فاطمه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) من المهد الی اللحد

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: قزویني، محمد كاظم، 1308 - 1373

عنوان المؤلف واسمه: فاطمه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) من المهد الی اللَّحد/محمدكاظم القزویني.

عنوان المؤلف واسمه: قم: دارالانصار، 1427ھ، =2006م، =1385.

مواصفات المظهر: 571ص.

شابك : 964-8956-21-9

حالة الاستماع: الفهرسة الوصفية

لسان : العربية

ملحوظة: الطبعة الثانية.

ملحوظة: ببليوغرافيا مع ترجمة.

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1659773

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

الاهداء

إلی سَیّدنا و مَولانا بقیّة العتْرَة الطَاهِرة الإِمَام المهدي المنْتظر «علیه السلام».

إلیْه أهدي هذه الصفحات المشرقة المتلألئة بحیاة جدّته الصدّیقة الطّاهرة، ملكة الإسلام فاطمة الزهراء (صلوات اللّه علیها).

و أنا واثق أن هذهِ الخِدْمَة الضئیلة ستقع منه موقع الرضَا و القَبول بإذن اللّه تعالی.

العراق كربلاء

محمدكاظم القزویني

ص: 4

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحیم

الحمد للّه حمداً كثیراً كما یرضي، و صلی اللّه علی سیدنا محمد المصطفي و آله الطاهرین سادات الوری.

و بعد: انقضت سنوات و أنا أُحدِّث نفسي أن أقوم بتألیف كتاب یتضمن ما تیسَّر من حیاة الصدِّیقة الطاهرة فاطمة الزهراء، علیها و علی أبيها و بعلها و بنیها الصلاة و السلام.

كنت أشعر بضرورة هذا العمل، وكانت رغبتي ملحَّة جداً، وذلك لما كنت أجده من النقص الذي یشبه الفراغ في المكتبة العربية والإسلامية بالنسبة لهذه الشخصیة.

و لا أقصد- بكلامي هذا- انتقاصَ الكتب و المؤلفات التي دوّنت حول ترجمة سیدة نساء العالمین، بل أقصد أن تلك المؤلفات- القدیمة منها و الحدیثة- لا تسد الحاجة، و لا تملأ الفراغ الذي یشعر به كل من یرید الإطلاع علی حیاة السیدة الزهراء (علیها السلام).

و تلك المؤلفات لا تفي بالغرض، بل هي دون مقام السیدة فاطمة الزهراء و لا تؤدّي ما تستحقه شخصیة عزیزة رسول اللّه و أحب الناس إلیه،

ص: 5

لأن شخصیة الصدِّیقة الطاهرة تستوجب التنویه و الإشادة بها أكثر و أكثر من هذا.

و لا أدَّعي أنني أستطیع النهوض بهذا العب ء الثقیل و استیفاء الغرض، و تحصیل الغایة كما ینبغي، بل أعترف بالعجز و القصور الملازمین لفكري و لساني و قلمي.

و هكذا انقضت الأیام و الأعوام، و الهواجس تعاودني بین فترة و أخری و هناك العوائق التي تحول دون تحقیق هذه الأمنیة.

و قبل فترة غیر بعیدة هبَّت علیَّ عاصفة من الحوادث و خیَّمت علی حیاتي سحائب الهموم، فنذرت للّه تعالی:- إن كشف عني الضر و السوء- أن أبادر إلی تألیف كتابٍ حول حیاة الصدِّیقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام).

فكشف اللّه عني الضر برحمته، فله الحمد و له الشكر. و ها أنا قد شرعت بتحریر هذه السطور و الأوراق، و ما أدري أین ینتهي بي المطاف، و اللّه المستعان، و هو خیر المستعان، و هو حسبي و نعم الوكیل في المبدأ و المآل و هو خیر موفق و معین.

محمد كاظم القزویني

26 جمادي الثانية 1392 ه

كربلا المقدسه- العراق

ص: 6

المدخل

بسم اللّه الرحمن الرحیم

فاطمة..!

و ما أدراك من فاطمة؟!

شخصیة إنسان تحمل طابع الأنوثة لتكون آیةً علی قدرة اللّه البالغة و اقتداره البدیع العجیب، فإن اللّه تعالی خلق محمداً (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لیكون آیة قدرته في الأنبیاء، ثم خلق منه بضعته و ابنته فاطمة الزهراء لتكون علامة و آیة علی قدرة اللّه في إبداع مخلوق أُنثی تكون كتلة من الفضائل،و مجموعة من المواهب فلقد أعطی اللّه تعالی فاطمة الزهراء أوفر حظ من العظمة،و أوفي نصیب من الجلالة بحیث لا یمكن لأیة أنثی أن تبلغ تلك المنزلة.

فهی من فصیلة أولیاء اللّه الذين اعترفت لهم السماء بالعظمة قبل أن یعرفهم أهل الأرض، و نزلت في حقهم آیات محكمات في الذكر الحكیم، تتلی آناء اللیل و أطراف النهار منذ نزولها إلی یومنا هذا، و إلی أن تقوم القیامة.

شخصیة كلما ازداد البشر نضجاً و فهماً للحقائق، و اطلاعاً علی الأسرار ظهرت عظمة تلك الشخصیة بصورة أوسع، و تجلّت معانیها و مزایاها بصُوَر أوضح.

إنها فاطمة الزهراء، اللّه یثني علیها، و یرضي لرضاها و یغضب لغضبها.

ص: 7

و رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ینوِّه بعظمتها و جلالة قدرها.

و أمیرالمؤمنین (علیه السلام) ینظر إلیها بنظر الإكبار و الإعظام.

و أئمة أهل البیت (علیهم السلام) ینظرون إلیها بنظر التقدیس و الاحترام. سیده، باسمها قامت حكومات، و تاسست عروش و باسمها انهات عروش و تقوضت حكومات.

و بحبِّها سوف تری الناس یدخلون الجنه افواجا.

و لاجل الانحراف عنها سیق الذين كفروا الی جهنم زمرا.

و انني اعتقدان الكتاب- بما فيه- یكون عظیم النفع، غزیر الفائدة، حلو الحدیث، تستأنس به النفس، و تستعذ به الروح إلی غیر ذلك مما یدركه القارئ و لا یمكن وصفه.

إذ أن التحدث عن حیاة السیدة فاطمة الزهراء یشتمل علی حوادث كلها عِبَر و حِكَم و دروس، یتعرف الإنسان بها علی حیاة أولیاء اللّه و خاصته، و كیفية نظرتهم إلی الحیاة، و یطلّع علی جانب من التاریخ الإسلامي المتعلق بحیاة السیدة فاطمة الزهراء بالرغم من قصر عمرها، و أنها كانت تعیش في خدرها، لا یطلَّع أحد علی معاشرتها، و سلوكها في البیت إلا أسرتها و ذووها.

و بالرغم من أن التاریخ ظلمها، و لم یُعِر لحیاتها و ترجمتها اهتماماً لائقاً بها. فالتحدث عن عبقریة السیدة فاطمة الزهراء یعتبر تحدثاً عن المرأة في الإسلام من حیث حفظ كرامتها، و الاعتراف باحترامها و شخصیتها. و یشمل التحدث نموذجاً من المرأة بصفتها بنتاً في دار أبیها، و زوجة في دار بعلها، و أمًّا و مربیّة في البیت الزوجي.

ص: 8

و لا یخلو الكلام- هنا- عن التحدث عن المرأة في الإسلام بصفتها إنسانة یُسمح لها بالعمل في الحقل الاجتماعي، و لكن في إطار محدود بحدود الدین و العفة، و المحافظة علی الشرف و الكیان.

و یتَّضح- ضمناً- أن الإسلام لا یحرم المرأة عن العلم و الثقافة و الأدب و المعرفة و لكن مع رعایة الابتعاد عن التبرج و الاستهتار و الاختلاط، و ما شابه ذلك مما یسبّب الویلات علی المرأة المسكینة و یدمِّر كیانها.

إنني أعتقد أن لیس من الممكن أن یوجد في العالم قانون أو نظام أو جهاز یحافظ علی حرمة المرأة و كیانها و شرفها أكثر من محافظة الدین الإسلامي لذلك. فالجمعیات و المنظّمات النسائية في البلاد الإسلامية لم تنفع المرأة أبداً بل قد جلبت علیها الشقاء بصورة فظیعة.

و قد قرأت في بعض الصحف أن إحدی المنظَّمات النسائية تطالب حكومتها أن تضع قانوناً لمنع تعدد الزوجات!!

إن المنظَّمة تعتبر تعدُّد الزوجات ظلماً و اعتداءً علی المرأة. فهي تطالب بإیقاف الرجل عند حدِّه، لئلا یطمع في أكثر من امرأة.

إن المنظمة جاهلة أو متجاهلة إنّها بعملها هذا تفتح علی المرأة أبواب الفساد و الشقاء، و تغلق علیها أبواب السعادة الزوجية ولذة الأمومة.

فإذا خُیِّرت المرأة بین أن تتزوج برجل متزوج أو تبقی جلیسة بیتها حتی یبیض شعرها كأسنانها، و إلی أن یأتیها الموت و هي واحدة من اثنتین:

إما أن تقضي معظم حیاتها- بما في ذلك من عنفوان شبابها- بالكبت و الضغط و الحرمان من ملاذ الحیاة.

و إما إن تفسح لنفسها المجال، و تطلق لنفسها الحریة الكاملة، فتحضر السهرات،و تشترك في الحفلات و تراقص الرجال و و....

ص: 9

ثم تفتح عینها فإذا بها مفقودة الشرف، مسلوبة العفاف، محطّمة الشخصیة، ملوثة الساحة، مشوّهة السمعة، یرغب بها الرجال ما دامت طریّة و شهیّة، فإذا فقدت محاسنها، و ذبلت مفاتنها یمجّها كل أحد و ینبذها كل رجل.

إذا خیّرت المرأة بین عدم الزواج و حیاة العزوبة التي تنتهي بها إلی أحد المصیرین المذكورین، و بین أن تتزوج برجل متزوج، و تتمتع بالسعادة الزوجية تحت ظل العدالة الإسلامية، فهي محفوظة الشرف، سلیمة العفاف، نزیهة السمعة، طاهرة الصحیفة و الساحة تنتج أطفالاً، و تكوِّن أسرة، و تصلح أجزاء المجتمع، أیهما أفضل و أحسن؟؟

هذان طریقان، لا ثالث لهما، فإن عدد النساء في العالم أكثر من عدد الرجال، و لو اكتفي كل رجل بامرأة واحدة لبقیت هناك الملایین من النساء بغیر أزواج. ثم هناك رجال لا تكفيهم امرأة واحدة، و هناك نساء لا تنسجم غرائزهن مع غرائز أزواجهن من حیث التجاوب و الرغبة. أضنف إلی هذا كله أن المرأة في معرض العقم و المرض و السفر إلی غیر ذلك مما یطول الكلام بذكره، و لا أقصد في كتابي هذا التطرق إلی هذه المواضیع و إنما (الكلام یجرُّ الكلام)، و الشي ء بالشي ء یذكر.

أعود- و العود أحمد- إلی حدیثي عن الصدِّیقة فاطمة الزهراء، فلا علیك أن تعلم أن من أعجب الغرائب، و أغرب العجائب أن شخصیة كشخصیة فاطمة الزهراء التي هي في أوج العظمة، و ذروة الشرف و قمّة الفضیلة- تصبح هدفاً للأقلام المسمومة، و الغارات القاسیة التي شنّها بعض المسلمین و غیرهم.

و یظهر لك هذا بكل وضوح حینما تراجع كتب الأحادیث الزاخرة

ص: 10

بفضائل هذه الشخصیة، تری إلی جانبها أحادیث افتعلتها ید الدسِّ و العداء، و اختلقتها ألسنة الشحناء و البغضاء من سماسرة الحدیث الوضّا عین الكذّابین، الذين كانوا أبواقاً للسلطات الماضیة، ینفثون بما یوحی إلیهم شیاطینهم من زخرف القول و الكذب و الزور و البهتان، شأن من یشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق.

إنهم كتبوا بأقلام العداء و محابر النفاق تلبیة لمن اشتری منهم دینهم و ضمائرهم، و هم غیر مبالین بما في تزویرهم- هذا- من حطِّ مقام صاحب الشریعة النبي الأقدس (صلی اللّه علیه و آله و سلم) غیر مكترثین بما في كلامهم ذاك من التناقض للأحادیث المتواترة المدوّنة في صحاحهم في فضل السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام)

و كأنهم یعجبهم المس بكرامة الصدِّیقة فاطمة الزهراء إجابة لنداء ضمائرهم، و هم یعلمون أنها عترة الرسول، و أحبُّ الناس إلیه، و عزیزته و حبیبته و كأنهم لا یستطیعون التصریح بتدنیس ساحة الرسول الأعظم مباشرة فاختاروا الطریق الملتوي غیر المباشر، كل ذلك إشباعاً لرغباتهم الجهنَّمیة.

و ما أدري ما هي الدوافع إلی هذا الهجوم العنیف القاسي علی شخصیة فاطمة الزهراء؟

و ما هي أسباب هذا العداء العمیق العجیب؟

فالیست ابنة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و قرّة عینه و ثمرة فؤاده،و روحه التي بین جنبیه؟!

فهل كانت الزهراء خلیفة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فدفعتهم الدوافع للمسّ من كرامتها كما أساءوا إلی زوجها العظیم بنفس تلك الدوافع؟

ص: 11

ثم ما هذا التركیز و الإلحاح علی محاربة شخصیتها؟

هل لكونها بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)؟

فلماذا لا نجد هذه الظاهرة في حق سائر بنات النبي؟

أم لأنها زوجة الإمام علي (علیه السلام)؟

فقد تزوَّج الإمام أمیرالمؤمنین بعدها بأربع نساء، فلماذا لا نجد هذا التهریج و الإرجاف في حقهن؟

إنني لا أتصور للسیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ذنباً سوی أنها كانت أحبُّ الناس إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و هي المفضلَّة علی بقیة بناته و زوجاته و أنها كانت المدافعة و المحامیة عن حقوق زوجها.

و أنها حضرت في المسجد، و طالبت بحقوقها المغتصبة و أموالها التي جعلتها اللّه و رسوله لها و أنها احتجت علی رئیس الدولة یومذاكِ (1) .

و أمثالها من الفضائل و الفواضل التي خصّها اللّه بها دون النساء.

فهل هذه ذنوب تبرّر و تبیح للمسلمین أن یذكروها بما لا یناسب قدسیّتها و نزاهتها؟

و قد كان للمستشرقین الأجانب «من الیهود و النصاری» دور مهم في هذا المجال فلقد حاولوا المسّ بكرامة مقدّسات الإسلام و المسلمین، فالتقطوا الأ باطیل والأ ساطیر سقطات القول و نشروها في أوساطهم.

و جاء بعض المسلمین و ترجموا تلك الكتب المسمومة و طبعوها و نشروها في البلاد الإسلامية، بدون أي تعلیق أو تهذیب أو تنقیح، كأن نوایاهم تتفق مع المستشرقین حول محتویات تلك الكتب.

و الأفضل أن ننقل- هنا- مثالاً- لما نحن فيه- عن الجزء الثالث من

ص: 12


1- سیأتيك التفصیل في شرح خطبها في مسجد ابیها الرسول.

كتاب الغدیر ص10 للمرحوم شیخنا الأمیني مع رعایة الاختصار: كتب مستشرق نصراني یسمیّ «إمیل در منغم» كتاباً سماه «حیاة محمد» و الكتاب كله كذب و زور و ضلال و دسٍّ و دجل، و تهجّم علی الإسلام و القرآن و النبي «صلی اللّه علیه و آله و سلم».

و قد ترجم الكتاب أستاذ فلسطیني یسمی «محمد عادل زعیتر» و لم یعلّق علی خرافات الكتاب و أساطیره و أكاذیبه، و هو یزعم أنه یراعي أمانة النقل، و لیت شعري هل التعلیق علی الباطل ینافي أمانة النقل؟

و من جملة أباطیل الكتاب و أضالیله قوله:

«كانت فاطمة عابسة، دون رقیة جمالاً، و دون زینب ذكاء، و لم تدار فاطمة حینما أخبرها أبوها من وراء الستر: أن علي بن أبي طالب ذكر اسمها، و كانت فاطمة تعدُّ علیاً ذمیماً محدوداً مع عظیم شجاعته، و ما كان أكثر رغبة فيها من رغبتها مع ذلك.

و كان علی غیر بهیِّ الوجه لعینيه الكبیرتین الفاترتین و انخفاض قصبة أنفه، و كبر بطنه و صلعه، و ذلك كله إلی أن علیاً كان شجاعاً تقیاً صادقاً وفياً مخلصاً صالحاً مع توان و تردُّد!

و كان علي غیر بهي الوجه ل عینيه الكبیرتین الفاترین و انفخاض قصبته انفه،و كبر بطنه، و صلعه، و ذلك كله الی ان علیا كان شجاعا تقیا صادقا وفيّاً مخلصاً صلحا مع توان و تردد!

و كان علي یحرد بعد كل منافرة، و یذهب لینام في المسجد، و كان حموه یربِّته علی كتفه و یعظه و یوفق بینه و بین فاطمة إلی حین.

و مما حدث أن رأی النبي ابنته ذات مرة، و هي تبكي من لكم علي لها!!

إن محمداً مع امتداحه قدم علی في الإسلام إرضاءً لابنته كان قلیل الالتفات إلیه، و كان صهرا النبي الأمویان: عثمان الكریم و أبوالعاصي أكثر

ص: 13

مداراة للنبي من علي، و كان علي یألم من عدم عمل النبي علی سعادة ابنته، و من عدّ النبي له غیر قوّام بجلیل الأعمال.

و النبي و إن كان یفوّض إلیه ضرب الرقاب كان یتجنب تسلیم قیادة إلیه...

و أسوأ من ذلك ما كان یقع عند مصاقبة علی و فاطمة لعدَّواتهما أزواج النبي و تنازع الفریقین، فكانت فاطمة تعتب علي أبیها متحسرة، لأنه كان لا ینحاز إلی بناته...».

إلی غیر ذلك من جنایات تاریخیة سوداء سوَّد بها الرجل صحیفة كتابه.

و هنا یجب شیخنا الأمیني (رضوان اللّه علیه) علی مفتریات هذا النصراني:

«أنا لا ألوم المؤلف- جدع اللّه مسامعه- و إن جاء بأذني عناقِ (1) إذ هو من قوم حناق علی الإسلام، و هو مع ذلك جرف منهال و سحب منجالِ (2) ینمُّ كتابه عن عجزه و بجره، و إنما العتب كل العتب علی المترجم الجاني علی الإسلام و الشرق و العرب- و هو یحسب نفسه منها- نعم، جدب السوء (3) یلتجئ إلی نجعة سوءِ، و الجنس إلی الجنس یمیل.

كل ما في الكتاب من تلكم الأقوال المختلفة و النسب المفتعلة إن هي الا كلم الطائش، تخالف التاریخ الصحیح، و تضاد ما أصفقت علیه الأمة الإسلامية و ما أخبر به نبیها الأقدس؛

هل تناسب تقولاته في فاطمة مع قول أبیها «صلی اللّه علیه و آله و سلم

ص: 14


1- اي جاء بالكذب و الباطل.
2- مثل یضرب یراد انه لا یطمع في غیره.
3- یعني ان الامور تتشاكل في الجوده و الرداءه

و سلم»: فاطمة حوراء إنسیة، كلما اشتقت إلی الجنة قبلّتهاِ؟ (1) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): ابنتي فاطمة حوراء آدمیةِ؟ (2) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): فاطمة هي الزهراءِ؟ (3) .

أو قول أم أنس بن مالك؟: كانت فاطمة كالقمر لیلة البدر، أو الشمس كفر غماماً، إذا خرج من السحاب، بیضاء مشرّبة حمرة، لها شعر أسود، من أشد الناس برسول اللّه شبهاً، و اللّه كما قال الشاعر:

بیضاء تسحب من قیام شعرها***و تغیب فيه و هو جثل أسحمِ (4) .

فكأنها فيه نهار مشرق***و كأنه لیل علیها مظلمِ (5) .

و لقبها: الزهراء المتسالم علیه یكشف عن جلیة الحال. و هل یساعد تلك التحكُّمات في ذكاء فاطمة و خُلقها قولُ أُم المؤمنین خدیجة (رضي اللّه عنها): كانت فاطمة تُحدِّث في بطن أُمِّها، و لما وُلدت وقعت حین وقعت علی الأرض ساجدة، رافعة إصبعهاِ؟! (6) .

أو یلائمها قول عائشة: ما رأیت أحداً أشبه سمتاً و دلاًّ و هدیاً و حدیثاً برسول اللّه في قیامه وقعوده من فاطمة كانت إذا دخلت علی رسول اللّه قام إلیه فقبَّلها و رحّب بها، و أخذ بیدها و أجلسها في مجلسهِ؟! (7) .

و في لفظ البیهقي في «السنن: 7 ص 101: ما رأیت أحداً أشبه كلاماً

ص: 15


1- تاریخ الخطیب البغدادي/ 5 ص 86.
2- الضواعق 96 اسعاف الراغبین ص 173.
3- نزهه المجالس/ 2 ص 161.
4- جثل الشعر: كثر و التف و اسود.
5- مستدرك الحاكم 3 ص 161.
6- سیره الملاء، ذخائرالعقبی
7- الترمذي، و ابن عبدربه في العقد الفرید2 ص 3.

و حدیثاً من فاطمة برسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)... الحدیث.

و هل توافق مخاریقه في الإمام علي (صلوات اللّه علیه) و عدم بهاء وجهه و عدُّ فاطمة له دمیماً، و كونه عابساً مع ما جاء في جماله البهي: أنه كان حسن الوجه كأنه قمر لیلة البدر، و كأن عنقه إبریق فضةِ (1) ضحوك السنِ (2) فإن تبسّم فعن اللؤلؤ المنظومِ (3) .

و أین هي من قول أبي الأسود الدؤلي من أبیات له:

إذا استقبلت وجه أبي تراب***رأیت البدر حار الناظریناِ (4) .

نعم،

حسدوا الفتی إذ لم ینالوا فضله***فالناس أعداء له و خصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها***حسداً و بغضاً: إنه لدمیم

أو یخبرك ضمیرك الحرُّ في علی ما سلقه الرجل به من «التواني و التردد»؟ و علی ذلك المقتحم في الأهوال و الضارب في الأوساط و الأعراض في المغازي و الحروب؟و هو الذي كشف الكُرب عن وجه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في كل نازلة و كارثة منذ صدع بالدین الحنیف إلی أن بات علی فراشه، و فداه بنفسه، إلی أن سكن مقرّه الأخیر.

ألیس علی هو ذلك المجاهد الوحید الذي نزل فيه قوله تعالی: «أجعلتم سقایة الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه و الیوم الآخر و جاهد في سبیل اللّه»؟

ص: 16


1- الاستیعاب 2 ص 469.
2- تهذیب الاسماء و اللغات.
3- حلیه الاولیاء 1 ص 84.
4- تذكره سبطابن الجوزي ص 104.

و قوله تعالی: «و من الناس من یشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه»؟! (1) .

فمتی خلی علي عن مقارعة الرجال، و الذبِّ عن قدس صاحب الرسالة حتی یصح أن یُعزی إلیه توانٍ أو تردد في أمر من أمور الدین؟!

غیر أن القول الباطل لا حدَّ له و لا أمد.

و هل یتصور في أمیرالمؤمنین تلك العِشرة السیئة مع حلیلته الطاهرة؟!

و النبي یقول له: أشبهتَ خَلقي و خُلقي و أنت من شجرتي التي أنا منهاِ (2) .

و كیف یراه النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أفضل أمته و أعظمهم حلماً و أحسنهم خلقاً و یقول: علی خیر أُمُّتي، و أعلمهم علماً، و أفضلهم حلماً؟ (3) .

و یقول لفاطمة: إني زوَّجتك أقدم أُمَّتي سلماً، و أكثرهم علماً، و أعظمهم حلماً؟ (4) .

و یقول لها: زوَّجتك أقدمهم سلماً، و أحسنهم خُلقاً؟ ِ (5) .

یقول هذه كلها و عشرته تلك كما كانت بمرأی منه و مسمع؟

أفك الدجَّالون.

كان علي (علیه السلام) كما أخبر به النبي الصادق الأمین «صلی اللّه علیه و آله و سلم».

ص: 17


1- سوره البقره: 3. 2.
2- تاریخ بغداد للخطیب ج 11 ص 171.
3- الطبري، الخطب ج 11 ص 171.
4- مسند احمدج 5 ص 26 الریاض النضره 2 ص 194.
5- الریاض النضره 2 ص 182.

و هل یقبل شعورك ما قذف به الرجل (فضَّ اللّه فاه) علیاً بلكْم فاطمة بضعة المصطفی؟!

و علی ذاك المقتص أثر الرسول، و ملأ مسامعه قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لفاطمة: إن اللّه یغضب لغضبك و یرضی لرضاكِ (1) . و قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و هو آخذ بیدها: من عرف هذه فقد عرفها، و من لم یعرفها، فهي بضعة مني، هي قلبي و روحي التي بین جنبيَّ، فمن آذاها فقد آذاني. و من آذاني فقد آذی اللّه (2) .

و قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): فاطمة بضعة مني، یریبني ما رابها، و یؤذیني ما آذاهاِ.

و قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني(3) .

و قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): فاطمة بضعة مني، یقبضني ما یقبضها و یبسطني ما یبسطهاِ (4) .

ص: 18


1- مستدرك الصحیحین للحاكم النیسابوري 3 ص 154. التذكره لسبط ابن الجوزي ص 175 و 320، مقتل الحسین الصواعق 105، میزان الاعتدال للحافظ الذهبي ج 2 ص 219، كنز العمال 7 ص 111 الصوائق 105، میزان العتدال للحافظ الذهبي ج 2 ص 72 طبقه القاهره،الاصابه لابن حجر العسقلاني ج 4 ص 366 طبعه دار الكتب المصريه و غیرها.
2- الفصول المهمه لابن الصباغ المالكي 150 نزهه المجالس للصفوري الشافعي 2 ص 228 نور الابصار للشبلنجي المصري ص 45، ارشاد الساري للقسطاني 6/ 144 و غیرها.
3- صحیح البخاري ج 5 ص 21 و 29، خصائص النسائي ص 35.
4- مسند احمد 4 ص 113، مستدرك الصحیحین للحكام 3/ 154 كنز العمال 13/ 96، تاریخ الاسلام للذهبي 2/ 96.

و هل یقتصر امتداح النبي علیاً بمدح إسلامه؟! حتی یتفلسف في سرِّه، و یكون ذلك إرضاءً لابنته، علی أن امتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان یقتصر «صلی اللّه علیه و آله و سلم» علی قوله لفاطمة في ذلك، و كان یتأتی الغرض به، فلماذا كان یأخذ (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بید علي في الملأِ الصحابي تارة و یقول: إن هذا أول من آمن بي، و هذا أول من یصافحني یوم القیامة؟

و لماذا كان یخاطب أصحابه أخری بقوله: أوَّلكم وارداً عليَّ الحوض أوَّلكم إسلاماً: علي بن أبي طالب؟

و كیف خفي هذا السرُّ المختلق علی الصحابة الحضور و التابعین لهم بإحسان، فطفقوا یمدحونه بهذه الإثارة كما یروی عن سلمان الفارسي، أنس بن مالك، زید بن أرقم، عبداللّه بن عباس، عبد اللّه بن حجل، هاشم بن عتبة، مالك الأشتر، عبداللّه بن هاشم، محمد بن أبي بكر، عمر و بن الحمق، أبوعمر عدی بن حاتم، أبورافع، بریدة، جندب بن زهیر، أم الخیر بنت الحراشِ (1) .

و هل القول بقلِّة التفات النبي إلی علي یساعده القرآن الناطق بأنه نفس النبي الطاهر؟! أو جعل مودته أجر رسالته؟!.

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في حدیث الطیر المشوی، المروي في الصحاح و المسانید: اللّهم ائتني بأحبِّ خلقك إلیك لیأكل معي.

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لعائشة: إنّ علیاً أحبُّ الرجال إليَّ، و أكرمهم عليَّ، فاعرفي له حقه، و أكرمي مثواهِ (2) .

ص: 19


1- 25. اكثر المصادر التاریخچه.
2- الریاض النضره 2 ص 161 ذخائرالعقبی 62.

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): أحبُّ الناس إلیَّ من الرجال علیِ (1) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): علی خیر مَن أتركه بعدي (2) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): خیر رجالكم علي بن أبي طالب، و خیر نسائكم فاطمة بنت محمدِ (3) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): علی خیر البشر، فمن أبی فقد كفر؟! (4) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): من لم یقل علی خیر الناس فقد كفرِ؟ (5) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): في حدیث الرایة المتفق علیه: لأعطیَّن الرایة غداً رجلاً یحبه اللّه و رسوله، و یحب اللّه و رسوله؟

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): علي مني بمنزلة رأسي من بدنيأو جسديِ؟ (6) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): علي مني بمنزلتي من ربي (7) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): علی أحبَّهم إليَ، و أحبَّهم إلی اللّه (8) .

ص: 20


1- و في لفظ: احب اهلي.
2- مواقف الایجي 3 ص 276 مجمع الزوائد 9 ص 113.
3- تاریخ بغدا دللخطیب 4 ص 392.
4- تاریخ بغداد كنوزالحقایق، هامش الجامع الصغیر، ص 16 كنز العمال 6 ص 159.
5- تاریخ بغداد 3 ص 192 كنز العمال 6 ص 159.
6- تاریخ بغداد 7 ص 12 الصواعق 75، الجامع الصغیر للسیوطي، نورالابصار80.
7- السیره الحليبه 3 ص 391 الریاض النضره 2 ص 163.
8- تاریخ بغداد 1 ص 160.

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لعلی: أنا منك و أنت مني، أو: أنت مني و أنا منكِ؟ (1) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): علي مني و أنا منه، و هو ولي كل مؤمن من بعدي؟ (2) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في حدیث البعث بسورة البراءة المجمع علی صحته: لا یذهب بها إلا رجل مني و أنا منهِ؟ (3) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): لحمك لحمي، و دمك دمي و الحق معكِ (4) .

أو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): ما من نبي إلاَّ و له نظیر في أُمته، و علی نظیريِ؟ (5) .

أو ما صحّحه الحاكم و أخرجه الطبراني عن أم سلمة قالت: كان رسول اللّه إذا أُغضب لم یجترئ أحد أن یكلَّمه غیر عليِ؟ (6) .

أو قول عائشة: و اللّه ما رأیت أحداً أحبُّ إلی رسول اللّه من علی و لا في الأرض امرأة كانت أحبُّ إلیه من امرأتهِ؟ (7) .

أو قول بریدة و أُبي: أحب الناس إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) من النساء فاطمة، و من الرجال عليِ؟ (8) .

ص: 21


1- مسند احمد 5 ص 204 الخصائص للنسائي 36 و 51.
2- مسند احمد5 ص 356.
3- الخصائص للنسائي 8 و غیره.
4- المحاسن و المساوي 1 ص 31 مناقب الخارزمي 76، 83، 87.
5- الریاض النظره 2 ص 164.
6- الصوائق 73 تاریخ الخلفاء للسیوطي 116.
7- مستدرك الحاكم 3 ص 154 الخصائص للنسائي 29.
8- الخصائص للنسائي 29 مستدرك الحاكم 3 ص 155.

أو حدیث جمیع بن عمیر، قال: دخلت مع عمتي علی عائشة فسألت: أي الناس أحب إلی رسول اللّه؟!

قالت: فاطمة.

فقیل: من الرجال؟

قالت: زوجها، إن كان ما علمت صوَّاماً قوَّاماً (1) .

و كیف كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یقدِّم الغیر علی علي في الالتفات إلیه؟! و هو أول رجل اختاره اللّه بعده من أهل الأرض لما اطَّلع علیهم، كما أخبر به (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لفاطمة بقوله: إن اللّه اطلع علی أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبیاً، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك فأوحي إلیَّ فأنكحته و اتخذته وصیاً (2) .

و بقوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): إن اللّه اختار من أهل الأرض رجلین أحدهما أبوك و الآخر زوجكِ (3) .

إلی آخر ما ذكره شیخنا الأمیني «علیه الرحمة» في سرد الأحادیث الصحیحة في تزییف أباطیل ذلك الكتاب التائه.

هذا، و التهجُّمات القاسیة ضدَّ آل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كثیرة جداً و سنشیر أیضاً إلی بعضها في المستقبل بمناسبة المقام إن شاءاللّه.

و قبل الخوض في صمیم البحث لا بأس بذكر مقدمة كمدخل في الموضوع.

ص: 22


1- جامع الترمذي ص 227 و جمع آخر.
2- الطبراني، كنزالعمال 6 ص 153، مجمع الزوائد 9 ص 165.
3- مواقف الایجی ص 8.

و حیث أن التحدث في هذا الكتاب إنما هو عن شخصیة فوق المستویات التي عرفها البشر فلابدَّ من تمهید أمور لعلها تعتبر من «الماورائیات» فالشخصیة المترجمة عبقریة ماورائیة، و سیتَّضح لك صدق هذا القول و صحة هذا الكلام.

ص: 23

قانون الوراثة

من الأمور الثابتة قدیماً و حدیثاً أنّ صفات الأبوین تنتقل إلی الطفل و ترتكز فيه منذ تكوُّنه في صلب أبیه إلی انتقاله إلی بطن أمه، و نشوّه و نُموِّه، و بعد الولادة و النموّ تظهر الصفات تدریجیاً. بل و حتی الرضاع له تأثیر عجیب في صفات الطفل المرتضع و في الحدیث عن الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام): «لا تسترضعوا الحمقاء فإن الرضاع یعدي» و قد كتب الكثیرون حول هذا القانون تفاصیل كثیرة.

علی ضوء هذا القانون ینبغي أن أذكر شیئاً من ترجمة حیاة والدي السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) كي نستنتج منها بعض جوانب العظمة التي أحاطت بالسیدة فاطمة من ناحیة الوراثة و لكن البحث سیطول، و ینتقل الكتاب عن موضوعه إلی موضوع آخر، إلاَّ أننا نلخّص الكلام في هذه الجُمل الموجزة فنقول:

سید الأنبیاء و المرسلین محمد بن عبداللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أطهر كائن و أشرف مخلوق، و أفضل موجود في العالم كله، لأجله خلق اللّه الكائنات، و لا یوجد في الكون شرف أو فضیلة أو مكرمة إلاَّ و أوفي نصیبٍ ممكنٍ منها متوفر في الرسول العظیم.

هذه عصارة الخلاصة مما یمكن أن یقال في حق الرسول، و لیس في هذا التعبیر شيء من الغلو و المبالغة، بل هو كقولنا: الشمس مشرقة، و العسل حلو.

هذا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)، و قد انحدرت الزهراء

ص: 24

من صلبه.

و أما السیدة خدیجة، فكانت امرأة بیضاء، طویلة حسناء، شریفة في قومها، عاقلة في أمورها واتّصفت بالنزاهة والعفة، حتی دعاها فومها – في الجاهلیة – بالطهارة، و کان لها نصیب وافر من الذكاء، و بصیرة في الأمور، تعتمد علی نفسها و شخصها، تدیر عجلة التجارة بفكرها الوقَّاد، و تعرف مبادئ الاقتصاد و التصدیر و الاستیراد.

هذا بصفتها إنسان أو بصفتها امرأة.

و أمَّا بصفتها زوجة فقد بذلت تلك الآلاف المؤلفة من أموالها لزوجها الرسول یتصرّف فيها حسب رأیه، و كان لأموال خدیجة كل التأثیر في تقویة الإسلام یومذاك إذ كان الدین الإسلامي في دور التكوین، و كان بأمس الحاجة إلی المال،فقیّض اللّه للإسلام أموال خدیجة، و بالفعل تحقق الهدف.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «ما نفعني مالٌ قط مثل ما نفعني مال خدیجة».

و كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یفك من مالها الغارم و العاني، و یحمل الكَلَّ، و یعطي في النائبة و یرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، و یحمل من أراد منهم الهجرة، و كان ینفق منه ما شاء في حیاتها، ثم ورثها هو و ولُدها بعد مماتهاِ (1) .

و بهذا یتضح كلام الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «ما قام و لا استقام الدین إلاّ بسیف علي و مال خدیجة».

و كانت معاشرتها للرسول في حیاتها الزوجية تستحق كل تقدیر

ص: 25


1- الامالي للطوسي ج 2 ص 82.

و تعظیم، و لهذا كان الرسول إذا ذكرها أو ذكُرت عنده بعد وفاتها ترحَّم علیها، و انكسر قلبه علیها و ربما جرت عبرته علی خده حزناً علیها.

و ذات یوم ذكر رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) خدیجة فقالت عائشة: عجوز كذا و كذا قد أبدلك اللّه خیراً منها!!

فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): ما أبدلني منها، لقد آمنت بي حین كفر بي الناس، و صدَّقتني حین كذّبني الناس، و أشركتني في مالها حین حرمني الناس، و رزقني اللّه ولدها، و حرمني ولد غیرهاِ (1) .

ص: 26


1- الاستیعاب.

زواج الرسول الأعظم

تزوّج الرسول العظیم (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بالسیدة خدیجة الكبری و هو ابن خمس و عشرین سنة، و هي بنت أربعین سنة، و قیل: ستة و عشرین سنةِ (1) .

و قیل: ثمانیة و عشرین سنةِ (2) .

و یقال إنها كانت قد تزوّجت قبل الرسول بزوجين متعاقبین، و قیل: بل كانت عذراء یوم تزوجها الرسولِ و لكنه غیر مشهور.

لم یكن زواج الرسول بالسیدة خدیجة یشبه الزواج المتعارف بین الناس بل یعتبر هو الزواج الوحید من نوعه، إذ لم یكن ذلك القرآن المیمون نتیجة حُبٍ و غرام، بل لم یكن هناك دافع مادِّي أو ما یشبهه من الأغراض التي كثیراً تحدث في زواج العظماء من جوانب السیاسة.

بل لم یكن هناك تناسب بین الرسول و بین السیدة خدیجة من حیث الحیاة الاقتصادية، فالرسول العظیم كان یعیش تحت كفالة عمِّه الفقیر أبي طالب.

و السیدة خدیجة هي أثری و أغنی امرأة في مكة، فهناك بون شاسع في مستوی المعیشة بین هذا و تلك.

ص: 27


1- جنات الخلود.
2- البحار ج 16.

و لكن السیدة خدیجة كانت قد علمت أو سمعت أن للرسول مستقبلاً متلألأً واسع النطاق، و لعلَّ غلامها (میسرة) هو الذي حدَّثها بما جری للرسول في أثناء رحلته إلی الشام قصد التجارة بأموال خدیجة، أو بلغها كلام راهب دیر بُصری قرب الشام في حق الرسول.

فهنا اقترحت السیدة خدیجة قضیة الزواج، و فاتحت الرسول، و طلبت منه أن یطلب یدها من والدها خویلد أو عمَّها «علی قولٍ».

لكن الرسول كان یفضِّل أن یتزوَّج بامرأة فقیرة تنسجم حیاتها مع حیاة، و اعتذر من خدیجة، و امتنع من تلبیة طلبها لهذا السبب.

لكن السیدة خدیجة العاقلة اللبیبة الفاضلة أجابته بأنها تهب نفسها للنبي، فهل یصعب علیها أن تبذل أموالها له، و تجعلها تحت تصرُّف الرسول؟

و طلبت من الرسول أن یرسل أعمامه إلی أبیها خویلد لیخطبوها.

هنا.. فوجئ أعمام الرسول بهذا النبأ الوحید من نوعه، و استولت الدهشة علی عمات الرسول حینما سمعن منه الخبر.

إنّه لعجیب!!

سیدة تملك الآلاف من الأموال، و یعیش العشرات و المئات من العملاء و الأجراء من بركات أموالها و تجارتها القائمة صیفاً و شتاءً، بین الیمن و مكة و بین مكة و الشام.

سیدة خطبها الأمراء و الأشراف فرفضتهم.

هكذا سیده كیف تقدم نفسها هبةً لشاب فقیر یعیش تحت كفالة عمِّه الفقیر أبي طالب؟

ص: 28

فيا تری هل صدقت خدیجة في تقدیم نفسها للرسول؟

و هل لهذا الخبر نصیب من الحقیقة؟

قامت صفية بنت عبدالمطلب «عمة النبي» و توجهت إلی دار خدیجة للتحقیق عن الخبر، و إذا بها تجد الترحیب و الاستعداد بجمیع معنی الكلمة.

ص: 29

السیدة خدیجة علی أبواب السعادة

رجعت صفية إلی أخوتها «أعمام النبي» و أخبرتهم بصدق الخبر، و استولت الفرحة علی أعمام النبي، فرحة ممزوجة بالتعجب و الدهشة و الذهول.

فإن خدیجة خطبها الأمراء و أشراف العرب فرفضت و لم توافق، إذ إنها لم ترهم لها أكفاءً، فما الذي دعاها إلی انتخاب هذا الزوج الفقیر الذي لا یملك من حطام الدنیا تبراً، و لا من الأرض البسیطة شبراً؟

یا للعجب العجاب!!

قام أعمام النبي و قصدوا دار خدیجة، و خطبوها من أبیها خویلد أو عمِّها، فامتنع ثم وافق بعد ذلك.

ثم لابدَّ من تقدیم مبلغ من المال صداقاً یلیق بمقام خدیجة، فكیف یمكن تحصیل هذا المال؟ و من أین؟ و من الذي یتبرع بالصداق؟

و إذا بالسیدة خدیجة تباغتهم مرة أخری، و تدفع إلی الرسول أربعة آلاف دینار هدیة، و تطلب منه أن یجعل ذلك المبلغ صداقاً لها و یقدِّمه إلی أبیها خویلد. و في روایة: أن أباطالب هو الذي دفع الصداق من ماله.

إن كانت السیدة خدیجة تؤمن بالقیَم، و تضحَّی بالمادة في سبیل تحصیل الشرف فإن أباها خویلد لم یكن یحمل هذه الفكرة، و كثیراً ما تجد التفاوت الكثیر بین ثقافة الأب و ابنه أو ابنته.

ص: 30

و هذا الاختلاف في التفكیر موجود بین طبقات الناس، و حتی بین الأخ و أخیه، و الرجل و زوجته، و الأب و ما ولد.

كانت هذه المبادرة نادرة عجیبة جداً، فلم یعهد أحد في العرب أن المرأة تقدِّم الصداق لزوجها، فلا عجب إذا هاج الحسد بأبی جهل و قال: «یا قوم رأینا الرجال یمهرون النساء، و ما رأینا النساء یمهرون الرجال».

فيجیبه أبو طالب مغضباً: «ما لك؟ یا لكع الرجال! مثل مُحمد یُحمل إلیه و یُعطی، و مثلك یُهدی و لا یُقبل منه»

أو قال: «إذا كانوا مثل ابن أخي هذا، طلبت الرجال بأغلی الأثمان و أعظم المهر، و إذا كانوا أمثالكم لم یزوَّجوا إلاَّ بالمهر الغالي».

و تمَّ الزواج المبارك المیمون علی أحسن ما یرام، و انتقل الرسول إلی دار السیدة خدیجة، فكانت خدیجة تشعر أنها في أسعد أیام حیاتها إذ أنها و صلت إلی أغلی أمانیها و أحلی أحلامها.

و أنجبت السیدة خدیجة أولاداً ماتوا كلهم في أیام الصغر، و أنجبت بنات أربع: زینب و أم كلثوم و رقیة و فاطمة الزهراء، و كانت فاطمة أصغرهنَّ سناً و أجلَّهنَّ شأْناً و أعظمهنَّ قدراً.

و هناك اختلاف بین المؤرخین و المحدّثین حول البنتين الأولیین، فقیل: إنهما لیستا من بنات النبي، و الصحیح أنهما من بناته و صلبه، و سیأتي الكلام حول ذلك في المستقبل بالمناسبة بإذن اللّه (1) .

ص: 31


1- اقتطفنا تفاصیل زواج السیده خدیجه من بحارالانوار ج 16.

كلمة خاطفة حول الماورائیات

اشاره

هذه هي السیدة خدیجة الكبری، و هذا بعض مناقبها و فضائلها التي تعتبر كل فضیلة منها مثالاً رائعاً للإنسان الكامل، و هذه السیدة هي التي أنجبت السیدة فاطمة الزهراء، و أرضعتها اللبن الممزوج بالمواهب و الفضائل. و فاطمة الزهراء سلیلة أبوین هذا بعض ما یتعلق بحیاتهما و محاسنهما، و هذه نظرة خاطفة أو صورة مصغّرة یمكن لنا أن ننظر منها إلی عبقریة سیدتنا فاطمة الزهراء و بذلك تظهر لنا زاویة من حیاتها علی ضوء الوراثة.

و هناك حقائق ثابتة لا یمكن إنكارها، و قد صرحت بذلك أحادیث شریفة كثیرة متواترة عن الرسول الاقدس و اهل بیته الطاهرین (علیهم السلام) لم یكتشفها العلم الحدیث و لم تصل الیها الا كتشافات الحدیثه بالرغم من وصولها الی الذره فمافوقها و الی الكواكب فمادونها.

تلك الحقائق لامجال للالات و المجاهران تعزوها و تحیط بها علما، و لا طریق لعدسات التصویر ان تلتقطها و لو بالاشعه البنفسجیه و ما فوق البنفسجیه.

و تقشل دون ادراكها مقاییس الطبیعه و المنطق، فالحقیقه فوق ادراك الماده و الموازین المنطقیه، فلا تدرك بالحواس الخمس (الباصره، السامعه، شئت ان تسمیهاب (الماورائیات) فلك ذلك.

ص: 32

و قبل عرض تلك الحقائق لابدّ من تمهید مقدمة موجزة فنقول: إن النطفة التي تنعقد- في الرحم و یتكوّن منها الجنین- انما تتكوّن من الدم، و الدم یستخلص من الطعام بعد إنهاء عملیات الهضم و النضج و الطبخ في المختبرات التي یحتویها الجسم، فلا شك أن النطفة المتكونة من الدم المستخلص من لحم الخنزیر أو الخمر «مثلاً» تختلف عن النطفة المتكونة من الدم المستخلص من لحم الغنم أو ما أشبه ذلك، لأن نوعیة هذا اللحم تختلف اختلافاً كبیراً عن نوعیة ذاك، فكذلك تختلف منتجات كل واحد منهما.

و للطعام تأثیر خاص في روح الإنسان و نفسه، فهناك أطعمة مفرِّحة للقلب، مهدئة للأعصاب، تخفف عن توترها، و هناك أطعمة مفعولها عكس ذلك.

و للطعام الحلال و الطاهر تأثیر في نفس الإنسان و روحه، بعكس الطعام النجس كالخمر أو الحرام كالمسروق و المغصوب.

و نفس التأثیر یظهر في النطفة التي تنعقد من الطعام الحلال أو الحرام، أو الطاهر أو النجس، و لو أردنا استعراض الشواهد و إقامة الأدلة و البراهین علی ذلك لطال بنا الكلام و خرج الكتاب عن أسلوبه و موضوعه المقصود.

و علی هذا الغرار فللطعام الذي یأكله الأبوان كل التأثیر في توجیه الطفل و تسییره نحو الخیر و الشر، إذ من ذلك الطعام تتكون النطفة، ثم تنتقل من صلب رجل إلی رحم زوجته، و تلتصق بجدار الرحم، و تنمو و تكبر حتی تكمل جنیناً تاماً.

فالطعام من حیث النوعیة و من حیث الحكم الشرعي كالحلال و الحرام، و الطاهر له تأثیر عجیب مدهش في مصیر الطفل، و كیفية تفكیره في الأمور و اختیار لحیاة الدینية، و توجیهه نحو الاعتدال

ص: 33

و الاستقامة أو الانحراف و الانجراف.

و كذلك الحالة النفسیة الموجودة عند الزوجين عند العملیة الجنسیة لها كل التأثیر في مقدّرات الطفل و حالاته و نفسیاته في المستقبل.

فالخوف و القلق لهما أسوأ الأثر في مستقبل الطفل المسكین، و بالعكس الطمأنینة و الهدوء النفسي له أحسن الأثر في الطفل.

كذلك الرغبة الملحة و الشوق الشدید یؤثر في جمال الطفل و حسنه و ذكائه، بینما عدم الرغبة و ضعف الشهوة بسبب خلاف ذلك.

و انطلاقاً من هاتین النقطتین: نقطة تأثیر الطعام و نقطة تأثیر الحالة النفسیة ننتقل بالقرّاء إلی طائفة من الأحادیث المتواترة، فقد ذكر شیخنا المجلسي (قدّس سره) في الجزء السادس عشر من البحار هذا الحدیث الشریف:

اعتزال النبي عن خدیجه

... هبط جبرئیل علی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فناداه یا محمد! العلي الأعلی یقرأ علیك السلام، و هو یأمرك أن تعتزل خدیجة أربعین صباحاً.

فشقّ ذلك علی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و كان لها محبّاً و بها وامقاً (محباً) فأقام النبي أربعین یوماً یصوم النهار و یقوم اللیل، حتی إذا كان في آخر أیامه تلك. بعث إلی خدیجة بعمار بن یاسر و قال: قل لها: یا خدیجة لا تظني أن انقطاعي عنك هجرة و لا قلی، و لكن ربي أمرني بذلك لینفّذ أمره، فلا تظني یا خدیجة إلاّ خیراً، فإن اللّه (عز و جل) لیباهي بك كرام ملائكته كل یوم مراراً.

فإذا جنّك اللیل فأجیفي (ردّي) الباب، و خذي مضجعك من

ص: 34

فراشك، فإني في منزل فاطمة بنت أسد.

فجعلت خدیجة تحزن كل یوم مراراً لفقد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فلما كان في كمال الأربعین هبط حبرئیل فقال: یا محمد! العلي الأعلی یقرئك السلام و هو یأمرك أن تتأهب لتحیَّته و تحفته.

طعام الجنه

فقال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): یا جبرئیل و ما تحفة رب العالمین و ما تحیته؟؟

فقال جبرئیل: لا علم لي.

فبینما النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كذلك إذ هبط میكائیل و معه طبق مغطّی بمندیل سندس أو إستبرق، فوضعه بین یدي النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و أقبل جبرئیل (علیه السلام) و قال: یا محمد یأمرك ربك أن تجعل اللیلة إفطارك علی هذا الطعام.

قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): كان النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إذا أراد أن یفطر أمرني أن أفتح الباب لمن یرد من الأقطار فلما كان في تلك اللیلة أقعدني النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) علی باب المنزل و قال: یا بن أبي طالب إنه طعام محرَّم إلاّ عليَّ.

قال علي (علیه السلام): فجلست علی الباب، و خلی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بالطعام، و كشف الطبق، فإذا عذق من رطب، و عنقود من عنب، فأكل النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) منه شبعاً و شرب من الماء ریاً، و مدّ یده للغسل، فأفاض الماء علیه حبرئیل، و غسل یده میكائیل و تمندله إسرافيل، و ارتفع فاضل (باقي) الطعام مع الإناء إلی السماء.

ثم قام النبي لیصلي فأقبل علیه جبرئیل و قال: الصلاة محرَّمة علیك

ص: 35

في وقتك حتی تأتي إلی منزل خدیجة فتواقعها، فإن اللّه (عز و جل) آلي (حلف) علی نفسه أن یخلق من صلبك هذه اللیلة ذریة طیّبة.

فوثب النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إلی منزل خدیجة؛

قالت خدیجة: و قد كنت قد ألفت الوحدة، فكان إذا جنّني اللیل غطّیت رأسي، و سجفت (أرسلت) ستری و غلّقت بابي، و صلّیت وِ ردي، و أطفأت مصباحي، و آویت إلی فراشي؛ فلما كانت تلك اللیلة لم أكن نائمة و لا بالمنتبهة إذ جاء النبي فقرع الباب، فنادیت: من هذا الذي یقرع حلقة لا یقرعها إلا محمد؟

فنادی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بعذوبة كلامه و حلاوة منطقه: افتحي یا خدیجة فإني محمد.

قالت خدیجة: فقمت مستبشرة بالنبي، و فتحت الباب، و دخل النبي المنزل.

و كان النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة، ثم یقوم فيصلي ركعتین یوجز فيهما، ثم یأوي إلی فراشه.

فلما كانت تلك اللیلة لم یدعُ بالإناء و لم یتأهب للصلاة... بل كان بیني و بینه ما یكون بین المرأة و بعلها، فلا و الذي سمك السماء، و أنبع الماء؛ ما تباعد عني النبي حتی حسست بثقل فاطمة في بطني... الی آخره (1) .

نستفيد من هذا الحدیث أموراً:

1- إن اللّه تعالی أمر نبیه أن یعتزل خدیجة، و أن ینقطع عن رؤیتها لفترة حتی یزداد بها شوقاً و رغبة.

2- اشتغاله بالمزید من العبادة للمزید من روحانیة النفس و سمّوها

ص: 36


1- البحار ج 16/ 78.

و تعالیها بسبب الاتصال بالعالم الأعلی.

3- إفطاره بالتحفة السماویة الطاهرة، السریعة التحول إلی النطفة بسبب لطافتها.

4- تكوّن النطفة من طعام سماوي لطیف، لا یشبه الأطعمة المادیة.

5- التوجه إلی دار خدیجة فوراً استعداداً لانتقال النطفة مع تلك المقدمات. و قد ذكر هذا الحدیث- من علماء العامة- بتغییر یسیر كلٌّ من:

1- الخوارزمي في مقتل الحسین ص 63- 68.

2- الذهبي في الاعتدال ج 2 ص 26.

3- تلخیص المستدرك ج 3 ص 156.

4- العسقلاني في لسان المیزان ج 4 ص 36.

ثم هناك أحادیث كثیرة بهذا المعنی مع اختلاف یسیر في ألفاظها، و اتفاقها حول النقطة الجوهریة، و هي انعقاد نطفة السیدة فاطمة الزهراء من طعام الجنة و نذكر من بعض تلك الأحادیث الجملة المرتبطة بالموضوع رعایةً للاختصار، فنقول:

عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: قال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): لما عُرج بي إلی السماء أخذ بیدي جبرئیل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته، فتحول ذلك نطفة في صلبي فلما هبطت واقعت خدیجة، فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسیَّة، فكلما اشتقت إلی رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمةِ (1) .

عن الإمام الباقر (علیه السلام) عن جابر بن عبداللّه قال: قیل لرسول

ص: 37


1- الامالي للصدوق.

اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): إنك لتلثم فاطمة و تلزمها و تدنیها منك... و تفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك؟

فقال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): إن جبرئیل أتاني بتفاحة من تفاح الجنة فأكلتها فتحول ماءً في صلبي ثم واقعت خدیجة فحملت بفاطمة.

و أنا أشم منها رائحة الجنةِ (1) .

و عن ابن عباس قال: دخلت عائشة علی رسول اللّه و هو یقبِّل فاطمة، فقالت له: أتحبها یا رسول اللّه؟

قال: أما واللّه لو علمت حبِّي لها لازددت لها حباً، إنه لما عرج بي إلی السماء الرابعة...

إلی أن یقول: فإذا برطب ألین من الزبد، و أطیب من المسك، و أحلی من العسل، فأخذت رطبة فأكلتها فتحولت الرطبة نطفة في صلبي، فلما أن هبطت إلی الأرض واقعت خدیجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوارء إنسیة، فإذا اشتقتُ إلی الجنة شممتُ رائحة فاطمةِ (2) .

و قد روی هذا الحدیث بألفاظ مختلفة كلٌّ من:

1- الخطیب البغدادي في تاریخه ج 5 ص 87.

2- الخوارزمي في مقتل الحسین ص 63.

3- الحافظ الذهبي في مقتل الحسین ص 63.

4- الزرندي في (نظم درر السمطین).

5- العسقلاني في لسان المیزان ج 5 ص 160.

6- القندوزي في ینابیع المودة.

7- محب الدین الطبري في ذخائر العقبی ص 34.

ص: 38


1- علل الشرائع.
2- البحار ج 16.

و هذه الأحادیث مرویة عن عائشة و ابن عباس و سعید بن مالك و عمر بن الخطاب.

8- و روی ذلك الشیخ شُعیب المصري في (الروض الفائق) ص 214 قال: «روی بعض الرواة الكرام: أن خدیجة الكبری (رضي اللّه عنها) تمنَّت یوماً من الأیام علی سید الأنام أن تنظر إلی بعض فاكهة دار السلام، فأتی جبرئیل إلی المفضّل علی الكونین من الجنة بتفاحتین و قال: یا محمد یقول لك من جعل لكل شيء قدراً: كل واحدة و أطعم الأخری لخدیجة الكبری، و أغشها، فإني خالق منكما فاطمة الزهراء. ففعل المختار ما أشار به الأمین و أمر...

إلی أن قال: فكان المختار كلما اشتاق إلی الجنة و نعیمها قبَّل فاطمة و شمَّ طیب نسیمها، فيقول- حین یستنشق نسمتها القدسیة: إن فاطمة حوراء إنسیة».

و هناك روایات متواترة بهذا المضمون، و اكتفينا بما ذكرنا.

بقیت هنا كلمة لا بأس بالإشارة إلیها، و هي أن الأحادیث كما تراها تصرح بأن السیدة خدیجة حملت بفاطمة (علیها السلام) بعد المعراج مباشرة، و كان المعراج علی ما هو المذكور في بعض كتب الحدیث في السنة الثالثة من المبعث، و في بعضها: في السنة الثانية و قیل غیر ذلك.

و ستأتیك طائفة من الأحادیث من أئمة أهل البیت (علیهم السلام) تصرح بولادتها بعد المبعث بخمس سنین، و معنی هذا أنها بقیت في بطن أمها أكثر من عامین، و هذا غیر صحیح قطعاً، فكیف یمكن الجمع بین القولین؟.

یمكن أن تُحلَّ هذه المشكلة بما یلی:

1- إن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) عُرج به إلی السماء

ص: 39

أكثر من مرة كما في كتاب الكافي (1) و هذا عندي أحسن الوجوه.

2- الأخذ بالقول المروي بولادتها في السنة الثانية أو الثالثة من المبعث (كما سیأتي) و هذا یتفق مع القول بالمعراج في تلك السنة نفسها، و خاصة بعد الالتفات إلی اختلاف الأقوال حول الشهر الذي كان فيه المعراج.

الجنین یتكلم مع امه

و من جملة مزایا السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) أنها كانت تكلم أمها خدیجة و هي في بطنها.

و لم ینفرد علماء الشیعة بذكر هذه الفضیلة، بل شاركهم كثیر من علماء العامة و محدثیهم، فقد روی عبدالرحمن الصفوري الشافعي في (نزهة المجالس) ج 2 ص 227:(قالت أمَّها خدیجة (رضي اللّه عنها): لما حملتُ بفاطمة كانت حملاً خفيفاً، تكلِّمني من باطني.

و روی الدهلوي في (تجهیز الجیش) عن كتاب (مدح الخلفاء الراشدین): «أنه لما حملت خدیجة بفاطمة كانت تكلمها ما في بطنها، و كانت تكتمها عن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فدخل علیها یوماً وجدها تتكلم و لیس معها غیرها، فسألها عمن كانت تخاطبه فقالت: ما في بطني، فإنه یتكلم معي.

فقال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): أبشري یا خدیجة، هذه بنت جعلها اللّه أم أحد عشر من خلفائي یخرجون بعدي و بعد أبیهم».

و ذكر شعیب بن سعد المصري في «الروض الفائق» ص 214: فلما سأله الكفار أن یریهم انشقاق القمر، و قد بان لخدیجة حملها بفاطمة

ص: 40


1- 55. الكافي ج 1/ 442 باب مولد النبي حدیث 13.

و ظهر، قالت خدیجة: وا خیبة من كذَّب محمداً و هو خیر رسول ربي.

فنادت فاطمة- من بطنها: یا أماه لا تحزني و لا ترهبي، فإن اللّه مع أبي. فلما تم حملها و انقضی، وضعت فاطمة فأشرق بنور وجهها الفضاء.

و قد مرّ علیك في (المقدمة) الحدیث المروي عن السیدة خدیجة حول تكلُّم السیدة فاطمة الزهراء و هي في بطن أمَّها.

ص: 41

فاطمة الزهراء تطل علی الحیاة

من العجب: الاختلاف الواضح في تاریخ ولادتها، و أنها هل كانت قبل المبعث أو بعده؟ فإنك تجد طائفة كبیرة من الأحادیث تصرِّح بولادتها بعد المبعث بخمس سنین أو ثلاث سنین، و تجد كمیه من الأقوال التي تلحّ و تركز علی میلادها قبل المبعث بخمس سنین، و تجد القول الأول للشیعة مرویاً عن أئمة أهل البیت (علیهم السلام) و یوافقهم بعض علماء العامة.

و القول الثاني خاص بعلماء العامة و محدّثیهم.

و إلیك بعض تلك الأحادیث حول میلادها بعد المبعث:

1- الكافي (للكلیني): ولدت بعد النبوة بخمس سنین و بعد الإسراء بثلاث سنین، و قبض النبي و لفاطمة یومئذٍ- ثماني عشرة سنة!... الی آخره.

2- المناقب (لابن آشوب): ولدت فاطمة بعد النبوة بخمس سنین، و بعد الإسراء بثلاث سنین في العشرین من جمادي الآخرة، و أقامت مع أبیها بمكة ثمانی سنین ثم هاجرت... الی آخره.

3- و في (الكافي) عن الإمام الباقر (علیه السلام): ولدت فاطمة بنت محمد بعد مبعث رسول اللّه بخمس سنین، و توفيت و لها ثماني عشرة سنة و خمسة و سبعون یوماً.

4- روضة الواعظین: ولدت فاطمة بعد مبعث النبي بخمس سنین... الی آخره.

ص: 42

5- إقبال الأعمال: قال الشیخ المفيد في كتاب (حدائق الریاض): یوم العشرین من جمادي الآخرة كان مولد السیدة فاطمة الزهراء سنة اثنتین من المبعث.

6- مصباح الكفعمي: ولدت في العشرین من جمادي الآخرة یوم الجمعة سنة اثنتین من المبعث، و قیل سنة خمسٍ من المبعث.

7- مصباح الكفعمي و الطوسي: في الیوم العشرین من جمادي الآخرة یوم الجمعة سنة اثنتین من المبعث كان مولد فاطمة (علیها السلام) في بعض الروایات، و في روایة أخری: سنة خمس من المبعث، و العامة تروي أن مولدها قبل المبعث بخمس سنین.

8- دلائل الإمامة عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: ولدت فاطمة في جمادي الآخرة العشرین منها سنة خمس و أربعین من مولد النبي... إلی آخره (1) .

هذه نبذة من أقوال أئمة أهل البیت (علیهم السلام) و قدماء علماء الشیعة (رحمهم اللّه) حول ولادة السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بعد المبعث.

و أما أقوال علماء العامة:

1- معرفة الصحابي لأبي نعیم: إن فاطمة كانت أصغر بنات رسول اللّه سنَّاً، ولدت و قریش تبني الكعبة.

2- مقاتل الطالبیین لأبي الفرج: كان مولد فاطمة قبل النبوة و قریش حینئذ تبني الكعبة.

3- ابن الأثیر في (المختار من مناقب الأخیار).

ص: 43


1- 56. التقطنا هذه الاحادیث من بحارالانوار ج 43.

4- الطبري في (ذخائر العقبی).

5- السیوطي في (الثغور الباسمة).

هذا و لعل الباحث یجد هذا القول في أكثر كتب العامة حول مولد الزهراء.

و قد مرت علیك طائفة من الأحادیث المروية عن كتب العامة حول انعقاد نطفتها من طعام الجنة.

بعد الإطلاع علی هذه الأحادیث و لو بصورة موجزة یتضح لنا أنَّ ولادة السیدة الزهراء كانت قبل المبعث، إذ لم یكن قبل المبعث معراج و لا هبوط جبرئیل و لا میكائیل علی النبي بالوحي، و بهذا ینكشف لنا تزویر الأقوال المصرحة بولادتها قبل المبعث بخمس سنین و أن القائلین بذلك لهم غایة تدفعهم، و هدف یدعوهم إلی اختلاق هذا القول، و هو نسف الأحادیث الواردة عن نزول الطعام من السماء و انعقاد نطفة السیدة فاطمة من أطعمة الجنة و ثمارها.

و هدف آخر: و هو أنَّهم یحاولون أن یثبتوا أن فاطمة الزهراء كان مزهوداً فيها، و لا یرغب فيها أحد، و لهذا بلغت من العمر ثمانیة عشر سنة (علی زعمهم) و لم یخطبها أحد في خلال تلك الفترة.

و سیأتي مزید من القول حول هذا الموضوع في المستقبل في فصل البحث عن زواجها.

وعلی كلٍّ.. فقد روی الطبري في (ذخائر العقبی) و الصفوري الشافعي في (نزهة المجالس) و القندوزي في (ینابیع المودة) عن خدیجة (علیها السلام) قالت:... فلما قربت ولادتي أرسلت إلی القوابل من قریش فأبین علیَّ لأجل محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

فبینما أنا كذلك إذ دخل علیَّ أربع نسوة، علیهن من الجمال و النور

ص: 44

ما لا یوصف، فقالت إحداهن: أنا أُمكِ حواء. و قالت الأُخری: أنا آسیة. و قالت الأُخری: أنا أُم كلثوم (كلثم) أُخت موسی، و قالت الأُخری: أنا مریم، جئنا لنلي أمرك.

و قد ورودت هذه الروایة بصورة أُخری:

... فلما أرادت خدیجة أن تضع بعثت إلی نساء قریش لیأْتینها فيلین منها ما تلي النساء ممن تلد، فلم یفعلن، و قلن لا نأْتیك، قد صرت زوجة محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

فبینما هي كذلك إذ دخل علیها أربع نسوة، علیهن من الجمال و النور ما لا یوصف، فقالت لها إحداهن: أنا أُمُّكِ حواء، و قالت الأُخری: أنا آسیة بنت مزاحم، و قالت الأُخری: أنا كلثم أُخت موسی و قالت الأُخری: أنا مریم بنت عمران (أُم عیسی). جئنا لنلي من أمرك ما یلي النساء.

قال: فولدت فاطمة.

فوقعت- حین وقعت- علی الأرض ساجدة رافعة إصبعها.

و روی عن المفضل بن عمرقال: قلت لأبي عبداللّه الصادق (علیه السلام): كیف كانت ولاده فاطمه؟

فقال نعم.... فلما حملت [خدیجه] بفاطمه، كانت فاطمه تحدثها من بطنها و تصبرها، و كانت تكتم ذلك من رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فدخل رسول اللّه یوما فسمع خدیجه تحدث فاطمه فقال لها: یاخدیجه من تحدثین؟

قالت: الجنین الذي في بطني یحدثني و یونسني.

قال: یا خدیجه هذا جبرئیل یخبرني انها انثی، و انها النسله الطاهره المیمونه،و ان اللّه تبارك و تعالی سیجعل نسلي منها، و سیجعل من نسلها ائمه و یجعلهم خلفاءه في ارضه، بعد انقضاء وحیه.

ص: 45

... ثم اشار (علیه السلام) الی نزول النسوه الاربع علی خدیجه لمساعدتها علی امر الولاده...

ثم قال (علیه السلام): فوضعت [خدیجه] فاطمه مطهره، فلما سقطت الی الارض، اشرق منها النور حتی دخل بیوتات مكه....

و دخل عشر من الحور العین، كل واحده منهن معها طست من الجنه و ابریق من الجنه،و في الابریق ماء من الكوثر، و اخرجت خرقتین بیضاوین- اشد بیاضا من اللبن، و اطیب ریحامن المسك و العنبر- فلفتها بواحده و قنعتها ب الثانيه.

ثم استنطقتها، فنطقت فاطمه بالشهادتین و قالت: اشهد أن لا اللّه الا اللّه، و ان ابي رسول اللّه سید الانبیاء، و ان بعلي سید الاوصیاء، و ولدي ساده الاسباط.

ثم سملت [فاطمه] علیهن، و سمت كل واحده منهن باسمها، و اقبلن یضحكن الیها، و تباشرت الحورالعین، و بشراهل السماء بعضهم بعضا بولاده فاطمه.

و حدث في السماء نور زاهر، لم تره الملائكه قبل ذلك.

و قالت النسوه: خذیها یا خدیجه طاهره مطهره زكیه میمونه، بورك فيها و في نسلها.

فتناولتها فرحه مستبشره، و القمتها ثدیها فدر علیها (1) .

و روی ابن عساكر في التاریخ الكبیر: و كانت خدیجه اذا ولدت ولدا، دفعته لمن یرضعه، فلما ولدت فاطمه لم ترضعها احد غیرها.

و رواه ابن كثیر في البدایة و النهایة.

ص: 46


1- بحارالانوار ج 43 ص 2.

التسمیة

تعتبر تسمیة الطفل المولود أو التسمیة (بصورة عامة) من سنن اللّه تعالی الأولی و قد سمَّی اللّه تعالی آدم و حوَّاء یوم خلقهما، و علَّم آدم الأسماء كلها،و قد سار الناس علی هذه السنة أو السیرة. فالتسمیة لا بدَّ منها عند البشر المتحضّر، و لعل البشر المتوحش في الغابات - بسبب ابتعادهم عن الحضارة- لا یعرفون التسمیة و لا یسمُّون.

و تختلف أسماء البشر علی مرِّ الأجیال و العصور، و علی اختلاف لغاتها فقد توجد هناك مناسبة بین الاسم و المسمَّی، و قد لا توجد، و قد یكون للإسلام معنی في قاموس اللغة و قد لا یكون له معنی، بل هو اسم مخترع لا من مادة لغویة.

أما أولیاء اللّه فإنَّ التسمیة تعتبر عندهم ذات أهمیة كبری، و لا یخلو الأمر عن الحقیقة، أنَّ الإنسان ینادی و یدعی باسمه، فكم هناك فرق بین الاسم الحسن الجیِّد، و بین القبیح السیئ؟!

و كم فرق بین تأثیر نفس صاحب الاسم بهذا و ذاك و هكذا تأثر السامع للاسم؟ فهذه امرأة عمران ولدت بنتاً فقالت: «و إنی سمیتها مریم».

و اختار اللّه لنبیه یحیی (علیه السلام) هذا الاسم قبل أن تنعقد نطفته في رحم أُمِّه، لأنَّ زكریا سأل ربه قال: «فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِیّاً یَرِثُنِي وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِیّاً «یَا زَكَرِیَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ یَحْیَی لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِیّاً» (1) .

ص: 47


1- مریم: 7.

و أنت إذا أمعنت النظر في قوله تعالی: «لم نجعل له من قبل سمیاً» یتضح لك أنَّ تعیین أسماء أولیاء اللّه یكون من عنده (عز و جل)، و أنَّ اللّه تولی تسمیتهم و لم یكلها إلی الأبویْن.

إذا عرفت هذا فهلمَّ معي إلی طائفة كبیرة من الأحادیث التي تذكر اسم السیدة فاطمة الزهراء و وجه التسمیة، و أنها إنما سمیت بفاطمة لأسباب و مناسبات، و لیست هذه التسمیة ارتجالیة، و لا ولیدة إعجاب و استحسان فقط، بل روعي فيها مناسبة الاسم مع المسمی، بل صدق الاسم علی المسمَّی، و بهذه الأحادیث یتضح ما نقول.

قال الإمام الصادق (علیه السلام): لفاطمة تسعة أسماء عند اللّه (عز و جل):

1- فاطمة

2- و الصدِّیقة

3- و المباركة

4- و الطاهرة

5- و الزكیة

6- و الراضیة

7- و المرضیة

8- والمحدَّثة

9- و الزهراء... (1) .

و الان... الیك شرحا موجز لهذه الاسماء المقدسه:

ص: 48


1- البحار: ج 43/ 10.

فاطمة

لقد وردت احادیث متنوعه في سبب تسمیتها (علیها السلام) بفاطمه.

و قبل ان نذكر تلك الاحادیث نقول: ان اسم فاطمه مشتق من الفطم و هو بمعنی القطع، یقال: فطمت الام طفلها، و فطمت الحبل.

قال العلامه المجلسي (رحمه اللّه تعالی)- مامعناه-:... كثیرا ما یجی ء اسم الفاعل بمعنی اسم مفعول، كقولهم: سركاتم، ای: مكتوم، و مكان عامر، ای: معمور، و كما قالو تعالی: «في عیشه راضیه» اي مرضیه.

و الان الیك بعض تلك الاحادیث:

1- لانها فطمت شیعتها من النار.

روي عن الامام الصادق عن آبائه (علیهم السلام) عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ان جبرئیل قال له:... سمیت فاطمه، في الارض، [لانها] فطمت شیعتها من النار (1) .

2- لأن اللّه فُطمت هي و شیعتها من النار.

روی عن الإمام الرضا (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): انه قال: یا فاطمه اتدرین لم سُمِّیتِ فاطمة؟

قال علي (علیه السلام): لم سُمیت؟

ص: 49


1- بحارالانوار ج 43/ 18.

قال: لأنَّها فُطمت هي و شیعتها من النار (1) .

و عنه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) انه قال: سمیت فاطمه، لان اللّه فطمها و ذریتها من النار، من لقی اللّه منهم بالتوحید و الایمان بما جئت به (2) .

و روی ابن عباس عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) انه قال:... و انما سماها فاطمه، لان اللّه فطمها و ذریتها و محبیها من النار (3) .

و روی ابن عباس عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) انه قال:... و انما سماها فاطمه، لان اللّه فطمها و ذریتها و محبیها عن النار (4) .

و روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) انه قال: لفاطمه وقفه علی باب جهنم.... فتقول: الهي و سیدي، سمیتني فاطمه، و فطمت بك من احبك و تولاك، و احب ذریتك و تولاهم من النار، و وعدی الحق و انا لا اخلف المیعاد..... الی آخر الخبر (5) .

ص: 50


1- بحارالانوار ج 43/ 14، و ذكره محب الدین الطبري في ذخائرالعقبی ص 26 طبعه القاهره، و القندوزي الحنفي في ینابیع الموده ص 194 و الصفوري و الشافعي في نزهه المجالس، و روی قریبا منه الخركوشي في كتاب (شرف النبي) و ابن بطه في كتاب الابانه و غیرهم.
2- بحارالانوار ج 43.
3- تاریخ بغداد للخطیب البغدادي ج 13 ص 331 طبعه القاهره/ ذخائر العقبی للطبري ص 26 طبعه القاهره/ كنزالعمال للمتي الهندي ج 13 ص 94 طبعه حیدرآباد دكن/ فيض القدیر للمناوي الشافعي ج 1 ص 206 طبعه القاهره/ غیرها.
4- ینابیع الموده للقندوزي ص 397 طبعه اسلامبول/ نور الابصار للشبلنجي ص 41 طبعه مصر.
5- بحارالانوار ج 43 ص 15.

3- لانها فطمت من الشر.

روي عن الامام الصادق (علیه السلام) انه قال: تدري اي شي ء تفسیر فاطمه؟

قلت: أخبرني یا سیدي؟

قال: فُطمت من الشر.

ثم قال: لولا أن أمیرالمؤمنین تزوَّجها لما كان لها كف ء إلی یوم القیامة علی وجه الأرض، آدم فمن دونه (1) .

و قد روی هذا الحدیث من علماء العامة منهم: ابن شیرویه ال دیلمي عن أُم سلمة قالت: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «لو لم یخلق اللّه علیاً لما كان لفاطمة كفو».

و رواه الخوارزمي في مقتل الحسین (علیه السلام) ص 65، و الترمذي في المناقب، و المناوي في كنوز الحقائق، و القندوزي الحنفي في ینابیع المودة عن أم سلمة و عن العباس عم رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

4- لان الخلق فطمو عن معرفتها.

روي عن الامام الصادق (علیه السلام) انه قال:... و انما سمیت فاطمه لان الخلق فطموعن معرفتها (2) .

5- لان اللّه فطما بالعلم.

روي عن الامام الباقر (علیه السلام) انه قال: لما ولدت فاطمه (علیها السلام) اوحی اللّه (عز و جل) الی ملك، فانطلق به لسان محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فسماها فاطمه.

ص: 51


1- بحارالانوار ج 43 ص 16.
2- بحارالانوار ج 43 ص 65.

ثم قال [تعالی]: اني فطمتك بالعلم، عن الطمث.

ثم قال ابوجعفر (علیه السلام): و اللّه لقد فطمها اللّه تبارك و تعالی بالعلم، و عن الطمث بالمیثاق. (1) .

و كان هذا الاسم محبوباً عند أهل البیت (علیهم السلام) یحترمونه و یحترمون من سُمِّیت به.

فقد سال الإمام الصادق (علیه السلام) أحد أصحابه- و قد رزقه اللّه بنتاً- بِم سمَّیتها؟

قال الرجل: سمیتها فاطمة.

قال الإمام الصادق: فاطمة؟ سلام اللّه علی فاطمة، أما إن سمیتها فاطمة فلا تلطمها و لا تشتمها و أكرمها.

و عن السكوني قال: دخلت علی أبي عبداللّه- الصادق- (علیه السلام) و أنا مغموم مكروب قال لي: یا سكوني ما غمك؟

فقلت: ولدت لي ابنة....

فقال: ما سمَّیتها؟

قلت: فاطمة.

قال: آه آه آه.

ثم قال: أما إذا سمیتها فاطمة فلا تسبها و لا تلعنها و لا تضربها (2) .

و في سفينة البحار عن أبي ا لحسن (الكاظم) قال: لا یدخل الفقر بیتاً فيه اسم محمد.... و فاطمة من النساء.

إن الحدیث الأول الذي مرّ في تسمیتها- (علیها السلام)- بفاطمة- عن الإمام الباقر (علیه السلام) قد جاء فيه ذیّله الإمام بقوله: «و اللّه لقد فطمها اللّه

ص: 52


1- بحارالانوار ج 43.
2- وسائل الشیعه ج 7 باب احكام الاولاد.

تبارك و تعالی بالعلم و عن الطمث بالمیثاق».

إن المقصود من كلمة (المیثاق) هنا هو عالم الذر، ذلك العالم الذي أشار إلیه قوله تعالی: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذریتهم و أشهدهم علی أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بلی»ِ (1) .

و ملخص القول: إن اللّه تعالی أخرج ذریة آدم من صلبه كهیئة الذر، فعرضهم علی آدم و قال: إني آخذ علی ذریتك میثاقهم أن یعبدوني و لا یشركوا بي شیئاً و علیَّ أرزاقهم.

ثم قال لهم: ألست بربكم قالوا: بلی شهدنا أنك ربنا.

فقال للملائكة: اشهدوا.

فقالوا: شهدنا.

و قیل: إن اللّه تعالی جعلهم فهماء عقلاء یسمعون خطابه و یفهمونه ثم ردَّهم إلی صلب آدم، و الناس محبوسون بأجمعهم حتی یخرج كل من أخرجه اللّه في ذلك الوقت، و كل من ثبت علی الإسلام فهو علی الفطرة الأُولی، و من كفر و جحد فقد تغیَّر عن الفطرة الأُولی.

و هذا القول مستخلص من طائفة كبیرة من الأحادیث، و الأخبار المعتبرة، و هذا العالم یسمَّی عالم الذر و یسمی عالم المیثاق، و الإمام الباقر (علیه السلام) یشیر في كلامه إلی أن الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء كانت طاهرة من العادة الشهریة من ذلك العالم و من ذلك الوقت.

و أما الأحادیث التي تتحدث عن عالم الذر فكثیرة جداً، و نكتفي هنا بذكر بعضها:

1- في الكافي عن الإمام أبي عبداللّه (الصادق) (علیه السلام) قال: سُئل

ص: 53


1- الاعراف 174.

رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): بأي شيء سبقت ولد آدم؟

قال: إنني أول من أقرَّ بربي، إن اللّه أخذ میثاق النبيین و أشهدهم علی أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلی. فكنت أول من أجاب.

2- عن أبی بصیر قال: قلت لأبي عبداللّه الصادق (علیه السلام): كیف أجابوا و هم ذر؟

قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه.

و زاد العیاشي: یعني في المیثاق.

3- و عن زرارة أنه سئل من الإمام الباقر (علیه السلام) عن قول اللّه عز و جل: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذریتهم»؟

قال: من ظَهرِ آدم ذریتَه إلی یوم القیامة فخرجوا كالذر، فعرَّفهم و أراهم صنعه، و لو لا ذلك لم یعرف أحد ربه.

4- و لما حج عمر بن الخطاب و استلم الحجر قال: أما و اللّه إني لأعلم أنك حجر، لا تضر و لا تنفع، و لو لا أن رسول اللّه استلمك ما استلمتك.

فقال له علي: یا أباحفص لا تفعل فإن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لم یستلم إلاَّ لأمر قد علمه و لو قرأت القرآن فعلمت من تأْویله ما علم غیرك لعلمت أنه یضر و ینفع، له عینان و شفتان و لسان ذلق یشهد لمن وافاه بالموافاة.

فقال له عمر: فأوجدني ذلك في كتاب اللّه یا أباالحسن.

فقال علي (علیه السلام): قوله تبارك و تعالی: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذریتهم و أشهدهم علی أنفسهم ألست بربكم قالوا بلی شهدنا»، فلما أقروا بالطاعة أنه الرب و أنهم العباد أخذ علیهم المیثاق بالحج إلی بیته الحرام، ثم خلق اللّه رقا أرقَّ من الماء و قال للقلم: أُكتب موافاة خلقي ببیتي الحرام. فكتب القلم موافاة بني آدم في الرق ثم قیل للحجر:

ص: 54

افتح فاك. ففتحه فألقم الرق. ثم قال للحجر: احفظه و اشهد لعبادي بالموافاة. فهبط الحجر مطیعاً للّه.

یا عمر: أو لیس إذا استلمت الحجر قلت: أمانتي أدَّیتها، و میثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة؟

فقال عمر: اللّهم نعم.

فقال له علي: من ذاك».

و إنك تجد طائفة كبیرة من الأحادیث التي تتضمن البحث عن عالم الذر في كتاب الكافي للكلیني و البحار للمجلسي و غیرها من موسوعات الأحادیث.

و قد التبس الأمر علی بعض علمائنا. فلم یفهموا الآیة فجعلوا یشككون في تلك الأحادیث (سامحهم اللّه) بالرغم من كثرتها بل بالرغم من صریح الآیة.

و خلاصة الكلام أن عالم الذر هو عالم المیثاق، و من ذلك العالم- بل و قبل ذلك كانت الأفضلیة لرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و أهل بیته الطاهرین، و من جملتهم ابن الطاهرة فاطمة الزهراء.

و لا یصعب علیك قبول هذا القول، فإن هناك أحادیث كثیرة رواها علماء الفریقین من الشیعة و السنة قد بلغت أو تجاوزت حدَّ التواتر و هي تؤیِّد هذا الموضوع.

أما الأحادیث المذكورة في كتب الشیعة فيعسر إحصاؤها وعدُّها.

و أما في كتب العامه: فقد روی الصفوري الشافعي في (نزهة المجالس) ج 2 ص 223 قال: قال الكسائي و غیره: لما خلق اللّه آدم... إلی أن قال: و علیه جاریة لها نور و شعاع، و علی رأْسها تاج من الذهب، مرصَّع بالجواهر لم یر آدم أحسن منها. فقال: یا رب من هذه؟

ص: 55

قال: فاطمة بنت محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم)

فقال: یا ربّ من یكون بعلها؟

قال: یا جبرئیل افتح له باب قصر من الیاقوت. ففتح له، فرأی فيه قبَّةً من الكافور، فيها سریر من ذهب، علیه شاب حسنه كحسن یوسف فقال: هذا بعلها علي بن أبي طالب... الی آخرالحدیث.

و روی العسقلاني في (لسان المیزان) ج 3 ص 346:

عن الإمام الحسن بن علي العسكري (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن جابر بن عبداللّه عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): لما خلق اللّه آدم و حوَّاء تبخترا في الجنة و قالا: من أحسن منَّا؟ فبینما هما كذلك. إذ هما بصورة جاریة لم یر مثلها، لها نور شعشعاني یكاد یطفئ الأبصار. قالا: یا رب ما هذه؟ قال: صورة فاطمة سیدة نساء ولدك.

قال: ما هذا التاج علی رأسها؟

قال: علي بعلها.

قال فما القرطان؟

قال: ابناها، وجد ذلك في غامض علمي قبل أن أخلقك بألفي عام».

ص: 56

الصدیقة

لقد مرَّ علیك أن من جملة أسمائها (علیها السلام) الصدِّیقة، بكسر الصاد و الدال المشدّدة «صیغة المبالغة» في التصدیق أي الكثیرة الصدق.

و الصِدِّیق أبلغ من الصدوق.

و قیل: الصدِّیق: من كثر منه الصدق.

و قیل: بل مَن لم یكذب قط.

و قیل: الكامل في الصدق، الذي یصدِّق قوله بالعمل، البار، الدائم التصدیق.

و قیل: مَن لم یتأت منه الكذب لتعوِّده الصدق.

و قیل: مَن صدق بقوله و اعتقاده، و حقق صدقه بفعله. كذا في تاج العروس.

و قیل: المداوم علی التصدیق بما یوجبه الحق.

و قیل: الذي عادته الصدق.

و قیل: إنه المصدِّق بكل ما أمر اللّه به وبأنبیائه، لا یدخله في ذلك شك، و یؤیده قوله تعالی: «و الذين آمنوا باللّه و رسله أولئك هم الصدِّیقون» (1) .

هذه تعاریف في معنی الصدِّیق، و لكن المستفاد من الآیات الكثیرة و الروایات المتعددة أن مرتبة الصدِّیقین في عداد مراتب الأنبیاء و الشهداء،

ص: 57


1- سورة الحدید: 19.

لهم حساب خاص بهم و درجة مخصوصة بهم. تامل هذه الآیات لیظهر لك ما قلنا:

1- «و من یطع اللّه و الرسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه علیهم من النبيین و الصدِّیقین و الشهداء و الصالحین، و حسن أولئك رفيقاً» (1) .

3- «و اذكر في الكتاب إبراهیم إنه كان صدِّیقاً نبیاً» (2) .

3- «و اذكر في الكتاب إدریس إنه كان صدِّیقاً نبیاً (3) .

4- «ما المسیح ابن مریم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صدِّیقة (4) .

و في تفسیر قوله تعالی: «و أُمَّه صدِّیقة» قیل: سُمیَّت صدِّیقة لأنها تُصدِّق بآیات ربها، و منزلة ولدها و تصدِّقه فيما أخبرها به، بدلالة قوله تعالی: «و صدَّقت بكلمات ربها» و قیل: لكثرة صدقها، و عظم منزلتها فيما تصدق به من أمرها.

بعد استعراض هذه الآیات و الأقوال یمكن لنا أن نستفيد أن التصدیق باللّه و بالأنبیاء و الكتب السماویة و الأحكام الشرعیة تارة یكون باللسان دون العمل.

ففي الوقت الذي یصدّق الإنسان بأن اللّه تعالی یراه مع ذلك یعصي اللّه (عز و جل) و یعلم بأن اللّه تعالی قد أوجب علیه حقوقاً مالیة أو غیر مالیة مع ذلك لا یؤدي تلك الحقوق، و یعلم بأن اللّه حرَّم الخمر و الربا و الزنا و مع ذلك لا یرتدع عن تلك المعاصي فهو مصدّق باللّه و بالحلال و الحرام، و الثواب و العقاب، و الجنة و النار، و لكن عمله لا یطابق هذا التصدیق، أي لم

ص: 58


1- سورة النساء: 68.
2- سورة مریم: 41.
3- سورة مریم: 56.
4- سورة المائدة: 75.

یبلغ به التصدیق درجة المطابقة بین القول و الفعل أو بین الاعتقاد و العمل.

و لكنّ الصدِّیقین هم الذين یعتقدون الحق و یؤمنون به، و یعملون علی ضوء تلك المعتقدات، و هؤلاء عددهم قلیل و نادر في كل زمان و في كل مكان.

و أنت إذا قارنت بین هذه التعاریف و بین أعمال الناس یظهر لك بكل وضوح أن عدد الصدِّیقین قلیل جداً جداً، و لعل في بعض البلاد لا یوجد صدّیق واحد.

و بعد هذا كله سوف یسهل علیك أن تعرف أن السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام)قد بلغت مرتبه الصدیقین، و سماها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بالصدیقه. كما في (الریلض النضره) ج 2 ص 202 و في (شرف النبوه) عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) انه قال لعلی: اتیت ثلاثا لم اوت مثلها زوجه.

و اوتیت الحسن و الحسین من صلبك و لم اوت من صلبي مثلها.

و لكنكم مني و انا منكم.

و سال المفضل بن عمرالامام الصادق (علیه السلام) قال: قلت: من غسل فاطمه؟

قال: ذاك امیرالمومنین.

(قال المفضل): فكأني استعظمت ذلك من قوله.

فقال: كانك ضقت مما اخبرتك به؟

قلت: قد كان ذلك جعلت فداك!

ص: 59

قال: لا تضیقنَّ، فإنها صدِّیقة، و لم یغسِّلها إلا صدِّیق، أما علمت أن مریم لم یغسِّلها إلا عیسی؟ (1) .

و روي عن الامام الصاذق (علیه السلام)- في حدیث له عن السیده فاطمه (علیها السلام)- انه قال:... «و هي الصدیقه الكبری، و علی معرفتها دارت القرون الاولی» (2) .

ص: 60


1- علل الشرائع: ص 184 باب 148 ح 1.
2- بحارالانوار ج 43 ص 105.

المباركة

البركة: النماء و السعادة و الزیادة كما في (تاج العروس).

و قال الراغب: و لما كان الخیر الإِلهي یصدر من حیث لا یحبس، و علی وجه لا یحصی و لا یحصر قیل- لكل ما یشاهَد منه زیادة محسوسة-: هو مبارك فيه، و فيه بركة.

و لقد بارك اللّه في السیدة فاطمة أنواعاً من البركات و جعل ذریة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) من نسلها، و جعل الخیر الكثیر في ذریَّتها، فإنها ماتت و تركت و لدین و بنتين فقط، و هم: الإمام الحسن و الإمام الحسین (علیهما السلام) و زینب و أُم كلثوم.

و جاءت واقعة كربلاء، و قتل فيها أولاد الحسین و لم یبق من أولاده إلاَّ علي بن الحسین (زین العابدین).

و قُتل من أولاد الإمام الحسن سبعة (علی قول) و اثنان من ولد زینب، و أما أُم كلثوم فإنها لم تعقب.

و بعد واقعة كربلاء تكررت الحوادث، و اقیمت المذابح و المجاور في نسل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و ذریه فاطمه الزهراء من واقعه الحره، الی واقعه زید بن علي بن الحسین الی واقعه الفخ، الی مطارده العلویین في عهد الامویین.

و جاء دور بنی العباس، فضربوا الرقم القیاسي في محاربه العلویین، و ابادتهم و استیصال شافتهم، راجع كتاب (مقاتل الطالبیین) تجد بعض تلك الحوادث.

ص: 61

و استمرت المكافحة أكثر من قرنین حتی قُتل الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)- و هو الإمام الحادي عشر- مسموماً في مدینة سامراء.

و لم یكن صلاح الدین الأیوبي بأقل من العباسیین في إراقة دماء آل رسول اللّه و دماء شیعتهم، فلقد أقاموا في المغرب العربي مجازر و مذابح جماعیة تقشعر منها الجلود.

و مع ذلك كله فقد جعل اللّه البركة في نسل فاطمة الزهراء، و قد جعل اللّه منها الخیر الكثیر.

و في تفسیر قوله تعالی: «إنا أعطیناك الكوثر» أقوال للمفسرین، و إن كان المشهور أن الكوثر هو الحوض المعروف في القیامة، أو النهر المشهور في الجنة و لكن الكوثر علی وزن فوعل- هو الشيء الكثیر و الخیر الكثیر.

و قد ذكر السیوطي في (الدر المنثور) في تفسیر شرح الكوثر: و أخرج البخاري و ابن جریر و الحاكم عن طریق أبي بشر عن سعید بن جبیر عن ابن عباس (رضی اللّه عنهما) أنه قال: الكوثر: الخیر الكثیر الذي أعطاه اللّه إیاه، قال أبوبشر: قلت لسعید بن جبیر فإنّ ناساً یزعمون أنَّه نهر في الجنة.

قال: النهر الذي في الجنة هو من الخیر الكثیر الذي أعطاه.

و الأنسب بالمقام. و بمقتضی الحال- كما في التفسیر للرازي- أن یكون المقصود من الكوثر هي الصدّیقة فاطمة الزهراء، فقد ذكر الطبرسي في (مجمع البیان) في تفسیر سورة الكوثر: قال: قیل: الكوثر هو الخیر الكثیر، و قیل: هو كثرة النسل و الذریة، و قد ظهرت الكثرة في نسله من وُلد فاطمة حتی لا یحصی عددهم، و اتصل إلی یوم القیامة مددهم.

و قال الفخر الرازي في تفسیره حول الآیة:

و القول الثالث: الكوثر أولاده، قالوا: لأن هذه السورة إنما نزلت ردَّاً علة من عابه (علیه السلام) بعدم الأولاد، فالمعنی أنه یعطیه نسلاً یبقون

ص: 62

علی مرِّ الزمان فانظر كم قُتل من أهل البیت؟ ثم العالم ممتلئ منهم، و لم یبق من بني أُمیة في الدنیا أحد یُعبأُ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر و الصادق و الكاظم و الرضا (علیهم السلام) و النفس الزكیة و أمثالهم؟».

و وجه المناسبة: أن الكافر شمت بالنبي حین مات أحد أولاده و قال: إن محمداً أبتر، فإن مات، مات ذكره. فأنزل اللّه هذه السورة علی نبیه تسلیة له كأنه تعالی یقول: إن كان ابنك قد مات فإنا أعطیناك فاطمة، و هي و إن كانت واحدة و قلیلة، و لكن اللّه سیجعل هذا الواحد كثیراً.

و تصدیقاً لهذا الكلام تری في العالم (الیوم) ذریة فاطمة الزهراء- الذين هم ذریة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) منتشرین في بقاع العالم، ففي العراق حوالي ملیون و في إیران حوالي ثلاثة ملایین، و في مصر خمسة ملایین و في المغرب الاقصی خمس ملایین و في الجزائر و تونس و لیبیا عدد كثیر، و كذلك في الأردن و سوریا و لبنان، و السودان و بلاد الخلیج و السعودیة ملایین، و في الیمن و الهند و باكستان و الأفغان و جزر إندونیسیا حوالي عشرین ملیوناً. و قلَّ أن تجد في البلاد الإسلامية بلدة لیس فيها أحد من نسل السیدة فاطمة الزهراء. و یقدَّر مجموعهم بخمسة و ثلاثین ملیوناً، و لو أجریت إحصائیات دقیقة و صحیحة فلعل العدد یتجاوز هذا المقدار (1) .

هؤلاء ذریة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و هم من صلب علي و فاطمة و فيهم الملوك و الأمراء و الوزراء و العلماء و الكتَّاب و الشخصیات البارزة و العباقرة المرموقة.

ص: 63


1- هذا الاحصاء لعام 1366 ه ما الیوم فقد تضاعف عددهم الی ما یعلمه اللّه تعالی.

و منهم مَن یعتزُّ بهذا الانتساب و یفتخر به، و منهم مَن یهمله و لا یبالي به، و منهم مَن یسیر علی طریقة أهل البیت، و منهم مَن یسیر علی خلاف مذهب أهل البیت.

و من أعجب العجب أن بعض المسلمین ما كان یعجبهم أن یعترفوا بهذا الانتساب أي انتساب ذریة علي و فاطمة علي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بل یعتبرون هذا الاعتراف كذباً و افتراءً، و یحاربون هذه الفكرة محاربة شعواء لا هوادة فيها، و كانوا یسفكون الدماء البریئة لأجل هذه الحقیقة.

انظر إلی موقف الحَجاج السفَّاك الهتَّاك تجاه هذا الأمر، و هكذا المنصور الدوانیقي، و هرون الرشید و غیرهم ممن حذا حذوهم و سلك طریقتهم.

عن عامر الشعبي أنه قال: بعث إلیَّ الحجاج ذات لیلة فخشیت فقمت فتوضأْت و أوصیت، ثم دخلت علیه، فنظرت فإذا نطع منشور و السیف مسلول، فسلَّمت علیه فردَّ عليَّ السلام فقال: لا تخف فقد أمنتك اللیلة و غدا إلی الظهر، و أجلسني عنده ثم أشار فأُتي برجل مقیَّد بالكبول و الأغلال، فوضعوه بین یدیه فقال: إن هذا الشیخ یقول: إنَّ الحسن و الحسین كانان ابني رسول اللّه، لیأْتیني بحجة من القرآن و إلاَّ لأضربنَّ عنقه.

فقلت: یجب أن تحلَّ قیده، فإنَّه إذا احتج فإنَّه لا محالة یذهب و إن لم یحتج فإنَّ السیف لا یقطع هذا الحدید.

فحلّوا قیوده و كبوله، فنظرت فإذا هو سعید بن جبیر، فحزنت بذلك، و قلت: كیف یجد حُجَّةً علی ذلك من القرآن؟

فقال الحجاج: ائتني بحجة من القرآن علی ما ادعیت و إلاَّ أضرب عنقك.

ص: 64

فقال له: انتظر.

فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك. فقال: انتظر. فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك فقال: أعوذ باللّه من الشیطان الرجیم، بسم اللّه الرحمن الرحیم ثم قال: «و وهبنا له إسحاق و یعقوب.... إلی قوله: و كذلك نجزی المحسنین» ثم سكت و قال للحجاج: اقرأْ ما بعده. فقرأ: (و زكریا و یحیی و عیسی) فقال سعید: كیف یلیق ها هنا عیسی؟

قال: إنَّه كان من ذریته.

قال: إن كان عیسی من ذریة إبراهیم و لم یكن له أب بل كان ابن ابنته فنُسب إلیه مع بُعده فالحسن و الحسین أولی أن یُنسبا إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) مع قربهما منه.

فأمر له بعشرة آلاف دینار، و أمر أن یحملوه إلی داره و أذن له في الرجوع.

قال الشعبی: فلما أصبحت قلت في نفسی: قد وجب علیَّ أن آتی هذا الشیخ فأتعلَّم منه معاني القرآن، لأني كنت أظن أني أعرفها، فإذا أنا لا أعرفها. فأتیته فإذا هو في المسجد، و تلك الدنانیر بین یدیه، یفرِّقها عشراً عشراً، و یتصدق بها ثم قال: هذا كله ببركة الحسن و الحسین (علیهما السلام) لئن أغممنا و احداً لقد أفرحنا ألفاً و أرضینا اللّه و رسوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم) (1) .

أقول: الآیات التي استدل بها سعید بن جبیر (رضوان اللّه علیه) هي: و وهبنا له إسحاق و یعقوب كلاّ هدینا، و نوحاً هدینا من قبل، و من ذریته داود و سلیمان و أیوب و یوسف و موسی و هارون و كذلك نجزي المحسنین

ص: 65


1- بحار الانوار: ج 43.

و زكریا و یحیی و عیسی و إلیاس كل من الصالحین» (1).

و لقد جری حوار- حول هذا الموضوع- بین هارون الرشید و الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام):

كما في كتاب عیون أخبار الرضا (علیه السلام) أن هارون الرشید قال للإمام موسی بن جعفر (علیه السلام):

لِمَ جوَّزتم للعامة و الخاصة أن ینسبوكم إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و یقولون لكم یا بني رسول اللّه، و أنتم بنو علي، و إنما ینسب المرء إلی أبیه، و فاطمة إنما هي و عاء و النبي (علیه السلام) جدّكم من قِبَل أُمِّكم؟؟؟

فقال الإمام: لو أنّ النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) نُشر (أي بعث حیاً) فخطب إلیك كریمتك هل كنت تجیبه؟

قال الرشید: سبحان اللّه! و لِمَ لا أُجیبهُ؟ بل أفتخر علی العرب و العجم و قریش بذلك.

فقال الإمام: و لكنه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لا یخطب إليَّ و لا أزوِّجه.

قال الرشید: و لِمَ؟

قال الإمام: لأنه ولدني و لم یلدك.

قال الرشید: أحسنت یا موسی.

ثم قال الرشید: كیف قلتم إنا ذریة النبي، و النبي (علیه السلام) لم یعقّب؟ و إنما العقب للذكر، لا للأنثی، و أنتم ولد الابنة، و لا یكون لها عقب؟

ص: 66


1- الانعام: 80.

فاعتذر الإمام عن الإجابة علی هذا السؤال المحرج و طلب من الرشید إعفاءه عن الجواب رعایة للتقیة. فقال الرشید: لا، أو تخبرني بحجتكم فيه یا ولد علي و أنت یا موسی یعسوبهم و إمام زمانهم، كذا أنهی إلی و لست أُعفيك في كل ما أسئلك عنه حتی تأْتیني فيه بحجة من كتاب اللّه، فأنتم تدَّعون- معشر وُلد علي- أنَّه لا یسقط عنكم منه شيء ألِفٌ و لا واو إلاَّ و تأْویله عندكم، و احتججتم بقوله (عز و جل): (ما فرَّطنا في الكتاب من شيء) و قد استغنیتم عن رأی العلماء و قیاسهم.

فقال الإمام: تأذن لي في الجواب؟

قال الرشید: هات.

قال الإمام: أعود باللّه من الشیطان الرجیم، بسم اللّه الرحمن الرحیم و من ذریته داود و سلیمان و أیوب و یوسف و موسی و هارون و كذلك نجزي المحسنین و زكریا و یحیی و عیسی. مَن أبو عیسی.

قال الرشید: لیس لعیسی أب.

قال الإمام: إنما ألحقناه بذراري الأنبیاء (علیهم السلام) من طریق مریم (علیها السلام) و كذلك أُلحقنا بذراري النبي (صلی اللّه علیه و آله و سل) من قَبِل أمِّنا فاطمة (علیها السلام)... إلی آخر الحدیث (1) .

هذه هي الآیات التي استدلَّ بها الأئمة (علیهم السلام) حول انتسابهم إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سل) عن طریق السیدة فاطمة الزهراء.

و أما الأحادیث التي تصرّح بهذا المعنی فكثیرة جداً، و نكتفي- هنا- بما یلي:

1- الخطیب البغدادي في (تاریخ بغداد) ج 1 ص 316.

ص: 67


1- عیون اخبارالرضا: ج 1 ص 81 ح 9.

عن ابن عباس قال: كنت أنا و أبي: العباس بن عبدالمطلب جالسین عند رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إذ دخل علي بن أبي طالب فسلّم، فردّ علیه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و بشّ به، فقال العباس: یا رسول اللّه أتحبّ هذا؟

فقال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): یا عمَّ رسول اللّه! و اللّه اللّه أشدُّ حُبَّاً له مني، إنَّ اللّه جعل ذریة كل نبي في صلبه، و جعل ذریتي في صلب هذا.

و رواه الخوارزمي في (المناقب) ص 229.

2- عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: إنَّ اللّه (عز و جل) جعل ذریة كل نبي في صلبه و جعل ذریتي في صلب علي.

و رواه محب الدین الطبري في (ذخائر العقبی).

و الجویني في (فرائد السمطین).

والذهبي في (میزان الاعتدال).

و ابن حجر في (الصواعق المحرقة) ص 74.

و المتقی الهندي في (منتخب كنز العمال).

و الزرقاني في (شرح المواهب اللدنیة).

و القندوزي في (ینابیع المودة) ص 183.

3- و ذكر النسائي في كتاب (خصائص أمیرالمؤمنین) عن محمد بن أسامة بن زید، عن أبیه قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): أما أنت یا علي فختني (1) و أبو ولدي و أنت مني و أنا منك.

ص: 68


1- الختن: الصهر.

4- و روی أیضاً عن أسامة قال: طرقت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لیلة لبعض الحاجة، فخرج و هو مشتمل علی شيء لا أدري ما هو؟ فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل علیه؟ فكشفه فإذا هو الحسن و الحسین علی و ركیه، فقال: هذان ابناي، و ابنا بنتي، اللّهم إنك تعلم أني أحبُّهما فأحبهما.و الأحادیث التي تصرح بأن الحسن و الحسین (علیهما السلام) كانا ابني رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كثیرة جداً.

و جاء بعض الجهلاء یتفلسف لیُنكر أبوّة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لولدیه: الحسن و الحسین (علیهما السلام) مستدلاً بقوله تعالی: (ما كان محمد أباأحد من رجالكم) فيزعم الجاهل أنَّ رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لیس بأب أحد، مع العلم أن الآیة نزلت حول نفي نسب زید الذي تبنَّاه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ثم زوَّجه زینب بنت جحش ثمّ طلّقها زید و تزوجها النبي (فلما قضی زید منها و طراً زوجناكها لكي لا یكون علی المؤمنین حرج في أزواج أدعیائهم إذا قضوا منهن و طراً و كان أمر اللّه مفعولاً) (1) ففي هذا بیان أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لیس بأب لزید حتی تحرم علیه زوجته، فإن تحریم زوجة الابن معلق بثبوت النسب، فمن لا نسب له لا حرمة لامرأته، و لهذا أشارت الآیه إلیهم فقالت: (من رجالكم) و قد ولد لرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أولاد ذكور: إبراهیم و القاسم و الطیب و المطهر، فكان (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أباهم.

و قد صح و ثبت أنه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال للحسن (علیه

ص: 69


1- الاحزاب: 38.

السلام): إن ابني هذا سید.

و قال أیضاً: الحسن و الحسین ابناي هذان امامان قاما أو قعدا. و قال ایضاء: إن كل بني بنت ینسبون إلی أبیهم إلاَّ أولاد فاطمة فإني أنا أبوهم.

و قیل: أراد بقوله: (من رجالكم) البالغین من رجال ذلك الوقت و لم یكن أحد من أبنائه رجلاً في ذلك الوقت.

و ختاماً لهذا الفصل نقول: كل ما تقوله في أبوَّة رسول اللّه لأولاده الذكور فهو الثابت في أبوَّة رسول اللّه لولدیه الحسن و الحسین، و الكلام هناك نفس الكلام هنا.

ص: 70

الطاهرة

لقد مرّ علیك أن من جملة أسمائها (علیها السلام): الطاهرة.

وقد روي عن الامام محمد الباقر عن آبائه (علیهم السلام) قال: «انما سمیت فاطمه بنت محمد: الطاهره، لطهارتها من كل دنس، و طهارتها من كل رفث و ما رات قط یوما حمره و لانفاسا» (1) .

و أحسن ما نبحث فيه حول هذا الموضوع هي آیة التطهیر، و هي قوله تعالی: «انما یرید اللّه لیذهب عنكم الرجس اهل البیت و یطهركم تطهیرا».

إن هذه الآیة الكریمة تعتبر في طلیعة الآیات ذات الأهمیة الكبری، و ذلك لعظم معناها و مغزاها، لأنها منبع فضائل أهل البیت النبوي لا شتمالها علی أمور عظیمة.

و قد كثرت الأقوال، و جالت الأقلام حول هذه الآیة.

و لعل من الصحیح أن نقول: إن آیة التطهیر معترك الآراء المتضاربة و الأقوال المختلفة، و خاصة حول كلمة: (أهل البیت) و المقصود منهم، و مدی شمول هذه الكلمة.

و الأمر الذي لا شك فيه أن آیة التطهیر تشمل الصدِّیقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) قطعاً، و بإجماع المفسرین و المحدِّثین من الشیعة و السنَّة، إلاَّ من شدَّ و ندر.

إذ أن جمیع الأحادیث الواردة حول نزول هذه الآیة متفقة علی

ص: 71


1- بحارالانوار ج 43 ص 19.

شمولها لعليٍ و فاطمة و الحسن و الحسین (علیهم السلام) بالقدر المتیقن.

و إن كان هناك قول یشعر بشمولها لزوجات النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) اعتماداً علی ظاهر لفظ (أهل البیت) أو سیاق الآیة التي سبقتها و لحقتها خطابات لزوجات النبي، فإن جمیع الأحادیث تصرّح بأن النبي لم یسمح حتی لزوجته السیدة أم سلمة أن تدخل تحت الكساء قبل نزول آیة التطهیر.

و قد ذكرنا الشيء الیسیر- مما یتعلق بالآیة- في كتاب (علي من المهد إلی اللَّحد) و نذكر هنا بعض الأحادیث و مصادرها من كتب علماء السُّنة، رعایة العامه، لأسلوب الكتاب و تتمیماً للفائدة.

و ینبغي أن نعلم أن الذين رووا نزول أیة التطهیر في حق علي و فاطمة و الحسن و الحسین (علیهم السلام) یعسر إحصاؤهم، و لعلهم یتجاوزون المئات.

و لو أردنا استعراض أقوال المفسرین و المحدثین حول الآیة لطال بنا الكلام، و خرج الكتاب عن أسلوبه، و لكننا نذكر هنا عشرین مصدراً من مشاهیر مؤلفات علماء العامة و حفّاظهم و مفسریهم و محدّثیهم، و في ذلك كفایة لكل منصف:

1- الخطیب البغدادي في تاریخه (ج 10) بإسناده عن أبی سعید الخدري عن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في قوله تعالی:

(إنما یرید اللّه لیذهب عنكم الرجس أهل البیت و یطهركم تطهیراً) قال: جمع رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) علیاً و فاطمة و الحسن و الحسین، ثم أدار علیهم الكساء فقال: هؤلاء أهل بیتي، اللّهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهیراً، و أم سلمة علی الباب فقالت: یا رسول اللّه ألست منهم؟

ص: 72

فقال: إنك لعلي خیر أو: إلی خیر.

2- الزمخشري في تفسیره (الكشاف) ج 1 ص 193.

روي عن عائشة (رضي اللّه عنها) أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) خرج و علیه مرط مرجَّل من شعر أسود موشّی منقوش، فجاء الحسن بن علي فأدخله. ثم جاء الحسین فدخل معه، ثم جاءَت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله ثم قال: (إنما یرید اللّه لیذهب عنكم الرجس أهل البیت و یطهركم تطهیراً).

3- الإمام الرازي في تفسیره ج 2 ص 700 طبع الأستانة. روي أنه (علیه السلام) لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسین فأدخله ثم فاطمة ثم علي ثم قال: إنما یرید اللّه... الی آخره.

4- ابن الأثیر الجزري في كتابه: (أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 2 ص 12): عن عمر بن أبی سلمة (ربیب النبي) (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: لما نزلت هذه الآیة علی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): إنما یرید اللّه- في بیت أم سلمة فدعی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فاطمة و حسناً و حسیناً فجللّهم بكساءٍ و علیّ خلف ظهره ثم قال: هؤلاء أهل بیتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهیراً. قالت أم سلمة: و أنا معهم یا رسول اللّه؟ قال: أنتِ علی مكانك، أنت في خیر.

5- سبط ابن الجوزي في (تذكرة الأئمة ص 244) عن واثلة بن الأسقع قال: أتیت فاطمة (علیها السلام) أسألها عن علي فقالت: توجَّهَ إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم). فجلست أنتظره فإذا برسول اللّه قد أقبل و معه علي و الحسن و الحسین، قد أخذ بید كل واحدٍ منهم حتی دخل الحجرة فأجلس الحسن علي فخذه الیمنی، و الحسین علي فخذه الیسری، و أجلس علیاً و فاطمة بین یدیه ثم لفَّ علیهم كساه أو ثوبه ثم قرأ: إنما یرید

ص: 73

اللّه لیذهب عنكم الرجس أهل البیت- الایه- ثم قال: اللّهم هؤلاء أهل بیتي حقاً.

6- الإمام الواحدي في كتابه: (أسباب النزول) بسنده إلی أم سلمة زوج النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ذكرت أن رسول اللّه كان في بیتها، فأتته فاطمة ببرمة فيها حریرة فدخلت بها علیه فقال لها: ادعي لي زوجك و ابنيك.

قالت: فجاء علی الحسن و الحسین فدخلوا، فجلسوا یأكلون من تلك الحریرة، و هو علی دكانِ (1) و تحته كساء خیبري.

قالت: و أنا في الحجرة أصلّی، فأنزل اللّه تعالی: إنما یرید اللّه لیذهب عنكم الرجس أهل البیت و یطهركم تطهیراً، قالت: فأخذ فضلَ الكساء فغشّاهم به، ثم أخرج یدیه فأَلوی بهما إلی السماء ثم قال: اللّهم هؤلاء أهل بیتي و ح أمتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهیراً. قالت: فأدخلت رأسي البیت فقلت: أنا معكم یا رسول اللّه؟

قال: آئل إلی خیر، آئل إلی خیر.

و نقل الترمذي في صحیحه: أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كان من وقت نزول هذه الآیة إلی قریب ستة أشهر إذا خرج إلی الصلاة یمر بباب فاطمة یقول: الصلاة أهل البیت إنما یرید اللّه لیذهب عنكم الرجس.. الایه.

7- ابن الصباغ المالكي في كتابه: (الفصول المهمة ص 7) یروي عن الواحدي قریباً من الحدیث الذي مرّ، و ذیّله بقوله: و قال بعضهم في ذلك شعراً:

ص: 74


1- الدكان: شي ء كالمصلبه یقعد علیه.

إن النبي و وصیّه***و ابنيه و ابنته البتول الطاهرة

أهل العباء فإنني بولائهم***أرجو السلامة و النجاة في الآخرة

8- أبوبكر السیوطي في كتابه: (الدر المنثور ج 5 ص 198) و (الخصائص الكبری ج 2 ص 264) و الإتقان ج 2 ص 200) روی هذا الحدیث بطرق كثیرة، متعددة الأسانید تنتهي أسانیدها إلی كل من أم سلمة و عائشة و أبي سعید الخدري و زید بن أرقم و ابن عباس، و الضحاك بن مزاحم، و أبی الحمراء و عمر بن أبی سلمة و غیرهم:

إن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) دعا فاطمة و علیاً و حسناً و حسیناً. لمّا نزلت: إنّما یرید اللّه، فجلّلهم بكساء و قال: و اللّه هؤلاء أهل بیتي، فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهیراً.

9- الطبري في (ذخائرالعقبی ص 21): روی عن عمر بن أبي سلمة نزول الآیة في الخمسة الطیبة، و روی عن أم سلمة أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أخذ ثوباً و جلّله فاطمة و علي و الحسن و الحسین و هو معهم، و قرأ هذه الآیة: إنما یرید اللّه لیذهب عنكم الرجس أهل البیت و یطهركم تطهیراً. قالت: فجئت أدخل معهم فقال: مكانك إنك علی خیر.

و عنها أیضاً: أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال لفاطمة: ائتي بزوجك و ابنيك. فجاءت بهم و أَكفأ علیهم كساء فدكیاً، ثم وضع یده علیهم، ثم قال: اللّهم هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك و بركاتك علی آل محمد إنك حمید مجید. قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و قال: إنك علی خیر.

10- محمد بن أحمد القرطبي في كتابه: (الجامع لأحكام القرآن ج 14 ص 182) روی نزول الآیة في حق أهل البیت (علیهم السلام).

11- ابن العربي في كتابه: (أحكام القرآن ج 2 ص 166).

ص: 75

12- ابن عبدالبر ال أندلسي في كتابه: (الاستیعاب ج 2 ص 460).

13- البیهقي في كتابه: السنن الكبری ج 2 ص 149.

14- الحاكم النیسابوري في كتابه: (المستدرك علی الصحیحین ج 2 ص 416) روی عن أم سلمة قریباً ممّا تقدَّم.... إلی أن قالت: فقال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): اللّهم هؤلاء أهل بیتي قالت أم سلمة: یا رسول اللّه ما أنا من أهل البیت؟ قال: إنك اهلي إلی خیر، و هؤلاء أهل بیتي... الی آخره.

15- الإمام أحمد بن حنبل في (مسند ج 1 ص 331).

16- النسائي في كتابه: (الخصائص ص 4).

17- محمد بن جریر الطبري في تفسیره (ج 22 ص 5).

18- الخوارزمي في: (كتاب المناقب ص 35).

19- الهیثمي في: (مجمع الزوائد 9 ص 166).

20- ابن حجر الهیثمي في (الصواعق المحرقة ص 85).

انتخبنا هذا العدد و هذه العدة من جماعة كثیرة من المفسرین و المحدّثین، و لو لا الخوف من الملل لأسهبنا في ذكر المصادر، و في هذا المقدار تبصرة لمن كان له قلب أو ألقی السمع و هو شهید.

ولا أراني بحاجة إلی المزید من التحدّث حول الموضوع بعد شهادة آیة التطهیر التي یستفاد منها أن الزهراء طاهرة- بجمیع معنی الكلمة.

و ستأتیك الأحادیث الكثیرة حول كونها بتولاً.

و رعایة لأسلوب الكتاب و بمناسبة اسمها (الطاهرة) نذكر ما تیسّر:

لقد طهرّها اللّه عن العادة الشهریة، و عن كل دنس و رجس، و عن كل رذیلة، و الرجس: كل أمر تستقذره الطباع، و یأمر به الشیطان، و یحق لأجله العذاب، و یشین السمعة و تقترف به الآثام، و تمجّه الفطرة، و تسقط

ص: 76

به المروَّة.

و ذكر ابن العربي في (الفتوحات المكیة باب 29) (إن الرجس فيه عبارة عن كل ما یشین الإنسان) و هذا معنی العصمة التي تعتقد به الشیعة في الأنبیاء و الأئمة و السیدة فاطمة الزهراء، و هي مرتبة عظیمة، و منزلة سامیة خص اللّه بعض عباده.

و لیس من لوازم العصمة تبلیغ الأحكام، فإن كانت العصمة لازمة للنبي و الإمام لقیامهما بأعباء التبلیغ فلیس معنی ذلك أن غیرهما لا یتصف بالعصمة.

و قد احتج الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام) علی عصمة السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بآیة التطهیر، في حوار جری بینه و بین أبي بكر: نذكر بعضه كشاهد لما نحن فيه:

قال علي (علیه السلام) لأبي بكر: یا أبابكر أتقرأ كتاب اللّه؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قول اللّه (عز و جل): «إنما یرید اللّه لیذهب عنكم الرجس أهل البیت و یطهركم تطهیراً». فيمن نزلت؟ فينا أو في غیرنا؟

قال: بل فيكم.

قال: فلو أن شهوداً شهدوا علی فاطمة بنت رسول اللّه بفاحشة ما كنت صانعاً؟

قال: كنت أقیم علیها الحدَّ كما أقیم علی نساء المسلمین!!

قال: كنت إذن عند اللّه من الكافرین.

قال: و لِم؟

قال لأنك رددت شهادة اللّه لها بالطهارة، و قبلت شهادة الناس

ص: 77

علیها... الی آخره (1) .

و من لوازم هذه الطهارة عدم التنجس بالموت مع العلم أن كل إنسان مهما بلغ في التقوی و العبادة إذا مات نجس جسمه نجاسة مشدّدة، بحیث یجب الغسل علی مَن مسَّ ذلك المیت بعد برده، و لا یطهر المیت إلا بالتغسیل، و لكن المعصومین كانوا مطهرین في حیاتهم و بعد موتهم.

في كتاب الشیعه عن الحسن بن عبید قال: كتبت إلی الصادق (علیه السلام): هل اغتسل أمیرالمؤمنین حین غسَّل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) عند موته؟فأجاب: «النبي طاهر مطهَّر، و لكن فعل أمیرالمؤمنین و جرت به السُنة (2) .

وسیأتيك المزید من التفصیل في أواخر هذا الكتاب في باب تغسیلها، إن شاءاللّه.

ص: 78


1- البحار: ج 43.
2- وسائل الشیعه ج 2 ص 928، ح 7.

حدیث كساء

اشاره

و قد روي في كتب الشیعة حول نزول آیة التطهیر حدیث اشتهر بحدیث الكساء و هو-كما في کتاب عوالم العلوم للشیخ عبداللّه البحراني ج11، و غیره- عن جابر بن عبداللّه الانصاري:

عن فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أنها قالت: دخل عليَّ أبی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في بعض الأیام فقال: السلام علیك یا فاطمة. فقلت: و علیك السلام. فقال: إني أجد في بدني ضعفاً. فقلت له: أعیذك باللّه یا أبتاه من الضعف. فقال: یا فاطمة ائتیني بالكساء الیماني و غطِّني به.

قالت فاطمة (علیها السلام): فأتیته بالكساء الیماني فغطَّیته به و صرت أنظر إلیه و إذا وجهه یتلألأ كأنه البدر في لیلة تمامه و كماله.

قالت فاطمة: فما كانت إلاَّ ساعة و إذا بولدي الحسن (علیه السلام) قد أقبل و قال: السلام علیك یا أماه. فقلت: و علیك السلام یا قرة عیني و ثمرة فؤادي. قال لي: یا أماه إني أشم عندك رائحة طیبة كأنها رائحة جدي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقلت: نعم یا ولدي إن جدك نائم تحت الكساء فأقبل الحسن (علیه السلام) نحو الكساء و قال: السلام علیك یا جداه، السلام علیك یا رسول اللّه أتأذن لي أن أدخل معك تحت الكساء؟ فقال: و علیك السلام یا ولدي و صاحب حوضي قد أذنت لك. فدخل معه تحت الكساء.

ص: 79

قالت: فما كان إلاّ ساعة و إذا بولدي الحسین (علیه السلام) قد أقبل و قال: السلام علیك یا أماه. فقلت: و علیك السلام یا قرة عیني و ثمرة فؤادي فقال لی: یا أماه إني أشم عندك رائحة طیبة كأنها رائحة جدي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقلت: نعم، إن جدَّك و أخاك تحت الكساء. فدنی الحسین (علیه السلام) نحو الكساء و قال: السلام علیك یا جدَّاه، السلام علیك یا من اختاره اللّه، أتأذن لي أن أكون معكما تحت هذا الكساء؟

قال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): و علیك السلام یا ولدي و شافع أمتي قد أذنت لك. فدخل معهما تحت الكساء.

قالت فاطمة (علیها السلام) فأقبل عند ذلك أبوالحسن علي بن أبي طالب (علیه السلام) و قال: السلام علیك یا بنت رسول اللّه.

فقلت: و علیك السلام یا أباالحسن یا أمیرالمؤمنین.

فقال: یا فاطمة إني أشم عندك رائحة طیبة كأنها رائحة أخي و ابن عمي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

فقلت: نعم، ها هو مع ولدیك تحت الكساء.

فأقبل أمیرالمؤمنین (علیه السلام) نحو الكساء و قال: السلام علیك یا رسول اللّه أتأذن لي أن أكون معك تحت هذا الكساء؟

قال له: و علیك السلام یا أخي و خلیفتي و صاحب لوائي قد أذنت لك. فدخل علي (علیه السلام) تحت الكساء.

ثم أتت فاطمة (علیها السلام) و قالت: السلام علیك یا أبتاه السلام علیك یا رسول اللّه أتأذن لي أن أدخل معكم تحت هذا الكساء؟

قال لها: و علیك السلام یا بنتي و بضعتي قد أذنت لكِ. فدخلت فاطمة معهم تحت الكساء.

ص: 80

فلما اكتملوا و اجتمعوا تحت الكساء أخذ رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بطَرفي الكساء و أومأء بیده الیمین إلی السماء و قال: اللّهم إن هؤلاء أهل بیتي و خاصَّتي و ح أمتي لحمهم لحمي، و دمهم دمي، یؤلمني ما یؤلمهم و یُحرجني ما یُحرجهم (1) أنا حرب لمن حاربهم، و سلم لمن سالمهم، و عدوٌ لمن عاداهم، و محب لمن أحبَّهم، إنَّهم مني و أنا منهم، فاجعل صلواتك و بركاتك و رحمتك و غفرانك و رضوانك عليَّ و علیهم، و أذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهیراً.

قال اللّه (عز و جل): یا ملائكتي و یا سكان سماواتي إني ما خلقت سماءً مبنیة، و لا أرضاً مدحیَّة، و لا قمراً منیراً، و لا شمساً مضیئة، و لا فلكاً یدور، و لا بحراً یجري، و لا فُلكاً تسری إلاَّ في محبّة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء.

فقال الأمین جبرئیل: یا رب من تحت الكساء؟

فقال اللّه (عز و جل): هم أهل بیت النبوة و معدن الرسالة، هم فاطمة و أبوها و بعلها و بنوها.

فقال جبرئیل: یا رب أتأذن لي أن أهبط إلی الأرض لأكون لهم سادساً؟

فقال اللّه (عز و جل): قد أذنت لك.

فهبط الأمین جبرئیل فقال: السلام علیك یا رسول اللّه! العلي الأعلی یقرئك السلام، و یخصّك بالتحیة و الإكرام و یقول لك: و عزتي و جلالي! إني ما خلقت سماءً مبنیة، و لا أرضاً مدحیَّة، و لا قمراً منیراً و لا شمساً مضیئة، و لا فلكاً یدور، و لا بحراً یجري و لا فُلكاً تسري إلاَّ لأجلكم، و قد

ص: 81


1- و في نسخه: و یحزنني مایحزنهم.

أذن لي أن أدخل معكم تحت الكساء، فهل تأذن لي أن أدخل أنت یا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): و علیك السلام یا أمین وحی اللّه قد أذنت لك. فدخل جبرئیل معهم تحت الكساء فقال: إن اللّه قد أوحی إلیك (1) یقول: إنما یرید اللّه لیذهب عنكم الرجس أهل البیت و یطهركم تطهیراً.

فقال علي بن أبي طالب: یا رسول اللّه أخبرني ما لجُلُوسِنا هذا تحت الكساء من الفضل عند اللّه؟

فقال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): و الذي بعثني بالحق نبیاً، و اصطفاني بالرسالة نجیاً ما ذُكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض و فيه جمع من شیعتنا و محبّینا إلاَّ و نزلت علیهم الرحمة و حفّت بهم الملائكة، و استغفرت لهم إلی أن یتفرقوا.

فقال علي (علیه السلام): إذن- و اللّه- فزنا و فازت شیعتنا و ربِّ الكعبة. فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): و الذي بعثني بالحق نبیاً، و اصطفاني بالرسالة نجیاً ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض و فيه جمع من شیعتنا و محبّینا و فيهم مهموم إلاَّ و فرّج اللّه همَّه، و لا مغموم إلاَّ و كشف اللّه غمه، و لا طالب حاجة إلاَّ و قضی اللّه حاجته.

فقال علي (علیه السلام) اذن- و اللّه- فزنا و سعدنا و كذالك شیعتنا فازوا و سعدنا و كذالك شیعتنا فازوا و سعدوا في الدنیا و الاخره. انتهی.

الشیعه و حدیث الكساء

لقد جرت السیره عند الشیعه- طوال القرون و العصور- علی تلاوه

ص: 82


1- و في نسخه: فقال لابی: ان اللّه قد اوحی الیكم یقول...

حدیث الكساء في المجالس و المجامع و المحافل، للتبرك و استجابه الدعاء و نزول الرحمه الالهیه.

و هناك الاثارالعجیبه التي ظهرت ببركه تلاوه هذا الحدیث الشریف، من شفاء المرضی و قضاء الحوائج و رفع الشدائد و المكاره.

و قد روي حدیث الكساء هذا، في المصادرالتالیه:

1- غرر الاخبار لل دیلمي صاحب كتاب ارشاد القلوب، و هو من علماء القرن الثامن الهجري.

2- المنتخب لل طریحي صاحب كتاب مجمع البحرین.

3- نهج المحجه في فضائل الائمه للشیخ علی نقي بن احمد الاحسائي، و هو من علماء القرن الثاني عشر.

4- عوالم العلوم للشیخ عبداللّه افندي البحراني... فقد رواه باسانید علیه متصله، عن سلسله من العلماء العظام، فيهم العلامه الحلي و الشیخ الطوسي و الشیخ المفيد و ابن قولویه و علي بن ابراهیم صاحب التفسیر و الشیخ الكلیني و غیرهم.

كما افرد بعض العلماء كتبا مستقله حول هذا الحدیث و شرحه و بیان طرقه.

هذا... و من اراد التفصیل فلیراجع كتاب احقاق الحق للقاضي نوراللّه ال تستري ج 2 ص 558.

الشعراء و حدیث الكساء

كما كان للشعراء دور كبیرفي نظم هذا الحدیث الشریف و صیاغته في قوالب شعریه رائعه، باللغه العربيه و الفارسيه و الهنديه «الاردو».

و منهم السید الاجل السید محمد القزویني بن السید مهدي القزویني

ص: 83

النجفي الحلي، حیث نظم هذا الحدیث الشریف في القصیده التالیه:

رَوت لنا فاطمة خیر النساء***حدیث أهل الفضل أصحاب الكساء

تقول: إن سید الأنام***قد جاءني یوماً من الأیام

فقال لي: إني أری في بدني***ضعفاً أراه الیوم قد أنحلني

قومی عَليَّ بالكساء الیماني***و فيه غطیني بلا تواني

قالت: فجئته و قد لبیته***مسرعةً و بالكساء غطیّته

و كنت أرنو وجهه كالبدر***في أربع بعد لیال عشر

فما مضی إلاَّ یسیر من زمن***حتی أتی أبومحمد الحسن

فقال: یا أماه إني أجد***رائحة طیبة أعتقد

بأنها رائحة النبي***أخ الوصي المرتضی علی

قلت: نعم هاهو ذا تحت الكسا***مدثَّرٌ به، مغطیً و اكتسی

فجاء نحوه ابنه مسلماً***مستأذناً قال له: أدخل مكرماً

فما مضی إلاَّ القلیل إلاَّ***جاء الحسین السبط مستقلا

فقال یا أم أشمّ عندكِ***رائحة كأنها المسك الذكی

وحقِّ من أولاك منه شرفاً***أظنها ریح النبي المصطفي

قلت: نعم تحت الكساء هذا***بجنبه أخوك فيه لاذا

فأقبل السبط له مستأذناً***مسلّماً قال له: أدخل معنا

وما مضی من ساعة إلاَّ و قد***جاء أبوهما الغضنفر الأسد

أبوالأئمة الهداة النُّجبا***المرتضی رابع أصحاب الكسا

فقال یا سیدة النساء***و من بها زُوِّجتُ في السماء

إني أشمّ في حماك رائحة***كأنها الورد النديّ فایحة

یحكی شذاها عَرف سید البشر***و خیر من لبَّی و طاف و اعتمر

ص: 84

قلت: نعم تحت الكساء التحفا***و ضمّ شبلیك و فيه اكتنفا

فجاء یستأذن منه سائلاً***منه الدخول قال: فأدخل عاجلا

قالت: فجئت نحوهم مسلّمة***قال: ادخلي محبوّة مكرّمة

فعندما بهم أضاء الموضع***و كلّهم تحت الكساء اجتمعوا

نادی إله الخلق جل و علا***یُسمع أملاك السموات العلی

أقسم بالعزة و الجلال ***و بارتفاعي فوق كل عالی

ما من سما رفعتها مبنیة ***و لیس أرض في الثری مدحیة

و لا خلقت قمراً منیرا***كلاًّ و لا شمساً أضاءت نورا

و لیس بحر في المیاه یجري***كلاًّ و لا فُلك البحار تسری

إلاَّ لأجل من هم تحت الكسا ***من لم یكن أمرهم ملتبسا

قال الأمین: قلت: یا رب و من ***تحت الكسا؟ بحقهم لنا أبِن

فقال لی: هم معدن الرسالة***و مهبط التنزیل و الجلالة

و قال: هم فاطمة و بعلها***و المصطفي و الحسنان نسلها

فقلت: یا رباه هل تأذن لي***أن أهبط الأرض لذاك المنزل

فأغتدی تحت الكساء سادساً ***كما جعلتُ خادماً و حارسا؟

قال: نعم. فجاءهم مسلّما***مسلماً یتلو علیهم إنما

یقول: إنَّ اللّه خصّكم بها***معجزة لمن غدا منتبها

أقرأكم ربُّ العلا سلامه***و خصّكم بغایة الكرامة

و هو یقول معلناً و مفهما***أملاكه الغر بما تقدما

قال علی: قلت: یا حبیبي***ما لجلوسنا من النصیب؟

قال النبي: و الذي اصطفاني***و خصّني بالوحي و اجتباني

ما إن جری ذكر لهذا الخبرِ***في محفل الأشیاع خیر معشر

إلاَّ و أنزل الإله الرحمة***و فيهم حفَّت جنود جمَّة

ص: 85

من الملائكة الذين صدقوا***تحرسهم في الدهر ما تفرقوا

كلاًّ و لیس فيهم مغموم***إلاَّ و عنه كُشفت هموم

كلاَّ و لا طالب حاجة یری***قضاءها علیه قد تعسّرا

إلاَّ قضی اللّه الكریم حاجته***و أنزل الرضوان فضلاً ساحته

قال علیٌ: نحن و الأحباب***أشیاعنا الذين قدماً طابوا

فُزنا بما نلنا و ربِّ الكعبة***فلیشكرنَّ كلُ فَردٍ ربَّه

یا عجباً یستأذنُ الأمین***علیهم و یهجمُ الخئون

قال سُلیمٌ: قلتُ: یا سلمان***هل دخلوا و لم یك استئذان

فقال: أي و عزَّة الجبار***لیس علی الزهراءِ من خمار

لكنها لاذت وراء الباب***رعایة للستر و الحجابِ

فمذ رأوها عَصَروها عصرة،***كادت،- بروحي -أن تموت حسرة

تصیح: یا فضةُ أسندیني***فقد و ربي قتلوا جنینی

فأسقطت بنت الهدی واحزنا***جنینها ذاك المسمَّی مُحسنا

ص: 86

الراضیة

الرضا بما قدَّر اللّه تعالی لعبده یعتبر من أعلی درجات الإیمان باللّه (عز و جل)، و قد رضیت السیدة فاطمة الزهراء بما قدر لها من مرارة الحیاة، و هذا الكتاب كله یحدثك عن المصائب و النوائب التي انصبّت علیها، منذ نعومة أظفارها إلی أن فارقت الحیاة في عنفوان شبابها، وهي في جمیع تلك المراحل راضیة بما كتب اللّه لها من خوف و اضطهاد و حرمان و فقر و أحزان و هموم و غموم و مآسي و آلام، و ستجد شیئاً من تلك المكاره التي امتزجت بحیاتها تجدها في هذا الكتاب، و یجدر بها أن یشملها قوله تعالی: (یا أیتها النفس المطمئنة ارجعي إلی ربك راضیة مرضیة) لأنها راضیة بثواب اللّه، راضیة عن اللّه بما أعد اللّه لها، راضیة بقضاء اللّه في الدنیا حتی رضي اللّه عنها.

ص: 87

الزكیة

لقد وردت كلمات في القرآن الكریم مشتقه من التزكیه في مواضع عدیده كقوله تعالی: «قد افلح من زكاها» و قوله: «اقتلت نفسا زكیه» و قوله: «لاهب لك غلاما زكیا» و قوله «ذلك ازكی لكم واطهر».

و هذه الكلمه تستعمل في التطهیر و النمو، فالآیه الاولی معناها: قد افلح من زكی نفسه بالتطهیر من الاخلاق الذمیمه، الناشئه من شر البطن و الكلام و الغضب و الحسد و البخل، و حب الجاه و حب الدنیا و الكبر و العجب.

فالتطهیر من هذه الصفات یكون بالتجرد عنها، و بالعمل الصالح الذي هو ضد البخل و الكبر، و ماشا به ذلك.

و معنی الایه الثانيه: اقتلت نفسا طاهره لم تصدر منها جنایه او اي عمل یوجب قتلها. و معنی الایه الثالثه: اي غلاما طاهرا من الذنوب، تاما في افعال الخیر. و السیده فاطمه الزهراء (علیها السلام) زكیه بجمیع هذه المعاني و المفاهیم، و في آیه التطهیر كفایه لاثبات هذه الامور، فهي زكیه اي مطهره من كل رجس، و قد ذكرنا معاني (الرجس) عند البحث عن آیه التطهیر.

و اما الایه التي معناها النمو و الزیاده فان السیده فاطمه الزهراء (علیها السلام) زكیه بذالك المعنی ایضا، و قد ذكرنا بعض ما یتعلق بهذا الموضوع في معنی كلمه (المباركه).

ص: 88

المرضیة

إن درجة المرضیین عند اللّه تعالی درجة عالیة، و منزلة سامیة فهناك القلیل من عباد اللّه الذين رضی اللّه عنهم فكانوا مرضیین عند اللّه تعالی بسبب اعتدالهم و استقامتهم.

و من جملة الذين فازوا بتلك المنزلة الرفيعة و الدرجة الراقیة هي سیدتنا فاطمة الزهراء (علیها السلام) فإن اللّه تعالی قد رضي عنها، احسن الرضا، فكانت مرضیة عنده لعبادتها و طاعتها، مرضیة لزهدها و انفاقها، مرضیة لصبرها و استقامتها.

و قد روی الحافظ العسقلاني عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) انه قال: «اتاني جبرئیل فقال: یا محمد ان ربك یحب فاطمه فاسجد، فسجدت...»الی آخره (1) .

كما روی الذهبي ان جبرئیل نزل علی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) عند والده فاطمه فقال: «... اللّه یقروك السلام، و یقری ء مولودك السلام» (2) .

ص: 89


1- لسان المیزان لابن حجر العسقلاني ج 3 ص 275 طبعه حیدر آباد.
2- میزان الاعتدال للذهبي ج 2 ص 26 طبعه القاهره.

المحدَّثة

قبل كل شيء ینبغي أن نعلم: هل تتحدث الملائكة مع غیر النبي؟ و هل یراهم غیر النبي؟ أو یسمع أصواتهم؟

للإجابة علی هذه الأسئلة نراجع القرآن الكریم للتحقیق عن الجواب الصحیح:

1- قال تعالی: «و إذ قالت الملائكة یا مریم إن اللّه اصطفاك و طهَّرك و اصطفاك علی نساء العالمین یا مریم اقنتي لربِّك و اسجدي و اركعي مع الراكعین» (1) .

إن صریح هذه الآیة أن الملائكة خاطبت مریم بما مرّ علیك من كلمات الثناء و الأوامر الإلهیة.

و لا شك أنها كانت تسمع نداءهم و تفهم خطابهم و إلا فما فائدة هذا الخطاب؟ و قیل: الذي خاطبها هو جبرئیل وحدهِ (2) .

2- قل سبحانه: «و اذكر في الكتاب مریم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقیاً فاتخذت من دونهم حجاباً، فأرسلنا إلیها روحنا فتمثَّل لها بشراً سویا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقیاً، قال إنما أنا رسول ربِّك لأهب لك غلاماً زكیاً، قالت أنِّي یكون لي غلام و لم یمسسني بشر و لم أكُ بغیّاً، قال كذلك قال ربك هو عليَّ هیِّن، و لنجعله آیة للناس،

ص: 90


1- آل عمران: 41.
2- مجمع البیان في تفسیر الایه.

و رحمةً و كان أمراً مقضیاً» (1) .

لقد أجمع المفسرون أن المقصود من «روحنا» هو جبرئیل، تمثّل لها بصورة آدمي صحیح، لم ینقص منه شيء فانتصب بین یدیها، و جری بینهما الكلام و الحوار.

3- قال سبحانه: «و امرأته قائمة فضحكت فبشّرناها بإسحاق و من وراء إسحاق یعقوب. قالت یا ویلتی ءألد و أنا عجوز و هذا بعلي شیخاً إنّ هذا لشيء عجیب قالوا: أتعجبین من أمر اللّه رحمة اللّه و بركاته علیكم أهل البیت إنه حمید مجید» (2) .

إن هذه الآیات تتعلق بمجی ء الملائكة إلی دار إبراهیم الخلیل (علیه السلام) لتبشّره بالولد، و كانت زوجته سارة تخدم و تحمل الطعام إلیهم ظناً منها أنهم ضیوف.

و هذه الایات صزیخه بان ساره قد تكلمت مع الملائكه، و خاطبتها الملائكه بما مر علیك من الایات.

4- قال (عز و جل): «وأوحینا إلی أمّ موسی أن أرضعیه فإذا خفتِ علیه فألقیه في الیم» (3) .

و قد ذكر المفسرون معنی (أوحینا) أي ألهمنا، و قذفنا في قلبها، و علی قول: إنها نودیت بهذا الخطاب.

و قد ذكر المنّاوي في شرح الجامع الصغیر ج 2 ص 270 عن القرطبي قال: (محدَّثون) بفتح الدال اسم مفعول، جمع محدَّث أي مُلهَم، أو صادق الظن و هو مَن أُلقي في نفسه شيء علی وجه الإلهام و المكاشفة من

ص: 91


1- مریم: 16- 21.
2- هود: 70- 73.
3- القصص: 7.

الملأ الأعلی، أو مَن یجري الصواب علی لسانه بلا قصد، أو تكلِّمه الملائكة بلا نبوة، أو من إذا رأی رأْیاً أو ظنَّ ظناً أصاب كأنه حُدِّث به و ألقی في روعه من عالم الملكوت، فيظهر علی نحو ما وقع له، و هذه كرامة یكرم اللّه بها من یشاء من صالحي عباده، و هذه منزلة جلیلة من منازل الأولیاء».

أقول: بعد هذه المقدمات سوف لا یصعب علیك أن تعرف أن السیدة فاطمة الزهراء كانت محدَّثة، إذ لیست سیدة نساء العالمین و بنت سیدة الأنبیاء و المرسلین بأقلِّ شأناً من مریم بنت عمران أو سارة زوجة إبراهیم أو أم موسی، و لیس معنی ذلك أن مریم أو سارة أو أم موسی كنَّ من الأنبیاء، و هكذا لیس معنی ذلك أن السیدة فاطمة الزهراء كانت نبیة.

و قد روی الشیخ الصدوق في (علل الشرائع) عن زید بن علی قال: سمعت أن أبا عبداللّه (الصادق) یقول إنَّما سمِّیت فاطمة محدَّثة (بفتح الدال) لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتنادیها كما تنادي مریم بنت عمران، فتقول الملائكة: یا فاطمة إن اللّه اصطفاك و طهَّرك و اصطفاك علی نساء العالمین (1) .

قال الإمام الصادق (علیه السلام) لأبي بصیر....: و إن عندنا لمصحف فاطمة، و ما یدریهم ما مصحف فاطمة؟ قال: فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، و اللّه ما فيه من قرآنكم حرف واحد و إنما هو شيء أملاه اللّه علیها و أوحی إلیها... الی آخر حدیث (2) .

إن هذا الحدیث یكشف لنا أموراً قد تحتاج إلی بحث و تحقیق، فقول الإمام (علیه السلام): «فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات» یرید بذلك حجم

ص: 92


1- علل الشرائع: ص 182 باب 146 ح 1.
2- الكافي: ج 1 ص 238 ح 1.

المصحف، و كمیة المواد الموجودة فيه، و حیث أن القرآن كتاب معروف و مشهور عند جمیع المسلمین في كل زمان و مكان من حیث الحجم و السور و الآیات و الكمیة.

و لهذا جعل الإمام (علیه السلام) القرآن مقیاساً و میزاناً یقیس علیه مصحف فاطمة (علیها السلام) من حیث الحجم و كمیة المواد.

فمثلاً: لو أن قرآناً طبع بحروف متوسطة، و صفحات حجمها متوسط، فلنفرض أن عدد تلك الصفحات تبلغ خمسمائة صفحة فلو طبعنا مصحف فاطمة (علیها السلام) بنفس تلك الحروف و نفس حجم تلك الصفحات لبلغ عدد صفحات مصحف فاطمة (علیها السلام) ألفاً و خمسمائة صفحة، أي ثلاثة أضعاف صفحات القرآن، و هذا معنی كلام الإمام (علیه السلام): (فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات) و لیس معناه أن القرآن الموجود بین أیدینا ناقص، و أن مصحف فاطمة مكمِّل له.

كلاّ و ألف كلاّ.

و لیس معناه أن اللّه أنزل علی السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) قرآناً.

و كل من ادَّعی غیر هذا فهو إمَّا جاهل أو معاند مفتر كذّاب.

و أما كلمة: المصحف (و إن كان هذا الاسم) یستعمل في زماننا هذا اسماً للقرآن و لكنه في اللغة یستعمل في الكتب.

قال الرازي في مختار الصحاح: (و المصحف- بضم المیم و كسرها- و أصله الضم)، لأنه مأخوذ من (أصحف) أي جُمعت فيه الصحف.

و في المنجد: المَصحف و المُصحف جمعه مصاحف: ما جُمع من الصحف بین دفَّتي الكتاب المشدود.

و في صراح اللغة:-

ص: 93

مصحف- بالكسر و الضم- كرّاسة.

قال الفراء و قد استثقلت العرب الضمة في حروف فكسروا میمها، و أصلها الضم من ذلك مصحف و مخدع و مطرف... لأنها في المعنی مأخوذة من أصحف أي جمعت فيه الصحف.

و في المصباح المنیر:- و الصحیفة قطعة من جلد أو قرطاس كتب فيه... و الجمع صُحُف بضمتین و صحائف... و المصحف بضم المیم أشهر من كسرها.

و في أقرب المُوارد:- المُصحف اسم مفعول... و حقیقتها مجمع الصحف أو ما جمع منها بین دفتي الكتاب المشدود... و فيه لغتان أخریان و هما المِصحف و المَصحف جمعه مصاحف.

و في لسان العرب:-

المُصحف و المِصحف الجامع للصُّحف المكتوبة بین الدفتین كأنه أُصحِف، و الكسر و الفتح فيه لغة.

ایها القاري الكریم: الیك الآن هذا الحدیث الشریف الذي یتحدث فيه الامام الصادق (علیه السلام) عن معنی المحدثه و «مصحف فاطمة»:...

في بحارالانوار ج 43:... و ساله بعض اصحابه عن مصحف فاطمه.

فسكت الإمام طویلاً، ثم قال: إنكم لتبحثون عما تریدون و عما لا تریدون!

إن فاطمة مكثت بعد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) خمسة و سبعین یوماً، و كان دخلها حزن شدید علی أبیها، و كان جبرئیل یأتیها فيحسن عزاها علی أبیها، و یطیب نفسها و یخبرها عن أبیها و مكانه

ص: 94

و یخبرها بما یكون بعدها، و كان علي (علیه السلام) یكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة.

و الحسین بن أبي العلا یروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله:... و مصحف فاطمة، ما أزعم أن فيه قرآناً، و فيه ما یحتاج الناس إلینا، و لا نحتاج إلی أحد، حتی أن فيه الجلد بالجلدة، و نصف الجلدة، و ربع الجلدة و أرش الخدش.. الی آخره.

و في حدیث آخر قال (علیه السلام): و أما مصحف فاطمة (علیها السلام) ففيه ما یكون من حادث، و أسماء من یملك إلی أن تقوم الساعة.

بقي الكلام حول جملة (أوحی إلیها) فالمستفاد من القرآن أن الوحي من اللّه لا یختص بالأنبیاء، بل یوحی اللّه تعالی إلی غیر الأنبیاء أیضاً، استمع إلی هذه الآیات البیِّنات:

1- «فقضیهن سبع سموات في یومین وأوحی في كل سماء أمرها» (1) .

2- «و إذا أوحیت إلی الحواریین أن آمنوا بي و برسولي»ِ (2) .

3- «إذ یوحي ربّك إلی الملائكة أني معكم فثبَّتوا الذين آمنوا»ِ (3) .

4- «و أوحی ربك إلی النحل أن اتخذي من الجبال بیوتاً»ِ (4) .

5- «و أوحینا إلی أم موسی أن أرضعیه» (5) .

6- «و إذ أوحینا إلی أمك ما یوحی»ِ (6) .

هذه بعض الآیات التي تصرح بأن الوحي لا یختص بالأنبیاء، بل لا یختص بالبشر، فلقد أوحی اللّه تعالی إلی كل سماء، و أوحی إلی الحواریین و إلی الملائكة و إلی النحل و إلی أم موسی، فلا یصعب علیك أن تقبل بأنَّ اللّه تعالی أوحی إلی سیدة نساء العالمین و بنت سید الأنبیاء

ص: 95


1- فصلت 10.
2- المائده 111.
3- الانفال 12.
4- النحل. 68.
5- القصص 7.
6- طه 39.

و المرسلین فاطمة الزهراء (علیها السلام) و كما تقول في تفسیر الوحی إلی أم موسی قل في تفسیر الوحی إلی فاطمة الزهراء.

و ختاماً لهذا البحث: إن مصحف السیدة فاطمة الزهراء كتاب ضخم، یحتوي علی جمیع الأحكام الشرعیة بالتفصیل، و یستوعب قانون العقوبات في الإسلام، حتی بعض المخالفات التي عقوبتها جلدة واحدة أو نصف جلدة أو ربع جلدة، بل و حتی غرامة من خدش جسم أحد من الناس خدشة واحدة.

و فيه أسماء ملوك العالم الذين حكموا البلاد من ذلك الیوم و سیحكمون إلی قیام القیامة، كل ذلك كان في علم اللّه الذي هو بكل خلق علیم و بكل شيء خبیر بصیر محیط.

و فيه ذكر الحوادث المهمة من الملاحم و المجازر التي تحدث في الكون و غیر ذلك من القضایا المهمة.

و لیس فيه شيء من القرآن كما هو صریح الحدیث.

و لقد أطلنا البحث و الكلام حول هذا الموضوع لأن بعض أصحاب النفوس المریضة و القلوب السقیمة اعتبروا هذا الحدیث مرتعاً خصباً للتهریج و التشنیع ضد الشیعة و التشیّع، كأنهم لم یقرأوا هذه الآیات أو لم یفهموها أو تناسوها فهاجموا الشیعة مهاجمة شعواء فقالوا ما قالوا، و حسابهم علی اللّه یوم فصل القضاء.

ص: 96

الزهراء

عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) انه قال: «... فخلق اللّه نور فاطمه الزهراء- یومئذ- كالقندیل، و علقه في قرطا العرش، فزهرت السماوات السبع و الارضون السبع، من اجل ذلك سمیت فاطمه: الزهراء» (1) .

و عن ابن عباس قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم):

«و أما ابنتي فاطمة فإنها سیدة نساء العالمین من الأولین و الآخرین، و هي بضعة مني و هي نور عیني، و هي ثمرة فؤادي و هي روحي التي بین جنبيّ، و هي الحوراء الإنسیة متی قامت في محرابها بین یدي ربها (جل جلاله) زهر نورها لملائكة السموات كما یزهر نور الكواكب لأهل الأرض (2) .

و بهذین الحدیثین اتضح لنا سبب تسمیتها (علیها السلام) الزهراء، و هناك أحادیث أخری بهذا المضمون، و إنها كانت تتمتع بوجه مشرق مستنیر زاهر، و فيما ذكرنا كفایة.

و لسیدتنا فاطمة الزهراء (علیها السلام) أسماء غیر التي مرّت علیك و كل اسم یدل علی فضیلة و مزیة امتازت بها السیدة الزهراء، منها: البتول، العذراء، الحانیة (من الحنو) بسبب كثرة شفقتها و عطفها علی اولادها.

و كنیتها: أم أبیها، و هي من أفضل كناها.

ص: 97


1- بحارالانوار ج 43 ص 17.
2- امالي الصدوق/ بحار الانوار ج 43.

البتول

اعلم أنَّ اللّه تعالی قد جعل في مخلوقاته- من الجماد و النبات و الحیوان و الإنسان- قوانین و سُنَن، و جعل تلك المخلوقات خاضعة لتلك القوانین. فالنار طبیعتها الإحراق و هذه سُنّة اللّه في النار.

و النبات یحتاج إلی زمان محدود و مكان معیّن بشروط خاصة حتی ینمو و یكبر و یثمر. أنظر إلی الحبة التي تزرع، و العوامل التي تساعدها علی أن تنبت من الأرض، و الزمان المعیّن لنموِّها!.. و هذه سُنّة اللّه في النباتات.

و كذلك الحیوانات جعلها اللّه خاضعة لقوانین خاصة و أحجامها و ألوانها و غیر ذلك.

و الإنسان كذلك خاضع لقوانین كونیة، و طبائع جسمية و نفسیة و روحیة، و لكن اللّه تعالی جعل أولیاءه فوق تلك القوانین و السنن في ظروف خاصة لحكمته البالغة.

و بعبارة أخری: جعل اللّه تلك القوانین هي الخاضعة لأولیائه بإذنه.

أنظر إلی النار المحرقة، التي تحرق كل ما أصابته، و لكن اللّه تعالی جعل النار برداً و سلاماً علی إبراهیم الخلیل (علیه السلام).

و كذلك أنبت اللّه علی نبیه یونس (علیه السلام) شجرة من یقطین، بعد أن نبذه الحوت بالعراء و هو سقیم، مع العلم أن حبة الیقطین تحتاج إلی مدة غیر قصیرة،حتی تنبت وتورق وتستر بوَرقها جسم إنسان أو غیر إنسان، و هكذا جعل اللّه النبات خاضعاً لولیه یونس (علیه السلام).

ص: 98

و التناسل لا یمكن إلاّ بالتلقیح، و انتقال نطفة الرجل إلی رحم المرأة، و تطوُّر النطفة إلی علقة إلی مضغة إلی عظام إلی خلق آخر، و إلی أن یكمل الجنین خلال ستة أشهر علی أقل التقادیر، أو تسعة أشهر كما هو الغالب.

هذه سنة اللّه في قانون التناسل بین البشر، و لكن هذه السُنة و هذا القانون كان خاضعاً لمریم إذ حملت بعیسی (علیه السلام) و لم یمسسها بشر، و حملت و بلدها فانتبذت به مكاناً قصیاً، فأجاءها المخاض إلی جذع النخلة، فوضعت بعیسی، كل ذلك خلال تسع ساعات أو ست ساعات فقطِ (1) .

و علی هذا الغرار كانت المعجزات تصدر عن الأنبیاء و الأوصیاء عن طریق خرق العادة و الطبیعة.

هذا و الأمثلة كثیرة جداً، تجد في القرآن الكریم طائفة كبیرة من القصص التي تحدّی فيها الأنبیاء و الأوصیاء قانون الطبیعة، كهبوط آدم من الجنة إلی الأرض، و فوران التنور بالماء في قصة نوح (علیه السلام) و حمْل سارة بإسحاق (علیه السلام) بعد أن كانت عجوزاً عقیماً، و انقلاب العصا حیَّة تسعی في قصة موسی (علیه السلام) و إبراء الأكمه و الأبرص و إحیاء الموتی في قصة عیسی (علیه السلام) و قصة الإسراء و المعراج في قصة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و غیر ذلك من القضایا الخارقة للعادة و الطبیعة.

و قد ذكرت هذه الفقرات كمقدمة تمهیدیة لما یلي:

إن العادة الشهریة التي تراها المرأة في كل شهر منذ بلوغها حدِّ الأنوثة إلی الخمسین أو الستین من العمر ما هي إلاَّ دم فاسد، قد تخزنه في

ص: 99


1- (مجمع البیان)سوره مریم. ج 6/ 511.

الأوعیة و الأجهزة التي جعلها اللّه في جسم المرأة لیكون ذلك الدم غذاء للجنین، فإذا لم یكن جنین في الرحم سال الدم إلی الخارج، و ربما انقلب إلی اللبن إذا كانت المرأة مرضعة.

قال تعالی: «و یسألونك عن المحیض قل هو أذیً» أي إن دم الحیض مادة ضارّة، مؤذیة في جسم المرأة، فلابدَّ من خروجها لتنجو المرأة من أمراض و أعراض.

و في فترة العادة الشهریة تحدث حوادث جسمية و روحیة للمرأة تغیِّر ملامحها، و لون وجهها، بل و أخلاقها و نفسیِّتها و من الممكن معرفة الحائض من ملامح وجهها و عینيها، بل من نظراتها و حركاتها، و هذا النزیف لا یشبه النزیف الطبیعي العادي الذي یصاب به الإنسان، بل یختلف عن ذلك اختلافاً كثیراً.

إن العادة الشهریة حینما تحدث للمرأة تشعر بشيء من الانفعال و الخجل و الانكسار و إن كان الأمر خارجاً عن إرادتها و اختیارها، و لكنها تتألم بهذا الحادث الذي لا یحسن التصریح به لكل أحد، و خاصة للرجال، و النزیف و حالة الانفعال توجد في المرأة ضعفاً و انكساراً في جسمها و روحها.

و لهذا سقط عنها حكم الصلاة و الصوم خلال فترة العادة، و حرَّم اللّه علیها اللبث في المساجد و دخول المسجد الحرام و المسجد النبوي و قراءة سُوَر العزائم الأربع و هي السور التي فيها آیات السجدة الواجبة و غیر ذلك مما هو مذكور في الكتب الفقهیة.

و نفس هذه الأحكام تجري في أیام النفاس لنفس الأسباب التي مرّ ذكرها. و لكن اللّه تعالی كره لسیدة النساء فاطمة الزهراء أن تتلوّث بهذه

ص: 100

القذارة المادّیة المعنویة، فأذهب اللّه عنها الرجس و طهَّرها تطهیراً.

و هاك طائفة من الأحادیث الصحیحة التي تصرّح بهذا المعنی:

1- روی القندوزي في ینابیع المودة ص 260 عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): إنما سمِّیت فاطمةُ: البتول لأنها تبتَّلت في الحیض و النفاس.

2- روی محمد صالح الكشفي الحنفي في (المناقب) ص 119 عن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: و سمیت فاطمة بتولاً لأنها تبتلت و تقطَّعت عما هو معتاد العورات في كل شهر.

3- روی الأمر تسري في (أرجح المطالب)ص 241: أن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم)سئل عن بتول وقیل: إنا سمعناك- یا رسول اللّه- تقول: مریم بتول و فاطمة بتول؟

فقال: البتول التي لم تر حمرة قط، أي لم تحض، فإن الحیض مكروه في بنات الأنبیاء. أخرجه الحاكم.

4- و روی الحافظ أبوبكر الشافعي في (تاریخ بغداد ج 13- ص 331) عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): ابنتي حوراء آدمیة لم تحض و لم تطمث... الی آخره و رواه النسائي أیضا.

5- و روی ابن عساكر في (التاریخ الكبیر ج 1 ص 391) عن أنس بن مالك عن أم سلیم قالت: لم تر فاطمة (رضي اللّه عنها) دما في حیض و لا في نفاس.

6- الحافظ السیوطي: و من خصائص فاطمة (رضي اللّه عنها) أنها كانت لا تحیض.

7- و روی الرافعي في التدوین عن أم سلمة (رضي اللّه عنها) قالت: ما رأت فاطمة (رضي اللّه عنها) في نفاسها دما و لا حیضا.

ص: 101

8- روی الطبري في (ذخائر العقبی) عن أسماء بنت عُمیس قالت: قبلت (أي ولدت) فاطمة بالحسن فلم أر لها دماً في حیض و لا نفاس، فقال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «أما علمت أن ابنتي طاهرة مطهرة، لا یُری لها دمٌ في طمث و لا ولادة؟».

ورواه الصفوري في (نزهة المجالس) ص 227.

9- عن أبی بصیر عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: حرَّم اللّه (عز و جل) علی علي النساء ما دامت فاطمة حیَّة (في قید الحیاة).

قلت: و كیف؟

قال: لأنها طاهرة لا تحیض.

قال شیخنا المجلسي: هذا التعلیل یحتمل وجهین:

الأول: أن یكون المراد أنها لما كانت لا تحیض حتی یكون له عذر في مباشرة غیرها فلذا حرَّم اللّه علیه غیرها رعایة لحرمتها.

الثاني: أن جلالتها منعت من ذلك، و عبَّر عن ذلك ببعض ما یلزمه من الصفات التي اختصت بها.

أقول: و نزاهة السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) عن هذه الدماء تُعتبر من مصادیق آیة التطهیر التي تُصرِّح بإذهاب الرجس عنهم و تطهیرهم تطهیراً.

ص: 102

العذراء

لقد مرّ علیك أن من جملة أسمائها: العذراء أي أنها كانت عذراء دائماً، و قد مرّت علیك أحادیث كثیرة تصرِّح بأنَّ السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) خُلقت من طعام الجنة، و صرَّح النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بأنها حوراء إنسیة،و لیس في هذا التعبیر شيء من المجاز أو الغلوّ، بل هي الحقیقة والحق.

و نجد إلی جانب تلك الأحادیث قوله تعالی: (إنَّا أنشأنا هن إن شاء فجعلنا هنَّ أبكاراً) و معنی ذلك أنَّ الحور العین أبكار دائماً.

و في مجمع البیان في تفسیر الآیة: لا یأتیهن أزواجهن إلاّ و جدوهن أبكاراً.

و الیك هذا حدیث الذي یفسِّر الموضوع تفسیراً كاملاً.

فقد سأل رجل من الإمام الصادق (علیه السلام)- في ضمن مسائل- قال: فكیف تكون الحوراء في كل ما أتاها زوجها- عذراء؟

قال: لأنها خلقت من الطیب، لا یعتریها عاهة و لا تخالط جسمها آفة... و لا یدنسها حیض، فالرحم ملتزقة... الی آخر (1) .

ص: 103


1- البرهان في تفسیر القرآن ج 4/ 281.

حیاتها و نشأتها

لقد فتحت السیدة فاطمة الزهراء عینها في وجه الحیاة، و في وجه أبیها الرسول ترتضع من أمِّها السیدة خدیجة اللبن المزیج بالفضائل و الكمال.

و كانت تنمو في بیت الوحي نموًّا متزایداً، و تنبت في مهبط الرسالة نباتاً حسناً، یزقّها أبوها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) العلوم الإلهیة، و یفيض علیها المعارف الربانیة، و یعلّمها أحسن دروس التوحید، وأرقی علوم الإیمان و أجمل حقائق الإسلام.

و یربّیها أفضل تربیة و أحسنها، إذ وجد الرسول في ابنته المثالیة كامل الاستعداد لقبول العلوم و وعیها، و وجد في نفسها الشریفة الطیبة كل الروحانیة و النورانیة، و التهیؤ لصعود مدارج الكمال.

إلی جانب هذا شاءت الحكمة الإلهیة للسیدة فاطمة الزهراء أن تكون حیاتها ممزوجة بالمكاره، مشفوعة بالآلام و المآسي منذ صغر سنّها، فإنها فتحت عینها في وجه الحیاة و إذا بها تری أباها خائفاً، یحاربه الأقربون و الأبعدون و یناوئه الكفّار و المشركون.

فربما حضرت فاطمة في المسجد الحرام فرأت أباها جالساً في حِجر إسماعیل (علیه السلام) یتلو القرآن، و تری بعض المشركین یوصلون إلیه أنواع الأذی، و یحاربونه محاربة نفسیة.

و حضرت یوماً فنظرت إلی بعض المشركین و هو یُفرغ سلا الناقة (1) .

ص: 104


1- هو الكیس الذي یتكون فيه الجنتین.

علی ظهر ابیها الرسول و هو ساجد.

كانت الزهراء تشاهد ذلك المنظر المولم، و تسمح ذالك عن ظهر آبیها و ثیابه،و ترمي القوم بكلمات التحقیر و الاهانه و هم یضحكون منها، شأن السفلة الأوباش.

و عن ابن عباس: إن قریشاً اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات و العزّی و مناة:لو رأینا محمداً لقمنا مقام رجل واحد، و لنقتلنّه، فدخلت فاطمة (علیها السلام) علی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) باكیة، و حكت مقالهم... الی آخر كلامه.

واشتدت الأزمة و زادت المحنة حتی اضطر الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أن یختفي في شعب أبي طالب، و رافقته عائلته، وآل أبي طالب إلی ذلك المكان، و كانوا یعیشون في جو من الإرهاب و الإرعاب. ففي كل لیلة یتوقعون هجوم المشركین علیهم و خاصة بعد أن كتب المشركون الصحیفة القاطعة، و حاصروا بني هاشم حصاراً اقتصادیاً فلا یدعونهم یبیعون و لا یشترون شیئاً حتی المواد الغذائیة، بل و منعوا إیصال الطعام إلیهم، فاستولی الجوع علیهم، و أثَّر في الأطفال أكثر و أكثر، فلا عجب إذا كانت أصوات بكاء الأطفال تصل إلی مسامع أهل مكة، فبین شامت بهم مسرور، و بین متألِّم حزین.

و طالت المدة ثلاث سنین و شهوراً، و كانت السیدة فاطمة من الذين شملتهم هذه المأساة.

و هذه المآسي أیقظت في السیدة فاطمة روح الجهاد و الاستقامة و المثابرة، و كأنها كانت فترة التمرین و التدریب للمستقبل القریب.

و مما كان یهوِّن الخطب، و یجبر خاطر السیدة فاطمة الزهراء و یقرّ عینها أنها كانت تری البطل الشهم أباطالب یقف ذلك الموقف المشرِّف في نصرة أبیها الرسول فكان تارة یحمل سیفه و یرافقه أخوه حمزة و یمشیان

ص: 105

خلف الرسول نحو المسجد الحرام لیعلن مؤازرته و مناصرته للرسول، و كأنهما جندیان مسلحان في حالة الإنذار، و ربما انضمّ إلی أبي طالب بعض عبیده و موالیه یمشون خلف الرسول و كأنهم مفرزة عسكرية أو سریة جیش.

و تارة أخری كان یصرّح بتجاوبه وانحیازه إلی الرسول، فكان بعلن إسلامه إظهاراً للحقیقة، فينظم القصائد التي كان لها أحسن أثر في ذلك الیوم في دعم الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم)، و منها:

ما رواه الطبري بإسناده أن رؤساء قریش لما رأوا دفاع أبي طالب عن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) اجتمعوا إلیه، و قالوا: جئناك بفتی قریش جمالاً وجوداً و شهامة: عمارة بن الولید، ندفعه إلیك و تدفع إلینا ابن أخیك الذي فرّق جماعتنا، و سفّه أحلامنا فنقتله!!

فقال أبو طالب: ما أنصفتموني! تعطوني ابنكم فأغذوه، و أعطیكم ابني فتقتلونه؟ بل، فلیأت كل امرئ بولده فأقتله، و قال:

منعنا الرسول رسول الملیك***ببیض تلألأ كلمع البروق

أذود و أحمی رسول الملیك***حمایة حام علیه شفيق

و أقواله و أشعاره المنبئة عن إسلامه كثیرة لا تحصی فمن ذلك قوله:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً***نبیاً كموسی خطَّ في أول الكتب؟

ألیس أبونا هاشم شدَّ أزره***و أوصی بنیه بالطعان و بالحرب؟

و قوله من قصیدة:

و قالوا لأحمد: أنت امرؤ***خلوف اللسان ضعیف السبب

ألا: إن أحمد قد جاءهم***بحق، و لم یأتهم بالكذب

و قوله في حدیث الصحیفة، و هو من معجزات النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم):

ص: 106

و قد كان أمر الصحیفة عبرة***متی ما یخبِّر غائب القوم یعجبِ

محا اللّه منها كفرهم وعقوقهم***و ما نقموا من ناطق الحق معربِ

و أمسی ابن عبداللّه فينا مصدِّقاً***علی سخط من قومنا غیر معتب

و قوله من قصیدة یخص أخاه حمزة علی اتباع النبي والصبر في طاعته:

صبراً أبا یعلی علی دین أحمد***و كن مظهراً للدین وُفّقت صابرا

فقد سرني إذ قلت أنك مؤمن***فكن لرسول اللّه في اللّه ناصراً

و قوله یحض النجاشي (ملك الحبشة) علی نصر النبي:

تعلَّمِ (1) ملیك الحبش أن محمداً***نبي كموسی و المسیح ابن مریم

أتی بهدیً مثل الذي أتیا به***و كلّ بأمر اللّه یهدي و یعصم

و إنكم تتلونه في كتابكم***بصدق حدیث، لا حدیث المرجّم

فلا تجعلوا للّه نداً، و أسلموا***و إن طریق الحق لیس بمظلم

و قال أیضاً:

لقد أكرم اللّه النبي محمداً***فأكرم خلق اللّه في الناس أحمد

و شقّ له من اسمه لیجلّه***فذو العرش محمود، و هذا محمدِ (2) .

و قال أیضاً:

كذبتم و بیتِ اللّه نبزي محمداً***و لما نطاعن دونه و نناضلِ

و نُسلمه حتی نُصرَّع حوله***و نذهل عن أبنائنا و الحلائل

و أبیض یستسقی الغمام بوجهه***ثمال الیتامی عصمة للأرامل

یلوذ به الهَّلاك من آل هاشم***فهم عنده في رحمة و فواضل

ص: 107


1- تعلم اي اعلم.
2- و قد ضمن حصان بن ثابت هذا البیت في قصیده في مدح الرسول.

ألم تعلموا أن ابننا لا مكذَّب***لدینا، و لا نعبأ بقول الأباطل

فأیَّده ربّ العباد بنصره***و أظهر دیناً حقه غیر باطل

اقیمُ علی نصر النبي محمد***أُقاتل عنه بالقنا و القنابلِ (1) .

إلی غیر ذلك من مواقفه وتصریحاته ومساندته للرسول الأكرم (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ولولا إیمانه باللّه واعتقاده بالإسلام لما قام تلك المواقف، و لما غامَرَ بنفسه وبأولاده في سبیل نصرة النبي و تقویة دینه.

و لم یكن ذلك التفادي و المخاطرة بدافع القرابة، فلقد كان للرسول ثمانیة أعمام (غیر أبي طالب) فلماذا لم یسجِّل التاریخ لهم تلك المواقف المشرِّفة؟.

بل سجل التاریخ عن بعض أعمام النبي مواقف مخزیة كمواقف عمِّه أبي لهب.

ص: 108


1- القنابل: جمع قنبله- الطائفه من الناس او الخیل- و في الاصطلاح الحدیث هي القذیفه المحشوه بمواد متفجره او حارقه.

وفاة السیدة خدیجة الكبری

كانت الأعوام تَمُرّ، و السنوات تنقضي، و حیاة الزهراء مشفوعة بالحوادث و المآسي، و قد بلغت السابعة من عمرها أو قاربت الثامنة و إذا بفاجعة تطلُّ علی حیاتها، و تخیِّم الهموم و تتراكم الأحزان علی قلبها، و هي وفاة أُمها السیدة خدیجة، تلك الأُم البارَّة الحنون التي كانت تنظر إلی ابنتها الصغیرة فاطمة العزیزة نظرة حزن و تألم و تأثر لأنها تعلم أن الزهراء ستفجع بأُمها العطوفة الرؤوفة.

كانت السیدة خدیجة طریحة الفراش، و قد خیَّم علیها شبح الموت، فدخل علیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و هي تعالج سكرات الموت فقال لها: بالرغم منَّا ما نری بك یا خدیجة، فإذا قدمت علی ضرائرك فاقرئیهن السلام!

قالت: من هنَّ یا رسول اللّه؟

قال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): مریم بنت عمران، و كلثم أُخت موسی، و آسیة امرأة فرعون. فقالت: بالرفاء یا رسول اللّه (1) .

و كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یقول: أُمرت أن أُبشِّر خدیجة ببیت في الجنة من قصب، لا صخب فيه و لا نصبِ (2) .

قال ابن الأثیر في (النهایة): القصب- في هذا الحدیث-: لؤلؤ

ص: 109


1- البحار جلد 19/ 24 عن من لها یحضره الفقیه.
2- مسند احمد.

مجوَّف واسع كالقصر المنیف. والصخب: الضجة و اضطراب الأصوات للخصام.

كانت السیدة خدیجة تتأوه و تبكي فقالت لها أسماء بنت عمیس:أتبكین و أنت سیدة نساء العالمین؟ و أنت زوجة النبي؟ مبشَّرة علی لسانه بالجنة؟

فقالت: ما لهذا بكیت، و لكن المرأة لیلة زفافها لا بدَّ لها من امرأة تفضي إلیها بسرِّها و تستعین بها علی حوائجها، و فاطمة حدیثة عهد بصبا، و أخاف أن لا یكون لها من یتولی أمرها حینئذ!

فقالت أسماء: یا سیدتي لك عهد اللّه إن بقیت إلی ذلك الوقت أن أقوم مقامك في هذا الأمر... إلی آخر الخبر.

و فارقت السیدة خدیجة الحیاة، و عمرها ثلاث و ستون سنة (علی قول) فكانت وفاتها ضربة مؤلمة علی قلب الرسول، و خاصة و أن النبي قد فجع بعمِّه أبي طالب بعد أیام أو شهور من وفاة السیدة خدیجة فازداد حزناً، حتی سمَّی تلك السنة (عام الحزن) لأنه أصیب بمصیبتین عظیمتین علی قلبه البار:

مصیبة زوجته خدیجة، لا لأنها زوجته فقط، بل لأنها أَول من صدَّقته بالنبوة، و لأنها كانت زوجة و معاضدة و مساعدة و محامیة لزوجها، لانها و هبت الالاف المولفه من اموالها في سبیل الاسلام لانها كانت تحمل شخصیه فریده من نوعها في المكه، في نساء العرب.

و دفنت في الهجون، فنزل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في قبرها.و كانت السیده فاطمه (علیه السلام) تلوذ به رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و تدور حوله و تساله: یا رسول اللّه عین أمي؟ فجعل النبي لایجیبها، و هي تدور علی من تسئله، فهبط علیه جبرائیل فقال: ان ربك

ص: 110

یأْمرك أن تقرأ علی فاطمة السلام و تقول لها: أُمك في بیت من قصب، كعابه من ذهب، و أعمدته من یاقوت أحمر، بین آسیة امرأة فرعون و مریم بنت عمران.

فقالت فاطمة: إن اللّه هو السلام و منه السلام، و إلیه یعود السلام.

والمصیبة الأخری مصیبة عمِّه أبي طالب الذي كفل النبي من یوم وفاة جده عبدالمطلب، و هو ابن ثمان سنوات، و استمرت الكفالة حتی بلغ النبي من العمر ثلاثاً و خمسین سنة، و هي السنة التي مات فيها أبو طالب.

و لأبي طالب حقوق و خدمات و مواقف تجاه النبي طیلة هذه السنوات تعتبر في قمة فضائله و فواضله، و لولاه لمات الدین الإسلامي و هو في المهد:

و لو لا أبو طالب و ابنه***لَما مَثُل الدین شخصاً فقاما

فهذا بمكة آوی و حاما***و هذا بیثرب جسَّ الحِماما

و للّه ذا فاتحاً للهدی***و للّه ذا للمعالي ختاما

و كان لهاتین الفاجعتین أكبر الأثر في حیاة الرسول و تغییر مجراها، لو لا موت أبي طالب لما هاجر من مكة، لأنَّه حینذاك شعر بفقدان الناصر و الكفيل و المحامي و لم یكن في أعمامه مَن یقوم مقام أبي طالب حتی عمه حمزة یو مذاك.

و قد رثاه ابنه الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) بأبیات:

أباطالب عصمة المستجیر***و غیث المحول و نور الظُّلَم

لقد هدَّ فقدك أهل الحفاظ***فصلَّی علیك ولي النعم

و لقَّاك ربك رضوانه***فقد كنت للطهر من خیر عمِ (1) .

ص: 111


1- كتاب الكنی و الالقاب للقمي.

فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) و الهجرة

و لما أصیب رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بوفاة السیدة خدیجة و عمه أبي طالب عزم علی الهجرة من مكة، و أمر علیّاً أن یبیت علی فراشه تلك اللیلة، و سُمّیت تلك اللیلة: (لیلة المبیت) و هي اللیلة التي اجتمع فيها حوالی أربعین أو أربعة عشر رجلاُ من المشركین، و طوَّقوا بیت الرسول، و هم یریدون الهجوم علی النبي لیقتلوه في بیته، فخرج النبي إلی الغار، و بقیت السیدة فاطمة في البیت، و هي تتوقع هجوم الأعداء علی دارها في كل ساعة و تستمع إلی هتافات الكفر و الإلحاد ضد الرسول.

و یعلم اللّه مدی الخوف و القلق المسیطر علیها طیلة تلك اللیلة، و هي تعلم خشونة طباع المشركین و قساوة قلوبهم، فيكون أسوأ الاحتمالات عندها أقرب الاحتمالات.

و إلی أن اصبح الصباح من تلك اللیلة، و هجم القوم في الدار شاهرین سیوفهم كأنهم ذئاب ضاریة أو كلاب مستسبعة تطلب فریستها، و قصدوا نحو فراش النبي فلم یجدوه بل وجدوا علیّاً (علیه السلام) راقداً في فراش النبي، ملتحفاً بردة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فخابت ظنونهم، و خرجوا من الدار فاشلین، و كادوا أن یتفجَّروا حقداً و غیظاً و غضباً.

فكانت تلك الساعات من أحرج الساعات و أكثرها خوفاً و فزعاً علی قلب السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام).

و یا لیت الأمر كان ینتهی هنا، و لكن أحقاد الكفر كانت كامنة في

ص: 112

الصدور كأنها جمرة تحت رماد.

و لما خرج أمیرالمؤمنین (علیه السلام) بالفواطم من مكة و هُنَّ: فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) و فاطمة بنت أسد (أم أمیرالمؤمنین)و فاطمة بنت الزبیر بن عبد المطلب، فلحقهم العدو، و اعترضهم في أثناء الطریق للحیلولة دون الهجرة، و كان الموقف حرجاً، و استولی الرعب و الفزع علی قلوب الفواطم من الأعداء، و كادت أن تقع هناك كارثة أو كوارث لولا حفظ اللّه و عنایته، ثم بسالة الإمام علي و بطولته المشهورة، و كفاهم اللّه شر الأعداء،و نجی علی و الفواطم بقدرة اللّه تعالی.

وصلت الفواطم إلی المدینة، و قد كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قد سبقهم إلیها، و كان ینتظرهم، و لما وصلوا دخل النبي المدینة و نزل في دار أبي أیوب الانصاري، و التحقت به ابنته فاطمة الزهراء، و نزلت علی أُم أبي أیوب الانصاري.

كانت السیدة الزهراء تعیش تحت ظل والدها الرسول في المدینة بعد أن مرَّت بها عواصف شدیدة و حوادث مؤلمة، من موت أُمها خدیجة و هجرة أبیها الرسول من وطنه و مسقط رأْسه، و هجوم الأعداء علی الدار، و هجرتها من مكة إلی المدینة، و مطاردة الأعداء لها،

فهل انتهت تلك الحوادث و المصائب؟

كلا، بل كانت تلك القضایا بدایة مآسی أخری، و كوارث متسلسلة متعاقبة، إذ ما مضت سنة واحدة علی الهجرة الا و المشركون یجتمعون في مكة و یقصدون التوجه إلی المدینة لمحاربة الرسول و المسلمین.

فنول جبرئیل و أخبر النبي بالمؤامرة، و خرج (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بالمسلمین من أهل المدینة و بمن التحق به من المهاجرین من أهل مكة، خرج بهم لیستقبل العدو في أثناء الطریق قبل وصولهم المدینة، فوصلوا

ص: 113

إلی منطقة بین المدینة و مكة یقال لها: (بدر).

و هناك التقوا بالمشركین، و كان عدد المشركین ثلاثة أضعاف المسلمین، و لكن كانت الغلبة و الانتصار للمسلمین و الهزیمة والاندحار للمشركین، فرجع النبي إلی المدینة مظفَّراً منصوراً.

ص: 114

فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) یوم أحد

و بعد سنة واحدة و شهر وقعت غزوة أُحد، و قُتل فيها من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) سبعون رجلاً كانوا هم الصفوة و الزبدة من أصحابه، و في طلیعتهم عمّه سید الشهداء حمزة بن عبد المطلب، و أُصیب رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بحجر انكسرت منه جبهته الشریفة، و حجر أصاب فمه الطاهر و انكسرت منه ثنایاه، و تخثَّر الدم علی لحیته كأنّه حِنّاء أو خضاب.

و في تلك الآونة صاح إبلیس صیحة سمعها المسلمون في أُحد، و سمعها أهل المدینة، صاح: (قُتل محمد).

اضطربت القلوب في جبهة القتال، و انهزم المنهزمون، و ثبت المؤمنون حقاً، و لم یكن اضطراب العوائل في المدینة بأقل من اضطراب المسلمین في ساحة القتال.

و قد خرجت صفية بنت عبدالمطلب (عمّة النبي) و فاطمة الزهراء إلی أحد، فصاحت فاطمة، و وضعت یدها علی رأسها.

و خرجت تصرخ، و خرجت كل هاشمیة و قریشیة، واضعة یدها علی رأسها.

و كان وصول فاطمة الزهراء وصفية إلی أُحد بعد أن وضعت الحرب أوزارها، و بعد أن قُتل من قُتِل، و جُرحَ من جُرح، و كان النبي یتفقد القتلی و یبحث عن المفقودین من أصحابه.

و هو إذ ذاك قد وصل إلی مصرع حمزة، فوجده بحالة لا توصف،

ص: 115

فقد مثّلوا به أبشع و اقبح مُثلة، فقد قطعوا أصابع یدیه و رجلیه، و جدعوا أنفه و أذنیه و شقّوا بطنه، و أخرجوا كبده، و تركوه بهذه الحالة.

كان هذا المنظر المشوَّه مؤلماً و محزنا و مخدشاً لقلب الرسول، إذ هو نكایة و تنكیل من المشركین لعمِّ رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و ناصره و المدافع عنه.

كان الحزن و الغیظ قد أخذ من الرسول كل مأْخذ، فبینما هو كذلك و إذا به یری عمَّته صفية وابنته فاطمة قد توجَّهتا نحو تلك المنطقة، فغطی الرسول جثمان حمزة بردائه، و ستَرَه من القرن إلی القدم كي لا یُری شيء من مواضع المثلة.

و أقبلت صفية و فاطمة تعدُوان، و جلستا عند مصرع حمزة، و شرعتا بالبكاء والنحیب، و رسول اللّه یساعدهما علی البكاء، و یشاركهما في الأنین والنحیب، ثم نظرت فاطمة إلی جراحة جبهة الرسول، و إلی الدماء المتخثرة علی وجهه الطاهر و لحیته الشریفة، فصاحت و جعلت تمسح الدم و تقول: اشتدّ غضب اللّه علی من أَدمی وجه رسول اللّه.

فغسلت الدماء عن وجه أبیها، و كان علي یصبّ الماء بالمجن (1) .

فلما رأت فاطمة أنَّ الماء لا یزید الدم إلاَّ كثرة عمدت إلی قطعة حصیرة فأحرقتها، و جعلت رمادها ضماداً علی جبهة أبیها، و ألزمته الجرح، فاستمسك الدم.

أتری كیف انقضت تلك الساعات علی قلب فاطمة؟ فقد تداخلها الحزن العظیم و الخوف الشدید و هي البنت البارَّة بأبیها، العارفة بحقه.

و لما رجع علي (علیه السلام) من أُحد ناولَ فاطمة سیفه، و قال:

ص: 116


1- المجن: الترس.

خذي هذا السیف، فلقد صدقني الیوم، و أنشأ یقول:

أفاطم هاكِ السیف غیر ذمیمِ***فلستُ برعدیدٍ، و لا بلئیم

لعمري لقد أعذرتُ في نصر أحمد***و طاعة ربٌ بالعباد علیم

أُرید ثواب اللّه لا شيء غیره***و رضوانه في جنة و نعیم

و كنتُ امرأً یسمو إذ الحرب شمُّرت***و قامت علی ساق بغیر ملیم

أممت بن عبدالدار حتی جرحته***بذي رونق یفري العظام صمیم

فغادرته بالقاع فارفضَّ جمعه***عبادید مما قانط و كلیم

و سیفي بكفّي كالشهاب أهزُّه***أحزُّ به من عاتقِ و صمیم

فما زلت حتی فضَّ ربي جموعهم***و أشفيت منهم صدر كل حلیم

أَمیطي دماء القوم عنه فإنه***سقی آل عبد الدار كأْس حمیم

فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): خذیه یا فاطمة فقد أدَّی بعلك ما علیه، قتل اللّه صنادید قریش بیدیهِ.

ایُّها القاری ء الكریم: لقد مرَّ علیك أن السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حضرت في أُحد، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، و لما نظرت إلی جراحة أبیها غسلت الدماء بالماء، و أحرقت قطعة حصیرة و جعلت رمادها علی جبهة أبیها الرسول.

هذه الواقعة كما ذكرها المؤرخون.

و لكن في زماننا- هذا- جاءت طائفة من الناس، واعتبروا هذه الواقعة ساحة لمسرحیاتهم الشاذة، فكتبوا بكل إصرار و إلحاح و تكرار أن فاطمة كانت تحضر جبهات القتال و تضمِّد الجرحي، و تداویهم و تسعفهم!!

أنا ما أدري ما یقصد هؤلاء الشواذ من اختلاق هذه الأكذوبة؟

إذا قامت سیدة بتضمید جراحة أبیها فقط و فقط في العمر مرة واحدة بعد انتهاء القتال هل یقال عنها: أنها كانت تحضر جبهات القتال و تضمد

ص: 117

الجرحي و تداویهم؟؟

أنا ما أدري ما هدف هؤلاء من ترویج هذا الباطل و إشاعة هذا الافتراء؟

هل یریدون المسَّ بقدسیَّة السیدة فاطمة الزهراء و نزاهتها؟

أم یریدون فتح الطریق للاختلاط بین الجنسین.

و لنفرض أن نسیبة بنت كعب حضرت یوم أُحد لتضمید الجرحي فهل معنی ذلك أن نعتبر السیدة فاطمة الزهراء- و هي سیدة نساء العالمین في العفاف و الحیاء و الحشمة و النزاهة و العصمة نعتبرها كالموظفات في المستشفيات و المستوصفات و مؤسَّسات الإسعاف الدولیة؟؟

أنا ما أدري، و لعلهم یدرون و یعرفون ما یبرِّر لهم هذه الأكذوبة!.

ص: 118

مشاكل السیدة فاطمة في دار أبیها

و من المشاكل التي عكَّرت- علی السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام)- حیاتها أنها ابتلیت ببعض زوجات أبیها الرسول، من اللواتي قد تكوَّنت عندهنَّ عقدة نفسیة، فكنَّ یحسدن السیدة فاطمة الزهراء علی مواهبها و فضائلها، و خاصة و أن الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كان یغمر السیدة فاطمة بألطافه و یمطر علیها عواطفه، و یحبها حباً عجیباً یهیِّج في قلوب بعض نسائه الحسد الكامن.

فقد روی شیخنا المجلسي (علیه الرحمة) عن كتاب الخصال عن أبي عبداللّه الصادق (علیه السلام) قال: دخل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) منزله، فإذا عائشة مقبلة علی فاطمة تصایحها، و هي تقول: و اللّه یا بنت خدیجة ما ترین إلا أنّ لأُمُّك علینا فضلاً، و أي فضل كان لها علینا؟ و ما هي إلاَّ كبعضنا!!

فسمع النبي مقالتها لفاطمة، فلما رأت فاطمة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بكت، فقال: ما یبكیك یا بنت محمد؟

قالت: ذكرت عائشة أُمي فنقّصتها فبكیتُ.

فغضب رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ثم قال: مَه یا حمیراء! فإن اللّه تبارك و تعالی باركَ في الودود الولود و إن خدیجة (رحمها اللّه) ولدت مني طاهراً (و هو عبد اللّه) و هو المطهّر، و وَلدت مني القاسم و رقیة و أم كلثوم و زینب، و أنت ممن أعقم اللّه رَحِمها. فلم تلدي شیئاً (1) .

ص: 119


1- الخصال للشیخ الصدوق.

و لعائشة مواقف غیر مشكورة تجاه السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تدل علی جانب كبیر من انحرافها العمیق العریق المتواصل، بحیث لم یُعهد تلك المواقف المتطرفة من بقیة زوجات الرسول تجاه سیدة العالمین.

و منها: لما بلغ عائشه خبر وفاه الزهرا (علیه السلام) تبسمت!!

و سوف تقرا ان السیده فاطمه اوصت اسماء بنت عمیس بعدم السماح لعائشه ان تحضر عند جنازتها ساعه الوفاه، و هذا یدل علی سخطها علی عائشه و عدم رضاها عنها، و قد قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «ان اللّه یغضب لغضب فاطمه و یرضی لرضاها».

هذا.. و في الحدیث الاول تصریح بأن بنات السیدة خدیجة الكبری كلهن من رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لا من زوج آخر و لیس هذا الحدیث هو الدلیل الوحید علی ذلك بل توجد أدلَّة و براهین قطعیة علی أنَّهن كنَّ بنات رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حقیقة، و من صلبه، إلا أن المجال- في هذا الكتاب- لا یسع للشرح و التفصیل أكثر من هذا، و لعلنا نلتقي- إن شاء اللّه-بالقراء في غیر هذا الكتاب حول هذا الموضوع، و نؤدي بعض ما یتطلبه البحث و التحقیق.

ص: 120

فاطمة الزهراء علی أعتاب الزواج

كانت السیدة فاطمة الزهراء (علیه السلام) قد بلغت من العمر تسع سنوات، و لكنها كانت تتمتّع بالنمو الجسمي، بل الكمال الجسماني، و كانت تمتاز من صغر سنِّها بالنضج الفكري و الرشد العقلي المبكر، و قد وهب اللّه لها العقل الكامل و الذهن الوقاد، و الذكاء الذي لا یوصف، و لها أوفر نصیب من الحسن و الجمال و الملاحة، خلقةً و وارثة، فمواهبها كثیرة و فوق العادة و فضائلها الموروثة و المكتسبة تمتاز عن كل أنثی و عن كل ابن أنثی.

و أما ثقافتها الدینية و الأدبیة فحدِّث و لا حرج، و سیتضح لك أنها أعلم امرأة و أفضلها في العالم كله، و لم یشهد التاریخ امرأة حازت الثقافة و العلم و الأدب بهذا المستوی، مع العلم أنها لم تدخل في مدرسة و لم تتخرج من كلیة سوی مدرسة النبوة و كلیة الوحي و الرسالة.

فلا عجب إذا خطبها مشاهیر أصحاب النبي، (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و كان النبي یعتذر إلیهم و یقول: أمرها إلی ربها، إن شاء أن یزوِّجها زوَّجها.

و روی شعیب بن سعد المصري في (الروض الفائق): «فلما استنارت في سماء الرسالة شمس جمالها، و تم في أفق الجلالة بدر كمالها، امتدت إلیها مطالع الأفكار و تمنّت النظر إلی حسنها أبصار الأخیار، و خطبها سادات المهاجرین و الأنصار، ردَّهم (المخصوص من اللّه بالرضا) و قال: إني

ص: 121

أنتظر بها القضاء».

و خطبها أبوبكر و عمر فقال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): إنها صغیرةِ (1) و خطبها عبد الرحمن بن عوف، فلم یجبه النبي بل أعرض عنه.

بعد الانتباه إلی هذه الجملة و هي قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): (أنها صغیرة) یتضح لنا ایضا تزویر الأقوال المروية بولادتها قبل المبعث بخمس سنین،إذ لو كان الأمر هكذا لكان عمرها یومذاك ثمانیة عشر سنة كما صرح بذالك بعذ هولاء، والبنت التي عمرها ثمانیه عشر سنه كیف تكون صغیرة؟ و قد تزوَّج رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) عائشة و عمرها علی أكثر التقادیر عشر سنوات، و لم یعتبرها الرسول صغیرة فكیف تكون ابنته الشابة صغیرة لا تصلح للزواج؟

ثم لو كان الأمر كما یزعمون و إنها ولدت قبل المبعث بخمس سنین لكان عمرها یوم كانت في مكة- قبل الهجرة- بین السادسة عشرة و السابعة عشرة، و هذه الفترة من العمر أحسن أوقات الزواج، فكیف لم یخطبها أحد في مكة، لا من بني هاشم و لا من غیرهم بل لم یُسمع أنها كانت في مظنة الخطبة و الزواج؟؟

و قد روی علي بن المتقي في كتابه: (كنز العمال ج 2 ص 99) عن أنس بن مالك قال: جاء أبوبكر إلی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقعد بین یدیه فقال:یا رسول اللّه قد علمت مناصحتي و قِدَمي في الإسلام و أني و أني...

قال: و ما ذاك؟

ص: 122


1- فضا احمد بن حنبل، والنسائي في الخصائص ص 31 و ابن الجوزي التذكره ص 136

قال: تزوجني فاطمة.

فسكت عنه أو قال: فأعرض عنه، فرجع أبوبكر إلی عمر فقال: هلكتُ و أهلكت.

قال: و ما ذاك.

قال: خطبت فاطمة إلی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فأعرض عني.

قال عمر: مكانك حتی آتی النبي فأطلب منه مثل الذي طلبت.

فأتی عمر النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقعد بین یدیه فقال: یا رسول اللّه قد علمت مناصحتي و قِدَمي في الإسلام و أني و أني...

قال: و ما ذاك؟

قال: تزوجني فاطمة. فأعرض عنه، فرجع عمر إلی أبي بكر فقال: إنه ینتظر أمر اللّه فيها.

و روی الهیثمي في (مجمع الزوائد): أن كُلاً من أبي بكر وعمر أمر ابنته أن تخطب فاطمة من رسول اللّه، فذكرت كل واحدة منهما فاطمة لأبیها، فأجابها رسول اللّه: حتی ینزل القضاء، فتمنَّت كل واحدة منهما أنهما لم تكن ذكرت للنبي شیئاً.

و لعل الرسول ما یكن یحب أن یصارحهم بأنه یدخرها لكفوها، و ما أحب أن یصارحهم بأنهم لیسوا بأكفاء لها أو یفاجئهم بأن مستوی ابنته فوق المستویات.

كان الرسول یری أن تجري الأشیاء علی مجراها الطبیعي، و كان الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام) قد نزل في بیت سعد بن معاذ (علی قول) منذ وصوله إلی المدینة، فجاء إلیه سعد بن معاذ و هو في بعض بساتین المدینة و قال: ما یمنعك أن تخطب فاطمة من ابن عمك؟

ص: 123

و في (منتخب العمال): انطلق عمر إلی علي (رضي اللّه عنه) فقال: ما یمنعك من فاطمة فقال:

أخشی أن لا یزوِّجني!

قال: فإن یزوِّجك فمن یزوج؟ و أنت أقرب خلق اللّه إلیه.. إلی آخر كلامه.

إن علیاً لم یذكر فاطمة طیلة حیاته لأي أحد، و لم یذكر رغبته حیاءً من رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ثم ظروفه الاقتصادية یومذاك كانت قاسیة جدّاً، فما كان یملك من حطام الدنیا أموالاً و لا یملك في المدینة داراً ولا عقاراً، فكیف یتزوج؟ و أین یتزوج؟ و أین یسكن؟

و لیست السیدة الزهراء بالمرأة التي یستهان بها في زواجها!

و لكن، لما كان المقصود من الزواج تشكیل البیت الزوجي و تأْسیس الصرح العائلي، و فقد جاء الإسلام لیفتح الأغلال و التقالید التي حبست علی الناس سنّة الزواج، و شدّدت علیهم هذا الأمر الذي یعتبر من ضروریات الفطرة، و من لوازم نظام البقاء و الحیاة الزوجية و العائلیة.

فقد أصبح الزواج- بفضل الإسلام- أمراً سهلاً مستسهلاً، فالتعصب القِبَلي و العنصري قد أشرف علی الزوال، و كان الرسول في دَور التكوین، و هو القدوة و الأسوة للمسلمین، و حركاته و سكناته، و أعماله و أفعاله ستكون حجة و دلیلاً عند المسلمین، فكان الرسول یحارب تقالید الجاهلیة و عادات الكفر باللسان والید، قولاً و فعلاً.

فقد أتاه علي یخطب منه ابنته فاطمة، و النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) له الولایة العامة علی جمیع المسلمین و المسلمات، و علی ابنته و من عداها، و لكنه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حفظ لفاطمة كرامتها، و لم یعلن موافقته للزواج قبل الاستئذان من فاطمة، و بعمله هذا أعلن أنه لابد من

ص: 124

موافقة البنت لأنها هي التي ترید أن تعیش مع زوجها، و تكون شریكة حیاته، و یكون شریك حیاتها.

إن تزویج البنت بغیر إذنها أو موافقتها إهدار لكرامتها و تحقیر لنفسیتها، و تحطیم لشخصیتها، و تصریح عملي لها أنها لا یحق لها إبداء رأیها حول انتخاب الزوج فكأنها بهیمة أو داجنة تباع و توهب بلا إذن منها أو موافقة.

فقال الرسول: یا علي قد ذكرها قبلك رجال، فذكرت ذلك لها، فرأیت الكراهة في وجهها، و لكن علی رِسلك حتی أخرج إلیك.

فقام (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و ترك علیاً جالساً ینتظر النتیجة. و دخل علی ابنته فاطمة، و أخبرها بأن علیاً جاء یطلب یدها؛

ربما یحتاج الأب إلی أن یخبر ابنته عمن جاء یخطبها و یذكر لها أوصافه من حیث العمر والمهنة و بقیة الخصوصیات إذا لم یكن معروفاً، لتكون البنت علی علم و بصیرة.

و لكن هنا لا حاجة إلی ذلك، فعلي (علیه السلام) أعرف من أن یعرّف، و فاطمة تعرف علیاً و تعرف سوابقه و مواهبه و فضائله، و لا تجهل شیئاً. فاكتفي الرسول بأن قال: یا فاطمة إن علي بن أبي طالب مَن قد عرفتِ قرابته و فضله و إسلامه، و إني قد سألت ربي أن یزوِّجك خیر خلقه، و أحبَّهم إلیه، و قد ذكر عن أمرك شیئاً، فما ترین؟

فسكتت، و لم تولّ وجهها، و لم یر فيها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كراهة، فقام و هو قول: اللّه أكبر! سكوتها إقرارها.

اعتبر الرسول سكوتها موافقة و رضي منها علی الزواج، إذ لا ینتظر من الفتاة البكر الحییّة (ذات الحیاء) أن تصرّح بموافقتها، بل ینتظر منها التصریح بالمخالفة و الرفض عند عدم الموافقة، لأن الحیاء یمنع التصریح

ص: 125

بالموافقة، و لا یمنع التصریح بالرفض.

و رجع النبي إلی علي و هو ینتظر، فأخبره بالموافقة، و سأله عن مدی استعداده لاتخاذ التدابیر اللازمة لهذا الشأن، إذ لابد من الصداق و دويّ علی مر الأجیال، فلابدّ من رعایة جمیع جوانبه، و لا یصح إهمال أي ناحیة منه مع رعایة البساطة:

فقال النبي لعلي: هل معك شيء أزوجك به؟

فقال علی: فداك أبي و أمي! و اللّه لا یخفي علیك من أمري شيء، أملك سیفي و درعي و ناضحي!! (1) . هذه ثروة الامام علي، و جمیع ما یملكه من حطام الدنیا و هو مقبل علی الزواج.

تلقّی الرسول كلامه بر حابة صدر، و قال:

یا علي! أما سیفك فلا غني بك عنه، تجاهد به في سبیل اللّه، و تقاتل به أعداء اللّه، و ناضحك تنضح به علی نخلك و أهلك، و تحمل علیه رحلك في سفرك، و لكني قد زوجتك بالدرع و رضیت بها منك، بِع الدرع و ائتني بثمن!!

و كان علي (علیه السلام) قد أصاب هذه الدرع من مغانم غزوة بدر- كان كما ذكره العسقلاني في (الإصابة ج 4 ص 365) و قد كان النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قد أعطاه إیاها، و كانت تسمَّی (الحطمیة) لأنها كانت تحطِّم السیوف أي تكسِّرها- كما في لسان العرب....

فباع علي (علیه السلام) الدرع بأربعمائة و ثمانین أو بخمسمائة

ص: 126


1- الناضح: البعیر الذي یحمل علیه الماء.

درهم، و جاء بالدراهم إلی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و طرحها بین یدیه، و تمَّ الوفاق علی أن یكون ثمن الدرع صداقاً لأ شرف فتاة في العالم، و أفضل أنثی في الكون، و هي سیدة نساء العالمین، و بنت سید الأنبیاء و المرسلین و أشرف المخلوقین!!

زوَّج رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ابنته الطاهرة من علي بن أبي طالب بهذه البساطة و السهولة لیفكِّك أغلال التقالید التي قیَّد الناس بها أنفسهم. لقد صنع رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ما صنع لیقتدی به الناس الذين هم دونه في الشرف و المنزلة بملایین الدرجات.

و زوَّج ابنته و هي سیدة نساء العالمین بمهر قلیل كي لا تستنكف الفتاة المسلمة أن تتزوج بمهر قلیل.

و غیر ذلك من الحِكَم و الفوائد التي لا مجال لذكرها هنا.

فقد حفظ اللّه تعالی لسیدة النساء كرامتها، فقد زوَّج اللّه فاطمة الزهراء من الامام علي بن أبي طالب قبل أن یزوِّجها أبوها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) من علي.

و لیس ذلك ببعید، فقد زوَّج اللّه من هي دون فاطمة الزهراء بدرجات و مراتب كثیرة، ألیس اللّه قد زوَّج زینب بنت جحش من رسول اللّه بقوله تعالی: «فلما قضی زید منها و طراً زوّجناكها».

ألیس اللّه قد زوج رسوله امرأة مؤمنة و هبت نفسها للنبي؟

فما المانع أن ینعقد مجلس العقد أو حفلة القِران في السموات العلي، و یحضرها الملائكة المقرّبون كما صرَّحت بذلك الأحادیث؟

كل ذلك كرامة لها و لأبیها، و بعلها و بنیها الذين سیولدون منها،

ص: 127

و هم حجج اللّه علی الخلق أجمعین.

كانت حفلة القِران التي أقیمت في السماء الرابعة عند البیت المعمور وحیدة من نوعها فریدة بمزایاها، لم یشهد الكون مثلها، فقد اجتمع ملائكة السموات كلها في السماء الرابعة و نُصب منبر الكرامة، و هو منبر من نور، و أوحی اللّه تعالی إلی مَلَكِ من ملائكة حُجُبه یقال له: (راحیل) أن یعلو ذلك المنبر، و أن یحمده بمحامده، و یمجِّده بتمجیده، و أن یثنی علیه بما هو أهله، و لیس في الملائكة أحسن منطقاً و لا أحلی لغةً من راحیل المَلَك، فعلا المنبر و قال:

«الحمد للّه قبل أولیَّة الأولِّین، الباقي بعد فناء العالمین، نحمده إذ جعلنا ملائكة روحانیین، و بربوبیته مذعنین، و له علی ما أنعم علینا شاكرین، و حَجَب عنا النهم للشهوات، و جعل نهمتنا و شهوتنا في تقدیسه و تسبیحه.

الباسط رحمته، الواهب نعمته، جلَّ عن إلحاد أهل الأرض من المشركین و تعالی بعظمته عن إفك الملحدین ثم قال- بعد كلام-:

اختار اللّه الملك الجبار صفوة كرمه، و عبد عظمته لأمَته سیدة النساء، بنت خیر النبيین و سید المرسلین و إمام المتقین، فوصل حبله بحبل رجل من أهله، صاحبه المصدّق دعوته، المبادر إلی كلمته، علی الوَصول بفاطمة البتول ابنة الرسول.

ثم أعقبه جبرئیل عن اللّه تعالی قوله:

(الحمد ردائي، و العظمة كبریائي، و الخلق كلهم عبیي و إمائي، زوّجت فاطمة أمتي من علی صفوتي اشهدوا یا ملائكتي) (1) و قد روی هذا الحدیث جمع من علماء العامة منهم:

ص: 128


1- بحارالانوار ج 43.

عبدالرحمن الصفوري في (نزهة المجالس ج 2 ص 223) عن جابر بن عبداللّه (رضي اللّه عنه): قال: دخلت أم أیمن علی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و هي تبكي، فسألها عن ذلك.

فقالت: دخل عليَ رجل من الأنصار و قد زوَّج ابنته، و قد نثر علیها اللوز والسكر، فتذكرت تزویجك فاطمة و لن تنثر علیها شیئاً.

فقال: والذي بعثني بالكرامة، و خصني بالرسالة إن اللّه- لما زوج علیاً فاطمة- و أمر الملائكة المقربین أن یحدقوا بالعرش، فيهم جبرئیل و میكائیل و إسرافيل، و أمر الطیور أن تغني، فغنّت، ثم أمر شجرة طوبی أن تنثر علیهم اللؤلؤ الرطب مع الدر الأبیض مع الزبرجد الأخضر مع الیاقوت الأحمر.

و في روایة: إن الزواج عند سدرة المنتهی و أوحی اللّه إلیها أن أنثری ما علیك فنثرت الدر و الجوهر و المرجان.

و ذكر الحافظ أبونعیم في (حلیة الأولیاء ج 5 ص 59): عن عبداللّه بن مسعود:...ثم أمر اللّه شجرة الجنان فحملت الحلي و الحلل، ثم أمرها فنثرته علی الملائكة، فمن أخذ منهم شیئاً یومئذ أكثر مما أخذ غیره افتخر به إلی یوم القیامة.

و رواه جماعة كالخوارزمي في (مقتل الحسین)، والعسقلاني في (لسان المیزان) و(تهذیب التهذیب) والقندوزي في (ینابیع المودة).

و في (نزهة المجالس) عن أنس بن مالك، بینما النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في المسجد إذ قال لعلیِّ: هذا جبرئیل أخبرني أن اللّه قد زوَّجك فاطمة؛ و أشهد علی تزویجها أربعین ألف ملَك، و أوحی إلی شجرة طوبی أن أنثری علیهم الدرَّ و الیاقوت و الحلي و الحلل، فنثرت علیهم، فابتدرت الحورالعین یلتقطن من أطباق الدر و الیاقوت و الحلي و الحلل، فهم یتهادونه إلی یوم القیامة.

ص: 129

و رواه السیوطي في (تحذیر الخواص).

و أجری الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) صیغة العقد في المسجد و هو علی المنبر، بمرأی من المسلمین و مسمع.

و هكذا سنَّ رسول اللّه الإعلان و الإشهاد في عقد النكاح، و كمیَّة الصداق كي یقتدي به المسلمون فلا یغالوا في الصداق و قال (صلی اللّه علیه و آله و سلم):«لا تغالوا في الصداق فتكون عداوة».

و جعل النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) المهر الذي جرت علیه السنَّة خمسمائة درهم، و تزوَّج رسول اللّه بزوجاته بهذا المبلغ من الصداق و كذلك الأئمة من أهل البیت (علیهم السلام) كانوا لا یتعدون هذا المبلغ في الزواج. و نعود الی حدیثنا عن زواج السیده فاطمه:

فقد باع علي (علیه السلام) الدرع، و جاء بالثمن الی الرسول، فقسّم النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) المبلغ أثلاثاً: ثلثا لشراء الجهاز، و ثلثا لشراء الطیب و العطر للزفاف، و ثلثا تركه أمانة عند أم سلمة ثم ردّه إلی علي قبیل الزفاف إعانةً و مساعدة منه إلیه لطعام و لیمة الزفاف.

من الطبیعي أن زواج علي (علیه السلام) من السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام)كان سبب هیاج الحسد و العداء في بعض القلوب، و خاصة و أن بعضهم كان قد خطب فاطمة من أبیها فرفض طلبه، و أعرض عنه، فلا عجب إذا جاء إلی الرسول أناس من قریش فقالوا: إنك زوّجت علیاً بمهر خسیس فقال لهم: ما أنا زوّجت علیاً، و لكن اللّه زوَّجه لیلة أسری بي عند سدرة المنتهی... الی آخره (1) .

ص: 130


1- من لا یحضره الفقیه.

و قال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): إنما أنا بشر مثلكم، أتزوج فيكم و أزوِّجكم إلاَّ فاطمة، فإن تزویجها نزل من السماءِ (1) .

و دفع الرسول شیئاً من المال لأبي بكر لیشتري لفاطمة متاعاً لبیتها الزوجي و بعث معه بلالاً، و سلمان لیُعیناه علی حمل ما یشتري، و قیل: أردفه بعمار بن یاسر و جماعة، و قال لأبي بكر: اشترِ بهذه الدراهم لابنتي ما یصلح لها في بیتها.

قال أبوبكر: و كانت الدراهم التي أعطانیها ثلاثة وستین درهماً؛ فحضروا السوق فكانوا یعترضون الشيء مما یصلح، فكان ما اشتروه:

1- فراشان من خیش مصر، حشو أحدهما لیف، و حشو الآخر من جز الغنم.

2- نطع من أدم (جلد).

3- و سادة من أدم حشوها من لیف النخل.

4- عباءة خیبریة.

5- قربة للماء.

6- كیزان (جمع كوز) و جرار (جمع جرة) و عاء للماء.

7- مطهرة للماء مزفّتة.

8- ستر صوف رقیق.

9- قمیص بسبعة دراهم.

10- خمار بأربعة دراهم.

11- قطیفة سوداء.

12- سریر مزمّل بشریط.

ص: 131


1- الكافي.

13- أربعة مرافق من أدم الطائف حشوها إذخر (نبات معروف).

14- حصیر هجري.

15- رحی للید.

16- مخضب من نحاس.

17- قعب للبن.

18- شنٌّ للماء.

حتی إذا استكمل الشراء حمل أبوبكر بعض المتاع و حمل أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الباقي، فلما عرض المتاع علی رسول اللّه و كان في حجرة أم سلمة جعل یقلّبه بیده و یقول: بارك اللّه لأهل البیت.

و في روایة: رفع رأسه إلی السماء و قال: اللّهم بارك لقوم جُلُّ آنیتهم الخزف.

هذا جمیع الأثاث و المتاع الذي اشتروه لابنة سید الأنبیاء، و هي أشرف أنثی، و سیدة نساء العالمین.

نعم، إن السعادة الزوجية لا تحصل عن طریق البذخ و الترف و السرف، فإن الملابس الفاخرة، والكرأسي الثمینة، و الأحجار الكریمة و أواني الذهب و الفضة، و الفرش الغالیة و الستائر القیمة، و القصور الشاهقة و السیارات الضخمة، و وسائل التنویر و التبرید و التدفئة، و غیرها لیست من أسباب السعادة الزوجية التي یتصورها البسطاء من الناس.

فكم من امرأة ترفل في ثیابها و بدلاتها، و تجلس علی فراش و ثیر، و تتلألأ الحلي- المرصّع بالمجوهرات- علی جیدها و معصمیها، و شحمة أذنیها، و مع ذلك كله تشعر بأنها في جحیم، و تعتبر نفسها شقیة في الحیاة غیر سعیدة في دنیاها.

ص: 132

و كم من امرأة تعیش في كوخ أو بیت متواضع، تطحن و تعجن و تخبز و تغسل و تكنس و ترضع و تتعب و تعیش بكل بساطة، محرومة عن مئات الوسائل مع ذلك تشعر بأنها سعیدة في حیاتها، و كأن بیتها الصغیر الضیّق البسیط جنة عدن.

و نفس هذا الكلام یجري في الرجال، فتری القصر المنیف المشیَّد الشامخ جحیماً علی الرجل، یدخله كرهاً، و كأنَّه في قفص، و یحاول الخروج منه ساعة قبل ساعة.

و تری البیت المتواضع الحقیر یأوی إلیه الرجل بكل شوق و رغبة، و لا یحب مغادرة بیته حینما یری البیت الزوجي مبنیاً علی أسس السعادة و الخیر.

و لكن مع الأسف أن ملایین الفتیان و الفتیات یتصورون أن السعادة الزوجية و الحیاة السعیدة تحصل عن طریق الثروة و الأثریاء، و یعتبرون البساطة في المعیشة من وسائل الشقاء و علائم الحرمان.

فيبقی هؤلاء المساكین غیر متزوجين و غیر متزوجات، ینتظرون السعادة الزوجية تطرق باب دارهم!!

ص: 133

من صداق فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) الشفاعة یوم القیامة

إن كانت السیدة فاطمة (علیها السلام) قد تزوّجت بهذا المهر القلیل نزولاً عند رغبة أبیها الرسول- حتی یقتدي به المسلمون- و تحقیقاً لأهدافه الحكیمة، فلیس معنی ذلك أن تنسی السیدة فاطمة نفسها، أو تنسی عظمتها، بل لابدّ من المحافظة علی مقامها الأسمي و حقیقتها الشریفة، و مكانتها العلیا، و طموحها نحو الفضائل و القیم، و لهذا فقد روی أحمد بن یوسف الدمشقي في: (أخبار الدول و آثار الأول) قال: و قد ورد في الخبر أنها لما سمعت بأن أباها زوّجها، و جعل الدراهم مهراً لها فقالت: یا رسول اللّه إن بنات الناس یتزوّجن بالدراهم فما الفرق بیني و بینهن؟ أسألك أن تردها، و تدعواللّه تعالی أن یجعل مهري الشفاعة في عصاة أمتك.

فنزل جبرئیل (علیه السلام) و معه بطاقة من حریر مكتوب فيها: (جعل اللّه مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبین من أمة أبیها) فلما احتضرت أوصت بأن توضع تلك البطاقة علی صدرها تحت الكفن. فوضعت، و قالت: إذا حشرت یوم القیامة رفعت تلك البطاقة بیدي و شفعت في عصاة أمة أبیي (1) .

إن هذا الحدیث- كما تراه- یدل علی ما كانت تتمتع به السیدة فاطمة الزهراء من علو الهمة و سموّ النفس، و عظمة الشخصیة، و بُعد

ص: 134


1- سنوافيك في اواخر هذا الكتاب بطائفه كبیره من الاحادیث حول شفاعتها یوم القیامه.

المدی، و جلالة القدر، فإنها تطلب من أبیها الرسول أن یدعو اللّه تعالی أن یمنحها هذا الحق العظیم و هو الشفاعة في یوم القیامة. و أستجیب دعاء الرسول و نفِّذ طلبه، و نزل صك من السماء إجابة لهذا الطلب، و ستبرز السیدة فاطمة ذلك الصك عند الحاجة، كما روی الصفوري في (نزهة المجالس) قال: قال النسفي: سألت فاطمة (رضي اللّه عنها) النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ان یكون صداقها الشفاعه لامه یوم القیامه، فاذا صارت علی الصراط طلبت صداقها.

و قد وردت روایات كثیره عن ائمه اهل البیت (علیهم السلام) حول ان اللّه تعالی جعل الشفاعه یوم القیامه من صداق السیده فاطمه الزهراء.

ص: 135

الزفاف و مقدماته

وقعت فترة بین العقد و الزفاف بدون قصد بل إن علیاً (علیه السلام) كان یستحي أن یطالب رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بزوجته، و كان الرسول أیضاً یحافظ علی كرامة السیدة فاطمة فما ینبغي له أن یزف ابنته قبل مطالبة زوجها ذلك.

و طالت تلك الفترة شهراً أو شهوراً، و بقي الأمر مسكوتاً عنه، و أخیراً جاء عقیل إلی الامام علي یسأله عن سبب السكوت و القعود، و یستنهضه للقیام بمقدمات الزفاف و كان علي (علیه السلام) یستحي من رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أن یطالبه أن یزفّ السیدة فاطمة و لكن عقیلاً ألحَّ علیه، فخرجا یریدان الدخول علی الرسول للمذاكرة حول الموضوع.

التقت أم أیمن بهما، و سألت منهما عدم التدخل مباشرةً، و تكفّلت هي إنهاء الأمر،و لهذا ذهبت إلی أم سلمة فأعلمتها بذلك، و أعلمت نساء النبي، فاجتمعن عند الرسول فأحدقن به، و قلن: فدیناك بآبائنا و أمهاتنا یا رسول اللّه! قد اجتمعنا لأمر لو أن خدیجة في الأحیاء لقرَّت بذلك عینها!!

فلما سمع النبي اسم خدیجة بكی، ثم قال: خدیجة! و أین مثل خدیجة؟ صدَّقتني حین كذّبني الناس، و آزرتني علی دین اللّه، و أعانتني علیه بمالها!!

ص: 136

إن اللّه (عز و جل) أمرني أن أبشّر خدیجة ببیت في الجنة من قصب الزمرد، لا صخب فيه و لا نصب.

قالت أم سلمة: فقلنا: فدیناك بآبائنا و أمهاتنا یا رسول اللّه إنك لم تذكر من خدیجة أمراً إلاَّ و قد كانت كذلك، غیر أنها مضت إلی ربها، فهنَّأها اللّه بذلك، و جمع بیننا و بینها في درجات جنته و رضوانه و رحمته.

یا رسول اللّه! هذا أخوك في الدنیا، و ابن عمك في النسب، علي بن أبي طالب یحب أن تُدخل علیه زوجته فاطمة تجمع بها شمله.

و في روایة: إن المتكلمة هي أم أیمن قالت: یا رسول اللّه! لو أن خدیجة باقیة لقرَّت عینها بزفاف فاطمة، و إن علیاً یرید أهله، فقرِّ عین فاطمة ببعلها، و اجمع شملهما، و قرِّ عیوننا بذلك.

فقال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): فما بال علی لا یسألني ذلك؟

قالت: الحیاء منك یا رسول اللّه!!

فقال- لأم أیمن-: انطلقي إلی علي فائتیني به.

خرجت أم أیمن، فإذا علي ینتظر لیسألها عن جواب رسول اللّه، و حضر علي (علیه السلام) عند الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و جلس مطرقاً رأسه نحو الأرض حیاءً منه، فقال له: أتحب أن تدخل علیك زوجتك؟

قال: نعم، فداك أبي و أمي!

قال: نعم، و كرامة، أدخلها علیك في لیلتنا هذه أو لیلة غد إن شاء اللّه.

هیئ منزلاً حتی تحوِّل فاطمة إلیه.

قال علی: ما هاهنا منزل إلاَّ منزل حارثة بن النعمان.

فقال النبي: لقد استحینا من حارثة بن النعمان، قد أخذنا عامة منازله!!

ص: 137

فوصل الخبر إلی حارثة، فجاء النبي و قال: یا رسول اللّه! أنا و ما لي للّه و لرسوله و اللّه ما شيء أحبّ إلی مما تأخذه، والذي تأخذه أحب إليَّ مما تتركه!!

یا لروعة الإیمان باللّه و الرسول.

یا لجمال الاعتقاد بالآخرة و الأجر و الثواب!!

جعل حارثة أحد منازله تحت تصرّف علي، و قام علي بتأثیث حجرة العرس و تجهیزها،فقد بسط كثیباً (رملاً) في أرض الحجرة، و نصب عوداً یوضع علیه القربة و اشتری جرّة و كوزاً، و نصبوا خشبة من حائط إلی حائط للثیاب!!، و بسط جلد كبش، و مخدّة لیف!

هذا جمیع ما كان یتمتع به علي (علیه السلام) من متاع الحیاة الدنیا و زخرفها!!

لقد مرّ علیك أن الصداق الذي استلمه النبي من علي (علیه السلام) قسّمه أثلاثاً: ثلثاً اشتری به المتاع، و ثلثاً للطیب بمناسبة الزفاف، و ثلثاً تركه أمانة عند السیدة أم سلمة.

استرجع النبي الثلث الأخیر من الصداق، و سلَّمه إلی علی كمساعدة، حیث أنه في مقتبل حیاة جدیدة، و الحاجة ماسَّة إلی المال كما لا یخفي، و قال: یا علي إنه لابدّ للعروس من ولیمة.

یا لشرف الإنسانیة!!

یا لعظمة الأخلاق!!

یا لصدق المحبة و العاطفة!!

و تقدّم بعض الأصحاب إلی علي ببعض الهدایا، و أمر النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) علیاً أن یصنع طعاماً فاضلاً.

أمره بالولیمة لأن اللّه تعالی یحب إطعام الطعام، لأن الولیمة فيها خیر

ص: 138

كثیر، و فائدة عامة و منافع جمة، فهي إشباع البطون الجائعة، و غرس المحبة في القلوب، و قبل كل شيء فيها رضي اللّه سبحانه.

و لكننا- یا للأسف- استبدلنا الولیمة بحفلة القِران و استبدلنا الإطعام بتناول بعض المرطبات و الحلویات التي لا تسمن و لا تغني من جوع!!

و من الضروري أن لا ننسی أن السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) قد ضربت الرقم القیاسي في الإنفاق في سبیل اللّه، و الإیثار ابتغاء وجه اللّه، و لعلك لا تجد مثیلة لهذه المكرمة في تاریخ النساء! فقد روی الصفوري في (نزهة المجالس) ج 2 ص 226 عن ابن الجوزي أن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) اعد لها قمیصاً جدیداً لیلة عرسها و زفافها و كان لها قمیص مرقوع و إذا بسائل علی الباب یقول: أطلب من بیت النبوة قمیصاً خَلِقاً، فأرادت أن تدفع إلیه القمیص المرقوع، فتذكرت قوله تعالی: «لن تنالوا البرَّ حتی تنفقوا مما تحبون».فدفعت له الجدید، فلما قرب الزفاف نزل جبرئیل قال: یا محمد! إن اللّه یقرؤك السلام، وأمرني أن أسلِّم علی فاطمة، و قد أرسل لها معي هدیة من ثیاب الجنة من السندس الأخضر.. الی آخر الخبر.

لقد تهیأ طعام الولیمة، فلقد طبخ اللحم، واحضر الخبز، و التمر و السمن، و أقبل رسول العظمة (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و حسر عن ذراعیه، و جعل یشدخ التمر في السمن لیكونا بمنزلة الحلویات و الفطائر، و أمر النبي علیاً أن یدعو الناس إلی ولیمته الزواج.

فأقبل الامام علي (علیه السلام) إلی المسجد، و المسجد غاص بالمسلمین و هناك أهل الصَّفة و هم المهاجرون الذين ما كانوا یملكون یومذاك شیئاً.

و هناك أهل المدینة من الأنصار و غیرهم ممن لیسوا من الأغنیاء، فما یصنع علي (علیه السلام) بهذا العدد الكثیر مع الطعام القلیل؟!

و نفسیته الطاهرة الشریفة لا تسمح له أن یدعو قوماً و لا یدعو قوماً

ص: 139

آخرین فالكل یحبون أن یأكلوا من ولیمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و الجمیع یرغبون إلی الحضور في تلك المأدبة المباركة.

لكن إیمان علي (علیه السلام) بقدرة اللّه تعالی، و اعتقاده ببركات یمین رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) هوَّن علیه كل شيء، فصعد علی مكان عال، یسمعه كل أحد، و نادی: «أیها الناس أجیبوا إلی ولیمة فاطمة بنت محمد».

فوصل صوت علي (علیه السلام) حتی إلی بساتین- المدینة و مزارعها، و أقبل الناس رجالاً و نساءً- و حتی أهل البساتین- یأكلون و یشربون، و یحملون معهم من ذلك الطعام.

و هنا ظهرت بركة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إذ أن الطعام لم ینفذ، بل و كأنه لم ینقص، و دعا رسول اللّه بالأواني فملئت بالطعام، و وجَّه بها إلی بیوت زوجاته و أخذ صفيحة (آنیة) و قال: و هذه لفاطمة و بعلها!!

و غابت الشمس من ذلك الیوم، واقترب زفاف السیدة فاطمة إلی دار زوجها.

فهنا اتخذ رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) جمیع التدابیر اللازمة لزفاف ابنته فاطمة.

و بالرغم من أن زواج السیدة فاطمة كان یمتاز بالبساطة و السهولة و الابتعاد عن التكلیف و الترف، و ما أشبه ذلك إلاَّ أنه كان محاطاً بآیات العظمة و الجلالة و الجمال، حتی روی الهیثمي في (مجمع الزوائد) عن جابر أنه قال: حضرنا عرس علي و فاطمة رضي اللّه عنهما فما رأینا عرساً كان أحسن منه... الی آخره.

أمر رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) زوجاته بتزیین السیدة

ص: 140

فاطمة الزهراء (علیها السلام) استعداداً للزفاف، فقامت النسوة فضمَّخنها بالطیب،و ألبسنها الحلي، فكانت إحداهن تمشط شعرها، و الأخری بتزیینها و لبست الحلَّة التي جاء بها جبرئیل من الجنة، و كانت الحلَّة لا تُقوَّم بقیمة، و لا تثمَّن.

و إنما بذل الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) هذه العنایة الخاصة، و خصَّ ابنته السیدة فاطمة الزهراء بعواطفه الغزیرة دون سائر بناته لأسباب، منها:

فضائلها الشخصیة، و مزایاها النفسیة.

شخصیه زوجها علي بن أبي طالب.

فهو صاحب المواهب و السوابق و هو ابن عم الرسول، و اخوه و وزیره و خلیفته و حامل لوائه و لم یكن في أصهاره من له تلك القرابة القریبة و المنزلة الخصیصة.

و أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یعلم أن ابنته الطاهرة ستشملها آیة التطهیر و آیة المباهلة و القربي.

و أنها أم الأئمة الطاهرین إلی یوم القیمة.

لقد جاءت تلك اللیلة التي ستشعر السیدة فاطمة بأنها یتیمة، و تشعر بفقدان أمها خدیجة، و الأم لها دور مهم في لیلة عرس ابنتها، و لكن أین خدیجة هذه اللیلة؟

و لما انصرفت الشمس نحو الغروب دعا الرسول بابنته الطاهرة و دعا بصهره العظیم فأقبلت السیدة فاطمة و قد لبست ثوباً طویلاً، تجرّ ذیلها علی الأرض، و قد تصبّبت عرقاً حیاءً من أبیها سید الأنبیاء.

و قد شاءاللّه تعالی أن یكون زواج السیدة فاطمة ممتازاً من جمیع الجوانب و النواحي و هكذا أراد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أن

ص: 141

لا تشعر ابنته العزیزة بالیتم، و لهذا، و لغیر ذلك- أتی النبي ببغلته الشهباء، و ثنی علیها قطیفة، و قال لفاطمة: اركبي.

و أمر النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) سلمان أن یقود البغلة، و كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یسوقهاِ (1) .

باللّه علیك- أیها القارئ- هل سمعت أو قرأت في تاریخ عظماء الدنیا- من أنبیاء و ملوك و وزراء و سلاطین- أن بنتاً تزف إلی دار زوجها، و سیِّد الأنبیاء یسوق بغلتها؟

نعم، لقد اشترك أهل السماء مع أهل الأرض في زفاف الإنسیة الحوراء.

فقد روی الخطیب البغدادي في (تاریخ بغداد ج 5 ص 7) و الجویني في (فرائد السمطین) و الذهبي في (میزان الاعتدال) و العسقلاني في (لسان المیزان) و القرمانی في (أخبار الدول) و القندوزي في (ینابیع المودة) عن ابن عباس أنه قال: لمّا زفت فاطمة إلی علی كان النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قُدامها، و جبرئیل عن یمینها، و میكائیل عن یسارها، و سبعون ألف ملك خلفها، یسبّحون اللّه و یقدّسونه حتي طلع الفجر.

وروی عن الامام موسی بن جعفر عن آبائه (علیهم السلام) عن جابر بن عبداللّه الانصاري قال: «... فلما كانت لیله الزفاف اتی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ببغلته الشهباء (2) و ثنی علیها قطیفه، و قال: اركبي.

ص: 142


1- بحارالانوار ج 43.
2- كان النبي (صلی اللّه علیه و آله) قد سمی ناقته: العضباء و بغلته: الشهباء، و عصاه: الممشوق، و عمامته:السحاب. و هكذا.

و امر سلمان ان یقودها، و النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یسوقها.

فبینما هو في بعض الطریق اذ سمع النبي و جبه فاذا هو بجبرئیل في سبعین الفا،و میكائیل في سبعین الفا.

فقال النبي: ما اهبطكم الی الارض؟ قالوا: جئنا نزف فاطمه الی علي بن أبي طالب.فكبر جبرئیل، و كبر میكائیل، و كبرت الملائكه، و كبر محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

فوقع التكبیر علی العرائس من تلك اللیله (1) .

و هكذا اجتمع رجالات بني هاشم یمشون في موكب السیدة. و أمر النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بنات عبدالمطلب (عماته) و نساء المهاجرین و الأنصار أن یرافقن فاطمة في تلك المسیرة و كانت زوجات الرسول (صلی اللّه علیه وآله) یمشین قُدَّامها، و یرجزن فكانت أم سلمة تقول:

سِرنَ بعون اللّه جاراتي***و اشكرنه في كل حالات

و اذكرن من أنعم رب العلي***من كشف مكروه و آفات

فقد هدانا بعد كفر، و قد***أنعشنا ربّ السموات

و سرن مع خیر نساء الوری***تُفدی بعمَّاتٍ و خالات

یا بنت من فضله ذو العلی***بالوحي منه و الرسالات

ثم قالت عائشة:

یا نسوة استترن بالمعاجز***و اذكرن ما یحسن في المحاضر

و اذكرن ربِّ الناس إذ یخصنا***بدینه مع كل عبد شاكر

و الحمد للّه علی أفضاله***و الشكر للّه العزیز القادر

ص: 143


1- امالي الطوسي ج 1 ص 263.

و سرن بها فاللّه أعطی ذكرها***و خصّها منه بطهر طاهر

ثم قالت حفصة:

فاطمة خیر نساء البشر***و من لها وجه كوجه القمر

فضَّلك اللّه علی كل الوری***بفضل من خصَّ بآي الزمَّر

زوَّجك اللّه فتیً فاضلاً ***أعني علیاً خیر من في الحضر

فَسرن جاراتي بها إنها***كریمة بنت عظیم الخطر

ثم قالت معاذة أم سعد بن معاذ:

أقول قولاً فيه ما فيه***و أذكر الخیر و أبدیه

محمد خیر بني آدم***ما فيه من كبرٍ و لا تیه

بفضله عرَّفنا رشدنا***فاللّه بالخیر یجازیه

و نحن مع بنت نبي الهدی***ذي شرف قد مكنت فيه

في ذروة شامخة أصلها***فما أری شیئاً یدانیه

و كانت النسوة یرجّعن أول بیت من كل رجز، و دخلن الدار، ثم أنفذ رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إلی علي و دعاه ثم دعا فاطمة فأخذ یدها و وضعها في ید علي و قال: بارك اللّه في ابنة رسول اللّه.

یا علي! هذه فاطمة و دیعتي عندك!!

یا علي! نعم الزوجة فاطمة!

و یا فاطمة! نعم البعل علي!!

اللّهم بارك فيهما، و بارك علیهما، و بارك لهما في شبیلهما، اللّهم إنهما أحب خلقك إلی فأحبهما، و اجعل علیهما منك حافظاً، و إني أعیذهما بك و ذریتهما من الشیطان الرجیم.

ثم دعا بماءٍ فأخذ منه جرعة فتمضمض بها، ثم مجها في القعب، ثم صبّها علی رأس فاطمة و علی صدرها و بین كتفيها ثم دعا علیاً فصنع به

ص: 144

كما صنع بها.

و أمر رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) النساء بالخروج فخرجن، و بقیت أسماء بنت عمیس، فلما أراد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أن یخرج رأی سواداً فقال: من أنت؟

قالت: أسماء بنت عمیس!

قال: ألم آمرك أن تخرجي؟

قالت: بلی یا رسول اللّه! فداك أبي و أمي، و ما قصدت خلافك، و لكني أعطیت خدیجة عهداً- و حدثَتْه- فبكی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إذ هاجت عواطفه من حدیث خدیجة، و إنها كانت تتفكر حول تلك اللیلة، و أن فاطمة- اللیلة- منكسرة القلب.

فقال لها: باللّه لهذا وقفت؟

قالت أسماء: نعم، و اللّه!

فقال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): یا أسماء، قضی اللّه لك حوائج الدنیا و الآخرة.

ص: 145

الاقوال حول سنة زواجها

اختلف المؤرخون و المحدثون في تاریخ سنة زواج السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) فقد روی السید ابن طاووس في الإقبال بإسناده إلی الشیخ المفيد:إن زواجها كان لیلة إحدی و عشرین من المحرم سنة ثلاث من الهجرة.

و في المصباح: في أول یوم من ذي الحجة، و روی أنه كان یوم السادس منه.

و في الأمالي: أن زواجها كان بعد وفاة رقیة زوجة عثمان بستة عشر یوماً و ذلك بعد رجوعه من بدر، و ذلك لأیام خلت من شوال.

ص: 146

تحقیق حول أسماء بنت عمیس و أم سلمة

إن أسماء بنت عُمیس كانت زوجة جعفر بن أبي طالب و قد هاجر جعفر إلی الحبشة مع زوجته و عدد من المسلمین قبل الهجرة من مكة بسنوات، و رجع جعفر من الحبشة إلی المدینة یوم فتح خیبر في السنة الخامسة من الهجرة.

هذا هو المتفق علیه بین المؤرخین، و لكنك تجد حدیثاً یصرّح بحضور أسماء بنت عُمیس عند السیدة خدیجة الكبری ساعة وفاتها في مكة كما مر علیك.

و تجد الأحادیث الكثیرة التي تصرِّح بحضورها في زواج السیدة فاطمة الزهراء تجد التصریح باسمها و اسم أبیها و اللقب: (أسماء بنت عُمیس الخثعمیة).

و قد روی صاحب كشف الغمة حضور أسماء بنت عُمیس الخثعمیة في زواج السیدة فاطمة، و رواه الحضرمي في (رشفة الصادي ص 10) و أحمد بن حنبل في (المناقب) و الهیثمي في (مجمع الزوائد) و النسائي في (الخصائص ص31) و محب الدین الطبري في (ذخائر العقبی) عن ابن عباس، و عن الخوارزمي عن الحسین بن علی (علیهما السلام) و عن السید جلال الدین عبد الحميد بن فخار الموسوی، و عن الدولأبي و عن الإمام الباقر عن آبائه (علیهم السلام).

و روی عن بعض هؤلاء شیخنا المجلسي في العاشر من البحار ج 43.

ص: 147

مع العلم أن زواج السیدة فاطمة كان بعد واقعة بدر، و قبل واقعة أحد، أي في السنة الأولی أو الثانية من الهجرة، فكیف الجمع بین هذین القولین؟

ان هذه مشكلة تاریخیة لم یجد المؤرخون لها حلاً مقبولاً صحیحاً، و قد تكلَّف شیخنا المجلسي في البحار ج 43 ببعض التأویلات أو التصرفات. و لكنها لا تتفق مع التصریح باسم أسماء بنت عُمیس الخثعمیة.

و أعجب من هذا ما ذكره القمي في سفينة البحار في مادة (ك ذ ب) عن مجاهد قال:قالت أسماء بنت عُمیس: كنت صاحبة عائشة التي هیأتها و أدخلتها علی رسول اللّه، و معي نسوة، و قالت: فواللّه ما وجدنا عنده قوتاً إلاَّ قدحاً من لبن، فشرب ثم ناوله عائشة، فاستحیت الجاریة فقلت لها:لا تردي ید رسول اللّه، خذي منه فأخذته علی حیاء فشربت منه، ثم قال: ناولي صواحبك.

فقلن: لا نشتهیه.

فقال: لا تجمعن جوعاً و كذباً.

قالت: فقلت: یا رسول اللّه إن قالت إحدانا- لشيء-: لا نشتهیه أیعدُّ ذلك كذباً؟

قال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): إن الكذب لیكتب حتی یكتب الكذیبة كذیبة.

كان المقصود من ذكر هذا الحدیث هو حضور أسماء بنت عمیس في زواج الرسول بعائشة و كان ذلك قبل زواج السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام).

أضف إلی هذا أنه قد اشتهر بالتواتر حضور أسماء بنت عمیس عند ولادة الإمام الحسین (علیه السلام) في السنة الرابعة أو الخامسة من الهجرة،

ص: 148

و كل ذلك قبل فتح خیبر، أي قبل رجوع جعفر بن أبي طالب من الحبشة.

و قد روی شیخنا المجلسي في البحار ج 43 عن محمد بن یوسف الكنجي في كتابه: (كفایة الطالب) حضور أسماء بنت عمیس في زواج السیدة فاطمة الزهراء.

قال محمد بن یوسف: هكذا رواه ابن بطة، و هو حسن عال، و ذكر أسماء بنت عمیس في هذا الحدیث غیر صحیح لأن أسماء هذه امرأة جعفر بن أبي طالب...

إلی أن قال: و أسماء التي حضرت في عرس فاطمة (علیها السلام) إنما هي أسماء بنت یزید ابن السكن الانصاري، و أسماء بنت عمیس كانت مع زوجها جعفر بالحبشة،و قدم بها یوم فتح خیبر سنة سبع، و كان زواج فاطمة (علیها السلام) بعد وقعة بدر بأیام یسیرة، فصحَّ بهذا أن أسماء المذكورة في هذا الحدیث إنما هي بنت یزید..... الی آخره.

أقول: لو لم یكن في الأحادیث تصریح باسم أسماء و اسم أبیها و لقبها لأمكن هذا التوجیه أو التأویل، و لكن كیف یصح هذا التكلف و التعسّف في التأویل في مقابل هذا النص الصریح، و هو: (أسماء بنت عمیس الخثعمیة)؟

و أما أسماء بنت یزید الانصاري فان لنا ان نتساءل: كیف كانت في مكه یوم توفيت السیدة خدیجة مع العلم أنها أنصاریة أي من أهل المدینة؟

و الحال أن أسماء التي حضرت وفاة خدیجة في مكة هي التي حضرت زواج فاطمة الزهراء في المدینة.

و إنني أظن أن الكنجي إنما قال هذا لوجود المشاركة في الاسم بین أسماء بنت عمیس و أسماء بنت یزید، و لم یذكر أحد من المؤرخین حضور أسماء الانصارية في مكة عند وفاة السیدة خدیجة.

ص: 149

و الذي یقوی عندي أن الحل الصحیح و الجواب المعقول هو: أن أسماء هذه هي أسماء بنت عمیس الخثعمیة زوجة جعفر بن أبي طالب، و أنها هاجرت مع زوجها إلی الحبشة، و لكنها رجعت إلی مكة، و هاجرت إلی المدینة، و لعلها كررت سفرها إلی الحبشة لأن المسافة من جدة إلی الحبشة هي مسافة عرض البحر الأحمر، و لیس قطع هذه المسافة بالصعب المستصعب ذهاباً و إیاباً، و إن كان التاریخ لم یذكر ذلك لأسماء فإن التاریخ ایضا لم یذكر لأبی ذر الغفاري هجره الی الحبشه،و قد روی عن ابی ذر قوله: كنت أنا و جعفر بن أبي طالب مهاجرین إلی بلاد الحبشة.... الی آخر كلامه

روی ذلك الشیخ المجلسي عن كتاب: (علل الشرائع) للصدوق.

و قد ظفرت بروایة رواها المجلسي في البحار ج 43 في باب تزویج السیدة فاطمة (علیها السلام) عن كتاب (مولد فاطمة) عن ابن بابویة: أمر النبي بنات عبدالمطلب.... إلی أن یقول: و النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و حمزة و عقیل و (جعفر) و أهل البیت یمشون خلفها.. إلی آخره.

فالتصریح بوجود جعفر یحل هذه المشكلة.

بقیت هنا كلمة: و هي أن هجرة الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كانت بعد وفاة السیدة خدیجة الكبری قطعاً، علی اختلاف في تاریخ وفاتها في الشهور و الأعوام قبل الهجرة.

و لكن الظاهر أن السیدة خدیجة توفيت قبل الهجرة بأقل من سنة.

و من ناحیة أُخری كانت هجرة جعفر بن أبي طالب إلی الحبشة مرتین، و هجرته الثانية كانت بعد وفاة السیدة خدیجة، و قبل هجرة الرسول إلی المدینة.

ص: 150

و الدلیل علی ذلك هو الخبر المروي: أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یوم كان في الغار قال: (إني أری سفينة جعفر تعوم في البحر).

و من هنا یسهل علینا أن نعرف بأنَّ بنت عمیس كانت في مكة یوم وفاة خدیجة، و أنها قد حضرت عند وفاتها.

و أما مشكلة أم سلمة، فإننا نجد اسم السیدة أم سلمة في الأیام التي سبقت زواج السیدة فاطمة الزهراء، فقد كان النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في بیتها یوم خطبة علي (علیه السلام) من فاطمة الزهراء، و قد سمعت أن النبي أودع عندها شیئاً من صداق فاطمة الزهراء و كانت مرجع النساء في قضایا زواج السیدة فاطمة.

مع العلم أن المؤرخین ذكروا أن الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) تزوجها في السنة الرابعة من الهجرة، و زواج السیدة فاطمة كان في السنة الثانية من الهجرة بعد بدر و قبل أُحد، فكیف كانت أم سلمة في هذه المراحل مع العلم أنها لم تكن زوجة للنبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یومذاك؟.

نجیب عن هذا الكلام بما یلی:

أولاً: المناقشة في سنة زواجها من الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فلعل الرسول تزوجها في أوائل الهجرة، أو أن زواج السیدة الزهراء كان في السنة الرابعة من الهجرة و هذا احتمال بعید و قول ضعیف لا یُعبأُ به.

ثانیاً: إن السیدة أم سلمة هي بنت عمة النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فلا مانع أن تساهم في مراحل زواج السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بحیث أن النبي یستودعها صداق فاطمة الزهراء، أو یكون لها اقتراح و رأی في تعجیل زفاف السیدة فاطمة الزهراء. و لعل هذا الوجه هو الاقوی.

هذا ما یتبادر إلی ذهني و اللّه العالم بحقائق الأمور.

ص: 151

بیت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)

إن الحضارة- الیوم- بدأت تشعر بضرورة احترام بعض المساكن و المباني و الأراضي، و ذلك بعد أن شعرت باحترام الفضیلة و أهلها، و التقدیر عن الشرف و العلم و القیم.

و علی هذا الأساس أحدثت الحضارة قانوناً بل قوانین بهذا الشأن، و رعایة لهذا الأمر، فالصیانة الدبلوماسیة التي منحها القانون لمباني السفارات و الهیئات الدبلوماسیة و هكذا القوانین التي تفرض احترام الجامعات و المعاهد العلمیة و المساجد و المعابد تقدیراً للعلم والدین و الثقافة هي من نتائج الشعور بهذا المعنی.

و لكن هذه الحقیقة كانت ثابتة عند اللّه تعالی، و عند أولیائه من أهل السموات و الأرض منذ الأزل، و انطلاقاً من هذه الحقیقة نجد الأحكام الواردة حول احترام المساجد و خاصة المسجد الحرام، و تحریم الدخول فيه علی بعض الأفراد كالمشركین أو المجنب و الحائض، و تحریم تنجیسها، أو إتیان ما ینا في قدسیتها و احترامها، أو الصید في الحرم (و هو المناطق المحیطة بمكة من جمیع الجوانب، حسب حدود معینة مذكورة في كتب الفقه).

بعد ذكر هذه المقدمة اعلم أن البیت الذي كانت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تسكن و تعیش فيه كان محاطاً بالقداسة و الروحانیة و النور، و التجلیل و التبجیل، و یعرف حق ذلك البیت كل من یعرف حق فاطمة و أبیها، و بعلها و بنیها.

ص: 152

و قد روی شیخنا المجلسي (علیه الرحمة) عن أنس بن مالك و عن بریدة قال: قرأ رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «في بیوت أذن اللّه أن ترفع و یذكر فيها اسمه یسبّح له بالغدو و الآصال» (1) .

فقام رجل فقال: أي بیوت هذه یا رسول اللّه؟

فقال: بیوت الأنبیاء.

فقام إلیه أبوبكر،

فقال: یا رسول اللّه! هذا البیت منها؟!

و أشار إلی بیت علي و فاطمة.

قال: نعم، من أفضلها!! (2) .

و عن ابن عباس قال: كنت في مسجد رسول اللّه، و قد قرأ القارئ:

(في بیوت أذن اللّه أن ترفع و یذكر فيها اسمه...الایه) فقلت: یا رسول اللّه! ما البیوت؟

فقال: رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله): بیوت الأنبیاء. و أومی بیده إلی منزل فاطمة! (3) .

و في الكافي عن جابر بن عبداللّه الانصاري قال: خرج رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یرید فاطمة (علیها السلام) و أنا معه، فلما انتهینا إلی الباب وضع یده علیه فدفعه، ثم قال: السلام علیكم.

فقالت فاطمة (علیها السلام): علیك السلام یا رسول اللّه.

قال: ءأدخل؟

قالت: أدخل یا رسول اللّه.

ص: 153


1- النور: 36.
2- و في نسخه: من افاضلها/ تفسیر الثعلبي و منه تفسیر (البرهان) ج 3/ 139.
3- كشف الغمه.

قال: أدخل أنا و من معي؟

فقالت: یا رسول اللّه لیس عليَّ قناع.

فقال: یا فاطمة خذي فضل ملحفتك، فقنّعي به رأسك. ففعلت.

ثم قال: السلام علیكم.

فقالت: و علیك السلام یا رسول اللّه

قال: ءأدخل؟

قالت: نعم یا رسول اللّه.

قال: أنا و مَن معي؟

قالت: أنت و مَن معك.. إلی آخره (1) .

ص: 154


1- الكافي ج 5/ باب الدخول علی النساء حدیث 5.

حیاتها الزوجية

انتقلت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) إلی البیت الزوجي، و كان انتقالها من بیت الرسالة و النبوة إلی دار الإمامة و الوصایة و الخلافة و الولایة، و حصل تطور في سعادة حیاتها، فبعد أن كانت تعیش تحت شعاع النبوة صارت قرینة الإمامه.

كانت حیاتها في البیت الزوجي تزداد إشراقاً و جمالاً إذ كانت تعیش في جوٍّ تكتنفه القداسة و النزاهة، و تحیط به عظمة الزهد و بساطة العیش، و كانت تعین زوجها علی أمر دینه و آخرته، و تتجاوب معه في اتجاهاته الدینية، و تتعاون معه في جهوده و جهاده.

و ما أحلی الحیاة الزوجية إذا حصل الانسجام بین الزوجين في الاتجاه و المبدأ و نوعیة التفكیر، مبنیاً علی أساس التقدیر و الاحترام من الجانبین.

و لیس ذلك بعجیب، فإن السیدة فاطمة الزهراء تعرف لزوجها مكانته العظمی و منزلته العلیا عنداللّه تعالی، و تحترمه كما تحترم المرأة المسلمة إمامها، بل أكثر و أكثر، فإن السیدة فاطمة كانت عارفة بحق علي حق (علیه السلام) معرفته، و تقدره حق قدره، و تطیعه كما ینبغي، لأنه أعز الخلق إلی رسول اللّه.

لأنه صاحب الولایة العظمی، و الخلافة الكبری و الإمامة المطلقة.

لأنه أخو رسول اللّه و خلیفته، و وارثه و وصیه.

لأنه صاحب المواهب الجلیلة، و السوابق العظیمة.

ص: 155

و هكذا كان علي (علیه السلام) یحترم السیدة فاطمة الزهراء احتراماً لائقاً بها،لا لأنها زوجته فقط:

بل لأنها أحب الخلق إلی رسول اللّه.

لأنها سیدة نساء العالمین.

لأن نورها من نور رسول اللّه.

لأنها من الذين بهم فتح اللّه كتاب الإیجاد و الوجود.

لأنها كتلة من العظمة.

لأنها مجموعة من الفضائل، و لو كانت فضیله واحده من تلك الفضائل متوفرة في امرأة واحدة لاستحقت التقدیر و التعظیم.

فكیف بفاطمة الزهراء، و قد اجتمعت فيها من المزایا و المواهب و الفضائل و المكارم ما لم تجتمع في أیة امرأة في العالم كله، من حیث النسب الشریف الأرفع، و الروحانیة و القدسیة، و من حیث بدء الخلقة و منشأ إیجادها و كرامتها عنداللّه، و عبادتها و علمها و دیانتها، و زهدها و تقواها و طهارتها و نفسیتها و شخصیتها، و غیر ذلك من مئات المزایا مما یطول الكلام بذكرها.

بعد ما قصصنا و لم نقصص علیك یمكن لك أن تدرك الجوّ الذي كان الزوجان السعیدان یعیشانه، و الحیاة الطیبة السعیدة الحلوة (بجمیع معنی الكلمة) التي كانا یتمتعان بها:

حیاة لا یعكِّرها الفقر، و لا تغیّرها الفاقة، و لا تضطرب بالحوادث.

حیاة یهبُّ علیها نسیم الحب و الوئام، و تزینها العاطفة بجمالها المدهش.

قال علي (علیه السلام): فواللّه ما أغضبتها و لا أكرهتها علی أمر حتی قبضها اللّه عز و جل، و لا أغضبتني و لا عصت لي أمراً، لقد كنت

ص: 156

انظر إلیها فتنكشف عني الهموم و الأحزان (1) .

و روی عن الإمام الباقر (علیه السلام): أن فاطمة (علیها السلام) ضمنت لعلي (علیه السلام) عمل البیت و العجین و الخبز، و قمَّ البیت، و ضمن لها علي (علیه السلام) ما كان خلف الباب: نقل الحطب و أن یجی ء بالطعام. یا فاطمة هل عندك شیء؟

قالت: والذي عظّم حقّك، ما کان عندنا منذ ثلاثة أیّام شیء نقریك به. قال: أفلا أخبرتني.

قالت: کان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نهاني أن أسألك شیئاً، فقال: لاتسألي ابن عمّك شیئاً، إن جاءك بشیء وإلّا فلا تسألیه. (2)

ولا یُعلم بالضبط مدة إقامة الإمام و السیدة فاطمة (علیهما السلام) في دار حارثة بن النعمان، إلاّ أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بنی لها بیتاً ملاصقاً لمسجده، له باب شارع إلی المسجد، كبقیة الحجرات التي بناها لزوجاته، و انتقلت السیدة إلی ذلك البیت الجدید الملاصق لبیت اللّه، المجاور لبیت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

ص: 157


1- بحارالانوار ج 43.
2- بحار الأنوار ج 43 ص 31 عن تفسیر العیّاشي.

اكذوبة التَاریخ في حق علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

لقد تكرر منّا الكلام أن بعض حَمَلة الأقلام أساءوا إلی السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) في شتی المیادین و مختلف المجالات، و قد تقدم منا الكلام أن زواج الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام) بالسیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام)قد هیَّج الأحقاد في قلوب الحاسدین، فجعلوا یتشبثون بشتّی الوسائل لتعكیر حیاة الزوجين السعیدین، و إثارة الفتن و المشاغبات، كما هو شأن المفسدین الذين تتكون عندهم عقدة الحقارة النفسیة بسبب الفشل في الحیاة.

و من جملة تلك المشاغبات أنهم أشاعوا أن علیّاً قد خطب ابنة أبی جهل، و وصل الخبر إلی السیدة فاطمة الزهراء أن زوجها قد خطب بنت رئیس المشركین و قطب الكافرین أبی جهل.

فتأثرت السیدة فاطمة و ذهبت إلی حجرة أبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و لكن سرعان ما انكشف الأمر، و اتضحت الحقیقة، و ظهر تزویر هذا الخبر.

هذه خلاصة هذه الا كذوبه.

و لكن هلُمَّ معي إلی بعض المؤلفين و الكُتّاب كیف اتخذوا هذه التهمة مرتعاً خصباً للتهریج و التشنیع ضد الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام)، فجعلوا یطبّلون و یزمّرون من حیث یشعرون أو لا یشعرون.

و من جملة المطبّلین و المزمّرین هي الكاتبة المصرية بنت الشاطی ء، التي

ص: 158

كتبت ما كتبت و هي غیر مبالیة بما تكتب، أو متعمدة فيما تكتب، فإنها اعتبرت هذه الأكذوبة حقیقة ثابتة عندها، لا شك فيها و لا ریب.

و هنا نقتطف بعض ما كتبته الكاتبة المصرية في كتابها: (بنات النبي) ص 167:

«لقد همّ عليَّ بالزواج علی فاطمة... دون أن یخطر بباله أن في هذا ما تنكره بنت نبي الإسلام».

أنا لا أدري بماذا أُجیب علی هذه الكلمة الهوجاء التائهة؟

و هل یوجد في العالم كله رجل لا یشعر أن زوجته تكره الضرّة؟و تكره أن یتزوج علیها زوجها؟

إنَّ أقلَّ الناس إدراكاً و معرفة بالأمور یشعر بهذا الأمر، و لكن الكاتبة تقول: «دون أن یخطر بباله (ببال علي) أن في هذا ما تنكره بنت نبي الإسلام»!!

و تقول بعد ذلك: «ألا: لیت علیاً قد صبر علی واحدة».

ثم إنّها ملأت صفحات من كتابها في ذم أبی جهل و مواقفه ضد الإسلام، ثم قارنت بین بنت أبی جهل و بین بنت الرسول، و هي بهذه المقارنة تقصد التشنیع و و التهریج ضد هذا الزواج المزعوم.

و من العجب أن الكاتبة نفسها تبدي استیاءها من بعض المستشرقین المسیحیین المتعصبین الذين تلاعبوا بالتاریخ الإسلامي، و تخص الكاتبة منهم (لامانس) المبشّر المسیحي المعادي.

و مع الأسف أن الكاتبة نفسها نسیت التریّث و التروّي حول هذه المفتریات، و اعتبرتها و حیاً یوحی.

و استعانت الكاتبة بنسیج خیالها و وصفها الروائي الذي هو عادة مؤلفي الأساطیر.

ص: 159

و هنا یجیب الفاضل المعاصر السید حسن الأمین- عن هذه المفتریات- في الجزء الثالث من كتابه: دائرة المعارف الإسلامية الشیعیة (ص 10) تحت عنوان:

دسائس علی النبي و عليّ و فاطمة:

ورد في كتاب (ذخائر العقبی) أن علیاً أراد أن یتزوج بنت أبي جهل علی فاطمة، و أن النبي غضب لذلك و صعد المنبر محتدّاً ناقماً علی هذا الأمر، شاجباً له، بالتفاصیل المزریة التي وردت في الكتاب مما هو طعن صریح بمحمد، فضلاً عن أنه طعن بعليٍّ و فاطمة.

أمّا أنه طعن بمحمد، فذلك أنه أظهره بمظهر من یرفض أن یطبّق الشریعة علی نفسه و علی من یتصل به في حین أنه یفرض علی غیره تطبیقها.

فهو یبیح للناس تعدد الزوجات، و لكن یأبی أن ینطبق هذا التعدد علی ابنته.

و هذا من أفظع ما یوجَّه إلی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) من مطاعن و لكن أعداء محمد استطاعوا أن یفعلوا ذلك، و أن یستغلوا ذوي النظر القصیر، فيروونه في كتبهم و لا یرون فيه شیئاً.

أمّا أنه طعن في علي: فذلك بإظهاره بمظهر من أغضب فاطمة وأغضب النبي نفسه.

و أمّا أنه طعن فاطمة: لأنها تابی أن تطبِّق شریعة اللّه التي جاء بها أبوها علی نفسها.

نحن لن نتعرض لسند الخبر، فإن هذا الخبر بادئ الفساد من نفسه و لكننا نتساءل: لماذا خصّ رواوا الخبر بنت أبی جهل بهذا الشرف؟

و لماذا لم ینسبوا إلی علي محاولته التزوج علی فاطمة من غیر بنت

ص: 160

أبي جهل؟

أكان ذلك لأن بنت أبی جهل كانت من الجمال و الكمال بحیث لم تكن أي فتاة عربیة غیرها علی شيء من مثلها؟

إنما خصُّوا بذلك بنت أبی جهل لیكون الطعن في علي (علیه السلام) أبلغ و أنفذ، فهو لم یختر لإغاظة النبي و ابنته فاطمة إلاّ بنت أعدی عدوٍّ للنبي و الإسلام.

كشفت الدسیسة عن نفسها، و فضحت مخترعیها و لو كانوا أكثر ذكاءً لخففّوا من غلوائهم، و لم یمدحوا أنفسهم و هم یشتمون محمداً و ابنته و ابن عمه.

فقد أوردوا في القصة هذا النص عن لسان النبي: (ذكر- النبي - صهراً له من بني عبد شمس فأثنی علیه في مصاهرته فأحسن).

قال- النبي-: «حدثني- أي ذلك الصهر من بني عبد شمس- فصدَّقني، و وعدني فأوفاني».

و معنی هذا الكلام أن النبي یثني علی صهره الأموي من بني عبدشمس و یقول عنه: أنّه حدّثه فصدقه في حدیثه، و وعده فوفي بما وعد!!

و هكذا- كما قلنا- فضحت الدسیسه نفسها بنفسها و اظهرت زیفها دون ان تحوجنا في ذالك الی كثیر عناء.

ارید لهذا الخبرا الزائف غایه اخری مضافه الی غایه الطعن في النبي و في علي و فاطمه، هذه الغایه هي صرف الانظار عن حقیقه الذين اغضبوا

ص: 161

فاطمة، و جعل المقصود بذلك هو علي بن أبي طالب.

فقد أورد مدبّر و الخبر و منظّموه- أوردوه بعدَّة نصوص لیكون في كل نصٍ غایة مستقلة.

و من النصوص التي أوردها قولهم: قال النبي: «فاطمة بضعة مني، یریبني ما رابها، و یؤذیني ما یؤذیها».

ثم فسّروا هذا الحدیث بأن قالوا: إن المقصود منه أنَّ اللّه حرَّم علی علي أن یتزوج علی فاطمة و یؤذي رسول اللّه.

ص: 162

ولادة الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)

و حملت السیدة فاطمة الزهراء بولدها الحسن (علیه السلام) و عمرها اثنتا عشرة سنة و انتقل شيء من نور الإمام و الإمامة من صلب علي إلی فاطمة، و من الطبیعي أن النور یتجلی في وجهها، و یزهر وجهها كي یصدق علیها اسم (الزهراء) و اقتربت الولادة، و اتفقت للرسول سفرة جاء یودّع ابنته فاطمة، فأوصاها بوصایا تتعلق بالمولود المنتظر و منها: أن لا یلفّوه في خرقة صفراء.

و وضعت فاطمة ولدها الأول في النصف من شهر رمضان (علی قول) سنة ثلاث من الهجرة، فكان یوماً عظیماً، و قد حضرت عند الولادة أسماء بنت عمیس فلفّوه في خرقة صفراء، لا تعمداً و مخالفة للرسول، بل سهواً و غفلة- أو جهلاً- من النسوة اللاتي حضرن الولادة.

فأقبل النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و قال: أروني ابني، ما سمیتموه؟

و كانت فاطمة قالت لعلي (علیه السلام): سمِّه. فقال علی: ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه فلما جاء النبي و أخذ المولود قال: ألم أنهكم أن تلفوه في خرقة صفراء؟ ثم رمی بها، و أخذ خرقة بیضاء فلفَّه بها.

ثم قال لعلي (علیه السلام): هل سمیّته؟

فقال علی: ما كنت لأسبقك باسمه.

ص: 163

فقال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): و ما كنت لأسبق ربي (عز و جل).

فأوحی اللّه إلی جبرئیل: أنه قد وُلد لمحمد ابن، فاهبط، فأقرأه السلام، و هنأه و قل له: إن علیاً منك بمنزلة هارون من موسی، فسمِّه باسم ابن هارون.

فهبط جبرئیل فهنأه من اللّه (عز و جل)، ثم قال: إن اللّه تبارك و تعالی یأمرك أن تسمیه باسم ابن هارون.

فقال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): و ما كان اسمه؟

قال جبرئیل: شبَّر.

فقال النبي: لساني عربيِ (1)

قال جبرئیل: سمّه الحسن. فسمَّاه الحسن، و أذَّن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في أذنه الیمنی و أقام في الیسری.

فلما كان یوم السابع عقّ النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بكبشین أملحین، و أعطی القابلة فخذاً و دیناراً. و حلق رأسه، و تصدّق بوزن الشعر فضّة، و طلی رأسه بالخلوق (2) و قال:یا أسماء الدم فعل الجاهلیة. (أي إن أهل الجاهلیة كانوا یطلون رأس المولود بالدم).

و كان الرسول یقبّله: و یُدخل لسانه في فم الحسن فيمصّه الحسن و قیل: كان ذلك كله یوم السابع من الولادةِ. (3) .

ص: 164


1- لان شبر كلمه عبریه و لیست عربیه.
2- الخلوق: طیب مركب من الزعفران و غیره.
3- بحارالانوار ج 44.

ولادة الإمام الحسین (عَلَيهِ السَّلَامُ)

حملت السیدة فاطمة الزهراء بطفلها الثاني،و مضت ستة أشهر علی الحمل، و إذا بها تشعر بعلائم الولادة.

و كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قد بشَّر بولادة الحسین.

قال الإمام الصادق (علیه السلام): أقبل جیران أم أیمن إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقالوا: یا رسول اللّه إن أم أیمن لم تنم البارحة من البكاء،لم تزل تبكي حتی أصبحت.

فبعث رسول اللّه إلی أم أیمن فجاءته فقال لها: یا أم أیمن! لا أبكی اللّه عینيك! إن جیرانك أتوني و أخبروني أنك لم تزل اللیل تبكین أجمع، فلا أبكی اللّه عینيك ما الذي أبكاك؟

قالت: یا رسول اللّه، رأیت رؤیا عظیمة شدیدة، فلم أزل أبكي اللیل أجمع.

فقال لها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): فقصِّیها علی رسول اللّه.فإن اللّه و رسوله أعلم.

فقالت: رأیت لیلتي هذه كأن بعض أعضائك ملقيً في بیتي!

فقال لها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): نامت عینك و رأیت

ص: 165

خیراً، یا أم أیمن تلد فاطمة الحسین فتربینه و تلبینه فيكون بعض أعضائي في بیتك.

فلما ولدت فاطمة الحسین (علیهما السلام) أقبلت به أم أیمن إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقال: مرحباً بالحامل و المحمول یا أم أیمن هذا تأویل رؤیاك.

و رأت أُم الفضل زوجة العباس (عم النبي) رؤیا شبیهة برؤیا أم أیمن.

و حضرت النسوة وقت الولادة، منهن: صفية بنت عبدالمطلب (عمة النبي) و أسماء بنت عمیس و أم سلمة، فلما وُلد الحسین قال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): یا عمة هلمِّي إلیّ ابني.

فقالت: یا رسول اللّه إنّا لم ننظفه بعد.

فقال: یا عمة أنت تنظّفينه؟ إن اللّه تبارك و تعالی قد نظّفه و طهّره.

و هبط جبرئیل علی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و أمره أن یسمیه: الحسین باسم ابن هارون، و كان اسمه بالعبریة (شبیر) و معناها بالعربية: الحسین.

و هبط علی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أفواج من الملائكة لتُهنّئه بولادة الحسین و تعزّیه بشهادته، و أخذ رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الحسین، فجعل لسانه في فمه، فجعل الحسین یمصه.

و كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یأتیه كل یوم. فيلقمه لسانه فيمصّه الحسین حتی نبت لحمه واشتد عظمه من ریق رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و لم یرتضع الحسین (علیه السلام) من أُمّه، و لا من امرأة أُخری!

قال سیدنا بحر العلوم (علیه الرحمة):

ص: 166

لله مرتضع لن یرتضع أبداً***من ثدي أُنثی و من طه مراضعه

یعطیه إبهامه آناً فآونةً***لسانه فاستوت منه طبائعه

و في الیوم السابع من ولادته أمر رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فحلق رأس الحسین، و تصدّق بوزن شعره فضة، وعقّ عنهِ (1) .

هذا و تجد التفصیل في كتابنا: (الامام الحسین (علیه السلام) من المهد إلی اللحد) إن شاءاللّه تعالی.

ص: 167


1- بحارالانوار ج 43.

ولادة السیدة زینب الكبری (عَلَيهَا السَّلَامُ)

من الصحیح أن نقول أن ولادة السیدة زینب الكبری (علیها السلام) كانت بعد ولادة الحسین (علیه السلام).

و بعبارة أخری: أن السیدة زینب هي الطفل الثالث للسیدة فاطمة الزهراء بإجماع أكثر المؤرخین و المحدّثین، إلاّ من شذّ و ندر من المؤرخین المتطرفين الذين جعلوها الطفل الرابع، زاعمین أن السیدة فاطمة الزهراء حملت بزینب بعد سقوط جنین لها، و هم بذلك یقصدون تغطیة الجریمة و ستر المأساة التي حدثت عند باب دار السیدة فاطمة الزهراء بعد وفاة الرسول، مما أدّی ذلك إلی سقوط جنینها.

و من جملة من أعجبهم هذا القول الشاذّ: هي بنت الشاطئ المصرية في كتابها: (بطلة كربلاء) و إلیك نص كلامها:

«إنها الزهراء بنت النبي، توشك أن تضع في بیت النبوة مولوداً جدیداً بعد أن أقرّت عیني الرسول بسبطیه الحبیبين: الحسن و الحسین، و ثالث لم یقدّر له أن یعیش هو المحسن بن علي.. الی آخر كلامها.

و لا یُهمّنا- الآن- النقاش حول هذه المغالطة، لأن لنا مجالاً واسعاً- في المستقبل- حول المحسن بن علي، و أنه هو الطفل الأخیر لفاطمة الزهراء (علیها السلام) و أنه مات جنیناً في بطن أُمه علی أثر الصدمة و الضغطة التي حدثت بین الحائط و بین باب بیت فاطمة.

و إنما نذكر هنا نبذة مختصرة من حیاة السیدة زینب الكبری رعایة

ص: 168

لأسلوب الكتاب، و تجد التفصیل في كتابنا: زینب الكبری من المهد الی اللحد فإن حیاتها المشرقة جدیرة بالبحث و التحلیل و الإشادة و التنویه، و نذكر هنا الشيء الیسیر الیسیر عن مولدها و نشأتها:

وُلدت السیدة زینب الكبری في السنة الخامسة من الهجرة، و هي المولود الثالث للبیت النبوي العلوي الشریف الأرفع.

و إنني أراها- هنا- في غنی عن التعریف و الوصف، و ما عساني أن أقول في سیدة أبوها: الإمام المرتضی علي بن أبي طالب (علیه السلام) و أمها التي أنجبتها: سیدة نساء العالمین الصدیقة الكبری فاطمة الزهراء بضعة الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و أخواها سیدا شباب أهل الجنة الإمامان: الحسن و الحسین (علیهما السلام) فهي حصیلة الفضائل، و نتیجة العظمة، محاطة بهالة من الشرف الرفيع من جمیع جوانبها.

فلا تسأل عن صدرٍ أرضعها، و حجرٍ رباها، و تربیة شملتها، و رعایة أحاطت بها، و البیت الذي فتحت فيه عینها.

و لا تسأل عن عوامل الوراثة، و تفاعل التربیة، و تأثیر الجو العائلي المقدس في نفسیة السیدة زینب، مضافة إلی أخلاقها المكتسبة، و مواهبها التي ظهرت من الإمكان إلی الفعل.

و كم یؤلمني أن أقول بأن التاریخ قد ظلم السیدة زینب كما ظلم أباها و أمها و أسرتها أجمعین. إذ لم یعبأ بها التاریخ كما ینبغي، و لم یتحدث عنها كما تقتضیه و تتطلبه شخصیة سیدة مثل زینب الكبری عقیلة الهاشمیین، حفيدة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله سلم).

قد سمّاها جدّها الرسول زینباً. و الكلمة مركبة من: (زین الأب).

و قد ذكر الشیخ محمد جواد مغنیة في كتابه: (الحسین و بطلة كربلاء) نقلاً عن جریدة الجمهوریة المصرية 31/ 10/ 72 مقالاً للكاتب

ص: 169

المصري یوسف محمود، نقتطف منه موضع الحاجة:

(وُلدت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة، فحملتها أمها، و جاءت بها إلی أبیها (علي) و قالت:

سمِّ هذه المولودة.

فقال لها - رضي اللّه عنه -: ما كنت لأسبق رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)و كان في سفر له، و لما جاء النبي و سأله عن اسمها قال: ما كنت لأسبق ربي.

فهبط جبرئیل یقرأ علی النبي السلام من اللّه الجلیل و قال له: اسم هذه المولودة زینب، فقد اختار اللّه لها هذا الاسم).

هذا ما ذكره صاحب المقال بدون تعرّض لسند هذا الحدیث، ذكرته بالنص.

و للسیدة زینب الكبری حیاة مشرقة و تاریخ حافل بالمكارم و الفضائل و ملی ء با المآسي في أدوار حیاتها في عهد الطفولة و دور الصبا، من افتجاعها بجدّها الرسول الأقدس (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و أمها الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) و الأحداث التي عاشتها السیدة زینب طیلة ربع قرن الفترة التي كان أبوها المرتضی علي (علیه السلام) جلیس البیت مسلوب الإمكانیات. ثم هجرتها من المدینة إلی الكوفة عاصمة أبیها یومذاك.

و شاءت الإرادة الإلهیة أن تفجع السیدة زینب بأبیها العظیم الإمام علي (علیه السلام) تلك الكارثة التي اهتزت لها السموات العلي.

و أعقبت ذلك أحداث من الحرب التي قامت بین أخیها الإمام الحسن (علیه السلام) و بین معاویة ابن آكله الاكباد، و ما انتجت تلك النتائج.

و إلی أن انتهت الفترة بوفاة الإمام الحسن (علیه السلام) مسموماً.

ص: 170

و انقضت سنوات و إذا بالسیدة زینب تواجه كارثة أخری هي أعظم فاجعة عرفها التاریخ تلك فاجعة كربلاء الدامیة ذات المسیرة الطویلة و الأبعاد العدیدة فكانت السیدة زینب تعیش تلك الأحداث بدون أن یعتریها انهیار أو ارتباك، لم تفقد أعصابها، و لم یختل و عیها.

و إلی أن رجعت إلی المدینة، و حكمت السلطة علیها بالإبعاد، فاختارت مصر، و قدّر اللّه لها أن تفارق حیاتها- تلك الحیاة المدهشة- في أرض النیل فيكون مثواها ملاذاً و معاذاً و مهوی أفئدة الملایین علی مرّ القرون و إلی یومنا هذا و إلی یوم یعلمه اللّه.

هذه نبذة موجزة و لمحة خاطفة تعتبر عصارة و خلاصة لحیاة سیدتنا زینب الكبری (علیها و علی جدها و أمها و أبیها و أخویها الصلاة والسلام).

و إلی اللقاء في كتاب: (زینب الكبری من المهد إلی اللحد).

ص: 171

ولاده السیدة أم كلثوم

استقبل بیت السیدة فاطمة الزهراء و علي (علیهما السلام) بنتهما الثانية و طفلهما الرابع بما استقبل به من سبقها من الأطفال من الفرح و السرور.

و قد شاركت السیدة أم كلثوم أختها زینب في النسب الشریف و التربیة الممتازة و الأحداث كلها، و إن اختلفت عنها في بعض جوانب حیاتها.

و هي أیضاً من الذين شملهم ظلم التاریخ، كما شملتها المآسي و الالام التي لا یتحملها أقویاء الرجال.

و لعلنا نتطرق إلی نبذة من جوانب حیاتها أثناء التحدث عن شقیقتها زینب الكبری، و نؤدي بعض ما یتطلبه البحث و التحقیق إن شاءاللّه.

ص: 172

فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في آیة القربی

و هي في قوله تعالی: «قل لا أسئلكم علیه أجراً إلاَّ المودة في القربی و مَن یقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن اللّه غفور شكور» (1)

هذه الآیة كما تراها خطاب من اللّه العظیم إلی نبیه الكریم: (قل) یا محمد لأمتك: (لا أسئلكم علیه) علی أداء الرسالة (أجراً) شیئاً من الأجر (إلاَّ المودة في القربی) أي إلاَّ أن تودّوا قرابتي.

و قد اتفقت كلمات أئمة أهل البیت (علیهم السلام) و كلمات أتباعهم أن المقصود من القربی هم أقرباء النبي، و هناك أحادیث متواترة مشهورة في كتب الشیعة و السُنة حول تعیین القربی بأفرادهم و أسمائهم، و من جملة الأحادیث التي ذكرها علماءُ السنة في صحاحهم و تفاسیرهم هذا الحدیث:

لما نزلت هذه الآیة قالوا: یا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين و جبت علینا مودتهم؟

قال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): علي و فاطمة و ابناهما.. الی آخره.

ذكر هذا الحدیث طائفة من علمائهم، منهم:

1- ابن الحجر في الصواعق المحرقة له.

2- الثعلبي في تفسیره.

3- السیوطي في الدر المنثور.

4- أبو نعیم في حلیة الأولیاء.

ص: 173


1- الشوری: 22.

5- الجویني الشافعي في فرائدالمسطین.

و حدیث آخر رواه الطبري و ابن حجر أیضاً: أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: إن اللّه جعل أجري علیكم المودة في أهل بیتي، و إني سائلكم غداً عنهم.

هؤلاء بعض الرواة الذين ذكروا و نقلوا هذا الحدیث بصورة إجمالیة.

وإلیك بعض الأحادیث التي تصرّح باحتجاج أئمة أهل البیت (علیهم السلام) بهذه الآیة علی أن المقصود من القربی هم:

في الصواعق المحرقة لابن حجر: عن علي (علیه السلام): فينا في آل حم، لا یحفظ مودّتنا إلاَّ كل مؤمن ثم قرأ: «قل لا أسئلكم علیه أجراً إلاَّ المودة في القربی، و من یقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن اللّه غفور شكور».

و في الصواعق أیضاً عن الإمام الحسن المجتبی (علیه السلام) أنه خطب خطبة قال فيها: و أنا من أهل البیت الذين افترض اللّه (عز و جل) مودتهم و موالاتهم، فقال فيما أنزل علی محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «قل لا أسئلكم علیه أجراً إلاَّ المودة في القربی، و من یقترف حسنة نزد له فيها حسناً» و اقتراف الحسنه مودتنا اهل البیت... الی آخره.

و في الصواعق أیضاً عن الإمام زین العابدین علي بن الحسین (علیهما السلام) حینما أتاه رجل من أهل الشام، و هو (علیه السلام) أسیر، و قد أقیم علی باب الجامع الأموي بدمشق فقال له الشامي: الحمد للّه الذي قتلكم... الی آخره. فقال له: أما قرأت «قل لا أسئلكم علیه أجراً إلاَّ المودة في القربی».

و إلی هذا أشار الشاعر الكمیت الأسدي بقوله:

وجدنا لكم في آل حم آیة***تأوّلها منَّا تقي و معربُ

ص: 174

و عن جابر بن عبداللّه قال: جاء أعرابي إلی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

قال: یا محمد أعرض عليَّ الإسلام.

فقال: تشهد أن لا إله إلاَّ اللّه وحده لا شریك له. و أن محمداً عبده و رسوله.

قال: تسألنی علیه أجراً؟

قال: لا، إلاَّ المودة في القربي.

قال: قرابتی أو قرابتك؟

قال: قرابتي.

قال: هات أبایعك، فعلی من لایحبّك و لایحب قرابتك لعنة اللّه. فقال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): آمین.

رواه الكنجي في (كفایة الطالب) ص 31.

و ذكر ابن حجر في الصواعق ص 101 هذین البیتین لابن العربي:

رأیت و لائي آل طه فریضة***علی رغم أهل البعد یورثني القربا

فما طلب المبعوث أجراً علی الهدی***بتبلیغه إلاَّ المودة في القربی

و ذكر هذین البیتین للإمام الشافعي:

یا أهل بیت رسول اللّه حبّكم***فرض من اللّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظیم القدر أنكُمُ***مَن لم یصلّ علیكم لا صلاة له

و قد ذكر شیخنا الأمیني (علیه الرحمة) في الجزء الثالث من الغدیر خمسة و أربعین من اسماء المحدثین والحافظو المفصرین من العامه الذين رووا نزول هذه الآیة في شأن علي و فاطمة و الحسن و الحسین (علیهم السلام) و هم:

الإمام أحمد، ابن المنذر، ابن أبی حاتم، الطبري، ابن مردویه، الثعلبي،

ص: 175

أبوعبداللّه الملا، أبوالشیخ النسائي، الواحدي، أبونعیم، البغوي، البزاز، ابن المغازلی، الحسكاني، محب الدین، الزمخشري، ابن عساكر، أبوالفرج، الجویني، النیسابوري، ابن طلحة، الرازي، أبوالسعود، أبوحیان، ابن أبی الحدید،البیضاوي، النسفي، الهیثمي، ابن الصباغ، الكنجي، المناوي، القسطلاني، الزرندي، الخازن، الزرقاني، ابن حجر، السمهودي، السیوطي، الصفوري، الصبان، الشبلنجي، الحضرمي، النبهاني.

ص: 176

فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في آیة المباهلة

قال اللّه تعالی: «فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه علی الكاذبین» (1).

تعتبر هذه الواقعة من الوقائع المشهورة، و الحوادث المعروفة عند المسلمین من یوم وقوعها إلی یومنا هذا، و لا أراني بحاجة إلی ذكر المصادر و المدارك لها.

و یكفي أن أقول: إن جمیع المفسرین و المحدّثین- إلاَّ من شذَّ و ندر- قد اتفقت كلمتهم علی نزول هذه الآیة علی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حینما جری الحوار بینه و بین النصاری حول عیسی ابن مریم (علیه السلام) و إلیك الواقعة بصورة موجزة مرویة عن أمیرالمؤمنین علي بن أبي طالب (علیه السلام):

قدم علی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و فد من نصاری نجران (2) و یتقدمهم ثلاثة من كبارهم: العاقب، و محسن، و الأسقف، و رافقهم رجلان من مشاهیر الیهود، جائوا لیمتحنوا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقال له الأسقف: یا أبا القاسم فذاك موسی من أبوه؟.

النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): عمران.

الأسقف: فيوسف من أبوه؟

ص: 177


1- آل عمران: 60.
2- نجران منطقه تقع علی الحدود بین الحجاز و الیمین.

النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): یعقوب.

الأسقف فداك أبي و أمي: فأنت من أبوك؟

النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): عبداللّه بن عبدالمطلب.

الأسقف: فعیسی مَن أبوه؟

فسكت النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فنزل جبرئیل فقال: هو روح اللّه و کلمته.

الأسقف: یکون روح بلاجسد.

فسكت النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «إن مثل عیسی عنداللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» فوثب الأسقف و ثبة إعظام لعیسی أن یقال له من تراب ثم قال: ما نجد هذا- یا محمد- في التوراة و لا في الإنجیل و لا في الزبور، و لا نجد هذا إلا عندك. فأوحی اللّه إلیه: «فقل تعالوا ندع.. الی آخره».

فقالوا: أنصفتنا یا أباالقاسم فمتی موعدك؟

قال: بالغداة إن شاءاللّه.

فلما صلی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الصبح أخذ بید علي و جعله بین یدیه، و أخذ فاطمة (علیها السلام) فجعلها خلف ظهره، و أخذ الحسن و الحسین عن یمینه و شماله، و قال لهم: إذا دعوتُ فأمِّنوا. ثم برك لهم باركاً. فلما رأوه قد فعل ذلك ندموا و تآمروا فيما بینهم و قالوا: و اللّه إنه لَنبي، و لئن بَاهَلَنا لیستجیب اللّه له علینا، فيهلكنا، ولا ینجینا شيء منه إلاَّ أن نستقیله (1) .

و ذكر الرازي في تفسیره: قال أسقف نجران: یا معشر النصاري! إني لأری وجوهاً لو سألوا اللّه أن یزیل جبلاً لأزاله بها، فلا تباهلوهم فتهلكوا،

ص: 178


1- بحارالانوار ج 16.

و لا یبقی علی وجه الأرض نصراني إلی یوم القیامة.

فأقبلوا حتی جلسوا بین یدیه ثم قالوا: یا أباالقاسم أقِلنا.

قال: نعم. قد أقلتكم، أما والذي بعثني بالحق لو باهلتكم ما ترك اللّه علی ظهر الأرض نصرانياً إلاّ أهلكه.

ذكرنا هذه الواقعة مع رعایة الاختصار، و قد ذكرنا ما تیسّر حول الآیة في كتاب (علي من المهد إلی اللحد).

و یكون حدیثنا- هنا- حول قوله تعالی: «و نساءنا و نساءكم» فقد أجمع المسلمون أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لم یأخذ معه من الرجال إلاَّ علیاً، و من الأبناء إلاَّ الحسن و الحسین، و من النساء إلاَّ ابنته فاطمة الزهراء، و لم یأخذ معه أحداً من زوجاته، و هنَّ في حجراته و لم یأخذ معه إحدی عمّاته كصفية بنت عبدالمطلب التي كانت شقیقة أبیه عبداللّه، و لم یصطحب معه أم هاني بنت أبي طالب، و لا دعی غیرهن من الهاشمیات و لا من نساء المهاجرین و الأنصار.

فلو كانت في نساء المسلمین امرأة كفاطمة الزهراء في الجلالة و العظمة و القداسة و النزاهة لدعاها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لترافقه للمباهلة، مع العلم أن اللّه تعالی أمر نبیه أن یدعو نساءه بقوله تعالی: (و نساءنا) و لكنه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لم یجد امرأة تلیق بالمباهلة سوی ابنته الصدّیقة الطاهرة. و لهذا انتخبهاِ.

و قد روی القندوزي الحنفي عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) انه قال:«لو علم اللّه تعالی ان في الارض عبادا اكرم من علي و فاطمه و الحسن و الحسین لامرني ان اباهل بهم، و لكن امرني بالمباهله بهولاء، و هم افضل الخلق» (1) .

ص: 179


1- ینابیع الموده ص 244 طبقه اسلامبول.

فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في سورة «هل أتی»

قال اللّه تبارك و تعالی:

«إن الأبرار یشربون من كأس كان مزاجها كافوراً، عینا یشرب بها عباداللّه یفجرونها تفجیراً الی قوله: و كان سعیكم مشكوراً». (1).

نزلت هذه الآیات حینما تصدّقت السیدة فاطمة الزهراء و زوجها الإمام أمیرالمؤمنین و ولداها الإمامان: الحسن و الحسین (علیهم السلام».

و قد ذكر الواحدي في كتابه (البسیط) و الثعلبي في تفسیره الكبیر و أبوالمؤید موفق في كتاب الفضائل و غیرهم أن الآیات نزلت في علي و فاطمة و الحسن و الحسین (علیهم السلام).

و نكتفي هنا بما ذكره الزمخشري في تفسیره (الكشاف) ما لفظه: و عن ابن عباس (رضي الله عنه): إن الحسن و الحسین مرضا. فعادهما رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في ناس معه فقالوا: یا أباالحسن لو نذرت علي و لدیك. فنذر علي و فاطمة و فضة (جاریة لهما): إن برئا (الحسن و الحسین) مما بهما أن یصوموا ثلاثة أیام. فشفيا، و ما معهم شيء (طعام) فاستقرض علي من شمعون الخیبري الیهودي ثلاثة أصوع من شعیر، فطحنت فاطمة صاعاً و اختبزت خمسة أقراص علی عددهم فوضعوها بین أیدیهم لیفطروا، فوقف علیهم سائل فقال: السلام علیكم أهل بیت محمد، مسكین من

ص: 180


1- سوره الدهر.

مساكین المسلمین، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنة. فآثروه و باتوا لم یذوقوا إلاَّ الماء، و أصبحوا صیاماً، فلما أمسوا و وضعوا الطعام بین أیدیهم وقف علیهم یتیم فآثروه. و وقف علیهم أسیر في الثالثة ففعلوا مثل ذلك. فلما أصبحوا أخذ علي (رضي اللّه عنه) بید الحسن و الحسین. و أقبلوا إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فلما أبصرهم و هم یرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشدَّ ما یسوءني ما أری بكم.

و قام فانطلق معهم فرأی فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها، و غارت عیناها فساءه ذلك، فنزل جبرئیل (علیه السلام) و قال: خذها یا محمد، هنَّاك اللّه في أهل بیتك. فأقرأه السورة.

و أما تفسیر الآیات مع رعایة الاختصار و الإیجاز:

«إن الأبرار» الأبرار: جمع بارّ أو برّ، و هم علي و فاطمة و الحسن و الحسین (علیهم السلام) «یشربون من كأس» هي الزجاجة إذا كان فيها الشراب أو المراد من الكأس نفس الشراب لا الزجاجة «كان مزاجها» الذي تمزج به من عین في الجنة تسمی «كافوراً» لأن ماءها في بیاض الكافور و برودته لا في خواصه و آثاره، و من الممكن أن كافور اسم عین في الجنة بدلیل قوله تعالی «عیناً» كأنها عطف أو بدل من كافور أي تفسیر له «یشرب بها عباد اللّه» الكاملون في العبادة الذين ذكر هم في كتابه «و عباد الرحمن الذين یمشون علی الأرض هوناً و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً و الذين یبیتون لربهم سجداً و قیاماً» إلی آخر الآیات الدالة علی الصفات الكاملة.

«یفجرونها» یفجرونها حیث شاءوا «تفجیراً» سهلاً یسیراً «یوفون بالنذر» إنهم استحقوا هذا الجزاء بسبب وفائهم بالنذر، لأن النذر هو ما

ص: 181

یوجبه الإنسان علی نفسه فإذا و في بالنذر فهو بما أوجب اللّه علیه كان أوفي «و یخافون یوماً كان شره مستطیراً» منتشراً «و یطعمون الطعام علی حبه» أي بالرغم من حبِّهم للطعام لشدَّة جوعهم بسبب الصوم، و قیل «علی حبه» أي حب اللّه و قربه الیه «مسكیناً و یتیماً و أسیراً» كل ذلك حباً للخیر و إیثاراً علی أنفسهم، و إشفاقاً علی المسكین و رأفة بالیتیم و عطفاً علی الأسیر «إنما نطعمكم لوجه اللّه لا نرید منكم جزاءً» بفعل تفعلونه «و لا شكوراً» بقول تقولونه.

قال مجاهد: إنهم لم یقولوا حین أطعموا الطعام شیئاً، و إنما علمه اللّه منهم فأثنی به علیهم.

«إنا نخاف من ربنا یوماً عبوساً قمطریراً» شدید العبوس تشبیهاً له في تخویفه بالأسد العبوس أو الحاكم المتنمر العبوس.

«فوقاهم اللّه شر ذلك الیوم» تأمیناً لهم من شره و ضره «و لقَّاهم نصرةً» في وجوههم «و سروراً» في قلوبهم «و جزاهم بما صبروا» علی الإیثار مع شدة الجوع «جنة و حریراً» ثم ذكر اللّه أحوالهم في الجنة «متكئین فيها علی الأرائك» في منتهی الراحة و الرفاهیة «لا یرون فيها شمساً» یؤذي حرّها «و لا زمهریراً» یؤذی برده.

«و دانیة علیهم ظلالها و ذلّلت قطوفها تذلیلاً» یسهل علیهم اقتطاف فواكه الجنة «و یطاف علیهم بآنیة من فضة و أكواب» خلقها اللّه بإرادته «كانت قواریراً قواریر من فضة قدَّروها تقدیراً» علی حسب ما تشتهي أنفسهم و تتمنی قلوبهم في التكیف بالكیفيات المخصوصة... إلی آخر السورة التي في وصف نعم الجنة و نعیمها و عیون تسمی زنجبیلاً و سلسبیلا.و الخدم الذين یخدمونهم و المُلك الكبیر الذي یكون لهم مع النعیم و الملابس

ص: 182

الخُضر من الإستبرق، و الزینة التي یتزینون بها، و الشراب الطهور الذي یشربونه.

و العجیب أن اللّه تعالی ذكر في هذه السورة الكثیر الكثیر من نعم الجنة، و لم یذكر- هنا- الحور العین، لأن الآیة نزلت في حق علي و فاطمة و ولدیهما، فحفظ اللّه لفاطمة الزهراء جلالتها إذ لم یذكر- (عز و جل)- الحور العین كرامة لسیدة نساء العالمین.

ص: 183

فاطمه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في آیه النور

قال تعالی: «اللّه نور سموات و الارض، مثل نوره المشكاه فيها مصباح، المصباح في زجاجه، الزجاجها كانها كوكب دري....» (1) .

روی الحافظ ابن المغازي الشافعي في كتاب المناقب- بالاسناد الی علي بن جعفر قال: سالت ابا الحسن (الكاظم) (علیه السلام)عن قوله (عز و جل): «كمشكاه فيها مصباح»؟

قال (علیه السلام): المشكاه: فاطمه، و المصباح: الحسن، و الحسین: الزجاجه:

«كانها كوكب دری»: قال: كانت فاطمه كوكبا دریا بین نساء العالمین... «یكاد زیتها یعضی ء» قال: یكاد العلم ان ینطق منها (2) .

اقول: لقد مرت علیك بعض الاحادیث التي تتحدث عن نور الزهراء الزاهرء المشرق.

و عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) انه قال: «... و نور ابنتي فاطمه من نور اللّه...» (3) .

ص: 184


1- النور: 35.
2- المناقب ص 317.
3- بحار الانوار ج 15 ص 10.

مكانه فاطمه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) عند ابیها الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

ان من الصعب المستصعب تحدید مكانه السیده فاطمه الزهراء عند ابیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و من الصحیح ان یقال: انه خارج عن قدره القلم و اللسان، و التحلیل و البیان.

و یمكن لنا ان نجمل القول و نوجزه فنقول:

كانت السیده فاطمه الزهراء (علیها السلام) قد حلت في اوسع مكان من قلب ابیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و وقعت في نفسه الشریفه احسن موقع.

فكان النبي یحبها حبا لایشبه محبه الاباء لبناتهم، اذ كان الحب مزیجا بالاحترام و التعظیم، فلم یعهد من أي اب في العالم ما شوهد من رسول اللّه تجاه السیده فاطمه الزهراء.

و لم یكن ذلك منبعثا من العاطفه الابویه فحسب، بل كان الرسول ینظر الی ابنته بنظر الاكبار و الاجلال، و ذلك لما كانت تتمتع به السیده فاطمه من المواهب و المزایا و الفضائل، و لعله (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كان مامورا باحترامها و تجلیها، فما كان یدع فرصه او مناسبه تمر به الا و ینوه بعظمه ابنته، و یشهد بمواهبها و مكانتها السامیه عنداللّه تعالی و عند رسوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

مع العلم انه لم یسمع من الرسول ذلك الثناء المتواصل الرفيع

ص: 185

و لا معشاره في حق بقیه بناته.

و لم یكن ثناوه علیها اندفاعا للعاطفه و الحب النفسي فقط، بل ما كان یسع له السكوت عن فضائل ابنته و درجتها السامیه عنداللّه تعالی. و لو لم یكن لها عنداللّه فضل عظیم لم یكن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و اله و سلم) یفعل معها ذلك اذ كانت ولده و قد امر اللّه بتعظیم الولد للوالد، و لا یجوز ان یفعل معها ذلك، و هو بضد ما امر به امته عن اللّه تعالی.

و كان ذلك كله لاسباب منها:

كشفا للحقیقه، و اظهارا لمقام ابنته عنداللّه و عند الرسول، و كان (صلی اللّه علیه و آله) یعلم ما سیجري علی ابنته العزیزه من بعده من انواع الظلم و الاضطهاد و الایذاء و هتك الحرمه، و لهذا اراد الرسول ان یتم الحجه علی الناس، حتی لایبقی لذي مقال مقال او عذر، و الیك هذه الاحادیث التي تدل علی ما كانت تتمتع به السیده فاطمه من المكانه في قلب الرسول (صلی اللّه علیه و اله و سلم):

روي عن الامام الصادق عن آبائه (علیهم السلام) عن السیده فاطمه (علیها السلام) قالت: لما نزلت «لا تجعلوا دعاء الرسول بینكم كدعاء بعضكم بعضا» هبت رسول اللّه ان اقول له: یا ابه. فجعلت اقول: یا رسول اللّه. فاقبل علي فقال: یا فاطمه انما لم تنزل فيك و لا في اهلك و لا في نسلك، أنت مني و انا منك، انما نزلت في اهل الجفاء و البذخ و الكبر من قریش قولي: یا ابه. فانها احیی للقلب و ارضی للرب، ثم قبل النبي جبهتي...» (1) .

ص: 186


1- المناقب لابن المغازلي الشافعي ص 364.

كلاما و حدیثا برسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) من فاطمه، كانت اذا دخلت علیه رحب بها و قبل یدیها و اجلسها في مجلسه، فاذا دخل علیها قامت الیه فرحبت به و قبلت یدید... الی آخره.

و سال بزل الهروي الحسین بن روح قال: كم بنات رسول اللّه (صلی اللّه علیه و اله و سلم)؟

قال: اربع.

فقال: ایتهن افضل؟

قال: فاطمه.

قال: و لم صارت افضل و كانت اصغرهن سنا و اقلهن صحبه لرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)؟

قال: لخصلتین خصها اللّه بهما.

1- انها ورثت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

2- و نسل رسول اللّه منها، و لم یخصها بذلك الا بفضل اخلاص عرفه من نیتها.

و عن حذیفه قال: كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لا ینام حتی یقبل عرض وجه فاطمه.... (1) .

و عن ابن عمر: ان النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قبل راس فاطمه و قال: فداك ابوك، كما كنت فكوني. (2) .

و في روایه: فداك ابي و امي. (3) .

و عن عائشه: قبل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) نحر فاطمه.

ص: 187


1- مقتل الحسین للخوارزمي الحنفي ص 66.
2- مقتل الحسین للخوارزمي الحنفي ص 66.
3- مستدرك الحصیحین للحاكم النیشابوري الشافعي ج 3 ص 165.

و في روایه: فقلت: یا رسول اللّه فعلت شیئا لم تفعله؟

فقال: یا عائشه اني اذا اشتقت الی الجنه قبلت نحر فاطمه. (1) .

و عن عائشه قالت: كان النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) اذا قدم من سفر قبل نحر فاطمه و قال: منها اشم رائحه الجنه. (2) .

اقول: قد ذكرنا شیئا من هذه الاحادیث في اوائل الكتاب.

و عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: «رائحه الانبیاء: رائحه السفر جل، و رائحه الحور العین: رائحه الاس، و رائحه الملائكه: رائحه الورد،و رائحه ابنتي فاطمه الزهراء: رائحه السفر جل و الاس و الورد». (3) .

و عنه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: «.. و لو كان الحسن شخصا لكان فاطمه، بل هي اعظم، ان ابنتي فاطمه خیر اهل الارض عنصرا و شرفا و كرما» (4) .

و عن الامام الحسین بن علي (علیها السلام) عن جده رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: «فاطمه بهجه قلبي، و ابناها ثمره فوادي، و بعلها نور بصري، و الائمه من ولدها امناء ربي، و حبله الممدود بینه و بین خلقه، من اعتصم به نجا، و من تخلف عنه هوی (5) .

و روي ان النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ناول الزهراء ماءا، فشربت فقال لها: «هنیئا مریئا یا ام الابرار الطاهرین» الی آخر الحدیث (6) .

ص: 188


1- ذخائر العقبی للمحب الطبري ص 36، وسیله المال للحضرمي ص 79 طبعه المكتبه الظاهریه بدمشق.
2- ینابیع المواد للقندوزي الحنفي ص 260.
3- بحارالانوار، كتاب الاطعمه و الاشربه، باب السفر جل.
4- فرائد المسطین للجویني الشافعي ج 2 ص 68.
5- فرائص المسطین للجویني الشافعي ج 2 ص 66.
6- بحار الانوار ج 76 ص 57.

و عن فاطمه الزهراء (علیها السلام) قالت: قال لي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «الا ابشرك؟ اذا اراد اللّه ان یتحف زوجه ولیه في الجنه، بعث الیك تبعثین الیها من حلیك» (1) .

و بهذا الاحادیث الاتیه- الصحیحه عند الفریقین- یمكن لنا ان نطلع علی المزید من الاسباب و العلل التي كونت في سیده نساء العالمین تلك القداسه و العظمه و الجلاله:

1- قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): افضل نساء اهل الجنه: خدیجه بنت خویلد، و فاطمه بنت محمد، و آسیه بنت مزاحم (امراه فرعون) و مریم بنت عمران. (2) .

2- و قال ایضا: حسبك من نساء العالمین: مریم بنت عمران و آسیه بنت مزاحم و خدیجه بنت خویلد و فاطمه بنت محمد (3) .

3- و قال ایضا: حسبك من نساء العالمین: مریم بنت عمران و خدیجه بنت خویلد، و فاطمه بنت محمد و آسیه امراه فرعون (4) .

هذه احادیث ثلاثه تصرح بتفضیل هذه السیدات الاربع علی سائر

ص: 189


1- دلائل الامامه ص 2.
2- مسند احمد بن حنبل ج 1 ص 293، الاستیعاب لابن عبدالبر ال أندلسي ج 2 ص 750 في ترجمه السیده خدیجه، مستدرك الحصیحین للحاكم ج 3 ص 160، الاعتقاد للحافظ البیهقي ص 165، تاریخ الاسلام للذهبي ج 3 ص 92 اسد الغابه لابن الاثیر الجزري ج 5 ص 437 و غیرها.
3- المصدر السابق.
4- الاستیعاب، لابن عبدالبر ال أندلسي ج 2 ص 750، مشكل الاثار للطحاوي ج 1 ص 48، مستدرك الحصیحین للحاكم ج 3 ص 157، معالم التنزیل للحافظ البغوي الشافعي ج 1 ص 291 و غیرها.

نساء العالم، الا انها لاتصرح ببیان الافضل من تلك الاربع، و لكن الاحادیث المتواتره المعتبره تصرح بتفضیل السیده فاطمه الزهراء علیهن و علی غیرهن.

و نحن لانشك في ذلك، بل نعتبره من الامور المسلمه المتفق علیها، لانها بضعه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و لا نعدل بها احدا.

و لم ننفرد بهذه الحقیقه، بل وافقنا علی ذلك الكثیر الكثیر من العلماء و المحدثین المنصفين، من المتقدمین منهم و المتاخرین و المعاصرین، بل صرح بذلك بعضهم، و الیك بعض اقوال اولئك الاعلام:

عن مسروق قال: حدثتني عائشه ام المومنین قالت: انا كنا ازواج النبي عنده لم تغادر منا واحده، فاقبلت فاطمه تمشي، لا واللّه ما تخفي مشیتها من مشیه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)، فلما رآها رحب بها و قال: مرحبا بابنتي، ثم اجلسها عن یمینه او عن شماله، ثم سارها (1) .فبكت بكاء شدیدا، فلما رای حزنها سارها الثانيه! فاذا هي تضحك، فقلت لها- انا من بین نسائه-: خصك رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بالسر من بیننا، ثم انت تبكین؟

فلما قام رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) سالتها: عما سارك؟

قالت: ما كنت لأفشي علی رسول اللّه سره، فلما توفي قلت لها: عزمت علیك بما لي علیك من الحق(!!) لما اخبرتیني!

قالت: اما الان فنعم، فاخبرتني قالت: سارني في الامر الاول فانه اخبرني ان جبرائیل كان یعارضه (القرآن) كل سنه (2) و انه قد عارضني به

ص: 190


1- اي: اسرالیها.
2- هكذا وجدنا في المتن، و الاصح: یعارضني، كما في مصادر اخری.

العام مرتین، و لا اری الاجل الا قد اقترب، فاتقي اللّه و اصبري فاني نعم السلف انا لك، قالت: فبكیت بكائي الذي رایت، فلما رای جزعي سارني الثانيه قال: یا فاطمه الا ترضین ان تكوني سیده نساء المومنین او سیده نساء هذه الامه؟ (1) .

و في روایه البغوي في (مصابیح السنه): الا ترضین ان تكوني سیده نساء العالمین و سیده نساء هذه الامه، و سیده نساء المومنین؟

و الاحادیث التي تصرح بسیادتها و تفضیلها علی نساء العالمین كثیره جدا، و جلها مرویه عن عائشه، و عن عمران بن حصین، و عن جابر بن سمره و عن ابن عباس و ابی بریده الاسلمي و غیرهم، و قد روی البخاري هذا الحدیث في الجزء الرابع ص 203 من صحیحه، و عدد كثیر من علماء العامه كالقسطلاني و القندوزي و المتقي و الهیثمي و النسائي و الطحاوي و غیرهم ممن یطول الكلام بذكرهم.

و لقد ورد هذا الحدیث بطرق عدیده، و في بعضها: ان سبب ضحكها هو اخبار النبي لها بانها اول اهل بیته لحوقا به، و في بعضها ان سبب ضحكها او تبسمها هو اخبار النبي لها انها سیده نساء العالمین.

ولكن روی احمد بن حنبل حدیثا یجمع بین هاتین الطائفتین من الاحادیث: باسناده عن عائشه قالت: اقبلت فاطمه تمشي كان مشیتها مشیه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقال: مرحبا بابنتي، ثم اجلسها عن یمینه او عن شماله، ثم انه اسر الیها حدیثا فبكت، ثم اسر الیها حدیثا

ص: 191


1- طبقات ابن سعد ج 2، و رواه باختلاف یسیر كل من مسلم في صحیحه ج 7 ص 142، و البلاذري في انساب الاشراف ص 552، و السیوطي في الخصائص ص 34 و الحافظ البیهقي في الاعتقاد ص 125، و الطبري في ذخائر العقبی ص 39، و سبط ابن الجوازي في التذكره ص 319، و غیرهم.

فضحكت، فقلت: ما رایت كالیوم فرحا اقرب من حزن، فسالتها عما قال؟ فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

حتی اذا قبض النبي سالتها؟

فقالت: انه اسر الی فقال: ان جبرئیل كان یعارضني بالقرآن في كل عام مره، و انه عارضني به العام مرتین و لا اراه الا قد حضر اجلی، و انك اول اهلي لحوقا بي و نعم السلف انا لك، فبكیت لذلك، ثم قال: الا ترضین ان تكوني سیده نساء هذه الامه او نساء المومنین؟

قالت: فضحكت لذلك. (1) .

و قد روی البخاري في صحیحه ج 5 ص 21 و 29: ان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: فاطمه بضعه مني، فمن اغضبها فقد اغضبني.

و روی البخاري عن ابی الولید: ان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: فاطمه بضعه مني من آذاها فقد آذاني.

و قد ورد هذا الحدیث بالفاظ متنوعه و معاني متحده كقوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم):

فاطمه بضعه مني، یوذیني ما آذاها، و یغضبني ما اغضبها.

فاطمه بضعه مني، یقبضني ما یقبضها، و یبسطني ما یبسطها. (2) .

فاطمه شجنه مني (3) فاطمه مضغه مني فمن آذاها فقد آذاني.

فاطمه مضغه مني، یسرني ما یسرها.

یا فاطمه ان اللّه یغضب لغضبك و یرضی لرضاك.

ص: 192


1- مسند احمد ج 6 ص 282.
2- اي: یسرني ما یسرها، لان الانسان اذا سر انبسط وجهه.
3- الشجنه اي: القطعه و البضعه.

فمن عرف هذه فقد عرفها، و من لم یعرفها فهي بضعه مني.

هي قلبي و روحي التي بین جنبي، فمن آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذی اللّه.

ان اللّه یغضب لغضب فاطمه و یرضی لرضاها.

و قد روی هذه الاحادیث اكثر من خمسین رجلا من رجال الحدیث و السنن، كاحمد بن حنبل، و البخاري، و ابن ماجه و السجستاني و الترمذي و النسائي و ابوالفرج و النیسابوري و ابونعیم و البیهقي و الخوارزمي و ابن عساكر و البغوي و ابن الجوزي و ابن الاثیر و ابن ابی الحدید و السیوطي و ابن حجر و البلاذري و غیرهم ممن یعسر احصاوهم، و قد ذكرنا شیئا من تلك الاحادیث مع مصادرها في اوائل الكتاب.

و قد وقعت هذه الاحادیث موقع الرضا و القبول من الصحابه و التابعین لتواترها و صحه اسنادها و شهرتها في الملا الإسلامي.

اما الصحابه فلنا في المستقبل مجال واسع لاعتراف بعضهم بصحه هذا الحدیث و سماعه من الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و اما التابعون فقد روی ابوالفرج في الاغاني ج 8 ص 307 باسناده قال: دخل عبداللّه بن حسن علي عمر بن عبدالعزیز و هو حدیث السن و له و فره، فرفع مجلسه، و اقبل علیه و قضی حوائجه، ثم اخذ عكنه من عكنه (1) فغمز (بطنه) حتی اوجعه و قال له: اذكرها عندك للشفاعه.

فلما خرج (عبداللّه بن حسن) لامه اهله (2) و قالوا: فعلت هذا بغلام حدیث السن، فقال: ان الثقه حدثني حتی كاني اسمعه من في رسول

ص: 193


1- العكنه- بضم العین- اللحم المنثی من البطن.
2- اي: لام الناس عمر بن عبدالعزیز.

اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) (1) قال: (انما فاطمه بضعه مني یسرني ما یسرها) و انا اعلم ان فاطمه لو كانت حیه لسرها ما فعلت بابنها.

قالوا: فما معنی غمزك بطنه و قولك ما قلت؟

قال: انه لیس احد من بني هاشم الا و له شفاعه، فرجوت ان اكون في شفاعه هذا.

قال السمهودي- بعد ایراده حدیث فاطمه بضعه مني یوذیني ما آذاها و یریبني ما ارابها-: فمن آذی شخصا من اولاد فاطمه او ابغضه جعل نفسه عرضه لهذا الخطر العظیم، و بضده (و بالعكس) من تعرض لمرضاتها في حبهم و اكرامهم.

و قال السهیلي: هذا الحدیث یدل علی ان من سبها كفر، و من صلی علیها فقد صلی علی ابیها، و استنبط ان اولادها مثلها لانهم بضعه مثلها، و فك الفرع من اصله هو فك الشيء من نفسه و هو غیر ممكن و محال، باعتبار ان ذلك الفرع هو الشخص المعمول من ماده ذلك الاصل و نتیجته المتولده منه- انتهی كلامه-.

اقول: لعل المقصود من الخطر العظیم الذي ذكره السمهودي هو اشاره الی قوله تعالی: (ان الذين یوذون اللّه و رسوله لعنهم اللّه في الدنیا و الاخره و اعد لهم عذابا مهینا) و قوله (و الذين یوذون رسول اللّه لهم عذاب الیم).

ایها القاری ء الذكي: بعد الانتباه الی هذه الایات، و بعد الامعان و التدبر في هذه الاحادیث و الروایات ما تقول فيمن آذی فاطمه الزهراء؟؟!!

اعود الی حدیثي عن مدی حب النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم)

ص: 194


1- اي: من فم رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

لابنته السیده فاطمه الزهراء:

من الصعب احصاء الاحادیث التي تصرح بان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) اذا اراد سفرا كان آخر عهده بانسان من اهله فاطمه (علیها السلام) و اول من یدخل علیها- بعد رجوعه من السفر- فاطمه (1) .

كان (صلی اللّه علیه و آله) اذا رجع من سفره دخل علی ابنته فاطمه اولا، ثم ذهب الی داره و التقی بزوجاته. (2) .

انه كان یفضل الزهراء علی زوجاته و نسائه، و ما ذاك الا لان اللّه فضلها علیهن و علی نساء العالمین.

فقدم من غزاه، و قد علقت مسحا او سترا علی بابها، و حلت (3) الحسن و الحسین قلبين من فضه، فقدم و لم یدخل، فظنت ان ما منعه ان یدخل دارها ما رای، فهتكت الستر، و فكت القلبين من الصبیین، و قطعته منهما، و دفعته الیهما، فانطلقا الی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و هما یبكیان، فاخذه منهما فقال: یاثوبان اذهب بهذا الی فلان، ان هولاء اهلي اكره ان یاكلوا طیباتهم في حیاتهم الدنیا، یاثوبان (4) اشتر لفاطمه قلاده من عصب و سوارین من عاج.

روی هذا الحدیث الخطیب العمري في (مشكاه المصابیح) و الطبري في (ذخائر العقبی) و النویري في (نهایه الارب) و القندوزي في (ینابیع الموده) و الطبراني في (المعجم الكبیر) و الزبیدي في (اتحاف الساده) و غیرهم.

ص: 195


1- السنن الكبری للبیهقي ج 1 ص 26، ذخائر العقبی للطبري ص 37، مستدرك الصحیحین للحاكم ج 3 ص 156 و غیرها.
2- الاستیعاب لل أندلسي ج 2 ص 750، مستدرك الصحیحین ج 3 ص 155.
3- حلت- من التحلیه- و هي التجمیل و لبس الحلي. قلبين- تثنیه قلب- و هو السوار.
4- ثوبان: اسم غلام.

و قد روی هذا الحدیث من علمائنا: الشیخ الكلیني في (الكافي) و الطبرسي في (مكارم الاخلاق) اكثر تفصیلا و توضیحا مع اختلاف یسیر:

عن زراه عن ابی جعفر (الباقر) (علیه السلام) قال: كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) اذا اراد سفرا سلم علی من اراد التسلیم علیه من اهله، ثم یكون آخر من یسلم علیه فاطمه (علیها السلام) فيكون وجهه الی سفره من بیتها، و اذا رجع بدا بها (اي یزورها قبل كل احد) فسافر مره، و قد اصاب علي (علیه السلام) شیئا من الغنیمه فدفعه الی فاطمه فخرج، فاخذت سوارین من فضه، و علقت علی بابها سترا، فلما قدم رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) دخل المسجد، فتوجه نحو بیت فاطمه كما كان یصنع، فقامت فرحه الی ابیها صبابه و شوقا الیه، فنظر فاذا في یدها سواران من فضه و اذا علی بابها ستر، فقعد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حیث ینظر الیها، فبكت فاطمه و حزنت و قالت: ما صنع هذا بی قبلها.

فدعت ابنيها، فنزعت الستر عن بابها، و خلعت السوارین من یدیها ثم دفعت السوارین الی احدهما و الستر الی الاخر ثم قالت لهما: انطلقا الی ابي، فاقرئاه السلام و قولا له: ما احدثنا بعدك غیر هذا، فشانك به.

فجاءاه، فابلغاه ذلك عن امهما، فقبلهما رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و التزمهما و اقعد كل واحد منهما علي فخذه، ثم امر بذینك السوارین فكسرا فجعلهما قطعا، ثم دعا اهل الصفه و هم قوم من المهاجرین، لم یكن لهم منازل و لا اموال فقسمه بینهم قطعا... الی آخره.

ان هذا الحدیث الذي تراه مشهورا عند الفریقین، مرویا بطرق عدیده لعله یحتاج الی شرح و تعلیق، مع العلم ان رواه هذا الحدیث لم یتطرقوا الی

ص: 196

شرح ما یلزم:

اقول: لیس المقصود من هذا الستر هو الستر المرخی علی مدخل البیت عند فتح باب البیت، لان هذا امر مستحب للمبالغه علی التستر و الحجاب، و حاشا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ان یغضب من ستر قد علق علی مدخل بیت فاطمه.

بل المقصود ان السیده فاطمه (علیها السلام) كانت قد علقت علی باب البیت (لامدخل البیت) سترا یستر الباب الخشبي، للزینه، المسمی في زماننا ب(الدیكور) تجملا او تجمیلا للباب و بعباره اخری: البست الباب ثوبا- أي سترا-، و لیس هذا بحرام بل لانه لایتفن مع التزهد او الزهد المطلوب من آل محمد (علیهم السلام) و المواساه المترقبه المتوقعه منهم، و نفس هذا الكلام یاتي في موضوع السوار و القلاده.

و بناء علی صحه هذا الحدیث كان الافضل للسیده الزهراء (علیها السلام) ان تنفق ذلك الستر في سبیل اللّه بسبب الحاجه الماسه الیه، لكثره الفقراء، و شده الفقر المدقع عند فقراء المهاجرین و من باب المواساه و الایثار.

و روی ابن شاهین في (مناقب فاطمه) عن ابی هریره و ثوبان هذا الحدیث مع تغییر یسیر، الی ان قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم):- بعد ما دفعت الزهراء الستر و السوار الی ابیها-: فعلت، فداها ابوها- ثلاث مرات- ما لال محمد و للدنیا؟ فانهم خلقوا للاخره، و خلقت الدنیا لهم.

و في روایه احمد بن حنبل: فان هولاء أهل بیتي، و لا احب ان یاكلوا طیباتهم في حیاتهم الدنیا.

و یستفاد من هذا التعلیل ان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لایحب ان ینقص حظ ابنته فاطمه الزهراء من الاجر و الثواب في الاخره،

ص: 197

لان مراره الحیاه و خشونه العیش في الدنیا لهما تعویض في الاخره.

و بهذا الحدیث الاتي یتضح ما قلنا:

عن تفسیر الثعلبي عن الامام جعفر بن محمد (علیه السلام) و عن جابر بن عبداللّه الانصاري قالا: رای النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فاطمه و علیها كساء من اجله الابل، و هي تطحن بیدیها، و ترضع ولدها، فدمعت عینا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقال: یابنتاه تعجلي مراره الدنیا بحلاوه الاخره.

فقالت: یا رسول اللّه الحمدلله علی نعمائه، و الشكر للّه علی آلائه.

فانزل اللّه: (و لسوف یعطیك ربك فترضی) (1) .

ص: 198


1- بحارالانوار ج 43.

زهدها و إنفاقها في سبیل اللّه

كانت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) علی جانب كبیر من الزهد، و معنی الزهد، التخلي عن الشيء و تركه و عدم الرغبة فيه، و كلما ازداد الإنسان شوقاً إلی الآخرة ازداد زهداً في الدنیا، و كلما عظمت الآخرة في نفس الإنسان صغرت الدنیا في عینيه و هانت، و هكذا كلما ازداد الإنسان عقلاً و علماً و إیماناً باللّه ازداد تحقیراً و استخفافاً لملّذات الحیاة.

أرأیت الأطفال كیف یلعبون، و یفرحون، و یحزنون و یتسابقون و یتنازعون علی أشیاء تافهة یلعبون بها، فإذا نضجت عقولهم و تفتحت مشاعرهم تراهم یبتعدون عن تلك الألاعیب، و یستنكفون من التنازل إلی ذلك المستوی، و یعتبرونه منافياً للوقار، و مُخلاًّ للشخصیة، كل هذا بسبب تطوُّر مداركهم، و انتقالهم من دور الصبا إلی مرحلة الرجولة و النضج.

نعم، هكذا كان أولیاء اللّه، كانوا ینظرون إلی حطام الدنیا نظرة تحقیر و استهانة، و لا تتعلق قلوبهم بحب الدنیا و ما فيها، و لا یحبون الدنیا للدنیا، بل یحبون الدنیا للآخرة، یحبون البقاء في الدنیا لیعبدوا اللّه تعالی، یریدون المال لینفقوه في سبیل اللّه (عز و جل)، لإشباع البطون الجائعة و إكساء الأبدان العاریة و إغاثة الملهوف و إعانة المضطر.

بعد هذه المقدمة یسهل علیك أن تدرك أسس الزهد السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) فهي عرفت الحیاة الدنیویة، و ادركت الحیاة الأخرویة، فلا عجب إذا قنعت بالیسیر الیسیر من متاع الحیاة، و اختارت

ص: 199

لنفسها فضیلة المواساة و الإیثار، و هانت علیها الثروة، و كرهت الترف و السرف.

و لا غرو من ذالك، فهي بنت أزهد الزهاد، و حیاتها العقائدیة ملازمة للزهد و حیاتها الاجتماعیة أیضاً تتطلب منها الزهد، فهي أولی الناس بالسیر علی منهاج أبیها الرسول الزاهد العظیم (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و حیاتها الزوجية تبلورت بالزهد و القناعة، فلقد كان زوجها الإمام علي (علیه السلام) أول الناس و أكثرهم اتباعاً للرسول في زهده، ولم یشهد التاریخ الإسلامي رجلاً من هذه الأمة أكثر زهداً من علي بن أبي طالب (علیه السلام).

و هو الذي كان یخاطب الذهب و الفضة بقوله: یا صفراء یا بیضاء غریا غیري.

و قد امر علي (علیه السلام) لأعرابي بألف. فقال الوكیل: من ذهب أو فضة؟

فقال علي: كلاهما عندي حَجَران، فأعطوا الإعرابي أنفعهما له.

و قد ذكرنا بعض ما یتعلق بهذا الموضوع في كتابنا: (علي من المهد إلی اللحد) و إنما تطرقنا هنا إلی زهد علي (علیه السلام) بمناسبة حدیثنا عن زهد السیدة فاطمة الزهراء.

و قد مرّ علیك فيما مضی- بعض الأحادیث عن زهدها و إنفاقها في سبیل اللّه في باب زواجها و نزول سورة هل أتی و غیرهما.

و إلیك نبذة من الأحادیث التي تشیر إلی نفس الموضوع:

في كتاب (بشارة المصطفي) عن الإمام الصادق عن أبیه (علیهما السلام) عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال:

صلَّی بنا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) صلاة العصر، فلما

ص: 200

انفتل جلس في قبلته و الناس حوله. فبینما هم كذلك إذ أقبل شیخ من العرب مهاجره العرب، علیه سمل قد تهلل و أخلقِ (1) و هو لا یكاد یتمالك كِبَراً و ضعفاً، فأقبل علیه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یستحثه الخبر، فقال الشیخ: یا نبي اللّه أنا جائع الكبد فأطعمني، و عاري الجسد فاكسنی و فقیر فارشني (2) .

فقال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): ما أجد لك شیئاً، و لكن الدال علی الخیر كفاعله، انطلق إلی منزل مَن یحب اللّه و رسوله، و یحبه اللّه و رسوله، یؤثر اللّه علی نفسه، انطلق إلی حجرة فاطمة.

و كان بیتها ملاصق بیت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الذي یتفرد به لنفسه من أزواجه، و قال: یا بلال قم فقف به علی منزل فاطمة.

فانطلق الإعرابي مع بلال، فلما وقف علی باب فاطمة نادی بأعلی صوته: السلام علیكم یا أهل بیت النبوة و مختلف الملائكة، و مهبط جبرئیل الروح الأمین بالتنزیل من عند رب العالمین.

فقالت فاطمة: و علیك السلام، فمن أنت یا هذا؟

قال: شیخ من العرب، أقبلت علی أبیك سید البشر مهاجراً من شقة، و أنا- یا بنت محمد- عاري الجسد، جائع الكبد، فواسینی یرحمك اللّه.

و كان لفاطمة و علي- في تلك الحال- و رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً، و قد علم رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) من شأنهما.

ص: 201


1- السمل الثوب الخلق.تهلل الثوب: انخرق.
2- ارشني: احسن الی.

فعمدت فاطمة إلی جلد كبش مدبوغ بالقرظِ (1) كان ینام علیه الحسن و الحسین، فقالت: خذ هذا یا أیها الطارق، فعسی اللّه أن یرتاح لك ما هو خیر منه.

فقال الإعرابي: یا بنت محمد شكوت إلیك الجوع، فناولتنی جلد كبش؟ ما أنا صانع به مع ما أجد من السغب؟ (2) .

قال: فعمدت فاطمة- لما سمعت هذا من قوله- إلی عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمها حمزة بن عبدالمطلب، فقطعته من عنقها، و نبذته إلی الإعرابي فقالت: خذه و بِعهُ، فعسی اللّه أن یعوِّضك به ما هو خیر منه.

فأخذ الإعرابي العقد، و انطلق إلی مسجد رسول اللّه، والنبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) جالس في أصحابه فقال: یا رسول اللّه أعطتني فاطمة بنت محمد هذا العقد فقالت: بِعه فعسی اللّه أن یصنع لك.

قال: فبكی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقال: و كیف لا یصنع اللّه لك، و قد أعطته فاطمة بنت محمد سیدة بنات آدم.

فقام عمار بن یاسر (رحمةاللّه علیه) فقال: یا رسول اللّه أتأذن لي بشراء هذا العقد؟

قال: اشتر یا عمار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذبّهم اللّه بالنار.

فقال عمار: بكَمْ العقد یا أعرابي؟ قال: بشبعة من الخبز و اللحم، و بردة یمانیة استر بها عورتي و أصلّی فيها لربي، و دینار یبلغني إلی اهلي.

و كان عمار قد باع سهمه الذي نفله رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) من خیبر و لم یبق منه شیئاً فقال: لك عشرون دیناراً و ماتا درهم

ص: 202


1- لقرظ: شيء یدبغ به الجلد.
2- السغب: الجوع.

هجرية، و بُردة یمانیة، و راحلتي تبلغك أهلك، و شبعك من خبز البر و اللحم.فقال الإعرابي: ما أسخاك بالمال أیها الرجل؟ و انطلق عمار فوفّاه ما ضمن له. و عاد الإعرابي إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقال له رسول اللّه:أشبعت و اكتسیت؟!

قال الإعرابي: نعم، و استغنیت بابي أنت و أمي.

قال: فأجزِ فاطمة بصنیعها.

فقال الإعرابي: اللّهم أنت إله ما استحدثناك، و لا إله لنا نعبده سواك، فأنت رازقنا علی كل جهات، اللّهم اعط فاطمه مالا عین رات و لا اذن سمعت...

و الی ان قال: فعمد عمار الی العقد فطیبه بالمسك، و لفه في برده بمانیه،و كان له عبد اسمه سهم ابتاعه من ذالك السهم الذي اصابه بخیبر، فدفع العقد الی المملوك.

فضحك المملوك فقالت: ما یضحك یا غلام؟

فقال اضحكني عظم بركه هذا العقد، و اعتقت المملوك.

فضحك المملوك فقالت: ما یضحك یا غلام؟

فقال: اضحكني عظم بركه هذا العقد، اشبع جائعا، و كسی عریانا و اعنی فقیرا واعتق عبدا، و رجع الی ربه أي الی صاحبه.

و في كتاب البحار ج 43 عن تفسیر فرات بن ابراهیم عن ابی سعید الخدري قال:

ص: 203

أصبح علي بن أبي طالب (علیه السلام) ذات یوم ساغباً(1) و قال: یا فاطمة هل عندك شيء تغذّینیه؟

قالت: لا، و الذي أكرم أبی بالنبوة، و أكرمك بالوصیة ما أصبح الغداة شيء، و ما كان شيء أطعمناه مذیومین إلاَّ شيء كنت أؤثرك به علی نفسي، و علی ابني هذین: الحسن و الحسین.

فقال علي: یا فاطمة! ألا كنتِ أعلَمتِني فأبغیكم شیئاً؟

فقالت: یا أبا الحسن إني لأستحیي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر علیه.

فخرج علي بن أبي طالب من عند فاطمة (علیهما السلام) واثقاً باللّه بحسن الظن، فاستقرض دیناراً فبینما الدینار في ید علي بن أبي طالب (علیه السلام) یرید أن یبتاع لعیاله ما یصلحهم، فتعرَّض له المقداد بن الأسود، في یوم شدید الحر، قد لوّحته الشمس من فوقه، و آذته من تحته فلما رآه علي بن أبي طالب (علیه السلام) أنكر شأنه فقال: یا مقداد ما أزعجك هذه الساعة من رحلك؟

قال: یا أباالحسن خلّ سبیلي ولا تسألني عما ورائي!!

فقال: یا أخي إنه لا یسعني أن تجاوزني حتی أعلم علمك.

فقال: یا أباالحسن رغبة إلی اللّه و الیك أن تخلّی سبیلي، و لا تكشفني عن حالي!!!

فقال له: یا أخي إنه لا یسعك أن تكتمني حالك.

فقال: یا أباالحسن! أمَّا إذا أبیتَ! فوالذي أكرم محمد بالنبوة و أكرمك بالوصیة ما أزعجني من رحلي إلاَّ الجهد و قد تركت عیالي

ص: 204


1- اي: جائعا.

یتضاعون جوعاً، فلما سمعت بكاء العیال لم تحملني الأرض، فخرجت مهموماً، راكب رأسي، هذه حالي و قصتي!!

فانهملت عینا علی بالبكاء حتی بلّت دمعته لحیته فقال له: أحلفُ بالذي حلفتَ: ما أزعجني إلاَّ الذي أزعجك من رحلك، فقد استقرضت دیناراً، فقد آثرتك علی نفسي. فدفع الدینار إلیه و رجع حتی دخل مسجد النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فصلَّی فيه الظهر و العصر و المغرب، فلما قضی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) المغرب مرَّ بعلي بن أبي طالب و هو في الصف الأول فغمزه برجله، فقام علی متعقباً خلف رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حتی لحقه علی باب من أبواب المسجد، فسلَّم علیه فردَّ رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) السلام، فقال: یا أباالحسن هل عندك شيء نتعشاه فنمیل معك؟

فمكث مطرقاً لا یحیر جواباً، حیاءً من رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و كان النبي یعلم ما كان من أمر الدینار، و من أین أخذه و أین وجّهه، و قد كان أوحی اللّه تعالی إلی نبیه محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أن یتعشی تلك اللیلة عند علي بن أبي طالب.

فلما نظر رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إلی سكوته فقال: یا أباالحسن ما لَك لا تقول: لا. فانصرف؟ أو تقول: نعم. فأمضی معك؟

فقال:- حیاءً و تكرماً-: فاذهب بنا!!

فأخذ رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ید علي بن أبي طالب فانطلقا حتی دخلا علی فاطمة (علیها السلام) و هي في مصلاّها قد قضت صلاتها، و خلفها جفنة تفور دخاناً.

ص: 205

فلما سمعت كلام رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) خرجت من مصلاّها فسلّمت علیه و كانت أعزّ الناس علیه، فردّ (عَلَيهَا السَّلَامُ)، و مسح بیده علی رأسها و قال لها: یا بنتاه كیف أمسیت؟

قالت: بخیر.

قال: عشّینا، رحمك اللّه، و قد فعل.

فأخذت الجفنة فوضعتها بین یدي النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و علي بن أبي طالب....

فقال علي لها: یا فاطمة أنِّي لك هذا الطعام الذي لم أنظر إلی مثل لونه قط، و لم أشمّ ریحه قط، و ما آكل أطیب منه؟؟

قال: فوضع رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كفّه الطیبة المباركة بین كتفي علي بن أبي طالب (علیه السلام) فغمزها، ثم قال: یا علي! هذا بدل دینارك، و هذا جزاء دینارك من عنداللّه، إن اللّه یرزق من یشاء بغیر حساب.

ثم استعبر النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) باكیاً، ثم قال: الحمد للّه الذي أبی لكم أن تخرجا من الدنیا حتی یجزیكما و یجریك- یا علي- مجری زكریا، و یجري فاطمة مجری مریم بنت عمران، كلما دخل علیها زكریا المحراب و جد عندها رزقاً.

ص: 206

فاطمه الزهرا (عَلَيهَا السَّلَامُ) و العباده

العباده لها معنیان: معنی عام و معنی خاص.

فالعباده بمعناها العام هي: كل ما یتغرب الانسان به الی اللّه سبحانه، من النوایا الطیبه و الاقوال الحسنه و الاعمال الصالحه و الاخلق الحميده و غیرها.

و العباده بمعناها الخاص هي الصلاه الخاص هي الصلاه و الصوم و الحج و الزكاه و غیرها مما هو واضح للجمیع.

و قد تجلت العباده- بكل معانیها و ابعادها- في حیاه السیده الطاهره فاطمه (علیه السلام).

فحیاتها كلها عباده، منذ البدایه حتی النهایه، فمن حمل الماء الی بیوت الفقراء و المساكین و اطعام الطعام و الایثار، و تعلیم الاحكام الشریعه،و تحمل متاعب الاعمال المنزلیه و الزهد و الحرمان و البساطه في العیش، و حسن التبعل، و الدفاع عن الامامه و الولایه، و ما اصابها من الالام و المصائب بعد وفاه ابیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله) و غیرها مما قراته و تقرا في صفحات حیاتها المشرقه- كلها عباده خالصه لوجه اللّه سبحانه.بالاضافه الی الصلاه و الخشوع و المناجاه و غیرها.

و قد روی عن ابن عباس- في قوله تعالی: «كانو قلیلا من اللیل ما یهجعون و بالاسحارهم یستغفرون» (1) - قال: نزلت في علي بن أبي طالب

ص: 207


1- الذاریات

و فاطمه و الحسن و الحسین (1) .

و فيما یلي نذكر بعض الاحادیث المرويه في هذا المجال:

1- روي عن الإمام الحسن (علیه السلام) قال: رأیت أمِّي فاطمة (علیها السلام) قامت في محرابها لیلة جُمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتی اتَّضح عمود الصبح، و سمعتها تدعو للمؤمنین و المؤمنات و تُسمّیهم، و تكثر الدعاء لهم و لا تدعو لنفسها بشيء.

فقلت: یا أمَّاه لِمَ لا تدعین لنفسك كما تدعین لغیرك؟

فقالت: یا بني! الجار ثم الدار» (2) .

2- عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: «و أمَّا ابنتي فاطمة فإنها سیدة نساء العالمین من الأولین و الآخرین، و هي بضعة مني و هي نور عیني، و هي ثمرة فؤادي، و هي روحي التي بین جنبيَّ، و هي الحوراء الإنسیة.

متی قامت في محرابها بین یدي ربها (جل جلاله) زَهَر نورها لملائكة السماء كما یزهر نور الكواكب لأهل الأرض، و یقول اللّه (عز و جل) لملائكته: یا ملائكتي انظروا إلی أمتي فاطمة، سیدة إمائي قائمة بین یدي، ترتعد فرائصها من خیفتي، و قد أقبلت بقلبها علی عبادتي، أشهدكم أني قد أمنت شیعتها من النار...» الی آخر حدیث.

3- و في كتاب عدة الداعي لابن فهد الحلي: و كانت فاطمة (علیها السلام) تنهج في الصلاة من خیفة اللّه. و النهج- بفتح النون والهاء- تتابع النَفَس.

ص: 208


1- شواهد التنزیل للحسكاني الحنفي ج 2 ص 194.
2- بحارالانوار ج 43.

4- و روی الحسن البصري قال: ما كان في هذه الامه اعبد من فاطمه، كانت تقوم حتی تور مت قدماها.

5- و روي عن الامام جعفر الصادق (علیه السلام) انه قال: «من صلی اربع ركعات، یقرا- في كل ركعه (1) - خمسین مره «قل هو اللّه احد» كانت صلاه فاطمه، و هي صلاه الاولین (2) .

6- و عنه (علیه السلام) قال: كانت لامي فاطمه ركعتان تصلیها، علمها جبرئیل (علیه السلام) فاذا سلمت سبحت التسبیح (3) ثم تقول:

«سبحان ذي العز الشامخ المنیف، سبحان ذی الجلال الباذخ العظیم، سبحان ذي الملك الفاخر القدیم، سبحان من لبس البهجه و الجمال، سبحان من تردی بالنور و الوقار، سبحان من یری اثر النمل علی الصفا، سبحان من یری وقع الطیر في الهواء، سبحان من هو هكذا، لا هكذا غیره» (4) .

7- و روي ان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال لامیر المومنین و ابنته فاطمه (علیهما السلام): إنني ارید ان اخصكما بشيئ من الخیز مما علمني اللّه (عز و جل) و اطلعني اللّه علیه، فاحتفظابه.

قالا: نعم یا رسول اللّه فما هو؟

قال: یصلی احدكما ركعتین، یقراء في كل ركعه: فاتحه الكتاب و آیه الكرسي- ثلاث مرات- و «قول هو اللّه احد»- ثلاث مرت- و آخر الحشر- ثلاث مرات- من قوله: «و لو انزلنا هذا القران علی جلا...» الی آخره.

ص: 209


1- بعد الحمد.
2- من لا یحضره الفقیه ج 1 ص 564.
3- اي: تسبیح الزهراء (علیها السلام).
4- بحار الانوار ج 89، و رویت الصلاه بصوره اخری ایضا.

فاذا جلس فلیتشهد و لیثن عل اللّه (عز و جل) و لیصل علی النبي و لیدع للمومنین و المومنات، ثم یدعو صلی اللّه علیه و آله و سلم علی اثر ذالك صلی اللّه علیه و آله و سلم فيقول:

«الهم اني اسالك بحق كل اسم هو لك، یحق علیك فيه اجابه الدعا اذا دعیت به، و اسالك بحق كل ذي حق علیك، و اسالك بحقك علی جمیع ما هو دونك ان تفعل بي...» كذا و كذا (1) .

8- و عن الامام جعفر الصادق (علیه السلام) قال: للامر اللمخوف العظیم تصلی ركعتین، و هي التي كانت الزهرا (علیها السلام) تصلیها، تقرا في الاولی الحمد و قل هو اللّه احد خمسین مره، و في الثانيه مثل ذالك، فاذا سلمت صلیت علی النبي (صلی اللّه علیه و آله) ثم ترفع یدیك و تقول:

اللّهم اتوجه الیك بهم، و اتوسل الیك بحقهم (بحقك- خ ل) العظیم الذي لا یعلم كنهه سواك، و بحق من حقه عندك عظیم، و باسمائك الحسنی و كلماتك التامات التي امرتني ان اعودك بها، و اسالك باسمك العظیم الذي امرت ابراهیم (علیه السلام) ان یدعو به الطیر فاجباته، و باسمك العظیم الذي قلت للنار: «كونی بردا و سلاما علی ابراهیم» فكانت، و باحب اسمائك الیك و ارفها عندك، و اعظمها لدیك، و اسرعها اجابه، و انجحها طلبه، و بما انت اهله و مستحقه و مستوجبه؛ و اتوسل الیك، و ارغب الیك، و اتصدق منك، و استغفرك، و استمنحك، و اتضرع الیك، و اخضع بین یدیك، و اخشع لك، و اقر لك بسوء صنیعتي، و اتملق والح علیك، و اسالك بكتبك التي انزلتها علی انبیائك و رسلك صلواتك علیهم اجمعین من التوراه الانجیل و القرآن العظیم من اولها الی آخرها، فان فيها اسمك الاعظم، و بما فيها من اسمائك العظمی، اتقرب الیك، و اسالك ان

ص: 210


1- قوله: كذا و كذا. اي: تذكر حاجتك/ الحدیث في بحار الانوارج 89 ص 365.

تصلی علی محمد و آله، و ان تفرج عن محمد و آله، و تجعل فرجي مقرونا بفرجهم،و تبدا بهم فيه، و تفتح ابواب السماء لدعائي في هذا الیوم، و تاذن في هذا الیوم و هذه اللیله بفرجي و اعطاء سؤلي و املي في الدنیا و الاخره، فقد مسني الفقر و نالني الضر و شملتني الخصاصه، و الجاتني الحاجه، و توسمت بالذاه و غلبتني المسكنه، و حقت علی الكلمه، و احاطت بي الخطیئه، و هذا الوقت و عدت اولیائك فيه الاجابه.

فصل علی محمد و آله، و امسح ما بي بیمینك الشافيه، و انظر الی بعینك الراحمه، و ادخلني في رحمتك الواسعه، و اقبل الی بوجهك الذي اذا قبلت به علی اسیر فككته، و علی خائف آمنته؛ و لا تخلفني لقا لعدوك و عدوي، یا ذالجلال و لااكرام.

یا من لا یعلم كیف هو، و حیث هو، و قدرته الا هو، یا من سد الهواء بالسماء، و كبس الارض علی الماء، و اختار لنفسه احسن الاسماء، یا من سمی نفسه بالاسم الذي به یقضي حاجه كل طالب یدعوه به، اسالك بذالك الاسم، فلا شفيع اقوی لي منه، و بحق محمدا و آل محمد ان تصلی علی محمد و آل محمد، و ان تقضی لي حوائجي، و تسمع محمدا و علیا و فاطمه و الحسن و الحسین و علیا و محمدا و جعفرا و موسی و علیا و محمدا و علیا و الحسن و الحجه صلوات اللّه علیهم و بركاته و رحمته (1) - صوتي، فيشفعوا لي الیك و تشفعهم في، و لا تردني خائبا، بحق لا اله الا انت، و بحق محمد و آل محمد، و افعل بي كذا و كذا یا كریم (2) .

ص: 211


1- و في نسخه: صلواتك علیهم و بركاتك و رحمتك.
2- مصباح المتجهد: ص 266.

و قال السید ابن طاووس الحلي: روی صفوان قال: دخل محمد ابن علی الحبلي علی ابي عبداللّه الصادق (علیه السلام) في یوم الجمعه فقال له: تعلمني افضل ما اصنع في مثل هذا الیوم؟

فقال (علیه السلام): یا محمد ما اعلم احدا كان اكبر عند رسول اللّه من فاطمه، و لا افضل مما علمها ابوها محمد بن عبداللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

قال (صلی اللّه علیه و آله): من اصبح یوم الجمعه فاغتسل و صف قدمیه و صلی اربع ركعات مثنی مثنی، یقرا في اول ركعه الحمد و الاخلاص خمسین مره، و في الثانيه فاتحه الكتاب و العاديات خمسین مره، في الثالثه فاتحه الكتاب و اذا زلزلت الارض خمسین مره، و في الرابعه فاتحه الكتاب و اذا جاء نصراللّه و الفتح خمسین مره- و هذه سوره النصر و هي آخر سوره نزلت- فاذا فرغ منها دعا، فقال (1) :

«الهي و سیدي، من تهیا او تعبا او اعد او استعد لوفاده الی مخلوق رجاء رفده و فوائده و نائله و فواضله و جوائزه، فالیك یا الهي كانت تهیئتي و تعبیتي و اعدادي و استعدادي رجاء رفدك و معروفك ونائلك و جوائزك، فلا تحرمني ذالك، یا من لا یخیب علیه مساله السائل، و لا تنقصه عطیه نائل فانی لم آتك بعمل صالح قدمته، و لا شفاعه مخلوق رجوته، اتقرب الیك بشفاعه محمد و اهل بیته صلواتك علیهم اجمعین، ارجو عظیم عفوك الذي عفوت به علی الخاطئین عند عكوفهم علی المحارم فلم یمنعك طول عكوفهم علی المحارم ان عدت علیهم بالمغفره، و انت سیدي العواد بالنعماء، و انا العواد بالخطاء، اسسالك بمحمد و آله الطاهرین ان تغفر لي

ص: 212


1- جزاء الشرط محذوف لدلاله الكلام علیه.

الذنب العظیم، فانه لایغفر ذنبي العظیم، یا عظیم یا عظیم یا عظیم یا عظیم یا عظیم یا عظیم یا عظیم (1) .

و الاحادیث في عباده السیده فاطمه الزهراء (علیها السلام) كثیره، خاصه الادعیه التي كانت تناجي بها ربها، و لا اراني بحاجه الی المزید من التحدث عن عبادتها، و كثره شوقها و رغبتها الی الصلاه، و مدی اقبال قلبها الی المناجاه مع اللّه تعالی، فهي بنت اول العابدین، الذي كان یقف علی قدمیه للعباده طیله ساعات طوال حتی نزل علیه قوله تعالی: «طه ما انزلنا علیم القران لتشقی».

و هي التي عرفت معنی العباده و قیمه العباده بمقدار معرفتها بعظمه اللّه تعالی فلا عجب اذا كانت السیده فاطمه تستلذ من العباده، و ترتاخ نفسها حین الوقوف بین یدي اللّه (عز و جل) و التذلیل و الخضوع لربها، و كانها لا تتعب من القیام و الركوع و السجود.

ص: 213


1- «جمال الاسبوغ» 132- 133.

تَسبیح فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)

روی عن الامام علی (صلوات اللّه علیه) أنه قال لرجل من بني سعد: ألا أحدثك عنی و عن فاطمة؟ إنها كانت عندي و كانت أحب أهله إلیهِ (1) .

و أنها استقت بالقربة حتی أثَّر في صدرها، و طحنت بالرحی حتی مجلتِ (2) .

یداها، و كسحت البیت حتی اغبرت ثیابها، و أوقدت النار تحت القدر حتی دكنتِ (3) .

ثیابها، فأصابها من ذلك ضرر شدید، فقلت لها: لو أتیتِ أباك فسألتیه خادماً یكفيك حرَّ ما أنتِ فيه من هذا العمل.

فأتت النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فوجدت عنده حُدّاثاً فاستحت فانصرفت.

قال: فعلم النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أنها جاءت لحاجة، فغدا علینا و نحن في لفاعناِ (4) فقال: السلام علیكم. فسكتناِ ثم قال: السلام علیكم. فخشینا إن لم نردّ علیه أن ینصرف، و قد كان یفعل ذلك یسلّم ثلاثاً فإن أُذن له وإلاَّ انصرف. فقلت: و علیك السلام یا رسول اللّه أُدخل.

ص: 214


1- احب اهله أي اهل رسول اللّه بقرینه المقام.
2- مجلت: ثحن جلدها.
3- دكنت: اغبرت و اتسخت.
4- لفاع: لحاف.

فلم یعد أن جلس عند رؤوسنا فقال: یا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟

قال (علیه السلام): فخشیت إن لم نجبه أن یقوم فأخرجت رأسي فقلت: أنا- واللّه-أخبرك یا رسول اللّه! إنها استقت بالقربة حتی أثَّر في صدرها و جرّت بالرحی حتی مجلت یداها، و كسحت البیت حتی اغبرت ثیابها، و أوقدت تحت القدر حتی دكنت ثیابها، فقلت لها: لو أتیت أباك فسألتیه خادماً یكفيك حرّ ما أنت فيه من العمل.

فقال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): أفلا أعلكما ما هو خیر لكما من الخادم؟

إذا أخذتما منامكما فسبّحا ثلاثاً و ثلاثین، و احمدا ثلاثة و ثلاثین، و كبّرا أربعاً و ثلاثین.

قال: فِأخرجت (علیها السلام) رأسها فقالت: رضیت عن اللّه و رسوله، رضیت عن اللّه و رسوله رضیت عن اللّه و رسوله (1)

و روي عن الامام علي (علیه السلام) قال: أهدی بعض ملوك الأعاجم رقیقاً (2) فقلت لفاطمة: اذهبي إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فاستخدمیه خادماً. فأتته فسألته ذلك......

فقال لها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): یا فاطمة أعطیك ما هو خیر من لك من خادم و من الدنیا بما فيها: تكبّرین اللّه بعد كل صلاة أربعاً و ثلاثین تكبیرة، و تحمدین اللّه ثلاثاً و ثلاثین تحمیدة، و تسبّحین اللّه ثلاثاً و ثلاثین تسبیحة، ثم تختمین ذلك بلا إله إلاّ اللّه، و ذلك خیر لك من الذي أَردت و من الدنیا و ما فيها.

ص: 215


1- بحارالانوار ج 43.
2- الرقیق: ابلعبید و الجواري یططق علی المفرد و الجمع.

فلزمت (صلوات اللّه علیها) هذا التسبیح بعد كل صلاة، و نسب إلیها هذا التسبیح، فيقال: تسبیح فاطمة (1) .

و روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: یا أباهارون إنا نأمر صبیاننا بتسبیح فاطمة (علیها السلام) كما نأمرهم بالصلاة فألزمه، فإنه لم یلزمه عبد فشقي (2) .

و في مكارم الأخلاق: أن فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كانت سُبحتها من خیط صوف مفتّل، معقود علیه عدد التكبیرات، فكانت تدیرها بیدها، تكبّر و تسبّح، إلی أن قتل حمزة بن عبدالمطلب (رضي اللّه عنه) سیدالشهداء،فاستعملت تربته، و عملت التسابیح فاستعملها الناس، فلما قتل الحسین (صلوات اللّه علیه) عُدل بالأمر إلیه، فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل و المزیة.

و عن الإمام ابی عبداللّه (الصادق) (علیه السلام) قال: و تكون السبحة بخیوط زرق،أربعاً و ثلاثین خرزة، و هي سبحة مولاتنا فاطمة (علیها السلام) لما قتل حمزة عملت من طین قبره سبحة تسبّح بها بعد كل صلاة.

عن الامام أبي عبداللّه (الصادق) (علیه السلام) قال: من سبَّح تسبیح فاطمة (علیها السلام) فقد ذكر اللّه ذكراً كثیراً (3) .

ص: 216


1- كتاب دعائم الاسلام، و في البحار ج 43.
2- كتاب قرب الاسناد و في البحار ج 43.
3- تفسیر مجمع البیان ج 8 في تفسیر قوله تعالی: «یا ایها الذين آمنوا ذكروا اللّه ذكرا كثیرا». و ذكره العلامه المجلسي في بحارالانوار ج 43.

هذا... و الروایات في فضل تسبیح فاطمة (علیها السلام) كثیرة و مختلفة في كیفيتها، و في بعض الروایات: التكبیر ثم التسبیح، ثم التحمید، و هذا هو الأشهر و الأقوی عند فقهائنا.

و قد ذكر شیخنا المجلسي أقوال الفقهاء و آرائهم حول الترتیب و التقدیم و التأخیر بصورة مفصلة (1) .

لقد اتضح لنا من هذه الأحادیث أن السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) مع جلالة قدرها و عظم شأنها و شرف نسبها كانت تقوم بأعمال البیت، و تدیر أمور البیت بنفسها، و كان علي (علیه السلام) یعینها و یتعاون معها، فقد روي عن الامام علي (علیه السلام) قال: دخل علینا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و فاطمة جالسة عند القدر و أنا أنقی العدس.

قال: یا أباالحسن.

قلت: لبّیك یا رسول اللّه

قال: اسمع مني، و ما أقول إلاّ من أمر ربي: ما من رجل یعین امرأته في بیتها إلاّ كان له بكل شعرة علی بدنه عبادة سنة، صیام نهارها، و قیام لیلها..... إلی آخر الحدیث (2) .

ص: 217


1- بحارالانوار ج 85.
2- جامع الاخبار، و في البحار ج 43.

فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) و العلم

لقد عرفت- من مجموع الاحادیث الماضیه- ان السیده الزهراء (علیه السلام) كانت اقرب انسان الی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و إن اتصالها و ارتباطها بالنبي هو اتصال الجزء بالكل، و ارتباط بعض الشيء بالبعض الآخر، فالحب و العطف و الانسجام و العلاقات الودّیة قد بلغت إلی أقصی درجة..

فلا عجب إذا كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یعلم ابنته أفضل الأعمال، و یرشدها إلی أحسن الأخلاق، و یفيض علیها أحسن المعارف و أرقاها.

و الزهراء (علیها السلام) تلتهم تلك العلوم الربانیة من ذلك النبع العذب الزلال، و تمتص رحیق الحقیقة من مهبط الوحي، فيمتلئ قلبها الواعي الواسع بأنواع الحكمة، و یساعدها عقلها الوقّاد، و ذكاؤها المفرط علی فهم المعاني و درك المفاهیم، و حفظ المطالب علی أتمّ وجه و أكمل صورة.

لقد سمعتْ من أبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الكثیر الكثیر من العلوم، و تعلّمت منه القسط الوافر من الأحكام و الأدعیة و الأخلاق و الحِكَم. هذا كله... بالاضافه الی ما الهمها اللّه تعالی من العلم و المعرفه.

و قد مر علیك بعض التفصیل عند التحدث عن اسمها: «المحدثه».

و روی جابر بن عبداللّه الانصاري عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه

ص: 218

و آله و سلم) انه قال: «ان اللّه جعل علیا و زوجته و ابناءه حجج اللّه علی خلقه، و هم ابواب العلم في امتي، من اهتدی بهم هدي الی صراط مستقیم (1) .

و لكن الموسف حقا انه قد روي عنها القلیل، حسب ظروفها الخاصة و لما ستعرف قریباً.

و لو كانت الزهراء (علیها السلام) تعیش أكثر مما عاشت- مع فسح المجال أمامها لملأت الدنیا علماً و ثقافة و معرفة.

و لیس هذا إدّعاءً فارغاً، بل هو الواقع الذي لا شك فيه.

فقد وجدت السیدة الزهراء المجال في حیاتها ساعتین فقط: ساعة خطبت فيها في مسجد أبیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و ساعة خطبت في بیتها في جمع النساء اللاتي حضرن لعیادتها.

و ستعرف قریباً مدی مواهبها وسعة اطلاعها، و كثرة معلوماتها و مقدار قدرتها علی الأداء و الشرح و البیان.

ولكنها- أسفي علیها- ما عاشت إلا یسیراً، و قد عرفت تاریخ میلادها و ستعرف تاریخ وفاتها، و ستعرف أنها ماتت و لم تبلغ العشرین من العمر!!

فما تقول لو كانت الزهراء تعیش حتی تبلغ الخمسین و الستین من العمر مع فسح المجال؟!

لكانت تترك للامه الإسلاميه اعظم ثروه فكریه و علمیه في شتی المواضیع و الفنون!!

و لكن...؟!

ص: 219


1- شواهد التنزیل للحسكاني الحنفي ج 1 ص 58.

ایها القاري الكریم: الیك الآن بعض ما روي عنها من الاحادیث الشریفه:

1- عن تفسیر الإمام العسكري (علیه السلام) قال: حضرت امرأة عند الصدیقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) فقالت: إن لي والدة ضعیفة و قد لبس- أي: اشتبه-علیها في أمر صلاتها شيء، و قد بعثتني إلیك أسألكِ... فأجابتها فاطمة (علیها السلام) عن ذلك، فثنّت (1) فأجابت: (الزهراء)، ثم ثلثت إلی أن عشرت (2) فأجابت، ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشقّ علیكِ یا ابنة رسول اللّه.

قالت فاطمة: هاتي و سلي عما بدا لكِ، أرأیت من أكتُرِیَ (أي استؤجِر) یوماً یصعد إلی سطح بحمل ثقیل، و كراه (أي أجرته) مائة ألف دینار یثقل علیه؟

فقالت: لا.

فقالت: أكتُریتُ أنا لكل مسألة بأكثر من ملی ء ما بین الثری إلی العرش لؤلؤاً، فأحری أن لا یثقل علیَّ سمعت أبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یقول: إن علماء شیعتنا یُحشرون، فيُخلع علیهم من خلع الكرامات علی قدر كثرة علومهم و جِدّهم في إرشاد عباداللّه حتی یخلع علی الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور.

ثم ینادي منادي ربنا (عز و جل): أیها الكافلون لأیتام محمد (صلی اللّه علیه و آله) الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم و الأیتام الذين كفلتموهم و نعشتموهم، فاخلعوا

ص: 220


1- أي: جاءت مرة ثانیة أو سألت مره اخری.
2- أي: جاءت مرة عاشرة أو: سألت عشر مرات.

علیهم خلع العلوم في الدنیا، فيخلعون علی كل واحد من أولئك الأیتام- علی قدر ما اخذو عنهم من العلوم، حتی ان فيهم- یعني في الایتام- كمن یُخلع علیه مائة ألف خلعة، و كذلك یخلع هؤلاء الأیتام علی من تعلّم منهم.

ثم إن اللّه تعالی یقول: أعیدوا علی هؤلاء العلماء الكافلین للأیتام، حتی تتموا لهم خلعهم، و تضعّفوها لهم، فيتمّ ما كان لهم قبل أن یخلعوا علیهم و یضاعف لهم، و كذلك من یلیهم ممن خلع علی من یلیهم.

ثم قالت فاطمة (علیها السلام): (یا أمة اللّه إن سلكةً من تلك الخِلَع لأفضل مما طلعت علیه الشمس ألف ألف مرة» (1) .

2- و عن دعوات الراوندي عن سوید بن غفلة قال: أصابت علیّاً (علیه السلام) شدّة، فأتت فاطمة (علیها السلام) رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فدقّت الباب،فقال: أسمع حسّ حبیبتي بالباب یا أم أیمن قومي و انظري! ففتحت لها الباب فدخلت.

فقال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): لقد جئتِنا في وقت ما كنتِ تأتینا في مثله؟فقالت فاطمة: یا رسول اللّه ما طعام الملائكة عند ربنا؟

فقال: التحمید.

فقالت: ما طعامنا؟

فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): و الذي نفسي بیده ما اقتبس في آل محمد شهرٍا ناراً (2) و أعلمك خمس كلمات علّمنیهن جبرئیل (علیه السلام)

ص: 221


1- بحارالانوار كتاب العلم عن تفسیر الامام العسكري (علیه السلام).
2- اي: ما اشتعلت نار للطبخ في بیوت رسول اللّه منذ شهر

قالت: یا رسول اللّه ما الخمس كلمات؟

قال: «یا رب الأولین و الآخرین، یا ذا القوة المتین و یا راحم المساكین و یا أرحم الراحمین».

فرجعتْ فلما أبصرها علي (علیه السلام) قال: بابي أنت و أمي ما وراءك یا فاطمة؟قالت: ذهبت للدنیا و جئت للآخرة!

فقال علي: خیر أمامك، خیر أمامكِ.

3- و في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: جاءت فاطمة تشكو إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بعض أمرها، فأعطاها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) كَربةً (1) و قال: تعلّمي ما فيها، و إذا فيها: من كان یؤمن باللّه و الیوم الآخر فلا یؤذ جاره، و من كان یؤمن باللّه و الیوم الآخر فلیكرم ضیفه و من كان یؤمن باللّه و الیوم الآخر فلیقل خیراً أو لیسكت.

4- و قالت فاطمه (علیه السلام): من اصعد الی اللّه خالص عبادته، اهبط اللّه الیه افضل مصلحته (2) .

5- و عن فاطمه بنت رسول اللّه قالت: سمعت ابی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)- فيمرضه الذي قبض فيه یقول- و قد امتلات الحجره من اصحابه-: ایها الناس یوشك ان اقبض قبضا یسیرا، و قد قدمت الیكم القول معذره الیكم، الا اني مخلف فيكم: كتاب ربي (عز و جل)، و عترتي أهل بیتي.

ص: 222


1- كربه: اصل السعف، و قیل: ما یبقی في اصوله في النخله.
2- بحارالانوار ج 71 ص 184.

ثم اخذ بید علی فقال: هذا علی مع القرآن، و القرآن مع علي، لایفترقان حتی یردا علی الحوض، فاسالكم ما تخلفوني فيهما.

قال القندوزي الحنفي: روی هذاالحدیث ثلاثون صحابیا، و ان كثیرا من طرقه صحیح و حسن. (1) .

6- و قالت (علیها السلام): قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) «من تختم بالعقیق لم یزل یری خیرا» (2) .

7- و عن فاطمه بنت رسول اللّه قالت:ما یصنع الصائم بصیام اذالم یصن لسانه و سمعه و بصره و جوارحه؟! (3) .

8- و روي عن الشهید زیدبن علي بن علي بن الحسین عن آبائه (علیهم السلام) عن فاطمه بنت النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قالت: سمعت النبي یقول:«ان في الجمعه لساعه لا یوافقها رجل مسلم یسال اللّه (عز و جل) فيها خیرا الا اعطاها ایاها».

قالت فقلت:یارسول اللّه أي ساعه هذه؟

قال: «اذا تدلی نصف عین الشمس للغروب».

قال: و كانت فاطمه (علیه السلام) تقول لخادمها: اصعدي علی السطح، فاذا رایت نصف عین الشمس قد تدلی للغروب فاعلمیني حتی ادعو (4) .

9- و روی حسن بن حسن عن امه فاطمه بنت الحسین، عن فاطمه الكبری بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قالت:قال رسول اللّه:

ص: 223


1- ینابیع الموده للقندوزي الحنفي ص 40.
2- امالي الطوسي ج 1 ص 318.
3- مستدرك الوسائل كتاب الصوم.
4- دلال الامامه للطبري ص 5، و رواه في معانی الاخبارص 399 باختلاف یسیر.

«لایلو من الا نفسه من باب و في یده غمر» (1) .

10- و روی عن عبداللّه بن الحسن عن ابیه عن فاطمه الكبری (علیها السلام) قالت:قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): ما التقی جندان ظالمان الا تخلی اللّه عنهما، و لم یبال ایها غلب، و ما التقی جندان ظالمان الا كانت الدائره اعتاهما» (2) .

11- عن فاطمه بنت الحسین عن فاطمه الكبری (علیها السلام) قالت: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «كل بني ام ینتمون الی عصبتهم» (3) .

اقول: عصبه جمع عاصب، مثل: طلبه جمع طالب، و عصبه الرجل: بنوه و قرابته لابیه، و انما سموا عصبه لانهم عصبوا به، اي: احاطوا به.

ص: 224


1- الغمر: الدسم و الزهومه من اللحم، و الحدیث في كتاب كشف الغمه ج 1 ص 554.
2- كشف الغمه ج 1 ص 553.
3- بحارالانوار ج 43 ص 228.

حدیث اللوح

12- في الكافي بسنده عن ابی بصیر، عن أبي عبداللّه (الصادق) (علیه السلام) قال: قال ابي- الجابر بن عبداللّه الانصاري-: ان لي الیك حاجه، فمتی یخفف علیك ان اخلو بك فاسلك عنها؟

فقال له جابر: أي الاوقات احببته.

فخلا به في بعض الایام، فقال له: یا جابر! اخبرني عن اللوح الذي رایته في ید امي فاطمه (علیها السلام) بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) و ما اخبرتك به امي انه في ذلك اللوح مكتوب؟

فقال جابر: اشهد باللّه اني دخلت علی امك، فاطمه (علیهااسلام) في حیاه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) فهنئتها بولاده الحسین، و رایت في یدیها لوحا اخضر ظننت انه من زمرد، و رایت فيه كتابا ابیض، شبه لون الشمس؛

فقلت لها: بابي انت و امي یا بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) ما هذا اللوح؟

فقالت: هذا اللوح اهداه اللّه الی رسوله (صلی اللّه علیه و آله) فيه اسم ابي و اسم بعلي، و اسم ابني، و اسم الاوصیاء من ولدي، و اعطیانیه ابي لیشربني بذالك.

قال جابر: فاعطتنیه امك فاطمه (علیها السلام) فقراته و استنسخته.

ص: 225

فقال له ابي (الامام الباقر) فهل لك یا جابر ان تعرضه علي؟

قال: نعم.

فمشی معه ابي الی منزل جابر، فاخرج صحیفه من رق (1) فقال: یا جابر! انظر في كتابك لاقرا انا علیك.

فنظر جابر في نسخه، فقراه ابي، فما خالف حرف حرفا.

فقال جابر: فاشهد باللّه اني هكذا رایته في اللوح مكتوبا:

«بسم اللّه الرحمن الرحیم»

هذا كتاب من اللّه العزیز الحكیم

لمحمد نبیه و نوره و سفيره و حجابه و دلیله، نزل به الروح الامین من عند رب العالمین:

عظم- یا محمد- اسمائي، و اشكر نعمائي، و لا تجحد آلائي؛

اني انا اللّه، لا اله الا انا، قاصم الجبارین، و مدیل المظلومین، و دیان یوم الدین.

اني انا اللّه لا اله الا انا، فمن رجا غیر فضلي، او اخاف غیر عدلي عذبته عذابا لا اعذبه احدا من العالمین؛

فایاي فاعبد، و علی فتوكل، اني لم ابعث نبیا فاكلمت ایامه، و انقضت مدته الا جعلت له وصیا، و اني فضلتك علی الانبیاء و فصلت وصیك علی الاوصیاء، و اكرمتك بشبلیك و سبطیك: حسن و حسین.

فجعلت حسنا معدن علمي بعد انقضاء مده ابیه.

و جعلت حسینا خازن وحیي، و اكرمته بالشهاده، و ختمت له بالسعاده، فهو افضا من استشهد، و ارفع الشهداء درجه،

ص: 226


1- الرق: الجلد.

جعلت كلمتي التامه معه، و حجتي البالغه عنده، بعترته اثیت و اعاقب؛ اولهم: علی سید العابین، و زین اولیائي الماضین؛

و ابنه شبه جده المحمود: محمد الباقر علمي، و المعدن لحكمتي؛

سیهلك المرتابون في جعفر، الراد علیه كالراد علي، حق القول مني لاكرمن مثوی جعفر، و لا سرنه في اشیاعه و انصاره و اولیائه.

انتجبت بعده موسی، فتنه عمیاء حندس، لان خیط فرضی لا ینقطع و حجتی لا تخفي، و ان اولیائي یسقون بالكاس لا اوفي؛

من جحد و احدا منهم فقد جحد نعمتي، و من غیر آیه من كتابه فقد افتری علي، و یل للمفترین، الجاحدین؛

عند انقضاء مده موسی عبدي و حبیبي و خیرتي في علي ولیي و ناصري و من اضع علیه اعباء النبوه، و امتحته بالاضطلاع بها، یقتله عفریت مستكبر یدفن في المدینه التي بناها العبد الصالح (1) الی جنب شر خلقي؛ و اختم بالسعاده لابنه علي، ولیي وناصري، والشاهد في خلقي، و أمیني علی وحیي،

اخرج منه الداعي الی سبیلي، و الخازن لعلمي، الحسن؛

ص: 227


1- المقصود: طوس، فقد دفن فيه الامام علي الرضا (علیه السلام) جنب قبر هارون العباسي.

واكمل ذلك بابنه: «م ح م د» رحمه العالمین، علیه كمال موسی، و بهاء عیسی، و صبر ایوب، فيذل اولیائي في زمانه، و تتهادی رووسهم كما تتهادی رووس الترك والدیلم، فيقتلون، و یحرقون، و یكونون خائفين، مرعوبین، و جلین تصبغ الارض بدمائهم، و یفشو الویل و الرنه في نسائهم، اولئك اولیائي حقا.

بهم ادفع كل فتنه عمیاء حندس، و بهم اكشف الزلازل، و ادفع الآصار و الاغلال،او لئك علیهم صلوات من ربهم ورحمه واولئك هم المهتدون».

قال عبدالرحمن بن سالم: قال ابوبصیر: لو لم تسمع في دهرك الا هذا الحدیث لكفاك، فصنه الا عن اهله (1) .

ایها القاری ء الكریم:

بعدما قرات و عرفت من علم الزهراء وكثره اتصالها بالرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) هلم معي و استمع الی ما یذكره العقاد ثم اصحك او ابك:

ذكر العقاد في كتابه: (فاطمه و الفاطمیون) احادیث سقیمه استحسنها هو، و كانه اعجب بها، و من جملتها هذه الخرفه:

«و من فطره التدین في وریثه محمد و خدیجه انها كانت شدیده التحرج فيما اعتقدته من اوامر الدین، حتی وهمت ان اكل الطعام المطبوخ یوجب الوضوء، یظهر ذلك من حدیث الحسن بن الحسن عن فاطمه حیث قالت: «دخل علی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فاكل عرقا (2) فجاء

ص: 228


1- الكافي ج 1 ص 527.
2- العرق- بكسر العین و سكون الراء- اللحم الذي علی العظم.

بلال بالأذان فقام لیصلی، فأخذت بثوبه فقلت: یا أبة ألا تتوضأ؟ فقال: مم أتوضأ یا بنیة؟ فقلت: مما مسَّتِ النار. فقال لي: أو لیس أطیب طعامكم ما مسّت النار».

فهي فيما تجهله تتحرج و لا تترخص، و تؤثر الشدة مع نفسها علی الهوادة معها» (1) .

لا أدري كیف أزیف هذه الأكذوبة التي اختلقتها ید الهوی، و صاغتها ألسنة الكذب و الدجل؟!

و لا أطالب العقاد عن مصدر هذه الأسطورة، و لا عن كتاب ذكر هذه الأضحوكة، فالحدیث منه علیه شواهد أنه كذب و افتراء بصرف النظر عن المصدر و الكتاب.

و لكني اتساءل: ممن كانت الزهراء تأخذ معالم الدین؟!

و ممن كانت تتعلم أحكام الإسلام؟

ألیس المصدر الأول لعلومها هو أبوها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)؟!

و زوجها باب مدینة علم الرسول علي بن أبي طالب؟!

و قبل هذین هو القرآن العظیم الذي نزل شيء منه في بیتها؟

فمن أین جاءها هذا التوهم؟

من القرآن؟

من أبیها؟

من زوجها؟

و كیف كانت تجهل سیدة نساء العالمین هذا الحكم الذي تكثر إلیه

ص: 229


1- ص 53.

الحاجة، و یعم به الابتلاء؟

فهل كانت السیدة فاطمة تأخذ الأحكام من الكذابین الدجالین فتعلمت هذا الحكم منهم؟ و لهذا أخذت بثوب أبیها لتمنعه عن الصلاة بلا وضوء؟

أنا ما أدري، و لعل العقاد یدري، و لعل الذين اختلقوا هذه الأسطورة یدرون!

ص: 230

فاطمه الزهرا (عَلَيهَا السَّلَامُ) و الحجاب

ان من جملة التعالیم الإسلامية التي كانت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تهتم بها غایة الاهتمام- هي المحافظة علی شرف المرأة و حفظ كیانها، عن طریق الحجاب و التستر، فالزهراء (علیها السلام) تعلم- حسب علم الاجتماع- أن ملایین الفضائح و الجرائم و المآسي تأتي عن طریق السفور و التبذّل و الخلاعة و الاختلاط، المسمیّ في زماننا هذا بالحریة و التقدم!!.

فإن كنت لا تصدق فأقرأ الجرائد و المجلات التي تصدر یومیاً و أسبوعیاً، في البلاد الإسلامية و غیر الإسلامية، كي تعرف عدد الضحایا التي تقدّمها الحضارة!.. و التقدم! و الحریة!

فمن حوادث الاغتصاب، الى جرائم الاجهاض واسقاط الجنين، الى قضايا الخيانة الزوجية، الى انهدام الاسرة وتشتت العائلة.. واخيراً الىالفساد والميوعة... كل هذه من مساوىء السفور وآثاره السيئة. (1)

و لا تنس أن معشار هذه الفجائع و المآسي ما كانت تحدث للمرأة المسلمة یوم كانت تؤمن بالحجاب و العفاف و الحیاء!

یوم كانت تؤمن بالحلال والحرام!

یوم كانت تأبی و ترفض أن ینظر إلیها رجل أجنبي و احد!

ص: 231


1- جاء في تقرير نشرته جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 8 شباط 1972م: (.. في لندن ارتفع عدد حالات الإجهاض من ٥٠ ألف في عام ١٩٦٩م الى ٨٣ ألف في عام 1970، وما يقارب 200 ألف في عام 1971 ، وترتفع هذه النسبة في فرنسا..، وفيالاتحاد السوفياتي ٦ ملايين اجهاض سنوياً).

فكیف أن تجعل جسمها و رأسها و وجهها محلاًّ لأنظار المئات بل الألوف من الرجال الأجانب، علی اختلاف أدیانهم و أهوائهم.

و لما ضاعت المفاهیم و القیم سقطت المرأة المسلمة إلی حیث سقطت، و بلغ بها الأمر إلی ما بلغ!.

و إلیك هذین الحدیثین اللذین تضمنّا إعجاب الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بكلام ابنته الطاهرة العفيفة فاطمة الزهراء حول المرأة، و تصدیقه لها، و تقدیره لرأیها:

روی أبونعیم في (حلیة الأولیاء) ج 2 ص 40 عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): ما خیرٌ للنساء؟

فلم ندرِ ما نقول، فسار عليُّ إلی فاطمة فأخبرها بذلك، فقالت: فهلاّ قلت له: خیر لهن أن لا یرین الرجال و لا یرونهن، فرجع- علی إلی رسول اللّه- فأخبره بذلك.

فقال النبي... صدقت إنها بضعة مني.

الروایة بصورة أخری:

عن علي (علیه السلام) أنه قال لفاطمة: ما خیر للنساء؟

قالت: لا یرین الرجال و لا یرونهن.

فذكر ذلك للنبي فقال: إنما فاطمة بضعة مني.

و ذكر ابن المغازلي في مناقبه عن علي بن الحسین بن علي (علیهم السلام) أن فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) استأذن علیها أعمی فحجبته فقال لها النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لم حجبتِه و هو لا یراك؟

فقالت: یا رسول اللّه إن لم یكن یراني فأنا أراه و هو یشمّ الریح.

فقال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): أشهد أنكَ بضعة مني.

ص: 232

فاطمة الزهرا (عَلَيهَا السَّلَامُ) و الدعاء

لاشك ان للدعاء اهمیّة كبری و اثرا بالغا في حیاه الانسان و سعادته، و قضاء حوائجه و استجابه دعائه و تحقق آماله.

و خاصه حینما تنسد الابواب في وجه الانسان و تفشل الوسائل و الطرق المادیه، فانه یفزع الی الدعاء و المناجاه بین یدي الخالق العظیم الذي هو علی كل شي ء قدیر، كما قال سبحانه: «ادعوني استجب لكم».

بل ان الدعاء لا یختص بوقت الحاجه فقط، بل یجب ان یكون برنامجا یومیا في حیاط الانسان، لانه یودي الی توثیق علاقته بربه سبحانه، و یمنح الانسان صفاءا معنویا و نورانیه قلبيه تحلق به الی سماء الكمال الانساني.

من هنا... و فقد كان اولیاء اللّه سبحانه یستانسون بالدعاء و یرتاحون الیه و ینسجمون معه تمام الانسجام.

هذا... و قد رویت عن السیده فاطمه الزهراء (علیها السلام) ادعیه كثیره، كانت تدعو بها ربها سبحانه.

و فيما یلي نذكر نماذج منها، تتمیما للفائده:

في كتاب مهج الدعوات للسیدابن طاووس:

(ذكر ما نختاره من الدعوات عن سیدتنا و امنا المعظمه: فاطمه سیده نساء العالمین، بنت سید المرسلین (صلوات اللّه علیهماو علی عترتهما الطاهرین):

ص: 233

1- فمن ذالك دعاء علمها ایاه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) رویناه باسنادنا الی ابی المفضل محمد بن المطلب الشیباني في الجزء الثالث من امامیه،باسناد نسبه الی مولانا الحسن بن مولانا علي بن أبي طالب (علیهما السلام) عن امه فاطمه بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) وجدناه باسناد صحیح:

ان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال- للزهراء (علیها السلام)-: یا بنیه الا اعلمك دعاء لا یدعو به احد الا استجیب له، و لایعرض لك الشیطان، و لا یعرض عنك الرحمن، و لایزیغ قلبك، و لاترد لك دعوه، و یقضی حوائجك كلها؟

قالت یاابت! لهذااحب الی من الدنیا و ما فيها.

قال: تقولین:

«یا اعز مذكور و اقدمه قدما في العز و الجبروت، یا رحیم كل مسترحم، و مفزع كل ملهوف الیه، یا راحم كل حزین یشكو بثه و حزنه الیه، یا خیر من سئل المعروف و اسرعه اعطاء، یا من یخاف الملائكه- المتوقده بالنور- منه؛

اسالك بالاسماء التي یدعوك بها جبرئیل و میكائیل و اسرافيل الا اجبتني و كشفت- یا الهي- كربتي، و سترت ذنوبي؛

یا من امر بالصیحه في خلقه فاذا هم بالساهره یحشرون، و بذالك الاسم الذي اخییت به العظام و هي رمیم، احي قلبي، و اشرح صدري، و إصلح شأني.

ص: 234

یامن خصه نفسه بالبقاء و خلق لبریته الموت و الحیاه و الفناء یامن فعله قول،و قوله امر، و امره ماض علی مایشاء؛

اسالك بالاسم الذي دعاك به خلیلك حین القي في النار، فدعاك به فاستجبت له، و قلت: یا نار كوني بردا و سلام علی ابراهیم؛

و بالاسم الذي دعاك به موسی من جانب الطور الایمن فاستجبت له؛ و بالاسم الذي خلقت به عیسی من روح القدس، و بالاسم الذي تبت علی داود، و بالاسم الذي وهبت لزكریا یحیی، و بالاسم الذي كشفت به عن ایوب الضر، و تبت به علی داود، و سخرت به لسلیمان الریح تجري بامره، و الشیاطین و علمته منطق الطیر؛

و بالاسم الذي خلقت به العرش و بالاسم الذي خلقت به الكرسي، و بالاسم الذي خلقت به الروحانیین و بالاسم الذي خلقت به جن و الانس، و بالاسم الذي خلقت به جمیع خلقك، و بالاسم الذي خلقت به جمیع ما اردت من شيء و بالاسم الذي قدرت به علی كل شيء؛

اسالك بهذه الاسماء الاما اعطیتني سولي، و قضیت حوائجي یا كریم».

فانه یقال لك: یافاطمه! نعم، نعم (1) .

2- و من ذالك دعاء آخر عن مولاتنا فاطمه الزهراء (صلوات اللّه علیها):

«اللّهم قنعني بما رزقتني، و استرني و عافني ابدا ما ابقیتني، و اغفرلي و ارحمني اذا توفيتني؛

اللّهم لات عیني في طلب ما لا تقدر لي، و ما قدرته علی فاجعله میسرا سهلا؛

ص: 235


1- مهج الدعوات: 139.

اللّهم! كاف عني والدي- و كل من له نعمه علي- خیرمكافاه؛

اللّهم! فرغني لما خلقتني له، و لا تشغلني بما تكفلت لي به، و لا تعذبني و انا استغفرك، و لا تحرمني و انا اسالك؛

اللّهم! ذلل نفسي في نفسي، و عضم شانك في نفسي، و الهمنی طاعتك، و العمل بما یرضیك، و التجنب عما یسخطك، یا ارحم الراحمین» (1) .

3- و من ذالك للحمي دعاء آخر لمولاتنا فاطمه الزهرا (علیها السلام): دخل النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) علی فاطمه الزهراء (علیها السلام) فوجد الحسن (علیه السلام) موعوكا (2) فشق ذالك علی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فنزل جبرئیل (علیه السلام) فقال یامحمد! الا اعلمك معاذه تدعوبها فينجلي عنه (الحسن) ما یجده؟

قال (النبي): بلی.

قال: قل:

«اللّهم! لا اله الا انت العلي العظیم، ذو السلطان القدیم و المن العظیم، و الوجه الكریم، لا اله الا انت العلي العظیم، ولي الكلمات التامات و الدعوات المستجابات، حل ما اصبح بفلان».

فدعا النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم)، ثم وضع یده علی جبهته (الحسن) فاذا هو- بعون اللّه- قد آفاق (3) .

ص: 236


1- 221. مهج الدعوات: 141.
2- موعوكا: مریضا.
3- مهج الدعوات: 141.

4- دعاء النور: العلاج العجیب لمكافحة الحمي

لقد اشتهر بین الشیعة- بكافة طبقاتهم من أهل العلم و غیرهم:- دعاء النور المروي عن سیدتنا فاطمة الزهراء (علیها السلام) و في خلال هذه القرون ثبت بالتجارب- علی مرّ التاریخ- أن لهذا الدعاء تأثیراً خاصاً للاستشفاء من الحمي، و قد ذكره كثیر من علمائنا في كتب الأدعیة و الأحادیث، و منهم السید ابن طاووس في كتابه (مهج الدعوات).

و خلاصة الحدیث ان السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) علّمت سلیمان الفارسي (رضوان اللّه علیه) هذا الدعاء و قالت له: إن سَرَّك أن لا یمسَّك أذی الحمي ما عشت في دار الدنیا، فواظب علی هذا الكلام الذي علّمنیه أبي: محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كنت أقوله غدوة و عشیة:

بِسمِ اللّه الرّحْمنِ الرَّحیمِ

بسم اللّه النور، بسم اللّه نور النور، بسم اللّه نور علی نور، بسم اللّه الذي هو مدبّر الأمور، بسم اللّه الذي خلق النور من النور، الحمد للّه الذي خلق النور من النور، و أنزل النور علی الطُور، في كتاب مَسطور في رَقٍّ منشور، بَقَدر مقدور، علی نبي مَحبُور، الحمد للّه الذي هو بالعز مذكور، و بالفخر مشهور، و علی السَّرَّاء و الضَّرَّاء مشكور، و صلی اللّه علی سیدنا محمد و آله الطاهرین.

قال سلمان: و اللّه لقد علّمتُ أكثر من ألف إنسان في مكة و المدینة كانوا مصابین بالحمي، فبرئوا بإذن اللّه.

ص: 237

5- و في (كشف الغمه): و عن عبداللّه بن الحسن، عن امه فاطمه بنت الحسین، عن فاطمه (علیها السلام) قالت:

«كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) اذ دخل المسجد قال: «بسم اللّه، و الحمدلله، و صلی اللّه علی رسول اللّه، اللّهم اغفرلي ذنوبي، و سهل لي ابواب رحمتك».

و اذا خرج قال مثل ذلك الا انه یقول: «اللّهم اغفرلي ذنوبي، و سهل لي ابواب رحمتك».

و اذا خرج قال مثل ذلك، الا انه یقول: «اللّهم اغفرلي لي ذنوبي، و سهل ابواب (رحمتك) و فضلك». (1) .

6- و عن زین العابدین (علیه السلام) قال: ضمني والدي (علیه السلام) الی صدره یوم قتل، و الدماء تغلي، و هو یقول: یا بني احفظ عني دعاء علمتنیه فاطمه (علیه السلام) و علمها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) و علمه جبرئیل (علیه السلام) في الحاجه و الهم و الغم و النازله اذا نزلت، و الامرالعظیم الفادح قال: ادع:

«بحق و القرآن الحكیم، و بحق طه و القرآن العظیم، یا من یقدر علی حوائج السائلین، یا من یعلم ما في الضمیر، یا منفس عن المكروبین یا مفرج عن المغمومین یا راحم الشیخ الكبیر، یا رازق الطفل الصغیر، یا من لا یحتاج الی التفسیر صل علی محمد و آل محمد، و افعل بي...» تذكر الحاجه (2) .

7- و عن الامام الصادق (علیه السلام) قال:... ان فاطمه اتت اباها (صلی اللّه علیه و آله) سبابته الیمنی فوضعها علی سنها التي تضرب و قال:«بسم اللّه و باللّه، اسالك بعزتك و جلالك و قدرتك علی كل شيء، ان مریم

ص: 238


1- كشف الغمه ج 1 ص 553.
2- الدعوات للراوندي.

لم تلد غیر عیسی روحك و كلمتك، ان تكشف ما تلقی فاطمه بنت خدیجه من الضر كله» فسكن مابها...» الی آخرحدیث (1) .

8- و روي ان فاطمه (علیها السلام) زارت النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقال لها: الا ازودك؟

قالت: نعم.

قال: قولي: (اللّهم ربنا و رب كل شيء، مُنزل التوراة و الإنجیل و الفرقان، و فالق الحب و النوی، أعوذ بك من كل دابة أنت آخذ بناصیتها، أنت الأول فلیس قبلك شيء، و أنت الآخر فلیس بعدك شيء، و أنت الظاهر فلیس فوقك شيء، و أنت الباطن فلیس دونك شيء، صل علی محمد و علی أهل بیته علیه و علیهم السلام، واقض عني الدَین و أغنني من الفقر، و یسّرلي كل أمر یا أرحم الراحمین) (2) .

9- و عن علي (علیه السلام) قال ان فاطمه شكت الی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الارق (3) فقال لها: قولي یا بنیه: (یا مشبع البطون الجائعه، و یا كاسي الجسوم العاریه، و یا ساكن العروق الضاربه، و یا منوم العیون الساهره، سكن عروقي الضاربه، و اذن لعیني نوما عاجلا).

قال (علیه السلام): فقالته، فذهب عنها ما كانت تجده (4) .

ص: 239


1- مكارم الاخلاق ص 406.
2- مهج الدعوات ص 142، ذخائر العقبی للطبري ص 49 و في: ان فاطمه (علیه السلام) سالت اباها خادما، فعلمها هذا الدعاء.
3- الارق السهر.
4- بحارالانوار ج 76 ص 213.

10- و روی هذا دعاء عن السیده فاطمه (علیها السلام):

«اللّهم بعلمك الغیب، و قدرتك علی الخلق، احیني ما علمت الحیاه خیرا لي، و توفني اذا كانت الوفاه خیرا لي، اللّهم اني اسالك كلمه الاخلاص، و خشیتك في الرضا و الغضب، و القصد في الغني و الفقیر، و اسالك نعیما لا ینفذ، و اسالك قره عین لا تنقطع، و اسالك الرضا بالقضاء، و اسالك برد العیش بعد الموت، و اسالك نظر علی وجهك (1) و الشوق الی لقائك، من غیر ضراء مضره، و لا فتنه مظلمه،اللّهم زینا بزینه الایمان، و اجعلنا هداه مهدیین یا رب العالمین» (2) .

ص: 240


1- من الثابت عقائدیا و عقلا. ان رویه اللّه مستحیله في الدنیا و الاخره، لان الرویه لا تكون الا للاجسام، و اللّه تعالی لیس بجسم و لا مركب و لا یشغل حیزا و لا مكانا. فقول الزهرا (علیها السلام): «و اسالك النظر الی وجهك» معناه: النظر الی رحمه اللّه سبحانه و جمیل صنعه و لطفه و احسانه.
2- بحارالانوارج 94 ص 225.

النبي یخبر الزهراء عن احداث المستقبل

من الطبیعي أن السیدة فاطمة (علیها السلام) مع منزلتها القریبة و مكانتها الخاصة عند ابیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم)- كان النبي یخبرها عن المستقبل الخاص و العام.

ان النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الذي كان یخبر الناس عما سوف یجری من بعده و یخبرهم عن أشراط الساعة، و علائم آخر الزمان و مشاهد القیامة.

أتراه لا یعلم بما سوف یجري علی أهل بیته من بعده، و علی ابنته العزیزة: فاطمة الزهراء؟!

أو تراه یعلم ذلك و لا یخبر هم بما یتعلق بمستقبلهم و مصیرهم؟!

نعم... كان النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یخبراهل بیته بما سیجري علیهم من الناس من بعد وفاته مباشرة و بعد ذلك علی طول خط التاریخ، فكم أخبر النبي (صلی اللّه علیه و آله) أصحابه و زوجاته بشهادة الحسین (علیه السلام)؟

و من الیقین أنه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أخبر ابنته الحبیبة فاطمة بمصائبها و نوائبها و اضطهادها و ما یجري علیها من المآسي.

و خاصة في الأیام الأخیرة من حیاته الشریفة، و علی الأخص في اللیلة الأخیرة و الیوم الأخیر من حیاته فقد ضاق المجال و حضرت الساعة الحرجة

ص: 241

لیكشف رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) النقاب عن الواقع لابنته و یخبرها بكل صراحة فيبشرّها أنها لا تلبث بعده إلا قلیلاً ثم تلتحق بأبیها الرسول في الدرجات العلي و الرفيق الأعلی، ثم یخبرها بتبدل الأحوال و تغیّر الأوضاع:

فقد روي عن عبداللّه بن العباس قال: لما حضرت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الوفاة بكی حتی بلّت دموعه لحیته.

فقیل له: یا رسول اللّه ما یبكیك؟

فقال: أبكي لذریتي، و ما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كاني بفاطمه بنتي و قد ظلمت بعدي و هي تنادي یا ابتاه فلا یعینها أحد من امتي.

فسمعت ذلك فاطمة (علیها السلام) فبكت، فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): لا تبكینّ یا بنیّة.

فقالت: لست أبكي لما یصنع بي من بعدك، و لكنني أبكي لفراقك یا رسول اللّه.

فقال لها: أبشري یا بنت محمد بسرعة اللحاق بي فإنك أول من یلحق بي من أهل بیتي. (1) و عن ابن عباس عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) أنه قال:... و إني لما رأیتها (فاطمة) ذكرت ما یصنع بها بعدي، كأني و قد دخل الذل بیتها و انتهكت حرمتها، و غُصب حقُّها، و مُنعت إرثها، و كسر جنبها، و أسقطت جنینها، و هي تنادي: یا محمداه. فلا تجاب، و تستغیث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكیة، تتذكر انقطاع الوحي عن بیتها مرة، و تتذكر فراقي أخری، و تستوحش إذا جنّها اللیل لفقد صوتي

ص: 242


1- بحارالانوار جلد 43 ص 156 عن الامالي للشیخ المفيد.

الذي كانت تستمع إلیه إذا تهجّدت بالقرآن ثم تری نفسها ذلیلة بعد أن كانت في أیام أبیها عزیزة.... الی آخره (1) .

هذا و الأخبار و الأحادیث الواردة عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في إخباره أهل بیته بما یجري علیهم من بعده- كثیرة جداً- و آخر مرة أخبر النبي أهل بیته (و هم عليّ و الزهراء و الحسن و الحسین) في مرض موته، و قبل وفاته (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بساعات قلائل.

فقد روي عن جابر بن عبداللّه الانصاري قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في مرضه الذي قبض فيه، لفاطمة (علیها السلام): بابي و أمي أنتِ! أرسلي إلی بعلك فادعیه لي.

فقالت فاطمة للحسین أو الحسن: انطلق إلی أبیك فقل: یدعوك جدي.

فانطلق إلیه الحسین فدعاه. فأقبل علي بن أبي طالب (علیه السلام) حتی دخل علی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و فاطمة عنده و هي تقول:

و اكرباه لكربك یا أبتاه!

فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): لا كرب علی أبیك بعد الیوم یا فاطمة، و لكن قولي كما قال أبوك علی إبراهیم (2) : تدمع العینان و قد یوجع القلب، و لا نقول ما یسخط الرب، و إنا بك یا إبراهیم لمحزونون (3) .

و روی أن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) دعا علیاً و فاطمة و الحسن و الحسین (علیهم السلام) و قال- لمن في بیته-: أخرجوا عني. و قال- لأم

ص: 243


1- بحارالانوار ج 43 ص 172 عن امالي الصدوق/ 99.
2- ابراهیم بن رسول اللّه،و امه ماریه القبطیه، توفي و له من العمر سنه و نصف.
3- تفسیر فرآت بن ابراهیم، رواه عنه في البحار ج 22.

سلمة-: كوني علی الباب فلا یقربه أحد.

ثم قال لعلي-: أُدنُ مني. فدنا منه فأخذ بید فاطمة فوضعها علی صدره طویلاً و أخذ بید عليّ بیده الأخری، فلما أراد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الكلام غلبته عبرته، فلم یقدر علی الكلام، فبكت فاطمة بكاءً شدیداً و عليّ و الحسن و الحسین (علیهم السلام) لبكاء رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقالت فاطمة: یا رسول اللّه قد قطعت قلبي، و أحرقت كبدي لبكائك یا سید النبيین من الأولین و الآخرین، و یا أمین ربه و رسوله، و یا حبیبه و نبیّه.

مَن لولدي بعدك؟

و لذُلٍّ ینزل بي بعدك؟ مَن لعليّ أخیك و ناصر الدین؟

من لوحي اللّه و أمره؟

ثم بكت و أكبَّت علی وجهه فقبلته، و أكبَّ علیه عليّ و الحسن و الحسین (علیهم السلام) فرفع رأسه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إلیهم، و ید فاطمة في یده فوضعها في ید عليّ و قال له: یا أباالحسن ودیعة اللّه و ودیعة رسوله محمد عندك، فاحفظ اللّه واحفظني فيها، و إنك لفاعل هذا.

یا عليّ هذه- و اللّه- سیدة نساء أهل الجنة من الأولین و الآخرین، هذه- و اللّه- مریم الكبریِ (1) .

أما- واللّه- ما بلغت نفسي هذا الموضع حتی سألت اللّه لها و لكم، فأعطاني ما سألته.

یا عليّ أنفذ ما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشیاء أمر بها جبرئیل.

ص: 244


1- اي منحیث الشبه او المنزله.

و اعلم یا عليّ أنی راضٍ عمّن رضیت عنه ابنتي فاطمة، و كذلك ربي و ملائكته.

یا عليّ: ویل لمن ظلمها، ویل لمن ابتزّها حقها، و ویل لمن هتك حرمتها...

ثم ضمّ (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فاطمة إلیه و قبّل رأسها و قال: فداك أبوك یا فاطمة... الی آخره (1) .

و روي عن الامام الصادق (علیه السلام)- في حدیث طویل-: ان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال- لابنته فاطمه (علیها السلام):....

«اما ترضین ان تنظري الی الملائكه علی ارجاء السماء ینظرون الیك و الی ما تامرین به.

و ینظرون الی بعلك قد حضر الخلائق و هو یخاصمهم عند اللّه، فما ترین اللّه صانعا بقاتل ولدك و قاتلیك و قاتل بعلك....» الی آخر الحدیث (2) .

ان النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یخبر ابنته- بكل صراحه- بانها سوف تقتل، كما یقتل زوجها و ولدها ایضا.

و سوف تقرا- في فصل قادم- ما جری علی سیده النساء من المصائب و آلالام، التي ادت الی شهادتها و وفاتها.

و روي عن الامام موسی بن جعفر (علیه السلام) قال: قلت- لأبي عبداللّه (الصادق) (علیه السلام): الیس كان امیرالمومنین كاتب الوصیه، و رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) المملي علیه، و جبرئیل و الملائكه المقربون (علیهم السلام) شهودا؟

قال: فاطرق (الامام الصادق) طویلا (3) ثم قال (الامام) یا اباالحسن

ص: 245


1- بحارالانوار ج 22/ 484.
2- بحار الانوار ج 44 ص 256.
3- و في نسخه: ملیا.

(الكاظم) قد كان ما قلت، و لكن حین نزل برسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) الامر (1) نزل الوصیه من عند اللّه كتابا مسجلا نزل به جبرئیل مع امنا اللّه (تبارك و تعالی) من الملائكه.

فقال جبرئیل: یا محمد! مر باخراج من عندك. الا و صلیت، لیقبضها منا، و تشهدنا بد فعل ایاها الیه، ضامنا لها- یعني علیها (علیه السلام).

فامر النبي (صلی اللّه علیه و آله) باخراج من كان في البیت ما خلا علیا و اشهدت به علیك ملائكتي، و كفي بي- یا محمد- شهیدا؛

(قّال الامام الصادق): فارتعدت مفاصل النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقال: یا جبرئیل؛ ربي هو السلام، و منه السلام، و الیه و یعود السلام، صدق (عزوجل) و بر، هات الكتاب.

فدفعه الیه، و امره بدفعه الی امیرالمومنین (علیه السلام) فقال له: اقراه. فقراه حرفا حرفا؛

فقال النبي: یا علي! هذا عهد ربي (تبارك و تعالی) الی، و شرطه علي، و امانته، و قد بلغت و نصحت و ادیت!

فقال علي (علیه السلام): و انا اشهد لك- بابي و امي انت- بالبلاغ و النصیحه و التصدیق علی ما قلت، و یشهد لك سمعي و بصري و لحمي و دمي!

فقال جبرئیل: و انا لكما علی ذالك من الشاهدین.

ص: 246


1- لعل المقصود من الامر- هنا-: الموت.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله): یا علي! اخذت وصیتي و عرفتها، و ضمنت للّه ولي الوفاء بما فيها؟

فقال علي (علیه السلام): نعم بابي انت و امي، علی ضمانها، و علی اللّه عوني و توفيقي علی ادائها.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله): یا علي! اني ارید ان اشهد علیك بموافاتي بها یوم القیامه!!

فقال علي (علیه السلام): نعم، اشهد.

فقال النبي (صلی اللّه علیه و اله): ان جبرئیل و میكائیل فيما بیني و بینك آلان، و هما حاضران، معهما الملائكه المقربون، لاشهد هم علیك!

فقال: نعم، لیشهدو، و انا- بابي انت و امي- اشهدهم!

فاشهدهم رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله).

و كان فيما اشترط علیه النبي- بامر جبرئیل (علیه السلام) فيما امر اللّه به (عزوجل) ان قال له:

«یا علي! تفي بما فيها من مولاه من والی اللّه و رسوله، و البرائه و العداوه لمن عادی اللّه و رسوله، و بالبرائه منهم علی الصبر منك (و) علی كظم الغیظ، و علی ذهاب حقي، و غصب خمسك (1) و انتهاك حرمتك؟

فقال: نعم، یا رسول اللّه.

قال امیرالمومنین (علیه السلام): و الذي فلق الحبه، و برا النسمه. لقد سمعت جبرئیل (علیه السلام) یقول للنبي:

«یا محمد! عرفه انه ینتهك الحرمه، و هي حرمه اللّه، و حرمه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) و علی ان تخضب لحیته من راسه بدم عبیط!».

ص: 247


1- و في نسخه: غصبك.

قال امیرالمومنین (علیه السلام) فصعقت حین فهمت الكلمه من الامین جبرئیل حتی تسقط علی وجهي، و قلت:

«نعم، قبلت و رضیت، و ان انتهكت الحرمه! و عطلت السنن، و مزق الكتاب (القران) و هدمت الكعبه، و خضبت لحیتي من رأسي بدم عبیط، محتسباابدا، حتی اقدم علیك».

ثم دعا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله): فاطمه و الحسن و الحسین و اعلمهم مثل ما اعلم امیرالمومنین فقالوا مثل قوله؛

فختمت الوصیه بخواتیم من ذهب لم تمسه النار، و دفعت أي امیرالمومنین (علیه السلام).

قال الراوي: فقلت لابی الحسن (الكاظم) (علیه السلام): بابي انت و امي! الا تذكر ما كان في الوصیه؟

فقال: سنن اللّه و سنن رسوله.

فقلت: اكان في الوصیه توثبهم (1) و خلافهم علی امیرالمومنین (علیه السلام)؟

فقال: نعم، واللّه، شیئا شیئا، و حرفا حرفا، اما سعت قول اللّه (عزوجل): «انا نحن الموتی و نكتب ما قدمنوا و آثارهم و كل شي احصیناه في امام مبین»؟

واللّه لقد قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و اله) لامیرالمومنین و فاطمه (علیهما السلام): الیس قد فهمتما ما تقدمت به الیكما و قبلتماه؟

فقالا: بلی، و صبرنا علی ما ساءنا و غاظنا (2) كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في تلك الساعه الاخیره

ص: 248


1- التوثب: الاستیلاء علی الشيء ظلما.
2- الكافي ج 1 ص 281.

واضعاً رأسه علی صدر علي (علیه السلام) و قلبه لا یطاوعه إلاَّ أن یضمّ فاطمة إلی صدره مرة بعد مرة و دموعه تجري كالمطر حتی ابتلت لحیته الشریفة و ابتلت الملاءة التي كانت علیه، و أقبل الحسن و الحسین یقبلان قدمیه و یبكیان بأعلی أصواتهما

و أراد علي (علیه السلام) أن یرفعهما، فقال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم): دَعهما یشمّاني و أشمّهما، و یتزوّدا مني و أتزوّد منهما، فسیلقیان من بعدي زلزالاً، و أمراً عضالاً، فلعن اللّه من یحیفهما، اللّهم إني أستودعكهما و صالح المؤمنین.

و لا تسأل عن بكاء السیدة فاطمة الزهراء في تلك اللحظات و هي تری أباها الرسول العظیم و والدها البار العطوف الحنون علی أعتاب المنیّة، فكانت تخاطب أباها بدموع جاریة: نفسي لنفسك الفداء و وجهي لوجهك الوقاء.

یا أبتاه ألا تكلمني كلمة فإني أنظر إلیك و أراك مفارق الدنیا، و أری عساكر الموت تغشاك شدیداً.

فقال لها: بُنیة إني مفارقك، فسلام علیك مني.

و في كشف الغمة. ثم قال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): یا بنیة أنتِ المظلومة بعدي! و أنت المستضعفة بعدي، فمن آذاك فقد آذاني، و من جفاكِ فقد جفاني، و من وصلك فقد وصلني، و من قطعك فقد قطعني، و من أنصفك فقد أنصفني، لأنك مني و أنا منك، و أنت بضعة مني و روحي التي بین جَنبيّ.

ثم قال: إلی اللّه أشكو ظالمیك من امتي.

فما مضت سوی فترة قصیرة إذ قام علي (علیه السلام) قائلاً: أعظم اللّه أجوركم في نبیكم فقد قبضه اللّه إلیه.

ص: 249

فارتفعت الأصوات بالضجة و البكاء، فكان أعظم یوم في تاریخ البشر، و أوجع صدمة علی قلوب المسلمین، و لم یر یوم أكثر باكیاً و باكیة من ذلك الیوم.

و هكذا مرّت تلك الساعة المُرة العصیبة التي كانت أصعب ساعة في حیاة الزهراء.

فكیف انقضت تلك الدقائق علی قلب فاطمة و هي تری أباها مسجّی لا حراك به؟!

فكانت الزهراء تقول: یا أبتاه من ربه ما أدناه!

وا أبتاه جنة الفردوس مأواه!

وا أبتاه إلی جبرئیل ننعاه!

وا أبتاه أجاب ربّاً دعاهِ (1) .

و كان علیّ یقول: یا رسول اللّه!

و الحسنان یبكیان و یقولان: واجدّاه واجدّاهِ (2) .

و قام علي (علیه السلام) بتغسیل الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و تحنیطه و تكفينه و حضر وقت الصلاة علیه، فكانت السیدة فاطمة الزهراء من جملة المصلّین علی جثمان أبیها العظیم في الوجبة الأولیِ (3) .

و إلی أن دفن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كان بكاء الزهراء مستمراً متصلاً و رجعت إلی بیتها و اجتمعت النساء فقالت: إنا للّه و إنا إلیه راجعون، انقطع عنا خبر السماء.

ثم قالت في مرثیة أبیها أبیاتاً نذكرها قریباً.

ص: 250


1- البخاري ج 5 ص 15.
2- المنتقی ص 178.
3- الاحتجاج،للطبرسي.

و قالت لأنس بن مالك-: أطابت نفوسكم أن تحثّوا علی رسول اللّه التراب؟

و في كشف الغمة عن الإمام الباقر (علیه السلام): ما رؤیت فاطمة (علیها السلام)ضاحكة مستبشرة منذ قُبض رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حتی قُبضت.

و في روایة أخری: إلاّ یوماً افترت بطرف نابها (1) .

و عن عمران بن دینار: إن فاطمة لم تضحك بعد النبي حتی قُبضت لِما لحقها من شدة الحزن علی أبیها (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

ص: 251


1- اي ابتسمت ابتسامه خفيفه.

فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) بعد وفاة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

في كل یوم من أیام الدنیا آباء یموتون، و بناتهم یُفجعن بهم، و یبكین في مصابهم، و یحزنَّ لفقدهم إلاَّ أن نسبة الحزن و البكاء و ألم المصیبة تختلف باختلاف الآباء و البنات، و باختلاف العلاقات الودیة بین الأب و ابنته، فهناك العدد الكثیر من البنات اللاتي لا نصیب لهن من الآباء إلاّ الأبوة، فلا عطف و لا حنان و لا عطف، فكأنه لا معرفة بینهما و لا صلة.

و هناك آباء یمطرون بناتهم بالعطف و الدلال و الاحترام و المحافظة علی البنت لئلا تنخدش عواطفها. و لئلا یحدث شيء یمس بكرامتها.

و یجد الأب من ابنته نفس الشعور المتبادل و الاحترام و التقدیر.

و في هذه الصورة تكون العلاقات الودیة بین الأب و ابنته و ثیقة جداً، و علی هذا تكون مصیبة الأب علی قلب ابنته ألیمة و عمیقة.

و قد مرّ علیك موقف رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) من ابنته الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) و سوف یسهل علیك أن تدرك بان علاقة السیدة فاطمة الزهراء بأبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و محبتها إیاه لم تكن بدافع الأبوة و النبوة فقط، بل كانت السیدة فاطمة تعتبره أباً عطوفاً، و والداً رؤوفاً، شفيقاً رحیماً.

و في الوقت نفسه تعتبره رسول اللّه، و سید الأنبیاء و المرسلین، فهي تحترم أباها كما تحترم المرأة المسلمة المومنه العارفة نبیّها، و تعظّمه أقصی

ص: 252

أنواع التعظیم، و أعلی درجات التفخیم و التجلیل.

و السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) أعلم امرأة في الإسلام، و أعرف أنثی بعظمة نبي الإسلام.

و بعد هذه المقدمة یتضح لنا أن مصیبة وفاة الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) سلبت عن ابنته البّارة كل قرار و استقرار، و كل هدوء و سكون.

فالزهراء تعرف عِظم المصاب، و مدی تأثیر الواقعة في الموجودات كلها.

و هنا تحدثنا فضّة خادمة الزهراء عن الحزن المسیطر علی السیدة فاطمة بسبب وفاة أبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قالت:

«و لما توفي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) افتجع له الصغیر و الكبیر و كثر علیه البكاء، و عظُم رزؤه علی الأقرباء و الأصحاب و الأولیاء و الأحباب، و الغرباء و الأنساب.

و لم تلق إلاّ كل باكٍ و باكیة، و نادب و نادبة، و لم یكن في أهل الأرض و الأصحاب و الأقرباء و الأحباب أشدّ حزناً و أعظم بكاءًا و انتحاباً من السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) و كان حزنها یتجدد و یزید، و بكاؤها یشتد، فجلست سبعة أیام لا یهدأ لها أنین، و لا یسكن منها الحنین، و كل یوم كان بكاؤها أكثر من الیوم الذي قبله.

فلما كان الیوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن، فلم تطق صبراً، إذ خرجت و صرخت، و ضجَّ الناس بالبكاء، فتبادرت النسوة، و أطفئت المصابیح لكیلا تتبین وجوه النساء.

كانت السیدة فاطمة تنادي و تندب أباها قائلة:

وا أبتاه! وا صفياه، وا محمداه! وا أباالقاسماه! وا ربیع الأرامل و الیتامی!مَن للقبلة و المصلّی؟

ص: 253

و مَن لا بنتك الوالهة الثكلی؟

ثم أقبلت تعثر في أذیالها، و هي لا تبصر شیئاً من عبرتها، و من تواتر دمعتها،حتی دنت من قبر أبیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فلما نظرت إلی الحجرة و وقع طرفها علی المئاذنة أغمی علیها، فتبادرت النسوة، فنضحن الماء علیها و علی صدرها، و جبینها حتی أفاقت، فقامت و هي تقول:

رُفعت قوتي، و خإنني جَلَدي، و شمت بي عدوي، و الكمد قاتلي.

یا أبتاه بقیت و الهة وحیدة، و حیرانة فریدة.

فقد انخمد صوتي، و انقطع ظهري، و تنغَّص عیشي، و تكدَّر دهري.

فما أجد- یا أبتاه- بعدك أنیساً لوحشتي، و لا راداً لدمعتي، و لا معیناً لضعفي، فقد فنی بعدك محكم التنزیل، و مهبط جبرئیل، و محل میكائیل.

انقلبت- بعدك- یا أبتاه الأسباب.

و تغلَّقت دوني الأبواب.

فأنا للدنیا بعدك قالیة، و علیك- ما تردّدت أنفاسي- باكیة.

لا ینفد شوقي إلیك، و لا حزني علیك.

إنّ حزني علیك حزن جدید***و فؤادي و اللّه صبّ عنید

كل یوم یزید فيه شجوني***و اكتیابي علیك لیس یبید

جلّ خطبي، فبان عني عزائي***فبكائي في كل وقت جدید

ان قلبا علیك یألف صبراً***أو عزاء فإنه لجلید

ثم نادت:

یا أبتاه، انقطعت بك الدنیا بأنوارها، و ذوتْ زهرتها.

و كانت ببهجتك زاهرة.

یا أبتاه! لا زلت آسفة علیك إلی التلاق.

ص: 254

یا ابتاه! زال غمضي منذ حقَّ الفراق.

یا أبتاه! مَن للأرامل و المساكین؟

و مَن للأمة إلی یوم الدین؟

یا أبتاه! أمسینا بعدك من المستضعفين!

یا أبتاه! أصبحت الناس عنا معرضین!

و لقد كنَّا بك معظَّمین في الناس غیر مستضعفين!

فأي دمعة لفراقك لا تنهمل؟

و أي حزن بعدك لا یتصل؟

و أي جفن بعدك بالنوم یكتحل؟

و أنت ربیع الدین، و نور النبيین

فكیف بالجبال لا تمور؟ و للبحار بعدك لا تغور؟

و الأرض كیف لم تتزلزل؟

رُمیتُ- یا أبتاه- بالخطب الجلیل

و لم تكن الرزیة بالقلیل

و طُرِقتُ- یا أبتاه- بالمصاب العظیم، و بالفادح المهول

بكتك- یا أبتاه- الأملاك

و وقفتِ الأفلاك

فمنبرك بعدك مستوحش

و محرابك خال من مناجاتك

و قبرك فرِحٌ بمواراتك

و الجنة مشتاقة إلیك و إلی دعائك و صلاتك

یا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك!!

فوا أسفاه علیك إلی أن أقدم عاجلاً علیك

ص: 255

و أُثكل أبوالحسن المؤتمن، أبوولدیك الحسن و الحسین.

و أخوك و ولیك، و حبیبك، و من ربیّته صغیراً و آخیته كبیراً.

و أحلی أحبابك و أصحابك إلیك

من كان منهم سابقاً و مهاجراً و ناصراً

و الثكل شاملنا! و البكاء قاتلنا! و الأسی لازمنا

ثم زفرت، و أنَّت أنیناً یخدش القلوب ثم قالت:

قلَّ صبري و بان عني عزائي***بعد فقدي لخاتم الأنبیاء

عین یا عین اسكبي الدمع سحاً***و یك لا تبخلي بفيض الدماء

یا رسول الإله یا خیرة اللّه***و كهف الأیتام و الضعفاء

قد بكتك الجبال و الوحش جمعاً***و الطیر والأرض بعد بكی السماء

و بكاك الحجون و الركن و المشعر***یا سیدي، مع البطحاء

و بكاك المحراب و الدرس***للقرآن في الصبح معلناً و المساء

و بكاك الإسلام إذ صار في الناس***غریباً من سائر الغرباء

لو تری المنبر الذي كنت تعلوه***علاه الظلام بعد الضیاء

یا إلهي عجّل وفاتي سریعاً***(فلقد عِفْتُ الحیاة یا مولائي)

و أخذت فاطمة الزهراء (علیها السلام) شیئاً من تراب قبر أبیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و جعلت تشمّه و هي تقول:

ماذا علی من شمّ تربة أحمد***إن لا یشمّ مدی الزمان غوالیا

قل للمغیّب تحت أطباق الثری***إن كنت تسمع صرختي و ندائیا

صُبَّت عليَ مصائب لو أنها***صُبَّت علی الأیام صرن لیالیا

قد كنت ذات حمی بظلّ محمد***لا أخش من ضیم و كان حمیً لیا

فالیوم أخضع للذلیل و أتّقي***ضیمي، و أدفع ظالمي بردائیا

ص: 256

فإذا بكت قمریة في لیلها***شجناً علی غصن بكیت صباحیا

فلأ جعلن الحزن بعدك مؤنسي***و لأ جعلن الدمع فيك وِ شاحیا (1) .

و روی زیني دحلان في السیرة النبوية هذه الأبیات لها في رثاء أبیها بعد دفنه (صلی اللّه علیه و آله و سلم):

اغبرَّ آفاق السماء و كوّرت***شمس النهار و أظلم العصران

و الأرض من بعد النبي كئیبة***أسفا علیه كثیرة الرجفان

فلیبكه شرق البلاد و غربها***و لیبكه مضر و كل یماني

و لیبكه الطود المعظم جوّه***و البیت ذو الأستار و الأركان

یا خاتم الرسل المبارك ضوؤه***صلّی علیك منزّل القرآن

ثم رجعت إلی منزلها، و أخذت بالبكاء و العویل.

و كانت (سلام اللّه علیها) معصبة الرأس، ناحلة الجسم منهدّة الركن، باكیة العین،محترقة القلب، یغشی علیها ساعة بعد ساعة.

و تقول لولدیها: أین أبوكما الذي كان یكرمكما و یحملكما مرة بعد مرة؟

أین أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة علیكما، فلا یدعكما تمشیان علی الأرض؟

لا أراه یفتح هذا الباب أبداً، و لا یحملكما علی عاتقه، كما لم یزل یفعل بكما!!

و لما توفي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) امتنع بلال من الأذان قال: لا أؤذان لأحد بعد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و إن فاطمة (علیها السلام) قالت ذات یوم: إني أشتهي أن أسمع

ص: 257


1- بحارالانوار ج 43.

صوت مؤذن أبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بالأذان.

فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان فلما قال: اللّه أكبر اللّه أكبر ذكرت أباها و أیامه، فلم تتمالك من البكاء.

فلما بلغ إلی قوله: أشهد أن محمداً رسول اللّه شهقت فاطمة (علیها السلام) و سقطت لوجهها و غشي علیها.

فقال الناس لبلال: أمسك یا بلال فقد فارقت ابنة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الدنیا، و ظنوا أنها قد ماتت؟ فقطع أذانه، و لم یتمّه،

فأفاقت فاطمة (علیها السلام) و سألته أن یتمّ الأذان فلم یفعل و قال لها: یا سیدة النسوان إنی أخشی علیك مما تنزلینه بنفسك إذا سمعت صوتی بالأذان. فأعفته عن ذلكِ (1) .

قال أمیرالمؤمنین (علیه السلام): غسلت النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في قمیصه. فكانت فاطمة تقول: أرني القمیص. فإذا شمّته غشي علیها. فلما رأیت ذلك غیّبتهِ (2) .

و روي عن الامام جعفر صادق (علیه السلام) انه قال عاشت فاطمه بعد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) خمسه و سبعین یوما، لم تُرَ كا شره و لا ضاحكه،تاتی قبور الشهداء في كل جمعه مرتین: الاثنین و الخمیس، فتقول: ها هنا كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ها هنا کان المشرکون (3).

وعن محمود بن لبید قال : لمّا قبض رسول اللّه ( صلّی اللّه علیه و آله و سلّم) كانت فاطمه (علیها السلام) تأتي قبور الشهداء و تأتي قبر حمزه

ص: 258


1- بحارالانوار جلد 43 عن من لا یحضره الفقیه.
2- مقتل الحسین للخوارزمي.
3- بحار الأنوار ج 43 ص 195 عن الکافي.

و تبكي هناك.

فلما كان في بعض الایام اتیت قبر حمزه فوجدتها تبكي هناك، فامهلتها حتی سكنت، فاتیتها و سلمت علیها و قلت: یا سیده النسوان قد-و اللّه- قطعت نیاط قلبي من بكائك.

فقالت: یا اباعمرو، و یحق لي البكاء، فلقد اصبت بخیر الاباء: رسول اللّه.

و اشوقاه الی رسول اللّه.

ثم انشات تقول:

اذا مات یوما میت قل ذكره***و ذكر أبي مذمات، واللّه، اكثر (1) .

اقول: المستفاد من التاریخ و الاحادیث انا السیده فاطمه (علیها السلام) كانت تبكي- علی ابیها- في بیتها، فلمّا منعوها عن البكاء، خرجت الی احد، فلما اشتد بها المرض صعب علیها الخروج الی احد، فكانت تخرج الی البقیع و بیت الاحزان- كما ستقرا ذالك-.

ص: 259


1- بیت الاحزان للقمي ص 141.

فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في مهب الأعاصیر

أیها القارئ:

لقد وصلنا- في حدیثنا هذا- إلی موضع حساس جداّ، حساس تاریخیاً و دینياً و عقائدیاً، و لا أعلم ما یكون صدی هذه الجملات التي سأذكرها هنا؟!

و لا أعلم ردود الفعل التي تنشأ من مطالعة هذه الكلمات؟!

و لا أعرف نوعیة الحكم الذي سیحكم به القارئ عليَّ؟!

و ما هي التهم التي سیوجّهها إليَّ؟

الطائفية؟ التفرقة؟ إثارة الفتنه؟ المسّ بكرامة الصحابة؟ و غیرها من الكلمات التي سأحظی بها من حضرات المطالعین!!

و لعلك- أیها القارئ- لا ترضی بهذه الحقائق، و تظنها كذباً و افتراءً ثم تحكم عليَّ حكماً غیابیاً بما جاد به لسانك و قلمك.

لا یهمّني هذا بمقدار ما یهمّني أن تعلم إنني لا أذكر لك- هنا- شیئاً من المصادر الشیعیة، و لا من كتب الإمامية و إنما أذكر لك بعض القضایا من مصادر سُنیة بحتة محضة فقط، معتبرة عند أهل السنة و الجماعة.

فإن كانت هذه الأخبار صحیحة و صادقة فنعم المطلوب.

و إن كانت سقیمة أي غیر صحیحة فلیست المسؤولیة عليَ.

و إنما المسؤولیة علی تلك المصادر.

و بعبارة أخری: لیس الذنب ذنبي، بل الذنب ذنب التاریخ الذي ذكر

ص: 260

هذه الوقائع

و لو لا ثبوتها عند علماء السنة القدامي لما ذكروها في صحاحهم المعتبرة عندهم، المعتمدة لدیهم.

أیها القارئ:

أعود لأقول كلمتي الأخیرة، ثم أدخل في صمیم الموضوع:

أقول: إنني أذكر لك المصادر و المدارك التاریخیة، فا لأفضل أن تراجعها كي تتأكد من صحة القول و النقل.

و بعد مطالعة هذا الفصل لك الحریة في اختیار موقفك تجاه هذه الأحداث و تبقی أنت و ضمیرك الحي، و وجدانك- و هو الذي تجده في قرارة نفسك- و دیانتك التي أنت معتنقها، و إیمانك باللّه الذي أنت لاقیه، و الحق الذي هو فوق العاطفة و المیول و التقالید.

و كم یؤسفني أني لا أملك حریة القلم و البیان لأسجِّل علی هذه الصفحات الأحداث المؤلمة، و الظروف العصبیة، و العواصف الزعازع، و الساعات الحرجة التي مرَّت بآل الرسول و عترته الطیبة في أقل من أسبوع من بعد وفاة (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

نعم.. الحریة ممنوحة لكل أحد و لكل فئة إلا لآل رسول اللّه!!

و حریة الصحافة المتعارفة في زماننا، و حریة الدفاع المسموح بها في جمیع المحاكم في العالم، و حریة الرأی و الفكر المغترف بها في الدول، هذه الحریات بكافة أنواعها موجودة، و لكن التحدث عن مصائب آل الرسول و تسجیل آلامهم و مآسیهم یعتبر ذنباً لا یغفر..

و الآن استمع إلی مایلي:

ذكر الأستاذ الفذ عبد الفتاح عبد المقصود في كتابه (الإمام علي بن أبي طالب) ص 225:

ص: 261

(... و اجتمعت جموعهم- آونة في الخفاء و آخری علی ملاء- یدعون إلی ابن أبي طالب لأنهم رأوه أولی الناس بأن یلي أمور الناس، ثم تألبوا حول داره یهتفون باسمه و یدعونه أن یخرج إلیهم لیردوا علیه تراثه المسلوب... فإذا المسلمون أمام هذا الحدث محالف أو نصیر، و إذا بالمدینة حزبان، و إذا بالوحدة المرجوَّة شقان أوشكا علی انفصال، ثم لا یعرف غیر اللّه ما سوف تؤول إلیه في نظر ابن الخطاب بالقتل حتی لا تكون فتنة و لا یكون انقسام؟!

كان هذا أولی بعنف عمر إلی جانب غیرته علی وحدة الإسلام، و به تحدّث الناس و لهجت الألسن كاشفة عن خلجات خواطر جرت فيها الظنون مجری الیقین، فما كان لرجل أن یحزم أو یعلم سریرة ابن الخطاب، و لكنهم جمیعاً ساروا وراء الخیال، و لهم سند مما عرف عن الرجل دائماً من عنف و من دفعات و لعل فيهم مّن سبق بذهنه الحوادث علی متن الاستقراء، فرأی بعین الخیال قبل رأی العیون، ثبات عليّ أمام و عید عمر لو تقدم هذا منه یطلب رضاءه و إقراره لأبي بكر بحقه في الخلافة، و لعله تمادي قلیلاً في تصور نتائج هذا الموقف و تخیّل عقباه فعاد بنتيجة لازمة لا معدّي عنها، هي خروج عمر عن الجادة، و أخذ هذا المخالف العنید بالعنف و الشدَّة!

و كذلك سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب ذلك النهار، و هو یسیر في جمع من صحبه و معاونیه إلی دار فاطمة، و في باله أن یحمل ابن عمّ رسول اللّه- إن طوعاً و إن كرهاً- علی إقرار ما أباه حتی الآن.

و تحدث أناس بأن السیف سیكون وحده متن الطاعة!... و تحدث آخرون بأن السیف سوف یلقی السیف!..

ثم تحدث غیر هؤلاء و هؤلاء بأن «النار» هي الوسیلة المثلي إلی حفظ الوحدة و إلی (الرضا) و الإقرار!... و هل علی ألسنة الناس عقال یمنعها أن

ص: 262

تروی قصة حطب أمر به ابن الخطاب فأحاط بدار فاطمة، و فيها عليّ و صحبه، لیكون عدة الإقناع أو عدة الإیقاع؟....

علی أن مثل الأحادیث جمیعها و معها الخطط المدبرة أو المرتجلة كانت كمثل الزبد، أسرع إلی ذهاب و معها دفعة ابن الخطاب!...

أقبل الرجل، محنقاً مندلع الثورة علی دار عليّ و قد ظاهر معاونوه و من جاء بهم فاقتحموه أو أوشكوا علی فاقتحموها او او شكوا علی اقتحام، فإذا وجه كوجه رسول اللّه یبدو بالباب حائلاً من حزن، علی قسماته خطوط آلام، و في عینيه لمعات دمع، و فوق جبینه عبسة غضب فائر و حنق ثائر...

و توقف عمر من خشیة و راحت دفعته شعاعاً. و توقف خلفه- أمام الباب- صحبه الذين جاء بهم، إذ رأوا حیالهم صورة الرسول تطالعهم من خلال وجه حبیبته الزهراء و غضوا الأبصار من خزي أو من استحیاء، ثم ولت عنهم عزمات القلوب، و هم یشهدون فاطمة تتحرك كالخیال، وئیداً وئیداً بخطواتها المحزونة الثكلی، فتقترب من ناحیة قبر أبیها... و شخصت منهم الأنظار و أرهفت الأسماع إلیها، و هي ترفع صوتها الرقیق الحزین النبرات، تهتف بمحمد الثاوي بقربها، تنادیه باكیة مریرة البكاء:

یا أبت یا رسول اللّه!... یا أبت یا رسول اللّه!...

فكأنما زلزلت الأرض تحت هذا الجمع الباغي، من رهبة النداء...

و راحت الزهراء و هي تستقبل المثوی الطاهر، تستنجد بهذا الغائب الحاضر: «یا أبت یا رسول اللّه!... ماذا لقینا بعدك من ابن الخطاب، و ابن أبي قحافة!؟...».

فما تركت كلماتها إلاّ قلوباً صدعها الحزن، و عیوناً جرت دمعاً و رجالاً و دّوا لو استطاعوا أن یشقوا مواطئ أقدامهم لیذهبوا في طوایا الثری مغیّبین...) الی آخر كلامه.

ص: 263

اقتطفنا هذه الجملات من كتاب الأستاذ عبدالفتاح الكاتب المصري المعاصر.

و أما ما ذكره المؤرّخون القدامي، و المحدّثون المتقدمون فهاك بعض أقوالهم حول الموضوع:

في العقد الفرید ج 2 ص 250 و تاریخ أبی الفداء ج 1 ص 156 و أعلام النساء ج 3 ص 1207: «و بعث إلیهم أبوبكر عمر بن الخطاب و قال لهم: فإن أبوا فقاتلهم. و أقبل عمر بقبس من نار علی أن یضرم علیهم الدار فلقیته فاطمة فقالت: یا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟

قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة».

و في تاریخ الطبري ج 3 ص 198 و الإمامة و السیاسیة ج 1 ص 13 و شرح ابن أبی الحدید ج 1 ص 134: دعا بالحطب و قال: و اللّه لتحرقن علیكم أو لتخرجنّ إلی البیعة-: أو: لتخرجنّ إلی البیعة أو لأ حرقنها علی من فيها- فيقال للرجل: إن فيها فاطمة فيقول: و إن!!

و ذكر ابن قتیبة (1) في (الإمامة والسیاسة) ص 19: كیف كانت بیعة علي بن أبي طالب (كرم اللّه وجهه).

قال: و إن! أبابكر تفقد قوماً تخلفوا عن بیعته عند عليّ (كرم اللّه وجهه) فبعث إلیهم عمر، فجاء فناداهم و هم في دار عليّ، فأبوا أن یخرجوا، فدعا بالحطب و قال: والذي نفس عمر بیده لتخرجن أو لأحرقنها علی من فيها

ص: 264


1- هو الامام الفقیه ابومحمد عبدلله بن مسلم بن قتیبه الدینوري، من علماء القرن الثالث هجري، له كتب كثیره، و من اشهرها هو هذا الكتاب المعروف بتاریخ الخلفاء و قد طبع عده مرات في مصر و العراق و لبنان.

فقیل له: یا أباحفص إن فيها فاطمة!

قال: و إن!

فخرجوا فبایعوا إلاّ علیاً فإنه زعم أنه قال: حلفت أن لا أخرج و لا أضع ثوبي (1) علی عاتي حتی أجمع القرآن. فوقفت

فاطمة (رضي اللّه عنها) علی بابها و قالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) جنازة بین أیدینا و قطعتم أمركم بینكم، لم تستأمرونا و لم تردوا (2) تروا- لنا حقاً؟!

و یقول محمد حافظ إبراهیم (شاعر النیل) في قصیدته العمریة:

و قولة لعليّ قالها عمر***أكرم بسامعها أعظم بملقیها

حرّقت دارك لا بقی علیك بها***إن لم تبایع و بنت المصطفي فيها

ما كان غیر أبی حفصٍ یفوه بها***أمام فارس عدنان و حامیها

و ذكر مصطفي بك الدمیاطي في شرحه علی هذه القصیدة ص 38: و في روایة لابن جریر الطبري قال: حدثنا جریر عن مغیرة عن زیاد بن كلیب قال: أتی عمر بن الخطاب منزل عليَّ و به طلحة و الزبیر و رجال من المهاجرین فقال: و اللّه لأحرقن علیكم أو لتخرجن إلی البیعة فخرج علیه الزبیر معلناً بالسیف فسقط السیف من یده، فوثبوا علیه فأخذوه.... الی آخر كلامه.

و قد روی الشهرستاني (3) عن النّظام قال: إن عمر ضرب بطن فاطمة

ص: 265


1- و في نسخه: ردائي.
2- و في نسخه: ردائي.
3- هو الامام الفقیه محمد بن عبدالكریم الشهرستاني، الشافعي، المذهب، من علماء القرن السادس الهجري، و له كتب كثیره، و من اشهرها: كتاب الملل و النحل، و قد طبع عده مرات في مصر و لبنان و العراق و غیرها.

یوم البیعة حتی ألقت الجنین (المحسن) من بطنها، و كان یصیح: أحرقوا دارها بمن فيها. و كان في الدار غیر عليّ و فاطمة و الحسن و الحسین (1) .

و روی مثل ذلك البلاذري في (أنساب الأشراف) ج 1 ص 404.، و الصدفي الشافعي في كتاب الوافي بالوفيات ج 5 ص 347.

و في لسان المیزان لابن العسقلاني ج 1 ص 268:ان عمر رفس فاطمة فأسقطت بمحسن.

و ذكر ابن خذابة- أو خرذابة-: قال زید بن أسلم: كنت ممن حمل الحطب مع عمر إلی باب فاطمة حین امتنع عليّ و أصحابه عن البیعة، فقال عمر لفاطمة: أخرجي من البیت أو لأ حرقنه و مَن فيه!!!

قال: في البیت عليّ و فاطمة و الحسن و الحسین و جماعة من أصحاب النبي.

فقالت فاطمة: أفتحرق علیَّ وُلدي؟

فقال: أي واللّه أو لیخرجنَّ ولیبایعنَّ!!

هذا ما ظفرت به من المصادر المذكورة في كتب أهل السنة و الجماعة، و لعل غیري یجد أكثر من هذه المصادر في كتب التواریخ.

بعد استعراض هذه النصوص التاریخیة انكشف لنا موقف بعض المسلمین تجاه أهل بیت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و اتضح لنا أن بعض الأفراد لم یراعوا حرمة السیدة فاطمة الزهراء و لا حرمة بیتها، و لا راقبوا كرامة زوجها أمیرالمؤمنین عليّ، و لا كرامة ولدیها، الحسن و الحسین (علیهما السلام) و لم یحفظوا فيهم حرمة الرسول الأعظم.

ص: 266


1- الملل و النخل، الباب الاول، الفرقه النظامیه ص 83.

فقد عرفنا من هذه النصوص أن العصابة جاءت لإخراج الإمام عليّ من بیته لیبایع أبابكر، و قد سمعنا منهم التهدید بإحراق البیت و كل من فيه من آل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

ما كانت السیدة فاطمة الزهراء تنتظر أن تری في حیاتها یوماً كذلك الیوم، و مأساة كتلك المأساة، و إن كان أبوها الرسول قد أخبرها بذلك إجمالاً أو تفصیلاً، و لكن السماع شيء و الرؤیة شيء آخر، و تأثیر المصیبة یختلف سماعاً و رؤیة.

إن كانت السیدة فاطمة قد سمعت من أبیها الرسول أن الأمور سوف تنقلب علیها، و أن الأحقاد سوف تظهر بعد وفاة (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فإنها قد شاهدت بعینها تلك الأحداث فقد هجم القوم علی عرینها لیخرجوا زوجها من ذلك البیت الذي ما كان الرسول یدخله إلا بعد الاستئذان من فاطمة.

لا تستطیع الزهراء أن تسكت و تقف موقف المتفرجة.

و آیة عائلة تسكت أو تهدأ إذا رأت عصابة ترید الهجوم علی بیتها لإخراج رئیس العائلة؟

فالخوف و الذعر و الاضطراب یبلغ أشدّه، و یسلب من العائلة كلّ استقرار و هدوء،فا لأطفال یصرخون باكین من هول الموقف، و الأصوات ترتفع في تلك اللحظات الرهیبة.

كانت السیدة فاطمة- قبل هجوم القوم خلف الباب و قد عصّبت رأسها بعصابة، و لم یكن علیها خمار، فلما هجم القوم لاذت السیدة فاطمة خلف الباب لتستر نفسها عن أولئك الرجال، فعصروها عصرة شدیدة، و كانت حاملاً في الشهر السادس من حملها.

و هنا صرخت السیدة صرخة من شدة الألم، لأن جنینها قُتل من

ص: 267

صدمة الباب، و لا تسأل عن مسمار الباب الذي نبت في صدرها بسبب عصرة الباب.

و في تلك اللحظات كان القوم قد ألقوا القبض علی الإمام علي و هم یریدون إخراجه من البیت، و هنا حالت السیدة فاطمة بین القوم و بین أن یُخرجوا زوجها بالرغم من الألم الشدید و اضطراب الجنین في أحشائها.

و هنا صدر الأمر بضرب فاطمة حبیبة رسول اللّه و عزیزته.

إن أولاد فاطمة الزهراء الذين شاهدوا المعركة هكذا یقولون:

لقد قد خاطب الإمام الحسن (علیه السلام) المغیرة بن شعبة في مجلس معاویة بقوله: «و أنت ضربت فاطمة بنت رسول اللّه حتی أدمیتها، و ألقت ما في بطنها، استذلالاً منك لرسول اللّه، و مخالفة منك لأمره، و انتهاكاً لحرمته، و قد قال لها رسول اللّه: «أنت سیدة نساء أهل الجنة» و اللّه مصیّرك إلی النار... الی آخر كلامه (1) .

و في كتاب سلیم بن قیس «... فاقبل عمر و ضرب الباب و نادی:یابن أبي طالب افتح الباب.

فقالت فاطمه (علیها السلام): یا عمر مالنا و لك، لا تدعنا و ما نحن فيه؟

فقال:افتحي الباب، و الّا احرقنا علیكم!

فقالت (علیها السلام):یاعمر اما تتقي اللّه (عز و جل) تدخل علی بیتي و تهجم علی داري؟!

فأبي ان ینصرف، ثم دعی عمر بالنار فاضرمها في الباب ثم دفعه عمر،فاستقبلته فاطمه (علیها السلام) و صاحت: یا ابتاه یا رسول اللّه!!

ص: 268


1- الاحتجاج 137 والبحار ج 43.

فرفع عمرسیف- و هو في غمده- فوجابه جنبها، فصرخت.

فرفع السوط فضرب به ذرعها، فصاحت: یا ابتاه لبئس ما خلفك ابوبكر و عمر.

فوثب علي بن أبي طالب (علیه السلام)فاخذ بتلابیب عمر (1) ثم هزه فصرعه و وجا انفه و رقبته (2) و هم بقتله، فذكر قول رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و ما اوصاه من الصبر و الطاعه فقال: «والذي كرم محمدا بالنبوه- یا بن صحاك!- لو لا كتاب من اللّه سبق،و عهد عهد الی رسول اللّه لعنمت انك لا تدخل بیتي...

فارسل عمریستغیث، فاقبل الناس حتی دخلو الدار، فكاثروه (3) و القوفي عنقه حبلا.

فحالت بینهم و بینه فاطمه (علیها السلام) عند باب البیت،- فضربها قنفذ بالسوط، فماتت- حین ماتت- و إن في عضدها كمثل الدملج (4) من ضربته، فألجأها إلی عضادة بیتها و دفعها، فكسر ضلعاً من جنبها، فألقت جنیناً من بطنها.

فلم تزل صاحبه فراش، حتی ماتت من ذالك شهیده).

و في كتاب ارشاد القلوب: عن الزهرا (علیها السلام) قالت: «... فجمعوا الحطب علی الباب و اتو بالنار لیحرقوه و یحرقوناه، فوقفت بعضاده الباب، و ناشدتهم اللّه و بأبي، ان یكفوا عنا،فاخذ عمرالسوط من ید قنفذ

ص: 269


1- تلابیب جمع تلبیب- و هو موضع الطوق و القلاده من الصدر، یقال: اخذ بتلابیبه اي: امسكه متمكنامنه.
2- و جا: عصر و ضرب.
3- فكاثروه اي: اجتمعوا علی الامام (علیه السلام).
4- الدملج:السوار في المعصم.

فضرب به عضدیپي حتی صار كالدملج، و ركل الباب برجله فرده علی و انا حامل، فسقطت لوجهي و النار تسعر، فضربني بیده حتی انتثر قرطي من أذني، و جاء ني المخاض، فاسقطت محسنا، بغیر جرم».

و قال الإمام الصادق (علیه السلام)... و كان سبب وفاتها أن قنفذاً مولی عمر لكزها بنعل السیف بأمره، فأسقطت محسناً، و مرضت من ذلك مرضاً شدیداً... الی آخر كلامه (علیه السلام).

و هكذا یستفاد أن أكثر من واحد ضرب بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و ان الضرب كان بالسوط تاره و بالسیف - و هو في غمده- تاره اخری، مما سبّب إجهاض الجنین.

و تری الشعراء یتألّمون من هذه المأساة المروّعة و یتحدثون عنها.

یقول أحدهم:

فأسقطت بنت الهدی و احَزَنا***جنینها ذاك المسمّی محسنا

و یقول الآخر:

و الداخلین علی البتولة بیتها***و المسقطین لها أعزَّ جنین

و یقول الآخر:

أو تدری ما صدر فاطم ما المسمار***ما حال ضلعها المكسور

ما سقوط الجنین؟ ما حمرة***العین و ما بال قرطها المنثور

و یقول الآخر:

و لست أدري خبر المسمار***سل صدرها خزانة الأسرار

استنجدت السیدة فاطمة بخادمتها فضة و صاحت یا فضة! إلیك فخذیني و إلی صدرك فاسندیني، و اللّه لقد قتلوا ما في أحشائي!!

أسرعت فضة واحتضنت السیدة فاطمة لتحملها إلی الحجرة، و لكن الجنین سقط قبل وصول الزهراء إلی الحجرة.

ص: 270

و المعروف أن آلام الإ جهاض أشد من آلام الولادة، فكانت حبیبة رسول اللّه فاطمة تئن أنیناً یوجع كل قلب، و یُبكي كل عین، فالطفل فارق الحیاة و أمه تنظر إلیه.

و لكن القوم لم یعیروا اهتماماً بما جری علی سیدة النساء و ابنة سید الأنبیاء، بل أخذوا زوجها العظیم، بعد أن نزعوا عنه السلاح، و تركوه أعزلاً و ألقوا حبل سیفه في رقبته یقودونه من بیته إلی المسجد بكل عنف و قسوة لیبایعِ (1) .

هنا یقف القلم عن الجري، و یخرس اللسان عن بیان و شرح تلك اللحظات التي مرّت بذلك الرجل الغیور، صاحب الحمية و الإباء.

ذلك البطل الإسلامي المجاهد العظیم.

ذلك الإمام الذي كانت الزهراء أغلی عنده من كل غال و نفيس و أعز من كل موجود، و أشرف من كل إنسان بعد الرسول.

و ینظر سلمان إلی ذلك المنظر المذهل و یقول: أیُصنع ذا بهذا؟ و اللّه لو أقسم علی اللّه لانطبقت ذه علی ذهِ (2) .

ص: 271


1- و العجب: ان معاویه یشمت با لامام علي (علیه السلام) بهذا الماساه و یكتب الیه: و تقاد الی كل منهم كما یقاد الجمل المخشوش حتی تبایع كارها...الی آخره كلامه/ شرح ابن ابی الحدید ج 4. فاجابه الامام (علیه السلام)... و قلت انی كنت اقاد كما یقاد الجمل المخشوش حتی ابایع، و لعمر واللّه لقد اردت ان تذم فمدحت، و ان تفضح فافتضحت، و ما علی المسلم من غضاضه في ان یكون مضلوما، لم یكن شاكا في دینه، و لا مرتابا بیقینه، و هذه حجتي الی غیرك قصدها، و لكني اطلقت لك بقدر ما سنح من ذكرها... الی آخر كلامه (علیه السلام)/ نهج البلاغه باب كتبه (علیه السلام).
2- اي انطبقت السماء علی الارض. و الحدیث في بحارالانوار ج 43.

قف بنا لنبكي علی علي، و هو یسمع صرخات زوجته فاطمة!! و یسمع أصوات ولدیه و بنتيه الصغار و هم یولولون، ینظرون إلی أمهم تارة و إلی أبیهم أخری، لا یدرون ما یصنعون؟ هل یلتفون حول أمهم و یسمعون أنینها من صدمة الباب و سقط الجنین؟

أو یرافقون أباهم و قد ازدحم حوله الرجال یدفعونه في ظهره و یقاومون امتناعه.

حیرة و أیه حیره؟!

یرید عليّ أن یسعف زوجته ینظر إلیها و هي في تلك الحالة، و لكن حبل السیف في رقبته، و لكن الرجال یدافعونه، و صرخات الأطفال قد سلبته كل قرار.

ینظر یمیناً و شمالاً، ینادي: واحمزتاه، و لا حمزة لي الیوم، وا جعفراه و لا جعفر لي الیوم!!

ارتفعت أصوات النساء- الواقفات في الطریق- بالبكاء و العویل، و ما الفائدة من صیاح النساء أمام القوة؟ و هل تلین تلك القلوب من صرخات النساء و صیاحهن.

فتحت السیدة فاطمة عینها حینذاك، و لعلها أفاقت علی صراخ أطفالها المذعورین! و قالت: یا فضة! أین عليّ؟!!

قالت- و هي باكیة-: أخذوه للمسجد!!

نسیت فاطمة آلامها، و قامت و كلها آلام و أوجاع، و لكنها استعادت شجاعتها لهول الموقف و لذلك الظرف العصیب.

فلنترك السیدة فاطمة تستعد للخروج لإنقاذ زوجها من تلك الورطة

ص: 272

و لتدارك ذلك الموقف، و لنذهب إلی المسجد النبوي لنری. ما جری علی الإمام عليّ؟؟

نعود إلی ما ذكره ابن قتیبة في (الإمامة والسیاسة) ص11:

و ذكروا أن علیاً أتی أبوبكر و هو یقول: أنا عبداللّه و أخو رسوله.

فقیل له: بایع أبوبكر.

فقال:

أنا أحق بهذا الأمر منكم.

لا أبایعكم، و أنتم أولی بالبیعة لي.

أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احتججتم علیهم بالقرابة من النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم)

و تأخذونه من أهل البیت غصباً؟؟

ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولی بهذا الأمر لمكان محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم) منكم؟؟ فأعطوكم المقادة، و سلَّموا إلیكم الإمارة؟

و أنا أحتجُّ علیكم بمثل ما احتججتم به علی الأنصار:

نحن أولی برسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حیاً و میتاً.

فأنصفونا- إن كنتم تخافون- من أنفسكم.

فقال له عمر: أنت لست متروكاً حتی تبایع.

فقال له عليّ: احلب حلباً لك شطره!!

اشدد له الیوم لیرده علیك غداً.

و اللّه یا عمر لا أقبل قولك و لا أبایعه.

فقال له أبوبكر: فإن لم تبایعني فلا أُكرهك.

فقال عليّ: یا معشر المهاجرین اللّه! اللّه! لا تُخرجوا سلطان محمد في العرب من داره و قعر بیته إلی دوركم و قعور بیوتكم، و تدفعوا أهله عن

ص: 273

مقامه في الناس و حقه.

فو اللّه یا معشر المهاجرین! لنحن أهل البیت أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فيه القارئ لكتاب اللّه، الفقیه في دین اللّه، العالم بسنن رسول اللّه...).

هذا ما یرویه ابن قتیبة في كتابه (الإمامة والسیاسة).

و أما ما یرویه العیاشي في تفسیره 2/ 67:

«... أخرجوه من منزله ملبّباً، و مرّوا به علی قبر النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقال: (یا بن أم أن القوم استضعفوني و كادوا یقتلوني) فقال له عمر: بایع.

قال عليّ: فإن أنا لم أفعل فَمَه؟

قال له عمر: إذن و اللّه أضرب عنقك!

قال عليّ: إذن- و اللّه- أكون عبداللّه المقتول و أخا رسول اللّه.

و في روایة: إذن و اللّه تقتلون عبداللّه و أخا رسول اللّه.

فقال عمر: أما عبداللّه فنعم، و أما أخو رسول اللّه فلا.

و في روایة: و أما أخو رسول اللّه فما نقر لك بهذا.

فقال (علیه السلام): أتجحدون أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) آخی بیني و بینه؟

قال: نعم.

و جری- هناك- حوار شدید و كلام طویل بین خلیفه رسول اللّه علي (علیه السلام) و بین تلك الزمرة.

و عند ذلك وصلت فاطمة إلی المسجد، و قد أخذت بید ولدیها: الحسن و الحسین، و ما بقیت هاشمیة إلاَّ و خرجت معها، فنظرت السیدة فاطمة إلی زوجها أبی الحسن و هو تحت التهدید بالقتل، فأقبلت تعدو

ص: 274

و تصیح: خلّوا عن ابن عمّي!!

خلّوا عن بعلي!! و اللّه لأ كشفن عن رأسي و لأضعنَّ قمیص أبي علي رأسي و لأدعونَّ اللّه علیكم.

و في روایة: فوالذي بعث محمداً بالحق لئن لم تخلوا عنه لأنشرن شعري و لأضعنَّ قمیص رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) علی رأسي، و لأصرخن إلی اللّه تبارك و تعالی، فما ناقة صالح بأكرم علی اللّه مني. و لا الفصیل بأكرم علی اللّه من ولدي (1) .

و في روایة العیاشي: قالت: یا أبابكر أترید أن ترملني من زوجي؟ واللّه لئن لم تكفّ عنه لأنشرنَّ شعري، و لأشقنَّ جیبي، و لآتین قبر أبي، و لأصیحنَّ إلی ربي!!

فأخذت بید الحسن و الحسین و خرجت ترید قبر النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و في روایة أخری: قالت: ما لي ولك یا أبابكر؟ ترید أن تُوتم ابني، و ترملني من زوجي؟

و اللّه لو لا أن تكون سیئة لنشرت شعري و لصرخت الی ربي.

بهذا الفعل؟ أترید أن تنزّل العذاب علی هذه الأمة؟

فقال عليّ لسلمان: أدرك ابنة محمد....

أقبل سلمان و قال: یا بنت محمد إن اللّه بعث أباك رحمة فارجعي!

فقالت: یا سلمان یریدون قتل علي!! ما علیَّ صبر، فدعني حتی آتی قبر أبي فانشر شعري، واشق جیبي و لصیح الی ربي.

ص: 275


1- بحارالانوار ج 43/ تاریخ الیعقوبي/ الاحتجاج للطبرسي.

فقال سلام: اني اخاف ان یخسف بالمدینه، و علی بعثني الیك یامرك ان ترجعي الی بیتك و تنصرفي.

فقالت (علیه االسلام): اذن ارجع و اصبر، و اسمع له و اطیع (1) .

و في كتاب (احتجاج الزهراء) للرضوي النجفي ص 140: فاقبل علی مهر و لا الی السیده فاطمه، فلما وصل الیها لجعلت فاطمه تقبل اكتافه و تقول له- بدموع جاریه-:

«روحي لروحك الفداء، و نفسي لنفسك الوقاء، یا اباالحسن ان كنت في خیر كنت معك، و انت كنت في شر كنت معك».

و خلاصه الحدیث ان السیده فاطمه ما رجعت الی البیت الا و اخذت زوجها معها و انقذته من تلك الزمره، و خلصته من اخذه البیعه منه.

ص: 276


1- بیت الاحزان للقمي ص 87.

مدخل خطبة فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) مأساة فدك و العوالی

اشاره

أحسن كلام نفتتح به هذا البحث، و أصدق حدیث نبدأ به هذا الموضوع هو كلام اللّه تعالی، و مَن أصدق من اللّه قیلاً؟ و مَن أصدق من اللّه حدیثاً؟

قال تعالی: «فَآتِ ذَا الْقُرْبَی حَقَّهُ وَ الْمِسْكِینَ وَ ابْنَ السَّبِیلِ ذَلِكَ خَیْرٌ لِلَّذِینَ یُرِیدُونَ وَجْهَ اللّه وَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (1) .

هذه الآیة كما تراها خطاب من اللّه (عز و جل) إلی حبیبه محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یأمره أن یؤتی ذاالقربی حقه، فمن ذو القربی؟ و ما هو حقه؟

لقد ذكرنا- في آیة القربی أو آیة المودة- أن المقصود من القربی هم أقرباء الرسول و هم عليّ و فاطمة و الحسن و الحسین (علیهم السلام) فيكون المعنی: و أعطِ ذوي قرباك حقوقهم.

روي عن أبي سعید الخدري و غیره أنه لما نزلت هذه الآیة علی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أعطی فاطمة فدكاً و سلّمه إلیها، و هو المروي عن الإمام الباقر و الإمام الصادق (علیهما السلام) و هو المشهور بین جمیع علماء الشیعة.

و قد ذكر ذلك من علماء السنة عدد كثیر بطرق عدیدة، فمنها:

صرَّح في (كنز العمال) و في مختصره المطبوع في الهامش من كتاب

ص: 277


1- الروم 38.

(المسند) لأحمد بن حنبل في مسألة صلة الرحم من كتاب (الأخلاق) عن أبی سعید الخدري قال: لما نزلت: (وآت ذا القربی حقه) قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): یا فاطمة لك فدك.

قال: رواه الحاكم في تاریخه.

و في ص 177 من الجزء الرابع من تفسیر (الدر المنثور) للسیوطي أنه أخرج البزار و أبویعلي وابن أبی حاتم و ابن مردویه عن أبي سعید الخدري قال: لما نزلت هذه الآیة: (فآت ذاالقربی حقه) أقطع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فاطمة فدكاً.

قال ابن أبی الحدید المعتزلي في شرح النهج: و قد روي من طرق مختلفة غیر طریق أبي سعید الذي ذكره صاحب الكتاب: أنه لما نزل قوله تعالی: (فآت ذاالقربی حقه) دعا النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فاطمة فأعطاها فدك.

ما هي فدك؟

التحدث عن فدك یشمل الموارد الآتیة:

1- ما هي فدك؟

2- هل كانت فدك لرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) خاصة أم للمسلمین عامة؟

3- هل دفع الرسول فدكاً إلی ابنته فاطمة الزهراء نحلة و عطیة في حیاته أم لا؟

4- هل یورّث رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أم لا؟

5- هل كانت السیدة فاطمة الزهراء تتصرف في فدك في حیاة أبیها الرسول أم لا؟

1- أما الأبه علی السوال الاول: فقد ذكر اللغویون أقوالهم في فدك:

ص: 278

في القاموس: فدك قریة بخیبر.

و في المصباح: فدك- بفتحتین- بلدة بینها و بین مدینة النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یومان، و بینها و بین خیبر دون مرحلة، و هي مما أفاء اللّه علی رسوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و في معجم البلدان للحموي، باب الفاء و الدال-: فدك:- بالتحریك، و آخره كاف - قریة بالحجاز، بینها و بین المدینة یومان، و قبل ثلاثة، أفاءها اللّه علی رسوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في سنة سبع صلحاً، و ذلك أن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لما نزل خیبر و فتح حصونها و لم یبق إلا ثلاث، و اشتد بهم الحصار أرسلوا إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یسألونه أن ینزلهم علی الجلاء، و فعل، و بلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أن یصالحهم علی النصف من ثمارهم و أموالهم، فأجابهم إلی ذلك فهو مما لم یوجف علیه بخیل و لا ركاب فكانت خالصة لرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

2- و أما الاجابه علی السوال الثاني- و هو: هل كانت فدك خالصة لرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)؟ فقد قال تعالی: (و ما أفاء اللّه علی رسوله منهم فما أوجفتم علیه من خیل و لا ركاب و لكن اللّه یسلّط رسله علی من یشاء و اللّه علی كل شيء قدیر، ما أفاء اللّه علی رسوله منهم فما اوجفتم علیه من خیل و لا ركاب، و لكن اللّه یسلط رسله علی من یشاء و اللّه علی كل شي قدیر،ما افاء اللّه علی رسوله من أهل القری فللّه و للرسول و لذي القربی و الیتامی و المساكین و ابن السبیل) (1) .

قوله تعالی: «أفاء اللّه» أي: ردّ اللّه ما كان للمشركین علی رسوله بتملیك اللّه إیاه، «منهم» أي من الیهود الذين أجلاهم.

«فما أو جفتم علیه من خیل و لا ركاب» أو جف خیله أي أزعجه في

ص: 279


1- الحشر: 6.

السیر، و الركاب هنا- الإبل، و المعنی ما استولیتم علی تلك الأموال بخیولكم أي ما ركبتم خیولكم و إبلكم لأجل الاستیلاء علیها.

«و لكن اللّه یسلّط رسله علی من یشاء» أي یمكّن اللّه رسله من عدوهم من غیر قتال، بأن یقذف الرعب في قلوبهم، فجعل اللّه أموال بنی النضیر لرسوله خالصة یفعل بها ما یشاء، و لیست من قبیل الغنائم التي توزّع علی المقاتلین.

«ما أفاء اللّه علی رسوله من أهل القری» أي من أموال كفار أهل القری «فللّه» «و للرسول» أي جعل تلك الأموال ملكاً لرسوله «و لذي القربی» یعنی قرابة النبي «و الیتامی و المساكین و ابن السبیل» من القربي.

روی الطبرسي عن ابن عباس قال: نزل قوله: «ما أفاء اللّه علی رسوله من أهل القری...» في أموال كفار أهل القری، و هم بنوقریظة و بنوالنضیر و هما بالمدینة و فدك و هي من المدینة علی ثلاثة أمیال، و خیبر و قری عرینة و ینبع جعلها اللّه لرسوله، یحكم فيها ما أراد، و أخبر أنها كلها له، فقال أناس: فهلاّ قسَّمها؟ فنزلت الآیة.

و قد مر علیك كلام الحموي في معجم البلدان حول فدك أنها مما لم یوجف علیه بخیل و لا ركاب فكانت خالصة لرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و اما الاجابه علی السوال الثالث، فقد مرّ علیك ما ذكره المحدثون في تفسیر قوله تعالی: «و آت ذا القربی حقه» إن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أعطی فاطماً فدكاً.

و هاك مزیداً من الأدلة حول الموضوع تأكیداً لهذا البحث:

ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة، و الشیخ السمهودي في تاریخ المدینة أن عمر قال: إني أحدثكم عن هذا الأمر: إن اللّه خصَّ نبیّه في هذا

ص: 280

الفي ء بشيء لم یعطه أحداً غیره فقال: «ما أفاء اللّه علی رسوله منهم فما أو جفتم علیه من خیل و لا ركاب و لكن اللّه یسلّط رسله علی من یشاء و اللّه علی كل شيء قدیر» فكانت هذه خالصة لرسول اللّه... الی آخره.

اذا: فالمستفاد من مجموع الآیات و الروایات أن فدك كانت لرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) خالصة، و أن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أعطی فاطمة فدكاً بعنوان النحلة و العطیة بأمر اللّه تعالی حیث أمره بقوله: «و آت ذاالقربی حقه».

والجواب علی السوال الرابع یاتیك بعد قلیل.

5- و اما الاجابه علی السوال الخامس: فيستفاد من تصریحات المؤرخین و المحدّثین أنَّ السیدة فاطمة الزهراء كانت تتصرف في فدك، و أنَّ فدك كانت في یدها.

فمنها تصریح الإمام أمیرالمؤمنین بن أبي طالب (علیه السلام) في الكتاب الذي أرسله إلی عثمان بن حُنیف و هو عامله علی البصرة فإنه ذكر فيه «... بلی كانت في أیدینا فدك، من كل ما أظلّته السماء، فشحّت علیها نفوس قوم و سخت عنها نفوس آخرین، و نعم الحَكَم اللّه... الی آخره (1) .

و ذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقة) في الباب الثاني: إن أبابكر انتزع من فاطمة فدكا... الی آخر كلامه.

و معنی كلام ابن حجر أن فدك كانت في ید الزهراء (علیها السلام) من عهد أبیها الرسول فانتزعها أبوبكر منها.

و قد روی العلامة المجلسي عن كتاب (الخرائج): فلما دخل رسول

ص: 281


1- نهج البلاغه باب المختار من رسائله (علیه السلام).

اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) المدینة- بعد استیلائه علی فدك- دخل علی فاطمة (علیها السلام) فقال: یا بنیة إن اللّه قد أفاء أبیك علی أبیك بفدك، و اختصَّه بها، فهي له خاصة دون المسلمین، أفعل بها ما أشاء، و إنه قد كان لأُمّك خدیجة علی أبیك مهر، و إن أباك قد جعلها لك بذلك، و أنكحها لك و لولدك بعدك.

قال: فدعا بأدیم و دعا بعلي بن أبي طالب فقال: أكتب لفاطمة بفدك نِحلة من رسول اللّه.

فشهد علی ذلك علي بن أبي طالب و مولیً لرسول اللّه و أم أیمن».

و لما توفي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و استولی أبوبكر علی منصة الحكم و مضت عشرة أیام. و استقام له الأمر بعث إلی فدك مَن أخرج وكیل فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

كانت فدك للسیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) من ثلاثة وجوه:

الوجه الأول: أنها كانت ذات الید، أي كانت متصرفة في فدك، فلا یجوز انتزاع فدك من یدها إلا بالدلیل و البیّنة، كما قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) «البیّنة علی المدعي، و الیمین علی من أنكر» و ما كان علی السیدة فاطمة أن تقیم البیّنة لأنها ذات الید.

الوجه الثاني: أنها كانت تملك فدك بالنحلة و العطیّة و الهبة من أبیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

الوجه الثالث: أنها كانت تستحق فدك بالإرث من أبیها الرسول.

و لكن القوم خالفوا هذه الوجوه الثلاثة، فقد طالبوها بالبینة، و طالبوها بالشهود علی النحلة، و أنكروا و راثة الأنبیاء.

و بإمكان السیدة فاطمة أن تطالب بحقها بكل وجه من هذه الوجوه.

ص: 282

و لهذا طالبت بفدك عن طریق النحلة أوّلاً، ثم طالبت بها عن طریق الإرث ثانیاً كما صرّح بذلك الحلبي في سیرته ج 3 ص 39 قال: إن فاطمة أتت أبابكر بعد وفاة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و قالت: إن فدك نحلة أبي، أعطانیها حال حیاته. و أنكر علیها أبوبكر و قال: أُرید بذلك شهوداً فشهد لها علي، فطلب شاهداً آخر فشهدت لها أم أیمن فقال لها: أبِرَجُلٍ و امرأة تستحقینها؟؟

و ذكر الطبرسي في الاحتجاج: فجاءت فاطمة (علیها السلام) إلی أبي بكر ثم قالت: لِمَ تمنعني میراثي من أبي رسول اللّه؟ و أخرجت وكیلي من فدك و قد جعلها لي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بأمر اللّه تعالی؟

فقال: هاتی علی ذلك بشهود، فجاءت أم أیمن فقالت: لا أشهد یا أبابكر حتی أحتج علیك بما قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أنشدك باللّه ألست تعلم أن رسول اللّه قال: أم أیمن امرأة من أهل الجنة؟

فقال: بلی.

قالت: فاشهد أن اللّه (عز و جل) أوحی إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) «و آت ذا القربی حقه» فجعل فدك لها طعمة بأمر اللّه تعالی.

فجاء علي (علیه السلام) فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتاباً و دفعه إلیها، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟

فقال: إن فاطمة ادَّعت في فدك و شهدت لها أم أیمن و عليّ، فكتبته لها. فأخذ عمر الكتاب من فاطمة، فتفل فيه فمزَّقه، فخرجت فاطمة (علیها السلام) تبكي.

و في سیرة الحلبي ج 3 ص 391 أن عمر أخذ الكتاب فشقّه.

ص: 283

و روي عن الامام الصادق (علیه السلام)ان السیده فاطمه (علیه السلام) جائت الی أبي بكر- بامر من الامام امیرالمومنین (علیه السلام)- و قالت له: ادعیت مجلس ابي و انك خلیفه، و جلست مجلسه، و لو كانت فدك لك و استوهبتها منك لوجب علیك ردها علی.

فقال صدقت.

و دعا بكتاب فكتب فيه بارجاع فدك، فخرجت و الكتاب معها، فلقیها عمر فقال: یا بنت محمد ما هذا الكتاب الذي معك؟

قالت:كتاب كتب لي ابوبكر برد فدك.

فقال:هلمیه الی.

فابت ان تدفعه الیه، فرفسها برجله.. ثم لطمها، ثم اخذ الكتاب فخرقه (1) .

فقالت: بقرت كتابي بقر اللّه بطنك (2) .

حوار ساخن بین الامام علي و أبي بكر

نعود إلی ما ذكره الطبرسي قال: فلما كان بعد ذلك جاء علي (علیه السلام) إلی أبي بكر و هو في المسجد و حوله المهاجرون و الأنصار فقال: یا أبابكر لِمَ منعت فاطمة میراثها من رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و قد مَلَكته في حیاة رسول اللّه؟

فقال أبوبكر: هذا في ء للمسلمین، فإن أقامت شهوداً أن رسول اللّه جعله لها و إلا فلا حق لها فيها فيه!

ص: 284


1- الاختصاص للشیخ المفيد، الشافي للسید المرتضی ص 236/ تلخیص الشافي للطوسي ص 48، و ذكرابن حجر العسقلاني- في لسان المیزان ج 1 ص 268، و الذهبي في میزان الاعتدال ج 1 ص 139: ان عمر رفس فاطمه...
2- وفاه الصدیقه الزهراء للمقرم ص 78.

فقال عليّ: یا أبابكر تحكم بیننا بخلاف حكم اللّه في المسلمین؟

قال: لا.

قال (علیه السلام): فإن كان في ید المسلمین شيء یملكونه فادَّعیت أنا فيه مَن تسأل البینة؟

قال: إیاك أسأل.

قال (علیه السلام): فما بال فاطمة سألتها البینة علی ما في یدیها، و قد مَلَكته في حیاة رسول اللّه و بعده، و لم تسأل المسلمین البینة علی ما ادَّعوها شهوداً كما سألتني علی ما ادَّعیت علیهم؟؟

فسكت أبوبكر فقال: یا علي دعنا من كلامك، فإنّا لا نقوی علی حجتك، فإن أتیت بشهود عدول، و إلاّ فهي في ء للمسلمین، لا حقَّ لك و لا لفاطمة فيه!!

فقال علي (علیه السلام): یا أبابكر تقرأ كتاب اللّه؟

قال: نعم.

قال: أخبرني عن قول اللّه (عزّ و جلّ) «إنّما یرید اللّه لیذهب عنكم الرجس أهل البیت و یطهّركم تطهیرا». فيمن نزلت؟ فينا أو في غیرنا؟

قال: بل فيكم!

قال: فلو أن شهوداً شهدوا علی فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بفاحشة ما كنت صانعاً بها؟

قال: كنت أُقیم علیها الحد كما أُقیم علی نساء المسلمین!!!

قال عليّ: كنت إذن عنداللّه من الكافرین!

قال: و لِمَ؟

قال: لأنّك رددت شهادة اللّه بالطهارة و قبلت شهادة الناس علیها،

ص: 285

كما رددت حكم اللّه و حكم رسوله أن جعل لها فدك و زعمت أنها في ء للمسلمین و قد قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): البینة علی المدعي، و الیمین علی من ادُّعي علیه.

قال: فدمدم الناس، و أنكر بعضهم بعضاً، و قالوا: صدق- و اللّه- عليّ.

و قد روی العلامة في كشكوله عن المفضَّل بن عمر عن أبي عبداللّه (الصادق) (علیه السلام) روایة لا تخلو من فائدة نذكرها بصورة موجزة قال:

لما قام أبوبكر بن أبی قحافة بالأمر نادی منادیه: من كان له عند رسول اللّه دین أو عدة فلیأتني حتی أقضیه.

و جاء جابر بن عبداللّه و جریر بن عبداللّه البجلي، و ادَّعی كلٌّ منهما علی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فأنجز أبوبكر لهما.

فجاءت فاطمة إلی أبي بكر تطالب بفدك و الخمس و الفي ء فقال: هاتی بینة یا بنت رسول اللّه.

فاحتجت فاطمة (علیها السلام) بالآیات و قالت: قد صدّقتم جابراً بن عبداللّه و جریر بن عبداللّه البجلي و لم تسألوهما البیّنة و بَیّنتي في كتاب اللّه.

و أخیراً طالبوها بالشهود، فبعثت إلی عليّ و الحسن و الحسین و أم أیمن و أسماء بنت عمیس و كانت تحت أبي بكر (أي زوجة أبي بكر) و شهدوا لها بجمیع ما قالت.

فقالوا: أما علی فزوجها، و أما الحسن و الحسین فابناها وأما أم أیمن فمولاتها، و أما أسماء بنت عمیس فقد كانت تحت جعفر بن أبي طالب فهي تشهد لبني هاشم، و قد كانت تخدم فاطمة و كل هؤلاء یجرّون إلی أنفسهم.

ص: 286

فقال عليّ: أما فاطمة فبضعة من رسول اللّه و مَن آذاها فقد آذی رسول اللّه، و من كذَّبها فقد كذَّب رسول اللّه.

و أما الحسن و الحسین فابنا رسول اللّه و سیدا شباب أهل الجنة، من كذَّبهما فقد كذّب رسول اللّه، إذ كان أهل الجنة صادقین.

و أما أنا فقد قال رسول اللّه: أنت مني و أنا منك، و أنت أخي في الدنیا و الآخرة، و الراد علیك هو الراد عليَّ من أطاعك فقد أطاعني، و من عصاك فقد عصاني.

و أما أم أیمن فقد شهد لها رسول اللّه بالجنة، ودعی لأسماء بنت عمیس و ذریتها. فقال عمر: أنتم كما و صفتم به أنفسكم، و لكن شهادة الجارّ إلی نفسه لا تقبل!

فقال عليّ: إذا كنا نحن كما تعرفون و لا تنكرون و شهادتنا لأنفسنا لا تقبل و شهادة رسول اللّه لا تقبل فإنا للّه و إنا إلیه راجعون، إذا ادَّعینا لأنفسنا تسألنا البیّنة فما من معین یعین، و قد و ثبتم علی سلطان اللّه و سلطان رسوله فأخرجتموه من بیته إلی بیت غیره من غیر بینة و لا حجة، و سیعلم الذين ظلموا أي منقلب ینقلبون.

ثم قال لفاطمة: انصرفي حتی یحكم اللّه و هو خیر الحاكمین.

و لما رأت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) أن القوم أبطلوا شهودها الذين شهدوا لها بالنحلة و لم تنجح مساعیها، جاءت تطالب حقها عن طریق الإرث،و اتخذت التدابیر اللازمة لتقوم بأكبر حملة دعائیة واسعة النطاق و هي تعلم أن السلطة لا تخضع للدلیل الواضح و البرهان القاطع، فقد قال الشاعر: و آیة السیف تمحو آیة القلم.

ص: 287

و كل قوم تحكم فيهم الدكتاتوریة فإن المنطق فاشل و لا یجدي فائدة.

و كل للسیدة فاطمة هدف آخر، و هو یتحقق قطعاً، و هدفها تسجیل مظلومیتها في سجل التاریخ، و كشف الغطاء عن أعمال القوم و نوایاهم، فقررت أن تذهب إلی المسجد و تخطب خطبة تتحقق بها أهدافها الحكیمة.

ص: 288

السر في مطالبه فاطمه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) بفدك

من الممكن ان یقال: ان السیده فاطمه الزهرا الزاهده عن الدنیا و الحیاه ما الذي دعاها إلی هذه النهضة و إلی هذا السعي المتواصل و الجهود المستمرة في طلب حقوقها؟

و ما سبب هذا الإصرار و المتابعة بطلب فدك و الاهتمام بتلك الأراضي و النخیل مع ما كانت تتمتع به السیدة فاطمة من علوِّ النفس و سمو المقام؟

و ما الداعي إلی طلب الدنیا التي كانت أزهد عندهم من عفطة عنز، و أحقر من عظم خنزیر في فم مجذوم، و أهون من جناح بعوضة؟

و ما الدافع بسیدة نساء العالمین أن تتكلّف هذا التكلیف، و تتجشّم هذه الصعوبات المجهدة للمطالبة بأ راضیها و هي تعلم أن مساعیها تبوء بالفشل و أنها لا تستطیع التغلب علی الموقف، و لا تتمكن من انتزاع تلك الأراضي من المغتصبین؟؟

هذه اسئله یمكن أن تتبادر إلی الأذهان حول الموضوع.

الجواب: أولاً: إن السلطة حینما صادرت أموال السیدة فاطمة الزهراء و جعلتها في میزانیة الدولة (بالاصطلاح الحدیث) كان هدفهم تضعیف جانب أهل البیت، أَرادوا أن یحاربوا علیاً محاربة اقتصادیة، أرادوا أن یكون عليّ فقیراً حتی لا یلتف الناس حوله، و لا یكون له شأن علی الصعید الاقتصادي، و هذه سیاسة أراد المنافقون تنفيذها في حق رسول اللّه

ص: 289

(صلی اللّه علیه و آله و سلم) حین قالوا: لا تنفقوا علی من عند رسول اللّه حتی ینفضُّوا (1) .

ثانیا: لم تكن أراضی فدك قلیلة الإنتاج، ضئیلة الغلات بل كان لها وارد كثیر یعبأ به، بل ذكر ابن أبی الحدید أن نخیلها كانت مثل نخیل الكوفة في زمان ابن أبی الحدید.

و ذكر الشیخ المجلسي عن كشف المحجة أن وارد فدك كان أربعة و عشرین ألف دینار في كل سنة، و في روایة أُخری سبعین ألف دینار و لعل هذا الاختلاف في واردها حسب اختلاف السنین.

و علی كل تقدیر فهذه ثروة طائلة واسعة، لا یصح التغاضي عنها.

ثالثاً: إنها كانت تطالب (من وراء المطالبة بفدك) بالخلافة و السلطة لزوجها علي بن أبي طالب، تلك السلطة العامة و الولایة الكبری التي كانت لأبیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

فقد ذكر ابن أبی الحدید في شرحه قال: سألت عليّ بن الفارقي، مدرّس المدرسة الغربیة ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟

قال: نعم

قلت: فلم لم یدفع إلیها أبوبكر فدك و هي عنده صادقة؟

فتبسم، ثم قال كلاماً لطیفاً مستحسناً مع ناموسه و حرمته و قلة دعابته قال: لو أعطاها الیوم فدك، بمجرد دعواها لجاءت إلیه غداً وادّعت لزوجها الخلافة و زحزحته عن مقامه، و لم یكن یمكنه الاعتذار، و الموافقة بشيء، لأنه یكون قد سجل علی نفسه بأنها صادقة فيما تدّعی، كائناً ما كان من غیر حاجة إلی بینة و شهود.

ص: 290


1- المنافقون: 7.

رابعاً: الحق یُطلب و لا یُعطی، فلا بد للإنسان المغصوب منه ماله أن یطالب بحقه، لأنه حقه، حتی و إن كان مستغنیاً عن ذلك المال و زاهداً فيه، و ذلك لا ینافي الزهد و ترك الدنیا، و لا ینبغي السكوت عن الحق.

خامساً: إن الإنسان و إن كان زاهداً في الدنیا راغباً في الآخرة فإنه مع ذلك یحتاج إلی المال لیصلح به شأنه، و یحفظ به ماء وجهه و یصل به رحمه، و یصرفه في سبیل اللّه كما تقتضیه الحكمة.

أما تری رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و هو أزهد الزهاد كیف انتفع بأموال خدیجة في سبیل تقویة الإسلام؟ كما مرَّ كلامه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حول أموال خدیجة.

سادساً: قد تقتضي الحكمة أن یطالب الإنسان بحقه المغصوب، فإن الأمر لا یخلو من أحد وجهین:

إما أن یفوز الإنسان و یظفر بما یرید و هو المطلوب و به یتحقق هدفه من المطالبة.

و إما أن لا یفوز في مطالبته فلن یظفر بالمال، فهو إذ ذاك قد أبدی ظلامته، و أعلن للناس أنه مظلوم، و أن أمواله غصبت منه.

هذا و خاصة إذا كان الغاصب ممن یدّعي الصلاح و الفلاح، و یتظاهر بالدیانة و التقوی، فإن المظلوم یعرّفه للأجیال أنه غیر صادق فيما یدَّعی.

سابعاً: إن حملة المبادئ یتشبثون بشتی الوسائل الصحیحة لجلب القلوب إلیهم، فهناك من یجلب القلوب بالمال أو بالأخلاق أو بالوعود و أشباه ذلك.

و لكن أفضل الوسائل لجلب القلوب (قلوب كافة الطبقات) هو التظلّم و إظهار المظلومیة فإن القلوب تعطف علی المظلوم كائناً من كان، و تشمئز من الظالم كائناً من كان.

ص: 291

و هذه خطة ناجحة و ناجعة لتحقیق أهداف حملة المبادئ الذين یریدون إیجاد الوعي في النفوس عن طریق جلب القلوب إلیهم.

و هناك أسباب و دواع أُخری لا مجال لذكرها.

لهذه الأسباب قامت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) و توجهت نحو مسجد أبیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لأجل المطالبة بحقها.

إنها لم تذهب إلی دار أبي بكر لیقع الحوار بینها و بینه فقط، بل اختارت المكان الأنسب و هو المركز الإسلامي یومذاك، و مجمع المسلمین حینذاك، و هو مسجد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

كما و أنها اختارت الزمان المناسب أیضاً لیكون المسجد غاصّاً بالناس علی اختلاف طبقاتهم من المهاجرین و الأنصار و لم تخرج وحدها إلی المسجد، بل خرجت في جماعة من النساء، و كأنها في مسیرة نسائية، و قبل ذلك تقرر اختیار موضع من المسجد لجلوس بضعة رسول اللّه و حبیبته، و علّقوا ستراً لتجلس السیدة فاطمة خلف الستر، إذ هي فخر المخدرات و سیدة المحجبات.

كانت هذه النقاط مهمة جداً، و استعد أبوبكر لاستماع احتجاج سیدة نساء العالمین، و ابنة أفصح من نطق بالضاد و أعلم امرأة في العالم كله. خطبت السیدة فاطمة الزهراء خطبة ارتجالیة، منظمة، منسقّة، بعیدة عن الاضطراب في الكلام، و منزّهة عن المغالطة و المراوغة، و التهریج و التشنیع.

بل و عن كل ما لا یلائم عظمتها و شخصیتها الفذَّة، و مكانتها السامیة.

و تُعتبر هذه الخطبة معجزة خالدة للسیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام)

ص: 292

و آیة باهرة تدل علی جانب عظیم من الثقافة الدینية التي كانت تتمتع هذه الصدّیقة

و أما الفصاحة و البلاغة، و حلاوة البیان، و عذوبة المنطق، و قوة الحجة، و متانة الدلیل، و تنسیق الكلام، و إیراد أنواع الاستعارة بالكنایة، و علو المستوی، و التركیز علی الهدف، و تنوّع البحث، فالقلم وحده لا یستطیع استیعاب الوصف، بل لا بدَّ من الاستعانة بذهن القارئ.

كانت السیدة فاطمة مسلّحة بسلاح الحجة الواضحة و البرهان القاطع، و الدلیل القوي المقنع، و كان المسلمون الحاضرون في المسجد ینتظرون كلامها، و یتلهّفون إلی نتیجة ذلك الحوار و الاحتجاج الذي لم یسبق له مثیل إلی ذلك الیوم.

جلست السیدة في المكان المعدّ لها خلف الستر، و لعل دخولها یومذاك كان لأول مرة بعد وفاة أبیها الرسول الأعظم (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

فلا عجب إذا هاجت بها الأحزان، و أنَّت أنَّة.

إنني أعجز عن التعبیر عن تحلیل تلك الأنَّة، و مدی تأثیرها في النفوس.

أنَّة واحدة فقط- بلا كلام- تهیّج عواطف الناس، فيجهش القوم بالبكاء.

أنا ما أدري ما كانت تحمل تلك الأنّة من المعاني؟

و لماذا أجهش الناس بالبكاء؟

و هل الأنَّة الواحدة تُبكي العیون، و تُجري الدموع و تُحرق القلوب؟

هذه ألغازٌ لا أعرف حلَّها، و لعل غیري یستطیع حلّ هذه الألغاز!!!

ص: 293

مصادر خطبه الزهرا (عَلَيهَا السَّلَامُ)

قبل ان تذكر خطبه الزهرا (علیها السلام) لا بأس ان تذكر رواه الخطبه و مصادرها من كتب الشیعه و اهل السنه، لنعلم مدی اهمیه هذه الخطبه لدی اهل البیت (علیهم السلام) باعتبارها وثیقه تاریخیه تثبت مظلومیه اهل البیت (علیهم السلام) و مدی الاضطهاد و العنف و الكبت الذي قام به بعض الافراد تجاه اسره رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و لا ندعي اننا استوعنا جمیع المصادر، بل ذكرنا ما عثرنا علیه من الوثائق التاریخیه:

1- السید المرتضی علم الهدی- المتوفي سنه 436 ه في كتاب الشافي، یروي هذه الخطبه باسناده عن عروه عن عائشه.

2- السید ابن طاووس في كتاب (الطرائف) باسناده عن الزهري عن عائشه.

3- الشیخ الصدوق باسناده عن زینب بنت علي (علیهما السلام).

4- و یروي بطریق آخر باسناده عن زید بن علی الشهید عن عمته زینب بنت علي عن امها فاطمه الزهراء (علیهم السلام).

5- و هكذا یروی باسناده عن احمد بن محمد بن جابر عن زینب بنت علي (علیهما السلام).

6- ابن ابی الحدید في شرحه علی نهج البلاغه یروي عن كتاب (السقیفه) تالیف احمد بن عبدالعزیز الجوهري باربعه طرق:

ص: 294

أ- باسناده عن رجال من اهل البیت عن زینب بنت علي (علیهما السلام).

ب- باسناده عن الامام الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام).

ج- باسناده عن الامام الباقر محمد بن علي (علیه السلام).

د- باسناده عن عبداللّه بن الحسن بن الحسن (علیه السلام).

7- علي بن عیسی الاربلي في كتابه (كشف الغمه) یروي عن كتاب (السقیفه) للجوهري.

8- المسعودي في (مروج الذهب) یشیر الی هذه الخطبه.

9- الطبرسي في كتاب (الاحتجاج).

10- احمد بن ابی طاهر في كتاب (بلاغات النساء).

الی غیر هولاء ممن یطول الكلام بذكرهم.

و إسناد هذه الخطبه الی السیده فاطمه الزهراء (علیها السلام) من الامور المسلمه عند اهل العلم من المورخین و غیرهم.

و نقل ابن ابی الحدید في شرحه علی نهج البلاغه عن السید المرتضی انه قال: و اخبرنا ابوعبداللّه المرزباني عن علي بن هرون عن عبیداللّه بن احمد عن ابیه قال ذكرت لأبي الحسین زید (الشهید) بن علی بن الحسین بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام) كلام فاطمه عند منع أبي بكر ایاها فدك و قلت له: ان هولاء یزعمون انه مصنوع و انه من كلام ابی العیناء، لان الكلام منسوق البلاغه.

فقال لي: رایت مشائخ آل أبي طالب یروونه عن آبائهم، و یعلمونه اولادهم، و قد حدثني ابي عن جدي یبلغ بها فاطمه علی هذه الحكایه، و قد رواه مشائخ الشیعه و تدارسوه قبل ان یوجد جد ابی العیناء.

و قد حدث الحسین بن علوان عن عطیه العوفي انه سمع عبداللّه بن

ص: 295

الحسن بن الحسن یذكر عن ابیه هذا الكلام ثم قال ابوالحسسین زید: و كیف ینكرون هذا من كلام فاطمه و هم یروون من كلام عائشه عند موت ابیها ما هو اعجب من كلام فاطمه و یحققونه؟ لو لا عداوتهم لنا اهل البت!!

هذا بعض ما ظفر به من المصادر لخطبه سیده النساء، و لعل غیرنا من الباحثین یجد المزید من المصادر لهذه الخطبه.

ص: 296

رؤوس نقاط الخطبة

اختارت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) لخطبتها هذا الأُسلوب للبدایة و النهایة

إنها لم تكتف بالتركیز علی مطالبة حقها فقط، بل انتهزت الفرصة لتفجر للمسلمین عیون المعارف الإلهیة، و تكشف لهم محاسن الدین الإسلامي، و تبیِّن لهم علل الشرائع و الأحكام و ضمناً تهیئ الجو لكلامها المقصود و هدفها المطلوب.

و هذه رؤوس أقلام الخطبة و مواضیعها:

الحمد و الثناء علی اللّه.

التوحید الاستدلالي.

النبوة.

التحدث عن العهد الجاهلي.

إنجازات الرسول.

توجیه الخطاب إلی الحاضرین.

التحدث عن القرآن.

بیان علل الشرائع و فلسفة الإسلام.

الدخول في صمیم الموضوع.

حوادث فترة الرسالة.

موقف زوجها العظیم من تلك الأحداث.

ص: 297

بیان انقلاب الحكم ضد آل الرسول.

بیان تخاذل المسلمین تجاه أهل البیت

توجیه الخطاب إلی رئیس الدولة حول الإرث.

إقامة الأدلة و البراهین.

توجیه العتاب إلی الأنصار و توبیخهم.

جواب رئیس الدولة.

تزییف كلامه و تفنید مغالطاته.

اعتذار رئیس الدولة.

توجیه الخطاب إلی الحاضرین.

شكوی إلی رسول اللّه.

و سوف نذكر الخطبه في الخطبه في حلقات یتخللها شرح موجزها.

ص: 298

الخطبة الخالدة

روی عبداللّه بن الحسن بإسناده عن آبائه، أنه لما أجمع أبوبكر علی منع فاطمة فدك، و بلغها ذلك.

لاثت خمارها علی رأسهاِ (1) .

و اشتملت بجلبابها.

و أقبلت في لمةٍ من حفدتها و نساء قومهاِ (2) .

تطأُ ذیولهاِ (3) .

ما تخرم مشیتها مشیة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) (4) .

حتی دخلت علی أبي بكر.

و هو في حشد من المهاجرین و الأنصار و غیرهمِ (5) فنیطت دونها ملاءةِ (6) .

فجلست ثم أنَّت أنَّةً أجهش القوم بالبكاء فارتجَّ المجلس ثم أمهلت هنیئة (7) حتی إذا سكن نشیج القوم و هدأت فورتهمِ (8) .

ص: 299


1- لاثت: شدت و الخمار: ثوب یغطی به الراس.
2- اللمه -بضم اللام و تخفيف المیم -: الجماعه، الحفده، الخدم.
3- كنایه عن شده التستر.
4- ما تنقص مشیتها عن مشیه ابیها من حیث الوقار و الكفيه.
5- الحشد: الجماعه.
6- نیطت: علقت و الملاءه: الازار و الثوب اللین الرقیق.
7- و في شرح النهج لابن أبی الحدید ج 16 ص 211: ثم أمهلت طویلاً.
8- النشیج: صوت البكاء مع التوجع. و الفوره: الشده.

افتتحت الكلام بحمد اللّه و الثناء علیه، و الصلاة علی رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها.

فقالت (علیها السلام):

الحمد للّه علی ما أنعم.

و له الشكر علی ما ألهمْ.

و الثناء بما قدّم.

من عموم نعمٍ ابتداها.

و سبوغ آلاءٍ أسداهاِ (1) .

و تمام مننٍ و الاها.

جمَّ عن الإحصاء عددُهاِ (2) .

و نأی عن الجزاء أمدهاِ (3) .

و تفاوت عن الإدراك أبدها.

و ندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالهاِ (4) .

و استحمد إلی الخلائق بإجزالها.

و ثنّی بالندب إلی أمثالهاِ (5) .

و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شریك له.

كلمةٌ جعل الإخلاص تأویلها.

و ضمَّن القلوب موصولهاِ (6) .

ص: 300


1- سبوغ النعم: اتساعها.
2- جم: كثر.
3- نای: بعد، و هكذا تفاوت.
4- ندبهم: دعاهم و الاستنراده:طلب زیاده الشكر. و هكذا استحمد.
5- ثنی بالندب: أي كما انه ندبهم لاستزادهم كذالك ندبهم الی امثالها من موجبات الثواب.
6- جعل القلوب محتویه لمعنی كلمها التوحید.

و أنار في التفكیر معقولها.

الممتنع من الأبصار رؤیته.

و من الألسن صفته.

ومن الأوهام كیفيته.

ابتدع الأشیاء لا من شيء كان قبلهاِ (1) .

و أنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلهاِ (2) .

كوَّنها بقدرته، و ذرأها بمشیئتهِ (3) .

من غیر حاجة منه إلی تكوینها.

و لا فائدة في تصویرها.

إلا تثبیتاً لحكمته و تنبیهاً علی طاعته.

و إظهاراً لقدرته، و تعبّداً لبریته.

و إعزازاً لدعوته.

ثم جعل الثواب علی طاعته.

و وضع العقاب علی معصیته.

ذیادة لعبادة من نقمتهِ (4) .

و حیاشةً لهم إلی جنتهِ (5) .

و أشهد أن أبی محمداً عبده و رسوله.

اختاره و انتجبه قبل أن اجتبلهِ (6) .

ص: 301


1- ابتدع: احدث.
2- الاحتذاء: الاقتداء.و حذو النعل بالنعل أي قطع النعل علی مثال النعل و قدرها.
3- ذراها: خلقها.
4- ذیاده: منعا.
5- حیاشه لهم: سوقهم.
6- اجتبله: فطره.

و اصطفاه قبل أن ابتعثه.

إذ الخلائق بالغیب مكنونة.

و بستر الأهاویل مصونة.

و بنهایة العدم مقرونة.

علماً من اللّه تعالی بمآئل الأُمورِ (1) .

و إحاطة بحوادث الدهور.

و معرفة بمواقع المقدور.

ابتعثه اللّه إتماماً لأمره.

و عزیمةً علی إمضاء حكمه.

و إنفاذاً لمقادیر حتمه.

فرأی الأُمم فِرَقاً في أدیانها.

عُكَّفاً علی نیرانها.

و عابدة لأوثانها.

منكرة للّه مع عرفانها.

فأنار اللّه بمحمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ظُلمَهاِ (2) .

و كشف عن القلوب بُهمهاِ (3) .

و جلی عن الأبصار غُمَمهاِ (4) .

و قام في الناس بالهدایة.

و أنقذهم من الغوایة.

ص: 302


1- المائل: جمع مآل- أي المرجع.
2- ظلم: جمع ظلمه.
3- البهم: جمع بهمه و هي مشكلات الامور.
4- الغمم- جمع غمه- الشيء الملتبس المستور.

و بصَّرهم من العمایة.

و هداهم إلی الدین القویم.

و دعاهم إلی الصراط المستقیم.

ثم قبضه اللّه إلیه قبض رأفة و اختیار. و رغبةٍ و إیثار.

فمحمَّد (صلی اللّه علیه و آله و سلم) من تعب هذه الدار في راحة.

قد حفَّ بالملائكة الأبرار.

و رضوان الرب الغفَّار.

و مجاورة الملك الجبَّار.

صلی اللّه علی أبي.

نبیّه، و أمینه علی الوحي و صفيّه.

و خیرته من الخلق و رضیّه.

و السلام علیه و رحمة اللّه و بركاته.

ص: 303

شرح الخطبة

«الحمد للّه علی ما أنعم» إن شكر المنعم واجب شرعاً و عقلاً و عرفاً، یستحق الحمد علی ما أنعم الظاهریة كالحیاة و الصحة و نحوها.

«و له الشكر علی ما ألهم» من النعم الباطنیة، كالعلم و المعرفة، و الغرائز التي ألهم الإنسان و غیر الإنسان إیّاها، فإن الإلهام إلقاء في القلب و النفس كالتلقین، و هو تعلیم علی وجه لا سبیل لأحد للوقوف علیه.

«و الثناء بما قدّم» للّه تعالی نعم قد أخّرها إلی الدار الآخرة، و هي الجنة و نعمیها و غیر ذلك و للّه تعالی نعم قد قدّمها في هذه الدنیا، قدّمها علی بقیة النعم، و إلیك بعض التفصیل:

«من عموم نعم ابتداها» النعم العامة التي ابتداها اللّه تعالی كالماء و الهواء و التراب و النار، و قبلها نعمة الإیجاد و الخلق، و النعم الابتدائیة كالجاذبیة في الأرض، و المسافة المعینة المحدودة بین الأرض و القمر، و بین الأرض و الشمس و الغطاء الجوي المحیط بالكرة الأرضیة المسمی بالطبقة النتروجینیة، و غیر ذلك ممّا علم به البشر و ما لم یعلمه، ابتداها اللّه قبل أن یستحقها البشر.

«و سبوغ آلاء أسداها» الآلاء السابغة أي النعم الشاملة الكاملة التامة، و أسداها: أعطاها، كنعمة الأعضاء و الجوارح و المشاعر و المدارك التي یشعر و یدرك بها الإنسان و غیر الإنسان.

«و تمام منن و الاها» المنن: جمع منّة. و هي النعمة و العطیة و الإحسان،

ص: 304

و لیس المقصود- هنا- المنّة بمعنی المنّ و هو عدّ الإحسان الذي نهی اللّه تعالی عنه بقوله: «وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» و قال: «و لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الأَذی» و والاها من الموالاة و هي المتابعة في الإعطاء، أي نعمة بعد نعمة، فالنعم الإلهیة متواصلة متواترة.

«جم عن الاحصاء عددها» أي كثرت نعم اللّه سبحانه، فعجز الناس عن احصائها و عدها،كما قالب سبحانه:«و ان تعدوا نعمه اللّه لا تحصوها».

«و نای عن الجزاء امدها» الامد: الغایه و منتهی الشيء، فلعل المعنی: ان الانسان لا یستطیع ان یجاري ربه علی نعمه و ایادیه.

«و نای عن الجزاء امدها» الامد: الغایه و منتهی الشيء، فلعل المعنی: ان الانسان لا یستطیع ان یجازي ربه علی نعمه و ایادیه.

«و تفاوت عن الادراك ابدها» كذالك لا یملكن للانسان ان یدرك النعم الالهیه.

«و ندبهم لا ستزادتها بالشكر لا تصالها» ان الشكر یوجب زیاده النعمه و دوامها و اتصالها، كما قال سبحانه: «لئن شكرتم لا زیدنكم».

«و استحمد الی الخلائق باجزالها» كذلك الحمد یوجب المزید من الخیرات و البركات الالهیه.

«و ثنی بالندب الی امثالها» اي: انه تعالی ندب عباده و دعاهم الی الاستزاده من موجبات الخیر والرحمه،كالانفاق في سبیل اللّه و العطف

«و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شریك له، كلمة جعل الإخلاص تأویلها» المقصود أن كلمة: (لا إله إلا اللّه) یعود معناها إلی الإخلاص، كما قال أمیرالمؤمنین (علیه السلام): «و كمال توحیده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» فقد قیل: إن المقصود من الإخلاص هو جعله خالصاً من النقائص كالجسم و العرض، و ما شاكلهما من النقائص، و كمال الإخلاص له نفي الصفات، أي الصفات الزائدة علی ذاته لأن كل موجود متصف بصفه، و صفته غیر ذاته، فالإنسان غیر العلم، و العلم

ص: 305

غیر الإنسان و لكن اللّه تعالی علمه عین ذاته، و بقیة صفاته كلها عین ذاته، و لهذا الموضوع بحث مفصّل عند العلماء مذكور في الكتب الكلامیة.

«و ضمّن القلوب موصولها» أي إن اللّه تعالی ألزم القلوب المعنی الذي تصل إلیه كلمة (لا إله إلا اللّه) و هو معنی التوحید الفطري، أي جعل القلوب علی هذه الفطرة، قال تعالی: «فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْها» و الفطرة: الملة، و هي الدین الإسلام و التوحید، و هي التي خلق الناس علیها و لها و بها، و معنی ذلك أن اللّه تعالی خلقهم و ركّبهم و صوّرهم علی وجه یدل علی أن لهم صانعاً قادراً عالماً حیاً قدیماً واحداً، لا یشبه شیئاً، و لا یشبهه شيء.

«و أنا في الفكر معقولها» أي بسبب التفكیر و التعقل أوضح اللّه المعنی الذي یوصل إلیه بعد التدبر و التعمّق، أي معنی كلمة التوحید، و المقصود منه التوحید النظري، و قد مضی الكلام عن التوحید الفطري، و معنی التوحید النظري: التفكّر في الدلائل و البیّنات، و النظر في الآیات في الآفاق و في أنفسهم.

«الممتنع عن الأبصار رؤیته» حیث أن اللّه تعالی لیس بجسم، و لا جوهر و لا عرض، و العین لا تدرك و لا تری إلا الأجسام و الأعراض، و هي الأمور التي تعرض الجسم، كالألوان و الطول و العرض و ما شابه ذلك، و بما أن الإدراك بالبصر إنما یتحقق بانعكاس صورة المرئي في عدسة العین، أو اتصال أشعة العین إلی ذلك الشيء المرئی، و حیث أن اللّه تعالی لیس بجسم فلا یمكن انعكاسه في العین، و لهذا من المستحیل أن تدركه العیون و لا یمكن لأي موجود أن یری اللّه تعالی و یدركه بالعین، لا في الدنیا و لا في الاخره، كما قال تعالی: «لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَ هُوَ یُدْرِكُ الأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ» و قال سبحانه «لن تراني» و «لن» لنفي الابد. و لیس هذا الامتناع خاصاً بالرؤیة، بل بجمیع الحواس الظاهرة كالسامعة و الشامة و الذائقة و اللامسة.

ص: 306

و من المؤسف جداً أن بعض طوائف المسلمین یعتقدون أن اللّه تعالی جسم، و یصرّحون بهذا الاعتقاد الفاسد الساقط عبر الإذاعات، رافعین أصواتهم: إن اللّه ینزل إلی سماء الدنیا و هو راكب علی حمار!!

و لیس هذا ببعید من طائفةٍ أصول دینهم و فروعه محمول علی أكتاف رجل یصفونه بالكذب و التزویر و التلاعب، و اختلاق الروایات و إسنادها إلی رسول اللّه و غیره، و یكتبون أن عمر بن الخطاب ضربه بالدرّة و منعه عن الحدیث لكثرة الأ كاذیب التي كان یختلقها و یصوغها في بوتقة الدجل و التزویر.

و سمعت أیضاً من بعض مدّعي العلم- عبر الإذاعة-: أن الرسول رأی ربه لیلة المعراج رؤیة عین.

یا للكفر، یا للإلحاد، یا للزندقة، یا للجهل.

القرآن یقول: لا تدركه الأبصار، و الجهال یقولون: تدركه الأبصار، یتركون كلام اللّه الذي لا یأتیه الباطل من بین یدیه و لا من خلفه، و یخأخذون بقول مخلوق إن لم نقل إنه كذاب فهو جاهل یخطئ و یصیب.

و إذا كان بعض المسلمین یجهلون أو ینحرفون عن التوحید- الذي هو أصل الدین- فكیف بالنبوة و الإمامة و المعاد؟

و كیف بفروع الدین و الأحكام الفقهیة و الأمور الدینية و القضایا الشرعیة؟

«و من الألسن صفته» أي لا یمكن و صف اللّه تعالی كما لا یمكن رؤیته، و كیف یستطیع الإنسان أن یصف شیئاً لم یره، و لم یحط به إحاطة؟! كما قال علي (علیه السلام): «لیس لصفته حد محدود، و لا نعت

ص: 307

موجود» لأن صفائه عین ذاته، فكما إنه لا یمكن إدراك ذاته كذلك لا یمكن إدراك صفاته التي هي عین ذاته.

«و من الأوهام كیفيته» إن اللّه تعالی جعل للإنسان قوي باطنیة، و هي الحواس الخمس الباطنیة، و هي الذاكرة و الحافظة و الواهمة و المفكرة و الحس المشترك و الواهمة هي القوة التي تدرك بها الأشیاء الجزئیة، كأن یتصوّر الإنسان امرأة جمیلة، أو قصراً شاهقاً أو حدیقة غنّاء، أو ما شابه، و كل ما تصوّره الإنسان أو توهمه فهو مخلوق، و لا یستطیع الإنسان أن یتصوّر الخالق تصوّراً صحیحاً حقیقیاً، أي لا یستطیع أن یعلم كیف هو؟ و هو تعالی لا یكیّف بكیف؟ أي لا یمكن تصوّر الكیفية في ذاته.

«ابتدع الأشیاء لا من شيء كان قبلها» أي خلق اللّه الكائنات لا من مادة، أي أوجدها و ما كانت موجودة.

و یقول المادیون: لا یمكن أن یوجد شيء إلا من مادة، و المادة أصل الأشیاء.

فإذا سألتهم: و المادة من أي شيء وجدت؟ و أین وجدت؟ و من أوجدها؟ تراهم یسكتون و لا یحیرون جواباً، لأنهما إذا قالوا: إن المادة وجدت من غیر مادة. قلنا لهم: فما المانع أو توجد الموجودات الأخری من غیر مادة؟ و إذا قالوا: إن المادة وجدت من مادة أخری نسألهم: المادة الأخری من أي شيء وجدت؟ و هكذا و هلمّ جراً.

فالاعتقاد بأن اللّه تعالی خلق الأشیاء لا من شيء أفضل و أسلم من نظریات المادیین.

«و أنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها» أو جد اللّه تعالی الأشیاء لا من مادة و لا من شيء بلا اقتداء بأحد في تصویرها.

ص: 308

انظر إلی الاختراعات الحدیثة إنما اقتدی مخترعوها بأشیاء أخری، صنعوا الطائرة حینما نظروا إلی الطیور و كیفية طیرانها، و كیف تلصق رجلیها إلی بطنها وقت الطیران، و ترسل رجلیها حین الهبوط.

و صنعوا الغواصة البحریه حینما نظروا إلی السمكة تغوص في الماء متی شاءت، و تطفو علی الماء متی أرادت.

و هكذا التطورات في المصانع و المعامل كلها من احتذاء أمثالها، و الاقتداء بأشباهها و لكن اللّه تعالی أو جد الكائنات بلا احتذاء و لا اقتداء و لا اتباع بموجودات أخری مماثلة و مشابهة لتلك الكائنات.

«كوّنها بقدرته» أوجد اللّه تعالی الأشیاء بقدرته الجامعة الكاملة، بدون مشاركة من أحد، بقدرته و قوته و تمكّنه علی الإیجاد و التكوین، لا باستعمال الأدوات و الآلات.

«و ذرأها بمشیئته» أي خلقها بإرادته دون قوله: و حسب إرادته في الكیفية و الصورة و الشكل و الهیئة و العدد، و بقیة الخصوصیات، خلقها بمشیئته بلا إجبار، و بإرادته التي إذا أراد شیئاً یقول له كن فيكون.

و قد جاء في دعاء الامام زین العابدین (علیه السلام): «... و مضت علی ارادتك الاشیاء، فهي بمشیتك- دون قولك- موتمره، و بارادتك- دون نهیك- منزجره...».

«من غیر حاجة منه إلی تكوینها» أي إن اللّه تعالی خلق الكائنات بلا حاجة منه إلی إیجادها و تكوینها مثل أن یستأنس بهم، أو یستعین بهم في الأمور، فله تعالی الكمال الكامل بجمیع معنی الكلمة، و لا طریق للاحتیاج إلی ذاته المقدسة.

«و لا فائدة له في تصویرها» أي لم تكن للّه تعالی فائدة في إحداث

ص: 309

تلك الصور و الأشكال و الهیئات، فإذا نفينا الحاجة و الفائدة في التكوین و التصویر ینبغي أن نعلم السبب في ذلك، لأن الفعل بلا سبب لغو، و تعالی اللّه عن ذلك.

«إلا تثبیتاً لحكمته» و في نسخة (تبییناً) و علی كل تقدیر، فالمعنی أن المقصود من الإنشاء و التكوین و الإیجاد هو إظهار الحكمة الإلهیة، و هو تعالی یعلم تلك الحكمة البالغة التي اقتضت إیجاد الكائنات، و لعل من تلك الحكمة إن اللّه تعالی خلق الكائنات لكي یعرف.

«و تنبیهاً علی طاعته» أي خلق الخلائق. كي ینبّههم علی وجوب طاعته، و الانقیاد لأوامره، لقوله تعالی: «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الإِنْسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ» و الإطاعة و العبادة إنما تحصل بعد المعرفة و ما قیمة العبادة بغیر معرفة؟ و ما قیمة المعرفة بدون إطاعة و عبادة؟

«و إظهاراً لقدرته» قدرة اللّه تعالی كانت موجودة، و إنما أراد إظهار شيء من قدرته فخلق الجمادات و النباتات و الحیوانات و الإنسان، و أودع في كل واحد من هذه الموجودات آیات من القدرة، فخلق الكواكب و المجرّات، و الأفلاك و السماوات، و خلق الكریات الحمر و البیض في الدم، و خلق الذرة و جعل لها قوائم، إلی غیر ذلك ممّا یطول الكلام بذكره.

و ملخص القول: إن كل موجود من الموجودات تتجلی و تظهر فيه قدرة اللّه علی الإبداع.

«و تعبداً لبریته» خلق اللّه الموجودات كي ینقادوا لأوامره، و ینزجروا عن نواهیه، و العبادة هي الانقیاد و الطاعة.

«و إعزازاً لدعوته» أي خلق اللّه الأشیاء لتكون تقویة للبراهین و الحجج التي یستدلّ بها الداعون إلی اللّه تعالی من الأنبیاء و غیرهم.

ص: 310

(ثم جعل الثواب علی طاعته) الإنسان لا یندفع نحو العمل إلا بدافعین: دافع الرغبة و هو الطمع لجلب الخیر، و دافع الرهبة و هو الخوف من المكروه، فالتاجر یتجر طلباً للمنافع و خوفاً من الفقر، و الطالب یتعلم و یدرس طلباً للثقافة أو الوظیفه، و هرباً من الجهل الذي یحول بینه و بین الصعود إلی مدارج الكمال.

و الإنسان لا ینقاد و لا یطمع إلا طمعاً في الأجر و الثواب، و خوفاً من العذاب و العقاب.

و انطلاقاً من هذه الحكمة جعل اللّه الثواب و هو الأجر مع التقدیر و الاحترام جزاء للطاعة و الانقیاد.

«و وضع العقاب علی معصیته» أي جعل قانون العقوبة للعاصین، المخالفين لأوامره المتجاوزین لأحكامه.

لماذا؟

«ذیادةً لعباده من نقمته» وضع اللّه تعالی قانون العقوباة لفي الدنیا،و العذاب في الاخره لاجل ردع العباد و منعهم عن ارتكاب الأعمال التي توجب نقمته أي عقوبته.

«و حیاشةً لهم إلی جنته» أي جعل الثواب و العقاب لمنع العباد عن المعاصي، و سوقهم إلی طریق الجنة، أي الأعمال التي یستحق الإنسان بها الجنة، و قد مرّ معنی الحیاشة في شرح الكلمات.

«و أشهد أن محمداً عبده و رسوله» أقرّت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بالشهادتین بعد أن شرحت كلامها شرحاً كافياً حول التوحید، فانتقلت إلی ذكر النبوة و ما یدور في هذا الفلك، فاعترفت لأبیها- أولاً- بالعبودیة الكاملة أي الانقیاد و الخضوع للّه تعالی، و هي درجة یبلغها الإنسان باختیاره مع العلم أن النبوة مرتبة تحصل للنبي بغیر سعی

ص: 311

ثم اعترفت له بالرسالة، أي إنه نبي مرسل من عنداللّه تعالی إلی الخلائق بشریعة سماویة.

و من المؤسف أن كلمة (الرسالة) صارت تستعمل- في زماننا- في كل مبدأ حق أو باطل، و في كل فكرة صحیحة أو سقیمة.

«اختاره و انتجبه قبل أن أرسله» انتقاه اللّه من أهل العالم كما ینتقی أحدنا الفرد الكامل الممتاز من أفراد عدیدة، فالفاكهة الواحدة نختارها من مئات أمثالها بعد أن نری فيها المزایا المتوفرة المستجمعة فيها، المفقودة في غیرها، من حیث الحجم و اللون و النضج و الطعم و النوع و ما شابه ذلك.

و هكذا اختار اللّه محمدا (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) قبل أن یرسله، أي إن اهلية الرسول- و استحقاقه لهذا المنصب الخطیر و هو النبوة- كانت ثابتة و معلومة عنداللّه تعالی قبل أن ینزل الرسول إلی ساحة العمل و الجهاد و الدعوة إلی اللّه، و ما كانت- هناك- حاجة للاختبار و الامتحان حتی تظهر مواهبه و استعداده و تقبّله للمسؤولیة، بل كان اللّه یعلم كفاءة الرسول لهذا العب ء الثقیل.

«و سمّاه قبل أن اجتبله» أي سماه اللّه محمداً قبل أن یخلقه أو سمّاه (كالخطیبة)یقال في حقها: (سمّیت لفلان) أي تقرّر تزویجها من فلان، فالمعنی- و لا مناقشة في الأمثال- أن اللّه تعالی قد قرّر في سابق علمه أن یكون محمد (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) رسول اللّه، أو سمّاه اللّه لأنبیائه قبل أن یخلقه.

«و اصطفاه قبل أن ابتعثه» أي اختاره اللّه تعالی قبل أن یرسله نبیّاً.

«إذ الخلائق بالغیب مكنونة» إن اللّه تعالی اصطفي محمداً و اختاره و اجتبله في الوقت الذي كانت الخلائق و هم الناس غیر موجودین، بل كانوا في الغیب مختفين مستورین، أي كانوا في علم غیب اللّه، و ما كان

ص: 312

لهم وجود في الخارج بحیث ما كان یمكن إدراكهم.

«و بستر الأهاویل مصونة» هذه الجملة تفسیر لما قبلها، و الأهاویل: جمع أهوال و هي جمع هول، و هو الخوف و الأمر الشدید و المقصود: وحشة ظلمات الغیب.

«و بنهایة العدم مقرونة» نهایة الشيء حدوده و آخره، و المقصود أن الخلائق كانت بعیدة عن الوجود أي كانت معدومة.

«علماً من اللّه بمآئل الأمور» من ذلك الوقت اختار اللّه محمداً (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) بسب علمه بعواقب الأمور و ما ترجع إلیه الأمور، كان اللّه یعلم عواقب البشر، و عواقب حالاتهم و شؤونهم، و عواقب رسالة النبي و بعثته، و مواهبه و كفاءته للرسالة بسبب اتصافه بالأخلاق الحميدة و الصفات الجمیلة، و لهذا اختاره للرسالة من ذلك الوقت.

و قد صرحت أحادیث كثیرة جداً مرویة عن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله و سلم):أن أول ما خلق اللّه نور محمد (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) و هكذا قوله (صلّی اللّه علیه و آله و سلم): إن اللّه خلق نوري و نور علی قبل أن یخلق آدم أو قبل أن یخلق السماوات و الأرض باثنتی عشر ألف سنة أو أربعة و عشرین ألف سنة،و غیرها من الروایات الواردة في الكتب المعتبرة.

«و إحاطة بحوادث الأمور» و بسبب إدراكه تعالی جمیع ما یدرك من الوقائع التي تحدث و تتجدد علی مر الأعوام و القرون.

«و معرفة بمواقع المقدور» و بسبب معرفته بأزمنة الأمور و أمكنتها التي قضاها، و المصالح التي رآها تعالی.

ص: 313

«ابتعثه اللّه إتماماً لأمره» بعث اللّه محمداً (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) إتماماً للحكمة التي خلق اللّه الأشیاء لأجلها، و لعل المقصود هو ختم النبوة برسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله و سلم).

«و عزیمة علی إمضاء حكمه» و إرادة قویة أكیدة لإنفاذ حكمه و قضائه، و تقدیره في خلقه.

«و إنفاذاً لمقادیر حتمه» و إجراء لمقدوراته الواجبة التي لا یمكن إسقاطها، و هي المقادیر المحتومة التي لا تتغیر و لا تتبدل.

و هنا تتحدث السیدة فاطمة الزهراء عن الحیاة الدینية و التفسّخ العقائدي في ذلك العهد:

«فرأی الأمم فرقاً في أدیانها» رأی رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) أهل الأرض علی أدیان متفرقة، من یهود و نصاری و مجوس، و صابئة و ملاحدة و زنادقة.

«عُكّفاً علی نیرانها» ملازمة علی عبادة النار، و مواظبة علیها، و هم المجوس الذين كانوا یقدّسون النار إلی حد العبادة، بل ویبنون بیوتاً للنار، و یحافظون علی إبقائها كي لا تنطفئ.

«عابدة لأوثانها» جمع وثن و هم الصنم المصنوع من خشب أو حجارة أو غیرها من التماثیل في كنائسهم و بیعهم، ینحنون أمامها، و یركعون و یسجدون لها بقصد العبادة.

«منكرة للّه مع عرفانها» جاحدة للّه تعالی مع معرفتهم به تعالی كما قال (عزّ و جلّ): «یَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّه ثُمَّ یُنْكِرُونَها» و المقصود أنهم كانوا یعرفون الخالق و الصانع بالفطرة و الوجدان و العقل، إذ أنهم كانوا یعلمون أن كل مصنوع لابدّ له من صانع، و یعلمون أن الكائنات مخلوقة و لم یدّع أحد من المخلوقین أنه خلق الشمس و القمر و السماء و الأرض، فلابدّ من

ص: 314

الاعتقاد بوجود صانع لها.

«فأنار اللّه بمحمد (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) ظلمها» أزال اللّه تعالی- بجهود الرسول و جهاده- تلك الظلمات- ظلمات تلك الأمم، ظلمات الكفر و الشرك و الجهل، أي إن الأدلة و البراهین التي احتج بها الرسول كانت كفيلة للقضاء علی تلك النظریات التي تأسست علیها عبادة النیران و الأوثان، و لیس المقصود أن الرسول قضی علی جمیع الأدیان الباطلة و العقائد الفاسدة بمعنی إزالتها عن الوجود، بل أثبت أن الإسلام هو الحق و غیره باطل.

«و كشف عن القلوب بهمها» كشف اللّه- بمحمد (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) عن القلوب مشكلاتها، و الأمور المخفية المستورة عنها، كالاعتقاد بالتوحید و الحشر و النشر في القیامة، إذ كانت تلك الأمور من المشاكل الغامضة عندهم، و لكنها انحلّت و انكشفت ببركة الرسول.

«و جلی عن الأبصار غممها» و كشف و أوضح عن العیون الظلمة المبهمة المستولیة علیها، و المقصود من الظلمة- هنا- الانحرافات العقائدیة التي كانت كالظلمة علی أعینهم و لهذا ما كانوا یبصرون الحقائق بسبب تلك الظلمة.

«و قام في الناس بالهدایة» قام رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) بإراءة الطریق للناس و نصب لهم العلامات الدالة علی الحق و الحقیقة، علی التوحید و النبوة و المعاد.

«و أنقذهم من الغوایة» أنقذهم من الضلالة التي كانوا یعیشون فيها، و یموتون علیها، الضلالة في العقائد، في الأخلاق، في الآداب و السلوك، في العادات و التقالید فكأنهم مغرقون في البحر، فأنقذهم الرسول من الغرق، و أسعفهم من الهلاك.

«و بصّرهم من العمایة» جعلهم أصحاب بصر و بصیرة، فالأعمی- لغةً- هو الذي لا یری شیئاً، و الأعمی- مجازاً- هو الذي لا یدرك الحقائق كما هي، فإذا تعلم صار بصیراً.

ص: 315

«و هداهم إلی الدین القویم» للهدایة معانی عدیدة، منها إراءة الطریق لمن لا یعرف الطریق، و منها الإیصال إلی المطلوب، و لقد قام رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) بالهدایة بكلا المعنیین: أراهم طریق السعادة و أوصلهم إلی سعادة الدنیا والآخرة.

«و دعاهم إلی الصراط المستقیم» أي الطریق الذي لا اعوجاج فيه، و هو الإسلام.

«ثم قبضه اللّه إلیه قبض رأفة و اختیار، و رغبة و إیثار» أي توفّاه اللّه و أخذه إلی عالم الآخرة بسبب الرأفة لا الغضب و السخط، و باختیار منه لا بإجبار و إكراه أو باختیار من اللّه تعالی له الآخرة و إرادة منه تعالی، و فضّل له الآخرة علی الدنیا كما قال (عزّ و جلّ): (وَ لَلآخِرَةُ خَیْرٌ لَكَ مِنَ الأُولی».

«فمحمد (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) من تعب هذه الدار في راحة» من مشاكلها و نوائبها، و ما كان یری فيها من أنواع الأذی و المخالفة، فإن الموت راحة لأولیاء اللّه، و إن حیاة الأنبیاء حیاة متعبة لأنها جهود و جهاد، و مشقة و عناء.

«قد حُفّ بالملائكة الأبرار» الذين حفّوا به والتفوا حوله، و رافقوا روحه الطاهرة إلی الرفيق الأعلی إلی أعلی علیین.

«و رضوان الرب الغفار» الذي شمله في ذلك العالم بصورة أوسع، لأن الدنیا تضیق عن ظهور جمیع آثار رضی اللّه، ولكن الآخرة واسعة المجال.

«و مجاورة الملك الجبار» فهو في حفظ اللّه و ذماره و قریب من ثوابه و ألطافه.

«صلی اللّه علی أبي، نبیه و أمینه علی الوحي و صفيّه» الأمین الذي أُؤتمن علی الوحي و الرسالة و صفيّه الذي اصطفاه من خلقه.

«و السلام علیه و رحمة اللّه و بركاته».

و في نسخة: «فمحمد (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) في راحةٍ من تعب هذه الدار، موضوعاً عنه أعباء الأوزار، محفوفاً بالملائكة الأبرار».

ص: 316

خطبه فاطمه الزهرا (عَلَيهَا السَّلَامُ)

ثم انتقلت الی اهل المجلس و قالت:

أنتم- عباد اللّه- نصب أمره و نهیهِ (1) و حَمَلة دینه و وحیه.

و أُمناءُ: اللّه علی أنفسكمِ (2) .

و بلغاؤه إلی الأُممِ (3) .

زعیم حقّ له فيكم.

و عهد قدّمه إلیكم.

و بقیّة استخلفها علیكم.

كتاب اللّه الناطق.

و القرآن الصادق.

و النور الساطعِ (4) .

و الضیاء اللامعِ (5) .

بیّنة بصائره، منكشفة سرائرهِ (6) .

ص: 317


1- منصوبون لا وامره و نواهیه.
2- امناء: جمع امین.
3- البلغاء- جمع بلیغ، و المقصود- هنا-: المبلغ.
4- الساطع: المرتفع.
5- اللامع: المضی ء.
6- البصائر: جمع بصیره، و المراد- هنا-:الاسرار الخفيه و اللطائف الدقیقه.

متجلّیة ظواهرهِ (1) .

مغتبط به أشیاعهِ (2) .

قائد إلی الرضوان اتّباعه.

مؤدٍّ إلی النجاة استماعه.

به تُنال حجج اللّه المنوّرة.

و عزائمه المفسَّرةِ (3) .

و محارمه المحذَّرة.

وبیّناته الجالیةِ (4) .

و براهینه الكافية.

و فضائله المندوبةِ (5) .

و رُخَصُه الموهوبة.

وشرائعه المكتوبةِ (6) .

فجعل اللّه الإیمان تطهیراً لكم من الشرك.

والصلاة تنزیها لكم من الكبر.

والزكاه تزكیه للنفس و نماء في الرزق.

والصیام تثبیبتا للاخلاص.

والحج تشییدا للدین.

ص: 318


1- متجلیه: منكشفه.
2- الغبطه: ان تتمنی مثل حال المغبوط اذا كان بحاله حسنه.
3- الغرائم- جمع عزیمه- الفریضه التي افترضها اللّه.
4- الجالیه: الواضحه.
5- المندوبه: المدعو الیها.
6- المكتوبه- هنا-: الواجبه.

و العدل تنسیقاً للقلوبِ (1) .

و إطاعتنا نظاماً للملّة.

و إمامتنا أماناً للفرقة.

و الجهاد عزّاً للإسلام.

و الصبر معونة علی استیجاب الأجر.

و الأمر بالمعروف مصلحة للعامّة.

و برَّ الوالدین وقایةً من السخط.

و صِلَة الأرحام منماةً للعددِ (2) .

و القصاص حقناً ِ (3) للدماء.

و الوفاء بالنذر تعریضاً ِ (4) للمغفرة.

و توفية المكاییلِ (5) و الموازین تغییراً للبخس.

و النهي عن شرب الخمر تنزیهاً عن الرجس.

و اجتناب القذف حجاباً عن اللعنة.

و ترك السرقة إیجاباً للعفّة.

و حرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبیة.

فاتقوا اللّه حق تقاته، و لا تموتن إلاّ و أنتم مسلمون.

و أطیعوا اللّه فيما أمركم به و نهاكم عنه.

فإنه إنما یخشی اللّه من عباده العلماء.

ص: 319


1- التنسیق: التنظیم.
2- منماه- علی وزن مسحاه-: اسم آله للنمو، و لعلها مصدر میمی للنمو.
3- حقنا: حفظا.
4- تعریضا: اذا جعلته في عرضه الشيء.
5- المكاییل- جمع مكیال-: و هو ما یكال به و الموازین جمع میزان. و البخس: النقص.

خطابها (عَلَيهَا السَّلَامُ) الی الحاضرین في المسجد

شرح انتقلت (علیها السلام) من ذكرالنبوه الی ذكر ما تركه الرسول الاعظم (صلی اللّه علیه و آله و سلم) من الثقلین: الكتاب و العتره الذين یقومان مقام النبي فقالت:- و هي مخاطبه للحاضرین في المسجدالنبوي حینذاك:

«انتم- عباداللّه- نصب امره و نهیه» كلمه: (عباد اللّه) جمله معترضه بین المبتدا و الخبر، و المعنی: اخص بالخطاب عباد اللّه أنتم نصب أمره و نهیه، أي أنتم منصوبون لأوامره اللّه تعالی و نواهیه، لأ نكم كنتم موجودین عند ورود الأوامر و النواهي، و الخطاب موجّه إلیكم.

«وحَملة دینه و وحیه» أي الحاملون لأحكام الدین لمشاهدتكم سیرة الرسول و الأحكام التي كان (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یصدّرها، و أنتم الحاملون لآیات القرآن حینما كان جبرئیل ینزل بها علی الرسول یعلّمكم إیّاها.

«و أُمنا اللّه علی أنفسكم» أنتم الذين ائتمنكم اللّه علی دینه حتی تتلقوا الأحكام من الرسول ثم تلقوها إلی الأفراد الذين لم یتعلّموا تلك الأحكام.

«و بلغاؤه إلی الأمم» لا شك أن العلوم تنتقل من جیل إلی جیل علی مرّ القرون، و حیث أنكم عاصرتم الرسول و سمعتم أحادیثه و تعلَّمتم سُنّته یجب علیكم أن تبلّغوا تلك الأوامر و التعالیم و الأحادیث و السنن إلی

ص: 320

الأجیال القادمة، فأنتم مبلّغو الدین الإسلامي إلی الأمم القادمة و علیكم اداء هذه المسؤولیة العظمی تجاه الإسلام و المسلمین، فيجب علیكم أداء الأمانة سلیمة من التلاعب، و تبلیغ الأحكام كما أنزلها اللّه بدون تحریف أو تغییر. لأنكم الوسائل بین الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و بین بقیة المسلمین فإن أحسنتم الأداء فلكم الأجر الجزیل، و إن خنتم في الأداء و التبلیغ فعلیكم أوزار كل انحراف یحدث في الدین و في المسلمین.

«زعیم حق له فيكم، و عهد قدمه إلیكم، و بقیة استخلفها علیكم» هذه الجملات ذكرها أكثر رواة الخطبة، و لكنها لا تخلو من الاضطراب و الغموض، و لعل في الكلام سقطاً و حذفاً و قد ذكر شرّاح الخطبة وجوهاً محتملة لهذه الكلمات لا تخلو من تكلّف و تعسّف، و لكن النتیجة و المقصود أن الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) عهد إلیكم بما یجب علیكم، و ترك فيكم بقیة منه جعلها خلیفة له علیكم، و معنی البقیة هو ما یخلفه الإنسان في أهله من الآثار و اللوازم، و المراد أن الرسول ترك فيكم ما یسدّ الحاجة و یكفي الأمة الإسلامية مهامّها، و في بعض النسخ: «و بقیة استخلَفَنا علیكم، و معنا كتاب اللّه» و هذه الجملة تشیر إلی الحدیث المشهور المعتبر عند المسلمین و هو قوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم»: «إني تارك فيكم الثقلین: كتاب اللّه و عترتي أهل بیتي، و إنهما لن یفترقا حتی یردا عليَّ الحوض (1) » و هنا تتحدث السیدة فاطمة الزهراء عن أحد الثقلین و هو القرآن الكریم فقالت: «كتاب اللّه الناطق» أي المبیّن الموضّح، كالإنسان الذي یتكلم بكل وضوح.

«و النور الساطع» قد ورد في القرآن الكریم التعبیر عن القرآن بالنور

ص: 321


1- صحیح مسلم و غیره.

كقوله تعالی: «فآمنوا باللّه و رسوله و النور الذي أنزلنا و اللّه بما تعملون خبیر» (1) .

«و الضیاء اللامع» و هو النور المشرق، لا النور الضئیل الخفي.

«بیّنة بصائره» أي واضحة حججه و براهینه فأدلّة التوحید و النبوة و الإمامة و البعث في یوم القیامة و غیر ذلك من الأدلة و البراهین تجدها واضحة عند أهلها، و عند كل من یعرف منطق القرآن، و یفهم المناسبة بین الدلیل و المدلول، و العلة و المعلول، استمع إلی قوله تعالی:

«لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا» و قوله: «و ضرب لنا مثلاً و نسي خلقه قال من یحیی العظام و هي رمیم قل یحییها الذي أنشأها أول مرة و هو بكل خلق علیم» و قوله: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا لیعبدون» و قوله: «قل لئن اجتمعت الجن و الإنس علی أن یأتوا بمثل هذا القرآن لا یأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهیراً» و غیرها من الآیات التي هي أدلة و براهین و حجج علی ما ذكره اللّه تعالی.

«منكشفة سرائره» في القرآن آیات واضحة الدلالة، ظاهرة المعنی، و آیات تشتمل علی معاني دقیقة و أسرار خفية كأسرار الكیمیاء الغیبیّة، أو الآیات المتشابهات، و هي كلها منكشفة و معلومة عند أولی الألباب، و الراسخین في العلم.

«متجلیة ظواهره» ظواهر القرآن واضحة كمال الوضوح.

«مغتبط به أشیاعه» أي إن أتباع القرآن یبلغون منزلة عند اللّه بحیث یغبطهم الناس، أي یتمنی الناس الوصول إلی تلك الدرجات التي نالها

ص: 322


1- التغابن: 7.

الذين اتبعوا القرآن.

«قائد إلی الرضوان إتباعه» القرآن یقود إلی رضوان اللّه تعالی أو اتّباع القرآن یقود إلی الرضوان و النتیجة واحدة.

«مؤدٍّ إلی النجاة استماعه» أي الاستماع إلی القرآن یؤدی إلی النجاة كما قال تعالی: «و إذا قُرئ القرآن فاستمعوا له و أنصتوا لعلكم ترحمون» سیّما إذا كان مع الاستماع تدبّر و تعقّل، لأن الخوف من اللّه یحصل باستماع القرآن، و كذلك الرجاء به، و هكذا ینجو الإنسان من عذاب اللّه تعالی، فكم من كافرٍ أسلم بسبب استماع القرآن؟ و كم من مذنب تاب؟ وكم من منحرف اعتدل و كم من شاكٍ استقام و تیقّن؟

«به تُنال حجج اللّه المنوَّرة» الحجة ما یحتج به الإنسان و یمكن الاستدلال و الاحتجاج به في القضایا العقلية و الأحكام الشرعیة، و الأمور العرفية.

«و عزائمه المفسَّرة» أي الواجبات التي فسرها القرآن نفسه، أو النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أو أئمة أهل البیت (علیهم السلام) لأن القرآن نزل في بیوتهم، و أهل البیت أدری بما في البیت، فسّروا أحكام العبادات و كیفيتها و الخصوصیات المتعلقة بها من الوضوء إلی الغسل إلی الصلاة إلی الصوم و الحج و الجهاد و غیر ذلك من الواجبات.

«و محارمه المحذّرة» حذّرّ اللّه تعالی في القرآن عباده عن ارتكاب المحرّمات، حذَّرهم بالعذاب الألیم في الدنیا أو الآخرة.

«و بیناته الجالیة» أي المحكمات الواضحة التي لا تحتاج إلی تأویل.

«و براهینه الكافية» وفي نسخة: «و جُمَله الكافية» أي المتشابهات المعلومة عند الراسخین في العلم.

«وفضائله المندوبة» و هي الأمور المستحبة التي ندب اللّه تعالی عباده

ص: 323

إلیها أي دعاهم إلیها بدون إلزام كصلاة اللیل و أمثالها.

«وًّ رٌخصه الموهوبة» في القرآن أحكام واجبة كما تقدم الكلام عنها، و مخیّرة و هي المستحبات التي یتخیر الإنسان فيها.

«و شرائعه المكتوبة» شرائع: جمع شریعة، و هي ما شرّع اللّه أي قرّره لعباده من الدین تشبیهاً بمورد الماء، و المكتوبة هي الواجبة المفروضة.

ص: 324

كلامها حول فلسفة الأحكام

ثم انتقلت (علیها السلام) إلی ذكر الفلسفة الإسلامية، أو علل الأحكام في الشریعة الإسلامية و ما هناك من فوائد و أسرار، و حكَم في التشریع الإسلامي التي هي للوقایة أكثر مما هي للعلاج، و قد قیل: «الوقایة خیر من العلاج» و سیتضح لك ذلك، قالت (علیها السلام):

«فجعل اللّه الإیمان تطهیراً لكم من الشرك» و في نسخة: «ففرض اللّه الإیمان» الآیات الواردة في القرآن الكریم، الآمرة بالإیمان باللّه وحده، إنما هي لغرض التطهیر من أرجاس الشرك باللّه، فالشرك بمنزلة المكروبات الضارة، و الإیمان تعقیم لها، فالشرك قذارة متعلقة با لأذهان، ملتصقة بالعقول، قد تلوثت بها القلوب، و الإیمان تطهیر عام لإزالة تلك القذارة.

«والصلاة تنزیهاً لكم عن الكبر» المقصود من تشریع الصلاة هو القضاء علی رزیلة الكبر، لأن الصلاة خضوع و خشوع للّه و ركوع و سجود و تذلل، و أكثر المصابین بداء الكبریاء هم التاركون للصلاة.

«و الزكاة تزكیة للنفس و نماءً في الرزق» و في نسخة: «و الزكاة تزییداً لكم في الرزق» إنّما سُمیت الزكاة لأنها تزكي الإنسان، استمع إلی قوله تعالی: «خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكیهم بها» و قد جعل اللّه تعالی البركة و النمو في إعطاء الزكاة، فيأذن اللّه للأرض أن تجود ببركاتها فيكثر الزرع و یمتلئ الضرع،و تتراكم الخیرات، و تتضاعف الثمار.

ص: 325

«و الصیام تثبیتاً للإخلاص» قد یمكن أن یصلي الإنسان قصد الریاء، و لا یمكن أن یصوم و یطوي نهاره جائعاً عطشاناً، و یتحمل المشقة- لسبب الإمساك و الامتناع عما یشتهي- بقصد الریاء، فالصوم من أظهر العبادات الخالصة لوجه اللّه الكریم.

«و الحج تشییداً للدین» للحج فوائد و منافع معنویة لا تتحقق بغیر الحج، فالحج عبارة عن عدد كبیر من المسلمین من بلاد بعیدة و أقطار عدیدة، من شرق الأرض و غربها و عن كل قطر یسكن فيه مسلم یستطیع الحج، في أیام محدودة و أماكن معینة، علی هیئات خاصة و كیفيات مخصوصة، فيلتقي بعضهم ببعض، و یتعرّف المسلم الأفریقي بالمسلم الآسیوي، و یطلّع المسلم الشرقي علی أحوال المسلم الغربي و ما هناك من فوائد تحصل من تلك اللقاءات، أضف إلی ذلك الفوائد التي تعود إلی نفس الإنسان الحاج من الخضوع و التذلل لله، و التوبة و الاستغفار و غیر ذلك مما یطول الكلام بذكره.

«و العدل تنسیقاً للقلوب» و في نسخة: «و تنسیكاً للقلوب» لا أعرف لتعلیل العدل تعریفاً أحسن و أكمل من هذا التعریف، لأن تنسیق القلوب تنظیمها كتنسیق خرز السبحة، و تنظیمها بالخیط، فلو انقطع الخیط تفرقت الخرز و تشتتت، و اختل التنظیم و زال التنسیق.

إن العدل في المجتمع بمنزلة الخیط في السبحة، فالعدل الفردي و الزوجي و العائلي و الاجتماعي و العدل مع الأسرة و مع الناس یكون سبباً لتنظیم القلوب و انسجامها بل و اندماجها، و إذا فقد العدل فقد الانسجام، و جاء مكانه التنافر و التباعد و التقاطع، و أخیراً التقاتل.

و لیست العدالة من خصائص الحكّام و الولاة و القضاة، بل یجب علی كل إنسان أن یسیر و یعیش تحت ظلال العدالة، و یعاشر زوجته و عائلته

ص: 326

و أسرته و مجتمعه بالعدالة إبقاءً لمحبة القلوب.

«و إطاعتنا نظاماً للملة» و في نسخة: «و طاعتنا» كل أمة إذا أرادت أن تعیش لا بدَّ لها من اختیار نظام حاكم سائد، و النظام كلمة واسعة النطاق، كثیرة المصداق غزیرة المعاني.

فالحكومات، و تشكیل الوزارات، و تنظیم الدوائر، و سنّ القوانین، و إصدار التعالیم في شتی المجالات یقال لها: نظام. و لا بدّ- طبعاً- من تنفيذ النظام، و الخضوع و الانقیاد له، و یقال له: التنظیم.

فإذا كان النظام صالحاً انتشر الصلاح في العباد و البلاد، و إذا كان النظام فاسداً ظهر الفساد في البر و البحر.

و الأمة الإسلامية التي تعتبر نفسها في طلیعة الأمم الراقیة المتحضرة لا بدّ و أن یكون لها نظام، و إن اللّه تعالی جعل إطاعة أهل البیت (علیهم السلام) نظاماً للملة الإسلامية، و معنی ذلك أن اللّه جعل القیادة العامة المطلقة العلیا، و السلطة لأئمة أهل البیت الاثنی عشر (علیهم السلام) و هم عترة الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقط، لا كل من یستلم زمام الحكم، أو یجلس علی منصة القیادة تجب إطاعته و تنفيذ أوامره.

و إنما جعل اللّه إطاعة أئمة أهل البیت نظاماً للمسلمین لأن اللّه تعالی زوَّدهم بالمواهب، و منحهم الأهلیة، و أحاطوا علماً بكل ما ینفع المجتمع و یضرّه، و بكل ما یُصلح الناس و یفسدهم.

و جعلهم الرسول عدل القرآن بقوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): إنی تارك فيكم الثقلین: كتاب اللّه و عترتي أهل بیتي، و إنهما لن یفترقا حتی یردا عليّ الحوض، و إنكم لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما.

و لقد سبق أن تحدثت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) عن القرآن و أنه بقیة استخلفها علیكم، ثم ذكرت بعض ما یتعلق بعظمة القرآن. ثم

ص: 327

انتقلت إلی ذكر فلسفة الإسلام ثم انتقلت إلی ذكر الثقل الثاني، و هم العترة،و هم أهل البیت، و هم أولو الأمر الذين أوجب اللّه إطاعتهم علی العباد بقوله تعالی: «أطیعوا اللّه و أطیعوا الرسول و أُولی الأمر منكم».

فو اللّه لو أن المسلمین فسحوا المجال- من أول یوم- لأهل البیت و أطاعوهم لكانت الدنیا روحاً و ریحاناً و جنة نعیم، و كانت السعادة شاملة لجمیع طبقات البشر علی مرّ القرون، و ما كانت تحدث المفاسد و المجازر و المذابح علی وجه الأرض، و ما كانت الأموال تسلب، و الأعراض تُهتك، و النفوس تزهق ظلماً، و ما كان الجهل و الأمیة و التأخیر و التفسخ منتشراً بین الأمة الإسلامية، و ما كان في الأرض فقر و لا حرمان، و لا اضطهاد و لا جوع.

نحن لا نزال في شرح كلمات السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) و قد طال بنا الكلام هنا، لأن الموضوع یتطلب شیئاً من التفصیل مع العلم أننا لم نؤد حق المقام.

فالبحث عن القیادة الإسلامية أو الإمامة الصحیحة بحث واسع یحتاج إلی موسوعة كبری، و تحلیل و تحقیق شاملین كاملین.

«و إمامتنا أماناً للفرقة» و في نسخة: «لمّاً للفرقة» إمام علی وزن كتاب هو المقتدی، انظر إلی إمام الجماعة كیف یقتدي به المأمومون في أفعال الصلاة من قیام إلی ركوع و سجود و هكذا، فهو مقتدی في أفعال محدودة، و لهذا یقال له: إمام صلاة الجماعة، أو إمام الجماعة في الصلاة.

و الإمامة الكبری التي هي الخلافة العظمی، منصب سماوي، و منزلة تتعیّن من عند اللّه تعالی، لأنها تالیة للنبوة من حیث العظمة و الأهمیة، انظر إلی أولیاء اللّه كیف یسألون اللّه تعالی أن یبلغهم تلك المنزلة الرفيعة و الدرجة السامیة.

ص: 328

فهذا إبراهیم الخلیل (علیه السلام) یأتیه النداء من عند اللّه تعالی: «إني جاعلك للناس إماماً» أي المقتدی به في أفعاله و أقواله، و أنه الذي یقوم بتدبیر الأمة و سیاستها و القیام بأمورها، و تأدیب جناتها، و تولیة و لاتها،و إقامة الحدود علی مستحقیها و محاربة من یكیدها و یعادیها، و لیس المقصود من الإمامة- هنا- النبوة، لأن إبراهیم كان نبیاً حینذاك و إنما أضاف اللّه له الإمامة إلی النبوة.

و أنت إذا أمعنت النظر في قوله تعالی: «إني جاعلك» یتضح لك أن تعیین الإمام یجب أن یكون من عند اللّه، و لا یحق للناس أن یعینوا لأنفسهم إماماً حسب آرائهم الشخصیة و هو ایاتهم الفردیة.

و إذا تدبرت بقیة الآیة تنكشف لك حقائق أخری و هي قوله: «و من ذریتي قال لا ینال عهدی الظالمین» أي لما أخبر اللّه إبراهیم بالإمامة قال إبراهیم: «و من ذریتي» أي و اجعل من ذریتي من یوشّح بالإمامة و بهذه الكرامة. قال تعالی: «لا ینال عهدي الظالمین» قال مجاهد: العهد الإمامة، و قد روی ذلك عن الإمامين: الباقر و الصادق (علیهما السلام) أي لا یكون الظالم إماماً للناس، و هذا یدل علی عصمة الأئمة، لأن اللّه سبحانه نفي أن ینال عهده (الذي هو الإمامة) ظالم، و من لیس بمعصوم فقد یكون ظالماً إما لنفسه و إما لغیره.

و إذا تأملت في هذه الآیات البینات یتضح لك أن المناصب السماویة و الوظائف الإلهیة ینبغي أن تكون من عند اللّه تعالی و تعیینه و جعله، تدبّر في قوله تعالی:

یا داود إنا جعلناك خلیفة في الأرض (1) .

ص: 329


1- الانعام: 26.

و جعلنا في ذریته النبوة و الكتاب»(1).

و لقد آتینا موسی الكتاب و جعلنا معه أخاه هارون وزیراً»(2).

و جعلناهم أئمة یهدون بأمرنا»ِ (3) .

إني جاعلك للناس إماماً»ِ (4) .

«و اجعلنا للمتقین إماماً»ِ (5) .

«و اجعل لي وزیراً من اهلي هارون أخی»ِ (6) .

و غیرها من الآیات التي تتجلی فيها كلمة: (جعلنا) و (اجعلنا) و (جعلناهم) و ما أشبه ذلك.

و هنا تقول الزهراء (علیها السلام): «و إمامتنا» إنها تقصد إمامة الأئمة الاثنی عشر، و شخص زوجها العظیم أبا الأئمة علیاً (علیه السلام).

«و الجهاد عزاً للإسلام» العزة لا تحصل إلا بالقوة، و تظهر القوة باستعمال السلاح و استعراض الجیش، و إظهار المعدات الحربیة، و تجلّی البطولات و غیر ذلك.

و أحسن استعراض للقوة و إثبات الشخصیة هو الجهاد في سبیل اللّه، فالقوة و القدرة و الإمكانیة و التضحیة، و مدی تعلق المسلمین بالمبدأ، و المواهب التي تظهر في جبهات القتال، و تظهر النتیجة بالانتصار و الظفر و الغلبة علی أعداء الدین، و استیلاء الخوف علی كل مناوئ للإسلام، و القوي لا یخضع إلا للقوة، لا للإنسانیة فقط، و لا للثروة فقط، بل للقوة، و هكذا تجتمع العزة للأمة القویة، و للمبدأ الذي یعتنقه الأقویاء.

«و الصبر معونة علی استیجاب الأجر» الصبر علی المكاره من فقر

ص: 330


1- العنکبوت: 7.
2- الفرقان: 35.
3- الانبیاء73.
4- البقره: 124.
5- الفرقان: 74.
6- طه: 29.

إلی مرض إلی دَین إلی سجن إلی مصیبة، یدل علی التسلیم لإرادة اللّه تعالی، و التسلیم فضیلة سامیة و منزلة عالیة یستعین بها الإنسان الصابر علی تحصیل الاجر الجزیل، و الثواب الأوفي، و بالصبر یتم فعل الطاعات و ترك السیئات.

«و الأمر بالمعروف مصلحة للعامة» فرض اللّه الأمر بالمعروف علی كل مكلف في حدود القدرة و الإمكانیة بشروط معینة مذكورة في محلها، و یعتبر نوعاً من الجهاد، و معنی ذلك أن كل فرد من أفراد المسلمین یعتبر نفسه مسؤولاً عن الدین مرتبطاً به، غیر منفصل عنه، و هو تفسیر عملي لقوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعیته» لأن الإسلام لا یؤمن باللامبالاة و بالانعزال عن المجتمع الدیني، لأن الإسلام یعتبر المسلمین أسرة واحدة مترابطة، و أمة واحدة یربطها رباط الدین و العقیدة.

«و برّ الوالدین وقایة من السخط» و في نسخة: «و البر بالوالدین و قایة من السخطة» و معنی ذلك أن عقوق الوالدین یُسبب سخط اللّه و غضبه علی العاق لوالدیه، إذن یكون الإحسان إلیهما سبباً للوقایة من غضب اللّه تعالی، و بعد إلقاء نظرة علی الآیات التي توصي برعایة حقوق الوالدین تتضح لنا أهمیة هذا الجانب الأخلاقي:

«و وصینا الإنسان بوالدیه حسناً...»ِ (1) .

«و یسئلونك ماذا ینفقون قل ما أنفقتم من خیر فللوالدین....»ِ (2) .

«و اعبدوا اللّه و لا تشركوا به شیئاً و بالوالدین إحساناً...» (3) .

«قل تعالوا أتل ما حرم ربكم علیكم ألاّ تشركوا به شیئاً و بالوالدین

ص: 331


1- العنكبوت: 8.
2- البقره 215.
3- النساء.

إحساناً... (1) .

«و قضی ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إیاه و بالوالدین إحساناً إما یبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ و لا تنهر هما و قل لهما قولاً كریماً و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل ربِّ ارحمهما كما ربیاني صغیراً»ِ (2) .

«و وصینا الإنسان بوالدیه حملته أُمه و هناً علی و هن و فصاله في عامین أن أشكر لي و لوالدیك إليَّ المصیر. و إن جاهداك علی أن تشرك بي ما لیس لك به علم فلا تطعهما و صاحبهما في الدنیا معروفاً... (3) .«و وصینا الإنسان بوالدیه إحساناً حملته أُمه كرهاً و وضعته كرهاً و حمله و فصاله ثلاثون شهراً حتی إذا بلغ أشده و بلغ أربعین سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَ و علی والدي و أن أعمل صالحاً ترضیه و أصلح لي في ذریتي إني تبت إلیك و إني من المسلمین أُولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا و نتجاوز عن سیئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا یوعدون (4) .

بعد الانتباه إلی هذه الآیات ینكشف لنا معنی كلامها (علیها السلام): و برّ الوالدین و قایة من السخط، و هذا البحث یتطلب مزیداً من الشرح و التفصیل، و لكننا اكتفينا بما تیسر.

«و صلة الأرحام منماة للعدد» و في نسخة: «و صلة الأرحام منسأة للعمر، و منماة للعدد» إن للأعمال آثار طبیعية و لا یمكن التخلف عنها- فالذي یصل رحمه- أي أقربائه الذين تجمعه و إیاهم رحم من أرحام

ص: 332


1- الانعام: 151.
2- الاسراء: 23 و 24.
3- لقمان: 14- 15
4- الاحقاف: 15- 16.

الأمهات- باللسان أو بالید أو بالمال لا بد و أن یكون طویل العمر، كثیر النسل و العدد، كثیر المال، و لقد وردت أحادیث كثیرة متواترة جداً حول صلة الرحم، و إنها تزید في الثروة و تؤخر الأجل (أجل الموت).

و كذلك قطع الرحم یسبب قصر العمر و زوال المال.

و لقد شاهدنا في عصرنا الكثیر من الناس الذين و صلوا أرحامهم فدرّت علیهم الأیام خیرها و بركاتها، و كثیر عددهم و نسلهم مع العلم أن مؤهلات التكاثر لم تكن متوفرة فيهم.

و قد رأینا الكثیرین من أبناء زماننا الذين قطعوا أرحامهم- أي قطعوا العلاقات الودیة (بجمیع أنواعها) مع أقربائهم- فكأنهم قطعوا جذور أعمارهم، و هدموا أُسس حیاتهم و بقائهم- بأیدیهم فانقرضوا بعد أن افتقروا.

«و القصاص حقناً للدماء» لا یوجد في سجلات القوانین في العالم كله قانون المحافظة علی حیاة الناس كقانون القصاص، و لهذا قال تعالی: «و لكم في القصاص حیاة یا أٌولی الألباب لعلكم تتقون»ِ (1) .

و العجب أن القضاء علی حیاة القاتل یعتبر إبقاءً و حفظاً لحیاة الآخرین، إذ أن الإنسان- إذا یعزم علی قتل أحد ظلماً- إذا علم أنه سوف یُقتص منه، و یُقتل، فإنه بالقطع و الیقین سیمتنع من الإقدام علی الجریمة، و لكنه إذا علم أن جزاءه السجن، و في السجن الراحة و الأكل و الشرب، و رجاء شمول العفو، و التخفيف، أو دفع العوض و ما شابه ذلك من الرشوة و شفاعة الشافعين لدی السلطة الحاكمة، فعند ذلك تهون عنده الجریمة، و یستسهل الجنایة، و یقدم علی إراقة الدماء البریئة ظلماً و عدواناً.

ص: 333


1- البقره 179.

إن قانون الكفار السائد في البلاد الإسلامية لا یؤمن بالقصاص من القاتل، و یزعم القانون أن القصاص لا یحیی المقتول فلا فائدة في تكرار القتل، فوضعوا السجون و الأعمال الشاقة عقوبة للقاتل، و مع ذلك تجد السجون في العالم ملیئة بالمجرمین المرتكبین لجریمة القتل، و تجد جرائم القتل في التزاید و التكاثر في كل زمان و كل مكان.

و العجب أن اللّه تعالی یخاطب العقلاء بقوله: «یا أُولی الألباب» و یعقبه بجملة: «لعلكم تتقون» یخاطب اللّه تعالی العقلاء الذين یفهمون و یعقلون أن القصاص أحسن رادع و أقوی مانع عن القتل، و القصاص أفضل و أحسن من السجن و التعذیب و ما شابه ذلك.

و لكن القانون الإلهي أصبح مهجوراً متروكاً، و القانون الغربي هو القانون المفضل علی أحكام اللّه تعالی، و بذلك فلتقر عیون المسلمین!!

و كیف یرجو المسلمون لأنفسهم السیادة و العزة و الاستقلال و هم أذناب و أتباع للیهود و النصاری في أحكامهم و قوانینهم بل و حتی في تاریخهم فالتاریخ الهجري الإسلامي صار نسیاً منسیاً، و التاریخ المیلادي هو المعروف المتبع في البلاد الإسلامية حكومات و شعوباً؟!

هذا و الكلام طویل یحتاج إلی مجال أوسع و تفصیل أكثر و بعد ذلك ما الفائدة في بث هذه الآلام و المآسي؟

فهل یحصل تغییر في الأنظمة الحكومیة و القوانین المستوردة عندهم؟

لا أظن ذلك!!

«و الوفاء بالنذر تعریضاً للمغفرة» و في نسخة: «بالنذور» النذر هو المعاهدة مع اللّه تعالی علی فعل من الأفعال، فالوفاء بالنذر یعتبر وفاء بالمعاهدة كما قال تعالی: «و من أوفي بما عاهد علیه اللّه فسیؤتیه أجراً

ص: 334

عظیماً» و الإنسان یجعل نفسه في معرض المغفرة عن طریق النذر و الوفاء بالنذر.

«و توفية المكاییل و الموازین تغییراً للبخس» أوجب اللّه تعالی علی البائع و المشتري أن یراعیا حقوق الناس، و أن لا یبخسا الناس أشیاءهم، و أن یعاملا الناس بالأمانة و العدالة، لا بالظلم و الخیانة، و ذلك بعدم التلاعب في المكیال الذي یكال به الشيء من طعام و غیره أو المیزان الذي یوزن به الشيء.

«والنهي عن شرب الخمر تنزیهاً عن الرجس» وفي نسخة: «والانتهاء عن شرب الخمور» لقد ذكرنا حول آیة التطهیر معاني عدیدة للرجس، و الخمر تعتبر من أفراد الرجس و مصادیقه كما قال تعالی: «إنما الخمر و المیسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشیطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون» و قد كتب الكثیر من المسلمین و غیرهم كتباً و مقالات حول أضرار الخمر، و الجرائم المتولدة منها، و الویلات التي تتكون منها، و نكتفي- هنا- أن نقول: بعد مراجعة معاني الرجس یتضح لك جانب كبیر من مضار الخمرة من الناحیة الصحیة و العقلية و الاجتماعیة و غیر ذلك.

«و اجتناب القذف حجاباً عن اللعنة» و في نسخة: «و اجتناب قذف المحصنات» إن الإسلام هو الدین الذي یحافظ علی كرامات الناس، و یعتبر الإسلام المس بالكرامة نوعاً من أنواع الجریمة، و قد جعل لهذه الجریمة عقوبة دنیویة، و عذاباً في الآخرة.

إن إسناد الفجور إلی أهل العفة و الشرف من رجال أو نساء لیس بالشيء الهین و لا یسمح الإسلام أن یطلق الإنسان لسانه لهدر كرامة الناس، و هتك أعراضهم و نوامیسهم.

و إذا نسب الإنسان نوعاً من أنواع الفجور إلی ما لیس معروفاً

ص: 335

بالفجور فلا بد من إثبات ذلك بإقامة البینة و الشهود، فإن عجز عن ذلك فسوف ینفذ في حقه قانون العقوبات.

قال اللّه تعالی: «و الذين یرمون المحصنات ثم لم یأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانین جلدة و لا تقبلوا لهم شهادة أبداً و أولئك هم الفاسقون، إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن اللّه غفور رحیم» (1) .

و قال أیضاً: «إن الذين یرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنیا و الآخرة و لهم عذاب عظیم»ِ (2) .

و هنا یتضح معنی كلامها (علیها السلام): «و اجتناب القذف حجاباً عن اللعنة» أي انا لذي یجتنب قذف الناس أي إسناد الفجور إلیهم فهو محجوب عن اللعنة و معنی اللعنة: البعد عن رحمة اللّه تعالی.

«و ترك السرقة إیجاباً للعفة» و في نسخة: «و مجانبة السرقة» إن الید تعتبر ثمینة غالیة ما دامت أمینة عفيفة، فإذا سرقت فقد خانت فصارت رخیصة لا كرامة لها، لأنها تجاوزت الحدود.

سأل أبوالعلاء المعري من السید المرتضی علم الهدی (رضوان اللّه علیه):

یدٌ بخمس مئینٍ عسجد أودیت***ما بالها قطعت في ربع دینار؟

أي أن الید التي دیتُها خمسمائة دینار ذهب، لماذا تقطع إذا سرقت شیئاً قیمته ربع دینار؟

فأجابه السید المرتضی قائلاً:

عز الأمانة أغلاها، و أرخصها***ذل الخیانة، فافهم حكمة الباري

إذن فالسرقة تسلب العفة من الید، أي صاحب الید، و ترك السرقة

ص: 336


1- النور:4- 5.
2- النور:23.

یوجب بقاء العفة و الأمانة.

و في كتاب (كشف الغمة) بعد قوله: «و مجانبة السرقة إیجاباً للعفة» هكذا: «و التنزّه عن أكل أموال الأیتام و الاستیثار بفيئهم إجازة من الظلم. و العدل في الأحكام إیناساً للرعیة» الیتیم هو الذي فقد أحد أبویه أو كلیهما و هو صغیر، و یرثهما التركة، و نظراً لصغر سنه لا یستطیع المحافظة علی أمواله و تدبیر أموره، و هنا یطمع في أمواله ذوو الأطماع لأنهم استضعفوه، و لم یجدوا فيه القوة و القدرة علی المقاومة، فهناك الظلم الواضح و الاعتداء البغیض، و لكن اللّه تعالی قد قدّر مصیر هؤلاء الظالمین و جزاءهم في الآخرة، فقال تعالی: «الذين یأكلون أموال الیتامی ظلماً إنما یأكلون في بطونهم ناراً و سیصلون سعیراً» فجعل اللّه الاجتناب عن أكل أموال الیتامی حفظاً من الوقوع في الظلم الذي هذا جزاؤه و عقابه.

و أما جملة: «و الاستئثار بفيئهم» فالمقصود من الفي ء- هنا-: الغنیمة، أي خمس الغنائم أو ما أفاء اللّه علی رسوله، و قد تقدم الكلام حول ذلك في مدخل الخطبة و الآیات الواردة حول فدك.

«و عدل الحكام إیناساً للرعیة» لقد تقدم في كلامها (علیها السلام) شيء حول العدل بصورة عامة كالعدل بین الزوجات و بین الأولاد و بین الناس، و هنا تشیر في كلامها إلی عدل الحكام، و المقصود من الحكام- هنا- السلطة الحاكمة من الملك إلی الوزراء إلی الأمراء إلی رؤساء الدوائر و المحافظین و القضاة و الحاكمین، و أمثالهم من ذوي السلطة و القدرة.

و من الطبیعي: أن أصحاب المناصب الخطیرة یشعرون أو یتصورون بهالةٍ من الكبریاء تحیط بهم، و علی هذا الأساس یرون أنفسهم أجل قدراً و أعظم شأناً و أرفع مستوی من غیرهم.

ص: 337

و أفراد الرعیة یشعرون بشيء من البعد الواسع و البون الشاسع بینهم و بین الطبقة الحاكمة، فلا یسمح لكل أحد أن یلتقي برئیس الدولة، أو یقابل موظفاً كبیراً، و خاصة إذا كان صاحب حاجة. و علی الأخص إذا اعتدی علیه بعض الموظفين،و هذا یسبب التنافر بین الحكومة و بین الشعب. و بین جهاز الحكومة و المواطنین.

و لكن إذا سار الحكام علی طریقة العدالة و المحافظة علی حقوق الضعفاء تجد أن روح الأمل قد تولدت في نفس المظلوم، بل في نفوس أفراد الرعیة، و ینظر الإنسان من أفراد الشعب إلی جهاز الحكم كما ینظر الولد إلی أبیه، و كما ینظر الطالب إلی المعلم، و كما ینظر المریض إلی الطبیب و الممرض، من حیث المحبة و التقدیر. و بهذا یحصل الاستئناس بین أفراد الشعب و بین الطبقة الحاكمة، و یحصل التعاون و الإخاء و الألفة و المحبة و هكذا و هلم جرّاً.

و لو لا رعایة أسلوب الكتاب لطال بنا الكلام حول هذا الموضوع الذي یشعر به أكثر الناس، و تتلهف إلیه النفوس.

«و حرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبیة» لأن الشرك نوع من الكفر، و الواجب علی العباد أن یعبدوا اللّه مخلصین له الدین.

ثم أنها ختمت هذا الفصل من كلامها بآیات مناسبة للموضوع، و هي قوله تعالی: «فاتقوا اللّه حق تقاته و لا تموتن إلاّ و أنتم مسلمون».

«و أطیعوا اللّه فيما أمركم به و نهاكم عنه فإنه «إنما یخشی اللّه من عباده العلماء».

ص: 338

خطبه فاطمه الزهرا (عَلَيهَا السَّلَامُ)

ثم قالت: أیّها الناس!

اعلموا أنی فاطمةّ!

و أبي محمد.

أقول عَوداً و بدءاً. (1) .

و لا أقول ما أقول غلطاً، و لا أفعل ما أفعل شططاً (2) .

«لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزیز علیه ما عنّتم حریص علیكم بالمؤمنین رؤوف رحیم (3) .

فإن تعزوه و تعرفوه تجدوه أبی دون نسائكمِ (4) .

و أخا ابن عمي دون رجالكم.

و لنعم المعزِیيُ إلیهِ (5) (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

فبلّغ بالرسالة، صادعاً بالنذارةِ (6) .

مائلاً عن مدرجة المشركینِ (7) .

ص: 339


1- عودا و بدءا: آخرا و اولا.
2- شططا: ظلما و جورا.
3- التوبه: 128.
4- تعروه: تنسبوه.
5- المعزي الیه.
6- صادعا: مظهره: النذاره: الانذار و التخویف.
7- مدرجه المشركین: طریقهم و مسلكهم.

ضارباً ثَبجهمِ (1) ، آخذاً بأكظامهمِ (2) .

داعیاً إلی سبیل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة.

یكسر الأصنام.

و ینكت الهامِ (3) .

حتی انهزم الجمع و ولّوا الدبر.

حتی تفرّی اللیل عن صبحهِ (4) .

و أسفر الحق عن محضهِ (5) .

و نطق زعیم الدین.

و خرست شقاشق الشیاطینِ (6) .

و طاح و شیظ النفاقِ (7) .

و انحلت عُقد الكفر و الشقاقِ (8) .

و فُهتم بكلمة الإخلاصِ (9) .

و نفرٌ من البیض الخِماصِ (10) .

ص: 340


1- الثبج- بفتح الثاء- و الباء-: الكاهل، و وسط الشيء.
2- الكظم- بفتح الكاف و الظاء-: الفم او الحق او مخرج النفس.
3- نكته علی هامته: اذا القاه علی راسه.
4- تفری: انشق.
5- أسفر: اذا انكشف و اضاء. و المحض: الخالص.
6- شقاشق- جمع شقشقه- و هي شيء یشبه الرئه یخرج من فم البعیر اذا هاج یكون بمعنی القدید و هو اللحم المجفف في الشمس.
7- الوشیظ: الاتباع و الخدم.
8- الشقاق: الخلاف.
9- فهتم: تلفظتم.
10- البیض- جمع ابیض- و الخماص- جمع خمیص- و هو الجائع. و في نسخه: «في نفر».

و كنتم علی شفا حفرة من النارِ (1) .

مذقة الشاربِ (2) ، و نهزة الطامعِ (3) .

و قبسة العجلانِ (4) .

و موطئ الأقدام.

تشربون الطرقِ، و تقتاتون القِدَّ و الورقِ (5) .

أذلّةً خاسئین.

تخافون أن یتخطفكم الناس من حولكم.

فأنقذ كم اللّه تعالی بمحمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

بعد اللتیّا و التي.

و بعد أن مني بِبُهم الرجالِ. (6) و ذُؤبان العرب.

و مَرَدَة أهل الكتابِ (7) .

ص: 341


1- شفا حفره: جانبها المشرف علیها.
2- المذقه- بضم المیم- شربه من اللبن الممزوج بالماء.
3- النهزه- بضم النون-: الفرصه.
4- قبسه العجلان: الشعله من النار التي یاخذها الرجل العاجل.
5- تقتاتون: تجعلون قوتكم.القد- بكسر القاف-: قطعه-: جلد غیر مدبوغ، و یحتمل ان یكون بمعنی القدید و هو اللحم المجفف في الشمس.
6- مني- فعل ماضي مجهول-: ابتلی. و البهم- علی وزن الغرف- جمع بهمه، و هو الشجاع الذي لا یهتدي من این یوتی.
7- مرده بفتح المیم و الراء و الدال-: جمع مارد و هو العاتي.

كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللّه.

أو نَجَمِ (1) قرن للشیطان.

أو فَفرتْ (2) فاغرة من المشركین.

قَذف أخاه في لهواتهاِ (3) .

فلا ینكفئ حتی یطأ صِماخها بأخمصهِ (4) .

و یخمد لهبها بسیفهِ (5) .

مكدوداً في ذات اللّه (6) .

مجتهداً في أمر اللّه.

قریباً من رسول اللّه.

سیداً في أولیاء اللّه.

مُشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً (7) .

و أنتم في رفاهیة من العیشِ (8) .

و ادعون فاكهون آمنونِ (9) .

ص: 342


1- نجم فعل ماضي: طلع. و قرن الشیطان: اتباعه.
2- فغر: فتح. فاغره فاها: أي فاتحه فمها.
3- اللّهوات جمع لهاه-: لحمه مشرفه علی الحلق في اقصی الفم.
4- ینكفي ء: یرجع. یطا: یدوس.صماخها: اذنها. باخمصه: بباطن قدمه.
5- یخمد: یطفي ء. لهبها: اشتعالها.
6- المكدود: المتعب.
7- شمر ثوبه: رفعه. مجد- بضم المیم و كسرالجیم-: مجتهد و الكادح: الساعي.
8- رفاهیه: سعه.
9- مرتاحون. فاكهون: ناعمون.

تتربصون بنا الدوائرِ (1) .

و تتوكفون الأخبارِ (2) .

و تنكصون عند النزالِ (3) .

و تفرّون من القتال.

ص: 343


1- الدوائر: العواقب: العواقب المذمومه و حوادث الایام.
2- تتوكفون: تتوقعون بلوغ الاخبار.
3- تنكصون: ترجعون و تتاخرون. و النزال: القتال.

فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) تطالب بحقها المغصوب

الی هنا أنهت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حدیثها عن فلسفة الإسلام، و عن علل الشریعة الإسلامية، ثم عرّجت علی كلامها المقصود و هدفها المنشود، و هو المطالبة بحقها و التظلم من السلطة الحاكمة.

و قبل كل شيء و جّهت الخطاب إلی الشعب الحاضر في المسجد، في المؤتمر الإسلامي لأنهم بایعوا رئیس الدولة، و لم توجّه الخطاب إلی رئیس الدولة لأنه هو أحد طرفي المحاكمة، و هو المقصود بالمخاصمة و الإدانة، و لهذا عرّفت نفسها للحاضرین كما هي الأصول المتبعة في المحاكمات و لأنها الطرف الآخر للمحاكمة، و لأنها تمثّل آل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و عترته الطیبین بل هي ملكة الإسلام، و المحاكمة وقعت بمحضر من المهاجرین و الأنصار و غیرهم، و هم یوم ذاك من الشخصیات الإسلامية البارزة المرموقة و من الوزن الثقیل.

و موضوع المحاكمة هي الأراضی و المقاطعات التي كانت تحت تصرّف السیدة فاطمة الزهراء منذ سنوات، ثم استولی علیها ابوبكر و صادرها بدون مبرر شرعي، و لهذا و جّهت السیدة فاطمة الزهراء كلامها إلی الحاضرین في ذلك المؤتمر، فقالت:

«ایها الناس اعلمواني فاطمه» ذكرت اسمها للمستمعین، ذالك الاسم الذي لایجهله احد، ذلك الاسم الذي سمعه الناس مرارا و تكرارا من فم الرسول الاعظم (صلی اللّه علیه و آله و سلم) مشفوعا بالعواطف النبويه،

ص: 344

مقرونا بكل تجلیل و تعظیم و تقدیر.

و هذه الكلمه: «اعلمو اني فاطمه» تشتمل و تحتوی علی عشرات الصفحات من الشرح.

«و أبي: محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم)» هذا النسب الشریف الأرفع، النسب الذي لیس فوقه نسب، النسب الذي هو مفخرة الكون، و درّة تاج الوجود، و أشهر من الشمس.

نعم، إن فاطمة هي بنت محمد، سید الأنبیاء، أشرف الخلائق، أطهر الكائنات، أفضل المخلوقین.

نعم، بنت هذا العظیم تتكلم و تخطب. و تحتج و تتظلم.

لقد عرّفت نفسها لئلا یقول قائل: ما عرفناها، و لماذا ما صرّحت باسمها؟ و لماذا لم تعرّف شخصها؟ و لماذا لم تذكر نسبها؟

و بهذا أتمّت الحجة، و لم تُبق لذي مقال مقالاً، ذكرت اسمها الصریح و نسبها الواضح تعریضاً و توبیخاً لهم.

نعم، إن فاطمة بنت محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم) جاءت تطالب بحقوقها و أموالها التي صودرت و غصبت منها.

«أقول عوداً و بدءاً» أي أتكلم آخراً و أولاً، و أولاً و آخراً، و أنا علی یقین بما أقول.

و في نسخة: «عَوداً علی بدء» و المعنی واحد.

«و لا أقول ما أقول غلطاً» و هو الخطأ في الكلام من كذب و خدیعة و مغالطة.

«و لا أفعل ما أفعل شططاً» لا أتكلم جوراً و ظلماً و تجاوزاً عن الحد.

«لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزیز علیه ما عنتم حریص علیكم

ص: 345

بالمؤمنین رؤوف رحیم» افتتحت هذا البحث بذكر أبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله) و أدمجت كلامها بكلام اللّه تعالی، و معنی الآیه: إن الرسول من العرب،یشق و یعزّ علیه و قوعكم في الشدّة لأجله، حریص علی توفير وسائل السعادة لكم، بالمؤمنین من هذه الأمة رؤوف رحیم، كلمتان مترادفتان، معناهما العطف و اللطف و الحنان.

«فإن تعزوه و تعرفوه» أي تنسبوه، و تقولوا فيه إنه أبومَن؟ و أخو مَن؟ و في نسخة: «فإن تعزروه و توقروه» أي تعظموه.

«تجدوه أبی دون نسائكم» نعم، أنا ابنته الوحیدة، و هو أبي، و لا تشاركني نساؤكم في هذا النسب الطاهر الأعلی.

«و أخا ابن عمي دون رجالكم» نعم، إنه أخو زوجي، و لم یشارك أحد من رجالكم أبي في الأخوة و لیس المقصود- هنا- أخوّة النسب، بل الأخوّة التي حصلت یوم المؤاخاة حینما آخی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بین أصحابه، آخی بینه و بین عليّ و كان الرسول ینوّه بهذه الأخوة في شتی المناسبات و مختلف المجالات، و یركّز علی كلمة: (أخي) كقوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم): ادعوا لي أخي، و أین أخي؟ و أنت أخي، و إنه أخي في الدنیا و الآخرة.

و كان علي (علیه السلام) یعتزّ بهذه الأخوة و المؤاخاة، و یذكرها نظماً و نثراً، و منه قوله (علیه السلام):

أنا أخو المصطفي لا شك في نسبي***معه ربیت، و سبطاه هما ولدي

و قوله:

محمد النبي أخي و صنوي***و حمزة سید الشهداء عمي

و قوله:

و مَن حین آخی بین من كان حاضراً***دعاني و آخاني و بیّن من فضلي

ص: 346

و قوله: أنا عبداللّه و أخو رسول اللّه، و أنا الصدّیق الأكبر و الفاروق الأعظم لا یقوله غیري إلاّ كذابِ (1) .

«و لنعم المعزّی إلیه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)» نِعم المنسوب إلیه و المنتمی إلیه، أنه أشرف من ینتسب إلیه، و أطهر من ینتمی إلیه، لأنه علة الإیجاد، و بیُمنه رُزق الوری.

«فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة» بلّغ الرسول كل ما أُمر بتبلیغه مظهراً بالإنذار و التخویف بعذاب الآخرة.

«مائلاً عن مدرجة المشركین» و في نسخة: «ناكباً عن سنن مدرجة المشركین» أي عدل عن طریقة المشركین و مسلكهم.

«ضارباً ثبجهم» أي كان الرسول ضارباً كواهل المشركین و ظهورهم، و المقصود جهاد الكفار و المشركین.

«آخذاً بأكظامهم» أي ممسكاً علی أفواههم، أو مخارج أنفاسهم، و هي كنایة عن إیقافهم عند حدّهم، و إحباط مؤامراتهم، و تفنید أباطیلهم.

«داعیاً إلی سبیل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة» كان یدعو إلی اللّه، لا إلی الدنیا، إلی سبیل ربه، لا سبیل غیره، و یراعی في دعوته مستویات الناس، فيدعو بالحكمة و هي المقالة الموضحة للحق و المزیحة للشبهة، هذا بالنسبة للطبقة الواعیة المثقفة، و یدعو بالموعظة الحسنة و هي الخطابات المقنعة للنفوس، و العبر النافعة للحیاة، و هذا بالنسبة للطبقة العامة.

و یجادلهم بالتي هي أحسن، و هي أحسن طرق المجادلة و التفاهم، و إقامة الأدلة و البراهین بالنسبة للمعاندین.

«و یكسر الأصنام» التي كان المشركون یعبدونها و یعتبرونها آلهة من دون اللّه.

ص: 347


1- راجع كتابنا (علی من المهد الی اللحد) للمزید من المعلومات حول البحث.

«و ینكت الهام» و في نسخة: «ینكس الهام» إشارة إلی قتال رؤساء الكفر، و أقطاب الشرك و قمعهم و إذلالهم، و هم الذين كانوا یؤججون نیران الحروب، و یثیرون الفتن أمثال: شیبة و عتبة و أبی جهل و نظرائهم، أو إذلال المفسدین و المشاغبین، و في نسخة: «ینكث الهام» أي یلقی الرجل علی رأسه.

«حتی انهزم الجمع و ولّوا الدبر» أي استمر الكفاح و الجهاد سنوات عدیدة، تتكون خلالها الحروب و الغزوات و الاضطرابات حتی قضی الرسول علی أصول الفتن و جراثیم الفساد فانكسرت شوكة الكفار، و ضعفت معنویاتهم، و أخیراً حتی انهزم الجمع، أي جماعة الكفار و أدبروا فارّین.

«حتی تفرّی اللیل عن صبحه» حتی انجلت ظلمات الكفر السوداء، و تجلی صبح الإسلام الأبیض الناصع.

«و أسفر الحق عن محضه» أي ارتفعت الحواجز الباطلة التي حجبت الحق عن الظهور فأضاء الحق الخالص الذي لا یشوبه شيء من الباطل، و كلها كنایات عن تجمّع القوي الدینية.

«و نطق زعیم الدین» تكلم رئیس الدین فيما یتعلق بأمور الدین و أمور المسلمین بكل حریة و صراحة.

«و خرست شقاشق الشیاطین» قد ذكرنا في شرح ألفاظ الخطبة أن الشقاشق- جمع شقشقة- شيء یشبه الرئة یخرج من فم البعیر عند هیجانه، و المقصود من (خرست شقاشق الشیاطین) هو تبخّر نشاطات المفسدین، و اختناق أصواتهم.

«و طاح و شیظ النفاق» المقصود سقوط المنافقین عن الاعتبار، و فشل مساعیهم.

ص: 348

«و انحلت عُقَد الكفر و الشقاق» أي فشلت المحاولات و المحالفات و الاتفاقیات التي قام بها الكفار و المخالفون ضد الإسلام و المسلمین كما في غزوة الأحزاب.

«و فُهتم بكلمة الإخلاص» و تلفظتم بكلمة: (لا إله إلا اللّه) بألسنتكم.

«في نفر من البیض الخماص» أي بیض الوجوه من النور، الضامري البطون من التجوع بسبب الصوم. أو الزهد.

و یمكن أن یكون المقصود من هذین الوصفين أُناساً معینين، و هم الصفوة من أصحاب النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أو أهل البیت (علیهم السلام).

«و كنتم علی شفا حفرة من النار» بسبب الكفر و الشرك باللّه العظیم.

ثم أشارت (علیها السلام) إلی الحیاة الاجتماعیة التي كان الناس یعیشونها في ذلك الوقت و هي الفوضویة و اختلال النظام، و الهرج الذي كان مستولیاً علی كافة جوانب الحیاة، فقالت: «مذقة الشارب» إذا مرّ الإنسان الضمآن من مكان، و وجد ماءً لیس له مالك، أو له مالك و لكنه لا یستطیع الدفاع و المقاومة فانه فيطمع ذلك الإنسان أن یشرب من ذلك الماء و یبرّد غلیله.

«و نهزة الطامع» و هكذا إذا مر الإنسان من مكان و وجد هناك طعاماً لا مالك له، أو مالكه ضعیف فتری الجائع یطمع في ذلك الطعام. فينتهز الفرصة و یستو في نصیبه من ذلك الطعام.

«و قبسة العجلان» هي الشعلة أو الجذوة من النار یأخذها الرجل المسرع إذا احتاج إلیها.

«و موطّئ الأقدام» و كنتم أذلاّء، مستضعفين تدوسكم الأقویاء بأقدامها.

«تشربون الطرق» الماء الذي كنتم تشربونه هو الماء المتجمع في

ص: 349

المستنقعات و الحفائر تدخلها الحیوانات، و تبول فيها الإبل، مع العلم أن النفوس الشریفة تستقذر هذا الماء و تمجّه، و لا ترضی به، و لكنه الجهل، و لكنه الإحساس بالنقص، و الخضوع للمذلة و الهوان، كأنهم لم یعرفوا حفر الآبار، أو تفجیر العیون، أو إیجاد القنوات تحت الأرض و لا تسأل عن مضاعفات هذه المیاه و تلوثها بأنواع الجراثیم و المیكروبات.

هذا و لا تزال الحیاة بهذه الصفة موجودة في بعض البلاد الإسلامية المتأخرة عن ركب الحضارة، كما نقرأ ذلك في بعض الصحف و المجلات.

«و تقتاتون القدّ و الورق» أي كان قوتكم و طعامكم من القد و هو اللحم أو الجلد الیابس و أوراق الأشجار، فالأراضي الواسعة الشاسعة قاحلة جرداء، لا ضرع فيها و لا زرع و مفهوم الزراعة غیر موجود عندكم.

«أذّلة خاسئین» الخاسئ هو المنبوذ المطرود الذي لا یُترك أن یدنو من الناس لحقارته.

«تخافون أن یتخطفكم الناس من حولكم» إن التفسخ و الانحلال یؤدي إلی اختلال الحیاة الاجتماعیة و إلی الفوضویة و فقدان الأمن و الأمان، و سلب القرار و الاستقرار و الطمأنینة في النفوس، فالقوي یطمع في الضعیف، و الكثیر یأكل القلیل، و الغني یستعبد الفقیر، فلا یخاف أحد من القانون، و لا یهاب العقاب،و لا یخشی السلطة.

و نحن نری أن حوادث الاختطاف و الاغتصاب و الاعتداء إنما تكثر في البلاد التي لا یطبق فيها القانون علی الجمیع. و لا ینفذ إلا في حق الفقیر الضعیف فالدماء تراق و الأعراض تهتك، و الأموال تسلب، و الكرامات تُهدر، و هكذا و هلم جرّاً.

و قد اقتبست السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) هذه الآیة من

ص: 350

القرآن و أدمجتها في حدیثها عن العهد الجاهلي.

«فأنقذكم اللّه بابي (محمد) (صلی اللّه علیه و آله و سلم)» إنه المنقذ الأعظم و المصلح الأكبر الذي أنقذ العباد من تلك الحیاة التي كانت تشبه الجحیم، و أصلح البلاد من تلك المفاسد و الویلات و المصائب و أحدث انقلاباً في العقائد و النفوس و الأخلاق و العادات.

و لم تتحقق أهدافه إلا:

«بعد اللتیّا و التي» هذه الكلمة صارت مثلاً في هذه المناسبة، أي استطاع الرسول الأعظم (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أن یطهر المجتمع، و ینقذ الناس من مصائب الجاهلیة بعد شق الأنفس، بعد أن تحمّل المشاكل و أنواع الأذی، بعد الضغط و الكبت و الاضطهاد.

«و بعد أن مني بِبُهم الرجال» استطاع الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إنقاذ الناس بعد أن ابتلی بالرجال الأقویاء، و الأبطال الشجعان الذين أججوا نیران الحروب، و حاربوا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بكل ما یملكون من حول و قوة و هم أكثر عدداً من المسلمین، و أكثر عدّة و عتاداً.

«و ذُؤبان العرب» إن الإنسان إذا تجرّد عن الإنسانیة و الأخلاق و الفضیلة فانه ینزل إلی مرتبة الحیوانات، فإذا فقد الفهم و العلم فإنه یُشبَّه بالحمار، و إذا فقد العاطفة و الرأفة فإنه یُشبَّه بالسباع و الحیوانات المفترسة، فيصح أن یقال في حقه: إنه ذئب.

و هكذا أولئك السفاكون الذين كانوا یستأنسون بالمذابح و المجازر التي كانوا هم السبب في تكوینها، أولئك الذين كانت هو ایاتهم إثارة الفتن

ص: 351

و إیجاد الاضطرابات، أمثال أبی جهل و أبی سفيان و من یدور في فلكهما،

و قیل: المقصود من الذؤبان- هنا- اللصوص و الصعالیك، أي السفلة من الناس الساقطین.

ابتلی الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بهؤلاء المفسدین، ابدءً من غزوة بدر إلی غزوة أحد إلی الخندق إلی حنین و غیرها، تجد هؤلاء المفسدین كانوا في طلیعة أسباب الفتنة و الاضطرابات و المشاغبات، و حتی الحروب التي خاضها المسلمون مع الیهود كان هؤلاء هم السبب في إثارتها.

«و مردة أهل الكتاب» إشارة إلی الحروب التي شبّ الیهود و النصاری نیرانها، أمثال: بنی النضیر، و بني قریظة و بنی قینقاع، و بني الأصفر في مؤتة؛

إن أهل الكتاب- و هم الیهود و النصاری- لو كانوا یتبعون الكتاب السماوي الذي أنزل علیهم لما حاربوا الرسول؛ بل كانوا یسلمون علی یدیه في المرحلة الأولی، لأن أوصاف الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) مذكورة في كتبهم، و كان من السهل علیهم المقارنة بین تلك الصفات و العلائم و بین الرسول، و عند ذلك كانوا یجدون تلك الصفات تنطبق علی الرسول مائة بالمائة، و لكن مردة أهل الكتاب و هم العتاة المتجبرون الذين منعهم الكبریاء من الخضوع للحق استمروا علی عتّوهم و عنادهم و جحودهم.

«كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللّه» كانوا یحیكون المؤامرات ضد الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و یجمعون الجیوش و العساكر و یحضّون القبائل و العشائر علی محاربة الرسول، فكانت المساعي فاشلة، و كان الانتصار و الغلبة و الظفر حلیفاً للرسول.

و لو استعرضنا تاریخ حیاة الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) منذ

ص: 352

البعثة حتی الوفاة لظهر لنا جانب كبیر من إحباط المؤامرات و الفشل الذریع الذي أحاط بأعداء الرسول.

«أو نَجَم قرن للشیطان» لو انكسر قرن الحیوان نبت له قرن آخر، و تقول السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام): إذا نهض أحد المفسدین للقیام بالأعمال الشیطانیة، و هي المعاكسات و المقاومات التي كانت المشركون یقومون بها ضد رسول اللّه.

هذه الجملة علی جملة: «كلما أوقدوا» أي كلما نجم قرن للشیطان أو «فغرت فاغرة» أو فتحت حیة الكفر فمها لتلسع و تلدغ المجتمع الإسلامي.

«قذف أخاه في لهواتها» أي كان الرسول یقضي علی تلك النشاطات الجهنمیة، و النعرات الشیطانیة، یقضي علیها بأخیه علي بن أبي طالب (علیه السلام).

كان الرسول یأمر علیهاً أن یردّ عنه كتائب المشركین و عصابات المنافقین فكان علي (علیه السلام) یخاطر بحیاته، و یغامر بنفسه، و یستقبل أولئك الذئاب المفترسة، كان یقاتلهم وحده، و یخوض غمار الحرب، فيصح التعبیر بقولها: «قذف أخاه في لهواتها» في فم الموت بین أنیاب السباع تحت سیوف الأعداء، و الرماح الشارعة و السهام الجارحة.

«فلا ینكفئ حتی یطأ صماخها بأخمصه» لا یرجع علي (علیه السلام) من جبهة القتال حتی یسحق رؤوس الأعداء، و یدوس هامات الرؤساء بباطن قدمه، كالمصارع الذي ینزل إلی ساحة المصارعة فإذا تغلّب علی خصمه و صرعه فلا بدّ من أن یلصق المصارع ظهر خصمه أو رأسه علی الأرض لیثبت أنه أنهی المصارعة بأوفي صورة.

كذلك علي (علیه السلام) كان یهرول نحو الأعداء لا یعرف معنی

ص: 353

للخوف، و كأنه مستمیت، و كأنّ غریزة الحیاة قد سُلبت عنه، و بیده صحیفة یقطر منها الموت، تراها راكعة ساجدة، علی الرؤوس، و الخواصر و كان یقدّ الأبدان نصفين طولاً أو عرضاً، و یفری و یكسر و یهشم في طرفة عین، و قبل أن تنفجر الدماء من العروق كانت العملیة قد انتهت.

«و یخمد لهبها بسیفه» كان یقضي علی جراثیم الفساد، و یقلع الأشواك عن طریق المجتمع البشري، و یطفئ لهیب الحروب بسیفه السماوي، و یمهّد الطریق لكلمة: (لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه).

«مكدوداً في ذات اللّه» قد أخذ التعب و العناء منه كل مأخذ، كل ذلك للّه و في اللّه و لوجه اللّه و في سبیل اللّه.

«مجتهداً في أمر اللّه» المجتهد- في اللغة- الذي یجهد نفسه أي یتعبها، كان علي (علیه السلام) یبذل ما في وسعه و طاقته و جمیع إمكانیاته لتحقیق أهدافه السامیة، و تحصیل أمنیاته، و هي إعلاء كلمة اللّه.

«قریباً من رسول اللّه» لیس المقصود القرب المكاني، بل القرب المعنوي، من حیث قرابة النسب، و انسجام الروح، و اندماج النفس و اتحاد الاتجاه، و وحدة النفس، فعلي (علیه السلام) نفس الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بنص القرآن الكریم بقوله تعالی: «و أنفسنا و أنفسكم» و هل هناك قرابة أو نسب أقوی من هذا؟

«سیداً في أولیاء اللّه» و في نسخة: «سید أولیاء اللّه» فيكون المقصود هو رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

«مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً» هكذا تصف السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) زوجها العظیم، كأنه یشمّر عن ثیابه نشاطاً و استعداداً للعمل للإسلام و لصالح الإسلام، في سبیل إسعاد المسلمین. و بذل النصح، و هو حب الخیر لهم، كان مجداً في العمل، ساعیاً فيه، لا یمنعه التعب عن

ص: 354

استمرار العمل.

نعم، كانت حیاة الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام) كلها جهوداً و جهاداً، و نشاطاً و إنتاجاً و إنجازاً و خدمة للإسلام و المسلمین، فمواقفه في جبهات القتال مشهورة، و أعماله الفدائیة في سبیل الإسلام مذكورة، و تفانیه و تضحیاته في سبیل اللّه معروفة.

«و أنتم في رفاهیة من العیش و ادعون فاكهون آمنون» كان علي (علیه السلام) یستقبل الأخطار و الأهوال في الوقت الذي كان المسلمون بعیدین عن تلك الأخطار، مشغولین بأنفسهم یتمتعون بالراحة، و یتفكرون في تحصیل الملذات، و إشباع الرغبات، لا یعرفون معنی الخوف.

أین كان المسلمون لیلة المبیت؟ تلك اللیلة التي طوّق المشركون دار رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و هم یریدون الهجوم علیه لیقتلوه؟

أما بات علیّ (علیه السلام) علی فراش رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یفدیه بنفسه و حیاته و شبابه.

أین كان المسلمون یوم أحد حین انهزموا و تركوا الرسول في جبهة القتال، تحمل علیه عصابات الكفار و المشركین؟ و بقی علي (علیه السلام) یقاوم الأعداء حتی ضرب الرقم القیاسی في المواساة و التضحیة، حتی هتف جبرئیل بفُتَّوته و بسالته یوم هتف بین الأرض و السماء: لا فتی إلا عليّ و لا سیف إلا ذو الفقار.

و هكذا یوم حُنین، و هكذا یوم الخندق، و هكذا یوم خیبر. و هكذا هلم جراً.

قال علي (علیه السلام): «و لقد واسیته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الابطال، و تتاخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني اللّه بها...».

«تتربصون بنا الدوائر» كان بعض أولئك الأفراد مندسین في صفوف

ص: 355

المسلمین یتوقعون هلاك الرسول، و ینتظرون نزول المكاره و حلول الكوارث، برسول اللّه، و الدوائر و صروف الزمان، و العواقب السیئة، و تحوّل النعمة و زوالها و نزول البلاء.

«و تتوكفون الأخبار» تتوقعون وصول الأخبار الدالة علی هلاكنا.

«و تنكصون عند النزال، و تفرون من القتال» ففي یوم أُحد كانت المأساة من فرار المسلمین، و یوم حُنین كانت الفضیحة و یوم خیبر كان العار منطبعاً علی جبهات المنهزمین،

و لا تسأل عن یوم الخندق حین استولی الرعب علی القلوب، و الفزع علی النفوس حینما برز عمرو بن عبدودّ، فكفي اللّه المؤمنین القتال بعلي (علیه السلام).

هذا و لو أردنا استعراض الأحداث التاریخیة بهذا الشأن لطال بنا الكلام و خرج الكتاب عن أسلوبه.

و خلاصة القول هذا موقف علي (علیه السلام) تجاه الإسلام و الرسول، و هذه مواقف غیره من أولئك الشخصیات التي ظهرت شجاعتهم بعد وفاة الرسول! و برزت مواهبهم حین خلا لهم الجو، و ساعدتهم الظروف علی ما یحبون!.

ص: 356

خطبه فاطمه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)

فلّما اختار اللّه لنبیّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) دار أنبیائه.

و مأوی أصفيائه.

ظهر فيكم حسكة النفاقِ (1) .

و سمل جلباب الدینِ (2) .

و نطق كاظم الغاوینِ (3) .

و نَبَغَ خامل الأقلِّینِ (4) .

و هدَرَ فنیق المبطلینِ (5) .

فخطر في عرصاتكمِ (6) .

و أطلع الشیطان رأسه من مغرزهِ (7) هاتفاً بكم.

فألفا كم لدعوته مستجیبین.

و للغرّة فيه ملاحظینِ (8) .

ص: 357


1- الحسكه و الحسكیه: الشوكه.
2- سمل الثوب: صارخلقا. و الجباب. ثوب واسع.
3- كاظم الغاوین:الساكت الضال الجاهل.
4- ظهر من خفي صوته و اسمه من الاذلاء.
5- هدر البعیر: ردد صوته في حنجرته. الفهل من الابل.
6- خطر: اذا حرك ذنبه.
7- المغرز- بكسر الراء-: ما یختفي فيه.
8- الغره- بكسرالغین- الانخداع. و ملاحظین:ناظرین و مراعین.

ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً.

و أحمشكم فألفا كم غضاباِ (1) .

فوسمتم غیر إبلكمِ (2) .

و أوردتم غیر شربكمِ (3) .

هذا و العهد قریب.

و الكلم رحیبِ (4) .

و الجرح لمّا یندملِ (5) .

و الرسول لمّا یُقبَرِ (6) .

ابتداراً زعمتم خوف الفتنةِ (7) .

ألا في الفتنة سقطوا و إن جهنَّم لمحیطة بالكافرین.

فهیهات منكم!

و كیف بكم؟

و أنَّی تؤفكونِ (8) .

و كتاب اللّه بین أظهركم.

أُموره ظاهرة.

ص: 358


1- احمشكم: اغضبكم.
2- الوسم: الكي، وسمه: كواه.
3- الشرب- بكسر الشین-: النصیب من الماء.
4- الكلم: الجرح. و رحیب: واسع.
5- اندمل: تراجع الی البرء.
6- یقبر: یدفن.
7- ابتدارا: معاجله.
8- توفكون: أي تصرفون.

و أحكامه زاهرة.

و أعلامه باهرة.

و زواجره لائحة.

و أوامره واضحة.

و قد خلَّفتموه وراء ظهوركم.

أرَغبةً عنه تریدون؟

أم بغیره تحكمون؟

بئس للظالمین بدلاً.

و مَن یبتغ غیر الإسلام دیناً فلن یقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرین.

ثم لم تلبثوا إلاّ ریث أن تسكن نفرتهاِ (1) .

و یسلس قیادهاِ (2) .

ثم أخذتم تورون و قدتها، و تُهیّجون جمرتهاِ (3) .

و تستجیبون لهتاف الشیطان الغويّ.

و إطفاء أنوار الدین الجلي.

و إخماد سنن النبي الصفي.

تسرّون حسواً في ارتغاءِ (4) .

و تمشون لأهله و وُلده في الخَمَر و الضرَّاءِ (5) .

ص: 359


1- ریث: قدر.
2- یسلس: یسهل.
3- تورون: تخرجون نارها.تهیجون: تثیرون.
4- یاتي المعنی في شرح الخطبه.
5- الخمر- بفتح الخاء و المیم-: ما یسترك من الشجر و غیره.

و نصبر منكم علی مثل حزّ المدیِ (1) .

و وخز السنان في الحشیِ (2) .

و أنتم- الآن- تزعمون أن لا إرث لنا.

أفحكم الجاهلیة یبغون؟

و مَن أحسنُ من اللّه حكماً لقوم یوقنون؟

أفلا تعلمون؟ بلی تجلّی لكم كالشمس الضاحیة أني ابنته.

أیها المسلمون! أأُغلب علی إرثیه.

ص: 360


1- المدی- بضم المیم- جمع مدیه و هي الشفره.
2- الوخز: الطعن. و السنان: راس الرمح.

التحدث عن فتره الانقلاب

ثم انتلقت الی التحدث عن فتره الانقلاب الذي قام به الافراد بعد وفاه الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقالت:

«فلما اختار اللّه لنبیه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) دار أنبیائه».

ما أروع هذه الكلمة!

و ما أحسن هذا التعبیر الراقي!

إذ أنها ما قالت: فلما مات النبي. بل قالت: «فلما اختار اللّه لنبیه دار أنبیائه» و هي الدرجات العلا في الجنة، فهناك الأنبیاء، و هناك «مأوی أصفيائه».

«ظهرت فيكم حسیكة النفاق» و في نسخة: «حسكیة» و هي الشوكة، و یراد بها العداوة و هي عداوة النفاق، أي العداوة الحاصلة بسبب النفاق.

«و سمل جلباب الدین» و في نسخة: «أسمل» و في بعض النسخ: «جلباب الإسلام» أي ظهرت آثار الاندراس علی ثیاب الإسلام، بعد أن كانت في غایة الحسن و الجمال و الطراوة.

«و نطق كاظم الغاوین» و في نسخة: «فنطق كاظم، و نبغ خامل» أي تكلم الذي ما كان یتجرأ أن یتكلم من جهة الخوف.

«و نبغ خامل الأقلِّین» و في نسخة: «الآفلین» و المقصود بروز الأفراد الساقطین غیر النابهین.

ص: 361

«و هدر فنیق المبطلین» و في نسخة: «فنیق الكفر» أي رفع البعیر- الفحل الذي لا یركب- صوته.

«فخطر في عرصاتكم» أي مشی ذلك البعیر مشیة المعجب بنفسه، مشیة الكبریاء و الغرور و كلها كنایات عن ظهور النفاق الكامن في الصدور، و بروز النزعات و الاتجاهات التي كانت مختفية في عصر الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و انقلاب الضعفاء العجزة أقویاء.

«و أطلع الشیطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم» تعتبر السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام). تلك الأحداث نوعاً من التجاوب مع الشیطان الرجیم الذي حلف بقوله: «لأغوینهم أجمعین إلاّ عبادك منهم المخلصین» فالشیطان الذي كان فاشلاً في عهد الرسول یوم كان الإسلام في التقدم والقوة، الشیطان أخرج رأسه بعد أن كان مختفياً، أخرج رأسه كالقنفذ الذي یخرج رأسه عند زوال الخوف، وهتف بكم و دعاكم إلی نقض البیعة التي تمت یوم الغدیر، و سلب الحقوق عن أهلها و أصحابها الشرعیین.

«فألفاكم لدعوته مستجیبین» و في نسخة: «فوجدكم لدعوته التي دعا إلیها مجیبین» أي حینما هتف بكم الشیطان وجدكم كما یجب، و صدق علیكم ظنه.

«و للغرّة فيه ملاحظین» أي وجد الشیطان فيكم تجاوباً شدیداً، و قبولاً للانخداع كالإنسان الذي یقبل كل شيء یقال له، و یعمل كل شيء یؤمر به، بلا تفكر و لا تعقّل في الأمور.

«ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً» أمركم بالقیام به فوجدكم مسرعین دون تثاقل.

و أحمشكم فألفاكم غضاباً» و في نسخة: «فوجدكم غضاباً» أی

ص: 362

حملكم علی الغضب، و حرّضكم علیه فوجدكم تغضبون لغضبه، أو تندفعون نحو الغضب علی حسابه و لمصلحته، و المقصود: وجدكم الشیطان منقادین لأوامره، مطیعین له في كل الأحوال.

«فوسمتم غیر إبلكم» فكانت النتیجة أنكم عملتم ما لا یجوز لكم أن تفعلوه، و انتخبتم من لیس بأهل الانتخاب، و أعطیتم مقالید الأمور غیر أهلها، و خوّلتم القیادة إلی غیر أكفائها.

«و أوردتم غیر شربكم» و في نسخة: «و أوردتموها شرباً لیس لكم» كالراعي الذي ینزل إبله في عین ماء لیست له، و المقصود إنكم أخذتم ما لیس لكم بحق من الخلافة، و المراد التصرفات الشاذة التي قام بها الناس في تعیین الخلیفة، و صرف الخلافة عن أهلها و أصحابها الشرعیین، لأن هذه التصرفات لیست من حق الناس، بل هي حق خاص للّه سبحانه.

«هذا و العهد قریب» حَدَث كل هذا التغییر و الحال أن العهد قریب، أي لم یمضِ زمن بعید عن أیام الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إذ من الممكن أن الدین یتغیر، أو المسلمین ینسون الأوامر و التعالیم بسبب مرور الزمان، و لكن- هنا- لیس الأمر كذلك فإنه لم یمضِ علی وفاة الرسول أسبوعان.

«و الكلم رحیب» و جراحة القلب بسبب وفاة النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لا یزال فمها واسعاً، و هذا تعبیر عن سعة الجراحة، و المقصود عِظَم المصیبة، و فظاعة الخطب.

«و الجرح لما یندمل» أي لم یلتئم جرح مصاب وفاة النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

«و الرسول لما یقبر» أي ظهرت بوادر الانقلاب قبل دفن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم)، بل في تلك الساعات التي كان علي (علیه السلام)

ص: 363

یغسّل الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و یكفنه، فاجتمعتم و صنعتم ما صنعتم.

«ابتداراً زعمتم خوف الفتنة» و في نسخة: «بداراً» أي أسرعتم إلی تلك الأعمال بكل استعجال، و تزعمون أنكم إنما فعلتم ما فعلتم وقایة عن وقوع الفتنة، و معنی زعم: ادّعی شیئاً و هو یعلم كذبه، و معنی- زعمتم- هنا-: ادّعیتم أنكم فعلتم تلك الأفعال لئلا تقع الفتنة، و كنتم تعلمون أنكم كاذبون في هذا الإ دعاء.

«ألا في الفتنة سقطوا و أن جهنم لمحیطة بالكافرین» الفتنة أنتم، و أنتم الفتنة، و عملكم هو الفتنة المفسدة، غصبتم الحقوق عن أهلها لأجل الوقایة من الفتنة حسب ادعائكم، و أي محنة أعظم من تغییر مجری الإسلام، و تبدیل أحكامه، و غصب حقوق أهل البیت، و معاملتهم بتلك القسوة و الخشونة؟؟

و كان من المناسب أن تقول السیدة فاطمة: إلا في الفتنة سقطتم. و لكنها ذكرت الآیة الشریفة كما هي.

«فهیهات منكم» كلمة: «هیهات» معناها البُعد، و كأنّها تستبعد تلك الأعمال منهم استبعاداً ممزوجاً بالتعجب من أنهم كیف أقدموا علی تلك الأعمال، و مَن الذي یصدّق أن تلك الحثالة من الناس یقومون بتلك الجرائم العظیمة بالرغم من تصریح القرآن، و تصریحات الرسول الأكرم (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و توصیاته في حق عترته و أهل بیته؟

«و كیف بكم؟!» تتعجب السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) من ذلك التبدل في العقائد و السلوك أي كیف فعلتم هذه الأعمال؟ و كیف تلیق بكم تلك الجنایات؟!

ص: 364

«و أنّی تؤفكون» أي إلی أین صَرَفكم الشیطان عن طریقتكم المثلي، وحدا بكم إلی هذه الأعمال.

«و كتاب اللّه بین أظهركم» أي و الحال أن القرآن لا یزال موجوداً فيما بینكم، محفوفاً بكم، و في نسخة: «و كتاب اللّه- عز و جل- بین أظهركم، قائمة فرائضه، واضحة دلائله، نیّرة شرائعه».

«أُموره ظاهرة» أي لا یوجد في القرآن ما یوجب الشك و الارتیاب، لأن أموره ظاهرة. «و أحكامه زاهرة» متلألئة مشرقة.

«و أعلامه باهرة» أي العلامات التي یستدل بها علی القرآن غالبة النور و الضیاء.

«و زواجره لائحة» أي نواهیه التي تزجركم عن اتباع الهوی واضحة.

«و أوامره واضحة» الأوامر التي تأمركم بإطاعتنا، و تعلّم الأحكام منا، و الانقیاد لنا ظاهرة.

«و قد خلّفتموه وراء ظهوركم» یا للأسف! إن القرآن الموصوف بهذه الأوصاف صار الیوم منبوذاً وراء ظهوركم، لا تعملون به و لا تأخذون بقوله.

«أرَغبة عنه تریدون؟» هذا استفهام توبیخي، لأن الإنسان إذا ألقی الشيء وراءه فمعناه أنه لا یرغب إلیه لهذا یدبر عنه.

تقول (علیها السلام) كأنكم رفضتم العمل بالقرآن، أو لا یعجبكم القرآن أي أحكامه التي تزاحم هو ایاتكم و أهدافكم.

«أم بغیره تحكمون؟» أي تحكمون بغیر القرآن من القوانین؟ إذ القرآن لا یصلح للعمل عندكم؟

«بئس للظالمین بدلاً» بئس ذلك البدل الذي أخذتم به بدل القرآن،

ص: 365

و هو الحكم الباطل.

«ثم لم تلبثوا إلاّ ریث أن تسكن نفرتها و یسلس قیادها» و هنا شبهت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) الفتنة بالناقة أو الدابة الشاردة التي یصعب قیادها، أي الاستیلاء علیها بالركوب تقول (علیها السلام) بعد استیلائكم علی المقام الأسمي الأرفع الأعلی و هو مقام الخلافة لم تلبثوا حتی استتمت لكم الأمور، وهدأ الاضطراب ثم شرعتم بالأعمال التخریبیة.

«ثم أخذتم تورون و قدتها، و تهیجون جمرتها» أي شرعتم بإثارة الفتن كالذي ینفخ في الجمرة حتی تلتهب، أو یحرك الجمرة حتی تشتعل و تظهر نارها، و تحرق الرطب و الیابس، و المقصود من ذلك تلك المآسي التي قام بها أولئك الأفراد من سلب الإمكانیات من أمیرالمؤمنین (علیه السلام) و هجومهم علی الدار، و ما جری علی السیدة فاطمة و زوجها و ولدیها، ثم مصادرة أملاكها و منعها عن الخمس و الفي ء، و غیر ذلك مما ذكره المؤرخون و ما لم یذكروه...

و خلاصة القول: أنكم قمتم بجرائم متسلسلة و متعددة، بعضها أفجع و أفظع من بعض.

«و تستجیبون لهتاف الشیطان الغوي» لأن الشیطان یدعو حزبه لیكونوا من أصحاب السعیر، و یحدثنا القرآن الكریم عن كلام الشیطان الغوي: «و ما كان لي علیكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لی»ِ (1) نعم إن الأعمال التي قامت بها رجال السلطة ضد آل الرسول لم تكن إجابة و استجابة للّه و لرسوله، بل كانت استجابة للشیطان الغوي، و قد تقدم كلام

ص: 366


1- ابراهیم: 22.

شبیه بهذا فيما سبق.

«و إطفاء أنوار الدین الجلی» للدین الإسلامي أنوار یهتدي بها الناس، و هي محاسن الأحكام و القوانین الروحانیة التي یتمتع بها الدین، و یسعون لإطفاء تلك الأنوار.

«و إخماد سنن النبي الصفي» و في نسخة: «إهماد» أي القضاء علی طریقة الرسول و هنا تشبیه السنة النبوية بالنور، و تشبیه القضاء علیه بالإخماد.

«تسرّون حسواً في ارتغاء» هذه الجملة تشیر إلی قضیة معروفة و هي إن اللبن- حینما یُحلب تعلوه رغوة فيأتي الرجل فيُظهر أنه یرید شرب الرغوة فقط، و لكنه یشرب الماء سراً، و بهذا یضرب المثل لمن یدّعي شیئاً و یرید غیره.

فهو یشرب اللبن سراً و لكنه یدعي أنه یحسو الرغوة، فيقال: فلان یسرّ حسواً في ارتغاء. و الارتغاء شرب الرغوة.

هكذا تخبر السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) عن الهدف الحقیقي لهؤلاء، أنهم یدّعون شیئاً و لكنهم یریدون شیئاً آخر، یدّعون الوقایة من وقوع الفتنة و لكنهم یریدون غلق بیت آل محمد، و القضاء علی كیان أهل البیت.

«و تمشون لأهله و وُلده في السراء و الضراء» و في نسخة: «في الخَمَر و الضراء» و الخَمَر- بفتح الخاء و المیم- هو ما یسترك من الشجر و غیره، و الضراء- بفتح الضاد و تخفيف الراء-: الشجر الملتف، أو الأرض المنخفضة، و المقصود: أنكم تؤذون أهل رسول اللّه و أولاده بالمكر و الخدیعة و بصورة سریة غیر مكشوفة، و لهذه الغایة قطعتم عنهم موارد الرزق لیكونوا فقراء ضعفاء مسلوبي الإمكانیات كي لا یمیل إلیهم أحد.

ص: 367

«و نصبر منكم علی مثل حزّ المدی» نحن نصبر منكم علی الأذی و المكاره التي تصلنا منكم كمن یصبر علی تقطع أعضائه بالسكین.

«و وخز السنان في الحشی» و مثل مَن طعنوه بسنان الرمح في أحشائه، أي لیست القضیة سهلة حتی یمكن التغاضي عنها و التناسي، بل هي مأساة كبیرة، و جریمة عظیمة.

«و أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا» و بعد هذا كله لتبریر موقفكم العدائي، و تغطیة أعمالكم تزعمون أي تدّعون كذباً: أن لا إرث لنا من رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) تنكرون أهم الأمور و أوضح الأشیاء في الدین الإسلامي، و هو قانون الوراثة في القرآن و السنة.

«أفحكم الجاهلیة یبغون» و في نسخة: «تبغون» أدمجت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) هذه الآیة في حدیثها كما هي عادتها بسبب استئناسها بتلاوة القرآن، تقول: إن إنكار الوراثة لیس في الحكم الإسلامي، فهل أعجبكم أن تحكموا بأحكام الجاهلیة التي كانت تبعاً للأهواء الفردیة، منبعثة عن أغراض شخصیة، و هي حرمان البنات من الإرث، و تخصیص الإرث للذكور فقط.

«و من أحسن من اللّه حكما لقوم یوقنون» آیة أخری أدمجتها في حدیثها، و هل یوجد حكم أو قانون أحسن من الحكم الصادر من اللّه تعالی عند الذين یوقنون باللّه الحكیم؟ و یعتقدون بالإسلام؟

ألیس القانون الإسلامي قد قضی علی قوانین الجاهلیة؟ فجعل الإرث للبنات و البنین؟

«بلی، تجلّی لكم كالشمس الضاحیة إني ابنته» بلی.. الأمر واضح عندكم كالشمس التي تظهر في ضحوة النهار، في سماء صافية لا سحاب فيها و لا ضباب، هكذا اتضح عندكم أني ابنته قطعاً و بلا شك.

ص: 368

«أفلا تعلمون؟» هذه الأمور و هذه الحقائق؟ أو أفلا تعلمون أني ابنته.

«أیها المسلمون» الحاضرون المستمعون إلی خطابي، یا من رشحتم أبابكر للخلافة!یا أمة محمد أنا بنت محمد، أنا ابنة رسول الإسلام.

«ءَأُغلب علی إرثیه» یغلبونني علی أخذ إرثي و حقي؟ و في نسخة: «أأُبتزّ إرث أبیه» أیسلبونني إرث أبي؟ و الهاء- هنا- للوقف و السكون.

ص: 369

خطبه فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)

یا ابن أبی قحافة!

أفي كتاب اللّه أن ترث أباك و لا أرث أبي؟؟

لقد جئت شیئاً فرّیاً!! (1) .

أفعلي عمد تركتم كتاب اللّه و نبذتموه وراء ظهوركم؟

إذ یقول:

«و ورث سلیمان داود» (2) .

و قال- فيما اقتص من خبر زكریا- إذ قال:

«فهب لي من لدنك ولیّاً یرثني و یرث من آل یعقوب» (3) .

و قال:

«و أُولوا الأرحام بعضهم أولی ببعض في كتاب اللّه» (4) . و قال:

و قال:

«یوصیکم اللّه في أولادکم للذکر مثل حظ الأنثیین»(5).

«ان ترك خیرا الوصیه للوالدین و الاقربین بالمعروف حقا علی المتقین». (6) .

ص: 370


1- فریا: امرا عظیما او منكرا قبیها.
2- النمل: 16.
3- مریم: 5 - 6.
4- الانفال 75.
5- النساء:11.
6- البقره 180.

و زعمتم أن لا حظوة لي؟ (1) .

و لا إرث من أبي!

أفخصّكم اللّه بآیة أخرج أبي منها؟

أم تقولون: إن أهل ملتین لا یتوارثان؟

أوَلست أنا و أبي من أهل ملَّة واحدة؟

أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمي؟

فدونكها مخطومة مرحولةِ (2) .

تلقاك یوم حشرك.

فَنِعم الحَكَم اللّه.

و الزعیم محمد.

و الموعد القیامة.

و عند الساعة یخسر المبطلون.

و لا ینفعكم إذ تندمون.

و لكل نبأ مستقر، فسوف تعلمون من یأتیه عذاب یُخزیه، و یحلّ علیه عذاب مقیم. ثم رَمَتْ بِطَرفها نحو الأنصار فقالت:

یا معشر النقیبة.

و أعضاد الملَّة.

و حَضَنَة الإسلامِ (3) .

ص: 371


1- الحظوه: النصیب.
2- ناقه مخطومه و مرحوله، الخطام- بكسر الخلاء- الزمام و مرحوله من الرحل و هو للناقه كالسرج للفرس.
3- حضنه: جمع حاضن بمعنی الحافظ.

ما هذه الغَمیزة في حقي؟ (1) .

و السِّنَة عن ظلامتي؟

أما كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أبي یقول:

«المرء یُحفظ في وُلده»؟

سرعان ما أحدثتم.

و عجلان ذا إهالة.

ولكم طاقة بما أُحاول.

و قوة علی ما أطلب و أُزاولِ (2) .

أتقولون: مات محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

فخطب جلیل.

استوسع و هنةِ (3) .

واستنهر فتقهِ (4) .

و انفتق رتقه.

و أظلمت الأرض لغیبته.

و كسفت النجوم لمصیبته.

و أكدت الآمالِ (5) .

و خشعت الجبال.

و أُضیع الحریمِ (6) .

ص: 372


1- الغمیزه الضعف او الغفله.
2- ازوال: اقصد.
3- استوسع و هنه: اتسع غایه الاتساع و هنه و في نسخه:و هیه أي شقه و خرفه.
4- كالمعنی المتقدم.
5- اكدت: انقطعت.
6- الحریم: ما یحمیه الرجل و یقاتل عنه.

و أُزیلت الحرمة عند مماته.

فتلك- و اللّه- النازلة الكبریِ (1) .

و المصیبة العظمی.

لا مثلها نازلة.

و لا بائقة عاجلةِ (2) .

أعلن بها كتاب اللّه- جلّ ثناؤُه- في أفنیتكمِ (3) .

في ممساكم و مصبحكم.

هتافاً و صراخاً.

و تلاوة و ألحاناً.

و لَقبلَه ما حلَّ بأنبیائه و رُسله.

حكم فصل، و قضاء حتم.

«و ما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم علی أعقابكم و من ینقلب علی عقبیه فلن یضرّ اللّه شیئاً و سیجزي اللّه الشاكرین»ِ (4) .

ص: 373


1- النازله: الشدیده.
2- البائقه: الداهیه.
3- افنیتكم: جمع فناء-بكسر الفاء- جوانب الدار من الخارج او العرصه المتسعه امام الدار.
4- آل عمران: 144.

فاطمه الزهراء تخاصم الرئیس

«یا بن أبی قحافة» هنا وجّهت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) خطابها إلی رئیس الدولة، و لم تقل له: یا خلیفة رسول اللّه لأن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لم یستخلفه، و لم تخاطبه بالكنیة «یا أبابكر» لأنه تعظیم له، و إنما قالت له: یا بن أبی قحافة. و سیتضح لك وجه هذا النسب، في المستقبل في شرح كلماتها مع زوجها أمیرالمؤمنین (علیه السلام).

«أفي كتاب اللّه أن ترث أباك و لا أرث أبي؟» بأی قانون ترث أباك إذا مات و لا أرث أبي إذا مات؟؟ هل تعتمد علی كتاب اللّه في منعي عن إرث أبي؟

«لقد جئت شیئاً فریاً» لقد جئتَ بافتراء عظیم، و كذب مختلق علی القرآن.

لقد ذكرنا- فيما مضی- أن السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) كانت تستحق فدكاً عن طریق النحلة و عن طریق الإرث، فلما طالبت بفدك عن طریق النحلة و أقامت الشهود علی ذلك صنعوا ما صنعوا و الآن جاءت تطالب بفدك عن طریق المیراث.

«أفعلي عمدٍ تركتم كتاب اللّه و نبذتموه وراء ظهوركم» ألیس هذا القرآن موجوداً عندكم؟ فلماذا تركتم العمل به و طرحتموه وراءكم؟

«إذ یقول: و ورث سلیمان داود» ألیس هذا تصریحاً بقانون التوارث و الوراثة بین الأنبیاء؟ أما كان سلیمان و ابنه داود من الأنبیاء؟

ص: 374

إن السیدة فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فهمت من الآیة أن معنی: «و ورث سلیمان داود» هو إرث المال، و هكذا فهم أبوبكر و هكذا جمیع المسلمین الحاضرین یومذاك و هم یستمعون إلی كلام السیدة فاطمة، هؤلاء كلهم قد فهموا أن المقصود من الإرث في هذه الآیة هو إرث المال، و معنی ذلك أن سلیمان ورث أموال أبیه داود، و لم یفهموا غیر هذا.

و هكذا الكلام في قوله تعالی- فيما اقتص من خبر زكریا-: «فهب لي من لدنك ولیّاً یرثني و یرث من آل یعقوب» إن زكریا (علیه السلام) سأل اللّه تعالی أن یرزقه ولداً یرثه المال.

و لكن بعد قرون عدیدة جاء المدافعون عن السلطة، فقالوا: في تفسیر الآیتین: ورث سلیمان داود العلم لا المال، و هكذا: ولیاً یرثني العلم لا المال، و هم یقصدون بهذا التفسیر تأیید الذين حرموا السیدة فاطمة من میراث أبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و لا بأس أن نتحدث- بما تیسر- حول الآیتین لعلنا نصل إلی نتیجة مطلوبة:

أولاً: لفظ الإرث و المیراث یستعمل شرعاً و عرفاً و لغة في المال، فإذا قلنا: فلان وارث فلان. فالظاهر أنه وارثه في المال. لا أنه وارثه في العلم أو المعرفة، إلا إذا كانت هناك قرینة أي دلیل یدل علی إرث العلم و المعرفة كقوله تعالی: «و أورثنا بني إسرائیل الكتاب» و قوله: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا».

فأما قوله: «و ورث سلیمان داود» فالمقصود إرث المال لا إرث العلم و الملك و ما شابه، لأن سلیمان كان نبیاً في حیاة أبیه داود، كما قال تعالی- في قصة الزرع الذي نفشت فيه غنم القوم- «ففهَّمناها سلیمان و كلاّ آتینا

ص: 375

حكماً و علماً...» (1) و قد ذكر الزمخشري في الكشاف ج 23 في تفسیر قوله تعالی: «إذْ عُرض علیه بالعشي الصافنات الجیاد» روي أن سلیمان غزا أهل دمشق و نصیبین فأصاب ألف فرس، و قیل: ورثها من أبیه، و أصابها أبوه من العمالقة، و قال البیضاوي: و قیل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه فاستعرضها... الی آخر.

فإنك تجد أن سلیمان ورث أباه داود تلك الخیول والأفراس، و ورثه غیرها من التركة و الأموال التي تركها داود، و بهذین القولین ثبت أن سلیمان لم یرث العلم و النبوة من أبیه داود لأن سلیمان كان نبیاً في زمان أبیه داود كما كان هارون نبیاً في زمان أخیه موسی بن عمران (علیهما السلام) و ثبت أیضاً أن سلیمان ورث أباه داود المال.

و أما ما یتعلق بدعاء زكریا (علیه السلام) ربه: «فهب لي من لدنك ولیّاً یرثني» فقد قال بعض الشواذ: یرثني نبوتي، فهو یرید نفي الوراثة عن الأنبیاء، و لكن الآیة الكریمة بنفسها تكشف الحقیقة عن مراد زكریا. فقوله: «و اجعله رب رضیاً» یدل علی أنه لیس المقصود إرث النبوة لأنه یكون المعنی أن زكریا سأل ربه أن یهب له ولیاً یرثه النبوة و یكون ذلك الولي مرضیاً عند اللّه، و هذا كقول القائل: اللّهم ابعث لنا نبیاً واجعله عاقلاً مرضیاً في أخلاقه، و هذا لغو و عبث، و لا یستحسن من زكریا أن یسأل ربه أن یجعل ذلك النبي رضیاً أي مرضیاً في أخلاقه، لأن النبوة أعظم من هذه الصفات، و جمیع هذه الصفات تندرج تحت النبوة، و قد قال فخر الدین الرازي: إن المراد بالمیراث في الموضعین «الآیتین» هو وراثة المال.

و للمفسرین كلام حول دعاء زكریا (علیه السلام) لا بأس بذكره ملخصاً:

ص: 376


1- الانبیاء: 79.

قال الطبرسي في «مجمع البیان» في تفسیر الآیة: و یقوّي ما قلنا أن زكریا صرّح بأنه یخاف بني عمه بعده بقوله: «و إني خفت الموالي من ورائي» و إنما یطلب وارثاً لأجل خوفه، و لا یلیق خوفه منهم إلاّ بالمال دون النبوة و العلم، لأنه (علیه السلام) كان أعلم باللّه تعالی من أن یخاف أن یبعث نبیاً من لیس بأهل للنبوة، و أن یورث علمه و حكمته من لیس لهما بأهل، و لأنه إنما بُعث لإ ذاعة العلم و نشره في الناس فكیف یخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته؟

فإن قیل: إن هذا یرجع في وراثة المال، لأن في ذلك إضافة الضن و البخل إلیه، قلنا: معاذ اللّه أن یستوي الأمران، فإن المال قد یُرزق به المؤمن و الكافر و الصالح و الطالح، و لا یمتنع أن یأسی علی بنی عمه إذا كانوا من أهل الفساد أن یظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ینبغي، بل في ذلك غایة الحكمة، فإن تقویة الفسّاق و إعانتهم علی أفعالهم المذمومة محظورة في الدین، فمن عدّ ذلك بخلاً و ضناً فهو غیر منصف و قوله: «خفت الموالي من ورائي» یفهم منه أن خوفه إنما كان من أخلاقهم و أفعالهم و معاني فيهم لا من أعیانهم..) انتهی كلامه.

لقد تلخص من مجموع الأقوال أن المقصود من الوراثة في آیة سلیمان بن داود و آیة زكریا هو وراثة المال، و النتیجة أن الوراثة كانت بین الأنبیاء.

«و قال: و أُولوا الأرحام بعضهم أولی ببعض في كتاب اللّه» أي و ذووا الأرحام و القرابة بعضهم أحق بمیراث بعضهم من غیرهم، و هذه الآیة عامة في التوارث بین الأرحام و الأقارب.

«و قال: یوصیكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأُنثیین» أی

ص: 377

یأمركم اللّه و یفرض علیكم في توریث أولادكم إذا متّم للابن مثل نصیب البنتين و هذه الآیة أیضاً عامة في جمیع المسلمین بلا تخصیص للأنبیاء إنهم لا یورّثون أولادهم.

«و قال: إن ترك خیراً الوصیة للوالدین و الأقربین بالمعروف حقاً علی المتقین» إن الآیة هكذا: «كتب علیكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خیراً...» أي إن ترك مالاً، و هذه آیة ثالثة عامة في الوراثة و لیس فيها تخصیص للأنبیاء أو نفي الوراثة بین الأنبیاء.

«و زعمتم أن لا حظوة لی» أي ادَّعیتم، و في نفس الوقت تعلمون انكم كاذبون،ادعیتم أن لا نصیب و لا منزلة لي «و لا إرث من أبي» رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) «و لا رحم بیننا» و لا قرابة و لا صلة، لأنكم أنكرتم الوراثة الثابتة بیني و بین أبي، فقد أنكرتم كل صلة و علاقة و قرابة بیني و بین أبي.

«أفخصَّكم اللّه بآیة أخرج منها أبي؟» و في نسخة: «أَفَحَكَم اللّه بآیة» إن آیات الإرث عامة و شاملة لجمیع المسلمین، فهل استثنی اللّه أبي من آیات الإرث فلا وراثة بین النبي و أهله؟

«أم تقولون: إن أهل ملَّتین لا یتوارثان» فالكافر لا یرث المسلم؟

«أو لست أنا و أبي من أهل ملَّة واحدة؟» هل تشكون في إسلامي و كوني مسلمة، و علی شریعة الإسلام؟

یا للمصیبة!

لقد بلغ الأمر ببضعة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و ابنته الوحیدة و سیدة نساء العالمین أن تتكلم هكذا، و تحتج بهذا المنطق؟ فإنا للّه و إنا إلیه راجعون.

«أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمي؟» إنّ آیات الإرث عامة فإن كانت مخصَّصة للرسول كان الرسول یعلم ذلك،

ص: 378

و یخبر ابنته مع العلم أنه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لم یخبر ابنته و لا غیرها من الناس بهذا الحكم الخاص، و هل من المعقول أن یُخفي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم). هذا الحكم من ابنته مع شدة اتصالها به و كثرة تعلقه بها، و شدة الحاجة إلی بیان الحكم لها لئلا تطالب بالإرث بعد وفاة أبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

تقول السیدة فاطمة: أم تقولون: أنكم أنتم أعلم بالقرآن و آیاته الخاصة و العامة من أبي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الذي نزل القرآن علی قلبه؟

أم أنتم أعلم من ابن عمي علي بن أبي طالب باب مدینة علم الرسول؟ إذا لو كان الأمر هكذا لكان زوجي یخبرني، و ما كان یأمرني أن أحضر في المسجد و أطالب بحقوقي و إرث أبي.

هذه جمیع الصُور التي یمكن أن یتصورها الإنسان في هذه المسألة، و كلها منتفية، و إذن فالقضیة سیاسیة، و لیست دینية، بل هي مؤامرة ضد آل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و محاربة اقتصادیة لتضعیف جانبهم الاقتصادي.

«فدونكها مخطومة مرحولة» إلی هنا كان الخطاب عاماً لجمیع المسلمین الحاضرین في المسجد و هنا وجهت خطابها إلی رئیس الدولة وحده، و قالت: «فدونكها» أي خذها، خذ فدك و شبّهت فدك بالناقة التي علیها رحلها و خطامها، و الرحل للناقة كالسرج للفرس، و الخطام: الزمام، و المقصود: خذ فدك جاهزة مهیأة، و في هذا الكلام تهدید، و هذا كما یقال للمعتدي: افعل ما شئت، و انهب ما شئت هنیئاً مریئاً.

و لهذا أردفت كلامها بقولها: «تلقاك یوم حشرك» إشارة إلی أن الإنسان یری أعماله یوم القیامة قال تعالی: «و وجدوا ما عملوا حاضراً».

ص: 379

«فنِعم الحَكم اللّه» في ذلك الیوم الحكم للّه الواحد القهار، لا لك، الذي لا یجور، الذي لا یخفي علیه شيء من مظالم العباد.

«و الزعیم محمد» المحامي الذي یخاصمك هو سید الأنبیاء، و هو أبي، یطالبك بحق ابنته فاطمة.

«و الموعد القیامة» و هو یوم الفصل الذي كان میقاتاً، و عند اللّه تجتمع الخصوم.

«و عند الساعة یخسر المبطلون» یخسر الذين ادّعوا الباطل، و ادّعوا ما لیس لهم.

«و لا ینفعكم إذ تندمون» لا ینفع الندم في ذلك الیوم، إذ الإنسان قد یندم في الدنیا علی عمله فينفعه الندم إذ إنه لا یعود إلی ذلك العمل، و لكن في القیامة لا ینفع الندم إذ لا عمل هناك و إنما هو الحساب.

«و لكل نبأ مستقر، فسوف تعلمون من یأتیه عذاب یخزیه و یحلّ علیه عذاب مقیم» و هذا تهدید بعذاب الآخرة، الدائم المستمر.

«ثم رَمَتْ بطرفها نحو الأنصار» و هم أهل المدینة الذين نصروا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لما هاجر من مكة إلی المدینة، و استنصرتهم بعد أن ذكّرتهم بسوابقهم المشرقة في عهد الرسول.

و قالت: «یا معشر النقیبة» أیتها الطائفة النجیبة، و في نسخة: «یا معاشر الفتیة» نسبت إلیهم الفتوة و الشهامة كي تهیّج عزائمهم و عواطفهم.

«و أعضاد الملة» أعوان الدین.

«و حضَنَة الإسلام» أیها المحافظون علی الإسلام، احتضنتم الإسلام كما تحتضن المرأة ولدها أو كما یحتضن الطائر بیضه.

«ما هذه الغمیزة في حقي؟» ما هذا التغافل و السكوت عن حقي؟

«و السِنة عن ظلامتي؟» السنة- بكسر السین- الفتور في أول النوم.

ص: 380

و الظلامة: ما أخذه الظالم منك فتطلبه عنده، و تصف فاطمة الزهراء (علیها السلام) سكوتهم عن إسعافها بالسنة التي هي مقدمة للنوم الذي یفقد النائم فيه الشعور.

نعم، إنه موت الضمیر، و تعطیل الإحساس، و ركود العاطفة، و فقد الإنسانیة.

«أما كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أبي یقول: «المرء یُحفَظ في ولده؟» أي تحفظ كرامة الإنسان بحفظ كرامة أولاده و رعایة حقوقهم، كما قیل: «لأجل عین ألف عین تُكرم» ألیس رسول اللّه أبي؟ ألستُ ابنته؟ أما ینبغي لكم أن تحترموا مكانتي لأجل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و في نسخة: «أما كان لرسول اللّه أن یحفَظ في وُلده؟» أما كان یستحق رسول اللّه أن تحفظ الامته كرامته في أولاده و ذریته؟

«سرعان ما أحدثتم» تتعجب السیدة فاطمة الزهراء من إسراعهم في إحداث الأمور، و الاعتداء علی آل الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

«و عجلان ذا إهالة» هذه الكلمة تشیر إلی قضیة و یضرب بها المَثَل، و هي أن رجلاً كان له نعجة عجفاء هزیلة، یسیل مخاطها من منخریها، فقیل له: ما هذا؟ قال: سرعان ذا إهالة. و الإهالة: الشحم، أو الشحم المذاب، و تستعمل هذه الكلمة لمن یخبر بالشيء قبل وقته، و المقصود: إنكم دبَّرتم الأمور ضدّنا بكل استعجال و بكل سرعة.

«و لكم طاقة بما أُحاول» عندكم قدرة و إمكانیة لإسعافي و مساعدتي و نُصرتي في استرجاع حقوقي المغصوبة التي أقصد استردادها.

«و قوة علی ما أطلب و أُزاول» لستم ضعفاء عاجزین عن حمایتي و الدفاع عني، فما عذركم، ما سبب سكوتكم؟ ما هذا التخاذل؟

ص: 381

«أتقولون: مات محمد» و مات دینه، و ماتت كرامته و حرمته، و ماتت المفاهیم المثلي، و خلی الجو؟

أهذا جرّأكم علینا أهل البیت؟

«فخطب جلیل» فأمر عظیم شدید، لأن موت العظماء عظیم، و في نسخة: «أتزعمون مات رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أیتم دینه، ها أن موته لعمري خطب جلیل».

ثم جعلت (علیها السلام) تصف فظاعة المصیبة و مدی عظمتها، و تأثیرها في النفوس، فقالت:

«استوسع و هنه» و في نسخة: «استوسع وهیه» كالحصن الذي اتّسع شقه «و استنهر فتقه» كالطعنة التي توسع الشق في البدن.

«و انفتق رتقه» انشق المكان الملتئم منه، و الضمائر الثلاثة- في وهنه و فتقه و رتقه تعود إلی الخطب.

«و أظلمت الأرض لغیبته» من الطبیعي أنه كان نوراً تستضی ء به الأرض و من علیها و بوفاته أظلمت الأرض، و تجد في القرآن آیات كثیرة تعبّر عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بالنور كقوله تعالی: (قد جاءكم من اللّه نور و كتاب مبین) (1) .

«و كسفت النجوم لمصیبته» إن الضوء الذي تراه علی وجه القمر و علی بقیة النجوم ما هو إلا انعكاس لنور الشمس علی القمر و النجوم، فإذا زال نور الشمس انكسفت النجوم و زال عنها الضوء.

«و أكدت الآمال» أي انقطعت الآمال التي كانت منوطة برسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بسبب وفاته، و ذلك كما یقال: خابت الظنون

ص: 382


1- المائده: 15.

و انقطعت الآمال.

«و خشعت الجبال» من هول الفاجعة، و عظم الواقعة حتی الجمادات تتأثّر بالحوادث العظیمة، كما قال تعالی: «لو أنزلنا هذا القرآن علی جبل لرأیته خاشعاً متصدعاً من خشیة اللّه»ِ (1) .

«و أضیع الحریم» الحریم: ما یحمیه الرجل و یقاتل عنه، و المقصود- هنا- حریم آل الرسول و هم عترته الطیبة.

نعم، ضاع حریمه أي ضیاع! و انتهكت حرمته أي انتهاك!

«و أُزیلت الحرمة عند مماته» و في نسخة: «أُدیلت الحرمة عند مماته» أي غُلبت (بضم الغین و كسر اللام).

«فتلك- و اللّه- النازلة الكبری، و المصیبة العظمی» إن مصیبة وفاة العظماء تكون عظیمة، فكلما كانت عظمة المتوفي أكثر كانت مصیبة وفاته أعظم و أفجع، و لقد كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أشرف مخلوق و أعظم إنسان، و أطهر كائن فبالطبع تكون وفاته نازلة كبری و مصیبة عظمی.

«لا مثلها نازلة» لا توجد في العالم مصیبة كبیرة كمصیبة وفاة الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لأنه لا یوجد في العالم موجود كرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

«و لا بائقة عاجلة» أي لا مثلها داهیة في القریب العاجل، إذ من الممكن أن تحدث في العالم حادثة أعظم وقعاً من وفاة الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم)و هي حادثة قیام الساعة و قیام القیامة.

و لقد وصف الإمام عليّ أمیرالمؤمنین (علیه السلام) مصیبة وفاة

ص: 383


1- الحشر: 21.

الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بقوله: «فنزل بي من وفاة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به، فرأیت الناس من أهل بیتي ما بین جازع لا یملك جزعه، و لا یضبط نفسه، و لا یقوی علی حمل فادح ما نزل به، قد أذهب الجزع صبره، و أذهل عقله، و حال بینه و بین الفهم و الإفهام، و القول و الاستماع».

«أعلن بها كتاب اللّه- جل ثناؤه- في أفنیتكم» أعلن القرآن الكریم بوفاة الرسول في جوانبكم و نواحیكم، أي القرآن یُتلی آناء اللیل و أطراف النهار، و أصوات التلاوة مرتفعة من المسجد و من البیوت و المساكن، و في نسخة: «في قبلتكم» و المقصود المسجد أو المصلیّ الذي یتلی فيه القرآن.

«في ممساكم و مصبحكم» مساءً و صباحاً كنتم تسمعون الآیات التي تخبر عن وفاة الرسول «هتافاً و صراخاً» كان الإعلان بوفاة الرسول بأنواع مختلفة: بالهتاف و هو القراءة مع الصوت و الصراخ و هو القراءة بالصوت الشدید.

«و تلاوة و ألحاناً» بالتلاوة إذا كانت القراءة سریعة و بالألحان إذا كانت بتأمل و تأنّي «و لقبله ما حلَّ بأنبیائه و رسله حكم فصل، و قضاء حتم» إن الموت الذي حلّ بالأنبیاء الذين كانوا قبل الرسول الأعظم (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كان من الأحكام المقطوع بها، التي لا شك فيها، و القضاء الذي لا یقبل التغییر، و المقصود: أن الموت هو سُنّة اللّه في عباده من أنبیاء و غیرهم.

ثم استدلت علی كلامها بقول اللّه تعالی: «و ما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علی أعقابكم و من ینقلب علی عقبیه فلن یضر اللّه شیئاً و سیجزي اللّه الشاكرین» و وجه

ص: 384

الاستدلال بالآیة أن محمداً رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و قد مضت من قبله الأنبیاء، و مات قبله المرسلون، إذا: فالموت لیس بشيء عجیب بالنسبة للرسول، بل علی هذا جرت سنة اللّه في أنبیائه، إنهم یذوقون الموت كبقیة الخلائق، و هذا لا یعني أنه إذا مات ماتت شریعته و مات دینه، و ذهبت كرامته و حرمته.

«افان مات أو قتل انقلبتم علی أعقابكم» أي فإن أماته اللّه أو قتله الكفار ارتددتم بعد إیمانكم، فسمّی الارتداد انقلاباً علی العقب، و الرجوع القهقري.

«و من ینقلب علی عقبیه» یرتدَّ عن دینه «فلن یضر اللّه شیئاً» بل المضرة عائدة علی المرتد «و سیجزي اللّه الشاكرین» المطیعین.

ص: 385

خطبه فاطمه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)

إیهاً بني قیلة! ِ (1) .

أأُهضم تراث أبیه؟

و أنتم بمرأی مني و مسمع.

و منتدی و مجمعِ (2) .

تلبسكم الدعوة.

و تشملكم الخبرةِ (3) .

و أنتم ذوو العدد و العُدّة.

و الأداء و القوة.

و عندكم السلاح و الجُنّة.

توافيكم الدعوة فلا تجیبون؟

و تأتیكم الصرخة فلا تعینون؟

و أنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخیر و الصلاح و النخبة التي انتخبت، و الخیرة التي اختیرتِ (4) .

قاتلتم العرب، و تحمَّلتم الكدَّ و التعبِ (5) .

ص: 386


1- ایها: بمعني هیهات او مزیدا من الكلام.
2- منتدی: مجلس القوم.
3- الخبره: العلم بالشيء.
4- الخیره- بكسر الخاء و سكون الیاء- المفضل من القوم.
5- الكد: الشده.

و ناطحتم الأُمم.

و كافحتم البُهَمِ (1) .

لا نبرح أو تبرحون.

نأمركم فتأْتمرون.

حتی إذا دارت بنا رحی الإسلام.

و دَرَّ حلب الأیامِ (2) .

و خضعت ثغرة الشركِ.

و سكنت فورة الإفك (3) .

و خمدت نیران الكفرِ (4) .

و هدأت دعوة الهرج.

و استوسق نظام الدین.

فأنّی حِرتم بعد البیان؟ (5) .

و أسررتم بعد الإعلان؟

و نكصتم بعد الإقدام؟ (6) .

و أشركتم بعد الإیمان؟

«ألا تقاتلون قوماً نكثوا إیمانهم و همّوا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أوّل مرة أتخشونهم فاللّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنین»ِ (7) .

ص: 387


1- البهم- جمع بهمه: الشجاع.
2- و في نسخه: حلب البلاد.
3- و في نسخه: فوره الشرك.
4- و في نسخه: خبث نیران الحرب.
5- و في نسخه: افتاخرتم بعد الاقدام.
6- و في نسخه: و ناكصتم بعد الشده، و جبنتم بعد الشجاعه عن قوم نكثوا ایمانهم.
7- التوبه: 13.

ألا: قد أری أن قد أخلدتم إلی الخفضِ (1) .

و أبعدتم مَن هو أحقُّ بالبسط و القبض.

و خلوتم إلی الدعةِ (2) .

و نجوتم من الضیق بالسعةِ (3) .

فمججتم ما وعیتمِ (4) .

و دسعتم الذي تسوّغتمِ (5) .

فان تكفروا أنتم و مَن في الأرض جمیعاً فإن اللّه لغني حمید ألا: قد قلتُ ما قلت علی معرفة مني بالخذلة التي خامرتكمِ (6) و الغدرة التي استشعرتها قلوبكمِ (7) .

و لكنها فيضة النفسِ (8) .

و نفثة الغیظِ (9) و خَوَر القناِ (10) .

و بثَّة الصدر.

و تقدمة الحجة.

ص: 388


1- الخفض: الراحه.
2- الدعه: حفض العیش.
3- و في نسخه: الی السعه.
4- مججتم: رمیتم و وعیتم:حفظتم.
5- دسعتم: تقیاتم و تسوغتم:شربتم بسهوله.
6- خامرتكم: خالطتكم.
7- استشعرتها: لبستها.
8- فاض صدره بالسر: باح به.
9- 432. كالدم الذي یرمی به من الفم و یدل علی القرحه.
10- ضعف النفس عن التحمل.

فدونكموها، فاحتقبوها دَبِرَة الظَّهرِ (1) .

نقبة الخُفِ (2) .

باقیة العار.

موسومة بغضب اللّه.

و شنار الأبدِ (3) .

موصولة بنار اللّه الموقدة التي تطّلع علی الأفئدة.

فبعین اللّه ما تفعلون.

و سیعلم الذين ظلموا أي منقلب ینقلبون.

و أنا ابنة نذیر لكم بین یدي عذاب شدید.

فاعملوا إنا عاملون، و انتظروا إنا منتظرون.

ص: 389


1- دونكموها: خذوها: دبره: مقروحه.
2- نقبه الحف: رقیقه.
3- شنار: العیب و العار.

عتاب و خطاب مع المسلمین

«إیهاً! بنی قیلة» إیهاً بمعنی هیهات، و بمعنی الأمر بالسكوت، أو بمعنی طلب الزیادة من التحدث. یا أولاد قیلة، و هم الأوس و الخزرج، و قد تقدم الكلام عن شرحها.

«أأُهضم تراث أبي؟» و في نسخة: «أبیه» و قد تقدم أن الهاء- هنا- للوقوف و السكون و المعنی: هل یظلمونني في إرث أبي؟

«و أنتم بمرأی مني و مسمع» و الحال أنتم في مجلس و مكان یجمع بیني و بینكم، و المقصود: أنتم حاضرون و تسمعون كلامي و شكایتي، و ترون حالي و مظلومیتي.

«تلبسكم الدعوة» تحیط بكم دعوتي و ندائي.

«و تشملكم الخبرة» و یشملكم العلم و تعلمون الخبر، و في نسخة: «الحیرة» أي متحیرون أمام هذه المخاصمة.

«و أنتم ذوو العدد و العدة» و أنتم أصحاب العدد الكثیر و التأهب و الاستعداد، أي لستم قلیلین حتی تعتذروا بقلّة العدد، بل أنتم ذو العدد الكامل.

«و الأداة و القوة» عندكم الوسائل و القدرة و الإمكانیة لإسعا في و نصرتي.

«و عندكم السلاح و الجُنة» و عندكم الأسلحة التي حاربتم بها و جاهدتم في سبیل اللّه، و عندكم وسائل الدفاع.

ص: 390

«توافيكم الدعوة فلا تجیبون» تبلغكم دعوتي و استغاثتي فلا تجیبوني؟

«و تأتیكم الصرخة فلا تعینون» تأتیكم صرختي، صرخة المظلومیة و الاضطهاد فلا تعینوني؟

«و أنتم موصوفون بالكفاح» الجهاد في سبیل اللّه، و استقبال العدو و مباشرة الحرب.

«معروفون بالخیر و الصلاح» و الأعمال الحسنة.

«و النخبة التي انتخبت» إن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) انتخب المدینة و انتخبكم لهذه الغایات و الصفات.

«و الخیرة التي اختیرت» و اختاركم رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لنصرته، و لهذا هاجر إلیكم.

«قاتلتم العرب» لأجل نصرة النبي، و إعلاء كلمة الإسلام.

«و تحملتم الكد و التعب» في الحروب و الغزوات، و مضاعفاتها من الحر و البرد،و التضحیة و تحمّل الجراح.

«و ناطحتم الأمم» قاتلتم الملل المختلفة من یهود و نصاری و غیرهم، كل ذلك دافعاً عن الرسول.

«و كافحتم البُهم» قاتلتم الشجعان بدون ضعف و تواني.

«لا نبرح أو تبرحون» أي لا نبرح و لا تبرحون «نأمركم فتأتمرون» أي كنّا لم نزل آمرین و كنتم لأوامرنا مطیعین.

«حتی إذا دارت بنا رحی الإسلام» أي قاتلتم و تحملتم و ناطحتم و كافحتم بصورة مستمرة حتی إذا دارت بنا رحی الإسلام حتی إذا انتظم أمر الإسلام بمساعینا و سببنا، و دارت رحی الإسلام دوراناً صحیحاً منتظماً.

«و درَّ حلب الأیام» و كثرت الخیرات و الغنائم بسبب الفتوحات كاللبن الذي یدرّ أي یسیل بكثرة من الثدی.

ص: 391

«و خضعت ثغرة الشرك» ذلّت رقاب المشركین و خیاشیمهم للإسلام و سقطوا عن الاعتبار.

«و سكنت فورة الإفك» و هي غلیان الكذب و هیجانه.

«و خمدت نیران الكفر» أي نیران الحرب التي كان الكفار یؤججونها.

«و هدأت دعوة الهرج» سكنت دعوة الفتنة و الباطل، و هدأت الإضطرابات.

«و استوسق نظام الدین» أي اجتمع و انتظم أمر الدین بعدما كان متشتتاً.

«فأنَّی حرتم بعد البیان؟» و الآن و بعد هذه المقدمات كیف تحیرتم بعد بیان الحالة و وضوحها عندكم، و كیف و قعتم في وادی الحیرة؟

«و أسررتم بعد الإعلان؟» و كیف أخفيتم أشیاء كانت معلنة، أو كنتم تتجاهرون بها.

«و نكصتم بعد الإقدام» و كیف رجعتم القهقری بعد إقدامكم علی الإسلام.

«و أشركتم بعد الإیمان؟» أشركتم باللّه بمخالفتكم للرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في أمر عترته.

«ألا تقاتلون قوماً نكثوا إیمانهم و همّوا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فاللّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنین». أدمجت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) هذه الآیة في حدیثها، و إن كانت الآیة نزلت في مشركي مكة الذين أرادوا إخراج رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) من مكة أو نزلت في الیهود و النصاری الدین نقضوا عهدهم و همّوا بإخراج الرسول من المدینة و علی كل تقدیر فإن السیدة

ص: 392

فاطمة الزهراء (علیها السلام) تستنفرهم و تستنهضهم لنصرتها، و لا تقصد بكلامها هذا إثارة الفتنة، و لا إراقة الدماء، و لا ترید أن تقود جیشاً، أو تتزعم حزباً، بل هي عارفة بأحوال الناس و اتجاهاتهم، عالمة بأن الأمر دبّر بلیل، و لهذا قالت:

«ألا: قد أری أن قد أخلدتم إلی الخفض» أي أعلم أنكم قد أقمتم علی الراحة و سعة العیش.

«و أبعدتم مَن هو أحق بالبسط و القبض» أبعدتم الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) الذي هو أحق و أولی بولایة الأمور، و التصرف في قضایا الإسلام من غیره.

«و خلوتم بالدعة» أي انفردتم بالراحة و السكون.

«و نجوتم من الضیق بالسعة» لأن الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام) لا یهادن، و لا یصانع، و لا یفضّل أحداً علی أحد بالعطاء، و هذا ضیق بالنسبة لكم، و لهذا نجوتم من هذا الضیق، و انتقلتم إلی مَن هو طوع أمركم، سلس القیادة، یفعل ما تشاءون، و یحكم بما تریدون.

«فمججتم ما وعیتم» أي رمیتم من أفواهكم ما حفظتم.

«و دسعتم الذي تسوّغتم» أي تقیأتم الشيء الذي شربتموه بسهولة و لذة، و المقصود الانسحاب عن الدین، و رفض الإیمان و لهذا أردفت كلامها هذا بهذه الآیة.

«فان تكفروا أنتم و مَن في الأرض جمیعاً فإن اللّه لغني حمید» و لا تضرون إلاَّ أنفسكم، و لا تخسرون إلاَّ دینكم.

«ألا: قد قلت ما قلت علی معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم» تقول: (علیها السلام) أنا أعلم اتجاهاتكم، و أعرف نفسیاتكم، و حینما خطبت فيكم و استنهضتكم كنت أعلم بأنكم لا تنصرونني و لا تسعفونني.

ص: 393

«و الغدرة التي استشعرتها قلوبكم» استشعر الثوب إذا جعله شعاراً أي جعله متصلاً لجسده، ملاصقاً لبدنه، تقول (علیها السلام) أنا أعرف الغدر الملاصق بقلوبكم، الغدر الذي جعلتها قلوبكم شعاراً لها، و الغدر ضد الوفاء، أي لا أنتظر منكم الوفاء لمعرفتي بالغدرة الموجودة في قلوبكم.

«و لكنها فيضة النفس» أي تعبیر عن الآلام في النفس، فكما أن الإناء یفيض إذا امتلأ بالماء كذلك النفس تفيض من كثرة الحزن و استیلاء الهم.

«و نفثة الغیظ» ظهور آثار الغضب الموجود كالنزیف الذي یدل علی القرحة في الباطن «و خور القنا» أي ضعف الرمح، و المقصود عدم تحمّل لأكثر من هذه.

«و بثة الصدر» قال یعقوب (علیه السلام): «إنما اشكو بثّي» أي همّي، و هو الهم الذي لا یقدر صاحبه علی كتمانه فيظهره.

«و تقدمة الحجة» إنی خطبتُ فيكم، و قلتٌ ما قلت لا طمعاً في نصرتكم، و لا رجاءً في حمایتكم، و إنما كان ذلك لأسباب نفسیة و دینية، أما الأسباب النفسیة فقد ذكرتها، و أما الأسباب الدینية فهي تقدمة الحجة، أي إعلامكم بكل ما یلزم، و ذكر كل دلیل و برهان و حجة علی ما أقول، لئلا تعتذروا یوم القیامة، إنا كنا عن هذا غافلین أو ناسین، أو جاهلین، ما أبقیتُ لذي عذر عذراً، و لا لذي مقال مقالاً، عرَّفت نفسي و نسبي لكم، و ذكرت ما یتعلق بالإمامة، و ذكرت حقي في فدك، و استشهدت بالآیات البینات الثابتة عندكم حول المیراث بصورة عامة و حول میراث الأنبیاء بصورة خاصة، و استنهضتكم لنصرتي و الطلب بحقي، فلم أجد فيكم مجیباً و لا مُعیناً.

«فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر» خذوا الخلافة و شدّوا علیها حقائبكم، و كأنها ناقة مجروحة الظهر، «نقبة الخف» رقیقة الخف.

ص: 394

«باقیة العار» دائمة الخزي في الدنیا علی مرّ التاریخ، و في الآخرة و إلی الأبد.

«موسومة بغضب اللّه و شنار الأبد» علی تلك الناقة علامة غضب اللّه و سخطه، و علیها علامة العار الأبدي الذي ینتهي بكم إلی:

«موصوله بنار اللّه الموقدة التي تطلع علی الأفئدة» التي تتوقد و تؤجج نارها بصورة دائمة، النار التي تحرق الظاهر و الباطن، و تصل إلی الأفئدة و القلوب.

«فبعین اللّه ما تفعلون» إن اللّه تعالی یری أعمالكم و أفعالكم و لا یغیب عنه و لا یخفي علیه شيء فكأنَّ أفعالكم هذه بمحضر من اللّه تعالی.

«و سیعلم الذين ظلموا أي منقلب ینقلبون» و أي جزاء سیجازون و أي جحیم و عذاب سیصیرون إلیه.!!

«و أنا ابنة نذیر لكم بین یدي عذاب شدید» إشارة إلی قوله تعالی: «یا أیها النبي إنا أرسلناك شاهداً و مبشراً و نذیراً» أنا ابنة محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الذي أنذرتكم بعذاب اللّه الذي أعدّه للظالمین.

«فاعملوا إنا عاملون» اعملوا ما شئتم من ظلمنا فإنا عاملون ما یجب علینا من الصبر و التحمل «و انتظروا إنا منتظرون» انتظروا عواقب أفعالكم و نحن ننتظر عواقب الصبر علی المحن.

ص: 395

جواب أبي بكر

فاجابهاابوبكر (عبداللّه بن عثمان) و قال:

یا ابنة رسول اللّه!

لقد كان أبوكِ بالمؤمنین عطوفاً كریماً، رؤوفاً رحیماً.

و علی الكافرین عذاباً ألیماً و عقاباً عظیماً.

إن عزوناه وجدناه أباكِ دون النساءِ (1) .

و أخا إلفِكِ دون الأخلاَّءِ (2) .

آثره علی كل حمیمِ (3) .

و ساعده في كل أمر جسیم.

لا یحبّكم إلاّ كل سعید.

و لا یبغضكم إلاّ كل شقي.

فأنتم عترة رسول اللّه الطیبون.

و الخیَرة المنتجبون.

علی الخیر أدِلّتنا.

و إلی الجنة مسالكنا.

و أنت یا خیرة النساء.

و ابنة خیر الأنبیاء.

ص: 396


1- عزوناه: نسبناه.
2- و في نسخه: و اخا بعلك. و المعنی واحد.
3- حمیم: قریب.

صادقة في قولك.

سابقة في وفور عقلكِ.

غیر مردودة عن حقكِ.

و لا مصدودة عن صدقكِ (1) .

و اللّه ما عدوتُ رأی رسول اللّه!!! (2) .

و لا عملت إلاَّ بإذنه.

و إن الرائد لا یكذب أهلهِ (3) .

و إني أُشهد اللّه و كفي به شهیداً.

أني سمعت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یقول:

«نحن معاشر الأنبیاء لا نورِّث ذهباً و لا فضة و لا داراً و لا عقاراً و إنما نورّث الكتاب و الحكمة، و العلم و النبوة، و ما كان لنا من طعمة فلو الی الأمر بعدنا، أن یحكم فيه بحكمه».

و قد جعلنا ما حاولتِه في الكراع و السلاحِ (4) .

یقاتل بها المسلمون.

و یجاهدون الكفار.

و یجالدون المردة الفجارِ (5) .

و ذلك بإجماع من المسلمین!!

لم أنفرد به وحدی.

ص: 397


1- مصدوده: ممنوعه.
2- عدوت: جاوزت.
3- الرائد: الذي یتقدم القوم، یبصرلهم الكلا و مساقط الثمار.
4- الكراع- بضم الكاف-:جماعه الخیل.
5- یجالدون: یضاربون.

و لم أستبد بما كان الرأی فيه عندي (1) .

و هذا حالي و مالي.

هي لكِ، و بین یدیك.

لا تزوی عنكِ (2) .

و لا تدَّخر دونكِ.

و أنت سیدة أُمّة أبیكِ.

و الشجرة الطیبة لبنیك.

لا یُدفع مالَكِ من فضلكِ.

و لا یوضع في فرعك و أصلكِ.

حكمك نافذ فيما ملكت یداي.

فهل ترینّ أن أُخالف في ذلك أباكِ (صلی اللّه علیه و آله و سلم)؟

ص: 398


1- استبد: انفرد بالامر من غیر مشارك فيه.
2- تزوی عنك: تقبض عنك.

الاعتراف بفضائل الامام علی (عَلَيهِ السَّلَامُ)

الی هنا ذكرت السیده فاطمه الزهرا (علیه السلام) ما كان ینبغي لها ان تذكر،وادت ما یجب علی اتم و اكمل ما یمكن، و هنا تصدی رئیس الدوله لیجیبها:

فاجابها أبوبكر «عبداللّه بن عثمان»: «یا ابنة رسول اللّه» سبحان اللّه! یعرفها و مع ذلك یكون موقفه ذلك الموقف.

«لقد كان أبوك بالمؤمنین عطوفاً كریماً، رؤوفاً رحیماً، علی الكافرین عذاباً ألیماً و عقاباً عظیماً» هذا كله واضح، و ما المقصود من هذا الكلام؟

«إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، و أخا إلفكِ دون الإخلاّء» هذا تصدیق لكلامها في أول الخطبة حیث قالت: «فإن تعزوه و تعرفوه تجدوه أبی دون نسائكم و أخا ابن عمي دون رجالكم».

«آثره علی كل حمیم» أي فضّل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) علیاً علی كل قریب.

«و ساعده في كل أمر جسیم» إن علیا ساعد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)في كل امر عظیم.

«لا یحبكم الا كل سعید، و لا یبغضكم الا كل شقي» اعتراف عجیب من قائله، ان صح اسناد هذا الكلام الیه.

«فانتم عتره رسول اللّه الطیبون، و الخیره المنتجبون» العتره التي لا یقبل كلامها و لا تمضي شهادتها في قطعه من الارض، و الخیره التي تحملت اشد

ص: 399

أنواع الأذی من الناس!!

«علی الخیر أدلَّتنا» جمع دلیل و هو الهادي أي أنتم الهداة المرشدون إلی الخیر.

«و إلی الجنة مسالكنا» أنتم طرق النجاة و الفوز بالجنة.

«و أنت- یا خیرة النساء، وابنة خیر الأنبیاء- صادقة في قولك» لو كنتَ تعتبرها صادقة في قولها فلماذا لم ترد إلیها حقها؟ لماذا سلبتها أموالها التي جعلها اللّه و رسوله لها؟

«سابقة في وفور عقلك، غیر مردودة عن حقك و لا مصدودة عن صدقك» فلماذا رددتها عن حقها أیها الرجل؟ و لماذا صددتها عن صدقها؟ ما هذا التناقض بین القول و الفعل.

«و اللّه ما عدوتُ رأي رسول اللّه» نعم، و اللّه لقد عدوتَ رأي رسول اللّه.

«و لا عملتُ إلا بإذنه» لا و اللّه ما عملتَ بإذنه، لم یأذن لك رسول اللّه أن تغضب النحلة التي أنحلها رسول اللّه ابنته فاطمة، أو تمنعها إرثها من أبیها.

«و إن الرائد لا یكذب أهله» هذا المثل في غیر مورده.

«و إني أُشهد اللّه و كفي به شهیداً» عجباً لحلم اللّه!!

هكذا یستشهد به في الباطل؟

هكذا یتجرّأ علیه؟

«إني سمعت رسول اللّه یقول: نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث ذهباً و لا فضة و لا داراً و لا عقاراً، و إنما نورّث الكتاب و الحكمة و العلم و النبوة، و ما كان من طعمة فلِوالي الأمر بعدنا أن یحكم فيه ما یحكمه».

اللّه یقول: الأنبیاء یورثون. و رسول اللّه یقول: الأنبیاء لا یورثون؟

أیهما الصحیح؟

ص: 400

و بعد هذا: أنت المدعي و أنت الشاهد و أنت الحاكم؟

و هل یوجد في العالم حكم هكذا؟ أو قانون كهذا القانون؟!

أنت سمعت رسول اللّه یقول هكذا و ابنته لم تسمع ذلك منه؟!

الرسول أخبرك و ما أخبر ابنته التي كانت أراضي فدك بیدها و تحت تصرّفها؟

و أي كتاب ورَّثه الرسول؟

القرآن؟ القرآن كان ملكاً للرسول حتی یورِّثه؟ و هل النبوة تورث؟!

و هل كان نبي إذا مات تنتقل النبوة إلی أولاده و ورثته؟

و من الذي ورث النبوة من رسول اللّه؟!

و هل أنت ولي الأمر أم الذي وليّ اللّه بقوله: «إنما ولیكم اللّه و رسوله و الذين آمنوا الذين یقیمون الصلاة و یؤتون الزكاة و هم راكعون» من ولی الأمر بعد الرسول؟!

أنت ولي الأمر أم الذي بایعته أنت یوم غدیر خم بأمر رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و سلّمت علیه بإمرة المؤمنین؟ و هو علي بن أبي طالب.

أتری أن تعلم هذا الحدیث و علي بن أبي طالب لا یعلم؟ و هو أكثر التصاقاً و أشد اتصالاً و التزاماً بالرسول، حسب اعترافاتك، و هو باب مدینة علم الرسول.

و إن كان النبي لا یورّث فلماذا بقیتْ حجراته تحت تصرّف زوجاته؟ و لماذا لم تصادر تلك الحجرات؟

مع العلم أن تلك الحجرات كانت ملكاً لرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بصریح قوله تعالی: «لا تدخلوا بیوت النبي» فيتبین أن البیوت كانت للرسول، فبأي قانون شرعي و بأي مبرر دیني سكنت زوجات

ص: 401

الرسول في تلك الحجرات إلی آخر حیاتهن؟

و لماذا شمل التأمیم السیدة فاطمة عزیزة رسول اللّه و بضعته و لم تشمل زوجاته؟؟

«و قد جعلنا ما حاولتهِ في الكراع و السلاح یقاتل بها المسلمون، و یجاهدون الكفار، و یجالدون المردة الفجّار» و هل یجوز صرف الأموال المغصوبة، في سبیل اللّه لتقویة المسلمین،

و هل كانت جیوش المسلمین بحاجة إلی هذه الأموال التي أُخذت ظلماً؟

«و ذلك بإجماع من المسلمین» ما قیمة هذا الإجماع المناقض لكتاب اللّه؟

و أي إجماع هذا و آل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و عترته لا یعترفون بهذا الأمر و لا یوافقون بهذه التصرفات؟

و هل ینفع الإجماع علی الظلم و علی مخالفة كتاب اللّه و سنة النبي؟

و كأن أبابكر أراد بكلامه هذا استمالة قلوب المسلمین كي لا یخالفه أحد، و إلا فقد ثبت أن أبابكر هو المدّعي الوحید لحدیث: «نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث» و لم یجمع المسلمون علی صحة هذا الحدیث المخالف لصریح كلام اللّه تعالی.

نعم في كتاب (كشف الغمة): إنه لما ولّی عثمان قالت عائشة: أعطني ما كان یعطیني أبي و عمر.

فقال عثمان: لا أجد لها موضعاً في الكتاب و لا في السنة، و لكن كان أبوبكر و عمر یعطیانك من حصة أنفسهما، و أنا لا أفعل.

فقالت: فاعطني میراثي من النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

قال: ألیس جئتِ و شهدتِ أنتِ و مالك بن أوس النضري أن رسول

ص: 402

اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: لا یورّث؟ فأبطلتِ حق فاطمة، و جئتِ تطلبینه؟.- الی آخره (1) .

أقول: العجب أن شهادة عائشة بنت أبي بكر تقبل و شهادة فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لا تقبل؟

و شهادة مالك بن أوس النضري البوّال علی عقبیه تقبل و شهادة أمیرالمؤمنین علي بن أبي طالب نفس رسول اللّه و أعز الخلق إلیه لا تقبل!

اقرأ ثم احكم.

و بهذا اتضح لنا كلامه: «لم انفرد به وحدی، و لم أستبد بما كان الرأي فيه عندي» نعم، لم ینفرد به وحده، بل ساندته و شهدت له ابنته عائشة صاحبة المواقف المشهورة اتجاه فاطمة و زوجها عليّ.

«هذه حالي و مالي، هي لك و بین یدیك، لا تزوی عنك و لا تدَّخر دونك» مجاملات فارغة لا حقیقة لها أصلاً، و ما أكثر هذه المجاملات عند رجال السیاسة.

«أنت سیدة أُمّة أبیك، و الشجرة الطیبة لبنیك، لا یُدفع مالك من فضلك، و لا یوضع في فرعك و أصلك، حكمك نافذ فيما ملكت یدای» هذه الكلمات و إن كانت حقائق، إلاّ أنها استعملت للخداع، و التلوّن في الكلام، و سیأتيك- في المستقبل- كلام حول آراء السیاسیین، و الأسالیب التي یستعملونها حسب الظروف.

«فهل ترین أن أُخالف في ذلك أباك (صلی اللّه علیه و آله و سلم)؟».

أیها الناس! إن أبابكر یجتنب مخالفة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و لكن سیدة نساء العالمین و بضعة رسول اللّه التي أذهب اللّه عنها

ص: 403


1- كشف الغمه ج 1/ 478.

الرجس و طهّرها تطهیراً تخالف رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)؟

هل یقبل عقلك؟

هل یرضی وجدانك بهذا؟

و أیة مخالفة لرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إذا خضع المسلم للقرآن الذي لا یأتیه الباطل من بین یدیه و لا من خلفه؟

هل العمل بآیات المواریث بین الأنبیاء یعتبر مخالفة لرسول اللّه؟

و هل تصدیق كلام بنت رسول اللّه- المعصومة بصریح القرآن- و تصدیق كلام زوجها علیّ الذي كان نفس رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یكون مخالفة لرسول اللّه؟

ماذا أقول إذا انقلبت المفاهیم، و انعكست الحقائق، و تبدّلت المقاییس و تغیّرت الموازین، و صار المنكر معروفاً و المعروف منكراً؟

الرجل یدّعي علی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كلاماً مخالفاً للقرآن، مناقضاً للشریعة الإسلامية، و آل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و عترته الطیبة لا یعترفون بهذا الكلام، بل یكذّبونه علی ضوء القرآن، ثم یتورّع الرجل «علی زعمه» من مخالفة ذلك الكلام المفتری علی الرسول.

و الآن استمع إلی ردّ السیدة فاطمة الزهراء لهذه المفتریات و الأ كاذیب:

ص: 404

جواب فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)

قالت (علیها السلام):

سبحان اللّه.

ما كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) عن كتاب اللّه صادفاً (1) .

و لا لأحكامه مخالفاً.

بل كان یتَّبع أثره.

و یقفو سُوَرهِ (2) .

أفتجمعون إلی الغدر اعتلالاً علیه بالزور.

و هذه بعد وفاته شبیهٌ بما بُغی له من الغوائل في حیاتهِ (3)

هذا كتاب اللّه حَكَماً عدلاً.

و ناطقاً فصلاً.

یقول:

«یرثني ویرث من آل یعقوب».

«و ورث سلیمان داود».

فبیَّن (عز و جل) فيما وزَّع علیه من الأقساط.

ص: 405


1- صادفا: معرضا یقال: صدف عن الحق اذا عرض عنه.
2- یقفو: یتبع.
3- الغوائل- جمع غائله:الحادثه المهلكه.

و شرع من الفرائض و المیراث.

و أباح من حظ الذكران و الإناث.

ما أزاح علَّة المبطلین.

و أزال التظني و الشبهات في الغابرینِ (1) .

كلاَّ، «بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جمیل واللّه المستعان علی ما تصفون».

ص: 406


1- التظني: اعمال الظن.الغابرین: الباقين.

مطابقه كلمات الرسول مع القرآن

قالت: «سبحان اللّه» في مقام التعجّب، استعظاماً لهذا الافتراء علی رسول اللّه الصادق المصدق الذي ما ینطق عن الهوی إن هو إلا وحي یوحی (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

«ما كان رسول للّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) عن كتاب اللّه صادفاً» ما كان الرسول معرضاً عن كتاب اللّه المجید.

«و لا لأحكامه مخالفاً» بأن یقول شیئاً یخالف القرآن، و حدیث: «نحن معاشر الأنبیاء لا نورِّث» مخالف للآیات التي تصرّح بوراثة الأنبیاء، و إنهم یرثون و یورثون.

حاشا نبي اللّه أن یخالف كلام اللّه «بل كان یتبع أثره» یسیر مع القرآن و علی ضوء القرآن و تحت ظلاله.

«و یقفو سوره» أي سور القرآن، و یتبعها سورة بعد سورة فكیف یقول شیئاً یخالف كلام اللّه، و یناقض أحكام اللّه؟

«افتجمعون إلی الغدر اعتلالاً علیه بالزور» تقول السیدة فاطمة (علیها السلام) قد جمعتم بین جریمتین: جریمة الغدر و هي غصب فدك، و جریمة الكذب علی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أي هل تضیفون إلی الغدر اعتذاركم علی العذر بالكذب، و هذا كمن یقتل إنساناً ظلماً ثم یعتذر من عمله بأن المقتول كان سارقاً، فهو قد جمع بین جریمة القتل و جریمة الكذب و الافتراء.

ص: 407

«و هذا بعد وفاته شبیه بما بُغی له من الغوائل في حیاته» تقول (علیها السلام) لیس هذا بشيء جدید، فإن القیام ضد آل الرسول بعد وفاته یشبه المؤامرات و النشاطات المسعورة التي كانت ضده في حیاته، فلقد أراد المنافقون أن یقتلوا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لیلة العقبة، و یُنفروا ناقته علی شفير الوادي لتسقط ناقة النبي في الوادي فيهلك رسول اللّه و التفصیل مذكور في محله، راجع تفسیر قوله تعالی: «یحلفون باللّه ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر، و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ینالوا...الایه» (1) .

«هذا كتاب اللّه حكماً عدلاً و ناطقاً فصلاً» هذا القرآن حال كونه حاكماً عادلاً، ناطقاً قاطعاً للخصومات، نجعله مرجعاً نتحاكم إلیه، هذا القرآن یقول: «یرثني و یرث من آل یعقوب» في قصة زكریا و قد مر الكلام حول الآیة.

«و ورث سلیمان داود» قد ذكرنا ما تیسر أیضاً حول وراثة سلیمان من داود (علیهما السلام).

و أنتم تقولون: إن رسول اللّه قال: «نحن معاشر الأنبیاء لا نورِّث» كیف یخالف رسول اللّه القرآن؟ و كیف یعرض عن حُكم وراثة الأنبیاء.

«فبیَّن (عز و جل) فيما وزّع علیه من الأقساط».

لقد بین اللّه تعالی فيما قسّم من نصیب كل من الورثة.

«و شرع من الفرائض و المیراث» الفرائض: هي الحصص المفروضة المقدّرة للورثة كالنصف و الثُلث و الرُبع و السُدس و الثُمن كما هو مذكور في الكتب الفقهیة.

ص: 408


1- التوبه: 73.

«و أباح من حظ الذكران و الإناث» في شتی مراتب الورثة من الزوج و الزوجة و الأب و الأم و الأولاد و البنات و المراتب المتأخرة عنهم.

«ما أزاح علَة المبطلین» لقد بیَّن اللّه في القرآن و شرع و أباح ما فيه الكفایة لإزالة أمراض أهل الباطل، و كل من جاء بالباطل.

«و أزال التظني و الشبهات في الغابرین» لم یبق مجال للشك و الشبهة لأحدٍ من الأجیال الموجودة أو الآتیة.

«كلاَّ» لیس الأمر كما تقولون، أو كما تدَّعون، و لیس الأمر ملتبساً علیكم.

«بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً» بل زیّنت لكم أنفسكم حُبُّ الرئاسة و كرسي الحكم، و منصة القدرة، فنسبتم إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) هذا الحدیث حتی یتحقق هدفكم، و تنالوا غایتكم.

«فصبر جمیل و اللّه المستعان علی ما تصفون» نصبر و نستعین اللّه تعالی علی تحمّل هذه المآسي و المصائب.

و الآن استمع إلی دفاع أبي بكر عن نفسه، و انتبه إلی تبدّل الكلام، و تذبذب المنطق، و تغیّر الأسلوب، و عدم الاهتمام بالتناقض في الكلام.

ص: 409

جواب أبي بكر

فقال ابوبكر:

صدق اللّه و صدق رسوله

و صدقت ابنته

أنتِ معدن الحكمة

و موطن الهدی و الرحمة

و ركن الدین

و عین الحجة

لا أُبعدُ صوابكِ

ولا أنكر خطابكِ

هؤلاء المسلمون بیني و بینك

قلَّدوني ما تقلّدت

و باتفاق منهم أخذتُ ما أخذت

غیر مكابر و لا مستبد

و لا مستأثر

و هم بذلك شهود

ص: 410

انهیار الباطل أمام حجة الحق

لما زیّفت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) الحدیث الذي اختلقه أبوبكر و نسبه إلی الرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و أبطلت ذلك الادّعاء بالأدلة القاطعة و الحجج الساطعة، عجز أبوبكر عن تفنید الحجج و البراهین التي استدلت بها السیدة فاطمة. و لهذا دخل من باب آخر، كي لا یتحمل المسؤولیة هو وحده، بل تكون المسؤولیة علی المسلمین الذين وافقوا علی تصرفاته، فقال «صدق اللّه و صدق رسوله و صدقت ابنته» تصدیق لآیات المواریث بین الأنبیاء، و تصدیق للرسول الذي لا یخالف القرآن و كأنه ینسحب عن الحدیث الذي نسبه إلی النبي «نحن معاشر الأنبیاء لا نورث» و تصدیق لكلام بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)

«أنت معدن الحكمة، و موطن الهدی و الرحمة، و ركن الدین و عین الحجة» اعترافات عجیبة تدل علی التنازل و الانسحاب «لا أُبعدُ صوابك و لا أُنكر خطابكِ» إقرار بصواب قولها، و اعتراف بصدق خطابها و كلامها، و لكن كله صوريّ أي باللسان لا بالعمل فالزهراء صادقة القول في ادّعائها فدك، لا یشك أحد في ذلك و لكن السلطة المعترفة بصدق كلامها لا تردّ إلیها حقوقها، لماذا؟ و كیف؟

«هؤلاء المسلمون الحاضرون بیني و بینك هم قلدونی ما تقلدت» و هذا اعتراف صریح منه أنه لم یصل إلی الخلافة بالنص و التعیین من رسول اللّه (صلی اللّه علیه

ص: 411

و آله و سلم) و إن رسول اللّه لم یستخلفه، بل المسلمون قلّدوه الخلافة.

«و باتفاق منهم أخذت ما أخذت» أنظر إلی تبدّل المنطق فقد قال أولاً: إنّه استولي علی فدك عملاً بقول الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «نحن معاشر الأنبیاء... الی آخره»، و بعد أن أبطلت السیدة فاطمة هذا الكلام تشبث بوسیلة أخری، و هي اتفاق المسلمین علی غصب فدك. مَن هم المسلمون الذين اتفقوا علی أخذ أبي بكر فدك؟

بنوهاشم؟ أهل بیت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)؟ رؤساء الصحابة أمثال: سلمان و المقداد و عمار و أبي ذر و نظرائهم؟

إن كلمة: «و باتفاق منهم أخذت ما أخذت» هي عبارة اخری عن كلمته السابقة: «و ذلك بإجماع المسلمین» و قد ذكرنا قیمة ذلك الإجماع وقس علیها قیمة هذا الاتفاق منهم علی أخذ فدك فاطمة.

«غیر مكابر و لا مستبد و لا مستأثر و هم بذلك شهود» حینما استشهد أبوبكر بالمسلمین كان لزاماً علی السیدة فاطمة أن توجّه عتاباً لاذعاً إلیهم:

ص: 412

فاطمة الزهراء توجه الخطاب إلی الحاضرین

معاشر الناس.

المُسرعة إلی قیل الباطل.

المُغضیة علی الفعل القبیح الخاسرِ (1) أفلا تتدبرون القرآن أم علی قلوب أقفالها؟

كلا، بل ران علی قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم.

فأخذ بسمعكم و أبصاركم.

ولبئس ما تأوّلتم.

وساء ما به أشرتم.

وشر منه اعتضتُّمِ.

لتجدنَّ- واللّه- محمله ثقیلاً.

وغبَّه وبیلاً (2) .

إذا كشف لكم الغطاء و بان ما وراءه الضرّاء.

و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، و خسر هنالك المبطلون.

ص: 413


1- المغضیه: الساكته الراضیه.
2- الغب- بكسر الغین-: العاقبه.. الوبیل: الشدید الثقیل.

فاطمه الزهراء في عتابها مع المتخاذلین

وجهت السیده فاطمه عتابها الاخیر الی تلك الجماهیرالمتجمهره التي كانت تستمع الی ذلك الحوار الحاد و قالت:

«معاشر الناس المسرعة إلی قیل الباطل» أي القول الباطل، أي أسرعتم إلی قول باطل إذ أنكم قلّدتم هذا الرجل ما قلّدتم، و اتفقتم معه- حسب ادعائه- علی غصب حقوقي.

«المغضیة علی الفعل القبیح الخاسر» الإغضاء هو إدناءِ الجفون علی العین، كالذي ینظر إلی الأرض أو ینظر في حِجره، كنایة عن السكوت و الرضا بالفعل القبیح الخاسر الذي هو سبب خسران صاحبه.

«أفلا تتدبرون القرآن أم علی قلوب أقفالها؟» هل نسیتم الآیات النازلة فينا؟ أو لم تفهموا الآیات التي تلوتها في وراثة الأنبیاء؟ أم قلوبكم مقفلة مغلقة فلا تنفتح لكلام اللّه و أحكامه في القرآن؟

«كلاَّ» لیس السبب عدم التدبر في القرآن «بل ران علی قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم» أي غلب علی قلوبكم و غطّاها سوء أعمالكم كالحجاب الكثیف، كما تغطّی الخمرة عقل شاربها فلا یفهم و لا یشعر، و تختل عنده الأمور.

«فأخذ بسمعكم و أبصاركم» كالغفلة المستولیة علی القلب، المؤثّرة علی السمع و البصر، فلا یسمع الغافل الصوت و لا یبصر الشيء بسبب انشغال قلبه و غفلته.

ص: 414

«و لبئس ما تأوَّلتم» في آیات القرآن و أحكام الإسلام و تغییرها عن مجراها الحقیقی «و ساء ما به أشرتم» تقصد التعاون و الاتفاق علی غصب حقوق آل محمد (علیهم السلام).

«و شرّ ما منه اعتضتم» أي ساء ما أخذتم به عوضاً عما تركتم أي بئس الباطل الذي أخذتموه عوضاً عن الحق، و كلها كنایات و إشارات یفهمها الأذكیاء.

«لتجدَّن- و اللّه- محمله ثقیلاً و غبّه و بیلاً» إشارة إلی المسؤولیة الكبری یوم القیامة، و الحمل الثقیل و الأمر الشدید الذي یعاقبون علیه أشد العقاب، و یعذّبون علیه أشد العذاب.

«إذا كشف لكم الغطاء» إذ متّم و انتقلتم إلی عالم الجزاء.

«و بان ما وراءه الضرّاء» و ظهر لكم الشيء الذي وراءه الشدّة.

«و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، و خسر هنالك المبطلون» و هكذا أدمجت السیدة فاطمة حدیثها و خطابها مع الآیات المناسبة للمقام.

لقد أتمت السیدة فاطمة الحجة علی الجمیع، و أدّت ما علیها من الواجبات، و سجلت آلامها في سجل التاریخ و الآن:

شكوی الی رسول اللّه

ثم عطفت علی قبر أبیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و قالت:

و قالت

قد كان بعدك أنباء و هنبثةِ (1)***لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبُ (2) .

ص: 415


1- الهنبثه: الامر الشدید المختلف.
2- الخطب- بضم الخاء و الطاء- جمع خطب- بفتح الخاء- و هي المصائب الشدیده.

إنا فقدناك فقدَ الأرض و ابلهاِ (1) و اختل قومك فاشهدهم و قد نكبواِ (2) .

و كل أهل له قُربی و منزلة***عند الإله علی الأدنین مقتربُ

أبدَتْ رجال لنا نجوی صدورهمِ (3)***لما مضیتَ و حالت دونك التُّربُ

تجهّمتنا رجال و استُخفّ بنا***لما فُقدتَ، و كل الإرث مغتصَبُ (4) .

و كنتَ بدراً و نوراً یُستضاء به***علیك تنزل من ذي العزّة الكتبُ

و كان جبریل بالآیات یؤنسنا***فقد فُقدتَ، فكلّ الخیر مُحتجبُ

فلیتَ قبلكَ كان الموت صادَفَنا***لمّا مضیت و حالت دونك الكُثُبُ(5) .

إنا رُزینا بما لم یُرزَ ذو شَجَنِ (6)***مِن البریة لا عجم و لا عربُ

و في ناسخ التواریخ زیادة هذه الأبیات:

سیعلم المتولي ظلم حامتنا***یوم القیامة أنّی سوف ینقلبُ

و سوف نبكیك ما عشنا و ما بقیت***له العیون بتهمال له سكبُ

و قد رزُینا به محضاً خلیقته***صافي الضرائب و الأعراق و النسبُ

فأنت خیر عباد اللّه كلهم***و أصدق الناس حین الصدق و الكذبُ

و كان جبریل روح القدس زائرنا***فغاب عنا فكل الخیر محتجبُ

ضاقت عليَّ بلادٌ بعد ما رحبتْ***وسیم سبطاك خسفاً فيه لي نَصَبُ

و في كشف الغمة: و غیره: ثم عطفت علی قبر رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فتمثّلت بقول هند بنت أثاثة: قد كان بعدك.. الی آخره.

ص: 416


1- الوابل: المطر العزیز الكثیر.
2- نكبوا: عدلو عن الطریق.
3- نجوی- هنا-: الاحقاد.
4- مغتصب: مغضوب.
5- الكثب- بضم الكاف و الثاء- جمع كثیب و هو الرمل.
6- رزینا: من الرزیه و هي المصیبه. و الشجن: الحزن.

و قیل: هذه الأبیات لهند بنت أبان بن عبدالمطلب تمثلت بها السیدة فاطمة، و علی كلٍ فقد ألقت السیدة فاطمة نفسها علی قبر أبیها و هي تنشد هذه الأبیات. و في كشف الغمة: فما رأینا أكثر باك و لا باكیة من ذلك الیوم.

و لما ایست السیده الزهراء (علیها السلام) من أبي بكر و استعاده حقوقها المغتصبه منه رجعت الی دارها و هي تقول: «اللّهم انهما ظلما بنت نبیك حقها، فاشدد و طاتك علیهما» (1) .

و في صحیح البخاري- كتاب الخمس-:... فغضبت فاطمه بنت رسول اللّه، فهجرت ابابكر، فلم تزل مهاجرته حتی توفيت.

و روی مثله مسلم في صحیحه- كتاب الجهاد و السیر في باب قول النبي: لا نورث-و رواه البیهقي في السنن ج 6 ص 300، و احمد بن حنبل في مسنده ج 1 ص 6، و ابن سعد في طبقات الصحابه ج 18، و غیرهم.

ص: 417


1- وفاه الصدیقه الزهراء للمقرم ص 78.

التجاسر علی أهل بیت الرسول

اشاره

قال ابن أبی الحدید في شرحه علی نهج البلاغة: لما سمع أبوبكر خطبتها المذكورة و ما وقع بین الناس من الاختلاف و الهمهمة في سوء تلك المقدمة و خاف أن تنعكس القضیة شق علیه ذلك فصعد المبر فقال:

أیها الناس! ما هذه الرعة إلی كل قاله؟ أین كانت هذه الأماني في عهد رسول اللّه؟ ألا! من سمع فلیقل، و من شهد فلیتكلم، إنما هو ثعالة، شهیده ذَنَبه، مربّ لكل فتنة هو الذي یقول: كرّوها جذعة بعد ما هرمت. یستعینون بالضعفة و یستنصرون بالنساء، كأم طحال أحبّ أهلها إلیها البغی ألا: إني لو أشاء لقلت:و لو قلت لَبُحت، إني ساكت ما تُركت.

ثم التفت إلی الأنصار فقال: یا معشر الأنصار قد بلغني مقالة سفهائكم و أحق من لزم عهد رسول اللّه أنتم، فقد جاءكم فآویتم و نصرتم، ألا: إني لست باسطاً یداً و لساناً علی من لم یستحق ذلك منا. ثم نزل.

ثم قال ابن أبی الحدید: قرأت هذا الكلام علی النقیب أبي یحیی جعفر بن یحیی بن أبي زید البصري و قلت له: بمن یعترض؟

فقال: بل یصرّح.

قلت: لو صرّح لم أسئلك.

فضحك فقال: لعلي بن أبي طالب!!

قلت: هذا الكلام كله لعلي یقوله؟

قال: نعم إنه المُلك یا بني.

ص: 418

قلت: فما مقالة الأنصار؟

قال: هتفوا بقول عليّ، فخاف من اضطراب الأمر علیهم، فنهاهم. فسألته عن غریبة (أي شرح الكلمات) فقال:

أما الرعة- بالتخفيف- أي الاستماع و الإصغاء. و القالة: القول. و ثعالة: اسم الثعلب، مثل ذؤالة للذئب. و شهیده ذَنَبه: أي لا شاهد له علی ما یدّعیه إلاّ بعضه و جزء منه، وأصله مَثَل: قالوا: إن الثعلب أراد أن یُغري الأسد بالذئب فقال له: إنه قد أكل الشاة التي كنت أعددتها لنفسك، و كنت حاضراً، قال: فمن یشهد لك بذلك؟ فرفع ذَنَبه و علیه دم. و كان الأسد قد افتقد الشاة، فقبل شهادته، و قتل الذئب. و «مربّ»: ملازم، من أربّ بالمكان و (كروها جذعة): أعیدوها إلی الحال الأولی یعني الفتنة و الهرج و «أم طحال» امرأة بغي في الجاهلیة یضرب بها المثل، فيقال: أزني من أم طحال. انتهی کلامه.

اقول: نحن لا نقول شیئاً علی هذه الكلمات التي استعملها أبوبكر في آل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و عترته الطاهرة الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرّهم تطهیراً، و لا نعاتبه علی أدبه في المنطق و تعبیره في الكلام!.

و لكن نقول: قرّت عینك- یا رسول اللّه- فهكذا یقال في حق ابنتك و عزیزتك و حبیبتك فاطمة الزهراء!! و هكذا یقال في حق أخیك و خلیفتك و وزیرك و حامل لوائك: أمیرالمؤمنین علي بن أبي طالب!!

و كل هذا علی منبرك و في مسجدك و في جوار مرقدك.

قرّت عیناك یا أبافاطمة الزهراء و بشراك بل بشریان!! فهذه كرامة أهل بیتك، و عترتك عند أبي بكر و أشباهه!

ص: 419

السیده ام سلمه تستنكر

و في الدر النظیم للشیخ جمال الدین الشامی قال- بعد خطبة فاطمة (علیها السلام) في المسجد و كلام أبي بكر-: فقالت أم سلمة «رضي اللّه عنها» حین سمعت ما جری لفاطمة (علیها السلام):

ألِمثل فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یقال هذا القول؟!!

هي و اللّه الحوراء بین الإنس، و النَفَس للنفس، رُبّیت في حجور الأتقیاء، و تناولتها أیدي الملائكة، و نمت في حجور الطاهرات، و نشأت خیر نشأة، و ربیت خیر مربي، أتزعمون أن رسول اللّه حرّم علیها میراثه و لم یُعلمها؟ و قد قال اللّه تعالی: «و أنذر عشیرتك الأقربین» أفأنذرها و خالفت متطلبه؟!!

و هي خیرَة النسوان و أمّ سادة الشبّان، و عدیلة مریم، تمّت بأبیها رسالات ربه، فواللّه لقد كان یشفق علیها من الحرّ و القرّ، و یوسدها یمینه و یلحفها بشماله.رویداً و رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بمرأی منكم، و علی اللّه تردون واهاً لكم، فسوف تعلمون.

قال: فَحُرمت عطاءها تلك السنة!

ص: 420

رجوعها إلی الدار و كلامها مع زوجها

ثم انكفأت (علیها السلام) (1) .

و أمیرالمؤمنین (علیه السلام) یتوقع رجوعها إلیهِ (2) .

و یتطلع طلوعها علیه.

فلما استقرت بها الدار قالت لأمیرالمؤمنین (علیه السلام):

یا بن أبي طالب.

اشتملتَ شَملَة الجنینِ (3) .

وقعدتَ حجرة الظنینِ (4) .

نقضتَ قادمةَ الأجدلِ (5) .

فخانك ریش الأعزلِ (6) .

هذا ابن قحافة یبتزّني نحلة أبيِ (7) .

ص: 421


1- انكفات: رجعت.
2- یتوقع: ینتظر.
3- اشتمل الثوب: اذا اداره علی الجسد. و الشمله-بكسرالشین-: ما یشتمل به، و المقصود هنا: مشیمه الجنین، و هي محل الولد في الرحم.
4- الحجره- بضم الحاء-: البیت. و بضم الحاء و سكون الجیم ثم الزاء: هو المكان الذي یحتجز فيه. و الظنین: لبمتهم.
5- نقضت: ضد ابرمت. و القادمه- واحده القوادم- و هي مقادیم ریش الطائر. و الاجدل: الصقر.
6- خانك من الخیانه. و في نسخه: خاتك: أي انقض علیك.
7- یبتزني: یسلبني بالقهر و الغلبه.و النحله- بكسر النون-: العطیه، و النحلیه تصغیرها.

و بُلغةَ ابني (1) .

لقد أجهر في خصامي (2) .

و ألفيته الألدّ في كلامي (3) .

حتی حبستني قیلةُ نصرهاِ (4) .

و المهاجرة و صلهاِ (5) .

و غضَّت الجماعة دوني طرفها.

خرجت كاظمه، و عدت راغمةِ (6) .

أضرعتَ خدَّك یوم أضعت حدَّكِ (7) .

افترستَ الذئاب و افترشت التراب.

ما كففتَ قائلاً و لا أغنیتَ باطلاً (8) .

و لا خیار لي (9) .

لیتني متُّ قبل هینتي (10) .

ص: 422


1- البلغه: ما یتبلغ به من العیش و یكتفي به.
2- اجهر: اعلن بكل وضوح. و في نسخه: اجهد: أي جد و بالغ.
3- الفيته: وجدته. والالد: شدید الخصومه،و في نسخه: اجهد في ظلامي والد في خصامتي.
4- حبستني: منعتني. و قیله: اسم ام الاوس و الخزرج. و هما قبیلتان من الانصار.
5- 474. المهاجره: المهاجرون. و صلها: عونها. أي حبسني.
6- كاظمه: متجرعه الغیظمع الصبر.
7- اذللت، واضعت حدك: اهملت قدرك و في نسخه: جدك و هو الحظ.
8- ما كففت: ما منعت.
9- 478. لاخیار لي: لا اختیار لي.
10- 479. هینتي- بكسر الهاء- مهانتي.

و دون ذلّتي.

عذیري اللّه منك عادیاً و منك حامیاً.

ویلاي في كل شارق.

مات العَمَد و وهن العَضُد.

شكوای إلی أبي.

و عدواي إلی ربي.

اللّهم أنت أشدُّ قوة و حولاً.

و أحدُّ بأساً و تنكیلاً.

فقال أمیرالمؤمنین (علیه السلام):

لا ویل علیكِ.

بل الویل لشانئكِ.

نهنهي عن وَجدكِ یا بنة الصفوةِ (1) .

و بقیّة النبّوة.

فما وَنیتُ عن دیني (2) .

و لا أخطأت مقدوري.

فإن كنتِ تریدین البُلغة فرزقك مضمونِ (3) .

و كفيلك مأمون.

و ما أُعدَّ لكِ خیرٌ مما قُطع عنكِ.

فاحتسبي اللّه.

فقالت: حسبي اللّه. و أمسكت.

ص: 423


1- نهنهي: كفي، وجدك: حزنك.
2- ونیت: عجزت.
3- البلغه- بضم الباء-: الكفایه.

الإمام علي في انتظار فاطمة الزهراء

اشاره

كان الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام) ینتظر السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) زمیلته في الجهاد، و شریكته في الآلام و الآمال.

ینتظر رجوعها من ساحة الجهاد، من مسجد أبیها.

من المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في أكبر مركز إسلامي یومذاك.

رجعت و هي مرهقة بأتعاب الجهاد المتواصل. و حیاتها كلها جهاد.

رجعت و هي منتصرة، و إن كانت- في الوقت نفسه- مغلوبة علی أمرها مظلومة مهضومة، منكسرة القلب، متعبة الأعصاب، حزینة.

انتصرت لأنها أعلنت للجماهیر، للأجیال، للتاریخ أنها مظلومة، مغصوب حقها أنها أدانت السلطة بالخطأ المكشوف، بالاعتداء المقصود.

انتصرت لأنها عرّفت الإسلام كما ینبغي.

تحدثت عن النقاط الرئیسیة في الإسلام، عن التوحید عن النبوة و الإمامة، و علل الأحكام، و فلسفة الشریعة الإسلامية، و بكل ما یدور في هذا الفلك الواسع الشاسع.

و وصلت إلی بیتها، و قد بقی الشوط الأخیر من أشواط الجهاد.

رجعت لتكشف حقیقة أخری لأهل العالم. للتاریخ.

و اختارت- لكشف الحقیقة- هذه الطریقة و هذا الأسلوب أسلوب الحوار مع زوجها.

الحوار الذي یشبه العتاب.

ص: 424

و في الوقت نفسه تتحدث عن الأحداث، عن موقف السلطة یومذاك. عن موقف المسلمین الذين استولت علیهم الحیرة و الدهشة و الذهول.

الضمائر تؤنّبهم، و الإحساس بالألم یُجري دموعهم، الخوف من السلطة یخرسهم، فهم في ذهول.

یرون شیئاً، و یسمعون أشیاء:

یرون رئیس الدولة، و هو یدَّعي أنه یمثّل صاحب الشریعة الإسلامية.

و یسمعون من ابنة صاحب الشریعة (فاطمة) الآهات، و كلمات التظلّم و السخط علی الحكام.

شكوی من فاطمه الی علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)

رجعت إلی الدار لتكشف موقف زوجها العظیم تجاه تلك الأحداث، فقالت: «یا بن أبي طالب».

ربما یتصور بعض أهل العلم- من الخطباء و غیرهم- أن الزهراء تحدّث زوجها العظیم بهذا التحدي الصریح اللاذع.

إذ إنها تخاطبه بكلمة: «یا بن العم» أو «یا أباالحسن» أو «یا علیّ» أو ما أشبه ذلك من الكلمات التي تناسب للزوجة أن تخاطب بها زوجها.

فيحملون هذا التحدي علی مدی تأثرها من الأحداث، و تألّمها مما جری.

أقول: سبحان اللّه! و أي منقصة في هذا الخطاب؟!

و أي عارٍ في هذا النسب؟!

أبو طالب:

شیخ الأباطح، سید أهل مكة، حامي الرسول، مفخرة التاریخ، عظیم

ص: 425

قریش، كبیر بني هاشم في عصره.

أبو طالب:

الشجاع الذي هابه المشركون، البطل الذي ظلَّ الرسول یدعو إلی اللّه، تحت حمایة ذلك البطل.

أبو طالب:

رجل الحمية، مثال الفتوة و الشهامة، بطل الغیرة و العاطفة.

فما المانع أن یقال لشبله البار و نجله العظیم: یا بن أبي طالب؟!!

ألیس معنی: «یا بن أبي طالب» یا بن العظمة و السیادة؟

یا بن الشرف و المجد؟

یا بن البطولة و البسالة؟

یا بن الحمية و الحفاظ؟

یا بن الفضیلة، بل الفضائل كلها؟

ألیس معناه هذا؟؟؟

نعم، إنها قالت: «یا بن أبي طالب» و كأنها تهیّج عزائمه.

و كأنها تستنهضه للنجدة، و تذكره بنسبه الشریف الأرفع.

تذكره أنه ابن أبیه.

كأنها تقول له: إن أباك أسعف أبي، و وقف له وقفة المدافع المستمیت فلماذا لا تدافع عني؟ لا تسعفني؟

ثم ذكّرته بسوابقه البطولیة، و مواقفه العظیمة، و إقدامه في جبهات القتال، و تحطیمه الأًسُود، و طحنه الأبطال طحن الرحي. ثم قارنت بین ماضیه و حاضره، و قالت:

«اشتملت شملة الجنین» الجنین المحبوس في غشاء المشیمة، لا یستطیع أن یعمل شیئاً.

ص: 426

«و قعدت حجرة الظنین» المتّهم، الذي یجلس في بیته فراراً من الناس، و خوفاً أن یلتقی به أحد،و في نسخه: «حجزه الظنین».

«نقضت قادمة الأجدل» كنت- فيما مضی- تكسّر أجنحة الصقور، و هي بمنزلة العمود الفقری في الطائر.

«و خانك ریش الأعزل» صرت- في الحال- أعزلاً، لا سلاح لك، ضعیفاً حتی اعتدی علیك أفراد لیسوا في العیر و لا في النفير، و كأنها تتعجب من سكوته في أول الأمر و عدم قیامه بطلب الحق، و في نسخة: «خاتك» أي انقضَّ علیك.

ثم وضعت النقاط علی الحروف، و شرحت الموضوع بالتفصیل، فقالت:

«هذا ابن أبی قحافة».

كلمة «ابن أبی قحافة» معاكسة و مغایرة تماماً لكلمة «ابن أبي طالب» من حیث المغزی و المفهوم.

أما كان عبداللّه بن جذعان صاحب المضیف في الطائف؟

أما كان أبوقحافة یحمل أواني الطعام من المطبخ إلی المضیف؟

أما كان یدعو الناس للطعام بأمر عبداللّه بن جذعان؟

ابن أبی قحافة «یبزّني نحلة أبي» یسلبني عطیة والدي.

«و بُلغة ابني» و هي ما یكتفي به ولداي: الحسن و الحسین لمعیشتهما من غلاّت فدك و العوالي، أو من الخمس و الفي ء.

«لقد أجهر في خصامي» أعلن في مخاصمتي، و تجاوز الكلام حدّ التفاهم و الاستدلال، و بلغّ حدّ العناد و الخصومة، فالحجة و الدلیل في المنطق غیر مقبول، و التفاهم غیر ممكن، لأنه أنكر قانون المیراث، و التوارث بین الأب و ابنته.

ص: 427

«و ألفيته الألدَّ في كلامي» لأنه افتری علی الرسول بحدیث ینافي القرآن و هو المدّعي، و هو الشاهد، و هو الحاكم، و جعل ذلك الحدیث حجة له و دلیلاً علی ما یدّعي.

«حتی حبستني قیلة نصرها» إن الأنصار و هم الأوس و الخزرج ابنا قیلة، و هي أمهما قد تركوا نصرتي بعد مواقفهم في نصرة المسلمین, تركوا نصرتي لأن الناس علی دین ملوكهم.

«و المهاجرة و صلها» أي امتنع المهاجرون (و هم أهل مكة) عن و صلی و إسعا في و هنا نكتة لطیفة: في استعمال الوصل في مقابل الهجر.

«و غضَّت الجماعة دوني طرفها» یا للرزیة، یا للهضمیة! إن بقیة الناس الحاضرین في المسجد أیضاً أعرضوا عني و اتّبعوا غیرهم في التخاذل و كأنهم لا یعرفونني. «فلا دافع و لا مانع» كي یدافع عني، و یضمُّ صوته إلی صوتي، أو یدفع عني اعتداء المعتدین، و یمنعهم عن ذلك، و في نسخة: «و لا شافع».

«خرجت كاظمة، و عدت راغمة» خرجت من البیت إلی المسجد كاظمة للغیظ متجرعة للألم، و رجعت إلی الدار و قد عجزت عن الانتصار.

«أضرعت خدَّك یوم أضعت حدك» كأنها تعتبر سكوت علي (علیه السلام) أمام تلك الأحداث نوعاً من التذلل بسبب كبت النفس، و عدم استعمال القوة، و عدم إظهار القدرة.

«افترست الذئاب و افترشت التراب» هذه الجملة تفسیر و تفصیل للجملة السابقة، لأن الرجل البطل المقدام الذي یفترس الذئاب أي یجدّل الأبطال و یقتل الشجعان كیف یبلغ به الأمر إلی درجة أنه یفترش التراب للجلوس أو النوم، أي لیس له فراش یجلس علیه سوی التراب، و هو منتهی الفاقة و البؤس، و في بعض النسخ: «افترست الذئاب و افترستك الذباب» أی

ص: 428

صرت فریسة للضعفاء.

«ما كففت قائلاً و لا أغنیت باطلاً» یمكن أن یكون قولها: «ما كففت و لا أغنیت»بصیغة المتكلم أي ما كففت أنا، و یمكن أن یكون بصیغة الخطاب أي ما كففت أنت.

و علی الوجه الأول فالمعنی: لم أستطع أن أمنع قائلاً عن قوله، و أن أصرف باطلاً، و في بعض النسخ: «و لا أغنیت طائلاً» أي ما فعلت شیئاً نافعاً، أي ما ینفعك السكوت و القعود.

و علی الوجه الثاني: «إنك لم تدفع عني قائلاً، و لم تصرف عني باطلاً».

«و لا خیار لی» أي لا قدرة لي علی الدفاع و استرجاع الحق، أو لا اختیار لي في المقاومة و المكافحة أكثر من هذا، لإنني امرأة، و المرأة محدودة في تصرفاتها و إمكانیاتها.

«لیتنی متُّ قبل هینتي و دون ذلّتي» حقّ لها أن تتمني الموت قبل أن تری ذلك الجفاء من أمة أبیها، من تلك الأفراد الذين كوَّنهم رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و منحهم العز و السیادة، و أنقذهم من شفا جرف الهلكات.

قبل أن تشاهد الذل و الهوان من ذلك المجتمع الجاف الذي لا یؤمن بالقیم و لا بالكرامة.

«عذیري اللّه منك عادیاً و منك محامیاً» لهذه الجملة احتمالات:

الأول: اللّه یعتذر منك بسبب إسائتي إلیك أو إیذائك بهذا النوع من الكلام.

الثاني: عذري أنك قصرت في إعانتي و حمایتي. و هناك احتمالات أخری بعیدة جداً.

ص: 429

«ویلای في كل شارق» ویلاي: كلمة تقال عند الشدة و المصیبة فهي إذن تدل علی شدة حال قائلها من حیث التألّم و التوجّع، تقول (علیها السلام): ویلاي في كل صباح تشرق فيه الشمس.

و في نسخة: «ویلاي في كل شارق ویلاي في كل غارب» أي في كل صباح و مساء و عند كل شروق و كل غروب، بسبب المصیبة، و هي:

«مات العمد و وهن العضد» أي مات الذي كان یسند به و یعتمد علیه في الأمور و بموت العماد ضعف العضد، اي: بموت الرسول ضعف الامام امیرالمومنین» (علیهما السلام) «و في نسخه: «و ذل العضد».

«شكوای الی ابی» اي: لیس لي احد اشكو الیه ماجری علی سوی ابي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

«و عدواي الی ربی» اي: من اللّه اطلب النصره و الانتقام.

«اللّهم انت اشدقوه و حولا» في الدفع و المنع، و لا حول و لا قوه الا باللّه.

«واحد باسا و تنكیلا» اي: اشد عذابا و عقوبه.

انتهی كلام الصدیقه فاطمه الزهرا (علیها السلام) حول الاحداث و موقف السلطه و الناس منها.

و كان الامام یستمع الی شكواها... الی آلامها... الی كلماتها المنبعثه من قلب ملتهب و نفس متالمه!..

الامام علی یخفف عنها الآلام

و الان: آن للامام ان یجیبها علی كلامها، و یذكر موقفه تجاه تلك القضایا و البوقائع التي المت بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)،

ص: 430

فقال لها:

«لا ویل علیكِ» هذا جواب من الإمام علي كلامها حیث قالت: «ویلاي» فيقول الإمام لها: «لا ویل علیك» أي لا ینبغي أن تقولي «ویلاي».

«بل الویل لشانئك» لمبغضك الذي خسر الدنیا و الآخرة، الویل لعدوك الذي ظلمك،و كسر قلبك و آذاك.

«نهنهي عن نفسك یا بنة الصفوة» أي: كُفّي و امنعي نفسك عن الحزن و الغضب یا ابنة الذي اصطفاه اللّه و اختاره علی العالمین.

«و بقیة النبوة» أنت بضعة النبي، و قد أُوذي النبي من أمته، كما قال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): ما أُوذي نبي بمثل ما أُوذیت.

أنت- یا فاطمة- بعض من ذلك الكل، و جزء من سید الرسل. فاصبري علی ما أصابكِ. ثم أنه (علیه السلام) ذكر موقفه، و بیّن تكلیفه الشرعي اتجاه تلك الأحداث فقال: «فما و نیتُ عن دیني» أي: ما عجزت عن القیام بما یجب، و ما ضعف دیني و اعتقادي، أي لم أصنع شیئاً استحق علیه اللوم و العتاب، لإنني مأمور بالصبر و السكوت، لأن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قد أمرني بالصبر إن لم أجد أعواناً، و لیس غصب فدك و العوالي بأعظم من غصب الخلافة و الاستیلاء علی منصة الحكم، و الجلوس علی مسند السلطة.

«و لا أخطأْت مقدوري» أي: ما تركت ما دخل تحت قدرتي و إمكانیتي، كأنه (علیه السلام) یعتذر عن سبب تقاعده عن نصرتها.

و المقدور- هنا- لیس المقدور العقلي بل المقدور الشرعي، و لنضرب لذلك مثلاً: المریض الذي یضره استعمال الماء للاغتسال و الوضوء قادر علی استعمال الماء عقلاً و عاجزاً شرعاً، و أمیرالمؤمنین (علیه السلام) كان یستطیع

ص: 431

أن ینهض و یحمل سیفه و یهاجم المغتصبین، و یقتل منهم أفراداً لا یتجاوزون العشرة و یستولی علی فدك و العوالي، و علی الحكم.

أما قتل علي (علیه السلام) یوم بدر حوالي خمسة و ثلاثین رجلاً من الشجعان؟ مع العلم أن رجال السلطة یومذاك لم یكونوا بأشجع من الذين حضروا یوم بدر لمحاربة رسول اللّه.

هذه القدرة العقلية المتوفرة للإمام (علیه السلام).

و أما القدرة الشرعیة: فإن علیاً إذا نهض لأجل القضاء علی اولئك الأفراد فمعنی ذلك وقوع الفتن و المصائب و الاضطرابات الداخلیة و اتساع نطاق الفتنة و خاصة و أن هناك أفراداً یتربصون بالإسلام و ینتهزون الفرصة للإطاحة بذلك الدین الذي كان غضاً جدیداً لم تستقر أركانه بعد، و لم یضرب بجرانه الأرض.

أضف إلی ذلك وصیة النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لعلي (علیه السلام) بالصبر و السكوت.

إذن: فالأفضل التضحیة بفدك و العوالي، و السكوت عن المغتصبین رعایة للإسلام و حفظاً للدین من الضیاع و الانهیار.

«فإن كنتِ تریدین البلغة» أي: إن كان هدفك من مطالبة الأراضي هو البُلغة و هي ما یتبلغ به من العیش بمقدار الكفاف لك و لأولادك.

«فرزقك مضمون» و الضامن هو اللّه الذي تكفّل رزق كل ذی روح.

«و كفيلك مأمون» و هو اللّه تعالی لا یخلف و عده فيما تكفّله و ضمنه.

«و ما أُعدَّ لكِ» من الأجر. و تهیأ لك من الثواب في الآخرة و العظمة یوم القیامة و الدرجات العالیة التي أحرزتیها في مقابل هذه المصائب

ص: 432

و الاضطهاد و المظلومیة.

«أفضل مما قطع عنكِ» من الأراضي، و أفضل مما منعوكِ من حقوقكِ.

«فاحتسبي اللّه» اصبري طلباً لرضاه.

«فقالت: حسبي اللّه. و أمسكتْ» امتثلت أمر إمامها، و أطاعت زوجها، و قالت: حسبي اللّه. أي: اللّه كافئي، و علیه أعتمد في أموري. و سكتت و رضیت «سلام اللّه علیها).

ص: 433

خطبة الزهراء في نساء المهاجرین و الأنصار

قال سوید بن غفلة:

لما مرضت فاطمة (علیها السلام) المرضة التي توفّیت فيها

اجتمع إلیها نساء المهاجرین و الأنصار یَعُدْنَها

فقلن لها: كیف أصبحتِ من علَّتك یا ابنة رسول اللّه؟

فحمدت اللّه، و صلّت علی أبیها، ثم قالت:

أصبحتُ- و اللّه- عائفةً لدنیا كنَّ (1) .

قالیةً لرجالكنِ (2) .

لفظتُهم بعد أن عجمتهمِ (3)

و شنئتهم بعد أن سَبَرتهمِ (4) .

فقبحاً لفلول الحدِ (5) .

و اللعب بعد الجدّ (6) .

و قرع الصفاة، و صدع القناةِ (7) .

ص: 434


1- عائقه: كارهه.
2- قلیه: مبغضه.
3- لفظتهم: رمیت بهم. عجمتم: مضغتهم.
4- شنئتهم: ابغضتهم. سبرتهم: عرفت عمقهم، أي تاملتهم.
5- فلول الحد: ثلمه حد السیف.
6- الجد- بكسر الجیم- ضد الهزل و اللعب.
7- قرع الصفاه: ضرب الصخره الملساء، و صدع القناه: استرخاء الرمح. و قیل الصدع: الشق.

و خطل الآراء، و زلل الأهواءِ (1) .

و بئس ما قدَّمت لهم أنفسهم.

أن سخط اللّه علیهم و في العذاب هم خالدونِ (2) .

لا جرَمَ لقد قلّدتهم ربقتهاِ (3) .

و حمّلتهم أوقتهاِ (4) .

و شننت علیهم عارهاِ (5) .

فجدعاً و عَقراً و سُحقاً للقوم الظالمینِ (6) .

و یحهم!

أنّی زحزحوها عن رواسي الرسالةِ (7) .

و قواعد النبوة و الدلالةِ (8) .

و مَهبط الروح الأمینِ (9) .

و الطبین بأُمور الدنیا و الدینِ (10)

ألا: ذلك هو الخسران المبین

ص: 435


1- خطل الاراء: فسادها. و زلل الاهواء:انحراف المیول و الرغبات.
2- المائده: 80.
3- قلدتهم: جعلت في اعناقهم، ربقتها:حبلها.
4- حملتهم اوقتها: حملتهم الثقل و المسئولیه.
5- شننت ارسلت. و العار: السبه و العیب.
6- الجدع- بفتح الجیم-: قطع العنف. و العقر- بفتح العین-: الجرح. و السحق: البعد و كلها في مقام الدعاء علیهم.
7- زحزهوها: نحوها. و الرواسي:الثوابت.
8- قواعد البیت: اسسه.
9- 498. مهبط الروح الامین: محل نزول جبرئیل.
10- الطبین: الحاذق الفطن العارف.

و ما الذي نقموا من أبي الحسنِ؟ (1) .

نقموا منه- و اللّه- نكیر سیفهِ (2) .

و قلَّة مبالاته بحتفهِ (3) .

و شدّة و طأته و نكال وقعتهِ (4) .

و تنمّره في ذات اللّه (عز و جلِ) (5) .

و اللّه لو تكافّوا عن زمام نَبَذَه رسول اللّه إلیه لاعتلقهِ (6) .

و لَسارَ بهم سیراً سُجُحاًِلا (7) .

یكلم خشاشُهِ (8) .

و لا یتعتع راكبهِ (9) .

و أوردهم منهلاً نمیراً، صافياً روّیاً، فضفاضاً تطفح ضفّتاه، و لا یترنق جانباهِ (10) .

و لأصدرهم بِطاناً (11) .

ص: 436


1- نقموا منه: عابو و كرهو.
2- نكیرسیفه: لا یعرف سیفه: لا یعرف و لا یفرق بین الشجاع و غیره.
3- الحتف: الهلاك.
4- و طاته: اخذته. و نكال و قعته: اصابه صدمته.
5- التنمر: الغضب، و المقصود من ذات اللّه أي لوجه اللّه.
6- تكافو: صرف بعضهم بعضا. و الزمام: مقود البعیر. او الخلیط الذي یشد في ثقب انف البعیر.
7- السیر السجح: السهل اللین.
8- لایكلم: لا یجرح. و الخشاش- بكسر الخاء- الخیط الذي یدخل في عظم انف البعیر.
9- یتبع راكبه: یقلق و یتحرك حركه عنیفه.
10- المنهل: محل ورود الماء العذب السائغ النامي للجسد، و الروي:الكثیر. و الفضفاض: الواسع. تطفح: تمتلی ء حتی تفيض. ضفتاه: جانباه. یترنق:یتكدر.
11- بطانا: عظام البطون من كثره الشرب.

و نصح لهم سرّاً و إعلاناً

و لم یكن یحلی من الغنی بطائلِ (1) .

و لا یحظی من الدنیا بنائلِ (2) .

غیر ريِّ الناهلِ (3) .

و شبعة الكافلِ (4) .

و لَبَانَ لهم الزاهد من الراغب

و الصادق من الكاذب

«و لو أنَّ أهل القری آمنوا و اتقوا لفتحنا علیهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا یكسبون»ِ (5) .

«و الذين ظلموا من هؤلاء سیصیبهم سیئات ما كسبوا و ما هم بمعجزین (6) .

إلا: هلمَّ و استمع

و ما عشتَ أراك الدهر عجباً!

و إن تعجب فعجبٌ قولهم!!

لیت شعري إلی أي سِناد استندوا؟ (7) .

و علی أي عماد اعتمدوا؟

ص: 437


1- یحلی: یصیب و یستفيد. و الطائل:كثیر الفائده.
2- یحظی: یظفر. و النائل: العطاء.
3- الناهل: العطشان.
4- الكافل هنا: المحتاج الی الطعام.
5- سوره الاعراف: 94.
6- سوره الزمر: 52.
7- لیت شعري: لیتنی علمت. و السناد- بكسرالسین-: ما استندت الیه من حائطا او غیره.

و بأیَّة عروة تمسَّكوا؟

و علی أیَّة ذریَّة أقدموا و احتنكوا؟ (1) .

لبئس المولی و لبئس العشیر

و بئس للظالمین بَدَلاً

استبدلوا- و اللّه- الذُّنابا بالقوادمِ (2) .

و العَجُز بالكاهلِ (3) .

فرغماً لمعاطس قوم یحسبون أنهم یحسنون صُنعاً (4) .

ألا: إنهم هم المفسدون و لكن لا یشعرون».

ویحهم!!

«أفمن یهدي إلی الحق أحقُّ أن یُتَّبَع أم من لا یَهدي إلاّ أن یُهدی فما لكم كیف تحكمون»؟ (5) .

أما: لعمري! لقد لقحتْ (6) .

فَنَظِرة ریثما تُنتجِ (7) .

ثم احتبلوا مل ء القعب دماً عبیطاً (8) .

و ذعافاً مبیداً (9) .

ص: 438


1- احتنكو: استولو.
2- الذناب: ذنب الطائر. القوادم: ریشات في مقدم الجناح.
3- العجز- بفتح العین و ضم الجیم- الموخر من كل شيء، و الكاهل: ما بین الكتفين.
4- رغما: كنایه عن الذل.و المعاطس: جمع معاطس (مكان العطسه) و هو الانف.
5- سوره یونس: 35.
6- لقحت: حملت.
7- فمهله. ریثما: مقدار ما. و تنتج: تلد.
8- القعب: اناء ضخم. و الدم العبیط:الطري.
9- الذعاف: السم السریع الفناء. و المبید: المهلك.

هنالك یخسر المبطلون

و یعرف التالون غبّ ما أسَّسه الأولونِ (1) .

ثم طیبوا عن دنیاكم أنفساً(2) .

و اطمئنوا للفتنة جاشاِ (3) .

و أبشروا بسیف صارم

و سطوةِ معتد غاشمِ (4) .

و هرج شاملِ (5) .

و استبداد من الظالمینِ (6)

یَدَع فيئكم زهیداً (7) .

و جمعكم حصیداً (8) .

فيا حسرةً لكمِ (9) .

و أنّی بكم؟ (10) .

و قد عمیت علیكمِ (11) .

ص: 439


1- التالون: التابعون. و الغب:العاقبه.
2- طابت نفسه عن كذا: رضیت به من غیر كراهه.
3- الجاش: القلب.
4- المعتدی: الجائر. و الغاشم: الظالم.
5- الهرج: الفوضي، و القتل، و اختلاط الامور.
6- الاستبداد: التفرد بالشيء من غیرمنازع.
7- الفي ء: الخراج و الغنیمه. و زهیدا: قلیلا.
8- جمعكم: زرعكم.
9- الحسره: التهلف علی الشيء الفائت.
10- كیف یصنع بكم.
11- عمیت: التبست.

أنُلزِمكموها و أنتم لها كارهون؟؟

قال سوید بن غفلة: فأعادت النساء قولها علی رجالهن

فجاء إلیها قوم من وجوه المهاجرین و الأنصار معتذرین، و قالوا:

یا سیدة النساء.

لو كان أبوالحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهدِ (1) .

و نُحْكِم العقد لما عَدَلنا إلی غیره!!!

فقالت:

إلیكم عني!

فلا عذر بعد تعذیركم (2) .

ص: 440


1- نبرم العهد: نبایع لأبي بكر.
2- التعذیر هو التفصیر ثم الاعتذار. و التفصیر:التواني عن الشي ء.

عیادة النساء لفاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)

لا نعلم- بالضبط- السبب الحقیقي و الدافع الأصلي الذي دعا بنساء المهاجرین و الأنصار لعیادة السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، فهل كان هذا بإیعاز من رجالهن فما الذي دعا أولئك الرجال لإرسال نسائهن إلی دار السیدة فاطمة؟

أو هل حصل الوعي عند النساء و شعرن بالتقصیر بل الخذلان لبنت رسول اللّه، فانتشر هذا الشعور بین النساء فأنتج ذلك حضور هن للعیادة للمجاملة أو إرضاء لضمائر هن المتألمة لما حدث و جری علی سیدة النساء؟؟

أو كانت هناك أسباب سیاسیة فرضت علیهن ذلك فحضرن لتلطیف الجو و تخفيف توتر العلاقات بین السیدة فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و بین السلطة الحاكمة في ذلك الیوم؟

خاصة و أن الموقف الاعتزالي الذي اختارته السیدة فاطمة لنفسها، و انسحابها عن ذلك المجتمع لم یكن خالیاً عن التأثیر، بل كان جالباً لانتباه الناس، و بالأخص حین خرج الإمام أمیرالمؤمنین السیدة فاطمة یطوف بها علی بیوت المهاجرین و الأنصار تستنجد بهم و تستنهضهم فلم تجد منهم الإسعاف بل وجدت منهم التخاذل، و قد مرّت علیك نتیجة الحوار الذي جری بین السیدة فاطمة الزهراء و بین معاذ بن جبل، و عرفت موقف ابنه من ذلك الرد السئ.

و علی كل تقدیر فلا یعلم- أیضاً- عدد النساء اللاتي حضرن عند السیدة فاطمة الزهراء و هي طریحة الفراش، و لكن المستفاد أن العدد لم یكن قلیلاً

ص: 441

بل كان العدد كثیراً یعبأ به.

فانتهزت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) الفرصة، و استغلّت اجتماع النساء عندها لأن تضع النقاط علی الحروف، و تكتب في سجل التاریخ الأعمال البشعة التي قام بها بعض المسلمین تجاه عترة نبیهم و ذریته الطاهرة.

و النساء یشكلّن نصف المجتمع أو أكثر من النصف، و كل امرأة مرتبطة برجلٍ من زوج أو أب أو أخ أو ابن، فهي بإمكانها أن تقوم بدورٍ فعّال في المجتمع و خاصة في حقل الدعایة و الإعلام و النشر.

فلماذا تسكت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) في هذا الاجتماع و لماذا لا تذكر استیاءها من أولئك المتطرفين؟

«قلن لها: كیف أصبحتِ من علتّكِ یا ابنة رسول اللّه؟».

هكذا جرت العادة و الآداب أن العائد یسأل المریض عن صحته و عّلته، فيجیبه المریض عما یشعر به من المرض و الألم.

و لكن السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) لم تجبهن عن مرضها و تدهور صحتها،بل أجابتهن عن آلامها النفسیة، و مصائبها الشخصیة فالتحدث عن هذه الأمور أولی و أوجب من التحدث عن أحوالها الصحیة لأن لتلك المصائب هي التي جرَّت العلّة و المرض إلی السیدة فاطمة و سلبتها العافية و الصحة، فالتحدث عن السبب أولی من التحدث عن المسبب و الإخبار عن العلة أفضل من الإخبار عن المعلول.

و هنا أجابت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) علی أسئلة النسوة كما تقتضي الحال.

و لا تتعجب إن كانت السیدة فاطمة ما نسیت أصول الفصاحة و البلاغة و الأدب الرفيع و المستوی الأعلی بسبب انحراف صحتها بل قالت:

ص: 442

فاطمة الزهراء تضع النقاط علی الحروف

اشاره

«أصبحتُ- و اللّه- عائفة لدنیا كن» نعم، إنها تبدي تنفرّها عن حیاة الدنیا و كراهتها لذلك المجتمع الذي لا یؤمن بالقیم.

«قالیة لرجالكن» و یحقّ لها أن تبدي اشمئزازها و غضبها علی رجال المدینة، الذين كان موقفهم تجاه السیدة فاطمة الزهراء موقفاً سلبیا للغایه، فلقد مرَّ علیك أنهم أبدوا انزعاجهم من بكاء السیدة فاطمة الزهراء علی فقد أبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و لم یتجاوبوا معها. في إسعافها و الوقوف معها.

«لفظتهم بعد أن عجمتهم» أي رمیتهم من فمي بعد أن عضضتهم، كما یرمي أحدنا اللقمة من فمه و یشمئز منها.

«و شنئتهم بعد أن سبرتهم» أي أبغضتهم و مللتهم بعد أن اختبرتهم، و كرهتهم بقلبي بسبب سوء تصرفاتهم.

«فقبحاً لفلول الحد» شبّهت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) رجال أهل المدینة بالسیف الذي انثلم حدّه فلا یقطع، إشارة إلی قعودهم عن نصرتها، و خذلانهم إیاها، فكأنها (علیها السلام) تستقبح فيهم سكوتهم عما جری علی بنت نبیهم من الظلم و الاضطهاد.

«و اللعب بعد الجد» و المقصود: عدم المبالاة بالحق بعد اهتمامهم بذلك، فإنهم كانوا جادّین في نصرة الإسلام، و لكن الآن صاروا و كأنهم یلعبون ألعاباً سیاسیة.

ص: 443

«و قرع الصفاة» و المراد: التذلل و الانقیاد لكل مَن قادهم:

«و صدع القناة» و في نسخة: «خور القناة» إشارة إلی استرخاء الرمح بسبب انشقاقه، و ینبغي أن یكون الرمح صلباً حتی یمكن الطعن به. و إذا كان الرمح رخواً لا یمكن أن یُطعن به.

«و خطل الآراء» و في نسخة: «أفون الرأی» و في نسخة أخری: «خطل القول» و علی كل تقدیر فهو إشارة إلی انحراف آرائهم و فسادها، و شذوذ مواقفهم السلبیة، و الإیجابیة.

أما مواقفهم السلبیة فهي تجاه أهل بیت نبیهم (علیهم السلام) و عدولهم عن أهل البیت إلی غیرهم، و أما الإیجابیة فاعترافهم بالسلطة المناوئة لآل الرسول.

«و زلل الأهواء» ما أقبح تلك الرغبات المنحرفة التي لعبت بمقدرات المسلمین علی مرّ التاریخ و علی مرّ القرون، و تلك العثرات المنبعثة عن اتباع الأهواء الضالة المضلة، و من مشتهیات الأنفس.

«و بئْسَ ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط اللّه علیهم و في العذاب هم خالدون» هذه الآیة من سورة المائدة آیة (80) و قبلها: «لُعن الذين كفروا من بنی إسرائیل علی لسان داود و عیسی ابن مریم ذلك بما عصوا و كانوا یعتدون، كانوا لا یتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا یفعلون، تری كثیراً منهم یتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط اللّه علیهم و في العذاب هم خالدون».

إنها (علیها السلام) أدمجت هذه الآیة في حدیثها للمناسبة بین الموردین، و یظهر وجه المناسبة بالمقارنة بین الآیات و بین موقف أولئك المتخاذلین.

«لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها» أنها (علیها السلام) تلقي المسؤولیة-

ص: 444

مسؤولیة الأجیال كلها- علی أعناق أولئك الأفراد، إذ أنها لما حضرت في المسجد و خطبت، و أتمت الحجة علی الحاضرین و استنجدت بالمهاجرین و الأنصار فثبت التكلیف الشرعي في حقهم، و حیث أنهم لم ینصروها فهم مسؤولون عن مضاعفات ذلك الخذلان أمام اللّه و أمام التاریخ.

«و حمَّلتهم أوقتها» أي حمّلتهم ثقل المسؤولیة و شومها.

«و شننت علیهم عارها» شننت الماء علی التراب: أرسلته و صببته بصورة متفرقة، و في نسخة: «سننت» أي صببت بصورة متصلة غیر متفرقة، و علی كل تقدیر فالمعنی:أن علیهم سبّة التاریخ و عار الأبد بسبب ذلك الجفاء الذي أبدوه تجاه أهل البیت.

«فجدعاً و عقراً و سحقاً للقوم الظالمین» و في نسخة أخری: «فجدعاً و عقراً و بُعداً» هذه كلمات دعاء علیهم بسبب ظلمهم لآل الرسول، و الظلم: وضع الشيء في غیر ما وضُع له، و الظلم علی درجات و مراتب، فهناك الظلم بالنملة، و هناك الظلم بالأمة الإسلامية عبر التاریخ، و الظلم بأولیاء اللّه الذين یرضي اللّه لرضاهم، و یغضب لغضبهم.

و یستحق الظالمون أن یدعی علیهم بالجدع و العقر و البُعد، فيقال: جدعهم اللّه جدعاً و عقرهم اللّه عقراً، و معناهما: قطع اللّه أیدیهم و آذانهم و شفاهم و جرح اللّه أبدانهم.

«ویحهم» ویح: كلمة تستعمل في مقام التعجب، و قد یكون معناها الویل.

«أنَّی زحزحوها عن رواسي الرسالة؟» و في نسخة: «زعزعوها» تتعجب (علیها السلام) من سوء اختیارهم، أي كیف نحوّا خلافة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) عن مواضعها الثابتة التي هي بمنزلة الجبال

ص: 445

لحركة الأرض و سیرها بصورة منظمة و حفظها من الاضطراب؟!

«و قواعد النبوة» القواعد: جمع قاعدة و هي- هنا- الأساس للبناء، فكما أن البناء إذا بني علی غیر أساس ینهدم فكذلك الخلافة إذا وُضعت في غیر موضعها اللائق بها تنهار معنویاً، و یختل نظامها، و تضطرب أركانها.

«و مهبط الروح الأمین» كان جبرئیل یهبط في بیت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و بیوت أهل بیته، و بیت فاطمة مهبط الروح الأمین.

«و الطبین بأمر الدنیا و الدین» الفطن الحاذق بأمور الدنیا المتعلقة بالحیاة، و كذلك القضایا المتعلقة بالدین في جمیع المجالات و شتی الأحكام، و تقصد بذلك أهل بیت الرسول (علیهم السلام) و تخص زوجها الحكیم العظیم الإِمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام).

«ألا: ذلك هو الخسران المبین» أي و اللّه، خسران واضح خسرته الأمة الإسلامية في جمیع مجالات حیاتها من الحیاة الفردیة و الزوجية و العائلیة و الاجتماعیة و الاقتصادية و الصحیة و السیاسیة و العمرانیة و الدینية و الدنیویة و الأخرویة.

كل ذلك حین سلبت الأمةُ السلطةَ و القدرةَ من أهل بیت الرسول، و تصرّف في القیادة الإسلامية أفراد كانوا هم و الإِسلام علی طرفي نقیض، إذ كان الإِسلام شیئاً، و هم كانو شیئا آخر.

فكانت إراقة الدماء البریئة أسهل و أهون عندهم من إراقة الماء.

و التلاعب بالأحكام الإِلهیّة و القوانین الإسلامية كالتلاعب بالكرة و غیرها من الألاعیب.

إن المآسي التي شملت الأمة الإسلامية (عبر التاریخ) مما تقشعرّ منها

ص: 446

الجلود، و تضطرب منها القلوب، كل ذلك من جرّاء القیادة غیر الرشیدة التي تسلّمها أفراد من هذه الأمة.

و لیس في هذا الكتاب مجال لاستعراض تلك المجازر الجماعیة، و المذابح المؤلمة التي قام بها بعض حكام المسلمین علی مر التاریخ الإسلامي.

فقد ستروا الكرة الأرضیة بقشرة من المقابر التي ضمّت الآلاف المؤلفة من النفوس البریئة التي كانت ضحایا لأَهواءِ أفراد، و فداءً لكراسیهم و مناصبهم و ملذاتهم و أما الكبت و الاضطهاد و الحرمان و الجوع و البؤس الذي ساد العباد و البلاد فحدّث و لا حرج.

نعم، هذا هو الخسران المبین، و لا یزال الحبل ممدوداً حتی الیوم و بعد الیوم.

«و ما الذي نقموا من أبی الحسن؟» أي: أي شيء عابوه من الإمام أمیرالمؤمنین علي بن أبي طالب حتی نحوّه عن السلطة، و قدّموا غیره علیه؟

نقصاً في العلم؟

أو جهلاً في الفتیا؟

أو سوءاً في الخلق؟

أو عاراً في الحسب؟

أو ضعفاً في الدین؟

أو عدم كفاءة في الأمور؟

أو جبناً في النفس؟

أو خِسّةً في النسب؟

أو قلّة في الشرف؟

أو بخلاً بالمال؟

أو أي عیب في مؤهلاته و كفاءاته؟

ص: 447

كل ذلك لم یكن، بل كان علي (علیه السلام) أعلم هذه الأمة جمعاء، و هو باب مدینة علم الرسول و أقضاهم في الفتوی.

و أشبه الناس خلقاً بالرسول الذي كان علی خلق عظیم.

و ابن شیخ الأَباطح: أبي طالب، مؤمن قریش

و أعبد الناس في هذه الأمة

و أشجعهم نفساً، و أقواهم قلباً، و أكثرهم جهاداً

و كتلة من الفضائل

و في أوج الشرف و العظمة

و أسخاهم كفاً، و أبذلهم للمال

إذن: فما هو السبب في صرف الخلافة عنه إلی غیره؟

إن السیدة فاطمة (علیها السلام) تجیب علی هذا السؤال، و تقول:

«نقموا منه- و اللّه- نكیر سیفه» أي عابوا شدّة سیفه، و المقصود أن علیاً كان قد قتل في الحروب و الغزوات رجالات هؤلاء و أسلافهم، و حطّم شخصیاتهم، فكانوا یكرهونه بسبب سیفه الخاطف للأرواح.

«و قلة مبالاته بحتفه» أي عدم اهتمامه و اكتراثه بالموت، فالمجاهد الذي ینزل إلی جبهة القتال ینبغي أن یكون قلیل المبالات بالموت، فكما أنه یَقتل كذلك بُقتل، و كان علي (علیه السلام) یقول: و اللّه لا یبالي ابن أبي طالب أوقَع علی الموت أو وقع الموت علیه.

«و شدِّة و طأتهُ و نكال وقعته» یقال: فلان شدید الوطأة أي شدید الأخذ و شدید القبض، و المقصود قوة العضلات و معرفة القتال.

و نكال الوقعة أي كان یصنع صنیعاً یحذَّر غیره و یجعله عبرة له، فكانت ضربته و صدمته للأعداء نكالاً أي یورث الحذر و العبرة للآخرین.

«و تنمّره في ذات اللّه (عز و جل)» النمر شدید الغضب، إذا غضب

ص: 448

لنفسه لم یبال: قلّ الناس أم كثروا، و لا یردّه شيء، و لا یحول دون هدفه حائل و لا یمنعه مانع، و الرجل الشجاع - الذي یجاهد بلا مبالاة و لا خوف، بل بكل غضب و شجاعة - یقال في حقه: تنمّر، أي صار شبیهاً بالنمر في الاقتحام.

لقد تخلص من كلامها (علیها السلام) أن سبب انحراف الناس عن علي (علیه السلام) كان لأغراض شخصیة، و أمراض نفسیة متأصلة في قلوبهم.

فلقد قتل علي (علیه السلام) یوم بدر و أُحد و حنین و الخندق و غیرها عدداً كبیراً لا یستهان به من أقطاب الشرك، و رجالات الكفر، و شخصیات الجاهلیة، أمثال: عتبة و شیبة و الولید و عمرو بن عبدودّ و عقبة بن الولید و غیرهم، و أكثر قبائل العرب كانت موتورة بسیف علي (علیه السلام).

و حتی، و بعد أن أسلمت تلك القبائل كانت رواسب الحقد و العداء كامنة في نفوسهم.

و النجاح الكبیر الذي أحرزه علي (علیه السلام) في جمیع المجالات من الطبیعي أن یهیّج الحسد في القلوب، و التقدم الباهر الذي كان من نصیب علي (علیه السلام) في شتی المیادین كان في قمّة فضائله.

فالآیات القرآنیة التي نزلت في حقه

و الأحادیث النبوية التي شملته دون غیره

و الموفّقیة التي حازها علي (علیه السلام) وحده

و خصائصه التي امتاز بها عن غیره من العالمین

كان لها أسوأ الأثر، في النفوس المریضة

و كانت تلك الرواسب و الآثار كامنة في الصدور، كأنها نار تحت رماد حتی تو في رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و خلا الجو،

ص: 449

و ارتفع المانع فعند ذلك زال الرماد، و ظهرت النار، و جعلت تلتهب و تشتعل. باللّه علیك انظر:

لقد مرّ علیك أن جماعة من الصحابة خطبوا السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) من أبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فرفضهم النبي، و حینما خطبها علی من الرسول و إذا به جد الترحیب و التجاوب علی أحسن ما یمكن.

ألیس هذا مما یهیج الحسد في النفوس؟

و یأمر الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أبابكر أن یذهب إلی مكة بسورة البراءة لیقرأها علی أهل مكة، و یخرج أبوبكر بالسورة متوجهاً نحو مكة، فينزل جبرئیل علی الرسول قائلاً: إن ربك یأمرك أن تبلّغ هذه السورة بنفسك، أو یُبلّغها رجل منك. فيأمر النبي علیاً أن یتوجه نحو مكة، و یتولی قراءة السورة علی أهل مكة، و یأمر أبابكر بالرجوع.

ألیس هذا الأمر یهیج الحسد في القلوب؟

و هكذا و هلم جرّاً، سِر مع علي (علیه السلام) عبر تاریخ حیاته، تجده المقدَّم علی غیره في كافة المجالات.

و یمطره جبرئیل بآیات من الذكر الحكیم تقدیراً لبطولاته، و تنویهاً لإنجازاته،و تقبّلاً لصدقاته، و مدحاً لخدماته.

و المسلمون یقرأون تلك الآیات آناء اللیل و أطراف النهار راضین أو مرغمین.

و من العجیب: أن علیاً كان یخوض غمار الحروب بأمر الرسول، و لأجل التحفظ علی حیاة الرسول، الرسول الذي كان الإسلام متمثلاً و متجسدّاً فيه و قائماً به، فكیف كان الناس یكرهون علیاً و هو الجندي و لا یكرهون الرسول و هو القائد للجیش؟!

ص: 450

في البحار عن أبي زید النحوي قال: سألت الخلیل بن أحمد العروضي فقلت: لِمَ هجر الناس علیاً (علیه السلام) و قُرباه من رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قرباه، و موضعه من المسلمین موضعه، و عناؤه في الإسلام عناؤه؟؟

فقال: بَهَر- و اللّه- نورُه أنوارهم، و غلبهم علی صفو كل منهل، و الناس إلی أشكالهم أمیَل، أما سمعت الأول یقول:

و كل شكلٍ لشكله ألفُ***أما تری الفيل یألف الفيلا

و أنشدنا الریاشي عن العباس بن الأحنف:

و قائل كیف تهاجرتما؟***فقلت قولاً فيه إنصاف:

لم یك من شكلي فهاجرته***و الناس أشكال و أُلاّف

و قال ابن عمر لعلي (علیه السلام): كیف تحبك قریش و قد قتلت في یوم بدر و أُحد من ساداتهم سبعین سیداً، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم؟

فقال أمیرالمؤمنین (علیه السلام):

ما تركت بدر لنت مذیقاً***و لا لنا من خلقنا طریقاً

و من الواضح أن الأمور لیست عیوباً و نقائص حتی یكره الناس علیاً بسببها.

و معنی كلام الزهراء (علیها السلام): «نقموا منه و اللّه نكیر سیفه» من باب قول الشاعر:

و لا عیب فيهم غیر أنَّ سیوفهم***بهنَّ فلول من قراع الكتائب

و المقصود: أنهم عابوا علیاً علی فضائله و مناقبه، و علی انجازاته و خدماته و علی شجاعته و تضحیاته، و جهاده و بطولاته، و لیست هذه عیوباً حتی یُعاب الإمام علي علیها.

هذا و من المؤسف أن الموضوع یناسب الشرح و التفصیل أكثر من

ص: 451

هذا ولكن رعایة لأسلوب الكتاب نرجئ البحث إلی فرصة أخری أو كتاب آخر.

«و اللّه لو تكافوّا عن ذمام نبذه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) إلیه لا عتلقه».

شبهت السیدة فاطمة (علیها السلام) المجتمع الإسلامي أو الأمة الإسلامية بالقافلة، و شبّهت الخلافة و القیادة الإسلامية بالزمام و هو المقود، أي الحبل الذي یقاد به البعیر، و شبّهت علیاً (علیه السلام) بالدلیل الذي یتقدم القافلة، و یأخذ بزمام البعیر لیقود المسیرة.

و لم تنس السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) أن تقول: «نبذه رسول اللّه إلیه» أي إن القیادة الإسلامية إنما صارت لعلي (علیه السلام) بأمر رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حین قام في الناس رافعاً صوته: «من كنت مولاه فعلي مولاه». و بعد هذا تقسم باللّه قائلة: «و اللّه» فالمسألة مهمة و عظیمة جدّاً جدّاً و تستحق أن یقسم الإِنسان باللّه لأجلها.

«لو تكافّوا» أي كفّوا أیدیهم، أي منع بعضهم بعضاً، بحیث لو أراد أحدهم تناوله منعه الآخرون «لا عتلقه» أي اعتلق علي (علیه السلام) الزمام، أي قام بالواجب كما ینبغي و قاد المسیرة علی أحسن ما یتصور، و أفضل ما یرام.

ثم و صفت (علیها السلام) نتائج تلك القیادة الرشیدة لو كان یفسح لها المجال، و ذكرت الفوائد و المنافع و الخیرات و البركات التي كانت تعمّ الأمة الإسلامية علی مرّ القرون و الأجیال فقالت:

«ثم لسارَ بِهم سیراً سجحاً» أي سار القائد بالمسیرة سیراً لیناً سهلاً، بكل هدوء و طمأنینة، فإن البعیر إذا سار بالراكب سیراً عنیفاً فلا بدَّ و أن

ص: 452

الراكب یتأذی من الحركة العنیفة، و تتحطم أعصابه لما في ذلك من الإزعاج و القلق.

ثم البعیر نفسه یتألم حینما یجاذبه الراكب الحبل الذي قد دخل في ثقب أنفه و ربما یجرح أنفه أیضاً، فيتأذی الراكب و المركوب، و لكن السیدة فاطمة تقول:

«لا یكلم خشاشه، و لا یتعتع راكبه» و في نسخة: «و لا یكل سائره و لا یمل راكبه» أي الحبل أو الخشب الذي جعل في أنف البعیر و یقال له «الخشاش» لا یجرح أنف البعیر، و لا ینزعج راكب البعیر، و المقصود: سلامة الراكب عن كل مشقة حال السیر.

«و لأوردهم منهلاً نمیراً فضفاضاً» و في نسخة: «منهلاً رویاً» إن الدلیل الذي یتقدم القافلة لا بد و أن ینزل بهم منزلاً حسناً، و مكاناً لائقاً للراحة، علی شاطئ نهرٍ أو عین ماء، لیأخذوا حاجتهم من الماء، و یسقوا دوابهم و غیر ذلك.

تقول السیدة فاطمة (علیها السلام): كان علي (علیه السلام) یقود المسیرة إلی منهل نمیر و المنهل: المورد أي محل ورود الإِبل. و النمیر: العذب، النابع من عین لا ینقطع ماؤها. و الفضفاض: الواسع.

«تطفح ضفتاه، و لا یترنق جانباه» النهر إذا كان ممتلئ یفيض جانباه و إذا كان عذباً لا یتكدر جانباه بالطین كما هو المشاهد من تكدر الماء بالطین علی جوانب النهر، بل و حتی البحر.

فالكثرة والسعة في المجري و العذوبة و النظافة و عدم التلوث بالطین و غیره من صفات ذلك الماء.

و كلها إشارات و كنایات إلی الحیاة السعیدة التي كان الناس یعیشونها لو كان الأمر بید الإِمام أمیرالمؤمنین، فالخیرات كانت تشمل أهل الأرض،

ص: 453

و العدل یسود المجتمع، و السلامة كانت تعمّ الجمیع، و الرفاهیة و الاستقرار و الطمأنینة و الأمان و الحریة- بمعناها المعقول- و السعادة في الدنیا، و النعیم في الآخرة كان من نصیب الجمیع.

«و لأ صدرهم بطاناً» و كانت نتیجة ذلك الورود هو الصدور من المنهل، و الخروج من ذلك المورد بالبشع و الارتواء، فلا جوع و لا حرمان، و لا فقر و لا مسكنة.

«و نصح لهم سراً و إعلاناً» النصح: حُب الخیر، و عدم الغش، و المعنی: أن علیاً كان یسعی في إسعادهم و جلب الخیر لهم بصورة سریة و علنیة، أي ما كان یطلب من وراء تلك القیادة إلاَّ الخیر للناس لا لنفسه.

«و لم یكن یحلَّی من الغنی بطائل، و لا یحظی من الدنیا بنائل، غیر ريّ الناهل و شبعة الكافل» و هنا تذكر السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) موقف زوجها من تلك القیادة و الزعامة العامة.

قبل كل شيء: ینبغي أن لا ننسی أن في العالم أفراداً یحبون القیادة و الرئاسة لأنفسهم، أي یحبون لیحكموا علی الناس، و یتصرفوا كما یشاءون و كما یریدون، و یحبون الرئاسة لأنها وسیلة تحقیق أهدافهم و أُمنیاتهم الشخصیة فهم یتنعمون من وراء تلك الرئاسة بشتی أنواع النعم، و یختارون لأنفسهم أفضل حیاة.

و هناك أفراد «و قلیل ما هم» یحبون الرئاسة و القیادة لیخدموا الناس، و یصلحوا المجتمع، و یجلبوا الخیر و السعادة للشعوب، لیعیش الناس آمنین مطمئنین، و لتكون لهم حیاة مشفوعة بالراحة و الخیر و النعیم.

إن هذه الطائفة من أولیاء اللّه لا یشعرون بالنقص في أنفسهم كي یكملوا أو یستروا ذلك النقص بالفخفخة و الجبروت بل إنهم یشعرون بالكمال في أنفسهم، فهم في غنی عن الناس، و الناس بحاجة إلیهم، إن

ص: 454

هؤلاء لو حكموا لنفعوا الناس و أصلحوهم، و أمنّوا حیاتهم من جمیع نواحیها.

و في الوقت نفسه لا یستفيدون و لا ینتفعون من حطام الدنیا، و لا تطیب نفوسهم أن یتنعموا بأموال الفقراء، و یبنوا قصورهم علی عظام الضعفاء، إنهم یحملون نفوساً أبیّة و أنوفاً حمیّة، و أرواحاً طیبة تستنكف التنازل إلی هذا المستوی السافل.

بعد هذا یتضح لنا كلام السیدة فاطمة (علیها السلام) حول موقف زوجها تجاه القیادة لو كان یفسح له المجال، و لا یغلق علیه الطریق.

تقول: «و لم لم یكن یحلی من الغنی بطائل» أي لو كان علي (علیه السلام) یتسلم زمام الحكم ما كان یستفيد من اموال الناس لنفسه فائدة كثیرة، و ما كان یصیب من بیوت الاموال و كنوز الثروة لنفسه خیراً.

«و لا یحظی من الدنیا بنائل» ما كان ینال من ثروات الدنیا بالعطاء سوی مقدار إرواء نفسه من العطش، و إشباع عائلته من الجوع.

احفظ هذه الجملة و انظر إلی حیاة الحكام و السلاطین في العالم، تجدهم یسكنون أفخم المساكن، و یلبسون أفخر الملابس، و یأكلون ألذَّ المآكل، و یركبون أحسن المراكب و یؤثثون بیوتهم بأغلی الأثاث، و یعیشون أفضل المعیشة.

و لا تسأل عن الذخائر التي یدّخرونها لیوم ما!؟؟

كل ذلك من بیت المال، و كل ذلك من أموال الدولة و أموال الشعب!!

نعم، إن السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) هكذا تعرّف زوجها، و التاریخ الصحیح یصدّق كلامها و الواقع یؤید ادعائها.

فلقد حكم الإِمام أمیرالمؤمنین علي بن أبي طالب (علیه السلام) أربع

ص: 455

سنوات و شهوراً، فكانت حیاته هكذا مائة بالمائة.

فلقد كتب (علیه السلام) إلی عثمان بن حنیف كتاباً یقول فيه: «ألا: و إن إمامكم قد اكتفي من دنیا بطمریة، و من طعمه بِقُرصیة... فو اللّه ما كنزت من دنیاكم تبراً، و لا ادّخرت من غنائمها و فراً، و لا أعددت لبالي ثوبي طمراً، و لا حزت من أرضكم شبراً بلی، كانت في أیدینا فدك من كل ما أظلّتها الخضراء، فشحّت علیها نفوس قوم و سختْ عنها نفوس قوم آخرین... الی آخر كلامه (علیه السلام).

و هنا سوال لابد من الاجابه علیه و هو: اذ كان الامام علي (علیه السلام) بهذه الا و صاف التي ذكرتها الزهراء (علیها السلام) و وصفته بها.. فٌلماذا- حینما حكم علی الناس، و تسلّم القیادة و جلس علی منصة الخلافة- حدثت الاضطرابات الداخلیة، و الحروب الأهلیة الدامیة، و المشاكل و المصائب و المذابح التي شملت الأمة الإسلامية في عهده؟؟

نجیب علی هذا بما یلي:

لا شك أن المجتمع الإسلامي في عهد الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كان مجتمعاً صالحاً من جمیع النواحي، و لكن الذين حكموا المجتمع بعد وفاة الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) خلال ربع قرن قد غیّروا و بدّلوا و تصرّفوا تصرفات غیر مرضیة.

و لو ألقیت نظرة إمعان علی تاریخ الحكام الذين تسلّموا السلطة بعد الرسول مباشرة خلال خمسة و عشرین عاماً لرأیت كمیة وافرة من الأوامر و الفتاوی و الأحكام المضادّة للشریعة الإسلامية من الكتاب و السنة، من تغییر الوضوء و الأذان و كیفية الصلاة و عدد ركعاتها إلی الحج إلی الجهاد إلی النكاح و إلی الطلاق و هكذا و هلَّم جرَّا.

و لو أردنا أن نذكر الشواهد و الأمثلة لهذه المواضیع لطال بنا الكلام،

ص: 456

و لكننا نكتفي- هنا- بمثال واحد كنموذج، و لك ان تقبس من هذا المثال بقیه الامثله:

مجزره خالد بن الولید

خرج خالد بن والولید بجیشه الی قبیله من قبائل المسلمین تسمی: بنیي یربوع. و كان في تلك القبیله رجل من المسلمین اسمه: مالك بن نویره، قد اسلم علی ید النبي و شهد له رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بالجنة و شهد عمر بن الخطاب بإسلامه فقتله خالد بن الولید بغیر ذنب، سوی ذنب واحد، و هو أن زوجته كانت من أجمل نساء قومها و قد رآها خالد بن الولید و طمع فيها، و لم یجد طریقة للاستیلاء علیها سوی قتل زوجها البریی ء فقتله خالد، و في نفس اللیلة زنی بزوجته.

و حینما رجع خالد إلی المدینة لم یجد أي عقاب أو عتاب من رئیس الدولة یومذاك.

هذا هو المتفق علیه بین المؤرخین بلا استثناء، مع العلم أن الإِسلام لم یسمح بنكاح المعتدة ما دامت في العدة، و الرجل لم یتزوج بها.

هذه المأساة التي تجدها في أكثر التواریخ، تری كم تشتمل هذه الفاجعة من إهدار الدماء البریئة و هتك الأعراض، و ارتكاب الجرائم، و التلاعب بكرامات الناس و مقدراتهم؟

و كم تتبدل نظرة الناس إلی الدین و إلی الدولة الإسلامية؟

و قد مرَّ علیك موقف هؤلاء تجاه بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الوحیدة العزیزة و اتجاه زوجها العظیم، و ولدیها الحسن و الحسین (علیهم السلام)؟

ص: 457

القیاده الإسلاميه المفككه

إن الإسلام و القیادة الإسلامية و صلت إلی ید علي (علیه السلام) و هي مفككة العری، محطمة الجوانب، مشوهة السمعة.

و أراد الإِمام علي (علیه السلام) أن یصلح تلك المفاسد، و أن یعید الإِسلام إلی طریقه السوی و یلبسه حلّة القداسة و الجمال، و إذا به یجد أصحاب المطامع یقومون ضدّه، و یشهرون سیوفهم في وجهه، فتكوّنت الحروب الداخلیة و قامت المجازر علی قدم و ساق.

و اعلم ان الذين اقاموا الحروب الداخلیه و وضعو نواتها الاساسیه هم اربعه فقط: طلحه و الزبیر و عائشه و معاویه.

و كان زبیر و طلحه یهدفان الوصول الی الحكم من خلال اثاره الاضطراب في حكومه خلیفه رسول اللّه، و قد اتخذا عائشه ذریعه لذلك.

اما معاویه فكان یهدف المحافظه علی كرسیه في الشام، كما صرخ هو بذالك فيما بعد.

و قد ذكرنا الشيء الیسیر من تلك المآسي في الجزء الأول و الثاني و الثالث من شرح نهج البلاغة.

و أنت إذا راجعت و قارنت فسوف تنكشف لك أمور، و تتضح لك أسرار.

نحن لا زلنا في شرح الخطبة:

«و لبان لهم الزاهد من الراغب» إن السیدة فاطمة (علیها السلام) لا تزال توالي حدیثها عن زوجها الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) وإنه لو كان یستلم القیادة كان یقنع من الدنیا بالشيء الیسیر الیسیر، و ذلك بمقدار

ص: 458

إرواء عطشه و إشباع عائلته، و عند ذلك كان یظهر للناس الزاهد الحقیقي الذي لا یطمع في أموال الناس، یظهر الراغب الطامع الذي كان یخضم مال اللّه خضم الإِبل نبتة الربیع و أمثاله.

«و الصادق من الكاذب» و ظهر لهم الصادق الذي یصدق في أقواله و أفعاله من الكاذب الذي یكذب في ادعاءاته و تصرفاته،وتكذب افعاله اقواله و شعارته.

ثم إنها (علیها السلام) ختمت هذه المقطوعة من حدیثها بالآیة الكریمة، و طبّقتها علی هذه الأمة، فقالت: «و لو أن أهل القری آمنوا و اتقوا لفتحنا علیهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا یكسبون» (1) .

ما أنسب هذه الآیة بهذا المقام و ما أجمل هذا التشبیه في هذا الكلام؟

و تقصد السیدة فاطمة أن الناس لو كانوا یقبلون كلام الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في تعیین علی بالخلافة و كانوا ینقادون له، لكانت الدنیا لهم روحاً و ریحاناً و جنة نعیم، و لكنهم خالفوه و اختاروا غیره، و بعملهم هذا كذَّبوا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) تكذیباً عملیاً، فسوف یشاهدون الویلات تنصبُّ علیهم.

و أردفت هذه الآیة بمثلها، فقالت: «و الذين ظلموا من هؤلاء سیصیبهم سیئات ما كسبوا و ما هم بمعجزین»ِ (2) .

و سیأتيك القول بالتفصیل عن الویلات و المآسي التي انصبَّت علی الأمة الإسلامية من جرّاء تلك القیادة الشاذة و مضاعفاتها.

«ألا هلم و استمع» و في نسخة: «هلممن و استمعن» فعلی النسخة

ص: 459


1- الاعراف: 96.
2- الزمر: 51.

الأولی یكون الخطاب عاماً للجمیع، و علی النسخة الثانية یكون الخطاب خاصاً بالنساء اللاتي حضرن عیادتها.

«و ما عشت أراك الدهر عجباً» أي كلما عشتَ أو مدة عیشك في الدنیا رأیت العجائب التي لا بالبال و لا بالخاطر.

«و إن تعجب فعجب قولهم» هذه الجملة من آیة في سورة الرعد و هي: «و إن تعجب فعجب قولهم أاذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جدید» اقتبست السیدة فاطمة (علیها السلام) هذه الجملة من الآیة و أدمجتها في حدیثها، و المقصود أن الناس یتعجبون من بعض الأمور و لیست بعجیبة، و لا تستحق التعجب، و هناك أمور و قضایا عجیبة ینبغي أن یتعجب منها، لأنها أمور لا تنسجم مع الشرع و لا مع العقل و لا الوجدان و لا الضمیر، و لا تدخل تحت أي مقیاس من المقاییس الصحیحة.

و الأمر العجیب هو ما یلي:

«لیت شعري إلی أي سناد استندوا؟

و علی أي عماد اعتمدوا؟

و بأیة عروة تمسكوا؟

و علی أیة ذریّة أقدموا و احتنكوا؟

إن الناس كانوا یستندون علی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و ینقادون له، و یعتمدون علی أقواله، و یطیعون أوامره، لأنه مرسل من عند اللّه،و متصل بالعالم الأعلی، قد توفرت فيه الأهلیة بجمیع معنی الكلمة، فلا عجب في ذلك إذا خضع له الناس، و قدَّموه علی كل شيء، و لكن العجب كل العجب أن بعض الناس بعد وفاة الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) تنازلوا إلی مستوی نازل جداً فسلّموا القیادة إلی أفراد لا توجد فيهم المؤهلات.

ص: 460

فالذي كان یستند و یعتمد علی الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و یتمسك به كیف تطیب نفسه أو یرضی ضمیره أن یعترف بالقیادة الإسلامية لأفراد لیسوا في تلك المرتبة و تلك الدرجة؟!

تتعجب السیدة فاطمة (علیها السلام) و یتعجب معها عقلاء العالم و أصحاب الضمائر الحیة و النفوس المعتدلة و القلوب السلمیة من تلك الانتخابات المخالفة لجمیع المقاییس و النوامیس و الموازین.

«و بأیة عروة تمسكوا» لقد ثبت عند المسلمین كلام رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) «إني تارك فيكم الثقلین: كتاب اللّه و عترتي أهل بیتي، و إنكم لن تضلوا ما أن تمسكتم بهما» و معنی الحدیث: أن الرسول أمر المسلمین أن یتمسكوا بالقرآن و العترة معاً، و لكن هؤلاء بأیة عروة تمسكوا و تعلقوا و اعتصموا؟!

«و علی أیة ذریة أقدموا و احتنكوا؟» أیعلم هؤلاء مَن هي فاطمة الزهراء؟!

أیعلم هؤلاء ما منزلة هذه الذریة الطاهرة الشریفة التي هم أشرف أسرة علی وجه الأرض؟!

أیعلم هؤلاء ما صنعوا اتجاه أهل البیت:

الذين أمرهم اللّه بمودتهم بقوله: «قل لا أسألكم علیه أجراً إلاّ المودة في القربی»؟!

الذين فرض اللّه طاعتهم علی كل مسلم بقوله: «أطیعوا اللّه و أطیعوا الرسول و أُولی الأمر منكم»؟!

الذين مَثَلهم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجی، و من تخلّف عنها هوی و غوی و هلك؟! الذين مَن أحبّهم فقد أحب اللّه، و من آذاهم فقد آذی اللّه و من

ص: 461

أبغضهم فقد أبغض اللّه؟!

فواللّه الذي لا إله إلا هو إنهم آذوا ذریة رسول اللّه و عترته و أهل بیته، و ظلموهم و أغضبوهم و اعتدوا علیهم، و هتكوا حرمتهم، و جرّئوا الناس علی إیذائهم.

بأي دین؟!

و بأیة شریعة؟!

و بأي مجوّز شرعی صنعوا ذلك الصنیع تجاه آل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)؟!

أنا لا أدري، و لعل القوم ینحتون الأعذار التي تبیح لهم هتك تلك الحرمات، و إهدار تلك الكرامات.

«و لبئس المولی و لبئس العشیر».

اقتبست السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) هذه الجملة من قوله تعالی «یدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه لبئس المولی و لبئس العشیر» (1) أي أن الذي اختاروه للولایة بئس المولی و بئس العشیر، و العشیر هو الصدیق الذي ینتخب للمعاشرة.

«و بئس للظالمین بدلاً» هذه الجملة من قوله تعالی «و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبلیس كان من الجن ففسق عن أمر ربّه أفتتخذونه و ذریته أولیاء من دوني و هم لكم عدو، بئس للظالمین بدلاً» (2) .

«استبدلوا- و اللّه- الذنابا بالقوادم و العجز بالكاهل».

من جملة العلوم التي لها الصدارة علی بقیة العلوم هو علم الاجتماع، و هو علم یبحث عن تقدم الأمم أو تأخرها، أسباب ضعفها أو

ص: 462


1- الحج: 13.
2- الكهف:50.

قوتها، و صلاحها و فسادها، و نتائج الصلاح و مضاعفات الفساد.

و من الوسائل التي كان لها التأثیر في توعیة المجتمع نحو الخیر و الشر، و نحو الصلاح أو الفساد، و تقریر مصیر الشعوب: هو جهاز الدولة و جهاز الدین،و قد قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «طائفتان من أمتي إذا صلحتا صلح الناس، و إذا فسدتا فسد الناس: العلماء و الأمراء».

و في ذلك الیوم كان جهاز الدولة و جهاز الدین جهازا واحداً، فالخلیفة یُعتبر رئیس الدولة و رئیس الدین، و یدیر دفة الحكم علی الصعیدین: الدولي و الدیني.

و إننا نجد الشعوب المتحضرة، المثقفة المتقدمة إنما و صلوا إلی القمَّة و حازوا التقدم في كافة المجالات بسبب الأسرة الحاكمة التي مهّدت لهم السبل، و هیأت لهم الوسائل و زوّدتهم بالتعلیمات، و شجعتهم علی العمل.

و هكذا نجد الشعوب المتأخرة و المتفسخة- التي استولی علیهم الجهل و الفقر و المرض و الذل و الهوان و الخلاعة و المجون- هم ضحایا إهمال الحكام و أصحاب القیادة، و قد قیل: «الناس علی دین ملوكهم».

و هنا تنتقل السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) إلی حدیثها عن علم الاجتماع، فتقول:

«استبدلوا- و اللّه- الذنابا بالقوادم».

إن التشبیه في الكلام له تأثیر عجیب في النفس، و تقریب المعنی إلی الذهن بصورة واضحة.

لقد شبّهت السیدة فاطمة (علیها السلام) الأمة الإسلامية بالطائر، و شبهت القائد أو القیادة بأجنحة الطائر، لأن الطائر لا یستطیع أن یطیر إلاّ بجناحیه، و الجناح مركَّب من عشر ریشات كبار، و یقال لها «القوادم» و تحت تلك الریشات الكبار عشر ریشات صغار یقال لها «الخوافي» و علی موضع

ص: 463

ذنب الطائر ریشات یقال لها: «الذنابا».

فالقوادم هي قوام الطیران، و لا یمكن الطیران بغیر القوادم، لأنها بمنزلة المحركات القویة في جناح الطائرة التي تقلع الطائرة و ترتفع بها عن الأرض و تحلق في الفضاء.

فالطائر إذا قطعت قوادمه لا یستطیع الطیران بالخوافي و هي الریشات الصغار، و لا بالذنابا، لأن الذنابا لا تستطیع حمل جسد الطائر و إقلاعه عن الأرض لعجز الذنابا و ضعفها.

«و العجز بالكاهل» العجز- بفتح العین و ضم الجیم-: من كل شيء مؤخره، و من الإنسان ما بین الوركین، و الكاهل ما بین الكتفين، و الكاهل أقوی موضع في البدن لحمل الأثقال. و بالعکس : العجز لا یلیق و لایستطیع حمل الأثقال.

و المقصود من هذین المثالین أو التشبیهین هو: أن القوم سلّموا الأمور العظیمة، و المناصب الخطیرة- و هي القیادة- إلی من لا یلیق بها، و لا یستطیع القیام بأمورها، لعدم توفر الإمكانیات فيه، و عجزه عما یتطلبه الأمر من العلم و العقل و التدبیر، و ذلك بعد أن سلبوا تلك الإمكانیات من أصحابها الأكفاء ذوي اللیاقة و الخبرة و البصیرة.

«إنهم باعوا علیاً (علیه السلام) یوم الغدیر بأمر من اللّه تعالی و رسوله (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و باختیار منهما، و لكنهم نكثوا عهدهم، و نقضوا ببیعتهم، و بایعوا غیره الذي لا یقاس بعلي (علیه السلام) علماً و شرفاً و فضلاً و سابقة و جهاداً و شجاعة وزهداً وجوداً و کرماً، غیر ذلك من المرجِّحات.

«فرغماً لمعاطس قوم یحسبون أنهم یحسنون انهم یحسنون صنعا».

ان الزهرا (علیه السلام) تدعو علی هولاء بالذل و الهوان، و هو

ص: 464

إرغام أنوفهم، و هم الذين یظنون أنهم مهتدون في أعمالهم، و مصلحون في تصرفاتهم.

و الحال: «ألا إنهم هم المفسدون و لكن لا یشعرون» و هل یشعر المنحرف أنه منحرف شاذ؟

بل بالعكس، یتصور أنه هو المهتدي المعتدل المستقیم، و أنه علی الحق و أن غیره علی الباطل، و لا یؤثر فيه المنطق و لا ینفع فيه الدلیل و البرهان.

و هاتان الجملتان مقتبستان من قوله تعالی:

«قل هل نُنبَّئُكُمْ بالأخسرین أعمالاً الذين ضل سعیهم في الحیاة الدنیا و هم یحسبون أنهم یحسنون صنعاً»ِ (1) و من قوله تعالی: «و إذا قیل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون و لكن لا یشعرون» (2) .

ثم أدمجت آیة أخری في كلامها بالمناسبة فقالت:

«ویحهم! «أفمن یهدي إلی الحق أحق أن یُتَّبع أم لا یهدّي إلا أن یُهدی فما لكم كیف تحكمون»ِ (3) .

هذه الآیة الشریفة تشیر إلی بحث الهدایة، و المقارنة بین الذي یهدي إلی الحق، و یرشد الناس إلی الطریق و بین الذي لا یهتدي و لا یعرف الطریق إلاَّ أن یُهدی، أي یهدیه غیره، أیهما أحق بالإتّباع؟ و أیّهما یستحق أن یكون قائداً للأمة؟

و هنا تقصد السیده فاطمة الزهراء (علیها السلام) من هذه المقارنة أن علیاً هو الرجل الكامل علماً و فضلاً و عقلاً، و مواهب، فهو أولی بالقیادة، و أحری بالاتباع من أفراد لیسوا في المستوی المطلوب في

ص: 465


1- الكهف 104.
2- البقره: 11، 12.
3- یونس: 35.

العلم و العقل و التدبیر و ما شابه ذلك من لوازم القیادة.

و التاریخ یثبت كلا الجانبین: جانب الكمال في الامام علي (علیه السلام)، و جانب النقص في غیره.

«أما: لعمري! لقد لقحتْ» إن المیكروبات- التي تتكون في البدن، و تنتج أمراضاً صعبة العلاج- إنما تبدأ من الجرثومة التي تدخل في الدم، و هناك تتلاقح، و بمرور الزمان تنتشر المیكروبات في الدم، و تؤثر علی الكریات البیض و الحمر، و هناك الویلات، و هناك، الملاریا و الكولیرا، و هناك السرطان، و هناك المرض الذي یعمّ البدن و یشمل الجسد كله.

تقول السیدة فاطمة الزهراء: «أما لعمري! لقد لقحت» لقحت جرثومة الفتنة في الأمة الإسلامية، و الفتنة في طریقها إلی التوسع و الانتشار.

«فنظرة ریثما تنتج» أي انتظروا حتی تنتشر المیكروبات في هیكل المجتمع الإسلامي، فبعد أن كانت القیادة الصالحة اللائقة تقود المسلمین و إذا بقیادة معاكسة و مغایرة لها تماماً تزاحمها و تحل محلها.

و بعد أن كانت الأحكام الإسلامية الطریة المعتدلة تسود المجتمع الإسلامي إذ بأحكام منبعثة عن الهوی و عن آراء شخصیة متطرفة تقوم مقام تلك الأحكام.

و هكذا تتبدل المفاهیم، و تتغیر المقاییس.

«ثم احتبلوا مل ء القعب دماً عبیطاً».

ان الناقة إذا ولدت یُحلب منها اللبن، و لكن الفتنة إذا لقحت و أنتجت یحلب منها الدم لا اللبن، أي تتكون المجازر و المذابح، فبعد أن كان الدین الإسلامي دین الأمن و الحیاة و السلام في الواقع و إذا به ینقلب مفهومه لدی هؤلاء فيصبح دین الإبادة و الهلاك، و الدمار و الفناء.

انظر إلی التاریخ الإسلامي الذي شوّهه هؤلاء.

ص: 466

تجد أنهاراً من الدماء التي جرت من أجساد المسلمین!

و تجد التلال التي تكونت من جثثهم!

فمثلاُ: ذكر المؤرخون أن عثمان بن عفان قام بأعمال منافية للقرآن و السنة، فعاتبه المسلمون علی ذلك، و لكنه لم یرتدع بل استعمل العنف و القوة معهم ضرباً و سباً و تبعیداً و تهدیداً.

و أخیراً اثارت أعماله في المسلمین هیاجاً عاماً، و كانت عائشة تهیّج الناس ضدّه وتقول:اقتلوا نعثلاً فقد کفر، اقتلوا نعثلاً قتله اللّه. و نعثل اسم یهودي کانت عائشة تشبه عثمان به. و هكذا طلحة و ابن العاص.

و أخیراً اثارت قتلوا عثمان.

و إذا بالذين كانوا یحرّضون الناس ضده خرجوا یطلبون بدمه!! و قد قُتل عثمان في المدینة، و ذهب هؤلاء إلی البصرة یطلبون بدمه، و بین المدینة و البصرة أكثر من ألف كیلومتر، فأجّجوا نیران الحرب هناك، فقتل في حرب البصرة خمسة و عشرون ألف إنسان!

ثم نهض معاویة زاعماً أنه یطلب بدم عثمان، فقامت الحرب في منطقة سوریة بالقرب من مدینة حلب یقال لها «صفين» و هدأ القتال و علی الأرض تسعون ألف قتیل!

ثم صارت واقعة النهروان فقتل فيها أربعة آلاف إنسان.

ثم خرج بسر بن أرطاة- من الشام و قصد المدینة و مكة و الیمن و في طریقه كان یقتل الناس، حتی قتل من شیعة علي (علیه السلام) في الیمن و غیره ثلاثین ألف انسان!.

خذ القلم بیدك و احسب مجموع القتلی:

000/ 25 + 000/ 90 + 000/ 4 + 000/ 30 = 000/ 149.

هؤلاء القتلی، و لا تسأل عن الجرحي، و لا تسأل عن أرامل هؤلاء،

ص: 467

و أیتامهم، و مضاعفات تلك المآسي، و لا تسأل عن الدموع الجاریة، و العیون الباكیة، والقلوب الملتهبة، و الآهات و الأحزان التي جعلت تلك الحیاة جحیماً علی ذلك المجتمع بكافة جوانبه و نواحیه، كل ذلك في خلال أربع سنوات!!

و هل انتهت المأساة هنا؟

لا، بل هناك مآسي و مجازر و مذابح تقشعر منها الجلود، و سوف نذكر بعضها في هذا الكتاب.

نعم، لا تزال السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تخبر عن الفجائع و الفظائع التي هي في طریق الأمة الإسلامية، و كامنة لها بالمرصاد.

لیس هذا التنبؤ إخباراً عن الغیب، بل إخبار عن نتائج الأعمال و مضاعفاتها، فالطبیب الحاذق إذا نظر إلی إنسان لا یراعي أصول الصحة في مأكله و مشربه و تنفسّه و یستعمل الأشیاء الضارة فإن الطبیب یخبره بمصیره المظلم، و الأمراض الفتاكة التي تقضي علی حیاته من جرّاء تلك الأعمال المنافية لأصول الصحة العامة.

و كذلك السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تنظر إلی ذلك المجتمع و سوء اختیار الأمة للقیادة غیر الصالحة، فتنكشف لها العواقب السیئة التي یؤول إلیها أمر الأمة الإسلامية ببركات تلك القیادة!!

تقول: «ثم احتلبوا مل ء القعب دماً عبیطاً» و في نسخة: «طلاع القعب» أي القدح الكبیر الضخم الذي یتفایض بالدم حتی یسیل منه، و المقصود كثرة الدماء التي تُراق.

«و ذعافاً ممقراً مبیداً» أي احتلبوا الدم، و احتلبوا السمّ المرّ المهلك، و المقصود منها: النتائج السیئة التي عمَّ شؤمها الإسلام و المسلمین من الویلات و المصائب التي انصبّت علی المسلمین.

ص: 468

«هنالك یخسر المبطلون» أي عند ذلك یظهر خسران المبطلین.

«و یعرف التالون غبَّ ما أسَّسه الأولون» یعرف الآخرون عاقبة الأعمال التي أسّسها الأوّلون.

«ثم طیبوا عن دنیاكم أنفساً» یقال: طب نفساً: أي أسكن و اهدأ عن القلق و هذا كما یقال للظالم: قرَّت عینك، أو بشراك و أمثالها من الكلمات التي یراد بها العكس في الكلام لا الحقیقة.

«و اطمأنوا للفتنة جاشاً» أي فلتسكن للفتنة قلوبكم، و هذا أیضاً یراد به العكس، فإن القلب لا یسكن للفتنة و إنما یسكن للأمان و السلامة.

«و ابشروا بسیف صارم و سطوة معتد غاشم» هذه الكلمة علی غرار قوله تعالی: «فبشّرهم بعذاب ألیم» و هذه الكلمة أو الجملة أیضاً علی العكس.

«و هرج شامل» و في نسخة: «و هرج دائم شامل» الهرج: الفتنة و الفوضی و اختلال الأمور.

«و استبداد من الظالمین» الاستبداد: الدكتاتوریة، و العمل علی خلاف المقاییس و الموازین، لا تحت أي نظام أو قانون أو شریعة أو دین.

«یَدَع فيئكم زهیداً و جمعكم حصیداً» أي ذلك الاستبداد أو المقصود من ذلك جمیع ما تقدم من قولها: سیف صارم و سطوة معتد غاشم و هرج و استبداد و مجموع هذه الأشیاء یدع فيئكم زهیداً أي یجعل الغنائم و الخراج حقوقكم المالیة زهیداً أي قلیلاً «و جمعكم حصیداً» و في نسخة: «و زرعكم حصیداً» أي محصوداً، و المقصود أن السلطة التي تحكم علیكم یتصرفون في غنائمكم حسب مشتهیاتهم و یجرّونها إلی أنفسهم فلا ترون منها إلاّ القلیل، و یحصدون جمعكم أي جماعتكم بسیوفهم.

ص: 469

و كلها إخبارات بالمستقبل المظلم الذي كان بالمرصاد للمسلمین، و المآسي و الكوارث التي تنزل بهم، و الویلات التي تنصبّ علیهم!

و لقد تحقّق كل هذا: و هذا كله، لقد ابتلی المسلمون بفجائع و مذابح و مآسي لا یستطیع أحد أن یتصوّرها، فواللّه أنّهم سوّدوا تاریخ الإسلام، و شوّهوا سمعة هذا الدین، و إلیك بعض تلك الحوادث شاهداً علی ما نقول:

لقد ذكرنا- فيما مضی- بعض المجازر التي قام بها أصحاب الجمل و معاویة و الخوارج و بعض عملاء معاویة، و الآن استمع إلی غیرها:

لو أردنا أن نذكر- هنا ما جری علی الأمة الإسلامية من الظلم و الجور و الضغط و الكبت و العنف و القسوة، و الاستبداد بالأموال و إراقة الدماء البریئة علی أیدي حكام الجور لطال بنا الكلام جداً جداً، فإن التحدّث عن هذه المصائب و الفجائع یحتاج إلی موسوعة و موسوعة.

و لكننا رعایة لأسلوب الكتاب و بمناسبة التحدث عما أخبرت به السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) من الویلات التي كانت بالمرصاد علی طریق المسلمین الذين اختاروا تلك القیادة التي ما أنزل اللّه بها من سلطان، و نبذوا وراءهم ولایة آل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و سلبوهم القدرة و الإمكانیة-.

نختار من بین المئات من الفجائع التي انصبت علی أهل المدینة فجیعة واحدة تقشعرّ منها الجلود، و تشمئز منها النفوس.

و قبل أن أذكر الواقعة لا بأس بذكر مقدمة تمهیدیة كي تظهر نتائج تغییر القیادة الإسلامية عن مجراها و أُسُسها:

من الصحیح أن نقول: إن حكام الجور الذين جلسوا علی كرأسي الحكم، و قبضوا بأیدیهم أزمّة الأمور و استولوا علی رقاب البشر عن طریق السیف قد رفضوا العمل بالإسلام الذي جاء به محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم)

ص: 470

فكانت تصرّفاتهم لا تتفق مع القرآن الكریم و لا السّنّة النبوية و لا منطق العقل و لا قانون الإنسانیة و لا نظام العدل و لا تعالیم الإسلام.

بل كانوا یحكمون علی أموال الناس و دمائهم حسب رغباتهم الشخصیة و شهواتهم النفسیة، و إجابة للحرص و الجشع، و إطاعة لأهوائهم.

فالناس لا كرامة لهم و لا قیمة لحیاتهم عند هؤلاء، و لیس المهم عند أولئك الحكام أن یعیش الناس برخاء و رفاه أو یموتوا جوعاً و فقراً و إنما المهم المحافظة علی عرش الحاكم و إبقاء جبروته و إشباع شهواته و رغباته و ترفه و بذخه و لو كان مستلزماً لإراقة دماء الشعب المسلم البری ء المسكین، و ما قیمة المسلم و ما حرمة الإسلام أمام أهواء الحاكم الدكتاتوري الظالم السفّاك الذي لو كان یؤمن باللّه و الیوم الآخر لكان سلوكه علی خلاف تلك الأعمال المناقضة للدین الإسلامي.

و لعلك- أیها القارئ- تتصور و تظن أنّ في كلامي هذا شیئاً من المبالغة و الإسراف، و لكنك لو اطلعت علی تاریخ الأمویین و العباسیین و المجازر و المذابح الجماعیة التي قاموا بها لصدّقت كلامي بل و اعتبرت كلامي هذا أقل من القلیل عن الواقع الذي مرّت به الأمة الإسلامية عبر القرون!

إنهم جعلوا الحیاة جحیماً و عذاباً ألیماً علی المجتمع الإسلامي الذي كان یعیش تحت سیاطهم و سیوفهم!

و هاك مثالاً واحداً علی بعض ما نقول:

واقعة الحرة

بعث یزید بن معاویة مسلم بن عقبة و كان أحد جبابرة العرب

ص: 471

و شیاطینهم- بعثه إلی المدینة و معه ثلاثون ألف رجلِ (1) ، و أوصی یزیدُ بن معاویة مسلم بن عقبة فقال: إذا ظهرتَ علی أهل المدینة فأبحْها ثلاثاً، و كل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند.

خرج الجیش نحو مدینة الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و تصدی خرج أهل المدینة لمقابلة الجیش خارج المدینة، و التقی العسكران خارج البلدة في منطقة یقال لها: «الحَرّة» و هناك وقعت الحرب، و قُتل من أهل المدینة المئات من أبناء المهاجرین و الأنصار و غیرهم من أهل المدینة، وانهزم الباقون متجهین نحو المدینة، الا ان جیش الشام یطاردهم حتی و صلوا المدینة و لاذ المسلمون بالحرم النبوي فجعل جیش الشام یقتل أهل المدینة عند قبر الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حتی ساوي الدم قبر رسول اللّه!!

و بعد ذلك نادی المنادي في جیش الشام بأمر قائدهم مسلم بن عقبة: هذه المدینة قد أبحتُها لكم!!!

فما تظن بالجیش الفاتح الذي یُعطی له الحریة الكاملة، و یرفع عنه كل مسؤولیة؟؟

لقد عمد الجیش إلی نهب الأموال و هتك الأعراض، و افتضوّا أكثر من ثلاثمائة عذراء، و وُلد في تلك السنة ألف مولود لم یُعرف لهم أب.

و أستأذن القارئ لأقول له: حتی أن الرجل منهم كان یزني بالمرأة المسلمة في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)ِ (2) .

و كان أفراد الجیش یدخلون بیوت أهل المدینة و ینهبون كل ما وجدوا فيها، و هجم أفراد منهم علی دار أبی سعید الخدري- الذي كان من مشاهیر أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و كان شیخاً كبیراً

ص: 472


1- الامامه و السیاسه ج 2 ص 7.
2- كتاب تتمه المنتهی للقمي.

قد كفّ بصره- فوجدوه جالساً علی التراب، لأن طائفة من الجیش كانت قد نهبت داره قبل ذاك، و لما فتش الأفراد داره و لم یجدوا شیئاً ما أحبّوا أن یخرجوا من داره بلا فائدة فعمدوا إلی الشیخ الأعمی المسكین و نتفوا لحیته و شعر حاجبیه و هو یصرح و یقول لهم: أنا أبوسعید الخدري!! أنا صاحب رسول اللّه.

و لكنهم لم یعبأوا بهذه الأسماء، و وجدوا في بیته عدداً من الحمام فذبحوها و طرحوها في البئر و خرجوا من داره.

و دخل أحدهم دار امرأة قد نُهب كلّ ما فيها، فوجد الرجل تلك المرأة جالسة علی الأرض و في حجرها طفلها یرتضع، فمدّ الرجل یده و أخذ برجل الطفل و جذبه من حجر أمه و الثدی في فمه و ضرب برأس الطفل الجدار فسال دماغه علی الأرض و أمه تنظر إلیه.

ثم جمع مسلم بن عقبة أهل المدینة و أخذ منهم الإقرار و الاعتراف بأنهم عبید مملوكون لیزید بن معاویة.

و بعد ذلك خرج الجیش من المدینة تاركاً وراءه الجثث و آلاف الیتامی و الأرامل، طعامهم البكاء و شرابهم الدموع، و فراشهم التراب، و متاعهم الآلام و الآهات و الذعر و العویل.

و توجه الجیش نحو مكة لیحرقوا الكعبة و یقتلوا الناس في المسجد الحرام لأجل القضاء علی عبداللّه بن الزبیر المتحصن في المسجد الحرام الذي من دخله كان آمناً.

و لا تسأل عن الفجائع التي انصبت علی أهل المدینة، فجیعة بعد فجیعة و مصیبة تلو الأخری.

و أما ما قام به الحجاج بن یوسف الثقفي في العراق فإنه یشیّب الطفل و هو في المهد، و یورث الدهشة و الذعر في القارئ الذي یقرأ تلك

ص: 473

الإضبارة السوداء الشوهاء، و تستولی علیه حالة التهوّع و التقیّؤ.

حتی قال عمر بن عبد العزیز: لو جاءت كل أمة بخبیثها و جئنا بالحجاج لغلبناهم.

و قال عاصم: ما بقیتْ للّه (عز و جل) حُرمة إلاّ و قد ارتكبها الحجاج!

تَطبیق الخبر مع الواقع

هذه نماذج قلیلة و ضئیلة بالنسبة لما جری و حدث، و بعد استعراض تلك الفجائع التي یملّ الإنسان الحیاة حین قراءتها- تتضح لنا صحة ما أنذرت به السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) الجماعة التي استبدلت تلك القیادة بقیادة آل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و یظهر لنا صدق كلامها حین المطابقة و المقارنة بین كلامها: «و ابشروا بسیف صارم، و سطوة معتد غاشم، و هرج شامل، و استبداد من الظالمین یَدَع فيئكم زهیداً، و جمعكم حصیداً» و بین الحوادث و المآسي التي مرّت بها الأمة الإسلامية.

و أخیراً ختمت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) خطابها للنساء بهذه الجملات: «فيا حسرة لكم» هذه الكلمة مأخوذة من قوله تعالی: «یا حسرة علی العباد ما یأتیهم من رسول إلاّ كانوا به یستهزئون» فالمعنی: یا لكم من حسرة و ندامة علی ما فاتكم من الخیر و الهدایة، و الأمن و الأمان و الأجر و الثواب في الدنیا و في الآخرة.

«و أنّی بكم؟» أي ما أدري إلی ما یصیر أمركم و قد انحرتم عن طریق الهدایة، و وقعتم في موارد الهلكة و الخسران.

«و قد عمیت علیكم» خفيت علیكم الحقائق بسبب قلّة تدبّركم فيها

ص: 474

«أنلزمكموها و أنتم لها كارهون» هذه الجملة من قوله تعالی: «قال یا قوم أرأیتم إن كنت علی بیّنة من ربي و آتانی رحمة من عنده فعمیت علیكم أنلزمكموها و أنتم لها كارهون» أي أتریدون مني أن أُكرهكم علی المعرفة و أُلجأكم إلیها علی كره منكم؟

هذا غیر مقدور لي و إنّما الواجب علیّ أن أدلّكم بالبیّنة و الطریق و لیس علیّ أن أضطركم علی معرفتها.

قطعت السیدة فاطمة شریط كلامها مع النساء- هنا- و قامت النساء و خرجن.

قال سوید بن غفلة: «فأعادت النساء قولها علی رجالهن، فجاء إلیها قوم من وجوه المهاجرین و الأنصار معتذرین».

من المؤسف أن القضیة مجملة مبهمة، فلیس هنا تصریح بأسماء النساء و لا بأسماء الرجال الذين هم من وجوه المهاجرین و الأنصار.

و إنما المستفاد من مجموع الأحداث أن النساء ما كنّ یعرفن الألعاب السیاسیة و ما كنّ یعرفن اتجاه رجالهن في تلك الفترة العاصفة، فحضرن عند السیدة فاطمة الزهراء لعیادتها، فخطبت فيهن السیدة الزهراء الخطبة التي مرت علیك، و صبّت جام غضبها علی رجالهن، و بعد انتهاء الخطبة قامت كل امرأة و كأنها نائمة فاستیقظت، أو كانت غافلة فانتبهت و حصل عندهن شيء من الوعي و الانتباه.

و یعلم اللّه ما جری بین تلك النساء و رجالهن من الصیاح و النزاع بعد رجوعهن من عیادة السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بحیث جاء رجالهن إلی دار فاطمة معتذرین.

معتذرین عن أي شيء؟!

ص: 475

معتذرین عن تخاذلهم وتقاعدهم عن نصرة آل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم)؟!

كأنهم لا یعلمون شیئاً، كأنهم لا یعرفون عن الأحداث شیئاً.

كأنهم لم یبایعوا علیاً (علیه السلام) یوم الغدیر، و ذلك قبل وفاة النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بسبعین یوماً.

كأنهم لم یسمعوا خطبة الزهراء في المسجد و احتجاجها مع رئیس الدولة و مع المهاجرین و الأنصار!!

كأنهم لم یسمعوا صرختها عند باب البیت.

و كأنهم ما كانوا بالمدینة و لم یعلموا شیئاً أبداً.

و كأنهم الآن عرفوا الحق فجاءوا معتذرین بأعذار تافهة تائهة باردة:

«و قالوا: یا سیدة النساء لو كان أبوالحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نُبرم العهد و نُحكم العقد لما عدلنا عنه إلی غیره».

استمع إلی هذا الاعتذار البعید عن المنطق البعید عن كل مقیاس.

ما أدری أي شيء كان مفروضاً علی أبی الحسن أن یذكره لهؤلاء؟

أما ذكر لهم اللّه تعالی قوله: «إنما ولیكم اللّه و رسوله و الذين آمنوا الذين یقیمون الصلاة و یؤتون الزكاة و هم راكعون»؟

أما سمعوا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) رافعاً صوته یوم الغدیر: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهم و ال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر مَن نصره، و اخذلْ من خذله؟

إلی غیرهما من الآیات نزلت في حق علي (علیه السلام) و كلمات الثناء و النصوص الصریحة التي سمعوها من فم رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الدالة علی خلافة عليّ بعده (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

ص: 476

أی شيء یذكره عليّ لهم؟

فهل كان هناك شيء مستور أو غیر معلوم عند أولئك الشخصیات فيحتاجوا إلی مَنْ یذكر لهم ذلك؟ أو یخبرهم به؟

و بعد هذا كله، أما احتج الإمام أمیرالمؤمنین علیهم- بأنواع الاحتجاج- یوم أخذوه من بیته إلی المسجد لیبایع أبابكر؟

أما سمعوا؟!

أما علموا؟!

أما فهموا؟!

ثم انظر إلی كیفية الاعتذار و سخافة القول: «لو كان أبوالحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد و نحكم العقد لما عدلنا عنه إلی غیره».

سبحان اللّه! أما أبرمتم العهد؟!

أما أحكمتم العقد یوم الغدیر؟ و بایعتم علیاً بالخلافة بأمر اللّه و أمر رسوله؟

فهل كنتم تلعبون یومذاك او تستهزئون باللّه و رسوله؟

فالعجب أنه جاز لكم أن تنقضوا ذلك العهد و تنكثوا ذلك العقد و لكن الیوم لا یجوز لكم النكث و النقض لتلك البیعة التي كانت هي نقضاً و نكثاً للبیعة السابقة التي بایعتم علیاً یوم الغدیر!!

نعم، هكذا اعتذروا، اعتذروا بهذه الأعذار المزیفة، و لهذا طردتم السیدة فاطمة من بیتها، و قالت لهم:

«إلیكم عنی» تباعدوا عني، أمسكوا كلامكم عني.

«فلا عذر بعد تعذیركم» التعذیر: التقصیر في الاعتذار، و المعذّر: المقصّر الذي یریك إنه معذور و لا عذر له، قال تعالی: «و جاء المعذرون

ص: 477

من الأعراب لیؤذن لهم» (1) .

لعل المقصود لیس لكم عذر صحیح بعد تعذیركم و تقصیركم.

«و لا أمر بعد تقصیركم» أي لیس لنا أمر معكم بعد هذه المواقف التي كانت لكم.

4و هكذا طردتهم السیدة فاطمة من بیتها بعد أن زیّفت أعذارهم.

ص: 478


1- سوره التوبه: 90.

مصادر الخطبة في النساء

أیها القارئ الكریمّ! لقد قضینا معك برهة من الزمان في رحاب كلمات السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) التي خطبت بها في المسجد و في بیتها و في فراش العلة و المرض، و قد تبین لك الكثیر الكثیر من الحقائق التي اشتملت علیها خُطب السیدة الزهراء.

و قد ذكرنا لك بعض المصادر لخطبتها التي خطبت بها في المسجد، و لا بأس أن نذكر- هنا- بعض مصادر خطبتها التي خطبت بها للنساء:

1- معاني الأخبار للشیخ ابن بابویة المتوقي سنة (381) ینتهي سند الخطبة إلی فاطمة بنت الحسین (علیهما السلام).

2- و یروي أیضاً بإسناده عن عمر بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) یروي عن أبیه أمیرالمؤمنین علي بن أبي طالب (علیهما السلام).

3- الطبرسي في الاحتجاج عن سوید بن غفلة كما تقدم الكلام في أول الخطبة.

4- امالي الشیخ الطوسي یروي بإسناده عن ابن عباس.

5- دلائل الإمامة للطبري یروي بإسناده عن الإمام عليّ بن الحسین زین العابدین (علیهما السلام).

6- بلاغات النساء لأبي الفضل بن أبي طاهر یروي بإسناده عن عطیة العوفي.

7- كشف الغمة للاربلي ص 147 یروی عن كتاب السقیفة لأحمد بن عبد العزیز الجوهري.

8- ابن أبی الحدید في شرح نهج البلاغة یروی أیضاً عن الجوهري.

9- أعلام النساء تألیف عمر رضا كحّالة ج 4 ص 123.

10- الشیخ المجلسي في العاشر من كتابه بحارالأنوار ج 43.

ص: 479

اتمام الحجه علی المهاجرین و الانصار

كان الانسب ان یكون هذاالبحث قبل خطبها التي خطبت بها للنساء، و لكن رعایه لتوالي خطبها ذكرنا كما سلف.

كان الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام) یسیر علی خطة حكیمة تتفقْ مع العقل و المنطق و الدین، و ینتهز الفرص لإحقاق حقه و إثبات مظلومیته و إتمام الحجة علی ذلك المجتمع، بل و تسجیلها في سجل التاریخ، كي یعلم ذلك الشعوب التي جاءت بعد ذلك الیوم و إلی یومنا هذا و إلی ما شاءاللّه.

من الصحیح أن نقول: إن الإمام علیاً (علیه السلام) كان یری لزاماً علیه أن یتم الحجة علی الناس، و یبیّن لهم أن الخلافة من حقه الذي جعله اللّه و رسوله له، حتی إذا كان عالماً أن الناس لا یتجاوبون معه، و هكذا یبین لهم أن فدك من حق السیدة فاطمة الزهراء.

فهو- شرعاً خلیفة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) سواءً أذعن له الناس أو لم یذعنوا، و سواء خضع له المجتمع أو لم یخضع و هكذا إن فدك مِلكٌ للسیدة فاطمة الزهراء سواءً أعطوها حقها أو لا.

و السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) لها المكانة المرموقة و الشخصیة المشهورة في ذلك المجتمع، فلا بأس لو أن السیدة الزهراء تتكلف و تتجشم تأیید زوجها في إثبات الحق و الحقیقة و المطالبة بحقها، فلا عجب إذا كانت ترافق زوجها العظیم، و ولدیها سیدي شباب أهل الجنة، و تستنجد بالصحابة لئلا یكون للناس علی اللّه حجة، لئلا یقولوا: كنا غافلین ناسین أو

ص: 480

جاهلین. و لماذا ما جاءنا عليٌّ لیذكِّرنا، لیخبرنا، لیعرّفنا الحق و الحقیقة؟

و لهذا كان علي (علیه السلام) یحمل السیدة فاطمة الزهراء علی أتانِ (1)، فيدور بها أربعین صباحاً علی بیوت المهاجرین و الأنصار، و الحسن و الحسین معها، و هي تقول:

«یا معشر المهاجرین و الأنصار، انصروا اللّه و ابنة نبیكم، و قد بایعتم رسول اللّه یوم بایعتموه أن تمنعوه و ذریته مما تمنعون منه أنفسكم و ذراریكم.

فَفوا لرسول اللّه ببیعتكم»!

فما أعانها أحد، و لا أجابها و لا نصرها.

فانتهت إلی معاذ بن جبل فقالت: یا معاذ بن جبل! إني قد جئتك مستنصرة، و قد بایعتَ رسول اللّه علی أن تنصره و ذریته، و تمنعه مما تمنع منه نفسك و ذریتك، وإن أبابكر قد غصبني علی فدك و أخرج وكیلي منها.

قال: فَمعي غیري؟

قالت: لا، ما أجابني أحد.

قال: فأین أبلغ أنا من نصرك؟

خرجت السیدة من دار معاذ و هي تقول له: و اللّه لا أُناز عنّك الفصیح من رأسي حتی أرِدَ علی الرسول اللّه.

و دخل ابن معاذ فقال لأبیه: ما جاء بابنة محمد إلیك؟

قال: جاءت تطلب نصرتي علی أبي بكر، فإنه أخذ منها فدكاً.

قال: فما أجبتها؟

قال: قلت: و ما یبلغ نصرتي أنا وحدي؟

قال: فأبیت أن تنصرها؟

ص: 481


1- الأتان: الحمارة.

قال: نعم!!

قال: فأي شيء قالت لك؟

قال: قالت لي: و اللّه لا أُنازعنّك الفصیح من رأسي حتی أرِدَ علی رسول اللّه.

فقال: أنا و اللّه لا أُنازعنّك الفصیح من رأسي حتی أرد علی رسول اللّه.

و ذكر ابن قتیبة الدینوري في (الإمامة و السیاسة) ص 19: قال: و خرج علی (كرم اللّه وجهه) یحمل فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) علی دابة لیلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا یقولون یا بنت رسول اللّه قد مضت بیعتنا لهذا الرجل، و لو أن زوجك و ابن عمك سبق إلینا قبل أبي بكر ما عدلنا به.

فيقول عليّ (كرم اللّه وجهه) أفكنت أدَع رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في بیته لم أدفنه، و أخرج أُنازع الناس سلطانه؟

فقالت فاطمة: ما صنع أبوالحسن إلاّ ما كان ینبغي له، و لقد صنعوا ما اللّه حسیبهم و طالبهم.

ص: 482

فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في بیت الأحزان

لا أعلم ماذا كان تأثیر بكاء السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) في النفوس المریضة حتی شعروا بالانزعاج؟!

و هل بكاء امرأة جالسة في بیتها یسلب الراحة من تلك الشخصیات الفذة!!؟

لقد اجتمع شیوخ أهل المدینة و أقبلوا إلی أمیرالمؤمنین (علیه السلام) و و قالوا له: یا أباالحسن إن فاطمة تبكي اللیل و النهار فلا أحد منا یتهنأ بالنوم في اللیل علی فُرشنا، و لا بالنهار لنا قرار علی أشغالنا و طلب معایشنا، و إنا نخبرك أن تسألها إما أن تبكي لیلاً أو نهاراً.

فاقبل امام علی حتی دخل علی فاطمه الزهرا و هي لاتفيق من البكاء، و لا ینفع فيها العزاء فلما راته سكنت هنیه فقال لها: یا بنت رسول اللّه ان شیوخ المدینه یسالونني ان اسالك اما ان تبكي لیلا او نهارا.

فقالت: یا أباالحسن ما أقلّ مكثي بینهم! و ما أقرب مغیبي من بین أظهرهم فواللّه لا أسكت لیلاً و لا نهاراً أو أُلحق بابي رسول اللّه (و صلی اللّه علیه و آله و سلم).

فقال (علیه السلام): افعلي یا بنت رسول اللّه ما بدا لكِ! (1) .

نعم، إن شیوخ المدینة لا یعرفون حق رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و قدره و منزلته، فلو كانوا یعرفون ذلك لكانوا یشاركون ابنته

ص: 483


1- بحارالانوار ج 43.

الوحیدة في البكاء و یساعدونها في ذرف الدموع علی أشرف میت و أعز فقید.

و یا لیتهم- حین لم یشاركوها و لم یساعدوها- كانوا یسكتون و لا یمنعونها عن البكاء علی مصائبها العظیمة.

و لكنهم معذورون، لأن السیاسة فرضت علیهم أن یمنعوا حبیبة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) عن البكاء علی سید الأنبیاء.

یحق للسیدة فاطمة أن تواصل البكاء علی تلك الفاجعة العظمی و الكارثة الكبری لأجل أُناس لهم غایات و أهداف یعلمها اللّه تعالی.

فبنی لها الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام) بیتاً نازحاً عن المدینة سُمّی «بیت الأحزان» (1) و كانت إذا أصبحت قدّمت الحسن و الحسین أمامها، و خرجت إلی البقیع باكیة فلا تزال بین القبور باكیة، فإذا جاء اللیل أقبل أمیرالمؤمنین إلیها و ساقها بین یدیه إلی منزلها.

فلیهنأ أُولئك المنزعجون عن بكاء فاطمة!! و لترتاح ضمائرهم، و لیناموا علی فُرشهم لیلاً نومة عمیقة هنیئة بدون أن یشعروا بالأذی من بكاء فاطمة العزیزة. و نری- هنا- الشعراء یشیرون إلی هذه المأساة التي یظهر فيها الجفاء بأسوأ منظر.

یقول أحدهم:

منعوا البتول عن النیاحة إذ غدت***تبكي أباها لیلها و نهارها

قالوا لها: قَرّی فقد آذیتنا***أنّی؟ و قد سلب المصاب قرارها

ص: 484


1- قل السمهودي في تاریخ المدینه ج 2 ص 95: ان الغزالي ذكر استحباب الصلاه في مسجد فاطمه (علیه السلام) بالبقیع، و قال غیره: انه المعروف «بیت الاحزان» لان فاطمه (علیه السلام) اقامت فيه ایام حزنها علی ابیها.

و یقول الآخر:

و القائلین لفاطم: آذیتنا***من طول نَوح دائم و حنین

و قد رأی أحد علمائنا- و هو السید باقر الهندي- في المنام الإمام المهدي المنتظر (علیه السلام) فقال له الإمام مشیراً إلی هذه المأساة:

أتراني اتخذتُ لا و علاها***بعد بیت الأحزان سرور؟

ص: 485

فاطمه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) طریحه الفراش

أسفي علیها.

أسفي علی شبابها.

أسفي علی آلامها.

أسفي علی قلبها المتوقد الملتهب.

أسفي علی خاطرها المنكسر.

صارت طریحة الفراش، أخذ المرض و الهزال منها كل مأْخذ.

و استولی الذبول علی تلك الزهرة الزهراء.

إنها لا ترجو العلاج و الدواء، و لا تأمل في البقاء.

إنها تنتظر الموت، تنتظر التخلص من هذه الحیاة.

تتمنی أن تلتحق بأبیها الرسول.

لقد اقتربت شمسها نحو الغروب.

لقد كادت شمعة الرسول أن تنطفئ ء.

لقد ضاقت الدنیا و ضیقت علیها.

تنظر إلی زوجها العظیم، جلیس الدار، مسلوب الإمكانیات، مغصوباً حقه.

تنظر إلی أملاكها قد صودرت، و إلی أموالها قد غصبت.

استغاثت فلم یغثها أحد، و استنصرت فلم ینصرها أحد.

منعوها عن البكاء علی أبیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أشرف الآباء.

ص: 486

و عن الامام الباقر (علیه السلام) انه كان من دعائها في شكواها: «یا حي یا قیوم برحمتك أستغیث فأغثنی، اللّهم زحزحنی عن النار و ادخلني الجنة و ألحقني بابي محمد.

فإذا قال لها أمیرالمؤمنین: عافاكِ اللّه و أبقاكِ. تقول: یا أبا الحسن ما أسرع اللحاق برسول اللّه (1) .

و عن الإمام زین العابدین عن أبیه الحسین (علیهما السلام) قال: لما مرضت فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) وصَّت إلی علي بن أبي طالب (علیه السلام) أن یكتم أمرها و یخفي خبرها، و لا یؤذن أحداً بمرضها، ففعل ذلك، و كان یمرّضها بنفسه و تعینه علی ذلك أسماء بنت عمیس علی استسرار بذلك.... الی آخرالحدیث (2) .

یستفاد من هذا الحدیث مدی تألُّم السیدة فاطمة الزهراء من ذلك المجتمع الذي عرفت موقفه اتجاه بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فقد یكون الاستیاء عمیقاً، في النفس كالجرح الغائر في البدن الذي یطول بُرؤُه أو لا یبرأ علی مرّ الزمان.

و هكذا یزهد الإنسان المتألِّم في المجتمع، و یختار الاعتزال عنهم، و بعد أن كان یستأنس بهم صار لا یحب الالتقاء بهم و التحدث معهم.

و إنما یدرك هذه الحالة كل من رأي الجفاء و القساوة من أقاربه أو أصدقائه أو مجتمعه، فإنه ینزعج حتی من رؤیتهم فكیف بالتحدث و المجالسة معهم، و قد یبلغ الأمر بالإنسان أن یملّ الحیاة و یفضّل الموت كي یستریح من الحیاة التي یعیشها مع أهل الجفاء و القسوة.

ص: 487


1- دلائل الامامه لابن جریر ص 43 ص 217.
2- بحارالانوار ج 43 عن مجالس المفيد.

اختارت السیدة فاطمة زوجها العظیم لیقوم بتمریضها، و لا أعلم كیفية تمریض الإمام إیاها، فهل كان الإمام یصنع لها طعاماً یلیق بالمرضی، أو یتولی هو أُمور بیته بنفسه؟

و علی كل تقدیر، فقد كانت أسماء بنت عمیس شرف التعاون في تمریض السیدة فاطمة، و لعل السبب في انتخابها لهذه المهمة هو أنّه كانت العلاقات بین السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) و بین أسماء بنت عمیس وُدیّة و طیبة للغایة، إلی درجة أنها كانت تعتبر نفسها من أُسرة بني هاشم، و خاصة و أن جعفر بن أبي طالب.

و كانت هي بالذات امرأة عاطفية، تؤمن بالوفاء و الإنسانیة، و تقدر الحقوق لأهلها. و تلتزم بالقیم و المفاهیم العلیا.

و یستفاد من مطاوي التاریخ أنها كانت- بالإضافة إلی ذكائها الوافر و عقلها الوقاد- حسنة الأخلاق، طیبة المعاشرة، و كانت السیدة فاطمة الزهراء تبادلها الحب و المودة و الشعور.

و لما قُتل جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة و بلغ رسول اللّه الخبر بكی (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و بكت الصحابة، و وصل الخبر إلی حجرات الرسول فبكت الهاشمیات، و أقبل الرسول و دخل علی أسماء فدعی بأولاد جعفر و جعل یمسح علی رؤُوسهم، و یشمهم و یضمهم إلی صدره، فأحست أسماء بالشر و قالت: یا رسول اللّه هل بلغك شيء عن جعفر؟

فبكی الرسول و قال لها: احتسبی جعفر فقد قُتل. فبكت و صاحت.

و أقبل الرسول إلی دار ابنته فاطمة و قال لها: اصنعي طعاماً لآل جعفر فإنهم مشغولون بالعزاء.

فعمدت السیدة فاطمة إلی الدقیق و عجنته و خبزت خبزاً كثیراً، و عمدت

ص: 488

إلی مقدار من التمر و أرسلت بالخبز و التمر إلی دار آل جعفر.

و الجدیر بالذكر أن الرسول لم یأمر إحدی زوجاته و لا سائر الهاشمیات بذلك فلعل السبب في ذلك أن الرسول أراد أن یكون هذا الثواب الجزیل من نصیب ابنته فاطمة.

أو أن الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) اختار لها هذا العمل نظراً للعلاقات الطیبة و السوابق الحسنة و الخدمات الجمة التي أسدتها أسماء بنت عمیس إلی أهل بیت الرسول.

فلقد مرّ علیك أن أسماء حضرت عند السیدة خدیجة ساعة وفاتها، و أنها ساهمت في التدابیر التي اتخذت في زواج السیدة فاطمة الزهراء، بل و حضرت أسماء عند السیدة فاطمة ساعة ولادة الإمام الحسین، و قامت بدور القابله المولِّدة و ساعدْنها بعض النساء أیضاً.

و بالرغم من أنها تزوجت بأبي بكر بعد مقتل زوجها جعفر فإنها استمرّت علی و لائها، و لم تتغیر قید شعرة، و حتی بعد وفاة الرسول.

و موقف أبي بكر اتجاه أهل البیت كان موقفاً معروفاً.

و بالرغم من الحرب الباردة بین أهل البیت و بین السلطة المتمثلة في أبي بكر فإن أسماء بنت عمیس لم تتأثر بعواطف زوجها، و تحدّت السلطة تحدّیاً لا تنقضي عجائبه.

فكیف كان أبوبكر یسمح لها بالذهاب إلی دار علي (علیه السلام) لخدمة الزهراء و خدمة أولادها؟

و كیف لم یأمرها بقطع علاقاتها مع أهل البیت في تلك الظروف الخاصة؟

و علی كل حال، فقد كانت السیدة فاطمة الزهراء تستأنس بأسماء و تنسجم معها و تسكن إلیها، و تبثُّ إلیها آلامها، و كأنها أختها، و كأنها

ص: 489

أحب الناس إلیها، و أقربهن إلی قلبها.

قالت لها السیدة فاطمة في أواخر أیام حیاتها: كیف أصنع و قد صرت عظماً و قد یبس الجلد علی العظم؟

و في روایة التهذیب عن أبي عبداللّه الصادق (علیه السلام) قال...... و قالت فاطمة لأسماء: إني نحلت و ذهب لحمي، ألا تجعلین لي شیئاً یسترني؟

قالت أسماء: إني كنت بأرض الحبشة رأیتهم یصنعون شیئاً أفلا أصنع لكِ، فإن أعجبك أصنع لكِ؟

قالت: نعم.

فدعت (أسماء) بِسریر فأكبته لوجهه، ثم دعت بجرائد فشددته علی قوائمه ثم جلَّلته ثوباً فقالت: هكذا رأیتهم یصنعون.

فقالت: اصنعي لي مثله، استریني سترك اللّه من النار.

و في روایة الاستیعاب: فقالت فاطمة: ما أحسن هذا و أجمله لا تعرف به المرأة من الرجل.

و روی انها (علیها السلام)- لمارات ما صورته اسماء- تبسمت، و ما رویت مبتسمه-بعد ابیها- الا یومئذ.

ص: 490

اسباب انحراف صحتها

انتشر خبر مرض السیدة فاطمة الزهراء في المدینة، و سمع الناس بانحراف صحتها،و لم تكن تشكو السیدة فاطمة الزهراء من داء عضال، بل الهموم و المصائب و الآلام هي التي ادت الی استیلاء الهزال و الذبول علیها.

و كثرة البكاء علی أبیها و علی حیاتها ساعدت علی زوال الطراوة و النضارة عن وجهها.

و الجفاء و الخشونة و المواقف غیر المشرفة التي شاهدتها من بعض المسلمین، و انقلاب الأمور، و تبدّل الأحوال و تغیّر الأوضاع السیاسه و الاجتماعیه لان لها اكبر الاثر علیها.

و لقد حدث لها بین حائط دارها و الباب حوادث أدّت إلی سقوط جنینها.

و السیاط التي أدمت جسمها الطاهر، و تركت في بدنها آثاراً عمیقة. و الضرب المبرّح الذي ألَّم جسمها و نفسها و روحها.

كل هذه الأمور ساهمت في انحراف صحتها، و قعودها عن ممارسة أعمالها المنزلیه.

ص: 491

عیاده الشیخین للسیده الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)

اشاره

انتشر خبر استیاء السیدة فاطمة (علیه السلام) من السلطة، و نقمتها علی الذين آزروا تلك السلطة، و نبذوا وراءهم جمیع المفاهیم و القیم، و تناسوا كل آیة من القرآن نزلت في آل الرسول.

و أعرضوا عن كل حدیث سمعوه من شفتی الرسول في حق السیدة فاطمة الزهراء و زوجها و ولدیها.

و أخیراً تولَّد شيء من الوعي عند الناس، و عرفوا أنهم مخطئون في تدعیم السلطة الحاكمة التي لا تعترف بها أسرة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

تلك السلطة التي كان موقفها تجاه بنت الرسول موقفاً غیر حسن.

و أخیراً انتبه أفراد السلطة للاستیاء العام المستولي علی القلوب من سوء تصرفاتهم.

فأرادو تغطیة أعمالهم و استدراك ما فات، لذلك قرروا أن یعودوا السیدة فاطمة الزهراء لاسترضائها، و عند ذلك ینتهي كل شيء، و تكون المأساة نسیاً منسیاً. هكذا تفكروا و تدبروا.

و قد رأینا في زماننا هذا الكثیر من المجرمین الذين یعتدون علی الأبریاء بالإهانة و التحقیر و الاستخفاف و أنواع الظلم و التعذیب، ثم یأتون إلی المظلوم و یعتذرون منه سرّاً، و هم یحسبون أنهم یغسلون أعمالهم بالاعتذار.

ص: 492

و لكن السیدة الزهراء كانت تعرف هذه الأسالیب و تعلم كل هذه الأمور.

و إلیك الواقعة- كما ذكرها ابن قتیبة في (الإمامة و السیاسة ج 1 (ص 4) و عمر كحاله في (أعلام النساء) 3 ص 314:

إن عمر قال لأبي بكر (رضي اللّه عنه): انطلق بنا إلی فاطمة فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جمیعاً، فاستأذنا علی فاطمة فلم تأذن لهما، فأتیا علیّاً فكلَّماه فأدخلهما علیها فلما قعدا عندها حوّلت وجهها إلی الحائط، فسلَّما علیها، فلم ترد - علیهما- السلام.

فتكلم أبوبكر فقال: یا حبیبة رسول اللّه! و اللّه إن قرابة رسول اللّه أحبُّ إليَّ من قرابتي و إنك لأحبّ إلی من عائشة ابنتي، و لوَددت یوم مات أبوكِ أني متُّ و لا أبقی بعده، أتراني أعرفكِ و أعرف فضلك و شرفك، و أمنعك حقك و میراثك من رسول اللّه؟

إلاّ أني سمعت أباك رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یقول: لا نورّث، ما تركناه فهو صدقة.

فقالت: أرأیتكما أن حدّثكتما حدیثاً عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) تعرفانه و تفعلان به؟

فقالا: نعم.

فقالت: نشدتكما اللّه: ألم تسمعاً رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یقول:رضا فاطمة من رضاي، و سخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، و من أرضي فاطمة فقد أرضاني، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني؟

قالا: نعم، سمعناه من رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

قالت: فإنی أُشهد اللّه و ملائكته أنكما أسخطتماني و ما أرضیتماني،

ص: 493

و لئن لقیت النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لأشكونكما إلیه.

فقال أبوبكر: أنا عائذ باللّه تعالی من سخطه و من سخطك یا فاطمة. ثم انتحب أبوبكر یبكي، حتی كادت نفسه أن تزهق، و هي (فاطمة) تقول: و اللّه لأدعونَّ علیك في كل صلاة أصلیها.

ثم خرج باكیاً، فاجتمع الناس إلیه فقال لهم: یبیت كل رجل معانقاً حلیلته، مسروراً بأهله و تركتموني و ما أنا فيه، لا حاجة لي في بیعتكم، أقیلوني بیعتی».

العیادة بصورة أخری

في علل الشرائع: لما مرضت فاطمة (علیها السلام) مرضها الذي ماتت فيه أتاها أبوبكر و عمر عائدین، و استأذنا علیها فأبت أن تأذن لهما، فلما رأی ذلك أبوبكر أعطی اللّه عهداً أن لا یظلّه سقف بیت حتی یدخل علی فاطمة و یترضّاها، فبات في الصقیع، ما أظلّه شيء، ثم إن عمر أتی علیّاً (علیه السلام) فقال له: قد أتیناها (فاطمة) غیر هذه المرة مراراً نرید الإذن علیها و هي تأبی أن تأذن لنا حتی ندخل علیها فنترضّی، فإن رأیت أن تستأذن لنا علیها فافعل.

قال: نعم، فدخل علي (علیه السلام) علی فاطمة فقال: یا بنت رسول اللّه قد كان من هذین الرجلین ما قد رأیت، و قد تردّدا مراراً كثیرة و رددتهما و لم تأذني لهما، و قد سألاني أن أستأذن لهما علیك.

فقالت: و اللّه لا آذن لهما، و لا أُكلمهما كلمة من رأسي حتی ألقی أبي فأشكوهما إلیه بما صنعاه و ارتكباه مني؛

قال علي: فإني ضمنت لهما ذلك.

قالت: إن كنت ضمنت لهما شیئاً فالبیت بیتك، و النساء تتبع

ص: 494

الرجال، لا أُخالف علیك بشيء، فأْذن لمن أحببت.

فخرج عليّ فأذن لهما، فلما وقع بصرهما علی فاطمة سلّما علیها، فلم تردّ علیهما،و حوَّلت وجهها عنهما، فتحوّلا و استقبلا وجهها حتی فعلت مراراً و قالت: یا عليّ جافِ الثوب و قالت- لنسوة حولها-: حّوّلن وجهي!! فلما حوّلن وجهها حوّلا إلیها فقال أبوبكر: یا بنت رسول اللّه إنما آتیناك ابتغاء مرضاتك و اجتناب سخطك، نسألك أن تغفري لنا و تصفحي عما كان منا إلیك.

قالت: لا أُكلّمكما من رأسي كلمة واحدة حتی ألقی أبي و أشكو كما إلیه، و أشكو صنیعكما و فعالكما و ما ارتكبتما مني.

ثم التفتت إلی عليّ و قالت: إني لا أُكلمهما من رأسي حتی أسألهما عن شيء سمعاه من رسول اللّه، فإن صدقا رأیت رأیي.

قالا: اللّهم ذلك لها، و إنا لا نقول إلاَّ حقاً و لا نشهد إلاَّ صدقاً.

فقالت: أنشدكما باللّه: أتذكران أن رسول اللّه استخرجكما في جوف اللیل بشيء كان حدث من أمر عليّ؟

قالا: اللّهم نعم.

فقالت: أُنشدكما باللّه هل سمعتما النبي یقول: فاطمة بضعة مني و أنا منها، من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذی اللّه، و من آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حیاتي، و من آذاها في حیاتي كان كمن آذاها بعد موتي؟

قالا: اللّهم نعم.

فقالت: الْحمد للّه. ثم قالت:

اللّهم إني أُشهدك فاشهدوا یا من حضرني: أنهما قد آذیاني في حیاتي و عند موتي. و اللّه لا أُكلِّمكما من رأسي كلمة حتی ألقی ربي فأشكو كما

ص: 495

إلیه بما صنعتما به و بي، و ارتكبتما مني.

فدعا أبوبكر بالویل و الثبور و قال: لیت أمي لم تلدني!!

فقال: عمر: عجباً للناس كیف ولّوك أُمورهم و أنت شیخ قد خرفت!! تجزع لغضب امرأة و تفرح برضاها؟ و ما لمن أغضب امرأة؟ و قاما و خرجا.

قال: نعم.

قالت: فهل انت صانع ماآمرك؟

قال: نعم.

قالت: فانی انشدك اللّه ان لا یصلیها علی و لا یقوما علی قبري (1) .

أقول: لا حاجة إلی هذا البكاء المرّ الذي أو شك علی إزهاق الروح- علی حد تعبیر روایة ابن قتیبة- و لا داعي بأن ینادي أبوبكر بالویل و الثبور و بإمكانه أن یُرضی السیدة فاطمة بأن یردّ إلیها حقوقها، و یرفع یده عن أراضیها،و یعتذر عن أعماله.

و لكن الخلیفة یرید أن یبقی علی اعتدائه و علی موقفه- الذي عرفته- بدون أي تنازل، و في نفس الوقت یرید أن ترضی عنه فاطمة الزهراء!؟.

لا أظن أن أي إنسان أو مسلم أو قانون أو شعب یرضی بهذا، و لا أظن أن شریعة أو دیناً أو ضمیراً أو وجداناً أو منطقاً یقول بهذا، سوی منطق العنف و الضغط، و منطق القوة و القدرة.

و لكن السیدة فاطمة أقوی نفساً و روحاً من أن تخضع لهذا المنطق أو بالأحری: أن تنخدع بهذه المظاهر!؟

ص: 496


1- بیت الاحزان ص 145.

و هنا سئوال قد یتبادر إلی ذهن القارئ و هو: ما الذي دعا أبابكر أن یلین و یخضع هكذا؟

و ما دعا الزهراء أن تثبت علی رأیها، و لا تتضعضع عن موقفها؟ لقد أجاب الجاحظ علی هذا السؤال، و كفانا مؤونة الجواب قال في رسائله ص 300 «... فإن قالوا: كیف تظن به ظلمها و التعدي علیها، و كلما ازدادت علیه غلظة ازداد لها لیناً و رقّة حیث تقول له: و اللّه لا أُكلمك أبداً، فيقول: و اللّه لا أهجرك أبداً، ثم یتحمل منها هذا الكلام الغلیظ و القول الشدید في دار الخلافة و بحضرة قریش و الصحابة مع حاجة الخلافة إلی البهاء و التنزیه، و ما یجب لها من الرفعة و الهیبة، ثم لم یمنعه ذلك عن أن قال معتذراً متقرباً كلام المعظَّم لحقها، المكبِّر لمقامها، الصائن لوجهها، المتحنِّن علیها: «ما أحد أعز علیَّ منك فقراً و لا أحب إليّ منك غني، و لكن سمعت رسول اللّه یقول: إنا معاشر الأنبیاء لا نورِّث ما تركناه صدقة»؟؟

قیل لهم: لیس ذلك بدلیل علی البراءة من الظلم، و السلامة من الجور. و قد یبلغ من مكر الظالم و دهاء الماكر إذا كان أریباً و للخصومة معتاداً أن یظهر كلام المظلوم و ذلَّة المنتصف، و حدب الوامق و مقت المحقّ... الی آخر كلامه».

ص: 497

عیاده ام سلمه للسیده فاطمه الزهراء

تعتبر السیده ام سلمه من خیره زوجات رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في حیاته و بعد مماته.. فلم توذ النبي بكلامها او تصرفاتها، و لم تتامر علیه مع ضراتها- كما حدث من بعضهن في قصه المغافير و نزول قوله تعالی: «یا ایها النبي لم تحرم ما احل اللّه لك تبتغي مرضات ازواجك»-.

بل احسنت صحبته و معاشرته في حیاته.

و بعد وفاته (صلی اللّه علیه و آله و سلم) كانت لها مواقف مشرفه و مشكوره تجاه آل رسول اللّه، و لم تنحرف عنهم في خضم الاحداث التي عصفت بهذه الذریه الطاهره، بل وقفت موقف المدافع و المحامي و الناصر، و شاركتهم في الآلام و الاحزان.

و لما مرضت السیده فاطمه (علیها السلام) دخلت علیها ام سلمه عائده لها فقالت: كیف اصبحت عن لیتك (1) یا بنت رسول اللّه؟

قالت (علیها السلام): اصبحت بین كمد و كرب، فقد النبي و ظلم الوصي.

هتك- و اللّه- حجاب من اصبحت امامته مقتضیه، علی غیر ما شرع اللّه في التنزیل،و سنها النبي في التاویل، و لكنها احقاد بدریه، و ترات احدیه (2) كانت علیها قلوب النفاق متمكنه...» الی آخر كلامها (علیها السلام) (3) .

ص: 498


1- و في نسخه: علتك
2- ترات: جمه تره- كعده-: الانتقام.
3- المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 205.

و الجدیر بالذكر: ان السیده ام سلمه هي الوحیده- من بین زوجات النبي- التي جاءت لزیاره فاطمه الزهراء (علیها السلام) و عیادتها و السوال عن صحتها.

فاین كانت غیرها من الزوجات؟!

و لماذا لم یشاركنها في الآلام- و هي البنت الوحیده لرسول اللّه-؟!

هذا... و سوف تقرا ان السیده فاطمه اوصت الی امیرالمومنین (علیهما السلام) ان یخبر ام سلمه بوفاتها.

ص: 499

عیاده عائشه بنت طلحه للسیده فاطمه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)

و دخلت علیها عائشه بنت طلحه فقالت: بابي انت و امي: ما الذي یبكیك؟

فقالت (علیها السلام) لها: اسائلتي عن هنه حلق بها الطائر و حفي بها السائر، و رفع الی السماء امرا، و رزئت في الارض خبرا؟!

ان قحیف تیم، و احیول عدی (1) جازیا اباالحسن في السباق، حتی اذا تفریا بالخناق اسرا له الشنان (2) و طویاه الاعلان.

فلما خبا نور الدین، و قبض النبي الامین، نطقا بفورهما، و نفثا بسورهما (3) و ادالا بفدك (4) فيالها لمن ملك.

انها عطیه الرب الاعلی للنجي الاوفي، و لقد نحلنیها (صلی اللّه علیه و آله و سلم) للصبیه السواغب من نجله و نسلي، و انها لبعلم اللّه و شهاده امینه.

فان انتزعا مني البلغه، و منعاني اللمظه، احتستبها یوم الحشر زلفه، و لیجدنها آكلوها ساعره حمیم في لظی جحیم (5) .

ص: 500


1- قحیف تصغیر قحف، باعتبار ان ابابكر هو ابي قحافه، و قحافه مشتق من القحف و هو جرف ما في الاناء من ثرید و غیره، فهو كنایه عن الجشع و الاكل و الشرب بنهم شدید/ لسان العرب- حرف الفاء. احیول: تصغیر احول، و هو الذي في عینه حول اي: تغییر.
2- الشنان: البغضاء.
3- 560. الفور: الغلیان و الاضطراب. نفث: تكلم، و منه: نففث الشیطان علی لسانه. السور- بفتح السین و الواو- حده الشي و شدته.
4- 561. ادالا: غلبا.
5- كتاب الامالي للشیخ الطوسي ج 1 ص 207.

العباس یحاول عیادة السیدة فاطمة

اشتد المرض بسیدة نساء العالمین، و ثقلت، فجاءها العباس بن عبد المطلب عائداً، فقیل له، إنها ثقیلة، و لیس یدخل علیها أحد، فانصرف إلی داره و أرسل إلی علي (علیه السلام) فقال لرسوله: قل له: یا ابن أخ! عمُّك یقرئك السلام و یقول لك: للّه قد فاجأني من الغم بشكاة حبیبة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و قرة عینه و عیني فاطمة ما هدّني، و إني لأظنها أولنا لحوقاً برسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله و سلم) یختار لها و یحبوها و یزلفها لربه.

فإن كان من أمرها ما لا بدَّ منه فاجمع- أنا لك الفداء- المهاجرین و الأنصار حتی یصیبوا الأجر في حضورها و الصلاة علیها، و في ذلك جمال للدین.

فقال علي (علیه السلام) لرسوله- و هو عمار:- أبلغ عمي السلام و قل: لا عدمتُ إشفاقك و تحیتك، و قد عرفت مشورتك، و لرأیك فضله، إن فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لم تزل مظلومة، من حقها ممنوعة، و عن میراثها مدفوعة، و لم تُحفظ فيها وصیة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و لا رُعي فيها حقه و لا حق اللّه (عز و جل)، و كفي باللّه حاكماً و من الظالمین منتقماً و أنا أسألك یا عم أن تسمح لي بترك ما أشرت به، فإنها وصّتني بستر أمرها.

فلما بلّغ الرسول كلام علی إلی العباس قال: یغفر اللّه لابن أخی فإنه

ص: 501

لمغفور له، إنَّ رأْي ابن أخي لا یُطعن فيه، إنه لم یولد لعبد المطلب مولود أعظم بركة من علی إلاَّ النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

إن علیاً لم یزل أسبقهم إلی كل مكرمة، و أعلمهم بكل فضیلة، و أشجعهم في الكریهة، و أشدَّهم جهاداً للأعداء في نصرة الحنیفية، و أول من آمن باللّه و رسولهِ (1) .

ص: 502


1- بحارالانوار ج 43.

فاطمه الزهرا علی اعتاب الاخره

كانت السیدة فاطمة الزهراء في ذلك الیوم- الیوم الأخیر من حیاتها- طریحة علی فراشها المتواضع، و قد أخذ الهزال منها كل مأخذ، و ما بقي منها سوی الهیكل العظمی فقط.

نامت السیدة فاطمة في ساعة من ساعات ذلك الیوم، و إذا بها تری أباها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في المنام، و لعل تلك المرَّة هي الأُولی و الأخیرة التي رأت الزهراء أباها الرسول في المنام.

رأت أباها في قصر من الدر الأبیض، فلما رآها قال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): هلمِّي إليَّ یا بُنَیَّة، فإنِّی إلیكِ مشتاق!!

فقالت: و اللّه إني لأشد شوقاً منك إلی لقائك.

فقال لها: أنت اللیلة عندي!!

انتبهت من غفوتها، واسْتِعدَت للِرّحیل إلی الآخرة، فقد سمعت من أبیها الصادق المصدَّق الذي قال: «من رآني فقد رآني» سمعت منه نبأ ارتحالها فلا مجال للشك و التردد في صدق الخبر.

فتحت عینها، و استعادت نشاطها، و لعلها كانت في صحوة الموت و قامت لاتخاذ التدابیر اللازمة، و اغتنمت تلك السویعات الأخیرة من حیاتها.

و یعلم اللّه مدی انشغال قلبها و تشتّت فكرها في تلك اللحظات، فهي مسرورة بالموت الذي سوف یُحلُّ بها، فإنها تستريح من هموم الدنیا

ص: 503

و غمومها، و تلتحق بأبیها الرسول الأعظم (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حیث الرفيع الأعلی و الدرجات العلا في مقعد صدق عند ملیك مقتدر، و تتحقق في حقها البُشری التي زفّها إلیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یوم قال لها: أنت أوّل أهل بیتي لحوقاً بي.

و لكنها من ناحیة أخری: یضطرم قلبها لأنها سوف تترك زوجها العظیم و كفؤها الكریم وحیداً غریباً في هذه الحیاة القاسیة، بلا ناصر و لا معین سوی اللّه تعالی، فلقد كانت الزهراء خیر محامیة و مدافعة و ناصره لزوجها في تلك الأحداث، فمن الذي یقوم مقامها إذا هي فارقت الحیاة؟

و مما كان یؤلمها في تلك السویعات أكثر و أكثر و كان یضغط علی قلبها- أنها تفارق أطفالها الصغار، و كأنهم أفراخ لم تنبت أجنحتهم بعد، و قد ذكرنا (فيما مضی) أن من جملة أسمائها: الحانیة، لأنها ضربت الرقم القیاسي في الحنان و العطف علی أولادها، و كانت أكثر أُمهات العالم حباُ و شفقة علی أطفالها الأعزاء.

إنها ستترك أفلاذ كبدها أهدافاً لسهام هذا الدهر الخؤون الذي لا یرحم كبیراً و لا صغیراً، و لا وضیعاً و لا شریفاً، و خاصة و أنها قد سمعت من أبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) مرات عدیدة: أن آل رسول اللّه هم المستضعفون وأنهم سوف یرون أنواع الاضطهاد و ألوان المصائب و الذل و الهوان، كما شاهدت هي ذلك بعد وفاة أبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و یعلم اللّه كیف كانت هذه الهواجس و الأفكار تهاجم قلبها المنكسر المتألم.

و علی كل حال: فالحزن هنا لا یجدي و لا ینفع، و لا بد من الاستسلام للواقع المر، و التسلیم لأمر اللّه و قضائه و لا بدّ من انتهاز هذه الفرصة القصیرة

ص: 504

التي تمر مرّ السحاب.

أقبلت الزهراء تزحف أو تمشي مُتكاة علی الجدار نحو الموضع الذي یوجد فيه الماء من بیتها، و شرعت تغسل أطفالها بیدیها المرتعشتین، ثم دعت أطفالها و طفقت تغسل رُؤوسهم بالماء و الطین، لأنها لم تجد غسیلاً غیر الطین.

قف بنا لحظة!! لنبكي علی هذه السیدة التي قد اقترب أجلها، و هي تلمس رُؤوس أطفالها و أبدانهم النحیفة، و كأنها تودعهم، و ما یدریك أنها- حینذاك- كانت تبكي بصوت خافت، و تتقاطر الدموع من جوانب عینيها الغائرتین، و تسیل علی وجهها المنكسف لتغسل الذبول المستولي علیه.

و دخل الإمام علي (علیه السلام) البیت، و إذا به یری عزیزته قد غادرت فراش العلة و هي تمارس أعمالها المنزلیة.

رقَّ لها قلب الإِمام حین نظر إلیها و قد عادت إلی أعمالها المتعبة التي كانت تجهدها أیام صحتها، فلا عجب إذا سألها من سبب قیامها بتلك الأعمال بالرغم من انحراف صحتها؟

أجابته بكل صراحة: لأن هذا الیوم آخر یوم من أیام حیاتي، قمت لأغسل رُؤوس أطفالي و ثیابهم لأنهم سیصبحون یتامی بلا أم!!

سألها الإِمام عن مصدر هذا النبأْ فأخبرته بالرؤْیا، فهي بذلك قد نعت نفسها إلی زوجها بما لا یقبل الشك.

وصایا فاطمه الزهراء

إذن، فالسیدة فاطمة في أواخر ساعات الحیاة، و قد حان لها أن تكاشف زوجها بما أضمرته في صدرها (طیلة هذه المدة) من الوصایا التي یجب

ص: 505

تنفيذها و لو بأغلی الأثمان و لا یمكن التسامح فيها أبداً، لأنَّ بها غایة الأهمیة. كأنها قد فرغت من أعمالها المنزلیة و عادت إلی فراشها و قالت: یا ابن عم!! إنه قد نُعیت إليَّ نفسي، و إنني لا أری ما بي إلاَّ إنني لاحقة بابي بعد ساعة، و أنا أُوصیك بأشیاء في قلبي.

قال لها علي (علیه السلام): أوصیني بما أحببت یا بنت رسول اللّه، فجلس عند رأسها، و أخرج من كان في البیت، ثم قالت:

یا بن عم!! ما عهدتني كاذبة و لا خائنة.

و ما خالفتك منذ عاشرتني.

قال علي (علیه السلام): معاذ اللّه!! أنتِ أعلم باللّه، و أَبرُّ و أتقی و أكرم، و أشدُّ خوفاً من اللّه من أن أُوبِّخك بمخالفتي.

و قد عزَّ عليَّ مفارقتك و فقدكِ.

إلاَّ أنَّه أمر لا بدَّ منه.

و اللّه لقد جددتِ عليَّ مصیبة رسول اللّه، و قد عظمت وفاتك و فقدك فإنا للّه و إنا إلیه راجعون.

من مصیبة ما أفجعها و آلمها، و أمضَّها و أحزنها.

هذه مصیبة لا عزاء منها، ورزیة لا خلف لها.

ثم بكیا جمیعاً ساعة، و أخذ الإِمام رأْسها و ضمه إلی صدره ثم قال:

أوصیني بما شئت، فإنك تجدینني و فياً أُمضي كل ما أمرتني به، و أختار أمرك علی أمري.

فقالت: جزاك اللّه عنی خیر الجزاء.

یا بن عم! أوُصیك أولاً:

أن تتزوج بعدي بابنة أُختي أُمامة، فإنها تكون لُولدی مثلي، فإن الرجال لا بدَّ لهم من النساء.

ص: 506

ثم قالت: أُوصیك أن لا یشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، فإنهم عدوي و عدو رسول اللّه، و لا تترك أن یصلی عليَّ أحد منهم و لا من أتباعهم، و ادفني في اللیل إذا هدأت العیون ونامت الأبصارِ (1) .

الوصیة بصورة أُخری:

قالت: یا بن العم! إذا قضیت نحبي فغسِّلني و لا تكشف عني، فإني طاهرة مطهرة، و حنِّطنی بفاضل حنوط أبي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و صَلِّ عليِّ، و لیصلِّ معك الأدنی فالأدنی من أهل بیتي و ادفني لیلاً لا نهاراً، و سراً لا جهاراً، و عَفِّ موضع قبري، و لا تُشهد جنازتي أحداً ممن ظلمني.

یا بن العم! أنا أعلم أنك لا تقدر علی عدم التزویج من بعدي فإن أنت تزوَّجت امرأة اجعل لها یوماً و لیلة، و اجعل لأولادي یوماً و لیلة.

یا أباالحسن! و لا تُصح في وجههما فيصبحْان یتیمین غریبین منكسرین، فإنهما بالأمس فقدا جدَّهما و الیوم یفقدان أُمَّهما، فالویل لأُمَّة تقتلهما و تبغضهما، ثم أنشأتْ تقول:

ابكني إن بكیت یا خیر هادي***و أسبل الدمع فهو یوم الفراق

یا قرین البتول أوصیك با***لنسل فقد أصبح حلیف اشتیاق

ابكني و ابك للیتامی، و لا تن***س قتیل العدی بطَف العراق

و عن الامام الباقر (علیه السلام) ان فاطمه (علیها السلام)- لما ارادت الوصیه-قالت لامیرالمومنین (علیه السلام):

یا اباالحسن: ان رسول اللّه عهد الی و حدثني اني اول اهله لحوقا به،

ص: 507


1- روضه الواعظین/بحارالانوار ج 43.

و لابد مما لابد منه، فاصبر لامر اللّه و ارض بقضائه (1) .

و روي عن الامام الصادق (علیه السلام) قال: لما حضرت فاطمه الوفاه، بكت، فقال لها امیرالمومنین: یا سیدي ما یبكیك؟

قالت: ابكي لما تلقی بعدي.

قال لها: لا تبكي، فو اللّه ان ذالك لصغیر عندي في ذات اللّه (2) .

و في روایه: قالت لامیرالمومنین (علیه السلام): ان لي الیك حاجه یا اباالحسن؟قال: تقضی یا بنت رسول اللّه.

قالت: نشدتك باللّه و بحق محمد رسول اللّه ان لا یصلي علي ابوبكر و عمر (3) .

و في روایه عن علي (علیه السلام) قال: «ان فاطمه (علیها السلام) اوصت الی و قالت:

ان هما صلیا علي، شكوتك الی ابي، بمثل الذي اشكوهما (4) هذه بعض وصایا السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) التي یتجلی فيها مدی تألمها من ذلك المجتمع، و مدی تذمُّرها من الجفاة القساة.

إنها اختارت أن تسجِّل اسمها في طلیعة أسماء المضطهدین المحرومین و أن تدوِّن اسمها في سجلِّ المظلومین، حتی، اسمها رمزاً للمظلومیة

ص: 508


1- بیت الاحزان للقمي ص 142.
2- بحار الانوار ج 43.
3- بیت الاحزان للقمي ص 142.
4- كتاب كامل البهائي لعماد الدین طبري ص 313 هو من علما القرن السابع الهجري و له مولفات كثیره في اصول الدین و فروعه و فضائل الائمه الطاهرین (علیهم السلام) و كان معاصرا للعلامه الحلّي و المحقق الحلي (رضوان اللّه علیهم اجمعین).

و الحرمان، و لیكون تشییع جثمانها تعبیراً عن سخطها علی السلطة و علی كل من أیَّد تلك السلطة و اعترف بها و تعاون معها.

و إعلاناً عن غضبها علی كل مَن وقف من الزهراء موقفاً سلبیاً.

أوصَت أن یُشیَّع جثمانها لیلاً و تجري مراسیم التشییع- من التغسیل و التكفين و الصلاة و الدفن- في جوٍّ من الكتمان.

و أن لا یشترك في تشییع جنازتها إلاَّ أفراد لم تتلوَّث ضمائرهم بالانحراف و لم تسوّد صفحاتهم بالانجراف.

أفراد كان موقفهم تجاه السیدة فاطمة- خلال فترة الانقلاب- موقفاً إیجابیاً مشرفاً.

ص: 509

حنوط الجنة

و لها وصایا أُخری لزوجها بأن یتعهد قبرها، و یقرأ القرآن عند مرقدها و غیر ذلك مما لیست لها أهمیة كالبنود السابقة من وصایاها.

ثم طلبت السیدة فاطمة من أسماء بنت عمیس الحنوط الذي جاء به جبرائیل من الجنة و قالت: یا أسماء ائتني ببقیة حنوط والدي من موضع كذا و كذا، فضعیه عند رأسي (1) .

و أما الحنوط و هو السدر و الكافور فقد روي عن علي (علیه السلام) أنه قال: كان في الوصیة أن یدفع إليَّ الحنوط فدعاني رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قبل وفاته بقلیل: فقال: یا علي و یا فاطمه هذا حنوطي من الجنه دفعه الی جبرئیل و هو یقرو كما السلام و یقول لكما: اقسماه، و اعزلا منه لي و لكما.

فقالت فاطمه (علیه السلام): یاابتاه لك ثلثه. و لیكن الناظر في الباقي علي بن أبي طالب.

فبكی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و ضمها الیه و قال: موفقه، رشیده، مهدیه، ملهمه.

یا علي قل في الباقي.

قال: نصف ما بقي، لها؛ و النصف الاخر لمن تری یا رسول اللّه!!

قال (صلی اللّه علیه و آله و سلم): هو لك (2) .

ص: 510


1- بحارالانوار ج 43.
2- مستدرك الوسائل في احكام الكفن.

ثم دعت السیدة فاطمة سلمي امرأة أبي رافع و قالت لها: هیئي لي ماءً.

و في روایة: «اسكبي لي غسلاً» ثم دعت بثیابها الجدد فاغتسلت أحسن ما یكون، ثم قالت: افرشي فراشي وسط البیتِ (1) .

أقول: لا أعرف السبب في اغتسال السیدة فاطمة و تبدیل ثیابها و هي في أواخر ساعات الحیاة، بل علی أعتاب المنیة.

و لعل السبب في ذلك (و اللّه العالم) أنها (علیها السلام) أرادت أن تغسل آثار الجروح الموجودة علی عضدها و علی ضلعها، تلك الجروح التي حدثت لها عند باب بیتها من الضرب، كما تقدم الكلام عنه.

و هكذا نزعت الثیاب الملطخة بالدماء و القیح، و لعلها (علیها السلام) أرادت أن تخفي ذلك عن ذویها الذين یحضرون ساعة تغسیلها.

و زعم البعض أنها اغتسلت عوضاً عن غسل المیت، بعد الموت، و أنها أوصت لأن لا تغسل بعد الموت.

و هذا عجیب من المحدِّثین كیف یذكرون هذه الأُسطورة أو الأُكذوبة؟ مع العلم أن غسل المیت إنما یجب بعد الموت لا قبل الموت.

نعم، بالنسبة للمحكوم علیهم بالقتل یغتسلون قبل تنفيذ حكم الإعدام علیهم، و لیس هذا المورد من تلك الموارد.

ثم أن الفقهاء إنما استدلوا علی جواز تغسیل الزوج زوجته بعد الموت بتغسیل الإِمام أمیر المؤمنین زوجته السیدة فاطمة (علیها السلام) بعد وفاتها بحیث صار هذا الأمر أوضح من الشمس، و أشهر من أمس، فما فائدة ذكر هذا القول الشاذ الذي لا یعبأْ به أحد؟

ص: 511


1- بحارالانوار ج 43.

فاطمه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) تفارق الحیاه

انتقلت السیدة فاطمة (علیها السلام) إلی فراشها المفروش في وسط البیت، و اضطجعت مستقبلة القبلة، واضعة یدها تحت خدِّها بعد أن هیأت طعاماً لأطفالها. و قیل: أنها أرسلت بنتيها: زینب و أُم كلثوم إلی بیوت بعض الهاشمیات لئلا تشاهدا موت أُمهما، كل ذلك من باب الشفقة و الرأْفة، و التحفّظ علیهما من صدمة مشاهدة المصیبة.

و یستفاد من بعض الأحادیث أن الإِمام علیاً و الحسن و الحسین (علیهم السلام) كانوا خارج البیت في تلك الساعة، و لعل خروجهم كان لأسباب قاهرة و ظروف معیّنة.

و علی كلٍّ حال... فانهم لم یحضروا تلك الدقائق الأخیرة من حیاة أُمِّهم، و إنما كانت أسماء حاضرة و ملازمة لها، و یُستفاد من بعض الأحادیث أن خادمتها فضة أیضاً حاضرة.

حانت ساعة الاحتضار، و حالة النزع، و انكشف الغطاء، و نظرت السیدة فاطمة نظراً حاداً ثم قالت:

السلام علی جبرائیل.

السلام علی رسول اللّه.

اللّهم مع رسولك.

اللّهم في رضوانك و جوارك و دارك دار السلام.

ص: 512

ثم قالت: أترون ما أری؟

فقیل لها: ما ترین؟

قالت: هذه مواكب أهل السماوات و هذا جبرئیل، و هذا رسول اللّه یقول: یا بنیة اقدمي، فما أمامك خیر لك.

و فتحت عینيها.... ثم قالت: و علیك السلام یا قابضْ الأرواح عجِّل بي و لا تعذبني.

ثم قالت: إلیك ربي لا إلی النار.

ثم غمضت عینيها، و مدت یدیها و رجلیها و فارقت الحیاة.

فشقّت أسماء جیبها، و وقعت علیها تقبِّلها و هي تقول: یا فاطمة إذا أقدمت علی أبیك رسول اللّه فأقرئیه عن أسماء بنت عمیس السلام.

و دخل الحسن و الحسین فوجدوا أُمهما مسجّاة فقالا: یا أسماء ما یُنیم أُمَّنا في هذه الساعة؟

قالت: یا بني رسول اللّه لیست أُمُّكما نائمة، قد فارقت الدنیا.

فألقی الحسن نفسه علیها یقبِّل رجلها و یقول: یا أُماه كلّمیني قبل تفارق روحي بدني.

و هكذا الحسین كان یقبل رجلها و یقول: یا أُماه! انا ابنك الحسین!! كلِّمیني قبل أن یتصدَّع قلبي فأموت.

قالت لهما أسماء: یا بنَي رسول اللّه انطلقا إلی أبیكما فأخبراه بموت أُمكما. فخرجا ینادیان: یامحمداه!

الیوم جدد لنا موتك اذماتت امنا.

حتی إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء.

ص: 513

فابتدر إلیهما جمع من الصحابة و سألو هما عن سبب بكائهما؟

فقالا: أو لیس قد ماتت أُمنا فاطمة!

فوقع الإِمام علي (علیه السلام) علی وجهه یقول: بمن العزاء یا بنت محمد؟ كنت بك اتعزی ففيم العزاء من بعدك؟

قال الراوي: ثم حمل علي (علیه السلام) الحسنین، حتی ادخلهما بیت فاطمه (علیه السلام) و عند راسها اسماء تبكي و تقول: و ایتامی محمد!

فلمّا نظر (علیه السلام) الی سیده النساء میته، مدیده ورمی العمامه من علی راسه، و الرداء من علی منكبیه، و بكی بكاءا شدیدا.

ثم كشف (علیه السلام) عن وجهها، فاذا برقعه عند راسها، جاء فيها:

«.... یا علي انا فاطمه بنت محمد، زوجني اللّه منك، لاكون لك في الدنیا و الاخره.

انت اولی بي من غیري.

حنطني و غسلني و كفني باللیل، و صل علي، وادفني باللیل، و لا تعلم احدا.

و استودعك اللّه و اقرا علی ولدي السلام الی یوم القیامه» (1) .

ص: 514


1- بیت الاحزان ص 152 عن بحارالانوار ج 43.

ما بعد الوفاه

اشاره

ارتجت المدینة بالبكاء من الرجال و النساء، و دهش الناس كیوم قُبض فيه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و صاح أهل المدینة صیحة واحدة، و اجتمعت نساء أهل المدینة في دار السیدة فاطمة، فرأینها مسجّاة في حجرتها، و حولها أیتامها یبكون علی أُمهم التي فقدوها في عنفوان شبابها، صرخت النساء صرخة كادت المدینة أن تتزعزع من صراخهن و هن یصحن: یا سیدتاه، یا بنت رسول اللّه (1) .

و أقبل الناس مسرعین و ازدحموا- مثل عُرف الفرس- علی باب البیت، و علی جالس، و الحسن و الحسین بین یدیه یبكیان، فبكی الناس لبكائهما.

کانت أم کلثوم تبکي وتقول: یا ابتاه یا رسول اللّه!

الآن حقاً فقدناك.

فقداً لا لقاء بعده أبداً.

و جاءت عائشة لتدخل فقالت أسماء: لا تدخلي. فكلَّمت عائشة أبابكر فقالت: إن الخثعمیة تحول بیننا و بین ابنة رسول اللّه و قد جعلت لها هودج العروس.

فجاء أبوبكر فوقف علی الباب فقال: یا أسماء ما حملك علی إن منعت ازواج النبي ان یدخلن علی بنت رسول اللّه؟ و جعلت لها مثل

ص: 515


1- المجالس السنیه ج 5.

هودج العروس؟

فقالت اسماء: ان فاطمة أمرتني أن لا یدخل علیها أحد، و أریتُها هذا الذي صنعت و هي حیة، فأمرتني أن أصنع لها ذلك.

قال أبوبكر: فاصنعي ما أَمَرَتْكِ. ثم انصرف.

و أقبل ابوبكر و عمر الی علي (علیه السلام) یعزّیانه، و یقولان له: یا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة علی ابنة رسول اللّه.

فلم یجبهما علي (علیه السلام).

فقال عمر لأبي بكر: ان علیا لا یجیبنا لشده حزنه (1) .

كان الناس ینتظرون خروج الجنازة فأمر علي (علیه السلام) أباذر- و قیل سلمان- فنادی: انصرفوا، فإن ابنة رسول اللّه قد أُخِّر إخراجها في هذه العشیة (2) .

فقال عمر لأبي بكر: انهم یریدون دفنها سرا، حتی لانشهد جنازتها (3) .

و هكذا تفرّق الناس، و هم یظنون أن تشیّع الجنازه سیكون صباح غدٍ، إذ أنّ السیدة فاطمة الزهراء فارقت الحیاة بعد صلاة العصر، أو أوائل اللیلِ (4) .

مراسم التغسیل و التكفين

مضی من اللیل شطره، و هدأت الأصوات، و نامت العیون، ثم قام

ص: 516


1- كامل البهائي لعماد الدین الطبري ج 1 ص 311.
2- اي: ان تشیع الجنازه سیتم في وقت متاخر من اللیل، و لهذا قال: قد اخر اخرجها في هذه العیشه، و لم یقل: عن هذه العیشه. الا ان الناس فهمو من كلامه غیر ما قصده.
3- كامل البهائي لعماد الدین الطبري ج 1 ص 311.
4- بحارالانوار ج 43.

الإِمام لینفِّذ وصایا السیدة فاطمة.

حمل ذاك الجسد النحیف الذي أذابته المصائب حتی صار كالهلال.

حمل ذلك البدن الطاهر كي یُجري علیه مراسم السُّنة الإسلامية.

وضع ذلك الجثمان المطهّر علی المغتسل، و لم یجرّد فاطمة من ثیابها تلبیةً لطلبها، إذ لا حاجة إلی نزع الثوب عن ذلك البدن الذي طهره اللّه تطهیراً، و یكفي صب الماء علی البدن، كما صنع ذلك في تغسیل النبي الطاهر.

و هناك أسماء بنت عمیس، تلك السیدة الوفية الطیبة التي استقامت علی علاقاتها الحسنة مع أهل البیت- فهي تناول علیّاً الماء لتغسیل السیدة فاطمة.

یقول الإِمام الحسین (علیه السلام): غسَّلها ثلاثاً و خمساً، و جعل في الغسلة الأخیرة شیئاً من الكافور، و أشعرها مئزراً سابغاً دون الكفن (1) و هو یقول:

اللّهم إنها أَمَتك، و ابنة رسولك و صفيك، و خیرتك من خلقك اللّهم لقِّنها حجّتها، و أعظم برهانها، و أعل درجتها، و اجمع بینها و بین أبیها محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم) (2) .

و بعد الفراغ من التغسیل حملها و وضعها علی أكفانها، ثم نشّفها بالبردة التي نشف بها رسول اللّه (3) و حنَّطها بحنوط السماء الذي یمتاز عن حنوط الدنیا.

ثم لفَّها في أكفانها، و كفَّنها في سبعة أثوابِ (4) .

ص: 517


1- الشعار: ماولي شعر جسد الانسان دون ماسواه/ لسان العرب ج 4 ص 412.
2- مستدرك الوسائل باب تغسیل المیت ج 2 ص 199 الطبعه الحدیثه.
3- مستدرك الوسائل، باب تغسیل المیت ج 2 ص 199 الطبعه الحدیثه.
4- مستدرك الوسائل، باب تغسیل المیت.

و إنما قام علي (علیه السلام) بتغسیلها، و لم یكلف أحداً من النساء بذلك لأسباب:

1- تلبیة لطلبها، و تنفيذاً لوصیتها.

2- إثباتاً لعصمتها و طهارتها، فإن تغسیل المیت یعتبر تطهیراً له، و أما بالنسبة للمعصومین فلا یسمح للأیدي الخاطئة أن تمدّ لتغسیلهم، و إنما هو من واجبات المعصوم الخاصة أن یقوم بعملیة التطهیر، و قد مرّ علیك الحدیث عن الإِمام الصادق (علیه السلام) حول كونها صدّیقة، و أن الصدّیقة لا یغسلها إلاَّ صدّیق.

فكان الغرض من تلك الوصیة و تنفيذها إثبات عصمتها، و التنویه بذلك في شتی المجالات و كافة المناسبات.

و یصرّح الإِمام (علیه السلام) بذلك حیث یقول: فغسّلتها في قمیصها و لم أكشفه عنها فو اللّه لقد كانت میمونة طاهرة مطهرة... الی آخر كلامه (علیه السلام) (1) .

و هناك أحادیث شاذة بلغت القمة في الشذوذ، فمنها الحدیث الذي یذكره الدولأبي و غیره أن الزهراء (علیها السلام) اغتسلت قبل وفاتها، و أوصت أن لا یغسلها أحد بعد موتها، و أنها دفنت بلا تغسیل!!

و یأْتي بعض علمائنا القدامي لیصحح هذا الخطأْ، فيقول: فلعل ذلك كان من خصائصها (علیها السلام).

أقول: و هل تثبت أمثال هذه الأمور ب (لعل) و (لیت) و خاصة مع تصریح الروایات المعتبرة و تواتر الأحادیث الصحیحة: أن علیّاً هو الذي تولّی تغسیلها؟

ص: 518


1- بحارالانوار ج 43.

أضف إلی ذلك: إن تغسیل المیت المسلم واجب شرعاً.

وداعا یا اماه

رأی الإِمام أن یتامی فاطمة ینظرون إلی أُمّهم البارّة الحانیة، و هي تلفّ في أثواب الكفن.

إنها لحظة فریدة في الحیاة، لا یستطیع القلم وصفها.

إنها لحظة یهیج فيها الشوق الممزوج بالحزن.

إنه الوداع الأخیر الأخیر!!

هاجت عواطف الأب العطوف علی أطفاله المنكسرة قلوبهم، فلم یعقد الخیوط علی الكفن، بل نادی- بصوت مختنق بالبكاء-: یا حسن یا حسین یا زینب یا أُم كلثوم هلمّوا و تزوّدوا من أُمّكم، فهذا الفراق، و اللقاء في الجنة!!

كان الأطفال ینتظرون هذه الفرصة و هذا السماح لهم لكي یودّعوا تلك الحوراء، و یعبّروا عن آلامهم و أصواتهم و دموعهم المكبوتة المحبوسة، فأقبلوا مسرعین، و جعلوا یتساقطون علی ذلك الجثمان الطاهر كما یتساقط الفَراش علی السراج.

و نادی الحسان: واحسره لا تنطفي ء ابدا، من فقد جدنا محمد المصطفي و امنا فاطمه الزهراء، یا ام الحسن یا ام الحسین اذا لقیت جدنا محمد المصطفي فاقرایه منا السلام و قولي له: انا بقینا بعدك یتیمین في دار الدنیا.

كانوا یبكون بأصوات خافتة، و یغسلون كفن أُمّهم الحانیة بالدموع، فتجففها الآهات و الزفرات.

ص: 519

كان المنظر مشجیاً مثیراً للحزن، فالقلوب ملتهبة، و الأحاسیس مشتعلة و العواطف هائجة، و الأحزان ثائرة.

و هنا حدث شيء یعجز القلم عن تحلیله و شرحه، و ینهار أمامه قانون الطبیعة، و یأْتي دور ما وراء الطبیعة، فالقضیة عجیبة في حد ذاتها، لأنها تحدّت الطبیعة و العادة:

یقول علي (علیه السلام)- و هو إذ ذاك یشاطر أیتام فاطمة في بكائهم و آلامهم- یقول: «أُشهد اللّه أنها حنَّت و أنَّت و أخرجت یدیها من الكفن، و ضمَّتهما إلی صدرها ملیّاً».

إن كانت حیاة السیدة فاطمة الزهراء قد تعطّلت فإن أحاسیسها و إدراكها لم تتعطل، و إن كانت روحها الطاهرة قد فارقت جسدها المطهر فإن علاقة الروح لم تنقطع عن البدن بعد، فلروحها القویة أن تتصرف في جسمها في ظروف خاصة و موارد معینة.

كان ذلك المنظر العجیب مثیراً لأهل السماوات الذين كانت أبصارهم شاخصة نحو تلك النقطة من بیت علي (علیه السلام) فلا عجب إذا ضجت الملائكة و شاركت أهل البیت في بكائهم.

فلا غرو إذا سمع الإِمام علي صوت أحدهم یهتف قائلاً: یا علي! ارفعهما فلقد أبكیا ملائكة السموات و قد اشتاق الحبیب إلی حبیبه.

یتقدم الإِمام لیرفع طفلیه عن صدر أُمهما، و عیناه تذرفان بالدموع.

الصلاه علی الجنازه

و انتهت مراسیم التكفين و التحنیط، و جاء دور الصلاة علیها ثم الدفن. لقد حضر الأفراد الذين تقرر أن یشتركوا في تشییع الجثمان و مراسم

ص: 520

الصلاة و غیرها، و هم الذين لم یظلموا فاطمة، و لم یسكتوا أمام تلك الأحداث،و لم یكن موقفهم موقف المتفرج الذي لم یتأثر بالحوادث.

لقد حضروا في تلك الساعة المتأخرة من تلك اللیلة خائفين مترقبین، إذ قد تقرر إجراء تلك المراسم لیلاً و سرّاً، و استغلال ظلمة اللیل مع رعایة الهدوء و السكوت، كل ذلك لأجل تنفيذ وصایا السیدة فاطمة الحكیمة.

لقد حضروا، و هم: سلمان، عمار بن یاسر، أبوذر الغفاري، المقداد، حذیفة، عبداللّه بن مسعود، العباس بن عبدالمطلب، الفضل بن العباس، عقیل، الزبیر، بریدة، و نفر من بني هاشم، و شیّعوا جثمان فاطمة الزهراء- البنت الوحیدة التي تركها الرسول الأقدس بین أُمته- و كأنها امرأة غریبة خاملة فقیرة في المدینة،لا یعرفها أحد.

و كأنها لم تكن المنزلة الرفيعة و الشخصیة المثالیة.

هؤلاء هم المشتركون في تشییع جنازة سیدة نساء العالمین.

و تقدم الإِمام علي (علیه السلام) و صلَّی بهم علی حبیبة رسول اللّه، قائلاً: اللّهم إنی راضٍ عن ابنة نبیك، اللّهم إنها قد أوحشت فآنسها، اللّهم إنها قد هُجِرت فَصِلها، اللّهم إنها قد ظُلِمت فاحكم لها و أنت خیر الحاكمینِ (1) .

ثم صلَّی ركعتین و رفع یدیه إلی السماء فنادی: هذه بنت نبیّك فاطمة أخرجتها من الظلمات إلی النور. فأضاءت الأرض میلاً في میل.

صلی الإِمام علي (علیه السلام) علیها، إذ أنها كانت معصومة، فيجب أن یصلي علیها المعصوم، فالصلاة علی المیت دعاء له بالرحمة. و أما بالنسبة للمعصوم فالدعاء له- أي الصلاة علی جثمانه- من واجب المعصوم.

ص: 521


1- الخصال للصدوق، عن الامام الباقر(علیه السلام).

هذا من الناحیة الشرعیة، و أما من ناحیة العقل و الحكمة فإن السیدة فاطمة الزهراء مع جلالة قدرها، و عظم شأْنها ذهبت إلی دار رئیس الدولة یومذاك مطالبة بحقها، فكان موقف الرئیس معها كما عرفت.

ثم حضرت في المسجد و خطبت تلك الخطبة فلم تجد الإِسعاف لا من الحاضرین في المسجد، و لا من رئیس الدولة، و قد مرّ علیك أن علیّاً (علیه السلام) كان یحملها إلی بیوت المهاجرین و الأنصار یستنجدهم لنصرة الزهراء فلم یجد منهم إلاَّ الجفاء.

و الكارثة التي حدثت عند باب بیتها تركت في جسمها آثاراً تدوم و تدوم و لا تزول.

و مواقف المسلمین اتجاه ابنة الرسول كان لها أثر عمیق في نفس السیدة فاطمة لكونها إهانة صریحة لها، و ظلماً مكشوفاً و اعتداءً مقصوداً، و إهداراً لكرامتها، و تضییعاً لمقامها الأسمي.

و لیست هذه الأمور من القضایا التي تنسی أو تضیع، فلا بد من تنبیه المعتدین علی فظاعة عملهم و تسجیل ذلك في سجل التاریخ، و ذلك عن طریق الاستنكار وا لتعبیر عن الاستیاء العمیق عن تلك الأعمال.

و إن بنود الوصیة ترمز إلی أن الزهراء عاشت بعد أبیها ناقمة و غاضبة علی أولئك الأفراد، و استمرت النقمة و الغضب حتی الموت و بعد الموت و إلی یوم یبعثون.

فلا ترضی السیدة فاطمة أن یشیعها تلك العصابة، و لا أن یصلُّوا علی جنازتها و لا یشهدوا دفنها، و لا یعرفوا قبرها.

ص: 522

فاطمه الزهراء في مثواها الاخیر

اشاره

لقد قرات ان السیده (علیها السلام) اوصت الامام امیرالمومنین (علیه السلام) بان یدفنها لیلا، و ان لا یعلم احدا بموضع قبرها، بل یبقی قبرها مخفياً من یوم وفاتها إلی یوم الفصل الذي كان میقاتاً لیجلب هذا العمل انتباه المسلمین و علی الأخص الحجاج و المعتمرون الذين یزورون قبر الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في المدینة المنورة، و مراقد الأئمة (علیهم السلام) في البقیع، و یتساءلون عن قبرها فلا یجدون لذلك أثراً و لا خبراً.

فالقبر كان و لا زال مجهولاً عند المسلمین، بسبب اختلاف المؤرخین و المحدثین،فهناك أحادیث تصرّح بدفنها في البقیع، و هناك روایات أنها دفنت في حجرتها و عند توسیع المسجد النبوي الشریف صار قبرها في المسجد.

فإن صح هذا القول فإن صُوَر القبور التي صوَّرها الإِمام في البقیع كان لغرض المغالطة، و صرف الأنظار عن مدفنها الحقیقي.

و إن كان الإِمام قد دفنها في البقیع فالقبر كان و لا یزال مجهولاً.

و علی كل تقدیر: لقد حفروا القبر للسیدة فاطمة،

حفروا مرقداً لتلك الزهرة الزهراء، و اللؤلؤة النوراء، و تقدّم أربعة رجال- و هم علی و العباس و الفضل بن العباس و رابعِ (1) - یحملون ذلك الجسد النحیفِ (2) .

ص: 523


1- مستدرك الوسائل باب الدفن.
2- مستدرك الوسائل باب الدفن.

و نزل علي (علیه السلام) إلی القبر لأنه وليّ أمرها، و أولی الناس بأمورها، و استلم بضعة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و أضجعها في لحدها، و وضع ذلك الخد الذي طالما تعفَّر بین یدي اللّه تعالی في حال السجود ذلك الخد الذي كان یقبّله رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) في كل لیلة قبل أن ینام.

وضع ذلك الخد علی تراب القبر و قال: یا أرض أستودعكِ و دیعتي، هذه بنت رسول اللّه.

و عن الامام الصادق (علیه السلام) قال: ان امیرالمومنین (علیه السلام) لما وضع فاطمه بنت رسول اللّه في القبر قال: بسم اللّه الرحمن الرحیم، بسم اللّه و باللّه و علی ملة رسول اللّه محمد بن عبد اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

سلَّمتك أیتها الصّدّیقة إلی من هو أولی بك مني، و رضیت لك بما رضي اللّه تعالی لك.

ثم قرأ: (منها خلقناكم و فيها نعیدكم و منها نخرجكم تارة أخری) (1) .

ص: 524


1- مصباح الانوار/ بیت الاحزان ص 156.

دفنوا اول شهیده من آل محمد.

لقد دفنو كتله من المواهب و الفضائل.

لقد اخفوا في بطون التراب الحوراء الانسیه.

و سوّی علي (علیه السلام) قبرها، و كأنه في تلك المراحل كان جرحه حاراً، فلا یشعر بالألم، و الإنسان قد یصاب بجراح أو كسر فلا یشعر بالألم في وقته، و بعد مضي لحظات یشتد به الوجع، و یتركه یصرخ و یصیح.

كان جثمان السیدة فاطمة نصب عین علي في تغسیلها وتكفينها و الصلاة علیها و دفنها، و الآن قد غابت الزهراء عن الأبصار، و اختفت عن الأعین.

لقد حان أن یشعر الإمام علي بألم المصاب، و یشتد به الوجع أشد ما یمكن.

كانت تلك اللحظات الحرجة من تلك اللیلة مؤلمة و مشجیة، فلقد كان قلب الإِمام مضغوطاً علیه بسبب المصیبة.

لقد ماتت فاطمة الزهراء شهیدة الاضطهاد، قتیلة الظلم و الاعتداء.

و فَقَدَ الإِمام بفقدها شریكة حیاته، و أحبّ الناس إلیه و إلی رسول اللّه.

فَقَدَ سیدةً في ریعان شبابها، و مقتبل عمرها، و نضارة حیاتها.

فَقَدَ سیدةً انسجمت معه دیناً و دنیا و آخرة.

فَقَدَ زوجةً شاركته في مصائب حیاته و مرارتها بكل صیر.

فَقَدَ حوراء لیست من مستویات نساء الدنیا.

سوف لا یجد الإِمام علی وجه الأرض مثلها عصمة و نزاهة و تقوی و علماً و كمالاً و شرفاً، و فضائل و مكارم و غیرها.

فلا یمكن له أن یتسلی بامرأة أُخری.

ص: 525

و مما زاد في المصیبة، و ضاعف في أبعاد الكارثة أن السیدة أوصت إلی زوجها أن یكون تشییع جثمانها لیلاً و سرّاً، و بإخفاء قبرها بحیث لا یكون لقبرها أثر و لا علامة.

شكوی الی رسول اللّه

و لهذا هاجت به الأحزان لمّا نفض یده من تراب القبر فأرسل دموعه علی خدیه و حوّل وجهه إلی قبر رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ثم قال:

السلام علیك یا رسول اللّه عنيِ (1) .

السلام علیك عن ابنتك و زائرتكِ (2) .

و البائتة في الثری ببقعتك

و المختار اللّه لها سرعة اللحاق بك

قلّ یا رسول اللّه عن صفيّتك صبري

و عفي عن سیدة نساء العالمین تجلّدیِ (3) .

إلاَّ أن في التأسي لي بسُنَّتك في فرقتك موضع تعزِ (4) .

فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك

بعد أن فاضت نفسكِ (5) بین نحري و صدري

و غمّضتك بیدی

ص: 526


1- و في نسخه: السلام علیك یارسول اللّه عني و عن ابنتك.
2- و في نسخه: السلام علیك من ابنتك و حبیبتك و قره عینك و زائرتك.
3- و في نسخه: و ضعف عن سیده النساء.
4- و في نسخه: بسنتك، و الحزن الذي حل بي لفراقك موضع التعزي.
5- وفي نسخة : علی صدري.

و تولَّیت أمرك بنفسي

بلیِ (1) و في كتاب اللّه لي أنعم القبول

إنا للّه و إنا إلیه راجعون

قد استُرجعتِ الودیعة و أخُذت الرهینة

و اختلست الزهراءِ (2) .

فما أقبح الخضراء و الغبراء

یا رسول اللّه!!

أمّا حزني فَسَرمد

و أمّا لیلي فمسهَّد

و همٌّ لا یبرح من قلبي (3) .

أوِ (4) یختار اللّه لي دارك التي أنت فيهاِ (5) مقیم

كمدٌ مقیّح، و همٌّ مهیّج

سرعان ما فَرَّق اللّه بیننا

و إلی اللّه أشكو

و ستنبوك ابنتك بتضافرِ (6) أُمّتك علیَّ

و علی هضمها حقها

فأحفها السؤال

ص: 527


1- وفي نسخة: نعم.
2- و في نسخه: اختلصت و اخلست.
3- و في نسخه: لا یبرح الحزن من قلبي.
4- و في نسخه: الی ان یختار.
5- و في نسخه: بها.
6- و في نسخه: بتظاهر.

واستخبرها الحال

فكم من غلیل معتلج بصدرها لم تجد إلی بثّه سبیلاً

و ستقول و یحكم اللّه و هو خیر الحاكمین

و السلام علیكماِ (1) یا رسول اللّه

سلام مودّع

لا سئم و لا قالٍ (2) .

فإن أنصرف فلا عن ملالة

و إن أُقم فلا عن سوء ظنِ (3) بما وعد اللّه الصابرین. واهاً واها!!

و الصبر أیمن و أجمل

و لو لا غلبة المستولین علینا

لجعلتُ المقام عند قبرك لزاماً

و التلبث عنده عكوفاً (4) .

و لأعولت إعوال الثكلی علی جلیل الرزیة

فبعین اللّه تدفن ابنتك سرّاً؟!!

و یهتضم حقها قهراً؟!!

و یُمنع إرثها جهراً؟!!

و لم یَطُل منك العهدِ (5) .

ص: 528


1- و في نسخه: سلام علیك.
2- و في نسخه: لا قال و لاسئم.
3- و في نسخه: ظني.
4- و في نسخه: لجعلت المقام و اللبث لزاما معكوفا.
5- و في نسخه: و لم یتباعد العهد.

و لم یخلِق منك الذكر

فإلی اللّه- یا رسول اللّه- المشتكی

و فيك- یا رسول اللّه- أجمل العزاء

فصلوات اللّه علیها و علیك و رحمة اللّه و بركاتهِ (1) .

و روي ان علیا (علیه السلام)- لماماتت فاطمه كان (علیها السلام) و فرغ من جهازها و دفنها- رجع الی البیت فاستوحش فيه و جزع جزعا شدیدا، ثم انشا یقول:

اری علل الدنیا علي كثیره***و صاحبهاحتی الممات علیل

لكل اجتماع من خلیلین فرقه***و كل الذي دون الفراق قلیل

و ان افتقادي فاطما بعد احمد***دلیل علی ان لایدوم خلیل (2) .

و روي عن الامام جعفر بن محمد (علیهما السلام) قال: لما ماتت فاطمه كان علی یزور قبرها كل یوم، و اقبل ذات یوم فانكب علی القبر و انشا یقول:

مالي مروت علی القبور مسلما***قبر الحبیب فلم یرد جوابي (3) .

ص: 529


1- الكافي للكلیني و المجالس للمفيد و الامالي للشیخ و نهج البلاغه للرضی.
2- الفصول المهمه لابن الصباغ المالكي ص 148.
3- الفصول المهمه لابن الصباغ المالكي ص 148.

محاولات فاشلة

و أصبح الصباح من تلك اللیلة فأقبل الناس لیشیعوا جنازة السیدة فاطمة فبلغهم الخیر أن عزیزة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قد دفنت لیلاً و سراً.

و كان علي (علیه السلام) قد سوّی في البقیع صُوَر قبور سبعة أو أكثر، و حیث أن البقیع كان في ذلك الیوم و إلی یومنا هذا مقبرة أهل المدینة، لهذا أقبل الناس إلی البقیع یبحثون عن قبر السیدة فاطمة، فأشكل علیهم الأمر، و لم یعرفوا القبر الحقیقي لسیدة نساء العالمین، فضج الناس، و لام بعضهم بعضاً، و قالوا: لن یخلف نبیكم إلاَّ بنتاً واحدة، تموت و تُدفن و لم تحضروا وفاتها و الصلاة علیها، و لا تعرفوا قبرها؟!!

فلقي المقداد ابابكر و قال له: انا قد دفنا فاطمه البارحه.

فقل عمر المقداد: یا ابابكر الم اقل لك انهم یریدون دفنها سرا؟

فقال المقداد: ان فاطمه اوصت هكذا، حتی لا تصلیا علیها (1) .

فجعل عمر یضرب المقداد علی راسه و وجهه، و اجتمع الناس و انقذوه منه.

فوقف المقداد امامهم و قال:

«ان ابنه رسول اللّه ماتت والدم یجري من ضلعها و ظهرها، بسبب الضرب و السوط الذي ضربتموها، و قد رایت ما صنعتم بعلي، فلا عجب

ص: 530


1- بحارالانوار ج 43 ص 199.

اذا ضربتونی» (1) .

فقال العباس: انها اوصت ان لا تصلیا علیها.

فقال عمر: لا تتركون- یا بني هاشم- حسدكم القدیم علینا ابدا!!

فقال عقیل: و انتم و اللّه لاشد الناس حسدا، و اقدم عداوه لرسول اللّه و اهل بیته.

ضربتموهت بالأمس، وفارقت الدنیا، و ظهرها بدم، و هي غیر راضیة عنکما(2).

ثم قال رجال السلطة: هاتوا من نساء المسلمین من ینبش هذه القبور حتی نجدها فنصلِّي علیها، و نزور قبرها.

أرادوا تنفيذ هذه الخطة كي یزیّفوا الخطة التي خططتها السیدة فاطمة في وصایاها، و أن یحبطوا المساعي التي بذلها الإِمام علي (علیه السلام) في إخفاء القبر، و حرمان بعض الناس عن درك ثواب الصلاة علی جنازة السیدة فاطمة.

و إلاَّ فما معنی نبش القبر لأجل الصلاة علی المیت؟

أكانوا یظنون أن علیّاً دفن فاطمة بلا صلاة؟

هل من المعقول أن یظن أحد ذلك؟

و أي إسلام و أي دین و شریعة یبیح نبش قبر میت قد صلّی علیه ولیّه بأحسن وجه و أكمل صورة، صلَّی علیه بتصریح و وصیة منه؟؟!

إنني أعتقد أن جرّأهم علی هذه المجازفة و خرق الآداب و تحطیم المعنویات هو استضعافهم لأمیرالمؤمنین (علیه السلام) فكأنهم قد نسوا أو

ص: 531


1- كامل البهائي لعماد الدین الطبري ج 1 ص 312.
2- المصدر السابق ص 313.

تناسوا سیف الإِمام علي و بطولاته في جبهات القتال، و شجاعته التي شهد بها أهل السماء و الأرض.

إن كان الإِمام أمیرالمؤمنین لم یجرّد سیفه في تلك الأحداث و المآسي التي حدثت من بعد وفاة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) لأجل توحید كلمة المسلمین، و عدم تفرّقهم عن الدین، فلیس معنی ذلك أن یسكت عن كل شيء و أن یصبر علی كل عظیمة و رزیة.

و بعبارة أُخری: إن كان علي (علیه السلام) مأْموراً بالصبر في موارد معینة و مواطن محدودة فلا یعني ذلك أن یتحمّل كل إهانة و یسكت علیها.

و صل إلی الإِمام خبر المؤامرة التي یوشك أن تُنفّذ، و كان للإمام (علیه السلام)قباء أصفر یلبسه في الحروب، لأن الملابس الفضفاضة الطویلة العریضة لا تناسب القتال و إنما تتطلب الحرب ملابس تساعد علی سرعة الحركة و الأعمال الحربیة، و كان ذلك القباء من ملابس علي (علیه السلام) الخاصة للحروب.

لبس الإِمام القباء الأصفر، وحمل سیفه ذا الفقار وقد احمرّت عیناه ودرّت أوداجه من شدة الغضب، وقصد نحو البقیع.

سبقت الأخبار علیّاً إلی البقیع، و نادی منادیهم: هذا علي بن أبي طالب قد أقبل كما ترونه، یقسم باللّه: لئن حُوِّل من هذه القبور حجر لیضعن السیف علی غابر الآخر.

تلقی الناس هذا التهدید بالقبول و التصدیق، لأنهم عرفوا أن علیّاً صادق القول،قادر علی ما یقول.

و لكن عمر استخف بهذا التهدید و الإِنذار و قال: ما لك یا أباالحسن! و اللّه لننبشنّ قبرها و لنصلِّین علیها!!

ص: 532

فضرب علی بیده إلی جوامع ثوب الرجل و هزّه، ثم ضرب به الأرض، و قال له: یا بن السوداء! أما حقی فقد تركته مخافة أن یرتدّ الناس عن دینهم، و أما قبر فاطمة فوالذي نفس علی بیده: لئن رُمتَ و أصحابك شیئاً من ذلك لأسقینّ الأرض من دمائكم!!

فقال أبوبكر: یا أبا الحسن بحق رسول اللّه و بحق من فوق العرش إلاَّ خلَّیت عنه، فإنا غیر فاعلین شیئاً تكرهه.

فخلّی عنه و تفرّق الناس، و لم یعودوا إلی ذلك (1) .

و بقیت وصایا السیدة فاطمة باقیة و نافذة المفعول حتی الیوم و بعد الیوم.

ص: 533


1- بحارالانوار ج 43. باب ما وقع علیها من الظلم.

الامام علي في تأبین الزهراء

إن كانت العادة و الإنسانیة قد قضت برثاء المیت، فإن السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تستحق الرثاء بعد وفاتها كما تستحق الثناء في حیاتها و بعد مماتها.

و الرثاء تعبیر عن الشعور، و إظهار التوجُّع و التأسُّف علی الفقید، و بیان تأثیر مصیبة فقده علی الراثي.

و انطلاقاً من هذا المفهوم فإنه یجدر بالإمام علي (علیه السلام) أن یرثي السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) و یبث آلامه النفسیة من تلك الفاجعة المؤلمة، فالإمام یشعر بألم المصائب أكثر من غیره، لأنه یقدّر فقیدته حق قدرها، و تأثیر الصدمة في نفسه أقوی و أكثر، فلا عجب إذا هاجت أحزانه فقال مخاطباً لسیدة النساء فاطمة العزیزة بعد وفاتها قائلاً:

نفسي علی زفراتها محبوسة***یا لیتها خرجت مع الزفرات

لا خیر بعدكِ في الحیاة و إنما***أبكي مخافة أن تطول حیاتی

و قال:

أری علل الدنیا عليَّ كثیرة***و صاحبها حتی الممات علیل

ذكرت أبا ودِّي فبتُّ كإنني***بردِّ الهموم الماضیات وكیل

لكل اجتماع من خلیلین فرقة***و كلُّ الذي دون الفراق قلیل

و إن افتقادي فاطماً بعد أحمد***دلیل علی أن لا یدوم خلیل

و قال:

فراقكِ أعظم الأشیاء عندي***و فقدك فاطم أدهی الثكول

ص: 534

سأبكي حسرة و أنوح شجواً***علی خِلّ مضی أسنی سبیل

ألا یا عین جودي و أسعدیني***فحزني دائم أبكي خلیلي

و قال:

حبیب لیس یعدله حبیبُ***و ما لسواه في قلبي نصیب

حبیب غاب عن عیني و جسمي***و عن قلبي حبیبي لا یغیب

و قال مخاطباً للسیدة فاطمة بعد وفاتها:

مالي وقفت علی القبور مسلِّماً***قبر الحبیب فلم یردّ جوابي

أحبیب ما لك لا تردّ جوابنا***أنسیت بعدي خلَّة الأحباب (1) .

و في كتاب الانوار العلویه (2) ما ملخصه:

لما ماتت فاطمه (علیها السلام) احتجب الامام امیرالمومنین (علیه السلام) في منزله عن الناس، و صار لا یخرج الا للصلاه و زیاره قبر رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

قال عمار: فمضیعت الی دار سیدي و مولاي امیرالمومنین، فاستاذنت علیه، فاذن لي، فلما دخلت علیه وجدته جالسا جلسه الحزین الكئیب و الحسن عن یمینه، و الحسین عن شماله، و هو ینظر الی الحسین و یبكي.

فلم املك نفسي دون ان اخذتني العبره، و بكیت بكاءا شدیدا، فلما سكن نشیجي قلت:

سیدي اتاذن لي بالكلام؟

قال: تكلم یا اباالیقظان.

قلت: سیدي انتم تامرون الناس باصبر علی المصیبه، فما هذا الحزن الطویل...؟

ص: 535


1- بحارالانوار ج 43 ص 216.
2- بحارالانوار ج 43 ص 216.

فالتفت الی و قال: «یا عمّار ان العزاء عن مثل من فقدته لعزیز، اني فقدت رسول اللّه بفقد فاطمه.

انها كانت لي عزاء و سلوه.

كانت اذا نطقت ملات مسامعي بصوت رسول اللّه.

و اذا مشت لم تخرم مشیته.

و اني ما احسست بفراق رسول اللّه الا بفراقها.

و ان اعظم ما لقیت من مصیبتها: اني لما وضعتها علی المغتصل. وجدت ضلعا من اضلاعها مكسورا، و جنبها قد اسود من ضرب السیاط، و كانت تخفي ذلك علی مخافه ان یشتد حزني، و ما نظرت عیناي الی الحسن و الحسین الا و خنقتني العبره،و ما نظرت الی زینب باكیه الا و اخذتني الرقه علیها....».

ص: 536

تاریخ وفاتها (عَلَيهَا السَّلَامُ)

لیس من العجیب أن یختلف المؤرِّخون في تاریخ وفاتها و مقدار عمرها كما اختلفوا في تاریخ ولادتها قبل البعثة أو بعدها، و هكذا الاختلاف في مقدار مكثها في الحیاة بعد وفاة أبیها الرسول (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

فالیعقوبي یروي أنها عاشت بعد أبیها ثلاثین أو خمسة و ثلاثین یوماً، و هذا أقلّ ما قیل في مدة بقائها بعد الرسول.

و قول آخر: أربعون یوماً.

و قول ثالث: خمسة و سبعون و هو الأشهر.

و رابع: خمسة و تسعون یوماً و هو الأقوی، و هناك أقوال لا یعبأ بها كالقول بأنها عاشت بعد أبیها ستة أشهر أو ثمانیة أشهر و هذا أكثر ما قیل في مكثها بعد أبیها (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و هناك أحادیث واردة عن أئمة أهل البیت (علیهم السلام) كانت و لا تزال مورد الاعتبار و الاعتماد.

ففي كتاب (دلائل الإمامة) للطبري الإمامي بإسناده عن الأمام الصادق (علیه السلام): أنها قُبضت في جمادي الآخرة یوم الثلاثاء لثلاث خلون منه، سنة إحدی عشرة من الهجرة.

و في البحار ج 43 عن جابر بن عبداللّه: و قبض النبي و لها یومئذ ثماني عشرة سنة و سبعة أشهر.

ص: 537

أیضاً عن الإمام محمد بن عليّ الباقر (علیه السلام): و توفيت و لها ثمانیة عشرة سنة و خمسة و سبعون یوماً.

و روی الكلیني هذا القول في الكافي.

و علی كل تقدیر فإن عشرات الآلاف من المجالس و المآتم تقام في البلاد الشیعیة بمناسبة وفاة السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) في المساجد و البیوت و المجامع، و یطعمون الطعام في یوم وفاتها بكل سخاء، و تسمّی تلك الأیام ب (الفاطمیة) فيرقی الخطباء المنابر و یتحدثون عن السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) و عن حیاتها الزاخرة بالفضائل و المناقب و المواقف المشرِّفة، و یختمون كلامهم بذكر بعض مصائبها و آلامها.

ص: 538

اوقافها و صدقاتها (عَلَيهَا السَّلَامُ)

كان لها سبعة بساتین وقفتها علی بني هاشم و بني المطلب، و جعلت النظر فيها و الولایة لعلي (علیه السلام) مدة حیاته و بعده للحسن و بعده للحسین (علیهما السلام) و بعده للأكبر من ولدها، و كان كتاب الوقف موجوداً عند الإمام الباقر (علیه السلام) كما في كتاب الكافي للكلیني- و صورة الكتاب هكذا:

«بسم اللّه الرحمن الرحیم هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) بحوائطها السبعة: العواف و الذلال و البرقة و المبیت و الحسنی و الصافية و ما لأُمّ إبراهیم إلی علي بن أبي طالب، فإن مضی فإلی الحسن فإن مضی فإلی الحسن فإن مضی الحسین فإلی الأكبر من وُلدي.

شهد اللّه علی ذلك و المقداد بن الأسود و الزبیر بن العوام و كتب علي بن أبي طالب».

و تسال: وصلت هذه البساتین السبع إلی السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام)؟ لقد ذكر للسمهودي (1) ان مخیرق الیهودي- و كان من أحبار یهود بنی النضیر- أسلم و قُتل یوم أحد، و أوصی ببساتینه السبع إلی النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) فأوقفها النبي سنة سبع من الهجرة علی خصوص فاطمة (علیها السلام) و كان یأخذ منها لأضیافه و حوائجه.

و أوصت لأزواج النبي لكل واحدة منهن اثنتا عشر أوقیة، و لنساء بني هاشم مثل ذلك، و لأُمامة بنت أبی العاص بشيء (2) .

ص: 539


1- تاریخ المدینه ج 2 ص 152.
2- دلائل الامامه.

فاطمه الزهرا (عَلَيهَا السَّلَامُ) یوم المحشر

إن كان بعض المسلمین لم یراعوا حرمة سیدة نساء العالمین في حیاتها، و أذاقوها أنواع الذل و الهوان، و قابلوها بالكبت، و لم یرقبوا فيها كرامتها و لا كرامة أبیها رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم).

و لم یحفظوا فيها كلام اللّه تعالی حیث أنزل آیات بینات في حقها و حق زوجها و ولدیها سیدي شباب أهل الجنة كآیات التطهیر و المباهلة و سورة هل أتی و آیة المودة في القربی.

و كأنَّهم لم یسمعوا وصیة أبیها في حقها حیث قال: «المرء یُحفظ في وُلده» و قوله: «فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني» و أمثال ذلك من الكلمات التي أوصی بها الرسول أمَّتُه بحق ابنته الوحیدة فاطمة الزهراء.

و استنصرتهم فلم ینصروها، واستنجدت بهم فلم یسعفوها، و لم یتكلم منهم متكلم.فإن اللّه تعالی قد حفظ و یحفظ لفاطمة الزهراء (علیها السلام) مقامها، و لم یبخس من حقها شیئاً، فلقد ذكرها في كتابه المجید، و أحلَّها محلاًّ لم تدركه أیة أنثی في العالم، و قد جعلها اللّه سیدة نساء العالمین.

و بعد هذا كله فإن اللّه تعالی سیُظهر عظمتها لأهل العالم كلهم في یوم القیامة.

في ذلك الیوم الذي یحشر فيه الظالمون و وجوههم مسودّة.

في ذلك الیوم الذي یعضّ الظالم علی یدیه.

ص: 540

في ذلك الیوم یجمع اللّه تعالی فراعنة الأمم، وهم أذلاَّء حقراء قد أذهلهم الفزع الأكبر، و قد تذكر كل منهم أعماله و مخازیه و موبقاته.

و قرأ اضبارته الملیئة بهتك حرمات اللّه، و ظلم أولیائه و إهدار دماء الأبریاء، و إذلال الصالحین.

في ذلك الیوم تتبخَّر الشخصیات الجبَّارة، و تنعدم إمكانیات الطواغیت و تسلب قدرة الفراعنة.

في ذلك الیوم تظهر عظمة الصدیقة الطاهرة، و منزلتها السامیة عند ربها و جلالة قدرها و عظم شأنها.

إنه یوم عظیم، و عجیب و مدهش و مذهل.

فأنبیاء اللّه یحشرون من قبورهم، و یتجهون نحو المحشر.

و جمیع الخلائق علی اختلاف أدیانهم و ألوانهم و أعمالهم.

و جمیع الأمم علی اختلاف شرائعهم.

و جمیع العالمین «و حشرناهم فلم نغادر منهم أحداً».

و حتی الجنین الذي سقط عن بطن أمه قد استوی إنساناً كاملاً.

أكثرهم عراة و كلهم حفاة.

یجتمعون علی صعید المحشر، و یصطفون صفوفاً تبلغ سبعین ألف صف، تبدأ الصفوف من أقصی المشرق و تنتهي إلی أقصی المغرب.

في ذلك الیوم تتجلی شخصیة الزهراء عند أهل المحشر.

و إلیك بعض الأحادیث التي تشیر إلی هذا المعنی، و قد ذكرها جمع غفير من علماء العامة أضف إلیها طائفة كبیرة من تلك الأحادیث التي رویت عن أئمة أهل البیت (علیهم السلام) و ها هي بعض تلك الأحادیث:

1- روی الحاكم النیسابوري في المستدرك ج 3 ص 153 بإسناده عن علي (علیه السلام) قال: سمعت النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) یقول:

ص: 541

«إذا كان یوم القیامة نادی منادٍ من وراء الحجاب: یا أهل الجمع غضّوا أبصاركم عن فاطمة بنت محمد (صلی اللّه علیه و آله و سلم) حتّی تمرّ».

و رواه ابن الأثیر في (أُسد الغابة) ج 5 ص 523 و الكنجی الشافعي في كفایة الطالب ص 212، و الذهبي في (میزان الاعتدال ج 2 ص 18) و الهمداني في (مودة القربی) ص 104 مع زیادة قال:

2- عن علي (علیه السلام) عن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال:

«إذا كان یوم القیامة نادی منادٍ من بطنان العرش: یا أهل القیامة أغمضوا أبصاركم، لتجوز فاطمة بنت محمد مع قمیص مخضوب بدم الحسین. فتحتوی علی ساق العرش فتقول: أنت الجبار العدل، اقض بیننا و بین مَن قتل ولَدي. فيقضي اللّه بسُنَّتي و ربّ الكعبة.

ثم تقول: اللّهم أشفعني فيمن بكی علی مصیبته، فيشفّعها اللّه فيهم».

و منهم الزرندي في (نظم درر السمطین) و المتقي في كنز العمال ج 13 ص 93 و الهیثمي في مجمع الزوائد ج 6 ص 212 و ابن الصباغ المالكي في (الفصول المهمة) ص 127 وابن أبی الحدید في شرح النهج و ابن حجر العسقلاني في (لسان المیزان) ج 3 ص 237.

و السیوطي في (الخصائص) ج 2 ص 265 و (الجامع الصغیر) و (التعقیبات). و الكناني المصري في (تنزیه الشریعة المرفوعة) و النبهاني في (الفتح الكبیر) و (جواهر البحار) و الشافعي في (المناقب) و الملا عليّ القاري في (جمع الوسائل) و القندوزي في (ینابیع المودة) و الشبراوي في (الإتحاف بحب الأشراف) و الشبلنجي في (نور الأبصار).

3- و یروی هذا الحدیث عن أبی هریرة كلٌّ من:

ص: 542

ابي نعیم في (دلائل النبوه) و ابن حجر الهیثمي في (الصوائق المحرقه) و غیرهما.

یروي هذا الحدیث ایضاعن ابي ایوب الانصاري كل من: من: الخوارزمي في (مقتل الحسین) قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) «ینادي مناد من بطنان العرض: یا أهل الجمع نكّسوا رؤوسكم و غضّوا أبصاركم حتی تجوز فاطمة بنت محمد علی الصراط.

قال: فتمرّ و معها سبعون ألف جاریة من الحور العین كالبرق اللامع».

و رواه القرماني في (أخبار الدول) و الطبري في (ذخائر العقبی) و ابن الصباغ في (الفصول المهمة) و الصفوري في (نزهة المجالس) و غیرهم.

و یروي هذا الحدیث عن ابن عمر و أبي سعید الخدري، و غیرهما.

4- و قد روی جمع كثیر من علماء العامة عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) أن السیدة فاطمة الزهراء ترد المحشر علی ناقة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) الغضباء أو ناقته القصوی.

ص: 543

فاطمه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) و الشفاعه

هناك احادیث كثیره- مذكوره في كتب الشیعه و اهل سنه- تصرح بشفاعه السیده فاطمه الزهراء (علیها السلام) یوم القیامه.

و الیك بعضها فيما یلي:

1- و عن جابر بن عبداللّه الانصاري قال: قلت لأبي جعفر الباقر (علیه السلام): جعلت فداك یا بن رسول اللّه حدثني بحدیث في فضل جدتك فاطمة، إذا أنا حدثت به الشیعة فرحوا بذلك؟

فقال أبوجعفر (علیه السلام) حدثني أبي عن جدي عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) قال: «إذا كان یوم القیامة تُنصب للأنبیاء و الرسل منابر من نور، فيكون منبري أعلی منابرهم یوم القیامة.

ثم یقول اللّه: اخطب، فأخطب بخطبة لم یسمع أحد من الأنبیاء و الرسل بمثلها. ثم یُنصب للأوصیاء منابر من نور، و یُنصب لوصیي علي بن أبي طالب في أوساطهم منبر، فيكون منبره أعلی من منابرهم.

ثم یقول اللّه: یا عليّ أُخطب، فيخطب بخطبة لم یسمع أحد من الأوصیاء بمثلها.

ثم ینصب لأولاد الأنبیاء و المرسلین منابر من نور، فيكون لابنيّ و سبطيّ و ریحانتي أیام حیاتي منبر من نور، ثم یقال لهما اخطبا، فيخطبان بخطبتین لم یسمع أحد من أولاد الأنبیاء و المرسلین بمثلها!

ص: 544

ثم ینادي المنادي- و هو جبرائیل (علیه السلام)-: أین فاطمة بنت محمد؟

....- فتقوم (علیها السلام).

إلی أن قال:- فيقول اللّه تبارك و تعالی: یا أهل الجمع لمن الكرم الیوم؟

فيقول محمد و عليّ و الحسن و الحسین- (علیهم السلام): للّه الواحد القهار.

فيقول اللّه تعالی: یا أهل الجمع إني قد جعلتُ الكرم لمحمد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسین!

یا أهل الجمع، طأطئوا الرؤوس، و غضّوا الأبصار، فإن هذه فاطمة تسیر إلی الجنة، فيأتیها جبرئیل بناقة من نوق الجنة، مدّبحة الجنین، خطامها من اللؤلؤ الرطب، علیها رحل من المرجان، فتُناخ بین یدیها، فتركبها، فيبعث اللّه مائة ألف ملك لیسیروا عن یمینها، و یبعث إلیها مائة ألف ملك لیسیروا عن یسارها، و یبعث إلیها مائة ألف ملك، یحملونها علی أجنحتهم، حتّی یصیّروها علی باب الجنة، فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت، فيقول اللّه: یا بنت حبیبي ما التفاتك و قد أمرتُ بك إلی جنتي؟

فتقول: یا رب أحببتُ أن یُعرف قدري في مثل هذا الیوم!

فيقول اللّه: یا بنت حبیبي! ارجعي فانظري من كان في قلبه حبّ لكِ أو لأحد من ذریّتك، خُذي بیده فأدخلیه الجنة!

قال أبوجعفر- (علیه السلام)-: و اللّه یا جابر، إنها ذلك الیوم لتلتقط شیعتها و محبّیها، كما یلتقط الطیر الحب الجیّد من الحبّ الردی ء، فإذا صار شیعتها معها عند باب الجنة، یُلقی اللّه في قلوبهم أن یلتفتوا.

فإذا التفتوا یقول اللّه- تعالی-:

یا أحبائي ما التفاتكم، و قد شفّعت فيكم فاطمة بنت حبیبي؟

ص: 545

فيقولون: یا رب أحببنا أن یُعرف قدرنا في مثل هذا الیوم؟!

فيقول اللّه: یا أحبائي ارجعوا و انظروا:

من أحبّكم لحبّ فاطمة.

انظروا: من أطعمكم لحب فاطمة.

انظروا: من كساكم لحب فاطمة.

انظروا: من سقاكم شربة في حب فاطمة.

انظروا: من ردّ عنكم غیبة في حب فاطمة.

فخذوا بیده، و أدخلوه الجنةِ...... (1) .

2- و ورد عن ابن عباس قال: سمعت أمیرالمؤمنین- علیاً- (علیه السلام) یقول: دخل رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ذات یوم علی فاطمة و هي حزینة، فقال لها: ما حزنكِ یا بنیّة؟

قالت: یا أبة ذكرت المحشر، و وقوف الناس عراة یوم القیامة!

فقال: یا بنیّة إنه لیوم عظیم، و لكن قد أخبرني جبرئیل عن اللّه (عز و جل) أنه قال: «أول من ینشق عنه الأرض یوم القیامة، أنا، ثم بعلك علي بن أبي طالب (علیه السلام)، ثم یبعث اللّه إلیك جبرائیل في سبعین ألف ملك فيضرب علی قبرك سبع قباب من نور، ثم یأتیك إسرافيل بثلاث حلل من نور، فيقف عند رأسك، فينادیك: یا فاطمة بنت محمد قومي إلی محشرك.

فتقومین آمنة روعتك، مستورة عورتك، فيُناوِلُك إسرافيل الحُلل فتلبسینها، و یأتیك روفائیل بنجیبة من نور، زمامها من لؤلؤ رطب، علیها محفّةِ (2) من ذهب، فتركبینها، و یقود روفائیل بزمامها، و بین یدیك سبعون

ص: 546


1- بحارالانوار ج 8 ص 51، تفسیر فرات بن ابراهیم ص 113.
2- محفه بكسر المیم-: مركب للنساء كالهود ج.

ألف ملك بأیدیهم ألویة التسبیح، فإذا جدّبك السیر استقبلتك سبعون ألف حوراء، یستبشرون بالنظر إلیك، بید كل واحدة منهن مجمرة من نور، یسطع منها ریح العود من غیر نار، و علیهن أكالیل الجوهر، مرصّعة بالزبرجد الأخضر (1) .

3- و عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: سمعت جابر بن عبداللّه الانصاري یقول: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): إذا كان یوم القیامة تُقبِل ابنتي فاطمة علی ناقة من نوق الجنة..... و عن یمینها سبعون ألف ملك، و عن شمالها سبعون ألف ملك، و جبرئیل آخذ بخطام الناقة ینادي بأعلی صوته:

«غضّوا أبصاركم حتی تجوز فاطمة بنت محمد» فلا یبقی یومئذ نبي و لا رسول و لا صدّیق و لا شهید إلاَّ غضّوا أبصارهم حتی تجوز فاطمة.....

و تقول: الهي و سیدي: احكم بیني و بین ظلمني، اللّهم احكم بیني و بین من قتل ولدي.

فإذا النداء من قِبَل اللّه جل جلاله: یا حبیبتي و ابنة حبیبي سلیني تُعطي، و اشفعي تُشَفَّعي، فوعزتي و جلالي لا جازني ظلم ظالم.

فتقول: إلهي و سیدي: ذریتي و شیعتي و شیعة ذریتي، و محبیيّ، و محبيّ ذریتي.

فإذا النداء من قِبَل اللّه جل جلاله: أین ذریة فاطمة و شیعتها و محبّوها و محبّو ذریّتها؟

فيُقبلون و قد أحاط بهم ملائكة الرحمة، فتتقدمهم فاطمة (علیها السلام) حتی تدخلهم الجنة (2) .

4- و روی عن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم)- في قوله تعالی:

ص: 547


1- بحارالانوار ج 43.
2- بحارالانوار ج 43.

«لا یحزنهم الفزع الاكبر و هم اشتهت انفسهم خالدون»- قال:

«... فتدخل فاطمه ابنتي الجنه و ذریتها و شیعتها، و من اولاهم معروفا ممن لیس هومن شیعتها.

«و هم فيما اشتهت انفسهم خالدون» هي- و اللّه- فاطمه و ذریتها و شیعتها، و من اولاهم معروفا ممن لیس هو من شیعتها» (1) . أیها القارئ الكریم:

بعد ما مرّ علیك من الأحادیث الصحیحة الصریحه بشفاعه السیده فاطمه (علیها السلام) یوم القیامه، تعال وقف معي موقف المتعجب من آراء مستحدثة، و أقوال مبتدعة تتحدی جمیع الآیات القرآنیة و الأحادیث النبوية التي تتحدث عن الشفاعة لأولیاء اللّه، فتراهم ینكرون الشفاعة و ینفونها حتی من سید الأنبیاء محمد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و هم یحسبون أنهم یدافعون عن توحید اللّه تعالی فكأن الشفاعة تناقض التوحید، أو تدعو إلی الشرك باللّه (عز و جل).

اقرا هذه الآیات المباركة ثم أحكم:

«من ذا الذي یشفع عنده إلا بإذنه (2) .

و لا یشفعون إلاَّ لمن ارتضی (3) .

ما من شفيع إلاَّ من بعد بإذنه (4) .

لا یملكون الشفاعة إلاَّ من اتخذ عند الرحمن عهداً (5) .

یومئذ لا تنفع الشفاعة إلاَّ من أذن له الرحمن (6) .

ص: 548


1- تفسیر فرات الكوفي.
2- البقره: 255.
3- الانبیاء 28.
4- یونس: 3.
5- مریم: 87.
6- طه 109.

و لا تنفع الشفاعة عنده إلاَّ لمن أذن له (1) .

و لا تغني شفاعتهم شیئاً إلاَّ من بعد أن یأذن اللّه لمن یشاء» (2)

هذه الآیات كما تراها تصرح بالشفاعة بإذن اللّه، و تثبت الشفاعة للشافعين.

أما تكفي هذه الآیات لإثبات الشفاعة لأولیاء اللّه أیها المسلمون؟

هذه الآیات كما تراها تصرّح بشفاعة أولیاء اللّه في یوم القیامة.

و أما الشفاعة لهم في الدنیا فإلیك هذه الآیة المباركة الصریحة في تخویل أولیاء اللّه الشفاعة و الدعاء و الاستغفار للناس، قال تعالی:

1- «ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوُك فاستغفروا اللّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه تواباً رحیماً» فإن الآیة دلَّت علی أن العاصین إذا جاءوا إلی الرسول تائبین، و جعلوا یتوسلون به في طلب المغفرة من اللّه، و استغفر عند ذلك لهم الرسول لوجدوا اللّه تواباً رحیماً، فلو كان الاستشفاع من النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) شركاً باللّه لما وجدوا اللّه تواباً رحیماً، لأن اللّه لا یغفر أن یشرك به.

2- قوله تعالی حكایة من أولاد یعقوب: «یا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئین» و قول یعقوب «سوف استغفر بكم ربي» فإنه صریح في سؤالهم و توسلهم بأبیهم إلی اللّه في الاستغفار و طلب العفو.

3- قوله تعالی: «و استغفر لذنبك و للمؤمنین».

4- «و صلّ علیهم إن صلاتك سكن لهم».

5- «من یشفع شفاعة حسنة یكن له نصیب منها».

هذا و البحث یحتاج إلی مزید من التفصیل و لكن الكتاب لا یسع لذلك، بل یحتاج إلی مجال أوسع و اللّه ولی التوفيق.

ص: 549


1- سبا: 23.
2- النجم: 26.

التوسل الی اللّه بفاطمه الزهراء

قال تعالی: «اولئك الذين یدعون یبتغون الی ربهم الوسیله» (1) .

روی الحاكم الحسكاني الحنفي (2) - في هذه الآیه-: عن عكرمه قال: هم النبي و علي و فاطمه و الحسن و الحسین.

و روی عن النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) ان اللّه تعالی حین خلق آدم، اراه انوار محمد و علی و فاطمه و الحسن و الحسین، ثم اوحي الیه: «هولاء خمسه شققت لهم خمسه اسماء من اسمائي... فانا المحمود و هذا محمد، و انا العالي و هذا علي، و انا الفاطر و هذه فاطمه و انا الاحسان و هذا الحسن و انا المحسن و هذا الحسین... فاذا كانت لك الی حاجه فبهولاء توسل».

ثم قال النبي (صلی اللّه علیه و آله و سلم) «نحن سفينه النجاه، و من حاد عنا هلك، فمن كانت له الی اللّه حاجه فلیسال بنا اهل البیت...» (3) .

و روي ان السیده فاطمه (علیها السلام) قالت: «... و احمدوا الذي لعظمته و نوره یبتغي من في السماوات و الارض الیه الوسیله، و نحن وسیله في خلقه، و نحن خاصته و محل قدسه، و نحن حجته في غیبه، و نحن ورثه انبیائه...» (4) .

ص: 550


1- الاسراء: 57.
2- في شواهد التنزیل ج 1 ص 342.
3- فرائد السمطین للجویني الشافعي ج 1 ص 36.
4- شرح نهج البلاغه ج 16 ص 211.

و عن الامام العسكري (علیه السلام) قال: «نحن حجه اللّه علی الخلق، و فاطمه حجه، و فاطمه حجه علینا» (1) .

و روي ان الامام الباقر (علیه السلام) اصابته الحمي، فكان یتوسل الی اللّه تعالی- الشفاعه- بالسیده الزهراء (علیها السلام) و ینادي- باعلی صوته، و هو علی فراش المرض-: لشفائه- بالسیده الزهراء (علیها السلام) و ینادي- باعلی صوته، و هو علی فراش المرض-: یا فاطمه بنت محمد. حتی یسمع صوته عند باب الدار (2) .

و من الامور المجربه لقضاء الحوائج هو ان تقولا:

«اللّهم صل علی فاطمه و ابیها و بعلها و بنیها عدد ما احاط به علمك».

تقولها خمسمائه و ثلاثین مره.

ص: 551


1- كتاب اطیب البیان.
2- بحارالانوار ح 46.

زیارة فاطمة الزهراء

1- روي عن جابر بن عبداللّه الانصاري قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): «... و من زار فاطمه فكانما زارني...» (1) .

2- و عن یزید بن عبدالملك (2) عن ابیه عن جده قال: دخلت علی فاطمه فبداتني بالسلام ثم قالت: ما غدا بك؟

قلت: طلب البركه.

قالت: اخبرني ابي- و هو: ذا- انه من سلم علیه و علی ثلاثه ایام، اوجب اللّه له الجنه.

قلت لها: في حیاته و حیاتك؟

قالت: نعم و بعد موتنا (3) .

3- و روي عن الامام علي (علیه السلام) عن فاطمه (علیها السلام) قالت: قال لي رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم): یا فاطمه من صلی علیك غفر اللّه له، و الحقه بي حیث كنت من الجنه (4) .

ص: 552


1- بشاره المصطفي.
2- الظاهر انه النوفلي، من اصحاب الامام الباقر (علیه السلام) ذكره المامقاني في رجاله، و لیس المقصود یزید بن عبدالملك المرواني، لان اباه و جده كانا منفيین من المدینه المنوره الی الطائف، لبغضمهما لرسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله و سلم) و لم یعودا الی المدینه الا في عهد عثمان.
3- التهذیب.
4- كشف الغمه.

و قد روی السید ابن طاووس هذه الزیاره للسیده الزهراء (علیها السلام) و قال: روي ان من زارها بهذه الزیاره، و استغفر اللّه غفر اللّه له و ادخله الجنه.

و الزیاره هي:

«السلام علیك یا سیده نساء العالمین، السلام علیك یا والده الحجج علی الناس اجمعین، السلام علیك ایتها المظلومه الممنوعه حقها».

ثم قل: «اللّهم صلی علی امتك و ابنه نبیك و زوجه وصي نبیك، صلاه تزلفها فوق زلفي عبادك المكرمین من اهل السماوات و الارضین» (1) .

و هناك زیاره اخری مرویه عن الامام محمد الجواد (علیه السلام) و لها (علیها السلام) زیارات اخری ایضا مذكوره في كتب الدعاء و الزیارات.

ص: 553


1- الاقبال للسید ابن طاووس.

مواكب الشعراء في رثَاء السیدة الزهراء

إن عظمة السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) و فضائلها و مزایاها و مصائبها و ما رأت من الضغط و الكبت و الاضطهاد كانت كافية لتهییج العواطف الجیّاشة تجاهها، فلا عجب إذا طفق الشعراء ینثرون مدائحهم للسیدة فاطمة- بمختلف اللغات- و یعبّرون عن شعورهم و حبهم و مودتهم ایاها.

و ذلك حینما اهتزت ضمائرهم، فتفتحت قرائحهم، و فاضت أحاسیسهم فطفقوا یثنون علی السیدة فاطمة الزهراء أحسن الثناء، و یرثونها بأوجع الرثاء.

و أي شاعر یشعر بآلام السیدة فاطمة الزهراء و لا یهیج شعوره؟

و أي إنسان یدرك مواهب السیدة فاطمة الزهراء و مزایاها و لا یعبّر عن مشاعره؟إلاّ أن یكون شعوره متحجراً، أو إدراكه معطلاّ أو أحاسیسه راكدة و جامدة.

إن جمال حیاة السیدة فاطمة الزهراء یأخذ بمجامع قلب كل حرٍ، و كل قلبٍ حرٍ سلیم.

و لقد كان للشعراء مواقف مشكورة مذكورة تجاه سیدتنا فاطمة الزهراء و أخص منهم شعراء القرون الأخیرة فلقد سجلوا أروع آیات الولاء بأجمل تعبیر، و صبّوها في قالب النظم و القریض مدحاً و رثاءً، و كفاهم بذلك ثمناً للجنة التي وُعد المتّقون.

ص: 554

فإنَّك تجد الأدب الرفيع و المستوی الأعلی و التعبیر الأجمل الأرقی في كل بیت من كل قصیدة، و كأن كل بیت منها هو بیت القصید.

و إلیك طائفة من باقات الولاء التي سجلّها الشعراء في دیوان التاریخ الخالد:

1- لقد أجاد المرحوم الشیخ كاظم الأزری (تغمده اللّه برحمته) حیث قال:

نقضوا عهد أحمد في أخیه***و أذاقوا البتول ما أشجاها

یوم جاءت إلی عدیٍّ و تیمٍ***و من الوجد ما أطال بكاها

فدنت و اشتكت إلی اللّه شكویً***و الرواسي تهتزّ من شكواها

لست أدري إذروّعت و هي حسري***عاند القوم بعلها و أباها

تعظ القوم في أتم خطاب***حكت المصطفي به و حكاها

هذه الكتب فاسألوها تروها***بالمواریث ناطقاً فحواها

و بمعنی (یوصیكم اللّه) أمر***شامل للأنام في قرباها

فاطمأنَّت لها القلوب و كادت***أن تزول الأحقاد ممن طواها

: أیها القوم راقبوا اللّه فينا***نحن من روضة الجلیل جناها

و اعلموا أننا مشاعر دین اللّه***فيكم فأكرموا مثواها

و لنا من خزائن الغیبِ فيض***ترد المهتدون منه هداها

أیها الناس أي بنت نبي***عن مواریثه أبوها زواها؟

كیف یزوي عني تراثي عتیقٌ***بأحادیث من لدنه افتراها

كیف لم یوصنا بذلك مولانا؟***وتیماً من دوننا أوصاها؟

هل رآنا لا نستحق اهتداءً***و استحقت تیم الهدی فهداها؟

أم تراه أضلنا في البرایا***بعد علم لكي نصیب خَطاها؟

انصفوني من جائرین أضاعا***حرمة المصطفي و ما رعیاها

ص: 555

2- و لشیخ الفقهاء و الفلاسفة آیة اللّه الشیخ محمد حسین الأصفهاني (رحمه اللّه) في مدح الزهراء (علیها السلام) و رثائها:

جوهرة القدس من الكنز الخفي***بدت فأبدت عالیات الأحرف

و قد تجلی من سماء العظمة***في عالم الأسماء أسمي كلمة

بل هي أُمّ الكلمات المحكمة***في غیب ذاتها، فكانت مبهمة

أم أئمة العقول الغرّ، بل***(أم أبیها) و هو علّة العلل

روح النبي في عظیم المنزلة***و في الكفاء كفوء من لا كفوله له

تمثلّت رقیقة الوجود***لطیفة جلَّت عن الشهود

تطوّرت في أفضل الأطوار***نتیجة الأدوار و الأكوار

تصوّرت حقیقة الكمال***بصورة بدیعة الجمال

فإنها الحوراء في النزول***و في الصعود محور العقول

یمثّل الوجوب في الإمكان***عیانها بأحسن العیان

فإنّها قطب رحی الوجود***في قوسي النزول و الصعود

و لیس في محیط تلك الدائرة***مدارها الأعظم إلاَّ (الطاهرة)

مصونة عن كل رسم و سمة***مرموزة في الصحف المطهّرة

(صدّیقة) لا مثلها صدّیقة***تفرغ بالصدق عن الحقیقة

بدا بذلك الوجود الزاهر***سرّ ظهوره الحقّ في المظاهر

هي (البتول) الطهر و (العذراء)***كمریم الطهر، و لا سواء

فإنَّها سیدة النساء***و مریم الكبری بلا خفاء

بُشراك یا أبا (العقول العشرة)***بالبضعة الطاهرة المطهرة

مهجة قلب عالَم الإمكان***و بهجة الفردوس في الجنان

غُرّتها الغرّاء مصباح الهدی***یُعرف حسن المنتهی بالمبتدأ

ص: 556

و في محیّاها بعین الأولیاء***عینان من ماء الحیاة و الحیاء

بُشراك یا خلاصة الإیجاد***بصفوة الأنجاد و الأمجاد

أم الكتاب و ابنة التنزیل***ربّة بیت العلم بالتأویل

بحر الندی و مجمع البحرین***قلب الهدی و مهجة الكونین

واحدة النبي أوّل العدد***ثانیة الوصي نسخة الأحد

و مركز الخمسة من أهل العبا***و محور السبع علوّاً و إبا

لك الهنا یا سیّد البریة***بأعظم المواهب السّنیّة

أتاك طاووس ریاض الأنس***بنفحة من نفحات القدس

من جُنّة الأسماء و الصفاء***جلّت عن المدیح و الثناء

فارتاحت الأرواح من شمیمها***و اهتزت النفوس من نسیمها

بها انتشی في الكون كل صاح***و طابت الأشباح بالأرواح

تحیی بها الأرض و مَن علیها***و مرجع الأمر غداً إلیها

لهفي لها لقد أضیع قدرها***حتی تواری بالحجاب بدرها

تجرّعت من غصص الزمان***ما جاوز الحدّ من البیان

و حبّها من الصفات العالیة***علیه دارت القرون الخالیة

تبتّلت عن دنس الطبیعة***فيا لها من رتبة رفيعة

مرفوعة الهمة و العزیمة***عن نشأة الزخارف الذمیمة

في أفق المجد هي الزهراء***للشمس من زهرتها الضیاء

بل هي نور عالَم الأنوار***و مطلع الشموس و الأقمار

رضیعة الوحي من الجلیل***حلیفة لمحكم التنزیل

مفطومة عن زلل الأهواء***معصومة عن وصمة الخطاء

معربة بالستر و الحیاء***عن غیب ذات بارئ الأشیاء

(راضیة) بكل ما قضی القضا***بما یضیق عنه واسع الفضاء

ص: 557

(زكیة) عن و صمة القیود***فهي غنیّة عن الحدود

یا قِبلة الأرواح والعقول***و كعبة الشهود و الوصولِ

مَن بقدومها تشرفت (مني) ***و من بها تدرك غایة المنی

و بابها الرفيع باب الرحمة***و مستجار كلّ ذي ملمّة

و ما الحطیم عند باب فاطمة***بنورها تطفأ نار الحاطمة

و بیتها المعمور كعبة السما***أضحی ثراه للثریا مَلثما

و خدرها السامي رواق العظمة***و هو- مطاف الكعبة المعظمة

حجابها مثل حجاب الباري***بارقة تذهب بالأبصار

تمثل الواجب في حجابها***فكیف بالإشراق من قبابها

یا درة العصمة وا لولایة***من صدف الحكمة و العنایة

فالكوكب الدرّي في السماء***من ضوء تلك الدرة البیضاء

و النیّر الأعظم منها كالسّها***كیف و لا حدّ لها و منتهی

أشرقت العوالم العلویة***بنور تلك الدرة البهیة

یا دوحة حازت سنام الفلك***بل جاوز السدرة فرعها الزكی

یا دوحة أغصانها تدلّت***بموضع فيه العقول ضلّت

دنت إلی مقام (أو أدنی) فلا***تبتغ من ذلك أعلی مثلا

یا شجرة الطور و أین الشجرة***من دوحة المجد الأثیل المثمرة؟

و إنما السدرة و الزیتونة***عنوان تلك الدوحة المیمونة

أثمارها الغرّ مجالي الذات***مظاهر الأسماء و الصفات

مبادئ الحیاة في البدایة***و منتهی الغایات للنهایة

أثمارها عزائم القرآن***في صفحات مصحف الإمكان

أثمارها منابت للمعرفة***من جنة الذات غدت مقتطفة

ص: 558

لك الهنا یا (سید الوجود)***في نشآت الغیب و الشهود

بمن تعالی شأنها عن مثل***كیف و لا تكرار في التجلّی

و لا یتثنی هیكل التوحید***فكیف بالنظیر و الندید

و ملتقی القوسین نقطة، فلا***تری لها ثانیة أو بدلا

وحیدة في مجدها القدیم***فریدة في أحسن التقویم

و ما أصابها من المصاب***مفتاح بابه (حدیث الباب)

إن حدیث الباب ذو شجون***مما به جنت ید الخؤون

أیهجم العدی علی بیت الهدی***و مهبط الوحي و منتدی الندی؟

أیضرم النار بباب دارها***و آیة النور علا منارها

و بابها باب نبي الرحمة***و باب أبواب نجاة الأمة

بل بابها باب العلي الأعلی***فثمّ وجه اللّه قد تجلیَّ

ما اكتسبوا بالنار غیر العار***و من ورائه عذاب النار

ما أجهل القوم فإن النار لا***تطفئ نور اللّه جل و علا

و إن كسر الضلع لیس ینجبر***إلاَّ بصمصام عزیز مقتدر

إذ رضّ تلك الأضلع الزكیة***رزیة لا مثلها رزیة

و من نبوع الدم من ثدییها***یُعرف عُظم ما جری علیها

و جاوز الحد بلطم الخدّ***شلّت ید الطغیان و التعدیّ

فاحمرت العین، و عین المعرفة***تذرف بالدمع علی تلك الصفة

و لا تزیل حمرة العین سوی***بیض السیوف یوم ینشر اللوی

و للسیاط رنة، صداها***في مسمع الدهر، فما أشجاها

و الأثر الباقي كمثل الدملج***في عضد الزهراء أقوی الحجج

و من سواد متنها أسودّ الفضا***یا ساعد اللّه العلي المرتضی

ص: 559

وو كز نعل السیف في جنبیها***أتی بكل ما أتی علیها

و لست أدري خبر المسمار***سل صدرَها خزانة الأسرار

و في جنین المجد ما یُدمي الحشا***و هل لهم إخفاء أمر قد فشا

و البابُ و الجدار و الدماءُ***شهود صدق ما به خفاء

لقد جني الجاني علی جنینها***فاندكت الجبال من حنینها

اهكذا یُصنع بابنة النبي***حرصاً علی الملك فيا للعجب؟

أتُمنع المكروبة المقروحة***عن البكاء خوفاً من الفضیحة

تاللّه ینبغي لها تبكي دماً***ما دامت الأرض و دارت السما

لفقد عزها: أبیها السامي***و لاهتضامها و ذُلّ الحامي

أتستباح نحلة الصدّیقة***و إرثها من أشرف الخلیفة؟

كیف یُردّ قولها بالزور***إذ هو ردّ آیة التطهیر؟

أیؤْخذ الدین من الإعرابي***و ینبذ المنصوص بالكتاب؟

فاستلبوا ما ملكت یداها***و ارتكبوا الجریمة مُنتهاها

یا ویلهم قد سألوها البیّنة***علی خلاف السنّة المبیّنة

و ردّهم شهادة الشهود***أكبر شاهد علی المقصود

و لم یكن سدّ الثغور غرَضاً***بل سدّ بابها و باب المرتضی

صدّوا عن الحق و سدّوا بابه***كأنّهم قد أمنوا عقابه

أبضعة الطهر، العظیم قدرها***تدفن لیلاً و یعفّی قبرها

ما دُفنت لیلاً بستر و خفا***إلاَّ لوجدها علی أهل الجفا

ما سمع السامع فيما سمعا***مجهولة بالقدر و القبر معاً

یا ویلهم من غضب الجبّار***بظلمهم ریحانة المختار

ص: 560

3- لبعض الشعراء المتاخرین:

إن قیل حوّاء قلت: فاطم فخرها***أو قیل مریم قلت: فاطم أفضل

أفهل لحوّا والد كمحمد؟***أم هل لمریم مثل فاطم أشبُلُ

كلٌّ لها حین الولادة حالة***منها عقول ذوي البصائر تذهل

هذی لنخلتها التجت فتساقطت***رطباً جنیاً فهي منه تأكل

وضعت بعیسی و هي غیر مروعة***أنّی و حارسها السرّي الأبسل

و إلی الجدار و صفحة الباب التجت***بنت النبي فأسقطت ما تحمل

سقطت و أسقطت الجنین و حولها***من كل ذي حسب لئیم جحفل

هذا یعنّفها و ذاك یدعّها***و یردها هذا و هذا یركل

و أمامها أسد الأسود، یقوده***بالحبل قنفذ هل كهذا معضل

و لسوف تأْتي في القیامة فاطم***تشكو إلی رب السماء و تعول

و لترفعنَّ جنینها و حنینها***بشكایة منها السماء تتزلزل

ربّاه! میراثي و بعلي حقَّه***غصبوا، و أبنائي جمیعاً قُتّلوا

فرخاي: ذا بالسُمّ أمسی قلبه***قطعاً، و هذا بالدماء مغسّل

4- و من قصیدة لبعض أشراف مكة نقتطف منها بعضها:

و أتت فاطم تطالب بالإر***ث من المصطفی فما و رّثاها

لیت شعري لِمَ خولفت سنن***القرآن فيها؟ و اللّه قد أعلاها

نُسخت آیة المواریث منها***أم هُما بعد فرضها بدّلاها؟

أم تری آیة المودة لم تأْتِ***بوُدّ الزهراء في قرباها

ثم قالا: أبوكِ جاء بهذا***حجة من عنادهم نصباها

قال: للأنبیاء حكم بأن لا***یُورثوا في القدیم و انتهراها

أفَبِنتُ النبي لم تدر إن كان***نبي الهدی بذلك فاها؟

ص: 561

بضعة من محمد خالفت ما***قال؟ حاشا مولاتنا حاشاها

سمعته یقول ذاك و جاءت***تطلب الإرث ضلّةً و سفاها؟

هي كانت للّه أتقی و كانت***أفضل الخلق عفَّةً و نزاها

أو تقول: النبي قد خالف القرآن؟***آن؟ ویح الأخبار ممن رواها

سل بإبطال قولهم سورة النمل،***و سَل مریم التي قبل طه

فهُما ینبئان عن إرث یحیی***و سلیمان من أراد انتباها

فدعت و اشتكت إلی اللّه من ذاك***و فاضت بدمعها مقلتاها

ثم قالت: فنَحلة لي من والدي***المصطفی فلم ینحلاها

فأقامت بها شهوداً فقالوا: ***بعلها شاهد لها و ابناها

لم یجیزوا شهادة ابني رسول***اللّه هادي الأنام إذ ناصباها

لم یكن صادقاً عليّ و لا فاطمة***عندهم و لا ولداها

جرّعاها من بعد والدها***الغیظ مراراً فبئس ما جرّعاها

لیت شعري ما كان ضرّهما الحفظ***لعهد النبي لو حفظاها؟

كان إكرام خاتم الرسل الها*** دي البشیر النذیر لو أكرماها

و لكان الجمیل أن یقطعاها***فدكاً، لا الجمیل أن یقطعاها

أتری المسلمین كانوا یلومو***نهما في العطاء لو أعطیاها؟

كانت تحت الخضراء بنت نبي***صادقٍ ناطقٍ أمینٍ سواها؟

بنت مَن؟ أُمّ مَن؟ حلیلة مَن؟***ویل لمن سنّ ظلمها و أذاها

شیّعت نفسَها في أجرها أم عناداً***لأبیها النبي لم یتبعاها؟

أم لأن البتول أوصت بأن لا***یشهدا دفنها فما شهداها

لا نبي الهدی أُطیع، و لا فاطمة***أُكرمت و لا حسناها

.... إلی آخر القصیدة.

ص: 562

ختام و اعتذار

أیها القاری ء الكریم

لقد قضینا معك فترة من الزمان في رحاب السیدة فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) و ذكرنا الشيء الیسیر مما یتعلق بحیاة سیدة نساء العالمین.

و اعلم أننا- لم نذكر إلا بعض المقتطفات من ترجمة السیدة الزهراء، فلو أردنا أن نذكر- هنا- ما سجلته التواریخ و احتوته موسوعات الأحادیث لكان هذا الكتاب أضعاف هذا الحجم من حیث غزارة المواد، و لكننا اكتفينا هنا بما یسهل قبوله و لا یعسر علی العقول هضمه و لا یصعب علی النفوس تحمّله، و لئلا یتهمنا المتهمون بالغلو و الإفراط.

و بعد هذا كله فإنني أقبل كل نقدٍ علمي أو أدبي أو تاریخي بكل ترحیب و تقدیر،و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمین.

محمد كاظم القزویني

كربلاء المقدسة- العراق

1393 ه

ص: 563

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.