الحج موسم عبادي و ملتقى سياسي

اشارة

لحج موسم عبادی و ملتقی سیاسی

جلد:١مقرر:سبحانی تبریزی، جعفر

ناشر:نشر مشعر

محل نشر:تهران

سال نشر:-

ص:1

قراءة التاريخ من جديد

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

التاريخ صحيفة كبيرة مفتوحة أمام صحيفة المستقبل المطويَّة، ولكن بإمكان الباحث المتتبع أن يفتح القسم المطويّ انطلاقاً من القسم المفتوح، فيحدِّد معالَم مسيرة المستقبل على ضوء الماضي، كي يعتبر بها و يتَّخذها نبراساً مضيئاً للحياة.

غير انّ هذه المسيرة ليست معبَّدة، بل لاتخلو من موانع وعراقيل تحول بين الباحث والوصول إلى الحقيقة، وما ذلك إلّا لانّ التاريخ لم يدوِّن بقلم نزيه عن الدسّ والوضع، بعيداً عن الأعراض والمصالح الشخصية والفئوية، وبعيداً عن التزلُّف إلى أصحاب السلطة والشوكة.

وآية ذلك انّ الإمام محمد بن جرير الطبري (228- 310) أحد كبار المؤرخين في القرن الثالت قد اعتمد في سرد وقائع تاريخ الخلفاء على روايات يرويها عن:

1. السريّ.

2. شعيب بن إبراهيم الأسدي الكوفي.

3. سيف بن عمر التميمي الكوفي.

فالأول منهم مشترك بين اثنين عرفا بالكذب والوضع.

والثاني مجهول لايعرف حاله.

ص:2

ص:3

ص: 4

والثالث عرّفه أئمة الجرح والتعديل بانّه ضعيف، متروك، ساقط، وضاع، متّهم بالزندقة. فما شأن تاريخ يرويه وضاع، عن مجهول، عن متّهم بالزندقة و يا للأسف فقد نقل شيخ التاريخ، الطبري عنهم سبع مائة رواية، و رواية واحدة، استغرقت بيان حوادث 11- 37 من الهجرة فحسبها المتأخرون حقائف فاستندوا إليها في كتبهم و رسائلهم دون تمحيص أو تدقيق.

والتاريخ يعجّ بهذه الموضوعات والمكذوبات على لسان وصلحاء الأمّة، يقف عليها منه سبر التاريخ بتجرّد وموضوعيّة، فكم من صالح بخس التاريخ حقَّه، واتّهمه بالزيغ والضلال، وكم من طالح سفك دماء الأبرياء والأتقياء ألبسه التايخ ثوبَ الزهد والتقى.

من هنا تتأكّد المسؤولية في إعادة قراءة التاريخ على ضوء القواعد العلمية المتفق عليها، بعيداً عن النزوع إلى العواطف والأهواء والآراء المسبقة، بغية فرز الحقائق عن الأوهام، وهذا ما نعبِّر عنه بقراءة التاريخ من جديد، وهذا ما نقترحه، آملين أن يقيض اللَّه رجالًا أحراراً لايبتغون غير الحقيقة هدفاً.

وأخيراً، ولأجل أن تقترن الدعوة بالعمل نقدم إلى القراء الكرام سلسلة من البحوث التاريخية لتكون نموذجاً لما دعونا إليه، وليس ما قمنا به إلّا خطوة متواضعة في هذا السبيل.

واللَّه هو الهادي

جعفر السبحانى

مؤسسة الإمام الصادق (عليه السّلام)

ص: 5

الحج والصحوة الإسلامية الراهنة

الحمد للَّه الذي فرض الحجّ على عباده، إظهاراً لجلاله وكبريائه، وعلوّ شأنه، وعظم سلطانه، وجَعَلَ بيته للعائذين حرماً، وللعاكفين قبلة، وللإسلام علماً، ونسبه إلى نفسه تشريفاً، فقال: «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَ أَمْنًا .... وَ عَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَ هِيمَ وَ إِسْمعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَ الْعكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ».

إنّ الحجّ من أعظم شعائر الإسلام وأفضل ما يتقرّب به المسلمُ إلى اللَّه سبحانه، وفيه الوفادة إليه من كلّ ما اقترف

ص: 6

العبد من ذنوب، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من صرف الأموال وتعب الأبدان والخروج عن الأهل والولد، وترك اللذات والشهوات وتحمل مقاساة الأهوال، شاخصاً في الحرد والبرد، ثابتاً على ذلك مع الخضوع والاستكانة والتذلل.

وقد وصف سبحانه تارك الحجّ ومسوِّفة بالكفر لأنّه قد أصبح بإيثاره للأُمور الدنيوية على الفريضة الإلهية، ممن يجحد النعمة ولايشكرها، وهذا بمثابة الكفر بمغدِقها سبحانه.

وهذا إن دلّ على شي ء فإنّما يدلّ على انّ الحجّ من الأهمية في الإسلام ليس لغيره من الفرائض إلى حدّ يقول الإمام الصادق (عليه السّلام): «ما زال الدين قائماً ما قامت الكعبة».(1) وفي حديث آخر عنه «انّ الناس لو تركوا حجّ هذا


1- الوسائل: 8، الباب 4 من أبواب وجوب الحجّ والعمرة، الحديث 5.

ص: 7

البيت لنزل بهم العذاب ومانوظروا».(1) إنّ للحجّ أسراراً لا يسع الباحث إحصاءها، ولا الاحاطة بها، و قد أشار المحقّقون من علمائنا إلى جوانب من أسراره، والذي يهمنا في مقام هو أنّ الحجّ أصبح في عصرنا الحاضر أشبه بعبادة فردية ليس لها من المعطيات الاجتماعية إلّا شيئاً يسيراً لايُذكر. فأكثر الناس يقتصر همّهم على إنجاز الفرائض على أتم وجه دون أن يُعيروا أهمية لأبعاده الاجتماعية والسياسة التي ظلت طي الخفاء طوال سنين عديدة.

انّ الصحوة الإسلامية التي عمت أرجاءٌ واسعة من العالم تدفع بأئمّة المسلمين إلى التفكير مليّاً في أبعاد الحجّ الاجتماعية والسياسية بغية توظيفها لصالح قضايا الإسلام المصرية.

وانطلاقاً من ذلك فقد وضعنا هذه الرسالة وكرّسنا


1- الوسائل: 8، الباب 4 من أبواب وجوب الحجّ والعمرة، الحديث 8.

ص: 8

البحث فيها على أبعاد الحجّ الاجتماعية والسياسية في الذكر الحكيم أوّلًا والسنّة الشريفة ثانياً وكلمات العلماء ثالثاً عسى أن يبعث اللَّه رجالًا أحراراً ذوي أفئذة وعقول نيّرة يجبرون ما فات من خلال عقد مؤتمرات يتدارسون خلالها الأوضاع المُزرية للمسلمين، ووضع أفضل السبل والحلول وعلاجها، بإذن منه

سبحانه المؤلف الحج موسم عبادي و ملتقى سياسي،

ص: 9

1- الحج ووحدة المسلمين وايقاظهم

جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس وجعل الحجّ موسماً للعبادة، وفرصة لالتقاء المسلمين الوافدين من كلّ صقع وصوب ليتعارفوا، وليتعرّفوا على معالم دينهم ويطّلعوا على أحوالهم، فهذا هو- بعد العبادة- من أظهر مصاديق قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدُوا مَنافع لَهُم)، وأيّ منفعة- بعد العبادة- أكبر من أن يلتقي الإخوة في اللَّه في نقطة واحدة بعيداً عن جميع الاعتبارات الشخصية والاجتماعية والحواجز القومية، والإقليمية والعرقية يُخيِّم عليهم ظلال الدين، وتَغمرهم مشاعر المحبّة والمودّة، وتجمعهم روح

ص: 10

الاخوّة الصادقة الصافية؟

وأيّ مسألة أهمّ من أن يتعرّف المسلمون على الأخطار والمشاكل المحدِقة بهم، ويتدارسوا حلولها المناسبة ويعملوا معاً و بيد واحدة، وعزيمة متضافرة لإزالتها، أو يخفّضوا من وطأتها وثقلها عن كواهلهم.

وأيّ مشكلة هي أكثر ضغطاً على المسلمين اليوم من مشكلة الاستكبار المتشكّل بأشكال مختلفة الّذي يحتلّ بلاد المسلمين عسكرياً، أو يسيطر عليها سياسياً، أو يغزوها ثقافياً، وينهب ثروات المسلمين، ويثير الفتن بينهم، ويقتل أبناءهم، ويُفسد شبابهم، و ....

أليس «الحجّ» خير مكان لإعلان الاستياء الإسلامي العام من هذا الاستكبار الخبيث البغيض وفي طليعته أمريكا وأذنابها.

وإذا كان المسلمون المظلومون، المضطهدون في بلادهم لا يستطيعون الإعلان عن استيائهم وغضبهم على المستعمرين في عقر ديارهم، لوجود حكومات عميلة تخنق

ص: 11

الأصوات وتُكمّ الأفواه، أفلا يكون الحجّ أفضل فرصة وأحسن مكاناً لإعلان هذا الاستياء والغضب جنباً إلى جنب مع كافّة الإخوة المسلمين إلى جانب العبادة والخضوع والتضرّع والإنابة؟

أليس رفض الطواغيت الذي يعتبر الخضوع لحكمها، والسير في ركابها، والركون إليها من مصاديق «الشرك في الطاعة» من أبرز مظاهر التوحيد الّذي جعل اللَّه الحجّ تجسيداً له، وتحقيقاً لحقيقته؟

ولقد أدرك المسلمون اليوم هذه الحقيقة، ومع تنامي الحركة الإسلامية وتصاعد الصحوة الإسلامية أدركوا أنّ الحجّ هو المكان المناسب والفرصة المناسبة لتوحيد صفوف المسلمين، وإيقاظهم، وإيقافهم على حقيقة الأحداث المأساوية الّتي يقف وراءها أعداء الإسلام: أمريكا وإسرائيل وبريطانيا و غيرهم من قوى الاستكبار والاستعمار.

لقد أدركوا أنّ الحجّ خير فرصة لإعلان الاستياء

ص: 12

الإسلامي العام من الاستعمار البغيض جنباً إلى جنب مع العبادة والإنابة امتثالًا لقوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذكُرُوا اسْمَ اللَّهِ ...) الذي يشير (1)إلى فلسفة الحجّ المزدوجة: العبادية والسياسية وجانبيه الدنيويّ والأُخروي.

ولكن مع الأسف نجد بعض من يدّعي العلم، ويتصدّر مقام الدعوة إلى الإسلام يخالف بشدة هذه الحركة المباركة وهذه الخطوة العظيمة المؤثرة التي لا تهدف إلّا إنقاذ المحرومين والمظلومين، وشجب الاستعمار والاستعباد، وهو يسمع باستمرار أخبار المذابح والمجازر الّتي تودي بحياة الكثير من أبناء الأُمّة الإسلامية كلّ يوم وبسبب مباشر من كيد الاستعمار في فلسطين ولبنان وأفغانستان وارتيريا، والبوسنة والهرسك وغيرها.

هذا البعض بدل أن يضمّ صوته إلى أصوات بقيّة المسلمين المستنكرة لأعمال الاستعمار، الشاجبة لجرائمهم بحقّ الإسلام والمسلمين، نجده يضمّ صوته إلى أصوات


1- الحج: 28.

ص: 13

الدوائر الاستعمارية ويهرّج في أبواقه الإعلامية ضدّ المسلمين، ويستنكر غضبهم على الاستعمار المتمثّل اليوم في أمريكا وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا الملطّخة أيديهم بدماء المسلمين المبنيّة قصورهم على جماجم أبناء الإسلام.

وأعجب من كلّ هذا تمسّكه لتحريم هذه الخطوة المباركة بقوله تعالى: (لا رَفَثَ وَلا فُسُوق وَلا جِدالَ فِي الحَجّ) الذي لا علاقة له بهذه المسألة أصلًا.

ذلكم هو الشيخ عبد اللَّه الخيّاط إمام وخطيب المسجد الحرام الذي اعتبر طرح مشاكل المسلمين السياسية في موسم الحجّ خروجاً عن مفاهيم الحجّ، واستدلّ لذلك بقول اللَّه تعالى: (... فَمَنْ فَرَضَ فيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الحَجّ ...). (1)وقال: وكما أرادها الرسول في قوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم:

«من حجّ ولم


1- البقرة: 197.

ص: 14

يرفِثْ ولم يَفسق عادَ كيوم ولدَتهُ أُمّه».

أمّا دعوة إيران الخميني التي يريد أن يحوّل الحجّ إلى شعارات سياسية، وإلى مظاهرات دعائية، وإلى ممارسات فوضوية، فهي مرفوضة شكلًا ومضموناً لأنّها تتنافى مع تعاليم ديننا الحنيف، وتخرج عن مفاهيمه ومبادئه السمحة، ولأنّها تقوّض ركناً من أركانه، ففيها انتهاك لحرمات اللَّه، واجتراء على شعائر اللَّه، وخروج على النهج الّذي رسمه اللَّه.

إنّ دعوة إيران الخميني تثير الفتنةوتشتّت الشمل وتحوّل المحبّة إلى أحقاد، وتحوّل المشاعر المقدّسة إلى ساحات لرفع الشعارات السياسية، ونشر الدعوات المشبوهة، فما من مسلم على وجه الأرض إلّا ويرفض هذه الدعوة ويستنكرها، لأنّ فيها خروجاً على الإسلام وانتهاكاً لشعائره.

والحجّ لا يمكن أن يكون إلّاملتقىً روحياً ومؤتمراً سنوياً يجتمع فيه المسلمون الوافدون من كلّ فجّ عميق. (1)


1- مجلة رابطة العالم الإسلامي، السنة الحادية والعشرون، العدد الثاني عشر.

ص: 15

إنّ ما ورد في هذا الخطبة من العبارات والكلمات هي الّتي نسمعها من الخطباء في كلّ عام، فهم لا يتجاوزون عن تلاوة نفس الآية، وإتباعها بما سمعت من هذا الخطيب من الكلمات والعبارات الجوفاء.

ونحن- هنا- لا نقابل الشيخ إلّا بما أمرنا به سبحانه في قوله:

(وَجادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَن) فنشرح معنى الآية ونوضحها حتّى يظهر المراد منها، ويعلم الجميع أنّ المظاهرات السياسية وإعلان البراءة من الكفّار وشجب أعمالهم المعادية للإسلام والمسلمين، ودعوة المسلمين إلى الوحدة الّتي هي روح تلك المظاهرات التي أمر بها الإمام الخميني، ليست مصداقاً للجدال الوارد في الآية.

الحج موسم عبادي و ملتقى سياسي،

ص: 16

2- اعلان البراءة والجدال في الحج

اشارة

يقول سبحانه: (الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعَلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الحَجِّ).(1) وإليك تفسير الآية وإيضاح مفهومها.

1. إنّ تكرار لفظ «الحجّ» في الآية ثلاث مرّات مضافاً إلى أنّه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر، فيه لطف الإيجاز، فإنّ المراد بالحجّ الأوّل: زمان الحجّ، وبالحجّ الثاني: نفس العمل، وبالثالث:

زمان الحجّ ومكانه، ولولا الإظهار لم يكن بدّ من إطناب غير لازم.

قال صاحب تفسير المنار:


1- البقرة: 197.

ص: 17

«إنّ من بلاغة الإيجاز في الآية التصريح في مقام الإضمار بذكر الحجّ ثلاث مرّات، المراد بأوّلها: زمان الحجّ، وبالثاني: الحجّ نفسه المسمّى بالنسك، وبالثالث: ما يعمّ زمان أدائه ومكانه وهو أرض الحرم ومايتبعها كعرفات». 2(1). المراد من قوله: (فَمَنْ فَرَضَ فيهِنَّ الحَجَّ) أي ألزم نفسه بالشروع في الحجّ بالنيّة قصداً باطناً والإحرام فعلًا ظاهراً، وبالتلبية نطقاً مسموعاً.(2) 3. المشهور أنّ الرفث هو الجماع، و عن عبد اللَّه بن عمر و طاووس وعطاء وغيرهم الرفث، الإفحاش للمرأة بالكلام (3)أو مطلق الفحش(4) وقيل غير ذلك.

4. وفسّر الفسوق بجميع المعاصي كلّها، وقال ابن زيد و مالك:

الفسوق الذبح للأصنام، وقال الضحّاك:


1- تفسير المنار: 2/ 228.
2- تفسير القرطبي: 2/ 406.
3- المصدر نفسه.
4- تفسير الكشاف للزمخشري: 1/ 264.

ص: 18

الفسوق التنابز بالألقاب، وقال ابن عمر: الفسوق السباب، والقول الأوّل هو الأصحّ، لأنّه يتناول جميع الأقوال.

وقد روي عنه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال:

«من حَجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدَتهُ أُمّه» و «الحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلّا الجنّة» أخرجه مسلم وغيره. (5)

5. والجدال في اللغة هو المنازعة والمشاجرة والمخاصمة.

يقال: جدلت الحبل فتلته، والجديل زمام البعير.

وسمّيت المخاصمة مجادلة لأنّ كلّ واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه.

والمهمّ في المقام هو تفسير قوله تعالى: (ولا جِدالَ فِي الحَجّ) وتعيين المقصود منه، وقد اتّخذه المخالف دليلًا على حرمة المظاهرات وإلقاء الخطب السياسية، والمناشدات الجماعية وإظهار البراءة من الكفّار والمنافقين.

ولا يتبيّن مقدار دلالة الآية على ما يرتئيه هؤلاء إلّا بنقل

ص: 19

جميع الاحتمالات الّتي ذكرها الكبار من المفسّرين وإليك بيانها:

المعنى الأوّل

ما ذكره القاضي البيضاوي ومال إليه الرازي(1) من حمل قوله سبحانه: (لا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الحَجّ) على الخبر، ومعناه أنّ الحجّ لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال بل يفسد، لأنّه كالضدّ لها، وهي مانعة من صحّته، وعلى ذلك يجب أن يحمل الألفاظ الثلاثة على أعمال تفسد الحجّ، وتوجب القضاء من قابل إذا كان واجباً، فيفسّر «الرفث» بالجماع، و «الفسوق» بالزنا، لأنّه مفسدة، ويحمل الجدال على خصوص الشكّ في الحجّ ووجوبه وصحّة تشريعه وكونه عملًا موافقاً للعقل.

والحاصل: انّ الظاهر هو حصول المضادّة بين هذه الأشياء والحجّ الّذي أمر اللَّه تعالى به ابتداءً.

وعلى ذلك ... فكما لا يمكن الأخذ بمطلق «الفسوق»


1- مفاتيح الغيب: 2/ 175 ونقله عن القاضي أيضاً.

ص: 20

إذ ليس كلّ فسوق مفسداً كالكذب والغيبة لا يمكن الأخذ بمطلق «الجدال» إذ ليس كلّ جدال مفسداً غير مجامع مع الحجّ بل جدالًا خاصّاً غير مجامع معه كالشكّ في وجوبه وصحّة تشريعه، والقول بلغوية الطواف على الحجر والتراب والأخشاب.

وهذا المعنى الذي اختاره القاضي وجنح إليه الرازي في تفسيره هو المختار لكثير من الفقهاء في بعض التراكيب مثل قوله: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» أو «لا صلاة إلّا بطهور» و المقصود نفي الصحّة بدونهما، وأنّ حقيقتهما تتقوّم بهما، كما أنّ المقصود من الآية أيضاً نفي صحّة الحجّ مع أحد هذه الأُمور الثلاثة.

فلو صحّ ذلك الاحتمال، فلا يصحّ الاستدلال معه على ما يرتئيه هؤلاء من حرمة مطلق الجدال، ومنه المظاهرات، إذ الآية بصدد بيان حرمة الجدال الذي لا يجتمع مع صحّة الحجّ، وليس بصدد بيان حرمة كلّ جدال وإن جامع مع صحته.

ص: 21

والمظاهرات على فرض كونها جدالًا (1)حراماً ليست مفسدة للحجّ بالضرورة.

المعنى الثاني

التفريق بين الأُمور الثلاثة بحمل الأوّلين على النهي، وإن كان عدولًا عن ظاهر اللفظ أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا، وحمل الثالث على الخبر، أي أنّه لا جدال ولا خلاف في وقت الحجّ ومكانه، وعلى هذا فالمراد: لا جدال ولا خلاف في وقت الحجّ ومكانه، وهذا المعنى هو الّذي أصرّ عليه ابن جرير الطبري في تفسيره(2) وذكره الزمخشري (3)واستشهدا عليه بوجهين:

الأوّل: إنّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- قال: «مَن حجّ للَّه ولم يرفث ولم يفسق رجع كهيئته يوم ولدته أُمّه» ولم يقل «ولم يجادل» و في


1- سيوافيك انّ إعلان البراءة ليس من مصاديق الجدال.
2- تفسير الطبري: 2/ 162.
3- تفسير الكشاف: 1/ 246.

ص: 22

هذا دلالة على أنّ الأوّلين بمعنى النهي عن الرفث والفسوق، دون الثالث، وإلّا كان عليه عطف الثالث عليهما بصورة النهي، بل هو بمعنى الخبر ونفى من اللَّه جلّ وعزّ عن شهور الحجّ الاختلاف في وقته ومكانه الذي كانت الجاهلية تختلف فيها بينها.

الثاني: إنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب بعرفة، وكانوا يقدّمون الحجّ سنة ويؤخّرونه سنة وهو المعروف ب «النسي ء» فردّ إلى وقت واحد، وردّ الوقوف إلى عرفة، فأخبر اللَّه تعالى أنّه قد ارتفع الخلاف في الحجّ، وقد أخبر اللَّه عن النسي ء و قال: (إنّما النسئ زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً). (1)نعم رجع الحجّ إلى زمانه ومكانه في حجّة الوداع قال صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات و الأرض» وقال القرطبي: يعني رجع أمر الحجّ كما كان، أي عاد


1- التوبة: 37.

ص: 23

إلى يومه ووقته، وقالصلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم لمّا حجّ: «خذوا عنّي مناسككُم» فبيّن بهذا مواقف الحجّ ومواضعه. (1)فلو قلنا بهذا الوجه لما كان لقوله تعالى صلة بما يرتئيه الخطيب الخيّاط، إذ ليس هو بمعنى النهي حتّى يكون تكليفاً إلزامياً شاملًا لمطلق الجدال، بل هو كلام خبري، والخبر حقيقة تكوينية وأنّ أمر الحجّ- بعد عمل رسول اللَّه وتحديده المواقف والمشاعر، وتثبيته في شهر خاصّ- أصبح كالشمس في رائعة النهار فهو أرفع من أن يحوم حوله الشكّ من حيث الزمان والمكان. فأيّ صلة لهذا الكلام بحرمة المجادلة أوّلًا، وحرمة المظاهرات السياسية ثانياً، لو قلنا بأنّها من مصاديق الجدال.

قال ابن جرير:

«وأعجب الأقوال إليّ في ذلك- إذ كان الأمر على ما وصفت- قراءة من قرأ «فلا رفَثٌ وَلا فُسُوقٌ وَلا جِدالَ فِي الحَجَّ» برفع الرفث والفسوق وتنوينهما، وفتح الجدال بغير


1- تفسير القرطبي: 2/ 410.

ص: 24

تنوين، وذلك هو قراءة البصريّين وكثير من أهل مكّة منهم عبداللَّه بن كثير، وابن عمرو بن العلاء».(1) وإنّما رفع الأوّلان ونصب الثالث حملًا للأوّلين على معنى النهي كأنّه قيل: فلا يكوننَّ رفث، ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنّه قيل: ولا شكّ ولا خلاف في الحجّ، أي في موعده وزمانه.

المعنى الثالث

ما اختاره كثير من المفسّرين هو حمل النفي على النهي والغاية هو النهي عن الأُمور الثلاثة، وعندئذٍ يتوهّم المستدلّ أنّ ظاهر الآية هو النهي عن مطلق الجدال ومنه المظاهرات السياسية.

غير أنّه يجب على المريد للحقيقة وقفة قليلة حتّى يتبيّن أمران:

1. إنّ الجدال ينقسم إلى محرّم ومباح ومندوب، فهل


1- تفسير ابن جرير: 2/ 161.

ص: 25

المنهيّ عنه هو مطلق الجدال أو يختصّ بالقسم الأوّل منه؟ وكونه محرّماً في غير الحجّ يلازم كونه محرّماً فيه أيضاً، بل تكون الحرمة أشدّ.

2. إنّ المظاهرات السياسيّة، وإلقاء الخطب، وإيقاظ المسلمين عن غفلاتهم، وإظهار البراءة من أعدائهم الشرقيّين والغربيّين، هل هي من مصاديق الجدال وموارده أو لا صلة لها بذلك أبداً؟ وإليك بيان الأمرين:

إنّ المراد بالجدال هنا هو المراء الذي يجب الاجتناب عنه في الحجّ وغيره، ولكنّه في الحجّ أولى.

قال الزمخشري:

«ولا جدال: أي ولا مراء مع الرفقاءوالخدم والمكارين، وإنّما أمر باجتناب ذلك، وهو واجب الاجتناب في كلّ حال، لأنّه في الحجّ اسمج كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في قراءة القرآن». (1)


1- الكشاف: 1/ 263.

ص: 26

وقال في المنار:

«الجدال: المراء والخصام، فتكون هذه المناهي كلّها آداب لسانية، ويجب أن يكون المرء في أوقات العبادة والحضور مع اللَّه سبحانه على أكمل الآداب وأفضل الأحوال». (1)قال الجصّاص:

«الجدال: المراء، وقال ابن عبّاس: الجدال أن تجادل صاحبك حتّى تغيضه. ثمّ قال: إنّ المُحْرم منهي عن السباب والمماراة في أشهر الحجّ وفي غير ذلك وعن الفسوق، وإن كانت محظورة قبل الإحرام، فإنّ اللَّه نصّ على حظرها في الإحرام تعظيماً لحرمة الإحرام، ولأنّ المعاصي في حال الإحرام أعظم وأكبر عقاباً في غيرها منها».(2) ويوضّح ذلك اقتران «الجدال» مع «الفسوق» فهو يكشف عن كون الأمرين من قماش واحد وجنس واحد، فلا


1- تفسير المنار: 2/ 227- 228.
2- أحكام القرآن: 1/ 308.

ص: 27

يصحّ تعميمه إلى مطلق الجدال المباح أو المندوب في الشريعة.

وفي الشريعة الإسلامية أنواع جدال مباحة بل ومندوبة لا تعمّها الآية.

أمّا المباح منها فهو ما ورد في قوله سبحانه:

(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتي تُجادِلُكَ فِي زَوجِها وَتَشْتَكي إِلَى اللَّهِ). (1)فلو حدَث مثل هذا الأمر في الحجّ لم يكن محرّماً لا من المتكلّم ولا من المستمع.

ويدلّ على أنّ المراد من الجدال هو الجدال الممنوع والمراء اللازم الاجتناب، أنّهم فسّروا الجدال في الآية بأُمور لا تخرج جميعها عن الجدال والمراء الممنوع.

قال الرازي: «ذكر المفسّرون وجوهاً في هذا المجال:


1- المجادلة: 1.

ص: 28

1. هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل.

2. قال محمّد بن كعب القرضي: إنّ قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم: حجّنا أتمّ، وقال آخرون: بل حجّنا أتمّ، فنهاهم اللَّه تعالى عن ذلك.

3. قال مالك في الموطّأ: الجدال في الحجّ أنّ قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح وكان غيرهم يقفون بعرفات وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء: نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، قال اللَّه تعالى: (لِكُلِّ أُمّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقيمٍ* وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُل اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) (1)قال مالك: هذا هو الجدال.

4. قال القاسم بن محمّد: الجدال في الحجّ أن يقول بعضهم: الحجّ اليوم، وآخرون: بل غداً، وذلك أنّهم أُمروا أن


1- الحجّ: 67- 68.

ص: 29

يجعلوا حساب الشهور على رؤية الأهلّة.

5. قال القفّال: يدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول اللَّه حين أمرهم بفسخ الحجّ إلى العمرة فشقّ عليهم ذلك، وقالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيّاً؟! فقال صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، وتركوا الجدال حينئذٍ.

6. قال عبد الرحمن بن زيد: جدالهم في الحجّ بسبب اختلافهم في أيّهم المصيب في الحجّ لوقت إبراهيم عليه الصلاة والسّلام.

7. إنّهم كانوا مختلفين في السنين فقيل لهم: لا جدال في الحجّ فإنّ الزمان استدار وعاد إلى ما كان عليه الحجّ في وقت إبراهيم.

فهذا مجموع ما قاله المفسّرون في هذا الباب. (1)فهذه الأمثلة تفيد أنّ المراد من الجدال في الآية هو


1- تفسير الإمام الفخر الرازي: 1/ 175.

ص: 30

الجدال المنهيّ عنه سواء أكان منهيّاً عنه بالنهي التحريميّ أو النهي التنزيهيّ الكراهيّ.

وجاء في «الفقه على المذاهب الأربعة»: ويحرم الخروج عن طاعة اللَّه تعالى بأيّ فعل محرّم، وإن كان ذلك محرماً في غير الحجّ، إلّا أنّه يتأكّد فيه وتحرم المخاصمة مع الرفقاء والخدم ونحوهم لقوله تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الحَجّ) والجدال: المخاصمة. (1)وعلى ذلك فالجدال المباح والمناقشة من غير أن يثير غضب الآخر كالجدال الوارد في قوله سبحانه: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الّتي تُجادِلُكَ فِي زَوجِها وَتَشْتَكي إِلى اللَّه) خارج عن مصبّ الآية، فلو كانت المرأة الشاكية محرمة، وقد رفعت أمرها إلى النبيّ وطلبت حقّها من زوجها، لم يُعَدّ ذلك من الجدال المحرّم والمراء المنهيّ عنه والمخاصمة المبغوضة بل يعدّ طلباً للحقّ عن طريقه.


1- الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 524.

ص: 31

روى المفسّرون أنّ امرأة من الأنصار بعد ما ظاهر منها زوجها جاءت إلى النبي وقالت: إنّ زوجي تزوّجني وأنا شابة غانية ذات مال وأهل حتّى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرّق أهلي وكبر سنّي ظاهر منّي ... إلى آخر ما ذكرته.

فإذا كان الجدال المباح خارجاً عنها فالجدال المندوب أولى بالخروج منه، كيف لا وقد أمر سبحانه نبيّه بالجدال المندوب في كتابه.

فلو طرحت في أثناء الحجّ مسألة فقهية أو عقائدية أو تفسيرية وعرض كلّ واحد رأيه في المسألة وجادله الآخر بالتي هي أحسن، فلا يكون ذلك حراماً محظوراً بل هو عمل بقوله: (ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَة وَجادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ ...).(1) ولو جرى بحث في مخيّمات عرفات حول مسألة فقهية أو كلامية فأخذ أحد المسلمين موقفاً خاصّاً، ودافع عن


1- النحل: 125.

ص: 32

معتقده بالدليل والبرهان من دون إبراز مخاصمة أو لجاج أو عناد فلا شكّ في جواز ذلك، ولا يعدّ ذلك داخلًا في الجدال الوارد في الآية.

هذا ما لدى القوم و أمّا ما عند أهل البيت الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في لسان النبيّ الأعظم (1) فسّر الجدال المذكور في الآية بقول الرجل: لا واللَّه و بلى واللَّه، فإذا حلف بثلاث أيمان متتابعات صادقاً فقد جادل وعليه دم، وإذا حلف بيمين واحدة كاذبة فقد جادل وعليه دم. (2)وأين هذا من تحريم مطلق الجدال الّذي يدّعيه القوم؟! وإنّما المحرّم حسب رواياتهم هو الجدال الخاصّ كما عرفت.


1- تواتر عنه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» وقد نشرت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية رسالة خاصة في تحقيق اسناده ومتونه.
2- نور الثقلين: 1/ 162، ولاحظ كتب الحديث كالوسائل وغيره.

ص: 33

لنفترض أنّ الآية تعمّ جميع المجادلات المحرّمة في غير الحجّ والمباحة والمندوبة كافة، غير أنّ المراد هو مجادلة الحاج مع الحاج الآخر، أو مجادلة الحاج مع من في الحرم، وأمّا المظاهرات التي تقوم بها جموع الحجّاج المسلمين وإعلان البراءة من الكفّار والغضب من ممارساتهم المعادية للإسلام والمسلمين، والدعوة إلى الاتحاد والوحدة بين السملمين لمواجهة الأخطار والتحدّيات، فليس شي ء من ذلك من الجدال أصلًا، فليس في ذلك المحتشَد إلّا المسلمون وهم يد واحدة وليس في مقابلهم أحد من الكفّار والمنافقين حتّى يقع الجدال بين الطرفين.

ترى هل يعدّ ما فعله الإمام عليّ عليه السَّلام حيث قرأ آيات من سورة البراءة على الكفّار خلال موسم الحجّ بأمر رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم جدالًا؟ أم أنّه إعلان لبراءة اللَّه ورسوله من الكفّار والمشركين، وأيّ فرق بين المقامين؟!

وإنّ المظاهرات الّتي يقوم بها المسلمون الحجّاج خلال الحجّ ليس إلّا تجسيداً وتحقيقاً لما جاء في قول اللَّه تعالى:

ص: 34

(... أَشِدّاءُ عَلَى الكُفّارِ رُحَماءُبَيْنَهُمْ ...). (1)نعم إنّ السلطة بمنعها المسلمين من إعلان الغضب على الكفّار والاستياء من أعمالهم الإجرامية توجد جوّاً من الجدال الممنوع، وتمنع المسلمين من أداء واجبهم الإسلامي، وتدفعهم إلى مناقشتهم ومجادلتهم، فتكون السلطات السعودية هي المجادلة وهي سبب الجدال.

فلو أُتيحت الفرصة، لاتّفق الحجّاج على المشاركة في هذه التظاهرات الشاجبة لأعمال الكفّار وجرائم الملحدين، ولما حدث أي نقاش بينهم، و في الختام نسأل الخيّاط: أنّه يقول في خطابه أنّ الحجّ مؤتمر سنوي يجتمع فيه المسلمون من كلّ فجّ عميق، لو كان الحجّ على ما زعم فماذا يجب أن يطرح في هذا المؤتمر من مسائل؟

هل يجب أن تلقى كلمات بسيطة حول كراهة أكل البصل والثوم لمن يريد دخول المسجد، أو غسل الأقدام


1- الفتح: 29.

ص: 35

والأحذية من الأتربة والعَرَق كما سمعناه مراراً من خطباء المسجد الحرام في أيّام الحجّ وجمعاتهم، وكأنّه ليست هناك مسألة إسلامية غير هذا.

فإذا تبيّن لك أيّها القارئ بطلان ما قاله الخيّاط وبطلان استدلاله، بل عدم علاقة الآية بالمقام، ينبغي أن نقف معاً على فلسفة الحجّ الحقيقية بصورة مفصّلة وفي ضوء الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والوقائع التاريخية من سيرة السلف وإليك ذلك إجمالًا.

ص: 36

3- ماذا يهدف إليه الحجّ؟

اشاره

لا شكّ أنّ أوّل ما يهدف إليه الحجّ وأهمّ ما تقصده مناسكه هو المزيد من توجيه العبد إلى اللَّه، ودفعه إلى الخضوع له، وتقوية صلاته به سبحانه، وتعميق الإيمان في قلبه، وتكريس الاعتقاد بوحدانيته في ضميره.

والأحرى أن نقول بإيجاز: إنّ الهدف الأهمّ من الحجّ هو العبادة والتعبّد، ابتداءً من الإحرام للعمرة، ومروراً بالطواف بالكعبة المشرَّفة فالصلاة فالسعي فالتقصير ثمّ الإحرام ثانية للحج فالوقوف بعرفة فالإفاضة إلى المزدلفة والوقوف بها، فالذهاب إلى منى والمبيت بها ليالي، فالرمي فالنحر أو الذبح فالحَلق فالطواف بالكعبة المعظّمة أيضاً، وانتهاءً بالسعي بين

ص: 37

الصفا والمروة، وما يتخلّل كلّ ذلك، أو يصاحبه من أدعية وأذكار، وامتناع عن محرّمات خاصّة، قربة إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

إنّها العبادة في أفضل أشكالها.

وإنّها إظهار العبودية في أعلى مظاهرها.

وإنّها الخضوع لذي الجلال في أسمى صوره وأنماطه.

وإنّها التضرّع إلى اللَّه في أعمق أنواعه.

فالحجّ عبادة جامعة تتوفّر فيها كلّ عناصر إظهار العبودية، وكلّ أشكال الخضوع والطاعة للربّ العظيم الكريم، من انقطاع عن الدنيا، وإعراض عن الشهوات وتضحية بالمال، وتذلّل وذِكر، وتهليل وتسبيح وتحميد وتكبير، وتوحيد للَّه في الطاعة والانقياد والخضوع والالتماس، والاستعانة والعبادة، وخروج عن إطار الرغبات الماديّة، وتناسٍ موقّت للمال والولد والأهل والوطن في سبيل اللَّه، ومن أجل اللَّه، وبأمر اللَّه، وتقرّباً إلى اللَّه، وامتثالًا لحُكم اللَّه، وتنفيذاً

الحج موسم عبادي و ملتقى سياسي،

ص: 38

لإرادة اللَّه، وتلبيةً لنداء اللَّه وحده لا شريك له.

إنّها عبادة ولا شكّ، ولكن هل يتلخّص هدف الحجّ هذا المنسك العظيم في العبادة المحضة؟

وهل فرض الحجّ على عامّة المسلمين رجالًا ونساءً، شيباً وشبّاناً، ومن كلّ لون وجنس، ليؤدّوا أمراً في مجال العلاقة بربّهم خاصّة، دون أن يكون لهذا الواجب المقدّس أيّ مفهوم اجتماعي، وأيّ ارتباط بحياتهم وشؤونهم؟

وهل أصغر عمل عباديٌّ في الإسلام يخلو عن مفهوم اجتماعي، حتّى يخلو منه هذا المنسك العظيم، وهذه الفريضة الكبرى ذات الأجزاء والعناصر الكثيرة، وذات الطابع الاجتماعي- كصلاة الجمعة؟!

إنّ الآيات القرآنية، والسنّة الشريفة، وسيرة السَّلف، وأقوال العلماء، كلّها تُجمع على أنّ هدف الحجّ لا ينحصر ولا يتلخّص في كونه مجموعة من المراسم العبادية المحضة وتضرّع يُبديه العبد بحياته الاجتماعية، شأنه شأن غيره من الفرائض

ص: 39

الإسلامية كالصلاة والصيام والزكاة والجهاد وغيرها الّتي لا تشتمل على الأُمور التعبّدية فقط، بل تنطوي على أهداف اجتماعية وآثار سياسية في حياة المسلمين، أفراداً وشعوباً.

وهو أمر يؤيّده العقل السليم ويؤكّده المنطق المستقيم.

إنّ الإسلام دين شامل أي أنّه نظام عباديّ وسياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ، وأنّه على العكس من اليهودية والنصرانية الحاضرة والمبادئ البشرية الوضعية، ليس إلّا مجموعة متناسقة من المعتقدات والقوانين والأخلاق في شتّى حقول الحياة، بل و كلّ جزء من هذا الدين هو الآخر خليط مدروس، ومزيج محسوب من الأبعاد المختلفة، وتركيب متوازن من الفرد والجماعة، والعبادة والسياسة والاقتصاد والصحة، والدنيا والآخرة.

بل العبادة في منطق هذا الدين يتسع نطاقها حتّى تشمل الحياة كلّها وتعمّ جميع الأعمال البشرية إذا كانت لأجل اللَّه، فلا تقتصر على الشعائر التعبّدية المعروفة من

ص: 40

صلاة وزكاة وحجّ، إنّها تشمل كلّ عمل ترتقي به الحياةويسعد به الناس.

ولهذا قال النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم لأبي ذر:

«ليكن لك في كلّ شي ء نيّة صالحة حتّى في النوم». (1)فالحجّ كما نكتشف ذلك من الكتاب والسنّة وسيرة السلف وأقوال العلماء المحقّقين لا يتلخّص في كونه موسماً عبادياً- بالمفهوم المألوف عند كثيرين- بل هو إلى جانب ذلك مؤتمر سياسيّ عالميّ وملتقى اجتماعيّ عامّ يوفّر للمسلمين القادمين من شتّى أنحاء المعمورة فرصة التعارف والت آلف واللقاء والانتفاع بعضهم ببعض، ومداولة أُمورهم، وحلّ مشاكلهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في جوٍّ من الأمن والقداسة والصفاء والمحبّة.

وهذا هو ما نبتغي استعراضه والتدليل عليه في هذه الصفحات القلائل مع الاعتراف بأنّ هذه المسألة ودراسة


1- مدينة البلاغة في خطب النبيّ وكتبه ومواعظه: 1/ 469.

ص: 41

أبعاد الحجّ العبادية والسياسية والاجتماعية أوسع بكثير من أن تستوعبها هذه الدراسة الموجزة، ولهذا نأمل أن يكون ما جاء في هذا الفصل مجرّد دليل لا أكثر، وعلى المسلمين عامّة، والحجّاج خاصّة أن يحاولوا- بأنفسهم- التعرّف على المزيد من الحقائق في هذا المجال وذلك بالتدبّر في هذه الفريضة ومناسكها، والتأمّل في الآيات والأحاديث الشريفة في هذا الصعيد.

ص: 42

1. مشاهدة المنافع في الحج

4 أبعادُ الحجّ الاجتماعية والسياسية في القرآن

لقد وصف القرآن الكريم «الحجّ» في عدّة مواضع بأنّ فيه ما ينفع الناس ويضمن مصالحهم، إذ قال تبارك وتعالى:

(وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلَى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَميقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا البائسَ الفَقيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتيقِ* ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعامُ إِلّا ما يُتلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوثانِ وَاجْتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ* حُنَفاءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكأنّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ

ص: 43

فَتَخَطَّفُهُ الطَّيْرُ أَو تَهْوي بِه الرِّيحُ في مَكانٍ سَحيقٍ* ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوى الْقُلُوبِ* لَكُمْ فيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسمّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى البَيْتِ الْعَتيقِ). (1)

1. مشاهدة المنافع في الحجّ

والملاحَظ في الآية الثانية من الآيات أُمورٌ ثلاثة:

أوّلًا: جعل المنافع إلى جنب ذكر اللَّه وفي مقابله وهو يوحي بأنّ الحجّ ذو بُعدين:

أحدهما عباديّ ويتجسّد في ذكر اللَّه، والآخر غير عباديّ بالمعنى المصطلح المألوف ويتمثّل في المنافع.

ثانياً: تقديم «المنافع» على «ذكر اللَّه» الّذي يمثّل الجانب العبادي.

ثالثاً: جعل المنافع مطلقة غير مقيّدة، فلم يقل سبحانه: منافع اقتصادية، ممّا يوحي بأنّ هذه المنافع تشمل المنافع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وغيرها.

2. الحج وصلته بالجهاد


1- الحج: 27- 33.

ص: 44

قال الإمام الراحل الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق في تفسير الآية:

«فالمنافع الّتي جُعل الحجّ سبيلًا لشهودها والحصول عليها- وهي أوّل ما ذُكر في حكمة الحجّ- عامّة مطلقة لم تُقيَّد بنوع دون نوع، ولا ناحية دون ناحية، وهي بعمومها وإطلاقها تشمل كلّ ما ينفع الفرد والجماعة، وتصلح شأنهما، فطهارة النفس والتقرّب إلى اللَّه منفعة، والتشاور في رسم خطط العلم والثقافة، وفي جمع الكلمة على تركيز الدعوة، والعمل على إظهار الإسلام وأحكامه الرشيدة منفعة، وإعداد العُدَد لنسج خيوط الشخصية الإسلامية من التحلّل والذوبان منفعة، وهكذا تتعدّد المنافع، وتتنوّع على حسب مقتضيات الأحوال الّتي توحي بها الأزمنة ومواقف الناس من الناس». (1)وقال أيضاً: «والحجّ باعتبار مكانته في الإسلام، وغايته المقصودة منه للفرد والجماعة جدير بأنّه يتّجه إليه


1- الشريعة والعقيدة: 151.

ص: 45

رجال العلم والرأي، ورجال التربية والثقافة، ورجال النظام والإدارة، ورجال المال والاقتصاد، ورجال الشرع والدين، ورجال الحرب والجهاد.

جدير أن تفد إليه الطبقات ذات الرأي والحزم، ذات النظر والاجتهاد، ذات الإيمان الصادق والأهداف السياسية التي يجب أن يقصدها المسلمون في حياتهم، جدير أن يتجه إليه هؤلاء جميعاً فتراهم وقد نشرت مكّة أجنحتها عليهم، وجمعتهم بكلمة اللَّه حول بيت اللَّه يتعارفون و يتشاورون ويتعاونون ثمّ يعودون إلى بلادهم أُمّة واحدة متّحدة القلب، متّحدة الشعور والإحساس». (1)

2. الحج وصلته بالجهاد

هذا والجدير بالذكر أنّ آيات الحجّ هذه تستمر حتّى تنتهي وتتصل بقوله تعالى:


1- المصدر السابق: 150.

ص: 46

(إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَديرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاس بَعْضُهُمْ بِبَعضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَويٌّ عَزيزٌ). (1) وليس من قبيل الصدفة- حاشا القرآن عن ذلك- أن تنتظم الآيات بهذا الشكل دون أن يكون بينها ارتباط.

إنّ وحدة السياق وتوارد هذه الآيات بهذا النحو يشعر بوجود صلة قويّة بين الحجّ والعمل السياسي ولا نريد القول بأن يتحوّل الحجّ إلى ساحة قتال، ولكن أقلّ ما يوحي به السياق هو أن يكون الحجّ مرحلة للإعداد للمواجهة.

إنّ أقلّ ما يمكن استفادته من هذا النظم والسياق الذي جمع بين آيات الحجّ والجهاد، ومقاومة الظلم والنصر


1- الحج: 38- 40.

ص: 47

الإلهي للمظلومين هو أنّ الحجّ خير مكان لتعبئة المسلمين روحياً ونفسياً لمواجهة الظلم والظالمين، ومقارعة الاستكبار والمستكبرين والاستعمار والمستعمرين.

إنّه خير فرصة لأن يلوّح المسلمون المجتمعون هناك من كلّ قطر بما لديهم من قوّة وشوكة، ويعلنوا عن موقفهم السياسيّ الموحّد، ويلقّنوا الأعداء درساً لا ينسوه وإن كان هذا لا ينحصر في الحجّ، فمقارعة الظلم والظالمين والإعلان عن الاستياء ضدّ أعداء اللَّه لا يخضع لحدود الزمان والمكان.

هذا وقد فسّر المفسّرون المنافع بما يعمّ أُمور الدنيا والدين، فعن ابن جرير الطبري بعد نقله أقوالًا في تفسير المنافع:

«وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: عني بذلك (ليشهدوا منافع لهم) من العمل الّذي يرضي اللَّه والتجارة، وذلك أنّ اللَّه عمّ منافع لهم جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكّة أيّام الموسم من منافع الدنيا

ص: 48

والآخرة و لم يخصّص شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل فذلك على العموم في المنافع». (1) 3. الكعبة و (قياماً للناس)

ثمّ إنّ القرآن الكريم يصف الكعبة المشرّفة بأنّها جُعلت قياماً للناس إذ يقول:

(جعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ ...). (2) وقد وردت كلمة «قيام» في شأن المال أيضاً إذ يقول سبحانه:

(وَلاتُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً ...). (3) وهذا يوحي بوجه التشابه بين الحجّ والمال، فكما أنّ الاقتصاد والمال يقيم حياة الناس، ويضمن مصالح الأُمّة


1- تفسير الطبري: 17/ 108.
2- المائدة: 97.
3- النساء: 5.

ص: 49

الإسلامية فكذلك الحجّ، وهذا يعني أنّ إطار الحجّ لا يقتصر على العبادة والتعبّد والضراعة بل يتّسع حتّى يشمل كلّ ماله ارتباط بمصالح المسلمين ممّا يقيم حياتهم وكيانهم، وأيّ شي ء يقيم حياتهم أفضل من العمل السياسي الّذي يعني مقاومة الاستعمار والاستعباد والاستغلال، وتحقيق الاستقلال في جميع المجالات، وتنبيه المسلمين باستمرار على ما يدور حولهم من مؤامرات وكيد ومكر، ودفعهم إلى اتّخاذ موقف واحد موحّد يجابه العدو ويصدّ المهاجم.

ثمّ إذا كان المال لا يجوز إعطاؤه للسفهاء الذين لا يعرفون كيف يتصرّفون فيه لعدم رشدهم أو لنقصان عقولهم، فلا يجوز بطريق أولى أن يُترك الحجّ لمن لا يعرفون قيمته ووزنه وأهميّته في حياة الأُمّة الإسلامية.

وإليك ما قاله بعض المفسّرين في هذه الآية: قال ابن جرير الطبري:

«يقول تعالى ذكره: صيّر اللَّه الكعبة البيت الحرام

ص: 50

قواماً للناس الذين لا قوام لهم من رئيس يحجز قويّهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، وجعلها معالم لدينهم ومصالح أُمورهم». (1) وفي تفسير المنار:

«انّه جعلها قياماً للناس في أمر دينهم المهذِّب لأخلاقهم المزكّي لأنفسهم بما فرض عليهم من الحجّ الذي هو من أعظم أركان الدين لأنّه عبادة روحية مالية اجتماعية».

وقال أيضاً:

«إنّ جعل اللَّه تعالى هذه الأشياء- أي مناسك الحجّ- هو جعل تكوينيّ تشريعي معاً وهو عامّ شامل لما تقوم به وتتحقّق مصالح دينهم ودنياهم». (2)

4. البراءة عن المشركين


1- تفسير الطبري: 7/ 49.
2- تفسير المنار: 7/ 119.

ص: 51

4. البراءة عن المشركين

ولو تغاضيناعن كلّ ذلك هل يمكن أن نتغاضى عن أنّ سورة «البراءة» التي تعلن عن أوضح موقف سياسي تجاه المشركين نزلت لتتلى في أيّام الحجّ، وهو عمل سياسي بدون شك.

ولنستمع إلى الذكر الحكيم وهو يقول:

(بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكينَ* فَسيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعجزِي اللَّه وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرينَ* وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَري ءٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجزي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَليم).

(1) وقد أمر النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم عليّاً عليه السَّلام بأن يبلّغ هذا


1- التوبة: 1- 3 وبعدها.

ص: 52

الإنذار والنداء إلى المشركين في أيّام الحجّ ففعل الإمام عليّ عليه السَّلام ذلك بشهادة كلّ المفسّرين والمؤرّخين والمحدِّثين.

نقل الطبري ضمن حديث مسند:

«إذا كان يوم النحر قام عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه- فأذّن في الناس بالذي أمره رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم فقال:

يا أيّها الناس أُمرت بأربع:

1. أن لا يقرب البيت بعد العام مشرك.

2. ولا يطوف بالبيت عريان.

3. ولا يدخل الجنّة إلّا نفس مسلمة.

4. وأن يتمّ إلى كلّ ذي عهد عهده. وفي رواية أُخرى: ومن كان له عهد عند رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم فهو إلى مدّته». (1)والحديث مكرّر بأسناد مختلفة ومتعدّدة، وتجد مثلها في مسند أحمد وتفسير ابن كثير والدرّالمنثور في تفسير الآيات وفي سنن التروإن شئت قلت: إنّ قوله سبحانه: (بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلى الّذينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكين) وقوله عزّمن


1- تفسير الطبري: 10/ 47.

ص: 53

قائل: (وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلى النّاس يَومَ الحجِّ الأَكبْرِ أَنَّ اللَّهَ بري ءٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ وَرَسُولُهُ) إنّ البراءة في هاتين الآيتين لا تختصّ بمشركي قريش أو مشركي الجزيرة العربية، وإنّما البراءة فيهما هتاف إلهي يعمّ البراءة من مشركي العالم كلّه، الموجودين في عصر الرسالة ومن بعدهم إلى يوم القيامة.

فالذكر الحكيم يؤدّب الأُمّة الإسلامية وينصّ على وظيفتهم الدينية ويلزمهم بإنشاء البراءة في كلّ زمان من المشركين عامّة، وعلى ذلك فلو قام ضيوف الرحمن كلّهم بالبراءة من الملحدين والمشركين- المتسلّطين على رقابهم- لأدّوا واجبهم بشكل جماعي.

وربما يتخيّل: أنّ البراءة والاستنكار الواردين في هذه الآيات مختصّان بعصر الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم ولا يتجاوز غيره، إنّه قول بلا دليل، وهو يُشبه بقول الذين يريدون أن يخصّصوا رسالة الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وهداية الذكر الحكيم بعصر خاصّ دون غيره.

ص: 54

إنّ المسلم الحرّ لا يشكّ بأنّ الشيوعيين والملتفّين حولهم أسوأ من المشركين الذين أوجب الوحي الإلهي البراءة منهم. كما لا اعتقد أن يشكّ المنصف في أنّ الشيطان الأكبر- أمريكا- أسوأ من المشركين وأضرّ منهم.

ص: 55

5 أبعاد الحجّ الاجتماعية والسياسية في السنّة

4- أبعاد الحجّ الاجتماعية والسياسية في السنّة

إنّ السنّة والسيرةالنبوية الشريفة هي الأُخرى تشير إلى أنّ النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم مارس الأعمال السياسية في الحجّ، هذا مضافاً إلى أنّ هناك أحاديث تفيد بأنّ الحجّ نوع من الجهاد لقوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم:

«نِعْمَ الجهاد الحجّ».(1) وقوله- عليه و على آله السلام-:

«الحجّ جهاد». (2)


1- صحيح البخاري: 3/ 221، كتاب الجهاد.
2- سنن ابن ماجة: 2/ 968 و 995، مسند أحمد: 6/ 294 و 303.

ص: 56

وقوله- صلوات اللَّه عليه وآله-:

«الحجّ جهاد كلّ ضعيف». (1)وقوله صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم في جواب نسوة استأذنه في الجهاد:

«جهاد كنّ الحجّ».(2) وفي بعض الأحاديث قرَنَ النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم الحجّ بالجهاد دون بقية الفرائض، إذ قال: «الغازي في سبيل اللَّه، والحاج والمعتمِر وَفْدُ اللَّه دعاهم فأجاه وسألوه فاعطاهم».(3) وهو يوحي بوجود الصلة وأوجه التشابه في الآثار والأهداف بين هاتين الفريضتين.

وإن شئت قلت: إنّ ذلك يوحي بأنّ الحجّ ليس مجرّد عبادة- بالمعنى المتعارف- بل عمل مشابه للجهاد في الآثار والأهداف، أي أنّه عبادة وعمل سياسي، فهو موسم للعمل السياسي كما هو موسم للعبادة والضراعة والتوجّه إلى اللَّه بالتعبّد.


1- مسند أحمد بن حنبل: 6/ 294 و 303 و 314.
2- مسند أحمد: 6/ 71.
3- سنن ابن ماجة، المناسك: 2/ 966 برقم 2892.

ص: 57

ثمّ إنّ السيرة تحدّثنا بأنّ النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم خطب في موضعين: عرفة في سنن الترمذي: عن جابر في باب حجّة رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله وسلَّم قال: لمّا كان يوم التروية وتوجّهوا إلى منى أهلّوا بالحجّ، و منى و أعلن في خطبتيه عن مواقف وأحكام اقتصادية وسياسية واجتماعية إسلامية هامّة نذكر هنا مقاطع منها:

1. إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.

2. ألا وإنّ كلّ شي ء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمَيَّ هاتين.

3. ودماء الجاهلية موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث- وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل-.

ص: 58

4. وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطّلب فإنّه موضوع كلّه.

5. إنّ كلّ مسلم أخو المسلم، وإنّ المسلمين إخوة، فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلّا أعطاه عن طيب نفسه منه.

6. ثلاث لا يُغِلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل للَّه، والنصيحة لأئمّة الحقّ، واللزوم لجماعة المؤمنين.

7. الناس في الإسلام سواء، لا فضل لعربيّ على عجميّ إلّا بتقوى اللَّه.

8. إنّ المسلم أخو المسلم لا يغشّه ولا يخونه ولا يغتابه، ولا يحلّ له دمه ولا شي ء منه إلّا بطيبة نفسه.

9. لا ترجعوا بعدي كفّاراً مضلّين، يملك بعضكم رقاب بعض.

10. إنّكم مسؤولون فليبلغ الشاهدُ منكم الغائب.

ثمّ استشهدهم على ما بلّغ فشهدوا له بذلك.(1)


1- وقد وردت هاتان الخطبتان اللّتان دمجناهما هنا في صحيح مسلم في حديث حجّ النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وفي سنن أبي داود، وسيرة ابن هشام وغيرها.

ص: 59

ولعلّ ما جاء وصحّ عن الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم من الأدعية والأذكار في الحجّ- تلك الّتي تتضمّن معان سياسية إلى جانب معانيها التوحيدية- خير شاهد على أنّ الحجّ موسم مناسب لأن يظهر فيه المسلمون موقفهم من أعداء اللَّه والإسلام خاصّة وإذا عرفنا أنّه يستحبّ ترديد هذه الأدعية ضمن مناسك الحجّ مثل الدعاء التالي:

«لاإله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، يحيي ويُميت وهو علي كلّ شي ء قدير». «لاإله إلّااللَّه وحده وحده، أنجز وعده، ونَصَر عبده، وهَزَم الأحزابَ وحده». (1)هذا مضافاً إلى ما في مناسك الحجّ من رمزية، فكلّ منسك من هذه المناسك يرمز إلى شي ء اجتماعي وسياسي وأخلاقي مضافاً إلى كونها عبادةً وانقياداً وإن لم يمكن الوقوف الكامل على كلّ ما تنطوي عليه هذه المناسك من معانٍ.


1- سنن أبي داود: 2/ 213، المناسك، سنن الترمذي: 2/ 213 الحج.

ص: 60

وقد أشار كثير من علماء الإسلام والمفكّرين الإسلاميّين إلى ما ترمز إليه هذه المناسك من أُمور معنوية واقتصادية واجتماعية وسياسية نحيل القارئ الكريم إليها رعاية للاختصار.

هذا مضافاً إلى أنّ هناك ما يدلّ على أنّ النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم مزج الأعمال العبادية بالأهداف والممارسات السياسية في الحجّ.

ففي البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال:

«لمّا قَدِمَ النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم لعامه الذي استأمن فيه قال: ارملوا- ليُري المشركين قوّتهم-».(1) قال ابن الأثير في النهاية:

أمر النبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم برَمَل الطواف أصحابه في عمرة القضاء ليُري المشركين قوّتهم حيث قالوا: وهتتهم حمّى يثرب وهو مسنون في بعض الأطواف دون بعض.


1- صحيح البخاري: 5/ 181، باب عمرة القضاء.

ص: 61

ولمّا استقرّ أمر الإسلام واستتب قال عمر: فيم الرَّمَلان- أي الطواف بتلك الكيفية- أو الكشف عن المناكب وقد أطّأ اللَّه الإسلام ونفى الكفر وأهله ...».

وهذا يشير إلى أنّه يجوز أن يضمّ الحاج إلى مناسكه مقاصد سياسية وأغراض جهادية مثل إرهاب الأعداء واستنكار أعمالهم، وشجب مؤامراتهم وفضح خططهم.

ثمّ ألا يدلّ اختيار الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم لسورتي التوحيد (قل هو اللَّه أحد) والكافرون (قل يا أيّها الكافرون) في صلاة الطواف (1)واستحباب قراءتهما للمسلم الحاج، والحال أنّ هناك سوراً أُخرى أو آيات أُخرى قد تحتوي على معان وأبعاد أخلاقية وتربوية أكثر، ويشهد على أنّ الحجّ هذا المشهد الإسلامي العالمي، وهذا المجمع العام خير وقت لإعلان الموقف السياسي الصارخ ضدّ قوى الكفر والاستكبار، كما ويوحي بذلك أنّ عمر بن الخطّاب كان يقول إذا كبّر واستلم


1- راجع صحيح مسلم: 4/ 40 كتاب الحجّ باب حجّة النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله وسلَّم.

ص: 62

الحجر:

«بسم اللَّه واللَّه أكبر على ما هدانا، لاإله إلّا اللَّه، لا شريك له، آمنت باللَّه وكفرت بالطاغوت». (1)ثمّ إنّ الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السَّلام قال في بيان فلسفة الحجّ ضمن ما قال:

«إنّ اللَّه عزّ وجلّ خلق الخلق لا لعلّة إلّا أنّه شاء ففعل فخلقهم إلى وقت مؤجّل، أمرهم ونهاهم ما يكون من أمر الطاعة في الدين ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من المشرق إلى المغرب ليتعارفوا ... ولتعرف آثار رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وتعرف أخباره ولا تُنسى، ولو كان كلّ قوم إنّما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقط الجلب والأرباح، وعميت الأخبار ولم يقفوا على ذلك، فذلك علّة الحجّ». (2)


1- تاريخ مكّة: 1/ 339 طبعة مكّة المكرّمة عام 1385 ه
2- بحارالأنوار: 99/ 33 عن علل الشرائع للصدوق.

ص: 63

وعنه عليه السَّلام أنّه قال أيضاً:

«ما من بقعة أحبّ إلى اللَّه من المسعى، لأنّه يذلّ فيه كلّ جبّار». (1)


1- بحار الأنوار: 99/ 49.

ص: 64

5- أبعاد الحجّ الاجتماعية والسياسية في سيرةالسلف

إنّ التاريخ يحدّثنا أنّ السلف الصالح لم يقتصر في الحجّ على المناسك والعبادة بل استغلّوا هذه المناسبة للعمل السياسي كجزء طبيعي من هذه الفريضة لا كشي ء زائد عليها أو أجنبي عنها.

فها هو الإمام الحسين بن علي سبط الرسول وحفيده- صلوات اللَّه عليهم أجمعين- يحتجّ على حاكم جائر من حكّام زمانه في منى أيام الحجّ.

فقد جمع عليه السَّلام بني هاشم ورجالهم ونساءهم ومواليهم من حجّ منهم ومن لم يحجّ ومن الأنصار من يعرفونه وأهل

الحج موسم عبادي و ملتقى سياسي،

ص: 65

بيته، ثمّ لم يدع أحداً من أصحاب رسول اللَّهصلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم ومن أبنائهم والتابعين ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلّا جمعهم، فاجتمع عليه بمنى أكثر من ألف رجل، والحسين عليه السَّلام في سرادقه، عامّتهم التابعون وأبناء الصحابة، فقام الحسينعليه السَّلام فيهم خطيباً فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال:

«أمّا بعد، فإنّ هذا الطاغية قد صنع بنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم، وإني أُريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصدّقوني، وإن كذبت فكذّبوني، اسمعوا مقالتي واكتموا قولي ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم من أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب، واللَّه متمّ نوره ولو كره الكافرون». (1)فما ترك الحسين شيئاً أنزل اللَّه فيهم من القرآن إلّا

الحج موسم عبادي و ملتقى سياسي،


1- الاحتجاج للطبرسي: 2/ 87- 88؛ كتاب سليم بن قيس: 183.

ص: 66

قاله ... وقال:

«أُنشدكم باللَّه إلّا رجعتم وحدّثتم به من تثقون به».

ثمّ نزل وتفرّق الناس على ذلك.

وها هو عثمان بن عفّان يكتب إلى جميع الأمصار الإسلامية أيّام خلافته كتاباً قال فيه:

«إنّي آخذ عُمّالي- أي ولاتي- بموافاتي في كلّ موسم- أي موسم الحجّ- وقد سلّطت الأُمّة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يُرفَع عليّ شي ء ولا على أحد من عُمّالي إلّا أعطيته، وليس لي ولا لعُمّالي حقٌّ قِبَل الرعية إلّا متروك لهم، وقد رفع إليّ أهل المدينة أنّ أقواماً يشتمون و يضربون فمن ادّعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم- أي فليأت إلى الحجّ- يأخذ حقّه حيث كان منّي أو من عُمّالي، أو تصدّقوا إنّ اللَّه يجزي المتصدّقين». (1)بل ووجد غير المسلمين فرصتهم في الحجّ ليعرضوا على


1- راجع العبادة في الإسلام: للدكتور يوسف القرضاوي.

ص: 67

الخليفة شكاواهم، فيقوم الخليفة بإنصافهم في زمن الحجّ لا بعدئذٍ، فكلّنا يعلم قصّة ابن القبطي الّذي سابق ابن والي مصر وفاتحها عمرو بن العاص فسبق القبطي فضربه ابن عمرو، فأنهى أبوه مظلمته إلى عمر فاقتصّ منه في موسم الحجّ على مرأى ومسمع من أُلوف الحجيج، ثمّ قال للوالي عمرو بن العاص كلمته أمام شهود المؤتمر الكبير:

«يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أُمّهاتم أحراراً». (1)وقد جاء في كتب الفريقين: أنّ هشام بن عبد الملك حجّ في خلافة أبيه وطاف بالبيت فأراد استلام الحجر فلم يقدر عليه من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه إذ أقبل عليّ بن الحسين عليمها السَّلام وعليه أزار ورداء، من أحسن النّاس وجهاً وأطيبهم رائحة وبين عينيه سجادة كأنّها ركبة عنز،


1- راجع المصدر السابق، وكذلك كتاب «ماذا خسر العالم الإسلامي» لأبي الحسن الندوي نقلًا عن تاريخ ابن الجوزي.

ص: 68

فجعل يطوف بالبيت فإذا بلغ الحجر تنحّى عنه النّاس حتّى يستلمه هيبةً له وإجلالًا، فغاظ ذلك هشاماً فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الّذي قد هابه الناس هذه الهيبة وأفرجوا له عن الحجر؟ فقال هشام: لا أعرفه، لئلّا يرغب فيه أهل الشام فقال الفرزدق- و كان حاضراً-: لكنّي أعرفه، فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فأنشأ قصيدة نذكر بعض أبياتها هنا:

هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته

هذا ابن خير عباد اللَّه كلّهم

هذا الّذي أحمد المختار والده

والبيت يعرفه والحلُّ والحرمُ

هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلمُ

صلّى عليه إلهي ماجرى القلمُ

الحج موسم عبادي و ملتقى سياسي،

ص: 69

إلى أن قال:

فجدّه في قريش في أرومتها

بدرٌ له شاهدٌ والشِّعب من أُحد

وخيبر وحنين يشهدان له

مُحمدٌ وعليٌّ بعده عَلَمُ

والخندقان ويوم الفتح قد عُلِمُوا

وفي قريظة يومٌ صيلمٌ قتمُ(1)وقد نقلت هذه القضية في كثير من الكتب التاريخية والأدبية لاحظ البيان والتبيين والعقد الفر وهكذا نجد هذا الشاعر الإسلامي الكبير يجابه ذلك الخليفة الجائر بهذه القصيدة الحماسية ويعرّف بالإمام الحقّ من آل الرسول في مواجهة سياسية حامية، الأمر الذي يدلّ على شرعية هذا العمل في موسم الحجّ وجوازه لعدم إنكار أحد من المسلمين عليه، لا آنذاك ولا بعدئذٍ.


1- الأغاني: 21/ 376 طبعة بيروت، و مناقب ابن شهر اشوب: 4/ 169

ص: 70

وبعبارة أُخرى: إنّه يستغلّ تلك المناظرة السياسية القوية ليُعرّف الإمام أمام جموع الحجيج الوافدة إلى بيت اللَّه الحرام، باعتباره وارثاً محقّاً لآل رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم وهذه الحادثة تعطيناالدليل الناصع على أنّ العمل السياسي في موسم الحجّ يعتبر قانونياً وشرعياً، وذلك لأنّه لم يتمّ منع أو تحريم أداء مثل هذه الممارسات سواء في تلك الأيام أو الأعوام التي أعقبت ذلك.

ويجدر هنا أن نشير إلى ما كتبه الكاتب الإسلامي المعاصر فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه القيّم «العبادة في الإسلام» في هذا الصدد:

«عرف الخلفاء قيمة هذا الموسم العالمي، فجعلوا منه ساحة لقاء بينهم وبين أبناء الشعب القادمين من كلّ فجّ عميق، وبينهم وبين ولاتهم في الأقاليم، فمن كانت له من الناس مَظْلمة أو شكاية فليتقدّم بها إلى الخليفة ذاته بلا وساطة ولا حجاب، وهناك يواجه الشعبُ الوالي أمام الخليفة بلا تهيّب ولا تحفّظ، فيغاث الملهوف وينصف المظلوم و يردّ

ص: 71

الحقّ إلى أهله، ولو كان هذا الحقّ عند الوالي أو الخليفة». (1)فإذا كان الحجّ موسماً لبيان الظلامات والشكاوى من الحكّام والولاة المسلمين، أفلا يكون من الأولى أن يجوز فيه الشكوى من الاستعمار وأذنابه وعملائه، واستنصار المسلمين عليهم؟ وهل يجوز أن نشكو الوالي إذا تعدّى حدوده، ولا يجوز أن نشكو المستعمر الظالم والأجنبيّ الغازيّ وهو يرتكب كلّ تلك الجرائم والمجازر؟


1- العبادة في الإسلام: 293.

ص: 72

6- أبعاد الحجّ السياسية والاجتماعية في كلمات العلماء

لقد كتب العلماء والمفكّرون الإسلاميون الكثيرَ عن أهمية الحجّ سياسياً واجتماعياً واعتبروه خير موسم وأفضل فرصة للمسلمين للتعبير عن قوّتهم وشوكتهم، ويقظتهم ووحدتهم بالقول والعمل بالشعار والشعور.

فها هو العلّامة محمّد فريد وجدي يكتب في دائرة معارفه، مادّة «حج» قائلًا:

«أمّا حكمة فرض الحجّ على المسلمين، فممّا لا يتسع لبيانه مثل هذا المؤلّف وممّا يتبادر إلى الذهن من أمر الحجّ أنّ

ص: 73

أصحاب السلطة في المسلمين لو أرادوا أن يستخدموه في إحداث الوحدة الإسلامية لنجحوا، فإنّ اجتماع عشرات الأُلوف من الوفود في صعيد واحد من سائر أقطار الأرض واتجاه قلوبهم وآذانهم في ذلك الموقف المهيب لكلّ ما يلقى إليهم، يستوجب أن يتأثر الكلّ بروح واحدة لا سيّما إذا دعوا إلى ما فيه خيرهم، فإذا رجعوا إلى أقطارهم وتشعّبوا في قراهم وأمصارهم أذاعوا ما تعلّموه بين إخوانهم وكانوا لهم كأعضاء مؤتمر عامّ شكّل من جميع الأجناس والأجيال يجتمع أعضاؤه في كلّ عام مرّة. فأيّ أثر تقدّره لذلك الحادث الجليل في حياة هذه الأُمّة الضخمة، وأي نتائج جليلة ترجوها منه إذا سوعد نهوض هذه الأُمّة من رقدتها، فسيكون الحجّ من أكبر عواملها ولا يسبقن إلى فكرك أنّ الأُمم الأجنبية المحتلّة لبعض بلاد المسلمين، تمنع رعاياها عن الحجّ إذ ذاك، فإنّ حركة الحياة لو دبّت في الأُمم فلا يستطيع أن يوقفها شي ء وللَّه الأمر من قبل و من بعد». (1)


1- دائرة المعارف: 3/ 350.

ص: 74

وجاء في كتاب «الدين والحجّ على المذاهب الأربعة»:

«الحجّ سبيل التعارف والت آلف والتعادل وتوثيق العلاقات والروابط والصلات بين سائر الشعوب الإسلامية فتأتلف قلوبهم وتتّحد كلمتهم فيعملون ما يصلح شأنهم ويقوّم ما اعوجّ من أمرهم».

وكتب الأُستاذ محمّد المبارك المستشار في جامعة الملك عبد العزيز يقول:

«والتجرّد لمعنى العبادة الخالصة واضح في الحجّ بالإضافة إلى المعنى الاجتماعي الرائع، فهو مؤتمر عالمي يجتمع المشتركون فيه على صعيد واحد لعبادة إله واحد، ومع ذلك فإنّ هذه العبادة المتجرّدة الخالصة ليست منعزلة عن الحياة بل متصلة بها، إذ يقولُ اللَّه تعالى في كتابه الكريم: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذَكُرُوا اسمَ اللَّه في أَيّامٍ مَعْلُومات) فشهود منافعهم معنى عام يمكن أن يشمل مختلف مصالح المسلمين».

ص: 75

فإذا كان العمل السياسي يجوز في الحجّ- كما عرفت من الكتاب والسنّة وسيرة السلف وأقوال العلماء الأجلّاء، بل أنّ الحجّ فرصة مناسبة لتخويف الأعداء وإرهابهم وشجب مؤامراتهم- فأيّ عدوّ أعدى علينا من الولايات المتحدة التي تت آمر ضدّ الإسلام والمسلمين على الدوام وتنهب خيراتهم وتسرق بترولهم؟

وأيّ عدوّ أعدى علينا من إسرائيل التي اغتصبت أرضنا وشرّدت شعبنا وقتلت ولا تزال تقتل أبناء فلسطين وتستبيح دماءهم وأعراضهم؟

وأيّ عدوّ أعدى علينا من روسيا الّتي تعادي الإسلام والمسلمين في العقيدة وفي كلّ شي ء و التي قد مارست القتل العام بحقّ مسلمي أفغانستان والشيشان، وتدافع عن الصرب الجناة في تطهيرهم العرقي للمسلمين البوسنيين.

وأيّ عدوّ أعدى علينا من بريطانيا الّتي أوجدت الدولة اللقيطة إسرائيل وت آمرت ولا تزال تت آمر ضدّنا في حقد صليبيّ عريق؟

ص: 76

وأيّ عدوّ أعدى علينا من فرنسا التي قتلت مئات الآلاف من شعبنا المسلم في الجزائر ولا تزال لها مجازر ومؤامرات هنا وهناك في بلاد المسلمين؟

ولماذا نفرّق بين الولايات المتحدة وروسيا وكلّهم ملّة واحدة في الكفربديننا والت آمر البغيض علينا وقتل شعوبنا وسرقة ثرواتنا؟

ولماذا نترك فرصة الحجّ العظيمة والاجتماع المليوني الفريد من نوعه والّذي تكون من 40 قطراً إسلامياً، يذهب أدراج الرياح دون أن نستثمره لإيقاظ المسلمين وإيقافهم على جرائم الغرب والشرق ضدّنا، وهل نحن عارفون بأحكام الحجّ أكثر من النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم و السلف الصالح من بعده الذين كانوا يخلطون في الحجّ بين العبادة والعمل السياسي؟

ولماذا لانفسح المجال في مكّة والمدينة وعرفات ومنى لمظلومي فلسطين والفليبين والعراق وإيران وأفغانستان وأفريقيا ولبنان واريتريا وغيرها ليبيّنوا ظلامتهم ويوقفوا المسلمين على ما يلاقونه من ظلم وحيف وقتل وجناية

ص: 77

الاستعمار وأذنابه وعملائه؟

لماذا لا نفسح المجال في مكّة والمدينة لأن تقام مؤتمرات وندوات لإيقاف المسلمين على حقيقة الاستعمار الأمريكي والروسي والبريطاني والفرنسي وخططهم الجهنّمية، ويطلعوهم على ما يفعله هؤلاء الغزاة الأجانب من نهب وسلب وقتل واستغلال؟

إلى متى يعطّل الحجّ من آثاره الاجتماعية والسياسية نزولًا عند رغبة الأجانب؟

وإلى متى يجتمع هذا العدد الهائل من المسلمين من كلّ أنحاء العالم ثمّ ينفضّ دون أن يتعرّف الأخ على أخيه ودون أن يقف الأخ على آلام أخيه وآماله؟

وإلى متى نخسر هذه الفرصة العظيمة الّتي هيَّأها الإسلام لهذه الأُمّة؟

وإذا فاتنا الحجّ فأين يمكن الحصول على مثل هذا الجمع الحاشد والعدد الهائل، وهذه الجماهير المؤمنة المهيّأة للعمل والتجاوب مع أيّ نداء إسلامي يطلبهم للجهاد

ص: 78

ويستحثّهم على النهوض؟

وكيف تسمح السلطة في الحجاز أن تهدر هذه الفرصة العظمى، ويحرمَ المسلمون من الانتفاع بها كما أمر اللَّه سبحانه: (ليشهدوا منافع لهم)؟

بل و كيف يسمح المسلمون لأنفهسم أن يتركوا فرصة الحجّ تذهب هدراً دون أن يستثمروها في سبيل قضاياهم الملحّة وحلّ مشكلاتهم؟

الحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.