الحج في الشريعة الإسلامية الغراء

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی جعفر، 1308- عنوان و نام پديدآور : الحج فی الشریعه الاسلامیه الغراء/ تالیف جعفر السبحانی مشخصات نشر : قم موسسه الامام الصادق ع 1424ق 2004م 1382. مشخصات ظاهری : ج. شابک : (ج. 3، چاپ اول): 9643572404 ؛ (ج. 4 9643572404 يادداشت : عربی يادداشت : ج. 4: 1385. يادداشت : ج.3 ( چاپ اول: 1385). موضوع : حج رده بندی کنگره : BP188/8 ‮ /س28ح3 1382 رده بندی دیویی : 297/357 شماره کتابشناسی ملی : م 83-26617

الحجّ لغة و شرعا

اشارة

الحجّ في اللغة بمعنى القصد، و هو عند الشرع- أو عند المتشرعة- اسم لمجموع المناسك المؤدّاة في المشاعر، المخصوصة، كما عليه المحقّق في الشرائع. «1» و ربّما يقال: صار اسما لقصد البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة في زمان خاصّ.

و الفرق بين المعنيين واضح، إذ على الأوّل فاللفظ نقل من المعنى اللغوي إلى معنى اصطلاحي، و على الثاني، قيّد متعلق القصد بالبيت الحرام لأداء مناسك.

و قد ناقش الشهيد في المسالك «2» في طرد التعريف و عكسه و لا يهمنا البحث فيهما.

فوائده و آثاره

و من آثاره تقوية الدين كما في كلام الإمام علي عليه السّلام في النهج حيث قال:

«جعل اللّه الإيمان تطهيرا من الشرك، و الصلاة تنزيها من الكبر ... و الحجّ تقوية للدين». «3»

و للحجّ وراء ما في كلام الإمام فوائد أخرى مذكورة في محلّه، و قد أشار إلى قسم منها، صاحب الجواهر. «4» و في مقدمة كتاب الحجّ للعروة الوثقى غنى و كفاية. و هي بقلم حفيد السيد اليزدي لا نفسه.

و على كلّ تقدير فقد أفاد السيد المصنّف هنا فروعا و إليك تبيينها.

الفصل الأوّل الحجّ من أركان الدين

اشارة

الحجّ من أركان الدين من أركان الدين: الحجّ، و هو واجب على كلّ من استجمع الشرائط الآتية من الرجال و النساء و الخناثي، بالكتاب و السنّة و الإجماع من جميع المسلمين، بل بالضرورة، و منكره في سلك الكافرين، و تاركه عمدا مستخفّا به بمنزلتهم، و تركه من غير استخفاف من الكبائر.* (1)

(1)* 1. الحجّ من أركان الدين عدّ المصنّف الحجّ من أركان الإيمان، و هو رهن توضيح، فإن أراد بها ما يدخل به الإنسان في حظيرة الإسلام فالحجّ ليس منه، إذ يكفي في انخراط الإنسان في عداد المسلمين الشهادتان مقرونتين بالشهادة للمعاد، و قد كان النبي يقبل إسلام من يشهد توحيده سبحانه و رسالته صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، و بما أنّ العقيدة باللّه سبحانه لا تعدّ دينا ما لم يشهد بالحساب و الكتاب و الحشر و النشر، أضيف إلى الشهادتين، الشهادة بالمعاد، و لذلك نرى أنّه سبحانه يعطف الإيمان باليوم الآخر على الإيمان باللّه سبحانه و يقول: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ*. «1»

و إن أريد أنّه من أهمّ الواجبات الإلهية و ممّا بني عليه الإسلام فهو حقّ الحج في

الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 20

حسب ما رواه الفريقان. قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: «بني الإسلام على خمس: على الصلاة و الزكاة و الحجّ و الصوم و الولاية». «1»

و في صحيح البخاري: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلّا اللّه، و انّ محمّدا رسول اللّه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة و الحجّ و صوم رمضان. «2»

2. الحجّ واجب عيني على المستطيع و يدلّ على وجوب الحجّ مضافا إلى كونه من ضروريات الفقه، بل الدين قوله سبحانه: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «3» حيث جعل الحجّ في ذمّة الناس و هو آية الوجوب العيني كقوله: عليه الصلاة، عليه الصوم.

و في الآية دلالة على تقدّم الاستطاعة و القدرة على الفعل خلافا للأشاعرة فإنّهم يرونها مقارنة إلى الفعل. «4»

3. حكم المنكر و المستخفّ و التارك ظاهر عبارة السيّد المصنّف أنّ إنكار الحجّ بما هو هو موجب للكفر، و استدلّ عليه بوجوه:

1. إنّ وجوب الحجّ من ضروريات الدين كوجوب الصلاة و الزكاة و إنكار الضروري موجب للكفر.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 21

.......... يلاحظ عليه: أنّ إنكار الضروري بما هو هو غير موجب للكفر ما لم يكن ملازما لإنكار أحد الأصول الثلاثة بشهادة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلّم كان يقبل إسلام من يشهد الشهادتين من دون أن يعترف بالصلاة و الزكاة، نعم إذا كان إنكار الحكم الضروري ملازما لإنكار النبوة فهو موجب لكفر المنكر لا بما أنّه منكر للحكم الضروري، بل بما أنّه يلازم إنكار النبوّة، كما هو الحال في من أنكر وجوب الحجّ و هو ممّن يعيش في بلاد الإسلام أعواما بخلاف من أسلم و هو

في بلاد الكفر و أنكر وجوبه فإنّ إنكاره الضروريّ لا يوجب الكفر لعدم الملازمة.

و ظاهر المصنّف كون الإنكار سببا مستقلا للكفر لا ملازما لإنكار أحد الأصول، كنبوّة نبي الإسلام في المقام.

2. إنّه سبحانه وصف منكر الوجوب بالكفر و قال: وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ، و فسّرّه الطبرسي بإنكار وجوبه. «1»

يلاحظ عليه أوّلا: أنّ الاستدلال مبنيّ على أنّ سبب الكفر في الآية هو جحد الوجوب، و لكن يحتمل أن يكون سبب الكفر، كفره بتوحيده و رسوله المؤدّي إلى جحد وجوبه، و الآية لو لم تكن ظاهرة في هذا النوع من الكفر ليست بظاهرة في ما احتمله.

و ثانيا: أنّ الكفر في الآية فسّر بترك الحجّ، في رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام بعد قراءة الآية قال: هو لمن كان عنده مال، إلى أن قال: و عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ مَنْ كَفَرَ يعني من ترك.

و بما أنّ ترك الحجّ عصيانا لا يوجب الكفر اتفاقا، فلا بدّ من تفسير الكفر في الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 22

.......... الآية بكفر النعمة في مقابل كفر الملّة، قال سبحانه: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً. «1»

فشكر النعمة عبارة عن صرفها في محلّها و كفرها عبارة عن خلافه، فعلى ذلك فالمراد من كفر بالنعمة مع الاستطاعة المالية و البدنية، و لم يحجّ فلا يضرّ اللّه شيئا فإنّ اللّه غني عن العالمين.

3. و ربما يستدلّ على كفر الجاحد بما رواه علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السّلام، قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام، و ذلك قوله تعالى: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ

الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ، قال: قلت: فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال: «لا، و لكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر». «2» فإنّ قوله: «ليس هذا هكذا» أي: ليس الحجّ واجبا.

يلاحظ عليه: أنّ الحديث غريب حيث أوجب الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام، و هو ما لم يذهب إليه أحد إلّا الصدوق كما سيأتي، مضافا إلى احتمال أنّ قوله: «ليس هذا هكذا» هو إنكار كون القرآن وحيا سماويّا و انّ النبي رسول مبعوث من اللّه سبحانه.

هذا كلّه حول الجاحد.

ثمّ إنّ المصنف عطف المستخفّ على الجاحد، و هو على قسمين تارة يستخفّ بأصل الحكم الشرعي، و يراه حكما في غير موضعه، و أخرى يستخف الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 23

.......... بالعمل به من دون استخفاف بأصل الحكم، كأكثر من يترك الفرائض لأجل الاشتغال بالأمور الدنيوية، أمّا الأوّل، فلا يبعد إلحاقه بالجاحد، فانّه أخوه الصغير، و أمّا الثاني فهو حرام من غير فرق بين حكم دون حكم كما ورد في حديث جابر عن أبي جعفر عليه السّلام في من سأله عن الفأرة، وقعت في خابية فيها سمن أو زيت؟ فأجاب الإمام عليه السّلام بقوله: «لا تأكله»، فقال السائل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها، فقال له أبو جعفر عليه السّلام: «إنّك لم تستخف بالفأرة و إنّما استخففت بدينك». «1»

نعم يفارق الاستخفاف بالحجّ من الاستخفاف بسائر الأحكام بأنّه من الكبائر، كما ورد فيما كتبه الإمام الرضا عليه السّلام في رسالته إلى المأمون، فقال: الإيمان هو أداء الأمانة ... و اجتناب الكبائر و هي قتل النفس التي حرّم اللّه ... و الاستخفاف بالحجّ».

«2»

و أمّا تركه مجرّدا عن الإنكار و الاستخفاف فقد عدّه المصنّف من الكبائر.

و يدلّ عليه صحيح ذريح المحاربي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من مات و لم يحجّ حجّة الإسلام، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحج، أو سلطان يمنعه، فليمت يهوديا أو نصرانيا». «3»

و يؤيّده ما ورد في روايات التسويف المنتهي إلى الترك. «4» و ليعلم أنّ البحث في المقام مركّز على الترك، و أمّا ما يأتي في المسألة الأولى فالبحث مركّز على صرف التأخير- مع قطع النظر عن الترك.

[لا يجب في أصل الشرع إلّا مرّة واحدة]

و لا يجب في أصل الشرع إلّا مرّة واحدة في تمام العمر، و هو المسمّى بحجّة الإسلام، أي: الحجّ الّذي بني عليه الإسلام، مثل الصلاة و الصوم و الخمس و الزكاة، و ما نقل عن الصدوق في العلل: من وجوبه على أهل الجدة كلّ عام- على فرض ثبوته- شاذّ، مخالف للإجماع و الأخبار، و لا بدّ من حمله على بعض المحامل، كالأخبار الواردة بهذا المضمون من إرادة الاستحباب المؤكّد، أو الوجوب على البدل بمعنى أنّه يجب عليه في عامه، و إذا تركه ففي العام الثاني و هكذا، و يمكن حملها على الوجوب الكفائيّ، فإنّه لا يبعد وجوب الحجّ كفاية على كلّ أحد في كلّ عام إذا كان متمكّنا، بحيث لا تبقى مكّة خالية من الحجّاج، لجملة من الأخبار الدالّة على أنّه لا يجوز تعطيل الكعبة عن الحجّ، و الأخبار الدالّة على أنّ على الإمام كما في بعضها، و على الوالي- كما في آخر- أن يجبر الناس على الحجّ و المقام في مكّة، و زيارة الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، و المقام عنده، و

أنّه إن لم يكن لهم مال أنفق عليهم من بيت المال.* (1)

(1)* لا يجب في أصل الشرع إلّا مرّة واحدة اتّفق المسلمون على وجوبه في تمام العمر مرّة واحدة.

قال العلّامة في «التذكرة» «1»: الحجّ يجب بأصل الشرع مرّة واحدة، و كذا العمرة، و لا يجب أزيد منها، و هو قول عامّة أهل العلم. «2»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 25

.......... و حكي عن بعض الناس أنّه قال: يجب في كلّ سنة مرّة. «1»

و قال في «المنتهى»: إنّما يجب بأصل الشرع في العمر مرّة واحدة بإجماع المسلمين على ذلك- إلى أن قال:- و لا نعلم فيه خلافا يعتدّ به، و قد حكي عن بعض الناس أنّه يقول يجب في كلّ سنة مرّة، و هذه حكاية لا تثبت، و هي مخالفة للإجماع و السنّة. «2»

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، فقال:

«أيّها النّاس قد فرض اللّه عليكم الحجّ فحجّوا» فقال رجل: أكلّ عام يا رسول اللّه؟

فسكت حتّى قالها ثلاثا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: «لو قلت: نعم، لوجبت و لما استطعتم» ثمّ قال: «ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شي ء فدعوه». «3»

و يدلّ على وجوبه مرّة واحدة- مضافا إلى كونه من ضروريات الفقه- صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «... و كلّفهم حجة واحدة و هم يطيقون أكثر من ذلك». «4»

نعم قال الصدوق في «العلل»: فإنّ الذي اعتمده و أفتي به، انّ الحجّ على أهل الجدة في

كلّ عام فريضة. و استدلّ بأحاديث رواها في الوسائل في الباب 2 من أبواب وجوب الحجّ و هي تناهز سبعة أحاديث أوّلت بالوجوه التالية.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 26

.......... 1. الاستحباب المؤكّد.

2. الوجوب على البدل بمعنى أنّه إذا تركه ففي العام الثاني.

3. الوجوب الكفائي إذا عطّلت الكعبة عن الحجّ.

و كلّها على خلاف الظاهر كما لا يخفى، و حمله المحقّق الخوئي على ما في تقريراته من أنّها ناظرة إلى ما كان يصنعه أهل الجاهلية من عدم الإتيان بالحجّ في بعض السنين لتداخل بعض السنين في بعض بالحساب الشمسي، فإنّ العرب كانت لا تحجّ في بعض الأعوام، و كانوا يعدون الأشهر بالحساب الشمسي، و منه قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ «1» و ربما لا تقع مناسك الحجّ في شهر ذي الحجّة فأنزل اللّه الآية ردّا عليهم. فالمقصود أنّ كلّ سنة قمرية لها حجّ و لا يجوز خلوّها عن الحجّ، لا أنّه يجب الحجّ على كلّ أحد في كلّ سنة. «2»

يلاحظ عليه: أوّلا: أنّ محاسبة الشهور، بالحساب الشمسي رهن محاسبات دقيقة، و أين هو من العرب في العصر الجاهلي البعداء عن هذا النوع من المحاسبات خصوصا سكان «مكة» و ما حولها؟!

و ثانيا: بأنّ المراد من النسي ء هو تقديم و تأخير أشهر الحجّ حسب مصالحهم لا عدم الإتيان بالحجّ في بعض السنين، فكانوا يحجّون في كلّ سنة لكن ربما يقدّمون الأشهر الحرم و أخرى يؤخّرونها على نحو يحجون في غير ذي الحجة.

قال الطبرسي: المراد تأخير الأشهر الحرم عمّا رتّبها اللّه سبحانه عليه، و كانت الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 27

.......... العرب تحرّم الشهور الأربعة، و ذلك بما تمسكت به من ملّة إبراهيم و إسماعيل، و

هم كانوا أصحاب غارات و حروب، فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه، و يستحلّون المحرّم، فيمكثون بذلك زمانا، ثمّ يؤول التحريم إلى المحرّم و لا يفعلون ذلك إلّا في ذي الحجّة. «1»

و ذلك يدلّ على أنّهم يحجّون في كلّ سنة، و لكن بتقديم الشهر الحرام أو بتأخيره لا بترك الحجّ في عام أساسا.

ثمّ إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في حجّة الوداع شارك في مراسم الحجّ شخصيا و قام بتعليم الناس مناسك الحجّ، فجعل الشهر الحرام في مكانه الأصلي و لم يتغير بعده إلى عصر الصادق حتّى يركّز الإمام على خلافه، و قال صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في خطبته:

«أيّها الناس إنّ النسي ء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلّونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه، فيحلّوا ما حرّم اللّه، و يحرّموا ما أحلّ اللّه، و إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات و الأرض، و إنّ عدّة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية (ذو القعدة، و ذو الحجّة، و شهر المحرم، و رجب). «2»

و الأولى إرجاع علم الروايات إليهم عليهم السّلام.

[المسألة 1: لا خلاف في أنّ وجوب الحجّ- بعد تحقّق الشرائط- فوريّ

المسألة 1: لا خلاف في أنّ وجوب الحجّ- بعد تحقّق الشرائط- فوريّ، بمعنى انّه يجب المبادرة إليه في العام الأوّل من الاستطاعة فلا يجوز تأخيره عنه و إن تركه فيه ففي العام الثاني، و هكذا و يدلّ عليه جملة من الأخبار.

و لو خالف و أخّر- مع وجود الشرائط- بلا عذر يكون عاصيا، بل لا يبعد كونه كبيرة، كما صرّح به جماعة، و يمكن استفادته من جملة من

الأخبار.* (1)

(1)* هنا فرعان:

1. وجوب الحجّ- عند تحقّق شرائطه- واجب فوريّ.

2. انّ تأخيره من الكبائر و إن حجّ في الأعوام المقبلة.

أمّا الأوّل فيدلّ عليه أمران:

1. الإجماع من الفريقين إلّا الأوزاعي و الثوري و الشافعي و محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة قال الشيخ: الحجّ وجوبه على الفور دون التراخي، و به قال:

مالك و أبو يوسف و المزني، و ليس لأبي حنيفة فيه نصّ، و قال أصحابه: يجي ء على قوله: إنّه على الفور كقول أبي يوسف. و قال الشافعي: وجوبه على التراخي، و معناه انّه بالخيار إن شاء قدّم و إن شاء أخّر، و التقديم أفضل، و به قال الأوزاعي و الثوري و محمد. «1»

و أمّا الثاني فهو الروايات:

1. ما رواه الترمذي في سننه عن عاصم بن ضمر عن علي عليه السّلام انّ النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قال: من ملك زادا و راحلة تبلغه إلى الحجّ و لم يحجّ فلا عليه أن يموت يهوديا أو

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 29

.......... نصرانيا. «1»

2. ما روى أبو داود في سننه عن ابن عباس: «من أراد الحجّ فليعجّل». «2» و في دلالة الروايتين على كونه واجبا فوريا نظر.

أمّا الأولى، فانّ موردها إذا أخّر و انتهى إلى موته مع أنّ موضوع البحث هو الأعمّ منه و ممّا ترك عاما و حجّ في العام المقبل فقد أثم أيضا.

و أمّا الثانية، فانّه قيد التعجيل بمن أراد، لا بمن وجب عليه. و الكلام في الثاني دون الأوّل.

و قال المفيد: و فرضه عند آل محمد- صلوات اللّه عليهم- على الفور دون التراخي بظاهر القرآن و ما جاء عنهم عليهم السّلام [من الروايات ثمّ استدلّ برواية زيد الشحام، و

ذريح المحاربي. «3»

و قال ابن إدريس: و وجوبهما- الحجّ و العمرة- على الفور و التراخي بغير خلاف بين أصحابنا. «4»

و قال العلّامة: و وجوب الحجّ و العمرة على الفور، لا يحلّ للمكلّف بهما تأخيره عند علمائنا أجمع. ثمّ نقل عبارة الشيخ المتقدّمة. «5»

و قال الشهيد الثاني معلّقا على عبارة المحقّق «و تجب على الفور، و التأخير مع الشرائط كبيرة موبقة»: لا خلاف في ذلك عندنا. «6»

هذا ما لدى الخاصة، و أمّا العامّة فقال ابن رشد القرطبي: و هل هو على الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 30

.......... الفور أو التراخي، و القولان متأوّلان على مالك و أصحابه، و الظاهر عند المتأخّرين من أصحابه أنّها على التراخي، و بالقول: إنّها على الفور، قال البغداديون من أصحابه و قال الشافعي: هو على التوسعة، و عمدة من قال: هو على التوسعة: انّ الحجّ فرض قبل حجّ النبي بسنين، فلو كان على الفور لما أخّره النبي عليه السّلام، و لو أخّره لعذر لبيّنه. «1»

و يمكن أن يستدلّ على الفورية بالوجوه التالية:

الأوّل: انّ الفور هو مقتضى إطلاق الأمر، و التأخير بحاجة إلى دليل خاص، و عليه سيرة العقلاء.

و بعبارة أخرى: انّ الأمر و إن كان ينقسم إلى قسمين: فوري و غير فوري، و كلّ من القسمين يتميّز عن المقسم بقيد خاص، حسب حكم العقل، لكن الذي يحتاج إلى البيان في نظر العرف هو التأخير دون الفور.

الثاني: ما دلّ من الروايات على أنّ المستطيع لا يحجّ عن غيره نيابة، ففي رواية سعد بن أبي خلف، قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام عن الرجل الصرورة يحج عن الميت؟ قال: «نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحجّ به عن نفسه». «2» و

سيوافيك الكلام في هذه الرواية و غيرها في الفصل الثاني. «3»

الثالث: ما يدلّ على أنّ التأخير بما هو هو حرام، كصحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا قدر الرجل على ما يحجّ به ثمّ دفع ذلك و ليس له شغل يعذره به، فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام، و إن كان موسرا و حال بينه و

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 31

.......... بين الحجّ مرض أو حصر أو أمر يعذره، فإنّ عليه أن يحجّ عنه من ماله صرورة لا مال له». «1» فقوله: «ثمّ دفع ذلك» بمعنى أخّره فيكون صريحا في أنّ نفس التأخير- سواء أدّى إلى الترك أو لا- حرام.

الرابع: الروايات المعروفة بروايات التسويف و هو مصدر مشتق من قوله:

«سوّف الحج» و هي كثيرة جمعها الشيخ الحر العاملي في الباب السادس من أبواب وجوب الحجّ، نذكر منها شيئا:

1. ففي صحيحة أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له:

أرأيت الرجل التاجر ذا المال حين يسوّف الحج كلّ عام و ليس يشغله عنه إلّا التجارة أو الدين؟ فقال: «لا عذر له يسوف الحج، إن مات و قد ترك الحجّ فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام». «2»

2. و في رواية زيد الشحّام، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: التاجر يسوّف الحج؟ قال: ليس له عذر، فإن مات فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام». «3»

و لكن القدر المتيقّن من هذه الروايات هو التسويف المنتهي إلى الترك حتّى وافاه الموت، و أمّا التسويف غير المنتهي إلى ذلك فلا يستفاد منها.

و منه يعلم قصور دلالة رواية ذريح المحاربي التي رواها عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من مات و لم

يحجّ حجّة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهوديا أو نصرانيا». «4»

[المسألة 2: لو توقّف إدراك الحجّ بعد حصول الاستطاعة على مقدّمات من السفر و تهيئة أسبابه

المسألة 2: لو توقّف إدراك الحجّ بعد حصول الاستطاعة على مقدّمات من السفر و تهيئة أسبابه وجب المبادرة إلى إتيانها على وجه يدرك الحجّ في تلك السنة. و لو تعدّدت الرّفقة و تمكّن من المسير مع كلّ منهم اختار أوثقهم سلامة و إدراكا. و لو وجدت واحدة و لم يعلم حصول أخرى، أو لم يعلم التمكّن من المسير و الإدراك للحجّ بالتأخير فهل يجب الخروج مع الأولى، أو يجوز التأخير إلى الأخرى بمجرّد احتمال الإدراك، أو لا يجوز إلّا مع الوثوق؟ أقوال، أقواها الأخير. و على أيّ تقدير إذا لم يخرج مع الأولى، و اتّفق عدم التمكّن من المسير، أو عدم إدراك الحجّ بسبب التأخير استقر عليه الحجّ و إن لم يكن آثما بالتأخير، لأنّه كان متمكّنا من الخروج مع الأولى. إلّا إذا تبيّن عدم إدراكه لو سار معهم أيضا. (1)*

فهذه الرواية نظير روايات التسويف تدلّ على حرمة التأخير المنتهي إلى الترك، و أمّا التأخير بما هو هو مع قطع النظر عن انتهائه إلى الترك فالرواية غير متعرضة له. نعم يكفي فيه الوجهان الأوّلان.

(1)* في المسألة فروع:

1. وجوب تحصيل المقدّمات بعد حصول الاستطاعة.

2. لو تعدّدت الرّفقة و تمكن من المسير مع كلّ منهم اختار أوثقهم سلامة و إدراكا من الرفقتين.

3. لو وجدت واحدة و لم يعلم حصول أخرى، فهل يجب الخروج مع الأولى؟

4. لو وجدت ثانية و لم يعلم التمكّن من المسير و الإدراك للحجّ بالتأخير،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 33

.......... فهل يجب الخروج مع الأولى، أو يجوز التأخير إلى

الأخرى بمجرّد احتمال الإدراك، أو لا يجوز إلّا مع الوثوق؟

5. إذا لم يخرج مع الأولى و اتّفق عدم التمكّن من المسير أو عدم إدراك الحجّ بسبب التأخير، فهل يستقرّ عليه الحجّ أو لا؟

و إليك دراسة الفروع واحدا بعد الآخر.

الأوّل: يجب تحصيل المقدّمات بعد تحقّق الاستطاعة بمقتضى العقل حيث يحكم بلزوم تحصيل المقدّمة بعد تحقّق وجوب ذيها، و المصنّف قيّد تحصيل المقدّمة بإدراك الحجّ في تلك السنة و ما ذكره يتناسب مع الأزمنة السابقة.

و أمّا بالنسبة إلى زماننا فيجب تحصيل المقدّمة و لو بإدراك الحجّ بعد سنين، و ذلك لأنّ شؤون الحجّ في زماننا موكولة إلى الحكومات، و هي تجيز في كلّ سنة حصة معينة محدودة فعلى المستطيع تسجيل اسمه في قائمة الراغبين بالحجّ، ليتمكن من الحجّ بعد صدور الإجازة في نفس سنة التسجيل أو في السنين المقبلة.

و إلّا حرم من الحجّ سنين متمادية أو إلى آخر العمر.

الثاني: لو تعدّدت الرّفقة، فهل يجب اختيار الأوثق سلامة و إدراكا، أو يكفي الوثوق؟ فالأفضل اختيار الأوّل، لكن يكفي الوثوق و الاطمئنان العقلائي، و لم يدلّ دليل على لزوم اختيار الأوثق فهو مع الوثوق مخيّر بينهما.

الثالث: لو تهيّأت رفقة واحدة و لم يعلم حصول رفقة أخرى.

الرابع: لو علم حصول رفقة أخرى و لم يعلم التمكّن من المسير و الإدراك للحجّ مع الثانية ففي هاتين الصورتين وجوه ثلاثة:

1. يجب البدار و الخروج مع الأولى مطلقا.

2. يجب البدار إلّا إذا حصل الوثوق بالإدراك مع الثانية.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 34

.......... 3. يجوز التأخير بمجرّد احتمال الإدراك و لو لم يثق به.

أمّا الأوّل: فهو مقتضى إطلاق كلام الشهيد الثاني في الروضة، قال: لو تعددت الرفقة في العام الواحد وجب السير مع

أولاها. «1»

أمّا الثاني: فهو خيرة الشهيد في الدروس، قال: و يجب البدار مع أوّل رفقة إلّا أن يثق بالمسير مع غيرها. «2»

و أمّا الثالث: فقد حكي عن صاحب المدارك- بعد نقل القولين عن الشهيدين- أنّه قال: بل يحتمل قويا جواز التأخير بمجرّد احتمال سفر الثانية، لانتفاء الدليل على فورية المسير بهذا المعنى. «3»

و ما اختاره الشهيد هو الأوفق بالقواعد، لأنّ الوثوق طريق عقلائي، بل قطع عرفي، فإذا وثق بالإدراك فإيجاب الخروج مع الرفقة الأولى يحتاج إلى دليل، و كما أنّ المحكي عن سيد المدارك ضعيف، لأنّ التأخير إلى القافلة الثانية، مع عدم الوثوق تفويت للواجب عند العقلاء.

الخامس: إذا لم يخرج مع الأولى و اتّفق عدم التمكّن من المسير أو عدم إدراك الحجّ، فهل يستقرّ عليه الحجّ؟

اختار المصنّف استقرار الحجّ عليه- و إن لم يكن آثما- إلّا إذا تبيّن عدم إدراكه لو سار معهم أيضا.

و لعلّ وجهه، انّ الموضوع لاستقرار الحجّ، هو تمكّنه من المسير، و إن لم يخرج فيجب عليه الحجّ في العام القابل بقيت استطاعته أو لا، فيحجّ متسكعا. و اختاره صاحب الجواهر قال: الظاهر استقرار الحجّ بالتمكّن من الرفقة الأولى، كمن وجبت عليه الصلاة و مضى وقت يمكن أن يفعلها و لم يفعلها و مات مثلا، فانّه لا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 35

.......... إشكال في تحقّق وجوب القضاء عليه بذلك.

على أنّه مندرج في جميع النصوص الدالّة على أنّ من استطاع الحجّ و لم يحجّ و مات، إن شاء أن يموت يهوديا أو نصرانيا و نحوها. «1»

أقول: الكلام فيما إذا زالت الاستطاعة في العام المقبل، و إلّا فلو بقيت فلا شكّ انّه يجب عليه الحجّ في العام المقبل، و على ضوء ذلك فالقول

بوجوب الحجّ مع زواله أمر مشكل أوّلا، و ما استدلّ به صاحب الجواهر غير تامّ ثانيا.

أمّا الأوّل: فلما قلنا في باب الإجزاء من أنّ قيام المكلّف بالوظيفة حسب الأصول و الضوابط الشرعية موجب للإجزاء، و المفروض انّه تأخّر عن القافلة الأولى واثقا بأنّه يتمكن من السير مع القافلة الثانية و يدرك الحجّ، و الوثوق حجة شرعية.

و معنى جعل الوثوق حجّة شرعية، هو اقتصار الشارع في كيفية امتثال أوامره و نواهيه بما تؤدّى إليه الحجّة، و هي هنا الوثوق، فإيجاب القضاء ثانيا مع زوال الاستطاعة يعدّ نقضا للحجّية عند العقلاء كما أوضحناه في مبحث الإجزاء.

و الحاصل: انّ تأخيره لما كان بتجويز المولى، فإيجاب القضاء عليه يعدّ مناقضا لتجويزه.

فإن قلت: إنّ لازم ذلك عدم إيجاب الحجّ عليه في السنة المقبلة إذا بقيت الاستطاعة.

قلت: إنّ الاستطاعة في العام المقبل، موضوع جديد له حكمه، فهو داخل في قوله سبحانه: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ و ليس إيجابه عليه فيه، تابعا للإيجاب السابق، و هذا كما إذا كان على الإنسان حجّان: أصالة و نيابة، أو نذرا، فإذا امتثل الأوّل، يبقى الثاني في ذمّته.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 36

.......... فإن قلت: فقد تقرّر في مبحث الإجزاء، انّه إنّما يتصوّر إذا أتى المكلّف بالواجب و إن كان بصورة غير كاملة، و أمّا إذا لم يأت به أصلا، فلا وجه للإجزاء، كما إذا كان الواجب، هو صلاة الجمعة فصلىّ الظهر، و على ضوء ذلك لا وجه للإجزاء، لأنّه لم يأت بشي ء من أعمال الحجّ، أو أتى و لكن لم يدرك الأركان.

قلت: المراد من الإجزاء هنا هو الكشف عن عدم تعلّق الوجوب بذمّته، أو انّه لم يكن مخاطبا في الواقع و إن

زعم وجوبه عليه.

و أمّا الثاني فيرد عليه أوّلا: انّه لو كان الموضوع لاستقرار الحجّ، هو التمكن من الحجّ، إذا سار بالقافلة الأولى، لزم القول باستقراره عليه إذا سار مع القافلة الأولى و لم يدرك لكنّه لو كان سائرا بالثانية، لأدرك، لوجود الموضوع للاستقرار و هو التمكن من الحجّ، بالسير مع الثانية و هو كما ترى، و الجامع بينه و بين المقام، هو وجود التمكن في الواقع، ففي المقام يتمكّن من المسير بالأولى، و في مورد النقض بالمسير بالثانية.

و قياسه بمن وجب عليه الصلاة و مضى وقته و لم يفعلها و مات، قياس مع الفارق، لأنّه فوت الواجب، بعض الوقت اختيارا، فيجب على الولي القضاء بخلاف المقام، فانّه لم يتمكن من إدراك الواجب لاعن اختيار، بل لجهله، بمصير القافلة الثانية و انّه كتب عليها، عدم النجاح.

و أمّا الاستدلال عليه بالنصوص الدالة على أنّ من استطاع الحجّ و مات إن شاء أن يموت يهوديا أو نصرانيا، بتصور انّها بإطلاقها تدلّ على استقرار الحجّ حتّى لو زالت الاستطاعة، فغير تام، لأنّ موردها التفويت العمدي بالإهمال و التسويف، فأين هي ممّن عمل بالوظيفة و اتبع الحجة و لم يكن التوفيق حليفه من دون اختيار.

الفصل الثاني في شرائط وجوب حجّة الإسلام

[الشرط الأول الكمال بالبلوغ و العقل

اشارة

في شرائط وجوب حجّة الإسلام و هي أمور:

أحدها: الكمال بالبلوغ و العقل، فلا يجب على الصبيّ و إن كان مراهقا، و لا على المجنون و إن كان أدواريّا إذا لم يف دور إفاقته بإتيان تمام الأعمال. و لو حجّ الصبيّ لم يجز عن حجّة الإسلام، و إن قلنا بصحّة عباداته و شرعيّتها كما هو الأقوى، و كان واجدا لجميع الشرائط سوى البلوغ، ففي خبر مسمع عن الصادق عليه السّلام: لو أنّ غلاما حجّ عشر حجج

ثمّ احتلم كان عليه فريضة الإسلام، و في خبر إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السّلام عن ابن عشر سنين، يحجّ؟ قال عليه السّلام: عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، و كذا الجارية عليها الحجّ إذا طمثت. (1)*

(1)* في المسألة فرعان:

1. لا يجب الحجّ على الصبي و إن كان مراهقا، و لا على المجنون، مطبقا كان أو أدواريا، إذا لم يف دور إفاقته بإتيان تمام الأعمال.

2. لو حجّ الصبيّ لم يجز عن حجّة الإسلام.

أمّا الأوّل لا شكّ في اعتبار العقل في التكاليف و الأحكام الشرعية، و هذا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 40

.......... شرط اتّفق عليه العقلاء، و دلّ عليه العقل، و لو لاه لزم التكليف بما لا يطاق، و يدلّ كلّ ما ورد في شأن العقل، و قد عقد في الوسائل بابا خاصّا له؛ ففي صحيحة محمد ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لما خلق اللّه العقل استنطقه- إلى أن قال:- أما إنّي إيّاك آمر، و إيّاك أنهى، و إيّاك أعاقب، و إيّاك أثيب». «1»

و يدلّ على شرطيته و شرطية البلوغ، حديث رفع القلم و جريه، أمّا الرفع فهو الحديث المعروف عن علي عليه السّلام أنّه قال لعمر: «أما علمت أنّ القلم يرفع عن ثلاثة:

عن الصبي حتّى يحتلم، و عن المجنون حتّى يفيق، و عن النائم حتى يستيقظ». «2»

و أمّا الجري فهو موثقة عمّار الساباطي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ فقال: «إذا أتى عليه ثلاث عشر سنة، فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة، و جرى عليه القلم ...». «3»

و ربّما يحتمل أنّ المرفوع هو قلم المؤاخذة برفع فعلية التكليف، لأنّ الظاهر

من رفع القلم عنه رفع قلم السيّئات لا غير، فلا يدلّ على رفع الملاك، و لا رفع المشروعية. «4»

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر، رفع التكليف مطلقا فعليّا كان أو إنشائيا، بقرينة رواية «و جرى عليه القلم»، إذ المراد به هناك هو جعل التكليف عليه، بشهادة أنّ السؤال فيه عن الصلاة، لا عن الحدود و الديات. فلو لم يكن ظاهرا في رفع الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 41

.......... التكليف لكنّه مقتضى إطلاق الرفع. فيعمّ رفعه و رفع المؤاخذة، و أمّا احتمال وجود الملاك فهو و إن كان محتملا، لكن لا يكفي الاحتمال، لأنّ التقرّب القطعي فرع العلم به.

و أمّا ما يدلّ على شرطية خصوص البلوغ فهي:

1. ما رواه الصدوق بسند صحيح، عن إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن ابن عشر سنين يحج؟ قال: «عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، و كذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت». «1» و يؤيّده رواية شهاب «2» و مسمع بن عبد الملك. «3» و أمّا إطلاق حجّة الإسلام على حجّ الصبي في رواية أبان بن الحكم فهو من باب المشاكلة؛ قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «الصبي إذا حجّ به قضى حجّة الإسلام حتّى يكبر». «4»

و أمّا أبان بن الحكم، فالظاهر أنّه تصحيف أبان عن الحكم، إذ لم يرد في المعاجم الرجالية، أبان بن الحكم، و المراد به هو الحكم بن حكيم أبو خلاد الصيرفي، كوفي، ثقة، روى عن أبي عبد اللّه، و روى عنه ابن أبي عمير، و لا غرو في أن يروي أبان بن عثمان (المتوفّى عام 212 ه-)، عن الحكم بن حكيم.

لو حجّ الصبي لم يجز عن حجّة الإسلام هذا هو الفرع الثاني،

و هو انّه لو حجّ بالصبي أو حجّ لم يجز عن حجّة الإسلام، و هو ممّا اتّفق عليه الأصحاب، و لم نقف على مخالف، و هو موافق للقاعدة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 42

.......... أيضا؛ أمّا إذا قلنا بعدم شرعية عباداته فواضح، و إن كان خلاف التحقيق كما أوضحنا حاله في كتاب الصوم؛ و أمّا على القول بالشرعية، فعدم الإجزاء هو مطابق للقاعدة، لأنّ إجزاء المستحب مكان الواجب، يحتاج إلى دليل، مع أنّ الدليل على خلافه كما في معتبرة مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال: «لو أنّ غلاما حجّ عشر حجج ثمّ احتلم كانت عليه فريضة الإسلام». «1»

و ربّما يقال أنّ المستفاد من الروايات أنّ الحجّ له حقائق مختلفة، فانّ الحجّ الذي يأتي به الصبي تختلف حقيقته مع حجّة الإسلام الثابتة على البالغين، و هذا بخلاف الصلاة، فانّ الصبي لو صلّى في أوّل الوقت ثمّ بلغ في أثنائه لا تجب عليه إعادة الصلاة، لأنّ المفروض أنّ صلاته صحيحة. «2»

يلاحظ عليه: إنّ القول بأنّ حجّ الصبي يختلف حقيقة مع حجّ البالغ بعيد جدّا، فانّ العمل واحد، المكلّف و الصبي يختلفان بالبلوغ و عدمه كنفس الصلاة الصادرة عن البالغ و الصبي.

و الحقّ أنّ الفارق هو النص، و لعلّ للحجّ خصوصية تجب بعد البلوغ أيضا.

[المسألة 1: يستحبّ للصبيّ المميّز أن يحجّ و إن لم يكن مجزيا عن حجّة الإسلام

المسألة 1: يستحبّ للصبيّ المميّز أن يحجّ و إن لم يكن مجزيا عن حجّة الإسلام، و لكن هل يتوقّف ذلك على إذن الوليّ أو لا؟ المشهور بل قيل: لا خلاف فيه، أنّه مشروط بإذنه، لاستتباعه المال في بعض الأحوال للهدي و للكفّارة، و لأنّه عبادة متلقّاة من الشرع مخالف للأصل، فيجب الاقتصار فيه على المتيقّن، و

فيه إنّه ليس تصرّفا ماليّا، و إن كان ربما يستتبع المال، و انّ العمومات كافية في صحّته و شرعيّته مطلقا، فالأقوى عدم الاشتراط في صحّته و إن وجب الاستئذان في بعض الصور، و أمّا البالغ فلا يعتبر في حجّه المندوب إذن الأبوين إن لم يكن مستلزما للسفر المشتمل على الخطر الموجب لأذيّتهما، و أمّا في حجّه الواجب فلا إشكال. (1)*

(1)* اعلم أنّ الصبي إمّا مميّز أو غير مميّز، و الكلام في هذه المسألة في المميز، و أمّا غيره فيأتي حكمه في المسألة الثانية.

و هنا فروع:

1. يستحبّ للصبيّ المميّز أن يحجّ.

2. هل يشترط فيه إذن الولي أو لا؟

3. لا يشترط في حجّ البالغ إذن الولي إذا كان واجبا، و كذا المندوب، إن لم يكن مشتملا للسفر المشتمل على الخطر الموجب لأذيّتهما.

و إليك دراسة الفروع واحدا تلو الآخر:

استحباب الحجّ للصبي المميّز إنّ صحّة حجّ المميّز مبنيّة على شرعيّة عباداته و انّها ليست تمرينية- كما هو

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 44

.......... المشهور- و إليك بعض الكلمات في المقام:

قال الشيخ: و الحجّ يصحّ منه بإذن وليّه إذا كان مميّزا. «1» و قيّده في المقام بإذن الولي، و لا ينافيه إطلاقه في المسألة 226، قال: «إحرام الصبي عندنا جائز صحيح» اعتمادا على ما قيده بإذن الولي سابقا.

و قال في «المبسوط»: و إن كان مميّزا مراهقا جاز أن يأذن له فيحرم هو بنفسه. «2»

قال العلّامة في «التذكرة»: و أكثر الفقهاء على صحّة إحرامه و حجّه إن كان مميّزا؛ و إن كان غير مميّز، أحرم عنه وليّه، فيصير محرما بذلك، و به قال الشافعي و مالك و أحمد، و هو مروي عن عطاء و النخعي لما رواه العامّة عن النبي صلّى

اللّه عليه و اله و سلّم أنّه مرّ بامرأة و هي في محفّتها، فقيل لها: هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، فأخذت بعضد صبي كان معها و قالت: ألهذا حجّ؟ قال: نعم و لك أجر. «3»

و محل الشاهد هو قوله: «إن كان مميّزا» دون ذيله فانّه راجع إلى غير المميز.

و بمثل ذلك قال في «المنتهى». «4»

و قال الشهيد: لا إشكال في صحّة إحرام المميّز من حيث هو مميز، و إن كانت الصحّة متوقفة على أمر آخر كإذن الأبوين، لأنّ الحجّ المندوب متوقّف على إذنهما على الأقوى، و في القواعد جعله موقوفا على إذن الأب. «5»

و يدلّ على صحّة إحرام المميّز أمور:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 45

.......... 1. ما دلّ على شرعية عباداته مطلقا.

2. ما دلّ من الروايات على أنّه إذا حجّ به أو حجّ، لا يجزي عن حجّة الإسلام؟ ففي رواية مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لو أنّ غلاما حجّ عشر حجج ثمّ احتلم كانت عليه فريضة الإسلام». «1»

3. ما ورد في كيفية حجّ الصبيان و الحجّ بهم و جملة من أحكامهم، فانّه بإطلاقه يعمّ المميّز و غيره، لو لم يكن بعضه ظاهرا في المميّز. «2»

و مع وجود النصّ من النبيّ و الآل سقط دليل أبي حنيفة حيث استدلّ على عدم الجواز بحديث رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتّى يبلغ، و هو كما ترى، لأنّ المرفوع- بقرينة كون الرفع من باب الامتنان- هو الوجوب، لا أصل المشروعية و لا الملاك، لأنّ رفع أصل المشروعية على خلاف الامتنان.

شرطية إذن الولي و عدمه قد تعرفت على كلمات علمائنا و أنّها بين مطلقة و مشترطة، و

ليس في المسألة نصّ، و إنّما الاشتراط و عدمه على ضوء القواعد، و قد عنونه العلّامة في «التذكرة» و قال باشتراط الإذن، و ذكر له وجها واحدا، قال: فإن أحرم الصبي المميّز بغير إذن وليّه، لم يصحّ إحرامه؛ لأنّ الصبي ممنوع من التصرّف في المال، و الإحرام يتضمن إنفاق المال و التصرّف فيه، لأنّ الإحرام عقد يؤدّي إلى لزوم مال، فجرى مجرى سائر أمواله و سائر عقوده التي لا تصحّ إلّا بإذن وليه، و هو أصحّ وجهي الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 46

.......... الشافعية. «1»

و حاصله: انّ الإحرام للحجّ يستتبع المال في بعض الأحوال للهدي و الكفّارة.

و قد أجاب عنه في المتن، بأنّه ليس تصرّفا ماليّا، و إن كان يستتبع المال، و المقصود انّ إحرام الحجّ كإحرام الصلاة، فهما بما هما إحرامان لا يتوقّفان على إذن الولي، نعم لو استتبع التصرّف في المال كثمن الهدي فيستأذن، فإن أذن فهو، و إلّا يكون كالمحرم العاجز عن ثمن الهدي.

و أمّا كفّارات الإحرام فلا تتعلّق بفعله، بشهادة عدم تعلّقها بالناسي و الجاهل لصحيحة زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «من نتف إبطه، أو قلّم ظفره، أو حلق رأسه، أو لبس ثوبا لا ينبغي له لبسه، أو أكل طعاما لا ينبغي له أكله، و هو محرم، ففعل ذلك ناسيا أو جاهلا، فليس عليه شي ء؛ و من فعل متعمّدا، فعليه دم شاة». «2»

هذا من جانب، و من جانب آخر: إنّ عمد الصبي و خطأه واحد. «3» فلا تتعلّق كفارات الإحرام بفعله، لكونه غير عامد.

و أمّا كفّارة الصيد، ففي خبر الريّان بن شبيب الذي رواه في «الاحتجاج» مرسلا: «و الصغير لا كفّارة عليه، و هي على الكبير واجبة».

«4»

و احتمل السيّد الخوئي أنّه يأتي بالكفّارة بعد البلوغ، و لم أقف على وجهه،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 47

.......... لأنّ روايات الكفّارات منصرفة عن الصبي، لأنّ الكفّارة نوع من المجازاة، و لا مجال لها مع عدم التكليف.

ثمّ إنّ المصنّف ذكر وجها آخر لاشتراط الإذن و حاصله: إنّه عبادة متلقّاة من الشرع مخالف للأصل، فيجب الاقتصار فيه على المتيقّن.

يلاحظ عليه: أنّه يكفي في صحّته، ما دلّ على مشروعية عباداته، خصوصا ما دلّ على أنّ حجّه قبل البلوغ لا يكفي عن حجّة الإسلام.

إحرام البالغ للحجّ المندوب هذا هو الفرع الأخير الذي ذكره المصنّف في المسألة، و حاصله: انّه لا شكّ في عدم اعتبار إذن الولي في الحجّ الواجب، إنّما الكلام في شرطيته في الحجّ المندوب، فقد اختلفت كلمتهم في شرطية إذن الأب، أو الأبوين إلى أقوال:

1. عدم اعتبار إذنه أو إذنهما. و هو خيرة الشهيد في الدروس «1» و صاحب المدارك. «2»

2. اعتبار إذن الوالد خاصّة. و هو خيرة القواعد «3»

3. اعتبار إذن الوالدين. و هو خيرة الشهيد في المسالك. «4»

4. عدم اعتبار إذنهما إذا لم يكن الحجّ مستلزما للسفر المشتمل على الخطر، و إلّا فالاشتراط أحسن. و هو خيرة الروضة «5»، و المصنّف في المتن.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 48

.......... و نقل صاحب الحدائق عن الذخيرة التوقّف. «1»

و لعل القول الراجح بين هذه الأقوال هو القول الرابع، و حاصله عدم اعتبار إذنهما إلّا إذا كان سببا لإيذائهما كما إذا كان السفر مشتملا على الخطر.

و يؤيّد ذلك دلالة الآية الشريفة على حرمة التأفيف و النهر و الزجر «2»، على حرمة الضرب بوجه أولى، فيكون الجامع بينها هو حرمة إيذائهما، فإذا كان حجّ الولد سببا للإيذاء

يكون مبغوضا و لا يصلح للتقرّب.

و مع ذلك كلّه يمكن أن يقال: انّ القدر المتيقّن هو حرمة إيذائهما في الأمور التي يرجع إليهما في مجال المعاشرة و المصاحبة، و أمّا ما لا يرجع إليهما من الأمور التي تسبب إيذائهما فلا دليل على وجوب الطاعة أو حرمة المخالفة، فالأولاد أحرار في انتخاب المهنة و الزوجة و السير و السفر و إن صار سببا لإيذائهما، و على ضوء ذلك يصحّ حجّه مطلقا، سواء أكان سببا للإيذاء أو لا.

نعم بقي هنا رواية تمسّك بها صاحب الحدائق على أنّه لا يصحّ حجّ الولد من دون إذن الوالد، و هو ما رواه الصدوق في كتاب «علل الشرائع» عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن أحمد بن هلال، عن مروك «3» بن عبيد، عن نشيط بن صالح، عن الحكم بياع الكرابيس، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: من فقه الضيف أن لا يصوم تطوّعا إلّا بإذن صاحبه، و من طاعة المرأة لزوجها أن لا تصوم تطوّعا إلّا بإذنه و أمره، و من صلاح العبد

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 49

.......... و نصحه لمولاه أن لا يصوم تطوّعا إلّا بإذن مواليه و أمرهم، و من برّ الولد أن لا يصوم تطوّعا و لا يحجّ تطوّعا و لا يصلّي تطوّعا إلّا بإذن أبويه و أمرهما؛ و إلّا كان الضيف جاهلا، و المرأة عاصية، و كان العبد فاسدا عاصيا غاشّا، و كان الولد عاقّا قاطعا للرحم». «1»

فقال صاحب الحدائق بعد نقل الرواية: و هي كما ترى صريحة الدلالة على توقّف الحجّ على إذن الأبوين معا. «2»

يلاحظ على

الاستدلال: أوّلا: أنّ الاستدلال بالحديث فرع صحّة السند و إتقان المتن، و كلاهما مفقودان، أمّا السند ففيه أحمد بن هلال العبرتائي.

قال النجاشي: صالح الرواية، يعرف منها و ينكر، و قد روي فيه ذموم من سيدنا أبي محمد العسكري، ولد سنة 180 ه-، و مات سنة 267 ه-.

و قال الطوسي: كان غاليا متّهما في دينه.

و قال في التهذيب: ما يختص بروايته، لا نعمل به.

و ما ورد في هذه الرواية حول الصلاة و الحجّ ممّا انفرد بروايته، و لأجل ذلك نرى أنّ الصدوق قال بعد الخبر: جاء هذا الخبر هكذا، و لكن ليس للوالدين على الولد طاعة في ترك الحجّ تطوّعا كان أو فريضة، و لا في ترك الصلاة، و لا في ترك الصوم تطوّعا كان أو فريضة، و لا في شي ء من ترك الطاعات.

و ثانيا: انّ الكليني نقل الرواية في «الكافي» «3»، و ليس فيها قوله: «و لا يحجّ الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 50

.......... تطوّعا و لا يصلّ تطوّعا إلّا بإذن أبويه و أمرهما».

كما أنّ الصدوق أيضا رواه في «الفقيه» بدون هذه الزيادة. «1»

و من المعلوم أنّ «الكافي» أتقن من «الفقيه»، و «الفقيه» أتقن من العلل، و لم يعلم من أين جاءت هذه الزيادة؟!

و ثالثا: أنّ هذه الرواية علّقت جواز الحجّ بأمر الوالدين، كما علّقت الصوم به، و لم يقل به أحد، إذ غاية ما في الباب اعتبار رضاهما لا اعتبار أمرهما.

ثمّ إنّ صاحب الحدائق ذهب إلى أنّ مضمون الرواية مؤيد بروايات أخرى دالّة على وجوب طاعتهما على الولد و إن كان في الخروج من أهله و ماله.

و لكن الدقّة و إمعان النظر فيها يدلّ على أنّ الجميع أحكام أخلاقية ترجع إلى حسن المعاشرة،

ففي مجال المعاشرة يجب إطاعة الوالدين و يحرم مخالفتهما، سواء أقلنا الواجب هو الإطاعة، أو أنّ الموضوع هو حرمة العقوق، و أمّا في غير ذلك المجال فالأحرار مسلطون على أموالهم، فالأولى على أنفسهم، و اللّه العالم.

[المسألة 2: يستحبّ للوليّ أن يحرم بالصبيّ غير المميّز بلا خلاف

المسألة 2: يستحبّ للوليّ أن يحرم بالصبيّ غير المميّز بلا خلاف، لجملة من الأخبار، بل و كذا الصبيّة، و إن استشكل فيها صاحب المستند، و كذا المجنون، و إن كان لا يخلو عن إشكال، لعدم نصّ فيه بالخصوص فيستحقّ الثواب عليه، و المراد بالإحرام به جعله محرما، لا أن يحرم عنه، فيلبسه ثوبي الإحرام و يقول: «اللّهمّ إنّي أحرمت هذا الصبيّ ...»، و يأمره بالتلبية، بمعنى أن يلقّنه إيّاها، و إن لم يكن قابلا يلبّي عنه، و يجنّبه عن كلّ ما يجب على المحرم الاجتناب عنه، و يأمره بكلّ فعل من أفعال الحجّ يتمكّن منه، و ينوب عنه في كلّ ما لا يتمكّن، و يطوف به، و يسعى به بين الصفا و المروة، و يقف به في عرفات و منى، و يأمره بالرمي، و إن لم يقدر يرمي عنه، و هكذا يأمره بصلاة الطواف، و إن لم يقدر يصلّي عنه، و لا بدّ من أن يكون طاهرا و متوضّئا و لو بصورة الوضوء، و إن لم يمكن فيتوضّأ هو عنه، و يحلق رأسه، و هكذا جميع الأعمال. (1)*

(1)* فيه فروع:

1. يجوز للولي أن يحرم بالصبي غير المميّز.

2. هل الصبية مثل الصبيّ؟

3. هل يلحق بهما المجنون؟

4. استحقاق الولي الثواب عليه.

5. ما هو المراد من إحرام الصبي؟

و إليك دراسة الفروع واحدا بعد الآخر:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 52

.......... 1. إحرام الصبي غير المميّز اتّفق أصحابنا، و كثير من غيرهم على

جواز إحرام الصبي غير المميّز، قال العلّامة: و إن كان غير مميّز، جاز لوليه أن يحرم عنه، و يكون إحرامه شرعيّا، و إن فعل ما يوجب الفدية كان الفداء على الولي- إلى أن قال-: و به قال الشافعي و مالك و أحمد، و هو مروي عن عطاء و النخعي لما رواه العامّة عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم انّه مرّ بامرأة و هي في محفّتها، فقيل لها: هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، فأخذت بعضد صبيّ كان معها و قالت: ألهذا حجّ؟ قال: «نعم، و لك أجر». «1» و بمثل ذلك قال في المنتهى. «2»

و رواه مالك في موطئه. «3»

و رواه الشيخ في التهذيب باسناده، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن بنت إلياس «4»، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سمعته يقول: مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم برويثة «5» و هو حاج فقامت إليه امرأة و معها صبي لها فقالت: يا رسول اللّه أيحجّ عن مثل هذا؟ قال: «نعم، و لك أجره». «6» و المقصود من قولها: «أيحج عن مثل هذا؟» أيصح الحجّ عن مثله.

و قد ورد في رواية تحديد سنّ الصبيّ بأنّه «إذا أثغر» روى محمد بن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 53

.......... الفضيل «1»، قال: سألت أبا جعفر الثاني عليه السّلام، عن الصبي متى يحرم؟ قال: «إذا أثغر». «2»

2. الصبيّة مثل الصبي هل الصبيّة مثل الصبي؟ أو يختص الحكم بالثاني، كما هو ظاهر الروايات التي ورد فيها لفظ «الصبيان» التي هي جمع الصبي، لكن الأصحاب- كما في الحدائق- لم يفرّقوا

في هذه الأحكام بين الصبي و الصبيّة، و هو جيد، فانّ أكثر الأحكام في جميع أبواب الفقه إنّما خرجت في الرجال مع أنّه لا خلاف في إجرائها في النساء و لا إشكال. «3» أضف إلى ذلك أنّ الصبيان الواردة في النصوص- كما سيوافيك- و إن كان جمع الصبيّ، لكن المتفاهم عرفا هو جنس من لم يبلغ ذكرا أم أنثى.

و ربّما يستدلّ على صحة حجّها بروايتين:

1. ما رواه الصدوق عن صفوان «4»، عن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن ابن عشر سنين يحج؟ قال: «عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، و كذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت». «5»

2. و ما رواه الكليني بسند فيه سهل بن زياد الآدمي- الذي الأمر فيه الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 54

.......... سهل- عن ابن محبوب، عن شهاب «1»، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال:

سألته عن ابن عشر سنين يحج؟ قال: «عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، و كذلك الجارية عليها الحجّ، إذا طمثت».»

وجه الدلالة، هو أنّ وجه التشبيه في قوله: «و كذلك» هو انّه إذا حجّت قبل الطمث لا يغني عن حجّة الإسلام، كما أنّ حجّ الصبي كذلك.

و بذلك يظهر ضعف ما استشكل به صاحب المستند على الاستدلال بالروايتين و حيث قال: و فيه عدم دلالتهما على وقوع الحجّ عن الصبيّة، بل وقوع الحجّ عن الصبي، لجواز أن يكون السؤال عن وجوب الحجّ، فأجاب بأنّه بعد الاحتلام و الطمث، لا أن يكون السؤال عن الحجّ الواقع، حتّى يمكن التمسّك فيه بالتقرير. «3»

يلاحظ عليه: كيف يقول إنّ السؤال عن [وقت وجوب الحجّ و أنّ الإمام أجاب بأنّه بعد الاحتلام و الطمث، مع أنّ الجواب

قرينة على أنّ السؤال عن كفاية حجّ غير البالغ، أعني: ابن عشر سنين، عن حجّة الإسلام، فأجاب الإمام بأنّه لا يكفي، و مثله الجارية، أي لا يغني حجّها قبل الطمث عن حجّها بعده.

3. حكم المجنون قد ألحقه المحقّق في «الشرائع» بغير المميّز، و قال: و كذا المجنون، و تلقّاه الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 55

.......... الشهيد الثاني في «المسالك» «1» و سبطه في «المدارك» «2» بالقبول، و هو أيضا ظاهر الجواهر. «3»

و قال في «الحدائق»: و ألحق الأصحاب المجنون، و استدلّ عليه في «المنتهى» بأنّه ليس أخفض حالا من الصبي، و ردّ عليه بأنّه ضعيف فإنّه لا يخرج عن القياس، مع أنّه قياس مع الفارق. «4»

و عكس في «التذكرة»، ففرّق بين المجنون و الصغير، قائلا: و الفرق ظاهر، فإنّ الجنون مرجوّ الزوال عن المجنون في كلّ وقت، فلم يجز أن يحرم عنه وليّه، لجواز أن يفيق فيحرم بنفسه، و أمّا البلوغ فغير مرجوّ إلّا في وقته، فجاز أن يحرم عنه وليّه، إذ لا يرجى بلوغه في هذا الوقت حتّى يحرم بنفسه. «5»

أقول: عدم الإلحاق هو الأظهر للفرق بين الصبي و المجنون، فإنّ الأوّل يعدّ إنسانا غير مكلّف، بخلاف المجنون، فإنّه ملحق بما دون الإنسان.

4. استحقاق الولي الثواب يدلّ عليه صحيح عبد اللّه بن سنان حيث قال: «نعم و لك أجره». «6»

5. ما هو المراد من إحرام الصبي؟ هذا الفرع هو المهم من بين فروع المسألة، و قد فسّره المصنّف بقوله: «و المراد بالإحرام به، جعله محرما، لا انّه يحرم عنه»، و حاصله: انّ نسبة الإحرام إلى الصبي الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 56

.......... حقيقي، لا مجازي بنيابة الولي عنه، و الأوّل هو صريح

الروايات الواردة في المقام.

هذا هو إجمال الكلام، و إليك التفصيل:

أمّا كيفية إحرامه و ما على الولي من الوظائف، فيأتي ضمن أمور:

1. أن ينوي الولي الإحرام بالطفل، و وجهه واضح، لأنّ المفروض انّه غير مميّز فينوب عنه في النيّة.

2. يقول- عند الإحرام-: اللّهم إنّي قد أحرمت بهذا إلى آخر النيّة، ذكره في الدروس «1» و الجواهر «2» و لم يذكرا له دليلا، و لم يرد في النصوص، بل ظاهرها كفاية نيّته، و ذكر السيد الحكيم انّ وجهه استحباب التلفّظ بالنيّة- في خصوص الحجّ- و فيه نظر، لأنّ مورد النصّ فيما إذا أراد الحج نفسه، لا أن يحج الغير، و إلغاء الخصوصية مشكل.

و العجب من السيد الخوئي حيث اعترض على المصنّف في هذا المورد بأنّه لا دليل عليه، لأنّ المفروض انّه يحجّ الصبي المميّز الذي يتمكّن من النيّة و التلبية و سائر الأعمال و المراد بالإحجاج هو أن يلقّنه النيّة لا أن يباشرها بنفسه. «3»

وجهه: انّ كلام المصنّف في غير المميّز، و قد عقد المسألة الثانية لإحجاج غير المميّز.

3. و يأمره بالتلبية، بمعنى أن يلقّنه إيّاها، و إن لم يكن قابلا يلبّي عنه.

4. و نظيرها الطواف و السعي و الرمي و الذبح، فإن أحسن فهو، و إلّا يأتي عنه الولي.

5. و يقف به في عرفات و المشعر. «4»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 57

.......... 6. و يجنبه عن كلّ ما يجب على المحرم الاجتناب عنه.

و يدلّ عليه مجموع روايات الباب التي نذكر منها ما يلي:

1. صحيحة زرارة عن أحدهما عليهما السّلام قال: «إذا حجّ الرجل بابنه و هو صغير فانّه يأمره أن يلبّي و يفرض الحج، فإن لم يحسن أن يلبّي لبّوا عنه، و يطاف به و

يصلّى عنه».

قلت: ليس لهم ما يذبحون، قال: «يذبح عن الصغار و يصوم الكبار، و يتّقى عليهم ما يتّقى على المحرم من الثياب و الطيب، و إن قتل صيدا فعلى أبيه». «1»

روى الكليني عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: إنّ معنا صبيا مولودا فكيف نصنع به؟ فقال: «مر أمّه تلقى حميدة فتسألها كيف تصنع بصبيانها؟»، فأتتها فسألتها كيف تصنع؟ فقالت: إذا كان يوم التروية فاحرموا عنه و جرّدوه و غسّلوه كما يجرّد المحرم، وقفوا به المواقف، فإذا كان يوم النحر فارموا عنه و احلقوا رأسه، ثمّ زوروا به البيت، و مري الجارية، أن تطوف به بالبيت و بين الصّفا و المروة. 2

هذا و اختلفت كلماتهم في الوضوء إلى أقوال أربعة:

1. ذهب العلّامة في «التذكرة» إلى أنّ الولي يتوضّأ للطواف و يطوّفه، فإن كانا غير متوضّئين لم يجزئه الطواف، و إن كان الصبي متطهرا و الولي محدثا لم يجزئه أيضا، لأنّ الطواف بمعونة الولي يصحّ، و الطواف لا يصحّ إلّا بطهارة. و إن كان الولي متطهرا و الصبي محدثا، فللشافعية وجهان. «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 58

.......... 2. و يظهر من «الدروس»، الاكتفاء بطهارة الولي قال: و إذا طاف به فليكونا متطهرين، و يكفي في الصبي صورة الوضوء، و يحتمل الاجتزاء بطهارة الولي. «1»

و في «الجواهر» أنّ الأحوط طهارتهما معا، لأنّه المتيقّن من هذا الحكم المخالف للأصل، و إن كان يقوى في النظر الاكتفاء بطهارة الولي كما يومي إليه ما في خبر زرارة من الاجتزاء بالصلاة عنه، و لعلّه فرق بين أفعال الحجّ نفسها، و شرائطها، فيجب مراعاة الصوري منه في الأوّل دون الثاني. «2»

3. و استظهر السيد

الحكيم قدّس سرّه كفاية صورة الوضوء في الطفل قائلا: بأنّ المستفاد من النصوص أنّ ما يمكن إيقاعه في الطفل يتعين فيه ذلك و لا يجتزأ بفعل الولي عنه، و ما لا يمكن إيقاعه في الطفل ينوب الولي عنه فيه، كما هو مورد خبر زرارة. فلاحظ. «3»

4. و ذهب السيد الخوئي إلى سقوط الوضوء عن الصبي فيما إذا لم يكن الطفل قابلا للوضوء و عن الولي أيضا، أمّا الأوّل فلأنّ ما ورد من إحجاج الصبي إنّما هو بالنسبة إلى أفعال الحجّ كالطواف و السعي و الرمي، و نحو ذلك، و أمّا الأمور الخارجية التي اعتبرت في الطواف، فلا دليل على إتيانها صورة، فإنّ الأدلّة منصرفة عن ذلك، و أنّما تختصّ بأفعال الحجّ. و أمّا الثاني فلأنّه لا دليل على أنّ الولي يتوضّأ عنه فيما إذا لم يكن الطفل قابلا للوضوء، فإنّ الوضوء من شرائط الطائف لا الطواف، و المفروض أنّ الولي غير طائف و أنّما يطوّف بالصبي، فدعوى إنّه ينوب عنه في الوضوء لا وجه لها، لأنّ النيابة ثابتة في أفعال الحجّ لا في شرائطها. «4»

[المسألة 3: لا يلزم كون الوليّ محرما في الإحرام بالصبيّ

المسألة 3: لا يلزم كون الوليّ محرما في الإحرام بالصبيّ، بل يجوز له ذلك و إن كان محلا. (1)*

و على هذا صارت الأقوال أربعة:

1. وجوب الوضوء عليه و إيقاعه في الطفل، كما عليه «التذكرة».

2. كفاية وضوء الولي، كما عليه «الدروس» و «الجواهر».

3. كفاية صورة الوضوء في جانب الطفل كما عليه السيّد الحكيم.

4. عدم وجوبهما مطلقا كما عليه السيد الخوئي.

فإن قلت: إذا جاز الطواف بلا وضوء من الولي و المولّى عليه، فلتجز الصلاة من الولي بلا وضوء عن الطفل، فما هو الفرق بين الطواف و الصلاة، مع اشتراط كلّ بالوضوء؟

قلت: إنّ

الطواف هو فعل الصبي، لأنّه يطاف به، فالطواف فعل له و لو بالتسبيب، فلا يشترط فيه الطهارة للانصراف الذي ادّعاه القائل، بخلاف الصلاة فهي فعل الولي حقيقة، نيابة عن الطفل، و من المعلوم اشتراط الطهارة في فعل النائب.

و لكن الظاهر هو كفاية صورة الوضوء للطفل إذا أوقعه الولي فيه عملا بالضابطة المستفادة من الروايات، فكلّ واجب يمكن أن يقوم به الطفل و لو بالتسبيب- كالطواف- فعلى الطفل، و إلّا فعلى الوليّ، و دعوى الانصراف في الشروط كما ترى (1)* لإطلاق النصوص.

[المسألة 4: ما هو المراد من الولي

المسألة 4: المشهور على أنّ المراد بالوليّ في الإحرام بالصبيّ الغير المميّز الوليّ الشرعيّ من الأب و الجدّ و الوصيّ لأحدهما و الحاكم و أمينه أو وكيل أحد المذكورين، لا مثل العمّ و الخال و نحوهما و الأجنبيّ. نعم ألحقوا بالمذكورين الأمّ و إن لم تكن وليّا شرعيّا للنصّ الخاصّ فيها، قالوا: لأنّ الحكم على خلاف القاعدة فاللازم الاقتصار على المذكورين فلا تترتّب أحكام الإحرام إذا كان المتصدّي غيره، و لكن لا يبعد كون المراد الأعمّ منهم و ممّن يتولّى أمر الصبيّ و يتكفّله و إن لم يكن وليّا شرعيّا، لقوله عليه السّلام:

«قدّموا من كان معكم من الصبيان إلى الجحفة أو إلى بطن مرّ ...» فإنّه يشمل غير الوليّ الشرعيّ أيضا، و أمّا في المميّز فاللازم إذن الوليّ الشرعيّ إن اعتبرنا في صحّة إحرامه الإذن. (1)*

(1)* المراد من الولي هو الولي الشرعي لمّا كان إحرام الصبي لا يفارق التصرّف في ماله، خصّوا جواز إحجاجه بالوليّ الشرعي، مضافا إلى ما ورد «الولي» في رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «انظروا من معكم من الصبيان، فقدّموه إلى الجحفة أو إلى بطن

مرّ» «1» و يصنع بهم ما يصنع بالمحرم و يطاف بهم و يرمى عنهم، و من لا يجد الهدي منهم فليصم عنه وليّه». «2» كما ورد الأب في غير واحدة من الروايات. «3» و قد اختلفت كلّمتهم في المقام إلى أقوال:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 61

.......... 1. الأب و الجدّ ذهب العلّامة إلى اختصاص الإحرام بالآباء و الأجداد، و انّ لهم ولاية الإحرام بإجماع من سوّغ الحج للصبيان. و هو قول علمائنا أجمع، و به قال الشافعي، لأنّ للأب و الجدّ للأبّ، ولاية المال على الطفل، فكان له ولاية الإذن في الحجّ، و لا يشترط في ولاية الجدّ عدم الأب. «1»

2. الأب و الجدّ و الأمّ عطف الشيخ الأمّ على الأب و الجدّ، لورودها في صحيحة عبد اللّه بن سنان حيث مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم برويثة و هو حاج فقامت إليه امرأة الخ. «2» و يؤيده صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج. «3»

3. الوليّ الشرعي المراد مطلق الولي الشرعي الذي يجوز له التصرّف في مال الصبي، و هو خيرة المحقّق حيث قال: و الولي هو من له ولاية المال، كالأب و الجدّ للأب و الوصيّ. «4»

و على ذلك كان عليه عطف الحاكم على الوصي، بل استظهر صاحب المدارك من كلام المحقّق حيث قال: و ربما ظهر من قول المصنف رحمه اللّه: «و الولي هو من له ولاية المال» ثبوت الولاية في ذلك للحاكم أيضا، و نقل عن الشيخ رحمه اللّه في الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 62

.......... بعض كتبه «1»، التصريح بذلك. «2»

و على ضوء ذلك وسّع المصنف من له الولاية في المال، إلى وكيل الوصي و الحاكم.

4.

عدم اختصاصه بالولي الشرعي ذهب المحقّق النراقي في المستند و تبعه المصنّف و السيد الخوئي إلى عدم اختصاص إحرام الصبي بالولي الشرعي، بل يجوز لكلّ أحد أن يحرم الصبي ما لم يستلزم التصرف في ماله، تمسّكا بإطلاق صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «انظروا من كان معكم من الصبيان فقدّموه إلى الجحفة أو إلى بطن مرّ ...

و خص السيّد الحكيم تصدّي الأمّ للإحرام بما إذا كانت مأذونة بذلك- و لو بالاستئذان من وليّه الشرعي- أو إذا نصبها الحاكم للقيام بأمور الصبي لا مطلق الأمّ و لو لم تكن لها الولاية و لا الإذن، و إطلاق الرواية ناظر إلى نفي القصور من جهة الطفل، لا نفي القصور من جهة أخرى- أي الأمّ- و مقتضى حرمة التصرّف بالصبي بغير إذن وليّه عدم الجواز بالنسبة إلى الأمّ، كغيرها من الأجانب. «3»

أقول: إنّ النبي، أمر الأمّ بإحرام الصبي، فلو كان الإحرام مشروطا بولايتها، كان عليه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم السؤال عن حالها، و تصوّر أنّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم كان يعلم أنّ لها الولاية، غير كاف في مقام الإفتاء، ضرورة انّ الشرط ليس ممّا يلتفت إليه العامة، فكما أنّ هذا التضييق في غير محلّه، و هكذا التوسيع الذي اختاره الأعلام الثلاثة و استدلّ عليه في «المستند» بقوله: و الأخبار غير دالة على التخصيص، لأنّ قوله: «من كان معكم من الصبيان» أعمّ ممّن كان مع وليّه أو غيره، و هكذا لا اختصاص في الأمر

[المسألة 5: النفقة الزائدة على نفقة الحضر، على الوليّ

المسألة 5: النفقة الزائدة على نفقة الحضر، على الوليّ، لا من مال الصبيّ إلّا إذا كان حفظه موقوفا على السفر به أو يكون السفر مصلحة

له. (1)*

بقوله: «قدّموا» و «فجرّدوه» و «لبّوا عنه» و غير ذلك، فإن ثبت الإجماع فيه فهو و إلّا فالظاهر جوازه لكلّ من يتكفّل طفلا غاية الأمر، لا يتعلّق أمر مالي بالطفل، بل يكون على المباشر.

يلاحظ عليه: أنّ الروايات في مقام البيان في جانب الصبي، و انّه لا فرق بين صبي و صبيّ، لا في مقام بيان شرائط المتكفّل بأمر الصبي، فلا يصحّ التمسّك بها من هذه الجهة.

مضافا إلى أنّ القائمين بهذا الأمر، في الأغلب كانوا هم الأولياء، و هذا يشكّل قرينة، لعدم انعقاد الإطلاق فيها.

(1)* لا شكّ انّ مؤونة الصبي فيما يتوقّف عليه حياته من المأكل و الملبس و المسكن على مال الصبي- إن كان له مال- من غير فرق بين السفر و الحضر.

و أمّا مؤونة السفر، فظاهر إطلاق الأصحاب انّها على الولي:

قال المحقّق: «و نفقته الزائدة تلزم الولي دون الطفل».

و قال العلّامة: مؤونة حجّ الصبي و نفقته الزائدة في سفره تلزم الولي- مثل آلة سفره و أجرة مركبه و جميع ما يحتاج إليه في سفره ممّا كان مستغنيا عنه في حضره- و هو ظاهر مذهب الشافعي، و به قال مالك و أحمد، لأنّ الحجّ غير واجب على الصبي، فيكون متبرعا، و سببه الولي فيكون ضامنا، و ليس للولي صرف مال الطفل في ما لا يحتاج إليه و هو غير محتاج حال صغره إلى فعل الحجّ، لوجوبه عليه حال كبره، و عدم إجزاء ما فعله في صغره عمّا يجب عليه في كبره. «1»

[المسألة 6: الهدي على الوليّ

المسألة 6: الهدي على الوليّ، و كذا كفّارة الصيد إذا صاد الصبيّ، و أمّا الكفّارات الأخر المختصّة بالعمد فهل هي أيضا على الوليّ، أو في مال الصبيّ، أو لا يجب الكفّارة في

غير الصيد، لأنّ عمد الصبيّ خطأ، و المفروض أنّ تلك الكفّارات لا تثبت في صورة الخطاء؟ وجوه لا يبعد قوّة الأخير، إمّا لذلك، و إمّا لانصراف أدلّتها عن الصبيّ، لكن الأحوط تكفّل الوليّ، بل لا يترك هذا الاحتياط، بل هو الأقوى، لأنّ قوله عليه السّلام: «عمد الصبيّ خطأ» مختصّ بالديات، و الانصراف ممنوع، و إلّا فيلزم الالتزام به في الصيد أيضا. (1)*

و قال في «الدروس»: و النفقة الزائدة على نفقة الحضر تلزم الولي. «1»

و حاصل الاستدلال أمران:

1. انّ الولي هو السبب للنفقة الزائدة.

2. انّه المنتفع بالأجر دون الصبي غير المميز.

و نقل عن الشافعي أنّه قال: على الصبي، مستدلا بأنّ ذلك من مصلحته كأجرة معلّمه و مؤونة تأديبه، فكان كما لو قبل له النكاح يكون المهر عليه.

لكن القياس مع الفارق فانّ الصبي ينتفع بالتعليم بعد كبره و لو فاته قبله لا يدرك في الكبر، كما أنّ المنكوحة ربما تفوت.

و مع ذلك يجب تقييد إطلاق كلام الأصحاب بما إذا لم تكن حياته موقوفة على السفر، أو لم يكن السفر مصلحة له كما في الأسفار للاصطياف و التنزّه، و عليه المصنّف في المتن.

(1)* يقع الكلام في مقامات ثلاث:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 65

.......... 1. ثمن الهدي.

2. كفّارة الصيد التي لا يختلف حكمها في حالتي العمد و السهو.

3. كفّارة غيره ممّا يختلف حكمه عمدا و سهوا، كالتطيب و الاستظلال.

1. ثمن الهدي على الوليّ هل ثمن الهدي على الطفل إذا كان له مال، أو على الوليّ، لم أجد نصا للأصحاب في المقنعة و النهاية و المبسوط و المهذّب لابن البراج و الغنية و السرائر و التذكرة و المدارك و المسالك غير ما في الدروس و الجواهر.

قال في الأوّل: و

أمّا الهدي فعلى الولي. «1»

و قال في الثاني: و أمّا الهدي الذي يترتب عليه بسبب الحجّ، فكأنّه لا خلاف بينهم في وجوبه على الولي الذي هو السبب في حجّه. «2»

و على أيّ حال فلعلّ عدم الخلاف لكون المسألة منصوصة، و قد ورد فيها روايات ثلاث:

1. ما رواه إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غلمان لنا دخلوا معنا مكة بعمرة، و خرجوا معنا إلى عرفات بغير إحرام؟ قال: «قل لهم: يغتسلون ثمّ يحرمون و اذبحوا عنهم كما تذبحون عن أنفسكم».»

و ظاهرها وجوب الهدي على الولي، سواء أكان الغلام ذا مال أم لا، و سقوط الهدي إذا لم يكن للولي مال و إن كان للطفل مال.

2. صحيحة زرارة عن أحدهما عليهما السّلام قال: «إذا حجّ الرجل بابنه و هو صغير»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 66

.......... إلى أن قال: قلت ليس لهم ما يذبحون؟ قال: «يذبح عن الصغار و يصوم الكبار». «1»

و أورد عليه السيد الحكيم بعدم الإطلاق في الرواية فيما إذا كان الطفل متمكنا من ثمن الهدي، بل القدر المتيقّن هو ما إذا لم يكن الطفل غير متمكن، و ذلك لأنّ الأمر بالذبح عنهم إنّما كان بعد قول السائل: «ليس لهم ما يذبحون» فلا يدلّ على الحكم في صورة تمكّن الطفل منه. «2»

و لم أقف على أنّه قدّس سرّه من أين استظهر من أنّ مورده، عدم تمكّن الطفل من الهدي، فانّ الضمير في قوله: «ليس لهم ما يذبحون» يرجع إلى الأولياء الذي يدلّ عليه قوله: «فإن لم يحسن أن يلبّي لبّوا عنه ... قلت: ليس لهم ما يذبحون» و هو أعمّ من أن يكون للطفل مال أو لا، اللّهمّ إلّا إذا

قيل بأنّ المفهوم من قوله: «ليس لهم ما يذبحون» هو فقر العائلة وليا كان أو مولّى عليه. فتكون الرواية غير دالّة على صورة تمكّن الطفل منه.

3. رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «انظروا من كان منكم ... و يصنع بهم ما يصنع بالمحرم، و يطاف بهم و يرمى عنهم، و من لا يجد الهدي منهم فليصم عنه وليه». «3» ربما يقال: انّ ظاهر الرواية انّ ثمن الهدي على مال الطفل، حيث قال: «و من لا يجد الهدي منهم» أي الأطفال، فلو وجد، فعليه الهدي، و إلّا يصوم وليه عنه فيفصل بين كون الطفل فقيرا أو ثريّا.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 67

.......... يلاحظ عليه: أنّ المتفاهم من هذه التعابير، فقر العائلة، لا فقر الطفل خصوصا فيتحدّ مضمونها مع رواية زرارة، فتكون الرواية ناظرة إلى صورة فقر الولي و الطفل، و أمّا إذا كان الطفل متمكّنا فالرواية ساكتة عنه، فيكون المرجع هو إطلاق إسحاق بن عمّار.

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ مقتضى إطلاق إسحاق بن عمّار كونه على الولي مطلقا، و أمّا الأخيرتان فموردهما، فقر العائلة فيتعيّن على الولي، أن يذبح عن الطفل و يصوم عن نفسه، إذا تمكّن من ثمن الهدي الواحد، و إلّا فيصوم مطلقا؛ و أمّا صورة تمكّن الطفل، فخارج عن مدلول الروايتين، فيرجع عندئذ إلى إطلاق رواية إسحاق بن عمّار.

2. كفّارة الصيد على الوليّ اختلفت كلماتهم في كفّارة الصيد إذا صاد الصبي محرما إلى أقوال:

1. ذهب العلّامة إلى أنّه يجب في مال الصبي. قال: فإن فعل الصبي شيئا من المحظورات فان وجب به الفداء على البالغ في حالتي عمده و خطئه كالصيد، وجب عليه الجزاء، لأنّ عمد الصبي كخطأ

البالغ.

و يجب في مال الصبي، لأنّه مال وجب بجنايته، فوجب أن يجب في ماله، كما لو استهلك مال غيره، و هو أحد وجهي الشافعية. «1»

يلاحظ عليه بوجود الفرق بين الجناية و الكفّارات، فإنّ الجناية سبب للضمان و هو حكم وضعي يتعلّق بذمة الجاني من دون فرق بين البالغ و الصبي، و هذا بخلاف الكفّارات فانّه حكم تكليفي و إيجاب لأداء شي ء من ماله،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 68

.......... و المفروض انّه غير مكلّف، فكيف يجب عليه الأداء؟

2. تتعلّق الكفّارة بوليّه. حكاه الشيخ في «المبسوط» قولا و قال: قيل الصيد يتعلّق به الجزاء على كلّ حال. «1»

و نقله العلّامة في «التذكرة» عن الشافعي مستدلا بأنّ الوليّ هو الذي ألزمه الحجّ بإذنه، فكان ذلك من جهته و منسوبا إليه. «2»

و هذا هو الحقّ للنصّ، أعني صحيحة زرارة: و فيها «و إن قتل صيدا فعلى أبيه».

3. كفّارة ما يختلف حكم عمده و سهوه و قد تضاربت الأقوال في هذه الصورة لفقدان النصّ.

1. فقال الشيخ: الظاهر انّه تتعلّق به الكفّارة على وليّه. «3» و وصفه في «التذكرة» بأنّه أصحّ القولين و قال: و به قال مالك، لأنّه الذي أوقعه و غرّر بماله. «4»

و لأنّ الولي يجب عليه منع الصبي عن هذه المحظورات، و لو كان عمده خطأ لما كان وجب عليه المنع. «5»

2. انّه على الصبي، لأنّ الوجوب بسبب ما ارتكبه. «6»

3. لا تتعلّق به الكفّارة و احتمله الشيخ أيضا و وصفه بالقوة و قال: و إن قلنا: لا يتعلّق به شي ء لما روي عنهم عليهم السّلام: أنّ عمد الصبي و خطائه سواء، و الخطاء

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 69

.......... في هذه الأشياء لا يتعلّق به كفّارة

من البالغين، كان قويا. «1»

و نقله العلّامة عن الشيخ في «التذكرة» و استجوده في «المدارك» و قال: لو ثبت اتحاد عمد الصبي و خطائه على وجه العموم، لكنّه غير واضح، لأنّ ذلك إنّما ثبت في الديات خاصة.

و قال الشهيد في «الدروس»: و أمّا اللازمة عمدا و سهوا كالصيد فبناها الشيخ على أنّ عمده في الجناية على الأولى خطأ. «2»

و لا يخفى ضعف كلّ ما استدلّ به على الأقوال الثلاثة و لا يصحّ الإفتاء بها، خصوصا، ما استدلّ به على الأخير لما أشار إليه صاحب المدارك في كلامه من اختصاصه بالديات و إلّا فيلزم أن لا يكون تكلّم الصبي في الصلاة و لا أكله في الصوم عمدا مبطلا، لأنّ عمده و خطأه واحد و لا مناص من اختصاص القاعدة بباب الديات. و يدلّ على ذلك أمران:

الأوّل: تذييلها في بعضها بقوله: «تحمله العاقلة». و ذلك انّ هنا روايتين:

1. ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «عمد الصبي و خطاه واحد». «3»

2. ما رواه إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه أنّ عليا كان يقول: «عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة». 4 فانّ ذيل الحديث يكشف عن اختصاصه بالديات.

الثاني: انّ ظاهر الحديثين انّ عمد الصبي إنّما يحسب خطأ، فيما لو كان للفعل في الحالتين حكمان مختلفان، كما في القتل مثلا فالعمد، محكوم بالقصاص قال سبحانه: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 70

.......... كانَ مَنْصُوراً «1» و في آية أخرى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها. «2»

لكن الخطأ منه محكوم بالدية، قال سبحانه: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً

فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ «3»، ففي هذا المورد يحسب عمد الصبي خطأ فيحكم بالدية و تحمله العاقلة.

و أمّا إذا كان العمد محكوما بحكم دون أن يكون الخطأ محكوما بحكم أصلا كما في المقام، فان التطيب و الاستظلال محكومان بالكفّارة في حالة العمد، دون أن يكونا محكومين بحكم آخر في حالة الخطأ، ففي مثله ليس للخطأ حكم حتّى يقال انّ عمد الصبي يلحق بخطائه.

و مع ذلك فالوجه الأخير هو المتعيّن لوجهين:

1. حديث رفع القلم عن الصبي، فإنّ قلم التكليف مرفوع عنه، و لازم ذلك عدم وجوب الكفّارة لا عليه و لا على وليّه، لأنّ الكفّارة لأجل مخالفة التكليف و المفروض عدمه و وجوبها في الصيد على الولي خرج بالدليل، و ذلك لأنّ أمر الصيد عظيم، قال سبحانه: وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ. «4»

2. انصراف الأدلّة عن الصبي، لا لأجل انّ الكفّارة في الحقيقة تأديب و عقوبة، و الصبي لا عقوبة على مخالفته حتّى يقال بأنّ قسما منها ليس كذلك كما في التستر أو التظلل الاضطراريين، بل لأنّ الخطاب متوجّه في الأحكام الشرعية و العقلية إلى العقلاء البالغين و لا يخرج عن هذه الضابطة إلّا بدليل. «5»

[المسألة 7: حج الصبي لا يجزي عن حجة الإسلام

المسألة 7: قد عرفت أنّه لو حجّ الصبيّ عشر مرّات، لم يجزه عن حجّة الإسلام، بل يجب عليه بعد البلوغ و الاستطاعة، لكن استثنى المشهور من ذلك، ما لو بلغ و أدرك المشعر، فانّه حينئذ يجزي عن حجّة الإسلام، بل ادّعى بعضهم الإجماع عليه و كذا إذا حجّ المجنون ندبا ثمّ كمل قبل المشعر. (1)*

(1)* ما ذكره قدّس سرّه و نسبه إلى

المشهور، نسبه الشيخ الطوسي في «الخلاف» إلى إجماع الفرقة كعادته في أكثر المسائل حيث يدّعي الإجماع لأجل وجود الدليل في المسألة، و على كلّ تقدير فقد مرّت المسألة بمراحل ثلاث:

الأولى: مرحلة الجزم و إجزاؤه قطعا عن حجّة الإسلام بدرك المشعر الاختياري فضلا عن درك الموقفين، و هذا ظاهر من الشيخ في «الخلاف» و «المبسوط»، و ابن حمزة في «الوسيلة»، و العلّامة في «التذكرة» و نسبه في «الحدائق» إلى أكثر الأصحاب. «1»

قال الشيخ في «الخلاف»: و إن كملا (الصبي و العبد) قبل الوقوف، تعيّن إحرام كلّ واحد منهما بالفرض، و أجزأه عن حجّة الإسلام، و به قال الشافعي. «2»

و قال في «المبسوط»: فإن بلغ الصبي أو أعتق العبد، أو رجع إليه العقل قبل أن يفوته المشعر الحرام فوقف بها أتى بباقي المناسك، فإنّه يجزيه عن حجّة الإسلام. «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 72

.......... و قال ابن حمزة: فإن بلغ قبل الوقوف بالموقفين، أو بأحدهما أجزأ عن حجّة الإسلام. «1»

و قال العلّامة: و إن بلغ الصبي أو أعتق العبد قبل الوقوف بالمشعر، فوقف به أو بعرفة معتقا و فعل باقي الأركان، أجزأ عن حجّة الإسلام، و كذا لو بلغ أو أعتق و هو واقف عند علمائنا أجمع. و به قال ابن عباس، و هو مذهب الشافعي و أحمد و إسحاق. «2»

الثانية: مرحلة التردد، و أوّل من أظهر التردد هو المحقّق في «الشرائع»، ثمّ العلّامة في «التحرير» و «المنتهى».

قال المحقّق: و لو دخل الصبي المميز و المجنون في الحجّ ندبا ثمّ كمل كلّ واحد منهما في المشعر أجزأ عن حجّة الإسلام على تردد. «3»

و قال في «التحرير»: و إن أدرك أحد الموقفين بالغا، ففي الإجزاء نظر، و

الوجه الإجزاء. «4»

و قال في «المنتهى»: و لو أدرك أحد الموقفين بالغا ففي الإجزاء تردد، و لو قيل به كان وجها. «5»

الثالثة: مرحلة الإنكار، و هو الظاهر من الفيض في المفاتيح و البحراني في «الحدائق الناضرة».

قال الفيض: و ألحق به المجنون و المميز إذا أدركاه مع العقل و البلوغ و هو قياس مع الفارق. «6»

و قال البحراني: فإنّي لم أقف على دليل في المسألة إلّا ما يدّعى من الإجماع،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 73

و استدلّوا على ذلك بوجوه:

أحدها: النصوص الواردة في العبد على ما سيأتي بدعوى عدم خصوصيّة للعبد في ذلك، بل المناط الشروع حال عدم الوجوب، لعدم الكمال ثمّ حصوله قبل المشعر، و فيه إنّه قياس، مع أنّ لازمه الالتزام به فيمن حجّ متسكّعا، ثمّ حصل له الاستطاعة قبل المشعر و لا يقولون به.

الثاني: ما ورد من الأخبار من أنّ من لم يحرم من مكّة أحرم من حيث أمكنه، فإنّه يستفاد منها أنّ الوقت صالح لإنشاء الإحرام، فيلزم أن يكون صالحا للانقلاب أو القلب بالأولى و فيه ما لا يخفى.

الثالث: الأخبار الدالّة على أنّ من أدرك المشعر فقد أدرك الحجّ، و فيه أنّ موردها من لم يحرم فلا يشمل من أحرم سابقا لغير حجّة الإسلام، فالقول بالإجزاء مشكل، و الأحوط الإعادة بعد ذلك إن كان مستطيعا، بل لا يخلو عن قوّة. (1)

و عليه اعتمد شيخنا الشهيد الثاني في «المسالك». و فيه انّه قد طعن في مسالكه في هذا الإجماع في غير موضع، فالظاهر هو عدم الإجزاء. «1»

هذه هي المراحل الثلاث التي مرّت المسألة عليها و استقوى الإجزاء صاحب الجواهر «2»، و سيّدنا الأستاذ في تحريره. و العمدة دراسة أدلّة القول بالإجزاء، و قد

استدلّ عليه بوجوه ثلاثة:

(1)*. ما دلّ على أنّ العبد لو أعتق قبل إدراك المشعر- أو فيه- يجزي.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 74

.......... قال في «التذكرة»: و ما رواه معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

مملوك أعتق يوم عرفة، قال: «إذا أدرك الموقفين فقد أدرك الحجّ». هذا و قد عقد في الوسائل بابا تحت عنوان «المملوك إذا حجّ فأدرك أحد الموقفين معتقا، أجزأه عن حجّة الإسلام». «1»

وجه الاستدلال: هو التمسّك بكلية الكبرى و انّ المورد غير مخصص.

يلاحظ عليه: أنّ الكبرى، هو «إذا أدرك العبد أحد الموقفين فقد أجزأ، لا كلّ من أدرك الموقفين، فإسراء الحكم من العبد إلى الصبي قياس لا نقول به، بل قياس مع الفارق كما صرّح به في المدارك. «2» لأنّ العبد أتى بالعمرة بالغا فالمقتضي كان موجودا و المانع غير مفقود، فورد النص بأنّه إذا أزيل المانع قبل الموقفين صحّ، و أين هو في من حجّ فاقدا للمقتضي، مع أنّ لازمه الالتزام به فيمن حجّ متسكّعا، ثمّ حصل له الاستطاعة قبل المشعر مع أنّهم لم يلتزموا به.

2. ما استدلّ به في «المنتهى» بأنّه زمان يصحّ إنشاء الحجّ فيه فكان مجزيا، بأن يجدّد فيه نية الوجوب.»

و هو إشارة إلى ما ورد من أنّ من لم يحرم- للحجّ- من مكة، أحرم من حيث أمكنه، فيستفاد منه انّ الوقت صالح لإنشاء الإحرام، فيلزم أن يكون صالحا للانقلاب أو القلب، بطريق أولى.

و ما ورد في هذا الباب، بين ما يرجع إلى من نسي إحرام العمرة و من نسي إحرام الحجّ. و على كلّ تقدير، فتدلّ الروايات على صلاحية الزمان لإنشاء الإحرام للعمرة أو الحجّ، فليكن صالحا للقلب و الانقلاب.

يلاحظ عليه: بأنّ أقصى

ما تدلّ عليه النصوص أنّ الزمان صالح للبالغ،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 75

.......... لإنشاء الإحرام لمن ينوي حجّة الإسلام من أوّل الأمر، و أمّا كونه صالحا لقلب إحرام من لم ينو حجّة الإسلام إليها فلا تدلّ عليه.

3. الأخبار الدالّة على أنّ من أدرك المشعر فقد أدرك الحجّ. روى عبد اللّه بن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أدرك المشعر فقد أدرك الحجّ». «1»

و أورد على الاستدلال في المتن بأنّ موردها: «من لم يحرم» فلا يشمل من أحرم سابقا بغير حجة الإسلام.

يلاحظ عليه: بأنّ موردها من أحرم للحج؛ ففي رواية محمد بن فضيل، قال:

سألت أبا الحسن عن الحدّ الذي إذا أدركه الرجل أدرك الحجّ؟ فقال: «إذا أتى جمعا و الناس في المشعر قبل طلوع الشمس فقد أدرك الحجّ و لا عمرة له، و إن لم يأت جمعا حتّى تطلع الشمس فهي عمرة مفردة و لا حجّ له». «2» فإنّ من يأت مع الناس إلى المشعر، يأت محرما، لا غير محرم، و مثله سائر الروايات، و لعلّ المصنّف لم يمعن النظر فيها و حملها على من لم يحرم.

و مع ذلك فلا يصلح للاستدلال، لأنّ موردها من أحرم بالغا، للحج، و لم يدرك عرفة، و أدرك المزدلفة فعندئذ فقد أدرك الحجّ، و أين هو ممّن أحرم غير بالغ و أدرك المشعر بالغا؟

و الحاصل: انّ إلغاء الخصوصية في موارد الأقسام الثلاثة أمر مشكل و إن كان مورثا للظن بوحدة الحكم.

فإن قلت: إنّ عمومات التشريع الأوّلية تقتضي الصحّة، و ليس ما يستوجب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 76

.......... الخروج عنها إلّا ما تقدّم من النصوص الدالّة على اعتبار البلوغ في مشروعية حجّة الإسلام، لكنّها مختصة بصورة

ما إذا وقع تمام الحجّ قبل البلوغ، و لا تشمل صورة ما إذا بلغ في الأثناء، فتبقى الصورة المذكورة داخلة في الإطلاق المقتضي للصحّة. «1»

قلت: إنّ إطلاق رواية إسحاق بن عمّار يشمل صورة البلوغ في أثناء الحجّ قال: سألت أبا الحسن عن ابن عشر سنين يحجّ؟ قال: «عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، و كذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت»، فإنّ احتمال بلوغ ابن عشر سنين في أثناء الحجّ و إن كان بعيدا، لكن احتمال طمث الجارية في الأثناء ليس ببعيد، إذ ربما يتقدم الطمث، على العشر سنين.

و ربما يستدلّ للمشهور بأنّ طبيعة الحجّ، طبيعة واحدة مشتركة بين الصبي و البالغ، و إنّما الاختلاف في الحكم بمعنى انّه مستحبّ لطائفة، و واجب على طائفة أخرى كالبالغين، نظير المقام فانّه إذا بلغ أثناء الصلاة أو بعدها في أثناء الوقت لا يجب عليه إعادة الصلاة، لأنّه طبيعة واحدة، نعم ورد النصّ على أنّ حجّ الصبي إذا وقع بتمامه حال الصغر لا يجزي، و بهذا المقدار تخرج عن مقتضى القاعدة.

و أورد عليه المحقّق الخوئي بأنّ وحدة الصورة لا تكشف عن وحدة الحقيقة، فانّ صلاة النافلة كالفريضة، و صلاة الظهر كصلاة العصر، و لكنّها حقائق مختلفة، فالروايات الواردة في عدم إجزاء حجّ العبد، و كذا حجّ المتسكّع، يكشف عن اختلاف الحقيقة و انّ حجّة الإسلام لها عنوان خاصّ تختلف حقيقته الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 77

و على القول بالإجزاء يجري فيه الفروع الآتية في مسألة العبد، من أنّه هل يجب تجديد النيّة لحجّة الإسلام أو لا؟ و انّه هل يشترط في الإجزاء استطاعته بعد البلوغ من البلد أو من الميقات أو لا؟ و انّه هل يجري في حجّ التمتّع

مع كون العمرة بتمامها قبل البلوغ أو لا؟ إلى غير ذلك. (1)*

عن حجّ الصبي و إن كان مشابها مع حجّه. «1»

و يمكن أن يقال بوجود الفرق بين المثال و الممثل، فانّ اختلاف النافلة و الفريضة و ما عطف عليها أي هو في العناوين التي يجب قصدها عند الإتيان بها، فلو قصد النافلة فلا يجزي عن الفريضة لانتفاء العنوان، بخلاف الحجّ فانّه في عامة المراحل عمل واحد نفلا كان أو فرضا، و لا يجب قصدهما حتّى لا يجزي أحدهما عن الآخر، نعم ورد النصّ، انّ من حجّ متسكعا ثمّ استطاع، أو حجّ العبد ثمّ أعتق و صار مستطيعا، يجب عليه الحجّ مرّة أخرى.

و على كلّ تقدير فالإجزاء أقرب، و إن كان الجزم به مشكل فالأحوط الإعادة.

(1) ثمّ إنّ هنا فروعا تتفرع على القول بالإجزاء و هي:

1. وجوب تجديد النية للإحرام بحجّة الإسلام و للوجوب كذلك في الوقوف، لأنّه لا عمل إلّا بالنيّة. اللّهم إلّا أن يقال بكفاية نية ما في الذمة و إن غفل عن الخصوصية، و لعلّه الأقوى لخلوّ نصوص العبد من تجديد النية.

2. عدم اعتبار الاستطاعة بعد البلوغ من البلد أو الميقات، بل يكفي الاستطاعة في المكان الذي بلغ فيه لإتيان ما بقي من الأعمال، و يؤيده إطلاق

[المسألة 8: إذا مشى الصبيّ إلى الحجّ فبلغ قبل أن يحرم من الميقات و كان مستطيعا]

المسألة 8: إذا مشى الصبيّ إلى الحجّ فبلغ قبل أن يحرم من الميقات و كان مستطيعا لا إشكال في أنّ حجّه حجّة الإسلام. (1)*

المستطيع، نعم لو وجب له الرجوع إلى الميقات و كان الوقت وسيعا تعيّن اعتبار الاستطاعة من الميقات.

3. هل يجزي من حجّ التمتع مع كون العمرة بتمامها وقعت قبل البلوغ أو لا؟ إذ القدر المتيقّن ممّا استدلّ به من إجزاء إدراك المشعر، هو الحجّ

الافرادي الذي تتأخر عمرته عن حجّه، لا التمتع. (1)* لا فرق بين أن يكون مستطيعا، أو صار مستطيعا في ذلك الوقت فتحصيصه بسبق الاستطاعة كما هو ظاهر كلام المصنف لا وجه له، و يكفي في الاستطاعة، كونه مستطيعا في الموضع الذي بلغ فيه، لا في بلده، و قطع الطريق، لغاية الوصول إلى الميقات، و المفروض انّه وصل إليه أو إلى مكان قريب منه، و سيوافيك انّه يكفي في الحجّ النيابي استئجار النائب من الميقات لا من بلد المنوب عنه.

و اعلم أنّ حجّ الصبيّ على صور:

1. إذا حجّ و هو غير بالغ.

2. إذا حجّ، و قد بلغ قبل الوقوفين.

3. إذا بلغ قبل الإحرام.

و هذه الأقسام الثلاثة قد تعرض لها المصنّف في أوّل الفصل و في المسألة السابعة و المسألة الثامنة. بقي هنا فرع لم يتعرض له و هو: لو بلغ الصبي بعد الإحرام و قبل الشروع في الأعمال، و هذا نظير استطاعة البالغ بعد الإحرام، فهنا وجوه:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 79

.......... 1. يتمّ الحجّ ندبا.

2. ينقلب إلى حجّة الإسلام.

3. يستأنف الإحرام و يحرم ثانيا من الميقات.

و الأوّل هو الأقرب، لأنّه عمل انعقد صحيحا، فلا يحكم عليه بالبطلان أو الإبطال إلّا بدليل- مضافا- إلى أنّ المحرم لا يحرم ثانيا.

استدلّ للقول الثاني بأنّه إذا صحّ القول بالانقلاب فيما إذا أدرك الموقفين بالغا، يصحّ في المقام بطريق أولى.

استدلّ للقول الثالث بأنّ الإحرام الأوّل ينكشف فساده بالبلوغ المتأخّر و الاستطاعة الطارئة، و لذا لو علم حال الإحرام بأنّه يبلغ بعد يومين مثلا، أو يستطيع بعدهما، ليس له أن يحرم و هو صبي، فلابدّ من إعادة الإحرام و يرجع إلى الميقات و يحرم إحرام حجّة الإسلام، و الحاصل انّ

البلوغ أو الاستطاعة يكشف عن بطلان ما أتى به من الإحرام أو العمرة، فيشمله عمومات وجوب الحجّ من الآية و الرواية. «1»

يلاحظ عليه: بأنّ الموضوع لبطلان الإحرام الندبي، هو كونه بالغا أو مستطيعا، حال الإحرام، لا كونه بالغا أو مستطيعا بعد الإحرام، و على هذا فالشرط غير موجود، و وجوده في علم اللّه ليس موضوعا للحكم حتّى يصبح مانعا عن صحّة الإحرام.

و هكذا الحكم بعلمه بالبلوغ و الاستطاعة بعد يومين، فانّه بإحرامه هذا يوجد مانعا عن فعلية الحكم، كما إذا آجر نفسه و هو فقير و استطاع قبل الإحرام فضلا عن كونه بعده، فالأمر بالوفاء بالعقود، يمنع عن فعلية الحكم، فإنّ من

[المسألة 9: إذا حجّ باعتقاد أنّه غير بالغ ندبا فبان بعد الحجّ انّه كان بالغا]

المسألة 9: إذا حجّ باعتقاد أنّه غير بالغ ندبا فبان بعد الحجّ انّه كان بالغا، فهل يجزي عن حجّة الإسلام أو لا؟ وجهان، أوجههما الأوّل، و كذا إذا حجّ الرجل- باعتقاد عدم الاستطاعة- بنية الندب ثمّ ظهر كونه مستطيعا حين الحجّ. (1)*

شرائط فعلية الحكم فراغ ذمة المكلّف عن تكليف يجب الوفاء به.

و لو تنزلنا فإلحاق صورة الجهل بالبلوغ و الاستطاعة بصورة العلم بهما بعد يومين قياس مع الفارق.

(1)* في المسألة فرعان:

1. إذا حجّ باعتقاد أنّه غير بالغ فبان بعد الحجّ أنّه كان بالغا.

2. إذا حجّ باعتقاد أنّه غير مستطيع ثمّ بان كونه مستطيعا.

و قد تعرض للفرع الثاني في المسألة السادسة و العشرين و فصّل فيها بين كون قصد الندب من باب التقييد، أو من باب الخطأ في التطبيق، فحكم بالإجزاء في الثاني دون الأوّل و قال: «إذا اعتقد أنّه غير مستطيع فحجّ ندبا، فإن قصد امتثال الأمر المتعلّق به فعلا، و تخيّل انّه الأمر الندبي، أجزأ عن حجّة الإسلام، لأنّه حينئذ من باب

الاشتباه في التطبيق، و إن قصد الأمر الندبي على وجه التقييد لم يجز عنها و إن كان حجّه صحيحا.

و على كلّ تقدير فهل هو صحيح مطلقا، لأنّ ظاهر حال المسلم انّه يقصد في كلّ الأحوال، ما هو وظيفته شرعا لكنّه يتخيل انّ الوظيفة، هو الحجّ المندوب، و لو كان واقفا على بلوغه لما عدل عن الفرض؟ أو ليس بصحيح، لأنّه نوى الأمر الندبي و لم ينو الأمر الوجوبي، فلا يتحقّق امتثال الأمر الوجوبي بقصد امتثال أمر غيره فلا موجب للسقوط.

[الشرط الثاني الحرية]

[الشرط الثالث: الاستطاعة]

اشارة

الشرط الثالث: الاستطاعة من حيث المال، و صحّة البدن، و قوته، و تخلية السرب، و سلامته، وسعة الوقت و كفايتة بالإجماع و الكتاب و السنّة. (2)*

أو يفصّل بما ذكره في المسألة السادسة و العشرين من التفريق بين التقييد و التطبيق في الخطأ.

نظير ما ذكروه في باب الائتمام بزيد فبان انّه عمرو، فلو كان الاقتداء بزيد من باب الداعي، يصحّ الاقتداء، لأنّ تخلّفه لا يضر، بخلاف ما إذا كان من باب التقييد فانّ انتفاء القيد، يكشف عن عدم قصده الاقتداء.

أقول: إنّ تصوير التقييد و عدمه في العمل الخارجي لا يخلو من إشكال، فانّه على كلّ تقدير اقتدى بالإمام و صلّى معه، سواء كونه من باب الخطأ في التطبيق أو من باب التقييد، نظير ذلك فيما إذا اشترى فرسا عربيا فبان عجميا، فقد فصّلوا فيه بين كون العربية قيدا أو داعيا، مع أنّه اشترى الفرس المعيّن.

و إنّما يتصوّر في المبيع الكليّ، فتارة يكون القيد المأخوذ، قيدا، جزءا للمبيع فيكون الفاقد مبائنا للمعقود عليه، و أخرى داعيا، فيعدّ الفاقد، مصداقا للمعقود عليه.

(1) و قد تركنا البحث في الشرط الثاني: الحرية، لعدم الابتلاء به في الوقت الحاضر، و لذلك

حذفناه متنا أيضا و انتقلنا إلى الشرط الثالث و هو الاستطاعة.

(2)* أقول: و الجميع من شؤون الاستطاعة و يمكن تقسيمها إلى الأقسام التالية:

1. الاستطاعة المالية.

[المسألة 1: لا خلاف و لا إشكال في عدم كفاية القدرة العقليّة في وجوب الحجّ

المسألة 1: لا خلاف و لا إشكال في عدم كفاية القدرة العقليّة في وجوب الحجّ، بل يشترط فيه الاستطاعة الشرعيّة، و هي كما في جملة من الأخبار الزاد و الراحلة، فمع عدمهما لا يجب و إن كان قادرا عليه عقلا بالاكتساب و نحوه، و هل يكون اشتراط وجود الراحلة مختصّا بصورة الحاجة إليها لعدم قدرته على المشي، أو كونه مشقّة عليه أو منافيا لشرفه، أو يشترط مطلقا و لو مع عدم الحاجة إليه، مقتضى إطلاق الأخبار و الإجماعات المنقولة الثاني، و ذهب جماعة من المتأخّرين إلى الأوّل. (1)*

2. الاستطاعة البدنية.

3. الاستطاعة المكانية، بأن يكون الطريق آمنا.

4. الاستطاعة الزمانية، بأن يكون الوقت وسيعا لتحصيل المقدّمات.

و لو فقد واحد منها، لاختلّت الاستطاعة بضرورة الفقه.

قال في «الجواهر» عند شرح قول المحقّق: الثالث الزاد و الراحلة: لأنّهما من المراد بالاستطاعة التي هي شرط في الوجوب بإجماع المسلمين، و النصّ في الكتاب المبين، و المتواتر من سنّة سيّد المرسلين، بل لعلّ ذلك من ضروريات الدين كأصل وجوب الحجّ، و حينئذ فلو حجّ بلا استطاعة لم يجزه عن حجّة الإسلام لو استطاع بعد ذلك ... «1»

الاستطاعة المالية* لا إشكال في عدم وجوب الحجّ مع القدرة العقلية التي تجتمع مع حجّ الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 83

.......... المتسكّع و المستجدي، و غيرهما ممن يتمكن من الحجّ مع المشقة و الحرج؛ و لو أريد من الاستطاعة الواردة في الآية، القسم العقلي منها، لما احتاج إلى ذكرها في الآية، لأنّ التكاليف عامة مشروطة بالقدرة، كما هو واضح فلابدّ

أن يراد منها، الفرد الآخر الذي ربما يعبّر عنه بالاستطاعة الشرعية.

ثمّ إنّه وقع الكلام في تفسيرها، فالمشهور لدى الفريقين، هو الزاد و الراحلة، فلا يجب على من لا يملك الراحلة و إن تمكن من المشي و لا بأس بنقل كلمات الفقهاء ثمّ سرد الروايات.

1. قال ابن رشد: و لا خلاف عندهم أنّ من شرطها الاستطاعة بالبدن و المال، فقال الشافعي و أبو حنيفة و أحمد، و هو قول ابن عباس و عمر بن الخطاب:

انّ من شرط ذلك الزاد و الراحلة. و قال مالك: من استطاع المشي فليس وجود الراحلة من شرط الوجوب في جهة، بل يجب عليه الحج. «1»

2. قال ابن قدامة: و تشترط لها الاستطاعة بالزاد و الراحلة ثمّ إنّه قسم الشروط على أقسام ثلاثة:

1. شرط للوجوب و الصحة و هو الإسلام و العقل.

2. شرط للوجوب و الإجزاء و هو البلوغ و الحرية.

3. شرط للوجوب فقط و هو الاستطاعة، فلو تجشم غير المستطيع المشقة و سار بغير زاد و راحلة فحجّ كان حجه صحيحا مجزئا، كما لو تكلّف القيام في الصلاة و الصيام من يسقط عنه أجزأ. «2»

و في الشرح الكبير ذيل المغني: و يشترط لها الاستطاعة بالزاد و الراحلة.

و قد بنوا فتاواهم على ما رواه الترمذي في سننه عن ابن عمر قال: جاء رجل الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 84

.......... إلى النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فقال: يا رسول اللّه؟ ما يوجب الحج؟ قال: الزاد و الراحلة.

قال الترمذي: هذا حديث صحيح، و العمل عليه عند أهل العلم: انّ الرجل إذا ملك زادا و راحلة وجب عليه الحجّ. «1»

روى الدارقطني و صحّحه الحاكم عن أنس- رضي اللّه عنه- قال: قيل

يا رسول اللّه: ما السبيل؟ قال: «الزاد و الراحلة». «2»

هذه كلمات فقهاء السنّة، و إليك بعض الكلمات من فقهائنا:

1. قال المفيد: و الاستطاعة عند آل محمد عليه السّلام للحج بعد كمال العقل و سلامة الجسم ممّا يمنعه من الحركة التي يبلغ بها المكان- إلى أن قال:- ثمّ وجود الراحلة بعد ذلك و الزاد. «3»

2. قال الشيخ في «الخلاف»: من لم يجد الزاد و الراحلة، لا يجب عليه الحجّ، فإن حجّ لم يجزه و عليه الإعادة إذا وجدهما. و قال باقي الفقهاء: أجزأه.

و قال في مسألة تالية: المستطيع ببدنه، الذي يلزمه فعل الحجّ بنفسه، ... فلا يجب عليه فرض الحجّ إلّا بوجود الزاد و الراحلة، فإن وجد أحدهما، لا يجب عليه فرض الحجّ و إن كان مطيقا للمشي قادرا عليه، و به قال في الصحابة: ابن عباس، و ابن عمر؛ و في التابعين: الحسن البصري، و سعيد بن جبير؛ و في الفقهاء: الثوري، و أبو حنيفة و أصحابه، و الشافعي، و أحمد، و إسحاق. و قال مالك: إذا كان قادرا على المشي لم تكن الراحلة شرطا في حقّه، بل من شرطه أن يكون قادرا على الزاد. «4»

3. و قال في «النهاية»: و الاستطاعة هي الزاد و الراحلة و الرجوع إلى كفاية

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 85

.......... و تخلية السرب من جميع الموانع، فإن ملك الزاد و الراحلة و لم يكن معه غيره لم يجب عليه الحجّ، اللّهمّ إلّا أن يكون صاحب حرفة و صناعة يرجع إليها و يمكنه أن يتعيش بها. «1»

4. و قال في «المبسوط»: الزاد و الراحلة شرط الوجوب، و المراعى في ذلك نفقته ذاهبا و جائيا و ما يخلفه لكلّ من يجب

عليه نفقته قدر كفايتهم. «2»

5. و قال ابن زهرة: و الاستطاعة تكون بالصحّة، و التخلية، و أمن الطريق، و وجود الزاد و الراحلة، و الكفاية له و لمن يعول، و العود إلى كفاية من صناعة أو غيرها. «3»

6. و قال ابن إدريس: و شرائط وجوبهما ثمانية: البلوغ، و كمال العقل- إلى أن قال:- و وجود الزاد و الراحلة. «4»

7. و قال المحقّق: الثالث: الزاد و الراحلة و هما يعتبران فيمن يفتقر إلى قطع المسافة. «5»

8. قال العلّامة في «التذكرة»: الاستطاعة المشترطة في الآية هي الزاد و الراحلة بإجماع علمائنا، و به قال الحسن البصري و مجاهد و سعيد بن جبير و الشافعي و أحمد و إسحاق. «6»

9. و قال العلامة في «المنتهى»: و الاستطاعة شرط في وجوب حجّة الإسلام بالنص و الإجماع، قال اللّه تعالى: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «7» قال: لا يُكَلِّفُ الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 86

.......... اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «1» و الأخبار متواترة على اشتراط الاستطاعة، و قد أجمع فقهاء الإسلام عليه أيضا، و لأنّ تكليف غير المستطيع قبيح جدا. فإذا عرفت هذا فنقول:

شرط الاستطاعة يشتمل على اشتراط الزاد و الراحلة إجماعا، إلّا من هنالك على ما يأتي. «2»

10. و قال الشهيد: ملك الزاد و الراحلة في المفتقر إلى قطع المسافة، فلا يجب على فاقدهما و لو سهل عليه المشي و كان معتادا للسؤال. «3»

إلى غير ذلك من الكلمات. إذا عرفت ذلك فنقول:

لا شكّ في أنّه لا يشترط وجود الزاد و الراحلة عنده عينا، بل يكفي وجود ما يمكن صرفه في تحصيلها من المال نقدا كان أو غيره من العروض، كما سيوافيك بيانه في المسألة الثالثة.

كما أنّه لا شكّ في

عدم وجوبه على من لا يتمكّن من الراحلة، و لا يتمكّن من المشي، أو يتمكّن من المشي و لكنّه يخالف زيّه و شرفه، إنّما الكلام فيمن لا يتمكن من الراحلة عينا أو إجارة، و لكنّه يتمكّن من المشي دون حرج تمام الطريق، أو بعضه بالراحلة و البعض الآخر بالمشي على الأقدام، فهل يجب عليه أو لا؟

ظاهر كلام الأصحاب عدم الوجوب مطلقا حتّى على المتمكّن من الجميع أو البعض بلا حرج و خروج عن الزيّ إذا لم يكن متمكّنا من الراحلة عينا أو إجارة. و لذلك يقول المصنّف: و هل يكون اشتراط الراحلة مختصا بصورة الحاجة إليها، لعدم قدرته على المشي أو كونه مشقة عليه، أو منافيا لشرفه، أو يشترط مطلقا و لو مع عدم الحاجة إليه؟ مقتضى إطلاق الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 87

.......... الأخبار و الإجماعات المنقولة الثاني.

و هو مختار السيد الأستاذ في التحرير يقول: بل يشترط فيه الاستطاعة الشرعية، و هي الزاد و الراحلة و سائر ما يعتبر فيها، و مع فقدها لا يجب و لا يكفي عن حجّة الإسلام، من غير فرق بين القادر عليه بالمشي مع الاكتساب بين الطريق و غيره، كان ذلك مخالفا لزيّه و شرفه أم لا، من غير فرق بين القريب و البعيد. «1»

و يدلّ على مختار المشهور الروايات التالية:

1. صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي قال: سأل حفص الكناسي أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن قول اللّه عزّ و جل: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ما يعني بذلك؟ قال: «من كان صحيحا في بدنه، مخلىّ سربه، له زاد و راحلة، فهو ممّن يستطيع الحجّ، أو قال: فمن كان له

مال، فقال له حفص الكناسي: «فإذا كان صحيحا في بدنه، مخلّى في سربه، له زاد و راحلة، فلم يحجّ فهو ممّن يستطيع الحجّ؟ قال: «نعم». «2»

2. معتبرة محمد بن أبي عبد اللّه بسند ينتهي إلى السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأل رجل من أهل القدر فقال: يا بن رسول اللّه أخبرني عن قول اللّه عزّ و جل: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أليس قد جعل اللّه لهم الاستطاعة؟ فقال: «ويحك إنّما يعني بالاستطاعة الزاد و الراحلة ليس استطاعة البدن». «3»

أقول: يطلق «القدري» و يراد به نافي القدر، و القدرية هم نفاته قائلين بأنّ القول بالقضاء و القدر، ينافي الاستطاعة و الاختيار، و الراوي لما كان قدريّا حاول أن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 88

.......... يحتجّ على الإمام بأنّه سبحانه أثبت الاستطاعة لزائري بيته استطاعة بدنيّة، فتدلّ بالملازمة على أنّه لا قضاء و لا قدر.

فردّ الإمام استدلاله، بأنّ المراد بها هو الاستطاعة المالية لا البدنيّة، فهدم أساس دليله.

و أمّا محمد بن أبي عبد اللّه في صدر السند فقد استظهر المحقّق الخوئي انّ المراد، هو محمد بن جعفر الأسدي الفقيه، و أمّا موسى بن عمران فلم يوثق و له ثلاث روايات في الفقيه و التهذيب.

و ظاهر الرواية عدم كفاية الاستطاعة البدنية و لزوم الزاد و الراحلة، للمتمكن من المشي و غيره.

3. صحيحة هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ما يعني بذلك؟ قال: «من كان صحيحا في بدنه، مخلّى سربه، له زاد و راحلة». «1»

و إطلاق الروايات يعمّ القادر و العاجز،

فلو كان قادرا على المشي و لم تكن له راحلة فلا يجب، و لو حجّ و الحال هذه لم يجزئ.

و المتبادر منها، كونه مالكا بالفعل إمّا عينهما أو ما يتمكّن معه من تحصيلهما، و العجب من صاحب المستند، حيث اكتفى في الزاد بالتمكّن من الاكتساب في الطريق فقال: و لو لم يجد الزاد، و لكن كان كسوبا يتمكّن من الاكتساب في الطريق لكلّ يوم بقدر ما يكفيه، و ظن إمكانه بجريان العادة عليه من غير مشقة، وجب الحجّ، لصدق الاستطاعة. «2»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 89

.......... و لا يخفى ما فيه، فأين المتمكن من الكسب، لمن يملك الزاد و الراحلة بالفعل؟! و لأجله ذهب العلّامة في «التذكرة» إلى عدم الوجوب و قال: لو لم يجد الزاد و وجد الراحلة و كان كسوبا يكتسب ما يكفيه ... فإن كان السفر طويلا، لم يلزمه الحجّ، لما في الجمع بين السفر و الكسب من المشقة العظيمة، و لأنّه قد ينقطع عن الكسب لعارض فيؤدّي إلى هلاك نفسه، و عطف السفر القصير على الطويل من غير فرق بين كون تكسبه في كلّ يوم بقدر كفاية ذلك اليوم، أو أكثر، فلا يجب الحجّ للمشقة و لا غير واجد لشرط الحجّ. «1» هذا و سيأتي الكلام عنه في المسألة الخامسة.

و أمّا الراحلة فظاهر الروايات كما عرفت كونه مالكا لها، أو ما يتمكّن معه من إيجارها، و بالجملة الإمكانية المالية، لقطع الطريق بالوسائل المتداولة.

ما استدلّ به على اختصاص الراحلة بالعاجز و هناك روايات، ربما يستظهر منها انّ الراحلة شرط للعاجز عن المشي، دون القادر عليه كلّ الطريق أو بعضه، و هي بين ما يدلّ على عدم الشرطية عموما و ما يدلّ

عليه خصوصا.

أمّا الأولى فروايتان:

1. صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا قدر الرجل على ما يحجّ به، ثمّ دفع ذلك و ليس له شغل يعذره به، فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام». «2»

2. خبر ذريح المحاربي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من مات و لم يحجّ حجّة الإسلام، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 90

.......... سلطان يمنعه، فليمت يهوديا أو نصرانيّا». «1»

يلاحظ على الاستدلال: أنّ مضمون الرواية الأولى لا يزيد على مضمون الآية، غير أنّ الآية عبّرت بالاستطاعة، و الحديث بالقدرة فلو صحّ الاستدلال، لكان الاستدلال بالآية أولى، و قد عرفت أنّها منصرفة إلى غير القدرة العقلية، و إلّا لما احتاجت إلى الذكر كسائر التكاليف.

و أمّا الثانية فهي ناظرة إلى حرمة التسويف للمستطيع، و أمّا من هو المستطيع فليس بصدد بيانه.

و أمّا الثانية، أي الخاصة فهي لا تتجاوز عن أربع:

1. صحيحة محمد بن مسلم في حديث قال: قلت لأبي جعفر: فإن عرض عليه الحجّ فاستحيا؟، قال: «هو ممن يستطيع الحجّ، و لم يستحيي!! و لو على حمار أجدع أبتر، قال: فإن كان يستطيع أن يمشي بعضا و يركب بعضا فليفعل». «2»

2. صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: قلت له: فإن عرض عليه ما يحجّ به، فاستحيا من ذلك أهو ممّن يستطيع إليه سبيلا؟ قال:

«نعم، ما شأنه، يستحيي!! و لو يحج على حمار أجدع، فإن كان يستطيع أن يمشي بعضا، و يركب بعضا آخر فليحجّ». 3

أقول: الروايتان ظاهرتان أو محمولتان على من استقرّ عليه الحجّ بعرضه عليه، ثمّ أبى استحياء، فعندئذ يجب عليه

القضاء بالقدرة العقلية بالركوب تارة، و المشي أخرى.

3. صحيحة معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل عليه دين أعليه أن يحج؟ قال: «نعم، قال: إنّ حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 91

.......... من المسلمين، لقد كان أكثر من حجّ مع النبي مشاة، و لقد مرّ رسول اللّه بكراع الغميم فشكوا إليه الجهد و العناء، فقال: شدّوا ازركم، و استبطنوا، ففعلوا ذلك فذهب عنهم».»

4. و خبر أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، قال: «يخرج و يمشي إن لم يكن عنده»، قلت: لا يقدر على المشي، قال: «يمشي و يركب» قلت: لا يقدر على ذلك، أعني: المشي؟ قال: «يخدم القوم و يخرج معهم». «2»

و لا يخفى انّ صحيحة معاوية بن عمّار صحيحة السند و واضحة الدلالة، و تأويلها بالقدرة على المشي في داره و بلده، في مقابل المريض و المسجّى الذي لا يقدر على المشي أصلا حتّى في داره و بلده «3»، بعيد جدّا، لظهوره في المشي إلى الحجّ، و لذلك استشهد بأنّ أكثر من حجّ مع النبي كانوا مشاة.

و الذي يمكن أن يقال: انّ إيجاب الحجّ بصورة الإطاقة التي هي بمعنى بذل كلّ ما يملك الإنسان من جهد و قدرة، لم يقل به أحد، و لو كان هذا هو الموضوع لما كان حاجة إلى ذكر قيد الاستطاعة في الآية.

و أمّا خبر أبي بصير فمضافا إلى ضعفه- بعلي بن أبي حمزة البطائني الذي كان قائد أبي بصير- فهو من الروايات الشاذة، لا يسانده روح الإسلام، إذ كيف

يمكن القول بوجوب الحجّ مع التمكّن بخدمة القوم، و ربما يكون فيه تحقير لمنزلة الزائر و مكانته الاجتماعية.

و الحاصل: انّ الروايتين الأوليين محمولتان على من استقر عليه الحجّ.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 92

.......... و الأخيرتان معرض عنهما لم يقل بمضمونهما أحد، و لو افترضنا التكافؤ و التعارض، فالمرجع هو الطائفة الأولى، لشهرة العمل بها أوّلا، و موافقتها للكتاب ثانيا، و مخالفتها للفتوى المروية عن مالك ثالثا.

ثمّ إنّ المحدّث البحراني، و المحقّق النراقي، ممن مالوا إلى اختصاص شرطية الراحلة للعاجز.

فقال البحراني بعد نقل الروايات: و بالجملة فالمسألة غير خالية من شوب الإشكال، فإنّ الخروج عن ما ظاهرهم الإجماع عليه مشكل، و موافقتهم مع ما عرفت أشكل. «1»

و أمّا المحقّق النراقي فقد استظهر من ظاهر بعض الكلمات، اختصاص الشرطية للمحتاج إلى الراحلة فقال: ظاهر المنتهى الأوّل، حيث اشترط الراحلة للمحتاج إليها، و هو ظاهر الذخيرة و المدارك، و صريح المفاتيح و شرحه، و نسبه في الأخير إلى الشهيدين، بل التذكرة، بل يمكن استفادته من كلام جماعة قيّدوها بالاحتياج أو الافتقار. «2»

يلاحظ عليه: أنّ المراد من المحتاج و غيره، هو البعيد و القريب، فالأوّل محتاج إلى الراحلة مطلقا، حتّى مع القدرة على المشي، و القريب كقاطن مكة و من حوله، غير محتاج، و الشاهد عليه كلمات العلماء و نقتصر منها على كلمة العلّامة في «التذكرة» قال: الراحلة إنّما هي شرط في حقّ البعيد عن مكة، و أمّا أهل مكّة فلا تشترط الراحلة فيهم، و كذا من كان بينه و بين مكة مكان قريب لا يحتاج إلى الراحلة، و إنّما تعتبر الراحلة في حقّ من كان على مسافة يحتاج فيها إلى الزاد و الراحلة. «3»

الحج في الشريعة الإسلامية

الغراء، ص: 93

لجملة من الأخبار المصرّحة بالوجوب إن أطاق المشي بعضا أو كلا، بدعوى أنّ مقتضى الجمع بينها و بين الأخبار الأول حملها على صورة الحاجة، مع أنّها منزّلة على الغالب، بل انصرافها إليها، و الأقوى هو القول الثاني، لإعراض المشهور عن هذه الأخبار مع كونها بمرأى منهم و مسمع، فاللازم طرحها أو حملها على بعض المحامل، كالحمل على الحجّ المندوب و إن كان بعيدا عن سياقها، مع أنّها مفسّرة للاستطاعة في الآية الشريفة، و حمل الآية على القدر المشترك بين الوجوب و الندب بعيد، أو حملها على من استقرّ عليه حجّة الإسلام سابقا، و هو أيضا بعيد، أو نحو ذلك، و كيف كان فالأقوى ما ذكرنا و إن كان لا ينبغي ترك الاحتياط بالعمل بالأخبار المزبورة، خصوصا بالنسبة إلى من لا فرق عنده بين المشي و الركوب، أو يكون المشي أسهل، لانصراف الأخبار الأول عن هذه الصورة، بل لو لا الإجماعات المنقولة و الشهرة لكان هذا القول في غاية القوّة. (1)*

(1)* ثمّ إنّ المصنف ذكر وجوها في علاج الروايات المتعارضة:

1. طرحها، لمخالفتها ظاهر الكتاب، أوّلا، و موافقتها مع فتوى مالك ثانيا، و لعلّه كان من يوافقه من التابعين أو الفقهاء.

2. الحمل على الحجّ المندوب، لكن لا يوافقه روايتا: محمد بن مسلم، و الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام حيث يقول: «نعم ما شأنه يستحيي و لو يحجّ على حمار أجدع، أبتر، فإن كان يستطيع أن يمشي بعضا و يركب بعضا فليحجّ». «1» مضافا

[المسألة 2: لا فرق في اشتراط وجود الراحلة بين القريب و البعيد]

المسألة 2: لا فرق في اشتراط وجود الراحلة بين القريب و البعيد حتّى بالنسبة إلى أهل مكّة، لإطلاق الأدلّة، فما عن جماعة من عدم اشتراطه:

بالنسبة إليهم لا وجه له. (1)*

إلى

أنّ الأحاديث الواردة في المقام مفسرة للاستطاعة الواردة في الآية الشريفة المختصة بالحجّ الواجب.

و حمل الآية على القدر المشترك بين الواجب و المستحب كما في «الجواهر»:

بعيد جدّا.

3. حملها على من استقرّ عليه حجّة الإسلام سابقا، و هذا لا بأس به في رواية محمد بن مسلم و الحلبي دون غيرهما كرواية معاوية بن عمّار و أبي بصير.

و العجب انّ المصنّف يصف القول الثاني بأنّه لو لا الإجماعات المنقولة و الشهرة لكان هذا القول في غاية القوة، و مع ذلك يصف احتمال عدم وجوب الراحلة لأهل مكة، ممّا لا وجه له.

(1)* انّ المسألة مورد خلاف، نقل العلّامة في «التذكرة» عن العامة أنّهم شرطوا أن يكون بينه و بين البيت مسافة القصر، فأمّا القريب الذي يمكنه المشي فلزمه المشي، كالسعي إلى الجمعة، و لو لم يتمكّن من المشي، اشترط في حقّه وجود الحمولة، لأنّه عاجز عن المشي فأشبه البعيد. «1»

فإن قلت: لا دليل على اعتبار الراحلة في السفر إلى عرفات، بعد اختصاص الآية الشريفة و الأخبار بالسفر إلى البيت فالاستطاعة الشرعية معتبرة بالنسبة إليه، و في غيره تكفي القدرة على حد كفايتها في سائر الأحكام.

[المسألة 3: لا يشترط وجودهما عينا عنده

المسألة 3: لا يشترط وجودهما عينا عنده، بل يكفي وجود ما يمكن صرفه في تحصيلهما من المال، من غير فرق بين النقود و الأملاك من البساتين و الدكاكين و الخانات و نحوها، و لا يشترط إمكان حمل الزاد معه، بل يكفي إمكان تحصيله في المنازل بقدر الحاجة، و مع عدمه فيها يجب حمله مع الإمكان من غير فرق بين علف الدابّة و غيره، و مع عدمه يسقط الوجوب. (1)*

قلت: هذا ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في تعليقته على المقام، لكنّه موضع تأمّل،

لأنّ البيت مقصود على كلّ حال من غير فرق بين المتمتع، و القارن و المفرد، و الأوّل يقصد البيت ابتداء، ثمّ يقصد سائر المشاعر، و الأخيران يقصدانه بعد الرجوع من المواقف، و على كلّ تقدير فالآية غير مختصة بالمتمتع.

نعم لو كانت المسافة على حد، تقطع عادة بلا راحلة فلا تشترط الراحلة فيه.

(1)* في المسألة فرعان:

الأوّل: هل يشترط وجودهما عينا عنده، أو يكفي وجود ما يمكن صرفه في تحصيلهما؟

إنّ مقتضى الجمود على تفسير الاستطاعة في الروايات بالزاد و الراحلة، اشتراط وجودهما في وجوب الحجّ، لكن المتفاهم عرفا منها هو الأعمّ من وجود عينهما أو وجود ما يمكن صرفه في تحصيلهما. قال العلّامة في «التذكرة»: لا يشترط وجود عين الزاد و الراحلة، بل المعتبر التمكّن منهما تملّكا أو استئجارا. «1»

و تشهد على ذلك السيرة المستمرة بين المسلمين فانّ الآفاقي البعيد لم يكن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 96

.......... يحمل الزاد من بلده إلى مقصده، بل كان يشتري في طريقه، كما أنّ أكثرهم كانوا يكرون الجمال، و قد عدّ ذلك من فوائد الحجّ، ففي حديث هشام بن الحكم:

«و لينتفع بذلك المكاري و الجمّال». «1»

و في بعض الأحاديث إشارة إلى كفاية المال، ففي بعضها: «هذه لمن كان عنده مال». «2»

و في البعض الآخر: «عن رجل له مال و لم يحجّ قط؟ قال: هو ممّن قال اللّه تعالى: وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى «3»

و في ثالث: «إذا قدر الرجل على ما يحجّ به». «4»

الثاني: هل يشترط إمكان حمل الزاد معه، أو يكفي إمكان تحصيله في المنازل بقدر الحاجة؟

إنّ السفر إلى الحجّ كسائر الأسفار إلى الأماكن المقدّسة، أو غيرها، فإذا وجد الزاد في الطريق و أمكن شراؤه بالثمن، لا

يحمل معه الزاد، و إلّا يحمل، فعلى هذا يكفي في صدق الاستطاعة إمكان تحصيله في المنازل بقدر الحاجة، و إلّا يحمل بمقدار الحاجة إلى أن يصل إلى منزل يتمكن من تحصيله، و لذلك يقول العلّامة:

و إن كان وجد الزاد في كلّ منزل لم يلزمه حمله، و إن لم يجده كذلك لزمه حمله.

إنّما الكلام في حمل الماء و علف الدابة، فلا يجب حملهما إذا وجدا، و أمّا إذا لم يوجدا يلزم حملهما. قال العلّامة: «و إن لم يوجد، لم يلزمه حمله من بلده، و لا من

[المسألة 4: المراد بالزاد هنا: المأكول و المشروب و سائر ما يحتاج إليه المسافر]

المسألة 4: المراد بالزاد هنا: المأكول و المشروب و سائر ما يحتاج إليه المسافر من الأوعية التي يتوقّف عليها حمل المحتاج إليه و جميع ضروريّات ذلك السفر بحسب حاله قوّة و ضعفا، و زمانه حرا و بردا، و شأنه شرفا وضعة. و المراد بالراحلة مطلق ما يركب و لو مثل السفينة في طريق البحر، و اللازم وجود ما يناسب حاله بحسب القوّة و الضعف، بل الظاهر اعتباره من حيث الضعفة و الشرف كمّا و كيفا، فإذا كان من شأنه ركوب المحمل أو الكنيسة بحيث يعدّ ما دونها نقصا عليه يشترط في الوجوب القدرة عليه و لا يكفي ما دونه و إن كانت الآية و الأخبار مطلقة و ذلك لحكومة قاعدة نفي العسر و الحرج على الإطلاقات. نعم إذا لم يكن بحدّ الحرج وجب معه الحجّ، و عليه يحمل ما في بعض الأخبار من وجوبه و لو على حمار أجدع مقطوع الذنب. (1)*

أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام و نحوها، لما فيه من عظم المشقة و عدم جريان العادة به، و لا يتمكّن من حمل الماء لدوابه في جميع الطريق، و

الطعام بخلاف ذلك. «1»

و الحقّ هو التفريق بين المشقة الكثيرة المستلزمة للحرج، و عدمها، فيجب في الثاني دون الأوّل، و بالتالي لا يجب الحجّ.

على أنّ المسألة مضى زمانها أوّلا، و حمل العلف و الدابة من وظائف المكاري و الجمّال، دون الزائر ثانيا.

(1)* لا شكّ انّ وجود الآلات و الأوعية و كلّ ما يحتاج إليه المسافر في السفر يعد جزءا من الاستطاعة، إنّما الكلام في الراحلة، فهل يشترط في الراحلة كونها

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 98

.......... مناسبة لحاله قوة و ضعفا، أو يشترط وراء ذلك، كونها مناسبة لحاله حسب العزة و الشرف، فلا يكفي الاستطاعة على ما دون شرفه و عزّه كالاقتاب و الزوامل؟ ظاهر العلّامة و الدروس و النراقي هو الأوّل.

قال العلّامة: و إن كان لا يستمسك على الراحلة بدون المحمل أو يجد مشقة عظيمة، اعتبر مع وجود الراحلة، وجود المحمل، و لو كان يجد مشقة عظيمة في ركوب المحمل اعتبر في حقّه الكنيسة. «1» و مراده من المشقة العظيمة، هي المشقة الجسمانية، لا الروحية، فما عن «مستند الشيعة» من نسبة القول الثاني إلى «التذكرة» ففي غير محلها.

و به قال الشهيد: و المعتبر في الراحلة ما يناسبه و لو محملا، إذا عجز عن القتب، و لا يكفي علو منصبه في اعتبار المحمل أو الكنيسة، فانّ النبي و الأئمّة حجّوا على الزوامل. «2»

و هذا صريح «مستند الشيعة» حيث قال: و اختاره- قول الدروس- في الذخيرة، إلّا مع العجز عن الركوب بدون المحمل أو التضرر. ثمّ قال: و هو كذلك. و استدلّ ببعض الروايات و قال: و بها يخصّص عموم انتفاء العسر لو سلّمناه هنا و لم نقل أنّه من الخيلاء و خداع النفس الخبيثة. «3»

و

استدلّ بالروايات التي مضت عند البحث في اعتبار الراحلة لمن يتمكّن من المشي بلا حرج و عدمه. «4» و قد مضى تأويلها و انّها بين من استقر عليه الحجّ و تركه، و بين ما لا يمكن الإفتاء بمضمونه.

[المسألة 5: إذا لم يكن عنده الزاد و لكن كان كسوبا يمكنه تحصيله بالكسب في الطريق

المسألة 5: إذا لم يكن عنده الزاد و لكن كان كسوبا يمكنه تحصيله بالكسب في الطريق لأكله و شربه و غيرهما من بعض حوائجه، هل يجب عليه أو لا؟ الأقوى عدمه و إن كان أحوط. (1)*

و العجب من صاحب «المستند» حيث جعل هذه الروايات مخصّصة لقاعدة نفي العسر و الحرج، مع أنّ لسان القواعد آب عن التخصيص، فقوله سبحانه: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» غير قابل للتخصيص، بأن يقال: إلّا في المورد الفلاني.

و الحاصل: انّه لو كان ركوب الحمير و الزوامل ذلة و مهانة و بالتالي عسرا و حرجا، فالعناوين الثانوية حاكمة على الإطلاقات الشاملة للحالتين.

نعم لو حجّ و الحال هذه فذهب السيد الحكيم إلى صحّته قائلا بأنّ هذه الحكومة إنّما تقتضي نفي الوجوب، و لا تقتضي نفي المشروعية، و الكلام في الثاني، فعدم الإجزاء حينئذ يحتاج إلى الدليل. «2»

يلاحظ عليه: أنّه إن أراد من نفيها، عدم جوازها و لو بصفة المندوب فهو صحيح، و إن أراد كونه مجزئا عن حجة الإسلام، فلا، لأنّها محددة بالاستطاعة الشرعية، و هي غير صادقة على الحجّ المأتي به عن عسر و حرج.

(1)* وجهه انّ المتبادر من الاستطاعة في قوله سبحانه: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا هو الاستطاعة الفعلية، لا الاستطاعة بالقوة، فمثله غير مستطيع بالفعل و إنّما له استعداد لتحصيل الاستطاعة.

قال العلّامة: لو لم يجد الزاد و وجد الراحلة و كان كسوبا يكتسب ما يكفيه الحج في

الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 100

[المسألة 6: إنّما يعتبر الاستطاعة من مكانه لا من بلده

المسألة 6: إنّما يعتبر الاستطاعة من مكانه لا من بلده، فالعراقيّ إذا استطاع و هو في الشام وجب عليه و إن لم يكن عنده بقدر الاستطاعة من العراق، بل لو مشى إلى ما قبل الميقات متسكّعا أو لحاجة أخرى من تجارة أو غيرها و كان له هناك ما يمكن أن يحجّ به وجب عليه، بل لو أحرم متسكعا فاستطاع و كان أمامه ميقات آخر، أمكن أن يقال بالوجوب عليه و إن كان لا يخلو عن إشكال. (1)*

و قد عزل نفقة أهله مدة ذهابه و عوده، فإن كان السفر طويلا، لم يلزمه الحجّ، لما في الجمع بين السفر و الكسب من المشقة العظيمة، و لأنّه قد ينقطع عن الكسب لعارض فيؤدّي إلى هلاك نفسه.

و إن كان السفر قصيرا، فإن كان تكسّبه في كلّ يوم بقدر كفاية ذلك اليوم من غير فضل، لم يلزمه الحجّ، لأنّه قد ينقطع عن كسبه في أيام الحجّ فيتضرر.

و إن كان كسبه في كلّ يوم يكفيه لأيامه، لم يلزمه الحجّ أيضا، للمشقة، و لأنّه غير واجد لشرط الحجّ، و هو أحد وجهي الشافعية، و الثاني: الوجوب، و به قال مالك مطلقا. «1»

و من شواذ الفتاوى قول النراقي في مستنده حيث قال: و لو لم يجد الزاد و لكن كان كسوبا يتمكن من الاكتساب في الطريق لكلّ يوم بقدر ما يكفيه، و ظن إمكانه بجريان العادة عليه من غير مشقة، وجب الحجّ، لصدق الاستطاعة. «2»

(1)* في المسألة فروع:

الأوّل: إنّما يعتبر الاستطاعة من مكانه الذي استطاع فيه لا من وطنه.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 101

.......... الثاني: لو مشى إلى ما قبل الميقات متسكّعا أو لحاجة أخرى، ثمّ حصل

له ما يمكن أن يحجّ به.

الثالث: لو أحرم متسكعا فاستطاع و كان أمامه ميقات آخر. و إليك دراسة الفروع.

الأوّل: إنّما تعتبر الاستطاعة من المكان الذي استطاع فيه لا من بلده الذي يسكن فيه، فإذا خرج العراقي إلى الشام، و استطاع فيه وجب عليه الحجّ و إن لم يكن عنده بقدر الاستطاعة من العراق، و ذلك لأنّ الواجب أداء المناسك في المشاعر المخصوصة، و أمّا قطع المسافة غير مطلوبة للشرع.

و يظهر من العلّامة أنّ الحكم مورد اتّفاق، و ذلك لأنّه استدلّ على مسألة أخرى بوجود الاتفاق في مسألتنا هذه.

أمّا المسألة الأخرى فهي إذا مات الإنسان و أوصى بالحج فهل يجب الاستئجار من البلد الذي وجب على الميت الحجّ فيه، أو من بلد الأجير، أو أقرب الأماكن إلى مكة؟

فقال فيه بالثالث محتجا بالاتفاق في مسألتنا هذه، و قال: و لهذا لو اتّفق له اليسار في الميقات، لم يجب عليه الرجوع إلى بلده لإنشاء الإحرام منه، فدلّ على أنّ قطع المسافة ليس مرادا للشارع. «1»

و منه يظهر حال الفرع الثاني، و هو أنّه لو مشى إلى ما قبل الميقات متسكعا أو لحاجة أخرى من تجارة أو غيرها، و كان له هناك ما يمكن أن يحجّ به، وجب عليه، و ذلك لأنّ قطع المسافة ليس مرادا للشارع.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 102

.......... و أمّا الثالث و هو انّه لو أحرم متسكّعا فاستطاع و كان أمامه ميقات آخر ففيه احتمالات ثلاث:

1. صحّة إحرامه باستمرار نيته في الحجّ المندوب.

2. انقلابه إلى الحجّ الواجب.

3. إبطاله و تجديد الإحرام من الميقات.

و الحقّ هو الوجه الأوّل، لأنّه في حال الإحرام كان جامعا لشرائط الحجّ المندوب فأحرم بأمر من الشارع و الاستطاعة المتأخرة لا

تكون كاشفة عن بطلان إحرامه المندوب، لأنّ الشرط كونه مستطيعا في حال الإحرام لا كونه مستطيعا بعد الإحرام و التجاوز عن الميقات، و ليس أيضا علمه سبحانه بأنّه سوف يستطيع موضوعا للحكم، و بذلك ينتفي موضوع الحجّ الواجب لاشتغال الذمّة بالحجّ المندوب الذي يجب استمراره بعد الإحرام.

و منه يظهر ضعف الوجه الثاني أي انقلابه إلى الحجّ الواجب، و مثله الثالث بطلانه أو إبطاله و الرجوع إلى الميقات و الإحرام للحجّ الواجب، كلّ ذلك على خلاف الأصول.

و على كلّ تقدير فيمكن الاستئناس بالمسألة- أي كفاية الاستطاعة من مكانها و إن لم يكن مستطيعا من بلده- لما ورد فيمن استؤجر للحج من الكوفة فحجّ من البصرة، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لا بأس إذا قضى جميع المناسك فقد تم حجّه». «1»

[المسألة 7: إذا كان من شأنه ركوب المحمل أو الكنيسة و لم يوجد]

المسألة 7: إذا كان من شأنه ركوب المحمل أو الكنيسة و لم يوجد سقط الوجوب، و لو وجد و لم يوجد شريك للشقّ الآخر، فإن لم يتمكّن من أجرة الشقّين سقط أيضا، و إن تمكّن فالظاهر الوجوب لصدق الاستطاعة، فلا وجه لما عن العلّامة من التوقّف فيه، لأنّ بذل المال له خسران لا مقابل له، نعم لو كان بذله مجحفا و مضرّا بحاله لم يجب كما هو الحال في شراء ماء الوضوء. (1)*

(1)* في المسألة فروع:

1. إذا كان من شأنه ركوب المحمل و لم يوجد.

2. إذا وجد و لم يوجد شريك للشق الآخر و لم يتمكن من أجرة الشقين.

3. تلك الصورة و لكن يتمكن من بذلها و لم يكن مجحفا و لا مضرّا.

4. تلك الصورة و لكن كان مجحفا و مضرّا بحاله.

أمّا سقوط الوجوب في الصورتين الأوليين فلعدم صدق الاستطاعة حسب شأنه في الأولى، إذ

في تلك الحالة يعد السفر مهانة و ذلا، و عدم التمكّن من بذل المال لأجرة الشقين في الثانية.

و أمّا الوجوب في الصورة الثالثة، فلصدق الاستطاعة و إن كانت الأجرة غالية و لكن ليس الغلاء مجحفا أو مضرّا بحاله، كما إذا كان إنسانا ثريا لا تؤثر زيادة الأجرة على حاله.

و احتمل العلّامة سقوط الوجوب في هذه الصورة قال: إذا وجد شق محمل و وجد شريكا يجلس في الجانب الآخر لزمه الحج، فإن لم يجد الشريك و لم يتمكّن إلّا من مؤونة الشق، سقط عنه الحجّ مع حاجته إلى المحمل، و إن تمكن من الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 104

.......... المحمل بتمامه، احتمل وجوب الحجّ، لأنّه مستطيع، و عدمه، لأنّ بذل الزيادة خسران لا مقابل له. «1»

إنّما الكلام فيما إذا كان مجحفا و مضرّا بحاله و قد ذهب السيد إلى سقوطه، لأجل تحديد الأحكام الواقعية بعدم الحرج و الضرر، و معهما أو أحدهما، فلا تشريع و لا حكم شرعي و ذهب السيد البروجردي إلى عدم سقوطه مادام يصدق عليه انّه مستطيع، إلّا إذا بلغ إلى حدّ يعدّ عرفا ممّن لا يستطيع إليه سبيلا، فلا يجب عليه الحجّ، و تبعه بعض المشايخ من السادة.

و لعلّ وجهه، انّ حكومة «لا ضرر» مختصّة بما إذا كان للموضوع فردان:

ضرري و غير ضرري، كشراء ماء الوضوء فوجوب الشراء محدد بغير استلزامه للضرر، و أمّا إذا كان له فرد واحد و هو الضرري كالخمس و الزكاة و الجهاد و الحجّ، فإنّ أساسها على الضرر، فلا يجري فيه لا ضرر و يكون الحكم باقيا مادام يصدق عليه انّه مستطيع.

و الإجابة عن هذا الوجه واضحة، لأنّ وجوب الحجّ و إن كان حكما ضرريا، لكن

الواجب هو الفرد الضرري الذي تقتضيه طبيعة الحكم عرفا، و أمّا الزائد على مقتضى طبيعته فهو أيضا مرفوع بحديث لا ضرر، و لعلّ تحديد الوجوب بما في المتن أولى ممّا حدّد به السيد البروجردي.

[المسألة 8: غلاء أسعار ما يحتاج إليه أو أجرة المركوب في تلك السنة لا يوجب السقوط]

المسألة 8: غلاء أسعار ما يحتاج إليه أو أجرة المركوب في تلك السنة لا يوجب السقوط، و لا يجوز التأخير عن تلك السنة مع تمكّنه من القيمة، بل و كذا لو توقّف على الشراء بأزيد من ثمن المثل و القيمة المتعارفة، بل و كذا لو توقّف على بيع أملاكه بأقلّ من ثمن المثل، لعدم وجود راغب في القيمة المتعارفة، فما عن الشيخ من سقوط الوجوب ضعيف. نعم لو كان الضرر مجحفا بما له مضرّا بحاله لم يجب، و إلّا فمطلق الضرر لا يرفع الوجوب بعد صدق الاستطاعة و شمول الأدلّة، فالمناط هو الإجحاف و الوصول إلى حدّ الحرج الرافع للتكليف. (1)*

(1)* في المسألة فروع:

1. إذا كان أسعار ما يحتاج أو أجرة الركوب عاليا.

2. إذا توقّف الشراء بأزيد من ثمن المثل و القيمة.

3. إذا توقّف على بيع أملاكه بأقلّ من ثمن المثل لعدم راغب في القيمة المتعارفة.

4. تلك الصورة و كان الضرر مجحفا بما له، مضرّا بحاله.

ذهب السيد إلى بقاء الوجوب و عدم سقوطه في الصورتين الأوليين.

و عليه المحقّق في الشرائع قال: و يجب شراؤها و لو كثر الثمن مع وجوده، و قيل: إن زاد عن ثمن المثل لم يجب، و الأوّل أصحّ. «1»

و ذهب الشيخ إلى عدم الوجوب قال: فالمأكول هو الزاد، فإن لم يجده بحال

[المسألة 9: لا يكفي في وجوب الحج وجود نفقة الذهاب فقط]

المسألة 9: لا يكفي في وجوب الحج وجود نفقة الذهاب فقط، بل يشترط وجود نفقة العود إلى وطنه إن أراده، و إن لم يكن له فيه أهل و لا مسكن مملوك و لو بالإجارة، للحرج في التكليف بالإقامة في غير وطنه المألوف له، نعم إذا لم يرد العود أو كان وحيدا لا تعلّق له بوطن لم يعتبر وجود نفقة

العود، لإطلاق الآية و الأخبار في كفاية وجود نفقة الذهاب، و إذا أراد السكنى في بلد آخر غير وطنه لابدّ من وجود النفقة إليه إذا لم يكن أبعد من وطنه، و إلّا فالظاهر كفاية مقدار العود إلى وطنه. (1)*

أو وجده بثمن يضرّ به، و هو أن يكون في الرخص بأكثر من ثمن مثله، و في الغلاء مثل ذلك لم يجب عليه، و هكذا حكم المشروب. «1»

و نقل في «المدارك» عن الشيخ أنّه قاس المقام بمن خاف على ماله التلف لم يجب عليه الحجّ حفظا للمال، فكذا هنا. «2»

و الدليل عليل جدا لوجود الفرق بين الموردين.

و منه يظهر حال الفرع الثالث- بيع أملاكه بأقل من ثمن المثل-، فلا يسقط الوجوب للإطلاقات و المفروض عدم وصول الضرر إلى حدّ يكون مجحفا مضرّا بحاله.

و ذهب السيد المحقّق البروجردي إلى بقاء الوجوب إلى حد يصدق عليه أنّه لا يستطيع عليه سبيلا، و قد عرفت ما فيه.

(1)* في المسألة فروع:

1. اشتراط وجود نفقة العود إلى وطنه إن أراد.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 107

.......... 2. إذا لم يرد العود أو كان وحيدا لا تعلّق له بالوطن.

3. إذا أراد السكنى في بلد آخر غير وطنه.

و إليك دراسة الفروع:

الأوّل: يشترط وجود نفقة العود إلى وطنه إن أراد العود، و ذلك لأنّ الآيات و الروايات محمولة على الأفراد الغالبة، فانّ أغلب الناس في جميع الأدوار و الأمصار متى سافروا لغرض، يرجعون إلى أوطانهم سواء كان لهم عشيرة أو لا، كان لهم مسكن أو لا، كانت الإقامة في غير الوطن، مورثا للمشقة أو لا، فالموضوع هو المسافر من وطنه، المريد للإياب فيعتبر فيه نفقة الذهاب و الإياب.

و لذلك يقول المحقّق: و المراد بالزاد قدر

الكفاية من القوت و المشروب، ذهابا و عودا. «1» و عبارته ناظرة لمن قصد الإياب، دون من لم يكن من نيّته العود، فلا يعتبر فيه نفقة العود.

و منه يظهر ضعف قول العلّامة في المنتهى، حيث حدّد لزوم اعتبار نفقة العود بما إذا كان التكليف بالإقامة في غير الوطن مشقة شديدة و حرجا عظيما فيكون منفيّا. «2»

و قد استحسنه صاحب المدارك و قال: و هو حسن في صورة تحقّق المشقة بذلك. «3»

يلاحظ عليه: بأنّ مورد البحث فيما إذا كان مريدا للعود، فالموضوع هو مريد إليه، لا كونه مستلزما للمشقة الكثيرة أو القليلة؛ و أمّا غير المريد، فهو الموضوع في الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 108

.......... الفرع الثاني.

الثاني: إذا لم يرد العود أو كان وحيدا لا تعلّق له بالوطن على نحو يكون الوطن و غيره عنده سيّان، فلا يعتبر نفقة العود لصدق الاستطاعة عليه، و لعلّه إلى ذلك يشير المصنّف بقوله: لإطلاق الآية و الأخبار في كفاية وجود نفقة الذهاب.

الثالث: إذا أراد الإقامة في بلد آخر غير وطنه، فهل يعتبر وجود النفقة إليه مطلقا أو لا يعتبر كذلك، أو يعتبر إذا لم يكن أبعد من وطنه و إلّا فيكفي مقدار العود إلى وطنه، أو يعتبر إذا لم يكن الذهاب إلى بلد آخر محتاجا إلى صرف المال أكثر من الرجوع إلى وطنه و إلّا فالعبرة بالمقدار المحتاج في العود إلى وطنه؟

اختار الماتن القول الثالث، و أمّا القول الثاني- أي عدم الاعتبار- فهو ساقط لا دليل عليه، لأنّه على كلّ تقدير يريد السفر إلى مكة و الخروج عنه إلى نقطة خاصة غاية الأمر يريد الإقامة في غير الوطن، فالنفقة المعتبرة للخروج من مكة و الاستقرار في مكان ما

شرط الاستطاعة، و هذا ممّا لا كلام فيه.

و عندئذ فلو كانت المسافة من مكة إلى الوطن المألوف و الوطن المستجد متساوية، فقد استقرب المصنف لزوم اشتراطه، و لو كانت المسافة إلى الوطن المستجدّ أبعد فلا يعتبر نفقة مقدار البعد في الاستطاعة.

و لكن الأقوى هو القول الرابع بأن يقال: إن كان الذهاب إلى بلد آخر يحتاج إلى صرف المال أقل من العود إلى وطنه أو بمثله يحسب من الزاد و الراحلة، و أمّا إذا احتاج إلى صرف المال أكثر من الرجوع إلى وطنه، فالعبرة بالمقدار المحتاج من العود إلى وطنه و لا عبرة بكثرة النفقة اللازم صرفها في الذهاب إلى بلد آخر.

نعم لو علم أنّه بعد الخروج إلى مكة المكرمة يصير ممنوع الدخول في وطنه

[المسألة 10: قد عرفت أنّه لا يشترط وجود أعيان ما يحتاج إليه في نفقة الحجّ من الزاد و الراحلة]

اشارة

المسألة 10: قد عرفت أنّه لا يشترط وجود أعيان ما يحتاج إليه في نفقة الحجّ من الزاد و الراحلة، و لا وجود أثمانها من النقود، بل يجب عليه بيع ما عنده من الأموال لشرائها، لكن يستثنى من ذلك ما يحتاج إليه في ضروريّات معاشه فلا تباع دار سكناه اللائقة بحاله. و لا خادمه المحتاج إليه، و لا ثياب تجمّله اللائقة بحاله، فضلا عن ثياب مهنته، و لا أثاث بيته من الفراش و الأواني و غيرهما ممّا هو محلّ حاجته، بل و لا حليّ المرأة مع حاجتها بالمقدار اللائق بها بحسب حالها في زمانها و مكانها، و لا كتب العلم لأهله الّتي لا بدّ له منها فيما يجب تحصيله، لأنّ الضرورة الدينيّة أعظم من الدنيويّة، و لا آلات الصنائع المحتاج إليها في معاشه، و لا فرس ركوبه مع الحاجة إليه، و لا سلاحه و لا سائر ما يحتاج إليه، لاستلزام التكليف بصرفها

في الحجّ العسر و الحرج. (1)*

بسبب من الأسباب، فالظاهر اعتبار ما يصرف في العودة إلى المحل الذي يريد الاستقرار فيه في الاستطاعة.

(1)* قد سبق عدم لزوم وجود الزاد و الراحلة بأعيانهما، بل يكفي ما يتمكّن من بيعه لتحصيلهما، و عندئذ يقع الكلام في تحديد ما يجب بيعه لتحصيل الزاد و الراحلة و ما لا يجب، و يسمّى الثاني بمستثنيات الاستطاعة، و قد أشير في المتن إلى أمور، أعني:

1. الدار اللائقة بحاله، 2. الخادم، 3. ثياب التجمل، 4. ثياب المهنة، 5.

أثاث البيت، 6. حلي المرأة حسب حالها، 7. الكتب العلمية لأهلها المحتاجين إليها في تحصيلهم أو في معاشهم، 8. آلات الصنائع المحتاج إليها. 9. فرس الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 110

.......... الركوب، 10. السلاح و ما يشبهه.

ثمّ إنّ المصنّف علّل عدم وجوب المستثنيات بأنّ إلزام البيع و الصرف للحج مستلزم للعسر و الحرج، و لو حجّ ببيع هذه المستثنيات صحّ حجّه و لا يجزي عن حجّة الإسلام.

إنّ مفاد هذا التعليل هو انّ الأصل وجوب بيع كلّ ما يملك الإنسان لأجل إتيان فريضة الحجّ، إلّا إذا استلزم البيع، العسر و الحرج، و لذلك خرجت هذه الأمور العشرة، لأنّ في بيعها حرجا كثيرا و لكن الظاهر، هو الحاجة سواء أكان في بيعها عسر أو لا، لأنّ الخطاب في الآية لمن هيّأ أسباب الحياة في الحضر، فعندئذ لو استطاع بعد ذلك على حجّ البيت يجب عليه مع حفظ الحياة الحضرية، و أمّا من لا يستطيع الحجّ إلّا بهدم الحياة الحضرية- كما هو المفروض- فهو غير مخاطب بالآية و لا داخل في روايات الباب؛ ففي رواية معاوية بن عمار بعد ذكر الآية:

«هذه لمن كان عنده مال و صحة». «1»

و في رواية الحلبي: «إذا قدر الرجل على ما يحجّ به» 2 فما دامت الحاجة سائدة بصرف ما يملك في رفعها، حسب شأنها و منزلتها الاجتماعية فإذا استغنى عنها، يكتب عليه الحجّ.

و للسيد المحقّق البروجردي هنا كلام فانّه علّل عدم الاستطاعة بقوله: «لا يقال للإنسان المتحضّر، المحتاج في حضره إلى معائش كثيرة، أنّه يستطيع السفر إلّا إذا كان له زاد السفر و راحلته زائدة على حوائجه الحضرية، و أمّا من لا يتهيّأ له مؤن السفر إلّا بهدم أساس الحضر فهو غير مستطيع للسفر عرفا.

و لو افترضنا انّه حجّ بهدم حوائجه الحضرية، فالظاهر عدم الإجزاء عن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 111

.......... الحجّ الواجب، لأنّه حجّ و هو غير مستطيع، و لكن السيد الحكيم استشكل على عدم الإجزاء، و قال: إنّ أدلة نفي العسر و الحرج و إن كانت نافية للتكليف، لكنّها غير نافية للملاك، فلا تقتضي البطلان لو تكلّف المكلّف الفعل.

الظاهر أنّ مراده من عدم البطلان هو إجزاؤه عن حجّة الإسلام، و إلّا فلم يقل أحد بحرمة حجّ المتسكّع و لا المستجدي و لا غيره، و لو أراد ذلك فالظاهر عدم الإجزاء لما مرّ منا من أنّ حجّة الإسلام محددة بالاستطاعة المالية للسفر مع حفظ شؤون حياته في الحضر، و إلّا فتحصيل الاستطاعة للسفر بهدم ما يتوقّف عليه الحياة في الحضر خارج عن حجّة الإسلام، و قد مرّ تحديد حجّة الإسلام ببعض القيود التالية:

1. السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض و يبقي بعضا لقوت عياله.

2. قوله: «ذلك القوة في المال، و اليسار» قال: فإن كانوا موسرين فهم ممّن يستطيع؟ قال: «نعم».»

[عدم اعتبار الحاجة الفعلية]

و لا يعتبر فيها الحاجة الفعليّة، فلا وجه لما عن كشف اللثام

من أنّ فرسه إن كان صالحا لركوبه في طريق الحجّ فهو من الراحلة، و إلّا فهو في مسيره إلى الحجّ لا يفتقر إليه بل يفتقر إلى غيره، و لا دليل على عدم وجوب بيعه حينئذ، كما لا وجه لما عن الدروس من التوقّف في استثناء ما يضطرّ إليه من أمتعة المنزل و السلاح و آلات الصنائع، فالأقوى استثناء جميع ما يحتاج إليه في معاشه ممّا يكون إيجاب بيعه مستلزما للعسر و الحرج، نعم لو زادت أعيان المذكورات عن مقدار الحاجة وجب بيع الزائد في نفقة الحجّ، و كذا لو استغنى عنها بعد الحاجة كما في حليّ المرأة إذا كبرت عنه و نحوه. (1)*

(1)* عدم اعتبار الحاجة الفعلية ثمّ إنّ الميزان في الاستثناء هو حاجة الشخص إلى الشي ء في حياته الحضرية، و هي بين ما يحتاج إليها بالفعل كالملابس الشتوية و هو في فصل الشتاء، أو يحتاج إليها بالقوة كالملابس الشتوية و هو في الصيف، و على ذلك جرت حياة الإنسان حيث إنّه لا يحتاج إلى لوازم الحياة في يوم واحد، و إنّما يحتاج إليها شيئا فشيئا.

قال العلّامة في «التذكرة»: لا تباع داره التي يسكنها في ثمن الزاد و الراحلة، و لا خادمه و لا ثياب بدنه و لا فرس ركوبه بإجماع العلماء، لأنّ ذلك ممّا تمس الحاجة إليه. «1»

و بذلك تعرف ضعف القولين:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 113

.......... 1. ما ذكره الفاضل الهندي في «كشف اللثام» حيث أخرج الفرس عن المستثنيات قائلا: فأنّ فرسه إن صلح لركوبه في طريق الحجّ فهو من الراحلة، و إلّا فهو في مسيره إلى الحجّ لا يفتقر إليه، و إنّما يفتقر إلى غيره، و لا دليل على عدم وجوب

بيعه عندئذ. «1»

و لم يعلم وجهه، لما عرفت من أنّ الميزان هو مطلق الحاجة و لو بالقوة، و الفرس ممّا يحتاج إليه الرجل بعد رجوعه من الحجّ، و ليس معنى الاستطاعة هدم الشؤون الحضرية لأجل السفر إلى الحجّ فإذا رجع عن سفره، تختل حياته.

2. ما ذكره في «الدروس» من التوقّف في استثناء ما يضطر إليه على وجه الإطلاق حيث قال: في استثناء ما يضطر إليه من أمتعة المنزل و السلاح و آلات الصنائع عندي نظر. «2»

و لم يعلم وجهه مع أنّ أدلّة العسر و الحرج هي الحاكمة على أدلة إطلاقات الحجّ عند المفهوم، بل قد عرفت عدم الحاجة إلى أدلّة العسر و الحرج و انّ الخطاب لمن هيّأ أسباب الحياة الحضرية.

نعم لو زادت أعيان المذكورات عن مقدار الحاجة وجب بيع الزائد في نفقة الحجّ، لتحقّق الاستطاعة و عدم الحاجة إليها.

و نظير ذلك لو خرجت الأعيان عن موضع الحاجة، كما في حليّ المرأة إذا كبرت.

[المسألة 11: لو كان بيده دار موقوفة تكفيه لسكناه و كان عنده دار مملوكة]

المسألة 11: لو كان بيده دار موقوفة تكفيه لسكناه و كان عنده دار مملوكة، فالظاهر وجوب بيع المملوكة إذا كانت وافية لمصارف الحجّ أو متمّمة لها، و كذا في الكتب المحتاج إليها إذا كان عنده من الموقوفة مقدار كفايته، فيجب بيع المملوكة منها، و كذا الحال في سائر المستثنيات إذا ارتفعت حاجته فيها بغير المملوكة، لصدق الاستطاعة حينئذ إذا لم يكن ذلك منافيا لشأنه و لم يكن عليه حرج في ذلك، نعم لو لم تكن موجودة و أمكنه تحصيلها لم يجب عليه ذلك، فلا يجب بيع ما عنده و في ملكه، و الفرق عدم صدق الاستطاعة في هذه الصورة بخلاف الصورة الأولى إلّا إذا حصلت بلا سعي منه، أو حصلها مع

عدم وجوبه فإنّه بعد التحصيل يكون كالحاصل أوّلا. (1)*

(1)* لو كان بيده دار موقوفة، أو مكتبة موقوفة و مثلهما سائر المستثنيات و مع ذلك عنده دار أو مكتبة مملوكة، فهل يجب عليه بيع المملوك و صرفه في مصارف الحجّ أو تتميمها به أو لا؟ و الثاني خيرة الدروس قال: و لا يجب بيعها لو كان يعتاض عنها بالوقوف العامة و شبهها قطعا. «1» و اختاره المصنّف محتجا بصدق الاستطاعة حينئذ لكن بشرطين:

1. إذا لم يكن منافيا لشأنه.

2. لم يكن عليه حرج في ذلك.

و خصّ بعض السادة من المشايخ وجوب البيع، بما إذا كان الوقف، وقفا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 115

.......... خاصا لا عاما، و هو الظاهر من السيد البروجردي حيث خصّ الموقوف بما إذا لم يكن في معرض الزوال بالإخراج عنه بسبب من الأسباب، أو بمزاحمة سائر الشركاء.

و لكن الأقوى هو الأوّل، لأنّ الاستطاعة، إنّما تحصل بعد حصول حاجات الحضر، و الدار و المكتبة الموقوفين، لا ترفعان حاجات الحضر، و كلّ إنسان حضريّ يحتاج إلى ابتياع دار مملوكة لنفسه و لأولاده من غير فرق بين الوقف العام أو الخاص، فانّ النفس لا تسكن إلّا بتملك الدار و سائر المستثنيات، و إلّا فلو قلنا بكفاية رفع الحاجة بالموقوفة لزم القول بوجوب البيع، إذا أمكن له السكنى في المدرسة، أو حجرات المسجد، أو في الدار المستأجرة.

ثمّ لما كان هناك سؤال يتوجّه إلى المصنّف و من قال بمقالته، و هو انّه ما الفرق بين الصورتين:

إذا كانت دار موقوفة تحت يده، يجب عليه بيع داره المملوكة.

إذا لم تكن الدار الموقوفة تحت يده و لكن يمكنه تحصيلها بأسهل وجه، لم يجب بيع داره للحج، و السكنى في الموقوفة؟

فأجاب المصنّف

بوجود الفرق بين الصورتين، و هو صدق الاستطاعة في الصورة الأولى و عدمها في الصورة الثانية، إلّا إذا حصلت بلا سعي منه أو حصّلها مع عدم وجوبه، فانّه بعد التحصيل يكون كالحاصل.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان الملاك في صدق الاستطاعة عدم هدم حاجات الحضر، فالصورتان من مقولة واحدة، فإنّ في بيع الدار المملوكة هدما لحاجات الحضر، و أمّا إذا كان الملاك كونه مالكا «لما يحجّ به» محددا بعدم العسر و الحرج،

[المسألة 12: لو لم تكن المستثنيات زائدة عن اللائق بحاله بحسب عينها لكن كانت زائدة بحسب القيمة]

المسألة 12: لو لم تكن المستثنيات زائدة عن اللائق بحاله بحسب عينها لكن كانت زائدة بحسب القيمة و أمكن تبديلها بما يكون أقلّ قيمة مع كونها لائقا بحاله أيضا فهل يجب التبديل للصرف في نفقة الحجّ أو لتتميمها؟ قولان من صدق الاستطاعة، و من عدم زيادة العين عن مقدار الحاجة، و الأصل عدم وجوب التبديل، و الأقوى الأوّل إذا لم يكن فيه حرج أو نقص عليه و كانت الزيادة معتدّا بها، كما إذا كانت له دار تسوى مائة و أمكن تبديلها بما يسوى خمسين مع كونه لائقا بحاله من غير عسر فإنّه يصدق الاستطاعة، نعم لو كانت الزيادة قليلة جدّا بحيث لا يعتنى بها أمكن دعوى عدم الوجوب، و إن كان الأحوط التبديل أيضا. (1)*

فهو مالك في كلتا الصورتين مع القيد المذكور، فيجب عليه البيع للصرف في الحج، أو للتتميم و المفروض عدم العسر و الحرج، كما ليس السكنى في الدار الموقوفة خلاف شأنه.

(1)* إذا كانت له دار غير زائدة عن اللائق بحاله حسب عينها، لكن كانت زائدة عنها حسب قيمتها، كما إذا صارت أطراف بيته، مجمّعا تجاريا، يتنافس التجار و غيرهم لبناء محلّات تجارية تباع بأغلى الثمن، فلو استعد صاحب الدار للبيع، اشتريت

منه بأغلى الثمن الذي يتمكن منه تهيئة دار لائق بحاله في المحلات السكنية مضافا إلى تمكّنه من حجّ بيت اللّه الحرام.

فيقع الكلام في وجوب التبديل و عدمه، ذهب العلّامة و الشهيد و الشهيد الثاني و صاحب الجواهر إلى وجوبه، و لنذكر كلماتهم:

1. قال العلّامة: و لو كان مسكنه واسعا يكفيه للسكنى بعضه، وجب بيع الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 117

.......... الفاضل و صرفه في الحجّ إذا كان بقدر الاستطاعة. «1»

2. قال الشهيد: لو غلت هذه المستثنيات و أمكن الحجّ بثمنها و الاعتياض عنها فالظاهر الوجوب. «2»

3. و قال الشهيد الثاني في شرح قول المحقّق: «و لا تباع ثياب مهنته و لا خادمه و لا دار سكناه للحج» ما هذا لفظه: هذا إذا كان من أهل الخدمة، و كان الخادم صالحا لأمثاله، فلو زاد في الوصف عن عادته وجب الاعتياض عنه بما دونه إن تحصلت من ذلك الاستطاعة، و كذا القول في دار السكنى. «3»

4. و قال في «الجواهر» بعد نقل كلمات العلّامة و الشهيدين: إنّ الوجه في استثنائها الحرج و نحوه مما لا يأتي في الفرض. «4»

هذا و الظاهر من المحقّق الكركي و الفاضل الاصفهاني عدم وجوب الاعتياض.

5. قال الأوّل: و لو كانت هذه المستثنيات نفيسة يجتزئ بما دونها، فإن كان حاله يقتضيها عادة فتكلّف الاكتفاء بما دونها، فالظاهر أنّه لا يجب بيعها، و لا يجزئه الحج لو باعها و حجّ بالفاضل عما يكتفى به. «5»

6. و قال الفاضل الاصفهاني بعد ذكر وجه الوجوب: و يحتمل العدم كالكفّارة، لأنّ أعيانها لا يزيد عن الحاجة، و الأصل عدم وجوب الاعتياض، و قد

[المسألة 13: إذا لم يكن عنده من الأعيان المستثنيات لكن كان عنده ما يمكن شراؤها به من النقود أو نحوها]

المسألة 13: إذا لم يكن عنده من الأعيان المستثنيات لكن كان عنده ما

يمكن شراؤها به من النقود أو نحوها، ففي جواز شرائها و ترك الحجّ إشكال، بل الأقوى عدم جوازه، إلّا أن يكون عدمها موجبا للحرج عليه، فالمدار في ذلك هو الحرج و عدمه، و حينئذ فإن كانت موجودة عنده لا يجب بيعها إلّا مع عدم الحاجة، و إن لم تكن موجودة لا يجوز شراؤها إلّا مع لزوم الحرج في تركه، و لو كانت موجودة و باعها بقصد التبديل بآخر لم يجب صرف ثمنها في الحجّ، فحكم ثمنها حكمها، و لو باعها لا بقصد التبديل وجب- بعد البيع- صرف ثمنها في الحجّ، إلّا مع الضرورة إليها على حدّ الحرج في عدمها. (1)*

يوجب الحرج العظيم. «1»

و لا يخفى انّ مصب الكلام هو إذا لم يوجب الاعتياض حرجا و لا عسرا و يتمكن من ابتياع دار لائقة بحاله، و على ذلك فالإثبات و النفي في بعض هذه الكلمات لا يتوجهان إلى نقطة واحدة.

و مع ذلك، فالأقوى عدم الوجوب، لأنّه نوع اكتساب، و لو قلنا بوجوبه، لما كان هناك فرق بين كون الزيادة قليلة أو كثيرة، إذا تمكّن بالزيادة من الحج، كما إذا كان عنده شي ء من المؤونة و صار الاعتياض سببا، لإكمالها.

(1)* في المسألة فروع أربعة:

1. لو كانت إحدى الأعيان المستثنيات- كالدار- موجودة، فهل يجب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 119

.......... بيعها للحجّ. و قد أشار إليه بقوله: «فإن كانت موجودة ...»؟

2. إذا لم تكن موجودة لكن كان عنده ما يمكن شراؤها به من النقود، فهل يجوز شراؤها و ترك الحجّ؟

3. إن كانت إحدى المستثنيات موجودة كالدار المسكونة و باعها بقصد التبديل بآخر، فهل يجب صرف ثمنها في الحجّ أو أنّ حكم ثمنها حكم أعيانها؟

4. لو باعها لا

بقصد التبديل، فهل يجب- بعد البيع- صرف ثمنها في الحجّ؟

و إليك دراسة الفروع.

أمّا الفرع الأوّل فحكمه واضح، لأنّه إذا كانت الدار من المستثنيات، فمعنى ذلك انّه غير مستطيع وقتئذ، فلا يجب بيعها للحجّ، إلّا إذا كان غير محتاج إليها، كما إذا كان له داران فيبيع إحداهما و يسكن في الأخرى.

ثمّ إنّه إذا باع عند الحاجة إليها و حجّ فلا يغني عن حجّة الإسلام، لأنّ المستطيع عبارة عمّن يكون له وراء المستثنيات ما يصرفه في الحجّ ذهابا و إيابا فهو عندئذ غير واجد للمستثنيات، نعم يجوز له الحجّ. و لكنّه غير مجز، كحج المتسكّع و المستجدي.

ثمّ إنّ المصنّف جعل المعيار في الفرع الأوّل الحاجة و عدمها، فعندها لا يجب البيع و عند عدمها وجب، و لكنّه جعل الميزان في الفرع الثاني العسر و الحرج، و إليك دراسته.

الفرع الثاني: إذا لم يكن له دار مسكونة و ورث من أبيه ما يمكن أن يشتري به دارا أو ما يحجّ به، فقال المصنّف بلزوم صرفه في الحجّ إلّا إذا أوقعه في الحرج،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 120

.......... فالملاك في الفرعين مختلف، فعندما يملك الدار فالملاك في وجوب البيع و عدمه هو حاجته إلى الدار لا كونه موجبا للعسر و الحرج عند عدمها، و أمّا إذا ملك النقد، فالحاجة إلى الدار المسكونة غير كافية لجواز صرفه في الحجّ، بل يجب أن يصل إلى حدّ العسر و الحرج، فعندئذ ينصرف عن الحجّ و يصرفه في شراء الدار.

و الحقّ أنّ الملاك في عامة الفروع، الحاجة و عدمها لا العسر و عدمه، و ذلك لأنّ الاستطاعة الشرعية تفترق عن الاستطاعة في سائر الأحكام، فانّها في سائر الأحكام مشروطة بعدم العسر و الحرج،

فلو كانت الاستطاعة في الحجّ كالاستطاعة في سائر الأحكام مشروطة بعدم العسر و الحرج، فما هو الفرق بين الاستطاعتين؟ و قد مرّ في صدر الكتاب انّه سبحانه قيد وجوب الحجّ بالاستطاعة مشعرا بأنّ المعتبر في الحجّ من الاستطاعة غير ما هو المعتبر في سائر الأحكام، و إلّا فالأحكام كلّها مشروطة بها، قال سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها غير أنّ الاستطاعة في سائر الأحكام محقّقة ما لم يوجب إنجاز العمل عسرا و لا حرجا، و هذا بخلاف المقام فما دام الإنسان محتاجا إلى أحد المستثنيات فلا تتحقّق في حقّه الاستطاعة.

و أمّا الفرع الثالث، و هو إذا باع الدار بقصد التبديل، فقد حكم الماتن بعدم وجوب صرف ثمنها في الحجّ، لأنّ حكم ثمنها حكم عينها، فكما لا يجب بيع العين و صرف ثمنها في الحجّ، فهكذا لا يجب صرف ثمن العين عند قصد التبديل في الحجّ.

و قد اعتبر المصنّف في المقام كون الملاك هو الحاجة، لأنّه بعد التبديل بحاجة إلى الدار، و لكنّه جعل الملاك في الفرع الرابع هو العسر و الحرج.

الفرع الرابع: لو باعها لا بقصد التبديل وجب- بعد البيع- صرف ثمنها في

[المسألة 14: إذا كان عنده مقدار ما يكفيه للحجّ، و نازعته نفسه إلى النكاح

المسألة 14: إذا كان عنده مقدار ما يكفيه للحجّ، و نازعته نفسه إلى النكاح، صرّح جماعة بوجوب الحجّ و تقديمه على التزويج، بل قال بعضهم: و إن شق عليه ترك التزويج، و الأقوى- وفاقا لجماعة أخرى- عدم وجوبه، مع كون ترك التزويج حرجا عليه، أو موجبا لحدوث مرض، أو للوقوع في الزنا و نحوه. نعم لو كان عنده زوجة واجبة النفقة و لم يكن له حاجة فيها، لا يجب أن يطلقها و يصرف مقدار نفقتها في تتميم مصرف الحجّ لعدم صدق

الاستطاعة عرفا. (1)*

الحجّ إلّا مع الضرورة إليها على حدّ الحرج في عدمها و لكن مقتضى التحقيق في عامة الفروع هو الحاجة، فإذا باع الدار لا بقصد التبديل فبما انّه محتاج إلى الدار- و إن كان يرفع حاجته بما هو خارج عن شأنه- لا يجب صرفها في الحجّ.

ثمّ إنّه إذا قلنا بأنّ الملاك هو العسر و الحرج يمكن القول بوجوب الصرف في الصورة الرابعة، و ذلك لأنّه على كلّ تقدير واقع في العسر ببيع داره، سواء صرف ثمن الدار في الحجّ أو جعل أثمانها في البنوك لأجل المضاربة و غيرها، فإيجاب الحجّ عليه لا يستلزم عسرا لتقدّمه على إيجاب الحجّ بتبديل الدار بالأثمان الرائجة.

(1)* صرّح غير واحد من الأصحاب بأنّه إذا دار الأمر بين صرف المال في الحجّ و النكاح، فالحجّ مقدّم على النكاح و إن شق عليه و حصل له العنت، بل الواجب صرفه في الحجّ، لأنّ الحجّ مع الاستطاعة واجب و النكاح مندوب، و المندوب لا يعارض الواجب.

قال العلّامة في «المنتهى»: لو كان له ما يحجّ به و تاقت نفسه إلى النكاح لزمه الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 122

.......... الحجّ، و قال الشافعي: يصرف المال في النكاح إذا خاف العنت، لنا: إنّ الحجّ فرض على الفور و النكاح سنّة، و الفرض مقدّم، و احتجّ لجواز تأخير الحجّ بأنّه يجب على التراخي فيقدّم النكاح مع خوف العنت، و هو ممنوع لما بيّنا من وجوب الحجّ على الفور، أمّا لو خاف من ترك النكاح المشقة العظيمة، فالوجه تقديم النكاح لحصول الضرر. «1»

هذا و قد اختار في «التذكرة» تبعا للمحقّق تقديم الحجّ مطلقا حتّى إذا خاف على نفسه العنت، قائلا بأنّ الحجّ واجب و النكاح تطوّع،

و يلزم الصبر. «2»

و قال المحقّق: و لو كان معه قدر ما يحجّ به، فنازعته نفسه إلى النكاح، لم يجز صرفه في النكاح و إن شق تركه. و نسبه في «الجواهر» إلى القواعد و محكي المبسوط و الخلاف و التحرير. «3»

و الظاهر هو تقديم النكاح عند الحاجة إليه، لما عرفت من أنّ الملاك في الاستطاعة عدم الحاجة إلى ما يحتاج إليه في الحضر، فيقدّم النكاح مطلقا.

و من ذلك يظهر النظر في تحديد تقديم النكاح بكون ترك التزويج حرجا عليه أو موجبا لحدوث مرض أو للوقوع في الزنا و نحوه، لما عرفت من أنّ الحدّ هو الحاجة لا العسر و الحرج.

ثمّ إنّه ربما استشكل على ما ذكره المصنّف من لزوم تقديم النكاح على الحجّ إذا خاف الوقوع في الزنا قائلا: إنّ مجرّد العلم بالوقوع في الزنا ليس مجوزا لترك الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 123

.......... الحجّ، لعدم استناده إلى الحجّ، و إنّما يرتكبه بسوء اختياره و اللازم عليه تركه، و لا ينافي ذلك كونه مكلّفا بإتيان الحجّ.

و بعبارة أخرى: يلزم عليه أمران: ترك الزنا و الحجّ، و مجرّد العلم بإتيان الزنا اختيارا لا يوجب سقوط الحجّ، بل يجب عليه الحجّ، كما يحرم عليه الزنا. و نظير المقام ما لو علم الحاج أنّه لو صرف ماله في طريق الحجّ لسرق من أموال المسلمين ليتدارك ما صرفه من أمواله، و لا يتوهم أحد سقوط الحجّ في مثل ذلك. «1»

يلاحظ عليه: أنّ النكاح شرّع لأجل صيانة النفس من الوقوع في الحرام حيث قال سبحانه: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها «2» فهاهنا حاجتان: إحداهما شرعية و هو صرف المال في الحجّ، و الأخرى

طبيعية و هو صرف المال في النكاح، فصحّ لقائل أن يقول: إنّ صرف المال في النكاح متعيّن، لأنّه يجب الحجّ بعد تأمين حاجاته الأوّلية في الحضر.

و أمّا السرقة فليست من لوازم صرف المال في الحجّ، و تركها من لوازم عدم الصرف، و إنّما هي حالة شخصية طارئة، فلا معنى لترك الحجّ بذريعة انّه يصد الشخص عن السرقة.

و على كلّ تقدير فبما أنّ النكاح حاجة طبيعية لنوع البشر، و الاستطاعة بعد الاستغناء عن حاجات الحضر حسب شأن الإنسان و منزلته، يصرف ما في يده في النكاح مقدّما له على الحجّ.

[المسألة 15: إذا لم يكن عنده ما يحجّ به، و لكن كان له دين على شخص بمقدار مؤنته أو بما تتم به مؤنته

المسألة 15: إذا لم يكن عنده ما يحجّ به، و لكن كان له دين على شخص بمقدار مؤنته أو بما تتم به مؤنته، فاللازم اقتضاؤه و صرفه في الحجّ إذا كان الدين حالا، و كان المديون باذلا، لصدق الاستطاعة حينئذ، و كذا إذا كان مماطلا و أمكن إجباره بإعانة متسلّط، أو كان منكرا و أمكن إثباته عند الحاكم الشرعي و أخذه بلا كلفة و حرج، بل و كذا إذا توقّف استيفاؤه على الرجوع إلى حاكم الجور- بناء على ما هو الأقوى من جواز الرجوع إليه مع توقّف استيفاء الحقّ عليه- لأنّه حينئذ يكون واجبا بعد صدق الاستطاعة، لكونه مقدّمة للواجب المطلق، و كذا لو كان الدين مؤجّلا، و كان المديون باذلا قبل الأجل لو طالبه. و منع صاحب الجواهر الوجوب حينئذ، بدعوى عدم صدق الاستطاعة، محل منع. (1)*

(1)* في المسألة فروع:

1. إذا كان له دين حالّ على شخص و كان المديون باذلا و هو بمقدار المؤونة أو تتم به مؤونة الحجّ.

2. تلك الصورة و كان المديون مماطلا يمكن إجباره بإعانة متسلط.

3. تلك الصورة لكن كان منكرا

أمكن إثباته برفع شكواه إلى الحاكم الشرعي و أخذه بلا كلفة و لا حرج.

4. تلك الصورة إذا توقّف استيفاؤه على الرجوع إلى حاكم الجور بناء على جواز الرجوع إليه.

5. كان الدين مؤجلا و المديون باذلا قبل الأجل لو طالبه.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 125

.......... 6. كان المديون معسرا أو مماطلا لا يمكن إجباره أو منكرا للدين و لم يمكن إثباته أو كان الترافع مستلزما للحرج أو كان الدين مؤجلا مع عدم كون المديون باذلا.

7. لو شك في البذل له لو طالبه، فهل يجب الطلب أو لا؟

هذه فروع سبعة لا كلام في الفرع الأوّل في صدق الاستطاعة، كما لا كلام في الفرع السادس في عدم صدقها، إنّما الكلام في الفروع الباقية، و إليك دراسة الجميع.

أمّا الأوّل: فلا شكّ أنّه مستطيع، إذ لا يشترط في صدق الاستطاعة مالكية العين بل يعمّ مالكية ذمّة الغير، فيصدق عليه العناوين الواردة في الروايات.

1. له زاد و راحلة مع الصحّة. «1»

2. يكون له ما يحجّ به. 2

3. السعة في المال. «3»

4. القوة في البدن و اليسار في المال. 4

إلى غير ذلك من العناوين الواردة في الباب الثامن و التاسع من أبواب وجوب الحجّ.

و بعبارة أخرى: يشترط في الاستطاعة:

1. أن يكون مالكا لما يتمكّن به تحصيل الزاد و الراحلة.

2. أن يكون المال عنده حاضرا حتّى يتمكن من التصرّف فيه.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 126

.......... 3. أن يكون قادرا على التصرّف بأن لا يكون متعلّقا بحقّ الغير كالعين المرهونة.

فهذه الوجوه الثلاثة متوفرة في الفرع الأوّل، و لا تعد المطالبة تحصيلا للاستطاعة.

إنّما الكلام في الفرع الثاني و الثالث و الرابع، فهل يصدق أنّه مستطيع بالفعل حتّى تجب مقدّمته و هي الاستيفاء بالتوسل

بالقوة القاهرة، أو برفع الشكوى إلى الحاكم الشرعي أو حاكم الجور، أو لا يصدق أنّه مستطيع حتّى تجب هذه المقدمات، و قد اختار المصنّف انّه مستطيع وجب عليه الحجّ فتجب مقدّمته و هو التوصل بقوة قاهرة يحصل له طلبه.

و وافقه السيد الخوئي و قال: إنّ المقام نظير ما إذا كان له مال مدفون في الأرض أو كان محروزا في صندوق، و توقف التصرف فيه على حفر الأرض، و فتح الصندوق بعلاج و نحوه، فانّه لا ريب في الوجوب، فانّ القدرة التكوينية إذا كانت متوقّفة على مقدّمات، لا يوجب ذلك سقوط الواجب، بل يجب عقلا تحصيل المقدّمات.

نعم لابدّ أن لا يكون فيه حرج و كلفة زائدة و إلّا فيسقط لأجل الحرج. «1»

يلاحظ عليه: بأنّك قد عرفت أنّ الاستطاعة رهن حصول قيود ثلاثة:

1. كونه مالكا.

2. و كون المال حاضرا لا كالعبد الآبق أو بعيدا عن حيطة قدرة المالك.

3. قادرا على التصرف فيه.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 127

.......... ففي صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا قدر الرجل على ما يحج به ...» «1» و في خبر علي بن حمزة: «من قدر على ما يحجّ به ...». «2»

و من المعلوم عدم صدق القدرة العرفية فيما إذا احتاج إلى التوسل بمتسلط أو رفع الشكوى إلى المحاكم الشرعية و العرفية، و عندئذ تكون الاستعانة بأحد هذه الأمور تحصيلا للاستطاعة و القدرة العرفية، فكيف يصدق أنّه مستطيع قبل استيفاء الدين؟

نعم لو توصّل بأحد هذه الأمور و حصلت الاستطاعة يجب عليه الحجّ، و لكن الكلام إنّما هو في الوقت الذي قبل التوسل، و تحديد الوجوب بما إذا لم يستلزم كلفة و لا حرج يعود إلى تفسير الاستطاعة بالاستطاعة العقلية

لا الشرعية، فإنّ الأحكام المنوطة بالقدرة العقلية أيضا محددة بعدم استلزامها الكلفة و الحرج كوجوب تحصيل الماء للوضوء، و أمّا الاستطاعة الشرعية فلا يجب تحصيلها، سواء استلزمت الحرج أو لا.

و بالجملة لا يقال انّه مستطيع فيجب عليه الحجّ و بالتالي تجب مقدّمته، و أمّا ما مثّل به السيد الخوئي في تشبيه المقام بما إذا توقّف التصرف في المال على حفر الأرض و فتح الصندوق، فهو قياس مع الفارق، فإنّه مالك للعين غير أنّ هناك حواجز طبيعية متعارفة يجب عليه رفعها، و هذا بخلاف المقام فإنّه لا يملك إلّا الذمّة، و الذمّة لا يحجّ بها مادام كونه مماطلا أو منكرا.

نعم لو كان وصول الدين في هذه الصور متيسرا بنحو يصدق عليه أنّه واجد للمال، فلا يبعد وجوب مقدّمته.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 128

و أمّا لو كان المديون معسرا أو مماطلا لا يمكن إجباره، أو منكرا للدين و لم يمكن إثباته، أو كان الترافع مستلزما للحرج أو كان الدين مؤجلا مع عدم كون المديون باذلا فلا يجب، بل الظاهر عدم الوجوب لو لم يكن واثقا ببذله مع المطالبة. (1)*

إلى هنا تمّ أحكام الفروع الأربعة.

و أمّا الفرع الخامس، أعني: إذا كان الدين مؤجلا و المديون باذلا قبل الأجل لو طالبه، فالظاهر أنّه مستطيع إذا كان تحصيل المال على نحو يصدق عرفا أنّ المال في حوزته.

(1)* و أمّا الفرع السادس، فلا يجب بالاتفاق، لأنّ المديون امّا معسر، أو مماطل لا يمكن إجباره، أو منكر للدين و لا يمكن إثباته في المحاكم، أو كان الدين مؤجلا مع عدم كون المديون باذلا، غير أنّ السيد الخوئي منع إطلاق الحكم و أفتى بوجوب السعي في تحصيل الدين، و هو ما إذا

تمكّن من بيعه بأقلّ منه كما هو المتعارف يجب عليه بيعه لصدق الاستطاعة و انّ عنده ما يحجّ به، و قد عرفت أنّ المناط في صدق الاستطاعة وجود ما يحج به عينا أو بدلا و قيمة، بل حتّى إذا كان الدين مؤجلا و لم يبلغ أجله و أمكن بيعه نقدا بمقدار يفي للحجّ على ما هو المتعارف يجب ذلك لصدق الاستطاعة. «1»

يلاحظ عليه: بأنّ كلّ ما ذكره من السعي يعدّ تحصيلا للاستطاعة مع أنّ تحصيله غير واجب، فأي تحصيل أوضح من بيع الكثير بالقليل، لأنّ المفروض أنّه الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 129

.......... لا يقدر على الحجّ إلّا بهذه المعاملة المحقّقة للاستطاعة.

و أمّا الفرع السابع، فهي ما إذا شكّ في بذل المديون لو طالبه فاستظهر المصنّف عدم الوجوب، لأنّه شكّ في الاستطاعة و هو مساوق للشكّ في التكليف، و مقتضى الأصل البراءة.

توضيحه: أنّ القدرة التي هي من الشرائط العامة للتكليف على قسمين:

1. إذا كان التكليف مطلقا و لم تكن قدرة المكلّف دخيلة في ملاك الحكم و إنّما اعتبر لأجل امتناع العمل بالتكليف إلّا بالقدرة، و هذه هي المسمّاة بالقدرة العقلية، فلو كان التكليف فعليا و شكّ في القدرة يجب عليه الفحص، كما إذا أمر المولى بشراء اللحم من السوق و شكّ في وجوده فيه فلا يصحّ ترك الشراء بحجة أنّه شكّ في وجود الموضوع في الخارج، لما عرفت من أنّ الحكم فعلي و الملاك تام و القدرة غير دخيلة في ملاك الحكم إلّا لأجل رفع الامتناع.

2. ما إذا كانت القدرة مأخوذة في الموضوع و دخيلة في ملاك الحكم، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ و النصاب في وجوب الزكاة، فالشكّ في الاستطاعة أو بلوغ المحصول حدّ

النصاب شكّ في وجود الموضوع و بالتالي شكّ في أصل التكليف، و لأجل ذلك بنى المصنّف و غيره على عدم وجوب الفحص، و مع ذلك كلّه فالشكّ في الاستطاعة على قسمين:

تارة يسهل علم المكلّف بحالها من حيث الوجود و العدم، كما إذا شكّ في تعلّق الخمس بماله أو الزكاة بغلاته، و أخرى يعسر العلم بوجودها و يحتاج إلى طي عقبات، فالسيرة العقلائية هي لزوم الفحص في الصورة الأولى دون الثانية.

و على ذلك بنينا في الشبهات الموضوعية حيث ذهب المشهور إلى عدم

[المسألة 16: لا يجب الاقتراض للحجّ إذا لم يكن له مال

المسألة 16: لا يجب الاقتراض للحجّ إذا لم يكن له مال و إن كان قادرا على وفائه بعد ذلك بسهولة، لأنّه تحصيل للاستطاعة و هو غير واجب، نعم لو كان له مال غائب لا يمكن صرفه في الحجّ فعلا، أو مال حاضر لا راغب في شرائه، أو دين مؤجّل لا يكون المديون باذلا له قبل الأجل، و أمكنه الاستقراض و الصرف في الحجّ ثمّ وفاؤه بعد ذلك فالظاهر وجوبه، لصدق الاستطاعة حينئذ عرفا، إلّا إذا لم يكن واثقا بوصول الغائب، أو حصول الدين بعد ذلك، فحينئذ لا يجب الاستقراض، لعدم صدق الاستطاعة في هذه الصورة. (1)*

وجوب الفحص كالمائع المردد بين الخمر و الخل، فلو كان الفحص عن الموضوع أمرا ميسورا يجب الفحص.

و على ذلك فلو شكّ في أنّ المديون يبذل بالمطالبة أو لا، فعليه المطالبة إذا كان أمرا ميسورا بحيث لا يعد تحصيلا للاستطاعة.

(1)* اتّفق العلماء على أنّه لا يجب الاقتراض للحجّ إذا لم يكن له مال و إن كان قادرا على وفائه بعد ذلك بسهولة، و علّله المصنف بأنّه تحصيل للاستطاعة و هو غير واجب، و الأولى أن يقال انّ استدانة الفقير لا

يلازم الاستطاعة، فالمقترض لا يكون مستطيعا بالاقتراض لا انّه تحصيل له.

إنّما الكلام في الصور الآتية:

1. إذا كان له مال غائب لا يمكن صرفه في الحجّ فعلا.

2. أو مال حاضر لا راغب في شرائه.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 131

.......... 3. أو دين مؤجل لا يكون المديون باذلا له قبل الأجل.

فلو أمكنه الاستقراض و الصرف في الحجّ ثمّ الوفاء بعد ذلك، فقد اختار المصنّف وجوب الاستقراض، لصدق الاستطاعة عندئذ عرفا، إلّا إذا لم يكن واثقا بوصول الغائب أو حصول الدين بعد ذلك، فعندئذ لا يجب الاستقراض.

يلاحظ عليه: أنّه يشترط في وجوب الحجّ كون المستطيع مالكا و المال حاضرا و قادرا على صرف المال في الحجّ و المفروض فقدان الشرط الثالث لأجل غيبة المال، أو عدم وجود راغب في شرائه، أو امتناع المديون من أداء الدين قبل الأجل، فكيف يحكم عليه بأنّه مستطيع يجب عليه الحجّ فيجب إنجاز هذه الأمور مقدّمة.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي قد أعاد في هذه المسألة ما ذكره في المسألة السابقة من أنّه إذا أمكن بيع الدين المؤجل بالنقد فعلا كما هو المتعارف، أو بيع المال الغائب بلا ضرر عليه وجب الاستقراض، أو البيع لصدق الاستطاعة.

و الحقّ فيه التفصيل بين كون ما يقوم به أمرا متعارفا بين الناس على نحو يعد من أمورهم العادية في أمر التجارة فيجب لصدق انّه مالك للمال عرفا و بين ما يكون خارجا عن حدّ المتعارف.

[المسألة 17: إذا كان عنده ما يكفيه للحج، و كان عليه دين

المسألة 17: إذا كان عنده ما يكفيه للحج، و كان عليه دين، ففي كونه مانعا عن وجوب الحجّ مطلقا، سواء كان حالا مطالبا به أو لا، أو كونه مؤجلا، أو عدم كونه مانعا إلّا مع الحلول و المطالبة، أو كونه مانعا إلّا مع

التأجيل أو الحلول مع عدم المطالبة، أو كونه مانعا إلّا مع التأجيل وسعة الأجل للحجّ و العود أقوال، و الأقوى كونه مانعا، إلّا مع التأجيل و الوثوق بالتمكن من أداء الدين إذا صرف ما عنده في الحجّ، و ذلك لعدم صدق الاستطاعة في غير هذه الصورة و هي المناط في الوجوب، لا مجرد كونه مالكا للمال و جواز التصرف فيه بأيّ وجه أراد، و عدم المطالبة في صورة الحلول أو الرضا بالتأخير لا ينفع في صدق الاستطاعة. (1)*

(1)* و قبل الخوض في المسألة نذكر أمرين:

الأوّل: صورها و هي:

إنّ الدين: إمّا معجّل، أو مؤجّل.

و المعجّل: إمّا أن يكون مطالبا به، أو لا.

و المؤجّل: إمّا أن يسع الأجل لإتمام المناسك و العود، أو لا يسعه.

و على جميع التقادير إمّا أن يثق بالتمكّن من أداء الدين إذا صرف ما عنده في الحجّ أو لا، فصارت الصور ثمانية.

أمّا الأقوال فقد أشار المصنّف إلى ستة خامسها مختاره. و إليك دراستها:

الأوّل: انّ الدين مانع عن وجوب الحجّ مطلقا من غير فرق بين الحال و المؤجّل، و المطالب من الحال و غيره، عليه المحقّق و العلّامة و الشهيد و نسبه في الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 133

.......... الحدائق إلى اتّفاق العلماء- كما سيوافيك نصّه- و إنّما ظهر التفصيل بين الصور في عصر صاحب المدارك (956- 1009 ه-).

قال المحقّق في «الشرائع»: و لو كان له مال و عليه دين بقدره لم تجب. «1»

و قال العلّامة في «المنتهى»: لو كان له مال و عليه دين بقدره لم يجب عليه الحجّ، سواء كان الدين حالا أو مؤجلا، لأنّه غير مستطيع مع الحلول، و الضرر متوجه عليه مع التأجيل، فيسقط فرض الحجّ. «2»

و قال الشهيد

في «الدروس»: و المديون ممنوع إلّا أن يستطيع بعد قضائه مؤجلا كان أو حالا. «3»

و قد حكى المحدّث البحراني اتفاق علمائنا عليه حيث قال: قد صرّح الأصحاب بأنّه لو كان له مال و عليه دين فإنّه لا يجب عليه الحجّ. «4»

الثاني «5»: انّ الدين مانع باستثناء صورتين:

1. المؤجّل.

2. الحال غير المطالب.

و هو خيرة المدارك: حيث قال في شرح عبارة المحقّق: إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في الدين بين أن يكون حالا أو مؤجلا، و بهذا التعميم صرح في «المنتهى»، و استدلّ عليه بعدم تحقّق الاستطاعة مع الحلول، و توجه الضرر مع الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 134

.......... التأجيل، فيسقط الحجّ.

و لمانع أن يمنع توجه الضرر في بعض الموارد، كما إذا كان الدين مؤجلا أو حالّا لكنّه غير مطالب به، و كان للمديون وجه للوفاء بعد الحجّ، و متى انتفى الضرر و حصل التمكن من الحجّ تحقّقت الاستطاعة المقتضية للوجوب. «1»

و قد اعتبر في الحالّ غير المطالب به، وجود وجه للوفاء به بعد الحجّ و لم يذكره المصنّف في المتن.

و أمّا الثالث، فهو نفس القول الثاني، سواء قلنا ليس الدين مانعا إلّا في صورة واحدة و هي حلوله و كونه مطالبا به، أم قلنا إنّه مانع إلّا إذا كان مؤجلا، أو حالا غير مطالب به.

الرابع: انّ الدين مانع إلّا في صورة واحدة و هي أن يكون الدين مؤجلا و الوقت وسيعا للحجّ و العود، فهو قول صاحب كشف اللثام حيث قال:

و للشافعية في المؤجل بأجل مؤجل وجه بالوجوب، و لا يخلو من قوة- إلى أن قال:- لأنّه قبل الأجل غير مستحقّ عليه، و عند حلوله إن وجد ما يفي به أدّاه، و إلّا سقط عنه

مطلقا أو إلى ميسرة. «2»

و لو كان هذا غير مانع لوجب أن يعطف عليه الحال غير المطالب بداعي أنّه بعد العود من الحجّ إن وجد ما يفي به أدّاه، إلى آخر ما قال.

الخامس، التفصيل بين ما إذا كان الدين حالا، أو كان الدين مؤجلا، لا يثق بالأداء بعد العود من الحجّ، فلا يجوز لعدم صدق الاستطاعة، و هذا خيرة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 135

.......... المصنّف.

و بين ما إذا كان مؤجلا، يتمكّن من الأداء بعد الحجّ فيجب ... و كان عليه أن يعطف عليه الحالّ غير المطالب به إلى العود من الحجّ، لاشتراكهما في المناط.

و المهم في المقام، هو دراسة أدلة التفاصيل، فانّها تدور مدار صدق الاستطاعة في موارد الاستثناء و عدم صدقها في غيرها.

فلو كان الملاك في صدقها هو السعة في المال كما في رواية أبي الربيع الشامي «1»، أو القوة في المال و اليسار كما في رواية عبد الرحيم القصير «2»، فهما غير حاصلين مع الدين بعامة صوره، و مجرد التمكن من الأداء بعد ذلك، غير كاف في صدقهما.

و أمّا لو كان الملاك في صدقها، هو كونه مالكا للزاد و الراحلة كما في غير واحد من الروايات «3» فهو مستطيع في عامة الصور، حتّى في الدين المطالب، غاية الأمر يقع التزاحم بين وجوب الحجّ، و وجوب أداء الدين، لأنّ المفروض انّه لا يتمكن من الجمع بين امتثال الحكمين فلابدّ من إعمال مرجّحات باب التزاحم، فيقدم الدين إذا كان حالا مطالبا به، أو مؤجلا مع عدم الوثوق بالأداء بعد الحجّ، و ذلك لأهمية الدين، و أمّا إذا كان حالا و أذن له بالتأخير أو مؤجلا و كان متمكّنا من الأداء في وقته فيقدّم الحجّ

لعدم المزاحمة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 136

.......... و لا يخفى انّ الطائفة الأولى أوضح دلالة من الطائفة الثانية، لاحتمال أن يكون الغاية من تفسير الاستطاعة بالزاد و الراحلة، هو نفي الوجوب عمّن لا يملكهما كالمتسكّع و المستجدي، أو من يطيق المشي بكلفة و حرج أو بدونهما، و أمّا كونه الملاك في عامة الحالات فلا، و لذلك لا يجب حتّى على من لا يملك نفقة من تلزمه نفقته، أو لا يرجع إلى الكفاية و إن كان مالكا للزاد و الراحلة، فالإطلاق منصرف عن هاتين الصورتين، و مثلهما المقام، أعني: من عليه دين باهظ، سواء أكان مطالبا أم لا، فالروايات منصرفة عنها.

و بذلك يظهر انّ ما اختاره المصنف من التفصيل في صدق الاستطاعة، و انّها لا تصدق في عامة الصور إلّا في صورة التأجيل و الوثوق بالتمكّن من أداء الدين إذا صرف ما عنده في الحجّ، غير تام، لما عرفت من أنّ الملاك إمّا اعتبار السعة و المال، أو كونه مالكا للزاد و الراحلة، فعلى الأوّل غير مستطيع مطلقا، كما أنّه على الثاني مستطيع كذلك، و التفصيل بين الصور بوجود الاستطاعة في بعضها، و عدمها في البعض الآخر، غير تام.

و لذلك اختار السيد الخوئي نفس ما اختاره المصنّف لكن على مبنى آخر و هو القول بصدق الاستطاعة في جميع الصور- تبعا لصاحب المستند- لكن قدم الدين في بعض الصور لأجل أهمية حق الناس، كما إذا كان الدين حالا مطالبا، أو مؤجلا مع عدم الوثوق بالأداء بعد الحجّ، و أمّا إذا كان مؤجلا متمكّنا من أدائه في وقته، أو كان حالا و أذن له بالتأخير، فيقدّم الحجّ لعدم المزاحمة.

و تظهر الثمرة بينه و بين المصنّف في المواضع

التي وظيفته تقديم الدين على الحجّ؛ فلو خالف و حجّ، لا يجزي عن حجّة الإسلام عند المصنّف، لعدم الأمر

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 137

.......... الوجوبي بفقدان الاستطاعة، بخلافه على القول الآخر فانّه يعدّ مستطيعا في عامة الحالات، فلو عصى يقع حجّه صحيحا مأمورا به بالأمر الترتبي.

القول السادس: قول صاحب المستند ثمّ إنّ صاحب المستند ذهب إلى القول بأنّ الواجد للمال الذي يقدر معه على الحجّ، مستطيع في جميع الصور، فهو مخيّر بين أداء الحجّ و أداء الدين، إلّا إذا علم رضا الدائن بالتأخير فلا يكون مأمورا بالوفاء، فيبقى خطاب الحجّ خاليا عن المعارض فيكون واجبا، قال ما هذا نصّه: فالوجه أن يقال: إنّ مع التعجيل أو عدم سعة الأجل، هو مخيّر بين الحجّ، و وفاء الدين، سواء علمت المطالبة أم لا.

نعم لو علم رضا الدائن بالتأخير فلا يكون مأمورا بالوفاء، فيبقى خطاب الحجّ خاليا عن المعارض، فيكون واجبا.

و أمّا إذا كان مؤجلا بأجل يسع الحجّ و العود- سواء ظن له طريق للوفاء، بعد العود، أم لا- ... و عن المحقّق الأردبيلي: الوجوب ...، و هو الحقّ لصدق الاستطاعة عرفا.»

حاصل كلامه: إنّ هنا صورتين، و لكلّ منهما قسمان، فالصورة الأولى داخلة تحت باب التزاحم فيكون مخيّرا بين أداء الدين و الحجّ، و الصورة الثانية خارجة عنه، بل يجب المبادرة إلى الحجّ دون أداء الدين.

أمّا الصورة الأولى، فهي فيما إذا كان كلّ من الحكمين (وجوب الحجّ و أداء الدين) فعليين، كما إذا كان حالا، علمت المطالبة أو لا، أو مؤجّلا مع عدم سعة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 138

.......... الأجل، ففيها يكون مخيّرا بالعمل بأحد التكليفين.

و أمّا الصورة الثانية، ففيما إذا كان وجوب الحجّ فعليّا، دون

أداء الدين، كما إذا كان الدائن راضيا بالتأخير- فيما إذا كان حالا، أو مؤجلا مع سعة الوقت- للحجّ و العود، سواء كان ظن التمكّن من أداء الدين بعد الحجّ أو لا، حيث لا تجب المبادرة إلى الأداء، إمّا للرضا بالتأخير، أو سعة الوقت، فيجب الحج بلا مزاحم.

ثمّ إنّ المصنّف أورد على مختار صاحب المستند بإشكالين: أحدهما يتوجّه إلى كلتا الصورتين، و ثانيهما على خصوص الصورة الأولى.

أمّا الأوّل، فقال بأنّه لا وجه للتخيير في الصورة الأولى، كما لا وجه للتعيين- تقديم الحجّ- في الصورة الثانية، لأنّ الوجوب تخييريا كان أو تعيينيّا مشروط بالاستطاعة، و هي غير صادقة فيهما خصوصا في الصورة الأولى.

و أمّا الثاني، فهو انّ التخيير بين الواجبين إنّما يتصوّر إذا كانا مطلقين و في عرض واحد، لا ما إذا كان أحدهما مطلقا و الآخر مقيّدا كما في المقام حيث إنّ أداء الدين واجب مطلق بخلاف الحجّ فانّه واجب مشروط؛ و بالعمل بالأوّل، ينتفي موضوع الثاني، فيكون الأوّل واردا على الحكم الثاني.

إلى هنا كان البحث يدور حول القواعد العامّة خصوصا حول صدق الاستطاعة و عدمها.

و قد عرفت أنّ الأقوى هو قول القدماء، و هو عدم وجوب الحجّ مطلقا، لعدم صدق الاستطاعة، إلّا إذا كان الأجل وسيعا لا يضرّ في نظر العرف بصدقها لكونه متمكنا من أدائه في وقته كالزارع الذي ينتهي أجل دينه بعد سنتين أو أكثر، إذ من البعيد أن يتوالى الجفاف على الهواء و لا ينبت شي ء عدّة سنين.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 139

.......... بقي الكلام حول الروايات الخاصّة الواردة في نفس المسألة، فهناك طائفتان:

الأولى: ما يستظهر منها مقالة المشهور استدلّ على مقالة المشهور بروايات، من عدم وجوب الحجّ مع الدين إلّا

إذا كان خلف ظهره مال إن حدث به حدث، أدّى عنه، و هي:

1. خبر أبي همام قال: قلت للرضا عليه السّلام الرجل يكون عليه الدين و يحضره الشي ء أيقضي دينه أو يحجّ؟ قال: «يقضي سنة و يحج سنة». «1»

2. موثقة عبد الملك بن عتبة قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام، عن الرجل عليه دين، يستقرض و يحجّ؟ قال: «إن كان له وجه في مال فلا بأس». 2

و ظاهر الحديث، أنّه بعد الاستقراض يكون عليه دينان، فلو كان السؤال مركّزا على مانعية الدين الأوّل عن الحج، يكون الجواب شاهدا للمقام، و أمّا لو كان مركّزا على أنّ الحجّ بالاستقراض يجزي عن حجّة الإسلام فلا تكون للرواية صلة بالمقام، و منه يظهر حال الرواية التالية.

3. موثقة موسى بن بكر الواسطي قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يستقرض و يحجّ؟ فقال: «إن كان خلف ظهره مال إن حدث به حدث أدّى عنه فلا بأس». 3 و بما أنّها مجرّدة عن قوله: «عليه دين» يكون السؤال مركّزا على إغناء

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 140

.......... الحج الاستقراضي عن حجّة الإسلام فلا صلة لها بالمقام.

إلى هنا تمّ ما يمكن أن يكون شاهدا لتقديم الدين على الحجّ.

الثانية: ما يستظهر منها من أنّ الدين غير مانع عن الحجّ 1. صحيح معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل عليه دين أعليه أن يحجّ؟ قال: «نعم إنّ حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي في المسلمين، و لقد كان أكثر من حجّ مع النبي مشاة». «1»

يلاحظ عليه: بعد غض النظر عن إعراض المشهور عن الإفتاء بمضمونها، لما عرفت من شرطية الاستطاعة الشرعية في وجوب الحجّ، المتمثلة في

الزاد و الراحلة.

إنّ انتزاع قاعدة كلية من الرواية و هي انّ الدين بما هو غير مانع مطلقا في الحجّ، أمر مشكل، إذ هي ظاهرة أو محمولة على المديون الذي لا يقدر على أداء دينه، فعجزه عندئذ لا يكون مانعا عن الحجّ إذا أطاق المشي، لافتراض انّه قادر عليه بالمشي، و أين هذا ممّا نحن فيه، من أنّه إذا وقع في يده شي ء، يصلح لأن يحجّ به، و أن يؤدي دينه، يجب عليه صرفه في الحجّ، دون الثاني، فالرواية قاصرة عن إفادة ذلك.

و على ما ذكرنا لا حاجة لحملها على الدين المؤجل الذي يثق المديون بالتمكّن من الأداء، كما عليه المصنّف.

2. صحيحة أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: أرأيت الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 141

.......... الرجل التاجر ذا المال حين يسوّف الحجّ كلّ عام، و ليس يشغله عنه إلّا التجارة أو الدين؟ فقال: «لا عذر له يسوّف الحجّ، إن مات و قد ترك الحجّ فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام». «1»

يلاحظ عليه: أنّ مورد السؤال هو التاجر الثريّ الذي تشغله التجارة، و الدين عن الحجّ، و هو- إذا حطّ من طمعه- قادر على الحجّ و أداء الدين عند أجله، و أين هو مما نحن فيه؟

3. موثّقة عبد الرحمن البصري قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «الحجّ واجب على الرجل و إن كان عليه دين». «2»

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر انّ كلام الإمام جواب عن سؤال محذوف، و لعلّ السؤال كان عن ذي مال، و عليه دين مؤجل و متمكنا من أدائه في وقته فالدين في مثله غير مانع، إذ ليس أداء الدين فعليا و صرف المال في الحجّ ليس

تفويتا لما يقضي به دينه.

4. صحيح معاوية بن وهب، عن غير واحد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام يكون عليّ الدين فتقع في يدي الدراهم، فإن وزّعتها بينهم لم يبق شي ء فأحجّ بها أو أوزعها بين الغرام؟ فقال: «تحج بها، و ادع اللّه أن يقضي عنك دينك». «3»

يلاحظ عليه: أنّ ظاهرها الوجوب و لم يقل به أحد، غاية الأمر التخيير بين الأمرين، لظهور أنّ الدين حالّ، و حملها على الوثوق من التمكّن في الأداء بعد

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 142

.......... الحجّ، بعيد كما يشهد عليه أمره بالدعاء لقضاء دينه أو حمله على من استقر عليه الحجّ سابقا أبعد، و الأولى طرحها و إرجاع علمها إلى أهلها.

فظهر ممّا ذكرنا عدم إقامة دليل على وجوب الحجّ، مع الدين في عامة الصور. اللّهمّ إلّا إذا كان الدين مؤجلا و الأجل موسعا جدا على نحو يطمئن بأنّه يستطيع أن يقضي دينه حسب العادة كما مثلناه في الفلاح.

إكمال كان البحث السابق في من كان عنده ما يكفيه للحج و كان عليه دين دون أن يستقر عليه الحجّ قبل الدين، و لو افترضنا استقرار الحجّ عليه سابقا، ثمّ صار مديونا و تمكّن من أداء الدين، قيل: هناك احتمالات:

1. يتخيّر بينهما لأنّهما في عرض واحد.

2. يقدّم الدين إذا كان حالا مع المطالبة أو مع عدم الرضا بالتأخير لأهمية حقّ الناس من حق اللّه.

3. يقدم الأسبق منهما في الوجوب:

لا وجه للثالث بعد فعلية كلا الحكمين و سبق الوجوب غير مؤثر بعد صيرورة اللاحق فعليّا، مثل السابق و يكون الجميع في عرض واحد.

و أمّا الثاني فوجهه أهمية حقّ الناس من حقّ اللّه.

و أورد عليه المصنّف بأنّه مطلقا ممنوع، و لذا من مات

و عليه دين و حجّ وزّع المال عليهما و لا يقدّم دين الناس.

و ربما يناقش كلام المصنّف بأنّ قياس حال الحياة، بحال الموت ممنوع لتعلّق

[المسألة 18: لا فرق- في كون الدين مانعا من وجوب الحجّ- بين أن يكون سابقا على حصول المال بقدر الاستطاعة أو لا]

المسألة 18: لا فرق- في كون الدين مانعا من وجوب الحجّ- بين أن يكون سابقا على حصول المال بقدر الاستطاعة أو لا، كما إذا استطاع للحجّ ثمّ عرض عليه دين بأن أتلف مال الغير- مثلا- على وجه الضمان من دون تعمّد قبل خروج الرفقة، أو بعده قبل أن يخرج هو، أو بعد خروجه قبل الشروع في الأعمال فحاله حال تلف المال من دون دين، فإنّه يكشف عن عدم كونه مستطيعا. (1)*

الدين في الأولى بالذمّة، فيتوقّف التخيير على عدم الأهمية لواحد منهما، بخلاف ما بعد الموت فإنّه يتعلّق بأعيان التركة فلا يكون مجال لرعايته.

و الأولى أن يقال: انّه يصرف المال في الدين و يحجّ متسكّعا، و ذلك لأنّ للحجّ بدلا، دون الدين و إذا دار الأمر في المتزاحمين بين ما له بدل و ما ليس له بدل يقدّم ما ليس له بدل على غيره، كما إذا حاز ماء يكفي لأحد الأمرين: الوضوء أو تطهير بدنه أو ثوبه من الخبث، فيقدّم الثاني لعدم البدل له، بخلاف الأوّل لوجوده، أعني: بدلية التيمم عن الوضوء، و لو لم يقدر إلّا على أحدهما، يقدّم الدين، أخذا بمرتكزات المتشرعة من تقديم حق الناس على حقّ اللّه، و إن ورد في بعض الروايات: «و دين اللّه أحقّ أن يقضى».

(1)* هذا هو الفرع الثالث، و قد تقدّم قبله فرعان في المسألة السابقة، و الفرق بين الفروع الثلاثة، واضح.

فالأوّل منهما يدور على ما إذا كان عليه دين و صار عنده ما يكفيه للحجّ، فهل يكون الدين مانعا من وجوب

الحجّ إمّا لعدم صدق الاستطاعة كما هو المختار، أو لعدم تنجّزه بناء على صدقها، و انّ المورد داخل في باب التزاحم كما

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 144

.......... عليه السيد الخوئي قدّس سرّه.

و الثاني منهما يدور على ما إذا تقدّمت الاستطاعة فزالت، ثمّ صار مديونا، و صار عنده ما يكفيه للحجّ، و على ذلك فقد كان الدين متقدّما على حصول ما يكفيه للحجّ في الأوّل، بخلاف الثاني حيث كانت الاستطاعة و زوالها فيه متقدّمة على الدين و ما يكفيه للحجّ.

و أمّا الثالث الذي نحن فيه الآن فيدور على ما إذا استطاع قبل خروج الرفقة، لكن عرض عليه دين بأن أتلف مال الغير- مثلا- على وجه الضمان من دون تعمد، فهل يكون مانعا من وجوب الحجّ؟ الظاهر نعم، إذ يكون الدين مانعا و كاشفا عن عدم الاستطاعة إذا كان حالا مطالبا، أو مؤجلا لا يقدر على أدائه عند أجله.

نعم على مختار السيد الخوئي، لا تنثلم استطاعته بذلك غاية الأمر يقدّم الأهم فالأهم و هو الدين.

و الحاصل: انّه على المختار من أنّ الدين مانع عن صدق الاستطاعة لا فرق بين المتقدّم و المتأخّر، فالمعتبر فيها، عدمه حدوثا و بقاء فلا يجب عليه الحجّ، إلّا إذا استطاع في المستقبل لكنّه على القول بعدم المانعيّة، يكون وجوب الحجّ فعليا غير منجّز، لأهمية الدين. هذا فيما إذا أتلفه خطأ، و أمّا إذا أتلفه عمدا يستقرّ عليه الحجّ، و يصرف ما في يديه في أداء الدين و يسعى إلى الحجّ متسكعا أو خادما أو غير ذلك، لما مرّ من تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل.

[المسألة 19: إذا كان عليه خمس أو زكاة و كان عنده مقدار ما يكفيه للحجّ لو لا هما فحالهما حال الدين مع المطالبة]

المسألة 19: إذا كان عليه خمس أو زكاة و كان عنده مقدار ما

يكفيه للحجّ لو لا هما فحالهما حال الدين مع المطالبة، لأنّ المستحقّين لهما مطالبون فيجب صرفه فيهما، و لا يكون مستطيعا، و إن كان الحجّ مستقرّا عليه سابقا يجي ء الوجوه المذكورة من التخيير، أو تقديم حقّ الناس، أو تقديم الأسبق، هذا إذا كان الخمس أو الزكاة في ذمّته، و أمّا إذا كانا في عين ماله فلا إشكال في تقديمهما على الحجّ، سواء كان مستقرّا عليه أو لا، كما أنّهما يقدّمان على ديون الناس أيضا، و لو حصلت الاستطاعة و الدين و الخمس و الزكاة معا فكما لو سبق الدين. (1)*

(1)* في المسألة فروع أربعة:

1. إذا كان في ذمّته خمس أو زكاة، و كان عنده مقدار مال يكفي للحجّ لو لا هما.

2. إذا استقر الحجّ في ذمّته و كان على ذمّته- مع ذلك- خمس أو زكاة أيضا و صار عنده ما يكفي أحدهما.

3. إذا كان الخمس أو الزكاة في عين ماله، سواء أكان الحجّ عليه مستقرا أو لا.

4. إذا حصلت الاستطاعة و الدين و الخمس و الزكاة معا.

أمّا الأوّل، فهو من مصاديق ما مرّ: إذا كان عنده ما يكفيه للحجّ و كان عليه دين فقد اتّفقت كلمتهم- إلّا النراقي- على عدم لزوم صرف ما في يده في الحجّ، لعدم صدق الاستطاعة، أو لكونه الأهم بناء على صدقها، و انّ المقام من الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 146

.......... مصاديق التزاحم. نعم على مختار النراقي يتخيّر بين الأمرين.

و أمّا الثاني، فهو من مصاديق الفرع الثاني المذكور في ذيل المسألة 17، أعني: ما إذا استقر عليه وجوب الحجّ سابقا و صار مديونا، و حصل عنده ما يكفي لأحدهما فقد تقدّم فيه الوجوه:

1. يتخير بين الحجّ و أداء الدين.

2.

يقدّم الدين إذا كان حالا مع المطالبة.

3. يقدّم الأسبق.

4. يقدّم الدين و يأتي بالحجّ بالقدرة العقلية كما مر.

و أمّا الثالث، أي إذا كان الخمس و الزكاة في ماله مشاعا أو بنحو الكلي في المعين أو غيره، فيقدّمان على الحجّ، فانّ التصرّف فيه بصرفه في الحجّ حرام فيكون رافعا للاستطاعة، نعم لو استقر عليه الحجّ في ذمّته تقع المزاحمة بين حرمة التصرف و وجوب الحجّ و تقدّم حرمة التصرف على وجوب الحجّ.

و منه يظهر تقدّمهما على ديون الناس لوجود المزاحمة بين وجوب أداء الدين و حرمة التصرف في مال الغير، فيقدّم حرمة التصرف في مال الغير على وجوب وفاء الدين.

و منه يظهر حال الفرع الرابع، أعني: ما لو حصلت الاستطاعة و الدين و الخمس و الزكاة معا، فحاله حال ما لو سبق الدين، فإنّ وفاء الدين و إخراج الخمس و الزكاة مانعان عن صدق الاستطاعة.

بقي هنا كلام و هو انّ مصارف الحجّ من مؤونة عام الاستطاعة، فإذا استطاع في أثناء حول حصول الربح و تمكن من المسير بأن صادف سير الرفقة في

[المسألة 20: إذا كان عليه دين مؤجل بأجل طويل جدّا]

المسألة 20: إذا كان عليه دين مؤجل بأجل طويل جدّا- كما بعد خمسين سنة- فالظاهر عدم منعه عن الاستطاعة، و كذا إذا كان الديّان مسامحا في أصله. كما في مهور نساء أهل الهند، فإنّهم يجعلون المهر ما لا يقدر الزوج على أدائه- كمائة ألف روپية، أو خمسين ألف- لإظهار الجلالة، و ليسوا مقيّدين بالإعطاء و الأخذ، فمثل ذلك لا يمنع من الاستطاعة و وجوب الحجّ، و كالدين ممّن بناؤه على الإبراء إذا لم يتمكّن المديون من الأداء، أو واعده بالإبراء بعد ذلك. (1)*

ذلك العام احتسب مخارجه من ربحه، و أمّا إذا لم يتمكّن حتّى

انقضى العام وجب عليه خمس ذلك الربح. «1»

و على ضوء ذلك فلو حصل الجميع مرّة فلماذا يقدّم الخمس عليه، لأنّه بعد المؤونة و مصارف الحجّ من المؤونة، نعم يصحّ ما ذكر في الزكاة، لأنّها تخرج من دون استثناء مؤونة المزكّي.

(1)* في المسألة فروع أربعة:

1. الدين المؤجل بأجل طويل لا يمنع عن الاستطاعة.

2. إذا كان الديّان متسامحين في أصله.

3. إذا كان بناء الدائن على الإبراء عند عدم تمكّن المديون.

4. إذا وعده بالإبراء.

أمّا عدم مانعية مثل هذه الديون فلعدم الاعتداد بها، بل يحسب غير

[المسألة 21: إذا شكّ في مقدار ماله و انّه وصل إلى حدّ الاستطاعة أو لا، هل يجب عليه الفحص أو لا؟]

المسألة 21: إذا شكّ في مقدار ماله و انّه وصل إلى حدّ الاستطاعة أو لا، هل يجب عليه الفحص أو لا؟ وجهان، أحوطهما ذلك، و كذا إذا علم مقداره و شكّ في مقداره مصرف الحجّ، و أنّه يكفيه أو لا. (1)*

مديون عرفا.

نعم يشكل الأمر في الرابع، إذا احتمل انّه ربّما يخلف وعده و يطالبه بالدين، فمثله مانع عن تحقّق الاستطاعة. و بالجملة الميزان صدق الاستطاعة عرفا و عدمه، و هو يدور على اعتداد العرف بالدين و عدمه.

(1)* ذكر للشك في الاستطاعة صورتين:

1. إذا علم مصارف الحجّ و نفقته، و انّه يتوقّف على صرف مليون تومان مثلا، و لكن يشكّ في بلوغ ما في يده إلى هذا المقدار أو لا.

2. إذا علم مقدار ما في يده، و لكن يشك في نفقة الحجّ و مصارفه، و انّ ما في يده من المال يكفي نفقة الحجّ و عدمه.

ثمّ إنّ المصنّف ذكر انّ الأحوط هو الفحص، و لمّا كان عدم الفحص في الشبهات الموضوعية هو الأصل المسلم كما في باب النجاسات و نظائرها و لازم ذلك عدمه في المقام جعل المصنّف الفحص أحوط القولين.

و استدلّوا على وجوب

الفحص في المقام بوجهين:

1. لو لا الفحص لزمت المخالفة القطعية كثيرا.

و الظاهر انّ المراد، علم المكلّف بالمخالفة القطعية لو لم يفحص مطلقا.

يلاحظ عليه: أنّ حصول العلم للمكلّف ممنوع إذا كانت موارد الابتلاء قليلة، كالحجّ و غيره، و أمّا إذا كان الابتلاء غير قليل، فعدم تنجيز العلم في مثله الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 149

.......... لكونه داخلا في الشبهة غير المحصورة.

2. رواية زيد الصائغ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام الواردة في كيفية تزكية الدراهم المغشوشة قال: «إن كنت تعرف أنّ فيها من الفضة الخالصة، ما يجب عليك فيه الزكاة فزكّ ما كان لك فيها من الفضة الخالصة من فضة، ودع ما سوى ذلك من الخبيث».

قلت: و إن كنت لا أعلم ما فيها من الفضة الخالصة، إلّا أنّي أعلم أنّ فيها ما تجب فيه الزكاة؟ قال: «فاسبكها حتّى تخلص الفضة و يحترق الخبيث، ثمّ تزّكي ما خلص من الفضة لسنة واحدة». «1» و لو لا وجوب الفحص لما أمر الإمام بتصفيتها.

و ربما يعترض بأنّ أداء الزكاة لا يتوقّف على التصفية لإمكان إخراج الزكاة من المال بالنسبة، و على هذا فالرواية في مقام بيان كيفية التخليص و تعليمها. «2»

يلاحظ عليه: أنّ معنى ذلك انّ الإمام بصدد بيان أمر تكويني صناعي هو خلاف الظاهر و يبدو أنّ الراوي لم يكن بصدد إخراج الزكاة من عين الدراهم بإعطاء الزكاة بنسبة المال الموجود، فلذلك علّمه الإمام، طريق التخلّص.

و الأولى أن يقال: انّ الأمور المبنية على التقدير و المحاسبة كإخراج الخمس و الزكاة و أداء ديون الناس، و بلوغ المال إلى حدّ الاستطاعة لا تجري في مثلها البراءة من دون تفحص، بل أدلّتها منصرفة عن هذه الأمور، من دون فحص،

و لذلك أمر الإمام زيدا بالتصفية، ليعلم مقدار الواجب.

و منه يظهر ما في الاستدلال على عدم وجوب الفحص حتّى في هذه

[المسألة 22: لو كان بيده مقدار نفقة الذهاب و الإياب

المسألة 22: لو كان بيده مقدار نفقة الذهاب و الإياب، و كان له مال غائب لو كان باقيا يكفيه في رواج أمره بعد العود، لكن لا يعلم بقاءه أو عدم بقائه، فالظاهر وجوب الحجّ بهذا الذي بيده، استصحابا لبقاء الغائب. فهو كما لو شكّ في أنّ أمواله الحاضرة تبقى إلى ما بعد العود أو لا فلا يعدّ من الأصل المثبت. (1)*

الموارد، بأنّ المهم صدق عنوان العالم و الجاهل و لا واسطة بينهما، فإن كان عالما لا يجري في حقّه الأصل بخلاف ما إذا كان جاهلا، فإذا صدق عنوان الجاهل لا يجب عليه الفحص و يجوز له الرجوع إلى الأصل حتّى في مثل مراجعة الدفتر و النظر إلى الفجر لإطلاق أدلة الأصول. «1»

يلاحظ عليه: أنّه إذا كان العلم بالواقع أمرا ميسورا، فلا يعد الشخص جاهلا عرفا، فالمحور عدم كون الرجل جاهلا عرفا، لا عقلا.

و أمّا التمسّك بإطلاقات أدلة الأصول، فهي منصرفة عن المواضع التي يكون التدقيق و المحاسبة أساسا لها، كما هو الحال في الضرائب المأخوذة من التجار و أرباب المكاسب فليس للتاجر، الضرب عن دفعها بحجة أنّها غير معلومة، مع إمكان تحصيل العلم بالرجوع إلى منابع ضبط أرباح التجارة.

(1)* أقول: إنّ استصحاب بقاء المال الغائب في عبارة المصنف ملفّق من استصحابين:

1. استصحاب بقاء المستصحب في الزمان السابق إلى وقت الشكّ.

2. استصحاب بقاء المال إلى ما بعد العود.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 151

و الروايات الواردة حول الاستصحاب ظاهرة في القسم الأوّل، و أمّا استصحاب بقاء الشي ء و جرّ وجوده إلى ما بعد الحال فلم

يدلّ عليه دليل إلّا تنقيح المناط، و قد استشهدوا على جوازه باستصحاب بقاء الدم إلى ثلاثة أيّام.

فالمتعين ترك العمل بالاستصحاب فيما يرجع الأمر إلى المستقبل، و الرجوع إلى وجود الوثوق و عدمه، فلو كان هناك وثوق بالبقاء فيترتب عليه الأثر و إلّا فلا، و أمّا ما هي مبادئ الوثوق و مصادره فتختلف حسب اختلاف الموضوعات التي طرأ الشك على بقائها في المستقبل، فربّ شي ء له استعداد البقاء مدّة طويلة أو قصيرة و ربما لا يكون له ذاك الاستعداد، لكن العلمين- السيد الحكيم و السيد الخوئي- ذهبوا إلى حجّية الاستصحاب في كلا الموردين، الماضي و المستقبل.

و على كلّ تقدير فقد أورد على الاستصحاب في المقام إشكالان:

1. يشترط في المستصحب أن يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي فما هو المستصحب في المقام، هل هو حكم شرعي أو موضوع لحكم شرعي؟

الجواب: انّ المقام من قبيل القسم الثاني، لأنّ المستصحب (كونه ذا مال) موضوع لحكم شرعي، لأنّ المستطيع هو من يملك الزاد و الراحلة و قوت عياله إلى عوده مع كونه ذا مال حتّى لا يسأل الناس بكفه، و الذي يدلّ على أنّ الموضوع مركّب من الأمور الثلاثة هو خبر عبد الرحيم القصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سأله حفص الأعور و أنا أسمع عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؟ قال: «ذلك القوة في المال و اليسار»، قال: فإن كانوا موسرين فهم ممّن يستطيع؟ قال: «نعم». «1» فانّ التعبير بالقوة في المال و اليسار، عبارة أخرى عن كونه مالكا للزاد و الراحلة و ذا مال للرجوع إلى الكفاية.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 152

و السند صحيح إلى

عبد الرحيم القصير و هو لم يوثق و لكن تعضدها روايات أخرى في الباب، منها:

خبر أبي الربيع الشامي حيث قال: سئل أبو عبد اللّه عن قول اللّه عزّ و جلّ:

وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فقال: «ما يقول الناس؟»، قال: فقلت له: الزاد و الراحلة، قال: فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «قد سئل أبو جعفر عليه السّلام عن هذا فقال: هلك الناس إذا لئن كان له زاد و راحلة قدر ما يقوت عياله و يستغني به عن الناس، يجب عليه أن يحجّ بذلك ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفه لقد هلك إذا ...». «1»

و بذلك ظهر ضعف ما ربما يقال:

إنّ الموضوع للحكم الشرعي هو الرجوع إلى الكفاية و استصحاب بقاء المال إلى زمان العود لا يثبت هذا الموضوع إلّا على الأصل المثبت.

يلاحظ عليه: أنّ الموضوع في لسان الفقهاء هو الرجوع إلى الكفاية و لكنّه في لسان النص هو ما عرفت، أعني: القوة في المال و اليسار، فيستصحب كونه ذا قوة في المال، و الأصل بقاؤه.

2. استصحاب بقاء المال الغائب لا يثبت كونه حاضرا لديه واقعا تحت يده.

يلاحظ عليه: أنّ الموضوع هو التمكّن من التصرف في المال لا كونه حاضرا، و لو كان متمكّنا من التصرف يكفي في جريان الاستصحاب.

[المسألة 23 إذا حصل عنده مقدار ما يكفيه للحج يجوز له أن يتصرف فيه بما يخرجه عن الاستطاعة]

المسألة 23: إذا حصل عنده مقدار ما يكفيه للحج، يجوز له- قبل أن يتمكّن من المسير- أن يتصرف فيه بما يخرجه عن الاستطاعة، و أمّا بعد التمكن منه فلا يجوز، و إن كان قبل خروج الرفقة. و لو تصرّف بما يخرجه عنها بقيت ذمّته مشغولة به. و الظاهر صحّة التصرف- مثل الهبة، و العتق- و إن كان فعل حراما، لأنّ النهي متعلّق

بأمر خارج. نعم لو كان قصده في ذلك التصرف الفرار من الحجّ لا لغرض شرعي، أمكن أن يقال بعدم الصحة. و الظاهر أنّ المناط في عدم جواز التصرف المخرج هو التمكّن في تلك السنة، فلو لم يتمكّن فيها، و لكن يتمكّن في السنة الأخرى لم يمنع عن جواز التصرف، فلا يجب إبقاء المال إلى العام القابل إذا كان له مانع في هذه السنة، فليس حاله حال من يكون بلده بعيدا عن مكة بمسافة سنتين. (1)

(1) في المسألة فروع أربعة:

1. إذا حصل عنده مقدار ما يكفيه للحجّ، فهل يجوز أن يتصرف فيه في غير الضروريّات بما يخرجه عن الاستطاعة كأن يهبه؟ فقد فصّل المصنف بين التصرف قبل أن يتمكن من المسير، و التصرّف بعد التمكّن منه و إن كان قبل خروج الرفقة.

2. لو تصرّف بعد التمكّن من السير بقيت ذمّته مشغولة بالحجّ.

3. هل التصرّف بعد التمكّن من المسير، حرام تكليفا، أو حرام تكليفا و وضعا فلا يصحّ التصرّف مطلقا، أو ما إذا كان قصده من التصرّف هو الفرار من الحجّ؟

4. المناط في عدم جواز التصرّف المعجز، هو التمكّن في تلك السنة، فلو لم الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 154

يتمكّن فيها و لكن يتمكّن في السنة الأخرى فلا يجب إبقاء المال.

ثمّ إنّ الفرع الرابع من متمّمات الفرع الأوّل، لأنّه إذا كان الميزان هو التمكّن عن المسير، فلا بدّ أن يحدّد التمكّن من حيث السنة، فهل الميزان سنة الاستطاعة أو الأعم؟ فلو قلنا بالأعمّ، تكون النتيجة هي القول الرابع.

كما أنّ الفرع الثاني من نتائج الفرع الأوّل، لأنّه إذا قلنا بعدم جواز التعجيز، يصدق عليه أنّه مستطيع، و المستطيع إذا سوّف أو فوّت تكون ذمته مشغولة. فيتعيّن البحث

في مواضع ثلاثة:

1. هل يحرم التصرّف المعجز أو لا؟

2. و على فرض التحريم هل لحرمة التعجيز حد أو لا؟ و على الأوّل فما هو حدّه؟

3. لو خالف فهل يصحّ تصرفه أو لا؟ و إليك دراستها.

الأوّل: هل يحرم التصرّف المعجز؟

إذا حصلت الاستطاعة بعامة شرائطها، فهل يجوز للمستطيع أن يعجز نفسه بالتصرّف في ماله، بنحو الهبة و الوقف و غير ذلك أو لا؟ الظاهر كون الحرمة أمرا مفروغا عندهم.

مع ذلك يقع الكلام فيما هو الوجه لحفظ الاستطاعة، مع أنّ وجوب الحجّ وجوب مشروط، و الواجب المشروط لا يقتضي حفظ شرطه، فكما لا يقتضي إيجاد الشرط حدوثا، لا يقتضي وجوب إبقائه بقاء.

هذا هو الإشكال، و قد أجاب عنه السيد الحكيم بالفرق بين قول:

«المستطيع يجب عليه الحجّ» و قول: «من استطاع إليه سبيلا»، فانّ الأوّل ظاهر

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 155

في إناطة الحكم بالوصف حدوثا و بقاء، دون الثاني فهو ظاهر في كفاية وجود الشرط حدوثا، و نظيره ما إذا قيل: «إذا سافر وجب عليه القصر» فانّه يكفي في ترتب الحكم، تحقّق السفر آنا ما فيبقى الحكم و إن زال السفر، بخلاف ما إذا قيل «المسافر يجب عليه القصر»، إذ عندئذ يكون الحكم منوطا بالسفر حدوثا و بقاء. «1»

يلاحظ عليه: أنّ ما استظهره من أنّه إذا تعلّق الحكم بالمشتقّ، يشترط في حمل المحمول بقاء الموضوع حدوثا و بقاء، منقوض بقوله سبحانه: وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ «2» و الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي «3» و غيرهما من عناوين الضارب و القاتل، و السالب التي يكفي في صحّة إطلاقها، تلبّس الذات حدوثا لا بقاء، و ادّعاء وجود القرينة على كون التلبس فيها بالحدوث دون البقاء، غير صحيح في عامة الموارد، كآكل مال

الغير و شارب مائه، أو لابس ثيابه، و هاتك حرمته، إلى غير ذلك من الموارد التي يكفي التلبّس حدوثا و لا يلزم التلبّس بقاء.

و الأوّلى أن يقال: انّه إذا حصل عنده ما يكفيه للحجّ، فوجوب الحجّ عندئذ امّا وجوب معلّق أو وجوب مشروط.

فعلى الأوّل الوجوب فعليّ منجّز، غاية الأمر زمان الواجب متأخّر، و معه كيف يمكن له تعجيز نفسه بعد فعلية الوجوب و تنجزه.

و على الثاني، فالوجوب و إن كان مشروطا، لكن الواجب المشروط- بعد حصول شرطه- ينقلب إلى واجب مطلق، و ليس المراد انّ الحكم الكلّي، أعني قوله سبحانه: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «4» ينقلب إلى الواجب المطلق، لوضوح بطلانه، بل الحكم الجزئي في حقّ من استطاع، يكون الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 156

منجزا، فلا يخاطب بقوله: إذا استطعت فحجّ، بل يقال له أيّها المستطيع حجّ.

بل لو أنكرنا انحلال الحكم الكلي إلى أحكام جزئية، كما هو المختار فهو يكون عند العقل محكوما بوجوب الحجّ، بلا شرط، و يكفي ذلك في عدم جواز التعجيز، لأنّه يهدم ما يستقلّ به العقل بلا شرط.

الثاني: ما هو حدّ حرمة التعجيز؟

قد عرفت أنّ حرمة التعجيز أمر مفروغ عنه، فعندئذ يقع الكلام في حدّها، فهناك أقوال:

1. يجوز قبل خروج الرفقة و لا يجوز بعده. و هذا هو المعروف.

2. يجوز قبل التمكّن من السير و لا يجوز بعده. و هذا هو خيرة المؤلّف و السيد الحكيم و إن تردّد في آخر كلامه.

3. ما حكاه السيد الحكيم عن بعض الأعاظم [المحقّق النائيني في حاشيته على العروة من أنّه لا يجوز إذهاب المال في أشهر الحج و إن لم يتمكّن من المسير.

4. لا يجوز مطلقا،

قبل خروج الرفقة و لا بعده، لا قبل التمكّن من المسير و لا بعده، قبل دخول أشهر الحجّ، و لا بعده. و هو خيرة المحقّق الخوئي، و يمكن إرجاع القول الأوّل إلى الثاني، لأنّ التمكّن من المسير في الأزمنة السابقة كان مقرونا مع خروج الرفقة.

كما أنّ القول الثالث غير واضح، لأنّه إذا دخل شوال و لم يتمكّن من المسير،- على القول بأنّ الميزان هو التمكّن في عام الاستطاعة- يكشف عن أنّه لم يكن مستطيعا، فلا يجب عليه الحجّ و لا يجب حفظ الاستطاعة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 157

و المهم هو القول الثاني و الرابع.

و لنذكر كلمات القوم، و هم بين من عنون المسألة مستقلة، كالعلّامة في المنتهى و التذكرة و الشهيد في الدروس؛ و بين من أشار إليها في مورد خاص، و هو انّه إذا دار الأمر بين الحجّ و النكاح، كالأردبيلي في شرح الإرشاد و صاحب المدارك و صاحب كشف اللثام و صاحب الجواهر. و إليك ما وقفنا عليه من الكلمات:

1. قال العلّامة: لو كان له مال فباعه قبل وقت الحجّ مؤجّلا إلى بعد فوته، سقط الحجّ، لأنّه غير مستطيع، و هذه حيلة يتصور ثبوتها في إسقاط فرض الحجّ على الموسر، و كذا لو كان له مال فوهبه قبل الوقت، أو أنفقه فلما جاء وقت الخروج كان فقيرا، لم يجب عليه و جرى مجرى من أتلف ماله قبل حلوله. «1»

2. و قال في «التذكرة»: لو كان له مال فباعه نسيئة، عند قرب وقت الخروج إلى أجل يتأخر عنه، سقط الفور في تلك السنة عنه، لأنّ المال إنّما يعتبر وقت خروج الناس، و قد يتوسّل المحتال بهذا إلى دفع الحج. «2»

3. و قال في

«الدروس»: و لا ينفع الفرار بهبة المال أو إتلافه أو بيعه مؤجلا إذا كان عند سير الوفد. «3»

4. قال المحقّق الأردبيلي في شرح قول العلّامة: «و لا يجوز صرف المال في النكاح و إن شق تركه»: و اعلم أنّ الظاهر أنّ المراد بذلك وجوب الحجّ و تقديمه على النكاح، و عدم استثناء مؤونته من الاستطاعة، و كون ذلك في زمان وجوبه و خروج القافلة و تهيّؤ أسبابه، و إن كان قبله يجوز. «4»

5. و قال في «المدارك» في نفس المسألة: و لا يخفى انّ تحريم صرف المال في الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 158

النكاح إنّما يتحقّق مع توجّه الخطاب بالحجّ و توقّفه على المال، فلو صرف فيه قبل سفر الوفد- الذي يجب الخروج معه- أو أمكنه الحجّ بدونه، انتفى التحريم. «1»

6. قال في «كشف اللثام عن قواعد الأحكام»: (و يصرف المال) الكافي لمؤونة الحجّ (إلى الحجّ، لا إلى النكاح) عند خروج الوفد. «2»

7. قال في «الجواهر» في نفس المسألة: و لا يخفى أنّ تحريم صرف المال في النكاح إنّما يتحقّق مع توجّه الخطاب بالحجّ و توقّفه على المال، فلو صرف فيه قبل سير الوفد الذي يجب الخروج معه أو أمكنه الحجّ بدونه انتفى التحريم قطعا. «3»

إذا عرفت ذلك فلندرس الأقوال:

أمّا القول الثالث، أعني: كون الميزان هو «أشهر الحجّ» فهو غير تام، لأنّ أشهر الحجّ ظرف الواجب حيث لا تصحّ عمرة التمتع إلّا في هذه الأشهر الثلاثة، كما لا يصحّ الإتيان بمناسك الحجّ إلّا في الشهر الأخير من هذه الثلاثة.

كما أنّ القول الثاني يرجع إلى الأوّل، فيدور الأمر بين تحديده بنفس السنة، أو عدم تحديده بزمان خاص، فلو حصل عنده مال يكفيه للحج، و لا

يتمكّن من المسير في نفس السنة، لكن يتمكّن منه في السنة الثانية أو الثالثة فهل يجوز تفويت المال، أو لا؟ فالمشهور على الأوّل، و السيد المحقّق الخوئي على الثاني.

الظاهر هو الأوّل، لأنّ تكرار العمل في كلّ سنة، يشكّل قرينة على تحديد وجوب الحفظ بنفس السنة، من غير فرق بين كون الوجوب مشروطا أو معلقا،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 159

فانّ إيجاب مناسك العمرة و الحجّ في كلّ سنة يصير قرينة على لزوم حفظ الاستطاعة بالنسبة إلى نفس السنة، لا السنوات الأخرى، نعم الأحوط حفظها بلا تحديد بسنة خاصة.

الثالث: في صحّة التصرّف و عدمه لا شكّ انّ التصرّف في المال الذي حصلت الاستطاعة به حرام، لاستلزامه تعجيز النفس عن إتيان واجب فعلي منجّز، إنّما الكلام في الحرمة الوضعية بمعنى بطلان التصرّف فقد اختار المصنّف بطلانها إذا كانت الغاية، الفرار من وجوب الحجّ.

لكن التفصيل المذكور ليس بتام، لأنّ قصد التوصّل إلى الحرام لا يوجب بطلان المعاملة، لأنّ النهي متعلّق بأمر خارج عن المعاملة سببا و مسببا، و هو التفويت أو التعجيز، و هذا نظير النهي عن البيع وقت النداء، فانّه في الحقيقة متعلّق بتفويت صلاة الجمعة، سواء أكان بالبيع أم بغيره.

حتّى و لو افترضنا تعلّق النهي بالبيع بما انّه الجزء الأخير من مقدّمة الحرام، فالنهي لا يكشف إلّا عن المبغوضية و هو لا يكون دليلا على الفساد.

نعم لو كان النهي إرشادا إلى الفساد كما في قوله: «لا تبع ما ليس عندك» أو كان متعلّقا بأثر المعاملة كالتصرف في الثمن و المثمن، على نحو لا تجتمع حرمة التصرف في أحدهما، مع صحّة المعاملة، يكون دليلا على الفساد نحو قوله: ثمن العذرة سحت، أو ثمن المغنية سحت.

و أما في

غيرهما فلا دليل على البطلان.

[المسألة 24 إذا كان له مال غائب بقدر الاستطاعة لا يكون مستطيعا إلّا بعد التمكّن منه

المسألة 24: إذا كان له مال غائب بقدر الاستطاعة- وحده أو منضمّا إلى ماله الحاضر و تمكّن من التصرّف في ذلك المال الغائب يكون مستطيعا، و يجب عليه الحجّ، و إن لم يكن متمكّنا من التصرّف فيه- و لو بتوكيل من يبيعه هناك- فلا يكون مستطيعا إلّا بعد التمكّن منه، أو الوصول في يده. و على هذا فلو تلف في الصورة الأولى بقي وجوب الحجّ مستقرّا عليه إن كان التمكّن في حال تحقّق سائر الشرائط، و لو تلف في الصورة الثانية لم يستقرّ، و كذا إذا مات مورثه و هو في بلد آخر و تمكّن من التصرّف في حصّته أو لم يتمكّن فإنّه على الأوّل يكون مستطيعا بخلافه على الثاني. (1)*

(1)* في المسألة أمور:

الأوّل: إذا كان له مال غائب بقدر الاستطاعة- وحده- أو منضمّا إلى ماله الحاضر و يتمكن من التصرف يحكم عليه بالاستطاعة و وجوب الحج دونما إذا لم يكن متمكنا منه و لو بتوكيل من يبيعه هناك.

لا شكّ انّ المال بوجوده الواقعي- و لو لم يتمكن من التصرّف فيه- لا يصيّر الإنسان مستطيعا، بل الاستطاعة رهن التمكن من التصرّف فيه على نحو يبذله في طريق الحجّ، و بذلك يعلم أنّه لا فرق بين الحاضر و الغائب في إناطة الاستطاعة بالتمكّن و تخصيص المصنف المال الغائب بالذكر، لأنّ الابتلاء بعدم التمكّن من التصرّف فيه أكثر من المال الحاضر، و إلّا ربما يكون الإنسان ممنوعا من التصرّف في المال الحاضر. و على كلّ حال و يؤيد ما ذكرنا من اختصاص الاستطاعة بالمال الذي يتمكّن المالك من التصرّف فيه لسان النصوص:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 161

.......... 1. إذا هو يجد

ما يحجّ به. «1»

2. إذا قدر الرجل على ما يحجّ به. 2

3. و عنده ما يحجّ به. 3

4. من قدر على ما يحجّ به. 4

إلى غير ذلك من الروايات الظاهرة في لزوم كون المال تحت تصرّف المالك بحيث يتقلب فيه كيفما شاء.

الثاني: إذا تلف- مع التمكّن من التصرف- بقي وجوب الحجّ مستقرّا عليه إذا تزامن التمكّن مع سائر الشرائط، دونما إذا تلف فيما إذا لم يتمكّن منه.

نعم كان على المصنّف أن يقيد التلف بما إذا قصّر في التصرف فيه، و إلّا فلو تلف بلا تقصير في التصرّف، فهو يكشف عن عدم الاستطاعة و بالتالي عدم استقرار الحجّ عليه.

[المسألة 25: إذا وصل ماله إلى حدّ الاستطاعة لكنّه كان جاهلا به أو كان غافلا عن وجوب الحجّ عليه

المسألة 25: إذا وصل ماله إلى حدّ الاستطاعة لكنّه كان جاهلا به أو كان غافلا عن وجوب الحجّ عليه ثمّ تذكّر بعد أن تلف ذلك المال، فالظاهر استقرار وجوب الحجّ عليه إذا كان واجدا لسائر الشرائط حين وجوده، و الجهل و الغفلة لا يمنعان عن الاستطاعة، غاية الأمر أنّه معذور في ترك ما وجب عليه، و حينئذ فإذا مات- قبل التلف أو بعده- وجب الاستيجار عنه إن كان له تركة بمقداره، و كذا إذا نقل ذلك المال إلى غيره- بهبة أو صلح- ثمّ علم بعد ذلك أنّه كان بقدر الاستطاعة، فلا وجه لما ذكره المحقّق القمّي في أجوبة مسائله من عدم الوجوب، لأنّه لجهله لم يصر موردا، و بعد النقل و التذكّر ليس عنده ما يكفيه فلم يستقرّ عليه، لأنّ عدم التمكّن- من جهة الجهل و الغفلة- لا ينافي الوجوب الواقعيّ و القدرة الّتي هي شرط في التكاليف القدرة من حيث هي، و هي موجودة، و العلم شرط في التنجّز لا في أصل التكليف. (1)*

(1)* هنا فرعان:

1.

إذا وصل ماله إلى حدّ الاستطاعة لكنّه كان جاهلا به.

2. إذا وصل ماله إلى حدّ الاستطاعة لكنّه كان غافلا عن وجوب الحجّ.

و في كلتا الصورتين تذكّر بعد تلف المال، فهل يستقرّ عليه الحجّ أو لا؟

و إنّما استخدم لفظ الجهل في الصورة الأولى، و الغفلة في الصورة الثانية، لأجل انّ وجوب الحجّ من ضروريات الدين، و من البعيد أن يختفي وجوبه على المسلم العايش بين المسلمين.

و أمّا الأقوال، فثلاثة:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 163

.......... 1. يستقرّ عليه الحجّ، لأنّه إذا كان واجدا لسائر الشرائط حين وجود الاستطاعة، فالجهل و الغفلة لا يمنعان عن الاستطاعة، غاية الأمر انّه معذور في ترك ما وجب عليه، و حينئذ إذا مات قبل التلف أو بعده وجب الاستئجار عنه إن كانت له تركة بمقداره. «1»

2. لا يستقرّ عليه، لأنّه لجهله لم يصر موردا، و بعد النقل و التذكّر ليس عنده ما يكفيه فلم يستقرّ عليه، و هو خيرة المحقّق القمي.

و أورد عليه المصنّف بأنّ عدم التمكّن- من جهة الجهل و الغفلة لا ينافي الوجوب الواقعي، و القدرة التي هي شرط التكليف، القدرة من حيث هي، و هي موجودة، و العلم شرط في التنجّز لا في أصل التكليف.

3. التفصيل بين المقصر و القاصر في مورد وجوب الحجّ.

فلو كانت الغفلة عن وجوب الحجّ مستندة إلى التقصير منه كترك التعلم فالأمر كما ذكره المصنّف، فالغفلة في مثله لا تنافي الوجوب الواقعي، بخلاف ما إذا كانت الغفلة عن وجوبه غير مستندة إلى التقصير، فعندئذ لا يجب عليه الحجّ واقعا، لأنّ حديث الرفع في حقّه رفع واقعي، و الحكم غير ثابت في حقّه واقعا، ففي فرض الغفلة لا يجب عليه الحجّ، و في فرض وجوب

الحكم لا استطاعة له.

و منه يظهر حكم الجهل بالاستطاعة فإن كان جهله لوصول المال إلى حدّ الاستطاعة جهلا بسيطا الذي يتزامن مع الشكّ، فالظاهر استقرار الحجّ عليه، لأنّ الحكم بعدم الوجوب في حقّه حكم ظاهري لا ينافي وجوب الحجّ و استقراره عليه، بخلاف ما إذا كان الجهل مركّبا فلا يتوجه التكليف إليه واقعا، لعدم تمكّنه الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 164

.......... من الامتثال و لو بنحو الاحتياط. «1»

و لكن الأولى في التعبير، التفصيل بين الموردين: بين من يجري في حقّه الأصل و من لا يجري، ففي الأوّل يكون في ترك المأمور به معذورا دون الثاني.

و بعبارة أخرى: إذا كان عند الاستطاعة معذورا في تركه، و بعدها غير متمكّن منه، لا يستقرّ عليه الحجّ، بخلاف من لا يكون معذورا حين الاستطاعة في تركه، فيستقرّ عليه الحجّ بعد إزالتها.

ففي مورد الاستطاعة إذا كان قاصرا- كما إذا كان قاطعا بعدمها- يعد معذورا حين الاستطاعة يجري في حقّه الأصل فلا يستقرّ عليه الحجّ، بخلاف من كان مقصّرا، كما إذا احتمل الاستطاعة و كان شاكّا فيها، فترك الفحص فلا يكون معذورا في الترك حينها فلا يجري في حقّه الأصل فيعود الفرق بين القاصر و المقصّر إلى الفرق بين جريان الأصل و عدمه إلى الجهل المركب (العاجز) و الجهل البسيط.

كما هو الحال في مورد الغفلة عن الحكم الشرعي، فلو كان جاهلا مركبا، فهو جاهل قاصر لجزمه بعدم الوجوب، فيكون معذورا، في الترك فيجري في حقّه الأصل فلا يستقرّ عليه الحجّ بعد الاستطاعة، بخلاف ما لو كان جاهلا بسيطا، فهو جاهل مقصّر، ترك التعلّم مع الشك في الوجوب فلا يكون معذورا عند العقل، فلا يجري في حقّه الأصل لعدم اجتماع شرائط

جريانه. فيرجع الفرق بين الصورتين (الجهل البسيط و المركب)، إلى الفرق بجريان الأصل و عدمه، فالأولى بيان حكم الصورتين بنحو واحد، و هو جريان الأصل و عدمه فيهما.

[المسألة 26: إذا اعتقد أنّه غير مستطيع فحجّ ندبا]

المسألة 26: إذا اعتقد أنّه غير مستطيع فحجّ ندبا، فإن قصد امتثال الأمر المتعلّق به فعلا و تخيّل أنّه الأمر الندبيّ أجزأ عن حجّة الإسلام، لأنّه حينئذ من باب الاشتباه في التطبيق، و إن قصد الأمر الندبيّ على وجه التقييد لم يجز عنها، و إن كان حجّه صحيحا و كذا الحال إذا علم باستطاعته ثمّ غفل عن ذلك، و أمّا لو علم بذلك و تخيّل عدم فوريّتها فقصد الأمر الندبيّ فلا يجزي، لأنّه يرجع إلى التقييد. (1)*

(1)* ذكر المصنّف للمسألة صورا:

1. إذا اعتقد أنّه غير مستطيع فقصد امتثال الأمر المتعلّق به فعلا و لكن تخيل انّ الأمر الفعلي هو الأمر الندبي.

2. إذا اعتقد أنّه غير مستطيع و قصد الأمر الندبي على وجه التقييد.

3. إذا علم باستطاعته ثمّ غفل عن ذلك و قصد الأمر الندبي على وجه التقييد.

4. إذا علم باستطاعته لكن تخيّل عدم فوريتها فقصد الأمر الندبي.

فأفتى بالإجزاء في الصورة الأولى، و عدمه في الصور الثلاث الباقية.

أمّا الإجزاء في الصورة الأولى، فلأنّ صحّة العبادة رهن أمرها الواقعي و المفروض قصد الأمر الواقعي، و صار بصدد إطاعة الأمر المتعلّق بحجّة الإسلام لكنّه لقصور علمه، تخيل انّه مستحب لا واجب، مندوب لا فريضة، فهو من مقولة «الخطأ في التطبيق» بالنسبة إلى الأمر و المأمور به.

و أمّا عدم الإجزاء في الصور الأخيرة فلوجهين:

1. فلأنّ حجّة الإسلام تختلف مع غيرها في أنواع الحجّ بالخصوصيات الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 166

.......... الداخلية، نظير الاختلاف بين الظهر و العصر، و فريضة الفجر

و نافلتها، و أداء الصلاة و قضائها، مع اتّحاد الجميع حسب الصورة و الشكل، فإذا نوى حجّا غير حجّة الإسلام، كيف تجزي عنها؟

2. انّ روح العبادة هو قصد أمرها على ما هو عليه من الوجوب و الندب، فإذا نوى الأمر الندبي، لم يقصد أمر حجّة الإسلام، و عند ذاك كيف يجزي ما نواه من الأمر، عمّا لم ينو؟

و يترتّب على الوجهين: انّه إذا كان حجّة الإسلام تختلف عن غيرها بالتباين فكيف يجزي المبائن عن المبائن.

و إذا كان روح العبادة قصد أمرها، فكيف يجزي ما نواه من الأمر الندبي عن الأمر الوجوبي الذي لم يقصده؟

هذا و يمكن منع كلا الدليلين.

أمّا الأوّل، أعني: اختلاف حجّة الإسلام مع غيرها بالتباين، فهو ممنوع، لأنّ استكشاف التباين رهن أحد أمرين:

1. عدم صحّة العمل إلّا بقصد عنوانه كصلاتي الفجر و نافلته أو الأداء و القضاء منهما، فلا يجزي الإتيان بصلاتين كل بركوعين، بل يجب أن يكون الكل معنونا بعنوان الفجر و نافلته، أو الأداء و القضاء.

2. الحكم بتقديم أحدهما على الآخر أو وجوب العدول من أحدهما إلى الآخر، كما إذا شكّ في أثناء العصر في أنّه أتى بالظهر أو لا، بنى على عدم الإتيان و عدل إليها.

و أمّا الحجّ- فواجبه و مندوبه- حقيقته واحدة، و إنّما الاختلاف في بعض الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 167

.......... الشروط، فالواجب منهما مشروط بالاستطاعة الشرعية دون غيره.

و على ضوء ما ذكرنا فقد قصد الحجّ القابل الصالح للانطباق على الواجب و المستحب، فلا غرو في أن يكون مجزيا، لأنّه لم يأت بالمبائن، بل بنفس ما يصلح أن يكون واجبا، و قصد الأمر الندبي لا يخرجه عن الصلاحية، لما عرفت أنّ الاختلاف إنّما هو في الشروط

لا في الماهية.

أمّا الثاني، فهو ضعيف بوجهين:

أوّلا: أنّ روح العبادة، هو إتيان العمل للّه سبحانه، قال سبحانه: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «1»، و المراد من الدين في الآية، هو الطاعة، أي تخليص الطاعة له سبحانه، و يكون الفعل للّه سبحانه من دون حاجة إلى قصد الأمر، و المفروض انّه أتى بالحجّ للّه سبحانه، فإذا ضم حسن الفاعل إلى حسن الفعل، يكون العمل مقرّبا.

و ثانيا: نفرض انّ روح العبادة هو قصد أمرها المتعلّق لكنّه لا يضرّ في المقام، لأنّ المفروض انّه قصده في عامة الصور، لأنّ الفاعل قبل كلّ شي ء، بصدد الإتيان بما هو المأمور به فعلا، ثمّ يصفه بكونه مندوبا أو واجبا، و ربما يتخيل انّ المأمور به هو المندوب إمّا جهلا بالاستطاعة أو علما بها مع عروض الغفلة عليه، أو لا مع عروضها لكن تخيّل انّ حجّة الإسلام ليس وجوبها فوريّ.

و قد سبق من المصنّف طرح المسألة عند البحث عن شروط الوجوب التي منها البلوغ. «2» و يأتي نظيره في الحجّ النيابي في المسألة 110 فلاحظ.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي أفتى بعدم الإجزاء في الصورة الرابعة- أعني: ما لو

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 168

.......... علم بالوجوب، و تخيل عدم فوريته فحجّ ندبا- قائلا: إنّ في المقام أمرين: أحدهما وجوبي و الآخر ندبي مترتب على الأوّل و في طوله لا في عرضه، فإنّ الأمر بالضدين إذا كان على نحو الترتّب لا استحالة فيه، لأنّ الأمر الثاني مترتب على عدم الإتيان بالأوّل و لو كان عن عصيان، و قد ذكرنا في محلّه انّ كلّ مورد أمكن جريان الترتّب فيه، يحكم بوقوعه، لأنّ إمكانه مساوق لوقوعه فما حجّ به صحيح في نفسه،

إلّا أنّه لا يجزي عن حجّة الإسلام، لأنّ الأمر الفعلي لم يقصد و إنّما قصد الأمر الندبي المترتّب على مخالفة الأمر الفعلي، و لا يقاس هذا الفرض بالفرضين السابقين، لوحدة الأمر «1» فيهما، بخلاف المقام الذي تعدّد الأمر فيه على نحو الترتّب. «2»

أقول: إنّ الداعي الواقعي في عامة الصور، هو امتثال أوامره سبحانه، فهو حسب الإرادة الجدية الباطنية، لا يقصد سوى الامتثال، و الداعي الحقيقي إلى قصد الأمر المندوب، إنّما هو تلك الإرادة اللبيّة و المشيئة الواقعية، فهو في جميع الصور، بصدد كسب رضاه سبحانه من خلال امتثال ما أمر به، و بلغه رسوله، دون أن يتخلّف عنه قدر أنملة، لكن تفانيه في طاعة اللّه، صار سببا، لأن يأتي بغير الواقع، بنية انّه الواقع، على نحو لو وقف قبل العمل أو أثنائه، انّه غير مأمور به لرفضه.

و بذلك يظهر الفرق بينه و بين الترتّب، فانّ المكلّف عند الابتلاء بالأهم و المهمّ، عالم بأنّ الواجب و المطلوب منه هو الأهم دون المهم، فهو مع العلم به،

[المسألة 27: هل تكفي في الاستطاعة الملكيّة المتزلزلة للزاد و الراحلة و غيرهما]

المسألة 27: هل تكفي في الاستطاعة الملكيّة المتزلزلة للزاد و الراحلة و غيرهما، كما إذا صالحه شخص ما يكفيه للحجّ بشرط الخيار له إلى مدّة معيّنة، أو باعه محاباة كذلك، وجهان أقواهما العدم، لأنّها في معرض الزوال إلّا إذا كان واثقا بأنّه لا يفسخ و كذا لو وهبه و أقبضه إذا لم يكن رحما، فإنّه مادامت العين موجودة له الرجوع، و يمكن أن يقال بالوجوب هنا حيث إنّ له التصرّف في الموهوب فتلزم الهبة. (1)*

يرفض امتثال الواقع، و يتوجه إلى امتثال غيره فيكون المورد، مستعدا للأمر الترتّبي لانصرافه عن امتثال الأهم مائة بالمائة و رجوعه إلى إطاعة المهم، فلم يتعلّق

بامتثال الأهم أية إرادة، لا إرادة لبية و لا ظاهرية، فيصير المجال صالحا للأمر الترتّبي، بخلاف موردنا الذي هو في جميع الأحايين بصدد امتثال ما هو الواجب و المطلوب فعلا.

(1)* في المسألة فرعان:

1. كفاية الملكية المتزلزلة في الاستطاعة و عدمها.

2. المال الموهوب المقبوض، إذا كان الموهوب له غير رحم، هل يجب فيه التصرّف إذا كان كافيا في تحصيل الزاد و الراحلة، لأجل حفظ الاستطاعة، أو لا؟

و إليك دراسة الفرعين:

الفرع الأوّل: إذا ملك ما يكفي في الزاد و الراحلة و غيرهما لكن ملكيّته متزلزلة، كما إذا باع ما ليس ضروريا و جعل المشتري لنفسه خيارا، فهل تكفي تلك الملكية المتزلزلة للثمن في الاستطاعة أو لا؟ و مثّل المصنّف بما إذا صالحه شخص ما يكفيه للحجّ بشرط الخيار له إلى مدّة معيّنة أو باعه محاباة كذلك، و إنّما

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 170

.......... اختار هذين المثالين لأنّ التزلزل فيهما واضح.

هنا وجوه بل أقوال:

1. إن تمكّن المشتري من حلّ العقد و استرجاع الثمن، مانع عن تحقّق الاستطاعة و صدقها. و هذا خيرة المحقّق البروجردي.

2. انّه مستطيع، اعتمادا على عدم الفسخ في المستقبل. و هذا خيرة المحقّق الخوئي.

3. التفصيل بين الوثوق بعدم الفسخ، و عدمه، فتكفي في الأوّل دون الثاني.

أقول: ينبغي الكلام في مقامين:

1. مقام الثبوت.

2. مقام الإثبات.

أمّا الأوّل، فلو لم يفسخ كشف عدم الفسخ عن وجود الاستطاعة فيستقر عليه الحجّ عندئذ إذا لم يحجّ، كما أنّه لو فسخ، كشف عن عدم الاستطاعة، فلو حجّ فعليه حجة أخرى، لكون الأوّل غير متزامن مع الاستطاعة الواقعية على تأمّل.

و أمّا الثاني، فالظاهر عدم صدق الاستطاعة، مع الملكية المتزلزلة، لأنّ المستطيع عبارة عمّن حصل عنده مال له أن يتقلّب فيه مع

العلم بأنّه لا يترتّب على تصرّفه ضمان، بخلاف المقام، إذ فيه احتمال الضمان بالمثل إذا صرفه في الحجّ و فسخ المشتري العقد.

نعم لو كان واقفا بعدم الفسخ كما إذا استشفّ من خلال كلماته و أفعاله أنّه ليس بصدد الفسخ، كان عليه الاعتماد به، إذ هو علم عرفي، و معه لا حاجة إلى استصحاب عدم الفسخ لتقدم الأمارة على الأصل، على أنّ في جريان

[المسألة 28: يشترط في وجوب الحجّ- بعد حصول الزاد و الراحلة- بقاء المال إلى تمام الأعمال

المسألة 28: يشترط في وجوب الحجّ- بعد حصول الزاد و الراحلة- بقاء المال إلى تمام الأعمال، فلو تلف بعد ذلك (بعد حصول الزاد و الراحلة) و لو في أثناء الطريق كشف عن عدم الاستطاعة، و كذا لو حصل عليه دين قهرا، كما إذا أتلف مال غيره خطأ، و أمّا لو أتلفه عمدا فالظاهر كونه كإتلاف الزاد و الراحلة عمدا في عدم زوال استقرار الحجّ. (1)*

الاستصحاب في المستقبل تأمّلا واضحا تكرر منّا بيانه.

الفرع الثاني: لو وهبه و أقبضه إذا لم يكن رحما، فانّه مادامت العين موجودة، له الرجوع، فهل يجب التصرف فيه صونا للاستطاعة أو لا؟ و الفرع مبني على حصول الاستطاعة بالملكية المتزلزلة، فلو قلنا بها، تجب لأجل صيانة الاستطاعة بقاء، و أمّا لو قلنا بعدم كفايتها في صدقها، مطلقا، أو بلا وثوق، فلا يجب التصرّف، لأنّه يعدّ تحصيلا للقدرة و هو غير واجب في الحجّ.

(1)* المتبادر من الآيات و الروايات بقاء المال إلى تمام الأعمال، إذ لا تصدق الاستطاعة للحجّ إلّا ببقائها إلى تمام الأعمال، و يترتّب على ذلك الفروع الآتية:

1. لو تلف المال في أثناء الطريق.

2. لو حصل عليه دين قهرا، كما إذا أتلف مال غيره خطأ.

3. إذا أتلف مال الغير عمدا.

إنّ التلف و الإتلاف خطأ، يكشفان عن عدم الاستطاعة

للحجّ، بخلاف الإتلاف العمدي، فهو كإتلاف الزاد و الراحلة عمدا، فيستقرّ الحجّ عليه.

و سيوافيك في المسألة الآتية إمكان القول بالإجزاء إذا تلف المال في الأثناء.

[المسألة 29: إذا تلف بعد تمام الأعمال مؤنة عوده إلى وطنه

المسألة 29: إذا تلف بعد تمام الأعمال مؤنة عوده إلى وطنه، أو تلف ما به الكفاية من ماله في وطنه بناء على اعتبار الرجوع إلى كفاية في الاستطاعة، فهل يكفيه عن حجّة الإسلام أو لا؟ وجهان، لا يبعد الإجزاء، و يقرّبه ما ورد من أنّ من مات بعد الإحرام و دخول الحرم أجزأه عن حجّة الإسلام، بل يمكن أن يقال بذلك إذا تلف في أثناء الحجّ أيضا. (1)*

(1)* إذا تلف- بعد تمام الأعمال- أحد الأمرين:

1. مؤونة عوده إلى الوطن.

2. ما يرجع إلى الكفاية بناء على اعتبار الرجوع إلى كفاية في الاستطاعة، فهل يجزي عن حجّة الإسلام أو لا؟

الفرق بين هذه المسألة و ما تقدّم واضح، فإنّ تلف المال هناك كان قبل الأعمال، و في المقام بعد الأعمال، قد أراد المصنّف من قوله: «فلو تلف بعد ذلك في المسألة السابقة» التلف بعد حصول الزاد و الراحلة لا بعد الأعمال. و على أيّ تقدير فالمصنّف لم يستبعد الإجزاء و قطع به صاحب المدارك.

وجه التردد انّ التلف بعد تمام الأعمال يكون كاشفا عن عدم الاستطاعة واقعا فكان ما أتى به، حجّا مندوبا واقعا لا حجّا واجبا، و مع ذلك فيمكن القول بالإجزاء عن حجّة الإسلام بالوجوه التالية:

الأوّل: انّ المعتبر في الاستطاعة هو مؤونة الذهاب، و أمّا مؤونة العود أو الرجوع إلى الكفاية فليسا بمأخوذين في مفهومها، و إنّما قيل بالاعتبار لأجل رفع الحرج، فإنّ إيجاب الإقامة في مكة يكون حرجيا لأغلب الناس كما أنّ الرجوع من الحجّ من دون الرجوع إلى ما به

الكفاية أمر حرجي.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 173

.......... و على ذلك فما أتى به واجد للاستطاعة فيوصف بالوجوب، لما عرفت من عدم اعتبار الأمرين في واقع الاستطاعة.

فإن قلت: إنّ مقتضى قاعدة «لا حرج» عدم وجوب الحجّ في الواقع على من يجد مؤونة الذهاب دون مؤونة العود أو الرجوع إلى الكفاية، و عند ذلك تنعكس النتيجة فلا يوصف ما أتى به بالوجوب.

قلت: إنّ مجرى القاعدة هو رفع الحكم عمّن يريد الحجّ و هو لا يملك مؤونة العود و لا الرجوع إلى الكفاية، و أمّا رفع الوجوب عمّن حجّ بزعم انّه يملك مؤونة العود و الرجوع إلى الكفاية فبان خلافه فالرفع فيه على خلاف الامتنان، و دليل الحرج دليل امتناني لا يجري فيما إذا كان رفع الوجوب على خلافه.

الثاني: لو كان تلف المال بعد تمام الأعمال كاشفا عن عدم الوجوب فليكن كذلك إذا تلف عند العود في أثناء الطريق أو مرض مرضا شديدا على نحو لا يتحمّل، مع أنّه لم يقل أحد بانقلاب حجّه من الواجب إلى المندوب.

الثالث: سكوت النصوص عن التعرض لهذه المسألة و ما أشبهها مع كثرة اتفاق هذه الطوارئ من مرض و تلف مال و نحو ذلك ممّا يوجب زوال الاستطاعة مع الغفلة عن ذلك و ارتكاز المتشرعة على صحّة الحجّ و ربما يكون دليلا على الإجزاء.

الرابع: ما ورد من أنّ من مات بعد الإحرام و دخول الحرم أجزأه عن حجّة الإسلام، فإذا كان امتثال الجزء كافيا فكيف لا يكون امتثال الكلّ كذلك، بل يمكن أن يقال بذلك إذا تلف في أثناء الحجّ أيضا، و هذا الوجه ذكره المصنّف في المتن، و أمّا غير هذه الوجوه فقد اقتبسناه من الشروح بتوضيح منّا.

و مع

ذلك فهذه الوجوه لا تخلو من ضعف.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 174

.......... أمّا الأوّل: فلأنّ الاستطاعة قد جاءت في الآية الشريفة، و قد قلنا إنّ تقييد وجوب الحجّ فيها بالاستطاعة مع أنّ التكاليف كلّها مشروطة بها دليل على أنّ القدرة المأخوذة في وجوب الحجّ غير القدرة المأخوذة في الوضوء و الصلاة و غيرهما عقلا، فهي في غير الحجّ عقلية محضة و فيه شرعية، فلذلك لا يجب الحج عن طريق الخدمة للغير لأنّها تحصّل قدرة عقلية و ليست بشرعية.

فإذا قيل: أيّها الناس- و هم متفرقون في أقطار العالم- من استطاع إلى الحجّ فليرحل فلا يفهم منه إلّا من استطاع على الذهاب و الإقامة في مكة لأداء المناسك و الإياب، فمؤونة الإياب أيضا مأخوذة فيها عند العرف، فالقول بأنّ مؤونة الإياب غير مأخوذة فيها و إنّما قيل بها لأجل رفع الحرج كما ترى.

و أمّا الاستدلال بعدم الأخذ بأنّ من قدر على الحجّ ذهابا و لم يكن له رغبة بالرجوع إلى الوطن يجب عليه الحجّ، فضعيف جدّا، لأنّ الفرد النادر لا يكون دليلا على أغلب الأفراد مضافا إلى الفرق بينه و بين غيره، فإنّ الاستطاعة تقدّر بقدر الحاجة، فإذا كان مقصده ابتداء و نهاية هو الإقامة في مكة، فلا معنى لاعتبار مازاد عليه، بخلاف من يحاول الرجوع إلى الوطن.

و أمّا الثاني: أعني الاستدلال بمن تلف ماله في أثناء الرجوع أو مرض مرضا شديدا فهو من جزئيات هذه المسألة، فالقائل بعدم الوجوب يقول به في هذه المسألة أيضا، إلّا إذا مرض قريبا من وطنه على نحو لا يخرجه عن الاستطاعة البدنية عرفا.

و أمّا الثالث- أي سكوت النصوص-: فلو تم ذلك لم يكن فرق بين زوال الاستطاعة بعد زوال

الأعمال و في أثنائها و قبلها لاشتراك الجميع فيما ذكرنا.

و أمّا الرابع: فالاستدلال أشبه بالقياس مع الفارق فإنّ الزائر في المقيس الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 175

.......... عليه، مات بعد الإتيان بجزء الأعمال و هو مستطيع، فأين هو ممّن فقد الاستطاعة أو الرجوع إلى الكفاية بعد تمام الأعمال، فقياس الفاقد بالواجد قياس مع الفارق.

نعم يمكن أن يحتجّ بالحديث فيمن مات بعد ما أحرم و دخل الحرم و أتى بقسم من الأعمال، و ذلك بمفهوم الأولوية.

هذه هي دراسة المسألة على ضوء القواعد، و مع ذلك كلّه يمكن القول بالإجزاء بوجهين:

الأوّل: انّه أتى بالأعمال و هو مستطيع، أي كان معه مؤونة الرجوع، و امتثل الأمر الوجوبي و هو جامع للشرائط، و امتثال المأمور به بعامة أجزائه و شرائطه مسقط للأمر، و تلف المال- بعد انجاز العمل- لا يقلب الواقع عمّا هو عليه، و انقلابه من الغنى إلى الفقر، لا يؤثر فيما سبقه اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ وصف العمل بالوجوب مشروط بالشرط المتأخّر على بقاء مؤونة الرجوع أو الرجوع إلى الكفاية، و المفروض عدمه، فلا يوصف بالوجوب فتأمّل. «1»

هذا و سيأتي الكلام في أواخر المسألة 81، فلاحظ.

الثاني: انّه قام بالواجب في ضوء الأمارات و الأصول التي دلّت على أنّه مستطيع إلى نهاية الأمر ثمّ انكشف تخلّفها بعد إتيان العمل، و قد تقرّر في محلّه أنّ العمل على وفق الأمارات و الأصول مجز و إن تبيّن خلافه.

[المسألة 30: الظاهر عدم اعتبار الملكيّة في الزاد و الراحلة]

المسألة 30: الظاهر عدم اعتبار الملكيّة في الزاد و الراحلة، فلو حصلا بالإباحة اللازمة كفى في الوجوب لصدق الاستطاعة، و يؤيّده الأخبار الواردة في البذل، فلو شرط أحد المتعاملين على الآخر في ضمن عقد لازم أن يكون له التصرّف في

ماله بما يعادل مائة ليرة مثلا وجب عليه الحجّ، و يكون كما لو كان مالكا له. (1)*

هذا ما يمكن أن يقال- و مع ذلك- فالأفضل أنّه لو استطاع فعليه أن يحجّ حجة ثانية.

(1)* لا شكّ انّ المكلّف إذا ملك الزاد و الراحلة مقرونا مع سائر الشروط يجب عليه الحجّ، و أمّا لو افترضنا انّه أبيح له التصرف في ضمن عقد لازم بمقدار يكفيه للذهاب و الإياب متزامنا مع سائر الشروط، فهل يكفي في الاستطاعة أو لا، كما لو شرط أحد المتعاملين في ضمن عقد لازم على الآخر أن يكون له التصرّف في ماله بما يعادل مائة ليرة مثلا؟

و الظاهر عدم الدليل على شرطية الملكية، و ذلك لأنّ بعض الأدلّة و إن كان ظاهرا في الملكية كما في قوله عليه السّلام: «يكون له زاد و راحلة». «1»

لكن بعضها الآخر ظاهر في كفاية التمكّن من التصرف، كما في قوله عليه السّلام:

«إذا قدر الرجل على ما يحجّ به».»

و نظيره صحيحة معاوية و فيه: «إذا هو يجد ما يحجّ به». «3» و لا مانع من الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 177

.......... الأخذ بكلّ منهما و القول بكفاية كلّ، و ليس المقام من باب تقيد المطلق بالمقيد، لأنّ الدليلين مثبتان فلا منافاة بينهما حتّى يحمل المطلق على المقيد.

هذا ما يقتضيه صناعة الفقه و يوافقه فهم العرف فلا يفرق بين ملكية المال و إباحة التصرّف، و ذلك لأنّ الملاك هو الاستطاعة على إنجاز عمل الحجّ، سواء أكان بالملكية أم بإباحة التصرّف، و المفروض انّه ليس للمشروط عليه التخلف و الرجوع عن الإذن.

و الحاصل: انّ الاستطاعة أمر عرفي و الملكية و الإباحة من مقدّمات القدرة فلا فرق عنده بين المقدّمتين.

ثمّ إنّ

السيّد الحكيم ذهب إلى عدم كفاية الإباحة الشرعية، و ذكر في تأييد ذلك ما يلي: انّه لم يظهر الفرق بين الإباحة المالكية و الإباحة الشرعية و ليس بناؤهم على الاجتزاء بها في حصول الاستطاعة، فلا يجب الاصطياد و الاحتطاب و أخذ المعدن و نحو ذلك إذا أمكن المكلّف ذلك، لكونه مستطيعا بمجرّد الإباحة في التصرّف. «1»

يلاحظ عليه: بوجود الفرق بين الإباحة المالكية و الشرعية، فإنّ الأولى لا تتوقّف على شي ء سوى التصرّف في مال المشروط عليه، و هو لا يعد في العرف تكسبا، و هذا بخلاف الإباحة الشرعية فإنّها تحتاج إلى مقدّمات كثيرة من اصطياد الأسماك بأدوات الصيد و عرضها للبيع في الأسواق، أو قطع الأشجار و احتطابها من الغابات و نقلها إلى القرى و الأرياف، إلى غير ذلك من الأعمال المضنية التي تعد مصداقا واضحا للتكسّب.

[المسألة 31: لو أوصى له بما يكفيه للحجّ فالظاهر وجوب الحجّ عليه بعد موت الموصي

المسألة 31: لو أوصى له بما يكفيه للحجّ فالظاهر وجوب الحجّ عليه بعد موت الموصي، خصوصا إذا لم يعتبر القبول في ملكيّة الموصى له، و قلنا بملكيّته ما لم يردّ، فإنّه ليس له الردّ حينئذ. (1)*

(1)* الوصيّة إمّا تمليكية كأن يوصي بشي ء من تركته لزيد، و إمّا عهدية كأن يوصي بما يتعلّق بتجهيزه أو باستيجار الحجّ له، و إمّا فكية تتعلّق بفكّ ملك كالإيصاء بالتحرير

لا شكّ في أنّ الوصية العهدية لا تحتاج إلى قبول، و أمّا الوصية التمليكية فإن كانت تمليكا للنوع كالوصية للفقراء و السادة، فهي كالعهدية لا يعتبر فيها القبول.

و إن كانت تمليكا للشخص، فالمشهور على أنّه يعتبر فيها القبول من الموصى له.

و الظاهر انّ تحقّق الوصية و ترتّب أحكامها من حرمة التبديل و نحوها لا يتوقّف على القبول، إنّما الكلام في تملّك الموصى له، فالمشهور

على أنّه متوقّف عليه فلا يتملّك قهرا.

و هناك من يقول: إنّ الإيصاء من الإيقاعات فلا يحتاج تملك الموصى له إلى القبول، نعم له ردّ الوصية.

و على كلّ تقدير فالظاهر حصول الاستطاعة بالوصية التمليكية إذا كانت كافية لمؤونة الذهاب و الإياب، سواء أقلنا بعدم حاجته إلى القبول فواضح، إذ يكون عندئذ كالحجّ البذلي الذي سيوافيك بأنّه لا يحتاج إلى القبول، أو قلنا بحاجته إليه، لأنّه لا يعد اكتسابا عرفا، فعلى ضوء ذلك يجب عليه القبول حفظا للاستطاعة.

[المسألة 32: إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين عليه السّلام في كلّ عرفة ثمّ حصلت لم يجب عليه الحجّ

المسألة 32: إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين عليه السّلام في كلّ عرفة ثمّ حصلت لم يجب عليه الحجّ، بل و كذا لو نذر إن جاء مسافره أن يعطي الفقير كذا مقدارا، فحصل له ما يكفيه لأحدهما بعد حصول المعلّق عليه، بل و كذا إذا نذر- قبل حصول الاستطاعة- أن يصرف مقدار مائة ليره مثلا في الزيارة أو التعزية أو نحو ذلك، فإنّ هذا كلّه مانع عن تعلّق وجوب الحجّ به. (1)*

(1)* و في المسألة فرعان:

الأوّل: إذا تزاحم الحجّ و النذر في سنة واحدة، أو عامّة السنوات.

الثاني: إذا تزاحم الحجّ مع واجب فوريّ، كأداء الدين الفوري، أو إنقاذ الغريق، أو تمريض المريض الذي لو تركه ربما يشرف على الموت، و إليك دراستهما:

1. إذا تزاحم الحجّ و النذر إذا تزاحم الحجّ و النذر في عامّة السنوات، كما إذا نذر قبل الاستطاعة أن يزور الحسين عليه السّلام في سنة أو سنتين أو في كلّ سنة يوم عرفة ثمّ حصلت الاستطاعة، و مثله ما إذا نذر أن يصرف مقدار مائة ليرة مثلا للزيارة أو التعزية أو نحو ذلك ثمّ حصلت الاستطاعة على نحو يزيل الصرف المذكور الاستطاعة.

و قد حكى المشايخ

أنّ صاحب الجواهر، لمّا اشتغل بتأليف الجواهر أحسّ أنّ إتمام المشروع رهن صبّ الجهود على التأليف و عدم الاشتغال بشي ء آخر سنتين، و لذلك نذر أن يزور الحسين عليه السّلام في كلّ عرفة حذرا من تعلّق وجوب الحجّ الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 180

.......... عليه إذا استطاع، (العمل الذي كان يأخذ من وقته- عند ذاك- شهورا مع وجود المخاطرات حوله التي ربما تودي بحياته قبل إنجاز المشروع)، فصار ذلك سببا لطرح هذه المسألة.

و اعلم أنّ المعنون في كلامهم هو إذا نذر الحجّ، ثمّ استطاع فيكون المنذور هو الحجّ، ثمّ يستطيع لحجّة الإسلام فلو كانت سنة النذر معيّنة، فيقدّم النذر؛ و إلّا فلو كانت مطلقة، أو يعمّ سنتين، فيقدّم حجّة الإسلام لفوريتها.

فهذه المسألة تفارق ظاهرا مع ما في المتن لأنّ المنذور في كلمات الأصحاب، هو الحجّ، و في مسألتنا هو زيارة الحسين في يوم عرفة و إن كانت النتيجة واحدة.

و إليك بعض كلماتهم:

قال في «الدروس»: و الظاهر انّ استطاعة النذر شرعيّة، لا عقلية، فلو نذر الحجّ ثمّ استطاع صرف ذلك إلى النذر، فإن أهمل و استمرت الاستطاعة إلى القابل وجبت حجّة الإسلام أيضا، و ظاهر الأصحاب تقديم حجّة الإسلام مطلقا، و صرف الاستطاعة بعد النذر إليها، إلّا أن يعيّن سنة للنذر، فيصرف الاستطاعة فيها إلى حجّ النذر. «1»

و حاصله: إذا نذر الحجّ ثمّ استطاع، يجب صرفها في حجّة الإسلام إلّا إذا عيّن سنة النذر، فيقدّم الحجّ المنذور على حجّة الإسلام.

فإذا وجب تقديم المنذور على الواجب، فلا فرق عندئذ بين كون المنذور، هو الحج- كما هو المعنون في كلام الدروس- أو زيارة الحسين في عرفة، أو إعطاء مقدار معيّن للفقير مزيلا للاستطاعة، أو صرفه في الزيارة

و إقامة العزاء لآل الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 181

.......... البيت عليهم السّلام- كما هو المعنون في كلام المصنف- لاشتراك الجميع في عدم اجتماعه مع الحجّ.

و قال الشهيد في «المسالك»: و لو نذره (الحجّ) قبل حصول الاستطاعة، ثمّ حصلت قبل الفعل، قدّمت حجّة الإسلام مع الإطلاق أو التقييد بمدة تزيد عن سنة بحيث يمكن فعله بعد ذلك، أو بسنة متأخرة عن عام الاستطاعة، و مع تعيّنه بتلك السنة يقدّم النذر، لعدم تحقّق الاستطاعة في تلك السنة المعينة. «1»

و قال سبطه: و لو اتّفق حصول الاستطاعة قبل الإتيان بالحجّ المنذور قدّمت حجّة الإسلام إن كان النذر مطلقا أو مقيدا بما يزيد عن تلك السنة أو بمغايرها، لأنّ وجوبها على الفور بخلاف المنذورة على هذا الوجه، و إلّا قدّم النذر لعدم تحقّق الاستطاعة في تلك السنة، لأنّ المانع الشرعي كالمانع العقلي، و على هذا فيراعى في وجوب حج الاسلام بقاء الاستطاعة إلى السنة الثانية. «2»

و قال في «الجواهر»: و لو كان نذره حال عدم الاستطاعة وجب الإتيان بالنذر مع القدرة و إن لم تحصل الاستطاعة الشرعية كما في غيره من الواجبات، إذ هي شرط في وجوب حج الإسلام للدليل دون غيره. «3»

إذا عرفت ذلك فإنّ في الفرع قولين:

1. تقديم النذر على الحجّ، لفقدان الاستطاعة الشرعية التي من أجزائها عدم مزاحمته لواجب سبق وجوبه على وجوب الحجّ، و عندئذ يكون وجوب النذر رافعا لموضوع وجوب الحجّ، أعني: الاستطاعة فلا تكون تامّة الاجزاء، و هذا ما

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 182

.......... عليه المصنّف و السيد الحكيم- قدّس سرّهما- تبعا لما هو المشهور.

2. تقديم الحجّ على النذر، لحصول الاستطاعة الشرعية بعامة أجزائها، من الزاد و الراحلة و تخلية

السرب و صحة الجسم على ما في النصوص، و لم يثبت كون عدم المزاحمة من محقّقاتها، و أمّا النذر، فلكونه مفوّتا للواجب، صار غير راجح.

و يشترط في صحّة النذر كونه راجحا حين العمل و لا يكفي الرجحان حين النذر.

نعم يمكن أن يقال بتقديم الحجّ على النذر، لا لأنّ وجوب الحجّ و تمامية الاستطاعة، يرفع موضوع النذر و هو الرجحان، لأنّ استلزام عمل راجح لترك واجب، لا يجعله مرجوحا- كما حقّق في باب «الأمر بالشي ء لا يقتضي النهي عن ضدّه»- فموضوع كلّ من الواجبين متحقّق حسب دليله فيقع التزاحم بين الدليلين، فلابدّ من إعمال مرجحات باب التزاحم، و من المعلوم أهمية حجّة الإسلام فلا يعارضها النذر.

فظهر ممّا ذكرنا انّ في الفرع قولين، و للقول الثاني مبنيين، فتقدّم الحجّ على النذر إمّا من باب التخصص، أو من باب ترجيح أحد الدليلين على الآخر، مع تحقّق موضوع كلّ منهما.

إذا عرفت ملخص الأقوال، فلندرس دليل كلّ واحد منها:

ألف: يقدّم النذر للمانع الشرعي عن الحجّ و حاصل هذه النظرية انّ كلّا من دليلي وجوب الوفاء بالنذر و العمل بالحجّ رافع لملاك الآخر فيتعيّن الرجوع إلى مرجّح و هو الأخذ بالسابق دون اللاحق تنزيلا للعلل الشرعية منزلة العلل العقلية، فكما أنّ العلل العقلية يكون السابق منها رافعا للاحق كذلك العلل الشرعية فيلغى احتمال كون اللاحق رافعا لموضوع السابق.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 183

.......... هذا حاصل النظرية، و إليك توضيحها:

إنّ رجحان المنذور- المشروط به صحّة النذر- يجب أن يكون مع قطع النظر عن دليل النذر، و مع مزاحمة النذر للاستطاعة إذا غضّ النظر عن دليل النذر يكون المنذور غير راجح، لأدائه إلى ترك الحجّ، و إنّما يكون المنذور راجحا بتوسط دليل

النذر الرافع للاستطاعة، و المفروض انّ المنذور يجب أن يكون راجحا مع قطع النظر عن دليل النذر.

فهذا من جانب و من جانب آخر انّ الاستطاعة المعتبرة في وجوب حجّ الإسلام يجب أن تكون حاصلة مع غضّ النظر عن وجوب الحجّ، و في المقام إذا غضّ النظر عن وجوب الحجّ ترتفع الاستطاعة بالنذر و تصير النتيجة عندئذ «1» انّ الأخذ بأحد الحكمين يكون رافعا لموضوع الآخر، و ترجيح وجوب الحجّ على وجوب الوفاء بالنذر بلا مرجّح، و إن كان الحجّ أهمّ، لأنّ ترجيح الأهم إنّما يكون في المتزاحمين الواجد كلّ منهما لملاكه و يكون تزاحمهما في مقام الامتثال لا في المتواردين اللّذين يكون كلّ منهما رافعا لملاك الآخر، بل فيهما يتعيّن الرجوع إلى منشأ آخر للترجيح و هو الأخذ بالسابق دون اللاحق. و يؤيد ذلك صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا قدر الرجل على ما يحجّ به، ثمّ دفع ذلك و ليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام». «2»

فانّه ظاهر في أنّ مطلق العذر رافع للفرض، و لا ريب في أنّ الوفاء بالنذر

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 184

.......... عذر، فيكون رافعا للفرض. «1»

يلاحظ عليه: أنّ فرض الأمرين: الأمر بالوفاء بالنذر، و الأمر بالحجّ إنّما يعدان من المتواردين اللّذين يكون كلّ منهما رافعا لملاك الآخر، إذا كانت الاستطاعة الشرعية مركبة من أمور منها عدم مزاحمة الحجّ لواجب آخر، فعند ذلك يصلح كلّ من الأمرين أن يرفع ملاك الآخر و موضوعه، فالأمر بالحجّ يرفع ملاك النذر لعدم كونه راجحا مع قطع النظر عن دليل النذر لاستلزامه تفويت الواجب.

كما أنّ الأمر بالوفاء بالنذر يرفع موضوع الحجّ، أعني: الاستطاعة لتقيدها بعدم

المزاحمة و المفروض مزاحمة الحجّ للوفاء بالنذر.

و أمّا لو قلنا بأنّ الاستطاعة الشرعية عبارة عن الزاد و الراحلة و تخلية السرب و صحّة الجسم من دون تقييدها بعدم مزاحمته لواجب آخر لعدم وروده في الروايات المفسرة للاستطاعة، فعندئذ يكون ملاك الحجّ تاما و موضوعه متحقّقا، دون الوفاء بالنذر، إذ لم يثبت حينئذ رجحانه مع قطع النظر عن أمر النذر، بل ثبتت مرجوحيته.

و عند ذلك لا يكون المقام من قبيل المتواردين، بل و لا المتزاحمين، فإنّ المتزاحمين عبارة عن الأمرين الواجدين للملاك فيقدّم الأهم، و أمّا المقام فالملاك لأحد الأمرين دون الآخر.

ب: الحجّ يقدّم لعدم الملاك في النذر يقدّم الحجّ على النذر لكون الحجّ تام الملاك دون النذر، و ذلك لأنّ الوفاء

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 185

.......... بالنذر ليس واجبا ابتدائيا نظير الصوم و الصلاة و إنّما هو واجب إمضائي بمعنى انّه إلزام من اللّه تعالى بما التزم المكلّف به على نفسه، فانّ الناذر يلزم على نفسه شيئا و اللّه تعالى يلزمه بالعمل به على نحو ما التزم به، فلابدّ من أن يكون العمل الملتزم به في نفسه قابلا للإضافة إلى اللّه تعالى و من هنا اعتبروا الرجحان في متعلّق النذر.

ثمّ لا يكفي مجرّد الرجحان في نفسه (كزيارة الحسين عليه السّلام) بل لابدّ في صحّة إضافة العمل إليه تعالى من ملاحظة سائر الملازمات و المستلزمات، كأن لا يكون العمل مستلزما لترك واجب أو إتيان محرم، و إلّا فلا يكون قابلا للإضافة إليه سبحانه، فزيارة الحسين عليه السّلام يوم عرفة و إن كانت راجحة في نفسها و لكنّها إذا كانت ملازمة لترك الواجب- كالحجّ- لا يمكن إضافتها إلى اللّه سبحانه، و هذا نظير نذر قراءة القرآن

من أوّل طلوع الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس بحيث تفوت عنه صلاة الفجر، أو ينذر سجدة طويلة تستغرق جميع الوقت بحيث تفوت عنه الصلاة المكتوبة، و نظيره من نذر صوم اليوم الذي يجي ء فيه مسافره فصادف يوم العيد، و لا ريب في انحلال النذر في أمثال هذه الموارد، و المقام من هذا القبيل فلا تصل النوبة إلى التزاحم فضلا عن أن يرفع النذر موضوع الاستطاعة.

فتحصل من جميع ما تقدّم: انّ النذر لا يزاحم الحجّ، لأنّ وجوبه مطلق غير مشروط بشي ء غير الاستطاعة المفسرة في النصوص و القدرة الشرعية المصطلحة غير مأخوذة فيه، بخلاف النذر فانّه مشروط بأن لا يكون محلّلا للحرام و محرّما للحلال. «1»

يلاحظ عليه: أنّ القدر المتيقّن من رجحان المنذور كونه راجحا بالذات الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 186

.......... حين النذر و المفروض انّه كذلك، و النهي التبعي عن المنذور حيث إنّ الأمر بالشي ء (الحجّ) يقتضي النهي عن ضدّه، لا يوجب المرجوحية الذاتية و إنّما هي مرجوحية عرضية.

نعم لو تعلّق النهي النفسي بالضد لكان لما ذكره وجه.

و الحاصل: انّه و إن أصاب في تفسير الاستطاعة بما ذكرناه من الزاد و الراحلة و تخلية السرب و صحّة الجسم و لم يقيدها بعدم مزاحمة الحجّ لواجب آخر، كما فعل السيّد الحكيم، لكنّه جعل النهي التبعي النابع من الأمر بالشي ء سببا لمرجوحية النذر و بالتالي خارجا له عن مجال التزاحم لانحصار الواجب بالحجّ، لما عرفت من أنّ هذه المرجوحية العرضية لا تجعل المحبوب مبغوضا إلّا بالعرض.

و أمّا عدم صحّة النذر فيما إذا نذر قراءة القرآن من أوّل الفجر إلى مطلع الشمس أو السجدة الطويلة المستغرقة لوقت الصلاة، فلأنّ النذر يعارض الواجب الثابت وجها بوجه

فأين هو ممّن نذر و لم يكن مستطيعا فاستطاع؟!

و ربما يقال بأنّ موضوع الحج هو العمل الراجح في ظرفه لا حين النذر و هنا ليس كذلك.

يلاحظ عليه: أنّه يكفي في صحّة النذر وجود الرجحان في المنذور بما هو هو و بقاؤه إلى وقت العمل و المفروض أنّه كذلك، و تزاحمه مع واجب آخر لا يسلب عنه الرجحان الذاتي، بل يجعلهما من مصاديق المتزاحمين، فيكون المرجع هو مرجّحات باب التزاحم.

ج: يقدم الحجّ لكونه أهمّ المتزاحمين و حاصل هذا القول: إنّ المورد داخل في المتزاحمين و انّ كلا من الموضوعين واجد للملاك و الشرائط، فالمنذور راجح و المكلّف مستطيع، و كلّ يطلب امتثاله،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 187

و كذا إذا كان عليه واجب مطلق فوريّ قبل حصول الاستطاعة، و لم يمكن الجمع بينه و بين الحجّ، ثمّ حصلت الاستطاعة و إن لم يكن ذلك الواجب أهمّ من الحجّ، لأنّ العذر الشرعيّ كالعقليّ في المنع من الوجوب.

و أمّا لو حصلت الاستطاعة أوّلا ثمّ حصل واجب فوريّ آخر لا يمكن الجمع بينه و بين الحجّ يكون من باب المزاحمة، فيقدّم الأهمّ منهما، فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدّم على الحجّ، و حينئذ فإن بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجب الحجّ فيه، و إلّا فلا إلّا أن يكون الحجّ قد استقرّ عليه سابقا، فإنّه يجب عليه و لو متسكّعا. (1)*

و عندئذ يرجع إلى مرجحات باب التزاحم و هو تقديم الأهم- أعني: الحجّ- على المهم.

و أمّا ما استدلّ به السيّد الحكيم على اتّخاذ عدم المزاحمة في تفسير الاستطاعة بصحيح الحلبي، فغير ظاهر، حيث جاء فيه: «و ليس له شغل يعذّره اللّه تعالى فيه»، فانّه كلام مجمل غير واضح، فإنّ كون

وجوب النذر عذرا في مقابل الحجّ يحتاج إلى دليل، و لعلّ المقصود من قوله: «شغل يعذره اللّه» هو الواجبات الموضوعة على عاتق الإنسان، كتمريض الأبوين و غيره بحيث لو ترك لتعرضا للضرر.

و من هنا يظهر أنّه لو ترك حجّ الإسلام و نوى حجّ النذر يقع صحيحا لتوجّه الأمر الثاني إليه بعنوان الترتّب. و سيوافيك الكلام أيضا في المسألة 18 (من فصل النذور و العهد).

(1)* هذا هو الفرع الثاني من الفرعين اللّذين أشرنا إليهما سابقا و الفرق بينهما واضح، فإنّ الحجّ في الفرع الأوّل يزاحم النذر، و في المقام يزاحم الحجّ الواجب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 188

.......... الفوري دون النذري، و قد ذكر المصنّف لهذا الفرع صورتين:

1. إذا كان عليه واجب مطلق قبل حصول الاستطاعة، فيقدّم الواجب المطلق على الحجّ، و إن كان الواجب غير أهمّ، لتقدّم وجوبه و سببه فيكون مانعا من حصول الاستطاعة الشرعية.

2. إذا حصلت الاستطاعة أوّلا، ثمّ حصل واجب مطلق فوري آخر، غير قابل للجمع، فيكون المورد من قبيل المتزاحمين، فيقدّم الأهم كإنقاذ الغريق، أو تمريض المريض الذي لا يقوم بحاجته غيره.

أقول: ما ذكره في الشقّ الأوّل صحيح على مبناه، بخلاف الشق الثاني، إذ لو كان عدم المزاحمة مع واجب آخر مأخوذا في مفهوم الاستطاعة الشرعية- كما عليه المصنّف حيث قدّم النذر على الحجّ لأجل ذلك-، كان اللازم التسوية بين الصورتين، فيقدّم الواجب المطلق على الحجّ مطلقا، و ذلك لأنّ عدم المزاحمة شرط الاستطاعة حدوثا و بقاء، فالاستطاعة بعامّة قيودها و إن كانت حاصلة حدوثا، لأنّ المفروض أنّ الاستطاعة حصلت ثمّ حصل واجب فوريّ، لكنّها ليست كذلك بقاء، لمزاحمة الحجّ مع واجب فوريّ، و تقدّم وجوب الحجّ، غير مؤثر في

المقام، لأنّ وجوب الواجب الفوري يرفع الاستطاعة، مطلقا، تأخّرت عنه كما في الصورة الأولى، أو تقدّمت عليه كما في الفرع الثاني، فعلى مبناه يجب تقديم الواجب الفوري على الحجّ مطلقا في كلتا الصورتين.

و أمّا على المختار من عدم شرطية عدم المزاحمة لتحقّق الاستطاعة فيدخل المقام في باب المزاحمة، لفعلية حكم كلّ من الحجّ و الواجب، و لا تأثير لتقدّم وجوب الحجّ، بعد صيرورة الحكم الثاني مثله في فعلية الحكم، و نظير ذلك: إذا ابتلى بأحد الغريقين أولا و قبل انقاذه ابتلى بغريق آخر و لا يستطيع الجمع بينهما،

[المسألة 33: النذر المعلّق على أمر قسمان

المسألة 33: النذر المعلّق على أمر قسمان، تارة يكون التعليق على وجه الشرطيّة، كما إذا قال إن جاء مسافري فللّه عليّ أن أزور الحسين عليه السّلام في عرفة، و تارة يكون على نحو الواجب المعلّق، كأن يقول: للّه عليّ أن أزور الحسين عليه السّلام في عرفة عند مجي ء مسافري فعلى الأوّل يجب الحجّ إذا حصلت الاستطاعة قبل مجي ء مسافره، و على الثاني لا يجب فيكون حكمه حكم النذر المنجّز في أنّه لو حصلت الاستطاعة و كان العمل بالنذر منافيا لها لم يجب الحجّ، سواء حصل المعلّق عليه قبلها أو بعدها و كذا لو حصلا معا لا يجب الحجّ، من دون فرق بين الصورتين، و السرّ في ذلك أنّ وجوب الحجّ مشروط و النذر مطلق، فوجوبه يمنع من تحقّق الاستطاعة. (1)*

فيتعين الأهمّ منهما.

ثمّ لو قدّم الواجب المطلق لأهميته لا يجب عليه الحجّ إلّا إذا كانت الاستطاعة باقية أيضا، أو كان الحجّ قد استقر عليه سابقا فتعلّل و أخّر.

و ما ربما يقال: لو بنى على كون المقام من باب المزاحمة فلازمه وجوب الحجّ عليه في السنة اللاحقة و إن

لم تبق الاستطاعة لاستقرار الحجّ في ذمّته «1» غير تام، لأنّه إن أراد الصورة الأخيرة (استقرار الحجّ عليه سابقا) فهو، و إلّا فلا وجه للوجوب بعد كون التأخير بأمر الشارع، فلو كان التأخير سببا لزوال الاستطاعة فلا وجه لإيجاب الحجّ عليه متكلّفا.

(1)* رجع الكلام في هذه المسألة إلى الفرع الأوّل من المسألة السابقة، أعني:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 190

.......... تعارض النذر مع الحجّ (لا تعارض الواجب الفوري مع الحجّ)، و الفرق انّه لم يكن في الفرع الأوّل أيّ قيد في مورد النذر بل نذر أن يزور الحسين عليه السّلام في عرفة أو كلّ عرفة، ثمّ استطاع فقط، و أمّا المقام فالنذر ليس مطلقا، بل له قيد، و هو على قسمين:

تارة يكون الوجوب غير مقيّد بشي ء، و يكون الواجب مقيّدا، و يسمّى بالواجب المعلّق.

و أخرى يكون الوجوب مقيّدا، و الواجب مطلقا، فلو قال: «للّه عليّ أن أزور الحسين عليه السّلام عند مجي ء مسافري» يكون الوجوب المستفاد من قوله: «للّه عليّ» مطلقا غير مقيّدا، و بالتالي يكون وجوبا منجّزا، سواء أجاء المسافر، أم لا، غاية الأمر يكون ظرف الواجب متأخرا.

و لو قال:

«عند مجي ء مسافري للّه علي أن أزور الحسين عليه السّلام في عرفة» على نحو يكون القيد راجعا إلى الوجوب، و يكون الوجوب مشروطا، فلا وجوب قبل مجي ء المسافر.

و يسمّى الأوّل بالواجب المعلّق، و الثاني بالواجب المشروط.

ثمّ إنّ المصنّف فرق بين الصورتين بالنحو التالي:

1. إذا كان النذر واجبا معلّقا، بمعنى فعلية الوجوب من لدن انشائه، و استقبالية الواجب، ففي هذه الصور يقدّم النذر، لتقدّم وجوبه على وجوب الحجّ، و إن استطاع قبل حصول القيد (مجي ء المسافر) فضلا عن استطاعته بعد حصول القيد، أو حصولهما معا أخذا

بتقدّم وجوب النذر و تأخّر وجوب الحجّ.

2. إذا كان وجوب النذر مشروطا، و حصلت الاستطاعة قبل حصول شرط

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 191

.......... الوجوب- أعني: مجي ء المسافر- فيقدّم الحجّ لتقدّم وجوبه على وجوب النذر و إن صار الثاني أيضا فعليا بحصول الشرط لكن بعد فترة من وجوب الحجّ.

حاصله: انّه إذا كان الوجوب حاليا يكون الوجوب منجّزا مطلقا من لدن إنشائه، سواء استطاع قبل مجي ء المسافر أم معه أو بعده، و يكون حكم هذا، نفس النذر الماضي في المسألة 32- أعني: إذا نذر أن يزور الحسين عليه السّلام في عرفة من دون ذكر أي قيد- و ذلك لأنّ القيد في المقام غير مؤثر، لرجوعه إلى الواجب دون الوجوب، فتأتي الأقوال الثلاثة الماضية، أعني:

1. يقدّم النذر، لأنّ كلا من الوجوبين يصلح لرفع وجوب الآخر فيكونان من قبيل المتواردين، و المرجح هو سبق الوجوب، لأنّ المانع الشرعي كالمانع العقلي.

2. يقدّم الحجّ، لتمامية شروط وجوبه لعدم شرطية عدم المزاحمة، و مرجوحية النذر، لكونه مفوتا للواجب الفوري- كما عليه السيد الخوئي- قدس سرّه-.

3. يقدّم الحج، لكون كلّ من الوجوبين فعليين فيقع التزاحم بينهما فيقدّم الأهم.

هذا إذا كان الوجوب حاليا و الواجب استقباليا.

و أمّا إذا كان الوجوب مشروطا بمعنى عدم تحقّق الوجوب قبل مجي ء المسافر، فعندئذ إذا حصلت الاستطاعة قبل مجي ء المسافر، فإن لم يحصل الشرط إلى خروج الرفقة، فلا كلام في وجوب الحجّ، و إن حصل قبله، فذهب المصنّف إلى تقديم الحجّ على النذر لتقدّم وجوبه على وجوب النذر.

يلاحظ على هذا الشقّ بوجهين: أوّلا: إذا كان عدم المزاحمة من شروط الاستطاعة، فهو شرط حدوثا و بقاء، و الشرط و إن كان حاصلا قبل مجي ء المسافر، لكنّه غير حاصل بعده،

فعليه يتحد

[المسألة 34: إذا لم يكن له زاد و راحلة و لكن قيل له: حجّ و عليّ نفقتك و نفقة عيالك

المسألة 34: إذا لم يكن له زاد و راحلة و لكن قيل له: حجّ و عليّ نفقتك و نفقة عيالك وجب عليه، و كذا لو قال: حجّ بهذا المال و كان كافيا له- ذهابا و إيابا- و لعياله، فتحصل الاستطاعة ببذل النفقة كما تحصل بملكها. (1)*

حكمه، مع الواجب المعلّق، لأنّ الواجب المشروط بعد حصول شرطه يكون كالواجب المطلق.

و ثانيا: على ما ذكر في الفرع الثاني للمسألة السابقة من أنّه «إذا حصلت الاستطاعة أوّلا، ثمّ حصل واجب فوري لا يمكن الجمع بينهما يكون من باب المزاحمة» يكون المقام أيضا داخلا في باب المزاحمة، إذ أي فرق بين الواجب الفوري (التمريض) المتأخر وجوبه عن الاستطاعة، و زيارة الحسين عليه السّلام في يوم عرفة بعد حصول شرطه (مجي ء المسافر).

و أمّا على المختار فالجميع داخل في موارد التزاحم بحصول شرط كلا الوجوبين، و لا أثر لتقدّم وجوب أحدهما على الآخر.

(1)* في المسألة فروع:

1. الفاقد للاستطاعة، إذا بذل له الزاد و الراحلة ذهابا و إيابا مع سائر الشرائط يجب عليه الحجّ.

2. فيما إذا أبيح له التصرف.

3. فيما إذا بذل له الثمن.

4. فيما إذا لم يكن البذل واجبا على الباذل لنذر و نحوه.

5. كون الباذل موثوقا به.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 193

.......... 6. لو كان له بعض النفقة فبذل البقية.

7. لو بذل له نفقة الذهاب دون الإياب، أو إذا لم يبذل نفقة العيال.

و إليك دراسة الكلّ واحدا بعد الآخر.

الأوّل: بذل الزاد و الراحلة الظاهر من كلمات الأصحاب اتّفاقهم على وجوب الحجّ إذا بذل لغير المستطيع ما يتمكّن معه من الحجّ مع سائر الشرائط من نفقة الذهاب و الإياب و نفقة العيال و لم أعثر على مخالف، و خالفنا

الجمهور إلّا الشافعي، فقد نقل عنه قولان إذا كان الباذل ولدا، و أمّا غير الولد، فلا يجب الحجّ بالبذل، و إليك نقل بعض الكلمات.

1. قال الشيخ في «الخلاف»: إذا بذل له الاستطاعة، لزمه فرض الحجّ، و للشافعي فيه وجهان: أحدهما مثل ما قلناه، و الثاني، و هو الذي يختارونه أنّه لا يلزمه.

دليلنا: إجماع الفرقة، و الأخبار الواردة في هذا المعنى، و أيضا قوله تعالى:

مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا و هذا قد استطاع. «1»

2. و قال في «الغنية» في تفسير الاستطاعة: و الاستطاعة تكون بالصحّة و التخلية، و أمن الطريق، و وجود الزاد و الراحلة. «2» و إطلاقه يعمّ صورة الإباحة و التمليك.

3. و قال المحقّق: و لو بذل له زاد و راحلة و نفقة له و لعياله وجب عليه.

4. و قال العلّامة في «المنتهى»: لو بذل له زاد و راحلة و نفقة له و لعياله الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 194

.......... وجب عليه الحجّ مع استكمال الشروط الباقية، و كذا لو حجّ به بعض إخوانه، ذهب إليه علماؤنا خلافا للجمهور.

لنا: إنّه مستطيع فوجب عليه الحجّ. «1»

5. و قال العلّامة في «التذكرة»: لو لم يكن له زاد و راحلة، أو كان و لا مؤونة له لسفره أو لعياله، فبذل له باذل الزاد و الراحلة و مؤونته ذاهبا و عائدا و مؤونة عياله مدّة غيبته، وجب عليه الحجّ عند علمائنا، سواء كان الباذل قريبا أو بعيدا، لأنّه مستطيع للحج، ثمّ قال: و للشافعي قولان في وجوب الحجّ إذا كان الباذل ولدا ...

و إن لم يكن ولد لم يجب القبول. «2»

6. و قال المحدّث البحراني: ظاهر الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) الإجماع على أنّه لو بذل له باذل الزاد

و الراحلة و نفقة له و لعياله، وجب عليه الحجّ، و كان بذلك مستطيعا. «3»

7. و في «الجواهر» بعد قول المحقّق «وجب عليه»: إجماعا محكيا في الخلاف و الغنية و ظاهر التذكرة و المنتهى و غيرهما إن لم يكن محصلا، و هو الحجّة بعد النصوص المستفيضة أو المتواترة. «4»

و قال ابن قدامة: و لا يلزمه الحجّ ببذل غيره له، و لا يصير مستطيعا بذلك، سواء كان الباذل قريبا أو أجنبيّا، و سواء بذل له الركوب و الزاد أو بذل له مالا، و قال الشافعي: إنّه إذا بذل له ولده ما يتمكّن به من الحجّ لزمه، لأنّه أمكنه الحجّ من غير منّة تلزمه و لا ضرر يلحقه الحجّ كما لو ملك الزاد و الراحلة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 195

.......... و استدلّ على عدم الوجوب بقول النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: «يوجب الحجّ الزاد و الراحلة»، إذ يتعيّن فيه تقدير ملك ذلك، أو ملك ما يحصل به. «1»

و الظاهر كون أصل الوجوب مسلّما عند الأصحاب، للروايات المتضافرة عليه، و لو كان هنا خلاف فإنّما هو في فروع المسألة كما سيوافيك.

و يدلّ عليه من الكتاب قوله سبحانه: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فإنّه يعدّ في العرف مستطيعا في خصوص التمليك أو الأعمّ، كما سيوافيك في الفرع الثاني من فروع المسألة.

و يدلّ عليه من السنّة الروايات المتضافرة.

1. روى الصدوق بسند صحيح عن العلاء بن رزين قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؟ قال: «يكون له ما يحجّ به».

قلت: فمن عرض عليه فاستحيا؟ قال: «هو ممن يستطيع». «2»

و على كلّ تقدير

فرواية محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام غير مشتملة على القيد الموجود في سائر الروايات، أعني: «و لو على حمار أبتر» الذي أوجد مشكلا في فهم روايات الباب.

2. روى الشيخ بسنده عن موسى بن القاسم بن معاوية بن وهب، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم- في حديث- قال:

قلت لأبي جعفر عليه السّلام فإن عرض عليه الحجّ فاستحيا؟ قال: «هو ممّن يستطيع الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 196

.......... الحجّ، و لم يستحيي؟! و لو على حمار أجدع أبتر، قال: فإن كان يستطيع أن يمشي بعضا و يركب بعضا فليفعل». «1»

3. صحيحة معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل لم يكن له مال فحجّ به رجل من إخوانه أيجزيه ذلك عن حجة الإسلام، أم هي ناقصة؟

قال: «بل هي حجة كاملة». 2

و دلالة الحديث على وجوب الحجّ واضحة لأنّه إذا كان الحجّ البذليّ حجا تاما و موصوفا بحجة الإسلام يجب الإتيان به.

4. صحيحة معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال: «فإن كان دعاه قوم أن يحجّوه فاستحيا فلم يفعل فإنّه لا يسعه إلّا أن يخرج و لو على حمار أجدع أبتر». 3

و سيوافيك أنّ هذه الرواية قرينة على تفسير سائر الروايات و أنّ محل التأكيد هو عدم القبول فاستقرّ عليه الحجّ.

5. صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث- قال: قلت له: فإن عرض عليه ما يحجّ به فاستحيا من ذلك أهو ممّن يستطيع إليه سبيلا؟

قال: «نعم، ما شأنه يستحيي و لو يحج على حمار أجدع أبتر، فإن كان يستطيع أن يمشي بعضا و يركب بعضا فليحج».

«4»

6. صحيحة أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام، يقول: «من عرض عليه الحجّ و لو على حمار أجدع مقطوع الذنب فأبى فهو مستطيع الحجّ». 5 ثمّ إنّ الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 197

.......... لأبي بصير في هذا الباب روايات ثلاث «1»، و الظاهر أنّها رواية واحدة لوحدة الراوي و الراوي عنه، فقد روى الجميع هشام بن سالم عن أبي بصير.

7. عن أبي أسامة زيد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، قال: سألته ما السبيل؟ قال: «يكون له ما يحجّ به»، قلت: أرأيت إن عرض عليه مال يحجّ به فاستحيا من ذلك؟ قال: «هو ممّن استطاع إليه سبيلا، قال: و إن كان يطيق المشي بعضا و الركوب بعضا فليفعل»، قلت: أرأيت قول اللّه: وَ مَنْ كَفَرَ أهو في الحجّ؟ قال: «نعم»، قال: «هو كفر النعم»، و قال: «من ترك». «2»

بقيت في المقام رواية أخرى سنذكرها في ذيل نكات الروايات.

نكات حول الروايات 1. انّ صاحب الوسائل نقل في الباب العاشر عشر روايات في إثبات المطلوب، و لكنّها في الحقيقة سبع، لأنّ الرابعة منقولة من «المقنعة» و هي إفتاء بالرواية و ليس رواية، كما أنّه نقل عن طريق هشام بن سالم عن أبي بصير ثلاث روايات، و الجميع رواية واحدة، إذ من البعيد أن يسأل أبو بصير عن حكم المسألة ثلاث مرات، فتكون الروايات الدالّة بضميمة ما نقله في الباب الثامن عن توحيد الصدوق، ثماني روايات.

2. ثمّ إنّ لمحمد بن مسلم روايتين: إحداهما نقلها الشيخ في التهذيب و الأخرى نقلها الصدوق في التوحيد و مضمونهما واحد.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 198

..........

ثمّ إنّ صاحب الوسائل لما نقل رواية الشيخ في الباب الثامن ناقصة و في الوقت نفسه نقل رواية الصدوق كاملة، قال في ذيل الرواية الثانية و زاد: «أي في نقل الصدوق» قلت: فمن عرض عليه فاستحيا ... مع أنّ الذيل موجود في نفس رواية الشيخ أيضا نقلها في الباب العاشر، فليس في نقل الصدوق زيادة عمّا نقله الشيخ فلاحظ.

3. ثمّ إنّ في هذه الروايات التي أطبقت على لزوم الحجّ عند البذل و لو على حمار أجدع و أبتر، أو بمشي بعض الطريق و الركوب في البعض الآخر يخالف القواعد العامة حيث إنّ الاستطاعة تابعة لشأن الإنسان و مكانته فلا يمكن الافتاء بأنّه لو عرض الحجّ و لو على حمار أبتر يجب الحج، و هذا الإشكال هو الذي ربما يصد البعض عن الإفتاء بمضمونه.

و لكن يمكن تفسير الروايات برواية معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام حيث جاء فيها: «فان دعاه قوم أن يحجّوه فاستحيا فلم يفعل فإنّه لا يسعه إلّا أن يخرج و لو على حمار أجدع أبتر». «1»

فإنّها صريحة في أنّ إيجاب الحجّ و لو على حمار أبتر يرجع إلى من استحيا و لم يحجّ فصار الحجّ مستقرا عليه، فعلى مثله أن يحجّ و لو على حمار أبتر، و بكلمة جامعة: يجب الحجّ متسكعا على مثل هذا لا كل من بذل له الحجّ يجب عليه و لو بالركوب على هذا النوع من الحمير.

و هذا التوجيه و إن كان لا يوافق مضمون أكثر الروايات فإنّ ظاهرها انّ البذل كان على هذا النحو من أوّل الأمر لكن رواية معاوية بن عمّار صريحة فيتصرف بها في غيرها.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 199

.......... 4. ثمّ

إنّ الشيخ روى رواية محمد بن مسلم بالسند التالي: «عن موسى بن القاسم، عن معاوية بن وهب، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم» «1» و لكن نسخة التهذيب المطبوعة سقيمة، لأنّ موسى بن القاسم و إن كان يروي عن جدّه معاوية بن وهب، لكن معاوية بن وهب في هذا السند يروي عن صفوان بن يحيى، و هو غير صحيح، لأنّ معاوية بن وهب من أصحاب الإمام الصادق عليه السّلام و صفوان بن يحيى من تلاميذ الإمام الرضا عليه السّلام، فكيف يمكن أن يروي أصحاب الإمام المتقدّم عن أصحاب الإمام المتأخّر بكثير؟! فلا محيص أن يقال بوجود التصحيف في «التهذيب» و انّ الصحيح موسى بن قاسم بن معاوية بن وهب، و على هذا الطبعة الصحيحة من الوسائل.

5. ثمّ إنّه يستفاد من بعض الروايات عدم الإجزاء إذا حجّ بالبذل و هو رواية الفضل بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رجل لم يكن له مال فحجّ به أناس من أصحابه، أقضى حجة الإسلام؟ قال: «نعم، فإن أيسر بعد ذلك فعليه أن يحجّ»، قلت: هل تكون حجته تلك تامّة أو ناقصة إذا لم يكن حج من ماله؟ قال: «نعم، قضى عنه حجّة الإسلام و تكون تامة و ليست بناقصة، و إن أيسر فليحج ...». «2»

فلا مناص من حمله على الاستحباب كما حمله الشيخ عليه.

إلى هنا تمّ حكم الفرع الأوّل و هو لزوم الحجّ بالبذل.

بقي الكلام في الفروع الباقية.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 200

.......... الثاني: إذا أباح له التصرّف قد عرفت كفاية البذل في وجوب الحجّ لمن لم يحجّ حجّة الإسلام، فيقع الكلام في لزوم التمليك أو

كفاية إباحة التصرّف فإذا تمكن من التصرّف في ماله، كفى في صدق الاستطاعة أخذا بإطلاقها في الآية، فالمتمكن من التصرف- و إن لم يكن مالكا- مستطيع و قادر على الحجّ.

فإن قلت: إنّ الاستطاعة و إن كانت صادقة لكن الروايات فسّرتها بملكية الزاد و الراحلة، لظهور قوله: «لكون له زاد و راحلة» في التمليك، و به يقيد ما دلّ على كفاية التمكّن من التصرّف كما في قوله: «إذا قدر الرجل على ما يحجّ به».

قلت: قد أوضحنا في المسألة الثلاثين، عدم ظهور اللام في الملكية أوّلا، و على فرض ظهورها فيها، لا وجه لتقييد ما دلّ على كفاية التمكّن من التصرّف، لعدم المنافاة بين الأمرين حتّى يقيد أحدهما بالآخر.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 201

من غير فرق بين أن يبيحها له أو يملّكها إيّاه، و لا بين أن يبذل عينها أو ثمنها، و لا بين أن يكون البذل واجبا عليه- بنذر أو يمين أو نحوهما- أو لا، و لا بين كون الباذل موثوقا به أو لا على الأقوى، و القول بالاختصاص بصورة التمليك ضعيف، كالقول بالاختصاص بما إذا وجب عليه أو بأحد الأمرين من التمليك أو الوجوب و كذا القول بالاختصاص بما إذا كان موثوقا به، كلّ ذلك لصدق الاستطاعة، و إطلاق المستفيضة من الأخبار، و لو كان له بعض النفقة فبذل له البقيّة وجب أيضا، و لو بذل له نفقة الذهاب فقط و لم يكن عنده نفقة العود لم يجب، و كذا لو لم يبذل نفقة عياله إلّا إذا كان عنده ما يكفيهم إلى أن يعود، أو كان لا يتمكّن من نفقتهم مع ترك الحجّ أيضا. (1)*

(1)* الثالث: فيما إذا بذل الثمن هل يشترط بذل الزاد

و الراحلة بأعيانهما أو يكفي بذل الثمن، قال العلّامة:

هل بين بذل المال و بذل الزاد و الراحلة و مؤونته و مؤونة عياله فرق أم لا؟ الأقرب:

عدم الفرق «1». و ذلك لأنّ الميزان هو الاستطاعة للحجّ و هي صادقة في كلتا الصورتين، و أمّا في عصرنا هذا فلا يتمكن إلّا من بذل الثمن كما لا يخفى.

الرابع: هل يشترط وجوب البذل للباذل، في تحقّق الاستطاعة أو لا؟ هل يشترط وجوب البذل للباذل، في تحقّق الاستطاعة للمبذول له أو لا؟

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 202

.......... الظاهر من العلّامة هو الثاني قال: هل يجب على الباذل، الشي ء المبذول أم لا؟ فإن قلنا بالوجوب أمكن وجوب الحجّ على المبذول له ... و إن قلنا بعدم وجوبه، ففي إيجاب الحجّ إشكال، أقربه: العدم، لما فيه من تعليق الواجب بغير الواجب. «1» و تبعه في «جامع المقاصد» و قال: أمّا البذل لمجموعها، أو لبعضها و بيده الباقي، ففي وجوب الحجّ بمجرده قولان: أصحهما أنّه إن كان على وجه لازم كالنذر وجب، و إلّا لم يجب ما لم يقبل اشتراطه في عقد لازم، و نحوه كما في الهبة. «2»

و أورد عليه المحقّق الخوئي بأنّ تعليق الواجب على غير الواجب كثير في الفقه، كتعليق وجوب القصر على السفر، و وجوب الإتمام على الحضر و الإقامة، و وجوب النفقة على النكاح إلى غير ذلك.

و الظاهر انّ النقض غير وارد، لأنّ موضع كلام العلّامة فيما إذا كان الموقوف، و الموقوف عليه، فعل شخصين كما في المقام حيث إنّ الحجّ فعل المبذول له، و البذل فعل الباذل، إذ من المحتمل جدّا انصراف الباذل عن البذل في أثناء العمل، و هذا بخلاف ما ذكر من الأمثلة فإنّ

الموقوف و الموقوف عليه فعل شخص واحد.

و الأولى أن يقال: انّه قيد لم يرد وجوب البذل في الأدلة أوّلا، و أنّه على خلاف إطلاق الآية و الرواية ثانيا، و لعلّ مراده من قيد وجوب البذل للباذل، الوثوق ببقاء البذل إلى آخر زمن الحاجة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 203

.......... الخامس: هل يشترط كون الباذل موثوقا به؟ يظهر من «الدروس» أحد الأمرين: التمليك، أو الوثوق. قال: و يكفي البذل في الوجوب مع التمليك أو الوثوق به. «1»

و قال في «المدارك»: نعم لا يبعد اعتبار الوثوق بالباذل لما في التكليف بالحجّ بمجرّد البذل مع عدم الوثوق بالباذل من التعرّض للخطر على النفس، المستلزم للحرج العظيم و المشقة الزائدة، فكان منفيا. «2»

و قال في «الجواهر»: قد يقال باعتبار الطمأنينة بالوفاء أو بعدم الظن بالكذب حذرا من الضرر و الخطر عليه، و للشكّ في شمول أدلّة الوجوب له إن لم تكن ظاهرة في خلافه، بل لعلّ ذلك كذلك و إن وجب على الباذل، بل هو في الحقيقة خارج عمّا نحن فيه، ضرورة انّ محلّ البحث الوجوب من حيث البذل من دون نظر إلى الموانع الخارجية التي قد تنتفي الاستطاعة معها، كما هو واضح، و لا ريب في أنّ المتجه ما قلنا عملا بإطلاق النصّ و الفتوى و معاقد الإجماعات، مضافا إلى تحقّق الاستطاعة بذلك.»

أقول: إنّ الدليل على اعتبار الوثوق هو أنّ الاستطاعة الواقعية تدور حول تحقّق البذل عبر الإتيان بأعمال الحجّ و عدمه، إلّا أنّ وجود الاستطاعة في الواقع ما لم تثبت عند المكلّف لا يبعثه إلى العمل إلّا إذا تعلّق بها العلم الوجداني أو العلم العرفي الذي نعبّر عنه بالوثوق. و العقاب و المؤاخذة فرع التنجز، و هو

فرع قيام الدليل على الاستطاعة.

هذا هو دليل القول باعتبار الوثوق.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 204

.......... لكن السيّد الحكيم فصّل بين اعتبار الوثوق بالبذل و بين مانعية الوثوق بحصول المانع من بقاء الاستطاعة، فقال باعتبار الثاني دون الأوّل.

فذكر بأنّ الكلام تارة: في الحكم الواقعي و هو ثبوت الوجوب واقعا بتحقّق البذل واقعا، و أخرى: في الحكم الظاهري، و هو ثبوت الوجوب ظاهرا بثبوت موضوعه ظاهرا.

فإن كان الكلام في الأوّل، فلا ينبغي التأمّل في أنّ النصوص و الفتاوى متفقة على ثبوت الوجوب بمجرّد البذل واقعا، و لا دخل للوثوق و لا للعلم فيه.

و إن كان الكلام في الثاني، فالظاهر انّ اللازم العمل بما تقتضيه الطرق العقلائية، و لا يختصّ ذلك بالوجوب بالبذل، بل يجري في الوجوب بالاستطاعة المالية، فانّه إذا احتمل المستطيع زوال استطاعته- بموته، أو موت دابته أو سرقة ماله أو وجود سيل، أو عدو مانع من عبوره، أو نحو ذلك ممّا يمنع من بقاء استطاعته- لا يسقط الوجوب عنه، و إن لم يكن الوثوق بخلافه، فكذا في المقام و في الجميع يسقط الوجوب مع الوثوق بحصول المانع و لا يعتبر الوثوق بالبقاء في الاستطاعة المالية و البذلية، بل يعوّل على الأصول العقلائية، مثل أصالة السلامة و بقاء المال، و عدم وجود الحائل، و عدم طروئه، و بقاء البذل. «1»

و حاصل كلامه يرجع إلى أمور ثلاثة:

1. لا يعتبر الوثوق ببقاء الاستطاعة.

2. إنّما يعتبر عدم الوثوق بزوالها.

3. إذا شكّ في بقاء الاستطاعة و عدمها يعمل بالأصول العقلائية، كما عرفت.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 205

.......... ثمّ إنّه قدّس سرّه أضاف بأنّه لو حصل الوثوق بالمانع فلم يسافر و انكشف الخلاف انكشف ثبوت الوجوب واقعا و استقر

الوجوب عليه، كما لو اعتقد انّه فقير لا مال له و تبين بعد ذلك انّه غني مستطيع، فيجب عليه الحجّ و لو متسكعا.

يلاحظ عليه: بما عرفت من أنّ الواقع بما هو واقع لا يبعث و لا ينجز، و التنجيز شرط قيام الحجّة على الواقع، و لأجل ذلك يعتبر الوثوق في تنجزه.

و الرجوع إلى الأصول العقلائية في الاستطاعة المالية لا يكون دليلا على الرجوع في المقام، لأنّ مجراها في الأولى أمور لا يتمكّن المكلّف من العلم بها، كسلامته في الطريق و بقاء المال و عدم وجود الحائل و عدم طروئه و بقاء البذل، فيكون المرجع هو الأصول العقلائية، و هذا بخلاف المقام، فإنّ الطريق إلى معرفة حال الباذل مفتوح في وجه المكلّف، فلا يقوم الأصل العقلائي مقام اختبار المكلّف.

ثمّ إنّ ما أفاده أخيرا من أنّه لو حصل الوثوق بوجود المانع من بقاء الاستطاعة سقط الوجوب الظاهري، و لكن لو تبين خلافه يستقرّ عليه الحجّ.

أقول: إنّ ما أفاده مبني على أنّ العمل بالأمارة لا يفيد الإجزاء، و قد ثبت في محلّه انّ الأمر بالعمل بالأمارة يلازم الإجزاء و معنى الإجزاء انّ المولى اقتصر في مجال إطاعة أمره بما قامت عليه الأمارة.

ثمّ إنّ المصنّف أفتى بعدم اعتبار الوثوق، و استدلّ بأمرين:

1. صدق الاستطاعة.

2. إطلاق المستفيض من الأخبار.

و كلاهما مورد تأمّل، و ذلك:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 206

.......... أمّا الأوّل فهو ممنوع لو أريد منه الاستطاعة المحرزة.

و أمّا الاستطاعة الواقعية فهي و إن كانت غير مشروطة بالوثوق، لكنّها لا تبعث و لا تنجز.

و أمّا الثاني فهو فرع وجود الإطلاق في أخبار البذل، فإنّ موردها فيما إذا كان البذل أمرا مسلما، و أمّا المشكوك فخرج عن حريمها.

فخرجنا بالنتيجة التالية

بأنّه يشترط الوثوق بالبذل.

السادس: لو بذل له بعض النفقة لو كان له بعض النفقة و بذل له البقية، قال المصنّف: وجب أيضا و استدلّ له في «المدارك» بالأولوية، و تبعه صاحب الجواهر و قال:

و كذا لا فرق في الوجوب بين بذل الجميع للفاقد و بين بذل البعض لمن كان عنده ما يكمله ضرورة أولويته من الأوّل في الحكم. «1»

يلاحظ عليه: أنّ الأولوية ليست بمثابة يفهم منها حكم الفرع من الأصل بطريق أولى، و ربما يستدلّ بأنّ الموضوع لوجوب الحجّ هو الجامع بين المال الموجود الوافي و بين البذل الوافي للحجّ، و العبرة بتحقّق الجامع، و لا فرق في وجود الجامع بين وجوده في ضمن كلّ فرد مستقلا أو منضما، فانّ الميزان وجود الجامع، و لا إشكال في تحقّقه بوجوده في كلّ فرد بالاستقلال، أو بضم بعض الفردين بالفرد الآخر. «2»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 207

.......... يلاحظ عليه: أنّ ابتناء المسألة العرفية على المسألة الفلسفية أمر غير واضح، فإنّ تصوير الجامع فيما إذا صدر الواحد عن كثير- كالحرارة الصادرة من النار و الشمس- إنّما هو لقاعدة فلسفية باسم الواحد لا يصدر إلّا عن واحد، و أمّا المقام فلا مانع أن يكون هناك علّتان مستقلّتان لحكم واحد: أحدهما الاستطاعة المالية، و الآخر الاستطاعة البذلية، من دون تصوير جامع بينهما. و تكون النتيجة عدم الوجوب، إذ لا استطاعة مالية تماما، و لا استطاعة بذلية كذلك.

و الأولى أن يستدلّ بإطلاقات ما ورد في تفسير الاستطاعة و هو أن يكون عنده ما يحجّ به.

السابع: لو بذل له نفقة الذهاب دون الإياب لو بذل له نفقة الذهاب دون الإياب، فالظاهر عدم صدق الاستطاعة لما عرفت من أنّ الاستطاعة الواردة في

الآية خطاب لمن يقطن غير المشاعر و المواقف، و مثل هذا يزور و يرجع، فلو قيل له: إن استطعت فحجّ، ينتقل منه إلى الاستطاعة ذهابا و إيابا، و على ضوء ما ذكرنا فنفقة الإياب داخلة في جوهر الاستطاعة و ليس اعتبارها لأجل الحرج.

نعم استطاعة كلّ شخص بحسبه، فلو كان ممّن بيته على ظهره فاستطاعته تحصل ببذل النفقة للإياب، و هذا لا لأجل عدم اعتبار نفقة الإياب في الحجّ، بل لأجل انّه لا يريد الإياب.

الثامن: إذا لم يبذل نفقة العيال قد عرفت أنّ الاستطاعة الواردة في الآية تخاطب القاطنين في غير المشاعر

[المسألة 35: لا يمنع الدين من الوجوب في الاستطاعة البذليّة]

المسألة 35: لا يمنع الدين من الوجوب في الاستطاعة البذليّة، نعم لو كان حالا و كان الديّان مطالبا مع فرض تمكّنه من أدائه لو لم يحجّ و لو تدريجا ففي كونه مانعا أو لا، وجهان. (1)*

و المقامات، فإذا قيل له حجّ إن استطعت أي حجّ إن فرغت عن ضروريات الحياة في الحضر و وقع في يدك شي ء يدور صرفه في كمالياتها أو في طريق الحجّ فعليك بالحج، و من المعلوم أنّ نفقة العيال من ضروريات الحياة الحضرية، و بذلك يعلم الفرق بيننا و بين خيرة السيد المحقّق الخوئي فانّه اعتبر نفقة الإياب أو نفقة العيال من باب الحرج، و بذلك حكم بعدم الوجوب عند عدم الحرج، و على ما ذكرنا فالنفقتان داخلتان في جوهر الاستطاعة.

نعم لو لم يتمكن من الإنفاق مطلقا سواء سافر أو لم يسافر فلا يعتبر بذل نفقة العيال.

(1)* في المسألة فرعان:

1. اتّفقت كلّمتهم على أنّ الدين يمنع عن وجوب الحجّ في الاستطاعة المالية، لكنّه لا يمنع عن الاستطاعة البذلية.

2. لو كان الدين حالا، و كان الدائن مطالبا، و تمكّن من أداء

الدين إذا لم يحجّ و لو تدريجا، ففيه عند المصنف وجهان.

و إليك دراسة الفرعين واحدا بعد الآخر.

1. الدين غير مانع عن الوجوب في الاستطاعة البذلية صرّح غير واحد من الأصحاب بأنّ الدين لا يمنع الوجوب بالبذل.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 209

.......... 1. قال الشهيد: فرع: لا يمنع الدين، الوجوب بالبذل، و كذا لو وهبه مالا يشترط الحجّ به، أمّا لو وهبه مالا مطلقا فانّه يجب قضاء الدين به. «1»

2. و قال الشهيد الثاني: و لا يشترط في الوجوب بالبذل، عدم الدين، أو ملك ما يوفيه به، بل يجب الحجّ و إن بقى الدين، نعم لو بذل له ما يكمل به الاستطاعة، اشترط في ماله الوفاء بالدين. «2»

3. و قال سبطه: لا يشترط في الوجوب بالبذل عدم الدين، أو ملك ما يوفيه به، بل يجب عليه الحجّ و إن بقي الدين، لإطلاق النصّ. «3»

4. و قال الفاضل الهندي: و اعلم أنّ الدين لا ينفي الوجوب بالبذل كما ينفيه بإيهاب مالا يفي به مع نفقة الحجّ و الإياب و العيال. «4»

5. و قال في الجواهر: و لا يمنع الدين، الوجوب بالبذل و إن منعه في غيره. «5»

إلى غير ذلك من الكلمات:

وجه عدم المنع: أمّا إذا كان البذل على نحو التحليل، فظاهر، لأنّه لا يملك شيئا حتّى يصرفه في أداء دينه؛ و أمّا إذا كان على وجه التمليك، فلأنّه تمليك مشروط، لا يصلح إلّا للصرف في الحجّ، دون أداء الدين، فقبوله أو رفضه، لا يؤثر في حال الدين.

نعم استدلّ صاحب المدارك بإطلاق النصّ- كما مرّ- و لكنّه في غير محلّه،

[المسألة 36: لا يشترط الرجوع إلى كفاية في الاستطاعة البذليّة]

المسألة 36: لا يشترط الرجوع إلى كفاية في الاستطاعة البذليّة. (1)*

لعدم كونه متعرضا لشرائط الحجّ حتّى يؤخذ

بإطلاقه، و إلّا لصحّ التمسّك، لنفي شرطية البلوغ و الحرية و غيرهما من الشرائط، و هو كما ترى.

2. إذا كان الدين حالا استثنى المصنّف في عدم منع الدين من الوجوب ما إذا كان الدين حالا لكن بشرطين:

1. كان الدائن مطالبا.

2. و تمكّن من أداء الدين لو لم يحجّ و لو تدريجا. وجهه: وجود التزاحم بين وجوب الحجّ و أداء الدين، و الثاني أهمّ كما هو المعروف.

نعم، لا يشترط كون الدين حالا مطالبا، بل يعمّ ما إذا كان الدين مؤجّلا غير مطالب إذا علم أنّه لو حجّ لا يتمكّن من أداء دينه مطلقا، حالا كان أو مؤجلا، مطالبا كان أو غير مطالب، لأنّ عمل الحجّ ربما يفوّت بعض الفرص الذي كان يتمكن منه من أداء ديونه المطالبة و غيرها.

(1)* سيوافيك في محله أنّ الرجوع إلى كفاية مذهب المتقدّمين الذي ادّعى عليه الشيخ في الخلاف الإجماع. «1» خلافا لأكثر المتأخرين، و سيوافيك الكلام في محلّه فانتظر.

إنّما الكلام في اعتباره في المقام و الظاهر عدم اعتباره لقصور ما دلّ على اعتباره في المقام. و ذلك لأنّ شرطية الرجوع إلى كفاية في الاستطاعة المالية، لأجل الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 211

.......... أحد أمرين:

1. انّ المستطيع عبارة عمّن فرغ من ضروريات الحياة الحضريّة و يبقى في يده شي ء يدور أمره بين صرفه في كمالياتها أو في زيارة بيت اللّه الحرام، فيجب عليه الثاني، و أمّا من لم يفرغ من ضروريات الحياة الحضريّة فلا يطلق عليه أنّه مستطيع بالمعنى السابق. و من المعلوم انّ الرجوع إلى كفاية من ضروريات العيش الحضريّ.

و من المعلوم أنّ ذلك الوجه، يختصّ بمن كان في يده شي ء، يدور أمره بين الأمرين، دون من كان يفقد

ذلك، سواء أحجّ أم لم يحج، فلا وجه لاعتباره في حقّه.

2. رواية أبي الربيع الشامي و هي: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فقال: «ما يقول الناس؟» قال: فقلت له: الزاد و الراحلة، قال: فقال أبو عبد اللّه: «قد سئل أبو جعفر عليه السّلام عن هذا؟ فقال: هلك الناس إذا، لئن كان من كان له زاد و راحلة قدر ما يقوت عياله و يستغني به عن الناس ينطلق إليهم «1» فيسلبهم إيّاه «2» لقد هلكوا «3» إذا، فقيل له: فما السبيل؟! قال: فقال: السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض و يبقي بعضا لقوت عياله، أليس قد فرض اللّه الزكاة فلم يجعلها إلّا على من يملك مائتي درهم». «4»

على فرض صحّة الاحتجاج بها، لاشتمال السند على مجهول و هو «أبو

[المسألة 37: إذا وهبه ما يكفيه للحجّ لأن يحجّ

المسألة 37: إذا وهبه ما يكفيه للحجّ لأن يحجّ وجب عليه القبول على الأقوى، بل و كذا لو وهبه و خيرّه بين أن يحجّ به أو لا، و أمّا لو وهبه و لم يذكره الحجّ لا تعيينا و لا تخييرا فالظاهر عدم وجوب القبول كما عن المشهور. (1)*

الربيع». لكن الرواية مختصة بالاستطاعة المالية، لا البذلية، و لا إطلاق لها حتّى يشمل مورد الاستطاعة البذلية.

(1)* ذكر المصنف للمسألة فروعا ثلاثة:

1. إذا وهبه و خصّ الموهوب للحجّ.

2. إذا وهبه و خيّره بين صرف الموهوب في الحجّ أو في غيره.

3. إذا وهبه مطلقا و لم يذكر صرفه في الحجّ لا تعيينا و لا تخييرا.

و قبل الأخذ بدراسة الفروع يجب التنبيه على أمر، و هو تبيين نسبة ما في هذه المسألة، مع ما

مرّ في المسألة 34، حيث قال فيها: «فتحصل الاستطاعة ببذل النفقة كما تحصل بملكها، من غير فرق بين أن يبيحها له أو يملكها إيّاه، فكلامه في المقام تبيين للشقّ الثاني الوارد في السابقة، أعني قوله: «أو يملكها إيّاه» عن طريق الهبة فانّ التمليك بالمجان نفس الهبة و ليس شيئا غيرها.

ثمّ إنّ الفرق بين البذل و التمليك، أو الإباحة و الهبة واضح. فانّ الأوّل من مقولة الإيقاع، يدلّ على تجويز التصرف في ماله فيما يتعلّق بسفر الحجّ و الاستفادة به حسب العادة، من دون أن يملّك شيئا من ماله، لمن أباح التصرّف في ماله، و يكفي في ذلك تهيئة أسباب السفر إلى الحجّ و ما يتوقّف عليه ذهابه و إيابه إلى بلده و رفع الموانع عن انتفاعه بها و عودته إليه، بخلاف الثاني فإنّه من مقولة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 213

.......... العقود، فالواهب يخرج ما يملكه من حوزة ما يملك، و ينقله إلى ملك الموهوب له، فلا يتم التمليك و التملك إلّا بإيجاب من الواهب و قبول من الموهوب له.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في أمور:

الأوّل: انّ إباحة التصرّف التي نعبّر عنه بالحجّ البذلي، كاف في تحقّق الاستطاعة، سواء أتصرّف المباح له فيه أم لا، و لم أجد فيه خلافا بين الأصحاب إلّا من ابن إدريس، حيث اشترط التمليك، الملازم لعدم كفاية الإباحة، قال: بشرط أن يملّكه ما يبذل له و يعرض عليه، لا وعدا بالقول دون الفعال. «1»

و ما ذكره غريب جدّا، لكونه على خلاف إطلاق روايات الباب، لو لم نقل بانصرافها إلى صورة الإباحة، و إن كان الانصراف بدويّا.

الثاني: إذا أباح له التصرّف، هل يتوقّف صدق الاستطاعة على القبول اللفظي، أو

لا؟ الظاهر هو الثاني، لما عرفت من أنّه من مقولة الإيقاع، و انّه يكفي في استطاعة الإنسان إلى الحجّ، و أمّا القبول العملي بالركوب على الدابة و الانتفاع من الزاد، فالجميع، نوع تجسيد للاستطاعة في مجال الظهور و الفعليّة، و ليس شرطا لصدق الاستطاعة.

الثالث: إذا وهبه ما يكفيه للحجّ، فهل يجب عليه القبول، حتّى تحصل الاستطاعة و يترتّب عليه وجوب الحجّ أو لا؟ فيه أقوال أربعة:

القول الأوّل: المشهور أنّه لا يجب، فلا يكون مستطيعا بالتمليك المجرّد عن القبول.

1. قال المحقّق: و لو بذل له زاد و راحلة و نفقة، له و لعياله، وجب عليه،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 214

.......... و لو وهب له مال لم يجب عليه قبوله. «1»

2. و قال العلّامة: لو وهب المال، فإن قبل، وجب الحجّ، و إلّا فلا، و لا يجب عليه قبول الاتّهاب، و كذا الزاد و الراحلة، لأنّ في قبول عقد الهبة تحصيل شرط الوجوب و ليس واجبا. «2»

3. و قال في «المنتهى»: لو وهب له مال، لم يجب عليه القبول، سواء كان الواهب قريبا أو بعيدا، لأنّه تحصيل لشرط الوجوب، و هو غير لازم. «3»

4. و قال في «الإرشاد»: و لو وهب له مالا يستطيع به، لم يجب القبول. «4»

5. و قال الشهيد الثاني في شرح قول المحقّق: «و لو وهب له مال لم يجب عليه قبوله»: لأنّ قبول الهبة نوع من الاكتساب، و هو غير واجب للحج، لأنّ وجوبه مشروط بوجود الاستطاعة، فلا يجب تحصيل شرطه، بخلاف الواجب المطلق، و من هنا ظهر الفرق بين البذل و الهبة، فأنّ البذل يكفي فيه نفس الإيقاع في حصول القدرة و التمكّن، فيجب بمجرّده. «5»

6. و قال في «الجواهر»

في شرح قول المحقّق: «و لو وهب له مال، لم يجب عليه قبوله»: من غير فرق بين الهبة مطلقا، و لخصوص الحجّ، و بين هبة نفس الزاد و الراحلة و أثمانهما ... فصدر منه الإيجاب بقصد الإنشاء، الذي لا يؤثر أثرا حتّى يتعقّبه القبول، و بدونه يكون فاسدا لا يجوز التصرّف فيه. «6»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 215

.......... و لا يخفى ما في كلامه من النظر، حيث إنّ القائل بعدم وجوب القبول إنّما يقول به لأجل انّه تحصيل للاستطاعة، و هو غير واجب، أمّا على القول بحصولها بمجرّد التمليك، فلا شكّ انّه يجب القبول، لأجل انّ الانتفاع بهذا التمليك، المحقّق للاستطاعة، فرع قبوله ليحل له التصرف في مال الغير. فعلى هذا القول لا يكون القبول تحصيلا للاستطاعة، بل سببا للانتفاع بالاستطاعة الحاصلة بنفس الإنشاء.

و بذلك يظهر أنّ قوله: «و بدونه يكون فاسدا، لا يجوز التصرّف فيه» لا صلة له بالمقصود، إذ ليس هنا من يجوّز التصرّف في مال الواهب بلا قبول، بل الكلام في انّه هل يجب القبول؟ لأجل حصول الاستطاعة قبله، ليكون القبول من مقدّمات الانتفاع بالاستطاعة الفعلية، كأخذ جواز السفر و بطاقة الطائرة، إلى غير ذلك، أو لا يجب؟ لأجل عدم صدق الاستطاعة قبل القبول، و يتوقف صدقها على القبول و هو نوع اكتساب.

القول الثاني: وجوب القبول، و أوّل من خالف الرأي المشهور، هو الشهيد في دروسه:

1. قال: و لو وهبه زادا و راحلة، لم يجب عليه القبول، و في الفرق نظر. «1»

2. و تبعه الشهيد الثاني في «الروضة البهية»، قال: و كذا لو وهب مالا مطلقا، أمّا لو شرط الحجّ به فكالمبذول، فيجب عليه القبول إن كان عين الزاد و الراحلة.

«2»

3. و نقل الأردبيلي قول العلّامة في «الإرشاد»، «و لو وهب له مالا يستطيع به الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 216

.......... لم يجب القبول»: قد عرفت ... و عدم حسن قوله: و لو وهب مالا يستطيع به لم يجب القبول، لعموم الأدلة، و صدق الاستطاعة، و المبالغة في وجوب الحجّ و العمرة، بالكتاب و السنّة. «1»

4. و قال صاحب المدارك- تلميذ الأردبيلي-: «لا فرق بين بذل الزاد و الراحلة وهبتهما، و قال في «الدروس»: إنّه لا يجب قبول هبتهما، ثمّ تنظّر في الفرق.

و وجه النظر معلوم ممّا قررناه». «2» و هو إطلاق الأدلة و صدق الاستطاعة و هذا أيضا خيرة «النراقي». «3»

القول الثالث: وجوب القبول في العرض التعييني للحجّ و التخييري بين الحجّ و غيره، فيجب القبول في كلتا الصورتين دونما إذا بذله مطلقا و لم يسمّ الحجّ دون المطلق. و هذا خيرة المصنّف.

القول الرابع: وجوب القبول في العرض التعييني، دون القسمين الأخيرين، أعني: العرض التخييري و العرض المطلق. و هذا خيرة المحقّق الخوئي و بعض المشايخ من المعلّقين على العروة.

و الظاهر هو القول الثاني، و هو وجوب القبول، و ذلك للوجوه التالية:

1. انّ الواهب إذا مكّن الموهوب له من التملّك و قال: «وهبتك» و إن لم يقبله المخاطب بعد فنفس هذا يعد استطاعة للحجّ، فيجب عليه القبول لا لتحصيل الاستطاعة، بل للانتفاع بها، كما يجب عليه فعل سائر الأمور ممّا يتوقّف عليه الذهاب إلى الحجّ من غير فرق بين أقسام العرض، لأنّ الملاك، إيجاد التمكّن للحجّ و هو أمر مشترك.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 217

.......... 2. انّ التمليك- مع قطع النظر عن قبول الموهوب له- يتضمن إباحة التصرّف، التي اتّفقت كلمتهم- سوى

ابن إدريس- في كفايتها للاستطاعة، و بعبارة أخرى: أنّ القبول شرط حصول الملكية و تحقّق الهيئة الشرعية، لا إباحة التصرّف فإنّها حاصلة و إن لم يكن هناك قبول.

و الوجه الثاني هو الظاهر من صاحب المستند حيث قال: فانّ الهبة، متضمنة للإباحة المتحقّقة بدون القبول أيضا، و إن كان تحقّق جزئها الآخر و هو التملّك، موقوفا على الاكتساب.

3. منع كون هذا اكتسابا، خصوصا على ما قلناه من تحقّق الاستطاعة العرفية فانّ هذا أشبه ببيع المال لشراء الزاد و الراحلة، أو جواز السفر، و بطاقة الطائرة، و أخذ تأشيرة الدخول فكأنّ الجميع يعدّ إعمالا للاستطاعة لا اكتسابها.

نعم لو كان المستند هو روايات عرض الحجّ فلابدّ من تقييد الوجه الثاني بالثالث، و هو اشتمال العرض على الحجّ، سواء كان تعيينيا أو تخييريا، دون مطلق العرض.

و أمّا القول الرابع، أعني: اختصاص الوجوب، بالعرض التعييني لا العرض التخييري و لا العرض المطلق بوجوه:

1. انّ المنساق من الروايات، هو صورة العرض التعييني لا التخييري.

يلاحظ عليه: أنّ البذل للأعم في الحجّ و زيارة الرضا عليه السّلام يتضمن الإذن في التصرّف في ماله لغاية الحجّ، و هو كاف في الاستطاعة كما مرّ، فلو قلنا بانصراف الاخبار عن البذل و التمليك التخييري، لكنّهما يتضمنان في مورد التخيير، إذن الباذل للموهوب له، للتصرّف في ماله، و هو كاف في الاستطاعة من دون حاجة للاستدلال بالاخبار حتّى تأتي شبهة الانصراف.

[المسألة 38: لو وقف شخص لمن يحجّ أو أوصى أو نذر كذلك فبذل المتولّي أو الوصي أو الناذر له

المسألة 38: لو وقف شخص لمن يحجّ أو أوصى أو نذر كذلك فبذل المتولّي أو الوصي أو الناذر له وجب عليه، لصدق الاستطاعة، بل إطلاق الأخبار، و كذا لو أوصى له بما يكفيه للحجّ بشرط أن يحجّ، فإنّه يجب عليه بعد موت الموصي. (1)*

2. انّ التخيير

يرجع إلى أنّ بذله للحجّ مشروط بعدم صرفه المبذول في جهة أخرى أو الإبقاء عنده، و لا يجب على المبذول له تحصيل الشرط.

و قد ظهر عدم تماميّته ممّا ذكرنا فلا نعيد.

3. انّ موضوع الوجوب هو البذل للحجّ، و البذل للحجّ، و الهبة مع التخيير المزبور، بذل للجامع بين الحجّ و غيره، و البذل الجامع لا يكون بذلا للحجّ بشخصه، و إلّا وجب القبول في الهبة المطلقة أيضا، فانّها أيضا لا تنفك عن التخيير في صرف الموهوب له في الحجّ أو غيره. «1»

يلاحظ عليه: بأنّه لا مانع من القول بالوجوب في الصور عامّة، إلّا إذا كان هنا محذور في القبول على وجه يورث العسر و الحرج.

و الأولى وجوب القبول، لغاية الانتفاع من الاستطاعة المحققة من غير فرق بين الصور الثلاث.

(1)* في المسألة فرعان:

1. لو وقف شخص منفعة عين لمن يحجّ، أو أوصى له أو نذر كذلك، من دون أن يكون الموقوف عليه أو الموصى له، أو المنذور شخصا معيّنا، غير أنّ المتولّي أو الوصيّ أو شخص الناذر، يدفع المال إلى شخص و يشترط عليه أن يحجّ به.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 219

.......... 2. إذا أوصى لشخص معينّ بما يكفيه للحجّ بشرط أن يحجّ.

أمّا الأول: فلا إشكال في وجوب الحجّ عليه، لحصول الاستطاعة بالدفع أوّلا، حيث إنّه مكّنه من اللحوق بالرفقة، و الخروج إلى الحجّ، و شمول أخبار العرض للمورد، حيث يصدق عليه أنّه عرض عليه الحجّ ثانيا.

و أمّا الثاني: أي إذا وصّى لشخص معيّن بشي ء يكفيه للحجّ بشرط أن يحجّ، فيجري فيه ما ذكرناه في الهبة، فهو متمكّن بنفس دفع ما أوصى به إليه، و القبول ليس محصّلا للاستطاعة لحصولها قبله، و إنّما هو سبب

للانتفاع بالاستطاعة الموجودة، كبيع الأرض، لشراء الزاد و الراحلة، أو جواز السفر و بطاقة الطائرة.

و الفرق بين الفرعين، إنّ الحجّ في الأولى جهة للوقف و الوصية و النذر، و أمّا الثاني، ففيه وجهان:

1. أن يكون الحجّ جهة كالفرع الأوّل، فلا يحتاج إلى القبول.

2. أن يكون إيصاء بالتمليك، فلا يملكه إلّا بالقبول- كما هو الحال في عامّة الوصايا التمليكية- و مع ذلك فليس القبول دخيلا في حصول الاستطاعة، بل هي حاصلة من ذي قبل فيجب عليه القبول في المقام ليتمكّن من الانتفاع بالاستطاعة.

نعم إذا حجّ حجّة الإسلام، قبل ذلك لا يجب القبول إجماعا، لأنّ الحجّ يجب في تمام العمر مرّة واحدة و المفروض أنّه حجّ مرّة.

[المسألة 39: لو أعطاه ما يكفيه للحجّ خمسا أو زكاة و شرط عليه أن يحجّ به فالظاهر الصحّة]

المسألة 39: لو أعطاه ما يكفيه للحجّ خمسا أو زكاة و شرط عليه أن يحجّ به فالظاهر الصحّة، و وجوب الحجّ عليه إذا كان فقيرا، أو كانت الزكاة من سهم سبيل اللّه. (1)*

(1)* في المسألة فروع ثلاثة:

1. إذا أعطاه من الزكاة ما يكفيه للحجّ من سهم الفقراء و شرط عليه أن يحجّ به.

2. إذا أعطاه من الزكاة ما يكفيه للحجّ من سهم سبيل اللّه.

3. إذا أعطاه من الخمس ما يكفيه للحجّ.

ثمّ إنّ مورد البحث إذا كان الآخذ ممّن لم يحجّ حجّة الإسلام، و إلّا فهو خارج عن موضوع البحث.

أمّا الفرع الأوّل: فيقع الكلام تارة في صحّة الشرط و بطلانه، و أخرى في صحّة الأخذ و براءة ذمّة المعطي و إن لم يحجّ، و ثالثة في وجوب الحجّ عليه.

أمّا الأوّل: أي صحّة الشرط و عدمه فالظاهر عدمها، سواء أقلنا إنّ الشرط قيد للتمليك أو قيد للمدفوع (الزكاة).

فإن قلنا بأنّه قيد للتمليك فالظاهر بطلان الاشتراط لوجوه:

1. ليس لمالك الزكاة حقّ التمليك حتّى

يقيّده بالحجّ، بل له الولاية على إيصال الزكاة لأهلها الملازم لتعيين المستحقّ، فإذا دفعه إليه بعنوان الزكاة فهو يملك من دون أن يحتاج إلى تمليك المالك و قبول الفقير.

و بعبارة أخرى: إنّ الزكاة كالدين، فإذا فرز المديون دينه و دفعه إلى الدائن بعنوان أداء دينه، فهو يملك بمجرّد الاستيلاء عليه من دون حاجة إلى تمليك الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 221

.......... المديون و تملّك الدائن.

و بالجملة: ليس في مورد الزكاة أيّ تمليك حتّى يقيّد بالحجّ، بل يجب عليه إيصال الحقّ لصاحبه، الملازم لتعيين المستحقّ الكلّي في شخص خاص.

2. لو افترضنا أنّ للمالك حقّ التمليك للمستحقّ وراء تعيينه، لكن حقّ التمليك لا يلازم صحّة الشرط، إذ هو فرع ولاية المالك على إنشاء شرط العمل على المدفوع إليه، فانّ المالك مالك للزكاة و مأمور بإخراجها عن ملكه و إدخالها في ملك المستحقّ، و ليس له وراء ذلك أيّ ولاية لاشتراط عمل و إيجاب فعل عليه، مثلا:

إذا باع الإنسان بيته من رجل يمكن أن يشترط عليه عملا لصالح البائع بأن يقول: بعتك هذه الدار و اشترط عليك خياطة ثوب لي، و ما هذا إلّا لأنّ لمالك البيت ولاية التقلّب في ماله و التصرّف فيه كيفما شاء، و منها بيعه من زيد مشترطا عليه خياطة الثوب.

و أمّا المقام فليس للمالك سوى ولاية التمليك، و أمّا ولاية التصرّف بالعين الزكوية بأيّ نحو شاء الدافع و منه تمليكه بقيد الحجّ فلا ولاية له.

3. انّ الشرط في المقام شرط فقهي لا شرط أصولي، و معناه ايجاب فعل على المستحق، و يترتّب عليه أنّه إن لم يعمل بالشرط يكون للمالك جواز الاسترداد، و هو غير صحيح في المقام، لأنّ ما أعطاه من

الزكاة غير قابل له، لأنّ «ما كان للّه لا يرجع»، ففي صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: «و لا يرجع في الصدقة إذا ابتغى وجه اللّه». «1»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 222

.......... روى داود بن أبي الحصين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته هل لأحد أن يرجع في صدقة أو هبة؟ قال: «أمّا ما تصدّق به للّه فلا». «1»

فخرجنا بالنتيجة التالية:

أوّلا: إنّ للمالك ولاية تعيين المستحق من بين المستحقين لا ولاية التمليك.

ثانيا: و لو قلنا بولاية التمليك ليس له ولاية الاشتراط في صرفه في موضع معين كالحجّ.

ثالثا: إنّ الشرط الفقهي لازمه جواز الاسترداد عند التخلّف، و هو غير صحيح في المقام.

هذا كلّه فيما إذا كان الشرط قيدا للتمليك.

و أمّا إذا قلنا بانّه قيد للموضوع إليه، أعني العين الزكوية بأن يدفعه له مقيّدا بكونه يحجّ به، فهل هو أمر ممكن أو لا؟

ذهب المحقّق الخوئي إلى امتناعه، مستمدا ممّا ذكره غير مرّة من أنّ الأمر الجزئي غير قابل للتقييد، لأنّ التقييد إنّما يصحّ في مورد الإطلاق و السعة، و الأمر الخارجي التكويني في نفسه مضيّق و غير قابل لعروض التقييد عليه، نظير الائتمام الخارجي بالإمام الحاضر، فإنّ الائتمام قد حصل و تحقّق خارجا، سواء كان الإمام زيدا أو عمرا، و إنّما الدواعي تختلف باختلاف الموارد.

و بالجملة: الأمور التكوينية الخارجية تتصف بالوجود و العدم، و لا يجري فيها التعليق، و لا معنى لأن يقال: انّ الائتمام الخارجي معلّق على كون الإمام زيدا، أو أنّ الأكل الخارجي معلّق على أن يكون المأكول ملك نفسه، فإنّ الائتمام الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 223

.......... و الأكل قد تحقّقا خارجا على كلّ

تقدير. و أمّا المقام الذي وجب عليه الخمس أو الزكاة، فإنّما يجب عليه الإعطاء و الأداء و الإيتاء، و الذي تحت اختياره ليس إلّا الإعطاء الخارجي، و هذا غير قابل للتعليق، و أمّا الملكية الشرعية فليست تحت يده و اختياره و إنّما هي بيد الشارع. «1»

يلاحظ عليه: أنّه خلط بين الشمول الإفرادي و الإطلاق الأحوالي، فالعمل الخارجي فرد جزئي لا يقبل التقييد من حيث هو فرد، و أمّا بالنسبة إلى أحواله فقابل للتقييد، و قد قلنا في محلّه: إنّ المطلق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم، سواء أكان كلّيا أم جزئيا، نحو قوله: أكرم زيدا، فإنّه مطلق من حيث الأحوال، لبس العمامة أو لا، و على ضوء ذلك فالإعطاء و إن كان عملا خارجيّا شخصيا لكن له حالتان:

1. صرف الشي ء في طريق الحجّ.

2. صرفه في غيره.

فعند ذلك يقول: أدفع إليك هذا المال الزكوي بقيد كون المال مصروفا في طريق الحجّ.

نعم يرد على هذا الفرض ما أوردناه على الفرض الأوّل من أنّ فائدة هذا القيد هو جواز الاسترداد إذا لم يصرف، و هو إنّما يصحّ إذا دفع ما يملكه شخصيا إلى الفقير بشرط الحجّ فلو تخلف يسترده، دون المقام فانّ ما يدفعه إلى الفقير تقرّبا إلى اللّه لا يسترجع.

إلى هنا تبيّن أنّ الشرط باطل لا يؤثر في حقّ الفقير، و لكن الفقير يملك الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 224

.......... الموضوع كما إذا لم يشترط.

أمّا الثاني: أعني براءة ذمّته من أداء الزكاة سواء حجّ أم لا، فواضحة، لأنّه صدر من أهله و وقع في محلّه فلا وجه لعدم البراءة و الشرط الزائد غير الصالح، لا يبطل.

و أمّا الثالث: أي وجوب الحجّ،

فظاهر المصنّف أنّ وجوب الحجّ تابع لصحّة الشرط، حيث فرّع قوله: «فالظاهر الصحة» على قوله: «و شرط عليه أن يحجّ به» و لكنّه غير تام، بل يمكن القول بوجوب الحجّ حتّى و لو كان الشرط باطلا، و ذلك لأحد أمرين:

1. إدخال المقام تحت اخبار العرض، أي من عرض عليه الحجّ، فالمالك بدفع الزكاة إليه عرض عليه الحجّ، و عندئذ تكون استطاعته أشبه بالاستطاعة البذلية، و لا يشترط فيه ما يشترط في الاستطاعة المالية.

2. إدخاله تحت الاستطاعة المالية، لأنّ اخبار العرض منصرفة عن تلك الصورة و تختص بما إذا وهب الواهب من صميم ماله شيئا لا يستحقه الموهوب له، بخلاف المقام فإنّ الواهب لا يبذل من صميم ماله، كما أنّ الآخذ يأخذه بما انّه مستحق له فيشترط فيه ما يشترط في الاستطاعة المالية.

هذا كلّه إذا كان الموضوع من سهم الفقراء، و أمّا إذا كان من سهم سبيل اللّه، فحصول الاستطاعة فرع كون إحجاج الفقير من المصالح العامّة التي بها يفسّر قوله تعالى: وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلّا إذا ترتّب عليه مصلحة عامّة.

هذا كلّه إذا كان الموضوع زكاة، و أمّا الخمس فالظاهر عدم ثبوت الولاية للمالك على تعيين المستحق، بل واجبه دفع الخمس إلى الحاكم الشرعي و هو

[المسألة 40: الحجّ البذليّ مجز عن حجّة الإسلام

المسألة 40: الحجّ البذليّ مجز عن حجّة الإسلام، فلا يجب عليه إذا استطاع مالا بعد ذلك على الأقوى. (1)*

أعرف بتكليفه.

(1)* نقل غير واحد من أنّ الإجزاء هو المشهور بين الأصحاب.

1. قال الشهيد: و لو حجّ كذلك (بالبذل) أو في نفقة غيره أجزأ، بخلاف ما لو تسكّع فانّه لا يجزئ عندنا. «1»

2. و نقل الشهيد الثاني كلام الشهيد في الدروس، للاستشهاد على وجوب الحجّ بمجرّد البذل، لأنّ الإجزاء فرع الوجوب.

«2»

3. قال السيد في «المدارك»: الأصحّ انّه لا يجب على المبذول له إعادة الحجّ بعد اليسار، و هو قول الأكثر، للأصل، و صدق الامتثال، و صحيحة معاوية بن عمّار.»

4. و قال المحدّث البحراني: المشهور بين الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) أنّه لا يجب على المبذول له إعادة الحجّ بعد اليسار، و ذهب الشيخ في الاستبصار إلى وجوب الإعادة. «4»

5. و قال النراقي: لا يجب على المبذول له إعادة الحجّ بعد اليسار، وفاقا للمشهور على ما في المدارك و الذخيرة و المفاتيح و شرحه، بل في الأخيرين أنّ القول الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 226

.......... الآخر شاذ، و عن بعض آخر أنّ عليه فتوى علمائنا، الظاهر في دعوى الإجماع. «1»

6. قال في «الجواهر»: لا يخفى ظهور النصّ و الفتوى، أو صراحتهما، خصوصا صحيح معاوية بن عمّار المتقدّم منه من أنّ حجّ المبذول له حج إسلام فلا يجب عليه حينئذ غيره و إن أيسر بعد ذلك، لما عرفته من وجوبه في العمر مرّة واحدة. «2»

هذه كلمات الفقهاء المتأخرين، و من المعلوم أنّه لا مستند للشهرة إلّا روايات الباب الظاهرة في الإجزاء، خصوصا صحيح معاوية بن عمّار، و لم نجد مخالفا إلّا الشيخ في «الاستبصار» فقال بعدم الإجزاء استنادا إلى موثّق الفضل بن عبد الملك، فقدّمه على صحيح ابن عمار، و قد عكس في «التهذيب» فأفتى بالإجزاء، اعتمادا على الصحيح، و حمل الموثق على الاستحباب، و سيوافيك الكلام في الحديثين.

و على كلّ تقدير فالأقوى هو الإجزاء، و ذلك بالبيان التالي:

1. إنّ حجّة الإسلام، فريضة المستطيع، قال سبحانه: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. «3» فإن قلنا بأنّ الاستطاعة في الآية أعمّ من المالية و

البذلية، يكون المورد من مصاديق الآية، و يكون المأتي به، معنونا بعنوان حجّة الإسلام الّتي لا تجب طول العمر إلّا مرّة واحدة.

و إن قلنا بظهورها في المالية، و لا تعم البذلية، تكون روايات الباب حاكمة على ظهورها في المالية نظير حكومة «التراب أحد الطهورين» على قوله: «لا صلاة إلّا بطهور» الظاهر في الطهارة المائيّة، و يصير الموضوع هو الأعمّ من المائيّة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 227

.......... و الترابية، و هكذا المقام فإنّ قوله: «هو ممّن يستطيع الحجّ». «1» ظاهر في الاستطاعة الماليّة، لكن أخبار البذل حاكمة عليه، فيصير الموضوع هو الأعم من المالية و البذلية، و عندئذ ينطبق عنوان حجّة الإسلام على المأتي به، فيسقط وجوبه بالامتثال.

هذا كلّه حول الآية، و أمّا الاستدلال بالرواية، فنقول:

2. روى الشيخ بسند صحيح، عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل لم يكن له مال فحجّ به رجل من إخوانه، أيجزيه ذلك عن حجّة الإسلام أم هي ناقصة؟ قال: «بل هي حجّة تامّة». «2»

و بما انّ التمام عند الراوي آية الإجزاء، و النقص آية عدمه، أجاب الإمام بأنّه حجّة تامّة.

3. صحيح جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل ليس له مال، حجّ عن رجل، أو أحجّه غيره ثمّ أصاب مالا، هل عليه الحجّ؟ فقال: «يجزي عنهما جميعا». «3»

و الظاهر أنّ ضمير التثنية في قوله: «عنهما» يرجع إلى المنوب عنه الوارد في قوله: «حج عن رجل» و إلى المبذول له الوارد في قوله: «أحجّه غيره».

فتبيّن من جميع ما ذكرنا، إجزاء المأتي به عن الإتيان به مرّة أخرى حتّى و لو أيسر.

استدلّ للقول بعدم الإجزاء بروايتين:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 228

..........

1. ما رواه الكليني في الموثّق، عن الفضل بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رجل لم يكن له مال فحجّ به أناس من أصحابه، أقضى حجّة الإسلام؟ قال: «نعم، فإن أيسر بعد ذلك فعليه أن يحجّ».

قلت: هل تكون حجّته تلك تامّة أو ناقصة إذا لم يكن حجّ من ماله؟ قال:

«نعم، قضى عنه حجّة الإسلام و تكون تامّة و ليست بناقصة، و إن أيسر فليحج». «1»

يلاحظ عليه: أوّلا: بأنّ السند لا يصلح للاحتجاج فقد نقله الشيخ كالتالي:

عن حميد بن زياد، عن ابن سماعة، عن عدّة من أصحابنا، عن أبان بن عثمان، عن الفضل بن عبد الملك، ففيه إرسال واضح، أعني: عن عدّة من أصحابنا، و لم يعلم المراد من العدّة في لسان ابن سماعة، و غيره، مضافا إلى أنّ حميد بن زياد، و الحسن بن محمد بن سماعة من الواقفة، فالسند مرسل أوّلا، و موثّق و ليس بصحيح و إن وصفه السيد الخوئي به.

ثانيا: وجود الاضطراب حيث إنّ الإمام أجاب عن سؤال، السائل، أعني قوله: «أقضى حجّة الإسلام؟» بقوله: «نعم»، و معنى قوله: «أقضى» أي امتثل و فعل مثل قوله سبحانه: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ. «2»

و أضاف بعد ذلك قوله: «نعم، فإن أيسر بعد ذلك فعليه أن يحجّ» فلو حمل الأمر بالاعادة على الاستحباب فهو، و إلّا يلزم التعارض، بعد ما ثبت إجماعا انّ حجّة الإسلام لا تجب في تمام العمر إلّا مرّة واحدة، ففي صحيح هشام بن سالم:

[المسألة 41: يجوز للباذل الرجوع عن بذله قبل الدخول في الإحرام

المسألة 41: يجوز للباذل الرجوع عن بذله قبل الدخول في الإحرام، و في جواز رجوعه عنه بعده وجهان، و لو وهبه للحجّ فقبل فالظاهر جريان حكم الهبة عليه

في جواز الرجوع قبل الإقباض، و عدمه بعده إذا كانت لذي رحم، أو بعد تصرّف الموهوب له. (1)*

«و كلّفهم حجّة واحدة و هم يطيقون أكثر من ذلك». «1»

2. خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لو أنّ رجلا معسرا أحجّه رجل كانت له حجّة، فإن أيسر بعد ذلك، كان عليه الحجّ». «2»

و الحديث ضعيف بعلي بن أبي حمزة أوّلا، و الاضطراب في المتن كما عرفت.

(1)* في المسألة فروع:

1. يجوز للباذل الرجوع عن بذله قبل إحرام المبذول له، و أمّا بعده ففيه وجهان.

2. إذا وهب ماله للحجّ فيجري فيه حكم مطلق الهبة فلو كان الموهوب له رحما يجوز الرجوع قبل الاقباض لا بعده.

3. و لو كان أجنبيا، يجوز الرجوع قبل تصرّف الموهوب له و لا يجوز بعده.

أمّا الفرع الأوّل: أي الرجوع قبل الإحرام و التلبية، فالظاهر كون جواز الرجوع أمرا مسلما عند الأصحاب، و يشهد على ذلك أنّ بعضهم اشترطوا في صدق الاستطاعة كون البذل واجبا على الباذل بنذر أو يمين أو نحوهما كما مرّ، و هذا يحكي عن كون جواز الرجوع أمرا مسلما، فحاولوا بذلك سدّ باب الرجوع، و مع ذلك كلّه فعلى الباذل نفقة الرجوع، لا من باب الغرور و الخدعة و المكيدة، إذ

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 230

.......... ربّما يكون خاليا عن هذه الأمور، و ربّما يتبدّل رأيه لأمر آخر، بل الضمان لأجل دعوته إلى الحجّ الّتي تلازم ضمانه نفقة الذهاب و الإياب، فإذا بدا له في أثناء الطريق، عليه بذل نفقة الرجوع، هذا، و له نظائر في الفقه، فلو قال أحد ركّاب السفينة لأحد ركّابها: ألق متاعك في البحر لئلّا تغرق السفينة فألقى متاعه فيه يكون ضامنا لأمره.

و

أمّا الفرع الثاني: أعني الرجوع بعد الإحرام و التلبية، فقد ذكر المصنّف فيه أنّ فيه وجهين:

1. عدم جواز الرجوع وجهه، انّ الحجّ المستحب بعد الإحرام و التلبية يصير واجبا على الزائر، فإذا صار الإتمام عليه واجبا يكون الرجوع على الباذل حراما، لأنّ جواز رجوعه على طرف النقيض من حكمه سبحانه عليه بالإتمام.

و نظير ذلك إذا أجاز الصلاة في ملكه فدخل المستأذن في الصلاة التي يحرم قطعها فليس له الرجوع في أثناء الصلاة، لأنّ الإتمام على المصليّ واجب، و جواز الرجوع على طرف النقيض منه، فالحكم بالإتمام يلازم عدم جواز الرجوع.

2. جواز الرجوع ربّما يقال بجواز الرجوع في المقام و فيما إذا أذن للصلاة أيضا، أمّا المقيس عليه فلأنّ وجوب الإتمام رهن كون صلاة المصلّي جامعة للشرائط، و هو كون المكان غير مغصوب، و رجوع المالك عن إذنه يصيّر التصرّف فيه غير جائز فيمتنع التعبّد بالصلاة في ذلك المكان فلا يبقى موضوع لوجوب الاستمرار.

و بعبارة أخرى: وجوب الاستمرار في العمل و حرمة قطعه مبنيّ على كون الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 231

.......... العمل جامعا للشرائط، و من تلك الشرائط كون المكان مباحا، و مع عدول المالك عن إذنه يختل ذلك الشرط فيكون الموضوع غير جامع للشرائط، و معه لا يجب الإتمام.

و أمّا المقيس فلأنّه قد دخل في الإحرام و لبّى بنيّة انّه حجّة الإسلام و هو فرع كون الرجل مستطيعا، و رجوع الباذل عن بذله أو الواهب عن هبته يكشف عن عدم استطاعته بقاء، و بانتفاء الموضوع ينتفي الحكم.

فإن قلت: ما الفرق بين المقام، و ما إذا أذن الزوج و الوالد في حجّ الزوجة و الولد إذا كان استحبابيا فإنّ رجوعهما بعد الإحرام و التلبية

لا يؤثر؟

قلت: الفرق بينهما واضح، لأنّ إتيانهما بالحجّ الواجب لا يتوقف على إذن الزوج و الوالد، و المتوقّف هو الحجّ المستحبّ، فمن المعلوم أنّ رجوع الزوج و الوالد لا يؤثّر في انقلاب الموضوع في خروج المستحبّ عن كونه حجّا مستحبا، و هذا بخلاف المقام فانّ رجوع الباذل أو الواهب يوجب انقلاب الموضوع و صيرورة الحجّ غير واجب، لأنّ الرجوع يكشف عن أنّه لم يكن مستطيعا، فتكون النتيجة بطلان حجّه بنفس الامتناع من دون حاجة إلى نيّة القطع و الخروج عن الإحرام.

هذا و انّ المصنّف ذكر الوجهين و لم يرجّح أحدهما على الآخر، و لكن الظاهر منه في المسألة الخمسين هو عدم جواز الرجوع بعد الإحرام، فلاحظ.

هذا كلّه في الحكم التكليفي، و أمّا الحكم الوضعي فلا شكّ أنّ الباذل ضامن لنفقة الرجوع إلى بلده، لأمره بالمشاركة في الحجّ و وعده بالبذل إلى أن يرجع إلى وطنه فالضرر المترتّب على المبذول له نتيجة أمره و دعوته.

و ما ذكرناه إنّما هو على وفق القواعد الرائجة، و لكن هنا كلام و هو انّ المقام داخل في العهد الذي أمر الشارع بحفظه و الوفاء به، و قال سبحانه: وَ الَّذِينَ هُمْ

[المسألة 42: إذا رجع الباذل في أثناء الطريق ففي وجوب نفقة العود عليه أولا وجهان

المسألة 42: إذا رجع الباذل في أثناء الطريق ففي وجوب نفقة العود عليه أولا وجهان. (1)*

لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ «1»، و قال عزّ من قائل: وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ «2»، فإذا كان العهد بهذه المنزلة فكيف يجوز نقضه و الرجوع عنه في أثناء الطريق، أو بعد الإحرام و التلبية؟ و كونه داخلا في مجرّد الوعد الذي لا يجب الوفاء به كما عليه السيّد الحكيم، «3» غير تامّ، فانّ المقام يختلف عن الوعد في نظر العرف، و

إنّما هو تعاهد من الطرفين على أن يكون البذل من أحدهما و العمل من الآخر، فنقض مثل هذا أمر مشكل، و تفسير العهد في الآيات بعهد اللّه قابل للتأمّل، بل العهد سواء كان طرفه هو اللّه سبحانه أم غيره لازم الوفاء.

و هذا الوجه و إن لم نعثر عليه في كلمات القوم، و لكنّه قابل للملاحظة، و لو صحّ ذلك لكان وجوب العمل بالعهد حاكما على قاعدة السلطنة على المال، فالمالك مسلّط على ماله حدوثا و بقاء، إذا لم يكن من المالك هناك تعاهد على العمل تعاهدا عقلائيا يعد النقض أمرا قبيحا و الناقض مستحقا للذم و اللوم.

و بما ذكرنا يعلم حكم الفرع الثالث، أعني: رجوع الواهب عن هبته، فإنّ حكمها حكم البذل قبل الإحرام و بعده، إلّا أنّ الهبة لا يجوز الرجوع فيها بعد الإقباض إذا كان الموهوب له رحما، و في غيره إذا تصرّف فيها على نحو يصدق عليها أنّها غير باقية بحالها.

(1)* قد علم حكم المسألة ممّا ذكرناه، فالضمان ليس لأجل الغرور بل لأجل

[المسألة 43: إذا بذل لأحد اثنين أو ثلاثة]

المسألة 43: إذا بذل لأحد اثنين أو ثلاثة، فالظاهر الوجوب عليهم كفاية فلو ترك الجميع استقرّ عليهم الحجّ فيجب على الكلّ لصدق الاستطاعة بالنسبة إلى الكلّ، نظير ما إذا وجد المتيمّمون ماء يكفي لواحد منهم فإنّ تيمّم الجميع يبطل. (1)*

أنّ الإذن في العمل يكفي في الضمان.

(1)* في المسألة فرعان:

الأوّل: البذل لأحد اثنين أو ثلاثة يستلزم وجوب الحجّ عليهم كفاية، بمعنى أنّه يجب أن يقوم أحدهم بإتيان الحجّ، كما هو الحال في الواجب الكفائي في دفن الميّت الذي يجب على المسلمين القيام بدفنه.

الثاني: انّه لو ترك الكلّ و لم يستجب واحد منهم للدعوة وجب عليهم الحجّ عينا و لو متسكّعا،

نظير ما إذا وجد المتيممون ماء يكفي لواحد منهم فإن تيمّم الجميع يبطل.

و قبل بيان حكم الفرعين نذكر شيئا في التنظير، و هو: انّ ما ذكره من بطلان وضوء المتيممين بمجرّد العثور على الماء، غير تام، و إن ذكره أيضا في باب أحكام التيمم حيث قال: إذا وجد جماعة متيمّمون ماء مباحا لا يكفي إلّا لأحدهم بطل تيمّمهم أجمع إذا كان في سعة الوقت. «1»

و قد قالوا هناك بأنّ مجرّد الوجدان لا يوجب البطلان، بل هناك صور:

1. إذا تسابقوا على حيازة الماء فغلب أحدهما على الآخرين يبطل وضوءه دون الآخرين.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 234

.......... 2. إذا لم يتسابقوا على حيازة الماء و تركوه بطل وضوؤهم.

3. إذا تزاحموا و لم يحزه واحد منهم فلا يبطل تيمّمهم.

و الملاك وجدان الماء و هو متحقّق فيمن سبق على غيره في الصورة الأولى، و في الجميع في الصورة الثانية، دون الصورة الثالثة، و التفصيل في محلّه.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى حكم الفرع الأوّل.

الفرع الأوّل: إنّ وجوب الحجّ عليهم لأجل تحقّق الاستطاعة بالنسبة إلى كلّ واحد منهم.

هذا، و لكن صدق الاستطاعة هنا أمر مشكل، لأنّ الاستطاعة إمّا مالية أو بذلية، فالأولى غير موجودة، و أمّا الثانية فلا تشملها أخبار البذل، لأنّ منصرف الأخبار إلى ما إذا كان البذل عينيّا فهذه الصورة خارجة عن مصبّ الأخبار.

و بتعبير آخر: يجب أن يكون البذل شخصيّا دون المقام، فإنّما هو فيه لواحد من ثلاثة.

و قد أجاب عنه المحقّق الخوئي بأنّ الموضوع هو البذل إلى الشخص لا البذل إلى الجامع بين الثلاثة، أعني: أحدهم، و البذل في المقام شخصيّ لكن بصورة قضية مشروطة، كأن يقول الوالد لأولاده الثلاثة: فليأخذ أحدكم هذا المبلغ للحجّ، فهو

في الحقيقة ينحل إلى قضايا شخصيّة مشروطة، كأنّه يقول للأكبر: خذ أنت هذا المبلغ إن لم يأخذه الأوسط و الأصغر، و مثله خطابه للأوسط: خذ أنت إن لم يأخذه الأكبر و الأصغر، و مثله خطابه للأصغر.

يقول قدّس سرّه: إنّ البذل في المقام يرجع في الحقيقة إلى البذل إلى كلّ شخص منهما أو منهم، غاية الأمر مشروطا بعدم أخذ الآخر، لعدم الترجيح في الفردين الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 235

.......... المتساويين، كما إذا بذل الوالد مالا لأحد أولاده و قال لهم: يحجّ به أحدكم، فإنّ معنى ذلك انّ من أخذه منكم يجب عليه الحجّ و لا يجب على الآخر، و أمّا إذا لم يأخذه أحد منهم فالشرط حاصل في كلّ منهم و يستقرّ عليهم الحجّ نظير مسألة التيمم. «1»

يلاحظ عليه: أنّه و إن دفع الإشكال و أخرجه من العرض على الجامع إلى العرض على الأشخاص، و لكن هذا النوع من البذل الشخصي خارج عن منصرف الأخبار، فانّ منصرفها إلى البذل الشخصي المطلق لا المقيّد بعدم أخذ الآخر، و صيرورة أحد الثلاثة مستطيعا متمكّنا من الحجّ و إن كان صحيحا، لكن ليس كلّ مورد صدقت فيه الاستطاعة يجب فيه الحجّ.

و لو صحّ ما ذكر لزم أن نقول به فيما إذا خاطب مائة رجل من الأقارب و الجيران و الأصدقاء ببذل واحد منهم، فهل يمكن الالتزام بوجوب الحجّ عليهم كفاية على نحو لو تساهلوا يستقر عليهم الحجّ.

و أمّا الفرع الثاني فلا غبار عليه لو صحّ الفرع الأوّل، لأنّه إذا صدق على كلّ واحد كونه مستطيعا فيجب عليهم أمام المولى أحد أمرين:

1. إمّا الامتثال بالتسابق.

2. إقامة العذر في ترك الحجّ، و هو في المقام تسابق الغير على الأخذ

و المفروض عدمه، فيجب على الجميع الحجّ متسكعا.

فإن قلت: كيف يجب الحجّ على الجميع مع كون الاستطاعة واحدة، و هذا يستلزم كون العقوبة أوسع من القدرة فالقدرة واحدة و العقوبة (إيجاب الحجّ على الجميع) متعددة، أي على الثلاثة؟

[المسألة 44: الظاهر أنّ ثمن الهدي على الباذل

المسألة 44: الظاهر أنّ ثمن الهدي على الباذل، و أمّا الكفّارات فإن أتى بموجبها عمدا اختيارا فعليه، و إن أتى بها اضطرارا أو مع الجهل أو النسيان فيما لا فرق فيه بين العمد و غيره، ففي كونه عليه أو على الباذل، وجهان. (1)*

قلت: إنّ تعدد العقاب و وحدته غير تابع لوحدة القدرة و تعدّدها، بل يصحّ تعدّد العقاب مع وحدة القدرة إذا لم يكن ممتثلا و لا تاركا عن دليل، و هذا كما إذا ابتلى بغريقين لا يقدر إلّا على نجاة أحدهما، فلو اشتغل بنجاة أحدهما و غرق الآخر يكون في تركه مستندا إلى العذر، و أمّا إذا اشتغل بنفسه و لم يأب بالغريقين أبدا فيتعدد عقابه، إذ يخاطب عندئذ: لم تركت إنقاذ هذا الغريق بلا عذر؟

فيعاقب، ثمّ يخاطب بالنسبة إلى الغريق الآخر لم تركت هذا بلا عذر؟ فيتعدّد العقاب و إن كانت قدرته واحدة.

لكن الكلام في الفرع الأوّل و صدق الاستطاعة، فلا يعد مثل هذا استطاعة عرفية ما لم يتعيّن الموضوع له.

(1)* في المسألة فرعان:

1. الكفّارات على المبذول له فيما إذا أتى بموجبها عمدا، و أمّا في غيره، ففيه وجهان.

2. ثمن الهدي على الباذل.

فلندرس الفرعين واحدا بعد الآخر.

أمّا الأوّل: فالظاهر انّ الكفّارات كلّها على المبذول له، و ذلك لأنّ الباذل إنّما تعهّد نفقة الحجّ ذهابا و إيابا و الإقامة في المشاعر، و أمّا ما وراء ذلك فلم يتعهد به الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 237

..........

حتّى يحكم عليه، به و ما ربّما يقال من أنّ الإذن في الشي ء إذن في لوازمه، صحيح في غير هذا المورد، إذ ليست الكفّارات من لوازم الحجّ، فإنّ جمعا غفيرا يحجّون و لا يأتون بموجب الكفّارات.

و أمّا الثاني: فيقع الكلام في مقامين:

1. في جواز امتناعه عن بذل ثمن الهدي، و لا شكّ أنّ من قال بجواز الرجوع في الكلّ يقول في الجزء أيضا، و قد ذكر المصنّف في المسألة الحادية و الأربعين أنّ في جواز الرجوع بعد الدخول في الإحرام وجهين.

نعم على ما ذكرنا من أنّ الموضوع داخل في العهد و العقد، و كلّ ما كان كذلك يجب العمل به، فينتج وجوب العمل بكلّ ما تعهّد به، و منه ثمن الهدي.

فإن قلت: إنّ الباذل و إن تعهّد نفقة الحجّ، و لكنّه بامتناعه عن بذل ثمن الهدي يدخل الموضوع في غير الواجد للهدي، فيخلفه صيام ثلاثة في الحجّ و سبعة إذا رجعتم، قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ. «1»

قلت: قد عرفت انّ المبذول له داخل في المستطيع شرعا، و من المعلوم المستطيع شرعا عبارة عمّن يقدر على الهدي، و أمّا العاجز عنه- و إن قدر على غيره- فغير مستطيع، و لذلك لو تمكّن الإنسان من الحجّ سوى ثمن الهدي، لا يجب عليه الحجّ، و على ذلك فليس للباذل الامتناع عن بذل ثمن الهدي بحجّة أنّ له بدلا، و ذلك لأنّ البدل أعني: الصيام- ليس في عرض الهدي و إنّما هو في طوله.

و على أيّ تقدير، فلو امتنع، فإن قدر المبذول له على ثمن الهدي يجب عليه،

[المسألة 45: إنّما يجب بالبذل الحجّ الّذي هو وظيفته على تقدير الاستطاعة]

المسألة 45: إنّما يجب بالبذل الحجّ الّذي هو وظيفته على تقدير الاستطاعة، فلو بذل للآفاقي بحجّ القران أو الافراد أو لعمرة مفردة، لا يجب عليه، و كذا لو بذل للمكّي لحجّ التمتّع لا يجب عليه، و لو بذل لمن حجّ حجّة الإسلام لم يجب عليه ثانيا، و لو بذل لمن استقرّ عليه حجّة الإسلام و صار معسرا وجب عليه، و لو كان عليه حجّة النذر أو نحوه و لم يتمكّن فبذل له باذل وجب عليه، (و إن قلنا بعدم الوجوب لو وهبه لا للحجّ، لشمول الأخبار من حيث التعليل فيها بأنّه بالبذل صار مستطيعا، و لصدق الاستطاعة عرفا). (1)*

و تكون الاستطاعة استطاعة تلفيقيّة من البذلي و المالي، و أمّا إذا كان عاجزا عن ثمن الهدي فيحتمل عدم وجوب الإتمام، لأنّه يكشف عن عدم الاستطاعة بامتناع الباذل، و مع امتناعه يخرج عن كونه مستطيعا فلا يغني عن حجّة الإسلام حتّى و لو استمر في العمل بالصيام.

2. في استظهار مفاد كلام الباذل، فهل هو ظاهر في بذل ثمن الهدي أيضا ليبذل أو لا؟

و بعبارة أخرى: ليس الباذل بصدد الامتناع، و إنّما هو بصدد الاستفسار و انّه هل تعهّد ببذل نفقة الهدي مع نفقة الحج أو لا؟

فلو كان محور البحث هو هذا، فلا شكّ أنّ التعهد للكلّ تعهد للجزء أيضا، فانّ الهدي من أجزاء الحجّ، و أمّا الصوم فليس من أجزاء الحجّ، و إنّما هو بدل عمّا تركه من الجزء.

(1)* في المسألة فروع:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 239

.......... 1. لو بذل للآفاقي حجّ القران أو الافراد أو العمرة المفردة، لا يجب عليه.

2. لو بذل للمكّي حجّ التمتّع، لا يجب عليه.

3. لو بذل لمن حجّ حجّة الإسلام، لم

يجب عليه ثانيا.

4. لو بذل لمن استقرّ عليه حجّة الإسلام و صار معسرا، وجب عليه.

5. لو كان عليه حجّة النذر و لم يتمكن فبذل باذل، وجب عليه.

أمّا الأوّل: إذا بذل للآفاقي القران أو الافراد، فلا يجب عليه، لأنّ البذل لا يغيّر الوظيفة ممن بعد بيته عن مكة المكرمة قرابة ثمانية و أربعين ميلا «1» فوظيفته التمتّع لا القران و لا الافراد، فانّهما من وظائف من كان مجاورا لمكّة أو بينها و بينه ثمانية و أربعين ميلا، و القارن و المفرد يقدّمان الحجّ و يؤخران العمرة، عكس المتمتّع، غير انّ القارن يسوق الهدي دون المفرد.

و أمّا لو بذل للآفاقي العمرة المفردة، فذهب المصنّف و أكثر المعلّقين إلى عدم وجوب قبوله، و لكنّه محل تأمّل، إذ يحتمل وجوب العمرة المفردة للمستطيع لها و إن لم يستطع للحجّ، و لا تبعد دلالة قوله سبحانه: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ «2» و التفصيل موكول إلى محلّه.

و أمّا الثاني: فإذا بذل للمكّي- الذي وظيفته حجّ القران و الافراد- حجّ التمتّع فلا يجب لما عرفت من أنّ البذل لا يغيّر الوظيفة.

و أمّا الثالث: أعني من حجّ حجّة الإسلام، لا يجب عليه الحجّ بالبذل، لوجوبها طول العمر مرّة واحدة كما سبق.

[المسألة 46: إذا قال له: بذلت لك هذا المال مخيّرا بين أن تحجّ به أو تزور الحسين عليه السّلام

المسألة 46: إذا قال له: بذلت لك هذا المال مخيّرا بين أن تحجّ به أو تزور الحسين عليه السّلام وجب عليه الحجّ. و إن قلنا بعدم الوجوب لو وهبه لا للحجّ، لشمول الاخبار من حيث التعليل فيها، فانه بالبذل صار مستطيعا، و لصدق الاستطاعة عرفا (1)*

و أمّا الرابع: فإذا بذل لمن استقرّ عليه حجّة الإسلام و لم يحجّ حتّى صار معسرا، وجب عليه قبول البذل لإتيان الواجب، لا لشمول أخبار

البذل، بل لصدق الاستطاعة، و لا يشترط في هذا المورد، الاستطاعة الشرعية، بل تكفي الاستطاعة العقلية، و ذلك لأنّه استطاع شرعا، و سوّف و لم يذهب، فزالت الاستطاعة الشرعية و انتقل التكليف إلى وجوب الحجّ و لو بالاستطاعة العقلية، و نظيره الفرع التالي.

الفرع الخامس: من كان عليه حجّة النذر و لم يتمكّن، يجب عليه قبول البذل مطلقا، حتّى و لو بذل و لم يقيّده بالحجّ، لا لشمول أخبار البذل، بل لصدق الاستطاعة، لما عرفت من أنّ الاستطاعة المعتبرة في هذا المورد هي الاستطاعة العقلية لا الشرعية، لأنّ الواجب بالنذر كسائر الواجبات لا تعتبر فيه سوى الاستطاعة العقلية.

و لا يخفى أنّ كلام المصنف في ذيل المسألة لا يخلو من اضطراب و الظاهر أنّ قوله: (و إن قلنا بعدم الوجوب ... إلى آخره) من متمّمات المسألة الآتية، و قد جعلناه في المتن بين القوسين للإشارة إلى أنّه ليس من متمّمات هذه المسألة، فلاحظ.

(1)* تقدّم في المسألة السابعة و الثلاثين انّ صور المسألة ثلاث:

1. إذا وهبه ما يكفيه للحجّ، لخصوص الحجّ.

[المسألة 47: لو بذل له مالا ليحجّ بقدر ما يكفيه فسرق في أثناء الطريق

المسألة 47: لو بذل له مالا ليحجّ بقدر ما يكفيه فسرق في أثناء الطريق سقط الوجوب.* (1)

[المسألة 48: لو رجع عن بذله في الأثناء]

المسألة 48: لو رجع عن بذله في الأثناء، و كان في ذلك المكان يتمكّن من أن يأتي ببقيّة الأعمال من مال نفسه، أو حدث له مال بقدر كفايته، وجب عليه الإتمام، و أجزأه عن حجّة الإسلام. (2)*

2. إذا وهبه ما يكفيه للحجّ، و خيّره بين الحجّ و غيره.

3. إذا وهبه ما يكفيه للحجّ، مطلقا من دون أن يذكر الحج.

فاختار المصنّف هناك وجوب الحجّ في الصورتين الأوليين دون الثالثة، و أشار في المقام إلى خصوص الصورة الثانية، و ذكر أنّه يجب الحجّ عليه، و لم يعلم وجه التكرار، و قد مرّ أنّ الأقوى وجوبه مطلقا، لأنّ التمليك يستلزم الإذن في التصرّف في المال، الذي يكفي للحجّ، و هو نفس الاستطاعة و إن لم تشمله أخبار العرض، و على حد تعبير المصنف انّه بالبذل صار مستطيعا، و لصدق الاستطاعة عرفا، فلاحظ.

ثمّ إنّ ما حرّرناه من عبارة المتن هو الصحيح، و أمّا المطبوع في العروة فقد طرأ عليه التحريف فانتقل قوله: «و إن قلنا- إلى قوله:- عرفا» إلى المسألة السابقة و لا صلة لتلك العبارة بها.

(1)* وجهه واضح لكشفه عن عدم الاستطاعة من أوّل الأمر و إن لم يكن واقفا به، نعم لو حدث له مال يكفي في استمرار العمل وجب الحجّ كما سيشير إليه في المسألة التالية.

(2)* هنا فروع:

1. إذا رجع عن بذله، قبل الدخول في الإحرام و التلبية، و كان معه في ذلك

[المسألة 49: لا فرق في الباذل بين أن يكون واحدا أو متعدّدا]

المسألة 49: لا فرق في الباذل بين أن يكون واحدا أو متعدّدا، فلو قالا له: حجّ و علينا نفقتك، وجب عليه. (1)*

المكان مال يتمكّن من أن يأتي ببقيّة الأعمال معه.

2. تلك الصورة و لكن- بعد الرجوع- حدث له مال بقدر كفايته.

3. إذا رجع

بعد الدخول في الإحرام و التلبية، و كان معه مال يمكن أن يأتي ببقية الأعمال معه.

4. تلك الصورة و لكن حدث له مال بقدر كفايته.

أمّا الصورتان الأوليان، فيجب عليه الاستمرار في العمل، و يكون من مقولة الاستطاعة التلفيقية، فما بذله إلى الزمان منضمّا إلى المال السابق أو الحادث محقّق للاستطاعة.

و أمّا الصورتان الأخريان، فالظاهر التفريق بين ما يمكن أن يأتي ببقية الأعمال من مال نفسه، فيكون ما بذل متممّا للاستطاعة، و بينما حدث و تخلّل بين الرجوع و حدوث المال فترة كيوم أو يومين، فانّ الرجوع يكشف عن عدم الاستطاعة، و ما حدث من المال، يصلح للإتمام إذا حدث قبل الإحرام لا بعده، لعدم كفاية وجود الاستطاعة أثناء العمل، بل يلزم وجودها قبل العمل، و المفروض انّه ليس كذلك، إلّا إذا كان الرجوع بعد إتمام العمل أو حين الإياب، فقد سبق عن المصنّف في المسألة التاسعة و العشرين انّه لو تلفت- بعد تمام الأعمال- مؤونة عوده إلى وطنه أو تلف ما به الكفاية من ماله، لا يبعد الإجزاء، و قد أوضحنا حاله.

(1)* و ذلك لإطلاق أدلة العرض، ففي صحيح الحلبي: «فان عرض عليه ما

[المسألة 50: لو عيّن له مقدارا ليحجّ به، و اعتقد كفايته فبان عدمها]

المسألة 50: لو عيّن له مقدارا ليحجّ به، و اعتقد كفايته فبان عدمها، وجب عليه الإتمام في الصورة التي لا يجوز له الرجوع. إلّا إذا كان ذلك مقيّدا بتقدير كفايته. (1)*

يحجّ به». «1» فالملاك هو تمكّنه ممّا يحجّ به، من غير فرق بين كون العارض واحدا أو أنّه كثيرا، أضف إلى ذلك ما ورد في صحيح معاوية بن عمار قال: «فإن كان دعاه قوم أن يحجوه فاستحيّا». 2

(1)* للمسألة صور ثلاث:

1. لو عينّ له مقدارا ليحجّ به، و اعتقد كفايته فبان

عدمها قبل الدخول في الإحرام، فلا يجب على الباذل تتميم ما بذل ليكفي نفقة الحجّ كلّها.

تلك الصورة، و لكن تبيّن عدم الكفاية في ما لا يجوز الرجوع فيه- كما إذا تبيّن بعد الدخول في الإحرام- فقد ذكر له المصنف قسمين:

2. إذا بذل مقدارا ليحجّ به، لكن لم يكن بذله مقيّدا بهذا المقدار، و لو ذكره أو دفع المقدار المعيّن فلأجل التطبيق بزعم أنّ المصروفات لا تزيد على هذا، على نحو لو كان واقفا على عدم كفايته لزاد على المقدار المذكور فيجب فيه التتميم إذا انكشف الخلاف.

3. إذا كان البذل محددا بالمقدار المذكور، أو المدفوع على نحو لو كان حين البذل عالما بأنّه لا يكفي، لما زاد، فلا يجب فيه التتميم إذا انكشف الخلاف، فلا يكون المبذول له مستطيعا.

و ما ذكره من التفصيل مبنيّ على عدم جواز الرجوع بعد الإحرام، فيجب في

[المسألة 51: إذا قال: اقترض و حجّ و عليّ دينك ففي وجوب ذلك عليه نظر]

المسألة 51: إذا قال: اقترض و حجّ و عليّ دينك ففي وجوب ذلك عليه نظر، لعدم صدق الاستطاعة عرفا، نعم لو قال: اقترض لي و حجّ به وجب مع وجود المقرض كذلك. (1)*

القسم الأوّل، دون الثاني، و لكنّه قدّس سرّه في المسألة الحادية و الأربعين لم يلتزم بالوجوب و إنّما ذكر فيه الوجهين من دون أن يرجّح أحدهما على الآخر.

(1)* الفرق بين الصورتين، أنّ المبذول له يقترض- في الصورة الأولى- لنفسه، و يضمن الباذل، أداء دينه، بخلاف الثاني فانّه يقترض- و كالة- للباذل مع وجود المقرض، فالاستطاعة في الصورة الثانية أوضح من الأولى، لأنّ الاقتراض في الصورة الأولى أشبه بالاكتساب المنفي لزومه في الواجب المشروط، بخلاف الثانية فانّه ليس باكتساب عرفا.

و الظاهر عدم الفرق بين الصورتين، لانتفاء الاستطاعة الماليّة أوّلا، و خروج القسمين عن

اخبار العرض ثانيا، و لم يبق إلّا صدق الاستطاعة العرفية، و هي موضع تأمّل، إلّا إذا كان الاقتراض سهلا، و كان المقرض مستعدّا للإقراض بلا جهد و منّة.

نعم لو اقترض في كلا القسمين، وجب عليه الحجّ، أمّا الثاني فواضح، لأنّ الباذل هو المديون، لا المبذول له، أمّا الأوّل فلأنّه مقتضى الضمان، أعني انتقال الدين من ذمة المبذول له إلى ذمة الباذل، فتخصيص الوجوب بالقسم الثاني- كما في بعض التعاليق تبعا للمتن- ليس في محلّه.

[المسألة 52: لو بذل له مالا ليحجّ به فتبيّن بعد الحجّ أنّه كان مغصوبا]

المسألة 52: لو بذل له مالا ليحجّ به فتبيّن بعد الحجّ أنّه كان مغصوبا، ففي كفايته للمبذول له عن حجّة الإسلام و عدمها وجهان، أقواهما العدم. أمّا لو قال: حجّ و عليّ نفقتك، ثمّ بذل له مالا فبان كونه مغصوبا، فالظاهر صحّة الحجّ، و أجزأه عن حجّة الإسلام، لأنّه استطاع بالبذل، و قرار الضمان على الباذل في الصورتين عالما كان بكونه مال الغير أو جاهلا. (1)*

(1)* في المسألة صورتان:

الأولى: إذا دفع الباذل مالا مغصوبا لشخص، و قال: حجّ بهذا المال.

الثانية: إذا قال الباذل: حجّ و عليّ نفقتك، لكنّه على صعيد العمل بالتعهّد دفع المال المغصوب مكان المال الحلال.

اختار المصنّف عدم حصول الاستطاعة في الأولى، فلو حجّ بالمال المغصوب ثمّ تبيّن له الحال، لا يكفي عن حجّة الإسلام، بخلاف الصورة الثانية، فانّ انشاء ضمان النفقة، يجعل المبذول له مستطيعا، و التخلّف في مقام التطبيق لا يضرّه.

و هذا النوع من التفصيل موجود في باب البيوع و الإجارات، فلو اشترى قميصا بالمال المغصوب أو غير المخمّس، يكون البيع باطلا، لأنّ البيع تبادل مال بمال مملوك، و الثمن لا يملكه المشتري، فيبطل البيع، بخلاف ما لو اشترى و الثمن في ذمّته، فالمعاملة صحيحة، إذ الثمن

على الذمة، و دفع مال الغير عوض الذمة لا يبطل ما وقع صحيحا، غاية الأمر يبقى الثمن في ذمّته و يكون مديونا للبائع.

أقول: لو صحّ ذلك التفصيل في البيع و الإجارة فإنّه غير صحيح في المقام،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 246

.......... لأنّ الوعد المجرّد، و الإنشاء الفارغ عن التطبيق، لا يحقّق الاستطاعة، و لذلك لو وعد و أنشأ الضمان و لم يدفع أصلا، لا يصير الشخص مستطيعا، و لا يجب عندئذ عليه الحجّ متسكّعا، فانّ الاستطاعة عبارة عن: التمكّن المالي على نحو التمليك أو الإباحة، و هو فرع كون الباذل مالكا، و المفروض انّه منتف في كلتا الصورتين.

و الفرق بين البيع و الثمن في ذمّة المشتري و الاستطاعة واضح، فإنّه بإنشاء البيع يملك المبيع و يكون الثمن في ذمّته، و دفع مال الغير لا يبطل العقد الصحيح، غاية الأمر يلزم بدفع الثمن من ماله، و هذا بخلاف المقام فإنّ الغاية من البذل هو إيجاد التمكّن للمبذول له، شرعا و قانونا، و هو فرع كون المال صالحا لأن يبذله الباذل دفعة أو تدريجا، و المفروض عدم صلاحيته، و جواز تصرّف المبذول له، جواز ظاهري لا واقعي، و لذلك لو حجّ بمال الغير زاعما بأنّه مال نفسه، لا يكفي عن حجّة الإسلام، بل عليه- وراء ضمان مال الغير- أن يحجّ مرّة ثانية إذا استطاع.

و يمكن القول بالصحّة في كلتا الصورتين، لأنّ الاستطاعة أمر عرفي و الظاهر صدقها في كلا الموردين، لأنّها عبارة عن حيازة مال دفعة أو تدريجا، يجوز له التصرّف فيه شرعا و قانونا، و لا يوجد التصرّف فيه أيّ تبعة و لا ضمان عليه، و هو صادق في كلا الموردين، لأنّ جهل المبذول له

بكونه مال الغير، صار سببا، لجواز التصرّف فيه، و بالتالي تمكّنه في هذه الحالة من الذهاب إلى الحجّ و إتيان المناسك و العود إلى الوطن، مع استقرار الضمان في المقام على السبب دون المباشر، لقوّة الأوّل و ضعف الثاني في المقام، كما إذا أهدى طعام الغير إلى شخص بصورة انّه مالك الطعام، فانّ الضمان يستقرّ على السبب دون المباشر، فلا يورث تصرّفه في مال الغير أيّ ضمان و تبعة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 247

.......... و بهذا يظهر الفرق بين المقام و ما إذا حجّ بمال الغير بزعم أنّه ماله، فإنّ تصرّفه، لا ينفك عن الضمان- و إن كان جاهلا- لأنّ الجهل و العلم لا يؤثّران في الأحكام الوضعية.

و ما يقال: انّ الاستطاعة البذلية لا تتحقق باعطاء مال الغير، و المفروض أنّ الاستطاعة المالية مفقودة، فلا موجب للحجّ أصلا، لا الاستطاعة المالية و لا البذلية، «1» مدفوع، بمنع الأوّل لحصول الاستطاعة البذلية، حيث مكّن المبذول له، من مال يجوز له التصرّف فيه ظاهرا، من دون إحداث أيّة تبعة و لا ضمان، فالتصرّف فيه حلال وضعا و تكليفا، و ضمانه على الباذل لأقوائية السبب في المقام من المباشر. و إن صار كلّ منهما ضامنا لوقوع المال تحت اليد، فيدخل تحت باب «تعاقب الأيدي»، و لكن يستقرّ الضمان على الأقوى تأثيرا في تلف المال و هو السبب في المقام دون المباشر.

ثمّ إنّ للمحقّق الخوئي قدّس سرّه بيانا لاستقرار الضمان على الباذل، سواء رجع إلى الباذل أو إلى المبذول له، قال: امّا إذا رجع المالك إلى الباذل فليس له الرجوع إلى المبذول له، لأنّ المفروض أنّ الباذل قد سلّط المبذول له على المال مجّانا و بغير ضمان، و

ليس له الرجوع بعد التسليط المجاني، فإنّ المال بقاء للباذل، لأنّه بعد ما أعطى الباذل، البدل، إلى المالك يصير المبدل ملكا له، و المفروض انّه سلّط المبذول له عليه مجّانا.

و أمّا إذا رجع المالك إلى المبذول له و أعطاه البدل صار المال ملكا له بقاء، فيرجع المبذول له إلى الباذل، لأنّه فوّت المال على مالكه الجديد، و هو المبذول له، فالباذل ضامن على كلّ حال، إمّا للمالك الأوّل أو للمالك الثاني. «2»

[المسألة 53: لو آجر نفسه للخدمة في طريق الحجّ بأجرة يصير بها مستطيعا]

المسألة 53: لو آجر نفسه للخدمة في طريق الحجّ بأجرة يصير بها مستطيعا، وجب عليه الحجّ، و لا ينافيه وجوب قطع الطريق عليه للغير، لأنّ الواجب عليه في حجّ نفسه أفعال الحجّ، و قطع الطريق مقدّمة توصّلية بأيّ وجه أتى بها كفى، و لو على وجه الحرام، أو لا بنيّة الحجّ، و لذا لو كان مستطيعا قبل الإجارة، جاز له إجارة نفسه للخدمة في الطريق، بل لو آجر نفسه لنفس المشي معه، بحيث يكون العمل المستأجر عليه نفس المشي، صحّ أيضا، و لا يضرّ بحجّه، نعم لو آجر نفسه لحجّ بلديّ، لم يجز له أن يوجر نفسه لنفس المشي كإجارته لزيارة بلديّة أيضا، أمّا لو آجر للخدمة في الطريق فلا بأس، و إن كان مشيه للمستأجر الأوّل فالممنوع وقوع الإجارة على نفس ما وجب عليه أصلا أو بالإجارة. (1)*

و ما ذكره تبعيد للمسافة، فانّ الضمان يستقرّ على الأقوى تأثيرا في تلف المال، و من المعلوم أنّ الأقوى هو الباذل، لا المبذول له، و أمّا البيان الماضي فلأنّ فرض التالف تارة ملكا للباذل و أخرى للمبذول له، مشكل، لأنّ المفروض أنّه تلف بالصرف في الحج، و معه كيف يفرض كونه مملوكا بعد التلف؟ تارة

للباذل، و أخرى للمبذول له، إلّا بالملكية التقديرية قبل التلف، و هي كما ترى.

(1)* في المسألة فروع:

1. لو آجر نفسه للخدمة في الطريق إيابا، أو ذهابا، أو في المشاعر و المواقف أو جميعا، يصير بها مستطيعا.

2. لو آجر نفسه لنفس المشي معه بحيث يكون المستأجر عليه نفس المشي.

3. لو آجر نفسه لحجّ بلدي، لم يجز له أن يؤجر نفسه لنفس المشي.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 249

.......... 4. تلك الصورة، و لكن لو آجر للخدمة في الطريق و إن كان مشيه للمستأجر الأوّل.

أمّا الأوّلان، فالفرق بينهما في أنّ المستأجر عليه في الأوّل، هو الخدمة في الطريق كالطبخ و صنع الشاي، و تعليف الدواب، و في الثاني المشي مع الموجر، لمعرفته بالطريق أو لقدرته على دفع العدو، فلو كانت الأجرة كافية في نفقة الحجّ، مع سائر شرائطه، فهو مستطيع فيكون حجّه، حجّة الإسلام، و ذلك لأنّ الخدمة أو المشي ليس من أجزاء الحجّ.

و قد أشار المحقّق و العلّامة إلى الفرع الأوّل قال المحقّق: و لو استؤجر للمعونة على السفر، و شرط له الزاد و الراحلة، أو بعضه، و كان بيده الباقي مع نفقة أهله، وجب عليه، و أجزأه عن الفرض إذا حجّ عن نفسه. «1»

و قال العلّامة في «التذكرة»: نعم لو آجر نفسه بمال تحصل به الاستطاعة أو ببعضه إذا كان مالكا للباقي، وجب عليه الحجّ. «2»

نعم، انّ في صحة الإجارة على المشي «3» إشكالا أشار إليه صاحب المسالك حيث قال: و يبقى في المسألة على تقدير الوجوب إشكال، و هو أنّ القصد إلى مكّة و المشاعر حينئذ يجب لأجل العمل المستأجر عليه، و وجوب الحجّ يقتضي إيقاعه عن نفسه و إنشاء السفر لأجله، و هما

متنافيان فلا يجتمعان. «4»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 250

.......... و قد أجاب عنه سبطه في المدارك فقال: إنّ الحجّ الذي هو عبارة عن مجموع الأفعال المخصوصة، لم تتعلّق به الإجارة، و إنّما تعلّقت بالسفر خاصّة، و هو غير داخل في أفعال الحجّ، و إنّما الغرض منه مجرّد انتقال البدن إلى تلك الأمكنة ليقع الفعل، حتى لو تحقّقت الاستطاعة فانتقل ساهيا أو مكرها أو على وجه محرّم ثمّ أتى بتلك الأفعال صحّ الحجّ، و لا يعتبر وقوعه لأجل الحجّ قطعا. «1»

و حاصل كلام المسالك: انّ إنشاء السفر إلى مكة و منها إلى المشاعر و المواقف، جزء من أعمال الحجّ فهو واجب نفسي، لا يصحّ أخذ الأجرة عليه.

و حاصل كلام سبطه: انّ الواجب عبارة عن نفس الأعمال، و ما سواها واجب غيريّ، و لا مانع من أخذها عليه، و قد تبعه في «الجواهر» و قال: و يدفع بأنّ الحجّ الذي هو عبارة عن مجموع الأعمال المخصوصة لم تتعلّق به الإجارة، و إنّما تعلّقت بالسفر خاصّة، و هو غير داخل في أفعال الحجّ. إلى آخر ما نقلناه في المدارك. «2»

ثمّ إنّ السيّد الحكيم قد نصر صاحب المسالك، قائلا: بأنّ ظاهر الآية الشريفة وجوب السفر، فإنّ حجّ البيت في الآية الشريفة- يراد منه الذهاب إليه و السعي نحوه، فيكون واجبا وجوبا نفسيا كسائر أفعاله. «3» و لا يقصر منها في الظهور قوله سبحانه: وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. «4»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 251

.......... يلاحظ عليه أوّلا: أنّ دلالة الآيتين على حدّ الإشعار، و بما انّ قطع الطريق في غالب الواجبات لا يعد جزءا من الواجب،

بل مقدّمة له، فتكون قرينة على أنّ قطع السفر في الحجّ أيضا كذلك.

و يؤيّد ذلك قوله سبحانه: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً* «1» فانّ التيمم بمعنى القصد، يقال أمّه: قصده، فقصد التراب بمعنى السعي إليه، لكي يمسح بالوجوه و الأيدي، و لم يقل أحد بوجوب السعي نفسيا.

و ثانيا: نفترض أنّه واجب نفسيّ، لكنّه واجب توصّلي لا تعبّدي، فلا يزاحمه أخذ الأجرة، و لم يدل دليل على حرمة أخذ الأجرة على الواجب النفسي إذا كان توصّليّا. اللّهمّ إلّا إذا دلّ الدليل على أنّ المطلوب للشارع هو صدوره من المكلّف، مجّانا و بلا عوض، كدفن الميّت.

نعم ما ذكر من البيان لا يتم، في السفر من الميقات إلى مكّة، أو منها إلى المواقف، و من بعضها إلى بعض، فانّ المرتكز هو كونه جزءا من الواجب، و لو شكّ في كون السفر من الميقات إلى مكّة من أجزاء الحجّ، لكن الشكّ من مكّة إلى المواقف و المشاعر في غير محلّه، فلا يصحّ أن يوجر نفسه لنفس المشي معه.

و لعلّ المتعارف من إيجار النفس، لنفس المشي، انتهاء أمد الإجارة عند الوصول إلى الميقات، أو إلى مكّة، للاستغناء عن الأجير، لأجل وضوح الطريق فلا يحتاج إلى الدليل، أو سيادة الأمن على الحاج بعد الدخول في الميقات.

هذا كلّه حسب القواعد، و أمّا الروايات فالظاهر منها، كون الواجب هو نفس الأعمال، مجرّدة عن السفر.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 252

.......... 1. كصحيحة معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يمرّ مجتازا يريد اليمن أو غيرها من البلدان، و طريقه بمكّة فيدرك الناس و هم يخرجون إلى الحجّ، فيخرج معهم إلى المشاهد، أيجزيه ذلك عن حجّة

الإسلام؟ قال: «نعم».»

و لكن القدر المتيقّن أنّه أدرك الناس قبل الميقات فالتحق بهم ناويا القربة في دخوله إلى مكّة، و منها إلى المواقف، و من بعضها إلى بعض.

2. و صحيحه الآخر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يخرج في تجارة إلى مكّة، أو يكون له إبل فيكريها، حجّته ناقصة أم تامّة؟ قال: «لا، بل حجّته تامّة».

إلى هنا تمّ الكلام في الفرعين، بقي الكلام في الفروع الباقية.

الفرع الثالث: لو أجّر نفسه لحجّ بلدي لم يجز له أن يؤجر نفسه لنفس المشي، لعدم جواز وقوع العقد على عمل واحد.

الفرع الرابع: لو أجّر للخدمة في الطريق، يصحّ له أن يؤجر نفسه لنفس المشي، لتعدد متعلّق الإجارتين.

[المسألة 54: إذا استؤجر- أي طلب منه إجارة نفسه للخدمة- بما يصير به مستطيعا]

المسألة 54: إذا استؤجر- أي طلب منه إجارة نفسه للخدمة- بما يصير به مستطيعا لا يجب عليه القبول، و لا يستقرّ الحجّ عليه، فالوجوب عليه مقيّد بالقبول و وقوع الإجارة، و قد يقال بوجوبه إذا لم يكن حرجا عليه، لصدق الاستطاعة، و لأنّه مالك لمنافعه، فيكون مستطيعا قبل الإجارة، كما إذا كان مالكا لمنفعة عبده أو دابّته و كانت كافية في استطاعته، و لأنّه مالك لمنافعه فيكون مستطيعا قبل الإجارة، كما إذا كان مالكا لمنفعة عبده أو دابّته و كانت كافية في استطاعته، و هو كما ترى، إذ نمنع صدق الاستطاعة بذلك، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط في بعض صوره، كما إذا كان من عادته إجارة نفسه للأسفار. (1)*

(1)* إذا كان شغله إيجار نفسه للخدمة، في الحضر و السفر، أو في خصوص أحدهما، أو لم يكن كذلك، و لم يكن يستطيع ذلك و طلب منه إجارة نفسه لتلك الغاية، فهل يصير بمجرّد الطلب- و إن لم ينضم إليه القبول- مستطيعا،

فيجب عليه القبول على نحو يكون القبول إعمالا لها، و لو لم يقبل يستقر عليه الحجّ أو لا؟

بل الوجوب مقيّد بالقبول و وقوع الإجارة؟

المشهور هو الثاني.

قال العلّامة: لو طلب من فاقد الاستطاعة إيجار نفسه للمساعدة في السفر بما تحصل به الاستطاعة، لم يجب القبول، لأنّ تحصيل شرط الوجوب ليس بواجب. «1»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 254

.......... و قال البحراني: لو طلب من فاقد الاستطاعة أن يؤجر نفسه للمساعدة في السفر بما تحصل به الاستطاعة لم يجب عليه القبول، لما تقرّر من أنّ تحصيل شرط الوجوب ليس بواجب. «1»

و قال النراقي: المصرّح به في كلام الأكثر- هو-: الثاني، لأنّه مقدّمة الواجب المشروط، و تحصيلها غير واجب. «2»

و قال في الجواهر: إنّ المراد ممّا في المتن (الشرائع) و غيره الاستئجار بما يقتضي الاستطاعة، أو شرطه أو نحو ذلك، ممّا لا إشكال في عدم وجوب القبول عليه فيه، لأنّه تحصيل لشرط الوجوب فلا يجب، كما لا إشكال في الوجوب عليه بعد القبول لتحقّق الاستطاعة حينئذ. «3»

و خالف النراقي في مستنده القول المشهور، و ذهب إلى وجوب القبول، و استدلّ بوجهين:

1. صدق الاستطاعة، إذا كان ما استؤجر له ممّا لا يشق عليه و يتمشّى منه، و عندئذ ليس القبول مقدّمة للواجب المشروط، بل للمطلق، إذ يصير نظير اشتراء عين الزاد و الراحلة.

2. انّه يملك منفعة بدنية، فيكون مستطيعا، كمالك منفعة ضيعة تفي بمؤونة الحجّ عليه.

لا يقال: فعلى هذا يجب تحصيل مؤونة الحجّ على كلّ من قدر على الاكتساب، و تحصيل الاستطاعة، فيكون الحجّ واجبا مطلقا.

لأنّا نقول: إن كان اقتداره بحيث تصدق معه الاستطاعة العرفية، فنسلّم

[المسألة 55: يجوز لغير المستطيع أن يؤجر نفسه للنيابة عن الغير]

المسألة 55: يجوز لغير المستطيع أن يؤجر نفسه للنيابة عن الغير. و إن

حصلت الاستطاعة بمال الإجارة قدّم الحجّ النيابيّ، فإن بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجب عليه لنفسه، و إلّا فلا. (1)*

الوجوب، و إلّا فلا، و ما ورد من الروايات في تفسير الاستطاعة بالزاد و الراحلة فالمراد ليس وجود عينها، بل أعمّ منها و ممّا بإزائها، و المنفعة البدنية إنّما هي موجودة له، و هي بإزاء العين، فيصدق أنّه واجد. «1»

و لا يخفى ضعف الوجهين:

أمّا الأوّل: فنمنع صدق الاستطاعة، لوجود الفرق بين الهبة و المقام، ففي الأولى يكفي قوله «قبلت» من دون طلب عمل و خدمة منه، بخلاف المقام فانّه يستتبع عمل جادّ طول سفر الحجّ، و هو تحصيل للاستطاعة قطعا.

و أمّا الثاني: فلأنّ القدرة على العمل لا تعد ملكا، و قياسه بملكية العقار و الدواب قياس مع الفارق، لوجود الإضافة الاعتبارية في الثانية دون المقام.

فانّ القوّة البدنية تشكل جزءا من واقع الإنسان لا شيئا زائدا عليه.

أضف إلى ذلك ما ذكره السيد الخوئي من أنّه لو كان مالكا لها، فلا يتوقف وجوب الحجّ عليه على طلب الاستئجار منه، بل يجب عليه بنفسه أن يتصدّى لذلك و يجعل نفسه معرضا للإيجار «2»، بل يجب عليه الحجّ إذا قدر بالعمل في الطريق بنحو من الأنحاء.

(1)* سيوافيك في الفصل الرابع صحّة النيابة في الحجّ الواجب و المندوب و شروط النائب التي منها: خلوّ ذمّته من حجّ واجب عليه في عام النيابة بالأصالة،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 256

.......... أو بالاستئجار، أو بالإفساد، أو بغير ذلك، فلو وجب عليه حجّ في ذلك العام، لم يجز له أن ينوب عن غيره. و أمّا إذا كانت ذمّته فارغة من حجّ واجب، فله أن يؤجر نفسه للغير، و حينئذ لو استطاع، بعد إيجار نفسه

للغير، يقدّم الحجّ الإجاري على الحجّ الواجب، لتعلّق حق الغير بأفعاله و أعماله، و يكون حكمه حكم الدين، فكما هو يمنع عن تعلّق الوجوب، فهكذا اشتغال ذمّته بحقّ الغير، و تعلّق حقّه بها، يمنع عن تعلق الوجوب.

و إن شئت قلت: إنّ وجوب تسليم ما عليه من الواجب ينافي وجوب الحجّ، نظير ما إذا أجّر نفسه لغير الحجّ، كبناء مجمّع يستغرق سنة، فالجميع من واد واحد.

و تدل عليه أيضا صحيحة سعد بن أبي خلف قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام عن الرجل الصرورة، يحجّ عن الميّت؟ قال: «نعم، إذا لم يجد الصرورة ما يحجّ به عن نفسه، فإن كان له ما يحجّ به عن نفسه فليس يجزي عنه حتّى يحجّ من ماله». «1» و سيوافيك فقه الحديث في محلّه فانتظر.

و يترتّب على ذلك الفروع التالية:

1. لو صار نائبا في عام معيّن و تجدّدت بعد النيابة له الاستطاعة في نفس ذلك العام، تصحّ النيابة، و يحجّ للمنوب عنه، لأنّ المانع الشرعي كالمانع العقلي، و يحجّ لنفسه في العام القابل إذا بقيت الاستطاعة.

2. إنّما يقدّم الحجّ النيابي على الحجّ الواجب بما إذا كان مقيّدا بالسنة التي حصلت الاستطاعة فيها بعد الإجارة، فلو استؤجر لعام بعده، يقدّم الحجّ الواجب.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 257

.......... 3. لو كان ممّن استقرّ عليه الحجّ، و عجز عنه و لو مشيا و متسكّعا، يجوز له الاستنابة في نفس العام، لسقوط الواجب فيه بالعجز، و إن كان ثابتا في الذمّة، لكن يراعى في جواز استنابته ضيق الوقت بحيث لا يحتمل تجدد الاستطاعة عادة. «1»

و يبقى الكلام في الفرق بينه و بين المسألتين التاليتين:

1. فقد عرفت في المسألة 32 «إذا نذر قبل حصول

الاستطاعة أن يزور الحسين في عرفة، ثمّ حصلت الاستطاعة» فقد اختلفت كلمتهم في تقديم الحجّ أو النذر، و المصنف و السيد الحكيم على تقديم النذر، و أكثر المعلّقين على تقديم الحجّ تقدّما تخصيصا أو تخصصا، و لكن الجميع اتّفقوا في المقام على تقديم الحجّ النيابي على الحجّ الواجب.

2. سيأتي في الفصل 3، المسألة 17 من أنّه إذا نذر حجّا في حال عدم الاستطاعة الشرعية، ثمّ حصلت له، فإن كان موسّعا أو مقيّدا لسنة متأخرة قدّم حجّة الإسلام- إن نذر حجّا غير حجّة الإسلام- لفوريتها، و إن كان مضيّقا، فإن قيّده بسنة معيّنة و حصلت فيها الاستطاعة، فقد ذهب المصنف هناك بأنّه يقدم الحجّ المنذور، و ذهب كثير من المعلّقين إلى تقديم حجّة الإسلام، إمّا لعدم الملاك في المنذور، لكشف الاستطاعة عن عدم كون المنذور مشروعا حين العمل مع التقييد بتلك السنة، على قول، أو أنّه من قبيل المتزاحمين، فيقدّم الأقوى، و هو الحجّ الواجب بالذات بالنذر.

و حاصل السؤال: ما هو الفرق بين المقام و مسألة النذر في كلا المقامين حيث اتّفقت كلمتهم في المقام على الجواز، دون النذر؟

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 258

.......... و الجواب واضح، لأنّ من يقدّم الحجّ على زيارة الحسين، أو الحجّ المنذور، هو إمّا لأجل فقدان المنذور الرجحان في مقام الامتثال، سواء كان المنذور، هو زيارة الحسين يوم عرفة، أو الحجّ النذري، فيكون التقديم تخصصيا، أو لاشتمال المنذور- سواء أكان زيارة الحسين أو الحجّ المنذور- على المصلحة بناء على أنّ عدم مزاحمة المنذور لواجب فوري قيد عقلي، لا شرعي، فلا يوجب كونه فاقدا للملاك، غاية الأمر يدخل المقام في باب التزاحم، فيقدّم الأقوى، فيكون التقديم تخصيصا، كما قوّيناه.

و هذا بخلاف

متعلّق الإجارة، و أمّا المقام فلو حصلت الاستطاعة بنفس النيابة على نحو لو حجّ حجّة الإسلام، لذهبت الاستطاعة و لم يقدر على الحجّ النيابي في العام القادم، فلا شكّ في عدم توجّه الإشكال، إذ لا استطاعة بالنسبة إلى الحجّ، حتّى يحتمل تقدّمه، لأنّ صرف مال الإجارة في الحجّ الواجب يوجب عجزه عن امتثال ما وجب عليه بالعقد الإجاري.

و إن شئت قلت: إنّ جواز الصرف يتوقّف على إذن المؤجر له، و إذنه في المقام يلازم انحلال عقد الإجارة، الملازم لعود المال إلى ملك المؤجر، و هو يلازم نفي الاستطاعة المستتبع لعدم وجوب حجّة الإسلام عليه.

نعم إنّما يرد الإشكال في موردين:

1. إذا استطاع بالأجرة، على نحو تكفي للحجّ النيابي و الحجّ الواجب، مع كون الأوّل مقيّدا بعام الاستطاعة.

2. إذا حصلت الاستطاعة بعد عقد الإجارة من طريق آخر، كموت المورث و غيره.

ففي هاتين الصورتين، يطرح السؤال الماضي و انّه أيّ فرق بين النذر، و الإجارة حيث يقدّم الحجّ على النذر، و لا يقدم على الإجارة؟

[المسألة 56: إذا حجّ لنفسه أو عن غيره تبرّعا أو بالإجارة مع عدم كونه مستطيعا لا يكفيه عن حجّة الإسلام

المسألة 56: إذا حجّ لنفسه أو عن غيره تبرّعا أو بالإجارة مع عدم كونه مستطيعا لا يكفيه عن حجّة الإسلام فيجب عليه الحجّ إذا استطاع بعد ذلك، و ما في بعض الأخبار من إجزائه عنها محمول على الإجزاء مادام فقيرا، كما صرّح به في بعضها الآخر، فالمستفاد منها أنّ حجّة الإسلام مستحبة على غير المستطيع، و واجبة على المستطيع، و يتحقّق الأوّل بأيّ وجه أتى به، و لو عن الغير تبرّعا أو بالإجارة، و لا يتحقّق الثاني إلّا مع حصول شرائط الوجوب. (1)*

و الجواب واضح، للفرق بين الإجارة و النذر، انّ وجوب الوفاء لا يحدث إلّا حكما تكليفيّا و هو وجوب الوفاء بالنذر،

و لا يحدث حكما وضعيّا بأن يكون عمله عمله و فعله ملكا للغير، و هذا بخلاف المقام، فانّ وجوب تسليم ما عليه من الأعمال لغيره، أعني: المؤجر، ينافي وجوب الحجّ، فلو آجر نفسه لسائر الأعمال من البناء و الخياطة، يتعلّق بهما حقّ الغير، و معه كيف يجب الحجّ؟

(1)* في المسألة فرعان:

1. إذا حجّ متسكّعا لنفسه، وجب عليه الحجّ إذا استطاع.

2. إذا حجّ عن غيره تبرّعا أو إجارة- مع عدم كونه مستطيعا- يجب عليه الحجّ إذا استطاع.

أمّا الأوّل، فهو مورد اتّفاق بين الأصحاب، قال في الشرائع: «و كذا (لا يجزي) لو تكلّف الحجّ مع عدم الاستطاعة». «1»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 260

.......... و قال في المدارك: و ذلك لأنّ الحجّ على هذا الوجه مندوب، و المندوب لا يجزي عن الواجب. «1»

و قال في الجواهر: بلا خلاف أجده بيننا، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، و على عدم الإجزاء لو حجّ بنفسه غير مستطيع. «2»

و الأولى الاستدلال بإطلاق الآية حيث إنّ مفادها، وجوب الحجّ على المستطيع سواء أحجّ متسكّعا أم لا.

أمّا الثاني أعني إذا حجّ عن غيره تبرّعا أو إجارة و هو غير مستطيع، فهل يغني عن حجّة الإسلام أو لا؟

قال المحقّق: و لو كان عاجزا عن الحجّ، فحجّ عن غيره، لم يجزه عن فرضه، و كان عليه الحجّ إن وجد الاستطاعة. «3»

و قال العلّامة في «المنتهى»: فإن حجّ عن غيره لا يجزئه عن حجّة الإسلام، و لو أيسر يجب عليه الحجّ مع الاستطاعة، لأنّه الآن مستطيع للحجّ و لم يحجّ عن نفسه فيما تقدّم فيجب عليه الحجّ عملا بالمقتضي السالم عن المعارض.

ثمّ استدلّ برواية آدم بن علي الآتية «4» و كان عليه الاستدلال بإطلاق الآية الشامل

لهذه الصورة، و المسألة مورد اتّفاق بين الأصحاب. «5»

و قال في الجواهر: إنّ المسألة من القطعيّات التي لا يقبل فيها أمثال ذلك (بعض الروايات)، و من الغريب وسوسة بعض متأخري المتأخرين كصاحب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 261

.......... الذخيرة بعد ذلك لهذه النصوص. «1»

و إطلاق الآية مع اتّفاق الأصحاب كافيان في ثبوت الحكم، و ربّما يستدلّ أيضا برواية آدم بن علي، عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «من حجّ عن إنسان و لم يكن له مال يحجّ به، أجزأت عنه، حتّى يرزقه اللّه ما يحجّ به و يجب عليه الحجّ». «2»

و ظاهر الرواية أنّه إذا وجب الحجّ على شخص و لم يحجّ و حجّ عن آخر متسكّعا، أجزأت عن المنوب عنه، و لا يجزي عنه فلو استطاع وجب عليه الحجّ.

نعم في السند، محمد بن سهل بن اليسع الأشعري الذي ورد في سند 73 حديثا روى عن الرضا و أبي جعفر عليه السّلام و له كتاب، و قال الطوسي: له مسائل عن الرضا، و لكن لم يوثّق و إن مال الوحيد إلى إثبات وثاقته.

و هو يروي عن آدم بن علي و هو مجهول لم يرد في حقّه شي ء سوى انّه له روايتان في التهذيبين، فالرواية قاصرة عن كونها حجة، إلّا إذا ثبت اعتماد الأصحاب عليه، لا على إطلاق الآية أو غيره من القواعد.

و في مقابله، صحيحتا معاوية بن عمار.

1. حجّ الصرورة يجزي عنه و عمّن حجّ عنه.

حمله الشيخ و غيره على الإجزاء مادام معسرا، فإذا أيسر وجب عليه الحجّ، و يشهد له رواية آدم بن علي.

2. عن رجل حجّ عن غيره يجزيه ذلك عن حجّة الإسلام، قال: نعم.

و ربما يحمل على الإجزاء عن المنوب عنه،

لا النائب باحتمال رجوع قوله:

[المسألة 57: يشترط في الاستطاعة مضافا إلى مؤنة الذهاب و الإياب وجود ما يمون به عياله حتّى يرجع

المسألة 57: يشترط في الاستطاعة مضافا إلى مؤنة الذهاب و الإياب- وجود ما يمون به عياله حتّى يرجع، فمع عدمه لا يكون مستطيعا، و المراد بهم من يلزمه نفقته لزوما عرفيّا و إن لم يكن ممّن يجب عليه نفقته شرعا على الأقوى، فإذا كان له أخ صغير أو كبير فقير لا يقدر على التكسّب و هو ملتزم بالإنفاق عليه أو كان متكفّلا لإنفاق يتيم في حجره و لو أجنبيّ يعدّ عيالا له فالمدار على العيال العرفيّ. (1)*

«يجزيه» إلى المنوب عنه، و هو خلاف الظاهر.

و لو لا إطلاق الآية و اتّفاق الأصحاب على الإجزاء لكان مقتضى القاعدة الإفتاء بمضمون الصحيحتين و حمل رواية آدم بن علي، على الاستحباب كما هو الحال في سائر الموارد.

(1)* و المسألة مورد اتّفاق بين الفريقين و لذا لم يذكرها الشيخ في «الخلاف»، لعدم الخلاف فيها بين الفقهاء، و في الوقت نفسه ذكر الرجوع إلى كفاية زائدا على الزاد و الراحلة، لأنّه موضع خلاف بينهم.

قال المحقّق: الرابع: أن يكون له ما يموّن عياله حتّى يرجع، فاضلا عمّا يحتاج إليه- من مصارف حجّه-. «1»

و قال العلّامة: و يشترط أن يكون له مال يصرفه في مؤونة سفره ذهابا و عودا و مؤونة عياله الذين تلزمه نفقتهم على الاقتصاد. «2» و يدلّ عليه أمور:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 263

.......... 1. عدم صدق الاستطاعة بدون ذلك، فإذا كان الحجّ مفوّتا لحقوق من يجب عليه مؤونتهم، لا يصدق انّه مستطيع، لما عرفت من أنّ الاستطاعة عبارة عن تملّك المال الزائد عن مؤنة الحضر.

2. ما دلّ عليه غير واحد من الروايات «1» من تفسير الاستطاعة «بما يحجّ به» لانصرافه إلى المال الزائد

عن نفقة نفسه و عياله.

3. التنصيص به في غير واحد من الروايات.

1. خبر أبي الربيع الشامي- و اسمه خليد بن أوفى- سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا- إلى أن قال:- فقيل له (لأبي جعفر): فما السبيل؟ قال: «السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض و يبقي بعضا لقوت عياله». «2» و أبو الربيع الشامي لم يوثّق و له في الكتب الأربعة 81 رواية.

2. خبر عبد الرحيم القصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «ذلك القوة في المال و اليسار». 3

3. خبر الأعمش، عن جعفر بن محمد عليه السّلام في تفسير الاستطاعة: «و هو الزاد و الراحلة مع صحّة البدن، و أن يكون للإنسان ما يخلفه على عياله و ما يرجع إليه بعد حجّه». 4 و تضافر الروايات، يجلب ثقة الإنسان بالحكم.

ثمّ إنّه يقع الكلام فيما هو المراد من العيال فهل المراد من تجب نفقتهم عليه شرعا، كالأبوين و الأولاد، أو يعمّ من يلزمه نفقتهم لزوما عرفيا و أخلاقيا، الظاهر هو الثاني و ذلك للوجوه التالية:

[المسألة 58: الأقوى وفاقا لأكثر القدماء اعتبار الرجوع إلى كفاية]

المسألة 58: الأقوى وفاقا لأكثر القدماء اعتبار الرجوع إلى كفاية من تجارة أو زراعة أو صناعة أو منفعة ملك له من بستان أو دكّان أو نحو ذلك، بحيث لا يحتاج إلى التكفّف، و لا يقع في الشدّة و الحرج، و يكفي كونه قادرا على التكسّب اللائق به أو التجارة باعتباره و وجاهته، و إن لم يكن له رأس مال يتّجر به.

نعم قد مرّ عدم اعتبار ذلك في الاستطاعة البذليّة، و لا يبعد عدم اعتباره- أيضا- فيمن يمضي أمره بالوجوه اللائقة به، كطلبة العلم

من السادة و غيرهم، فإذا حصل لهم مقدار مؤنة الذهاب و الإياب و مؤنة عيالهم إلى حال الرجوع وجب عليهم، بل و كذا الفقير الّذي عادته و شغله أخذ الوجوه و لا يقدر على التكسّب إذا حصل له مقدار مؤنة الذهاب و الإياب له و لعياله، و كذا كلّ من لا يتفاوت حاله قبل الحجّ و بعده إذا صرف ما حصل له من مقدار مؤنة الذهاب و الإياب من دون حرج عليه. (1)*

1. عدم صدق الاستطاعة، لأنّها عبارة عن وجود مال زائد عن مؤونة الحضر، و المفروض انّ الإنفاق على هؤلاء من مؤونة الحضر.

2. إطلاق الروايات، ففي رواية أبي الربيع: «قدر ما يقوت عياله»، و في خبر الأعمش: «أن يكون للإنسان ما يخلفه على عياله».

و يؤيّد ذلك، انّ العيال في باب الفطرة، مطلق من ينفق عليه، حتّى الضيف النازل بيت الإنسان، مدة يصدق انّه عيال عليه.

(1)* «الرجوع إلى كفاية» من المسائل التي اختلفت فيه كلمة الفقهاء، فالسنّة على عدم كونه شرطا، و أمّا الشيعة فالأكثر على الاعتبار، قال الشيخ في الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 265

.......... «الخلاف»: من شروط وجوب الحجّ، الرجوع إلى كفاية زائدا على الزاد و الراحلة، و لم يعتبر ذلك أحد من الفقهاء إلّا ما حكي عن ابن سريج أنّه قال: لو كانت له بضاعة يتّجر بها، و يربح قدر كفايته، اعتبرنا الزاد و الراحلة في الفاضل عنها، و لا يحجّ ببضاعته، و خالفه جميع أصحاب الشافعي. «1»

و على كلّ تقدير فالمشهور بين قدماء الأصحاب هو الاشتراط.

1. قال المفيد: الاستطاعة عند آل محمّد عليهم السّلام للحجّ بعد كمال العقل ...

و حصول ما يلجأ إليه في سد الخلّة من صناعة يعود إليها

في اكتسابه أو ما ينوب عنها من متاع أو عقار أو مال. «2»

2. و قال أبو الصلاح: وجود الزاد و الراحلة، و الكفاية له و لمن يعول، و العود إلى كفاية من صناعة أو تجارة أو غير ذلك. «3»

3. و قال الشيخ في نهايته: و الاستطاعة هي الزاد و الراحلة و الرجوع إلى كفاية. «4»

4. و قال ابن زهرة: فشرائط وجوب حجّ الإسلام: الحرية، ... و العود إلى كفاية من صناعة أو غيرها بدليل الإجماع المتردد و عدم القول بالفصل بين شرطية النفقة لعياله إلى عوده، و العود إلى كفاية لأنّ أحدا من الأمّة لم يفرّق بين الأمرين. «5»

5. و قال الكيدري: و من شرائط وجوبه ... العود إلى كفاية. «6»

6. و قال ابن حمزة: يجب الحجّ و العمرة باجتماع تسعة شروط و الرجل و المرأة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 266

.......... فيها سواء، و هي: البلوغ ... و الرجوع إلى كفاية من المال أو الصنعة أو الحرفة. «1»

7. و قال ابن سعيد: و وجوبهما- الحجّ و العمرة- على الفور ... على كلّ إنسان ... واجد للزاد و الراحلة- إلى أن قال-: راجع إلى كفاية من مال أو ضيعة أو حرفة. «2»

و هذا و نقله السيد المرتضى عن الأكثر قال: إنّ كثيرا من أصحابنا ذهبوا إليه. «3»

و قال الشهيد: و هو المشهور بين المتقدّمين. «4»

و قال في المسالك: و هو مذهب أكثر المتقدّمين. «5»

و مع ذلك فليست المسألة مورد اتّفاق، فلم يذكره ابن أبي عقيل و لا ابن الجنيد و نقله المرتضى عن الأكثر، المعرب عن وجود الخلاف.

و أمّا من خالف الرأي المشهور- بعد عصر المرتضى- هو ابن إدريس في سرائره و قال: و لم

يذكر فيها- الروايات- الرجوع إلى كفاية إلّا في خبر أبي الربيع الشامي، فإنّ فيه اشتباها على غير الناقد المتأمّل، بل عند تحقيقه و نقده هو موافق لغيره من الأخبار التي اعتمد شيخنا عليها.»

و رجح المحقّق عدم الشرطية في الشرائع و قال: و هل الرجوع إلى الكفاية من صناعة أو مال أو حرفة شرط في وجوب الحجّ؟ قيل نعم، لرواية أبي الربيع، و قيل: لا، عملا بعموم الآية. و هو الأولى. «7»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 267

.......... و تبعه العلّامة في «التذكرة» و قال: أكثر علمائنا: لا يشترط الرجوع إلى كفاية- و هو قول الشافعي- و هو المعتمد، لأنّه مستطيع بوجود الزاد و الراحلة و نفقته و نفقة عياله ذهابا و عودا. و رواية أبي الربيع لا حجّة فيها على ما قالوه، و المشقة ممنوعة، فإنّ اللّه هو الرازق. «1»

و قال العلّامة في «المنتهى»: إذا كان له بضاعة يكفيه ربحها أو ضيعة يكفيه غلّتها، فهل يجب بيعها للحجّ و صرف البضاعة إليه، الذي نختاره نحن لزوم الحجّ إذا كان فيه قدر الكفاية لذهابه و عوده و نفقة عياله، و به قال أبو حنيفة. «2»

و اختاره في «المختلف» و قال: و السيد المرتضى نقل أنّ كثيرا من أصحابنا ذهبوا إليه، و الأقرب عندي ما اختاره السيد المرتضى. و استدلّ بعموم قوله تعالى:

مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا و هذا مستطيع. «3»

و في «المسالك»: و الأصحّ عدم اعتبارها، و هو المشهور بين المتأخرين، لتحقّق الاستطاعة التي هي الشرط في الآية و الأخبار. و الرواية لا دلالة فيها على مطلوبهم، بل ظاهرها اعتبار المؤونة ذاهبا و عائدا و مؤونة عياله كذلك. «4»

ثمّ إنّ القائلين بالشرطية على قولين:

1. انّ الرجوع إلى

كفاية، من صميم الاستطاعة، فلولاه لما صدقت الاستطاعة، و لا يدور الحكم مدار العسر و الحرج.

2. اعتباره لأجل أدلّة الحرج، إذ لولاه يقع في الحرج و المشقة و ذلك منفيّ في الشريعة و لذا لا يعتبر ذلك في الحجّ البذلي. «5» و على هذا يدور الجواز و عدمه، مدار

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 268

.......... العسر و الحرج.

هذا ما عند الشيعة و أمّا السنّة، فيظهر من الخلاف سكوت الباقين عن هذا الشرط سوى ابن سريج من الشافعية، لكن الظاهر من كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة» اعتباره عند الحنفية و الحنابلة، دون المالكية.

قالت الحنفية: الاستطاعة هي القدرة على الزاد و الراحلة بشرط أن يكونا زائدين عن حاجياته الأصلية، كالدين الذي عليه، و المسكن، و الملبس، و المواشي اللازمة له، و آلات الحرفة و السلاح و أن يكونا زائدتين عن نفقة من تلزمه نفقتهم مدّة غيابه إلى أن يعود. «1» فانّ المواشي اللازمة، و آلات الحرفة كناية عن الرجوع إلى كفاية.

و يستفاد لزومه أيضا من كلام الحنابلة في تفسير الاستطاعة قالوا:

الاستطاعة هي القدرة على الزاد و الراحلة- إلى أن قال:- و نفقة عياله على الدوام. «2»

نعم شددت المالكية في ذلك و قالوا: الاستطاعة هي إمكان الوصول إلى مكة و مواضع النسك إمكانا ماديا، سواء كان ماشيا، أو راكبا- إلى أن قالوا:- و إذا لم يوجد عند الشخص إلّا ما يباع على المفلّس، كالعقار و الماشية و الثياب التي للزينة و كتب العلم و آلة الصائغ وجب عليه الحجّ، لأنّه مستطيع. «3»

ثمّ إنّ المصنّف ذكر في المسألة فروعا أربعة:

1. اشتراط الرجوع إلى كفاية.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 269

.......... 2. عدم اشتراطه في الاستطاعة البذلية.

3. عدم اعتباره فيمن

يمضي أمره بالوجوه اللائقة.

4. عدم اعتباره في الفقير الذي عادته و شغله أخذ الوجوه إذا حصل له مقدار مؤنة الذهاب و الإياب له و لعياله.

فلندرس أحكام الفروع.

أمّا الأوّل: فقد استدلّ القائلون بالاشتراط- بعد الآية المباركة- بروايات:

1. خبر أبي الربيع الشامي: عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن خالد بن جرير، عن أبي الرّبيع الشّاميّ، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فقال: «ما يقول النّاس؟» قال: فقلت له: الزّاد و الرّاحلة، قال: فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «قد سئل أبو جعفر عليه السّلام عن هذا فقال: هلك الناس إذا، لئن كان من كان له زاد و راحلة قدر ما يقوت عياله و يستغني به عن الناس ينطلق إليه «1» فيسلبهم «2» إيّاه لقد هلكوا إذا». أمّا فقه الحديث فقد فسّره بقوله: «ينطلق إليه» أي إلى الحجّ «فيسلبهم إيّاه» يعني يسلب عياله ما يقوتون به «لقد هلكوا» يعني عياله.

و في بعض النسخ [ينطلق إليهم . فمعنى الحديث: لئن كان من كان له قدر ما يقوت عياله فحسب وجب عليه أن ينفق ذلك في الزاد و الراحلة، ثمّ ينطلق إلى الناس يسألهم قوت عياله لهلك الناس إذا. و الأوّل أصوب و أصحّ و أوضح.

فقيل له: فما السّبيل؟ قال: فقال: «السّعة في المال إذا كان يحجّ ببعض و

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 270

.......... يبقي بعضا يقوت به عياله، أليس قد فرض اللّه الزّكاة فلم يجعلها إلّا على من يملك مائتي درهم». «1»

يلاحظ عليه أوّلا: أنّ في السند خالد بن جرير، و أبا الربيع الشامي (خليد بن

أوفى) و قد ورد الأوّل في 55 سندا، و الثاني في 81 سندا.

و ثانيا: أنّ المروي في الكافي يدلّ على شرطية نفقة عياله، و انّه ليس له أن يسلب نفقتهم، ليصرفها في الحجّ، لئلا يهلكوا، و أمّا الرجوع إلى الكفاية فليس فيها دلالة عليه.

نعم حسب ما رواه المفيد في «المقنعة»، يستفاد منه لزوم وجود ما يرجع إليه بعد العود من الحجّ، و إليك نصّ ما رواه في «المقنعة»: روى أبو الرّبيع الشّاميّ عن الصّادق عليه السّلام قال: سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؟

قال: ما يقول فيها هؤلاء؟ فقيل له: يقولون الزّاد و الرّاحلة، فقال عليه السّلام: قد قيل ذلك لأبي جعفر عليه السّلام، فقال: هلك النّاس إذا كان من له زاد و راحلة لا يملك غيرهما، أو مقدار ذلك ممّا يقوت به عياله، و يستغني به عن النّاس فقد وجب عليه أن يحجّ بذلك، ثمّ يرجع فيسأل النّاس بكفّه لقد هلك إذا. فقيل له: فما السّبيل عندك؟ فقال: السّعة في المال. و هو: أن يكون معه ما يحجّ ببعضه، و يبقي بعض يقوت به نفسه و عياله.

ثمّ قال: أليس قد فرض اللّه الزّكاة فلم يجعلها إلّا على، من يملك مائتي درهم. «2»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 271

.......... فانّ قوله: «هلك الناس إذا كان من له زاد و راحلة لا يملك غيرهما» راجع إلى نفقة العيال.

كما أنّ قوله: «أو مقدار ذلك ممّا يقوت به عياله و يستغني به عن الناس فقد وجب عليه أن يحجّ بذلك ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفه لقد هلك إذا» ناظر إلى شرطية الرجوع إلى كفاية.

فالروايتان مختلفتان من حيث الزيادة و النقيصة، و إذا دار الأمر

بينهما، فاحتمال النقيصة أولى.

و بذلك يظهر النظر فيما أفاده السيد الحكيم حيث قال: و أمّا المرسل في «المقنعة» فالموثوق به أنّه عين الخبر المذكور، و حينئذ يشكل الاستدلال به للتعارض في النقل. «1»

نعم نقل صاحب الوسائل عبارة «المقنعة»، بصورة ناقصة ربما أوهم ذلك؟

و لو رجع إلى نفس الكتاب يظهر انّ الاختلاف في النقيصة و الزيادة، و الأوّل يؤكد على الشرط الواحد، و الثانية على شرطين، و مثل ذلك لا يوصف بالتعارض في النقل.

2. خبر عبد الرحيم القصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام حيث فسرت الاستطاعة فيه بالقوة في المال و اليسار «2»، الملازمة للرجوع إلى كفاية.

3. خبر الأعمش: عن جعفر بن محمد في حديث شرائع الدين: «و أن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 272

.......... يكون للإنسان ما يخلفه على عياله و ما يرجع إليه بعد حجّه». «1»

4. مرسل «مجمع البيان»، فانّ المروي عن أئمّتنا انّه الزاد و الراحلة و نفقة من تلزمه نفقته، و الرجوع إلى كفاية إمّا من مال، أو ضياع أو حرفة ... 2

و الذي يقرّب شرطية الرجوع إلى كفاية هو انّ الوجه في لزوم وجود النفقة للعيال مدة حياته، هو انّه لولاه لهلكوا، فليس له سلب نفقتهم، للحجّ به، و هذا الوجه موجود بنحو فيما إذا رجع و ليس له كفاية، و ليس المراد من الهلاك هو المعنى الحقيقي- كما هو الظاهر من السيد الحكيم- بل الهلاك العرفي، بمعنى الضيق في الحياة، هذا و لعلّ ضعف الروايات، منجبر بعمل جمع من قدماء الأصحاب بها كما لا يخفى.

فإن قلت: إنّ منصرف حديث أبي الربيع، صورة العجز على نحو يؤدي إلى الهلاك فلا يدلّ على القول المعروف بين القدماء. «3»

قلت: الإشكال مبنيّ

على تفسير الهلاك بالمعنى اللغوي المساوق للموت، و هو بعيد جدّا، إذ غاية ما يستلزم عدم الرجوع إلى كفاية هو وقوعهم في صف الفقراء و قلّما يتّفق لفقير أن يموت جوعا لأجل عدم الرجوع إلى كفاية، بل الظاهر هو الهلاك العرفي، أي الحياة مع المشقة.

فإن قلت: إنّ المراد بالكفاية على تقدير القول بها، مؤنة السنة فعلا، أو قوّة لأنّه الغنى شرعا، و مستلزم لعدم السؤال بالكف المذكور في دليله. «4»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 273

.......... قلت: تحديد الغناء بمؤونة السنة فعلا أو قوّة، تفسير شرعي يختصّ بباب الزكاة و لا يكون دليلا على المراد به في عامة الموارد، بشهادة انّ الأصحاب لم يفهموا منه ذلك، و فسروه بالضيعة و الصنعة و غير ذلك، و على ذلك فلو بقى عنده، ما يكفيه تمام السنة و لكن يصير بعده متكففا سائلا الناس، فهو غير مستطيع، نعم الميزان في ملك مؤونة حياته في المستقبل فعلا أو قوة هو المعايير العقلائية، فلو كان عاملا ماهرا يبذل بازاء عمله، الثمن الكافي لحياته و حياة عائلته، فهو مستطيع.

فلو كان فيما ذكرنا من الروايات و المؤيّدات كفاية فنعم المراد، و إلّا فتصل النوبة إلى الأصول العملية و المرجع هو أصالة البراءة من وجوب الحجّ.

فإن قلت: إنّ الشكّ في وجوب الحجّ و عدمه مسبب عن الشكّ في شرطية الرجوع إلى الكفاية، فالأصل عدمها، فيكون حاكما على الأصل المسببي.

قلت: إنّ وجوب الحجّ مترتّب على عنوان الاستطاعة، و استصحاب عدم شرطية الرجوع إلى كفاية، لا يثبت عنوان الاستطاعة حتّى يترتّب عليها الوجوب لكونه مثبتا، فتجري أصالة البراءة بلا معارض.

الفرع الثاني: لا يعتبر الرجوع إلى كفاية في الاستطاعة البذلية، لأنّ المتبادر من الآية، هو الاستطاعة

المالية، غير أنّ الرواية فسّرتها بوجه أعمّ على نحو يعمّ الاستطاعة البذلية فمقتضى إطلاق رواياتها، هو كفاية نفقة الذهاب و الإياب فقط، دون شرطية بذل النفقة لعياله، أو الرجوع إلى كفاية، و ذلك لأنّ البذل لا يخرجه عمّا كان عليه، فمن كان فاقدا لكلا الأمرين يكون بعد البذل كذلك أيضا.

نعم لو لم يكن له عمل أو كسب إلّا في فصول خاصة و قد تزامنت أيّام الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 274

.......... السفر إلى الحجّ، على نحو لو ذهب إلى الحجّ لاختلّت معيشته و معيشة عياله، لم يجب الحجّ عليه بالبذل إلّا إذا بذل نفقة العيال.

الفرع الثالث: من يعيش بالوجوه اللائقة- كطلبة العلم من السادة و غيرهم- فحصل لهم مقدار مؤونة الذهاب و الإياب و مؤونة عيالهم إلى حال الرجوع، فهل يجب عليهم، ظاهر المصنف و المشايخ الوجوب، و هو صحيح إذا لم يحاول الاكتساب به و الغناء عن الوجوه و الخروج عن عنوان الفقر، و أمّا إذا حاول الاكتساب به حتّى يستغني عن الوجوه، فالقول بالوجوب لا يخلو من إشكال لاحتمال عدم صدق الاستطاعة.

الفرع الرابع: الفقير الذي عادته و شغله أخذ الوجوه، و لا يقدر على التكسب إذا حصل له مقدار مؤونة الذهاب و الإياب له و لعياله. يجري فيه ما ذكرناه في الفرع الثالث.

و بالجملة كلّ من لا يتفاوت حاله قبل الحجّ و بعده، إذا صرف ما حصل له لما يكفي مؤونة الذهاب و الإياب من دون حرج عليه يجب عليه الحجّ.

[المسألة 59: لا يجوز للولد أن يأخذ من مال والده و يحجّ به

المسألة 59: لا يجوز للولد أن يأخذ من مال والده و يحجّ به، كما لا يجب على الوالد أن يبذل له، و كذا لا يجب على الولد بذل المال لوالده ليحجّ

به، و كذا لا يجوز للولد الأخذ من مال ولده للحجّ، و القول بجواز ذلك أو وجوبه- كما عن الشيخ- ضعيف، و إن كان يدلّ عليه صحيح سعيد بن يسار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يحج من مال ابنه و هو صغير؟ قال: نعم يحجّ منه حجّة الإسلام، قلت: و ينفق منه؟ قال: نعم، ثمّ قال: إنّ مال الولد لوالده، إنّ رجلا اختصم هو و والده إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فقضى أنّ المال و الولد للوالد. و ذلك لإعراض الأصحاب عنه، مع إمكان حمله على الاقتراض من ماله مع استطاعته من مال نفسه، أو على ما إذا كان فقيرا و كانت نفقته على ولده و لم يكن نفقة السفر إلى الحجّ أزيد من نفقته في الحضر، إذ الظاهر الوجوب حينئذ. (1)*

(1)* في المسألة فرعان:

1. حجّ الوالد من مال ولده.

2. حجّ الولد من مال والده.

أمّا الأوّل فقد ذهب المفيد في المقنعة، و الشيخ في الكتب الثلاثة: الخلاف و النهاية و المبسوط و القاضي في المهذب إلى وجوب الأخذ من مال ولده.

قال المفيد: و إن كان الرجل لا مال له و لولده مال، فإنّه يأخذ من مال ولده ما يحجّ به من غير إسراف و لا تقتير. «1»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 276

.......... 2. و قال الشيخ في «الخلاف»: إذا كان لولده مال، روى أصحابنا انّه يجب عليه الحجّ، و يأخذ منه قدر كفايته و يحجّ به، و ليس للولد الامتناع منه، و خالف جميع الفقهاء في ذلك. «1»

3. و قال في «النهاية»: و من لم يملك الاستطاعة و كان له ولد له مال، وجب عليه أن

يأخذ من مال ابنه قدر ما يحجّ به على الاقتصاد، و يحجّ. «2»

4. و قال في «المبسوط»: و قد روى أصحابنا أنّه إذا كان له ولد، له مال وجب عليه أن يأخذ من ماله ما يحجّ به، و يجب عليه إعطاؤه. «3»

5. و قال القاضي: و من لم يقدر على الزاد و الراحلة، و كان له ولد له مال، جاز له أن يأخذ من ماله مقدار ما يحجّ به على الاقتصاد. «4»

و الظاهر من الشيخ وجوب الأخذ، و من القاضي جوازه و في «الجواهر»: لم نعرف من وافقه على ذلك غير المفيد. «5»

و على كلّ تقدير فالأشهر بل المشهور حسب تعبير «الجواهر» «6» هو عدم الجواز، و ليس في المسألة إجماع، إنّما صدر الشيخ عن صحيح سعيد بن يسار كما سيوافيك. نعم خالف ابن إدريس و المحقّق و العلّامة و غيرهم.

6. قال ابن إدريس- بعد عنوان المسألة بما في نهاية الشيخ-: ذكر هذا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 277

.......... شيخنا أبو جعفر في نهايته، و رجع عنه في استبصاره، و رجوعه عنه هو الصحيح، و إنّما أورده إيرادا في نهايته لا اعتقادا. «1»

7. قال العلّامة في «المختلف» بعد نقل كلام ابن إدريس: و كان والدي رحمه اللّه يختار ما ذهب إليه ابن إدريس، و هو الحقّ. «2»

8. و قال المحقّق: لا يجب على الولد، بذل ماله لوالده في الحجّ. «3»

إلى غير ذلك من الكلمات الدالّة على عدم الوجوب أو عدم الجواز، و الدليل الوحيد للمسألة، هو ما رواه الشيخ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: الرجل يحجّ من مال ابنه و هو صغير، قال: «نعم يحجّ منه حجّة الإسلام»، قلت: و ينفق

منه؟ قال: «نعم»، ثمّ قال: «إنّ مال الولد، للوالد، إنّ رجلا اختصم هو و والده إلى النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فقضى انّ المال و الولد للوالد». «4»

و حملها على من يقترض من مال ولده و يحجّ، أو على من وجب عليه الحجّ أوّلا و استقر في ذمّته و فرّط فيه ثمّ تمكن من الاقتراض من مال ولده، فإنّه يلزمه ذلك، ثمّ قال: و على كلا التقديرين يسقط الاحتجاج بالرواية.

و اعترض عليه صاحب المدارك قائلا: و هذا الحمل بعيد جدا لمنافاته لما تضمنته الرواية من قضاء النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، و كيف كان فالأصحّ ما ذهب إليه المتأخرون، لأنّ هذه الرواية لا تبلغ حجة في إثبات هذا الحكم المخالف للأدلة القطعية. «5»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 278

.......... كما اعترض على هذا الحمل صاحب الذخيرة قال: و العدول عن ظاهر الصحيحة لا يخلو من إشكال. «1»

و ربما حملت الرواية على الاستحباب.»

أقول: أمّا أخذ الولد من مال والده بلا إذن، فقد تضافرت الروايات على المنع عنه؛ ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أنّ الولد لا يأخذ من مال والده شيئا إلّا بإذنه». «3»

و صحيحة سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «و ليس للولد، أن يأخذ من مال والده إلّا بإذنه». 4

إنّما الكلام في جواز أو وجوب أخذ الوالد من مال ابنه، فقد ذهب الشيخ تبعا للمفيد إلى وجوب الأخذ استنادا إلى الصحيحة، و لكنّها لا تدلّ على مختار الشيخ من وجهين:

1. انّ السؤال عن جواز الأخذ و الجواب بجوازه، لا الوجوب كما عليه الشيخ.

2. انّ مورد السؤال، هو مال

الصغير الذي اتّفق الأصحاب على جواز التصرّف فيه و الأكل منه بالمعروف، قال سبحانه: وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ «5» إمّا مطلقا أو في مقابل ما يقوم به من الأعمال في مال اليتيم.

نعم ذيل الحديث يدلّ على أنّه يتصرف في مال الولد لا من باب الولاية، بل من باب حكم الشارع بذلك، فيجب عليه الحجّ، لأنّه ذو مال و الإفتاء بذلك الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 279

.......... مبني على دراسة المسألة بوجه أوسع من الحجّ حيث اختلفت الروايات في جواز أخذ الوالد من مال ابنه بغير إذنه أو وطء جاريته كذلك- إذا لم يدخل بها- و صحيحة سعيد بن يسار جزء من هذه الروايات، و اللازم هو طرح المسألة على صعيد أوسع كما فعل المحدث البحراني في حدائقه. «1»

أقول: إنّ الروايات الواردة في جواز تصرّف الأب في مال الولد على طوائف ثلاث، لا يعلم حالها إلّا بسردها تحت عناوين خاصة.

1. ما يدلّ على جواز التصرّف مطلقا هناك روايات تدلّ على جواز التصرّف مطلقا، سواء كان الوالد محتاجا أو غير محتاج.

1. صحيح سعيد بن يسار، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أيحجّ الرجل من مال ابنه و هو صغير؟ قال: «نعم»، قلت: يحجّ حجّة الإسلام و ينفق منه؟ قال:

«نعم بالمعروف» ثمّ قال: «نعم، يحجّ منه و ينفق منه، انّ مال الولد للوالد و ليس للولد أن يأخذ من مال والده إلّا بإذنه». «2»

2. رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يكون لولده مال فأحبّ أن يأخذ منه، قال: «فليأخذ و إن كانت أمّه حيّة فما أحبّ أن تأخذ منه شيئا إلّا قرضا على نفسها». «3»

3. ما رواه الصدوق

عن محمد بن سنان انّ الرضا عليه السّلام كتب إليه فيما كتب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 280

.......... من جواب مسائله: «و علّة تحليل مال الولد لوالده بغير إذنه و ليس ذلك للولد، لأنّ الولد موهوب للوالد في قوله عزّ و جلّ: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ «1» مع أنّه المأخوذ بمؤنته صغيرا و كبيرا، و المنسوب إليه و المدعو له لقوله عزّ و جلّ: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ «2» و لقول النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: «أنت و مالك لأبيك» و ليس للوالدة مثل ذلك، لا تأخذ من ماله شيئا إلّا بإذنه أو بإذن الأب، و لأنّ الوالد مأخوذ بنفقة الولد، و لا تؤخذ المرأة بنفقة ولدها». «3»

4. ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال:

سألته عن الرجل يكون لولده الجارية أيطأها؟ قال: «إن أحبّ، و إن كان لولده مال و أحبّ أن يأخذ منه فليأخذ، و إن كانت الأمّ حية فلا أحبّ أن تأخذ منه شيئا إلّا قرضا». «4»

5. صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن الرجل يحتاج إلى مال ابنه؟ قال: «يأكل منه ما شاء من غير سرف».

و قال: «في كتاب عليّ: إنّ الولد لا يأخذ من مال والده شيئا إلّا بإذنه و الوالد يأخذ من مال ابنه ما شاء.

و له أن يقع على جارية ابنه إذا لم يكن الابن وقع عليها، و ذكر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قال لرجل: أنت و مالك لأبيك». «5» و قيد الحاجة ورد في كلام الراوي دون

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 281

.......... الإمام، و لأجله عدّت من الطائفة الأولى، و له بهذا المضمون رواية أخرى. «1»

6. موثقة إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الوالد يحل له من مال ولده إذا احتاج إليه؟ قال: «نعم، و إن كان له جارية فأراد أن ينكحها، قوّمها على نفسه و يعلن ذلك»، قال: «و إن كان للرجل جارية فأبوه أملك بها أن يقع عليها ما لم يمسّها الابن». «2»

2. ما يدلّ على جواز الأخذ عند الحاجة هناك روايات تدلّ على جواز الأخذ عند الحاجة، نظير:

1. ما رواه حسن بن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السّلام: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قال لرجل: أنت و مالك لأبيك، ثمّ قال: ما أحبّ أن يأخذ من مال ابنه إلّا ما احتاج إليه ممّا لا بدّ منه، انّ اللّه لا يحب الفساد». «3»

2. صحيحة عبد اللّه بن سنان، قال: سألته- يعني أبا عبد اللّه عليه السّلام- ماذا يحل للوالد من مال ولده؟ قال: «أمّا إذا أنفق عليه ولده بأحسن النفقة فليس له أن يأخذ من ماله شيئا» ... إلى أن قال: و سألته عن الوالد أيرزأ «4» من مال ولده شيئا، قال: «نعم». «5»

3. ما يدلّ على جواز الأخذ عند الاضطرار هناك طائفة ثالثة تدلّ على جواز التصرّف عند الاضطرار، نظير:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 282

.......... 1. ما رواه علي بن جعفر، عن أبي إبراهيم، قال: سألته عن الرجل، يأكل من مال ولده، قال: «لا، إلّا أن يضطرّ إليه فيأكل منه بالمعروف و لا يصلح للولد أن يأخذ من مال والده شيئا

إلّا بإذن والده». «1»

2. ما رواه الحسين بن أبي العلاء، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما يحل للرجل من مال ولده؟ قال: «قوته بغير سرف إذا اضطرّ إليه»، قال: فقلت له:

فقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم للرجل الذي أتاه فقدّم أباه، فقال له: أنت و مالك لأبيك، فقال: «إنّما جاء بأبيه إلى النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فقال: يا رسول اللّه هذا أبي و قد ظلمني ميراثي عن أمّي، فأخبره الأب أنّه قد أنفقه عليه و على نفسه، و قال: أنت و مالك لأبيك، و لم يكن عند الرجل شي ء أو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم يحبس الأب للابن؟!». «2»

هذه عمدة ما ورد في الموضوع، و إليك إيضاحه، فنقول:

أوّلا: انّ الطائفة الأولى تدلّ على جواز التصرّف مطلقا فهي تقيّد بالطائفة الثانية الدالّة على أنّ جواز التصرّف مقيّد بالحاجة، كما أنّ الطائفة الثالثة تفسّر بالطائفة الثانية بحمل الاضطرار على الحاجة التي هي اضطرار عرفي و إن لم يكن اضطرارا عقليا.

ثانيا: على ضوء ما ذكرنا من اختصاص جواز التصرّف بصورة الحاجة لا يمكن المساعدة مع رواية سعيد بن يسار، فإنّ الحجّ ليس من الضروريات حتّى يتصرّف في مال الولد.

اللّهمّ إلّا إذا حملت الرواية على من استقرّ عليه الحجّ و زالت الاستطاعة فلم يكن له محيص إلّا التصرّف في مال الولد، أو حملت على ما إذا كانت نفقة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 283

.......... السفر مساوية لنفقة الحضر أو غير ذلك، و إلّا فالرواية التي أعرض عنها الأصحاب، ساقطة عن الحجّية.

ثالثا: انّ تملك الوالد أمة الولد إذا لم يمسّها بلا إذن الولد ممّا ورد

فيه الرواية الصحيحة- أعني: صحيحة إسحاق بن عمّار- لكن بالتقويم و هو كاشف عن عدم كونها ملكا و مالا للوالد، غاية الأمر له الولاية على أخذ الجارية بعد التقويم، و هل هو مقيّد بصورة الحاجة أو لا؟ و فقدان الموضوع في الوقت الحاضر يغنينا عن إفاضة البحث فيه.

رابعا: انّ الناظر في روايات الباب يرى فيها اضطرابا في المتن و وجهه: انّ المحدّثين نقلوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قوله: «أنت و مالك لأبيك» فصار ذلك ذريعة فقهاء السنة بجواز تصرّف الوالد في مال الولد بلا إذنه و كانت المخالفة مع هذه الفتوى، مخالفة لقول الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم.

و من جانب آخر انّ المحدّثين نقلوا كلام الرسول مبتورا و إنّما قاله الرسول في مورد تصرّف الوالد في مال الولد، مدّعيا انّه صرفه في نفقة الولد و لم يكن له شاهد حتّى يقبل قوله و لا مال حتّى يؤخذ، و لم يكن حبس الوالد لصالح الولد، فخاطب الرسول الولد بكلام أخلاقي حتّى يحسم النزاع دون حكم شرعي.

و أمّا أئمّة أهل البيت عليهم السّلام فتارة أفتوا على وفقه تقيّة كما هو الحال في رواية محمد بن سنان، و أخرى نقلوه ضمن كلامهم، مع الإفتاء بالحكم الواقعي كما هو الحال في رواية أبي حمزة الثمالي.

خامسا: انّ صاحب الحدائق بسط الكلام فيها و حاول الجمع بين الروايات عن طريق التقية، و قال: بقي الكلام في الجمع بين هذه الأخبار، فإنّك قد عرفت أنّ ما جمع به الأصحاب بينها- من حمل أخذ الأب على كونه على جهة النفقة- غير

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 284

.......... تام، و الذي يقرب عندي- باعتبار اتّفاق

الطائفة المحقّة قديما و حديثا على عدم العمل باخبار جواز الأخذ، مضافا إلى مخالفتها لمقتضى القواعد الشرعية- هو انّ هذه الأخبار إنّما خرجت مخرج التقية. «1»

و أنت خبير بأنّ الجمع يحصل بالإطلاق و التقييد، نعم لا يمكن إنكار وجود التقيّة في بعض الروايات، مثل خبر الحسين بن علوان «2»، و مع الغضّ عنه يحصل الجمع بما ذكرنا.

ثمّ إنّ التقية لو قلنا بها إنّما هي في الروايات المجوزة وفاقا لظاهر قول الرسول: «أنت و مالك لأبيك».

نعم لو قلنا بأنّ ملاك التقية هو ما نقله الشيخ في «الخلاف» من عدم جواز الحجّ من مال الولد عن فقهاء السنة تكون التقية في الأخبار المانعة دون المجوّزة كما هو الظاهر من السيد الحكيم حيث يقول:

نعم الطائفة الأولى موافقة لعموم المنع من التصرف في مال الغير بغير إذنه، و الطائفة الثانية مخالفة للعامّة، لما تقدّم في كلام الشيخ في «الخلاف» من بناء جميع الفقهاء على المنع. «3»

و الظاهر انّ ملاك التقية لو قلنا بها كما هو الظاهر من الإمعان في الروايات هو الأوّل لا الثاني، و بذلك يستغنى عن البحث فيما أفاده السيّد الحكيم حول الترتيب في الترجيح بالمرجحات، فلاحظ.

[المسألة 60: إذا حصلت الاستطاعة لا يجب أن يحجّ من ماله

المسألة 60: إذا حصلت الاستطاعة لا يجب أن يحجّ من ماله، فلو حجّ في نفقة غيره لنفسه أجزأه، و كذا لو حجّ متسكّعا، بل لو حجّ من مال الغير غصبا صحّ و أجزأه، نعم إذا كان ثوب إحرامه و طوافه وسعيه من المغصوب لم يصحّ و كذا إذا كان ثمن هديه غصبا. (1)*

(1)* في المسألة فرعان:

1. إذا حصلت الاستطاعة لا يجب أن يحجّ من ماله، فلو حجّ في نفقة غيره أو حجّ متسكعا لكفى.

2. لو حجّ- و الحال هذه- من

مال الغير غصبا.

أمّا الأوّل فقد قال المحقّق: و إذا اجتمعت الشرائط فحجّ متسكّعا، أو حجّ ماشيا، أو حجّ في نفقة غيره، أجزأه عن الفرض. «1»

و قال في «المدارك» في وجهه: هذا ممّا لا خلاف فيه بين العلماء، لأنّ الحجّ واجب عليه و قد امتثل بفعل المناسك المخصوصة فيحصل الإجزاء، و صرف المال غير واجب لذاته، و إنّما يجب إذا توقّف عليه الواجب، و هذا بخلاف ما إذا حجّ متسكعا قبل تحقّق الاستطاعة، حيث لا يكون حجّه مجزئا، لانتفاء الوجوب حينئذ، فيكون الإتيان بالحجّ على هذا الوجه جاريا مجرى فعل العبادة الموقتة قبل دخول وقتها. «2»

و قد نقله برمته في «الجواهر»، و بما انّ المسألة من الوضوح بمكان لم يعلق عليها الشهيد الثاني في المسالك شيئا بعد نقل كلام المحقّق المذكور. «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 286

.......... و أمّا الثاني- أعني: إذا حجّ من مال الغير غصبا، فقد ذكر المصنّف انّه صحّ و أجزأه إلّا إذا كان ثوب إحرامه و طوافه و سعيه و ثمن هديه مغصوبا فيبطل.

أمّا صحّة الحجّ في غير هذه الموارد، فلأنّ بذل الثمن واجب مقدّمي، و الغرض الوصول إلى ذيها، و قد وصل على كلّ تقدير، فلا تؤثر حرمة الوسيلة في بطلان ذيها.

أمّا بطلان الإحرام إذا كان ثوب إحرامه مغصوبا فهو مبنيّ على كون لبس الثوبين من شرائط الإحرام لا انّه واجب آخر، و سيوافيك حكمه في المسألة الخامسة و العشرين من كيفية الإحرام.

و أمّا بطلان الطواف إذا كان الثوب مغصوبا فلأنّ الستر معتبر في الطواف، و حاله حال الصلاة في شرطية- الساتر كما هو المستفاد من قوله: «الطواف بالبيت صلاة» فلا يتمشى قصد القربة بالثوب المغصوب و إن قلنا باجتماع

الأمر و النهي.

و أمّا بطلان السعي فربما يقال بالصحّة لعدم اعتبار الستر فيه، إذ يصحّ عريانا و هو موضع تأمّل كما ذكرناه في الصلاة في المكان المغصوب و إن لم يكن المكان داخلا في حقيقة الصلاة، و ذلك لأنّ اتحاد الحرام مع الواجب في الوجود كما هو الحال في السعي بالثوب المغصوب يمنع عن تمشّي قصد القربة، و إن كان السعي شيئا و التصرّف في الثوب شيئا آخر لكن الوحدة العرفية تمنع من قصد التقرب.

و أمّا بطلان الحجّ في ثمن الهدي فقد فرّقوا بين شراء الهدي بعين المال المغصوب و شرائه في الذمة ثمّ الوفاء بالمال المغصوب، و لو صحّ ذلك لجاز هذا

[المسألة 61: يشترط في وجوب الحجّ الاستطاعة البدنيّة]

المسألة 61: يشترط في وجوب الحجّ الاستطاعة البدنيّة، فلو كان مريضا لا يقدر على الركوب أو كان حرجا عليه و لو على المحمل أو الكنيسة لم يجب، و كذا لو تمكّن من الركوب على المحمل لكن لم يكن عنده مؤنته، و كذا لو احتاج إلى خادم و لم يكن عنده مؤنته. (1)*

التفصيل في ثوبي الطواف و السعي.

على أنّ حكم الشراء بعين المال المغصوب حكم الشراء بالذمة ثمّ الوفاء بالثمن المغصوب، و ذلك لأنّ الثمن في الأزمنة الحالية هو العملة الورقية الرائجة و تخصيص البيع بورق دون ورق مع اشتراك جميع الأوراق في عامة الجهات، أمر لغو لا يقدم عليه العقلاء، و تقييد المعاملة بورق شخصي مع عدم الفرق بين الأوراق، يكون أمرا لغوا عند العقلاء. فيرجع الأمر في الجميع إلى البيع في الذمة و إن أشار إلى الورق الخاصّ.

(1) في الاستطاعة البدنية* قد عرفت أنّ الاستطاعة تنقسم إلى مالية و بدنية و مكانية و زمانية، و قد انتهى الكلام عن الاستطاعة المالية

و بلغ الكلام إلى الاستطاعة البدنية، و ذهب المشهور إلى أنّ الاستطاعة البدنية من شرائط الوجوب، فلو كان مريضا لا يقدر على الركوب أو كان الركوب حرجيا مطلقا لم يجب الحجّ، فذكر المصنف في المسألة فرعين:

الأوّل: إذا استطاع ماليا و لم يستطع بدنيا مطلقا، إمّا أن لا يقدر على الركوب، أو كان الركوب حرجيا لا يحتمل.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 288

.......... الثاني: إذا تمكّن من الركوب على المحمل و لكن لا يستطيع ماليا، و مثله في زماننا ما إذا استطاع السفر بالطائرة لا بالسيارة و لكن يفقد مؤونة الطائرة، أو استطاع بالسيارة لكن يحتاج إلى خادم و لم يكن عنده مال.

أمّا الفرع الأوّل: فنذكر كلمات الفقهاء.

قال في «الشرائع»: فلو كان مريضا بحيث يتضرر بالركوب لم يجب. «1»

و قال العلّامة في «المنتهى»: الصحّة شرط في الوجوب فلا يجب على المريض و إن وجد الزاد و الراحلة، ذهب إليه علماؤنا أجمع، و لا نعلم فيه خلافا من الجمهور لأنّ التكليف بالحرج مع المرض ضرر عظيم و حرج و مشقة.

و روى الجمهور عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أنّه قال: من لم يمنعه عن الحجّ حاجة أو مرض حابس أو سلطان جائر فمات، فليمت يهوديا أو نصرانيا.

و من طريق الخاصة ما رواه (ابن) درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من مات و لم يحجّ حجّة الإسلام و لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض فلا يطيق معه الحجّ أو سلطان يمنعه فليمت يهوديا أو نصرانيا، و لا نعلم في ذلك خلافا. «2»

و يدلّ عليه مضافا إلى ما ذكره العلّامة صحيح محمد بن يحيى الخثعمي، قال: سأل حفص الكناسي أبا عبد

اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ما يعني بذلك؟ قال: «من كان صحيحا في بدنه، مخلّى سربه، له زاد و راحلة، فهو ممّن يستطيع الحجّ». «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 289

.......... و نظيره ما رواه في صحيحة هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ما يعني بذلك؟

قال: «من كان صحيحا في بدنه، مخلّى سربه له زاد و راحلة». «1»

ثمّ الكلام في وجوب الاستنابة و الحال هذه و عدمه يأتي في المسألة الثانية و السبعين، و كان الأنسب ذكره في المقام.

الفرع الثاني: إذا تمكّن من السفر بالطائرة لا بالسيارة، أو تمكّن من السفر بالسيارة لكن شريطة أن يرافقه خادم، و لم يملك مؤنتهما، فيسقط وجوب الحجّ، إنّما الكلام في أنّ سقوط الوجوب إنّما هو لأجل المرض أو لأجل قلة المال و عدم وفائه.

و تظهر الثمرة في وجوب الاستنابة إذا كان مستندا إلى المرض بخلاف ما إذا كان مستندا إلى قلّة المال.

قال السيد الحكيم: يمكن أن يدخل هذا في فقد الاستطاعة المالية، و إن كان ذلك لفقد صحّة البدن.

و إن شئت قلت: يدخل في أحد الأمرين، و ذهب السيد الخوئي إلى أنّه مستند إلى المرض، و المسألة تحتاج إلى تأمّل.

[المسألة 62: و يشترط أيضا الاستطاعة الزمانية]

المسألة 62: و يشترط أيضا الاستطاعة الزمانية، فلو كان الوقت ضيقا لا يمكنه الوصول إلى الحجّ، أو أمكن لكن بمشقة شديدة لم يجب، و حينئذ فإن بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجب، و إلّا فلا. (1)*

(1) في الاستطاعة الزمانية* كان الكلام في المسألة

السابقة في الاستطاعة البدنية، و البحث في هذه المسألة في الاستطاعة الزمانية، و ذكر فيه فروعا ثلاثة:

الأوّل: لو كان الوقت ضيقا لا يمكنه الوصول إلى الحجّ فلا شكّ في عدم وجوبه لفقد الاستطاعة العقلية و العرفية من باب أولى. و ما يقال: إنّ الاستطاعة فسرت بالزاد و الراحلة و تخلية السرب و صحّة البدن فلا يعمّ ضيق الوقت، كما ترى، إذ عدم ذكره معها لوضوح دخوله في الاستطاعة، فإنّ القدرة شرط عقلي للتكليف فأولى أن يكون شرطا في المقام أيضا فإنّ القدرة المعتبرة فيه أضيق دائرة من القدرة العقلية.

و بذلك تقف على عدم الحاجة إلى الاستدلال بالإجماع أو لزوم الحرج و العسر أو كونه ممّا يعذره اللّه تعالى كما عليه النراقي. «1»

الثاني: إذا أمكن الوصول لكن بمشقة شديدة فهو أيضا مثل السابق، غاية الأمر لأجل حكومة أدلة رفع الحرج على الوجوب.

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ دليل الحرج هل هو رافع للوجوب فقط، أو رافع له الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 291

.......... مع الملاك؟ و الظاهر من الأصحاب هو الثاني، في غير مورد من موارد الفقه.

الثالث: إذا لم يذهب إلى الحجّ فهل يجب عليه حفظ الاستطاعة إلى العام القادم أو لا؟ فلا شكّ انّه إذا كانت الاستطاعة محفوظة وجب عليه الحجّ، إنّما الكلام في وجوب حفظها، فعلى القول بالوجوب لو زالت باختياره استقر عليه الحجّ في القابل دونما إذا لم نقل بوجوبه.

الظاهر من المصنّف عدم وجوب حفظه حيث قال: فإن بقيت الاستطاعة إلى العام القادم.

و يمكن أن يقال: انّه لو كانت الاستطاعة في الآية هي نفس الاستطاعة المالية فهو مخاطب بالحجّ فعلا فيكون الوجوب فعليا و الواجب استقباليا.

و أمّا لو قلنا بأنّ الاستطاعة عنوان

ينتزع من أمور مختلفة منها سعة الوقت و إمكان الوصول إلى الحجّ، فعندئذ لا يجب حفظ الاستطاعة المالية إذا كان بعض الشرائط غير موجود كما في المقام.

و الظاهر هو الثاني لتفسيرها في الروايات، مضافا إلى الزاد و الراحلة بتخلية السرب و صحّة البدن، و قد علمت أنّ من محقّقاتها كون الزمان كافيا في الوصول إلى الحجّ.

و لما كان هذا الشرط غير محقّق فالاستطاعة غير محقّقة، و معه كيف يجب حفظ الاستطاعة؟!

اللّهمّ إلّا أن يقال انّ للاستطاعة المالية خصوصية خاصة إذا حصلت لا يمكن إتلافها و لو بالنسبة إلى العام القادم.

[المسألة 63: و يشترط أيضا الاستطاعة السربية]

المسألة 63: و يشترط أيضا الاستطاعة السربية، بأن لا يكون في الطريق مانع لا يمكن معه الوصول إلى الميقات أو إلى تمام الأعمال، و إلّا لم يجب، و كذا لو كان غير مأمون بأن يخاف على نفسه أو بدنه أو عرضه، أو ماله، و كان الطريق منحصرا فيه، أو كان جميع الطرق كذلك، و لو كان هناك طريقان، أحدهما أقرب لكنّه غير مأمون، وجب الذهاب من الأبعد المأمون. و لو كان جميع الطرق مخوفا إلّا أنّه يمكنه الوصول إلى الحجّ بالدوران في البلاد- مثل ما إذا كان من أهل العراق، و لا يمكنه إلّا أن يمشي إلى كرمان، و منه إلى خراسان، و منه إلى بخارى و منه إلى الهند، و منه إلى بوشهر و منه إلى جدة مثلا، و منه إلى المدينة، و منها إلى مكة- فهل يجب أو لا؟ وجهان، أقواهما عدم الوجوب، لأنّه يصدق عليه انّه لا يكون مخلى السرب. (1)*

(1) في الاستطاعة المكانية* كان الكلام في المسألة السابقة في الاستطاعة الزمانية، و هنا في الاستطاعة المكانية، و قد ذكر هنا فروعا:

1.

إذا كان في الطريق مانع.

2. إذا كان الطريق غير مأمون.

3. لو كان هناك طريقان أحدهما و هو الأقرب غير مأمون و الأبعد مأمونا.

4. لو كانت جميع الطرق غير مأمونة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 293

.......... أمّا الفرع الأوّل فالاستطاعة غير متوفرة لوجود المانع في الطريق، كما إذا كانت الحدود بين البلدين مغلقة، و ما ورد في الروايات من تخلية السرب فهو إشارة إلى هذا الشرط، ففي رواية حفص الكناسي «1»: فإذا كان صحيحا في بدنه مخلى في سربه له زاد و راحلة فلم يحجّ، فهو ممّن يستطيع الحجّ؟ و نظيره صحيحة هشام بن الحكم 2، و رواية عبد الرحمن بن سيابة. 3

و أمّا الفرع الثاني فيما إذا كان الطريق غير مأمون بأن يخاف على نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله، فلا شكّ في عدم وجوب الحجّ، إنّما الكلام في أنّ عدم الوجوب حكم ظاهري أو واقعي، و تظهر الثمرة في أنّه لو تلفت الاستطاعة بالنسبة إلى العام القابل و كان الطريق مأمونا، استقر عليه الحجّ، لأنّ عدم وجوب الحجّ كان ظاهريا تبيّن خلافه، فكان الحجّ عليه واجبا غاية الأمر يكون معذورا لأجل الحكم الظاهري، و هذا هو الظاهر من السيد الحكيم، يقول:

الحكم هنا ظاهري، فإنّ موضوع الحكم الواقعي بعدم الوجوب- لعدم الاستطاعة- هو عدم تخلية السرب واقعا، فمع الشكّ لا يحرز الحكم الواقعي، بل يكون الحكم بعدم الوجوب ظاهريا. «4»

و يظهر من المحقّق الخوئي أنّ خوف الضرر طريق عقلائي إلى الضرر، و لا يلزم أن يكون الضرر معلوما جزما، بل جرت سيرة العقلاء على الاجتناب عن محتمل الضرر، فالحكم في مورد خوف الضرر مرفوع واقعا حتّى لو انكشف الخلاف و تبيّن عدم وجود المانع

في الطريق. «5»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 294

.......... أقول: إنّ الجمع بين كون خوف الضرر أمارة إلى الواقع، و كون الوجوب مرفوعا واقعا حتّى لو انكشف الخلاف، جمع بين المتناقضين، لأنّ المفروض انّه أمارة و تخلّفها لا يقلب الواقع عمّا هو عليه، بل الحكم يتبع الواقع.

و الأولى أن يقال: إنّ سلوك الطريق مظنون الخطر أو مقطوعه، معصية بما هو هو على نحو يكون القطع أو الظن مأخوذا على نحو الموضوعية، سواء أوافق الواقع أم لا، و على ذلك فالحجّ لم يكن واجبا في الواقع، لأنّ نفس الظن و القطع كاف في رفع الوجوب، و هذا خيرة الشيخ الأنصاري في بحث التجري حيث قال:

لا خلاف بينهم ظاهرا انّ سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية يجب إتمام الصلاة فيه، و لو بعد انكشاف عدم الضرر فيه.»

أمّا الفرع الثالث إذا كان الأقرب غير مأمون و الأبعد مأمونا يجب سلوك الآخر لعدم تعيّن سلوك الأقرب، اللّهمّ إلّا إذا كان سلوكه حرجيا.

و أمّا الفرع الرابع فقد أشار إليه النراقي «2» بقوله: فالمدني لو منع من المسير من طريق المدينة إلى مكة و أمكنه المسير إلى الشام و منه إلى العراق و منه إلى خراسان و منه إلى الهند و منه إلى البحر و منه إلى مكة فهل يجب أو لا؟ فقال بعدم الوجوب، إذ لا يصدق عليه انّ السرب مخلّى و هو نادر الوقوع و الآية منصرفة عنه.

ثمّ لا يخفى انّ الطريق المذكور في المستند على النحو الذي عرفت، و أمّا المذكور في المتن فهو من العراق إلى كرمان إلى خراسان إلى بخارى إلى الهند إلى بوشهر إلى جدة ... الخ.

و الظاهر انّ قوله: كرمان مصحف كرمانشاه، إذ

لا يدخل العراقي إلى إيران إلّا عن طريق كرمانشاه أو عن طريق البصرة و عبادان و المحمرة.

[المسألة 64: إذا استلزم الذهاب إلى الحجّ تلف مال له في بلده معتد به

المسألة 64: إذا استلزم الذهاب إلى الحجّ تلف مال له في بلده معتد به لم يجب، و كذا إذا كان هناك مانع شرعي، من استلزامه ترك واجب فوري سابق على حصول الاستطاعة، أو لاحق مع كونه أهمّ من الحجّ، كإنقاذ غريق أو حريق. و كذا إذا توقّف عن ارتكاب محرم، كما إذا توقّف على ركوب دابة غصبية، أو المشي في الأرض المغصوبة. (1)*

و أمّا كرمان فهي واقعة شرق إيران بينها و بين العراق بون شاسع.

و على كلّ تقدير فالحقّ مع النراقي لانصراف الدليل عن هذا النوع من المسير مع قطع النظر عن كونه خرافيا.

(1)* في المسألة فروع:

1. إذا استلزم الذهاب إلى الحجّ تلف مال معتد به في بلده.

2. إذا استلزم ترك واجب فوري سابق على الاستطاعة.

3. إذا استلزم ترك واجب لاحق، مع كونه أهمّ من الحجّ.

4. إذا توقّف على ركوب دابة غصبية أو المشي على أرض مغصوبة.

و إليك دراسة الفروع واحد بعد الآخر.

الأوّل: إذا استلزم الذهاب إلى الحجّ تلف مال له في بلده معتد به لم يجب الحجّ، لا لعدم الاستطاعة، بل لحكومة قاعدة «لا ضرر» على وجوب الحجّ، لأنّ إيجاب الحجّ يلازم تحمل ضرر شديد لا يتحمل لمثله، و لذلك قيده بقوله: «معتد به» و هو يختلف حسب إمكانيات الأشخاص، و تصور كون الحجّ من التكاليف المبنية على الضرر، كالواجبات المالية من الزكاة و الخمس أو البدنية كالجهاد، مدفوع بأنّ المعفوّ هو الضرر الذي يقتضيه طبع الواجب؛ و أمّا الزائد عنه؛ كإحراق الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 296

.......... بيته عند غيابه عن البلد، أو سرقة سيارته

التي يعيش بها، فهذا ممّا لا يقتضيه طبع الحجّ الواجب.

الثاني: إذا كان هناك مانع شرعي من استلزامه ترك واجب فوري سابق على حصول الاستطاعة، و ذلك كما إذا نذر زيارة سيّد الشهداء عليه السّلام في عرفة. وجهه: انّ من أجزاء الاستطاعة الشرعية للحجّ عدم مزاحمته لواجب سبق وجوبه على وجوب الحجّ، و عندئذ يكون وجوب النذر رافعا لموضوع وجوب الحجّ، أعني:

الاستطاعة، فيقدّم النذر عليه من غير فرق بين كون السابق أهمّ من الحجّ أو لا، و لذلك لم يقيّده المصنّف بالأهم، بخلاف الفرع اللاحق، أعني: الوجوب اللاحق حيث قيد تقديمه بكونه أهمّ. لدخول القسم الثاني في المتزاحمين فيقدّم الأقوى دون السابق.

يلاحظ عليه: بما ذكرنا سابقا من أنّ عدم التزاحم ليس من أجزاء الاستطاعة، و إنّما هو حكم عقلي في كلّ واجب، و عندئذ يدخل المورد في باب المتزاحمين، فيقدّم ما هو الأهم سواء كان هو السابق أو الحجّ، لعدم العبرة بسبق الوجوب بعد كونهما واجبين مطلقين في رتبة واحدة.

الثالث: إذا استلزم ترك واجب لاحق مع كونه أهمّ من الحجّ كإنقاذ غريق أو حريق. لما كان عدم المزاحمة لواجب آخر من أجزاء الاستطاعة عند المصنف، فلو سبق وجوب غير الحجّ، لم تتحقق الاستطاعة فيقدم السابق، و أمّا إذا سبق وجوب الحجّ فالاستطاعة تكون محقّقة قبل وجوب اللاحق، و وجوبه لا يطرد الاستطاعة و لا ينفيه- لتأخره- غاية الأمر تقع المزاحمة بين الواجبين، فيؤخذ الأهم منهما سواء سبق وجوبه أو لحقه.

و بعبارة أخرى: سبق وجوب غير الحجّ ينفي تحقّق الاستطاعة، فلذلك

[المسألة 65: بقي أمرين

[أحدهما إذا اعتقد تحقّق جميع هذه مع فقد بعضها واقعا أو اعتقد فقد بعضها و كان متحقّقا]
اشارة

المسألة 65: قد علم ممّا مرّ أنّه يشترط في وجوب الحجّ مضافا إلى البلوغ و العقل و الحرّية الاستطاعة الماليّة و البدنيّة و الزمانيّة و السربيّة،

و عدم استلزامه الضرر، أو ترك واجب، أو فعل حرام، و مع فقد أحد هذه لا يجب، فبقي الكلام في أمرين: (1)*

يقدّم على الحجّ مطلقا، كان أهم أو لا، بخلاف سبق وجوب الحجّ، فتتحقّق الاستطاعة قبل لحوق وجوب الآخر فيقع التزاحم بين الواجبين فيقدم الأهم.

يلاحظ عليه: بما عرفت من أنّ عدم المزاحمة ليس من أجزاء الاستطاعة و إنّما هو حكم عقلي، فعندئذ يكون الفرعان متساويين في الحكم، فيقدّم الأقوى ملاكا في الجميع، و منه يعلم حال الفرع الرابع فهو أيضا كالثاني و الثالث من موارد التزاحم يقدّم ما هو الأهم.

(1)* ظاهر كلام المصنف انّ للاستطاعة أجزاء عشرة حسب ما ذكره:

1. البلوغ، 2. العقل، 3. الحرية، 4. الاستطاعة المالية، 5. الاستطاعة البدنية، 6. الزمانية، 7. السربية، 8. عدم استلزامه الضرر، 9. عدم استلزامه ترك واجب، 10. عدم استلزامه فعل محرم.

و لكن الظاهر انّ الثلاثة الأخيرة ليس من أجزاء الاستطاعة، فالاستطاعة محقّقة لكن الوجوب مرفوع إمّا لقاعدة لا ضرر، أو لحكم العقل بتقديم الأقوى، و أمّا المالية و البدنية، و الزمانية و السربية فالجميع داخل في الاستطاعة، فتنحصر أجزاؤها في الأربعة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 298

أحدهما: إذا اعتقد تحقّق جميع هذه مع فقد بعضها واقعا أو اعتقد فقد بعضها و كان متحقّقا فنقول: (1)*

(1)* ذكر في الأمر الأوّل الفروع التالية:

1. إذا اعتقد تحقّق الشرائط كالبلوغ و الحرية، فحجّ ثمّ بان عدم تحقّقها.

2. إذا اعتقد انّه غير بالغ فحجّ ثمّ بان كونه بالغا.

3. نفس الصورة و لكنّه ترك الحجّ، فهل يستقرّ عليه الحجّ إذا بقيت الشرائط إلى آخر أعمال الحجّ؟

4. إذا اعتقد انّه مستطيع مالا و انّ ما عنده يكفيه فحجّ فبان الخلاف، فهل يجزي عن حجّة

الإسلام؟

5. إن اعتقد عدم كفاية ما عنده من المال و كان في الواقع كافيا و ترك الحجّ، فهل يستقر عليه الحجّ؟

6. إن اعتقد عدم الضرر أو عدم الحرج فحجّ فبان الخلاف فهل يكفي؟

7. إن اعتقد وجود المانع من العدو، أو الضرر، أو الحرج، فترك الحجّ فبان الخلاف، فهل يستقرّ الحجّ؟

8. إن اعتقد عدم مانع شرعي فحجّ و بان الخلاف، فهل يجزي عن حجّة الإسلام أو لا؟

9. إن اعتقد وجود المانع الشرعي فترك فبان الخلاف، فهل يستقرّ عليه الحجّ؟

و الغرض في جميع الصور استكشاف أحد الحكمين:

أ. الإجزاء إذا حجّ باعتقاد كونه واجدا للشرائط فبان الخلاف و انّه لم يكن

[إذا اعتقد أنّه بالغ فحجّ فبان الخلاف

إذا اعتقد كونه بالغا أو حرّا مع تحقّق سائر الشرائط فحجّ، ثمّ بان أنّه كان صغيرا أو عبدا، فالظاهر- بل المقطوع- عدم إجزائه عن حجّة الإسلام.* (1)

[إذا اعتقد أنّه غير بالغ فحجّ فبان الخلاف

و إن اعتقد كونه غير بالغ أو عبدا مع تحقّق سائر الشرائط و أتى به أجزأه عن حجّة الإسلام كما مرّ سابقا. (2)*

جامعا لها.

ب. استقرار الحجّ، إذا ترك الحجّ باعتقاده عدم اجتماع الشرائط فبان الخلاف و انّه كان جامعا له.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى دراسة الصور التسع:

(1)* 1. إذا اعتقد أنّه بالغ فحجّ فبان الخلاف إذا اعتقد أنّه بالغ أو حر- مع تحقّق سائر الشرائط- فحجّ ثمّ بان كونه صغيرا أو عبدا فلا يجزي عن حجّة الإسلام، لكونه مستحبا في الواقع و إغناؤه عن الواجب رهن دليل غير موجود، فهو أشبه- بوجه- بمن صلّى قبل الوقت بزعم دخول الوقت فبان الخلاف.

(2)* 2. إذا اعتقد أنّه غير بالغ فحجّ فبان الخلاف إذا اعتقد كونه غير بالغ- مع تحقّق سائر الشرائط- و أتى به فهل يجزي عن حجّة الإسلام، أو لا؟ فقد مرّ الكلام فيه في الفصل الأوّل عند البحث عن الشرط الأوّل، أعني: الكمال بالبلوغ و العقل، المسألة 9، و ذكرنا صور المسألة، و قلنا: إنّها غالبا من قبيل الخطأ في التطبيق، و إنّ الزائر حسب طبعه، يقصد ما كتب عليه في

[إذا اعتقد انّه غير بالغ فترك

و إن تركه مع بقاء الشرائط إلى ذي الحجّة، فالظاهر استقرار وجوب الحجّ عليه، فإن فقد بعض الشرائط بعد ذلك- كما إذا تلف ماله- وجب عليه الحجّ و لو متسكّعا. (1)*

وقت العمل غير أنّه تصور انّ المكتوب هو الحجّ المندوب على نحو لو نبّهه أحد، لعدل عن الندب إلى الوجوب.

(1)* 3. إذا اعتقد انّه غير بالغ فترك هذه الصورة نفس الصورة السابقة، غير أنّه أتى بالحجّ في السابقة و ترك هنا.

فيقع الكلام في موردين:

أ. استقرار الحجّ على ذمّته و إن زالت الاستطاعة.

ب. الميزان في

الاستقرار بقاء الشرائط إلى ذي الحجّة.

أمّا الثاني، فسيوافيك البحث عنه في المسألة الحادية و الثمانين، و قد ذكر المصنّف الميزان في الاستقرار هو بقاؤه مستجمعا للشرائط إلى اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة، و أمّا ما ذكره هنا فلم يذكر هناك، و لعلّ النسخة مغلوطة، و الأصل: «مع بقاء الشرائط إلى تمام الحجّ».

و أمّا الأوّل فقال السيد الحكيم «1»: أصل الحكم (استقرار الحجّ) في الجملة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه، و استشهد بكلام صاحب الجواهر أنّه قال: لا خلاف و لا إشكال- نصا و فتوى- في أنّه يستقرّ الحجّ في الذمّة إذ استكملت الشرائط

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 301

.......... فأهمل حتّى فات، فيحجّ في زمن حياته، و إن ذهبت الشرائط التي لا ينتفي معها أصل القدرة و يقضى عنه بعد وفاته. «1»

و لا يخفى خروج المقام عمّا جاء في عبارة الجواهر، فإنّ الإهمال في عبارته راجع إلى التسويف، و أمّا المقام فليس هنا تسويف، إذ الاعتقاد المخالف غير الإهمال فيه حيث اعتقد انّه غير بالغ، ثمّ تبيّن كونه بالغا في ذاك الوقت و زالت الاستطاعة قبل العام القابل.

نعم لو أهمل، يستقر عليه الحجّ، و يدلّ عليه الروايات التي نقلها الشيخ الحرّ في الباب السادس من أبواب وجوب الحجّ، ففي رواية الشحّام أنّه سأل الإمام الصادق عليه السّلام: التاجر يسوّف الحجّ؟ قال: «ليس له عذر». «2»

و ذهب السيد الخوئي إلى عدم الاستقرار، و استدلّ عليه بوجوه ثلاثة:

1. انّ موضوع وجوب الحجّ هو المستطيع، و متى تحقّق عنوان الاستطاعة، صار الحكم- أي وجوب الحجّ- فعليا لفعلية موضوعه، و إذا زالت الاستطاعة و ارتفع الموضوع، يرتفع وجوب الحجّ، ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه حتّى بإتلاف الاستطاعة.

يلاحظ عليه: أنّ

الأمر يدور بين مدخلية الاستطاعة حدوثا فقط، أو حدوثا و بقاء. و بعبارة أخرى: هل يكفي في وجوب الحجّ كونه مستطيعا أيّام الحجّ فقط- كما هو الحال في التسويف- أو يشترط بقاؤها إلى السنة القادمة، كما هو المحتمل في المقام (الجاهل)؟ فيستصحب الوجوب الجزئي في حقّ من زالت استطاعته على النحو الذي بيّناه غير مرة في كيفية استصحاب الحكم الشرعي.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 302

.......... 2. الأحكام و إن كانت تشمل الجاهل لكن لا تشمل المعتقد بالخلاف، لأنّه غير قابل لتوجه الخطاب إليه فهو غير مأمور بالحكم واقعا فلا يكون وجوب في البين حتّى يستقرّ عليه.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبنيّ على انحلال التكاليف و أنّ لكلّ شخص خطابا خاصّا و هو كما ترى، إذ لا فائدة في الانحلال بعد عدم سماع المكلّف الخطاب المتوجه إليه، و كفاية كون الخطاب الكلي حجّة على الجميع من دون انحلال، فقوله سبحانه: لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا حجّة على كلّ فرد من آحاد الناس، لأنّه من مصاديقه دون أن يكون هناك خطاب حسب عدد المكلّفين.

و أعجب منه تخصيص التكليف بالعالم و الجاهل، دون المعتقد بالخلاف مع أنّ الموضوع هو الناس أو المؤمن و هو يعمّ جميع الأقسام.

و على كلّ تقدير فهل يلتزم بذلك في مورد العقائد؟ لاشتراك الموردين في عدم إمكان التكليف، اللّهم إلّا أن يفرّق بين المقصر و القاصر و عليه لا فرق بين العقائد و الموضوعات.

3. إنّما يستقرّ الحجّ إذا لم يكن الترك عن عذر، و أمّا إذا كان مستندا إلى العذر فلا موجب للاستقرار و الاعتقاد بالخلاف من أحسن الأعذار، فإن بقيت الاستطاعة إلى السنة القادمة يجب الحجّ، و إلّا

فلا.

يلاحظ عليه: أنّ العذر، يصلح لرفع العقاب، و أمّا الملاك و لزوم استيفاء المصلحة الملزمة فلا، و الظاهر استقرار الحجّ عليه كما لا يخفى، لأنّه صار مستطيعا و ترك الحجّ. و هذا يكفي في استقرار الواجب، و زوال الاستطاعة يمنع من التمسّك

[إذا اعتقد كونه مستطيعا مالا فحجّ فبان الخلاف

و إن اعتقد كونه مستطيعا مالا و أنّ ما عنده يكفيه فبان الخلاف بعد الحجّ، ففي إجزائه عن حجّة الإسلام و عدمه وجهان من فقد الشرط واقعا، و من أنّ القدر المسلّم من عدم إجزاء حجّ غير المستطيع عن حجّة الإسلام غير هذه الصورة.* (1)

[إذا اعتقد كونه غير مستطيع مالا و ترك الحجّ فبان الخلاف

و إن اعتقد عدم كفاية ما عنده من المال و كان في الواقع كافيا و ترك الحجّ فالظاهر الاستقرار عليه. (2)*

بالدليل الاجتهادي لا الأصل العملي كما عرفت، و لم أر مخالفا في المسألة من المعلّقين على المتن.

(1)* 4. إذا اعتقد كونه مستطيعا مالا فحجّ فبان الخلاف إن اعتقد كونه مستطيعا مالا و إنّ ما عنده يكفيه، فبان الخلاف بعد الحجّ، فقال المصنف: إنّ في إجزائه عن حجّة الإسلام و عدمه وجهين، من فقد الشرط واقعا و من انّ القدر المسلّم من عدم إجزائه حجّ غير المستطيع عن حجّة الإسلام غير هذه الصورة.

و لكن الظاهر عدم الإجزاء، و أيّ فرق بينه و بين حج الصبي بزعم انّه بالغ فبان الخلاف، أضف إلى ذلك انّ الإجزاء يحتاج إلى الدليل و لا يكفي عدم الدليل كما هو مقتضى قوله: من أنّ القدر المسلّم من عدم إجزائه ... الخ.

(2)* 5. إذا اعتقد كونه غير مستطيع مالا و ترك الحجّ فبان الخلاف إذا اعتقد عدم كفاية ما عنده من المال و كان في الواقع كافيا و ترك الحجّ و بقيت الاستطاعة المالية إلى زمان الفراغ من الأعمال، فقال المصنّف: الظاهر

[إذا اعتقد عدم الضرر و الحرج فحجّ فبان الخلاف

و إن اعتقد عدم الضرر أو عدم الحرج فحجّ فبان الخلاف فالظاهر كفايته. (1)*

الاستقرار عليه و ذهب السيد الخوئي إلى عدم الاستقرار قائلا بأنّه يجري فيه ما تقدم من الاعتقاد بالصغر، و بما انّ ترك الحجّ مستند إلى العذر فلا يتوجه إلى التكليف. و قد عرفت ما في كلامه من النظر، و قد تقدّم الكلام في المسألة الخامسة و العشرين، فلاحظ.

(1)* 6. إذا اعتقد عدم الضرر و الحرج فحجّ فبان الخلاف إذا اعتقد عدم الضرر أو عدم الحرج فحجّ فبان

الخلاف، مقتضى القاعدة هو الاستقرار، لأنّ الموضوع لرفع الوجوب، هو الضرر و الحرج الواقعيين و المفروض وجودهما في الحجّ فلا يوصف المأتي بالوجوب، فلو بقيت الاستطاعة إلى الوقت المقرر، يستقرّ عليه الحجّ، و إن زالت بعده.

و لكن يمكن أن يقال بخروج المورد عن تحت القاعدتين، فانّ الغاية من رفع الحكم الشرعي عند الضرر و الحرج هو الامتنان على العبد و تسهيل الأمر عليه، و لا امتنان في إبطال العمل الذي أتى به المكلّف بخلوص و قربة. و ربما يوجه القول بالصحة بأنّ القاعدتين ترفعان الوجوب، دون المحبوبيّة.

يلاحظ عليه:- مع كونه غير تام إذ الظاهر انّ المرفوع أصل التشريع- أنّ المحبوبية أعمّ من الاستحباب و الوجوب، فلو بقيت لكانت باقية في ضمن الاستحباب، و إغناؤه عن الحجّ الواجب أوّل الكلام.

و على ضوء ما ذكرنا، فالوجوب باق غير مرتفع.

[إذا اعتقد العدو و الحرج و الضرر فترك فبان الخلاف

و إن اعتقد المانع من العدوّ أو الضرر أو الحرج فترك الحجّ، فبان الخلاف، فهل يستقرّ عليه الحجّ أو لا؟ وجهان، و الأقوى عدمه، لأنّ المناط في الضرر الخوف و هو حاصل إلّا إذا كان اعتقاده على خلاف رويّة العقلاء و بدون الفحص و التفتيش.* (1)

[إذا اعتقد عدم مانع شرعي فحجّ فبان الخلاف

و إن اعتقد عدم مانع شرعيّ فحجّ، فالظاهر الإجزاء إذا بان الخلاف. (2)*

(1)* 7. إذا اعتقد العدو و الحرج و الضرر فترك فبان الخلاف إذا اعتقد المانع من العدو أو الضرر أو الحرج فترك الحجّ فبان الخلاف، فهل يستقرّ عليه الحجّ- بالشرط المذكور- أو لا؟ قال المصنف: وجهان و الأقوى عدمه لأنّ المناط في الضرر، الخوف، و هو حاصل إلّا إذا كان اعتقاده على خلاف رويّة العقلاء و بدون الفحص و التفتيش.

و الظاهر عدم الاستقرار حتّى فيما لو كان اعتقاده على رويّة العقلاء، لما عرفت من أنّ الخوف موضوع لحرمة السفر، و قد أخذ على وجه الموضوعية، سواء أكان في الواقع عدو أو لا، فحينئذ لم يكن الحجّ معه واجبا، فإن بقيت الاستطاعة إلى السنة القادمة فيحجّ و إلّا فلا حتّى و إن كان اعتقاده على خلاف روية العقلاء، لأنّه على كلّ تقدير يحسّ الخطر و يخاف من السفر و إن لم يكن لخوفه عند العقلاء وجه.

(2)* 8. إذا اعتقد عدم مانع شرعي فحجّ فبان الخلاف إذا اعتقد عدم مانع شرعي من الواجب و الحرام فحجّ فبان الخلاف كزيارة

[و إن اعتقد وجوده فترك فبان الخلاف

و إن اعتقد وجوده فترك فبان الخلاف، فالظاهر الاستقرار. (1)*

الحسين عليه السّلام يوم عرفة، أو الدين المعجل الذي تأخر أداؤه بالحجّ مع تمكنه من الأداء، فلا شكّ في الصحة، بناء على ما قلنا من أنّ تقديم المانع الشرعي على الحجّ من باب تقديم أقوى المتزاحمين على الآخر، لا بمعنى أخذ عدمه في مفهوم الاستطاعة، و التزاحم بين الواجبين، فرع فعلية وجوبهما و تنجزهما و التنجز رهن العلم و المفروض انّه جاهل.

و نظير ذلك ما إذا صلّى في المسجد، مع الجهل بوجود النجس فيه، فبما أنّ وجوب

الإزالة ليس بمنجّز، لا يقع التزاحم بين الواجبين.

(1)* 9. إذا اعتقد وجود المانع فترك فبان الخلاف إذا اعتقد وجود المانع الشرعي الذي هو أهمّ من الحجّ فترك الحجّ لطلب الأهمّ فبان عدم المانع، فقال المصنّف باستقرار الحجّ- مع تحقّق سائر الشرائط، و ذلك لأنّه نظير الفرع الثالث فيما إذا اعتقد كونه غير بالغ- مع تحقّق سائر الشرائط فترك الحجّ فبان كونه بالغا، و الفرق هو زعم عدم الشرط في الثالثة و زعم وجود المانع في التاسعة.

كما ذهب أغلب المعلّقين إلى استقرار الحجّ، لأنّه صار مستطيعا و ترك الحجّ جهلا، مع كونه جامعا للشرائط واقعا كما في الثالثة، و عدم المانع في التاسعة.

نعم الجهل يرفع العقاب، لا الملاك و الحكم الشرعي، و قد عرفت ضعف ما أقامه السيد الخوئي من الأدلة الثلاثة على عدم الاستقرار في الصورة الثالثة.

و سيوافيك في المسألة الحادية و الثمانين ما له صلة بالمقام، فلاحظ.

[ثانيهما: إذا ترك الحجّ مع تحقّق الشرائط متعمّدا]

ثانيهما: إذا ترك الحجّ مع تحقّق الشرائط متعمّدا، أو حجّ مع فقد بعضها كذلك، أمّا الأوّل فلا إشكال في استقرار الحجّ عليه مع بقائها إلى ذي الحجّة.

و أمّا الثاني فإن حجّ مع عدم البلوغ أو مع عدم الحريّة فلا إشكال في عدم إجزائه إلّا إذا بلغ أو انعتق قبل أحد الموقفين على إشكال في البلوغ قد مرّ.

و إن حجّ مع عدم الاستطاعة الماليّة فالظاهر مسلّمية عدم الإجزاء و لا دليل عليه إلّا الإجماع، و إلّا فالظاهر أنّ حجّة الإسلام هو الحجّ الأوّل، و إذا أتى به كفى و لو كان ندبا، كما إذا أتى الصبيّ صلاة الظهر مستحبّا، بناء على شرعيّة عباداته فبلغ في أثناء الوقت، فإنّ الأقوى عدم وجوب إعادتها، و دعوى أنّ المستحبّ لا يجزي

عن الواجب ممنوعة بعد اتّحاد ماهيّة الواجب و المستحبّ، نعم لو ثبت تعدّد ماهيّة حجّ المتسكّع و المستطيع تمّ ما ذكر، لا لعدم إجزاء المستحبّ عن الواجب، بل لتعدّد الماهية. (1)*

(1)* ذكر المصنّف في المسألة فروعا، و الفروع تدور حول أحد أمرين:

أ: ترك الحجّ عمدا مع تحقّق الشرائط.

ب: الحجّ عمدا مع فقد بعض الشرائط.

و الفرق بين هذه الفروع و الفروع التسعة الماضية هو انّ الفعل و الترك كان هناك عن اعتقاد بأنّ عمله جامع للشرائط، بخلاف المقام فانّه يأتي متعمدا مع العلم بفقد الشرط، أو يترك مع العلم بوجوده.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 308

.......... و إليك التفصيل:

1. إذا ترك الحجّ عمدا مع بقاء الشرائط إلى ذي الحجّة.

2. إذا حجّ مع عدم البلوغ أو الحرية فلا يجزي إلّا إذا بلغ قبل أحد الموقفين.

3. إذا حجّ مع عدم الاستطاعة الماليّة.

4. إذا حجّ مع عدم أمن الطريق.

5. إذا حجّ مع عدم صحّة البدن مع كونه حرجيّا عليه.

6. لو حجّ مع ضيق الوقت و كان حرجيا.

و إليك دراسة الفروع واحدا بعد الآخر.

الأوّل: إذا ترك الحجّ مع تحقّق الشرائط متعمدا، فلا إشكال في استقرار الحجّ عليه، مع بقائها إلى اليوم الثاني عشر، و إن زالت الاستطاعة بعده، و هذا هو المهم في المقام و إلّا فلو بقيت فهو موضوع جديد لا كلام في وجوبه.

و ما في المتن «إلى ذي الحجّة» غير تام، و سيأتي البحث عنه في المسألة الحادية و الثمانين.

و يكفي في ذلك إطلاق «من استطاع» سواء بقيت بعد الثبوت أم زالت، و نظيرها إطلاق ما ورد من أنّ من ترك الحجّ بغير عذر فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام. «1» من غير فرق بين زوال الاستطاعة و

بقائها، و لأجل التخلّص عمّا ورد في الرواية يلزم عليه الحجّ، مستطيعا كان أو لا.

الثاني: إن حجّ مع عدم البلوغ فلا يجزي، و في صحيح إسحاق بن عمّار قال:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 309

.......... سألت أبا الحسن عليه السّلام عن ابن عشر سنين يحجّ؟ قال: «عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، و كذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت». «1» و قد مرّ الكلام في الشرط الأوّل من شرائط وجوب الحجّ، أعني: الكمال بالبلوغ و العقل.

و استثنى المشهور ما لو بلغ و أدرك المشعر، و قد مرّ الكلام فيه في المسألة التاسعة، و قلنا: إنّ الإجزاء هو الأقرب و إن كان مورد النصّ هو العبد إذا انعتق قبل الموقفين.

الثالث: إذا حجّ مع عدم الاستطاعة المالية فهل يجزي عن حجّة الإسلام أو لا؟ المشهور هو عدم الاجزاء، و إليك نقل الكلمات:

1. قال الشيخ في «الخلاف»: من لم يجد الزاد و الراحلة لا يجب عليه الحجّ، فإن حجّ لم يجزه و عليه الإعادة إذا وجدهما، و قال باقي الفقهاء: أجزأه. و عليه إجماع الفرقة. «2»

2. و قال المحقّق: و كذا لو تكلّف الحجّ مع عدم الاستطاعة. «3»

3. و قال العلّامة: لو فقدهما و تمكن من الحجّ ماشيا، فقد بيّنا أنّه لا يجب عليه الحجّ، فلو حجّ ماشيا حينئذ لم يجزه عن حجّة الإسلام عندنا و وجب عليه الإعادة مع استكمال الشرائط، ذهب إليه علماؤنا، و قال الجمهور يجزيه. «4»

4. و قال في «الدروس»: و لو حجّ كذلك أو في نفقة غيره أجزأ، بخلاف ما لو تسكع فإنّه لا يجزئ عندنا. «5»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 310

.......... 5. و قال في المدارك: تعليقا على قول المحقق الماضي: و

ذلك لأنّ الحجّ على هذا الوجه مندوب، و المندوب لا يجزي عن الواجب. «1»

6. و قال الفاضل الإصفهاني بعد نقل كلام المحقّق: فلأنّه قبل الوجوب فهو كالصلاة قبل وقت الفريضة، و التصدّق قبل وجوب الزكاة، مع عموم نصوص الوجوب إذا استطاع، و أصل عدم إجزاء المندوب و المتبرع به قبل الوجوب عن الواجب، و نحو قول الصادق عليه السّلام- في خبر مسمع- «لو انّ عبدا حجّ عشر حجج، كانت عليه حجّة الإسلام أيضا إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، و اجتزأت العامة به». «2»

و يمكن الاستدلال على عدم الإجزاء بوجوه:

1. إطلاق الكتاب الحاكم بأنّ المستطيع يحجّ مطلقا، سواء أحجّ قبله أم لا.

2. انّ الحجّ قبل الاستطاعة كالصلاة قبل الوقت.

3. انّ اجزاء المندوب عن الواجب يحتاج إلى الدليل.

4. الاستدلال بروايات: مسمع بن عبد الملك، و إسحاق بن عمّار، و شهاب.

أمّا الأوّل فروى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «لو أنّ عبدا حجّ عشر حجج، كانت عليه حجّة الإسلام أيضا إذا استطاع إلى ذلك سبيلا». «3»

و أمّا الثاني: فقال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن ابن عشر سنين يحجّ؟ قال:

«عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، و كذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت». «4»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 311

.......... و أمّا الثالث فروى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال: سألته عن ابن عشر سنين إلى آخر ما جاء في رواية إسحاق بن عمّار. «1»

يلاحظ عليه: أنّ الموضوع في المقام من حجّ بلا استطاعة مالية مع كونه حرّا و بالغا، و الموضوع في الروايات، من حجّ رقا أو غير بالغ (من دون نظر إلى الاستطاعة المالية وجودا و عدما) فكيف بها على المقام؟

اللّهمّ إلّا إذا

قيل بوجود الجامع بينهما و هو فقدان الاستطاعة الشرعية فيهما، سواء استند إلى فقدان المال، أو الحرية و البلوغ.

و أورد صاحب الجواهر في المقام الروايات الواردة فيمن حجّ عن غيره، فهل يكفي عن نفسه أو لا؟ و قد مضى الكلام فيها.

و على كلّ تقدير فالمسألة اتفاقية، قال في «الجواهر»: و ما هو إلّا لأنّ المسألة من القطعيات- إلى أن قال-: فمن الغريب وسوسة بعض متأخري المتأخرين كصاحب الذخيرة في الحكم. «2»

لكن المصنّف، مع اعترافه بأنّ عدم الإجزاء من المسلّمات، استشكل و قال بما عرفت في المتن و حاصله: أنّ مقتضى القاعدة هو الإجزاء، لأنّ الحجّ طبيعة واحدة و لا اختلاف في حقيقته غاية الأمر قد تجب و قد تستحب، فالاختلاف في الأمر المتعلّق به لا في المأمور به، فإذا وجدت الطبيعة، لا معنى لإتيانها ثانيا نظير ما إذا صلّى الصبيّ صلاة الظهر مستحبا فبلغ في الأثناء فلا يجب إتيانها ثانيا لحصول الطبيعة ثانيا، نعم لو ثبت تعدد ماهية حجّ المتسكع و المستطيع صحّ ما ذكر لا لعدم إجزاء المستحب عن الواجب.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 312

.......... يلاحظ عليه: أنّ الحجّ مستحبّ في كلّ عام غير أنّه إذا استطاع وجب مرة واحدة، فإذا كان كذلك فكلّ فرد من أفراد الحجّ في كلّ سنة محكوم بحكم خاص، فما أتى به قبل الاستطاعة فهو محكوم بالندب، و ما أتى به بعد الاستطاعة فهو محكوم بالوجوب، فكيف يغني حكم الفرد الأوّل عن الثاني؟! و على هذا فالموصوف بالوجوب- حجّة الإسلام- هو ما أتى به بعد الاستطاعة.

و أمّا قياسه بصلاة غير البالغ في الوقت إذا بلغ قبل خروجه فقياس مع الفارق، و ذلك إذ في الحجّ حكم مترتّب على

غير المستطيع و حكم مترتب على المستطيع و لكلّ فرد حكمه، فلا يغني الفرد الأوّل عن الفرد الثاني، و يكون الموصوف بحجّة الإسلام هو ما أتى به بعد الاستطاعة، و أمّا الصلاة فهناك أمر واحد متوجّه إلى الإنسان العاقل و المميز بالغا كان أو غير بالغ، غاية الأمر رفع الوجوب عن البالغ و بقي الاستحباب. فإذا أتى بها غير البالغ فقد امتثل نفس الأمر الصادر إلى العاقل البالغ، فلا معنى لبقائه بعد الامتثال، و بذلك يظهر انّ الأمر في المقيس متعدد و هذا بخلاف الأمر في المقيس عليه، فهناك أمر واحد تعلّق بالصلاة ليقوم بها الإنسان المميز، غير أنّه رفعت جهة الإلزام عن غير البالغ و بقي الملاك.

[و إن حجّ مع عدم أمن الطريق أو مع عدم صحّة البدن مع كونه حرجا عليه، أو مع ضيق الوقت كذلك

و إن حجّ مع عدم أمن الطريق أو مع عدم صحّة البدن مع كونه حرجا عليه، أو مع ضيق الوقت كذلك، فالمشهور بينهم عدم إجزائه عن الواجب، و عن الدروس الإجزاء إلّا إذا كان إلى حدّ الإضرار بالنفس، و قارن بعض المناسك، فيحتمل عدم الإجزاء ففرق بين حجّ المتسكّع و حجّ هؤلاء، و علّل الإجزاء بأنّ ذلك من باب تحصيل الشرط، فانّه لا يجب، لكن إذا حصله وجب، و فيه أنّ مجرّد البناء على ذلك لا يكفي في حصول الشرط، مع أنّ غاية الأمر حصول المقدّمة الّتي هو المشي إلى مكّة و منى و عرفات، و من المعلوم أنّ مجرّد هذا لا يوجب حصول الشرط الّذي هو عدم الضرر، أو عدم الحرج. نعم لو كان الحرج أو الضرر في المشي إلى الميقات فقط و لم يكونا حين الشروع في الأعمال تمّ ما ذكره، و لا قائل بعدم الإجزاء في هذه الصورة، هذا، و مع ذلك فالأقوى ما

ذكره في الدروس، لا لما ذكره، بل لأنّ الضرر و الحرج إذا لم يصلا إلى حدّ الحرمة إنّما يرفعان الوجوب و الإلزام لا أصل الطلب، فإذا تحمّلهما و أتى بالمأمور به كفى. (1)*

(1)* بقي الكلام في الفروع الثلاثة الباقية و يجمع الجميع الحج مع فقد شروط الوجوب:

1. كما إذا حجّ مع عدم أمن الطريق.

2. أو إذا حجّ مريضا و كان حرجيا.

3. إذا حجّ مع ضيق الوقت و استلزام الحرج.

فيقع الكلام في اجزائه عن حجّة الإسلام و عدمه.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 314

.......... أقول في المسألة بفروعها الثلاثة أقوال:

1. القول بعدم الإجزاء مطلقا، و نسب إلى المشهور، و هو الظاهر من العلّامة قال في «المنتهى»: هذه الشروط التي ذكرناها.

منها: ما هي شرط في الصحة و الوجوب و هو العقل، لعدم الوجوب على المجنون و عدم الصحّة منه؟

و منها: ما هو شرط في الصحّة دون الوجوب، كالإسلام على ما ذهبنا إليه من وجوب الحجّ على الكافر.

و منها: ما هو شرط الوجوب دون الصحّة و هو البلوغ و الحرية و الاستطاعة، و إمكان المسير، لأنّ الصغير و المملوك و من ليس له زاد و لا راحلة و ليس بمخلّى السرب و لا يمكنه السير لو تكلّفوا الحجّ لصحّ منهم و إن لم يكن واجبا عليهم، و لا يجزيهم عن حجّة الإسلام على ما تقدّم. «1»

2. القول بالإجزاء إلّا إذا وصل الضرر إلى حدّ الإضرار بالنفس و قارن المناسك، و هذا هو الظاهر من الشهيد في «الدروس» قال:

و لو حجّ فاقد هذه الشرائط لم يجزئه، و عندي لو تكلّف المريض و المعضوب و الممنوع بالعدو و ضيق الوقت أجزأ، لأنّ ذلك من باب تحصيل الشرط فانّه لا يجب،

و لو حصّله وجب و أجزأ. نعم لو أدى ذلك إلى إضرار بالنفس يحرم إنزاله، و لو قارن بعض المناسك احتمل عدم الإجزاء. «2»

3. القول بالتفصيل بين تحمل الضرر في المقدّمات و بين كونه متزامنا مع الأعمال، و هذا هو الظاهر من المستند، قال: لو حجّ من هذا شأنه، و رضى الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 315

.......... بالضرر لم يكف عن حجّة الإسلام، و يجب عليه الحجّ ثانيا إذا ارتفع المانع بلا تضرر، إلّا إذا كان تحمّل الضرر قبل أحد المواقيت، و لم يكن بعده عدو، لحصول الاستطاعة. «1»

4. نفس القول الثالث لكن ببيان خاص و هو انّ عدم الإجزاء تارة لأجل عدم الاستطاعة، و أخرى لأجل الحكومة.

توضيحه: انّه لا يضرّ فقد الأمن و الضرر و الحرج و المرض من المقدّمات إذا لم يتزامن مع الأعمال، لأنّ الحجّ و إن لم يكن واجبا قبل الخروج لكنّه لمّا خرج و تحمّل الضرر و الحرج و وصل إلى الميقات صار مستطيعا شرعيا، لاجتماع الشرائط منه إلى الفراغ من الأعمال، و أمّا إذا تزامنت مع الأعمال ففيه التفصيل بينما كان الطريق من الميقات إلى مكة أو إلى المواقف غير مأمون أو كان المكلّف مريضا، ففي هذه الصورة حاله حال من حجّ و لم يكن له مال و حجّ متسكّعا، لأنّ المأخوذ في موضوع وجوب الحجّ تخلية السرب و صحّة البدن، فإذا تحمل و حجّ و الحال هذه لا يكون حجّه مصداقا للواجب.

و أمّا إذا تزامنت الأعمال بالضرر و الحرج فحيث لم يؤخذ عدم الضرر أو الحرج في موضوع وجوب الحجّ، و إنّما قلنا بعدم الوجوب في موردهما لحكومة العناوين الثانوية على الأوّلية، فهو عندئذ مستطيع لكن لا

يجب عليه الحجّ، فالوجوب مرفوع، و أمّا الاستحباب فلو قلنا ببساطة الوجوب دون تركبه من الطلب و الإلزام يكون المرفوع أصل المشروعية، و أمّا لو قلنا بالتركب فالمرفوع هو الوجوب و الباقي هو الاستحباب فلا يكون مجزيا عن الواجب. «2» هذا و قد سبقه النراقي. «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 316

.......... هذه هي الأقوال في المسألة، و إليك دراسة الكلّ واحدا بعد الآخر.

أمّا القول الأوّل- أي القول بعدم الإجزاء فلأنّ تخلية السرب، و صحّة البدن أخذ في موضوع وجوب الحجّ «1»، فالحجّ مع فقد الأمن و المرض، كالحجّ متسكعا، فلا يجزي عن الواجب، و أمّا الضرر و الحرج فهما و إن لم يؤخذا في موضوع وجوب الحجّ، لكنّ لهما الحكومة على أحكام العناوين الأوّلية، كالحجّ، فيكون الحجّ مرفوع الحكم، فكيف يجزي ما ليس بواجب عن الواجب.

يلاحظ عليه: أنّه صحيح إذا تزامنت هذه الأمور، المناسك و الإحرام من المواقيت فهو إمّا غير مستطيع، أو حجّه غير واجب و أمّا إذا صار السرب آمنا بعد الميقات و صار مصحا بعده و لم تكن الأعمال متزامنة مع الضرر و الحرج فهو مستطيع محكوم حجّه بالوجوب، لأنّ حلية المقدّمة ليست شرطا في صحّة الحجّ، و وجوبه من الميقات، و لذلك قالوا بأنّ المتسكع لو استطاع عند الميقات، فهو مستطيع و حجّه مجزئ.

و أمّا القول الثاني، أعني: تفصيل الشهيد، و هو القول بالإجزاء مطلقا، إلّا صورة واحدة، و هي إذا كان إلى حدّ الإضرار بالنفس و قارن بعض المناسك.

يلاحظ عليه: أنّه لا وجه لاستثناء خصوص الإضرار بالنفس إذا قارن بعض المناسك، إذ عند المقارنة لا فرق بين الخوف من العدو و الضرر بالنفس، أو الحرج، فإنّ الأوّلين مأخوذ ان

في موضوع وجوب الحجّ، إذ مع عدم تخلية السرب أو عدم صحّة البدن، لا استطاعة، و أمّا الثالث- أعني: الحرج- فهو و إن لم يكن مأخوذا في موضوع وجوب الحجّ، لكنّه لأجل حكومته على أحكام العناوين الأوّلية، يرتفع الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 317

.......... الوجوب منه فلا يكون المأتي، واجبا و معه لا يجزي عن الواجب.

ثمّ إنّ السيد الحكيم وجّه كلام الشهيد بقوله: إنّ عدم الحرج و الضرر- المأخوذ شرطا في الاستطاعة- يراد به عدم الحرج و الضرر الآتيين من قبل الشارع لا مطلقا، فإذا تكلّف المكلّف الحرج و الضرر- لابداعي أمر الشارع بل بداع آخر- فعدم الحرج و الضرر الآتيين من قبل الشارع حاصل، لأنّ المفروض انّ الحرج و الضرر الحاصلين كانا بإقدام منه و بداع نفساني، لا بداعي الأمر الشرعي، فتكون الاستطاعة حينئذ حاصله بتمام شروطها. «1»

يلاحظ عليه أوّلا: أنّ لازم ذلك التوجيه، صحّة الوضوء و الغسل الضرريين إذا كانا بإقدام من المكلّف.

و ثانيا: انّ الغاية من تشريع القاعدتين، هو نهي المكلّف من ارتكاب الضرر و الوقوع في الحرج، لا التفصيل بين الضرر الآتي من جانب الشارع، و الآتي من إقدام المكلّف و اختياره الضرر و الحرج في امتثال تكاليف الشارع.

و أمّا ما أفاده المصنّف من تأييد النظرية عن طريق آخر و هو الضرر و الحرج إذا لم يصلا إلى حد الحرمة إنّما يرفعان الوجوب و الإلزام لا أصل الطلب، فإذا تحملها و أتى بالمأمور به كفى فلا يخلو من إشكال.

أمّا أوّلا فلأنّه مبنيّ على أنّ الوجوب، أمر مركّب من أصل الطلب و الإلزام، و انّ القاعدة إنّما ترفع الوجوب لا أصل الطلب، و أمّا على القول ببساطة الوجوب و انّ الفرق

بين الوجوب و الاستحباب إنّما هو بشدة الإرادة و رخوته، فلا يتم ما ذكره لانتفاء التركب.

[المسألة 66: إذا حجّ مع استلزامه لترك واجب أو ارتكاب محرّم

المسألة 66: إذا حجّ مع استلزامه لترك واجب أو ارتكاب محرّم لم يجزه عن حجّة الإسلام، و إن اجتمع سائر الشرائط، لا لأنّ الأمر بالشي ء نهي عن ضدّه، لمنعه أوّلا، و منع بطلان العمل بهذا النهي ثانيا، لأنّ النهي متعلّق بأمر خارج، بل لأنّ الأمر مشروط بعدم المانع و وجوب ذلك الواجب مانع، و كذلك النهي المتعلّق بذلك المحرّم مانع، و معه لا أمر بالحجّ. نعم لو كان الحجّ مستقرّا عليه و توقّف الإتيان به على ترك واجب أو فعل حرام دخل في تلك المسألة، و أمكن أن يقال بالإجزاء، لما ذكر من منع اقتضاء الأمر بشي ء للنهي عن ضدّه، و منع كون النهي المتعلّق بأمر خارج موجبا للبطلان. (1)*

و ثانيا: سلّمنا انّ المرفوع هو الإلزام لا أصل الطلب، لكن الحجّ- في هذه الحالة- يصير مستحبا، و أمّا إغناؤه عن الواجب فيحتاج إلى الدليل، لأنّ حجّة الإسلام، الواجب على كلّ مكلّف مستطيع في تمام عمره مرّة واحدة، هو الحجّ الواجب النابع وجوبه عن استطاعته، فلو قلنا بأنّ عدم الضرر و الحرج من حدود الاستطاعة فهو غير مستطيع، و إن قلنا بعدمه لكن لهما الحكومة على أحكام العناوين الأوّلية، و معها فالحجّ غير واجب و قيامه مقام الواجب يحتاج إلى دليل.

و الأظهر ما أفاده المحقّق النراقي و أوضحه السيد الخوئي، من التفريق بين فقد الشرط قبل الميقات و بعده إذا تزامن مع المناسك أو بعضها.

(1)* إذا استلزم الحجّ، ترك الواجب أو ارتكاب الحرام، فهل يجزي عن حجّة الإسلام أو لا؟ ذهب جماعة منهم المصنف إلى عدم الإجزاء و اختلفوا في

وجهه.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 319

.......... فقال جماعة بأنّ الحجّ عندئذ منهيّ عنه، و النهي آية المبغوضية فلا يكون مجزيا.

أمّا أنّه منهي عنه فبأحد وجهين:

1. إن ترك الحجّ مقدّمة لفعل الواجب الآخر، فإذا وجب ترك الشي ء يكون فعله حراما و الحرام مبغوض لا يتقرّب به.

2. ان ترك الحجّ ملازم لفعل الواجب الآخر، و المتلازمان متّحدان في الحكم، فإذا كان الفعل الآخر واجبا، كان ترك الحجّ أيضا مثله، فإذا وجب يكون الفعل حراما.

يلاحظ عليه: أوّلا: أنّ كلا المبنيين غير صحيحين، أمّا الأوّل فلما حرر في محله من أنّ ترك الضدّ ليس مقدمة للضدّ الآخر حتّى يجب بملاك المقدمية، بل يلازم الفعل الآخر، و إلّا فيمكن أن يقال: انّ فعل الواجب الآخر مقدّمة لترك الضد، فيلزم الدور كما قرر في محله.

و أمّا الثاني، فلأنّه لا دليل على وحدة المتلازمين في الحكم، بل يمكن أن يكون أحدهما واجبا و الآخر مباحا. نعم يجب أن لا يكون محكوما بحكم يضاد حكم الملازم الآخر، كأن يجب أحدهما (الاربعة) و يحرم الآخر (الزوجية).

هذا كلّه على تسليم كون مثل هذا النهي موجبا للفساد، و إلّا فللنظر فيه مجال.

و ثانيا: ما أشار إليه السيّد الحكيم أنّ المقام إنّما يدخل في مسألة الضدين إذا كان الواجب الآخر ضدا للحجّ. و أمّا إذا كان ضدّا للسفر إلى الحجّ فلا يكون من صغريات تلك المسألة، لأنّ السفر مقدّمة غير عبادية لا مانع من حرمته و إجزاء

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 320

.......... الحجّ. «1»

و ثالثا: أنّ الحجّ صحيح، سواء أكان الواجب الآخر أهمّ من الحجّ أم لا، أمّا الأوّل فبالترتب، فيقال: انّ هنا واجبين: أحدهما أداء الدين، و الآخر الحجّ، فيكون الحجّ مأمورا به بالترتّب

فيقول: أدّ دينك و إن عصيت فحجّ.

و أمّا الثاني: فلا شكّ انّ الحجّ أهمّ فيكون مقدّما على الواجب الآخر.

ثمّ إنّ المصنف ردّ كون النهي الناجم عن مقدّمية ترك الضد، أو وحدة المتلازمين، موجبا للفساد، و علّل الفساد بوجه آخر و قال بأنّ النهي تعلّق بأمر خارج لا بنفس العبادة، بل الفساد لأجل انّ الأمر مشروط بعدم المانع و وجوب ذلك الواجب مانع.

يلاحظ عليه أوّلا: أنّ النهي- كما قررنا- تعلّق بنفس العبادة حيث إنّ ترك الحجّ لما كان واجبا صار نفسه محرّما، لأنّ ما وجب تركه حرم فعله.

و ثانيا: أنّ ما ذكره دليلا على فساد الحجّ غير صحيح، لأنّ الاستطاعة هي عبارة عن الزاد و الراحلة و أمن الطريق و صحّة البدن، و أمّا ما وراء ذلك فهو من الأحكام العقلية، فلم يؤخذ في الاستطاعة للحجّ عدم مزاحمة الحج لواجب أو حرام آخر، حتّى أنّ الحرج و الضرر غير مأخوذين في موضوع وجوب الحجّ غاية الأمر لهما الحكومة على وجوب الحجّ، حكومة العناوين الثانوية على الأوّلية.

و لمّا كان المستند عند المصنّف لبطلان الحجّ، اشتراط وجوبه بعدم المانع، فرّق بين الحجّ غير المستقر و الحجّ المستقرّ.

أمّا الأوّل ففيما إذا حاول الحجّ في نفس سنة الاستطاعة و كان الحجّ ملازما

[المسألة 67: إذا كان في الطريق عدوّ لا يندفع إلّا بالمال

المسألة 67: إذا كان في الطريق عدوّ لا يندفع إلّا بالمال (بمعنى انّه لا حدّ ماله قهرا و لكن لا يخلّى له الطريق إلّا بمال)، فهل يجب بذله و يجب الحجّ، أو لا؟ أقوال، ثالثها: الفرق بين المضر بحالّه و عدمه، فيجب في الثاني دون الأوّل. (1)*

لترك واجب أو فعل حرام آخر، فقد أفتى بعدم الإجزاء، لأنّ وجوب الحجّ مشروط بعدم المانع و المفروض انّه مانع.

أمّا الثاني: ففيما

إذا وجب عليه الحجّ في سنة و لم يحجّ فاستقر عليه الحجّ فحاول إفراغ الذمّة و ابتلى بوجود المانع، فأفتى بالصحّة، و ذلك لأنّه لم يكن وجوبه مشروطا- عند التعلّق- بعدم المانع، و لكنّه تسامح و استقر عليه الحجّ، ثمّ توقف الإتيان به (لا الوجوب) على ترك واجب أو فعل حرام.

فيجزي لعدم جريان ما تبنّاه من الدليل (مشروطية الوجوب) فتدخل الصورة في باب الضدين، و قد عرفت أنّ النهي غير مؤثر عند المصنف لكونه متعلّقا بالأمر الخارج لا بنفس العبادة.

و لكن الظاهر انّ المسألتين من باب واحد و لا فرق بينهما في الإجزاء.

(1)* لو كان الدخول إلى بلد، و الخروج منه إلى بلد آخر، حتّى يصل إلى الميقات، مشروطا بضرائب دولية رسميّة، لا يسمح للأجنبي، الدخول أو الخروج إلّا بعد دفع رسوم معينة اتخذت صفة قانونية بلا اختصاص لشخص دون شخص، فالظاهر انّ مثل هذا يعدّ من نفقة الحجّ، و هو خارج عن موضوع البحث، و لعلّه إلى هذه الصورة يشير العلّامة في «التذكرة» بقوله: و لو يكون على الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 322

.......... المراصد من يطلب مالا لم يلزمه الحجّ. «1» و هو كما ترى.

و أمّا إذا اتّفق ذلك صدفة، فظهر العدو القاهر أمام الطريق، و منع من الحركة إلّا بدفع المال فيقع الكلام في وجوب الدفع و عدمه، أو التفصيل بين المال المضرّ و المجحف و غيرهما، أقول: هنا أقوال:

أ. عدم الوجوب، و به قال الشيخ في «الخلاف»، و فخر المحققين.

قال الشيخ: فإنّ لم يجد إلّا طريقا واحدا فيه عدوّ أو لصّ لا يقدر على رفعهم سقط فرض الحجّ، لأنّ التخلية لم تحصل، فإن لم يندفع العدو إلّا بمال يبذله أو

خفارة «2»، فهو غير واجد، لأنّ التخلية لم تحصل، فإن تحمل ذلك كان حسنا، فإن تطوع بالبذل عنه غيره لزمه، لأنّ التخلية حصلت. «3»

و قال فخر المحقّقين في «الإيضاح»: و الأقوى عندي أنّه لا يجب، فإنّه لا يجب دفع الظلم بالمال. «4»

ب. وجوب الدفع مع المكنة، و به قال المحقّق في «الشرائع»، و العلّامة في «المنتهى»، و الشهيد الثاني و الأردبيلي و صاحب الحدائق.

1. قال المحقّق: و لو كان في الطريق عدو لا يندفع إلّا بمال، قيل: يسقط و إن قل. و لو قيل: يجب التحمّل مع المكنة كان حسنا. «5»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 323

.......... 2. و قال الشهيد في «المسالك»: و الأولى الوجوب مع الإمكان لتحقّق الاستطاعة. «1»

3. و قال المحقّق الأردبيلي: لا يجب الحجّ للموانع المذكورة (المريض، المعضوب، و العدو الطالب للمال) لعدم صدق الاستطاعة التي هي شرط الوجوب و هو في الكلّ واضح. إلّا في بذل المال مع التمكّن، فالظاهر وجوبه حينئذ لصدق الاستطاعة. «2»

4. و قال صاحب الحدائق- بعد رد الوجوه التي استدلّ بها الشيخ على عدم الوجوب-: و بذلك يظهر أنّ الأظهر ما عليه جمهور أصحابنا المتأخرين من وجوب دفع المال مع المكنة.»

ج. التفصيل بين الإجحاف فلا يجب، و عدمه فيجب، و هو خيرة العلّامة في «التذكرة» و «المنتهى» و الشهيد في «الدروس».

قال العلّامة في «التذكرة» بعد نقل كلام الشيخ: و لو قيل بالوجوب مع إمكان الدفع من غير إجحاف، أمكن، لأنّه كأثمان الآلات. «4»

5. و قال أيضا في «المنتهى»: لو لم يندفع العدو إلّا بمال أو خفارة، قال الشيخ: لا يجب، لأنّه لم يحصل التخلية، و لو قيل: إن أمكن دفع المال من غير إجحاف و لا

ضرر و لا سقط كان حسنا، لأنّه كأثمان الآلات. «5»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 324

.......... و قال الشهيد: و لو احتاج إلى خفارة أو مال للعدوّ وجب مع المكنة ما لم يجحف. «1»

استدلّ الشيخ بوجوه ثلاثة:

1. انتفاء الشرط، و هو تخلية السرب.

2. انّ المأخوذ على هذا الوجه ظلم لا ينبغي الإعانة عليه.

3. انّ من خاف من أخذ المال قهرا، لا يجب عليه الحجّ و إن قلّ المال، و هذا في معناه.

يلاحظ على الأوّل: بمنع عدم تخلية السرب، بل السرب مخلّى بدفع المال المقدور بلا مشقة.

و يلاحظ على الثاني- مضافا إلى ظهور الآية في النهي عن التعاون الجماعيّ لغاية محرمة و لا تشمل العون من جانب واحد-: أنّ الدافع لا يقصد إلّا التوصل إلى فعل الواجب، و هذا نظير دفع مال إلى الظالم للتخلّص من قتله و الإضرار به.

و يلاحظ على الثالث: بالفرق بين دفع المال عن اختيار، و بين أخذ المال قهرا، و لو قيل بسقوط الوجوب في الثاني لا يكون دليلا على سقوطه في الأوّل، مضافا إلى أنّ السقوط في الثاني أيضا ممنوع إذا لم يكن مجحفا.

استدلّ للقول الثاني بحصول الاستطاعة و القدرة، فيشمله قوله سبحانه: مَنِ اسْتَطاعَ، و هذا أشبه بما إذا توقف الحجّ على اشتراء بعض الأجناس بأزيد من ثمن المثل.

[المسألة 68: لو توقف الحجّ على قتال العدو]

المسألة 68: لو توقف الحجّ على قتال العدو لم يجب حتّى مع ظن الغلبة عليه و السلامة و قد يقال بالوجوب في هذه الصورة. (1)*

كما استدلّ للقول الثالث بأنّ المال إذا عدّ ضررا في جنب ما ينفقه في طريق الحجّ، فهو يوجب سقوطه و إن كان قابلا للتحمّل لحكومة أدلّة لا ضرر على أحكام العناوين الأوّلية.

أو عدّ مجحفا خارجا عن

الطاقة فهو حرجي، يسقط معه الوجوب كذلك، و من المعلوم أنّ الإضرار و الإجحاف يختلف حسب اختلاف طاقات الناس.

و على كلّ تقدير فلو تحمل، و رفع المانع، يكون الحجّ واجبا، لوجود المقتضي، أعني: الاستطاعة، و رفع المانع، و هذا نظير ما لو قام الآخر بدفع المال وحده فيكون السرب مخلّى فيجب الحجّ.

(1)* في المسألة قولان:

1. سقوط الحجّ، و هو الظاهر من «المبسوط» و «الشرائع».

قال الشيخ: إن كان العدو مسلما، كالأعراب و أهل البادية فالأولى أن يتركوا قتالهم و ينصرفوا إلّا أن يدعوهم الإمام أو من نصبه الإمام إلى قتالهم؛ و إن كان العدو مشركا، لم يجب على الحاج قتالهم، لأنّ قتال المشركين لا يجب إلّا بإذن الإمام أو الدفع عن النفس و الإسلام، و ليس هاهنا واحد منهما. «1»

و قال المحقّق: لو لم يندفع العدو إلّا بالقتال، لم يجب، سواء غلب على الظن السلامة أو العطب. «2»

و قال العلّامة في «القواعد»: و لو افتقر إلى القتال، فالأقرب السقوط مع ظن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 326

.......... السلامة، و قد فسر فخر المحقّقين قول والده «ظن السلامة» بالعلم العادي الذي لا يعدّ العقلاء نقيضه من المخوفات كإمكان سقوط جدار سليم قعد تحته. «1»

2. عدم سقوطه إذا لم يلحقه ضرر و لا خوف. و هو خيرة العلّامة في «المنتهى» و «التحرير» و احتمله في «التذكرة».

1. قال في «المنتهى»: لو كان في الطريق عدو أمكن محاربته بحيث لا يلحقه ضرر و لا خوف، فهو مستطيع؛ و إن خاف على نفسه أو ماله من قتل أو جرح، لم يجب. «2»

2. و قال في «التحرير»: و لو كان في الطريق عدوّ و أمكن محاربته بحيث لا يلحقه خوف و

لا ضرر، فهو مستطيع. «3»

3. و قال في «التذكرة»: و لو تمكّن من محاربتهم، بحيث لا يلحقه ضرر و لا خوف فهو مستطيع؛ و يحتمل عدم الوجوب، لأنّ تحصيل الشرط ليس بواجب. «4»

و الظاهر أنّ الملاك هو صدق تخلية السرب و عدمها، فلو كان دفعه أمرا سهلا، غير مقرون بالخوف على النفس و المال، فيجب دفعه.

و أمّا لو كان دفعه أمرا غير سهل و إن كان مأمونا من الضرر، فلا يجب، لعدم صدق تخلية السرب، و منه يظهر النظر في كلام العلّامة في المنتهى و التحرير، إذ الظاهر أنّ كلامه في إيجاب الدفع إلى الصورة الثانية، أي ما إذا كان دفعه غير سهل، و إن كان مقرونا مع الأمن من الضرر على النفس و النفيس.

و إذا لم يجب في هذه الصورة فأولى أن لا يجب الدفع، إذا لم يكن مقرونا مع ظن السلامة.

[المسألة 69: لو انحصر الطريق في البحر وجب ركوبه

المسألة 69: لو انحصر الطريق في البحر وجب ركوبه، إلّا مع خوف الغرق أو المرض خوفا عقلائيا.

أو استلزامه الإخلال بصلاته، أو إيجابه لأكل النجس أو شربه، و لو حجّ مع هذا صحّ حجّه، لأنّ ذلك في المقدمة و هي المشي إلى الميقات، كما إذا ركب دابة غصبية إلى الميقات. (1)*

(1)* في المسألة فروع:

1. وجوب ركوب البحر إذا انحصر الطريق فيه إلّا إذا خاف من الغرق و المرض.

2. إلّا إذا استلزم الإخلال بصلاته أو أكل النجس أو شربه.

3. إذا حجّ و الحال هذه، فهل يجزي أو لا؟

أمّا الفرع الأوّل- أعني: وجوب ركوب البحر- ففيه أقوال ثلاثة:

1. يجب مع ظن السلامة، اختاره المحقّق في «الشرائع»، و العلّامة في «المنتهى».

قال المحقّق: و طريق البحر كطريق البرّ، فإن غلب ظن السلامة و إلّا سقط. «1»

و قال

العلّامة: طريق البحر كطريق البرّ، فلو غلب على ظنه السلامة، وجب عليه سلوكها- إلى أن قال:- و لو غلب على ظنه العطب أو خاف منه، سقط. «2» و العطب ضد السلامة من القتل و الجرح و المرض.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 328

.......... و لا يخفى ما في صدر كلامه و ذيله من التهافت، إذ لو كان الملاك ظن السلامة، فلو تساوى الأمران لم يجب ركوبه، بخلاف ما لو كان الميزان في السقوط ظن العطب و الخوف منه، فلو تساوى الأمران يجب لعدم الظن به. اللّهمّ إلّا أن يقال يكفي عندئذ في السقوط وجود الخوف.

2. كفاية مجرد عدم ترجيح العطب، و هو خيرة صاحب المسالك «1»، و استحسنه سبطه في المدارك. «2» و تظهر الثمرة بين القولين في صورة التساوي، فلا يجب على الملاك الأوّل، إذ لا ظن بالسلامة، و يجب على الثاني، إذ لا ظن بالعطب.

3. يجب إلّا مع خوف الغرق أو المرض، و هو خيرة المصنف و المعاصرين، أخذا بما عليه الفقهاء من حرمة سلوك الطريق المخطور، و لا يرتفع الخوف إلّا مع الاطمئنان بالسلامة، و لو أراد المحقّق و العلّامة من الظن، الاطمئنان يرجع القول الثالث إلى القول الأوّل.

أمّا الفرع الثاني سقوط وجوب الحجّ إذا استلزم الإخلال بصلاته أو إيجابه لأكل النجس أو شربه أو عدم سقوطه، فقد أفتى المصنف بسقوط وجوبه، لما مرّ في المسألة السادسة و الستين من كون وجوب الحجّ مشروطا بعدم استلزامه ترك الواجب أو ارتكاب الحرام.

و لكنك عرفت أنّ الحجّ مشروط بالاستطاعة الحاصلة بالأمور الستة، و ليس عدم الاستلزام من أجزاء الاستطاعة، بل هو شرط عقلي في عامة الموارد، و عندئذ

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 329

..........

فهناك وجوبان فعليان: الحجّ، و الصلاة، فالحكم الفعلي يكون تابعا للأهم من الواجبين، أو الأهم من فعل الواجب أو ترك الحرام، فلو أحرز فلا يجب، و إلّا يجب تمسكا بإطلاق قوله: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، و تقديم الأهم ليس من باب التخصيص حتّى يكون العام من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، بل من قبيل التزاحم.

أمّا الفرع الثالث، فلو قلنا بأنّ المورد من قبيل المتزاحمين، و أنّ ملاك الحجّ أقوى من ترك الواجب أو ارتكاب الحرام فهو يجزي بلا شك.

إنّما الكلام في مختار المصنّف حيث قال بالإجزاء خلافا لما ذكره في المسألة السادسة و الستين، حيث أفتى هناك بعدم الإجزاء اللّهمّ إلّا أن يفرق بين المسألتين بأنّ الملازمة كانت هناك بين المناسك و ترك الواجب أو فعل الحرام، بخلاف المقام فانّ الملازمة بين المشي إلى الحجّ و ترك الواجب، و إليك نصّ عبارته:

لأنّ ذلك في المقدّمة، و هي المشي إلى الميقات، كما إذا ركب دابة غصبية إلى الميقات، فلاحظ.

[المسألة 70: إذا استقر عليه الحجّ، و كان عليه خمس أو زكاة أو غيرهما من الحقوق الواجبة]

المسألة 70: إذا استقر عليه الحجّ، و كان عليه خمس أو زكاة أو غيرهما من الحقوق الواجبة وجب عليه أداؤها، و لا يجوز له المشي إلى الحجّ قبلها.

و لو تركها عصى، و أمّا حجّه فصحيح إذا كانت الحقوق في ذمّته لا في عين ماله. و كذا إذا كانت في عين ماله و لكن كان ما يصرفه في مؤنته من المال الذي لا يكون فيه خمس أو زكاة أو غيرهما، أو كان ممّا تعلق به الحقوق و لكن كان ثوب إحرامه، و طوافه، و سعيه، و ثمن هديه من المال الذي ليس فيه حق، بل و كذا إذا كانا ممّا تعلّق به الحقّ من الخمس و الزكاة،

إلّا أنّه بقي عنده مقدار ما فيه منهما، بناء على ما هو الأقوى، من كونهما في العين على نحو الكلي في المعين، لا على وجه الإشاعة. (1)*

(1)* في المسألة فروع خمسة، فالأوّل لبيان الحكم التكليفي من جواز السفر إلى الحجّ و عدمه، و البقية ترجع إلى بيان حكم الحجّ من حيث الحكم الوضعي صحّة و فسادا.

1. إذا استقرّ عليه الحجّ و كان عليه حقوق واجبة وجب أداؤها، و لا يجوز له المشي إلى الحجّ.

2. إذا كانت الحقوق في الذمة و حجّ.

3. إذا كانت الحقوق في عين ماله و حجّ، و لكن كان ما يصرفه في مؤونة الحجّ من المال المخمّس أو المزكّى.

4. إذا كانت الحقوق في عين ماله و حجّ، و كان ما يصرفه في الحجّ مما تعلّق به الحقوق، و لكن كان ثوب إحرامه و طوافه و سعيه و ثمن هديه من المال الذي ليس فيه حق، صحّ حجّه.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 331

.......... 5. إذا كانت الحقوق في عين ماله و حجّ و لكن يبقى من المال مقدار يفي بالحقوق، صحّ الحجّ بناء على تعلّق الخمس و الزكاة بالعين على نحو الكلي في المعين.

حكم الفروع واضح و لكن لابدّ من التنبيه على نكات:

1. أمّا وجوب تقديم أداء الحقوق، لأنّ وجوب الحجّ مشروط بعدم المانع الشرعي- كما مرّ- و بما أنّ المقام من قبيل المتزاحمين، فيقدّم الأقوى ملاكا، و هو حقوق الناس.

2. انّ الظاهر من المصنّف أنّه إذا أخّر أداء الحقوق و مشى إلى الحجّ، عصى بالمشي، و الصحيح أن يقول: عصى بتأخير الأداء، لا بالمشي، لما تقدّم منه من أنّ الأمر بالشي ء لأداء الحقوق لا يقتضي النهي عن ضدّه، أعني: المشي.

3. إذا

اشترى ثوب الإحرام من غير المخمس، لا يبطل إحرامه، لأنّ الإحرام أمر قائم بالقلب و لبس الثوبين واجب آخر، و لذا يتحقّق الإحرام عاريا- و سيوافيك تفصيله-.

نعم يبطل السعي إذا كان الثوب حراما، لأنّ الثوب و إن كان غير معتبر في السعي، لكن لما كان السعي أمرا قربيّا، و هو متحد مع التصرف في الحرام، لا يتمشّى مع القربة.

و أوضح منه ثوب الطواف، للزوم الستر فيه كالصلاة، فيكون نظير الصلاة في الثوب المغصوب فيبطل، و إن قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهي، لعدم تمشّي القربة عندئذ.

و أمّا ثمن الهدي، فقد مرّ في المسألة الستين، التفريق بين اشترائه بعين الثمن و اشترائه في الذمة و الوفاء من المغصوب.

[المسألة 71: يجب الحجّ على المستطيع مباشرة]

المسألة 71: يجب الحجّ على المستطيع مباشرة، فلا يكفيه حجّ غيره عنه- تبرّعا أو بالإجارة- إذا كان متمكنا من المباشرة بنفسه.* (1)

[المسألة 72: إذا استقر الحجّ عليه و لم يتمكّن من المباشرة لمرض

اشارة

المسألة 72: إذا استقر الحجّ عليه و لم يتمكّن من المباشرة لمرض- لم يرج زواله أو حصر كذلك أو هرم بحيث لا يقدر، أو كان حرجا عليه- فالمشهور وجوب الاستنابة عليه، بل ربما يقال: بعدم الخلاف فيه و هو الأقوى، و إن كان ربما يقال بعدم الوجوب، و ذلك لظهور جملة من الأخبار في الوجوب. (2)*

(1)* لظهور الأمر بالعبادات في إتيانها مباشرة، و كفاية التسبيب رهن وجود دليل، و المسألة من الوضوح بمكان و إنّما ذكرها مقدّمة للمسائل الآتية.

(2)* في المسألة فروع ربما تناهز سبعة عشر فرعا، و إليك رؤوسها:

1. إذا استقرّ عليه الحجّ و لم يتمكن من المباشرة لمرض لم يرج زواله تجب الاستنابة.

2. إذا طرأ المانع قبل استقرار الوجوب، فهل تجب الاستنابة أو لا؟

3. اختصاص وجوب الاستنابة باليأس عن زوال العذر.

4. الاستنابة- عند ما تجب- تجب فورا.

5. إجزاء الحجّ النيابي إذا مات المنوب عنه مع العذر.

6. إذا استناب مع اليأس عن زواله ثمّ عاد التمكن، فهل يجزي أو لا؟

7. إذا استناب مع الشرائط و ارتفع العذر أثناء العمل، فهل يجب على النائب الإتمام، و يجزي عن المنوب عنه أو لا؟

[الفرع الأول إذا استقرّ عليه الحجّ ثمّ طرأ المانع

.......... 8. تلك الصورة و زال العذر و النائب في الطريق و لم يحرم بعد.

9. إذا لم يكن العذر طارئا، بل كان خلقة، فهل تجب الاستنابة؟

10. هل يختص وجوب الاستنابة بحجّة الإسلام، أو يجري في الحجّ الإفسادي و النذري؟

11. إذا لم يتمكّن من الاستنابة لعدم وجود النائب أو عدم رضاه إلّا بأزيد من أجرة المثل و لم يتمكن من الزيادة، أو تمكن و لكن كانت مجحفة.

12. إذا مات و الحال هذه ثمّ وجد النائب بأجرة المثل، فهل تجب الاستنابة مطلقا، أو تختص بمن

استقرّ عليه الحجّ؟

13. إذا ترك الرجل الاستنابة مع الإمكان و مات و كان عاصيا، وجب القضاء، فهل هنا فرق في وجوب القضاء بين من استقر عليه الحجّ و غيره؟

14. لو استناب مع كون العذر مرجو الزوال، ثمّ زال العذر، فلا يجزي عن حجّة الإسلام.

15. لو استناب مع رجاء الزوال و حصل اليأس بعد عمل النائب.

16. هل يكفي حجّ المتبرع عند وجوب الاستنابة؟

17. كفاية الاستنابة من الميقات و عدمها.

و إليك دراسة الفروع واحدا بعد الآخر.

الأوّل: إذا استقرّ عليه الحجّ ثمّ طرأ المانع إذا استقرّ عليه الحجّ- كما إذا وجب عليه الحجّ ثمّ أهمل- فطرأ المانع، ربما يقال وجبت الاستنابة قولا واحدا.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 334

.......... و ممّن ادّعى عليه الإجماع: الشهيد في «المسالك» «1»، و الأردبيلي في «مجمع الفائدة» «2» و سبط الشهيد في «المدارك» «3».

قال في «المسالك»: أمّا لو استقرّ ثمّ عرض له المانع وجبت الاستنابة قولا واحدا. و مثله سبطه في «المدارك».

و قال الأردبيلي بعد عنوان المسألة: و الظاهر عدم الخلاف فيه.

و مع ذلك الظاهر من «الشرائع» التردد، حيث نقل القولين و لم يرجح أحد القولين لو لم تكن عبارته ناظرة إلى الصورة الثانية كما هو أحد الاحتمالين.

و حكى المحدّث البحراني التخيير من صاحب الذخيرة. «4»

و استقرب النراقي عدم الوجوب، و قال: فليس في المسألة مظنة إجماع، بل و لا علم بشهرة، و حيث كانت كذلك و لم يكن دليل تام على الوجوب، فالأقرب إذن ما يقتضيه الأصل، و هو عدم الوجوب و إن استحب. «5»

و مع ذلك فليس في كلمات المتقدّمين من التفصيل بين الصورتين:- من استقر عليه الحجّ ثمّ طرأ المانع، و من لم يستقرّ عليه، و طرأ المانع في

نفس سنة الاستطاعة- أيّ أثر، و لعلهم لم يفرقوا بين الصورتين.

و سيوافيك بعض كلماتهم في الصورة الثانية، و أوضح دليل على الوجوب في هذه الصورة، هو أمر الإمام بالاستنابة.

روى الكليني و الشيخ بطرق صحيحة و غير صحيحة، عن أبي جعفر و أبي الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 335

.......... عبد اللّه عليهما السّلام أنّ عليا أمر شيخا لم يطق الحجّ بالاستنابة. و الظاهر انّها قضية واحدة نقلت بصور مختلفة، جلّها لو لم نقل كلّها ظاهرة في من استقر عليه الحجّ، نظير:

1. روى الشيخ في «التهذيب» بسند صحيح عن سلمة [بن أبي حفص، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ رجلا أتى عليا عليه السّلام و لم يحجّ قط، فقال: إنّي كنت كثير المال و فرّطت في الحجّ حتّى كبرت سني؟ فقال: فتستطيع الحجّ؟ فقال: لا، فقال له علي عليه السّلام: إن شئت فجهّز رجلا ثمّ ابعثه يحجّ عنك. «1»

و السند ضعيف، بسلمة حيث لم يوثّق، و الرواية صريحة فيمن استقرّ عليه الحجّ.

2. روى الكليني بسند صحيح عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليه- أمر شيخا كبيرا لم يحجّ قط و لم يطق الحجّ لكبره أن يجهّز رجلا يحجّ عنه». «2»

3. روى الشيخ بسند صحيح عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ عليّا عليه السّلام رأى شيخا لم يحجّ قط، و لم يطق الحجّ من كبره، فأمره أن يجهّز رجلا فيحج عنه». «3»

4. روى الكليني عن عبد اللّه بن ميمون، عن أبي جعفر، عن أبيه عليهما السّلام:

أنّ عليّا قال: لرجل كبير لم يحجّ قط: إن شئت أن تجهّز رجلا

ثمّ ابعثه يحجّ الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 336

.......... عنك». «1» و في السند جعفر بن محمد الأشعري، و هو مردد بين أناس.

و لا يخفى ظهور عامة الصور فيمن استقرّ، دون أن يعمّ الصورة الثانية- أي من استطاع- و ترافقت الاستطاعة مع المانع، و الذي يدلّ على الاختصاص ورود لفظة «قط» فيها جميعا، إذ لولا ذلك لما كان له وجه، و هو يشير إلى أنّه لم يحجّ طيلة عمره حتّى يفرغ ذمّته و قد كبر، و هو ظاهر في أنّه كان مستطيعا، و لم يحجّ طيلة حياته، ليبري ذمته، و الظاهر انّ المجموع قضية واحدة.

و الاختلاف في الزيادة و النقيصة نتيجة النقل بالمعنى.

و على كلّ تقدير فالصحيحتان ظاهرتان في الوجوب حيث قال: «أمر شيخا كبيرا» في صحيح عبد اللّه بن سنان، و قال: «فأمره أن يجهّز رجلا» في صحيح معاوية بن عمّار، و الآخر ظاهر في الوجوب.

و ربما يستشكل على الاستدلال بوجهين:

1. انّ الروايات ظاهرة في الاستحباب حيث إنّ الإمام علّق البعث بمشية الرجل و قال: «إن شئت أن تجهز رجلا» في خبر عبد اللّه بن ميمون القداح، و قال:

«إن شئت فجهّز رجلا» في خبر سلمة، و هو آية الاستحباب، فتحمل الصحيحتان عليه أيضا.

يلاحظ عليه أوّلا: أنّ متعلّق المشية هو إفراغ الذمّة أي: «إن شئت إبراء ذمتك، هذا هو الطريق» فلا ينافي الوجوب، و هذا النوع من الكلام دارج بين أهل اللسان.

ثانيا: إذا دار الأمر بين الأخذ بالصحيحين، و الأخذ بالخبرين حيث اختلفا

[الفرع الثاني إذا تزامنت الاستطاعة مع المانع

و أمّا إن كان مؤسرا من حيث المال و لم يتمكّن من المباشرة مع عدم استقراره عليه ففي وجوب الاستنابة و عدمه قولان، لا يخلو أوّلهما عن قوّة لإطلاق الأخبار المشار

إليها. (1)*

في نقل الواقعة الواحدة، فالأخذ بالأوّلين متعيّن.

2. انّ الروايات خصّت الرجل بالنيابة مع أنّه يجوز نيابة المرأة عن الرجل.

يلاحظ عليه: بأنّه لا مفهوم للّقب، مضافا إلى أنّ القيد وارد مورد الغالب.

و أمّا تردد المحقّق في «الشرائع» و العلّامة في «الإرشاد» فيرجع إلى الصورة الثانية، لا الأولى.

و بالجملة التردد في هذه الصورة ليس في محله، كيف و لو مات و الحال هذه يجب إخراج نفقة الحجّ من صلب ماله كالدين و استنابة رجل ليحجّ عنه، فوجوبه في حال الحياة أولى خصوصا عند اليأس.

و لعلّ سبب ترديد المتأخرين، هو الاستدلال بالروايات الراجعة إلى الصورة الثانية، فإنّ الحكم فيها بالوجوب ليس في الوضوح مثل هذه الصورة، و لأجل ذلك اقتصرنا في الاستدلال على الصورة الأولى بما روي عن عليّ عليه السّلام.

(1)* الثاني: إذا تزامنت الاستطاعة مع المانع إذا حصلت الاستطاعة و رافقها عروض المانع من مرض و نحوه من الأعذار، فهل تجب الاستنابة أو لا؟

ظاهر الشيخ و أبي الصلاح و ابن البراج هو الوجوب، و حكاه العلّامة في «المختلف» عن ابن أبي عقيل و ابن الجنيد.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 338

.......... و إليك كلمات فقهائنا في المسألة، مثبتا و نافيا:

1. قال الشيخ في «النهاية»: فإن حصلت الاستطاعة و منعه من الخروج مانع من سلطان أو عدو أو مرض و لم يتمكّن من الخروج بنفسه، كان عليه أن يخرج رجلا يحجّ عنه. «1»

2. و قال في «الخلاف»: الذي لا يستطيع الحجّ بنفسه و آيس من ذلك إمّا بأن لا يقدر على الكون على الراحلة، أو يكون به سبب لا يرجى زواله، و هو العضب و الضعف الشديد من الكبر، أو ضعف الخلقة بأن يكون ضعيف الخلقة في

بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب، يلزمه فرض الحجّ من ماله بأن يكتري من يحجّ عنه، فإن فعل ذلك سقط الفرض. و به قال في الصحابة: علي عليه السّلام، و في الفقهاء: الثوري و أبو حنيفة و أصحابه و ابن المبارك و الشافعي و أحمد و إسحاق.

و قال مالك: فرض الحجّ لا يتوجه على من لا يقدر عليه بنفسه، فإن كان معضوبا لم يجب عليه الحجّ، و لا يجوز أن يكتري من يحجّ عنه، فإن أوصى أن يحجّ عنه، حجّ من الثلث. «2»

3. و قال أبو الصلاح: و من تعلّق عليه التمكّن بالسعة في المال فمنعه مانع، فليخرج عنه نائبا يدفع إليه من ماله ما يكفيه. «3»

4. و قال ابن البراج: إذا وجب الحجّ على المكلف و منعه من الخروج لأدائه مانع- من سلطان أو مرض أو عدو- على وجه لا يمكنه معه الخروج لذلك بنفسه، كان عليه إخراج نائب عنه، فإذا ارتفع المانع وجب عليه الحجّ بنفسه، فإن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 339

.......... لم يرتفع ذلك المانع حتّى مات كانت حجّة النيابة مجزية عنه. «1»

5. و قد نقله العلّامة في «المختلف» عن ابن أبي عقيل و ابن الجنيد أيضا. «2»

6. و قال العلّامة في «التحرير»: و لو كان المرض لا يرجى برؤه، أو كان العذر لا يزول، كالإقعاد و ضعف البدن خلقة و كبر السن، وجب أن يحجّ عنه رجل مع الاستطاعة، فإن مات سقط عنه فرض الحجّ، و لو زال عذره وجب الحجّ. «3»

و مع ذلك يظهر من المفيد و الحلي و ابن سعيد و العلّامة في «المختلف» و فخر المحقّقين و الأردبيلي عدم الوجوب.

1. قال في «المقنعة»: و من

وجب عليه الحجّ فمنعه منه مانع، فلا بأس أن يخرج عنه من يحجّ عنه؛ فإن تمكّن هو بنفسه بعد ذلك من الحجّ، فالواجب أن يحجّ. «4»

2. قال ابن إدريس: و إذا حصلت الاستطاعة و منعه من الخروج مانع من سلطان أو عدو أو مرض و لم يتمكّن من الخروج بنفسه، كان عليه أن يخرج رجلا يحجّ عنه- إلى أن قال:- ذكر هذا ... شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته، و هذا غير واضح، لأنّه إذا منع فما حصلت له الاستطاعة التي هي القدرة على الحجّ، و لا يجب عليه أن يخرج رجلا يحجّ عنه. «5»

3. و قال ابن سعيد: و من كان مريضا أو منعه ذو سلطان أو عدو من الحجّ، استحب له أن يحجّ عنه غيره، فإذا زال المنع وجب عليه بنفسه. «6»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 340

.......... 4. و قال العلّامة في «المختلف»: قال الشيخ في النهاية- ثمّ نقل عبارة الشيخ منها- و قال: و منع ابن إدريس من ذلك، و هو الأقرب. لنا: الأصل براءة الذمة، و لأنّ الاستطاعة شرط و هي مفقودة هنا، فيسقط الوجوب قضية للشرط.»

5. و قال في القواعد: و لو لم يستمسك خلقة لم يجب الاستنابة على رأي.

6. و قال الفخر في إيضاح الفوائد في شرح القواعد: و الأصل في هذه المسائل انّ الحجّ فرض يتعلّق بالبدن و المال، و الاستطاعة في الثاني شرط في وجوبه على البدن إجماعا من المسلمين، و قد فسّر الفقهاء معنى الاستطاعة فيه؛ و أمّا الاستطاعة في الأوّل فشرط في وجوبه في المال أيضا عندنا، لقوله تعالى: مَنِ اسْتَطاعَ؛ و قيل: ليس بشرط فتجب الاستنابة، لخبر أمر عليّ عليه السّلام الشيخ بها.

«2»

و يظهر من المحقّق التردد، حيث نقل القولين و لم يرجح واحدا منهما. «3»

و استظهر المحقّق الأردبيلي عدم الوجوب قال: أمّا لو لم يسبقه الوجوب، بل استطاع في وقت المنع و عدم القدرة، فالظاهر عدم وجوب الاستيجار. «4»

و لا يخفى انّ مقتضى القواعد هو عدم الوجوب لعدم الاستطاعة البدنية أو السربية أو غير ذلك، و لكن لو دلّ دليل على وجوب الاستنابة، يستكشف به أنّ الصحة و عدم العدو، شرط للحجّ البدني لا الحجّ النيابي أو المالي، و من حسن الحظّ وجود روايات هي بين صحيحة و غير صحيحة دالة على لزوم الاستنابة كالمسألة السابقة.

1. صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث- قال: «و إن كان موسرا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 341

.......... و حال بينه و بين الحجّ مرض أو حصر أو أمر يعذره اللّه فيه، فإنّ عليه أن يحجّ عنه من ماله صرورة لا مال له». «1»

و ربما يقال: إنّ الرواية مشتملة على ما لم يقل به أحد، و هو لزوم كون النائب صرورة، مع أنّها و غيرها في أمر النيابة سواء.

يلاحظ عليه: أنّ الغاية من ذكر «صرورة» هو عدم اشتغال ذمّته بالحجّ لنفسه، و الغالب في الصرورة، هو ذلك، و لأجل التأكيد لم يقتصر بها، بل أضاف قوله: «لا مال له».

2. صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان علي عليه السّلام يقول:

لو أنّ رجلا أراد الحجّ فعرض له مرض أو خالطه سقم فلم يستطع الخروج، فليجهّز رجلا من ماله ثم ليبعثه مكانه». 2

3. خبر علي بن أبي حمزة قال: سألته عن رجل مسلم حال بينه و بين الحجّ مرض أو أمر يعذره اللّه فيه؟ فقال:

«عليه أن يحجّ من ماله صرورة لا مال له». 3

4. روى الشيخ المفيد في «المقنعة» عن الفضل بن العباس قال: أتت امرأة من خثعم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فقالت: إنّ أبي أدركته فريضة الحجّ و هو شيخ كبير لا يستطيع أن يلبث على دابته؟ فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فحجي عن أبيك». 4

و استدل العلّامة في «المختلف» «5» على عدم الوجوب بصحيحة محمد بن يحيى الخثعمي حيث إنّ الإمام فسر الاستطاعة فيها بصحّة البدن و تخلية السرب، فدلّ بمفهومه على أنّ فاقد الصحة ليس بمستطيع. «6»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 342

.......... يلاحظ عليه: بأنّه لو قلنا بأنّ الصحة و عدم المنع شرط للحجّ البدني، لا المالي يرتفع التنافي بين الرواية و سائرها، و يدل عليه ما قدّمناه من الروايات.

و ربما يورد على الاستدلال بها بوجوه: 1. النصوص، منصرفة إلى خصوص من كان مستطيعا قبل العذر.

يلاحظ عليه: أنّه خلاف ظاهر كلام الإمام في صحيحة الحلبي: «و إن كان موسرا و حال بينه و بين الحجّ مرض ...»، فانّ الظاهر انّ اليسار كان مقرونا بالمانع فلو كان مورد كلامه من كان مستطيعا قبل العذر لم يترك ذكره الإمام.

و مثله صحيحة محمد بن مسلم: «لو انّ رجلا أراد الحجّ فعرض له مرض أو خالطه سقم»، فانّ التعبير بالفاء مكان «ثمّ» دالّ على عدم الفصل بين الأمرين.

2. انّ إيجاب الحجّ عليه ينافي ما دلّ على اعتبار صحّة البدن، و إمكان المسير في الاستطاعة، فالجمع يتحقّق بأحد وجهين:

أ. حمل ما دلّ على شرطية الصحّة و تخلية السرب على الحجّ البدني و الوجوب المباشري.

ب. تقييد موضوع الروايات، لمن كان

مستطيعا و حملها على الصورة الأولى.

و الأوّل بعيد، لأنّ الصحّة ذكرت في النصوص في سياق الزاد و الراحلة اللّذين هما شرط الاستطاعة مطلقا في المباشري و النيابي، فتكون صحّة البدن كذلك، أي شرطا مطلقا في المباشري و النيابي.

يلاحظ عليه: أنّ مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي كون الزاد و الراحلة قيدا للوجوب على وجه الإطلاق، إذ لولاهما يصبح الحجّ غير ممكن لا مباشرة و لا بالنيابة، و كون الصحّة قيدا للوجوب المباشري، لا قيدا للوجوب المطلق، حتّى الاستنابة و مثله تخلية السرب، لأنّ المفروض انّه غير مخلّى بالنسبة إلى المنوب عنه، لا

[الفرع الثالث: اختصاص الوجوب بصورة اليأس

و هي و إن كانت مطلقة من حيث رجاء الزوال و عدمه لكنّ المنساق من بعضها ذلك، مضافا إلى ظهور الإجماع على عدم الوجوب. مع رجاء الزوال. (1)*

النائب، و من هنا يعلم أنّ الدليل في المسألة ليس إطلاق الروايات كما عليه المصنّف، بل ظهور الروايات في الصورة الثانية و ظهورها في المورد.

و الحاصل: انّ الزاد و الراحلة و صحّة البدن و تخلية السرب كلّها من مقوّمات الاستطاعة، لكن الأوّلين شرط الوجوب المطلق، و الأخيرين شرط الوجوب المباشري و لذلك اقتصر في بعض الروايات في تفسير الاستطاعة بما يحجّ به. «1» و ما هذا إلّا لأنّ الاستطاعة شرط لأصل الوجوب، بخلاف الصحّة و تخلية السرب فهو شرط للوجوب على النحو المباشري، و من هنا يعلم ضعف ما في بعض الحواشي حيث استدلّ بعطف الصحة على الزاد و الراحلة في بعض الروايات قائلا بأنّ الصحّة شرط الوجوب، و مع عدمها لا وجوب حتّى يستنيب.

(1)* الفرع الثالث: اختصاص الوجوب بصورة اليأس يقع الكلام تارة فيمن استقرّ عليه الحجّ، و أخرى فيمن استطاع و طرأ العذر، أمّا الأوّل،

فلا ريب أنّ نصوصه مختصة بالعاجز، ففي صحيحة معاوية بن عمار:

«و لم يطق الحج من كبره»، و مثله صحيحة عبد اللّه بن سنان، و صريح خبر سلمة بن أبي حفص حيث سأل الإمام- بعد ما قال الرجل «حتى كبرت سنّي» بقوله:

فتسطيع، الخ فقال: لا، و على ذلك لا تعم الروايات صورة رجاء البر.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 344

.......... و أمّا الثاني: فالظاهر من «المنتهى» و «الدروس» و «المدارك» اختصاص الحكم باليأس عن البرء أمّا بدعوى ظهور الأخبار في اليأس، أو للتمسك بمقتضى الأصل السالم من معارضة الأخبار.

1. قال في «المنتهى»: إنّ الاستنابة هنا ليست واجبة بالإجماع، لأنّه غير مأيوس في حجّه بنفسه، فلا يجب عليه الاستنابة إذا ثبت هذا. «1»

2. و قال في «الدروس»: و لو حجّ عن المعضوب فبرأ حجّ ثانيا، فلو مات استؤجر عنه من ماله، و الأقرب أنّ وجوب الاستنابة فوري إن يئس عن البرء و إلّا استحبّ الفور. «2»

3. و قال في «المدارك»: تأييدا لقول العلامة في «المنتهى»: إذا لمتبادر منها تعلّق الوجوب بمن حصل له اليأس من زوال المانع، و التفاتا إلى أنّه لو وجبت الاستنابة مع المرض مطلقا، لم يتحقّق اعتبار التمكّن في المسير في حقّ أحد من المكلّفين. «3»

نعم ذهب المحدّث البحراني إلى الجواز في كلا الصورتين و قال: و ظاهر إطلاق الأخبار هو وجوب الاستنابة مطلقا، سواء كان المرض و العذر مرجو الزوال أم لا، و ظاهر الأصحاب الاتفاق- كما نقله في المنتهى- على أنّه لو رجا البرء لم تجب الاستنابة، فيختص وجوب الاستنابة عندهم بالمرض الغير المرجو الزوال، و أمّا ما كان مرجو الزوال فقالوا فيه بالاستحباب- إلى أن قال:- لا يخفى أنّ إطلاق أكثر

الأخبار المتقدّمة ظاهر في مطلق المرض مأيوسا من برئه أم لا، ...

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 345

.......... و بالجملة فإنّي لا أعرف لهم (للأصحاب) حجّة واضحة. «1»

و مع أنّ المصنّف قال بإطلاق الروايات لكن أضاف بأنّ المنساق من بعضها ذلك (اليأس من الزوال) مضافا إلى الإجماع على عدم الوجوب مع رجاء الزوال.

و قد مرّ نقل الإجماع عن العلّامة في «المنتهى» و العمدة هو استظهار اليأس من الزوال من الروايات، أعني: ما عبر عنه المصنف بأنّه المنساق.

و القضاء الحاسم رهن دراسة الروايات فنقول: لا شكّ انّ اليأس و الرجاء ليسا مأخوذين في لسان الدليل و إنّما الموضوع هو العذر المستمر، أو الأعمّ منه و من غيره، نعم ربما يكون اليأس أمارة على استمرار العذر، أو الرجاء بالزوال على عدم استمراره، و مع ذلك فالموضوع إمّا العذر المستمر إلى آخر العمر، أو الأعم.

و على كلّ تقدير الروايات مطلقة تعمّ الصورتين.

ففي صحيح الحلبي و إن كان موسرا و حال بينه و بين الحجّ مرض أو حصر، أو أمر يعذره اللّه فيه، قال: «عليه أن يحجّ عنه من ماله صرورة لا مال له».

و في صحيح محمد بن مسلم ... كان عليّ يقول: «لو أنّ رجلا أراد الحجّ فعرض له مرض أو خالطه سقم فلم يستطع الخروج فليجهّز رجلا من ماله».

و في خبر علي بن أبي حمزة سألته عن رجل مسلم حال بينه و بين الحجّ مرض أو أمر يعذره اللّه فيه؟ فقال: «عليه أن يحجّ من ماله صرورة لا مال له».

و الروايات المذكورة مطلقة تعمّ العذر المستمر و غيره، و مع ذلك يمكن منع الإطلاق بوجوه:

[الفرع الرابع: الاستنابة واجب فوري

و الظاهر فوريّة الوجوب كما في صورة المباشرة. (1)*

1. مقتضى إطلاق رواية

الحلبي: «و إن كان موسرا و حال بينه و بين الحجّ مرض أو حصر أو أمر يعذّره اللّه فيه أن يحجّ عنه من ماله صرورة لا مال له» وجوب الاستنابة في نفس السنة التي استطاع و طرأ عليه العذر حتّى مع العلم بزوال العذر في السنة الآتية، و هذا ممّا لا يلتزم به فقيه.

2. ما ذكره السيد الحكيم: انّ مناسبة الحكم و الموضوع و الارتكاز العقلائي في باب الضرورات يقتضي حمله على الاضطرار إلى ترك الواجب بجميع أفراده التدريجية فيختص بالعذر المستمر و بما انّه لا طريق لكشف الواقع، جعل اليأس من البرء طريقا إلى الموضوع، كما جعل الرجاء بالبرء، طريقا إلى عدمه.

3. انّ اختصاص الحكم بالعذر المستمر، مقتضى الأولوية، حيث إنّه شرط في الحجّ المستقر، و في غيره يكون شرطا بطريق أولى.

كلّ ذلك يمنع عن انعقاد الإطلاق من الروايات أو يوجب انصرافه إلى العذر المستمر.

(1)* الفرع الرابع: الاستنابة واجب فوري إذا وجبت الاستنابة فهل هي واجب فوري أو لا؟ مقتضى تنزيل عمل النائب منزلة عمل المنوب عنه هو كون وجوبه فوريا، و قد مرّ سابقا انّ الحجّ واجب فوري و انّ التسويف غير جائز، فإذا كان المبدل كذلك، فيتخذ البدل، لنفسه لونه و حكمه.

[الفرع الخامس: إجزاء الحجّ النيابي إذا مات المنوب عنه

و مع بقاء العذر إلى أن مات يجزيه حجّ النائب، فلا يجب القضاء عنه و إن كان مستقرّا عليه.* (1)

[الفرع السادس: إذا استناب مع اليأس، ثمّ عاد التمكّن

و إن اتّفق ارتفاع العذر بعد ذلك فالمشهور أنّه يجب عليه مباشرة و إن كان بعد إتيان النائب، بل ربما يدّعى عدم الخلاف فيه، لكن الأقوى عدم الوجوب، لأنّ ظاهر الأخبار أنّ حجّ النائب هو الّذي كان واجبا على المنوب عنه، فإذا أتى به فقد حصل ما كان واجبا عليه، و لا دليل على وجوبه مرّة أخرى، بل لو قلنا: باستحباب الاستنابة فالظاهر كفاية فعل النائب، بعد كون الظاهر الاستنابة فيما كان عليه، و معه لا وجه لدعوى أنّ المستحبّ لا يجزي عن الواجب، إذ ذلك فيما إذا لم يكن المستحبّ نفس ما كان واجبا، و المفروض في المقام أنّه هو. (2)*

(1)* الفرع الخامس: إجزاء الحجّ النيابي إذا مات المنوب عنه إذا استناب و مات المنوب عنه مع العذر، يجزيه، لأنّ ظاهر الروايات أنّ الفريضة انتقلت إلى البدل و المفروض الإتيان به و لا يبقى معه أي شك.

(2)* الفرع السادس: إذا استناب مع اليأس، ثمّ عاد التمكّن إذا استناب مع اليأس عن البرء، ثمّ برأ و عاد التمكّن، فهل يجزي حجّ النائب عن حجّه أو لا؟ ذهب أكثر المتأخرين إلى عدم إجزاء امتثال الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي خصوصا إذا كان المستند، هو الأمارة التي ليس لها دور، سوى الكشف عن الواقع، دون أن تمسّه، فإذا انكشف خطأ الطريق،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 348

.......... ان كشف عدم مشروعية الاستنابة واقعا فلا يكون فعل النائب مجزيا.

و ذهب المصنّف إلى الإجزاء بوجهين:

1. انّ ظاهر الأخبار انّ حجّ النائب هو الذي كان واجبا على المنوب عنه، فإذا

أتى به فقد حصل ما كان واجبا عليه و لا دليل على وجوبه مرّة أخرى.

2. لو قلنا باستحباب النيابة فالظاهر كفاية فعل النائب بعد كون الظاهر الاستنابة فيما كان عليه، و معه لا وجه لدعوى انّ المستحب لا يجزي عن الواجب، إذ ذلك فيما إذا لم يكن المستحبّ نفس ما كان واجبا و المفروض في المقام انّه هو.

أقول: إنّ القول بالإجزاء لا يتمّ إلّا بدراسة أمرين:

1. دراسة القواعد الكلية في الإجزاء.

2. دراسة خصوص روايات المسألة.

أمّا الأولى: فقد قوينا في محله، انّ امتثال الأوامر، واقعية كانت أم اضطرارية أو ظاهرية مقتضى الإجزاء، سواء أكان المستند أصلا عمليا كالصلاة في ثوب مشكوك الطهارة استنادا إلى قوله: كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر، أو أمارة كإخبار العادل انّه طاهر. وجه الإجزاء وجود الملازمة العرفية بين الأمر بتطبيق العمل على الأصل أو الأمارة و الإجزاء، حيث إنّ ظاهر الأمر هو انّ المولى اقتنع في تحصيل أغراضه بما يؤدّي إليه الأمارات و الأصول.

فلو أمر المولى عبده بمتابعة الصيدلي الخاص في صنع معجون، فامتثل العبد، و ظهر الخطأ، في الأمارة (نظرية الصيدلي) فالعبد مثاب، و ممتثل، و الإعادة تحتاج إلى الدليل.

فإن قلت: إنّ موضوع الاستنابة هو واقع العذر، و لا بدّ في إحرازه بالطرق الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 349

.......... العقلائية كالاطمئنان أو اليأس من زوال العذر، فانّه أيضا طريق عقلائي، و عندئذ لو انكشف الخلاف بقي الواقع على حاله، فهو ممّن يطيق الحجّ و يتمكّن من إتيانه غاية الأمر لا يعلم بذلك.

قلت: ما ذكره صحيح لو لا حديث الملازمة في عامة الموارد بين الأمر بتطبيق العمل على الأصل أو وفق الأمارة، و الإجزاء، و انّ الإعادة و القضاء

يحتاجان إلى الدليل.

و أمّا الثانية: فانّ ظاهر الروايات انّ الوظيفة في هذه الحالة تنتقل من المباشرة إلى النيابة، كما هو ظاهر قوله في صحيحة الحلبي: «و إن كان موسرا و حال بينه و بين الحج، مرض أو حصر، أو أمر يعذّره اللّه فيه، فان عليه أن يحجّ عنه من ماله صرورة لا مال له»، فإنّ المتبادر من قوله: «فانّ عليه أن يحجّ عنه من ماله صرورة» انّ وظيفته في هذه الحالة هو هذا، لا وظيفة ظاهرية، بل وظيفة واقعية.

و هكذا قوله في صحيحة محمد بن مسلم: «فليجهّز رجلا من ماله ثمّ ليبعثه مكانه» أي انّ المطلوب الواقعي منه في هذه الحالة هو الاستنابة، فإذا حج النائب فقد سقطت فريضة الحجّ، و لا وجه لبقاء الطلب.

و أوضح شاهد على ما ذكرنا انّك لا تجد أية إشارة فيها إلى لزوم الحجّ مباشرة، لو عاد البرء.

و الحاصل انّ ما أتاه الرجل استنابة يعد من مصاديق وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ و لو بفضل الروايات الماضية حيث نزّل حجّ النائب منزلة حجّ المنوب، فإذا ينطبق عليه «حجّ البيت»، و من الواضح انّه لا يجب حجّ البيت في العمر إلّا مرة واحدة، و قد أتى به، فلا وجه لبقاء الآخر.

[الفرع السابع: إذا استناب و ارتفع العذر أثناء العمل

بل يمكن أن يقال: إذا ارتفع العذر في أثناء عمل النائب بأن كان الارتفاع بعد إحرام النائب أنّه يجب عليه الإتمام و يكفي عن المنوب عنه. (1)*

و لو قلنا بأنّ الاستنابة مستحبّة، فيجزي أيضا عن الواجب، لأنّ المتبادر من الروايات أنّ ما يأتيه النائب، هو نفس ما كان واجبا في هذه الحالة على المعذور.

(1)* الفرع السابع: إذا استناب و ارتفع العذر أثناء العمل إذا استناب و ارتفع العذر أثناء

العمل يقع الكلام في موردين:

1. لزوم إتمام العمل على النائب.

2. إجزائه- إذا تم- عن المنوب عنه.

إذا قلنا بعدم الإجزاء عند ارتفاع العذر بعد تمام الأعمال، فالحكم بعدم الإجزاء في المقام واضح جدا، إنّما الكلام لو قلنا بالإجزاء في تلك الصورة، فهل يمكن القول بالإجزاء في المقام أيضا، ففي كلام الشهيد و سيد المدارك احتمالان:

1. انفساخ عقد الإجارة.

2. الإتمام و الانتظار فإن استمر الشفاء يعيد و إلّا يجزي.

قال الشهيد في «الدروس»: لو استناب المعضوب فشفي انفسخت النيابة؛ و لو كان بعد الإحرام، فالأقرب الإتمام، فإن استمرّ الشفاء حجّ ثانيا، و إن عاد المرض قبل التمكّن فالأقرب الإجزاء. «1»

و قال في «المدارك»: لو استناب الممنوع فزال عذره قبل التلبّس بالإحرام،

[الفرع الثامن: إذا ارتفع العذر و النائب في أثناء الطريق

بل يحتمل ذلك و إن كان في أثناء الطريق قبل الدخول في الإحرام، و دعوى أنّ جواز النيابة مادامي كما ترى، بعد كون الاستنابة بأمر الشارع، و كون الإجارة لازمة لا دليل على انفساخها خصوصا إذا لم يمكن إبلاغ النائب الموجر ذلك. (1)*

انفسخت النيابة فيما قطع به الأصحاب، و لو كان بعد الإحرام احتمل الإتمام و التحلّل، و على الأوّل فإن استمر الشفاء حجّ ثانيا، و إن عاد المرض قبل التمكّن فالأقرب الإجزاء. «1»

و يمكن أن يقال: انّ مقتضى إطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» هو لزوم الوفاء بعقد الإجارة و النيابة مطلقا، سواء أحصل البرء و عدمه. و صحّة العقد، تلازم صحّة الحجّ الملازم لوجوب الإتمام و الإجزاء.

مضافا إلى ما ذكرناه من أنّ ظاهر الرواية، انّ الوظيفة- و الحال هذه- انتقلت إلى الاستنابة، و قد عمل بالوظيفة و قد فرغ ممّا عليه من التكليف، و إيجاب الحجّ عليه ثانيا يحتاج إلى الدليل، و منه يظهر حال الفرع الآتي.

(1)*

الفرع الثامن: إذا ارتفع العذر و النائب في أثناء الطريق وجهه ما عرفت من انتقال الوظيفة إلى الاستنابة، و قد قام بها، و ما ربما يقال بعدم الإجزاء مستدّلا بأنّ الاجارة محكومة بالفساد، لأنّها وقعت على عمل غير مشروع لتعلّقها بعمل الحيّ الذي يطيق الحجّ و لا يجوز الاستئجار عليه، فيجب

[الفرع التاسع: لو كان العذر خلقيّا]

و لا فرق فيما ذكرنا من وجوب الاستنابة بين من عرضه العذر من المرض و غيره و بين من كان معذورا خلقة، و القول بعدم الوجوب في الثاني و إن قلنا بوجوبه في الأوّل ضعيف. (1)*

على المنيب المباشرة و الإتيان بالحجّ بنفسه و يجب على الأجير إتمام الحجّ. «1»

يلاحظ عليه: بأنّه من أين علم فساد الإجارة، مع إطلاق قوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، لاحتمال أن يكون العجز حال الإجارة، موضوع لصحتها مطلقا و إن شفى و هو في أثناء الطريق، و هو كاف في التمسك بالإطلاق.

نعم الأحوط لزوم الإعادة على المنوب عنه في هذه الصورة.

(1)* الفرع التاسع: لو كان العذر خلقيّا لو كان العذر خلقيّا و لا يستمسك على الراحلة خلقة، فهل تجب الاستنابة، أو لا؟ و الفرق بينه و بين المعضوب، انّ الثاني أعمّ من كونه خلقيا أو طارئا، بخلاف المقام فانّه مختصّ بالخلقي و لذلك ذكرهما المحقّق، و قال:

و لو كان معضوبا لا يستمسك على الراحلة ...

و لو كان لا يستمسك خلقة ...

و محور البحث في هذا الفرع اختصاص الاستنابة بالعذر الطارئ أو شمولها للعذر الخلقي أيضا فيه قولان:

1. ذهب الشيخ إلى عمومية الحكم و انّه لا فرق بين الخلقي و الطارئ قال:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 353

.......... أو يكون به سبب لا يرجى زواله، و هو العضب- إلى أن قال:- أو ضعف

الخلقة بأن يكون ضعيف الخلقة في بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب. «1»

و قال المحقّق: و لو كان لا يستمسك خلقة، قيل: يسقط الفرض عن نفسه و ماله، و قيل: يلزمه الاستنابة، و الأوّل أشبه. «2»

و قال الشهيد الثاني بأنّ وجوب الاستنابة هو الأصحّ في الموضعين (العرضيّ و الخلقي) بعد العلم بعدم القائل بالفرق، ثمّ استدلّ بإطلاق رواية علي بن أبي حمزة. «3»

و تبعه سبطه في «المدارك» و قال: الأصح لزوم الاستنابة. و استدلّ بإطلاق صحيحة الحلبي. «4»

و الظاهر عدم الفرق بين الصورتين لإطلاق صحيح الحلبي: «و إن كان موسرا حال بينه و بين الحجّ، مرض أو أمر يعذّره اللّه فيه، فإنّ عليه أن يحجّ عنه من ماله صرورة لا مال له»، و أي إطلاق أوضح من قوله: «أو أمر يعذّره اللّه فيه» و يؤيده خبر علي بن أبي حمزة، و فيه: سألته عن رجل مسلم حال بينه و بين الحجّ أمر يعذره اللّه فيه؟ فقال: «عليه أن يحجّ من ماله».

ثمّ إنّ الكلام في عدم إفتاء المحقّق بوجوب الاستنابة، فقد قال في وجهه صاحب المدارك: و إنّما حكم المصنّف (صاحب الشرائع) بسقوط الفرض هنا، لاختصاص أكثر الأخبار المتضمنة لوجوب الاستنابة بمن عرض له العجز، حتّى

[الفرع العاشر: اختصاص الحكم بحجّ الإسلام و عدمه

و هل يختصّ الحكم بحجّة الإسلام، أو يجري في الحجّ النذريّ و الإفساديّ أيضا؟ قولان، و القدر المتيقّن هو الأوّل بعد كون الحكم على خلاف القاعدة. (1)*

أنّ المصنف في «المعتبر»، اقتصر على إيراد تلك الأخبار، و لم يورد رواية الحلبي المتناولة للجميع. «1»

و العجب أنّ المحقّق أفتى بسقوط الفرض في العذر الطارئ على الاستطاعة و قال: سقط الفرض، و لكنّه في هذه المسألة- أعني: العجز الأصلي المتقدّم على الاستطاعة-

ذكر وجهين: سقوط الفرض، و وجوب الاستنابة، و قال: «و الأوّل أشبه» مع أنّ السقوط في المقام أولى من الأوّل، إذ فرق بين من استطاع و هو جامع للشرائط، ثمّ طرأ العذر، و بين من كان عاجزا قبل الاستطاعة، فإنّ العجز الأصلي المتقدّم على الاستطاعة أولى بسقوط الفرض ممّن طرأ عليه العذر.

(1)* الفرع العاشر: اختصاص الحكم بحجّ الإسلام و عدمه هل يختصّ وجوب الاستنابة بحجّ الإسلام، أو يعمّ الحجّ الافسادي أو النذري الذي لم يتمكّن من مثله مباشرة؟

و المراد بالأوّل ما أفسد حجّه بشي ء من المفسدات و وجب عليه الحجّ من قابل لكن طرأ عليه العجز، فهل يجب أن يستنيب إذا يئس أو لا؟

قال في «الدروس»: و لو وجب عليه الحجّ بإفساد أو نذر فهو كحجة الإسلام، بل أقوى. «2»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 355

.......... و قال في «المدارك» ردّا على «الدروس»: و هو غير واضح في النذر، بل و لا الإفساد أيضا، إن قلنا: إنّ الثانية عقوبة، لأنّ الحكم بوجوب الاستنابة على خلاف الأصل، فيقتصر فيه على مورد النصّ، و هو حجّ الإسلام، و النذر و الإفساد إنّما اقتضيا وجوب الحجّ مباشرة، و قد سقط بالتعذر. «1»

و قال في «المستند»: إطلاق بعض ما تقدّم من الأخبار- كصحيحتي محمد بن مسلم و الحلبي- عدم اختصاص ذلك بحجّة الإسلام و جريانه في غيره من الواجبات أيضا كالمنذور، و الظاهر عدم الخلاف فيه أيضا كما يظهر منهم في مسألة الاستنابة عن الحجتين في عام واحد. «2»

و في «الجواهر»: و لا يلحق بحج الإسلام في وجوب النيابة، حجّ النذر و الإفساد، للأصل السالم عن المعارض، خلافا للدروس فجعلهما كحج الإسلام في ذلك، بل أقوى. «3»

و تبعه المصنّف

و جعل الاختصاص هو القدر المتيقن.

مع أنّه قدّس سرّه قال في المسألة 11 من الفصل 3: إذا نذر الحجّ و هو متمكن منه فاستقر عليه ثمّ صار معضوبا- لمرض أو نحوه- أو مصدودا- بعدو و نحوه- فالظاهر وجوب استنابته حال حياته، لما مرّ من الأخبار سابقا في وجوبها و دعوى اختصاصها بحجّة الإسلام ممنوعة- كما مرّ سابقا.

أقول: أمّا الحجّ الإفسادي فلا ريب في وجوب الاستنابة- كما قاله صاحب المدارك- لو قلنا بأنّ الحجّ الأوّل ليس بحجّ و إن وجب إتمامه، و إن حجّ الإسلام هو الثاني فتشمله روايات الباب و إن قلنا باختصاصها بحج الإسلام.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 356

.......... و أمّا لو قلنا بأنّ الحجّ هو الأوّل و الثاني عقوبة، فتكون حاله حال الحجّ النذري، فلو كان في الروايات إطلاق يعمّ غير حجّ الإسلام، فتجب الاستنابة و إلّا فلا، و العمدة في المقام هو الصحيحتان: الحلبي و محمد بن مسلم.

أمّا صحيح الحلبي فصدره قرينة على وروده في حج الإسلام، و هو: «إذا قدر الرجل على ما يحجّ به ثمّ دفع ذلك و ليس له شغل يعذره به، فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام». «1»

«و إن كان موسرا و حال بينه و بين الحجّ مرض أو حصر أو أمر يعذره اللّه فيه، فانّ عليه أن يحجّ عنه من ماله صرورة لا مال له». «2»

«يقضى عن الرجل حجّة الإسلام من جميع ماله». «3» فالحديث نصّ في حج الإسلام مضافا إلى قوله: و إن كان موسرا.

و أمّا صحيح محمد بن مسلم، فلعلّ قوله: من أراد الحجّ، منصرف إلى حجّ الإسلام، فعدم وجوب الاستنابة في الحجّ النذري هو الأقوى.

هذا إذا نذر و لم يكن الحجّ مقيدا بسنة

معينة فطرأ عليه العجز، و أمّا إذا كان مقيدا بسنة معينة، فلو طرأ العذر يكون النذر باطلا، لعدم تمكّنه من الحجّ، عام النذر.

و مع ذلك فلقائل أن يقول: إنّ مورد الروايات و إن كان حجّ الإسلام، لكن المتبادر منها عند العرف أنّ الشارع جعل النيابة طريقا للتخلّص من الفريضة التي استقرّت عليه، و هو ليس بقادر على إتيانها، فعند ذلك يستنيب من غير فرق

[الفرع الحادي عشر: إذا لم يتمكّن من وجود النائب

و إن لم يتمكّن المعذور من الاستنابة- و لو لعدم وجود النائب، أو وجوده مع عدم رضاه إلّا بأزيد من أجرة المثل و لم يتمكّن من الزيادة، أو كانت مجحفة- سقط الوجوب.* (1)

[الفرع الثاني عشر: إذا مات و الحال هذه ثم وجد النائب

و حينئذ فيجب القضاء عنه بعد موته إن كان مستقرا عليه، و لا يجب مع عدم الاستقرار. (2)*

بين فريضة و فريضة، و لعلّه لذلك عدل المصنّف في الفصل 3 عمّا قاله في المقام كما مرّ.

و وجوب الاستنابة في الحجّ الإفسادي أظهر و أمّا غيره فلا، و سيوافيك تمام الكلام في المسألة 11 من فصل نذر الحجّ.

(1)* الفرع الحادي عشر: إذا لم يتمكّن من وجود النائب إذا لم يتمكّن المعذور من الاستنابة، إمّا لعدم وجود النائب، أو وجوده مع عدم رضاه إلّا بأزيد من أجرة المثل و لم يتمكّن من الزيادة، أو كانت مجحفة، سقط الوجوب.

أمّا عند عدم وجود النائب فلعدم الاستطاعة، لا مباشرة و لا تسبيبا، و أمّا مع وجوده بأزيد من أجرة المثل، فالزائد بين الإجحاف و الضرر، فلا تجب الاستنابة في الأوّل لكونه حرجيّا، و لا في الثاني لكونه ضرريا، بشرط أن يكون الضرر أزيد ممّا يقتضيه طبع العمل.

(2)* الفرع الثاني عشر: إذا مات و الحال هذه ثم وجد النائب و لو مات و الحال كالفرع السابق، ثمّ وجد النائب بأجرة المثل فقد فصّل

[الفرع الثالث عشر: إذا ترك الاستنابة مع الإمكان و مات

و لو ترك الاستنابة مع الإمكان عصى بناء على الوجوب، و وجب القضاء عنه مع الاستقرار، و هل يجب مع عدم الاستقرار أيضا أو لا؟ وجهان. أقواهما نعم، لأنّه استقرّ عليه بعد التمكّن من الاستنابة. (1)*

المصنّف بين الحجّ المستقر، و الاستطاعة الطارئ عليها العذر، فأوجب القضاء في الأوّل دون الثاني.

أمّا الأوّل، فلأنّه لا دليل على سقوطه بعد استقراره حيث إنّ الحجّ بالتسويف و الإهمال، استقر في ذمته و عدم التمكّن من الاستنابة بعد الاستقرار لا يكون دليلا على سقوطه غاية الأمر يكون معذورا في ترك الاستنابة، فيبقى الحجّ في

ذمته حتّى يقضى عنه.

و أمّا الثاني، فوجه عدم القضاء عدم اشتغال ذمته بالوجوب لا مباشرة لأجل العذر، و لا نيابة، لعدم وجود النائب لكون الأجرة ضررية أو حرجية فلا موضوع للوجوب.

(1)* الفرع الثالث عشر: إذا ترك الاستنابة مع الإمكان و مات إذا ترك الاستنابة مع الإمكان و مات، فلا شكّ انّه عصى ربّه لانتقال وظيفته من المباشرة إلى النيابة، ففي أي مورد كانت الاستنابة واجبة يعصي مع تركها.

إنّما الكلام في وجوب القضاء، فلا شكّ انّه يجب عنه القضاء، إذا استقرّ عليه الحجّ و أهمل حتّى صار معذورا ثمّ لم يستنب، و مات، فيجب القضاء لاشتغال ذمّته بالحجّ، و سيوافيك انّ من وجب عليه الحجّ و لم يمتثل و مات، تخرج

[الفرع الرابع عشر: لو استناب مع كون العذر مرجوّ الزوال و زال العذر]

و لو استناب مع كون العذر مرجوّ الزوال لم يجز عن حجّة الإسلام فيجب عليه بعد زوال العذر. (1)*

نفقة الحجّ من أصل تركته كالدين.

و أمّا إذا كان الحجّ غير مستقرّ، بل كانت الاستطاعة مقرونة بالعذر، و ترك الاستنابة مع الإمكان، فهل يجب القضاء عنه أو لا، فيه وجهان:

1. لأنّه استقرّ عليه الحجّ و لو بصورة الاستنابة و إن لم يستقرّ عليه بالمباشرة.

2. لا يجب لاختصاص أدلة القضاء بمن استقرّ عليه الحجّ مباشرة، و الأصح هو الأوّل.

(1)* الفرع الرابع عشر: لو استناب مع كون العذر مرجوّ الزوال و زال العذر و لو استناب- مع كون العذر مرجوّ الزوال- فلا يجزي عن حجّة الإسلام، فيجب عليه الحجّ بعد زوال العذر، و ذلك لما تقدّم من أنّ الموضوع هو استمرار العذر و عدم استمراره، فتجب الاستنابة في الأوّل دون الثاني، غير أنّ اليأس و الرجاء، طريقان عقليان لإحراز الموضوع، فلو يئس و استناب ثمّ ارتفع العذر فمقتضى القاعدة

الأولية و إن كان عدم الإجزاء لتخلّف الأمارة عن الواقع و إنّما قلنا بالإجزاء للملازمة العرفية بين الأمر بالعمل بالأمارة، و بين اكتفاء المولى في تحصيل مقاصده بما أدّت إليه الأمارة.

هذا فيما إذا يئس و استناب ثم تمكن، و أمّا إذا كان راجيا و استناب ثمّ عاد

[الفرع الخامس عشر: لو استناب مع رجاء الزوال و حصل اليأس بعد عمل النائب

و لو استناب مع رجاء الزوال و حصل اليأس بعد عمل النائب فالظاهر الكفاية، و عن صاحب المدارك عدمها و وجوب الإعادة، لعدم الوجوب مع عدم اليأس فلا يجزي عن الواجب، و هو كما ترى. (1)*

التمكّن فهو لم يكن مكلّفا بالاستنابة لا واقعا و لا ظاهرا، أمّا الأوّل فلفقد الموضوع (استمرار العذر)، و أمّا ظاهرا فلعدم العمل على وفق الأمارة، بل على خلافه (أعني: الرجاء).

(1)* الفرع الخامس عشر: لو استناب مع رجاء الزوال و حصل اليأس بعد عمل النائب لو استناب مع رجاء الزوال و حصل اليأس بعد عمل النائب فاستظهر المصنف الكفاية و اختار صاحب المدارك عدم الإجزاء مستدلا بأنّ ما فعله أوّلا لم يكن واجبا، فلا يجزي عن الواجب. «1» و الأقوى ما اختاره المصنّف، لما عرفت من أنّ الحكم يدور مدار الموضوع واقعا، وجودا و عدما، و قد اتخذ اليأس و الرجاء، طريقين إلى الواقع و المفروض انّ العذر كان مستمرا و كانت الاستنابة واجبة عليه، و كان العمل مطابقا للوظيفة، و عدم اليأس حين الاستنابة لا يضرّ بالإجزاء، لأنّه ليس مأخوذا في موضوع الوجوب بل هو طريق، و الملاك هو ذو الطريق و المفروض وجوده.

[الفرع السادس عشر: كفاية حجّ المتبرّع عنه عن الاستنابة]

و الظاهر كفاية حجّ المتبرّع عنه في صورة وجوب الاستنابة. (1)*

(1)* الفرع السادس عشر: كفاية حجّ المتبرّع عنه عن الاستنابة لو حجّ متبرع عمّن تجب عليه الاستنابة سواء استقر عليه الحجّ، أم كانت الاستطاعة، مقرونة بالعذر، فهل يجزي عن الاستنابة أو لا؟ وجهان:

1. يجزي، لأنّ الظاهر من نصوص الاستنابة: انّ فعل النائب يجزي في إفراغ ذمة المنوب عنه، من غير دخل للاستنابة.

و بعبارة أخرى: المفهوم من النصوص انّ البدل فعل النائب لا فعل المنوب عنه بالتسبيب،

فلا دخل للتسبيب في إفراغ الذمة و لا في أداء الواجب.

2. لا يجزي لأنّ المستفاد من المنصوص لزوم الإحجاج و الإرسال إلى الحجّ و التجهيز إليه.

و بعبارة أخرى: المتبادر من الروايات كون الحجّ مستندا إليه بالتسبيب و الواجب عليه أحد الأمرين: إتيان الحجّ مباشرة إن أمكن و إلّا تسبيبا و لا يصدق على الحجّ التبرعي واحد من العنوانين.

و ربما يؤيّد الثاني، بأنّ المطلوب، استناد الحجّ إليه إمّا مباشرة أو تسبيبا، و يكفي في التسبيب أمره بالحجّ، و إن لم يكن هنا استئجار، كما لو أمر الوالد الولد أن يحجّ عنه، و أمّا حجّ المتبرع فليس هناك أي اسناد إلى من وجب عليه الحجّ.

نعم سيأتي في المسألة 87: انّه إذا تبرع متبرع بالحجّ عن الميت رجعت أجرة الاستئجار إلى الورثة، وجه الإجزاء هو موت المنوب عنه و المفروض في المقام حياته. و سيوافيك ما هو المختار في الفصل الرابع (النيابة، المسألة 25)، فانتظر.

[الفرع السابع عشر: كفاية الاستنابة من الميقات و عدمها]

و هل يكفي الاستنابة من الميقات كما هو الأقوى في القضاء عنه بعد موته؟ وجهان، لا يبعد الجواز حتّى إذا أمكن ذلك في مكّة مع كون الواجب عليه هو التمتّع، و لكن الأحوط خلافه لأنّ القدر المتيقّن من الأخبار الاستنابة من مكانه، كما أنّ الأحوط عدم كفاية التبرّع عنه لذلك أيضا. (1)*

(1)* الفرع السابع عشر: كفاية الاستنابة من الميقات و عدمها هل يكفي الاستنابة من الميقات أو يجب أن تكون من بلده الذي يسكن فيه المنوب عنه؟

أقول: سيوافيك الكلام في الاستنابة عن الميت من الميقات في المسألة الثامنة و الثمانين.

أمّا الاستنابة من الميقات عن الحي فقد تكلّم فيها المصنّف في المسألة الخامسة و التسعين و قال في المتن:

و هل يكفي الاستنابة من الميقات-

في المقام- كما هو الأقوى في القضاء عنه بعد موته؟ وجهان لا يبعد الجواز.

أقول: أمّا النيابة من الميقات عن الميت قضاء فالكلام فيه موكول إلى المسألة الثامنة و الثمانين، و أمّا النيابة عن الحيّ من الميقات، فيكفي إطلاق ما دلّ على وجوب تجهيز رجل يحجّ عن المعذور الحي، سواء أكان نفسه أو غيره، و المسؤول هو النبي و الوصي، و من المحتمل جدا أن يكون السائل غير مدني و لا كوفي، فلو بعثه- بعد سماع كلامهما- من المدينة أو الكوفة يصدق عليه أنّه امتثل تكليفه، فإذا جاز من ذينك البلدين اللّذين ليستا بلد الاستيطان جاز من الميقات

[المسألة 73: إذا مات من استقرّ عليه الحجّ في الطريق

اشارة

المسألة 73: إذا مات من استقرّ عليه الحجّ في الطريق فإن مات بعد الإحرام و دخول الحرم أجزأه عن حجّة الإسلام، فلا يجب القضاء عنه. (1)*

قطعا، و التفصيل غير محتمل، و بذلك نستغني عن التقريب الذي أفاده السيد الحكيم- قدّس سرّه-. «1»

تمّ الكلام في الفروع التي بلغ عددها سبعة عشر فرعا.

(1)* في المسألة اثنا عشر فرعا:

1. من استقرّ عليه الحجّ إذا مات بعد الإحرام و دخول الحرم.

2. من استقرّ عليه الحجّ إذا مات بعد الإحرام قبل أن يدخل الحرم.

3. من استقرّ عليه الحجّ إذا مات بعد الدخول في الحرم ناسيا للإحرام.

4. يكفي الدخول في الحرم محرما و لا يشترط دخول مكة.

5. لا فرق بين الموت في الحرم حال الإحرام أو بعد الإحلال، كما إذا مات بعد الإحرامين.

6. إذا دخل الحرم محرما، و لكن مات في الحل فهل يجزي أو لا؟

7. لا فرق بين حجّ التمتع و القران و الافراد، و الكلّ حجّة الإسلام.

8. لو مات في أثناء عمرة التمتع يجزي عن العمرة و الحجّ.

9. لو مات في أثناء

حجّ القران و الافراد، فهل يجزي عن عمرتهما أو لا؟

10. إذا مات بعد الإحرام و الدخول في الحرم و كان الحجّ نذريا أو إفساديا (الحجّ النيابي).

11. إذا مات و قد أحرم للعمرة المفردة و مات بعد الإحرام و الدخول في

[الفرع الأوّل: إذا مات من استقر عليه الحجّ بعد الدخول في الإحرام و الحرم

و إن مات قبل ذلك وجب القضاء عنه و إن كان موته بعد الإحرام على المشهور الأقوى، خلافا لما عن الشيخ و ابن إدريس فقالا بالإجزاء حينئذ أيضا، و لا دليل لهما على ذلك إلّا إشعار بعض الأخبار، كصحيحة بريد العجليّ حيث قال فيها بعد الحكم بالإجزاء إذا مات في الحرم: و إن كان مات و هو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله و زاده و نفقته في حجّة الإسلام، فإنّ مفهومه الإجزاء إذا كان بعد أن يحرم، لكنّه معارض بمفهوم صدرها، و بصحيح ضريس و صحيح زرارة و مرسل المقنعة، مع أنّه يمكن أن يكون المراد من قوله: قبل أن يحرم، قبل أن يدخل في الحرم. (1)*

الحرم.

12. حكم من لم يستقر عليه الحجّ، إذا مات بعد الدخول في الإحرام و الحرم.

و إليك دراسة الفروع واحدا بعد الآخر و لا يخفى انّ الفروع الثلاثة: الأوّل و الثاني و الرابع بمنزلة فرع واحد. و هو إذا مات حاجا في الطريق بعد ما أحرم و دخل الحرم يجزي، و لا يكفي مجرّد الإحرام كما لا يجب الدخول في مكة، بل الموضوع هو الإحرام مع الدخول في الحرم، و لأجل اعتبار الفروع الثلاثة فرعا واحدا يتنزل عدد الفروع من اثني عشر فرعا إلى عشرة فروع.

(1)* الأوّل: إذا مات من استقر عليه الحجّ بعد الدخول في الإحرام و الحرم، فقد اتّفقت كلمتهم على الإجزاء و إن لم يدخل مكة،

ترى عنوان المسألة في موردين:

تارة في حجّ الإنسان عن نفسه، و أخرى في حجّ النائب، و ليس في المسألة أي الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 365

.......... مخالف سوى الشيخ فانّه اقتصر على الدخول في الإحرام و لم يشترط الدخول في الحرم في «الخلاف» و «المبسوط»، و مع ذلك ذكر الأمرين في «النهاية» و وافقه ابن إدريس، فإنّه أيضا اقتصر على الدخول في الإحرام، و لا بأس بذكر بعض كلماتهم.

1. قال المفيد: و قال عليه السّلام: من خرج حاجّا فمات في الطريق، فإنّه إن كان مات في الحرم فقد سقطت عنه الحجة، و إن مات قبل دخوله الحرم لم تسقط عنه الحجة و ليقض عنه وليّه. «1»

2. و قال الشيخ في «النهاية»: و من وجبت عليه حجّة الإسلام فخرج لأدائها فمات في الطريق، فإن كان قد دخل الحرم، فقد أجزأ عنه، و إن لم يكن دخل الحرم كان على وليه أن يقضي عنه. «2»

أقول: الدخول في الحرم في كلامهما كناية عن تحقّق الشرطين، لأنّ الدخول فيه يلازم الإحرام غالبا، إلّا إذا كان ناسيا له، و هو نادر في المقام.

و اقتصر الشيخ الطوسي في حجّ النائب على دخول الحرم، في «الخلاف» و «المبسوط».

3. قال في «الخلاف»: إذا مات [النائب أو أحصر بعد الإحرام، سقطت عنه عهدة الحجّ، و لا يلزمه ردّ شي ء من الأجرة، و به قال أصحاب الشافعي إن كان بعد الفراغ من الأركان كأن تحلّل بالطواف، و لم يقو على المبيت بمنى و الرمي.»

4. و قال في «المبسوط»: إذا مات الأجير فإن كان قبل الإحرام، وجب على الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 366

.......... ورثته أن يردّوا جميع ما أخذ و لا يستحقّ

شيئا من الأجرة، لأنّه لم يفعل شيئا من أفعال الحجّ، و إن كان بعد الإحرام لا يلزمه شي ء و أجزت عن المستأجر. «1»

5. و تبعه ابن إدريس في «السرائر»: و قال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته: فإن مات النائب في الحجّ و كان موته بعد الإحرام و دخول الحرم، فقد سقطت عنه عهدة الحج و أجزأ عمّن حجّ عنه، و إن مات قبل الإحرام و دخول الحرم، كان على ورثته إن خلف في أيديهم شيئا مقدار ما بقي عليه من نفقة الطريق، فراعي دخول الحرم و الإحرام معا، و الصحيح ما ذكرناه و اخترناه و هو مجرّد الإحرام دون دخول الحرم، و إلى هذا القول ذهب في مبسوطه و أفتى، و دلّ على صحّته في مسائل خلافه و هو الصحيح. «2»

و العجب انّ ابن إدريس نقل كلام الشيخ في نهايته في النائب، و لم يذكر كلامه في ذلك الكتاب في نفس المسألة، أي حج الإنسان عن نفسه، فإنّ كلام الشيخ هناك مثل كلامه في النائب، و نظره في المقامين واحد، نعم كلامه في «الخلاف» و «المبسوط» في مورد النائب و لم نعثر على كلامه فيهما في حجّ الإنسان عن نفسه.

6. و قال المحقّق: و من مات بعد الإحرام و دخول الحرم برئت ذمّته، و قيل:

يجتزئ بالإحرام، و الأوّل أظهر. «3»

7. و قال في «التذكرة»: و إن كان الحجّ قد استقرّ في ذمته بأن وجب عليه الحجّ في سنة فلم يخرج فيها و أخّر إلى سنة أخرى فخرج فمات في الطريق، فإن كان قد أحرم و دخل الحرم، فقد أجزأه عما وجب عليه و سقط الحجّ عنه، سواء كان الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص:

367

.......... وجب عليه الحجّ عن نفسه أو عن غيره، بأن استؤجر للحج فمات بعد الإحرام و دخول الحرم و تبرأ أيضا ذمة المنوب عنه، و إن مات قبل ذلك، وجب أن يقضى عنه من صلب ماله، و قال أحمد: يستأجر عنه عمّا بقي في أفعاله. و لم ينقل كما فصلناه. «1»

و بذلك علم أنّ لأهل السنّة قولين: أحدهما لأصحاب الشافعي الذين يفصلون بين الفراغ من الأركان و عدمه «2»، و الثاني للإمام أحمد الذي نقله في التذكرة كما عرفت.

8. و قال في «المدارك»- بعد نقل قول المحقّق-: أمّا براءة الذمة إذا مات الحاج بعد الإحرام و دخول الحرم و عدم وجوب إكماله فهو مذهب الأصحاب، لا نعلم فيه مخالفا. «3»

9. و قال المحدّث البحراني: لا خلاف بين أصحابنا- رضوان اللّه عليهم- في ما أعلم في أنّ من مات بعد الإحرام و دخول الحرم برئت ذمته. «4»

10. و قال في «الجواهر»:- بعد قول المحقّق- بلا خلاف أجده فيه، كما في «المدارك» و «الحدائق» و غيرهما، بل عن «المنتهى» الإجماع عليه. «5»

و يدلّ عليه صحيحتان:

1. صحيحة بريد العجلي: قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن رجل خرج حاجّا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 368

.......... و معه جمل له و نفقة و زاد فمات في الطريق؟ قال: «إن كان صرورة ثمّ مات في الحرم فقد أجزأ عنه حجّة الإسلام، و إن كان مات و هو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله و زاده و نفقته و ما معه في حجة الإسلام، فإن فضل من ذلك شي ء فهو للورثة إن لم يكن عليه دين».

قلت: أرأيت إن كانت الحجة تطوعا ثمّ مات في الطريق قبل أن يحرم، لمن يكون جمله

و نفقته و ما معه؟ قال: «يكون جميع ما معه و ما ترك للورثة، إلّا أن يكون عليه دين فيقضى عنه، أو يكون أوصى بوصية فينفذ ذلك لمن أوصى له، و يجعل ذلك من ثلثه». «1»

قوله: «ثمّ مات في الحرم» دالّ على أنّ الملاك في الاجتزاء هو الأمران، و قد مرّ أنّ الموت في الحرم يلازم الإحرام في الميقات و الموت فيه عرفا.

2. روى الكليني بسند صحيح عن ضريس، عن أبي جعفر عليه السّلام قال في رجل خرج حاجا حجة الإسلام، فمات في الطريق، فقال: «إن مات في الحرم فقد أجزأت عنه حجّة الإسلام، و إن مات دون الحرم فليقض عنه وليّه حجّة الإسلام». «2»

و يدل على كفاية الأمرين- وراء الصحيحين- صحيحة زرارة «3» و مرسلة المفيد. 4

استدلّ لقول الشيخ أي كون الميزان في الإجزاء الدخول في الإحرام بما مرّ في ذيل صحيح بريد حيث قال: «و إن كان مات و هو صرورة قبل أن يحرم جعل الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 369

.......... جمله و زاده و نفقته و ما معه في حجّة الإسلام» حيث إنّ الظاهر انّ المقياس هو الإحرام وجودا و عدما لا دخول الحرم و عدمه.

يلاحظ عليه بأمور: أوّلا: وجود التعارض بين مفهومي الصدر و الذيل في نفس رواية «بريد» و ذلك بالبيان التالي، قد جاء في الصدر:

«إن كان صرورة ثمّ مات في الحرم فقد أجزأت عنه حجة الإسلام».

حيث إنّ مفهومه: «و إن كان صرورة لم يمت في الحرم فلا يجزي»، سواء مات قبل الإحرام أو بعد الإحرام و قبل الدخول في الحرم.

و جاء في الذيل:

«و إن كان قد مات و هو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله و زاده و

نفقته و ما معه في حجة الإسلام» حيث إنّ مفهومه:

«و إن كان قد مات و هو صرورة بعد أن يحرم، فلا يجعل جمله من حجة الإسلام» أي يجزي.

فيقع التعارض بين مفهومي الصدر و الذيل فيما إذا مات بعد الإحرام و قبل الدخول في الحرم، فلا يجزي على الأوّل، و يجزي على الثاني.

ثانيا: وجود التعارض بين إطلاق رواية ضريس، و مفهوم الذيل في رواية بريد، حيث جاء في رواية ضريس:

«و إن مات دون الحرم فليقض عنه وليه»، الشامل لمن مات قبل الإحرام أو مات بعد الإحرام و لم يدخل الحرم.

و لكن مفهوم الذيل، يقول: و إن كان قد مات و هو صرورة بعد أن يحرم،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 370

كما يقال: أنجد، أي دخل في نجد، و أيمن أي دخل اليمن، فلا ينبغي الإشكال في عدم كفاية الدخول في الإحرام. (1)*

فيجزي، اللّهم إلّا أن يقال: انّ مفهوم الذيل أخصّ من إطلاق منطوق رواية ضريس.

ثالثا: انّ صحيح زرارة يدلّ بمنطوقه على عدم الإجزاء ما لم يدخل «مكة» و المراد منها هو الحرم و إن كان محرما.

رابعا: انّ الذيل في رواية بريد فاقد للمفهوم لورود القيد مورد الغالب، و هو الموت قبل الإحرام، و أمّا الموت بعد الإحرام و قبل دخول الحرم، قليل بالنسبة إليه، خصوصا في الأيام السابقة حيث كان سفر الحجّ يستغرق شهورا كثيرة، ربّما يموت الحاج عطشا، أو مرضا أو لأجل السقوط من الهودج أو المركب قبل أن يصل إلى الميقات إلى غير ذلك.

خامسا: بأنّ مفهوم الذيل لا يدلّ على الإجزاء، بل يدلّ على أنّه إن مات بعد الإحرام، لا يجعل جمله و زاده و نفقته في حجّة الإسلام، أن لا يصرف في حجة

الإسلام، و أمّا الإجزاء فهو ساكت عنه. «1»

يلاحظ عليه: أنّ العبارة منطوقا و مفهوما، كناية عن القضاء و عدمه، فإن مات قبل أن يحرم، يصرف ما بعده في حجّة الإسلام أي يقضى، و إن مات بعدما أحرم، لا يصرف في حجة الإسلام أي لا يقضى.

(1)* سادسا: ما ذكره المصنّف من أنّ المراد من «أحرم» هو الدخول في الحرم،

[الفرع الثاني: إذا مات من استقرّ عليه الحجّ بعد الدخول في الحرم ناسيا الإحرام

كما لا يكفي الدخول في الحرم بدون الإحرام، كما إذا نسيه في الميقات و دخل الحرم ثمّ مات، لأنّ المنساق من اعتبار الدخول في الحرم كونه بعد الإحرام.

و لا يعتبر دخول مكّة و إن كان الظاهر من بعض الأخبار ذلك لإطلاق البقيّة في كفاية دخول الحرم. (1)*

كما يقال: انجد، أي دخل نجد، و أيمن، أي دخل اليمن، لكنّه خلاف الظاهر جدا.

(1)* ثمّ إنّه يكفي في الإجزاء عن حجّة الإسلام الموت محرما في الحرم، و لا يشترط دخول مكة. نعم ورد في صحيح زرارة:

قلت: فإن مات و هو محرم قبل أن ينتهي إلى مكة؟ قال: «يحجّ عنه إن كانت حجّة الإسلام و يعتمر، إنّما هو شي ء عليه». «1»

أقول:- مضافا إلى احتمال أن يكون المراد من «مكة» هو الحرم الشريف- إنّ صدر الصحيحين مقدم على ظهور الرواية، لأنّها بصدد بيان ما يجزي و هو الدخول في الحرم محرما، و أمّا الرواية فهي بصدد ما لا يجزي، و هو ما إذا مات قبل أن يدخل مكة و يكفي في صدقه إذا مات بين الإحرام و قبل الحرم و في طريقه إلى الحرم.

الثاني: إذا مات من استقرّ عليه الحجّ بعد الدخول في الحرم ناسيا الإحرام، فلا يجزي لوجهين:

[الثالث: عدم الفرق بين أن يموت محرما بإحرام العمرة أو الحجّ، أو محلا]

و الظاهر عدم الفرق بين كون الموت حال الإحرام أو بعد الإحلال، كما إذا مات بين الإحرامين.* (1)

[الرابع: إذا أحرم و دخل الحرم لكن مات في الحلّ فهل يجزي أو لا؟]

و قد يقال بعدم الفرق أيضا بين كون الموت في الحلّ أو الحرم بعد كونه بعد الإحرام و دخول الحرم، و هو مشكل، لظهور الأخبار في الموت في الحرم. (2)*

1. لأنّ المتبادر من الموت في الحرم، هو الموت محرما، لا مطلقا.

2. مفهوم صحيح زرارة: قلت: فإن مات و هو محرم قبل أن ينتهي إلى مكة، الظاهر في أنّ العبرة بأمرين: الإحرام و الدخول في مكة، أي الحرم.

(1)* الثالث: عدم الفرق بين أن يموت محرما بإحرام العمرة أو الحجّ، أو محلا كما إذا مات بين الإحرامين أخذا بإطلاق الأخبار.

قال في «الدروس»: لا فرق بين موته محلا أو محرما كما لو مات بين الإحرامين. «1»

و قال في «المدارك»: [لا فرق بين أن يموت في الحلّ أو الحرم محرما أو محلا، كما لو مات بين الإحرامين. «2»

و قال في «الحدائق» و إطلاق الأخبار و كلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في ذلك بين أن يقع التلبس بإحرام الحجّ أو العمرة و لا بين أن يموت في الحل أو الحرم، محرما أو محلا، كما لو مات بين الإحرامين. «3»

(2)* الرابع: إذا أحرم و دخل الحرم لكن مات في الحلّ فهل يجزي أو لا؟ يظهر

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 373

.......... من الدروس و المدارك و الحدائق عدم الفرق.

قال الأوّل: لا فرق بين موته في الحل أو في الحرم. «1»

و مرّ كلام «المدارك» في التعميم.

و قال: «الحدائق»: لا فرق بين أن يموت في الحل أو الحرم. «2»

و قال في «الجواهر»: لا يخفى ما فيه من الإشكال بعد مخالفة الحكم للأصول التي يجب

الاقتصار في الخروج عنها على المتيقّن و هو الموت في الحرم. «3»

أقول: الموت في الحرم ليس القدر المتيقن، بل هو المصرح به في الروايات الأربع، و مع ذلك يمكن أن يقال: إنّه و إن علّق الإجزاء في الصحيحين على الموت في الحرم و قد جاء فيهما:

إن مات في الحرم فقد أجزأت عنه.

لكن الموضوع للإجزاء، هو الموت بعد ما أحرم و دخل الحرم فقط، و لا خصوصية لشي ء وراء الأمرين: الموت و في الحرم، و أمّا ما في الصحيحين من قوله: «إن مات في الحرم» فهو لأجل الملازمة بين الموت فيه و الدخول فيه محرما، الذي هو الموضوع، فكأنّه ذكر الملزوم و أريد اللازم.

و الذي يشهد لما ذكر ما في رواية «المقنعة» حيث قال: من خرج حاجا فمات في الطريق، فإنّه إن كان مات في الحرم فقد سقطت عنه الحجة، و إن مات قبل دخوله الحرم لم تسقط عنه الحجّة «4»، حيث إنّ مقتضى المقابلة أن يكون الموضوع للإجزاء، هو الدخول في الحرم مع الإحرام، سواء أمات بعد الدخول فيه في الحرم

[الخامس: الظاهر عدم الفرق بين حجّ التمتع و القران و الإفراد]

و الظاهر عدم الفرق بين حجّ التمتّع و القران و الإفراد. (1)*

[السادس: إذا مات في عمرة حج التمتع أجزأ عنها و عن الحج

كما أنّ الظاهر أنّه لو مات في أثناء عمرة التمتّع أجزأه عن حجّه أيضا، بل لا يبعد الإجزاء- إذا مات في أثناء حجّ القران أو الإفراد- عن عمرتهما و بالعكس، لكنّه مشكل، لأنّ الحجّ و العمرة فيهما عملان مستقلّان بخلاف حجّ التمتّع فإنّ العمرة فيه داخلة في الحجّ، فهما عمل واحد. (2)*

أو خارجه.

(1)* الخامس: الظاهر عدم الفرق بين حجّ التمتع و القران و الإفراد، و بهذا عبر المصنف في المتن، و قال في «الجواهر»:

الظاهر عدم الفرق بين الإفراد و القران و التمتع، و ذلك لأنّ الموضوع في لسان الروايات هو حجة الإسلام، و هي شاملة للأقسام الثلاثة، ففي صحيح ضريس: «في رجل خرج حاجا حجة الإسلام» و في صحيح بريد: «عن رجل خرج حاجا و معه جمل له و نفقة و زاد فمات في الطريق».

(2)* السادس: إذا مات في عمرة حج التمتع أجزأ عنها و عن الحج.

قال في «المدارك»: [لا فرق بين أن يقع التلبّس بإحرام الحجّ أو العمرة. «1»

و قال في «الحدائق»: عدم الفرق في ذلك بين أن يقع التلبّس بإحرام الحج أو العمرة. «2» و وجهه انّ الموضوع في الروايات هو من مات في الطريق قبل الإحرام،

[السابع: إذا مات في أثناء حجّ القران أو الإفراد فهل يجزي عن عمرتهما، أو لا؟]

.......... أو بعده و أوّل ما يبتدئ به في حجّ التمتع هو إحرام العمرة، لا إحرام الحجّ فيكون المراد من الموت قبل الإحرام و بعده في حجّ التمتع، هو إحرام العمرة، بخلاف القسمين الأخيرين فانّ أوّل ما يبتدئ فيهما، هو إحرام الحجّ، فيكون المراد من الموت قبل الإحرام و بعده فيهما، هو إحرام الحجّ.

السابع: إذا مات في أثناء حجّ القران أو الإفراد فهل يجزي عن عمرتهما، أو لا؟ وجه الترديد، هو ما عرفت من أنّ

الموضوع من يموت في الطريق و هو حاج.

فإذا قيل: فرق بين الموت قبل الإحرام و بعده، ينصرف إلى إحرام العمل الذي يبتدئ به، و هو في القران و الإفراد مناسك الحجّ، لا إحرام عمرتهما، فإذا مات في إحرام الحجّ، يجزي عنه و لا يجزي عن عمرتهما.

فإن قلت: ما الفرق بين عمرة التمتع و عمرة القسمين الآخرين، فإنّ الموت في إحرام حجّ التمتع، يجزي عن حجّه، و لكن الموت في إحرام حجّ القران و الإفراد لا يكفي عن عمرتهما؟

قلت: الفارق هو أنّ الواجب في حجّ التمتع أمر مركّب من العمرة و مناسك الحجّ فكأنّهما عمل واحد، بخلاف الآخرين، فإنّ كلا من العملين، واجب مستقل، فالموت في إحرام حجّهما يجزي عنهما لا عن عمرتهما.

[الثامن: إذا مات بعد ما أحرم و دخل الحرم و كان الحجّ نذريا أو إفساديّا.]

ثمّ الظاهر اختصاص حكم الإجزاء بحجّة الإسلام فلا يجري الحكم في حجّ النذر و الإفساد إذا مات في الأثناء، (1)

[التاسع: إذا مات في إحرام العمرة المفردة و قد دخل الحرم فهل يجزي أو لا؟]

بل لا يجري في العمرة المفردة أيضا، و إن احتمله بعضهم، و هل يجري الحكم المذكور فيمن مات مع عدم استقرار الحجّ عليه فيجزيه عن حجّة الإسلام إذا مات بعد الإحرام و دخول الحرم، و يجب القضاء عنه إذا مات قبل ذلك؟ وجهان، بل قولان:

من إطلاق الأخبار في التفصيل المذكور، و من أنّه لا وجه لوجوب القضاء عمّن لم يستقرّ عليه بعد كشف موته عن عدم الاستطاعة الزمانيّة، و لذا لا يجب إذا مات في البلد قبل الذهاب، أو إذا فقد بعض الشرائط الأخر مع كونه موسرا. (2)*

(1)* الثامن: إذا مات بعد ما أحرم و دخل الحرم و كان الحجّ نذريا أو إفساديّا.

إذا مات بعد ما أحرم و دخل الحرم و كان الحجّ نذريّا أو إفساديّا، فهل يجزي عن الحجّ المستقرّ عليه، أو عن الحج الافسادي؟ أمّا الثاني فقد مرّ حكمه في المسألة السابقة، و هو أنّه لو كان الحجّ الثاني هو الحجّ الواجب، لكان حكمه حكم حجّة الإسلام، و إلّا فلو كان عقوبة، يكون حكمه حكم الحجّ النذري، و أمّا النذري فلو كان مقيدا بنفس السنة، فيسقط الفرض قطعا و إذا كان مستقرا فالحكم بالإجزاء يحتاج إلى الدليل، و مورد النصوص هو حجّة الإسلام.

(2) التاسع: إذا مات في إحرام العمرة المفردة و قد دخل الحرم فهل يجزي أو لا؟

الظاهر من صاحبي المدارك و الحدائق، هو الإجزاء.

قال في «المدارك»: لا فرق بين أن يموت في الحل أو الحرم محرما أو محلا، كما

[العاشر: إذا مات من لم يستقر عليه الحجّ بعد ما أحرم و دخل الحرم.]

و من هنا ربما يجعل الأمر بالقضاء فيها قرينة على اختصاصها بمن استقرّ عليه، و ربما يحتمل اختصاصها بمن لم يستقرّ عليه، و حمل الأمر بالقضاء على الندب، و كلاهما مناف لإطلاقهما، مع

أنّه على الثاني يلزم بقاء الحكم فيمن استقرّ عليه بلا دليل، مع أنّه مسلّم بينهم، و الأظهر الحكم بالإطلاق، إمّا بالتزام وجوب القضاء في خصوص هذا المورد من الموت في الطريق كما عليه جماعة و إن لم يجب إذا مات مع فقد سائر الشرائط، أو الموت و هو في البلد، و إمّا بحمل الأمر بالقضاء على القدر المشترك و استفادة الوجوب فيمن استقرّ عليه من الخارج، و هذا هو الأظهر.

فالأقوى جريان الحكم المذكور فيمن لم يستقرّ عليه أيضا فيحكم بالإجزاء إذا مات بعد الأمرين، و استحباب القضاء عنه إذا مات قبل ذلك. (1)*

لو مات بين الإحرامين، و بهذا التعميم قطع المتأخرون. «1»

و قال المحدث البحراني: و إطلاق الأخبار و كلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق بين أن يقع التلبس بإحرام الحجّ أو العمرة. «2» لكن مورد الروايات هو الموت في إحرام الحجّ و إنّما ألحق به إحرام عمرة حجّ التمتع، لما عرفت من كونه جزءا، فإلحاق العمرة المفردة يحتاج إلى دليل.

(1)* العاشر: إذا مات من لم يستقر عليه الحجّ بعد ما أحرم و دخل الحرم.

كان الموضوع في الفروع التسعة، هو من استقرّ عليه الحجّ، دون من لم الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 378

.......... يستقر، و أمّا إذا مات من لم يستقر عليه الحجّ في الحرم بعد ما دخله مع الإحرام، فهل يجري فيه ذلك التفصيل بمعنى انّه يجزيه إذا مات كذلك، و يجب القضاء إذا مات قبل ذلك؟ قولان:

1. عدم الفرق بين المستقر و غيره فيجري إذا مات بعد الإحرام و الدخول في الحرم دون غيره، بل يجب القضاء عنه، اختاره الشيخ في «النهاية» و «المبسوط».

قال الشيخ في «النهاية»: من وجبت عليه حجة الإسلام، فخرج

لأدائها، فمات في الطريق، فإن كان قد دخل الحرم فقد أجزأ عنه، و إن لم يكن قد دخل الحرم، كان على وليّه أن يقضي عنه حجّة الإسلام من تركته. «1» و بنفس العبارة عبر في «المبسوط» «2» و يمكن حمل العبارة على من استقرّ.

و نسب أيضا إلى ظاهر القواعد، و عبارتها لا تصدق النسبة، قال: لو مات الحاج بعد الإحرام و دخول الحرم أجزأ عنه و لو كان نائبا و تبرأ ذمة المنوب، و لو مات قبل ذلك قضيت عنه إن كان قد استقرت و إلّا فلا، و الاستقرار بالإهمال بعد اجتماع الشرائط و مضي زمان جميع أفعال الحجّ أو دخول الحرم على إشكال. «3»

فإنّ ظاهر قوله: «و إلّا فلا» هو انّه إن لم يكن مستقرا لا يقضى عنه.

2. عدم وجوب القضاء لكشف موته عن عدم استطاعته الزمانية، و لذا لا يجب إذا مات في البلد قبل الذهاب، أو إذا فقد بعض الشرائط الأخر مع كونه موسرا، و الأمر بالقضاء في الروايات قرينة على كون المورد من استقر عليه الحجّ.

و الأولى بناء المسألة على وجود الإطلاق في الروايات و عدمه، قد استظهر

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 379

.......... المصنف وجوده فيها، فيمكن تفسيرها بأحد وجهين:

1. الأخذ بالإطلاق و الحكم بوجوب القضاء إذا مات قبل الدخول في الحرم محرما في كلتا الصورتين، استقرّ عليه الحجّ أم لم يستقر تبعا للنص و إن لم يجب القضاء مع فقد سائر الشرائط أو الموت في البلد.

2. الأخذ بالإطلاق، و حمل الأمر بالقضاء على القدر المشترك (المحبوبيّة) و استفادة الوجوب في من استقر من الخارج. و هذا هو خيرة المصنف.

3. و ربما تحمل الروايات على غير من استقرّ عليه الحجّ

و يحمل الأمر بالقضاء على الندب.

و هو مردود إذ مضافا إلى أنّ حمل الأمر على الندب خلاف الظاهر، أنّ لازم ذلك أن يكون حكم المستقرّ من حيث الإجزاء و عدمه بلا دليل مع أنّه مسلم عندهم.

4. إنكار الإطلاق في الروايات قائلا بأنّها بصدد تشريع الإجزاء عن حجّ الإسلام بعد الفراغ عن ثبوته على المكلّف باجتماع شرائطه، فلا تشمل من لم يستقر عليه الحجّ.

و بعبارة أخرى: النصوص بصدد جعل البدل بعد الفراغ عن وجوبه فلا يدل على إلغاء شرط وجوبه.

[المسألة 74: الكافر يجب عليه الحجّ إذا استطاع

المسألة 74: الكافر يجب عليه الحجّ إذا استطاع، لأنّه مكلّف بالفروع لشمول الخطابات له أيضا. و لكن لا يصحّ منه مادام كافرا كسائر العبادات، و إن كان معتقدا بوجوبه و آتيا به على وجهه مع قصد القربة، لأنّ الإسلام شرط في الصحّة.

و لو مات لا يقضى عنه لعدم كونه أهلا للإكرام و الإبراء، و لو أسلم مع بقاء استطاعته وجب عليه، و كذا لو استطاع بعد إسلامه. و لو زالت استطاعته ثمّ أسلم لم يجب عليه على الأقوى، لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله كقضاء الصلاة و الصيام، حيث إنّه واجب عليه حال كفره كالأداء و إذا أسلم سقط عنه. (1)*

(1)* في المسألة فروع:

1. يجب الحجّ على الكافر و لكن لا يصحّ إذا أتى به مع قصد القربة مادام كافرا.

2. لو مات لا يقضى عنه.

3. لو أسلم مع بقاء استطاعته وجب عليه لفعلية موضوعه.

4. لو استطاع بعد إسلامه وجب عليه.

5. لو زالت استطاعته ثمّ أسلم لم يجب عليه لقاعدة الجبّ.

و إليك دراسة الفروع واحدا بعد الآخر.

الفرع الأوّل: أي كون الكافر مكلّفا بوجوب الحجّ، فقد تقدّم الكلام فيه غير مرّة، و قد قوينا قول المشهور و مع كونه

واجبا عليه لكن لا يصحّ منه مادام الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 381

.......... كافرا، لأنّ الإسلام شرط الصحّة أو أنّ الكفر مانع عن قبول العبادة، و لذلك أضاف المصنّف و قال: «و إن كان معتقدا بوجوبه، و آتيا به على وجهه مع قصد القربة»، و هذا يتصور في الناصب حيث إنّه كافر، و مع ذلك يعتقد بوجوب الحجّ، و ربما يأتي به على وجهه مع قصد القربة.

و قد عقد في «الوسائل» في أبواب مقدّمة العبادات، بابا تحت عنوان «بطلان العبادة بدون ولاية الأئمّة عليهم السّلام»، و كان عليه أن يعقد بابا آخر تحت عنوان بطلان عبادات الكافر، و على كلّ تقدير فالآيات الواردة حول كون الكفر من عوامل الحبط كاف في المقام.

قال سبحانه: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ «1»، و قال سبحانه:

وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «2»، إلى غير ذلك من الآيات الناصّة على أنّ الكافر يحبط عمله و لا يصعد.

أضف إلى ذلك أنّه إذا كانت الولاية شرط الصحة، فالإسلام شرط لها بوجه أولى.

و على كلّ فالمسألة مورد اتفاق، قال في «التذكرة»: الكافر يجب عليه الحجّ- على ما تقدّم- و لا يصحّ منه قبل الإسلام. «3»

و قال في المستند: الكافر يجب عليه الحجّ عندنا، و لا يصحّ منه إجماعا. «4»

الثاني: لو مات و هو مستطيع لا يقضى عنه لوجهين:

1. عدم كونه أهلا للإكرام و الإبراء.

2. انّ القدر المتيقّن من أدلة النيابة، هو القيام بعمل المنوب عنه على نحو

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 382

.......... لو كان حيّا لصحّ منه، و المفروض في المقام خلافه.

قال في «التذكرة»: فإن وجد الاستطاعة حال الكفر فلم يحجّ و مات أثم و لم يقض

عنه.»

نعم ورد النصّ في صحّة النيابة عن خصوص الناصب إذا كان أبا للنائب. «2»

الثالث: لو أسلم و هو مستطيع، وجب عليه الحجّ، لأنّ حكمه حينئذ كحكم سائر المسلمين في أنّ المستطيع يجب عليه الحجّ.

الرابع: لو استطاع بعد إسلامه، وجب عليه الحجّ، لما عرفت من أنّ حكمه حكم سائر الأفراد.

الخامس: لو زالت استطاعته ثمّ أسلم لا يجب عليه الحجّ متسكعا، بخلاف المسلم إذا استطاع و سوّف فزالت استطاعته يجب عليه الحجّ متسكعا، و يدلّ عليه أمور:

1. الإجماع على أنّ الكافر لا يقضي ما فاته من العبادات إذا أسلم، و لو فقد الاستطاعة بعد الإسلام لم يجب عليه بالاستطاعة حال كفره. «3»

2. سيرة النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و الوصيّ عليه السّلام في من أسلم، حيث لم يحكم عليهم بإعادة ما فاتهم من الصلاة و الصوم.

3. حديث الجبّ: «الإسلام يجبّ ما قبله» المنجبر بعمل الأصحاب، فالاستطاعة السابقة الزائلة كانت سببا لوجوب الحجّ متسكعا- مثل المسلم- لكن الإسلام حال بين ما قبله و ما بعده، فأسقط الاستطاعة السابقة عن السببية

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 383

.......... كما أسقط كسوف الشمس و خسوف القمر- حال الكفر- عن السببية، لوجوب صلاة الآيات إذا أسلم و قد تمّ انجلاؤهما.

و مع ذلك فقد ذهب لفيف من الأصحاب إلى وجوبه، منهم صاحب المدارك قال: لو أسلم وجب عليه الإتيان بالحجّ مع بقاء الاستطاعة قطعا، و بدونها في أظهر الوجهين. «1»

و تبعه صاحب الذخيرة و المستند، و نسبه في الأخير إلى الأظهر للاستصحاب. «2»

و في المستمسك: أنّ الوجوب و عدمه مبنيّان على أنّ القضاء بالأمر الأوّل- بناء على تعدد المطلوب- أو بأمر جديد، فعلى الأوّل يجب القضاء مستندا إلى وجود

المصلحة في الفعل فلا يقتضي الإسلام سقوطه، و كذلك وجوب الغسل إذا كان مستندا إلى وجود الأثر العيني الخارجي فلا يقتضي الإسلام سقوطه. و كذلك وجوب التطهير من النجاسة. «3»

أقول: أمّا الاستصحاب فهو محكوم بقاعدة الجبّ حيث سلبت السببية عن الاستطاعة السابقة، نعم البحث في سعة مفاد حديث الجب و انّه هل يعمّ الأحكام الوضعية كنجاسة دم الكافر و بوله و منيّه حال الكفر إذا أسلم أو هو راجع إلى الأحكام التكليفية؟ موكول إلى محلّه، و الأوّل هو الأظهر.

و أمّا إيجاب القضاء لاحتمال وجود مصلحة في الفعل، فلا يقتضي الإسلام سقوطه، فهو مدفوع بتعارضها بمصلحة أقوى، و هو رغبة الناس في الإسلام و دخولهم في دين اللّه أفواجا، و لو وقفوا على أنّه يجب عليهم قضاء الصلوات الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 384

و دعوى أنّه لا يعقل الوجوب عليه، إذ لا يصحّ منه إذا أتى به و هو كافر و يسقط عنه إذا أسلم. مدفوعة: بأنّه يمكن أن يكون الأمر به حال كفره أمرا تهكّميا ليعاقب لا حقيقيا، لكنّه مشكل بعد عدم إمكان إتيانه به لا كافرا و لا مسلما. و الأظهر أن يقال: انّه حال استطاعته مأمور بالإتيان به مستطيعا و إن تركه فمتسكعا، و هو ممكن في حقّه لإمكان إسلامه و إتيانه مع الاستطاعة و لا معها إن ترك فحال الاستطاعة مأمور به في ذلك الحال، و مأمور على فرض تركه حالها بفعله بعدها، و كذا يدفع الإشكال في قضاء الفوائت. فيقال: إنّه في الوقت مكلّف بالأداء و مع تركه بالقضاء و هو مقدور له بأن يسلم فيأتي بها أداء و مع تركها قضاء. فتوجه الأمر بالقضاء إليه إنّما هو في حال

الأداء على نحو الأمر المعلّق فحاصل الإشكال: انّه إذا لم يصحّ الإتيان به حال الكفر و لا يجب عليه إذا أسلم، فكيف يكون مكلّفا و يعاقب على تركه، و حاصل الجواب: انّه يكون مكلّفا بالقضاء في وقت الأداء على نحو الوجوب المعلّق، و مع تركه الإسلام في و الصيام الفائتة، لأعرضوا عن اعتناقه.

و الأولى أن يقال: انّه لا موضوع للقضاء في المقام، لأنّ الحجّ غير مؤقت بسنة الاستطاعة و إن وجب الإتيان به فوريا لكنّه لو أهمل و أخّره إلى السنة القادمة فهو أيضا أداء لا قضاء. و على ذلك فمادام الموضوع باقيا، يكون الوجوب فعليّا، و أمّا إذا انتفى الموضوع (الاستطاعة) فيسقط الوجوب، و أمّا إيجابه في حق المسلم إذا فوّت الاستطاعة فإنّما هو بدليل آخر، و لذلك لم نقل بوجوب قضاء صلاة الآيات غير المؤقتة كصلاة الزلزلة، و الصيحة السماوية.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 385

الوقت فوّت على نفسه الأداء و القضاء، فيستحقّ العقاب عليه. و بعبارة أخرى كان يمكنه الإتيان بالقضاء بالإسلام في الوقت إذا ترك الأداء و حينئذ فإذا ترك الإسلام و مات كافرا يعاقب على مخالفة الأمر بالقضاء، و إذا أسلم يغفر له، و إن خالف أيضا و استحقّ العقاب. (1)*

(1)* إنّ ثمرة القول بكون الكفّار مكلّفين بالفروع، هو صحّة عقوبتهم بتركها، و إلّا فلا ثمرة فقهية للمسألة، لاتّفاقهم على عدم وجوب القضاء عليهم إذا أسلموا.

ثمّ إنّ هنا إشكالا ذكره صاحب المدارك و نقله المصنف في المقام، و هو انّ الأمر الأدائي ليس مصبّ الإشكال، بل مصبّه هو الأمر القضائي، قال في «المدارك»:

أمّا سقوطه (أي القضاء) عن الكافر الأصلي فموضع وفاق، و في الأخبار دلالة عليه، و يستفاد من ذلك

انّه لا يخاطب بالقضاء و إن كان مخاطبا بغيره من التكاليف، لامتناع وقوعه منه في حال كفره و سقوطه بإسلامه. «1»

الظاهر انّ مصب الإشكال هو الأمر بالقضاء، لا الأمر بالأداء، فانّ الثاني ممكن الامتثال بتحصل شرطه (الإسلام)، فيكون حاله حال أكثر شروط الواجب كالطهارة التي يجب تحصيلها، بخلاف الأمر بالقضاء فانّه إنّما يتوجّه إذا فات منه بانقضاء الوقت، فلو حاول أن يقضي، فإمّا أن يقضي و هو كافر فلا يقبل منه، و إن حاول أن يقضي بعد ما أسلم فيسقط الأمر، لحديث الجبّ و غيره.

و بذلك يعلم أنّ تعبير المصنف غير واضح في تقرير الإشكال مع أنّه ذكره الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 386

.......... بوجهين.

و بذلك يعلم أنّ ما ذكره المحقّق في «المعتبر». «1» من أنّه يمكنه الأداء، لأنّ تقديم الإسلام ممكن منه، و إذا كان الشرط ممكنا لم يمتنع المشروط، كأنّه أجنبيّ عن الإشكال، إذ ليس الإشكال دائر حول الأمر الأدائي حتّى يقال بأنّه يمكنه الامتثال بتحصيل شرطه، و إنّما الإشكال في الأمر القضائي الذي لا يتولّد إلّا بعد الفوت و انقضاء الوقت، فعندئذ يمتنع أمره به، لأنّ المطلوب إمّا القضاء في حال الكفر، فهو غير مقبول، أو في حال الإسلام، فهو مسقط للأمر.

ثمّ إنّ المصنّف أجاب عن الإشكال بوجهين:

الأوّل: أنّ الأمر به حال كفره أمر تهكّمي لا أمر حقيقي، و الغاية من الأمر عقوبته. و الظاهر أنّ مراده من الأمر التهكّمي هو الأمر التعجيزي، مثل قوله:

قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. «2»

و لكنّه غير مفيد، لأنّ العقوبة من آثار الأمر الحقيقي، لا الصوري الاستهزائي الذي يكون خارجا عن مقدرة المكلّف، و قد وقف المصنّف على أنّه غير مفيد، فقال: لكنّه مشكل بعد عدم

إمكان إتيانه به لا كافرا و لا مسلما، و الأولى أن يقول: إنّ العقوبة من آثار الأمر الحقيقي لا الاستهزائي.

الثاني: انّ الأمر بالقضاء و إن كان ممتنعا- بعد خروج الوقت- لأنّ أمره بعد خروجه دائر بين عدم إمكان امتثاله إذا بقى على كفره، و سقوطه إذا أسلم. لكن يصحّ الأمر بالقضاء في حال الأداء و قبل فوت الوقت، فيؤمر الكافر- في حال الأداء- بأمرين:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 387

.......... 1. صل أداء بتحصيل شرطه، أي الإسلام، و المفروض أنّه قيد المأمور به، فيجب تحصيله، و ليس قيدا للوجوب.

2. صل قضاء إن لم تصل في الوقت، فكما أنّ الأمر الأوّل، غير خارج عن قدرته و طاقته، إذ في وسعه أن يسلم و يصلّي أداء، فهكذا الأمر الثاني داخل في حوزة قدرته، إذ في وسعه أيضا أن يسلم في الوقت و يقضي الصلاة في خارج الوقت إن تركها في وقتها، فهو بترك الإسلام في الوقت- بسوء اختياره- فوّت على نفسه كلا الأمرين، فلم يسلم و بالتالي لم يصل في الوقت، و لا أوجد شرط القضاء في خارج الوقت الذي هو الإسلام، فيصحّ عقابه على ترك الصلاة أداء، كما يصحّ عقابه على تركها قضاء.

و الحاصل: انّ الإسلام في ظرف الأداء يمكّنه من امتثال أمرين: امتثاله داخل الوقت أداء، و امتثاله خارج الوقت قضاء، فهو بترك الإسلام عصى كلا الأمرين.

و أورد عليه المحقّق الخوئي في مبحث قضاء الصلوات ما هذا حاصله:

ماذا يراد من أنّه مأمور في الوقت، بالقضاء خارجه؟ فلو أريد به الأمر المجعول على نحو القضية الحقيقية للموضوع، المفروض وجوده، الثابت في حقّ كلّ مكلّف، كجعل وجوب القضاء على تقدير الفوت، و وجوب الحجّ على تقدير الاستطاعة،

فهذا الأمر الكلّي، لا أثر له، لأنّه قضية شرطية، تدلّ على القضاء عند وجود موضوعه (الفوت)، و أمّا انّ الموضوع محقّق أو لا، فلا تدلّ عليه.

و إن أراد به الأمر الفعلي، فهو غير ثابت في الوقت، إذ لا فوت قبل انقضاء الوقت إلّا على سبيل القضية الشرطية التي ليس لها أثر، و لا أمر بعد انقضاء الوقت.

[المسألة 75: لو أحرم الكافر ثمّ أسلم في الأثناء لم يكفه

المسألة 75: لو أحرم الكافر ثمّ أسلم في الأثناء لم يكفه، و وجب عليه الإعادة من الميقات، و لو لم يتمكّن من العود إلى الميقات أحرم من موضعه و لا يكفيه إدراك أحد الوقوفين مسلما، لأنّ إحرامه باطل. (1)*

و الحاصل: انّه لا أمر بالقضاء قبل الفوت، و لا موضوع «1» له بعده. «2»

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يتمّ على القول بانحلال الأمر الوارد في الكتاب و السنّة إلى أوامر حسب عدد المكلّفين، فيقال: لا فوت في الوقت و لا أمر بعده، و أمّا إذا قلنا بما هو المختار لدى سيدنا الأستاذ قدّس سرّه من وحدة الأمر و انّ الأمر الكلّي المتعلّق بعنوان كلي، حجّة في حقّ كلّ واحد من المكلّفين، مسلما كان أو كافرا، فلا يرد الإشكال، لأنّه قام في حقّ الكافر- و هو في الوقت- حجّتان كليتان: على لزوم إتيان الواجب في وقته أداء، و قضائه بعد الوقت، و قد خالف كلتا الحجتين بترك الإسلام.

ثمّ إنّ صحّة العقوبة لا تتوقف على تصحيح الأمر بالقضاء، بل تكفي مخالفة الأمر الأدائي فقط و إن لم يكن هناك أمر قضائي.

(1)* في المسألة فرعان:

1. إذا أحرم و هو كافر و جاوز الميقات ثمّ أسلم.

2. لو حجّ كافرا و أدرك أحد الموقفين مسلما.

فلندرس الفرعين:

أمّا الفرع الأوّل: فقد قال الشيخ: من أسلم و قد

جاوز الميقات فعليه الرجوع الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 389

.......... إلى الميقات و الإحرام منه، فإن لم يفعل و أحرم من موضعه، و حجّ تمّ حجّه، و لا يلزمه دم. و به قال أبو حنيفة، و المزني، و قال الشافعي: يلزمه دم قولا واحدا. «1»

و قال المحقّق: فلو أحرم ثمّ أسلم أعاد الإحرام، و لو لم يتمكّن من العود إلى الميقات أحرم من موضعه.

و لما كان ظاهر قول الشيخ: «فإن لم يفعل» في كونه مختارا في الرجوع إلى الميقات و عدمه، تحمل العبارة على ما إذا لم يتمكّن من العود كما فعله المحقّق.

أمّا وجوب الرجوع إلى الميقات مع الإمكان و إعادة الإحرام منه، فلأجل بطلان إحرامه مع الكفر، فيرجع فيحرم منه.

إنّما الكلام في قوله: «و لو لم يتمكن من العود إلى الميقات أحرم من موضعه»، و ذلك لإلحاقه بناسي الإحرام أو بالجاهل بالحكم، حيث يرجعان إلى الميقات إن أمكن، و إلّا فيحرمان من موضعهما». «2»

و في «المدارك»: انّ الكافر أعذر من الناسي و الجاهل، و أنسب بالتخفيف، مع ثبوت ذلك بالنسبة إليهما.

و يحتمل وجوب الإحرام من أدنى الحل، أعني: الجعرّانة أو الحديبية و التنعيم، فانّ المشهور انّ «أدنى الحلّ» ميقات من يريد العمرة المفردة من مكة فقط، و لكن يمكن أن يقال انّ أدنى الحل ميقات من يحج على طريق لا يفضي إلى أحد المواقيت حتّى المحاذاة، فليكن المقام من مصاديقه حيث تجاوز الميقات و ليس في مسيره ميقات. و قد استقربه العلّامة في القواعد و ولده في الشرح «3» في الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 390

.......... خصوص من يحجّ عن طريق لا يفضي إلى أحد المواقيت. هذا كلّه في إحرامه للعمرة.

و أمّا

الفرع الثاني: أعني ما لو أحرم للحجّ كافرا و أدرك أحد الموقفين مسلما، فلا يجزيه لبطلان إحرامه، و إنّما يجزي إدراك أحد الموقفين إذا صحّ إحرامه.

قال المحقّق: و لو أحرم بالحجّ و أدرك الوقوف بالمشعر لم يجزئه.

و بذلك يعلم وجود الإجمال في عبارة المصنف حيث كان عليه أن يقيّد الفرع الأوّل بالإحرام للعمرة، و الثاني بالإحرام للحجّ.

ثمّ إنّ مراد المصنّف من قوله: «و لا يكفيه إدراك أحد الموقفين ...» هو عدم إجزائه بهذا الإحرام، و إلّا فلو أحرم مسلما على ما هو وظيفته ثمّ أدرك أحد الموقفين، يكفيه، و لذلك قال المحقّق: إلّا أن يستأنف إحراما آخر، و إن ضاق الوقت أحرم و لو بعرفات.

و في «المسالك»: حق العبارة أن يقول: «أحرم و لو بالمشعر»، لأنّه أبعد ما يمكن فرض الإحرام منه. «1»

و قال في «المدارك»: و هو جيد إن ثبت جواز استئناف الإحرام من المشعر. «2»

[المسألة 76: المرتدّ يجب عليه الحجّ

المسألة 76: المرتدّ يجب عليه الحجّ، سواء كانت استطاعته حال إسلامه السابق، أو حال ارتداده، و لا يصحّ منه، فإن مات قبل أن يتوب يعاقب على تركه، و لا يقضى عنه على الأقوى، لعدم أهليّته للإكرام و تفريغ ذمّته، كالكافر الأصليّ، و إن تاب وجب عليه و صحّ منه و إن كان فطريّا على الأقوى من قبول توبته، سواء بقيت استطاعته أو زالت قبل توبته، فلا تجري فيه قاعدة جبّ الإسلام، لأنّها مختصّة بالكافر الأصلي بحكم التبادر، و لو أحرم في حال ردّته ثمّ تاب وجب عليه الإعادة كالكافر الأصلي، و لو حجّ في حال إحرامه ثمّ ارتدّ لم يجب عليه الإعادة على الأقوى، ففي خبر زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «من كان مؤمنا فحجّ ثمّ أصابته

فتنة ثمّ تاب، يحسب له كلّ عمل صالح عمله، و لا يبطل منه شي ء»، و آية الحبط مختصة بمن مات على كفره، بقرينة الآية الأخرى، و هي قوله تعالى: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ «1» و هذه الآية دليل على قبول توبة المرتدّ الفطريّ، فما ذكره بعضهم من عدم قبولها منه لا وجه له. (1)*

(1)* في المسألة فروع:

1. المرتد كالكافر الأصلي يجب عليه الحجّ و لا يصحّ منه.

2. لو مات مرتدا لا يقضى عنه.

3. و إن تاب وجب عليه و صحّ منه، بقيت استطاعته أو زالت. و لا تجري في حقّه قاعدة الجبّ.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 392

.......... 4. و لو أحرم حال ردّته ثمّ تاب، وجب عليه الإعادة.

5. و لو حجّ حال إسلامه ثمّ ارتدّ، لم تجب الإعادة.

إنّ الاختلاف في أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع أو لا، مختصّ بالكافر الأصلي دون المرتد، سواء أكان فطريا أم مليّا، فهو محكوم بها كما هو محكوم بالأصول، و على هذا تظهر حال الفروع.

أمّا الأوّل: فواضح لما عرفت من الاتفاق على أنّه محكوم بالفروع، مضافا إلى الإطلاقات و العمومات، و لكن لا يصح منه، لما عرفت من أنّ الإسلام شرط الصحّة، أو أنّ الكفر مانع منها.

و أمّا الثاني: إذا مات و هو مستطيع فلا يقضى عنه، فلأجل عدم أهليته للإكرام و تفريغ الذمّة كالكافر الأصلي، و سيوافيك من أنّه يشترط في المنوب عنه، أن يكون مسلما إلّا إذا كان أبا ناصبيّا.

و أمّا الثالث: أعني: إذا تاب، فيجب عليه الحجّ إذا قبلت توبته و بقيت استطاعته، و ذلك لأنّه مسلم مستطيع، يجب عليه الحجّ، و أمّا إذا زالت، فلأجل وجوب الحجّ

عليه في حال الردّة، و أمّا حديث الجب فيختص بالكافر الأصلي، فلا يصحّ أن يقال: تسقط بالإسلام سببيته الاستطاعة السابقة الحاصلة في حال الكفر لوجوب الحجّ، لأنّ مورد الحديث هو الكافر الأصلي.

و أمّا الرابع: أعني: إذا أحرم في حال ردّته ثمّ تاب، يجري في حقّه ما قلناه في الكافر الأصلي، فتجب عليه الإعادة من الميقات و لو لم يتمكّن من العود إلى الميقات أحرم من موضعه.

و أمّا الخامس: أعني: إذا حجّ في حال إسلامه، ثمّ ارتدّ ثمّ تاب لم يجب عليه الإعادة، لمعتبرة زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من كان مؤمنا فحجّ، و عمل في الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 393

.......... إيمانه، ثمّ أصابته في إيمانه فتنة فكفر، ثمّ تاب و آمن، قال: «يحسب له كلّ عمل صالح عمله في إيمانه، و لا يبطل منه شي ء». «1»

و الرواية معتبرة، تدلّ على قبول توبة المرتد الفطري، إلّا في الأحكام الثلاثة، لأنّها تجري عليه مطلقا. «2»

و الحسين بن علي بن سفيان البزوفري في سند الشيخ ثقة، وثّقه النجاشي، و طريق الشيخ إلى كتابه في رجاله صحيح ذكره فيمن لم يرووا عنهم عليهم السّلام.

و يؤيّده عدم وجوب حجّ الإسلام إلّا مرّة واحدة، و قد حصلت، و خالف الشيخ في المقام قائلا: بأنّ الارتداد يكشف عن عدم الإسلام السابق، و لأنّ اللّه لا يضل قوما بعد إذ هداهم.

يلاحظ عليه: أنّه مخالف للوجدان، فكم من رجل صالح أوتي آيات اللّه ثمّ ضلّ كما يقول سبحانه: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها. «3»

و مخالف للذكر الحكيم يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ.

«4»

و أمّا الآية، فهي على خلاف مقصوده أدلّ، إذ يقول سبحانه: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ «5»، و الآية صريحة في الإضلال لكن بعد إتمام الحجّة عليه.

و ما دلّ على حبط عمل الكافر مثل قوله سبحانه: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ

[المسألة 77: لو أحرم مسلما ثمّ ارتدّ ثمّ تاب لم يبطل إحرامه على الأصحّ

المسألة 77: لو أحرم مسلما ثمّ ارتدّ ثمّ تاب لم يبطل إحرامه على الأصحّ، كما هو كذلك لو ارتدّ في أثناء الغسل ثمّ تاب، و كذا لو ارتدّ في أثناء الأذان أو الإقامة أو الوضوء ثمّ تاب قبل فوات الموالاة، بل و كذا لو ارتدّ في أثناء الصلاة ثمّ تاب قبل أن يأتي بشي ء أو يفوت الموالاة، على الأقوى من عدم كون الهيئة الاتّصاليّة جزءا فيها، نعم لو ارتدّ في أثناء الصوم بطل و إن تاب بلا فصل. (1)*

حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ «1»، محمول على العمل الصادر حال الكفر، لا حال الإسلام، و لو قلنا بالعموم و الشمول حتّى لما عمل حال الإسلام فهو محمول على الموافاة بالكفر. بشهادة قوله سبحانه: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ. «2»

(1)* قال الشيخ في «المبسوط»: فإن أحرم ثمّ ارتدّ ثمّ عاد إلى الإسلام جاز أن يبني عليه. «3»

و قال المحقّق في «الشرائع»: و لو أحرم مسلما ثمّ ارتدّ ثمّ تاب، لم يبطل إحرامه على الأصحّ. «4»

و قال في «المنتهى»: لو أحرم ثمّ ارتدّ ثمّ عاد إلى الإسلام كان إحرامه باقيا- ثمّ قال:- و للشافعي وجهان، أحدهما الإبطال. «5»

و قال في «التذكرة»: لو أحرم ثمّ ارتدّ ثمّ عاد إلى

الإسلام كان إحرامه باقيا،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 395

.......... و بنى عليه، و للشافعي وجهان، أحدهما: الإبطال. «1»

أقول: لمّا كان الإحرام من الأمور القلبية قائما بالنيّة و كان الارتداد أثناء الإحرام يوجب زوالها و بطلان الجزء المقارن له، نظير الارتداد في أثناء الصوم، صار بعضهم لبيان الفرق بين الأمرين بالبيان التالي:

1. تارة يكون الزمان داخلا في مفهوم الواجب كالصوم، فانّه عبارة عن الإمساك المقرون بالنيّة من الفجر إلى المغرب، فلو نوى الإفطار و لو لحظة يبطل صومه، إذ الواجب عليه الإمساك من الفجر ممتدا إلى المغرب، و لو نقض نيّته و لو في آن يبطل صومه.

2. لا يكون الزمان داخلا في مفهومه و لكن يشترط فيه الاتصال بأن يكون من أوّل الصلاة إلى آخرها في حالة الصلاة و لا يكون خارجا عنها.

3. ما لا يكون الزمان داخلا في مفهومه، و لا يعتبر فيه الاتصال بالمعنى الذي عرفت، و هذا كالغسل فالزمان ليس مقوّما له و لا يعتبر فيه الاتصال بأن يكون الإنسان من بدء العمل إلى آخره مشغولا بالعمل، بل ربّما يتخلل بين أجزاء العمل شي ء غيرها، فالعمل يكون صحيحا ما لم يحصل مبطل خارجي.

و الإحرام من قبيل القسم الثالث، و لذلك لا يضره، إذ حصل الارتداد بين الإسلامين، و معه يعلم حال الارتداد أثناء الغسل إذا تاب بعده أو أثناء الأذان و الوضوء إذا تاب بعدهما بشرط عدم فوت الموالاة.

و ألحق المصنف بما ذكر الارتداد في أثناء الصلاة إذا تاب بعد الارتداد، بناء على عدم كون الهيئة الاتصالية جزءا للصلاة. «2»

أقول: إنّ قياس الإحرام بالغسل قياس مع الفارق، لأنّ الإحرام أمر قلبي

[المسألة 78: إذا حجّ المخالف ثمّ استبصر لا يجب عليه الإعادة]

المسألة 78: إذا حجّ المخالف ثمّ استبصر لا يجب عليه الإعادة،

بشرط أن يكون صحيحا في مذهبه، و إن لم يكن صحيحا في مذهبنا من غير فرق بين الفرق، لإطلاق الأخبار. و ما دلّ على الإعادة من الأخبار محمول على الاستحباب، بقرينة بعضها الآخر، من حيث التعبير بقوله عليه السّلام: «يقضي أحبّ إلي». و قوله عليه السّلام: «و الحجّ أحبّ إليّ». (1)*

قائم بالنيّة و لبس الثوبين واجب آخر، فلو أحرم، و لم يلبس الثوبين فقد تم إحرامه، بخلاف الوضوء فانّه عبارة عن الغسلتين و المسحتين الصادرتين عن نيّة، و الزمان المتخلل بين الأعمال ليس من أجزاء الوضوء، فلو ارتد فيه ثمّ تاب، لا يضرّ بالعبادة، و هذا بخلاف الإحرام فإنّه عمل قلبي يقصد تحريم أمور خاصّة مادام لم يخرج عن العمل متقرّبا، فالقصد بهذا المعنى معتبر حدوثا و بقاء، و الارتداد بعد الإحرام، ينافي ذلك فتدبّر. و الأحوط إعادة الإحرام وفاقا لبعض المحشّين حيث احتمل كونه كالصوم.

فإن قيل: ذكر المصنف في الفصل الثالث عشر (فصل كيفية الإحرام) انّ المحرم لو عزم على ترك المحرمات و لم يستمرّ عزمه بأن نوى بعد تحقّق الإحرام عدمه لم يبطل. «1»

قلنا: ما ذكره راجع إلى نيّة فعل المحظور فهي لا تبطل حتّى مع ارتكابه، و هذا غير نيّة الخروج عن الإحرام و عدم استمرار العمل، فهل هو أيضا لا يبطل؟

فلا يظهر من كلامه و ما نحن فيه أشبه بالثاني.

(1)* في المسألة فرعان:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 397

.......... 1. إجزاء حجّ المخالف عن الإعادة إذا استبصر بعد العمل.

2. لا فرق بين الفرق الإسلامية.

أمّا الأوّل: أعني: صحّة حجّ المخالف، ففيه أقوال:

1. صحيح لا يعيد إذا حجّ صحيحا حسب مذهبه، نسب هذا إلى المشهور.

2. باطل يعيد، نسبه العلامة إلى ابن الجنيد، في

المختلف «1» و اختاره ابن البراج في «المهذّب»، قال: و إذا كان الإنسان مخالفا للحقّ و أتى بجميع أركان الحج لم يجزه هذه الحجّة عن حجّة الإسلام و عليه الإعادة. «2»

3. التفصيل بين ما لم يخلّ بركن من أركان الحجّ، فصحيح لا يعيد، و ما إذا أخلّ به فيعيد، و هو خيرة الشيخ في «المبسوط» و «النهاية»، و المحقّق في «الشرائع»، و العلّامة في «التذكرة» و «المنتهى»، و الشهيد في «الدروس»، و غيرهم.

قال الشيخ في «المبسوط»: و من حجّ و هو مخالف للحق ثمّ استبصر، فإن كان قد حجّ بجميع شرائط الوجوب و لم يخلّ بشي ء من أركانه، أجزأه، و يستحب له إعادته، و إن كان أخلّ بشي ء من ذلك، فعليه الإعادة على كلّ حال.»

2. و قال في «النهاية»: و من حجّ و هو مخالف لم يعرف الحق على الوجه الذي يجب عليه الحجّ و لم يخلّ بشي ء من أركانه، فقد أجزأته عن حجّة الإسلام، و يستحب له إعادة الحجّ بعد استبصاره، و إن كان قد أخلّ بشي ء من أركان الحجّ لم يجزئه ذلك عن حجّة الإسلام، و كان عليه قضاؤها فيما بعد. «4»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 398

.......... و قال المحقّق في «الشرائع»: و المخالف إذا استبصر، لا يعيد الحج، إلّا أن يخلّ بركن منه. «1»

و قال العلّامة في «التذكرة»: المخالف إذا حجّ على معتقده و لم يخلّ بشي ء من أركان الحجّ لم تجب عليه الإعادة. «2»

و قال في «المنتهى»: المخالف للإمامية من أهل القبلة إذا حجّ ثمّ استبصر، فإن كان قد أتى بأركان الحجّ واقعا صحّ حجّه و أجزأ عنه. «3»

و قال الشهيد في «الدروس»: فلو حجّ المخالف أجزأ ما لم يخلّ

بركن عندنا لا عنده، فلو استبصر لم تجب الإعادة. «4»

دليل القول بعدم الإجزاء احتجّ لقول ابن الجنيد بروايتين أحدهما رواية علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال: «و كذلك الناصب إذا عرف فعليه الحجّ و إن كان قد حجّ». «5»

و الرواية ضعيفة سندا، مختصة بالناصب، إلّا أن يراد به مطلق المخالف، و صدر الحديث، يتضمن عدم إجزاء حجّ المعسر إذا أحجّه رجل، و قد عرفت إجزاءه، و لعلّه قرينة على حمل الحديث صدرا و ذيلا على الاستحباب.

و ثانيهما مكاتبة إبراهيم بن محمد بن عمران الهمداني إلى أبي جعفر عليه السّلام: إنّي حججت و أنا مخالف و كنت صرورة فدخلت متمتعا بالعمرة إلى الحجّ؟ قال:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 399

.......... فكتب إليه: «أعد حجّك». «1» و المكاتب لم يوثق إلّا أن يقال انّ العبرة برؤية علي ابن مهزيار خط الإمام و هو غير بعيد، فتحمل الرواية على الاستحباب.

استدلّ للقول المشهور و هو خيرة المصنف بروايات متضافرة دالّة على الإجزاء و انّ الإعادة أفضل و أحب.

1. صحيح بريد بن معاوية العجلي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل حجّ و هو لا يعرف هذا الأمر ثمّ منّ اللّه عليه بمعرفته و الدينونة به، عليه حجّة الإسلام، أو قد قضى فريضته؟ فقال: قد قضى فريضته، و لو حجّ لكان أحبّ إليّ كل عمل عمله و هو في حال نصبه و ضلالته ثمّ منّ اللّه عليه و عرّفه الولاية فإنّه يؤجر عليه إلّا الزكاة فإنّه يعيدها، لأنّه وضعها في غير موضعها لأنّها لأهل الولاية، و أمّا الصلاة و الحجّ و الصيام فليس عليه قضاء». «2»

و سألته عن

رجل حجّ و هو في بعض هذه الأصناف من أهل القبلة، ناصب متديّن، ثمّ منّ اللّه عليه فعرف هذا الأمر، يقضي حجّة الإسلام؟ فقال: «يقضي أحب إلي». «3»

2. صحيح عمر بن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل حجّ و لا يدري و لا يعرف هذا الأمر ثمّ منّ اللّه عليه بمعرفته و الدينونة به، أعليه حجّة الإسلام؟ قال: «قد قضى فريضة اللّه و الحجّ أحب إليّ». 4

هذا النقل مطابق لما رواه الفقيه، و في رواية الكليني زيادة: انّه سأله عن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 400

.......... رجل هو في بعض هذه الأصناف من أهل القبلة، ناصب متديّن، ثمّ منّ اللّه عليه فعرف هذا الأمر، أيقضي عنه حجّة الإسلام، أو عليه أن يحجّ من قابل؟ قال:

«يحجّ أحب إليّ». «1»

و هذه الروايات قرينة على أنّ الأمر بالإعادة في الروايتين السابقتين للاستحباب.

أقول: إنّ في الروايات احتمالات:

الأوّل: ما يكون صحيحا في حدّ نفسه و ينطبق على الصحيح عندنا، و هو اللائح من عبارة المنتهى السابقة، و ذلك لأنّ الروايات ناظرة إلى إلغاء شرطية الإيمان حين العمل، و انّه يكفي الإيمان المتأخّر، و لا يكون فساد العقيدة سببا لقدح العبادة، إذا تلتها عقيدة صحيحة، فإذا كانت الروايات بصدد هذا فقط فتختص بما هو الصحيح في حد نفسه دون أن تكون ناظرة إلى إلغاء اعتبار سائر الأجزاء و الشرائط و الأركان.

يلاحظ عليه: أنّ تفسير الروايات بهذا الوجه، يوجب حملها على فرد نادر، و صحيح بريد بن معاوية لا يختص بالحجّ، بل موردها الأعم منه و من الصلاة و الصوم مع كثرة الاختلاف فيهما بيننا و بينهم: «كلّ عمل عمله و هو في حال نصبه

و ضلالته، ثمّ منّ اللّه عليه و عرّفه الولاية، فانّه يؤجر عليه، إلّا الزكاة فإنّه يعيدها، لأنّه وضعها في غير مواضعها، لأنّها لأهل الولاية، و أمّا الصلاة و الحجّ و الصيام، فليس عليه قضاء». «2»، و لو قلنا بهذا الاحتمال (الصحيح الواقعي) يجب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 401

.......... عليهم إعادة غالب العبادات.

الثاني: ما يكون صحيحا عند العامل، و هو الغالب، سواء أكان صحيحا عندنا أم لا، و على هذا فليس لغالب المستبصرين إعادة العبادات، لأنّ الأعمّ الأغلب منها، صحيح على مذهب العامل.

الثالث: الأعمّ من الصحيح عنده و عندنا، بشهادة أنّ بعض الأصحاب قيّدوا الصحة بعدم الإخلال بالركن عندنا، لكن ليس المراد به تخصيص الصحّة بالصحيح عندنا حتّى يرجع إلى الاحتمال الأوّل، بل المراد هو توسعة دائرة الصحة حتّى تعمّ ما هو الصحيح عندنا أيضا، و ذلك لأنّ للحجّ خصوصية، و هي انّ كلّ ما هو ركن عندنا ركن عندهم، و لا عكس، كالحلق فانّه ركن عندهم دوننا، و الغرض من تقييد عدم الإخلال بالركن عندنا، توسعة دائرة الصحة في باب الحج و هو انّه إذا كان العمل صحيحا عندنا و إن لم يكن صحيحا عندهم، يجزي بلا حاجة إلى الإعادة و ليس الغرض هو تخصيص عدم الإجزاء، بما هو الصحيح عندنا حتّى يترتب عليه لزوم الإعادة بترك ما هو ركن عندنا و ليس بركن عندهم.

هذا و يمكن أن يقال انّ الروايات ناظرة إلى الصحّة عند العامل، و لكن استفادة صحّة عبادة المستبصر إذا أتى بها قبل استبصاره على وفق مذهب الشيعة، بالأولوية إذا تمشّى منه القربة، ضرورة أولويته في سقوط القضاء و الإعادة عن العمل المخالف للواقع.

ثمّ الظاهر عدم الفرق بين الفرق، و

قد ورد فيه الناصب المحكوم بالكفر في رواية بريد، و عمر بن أذينة، فإذا أجزأ حجّ الناصب فإجزاء غيره بوجه أولى.

و في رواية الفضلاء: عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: أنّهما قالا في الرجل

[المسألة 79: لا يشترط إذن الزوج للزوجة في الحجّ إذا كانت مستطيعة]

المسألة 79: لا يشترط إذن الزوج للزوجة في الحجّ إذا كانت مستطيعة، و لا يجوز له منعها منه، و كذا في الحجّ الواجب بالنذر و نحوه إذا كان مضيّقا، و أمّا في الحجّ المندوب فيشترط إذنه، و كذا في الواجب الموسّع قبل تضيّقه على الأقوى، بل في حجّة الإسلام يجوز له منعها من الخروج مع أوّل الرفقة، مع وجود الرفقة الأخرى قبل تضيّق الوقت، و المطلّقة الرجعيّة كالزوجة في اشتراط إذن الزوج مادامت في العدّة، بخلاف البائنة، لانقطاع عصمتها منه، و كذا المعتدّة للوفاة، فيجوز لها الحجّ واجبا كان أو مندوبا، و الظاهر أنّ المنقطعة كالدائمة في اشتراط الإذن، و لا فرق في اشتراط الإذن بين أن يكون ممنوعا من الاستمتاع بها- لمرض أو سفر- أو لا. (1)*

يكون في بعض هذه الأهواء، الحرورية، و المرجئة، و العثمانية، و القدرية، ثمّ يتوب و يعرف هذا الأمر و يحسن رأيه، أيعيد كلّ صلاة صلّاها أو صوم أو زكاة أو حجّ، أو ليس عليه إعادة شي ء من ذلك؟ قال: «ليس عليه إعادة شي ء من ذلك غير الزكاة، لابدّ أن يؤدّيها، لأنّه وضع الزكاة في غير موضعها و انّما موضعها أهل الولاية». «1»

و نقل في «الجواهر» عن العلّامة قصر الحكم على من لم يكن كافرا منهم، لأنّ المعفو حيثية الخلاف، لا إذا انضمت إليه حيثية الكفر.

و هو كما ترى لا تصدقه النصوص السابقة.

(1)* في المسألة فروع تسعة:

1. عدم اشتراط إذن الزوج في

حجّة الإسلام.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 403

.......... 2. الحجّ الواجب بالنذر و إذن الزوج.

3. الحجّ المندوب و إذن الزوج.

4. حكم الحجّ الواجب الموسّع و جواز تأخيره.

5. المنع من الخروج مع القافلة الأولى.

6. حجّ المعتدّة الرجعية و إذن الزوج.

7. حجّ المطلقة البائنة و إذن الزوج.

8. حكم المعتدّة، عدّة الوفاة.

9. حجّ المنقطعة و إذن الزوج.

و إليك دراسة الفروع واحدا بعد الآخر.

الفرع الأوّل: في حجّ المرأة حجّة الإسلام، فقد اتّفقت كلمة الإمامية على أنّه ليس للزوج منع الزوجة عن سفر الحجّ الواجب إذا حصلت شرائطه، و نقتصر على نقل بعض الكلمات:

1. قال الشيخ في «الخلاف»: ليس للرجل أن يمنع زوجته الحرة من حجّة الإسلام إذا وجبت عليها، و به قال مالك، و أبو حنيفة، و الشافعي في اختلاف الحديث، و قال في القديم و الجديد: له منعها من ذلك. «1»

2. قال المحقّق: و لا يصحّ حجّها تطوّعا إلّا بإذن زوجها، نعم لها ذلك في الواجب. «2»

3. و قال العلّامة في «التذكرة»: لا يجوز للرجل منع زوجته الموسرة من حجّة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 404

.......... الإسلام إذا حصلت الشرائط عند علمائنا، و به قال النخعي و إسحاق و أبو ثور و أحمد و أصحاب الرأي و الشافعي في أصحّ قوليه، لما رواه العامّة عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: «لا تمنعوا إماء اللّه عن مساجد اللّه».

و من طريق الخاصّة: رواية محمد بن مسلم- في الصحيح-، عن الباقر عليه السّلام، قال: سألته عن المرأة لم تحج و لها زوج فأبى أن يأذن لها في الحجّ فغاب زوجها، فهل لها أن تحج؟ قال: «لا طاعة له عليها في حجّة الإسلام».

و لأنّه فرض فلم يكن له منعها

منه، كالصوم و الصلاة الواجبين.

و قال الشافعي في الآخر: له منعها منه، لأنّ الحجّ على التراخي؛ و هو ممنوع.

إذا عرفت هذا فيستحب أن تستأذنه في ذلك، فإن أذن و إلّا خرجت بغير إذنه. «1»

و في الشرح الكبير في ذيل المغني: ليس للزوج منع امرأته من المضيّ إلى الحجّ الواجب عليها إذا كملت شروطه و كان لها محرم يخرج معها، لأنّه واجب، و ليس له منعها من الواجبات كالصوم و الصلاة. و هذا قول النخعي و إسحاق و أصحاب الرأي، و هو الصحيح من قولي الشافعي، و له قول آخر: إنّ له منعها بناء على أنّ الحجّ على التراخي،- إلى أن قال-: و يستحبّ لها استئذانه، نصّ عليه، فإن أذن لها و إلّا خرجت بغير إذنه. «2»

و قال الشيرازي: و إن أحرمت المرأة بغير إذن الزوج، فإن كان في تطوّع جاز له أن يحللها، لأنّ حق الزوج واجب فلا يجوز إبطاله عليه بتطوّع، و إن كان في الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 405

.......... حجّة الإسلام ففيه قولان:

أحدهما: انّ له أن يحلّلها، لأنّ حقّه على الفور و الحجّ على التراخي، فقدّم حقّه.

و الثاني: انّه لا يملك، لأنّه فرض فلا يملك تحليلها منه كالصوم و الصلاة. «1»

و على كلّ تقدير فالمسألة مورد اتّفاق، و الروايات في عدم شرطية إذنه مستفيضة و نقتصر على واحدة ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن امرأة لها زوج و هي صرورة و لا يأذن لها في الحجّ؟ قال: «تحجّ و إن لم يأذن لها». «2»

الفرع الثاني: أعني الحجّ الواجب بالنذر و نحوه إذا كان مضيّقا، فقد ألحقه المصنف بحجّ الإسلام، مع أنّ مورد الروايات هو الثاني، وجه

الإلحاق بوجوه:

1. إلغاء الخصوصية، فانّ المسقط لإذن الزوج كونه أمرا واجبا لا مندوبا.

2. الإجماع.

3. قوله: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

و الجميع كما ترى.

أمّا الأوّل: فلأنّ إلغاء الإذن في الأقوى كحجّ الإسلام، لا يكون دليلا على إلغائه في الأضعف.

و أمّا الثاني: فلأنّ المسألة غير معنونة في كتب القدماء، فكيف يكون الجواز إجماعيا؟!

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 406

.......... و أمّا الثالث: فللشكّ في الموضوع و انّ المنع يعدّ معصية للخالق، لاحتمال شرطية إذنه بعد إطلاق ما دلّ على حرمة خروجها من بيتها إلّا بإذن الزوج.

و في مقابل هذا القول، قول من يقول بعدم انعقاد النذر، فانّ العمل لابدّ أن يكون في نفسه راجحا مع قطع النظر عن تعلّق النذر به، و عليه إذا فرضنا أنّ خروج الزوجة من البيت من دون إذن الزوج محرم كما في النصوص المعتبرة. «1» فلا ينعقد نذرها، للحجّ المستلزم الخروج من البيت. «2»

يلاحظ عليه: أنّه يشترط أن يكون المنذور راجحا، و ليس المنذور الخروج من البيت بلا إذن الزوج حتّى يقال انّه محرّم، بل المنذور هو حجّ البيت، و لا إشكال انّه راجح في حدّ ذاته. و أقصى ما يمكن أن يقال: انّه لو كان الحجّ ملازما لترك البيت بلا إذنه- كما هو المفروض- يقع التزاحم بين الحكمين.

و على ذلك فلابدّ من التفصيل بين الصور:

1. إذا كانت مأذونة في النذر، و قيّدت النذر بسنة معيّنة.

2. إذا كانت مأذونة في النذر و أطلقت النذر و لم يقيده بسنة خاصّة.

3. إذا تقدّم النذر على عقد الزواج.

الفرع الثالث: الحجّ المندوب لا شكّ في عدم جواز الحجّ المندوب إلّا بإذنه، لأنّ الخروج من بيتها بدون إذن الزوج محرّم و عليها الاستئذان منه في الخروج

من البيت.

و ربّما يقال بعدم اعتبار إذنه إذا لم يكن منافيا لحقّ الزوج.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 407

.......... يلاحظ عليه: بأنّ إطلاق ما دلّ على عدم جواز خروجها من البيت إلّا بإذنه- سوى ما جرت السيرة عليه- مانع آخر.

و القائل بالجواز في المقام، يقدّم الحجّ على النذر فيما إذا تزاحم نذر زيارة الحسين عليه السّلام في يوم عرفة مع الحجّ بحجّة انّ المنذور يجب أن يكون راجحا حين العمل، و العمل المندوب المنافي للحجّ ليس براجح، و على ضوء هذا يرد عليه انّ الحجّ المندوب الملازم للخروج المحرّم، لا رجحان فيه، فكيف يجوز و إن لم يناف حقّه؟!

الفرع الرابع: إذا كان الواجب موسّعا، كما إذا نذرت الحجّ بإذن الزوج نذرا موسّعا إلى ثلاث سنوات، فله أن يمنع من الموسّع إلى أن يضيق، لإطلاق ما دلّ على اعتبار إذن الزوج في الخروج من البيت.

الفرع الخامس: إذا كان هناك قوافل للحجّ فليس للزوج أن يمنع الزوجة من أصل الحجّ، لكن له أن يمنعها من الخروج مع القافلة الأولى، مع إمكان الخروج مع القافلة الثانية قبل تضيق الوقت.

و الحاصل: انّه ليس للزوج منع الزوجة من أصل العمل، لكن له المنع عن الخصوصيات، أخذا بإطلاق ما دلّ على عدم جواز الخروج من البيت إلّا بإذنه سوى ما جرت السيرة على الخروج للاستحمام و زيارة الوالدين و أضرابهما.

ما ذكرناه يختصّ بالواجب الملازم لترك البيت، و أمّا الواجب غير المستلزم كالصلاة في أوّل الوقت فليس له منعها منها في ذلك الوقت إلّا إذا كان منافيا لحقّ الزوج.

و الحاصل: انّ هنا مانعين:

الأوّل: كون العمل منافيا لحقّ الزوج.

الثاني: كونه مستلزما للخروج من البيت بلا إذنه.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 408

.......... فلكلّ

مورده الخاص.

الفرع السادس: المطلقة الرجعية كالزوجة فيجي ء فيها التفصيل السابق في الزوجة، بين الواجب و المندوب مادامت في العدّة.

قال الشيخ في «الخلاف»: يجوز للمرأة أن تخرج في حجّة الإسلام و إن كانت معتدة، أي عدّة كانت، و منع الفقهاء كلّهم من ذلك. «1»

قال المحقّق: و كذا لو كانت في عدة رجعية، و أضاف صاحب الجواهر قوله: في الحج المندوب و الواجب ضيّقه و موسّعه، لأنّها بحكم الزوجة.

و المسألة مورد اتّفاق.

و أمّا الروايات، فهي على طوائف:

الأولى: ما تدلّ على أنّها لا تحجّ، من غير فرق بين حجّ الإسلام و غيره، بل مع الإذن و عدمه، كصحيحة معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال: «لا تحجّ المطلّقة في عدّتها». «2»

الثانية: ما تدلّ على أنّها تحجّ، من غير فرق بين حجّ الإسلام و غيره، و إذنه و عدمه، كصحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما عليه السّلام، قال: «المطلقة تحجّ في عدتها». «3»

الثالثة: ما تدلّ على الفرق بين حجّ الإسلام و غيره، و أنّ الأوّل لا يحتاج إلى الإذن، و يدلّ عليه خبر منصور بن حازم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المطلقة تحجّ في عدتها؟ قال: «إن كانت صرورة حجّت في عدّتها، و إن كانت حجّت فلا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 409

.......... تحجّ حتّى تقضي عدّتها». «1»

الرابعة: ما تدلّ على أنّ المطلقة تحجّ في عدتها بإذن زوجها، كما في صحيح معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: «المطلقة تحجّ في عدّتها إن طابت نفس زوجها». «2»

و الظاهر هو التفصيل المطابق لما جاء في خبر منصور بن حازم فانّه و إن كان مرسلا و لكنّه موافق

للقاعدة، فانّ المطلقة الرجعية ليست بأشدّ من الزوجة، و قد عرفت فيه التفصيل.

و يحمل صحيح معاوية بن عمّار على الاستحباب.

الفرع السابع: البائنة تحجّ بلا حاجة إلى الإذن لانقطاع عصمتها منه.

قال المحقّق: نعم في البائنة لها المبادرة من دون إذنه، و علّله في «الجواهر» بانقطاع عصمة الزوجية، و هي أشبه بالمعتدة عدّة الوفاة التي يجوز لها الحجّ بلا إشكال في العدّة.

الفرع الثامن: المعتدّة للوفاة يجوز لها الحجّ واجبا كان أو مندوبا لما في موثقة داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن المتوفّى عنها زوجها؟ قال:

«تحجّ و إن كانت في عدّتها». «3»

و موثقة زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة التي يتوفّى عنها زوجها أتحجّ؟ قال: «نعم». 4

الفرع التاسع: حجّ المنقطعة كالزوجة الدائمة في عدم اشتراط الإذن في

[المسألة 80: لا يشترط وجود المحرم في حجّ المرأة إذا كانت مأمونة على نفسها و بضعها]

المسألة 80: لا يشترط وجود المحرم في حجّ المرأة إذا كانت مأمونة على نفسها و بضعها، كما دلّت عليه جملة من الأخبار. و لا فرق بين كونها ذات بعل أو لا. و مع عدم أمنها يجب عليها استصحاب المحرم و لو بالأجرة، مع تمكّنها منها، و مع عدمه لا تكون مستطيعة، و هل يجب عليها التزويج تحصيلا للمحرم؟ وجهان. و لو كانت ذات زوج و ادّعى عدم الأمن عليها و أنكرت، قدّم قولها، مع عدم البيّنة أو القرائن الشاهدة. و الظاهر عدم استحقاقه اليمين عليها، إلّا أن ترجع الدعوى إلى ثبوت حقّ الاستمتاع له عليها، بدعوى أنّ حجّها حينئذ مفوّت لحقّه، مع عدم وجوبه عليها، فحينئذ عليها اليمين على نفي الخوف، و هل للزوج- مع هذه الحالة- منعها عن الحجّ باطنا إذا أمكنه ذلك؟ وجهان في صورة عدم تحليفها. و أمّا

معه فالظاهر سقوط حقّه، و لو حجّت بلا محرم مع عدم الأمن، صحّ حجّها إن حصل الأمن قبل الشروع في الإحرام، و إلّا ففي الصحّة إشكال، و إن كان الأقوى الصحّة. (1)*

الواجب، و التفصيل في الواجب بالنذر، و اشتراط الإذن في المندوب، لإطلاق ما دلّ على أنّه لا تخرج من بيتها إلّا بإذنه. «1» و لو قيل بالانصراف إلى الدائمة بشهادة ترتّب عدم النفقة على الخروج بلا إذن في موثقة السكوني. «2» يدور المنع حول منافاته لحق الاستمتاع و عدمه فتأذن في الأوّل دون الثاني.

(1)* في المسألة فروع:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 411

.......... 1. لا يشترط في وجوب الحجّ على المرأة، وجود المحرم، بل يكفي كونها مأمونة على نفسها و بضعها، بلا فرق بين ذات البعل و غيرها.

2. إذا توقّف الأمن على استصحاب المحرم أو غيره- و لو بالأجرة- يجب استصحاب المحرم، و مع عدمها لا تكون مستطيعة.

3. إذا توقّف تحصيل المحرم، على التزويج فهل يجب التزويج أو لا؟

4. لو اختلف الزوجان و ادّعى الزوج عدم الأمن و أنكرته الزوجة، فلو لم يكن للزوج بيّنة، أو لم تشهد القرائن على قوله، قدّم قولها بلا حاجة إلى اليمين.

5. هل للزوج منعها عن الحجّ باطنا إذا أمكنه في صورة عدم تحليفها؟

6. لو حجّت بلا محرم مع عدم الأمن و حصل الأمن قبل الإحرام.

7. إذا حجّت مع استمرار عدم الأمن إلى الفراغ من الحجّ.

الفرع الأوّل: اتّفقت الحنفية و الحنابلة على أنّه يحرم على المرأة أن تسافر بمفردها، و انّه لا بدّ من وجود محرم أو زوج معها، و استدلّوا بروايات رواها البخاري و مسلم عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قال:

«لا تسافر المرأة ثلاثة أيّام إلّا مع ذي محرم». و في رواية أخرى عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: «لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه و اليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم و ليلة ليس معها حرمة». «1»

هذا، و المنقول عن المالكية و الشافعيّة انّه يجوز للمرأة أن تسافر للحجّ مع الرفقة المأمونة، و ألحق المالكية بالحجّ، سفرها الواجب.

و على ضوء ذلك فوجود المحرم من شرائط وجوب الحجّ عند الحنفية و الحنابلة، خلافا للمالكية و الشافعية، فليس وجوده من شرائط الوجوب عندهما،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 412

.......... بل تخرج إذا وجدت رفقة مأمونة.

و فصّل الباجي بين الانفراد و العدد اليسير، فيشترط وجود المحرم، و أمّا القوافل العظيمة و الطرق المشتركة العامرة المأمونة فانّه مثل البلاد التي يكون فيها الأسواق و التجار، فإنّ الأمن يحصل لها دون ذي محرم و لا امرأة، و روى ذلك عن الأوزاعي. «1»

هذا ما لدى السنّة، و أمّا فقهاء الشيعة فقد اتّفقت كلمتهم على عدم الشرطية:

قال الشيخ: شرائط وجوب الحجّ على المرأة هي شرائط وجوبه على الرجال سواء، و هي: البلوغ، و العقل، و الحرّية، و الزاد و الراحلة، و الرجوع إلى كفاية، و تخلية الطريق، و إمكان المسير؛ و هي بعينها شروط الأداء (شرط الصحة). و ليس من شرط الوجوب و لا من شرط الأداء في حجّة الإسلام، المحرم، بل أمن الطريق و مصاحبة قوم ثقات تكفي، و أمّا حجة التطوع فلا تجوز لها إلّا بمحرم. ثمّ نقل أقوال فقهاء السنّة. «2»

و قال المحقّق: لا يشترط وجود المحرم في النساء، بل يكفي غلبة ظنها بالسلامة.»

و قال العلّامة في «المنتهى»: شرائط وجوب الحجّ على الرجل

هي بعينها شرائط (الوجوب) في حق المرأة من غير زيادة، فإذا كملت الشرائط وجب عليها الحجّ و إن لم يكن لها محرم. ذهب إليه علماؤنا أجمع. «4»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 413

.......... و قد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام على كفاية كون المرأة مأمونة كصحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في المرأة تريد الحجّ ليس معها محرم، هل يصلح لها الحجّ؟ فقال: «نعم، إذا كانت مأمونة». «1» و قد ورد هذا المضمون في غير واحد من الروايات. «2» و المراد من كونها مأمونة هو كونها غير خائفة على عرضها، و ليس المراد أن تكون هي بنفسها غير متهمة.

و في صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تحجّ إلى مكة بغير ولي؟ فقال: «لا بأس، تخرج مع قوم ثقات». «3»

و أمّا الروايات النبوية فهي منصرفة إلى الظروف القاسية التي تخاف فيها المرأة على نفسها و عرضها، فعند ذلك يحرم عليها الخروج إلّا بمحرم قادر على الدفاع و الذب عن نفسها و شرفها، و أمّا إذا كانت الظروف هادئة و المرأة مطمئنة على نفسها و عرضها فالنهي منصرف عن هذه الصورة، و هذا ما فهمه المالكية و الشافعية فأفتوا بجواز سفرها مع الرفقة المأمونة كما مرّ.

ثمّ لا فرق في الحكم بين ذات البعل و غيرها، لإطلاق النصوص و خصوص صحيح معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تحج بغير ولي؟

قال: «لا بأس، و إن كان لها زوج أو أخ أو ابن أخ، فأبوا أن يحجّوا بها و ليس لهم سعة فلا ينبغي لها أن تقعد، و لا ينبغي

لهم أن يمنعوها». «4»

الفرع الثاني: إذا توقّف الأمن على استصحاب المحرم أو غيره و لو بالأجرة يجب استصحاب المحرم.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 414

.......... فإن قلت: إنّ تخلية السرب من مقوّمات الاستطاعة التي لا يجب تحصيلها، و استصحاب المحرم للحفاظ على النفس و النفيس نوع عملية لتخلية السرب عن المزاحم و عنده لا يجب الاستصحاب.

قلت: المفروض انّ السرب مخلّى و القوافل تسير بأمان، لكن للمرأة خصوصية تلزمها على أن لا تسافر إلّا بمحرم أو ثقة أو غير ذلك، و هذا يعدّ من قبيل المقدّمات الوجودية للسفر كتحصيل جواز السفر و دفع الضريبة للعبور من بلد إلى بلد، كلّ ذلك إذا كان بذل المال، أمرا غير حرجيّ للمرأة.

نعم مع عدم الأجرة، أو كونها حرجية، لا يجب الحجّ، لعدم التمكّن من المقدمة. هذا إذا كان تحصيل الأمن متوقفا على استصحاب المحرم، و أمّا إذا كان متوقفا على وجود من تصحبه و إن لم يكن محرما وجب عليها استصحابه و إن لم يكن محرما، لأنّ الواجب تحصيل الأمن سواء تحقّق بالمحرم أو بغيره.

الفرع الثالث: إذا توقّف تحصيل المؤمّن على التزويج، فهل يجب أو لا؟

وجهان مبنيّان على أنّ تحصيل مقدّمات السفر مثل الراحلة و جواز السفر و غير ذلك، و قد تبع المصنف صاحب الجواهر في ذكر الوجهين بلا ترجيح لواحد منهما، قال في «الجواهر»: و هل يجب عليها تحصيل أصل المحرم حال توقّف الحجّ عليه فيجب عليها التزويج مثلا؟ إشكال. «1»

و اختار السيد الحكيم الوجه الثاني قائلا بأنّه كما يجب استصحاب المحرم في ظرف كونه محرما، يجب جعله محرما و استصحابه، لتوقّف الواجب المطلق عليه.

و إلّا لم يجب استصحاب المحرم الثابتة محرميته. «2»

و يمكن أن يقال بوجود

الفرق بين استصحاب المحرم و تحصيله، لأنّ الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 415

.......... استصحاب المحرم ليس مقدمة حتّى يجب إيجاده من باب المقدّمة، بل المقدّمة استصحاب المؤمّن، من غير فرق بين الرجل و المرأة، فيجب عليها تحصيل المؤمّن، إمّا باستصحاب المحرم أو الأخ الثقة، أو القافلة الكبيرة أو غير ذلك.

نعم لو كان استصحاب المحرم بخصوصه مقدّمة، فيجب تحصيله و لو بإيجاده.

أضف إلى ذلك أنّه فرق لدى العرف بين توقّف تخلية السرب على دفع الأجور للعبور، أو إجارة من يدافع عن القوافل، و بين تزويج المرأة بشخص، حيث يرى الأوّلين مقدّمة للواجب، بخلاف الثالث، نعم الأحوط ذلك خصوصا إذا كان أمرا سهلا، كتزويج بنتها الصغيرة أو بنت بنتها، مدّة قليلة فتصبح محرما للزوج.

الفرع الرابع: إذا اختلف الزوجان فادّعى الزوج عدم الأمن و أنكرته الزوجة، فلو كان للزوج بيّنة أو شهدت القرائن المفيدة للاطمئنان على عدم الأمن، فلا شبهة في تقديم قوله و منعها من الحج، و أمّا إذا لم تكن معه بيّنة و لا شهدت القرائن، فهل يقدم قولها بلا يمين أو لا؟ قال الشهيد: فلو ادّعى الزوج الخوف و أنكرت، عمل بشاهد الحال أو بالبيّنة، فإن انتفيا قدّم قولها، و الأقرب أنّه لا يمين عليها. «1»

و في «المدارك» بعد عنوان المسألة: ... و في اعتبار اليمين وجهان: من أصالة عدم سلطته عليها في ذلك، و من أنهّا لو اعترفت لنفعه اعترافها. و قرّب الشهيد في «الدروس» انتفاء اليمين، و هو قريب. «2»

و قال في «الجواهر»: لكن قد يشكل عدم اليمين عليها بعموم قوله صلّى اللّه عليه و اله و سلّم:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 416

.......... «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر»

و دفعه بعدم الحقّ له عليها في هذا الحال، فلا يمين له عليها، يقتضي الإشكال في أصل سماع دعواه في ذلك باعتبار كونها هي المكلّفة، و قد رفع الشارع سلطنته عنها مع حصول شرائط استطاعتها عندها. «1»

أقول: للفرع صورتان كما أشار إليه السيّد الحكيم.

الأولى: إذا ادّعت الزوجة عدم خوفها من السفر، و الزوج يخاف عليها دون أن يكذّبها في عقيدتها، و من المعلوم أنّ هذه الدعوى غير مسموعة، لأنّ الموضوع لسقوط وجوب الحجّ هو خوف الزائر لا خوف الغير عليه، و المفروض أنّ المرأة غير خائفة و إن كان الزوج خائفا عليها، و نظير ذلك اغتسال الجنب بماء بارد، فإذا كان المغتسل غير خائف من البرد و إن كان الآخر يخاف عليه منه فلا يسقط التكليف بخوف الغير.

الثانية: إذا ادعت الزوجة انّها غير خائفة، و ادّعى الزوج انّها خائفة و يكذّبها في إظهار عدم خوفها، و هذا النوع من الدعوى مسموعة، و ذلك لأنّ المرأة تدّعي انّها مستطيعة فيجب عليها الخروج و السفر- و إن لم يأذن الزوج- و تستحق النفقة، و يسقط حقّ الاستمتاع مادامت هي في السفر.

و أمّا الزوج فيدّعي عدم استطاعتها و انّها خائفة في نفسها، فلا يجوز لها السفر بلا إذن الزوج، و لو سافرت لسقطت نفقتها لنشوزها و لا يسقط حقّ الاستمتاع.

فعندئذ يكون الزوج مدّعيا، و الزوجة منكرة، فيترتب على هذه الدعوى أحكام المدّعي و المنكر.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 417

.......... و قد ثبت في محلّه أنّ المدّعي هو «من لو ترك لترك» بخلاف المنكر، و هذا التعريف ينطبق على الزوج دون الزوجة و لا تحسم الدعوى إلّا ببيّنة المدّعي أو ثبوت القرائن المفيدة للعلم، و إلّا فبحلف المنكر،

فعندئذ لا وجه للقول بعدم اليمين.

و لكن الغالب هو الصورة الأولى، لأنّ الزوج يغار على زوجته و يخاف عليها غالبا، و لأجل ذلك أفتى الشهيد بعدم الحاجة إلى اليمين و تبعه صاحب الجواهر.

الفرع الخامس: هل للزوج منعها عن الحج باطنا إذا أمكنه في صورة عدم تحليفها؟

أمّا إذا حلفت فلا يجوز له منعها عن الحجّ باطنا بوضع العراقيل في طريقها، لأنّ الحلف يسقط حقوق المدّعي على فرض ثبوته فلا يجوز له طرح الدعوى أوّلا، و لا التقاص من أمواله ثانيا. كما هو محرّر في محله.

إنّما الكلام فيما إذا لم تحلف و لم ترفع الدعوى إلى الحاكم، فإن كانت الدعوى من قبيل الصورة الأولى بأن كانت المرأة غير خائفة و الزوج خائفا عليها- مع إذعانه بصدقها- فليس له منعها باطنا، لافتراض أنّ الحكم منجّز في حقّها و ليس للزوج أيّ منع عن أداء ما تنجّز عليها حسب اعترافه.

و أمّا إذا كانت من قبيل الصورة الثانية بأن كان الزوج يكذب الزوجة في دعواها، فللزوج وضع العراقيل في طريق حجّها، لاعتقاده بعدم تنجز الوجوب عليها لعدم استطاعتها.

الفرع السادس: لو حجّت بلا محرم مع عدم الأمن و حصل الأمن قبل الشروع في الإحرام، فلا شكّ في الصحّة، لأنّ المفروض أنّ الخوف كان قبل الميقات لا بعده، فإذا وصلت إلى الميقات عاد الأمن و تنجّز عليها الحكم و إن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 418

.......... كان السفر السابق سفر معصية لكن استمراره ليس بمعصية.

و بعبارة أخرى: لم يكن الحجّ عليها واجبا لعدم تخلّي السرب، و لكن لما وصلت إلى الميقات زال الخوف، حصلت الاستطاعة بعامّة أجزائها فوجب عليها الحجّ، و قد أتت به في ظرف الأمن، و أمّا طيّ الطريق

مع الخوف فلا يفسد الحجّ، لأنّ حرمة المقدّمة التوصّلية لا يوجب فساد ذيها.

الفرع السابع: إذا حجّت مع استمرار عدم الأمن إلى الفراغ عن الحجّ، فقد استشكل المصنّف في الصحة ثمّ قواها، و قد مرّ الكلام في نظير المقام في المسألة الخامسة و الستين، فقال الشهيد: و لو حجّ فاقد هذه الشرائط لم يجزه، و عندي لو تكلّف المريض و المعضوب و الممنوع بالعدوّ و تضيق الوقت أجزأه ذلك، لأنّ ذلك من باب تحصيل الشرط فانّه لا يجب و لو حصله وجب و أجزأ- إلى أن قال:- و لو قارن بعض المناسك احتمل عدم الإجزاء.

و حاصل الإشكال: إذا كان عدم الأمن مقارنا لبعض المناسك لا يجزي، لأنّ عدم الأمن يكشف عن عدم الاستطاعة، و لو صحّ الحجّ، لم يغني عن حجّة الإسلام.

و اختار السيّد الحكيم الصحّة قائلا بأنّ هذه الأعذار إنّما تكون مانعة عن الاستطاعة إذا ترك الحجّ لأجلها، لا في ظرف الفعل.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره- على فرض التسليم- إنّما يصحّ إذا كانت المناسك متزامنة مع الضرر و الحرج، و أمّا إذا كانت متزامنة مع الخطر فهي غير مستطيعة، لأنّ تخلية السرب كصحة البدن من شرائط الاستطاعة و المفروض عدمها.

و ذهب السيد الخوئي- بعد فرض تمشّي القربة- إلى الفرق بين كون الأمن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 419

.......... متحقّقا في الواقع فيصح، و ما ليس كذلك فلا يصحّ، قال ما هذا نصّه: الأولى الفرق بين ما إذا تمشى منها القربة و لم يكن الخطر موجودا في الواقع، فيحكم بالصحة و إن كانت خائفة بالفعل، لأنّ المفروض وجدان الشروط واقعا و إن لم تعلم به المرأة، لأنّ العبرة بوجدان الشروط واقعا، و لا يضر عدم

حصول الأمن لها بالفعل، لأنّ الأمن طريق إلى إحراز الواقع، و المفروض حصوله.

و بين ما إذا تمشّى منها قصد القربة و وقعت في الخطر و كانت خائفة فلا يمكن الحكم بالصحّة، لأنّ الخطر الموجود واقعا يكشف عن عدم الاستطاعة، فالعبرة في الصحة و عدمها وجود الأمن واقعا و عدمه كذلك. «1»

و ما ذكره مبنيّ على كون العلم بالخطر و عدم الأمن مأخوذا على نحو الطريقية فيدور الإجزاء و عدمه مدار وجود الأمن و عدمه، و أمّا إذا كان مأخوذا على نحو الموضوعية كما هو الظاهر من الفقهاء حيث قالوا بأنّ سلوك الطريق المخطور حرام و إن انكشف خلافه فلا فرق بين الصورتين.

قال الشيخ في مبحث التجرّي: لا خلاف في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه، معصية يجب إتمام الصلاة فيه، و لو بعد انكشاف عدم الخطر فيه. «2»

و الشاهد على ذلك أنّه إذا كان الخطر موجودا و لم تكن عالمة به فحجت و وقعت في الخطر، صحّ حجّها، مع أنّ لازم ما ذكره عدم إجزائه، لأنّ المفروض أنّ الشرط غير موجود واقعا.

[المسألة 81: إذا استقرّ عليه الحجّ بأن استكملت الشرائط و أهمل

المسألة 81: إذا استقرّ عليه الحجّ بأن استكملت الشرائط و أهمل حتّى زالت أو زال بعضها صار دينا عليه، و وجب الإتيان به بأيّ وجه تمكّن، و إن مات فيجب أن يقضى عنه إن كانت له تركة، و يصحّ التبرّع عنه، و اختلفوا فيما به يتحقّق الاستقرار على أقوال، فالمشهور مضيّ زمان يمكن فيه الإتيان بجميع أفعاله مستجمعا للشرائط، و هو إلى اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة، و قيل باعتبار مضيّ زمان يمكن فيه الإتيان بالأركان جامعا للشرائط، فيكفي بقاؤها إلى مضيّ جزء من يوم النحر يمكن فيه الطوافان و السعي،

و ربما يقال باعتبار بقائها إلى عود الرفقة، و قد يحتمل كفاية بقائها إلى زمان يمكن فيه الإحرام و دخول الحرم، و قد يقال بكفاية وجودها حين خروج الرفقة، فلو أهمل استقرّ عليه و إن فقدت بعض ذلك، لأنّه كان مأمورا بالخروج معهم، و الأقوى اعتبار بقائها إلى زمان يمكن فيه العود إلى وطنه بالنسبة إلى الاستطاعة الماليّة و البدنيّة و السربيّة، و أمّا بالنسبة إلى مثل العقل فيكفي بقاؤه إلى آخر الأعمال، و ذلك لأنّ فقد بعض هذه الشرائط يكشف عن عدم الوجوب عليه واقعا، و أنّ وجوب الخروج مع الرفقة كان ظاهريّا، و لذا لو علم من الأوّل أنّ الشرائط لا تبقى إلى الآخر لم يجب عليه، نعم لو فرض تحقّق الموت بعد تمام الأعمال كفى بقاء تلك الشرائط إلى آخر الأعمال، لعدم الحاجة حينئذ إلى نفقة العود و الرجوع إلى كفاية و تخلية السرب و نحوها. (1)*

(1)* 1. إذا استقر عليه الحجّ و أهمل حتّى زالت الاستطاعة صار دينا عليه الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 421

.......... يأتي به متسكعا في حياته و يخرج من صلب ماله إذا مات، و ترك مالا.

2. ما هو الميزان في استقرار الحجّ؟ فيه أقوال:

أ. مضيّ زمان يمكن فيه الإتيان بجميع أفعاله مستجمعا للشرائط و هو إلى يوم الثاني عشر من ذي الحجّة الحرام.

ب. مضيّ زمان يمكن فيه الإتيان بالأركان جامعا للشرائط، فيكفي البقاء إلى مضي جزء من يوم النحر يمكن فيه الطوافان و السعي.

ج. بقاؤها إلى عود الرفقة.

د. التفصيل بين الشرائط و في الاستطاعة المالية أو البدنية و السربية يكفي العود إلى الوطن، و أمّا بالنسبة إلى العقل يكفي بقاؤها إلى آخر الأعمال.

ه-. لو اتّفق موته

بعد تمام الأعمال كفى بقاء تلك الشرائط (المالية، البدنية و السربية) إلى آخر الأعمال لعدم الحاجة إلى العود.

3. لو علم أنّه يموت بعد زمان فإن كان قبل تمام الأعمال لم يجب المشي و إن كان بعده وجب.

4. لو علم أنّه لو مشى إلى الحجّ لم يمت أو لم يقتل أو لم يسرق ماله مثلا فلم يمش فزالت الاستطاعة فيستقرّ عليه الوجوب.

5. لو شكّ في أنّ فقد الاستطاعة مستند إلى ترك المشي أو إلى غيره، فالظاهر عدم الاستقرار للشكّ في تحقّق الوجوب.

6. لو كان واجدا للشرائط حين المسير فسار ثمّ زال بعض الشرائط في الأثناء، فأتم الحجّ على ذلك الحال، كفى عن حجّة الإسلام إذا لم يكن المفقود مثل العقل.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 422

.......... و إليك دراسة الفروع واحدا تلو الآخر:

الأوّل: إذا استقر عليه الحجّ و أهمل حتّى زالت الاستطاعة صار دينا يأتي به متسكعا في حياته.

قال العلّامة في «القواعد»: إذا اجتمعت الشرائط و أهمل، أثم و استقر الحجّ في ذمته و يجب عليه قضاؤه متى تمكن منه على الفور و لو مشيا. «1»

و قال في «التذكرة»: إذا كملت شرائط الحجّ فأهمل، أثم، فإن حجّ في السنة المقبلة برئت ذمّته، و يجب عليه المبادرة على الفور و لو مشيا. «2»

إلى غير ذلك من الكلمات، و لكن المسألة بهذه الصورة غير منصوصة و لا موافقة للقواعد، فإنّ المنصوص من استقر عليه الحجّ و لم يحجّ و مات؛ و أمّا من استقرّ عليه الحجّ و زالت الاستطاعة و هو حي فيجب عليه القضاء متسكعا، فليس بمنصوص.

و أمّا أنّها غير موافقة للقواعد، فلأنّ الحكم تابع للموضوع، فإذا زالت الاستطاعة التي اتّخذت موضوعا للوجوب، زال الحكم، و الحكم

بالإتيان بعد زوال الموضوع رهن دليل خارجي.

و مع ذلك فيمكن الاستدلال عليه بوجهين:

الأوّل: ما رواه ذريح المحاربي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من مات و لم يحجّ حجّة الإسلام، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهوديا أو نصرانيا». «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 423

.......... و ما رواه زيد الشحام قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: التاجر يسوّف الحجّ، قال: «ليس له عذر، فإن مات فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام». «1»

فالروايتان تدلّان على اشتغال ذمّته بالحجّ و انّه كان عليه أن يفرغ ذمّته قبل موته، فإذا لم يفرغ حكم عليه بأنّه ترك شريعة من شرائع الإسلام أو يحكم عليه أن يموت موتا يهوديا أو نصرانيا.

فإن قلت: لعلّ مصب الروايات من مات و هو مستطيع و هو غير المفروض.

يلاحظ عليه: بأنّه على خلاف إطلاقهما فيعمّ المستطيع و من زالت استطاعته.

الثاني: ما سيوافيك من الروايات في الفرع الثاني بأنّ من مات و قد استقرّ عليه الحجّ يجب إخراج نفقة الحجّ من صلب المال، سواء أكان المال المتروك من المستثنيات في الحجّ أو غيرها حتّى و لو لم يكن له إلّا دار تفي بنفقة الحجّ يجب إنفاقها في طريقه و إن صار ذلك سببا لحرمان الورثة.

أضف إلى ذلك انّ المسألة موضع اتّفاق و إن كان الغالب في كلمات الفقهاء هو ذكر هذا الفرع منضما إلى الفرع الثاني، على نحو ربما يوهم بأنّ الحكم على الميت دون الحي الذي زالت استطاعته.

ثمّ إنّ الظاهر من قول المصنّف: «وجب الإتيان به بأيّ وجه تمكّن» هو وجوبه و إن كان حرجيا أو ضرريا.

و أورد عليه المحقّق الخوئي

بأنّه لا يمكن الالتزام به، لأنّه تكليف جديد و حاله حال سائر التكاليف الإلهية التي ترتفع بالحرج، ففي فرض الإهمال و إن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 424

.......... وجب عليه الحجّ بعد زوال الاستطاعة تفريغا لذمته و لكن الالتزام بلزوم الإتيان به حتّى مع الحرج لا دليل عليه، بل مقتضى أدلّة نفي الحرج عدم لزوم الإتيان به إذا كان حرجيا، و يكون عاصيا في ترك الحجّ و الإهمال به، و التوبة رافعة له كما في سائر المعاصي. «1»

يلاحظ عليه: أنّ حكومة دليل الحرج إنّما هي للأحكام الأوّلية كوجوب الوضوء في البرد القارص، و أمّا الأحكام التأديبية الناتجة من عصيان العبد و ترك الواجبات و الفرائض، فلا يبعد عدم حكومتها عليها كالكفّارات، فانّ الحرج داخل في صميم هذا النوع من الأحكام، فمن أفطر شهر رمضان يجب في كلّ يوم صيام شهرين متتابعين، فلو كان الشهر كاملا غير ناقص يلزم عليه وراء صيام ثلاثين يوما، صوم 1800 يوم، و أيّ حرج أعظم من ذلك.

و الحاصل: انّ الأحكام التأديبية التي وضعت لتربية الناس يكون لحمتها و سداها الحرج، فلا يبعد عدم حكومة أمثال «لا حرج» عليها.

الفرع الثاني: إذا استقر عليه الحجّ و أهمل و مات، فيجب أن يقضى عنه إن كانت له تركه.

قال الشيخ في «الخلاف»: من استقرّ عليه وجوب الحجّ فلم يفعل و مات، وجب أن يحجّ عنه من صلب ماله مثل الدين، و لم يسقط بوفاته.

هذا إذا أخلف مالا، فإن لم يخلف مالا كان وليّه بالخيار في القضاء عنه، و به قال الشافعي و عطاء و طاووس.

و قال أبو حنيفة و مالك: يسقط بوفاته بمعنى أنّه لا يفعل عنه بعد وفاته الحج في الشريعة الإسلامية

الغراء، ص: 425

.......... و حسابه على اللّه يلقاه و الحجّ في ذمّته، و إن كان أوصى حجّ عنه من ثلثه.

إلى أن قال: و هكذا يقول في الزكوات و الكفّارات و جزاء الصيد كلّها تسقط بوفاته و لا تفعل عنه بوجه. «1»

و قال العلّامة: و إن مات وجب عليه أن يخرج عنه حجّة الإسلام و عمرته من صلب المال، و لا تسقط بالموت عند علمائنا أجمع، و به قال: الحسن و طاووس و الشافعي، و قال أبو حنيفة و مالك: تسقط بالموت فإن وصّى بها فهي من الثلث، و به قال الشعبي و النخعي، لأنّها عبادة بدنيّة تسقط بالموت كالصلاة، و الفرق أنّ الصلاة لا تدخلها النيابة (بخلاف الحجّ). «2»

و قال العلّامة في «القواعد»: فإن مات وجب أن يحجّ عنه من صلب تركته. «3» إلى غير ذلك من الكلمات.

و يدلّ عليه روايات متضافرة نذكر منها ما يلي:

1. ففي صحيح ضريس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: في رجل خرج حاجا حجّة الإسلام فمات في الطريق، قال: إن مات في الحرم فقد أجزأت عنه حجّة الإسلام و إن مات دون الحرم، فليقض عنه وليه حجّة الإسلام.

2. و في صحيح بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن رجل خرج حاجا و معه جمل له و نفقة و زاد فمات في الطريق؟ قال: «إن كان صرورة ثمّ مات في الحرم فقد أجزأ عنه حجة الإسلام، و إن كان مات و هو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله و زاده و نفقته و ما معه في حجة الإسلام، فإن فضل من ذلك شي ء فهو للورثة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 426

.......... إن لم يكن عليه دين». «1»

3. و

موثقة سماعة بن مهران قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يموت و لم يحجّ حجّة الإسلام و لم يوص بها و هو موسر؟ فقال: «يحجّ عنه من صلب ماله، لا يجوز غير ذلك». «2»

4. صحيحة بريد العجلي الأخرى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رجل استودعني مالا و هلك و ليس لولده شي ء و لم يحجّ حجّة الإسلام، قال: «حجّ عنه و ما فضل فأعطهم». «3»

إلى غير ذلك من الروايات التي تؤيدها، و هذا ما لا كلام فيه.

إنّما الكلام فيما هو المراد من استقرار الحجّ و قد اختلفت كلمتهم في مفهوم الاستقرار، أمّا المحقّق فقد أجمل الكلام، حيث قال: و يستقرّ الحجّ في الذمة، إذا استكملت الشرائط و أهمل. «4»

و لم يبيّن ما هو المحقّق لاستكمال الشرائط، غير أنّ الآخرين فسروا استكمال الشرائط و سبب الاستقرار إلى أقوال ذكرها المصنف في المتن، و إليك تلك الأقوال:

الأوّل: مضي زمان يمكن فيه الإتيان بجميع أفعاله مستجمعا للشرائط و هو إلى اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة.

قال في «التذكرة»: استقرار الحجّ في الذمة يحصل بالإهمال بعد حصول الشرائط بأسرها و مضي زمان جميع أفعال الحجّ. «5»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 427

.......... قال في «المدارك»: اختلف كلام الأصحاب فيما يتحقّق به استقرار الحجّ فأطلق المصنّف [المحقق تحقّقه بالإهمال مع استكمال الشرائط، و اعتبر الأكثر مع ذلك مضي زمان يمكن فيه الإتيان بجميع أفعال الحجّ مستجمعا للشرائط. «1» فينطبق على اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة.

و قال في «الحدائق»: و ظاهر كلام الأكثر اعتبار مضي زمان يسع جميع الأفعال و إن لم يكن ركنا كالمبيت بمنى و الرمي. «2»

و قال النراقي في

«المستند»: من استقر الحجّ في ذمّته بأن اجتمعت له شرائط الوجوب و مضت مدة يمكنه فيها استيفاء جميع أفعال الحج كما عن الأكثر. «3»

الثاني: مضي زمان يمكن فيه الإتيان بالأركان جامعا للشرائط، و هو خيرة المسالك قال: و يمكن اعتبار زمان يمكن فيه تأدّي الأركان خاصة، و هو مضي جزء من يوم النحر يمكن فيه الطوافان و السعي، و اختاره في التذكرة و المهذب. «4»

و علّق المحدث البحراني على كلام الشهيد الثاني في «المسالك» بقوله: قد نقل هذا القول عن التذكرة أيضا سبطه في «المدارك» و مثله الفاضل الخراساني في «الذخيرة»، و الظاهر انّه وهم من شيخنا المذكور و تبعه عليه من تبعه من غير مراجعة الكتاب المشار إليه، فانّ الموجود فيه ما حكيناه أوّلا من ما هو موافق للقول المشهور، نعم هو ظاهر المهذب. «5»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 428

.......... الثالث: اعتبار بقائها إلى عود الرفقة، و يستفاد ذلك من قول العلّامة في مسألة من استطاع و أهمل و تلف ماله قبل عود الحاج أو قبل مضي إمكان عودهم فأفتى بعدم استقرار الحجّ في ذمّته. قال: و لو تلف المال بعد الحجّ قبل عودهم و قبل مضي إمكان عودهم لم يستقرّ الحجّ أيضا، لأنّ نفقة الرجوع لابدّ منها في الشرائط. «1»

الرابع: كفاية بقائها إلى زمان يمكن فيه الإحرام و دخول الحرم.

قال النراقي في «المستند»: و احتمل بعضهم الاكتفاء بمضي زمان يمكنه فيه الإحرام و دخول الحرم، و نسبه بعضهم إلى «التذكرة». و استحسن بعض المتأخرين (هذا القول الأخير) إن كان زوال الاستطاعة بالموت.»

و النسبة إلى «التذكرة» غير صحيحة، و إنّما ذكره احتمالا و قال: و يحتمل مضي زمان يتمكن فيه من الإحرام و

دخول الحرم. «3»

الخامس: كفاية وجودها حين خروج الرفقة، فلو أهمل استقرّ عليه و إن فقدت بعد ذلك، لأنّه كان مأمورا بالخروج معهم.

قال النراقي في «المستند»: و التحقيق أنّه إن اشترط وجوب القضاء بالاستقرار واقعا، فالحقّ هو الأوّل (لزوم مضي زمان يتمكّن فيه الإتيان بجميع أفعال الحجّ مستجمعا للشرائط)، و لكن الشأن في اشتراط ذلك، و لذا تأمّل فيه في الذخيرة، و هو في موضعه، بل الأقرب عدم الاشتراط و كفاية توجّه الخطاب ظاهرا أوّلا (خروج الرفقة) كما هو ظاهر المدارك و صريح المفاتيح و شرحه. «4»

قال في «المدارك»: إنّ القول الأوّل، أعني: مضي زمان يتمكّن فيه الإتيان الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 429

.......... بجميع أفعال الحجّ مستجمعا للشرائط، ... بناء على أنّ وجوب القضاء تابع لوجوب الأداء، و إنّما يتحقّق وجوبه بمضي زمان يمكن فيه الحجّ مستجمعا للشرائط.

و (لكنّه) يشكل بما بينّاه مرارا من أنّ وجوب القضاء ليس تابعا لوجوب الأداء، و بأنّ المستفاد من كثير من الأخبار ترتّب القضاء على عدم الإتيان بالأداء مع توجه الخطاب به ظاهرا، كما في صحيحتي بريد و ضريس المتقدّمتين. «1»

السادس: التفصيل بين الشرائط و هو خيرة المصنّف.

و حاصل التفصيل: لزوم بقاء الاستطاعة المالية و البدنية و السربية إلى زمان يمكن فيه العود إلى وطنه. و إنّما يعتبر بقاء الاستطاعات الثلاث إلى زمان يمكن فيه العود لمن يبقى حيا، و أمّا إذا مات فلا يعتبر فيه بقاء تلك الشرائط إلّا إلى زمان الموت. فلو مات من أهمل ظهيرة اليوم الثاني عشر، ثمّ تلفت أمواله استقرّ عليه الحجّ.

و أمّا العقل و الحياة فإنّما يشترط بقاؤهما إلى آخر الأعمال.

ثمّ رتّب على ذلك:

1. انّ فقد بعض هذه الشرائط قبل تمام الأعمال

يكشف عن أنّ وجوب الخروج مع الرفقة كان ظاهريا، و لذا لو علم من الأوّل أنّ الشرائط لا تبقى إلى الآخر لم يجب عليه الحجّ.

2. لو فرض تحقّق الموت بعد تمام الأعمال كفى بقاء تلك الشرائط إلى آخر الأعمال، لعدم الحاجة حينئذ إلى نفقة العود، و إلى الرجوع إلى الكفاية و تخلية السرب و نحوها.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 430

.......... هذه هي الأقوال و لابدّ من عرضها على القواعد:

أمّا الأوّل: أعني: كفاية بقاء الشرائط إلى اليوم الثاني عشر فإنّما يتمّ في مثل العقل و الحياة، دون سائر الشروط، حيث دلّ الدليل على اعتبار جملة من الشرائط ذهابا و إيابا، بل بعدهما كالرجوع إلى كفاية.

أمّا الثاني: أعني: مضي زمان يمكن فيه الإتيان بالأركان جامعا للشرائط، فهو مبنيّ على التفريق بين أجزاء الواجب، و هو غير ظاهر، و كفاية درك الأركان في بعض الموارد، لا يلازم عدم اعتبار اجتماع الشرائط بالنسبة إلى المتروك.

و أمّا الثالث و هو اعتبار بقائها إلى عود الرفقة، فإنّما يتمّ في بعض الصور كما إذا بقي حيا، و أمّا لو مات بعد الإتيان بالأعمال فلا يعتبر بقاء الاستطاعة المالية أو السربية أو البدنية.

و أمّا الرابع و هو بقاؤها إلى زمان يمكن فيه دخول الحرم، فغير ظاهر، لأنّه وارد في من مات بعد دخول الحرم و إلحاق الحي به يحتاج إلى دليل، و إلّا يجب الحجّ لمن يعلم أنّه يموت بعد دخول الحرم.

و أمّا الخامس، أعني: كفاية بقاء الشرائط إلى زمان خروج الرفقة فغير صحيح جدّا، لأنّه لو مات بعد خروج الرفقة قبل مضيّ زمان يمكن فيه إتيان الأعمال، كشف عن عدم الوجوب واقعا، و أنّ الوجوب ظاهري فكيف يستقر به الحجّ؟!

فتعيّن تفصيل

المصنّف، و هو التفصيل بين الشرائط، فمنها ما يعتبر وجوده إلى نهاية الأعمال كالحياة و العقل، و ما يعتبر بقاؤه، إلى زمان يمكن العود فيه إلى وطنه.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 431

و لو علم من الأوّل بأنّه يموت بعد ذلك، فإن كان قبل تمام الأعمال لم يجب عليه المشي، و إن كان بعده وجب عليه.

هذا إذا لم يكن فقد الشرائط مستندا إلى ترك المشي و إلّا استقرّ عليه، كما إذا علم أنّه لو مشى إلى الحجّ لم يمت أو لم يقتل أو لم يسرق ماله مثلا، فإنّه حينئذ يستقرّ عليه الوجوب، لأنّه بمنزلة تفويت الشرط على نفسه، و أمّا لو شكّ في أنّ الفقد مستند إلى ترك المشي أو لا، فالظاهر عدم الاستقرار للشكّ في تحقّق الوجوب و عدمه واقعا، هذا بالنسبة إلى استقرار الحجّ لو تركه، و أمّا لو كان واجدا للشرائط حين المسير فسار ثمّ زال بعض الشرائط في الأثناء فأتمّ الحجّ على ذلك الحال، كفى حجّه عن حجّة الإسلام إذا لم يكن المفقود مثل العقل، بل كان هو الاستطاعة البدنيّة أو الماليّة أو السربيّة و نحوها على الأقوى. (1)*

(1)* الفرع الثالث: لو علم من الأوّل بأنّه يموت بعد زمان، فإن كان قبل تمام الأعمال لم يجب عليه المشي، و إن كان بعده وجب عليه. للعلم بعدم استقراره عليه، في الأوّل دون الثاني. نعم لو علم أنّه يموت بين العمرة و أعمال الحجّ، يجب على القول بوجوب العمرة مستقلة.

الفرع الرابع: لو علم أنّه لو بقى يموت أو يقتل أو تسرق أمواله، قبل مضي زمان يمكن فيه الإتيان بجميع الأعمال، بخلاف ما لو مشى، فتبقى استطاعته.

و مع ذلك، ترك المشي و مات أو

قتل أو سرقت أمواله، استقرّ عليه الحجّ، لأنّه فوّت استطاعته.

الفرع الخامس: لو شك في أنّ فقد الاستطاعة مستند إلى ترك المشي أو لا،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 432

.......... فاستظهر المصنف عدم الاستقرار للشكّ في تحقّق الوجوب و عدمه.

أقول: إنّ في العبارة احتمالين:

1. لو فقد بعض الشروط قبل مضيّ زمان يمكن فيه الإتيان بجميع أفعاله مستجمعا للشرائط و احتمل أنّ الفقد مستند إلى ترك المشي و أنّه لو كان يخرج إلى الحجّ لما فقد، فما استظهره المصنف، صحيح، لأنّه شكّ في تحقّق الوجوب و عدمه.

2. لو علم بأنّه يفقد بعض الشرائط قبل مضيّ الزمان و يشكّ في أنّ الفقد هل يستند إلى ترك المشي، أو أنّه يفقده مطلقا و لو بقى في بلده؟ ففي مثله، ليس له ترك المشي، بلا عذر، لاستصحاب بقاء الصحّة أو لأصل السلامة التي بنى عليها العقلاء، و هذا سائد في كلّ مورد شكّ في القدرة فليس له ترك الواجب باحتمال عجزه في الأثناء.

و الاحتمال الثاني هو الذي حمل عليه المحقّق الخوئي عبارة المصنف، فلاحظ.

الفرع السادس: إذا زال بعض الشرائط في الأثناء- كما لو سرقت أمواله- فأتم الحجّ على تلك الحال، فهل يكفي حجّه عن حجّة الإسلام أو لا؟ فقال المصنّف بالكفاية إذا كان الشرط المفقود هو الاستطاعة المالية أو السربية أو البدنية، دون مثل العقل، و قد تقدّم من المصنّف في المسألة التاسعة و العشرين حيث قال: «إذا تلف- بعد تمام الأعمال- مؤونة عوده إلى وطنه، أو تلف ما به الكفاية من ماله في وطنه بناء على اعتبار الرجوع إلى الكفاية في الاستطاعة، فهل يكفيه عن حجة الإسلام أو لا؟ وجهان، لا يبعد الإجزاء و يقربه ما ورد من أنّ

من مات بعد الإحرام و دخول الحرم أجزأه عن حجّة الإسلام، بل يمكن أن يقال بذلك إذا تلف في أثناء الحجّ أيضا».

للمسألة صور:

1. إذا فقد العقل أو الحياة في أثناء الحجّ.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 433

.......... 2. إذا فقد الصحّة في أثناء العمل.

3. إذا فقد الاستطاعة المالية كذلك.

4. إذا فقد الاستطاعة المالية للرجوع، سواء أكان أثناء العمل أم بعده.

5. إذا فقد ما يرجع إلى الكفاية.

أمّا الأولى فلا يجب القضاء، لأنّ فقد العقل أو الحياة في أثناء العمل كاشف عن عدم تنجز الوجوب عليه.

و أمّا الثانية فيمكن أن يقال انّ المتبادر من قوله: «صحيحا في بدنه، مخلّى في سربه» «1» عدم كونه مريضا مانعا من الخروج عن البلد، و أمّا إذا كان مصحّا عند الخروج و لكن طرأ عليه المرض في أثناء العمل أو قبله على نحو لا يقعده عن العمل فليس بشرط.

و بعبارة أخرى: انّ المرض عند الخروج يعدّ عذرا لترك الحجّ، و أمّا إذا طرأ عليه بعد الخروج عن البلد أو بعد الاشتغال بالعمل، فلا دليل على اعتبار الصحّة في هذه الحالة إلّا إذا صار محصرا أقعده المرض عن استمرار السفر أو العمل.

و أمّا الثالثة و الرابعة، أي إذا فقد الاستطاعة المالية في الأثناء أو بعد العمل، فلا دليل على الشرطية في هذه الحالة.

و بعبارة أخرى: إذا فقد الاستطاعة المالية ذهابا و إيابا قبل الخروج عن البلد فهو معذور في ترك الحجّ، و أمّا إذا كان واجدا للشرط حين الخروج و لكنّه فقد الاستطاعة المالية في أثناء السفر أو بعده لسرقة أو غيرها، فلا دليل على اعتبار هذا الشرط في هذه الحالة.

و حاصل الكلام في الفروع الثلاثة: أنّ الصحّة البدنية و الاستطاعة المالية

ذهابا و إيابا شرط حين الخروج من البلد، فلا حجة له في ترك الحجّ، و أمّا لو طرأ

[المسألة 82: إذا استقرّ عليه العمرة فقط، أو الحجّ فقط]

المسألة 82: إذا استقرّ عليه العمرة فقط، أو الحجّ فقط- كما في من وظيفته حجّ الافراد و القران- ثمّ زالت استطاعته فكما مرّ- يجب عليه أيضا بأيّ وجه تمكن و إن مات يقضي عنه. (1)*

حادث و فقد الصحّة غير المقعدة عن العمل أو الاستطاعة المالية، فلا دليل على اعتبارهما في هذه الحالة. و لو كان شرطا لأشير إليه في بعض الروايات لكثرة الابتلاء بهذه الصورة خصوصا في الأزمنة السابقة التي كان الحاج يقطع الطريق بالجمال عبر شهور، و مثله لا ينفك عن المرض و فقد المال و غير ذلك.

و أما الصورة الخامسة: إذا فقد في أثناء العمل أو بعده ما يرجع إلى الكفاية بعد الرجوع، فلا شكّ في الإجزاء، لأنّ اعتبار الرجوع إلى الكفاية من باب رفع الحرج، فيختص بما إذا كان في إجرائه امتنان على المكلّف، كما هو الحال حين الخروج إلى الحجّ، و اشتراط بقائه حين العمل أو بعده مناف للامتنان، إذ لازمه عدم إجزائه عن حجة الإسلام.

(1)* انّ حجّة الإسلام تشارك حج الإفراد و القران مع حجّ التمتع في اشتمال الجميع على العمرة و الحج، غير أنّ عمرة التمتع متقدمة على الحجّ بخلافهما، فإنّ المفرد و القارن يحرمان للحج أوّلا، فإذا فرغا من أعمال الحجّ يأتيان بعمرة مفردة.

فما ذكرناه من أحكام استقرار الحجّ يعم حجّ التمتع و حجّ الإفراد و القران، و إطلاق الأدلّة يعمّ الجميع.

ففي صحيحة معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يموت و لم يحجّ حجّة الإسلام و يترك مالا؟ قال: «عليه أن يحجّ من ماله

رجلا صرورة لا مال له». «1»

[المسألة 83: تقضى حجّة الإسلام من أصل التركة إذا لم يوص بها]

المسألة 83: تقضى حجّة الإسلام من أصل التركة إذا لم يوص بها، سواء كانت حجّ التمتّع أو القران أو الافراد، و كذا إذا كان عليه عمرتهما، و إن أوصى بها من غير تعيين كونها من الأصل أو الثلث فكذلك أيضا، و أمّا إن أوصى بإخراجها من الثلث وجب إخراجها منه، و تقدّم على الوصايا المستحبّة و إن كانت متأخّرة عنها في الذكر، و إن لم يف الثلث بها أخذت البقيّة من الأصل. (1)*

إلى غير ذلك من الروايات التي تشمل عامة أقسام حجة الإسلام حجّها و عمرتها، فعلى ذلك فلو حج المفرد أو القارن و أهمل العمرة ثمّ زالت الاستطاعة، فلو استقرت عليه العمرة يجب عليه القضاء مادام حيا و يخرج من ماله إذا مات، و الميزان في الاستقرار هو مضي زمان يمكن فيه إتيان العمرة على التفصيل الماضي في كلام المصنف.

و أوضح من الكلّ صحيحة ابن رئاب، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام:

قلت: فإن مات و هو محرم قبل أن ينتهي إلى مكة؟ قال: «يحجّ عنه إن كانت حجّة الإسلام و يعتمر، إنّما هو شي ء عليه». «1»

و لو قلنا بوجوب العمرة المفردة مستقلة إذا كان مستطيعا لها دون الحجّ، فيأتي فيها ما ذكرناه في الاستطاعة للحجّ، فيجب القضاء لو أهمل مقدارا من الزمان يمكن إتيان أعمال العمرة.

(1)* في المسألة فروع ثمانية:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 436

.......... 1. تقضى حجّة الإسلام من أصل من أصل التركة و كذا عمرتهما.

2. لو أوصى بها من غير تعيين كونها من التركة أو الثلث فكذلك.

3. لو أوصى بإخراجها من الثلث يخرج منه و تقدّم على الوصايا المستحبة.

4. لو أوصى بإخراجها من الثلث

و لم يف الثلث بها أخذت البقية من الأصل.

5. يخرج حجّ النذر من الأصل.

6. لو كان عليه دين أو خمس أو زكاة و قصرت التركة فإن كان متعلّق الدين- كالزكاة- موجودا قدّم على سائر الديون و إن كان في الذمة توزّع التركة على الجميع بالنسبة كما في غرماء المفلّس. و هناك قولان آخران:

أ: تقديم الحجّ.

ب: تقديم دين الناس.

7. و على التوزيع فإن وفت حصة الحجّ به فهو و إلّا فيسقط و تصرف حصته في الدين أو الخمس أو الزكاة و مع وجود الجميع توزع عليهما.

8. ان وفت بالحج أو بالعمرة فقط، ففي الافراد و القران يتخير بينهما و في حجّ التمتع السقوط و صرفها في الدين و غيره و فيه احتمال التخيير أو ترجيح الحجّ لأهميته أو العمرة لتقدّمها.

و إليك دراسة الفروع واحدا بعد الآخر.

الفرع الأوّل: من مات و عليه حجّة الإسلام تقضى من أصل المال بلا خلاف عندهم.

أمّا أهل السنّة فلهم قولان:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 437

.......... قال الشيخ: من استقرّ عليه وجوب الحجّ فلم يفعل و مات، وجب أن يحجّ عنه من صلب ماله مثل الدين، و لم يسقط بوفاته- إلى أن قال:- و قال أبو حنيفة و مالك: يسقط بوفاته بمعنى أنّه لا يفعل عنه بعد وفاته، و حسابه على اللّه يلقاه، و الحجّ في ذمّته- إلى أن قال:- و هكذا يقول في الزكوات و الكفارات و جزاء الصيد كلّها تسقط بوفاته و لا تفعل عنه بوجه. «1»

و قال ابن قدامة في المغني: متى توفّي من وجب عليه الحجّ و لم يحجّ، وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحجّ به عنه و يعتمر، سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط،

و بهذا قال الحسن و طاووس و الشافعي. و قال أبو حنيفة و مالك: يسقط بالموت فإن وصّى بها فهي من الثلث. و بهذا قال الشعبي و النخعي، لأنّه عبادة بدنية تسقط، فتسقط بالموت كالصلاة. «2»

و أمّا الشيعة فقد اتّفقوا على أنّه يخرج من الأصل.

1. قال المفيد: و من وجب عليه الحجّ فمنعه منه مانع حتّى مات، و لم يحجّ، وجب أن يحجّ عنه من أصل ماله، فإنّه دين اللّه تعالى. «3»

2. قال الشيخ: فإن لم يخرج أحدا عنه، و الحال هذه أو يكون متمكّنا من الخروج فلا يخرج و أدركه الموت، وجب عليه أن يخرج عنه من صلب ماله و ما بقي بعد ذلك يكون ميراثا. «4»

3. و قال ابن البرّاج: ... أو كان متمكنا من الخروج و لم يخرج ثمّ مات، وجب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 438

.......... أن يخرج من ماله قبل قسمة ميراثه، مقدار ما يحجّ به عنه، فإن لم يخلف إلّا مقدار الحجّ، حجّ عنه بذلك. «1»

4. و قال ابن إدريس: فإن كان متمكنا من الحجّ و الخروج، فلم يخرج و أدركه الموت و كان الحجّ قد استقرّ عليه و وجب، وجب أن يخرج من صلب ماله ما يحجّ به من بلده، و ما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا. «2»

5. قال المحقّق: إذا استقرّ الحجّ في ذمّته ثمّ مات، قضي من أصل تركته، فإن كان عليه دين و ضاقت التركة، قسمت على الدين و على أجرة المثل بالحصص. «3»

6. و قال العلّامة: و إن مات، وجب أن يخرج عنه حجة الإسلام و عمرته من صلب المال، و لا تسقط بالموت عند علمائنا أجمع، و به قال الحسن و طاووس

و الشافعي، لما رواه العامة عن ابن عباس انّ امرأة سألت النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم عن أبيها مات و لم يحجّ؟ قال: حجي عن أبيك. «4»

7. و قال في «المدارك»: أمّا وجوب القضاء عن الميت من أصل تركته، مع استقرار الحجّ في ذمّته، فقال العلّامة في التذكرة و المنتهى: إنّه قول علمائنا أجمع.

و وافقنا عليه أكثر العامّة. و المستند فيه الأخبار المستفيضة. «5»

8. و قال في «المستند»: المصرّح به في موثّقة سماعة و العجلي و صحيحة ابن عمار المذكورة: أنّه يجب القضاء من أصل مال الميت. «6»

و لم أقف على مخالف في المسألة، و لذلك قال في «الجواهر» بعد قول الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 439

.......... المحقّق: «قضى عنه من أصل تركته»: كسائر الديون لا من الثلث، بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه أيضا، خلافا لأبي حنيفة و مالك و الشعبي و النخعي. «1»

و يدلّ عليه روايات كثيرة:

1. صحيح معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يموت و لم يحجّ حجّة الإسلام و يترك مالا؟ قال: «عليه أن يحجّ من ماله رجلا صرورة لا مال له». «2»

2. صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال: «يقضى عن الرجل حجّة الإسلام من جميع ماله». 3

3. موثقة سماعة بن مهران قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يموت و لم يحجّ حجّة الإسلام و لم يوص بها و هو موسر؟ فقال: «يحجّ عنه من صلب ماله، لا يجوز غير ذلك». 4 فقوله في الحديث: «و لا يجوز غير ذلك» تلميح إلى قول من لا يقول بذلك من فقهاء عصره

على ما عرفت من كلام الشيخ.

و الأوليان منصرفتان إلى صورة عدم الإيصاء، و الثالثة صريحة فيه.

و ما ذكرناه من الروايات يدلّ على لزوم القضاء من التركة، و هناك روايات تدلّ على لزوم القضاء، من غير تصريح بالإخراج من التركة أو من الثلث لكنّها منصرفة إلى الأولى، فلاحظ روايات الباب. «5»

هذا و لا فرق بين حجّ التمتع و غيره، و لا بين الحجّ و عمرته.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 440

.......... أمّا الأوّل، فلأنّ الجميع من أقسام حجة الإسلام.

و أمّا الثاني، فلأنّ الحجّ يطلق و يراد به ما يشمل العمرة.

و ربما تتصور المعارضة بينها و بين صحيح معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: في رجل توفّي و أوصى أن يحجّ عنه، قال: «إن كان صرورة فمن جميع المال، انّه بمنزلة الدين الواجب، و إن كان قد حجّ فمن ثلثه، و من مات و لم يحجّ حجّة الإسلام و لم يترك إلّا قدر نفقة الحمولة، و له ورثة فهم أحقّ بما ترك، فإن شاءوا أكلوا و إن شاءوا حجّوا عنه». «1»- وجه المعارضة- ظهور الصدر في الإخراج من التركة، و ظهور الذيل في كونه للورثة و هم مختارون بين التصرف لأنفسهم و بين صرفها في الحجّ.

و الظاهر عدم التعارض، لأنّ الذيل راجع إلى ما إذا لم تكن التركة وافية بمؤونة الحجّ، بخلاف الصدر فهو صريح فيما إذا كانت وافية بها.

الفرع الثاني: إذا أوصى بها و لم يعين إخراجه من الأصل أو الثلث، فيخرج من التركة، و يدلّ عليه- مضافا إلى أنّه دين مالي، يخرج من الأصل كسائر الديون- روايات.

1. صحيح معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل مات فأوصى

أن يحجّ عنه؟ قال: «إن كان صرورة فمن جميع المال، و إن كان تطوعا فمن ثلثه». «2»

2. صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام مثل صحيح معاوية بن عمار و زاد

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 441

.......... فيه: «فإن أوصى أن يحجّ عنه رجل فليحج ذلك الرجل». «1»

الفرع الثالث: ما ذكره المصنّف بقوله: «و إن أوصى بإخراجها من الثلث وجب إخراجها منه [إذا كان وافيا بجميع ما أوصى به ».

و تقدّم على الوصايا المستحبة و إن كانت متأخرة عنها في الذكر [إذا لم يكن وافيا بالجميع .

و العبارة الأولى ناظرة إلى ما إذا كان الثلث وافيا بجميع ما أوصى به، و لذلك ذكرنا بين المعقوفتين قولنا: «إذا كان وافيا بجميع ما أوصى به».

و العبارة الثانية راجعة إلى ما إذا كان الثلث وافيا بخصوص الحجّ دون سائر الوصايا كما عرفت من كلامنا، و لذلك يقدّم على غيره.

كما أنّ قول المصنف فيما بعد (الفرع الرابع) «و إن لم يف الثلث بها» راجع إلى ما إذا كان الثلث غير واف حتّى بالحجّ أيضا.

و على كلّ تقدير إذا كان الثلث وافيا بجميع ما أوصى به فهو، و إلّا فيقدّم الحجّ على غيره، و يقع الكلام في مقتضى القاعدة أوّلا، و مقتضى النصوص ثانيا.

أمّا الأوّل فلو افترضنا أنّه لو أوصى صرف ثلثه في موارد ثلاثة- كما في الرواية الآتية عن التهذيب- فمقتضى القاعدة تقسيم الثلث، على موارد الوصية بالسوية غاية الأمر إذا لم يف الثلث بالحجّ، يكمّل من أصل التركة، و ذلك لأنّ الواجب أوّلا بالذات هو إخراج نفقة الحجّ من التركة، غير أنّ الموصي خصّ ثلث الثلث بصرفه في الحجّ، فيؤخذ بما وصّى و إذا كان وافيا به،

فهو و إلّا يكمّل من أصل المال، عملا بالقاعدة الأوّلية المنصوصة من أنّ الحجّ يخرج من أصل المال.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 442

.......... و بعبارة أخرى: أنّ الحكم الشرعي لا يتغيّر بالإيصاء، فالحج عنه واجب شرعي على الوصي أو الورثة، غاية الأمر يعمل بالوصية فيما لا يزاحم الحكم الشرعي، أعني: الإحجاج عنه بصرف ثلث الثلث في نفقة الحجّ، و يكمل الباقي من أصل المال.

و أمّا مقتضى النصوص فهو تقديم الحجّ على سائر الموارد المستحبة أخذا بالنصوص الواردة في كتاب الحجّ و الوصية، و نذكر بعضها.

و يدلّ عليه صحيح معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن امرأة أوصت بمال في الصدقة و الحجّ و العتق؟ فقال: «ابدأ بالحجّ فإنّه مفروض، فإن بقي شي ء فاجعله في العتق طائفة، و في الصدقة طائفة». «1»

و روايته الأخرى يرويها عنه زكريا المؤمن رواها، الشيخ في «التهذيب» و نقل صدرها في «الوسائل» و ترك ذيلها، مع أنّها جدير بالمطالعة قال: إنّ امرأة هلكت و أوصت بثلثها يتصدق به عنها، و يحجّ عنها و يعتق عنها فلم يسع المال ذلك، فسألت أبا حنيفة و سفيان الثّوري، فقال كلّ واحد منهما: انظر إلى رجل قد حجّ فقطع به فيقوى، و رجل قد سعى في فكاك رقبته عليه شي ء فيعتق و يتصدّق بالبقيّة، فأعجبني هذا القول و قلت للقوم- يعني أهل المرأة-: إنّي قد سألت لكم فتريدون أن أسأل لكم من هو أوثق من هؤلاء؟ قالوا: نعم، فسألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذلك، فقال: «ابدأ بالحجّ، فإنّ الحجّ فريضة، فما بقي فضعه في النّوافل»، و قال: فأتيت أبا حنيفة فقلت: إنّي قد سألت فلانا فقال لي: كذا

و كذا، قال: فقال: هذا و اللّه [هو] الحقّ، و أخذ به و ألقى هذه المسألة على أصحابه،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 443

.......... و قعدت لحاجة لي بعد انصرافه فسمعتهم يتطارحونها، فقال بعضهم بقول أبي حنيفة الأوّل، فخطّأه من كان سمع هذا، و قال: سمعت هذا من أبي حنيفة منذ عشرين سنة. «1»

هذا و يظهر من السيّد الحكيم أنّ تقديم فريضة الحجّ مطابق للقاعدة فقال: وجه التقديم ظاهر، لأنّها لمّا كانت يجب إخراجها على كلّ حال و إن لم يسعها الثلث، لم تصلح المستحبات لمزاحمتها التي لا يجب إخراجها إذا لم يسعها الثلث، لأنّ النسبة بينهما من قبيل نسبة الواجب المطلق إلى المشروط، يكون الأوّل رافعا للثاني، و الظاهر أنّ ذلك هو المراد ممّا في صحيح معاوية بن عمّار حيث جاء فيها «فانّه مفروض». «2»

يلاحظ عليه: أنّ قوله: «لأنّها لما كانت يجب إخراجها على كلّ حال و إن لم يسعها الثلث» لا يكون دليلا على صرف جميع الثلث في الحجّ، لأنّه أعمّ منه و من إكمال الباقي بأصل المال، و على ذلك لا يكون هناك مزاحمة بين الواجب و المستحب، لإمكان رفع حاجة الواجب بأصل المال الذي هو الأصل في إخراج نفقة الحجّ.

الفرع الرابع: إذا لم يف الثلث بالحجّ وحده فضلا عن غيره يقدم الحجّ و يكمّل الباقي من الأصل، لما عرفت من أنّ الواجب أوّلا و بالذات هو إخراجها عن أصل المال، غير أنّ الموصي خصّ صرف ثلث ماله في مورد الحجّ، و يبقى الباقي على عاتق التركة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 444

و الأقوى أنّ حجّ النذر أيضا كذلك، بمعنى أنّه يخرج من الأصل كما سيأتي الإشارة إليه، و لو كان عليه

دين أو خمس أو زكاة و قصرت التركة فإن كان المال المتعلّق به الخمس أو الزكاة موجودا قدّم لتعلّقهما بالعين، فلا يجوز صرفه في غيرهما، و إن كانا في الذمّة، فالأقوى أنّ التركة توزع على الجميع بالنسبة، كما في غرماء المفلّس، و قد يقال بتقديم الحجّ على غيره، و إن كان دين الناس، لخبر معاوية بن عمّار الدالّ على تقديمه على الزكاة، و نحوه خبر آخر، لكنّهما موهونان بإعراض الأصحاب مع أنّهما في خصوص الزكاة، و ربما يحتمل تقديم دين الناس لأهميّته، و الأقوى ما ذكر من التحصيص، و حينئذ فإن وفت حصّة الحجّ به فهو، و إلّا فإن لم تف إلّا ببعض الأفعال- كالطواف فقط أو هو مع السعي- فالظاهر سقوطه و صرف حصّته في الدين أو الخمس أو الزكاة، و مع وجود الجميع توزع عليها، و إن وفت بالحجّ فقطّ أو العمرة فقطّ ففي مثل حجّ القران و الإفراد تصرف فيهما مخيرا بينهما، و الأحوط تقديم الحجّ، و في حجّ التمتّع الأقوى السقوط و صرفها في الدين و غيره، و ربما يحتمل فيه أيضا التخيير، أو ترجيح الحجّ لأهمّيته أو العمرة لتقدّمها، لكن لا وجه لها بعد كونهما في التمتّع عملا واحدا و قاعدة الميسور لا جابر لها في المقام. (1)*

(1)* الفرع الخامس: إذا كان عليه حجّ النذر يخرج من الأصل، و عليه جماعة منهم:

1. ابن إدريس قال: و كذلك الحجّة المنذورة أيضا تخرج من صلب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 445

.......... المال. «1»

2. قال المحقّق: إذا نذر الحجّ مطلقا، فمنعه مانع، أخّره حتّى يزول المانع.

و لو تمكّن من أدائه ثمّ مات، قضي عنه من أصل تركته. «2»

3. و قال العلّامة في

«الإرشاد»: و لو مات [ناذر الحجّ بعد استقراره، قضى من الأصل. «3»

4. و قال في «المدارك»: أمّا وجوب قضائه من أصل التركة إذا مات بعد التمكّن من الحجّ، فمقطوع به في كلام أكثر الأصحاب. «4»

5. و قال في الحدائق: إنّ مخرج حجّة النذر هل هو من الأصل أيضا، أو من الثلث؟ قولان: أوّلهما لابن إدريس و عليه أكثر المتأخرين. «5»

و هناك من يقول بالثلث:

6. قال الشيخ في «النهاية»: «و ما نذر فيه من ثلثه». «6»

7. و قال في «المبسوط»: إذا أوصى الإنسان بحجّة تطوع، أخرجت من الثلث، فإن لم يبلغ الثلث ما يحجّ عنه من موضعه حجّ عنه من بعض الطريق، فإن لم يمكن أن يحجّ به أصلا، صرف في وجوه البر.»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 446

.......... 8. نقله العلّامة في «المختلف» عن ابن الجنيد قال و رواه الصدوق في كتابه. «1»

استدلّ للقول الأوّل بوجوه:

الأوّل: ما أشار إليه المحقّق الأردبيلي قال: لعلّ دليله أنّه واجب مالي فيجب إخراجه من الأصل، كحج الإسلام و الزكاة و سائر الديون. «2»

الثاني: الإجماع على أنّ الواجب المالي يخرج من الأصل.

الثالث: النذر بنفسه يقتضي كونه دينا، لأنّ الجعل على الذمّة يوجب كونه دينا عليه للّه تعالى لقوله: للّه علي كذا. فالمنذور يكون دينا على الناذر بمقتضى جعله.

و بعبارة أخرى: انّ معنى قول الناذر «للّه» هو التعهد للّه بإتيان المنذور على أن يكون المنذور دينا على عهدته، و ما يدلّ على وجوب الوفاء بالدين يدلّ على وجوب وفاء هذا الدين، و المناط للخروج من الأصل، هو كون الواجب دينا.

يلاحظ على الأوّل بأنّه مركّب من صغرى و هي انّ الحجّ واجب مالي، و كبرى و هي انّ الواجب المالي يقضى

من الأصل. و كلّ من الصغرى و الكبرى ممنوعان في المقام.

أمّا الأولى، فلأنّ الحجّ ليس واجبا ماليّا، بل واجبا بدنيا ماليا، أو بدنيا لا يتأتى إلّا ببذل المال في طريقه.

و أمّا الثانية، فلأنّ المراد من الكبرى الواجب المالي المحض كالزكاة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 447

.......... و الخمس، و الكفّارات، لا الممزوج من الأعمال البدنية و المالية.

فإن قلت: إنّ الحجّ في رواية الخثعمية وصف بدين اللّه، و إنّه أحقّ بالقضاء.

قلت: إنّ استعمال الدين في لسان النبي في مورد الحجّ من باب الاستعارة حتّى يشجّع بذلك المرأة على أداء الحجّ، و ليس على وجه الحقيقة، إذ من الواضح انّ الحجّ ليس دينا، و إلّا لأصبحت كل التكاليف كالصلاة و الصوم دينا للّه، فيقتصر على مورده، أعني: الحجّ الواجب.

و منه يظهر الجواب عن الدليل الثاني، لأنّ مصبّ الإجماع هو الواجب المالي المحض، لا ما يتوقّف إتيانه على المال.

و أمّا الوجه الثالث، فهو الوجه المعتبر في المقام لو لا احتمال أنّ كون اللام في قوله: «للّه» من المحتمل أن يكون للاختصاص، أي أقوم بهذا العمل خالصا للّه سبحانه في مقابل النذر، للأوثان و الأصنام، دون التمليك، نعم هذا الاحتمال ضعيف.

و يدلّ على القول الثاني روايتان:

1. صحيحة ضريس الكناسي قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام: عن رجل عليه حجّة الإسلام نذر نذرا في شكر ليحجّنّ به رجلا إلى مكّة، فمات الذي نذر قبل أن يحجّ حجّة الإسلام، و من قبل أن يفي بنذره الذي نذر؟ قال: «إن ترك مالا يحجّ عنه حجّة الإسلام من جميع المال، و أخرج من ثلثه ما يحجّ به رجلا لنذره و قد و فى بالنذر، و إن لم يكن ترك مالا إلّا بقدر ما

يحجّ به حجّة الإسلام حجّ عنه بما ترك، و يحجّ عنه وليّه حجّة النذر، إنّما هو مثل دين عليه». «1»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 448

.......... و الشاهد في قوله: «إن ترك مالا يحجّ عنه حجّة الإسلام من جميع المال، و أخرج من ثلثه ما يحجّ به رجلا لنذره، و قد و فى بالنذر».

و الرواية مشتملة على حكم شاذ و هو قضاء الولي (الولد الأكبر) الحجّ النذري عن الأب و إن لم يترك شيئا، و هو معرض عنه، و إنّما ثبت القضاء في الصلاة و في الصوم عند بعضهم.

2. صحيحة عبد اللّه بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل نذر للّه إن عافى اللّه ابنه من وجعه ليحجّنه إلى بيت اللّه الحرام، فعافى اللّه الابن و مات الأب، فقال: «الحجّة على الأب يؤدّيها عنه بعض ولده»، قلت: هي واجبة على ابنه الذي نذر فيه؟ فقال: «هي واجبة على الأب من ثلثه، أو يتطوع ابنه فيحجّ عن أبيه». «1» و الشاهد في قوله: «هي واجبة على الأب من ثلثه».

و تمام الكلام في المسألة الثامنة من الفصل القادم.

الفرع السادس: لو كان عليه دين أو خمس أو زكاة و حج و قصرت التركة فهنا صورتان:

الأولى: أن يكون المال المتعلّق به الخمس و الزكاة موجودا، فلو قلنا بأنّ تعلّق الزكاة بالعين، إشاعي أو من قبيل الكلي في المعين أو من قبيل تعلّق حقّ المرتهن بالعين المرهونة فيقدّم الخمس أو الزكاة، فيقدم الحقوق الواجبة على الحجّ، لأنّ العين ليست بتمامها ملكا للميت، بل هو شريك مع أصحاب الحقوق في الوجهين الأوّلين و الحجّ يخرج من ماله، لا من مال شريكه و مثلهما الوجه الثالث، لأنّ العين

و إن كانت ملكا للميت بأجمعها، لكن لا يجوز له التصرف فيها إلّا بعد

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 449

.......... فكها من الرهن و الحجّ إنّما يخرج من الملك المطلق، غير المتعلّق به حق الغير.

و أمّا إذا قلنا بتعلّقها بالذمة لا بالعين، و إن كانت العين موجودة فيكون حكمها حكم الصورة الثانية.

الثانية: إذا لم يكن المال المتعلّق به الخمس و الزكاة موجودا أو كان موجودا و لكن لم نقل بتعلّقه بالعين، ففيها أقوال ثلاثة:

1. التوزيع على الجميع بالحصص.

2. انّه يقدّم الحجّ على غيره و إن كان الغير دين الناس.

3. تقديم الدين على الحجّ.

و الأوّل هو المشهور.

1. قال المحقّق: فإن كان عليه دين وضاقت التركة قسّمت على الدين و على أجرة المثل بالحصص، مثلا لو كان دينه ألف، و أجرة المثل للحجّ، خمسمائة، و كانت التركة تعادل سبعمائة و خمسين، أعطى خمسمائة للدائن و يصرف مائتان و خمسمائة في الحجّ.

2. و قال العلّامة في الإرشاد: و يقسط التركة عليها (الحجة المنذورة) و على حجة الإسلام و على الدين بالحصص. «1»

و أمّا القول الثاني فقد احتمله القاضي في «الجواهر» فقال: فيما إذا مات و عليه حجّة الإسلام و الدين، فإن كان ما خلفه لا يتسع لذلك قسّم بينهما، لأنّهما دينان قد وجبا عليه، و ليس أحدهما أولى من الآخر و إن قلنا بتقديم الحجّ، لأنّ حق اللّه سبحانه أولى من حقّ غيره كان جائزا. «2»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 450

.......... و اختاره صاحب الحدائق و السيد الخوئي و غيرهما.

استدلّ للقول الأوّل بما في «المدارك» بقوله: لاشتراك الجميع في الثبوت و انتفاء الأولوية، ثمّ إن قامت حصة الحجّ من التوزيع، أو من جميع التركة مع انتفاء الدين

بأجرة الحج فواضح. «1» و إن لم تف فسيوافيك حكمه في الفرع السابع.

و يستدلّ للقول الثاني بروايتين:

1. ما رواه الكليني بسند صحيح عن معاوية بن عمار قال: قلت له: رجل يموت و عليه خمسمائة درهم من الزكاة و عليه حجة الإسلام، و ترك ثلاثمائة درهم و أوصى بحجة الإسلام و أن يقضى عنه دين الزكاة؟ قال: «يحج عنه من أقرب ما يكون و تخرج البقية في الزكاة». «2»

2. ما رواه الشيخ بسند صحيح عنه أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل مات و ترك ثلاثمائة درهم و عليه من الزكاة سبعمائة درهم، و أوصى أن يحجّ عنه، قال: «يحج عنه من أقرب المواضع، و يجعل ما بقي في الزكاة». «3»

قال في «الحدائق»: و ظاهر الخبرين المذكورين له صريحهما انّه يجب أوّلا الحجّ عنه من أقرب الأماكن، ثمّ يصرف الباقي في الزكاة كائنا ما كان و انّه لا تحاصّ بينهما. «4»

و ناقش صاحب الجواهر في الاستدلال بهما بوجوه:

1. اختصاص الروايتين بالزكاة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 451

.......... 2. قصور سند الثاني منهما.

3. إعراض الأصحاب عنهما.

يلاحظ على الأوّل، بأنّ الخمس بدل الزكاة، من الشريعة الإسلامية، فيكون محكوما بحكمها.

و على الثاني، لا قصور في السند إلّا من جهة محمد بن عبد اللّه بن زرارة، و الظاهر وثاقته تظهر ممّا ذكره النجاشي في ترجمة الحسن بن علي بن فضال، فلاحظ.

و أمّا الثالث فلم يثبت، و قد عرفت من القاضي تجويزه.

هذا إذا كان الدين، شرعيا، و أمّا إذا كان شخصا فيقدم الحجّ عليه لصحيح بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام، عن رجل خرج حاجا و معه جمل له و نفقة و زاد فمات في الطريق؟ قال:

«إن كان صرورة ثمّ مات في الحرم فقد أجزأ عنه حجّة الإسلام، و إن كان مات و هو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله و زاده و نفقته و ما معه في حجّة الإسلام، فإن فضل من ذلك شي ء فهو للورثة إن لم يكن عليه دين». «1»

و به يظهر ضعف الاحتمال الثالث من تقديم الدين على الحجّ، و- لذا- ذكره المصنّف بقوله: «و ربما يحتمل تقديم دين الناس لأهميته».

الفرع السابع: إذا وفت حصة الحجّ به فهو، و إن لم تف إلّا ببعض الأفعال كالطواف فقط أو هو مع السعي سقط صرفه في بعض أفعال الحجّ، لعدم ثبوت مشروعيته.

قال في «المدارك»: و لو قصر نصيب الحجّ عن أحد الأمرين (الحجّ و العمرة)

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 452

.......... وجب صرفه في الدين إن كان معه، و إلّا عاد ميراثا، و لا يجب صرفه في شي ء من أفعال الحجّ و العمرة، لعدم ثبوت التعبد بذلك على الخصوص. «1»

و تبعه في «الجواهر» و قال: و إن لم يف النصيب بشي ء من النسكين، صرف في الدين لا فيما يفي به من الأفعال من طواف و وقوف لعدم التعبّد بشي ء منها وحدها عدا الطواف، و احتمال إثبات مشروعية ذلك بقاعدة الميسور و «ما لا يدرك» قد بيّنا فساده في محله. «2»

الفرع الثامن: إذا وفت حصة الحجّ بالحجّ فقط أو العمرة، فيقع الكلام تارة في حجّ القران و الافراد، و أخرى في حجّ التمتع، وجه التفصيل أنّ الحجّ و العمرة في القران و الافراد فريضتان مستقلتان، بخلاف حجّ التمتع، فإنّ العمرة فيه جزء من الحجّ. و على أيّ حال فلنأخذ الكلّ بالبحث فنقول:

أمّا الأوّل: فهل هو مخير بينهما، أو يقدّم الحجّ؟

و في «المدارك»: و لو تعارضا احتمل التخيير لعدم الأولويّة، و (يحتمل) تقديم الحجّ، لأنّه أهم في نظر الشارع. «3»

و قال في «الجواهر»: و إن وسع كلا منهما تخيّر للتساوي في الاستقرار، و يحتمل تقديم الحجّ لكونه أهم في نظر الشارع. «4»

هذا إذا ثبتت الأهمية، و إلّا يكفي احتمال الأهمية، لدوران العقل بين التعيين و التخيير، فيؤخذ بمحتمل الأهمية.

يلاحظ عليه أوّلا: أنّ كون المورد من موارد الاشتغال ممنوع، لرجوع الشك بين التخيير و التعيين، إلى احتمال وجوب كلفة زائدة وراء الوجوب التخييري، و هو

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 453

.......... لزوم الأخذ بإحدى الفريضتين، فترفع الكلفة المحتملة بحديث الرفع.

و ثانيا: أنّ الأخذ بمحتمل الأهمية يختص بمورد التكليف، كما في مورد الغريقين إذا احتملت الأهمية في أحدهما، و أمّا المقام فهو من موارد الوضع و انّه هل تعلّق بالتركة، نفقة الحج أو الأعم منه و من العمرة و ليس تعلق أحدهما آكد من الآخر، كما إذا مات و هو مديون لشخصين أحدهما مؤمن و الآخر كافر، فهما سيان في مقام تعلّق حقّهما بالتركة.

و أمّا الثاني، أعني: إذا دار الأمر بين صرفه بين إحدى الفريضتين في حجّ التمتع ففيه احتمالات:

1. السقوط و صرف الحصة في الدين و غيره لعدم التبعيض بين أجزاء الواجب الواحد.

2. التخيير، لعدم الترجيح.

3. ترجيح الحجّ لأهميته.

4. ترجيح العمرة لتقدّمها.

مقتضى القاعدة، هو السقوط، لكون العمرة و الحجّ في التمتع عملا واحدا، و لا وجه لصرف المال في أحدهما المرتبطين، فيبقى في ملك الورثة.

و أمّا مقتضى الروايات، فربما يستظهر لزوم صرفه في الحجّ، دون العمرة لخبر علي بن مزيد الذي رواه الشيخ في «التهذيب»، قال: أوصى إليّ رجل بتركته و أمرني أن أحجّ بها عنه،

فنظرت في ذلك فإذا شي ء يسير، لا يكون للحجّ، فسألت أبا حنيفة و فقهاء أهل الكوفة فقالوا: تصدّق بها عنه، فلمّا حججت جئت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام فقلت: جعلني اللّه فداك مات رجل و أوصى إليّ بتركته أن أحجّ بها عنه، فنظرت في ذلك فلم يكف للحجّ، فسألت من عندنا من الفقهاء،

[المسألة 84: لا يجوز للورثة التصرّف في التركة قبل استئجار الحجّ إذا كان مصرفه مستغرقا لها]

المسألة 84: لا يجوز للورثة التصرّف في التركة قبل استئجار الحجّ إذا كان مصرفه مستغرقا لها، بل مطلقا على الأحوط، إلّا إذا كانت واسعة جدّا فلهم التصرّف في بعضها حينئذ مع البناء على إخراج الحجّ من بعضها الآخر كما في الدين فحاله حال الدين. (1)*

فقالوا: تصدّق بها، قال: فما صنعت؟ قلت: تصدّقت بها، قال: «ضمنت؛ إلّا أن لا يكون يبلغ ما يحجّ به من مكّة؟! فإن كان لا يبلغ ما تحجّ به من مكّة فليس عليك ضمان، و إن كان تبلغ أن تحجّ به من مكّة فأنت ضامن». «1»

أقول: و قد نقله المصنف في المسألة 86، و الاستدلال مبنيّ على أنّ المراد من قوله: «ضمنت إلّا أن لا يكون يبلغ ما يحجّ به من مكة»، هو الإحرام للحجّ من مكّة.

يلاحظ عليه: الظاهر أنّ المراد هو الإحرام من أدنى الحلّ، لأداء حجّة الإسلام المركّب من عمرة و حجّ.

و بعبارة أخرى: انّ الموصي أوصى بالحجّ البلدي، و لما صار المال غير واف به، أمره الإمام بالحجّ الميقاتي، فإن و فى المال بالحجّ من أقرب المواقيت فهو، و إلّا من أدنى الحلّ كالتنعيم.

مضافا إلى ضعف السند، حيث إنّ علي بن مزيد مجهول، و اختصاص مورد الرواية بالوصية التي يكون العمل بها مرغوبا فيها مهما أمكن.

(1)* لا إشكال في انتقال التركة إلى الورثة إذا لم

يكن في المورد دين و لا وصيّة،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 455

.......... كما لا إشكال في عدم جواز التصرّف في التركة إذا كان الدين أو نفقة الحجّ مستغرقين لها، سواء أقلنا بعدم انتقال التركة إلى الورثة و بقائها على ملك الميّت، كما عليه جماعة أو قلنا بانتقالها إليهم لكن متعلّقة بحقّ الغير.

أمّا على الأوّل فواضح، لأنّ التركة تبقى على ملك الميّت، و المال ينتقل إلى الغرماء من نفس الميّت لا من الورثة، فلا مسوّغ لتصرّفهم في مالا يملكون.

و أمّا على الثاني، فلأنّ التركة و إن كانت ملكا للورثة لكنّها متعلّقة لحقّ الغير، فتصبح كالعين المرهونة.

و ليعلم أنّ المراد من عدم جواز التصرّف هو التصرّف الذي لا يكون مقدّمة لوفاء الدين، و إلّا فلو كان لتلك الغاية يكون التصرّف ماضيا شرعا، كما إذا باع العين المرهونة بقصد أداء الدين، و إن لم يأذن المرتهن. غاية الأمر يتوقّف تسليم العين على فك الرهن.

و على كلّ تقدير لا إشكال في هاتين الصورتين من حيث الجواز في الأولى و عدمه في الثانية، إنّما الكلام في الصورة الثالثة، و هو ما إذا كانت التركة أزيد من الدين، أو الوصية، أو نفقة الحجّ، فهل ينتقل مازاد على الوصية و الدين إلى الورثة، أو يبقى على ملك الميّت إلى أن تخرج الوصيّة و الدين من التركة؟ و بعبارة أخرى:

فهل يشترط في تعلّق الدين بمجموع التركة، استغراق الدين إيّاها أو أزيد فلو كان أنقص لم يتعلّق إلّا بقدره، أم لا يشترط؟ فلا يجوز التصرّف و إن كانت التركة أكثر من الدين. وجهان.

و الأوّل خيرة جمع من الأصحاب، منهم:

1. ابن سعيد الحلّي في جامعه قال: و من مات و عليه دين يحيط بتركته

لم ينفق منها على عياله، و إن لم يحط بها أنفق عليهم من وسطها. «1»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 456

.......... 2. العلّامة في قواعده، قال: الفلس سبب بشروط خمسة إلى أن يقول:

«و قصور ما في يده عنها». «1»

3. الشهيد الثاني في «المسالك»، قال: فلو كانت أمواله مساوية لها أو زائدة لم يحجر عليه عند علمائنا أجمع، بل يطالب بالديون، فإن قضاها، و إلّا تخيّر الحاكم مع طلب أربابها بين حبسه إلى أن يقضي المال، و بين أن يبيع متاعه و يقضى به الدين. «2»

4. و أمّا القول الثاني فهو ظاهر «المبسوط» حيث لم يفصّل بين الأقسام و قال: أنّه يمنع من التصرّف في ماله، و لو تصرّف فيه لم يصحّ. «3»

و هو صريح الشهيد في الإرث حيث قال: و لو لم يستغرق الدين للتركة انتقل إليهم مازاد و يكون جميع التركة كالرهن، حتّى يقضى الدين. «4» و الشاهد في قوله: «و يكون جميع التركة كالرهن»

و الظاهر هو القول الأوّل، أي التفصيل بين الاستغراق فلا يصحّ التصرّف و عدمه فيجوز، و ذلك لأنّ تعلّق الدين بالتركة ليس من قبيل الإشاعة حتّى يكون الغريم شريكا للورثة بعد موت الدائن، بل من قبيل الكلّي في المعيّن، و الشاهد على ذلك أنّه لو كان بعض التركة مغصوبا في حال حياة الميّت أو بعد وفاته أو تلف بعد وفاته يتعيّن الوفاء من الباقي، و لا يحسب التالف على الغرماء و لو حسب الحصّة، و هذا دليل على أنّ التعلّق من باب الكلّي في المعيّن. هذا من جانب و من الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 457

.......... جانب آخر انّ للوارث الولاية على أداء ديون الميّت فله أن يتصرّف إلى

أن يبقى في المال مقدار الدين، أو مقدار نفقة الحجّ أو الوصيّة.

و هذا ما يؤيّده سيرة العقلاء حيث لا يتوقّف الوارث لأجل الدين في التصرّف في التركة فيما إذا كانت التركة أكثر من الدين، و يشهد على ما ذكرنا روايتان:

1. موثّقة عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي الحسن عليه السّلام أنّه سئل عن رجل يموت و يترك عيالا و عليه دين، أينفق عليهم من ماله؟ قال: «إن كان يستيقن أنّ الذي ترك يحيط بجميع دينه فلا ينفق عليهم، و إن لم يكن يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال». «1»

2. مرسلة ابن أبي نصر بإسناده أنّه سئل عن رجل يموت مثل ما تقدّم. 2

استدلّ على القول الثاني بوجوه ذكرها صاحب الجواهر:

1. انّه لا أولويّة لبعض على بعض في اختصاص التعلّق به، لأنّ الأداء لا يقطع بكونه بذلك البعض، لجواز التلف.

2. ظاهر الآية، أعني قوله سبحانه: فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ «3»، فإنّ المتبادر منها انّ تملك الوارث أو جواز التصرّف بعد إخراج سهم الوصية أو الدين.

3. صحيح عبّاد بن صهيب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل فرّط في إخراج زكاته في حياته، فلمّا حضرته الوفاة حسب جميع ما فرّط فيه ممّا لزمه من الزكاة ثمّ أوصى أن يخرج ذلك فيدفع إلى من يجب له، قال: فقال: «جائز يخرج ذلك من الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 458

.......... جميع المال، إنّما هو بمنزلة الدين لو كان عليه ليس للورثة شي ء حتّى يؤدّى ما أوصى به من الزكاة»، قيل له: فإن كان أوصى بحجّة الإسلام؟ قال: «جائز يحج عنه من جميع المال». «1»

4. صحيح سليمان بن

خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قضى عليّ عليه السّلام في دية المقتول أنّه يرثها الورثة على كتاب اللّه و سهامهم إذا لم يكن على المقتول دين». «2»

5. انّ الميت لمّا خرج بالموت عن صلاحية استقرار الدين في ذمّته وجب أن يتعلّق بكلّ ما يمكن أداؤه من أمواله، لأنّ حدوث تعلّقه ببعض آخر عند تلف بعض معلوم انتفاؤه.

يلاحظ على الأوّل: بأنّه إنّما يتمّ لو قلنا بتعلّق الدين بالتركة على الإشاعة، فيأتي ما ذكره من أنّه لا أولوية لبعض على بعض في اختصاص التعلّق به، و أمّا لو كان على نحو الكلّي في المعيّن كبيع صاع من صبرة، فلا وجه له، و ذلك لأنّ الميّت عندئذ يملك كلّيّا معيّنا من التركة بمقدار الدين، و ينتقل منه الغرماء رأسا و البقية تنتقل إلى الورثة غاية الأمر يكون للورثة حقّ التصرّف في المقدار الزائد إلى أن يبقى بمقدار الدين أو نفقة الحجّ، و عليه السيرة المستمرة بين المسلمين. فيكون تعيّن الدين فيما بقي بعد إخراج السهام أمرا قهريّا.

و أمّا الثاني، فالظاهر أنّ الآية ليس في مقام بيان تعلّق الملكية أو جواز التصرف بعد إخراج الوصية أو الدين، بل في مقام بيان حصة الزوج من تركة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 459

.......... زوجته و أنّه يملك الربع ممّا عدا الوصية و الدين لا من جميع التركة، و هذا لا ينافي أن ينتقل سهم الزوج إليه لكن في غير المقدار الذي يقابل الوصية و الدين.

و أمّا الثالث، فالظاهر من صحيحة عباد بن صهيب هو إخراج الزكاة من صلب المال لا من الثلث، و لا دلالة لها في عدم انتقال مازاد على الزكاة إلى الورثة قبل إخراجها، فلاحظ قوله

عليه السّلام: «جائز يخرج ذلك من جميع المال، إنّما هو بمنزلة الدين لو كان عليه، ليس للورثة شي ء حتّى يؤدّى ما أوصى به من الزكاة» فالمقصود أنّ الورثة لا يملكون مقدار الزكاة و إنّما يملكون غيره.

و أمّا الرابع، فالظاهر من الحديث هو نفس ما مرّ في الحديث المتقدّم، أعني: تعيين السهام و مقدار سهم الإرث، و أنّهم لا يرثون ما يقابل الدين، بل يرثون غيره، لا أنّ التركة- حتّى في ما عدا الدين- لا تنتقل إليهم.

و أمّا الخامس، فلأنّه أوّل الكلام، إذ لذّمة الميت اعتبار لأجل أمواله التي تركها بعد موته، فلا مانع من القول بأنّه يملك مقدار الدين أو الوصية على نحو الكلّي في المعيّن، و أمّا تصرّفه في التركة و تعين بهم الدين أو الوصية في المقدار الباقي، فهو لازم ولاية الوارث على التصرّف في الملك الموروث بمقدار سهمه.

و بالجملة هذه الوجوه، لا تقابل السيرة المستمرة، و لا الصحيحين الماضيين.

و أمّا التفصيل بين سعة المال و غيرها كما عليه المصنف فليس هناك دليل عليه، فلو قلنا بالانتقال و جواز التصرف، فلا مانع سواء كانت التركة وسيعة أم لا.

هذا و تمام الكلام في كتاب الحجر. «1»

[المسألة 85: إذا أقرّ بعض الورثة بوجوب الحجّ على المورث و أنكره الآخرون

المسألة 85: إذا أقرّ بعض الورثة بوجوب الحجّ على المورث و أنكره الآخرون لم يجب عليه إلّا دفع ما يخصّ حصّته بعد التوزيع، و إن لم يف ذلك بالحجّ لا يجب عليه تتميمه من حصّته، كما إذا أقرّ بدين و أنكره غيره من الورثة، فإنّه لا يجب عليه دفع الأزيد، فمسألة الإقرار بالحجّ أو الدين مع إنكار الآخرين نظير مسألة الإقرار بالنسب، حيث إنّه إذا أقرّ أحد الأخوين بأخ آخر و أنكره الآخر لا يجب عليه إلّا دفع

الزائد عن حصّته، فيكفي دفع ثلث ما في يده، و لا ينزل إقراره على الإشاعة على خلاف القاعدة للنصّ. (1)*

(1)* هنا فروع ثلاثة:

1. إذا أقرّ بعض الورثة بوجوب الحجّ على المورّث و أنكره الآخرون.

2. إذا أقرّ بعض الورثة بدين و أنكره غيره من الورثة.

3. إذا أقرّ بعض الورثة بالنسب، كما إذا أقرّ أحد الأخوين بأخ آخر و أنكره الآخر.

إنّ في المسألة أقوالا:

الأوّل: دفع ما يخصّ حصته بعد التوزيع ذهب المصنف تبعا للمشهور بأنّه لا يجب عليه إلّا ردّ ما يخص حصته بعد التوزيع، فيدفع ما يزيد على حصته حسب إقراره من غير فرق بين الصور الثلاث.

فلو كانت التركة ثلاثة آلاف درهم و عليه حجّ، أجرته ألف درهم، و أقرّ أحد الوارثين دون الآخر و تقاسما بالمناصفة، فصارت حصته ألفا و خمسمائة درهم،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 461

.......... فيلزمه دفع الزائد عن حصته حسب إقراره، و هو خمسمائة درهم، و الحكم مختصّ بالفروع الثلاثة و لا يجري في غيرها، و لذا لو أقرّ أحد الديّان لآخر بدين، و أنكر الدائن الآخر يقسّم ما في يده حسب دينهما، فلو كان دينهما متساويين يقسّم ما في يده بالسوية، و لو كان دين المقر له نصف دين المقر، تقسم ما في يده أثلاثا، و هذا خيرة جمع من الأصحاب.

1. قال الشيخ في «الخلاف»: إذا مات رجل و له ابنان فأقرّ أحدهما بأخ ثالث فأنكره الآخر، لا خلاف أنّه لا يثبت نسبه، و إنّما الخلاف في أنّه يشاركه في المال أم لا، فعندنا انّه يشاركه، و يلزمه أن يرد عليه ثلث ما في يده، و به قال: مالك و ابن أبي ليلى، و قال أبو حنيفة: يشاركه بالنصف ممّا

في يده، لأنّه يقر أنّه يستحقّ من المال مثل ما يستحقّه، فيجب أن يقاسمه المال، و قال الشافعي: لا يشاركه في شي ء ممّا في يده. دليلنا: إجماع الفرقة، و أيضا فإنّه يقرّ بأنّه (المقر) يستحقّ من التركة ثلثها، و هو ثلث «1» ما في يده و ما زاد عليه، فللذي أقرّ له به فوجب تسليمه إليه.

و لأنّ الإقرار قائم مقام البيّنة، و لو قامت البيّنة لم يلزمه أكثر من ثلث ما في يده. «2» و لا يخفى ضعف كلا الوجهين.

أمّا الأوّل فلأنّه أقرّ بأنّه ولد الميت، و لم يقرّ بأنّه يستحقّ من التركة، ثلثها و عندئذ يترتّب عليه ما هو الحكم الشرعي للبنوّة، سلمنا، لكنّه أقرّ بأنّ له ثلث التركة، لا ثلث ما في يده.

و أمّا الثاني فلوجود الفرق بين الإقرار و البيّنة، لأنّ لازم قيام البيّنة تقسيم الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 462

.......... التركة أثلاثا، فيقسّط جميع التركة- سواء أكان في يد المقرّ أم المنكر- على الإخوة الثلاثة بالسوية دون المقام.

2. و قال ابن البراج: فإن هلك إنسان و خلّف وارثا (ورّاثا) فأقرّ بعضهم بوارث آخر، و كان المقرّ به أولى من المقرّ، بالميراث، سلّم إليه المقرّ جميع ما حصل في يده من الميراث، و إن كان مثله دفع إليه مقدار ما كان نصيبه من سهمه بغير زيادة و لا نقص. «1» و الضمير في قوله: «نصيبه» يرجع إلى المقرّ له.

3. قال ابن إدريس: إذا مات رجل و خلف ابنين، فأقرّ أحدهما بأخ و جحد الآخر، فلا خلاف أنّ نسبه لا يثبت، فأمّا المال الذي حصل في يد المقرّ فمذهبنا انّه يلزمه بمقدار حصّته، فيكون له ثلث ما في يده، ثمّ على هذا

الحساب، لأنّه أقرّ على نفسه و على غيره، فقبلنا إقراره على نفسه، و لا نقبل في حقّ غيره، و النسب بشاهد واحد لا يثبت. «2»

4. قال المحقّق: إذا أقرّ ولد الميت بولد آخر له، فأقرّا بثالث، ثبت نسب الثالث إن كانا عدلين. و لو أنكر الثالث الثاني، لم يثبت نسب الثاني، لكن يأخذ الثالث نصف التركة، و يأخذ الأوّل ثلث التركة، و الثاني السدس. «3» مثلا إذا كانت التركة ستة دنانير، يأخذ الثالث النصف أي ثلاثة دنانير، و يأخذ الأوّل- حسب إقراره- دينارين و هما الثلث، و يبقى واحد و هو السدس للثاني. و كلامه صريح في المطلوب.

5. قال صاحب الجواهر عند شرح قول المحقّق: بلا خلاف أجده فيه، بل الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 463

.......... عن «السرائر» أنّه مذهبنا، بل عن موضعين من «الإيضاح» و موضع من «جامع المقاصد» نسبته إلى الأصحاب، بل عن «التذكرة» أنّه مذهب علمائنا أجمع.»

الثاني: وجوب الوفاء بتمامه على المقرّ و لو بتمام حصته يجب على المقرّ بتمامه و لو باستغراق حصته، و ذلك لأنّ حقّ الدائن قائم بالتركة لا بنحو الإشاعة- كما مرّ- بل على نحو الكلي في المعيّن، و لذلك لو كان بعض التركة مغصوبا في حال حياة الميت أو بعد وفاته يتعين الوفاء من الباقي و لا فرق بين استيلاء الغاصب على بعض المال، أو استيلاء الوارث المنكر للدين على حصته، فإذا بني على وجوب الوفاء بما يمكن الوفاء به في الأوّل، يتعين البناء عليه في الثاني، و هذا خيرة السيد الحكيم قدّس سرّه. «2»

يلاحظ عليه: أنّه يتم في الإقرار بالدين أو الحجّ دون الإقرار بالنسب، فلا محيص فيه عن الإشاعة، و تكون النتيجة التقسيم بالمناصفة.

الثالث:

التفصيل بين الإقرار بالدين أو الحجّ، و الإقرار بالنسب أمّا إذا اعترف بالدين فمقتضى القاعدة لزوم أداء الدين على المعترف من حصته و لو بتمام حصته، لما عرفت من أنّ الدين يتعلّق بتمام التركة على نحو الكلي في المعيّن فهو حسب اعترافه، لا يملك إلّا ما عدا الدين فكيف يملك حصته؟

إذا لم يكن الزائد عن حصّته وافيا بدين الميت.

نعم ما أخذ المنكر يكون مشتركا بينه و بين الأخ المعترف، فله رفع الشكوى إلى الحاكم أو التقاص إذا لم يترتب عليه مفسدة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 464

.......... و منه يظهر حال الفرع الثاني، أعني: الاعتراف بالحجّ، لما تضافرت الروايات على أنّه يؤخذ من أصل المال فيكون حكمه حكم الدين فيجب على المعترف إخراج نفقة الحجّ ممّا أخذه من التركة.

هذا كلّه في الفرعين الأوّلين، و قد عرفت أنّ الدين و نفقة الحجّ يتعلّقان بتمام ما أخذه لا المقدار الزائد عمّا يستحقّه.

و أمّا الثالث، أعني: الإقرار بالنسب، فالصحيح ما أفاده المصنف من كفاية دفع ثلث ما في يده و لا يجب عليه التنصيف، فلو كان المال المتروك ستين دينارا، فإذا اعترف أحدهما بأخ ثالث معناه انّ عشرة دنانير له، و عشرة لأخيه، و عشرة للمقر له، و كذا ما عند أخيه فالعشرة الثانية التي عنده، تكون له بالتبادل و عوضا من العشرة التي عند أخيه فطبعا يكون له عشرون دينارا و يجب عليه دفع العشرة الزائدة إلى المقرّ له، و لا يكون شريكا مع المقر في المال الذي عنده حتّى يأخذ النصف. «1»

و حاصل ما أفاده بطوله: انّ الإقرار من أوّل الأمر محدد، بأنّ ثلث ما لديه، للمقرّ له، لا أزيد، فكيف يكون شريكا؟

يلاحظ عليه: أنّ مصبّ

الإقرار ليس هو كون ثلث ما أخذه للمقر له، حتّى لا يستحق أزيد، بل مصبّه انّه ابن الميت المورّث و أخو الوارثين، فله من الإرث ما للآخرين، فيكون شريكا مع الإخوة على نحو الإشاعة، لا الكلي في المعين، بخلاف الاعتراف بالدين، فإنّ الدائن يكون شريكا مع الورثة على الكلي في المعين، و لذلك لو تلف بعض التركة تحسب على عامة الورثة و لا يحسب على الدائن.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 465

.......... فإذا كان كذلك فما أخذه الأخ المقرّ، فإنّما أخذ مالا مشاعا حسب اعترافه.

لا مالا مفروزا ممزوجا مع مال المقرّ له.

هذا كلّه حسب القواعد، و قد علمت أنّ الأقوى هو تعلّق الدين و أجرة الحجّ بكلّ ما في يد الوارث، لا بالزائد على حصته، و لا بالنصف بما في يدهما، بل عليه أن يؤدي دين الأب، بكل حصته، و أمّا الإقرار بالنسب، فإنّما يقتسمان بالمناصفة، لأنّ الموروث مال مشاع بينهما.

و أمّا ما يستفاد من الروايات فنقول: رواها صاحب الوسائل في كتاب الوصايا في الباب 26، و إليك ما له صلة بالمسألة.

1. موثّق إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل مات فأقرّ بعض ورثته لرجل بدين، قال: «يلزم ذلك في حصته». «1»

إنّ قوله: «يلزم ذلك في حصته» يحتمل وجهين:

أ. يلزم ذلك بنسبة حصته، فلو كان الورّاث ثلاثة، يلزمه ثلث الدين، و هذا هو الذي فهمه المشهور، و عليه عنوان الباب في «الوسائل» حيث قال: إذا أقرّ واحد من الورثة بوارث أو عتق أو دين، لزمه ذلك بنسبة حصته.

ب. يلزمه الدين في حصته لا في حصة الآخرين، لإقراره و إنكارهم، فيجب عليه أداء الدين، و إن انتهى إلى صرف حصته كلها، نعم

لو لم تستغرق الحصة، الدين، لا يجب على المقرّ إتمامه من ماله.

و عند ذلك ينطبق على ما أفاده السيّد الحكيم و الخوئي في الدين و الحجّ، و ذلك لأنّ تعلّقهما بالتركة، من قبيل تعلق الكلّي في المعيّن، فمادام العين و لو ببعض أجزائها باقية يتعلّق بها الدين و أجرة الحجّ، و المفروض بقاؤها في يد المقرّ، و لو

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 466

.......... ببعض أجزائها، و إنكار المنكر أو المنكرين، بمنزلة تلف العين بآفة سماوية حيث لا يضرّ بالدين.

و يؤيد ذلك أنّ الإمام عبّر بنفس الجملة في مورد آخر و أريد به المعنى الثاني؛ ففي صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام، قال: سألته عن رجل ترك مملوكا بين نفر فشهد أحدهم أنّ الميت أعتقه، فقال: «إن كان الشاهد مرضيا لم يضمن و جازت شهادته في نصيبه، و استسعى العبد فيما كان للورثة». «1»

فقوله: «جازت شهادته في نصيبه» صريح في جوازها في عامة نصيبه، بشهادة قوله «و استسعى العبد فيما كان للورثة».

و نظير ذلك موثقة منصور بن حازم 2، سؤالا و جوابا، فلاحظ.

2. خبر أبي البختري وهب بن وهب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السّلام قال: «قضى عليّ عليه السّلام في رجل مات و ترك ورثة فأقرّ أحد الورثة بدين على أبيه: أنّه يلزم (يلزمه خ ل) ذلك في حصته بقدر ما ورث، و لا يكون ذلك في ماله كلّه، و إن أقرّ اثنان من الورثة و كانا عدلين أجيز ذلك على الورثة، و إن لم يكونا عدلين ألزما في (من) حصتهما بقدر ما ورثا، و كذلك إن أقرّ بعض الورثة بأخ أو أخت أنّما يلزمه في حصته». 3

و السند ضعيف

بأبي البختري يقول النجاشي: «و كان كذابا» لكن قال الغضائري: أبو البختري، القاضي، كذاب، عاميّ، إلّا أنّ له عن جعفر بن محمد أحاديث كلّها يوثق بها.

و أمّا الدلالة فهي أيضا كالسند، لأنّ قوله: «يلزمه ذلك في حصته بقدر ما

[المسألة 86: إذا كان على الميّت الحجّ، و لم تكن تركته وافية به

المسألة 86: إذا كان على الميّت الحجّ، و لم تكن تركته وافية به، و لم يكن دين فالظاهر كونها للورثة، و لا يجب صرفها في وجوه البرّ عن الميّت، لكنّ الأحوط التصدّق عنه، للخبر عن الصادق عليه السّلام عن رجل مات و أوصى بتركته أن أحجّ بها، فنظرت في ذلك فلم يكفه للحجّ، فسألت من عندنا من الفقهاء فقالوا: تصدّق بها، فقال عليه السّلام: ما صنعت بها، فقال:

تصدّقت بها، فقال عليه السّلام: «ضمنت إلّا أن لا يكون يبلغ ما يحجّ به من مكّة، فإن كان لا يبلغ ما يحجّ به من مكّة فليس عليك ضمان». نعم لو احتمل كفايتها للحجّ بعد ذلك أو وجود متبرّع يدفع التتمّة لمصرف الحجّ وجب إبقاؤها. (1)*

ورث» يحتمل وجهين:

أ. يلزمه في الدين بنسبة حصته، فتكون موافقة لفتوى المشهور.

ب. انّه يتعلّق بحصة الوارث المقر، و لا يتعلّق بحصة الآخرين المنكرين، و لذلك قال: و لا يكون ذلك في ماله (الميت) كله.

هذا على القول بعود الضمير إلى الميت، و لو قيل بأنّه يعود إلى المقر، يكون المعنى انّ الدين يتعلّق بالمال الموروث، لا بسائر أموال المقرّ، و إن كان المديون والدا.

و بالجملة لم نجد دليلا صالحا لفتوى المشهور، و التحقيق ما عرفت على ضوء القواعد.

(1)* إذا كان على الميت حجّ، و لم تكن تركته وافية به، فهل هي للورثة أخذا بإطلاق الضابطة: «ما تركه الميّت فلورثته» خرج ما إذا كانت التركة وافية لأداء

الحج

في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 468

.......... الواجب أو انّه يتصدّق عنه، كما في رواية علي بن مزيد.

و محلّ الكلام فيما إذا كان عليه الحجّ و لكن لم يوص به و إنّما قام به الولي لأجل تعلّقه بتركة الميت و كانت غير وافية بالحجّ، فهل يبقى في ملك الورثة أو يتصدّق عن الميت؟ احتاط المصنّف بالتصدق، عملا بحديث علي بن مزيد، صاحب السابري المجهول و هو:

أوصى إليّ رجل بتركته و أمرني أن أحجّ بها عنه فنظرت في ذلك فإذا هي شي ء يسير لا يكفي للحجّ، فسألت أبا حنيفة و فقهاء أهل الكوفة، فقالوا: تصدّق بها عنه، فلمّا لقيت عبد اللّه بن الحسن في الطواف سألته فقلت: إنّ رجلا من مواليكم من أهل الكوفة مات و أوصى إليّ و أمرني أن أحجّ بها عنه، فنظرت في ذلك فلم يكف للحجّ، فسألت من عندنا من الفقهاء، فقالوا: تصدّق بها عنه فتصدّقت بها فما تقول؟ فقال لي: هذا جعفر بن محمد في الحجر فأته فاسأله، فدخلت الحجر فإذا أبو عبد اللّه عليه السّلام تحت الميزاب مقبل بوجهه إلى البيت يدعو، ثمّ التفت فرآني فقال: ما حاجتك؟ قلت: رجل مات و أوصى بتركته أن أحجّ بها عنه، فنظرت في ذلك فلم يكف للحجّ، فسألت من عندنا من الفقهاء فقالوا: تصدّق بها، فقال: ما صنعت؟ قلت: تصدقت بها، قال: «ضمنت إلّا أن لا يكون يبلغ ما يحجّ به من مكة، فإن كان لا يبلغ ما يحجّ به من مكة فليس عليك ضمان، و إن كان يبلغ ما يحجّ به من مكة فأنت ضامن». «1»

ثمّ إنّه ربما يمنع عن الاستدلال بالحديث على المقام بوجهين:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 469

.......... 1. انّ

مورد الخبر صورة ما إذا عيّن مالا للحجّ، فلا يكون ممّا نحن فيه، حيث إنّه مات و عليه حجّ، و لم يعيّن مالا، و قام الوليّ بالحجّ عنه. «1» بتوضيح.

يلاحظ عليه: أنّ المتبادر من الرواية، أنّه أوصى بالحجّ الواجب، و عيّن مالا،- على تأمّل- «2» و من المعلوم أنّ الحجّ الواجب يتعلّق بأصل التركة، فتعيينه- عند وفاء المعين- و إن كان مؤثرا، حيث يصرف المال المعيّن في الحجّ، لا غيره لكنّه ليس بمؤثر عند عدم وفاء المعين، و قد مرّ انّه يكتمل من أصل المال، و بذلك لا إشكال في القول بعدم الفرق بين التعيين و عدمه.

2. الفرق بين الوصية بالحجّ الواجب- كما هو مورد الرواية- و الحجّ عن الميت المفروض عليه الحجّ- بلا إيصاء- حيث إنّ الأوّل من قبيل تعدد المطلوب دون الثاني قال: إنّ الوصية في أمثال المقام تنحل إلى أمرين و تكون على نحو تعدّد المطلوب حسب المتفاهم العرفي و القرينة العامّة، فلو تعذّر أحدهما يتعين الآخر، كما إذا وصى بصرف المال في بناء مدرسة دينية، و تعذر ذلك، لا ينتقل المال إلى الورثة، بل يصرف في الأقرب فالأقرب، و هكذا الحال في الوصية بالحجّ إذا لم يف المال للتمتع، يصرف في الإفراد، لأنّه أقلّ مصرفا من التمتع، و إن لم يف له يصرف في سائر الوجوه، و هذا بخلاف الحجّ الثابت في ذمّة الميت الذي فرض عدم الوصية به فانّه لو لم يف المال له، فلا مانع من انتقال المال إلى الورثة حسب العمومات و لا دليل على الاستثناء، بخلاف ما إذا لم يمكن العمل بالوصية كليّا فيدخل المال في كبرى انّ المال إذا لم يمكن إيصاله إلى مالكه فيعامل معه

معاملة مجهول المالك من التصدّق و نحوه. «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 470

.......... و في تعليقة بعض الأساتذة: التمسك بهذا الخبر لغير مورد الوصية لا وجه له إلّا مع القطع بعدم الخصوصية.

يلاحظ عليه: بأنّه إنّما يتمّ إذا أوصى بالوجوه الخيرية الخاصة كبناء المدرسة، فإذا لم يتمكن يصرف فيما يشابهها، دونما إذا أوصى بفريضة فاتت منه كالحجّ، فليس للإيصاء هناك دور إلّا الطريقية لا الموضوعية، فيكون الحجّ الواجب، الموصى به و عدمه سيان في الحكم.

فاتّضح ممّا ذكر أنّه إذا لم تكن التركة وافية للحجّ حتّى الاضطراري، فالأقوى التصدّق بها عن الميت من غير فرق بين الإيصاء و عدمه و إن خصّ بعض المعلّقين التصدّق بصورة الإيصاء، و يأتي هذان الاحتمالان فيما لو تبرع متبرع بالحجّ عن الميت فهل ترجع الأجرة إلى الورثة أو يتصدّق بها عن الميت، و سيوافيك الكلام فيها في المسألة التالية.

و على كلّ تقدير لو احتملت كفايتها للحجّ بعد ذلك، أو وجود متبرع بدفع التتمة لمصرف الحجّ، وجب إبقاؤها، و علّله في «المستمسك» بأنّ الشكّ في القدرة موجب للاحتياط، و ذلك لأنّ احتمال انخفاض الأسعار، أو وجود متبرع إذا كان احتمالا عقلائيا يصير مبدأ للشك في القدرة.

و قال السيد الخوئي بأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في انتقال المال إلى الورثة و عدمه بأنّ المال في صورة الوفاء باق على ملك الميت، و على تقدير عدمه ينتقل إلى الورثة، فاستصحاب استمرار عدم الوفاء في السنوات الآتية يثبت موضوع الانتقال إلى الورثة. «1»

[المسألة 87: إذا تبرّع بالحجّ عن الميّت

المسألة 87: إذا تبرّع بالحجّ عن الميّت، رجعت أجرة الاستئجار إلى الورثة سواء عيّنها الميت أو لا، و الأحوط صرفها في وجوه البرّ أو التصدّق عنه خصوصا فيما إذا

عيّنها الميّت للخبر المتقدّم. (1)*

يلاحظ عليه بما أوضحنا في محلّه من اختصاص أدلّة الاستصحاب بصورة الحالة السابقة إلى الزمان الحاضر، و أمّا جرّها إلى الأزمنة المستقبلة فهو خارج عن مفاد الأخبار، مضافا إلى أنّه أمر غير عرفيّ.

(1)* أمّا إجزاء الحجّ التبرعي عن الحجّ الاستئجاري، فلصحيح معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل مات و لم يكن له مال و لم يحجّ حجّة الإسلام، فحجّ عنه بعض إخوانه، هل يجزي ذلك عنه، أو هل هي ناقصة؟ قال:

«بل هي حجّة تامة». «1» و القرائن تشهد على أنّ مورده من وجب عليه الحجّ و لم يحجّ سواء بقيت استطاعته أم زالت فيجزي حج المتبرع عنه.

و أمّا أجرة الاستئجار فمقتضى القاعدة رجوعها إلى الورثة عملا بإطلاق الضابطة: «ما تركه الميت فلورثته» خرج منه ما إذا وجب صرفه في فريضة الميت، و أمّا إذا ارتفع ارتفاعه بتبرع الغير، فالمقتضي للرجوع موجود، و المانع- أعني:

وجوب الصرف- مفقود.

و أمّا لزوم صرفه في التصدق عن الميت استنادا إلى رواية علي بن مزيد، فقد أشكل عليه بوجوه:

1. انّ مورد الرواية ما إذا عين مالا حيث قال: «أوصى إليّ رجل بتركته».

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 472

.......... يلاحظ عليه: أنّ الظاهر انّ الرجل أوصى بعامة تركته، لا بثلثها فيحمل على من لا وارث له غير الإمام. فالتعينّ كان أمرا قهريا لا اختياريا.

2. انّ موردها هو الإيصاء بالحجّ بمال مشخص، و قياس غيره- كما إذا مات بلا وصية- كما في المقام فرع القطع بعدم الخصوصية للوصية.

يلاحظ عليه: بما قدّمناه من أنّه ليس للوصية في الحجّ الواجب دور في تحديد المال المصروف في الحجّ بشهادة انّ ما عيّنه لو كان غير واف

بمصرف الحجّ يستكمل من أصل التركة و ليس الإيصاء بالحجّ من قبيل الإيصاء بسائر المبرّات، الذي يتصوّر فيه تعدد المطلوب كما مرّ.

3. انّ المتوفّى في مورد الرواية لأجل قلة المال لم ينتفع بعمل الحج فأمر بالتصدّق، بخلاف المقام فانّه انتفع بتبرع الغير، فعطف كلّ على الآخر بحاجة إلى دليل.

ثمّ إنّ مورد الرواية، من مات بلا وارث، فيتصدّق بالمال عنه، بخلاف المقام فإيجاب التصدّق في الأوّل لا يكون دليلا عليه في الثاني.

و مع ذلك فالأحوط على كبار الورثة أن يصرفوا سهامهم في التصدّق عن الميت، و أمّا صغارهم فالأمر دائر بين المحذورين و حكمه التخيير.

[المسألة 88: هل الواجب الاستئجار عن الميت من الميقات أو البلد]

المسألة 88: هل الواجب الاستئجار عن الميت من الميقات أو البلد، المشهور وجوبه من أقرب المواقيت إلى مكة إن أمكن، و إلّا فمن الأقرب إليه فالأقرب، و ذهب جماعة إلى وجوبه من البلد مع سعة المال، و إلّا فمن الأقرب إليه فالأقرب، و ربما يحتمل قول ثالث و هو الوجوب من البلد مع سعة المال و إلّا فمن الميقات، و إن أمكن من الأقرب إلى البلد فالأقرب، و الأقوى هو القول الأوّل و إن كان الأحوط القول الثاني، لكن لا يحسب الزائد عن أجرة الميقاتيّة على الصغار من الورثة، و لو أوصى بالاستئجار من البلد وجب و يحسب الزائد عن أجرة الميقاتيّة من الثلث. و لو أوصى و لم يعيّن شيئا كفت الميقاتيّة، إلّا إذا كان هناك انصراف إلى البلديّة، أو كانت قرينة على إرادتها، كما إذا عيّن مقدارا يناسب البلديّة. (1)*

(1)* إذا وجب أن يحجّ عن الغير فهل يجب الحجّ عنه من أقرب الأماكن إلى الميقات، سواء أكان هناك سعة للحجّ من بلده أو لا؟ يظهر من المحقّق في «الشرائع»

أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة حيث قال:

1. يقضى الحجّ من أقرب الأماكن، 2. و قيل: يستأجر من بلد الميت، 3.

و قيل: إن اتّسع المال فمن بلده و إلّا فمن حيث يمكن.

و الظاهر انّ القول الثاني يرجع إلى الثالث، لأنّ القول الثاني مقيّد بسعة المال، و إلّا فمن أقرب الأماكن، و ليس بمطلق، و إلّا يلزم القول بسقوط الحجّ مع عدم سعة المال في البلد، و لا يلتزم به أحد.

و لأجل ذلك، نرى أكثر من يقول بالحجّ من الأقرب يخص كلامه بما إذا لم يسع المال، و إليك كلمات الأصحاب:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 474

.......... 1. يجب الحجّ من الميقات قال في «المبسوط»: و الحجّ يجب أن يقضى عنه من الميقات، بأقلّ ما يكون أجرة من يحجّ من هناك، و لا يجب من بلده إلّا أن يتبرع به الورثة، لأنّه لا دليل عليه. «1»

و قال في «الخلاف»: و الحجّ يجب إخراجه من الميقات دون بلد الميت. «2»

2. يجب الحجّ من بلده عند السعة قال الشيخ: و كذلك الحكم إذا ترك قدر ما يحجّ به من بعض المواقيت وجب أيضا أن يحجّ عنه من ذلك الموضع. «3»

وجه الدلالة: انّه لو كان الواجب، الحجّ من بعض المواقيت مطلقا، لم يكن وجه لتخصيص ذلك بما إذا قصرت التركة إلّا بالإحرام من بعض المواقيت، فدلّ على أنّ الفريضة هو الاستئجار من البلد، إلّا إذا لم يكن المال واف، فيقتصر على الإحرام من الميقات.

قال ابن البراج: و كذلك يجب أن يفعل إذا لم يخلف إلّا مقدار ما يحجّ به عنه من بعض المواضع. «4» وجه الدلالة نفس ما ذكرناه في دلالة عبارة النهاية.

قال ابن إدريس: لم يخلف إلّا قدر ما

يحجّ به و كانت الحجّة قد وجبت عليه قبل ذلك و استقرت، وجب أن يحجّ به عنه من بلده. «5»

و قال ابن سعيد: إن كان واجبا و لم يخلف ما يحجّ به من بلده ... حجّ عنه من الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 475

.......... حيث أمكن. «1»

و قال في «الدروس»: يقضي من أصل تركته من منزله، و لو ضاق المال فمن حيث يمكن و لو من الميقات على الأقوى. «2»

3. التفصيل بين التقييد بالبلد في النذر و عدمه هذا التفصيل هو الظاهر من العلّامة في «المختلف» فقال: الأقرب عندي التفصيل، و هو انّ الحجّ إن كان منذورا من بلد معين وجب الاستئجار عنه من ذلك البلد، و إن كان مطلقا أو حجّة الإسلام فمن أقرب الأماكن. «3»

و لا يخفى أنّ ما ذكره من التفصيل خارج عن محط البحث، لأنّ الكلام فيما إذا لم يطرأ على الحجّ عنوان ثانوي ربما يغاير حكمه، حكم الحجّ بما هو هو، و لذلك ترك التفصيل في «التحرير» و أفتى بوجوب الإحرام من الميقات مطلقا. «4»

و أمّا ابن زهرة فقد أطلق و لم يقيدها بشي ء من الأمرين حيث قال: اعلم أنّ من مات و عليه حجّة الإسلام وجب إخراجها من أصل التركة، سواء أوصى بها أو لم يوص. «5»

ثمّ إنّ المراد من أقرب الأماكن في كلمات الأصحاب، أقرب المواقيت إلى مكة.

استدلّ للقول الأوّل بوجوه عقلية و نقلية. أمّا الأولى فبوجهين:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 476

.......... 1. ما ذكره المحقّق في «المعتبر»: انّ الواجب في الذمة ليس إلّا الحجّ (المناسك)، فلا يكون قطع المسافة معتبرا، و بأنّ الميت لو اتّفق حضوره بعض المواقيت لا بقصد الحجّ أجزأه الحجّ من الميقات،

فكذا لو قضي عنه. «1»

و نحوه ما ذكره العلّامة في «المختلف»، من أنّ المسافر لو اتّفق قربه من الميقات فحصلت له الشرائط وجب عليه أن يحجّ من ذلك الموضع، و كذا لو استطاع في غير بلده لم يجب عليه قصد بلده و إنشاء الحجّ منه بلا خلاف، فعلم أنّ قطع المسافة ليس واجبا فلا يجب الاستئجار منه. «2»

2. ما ذكره صاحب المدارك: أنّ الواجب قضاء الحجّ، و هو عبارة عن المناسك المخصوصة، و قطع المسافة ليس جزءا منه، بل و لا واجبا لذاته، و إنّما وجب لتوقّف الواجب عليه، فإذا انتفى التوقّف انتفى الوجوب. على أنّه لو سلّمنا وجوبه لم يلزم من ذلك وجوب قضائه، لأنّ القضاء إنّما يجب بدليل من خارج، و هو إنّما قام على وجوب قضاء الحجّ خاصة. «3»

و أمّا النقل فقد استدلّ غير واحد من الأصحاب من الروايات الواردة في الإيصاء بالحجّ، على المقام، أعني: من مات و عليه حجّ و لم يوص، و من المعلوم أنّ الاستدلال بها، فرع صحّة أسانيدها أوّلا، و خلوها عن التعارض ثانيا، و إمكان إلغاء الخصوصية ثالثا.

ثمّ إنّ صاحب الحدائق ممّن ساق الأحاديث، و ذيّل كلّ حديث بما أدّى إليه فكره و انتهى نظره إلى ما عليه الشهيد في «الدروس» حيث قال: لو كان الموصى في بلد خراسان، فإن وسع ماله للحجّ من خراسان وجب، و إلّا ينتظر من البلدان الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 477

.......... و الأماكن المتوسطة من خراسان إلى مكّة، فأيّها وسع الحجّ منه وجب.

و الحاصل: انّه إن وسع فمن البلد، و إلّا فمن الأقرب فالأقرب، فقال في آخر كلامه: فعليك بالفكر الدقيق في هذا التحقيق الرشيق، فانّه حقيق أن يكتب

بالتبر على الأحداق لا بالحبر على الأوراق، إلّا أنّ الإلف بالمشهورات- سيّما إذا زخرفت بالإجماعات- شنشنة أخزميّة، و طريقة لا تخلو من عصبية. «1»

و سيوافيك انّ ما ذكره من التفصيل هو نتيجة الجمع بين الروايات.

إنّ صاحب الجواهر لم يستحسن بعض ما ذكر صاحب الحدائق من الأدلة على وجوب الحجّ البلدي، أخذ بالرد عليه و قال: فإنّك إذا أحطت خبرا بما ذكرناه، تعرف أنّ ذلك كلّه عجب بلا عجب، و هزء بلا سبب، نسأل اللّه تعالى العفو عنّا و عنه. «2»

نعم أنّ ما استدلّ به من الوجه العقلي «3»، غير صحيح جدا، لكن ما استنتجه من الأخبار هو مقتضى الجمع، و إليك البيان.

إنّ الروايات الواردة في مورد الإيصاء بالحج، بعد غضّ النظر عن عدم ظهور بعضها في حجّة الإسلام، على أصناف:

1. كفاية الحجّ من بعض المواقيت عند قصور التركة هذا الصنف من الروايات يدلّ على كفاية الحجّ الميقاتي عند قصور التركة من البلد، و ظاهرها الإجزاء و إن أمكن الحجّ، من بين الميقات و البلد، نظير:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 478

.......... 1. صحيحة علي بن رئاب قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أوصى أن يحجّ عنه حجّة الإسلام و لم يبلغ جميع ما ترك إلّا خمسين درهما؟ قال: «يحجّ عنه من بعض المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم من قرب». «1»

2. خبر عمر بن يزيد قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في رجل أوصى بحجّة فلم تكفه من الكوفة: «تجزي حجّته من دون الوقت». 2

3. خبره الآخر و فيه: «فيقدمها حتّى يحجّ دون الوقت». 3

و المراد: من عند الميقات، أو شيئا دون الميقات، و قد

عرفت أنّ إطلاقها حاكم بالإجزاء و إن وسع الحجّ، من الأقرب فالأقرب من البلد.

2. لزوم الحجّ من حيث يبلغه عند قصور التركة إنّ ظاهر هذا الصنف من الروايات يدلّ على أنّه يحجّ من الموضع الذي يمكن أن يحجّ به عنه، نظير:

4. موثقة ابن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن رجل أوصى بما له في الحجّ فكان لا يبلغ ما يحجّ به من بلاده؟ قال: «فيعطى في الموضع الذي يحجّ به عنه». 4 أي يمكن الحجّ به عنه.

5. خبر أبي سعيد، عمّن سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أوصى بعشرين درهما في حجة؟ قال: «يحجّ بها عنه رجل من موضع بلغه» (أي يبلغه). 5

6. خبر أبي بصير، عمّن سأله قال: قلت له: رجل أوصى بعشرين دينارا في حجة؟ فقال: «يحجّ له رجل من حيث يبلغه». 6

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 479

.......... و الجمع بين الصنفين واضح فالصنف الأوّل محمول، على قصور التركة إلّا من الميقات، بخلاف الثاني فانّه و إن كان غير واف من البلد، لكنّه يفي بالأقرب فالأقرب من البلد، فيجب أن يحجّ من ذلك الموضع.

و أمّا وجه وجوبه: فهو انّ ظاهر الروايات انّه أوصى بالحجّ البلدي، و لكن قصرت التركة عن الإيفاء، و هو بالإيصاء حال بين الوارث و التركة و جعلها ملكا لنفسه فيجب أن يصرف في مورد الوصية مهما أمكن.

7. و يؤيّد ذلك الجمع ما رواه أبو نصر البزنطي، عن محمد بن عبد اللّه «1» قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الرجل يموت فيوصي بالحجّ، من أين يحجّ عنه؟ قال: «على قدر ماله، إن وسعه ماله فمن منزله، و إن لم يسعه ماله

فمن الكوفة، فإن لم يسعه من الكوفة فمن المدينة». «2»

و ربما يورد على الرواية: أوّلا: بعدم صحّة سندها، لأجل انّ محمّد بن عبد اللّه ابن عيسى الأشعري القمي، لم يوثق.

و ثانيا: أنّ مفاد قوله: «على قدر ماله» هو ملاحظة الأقرب فالأقرب مع أنّه عليه السّلام في مقام التمثيل، لم يراع ذلك، حيث ارتقى من الحجّ من خراسان، إلى الكوفة، و من الكوفة إلى المدينة، مع ما بين هذه المنازل من بلاد، إذا كانت التركة وافية، يجب الحجّ منها، مع أنّ الإمام- حسب الرواية- ألغاها.

يلاحظ عليه: أنّ الشيخ الطوسي صرّح في العدة بأنّ ابن أبي عمير و صفوان و البزنطي لا يروون إلّا عن ثقة. «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 480

.......... و أمّا عدم ذكر المنازل المتوسطة بين خراسان و الكوفة، أو بينها و بين المدينة، فلأنّ الضابطة هي قول: «على قدر ماله»، و أمّا البلاد المذكورة فقد جاء ذكرها من باب المثال و الحجة هي الضابطة المتقدمة.

3. كفاية الحجّ الميقاتي مطلقا و إن وسعت التركة و هناك صنف ثالث يدلّ على كفاية الحجّ الميقاتي مطلقا و إن كانت التركة وافية، نظير:

8. صحيح أبي نصر البزنطي عن زكريا بن آدم، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل مات و أوصى بحجة، أيجوز أن يحجّ عنه من غير البلد الذي مات فيه؟

فقال: «أمّا ما كان دون الميقات فلا بأس». «1»

و العمل بالرواية مشكل، لظهور الوصية في الحجّ البلدي و تجويز الحجّ من الميقات، تبديل لها أوّلا، و مخالف لما مرّ في الصنف الثاني، و لذلك حملها صاحب الوسائل على قصور التركة.

نعم لو تم الأخذ به في مورد الوصية، لجاز الأخذ بها في المقام، لأنّه بالإيصاء

حال بين التركة و الورثة، حيث خصّها لنفسه، بخلاف ما إذا مات و عليه حجّ بلا وصية، فلم يخصّ ما يعادل الحجّ البلدي لنفسه، فالعدول عنه إلى الميقاتي أهون من الأوّل.

4. كفاية الميقاتي في النيابة عن الحيّ و هناك ما يدلّ على كفاية الميقاتي عند النيابة عن الحيّ.

9. صحيح علي بن رئاب عن حريز بن عبد اللّه قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 481

.......... عن رجل أعطى رجلا حجة يحج بها عنه من الكوفة فحجّ عنه من البصرة؟ فقال:

«لا بأس إذا قضى جميع المناسك فقد تمّ حجّه».»

ثمّ إنّ أقصى ما تدلّ عليه الرواية، انّ الحجّ مجز وضعا، و أمّا أنّ التأجير صحيح، فلا يدلّ عليه.

قد ظهر ممّا ذكرنا، أوّلا: أنّ اللازم في مورد الوصية بالحجّ إذا كانت ظاهرة أو منصرفة إلى البلد، هو العمل بظاهرها إذا وسعت التركة، و إلّا فالأقرب و الأقرب، لما مرّ من أنّ الوصية قد حالت بين المال، و ملكية الورثة، فيبقى في ملك الميت فيصرف في مصالحه مهما أمكن.

ثانيا: لم نعثر في المقام على رواية صالحة للتمسك به على المورد (من مات و عليه حجّ بلا إيصاء) فلو جاز الحجّ الميقاتي في مورد الوصاية لجاز في المقام بطريق أولى، لكن لم نجد دليلا يدلّ على ذلك في موردها حتّى نستدلّ به على المورد، فلا محيص عن التمسك بمقتضى القاعدة.

دلّت النصوص على أنّ من مات و عليه حجّة الإسلام، وجب إخراج أجرة الحجّ من الأصل. ففي صحيح معاوية قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يموت و لم يحجّ حجّة الإسلام و يترك مالا؟ قال: «عليه أن يحجّ من ماله رجلا صرورة

لا مال له». «2» و الحجّ اسم للمناسك التي يثبت بها من الميقات إلى آخر الأعمال، فإذا آجر صرورة لا مال له، من الميقات للحج عن الميت، فقد عمل بالواجب الوارد في الرواية و غيرها من روايات الباب.

و بعبارة أخرى: انّ الوارد في النصوص هو وجوب إخراج الحجّ عن أصل المال، و أمّا الابتداء به من البلد، فلم يرد فيه نصّ.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 482

.......... دليل القائل بوجوب الحجّ من البلد استدلّ ابن إدريس على وجوب الحجّ من البلد بقوله: فإن كان متمكّنا من الحجّ و الخروج، فلم يخرج و أدركه الموت، و كان الحجّ قد استقرّ عليه، و وجب، وجب أن يخرج عنه من صلب ماله، ما يحجّ به من بلده، و ما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا، فإن لم يخلف إلّا قدر ما يحجّ به، و كانت الحجّة قد وجبت عليه قبل ذلك، و استقرت، وجب أن يحجّ به عنه من بلده، و قال بعض أصحابنا: بل من بعض المواقيت و لا يلزم الورثة الإجارة من بلده، بل من بعض المواقيت. و الصحيح الأوّل؛ لأنّه كان يجب عليه نفقة الطريق من بلده، فلمّا مات سقط الحجّ عن بدنه، و بقى في ماله بقدر ما كان يجب عليه، لو كان حيا، من نفقة الطريق من بلده، فأمّا إذا لم يخلف إلّا قدر ما يحجّ به، من بعض المواقيت، وجب أيضا أن يحجّ عنه من ذلك الموضع، و ما اخترناه مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته، و به تواترت أخبارنا، و رواية أصحابنا، و المقالة الأخرى ذكرها و ذهب إليها في مبسوطه، و أظنّها مذهب المخالفين. «1»

يلاحظ عليه: أنّ صرف

المال و إن كان واجبا، لكنّه باعتبار توقّف الحجّ المباشري عليه، فلا يكون دليلا على وجوب صرفه فيما إذا لم يتوقّف عليه كما في النيابة عن الميت إذا تمكّن من الميقات.

و ما ادّعاه من الروايات المتواترة فقد أنكره المحقّق حتّى وجود خبر واحد فضلا عن وجود الأخبار المتواترة. «2» و لعلّ مراده من الأخبار ما ورد حول الإيصاء بالحجّ، و قد مرّ.

بقي هنا فروع ذكرها المصنّف في هذه المسألة:

[المسألة 89: لو لم يمكن الاستئجار إلّا من البلد وجب

المسألة 89: لو لم يمكن الاستئجار إلّا من البلد وجب، و كان جميع المصرف من الأصل. (1)*

1. إذا قلنا بكفاية الحجّ من الميقات، فلو استوجر من البلد، فبما أنّ نفقة الحجّ من أصل التركة، فالذي يتعلّق به، هو ما يتوقّف عليه الواجب و هو نفقة الحجّ من الميقات، و أمّا الزائد عن أجرة الحجّة الميقاتية، فلا يحسب على الورثة الصغار، بل على الكبار منهم، لأنّهم اختاروا هذا النوع من الحجّ الذي فيه خير كثير للميت و ضرر على الصغار.

2. إذا أوصى بالاستئجار من البلد، وجب عملا بالوصية، و يحسب الأجرة الزائدة عن أجرة الميقاتي من الثلث، كلّ ذلك حسب القواعد، أمّا نفقة الحجّ من الميقات فهو من الأصل، لما دلّ على أنّ الحجّ يتعلّق بأصل المال، و أمّا الزائد عن الحجّ الميقاتي فللعمل بالوصية.

3. و لو أوصى و لم يعين شيئا فإن كان هناك انصراف إلى البلدية، أو دلّت القرينة عليها، كما إذا عين مقدارا يناسب البلدية فحكمه ما إذا أوصى بالبلدية، و إلّا كفت الميقاتية.

(1)* قد عرفت أنّه يكفي الاستئجار من الميقات إلّا إذا أوصى بالبلد، أو يكون كلامه ظاهرا فيه فيستأجر منه و يحسب الزائد من الثلث، هذا فيما إذا أمكن الاستئجار من الميقات،

و أمّا إذا فرض عدم التمكّن من ذلك إلّا من بلده، وجب لأنّه مقتضى إطلاق الدليل الدالّ على وجوب الحجّ عن الميت، حيث يمكن، فإن أمكن من الميقات، و إلّا فالأقرب و الأقرب إليه. «1»

[المسألة 90: إذا أوصى بالبلديّة أو قلنا بوجوبها مطلقا، فخولف و استؤجر من الميقات أو تبرّع عنه متبرع منه

المسألة 90: إذا أوصى بالبلديّة أو قلنا بوجوبها مطلقا، فخولف و استؤجر من الميقات أو تبرّع عنه متبرع منه، برئت ذمّته و سقط الوجوب من البلد، و كذا لو لم يسع المال إلّا من الميقات. (1)*

فإن قلت: إنّ في ذلك تضييعا لحقّ الوارث بعد كون الواجب هو الحجّ من الميقات.

قلت: إنّ الواجب هو الحجّ عنه من حيث أمكن، و المفروض عدم إمكانه إلّا من البلد.

و بعبارة أخرى: انّ الورثة تملك ماوراء أجرة الحجّ، و ما يصرف في طريقه شي ء لم يدخل في ملك الورثة.

فإن قلت: إذا لم يمكن من الميقات، و لكن أمكن من أدنى الحلّ كالتنعيم و الحديبية أو الجعرانة.

قلت: لا يكفي ذلك، لأنّه من مواقيت الاضطرار، و المفروض إمكان الحجّ من البلد، فهو ليس بمضطر.

و لو لم يمكن إلّا من الأبعد من البلد أيضا، يجب الاستئجار منه، و أجرة الجميع من الأصل، لأنّ الواجب إخراج الحجّ من الأصل مهما أمكن.

نعم لو لم يسع ماله إلّا من الحجّ من أدنى الحلّ أو من مكة وجب، لدخوله تحت الإطلاق أوّلا، و لخبر علي بن مزيد السابري- على ما مرّ- ثانيا.

(1)* في المسألة فرعان:

1. إذا كان الواجب هو الحجّ البلدي لكن استؤجر من الميقات، أو تبرّع عنه متبرع، هل تبرأ ذمة الميت أو لا؟

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 485

.......... 2. لو كان الواجب هو الحجّ البلدي و لم يسع المال إلّا من الميقات.

أمّا الفرع الأوّل: فالإجزاء خيرة الدروس، قال: و

لو قضى مع السعة، من الميقات أجزأ، و إن أثم الوارث، و يملك المال الفاضل، و لا يجب صرفه في نسك أو بعضه أو في وجوه البرّ. «1»

و أورد عليه سيد المدارك بأنّه يشكل بعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه على هذا التقدير، فلا يتحقّق الامتثال. «2»

يلاحظ عليه: أنّه لو قلنا إنّ الواجب هو الحجّ البلدي- كما هو المفروض- لكنّ هنا واجبين: أحدهما توصلي و هو السير من البلد إلى الميقات، و الثاني نفس المناسك؛ و عصيان الأمر الأوّل، لا يورث بطلان الثاني، و ما ذكره في «المدارك» مبنيّ على كون الواجب أمرا واحدا غير قابل للانقسام.

و أمّا صحّة الإجارة الكذائية فربما يقال انّ الإجارة فاسدة، و ذلك لأنّ المرخص من التصرف في مال الميت إنّما هو الاستئجار من البلد، و أمّا من غيره فغير مأذون و لكن المؤجر يضمن للمستأجر أجرة المثل.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يتم إذا آجر، بشي ء معين من مال الميت، و أمّا إذا آجر بشي ء في ذمته و دفع إليه- في مقام الامتثال- من مال الميت فلا يوجب فسادها.

كلّ هذا إذا آجر على خلاف ما أوصى أو خلاف ما وجب عليه، و أمّا إذا تبرع عنه متبرع، فسقوط الحجّ منصوص. ففي صحيح معاوية بن عمار قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل مات و لم يكن له مال و لم يحجّ حجة الإسلام فحجّ عنه بعض إخوانه هل يجزي ذلك عنه، أو هل هي ناقصة؟ قال: «بل هي حجّة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 486

.......... تامة». «1»

و هل ينتقل ما بإزاء الحجّ- إذا تبرع متبرع- أو ما بإزاء المقدّمات- إذا حجّ عن الميقات- إلى الورثة أو لا؟

الظاهر التفصيل بين ما

إذا وجب عليه الحجّ و لم يوص به، فيرجع إلى الورثة، لأنّ المانع من دخوله إلى ملك الورثة، هو وجوب الحجّ- و المفروض انتفاؤه- فيرجع إلى ملك الورثة، و بين ما إذا أوصى به و خولف، فالظاهر لزوم صرفه في وجوه البرّ، و يمكن الاستئناس بخبر علي بن مزيد من أنّه إذا أوصى بالحجّ و لم يكن المال وافيا، حتّى بالإحرام من مكة، يتصدّق به.

و يمكن أن يقال: انّه على وفق القاعدة، لاحتمال تعدد المطلوب في الوصية، فإذا تعذّر الحجّ من البلد، إمّا لتبرع متبرع، أو للاستئجار من الميقات، بقي المطلوب الآخر بحاله و هو الصرف في مصلحة الموصي، و قد مرّ انّ الإيصاء صار سببا لخروج أجرة الحجّ عن ملك الورثة، فعوده إلى ملكهم يحتاج إلى دليل.

و أمّا الفرع الثاني: أعني: عدم سعة المال من البلد، فلسقوط وجوب السير من البلد للتعذر و يبقى وجوب الحجّ بحاله.

[المسألة 91: الظاهر انّ المراد من البلد، هو البلد الذي مات فيه

المسألة 91: الظاهر انّ المراد من البلد، هو البلد الذي مات فيه كما يشعر به خبر زكريا بن آدم رحمهما اللّه: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل مات و أوصى بحجة، أيجزيه أن يحجّ عنه من غير البلد الّذي مات فيه؟

فقال عليه السّلام: «ما كان دون الميقات فلا بأس به». مع أنّه آخر مكان كان مكلّفا فيه بالحجّ، و ربما يقال: إنّه بلد الاستيطان، لأنّه المنساق من النصّ و الفتوى، و هو كما ترى، و قد يحتمل البلد الّذي صار مستطيعا فيه، و يحتمل التخيير بين البلدان التي كان فيها بعد الاستطاعة، و الأقوى ما ذكرنا وفاقا لسيّد المدارك، و نسبه إلى ابن إدريس رحمه اللّه أيضا، و إن كان الاحتمال الأخير- و هو التخيير- قويّا

جدّا. (1)*

(1)* هل البلد الذي يجب الاستئجار منه، هو بلد الاستيطان، أو بلد الموت، أو البلد الذي وجب عليه الحجّ فيه؟

فيه أقوال:

1. المراد بلد الاستيطان. و هو خيرة الحدائق «1»، و الجواهر. «2»

2. المراد بلد الموت. و هو خيرة المدارك «3»، و المصنف، و استظهره من عبارة ابن إدريس الماضية.

3. المراد البلد الذي أيسر فيه و وجب عليه الحجّ فيه. نقله العلّامة قولا في التذكرة. «4»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 488

.......... 4. و التخيير بين البلدان الثلاثة. ذكره المصنّف بصورة الاحتمال، و لكنّه اختار- كما مرّ- بلد الموت.

و إليك التفصيل.

استدلّ للقول الأوّل بأنّه المنساق من النص و الفتوى. ففي صحيح أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن عبد اللّه قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الرجل يموت فيوصي بالحجّ، من أين يحجّ عنه؟ قال: «على قدر ماله، إن وسعه ماله، فمن منزله، و إن لم يسعه ماله فمن الكوفة، فإن لم يسعه من الكوفة فمن المدينة». «1»

استدلّ للقول الثاني صاحب المدارك بقوله: الظاهر أنّ المراد من البلد الذي يجب الحجّ منه على القول به، محل الموت حيث كان، كما صرّح به ابن إدريس، و دلّ عليه دليله. «2»

ثمّ إنّ صاحب الحدائق أنكر دلالة عبارة ابن إدريس على لزوم الحجّ من البلد الذي مات فيه، فنقل عبارة ابن إدريس بطولها و أضاف: و هذه العبارة على طولها و تكرار لفظ «بلده» فيها ليس فيها تعرض لذكر بلد الموت فأين التصريح الذي ذكره قدّس سرّه؟ «3»

أقول: إنّ ظاهر قوله: «فلما مات سقط الحجّ عن بدنه و بقي في ماله، بقدر ما كان يجب عليه لو كان حيا من مؤونة الطريق من بلده»

هو وجوب صرف المال من البلد الذي لو كان حيّا لوجب الحجّ منه، فهو ينطبق على بلد الموت. لأنّ بلد الموت آخر مكان وجب عليه الحجّ.

و اختاره المصنّف مستدلا بخبر زكريا بن آدم رحمهما اللّه، قال: سألت أبا

[المسألة 92: لو عيّن بلدة غير بلده

المسألة 92: لو عيّن بلدة غير بلده كما لو قال: استأجروا من النجف أو من كربلاء تعيّن. (1)*

الحسن عليه السّلام عن رجل مات و أوصى بحجة، أيجوز أن يحجّ عنه من غير البلد الذي مات فيه؟ فقال: «أمّا ما كان دون الميقات فلا بأس به». «1»

و الرواية بحكم أنّ بلد الموت غالبا هو بلد الاستيطان محمولة على بلد الاستيطان، فتتحد مع رواية محمد بن عبد اللّه الأشعري مضمونا.

و تؤيّده موثقة عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه أنّه سئل عن رجل أوصى بماله في الحجّ فكان لا يبلغ ما يحجّ به من بلاده؟ قال: «فيعطى في الموضع الذي يحجّ به عنه». «2»

و أمّا القول الثالث: فقد نقله العلّامة في «التذكرة» قولا و هو لغيرنا، قال:

و في وجوب الاستئجار من البلد الذي وجب على الميت الحجّ فيه إمّا من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه، قولان. «3»

هذا كلّه في غير الوصية، و أمّا فيها فالمتبع هو ظهورها في أحد الأمكنة، لأنّ الوصيّ مكلّف بالعمل بما أوصى لا بالعمل بما كان وظيفته كما سيوافيك في المسألة التالية.

(1)* استدلّ السيد الحكيم قدّس سرّه بعموم لزوم العمل بالوصيّة «4»، لكن بشرط

[المسألة 93: على المختار من كفاية الميقاتية لا يلزم أن يكون من الميقات أو الأقرب إليه فالأقرب

المسألة 93: على المختار من كفاية الميقاتية لا يلزم أن يكون من الميقات أو الأقرب إليه فالأقرب، بل يكفي كلّ بلد دون الميقات لكن الأجرة الزائدة على الميقات- مع إمكان الاستئجار منه- لا يخرج من الأصل و لا من الثلث إذا لم يوص بالاستئجار من ذلك البلد، إلّا إذا أوصى بإخراج الثلث من دون أن يعين مصرفه، و من دون أن يزاحم واجبا ماليا عليه. (1)*

عدم القول بوجوب الحجّ من البلد، و إلّا فالوصية لا تغيّر

الحكم الشرعي، نعم لو لم نقل بوجوبه يجب العمل بالوصيّة.

يلاحظ عليه: بوجود الفرق بين الوارث و الوصي، فإنّ الأوّل مأمور بإفراغ ذمّة الميّت حسب الدليل الشرعي، فيجب أن يعمل على وفق الحجّة الشرعيّة، و أمّا الوصيّ فهو مأمور بتنفيذ الوصية، بشرط أن لا يكون على خلاف الكتاب و السنّة القطعية، لأنّ الوصية غير نافذة عنده، و أمّا اشتراط أن يكون على خلاف تقليد الوصي فليس شرطا لنفوذها، و ليس ما أفتى به مقلّد الوصي حكما قطعيّا لا يرد و لا يبدّل، بل هو حكم ظاهري يحتمل الوفاق و الخلاف.

(1)* في المسألة فروع:

1. إذا قلنا بكفاية الحجّ الميقاتي، يجوز الحجّ البلدي أيضا.

2. الأجرة الزائدة- عند إمكان الحجّ الميقاتي- لا تخرج من الأصل، و لا من الثلث إذا لم يوص بالاستئجار منه.

3. يخرج من الثلث إذا أوصى بالاستئجار منه أو أوصى بالثلث و لم يعيّن مصرفه بشرط أن لا يزاحم واجبا ماليّا آخر.

[المسألة 94: إذا لم يمكن الاستئجار من الميقات و أمكن من البلد]

المسألة 94: إذا لم يمكن الاستئجار من الميقات و أمكن من البلد، وجب و إن كان عليه دين الناس أو الخمس أو الزكاة فيزاحم الدين إن لم تف التركة بهما، بمعنى انّها توزع عليهما بالنسبة. (1)*

أمّا الأوّل، فلأنّ مقتضى الدليل هو إجزاء الحجّ الميقاتي، لا لزومه، و لو أراد الحجّ البلدي الذي هو أكثر ثوابا لا يزاحمه إجزاء الميقاتي.

و أمّا الثاني، فإذا تمكن من الحجين: الميقاتي و البلدي و كان الأوّل أقل مؤونة مالية، فلا ملزم للورثة أن يتحمّل الأجرة الزائدة، و المفروض انّ فراغ الذمّة يحصل بالأقل مؤونة، فلا يخرج من الأصل لتضرر الورثة، و لا من الثلث لعدم الإيصاء بالثلث أصلا و عدم الإيصاء بالاستئجار من البلد.

و أمّا الثالث، فإذا أوصى بالاستئجار

منه فيخرج الزائد من الثلث و إن لم يوص به أو أوصى بالثلث، فإن عيّن مصرفه فلا يجوز صرفه في غير مصرفه، و أمّا إذا لم يعيّن مصرفه، يجوز صرف الثلث في مصلحة الميت و منها الحجّ البلدي، نظير ما إذا أوصى به.

هذا إذا لم يزاحم واجبا ماليا، كالصلاة و الصوم فانّهما يخرجان من الأصل إذا لم يوص بهما، و من الثلث إذا أوصى بهما، و هما واجبان و الحجّ البلدي مستحبّ، لا يزاحم الواجب.

(1)* المسألة تشتمل على فرعين:

1. إذا لم يمكن الاستئجار من الميقات و أمكن من البلد وجب.

2. إذا كان عليه- مضافا إلى الحجّ- دين الناس أو الخمس و الزكاة.

أمّا الأوّل، فقد مرّ في المسألة التاسعة و الثمانين، قال هناك: لو لم يمكن

[المسألة 95: إذا لم تف التركة بالاستئجار من الميقات لكن أمكن الاستئجار من الميقات الاضطراري- كمكة أو أدنى الحلّ

المسألة 95: إذا لم تف التركة بالاستئجار من الميقات لكن أمكن الاستئجار من الميقات الاضطراري- كمكة أو أدنى الحلّ- وجب. نعم لو دار الأمر بين الاستئجار من البلد، أو الميقات الاضطراري قدّم الاستئجار من البلد، و يخرج من أصل التركة، لأنّه لا اضطرار للميت مع سعة ماله. (1)*

الاستئجار إلّا من البلد، وجب و كان جميع المصرف من الأصل.

و قد مرّ أنّ ذلك مقتضى إطلاق وجوب الحجّ عنه، بل قلنا: إنّه لو لم يمكن إلّا من الأقرب من البلد، وجب.

أمّا الثاني: فقد مرّ في المسألة 83، الفرع السادس، انّه لو كان المال المتعلّق به الخمس أو الزكاة موجودا قدّم الواجب المالي على الحجّ، و إن كانا في الذمة فقد قوى المصنّف انّ التركة توزع على الجميع بالنسبة، أو يقدّم الحجّ، لصحيح بريد العجليّ، و هو الأقوى كما مرّ، و انّه لم يثبت الإعراض.

ثمّ إنّ التقسيط إنّما يصحّ إذا و فى سهم

الحجّ به و لو من أدنى الحل، و أمّا إذا لم يف أصلا، يسقط وجوب الحجّ و يصرف الجميع في الدين، هذا إذا كان الدين شرعيا، و أمّا الدين الشخصي فقد مرّ أنّه يقدّم عليه الحجّ لصحيح بريد بن معاوية.

و بذلك يعلم أنّ المصنّف أجمل في الفرع ما فصله في الفرع السابق.

(1)* في المسألة فرعان:

1. إذا لم تف التركة بالاستئجار من الميقات، أمكن الاستئجار من الميقات الاضطراري.

2. لو دار الأمر بين الاستئجار من البلد أو الميقات الاضطراري قدم الأوّل.

[المسألة 96: بناء على المختار من كفاية الميقاتيّة لا فرق بين الاستئجار عنه و هو حيّ أو ميّت

المسألة 96: بناء على المختار من كفاية الميقاتيّة لا فرق بين الاستئجار عنه و هو حيّ أو ميّت فيجوز لمن هو معذور بعذر لا يرجى زواله أن يجهّز رجلا من الميقات كما ذكرنا سابقا أيضا، فلا يلزم أن يستأجر من بلده على الأقوى و إن كان الأحوط ذلك. (1)*

أمّا الفرع الثاني فهو واضح، إذ لا موضوع للبدلية الاضطرارية بعد وفاء التركة بالإحرام من البلد.

إنّما الكلام في الفرع الأوّل ففي صحيح عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل مرّ على الوقت الذي يحرم الناس منه فنسي أو جهل فلم يحرم حتّى أتى مكة، فخاف إن رجع إلى الوقت أن يفوته الحجّ؟ فقال يخرج من الحرم، و يحرم و يجزيه ذلك». «1» و الرواية تدلّ على أنّه حكم الناسي و الجاهل، و يستفاد من بعض روايات الباب انّه حكم العامد أيضا كحديث الحلبي و قرب الاسناد «2»، فإذا كان هذا حكم الجاهل و العامد، فالمقصر لذلك بطريق أولى، فما أفاده السيد الخوئي من اختصاص النصوص بمن تجاوز عن الميقات بلا إحرام عذرا أو عمدا، و لا إطلاق لها و إن كان صحيحا

لكن مضامين روايات الباب يكشف عن أنّ الشارع جعل هذا ميقاتا لمن لا يتمكّن من الإحرام من الميقات، إمّا لتجاوزه عنه، أو لعدم تمكّنه من الإحرام منه.

(1)* قد مرّ جواز الاستئجار من الميقات للحيّ المعذور في آخر المسألة الثانية و السبعين: «و هل يكفي الاستنابة من الميقات كما هو الأقوى في القضاء عنه بعد

[المسألة 97: الظاهر وجوب المبادرة إلى الاستئجار في سنة الموت

المسألة 97: الظاهر وجوب المبادرة إلى الاستئجار في سنة الموت، خصوصا إذا كان الفوت عن تقصير من الميت. و حينئذ فلو لم يمكن إلّا من البلد، وجب و خرج من الأصل و لا يجوز التأخير إلى السنة الأخرى و لو مع العلم بإمكان الاستئجار من الميقات توفيرا على الورثة، كما أنّه لو لم يمكن من الميقات إلّا بأزيد من الأجرة المتعارفة في سنة الموت وجب، و لا يجوز التأخير إلى السنة الأخرى توفيرا عليهم. (1)*

موته وجهان؟ لا يبعد الجواز»، كما مرّ جواز الاستئجار من الميقات للميت في المسألة الثامنة و الثمانين فلا وجه للتكرار.

(1)* في المسألة فروع:

1. وجوب المبادرة إلى الاستئجار في سنة الموت.

2. إذا لم يمكن النيابة- عند المبادرة- إلّا من البلد بخلاف ما أخّر فيمكن من الميقات.

3. إذا لم يمكن الحجّ من الميقات إلّا بأزيد من الأجرة المتعارفة عند سنة الموت بخلاف ما إذا أخّر.

الفرعان الأخيران مترتّبان على الفرع الأوّل، فلو ثبت وجوب المبادرة تجب النيابة من البلد، أو الحجّ بأزيد من الأجرة المتعارفة للحجّ من الميقات و إن أوجب المبادرة زيادة الأجرة فيهما، لأنّهم لا يرثون ما يصرف في الحجّ عن الميت فزيادة الأجرة عند المبادرة و عدمها عند عدمها إضرار أو توفير للورثة بالنظر إلى ظاهر الأمر، و لكنّه في الواقع ليس كذلك، لأنّهم لا يملكون ما

يصرف في طريق الحجّ

[المسألة 98: إذا أهمل الوصي أو الوارث، الاستئجار فتلفت التركة أو نقصت قيمتها فلم تف بالاستئجار]

المسألة 98: إذا أهمل الوصي أو الوارث، الاستئجار فتلفت التركة أو نقصت قيمتها فلم تف بالاستئجار ضمن، كما أنّه لو كان على الميت دين و كانت التركة وافية و تلفت بالإهمال، ضمن. (1)*

حتّى يعد دفع الزيادة ضررا عليهم.

إنّما الكلام في وجوب المبادرة، فلا شكّ في وجوبها على الوصيّ إذا كان التأخير عن تقصير، فانّ المبادرة تكون سببا لرفع العقاب عنه. و العقل يستقل بحسن المبادرة و قبح التأخير. إنّما الكلام إذا كان عن غير تقصير، فبما انّ المال أمانة شرعية في يد الوصي فالواجب ردّها إلى أهلها، و التأخير في الردّ رهن الدليل.

و بعبارة أخرى: الحكم الذاتي للأمانة هو ردّها فورا، إلّا إذا دلّ الدليل على التأخير، و هذا الأصل هو المتبع.

(1)* في المسألة فرعان:

1. يضمن الوصي و الوارث إذا أهملا فتلفت التركة أو نقصت قيمتها.

2. يضمنان كذلك إذا كان للميت دين.

أمّا عند تلف العين أو وصف من أوصافها، فللتفريط في الأمانة الشرعية مضافا إلى النصوص الواردة في ضمان من يتمكّن من إيصال المال الموصى له أو الغريم و أهمل، حتّى تلف المال، ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال في رجل توفّي فأوصى إلى رجل، و على الرجل المتوفّى دين، فعمد الذي أوصى إليه، فعزل الذي للغرماء فرفعه في بيته، و قسّم الذي بقي بين الورثة، فسرق الذي للغرماء من الليل، ممّن يؤخذ؟ قال: «هو ضامن حين عزله في بيته يؤدّي

[المسألة 99: على القول بوجوب البلدية و كون المراد بالبلد، الوطن، إذا كان له وطنان

المسألة 99: على القول بوجوب البلدية و كون المراد بالبلد، الوطن، إذا كان له وطنان الظاهر وجوب اختيار الأقرب إلى مكة، إلّا مع رضى الورثة بالاستئجار من الأبعد، نعم مع عدم تفاوت الأجرة، الحكم التخيير. (1)*

من ماله». «1»

إنّما الكلام

في نزول قيمته، فهل هو ضامن للتفريط، أو ليس بضامن، لأنّ الذي تحت يده يجب عليه ردّه و هو عين المال و صفاتها بالتبع، و أمّا القيمة السوقية فلا تقع تحت اليد، فلا موجب للضمان بالنسبة إليها. «2»

يلاحظ عليه: أنّه يكفي في الضمان السببية العرفية لطروء الضرر على الشخص، فهو ضامن، لأجل التسبيب من غير فرق بين كونه سببا لإتلاف العين أو لنقصان القيمة، و لذلك لو ردّ الجمد المأخوذ في الصيف، في الخريف يضمن قيمة النقصان، و إن كانت العين سالمة.

و الحاصل: انّ الضمان و عدمه من الأمور العرفية، يتبع فيه، نظر العرف، في كون الشخص سببا تاما للضرر و عدمه. و يمكن أن يقال: انّ اليد على القيمة، يد بقيمتها، و قد قلنا في محله: إنّ حبس الحر موجب لضمان منافعه المتعارفة.

(1)* الظاهر انّ مراده من الأقرب إلى مكة، ما هو الأقل أجرة، و لذلك لو كان الأبعد أقلّ أجرة و الأقرب أكثر قيمة- لأجل ظروف خاصة- يقدّم الأبعد، و انّما عبّر بالأقرب إلى مكة، لأنّ الغالب فيه قلّة الأجرة.

[المسألة 100: بناء على البلدية الظاهر عدم الفرق بين أقسام الحجّ الواجب

المسألة 100: بناء على البلدية الظاهر عدم الفرق بين أقسام الحجّ الواجب فلا اختصاص بحجّة الإسلام، فلو كان عليه حجّ نذري لم يقيد بالبلد، و لا بالميقات يجب الاستئجار من البلد، بل و كذا لو أوصى بالحجّ ندبا اللازم الاستئجار من البلد إذا خرج من الثلث. (1)*

و قد تعرض له العلّامة في «التذكرة» و قال: لو كان له موطنان، قال الموجبون للاستنابة من بلده: يستناب من أقربهما، فإن وجب عليه الحجّ بخراسان و مات ببغداد، أو وجب عليه ببغداد فمات بخراسان، قال أحمد: يحجّ عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته،

و يحتمل أن يحجّ عنه من أقرب المكانين، لأنّه لو كان حيا في أقرب المكانين لم يجب عليه الحجّ من الأبعد منه فكذا نائبه. «1»

و وجهه واضح، لأنّ الواجب، هو الحجّ البلدي القابل للانطباق على كلا البلدين.

فلو كان الأمر بيد الوصي، فبما أنّ تطبيق الجامع على البلد النائي، يوجب ضرر الوارث دون الآخر، فتعينّ الثاني، لأنّه عملا بالواجب دون إدخال ضرر على الغير.

و أمّا إذا كان الأمر بيد الورثة، فهو مختار بين البلدين، و من المعلوم أنّه- طبعا- يطبق على الأقرب دون الأبعد.

(1)* فإنّ الدليل الصالح للذكر هو ما نقلناه عن ابن إدريس من أنّه كان صرف المال من البلد واجبا عليه في حال الحياة فيكون باقيا كذلك، فانّ الساقط هو الحجّ بالبدل، و هذا الدليل مشترك بين الحجّ الواجب و النذري، إذ في الجميع الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 498

.......... كان صرف المال من البلد واجبا إذا كان حيا، فيجب بعد موته.

ثمّ إنّ المصنّف أخرج ما إذا قيّد النذر بالميقات، فلا يجب إلّا من الميقات.

و أورد عليه السيد الحكيم بأنّ مقتضى دليل ابن إدريس هو الحجّ البلدي أيضا، و ذلك لأنّ الخطاب المتوجه إلى الميّت حال حياته- بالإتيان بالحجّ من الميقات- يقتضي وجوب السعي إليه من البلد الذي هو فيه، و إن كان من باب المقدمة، فيجب على النائب الإتيان به بعين التقريب الذي ذكر في الحجّ الإسلامي. «1»

يلاحظ عليه: بما تقدّم من إيجاب الحجّ من البلد على المستطيع، لأجل توقّف الحجّ المباشري عليه و المفروض انّ الحجّ نيابي لا مباشري، فلو كان بلد النائب دون الميقات يكفي الإحرام منه.

[المسألة 101: إذا اختلف تقليد الميّت و الوارث في اعتبار البلديّة أو الميقاتيّة]

المسألة 101: إذا اختلف تقليد الميّت و الوارث في اعتبار البلديّة أو الميقاتيّة،

فالمدار على تقليد الميّت، و إذا علم أنّ الميت لم يكن مقلّدا في هذه المسألة فهل المدار على تقليد الوارث أو الوصيّ أو العمل على طبق فتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده إن كان متعيّنا، و التخيير مع تعدّد المجتهدين و مساواتهم؟ وجوه، و على الأوّل فمع اختلاف الورثة في التقليد يعمل كلّ على تقليده، فمن يعتقد البلديّة يؤخذ من حصّته- بمقدارها بالنسبة- فيستأجر مع الوفاء بالبلديّة بالأقرب فالأقرب إلى البلد، و يحتمل الرجوع إلى الحاكم لرفع النزاع، فيحكم بمقتضى مذهبه، نظير ما إذا اختلف الولد الأكبر مع الورثة في الحبوة، و إذا اختلف تقليد الميّت و الوارث في أصل وجوب الحجّ عليه و عدمه- بأن يكون الميّت مقلّدا لمن يقول: بعدم اشتراط الرجوع إلى كفاية فكان يجب عليه الحجّ، و الوارث مقلّدا لمن يشترط ذلك فلم يكن واجبا عليه، أو بالعكس- فالمدار على تقليد الميّت. (1)*

(1)* و لنقدّم أمرين:

1. انّ ذمّة المكلّف مطلقا، رهن الحكم الواقعي سواء أوافق رأي مقلّده أم لا، و ليس لرأي المقلّد دور، سوى الكشف عن الواقع، و كونه طريقا إلى كشف وظيفته، فإن صادف الواقع، فهو، و إلّا يكون المكلّف معذورا في مخالفة الواقع، و هذا واضح على أصول المخطّئة.

و على ضوء ذلك لو فات عن الإنسان صلوات في فترة من عمره، كان يقلّد فيها من يرى كفاية التسبيحة الواحدة في الركعتين الأخيرتين، و لما حاول أن يقضي،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 500

.......... قلّد من يرى وجوب الثلاثة منها، لوجب عليه القضاء على وفق النظر الثاني، لما عرفت من أنّ رأي المقلّد، طريق إلى الوظيفة و ليس له موضوعية و لم تشتغل ذمته إلّا بالواقع، لا ما

رآه المقلّد الأوّل، و الطريق الفعلي و الحجّة الشرعية هو رأي المقلّد الثاني.

2. وجود الفرق الواضح بين الوارث و الوصي، فلو مات و عليه حجّة، فالوارث مكلّف بإفراغ ذمّته عن الحجّ، في ضوء الطريق الشرعي، و هو ليس رأي مقلّده، بخلاف الوصي فانّه موظف للعمل بما أوصى به الميّت، سواء أكان موافقا لتقليده أم مخالفا، فلو أوصى بالبلدي، و الوصي يرى- في ضوء التقليد أو الاجتهاد- كفاية الحجّ الميقاتي، فليس له أن يعمل وفق النظر الثاني، لأنّه تغيير للوصية و تبديل لها و هو محرّم شرعا.

إذا عرفت هذين الأمرين فلنرجع إلى تحليل الفروع المذكورة في المسألة.

الفرع الأوّل: إذا اختلف تقليد الميت و الوارث في اختيار البلدية و الميقاتية، فهل المدار هو تقليد الميت أو تقليد الوارث؟ فلو رأى الأوّل لزوم البلدية، و الآخر كفاية الميقاتية، أو بالعكس، فعلى القول الأوّل يجب الحجّ البلدي في الصورة الأولى، و الميقاتي في صورة العكس، و على القول الثاني يجب الحجّ الميقاتي في الصورة الأولى، و البلدي في صورة العكس.

ثمّ إنّ المصنّف ذهب إلى أنّ المدار هو تقليد الميت بزعم انّ ذمة الميت اشتغلت بما رآه مقلّده واجبا، فعلى الوارث إفراغ ذمّته عمّا اشتغلت به أيّام حياته، و المعاصرون كلّهم على الثاني، لما عرفت من أنّ ذمّته اشتغلت بالحكم الواقعي، و كان تقليد الميّت طريقا إلى تشخيصه و تعيينه، فإذا مات المورّث، فيجب على الوارث، إفراغ ذمّته بما اشتغل به واقعا على ضوء الطريق الفعلي،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 501

.......... و ليس هو إلّا اجتهاد الوارث أو تقليده.

الفرع الثاني: إذا مات بلا تقليد و عليه حجّ، فما هو المدار؟ هنا وجوه ذكرها المصنّف:

1. المدار تقليد الوارث.

2. المدار تقليد

الوصي.

3. المدار فتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده إن كان متعينا و التخيير مع تعدد المجتهدين.

أمّا الوجه الثاني، فهو غير صحيح، لما عرفت من أنّ وظيفة الوصي تنفيذ الوصية، سواء أوافق تقليد الوصي، مع ما أوصي به أم لا، فلو أوصى بالحجّ البلدي أو الميقاتي، كان عليه العمل حسب ما أوصى به، و إن كان تقليده على خلاف ما أوصي به، اللّهمّ إلّا إذا جعل نظر الوصي ملاكا للصرف، كما إذا وصى بالثلث و صرفه في الخيرات فيتبع في تشخيص الموضوع تقليد الوصي.

أمّا الثالث فمثل الثاني، لما عرفت من أنّه ليس للتقليد دور سوى الكشف عن الواقع، فالذي يثقل كاهل المكلف هو الحكم الواقعي، لا ما رآه مقلّده، غاية الأمر يرجع في تشخيص الواقع إلى الطريق، و الطريق في حياة الميت هو رأي مقلّده، و هو في الفترة الثانية رأي مقلّد الوارث، فالمدار عليه و بذلك ظهر ضعف الاحتمال الثالث بشقيه: متعينا أو متخيرا.

هذا كلّه إذا كان الوارث واحدا، أو متعددا لكن لم يكن بينهم اختلاف، و أمّا إذا كان بينهم اختلاف في كيفية الحجّ و هذا ما سيوافيك في الفرع الثالث.

الفرع الثالث: إذا اتّفقت الورثة على وجوب الحجّ للميت و لكن اختلفوا في الكيفية لأجل الاختلاف في التقليد، فمنهم يعتقد بوجوب الحجّ البلدي، و منهم الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 502

.......... يرى وجوب الميقاتي، كلّ ذلك لأجل اختلاف مقلّدهم، فهنا احتمالات:

1. يعمل كلّ على تقليده يجب على كلّ وارث أن يعمل حسب رأي مقلّده، فيخرج مصرف الميقاتي من أصل التركة، ثمّ يقسم المال على قسمين، و يخرج نصف مصرف البلدي من حصته دون حصة الآخر، لعدم اعترافه بالحجّ البلدي، و قد مرّ

في المسألة الخامسة و الثمانين من أنّ الواجب على الورثة في أمثال هذا المورد، التوزيع و التخصيص.

و هذا مبنيّ على أنّ تعلّق الحجّ بالتركة على سبيل الإشاعة، فلو كان سهمه من التركة ستة دنانير، و مصرف البلدي- وراء مصرف الميقاتي الخارج من أصل التركة- حسب سهمه دينار واحد، فما وقع في يده ملك مشاع بينه و بين الميت، سدسه له، و خمسة أسداس للوارث.

و قد مرّ انّ هذا هو المشهور، لكن الدليل لم يساعده، و الروايات التي استدلّ بها قاصرة الدلالة عليه، و الظاهر انّ تعلّقه بها، على النحو الكلي في المعيّن، فعدم اعتراف الوارث الآخر، بهذا المصرف، يكون بمنزلة تلف بعض المال، حيث لا يحسب على الداين، و على هذا فيكون تعلّقه بنحو آخر سيوافيك في الاحتمال التالي.

2. يتعلّق بكلّ ما في يد الوارث هذا هو الاحتمال الثاني الذي لم يذكره المصنف، و هو الموافق للقاعدة، لما عرفت من أنّ تعلق الدين بالتركة، من قبيل الكلي في المعين، و عدم اعتراف الوارث بهذا المصرف (مصرف الحجّ البلدي) بمنزلة تلف بعض التركة بسبب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 503

.......... سماوي أو غيره و لا يحسب التلف على الداين أبدا. و على هذا يجب أن يدفع جميع أجرة الحجّ البلدي، لا خصوص ما يتعلّق بسهمه أخذا بمقتضى كون التعلق من قبيل الكلّي في المعيّن.

3. يرجع إلى الحاكم لرفع النزاع هذا هو الاحتمال الثالث- أي الرجوع و الترافع إلى الحاكم- نظير ما إذا اختلف الولد الأكبر مع الورثة في الحبوة أو في مقدارها.

و هذا أيضا مبنيّ على أنّ تعلّق الحجّ بالمال من قبيل الكلي في المعيّن، فلا يملك الوارث إلّا بما يبقى بعد الدين و الحجّ

و الوصية، فإذا اختلفا فيما يبقى بعدها، فلا حاسم إلّا الرجوع إلى الحاكم و الأخذ برأيه النافذ.

و الثالث هو المتعيّن عند التخاصم. و الثاني هو الأقوى في صورة التخاصم كما مرّ.

الفرع الرابع: قد كان مدار البحث في الفروع السابقة، هو الاختلاف في كيفية الحجّ بعد الاتفاق على أصل الوجوب، و أمّا إذا كان اختلاف تقليد الميت و الوارث في أصل وجوب الحجّ بأن يكون الميت مقلّدا لمن يقول بعدم اشتراط الرجوع إلى كفاية، فكان يجب عليه الحجّ، و الوارث مقلّدا لمن يشترط ذلك، فلم يكن واجبا أو بالعكس، فقال المصنّف: إنّ المدار- كالفرع الأوّل- على تقليد الميّت.

و الظاهر انّ المدار تقليد الوارث، أمّا إذا كان الوارث يرى وجوب الحجّ عليه حسب تقليده و إن لم يكن كذلك حسب تقليد الميّت فواضح، لأنّه يعترف بأنّ ما يعادل أجرة الحجّ لم تنتقل إليه، فكيف يتصرف فيه، و مجرد اعتقاد الميت

[المسألة 102: الأحوط في صورة تعدد من يمكن استئجاره، استئجار من أقلّهم أجرة]

المسألة 102: الأحوط في صورة تعدد من يمكن استئجاره، استئجار من أقلّهم أجرة مع إحراز صحّة عمله مع عدم رضى الورثة أو وجود قاصر فيهم، سواء قلنا بالبلدية أو الميقاتية، و إن كان لا يبعد جواز استئجار المناسب لحال الميت من حيث الفضل و الأوثقية، مع عدم قبوله إلّا بالأزيد و خروجه من الأصل، كما لا يبعد عدم وجوب المبالغة في الفحص عن أقلّهم أجرة و إن كان أحوط. (1)*

لعدم الوجوب، و عدم اشتغال ذمّته بالحجّ، لا يؤثر في ذلك نظير ما إذا اعتقد الميت في حال حياته، بعدم دينه لزيد ثمّ ثبت بعد فوته خلافه بالطريق المقرر شرعا في مورد الادّعاء على الميت، فيجب على الوارث أداء الدين.

و أمّا إذا كان الوارث، لا يرى وجوب الحجّ

عليه خلافا لتقليد الميت، فقد عرفت أنّ رأي المجتهد، طريق إلى الواقع، و ليس له موضوعية، حتّى يؤخذ بقول مقلّد الميت، بل يجب أن يؤخذ بالحجّة العقلية، و ليس هو إلّا تقليد الوارث.

و بعبارة أخرى: انّ الوارث يعتقد بانتقال المال الموروث إليه، حسب اجتهاده أو تقليده، فلا وجه للتوقف إلّا أن يكون بين الورثة من يخالفه فيرجع إلى الحاكم.

و لا يذهب عليك وجود الاضطراب في شرح هذه المسألة في كتاب «معتمد العروة»، و لعلّه طرأ عليه عند الطبع، رحم اللّه المملي و المملي عليه و أسكنهما في بحبوحات جناته.

(1)* إذا تعدد من يمكن استئجاره- سواء أقلنا بإجزاء الحجّ الميقاتي أو لا- فهل الواجب، استئجار أقلهم أجرة، أو يجوز- معه- استئجار المناسب لحال

[المسألة 103: قد عرفت أنّ الأقوى كفاية الميقاتيّة، لكن الأحوط الاستئجار من البلد بالنسبة إلى الكبار من الورثة]

المسألة 103: قد عرفت أنّ الأقوى كفاية الميقاتيّة، لكن الأحوط الاستئجار من البلد بالنسبة إلى الكبار من الورثة، بمعنى عدم احتساب الزائد عن أجرة الميقاتيّة على القصّر إن كان فيهم قاصر. (1)*

الميت من حيث الفضل و الأوثقية، مع عدم قبوله إلّا بالأزيد؟ وجهان:

أمّا الأوّل فلأنّ الاستئجار بأكثر ما يمكن، مع وجود أقلّ ما يمكن به استئجاره، تصرّف في مال الوارث البالغ أو الوارث القاصر، كما هو المفروض في المتن، من غير فرق بين القول بتعيّن الميقاتية عندئذ أو البلدية، فإنّ ما يجب أن يخرج من التركة، هو أصل المصرف الجامع بين الأقل و الأكثر، لا الزائد.

أمّا الثاني، فلأنّ الروايات الدالّة على الحجّ عن الميت بالنيابة منصرفة إلى النائب المتعارف شرفا و رفعة، و فيه تأمّل، لأنّ المناصب الدنيوية ملغاة عند الشارع و إنّما الفخر بالإيمان و التقوى، نعم لو عدّت نيابة شخص إهانة و هتكا للميت، يجب العدول عنه إلى غيره.

و على فرض

لزوم الاقتصار بالأقل، لا تجب المبالغة في الفحص عن أقلّهم أجرة، لانصراف الأمر إلى المتعارف.

(1)* وجهه: انّ احتساب الزائد عن أجرة الحجّ الميقاتي على القصّر، تصرف في مالهم، بلا سبب شرعي لكفاية الميقاتية و كون البلدية أحوط، لا يؤثر في ذلك، غاية الأمر انّ كبار الورثة لو رضوا بذلك، يدفع كلّ حسب سهامهم فلو لم تكن سهامهم وافية للحجّ البلدي فيأتي به النائب عن الأقرب فالأقرب إلى البلد، إلّا إذا قاموا بدفع ما به التفاوت بلا ملاحظة نسبة السهام إلى الزائد فيأتي به من البلد.

[المسألة 104: إذا علم أنّه كان مقلّدا و لكن لم يعلم فتوى مجتهده في هذه المسألة]

المسألة 104: إذا علم أنّه كان مقلّدا و لكن لم يعلم فتوى مجتهده في هذه المسألة، فهل يجب الاحتياط، أو المدار على تقليد الوصي أو الوارث؟

وجهان أيضا.* (1)

[المسألة 105: إذا علم باستطاعة الميت مالا، و لم يعلم تحقّق سائر الشرائط في حقّه

المسألة 105: إذا علم باستطاعة الميت مالا، و لم يعلم تحقّق سائر الشرائط في حقّه، فلا يجب القضاء عنه، لعدم العلم بوجوب الحجّ عليه لاحتمال فقد بعض الشرائط.* (2)

[المسألة 106: إذا علم استقرار الحجّ عليه و لم يعلم أنّه أتى به أم لا]

المسألة 106: إذا علم استقرار الحجّ عليه و لم يعلم أنّه أتى به أم لا، فالظاهر وجوب القضاء عنه لأصالة بقائه في ذمّته، و يحتمل عدم وجوبه عملا بظاهر حال المسلم و انّه لا يترك ما وجب عليه فورا، و كذا الكلام إذا علم انّه تعلّق به خمس أو زكاة أو قضاء صلوات أو صيام و لم يعلم أنّه أدّاها أو لا. (3)*

(1)* قد اتّضح حكم المسألة ممّا قدّمناه من أنّ واجب الوارث، إفراغ ذمة الميت عن الواجب حسب الحجّة الشرعية الفعلية، لأنّها الطريق فعلا إلى الواقع، لا تقليد الميت، فيكون المدار هو تقليد الوارث. و أمّا الوصيّ فواجبه العمل بظاهر الوصية و بما انّه لم يوص بشي ء من الميقاتية أو البلديّة. فله الاكتفاء بالميقاتية، لأنّ الأصل عدم وجوب الزائد على الميقاتي.

(2)* و ما ذكر واضح، ما لم يكن هنا دليل أو أصل محرز لوجود الشرائط.

(3)* يقع الكلام تارة في الحجّ، و أخرى في الزكاة.

أمّا الأوّل، فنقول:

إذا علم استقرار الحجّ عليه، و لم يعلم أنّه أتى به أم لا، فالمرجع هو

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 507

.......... الاستصحاب، أعني: أصالة بقائه في ذمّته.

و يمكن القول بعدم الوجوب لوجهين:

1. انّه مقتضى قاعدة التجاوز، التي يعبّر عنها في المقام بالشكّ في الفعل بعد خروج وقته.

يلاحظ عليه: أنّ مجراها ما إذا كان للفعل وقت محدّد، فشكّ في إتيانه بعد خروج الوقت كصلاتي الظهر و العصر، و أمّا المقام، فانّ الحجّ و إن كان واجبا فوريّا، لكنّه بالتسويف و التأخير،

لا يكون قضاء، بل هو أداء إلى آخر العمر، و إن عصى بالتأخير، فالمرجع هو الاستصحاب لا الشكّ بعد خروج الوقت.

2. انّ الإتيان هو مقتضى ظاهر حال المسلم و انّه لا يترك ما وجب عليه فورا.

يلاحظ عليه: أنّ أقصى ما يفيده ظاهر حال المسلم أنّه لا يعصي اللّه سبحانه إمّا بالإتيان، و إمّا بوجود العذر المسوغ للتأخير حتّى وافاه الموت، و معه كيف يحمل على الأوّل؟!

و أمّا إرجاعه إلى قاعدة المقتضي و المانع بأنّ ظاهر حال المسلم مقتض لوقوع الفعل، و الشك في المانع و الأصل عدمه فبعيد تطبيقا و اعتبارا.

هذا كلّه في الحجّ، و أمّا في غيره كالصلاة و الزكاة فقال المصنّف في الفصل الذي عقده للصلاة الاستيجارية: المسألة 30: إذا علم أنّه كان على الميت فوائت و لم يعلم أنّه أتى بها قبل موته أو لا، فالأحوط الاستئجار عنه.

و قال في كتاب الزكاة في خاتمة فيها مسائل متفرقة: المسألة الخامسة: «إذا علم أنّ مورّثه كان مكلفا بإخراج الزكاة و شكّ في أنّه أدّاها أم لا، ففي وجوب إخراجه من تركته، لاستصحاب بقاء تكليفه أو عدم وجوبه للشكّ في ثبوت التكليف بالنسبة إلى الوارث، و استصحاب بقاء تكليف الميت لا ينفع في تكليف

[المسألة 107: لا يكفي الاستئجار في براءة ذمّة الميّت و الوارث

المسألة 107: لا يكفي الاستئجار في براءة ذمّة الميّت و الوارث، بل يتوقّف على الأداء، و لو علم أنّ الأجير لم يؤدّ وجب الاستئجار ثانيا، و يخرج من الأصل إن لم يمكن استرداد الأجرة من الأجير.* (1)

[المسألة 108: إذا استأجر الوصيّ أو الوارث من البلد غفلة عن كفاية الميقاتيّة]

المسألة 108: إذا استأجر الوصيّ أو الوارث من البلد غفلة عن كفاية الميقاتيّة ضمن مازاد عن أجرة الميقاتية للورثة أو لبقيّتهم. (2)*

الوارث، وجهان أوجههما الثاني».

و لا يخفى أنّ ما اختاره في باب الزكاة يخالف مختاره هنا و في الصلاة الاستئجارية.

و قد ذكرنا في باب الزكاة أنّ للمسألة صورا:

1. إذا كانت العين الزكوية موجودة و شكّ في إخراج الزكاة منها، فيجب إخراجها منها أخذا بالاستصحاب.

2. إذا كانت العين تالفة و شككنا في كيفية التلف و انّه كان موجبا للضمان أو لا، فالأصل عدم اشتغال ذمة الميت بالزكاة.

3. لو علمنا بأنّه تلفت مضمونة على الميت و شككنا في أنّه أفرغ ذمته أو لا، فيجب الأداء، لاستصحاب اشتغال ذمّته.

(1)* لأنّ المبرئ للذمة هو الإتيان بالحجّ، لا مجرّد الاستئجار، غاية الأمر لو أمكن استرداد الأجرة فيستأجر به ثانيا و إلّا يجب إخراجه من الأصل.

(2)* إذا كانت الإجارة بعين التركة، فتكون الإجارة بالنسبة إلى الزائد على الأجرة الميقاتية فضولية، تتوقّف صحّتها على إذن الورثة، و إلّا فتكون باطلة، فيرجع إلى الوصي و الوارث المتولّي لأمور الميت بأجرة المثل أخذا بالقاعدة، و هي

[المسألة 109: إذا لم يكن للميّت تركة و كان عليه الحجّ لم يجب على الورثة شي ء]

المسألة 109: إذا لم يكن للميّت تركة و كان عليه الحجّ لم يجب على الورثة شي ء، و إن كان يستحبّ على وليّه، بل قد يقال بوجوبه للأمر به في بعض الأخبار. (1)*

انّها كلّما بطل المسمّى، يرجع إلى المثل.

و أمّا إذا كانت الإجارة على ذمّة الوصيّ بداعي الأخذ من تركة الميت فالإجارة صحيحة و يضمن للأجير كلّه، و ليس له الرجوع إلى الوارث سوى مقدار أجرة الميقاتيّة.

(1)* إذا وجب الحجّ و تساهل و استقر عليه الحجّ، و مات و لم يكن له تركة، فهل يجب على الوارث الحجّ عنه،

المشهور- كاد أن يكون إجماعا- هو عدمه.

قال الشيخ: من استقرّ عليه وجوب الحجّ، فلم يفعل و مات، وجب أن يحجّ عنه من صلب ماله مثل الدين و لم يسقط بوفاته، هذا إذا أخلف مالا، فإن لم يخلف مالا كان وليه بالخيار في القضاء عنه، و به قال الشافعي و عطاء و طاووس. و قال أبو حنيفة و مالك: يسقط بوفاته بمعنى أنّه لا يفعل عنه بعد وفاته. و استدلّ الشيخ بخبر الخثعمية. «1»

و إليك نصّ الرواية: إن امرأة من خثعم سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فقالت: إنّ فريضة اللّه في الحجّ على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على راحلة، فهل ترى أحج عنه؟ فقال صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: «نعم»، فقالت: يا رسول اللّه فهل ينفعه ذلك؟ فقال: «نعم، كما لو كان عليه دين تقضيه، نفعه». «2»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 510

.......... و قال العلّامة في «القواعد»: إذا اجتمعت الشرائط و أهمل أثم و استقر الحج ... فإن مات حينئذ وجب أن يحجّ عنه من صلب تركته ... و لو لم يكن له مال أصلا استحب لوليه. «1»

و قال الفاضل الإصفهاني في شرح قول العلّامة في «القواعد»: «استحب لوليه» خصوصا و لغيره الحجّ عنه، للأخبار و الاعتبار، و لا يجب وفاقا للمشهور للأصل. «2»

و قال النراقي: لو لم يخلف من استقرّ عليه الحجّ في ذمّته شيئا لم يجب الحجّ على مال الغير. «3»

و على كلّ تقدير فيدلّ على استحباب النيابة، لفيف من الروايات التي نقلها الشيخ الحرّ العاملي في الباب 25 من أبواب النيابة، نكتفي برواية واحدة.

روى الكليني بسند صحيح عن القاسم البجلي

قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السّلام: إنّي أرجو أن أصوم بالمدينة شهر رمضان، فقال: «تصوم بها إن شاء اللّه تعالى»، فقال: و أرجو أن يكون خروجنا في عشر من شوّال و قد عوّد اللّه زيارة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و زيارتك، فربّما حججت عن أبيك، و ربما حججت عن أبي، و ربما حججت عن الرّجل من إخواني، و ربما حججت عن نفسي، فكيف أصنع؟

فقال: «تمتع»، فقلت: إنّي مقيم بمكّة منذ عشر سنين، فقال: «تمتّع».

نعم نقل العلّامة عن ابن الجنيد أنّه قال بالوجوب قال: و قال ابن الجنيد:

و انّما يجب أن يحجّ و يعتمر عمن كان مستطيعا للحجّ- إلى أن قال:- و كان ذا مال، دفع من ماله إلى من يحجّ عنه من حيث بلغ، و إن لم يكن ذا مال قضى عنه وليّه. «4»

[المسألة 110: من استقرّ عليه الحجّ و تمكّن من أدائه ليس له أن يحجّ عن غيره تبرّعا أو بإجارة]

المسألة 110: من استقرّ عليه الحجّ و تمكّن من أدائه ليس له أن يحجّ عن غيره تبرّعا أو بإجارة، و كذا ليس له أن يحجّ تطوّعا، و لو خالف فالمشهور البطلان، بل ادّعى بعضهم عدم الخلاف فيه و بعضهم الإجماع عليه، و لكن عن سيّد المدارك التردّد في البطلان، و مقتضى القاعدة الصحّة و إن كان عاصيا في ترك ما وجب عليه، كما في مسألة الصلاة مع فوريّة وجوب إزالة النجاسة عن المسجد، إذ لا وجه للبطلان إلّا دعوى أنّ الأمر بالشي ء نهي عن ضدّه و هي محلّ منع، و على تقديره لا يقتضي البطلان، لأنّه نهي تبعيّ، و دعوى أنّه يكفي في عدم الصحّة عدم الأمر مدفوعة بكفاية المحبوبيّة في حدّ نفسه في الصحّة، كما في مسألة ترك الأهمّ و الإتيان بغير الأهمّ من

الواجبين المتزاحمين، أو دعوى أنّ الزمان مختصّ بحجّته عن نفسه، فلا يقبل لغيره، و هي أيضا مدفوعة بالمنع، إذ مجرّد الفوريّة لا يوجب الاختصاص، فليس المقام من قبيل شهر رمضان حيث إنّه غير قابل لصوم آخر، و ربما يتمسّك للبطلان في المقام بخبر سعد بن أبي خلف عن أبي الحسن موسى عليه السّلام عن الرجل الصرورة يحجّ عن الميّت؟ قال عليه السّلام: «نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحجّ به عن نفسه، فإن كان له ما يحجّ به عن نفسه فليس يجزي عنه حتّى يحجّ من ماله، و هي تجزي عن الميّت إن كان للصرورة مال، و إن لم يكن له مال»، و قريب منه صحيح سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و هما كما ترى بالدلالة على الصحّة أولى، فإنّ غاية ما يدلّان عليه أنّه لا يجوز له ترك حجّ نفسه و إتيانه عن غيره، و أمّا عدم الصحّة فلا، نعم يستفاد منهما عدم إجزائه عن نفسه، فتردّد صاحب المدارك في محلّه، بل لا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 512

يبعد الفتوى بالصحّة لكن لا يترك الاحتياط، هذا كلّه لو تمكن من حجّ نفسه. (1)*

(1)* و قبل الخوض في الشرح نذكر فهرس المسائل الواردة فيها:

1. إذا حجّ- من استقرّ عليه الحجّ مع بقاء التمكّن- عن غيره نيابة، فهل يصحّ أو لا، و مثله إذا حجّ عن نفسه تطوعا؟

2. إذا حجّ عن الغير من استقرّ عليه الحجّ و زال التمكن أو كان جاهلا باستطاعته، أو بفورية وجوبه، فهل يصحّ أو لا؟

3. على القول بصحّة الحجّ عن الغير مع التمكن، فهل تصحّ الإجارة أو لا؟

4. هل يكفي الحجّ عن الغير أو عن النفس تطوعا عن

حجّ نفسه، أو عن حجّة الإسلام أو لا؟

5. إذا كان الواجب عليه حجّا نذريا فوريا، فهل يجوز أن يحجّ عن الغير نيابة أو تبرعا، أو عن نفسه تطوعا، أو لا؟

و إليك دراسة الفروع واحدا تلو الآخر.

الفرع الأوّل: من استقر عليه الحجّ و تمكّن من أدائه، هل له أن يحجّ عن غيره بأحد الأنحاء الثلاثة:

1. تبرعا، 2. إجارة، 3. تطوعا و ندبا لنفسه، أو لا يجوز؟

المشهور عدم الجواز و بطلان العمل، و ادّعى في «الجواهر» عدم الخلاف في الأوّلين. «1» كما ادّعى النراقي الإجماع في خصوص النيابة، سواء كان إجارة أو تبرعا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 513

.......... و لا يعمّ التطوعي الندبي.»

و إليك كلمات العلماء في المقام:

1. قال المفيد: و من وجب عليه الحجّ فلا يجوز له أن يحجّ عن غيره. «2» و العبارة تعم الأوّلين دون التطوع.

2. قال الشيخ: و متى عدم الرجل الاستطاعة، جاز له أن يحجّ عن غيره. «3» و دلالته بالمفهوم، و لا يعم التبرع.

3. و قال في «المبسوط»: من وجبت عليه حجة الإسلام لا يجوز أن يحجّ عن غيره، و لا يجوز له أن يحجّ تطوعا، فإن تطوع وقعت عن حجة الإسلام، و إن حجّ عن غيره لم يجز عن غيره و لا عنه، لأنّ شرط الإجزاء عن الغير لم يحصل، فلا يجزي فيستحق عليه الأجرة بذلك. «4» و عبارته تعمّ الأقسام الثلاثة.

4. و قال في «الخلاف»: من قدر على الحجّ عن نفسه، فلا يجوز أن يحجّ عن غيره، و إن كان عاجزا عن الحجّ عن نفسه لفقد الاستطاعة، جاز له أن يحجّ عن غيره. و به قال الثوري. و قال مالك و أبو حنيفة: يجوز له أن يحجّ عن

غيره على كلّ حال، قدر عليه أو لم يقدر، و كذلك يجوز له أن يتطوع به و عليه فرض نفسه. و به نقول.

و قال الشافعي: كلّ من لم يحجّ حجّة الإسلام، لا يصحّ أن يحجّ عن غيره، فإن حجّ عن غيره أو تطوع بالحجّ انعقد إحرامه عمّا يجب عليه، سواء كانت حجة الإسلام أو واجبا عليه بالنذر، و إن كانت عليه حجّة الإسلام فنذر حجّة، فأحرم بالنذر، انعقد عن حجّة الإسلام، و به قال: ابن عباس و الأوزاعي و أحمد و إسحاق. «5»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 514

.......... 5. و قال ابن البرّاج: و من أراد أن يحج عن غيره، لم يجز له ذلك حتّى يقضي ما يجب عليه منه إن كان ذلك قد وجب عليه، و من لم يكن له مال فإنّه يجوز له الحجّ عن غيره. «1»

6. و قال ابن إدريس: و متى عدم المكلّف الاستطاعة، جاز له أن يحجّ عن غيره و إن كان صرورة لم يحجّ بعد حجة الإسلام. «2»

7. و قال الكيدري: و من كان حجة الإسلام واجبة عليه، لا يجوز أن يحجّ عن غيره إلّا أن يحجّ عن نفسه. «3»

8. و قال المحقّق: من وجب عليه حجّة الإسلام لا يحجّ عن غيره، لا فرضا و لا تطوعا، و كذا من وجب عليه بنذر أو إفساد. «4» و العبارة تعمّ الأصناف الثلاثة.

9. و قال العلّامة في «التذكرة»: يشترط في النائب خلوّ ذمّته عن حج واجب عليه بالأصالة أو بالنذر أو الاستئجار أو الإفساد، فلو وجب عليه حجّ بسبب أحد هذه، لم يجز له أن ينوب عن غيره إلّا بعد أداء فرضه، لما رواه العامة عن ابن عباس، أنّ رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم «من شبرمة؟» قال: قريب لي، قال: حججت قط؟ قال: لا، قال: «فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة». «5»

10. و قال في «الإرشاد» في شرائط النائب: و أن لا يكون عليه حج واجب. «6»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 515

.......... إلى غير ذلك من الكلمات الدالة على المنع، في عامة الصور، أو في بعضها.

و مع أنّ المشهور بين الفقهاء هو البطلان، اختار المصنف الصحّة بنقد كلّ ما استدلّ به على الفساد، و قد أشبع الكلام في المسألة، و كأنّه نسي أنّ كتابه رسالة عملية، و ليس بكتاب استدلالي، و نحن نبيّن مقاصده.

استدلّ للقول بفساد الحجّ بأمور:

1. الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه قال النراقي: فلو وجب عليه حجّ في ذلك العام، لم يجز له أن ينوب عن غيره بالإجماع للنهي عن الضدّ الموجب للفساد. «1»

و الاستدلال مبنيّ على أمور لم يسلّم واحد منها:

أ. ترك الضد الخاص (الحجّ عن الغير) مقدّمة للواجب، أي الحجّ عن نفسه.

ب. مقدمة الواجب، واجبة.

ج. إذا وجب الشي ء (ترك الحجّ عن الغير) يحرم ضدّه العام، أي فعله.

د. انّ هذا النهي النابع من الأمر بالشي ء- أي الحجّ عن نفسه- موجب للفساد.

و الأمور الأربعة ممنوعة.

أوّلا: ليس ترك الضد مقدّمة لفعل الضد. فإنّ الضدين اللّذين بينهما تمانع في مرتبة واحدة، فيكون عدم أحدهما في رتبة الآخر، فكيف يكون ترك أحدهما مقدّمة للآخر؟!

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 516

.......... و ثانيا: أنّ مقدّمة الواجب ليس بواجب، لما قلنا في محلّه من عدم الحاجة إليه، لأنّه لو كان الأمر بذيها باعثا، فلا

حاجة إلى الأمر المقدّمي، لأنّه يأتي بها قهرا، و إن لم يكن باعثا، يكون الأمر بها غير باعث، لعدم ترتّب الثواب و العقاب عليه خصوصا إذا كان معرضا عن إتيان ذيها.

و ثالثا: إذا وجب ترك الشي ء (ترك الحجّ عن الغير)، فلا يكون فعله محرما فلا ينحلّ الأمر إلى أمر بالشي ء و النهي عن ضده.

و رابعا: انّ النهي التبعي الغيري النابع من الأمر بشي ء آخر، لما لم يكن كاشفا عن غضاضة في نفس الفعل، و مفسدة فيه، لا يكون كاشفا عن فساده، بخلاف النهي الأصلي النفسي، فلو تعلّق، يكون دليلا على فساده.

2. عدم الأمر بالحجّ عن الغير إذا وجب الحجّ عن نفسه، لا يمكن الأمر بالوفاء بعقد الإجارة الذي مفاده وجوب الحجّ عن الغير، لاستلزامه إيجاب الضدين في وقت واحد.

يلاحظ عليه أوّلا: كفاية المحبوبية للعلم القطعي، فإنّ الفرد المزاحم للحجّ عن النفس، مثل الفرد غير المزاحم من الاشتمال على الملاك و المحبوبية، و انّما سقط أمره لأجل رفع محذور إيجاب الضدين.

و ثانيا: إمكان الأمر بالحجّ عن الغير بنحو الترتّب، فهو مأمور بالحجّ عن نفسه، و إن نوى العصيان به وجب الحجّ عن الغير، و هذا ما يعبر عنه بالوجوب الترتبي. و ليس المراد من العصيان، العصيان الخارجي، لوضوح سقوط الأمر بالأهم حينئذ و اختصاص الزمان بالأمر بالمهم، بل المراد نيّة العصيان، فيكون الأمر الثاني فعليّا في ظرف فعلية الأمر الأوّل و مقتضاه الأمر بالضدين و لا محذور فيه، و إنّما المحذور الأمر بالجمع بين الضدين، و قد أوضحنا حال الترتب في الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 517

.......... الأصول و قلنا تبعا للمشايخ: إنّه يكفي في صحّته إمكانه، و بما انّ الضروريات تتقدر بقدرها، يكفي في

رفع التضاد، تقييد الأمر الثاني بعصيان الأمر الأوّل دون حاجة إلى سقوطه من رأس.

3. الزمان مختص بالحجّ عن نفسه إنّ الصرورة إذا استطاع يصبح الزمان خالصا لحجّه، غير قابل للحجّ عن غيره، نظير شهر رمضان الذي هو مخصوص لصوم شهره، و لا يجوز فيه أيّ صوم آخر.

يلاحظ عليه: بأنّ مجرد الفورية لا يوجب الاختصاص، بشهادة انّه إذا تركها في نفس السنة، يجب عليه في السنة اللاحقة، و هكذا، و هذا يرشدنا إلى أنّ الفورية غير الاختصاص.

4. الفساد مقتضى الصحيحين روى الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن سعد بن أبي خلف «1» قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام، عن الرجل الصرورة يحجّ عن الميت؟

قال: «نعم إذا لم يجد الصرورة، ما يحجّ به عن نفسه، فإن كان له ما يحجّ به عن نفسه فليس يجزي عنه حتّى يحجّ من ماله، و هي تجزي عن الميت إن كان للصرورة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 518

.......... مال و إن لم يكن له مال». «1»

وجه الدلالة بأنّ الضمير المجرور في قوله: «فليس يجزي عنه» يرجع إلى الميت.

يلاحظ عليه: أنّ الرواية على خلاف المقصود أدلّ، فإنّها ظاهرة في أنّ الحجّ يجزي عن الميت دون النائب، و ذلك لأنّ الضمير في قوله: «و لا يجزي عنه» يرجع إلى النائب دون الميت، و ذلك لأمرين:

أ. ملاحظة مجموع الجمل المؤلفة من المعطوف و المعطوف عليه، أعني قوله:

«فليس يجزي عنه حتّى يحجّ من ماله»، فإنّ الضمير الثاني «ماله» يرجع إلى النائب و كذا الأوّل.

ب. قوله: «و هي تجزي عن الميت» صريح في الإجزاء عن الميت، فيكون عدم الإجزاء في قوله «فليس يجزي عنه» راجعا إلى النائب.

صحيح سعيد بن عبد اللّه

الأعرج الثقة الذي رواه الشيخ الصدوق عنه بسند صحيح أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصرورة أيحجّ عن الميت؟ فقال: «نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحجّ به، فإن كان له مال فليس له ذلك حتّى يحجّ من ماله، و هو يجزي عن الميت كان له مال أو لم يكن مال». 2

يلاحظ عليه: أنّ قوله: «فليس له ذلك حتّى يحجّ من ماله» ظاهر في النهي التكليفي دون الوضعي بشهادة قوله بعده: «و هو يجزي عن الميت كان له مال أو لم يكن».

فإن قلت: لعلّ المراد من قوله: «و هي تجزي عن الميت» هو إجزاؤه عن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 519

.......... الميت بعد الحجّ عن نفسه بماله و إطلاق الصرورة عليه باعتبار ما كان عليه سابقا. «1»

قلت: إنّه خلاف الظاهر كما اعترف به أيضا صاحب الجواهر.

فإن قلت: إنّ هنا صورا ثلاثة:

1. نيابته عن الميت مع تمكّنه من حجّة الإسلام.

2. عدم خطابه بها، لجهله بالموضوع، أي الاستطاعة.

3. أو خطابه بها، في برهة و سقوطه بطروء التلف على المال.

فالنهي راجع إلى الصورة الأولى، و التجويز في الذيل ناظر إلى الصورتين الأخيرتين.

قلت: إنّ الظاهر انّ الرواية ناظرة إلى صورة واحدة، و الضمائر كلّها ترجع إلى الصرورة.

بقي هنا سؤال، و هو إذا كان حجّ الصرورة عن الغير صحيحا، سواء أكان له مال أو لا، فلماذا قال الإمام في جواب السائل: «نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحجّ به عن نفسه» مع أنّ المفروض بحكم ما ورد في الذيل صحّة حجّه عن الغير مطلقا، سواء أكان ذا مال أم لا؟

و يمكن الجواب: بأنّ القيد راجع إلى الحكم التكليفي و انّه يجوز و تحل له النيابة إذا كان

غير مستطيع لفورية وجوب الحجّ، و تأخيره بأي سبب كان حرام، و أمّا الحكم الوضعي- أي الصحّة- فليس رهن هذا القيد، فهو صحيح مطلقا.

و هنا وجه آخر أشار إليه الفيض في «الوافي» و هو أنّ نيابته عن الغير- مع الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 520

.......... صحّته عنه- إنّما يجزي عن نفسه أيضا إذا لم يكن له مال، و أمّا إذا كان له مال، فلا يجزي عن نفسه حتّى يحجّ عن نفسه بماله.

نعم إجزاؤه- عند النيابة- عن نفسه محدّد بما إذا لم يكن له مال، و أمّا لو استطاع فعليه الحجّ.

فقوله: «إذا لم يكن له مال» قيد لإجزائه عن نفسه أيضا بضميمة إجزائه عن غيره.

قال: لعلّ معنى قوله: «فليس يجزي عنه» ليس يجزي عن نفسه و إن أجزأ عن الميت يعني انّ حجّ الصرورة من مال الميت عن الميت، يجزي عن الميت، سواء أكان له مال أم لا، و لا يجزي عن نفسه إلّا إذا لم يجد ما يحجّ به عن نفسه، فحينئذ يجزي عنهما- أي يؤجران فيه- و لا ينافي هذا وجوب الحجّ عليه إذا أيسر، كما مضت الإشارة إليه في حديث آدم بن علي. «1»

5. شرطية «لا مال له» في النائب و يمكن الاستدلال على الفساد بما ورد في المستطيع العاجز عن مباشرة الحجّ بنفسه، من أنّه يبعث صرورة لا مال له.

ففي صحيح الحلبي: «فانّ عليه أن يحجّ عنه من ماله، صرورة لا مال له». «2»

و في خبر علي بن حمزة: «عليه أن يحجّ من ماله صرورة لا مال له». «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 521

و أمّا إذا لم يتمكن فلا إشكال في الجواز و الصحّة عن غيره، بل لا ينبغي الإشكال

في الصحة إذا كان لا يعلم بوجوب الحجّ عليه لعدم علمه باستطاعته مالا، أو لا يعلم بفورية وجوب الحجّ عن نفسه فحجّ عن غيره أو تطوعا. (1)*

و ربما يقال باشتمال الرواية بما لم يقل به أحد و هو شرطية كون النائب صرورة، و الظاهر انّها كناية عن فراغ ذمة النائب من الحجّ، لأنّ الغالب عليها هو ذلك، و لأجل التأكيد وصفه أيضا بقوله: «لا مال له».

و ظهور الرواية في الحكم الوضعي ممّا لا ينكر، فالاحتياط فيما إذا كان الحكم منجزا على النائب، كما في الصورة الأولى من الصور الثلاث المتقدمة لا يترك، مضافا إلى وجود الشهرة بين القدماء و المتأخرين.

(1)* أشار المصنّف إلى صور النيابة و ما هو مورد النزاع و ما ليس كذلك، فأشار إلى الصور الأربع:

الصورة الخارجة عن محلّ النزاع 1. إذا كان عالما بالوجوب و متمكنا من الامتثال.

2. إذا كان جاهلا بوجوب الحجّ عليه لأجل عدم العلم بالاستطاعة المالية.

3. إذا كان عالما به و لكن كان جاهلا بفوريته.

4. تلك الصورة و لكن لا يحجّ عن الغير بل عن نفسه تطوعا.

أقول: أمّا الفرع الأوّل، فهو القدر المتيقن لما استدلّ به على الفساد حيث إنّ الحكم فعلي، و أمّا الصور الباقية فليس الحكم فيها فعليا، إمّا لعدم العلم الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 522

.......... بالاستطاعة المالية، أو بفورية الوجوب فحجّ عن غيره أو عن نفسه تطوعا، و لذلك استظهر المصنّف الصحة، لعدم كون الوجوب فعليا: إمّا للجهل بالموضوع، أو بوصف الحكم، فيسقط الاستدلال بالمقدّمية، و هو أنّ ترك الضد مقدّمة للإتيان بالضد الآخر، لافتراض عدم فعلية حكمه، كما يسقط الاستدلال بالصحيحين، لأنّ موردهما هو فعلية الحكم.

نعم لو كان الدليل، هو اختصاص الوقت بالحجّ

عن نفسه فيعم الفساد عامة الصور لعدم صلاحية الزمان لغير الحجّ الوجوبي عن نفسه.

ثمّ إنّ الجهل بوصف الحكم، أعني: الفورية إنّما يكون عذرا إذا كان الجهل ناشئا عن القصور، لا عن التقصير، لأنّ الجاهل المقصّر غير معذور و الحكم في حقّه فعلي، بل يمكن أن يكون أنّ الجهل بالموضوع- أعني: الاستطاعة- أيضا كذلك. إلّا إذا فحص و تخيل عدمها.

فتلخّص: انّ الأحوط- لو لم يكن أقوى- فساد الحجّ عن الغير عند فعلية الحكم عن نفسه و صحته عند عدم فعليته كما في الصور الثلاث الأخيرة، و بذلك تمّ الكلام في الفرعين وحان البحث في الفرع الثالث، و هو صحّة الإجارة على القول بصحّة الحجّ، و إلّا فلا تصل النوبة إلى صحّة الإجارة و عدمها.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 523

ثمّ على فرض صحّة الحجّ عن الغير و لو مع التمكّن و العلم بوجوب الفورية لو أجّر نفسه لذلك، فهل الإجارة أيضا صحيحة أو باطلة، مع كون حجّه صحيحا عن الغير؟ الظاهر بطلانها، و ذلك لعدم قدرته شرعا على العمل المستأجر عليه، لأنّ المفروض وجوبه عن نفسه فورا، و كونه صحيحا على تقدير المخالفة لا ينفع في صحّة الإجارة خصوصا على القول بأنّ الأمر بالشي ء نهي عن ضدّه، لأنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه و إن كانت الحرمة تبعيّة. فإن قلت: ما الفرق بين المقام و بين المخالفة للشرط في ضمن العقد مع قولكم بالصحة هناك كما إذا باعه عبدا و شرط عليه أن يعتقه فباعه، حيث تقولون: بصحّة البيع، و يكون للبايع خيار تخلّف الشرط؟ قلت: الفرق أنّ في ذلك المقام المعاملة- على تقدير صحّتها- مفوّتة لوجوب العمل بالشرط، فلا يكون العتق واجبا بعد البيع،

لعدم كونه مملوكا له، بخلاف المقام حيث إنّا لو قلنا بصحّة الإجارة لا يسقط وجوب الحجّ عن نفسه فورا، فيلزم اجتماع أمرين متنافيين فعلا، فلا يمكن أن تكون الإجارة صحيحة، و إن قلنا: إنّ النهي التبعيّ لا يوجب البطلان، فالبطلان من جهة عدم القدرة على العمل لا لأجل النهي عن الإجارة. (1)*

(1)* في صحّة الإجارة و عدمها لا شكّ انّه لو قلنا ببطلان الحجّ عن الغير، مع وجوبه على النائب تبطل الإجارة لعدم تمكّنه من الوفاء بالعقد، إنّما الكلام إذا صحّ الحجّ عن الغير و الحال هذه، فيقع الكلام في صحّة الإجارة و عدمها، ذهب المصنف إلى بطلان الإجارة،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 524

.......... خلافا لبعض المعلّقين فقالوا بالصحة.

استدلّ المصنف بوجوه:

1. عدم القدرة شرعا يشترط في صحّة الإجارة، القدرة على تسليم العمل المستأجر عليه، و هي غير موجودة، لأنّ المفروض وجوب الحجّ عن نفسه فورا و لزوم صرف القدرة في الحجّ عن نفسه، و عندئذ لا يجوز صرفها في الحجّ عن غيره و الممتنع شرعا كالممتنع عقلا.

يلاحظ عليه أوّلا: أنّ المعتبر في صحّة العقد، هو القدرة العقلية، لا القدرة الشرعية، و إلّا يلزم بطلان الإجارة على كلّ عمل مضاد لواجب شرعي فلو آجر نفسه لخياطة أو حياكة أو عمل آخر لا يمكن معه أداء الدين الواجب، لزم بطلان الإجارة و هو كما ترى، و نظيره ما إذا باع متاعه و توقف تسليمه على التصرّف في مال الغير، صحّ البيع، و حرم التصرّف في أرض الغير، و نفذ التسليم بعد التصرف.

و ثانيا: وجود القدرة الشرعية بعد تسليم صحّة الترتب، حسب ما عرفت، حيث إنّه يكون مأمورا بالحجّ عن الغير في ظرف الانصراف عن الحجّ عن

نفسه.

2. كونه منهيا عنه بالنهي التبعي لو قلنا بأنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه الخاص، فيكون الحجّ عن الغير منهيا عنه، و حراما بالحرمة التبعية، فإذا حرم العمل، حرم ثمنه أيضا لقوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه».

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 525

.......... يلاحظ عليه: أنّ النهي المتعلّق بالمعاملة إنّما يلازم الفساد إذا تعلّق النهي بمضمون المعاملة، كالنهي عن بيع آلات اللهو و القمار، أو تعلّق بالتصرف في الثمن كقوله: ثمن المغنية سحت، و أمّا مطلق تحريم الشي ء فلا يلازم الفساد، كالنهي عن البيع وقت النداء.

سؤال و إجابة ثمّ إنّه قدّس سرّه أورد على نفسه بأنّه ما الفرق بين مخالفة الأمر في المقام و مخالفة الأمر في مقام آخر؟ أعني: إذا باع عبدا و شرط على المشتري أن يعتقه، فخالف المشتري فباعه حيث قالوا بصحّة البيع الثاني، و للبائع خيار تخلّف الشرط، مع أنّ كلا من الأجير و المشتري خالفا الأمر، حيث إنّ الأوّل خالف الأمر بالحجّ عن نفسه، و الثاني خالف الأمر بالإعتاق، و مع ذلك فلماذا بطلت الإجارة و صحّ البيع الثاني؟

و أجاب عنه المصنّف بأنّ صحّة البيع الثاني، فوّت وجوب العمل بالشرط، إذ لا عتق إلّا في ملك و المفروض انّه قد باعه و أخرجه من ملكه بخلاف المقام حيث إنّ صحّة الإجارة لا تسقط وجوب الحجّ عن نفسه فورا، فيلزم اجتماع أمرين متنافيين فعلا، فلا يمكن أن تكون الإجارة صحيحة و إن قلنا: إنّ النهي التبعي لا يوجب البطلان، فالبطلان من جهة عدم القدرة على العمل لا لأجل النهي عن الإجارة.

يلاحظ عليه: أنّه لا مانع من اجتماع أمرين متنافيين ما لم يؤدّ إلى الأمر بالجمع بينهما. و بما

انّ الأمر بالنيابة مشروط بعصيان الأمر الأوّل على نحو الشرط المتأخّر، فلا يلزم الأمر بالجمع بينهما.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 526

.......... بيان للسيد الخوئي في بطلان الإجارة يقول: إنّ الإجارة في المقام، إمّا تتعلّق بالحجّ مطلقا، أو تتعلّق به على فرض العصيان للحجّ الواجب على نفسه.

أمّا الأوّل فغير قابل للإمضاء، لأنّ المفروض انّ الأمر بالحجّ عن نفسه غير ساقط، و التكليف به باق على حاله، فكيف يأمره بإتيان الحجّ المستأجر عليه، و كيف تنفّذ الإجارة في عرض ذلك الواجب الأهم الذي لم يسقط الأمر به و الحكم بنفوذ الإجارة و صحتها، يستلزم الأمر بالضدين في عرض واحد.

و أمّا الثاني و هو تعلّق الإجارة على نحو التقييد بفرض العصيان، فأمر ممكن في نفسه، و لكنّه يبطل العقد من جهة التعليق.

و الحاصل: انّ الإنشاء المطلق غير قابل للإمضاء، و ما هو قابل له، و هو الإنشاء في فرض العصيان غير صحيح، لأنّه من التعليق الباطل. «1»

يلاحظ عليه: انّا نختار الشقّ الثاني لكن على وجه لا يلزم التعليق، و ذلك لأنّ تقييد وجوب الوفاء بالعقد، لم يرد في لسان دليل لفظي حتّى يكون وجوب الوفاء بالإجارة على نحو التقييد بفرض العصيان، بل إنّما هو من تصرّفات العقل لرفع التزاحم بين الوجوبين المطلقين، فيكفي في رفع التزاحم أن يخص الخطاب بالعاصي و يقول: «أيّها العاصي للحجّ عن نفسه حج عن الغير نيابة»، من دون حدوث تعليق في الإنشاء، و هذا هو المتعيّن حسب مدرسة المحقّق النائيني، حيث ذهب إلى أنّ كلّ شرط موضوع، و كلّ موضوع شرط، و الموضوع لوجوب الصلاة، هو المكلف العاصي للأمر بالإزالة فيحكم عليها بالوجوب، قال في مبحث الترتب:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص:

527

نعم لو لم يكن متمكنا من الحجّ عن نفسه يجوز له أن يؤجر نفسه للحجّ عن غيره، و إن تمكن بعد الإجارة عن الحجّ عن نفسه لا تبطل إجارته، بل لا يبعد صحّتها لو لم يعلم باستطاعته، أو لم يعلم بفورية الحجّ عن نفسه فأجّر نفسه للنيابة و لم يتذكّر إلى أن فات محلّ استدراك الحجّ عن نفسه كما بعد الفراغ أو في أثناء الأعمال. (1)*

«المقدّمة الثانية: انّ الواجب المشروط لا يخرج عمّا هو عليه بعد حصول شرطه، لأنّ شرائط التكليف كلّها ترجع إلى قيود الموضوع و الحكم المجعول على موضوعه لا ينقلب عمّا هو عليه، إذ لا يخرج الموضوع عن كونه موضوعا». «1»

و الحاصل: انّ ما ذكره إنّما يتمّ لو كان التقييد مأخوذا في لسان الدليل اللفظي بأن يقول: يجب الوفاء بالإجارة، إن عصيت، و لكن الأمر ليس كذلك، و الدليلان في كلا الطرفين لفظيان مطلقا، غاية الأمر، يرتفع التضاد بينهما، بالتصرف بأخذ العاصي في الموضوع دون طروء تعليق على الدليل.

(1)* في المقام فروع:

1. إذا كان مستطيعا و لم يحجّ و زالت الاستطاعة، و لم يتمكن من الحجّ عن نفسه، هل يجوز له أن يؤجر نفسه للحجّ عن غيره، و إن تمكن بعد الإجارة، بغير مال الإجارة؟

2. لو كان مستطيعا واقعا و لكن لم يعلم باستطاعته و آجر نفسه للحج عن الغير.

3. إذ كان عالما باستطاعته و لكن كان جاهلا بفوريته فآجر نفسه للنيابة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 528

.......... و لم يتذكر إلّا بعد فوت محل الاستدراك. «1»

أمّا الفرع الأوّل فلا شكّ في الصحّة إذا بقي على حالة العجز إلى آخر الأعمال، لانتفاء الأمر بالحجّ عن نفسه بانتفاء القدرة، إنّما الكلام إذا آجر

نفسه ثمّ تمكن بعد الإجارة بغير مالها، فقد أفتى المصنّف بصحّة الإجارة تبعا للدروس قال: و يشترط الخلو من حجّ واجب على النائب، إلّا أن يعجز عن الوصلة إليه فيجوز عند ضيق الوقت، و لا يقدح في صحتها تجدد القدرة. «2» و أورد عليه في «المستمسك» و غيره: بأنّ تجدّد القدرة يكشف عن عدم القدرة من أوّل الأمر، فيكشف عن بطلان الإجارة. «3»

و يمكن أن يقال: إنّه كون المورد جامعا للشرائط حدوثا، موضوع لوجوب الوفاء به دائما- أي حدوثا و بقاء- فإذا شمله قوله سبحانه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «4»، لأجل كونه جامعا للشرائط حدوثا يبقى حجة إلى أن يدلّ دليل على الخلاف، و توهم انّ الشمول مشروط ببقاء عجزه، مردود بأنّ لازمه عدم صحّة العقد على سبيل الجزم إلّا بعد إحراز عجزه بقاء و هو كما ترى، فإنّه يستأجر و إن لم يعلم مصير الأجير من حيث بقاء العجز و عدمه.

و بذلك يعلم ضعف ما ربما يقال: و العبرة في صحّة الإجارة، بمشروعية العمل حال العمل و زمانه لا حال الإجارة، فإن كان العمل حال الإيجار جائزا و عند العمل غير جائز، بطلت الإجارة من الأوّل. «5»

و ذلك لأنّ ظاهره انّ طروء التمكن يكشف عن كون الإيجار كان عملا غير

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 529

.......... جائز، مع أنّه جائز حينه لوجود الشرط- أي العجز- و ليس علمه سبحانه بأنّه سوف يتمكّن موضوعا للحكم حتّى يكون مانعا من صحّة العقد.

نظيره إذا آجر داره سنة ثمّ مات بعد أشهر، فالإجارة صحيحة بقاء و إن كان الموجر فاقدا للشرائط عند موته، لكن يكفي كونه واجدا له حين العقد، فيشمل إطلاق وجوب الوفاء بالعقد، إلى نهاية الأجل، و إن

فقد بعض الشرائط بعد الأشهر، فكونه جامعا للشرائط حين العقد يضفي عليه وصف المشروعية إلى نهاية العمل، و ليس علمه سبحانه بعدم كونه واجدا للشرط في المستقبل موضوعا للحكم حتّى يكون مانعا عن صحّة العقد.

و أمّا الفرع الثاني، أعني: إذا آجر نفسه مع الجهل بالاستطاعة، جهلا يكون الفاعل معه معذورا، كما إذا تفحص عن الاستطاعة و لم يحصل له العلم بها أو حصل العلم بعدمها، فلا يكون محكوما لوجوب الحجّ عن نفسه لمعذرية الجهل فيجوز إيجاره للحجّ عن غيره، لعدم فعلية الحجّ عن نفسه في مورده.

و مثله الفرع الثالث، أعني: الجهل بفورية الوجوب جهلا، فهو يعدّ عذرا معذّرا، كما إذا كان جاهلا قاصرا فالحجّ عن الغير يكون صحيحا إذا بقي الجهل إلى الفراغ من العمل أو أثنائه إذا فات محل الاستدراك.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 530

ثمّ لا إشكال في أنّ حجّه عن الغير لا يكفيه عن نفسه، بل إمّا باطل كما عن المشهور، أو صحيح عمّن نوى عنه كما قوّيناه، و كذا لو حجّ تطوّعا لا يجزيه عن حجّة الإسلام في الصورة المفروضة، بل إمّا باطل أو صحيح و يبقى عليه حجّة الإسلام، فما عن الشيخ من أنّه يقع عن حجّة الإسلام لا وجه له، إذ الانقلاب القهريّ لا دليل عليه و دعوى أنّ حقيقة الحجّ واحدة، و المفروض إتيانه بقصد القربة، فهو منطبق على ما عليه من حجّة الإسلام، مدفوعة بأنّ وحدة الحقيقة لا تجدي بعد كون المطلوب هو الإتيان بقصد ما عليه، و ليس المقام من باب التداخل بالإجماع، كيف و إلّا لزم كفاية الحجّ عن الغير أيضا عن حجّة الإسلام؟ بل لابدّ من تعدّد الامتثال مع تعدّد الأمر وجوبا و ندبا،

أو مع تعدّد الواجبين. و كذا ليس المراد من حجّة الإسلام الحجّ الأوّل- بأيّ عنوان كان- كما في صلاة التحيّة و صوم الاعتكاف، فلا وجه لما قاله الشيخ قدّس سرّه أصلا، نعم لو نوى الأمر المتوجّه إليه فعلا و تخيّل أنّه أمر ندبيّ غفلة عن كونه مستطيعا أمكن القول بكفايته عن حجّة الإسلام، لكنّه خارج عمّا قاله الشيخ. (1)*

(1)* حجه عن الغير، يجزي عن نفسه إذا حجّ عن الغير، أو حجّ عن نفسه تطوعا، مع وجوبه عليه، فلو قلنا ببطلان الحجّ، كما هو المشهور فلا كلام، و أمّا لو قلنا بمقالة المصنّف من صحته، فتارة يقع الكلام في الحجّ عن الغير و أخرى في الحجّ عن نفسه تطوعا.

أمّا الأوّل فمقتضى القاعدة وقوعه حسب ما نوى، أي يقع عن الغير، لأنّ الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 531

.......... الأعمال بالنيات، كما أنّه لو صلّى عن الغير، تقع الصلاة له، لا لنفسه، و القول بالانقلاب القهري، بمعنى وقوعه عن نفسه يحتاج إلى دليل.

و أمّا الثاني فالظاهر من الشيخ في «المبسوط» هو إجزاء الحجّ التطوعي عن حجّة الإسلام، إذا كان مستطيعا حين العمل حيث قال: و لا يجوز له أن يحجّ تطوعا، فإن تطوع وقعت عن حجّة الإسلام. «1»

و استدلّ له بأنّ حقيقة الحجّ واحدة و المفروض إتيانه بقصد القربة، فهو منطبق على ما عليه من حجّة الإسلام.

و أورد عليه المصنّف بوجهين:

1. انّ وحدة الحقيقة لا تجدي بعد كون المطلوب هو الإتيان بقصد ما عليه، و المفروض انّه لم يقصد ما عليه من حجّة الإسلام، بل قصد ما ليس عليه.

2. ليس المقام من باب التداخل بالإجماع، كيف و إلّا لزمت كفاية الحجّ عن الغير أيضا عن حجة الإسلام،

بل لابدّ من تعدد الامتثال، مع تعدد الأمر وجوبا و ندبا و كذا مع تعدد الواجبين.

و وافقه السيد الخوئي و قال في توضيح الوجه الأوّل: إنّ الأمر الندبي متوجه إلى شخص، و الوجوبي إلى شخص آخر، و ليس شخص واحد يتوجه إليه الأمران. «2»

أقول: للفرع صور:

1. لو علم بأنّ واجبه هو حجّة الإسلام لا الحجّ التطوعي، و مع ذلك قصد الثاني تشريعا، فلا شكّ في كونه باطلا و لا يقع عن حجّة الإسلام لعدم قصده، و لا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 532

.......... تطوعا لحرمته و مبغوضيته.

2. لو قصد الأمر الفعلي المتوجه إليه، و تخيل أنّه الأمر التطوعي على نحو لو كان واقفا على خطئه لقصد الأمر الوجوبي، فيكون المقام من قبيل الخطأ في التطبيق، و يصحّ العمل و يقع عن حجّة الإسلام، و هذا هو الذي طرحه المصنّف في المسألة 26 حيث قال: إذا اعتقد أنّه غير مستطيع فحجّ ندبا، فإن قصد الأمر المتعلق فعلا و تخيل انّه الأمر الندبي، أجزأ عن حجة الإسلام، لأنّه حينئذ من باب الاشتباه في التطبيق.

3. إذا قصد الأمر الندبي لا من باب التشريع و لا من باب الخطأ في التطبيق، بل اشتباها كالجاهل بوجوب الحجّ فورا حيث يقصد التطوع في السنة الأولى، بداع من الدواعي كالتدريب في هذه السنة، حتّى يقوم بالأمر الواجب في السنة الثانية، فهل يكفي عن حجّة الإسلام أو لا؟ و هذا هو محط البحث.

و الظاهر الصحة: لما مرّ منّا في المسألة 26، لأنّ الحجّ الواجب و المستحب طبيعة واحدة و إنّما الاختلاف في ناحية الشروط، فالواجب مشروط بالاستطاعة الشرعية دون المستحب هذا أوّلا، و هو بقصد الأمر التطوعي يريد كسب رضاه سبحانه و التقرب

به إليه لكنّه يتخيل انّه يمكن التقرب بالأمر الندبي ثانيا. و هذا المقدار من القصد يكفي في صحّة العبادة، لأنّ التقرب المعتبر في العبادة حاصل و هو كاف في الصحّة.

و إن شئت قلت: حجّ الإسلام ليس إلّا الذي يصدر من المكلّف بقصد نفسه في سنة الاستطاعة، و هذا ينطبق على المورد نظير صلاة التحية تنطبق على الصلاة التي يأتي بها المصلي بعد الدخول في المسجد، سواء أكانت فريضة أو نافلة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 533

ثمّ إذا كان الواجب عليه حجّا نذريّا أو غيره و كان وجوبه فوريّا، فحاله ما ذكرنا في حجّة الإسلام من عدم جواز حجّ غيره، و أنّه لو حجّ صحّ أو لا، و غير ذلك من التفاصيل المذكورة بحسب القاعدة. (1)*

و ما ذكره من أنّه لو صحّ في المقام لصحّ في المقام الأوّل- أي إذا حجّ عن الغير- غير تام، لوجود الفرق بين المقامين، لأنّ قصد النيابة مانع عن وقوعه لنفسه، بخلاف المقام فانّه قصد الحجّ لنفسه لكن بقصد الأمر التطوعي، و هو عند ذاك قاصد التقرب إلى اللّه و كسب رضاه، و هذا كاف و إن كان قصد خصوص الأمر غير لازم.

(1)* و منه يظهر حال الحجّ النذري بلا حاجة إلى التفصيل.

الفصل الثالث في الحجّ الواجب بالنذر و العهد و اليمين

[في ذكر المعانى النذر و العهد و اليمين لغة و اصطلاحا]

في الحجّ الواجب بالنذر و العهد و اليمين و يشترط في انعقادها: البلوغ، و العقل، و القصد، و الاختيار. فلا تنعقد من الصبيّ و إن بلغ عشرا و قلنا بصحّة عباداته و شرعيّتها، لرفع قلم الوجوب عنه؛ و كذا لا تصحّ من المجنون، و الغافل، و الساهي، و السكران، و المكره. (1)*

(1)* و قبل الخوض في بيان شرائط الناذر و الحالف و العاهد نذكر معاني الألفاظ الثلاثة لغة

و اصطلاحا.

النذر لغة و اصطلاحا النذر لغة: هو الوعد كما في «مجمع البحرين». و في «القاموس»: النذر هو النحب و فسر النحب بالوعد. و في المقاييس: «النذر بمعنى الخوف»، و يشهد له موارد في الكتاب العزيز، كقوله سبحانه: وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ. «1»

و أمّا اصطلاحا فهو التزام المكلّف بفعل أو ترك متقرّبا إلى اللّه كأن يقول: إن عافاني اللّه فللّه عليّ صدقة، أو صوم ممّا يعدّ طاعة، و لأجل ذلك اشترط في متعلّق الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 538

.......... النذر، الرجحان، ليصحّ التقرّب به، كما إذا كان واجبا أو مستحبّا و لا يكفي كونه مباحا بالمعنى الخاصّ.

و عرّفه في «الدروس» بأنّه التزام الكامل، المسلم، المختار، القاصد، غير المحجور عليه، بفعل أو ترك بقوله: للّه ناويا القربة. «1»

و على ضوء ما ذكرنا من التعريف فحقيقة النذر عبارة عن تعليق فعل الأمر الراجح على تحقّق أمر، فلا يكون النذر إلّا معلّقا، و يؤيّده قوله سبحانه: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً «2»، أي أوجبت لك- إن كان ما في بطني ذكرا- أن أجعله محررا خادما للبيعة، و لمّا وضعتها أنثى و هي لا تصلح للخدمة لما يلحقها من الحيض و النفاس قالت كما جاء في الآية: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى «3»

فالنذر كان معلّقا لا مطلقا.

و أمّا قوله سبحانه مخاطبا مريم فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا «4»، فالمراد من الصوم هو الصمت، أي أوجبت على نفسي للّه أن لا أتكلم، و هو محمول على النذري اللغو، أي العهد، و يحتمل أن يكون الشرط مقدّرا، أي نذرت إن كلّمني أحد في أمر ولدي أن أقول له: إنّي نذرت

للرحمن صوما.

و لذلك ذهب المرتضى إلى بطلان النذر المطلق، طاعة كان أو معصية، و قال: إنّ العرب لا تعرف من النذر إلّا ما كان معلّقا، كما قاله «تغلب» و الكتاب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 539

.......... و السنّة وردا بلسانهم، و النقل خلاف الأصل، و كأنّه لأجل ذلك يقول صاحب القاموس: النذر ما كان وعدا على شرط: «فعليّ إن شفى اللّه مريضي كذا»، و [أمّا] «عليّ أن أتصدّق بدينار»، فليس بنذر.

اليمين لغة و اصطلاحا اليمين لغة: هي الجارحة، و المراد به في المقام هو الحلف، و وجه استعمالها فيه هو أنّ القوم إذا تحالفوا ضرب كلّ واحد منهم يمينه على يمين صاحبه. و قيل:

هو مأخوذ من اليمين بمعنى القوّة كما في قوله سبحانه: وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ»

، لأنّ الشخص به يتقوّى على فعل ما يحلف على فعله، و ترك ما يحلف على تركه. «2»

و أمّا اصطلاحا فهو الحلف باللّه أو أسمائه الخاصّة على فعل شي ء في المستقبل أو تركه كذلك، كما تقول: و اللّه لأفعلنّ أو و اللّه لا أفعله، و لا يشترط في متعلّقه الرجحان، بل يكفي كونه مباحا في مقابل كونه مكروها أو حراما، فخرج عن موضع البحث أمران:

1. الحلف باللّه أو أسمائه الخاصّة لإثبات نفي شي ء، سواء كان فعل المتكلّم أو غيره في الماضي أو إثباته كذلك.

2. الحلف في المحاكم على إبطال دعوى المدّعي.

و هذان الأمران خارجان عن محطّ البحث، و بذلك يظهر الخلل في تعريف الموسوعة الكويتية بالنحو التالي: اليمين اصطلاحا تحقيق أمر غير ثابت، ماضيا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 540

.......... كان أو مستقبلا، نفيا أو إثباتا، ممكنا أو ممتنعا، مع العلم بالحال أو الجهل به. «1» فإنّ هذا

التعريف يعمّ مورد البحث و غيره فإنّ ما هو محطّ للبحث، عبارة عن الحلف على فعل شي ء ممكن أو تركه في المستقبل، و أين هذا ممّا في هذا التعريف؟!

العهد لغة و اصطلاحا العهد لغة: الوصية، و اليمين و الأمان و الذمّة. «2»

و أمّا اصطلاحا فهو و النذر بمعنى واحد، و يقال في العهد: عاهدت اللّه أنّه متى كان كذا فعليّ كذا، أو يقال: عليّ عهد لأفعلنّ كذا. «3»

و على كلّ تقدير فهذه الصيغ الثلاث كلّها إنشاء لا إخبار، فإنّ الناذر و أخويه ينشئون التعهّد للفعل أو الترك، حتّى أنّ قوله: «و اللّه لأفعلن كذا» ليس إخبارا عن الفعل في المستقبل على وجه لو لم يفعل لعاد كاذبا، بل هو إنشاء تعهّد أو إنشاء وعد أو وعيد. و إن أردت الفرق بين الإخبار و الإنشاء فلاحظ ما هو المتبادر من التعبيرين في التاليين:

1. بعت الكتاب أمس.

2. بعتك الكتاب.

فإنّ الأوّل يحكي عن واقعة خارجية، يحتمل الصدق و الكذب.

و أمّا الثاني فإنّما هو بصدد إيجاد أمر اعتباري أو اتّفاق بين المتكلّم

[الكلام في شرائط الناذر و الحالف و العاهد]

[الأول و الثاني و الثالث و الرابع البلوغ و العقل و القصد و الاختيار]

.......... و المخاطب، يترتّب عليه- بعد الإيجاد- أحكام تكليفية من لزوم قبض المثمن، و إقباض الثمن، و مثل هذا لا يقبل الصدق و الكذب، لأنّه بنفس الاستعمال يوجد بلا تريث.

و إن شئت قلت: إخبار عن التزامه القلبي بأن يفعل أو لا يفعل، و هذا الأمر لا يقبل الصدق و الكذب، إذ ليس للتعهد القلبي وراء الذهن واقع يطابقه أو لا يطابقه، بل أمره دائر بين الوجود و العدم. و على ذلك فلو كان الفعل وعدا كان العمل به حسنا و التخلّف قبيحا، و إن كان وعيدا لا يعدّ التخلّف قبيحا، بل يعدّ عفوا؛ خلافا للمعتزلة، حيث أوجبوا

العمل بالوعيد كإيجاب العمل بالوعد، و قد أوضحنا حاله في موسوعتنا في الملل و النحل. «1»

يقول الشاعر:

و إنّي إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي و منجز موعدي إذا عرفت هذه المقدمة فلنعد إلى شرح المتن، فنقول:

الكلام في شرائط الناذر و الحالف و العاهد يعتبر في صحّة النذر و أخويه- اليمين و العهد- أمور أربعة:

1. البلوغ، خرج الصبي.

2. العقل، خرج المجنون.

3. القصد، خرج الغافل و الساهي و السكران.

4. الاختيار، خرج المكره.

يقول المحقّق: و يعتبر فيه- الحالف-: البلوغ، و كمال العقل، و الاختيار،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 542

.......... و القصد. فلا ينعقد: يمين الصغير، و لا المجنون، و لا المكره، و لا السكران، و لا الغضبان إلّا أن يملك نفسه. «1»

و قال: «أمّا الناذر فهو: البالغ، العاقل، المسلم». «2»

و إليك دراسة اعتبار الأمور الخمسة التي صرّح بها المصنّف في المتن.

1. العقل: خرج المجنون، لأنّ العقل من الشرائط العامّة للتكاليف نظير القدرة و العلم، فالحكم بانعقاد النذر، نوع تكليف، و المفروض أنّه دون التكليف.

2. القصد: خرج الغافل و الساهي و السكران و الهازل، و ذلك لأنّ النذر و العهد، من مقولة الإنشاء و هو فرع القصد، بل هو قائم به.

3. الاختيار: خرج المكره، لحديث الرفع «3»، و ما ذكره مبنيّ على أنّ المكره، غير مختار، و هو خلاف التحقيق، بل الحقّ أنّه مختار، حيث إنّه يرجّح أحد الطرفين على الآخر باختيار، لما يرى من أنّ مفسدة المخالفة، أعظم من مفسدة العمل الصادر منه عن إكراه، فيقدّم الثاني على الأوّل.

نعم يمكن أن يقال: انّه غير مختار عرفا و إن كان مختارا عقلا.

4. البلوغ: خرج الصبي فلا ينعقد نذره و لا يمينه، و يمكن تقريبه بوجهين:

الأوّل: إنّ تحديد التكاليف

في عامّة الحضارات و المجتمعات عامّة، و الإسلام خاصة بالبلوغ، دليل على عدم الاعتداد بالتزامات غير البالغ و تعهّداته في مجالات النكاح و الطلاق و النذر و اليمين و العهد، فالأصل عدم ترتّب الأثر على الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 543

.......... نذره و عهده و يمينه، إلّا أن يقوم دليل على خلافه.

الثاني: ما رواه عبد اللّه بن جعفر في «قرب الإسناد» عن علي بن السنديّ (الموثّق برواية الكشي)، عن أبي البختري (الذي ينقل عنه ابن أبي عمير)، عن جعفر عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام، عن علي عليه السّلام أنّه كان يقول في المجنون و المعتوه الذي لا يفيق، و الصبي الذي لم يبلغ: عمدهما خطأ، تحمله العاقلة، و قد رفع عنهما القلم. «1»

إنّ هذا الحديث يشتمل على جمل ثلاث:

1. عمدهما خطأ.

2. تحمله العاقلة.

3. و قد رفع عنهما القلم.

فالجملة الأولى جملة مطلقة تدلّ على أنّ عمد الصبيّ كلا عمد، و قصده كلا قصد، فوجوده كالعدم، من غير فرق بين باب الجنايات و المعاملات و غيرهما.

و ذكره في باب القصاص في كتب الحديث لا يكون دليلا على اختصاصه به، بل هو مطلق يعمّ الأبواب كلّها، فإذا كان الأثر مترتبا على الفعل الصادر عن قصد و عمد، فلو صدر ذلك الفعل عن الصبيّ، فكأنّه صدر عن غير القاصد، فلا يترتب عليه ذلك الأثر.

و قد عرفت أنّ القصد أحد شرائط انعقاد النذر، و صحّته.

نعم ربما يكون الأثر مترتبا على نفس الفعل الصادر عن الإنسان، بلا شرطية القصد، كدية الجنايات و لذلك استدرك الإمام و قال: «تحمله العاقلة»،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 544

.......... و ذلك لأنّ كلّ خطيئة صدرت عن شخص بالغ- خطأ و بلا قصد- تحمله

العاقلة و لمّا كان عمد الصبيّ خطأ يلحق بها عمده فتحمله العاقلة أيضا.

ثمّ إنّه عليه السّلام ذيّل كلامه بقوله: «و قد رفع عنهما القلم» فهل المراد رفع قلم المؤاخذة أو قلم التكليف؟ الظاهر هو الثاني، لأنّ رفع المؤاخذة فرع رفع القلم، فلا معنى لرفعها بدون رفع التكليف.

و بذلك يعلم أنّ تخصيص بعض الأجلّة الحديث بباب الجنايات اغترارا بالجملة الثانية أو بذكر الرواية في كتاب القصاص، ليس بتامّ. فإطلاق الجملة الأولى حجّة ما لم يدلّ دليل على خلافه. و تكون النتيجة: أنّ كلّ أثر مترتّب على الفعل الصادر عن القاصد لو صدر عن الصبيّ فهو نظير الفعل الصادر عن غير القاصد.

إلى هنا تمّت أدلّة الشروط الأربعة و بقي الكلام في اعتبار الشرط الخامس و هو الإسلام.

[الخامس الإسلام

و الأقوى صحّتها من الكافر. وفاقا للمشهور في اليمين، خلافا لبعض، و خلافا للمشهور في النذر، وفاقا لبعض. و ذكروا في وجه الفرق:

عدم اعتبار قصد القربة في اليمين، و اعتباره في النذر، و لا تتحقّق القربة في الكافر. و فيه أوّلا أنّ القربة لا تعتبر في النذر، بل هو مكروه، و إنّما تعتبر في متعلّقه حيث إنّ اللازم كونه راجحا شرعا. و ثانيا: أنّ متعلّق اليمين أيضا قد يكون من العبادات. و ثالثا: أنّه يمكن قصد القربة من الكافر أيضا.

و دعوى عدم إمكان إتيانه للعبادات لاشتراطها بالإسلام مدفوعة: بإمكان إسلامه، ثمّ إتيانه، فهو مقدور لمقدوريّة مقدّمته، فيجب عليه حال كفره كسائر الواجبات، و يعاقب على مخالفته، و يترتّب عليها وجوب الكفّارة، فيعاقب على تركها أيضا، و إن أسلم صحّ إن أتى به، و يجب عليه الكفّارة لو خالف. و لا يجري فيه قاعدة جبّ الإسلام، لانصرافها عن المقام. نعم لو

خالف و هو كافر، و تعلّق به الكفّارة فأسلم، لا يبعد دعوى سقوطها عنه كما قيل. (1)*

(1)* 5. الإسلام المشهور بين فقهائنا أنّ اليمين تصحّ من الكافر، و لكن لا يصحّ النذر منه، ففرّقوا بين اليمين و النذر، فقالوا بصحّة انعقاد اليمين من الكافر و عدم صحّة انعقاد النذر منه، و الفرق هو عدم توقّف اليمين على القربة و توقّف النذر عليه، و هي متعذّرة منه.

1. قال الشيخ: «الكافر يصحّ يمينه باللّه في حال كفره، فإن حنث فعليه الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 546

.......... الكفّارة، سواء حنث في حال كفره أو بعد أن يسلم، و قال بعضهم: لا تنعقد يمينه باللّه، و لا تجب عليه الكفّارة، و لا يصحّ منه التكفير. و الأقوى عندي الأوّل، إلّا أنّه لا تصحّ منه الكفّارة في حال كفره، لأنّها تحتاج إلى نيّة القربة، و هي لا تصحّ من كافر، لأنّه غير عارف باللّه. «1»

هذا و لم يذكر شرطية الإسلام في باب النذر.

2. و أمّا في «الخلاف» فقد ذكر في صدر المسألة عدم انعقاد يمين الكافر، و قال: لا تنعقد يمين الكافر باللّه، و لا يجب عليه الكفّارة بالحنث، و لا يصحّ منه التكفير بوجه. و به قال أبو حنيفة. و قال الشافعي: تنعقد يمينه و تلزمه الكفّارة بحنثه، سواء حنث حال كفره أو بعد إسلامه.

ثمّ ذكر استدلال الشافعي على الانعقاد بالتمسك بالظواهر و الأخبار و حملها على عمومها، فقال بعد ذلك: و هو قويّ يمكن اعتماده بأن يقال: إنّ اليمين تصحّ ممّن يعتقد اللّه، و يصحّ القربة و إن لم يكن عارفا، و لأجل هذا تصحّ أيمان المقلّدة و العامّة، و تنعقد و تصحّ منهم الكفّارة و إن

لم يكونوا عارفين باللّه تعالى على الحقيقة. «2»

و ليس للشيخ نصّ في باب النذر من كتاب الخلاف في شرطية الإسلام و عدمها فيه.

و منه يظهر أنّ نسبة المنع إلى الشيخ في الشرائع في مورد اليمين- كما يأتي- ناظر إلى صدر كلامه دون ذيله.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 547

.......... 3. قال المحقّق: و تصحّ اليمين من الكافر كما تصحّ من المسلم، و قال في الخلاف: لا تصحّ. «1»

و قال أيضا في كتاب النذر: فلا يصحّ من الصبيّ، و لا من المجنون، و لا من الكافر لتعذّر نيّة القربة في حقّه و اشتراطها في النذر. لكن لو نذر فأسلم، استحبّ له الوفاء. «2»

4. و قال ابن سعيد الحلّي: لا ينعقد يمين الصبيّ و المعتوه و النائم و السكران و المكره و الناسي و اللاغي. «3» و لم يذكر شيئا من الإسلام و الكفر في كتاب اليمين، كما سكت عنه في كتاب النذر.

5. و قال العلّامة في «الإرشاد»: و تنعقد (اليمين) من الكافر. «4»

6. و قال في كتاب النذر: و شرطه: البلوغ، و العقل، و الإسلام. «5»

و على ضوء ذلك فهو فرّق تبعا للمحقّق بين اليمين و النذر، خلافا لابن سعيد، فهو سوّى بينهما حيث سكت عن الشرطية في كلا البابين.

7. و قد تقدّم عن الشهيد أخذ المسلم في تعريف النذر و رتّب عليه قوله:

«و يستحبّ الوفاء بنذر الكافر إذا أسلم» و لم يذكر في باب اليمين شرطية الإسلام.

8. و قال في «الجواهر» عند قول المحقّق: «و يصحّ اليمين من الكافر»: و إن كان كفره بجحود الخالق كما عن الشيخ و أتباعه، و أكثر المتأخّرين لإطلاق الأدلّة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 548

.......... و عمومها كتابا و

سنّة. «1»

و قال في كتاب النذر عند كلام المحقّق: «و لا من الكافر لتعذر نية القربة في حقّه»: باعتبار شرطية الإيمان بصحّة عبادته، و الفرض عدمه، فلا يتصوّر فيه نيّة القربة، إذ ليس المراد منها أفعل كذا قربة إلى اللّه و إن لم يكن الفعل مقرّبا له، و من هنا لم أجد خلافا في عدم صحّته منه بين أساطين الأصحاب كما اعترف به في الرياض. «2»

فاتّضح بما ذكرنا أنّ المشهور عند جمع من الأصحاب هو صحّة يمين الكافر وفاقا للشافعي و عدم صحّة نذره، و ليس في المسألة إجماع لا في جانب اليمين جوازا و لا في جانب النذر منعا، فلندرس حكم يمين الكافر و نذره واحدا بعد الآخر.

1. صحّة يمين الكافر الأقوى صحّة يمين الكافر إذا قلنا بأنّ الكافر مكلّف بالفروع كما هو مكلّف بالأصول، و يكفي في ذلك.

1. إطلاقات الكتاب و السنّة، مثل قوله سبحانه: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 549

.......... و كون الخطاب للمؤمنين، لا يمنع من التمسّك به بعد كون الكفّار محكومين بمفاد الآية.

2. و صحيح الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أهل الملل يستحلفون؟ فقال: «لا تحلّفوهم إلّا باللّه عزّ و جلّ». «1»

فإن قلت: إنّ مفروض المسألة هو اليمين على الفعل أو الترك في المستقبل، و لا صلة له باستحلافهم في مقام الدعوى فجواز الاستحلاف في الثاني لا يكون

دليلا على انعقاد يمينهم في الأوّل.

قلت: إذا قلنا بصحّة يمينهم في الدعاوي المتضمّنة باستحلال الأنفس و الأعراض و الأموال، فيكون المقام أولى بالصحّة.

نعم لو كان الكافر منكرا للخالق و عوالم الغيب، فالأدلّة منصرفة عنه، من غير فرق بين مقام الاحتكام و هذا المقام، لأنّ منصرف الأدلّة في باب الأيمان هو من يعتقد قداسته للمحلوف به حتّى يتضايق بالحلف به فلا يحلف إلّا إذا كان صادقا في مقام الدعوى أو إذا حلف فلا يحنثه، و أمّا المنكر للخالق، فلا معنى لإحلافه كما لا معنى ليمينه.

و ما ذكرناه هو الظاهر من صاحب المدارك في شرحه على المختصر النافع الذي ألّفه كالتكملة لكتاب أستاذه- المحقّق الأردبيلي- أعني: «مجمع الفائدة» فقال معلّقا على قول المحقّق: «و تصحّ اليمين من الكافر» ما هذا لفظه: الأصحّ وقوع اليمين من الكافر إذا كان مقرّا باللّه تمسّكا بالإطلاق و صحيحة الحلبي الماضية. «2»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 550

.......... و قد تبعه صاحب الرياض و قال: لاختصاصه- دليل النافي- بمن لا معرفة له باللّه تعالى دون من يعرفه فلابدّ من التفصيل بينهما بالانعقاد في الثاني دون الأوّل، كما في المختلف و التنقيح و المسالك. «1»

فلو قلنا بانعقاد يمين الكافر فاعلم أنّ المحلوف عليه لا يخلو من قسمين:

1. ما يتوقّف صحّة فعله على الإسلام كالعبادات، فعليه أن يسلم أوّلا ثمّ يأتي به على القول بعدم سقوطه في حال الإسلام و عدم شمول الجبّ لهذا النوع من الفرائض التي فرضها المكلّف على نفسه دون اللّه سبحانه كديونه و إلّا يسقط بالإسلام.

2. ما لا تتوقف صحّته على الإسلام، كخدمة الأيتام و دفع عيلة الفقراء، فعندئذ يجزي فعله في حال الكفر أيضا.

إلى هنا تمّ الكلام في يمين

الكافر و صحّة انعقاده و كيفية الخروج عن عهدة يمينه، فلنعد إلى الفرع الآخر.

2. نذر الكافر صحّة و بطلانا قد عرفت أنّ المشهور عند جمع من علمائنا أنّ الإسلام شرط لانعقاد النذر، و قد مرّ بعض الكلمات. إنّما الكلام في دليله، و بما أنّ المحقّق هو أحد المفصّلين بين اليمين و النذر نأت بكلامه، قال: و يشترط مع الصيغة، نيّة القربة، فلو قصد منع نفسه بالنذر لا للّه لم ينعقد.

ثمّ قال في الفصل الثاني: و أمّا متعلّق النذر فضابطه أن يكون طاعة، مقدورا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 551

.......... للناذر. فهو إذن مختص بالعبادات: كالحجّ، و الصوم، و الصلاة، و الهدي، و الصدقة و العتق. «1»

و على كلّ تقدير فقد استدلّ المصنّف على بطلان نذر الكافر بوجهين:

1. اعتبار قصد القربة في إنشاء النذر.

2. كون المتعلّق أمرا عباديّا أو قربيّا.

و الأمران لا يصحّان منه.

و قد أجاب عنهما المصنّف بوجوه:

1. لا يعتبر في إنشاء النذر قصد القربة، بل هو مكروه. «2»

2. و لا يعتبر في متعلّقه أيضا سوى كونه أمرا راجحا.

3. إنّ متعلّق اليمين أيضا قد يكون من العبادات، فكيف قلتم بالصحّة فيها مطلقا؟

4. تمشّي قصد القربة من الكافر.

إن قلت: إنّ الكافر غير متمكّن من إتيان المتعلّق إذا كان عباديّا، فكيف يكلّف بوجوب الوفاء؟

قلت: الإشكال مشترك بين النذر و اليمين إذا حلف بالعبادة أو بأمر قربيّ- كما مرّ- و كيفية الوفاء هو أنّه مكلّف به بتقديم الإسلام، فلو مات كافرا يعاقب.

و إن أسلم فإن قلنا بشمول قاعدة الجب لمثل النذر فيسقط و إلّا يجب عليه الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 552

.......... الإتيان بالمنذور به.

هذا كلام المصنّف.

أقول: يقع الكلام تارة في اعتبار قصد القربة في صحّة إنشاء

الصيغة و أخرى في اعتباره في متعلّقه.

أمّا الأوّل: إن منع اعتبار قصد القربة في صيغة النذر أمر غير تامّ، لأنّ النذر من الأمور الرائجة في الشرائع السابقة و الناذر في الجميع يقصد به التقرب إلى اللّه سبحانه و يشهد على ذلك قول امرأة عمران: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً «1»، كما أنّه سبحانه يأمر مريم أن تقول: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا «2» إنّ اللّام في قوله: «للّه» أو «للرحمن» يحتمل أحد وجهين:

1. أن يكون اللّام للتمليك كأنّ العبد يملّك العمل الذي التزم به للّه سبحانه.

2. أن يكون اللّام للاختصاص، أي أن يكون إنشاء الالتزام بالفعل أو تركه للّه وحده لا لشخص آخر كالصنم و الوثن. و المعنى الثاني هو المتبادر. و على كلّ تقدير، فقصد القربة لائح من الصيغة على نحو لا ينكر.

هذا كلّه حول أخذ القربة.

و أمّا أخذ القربة في المتعلّق فهو غير لازم، بل يجب أن يكون عملا راجحا، لأن يتقرّب به العبد في مقابل المكروه و الحرام و المباح بالمعنى المصطلح.

و مع ذلك كلّه فالقربة المأخوذة في مفهوم الصيغة أو المتعلّق- لو قلنا به-

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 553

.......... لا يمنع من انعقادها من الكافر لما عرفت من أنّ مصب البحث هو الكافر المعتقد باللّه و العوالم الغيبية دون الكافر الجاحد للخالق و المعتقد بأصالة المادة، فأتباع الشرائع السماوية تصحّ نذورهم كما تنعقد أيمانهم، فقد كانوا قبل بزوغ شمس الإسلام يحلفون و ينذرون دون أن يكون مانع من انعقادهما.

نعم يقع الكلام في لزوم الإتيان به بعد ما أسلموا فهو رهن البحث عن سعة دلالة قاعدة الجبّ لمثل ما التزم به الكافر على نفسه كالديون الشخصية،

فالنذور و الأيمان نظير ما لو أتلف مال الغير أو استقرض في زمان كفره فقاعدة الجبّ قاعدة امتنانيّة لا يسقط بها ما فيه ضرر على الغير.

و يمكن إبداع الفرق بين الديون و الأيمان و النذور، بأنّ سقوط الديون بالإسلام على خلاف الامتنان، بخلاف إبراء ذمّته ممّا التزم من الفعل و الترك إذ ليس سقوطه على خلاف الامتنان غالبا.

نعم يظهر من صاحب الجواهر وجه آخر لبطلان نذر الكافر، و هو أنّه يشترط أن يكون الفعل مقرّبا فقال: ليس المراد منها أفعل كذا قربة إلى اللّه، و إن لم يكن الفعل مقرّبا له. «1»

يلاحظ عليه: أنّه يكفي كون العمل قابلا للتقرب و إن لم يكن كذلك فعلا لاقترانه بالمانع.

و لا يخفى أنّ أدلّة المصنف الثلاثة غير منسجمة، فإنّ مقتضى قوله:

«القربة لا تعتبر في النذر» أنّ المانع عبادية نفس النذر، و مقتضى ما ذكره ثانيا: «أنّ متعلّق اليمين يكون عبادة»، و ما ذكره ثالثا: «أنّه يمكن قصد القربة من الكافر»، أنّ المانع عبارة عن عبادية المتعلّق. و كان الأولى أن يقول: إن كان المانع من

[المسألة 1: ذهب جماعة إلى أنّه يشترط في انعقاد اليمين من المملوك إذن المولى

المسألة 1: ذهب جماعة إلى أنّه يشترط في انعقاد اليمين من المملوك إذن المولى، و في انعقاده من الزوجة إذن الزوج، و في انعقاده من الولد إذن الوالد، لقوله عليه السّلام: لا يمين لولد مع والده، و لا للزوجة مع زوجها، و لا للمملوك مع مولاه. (1)*

الانعقاد اعتبار القربة في إنشاء النذر ففيه أنّه لا تعتبر فيه، و إن كان المانع اعتبارها في المتعلّق ففيه أوّلا ... و ثانيا ...

(1)* هنا أمور ثلاثة:

1. حكم يمين «1» الزوجة و الولد و المملوك عند وجود أوليائهم في كلمات الفقهاء.

2. ما هو المستفاد من الروايات.

3. و

على كلّ تقدير، فهل محطّ البحث مطلق اليمين أو خصوص ما كانت منافية لحقوقهم؟

و إليك دراسة الكلّ واحدا بعد الآخر:

الأوّل: يمين الثلاثة في كلمات الفقهاء و العلماء المشهور أنّ صحّة أيمان الزوجة و المملوك و الولد مشروطة بإذن الزوج و السيّد و الوالد. و الظاهر أنّ الاستثناء من خصائص الفقه الإمامي، و لم نجد لغيرهم نصّا في المسألة.

1. قال المفيد: و لا يمين للمرأة مع زوجها في خلافه، و لا يمين للعبد مع الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 555

.......... سيّده في خلاف طاعته. «1»

2. و قال الشيخ: و لا يمين لولد مع والده، و لا لزوج مع زوجها، و لا لمملوك مع سيّده، فمتى حلف واحد منهم على شي ء ممّا ليس بواجب و لا قبيح، جاز للأب حمل الولد على خلافه، و ساغ للزوج حمل زوجته على خلاف ما حلفت عليه، و لا تلزمهما كفّارة. «2»

3. و قال المحقّق: و لا تنعقد من الولد مع والده إلّا مع إذنه، و كذا يمين المرأة و المملوك، إلّا أن يكون اليمين في فعل واجب أو ترك قبيح، و لو حلف أحد الثلاثة في غير ذلك، كان للأب و الزوج و المالك حلّ اليمين. «3» إلى غير ذلك من الكلمات.

و يدلّ على ذلك روايات متضافرة، نظير:

1. صحيحة منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم:

«لا يمين للولد مع والده، و لا للمملوك مع مولاه، و لا للمرأة مع زوجها».»

2. و في خبر ابن القداح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يمين لولد مع والده، و لا للمرأة مع زوجها، و لا للمملوك مع

سيّده». «5»

3. و صحيح منصور بن حازم الثاني عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: «لا رضاع بعد فطام، و لا وصال في صيام، و لا يتم بعد احتلام، و لا

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 556

.......... صمت يوما إلى الليل، و لا تعرّب بعد الهجرة، و لا هجرة بعد الفتح، و لا طلاق قبل نكاح، و لا عتق قبل ملك، و لا يمين لولد مع والده، و لا للمملوك مع مولاه، و لا للمرأة مع زوجها». «1»

4. روى الصدوق في «الخصال» باسناده عن علي عليه السّلام في حديث الأربعمائة قال: «و لا يمين لولد مع والده، و لا للمرأة مع زوجها». «2»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 557

فلو حلف أحد هؤلاء بدون الإذن لم ينعقد، و ظاهرهم اعتبار الإذن السابق، فلا تكفي الإجازة بعده، مع أنّه من الإيقاعات و ادّعى الاتّفاق على عدم جريان الفضوليّة فيها، و إن كان يمكن دعوى أنّ القدر المتيقّن من الاتّفاق ما إذا وقع الإيقاع على مال الغير، مثل الطلاق و العتق و نحوهما، لا مثل المقام ممّا كان في مال نفسه، غاية الأمر اعتبار رضا الغير فيه، و لا فرق فيه بين الرضا السابق و اللاحق، خصوصا إذا قلنا: إنّ الفضوليّ على القاعدة، و ذهب جماعة إلى أنّه لا يشترط الإذن في الانعقاد، لكن للمذكورين حلّ يمين الجماعة إذا لم يكن مسبوقا بنهي أو إذن، بدعوى أنّ المنساق من الخبر المذكور و نحوه: أنّه ليس للجماعة المذكورة يمين مع معارضة المولى أو الأب أو الزوج. و لازمه: جواز حلّهم له، و عدم وجوب العمل به مع عدم رضاهم به.

و على هذا فمع النهي السابق لا ينعقد، و مع الإذن يلزم، و مع عدمهما ينعقد و لهم حلّه. (1)*

(1)* الثاني: ما هو المستفاد من الروايات إنّما الكلام فيما هو المستفاد منها، و هناك وجوه من الاحتمال:

1. عدم انعقاد اليمين مع وجود هؤلاء يمكن أن يقال: إنّ المراد بالروايات أنّ وجود الأولياء الثلاثة مانع عن انعقاد يمين هؤلاء، فكأنّه يقول: لا يمين للولد مع وجود والده، و لا للمملوك مع وجود سيّده، و لا للمرأة مع وجود زوجها، و بما أنّ المفروض وجودهم عند اليمين الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 558

و لا يبعد قوّة هذا القول، مع أنّ المقدّر كما يمكن أن يكون هو الوجود يمكن أن يكون هو المنع و المعارضة، أي لا يمين مع منع المولى مثلا، فمع عدم الظهور في الثاني لا أقلّ من الإجمال، و القدر المتيقّن هو عدم الصحّة مع المعارضة و النهي، بعد كون مقتضى العمومات الصحّة و اللزوم. (1)*

فتكون محكومة بعدم الانعقاد الملازم للبطلان المحض غير القابل للصحّة.

و لقد أجاد المصنّف حيث لم يذكر هذا الاحتمال، لأنّه بمعزل من الصحّة، إذ معنى ذلك أنّه لا يصحّ يمين المملوك طيلة حياته، إذ لا يتصوّر المملوك بلا مالك، فلو كان المراد هو ذلك، لكان التعبير ببطلان يمينهم مع وجود هؤلاء أقرب إلى بيان المقصود و نظيره الزوجة، لأنّها بوصف كونها زوجة لا يتصوّر إلّا مع وجود الزوج، فهما متضايفان و المتضايفان متكافئان.

(1)* 2. نفي الصحّة بلسان نفي الموضوع هذا هو الاحتمال الأوّل الذي ذكره المصنّف، و حاصله: انّ المراد من قوله: «و لا يمين للولد مع والده» هو نفي الصحّة بلحاظ نفي الموضوع، كما هو الحال في أقرانه كالرضاع

و اليتم و التعرّب و الهجرة و الطلاق، و ذلك لأنّ ظاهر الهيئة مثلا في قوله: «لا رضاع بعد فطام»، هو نفي الموضوع، و لكن لمّا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى و هو نفي الصحّة، و قد ذكروا ذلك في تفسير قوله صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: «لا ضرر و لا ضرار» و في قول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السّلام: «يا أشباه الرجال و لا رجال». «1»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 559

.......... و يؤيد ذلك الاحتمال، أنّ للزوج و المولى ولاية على الزوجة و المملوك، يقول سبحانه: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «1»، و قريب منهما الوالد بالنسبة إلى الولد.

و من شأن المولىّ عليه أن لا يستبدّ بالأمر قبل أن يكتسب إذن المولى و إلّا يعود فعله عادم الأثر، فالغرض من نفي اليمين هو نفي آثاره من لزوم تطبيق العمل على وفقها و حرمة حنثها، و عندئذ لا محيص من أن يصدروا عن إذن أوليائهم.

و يؤيد ذلك ما ورد في باب نذر الزوجة و المملوك، ففي صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و لا نذر في مالها إلّا بإذن زوجها». «2»

و في خبر «قرب الإسناد» عن الحسين بن علوان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: «إنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: ليس على المملوك نذر، إلّا أن يأذن له سيّده». 3

و الفرق بين الاحتمالين واضح، لأنّ اليمين على الوجه الأوّل غير منعقد و أشبه بالشي ء الباطل المحض الذي لا تطرأ عليه الصحّة أبدا، أذن أم لم يأذن، بخلاف الاحتمال الثاني فانّها تصحّ مع الإذن، لأنّه عندئذ عدل من الاستبداد إلى المشاركة، نعم لا تكفي الإجازة على هذا

الوجه و يأتي وجهه في الأمر الثالث.

3. كفاية الرضا المستكشف و لو بالإجازة إذا كانت الغاية من نفي اليمين عن هؤلاء هو نفي استبدادهم و استقلالهم باليمين، فيكفي في ذلك رضا هؤلاء المستكشف، سواء أكان سابقا على اليمين أم لاحقا بها، فيمين هؤلاء أشبه بالبيع الفضولي حيث يكفي في صحّتها الإجازة

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 560

.......... اللاحقة، نظير تزويج بنت الأخ أو الأخت على العمّة و الخالة، حيث يكفي فيه الرضا المنكشف باللفظ أو الفعل، سواء أسبق النكاح أم لحقه.

بل يمكن أن يقال بكفاية العلم بالرضا و إن لم يصرّح به، لأنّ الغاية رفع الاستبداد و صدورهم عن رضا أوليائهم، و هذه الغاية متحقّقة عند انكشاف الرضا، و إن لم يكن هناك لفظ.

فإن قلت: إنّ صحّة الفضوليّ تختص بالعقود، و اليمين من الإيقاعات.

قلت: إذا قلنا بأنّ الفضولي أمر موافق للقاعدة حسب ما ادّعاه الشيخ فلا فرق بين العقد و الإيقاع، و ما ادّعي من الإجماع على عدم جريان الفضوليّة في الإيقاع فإنّما يختصّ بالإيقاع الذي هو فعل الغير كطلاق زوجة الغير، و عتق عبده، دون ما يرجع إلى نفسه، و ذلك كعتق الراهن عبده المرتهن إذا لحقته الإجازة.

4. جواز حلّ يمينهم هذا الاحتمال هو الذي جعله المصنّف ثالث الاحتمالات و اختاره، و حاصله: أنّه لا يشترط الإذن في الانعقاد لا سابقا و لا لاحقا لكن للمذكورين حلّ يمين هؤلاء، إذا لم يكن مسبوقا بنهي أو إذن، و ذلك لأنّ المنساق من الروايات أنّه ليس للجماعة المذكورة يمين مع معارضة هؤلاء، و لازمه جواز حلّهم لها و عدم وجوب العمل بها مع نهيهم، و في عبارة الشرائع إشارة إلى هذا الوجه و قد مرّت.

و على

هذا الاحتمال فمع النهي السابق لا ينعقد، و مع الإذن السابق أو اللّاحق تلزم و مع عدمهما ينعقد حدوثا، و لكنّ لهم حلّ أيمانهم بقاء، هذه هي الوجوه المحتملة.

و بما أنّك عرفت بطلان الوجه الأوّل نركز على الوجوه الثلاثة الباقية.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 561

.......... الاستدلال على الوجه الثاني استدلّ للوجه الثاني- أعني: اعتبار الإذن، و عدم كفاية الإجازة- بأنّ اليمين من الإيقاعات بشهادة عدم حاجتها إلى القبول و قد ادّعى الاتّفاق على عدم جريان الفضولية فيها.

يلاحظ عليه: بأنّ القدر المتيقّن من الاتّفاق ما إذا وقع الإيقاع على ما يرجع إلى الغير، كطلاق زوجته أو عتق مملوكه، لا مثل المقام ممّا كان في مال نفسه، و ذلك كعتق الراهن، العين المرهونة، فيصحّ لو أجاز المرتهن، أو عتق المفلس عبده حيث يصح اذا أذن الديّان، بل يمكن أن يقال: انّ المقام، فوق باب الفضولي، إذ لا حقّ فيه للغير، غاية الأمر يعتبر رضاه.

على ضوء ذلك، تظهر قوة الوجه الثالث من كفاية الإذن و الإجازة، بل يكفي كشف رضاهم، لأنّ الغاية هو نفي استبداد الثلاثة في مجال اليمين و مع استكشاف رضاهم تحصل الغاية المطلوبة.

ثمّ إنّ المصنّف قدّس سرّه لم يستبعد قوة القول الرابع، و هو عدم اشتراط أيمانهم بشي ء، غاية الأمر انّ لهذه الثلاثة حلّ أيمانهم، و استدلّ عليه بالوجه التالي:

«إنّ المقدّر كما يمكن أن يكون هو الوجود، يمكن أن يكون هو المنع و المعارضة، أي لا يمين مع منع المولى مثلا، فمع عدم الظهور في الثاني لا أقلّ من الإجمال و القدر المتيقّن هو عدم الصحّة مع المعارضة و النهي بعد كون مقتضى العمومات الصحّة و اللزوم».

توضيحه: أنّه لابدّ من تقدير إحدى الكلمتين: الوجود

أو المعارضة، بأن يقال: لا يمين للولد مع وجود الوالد، أو يقال: لا يمين للولد مع معارضة الوالد؛ فعلى الأوّل تكون النتيجة عدم صحّة نذره إلّا بإذنه، أو بالإجازة اللاحقة على الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 562

.......... الوجهين، و على الثاني تكون النتيجة عدم الصحّة مع المعارضة، و لا مرجّح لأحد التقديرين على الآخر، فتكون الجملة مجملة فيؤخذ بالقدر المتيقن، و هو عدم الصحّة عند المعارضة، فأشبه بالتخصيص بمخصّص مردّد بين الأقلّ و الأكثر كالفاسق، فيؤخذ بالأقلّ، حفظا لعموم العامّ.

يلاحظ عليه: أوّلا: بما حقّقناه في مبحث العام و الخاصّ حول «لا» النافية للجنس، فقلنا: إنّها غنيّة عن الخبر في نظائر كلمة الإخلاص، أعني قوله: «لا إله إلّا اللّه»، و بذلك دفعنا الإشكال المشهور في خبرها حيث قالوا بأنّ الخبر دائر بين قولنا «موجود» أو «ممكن»، إذ الأوّل لا ينفي إمكان الإله الآخر و الثاني لا يثبت وجود «اللّه»، فقد دفعنا الإشكال بأنّ الجملة غنيّة عن تقدير كلّ من الخبرين، لأنّ نفي الماهيّة إنّما هو باعتبار نفي وجودها، فلو قيل: لا رجل فالمقصود نفي ماهية الرجل، و نفيها بمعنى نفي وجودها، و إلّا فالماهية بما هي هي لا تقبل النفي، فالمراد ب «لا إله» هو نفي وجود الإله على الإطلاق إلّا إلها واحدا، و هو اللّه، و أمّا نفي إمكان إله آخر فيفهم من عدم وجوده، إذ لو كان وجوده ممكنا- بالإمكان العامّ- لكان موجودا، لوجوب وجوده.

و ثانيا: إنّ هذا التفسير لا يتلاءم مع ما ورد في روايات باب النذر، كصحيح ابن سنان، فقد جاء فيها: «لا نذر في مالها إلّا بإذن زوجها». نعم الصحيح مشتمل على شي ء لا نقول به و هو عدم استقلال

الزوجة في التصرّف في أموالها الشخصية، و كون الرواية واردة في النذر لا ينافي الاستئناس بها في اليمين فإنّ الكلام و إن كان في يمين هؤلاء لكن نفي اليمين كنفي النذر يهدفان إلى شي ء واحد.

إلى هنا تبيّن أنّ المعتبر من الاحتمالات الأربعة هو الاحتمال الثالث و هو نفي استبدادهم في اليمين و صحّتها مع مشاركتهم.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 563

ثمّ إنّ جواز الحلّ- أو التوقّف على الإذن- ليس في اليمين بما هو يمين مطلقا- كما هو ظاهر كلماتهم- بل إنّما هو فيما كان المتعلّق منافيا لحقّ المولى أو الزوج، و كان ممّا يجب فيه طاعة الوالد إذا أمر أو نهى، و أمّا ما لم يكن كذلك فلا، كما إذا حلف المملوك أن يحجّ إذا أعتقه المولى، أو حلفت الزوجة أن تحجّ إذا مات زوجها أو طلّقها، أو حلفا أن يصلّيا صلاة الليل، مع عدم كونها منافية لحقّ المولى، أو حقّ الاستمتاع من الزوجة، أو حلف الولد أن يقرأ كلّ يوم جزءا من القرآن، أو نحو ذلك ممّا لا يجب طاعتهم فيها للمذكورين، فلا مانع من انعقاده. و هذا هو المنساق من الأخبار، فلو حلف الولد أن يحجّ إذا استصحبه الوالد إلى مكّة مثلا فلا مانع من انعقاده، و هكذا بالنسبة إلى المملوك و الزوجة، فالمراد من الأخبار:

أنّه ليس لهم أن يوجبوا على أنفسهم باليمين ما يكون منافيا لحقّ المذكورين. و لذا استثنى بعضهم الحلف على فعل الواجب أو ترك القبيح، و حكم بالانعقاد فيهما، و لو كان المراد اليمين بما هو يمين لم يكن وجه لهذا الاستثناء. هذا كلّه في اليمين. (1)*

(1)* الأمر الثالث: تحديد عدم الجواز بالمنافاة للحقوق هذا هو الأمر الثالث الذي

طرحه المصنّف، و هو أنّ المنفيّ ليس هو اليمين بما هو يمين، بل المنفيّ عبارة عن اليمين المنافية لحقّ المولى أو الزوج أو الوالد في ما يجب طاعته فيه، و إلّا فلو حلف أحد هؤلاء بأمور لا تنافي حقوق واحد منهم، فالروايات منصرفة عنه، كما إذا حلف المملوك أن يحجّ إذا أعتقه المولى، أو حلفت الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 564

.......... الزوجة بالحجّ إذا طلّقها الزوج، أو حلف أن يقرأ كلّ يوم جزءا من القرآن في ساعات لا ينافي حقوقه.

و قد استشهد المصنّف على أنّ هذا هو المراد بأنّ بعضهم استثنوا الحلف على فعل الواجب أو ترك القبيح، و حكموا بالانعقاد فيهما، و لو كان المراد اليمين بما هو يمين لم يكن لهذا الاستثناء وجه.

قال المحقّق: و لا تنعقد من الولد مع والده ... إلّا أن يكون اليمين في فعل واجب أو ترك قبيح. «1»

و قال الشهيد في «الدروس» في باب النذر:

و للزوج حلّ نذر الزوجة فيما عدا فعل الواجب و ترك المحرّم، حتّى في الجزاء عليهما، و كذا السيد لعبده، و الوالد لولده على الظاهر، و لو زال الحجر قبل الحلّ لزم في الأقوى. و ينقسم إلى: معلّق على شرط، و متبرّع به. «2»

أقول: توضيح المقام يقتضي البحث في أمور ثلاثة:

1. هل المتبادر من الروايات مطلق الأيمان أو المتبادر هو الأيمان المفوّتة؟

2. كيف يدلّ الاستثناء في كلام العلمين على أنّ المنفي هو اليمين المفوّتة؟

3. في صحّة استثناء الموردين و عدمها في حدّ نفسهما. و إليك دراسة الأمور الثلاثة:

1. المنفي هو اليمين المفوّتة إنّ إطلاق الرواية- في بدء النظر- و إن كان يعمّ المفوّتة و غيرها إلّا أنّ في المقام قرينة حالية توجب انصراف

الإطلاق إلى خصوص صورة المزاحمة و هي:

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 565

.......... لمّا كان الأب و المالك و الزوج، من أصحاب الحقوق، و كان هؤلاء الثلاثة ممّن عليهم الحق، و ربّما يقع التعارض بين حقوق هؤلاء و متطلّبات الآخرين المؤكّدة بالأيمان، صار ذلك سببا للنهي عن أيمانهم بلا رضاهم، تحفّظا على حقوق أوليائهم، و لو لا وجود الصلة (الحق و الطاعة) بين الطرفين، لكان الأخذ بالإطلاق هو المتعيّن، و هذا نظير ما إذا نهى العامل عن نذر الصوم فانّه ينصرف إلى أيام العمل دون العطلة، لوجود الصلة بين المالك و صوم العامل في ذلك اليوم دون أيام العطلة.

أضف إلى ذلك أنّ الإطلاق بعيد عن روح الإسلام؛ فإنّ منع الزوجة، كغيرها من أي يمين، حتى ما لا يكون مفوّتة لحقوق الزوج، كما إذا نذرت أن تقرأ آية الكرسي عند كنس البيت، أو تصلّي على النبي و آله عند غسل الأواني، أو نذرت أن تحجّ إذا طلقها زوجها أو مات.

فإن قلت: إنّه يشترط في متعلّق اليمين أن لا يكون مرجوحا كالحرام و المكروه، و في متعلّق النذر أن يكون راجحا، فإذا كانت اليمين مفوّتة، فلا تنعقد من غير فرق بين هؤلاء الثلاثة و غيرهم، لأنّ اليمين المفوّتة تكون منافية لحقّ الغير فهي باطلة.

و إن شئت قلت: ظاهر الرواية أنهّا بصدد تأسيس حكم شرعي جديد، لا صلة لها بتضييع حقوق الآخرين، و إلّا فاليمين المفوّتة مطلقا من هؤلاء و غيرهم داخلة تحت قوله: «لا يمين في معصية اللّه». «1»

قلت: ما ذكرته من أنّ ظاهر الرواية أنّها بصدد تأسيس حكم شرعي جديد،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 566

.......... ادّعاء لا دليل عليه، إذ لا مانع من طرح ضابطة

كلية في مقام و هي النهي عن اليمين في معصية اللّه ثمّ التصريح ببعض الصغريات المبتلى بها في مقام آخر- أعني: يمين هؤلاء الثلاثة- لغاية التنبيه على أنّ حريّتهم في الحياة محدّدة بعدم تفويت حقوق من لهم الحق. و ذكر الكبرى في مقام و التنبيه على بعض الصغريات في مقام آخر ليس أمرا نادرا، و مثل هذا يعدّ من أقسام الحكومة.

فإن قلت: إنّ الظاهر من صحيح ابن سنان هو نفي مطلق اليمين، مفوتة كانت أو لا، إذ جاء فيها: «ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق، و لا صدقة، و لا تدبير، و لا نذر في مالها إلّا بإذن زوجها». «1» و الرواية و إن كانت واردة في مورد النذر، لكن اليمين و النذر يشتركان في كثير من الأحكام، و ظاهر الحديث انّه ليس للمرأة «النذر في مالها»، مع أنّ تصرفها في مالها بالنذر ممّا لا صلة له بزوجها، و لا يكون مفوتا لحقوقه،- و مع ذلك- صارت الزوجة ممنوعة من التصرّف إلّا بإذنه.

قلت: إنّ الرواية مهجورة فانّ جواز تصرف الزوجة في مالها بلا إذن زوجها ممّا أصفقت عليه الفقهاء، و إنّ الأزواج أحرار في تصرف كلّ في أمواله الشخصية، مع أنّ صريحها عدم جواز تصرّفها في مالها، مطلقا لا قبل النذر و لا بعده، فلا تصلح مثل هذه الرواية شاهدا و مفسّرا للروايات الأخرى.

إلى هنا تمّ الكلام في الأمر الأوّل، و إليك الكلام في الأمر الثاني.

2. استشهاد المصنّف باستثناء الأمرين إنّ المصنّف تبعا لصاحب الجواهر «2» استشهد على أنّ المنفي هو الأيمان الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 567

.......... المفوّتة لهؤلاء الثلاثة، باستثناء المحقّق و الشهيد صورتين:

1. اليمين على فعل الواجب، 2. اليمين على

ترك المعصية.

قائلا بأنّه لو كان المراد هو اليمين المنافي لحقوقهم كان لإخراج هذين وجه، لتقدم حقوقه سبحانه على حقوقهم، و إلّا فلا يظهر للاستثناء وجه.

أقول: إنّ كلام المصنّف واضح شفاف، لأنّ فعل الواجب و ترك الحرام لمّا كانا متعلّقين بحقوقه سبحانه، فلو كان محور البحث في الروايات، هو الحقوق المنافية صحّ للعلمين استثناء هذين الموردين، لتقدّم حقوقه تعالى على حقوق الآخرين، و أمّا إذا كان محوره فيها، مطلق اليمين- كانت هناك حقوق يزاحمها النذر أو لا- كان استثناء الموردين اللّذين للّه سبحانه فيهما حق، أجنبيا عن الروايات.

و بعبارة أخرى: أنّ الملاك لاستثنائهما في كلام العلمين، هو تقدّم حقوقه على حقوق الآخرين، و هذا دليل واضح على أنّ البحث في المستثنى منه شي ء يدور حول الحقوق، لا مطلق اليمين، فيكون حاصل الرواية عدم صحّة يمين هؤلاء بلا إذن أوليائهم، إلّا إذا كان المتعلّق حقوقه سبحانه فلا تحتاج إلى الإذن.

و بذلك يعلم عدم صحّة ما أورده المحقّق الخوئي على استشهاد المصنّف قائلا: إذ لو كان الحكم بالتوقّف مختصا بموارد المزاحمة لاستثنوا موارد كثيرة ممّا لم تكن منافية لحق الوالد و السيد- و الزوج-، كما لو حلف أن يقرأ السورة الفلانية عند النوم أو يقرأ الآية الفلانية عند القيام من النوم. «1»

يلاحظ عليه: إذا كان محور البحث في المستثنى منه (الروايات) هو اليمين الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 568

.......... المفوّتة للحق، فما ذكره من المثال لم يكن داخلا في المستثنى منه حتّى يحتاج إلى الاستثناء، لما عرفت من أنّ الروايات التي هي بمنزلة المستثنى منه، يدور حول الحقوق المفوّتة، و أمّا غيرها فلم يكن داخلا حتّى يحتاج إلى الاستثناء.

بخلاف فعل الواجب و ترك الحرام، و بما انّهما

ربّما يكونان مفوّتين لحقوق الثلاثة، فيناسب الاستثناء دون غيرهما.

إلى هنا تمّ الكلام في الأمر الثاني، و إليك الكلام في الأمر الثالث، و هو صحّة استثناء الموردين و عدمها مع قطع النظر عن الاستشهاد.

3. عدم صحّة الاستثناء مطلقا الظاهر عدم صحّة الاستثناء، سواء أقلنا إنّ الاستثناء من الانعقاد- كما عليه المشهور- في تفسير الروايات، أو من الإخلال- كما عليه المصنّف- إذ ليس في النهي عن اليمين بلا إذنهم أيّ محذور، أعني: محذور طاعة المخلوق لمعصية الخالق، لأنّ الأولياء ينهون عن الحلف، لا عن فعل الواجب و ترك الحرام، فلا مانع من القول بعدم انعقاد أيمان هؤلاء إذا تعلّقت بفعل الواجب أو ترك الحرام، إذ ليس في هذا أي محذور كما لا مانع من القول بجواز حلّها بعد الانعقاد، إذ ليس إحلال النذر بمعنى النهي عن الواجب أو الأمر بالحرام، بل الإحلال رفع الوجوب الآتي من جانب النذر، و بالتالي رفع الكفّارة عند الحنث من دون النهي عن فعل الواجب أو ترك الحرام.

و اعلم أنّ المصنّف و إن خصّ الروايات بالأيمان المفوّتة للحق، لكنّه لم يلتزم به في الفروع الآتية، نظير: إلحاق الولد بالزوجة و المملوك، و إلحاق المنقطعة بالدائمة، حيث تردّد فيهما مع أنّه لو كان المنفي هو المفوّت من اليمين و النذر، لما

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 569

.......... كان وجه للتردد بل يلحقان بهما قطعا، لأنّ إبطال الحقوق مطلقا حرام فانتظر.

و اعلم أنّه لو قلنا بأنّ مورد الروايات هو الأيمان المفوّتة لما بقيت حاجة إلى البحث في كثير من الفروع- وراء هذين الفرعين: الزوجة المنقطعة و الولد- نظير:

ولد الولد، و الوالد الكافر، و المملوك المبعض، إلى غير ذلك، لأنّ الأيمان المفوّتة لا تنعقد مطلقا،

فالبحث عن أمثال هذه الفروع يجب أن يكون مركّزا على القول الآخر، أعني: شرطية مطلق اليمين و النذر تعبدا و تكريما لهم. فعندئذ يصحّ البحث في الفروع المذكورة من حيث اللحوق و عدمه.

إلى هنا تمّ الكلام في يمين الثلاثة، و قد عرفت روايات المسألة و احتمالاتها، و انّ الممنوع هو نفس اليمين مطلقا عند المشهور و المفوّتة عندنا.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 570

و أمّا النذر فالمشهور بينهم أنّه كاليمين في المملوك و الزوجة، و ألحق بعضهم بهما الولد أيضا، و هو مشكل، لعدم الدليل عليه- خصوصا في الولد- إلّا القياس على اليمين، بدعوى: تنقيح المناط، و هو ممنوع، أو بدعوى: أنّ المراد من اليمين في الأخبار ما يشمل النذر لإطلاقه عليه في جملة من الأخبار، منها: خبران في كلام الإمام عليه السّلام و منها: أخبار في كلام الراوي و تقرير الإمام عليه السّلام له، و هو أيضا كما ترى، فالأقوى في الولد عدم الإلحاق. نعم في الزوجة و المملوك لا يبعد الإلحاق باليمين، لخبر «قرب الاسناد» عن جعفر عليه السّلام و عن أبيه عليه السّلام أنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: «ليس على المملوك نذر إلّا بإذن مولاه»، و صحيح ابن سنان عن الصادق عليه السّلام: «ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق، و لا صدقة و لا تدبير، و لا هبة، و لا نذر في مالها إلّا بإذن زوجها، إلّا في حجّ أو زكاة أو برّ والديها أو صلة قرابتها».

و ضعف الأوّل منجبر بالشهرة، و اشتمال الثاني على ما لا نقول به لا يضرّ. (1)*

(1)* حكم نذر الزوجة و المملوك و الولد قد تعرّفت على حكم أيمان الثلاثة. بقي الكلام في نذور الثلاثة،

فقد اشتهر من عصر المحقّق (602- 678 ه-) أنّ نذور الأوّلين أو مع الولد كأيمانهم، فبعضهم اقتصر بالأوّلين و البعض الآخر عطف الولد عليهما، و المسألة غير معنونة في كتب القدماء، كالمقنعة و النهاية و الكافي لأبي الصلاح و المراسم و المهذب لابن البرّاج و الغنية و الوسيلة و إصباح الشيعة، و لعلّهم اكتفوا بما ذكروه في باب الأيمان قائلين باتحاد حكم اليمين و النذر، و أمّا المتأخرون عنهم فقد ذكروا حكم نذورهم الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 571

.......... مستقلا وراء حكم أيمانهم، و إليك بعض الكلمات:

قال المحقّق: و يشترط في نذر المرأة بالتطوّعات إذن الزوج، و كذا يتوقّف نذر المملوك على إذن المالك. «1» و لم يذكر الولد لعدم النص فيه و قال العلّامة: و من شروط النذر: إذن الزوج في المرأة في التطوّعات، و الوالد في الولد، و المولى في العبد. «2»

و لكنّه خصّ الزوج و المولى بالذكر في قواعد الأحكام و التحرير. «3» و الظاهر أنّ النهي مطلق يعمّ المنافي و غيره.

و قال الشهيد: و للزوج حلّ نذر الزوجة فيما عدا فعل الواجب و ترك المحرّم، حتّى في الجزاء عليهما، و كذا السيد لعبده، و الوالد لولده. «4»

و قال الشهيد الثاني: اشتراط إذن الزوج و المولى في نذر الزوجة و المملوك هو المشهور بين المتأخّرين، ثمّ إنّه قدّس سرّه أشار إلى كلمات العلّامة و الشهيد في إلحاق الولد بالزوجة و المملوك، و لا نصّ على ذلك في الولد في باب النذر، و إنّما ورد النص في الولد في باب اليمين. «5»

و قال في «الجواهر»: يشترط في نذر المرأة في التطوعات إذن الزوج وفاقا للمشهور بين الأصحاب سيّما في المتأخرين. و ذكر

نظيره في نذر المملوك. «6»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 572

.......... و يمكن الاستدلال على أصل الحكم- سواء أكان الولد محكوما بحكم الآخرين أو لا- بوجوه:

1. الاستدلال بروايات خاصة في مورد المملوك و الزوجة هناك روايات خاصّة في مورد النذر كما وردت أيضا في باب اليمين:

1. معتبر الحسين بن علوان، عن جعفر بن محمد عليهما السّلام، عن أبيه عليه السّلام: أنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: «ليس على المملوك نذر، إلّا أن يأذن له سيّده». «1»

و في السند الحسن بن ظريف و هو كوفي ثقة. «2»

و الحسين بن علوان أيضا كوفي ثقة، قال النجاشي: كوفي عامي، و أخوه الحسن يكنّى أبا محمّد، ثقة، رويا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. «3»

و الظاهر أنّ قوله: ثقة يرجع إلى المعنون- أعني: الحسين بن علوان- لا إلى أخيه، لأنّه المقصود بالكلام.

أضف إلى ذلك أنّ العلّامة نقل عن ابن عقدة أنّ الحسن أوثق من أخيه و أحمد عند أصحابنا. «4»

و هو دليل على وثاقة الأخوين، و أن أحدهما أوثق من الآخر.

2. صحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق، و لا صدقة، و لا تدبير، و لا هبة، و لا نذر في مالها إلّا بإذن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 573

.......... زوجها، إلّا في حجّ أو زكاة أو برّ والديها أو صلة رحمها». «1»

يرد على الاستدلال بالروايتين أنّ الأولى تختص بالمملوك و الثانية بالمرأة لكن الأخيرة تشتمل على ما لم يقل به أحد. و هو أنّه: لا يجوز للمرأة أن تعتق أو تتصدّق أو تدبّر أو تهب إلّا بإذن زوجها، و هو خلاف الضرورة، فلابدّ من حمل

النهي على الكراهة الشديدة، و عندئذ لا يستفاد منها الشرطية.

نعم ربما يقال: أنّ اشتمال الرواية على خلاف الإجماع لا يكون دليلا على سقوطها في غير مورد الإجماع.

أقول: هذه الضابطة- لو صحّت عند العقلاء في العمل بالظواهر- إنّما تصحّ إذا ورد حكمان في فقرتين أحدهما على خلاف الإجماع دون الآخر، فيطرح ما هو خلاف المجمع عليه و يؤخذ بغيره، و المقام على خلاف ذلك، لأنّ هنا حكما واحدا، و هو أنّه «ليس للمرأة مع زوجها أمر»، و ما ذكر كلّها صغريات للحكم الواحد، فلا معنى للأخذ ببعضها دون الأخرى. و على هذا ليس في باب النذر رواية إلّا في مورد المملوك فقط.

فتلخّص أنّه لم نجد دليلا صالحا في مورد النذر إلّا في المملوك. و لابد في إسراء الحكم الى الزوجة و الولد من التماس دليل آخر.

2. شمول اليمين للنذر إنّ المراد من اليمين في الروايات الماضية هو الأعمّ منها و من النذر، فاليمين و النذر، و إن كانا ماهيتين مختلفتين، لكنّهما يشتركان في فرض فعل أو تركه على المكلّف من جانب نفسه، فالروايات السابقة كافية في إثبات الحكم في المقام، بل الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 574

.......... في تعميمه إلى الولد أيضا.

و يدلّ على الشمول، إطلاق اليمين و إرادة النذر بها في روايات متعدّدة:

1. موثقة سماعة قال: سألته عن رجل جعل عليه أيمانا أن يمشي إلى الكعبة، أو صدقة، أو نذرا، أو هديا إن هو كلّم أباه أو أمّه أو أخاه، أو ذا رحم، أو قطع قرابة، أو مأثما يقيم عليه، أو أمرا لا يصلح له فعله؟ فقال الإمام: «لا يمين في معصية اللّه، إنّما اليمين الواجبة التي ينبغي لصاحبها أن يفي بها ما جعل

للّه عليه في الشكر إن هو عافاه اللّه من مرضه أو عافاه من أمر يخافه، أو ردّ عليه ماله، أو ردّه من سفر، أو رزقه رزقا، فقال: للّه عليّ كذا و كذا لشكر، فهذا الواجب على صاحبه الذي ينبغي لصاحبه أن يفي به». «1»

فقد أراد الإمام بقوله: «لا يمين في معصية اللّه»، و قوله: «إنّما اليمين الواجبة» النذر، أو الأعمّ منه و من اليمين.

2. موثّقة الحسن بن علي، عن أبي الحسن عليه السّلام قال: قلت له: إنّ لي جارية ليس لها منّي مكان و لا ناحية، و هي تحتمل الثمن، إلّا أنّي كنت حلفت فيها بيمين، فقلت: للّه عليّ أن لا أبيعها أبدا، ولي إلى ثمنها حاجة مع تخفيف المؤونة؟

فقال: «ف للّه بقولك له». «2»

3. موثّقة مسعدة بن صدقة، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و سئل عن الرجل يحلف بالنذر و نيته في يمينه التي حلف عليها درهم أو أقلّ؟ قال: «إذا لم يجعل للّه فليس بشي ء». «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 575

.......... 4. خبر السندي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: جعلت على نفسي مشيا إلى بيت اللّه، قال: «كفّر عن يمينك، فإنّما جعلت على نفسك يمينا، و ما جعلته للّه فف به». «1»

يلاحظ عليه- مع غض النظر عن عدم صراحة بعضها في النذر-: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة، خصوصا أنّ الاستعمال في هذه الروايات مقرون بالقرينة، فلا يكون دليلا على نقله من معناه اللغوي إلى المعنى الثاني.

3. إلغاء الخصوصيّة إنّ الإمعان في الروايات الماضية في أيمان الثلاثة يعطي أنّ الغاية نفي استقلالهم و استبدادهم في فرض شي ء على أنفسهم في حال لم يوجبه سبحانه عليهم، فإذا كانت

الغاية هي هذه، فالمفهوم العرفي من الروايات عدم الفرق بين اليمين و النذر، و إن كانت الروايات في مورد اليمين، و يؤيد ذلك اشتراك اليمين و النذر في قسم من الأحكام.

ففي صحيح منصور بن حازم: «و لا نذر في معصية، و لا يمين في قطيعة». «2»

و في موثّقة سماعة: «لا يمين في معصية اللّه». 3

نعم إلغاء الخصوصية رهن القطع بعدمها.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 576

ثمّ هل الزوجة تشمل المنقطعة أو لا؟ وجهان. و هل الولد يشمل ولد الولد أو لا؟ كذلك وجهان. و الأمة المزوّجة عليها الاستئذان من الزوج و المولى، بناء على اعتبار الإذن. و إذا أذن المولى للمملوك أن يحلف أو ينذر الحجّ لا يجب عليه إعطاء ما زاد عن نفقته الواجبة عليه من مصارف الحجّ، و هل عليه تخلية سبيله لتحصيلها أو لا؟ وجهان. ثمّ على القول بأنّ لهم الحلّ، هل يجوز مع حلف الجماعة التماس المذكورين في حلّ حلفهم أم لا؟

وجهان. (1)*

(1) حصيلة البحث قد تلخّص من هذا البحث الضافي أمور:

1. لا تنعقد يمين الثلاثة و نذورهم: إذا كانا منافيين لحقوق الآخرين لاعتبار الرجحان في متعلّق النذر و عدم المرجوحية في متعلّق اليمين.

2. و إن لم يكونا كذلك فصحّة اليمين في مورد الثلاثة رهن الإذن أو الإجازة، و إلّا فتبطل.

3. و أمّا النذر فصحة نذر المملوك رهن إذن السيد.

و أمّا الزوجة فصحيحة ابن سنان تفقد شرط العمل بها هذا، و أمّا الولد فلم يرد فيه نصّ و قد مرّ ضعف محاولة إلحاق النذر باليمين، و على هذا فنذر الزوجة و الولد، غير مشروطين بشي ء و إن كان الأحوط عدم استبدادهما بالنذر.

(1)* هناك فروع:

1. حكم الزوجة المنقطعة

2. حكم ولد الولد.

3. جواز

التماس المذكورين حلّ حلفهم.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 577

.......... 4. حكم الأمة المزوّجة من حيث الاستئذان من الزوج و المولى.

5. إذا أذن المولى أن يحلف أو ينذر الحجّ هل يجب عليه بذل مصارف الحجّ؟

6. هل يجب على المولى تخلية سبيله لتحصيل مصارف الحجّ؟

و إليك بيانها:

1. لو قلنا بالشرطية في الزوجة و الولد، كما في اليمين قطعا و في النذر على الأحوط، فهل يعمّ الحكم المنقطعة و ولد الولد أو لا؟ ذكر المصنّف أنّ فيهما وجهين، و لم يرجّح شيئا. و على مختاره يجب أن تلحق، لأنّه خصّ البحث باليمين أو النذر المفوّتين، و معه لا فرق بين الزوجتين و لا الولدين، بل الظاهر الإلحاق في مورد المنقطعة و إن قلنا بعدم الاختصاص بالأيمان و النذور المفوّتة، إذ لا شكّ أنّ المنقطعة زوجة داخلة تحت العمومات، مثل قوله سبحانه: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* «1» إلّا أنّها منصرفة عمّا إذا كانت المدّة قصيرة دونما إذا كانت طويلة.

2. و أمّا ولد الولد إذا جرّد عن ذكر الوالد، فهو يعمّ الحفيد و السبط، دونما إذا قورن بالوالد فيختص بالولد بلا واسطة. و قد قورن الولد بالوالد في روايات اليمين. «2»

3. حلّ حلف الجماعة بالتماس المذكورين و عدمه و هذا هو الفرع الأخير حسب عبارة المصنف، و الفرع الثالث حسب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 578

.......... تنظيمنا و الأولى طرحه هنا فنقول:

أمّا جواز التماس المذكورين حلّ حلفهم و عدمه فيقع البحث تارة فيما لو قلنا بأنّ المنساق من الروايات السابقة أنّه ليس للجماعة المذكورة يمين مع معارضة المولى أو الأب أو الزوج و لازمه جواز حلّهم لهم. و أخرى على القول بأنّ

المنساق، شرطية الإذن أو الأعم منه من الإجارة في انعقاد اليمين و النذر.

أمّا على الأوّل: فيختصّ الحلّ بغير صورتين تاليتين:

أ. إذا سبق النهي على اليمين فلا ينعقد حتى يحتاج إلى الحل.

ب. إذا لم يأذن فإذا أذن يلزم و لا يقبل الحل.

نعم لهم الحل إذا لم يسبق النهي و الإذن، بالتماس من الجماعة و عدمه، لإطلاق ما يقتضي جواز الحل لهم فلا مانع من التماسه.

و أمّا على الثاني: فلا يخلو إمّا أن يكون حلفهم مسبوقا بالإذن أو متعقّبا بالإجازة، أو لا. فعلى الثاني فاليمين ليست جامعة للشرائط فلا يحتاج إلى الحل، و على الأوّل، فقد سقط حقّهم بالإذن و الإجازة و لا معنى للحلّ، و بذلك يظهر انّ جواز التماس المذكورين يختص على المبنى الأوّل دون الثاني.

4. الأمة المزوّجة تستأذن الزوج و المولى، لإطلاق الأدلّة الشاملة بصورة الزواج و عدمه.

5. أمّا بذل مصارف الحج الزائد على نفقته الواجبة، فلا مقتضى للوجوب، لأنّ الإذن في الحلف أو النذر هو إيجاد أرضية صالحة لانعقاد نذره، و أمّا أنّه يتكفّل- وراء ذلك- بمصارفه الزائدة على نفقته اليومية فلا يدلّ عليه.

6. و هل يجب تخلية سبيله لتحصيل المصارف؟ قال المصنّف: فيه وجهان و لم يرجّح أحد الوجهين على الآخر.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 579

.......... و ربّما يقال بوجوب التخلية، لأنّ الإذن في الشي ء (الحلف و النذر للحج) إذن في لوازمه، فإذا أذن للصلاة في داره، فهو إذن للتصرف فيها على المقدار المتعارف. و بعد الإذن يسقط حقّه في المنع، و عليه يجوز له أن يؤجر نفسه بأجرة ثمّ يصرفها.

فإن قلت: الأجرة ملك للمولى كسائر أمواله فكيف يجوز له التصرف فيها؟

قلت: إذا كان الإذن في الحج إذنا من المولى في

التصرف في ماله، وجب عليه ذلك و ليس للمولى منعه عنه. «1»

و يمكن أن يقال: أنّ الكبرى مسلّمة لا شبهة فيها، إنّما الكلام في الصغرى و أنّ الإذن في نذر الحج، إذن في الكسب لعدم كونه لازما مساويا للإذن في النذر، لأنّه كما يمكن أن يحج بالتكسّب و الإيجار، كذلك يمكن أن يحج، بعد العتق بمال نفسه، أو يحج ببذل الغير، فلا يكون الإذن في النذر، إذنا في خصوص القسم الأوّل.

قال المحقّق الخوئي: إنّ التكسّب ليس من لوازم الإذن في الحج بحيث يستلزم الإذن في نذر الحج الإذن في التكسّب، لإمكان عتقه فيما بعد فيتمكن من إتيان الحج، أو ينتظر وجود من يبذل له مصارف الحج.»

يلاحظ عليه: أنّ الإذن في الشي ء إذن في لوازمه الواضحة، لا النادرة، فتمكّنه من الحج بماله، أو ببذل الغير من الأمور النادرة، لا يلتفت إليه الذهن عند إذن المولى للنذر، و اليمين.

و الأولى أن يقال: إنّ منعه عن التكسّب، عدول عن الإذن السابق، و إحلال للنذر و اليمين إذا كان الموضع جامعا لشرائط الحل.

[المسألة 2: إذا كان الوالد كافرا ففي شمول الحكم له وجهان

المسألة 2: إذا كان الوالد كافرا ففي شمول الحكم له وجهان، أوجههما العدم، للانصراف و نفي السبيل. (1)*

(1)* أمّا الانصراف فإنّما يتمّ إذا كان الحكم من باب التكريم و الاحترام، و الكافر لا يستحقّ ذلك، و أمّا لو كان لأجل أنّ هؤلاء أبصر بصلاح الثلاثة من أنفسهم، فلا وجه له.

كما أنّه إذا كان نذر الولد، على خلاف المعروف- الذي أمر المسلم به مع والديه الكافرين قال سبحانه: وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «1»- لا ينعقد، لكونه مخالفا للواجب.

و أمّا نفي السبيل الوارد في قوله سبحانه: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ

لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا «2»، فقد أجاب السيد الحكيم بأنّه ظاهر بمناسبة ما قبلها من قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ في أنّها في أمور الآخرة فلا تكون- ظاهرا- فيما نحن فيه. «3»

و أضاف السيد الخوئي بأنّ المراد عدم السبيل للكافر من جهة الحجّة و السلطان في المعارف الإلهيّة. «4»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 581

.......... و يلاحظ على الأوّل: أنّه لا سبيل لأحد على أحد يوم القيامة، من غير فرق بين المؤمن و الكافر، قال سبحانه: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. «1»

و يلاحظ على الثاني: أنّه بعيد عن ظاهر الآية، و إنّما يناسب قوله سبحانه:

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ*. «2»

و على أيّ حال يجب توضيح الآية أوّلا، ثمّ تبيين صلاحيتها للاستدلال في أمثال المقام. أمّا الأوّل فالظاهر أنّ الآية استدراك لما يتوهّم من قوله: وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ من أنّه ربّما يكون للكفر سلطة على الإيمان، بشهادة أنّه كان في الحرب لهم نصيب، فقال سبحانه ردّا على الوهم المتردّد إلى الأذهان، بأنّه لا يكون، إذ لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا، لكن بشرطه و هو كونهم قائمين بشرائط الإيمان و لوازمه، قال سبحانه: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. «3»

و أمّا الثاني أي صلاحيتها للاستدلال في أمثال المقام فنقول: استدلّ الفقهاء بهذه الآية على أحكام شرعية نظير:

1. إذا كان أبو الطفل مسلما و أمّه غير مسلمة، فلا

حقّ لها في حضانة الطفل، لأنّ الولد يتبع أشرف الأبوين دينا و يكون حكمه حكم المسلم.

2. لا يجوز للمسلم أن يوصي بأولاده الصغار إلى غير المسلم و إن فعل بطلت الوصية.

[المسألة 3: هل المملوك المبعّض حكمه حكم القنّ أو لا؟]

المسألة 3: هل المملوك المبعّض حكمه حكم القنّ أو لا؟ وجهان، لا يبعد الشمول. و يحتمل عدم توقّف حلفه على الإذن في نوبته في صورة المهاياة، خصوصا إذا كان وقوع المتعلّق في نوبته. (1)*

3. انّ الأب إنّما يكون له الولاية على أولاده إذا اتّحد معهم في الدين، و أمّا إذا كانوا مسلمين و الأب غير مسلم، فلا ولاية له عليهم.

4. انّ حكم الحاكم غير المسلم لا ينفذ في حق المسلم و إن كان حقّا.

5. عدم جواز تولّي الكافر للوقف المتعلّق بالمسلمين.

6. عدم جواز رهن العبد المسلم عند الكافر.

7. عدم جواز إجارة العبد المسلم للكافر.

إلى غير ذلك من موارد الاستدلال بالآية المباركة.

و يمكن أن يقال: إنّ الجعل المنفي أعمّ من التكويني و التشريعي، فلا سبيل للكافر على المؤمن تكوينا- بشرط القيام بشرائط الإيمان- و لا تشريعا.

هذا غاية ما يمكن أن يقال: و مع ذلك فالاستدلال بالآية في المقام غير صحيح، لأنّ السبيل المنفي، هو السبيل النابع عن عداء و عناد، لا عن عطف و حنان باعتبار انّ الوالد أبصر بمصالح الولد منه، و هكذا الزوجة و المولى الرؤوف.

(1)* كان اللازم على المصنف الجزم بالتوقّف، لأنّه خصّ مورد الروايات بما إذا كان النذر أو اليمين منافيين لحقوق المولى و عندئذ لا فرق بين القنّ و المبعّض. و قد سبق منّا أنّ اللازم على مسلكه إلحاق الزوجة المنقطعة، و ولد الولد، بالدائمة و الولد، بل كان عليه الجزم بلحوق الولد في النذر، بالولد في اليمين و إن

لم يرد في

[المسألة 4: الظاهر عدم الفرق في الولد بين الذكر و الأنثى

المسألة 4: الظاهر عدم الفرق في الولد بين الذكر و الأنثى، و كذا في المملوك و المالك، لكن لا تلحق الأمّ بالأب. (1)*

الأوّل نص، إذ لا فرق- عند التنافي في الحقوق- بين الدائمة و المنقطعة و الولد و ولد الولد، و لا في الولد، بين اليمين و النذر و مثلها، العبد المبعّض.

إنّما الكلام على مسلك من قال بشرطية الإذن في أيمان و نذور العبد تعبّدا و إن لم يكن هناك منافاة لحقوقه، فالظاهر أنّ المورد من موارد التمسّك بعموم العمل بالأيمان، و النذور، و عدم شمول المخصّص للمقام، و ذلك لأنّ الوارد في النصوص المخصّصة هو لفظ المملوك و العبد. «1» و المبعض و إن لم يكن حرّا، و لكن ليس مملوكا أيضا فلا يشمله المخصّص فيعمل بالعموم خصوصا إذا حلف في نوبته في صورة المهاياة و كان وقوع المتعلّق في نوبته.

(1)* المسألة من الوضوح بمكان، لأنّ الابن يختصّ بالذكر، و البنت يختصّ بالأنثى، لكن الولد يعمّ الذكر و الأنثى لغة و قرآنا، يقول سبحانه: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. «2»

و هكذا المالك و المملوك يطلقان و يراد بهما الأعمّ من المولى و المولاة و العبد و الأمة، فهما كلفظ الرجل، الوارد في كثير من الروايات و قد أريد به مطلق المكلّف رجلا كان أو امرأة.

أضف إلى ذلك، مساعدة العرف لإلغاء الخصوصية، لأنّ الداعي للاشتراط أو لجواز الحلّ، هو رابطة الملكية و هي مشتركة بين المولى و المولاة،

[المسألة 5: إذا نذر أو حلف المملوك بإذن المالك، ثمّ انتقل إلى غيره- بالإرث أو البيع أو نحوه

المسألة 5: إذا نذر أو حلف المملوك بإذن المالك، ثمّ انتقل إلى غيره- بالإرث أو البيع أو نحوه- بقي على لزومه. (1)*

و العبد و الأمة.

نعم لفظ الأب الوارد في النصّ لا يعمّ الأمّ، و

يستعمل في العم و الخال مجازا، كما هو الحال في قوله: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً ... «1» و كان آزر عمّا أو خالا له، كما حقّق في محلّه. «2»

ثمّ إنّ المصنّف قال: لكن لا تلحق الأمّ بالأب و فيه ما سمعته سابقا، من أنّ مصب البحث إذا كان النذر المفوّت للحقوق، فلا فرق بين الأمّ و الأب، نعم على مسلك من قال بكون الاستئذان أمرا تعبديا لا تلحق الأمّ بالأب.

(1)* يقع الكلام في صورتين:

الأولى: فيما إذا لم يكن العمل بالنذر الثاني منافيا لحقوق المولى الثاني.

الثانية: فيما إذا كان منافيا لحقوقه.

أمّا الأولى: فلأنّ المتبادر من النصوص إذن المولى حين النذر و المفروض أنّه كان راضيا، فيكون المحكم هو إطلاق وجوب الوفاء بالنذر.

و الحاصل: انّ القدر المتيقّن من المخصص هو لزوم رضا المولى حين النذر و هو حاصل، و أمّا لزوم رضا من لم يكن مولى عند النذر فهو مشكوك، يؤخذ فيه بالعام و الإطلاق.

هذا على مبنى القوم، و على المختار فقد عرفت انصراف الروايات إلى الأيمان الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 585

.......... و النذور المنافية، و أمّا غيرها فليست داخلة تحت الإطلاقات حتى نلتمس الدليل على خروجها.

أمّا الثانية: فلو كان النذر منافيا لحقوق المولى الثاني بقاء فيقدم حق المولى، لأنّ عمله عندئذ يكون مرجوحا في ظرف العمل، و فاقدا لشرط لزوم العمل.

غير أنّ المصنّف أفتى ببقاء النذر مطلقا من غير فرق بين كونه منافيا للحقوق حين العمل أو لا، و لعلّ وجهه: انّ وجوب طاعة المولى مشروط بالقدرة الشرعية بأن لا يكون هناك مانع شرعي عن العمل به و النذر السابق مانع شرعي عن وجوب طاعة المولى، لأنّها طاعة في

المعصية و لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

يلاحظ عليه: أنّ الكلام في ثبوت الصغرى و هو أنّ إطاعة المولى، إطاعة في معصية الخالق، لما عرفت أنّه يشترط في انعقاد النذر، كونه راجحا حين العمل، و المفروض أنّه مناف لحقوق المولى و معه كيف يكون راجحا؟ و ليس للعبد غير القادر على شي ء أن يسلب المولى حقّه بحجّة أنّه نذر حين ما لم يكن عبدا له.

[المسألة 6: لو نذرت المرأة أو حلفت حال عدم الزوجيّة ثمّ تزوّجت

المسألة 6: لو نذرت المرأة أو حلفت حال عدم الزوجيّة ثمّ تزوّجت، وجب عليها العمل به، و إن كان منافيا للاستمتاع بها، و ليس للزوج منعها من ذلك الفعل كالحجّ و نحوه، بل و كذا لو نذرت أنّها لو تزوّجت بزيد مثلا صامت كلّ خميس، و كان المفروض أنّ زيدا أيضا حلف أن يواقعها كلّ خميس إذا تزوّجها، فإنّ حلفها أو نذرها مقدّم على حلفه، و إن كان متأخّرا في الإيقاع، لأنّ حلفه لا يؤثّر شيئا في تكليفها، بخلاف نذرها فإنّه يوجب الصوم عليها، لأنّه متعلّق بعمل نفسها، فوجوبه عليها يمنع من العمل بحلف الرجل. (1)*

(1)* في المسألة فرعان:

أحدهما: إذا نذرت الزوجة دون الزوج و له حالتان:

أ. إذا نذرت الزوجة أو حلفت قبل أن تتزوج دون الزوج و لم يكن النذر منافيا لحقوق الزوج.

ب. تلك الحالة و كان الحلف منافيا لحقوقه.

ثانيهما: إذا حلفت الزوجة أو نذرت، انّها لو تزوّجت بزيد صامت كلّ خميس، و حلف أو نذر زيد انّه إذا تزوّجها أن يواقعها كلّ خميس.

فندرس كلّ فرع برأسه.

أمّا الفرع الأوّل: فإن لم يكن منافيا لحقوق الزوج فعليها أن تعمل على وفق يمينها و نذرها، لأنّ النذر انعقد صحيحا و لا دليل على شرطية إذن الزوج فيما إذا تقدّم النذر أو

اليمين على الزوجية، و المفروض عدم كونهما منافيين لحقه، فلا وجه لمنع الزوج عن العمل بما فرضت على نفسها.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 587

.......... و أمّا إذا كان منافيا فقد ذهب المصنّف بأنّه ليس للزوج منعها من ذلك الفعل، كالحجّ المندوب و الصوم، و يظهر وجه ذلك ممّا مرّ في المسألة الخامسة، أعني: المملوك الناذر بإذن المالك و المنتقل إلى غيره بالإرث أو البيع، فقد أفتى المصنّف فيها ببقائهما على اللزوم بدعوى أنّه لا يبقى حقّ للمولى الثاني بعد انعقاد النذر و صيرورته واجبا عليه، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، و نظيره المقام فانّه ليس للزوج منعها عن العمل بواجبها، لأنّه أمر بالمنكر و طاعته طاعة في المعصية.

و قد عرفت أنّ الكبرى لا غبار عليها إنّما الكلام في الصغرى، لأنّه يشترط في نفوذ اليمين أن لا يكون مبطلا لحقّ الآخر، و في نفوذ النذر أن يكون راجحا حين العمل، و الشرطان غير موجودين، و كون حلف الزوجة أو نذرها متقدّمين، لا يكون سببا لإبطال الحقوق، أو لزوم الإتيان بالعمل المرجوح.

أمّا الفرع الثاني، فقد ذهب المصنّف إلى لزوم عملها باليمين و النذر قائلا بأنّ حلفها أو نذرها مقدّم على حلفه- حتى- و إن كان متأخرا في الإيقاع، لأنّ حلفه لا يؤثر شيئا في تكليفها بخلاف نذرها فإنّه يوجب الصوم عليها، لأنّه متعلّق بعمل نفسها، فوجوبه عليها يمنع من العمل بحلف الرجل.

و حاصل الاستدلال: انّ بين حلفي الزوجة و الزوج فرقا، و هو انّ حلفها تعلّق بعمل نفسها، أعني: صومها كلّ يوم خميس، فوجوبه عليها يصدّها عن إطاعة حلف زوجها في مجال الاستمتاع، إذ لو أطاعت، لكانت الإطاعة في أمر حرام، و أمّا حلفه

فقد تعلّق بأمر قائم به و بالغير، و مثله لا يحدث تكليفا بالنسبة إلى الغير (الزوجة) فيقدّم نذر الزوجة لتمامية موضوعه و إن كان متأخرا زمانا من حلف الزوج.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 588

.......... يلاحظ عليه: أنّ كلّ حلف لا يحدث تكليفا إلّا لشخص الحالف لا للغير من غير فرق بين الحلفين، فكما أنّ حلف الزوجة لا يحدث تكليفا بالنسبة إلى الزوج، فهكذا حلف الزوج لا يحدث تكليفا لها، أمّا حلف الزوجة فمعلوم، و أمّا حلف الزوج فإنّما حلف على الاستمتاع الذي هو حق مشروع له، غاية الأمر يتوقّف تمتعه من حقّه، على تمكين الغير، و هذا ليس بمعنى إحداث التكليف للغير و كون الوفاء بأحد الحلفين متوقّفا على فعل الغير دون الآخر لا يكون فارقا في المسألة بعد كون كلا الحلفين، حلفا مشروعا طالبا للامتثال. نعم أنّ التكليفين لمّا كانا متزاحمين، حيث إنّ تقديم أحدهما يوجب عصيان التكليف الآخر، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

فإن قلت: إنّ هنا تكليفين متوجّهين إلى الزوجة و هو وجوب العمل بالنذر و وجوب طاعة الزوج، فإذا كان نذر الزوجة سابقا زمانا كان رافعا لموضوع (وجوب الطاعة) و بالتالي وجوبهما، فإذا ارتفع وجوب طاعة الزوج عنها بارتفاع موضوعه فصار ممّن لا تجب طاعة الزوج عليها، كان نذر الزوج باطلا لتعلّقه بغير المشروع. «1»

قلت: إنّ إطاعة الزوج في مجال الاستمتاع من العناوين الأوّلية، و قد حكم على الزوجة بوجوب طاعته على وجه التعليق قبل التزويج و على نحو التنجيز بعده.

و أمّا النذر و اليمين و العهد فهي و إن كانت من العناوين الثانوية، لكنّها ليست مشرّعة، مغيّرة لأحكام العناوين الأوّلية، فلو فرضنا انّه نذر الوضوء بالمضاف إذا شفى اللّه

ولده، فالنذر لا يغير حكم الماء المضاف، بل هو باق على الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 589

.......... حكمه و هو عدم الصحّة.

و الحاصل: انّ النذر و أخويه لا تمس كرامة أحكام العناوين الأوّلية، بل هي تبقى على أحكامها حتّى بعد عروض النذر، فلو نذر نافلة الفجر فالواجب هو الوفاء بالنذر، و أمّا النافلة فهي باقية على استحبابها، و لا يحصل الوفاء بالنذر إلّا بإتيانها مستحبة.

نعم لو كان العنوان الثانوي كالضرر و الحرج، تتحدّد الأحكام بحدّ الضرر و الحرج، لأنّ لهما حكومة على أحكام العناوين الواقعية.

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ نذر الزوجة قبل التزويج لا يبطل وجوب طاعة الزوج و لا يرفع موضوعه حتّى لا يكون في الساحة إلّا نذر الزوجة.

و الصحيح في حلّ العقد هو دراسة نذر كلّ من الزوجة و الزوج من حيث كونهما جامعين للشرط أو لا، فقد تقدّم أنّه يشترط في صحّة النذر، كون المتعلّق راجحا، و في اليمين عدم كونه مرجوحا بأن يكون الفعل مكروها أو حراما.

فنقول: إنّ الزوج- مع قطع النظر عن النذر- تارة يطلب الاستمتاع و يكره تركه، و عندئذ يفقد نذر الزوجة شرطه و هو الرجحان حين العمل لكونه مفوّتا لحقّ الزوج المطالب فعلا، غير الراضي بتركه أبدا و تختص الساحة بنذر الزوج.

و أخرى يكون الأمر على العكس، حيث يكون إلى الترك أميل، و عندئذ يفقد نذر الزوج شرطه، أعني: الرجحان، إذ لا رجحان في المتعلّق مع كراهته و كراهة الزوجة، فلا يكون في الساحة إلّا نذر الزوجة، من دون فرق بين تقدّم نذر الزوجة زمانا أو تأخّره فليس للتقدّم و التأخّر في المقام دور و لو قلنا بتأثير التقدّم و التأخّر، فإنّما نقول بها في التكليفين المتوجّهين

إلى شخص واحد، كما إذا نذر إعطاء درهم لزيد، يوم الخميس، ثمّ نذر إعطاء درهم آخر في ذلك اليوم لعمرو و لم يملك في

[المسألة 7: إذا نذر الحجّ من مكان معيّن- كبلده أو بلد آخر معيّن- فحجّ من غير ذلك المكان

المسألة 7: إذا نذر الحجّ من مكان معيّن- كبلده أو بلد آخر معيّن- فحجّ من غير ذلك المكان لم تبرأ ذمّته و وجب عليه ثانيا. نعم لو عيّنه في سنة، فحجّ في تلك السنة من غير ذلك المكان وجب عليه الكفّارة، لعدم إمكان التدارك، و لو نذر أن يحجّ من غير تقييد بمكان ثمّ نذر نذرا آخر أن يكون ذلك الحجّ من مكان كذا، و خالف فحجّ من غير ذلك المكان، برئ من النذر الأوّل، و وجب عليه الكفّارة لخلف النذر الثاني، كما أنّه لو نذر أن يحجّ حجّة الإسلام من بلد كذا فخالف، فإنّه يجزيه عن حجّة الإسلام، و وجب عليه الكفّارة لخلف النذر. (1)*

ذلك اليوم إلّا درهما واحدا، فالتأثير للمتقدّم منهما، على قول.

(1)* هنا فروع:

1. إذا نذر الحج المندوب من مكان معيّن فحجّ من غيره.

2. تلك الصورة لكن عيّن سنة الحج في نفس السنة من غير ذلك المكان.

3. لو نذر أن يحجّ من غير تقييد بمكان، ثمّ قيّد النذر الأوّل، بنذر ثان على أن يحجّ من مكان معيّن، فخالف فحجّ من غيره.

و الفرق بين الأوّلين و الثالث واضح، فالنذر فيهما مقيّد من أوّل الأمر بالحج من مكان معين، بخلاف الثالث فانّ النذر فيه مطلق، ثم قيّد بنذر ثان و هو الحجّ من مكان معيّن.

و قبل دراسة الفروع نبحث في أصل يبتني عليه استنباط هذه الفروع، و هو

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 591

.......... اعتبار الرجحان في الخصوصية الفردية و عدمه، فإنّ لهذا الأصل دورا في المقام فنقول:

اعتبار الرجحان في

الخصوصية الفرديّة و عدمه إذا كانت الفريضة أو النافلة مع خصوصياتهما ذات رجحان، كما إذا نذر الإحرام للحج من المسجد الحرام صحّ نذره، لوجود الرجحان في النذر و الخصوصية الفرديّة معا لكون الإحرام منه أفضل من سائر الأمكنة. «1» إنّما الكلام إذا كان المنذور راجحا دون خصوصياته، كما إذا نذر الحج من بيته، أو بلد خاص من دون أن يكون له رجحان على سائر الأمكنة، فهل يكفي رجحان أصل الفعل و إن لم تكن الخصوصية ذات رجحان؟ وجهان، بل قولان يظهر من الفيض في مفاتيحه كفاية وجود الرجحان في الجامع بين الأفراد قال: و كذا لو تضمّنه العبادة، كالتصدّق بمال مخصوص، فإنّ الخصوصية مباحة، و مع هذا يتعيّن اتّفاقا لتعلّق النذر بها، و ذلك لأنّه من حيث إنّه فرد من المطلق الراجح عبادة، بل المطلق لا وجود له إلّا في ضمن الخاص، فإذا تعلّق النذر بالخاص انحصرت الطاعة فيه. «2»

الظاهر لزوم وجود الرجحان في الخصوصية الفردية وراء وجوده في أصل الفعل، إذ لو لم يكن لها رجحان، فلماذا فرض على نفسه إيجاد الطبيعة معها، بل كفى إيجادها في ضمن أي فرد شاء؟

و الحاصل: أنّ الالتزام بالخصوصية إنّما هو لأجله سبحانه، كالالتزام بأصل الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 592

.......... الفعل، فكما يشترط فيه الرجحان، فهكذا ما يقع له.

و بذلك يظهر ما في تفصيل بعض الأجلّة في تعليقته على المقام حيث فصّل بين ما إذا كان المنذور، هذا الفرد الخاص من الحج فيكون النذر نافذا، و إلّا فالصحة مشروطة برجحان الحج من خصوص هذا المكان.

يلاحظ عليه: بأنّ نذر الفرد الخاص من الحج، إن كان بمعنى نذر الجامع في ضمن هذا الفرد، بحيث يكون الفرد ظرفا للمنذور،

أعني: الحج، دون ان يكون ظرفا للنذر، فلازم ذلك تعلّق النذر بالجامع دون الخصوصية، و جواز إتيانه في ضمن أي فرد شاء.

و إن كان بمعنى تقيد نذر الجامع بالخصوصية دفعة واحدة (مقابل الوجه الثالث) فصحّته إذا لم يكن فيه رجحان أوّل الكلام، لأنّ الالتزام بشي ء للّه سبحانه فرع رجحانه و مقربيّته.

و بذلك يعلم مفاد ما يرويه اصحاب الصحاح و السنن عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أنّه قال «لا تشدّ الرحال إلّا الى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، و المسجد الحرام، و المسجد الاقصى». «1»

و قد قلنا- ان النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم على فرض صحة الحديث-: لا يعني تحريم شدّ الرحال إلى غير هذه المساجد الثلاثة، بل يقصد عدم الفائدة فيه، لأنّ عامة المساجد سوى الثلاثة متساوية في الفضيلة و الثواب، فلا فائدة في شدّ الرحال من قم إلى طهران لإقامة الصلاة في جامعها فإنّ ثواب الصلاة في المسجد الجامع لكلا البلدين واحد.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 593

.......... حكم الفروع على كلا المبنيين الفرع الأوّل: لو كانت الخصوصيّة ذات رجحان و خالف و حجّ من غيرها لم تبرأ ذمّته و وجب إتيانه ثانيا، و ليس عليه كفّارة، لعدم تقيّد المنذور بسنة خاصّة، و لو كانت فاقدة للرجحان، تبرأ ذمّته بلا حاجة إلى الإعادة لتعلّق النذر بالجامع و عدم تعلّقه بالخصوصية.

و أمّا على مختار الفيض و تبعه المصنّف فبما أنّ النذر صحيح مطلقا، سواء أكانت الخصوصية ذات رجحان أو لا، لا تبرأ ذمّته، و وجب عليه إتيانه ثانيا.

الفرع الثاني: نفس الصورة السابقة لكن قيد المنذور، بسنة خاصّة فخالف و أتى في نفس السنة من مكان آخر، فعلى المختار من

شرطية الرجحان في الخصوصية كأصل الفعل، فلو كانت الخصوصية واجدة للرجحان، فخالف تتعلّق به الكفّارة لحنث النذر، دون القضاء لما قال المصنّف من عدم إمكان التدارك، وجهه: انّ المأتي به جامع لقيد الزمان دون المكان، فلو قضى من المكان المخصوص يكون جامعا لقيد المكان دون الزمان، فلا رجحان للثاني على الأوّل.

و بعبارة أخرى: انّ القضاء فرع فوت العمل و المفروض انّه غير فائت، و إنّما فات القيد، و على ذلك فلا ينافي الحكم بعدم القضاء في المقام، مع ما سيوافيك في المسألة الثانية من وجوب القضاء لمن ترك الحج إذا نذر في سنة معيّنة.

و إن كانت فاقدة للرجحان، صحّ الحج و برئت ذمّته بلا حاجة إلى الكفّارة.

و أمّا على المبنى الآخر، من إلغاء شرطية الرجحان في الخصوصية، فالنذر منعقد مطلقا و لو خالف، لا يعاد، لعدم إمكان الإعادة، لكن تتعلّق به الكفّارة مطلقا، كانت الخصوصية راجحة أو لا.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 594

.......... و بالجملة يكون المختار عند هؤلاء- مطلقا- مع وجود الرجحان في الخصوصية و عدمه، ما هو المختار عندنا فيما إذا كانت الخصوصية ذات رجحان.

الفرع الثالث: أعني ما لو نذر من غير تقييد بمكان خاص، لكن قيّده بنذر آخر، و بما انّ النذر الثاني على استقلاله، فلو لم تكن الخصوصية راجحة لا ينعقد النذر الثاني و يبقى النذر الأوّل على إطلاقه فيكن مجزئا؛ و أمّا إذا كان في الخصوصية رجحان، فلو خالف و حجّ من مكان آخر برئت ذمّته من النذر الأوّل، لامتثاله، و وجبت عليه الكفّارة لخلف النذر الثاني، لأنّ المفروض وجود الرجحان في الخصوصية، و إلّا فلا.

و لا أظن أنّ القائل بعدم شرطية الرجحان في الخصوصية في الصورتين الأوليين أن

يقول به في هذه الصورة، للفرق الواضح بينهما، فإنّ النذر فيهما واحد تعلّق بفرد خاص، و أمّا المقام فالنذر متعدّد، و لكلّ نذر حكمه، أي في لزوم الرجحان فيه و تعلّق الكفّارة لدى الخلف. و على ذلك جرى المصنّف في هذا الفرع.

[المسألة 8: إذا نذر أن يحجّ و لم يقيّده بزمان

المسألة 8:

[1] إذا نذر أن يحجّ و لم يقيّده بزمان، فالظاهر جواز التأخير إلى ظنّ الموت أو الفوت، فلا يجب عليه المبادرة إلّا إذا كان هناك انصراف، فلو مات قبل الإتيان به- في صورة جواز التأخير- لا يكون عاصيا، و القول بعصيانه مع تمكّنه في بعض تلك الأزمنة و إن جاز التأخير لا وجه له.

[2] و إذا قيّده بسنة معيّنة لم يجز التأخير مع فرض تمكّنه في تلك السنة.

[3] فلو أخّر عصى و عليه القضاء و الكفّارة.

[4] و إذا مات وجب قضاؤه عنه.

[5] كما أنّ في صورة الإطلاق إذا مات- بعد تمكّنه منه قبل إتيانه- وجب القضاء عنه. و القول بعدم وجوبه بدعوى أنّ القضاء بفرض جديد ضعيف لما يأتي. (1)*

(1)* في المسألة فروع ستة:

1. إذا نذر أن يحجّ و لم يقيّده بزمان، فهل يجوز تأخيره؟

2. إذا نذر أن يحجّ في سنة معيّنة لم يجز تأخيره.

3. و إذا نذر أن يحجّ سنة معيّنة و أخّر مع التمكّن يجب عليه القضاء و الكفّارة؟

4. إذا نذر أن يحجّ مقيّدا بسنة فمات مع فرض تمكّنه منه وجب القضاء عنه.

5. إذا نذر أن يحجّ مطلقا و مات قبل إتيانه مع تمكّنه منه وجب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 596

.......... القضاء عنه.

6. هل القضاء من الأصل أو الثلث؟ و سيوافيك كلام المصنّف فيه.

و إليك دراسة الفروع واحدا تلو الآخر:

الفرع الأوّل: في وجوب المبادرة إذا نذر أن يحجّ

تطوّعا و لم يقيّده بزمان، فهل تجب المبادرة في أوّل أزمنة التمكّن، أو يجوز التأخير إلى ظن الموت أو الفوت فيبادر عندئذ؟ قولان:

1. جواز التأخير. و هو خيرة: العلّامة، و الشهيد الثاني، و سبطه في المدارك، و الفاضل الهندي.

قال العلّامة: إذا نذر الحجّ مطلقا لم يتعيّن الفور، بل يجوز التأخير إلى أن يغلب عليه الظن بالوفاة لو لم يفعله. «1»

و قال في «المسالك» عند قول المحقّق: «إذا نذر الحجّ مطلقا فمنعه مانع»: لا خلاف في جواز تأخير المطلق إلى أن يظنّ الوفاة، سواء أحصل مانع أم لا، نعم يستحبّ المبادرة به مع عدم المانع. «2»

و قال في «المدارك»: و قد قطع الأصحاب بأنّ من نذر الحجّ مطلقا يجوز له تأخيره إلى أن يتضيّق وقته بظنّ الوفاة، ... و وجهه واضح، إذ ليس في الأدلّة النقلية ما يدلّ على اعتبار الفورية، و الأمر المطلق إنّما يدلّ على طلب الماهية من غير إشعار بفور و لا تراخ كما بيّناه مرارا. «3»

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 597

.......... و يؤيد هذا القول اتّفاق العقلاء على أصالة السلامة التي نتيجته جواز التأخير عند الشكّ في زوال القدرة في المستقبل، و نظير أصالة السلامة، استصحاب بقاء الحياة و القدرة في المستقبل إلى حصول الاطمئنان بالفوت إن لم يأت.

2. وجوب الفوريّة، و قد نقل الفاضل الهندي في «كشف اللثام». «1» وجوها له عن تذكرة العلّامة، و لم نعثر على تلك الوجوه فيها في مظانّها، و إليك سردها:

أ. انصراف المطلق إلى الفوريّة.

ب. لو لم نقل بالفورية لم يتحقّق الوجوب لجواز الترك مادام حيّا.

ج. لضعف ظنّ الحياة هنا، لأنّه إذا لم يأت به في عام لم يمكنه الإتيان به إلّا في عام آخر.

د.

لإطلاق بعض الأخبار الناهية عن تسويف الحجّ.

و لا يخفى عليك ضعف الجميع سوى الانصراف الذي يأتي توضيحه.

أمّا الثاني، فلأنّه لا ملازمة بين عدم الفورية و عدم تحقّق الوجوب، و ذلك لأنّ القائل بعدم الفورية لا يجوّز الترك مادام حيّا، بل يجوز الترك إلى أن يظنّ الوفاة أو الفوت، فعند الظنّ يتحقّق الوجوب الفوري بلا شكّ. و لو قلنا بعدم حجّية الظن، يكون التأخير محدّدا بالاطمئنان بالإتيان في العام القابل.

و أمّا الثالث، أعني قوله: «أو لضعف ظن الحياة هنا» فلا شكّ أنّه يختلف حسب الأشخاص، فربّ إنسان يحصل له الاطمئنان بالبقاء، و آخر لا يحصل له، فلو لم يأت به في عام فإنّما هو لأجل اطمئنانه بالإتيان به في العام القابل.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 598

.......... و أمّا الرابع، فمورد الأخبار هو حجّة الإسلام لا الحجّ المنذور.

و الأولى أن يستدلّ على الفورية مطلقا أو في خصوص الحجّ بالوجوه التالية:

1. إنّ النذر إذا كان مستوجبا حقّا للّه تعالى، كان تأخير الحقّ بغير إذن ذي الحقّ حراما، و لذلك ذكروا أنّ إطلاق البيع و الإجارة و نحوهما يقتضي التعجيل. «1»

2. حكم العقل- بعد اشتغال ذمّة العبد بالواجب- بإفراغ ذمّته عمّا وجب عليه، و خلاص نفسه عن تكليف المولى، فإنّ التكليف إذا وصل و تنجّز عليه- المكلّف- ليس له التأخير عن أدائه- إلّا بالدليل-. «2»

3. انّ مقتضى طبع أمر المولى، هو الامتثال بعد التنجّز، إلّا أن يدلّ دليل على جواز التأخير، فالأصل المتّبع عند العقلاء في دائرة المولويّة و العبوديّة هو القيام بامتثال التكليف في أوّل أزمنة التكلّف، إلّا إذا دلّ دليل خارجيّ على جواز التأخير.

و الفرق بين الوجهين الأخيرين واضح، إذ الوجه الثاني يعتمد على حكم العقل

بإفراغ الذمة عمّا وجب عليه، بخلاف الوجه الثالث فإنّه يعتمد على بناء العقلاء بالخروج عن عهدة التكليف عند التنجّز.

هذا كلّه حول الفرع الأوّل، و إليك الفروع الباقية.

الفرع الثاني: إذا نذر الحجّ في سنة معيّنة لا يجوز تأخيره و وجهه واضح، لأنّ تأخير الواجب عن وقته المحدّد عصيان بلا شكّ، كما أنّ مخالفة النذر المحدّد بسنة، إخلال بالنذر، و لا يغسله إلّا الكفّارة.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 599

.......... الفرع الثالث: تلك الصورة و لكنّه أخّر وجبت عليه الكفّارة و القضاء أمّا وجوب الكفّارة عليه فواضح، لأنّه حنث نذره، و قد مرّ أنّه لا يغسله سوى الكفّارة و إنّما المهمّ هو وجوب القضاء على العاصي في حال حياته، فإنّه من المسائل غير المنصوصة، فيجب استخراج حكمها من القواعد.

نقول: قد ورد وجوب القضاء في نذر صوم اليوم المعيّن إذا أفطر عن عمد أو بدونه.

ففي مكاتبة علي بن مهزيار، قال: كتبت إليه- يعني إلى أبي الحسن عليه السّلام-: يا سيدي رجل نذر أن يصوم يوما من الجمعة دائما ما بقي، فوافق ذلك اليوم يوم عيد فطر أو أضحى أو أيّام التشريق أو سفر أو مرض، هل عليه صوم ذلك اليوم أو قضاؤه؟ و كيف يصنع يا سيّدي؟

فكتب إليه: «قد وضع اللّه عنه الصيام في هذه الأيام كلّها، و يصوم يوما بدل يوم إن شاء اللّه».

و كتب إليه يسأله: يا سيدي رجل نذر أن يصوم يوما فوقع ذلك اليوم على أهله، ما عليه من الكفّارة؟ فكتب إليه: «يصوم يوما بدل يوم، و تحرير رقبة مؤمنة».

و رواه الشيخ بإسناده عن علي بن مهزيار، إلّا أنّه قال: يوم فطر أو يوم جمعة. «1»

إنّما الكلام في الموردين الآخرين:

1. إذا نذر غير الحجّ

كالإطعام في وقت محدّد فأخلّ، فهل يجب عليه القضاء؟ و هذا خارج عن محط البحث.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 600

.......... 2. إذا نذر الحجّ في سنة معيّنة فأخلّ به، فهل يجب عليه القضاء في العام القادم؟

يظهر من كلام صاحب المدارك أنّ القضاء على الناذر ممّا قطع به الأصحاب، و يمكن استظهار ما ذكره من الإجماع على القضاء من طرق مختلفة:

أ. تصريحهم بوجوب القضاء في نفس المسألة قال المحقّق: فإن عيّن الوقت فأخلّ به مع القدرة، وجب عليه القضاء. «1»

و قال في «المسالك»: و يجب مع القضاء كفّارة خلف النذر. «2»

و قال في «المدارك»: إذا نذر الحجّ في وقت معيّن وجب على الناذر الإتيان به في ذلك الوقت، مع الإمكان؛ فإن أخلّ به مع القدرة، وجب عليه الكفّارة و القضاء فيما قطع به الأصحاب. «3»

و قال في «الجواهر» بعد عبارة المحقّق حسب ما نقل: بلا خلاف أجده فيه، بل هو مقطوع به في كلام الأصحاب كما اعترف به في «المدارك». «4»

قال البحراني- بعد ما ذكر أنّ النذر قد يكون مطلقا غير مقيّد بسنة أو يكون مقيّدا بها.- ما هذا لفظه: و إن نذر مقيّدا بسنة مخصوصة فأخلّ مع القدرة، وجب القضاء و الكفّارة في ما قطع به الأصحاب أيضا- إلى أن قال:- فاعلم أنّ الخلاف قد وقع في القضاء في الصورتين المذكورتين (الحجّ المحدّد بسنة و غيره)

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 601

.......... هل يجب أم لا؟ المقطوع به في كلام الأصحاب الأوّل. «1»

ب. تصريحهم بالقضاء عنه إذا مات فإنّ وجوب القضاء عنه يكشف عن وجوب القضاء عليه في حياته، و إلّا فلا وجه لتحمّل الولي ما ليس على ذمّة الميّت.

قال العلّامة: و لو قيّده

بوقت فأخّل به مع القدرة، أثم، و قضي عنه. «2» و هو الفرع الرابع في كلام المصنّف.

ج. تصريحهم بأنّ وجوب القضاء فرع كونه متمكّنا من الأداء قال الشهيد: و الظاهر مراعاة التمكّن في وجوب القضاء على الناذر أيضا، و لو قيد الحجّ بعام فمرض أو صدّ فلا قضاء. «3» و التركيز على الشرط يكشف عن كون الحكم (وجوب القضاء) أمرا مسلّما.

د. اختلافهم- عند القضاء عنه- في أنّه يخرج من الأصل أو الثلث اختلفوا في أنّه يقضى عنه من الأصل أو الثلث. و لو لا الوجوب عليه لما وجب القضاء عنه حتّى يصحّ الخلاف في أنّ الإخراج من الأصل أو الثلث.

فهذه الوجوه الأربعة لا تبقي شكّا في وجوب القضاء على الناذر إذا أخلّ بالنذر المعيّن.

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 602

.......... نعم يظهر من غير واحد من المتأخّرين الترديد أو إنكار وجوب القضاء، نأتي بكلماتهم:

1. قال صاحب المدارك: فلأنّ النذر إنّما اقتضى وجوب الأداء، و القضاء يحتاج إلى أمر جديد كما في حجّ الإسلام، و بدونه يكون منفيّا بالأصل السالم من المعارض. «1»

و قال الفاضل الهندي عند قول المحقّق: «يقضى»: عنه وجوبا كما قطع به الأصحاب، و إن كان للنظر فيه مجال للأصل، و افتقار وجوبه إلى أمر جديد. «2»

و قال النراقي: و وجوب الأداء لا يستلزم وجوب القضاء، لأنّه بأمر جديد كما في حجّ الإسلام، و بدونه يكون منفيّا بالأصل.»

قال المحقّق الخوئي: متى ثبت اشتغال الذمّة، يجب التفريغ عنه بإتيانه بنفسه أو بالإتيان عنه و لو من الأجنبي. و أمّا إذا لم يثبت الاشتغال كما في المقام- أعني: الواجبات النذرية- فلا دليل على وجوب القضاء لعدم ثبوت اشتغال الذمّة على نحو الديون و بعض الواجبات

المنصوصة، و ليس القضاء نفس العمل الواجب سابقا، حتّى يقال بعدم الحاجة إلى أمر جديد، بل العمل الواجب سابقا قد فات، و هذا العمل الواقع في خارج الوقت عمل آخر مغاير له حقيقة و إنّما هو مشابه له صورة، و لو كان واجبا لكان بدليل مستقل غير الدليل الأوّل، فوجوب الحجّ المنذور المقيّد بسنة خاصة في غير ذلك الزمان يحتاج إلى دليل مستقلّ آخر، و كذلك وجوب الصلاة المقيّدة بوقت خاص في غير ذلك الوقت الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 603

.......... يحتاج إلى دليل.

و بالجملة: إذا خرج الوقت فقد فات الواجب، فكيف يمكن أن يقال باشتغال الذمّة بذلك بمجرّد الوجوب الأوّل، بل لابدّ في وجوبه في الوقت الثاني من دليل آخر. «1»

يلاحظ عليه: بأنّ التتبع في الفرائض الشرعية يثبت أنّها تتضمن أمرين:

الوضع، و التكليف. و الثاني يتبع الأوّل، و هما اشتغال الذمة بها و وجوب أدائها، و ليست الفرائض مجرّد تكليف خال عن الوضع و اشتغال الذمّة إلّا ما شذّ و ندر، كما في إعطاء الطعام لمن يموت من الجوع عام المجاعة، فإنّه لو لم يعطه حتّى مات لا يجب عليه و لا على وارثه القضاء، لأنّ الواجب إنّما هو حفظ النفس المحترمة، و هذا لا يقبل البقاء بعد موته، و كما في نفقة الأرحام فإنّه صرف تكليف دون أن يكون اشتغال للذمة بالإنفاق، فلذا لو ترك الإنفاق عليهم لا يجب القضاء، لأنّ الواجب سدّ الخلة، فإذا فات لا يتدارك.

و أمّا غير هذين الموردين و ما يشابههما، فالأصل الغالب هو اشتغال الذمّة، فيترتب عليه وجوب الفعل، و لذلك يجب قضاء الصلاة و الصوم و الحجّ الواجب بالذات، و الكفّارات، فاحتمال أنّ الحجّ المنذور مجرّد

تكليف يزول بزوال وقته بعيد جدّا.

الحجّ دين و الذي يؤيّد ذلك إطلاق الدين تارة على الحجّ، و أخرى على غيره من الواجبات كالصوم، فإنّ إطلاق الدين عليه يعرب عن اشتغال الذمّة بالعمل،

الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 604

.......... و لازمه وجوب القضاء عليه، بل و القضاء عنه إذا مات، و الغرض من الاستشهاد بها هو كون هذه الفرائض ليست مجرّد تكليف، بل فيه نوع وضع و اشتغال، و هذه الروايات نقلها الفريقان باختلاف في التعبير.

1. روى المحدّث النوري عن «دعائم الإسلام»، عن جعفر بن محمد عليهما السّلام أنّ رجلا أتاه فقال: أبي شيخ كبير لم يحجّ فأجهّز رجلا يحجّ عنه؟ فقال: «نعم إنّ امرأة من خثعم سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أن تحج عن أبيها لأنّه شيخ كبير، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: نعم فافعلي إنّه لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أجزأه ذلك». «1»

2. روى المحدث النوري عن «روض الجنان» (تفسير الشيخ أبي الفتوح الرازي): عن امرأة خثعمية أنّها أتت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، فقالت: يا رسول اللّه إن فرض الحجّ قد أدرك أبي، و هو شيخ لا يقدر على ركوب الراحلة، أيجوز أن أحجّ عنه؟ قال صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: «يجوز». قالت: يا رسول اللّه، ينفعه ذلك؟ قال صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يجزئ؟» قالت: نعم. قال: «فدين اللّه أحقّ». 2

و الظاهر: أنّ المراد: هو الأحقيّة بالإجزاء، أو صحة القضاء، لا أنّه أحقّ أن يقضى، لأنّ السؤال عن صحّة القضاء لا عن

وجوب القضاء، فاحفظ ذلك فإنّه يفيدك في الفرع السادس.

و لا ينافي ذلك ما هو الغرض من الاستشهاد بها هنا، حيث وصف الحج بكونه دينا.

3. ما رواه البخاري في كتاب الصوم، «باب من مات و عليه صوم»، عن الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، ص: 605

.......... ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فقال: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: إنّ أمّي ماتت و عليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: «نعم». قال: «فدين اللّه أحقّ أن يقضى». «1»

4. ما رواه مسلم عن ابن عباس، أنّ امرأة أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فقالت: إنّ أمّي ماتت و عليها صوم شهر فقال: «أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه؟» قالت: نعم، قال: «فدين اللّه أحقّ بالقضاء». «2»

و الروايتان واردتان في باب الصوم.

5. صحيح ضريس الكناسي: قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن رجل عليه حجة الإسلام نذر نذرا في شكر ليحجنّ به رجلا إلى مكة فمات الذي نذر قبل أن يحجّ حجّة الإسلام و من قبل أن يفي بنذره الذي نذره؟ قال: «... و إن لم يكن ترك مالا إلّا بقدر ما يحجّ به حجّة الإسلام حجّ عنه بما ترك، و يحجّ عنه وليّه حجّة النذر إنّما هو مثل دين عليه». «3» و مورد الحديث و إن كان النذر المطلق، لكن محلّ الشاهد، هو وصفه الحجّ دينا.

6. معتبرة معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل توفّي و أوصى أن يحجّ عنه، قال: «إن كان صرورة فمن جميع المال، إنّه بمنزلة الدين الواجب». «4»

7. خبر حارث بيّاع الأنماط: انّه سئل

أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أوصى بحجة؟ فقال: «إن كان صرورة فهي من صلب ماله إنّما هي دين عليه ...». 5

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.