان حين البحث عن دلائل القول الآخر: و هو نزول الآية في نسائه.

نزولها في نسائه عليه الصلاة و السلام

قد تعرفت على دلائل القول و قرائنه و مؤيداته و أحاديثه المتواترة التي أطبق على نقلها تسع و أربعون «1» صحابياً و صحابية من أُمهات المؤمنين، و قد تلقته الامّة بالقبول في القرون الماضية، و أمّا القول الثاني أعني نزولها في نسائه و زوجاته صلى الله عليه و آله و سلم فقد نسب إلى أشخاص نقل عنهم، منهم:

1. ابن عباس.

2. عكرمة.

3. عروة بن الزبير.

4. مقاتل بن سليمان.

أمّا الأوّل: فقد نقل عنه تارة، عن طريق سعيد بن جبير، و أُخرى عن طريق عكرمة، قال السيوطي في الدر المنثور: و أخرج ابن أبي حاتم، و ابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس عن قوله: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ ...» قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و قال أيضاً: أخرج ابن مردويه عن طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس

______________________________

(1). سيوافيك مصدره.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 35

قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و أمّا الثاني: أعني عكرمة، فقد نقله عنه الطبري، عن طريق «علقمة» و انّ عكرمة كان ينادي في

السوق: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ...» نزلت في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و نقل في الدر المنثور: أخرج ابن جرير و ابن مردويه، عن عكرمة في قوله: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ...» إنّه قال ليس بالذي تذهبون إليه إنّما هو نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و أمّا الثالث: أعني: عروة بن الزبير، فقال السيوطي: و أخرج ابن سعد عن عروة بن الزبير انّه قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» قال: أزواج النبي نزلت في بيت عائشة.

و أمّا الرابع: فقد نقل عنه في أسباب النزول. «1»

تحليل هذه النقول

أمّا نقله عن ابن عباس فليس بثابت، بل نقل عنه خلاف ذلك، فقد نقل السيوطي في «الدر المنثور» قال: و أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: شهدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول: «السلام عليكم و رحمة اللَّه و بركاته أهل البيت «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»».

و ليس ابن مردويه فريداً في هذا النقل، فقد نقله عنه الحاكم الحسكاني في

______________________________

(1). تفسير الطبري: 22/ 7 و 8؛ و الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي: 5/ 198؛ و أسباب النزول للواحدي: 204.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 36

شواهد التنزيل «1» بسند ينتهي إلى أبي صالح، عن ابن عباس: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» نزلت في رسول اللَّه و علي و فاطمة و الحسن و الحسين. و الرجس: الشك.

كما نقله الحافظ الحسين بن الحكم

الحبري في «تنزيل الآيات» عن أبي صالح بمثل ما سبق. «2»

و ممن رواه عن ابن عباس صاحب أرجح المطالب ص 54 طبع لاهور، و العلّامة إسماعيل النقشبندي «في مناقب العترة».

أضف إلى ذلك أنّ من البعيد أن يخفى على ابن عباس حبر الامّة ما اطّلع عليه عيون الصحابة و أُمّهات المؤمنين، و قد أنهى بعض الفضلاء السادة «3» عدد رواة الحديث من الصحابة إلى تسعة و أربعين صحابياً. و جمعها من مصادر الفريقين في الفضائل و المناقب.

و أمّا عكرمة

فقد ثبت تقوّله بذلك كما عرفت، لكنّ في نفس كلامه دليلًا واضحاً على أنّ الرأي العام يوم ذاك في شأن نزول الامّة هو نزولها في حق فاطمة، و انّما تفرّد هو بذلك، و لأجله رفع عقيرته في السوق بقوله: ليس بالذي تذهبون إليه و إنّما هو نساء النبي. أضف إلى ذلك: انّ تخصيص هذه الآية بالنداء في السوق و انّها نزلت في نساء النبي يعرب عن موقفه الخاص بالنسبة إلى من اشتهر نزول الآية في حقهم،

______________________________

(1). شواهد التنزيل: 2/ 30.

(2). تنزيل الآيات: 24 «مخطوط» منه نسخة في جامعة طهران. لاحظ إحقاق الحق: 14/ 53.

(3). آية التطهير في حديث الفريقين.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 37

و إلّا فالمتعارف بين الناس أن الجهر بالحقيقة بشكل معقول لا بهذه الصورة المعربة عن الانحراف عنهم.

هذا كله حول ما نقل عنه، و أمّا تحليل شخصيته و موقفه من الأمانة و الوثاقة، و انحرافه عن علي و انحيازه إلى الخوارج و طمعه الشديد بما في أيدي الامراء فحدث عنه و لا حرج، و لأجل إيقاف القارئ على قليل مما ذكره أئمّة الجرح و التعديل في حقه نأتي ببعض ما ذكره الإمام

شمس الدين الذهبي نقّاد الفن في كتابيه: «تذكرة الحفاظ»، و «سير أعلام النبلاء»، و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتب الجرح و التعديل.

نقل الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفّى 748 ه في «سير أعلام النبلاء» هذه الكلمات في حق عكرمة:

1. قال أيوب: «قال عكرمة: إنّي لأخرج إلى السوق فأسمع الرجل يتكلّم بالكلمة فينفتح لي خمسون باباً من العلم ...» ما معنى هذه الكلمة؟ و هل يقولها إنسان يملك شيئاً من العقل و الوقار؟!

2. قال ابن لهيعة: و كان يحدّث برأي نجدة الحروري «1» و أتاه، فأقام عنده ستة أشهر، ثمّ أتى ابن عباس فسلّم، فقال ابن عباس: قد جاء الخبيث.

3. قال سعيد بن أبي مريم، عن أبي لهيعة، عن أبي الأسود قال: كنت أوّل من سبّب لعكرمة الخروج إلى المغرب و ذلك أنّي قدمت من مصر إلى المدينة فلقيني عكرمة و سألني عن أهل المغرب، فأخبرته بغفلتهم، قال: فخرج إليهم و كان أوّل ما أحدث فيهم رأي الصفريّة. «2»

______________________________

(1). هو نجدة بن عامر الحروري الحنفي من بني حنيفة رأس الفرقة النجدية، انفرد عن سائر الخوارج بآرائه.

(2). هم فرقة من الخوارج أتباع زياد بن الأصفر.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 38

4. قال يحيى بن بكير: قدم عكرمة مصر و نزل هذه الدار و خرج إلى المغرب، فالخوارج الذين بالمغرب عنه أخذوا.

5. قال علي بن المديني: كان عكرمة يرى رأي نجدة الحروري.

6. و قال أحمد بن زهير: سمعت يحيى بن معين يقول: إنّما لم يذكر مالك عكرمة- يعني في الموطأ- قال: لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفريّة.

7. و روى عمر بن قيس المكي، عن عطاء قال: كان عكرمة أباضياً.

«1»

8. و عن أبي مريم قال: كان عكرمة بيهسياً. «2»

9. و قال إبراهيم الجوزجاني: سألت أحمد بن حنبل عن عكرمة، أ كان يرى رأي الأباضية؟ فقال: يقال: انّه كان صفرياً، قلت: أتى البربر؟ قال: نعم، و أتى خراسان يطوف على الامراء يأخذ منهم.

10. و قال علي بن المديني: حكى عن يعقوب الحضرمي عن جده قال: وقف عكرمة على باب المسجد فقال: ما فيه إلّا كافر. قال:

و كان يرى رأي الاباضية. «3»

و قال في «ميزان الاعتدال» «4»: و قد وثقه جماعة، و اعتمده البخاري، و أمّا مسلم فتجنّبه، و روى له قليلًا مقروناً بغيره، و أعرض عنه مالك، و تحايده إلّا في حديث أو حديثين.

عفان، حدثنا وهيب قال: شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري، و أيوب، فذكرا عكرمة فقال يحيى: كذاب، و قال أيوب: لم يكن بكذاب.

______________________________

(1). هم أتباع عبد اللَّه بن أباض، رأس الأباضية.

(2). فرقة من الصفرية أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر الضبعي رأس الفرقة البيهسية من الخوارج.

(3). لاحظ سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 18- 22.

(4). ميزان الاعتدال: 3/ 93- 97.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 39

عن عبد اللَّه بن الحارث: دخلت على علي بن عبد اللَّه بن عباس فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت: أ لا تتقي اللَّه؟ قال: إنّ هذا الخبيث يكذب على أبي.

سئل محمد بن سيرين عن عكرمة؟ فقال: ما يسؤني أن يكون من أهل الجنة و لكنّه كذّاب.

هشام بن عبد اللَّه المخزومي: سمعت ابن أبي ذئب يقول: رأيت عكرمة و كان غير ثقة.

و عن بريد بن هارون قال: قدم عكرمة البصرة، فأتاه أيوب و يونس و سليمان التيمي، فسمع صوت غناء فقال: اسكتوا، ثمّ قال:

قاتله

اللَّه لقد أجاد. و عن خالد بن أبي عمران قال: كنّا بالمغرب و عندنا عكرمة في وقت الموسم فقال: وددت أن بيدي حربة فاعترض بها من شهد الموسم يميناً و شمالًا.

و عن يعقوب الحضرمي عن جده قال: وقف عكرمة على باب المسجد فقال: ما فيه إلّا كافر. قال: و يرى رأي الأباضية، انّ عكرمة لم يدع موضعاً إلّا خرج إليه: خراسان و الشام و اليمن و مصر و افريقية، كان يأتي الامراء فيطلب جوائزهم.

و قال عبد العزيز الدراوردي: مات عكرمة و كثير عزة في يوم واحد فما شهدهما إلّا سودان المدينة.

و عن ابن المسيب أنّه قال لمولاه «برد»: لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.

أ فبعد هذه الكلمات المتضافرة الحاكية عن انحراف الرجل عن جادة الحق،

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 40

و تكفيره عامّة المسلمين، و تمنّيه أن يقتل كل من شهد الموسم، يصح الاعتماد عليه في تفسير الذكر الحكيم؟ و الأسف أنّ المفسرين نقلوا أقواله و أرسلوها و لم يلتفتوا إلى أنّ الرجل كذّاب على مولاه و على المسلمين، فواجب على عشاق الكتاب العزيز و طلاب التفسير، تهذيب الكتب عن أقوال و آراء ذلك الدجال و من يحذو حذوه.

عروة بن الزبير

و أمّا عروة بن الزبير فيكفي في عدم حجية قوله، عداؤه لعلي و انحرافه عنه، ففي هذا الصدد يقول ابن أبي الحديد: روى جرير بن عبد الحميد، عن محمد بن شيبة قال: شهدت مسجد المدينة، فإذا الزهري و عروة بن الزبير جالسان يذكران عليّاً عليه السلام فنالا منه، فبلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام، فجاء حتى وقف عليهما، فقال: أما أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك إلى

اللَّه فحكم لأبي على أبيك، و أمّا أنت يا زهري فلو كنت بمكة لأريتك كير أبيك.

و قد روي من طرق كثيرة: أنّ عروة بن الزبير كان يقول: لم يكن أحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يزهو إلّا علي بن أبي طالب، و أُسامة بن زيد.

و روى عاصم بن أبي عامر البجلي، عن يحيى بن عروة قال: كان أبي إذا ذكر عليّاً نال منه، و قال لي مرّة: يا بني و اللَّه ما أحجم الناس عنه إلّا طلباً للدنيا، لقد بعث إليه أُسامة بن زيد أن أبعث إلي بعطائي فو الله انّك لتعلم انّك لو كنت في فم أسد لدخلت معك. فكتب إليه: إنّ هذا المال لمن جاهد عليه، و لكن لي مالًا بالمدينة، فأصب منه ما شئت.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 41

قال يحيى: فكنت أعجب من وصفه إياه بما وصفه به و من عيبه له و انحرافه عنه. «1»

مقاتل بن سليمان

و هو رابع النقلة لنزول الآية في نسائه صلى الله عليه و آله و سلم و يكفي في عدم حجية قوله ما نقله الذهبي في حقه في «سير أعلام النبلاء» قال: قال ابن عيينة: قلت لمقاتل: زعموا أنّك لم تسمع من الضحاك؟ قال: يغلق علي و عليه باب فقلت في نفسي: أجل باب المدينة.

و قيل: إنّه قال: سلوني عمّا دون العرش، فقالوا: أين أمعاء النملة؟ فسكت، و سألوه لما حج آدم من حلق رأسه؟ فقال: لا أدري. قال وكيع: كان كذّاباً.

و عن أبي حنيفة قال: أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل «2» و مقاتل مشبّه، مات مقاتل سنة نيف و خمسين و مائة، و

قال البخاري: مقاتل لا شي ء البتة. قلت: اجمعوا على تركه. «3»

تجد اتفاق المتكلمين من الأشاعرة و المعتزلة و من قبلهم على أنّ القول بالتشبيه انّما تسرب إلى الأوساط الإسلامية من مقاتل، فهو الزعيم الركن بالقول

______________________________

(1). شرح النهج لابن أبي الحديد: 4/ 102؛ و راجع سير أعلام النبلاء: 4/ 421- 437 ما يدل على كونه من بغاة الدنيا و طالبيها، و قد بنى قصراً في العقيق و أنشد شعراً في مدحه، و كان مقرباً لدى الأمويين خصوصاً عبد الملك بن مروان.

(2). التعطيل: هو انّ لا تثبت للَّه الصفات التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه و آله و سلم و التشبيه: أن يُشبه اللَّه سبحانه و تعالى بأحد من خلقه.

(3). سير أعلام النبلاء: 7/ 202.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 42

بأنّ له سبحانه أعضاء مثل ما للإنسان من اليد و الرجل و الوجه و غير ذلك، قاتل اللَّه مقاتل، كيف يفتري على اللَّه سبحانه كذباً و يُفسر آياته بغير وجهها؟!

و قال الذهبي أيضاً في «ميزان الاعتدال» «1»، ما هذا تلخيصه: قال النسائي: كان مقاتل يكذب.

و عن يحيى: حديثه ليس بشي ء. و قال الجوزجاني: كان دجّالًا جسوراً.

و قال ابن حبان: كان يأخذ من اليهود و النصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم، و كان يشبّه الرب بالمخلوقات، و كان يكذب في الحديث.

و عن خارجة بن مصعب: لم استحل دم يهودي، و لو وجدت مقاتل بن سليمان خلوة لشققت بطنه.

و قال ابن أبي حاتم: حديثه يدل على أنّه ليس بصدوق.

مشكلة السياق؟!

اشارة

قد تعرفت على ما هو المراد من أهل البيت في الآية الشريفة من خلال الامعان فيها و في ظل

الروايات الواردة في كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم، غير انّ هناك مشكلة باسم مشكلة السياق و هي انّ الآية وردت في ثنايا الآيات المربوطة بنساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم على وجه يكون قبلها و بعدها راجعاً إليهنّ و مع ذلك كيف يمكن أن تكون هذه الآية راجعة إلى أهل البيت بالمعنى الذي عرفت؟

و بعبارة أُخرى: إنّ آية التطهير جزء من الآية الثالثة الثلاثين، التي يرجع صدرها و ذيلها إلى نساء النبي، فعندئذ كيف يصح القول بأنّها راجعة إلى

______________________________

(1). ميزان الاعتدال: 4/ 172- 175.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 43

غيرهنّ، فإنّ وحدة السياق قاضية على أنّ الكل راجع إلى موضوع واحد، و إرجاعها إلى غير نسائه يستلزم التفكيك بين أجزاء آية واحدة، نعم لو كانت آية التطهير آية مستقلة لكان الأمر سهلًا إذ كان الإشكال أضعف، و لكنّها جزء من آية واحدة نزلت في نساء النبي.

و الجواب: لا شك أنّ السياق من الأُمور التي يستدل بها على كشف المراد و يجعل صدر الكلام و وسطه و ذيله قرينة على المراد، و وسيلة لتعيين ما أُريد منه، و لكنه حجة إذا لم يقم دليل أقوى على خلافه، فلو قام ترفع اليد عن وحدة السياق و قرينيّته.

و بعبارة أُخرى: إنّ الاعتماد على السياق إنّما يتم لو لم يكن هناك نص على خلافه، و قد عرفت النصوص الدالة على خلافه.

أضف إليه أنّ هناك دلائل قاطعة على أنّ آية التطهير آية مستقلة نزلت كذلك و وقعت في ثنايا الآية المربوطة بأزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم لمصلحة كان صاحب الشريعة أعرف بها. «1» و

إليك الدلائل الدالة على استقلالها:

الدليل الاوّل:

أطبقت الروايات المنتهية إلى الأصحاب و أُمّهات المؤمنين و التابعين لهم بإحسان على نزولها مستقلة، سواء أقلنا بنزولها في حق العترة الطاهرة أو زوجات النبي أو أصحابه، فالكل- مع قطع النظر عن الاختلاف في المنزول فيه- اتفقوا

______________________________

(1). نقل السيوطي عن ابن الحصّار: إنّ ترتيب السور و وضع الآيات مواضعها إنّما كان بالوحي كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا. لاحظ الإتقان: 1/ 194، الفصل الثامن عشر في جمع القرآن و ترتيبه من طبعة مكتبة و مطبعة المشهد الحسيني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 44

على نزولها مستقلة، و قد مضت النصوص عن الطبري و «الدر المنثور» و الصحاح ترى أنّ أُمَّ سلمة تقول: نزلت في بيتي «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

و يروي أبو سعيد الخدري، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «نزلت هذه الآية في خمسة: فيَّ و في علي و فاطمة و حسن و حسين «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»».

و روت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذات غداة و عليه مرط مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله معه، ثمّ جاء الحسين فأدخله معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثمّ جاء علي فأدخله معه، ثمّ قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً». إلى غير ذلك من النصوص.

حتى انّ ظاهر كلام عكرمة و عروة بن الزبير نزولها مستقلة بقول السيوطي: كان عكرمة ينادي في السوق «إِنَّما

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» نزلت في نساء النبي.

و أخرج ابن سعد عن عروة بن الزبير أنّه قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» قال: أزواج النبي، نزلت في بيت عائشة. «1»

فالموافق و المخالف اتفقا على كونها آية مستقلة إمّا نزلت في بيت أُمّ سلمة أو بيت عائشة، و إمّا في حق العترة أو نسائه.

و على ذلك تسهل مخالفة السياق، و القول بنزولها في حق العترة الطاهرة، و انّ الصدر و الذيل راجعان إلى نسائه صلى الله عليه و آله و سلم لا ما ورد في ثناياها، فهو راجع إلى غيرهن.

______________________________

(1). لاحظ: 389- 402 من هذا الجزء.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 45

و لا غرو في أن يكون الصدر و الذيل راجعين إلى موضوع و ما ورد في الأثناء راجعاً إلى غيره فإنّ ذلك من فنون البلاغة و أساليبها، نرى نظيره في الذكر الحكيم و كلام البلغاء، و عليه ديدن العرب في محاوراتهم، فربما يرد في موضوع قبل أن يفرغ من الموضوع الذي كان يبحث عنه ثمّ يرجع إليه ثانياً.

يقول الطبرسي: من عادة الفصحاء في كلامهم انّهم يذهبون من خطاب إلى غيره و يعودون إليه، و القرآن من ذلك مملوء، و كذلك كلام العرب و أشعارهم. «1»

قال الشيخ محمد عبده: إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن ثمّ يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة. «2»

و روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «إنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شي ء و آخرها في شي ء». «3»

و لأجل أن يقف القارئ على صحة ما قاله هؤلاء الأكابر نأتي بشاهد، فنقول: قال سبحانه ناقلًا

عن «العزيز» مخاطباً زوجته: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ». «4» نرى أنّ العزيز يخاطب أوّلًا امرأته بقوله: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» و قبل أن يفرغ من كلامه معها، يخاطب يوسف بقوله: «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» ... ثمّ يرجع إلى الموضوع الأوّل و يخاطب زوجته بقوله: «وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ» ... فقوله «يُوسُفُ

______________________________

(1). مجمع البيان: 4/ 357.

(2). تفسير المنار: 2/ 451.

(3). الكاشف: 6/ 217.

(4). يوسف: 28- 29.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 46

أَعْرِضْ عَنْ هذا» جملة معترضة وقعت بين الخطابين، و المسوّغ لوقوعها بينهما كون المخاطب الثاني أحد المتخاصمين، و كانت له صلة تامّة بالواقعة التي رفعت إلى العزيز.

و الضابطة الكليّة لهذا النوع من الكلام هو وجود التناسب المقتضي للعدول من الأوّل إلى الثاني، ثمّ منه إلى الأوّل، و هي أيضاً موجودة في المقام، فإنّه سبحانه يخاطب نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالخطابات التالية:

1. «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ».

2. «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ...».

3. «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى .

فعند ذلك صح أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً و ذلك لوجهين:

1. تعريفهنّ على جماعة بلغوا في التورع و التقى، الذروة العليا، و في الطهارة عن الرذائل و المساوئ، القمة. و بذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة و قدوة في مجال العمل، فيلزم عليهن أن يقتدين بهم و يستضيئنّ بضوئهم.

2. التنبيه على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة أُمّة طاهرة من الرجس و مطهرة

من الدنس، و لهن معهم لحمة القرابة و وصلة الحسب، و اللازم عليهن التحفّظ على شئون هذه القرابة بالابتعاد عن المعاصي و المساوئ، و التحلّي بما يرضيه سبحانه و لأجل ذلك يقول سبحانه: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ»، و ما هذا إلّا لقرابتهن منه صلى الله عليه و آله و سلم و صلتهن بأهل بيته. و هي لا تنفك عن المسئولية الخاصة، فالانتساب للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و لبيته الرفيع، سبب المسئولية و منشؤها، و في ضوء

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 47

هذين الوجهين صح أن يطرح طهارة أهل البيت في أثناء المحاورة مع نساء النبي و الكلام حول شئونهن.

و لقد قام محقّقو الإمامية ببيان مناسبة العدول في الآية، نأتي ببعض تحقيقاتهم، قال السيد القاضي التستري: «لا يبعد أن يكون اختلاف آية التطهير مع ما قبلها على طريق الالتفات من الأزواج إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته عليهم السلام على معنى أنّ تأديب الأزواج و ترغيبهن إلى الصلاح و السداد، من توابع إذهاب الرجس و الدنس عن أهل البيت عليهم السلام، فالحاصل نظم الآية على هذا: انّ اللَّه تعالى رغب أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى العفة و الصلاح بأنّه إنّما أراد في الأزل أن يجعلكم معصومين يا أهل البيت و اللائق أن يكون المنسوب إلى المعصوم عفيفاً صالحاً كما قال: «وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ» «1». «2»

و قال العلّامة المظفر: و إنّما جعل سبحانه هذه الآية في أثناء ذكر الأزواج و خطابهن للتنبيه على أنّه سبحانه أمرهن و نهاهن و أدّبهن إكراماً لأهل البيت و

تنزيهاً لهم عن أن تنالهم بسببهن وصمة، و صوناً لهم عن أن يلحقهم من أجلهن عيب، و رفعاً لهم عن أن يتصل بهم أهل المعاصي، و لذا استهل سبحانه الآيات بقوله: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» ضرورة أنّ هذا التميّز انّما هو للاتصال بالنبي و آله، لا لذواتهن فهن في محل، و أهل البيت في محل آخر، فليست الآية الكريمة إلّا كقول القائل: يا زوجة فلان لست كأزواج سائر الناس فتعفّفي، و تستّري، و أطيعي اللَّه تعالى، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد اللَّه حفظهم من الأدناس و صونهم عن النقائص. «3»

______________________________

(1). النور: 26.

(2). إحقاق الحق: 2/ 570.

(3). دلائل الصدق: 2/ 72.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 48

الدليل الثاني

إنّ لسان الآيات الواردة حول نساء النبي لسان الإنذار و التهديد، و لسان الآية المربوطة بأهل بيته لسان المدح و الثناء، فجعل الآيتين آية واحدة و إرجاع الجميع إليهن ممّا لا يقبله الذوق السليم، فأين قوله سبحانه: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ» من قوله: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»؟!

كما انّ لسان القرآن في أزواج النبي، لسان المدح و الانذار و يكفيك الإمعان في آيات سورة التحريم فلاحظ.

الدليل الثالث

إنّ قوله سبحانه: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ ...» في المصاحف جزء من الآية الثالثة و الثلاثين فلو رفعناه منها لم يتطرق أيّ خلل في نظم الآية و مضمونها و تتحصل من ضم الآية الرابعة و الثلاثين إلى ما بقيت، آية تامة واضحة المضمون، مبينة المرمى منسجمة الفاصلة، مع فواصل الآيات المتقدمة عليها، و إليك تفصيل الآية في ضمن مقاطع:

ألف. «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ».

ب. «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «1».

______________________________

(1). الأحزاب: 33.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 49

ج. «وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً». «1»

فلو رفعنا قوله: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ» و ضممنا ما تقدم عليه بما تأخر، جاءت الآية تامة من دون حدوث خلل في المعنى و النظم، و هذا دليل على أنّ قوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ» آية مستقلة وردت في ضمن الآية لمصلحة ربما نشير إليها.

إنّ الأحاديث على كثرتها صريحة في نزول الآية وحدها، و لم يرد حتى في

رواية واحدة نزولها في ضمن آيات نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم و لا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الآية بأزواج النبي كما ينسب إلى عكرمة و عروة، فالآية لم تكن حسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي و لا متصلة بها، و انّما وضعت إمّا بأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو عند التأليف بعد الرحلة.

و يؤيده أنّ آية «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» باقية على انسجامها و اتصالها لو قدّر ارتفاع آية التطهير من بين جملها. «2»

و ليس هذا أمراً بدعاً فله نظير في القرآن الكريم.

فقد تضافرت السنّة، و روى الفريقان أن قوله سبحانه: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» «3» نزلت في غدير خم عند ما نصّب النبي صلى الله عليه و آله و سلم علياً إماماً للُامّة و وليّاً للمؤمنين، مع أنّه في المصاحف جزء الآية الثالثة من «سورة المائدة» التي تبيّن أحكام اللّحوم، و إليك نفس الآية في مقاطع

______________________________

(1). الأحزاب: 34.

(2). الميزان: 16/ 330.

(3). سورة المائدة: 3.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 50

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن 98

ثلاثة:

ألف. «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ». «1»

ب. «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».

ج. «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». «2»

فإذا رفعنا الجزء الثاني يحصل من ضم الأوّل إلى الثالث آية تامة من دون طروء خلل في مضمونها و نظمها، و ذلك دليل على أنّ الجزء الثاني آية مستقلة وردت في ضمن آية أُخرى بتصويب صاحب الشريعة الغراء أو بتصويب من جامعي القرآن بعد رحلته صلى الله عليه و آله و سلم.

أضف إلى ذلك أنّ مضمون الآية- أعني: أحكام اللحوم- قد ورد في آيات أُخر من دون أن تشتمل على هذه الزيادة، فهذه قرينة على أنّ ما ورد في الأثناء ليس من صميم الآية في سورة المائدة، و إنّما وضع في أثنائها بأمر من النبي الأكرم لمصلحة عامة نشير إليها.

ما هو السر في جعلها جزءاً من آية أُخرى

قد اتضح مما ذكرنا أن القرآن الكريم إنّما انتقل إلى موضوع أهل البيت

______________________________

(1). سورة المائدة: 3.

(2). سورة المائدة: 3.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 51

و خطابهم لأجل إعلام نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّهن في جوار هؤلاء المطهرين فيجب عليهن القيام بأداء حقوق هؤلاء العظماء، الذين ميّزهم اللَّه تعالى عن غيرهم من هذه الامّة بالتطهير و العصمة و الاقتداء بهم في القول و السلوك.

و لكن يبقى هنا سؤال آخر، و هو أنّه إذا كانت الآية، آية مستقلة فلما ذا جاءت في المصحف جزءاً من آية أُخرى، و لم تكتب بصورة آية تامّة في جنب الآيات الاخرى؟

الجواب: التاريخ يطلعنا بصفحات طويلة على موقف قريش و غيرهم من أهل البيت عليهم السلام، فإنّ مرجل الحسد ما زال يغلي و الاتجاهات السلبية ضدهم كانت كالشمس في رابعة النهار، فاقتضت الحكمة الإلهية أن تجعل

الآية في ثنايا الآيات المتعلّقة بنساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم من أجل تخفيف الحساسية ضد أهل البيت، و ان كانت الحقيقة لا تخفى على من نظر إليها بعين صحيحة، و أنّ الآية تهدف إلى جماعة أُخرى غير نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما بيّناه قبل قليل.

و للسيد عبد الحسين شرف الدين هنا كلام ربّما يفصل ما أجملناه فإنّه- قدّس اللَّه سرّه- بعد ما أثبت أنّ قوله سبحانه: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» «1» منزل في حق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام طرح سؤالًا، و هو أنّه إذا كان أمير المؤمنين عليه السلام هو المراد من الآية فلما ذا عبر عن المفرد بلفظ الجمع؟

فقال: إنّ العرب قد تعبّر عن المفرد بلفظ الجمع لنكتة التعظيم حيث يستوجب، ثمّ قال: و عندي في ذلك نكتة ألطف و أدق، و هي أنّه إنّما أُتي بعبارة الجمع دون عبارة المفرد بُقياً منه تعالى على كثير من الناس، فإنّ شانئي علي و أعداء

______________________________

(1). المائدة: 55.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 52

بني هاشم و سائر المنافقين و أهل الحسد و التنافس لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في التمويه و لا ملتمس في التضليل فيكون منهم بسبب يأسهم حينئذ ما تخشى عواقبه على الإسلام فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتقاء من معرتهم، ثمّ كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة و مقامات متعددة و بث فيهم أمر الولاية تدريجاً حتى أكمل اللَّه الدين و أتمَّ النعمة جرياً منه صلى الله عليه

و آله و سلم على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشق عليهم، و لو كانت الآية بالعبارة المختصة بالمفرد لجعلوا أصابعهم في آذانهم و استغشوا ثيابهم و أصرّوا و استكبروا استكباراً، و هذه الحكمة مطردة في كل ما جاء في القرآن الحكيم من آيات فضل أمير المؤمنين و أهل بيته الطاهرين كما لا يخفى، و قد أوضحنا هذه الجمل و أقمنا عليها الشواهد القاطعة و البراهين الساطعة في كتابينا «سبيل المؤمنين» و «تنزيل الآيات» و الحمد للَّه على الهداية و التوفيق و السلام. «1»

______________________________

(1). المراجعات: المراجعة: 42 ص 166.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 53

نظريات أُخرى في تفسير أهل البيت

قد عرفت القولين المعروفين حول الآية، كما عرفت الحق الواضح منهما، فهلم معي ندرس سائر الأقوال الشاذة التي لا تعتمد على ركن وثيق و إنّما هي آراء مختلقة لأجل الفرار من المشاكل المتوجهة إلى ثاني القولين، و نحن نذكرها واحداً بعد آخر على نحو الإيجاز:

1. المراد من «البيت» هو بيت اللَّه الحرام و المراد من أهله هم المقيمون حوله.

2. المراد من «البيت» هو مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و المراد من أهله هم القاطنون حوله، و كان لبيوتهم باب إلى المسجد.

3. المراد من تحرم عليهم الصدقة و هم ولد أبي طالب: علي، جعفر، و عقيل، و ولد العباس.

4. المراد من البيت بيت النسب و الحسب، فيعم أبناء النبي صلى الله عليه و آله و سلم و نساءه. «1» و هذه الوجوه كلّها عليلة، أمّا الأوّل و الثاني، فلأنّ إطلاق «أهل البيت» و استعماله في أهل مكة و المدينة استعمال بعيد لا يحمل عليه الكلام إلّا بقرينة قطعية، و المتبادر منه هو

أهل بيت الرجل، و على ذلك جرى الذكر الحكيم في موردين أحدهما في قصة إبراهيم قال سبحانه: «قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ». «2» و ثانيهما في قصة موسى قال سبحانه: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ». «3»

أضف إليه أنّ الآية واقعة في سياق البحث عن نساء النبي، فصرف الآية عنه صلى الله عليه و آله و سلم و إرجاعها إلى من جاور بيت اللَّه أو من بات حول مسجده لا يساعد عليه ظاهر الآيات أبداً.

و يتلوهما الثالث: فإنّ تفسير «أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم» بمن تحرم عليه الصدقة من صلب أبي طالب و العباس تفسير بلا شاهد، و كأنّه حمل البيت على البيت النسبي، أضف إليه أنّ الصدقة غير محرمة على خصوص أبنائهما، بل هي محرمة على أبنائهما و كل من كان من نسل عبد المطلب.

قال الشيخ الطوسي في الخلاف: تحرم الصدقة المفروضة على بني هاشم من ولد أبي طالب العقيليين و الجعافرة و العلويين، و ولد العباس بن عبد المطلب، و ولد أبي لهب، و ولد الحارث بن عبد المطلب، و لا عقب لهاشم إلّا من هؤلاء، و لا يحرم على ولد المطلب، و نوفل، و عبد شمس بن عبد مناف، قال الشافعي: تحرم الصدقة المفروضة على هؤلاء كلهم و هم جميع ولد عبد مناف. «4»

و قال بمثله أيضاً في كتاب قسمة الصدقات: 2/ 353، المسألة 26.

و على ذلك فليس لهذه النظرية دليل سوى ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم، و قد قدمنا نصّه عند ذكر الأحاديث الواردة حول الآية. «5»

و أمّا النظرية الرابعة: فقد ذهب إليها بعضهم، جمعاً بين

الأحاديث المتضافرة الحاكية عن نزول الآية في العترة الطاهرة، و سياق الآيات الدالة على رجوعها إلى نسائه، فحاول القائل الجمع بين الدليلين بتفسير الآية بأولاده و أزواجه، و جعل عليّاً أيضاً منهم بسبب معاشرته و ملازمته للنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

______________________________

(1). لاحظ في الوقوف على هذه الأقوال تفسير الطبري: 22/ 5- 7؛ و تفسير القرطبي: 14/ 182؛ و مفاتيح الغيب للرازي: 6/ 615؛ و الكشاف: 2/ 538؛ و غيرها.

(2). هود: 73.

(3). القصص: 12.

(4). الخلاف: 2/ 227، المسألة 4 كتاب الوقوف و الصدقات.

(5). لاحظ ص 398، الحديث 35.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 54

قال الرازي: و الأولى أن يقال هم: أولاده و أزواجه و الحسن و الحسين منهم و علي معهم، لأنّه كان من أهل بيته بسبب معاشرته بيت النبي و ملازمته. «1»

و قال البيضاوي: و التخصيص بهم أولاده لا يناسب ما قبل الآية

______________________________

(1). مفاتيح الغيب: 6/ 615.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 55

و ما بعدها، و الحديث يقتضي أنّهم من أهل البيت لا أنّ غيرهم ليس منهم. «1»

و قال المراغي: أهل بيته من كان ملازماً له من الرجال و النساء و الأزواج و الإماء و الأقارب. «2»

و هذه النظرية موهونة أيضاً

أوّلًا: انّ اللام في «أهل البيت» ليس للجنس و لا للاستغراق، بل هي لام العهد و هي تشير إلى بيت معهود بين المتكلم و المخاطب، و هو بيت واحد، و لو صح ذلك القول لوجب أن يقول «أهل البيوت» حتى يعم الأزواج و الأولاد و كل من يتعلّق بالنبي نسباً أو حسباً أو لعلاقة السكنيّة مثل الإماء.

و الحاصل: انّه لو أُريد «بيت النبي» المادي

الجسماني لا يصح، إذ لم يكن له بيت واحد، بل كان لكل واحدة من نسائه بيت مشخص، فكان النبي صاحب البيوت لا البيت الواحد.

و لو أُريد منه بيت النسب، كما يقال: بيت من بيوتات «حمير» أو «ربيعة»، فلازمه التعميم إلى كل من ينتمي إلى هذا البيت بنسب أو سبب، مع أنّه كان بعض المنتمين إليه يوم نزول الآية من عبدة الوثن و أعداء النبي، فإنّ سورة الأحزاب نزلت سنة ست من الهجرة، و قد ورد فيها زواج النبي من زينب بنت جحش، و هو حسب ما ذكره صاحب «تاريخ الخميس» من حوادث سنة الخمس، و على ذلك فلا تتجاوز الآيات النازلة في نساء النبي عن هذا الحد و كان عند ذاك، بعض من ينتمي إلى النبي بالنسب مشركاً، كأبي سفيان بن عبد المطلب ابن عم رسول اللَّه، و عبد اللَّه بن أُمية بن المغيرة ابن عمته، و قد أسلما في عام الفتح، و أنشد الأوّل قوله في إسلامه و اعتذر إلى النبي ممّا كان مضى منه فقال:

______________________________

(1). أنوار التنزيل: 4/ 162.

(2). تفسير المراغي: 22/ 7.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 56 لعمرك إنّي يوم أحمِلُ رايةًلتَغْلِبَ خَيلَ اللات، خيلُ محمد

لكالمُدلج الحيرانِ أظلم ليلُهُ فهذا أواني حين أُهدي و أهْتدى «1»

و لو أُريد منه «بيت الوحي» فلازمه الاختصاص بمن بلغ من الورع و التقوى ذروتهما، حتى يصح عدّه من أهل ذلك البيت الرفيع المعنون، و مثله لا يعم كل من ينتمي بالوشائج النسبية أو الحسبية إلى هذا البيت، و إن كان في جانب الإيمان و العمل في درجة نازلة تلحقه بالعاديين من المسلمين.

ثانياً: قد عرفت أنّ الإرادة الواردة في الآية تكوينية

تعرب عن تعلّق إرادته الحكيمة على عصمة أهل ذلك البيت، و معه كيف يمكن القول بأنّ المراد كل من ينتمي إلى ذلك البيت بوشائج النسب و الحسب؟!

ثالثاً: انّ النظرية في جانب مخالف للأحاديث المتضافرة الدالة على نزول الآية في حق العترة الطاهرة، و قد قام النبي صلى الله عليه و آله و سلم بتفسيرها بوجوه مختلفة أوعزنا إليها عند البحث عن القول الأوّل، و النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو المبين الأوّل لمفاد كتابه الذي أرسل معه قال سبحانه: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ». «2»

فليست وظيفة النبي صلى الله عليه و آله و سلم القراءة و التلاوة بل التبيين و التوضيح من وظائفه التي تنص الآية عليها.

هذا هو موجز القول في تفسير الآية و لا بأس بإكمال البحث بنقل بعض ما أنتجته قريحة الشعراء الإسلاميين حول أهل البيت و فضائلهم، على وجه يعرب عن أنّ المتبادر من ذلك اللفظ في القرون الإسلامية لم يكن إلّا العترة الطاهرة، أعني: فاطمة و أباها و بعلها و ابنيها سلام اللَّه عليهم أجمعين، و إليك نزراً يسيراً في هذا المجال.

______________________________

(1). السيرة النبوية: 2/ 401

(2). النحل: 44.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 57

خاتمة المطاف

أهل البيت في الأدب العربي

ما حقَّقناه حول الآية كان أمراً واضحاً لا لبس فيه عند المسلمين في الصدر الأوّل فقد فهموا في الآية الكريمة و بفضل الروايات من هم أهل البيت من دون تردّد أو تريّث، و صاغوا ما فهموه في قوالب شعرية رائعة، نقتطف منها هذه الشذرات.

قال عمرو بن العاص في قصيدته الجلجلية المعروفة يمدح بها الإمام علي ابن أبي طالب، و فيها هذا البيت في

حق العترة الطاهرة:

فوال مواليه يا ذا الجلال و عاد معادي أخ المرسل

و لا تنقضوا العهد من عترتي فقاطعهم بي لم يوصل «1»

و قال الكميت بن زيد الأسدي في قصيدة له:

______________________________

(1). الغدير: 2/ 115 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 58 أ لم ترني من حب آل محمدأروح و أغدو خائفاً أترقب

فإن هي لم تصلح لحي سواهم فإنّ ذوي القربى أحق و أوجب

يقولون لم يورث و لو لا تراثه لقد شركت فيها بكيل و أرحب «1»

قال العبدي الكوفي (المتوفّى 120 ه):

و لما رأيت الناس قد ذهبت بهم مذاهبهم في أبحر الغي و الجهل

ركبت على اسم اللَّه في سفن النجاو هم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل

و أمسكت حبل اللَّه و هو ولاؤهم كما قد أمرنا بالتمسّك بالحبل «2»

قال الإمام الشافعي:

يا أهل بيت رسول اللَّه حبكم فرض من اللَّه في القرآن أنزله

______________________________

(1). الغدير: 2/ 191

(2). الغدير: 2/ 290- 326 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 59 كفاكم من عظيم القدر أنّكم من لم يصل عليكم لا صلاة له «1»

و ذكر ابن الصباغ المالكي في «الفصول» لقائل:

هم العروة الوثقى لمعتصم بهامناقبهم جاءت بوحي و انزال

مناقب في شورى و سورة هل أتى و في سورة الأحزاب يعرفها التالي

و هم آل بيت المصطفى فودادهم على الناس مفروض بحكم و إسجال «2»

و ذكر الشبلنجي في «نور الأبصار» عن أبي الحسن بن جبير:

أحب النبيّ المصطفى و ابنَ عمه علياً و سبطيه و فاطمة الزهراء

هم أهل بيت أذهب الرجس عنهم و أطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا

موالاتهم فرض على كل مسلم و حبهم أسنى الذخائر للأُخرى

______________________________

(1). الغدير: 2/ 303

(2). الغدير: 2/ 310- 311، نقلًا

عن الفصول: 13 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 60 و ما أنا للصحب الكرام بمبغض فإنّي أرى البغضاء في حقهم كفرا «1»

و قال العبدي:

يا سادتي يا بني علي يا «آل طه» و «آل صاد»

من ذا يوازيكم و أنتم خلائف اللَّه في البلاد

أنتم نجوم الهدى اللواتي يهدي بها اللَّه كل هاد

لو لا هداكم إذاً ضللناو التبس الغي بالرشاد

لا زلت في حبكم أوالي عمري و في بغضكم أعادي

و ما تزودت غير حبي إياكم و هو خير زاد

و ذاك ذخري الذي عليه في عرصة الحشر اعتمادي

______________________________

(1). الغدير: 2/ 311، نقلًا عن نور الأبصار: 13 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 61 ولاكم و البراءة ممن يشنؤكم اعتقادي «1»

و قال دعبل الخزاعي:

أ تسكب دمع العين بالعبرات و بتَّ تقاسي شدّة الزفرات؟!

و تبكي لآثار لآل محمدفقد ضاق منك الصدر بالحسرات

ألا فابكهم حقّاً و بلَّ عليهم عيوناً لريب الدهر منسكبات

و لا تنس في يوم الطفوف مصابهم و داهية من أعظم النكبات

سقى اللَّه أجداثاً على أرض كربلامرابيع أمطار من المزنات

و صلّي على روح الحسين حبيبه قتيلًا لدى النهرين بالفلوات

قتيلًا بلا جرم فجعنا بفقده فريداً ينادي: أين أين حماتي

______________________________

(1). الغدير: 2/ 317 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 62 أنا الظامئ العطشان في أرض غربةقتيلًا و مظلوماً بغير ترات

و قد رفعوا رأس الحسين على القناو ساقوا نساءً و لها خفرات

فقل لابن سعد عذب اللَّه روحه ستلقى عذاب النار باللعنات

سأقنت طول الدهر ما هبت الصباو اقنت بالآصال و الغدوات

على معشر ضلّوا جميعاً و ضيّعوامقال رسول اللَّه بالشّبهات «1»

و قال أيضاً:

نطق القرآن بفضل آل محمدو

ولاية لعليّه لم تجحد

بولاية المختار من خير الذي بعد النبي الصادق المتودد «2»

______________________________

(1) الغدير: 2- 381

(2) الغدير: 382

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 63

و قال الحماني (المتوفّى 301 ه):

يا آل حاميم الذين بحبهم حكم الكتاب منزَّلٌ تنزيلا

كان المديح حُلى الملوك و كنتم حلل المدائح غرّةً و حجولا

بيت إذا عَدَّ المآثر أهله عدّوا النبي و ثانياً جبريلا

قوم إذا اعتدلوا الحمائل أصبحوامتقسِّمين خليفة و رسولا

نشئوا بآيات الكتاب فما انثنواحتى صدرن كهولة و كهولا

ثقلان لن يتفرَّقا أو يطفيابالحوض من ظمأ الصدور غليلا

و خليفتان على الأنام بقوله الحق أصدق من تكلّم قيلا

فأتوا أكف الآيسين فأصبحواما يعدلون سوى الكتاب عديلا «1»

______________________________

(1). الغدير: 3/ 66 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 64

و قال العجلوني (المتوفّى 1162 ه):

لقد حاز آل المصطفى أشرف الفخربنسبتهم للطاهر الطيّب الذكر

فحبهم فرض على كل مؤمن أشار إليه اللَّه في محكم الذكر

و من يدعي من غيرهم نسبة له فذلك ملعون أتى أقبح الوزر

و قد خص منهم نسل زهراء الأشرف بأطراف تيجان من السندس الخضر

و يُغنيهمُ عن لبس ما خصَّهم به وجوهٌ لهم أبهى من الشمس و البدر

و لم يمتنع من غيرهم لبس أخضرعلى رأي من يعزى لأسيوط ذي الخبر

و قد صححوا عن غيره حرمة الذي رآه مباحاً فاعلم الحكم بالسبر «1»

و قال جرير بن عبد اللَّه البجلي:

فصلى الإله على أحمدرسول المليك تمام النعم

______________________________

(1). الغدير: 3/ 173 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 65 و صلى على الطهر من بعده خليفتنا القائم المدَّعم

عليّاً عنيت وصي النبي يجالد عنه غواة الامم

له الفضل و السبق و المكرمات و بيت النبوّة لا

المهتضم «1»

و قال الزاهي (المتوفّى 352 ه):

يا سادتي يا آل ياسين فقطعليكم الوحي من اللَّه هبط

لولاكم لم يقبل الفرض و لارحا لبحر العفو من أكرم شط

أنتم ولاة العهد في الذرِّ و من هواهم اللَّه علينا قد شرط

ما أحد قايسكم بغيركم و مازج السلسل بالشرب اللمط

إلّا كمن ضاهى الجبال بالحصى أو قايس الأبحر جهلًا بالنقط «2»

______________________________

(1). الغدير: 3/ 233

(2). الغدير: 3/ 391 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 66

قال أيضاً ضمن أبيات:

هم آل أحمد و الصيد الجحاجحة الزهر الغطارفة العلوية الغرر

و قال أيضاً:

يا آل أحمد ما ذا كان جرمكم فكل أرواحكم بالسيف تنتزع «1»

و قال الناشئ الصغير (المتوفّى 365 ه):

بآل محمّد عرف الصواب و في أبياتهم نزل الكتاب

هم الكلمات و الأسماء لاحت لآدم حين عزّ له المتاب

و هم حجج الإله على البرايابهم و بحكمهم لا يستراب

إلى آخر الأبيات التي يقول فيها:

يقول لقد نجوت بأهل بيت بهم يصلى لظى و بهم يثاب

______________________________

(1). الغدير: 3/ 396 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 67 هم النبأ العظيم و فلك نوح و باب اللَّه و انقطع الخطاب «1»

و قال البشنوي الكردي (المتوفّى بعد 380 ه):

أليّة ربي بالهدى متمسكاًباثني عشر بعد النبي مراقباً

أبقي على البيت المطهر أهله بيوت قريش للديانة طالباً «2»

و قال أيضاً:

يا ناصبي بكل جهدك فاجهدإنّي علقت بحب آل محمد

الطيبين الطاهرين ذوي الهدى طابوا و طاب وليهم في المولد

واليتهم و برئت من أعدائهم فاقلل ملامك لا أباً لك أو زد

فهم أمان كالنجوم و انّهم سفن النجاة من الحديث المسند «3»

______________________________

(1). الغدير: 4/ 25

(2). الغدير: 4/ 35

(3). الغدير: 4/ 38 اهل البيت

عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 68

و قال الصاحب بن عبّاد (المتوفّى 385 ه):

أُواليكم يا آل بيت محمدفكلّكم للعلم و الدين فرقد

و أترك من ناواكم و هو هتكه ينادى عليه مولد ليس يحمد «1»

و قال ابن الحجاج البغدادي (المتوفّى 391 ه):

فما وجدت شفاء تستفيد به إلّا ابتغاءك تهجو آل ياسين

كافاك ربُّك إذ أجرتك قدرته بسب أهل العلا الغرِّ الميامين

إلى أن يقول:

و انّ أجر ابن سعد في استباحةآل النبوّة أَجر غير ممنون «2»

و قال أبو الفتح كشاجم (المتوفّى 360 ه) من قصيدة:

له في البكاء على الطاهرين مندوحة عن بكاء الغزل

______________________________

(1). الغدير: 4/ 60

(2). الغدير: 4/ 89 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 69 فكم فيهم من هلال هوى قبيل التمام و بدر أفل

هم حجج اللَّه في خلقه و يوم المعاد على من خذل

و من أنزل اللَّه تفضيلهم فردَّ على اللَّه ما قد نزل

فجدّهم خاتم الأنبياءو يعرف ذاك جميع الملل «1»

و قال أيضاً:

آل النبي فضّلتم فضل النجوم الزاهرة

و بهرتم أعداءكم بالمأثرات السائرة «2»

و قال أبو محمد الصوري الشاعر (المتوفّى 419 ه):

فهل ترك البين من أرتجيه من الأوّلين و الآخرينا

______________________________

(1). الغدير: 4/ 3

(2). الغدير: 4/ 17 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 70 سوى حب آل نبي الهدى فحبهم أمل الآملينا

هم عدّتي لوفاتي هم نجاتي هم الفوز للفائزينا «1»

و قال من قصيدة في أهل البيت:

بما ذا ترى تحتجُّ يا آل أحمدعلى أحمد فيكم إذا ما استعدت

و أشهر ما يروونه عنه قوله تركت كتاب اللَّه فيكم و عترتي

و لكن دنياهم سعت فسعوا لهافتلك التي فلّت ضميراً عن التي «2»

و قال أيضاً من قصيدة:

فلهذا أبناء

أحمد أبناء علي طرائد الآفاق

فقراء الحجاز بعد الغنى الأكبرأسرى الشام قتلى العراق

______________________________

(1). الغدير: 4/ 222 و 225

(2). الغدير: 4/ 227 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 71 جانبتهم جوانب الأرض حتى خلت انّ السماء ذات انطباق

ان أقصر يا آل أحمد أو أغرق كان التقصير كالإغراق «1»

و قال الشبراوي الشافعي في كتابه «الاتحاف بحب الأشراف»:

آل طه و من يقل آل طه مستجيراً بجاهكم لا يرد

حبكم مذهبي و عقد يقيني ليس لي مذهب سواه و عقد «2»

و قال أيضاً في قصيدة أُخرى:

آل بيت النبي ما لي سواكم ملجأ أرتجيه للكرب في غد

لست أخشى ريب الزمان و أنتم عمدتي في الخطوب يا آل أحمد

من يضاهي فخاركم آل طه و عليكم سرادق العز ممتد

______________________________

(1). الغدير: 4/ 227- 228

(2). الإتحاف بحب الأشرف: 99 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 72

إلى أن يقول في قصيدته هذه:

يا إلهي ما لي سوى حب آل البيت آل النبي طه الممجد

أنا عبد مقصر لست أرجوعملًا غير حب آل محمد «1»

و قال أيضاً من قصيدة:

يا كرام الأنام يا آل طه حبكم مذهبي و عقد ولائي

ليس لي ملجأ سواكم و ذخرأرتجيه في شدتي و رخائي

فاز من زار حيكم آل طه وجنا منكم ثمار العطاء «2»

و قال أيضاً في قصيدة:

أنا في عرض آل بيت نبي طهر اللَّه بيتهم تطهيراً

سادة أتقياء أعطاهم اللَّه مقاماً ضخماً و ملكاً كبيراً

______________________________

(1). الإتحاف بحب الأشراف: 100 و 101

(2). الإتحاف بحب الأشراف: 100 و 101 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 73

إلى أن يقول:

يا بحور الكمال يا آل طه كم مننتم و كم جبرتم كسيراً

هل على

غير بيتهم نزل الوحي بجبريل خادماً مأموراً

هل سواكم قد أذهب اللَّه عنه الرج- س نصّاً في ذكره مسطوراً «1»

«أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» «2»

الشيعة و آية التطهير

استدلت الشيعة عن بكرة أبيها بآية التطهير على عصمة العترة الطاهرة، و أفاض المفسرون منهم القول حول الآية و أتوا ببيانات شافية في وجه دلالتها على عصمتهم.

و هناك جماعة من العلماء قاموا بتأليف رسائل مفردة حول دلالتها و شأن نزولها، نشير إلى ما وقفنا عليه في ما يلي:

1. «السحاب المطير في تفسير آية التطهير»، للسيد السعيد القاضي نور اللَّه المرعشي الشهيد عام 1019 ه.

______________________________

(1). الإتحاف بحب الأشرف: 106- 109

(2). الأنعام: 90.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 74

2. «تطهير التطهير»، تأليف الفاضل الهندي (المتوفّى عام 1035 ه).

3. «شرح تطهير التطهير»، تأليف السيد عبد الباقي الحسيني كتبه شرحاً لكتاب الفاضل الهندي.

4. «إذهاب الرجس عن حظيرة القدس»، للعلّامة الشيخ عبد الكريم بن محمد طاهر القمي.

5. «الصور المنطبعة»، له أيضاً في هذا المجال.

6. «أقطاب الدوائر»، للعلّامة عبد الحسين بن مصطفى أحد علمائنا في القرن الثاني عشر فرغ منه عام 1138 ه، و طبع عام 1403 ه.

7. «تفسير آية التطهير»، تأليف الشيخ إسماعيل بن زين العابدين التبريزي الملقّب بمصباح (المتوفّى عام 1300 ه).

8. التنوير في ترجمة رسالة «آية التطهير» باللغة الأوردية، تأليف السيد عباس الموسوي، طبع في الهند عام 1341 ه، و هو ترجمة لرسالة السيد القاضي نور اللَّه.

9. «جلاء الضمير في حل مشكلات آية التطهير»، للشيخ محمد البحراني، طبع في بُمباي عام 1325 ه.

10. رسالة قيمة في تفسير آية التطهير، للعلّامة المحقق الشيخ لطف اللَّه الصافي، طبعت عام 1403 ه من منشورات دار القرآن الكريم في قم المقدسة،

و له رسالة أُخرى في العصمة طبعت معها، حيّاه اللَّه و بيّاه.

11. «آية التطهير» في جزءين، للسيد الجليل علي الأبطحي، و قد استقصى الكلام فيها حول المأثورات الواردة فيها في الجزء الأوّل، و دلالتها على العصمة في الجزء الثاني.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 75

12. «آية التطهير»، للشيخ محمد مهدي الآصفي و هي دراسة حول مداليل الآية الكريمة «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ ...» و اختصاصها بأهل البيت عليهم السلام نشرتها مؤسسة دار القرآن الكريم في قم المقدسة سنة 1411 ه.

13. «آية التطهير، رؤية مبتكرة»، لآية اللَّه الشيخ محمد الفاضل اللنكراني، طبع في إيران 1970 م بالفارسية. و 1987 م بالعربيَّة.

14. «آية التطهير في الخمسة أهل الكساء»، للسيد محيي الدين الموسوي الغريفي، طبع في النجف الأشرف- 1377 ه/ 1958 م.

15. أخيرها- لا آخرها- ما قدمناه لكم في هذه الصحائف لكاتب هذه السطور، عفا اللَّه عنه، و رزقه شفاعة محمد و أهل بيته يوم لا ينفع مال و لا بنون.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 77

الفصل الثاني: سمات أهل البيت عليهم السلام

اشارة

قد تعرَّفت على من هم أهل البيت من خلال التعريف بالحدِّ التامّ الذي عرَّف به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أهل بيته، أهل بيت النبوّة و الرّسالة، و كأنَّ التعريف السابق كان بمنزلة التعريف بالحدّ أي التعريف بالذات.

و يمكن أن نتعرف عليهم من خلال التعريف على سماتهم و خصوصيّاتهم الّتي تشبه التعريف بالرّسم و التعريف بالعرضي.

و سماتهم و خصوصيّاتهم كثيرة مبثوثة في ثنايا الآيات و الأحاديث النبويَّة، و لكن نقتصر في المقام على ما ورد من السمات في الذكر الحكيم.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 79

من

سمات أهل البيت عليهم السلام

1 العصمة

اشارة

لقد تعرفت على ما هو المراد من أهل البيت في الآية المباركة على وجه لم يدع لقائل كلمة، و لا لمجادل شبهة، في أنّ المقصود منه هو العترة الطاهرة قرناء الكتاب في كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

فحان البحث للتطرق إلى سماتهم و خصوصياتهم، و هي على قسمين:

1. ما يستفاد من الآية الشريفة.

2. ما يستفاد من سائر الآيات.

أمّا الأوّل، فالآية- بعد الإمعان فيها- تدلّ على عصمتهم و طهارتهم من الذنوب، و يعلم ذلك من خلال دراسة أمرين:

1. ما هو المراد من الرجس؟

2. هل الارادة في الآية المباركة إرادة تكوينية أو تشريعية؟

1. ما هو المراد من الرجس؟

اشارة

المراد من الرجس: هو القذارة الأعم من المادية و المعنوية، و قد اتفق على ذلك أئمّة اللغة.

قال ابن فارس: الرجس: أصل يدل على اختلاط، و من هذا الباب:

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 80

الرجس: القذر لأنّه لطخ و خلط. «1»

و قال ابن منظور: الرجس: القذر، و كل قذر رجس، و في الحديث: أعوذ بك من الرجس النجس. و قد يعبر به عن الحرام و الفعل القبيح و العذاب و اللعن و الكفر. قال الزجّاج: الرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل ... فبالغ اللَّه في ذم أشياء و سمّاها رجساً، و قال ابن الكلبي: رجس من عمل الشيطان أي مأثم. «2»

و قد استعملت هذه اللفظة في الذكر الحكيم ثمانية مرات: و وصف به الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام و الكافر غير المؤمن باللَّه و الميتة و الدم المسفوح و لحم الخنزير و الأوثان و قول الزور ... إلى غير ذلك من الموارد التي وصفت به في الذكر الحكيم.

و نكتفي بنقل بعض الآيات قال سبحانه:

«إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ». «3»

و قال سبحانه: «إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ». «4»

و قال سبحانه: «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» «5»، إلى غير ذلك من الآيات.

و المتفحص في كلمات أئمّة أهل اللغة، و الآيات الواردة فيها تلك اللفظة،

______________________________

(1). معجم مقاييس اللغة: 2/ 490.

(2). لسان العرب: 6/ 94- 95، مادة «رجس».

(3). المائدة: 90.

(4). الأنعام: 145.

(5). الأنعام: 125.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 81

يصل إلى أنّها موضوعة بمعنى القذارة التي تستنفر منها النفوس، سواءً أ كانت مادية، كما وردت في الآيات، أم معنوية كما هو الحال في الكافر و عابد الوثن و وثنه.

فلو وصف به العمل القبيح عرفاً أو شرعاً، فلأجل انّ العمل القبيح يوصف بالقذارة التي تستنفرها الطباع السليمة، و على هذا فالمراد من الرجس في الآية هي الأعمال القبيحة عرفاً أو شرعاً، و يدل عليه قوله سبحانه بعد تلك اللفظة: «وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»، فليس المراد من هذا التطهير إلّا تطهيرهم من الرجس المعنوي الذي لا تقبله النفوس السليمة.

و قد ورد نظير قوله: «وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» في حق السيدة مريم عليها السلام، قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ». «1»

نعم: انّ لتطهير النفوس و طهارتها مراتب و درجات، و لا تكون جميعها مستلزمة للعصمة، و انّما الملازم لها هو الدرجة العليا، قال سبحانه: «فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ». «2»

قال العلّامة الطباطبائي: الرجس- بالكسر و السكون- صفة من الرجاسة و هي القذارة، و القذارة هيئة في النفس توجب التجنّب و التنفّر منها، و هي تكون تارة

بحسب ظاهر الشي ء كرجاسة الخنزير، قال تعالى: «أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ» و بحسب باطنه، أُخرى، و هي الرجاسة و القذارة المعنوية كالشرك و الكفر و أثر العمل السيئ، قال تعالى: «وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ» «3»، و قال: «وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً

______________________________

(1). آل عمران: 42.

(2). التوبة: 108.

(3). التوبة: 125.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 82

حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ». «1»

و أيّاً ما كان فهو إدراك نفساني و أثر شعوري يحدث من تعلّق القلب بالاعتقاد الباطل أو العمل السيئ و إذهاب الرجس عبارة عن إزالة كل هيئة خبيثة في النفس تضاد حق الاعتقاد و العمل، و عند ذلك يكون إذهاب الرجس معادلًا للعصمة الإلهية التي هي صورة علمية نفسانية، تحفظ الإنسان من رجس باطني الاعتقاد و سيّئ العمل. «2»

المنفي مطلق الرجس

إذا كان المراد من الرجس في الآية الكريمة هو الأفعال القبيحة عرفاً أو شرعاً و المعاصي صغيرها و كبيرها، فيجب أن يقال: إنّ المنفي في الآية هو عموم الرجس، و ذلك لأنّ المنفي هو جنس الرجس لا نوعه و لا صنفه، و نفي الجنس يلازم نفي الطبيعة بعامة مراتبها، و لأجل ذلك لم يكتف سبحانه بقوله: «لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ» بل أكّده بقوله: «وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»، فلو كان المراد نفي قسم خاص من الرجس- أعني: الشرك، أو الأوسع منه كالمعاصي الكبيرة- لما كان لهذه العناية وجه.

و الحاصل: انّ المفهوم من قول القائل لا خير في الحياة، أو لا رجل في الدار، هو المفهوم من قوله: ليذهب عنكم الرجس، و التفكيك بين

المقامين غير مقبول. هذا هو الأمر الأوّل و إليك الكلام في الأمر الثاني:

______________________________

(1). الأنعام: 125.

(2). الميزان: 16/ 330.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 83

2. هل الإرادة في الآية تكوينية أم تشريعية؟

إنّ انقسام إرادته سبحانه إلى تكوينية و تشريعية من الانقسامات الواضحة التي لا تحتاج إلى بسط في القول، و مجمل القول فيها هو انّه إذا تعلّقت إرادته سبحانه على إيجاد شي ء و تكوينه في صحيفة الوجود، فهي الإرادة التكوينية و لا تتخلّف تلك الإرادة عن مراده، و ربّما يعبّر عنها بالأمر التكويني قال سبحانه: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». «1»

ففي هذا المجال يكون متعلّق الإرادة تكوّن الشي ء و تحقّقه و تجسّده، و اللَّه سبحانه لأجل سعة قدرته و نفوذ إرادته لا تنفك إرادته عن مراده و لا أمره التكويني عن متعلّقه.

و أمّا إذا تعلّقت إرادته سبحانه بتشريع الأحكام و تقنينها في المجتمع حتى يقوم المكلّف مختاراً بواجبه، فهي إرادة تشريعية، ففي هذا المجال يكون متعلّق الإرادة تحقيقاً هو التشريع و التقنين، و أمّا قيام المكلّف فهو من غايات التكليف، و لأجل ذلك ربّما تترتب عليه الغاية، و ربّما تنفك عنه، و لا يوجب الانفكاك خللًا في إرادته سبحانه، لأنّه ما أراد إلّا التشريع و قد تحقق، كما انّه ما أراد قيام المكلّف بواجبه إلّا مختاراً، فقيامه بواجبه أو عدم قيامه من شعب اختياره، هذا هو إجمال القول في الإرادتين، و للتفصيل محل آخر.

و القرائن التي ستمر عليك تدل على أنّ الإرادة في الآية تكوينية لا تشريعية بمعنى انّ إرادته التكوينية التي تعلّقت بتكوين الأشياء و إبداعها في عالم الوجود، تعلّقت أيضاً بإذهاب الرجس عن أهل البيت، و تطهيرهم من كل رجس و

قذر، و من كل عمل يستنفر منه، و إليك تلك القرائن:

______________________________

(1). يس: 82.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 84

1. انّ الظاهر من الآية هو تعلّق إرادة خاصة بإذهاب الرجس عن أهل البيت، و الخصوصية إنّما تتحقّق لو كانت الإرادة تكوينية، إذ لو كانت تشريعية لما اختصت بطائفة دون طائفة، لأنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء هو إبلاغ تشريعاته و دساتيره إلى الناس عامة لا لا ناس معيّنين، و لأجل ذلك ترى أنّه سبحانه عند ما شرّع للمسلمين الوضوء و الغسل بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» علّله بقوله: «وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» «1» خاطب سبحانه المؤمنين عامة بالوضوء و الغسل و علّل تشريعه العام بتطهيرهم و إتمام نعمته عليهم و هذا بخلاف الآية التي نحن بصددها، فإنّها خصّصت إرادة تطهيره بجمع خاص تجمعهم كلمة «أهل البيت» و خصّهم بالخطاب و قال: «عنكم أهل البيت» أي لا غيركم.

و بالجملة فتخصيص تعلّق الإرادة بجمع خاص على الوجه الوارد في الآية، يمنع من تفسير الإرادة بالإرادة التشريعية التي عمّت الأمّة جميعاً.

نعم لا يتوهم من ذلك انّ أهل البيت خارجون عن إطار التشريع، بل التشريع في كل المجالات يعمّهم كما يعم غيرهم، و لكن هنا إرادة تكوينية مختصة بهم.

2. انّ العناية البارزة في الآية المباركة أقوى شاهد على أنّ المقصود بالإرادة، الإرادة التكوينية لا التشريعية، لوضوح أنّ تعلّق الإرادة التشريعية بأهل البيت لا يحتاج إلى العناية في الآية، و إليك بيان تلك العناية:

______________________________

(1). المائدة: 6.

اهل البيت عليهم

السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 85

أ. ابتدأ سبحانه كلامه بلفظ الحصر، و لا معنى له إذا كانت الإرادة تشريعية، لأنّها غير محصورة بأُناس مخصوصين.

ب. عيّن تعالى متعلّق إرادته بصورة الاختصاص، فقال: «أَهْلَ الْبَيْتِ» أي أخصّكم أهل البيت.

ج. قد بيّن متعلّق إرادته بالتأكيد، و قال بعد قوله: «لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ... وَ يُطَهِّرَكُمْ».

د. قد أكّده أيضاً بالإتيان بمصدره بعد الفعل، و قال: «وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ليكون أوفى في التأكيد.

ه. انّه سبحانه أتى بالمصدر نكرة، ليدل على الإكبار و الإعجاب، أي تطهيراً عظيماً معجباً.

و. انّ الآية في مقام المدح و الثناء، فلو كانت الإرادة إرادة تشريعية لما ناسب الثناء و المدح.

و على الجملة: العناية البارزة في الآية تدل بوضوح على أنّ الإرادة هناك غير الإرادة العامة المتعلّقة لكل إنسان حاضر أو باد، و لأجل ذلك فإنّ المحقّقين من المفسرين يفسرون الإرادة في المقام بالإرادة التكوينية و يجيبون عن كل سؤال يطرح عنها.

قال الشيخ الطبرسي: إنّ لفظة «إِنَّما» محقّقة لما أُثبت بعدها، نافية لما لم يثبت، فإنّ قول القائل: إنّما لك عندي درهم، و إنّما في الدار زيد، يقتضي انّه ليس عنده سوى الدرهم و ليس في الدار سوى زيد، و على هذا فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الإرادة المحضة التشريعية، أو الإرادة التي يتبعها التطهير و إذهاب الرجس؛ و لا يجوز الوجه الأوّل، لأنّ اللَّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الإرادة المطلقة، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق، و لأنّ هذا القول يقتضي

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 86

المدح و التعظيم لهم بغير شك و شبهة و لا مدح في الإرادة المجرّدة، فثبت

الوجه الثاني، و في ثبوته ثبوت عصمة المعنيين بالآية من جميع القبائح. «1»

و قال السيد ابن معصوم المدني في تقريب دلالة الآية على عصمة المعنيّين بالآية: إنّ لفظة «إِنَّما» محقّقة لما أُثبت بعدها، نافية لما لم يثبت، فإنّ قول القائل إنّما لك عندي درهم، و إنّما في الدار زيد، يقتضي انّه ليس له عنده سوى درهم و ليس في الدار سوى زيد، إذا تقرر هذا فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الإرادة المطلقة أو الإرادة التي يتبعها التطهير و إذهاب الرجس، فلا يجوز الوجه الأوّل، لأنّ اللَّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الإرادة المطلقة، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق. و هذا القول يقتضي المدح و التعظيم لهم بغير شك و لا شبهة و لا مدح في الإرادة المجرّدة، فثبت الوجه الثاني، و في ثبوته ثبوت عصمة المعنيّين بالآية من جميع القبائح، لأنّ اللام في الرجس للجنس، و نفي الماهية نفي لكل جزئياتها، و قد علمنا أنّ من عدا ما ذكرناه من أهل البيت حين نزول الآية غير مقطوع على عصمته، فثبت أنّ الآية مختصة بهم، لبطلان تعلّقها بغيرهم. و ما اعتمدوا عليه من أنّ صدر الآية و ما بعدها في الأزواج، فجوابه انّ من عرف عادة العرب العرباء في كلامهم و اسلوب البلغاء و الفصحاء في خطابهم لا يذهب عليه انّ هذا من باب الاستطراد، و هو خروج المتكلم من غرضه الأوّل إلى غرض آخر ثمّ عوده إلى غرضه الأوّل، و اتفقت كلمة أهل البيان على أنّ ذلك من محاسن البديع في الكلام نثراً و نظماً و القرآن المجيد و خطب البلغاء و أشعارهم مملوءة من ذلك. «2»

______________________________

(1).

مجمع البيان: 4/ 357 تفسير سورة الأحزاب؛ و قريب منه ما أفاده الشيخ الطوسي في تبيانه: 8/ 340.

(2). رياض السالكين: 497، الروضة السابعة و الأربعون، و قد نقلنا عن الطبرسي ما يقرب منه.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 87

أسئلة و أجوبة

اشارة

قد تعرفت على مفاد الآية: و اتضح لديك انّ القرائن الداخلية في نفس الآية تدل بوضوح على أنّ الإرادة الواردة في الآية إرادة تكوينية تعلّقت بطهارة أهل البيت و إذهاب الرجس عنهم، و يكون وزان الإرادة فيها وزان الإرادة الواردة في الآيات التالية و نظائرها:

1. «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ». «1»

2. «وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ». «2»

3. «وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ». «3»

و عند ذلك تطرح في المقام أسئلة لا بد من الإجابة عليها:

السؤال الأوّل: هل الإرادة التشريعيّة تتعلَّق بفعل الغير؟

هل يصح تعريف الإرادة التشريعية بالإرادة المتعلّقة بفعل الغير، كتكليفه سبحانه عباده بالصلاة و الزكاة، و تكليف الآمر البشري غيره بالسقي و الرعي؟ و إذا كانت الإرادة التشريعية عبارة عمّا ذكر، فتكون الإرادة التكوينية عبارة عن تعلّقها بفعل نفس المريد كتعلّق إرادته سبحانه بخلق السماوات و الأرض، و إرادة غيره بالأكل و الشرب؟

الجواب: انّ تعريف الإرادة التكوينية بما ذكر و إن كان صحيحاً، لكن

______________________________

(1). القصص: 5.

(2). الأنفال: 7.

(3). المائدة: 41.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 88

تعريف التشريعية منها بتعلّقها بفعل الغير غير صحيح قطعاً، و ذلك لأنّ الإرادة لا تتعلّق إلّا بأمر اختياري و هو فعل المريد، و أمّا فعل الشخص الآخر، فهو بما انّه خارج عن اختيار المريد، لا تتعلّق به إرادته، و كيف يصح لشخص أن يريد صدور فعل من الغير مع أنّ صدوره منه تابع لإرادة ذلك الغير و ليس تابعاً لإرادة المريد

الآخر؟

و إن شئت قلت: إنّ زمام فعل الفاعل المختار بيد الفاعل المباشر، فلو أراده لقام به. و لو لم يرده لما قام به و ليس زمامه بيد الآمر، حتى يريده منه جداً و لا تصيّره إرادة الآمر مسلوب الاختيار و لا تجعله مضطراً مقهوراً مسخراً في مقابل إرادة الآمر، لأنّ المفروض انّ الفاعل بعد، فاعل مختار، و من هذا شأنه لا تتعلّق بفعله، إرادة الغير الجدية، لأنّ معنى تعلّقها بفعل الغير أنّه في اختيار المريد و متناوله، و يوجد بإرادته و ينتفي بانتفائه، مع أنّه ليس كذلك و إنّما يوجد بإرادة الفاعل المباشر و ينتفي بانتفاء إرادته، و لا ملازمة بين إرادة الآمر و إرادة المأمور و لأجل ذلك كثيراً ما يعصى و يخالف.

و في الجملة: ليست ماهية الإرادة التشريعية أمراً يخالف ماهية الإرادة التكوينية، بل الكل من واد واحد تختلفان في الاسم و تتحدان في الماهية، و الجميع يتعلّق بفعل نفس المريد، غير انّ المراد فيهما مختلف حسب الاعتبار، و هو في التكوينية، عبارة عن الفعل الخارجي الصادر عنه مباشرة، كالتكوين و التصنيع، سواء كان المريد هو اللَّه سبحانه أم أحد عباده القادرين على الأفعال الخارجية باقداره، و لكنّه في التشريعية عبارة عن نفس الطلب و الإنشاء بالإيماء و الإشارة و اللفظ و الكتابة، و هو أيضاً فعل المريد الواقع في اختياره، و أمّا قيام الغير بالمطلوب فهو من غايات إرادة المريد و مقاصده و أغراضه، و هي تترتب تارة،

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 89

و تنفك أُخرى، فلو تكونت في نفسه مبادئ الخوف و الرجال لقام به و إلّا فلا يقوم به و لا تتحقّق الغاية لكن تتم عليه

الحجة.

و على ذلك فما اشتهر على الألسن من أنّ الإرادة التشريعية عبارة عن تعلّق إرادة الآمر بفعل الغير تسامح في التعبير و من باب إقامة الغاية مكان ذيها.

و الذي يوضح ذلك: انّ إرادته سبحانه لا تنفك عن مراده، و من المستحيل أن يخاطب شيئاً ب «كن» و لا يتحقّق، و لسعة قدرته و عموميتها، قال سبحانه: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «1»، فلو تعلّقت إرادته بفعل العباد كالصلاة و الصوم لما انفك عنهم و لو تعلّقت على إيمانهم و هدايتهم، لما وجد على أديم الأرض عاص و متمرد، قال سبحانه: «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ» «2»، و تكون نتيجة ذلك كونهم مجبورين في قبول الهداية، و مضطرين إلى الطاعة، فلا يقام لمثلها وزن و لا قيمة، و هذا يعرب بوضوح عن أنّ متعلّق إرادته في مجال التشريع هو فعل نفس المشرع و هو التشريع، و هو بعد غير منفك عن إرادته، موجود معها.

السؤال الثاني: هل الإرادة التكوينيّة توجب سلب الاختيار؟
اشارة

لو كانت الإرادة في المقام إرادة تكوينية فبما انّ إرادته سبحانه لا تتخلّف عن المراد فلازمها هنا كون طهارتهم و ابتعادهم عن الرجس أمراً جبرياً لا يتخلّف، و هذا لا يعد فضيلة و ثناء لأهل البيت مع أنّ الآية بصدد الثناء عليهم.

و قد أجاب عنه المحقّقون على وجه الإجمال و قالوا: إنّ القدرة و التمكّن من فعل المعصية ثابت للمعصوم، و العصمة مانع شرعي، و لا منافاة بين عدم القدرة الشرعية و القدرة الذاتية، و هذا الجواب بإجماله كاف لأهل التحقيق و لكن يحتاج

______________________________

(1). يس: 82.

(2). الأنعام: 35.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 90

إلى إيضاح، فنقول:

إنّ

مشكلة الجبر تنحل بالتعرّف على كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد، و الإمعان في هذا الموضوع يكفي لحل بعض المشاكل المطروحة في مسألة الجبر و الاختيار.

و بعبارة أُخرى: هل تعلّقت إرادته سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم باختيارهم و إرادتهم، أم تعلّقت بصدورها منهم مطلقاً و إن لم تكن مسبوقة باختيارهم و إرادتهم، فالجبر لازم القول الثاني، و الاختيار نتيجة القول الأوّل، و الحق هو القول الأوّل فنقول في توضيحه:

إنَّ لازم التوحيد في الفاعلية و الخالقية- كما هو منصوص الآيات و مقتضى البراهين- هو انّ كل ما يقع في صفحة الوجود سواء كان فعلًا للعباد أم لغيرهم لا يخرج عن إطار الإرادة التكوينية للَّه سبحانه، و لا يقع شي ء في الكون إلّا بإرادته و إذنه سبحانه، قال تعالى:

«ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ» «1»، و هذه الآية و غيرها تدلّ بصراحة على أنّ أفعال العباد حلالها و حرامها غير خارجة عن إطار الإرادة التكوينية للَّه و إلّا لزم أن يكون الإنسان أو الفواعل الاخر مستقلة في الفعل و التأثير، و هو يستلزم الاستقلال في الذات، و هو عين الشرك و نفي التوحيد في الأفعال و الخالقية.

و مع ذلك فليس العباد مجبورين في أفعالهم و تصرفاتهم، لأنّ إرادته سبحانه و إن تعلّقت بأفعالهم لكن إرادته سبحانه متعلّقة بأفعالهم بتوسط إرادتهم الخاصة و في طول مشيئتهم، و بذلك صح أن يقال لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين.

______________________________

(1). الحشر: 5.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 91

و على ذلك فاللَّه سبحانه و إن أراد طهارتهم عن الذنوب بالإرادة التكوينية و لكن تلك الإرادة تعلّقت بها، لما علم سبحانه

انّهم بما زودوا من إمكانات ذاتية و مواهب مكتسبة نتيجة تربيتهم وفق مبادئ الإسلام، لا يريدون إلّا ما شرّع لهم سبحانه من أحكام، فهم لا يشاءون إلّا ما يشاء اللَّه، و عند ذلك صح له سبحانه أن يخبر بأنّه أراد تكويناً إذهاب الرجس عنهم، لأنّهم عليهم السلام ما داموا لا يريدون لأنفسهم إلّا الجري على وفق الشرع لا يفاض عليهم إلّا هذا النوع من الوصف.

و حصيلة الكلام: انّ مبنى الإشكال هو الغفلة عن كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد حيث توهّم المستشكل:

أوّلًا: انّ أفعال العباد خارجة عن إطار الإرادة التكوينية للَّه سبحانه، و غفل عن أنّ هذا النوع من الاعتقاد يساوق الشرك و يصادم التوحيد.

و ثانياً: انّ سبق الإرادة التكوينية على أفعال العباد يستلزم سلب الاختيار عنهم، و غفل عن أنّ إرادته سبحانه انّما تتعلّق بتوسط إرادة العباد و اختيارهم، فهم إذا أرادوا لأنفسهم شيئاً، فاللَّه سبحانه يريد ذلك الشي ء لهم تكويناً، و ليس في ذلك أيّة رائحة للجبر، بل هو الأمر بين الأمرين.

و عندئذ يكون المراد من تطهيرهم- بعد تجهيزهم بإدراك الحق في الاعتقاد و العمل، و إعطائهم البصيرة الكاملة لمعرفة الحق في مجال الاعتقاد و العمل- تعلّق إرادته التكوينية بطهارتهم من الذنوب، لأجل تعلّق إرادتهم بذلك، فقد تعلّقت إرادته سبحانه بتنزيههم عن طريق إرادتهم و اختيارهم، و أين هذا من الجبر؟

تفسير آخر للإرادة بالتكوينية

ما ذكرناه في كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد، جواب عام سار

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 92

في جميع الموارد و رافع للإشكال في مجال الجبر، و انّ من أعضل الموارد في الجبر و الاختيار، هي تحليل كيفية تعلّق إرادته بأفعال العباد و انّه: هل يوجب الجبر و

يسلب الاختيار، باعتبار انّ إرادته لا تنفك عن المراد، أم لا؟ لأنّ إرادته تعلّقت بصدور أفعالهم عن أنفسهم عن مبادئها المكونة فيهم و هي إرادتهم و اختيارهم، فلو صدرت عنهم بلا هذه الخصوصية لزم انفكاك إرادته عن مراده.

و لمّا استشكل هذا المطلب على بعضهم انصرفوا إلى إخراج أفعال العباد عن إطار إرادته سبحانه، و انّما تتعلّق بالكائنات دون أفعالهم، و هو كما ترى، لأنّه يستلزم تحقّق شي ء في صحيفة الوجود بغير إذنه و إرادته، مع أنّ مقتضى التوحيد في الخالقية انتهاء كل ما في عالم الإمكان إلى وجوده و خالقيته، و بالتالي إلى إرادته، فإخراج أفعال العباد عن مجال إرادة اللَّه، يخالف الاسس التوحيدية التي جاء بها القرآن و دعمها العقل.

إلّا أنّ في مسألة العصمة و كيفية تعلّق إرادته تعالى بعصمة المعصوم تحليلًا آخر يختص بهذا المقام و لا يتعدّاه.

و حاصل هذا التحليل يتوقف على معرفة كيفية العصمة و حقيقتها، فنقول:

إنّ حقيقة العصمة ترجع إلى الدرجة العليا من التقوى، بمعنى انّ التقوى إذا بلغت قمتها تعصم الإنسان عن اقتراف الذنب و جميع القبائح.

و إن شئت قلت: العصمة نتيجة العلم القطعي الثابت و العرفان بعواقب المعصية علماً يصد الإنسان عن اجتراح المعاصي و اقتراف المآثم، كالإنسان الواقف أمام الأسلاك التي يجري فيها التيار الكهربائي، فانّه لا يقدم بنفسه على إمساكها.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 93

و بعبارة ثالثة: العصمة: الاستشعار بعظمة الرب و كماله و جلاله استشعاراً منقطع النظير حيث يحدث في المستشعر التفاني في الحق، و العشق لجماله، و كماله، بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً.

فإذا كانت حقيقة العصمة نفس هذه الحقائق أو قريباً منها، فليس اتصاف الإنسان بهذه الحقائق موجباً للجبر

و سالباً للاختيار، بل المعصوم مع هذه المواهب الإلهية قادر على اقتراف المعاصي و ارتكاب الخطايا غير انّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى، و العلم القطعي بآثار المعاصي و الاستشعار المنقطع النظير بعظمة الخالق، يختار الطاعة و ترك المعصية مع القدرة على خلاف ذلك، فحاله كالوالد العطوف لا يقدم على قتل ولده و لو أُعطيت له الكنوز الكثيرة.

إنّ هذه الحقائق الموهوبة للمعصوم أشبه بحبل يلقى إلى الغارق في البحر و الساقط في البئر حتى يتمسك به و ينجي نفسه، فلا شك انّ العاقل يتمسّك به دائماً و ينجي نفسه، و لكن هذا العمل لا يخالف قدرته على ترك التمسك به و إلقاء نفسه في مهاوي الهلكة.

فهذه الحقائق النفسانية الموهوبة ليست إلّا أسباباً لترك العصيان و مقتضيات للطاعات، و معدّات لقرب العبد من ربّه، و مع ذلك تتوسط بينها و بين فعل العبد من طاعة أو عصيان، إرادته و اختياره، فليست هذه المواهب عللًا تامة لتوجه العبد إلى جانب واحد و انحيازه عن جانب آخر، بل هي أسباب مقربة و معدات للإرادة، و مع ذلك كله فاختيار المعصوم و إرادته باقيان على حالهما.

فمعنى تعلّق إرادته سبحانه بعصمتهم ليس تعلّقها بالطاعة و ترك العصيان، بل معناه تعلّق إرادته التكوينية بإفاضة هذه المواهب عليهم و جعلها في

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 94

مكامن نفوسهم و تحليتهم بهذه الحلية الإلهية، و لكن هذا الجعل و التحلية لا يهدف إلى كونهم مكتوفي الأيدي أمام التكاليف و مسوقين إلى جانب واحد، فالاشتباه في المقام حصل في تعيين ما هو المفاض من اللَّه سبحانه على هذه الشخصيات فتخيل: «انّ المفاض هو العصمة المفسرة بترك المعصية

و نفس الطاعة» غفلة عن أنّ المفاض هو هذه الكيفيات و الصفات العليا النفسانية عليهم، و هي توجد استعداداً في النفس بترك العصيان و اختيار الطاعة مع القدرة على الخلاف.

نعم: لو كان هناك جبر، فالجبر في تحليتهم بهذه المواهب و العطايا الإلهية، و لكنّهم معها مختارون في التوجه، لأي طرف أرادوا، و إن كانوا لا يشاءون إلّا الطاعة و ترك المعصية.

ما هو الوجه لتفسير الإرادة بالتشريعية؟

ثمّ إنّ الجمهور لمّا ذهبوا إلى كون الإرادة تشريعية احتالوا في توجيهها يقول المفسر المعاصر سيد قطب في هذا الصدد: إنّه سبحانه يجعل تلك الأوامر- الأوامر الواقعة قبل الآية من قوله: «وَ قَرْنَ ... وَ لا تَبَرَّجْنَ»- وسيلة لإذهاب الرجس و تطهير البيت، فالتطهير و إذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم و يحقّقونها في واقع الحياة العملي ... و يختم هذه التوجيهات لنساء النبي بمثل ما بداها، بتذكيرهنّ بعلو مكانتهنّ و امتيازهنّ على النساء بمكانتهنّ من رسول اللَّه و بما أنعم اللَّه عليهنّ فجعل بيوتهنّ مهبط القرآن و منزل الحكمة و تشرف النور و الهدى و الإيمان، و انّه لحظ عظيم يكفي التذكّر به لتحس النفس جلالة قدره و لطيف صنع اللَّه فيه و جزالة النعمة التي لا يعد لها نعيم. «1»

______________________________

(1). في ظلال القرآن، في تفسير سورة الأحزاب.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 95

و حاصل ما ذكره مبني على نزول القرآن في مورد نساء النبي، و انّه سبحانه علّل خطاباته لهنّ بأنّه يريد من هذه التكاليف إذهاب الرجس عنهنّ، و يكون المعنى انّ التشديد في التكاليف و تضعيف الثواب و العقاب ليس لانتفاع اللَّه سبحانه به، بل لإذهاب الرجس عنكنّ و تطهيركنّ.

و لا يخفى انّ ما ورد

في الآيات من الأحكام ليست أحكاماً خاصة بنساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فهذا قوله سبحانه قبل آية التطهير: «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ». «1»

و هذا قوله سبحانه بعد الآية: «وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ ...» كلّها أحكام عامة لنساء المسلمين، فاللَّه سبحانه بهذه التكاليف يريد أن يطهر الكل و إذهاب الرجس عن عموم النساء، لا عن زوجات النبي خاصة، و عندئذ لا وجه لتخصيصهنّ بالخطاب بالعناية التي عرفت.

و إنّما ذهب بعض الجمهور إلى ما ذهب، لأجل انّهم تصوّروا نزول الآية في حق نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فاحتالوا لتفسير الإرادة بما ذكره سيد قطب و نظراؤه، و انّما ذهبوا إلى ذلك بزعمهم اتصال الآية بما قبلها من الآيات، مع أنّه سيوافيك انّ الآية آية التطهير آية مستقلة لا صلة لها بما قبلها و لا ما بعدها، و انّما وضعت في هذا الموضع لمصلحة خاصة سنشير إليها، و الأحاديث بكثرتها البالغة ناصة على نزول الآية وحدها، و لم يرد نزولها في ضمن آيات نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و لا ذكره أحد حتى أنّ القائل باختصاص الآية بأزواج النبي ينسب القول إلى عكرمة و عروة لا إلى الرواية.

فالآية لم تكن بحسب النزول من آيات النساء، و لا متصلة بها، و ستوافيك

______________________________

(1). الأحزاب: 33.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 96

الروايات الكثيرة الواردة في هذا المضمار.

السؤال الثالث: هل العصمة الموهوبة مفخرة؟

و هذا سؤال ثالث يتردد في المقام و في غيره، و قد طرحناه

عند البحث عن العصمة على وجه الإطلاق و نطرحه هنا بشكل آخر، و هو انّ عصمة أهل البيت لو كانت أمراً موهوباً من اللَّه سبحانه كيف يمكن أن تعد مفخرة لأهله؟

و الإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الوقوف على معنى العصمة الموهوبة لهم، و قد عرفت أنّ المراد من هبتها لهم هو إعطاء المقتضيات و المعدات لهم التي لا تسلب الاختيار عنهم و هم بعد قادرون على الطاعة و العصيان و النقض و الإبرام، و السائل تخيل انّ العصمة الموهوبة هي نفس ترك العصيان و المخالفة، فزعم أنّ شيئاً مثلها لا يعد فخراً و لا يوجب ثناءً، و قد أوضحنا هذا في السؤال السابق، فراجع.

السؤال الرابع: هل الآية تدل على فعلية التطهير؟

و ربّما يقال: إنّ أقصى ما تدل عليه الآية هو إخباره سبحانه عن أنّه يريد إذهاب الرجس عن أهل البيت و تطهيرهم، و ليس في الآية ما يدل على تحقّق هذه الإرادة بالفعل، و انّها صدرت منه سبحانه، مع أنّ القائلين بعصمة أهل البيت يذهبون بدلالتها على اتصافهم بالعصمة، و في هذا الصدد ينقل الشيخ زين الدين البياضي العاملي إشكالًا عن المخالف و يقول: «يُرِيدُ» لفظ مستقبل، فلا دليل على وقوعه. «1»

______________________________

(1). الصراط المستقيم: 1/ 184.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 97

و لا يخفى أنّ هذا الإشكال نشأ من اتخاذ موقف خاص بالنسبة إلى أهل البيت بشهادة انّ هذه اللفظة وردت في كثير من الآيات مع أنّه ما خطر ببال أحد مثل هذا الإشكال قال سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» «1»، و قال: «وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ» «2»، و قال:

«يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ» «3»، و قال: «وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» «4»،

أضف إلى ذلك انّ هناك قرينة واضحة على تحقّق الإرادة بشهادة انّ الآية في مقام المدح و الثناء.

و أمّا الإتيان بصيغة المستقبل و العدول عن الماضي، فهو لأجل ظهور فعل المستقبل في الدوام، و هو سبحانه يريد إفادة دوام هذه الإرادة و استمرارها مدى الأيام و السنين.

السؤال الخامس: هل الإذهاب يستلزم الثبوت؟

خلاصة هذا السؤال ترجع إلى أنّ الإذهاب يتعلّق بشي ء موجود، فعلى ذلك يستلزم أن يكون هناك رجس موجود أذهبه اللَّه و طهرهم منه، و هذا يضاد مقالة أهل العصمة، و لكن السائل أو المعترض غفل عن أنّ هذه التراكيب كما تستعمل في إذهاب الشي ء الموجود، كذلك تستعمل فيما إذا لم يكن موجوداً، و لكن كانت هناك مقتضيات و معدات له حسب الطبيعة الإنسانية و إن لم يكن موجوداً بالفعل كقول الإنسان لغيره: أذهبَ اللَّه عنك كل مرض، و لم يكن حاصلًا له، و لكن كانت بعض المعدات للمرض موجودة.

______________________________

(1). النساء: 26.

(2). النساء: 27.

(3). النساء: 28.

(4). النساء: 26.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 98

و في المقام نزيد توضيحاً: انّ الإنسان حسب الطبيعة الأوّلية مجهّز بالغرائز و الميول العادية المتجاوزة عن الحدود، و لم يشذ أهل البيت عنها و لم تكن لهم في العالم الجسماني خلقة خاصة بهم، فكانت هناك أرضية صالحة للتعدي و الطغيان، فلمّا جهّزوا بهذه الغرائز أوّلًا، ثمّ بالعصمة- بالمعنى الذي عرفت- ثانياً صح أن يقال: إنّه سبحانه أذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً من العصيان.

و هذه الأسئلة و أشباهُها لا تحتاج إلى البسط في المقال، و لأجل ذلك نطوي الكلام عنها.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 99

من سمات أهل البيت عليهم السلام

2 المحبّة في قلوب المؤمنين

إنّ الإيمان باللَّه و العمل الصالح يُورث محبَّة في قلوب الناس، إذ للإيمان أثر بالغ في القيام بحقوق اللَّه أوّلًا، و حقوق الناس ثانياً، لا سيَّما إذا كان العمل الصالح نافعاً لهم، و لذلك استقطب المؤمنون حُبَّ النّاس، لدورهم الفعّال في إصلاح المجتمع الإنساني. و هذا أمر ملموس لكلّ النّاس، و إليه يشير

قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا». «1»

و بما أنّ الأنبياء بلغوا قمَّة الإيمان كما بلغوا في العمل الصالح ذروته، نرى أنّ لهم منزلة كبيرة في قلوب الناس لا يضاهيها شي ء، لأنّهم صرفوا أعمارهم في سبيل إصلاح أُمور الناس و إرشادهم إلى ما فيه الخير و الرشاد. هذا حال الأنبياء و يعقبهم الأوصياء و الأولياء و الصلحاء.

أخرج أبو إسحاق السعدوي في تفسيره باسناده عن البراء بن عازب، قال:

______________________________

(1). مريم: 96

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 100

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن 149

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لعلي: «اللّهم اجعل لي عندك عهداً، و اجعل لي في صدور المؤمنين مودة»، فأنزل اللَّه تعالى الآية المذكورة آنفا.

إنّ أهل البيت عليهم السلام لأجل انتسابهم إلى البيت النبوي الرفيع حازوا مودة الناس و احترامهم بكلّ وجودهم. و قد أُشير إلى ذلك في آثارهم و كلماتهم.

روى معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ حبّ علي عليه السلام قُذف في قلوب المؤمنين، فلا يُحبّه إلّا مؤمن و لا يبغضه إلّا منافق، و انّ حبّ الحسن و الحسين عليهما السلام قذف في قلوب المؤمنين و المنافقين و الكافرين فلا ترى لهم ذامّاً»، و دعا النبي صلى الله عليه و آله و سلم الحسن و الحسين عليهما السلام قرب موته فقرّبهما و شمّهما و جعل يرشفهما وعيناه تهملان. «1»

و قد تعلقت مشيئته سبحانه على إلقاء محبتهم في قلوب المؤمنين الصالحين، حتى كانت الصحابة يميّزون المؤمن عن المنافق بحبّ علي أو بغضه.

روى

أبو سعيد الخدري، قال: إن كنّا نعرف المنافقين نحن معشرَ الأنصار ببغضهم علىّ بن أبي طالب عليه السلام. «2»

و قد تضافر عن علي أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال: «و اللَّه فلق الحبة و برأ النسمة، انّه لعهد النبي الأُمّي إليّ: انّه لا يحبني إلّا مؤمن و لا يبغضني إلّا منافق». «3»

و اللّه انّه ممّا عهد إليَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم انَّه لا

______________________________

(1). المناقب لابن شهرآشوب: 3/ 383؛ سفينة البحار: مادة حبب: 1/ 492.

(2). سنن الترمذي: 5/ 635 برقم 3717؛ حلية الأولياء: 6/ 295.

(3). أسنى المطالب: 54، تحقيق محمد هادي الأميني.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 101

يبغضني إلّا منافق و لا يُحبّني إلّا مؤمن. «1»

و قد أعرب عن ذلك الإمام علي بن الحسين عليهما السلام في خطبته في جامع دمشق، عند ما صعد المنبر و عرَّف نفسه فحمد اللَّه و أثنى عليه، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون، و أوجل منها القلوب، ثمّ قال:

«أيّها الناس أُعطينا ستّاً و فُضِّلنا بسبع، أعطينا: العلم، و الحلم، و السماحة، و الفصاحة، و الشجاعة، و المحبة في قلوب المؤمنين». «2»

و لا عجب في أنّه تبارك و تعالى سمّاهم كوثراً أي الخير الكثير، و قال: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ...» قال الرازي: الكوثر أولاده، لأنّ هذه السورة إنّما نزلت على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد، فالمعنى انّه يعطيه نسلًا يبقون على مرّ الزمان فانظر كم قتل من أهل البيت و العالم ممتلئ منهم و لم يبق من بني أُمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثمّ انظر كم كان فيها من الأكابر من العلماء كالباقر و الصادق و الكاظم و الرضا عليهم

السلام. «3»

إنّ محبة النبي صلى الله عليه و آله و سلم للحسين عليه السلام لم تكن محبة نابعة من حبه لنسَبه بل كان واقفاً على ما يبلغ إليه ولده الحسين عليه السلام في الفضل و الكمال و الشهادة في سبيله، و نجاة الأُمّة من مخالب الظلم، و الثورة على الظلم و الطغيان و هناك كلام للعلّامة المجلسي يقول:

إنّ محبة المقربين لأولادهم و أقربائهم و أحبّائهم ليست من جهة الدواعي

______________________________

(1). بحار الأنوار: 45/ 138.

(2). تفسير الفخر الرازي: 32/ 124.

(3). تفسير الفخر الرازي: 32/ 124.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 102

النفسانية و الشهوات البشرية، بل تجرّدوا عن جميع ذلك و أخلصوا حُبَّهم، و وُدَّهم للَّه. و حُبّهم لغير اللَّه إنّما يرجع إلى حبهم له، و لذا لم يحُبَّ يعقوب من سائر أولاده مثل ما أحب يوسف عليه السلام منهم، و لجهلهم بسبب حبه له نسبوه إلى الضلال، و قالوا: نحن عصبة، و نحن أحقّ بأن نكون محبوبين له، لأنّا أقوياء على تمشية ما يريده من أُمور الدنيا، ففرط حبّه يوسف إنّما كان لحب اللَّه تعالى له و اصطفائه إيّاه فمحبوب المحبوب محبوب. «1»

______________________________

(1). سفينة البحار: 1/ 496، مادة حبب.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 103

من سمات أهل البيت عليهم السلام

3 استجابة دعائهم عليهم السلام

الابتهال إلى اللَّه و طلب الخير منه أو طلب دفع الشرِّ و مغفرة الذنوب أمر مرغوب، يقوم به الإنسان تارة بنفسه، و أُخرى يتوصل إليه بدعاء الغير.

و استجابة الدعاء رهن خرق الحجب و الوصول إليه سبحانه، حتى يكون الدعاء مصداقاً لقوله سبحانه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» «1» و ليس كلّ دعاء مستجاباً و صاعداً إليه سبحانه، فانّ لاستجابة الدعاء

شروطاً مختلفة قلّما تجتمع في دعاء الإنسان العادي.

نعم هناك أُناس مطهرون من الذنوب يكون دعاؤهم صاعداً إلى اللَّه سبحانه و مستجاباً قطعاً و لذلك حثَّ سبحانه المسلمين على التشرّف بحضرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و طلب الاستغفار منه، قال سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً». «2»

و قال سبحانه: «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ

______________________________

(1). غافر: 60.

(2). آل عمران: 65.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 104

وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ». «1»

و لذلك طلب أبناء يعقوب أباهم أن يستغفر في حقّهم «قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ». «2»

و يظهر ممّا جرى بين النبي صلى الله عليه و آله و سلم و وفد نجران من المحاجَّة و المباهلة انّ أهل البيت إذ أمَّنوا لدعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم يُستجاب دعاءه، فقد وفد نصارى نجران على الرسول و طلبوا منه المحاجَّة، فحاجَّهم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ببرهان عقلي تشير إليه الآية المباركة: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». «3»

فقد قارعهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم بهذا البيان البليغ الذي لا يرتاب فيه ذو مرية، حيث كانوا نصارى نجران يحتجون ببنوة المسيح بولادته بلا أب فوافاهم الجواب: «بأنّ مثل المسيح كمثل آدم، إذ لم يكن للثاني أب و لا أُمّ مع أنّه لم يكن ابناً للَّه سبحانه» و أولى منه أن لا يكون المسيح ابناً له.

و لمّا أُفحموا في المحاجة

التجئوا إلى المباهلة و الملاعنة، و هي و إن كانت دائرة بين الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و رجال النصارى، لكن عمَّت الدعوة للأبناء و النساء، ليكون أولى على اطمئنان الداعي بصدق دعوته و كونه على الحقّ و ذلك لما أودع اللَّه سبحانه في قلب الإنسان من محبة الأولاد و الشفقة عليهم، فتراه يقيهم بنفسه و يركب الأهوال و الإخطار دونهم، و لذلك قدَّم سبحانه في الآية المباركة الأبناء على النساء، و قال: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ

______________________________

(1). المنافقون: 5.

(2). يوسف: 97.

(3). آل عمران: 59.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 105

عَلَى الْكاذِبِينَ».

و حيث إنّه سبحانه أتى بلفظ الأبناء بصيغة الجمع يعرب عن أنّ طرف الدعوى لم يكن النبي صلى الله عليه و آله و سلم وحده بل أبناؤه و نساؤه، و لذلك عدَّدتهم الآية نفس النبي و نساء النبي و أبناءه من بين رجال الأُمة و نسائهم و أبنائهم.

ثمّ إنّ المفسرين قد ساقوا قصة المباهلة بشكل مبسوط منهم صاحب الكشاف، قال: لما دعاهم إلى المباهلة، قالوا: حتى نرجع و ننظر، فلمّا تخالوا.

قالوا للعاقب، و كان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: و اللَّه لقد عرفتم يا معشر النصارى انّ محمّداً نبي مرسل، و لقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، و اللَّه ما باهل قوم نبياً قط، فعاش كبيرهم و لا نبت صغيرهم و لئن فعلتم لتهلكنّ، فإن أبيتم إلا الف دينكم و الإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل و انصرفوا إلى

بلادكم.

فأتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم و قد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن و فاطمة تمشى خلفه، و عليّ خلفها، و هو يقول: «إذا أنا دعوت فأمّنوا».

فقال أُسقف نجران: يا معشر النصارى! إنّي لأرى وجوهاً لو شاء اللَّه أن يُزيل جبلًا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتُهلكوا، و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك، و أن نقرّك على دينك، و نثبت على ديننا. قال: «فإذا أبيتم المباهلة، فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، و عليكم ما عليهم».

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 106

فأبوا، قال: «فانّي أُناجزكم»، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، و لكن نصالحك على أن لا تغزونا، و لا تخيفنا، و لا تردُّنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك كلّ عام ألفي حلّة، ألف في صفر، و ألف في رجب، و ثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك.

و قال: «و الذي نفسي بيده انّ الهلاك قد تدلى على أهل نجران، و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير و لاضطرم عليهم الوادي ناراً، و لاستأصل اللَّه نجران و أهله حتى الطير على رءوس الشجر، و لما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا».

و عن عائشة انّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم خرج و عليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثمّ جاء الحسين فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ علي، ثمّ قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ». «1»

الشاهد على استجابة دعائهم أمران:

أ: قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا أنا دعوت فأمّنوا، فكان

دعاء النبي يصعد بتأمينهم، و أيُّ مقام أعلى و أنبل من أن يكون دعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم صاعداً بفضل دعائهم.

ب: قول أُسقف نجران: «انّي لأرى وجوهاً لو شاء اللَّه أن يزيل جبلًا من مكانه لأزاله بها» و الضمير يرجع إلى الوجوه، أي لأزاله بدعائهم أو لأزاله بالقسم على اللَّه بهم، و قد أيَّد القول الثاني ابن البطريق في «العمدة» حيث قال: المباهلة بهم تصدق دعوى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فقد صار إبطال محاجَّة أهل نجران في القرآن الكريم بالقسم على اللَّه بهم. «2»

______________________________

(1). الزمخشري: الكشاف: 1/ 326- 327، ط عام 1367 ه.

(2). العمدة: 243.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 107

و قد تركت مباهلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته أثراً بالغاً في نفوس المسلمين، يشهد بها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما يمنعك أن تسبَّ أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلن أسبَّه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.

سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول له و قد خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول اللَّه، خلّفتني مع النساء و الصبيان؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوّة بعدي؟

و سمعته يوم خيبر، يقول: لأُعطينّ الراية رجلًا يحب اللَّه و رسوله، و

يحبّه اللَّه و رسوله.

قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي عليّاً، فأُتي به أرمد العين، فبصق في عينيه، و دفع الراية إليه، ففتح اللَّه على يديه.

و لما نزلت هذه الآية: «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ» دعا رسول اللَّه عليّاً و فاطمة و حسناً و حسيناً، و قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي. «1»

______________________________

(1). صحيح مسلم: 7/ 120، باب فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 108

من سمات أهل البيت عليهم السلام

4 ابتغاء مرضاة اللَّه تعالى

اشارة

الإنسان الكامل هو الذي لا يفعل شيئاً و لا يتركه إلّا لابتغاء مرضاة اللَّه تبارك و تعالى، فيصل في سلوكه و رياضاته الدينيَّة إلى مكان تفنى فيه كلّ الدوافع و الحوافز إلّا داع واحد و هو طلب رضى اللَّه تبارك و تعالى، فإذا بلغ هذه الدرجة فقد بلغ الذروة من الكمال الإنساني، و ربَّما يبلغ الإنسان في ظل الرضا درجة لا يتمنّى وقوع ما لم يقع، أو عدم ما وقع، و إلى ذلك المقام يشير الحكيم السبزواري بما في منظومته:

و بهجة بما قضى اللَّه رضاو ذو الرضا بما قضى ما اعترضا

اعظم باب اللَّه، الرضا وُعي «1»و خازن الجنة رضواناً دُعي

فقرا على الغنى صبورٌ ارتضى و ذان سيّان لصاحب الرضا

عن عارف عمّر سبعين سنةإن لم يقل رأساً لأشيا كائنة

يا ليت لم تقع و لا لماارتفع ممّا هو المرغوب ليته وقع

«2»

______________________________

(1). إشارة إلى ما روي انّ الرضا باب اللَّه الأعظم

(2). شرح منظومة السبزواري: 352.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 109

و ممَّن يمثل ذلك المقام في الأُمّة الإسلامية هو إمام العارفين و

سيد المتّقين علي أمير المؤمنين عليه السلام فهو في عامة مواقفه في جهاده و نضاله، و عزلته و قعوده في بيته، و في تسنّمه على منصَّة الخلافة بإصرار من الأُمّة، فهو في كلّ هذه الأحوال و المواقف، لا همّ له إلّا طلب رضوانه تعالى.

و قد صرح الإمام بذلك عند ما طلب منه تسلّم مقاليد الخلافة، فقال: «أما و الذي فلق الحبَّة و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر، و قيام الحجّة بوجود الناصر، و ما أخذ اللَّه على العلماء ألَّا يقارُّوا على كظّة ظالم، و لا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، و لسقيت آخرها بكأس أوّلها، و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنزٍ». «1»

و قد تجلت هذه الخصلة في علي عليه السلام حين مبيته في فراش النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

روى المحدّثون أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لما أراد الهجرة خلّف علي بن أبي طالب عليه السلام بمكة لقضاء ديونه و ردّ الودائع التي كانت عنده، و أمره ليلة خرج إلى الغار و قد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه فقال صلى الله عليه و آله و سلم له: يا علي اتَّشح ببردي الحضرمي الأخضر، ثمّ نم على فراشي، فانّه لا يخلص إليك منهم مكروه، إن شاء اللَّه عزّ و جلّ، ففعل ذلك عليه السلام فأوحى اللَّه عزّ و جلّ إلى جبرئيل و ميكائيل عليهما السلام إنّي قد آخيت بينكما و جعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة، فاختار كلاهما الحياة، فأوحى اللَّه عزّ و جلّ إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه و بين محمّد صلى

الله عليه و آله و سلم فنام على فراشه يفديه بنفسه و يؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه و ميكائيل عند رجليه.

______________________________

(1). نهج البلاغة: الخطبة 3.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 110

فقال جبرئيل: بخ بخ مَن مثلك يا ابن أبي طالب؟ يباهي اللَّه بك الملائكة، فأنزل اللَّه تعالى على رسوله صلى الله عليه و آله و سلم و هو متوجِّه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب عليه السلام: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ». «1»

و قد نقل غير واحد نزول الآية في حقّ علي عليه السلام.

و قال ابن عباس: أنشدني أمير المؤمنين شعراً قاله في تلك الليلة:

وقيت بنفسي من وطئ الحصاو أكرم خلق طاف بالبيت و الحجر

و بتَّ أراعي منهم ما يسوؤني و قد صبرت نفسي على القتل و الأسر

و بات رسول اللَّه في الغار آمناًو ما زال في حفظ الإله و في الستر «2»

و إلى هذه الفضيلة الرابية و غيرها يشير حسان بن ثابت في شعره عند مدح علي عليه السلام:

من ذا بخاتمه تصدَّق راكعاو أسرّها في نفسه إسرارا

من كان بات على فراش محمّدو محمد اسرى يؤم الغارا

من كان في القرآن سمّي في تسع آيات تلين غزارا «3»

محاولة طمس الحقيقة لو لا ...

إنّ عظمة هذه الفضيلة و أهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الإمام علي عليه السلام و إلى أن

______________________________

(1). البقرة: 207.

(2). شواهد التنزيل: 1/ 130؛ أُسد الغابة: 4/ 25

(3). سبط ابن الجوزى: تذكرة الخواصّ: 25، ط عام 1401 ه اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى

القرآن، ص: 111

يَصِفُوا بها علياً بالفداء و البذل و الإيثار، و إلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات، كلّما بلغ الحديث في التفسير و التاريخ إليها. «1»

إنّ هذه الحقيقة ممّا لا ينسي أبداً، فانّه من الممكن إخفاء وجه الواقع و التعتيم عليه بعض الوقت إلّا أنّه سرعان ما تمزّق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الأوهام، و تخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة و بخاصة للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام ممّا لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة و يخفي حقائقه بوضع الأكاذيب، و لكنّه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد «سمرة بن جندب» الذي أدرك عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ثمّ انضمّ بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم إلى بلاط معاوية بالشام، عمد إلى تحريف الحقائق لغاية أموال أخذها من الجهاز الأموي، الحاقد على أهل البيت.

فقد طلب منه معاوية بإصرار أن يرقى المنبر و يكذّب نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام، و يقول للناس أنّها نزلت في حقّ قاتل عليّ (أي عبد الرحمن بن ملجم المرادي)، و يأخذ في مقابل هذه الأُكذوبة الكبرى، و هذا الاختلاق الفضيع الذي أهلك به دينه، مائة ألف درهم.

فلم يقبل «سمرة» بهذا المقدار و لكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ أربعمائة ألف درهم، فقبل الرجل بذلك، فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسوَّداً

______________________________

(1). الغدير: 2/ 48.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 112

بذلك صفحته السوداء أكثر من ذي قبل، و

ذلك عند ما رقى المنبر و فعل ما طلب منه معاوية. «1»

و قبل السامعون البسطاء قوله، و لم يخطر ببال أحد منهم أبداً انّ (عبد الرحمن بن ملجم) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِد بعد آنذاك. فكيف يصحّ؟!

و لكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، و لا يمكن أن تُنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد زالت حكومة معاوية و زال معها أعوانها، و اندثرت آثار الاختلاق و الافتعال الذي وقع في عهدها المشئوم، و طلعت شمس الحقيقة من وراء حُجبُ الجهل و الافتراء مرة أُخرى، و اعترف أغلبُ المفسرين الأجلّة و المحدّثين الأفاضل- في العصور و الأدوار المختلفة- بأنّ الآية المذكورة نزلت في «ليلة المبيت» في بذل علي عليه السلام و مفاداته النبي صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه.

______________________________

(1). لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/ 73.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 113

من سمات أهل البيت عليهم السلام

5 الإيثار

إنّه سبحانه تبارك و تعالى وصف الإيثار في كتابه الكريم و هو من صفات الكرام حيث يقدِّمون الغير على أنفسهم، يقول سبحانه في وصف الأنصار: «وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». «1»

كما أنّه سبحانه أمر بالوفاء بالنذر، قال سبحانه: «ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ» «2»، و قال سبحانه: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ». «3»

و في الوقت نفسه ندب إلى الخوف من

عذابه يقول سبحانه: «يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ ...». «4»، و قال سبحانه:

«وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ

______________________________

(1). الحشر: 9.

(2). البقرة: 270.

(3). الحجّ: 29.

(4). النور: 37.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 114

أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ». «1»

ما ذكرنا من الصفات الثلاث هي من أبرز الصفات التي يتحلّى بها أولياؤه سبحانه، و نجد هذه الصفات مجتمعة في أهل البيت عليهم السلام في سورة واحدة، يقول سبحانه:

«يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً* إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً». «2»

فقوله سبحانه: «وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ» إشارة إلى إيثارهم الغير على أنفسهم، و الضمير في «عَلى حُبِّهِ» يرجع إلى الطعام أي انّهم مع حبّهم للطعام قدَّموا المسكين على أنفسهم، كما أنّ قوله: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ...» إشارة إلى صلابتهم في طريق إقامة الفرائض.

ثمّ قوله: «وَ يَخافُونَ يَوْماً» إشارة إلى خوفهم من عذابه سبحانه يوم القيامة.

و قد نقل أكثر المفسرين لو لم نقل كلّهم، انّ الآيات نزلت في حقّ أهل البيت عليهم السلام.

روي عن ابن عباس (رض) انّ الحسن و الحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في أُناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي و فاطمة و فضة جارية لهما، إن شفاهما اللَّه تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا و ما معهم

______________________________

(1). الرعد: 21.

(2). الإنسان: 7- 10.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 115

شي ء، فاستقرض علي عليه

السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً و اختبزت خمسة أقراص على عددهم و وضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السلام عليكم أهل بيت محمّد مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللَّه من موائد الجنة، فآثروه و باتوا و لم يذوقوا إلّا الماء و أصبحوا صائمين.

فلمّا أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم و وقف عليهم يتيم فآثروه، و جاءهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن و الحسين عليهما السلام و دخلوا على الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا أبصرهم، و هم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، و قام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها و غارت عيناها فساءه ذلك.

فنزل جبرئيل عليه السلام و قال: خذها يا محمّد هنّأك اللَّهُ في أهل بيتك، فاقرأها السورة. «1»

روى السيوطي في الدر المنثور، و قال: اخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: «وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ» الآية، قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب و فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم. «2»

و رواه الثعلبي في تفسيره، و قال: نزلت في علي بن أبي طالب و فاطمة عليهما السلام و في جاريتهما فضة، ثمّ ذكر القصة على النحو الذي سردناه لكن بصورة مبسطة.

و قال: و ذهب محمّد بن علي صاحب الغزالي على ما ذكره الثعلبي في كتابه

______________________________

(1). الكشاف: 3/ 297؛ تفسير الفخر الرازي: 30/ 244.

(2). الدر المنثور: 8/ 371، تفسير سورة الإنسان.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن،

ص: 116

المعروف ب «البلغة» انّهم عليهم السلام نزلت عليهم السلام مائدة من السماء فأكلوا منها سبعة أيّام، و حديث المائدة و نزولها عليهم في جواب ذلك مذكور في سائر الكتب. «1»

و قد سرد سبب نزول هذه الآية في حقّ أهل البيت عليهم السلام غير واحد من أئمّة الحديث. «2»

______________________________

(1). ابن البطريق: العمدة: 2/ 407- 410.

(2). شواهد التنزيل للحافظ الحاكم الحسكاني: 2/ 405- 408؛ أُسد الغابة: 5/ 530؛ مناقب ابن المغازلي: 272.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 117

من سمات أهل البيت عليهم السلام

6 هم خير البريّة

إنّ خير الناس في منطق القرآن الكريم من آمن باللَّه و رسوله و عرف خالقه و منعمه، و قد قال سبحانه: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ». «1»

و هذه الصفات المذكورة في الآية تجدها، متمثلة في أهل البيت عليهم السلام شهد على ذلك سيرتهم، و لذلك صاروا خير البرية.

أخرج الطبري في تفسير قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ». «2» باسناده عن أبي الجارود، عن محمد بن علي، قال: قال

______________________________

(1). البقرة: 177.

(2). البيّنة: 7.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 118

النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أنت يا علي و شيعتك». «1»

روى الخوارزمي عن

جابر قال: كنّا عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأقبل علي بن أبي طالب، فقال رسول اللَّه: «قد أتاكم أخي» ثمّ التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثمّ قال: «و الذي نفسي بيده إنّ هذا و شيعته هم الفائزون يوم القيامة»، ثمّ قال: «إنّه أوّلكم إيماناً معي، و أوفاكم بعهد اللَّه، و أقومكم بأمر اللَّه، و أعدلكم في الرعيّة، و أقسمكم بالسويّة، و أعظمكم عند اللَّه مزيّة»، قال: و في ذلك الوقت نزلت فيه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ»، و كان أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا أقبل عليّ، قالوا: قد جاء خير البرية. «2»

و روى أيضاً من طريق الحافظ ابن مردويه، عن يزيد بن شراحيل الأنصاري، كاتب علي عليه السلام، قال سمعت عليّاً، يقول: «حدَّثني رسول اللَّه و أنا مُسْنده إلى صدري، فقال: «أي عليّ»!

أ لم تسمع قول اللَّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ»؟ أنت و شيعتك، و موعدي و موعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تُدعون غرّاً محجّلين. «3»

و أرسل ابن الصباغ المالكي في فصوله عن ابن عباس، قال: لمّا نزلت هذه الآية، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام: «أنت و شيعتك تأتي يوم القيامة، أنت و هم راضين مرضيين، و يأتي أعداؤك غضاباً مقمحين». «4»

______________________________

(1). تفسير الطبري: 30/ 146.

(2). المناقب للخوارزمي: 66.

(3). المناقب للخوارزمي: 178.

(4). الفصول: 122.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 119

من سمات أهل البيت عليهم السلام

7 أهل البيت عليهم السلام ورثة الكتاب

اختلفت الأُمّة الإسلامية بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أمر الخلافة- و

إن كان اللائق بها عدم الاختلاف فيها للنصوص الصحيحة الصادرة عنه في مختلف الموارد- و قد استقصينا البحث فيها في مبحث الإمامة من هذا الجزء.

و الذي نركِّز عليه في هذا البحث هو تبيين المرجع العلمي بعد رحيله- سواء أ كانت الخلافة لمن نصَّ عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم في يوم الغدير أو من اختاره بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدة-.

و المراد من المرجع العلمي مَن ترجع إليه الأُمّة في أُصول الدين و فروعه، و يصدر عنهم في تفسير القرآن و تبيين غوامضه، و يستفهم منه أسئلة الحوادث المستجدَّة.

يقول سبحانه: «وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ* ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 120

الْكَبِيرُ». «1»

المراد من الكتاب في قوله «أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ» هو القرآن بلا شكّ و كونه حقّاً لأجل براهين قطعية تُثبت انّه منزل من ربّه فانّ قوانينه تنسجم مع الفطرة الإنسانية و القصص الواردة فيها مصونة من الأساطير، و المجموع خالٍ من التناقض إلى غير ذلك من القرائن الدالة على أنّه حقّ. و مع ذلك هو مصدِّق لما بين يدي الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من الكتاب السماوي.

هذا هو مفاد الآية الأُولى.

ثمّ إنّه سبحانه يقول: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ» المراد من الكتاب هو القرآن: لأنَّ اللّام للعهد الذكري أي الكتاب المذكور في الآية المتقدمة، و الوراثة عبارة عمّا يستحصله الإنسان بلا مشقة و جهد، و الوارث لهذا الكتاب هم الذين أشير

إليهم بقوله: «الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا»، فلو قلنا بأنّ «من» للتبيين فيكون الوارث هو الأُمة الإسلامية جميعاً، و لو قلنا: إنّ «مِن» للتبعيض فيكون الوارث جماعة خاصة ورثوا الكتاب.

و الظاهر هو التبيين كما في قولنا: «وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى . «2»

و لكن الأُمة الإسلامية صاروا على أقسام ثلاثة:

أ: ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الَّذين قصّروا في وظيفتهم في حفظ الكتاب و العمل بأحكامه، و في الحقيقة ظلموا أنفسهم، فلذلك صاروا ظالمين لأنفسهم.

ب: مُقْتَصِدٌ: الذين أدُّوا وظيفتهم في الحفظ و العمل لكن لا بنحو كامل

______________________________

(1). فاطر: 31- 32.

(2). النمل: 59.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 121

بل قصّروا شيئاً فيهما.

ج: سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ هم الجماعة المثلى أدّوا وظائفهم بالحفظ و العمل على النحو الأتم، فلذلك سبقوا إلى الخيرات كما يقول سبحانه: «سابقوا إلى الخيرات بإذن ربهم».

و على هذا ورثة الكتاب في الحقيقة هم الطائفة الثالثة أعني الذين سبقوا بالخيرات.

و أمّا ما هو المراد من الطائفة الثالثة فيتكفَّل الحديث لبيان ملامحها.

روى الكليني عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير الآية انّه قال: «السابق بالخيرات الإمام، و المقتصد العارف بالإمام، و الظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام».

و روي نفس الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام.

و هناك روايات أُخرى تؤيد المضمون فمن أراد فليراجع. «1»

ثمّ إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد أوضح ورثة الكتاب في حديثه المعروف الذي اتّفق على نقله أصحاب الصحاح و المسانيد.

أخرج مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم رضى الله عنه، قال: قام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يوماً فينا خطيباً، بماء يدعى خماً بين مكة و المدينة، فحمد اللَّه تعالى، و

أثنى عليه و وعظ و ذكّر، ثمّ قال:

«أمّا بعد: ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب اللَّه فيه الهدى و النور، فخذوا بكتاب اللَّه استمسكوا به»، فحثّ على كتاب اللَّه و رغّب فيه؛ ثمّ قال: «و أهل بيتي، أذكِّركم اللَّه في أهل

______________________________

(1). البرهان في تفسير القرآن: 3/ 363.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 122

بيتي، أذكِّركم اللَّه في أهل بيتي، أذكِّركم اللَّه في أهل بيتي». «1»

هذا ما أخرجه مسلم، و من الواضح انّه لم ينقل على وجه دقيق و ذلك؛ لأنّ مقتضى قوله: أوّلهما، أن يقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثانيهما:

أهل بيتي مع أنّه لم يذكر كلمة «ثانيهما».

و قد رواها الإمام أحمد بصورة أفضل ممّا سبق كما رواه النسائي في فضائل الصحابة كذلك.

أخرج أحمد في مسنده عن أبي الطفيل، عن زيد بن الأرقم، قال: لما رجع رسول اللَّه عن حجّة الوداع و نزل غدير خم، أمر بدوحات فقمن، ثمّ قال: «كأنّي قد دعيت فأجبت: إنّي قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللَّه و عترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

ثمّ قال: «إنّ اللَّه مولاي، و أنا ولي كلّ مؤمن»، ثمّ أخذ بيد عليّ، فقال: «من كنت وليه فهذا وليه، اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه». «2»

هذه إلمامة سريعة بحديث الثقلين، و من أراد أن يقف على أسانيده و متونه فعليه أن يرجع إلى الكتب المؤلفة حوله، و أبسط كتاب في هذا الموضوع ما ألفه السيد المجاهد مير حامد حسين حيث خص أجزاءً من

كتابه «العبقات» لبيان تفاصيل أسانيده و مضمونه و قد طبع ما يخصَّ بالحديث في ستَّة أجزاء.

كما بسط الكلام في أسانيده و أسانيده غيره سيد مشايخنا البروجردي (1292- 1380 ه) في كتابه «جامع أحاديث الشيعة»، فقال بعد استيفاء

______________________________

(1). صحيح مسلم: 4/ 1873 برقم 2408، ط عبد الباقي.

(2). مسند أحمد: 1/ 118.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 123

نصوص الحديث و أسانيده: و قد ظهر ممّا ذكرنا انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أوجب على الأُمّة قاطبة التمسُّك بالعترة الطيبة في الأُمور الشرعية و التكاليف الإلهية، و أكَّد وجوبه و شدَّده و أوثقه و كرَّره بكلمات عديدة و ألفاظ مختلفة بحيث لا يمكن إنكاره و لا يجوز تأويله، و قد اكتفينا بذلك و أنّ كثيراً من طرق الحديث قد ضمن مضافاً إلى المذكورات، ما يدل على حجّية أقوالهم و وجوب اتّباعهم و حرمة مخالفتهم. «1»

و الجدير بالمسلمين التركيز على مسألة تعيين المرجع العلمي بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم، إذ لا يسوغ في منطق العقل أن يترك صاحب الرسالة، الأُمّة المرحومة بلا راع، و هو يعلم أنّه صلى الله عليه و آله و سلم برحيله سوف يواجه المسلمون حوادث مستجدة و وقائع جديدة تتطلب أحكاماً غير مبيّنة في الكتاب و السنَّة، فلا محيص من وجود مرجع علمي يحُلُّ مشاكلها و يذلّل أمامها الصعاب، و قد قام صلى الله عليه و آله و سلم ببيان من يتصدّى لهذا المنصب بحديث الثقلين.

و من العجب انّ كثيراً من المسلمين يطرقون كلّ باب إلّا باب أئمّة أهل البيت عليهم السلام مع أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يذكر

شيئاً ممّا يرجع إلى غير هؤلاء، فلا أدري ما هو وجه الإقبال على غيرهم و الإعراض عنهم؟!

قال السيد شرف الدين العاملي: و الصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين متواترة، و طرقها عن بضع و عشرين صحابياً متضافرة. و قد صدع بها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في مواقف له شتى

تارة يوم غدير خم كما سمعت، و تارة يوم عرفة في حجّة الوداع، و تارة بعد انصرافه من الطائف، و مرّة على منبره في المدينة، و أُخرى في حجرته المباركة في

______________________________

(1). جامع أحاديث الشيعة: 1/ 131- 132.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 124

مرضه، و الحجرة غاصَّة بأصحابه، إذ قال: «أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، و قد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب اللَّه عزّ و جلّ و عترتي أهل بيتي»، ثمّ أخذ بيد علي فرفعها، فقال: «هذا علي مع القرآن، و القرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض».

و قد اعترف بذلك جماعة من أعلام الجمهور، حتى قال ابن حجر: ثمّ اعلم انّ لحديث التمسك بهما طرقاً كثيرة وردت عن نيف و عشرين صحابياً.

قال: و مرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، و في بعض تلك الطرق انّه قال: ذلك بحجّة الوداع بعرفة، و في أُخرى انّه قاله بالمدينة في مرضه، و قد امتلأت الحجرة بأصحابه، و في أُخرى انّه قال: ذلك بغدير خم، و في أُخرى انّه قال: ذلك لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف.

قال: و لا تنافي إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن و غيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز

و العترة الطاهرة.

و حسب أئمّة أهل العترة الطاهرة أن يكونوا عند اللَّه و رسوله بمنزلة الكتاب، لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه. و كفى بذلك حجة تأخذ بالاعناق إلى التعبُّد بمذهبهم، فانّ المسلم لا يرتضي بكتاب اللَّه بدلًا، فكيف يبتغي عن اعداله حولًا. «1»

______________________________

(1). المراجعات: المراجعة رقم 8.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 125

من سمات أهل البيت عليهم السلام

8 حرمة الصدقة عليهم

اتّفق الفقهاء على أنّه لا تحل الصدقة المفروضة على بني هاشم الواردة في الآية المباركة، أعني: قوله سبحانه: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ». «1» و ذلك لأنّ التطهير و التزكية إنّما يتعلَّق بما فيه وسخ و أهل البيت أعلى من أن يعيشوا بأوساخ الناس.

قال ابن قدامة: «لا نعلم خلافاً في أنّ بني هاشم لا تحلُّ لهم الصدقة المفروضة». «2»

و قد تضافرت الروايات على ذلك و جمعها ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام، نقتبس منها ما يلي:

1. عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ الصدقة لا تنبغي لآل محمّد، إنّما هي أوساخ النّاس». «3»

و في رواية: «و انّها لا تحلُّ لمحمد و لا لآل محمد» رواه مسلم. «4»

______________________________

(1). التوبة: 103.

(2). المغني: 2/ 547.

(3). بلوغ المرام: 129، برقم 665.

(4). بلوغ المرام: 129، برقم 665.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 126

2. روى أبو هريرة، قال: أخذ الحسن بن علي عليهما السلام تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «كخٍ، كخٍ» ليطرحها، ثمّ قال: «أما شعرت انّا

لا نأكل الصدقة»، رواه الشيخان البخاري و مسلم.

و لمسلم: أما علمت انّا لا تحل لنا الصدقة. «1»

3. عن أنس انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم مرّ بتمرة في الطريق، و قال: «لو لا أن تكون من الصدقة لأكلتها».

رواه مسلم و أبو داود. «2»

4. عن عائشة، قالت: أُتي النبي صلى الله عليه و آله و سلم بلحم، فقلت: هذا ما تصدّق به على بريرة، فقال: «هو لها صدقة، و لنا هدية».

رواه البخاري و مسلم و النسائي و أبو داود. «3»

5. كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا أتي بطعام سأل عنه، فإن قيل: هدية أكل منها، و إن قيل: صدقة، لم يأكل منها.

رواه الترمذي و مسلم. «4»

6. عن عبد اللَّه بن حرث الهاشمي، و ساق حديثاً حتى قال: إنّ هذه الصدقات إنّما هي أوساخ الناس و انّها لا تحل لمحمّد و لا لآل محمّد.

رواه مسلم و النسائي. «5»

7. عن أبي رافع أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعث رجلًا على الصدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني فإنّك تصيب منها، قال: حتى آتي النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأسأله، فأتاه فسأله، فقال: مولى القوم من أنفسهم و إنّا لا تحلُّ لنا الصدقة.

أخرجه أبو داود و الترمذي و صححه. «6»

______________________________

(1). التاج الجامع للأُصول: 2/ 30- 31، ط الثانية.

(2). التاج الجامع للأُصول: 2/ 30- 31، ط الثانية.

(3). التاج الجامع للأُصول: 2/ 30- 31، ط الثانية.

(4). التاج الجامع للأُصول: 2/ 30- 31، ط الثانية.

(5). التاج الجامع للأُصول: 2/ 30- 31، ط الثانية.

(6). التاج الجامع للأُصول: 2/ 30- 31، ط الثانية.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم

فى القرآن، ص: 127

الفصل الثالث: حقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم

اشارة

قد عرفت من هم أهل البيت عليهم السلام في الآيات و الروايات الواردة على لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و ما جادت به القرائح العربية حولهم من قصائد و أراجيز كما عرفت سماتهم و خصوصياتهم.

و حان البحث لبيان حقوقهم على المسلمين الَّتي نزل بها الوحي في الكتاب العزيز، و ها نحن نذكر بعض حقوقهم:

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 129

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

1 ولاية أهل البيت عليهم السلام

قد دلّت الروايات المتضافرة على انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ارتحل و قد نصب عليّاً عليه السلام للولاية و الخلافة، فأبان ولايته و ولاية من بعده من الأئمّة في مواقف مختلفة، نذكر منها موقفين:

الأوّل: انّ سائلًا أتى مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عليّ عليه السلام راكع، فأشار بيده للسائل، أي اخلع الخاتم من يدي، فنزل قوله سبحانه:

«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ». «1»

و قد تضافرت الروايات على نزول الآية في حقّ علي عليه السلام و نقلها الحفاظ، منهم: ابن جرير الطبري «2»، و الحافظ أبو بكر الجصاص الرازي «3»، و الحاكم النيسابوري «4»، و الحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري «5»، وجار اللَّه الزمخشري «6»، إلى غير ذلك من أئمّة الحفاظ و كبار المفسِّرين ربما ناهز عددهم السبعين. و هم بين

______________________________

(1). المائدة: 55.

(2). تفسير الطبري: 6/ 186.

(3). أحكام القرآن: 2/ 542.

(4). معرفة أُصول الحديث: 102.

(5). أسباب النزول: 113.

(6). الكشاف: 1/ 468.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 130

محدِّث و مفسّر و مؤرِّخ.

و الذي يجب التركيز عليه هو فهم معنى

الولي الوارد في الآية المباركة و الذي وقع وصفاً للَّه سبحانه و لرسوله و من جاء بعده.

المراد من الولي في الآية هو الأولوية الواردة في قوله سبحانه: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ». «1»

فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم أولى من المؤمنين بأنفسهم و أموالهم فهو بما انّه زعيم المسلمين و وليّهم، يتصرّف فيهم حسب ما تقتضيه المصالح في طريق حفظ كيان الإسلام و صيانة هويَّتهم و الدفاع عن أراضيهم و لغاية نشر الإسلام.

و ليست الغاية من هذه الولاية الموهوبة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم هي حفظ مصالح النبي صلى الله عليه و آله و سلم الشخصية، بل الغاية كما عرفت هو صيانة مصالح الإسلام و المسلمين.

فالولاية بهذه المعنى هي المراد من قوله سبحانه: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ» و القرائن الدالَّة على تعيّن هذا المعنى كثيرة، نذكر منها ما يلي:

الأوّل: إذا كان المراد من الوليّ هو الزعامة يصحّ تخصيصها باللَّه سبحانه و رسوله و من أعقبه، و أمّا لو كان المراد منه هو الناصر و المحب، فهو ليس مختصاً بهؤلاء، لأنّ كلّ مؤمن محب للآخرين أو ناصر لهم كما يقول سبحانه: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ». «2»

الثاني: انّ ظاهر الآية انّ هناك أولياء و هناك مولى عليهم، و لا يتحقّق التمايز إلّا بتفسير الولاية بمعنى الزعامة حتى يتميّز الزعيم عن غيره، و هذا بخلاف ما فسرناه بمعنى الحب و الود أو النصر، فتكون الطوائف الثلاث على حد سواء.

______________________________

(1). الأحزاب: 6.

(2). التوبة: 71.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 131

الثالث: إذا كان المراد من الولي هو الزعيم، يصحّ تخصيصه بالمؤمن المؤدّي للزكاة حال الصلاة، و أمّا

لو كان المراد بمعنى المحبّ و الناصر و ما أشبهها يكون القيد زائداً أعني: إعطاء الزكاة في حال الصلاة، فانّ شرط الحب هو إقامة الصلاة و أداء الزكاة، و أمّا تأديتها في حال الركوع فليس من شرائط الحب و النصرة، و هذا دليل على انّ المراد فرد أو جماعة خاصة يوصفون بهذا الوصف لا كلّ المؤمنين.

الرابع: انّ الآية التالية تفسر معنى الولاية، يقول سبحانه: «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ». «1»

فانّ لفظة «الَّذِينَ آمَنُوا» في هذه الآية هو الوارد في الآية المتقدمة، أعني: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ»، و على هذا يكون المراد من القول أخذهم زعيماً و وليّاً بشهادة انّ حزب اللَّه لا ينفك من زعيم يدبِّر أمرهم.

إلى هنا تبيّن انّ الإمعان في القرائن الحافَّة بالآية تفسّر معنى الولي و تعين المعنى و تثبت انّ المقصود هو الزعيم، لكن من نكات البلاغة في الآية انّه سبحانه صرح بولايته و ولاية رسوله و من جاء بعده و على ذلك صارت الولاية للثلاثة، و كان اللازم عندئذٍ أن يقول إنّما أولياؤكم بصيغة الجمع لكنّه أتى بصيغة المفرد إشارة إلى نكتة، و هي انّ الولاية بالأصالة للَّه سبحانه و أمّا ولاية غيره فبإيهاب من اللَّه سبحانه لهم، و لذلك فردّ الكلمة و لم يجمعها، لكن هذه الولاية لا تنفك من آثار، و قد أُشير إلى تلك الآثار في آيات مختلفة، و إليك بيانها:

1. «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ». «2»

فانّ لزوم إطاعة اللَّه و الرسول و غيرهما من آثار ولايتهم و زعامتهم، فالزعيم

______________________________

(1). المائدة: 56.

(2). النساء: 59.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى

القرآن، ص: 132

يجب أن يكون مطاعاً.

2. «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ». «1»

فينفذ قضاؤه سبحانه و الَّذي هو من آثار الزعامة، و نظيره قوله سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ». «2»

3. «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ». «3» فحرمة مخالفة أمر اللَّه و رسوله من توابع زعامتهم و ولايتهم.

فهذه الحقوق ثابتة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بنص القرآن الكريم و لمن بعده بحكم انّهم أولياء بعد النبي فانّ ثبوتها للنبي صلى الله عليه و آله و سلم لأجل ولايته فإذا كانت الولاية مستمرة بعده فيتمتع كلّ وليٍّ بهذه الحقوق.

و بهذا تبيَّنت دلالة الآية على ولاية علي عليه السلام و انّها حقّ من حقوقهم لصالح الإسلام و المسلمين.

نعم بعض من لا تروقهم ولاية أهل البيت عليهم السلام و زعامتهم حاولوا تضعيف دلالة الآية بشبهات واهية واضحة الرد، و قد أجبنا عنها في بعض مسفوراتنا فلنكتف في المقام بهذا المقدار.

غير انّا نركز على نكتة و هي انّ الصحابة الحضور لم يفهموا من الآية سوى الولاية و لذلك صبَّ شاعر عهد الرسالة حسان بن ثابت ما فهمه من الآية بصفاء ذهنه في قالب الشعر، و قال:

______________________________

(1). الأحزاب: 36.

(2). النساء: 105.

(3). النور: 63.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 133 فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيدو يا خير شار ثمّ يا خير بايع

فانزل فيك اللَّه خير ولايةو بيّنها في محكمات الشرائع «1»

و الظاهر ممّا رواه المحدّثون

انّ الأُمّة الإسلامية سيُسألون يوم القيامة عن ولاية علي عليه السلام، حيث ورد السؤال في تفسير قوله سبحانه: «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ». «2»

روى ابن شيرويه الديلمي في كتاب «الفردوس» في قافية الواو، باسناده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» عن ولاية علي بن أبي طالب. «3»

و نقله ابن حجر عن الديلمي، و قال: «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» أي عن ولاية علي و أهل البيت، لأنّ اللَّه أمر نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يعرف الخلق أنّه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجراً إلّا المودة في القربى و المعنى انّهم يسألون هل والوهم حق الموالاة كما أوصاهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم أم أضاعوها و أهملوها فتكون عليهم المطالبة و التبعة. «4»

الثاني «5»: من تلك المواقف هو يوم الغدير و هو أوضحها و آكدها و أعمّها و قد صدع بها في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام في منصرفه من حجّة الوداع، و قد قام في محتشد كبير بعد ما خطب خطبة مفصَّلة و أخذ من الناس الشهادة على التوحيد و المعاد و رسالته و أعلن انّه فرط على الحوض، ثمّ ذكر الثقلين و عرَّفهما، بقوله: «الثقل الأكبر، كتاب اللَّه، و الآخر الأصغر: عترتي؛ و انّ اللطيف

______________________________

(1). مناقب الخوارزمي: 178؛ كفاية الطالب للكنجي: 200؛ تذكرة ابن الجوزي: 25

(2). الصّافات: 24.

(3). شواهد التنزيل للحسكاني: 2/ 106.

(4). الصواعق المحرقة: 149.

(5). مضي الأوّل: 245.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 134

الخبير نبَّأني انّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»، ثمّ قال: «أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين

من أنفسهم؟» قالوا: اللَّه و رسوله أعلم، قال: «إنّ اللَّه مولاي، و أنا مولى المؤمنين، و أنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه»، ثمّ قال: «اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و أحب من أحبّه، و أبغض من أبغضه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، و أدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».

ففي هذه الواقعة الفريدة من نوعها أعلن النبي ولاية علي عليه السلام للحاضرين و أمرهم بإبلاغها للغائبين، و نزل أمين الوحي بآية الإكمال، أعني: قوله سبحانه: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي». «1»

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «اللَّه أكبر على إكمال الدين، و إتمام النعمة، و رضى الربّ برسالتي، و الولاية لعلي من بعدي».

ثمّ طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين عليه السلام و ممَّن هنَّأه في مقدم الصحابة: الشيخان أبو بكر و عمر، كلّ يقول:

بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت و أمسيت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة.

و قد تلقّى الصحابة الحضور انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أوجب ولايته على المؤمنين، و قد أفرغ شاعر عهد الرسالة حسّان بن ثابت ما تلقّاه عن الرسول، في قصيدته و قال:

فقال له قم يا عليّ فانّني رضيتك من بعدي إماماً و هادياً

فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أنصار صدق موالياً

قد ذكرنا مصادر الخطبة و الأبيات عند البحث عن الإمامة فراجع. «2»

______________________________

(1). المائدة: 3.

(2). راجع مفاهيم القرآن: الجزء العاشر.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 135

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

2 أهل البيت عليهم السلام و ضرورة إطاعتهم

أمر سبحانه باطاعة الرسول و أُولي الأمر، و قال: «يا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا». «1»

تأمر الآية بإطاعة اللَّه كما تأمر بإطاعة الرسول و أُولي الأمر لكن بتكرار الفعل، أعني: «وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ» و ما هذا إلّا لأنّ سنخ الإطاعتين مختلف، فإطاعته سبحانه واجبة بالذات، و إطاعة النبي و أُولي الأمر واجبة بإيجابه سبحانه.

و المهم في الآية هو التعرُّف على المراد من أُولي الأمر، فقد اختلف فيه المفسرون على أقوال ثلاثة:

1. الأُمراء، 2. العلماء، 3. صنف خاص من الأُمّة، و هم أئمّة

______________________________

(1). النساء: 59.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 136

أهل البيت عليهم السلام.

و بما انّه سبحانه أمر بإطاعة أُولي الأمر إطاعة مطلقة، غير مقيدة بما إذا لم يأمروا بالمعصية يمكن استظهار أنّ أولي الأمر المشار إليهم في الآية و الذين وجبت طاعتهم على الإطلاق، معصومون من المعصية و الزلل، كالنبي صلى الله عليه و آله و سلم حتى اقترنوا في لزوم الطاعة في الآية.

و بعبارة أُخرى: انّه سبحانه أوجب طاعتهم على الإطلاق، كما أوجب طاعته، و طاعة رسوله، و لا يجوز أن توجب طاعة أحد على الإطلاق إلّا من ثبتت عصمته، و علم أنّ باطنه كظاهره، و أمن منه الغلط و الأمر بالقبيح، و ليس ذلك بحاصل في الأُمراء، و لا العلماء سواهم، جلّ اللَّه عن أن يأمر بطاعة من يعصيه، أو بالانقياد للمختلفين في القول و الفعل، لانّه محال أن يطاع المختلفون، كما أنّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه. «1»

و قد أوضحه الرازي في تفسيره، و ذهب إلى أنّ المقصود من

أُولي الأمر هم المعصومون في الأُمّة، و إن لم يخض في التفاصيل، و لم يستعرض مصاديقهم، لكنّه بيّن المراد منهم بصورة واضحة، و قال:

و الدليل على ذلك انّ اللَّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، و من أمر اللَّه بطاعته على سبيل الجزم و القطع، لا بدّ و أن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللَّه بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، و الخطأ لكونه خطأً منهي عنه، فهذا يُفضي إلى اجتماع الأمر و النهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد و انّه

______________________________

(1). مجمع البيان: 3/ 100.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 137

محال.

فثبت انّ اللَّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم، و ثبت أنّ كلّ من أمر اللَّه بطاعته على سبيل الجزم، وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ و أن يكون معصوماً. «1»

و قد أوضح السيد الطباطبائي دلالة الآية على عصمة أُولي الأمر ببيان رائق و إليك نصّه، قال: الآية تدل على افتراض طاعة أُولي الأمر هؤلاء، و لم تقيده بقيد و لا شرط، و ليس في الآيات القرآنية ما يقيد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله: «وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» إلى مثل قولنا: و أطيعوا أُولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم، فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، و إن علمتم خطأهم فقوِّموهم بالردّ إلى الكتاب و السنّة و ليس هذا معنى قوله: «وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ».

مع

أنّ اللَّه سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة، كقوله في الوالدين: «وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما». «2» فما باله لم يُظهر شيئاً من هذه القيود في آية تشتمل على أُس أساس الدين، و إليها تنتهي عامة اعراق السعادة الإنسانية.

على أنّ الآية جمع فيها بين الرسول و أُولي الأمر، و ذكر لهما معاً طاعة واحدة، فقال: «وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»، و لا يجوز على الرسول أن يأمر

______________________________

(1). التفسير الكبير: 1/ 114.

(2). العنكبوت: 8.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 138

بمعصية أو يغلط في حكم، فلو جاز شي ء من ذلك على أُولي الأمر، لم يسع إلّا أن يذكر القيد الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أن تقيد، و لازمه اعتبار العصمة في جانب أُولي الأمر، كما اعتبر في جانب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم من غير فرق. «1»

و بذلك تبَيّن انّ تفسير أُولي الأمر بالخلفاء الراشدين أو أُمراء السرايا أو العلماء أمر غير صحيح، لأنّ الآية دلَّت على عصمتهم و لا عصمة لهؤلاء، فلا بدّ في التعرُّف عليهم من الرجوع إلى السنَّة التي ذكرت سماتهم و لا سيما حديث الثقلين حيث قورنت فيه العترة بالكتاب، فإذا كان الكتاب مصوناً من الخطأ، فالعترة مثله أخذاً بالمقارنة.

و نظيره حديث السفينة: «مَثَل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق». «2»

إلى غير ذلك من الأحاديث التي تنصُّ على عصمة العترة الطاهرة، فإذاً هذه الأحاديث تشكّل قرينة منفصلة على أنّ المراد من

أُولي الأمر هم العترة أحد الثقلين.

بل يمكن كشف الحقيقة من خلال الإمعان في آية التطهير، و قد عرفت دلالتها على عصمة أهل البيت الذين عيَّنهم الرسول بطرق مختلفة.

و على ضوء ذلك فآية التطهير، و حديث الثقلين، و حديث السفينة إلى غيرها من الأحاديث الواردة في فضائل العترة الطاهرة كلّها تدل على عصمتهم.

هذا من جانب و من جانب آخر دلَّت آية الإطاعة على عصمة أُولي الأمر،

______________________________

(1). الميزان: 4/ 391.

(2). الحاكم: المستدرك: 3/ 151 أخرجه مسنداً إلى أبي ذر.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 139

فبضم القرائن الآنفة الذكر إلى هذه الآية يتضح المراد من أُولي الأمر الذين أمر اللَّه سبحانه بطاعتهم و قرن طاعتهم بطاعة الرسول.

و أمّا الرواية عن النبيّ: فقد روى ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد انّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام حين خلّفه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة، فقال: «يا رسول اللَّه، أ تخلفني بين النساء و الصبيان؟» فقال ص: «يا علي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، حين قال له: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ»، فقال أبلى و اللَّه: «وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»». «1»

و أمّا ما رُوي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام حول الآية فحدث عنها و لا حرج، فلنقتصر في المقام على رواية واحدة نقلها الصدوق باسناده عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري.

قال: لمّا أنزل اللَّه عزّ و جلّ على نبيّه محمد صلى الله عليه و آله و سلم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» قلت: يا رسول اللَّه، عرفنا اللَّه و رسوله، فمن

أولو الأمر الذين قرن اللَّه طاعتهم بطاعتك؟ فقال ص: «هم خلفائي يا جابر و أئمة المسلمين من بعدي، أوّلهم علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ستدركه يا جابر، فإذا لقيته فاقرئه مني السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ علي بن محمّد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ سَمِيِّ محمّد و

______________________________

(1). المناقب لابن شهرآشوب: 1/ 5 خ 15، ط المطبعة العلميّة.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 140

كنيتي، حجة اللَّه في أرضه و بقيته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح اللَّه تعالى على يديه مشارق الأرض و مغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته و أوليائه غيبة لا يثبت فيه على القول بإمامته إلّا من امتحن اللَّه قلبه للإيمان».

قال جابر: فقلت له: يا رسول اللَّه فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال ص: «اي و الذي بعثني بالنبوة إنّهم يستضيئون بنوره، و ينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس و إن تجلاها سحاب.

يا جابر هذا من مكنون سر اللَّه و مخزون علم اللَّه، فاكتمه إلّا عن أهله». «1»

______________________________

(1). البرهان في تفسير القرآن: 1/ 381.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 141

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

3 وجوب مودَّتهم و حبِّهم

[السؤال الأول

قام الرسل بابلاغ رسالات اللَّه سبحانه إلى الناس، دون أن يبغوا أجراً منهم، بل كان عملهم خالصاً لوجهه سبحانه، لأنّ إبلاغ رسالاته كانت فريضة إلهية على عواتقهم، فكيف يطلبون الأجر للعمل العبادي الذي لا يبعثهم إليه إلّا طاعة أمره و طلب رضاه، و لذلك كان

شعارهم دوماً، قولهم «وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ». «1»*

فقد ذكر سبحانه على لسان الأنبياء تلك الآية في سورة الشعراء، و نقلها عن عديد من أنبيائه، نظراء:

نوح «2»، هود «3»، صالح «4»، لوط «5»، شعيب «6».

و قد جاء هذا الشعار في سور أُخرى نقلها القرآن الكريم عن رسله و أنبيائه، فقد كانوا يخاطبون أُمَمهم بقولهم:

______________________________

(1). الشعراء: 109.

(2). الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180.

(3). الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180.

(4). الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180.

(5). الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180.

(6). الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 142

«قل لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ». «1»

«يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ... إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي». «2»

فإذا كان هذا موقف الأنبياء من أُمّتهم، فكيف يصح للنبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم أن يطلب الأجر؟! بل هو أولى بأن يكون عمله خالصاً للَّه، لأنّه خاتم الرسل و أفضلهم، و قد كان يرفع ذلك الشعار أيام بعثته، بأمر منه سبحانه و يتلو قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ» «3».

هذه هي حقيقة قرآنية لا يمكن إنكارها، و مع ذلك نرى انّه سبحانه يأمره في آية أُخرى بأن يطلب منهم مودة القربى أجراً للرسالة.

و يقول: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى . «4»

فكيف يمكن الجمع بين هذه الآية، و ما تقدم من الآية الخاصة بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم و الآيات الراجعة إلى سائر الأنبياء، فانّهم عليهم السلام كانوا على نهج واحد؟.

هذا هو السؤال المطروح في المقام.

و

الإجابة عليه يتوقَّف على نقل ما ورد حول الموضوع في القرآن الكريم، فنقول:

الآيات التي وردت حول أجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم على أصناف أربعة:

الأوّل: أمره سبحانه بأن يخاطبهم بأنّه لا يطلب منهم أجراً، قال سبحانه: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ». «5»

______________________________

(1). هود: 29.

(2). هود: 51.

(3). الأنعام: 90.

(4). الشورى 23.

(5). الأنعام: 90.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 143

الثاني: ما يشعر بأنّه طلب منهم أجراً يرجع نفعه إليهم دون النبي صلى الله عليه و آله و سلم: فيقول سبحانه: «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ». «1»

الثالث: ما يُعرّف أجره، بقوله: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا». «2» فكان اتخاذ السبيل إلى اللَّه هو أجر الرسالة.

الرابع: ما يجعل مودة القربى أجراً للرسالة، و يقول: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى .

فهذه العناوين الأربعة لا بدّ أن ترجع إلى معنى واحد، و هذا هو الذي نحاول أن نسلّط عليه الأضواء.

الجواب: انّ لفظة الأجر يطلق على الأجر الدنيوي و الأُخروي غير انّ المنفي في تلك الآيات بقرينة نفي طلبه عن الناس هو الأجر الدنيوي على الإطلاق، و لذلك لم ينقل التاريخ أبداً أن يطلب نبي صلى الله عليه و آله و سلم لدعوته شيئاً بل نقل خلافه.

هذه هي قريش تقدَّمت إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و في طليعتهم أبو الوليد، فتقدم إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قال: يا ابن أخي إن كنت إنّما تريد بما

جئت به من هذا الأمر، مالًاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، و إن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، و إن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، و إن كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطبَّ، و بذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه، فانّه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له

______________________________

(1). سبأ: 47.

(2). الفرقان: 57.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 144

حتى إذا فرغ عتبة، و رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يستمع منه، قال: أ قد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني قال: أفعل، فقال: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ». «1»

ثمّ مضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فيها يقرؤها عليه. فلمّا سمعها منه عتبة، أنصت لها، و ألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه، ثمّ انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى السجدة منها، فسجد ثمّ قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت و ذاك. «2»

هذا النصّ و غيره يعرب عن أنّ مدار الإثبات و النفي هو الأجر الدنيوي بعامة صوره، و هذا أمر منفي جداً لا يليق لنبي أن يطلبه من الناس.

قال الشيخ المفيد: إنّ أجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم في التقرُّب إلى اللَّه تعالى هو الثواب الدائم، و هو مستحق

على اللَّه تعالى في عدله وجوده و كرمه، و ليس المستحق على الأعمال يتعلَّق بالعباد، لأنّ العمل يجب أن يكون للَّه تعالى خالصاً، و ما كان للَّه فالأجر فيه على اللَّه تعالى دون غيره. «3»

إذا عرفت ذلك، فنقول:

إنّ مودة ذي القربى و إن تجلت بصورة الأجر حيث استثنيت من نفي الأجر، لكنّه أجر صوري و ليس أجراً واقعياً، فالأجر الواقعي عبارة عمّا إذا عاد نفعه إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و لكنّه في المقام يرجع إلى المحب قبل رجوعه إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و ذلك لأنّ مودة ذي القربى تجرّ المحب إلى أن ينهج سبيلهم في الحياة، و يجعلهم أُسوة في

______________________________

(1). فصّلت: 1- 5.

(2). السيرة النبوية: 1/ 293- 294.

(3). تصحيح الاعتقاد: 68.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 145

دينه و دنياه، و من الواضح انّ الحبّ بهذا المعنى ينتهي لصالح المحب. قال الصادق عليه السلام: «ما أحب اللَّه عزّ و جلّ من عصاه» ثمّ تمثَّل، فقال:

تعصي الإله و أنت تظهر حبه هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته انّ المحبّ لمن يحب مطيع «1»

و سيوافيك انّ المراد من ذوي القربى ليس كلّ من ينتمي إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم بنسب أو سبب، بل طبقة خاصة من أهل بيته الذين عرفهم بأنّهم أحد الثقلين في قوله: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه، و عترتي أهل بيتي، و انّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». «2»

فإذا كان المراد من ذوي القربى هؤلاء الذين أنيط بهم أمر الهداية و السعادة فحبُّهم و مودَّتهم يرفع الإنسان من حضيض العصيان و

التمرد إلى عزّ الطاعة.

إنّ طلب المودة من الناس أشبه بقول طبيب لمريضه بعد ما فحصه و كتب و صفة: لا أُريد منك أجراً إلّا العمل بهذه الوصفة، فانّ عمل المريض بوصفة الطبيب و إن خرجت بهذه العبارة بصورة الأجر، و لكنّه ليس أجراً واقعياً يعود نفعه إلى الطبيب بل يعود نفعه إلى نفس المريض الذي طلب منه الأجر.

و على ذلك فلا بدّ من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع، كأن يقول: قل لا أسألكم عليه أجراً، و إنّما أسألكم مودة ذي القربى، و ليس الاستثناء المنقطع

______________________________

(1). سفينة البحار: مادة حبَّب

(2). أخرجه الحاكم في مستدركه: 3/ 148، و قال: هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين. و لم يخرجاه، و أخرجه الذهبي في تلخيص المستدرك معترفاً بصحته على شرط الشيخين قلت: هذا حديث متواتر و قد ألَّف غير واحد من المحقّقين رسائل حوله.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 146

أمراً غريباً في القرآن بل له نظائر مثل قوله: «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً». «1»

و على ذلك جرى شيخ الشيعة المفيد في تفسير الآية، حيث طرح السؤال، و قال:

فإن قال قائل: فما معنى قوله: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أو ليس هذا يفيد انّه قد سألهم مودة القربى لأجره على الأداء؟.

قيل له: ليس الأمر على ما ظننت لما قدمنا من حجّة العقل و القرآن، و الاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة لكنّه استثناء منقطع، و معناه قل لا أسألكم عليه أجراً لكنّي ألزمكم المودة في القربى و اسألكموها، فيكون قوله: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» كلاماً تامّاً، قد استوفى معناه، و يكون قوله: «إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي

الْقُرْبى كلاماً مبتدأً، فائدته لكن المودة في القربى سألتكموها، و هذا كقوله: «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ». «2» و المعنى فيه لكن إبليس، و ليس باستثناء من جملة. «3»

و على ضوء ذلك يظهر معنى قوله سبحانه: «ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ». «4»

و قد تبَيّن انّ حبّ الأولياء و الصالحين لصالح المحب قبل أن يكون لصالحهم.

كما تبَيّن معنى قوله سبحانه في شأن ذلك الأجر: «ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا». «5»

______________________________

(1). مريم: 62.

(2). الحجر: 30- 31.

(3). تصحيح الاعتقاد: 68.

(4). سبأ: 47.

(5). الفرقان: 57.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 147

فانّ اتخاذ السبيل لا يخلو من أحد احتمالين:

1. مودَّة القربى و التفاني في حبهم الذي سينتهي إلى العمل بالشريعة الموجب لنيل السعادة.

2. نفس العمل بالشريعة الذي يصل إليها الإنسان عن طريق حبهم و مودتهم.

و بذلك ترجع الآيات الثلاث إلى معنى واحد من دون أن يكون بينهما أي تناف و اختلاف.

و قد جاء الجمع بين مفاد الآيات الثلاث في دعاء الندبة الذي يشهد علو مضامينه على صدقه، حيث جاء فيه:

«ثمّ جعلت أجر محمّد صلى الله عليه و آله و سلم مودّتهم في كتابك، فقلت «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ، و قلت: ما سألتكم من أجر فهو لكم، و قلت: «ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا»، فكانوا هم السبيل إليك، و المسلك إلى رضوانك».

و إلى ذلك يشير شاعر أهل البيت و يقول:

موالاتهم فرض و حبهم هدى و طاعتهم ودٍّ و ودُّهم تقوا

*** و أمّا القربى فهو على وزن البشرى و الزلفى بمعنى القرابة، يقول الزمخشري: القربى

مصدر كالزلفى و البشرى، بمعنى القرابة و المراد في الآية «أهل القربى . «1»

و قد استعمل القرآن الكريم لفظة القربى في عامة الموارد بالمضاف، فتارة

______________________________

(1). الكشاف: 3/ 81 في تفسير الآية.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 148

بلفظة ذي، قال سبحانه: «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى . «1»

و أُخرى بلفظة ذوي، قال سبحانه: «وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى . «2»

و ثالثة: بلفظة «أُولي»، قال سبحانه: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى . «3»

و قد جاءت مرة واحدة دون إضافة و هي نفس الآية المباركة، فلأجل ذلك يلزم تقدير شي ء مثل لفظة «أهل» كما قدَّره الزمخشري أو لفظاً غير ذلك مثل كلمة «ذي» أو «ذوي» أو «ذوي قربى .

إلى هنا تمت الإجابة عن السؤال الأوّل حول الآية.

السؤال الثاني «4»

دلَّت الآية الكريمة على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم فرض مودة ذي القربى على المسلمين و لكن يبقى هناك سؤال و هو انّ الآية تحتمل وجهين:

أ: أن يكون المراد مودة ذوي القربى من أقرباء النبي و أهل بيته.

ب: أن يكون المراد ودّ كلّ مسلم أقربائه و عشيرته و من يمت إليه بصلة، و ليس في الآية ما يدل على المعنى الأوّل.

أقول: إنّ ذي القربى كما علمت بمعنى صاحب القرابة و الوشيجة النسبية، و يتعيّن مورده بتعيُّن المنسوب إليه، و هو يختلف حسب اختلاف موارد الاستعمال،

______________________________

(1). البقرة: 83.

(2). البقرة: 177.

(3). التوبة: 113.

(4). مضي السؤال الأوّل: 258.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 149

و يستعان في تعيينه بالقرائن الموجودة في الكلام، و هي:

الأشخاص المذكورون في الآية

أو ما دلَّ عليه سياق الكلام.

فتارة يراد منه الأقرباء دون شخص خاص، مثل قوله سبحانه: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى . «1»

و قوله سبحانه: «وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى . «2»

فانّ ذكر النبي و الذين آمنوا معه آية على أنّ المراد قريب كلّ إنسان إليهما، كما أنّ جملة «وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا» آية أنّ المراد كل إنسان قريب إليه.

و أمّا قوله سبحانه: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فالفعل المتقدّم عليه يعنى «لا أَسْئَلُكُمْ» آية انّ المراد أقرباء السائل، مثل قوله سبحانه: «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى . «3»

فانّ لفظة «عَلى رَسُولِهِ» آية أنّ المراد أقرباء الرسول.

و على ذلك فلا بدّ من الرجوع إلى القرائن الحافَّة بالآية و تعيين المراد منه، و بذلك ظهر أنّ المراد هو أقرباء الرسول.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ناقداً انتخاب الخليفة الأوّل في السقيفة لأجل انتمائه إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالقرابة:

و إن كنت بالقربى حججت خصيمهم فغيرك أولى بالنبي و أقرب «4»

______________________________

(1). التوبة: 113. (2). الأنعام: 152. (3). الحشر: 7. (4). شرح ابن أبي الحديد: 18/ 416 اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 150

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن 179

السؤال الثالث

اشارة

إنّ سورة الشورى سورة مكية، فلو كان المراد من ذوي القربى هو عترته الطاهرة، أعني: عليّاً و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام فلم يكن يومذاك بعض هؤلاء كالحسن و الحسين عليهما السلام؟.

و الجواب: إنّ الميزان في تمييز المكي

عن المدني، أمران، و كلاهما يدلان على أنّ الآية نزلت في المدينة المنورة.

الأمر الأوّل: دراسة مضمون الآيات

فقد كانت مكافحة الوثنية و الدعوة إلى التوحيد و المعاد هي مهمة النبي قبل الهجرة، و لم يكن المجتمع المكّي مؤهلًا لبيان الأحكام و الفروع أو مجادلة أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و لذلك تدور أغلب الآيات المكّية حول المعارف و العقائد و العبرة بقصص الماضين، و ما يقرب من ذلك.

و لمّا استتب له الأمر في المدينة المنورة و اعتنق أغلب سكّانها الإسلام حينها سنحت الفرصة لنشر الإسلام و تعاليمه و لمناظرة اليهود و النصارى حيث كانوا يثيرون شبهاً و يجادلون النبي صلى الله عليه و آله و سلم فنزلت آيات حول اليهود و النصارى في السور الطوال.

فلو كان هذا هو الميزان بغية تميّز المكّي عن المدني، فالآية مدنية قطعاً دون ريب لعدم وجود أيَّة مناسبة لسؤال الأجر أو طلب مودة القربى من أُناس لم يؤمنوا به بل حشَّدوا قواهم على قتله، بخلاف البيئة الثانية فقد كانت تقتضي ذلك حيث التفَّ حوله رجال من الأوس و الخزرج و طوائف كثيرة من الجزيرة العربية.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 151

الأمر الثاني: الاعتماد على الروايات و المنقولات

فلو كان هذا هو الميزان فقد صرح كثير منهم بأنّ أربعةً آيات من سورة الشورى مكّية، حتى أنّ المصاحف المطبوعة في الأزهر و غيره، تصرح بذلك و تُقرأ فوق السورة هذه الجملة: سورة الشورى مكية الآيات إلّا ثلاث و عشرين و أربع و عشرين و سبع و عشرين.

أضف إلى ذلك انّ كثيراً من المفسرّين و المحدِّثين صرحوا بذلك. «1»

و هذا هو البقاعيّ مؤلف «نظم الدرر و تناسب الآيات و السور» يصرح بأنّ الآيات مكية، كما نقله المحقّق الزنجاني في «تاريخ القرآن». «2»

السؤال الرابع

الإنسان مفطور على حب الجميل و كراهة القبيح فيكون الودّ أمراً خارجاً عن الاختيار، فكيف يقع في دائرة السؤال و يطلبه النبي صلى الله عليه و آله و سلم من المؤمنين مع أنّه كذلك.

و الجواب: أوّلًا: انّ الحبّ لو كان أمراً خارجاً عن الاختيار فلا يتعلَّق به الأمر، كما لا يتعلَّق به النهي، مع انّه سبحانه ينهى عن ود من حادَّ اللَّه و رسوله، و يقول: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ». «3»

______________________________

(1). انظر الكشاف: 3/ 81؛ تفسير الرازي: 7/ 655؛ تفسير أبي السعود في هامش تفسير الرازي نفس الصفحة؛ تفسير أبي حيان: 7/ 516؛ تفسير النيسابوري: 6/ 312.

و أمّا من المحدّثين كمجمع الزوائد للهيثمي: 9/ 168؛ الصواعق المحرقة: 101- 135، و الزرقاني في شرح المواهب: 7/ 3 و 921.

(2). تاريخ القرآن: 57.

(3). المجادلة: 22.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 152

كما أنّه صلى الله عليه و آله و سلم يدعو إلى التراحم و التعاطف النابعين عن الود و الحب، و يقول:

مثل المؤمنين في توادّهم و تعاطفهم و تراحمهم مثل الجسد إذا

اشتكى منه شي ء تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى». «1»

كلّ ذلك يدل على انّ الودّ و البغض ليس على النسق الذي وصفه السائل، و لذلك نرى الدعوة الكثيرة إلى الحب في اللَّه و البغض في اللَّه.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «من أوثق عرى الإيمان أن تحب في اللَّه و تبغض في اللَّه». «2»

و قد كتب الإمام علي عليه السلام إلى عامله في مصر مالك الأشتر رسالة قال فيها: «و اشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبة لهم، و اللطف بهم». «3»

روى الخطيب في تاريخه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب عليه السلام». «4»

و قال ص: «من سرّه أن يحيا حياتي، و يموت مماتي، و يسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال علياً بعدي، و ليوال وليّه، و ليقتد بالأئمّة من بعدي، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهماً و علماً». «5»

روى أحمد في مسنده و مسلم في صحيحه قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «من أحبني فليحب عليّاً». «6»

______________________________

(1). مسند أحمد: 4/ 270.

(2). سفينة البحار: 2/ 11 مادة الحبّ.

(3). نهج البلاغة: قسم الرسائل: الرسالة 53.

(4). تاريخ بغداد: 4/ 410.

(5). حلية الأولياء: 1/ 86.

(6). مسند أحمد: 5/ 366؛ صحيح مسلم: ج كتاب الفتن: 119.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 153

و أخرج أحمد في مسنده عن الرسول: «من أحبني و أحب هذين و أباهما و أُمُّهما، كان معي في درجتي يوم القيامة». «1»

و ثانياً: أنّ الإيصاء إنّما لا يفيد إذا لم يتوفر في الموصى له ملاك الحب و الود كما إذا كان الرجل محطاً للرذائل الأخلاقية، و أمّا إذا كان

الموصى له إنساناً مثالياً متحلياً بفضائل الأخلاق و محاسنها، فانّ الإيصاء به يعطف النظر إليه و بالتالي يجيش حبه كلَّما تعمَّقت الصلة به.

و حاصل الكلام: أنّ دعوة الناس إلى الحبّ تقوم على إحدى دعامتين:

الأُولى: الاشادة بفضائل المحبوب و كمالاته التي توجد في نفس السامع حبّاً و ولعاً إليه.

الثانية: الإيصاء بالحب و الدعوة إلى الودّ، فانّه يعطف نظر السامع إلى الموصى له، فكلَّما توطَّدت الأواصر بنيهما و انكشفت آفاق جديدة من شخصيته ازداد الحبّ و الود له. و على كلّ تقدير فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم هو المحبوب التام لعامة المسلمين، فحبُّه لا ينفك عن حبّ من أوصى بحبِّه و أمر بودّه.

و خير ما نختم به هذا البحث حديث مروي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم نقله صاحب الكشاف حيث قال، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات تائباً، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنة ثمّ منكر و نكير، ألا و من مات على حبّ آل محمد يُزفُّ إلى الجنة كما تزفُّ العروس إلى بيت زوجها،

______________________________

(1). مسند أحمد: 1/ 77.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 154

ألا و من مات على حبّ آل محمّد فتح اللَّه له في قبره بابين إلى الجنّة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد جعل اللَّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا و

من مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة، ألا و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيساً من رحمة اللَّه، ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافراً، ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنة». «1»

و روى أيضاً: انّه لما نزلت هذه الآية، قيل: يا رسول اللَّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟

فقال ص: «علي و فاطمة و ابناهما». «2»

______________________________

(1). الكشاف: 3/ 82، تفسير سورة الشورى ط عام 1367.

(2). الكشاف: 3/ 81.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 155

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

4 الصلوات عليهم

اشارة

إنّ من حقوق أهل البيت عليهم السلام هي الصلوات عليهم عند الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم، قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً». «1»

ظاهر الآية هو تخصيص الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم لكن فهمت الصحابة انّ المراد هو الصلاة عليه و على أهل بيته، و قد تضافرت الروايات على ضمّ الآل إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند التسليم و الصلاة عليه، و قد جاء ذلك في الصحاح و المسانيد، نقتصر منها على ما يلي:

1. أخرج البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة، قال: أ لا أُهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فقلت: بلى، فأهدها لي، فقال: سألنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقلنا: يا رسول اللَّه، كيف الصلاة عليكم أهل

البيت، فانّ اللَّه قد علّمنا كيف نسلم، قال:

«قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد و على آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم و على

______________________________

(1). الأحزاب: 56.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 156

آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللّهمّ بارك على محمّد و على آل محمّد، كما باركت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنّك حَميدٌ مجيد». «1»

و أخرجه أيضاً في كتاب التفسير عند تفسير سورة الأحزاب. «2»

كما أخرجه مسلم في باب الصلاة على النبي من كتاب الصلاة. «3»

2. أخرج البخاري أيضاً، عن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا يا رسول اللَّه، هذا التسليم فكيف نصلّي عليك؟ قال: «قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد عبدك و رسولك، كما صلّيت على آل إبراهيم، و بارك على محمّد و على آل محمّد، كما باركت على إبراهيم». «4»

3. أخرج البخاري، عن ابن أبي حازم عن يزيد، قال: «كما صليت على إبراهيم، و بارك على محمّد و آل محمّد، كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم». «5»

4. أخرج مسلم، عن أبي مسعود الأنصاري، قال: أتانا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم و نحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد:

أمرنا اللَّه تعالى أن نصلّي عليك، يا رسول اللَّه: فكيف نصلي عليك؟

قال: فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم حتى تمنينا انّه لم يسأله.

ثمّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد و على آل محمّد، كما صليت على آل إبراهيم، و بارك على محمّد و على آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم

______________________________

(1). صحيح البخاري: 4/ 146 ضمن باب «يزفُّون النَّسَلان في المشي»

من كتاب بدء الخلق.

(2). صحيح البخاري: 6/ 151 تفسير سورة الأحزاب.

(3). صحيح مسلم: 2/ 16.

(4). صحيح البخاري: 6/ 151، تفسير سورة الأحزاب.

(5). المصدر السابق.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 157

في العالمين انّك حميد مجيد، و السلام كما قد علمتم». «1»

إنّ ابن حجر ذكر الآية الشريفة، و روى جملة من الأخبار الصحيحة الواردة فيها، و انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قرن الصلاة على آله بالصلاة عليه، لمّا سئل عن كيفية الصلاة و السلام عليه، قال: و هذا دليل ظاهر على أنّ الأمر بالصلاة على أهل بيته، و بقية آله مراد من هذه الآية، و إلّا لم يسألوا عن الصلاة على أهل بيته و آله عُقب نزولها و لم يجابوا بما ذكر، فلمّا أُجيبوا به دلّ على أنّ الصلاة عليهم من جملة المأمور به، و انّه صلى الله عليه و آله و سلم أقامهم في ذلك مقام نفسه، لأنّ القصد من الصلاة عليه مزيد تعظيمه، و منه تعظيمهم، و من ثمّ لمّا أُدخل من مرّ في الكساء، قال: «اللّهمّ انّهم منّي و أنا منهم، فاجعل صلاتك و رحمتك و مغفرتك و رضوانك عليّ و عليهم»، و قضية استجابة هذا الدعاء: انّ اللَّه صلّى عليهم معه فحينئذٍ طلب من المؤمنين صلاتهم عليهم معه.

و يروى: لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء، فقالوا: و ما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون: اللّهمّ صلّ على محمّد و تمسكون بل قولوا: اللّهم صلّ على محمّد و على آل محمد. ثمّ نقل عن الإمام الشافعي قوله:

يا أهل بيت رسول اللَّه حبكم فرض من اللَّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر إنّكم من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له

فقال:

فيحتمل لا صلاة له صحيحة فيكون موافقاً لقوله بوجوب الصلاة على الآل، و يحتمل لا صلاة كاملة فيوافق أظهر قوليه. «2»

______________________________

(1). صحيح مسلم: 2/ 46، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد التشهد من كتاب الصلاة.

(2). الصواعق المحرقة: 146، ط عام 1385 ه.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 158

هذا كلّه حول الصلاة على الآل عند الصلاة على الحبيب.

و أما حكم الصلاة على آل البيت في التشهد، فقال أكثر أصحاب الشافعي: انّه سنّة.

و قال التربجي: من أصحابه هي واجبة، و لكن الشعر المنقول عنه يدل على وجوبه عنده، و يؤيده رواية جابر الجعفي- الذي كان من أصحاب الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام، و في طبقة الفقهاء-، عن أبي جعفر عن أبي مسعود الأنصاري، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«من صلّى صلاة لم يصل فيها عليّ و لا أهل بيتي لم تقبل منه». «1»

و أبو جعفر الجعفي ممَّن ترجمه ابن حجر في تهذيبه، و نقل عن سفيان في حقّه:

ما رأيت أورع في الحديث منه، و قال وكيع: مهما شككتم في شي ء فلا تشكّوا في أنّ جابراً ثقة.

و قال سفيان أيضاً لشعبة: لأن تكلَّمت في جابر الجعفي لأتكلمنَّ فيك إلى غير ذلك. «2»

قال ابن حجر: أخرج الدار قطني و البيهقي حديث من صلّى صلاة و لم يصل فيها عليّ و على أهل بيتي لم تقبل منه، و كأنّ هذا الحديث هو مستند قول الشافعي انّ الصلاة على الآل من واجبات الصلاة، كالصلاة عليه صلى الله عليه و آله و سلم لكنّه ضعيف، فمستنده الأمر في الحديث المتفق عليه، قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد

و على آل محمّد، و الأمر للوجوب حقيقة على الأصحّ. «3»

و قال الرازي: إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، و لذلك جعل هذا الدعاء

______________________________

(1). سنن الدارقطني: 1/ 355.

(2). تهذيب التهذيب: 2/ 46.

(3). الصواعق المحرقة: 234، ط الثانية، عام 1385 ه.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 159

خاتمة التشهد في الصلاة، و قوله: اللّهمّ صلّ على محمّد و على آل محمّد، و ارحم محمّداً و آل محمّد.

و هذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل، فكلّ ذلك يدل على أنّ حبّ آل محمّد واجب، و قال الشافعي:

يا راكباً قف بالمحصَّب من منى و اهتف بساكن خيفها و الناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حبُّ آل محمّدفليشهد الثقلان أنّي رافضي «1»

و قال النيسابوري في تفسيره عند قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى كفى شرفاً لآل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم و فخراً ختم التشهد بذكرهم و الصلاة عليهم في كلّ صلاة. «2»

و روى محب الدين الطبري في الذخائر عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري (رض) عنه انّه كان يقول: لو صلّيت صلاة لم أُصلِّ فيها على محمّد و على آل محمّد ما رأيت أنّها تقبل. «3»

و قال المحقّق الشيخ حسن بن عليّ السقاف: تجب الصلاة على آل النبي صلى الله عليه و آله و سلم في التشهد الأخير على الصحيح المختار، لأنّ أقصر صيغة وردت عن سيدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ثبت فيها ذكر الصلاة على الآل، و لم ترد صيغة خالية منه في صيغ تعليم الصلاة، فقد تقدّم حديث سيدنا زيد بن

خارجة، انّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

______________________________

(1). تفسير الفخر الرازي: 27/ 166، تفسير سورة الشورى

(2). تفسير النيسابوري: تفسير سورة الشورى.

(3). ذخائر العقبى: 19، ذكر الحث على الصلاة عليهم.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 160

«صلّوا عليّ و اجتهدوا في الدعاء، و قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد». «1»

بلاغ و إنذار

لقد تبين ممّا سبق كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم و انّه لا يصلّي عليه إلّا بضم الآل إليه، و مع ذلك نرى أنّه قد راجت الصلاة البتراء بين أهل السنَّة في كتبهم و رسائلهم، مع أنّ هذه البلاغات من النبي صلى الله عليه و آله و سلم نصب أعينهم و لكنَّهم رفضوها عملًا و اكتفوا بالصلاة عليه خاصة، حتى أنّ ابن حجر الهيتمي (899- 974 ه) نقل كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم و لكن كتابه المطبوع ملي ء بالصلاة البتراء. و إليك نصّ ما قال: و يروى لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء، قالوا: و ما الصلاة البتراء، قال: تقولون: اللّهمّ صلّ على محمّد و تمسكون، بل قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد و على آل محمّد و لا ينافي ما تقرر حذف الآل في الصحيحين، قالوا: يا رسول اللَّه: كيف نصلّي عليك؟ قال: قولوا اللّهمّ صلّ على محمّد و على أزواجه و ذريّته، كما صليت على إبراهيم إلى آخره.

لأنّ ذكر الآل ثبت في روايات أُخر، و به يعلم أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: ذلك كلّه فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظه الآخر. «2»

و في الختام نذكر ما ذكره الرازي، انّه قال: أهل

بيته ساووه في خمسة أشياء: في الصلاة عليه و عليهم في التشهد، و في السلام، و الطهارة، و في تحريم الصدقة، و في المحبّة. «3»

______________________________

(1). صحيح صفة صلاة النبي: 214.

(2). الصواعق المحرقة: 146، ط الثانية، عام 1385.

(3). الغدير: 2/ 303، ط طهران نقله عن تفسير الرازي: 7/ 391 و لم نعثر عليه في الطبعتين.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 161

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

5 دفع الخمس إليهم

الأصل في ضريبة الخمس، قوله سبحانه: «وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ...». «1»

نزلت الآية يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان و هي غزوة بدر الكبرى و اختلف المفسرون في تفسير الموصول في «ما غنمتم» هل هو عام لكلّ ما يفوز به الإنسان في حياته، كما عليه الشيعة الإمامية، أو خاص بما يظفر به في الحرب، و هذا بحث مهم لا نحوم حوله، لأنّه خارج عمّا نحن بصدده، و قد أشبعنا الكلام فيه في كتابنا «الاعتصام بالكتاب و السنة» و أثبتنا بفضل القرآن و الأحاديث النبوية انّ الخمس يتعلَّق بكلّ ما يفوز به الإنسان في حياته، و انّ نزول الآية في مورد الغنائم الحربية لا يُخصص الحكم الكلي. «2»

______________________________

(1). الأنفال: 41.

(2). الاعتصام بالكتاب و السنَّة: 91- 105.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 162

إنّما الكلام في تبيين مواضع الخمس، و قد قسم الخمس في الآية إلى ستة أسهم، أعني: للَّه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين

و ابن السبيل.

فالسهمان الأولان واضحان، إنّما الكلام في السهم الثالث و من بعده، فالمراد من ذي القربى هم أقرباء النبي و ذلك بقرينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، و قد سبق منّا القول في تفسير آية المودة: انّ تبيين المراد من القربى رهن القرائن الحافَّة بالآية فربما يراد منها أقرباء الناس، مثل قوله: «وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى . «1» المراد أقرباء المخاطبين، بقرينة قوله: «قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا» نظير قوله: «وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى و المراد أقرباء الميت.

و على ضوء ذلك فإذا تقدَّم عليه لفظ «الرسول» يكون المراد منه أقرباء الرسول كما في الآية «لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى ، و مثله قوله: «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ». «2» و قوله: «فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ». «3» فالمراد من ذي القربى هم أقرباء الرسول بقرينة توجَّه الخطاب إليه أعني «فآت».

و منه يعلم المراد من المساكين في الآيتين و آية الخمس، أي مساكين ذي القربى و أيتامهم و أبناء سبيلهم.

هذا هو المفهوم من الآية، و على ما ذكرنا فكلّ ما يفوز به الإنسان في مكسبه و مغنمه أو ما يفوز به في محاربة المشركين و الكافرين، يُقسم خمسه بين ستة سهام كما عرفت.

______________________________

(1). الأنعام: 152.

(2). الحشر: 7.

(3). الروم: 38.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 163

و يؤيده الروايات التالية:

1. روي عن ابن عباس: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقسّم الخمس على ستة: للَّه و للرسول سهمان و سهم لأقاربه، حتى قبض.

«1»

2. و روي عن أبي العالية الرياحي: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة فتكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثمّ يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة و هو سهم اللَّه، ثمّ يقسَّم ما بقي، على خمسة أسهم: فيكون سهم للرسول، و سهم لذي القربى و سهم لليتامى، و سهم للمساكين، و سهم لابن السبيل. قال: و الذي جعله للكعبة فهو سهم اللَّه. «2»

و أمّا تخصيص بعض سهام الخمس بذي القربى و من جاء بعدهم من اليتامى و المساكين و ابن السبيل، فلأجل الروايات الدالة على أنّه لا تحل لهم الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس.

أخرج الطبري عن مجاهد، انه قال: كان آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم الخمس «3».

و أخرج ايضاً عنه: قد علم اللَّه أنّ في بني هاشم الفقراء فجعل لهم الخمس مكان الصدقة «4».

كما تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ السهام الأربعة من الخمس، لآل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم. «5»

______________________________

(1). تفسير النيسابوري: 10/ 4، المطبوع بهامش الطبري.

(2). تفسير الطبري: 10/ 4؛ أحكام القرآن: 3/ 60.

(3). الظاهر زيادة لفظ «خمس» بقرينة ما نقله ثانياً عن مجاهد.

(4). تفسير الطبري: 10/ 5.

(5). الوسائل: 6/ الباب 29 من أبواب المستحقّين للزَّكاة.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 164

هذا ظاهر الآية و يا للأسف لعب الاجتهاد دوراً كبيراً في تحويل الخمس عن أصحابه و ظهرت أقوال لا توافق النص القرآني، و إليك مجملًا من آرائهم:

1. قالت الشافعية و الحنابلة: تقسم الغنيمة، و هي الخمس إلى خمسة

أسهم: واحد منها سهم الرسول و يصرف على مصالح المسلمين، و واحد يعطى لذوي القربى و هم من انتسب إلى هاشم بالابوة من غير فرق بين الأغنياء و الفقراء، و الثلاثة الباقية تنفق على اليتامى و المساكين و أبناء السبيل سواء أ كانوا من بني هاشم أو من غيرهم.

2. و قالت الحنفية: إنّ سهم الرسول سقط بموته، أمّا ذوو القربى فهم كغيرهم من الفقراء يعطون لفقرهم لا لقرابتهم من الرسول.

3. و قالت المالكية: يرجع أمر الخمس إلى الإمام يصرفه حسبما يراه من المصلحة.

4. و قالت الإمامية: إنّ سهم اللَّه و سهم الرسول و سهم ذوي القربى يفوِّض أمرها إلى الإمام أو نائبه، يضعها في مصالح المسلمين، و الأسهم الثلاثة الباقية تعطى لأيتام بني هاشم و مساكينهم و أبناء سبيلهم و لا يشاركهم فيها غيرهم. «1»

5. و قال ابن قدامة في المغني بعد ما روى أنّ أبا بكر و عمر قسَّما الخمس على ثلاثة أسهم: و هو قول أصحاب الرأي أبي حنيفة و جماعته، قالوا: يقسم الخمس على ثلاثة: اليتامى، و المساكين، و ابن السبيل، و أسقطوا سهم رسول اللَّه بموته و سهم قرابته أيضاً.

6. و قال مالك: الفي ء و الخمس واحد يجعلان في بيت المال.

7. و قال الثوري: و الخمس يضعه الإمام حيث أراه اللَّه عزّ و جلّ.

______________________________

(1). الفقه على المذاهب الخمسة: 188.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 165

و ما قاله أبو حنيفة مخالف لظاهر الآية فإنّ اللَّه تعالى سمّى لرسوله و قرابته شيئاً و جعل لهما في الخمس حقاً، كما سمّى الثلاثة أصناف الباقية، فمن خالف ذلك فقد خالف نصّ الكتاب، و أمّا جعل أبي بكر و عمر سهم ذي

القربى في سبيل اللَّه، فقد ذكر لأحمد فسكت و حرك رأسه و لم يذهب إليه، و رأى أنّ قول ابن عباس و من وافقه أولى، لموافقته كتاب اللَّه و سنة رسوله. «1»

و قد أجمع أهل القبلة كافة على أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يختص بسهم من الخمس و يخص أقاربه بسهم آخر منه، و أنّه لم يعهد بتغيير ذلك إلى أحد حتى دعاه اللَّه إليه، و اختار اللَّه له الرفيق الأعلى.

فلمّا ولى أبو بكر تأوّل الآية فأسقط سهم النبي و سهم ذي القربى بموت النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و منع بني هاشم من الخمس، و جعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين و مساكينهم و أبناء السبيل منهم.

قال الزمخشري عن ابن عباس: الخمس على ستة أسهم: للَّه و لرسوله سهمان، و سهم لأقاربه، حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة، و كذلك روي عن عمر و من بعده من الخلفاء، قال: و روي أنّ أبا بكر منع بني هاشم الخمس. «2»

و قد ارسلت فاطمة عليها السلام، تسأله ميراثها من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم مما أفاء اللَّه عليه بالمدينة وفدك و ما بقي من خمس خيبر، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت، و عاشت بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ستة أشهر،

______________________________

(1). الشرح الكبير على هامش المغني: 10/ 493- 494.

(2). الكشاف: 2/ 126.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 166

فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلًا و لم يؤذن بها أبا بكر

و صلّى عليها. «1»

و في صحيح مسلم عن بريد بن هرمز، قال: كتب نجدة بن عامر (الحروري الخارجي) إلى ابن عباس، قال ابن هرمز: فشهدت ابن عباس حين قرأ الكتاب و حين كتب جوابه، و قال ابن عباس: و اللَّه لو لا أن أرد عن نَتْن يقع فيه، ما كتبت إليه و لا نُعْمةَ عينٍ، قال: فكتب إليه إنّك سألت عن سهم ذي القربى الذي ذكرهم اللَّه من هم؟ و إنّا كنّا نرى أنّ قرابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم هم نحن فأبى ذلك علينا قومنا. «2»

______________________________

(1). صحيح البخاري: 3/ 36 باب غزوة خيبر.

(2). صحيح مسلم: 2/ 105، كتاب الجهاد و 167 السير، باب النساء الغازيات.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 167

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

6 الفي ء لأهل البيت عليهم السلام

اشارة

الفي ء عبارة عن الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بلا خيل و لا ركاب، فإنّ هذه الأموال تقع تحت تصرّف الرسول صلى الله عليه و آله و سلم باعتباره رئيساً للدولة الإسلامية، و كان الفي ء في حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أمراً هاماً في تنمية الثروة في المجتمع الإسلامي و لا سيما انتقال الثروة من يد الأغنياء إلى يد الفقراء.

و الأساس فيه قوله سبحانه: «وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ». «1»

«ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ

ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ». «2»

بَين سبحانه أحكام الفي ء، و قال: «وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ»

______________________________

(1). الحشر: 6.

(2). الحشر: 7.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 168

الضمير يرجع إلى اليهود، و لكن الحكم سار على جميع الكفّار.

«فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ» أي الفي ء عبارة عن الأموال التي استوليتم عليها بلا إيجاف خيل و لا إبل و لم تسيروا إليها على خيل و لا إبل.

هذا هو الفي ء، و أمّا المواضع التي يصرف بها هذا الفي ء فقد بيَّنها سبحانه في الآية الثانية، و قال: «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ، أي ما ردَّ ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك اللَّه إيّاهم ذلك، «فَلِلَّهِ» و «لِلرَّسُولِ» و «لِذِي الْقُرْبى ، فهو للَّه بالذات و للرسول و لذي القربى بتمليك اللَّه إيّاه.

و المراد من ذي القربى بقرينة الرسول أهل بيت رسول اللَّه و قرابته، و هم بنو هاشم.

«وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» أي منهم، بقرينة الرسول، فيكون المعنى و يتامى أهل بيته و مساكينهم و أهل السبيل منهم.

و على ذلك فالفي ء يقسم على ستة أسهم:

1. سهم للَّه المالك لكلّ شي ء غير محتاج لشي ء، جعل نفسه قريناً لسائر الاسم تكريماً السهام.

2. سهم الرسول و هو يؤمن بذلك حاجاته و حاجة الدولة الإسلامية.

3. سهم ذوي القربى أي أقرباء الرسول، فبما أنّ الصدقة تحرم عليهم حلّ ذلك محلّه.

4. سهم اليتامى

5. سهم المساكين.

6. سهم أبناء السبيل.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 169

و بكلمة جامعة:

«الغنيمة»- كلّ ما أُخذ من دار الحرب بالسيف عنوة مما يمكن نقله إلى دار الإسلام، و ما

لا يمكن نقله إلى دار الإسلام- لجميع المسلمين ينظر فيه الإمام، و يصرف انتفاعه إلى بيت المال لمصالح المسلمين.

«الفي ء»- كلّ ما أخذ من الكفّار بغير قتال أو انجلاء أهلها- للنبي، يضعه في المذكورين في هذه الآية، و لمن قام مقامه من الأئمّة و قد بيّنه سبحانه في ضمن الآيتين. «1»

______________________________

(1). التبيان: 9/ 564.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 170

من حقوق اهل البيت عليهم السلام

7 الأنفال لأهل البيت عليهم السلام

وردت لفظة «الأنفال» في القرآن مرتين في آية واحدة، قال سبحانه: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ». «1»

أقول: إنَّ الضرائب الواردة في القرآن الكريم لا تتجاوز الأربع:

أ: الزكاة و مقسمها ثمانية.

ب: الخمس و مقسمه هو الستة.

ج: الفي ء و مقسمه مقسم الخمس كما عرفت.

د: الأنفال و مقسمها اثنان، و هما ما ذكر في الآية من قوله: «لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ»، لكن الكلام في بيان المراد من الأنفال.

اختلف المفسّرون في تفسير الأنفال اختلافاً كثيراً، و الذي يمكن أن يقال انّ الأنفال من النفل و هو الزائد من الأموال، فيشمل كلّ زائد عن حاجات

______________________________

(1). الأنفال: 1.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 171

الحياة، و لكن السنة المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام فسرته بالنحو التالي:

1. روى حفص البختري عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل أو ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أُعطوا بأيديهم، و كلّ أرض خربة، و بطون الأودية، فهو لرسول اللَّه، و هو للإمام بعده يضعه حيث يشاء». «1»

2. و روى حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن الإمام الكاظم عليه السلام

في حديث: «و الأنفال كلّ أرض خربة باد أهلها، و كلّ أرض لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب و لكن صالحوا صلحاً و أعطوا بأيديهم على غير قتال، و له رءوس الجبال و بطون الأودية و الآجام و كلّ أرض ميتة لا ربّ لها، و له صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب، لأنّ الغصب كلّه مردود، و هو وارث من لا وارث له، يعول من لا حيلة له». «2»

3. موثقة إسحاق بن عمّار المروية في تفسير القمي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الأنفال، فقال عليه السلام: «هي القرى التي قد خربت و انجلى أهلها، فهي للَّه و للرسول صلى الله عليه و آله و سلم، و ما كان للملوك فهو للإمام، و ما كان من الأرض الخربة لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، و كلّ أرض لا ربّ لها، و المعادن منها، من مات و ليس له مولى فماله من الأنفال». «3»

إلى غير ذلك من الروايات.

و على الرواية الأُولى يكون الفي ء من أقسام الأنفال، و لم نجد في تفاسير أهل السنة من يوافق الشيعة الإمامية في تفسير الأنفال إلّا شيئاً قليلًا، فقد عقد أبو

______________________________

(1). و على هذا يكون الفي ء قسماً من الأنفال.

(2). وسائل الشيعة: 6، الباب الأوّل من أبواب الأنفال، الحديث 1، 4، 20.

(3). وسائل الشيعة: 6، الباب الأوّل من أبواب الأنفال، الحديث 1، 4، 20.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 172

إسحاق الشيرازي باباً للأنفال و فسرها بقوله: يجوز لأمير الجيش أن ينفل لمن فعل فعلًا يفضي إلى الظفر بالعدو، كالتجسيس، و الدلالة على طريق أو قلعة، أو التقدم بالدخول إلى دار

الحرب أو الرجوع إليها بعد خروج الجيش منها. «1»

______________________________

(1). المهذب في فقه الإمام الشافعي: 2/ 243.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 173

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

8 ترفيع بيوتهم

لقد أذن اللَّه تعالى في ترفيع البيوت التي يذكر فيها اسمه و يسبِّح له بالغدوِّ و الآصال في آية مباركة، و قال: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ». «1»

و تفسير الآية رهن دراسة أمرين:

الأوّل: ما هو المقصود من البيوت؟

الثاني: ما هو المراد من الرفع؟

أمّا الأوّل فربما قيل انّ المراد من البيوت هو المساجد.

قال صاحب الكشّاف: «فِي بُيُوتٍ» يتعلّق بما قبله، مثل نوره كمشكاة في بعض بيوت اللَّه، و هي المساجد. «2»

و لكن الظاهر أنّ التفسير غير صحيح، لأنّ البيت هو البناء الذي يتشكَّل

______________________________

(1). النور: 36- 37.

(2). الكشاف: 2/ 389.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 174

من جدران أربعة و عليها سقف قائم، فالكعبة بيت اللَّه لأجل كونها ذات قوائم أربعة و عليها سقف، و القرآن يعزّ عن البيت بالمكان المسقَّف، و يقول: «وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ». «1»

فالمستفاد من الآية أنّ البيت لا ينفك عن السقف، هذا من جانب. و من جانب آخر: لا يشترط في المساجد وجود السقف، هذا هو المسجد الحرام تراه مكشوفاً تحت السماء و دون سقف يظلّله.

و قد ورد لفظ البيوت في القرآن الكريم (36 مرّة) بصور مختلفة،

و استعمل في غير المسجد، يقول سبحانه: «طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ». «2». «وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ». «3»

إلى غير ذلك من الآيات، فكيف يمكن تفسيره بالمساجد؟

و بما أنّ جميع المساجد ليس على هذا الوصف، التجأ صاحب الكشاف بإقحام كلمة «بعض»، و قال: في بعض بيوت اللَّه و هي المساجد، و هو كما ترى، و هناك حوار دار بين قتادة فقيه البصرة و أبي جعفر الباقر عليه السلام يؤيد ما ذكرنا.

حضر قتادة في مجلس الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال له الإمام: من أنت؟

قال: أنا قتادة بن دعامة البصري.

فقال أبو جعفر: أنت فقيه أهل البصرة؟

فقال: نعم. قال قتادة: أصلحك اللَّه، و لقد جلستُ بين يدي الفقهاء و قدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام واحد منهم، ما اضطرب قدامك!

______________________________

(1). الزخرف: 33.

(2). البقرة: 125.

(3). الأحزاب: 34.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 175

فقال أبو جعفر عليه السلام: ما تدري أين أنت؟ أنت بين يدي «بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ» و نحن أُولئك.

فقال له قتادة: صدقت، و اللَّه جعلني فداك، و اللَّه ما هي بيوت حجارة و لا طين. «1»

و يؤيّد ما رواه الصدوق في الخصال عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: ان اللّه اختار في البيوتات أربعة ثمّ قرأ هذه الآية: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ». «2» «3»

و على هذا الحوار

فالمراد من البيت، بيت الوحي و بيت النبوَّة، و من يعيش في هذه البيوت من رجال لهم الأوصاف المذكورة في الآية الكريمة.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل،.

و أمّا الأمر الثاني، أعني ما هو المراد من الرفع؟ فيحتمل وجهين:

الأوّل: أن يكون المراد الرفع المادي الظاهري الذي يتحقق بإرساء القواعد و إقامة الجدار و البناء، كما قال سبحانه: «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ». «4» و على هذا تدل الآية على جواز تشييد بيوت الأنبياء و الأولياء و تعميرها في حياتهم بعد مماتهم.

الثاني: أن يكون المراد الرفع المعنوي و العظمة المعنوية، و على هذا تدل الآية بتكريم تلك البيوت و تبجيلها و صيانتها و تطهيرها مما لا يليق بشأنها.

______________________________

(1). البرهان في تفسير القرآن: 3/ 138.

(2). آل عمران: 33- 34.

(3). الخصال: 1/ 107.

(4). البقرة: 127.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 176

قال الرازي: المراد من رفعها، بنائها لقوله تعالى: «رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها» «1» و ثانيها «تُرْفَعَ» اي تعظم. «2»

هذا كلّه حسب ما تدل عليه الآية، و أمّا بالنظر إلى الروايات فنذكر منها ما يلي:

1. روى الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك و بريدة، انّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قرأ قوله تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» فقام إليه رجل و قال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللَّه؟

فقال ص: بيوت الأنبياء.

فقام إليه أبو بكر و قال: يا رسول اللَّه، و هذا البيت منها؟ و أشار إلى بيت علي و فاطمة عليهما السلام.

فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: نعم من أفاضلها. «3»

2. روى ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد و أبي يوسف، يعقوب بن سفين، قال ابن

عباس في قوله تعالى: «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً»: إنّ دحية الكلبي جاء يوم الجمعة من الشام بالميرة، فنزل عند احجار الزيت، ثمّ ضرب بالطبول ليؤذن الناس بقدومه، فمضوا الناس إليه إلّا علي و الحسن و الحسين و فاطمة عليهم السلام و سلمان و أبو ذر و المقداد و صهيب، و تركوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم قائماً يخطب على المنبر، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: قد نظر اللَّه يوم الجمعة إلى مسجدي فلولا

______________________________

(1). النازعات: 28.

(2). تفسير الفخر الرازي: 24/ 3.

(3). تفسير الدر المنثور: 5/ 50.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 177

هؤلاء الثمانية الذين جلسوا في مسجدي لأضرمت المدينة على أهلها ناراً، و حُصّبوا بالحجارة كقوم لوط، و نزل فيهم رجال لا تلهيهم تجارة. (1)

و قد وصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هؤلاء الرجال الذين يسبِّحون في تلك البيوت؛ عند تلاوته: «رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ»: و إنّ للذكر لأهلًا أخذوه من الدُّنيا بدلًاً، فلم يشغلهم تجارة و لا بيع عنه، يقطعون به أيام الحياة، و يهتفون بالزواجر عن محارم اللَّه في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط و يأتمرون به، و ينهون عن المنكر و يتناهون عنه فكأنَّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنّما اطَّلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، و حقَّقت القيامة عليهم عِداتهُا، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا، حتى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون. «1»

______________________________

(1). نهج البلاغة: الخطبة 222.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن،

ص: 178

خاتمة المطاف أهل البيت في كلام الإمام علي عليه السلام

إلى هنا تمّ ما أردنا استعراضه من سماتهم و حقوقهم في القرآن الكريم، و لو حاول الباحث أن يستعرض أوصافهم و خصوصيّاتهم الواردة في الأحاديث النبوية لاحتاج إلى تأليف مفرد، و بما انّ محور بحوثنا هو القرآن الكريم اقتصرنا على ذلك، و هذا لا يمنعنا أن نذكر ما روي عن علي عليه السلام في ذلك المجال:

1. يقول في حقّهم: «... فَإنّهم عيش العلم، و موت الجهل، هم الذين يُخبركم حُكمُهم عن علمهم، و صَمتُهم عن منطقهم، و ظاهرهُم عن باطنهم، لا يخالفون الدين، و لا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهدُ صادق، و صامت ناطق». «1»

2. و في خطبة أُخرى: «لا يقاس بآل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم من هذه الأُمّة أحد، و لا يُسوَّى بهم مَن جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساسُ الدين، و عمادُ اليقين، إليهم يفي ءُ الغالي، و بهم يُلحق التالي، و لهم خصائص حقِّ الولاية، و فيهم الوصية و الوراثة، الآن إذا رجع الحقّ إلى أهله، و نُقل إلى منتقله». «2»

______________________________

(1). نهج البلاغة: الخطبة 147.

(2). نهج البلاغة: الخطبة 2.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 179

3. و قال عليه السلام: «نحنُ الشعار و الأصحاب، و الخزنة و الأبواب، و لا تؤتى البيوتُ إلّا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارقاً».

فيهم كرائمُ القرآن، و هم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، و إن صمتوا لم يسبقوا. «1»

4. و قال عليه السلام: «ألا إنّ مثل آل محمّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم، كَمَثَلِ نجوم السَّماء: إذا خوى نجم، طَلَعَ نَجم، فكأنّكم قد تكاملت من اللَّه فيكم الصنائع، و أراكم ما كنتم تأملون». «2»

5.

و قال عليه السلام: «ألا و إنّ لكلِّ دمٍ ثائراً، و لكلِّ حقٍّ طالباً و إنَّ الثّائِرَ في دمائِنا كالحاكِمِ في حقِّ نفسِهِ، و هُوَ اللَّهُ الذي لا يُعجِزُهُ من طَلَبَ، و لا يفُوتُهُ من هرب». «3»

6. و قال عليه السلام: «أيّها الناس، خذوها عن خاتم النبيّين صلى الله عليه و آله و سلم: إنّه يموت من ماتَ منّا و ليس بميِّت، و يبلى من بَلي منَّا و ليس ببال»، فلا تقولوا بما لا تعرِفُون، فإنّ أكثرَ الحقِّ فيما تُنكِرون، و اعذِروا من لا حُجّة لكم عليه- و هو أنّا- أ لم أعمل فيكم بالثّقل الأكبر، و أترُك فيكم الثقل الأصغر، قد ركزتُ فيكُمْ راية الإيمانِ، و وقفتُكُم على حُدودِ الحلالِ و الحرام، و ألبستُكُمُ العافيةَ من عدلي، و فرشتكم المعروف من قولي و فعلي، و أريتُكُم كرائمَ الأخلاقِ من نفسي، فلا تستعملوا الرأيَ فيما لا يُدْرِكُ قعرَهُ البصرُ، و لا تتغلغل إليهِ الفِكر». «4»

إلى غير ذلك الكلمات الناصعة في خطبه و رسائله و قصار كلمه مما نقله

______________________________

(1). نهج البلاغة: الخطبة 154.

(2). نهج البلاغة: الخطبة 100.

(3). نهج البلاغة: الخطبة 105.

(4). نهج البلاغة: الخطبة 87.

اهل البيت عليهم السلام سماتهم و حقوقهم فى القرآن، ص: 180

الرضي في «نهج البلاغة» و غيره في الكتب الحديثية و التاريخية، و لنقتصر على ذلك فانّ الإفاضة في القول في هذا المضمار يوجب الإطالة.

*** و آخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم- مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

في صبيحة يوم الثلاثاء الموافق ل 12 من شهر رمضان المبارك

من شهور عام 1420 ه

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.