التوسل : مفهومه و اقسامه و حكمه في الشريعه الاسلاميه الغراآ

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : التوسل : مفهومه و اقسامه و حكمه في الشريعه الاسلاميه الغراآ/ تاليف جعفر السبحاني مشخصات نشر : نشر مشعر، 1374.

مشخصات ظاهري : ص 120

فروست : (علي مائده العقيده 2)

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس موضوع : توسل موضوع : توسل -- احاديث رده بندي كنگره : BP226/6/س 2ت 9 1374

رده بندي ديويي : 297/468

شماره كتابشناسي ملي : م 75-251

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

[قال اللَّه تبارك وتعالى:]

اشارة

ص: 4

«يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إليهِ الوَسِيلَةَ وجاهِدُوا في سبيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». المائدة/ 35

ص: 5

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل

والحمد للَّه ربّ العالمين، والصَلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان الى يوم الدين.

يولي المسلمون أهميّة كبرى للعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضي ءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنية صَرحَ النظامِ الأخلاقي والإجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا- ونظراً للحاجةِ المتزايدة- رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّةٍ من كتاب اللَّهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام، تُروي ظمأَ العطشانِ، وتلَبّي حاجةَ المشتاق، وتساعد على إيقاظ الأُمة، وتوحيد صفوفها، واللَّه الموفِق.

معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة

ص: 6

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد رسله وخاتم أنبيائه محمد وآله الطاهرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

تكتسب العقيدة الصحيحة أهمية كبرى في حياة المسلم، لأنها تشكِّل حجر الزاوية في سلوكه وتمثل ضوء طريقه، وزاد معاده.

ولهذا كرّس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم الفترة المكية من حياته الرسالية في إرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنية صَرح النظام الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

ولهذا- ونظراً للحاجة المتزايدة- رأينا أن نقدّم للأُمة الإسلامية الكريمة وجبات اعتقادية عاجلة، مستمدّة من كتاب اللَّه العزيز، والسنّة الشريفة الصحيحة، والعقل السليم الحصيف، وما اتّفق عليه علماء الأُمة الكرام، تروي ظمأ العطشان، وتلبّي حاجة المشتاق، وتساعد على إيقاظ الأُمة، وتوحيد صفوفها واللَّه الموفق.

ص: 7

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف أنبيائه وأفضل سفرائه محمد وآله الطاهرين وعلى عباد اللَّه الصالحين.

أمّا بعد: فقد خلق اللَّه سبحانه العالم التكويني على أساس الأسباب والمسبّبات، فلكل ظاهرة في الكون سبب عادي يؤثّر فيها بإذنه سبحانه، وليس للعلم والعالم التجريبي شأن سوى الكشف عن تلك الروابط الموجودة بين الظواهر الكونية، وكلّما تقدّم العلم في ميادين الكشف، تتجلّى تلك الروابط بأعمق صورة لدينا والكلُّ يدل على شي ء وهو، أنّه سبحانه خلق النظام الكوني على أساس وسائل وأسباب تتبنّى مسبّباتها بتنظيم منه سبحانه إذ «هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً» والماء سبباً للحياة فالكل مؤثرات فيما سواه حسب

ص: 8

مشيئته وإذنه، قال سبحانه: «وأنزل من السَّماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم» (البقرة/ 32) والباء في الآية بمعنى السببية والضمير يرجع إلى الماء، وقال أيضاً: «أوَلم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فتخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا تبصرون» (السجدة/ 27)، فالآية صريحة في تأثير الماء على الزرع، وأنّه سبحانه أعطى له تلك المقدرة وكلُّ من الأسباب جنود له سبحانه، قال: «وما يعلم جنود ربّك إلّاهو» (المدثّر/ 31) فلو كانت الملائكة جنوداً للَّه تبارك وتعالى كما يقول سبحانه:

«فأنزل اللَّه سكينته عليه وأيّده بجنودٍ لم تروها» (التوبة/ 40) فالأسباب العادية التي تعتمد عليها الحياة الجسمانية للإنسان، جنوده سبحانه في عالم المادة ومظاهر إرادته ومشيئته.

وهذا ليس بمعنى تفويض النظام لهذه الظواهر المادية، والقول بتأصّلها في التأثير واستقلالها في العمل بل الكل، متدلٍّ بوجوده سبحانه، قائم به، تابع لمشيئته وإرادته وأمره.

هذا هو الذي نفهمه من الكون ويفهمه كل من أمعن النظر فيه، فكما أنّ الحياة الجسمانية قائمة على أساس الأسباب والوسائل، فهكذا نزول فيضه المعنوي سبحانه إلى العباد تابع لنظام خاص كشف عنه الوحي، فهدايته سبحانه تصل إلى الإنسان عن طريق ملائكته وأنبيائه ورسله وكتبه، فاللَّه سبحانه هو الهادي، والقرآن أيضاً هو الهادي، والنبي الأكرم أيضاً هو الهادي ولكن في ظل إرادة اللَّه سبحانه، قال سبحانه: «واللَّه يريد الحقِّ وهو يهدي السَّبيل» (الأحزاب/ 4) وقال سبحانه: «إنّ هذا القرآن يهدي للَّتي هي أقوم» (الإسراء/ 6) وقال سبحانه في حقّ نبيّه: «وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم» (الشورى/ 52).

ص: 9

فهداية اللَّه تعالى تصل إلى الإنسان عن طريق الأسباب والوسائل التي جعلها اللَّه سبحانه طريقاً لها وإلى هذا الأصل القويم يشير الإمام الصادق عليه السلام في كلامه ويقول: «أبى اللَّه أن تجري الأشياء إلّابأسباب فجعل لكل شي ءٍ سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً» (1).

فعلى ضوء هذا الأساس فالعالم المعنوي يكون على غرار العالم المادي فللأسباب سيادة وتأثير بإذنه سبحانه، وقد شاء اللَّه أن يكون لها دور في كلتا النشأتين، فلا غرو لمن يطلب رضى اللَّه أن يتمسّك بالوسيلة، قال اللَّه سبحانه: «يا أيّها الذين آمنوا اتَّقوا اللَّه وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلّكم تفلحون» (المائدة/ 35).

فاللَّه سبحانه حثّنا للتقرب إليه على التمسّك بالوسائل وابتغائها، والآية دعوة عامة لا تختص بسبب دون سبب، بل تأمر بالتمسّك بكل وسيلة توجب التقرّب إليه سبحانه، وعندئذٍ يجب علينا التتبّع في الكتاب والسنّة، حتّى نقف على الوسائل المقرّبة إليه سبحانه، وهذا ممّا لا يعلم إلّامن جانب الوحي، والتنصيص عليه في الشريعة، ولولا ورود النص لكان تسمية شي ء بأنّه سبب للتقرّب، بدعة في الدين، لأنّه من قبيل إدخال ما ليس من الدين في الدين.

ونحن إذا رجعنا إلى الشريعة نقف على نوعين من الأسباب المقرّبة إلى اللَّه سبحانه:

النوع الأول: الفرائض والنوافل التي ندب إليها الكتاب والسنّة، ومنها التقوى، والجهاد الواردين في الآية، وإليه يشير عليّ أمير


1- 1 الكليني: الكافي: 1/ 183.

ص: 10

المؤمنين عليه السلام ويقول: «إنّ أفضل ما توسل به المتوسّلون إلى اللَّه سبحانه وتعالى، الإيمان به، وبرسوله، والجهاد في سبيله فإنّه ذروة الإسلام، وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة، وإقام الصلاة فإنّها الملّة، وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإنّه جُنّة من العقاب، وحجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر، ويرحضان الذنب، وصلة الرحم فإنّها مثراة في المال، ومنسأة في الأجل، وصدقة السرّ فإنّها تكفّر الخطيئة، وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السوء وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان»(1)

.غير أنّ مصاديق هذا النمط من الوسيلة لا تنحصر في ما جاء في الآية أو في تلك الخطبة بل هي من أبرزها.

النوع الثاني: وسائل ورد ذكرها في الكتاب والسنّة الكريمة، وحثّ عليها الرسول وتوسّل بها الصحابة والتابعون وكلّها توجب التقرّب إلى اللَّه سبحانه، وهذا هو الذي نطلبه في هذا الأصل حتى يعلم أنّ الوسيلة لا تنحصر في الفرائض والمندوبات الرائجة بل هناك وسائل للتقرّب دلّت عليها السنّة، وهي التوسّل بالنبي الأكرم على أشكاله المختلفة التي سنذكرها، فهذا عليّ عليه السلام يقول في ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

«اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك نُزُله، وشرِّف عندك منزله وآته الوسيلة وأعطه السناء والفضيلة واحشرنا في زمرته» (2).

فإذا وقفنا على أنّ النبيّ هوالوسيلة المقرّبة إلى اللَّه، فتجب علينا


1- 1 نهج البلاغة، الخطبة: 110.
2- 2 المصدر نفسه: الخطبة 106.

ص: 11

مراجعة السنّة لنطّلع على كيفية التوسّل به فهي تبيّن لنا تلك الكيفية.

فعلى من يطلب استجابة دعائه، أن يتوسّل إلى اللَّه بأسباب جعلها اللَّه سبحانه وسيلة لهذا المبتغى.

*** أخي العزيز: فقد عالجت في هذه الرسالة الوجيزة مسألة التوسّل الذي قد أثارت في بعض الأجواء قلقاً واضطراباً، ولو أنَّ إخواننا رجعوا إلى كتاب اللَّه وسنّة نبيّه بنظرة فاحصة متجردة عن كل رأي مسبق لوجدوا فيهما بياناً شافياً، لا يدع شكاً لشاك ولا ريباً لمرتاب، وبما أنّ بعضهم- سامحهه اللَّه- ربّما يرمي المتوسّل بالتألّه للمتوسّل به، أو يعد عمله بدعة. وضعنا أمامك بحثاً موجزاً حول هذين الأصلين:

1- التوحيد في العبادة، 2- حرمة البدعة، ليقف القارئ على أنّ المتوسِّل بالأسباب- مادية كانت أم معنوية- يؤمن بذينك المبدأين أتمّ الإيمان، وأنّه مع إيمانه وتسليمه بهما يتوسل بما سُوِّغ في الشريعة الإسلامية التمسّك به.

نسأله سبحانه أن يرزقنا توحيد الكلمة، كما تفضّل علينا كلمة التوحيد إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.

جعفر السبحاني

4 رمضان المبارك

عام 1415 ه

1- التوحيد في العبادة أساس دعوة الأنبياء

ص: 12

التوحيد في العبادة يُشكِّل أساس دعوة الأنبياء في جميع عهود الرسالة السماوية، والمقصود منه دعوة الإنسان إلى عبادة اللَّه، وردعه عن عبادة غيره أيّاً كان.

فالتوحيد في العبادة، وتحطيم أغلال الشرك والوثنيّة، هو الحجر الأساس للتعاليم السماوية، فكأنّ الأنبياء والرسل لم يُبْعَثوا إلّاإلى هذا الهدف الوحيد وهو، تثبيت دعائم التوحيد ومكافحة الشرك بعامّة ألوانه، وأخصّ منها بالذكر، الشرك في العبادة.

لقد جاءت تلك الحقيقة في الذكر الحكيم بجلاء، إذ قال تعالى:

«ولقد بعثنا في كلّ أُمة رسولًا أنِ اعبدوا اللَّه واجتنبوا الطاغوت» (النحل/ 36).

وقال سبحانه: «وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلّانوحي إليه أنّه لا إله إلّاأنا فاعبدون» (الأنبياء/ 25) وفي موضع آخر يصف القرآن الكريم التوحيد في العبادة: الأصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية إذ يقول: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبدَ إلّاإيّاه ولا نشرك به شيئاً» (آل عمران/ 64).

إنّ القرآن الكريم يصوِّر موقفَ المشرك في الحياة بالذي خرّ من السماء فلا يكون مصيره إلّاطُعماً للصقور والنسور، أو ملقىً في مكان سحيق، قال سبحانه: «ومن يشرك باللَّه فكأنّما خرّ من السماء فتخطّفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق» (الحج/ 31) فما هذا إلّالأنّ المشرك اعتمد في الحياة على ما ليست له مسحة من الواقعية أو لمسة

ص: 13

من الصدق فاعتمد على المخلوق المحتاج، واتّخذه عماداً في حياته، وزعم أنّه ينفع ويضرّ مع أنّه ليست له أيّة مقدرة لحفظ نفسه فضلًا عن صيانة عابده، فأشبه بمن خرّ من السماء فليس له أيّ صائن يصونه من السقوط أو يحفظه من شرور الطيور أو السقوط في مهاوي الأودية.

فنبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم حسب هذه الآيات ووفقَ ما وَصَلَنا من حياته، كافح الشرك في العبادة بكل حول وقوة، وجعله السبيل إلى سائر دعواته، كما كافح سائر ألوانه وإن كان التركيز على الشرك في العبادة أكثر.

فالمسلم لا يدخل في حظيرة الإسلام إلّابالاعتقاد بهذا الأصل الذي لا يقبل التخصيص ولا التقييد، فالعبادة بمعناها الحقيقي، مختصة باللَّه سبحانه لا تعمّ غيره وإشراك الغير معه ظلم وتعدٍّ على حدود اللَّه قال سبحانه حاكياً عن أحد عباده الصالحين: «يا بُنيّ لا تشرك باللَّه إنّ الشرك لظلمٌ عظيم» (لقمان/ 13).

فعلى ضوء ذلك فكل عمل في الشريعة الإسلامية يجب أن ينطبق على هذا الأصل ولا يتعدّاه، حتى لو ورد في حديث، أو نقل عن إمام شي ء يزاحم ذلك الأصل فهو كذب على النبي أو الإمام، وهو مرفوض يضرب عرض الجدار.

2- البدعة في الدين

اشارة

وهناك أصل آخر له الأهمية الخاصة بعد ذلك الأصل وهو حرمة البدعة والتدخّل فيما يرجع إلى الشريعة الإلهية من عند نفسه، وذلك لأجل حصر التشريع في اللَّه سبحانه، وانّه ليس لأحد الدخول في تلك

ص: 14

الحظيرة، أعني: حظيرة التشريع، وأنّه ممّا يختص به سبحانه، فمن نازعه في التشريع وأدخل في شريعته ما ليس منه، فهو مبطل مبتدع، وفي الذكر الحكيم آيات كثيرة تُحْصِر التشريع في اللَّه سبحانه وتسلب ذلك الحق عن غيره، نشير إلى بعضها: قال سبحانه: «إن الحكم إلّاللَّه أمر ألّا تبعدوا إلّاإيّاه ذلك الدِّين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون» (يوسف/ 40) والمراد من الحكم، هو التشريع والتقنين، بقرينة قوله: «أمر ألّا تبعدوا إلّاإيّاه».

ويقول سبحانه: «وكيف يحكّمونك وعندهم التَّوراة فيها حكم اللَّه ثم يتولّون من بعد ذلك وما أُولئك بالمؤمنين» (المائدة/ 43).

ترى أنّه سبحانه يذمُّ اليهودَ في إعراضهم عن التوراة وفيها حكم اللَّه وتحكيم النبي الأكرم، وما هذا إلّالأنّ التشريع خاص باللَّه تعالى وليس لأحد في التشريع أيّ حقّ.

يقول سبحانه في ذمّ اليهود وأحبارهم حيث كانوا يعدلون عن حكم اللَّه إلى حكم آخر طمعاً في الدنيا إذ ينددهم بقوله: «ومن لم يحكم بما أنزل اللَّه فأُولئك هم الكافرون» (المائدة/ 44).

وقال: «ومن لم يحكم بما أنزل اللَّه فأُولئك هم الظّالمون» (المائدة/ 45).

وقال: «ومن لم يحكم بما أنزل اللَّه فأُولئك هم الفاسقون» (المائدة/ 47).

فهذه الآيات ونظائرها، دليل على أنّه ليس لأحد الحكم إلّاوفق ما شرّع اللَّه، ومن خرج في حكمه عن إطار التشريع الإلهي فهو كافر وظالم وفاسق.

ص: 15

وهناك كلمة قيّمة عن أحد أئمة أهل البيت محمد الباقر عليه السلام إذ يقول: «الحكم حكمان: حكم اللَّه، وحكم أهل الجاهلية فمن أخطأ حكمَ اللَّه حكم بحكم أهل الجاهلية» (1).

إنّ الآيات الدالّة على ذم التشريع والتدخل في شؤون اللَّه تعالى كثيرة تجمعها البدعة في الدين، من غير فرق بين الإفتاء بما خالف الكتاب والسنّة أو إدخال ما لم يرد فيها ورميه باللَّه، فالمعنى الجامع للبدعة هو الافتراء على اللَّه ورسوله ونشر المفترى بين الأُمة باسم الدين، يقول سبحانه: «ومن أظلم ممّن افترى على اللَّه كذباً أو كذّب بآياته إنّه لا يفلح الظالمون» (الأنعام/ 21).

ترى أنّه سبحانه يُلقِّن النبيَّ الأكرم أن يجيب المشركين الذين اقترحوا عليه أن يأتي بغير هذا القرآن أو يبدّله فيقول: «قل ما يكون لي أن أُبدّله من تلقاء نفسي إن أتّبع إلّاما يوحى إليَّ إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يومٍ عظيم» (يونس/ 15).

وقال الرسول: «إنّ أصدقَ الحديث كتاب اللَّه، وإنّ أفضل الهدى هدى محمد، وشر الأُمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (2).

يقول ابن حجر في تفسير قوله: «وشرّ الأُمور محدثاتها»:

«المحدثات جمع محدثة، المراد ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمّى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة» (3).


1- 1 الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
2- 2 العسقلاني: فتح الباري في شرح البخاري: 13/ 153.
3- 3 العسقلاني: فتح الباري في شرح البخاري: 13/ 153.

ص: 16

فهذان الأصلان اللّذان أشرنا إليهما على وجه الإيجاز، ممّا اتّفقت عليها الأُمة الإسلامية جمعاء على اختلاف مذاهبهم في الأُصول والفروع، ولا تجد حكيماً أو متكلماً أو فقيهاً ينبس ببنت شفة على خلاف ذلك، فكيف لا وشعار المسلمين في جميع العصور على أن لا معبود إلّاإيّاه، ولا حاكم ومشرّع إلّاهو.

فالمسلم يتلو كل يوم قوله: «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين» (الحمد/ 5).

كما يتلو قوله سبحانه: «يا أيّها الَّذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي اللَّه ورسوله واتّقوا اللَّه إنّ اللَّه سميعٌ عليم» (الحجرات/ 1).

وقوله سبحانه: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللَّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة ومن يعص اللَّه ورسوله فقد ضلّ ضلالًا مبيناً» (الأحزاب/ 36).

وقوله سبحانه: «إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتقون» (الأنعام/ 153).

فالمُبْتدع هو المشرّع المعرِضُ عن سبيل اللَّه، التابعُ لغير سبيله، المفرِّق جماعة المسلمين عن سبيله سبحانه، لا بل هو المفتري الكذّاب الذي يفتري على اللَّه سبحانه ويقترف أفضح المعاصي فمصيره إلى النار.

*** إذا وقف على موقف الأصلين فالهدف هو تبيين مفهوم التوسّل وبيان أقسامه وأحكامه في ضوء الكتاب والسنّة ولا تتخطاهما قيد شعرة، فما سوّغه الكتاب والسنّة النبوية، جعلناه في قائمة التوسّل المشروع، وما خالفهما، تركناه في قائمة الممنوع والمرفوض،

ص: 17

وسيوافيك أنّ الممنوع منه، ما يمسّ كرامة التوحيد في العبادة، أو يكون تدخلًا في أمر التشريع، ومصداقاً للبدعة التي ما أنزل اللَّه بها من سلطان.

وقد اعتمدنا في فهم أحكامه، على غُرّ الآيات ومحكماتها، وصحاح السنّة وحسانها والسيرة الرائجة بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان التي نكشف بها عن وجود دليل عليه وصل إليهم ولم يصل إلينا. ولم نتّخذ في ذلك موقفاً مسبقاً حتى نُخْضِع الأدلة عليه، بل اتّبعنا مرامي الكتاب ومقاصد السنّة.

***

التوسّل لغة واصطلاحا

التوسّل من وسلت إلى ربّي وسيلة: عملتُ عملًا أتقرّبُ به إليه، وتوسّلت إلى فلان بكتاب أو قرابة، أي تقربتُ به إليه (1).

وقال الجوهري في الصحاح: الوسيلة ما يتقرّب به إلى الغير والجمع: الوُسُل والوسائل (2).

ونحن في غنى عن تحقيق معنى الوسيلة في اللغة، لأنّها من المفاهيم الواضحة لدينا وحقيقتها لا تتجاوز عن اتّخاذ شي ء ذريعة إلى أمر آخر يكون هو المقصود والمبتغى وهي تختلف حسب اختلاف المقاصد.

فمن ابتغى رضى اللَّه تبارك وتعالى يتوسّل بالأعمال الصالحة التي بها يكتسب رضاه، ومن طلب استجابة دعائه يتوسّل بشي ء جُعِل


1- 1 الخليل: ترتيب المعين، مادة «وسل».
2- 2 الجوهري: الصحاح، ج 5، مادة «وسل».

ص: 18

في الشريعة وسيلة لها، ومن أراد زيارة بيت اللَّه الحرام يتوسّل بما يوصله إليها، فوضوح معناه يبعثنا إلى أن نترك نقل أقوال اللغويين في ذلك المضمار وإن كانت أكثر كلماتهم في المقام متماثلة.

والمقصود منه في المقام، هو أن يقدِّم العبدُ إلى ربّه شيئاً، ليكون وسيلةً إلى اللَّه تعالى لأن يتقبّل دعاءه ويجيبه إلى ما دعا، وينالَ مطلوبه، مثلًا إذا ذكر اللَّه سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ومجّده وقدّسه وعظّمه، ثم دعا بما بدا له، فقد اتّخذ أسماءه وسيلة لاستجابة دعائه ونيل مطلوبه، ومثله سائر التوسّلات، والتوسّل بالأسباب في الحياة، أمر فطري للإنسان، فهو لم يزل يدق بابها ليصلَ إلى مسبباتها، وقال الإمام الصادق عليه السلام: «أبى اللَّه أن تجري الأشياء إلّابأسباب فجعل لكل شي ء سبباً» (1).

إنّ الوسيلة إذا كانت وسيلة عادية للشي ء وسبباً طبيعياً له، فلا يشترط فيها إلّا وجود الصلة العادية بين الوسيلة والمتوسّل إليه، فمن يريد الشبع فعليه الأكل فلا يُريحه شربُ الماء، إذ لا صلة بين شرب الماء، وسدِّ الجوع، فالعقلاء في حياتهم الدنيوية ينتهجون ذلك المنهج بوازع فطري، أو بعامل تجريبي، نرى أنّ ذا القرنين عندما دُعي إلى دفع شرّ يأجوج ومأجوج الّذين كانوا يأتون من وراء الجبل ويفسدون ويقتلون ويغيرون، لبّى دعوتهم وتمسك بالسبب الطبيعي القويم الذي يدفع به شرّهم فخاطبهم بقوله: «آتوني زُبرَ الحديد حتى إذا ساوى بين الصَّدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أُفرغ عليهم قِطراً* فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا» (الكهف/ 96- 97).


1- 1 الكليني: الكافي: 1/ 183.

ص: 19

ففي هذا الموقف العصيب توسّل ذوالقرنين- ذلك الإنسان الإلهي- بسبب طبيعي إذ أنّه وقف على الصلة بين الوسيلة وما يهدف إليها، وهو سدّ الوديان بِقِطَعِ الحديد حتى إذا سوى بين الجبلين أمر الحدّادين أن ينفخوا في نار الحديد التي أُوقدت فيه حتى جعله ناراً، وعند ذلك قال: ائتوني نحاساً مذاباً أو صفراً مذاباً، حتى أصبَّه على السد بين الجبلين وينسد بذلك النقب ويصير جداراً مصمتاً، فكانت حجارته الحديد وطينه النحاس الذائب.

ففي المورد وأضرابه التي بنيت عليها الحياة الإنسانية في هذا الكوكب، لا يشترط بين الوسيلة والهدف سوى الرابطة الطبيعية أو العادية التي كشف عنها العلم والتجربة وأمّا التوسّل في الأُمور الخارجة عن نطاق الأُمور العادية، فبما أنّ التعرّف على أسبابه خارج عن إطار العلم والتجربة بل يُعدّ من المكنونات الغيبية، فلا يقف عليها الإنسان إلّا عن طريق الشرع وتنبيه الوحي، وبيان الأنبياء والرسل وما ذاك إلّالأنّهم هم الذين يرفعون الستار عن وجه الحقيقة ويصرّحون بالوسيلة ويبيّنوه بأنّ هناك صلة بينها وبين ما يبغيه الإنسان المتوسّل.

وهذا الأصل يبعثنا إلى أن لا نتوسل بشي ء فيما نبتغيه من رضى الربّ، وغفران الذنوب واستجابة الدعاء ونيل المنى، إلّاعن طريق ما عيّنه الشارع وصرّح بأنّه وسيلة لذلك الأمر، فالخروج عن ذلك الإطار يسقطنا في مهاوي التشريع ومهالك البِدع التي تعرّفتَ على مضاعفاتها.

فالمسلمون سلفُهم وخلفهم، صحابيّهم وتابعيّهم، والتابعون لهؤلاء بإحسان في جميع الأعصار ما كانوا يخرجون عن ذلك الخط الذي رسمناه، فما نَدَب إليه الشرع في مجال التوسّل يأخذون به، وما لم

ص: 20

يذكر، أو نهى عنه يتركونه، ولا اعتبار بالبدَعِ المحدثة التي ما أنزل اللَّه بها من سلطان.

وها نحن نذكر عليك التوسّلات المشروعة التي ندب إليها الشرع، وحثّ عليها النبي الأكرم وخلفاؤه مجتنبين عن الإسهاب في الكلام، مقتصرين على اللبّ تاركين القشر.

ص: 21

1 التوسّل بأسمائه وصفاته

أمر اللَّه سبحانه عباده بدعائه بأسمائه الحسنى وقال تعالى: «وللَّه الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون» (الأعراف/ 80).

إنّ الآية تصف أسماءه كلَّها بالحسنى لحسن معانيها، من غير فرق بين ما يرجع إلى صفات ذاته كالعالم والقادر، والحي. وما يرجع إلى صفات فعله كالخالق والرازق والمحيي والمميت، ومن غير فرق بين ما يفيد التنزيه ورفع النقص كالغنيّ والقدّوس، وما يعرب عن رحمته وعفوه كالغفور والرحيم، فعلى المسلم دعاؤه سبحانه بها فيقول: يا اللَّه يا رحمن يا رحيم، يا خالق السماوات والأرض، يا غافر الذنوب ويا رازق الطفل الصغير. وتركِ عملِ الذين يعدلون بأسماء اللَّه

ص: 22

تعالى عمّا هي عليه فيسمّون بها أصنامهم بالزيادة والنقصان، فيسمّون أصنامهم باللات والعزّى أخذاً من اللَّه العزيز، سيجزون ما كانوا يعملون في الآخرة.

فعندما يذكره العبد بأسمائه التي تضمّنت كل خير وجمال، ورحمة ومغفرة وعزّة وقدرة، ثم يعقبه بما يطلبه من مغفرة الذنوب وقضاء الحوائج فيستجيبه سبحانه، وقد دلّت على ذلك، الآثار الصحيحة التي نذكر منها ما يلي:

1- أخرج الترمذي عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه أنّ رسول اللَّه سمع رجلًا يقول: اللّهمّ إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت اللَّه لا إله إلّاأنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد فقال النبي: «لقد سألتَ اللَّه باسمه الأعظم الذي إذا دُعيَ به أجاب، وإذا سُئل به أعطى» (1).

والحديث تضمّن بيان الوسيلة، والتوسّل بالأسماء، وإن لم يأت فيه الغرض الذي لأجله سأل اللَّه تعالى بأسمائه.

2- عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم تسأله خادماً، فقال لها: «قولي: اللّهمّ ربّ السماوات السبع، وربّ العرش العظيم، ربّنا وربّ كل شي ء ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن، فالق الحبّ والنوى، أعوذ بك من شرّ كل شي ء أنت آخذ بناصيته، أنت الأوّل فليس قبلك شي ء، وأنت الآخر فليس بعدك شي ء، وأنت الظاهر فليس فوقك شي ء، وأنت الباطن فليس دونك شي ء، اقض عني الدين وأغنني


1- 1 الترمذي: الصحيح: 5/ 515 برقم 3475، كتاب الدعوات، الباب 65 من كتاب جامع الدعوات عن النبي.

ص: 23

من الفقر» (1).

3- وأخرج أحمد والترمذي عن أنس بن مالك، أنّه كان مع رسول اللَّه جالساً ورجل يصلّي، ثم دعا: اللّهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت، أنت المنّان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حيّ يا قيّوم، فقال النبي: «تدرون بم دعا اللَّه؟ دعا اللَّه باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى» (2).

وفي روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام نماذج من هذا النوع من التوسّل يقف عليها السابر في رواياتهم وأحاديثهم.

4- فقد روى الإمام الرضا عليه السلام عن جدّه محمد الباقر عليه السلام أنّه كان يدعو اللَّه تبارك وتعالى شهر رمضان بدعاء جاء فيه: «اللّهمّ إنّي أسألك بما أنت فيه من الشأن والجبروت، وأسألك بكلّ شأن وحده وجبروت وحدها، اللّهم إنّي أسألك بما تجيبني به حين أسألك فأجبني يا اللَّه» (3).

روى الشيخ الطوسي في مصباحه عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام دعاءً باسم دعاء السمات مستهلّه:

«اللّهمّ إنّي أسألك باسمك العظيم الأعظم، الأعزّ الأجلّ الأكرم، الذي إذا دُعيتَ به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة، انفتحت، وإذا دُعيتَ به على مضايق أبواب الأرض للفرج، انفرجت، وإذا دعيت به على العسير لليسر تيسرت ...» (4).


1- 1 الترمذي: الصحيح: 5/ 518 برقم 3481، كتاب الدعوات، الباب 68 من كتاب جامع الدعوات.
2- 2 الترمذي: الصحيح: 5/ 549- 550 برقم 3544، الباب 100 من كتاب الدعوات.
3- 3 السيد ابن طاووس الحلّي: الإقبال، ص 348، ط عام 1416.
4- 4 الطوسي: مصباح المتهجد، ص 374.

ص: 24

إنّ ثناء اللَّه وتقديسه ووصفه بما وصف به في كتابه وسنّة نبيّه، يوجد أرضية صالحة لاستجابة الدعاء، ويكشف عن استحقاق الداعي لرحمته وعفوه وكرمه. وبما أنّ هذا القسم من التوسّل اتفقت عليه الأُمة سلفها وخلفها ولم يذكر فيه أيّ خلاف فلنتقصر فيه بهذا المقدار.

ص: 25

2 التوسّل بالقرآن الكريم

إنّ الإنسان مهما كان مبدعاً في الوصف والتعبير، لا يستطيع أن يصف كلام اللَّه العزيز بمثل ما وصفه به سبحانه، فقد وصف هو كتابه بأنّه نور، وكتاب مبين، وهدىً للمتّقين، نزل بالحق تبياناً لكل شي ء، إلى غير ذلك من المواصفات الواردة فيه.

وكتابه سبحانه، فعله، فالتوسّل بالقرآن والسؤال به، توسّل بفعله سبحانه ورحمته التي وسعت كل شي ء ومع ذلك كلّه يجب على المتوسّل، التحقّق من وجود دليل على جواز هذا النوع من التوسّل، لما عرفت أنّ كل ما يقوم به المسلم من التوسّلات يلزم أن لا يخدش أصل التوحيد وحرمة التشريع، ومن حسن الحظ ترى وروده في الشرع.

روى الإمام أحمد، عن عمران بن الحصين، أنّه مرّ على رجل

ص: 26

يقصّ، فقال عمران: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون سمعت رسول اللَّه يقول:

«اقرأوا القرآن واسألوا اللَّه تبارك وتعالى به قبل أن يجي ء قوم يسألون به الناس» (1). فعموم لفظ الحديث يدل على جواز سؤال سبحانه بكتابه المنزل ما شاء من الحوائج الدنيوية والأُخروية.

والإمعان في الحديث يرشدنا إلى حقيقة واسعة وهي جواز السؤال بكل من له عند اللَّه منزلة وكرامة، وما وجه السؤال بالقرآن إلّا لكونه عزيزاً عند اللَّه، مكرّماً لديه، وهو كلامه وفعله، ونفس ذاك متحقّق في رسوله الأعظم وأوليائه الطاهرين عليهم سلام اللَّه أجمعين.

وورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنّه يستحبّ في ليلة القدر أن يفتح القرآن فيقول: «اللّهمّ إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه اسمك الأكبر وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار» (2).


1- 1 الإمام أحمد: المسند: 4/ 445. ورواه في كنز العمال عن الطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، لاحظ ج 1، ص 608 برقم 2788.
2- 2 ابن طاووس الحلّي: الإقبال، ص 41. رواه حريز بن عبد اللَّه السجستاني عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.

ص: 27

3 التوسّل بالأعمال الصالحة

إذا كان التوسّل بمعنى تقديم شي ء إلى ساحة اللَّه ليستجيب دعاءه، فلا شك في أنّ العمل الصالح أحسن شي ء يتقرّب به الإنسان إلى اللَّه تعالى، وأحسنُ وسيلةٍ يُتمسّك بها فتكون نتيجة التقرّب هي نزول رحمته عليه وإجابة دعائه، وفي بعض الآيات الكريمة تلميح إلى ذلك، وإن لم يكن فيها تصريح إلّاأنّ السنّة النبويّة صرّحت بذلك، أمّا الآيات فنأتي بنموذجين منها:

1- «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم* ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أُمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم» (البقرة/ 127- 128).

ص: 28

ترى أنّ إبراهيم وولده الحليم قدّما إلى اللَّه تبارك وتعالى وسيلة وهي بناء البيت، فعند ذلك طلبا من اللَّه سبحانه عدّة أُمور تجمعها الأُمور التالية:

تقبّل منّا، واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريّتنا أُمّة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا.

والآية إن لم تكن صريحة فيما نبتغيه غير أنّ دعاء إبراهيم في الظروف التي كان يرفع فيها قواعد البيت مع ابنه، ترشدنا إلى أنّ طلب الدعاء في ذلك الظرف، لم يكن أمراً اعتباطياً، بل كانت هناك صلة بين العمل الصالح والدعاء، وأنّه في قرار نفسه تمسك بالأوّل ليستجيب دعاءه.

2- قوله سبحانه: «الذين يقولون ربّنا إنّنا آمنّا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار» (آل عمران/ 169).

ترى أنّه عطف طلب الغفران بالفاء على قوله: «ربّنا إنّنا آمنّا»، ففاء التفريع تعرب عن صلة بين الإيمان وطلب الغفران.

وأنت إذا سبرت الآيات الكريمة تقف على نظير ذلك فكلّها من قبيل التلميح لا التصريح، غير أنّ في السنّة النبوية تصريح على أنّ ذكر العمل الصالح الذي أتى به الإنسان للَّه تبارك وتعالى، يثير رحمته، فتنزل رحمته على عبده ويُستجاب دعاؤه، وقد روى الفريقان القصّة التالية وفيها غنى وكفاية:

روى البخاري عن ابن عمران عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر، فآووا إلى غارٍ فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنّه واللَّه يا هؤلاء لا ينجيكم إلّاالصدق،

ص: 29

فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنّه قد صدق فيه.

فقال واحد منهم: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عمِلَ لي على فرق من أرُز، فذهب وتركه، وإنّي عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقراً، وأنّه أتاني يطلب أجره، فقلت:

اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنّما لي عندك فَرَق من أرُز، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فإنّها من ذلك الفَرَق، فساقها، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك، ففرّج عنّا، فانساحت عنهم الصخرة.

فقال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأتُ عليهما ليلةً، فجئتُ وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فَيسْتَكنّا لشربتهما، فلم أزل انتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا، فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء.

فقال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عم من أحبّ الناس إليّ وأنّي راودتها عن نفسها فأبت إلّاأن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرتُ، فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلمّا قعدت بين رجليها فقالت: اتّق اللَّه ولا تفضّ الخاتم إلّابحقّه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا، ففرّج اللَّه عنهم فخرجوا» (1).


1- 1 البخاري: الصحيح: 4/ 173، كتاب الأنبياء، الباب 53؛ ورواه في كتاب البيوع، الباب 98، واللفظ لكتاب الأنبياء.

ص: 30

لم تكن الغاية من تحديث النبي بما ذكر إلّاتعليم أُمته حتى يتّخذوا ذكر العمل الصالح وسيلة لاستجابة دعوتهم. ولو كان ذلك من خصائص الأُمم الماضية لصرّح بها. وقد رواه الفريقان، باختلاف في اللفظ.

3- روى البرقي أحمد بن خالد (ت 274 ه) في محاسنه، عن عبد الرحمن ابن أبي نجران، عن المفضل بن صالح، عن جابر الجعفي، يرفعه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «خرج ثلاثة نفر يسيحون في الأرض، فبينما هم يعبدون اللَّه في كهف في قلّة جبل حتى بدت صخرة من أعلى الجبل حتى التقمت باب الكهف، فقال بعضهم لبعض: عباد اللَّه واللَّه ما ينجيكم ممّا وقعتم إلّاأن تصدقوا اللَّه، فهلمّوا ما عملتم للَّه خالصاً، فانّما أسلمتم بالذنوب.

فقال أحدهم: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي طلبت امرأة لحسنها وجمالها، فأعطيت فيها مالًا ضخماً، حتى إذا قدرت عليها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة وذكرت النار، فقمت عنها فزعاً منك، اللّهمّ فارفع عنّا هذه الصخرة، فانصدعت حتى نظروا إلى الصدع.

ثم قال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي استأجرت قوماً يحرثون كل رجل منهم بنصف درهم، فلمّا فرغوا أعطيتهم أُجورهم، فقال أحدهم: قد عملت عمل اثنين واللَّه لا آخذ إلّادرهماً واحداً، وترك ماله عندي، فبذرت بذلك النصف الدرهم في الأرض، فأخرج اللَّه من ذلك رزقاً، وجاء صاحب النصف الدرهم فأراده، فدفعت إليه ثمن عشرة آلاف، فإن كنت تعلم أنّما فعلته مخافة منك فارفع عنّا هذه الصخرة، قال: فانفرجت منهم حتى نظر بعضهم إلى بعض.

ص: 31

ثم إنّ الآخر قال: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّ أبي وأُمّي كانا نائمين، فأتيتهما بقعب من لبن، فخفت أن أضعه أن تمج فيه هامة، وكرهت أن أُوقظهما من نومهما، فيشق ذلك عليهما، فلم أزل كذلك حتى استيقظا وشربا، اللّهمّ فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك ابتغاء وجهك فارفع عنّا هذه الصخرة، فانفرجت لهم حتى سهل لهم طريقهم، ثم قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: من صدق اللَّه نجا» (1).

4- وقال الإمام الطبرسي: أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في غار، فانسدّ عليهم، فقالوا: ليدعُ اللَّه تعالى كل واحد منّا بعمله حتى يفرّج اللَّه عنّا، ففعلوا، فنجّاهم اللَّه. رواه النعمان بن بشر مرفوعاً (2).

ولعل فيها غنىً وكفاية ومن أراد التبسط فعليه السبر في غضون الروايات.


1- 1 نور الثقلين: الجزء 3 في تفسير قوله: «أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً» الكهف/ 9 نقلًا عن محاسن البرقي في تفسير الآية.
2- 2 الطبرسي: مجمع البيان: 3/ 452.

ص: 32

4 التوسّل بدعاء الرسول الأكرم

إنّ للنبي الأكرم مكانة مرموقة عند ربّه ليس لأحدٍ مثلها، فهو أفضل الخليقة، وقد بلغت عناية القرآن الكريم ببيان نواح من مناقبه إلى حد لا ترى مثل ذلك إلّافي حق القليل من أنبيائه، وربما يطول بنا الكلام إذا قمنا بعرض جميع الآيات الواردة في حقّه، وإنّما نشير إلى بعضها.

فقد أشار الذكر الحكيم إلى مكانته المرموقة ولزوم توقيره وتكريمه وأنّه لا يصلح دعاؤه كدعاء البعض للبعض بقوله سبحانه: «يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيِّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون» (الحجرات/ 2) وقال سبحانه أيضاً: «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً» (النور/ 63).

ص: 33

وإلى كماله الرفيع وإمامته وكونه قدوة وأُسوة للمؤمنين يتأسّون به في قِيَمه ومُثُله العليا، بقوله سبحانه: «لقد كان لكم في رسول اللَّه أُسوة حسنة لمن كان يرجوا اللَّه واليوم الآخر وذكر اللَّه كثيراً» (الأحزاب/ 21).

وإلى عظمته وكرامته عند اللَّه بحيث يصلّي عليه سبحانه وملائكته فأمر المؤمنين أن يصلّوا عليه بقوله: «إنّ اللَّه وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً» (الأحزاب/ 56).

وإلى صفاء نفسه وقوة روحه وجمال خلقه بقوله: «إنّك لعلى خُلقٍ عظيم» (الشعراء/ 137).

وإلى عكوفه على عبادة ربّه وتهجّده في الليل وسهره في طريق طاعة اللَّه بقوله: «إنّ ربّك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك» (المزمل/ 20).

وإلى غزارة علمه بقوله: «وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل اللَّه عليك عظيماً» (النساء/ 113).

وإلى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم أحد الأمانين في الأرض بقوله: «وما كان اللَّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللَّه معذّبهم وهم يستغفرون» (الأنفال/ 33).

قد بلغت كرامة الرسول- عند اللَّه- إلى حدّ يتلو اسمه، اسم اللَّه وينسب إليهما فعل واحد ويقول: «وسيرى اللَّه عملكم ورسوله ثم تردّون إلى عالم الغيب والشّهادة» (التوبة/ 94).

وقال سبحانه: «من يطع اللَّه ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً» (الأحزاب/ 71).

وقال اللَّه سبحانه: «وما نقموا إلّاأن أغناهم اللَّه ورسوله من فضله» (التوبة/ 74).

ص: 34

إلى غير ذلك من الآيات التي اقترن فيها اسم نبيه إلى اسمه سبحانه ونسب إليهما فعل واحد وشهدت بكرامته عند اللَّه وقربه منه، فإذا كانت هذه منزلته عند اللَّه، فلا يرد دعاؤه، وتستجاب دعوته، فيكون دعاء مثل تلك النفس غير مردود، والمتمسك بدعائه متمسكاً بركن وثيق وعماد رصين، ولأجل تلك الخصوصية نرى أنّه سبحانه يأمر المذنبين من المسلمين إلى التمسّك بذيل دعائه، ويأمرهم بأن يحضروا الرسول الأعظم ويستغفروا اللَّه في مجلسه ويسألونه أن يستغفر لهم أيضاً، فكان استغفاره لهم سبباً لنزول رحمته وقبوله توبتهم، قال سبحانه: «وما أرسلنا من رسول إلّاليطاع بإذن اللَّه ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوكَ فاستغفروا اللَّه واستغفر لهم الرَّسول لوجدوا اللَّه توّاباً رحيماً» (النساء/ 64).

نرى أنّه سبحانه في آية أُخرى يندّد بالمنافقين بأنّه، إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللَّه، لوّوا رؤوسهم، يقول سبحانه: «وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللَّه لوّوا رؤوسهم ورأيتهم يصدّون وهم مستكبرون» (المنافقون/ 5).

وما هذا إلّالأنّ دعاء الرسول دعاء مستجاب، ودعوته مقبولة، واستغاثته مستجابة، لأنّه نابع من نفس طاهرة مؤمنة راضية مرضية.

إنّ من الظلم الواضح تسوية دعاء النبي بسائر المسلمين والتعبير عن دعائه صلى الله عليه و آله و سلم بدعاء الأخ المؤمن! وجعل الجميع تحت عنوان واحد، فانّ لدعاء الأخ المؤمن مقاماً رفيعاً، ولكن أين هو من دعاء الرسول؟!

إنّ التوسّل بدعاء الإنسان الأمثل كان رائجاً في الرسالات السابقة،

ص: 35

نرى أنّ أبناء يعقوب بعدما كُشِفَ أمرهم وبان ظلمهم توسّلوا بدعاء أبيهم النبيّ وقالوا له: «يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين* قال سوف أستغفر لكم ربّي إنّه هو الغفور الرحيم» (يوسف/ 97- 98).

ففي هذه الآيات دلالة واضحة على أنّ رحمة اللَّه الواسعة تارة تنزل على العبد مباشرة وبدون واسطة، وأُخرى تنزل على طريق أفضل خلائقه وأشرف رسله، بل مطلق رسله وسفرائه.

وفي ذلك دلالة على وهن ما يلوكه بعض الناس ويقولون: إنّه سبحانه أعرف بحال عبده وأقرب إليه من حبل الوريد يراه ويسمع دعاءه، فلا حاجة لتوسط سبب والتوسّل بمخلوق و ...، هذه الكلمات تصدر عمّن ليس له إلمام بالقرآن الكريم ولا بالسنّة النبوية ولا بسيرة السلف الصالح إذ ليس الكلام في علمه سبحانه، بل الكلام في أمر آخر وهو أنّ دعاء الإنسان الظالم لنفسه ربما لا يكون صاعداً إلى اللَّه تبارك وتعالى ومقبولًا عنده، ولكنّه إذا ضمّ إليه دعاء الرسول أصبح دعاؤه مستجاباً وصاعداً إليه سبحانه.

وللشيخ محمد الفقّي- من علماء الأزهر الشريف- كلام في المقام نأتي بملخّصه.

لقد شرّف اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم بأسمى آيات التشريف، وكرّمه بأكمل وأعلى آيات التكريم، فأسبغ عليه نِعَمه ظاهرة وباطنة، وتوّجه بأعظم أنواع التيجان قدراً وذكراً، وأرفع الأكاليل شأناً وخطراً. فذكر منزلته منه جلّ شأنه حياً وميتاً في قوله تعالى: «إنّ اللَّه وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الّذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً» فأيّ تشريف أرفع وأعظم من صلاته سبحانه وتعالى هو وملائكته عليه صلى الله عليه و آله و سلم؟ وأيّ

ص: 36

تكريم أسمى بعد ذلك من دعوة عباده وأمره لهم بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه و آله و سلم؟

ولم يقف تقدير اللَّه تعالى له عند هذا التقدير الرائع، بل هناك ما يدعو إلى الإعجاب ويلفت الأنظار إلى تعظيم على جانب من الأهمية، ألم تر في قوله تعالى: «لعمرك إنّهم لفي سكرتهم يعمهون» ما يأخذ بالألباب ويدهش العقول، فقد أقسم سبحانه وتعالى بنبيّه في هذه الآية:

«وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم» قال ابن عباس رضى الله عنه: ما خلق اللَّه ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم على اللَّه من محمد صلى الله عليه و آله و سلم:

وما سمعتُ أنّه تعالى أقسم بحياة أحد غيره، والقرآن الكريم تفيض آياته بسموّ مقامه، وتوحي بعلوّ قدره، وجميل ذكره، فقد جعل طاعته صلى الله عليه و آله و سلم طاعة له تعالى وقوله عزّ من قائل: «من يطع الرَّسول فقد أطاع اللَّه» وعلّق حبّه تعالى لعباده على اتّباعه صلى الله عليه و آله و سلم فيما بعث به وأرسل للعالمين، إذ يقول سبحانه: «قل إن كنتم تحبّون اللَّه فاتّبعوني يحببكم اللَّه».

وممّا يدل على مبلغ تقديره، ومدى محبة اللَّه تعالى، وتشريفه لرسوله صلى الله عليه و آله و سلم قوله تعالى: «وإذ أخذ اللَّه ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه» الآية، قال عليّ رضى الله عنه: «لم يبعث اللَّه نبياً من آدم فمن بعده إلّاأخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه و آله و سلم لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه ويأخذ العهد».

ففي ملازمة جبريل له صلى الله عليه و آله و سلم من مكّة إلى بيت المقدس أكبر مظهر من مظاهر الشرف والفخار، وأسمى آية من آيات التقدير للرسول

ص: 37

الأعظم في حياة الأُمم وتأريخها. فهذه الآيات التي قصصتها وجئتكم بها وإن كانت كلّها بصائر وهدى ورحمة لقوم يؤمنون لا أرى مانعاً من ذكر ما عداها، ففيها تنبيه الغافلين إلى مزيد من النظر فيما عساه أن يقنعهم ويهديهم إلى الإيمان بما جاءت به الآيات البيّنات، وما يوحي به الدين وتعاليمه القويمة، فمن روائع ما يتمتع به من العظمة الصلاة عليه صلى الله عليه و آله و سلم عند بدء الدعاء وختمه، فانّ في ذلك القبول والاستجابة، فقد صحّ عن عمر وعليّ- رضي اللَّه عنهما- أنّهما قالا لرجل دعا ولم يصلِّ على النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يرفع ولا تفتح له الأبواب حتى يصلّي الداعي على النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ومثل هذا لا يقال من قبيل الرأي فهو في حكم المرفوع، بل قد ثبت هذا مرفوعاً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وأخيراً قد دلّ قوله تعالى: «ورفعنا لك ذكرك» على علوّ مكانته وجليل قدره وعظم شأنه، إذ المعنى في ذلك انّنا قرنّا اسمك باسمنا، وجعلنا الإيمان لا يتحقّق إلّابالنطق بالشهادتين، وغير ذلك من براهين الشريعة وأدلّتها التي لا تحصى ولا يمكن أن تستقصى

وإليك ما قاله حسان بن ثابت صاحب الرسول وشاعره:

اغرَّ عليه للنبوّة خاتم من اللَّه من نور يلوح ويشهد

وضمّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشقَّ له من اسمه لِيُجلَّه فذوالعرش محمود وهذا محمد (1)

إنّ السبب الواقعي لاستجابة دعائه إنّما هو روحه الطاهرة ونفسه


1- 1 محمد الفقّي: التوسّل والزيارة ص 156- 160، وقد أورد في بحثه كثيراً من الآيات التي تشهد على عظمة رسول اللَّه ومكانته وقربه وقد لخّصنا كلامه.

ص: 38

الكريمة وقربها من اللَّه سبحانه، وهي التي تضفي للدعاء أثر التأثير وتجعله صاعداً ومدعماً لدعاء الغير.

نعم هناك كلام في اختصاص ذلك الأمر بحياة النبي الجسمانية، أو يعمّ حياته البرزخية التي فيها يُرزق ويفرح ويستبشر، فهناك من يخص الآية بحياته الجسمانية بحجة وروده فيها، ولكن الأدلة التي سنبيّنها توقفك على جلي الحال، فانتظر ...

ص: 39

5 التوسّل بدعاء الأخ المؤمن

التوسّل بدعاء الأخ المؤمن تمسّك بالسبب الذي جعله اللَّه سبحانه سبباً لاستجابة الدعاء، وقد دلّت الآيات على أنّ الملائكة يستغفرون للّذين آمنوا، وأنَّ المؤمنين اللاحقين يستغفرون للسابقين، وهذا يدل على أنّ دعاء الأخ في حقّ أخيه، أمر مرغوب ومطلوب ومستجاب، فإذا كان كذلك فعلى المذنب أن يتوسّل بهذا السبب المشروع ويطلب من أخيه الدعاء له، قال سبحانه: «الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للَّذين آمنوا ربّنا وسعت كلَّ شي ء رحمة وعلماً فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم» (غافر/ 7).

وقال سبحانه: «الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا

ص: 40

ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلّاً للّذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوف رحيم» (الحشر/ 59).

فدعاء حملة العرش واللاحقين من المؤمنين سبب صالح لإجابة الدعاء، فعلى المسلم الواعي التمسك بمثل هذا السبب وطلب الدعاء منهم.

وفي السنّة الشريفة ما يدل على ذلك، روى مسلم والترمذي عن عبد اللَّه عن عمرو بن العاص أنّه سمع رسول اللَّه يقول: «إذا سمعتم المؤذّن، فقولوا مثلما يقول، ثم صلّوا عليّ فانّه من صلّى عليّ صلاة، صلّى اللَّه عليه بها عشراً، ثم سلوا اللَّه لي الوسيلة فانّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّالعبدٍ من عباد اللَّه، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة» (1).

فهذا الحديث يدل بظاهره على أنّ الرسول يتوسّل إلى اللَّه تعالى بدعاء أُمته له، أن يؤتيه الوسيلة والمقام المحمود في الجنة ويكون جزاؤه شفاعتَه في حقّهم. فإذا كان هذا حال النبي فأولى لنا أن نتمسك بهذه الوسيلة:

وفي روايات أئمة أهل البيت تصاريح على ذلك، نذكر بعضها لتتجلّى الحقيقة بأجلِّ مظاهرها فانّ العترة الطاهرة أحد الثقلين اللّذين أمر النبي بالتمسك بهما والمتمسك بهما لن يضل:

1- روى أبو بصير، عن أبي جعفر، قال: «إنّ عليّ بن الحسين قال لأحد علمائه: يا بنيّ اذهب إلى قبر رسول اللَّه فصلِّ ركعتين، ثم قل:


1- 1 مسلم: الصحيح: 2/ 4، كتاب الصلاة، الباب 6؛ الترمذي: الصحيح: 5/ 589، كتاب المعاقب، الباب الأول، واللفظ للأوّل.

ص: 41

اللّهمّ اغفر لعليّ بن الحسين خطيئته يوم الدين، ثم قال للغلام: اذهب فأنت حرّ لوجه اللَّه» (1).

2- روى محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: «كان علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة، وكان إذا أذنب العبد يكتب عنده، أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا ولم يعاقبه، فيجتمع عليهم الأدب حتى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثم أظهر الكتاب، ثم قال يا فلان: فعلت كذا وكذا ولم أُؤدبك أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يابن رسول اللَّه، ويقررهم جميعاً، ثم يقوم وسطهم ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين إنّ ربّك قد أحصى عليك كل ما عملت كما أحصيت علينا ...

فاعف واصفح كما ترجو من المليك العفو، وكما تحب أن يعفو المليك عنك فاعف عنّا تجده عفوّاً ربك رحيماً- إلى أن قال:- فيقول لهم: قولوا اللّهمّ اعف عن علي بن الحسين كما عفا عنّا، فأعتِقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقّ، فيقولون ذلك، فيقول: اللّهمّ آمين ربّ العالمين، إذهبوا فقد عفوتُ عنكم وأعتقتُ رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي» (2).

3- وكان أصحاب أئمة أهل البيت يتوسّلون بدعائهم، وهذا هو علي بن محمد الحجال كتب إلى أبي الحسن الإمام الهادي وجاء في كتابه: «أصابتني علّة في رجلي ولا أقدر على النهوض والقيام بما يجب فإن رأيت أن تدعو اللَّه أن يكشف علّتي ويعينني على القيام بما يجب عليّ وأداء الأمانة في ذلك ...» (3).


1- 1 المجلسي: البحار: 46/ 92، نقلًا عن كتاب الزهد لحسين بن سعيد الأهوازي.
2- 2 المجلسي: البحار: 46/ 102، نقلًا عن كتاب الإقبال للسيد ابن طاووس المتوفى عام 664 ه.
3- 3 الأربلي: كشف الغمة: 3/ 251.

ص: 42

6 التوسّل بدعاء النبي في حياته البرزخية

اشارة

قد تلونا عليك دعوة القرآن الكريم المذنبين للتوسّل بدعاء النبي الأكرم، وهناك من يخص مفاد الآيات بحياة النبي الجسمانية قائلًا بانقطاعه عنّا بموته وانتقاله إلى الحياة البرزخية، وما ذلك إلّاأخذاً بظاهر الآية الواردة في حياته الدنيوية، وهذه الفكرة لها قيمتها لدى أصحابها، ولكن للمناقشة فيها مجال واسع. فاذا دلّت الآيات الكريمة والسنّة النبوية على امتداد حياته بعد انتقاله إلى البرزخ ووجود الصلة بينه وبيننا، لزم القول بعموم مفاد الآية وشمولها لما بعد الموت، خصوصاً إذا دعمها عمل السلف الصالح والتابعين لهم بإحسان، فهناك مواضيع من البحث لا يمكن القضاء البات فيها إلّابعد دراستها في ضوء الكتاب والسنّة، وهذه المواضيع هي:

ص: 43

1- حياة الأنبياء والأولياء بعد انتقالهم إلى البرزخ.

2- وجود الصلة بيننا وبينهم، حيث يسمعون كلامنا ويجيبون دعوتنا.

3- سيرة السلف الصالح على التوسّل بعد انتقالهم إلى البرزخ.

وإليك دراسة المواضيع واحداً تلو الآخر.

الأوّل: حياة الأنبياء والأولياء بعد انتقالهم إلى البرزخ:

هذا الموضوع هو المهم بين المواضيع، ويمكن الاستدلال عليه من خلال أُمور بعضها يدل على حياتهم بصورة مباشرة وأُخرى غير مباشرة، وإذا لاحظنا مجموع الأدلّة نقطع على حياتهم البرزخية بلا ريب وإليك هذه الأُمور:

أ- دلّت الآيات الشريفة على حياة الشهداء؛ حياة حقيقية مقترنة بآثارها من الرزق والفرح والاستبشار ودرك المعاني والحقائق، قال سبحانه: «ولا تحسبنّ الَّذين قُتلوا في سبيل اللَّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون* فرحين بما آتاهم اللَّه من فضله ويستبشرون بالَّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألّا خوف عليهم ولا هم يحزنون* يستبشرون بنعمة من اللَّه وفضله وأنّ اللَّه لا يضيع أجر المؤمنين» (آل عمران/ 169- 171).

فالآية تدل على حياة الشهداء وارتزاقهم عند ربهم مقترنة بالآثار الروحية من الفرح والاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم من خلقهم، وتبشيرهم على أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إلى غير ذلك ممّا جاء في الآيتين.

إنّ اللَّه سبحانه يطرح حياتهم لأجل إظهار كرامته ونعمته عليهم، وبذلك يرد الفكرة السائدة في صدر الرسالة من أن موت الشهيد انتهاءُ

ص: 44

حياته. وإذا كان الشهداء أحياءً لأجل استشهادهم في سبيل دين اللَّه الذي جاء به النبي الأكرم، فهل يُتصوّر أن يكون الشهداء أحياءً، ولا يكون النبيّ- الأفضل- القائد حيّاً، وهذا ما لا تقبله الفطرة السليمة، وأيّ مسلم لهج بخلافه فانّما يلهج بلسانه وينكره بقلبه وعقله.

ب- هذا هو حبيب النجار لم يكن له شأن سوى أنّه صدق المرسلين ولقى من قومه أذىً شديداً حتى قضى نحبه شهيداً. فنرى أنّه بعد موته خوطب بقوله سبحانه: «قيل ادخل الجنة» ثم إنّه بعد دخوله الجنة يتمنّى عرفان قومه مقامه ومصيره بعد الموت فيقول: «قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين» فهو يتمنّى في ذلك الحال لو أنّ قومه الموجودين في الدنيا علموا أنّه سبحانه غفر له وجعله من المكرمين، يتمنّى ذلك لأجل أن يرغب قومه في مثله وليؤمنوا لينالوا ذلك.

فمن المعلوم أنّ الجنة التي حلّ فيها حبيب النجار كانت قبل يوم القيامة، بشهادة أنّه تمنّى عرفان أهله مقامه وكرامة اللَّه عليه وهم على قيد الحياة الدنيوية، وإن لحقهم العذاب بعد ذلك، قال: «وما أنزلنا على قومه من بعده من جندٍ من السّماء وما كنّا منزلين* إن كانت إلّاصيحة واحدة فإذا هم خامدون» (يس/ 28- 29) فإذا كان الشهداء والصالحون- أمثال حبيب النجار المصدِّق للرسل- أحياءً يرزقون فما ظنّك بالأنبياء والصدّيقين المتقدّمين على الشهداء، قال سبحانه: «ومن يطع اللَّه والرَّسول فأُولئك مع الَّذين أنعم اللَّه عليهم من النَّبيّين والصِّدّيقين والشُّهداء والصّالحين وحسن أُولئك رفيقاً» (النساء/ 69) فلو كان الشهيد حياً يرزق فالرسول الأكرم الذي ربّى الشهداءَ واستوجب لهم تلك

ص: 45

المنزلة العليا، أولى بالحياة بعد الوفاة وبعدهم الصدّيقون.

ج- دلّت الآيات الكريمة والبراهين العقلية على أنّ الموت ليس فناء الإنسان ونفاذه، وإنّما هو انتقال من عالم إلى آخر، نعم الماديون المنكرون لعالمِ الأرواح، والنافون لما وراء الطبيعة يعتقدون بأنّ الموت فناء الإنسان وضلاله في الأرض بحيث لا يبقى شي ء من بعد ذلك إلّا الذرّات المادية المبعثرة في الأرض، ولهذا كانوا ينكرون إمكان إعادة الشخصية البشرية، إذ ليس هناك شي ء متوسط بين المبتدأ والمعاد.

جاء الوحي يندد بتلك الفكرة ويفنِّد دليلهم المبني على قولهم:

«أ إذا ضللنا في الأرض أإنّا لفي خلق جديد» فردّهم بقوله: «قل يتوفّاكم ملك الموت الَّذي وكّل بكم ثم إلى ربّكم ترجعون» (السجدة/ 10- 11).

وتوضيح الردّ أنّ الموت ليس ضلالًا في الأرض وأنّ شخصية الإنسان ليست هي الضالة الضائعة في ثنايا التراب، وإنّما الضال في الأرض هو أجزاء البدن المادّي، فهذه الأجزاء هي التي تتبعثر في الأجواء والأرض، ولكن هذه لا تشكّل شخصية الإنسان، بل شخصيته شي ء آخر هو الذي يأخذه ملك الموت، وهو عند اللَّه محفوظ، كما يقول: «يتوفّاكم ملك الموت الَّذي وكّل بكم ثم إلى ربِّكم ترجعون» فإذاً لا معنى للتوفّي إلّاالأخذ وهو أخذ الأرواح والأنفس ونزعها من الأبدان وحفظها عند اللَّه.

وهناك آية أُخرى تفسّر لنا معنى التوفّي بوضوح وأنّه ليس بمعنى الموت والفناء، بل الأخذ والقبض أي قبض شي ء موجود وأخذ شي ء واقعي، يقول سبحانه: «اللَّه يتوفّى الأنفس حين موتها والّتي لم تمت في منامها فيمسك الّتي قضى عليها الموتَ ويرسل الأُخرى إلى أجلٍ مسمّى إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكّرون» (الزمر/ 42) فمفاد الآية أنّ اللَّه يقبض

ص: 46

الأنفس ويأخذها في مرحلتين: حين الموت وحين النوم، فما قضى عليها بعدم الرجوع إلى الدنيا أمسكها، ولم يردّها إلى الجسد، وما لم يقض عليها كذلك أرسلها إلى أجل مسمّى. كل ذلك يكشف عن أنّ الموت ليس فناءَ الإنسانِ وآية العدم، بل هناك انخلاع عن الجسد وارتحال إلى عالم آخر.

د- وهناك كلمة قيّمة لأبي الشهداء الحسين بن علي عليه السلام توضح هذه الحقيقة إذ قال لأصحابه في يوم عاشوراء: «صبراً يا بني الكرام فما الموت إلّاقنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء، إلى الجنان الواسعة والنعم الدائمة فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وما هو لأعدائكم إلّاكمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إنّ أبي حدّثني عن رسول اللَّه أنّ الدنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبتُ ولا كُذِّبتُ» (1).

وفي هذه الآيات غنى وكفاية لثبوت الحياة البرزخية للأنبياء والشهداء والصديقين، بل لغيرهم وقد شهدت بذلك الآيات الكريمة التي لا مجال لنقلها، وهذه الحقيقة ممّا أجمع عليها أئمة أهل السنّة، فهذا الإمام الأشعري يقول: «ومن عقائدنا أنّ الأنبياء عليهم السلام أحياءٌ» وقد ألّف كتاباً أسماه «حياة الأنبياء» (2).

فلنقتصر بهذا البيان في إثبات الموضوع الأوّل وقد تركنا الاحتجاج على حياتهم بما ورد في السنّة النبويّة وسيوافيك بعضها في المستقبل.

***

الثاني: الصلة بين الحياة الدنيوية والحياة البرزخية:

اشارة


1- 1 مصطفى الموسوى: بلاغة الحسين: ص 47.
2- 2 السبكي: طبقات الشافعية: 3/ 406.

ص: 47

هذا هو الموضوع الثاني من المواضيع الثلاثة التي يتوقف عليها إثبات ما هو المقصود في هذا الفصل.

القول بالحياة البرزخية للأنبياء والصدّيقين لا يفي وحده بما هو المهم هنا ما لم يثبت أنّ هناك صلة بيننا وبينهم في البرزخ، بحيث يسمعوننا ويستطيعون أن يردّوا علينا، وهذا هو الموضوع الثاني الذي أشرنا إليه وهنا نكتفي بأبرز الآيات الواردة في هذا المضمار التي تدل على إمكان الاتصال بالأرواح المقدسة الموجودة في عالم البرزخ، وهذا وإن أثبته علم النفس بعد تجارب كثيرة، ولكنّنا أخذنا على أنفسنا أن نستدل بالكتاب والسنّة، ولو كان هناك شي ء في العلم فهو أيضاً يدعم مدلول الكتاب والسنّة.

إنّ الكتاب والسنّة تضافراً على إمكان اتصال الإنسان الموجود في الدنيا بالإنسان الحي في عالم البرزخ وإليك بعض الآيات:

1- النبي صالح يخاطب قومه الهالكين:

أخبرنا اللَّه تعالى في القرآن الكريم عن النبي صالح عليه السلام أنّه دعا قومه إلى عبادة اللَّه، وترك معجزته (الناقة) وأمرهم بعدم مسّها بسوء ولكنّهم عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم:

«فأخذتهم الرَّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين* فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون النّاصحين» (الأعراف/ 78- 79).

ص: 48

ترى أنّ اللَّه يخبر على وجه القطع والبت بأنّ الرجفة أهلكت أُمة صالح عليه السلام فأصبحوا في دارهم جاثمين، وبعد ذلك يخبر أنّ النبي صالح تولّى عنهم ثم خاطبهم قائلًا: «لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون النّاصحين».

والخطاب صدر من صالح لقومه بعد هلاكهم، وموتهم بشهادة جملة «فتولّى» المصدرة بالفاء المشعرة بصدور الخطاب عقيب هلاك القوم.

ثم إنّ ظاهر قوله: «ولكن لا تحبّون النّاصحين» يفيد أنّهم بلغت بهم العُنجهية أن كانوا لا يحبّون الناصحين حتى بعد هلاكهم.

2- مخاطبة النبي شعيب قومه الهالكين:

لم تكن قصة النبي صالح هي القصة الوحيدة من نوعها في القرآن الكريم، فقد تبعه في ذلك «شعيب» إذ خاطب قومه بعد أن عمّهم الهلاك، قال سبحانه: «فأخذتهم الرَّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين* الّذين كذّبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها الَّذين كذّبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين* فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربّي ونصحت لكم فكيف آسى على قومٍ كافرين» (الأعراف/ 91- 93).

وهكذا يخاطب شعيب قومه بعد هلاكهم ويكون صدور هذا الخطاب بعد هلاكهم بالرجفة. فلو كان الاتصال غير ممكن، وغير حاصل، ولم يكن الهالكون بسبب الرجفة سامعين خطابَ صالح وشعيبَ، فما معنى خطابهما لهم؟

أيصح أن يفسّر ذلك الخطاب بأنّه خطاب تحسّر وإظهار تأسف؟

ص: 49

كلا، إنّ هذا النوع من التفسير على خلاف الظاهر، وهو غير صحيح حسب الأصول التفسيرية، وإلّا لتلاعب الظالمون بظواهر الآيات وأصبح القرآن الكريم لُعبة بيد المغرضين، يفسّرونه حسب أهوائهم وأمزجتهم.

على أنّ مخاطبة الأرواح المقدّسة ليست أمراً ممتنعاً في العقل حتى يكون قرينة عليه.

3- أمر النبي بالتكلم مع الأنبياء:

اشارة

جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى لنبيه: «واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرَّحمن آلهة يعبدون» (الزخرف/ 45).

ترى أنّ اللَّه سبحانه يأمر النبي الأكرم بسؤال الأنبياء الذين بعثوا قبله، ومن التأويل الباطل إرجاعها إلى سؤال علماء أهل الكتاب استظهاراً من قوله سبحانه: «فإن كنت في شكٍّ ممّا أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءُون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحقُّ من ربِّك فلا تكوننّ من الممترين* ولا تكوننّ من الَّذين كذّبوا بآيات اللَّه فتكون من الخاسرين» (يونس/ 94- 95) إذ لا مانع من السؤال عنهم وعن أمتهم ولكل موقفه.

هذا هو الذي يرشدنا إليه الوحي في إمكانية الارتباط بالأرواح المقدسة، وأمّا السنّة الدالة على إمكانه، فهي أكثر من أن تحصى، ولكن نكتفي هنا بالبعض.

الأحاديث وإمكان الارتباط بالأرواح:

1- روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه وقف على قليب «بدر» وخاطب

ص: 50

المشركين الذين قتلوا وأُلقيت جثثهم في القليب:

«لقد كنتم جيران سوء لرسول اللَّه، أخرجتموه من منزله وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدتُ ما وعدني ربّي حقّاً».

فقال له رجل: يا رسول اللَّه ما خطابك لهام قد صديت؟

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «واللَّه ما أنت بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع من حديد إلّاأن أعرض بوجهي- هكذا- عنهم» (1).

2- روي أنّ الإمام علياً بعد أن وضعت الحرب في معركة الجمل أوزارها مرّ على كعب بن سور وكان قاضي البصرة فقال لمن حوله:

«أجلسوا كعب بن سور» فأجلسوه بين شخصين يمسكانه- وهو صريع- فقال عليه السلام: «يا كعب بن سور قد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتَ ما وعدك ربك حقاً؟» ثم قال: «أضجعوه» ثم سار قليلًا حتى مر بطلحة بن عبيد اللَّه صريعاً، فقال: «أجلسوا طلحة» فأجلسوه، فقال عليه السلام: «يا طلحة قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟» ثم قال: «أضجعوا طلحة» فقال له رجل: يا أمير المؤمنين ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟ فقال عليه السلام: «يا رجل واللَّه لقد سمعا كلامي، كما سمع أهل القليب كلام رسول اللَّه» (2).

ثم إنّ المسلمين- على اختلاف مذاهبهم- يسلّمون على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في الصلاة عند ختامها فيقولون: «السلام عليك أيّها النبي ورحمة اللَّه وبركاته».


1- 1 صحيح البخاري: 5/ 76، باب قتل أبي جهل؛ وسيرة ابن هشام: 2/ 292.
2- 2 المفيد: حرب الجمل، ص 195؛ والسيد عبد اللَّه شُبَّر: حق اليقين: 2/ 73.

ص: 51

وينطلقون في ذلك من تعليم النبي ذلك للمسلمين، وانّ سنّة النبي ثابتة له في حياته وبعد وفاته (1).

فإذا كانت صلاتنا وعلاقتنا بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم قد انقطعت بوفاته فما معنى مخاطبته والسلام عليه يومياً؟

إنّ هذ السلام يدل على إمكان الارتباط بروحه المقدّسة بل وقوعه.

فلو كانت الصلة منقطعة فما معنى قول الرسول فيما تواتر عنه في زيارته لأهل البقيع لعائشة:

«أمرني ربي أن آتي البقيع فأستغفر لهم» قلت: كيف أقول يا رسول اللَّه؟ قال:

«قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم اللَّه المستقدمين منّا والمستأخرين».

وفي رواية: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا وإيّاكم متواعدون غداً، أو مواكلون، وإنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد».

إلى غير ذلك من الصور المختلفة لزيارة النبي لبقيع الغرقد، والاختلاف في الصور انّما هو لأجل تكرار العمل منه صلى الله عليه و آله و سلم فلاحظ المصادر (2).

قال رسول اللَّه: «إنّ للَّه تعالى ملائكة سيّاحين في الأرض تبلغني


1- 1 كتاب الخلاف: 1/ 47، وقد اتفقت كلمة أئمة المذاهب الأربعة على وجود هذا السلام في التشهد.
2- 2 صحيح مسلم: 2/ 63، باب ما يقال عند دخول القبر؛ سنن النسائي: 3/ 76، وسنن أبي داود.

ص: 52

عن أُمتي السلام».

«ما من أحد يسلّم عليّ إلّا ردّ اللَّه عزّ وجلّ عليّ روحي حتى أرد عليه السلام».

«من صلّى عليّ عند قبري سمعته ومن صلّى عليَّ نائياً أُبْلِغْتُ».

«صلّوا عليّ فانّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم».

«من زارني بعد وفاتي وسلّم عليّ رددت عليه السلام عشراً، وزاره عشرة من الملائكة كلّهم يسلّمون عليه، ومن سلّم عليّ في بيت ردّ اللَّه عليّ روحي حتى أُسلّم عليه» (1).

الثالث: سيرة السلف الصالح في التوسّل بدعاء النبي بعد رحيله:

النظر إلى سيرة المسلمين بعد لحوق النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بالرفيق الأعلى يثبت أنّهم كانوا يتوسّلون بدعائه، كتوسّلهم به قبل لحوقه به فما كانوا يرون فرقاً بين الحالتين، فمن تصفّح سيرة المسلمين ورجع إلى غضون الكتب وشاهد عملهم في المسجد النبوي قرب مزاره الشريف، يلمس بسهولة استقرار السيرة على التوسّل بدعائه من غير فرق بين حياته وانتقاله، وها نحن نذكر من أعمال بعض الصحابة والتابعين شيئاً يسيراً ونترك الباقي للمتصفّح في غضون الكتب.

إنّنا لا يمكننا تصديق جميع ما روي مع العلم بأنّ بين المرويات قضايا صادقة صدرت عن أُناس صالحين غير أنّها بكثرتها تدل على أنّ التوسّل كان أمراً رائجاً منذ عصر الصحابة إلى زماننا هذا، ولم يكن أمراً


1- 1 راجع سنن أبي داود: 2/ 218، كنز العمال: 10/ 38؛ طبقات الشافعية للسبكي: 3/ 406- 408.

ص: 53

غريباً عند المسلمين.

ولو فرضنا أنّ بعض هذه القضايا تخالف الواقع، فلا ريب أنّه من باب استغلال الوضّاعين لأصل مسَلَّم صحيح بين المسلمين، وهو صحّة التوسّل بدعاء النبي الأكرم بعد رحيله. فانّهم نسجوا بعض القضايا في ظل ذلك الأصل.

ولو فرضنا أنّه لم يكن أمراً رائجاً بين المسلمين بل كان أمراً غريباً أو محظوراً لما تجرّأ المستغِل أن ينسج قضية كاذبة على نول الشرك أو المحرم، فانّ الذي يحفّز الوضّاع على نسج الخرافة هو استعداد العامة لقبول تلك الخرافة ولولاه لما تجرّأ عليه لعدم حصول الغاية المتوخّاة من نسجها.

فهذه القضايا الكثيرة تدل- على كلا التقديرين- على المطلوب، فإن كانت صادقة فبصدقها، وإن كانت كاذبة فلأجل حكايتها عن وجود أصل مسلّم بين المسلمين وهو التوسّل بدعاء النبي الأكرم قبل وبعد موته، وكان هذا الأصل ربما يستغل أحياناً من بعض المتاجرين بالدين.

على أنّ بعضها ممّا رواه الإمام البخاري وسائر أصحاب الصحاح فلنذكر نماذج:

1- هذا أبوبكر: أقبل على فرسه من مسكنه بالسنخ حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة- رضي اللَّه عنها- فتيمم النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو مسجّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبّله ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي اللَّه لا يجمع اللَّه عليك موتتين أمّا الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها (1).


1- 1 البخاري: الصحيح: 2/ 17، كتاب الجنائز.

ص: 54

فلو لم تكن هناك صلة بين الحياتين فما معنى قوله: «بأبي أنت يا نبي اللَّه» لو لم يكن سماع فماذا قصد ذلك الصحابي من قوله: «لا يجمع اللَّه عليك موتتين».

2- روى السهيلي في الروض الأنف: «دخل أبو بكر على رسول اللَّه في بيت عائشة ورسول اللَّه مسجّى في ناحية البيت، عليه برد حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم أقبل عليه فقبّله، ثم قال: بأبي أنت وأُمّي أمّا الموتة التي كتب اللَّه عليك فقد ذُقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً» (1).

3- روى الحلبي في سيرته وقال: «جاء أبوبكر من السنخ وعيناه تهملان فقبّل النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: بأبي أنت وأُمي طبت حياً وميتاً» (2).

4- روى مفتي مكّة المشرّفة زيني دحلان في سيرته فذكر ما ذكراه، وقال: قال أبوبكر: طبت حياً وميتاً، وانقطع بموتك ما لم ينقطع للأنبياء قبلك، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أنّ موتك كان اختياراً لجدنا لموتك بالنفوس، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن على بالك (3).

5- قال أميرالمؤمنين علي عليه السلام عندما ولي غسل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «بأبي أنت وأُمي يا رسول اللَّه لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء- إلى أن قال:- بأبي أنت


1- 1 أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي 508- 581 ه، الروض الأنف: 4/ 260.
2- 2 الحلبي علي بن برهان الدين 975- 1044 ه: السيرة الحلبية: 3/ 474 ط. دار المعرفة، بيروت.
3- 3 سيرة الزيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 3/ 391، ط. مصر.

ص: 55

وأُمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك» (1).

وقد أوضح السبكي أمر الإجماع على الزيارة قولًا وفعلًا، وسرد كلام الأئمة في ذلك، وبيّن أنّها قربة بالكتاب، والسنّة والإجماع، والقياس.

وأمّا الكتاب فقوله تعالى: «ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك» الآية دالّة على الحث بالمجي ء إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، والاستغفار عنده، واستغفاره لهم وهذه رتبة لا تنقطع بموته صلى الله عليه و آله و سلم، وقد حصل استغفاره لجميع المؤمنين، لقوله تعالى: «استغفِرْ لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات» فإذا وجد مجيئهم، فاستغفارهم، كملت الأُمور الثلاثة الموجبة لتوبة اللَّه ولرحمته. وقوله: «واستغفر لهم» معطوف عليه قوله: «جاءوك» فلا يقتضي أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم مع أنّا لا نسلّم أنّه لا يستغفر بعد الموت، لما سبق الدليل على حياته وعلى استغفاره لأُمَّته بعد الموت عند عرض أعمالهم عليه، ويعلم من كمال رحمته أنّه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفراً ربّه.

والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة، واستحبّوا لمن أتى القبر أن يتلوها ويستغفر اللَّه تعالى، وحكاية الأعرابي في ذلك نقلها جماعة من الأئمة عن العُتبى، واسمه محمد بن عبد اللَّه بن عمرو، أدرك ابن عيينة وروى عنه، وهي مشهورة حكاها المصنّفون في المناسك من جميع المذاهب، واستحسنوها، ورأوها من أدب الزائر، وذكرها ابن عساكر في تاريخه، وابن الجوزي في مثير


1- 1 نهج البلاغة: قسم الخطب، الخطبة 235.

ص: 56

الغرام الساكن، وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي، قال:

دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثم قال: يا خير الرسل إنّ اللَّه أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: «ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم- إلى قوله- رحيماً» وإنّي جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي، متشفعاً بك، وفي رواية: وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثم بكى وأنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهنّ القاع والأكم

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم استغفر وانصرف، قال: فرقدت فرأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم في نومي وهو يقول: إلحق الرجل وبشّره بأنّ اللَّه غفر له بشفاعتي، فاستيقظت، فخرجت أطلبه فلم أجده.

قلت: بل قال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام»: إنّ الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنّا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول اللَّه قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن اللَّه سبحانه وما وعينا عنك، وكان فيما أُنزل عليك: «ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا اللَّه ...» وقد ظلمت، وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: انّه قد غفر لك، انتهى.

وروى ذلك أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد اللَّه الكرخي عن علي بن محمد بن علي، قال: حدثّنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيل، عن ابن صادق، عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه، فذكره، ولا منافاة بين النقلين لإمكان التعدّد، وعلى فرض الوحدة فأحد النقلين اقتصر، والآخر أسهب في النقل، فنقل

ص: 57

جميع القصة.

وقد أدرك ذلك الأعرابي بسلامة فطرته أنّ الآية الكريمة التي تدعو المسلمين إلى المجي ء إلى النبي حتى يطلبوا منه أن يستغفر لهم، ليست خاصة بحياة النبي الدنيوية، بل تعم الحياة الأُخروية، فلأجل ذلك قام يطلب من النبي أن يستغفر له، وقال عياض في الشفاء بسند جيد عن ابن حميد- أحد الرواة- عن مالك فيما يظهر، قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال مالك: «يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فانّ اللَّه تعالى أدّب قوماً فقال: «لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النَّبي» الآية، ومدح قوماً فقال:

«إنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول اللَّه» الآية، وذمّ قوماً فقال:

«إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات» الآية، وانّ حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد اللَّه أستقبلُ القبلة وأدعو أم أستقبلُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ فقال: لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى اللَّه يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعك اللَّه تعالى قال اللَّه تعالى: «ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم» الآية.

فانظر هذا الكلام من مالك، وما اشتمل عليه من أمر الزيارة والتوسّل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم واستقباله عند الدعاء وحسن الأدب التام معه.

وقال أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب «باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم» وذكر آداب الزيارة، وقال:

ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره، وذكر كيفية السلام والدعاء.

منه: اللّهم إنّك قلت في كتابك لنبيك عليه السلام: «ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك» الآية، وإنّي قد أتيت نبيّك مسغفراً، فأسألك أن توجب

ص: 58

لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللّهمّ إنّي أتوجه إليك بنبيّك صلى الله عليه و آله و سلم وذكر دعاءً طويلًا (1).

هذه نماذج قدمناه إليك لتكون على بيّنة من هذا الأمر وانّه لم يكن هناك فرق بين الحياتين، وقد نقل المؤرخون أُموراً كثيرة يضيق الوقت بنقلها ولو كنّا شاكّين في صدق بعض هذه التوسّلات ولكن نقل علماء السيرة والتاريخ المقدار الهائل من التوسّلات بدعاء النبي- بعد رحيله- يكشف أنّ التوسّل بدعاء النبي الأكرم كان أمراً رائجاً بين المسلمين ولم يكن أمراً غريباً ولا محظوراً وإلّا لما صحّ أن ينقل المؤرخ ما يتلقاه المسلمون أمراً مرغوباً عنه. وقد ذكرها لفيف من المحقّقين في كتبهم فراجعها (2).

وليس لنا أن نترك السيرة المستمرة الهائلة التي يلمسها من توقف هنيئة لدى القبر الشريف النبوي وقد قال سبحانه: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنَّم وساءت مصيراً» (النساء/ 115).

وقد نقل السمهودي نبذاً ممّا وقع لمن استغاث بالنبي أو طلب منه شيئاً عند قبره فأعطى مطلوبه ونال مرغوبه ممّا ذكره الإمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» (3).

شبهات لابد من الإجابة عليها

اشارة


1- 1 السمهودي: وفاء الوفا: 4/ 1360- 1362.
2- 2 لاحظ شفاء السقام في زيارة خير الأنام للسبكي، والدرر السنية لزيني دحلان، والمبرد المبكي في رد الصارم المنكي لابن علان، ونضرة الإمام السبكي برد الصارم المنكي للسمهودي.
3- 3 وفاء الوفا: 4/ 1380- 1387. طالع ذلك الفصل تجد فيه حكايات وقضايا كثيرة تدل على جريان السيرة بين المسلمين على التوسّل بدعاء النبي الأكرم.

ص: 59

قد تعرفت على أدلة التوسّل بدعاء النبي الأكرم وأنّه أمراً أطبق على جوازه الكتاب والسنّة النبوية وسيرة المسلمين، غير أنّ هناك شبهات أثارها بعض من اتّخذ في هذه المسألة موقفاً مسبقاً فزعم أنّ هناك أشواكاً في الطريق تعثّر طريق السالكين المتوسّلين وبدورنا نذكر هذه الشبهات بألفاظها ثم نأتي بما يقلعها من أساسها.

الشبهة الأُولى البرزخ مانع من الاتصال

إنّ الحياة البرزخية حياة لا يعلمها إلّااللَّه فهي حياة مستقلّة نؤمن بها ولا نعلم ماهيتها، وإنّ بين الأحياء والأموات حاجزاً يمنع الاتصال فيما بينهم قطعياً، وعلى هذا يستحيل الاتصال لا ذاتاً ولا صفاتاً وأنّه سبحانه يقول: «ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون» (المؤمنون/ 100) والبرزخ معناه الحاجز الذي يحول دون اتصال هؤلاء بهؤلاء (1).

هذه العبارة تتضمن أمرين قد خلط الكاتب بينهما:

أ- إنّ الحياة البرزخيّة لا نعلم حقيقتها.

ب- إنّ البرزخ حاجز مانع عن الاتصال.

فعلى هامش الأمر الأوّل نقول: إنّ حقيقة الحياة مطلقاً- مادية كانت أم برزخية- أمر مجهول لا يعلم حقيقتها إلّاخالقها، والذي يعود إلى إمكاننا هو التعرف على آثارها وخصوصياتها، فكما أنّ الحياة المادية معلومة لنا ببعض آثارها، وكلّما يتقدم العلم يتقدم الإنسان في


1- 1 محمد نسيب الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 267.

ص: 60

ميادين التعرف على آثارها، وهكذا الحياة البرزخية فهي مجهولة الحقيقة ولكنّها معلومة بآثارها، وقد ذكر الكتاب العزيز بعضها، وأنّ الشهداء الأحياء بحياتهم البرزخية يُرزَقون، يَفْرحون بما آتاهم اللَّه، يَستبشِرون بالذين لم يلحقوا بهم، ويستبشِرون بنعمة من اللَّه، وأنّهم ربّما يتمنون أموراً كتمنّي حبيب النجار عرفان قومه بمصيره كما قال سبحانه: «قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين».

إنّ الحياة البرزخية لا تختص بالمؤمنين، وهناك من المذنبين الكافرين من تعمّهم كآل فرعون إذ يعرضون على النار غدواً وعشياً، قال سبحانه: «وحاق بآل فرعون سوء العذاب* النّار يعرضون عليها غدوّاً وعشياً* ويوم تقومُ الساعة أدخِلوا آل فرعون أشدَّ العذاب» (غافر/ 45- 46).

وهذا المقدار من التعرف يكفينا في القضاء بأنّ لهم شعوراً واستشعاراً ودركاً وتعقّلًا وظواهر نفسية من الفرج والألم وغير ذلك، ولا تتطلب مسألة التوسّل سوى كون المتوسّل به عاقلًا حيّاً مدركاً شاعراً ملتفتاً إلى الدنيا وما يجري فيها.

وعلى هامش الأمر الثاني نقول: إنّ البرزخ بمعنى الحاجز لا بمعنى انقطاع الصلة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة ومن فسّره بالمعنى الثاني فإنّما انتخبه لدعم مذهبه وإنّما هو مانع من رجوع الناس إلى حياتهم الدنيا.

ويدلّ على ذلك: أنّه سبحانه ذكر أمر البرزخ بعدما ذكر تمنّي العصاة الرجوع إلى الدنيا، قال سبحانه: «حتّى إذا جاء أحدهمُ الموتُ قال

ص: 61

ربّي ارجعوني لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلّا إنّها كلمة هو قائلها» (المؤمنون/ 100).

فقوله: «كلّا» ردع لتمنّي رجوعهم، يعني لا يستجاب دعاؤهم، ثم عاد سبحانه يؤكده بقوله: «ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون» أي حائل مانع من الرجوع إلى الدنيا إلى يوم يبعثون.

إنّ اتّخاذ موقف مسبق في المسألة يشكّل مانعاً من الوصول إلى الحقيقة، ويعد من موانع المعرفة الصحيحة فبما أنّ القائل يقتفي أثر من يقول لا يصح التوسّل بدعاء النبي الأكرم في البرزخ، فقد أراد نحتَ دليل لقوله ففسّر البرزخ في الآية بمعنى المانع عن الاتصال لا المانع عن انتقال أهل البرزخ إلى الدنيا، فكأنّه يصوّر أنّ بين الحياتين ستاراً حديدياً أو جداراً ضخماً يمنع من اللقاء والسماع، وليس لما يتخيله دليل، بل الدليل على خلافه، ترى أنّه سبحانه يحكي عن ماء البحرين أحدهما عذب فرات والآخر ملح أُجاج ثم يقول: «وبينهما برزخ لا يبغيان» أي مانع يمنع عن اختلاط المائين، يقول سبحانه: «مرج البحرين يلتقيان* بينهما برزخ لا يبغيان» (الرحمن 19- 20) ولم يكشف العلم عن وجود سدّ مادّي بين البحرين.

الشبهة الثانية: امتناع اسماع الموتى

إنّ اللَّه تعالى يقول: «فإنّك لا تسمع الموتى» (الروم/ 52) والنمل بحذف الفاء/ 80).

ويقول عزّ وجلّ: «وما أنت بمسمع من في القبور» (فاطر/ 22).

والرسول بعد أن توفّاه اللَّه هو من الموتى ومن أهل القبور فثبت

ص: 62

أنّه لا يسمع دعاء أحد من أهل الدنيا وإن كان هو والأنبياء، لا يُبْلُون لأنّ اللَّه قد حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولكنّهم أجساد بلا أرواح وهم أموات (1).

فعلى هامش هذه الشبهة نقول: أوّلًا: إنّ قوله: «الرسول بعدما توفّاه اللَّه هو من الموتى» ظاهر في إنكار الحياة البرزخية للأنبياء، فلو كان النبي من الموتى فالشهداء من الموتى مع أنّ القرآن يندد من يعدهم أمواتاً إذ يقول: «ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل اللَّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون».

نعم يقول سبحانه: «إنك ميّت وإنّهم ميّتون» (الزمر/ 20) ولكن لا بمعنى الفناء المطلق، بل انسلاخ الروح عن البدن وانتقاله إلى العالم الآخر.

و ثانياً: إنّ هاتين الآيتين ناظرتان إلى الأجساد الموجودة في القبور، فإنّها هي التي لا تسمع ولا تعي والاتصال لا يكون بيننا وبين هذه الأجساد، بل يتحقق بيننا وبين الأرواح الطاهرة والنفوس الزكية الباقية الخالدة، وإنْ تبعثر الجسد وتناثرت أجزاؤه، فالأرواح هي التي يُسلّم ويُصلّى عليها وهي التي تَسمع وتَرد.

وأمّا الحضور عند المراقد التي تضمّنت الأجساد والأبدان، فلأجل أنّه يبعث على التوجه إلى صاحب تلك الأجساد ويكون أدعى إلى تذكّر خصاله أو صفاته، وإلّا فانّ الارتباط بهم، والسلام عليهم، ممكن حتى من مكان ناء وبلد بعيد، كما تصرح بذلك بعض أحاديث الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.


1- 1 التوصل إلى حقيقة التوسّل: 267.

ص: 63

ولابن القيم كلام في تفسير الآيتين نأتي بنصّه:

قال: أمّا قوله تعالى: «وما أنتَ بمسعٍ من في القبور» فسياق الآية يدل على أنّ المراد منها أنّ الكافر الميّت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعاً يُنتفع به كما أنّ من في القبور لا نقدر على إسماعهم إسماعاً ينتفعون به، ولم يُرِد سبحانه أنّ أصحاب القبور لا يسمعون شيئاً البتة كيف وقد أخبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّهم يسمعون خفق نعال المشيّعين وأخبر أنّ قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه وشرّع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أنّ من سلّم على أخيه المؤمن ردّ عليه السلام.

هذه الآية نظير قوله: «إنّك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصُّمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين» وقد يقال: نفي إسماع الصُمّ مع نفي إسماع الموتى يدل على أنّ المراد عدم أهلية كل منهما للسماع، وأنّ قلوب هؤلاء لمّا كانت ميتة صمّاء كان إسماعها ممتنعاً بمنزلة خطاب الميّت والأصمّ، وهذا حقّ ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخٍ وتقريعٍ بواسطة تعلّقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي واللَّه أعلم (1).

*** وقال أيضاً: قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: ما من مسلم يمرّ على قبر أخيه كانَ يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه إلّاردَّ اللَّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام. فهذا نص في أنّه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.


1- 1 الإمام شمس الدين ابن القيم: الروح: 45- 46، ط. دار الكتب العلمية بيروت.

ص: 64

وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه و آله و سلم من وجوه متعددة أنّه أمر بقتلى بدر فأُلقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقّاً فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّاً؟ فقال له عمر: يا رسول اللَّه ما تخاطب من أقوام قد جيّفوا؟ فقال: والذي بعثني بالحقّ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنّهم لا يستطيعون جواباً.

وثبت عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ الميت يسمع قرع نعال المشيّعين له إذا انصرفوا عنه.

وقد شرّع النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأُمّته إذا سلّموا على أهل القبور أن يُسلِّموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل- ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.

والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأنّ الميّت يعرف زيارة الحيّ له ويستبشر به.

قال أبوبكر عبد اللَّه بن محمّد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور، باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء:

(حدثنا) محمد بن عون: حدّثنا يحيى بن يمان، عن عبد اللَّه بن سمعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة- رضي اللَّه تعالى عنها- قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلّااستأنس به وردّ عليه حتى يقوم.

(حدثنا) محمد بن قدامة الجوهري: حدّثنا معن بن عيسى القزاز: أخبرنا هشام بن سعد: حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة- رضي

ص: 65

اللَّه تعالى عنه- قال: إذا مرّ الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام وعرفه، وإذا مرّ بقبر لا يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام (1).

ويدل على هذا أيضاً ما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميّت في قبره، ولولا أنّه يسمع ذلك وانتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثاً، وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه واحتجّ عليه بالعمل.

***

الشبهة الثالثة: انقطاع عمل الإنسان

يدل على انقطاع الصلة بين الحياتين الحديث المتواتر عن رسول اللَّه: «إذا مات المرء انقطع عمله إلّاعن ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له» وهذه الرواية تشمل النبي صلى الله عليه و آله و سلم (2).

فعلى هامش هذه الشبهة نقول: إنّ من وطّن نفسه على إثبات ما يتمناه سواء أكان حقاً أم باطلًا فهو يتمسّك بكل شي ء سواء أكانت له دلالة على ما يتبناه أم لا.

فأي دلالة لهذا الحديث على انقطاع الصلة، إذ غاية ما يدل عليه أنّ الإنسان لا ينتفع بعمله شخصياً بعدما انتقل إلى البرزخ إلّاعن ثلاث، فليس له عمل مباشر ينتفع به إلّاهذه الثلاث، وأمّا أنّه لا يتمكن من التكلم والجواب والاستغفار في حق الغير فلا دلالة للحديث عليه.

هكذا تزول الشبهات ويبقى الأصل سليماً وهو أنّ الأنبياء أحياء


1- 1 الإمام شمس الدين ابن القيم: الروح: 5- 6.
2- 2 المصدر نفسه: 267.

ص: 66

بعد مفارقة الأرواح لأجسادهم الطاهرة وأنّه من الممكن اتصال الأحياء بأرواحهم، كل ذلك بإذنه سبحانه.

التلوّن في الاستدلال

نرى أنّ المانعين عن التوسّل بدعاء النبي في حياته البرزخية يتلوّنون في الاستدلال، فتارة ينفون حياة النبي بعد الموت وأُخرى ينفون إمكان الاتصال وثالثة يدعون لغوية هذا العمل، ونعوذ باللَّه من قولهم الرابع إذ يعدّون العمل شركاً وعبادة للرسول، أمّا الثلاث الأُول فقد ظهرت حالها، وأمّا الشرك فلا يدرى كيف يوصف به، مع أنّ هذا عمل واحد يُطلَب في حياة النبي ويُطلَب بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أفيمكن أن يكون شي ء واحد توحيداً في حالة وشركاً في أُخرى مع أنّه لا يسأل الرسولُ بما أنّه إله، أو ربّ أو بيده مصير الداعي، وإنّما يسأله بما أنّه عبد صالح ذو نفس طاهرة وكريمة وهو أفضل الخلائق وأحد الأمانين في الأرض يستجاب دعاؤه ولا يرد.

ص: 67

7 التوسّل بالأنبياء والصالحين أنفسهم

اشارة

هناك قسم آخر من التوسّل وهو التوسّل بذوات الأنبياء والصالحين وجعلهم وسيلة لاستجابة الدعاء، والتنويه بما لهم من المقام والمنزلة عند اللَّه سبحانه، وهذا غير القسم الخامس، ففي القسم الماضي كنّا نتوسّل بدعاء النبي ونجعل دعاءه وسيلة إلى الرب وفي هذا القسم نجعل نفس الرسول وكرامته عند اللَّه وسيلة إلى الرب.

ومن الإمعان في القسم السابق يُعرف مفهوم هذا التوسّل لأنّ التوسّل بدعائه لأجل أنّه دعاء روح طاهرة، ونفس كريمة، وشخصية مثالية وأفضل الخلائق، ففي الحقيقة ليس الدعاء بما هو دعاء، وسيلة، وإنّما الوسيلة هي الدعاء النابع عن تلك الشخصية الإلهية التي كرّمها اللَّه وعظّمها ورفع مقامها وذِكراها وقال: «ورفعنا لك ذكرك» (الانشراح/ 4).

ص: 68

وأمر المسلمين بتكريمه وتعزيره حيث قال: «فالّذين آمنوا به وعزَّروهُ ونصروهُ واتَّبعوا النور الذي أنزل معه أُولئك هم المفلحون» (الأعراف/ 157) فقوله «عزَّروه» بمعنى أكرموه.

فإذا كان رصيد استجابة الدعاء هو شخصيته الفذّة المثالية، ومنزلته عند اللَّه فالأولى أن يتوسّل بها الإنسان كما يتوسّل بدعائه، فمن اعترف بجواز الأوّل ومنع الثاني فقد فرّق بين أمرين متلازمين، وما دعاهم إلى التفريق بينهما إلّاصيانة لمعتقدهم.

وبدورنا نغض النظر عن هذا الدليل ونذكر ما ورد في السنّة النبوية مروياً عن طريق صحيح أقرّ به الأقطاب من أهل الحديث.

1- توسلّ الضرير بنبيّ الرحمة

عن عثمان بن حنيف أنّه قال: إنّ رجلًا ضريراً أتى النبي فقال: أُدعُ اللَّه أن يعافيني فقال صلى الله عليه و آله و سلم: إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ وهو خير.

قال: فادعه قال: فأمره أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه اليك بنبيّك محمّد نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللّهمّ شفّعه فيَّ».

قال ابن حنيف: «فواللَّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ» (1).


1- 1 الترمذي: الصحيح، كتاب الدعوات، الباب 119، برقم 3578، وسنن ابن ماجة 1: 441 برقم 1385، مسند أحمد: 4/ 138 إلى غير ذلك من المصادر وسيأتي في المتن نصوصهم حول وصف الحديث.

ص: 69

إنّ الاستدلال بالرواية مبني على صحّتها سنداً وتمامية دلالتها مضموناً.

أمّا الأوّل: فلم يناقش في صحّتها إلّاالجاهل بعلم الرجال، حتى أنّ ابن تيمية قال: قد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي أنّه علّم رجلًا أن يدعو فيقول: اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك. وروى النسائي نحو هذا الدعاء» (1).

وقال الترمذي: هذا حديث حق حسن صحيح.

وقال ابن ماجة: هذا حديث صحيح.

وقال الرفاعي: لا شك أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور (2).

وبعد ذلك فلم يبق لأحد التشكيك في صحّة سند الحديث إنّما الكلام في دلالته وإليك البيان:

إنّ الحديث يدل بوضوح على أنّ الأعمى توسّل بذات النبي بتعليم منه صلى الله عليه و آله و سلم والأعمى وإن طلب الدعاء من النبي الأكرم في بدء الأمر إلّاأنّ النبي علّمه دعاء تضمن التوسّل بذات النبي، وهذا هو المهم في تبيين معنى الحديث.

وبعبارة ثانية: أنّ الذي لا ينكر عند الإمعان في الحديث أمران:

الأوّل: أنّ الراوي طلب من النبي صلى الله عليه و آله و سلم الدعاء ولم يظهر منه توسّل بذات النبي.

الثاني: أنّ الدعاء الذي علّمه النبي، تضمّن التوسّل بذات النبي بالصراحة التامة، فيكون ذلك دليلًا على جواز التوسّل بالذات.


1- 1 مجموعة الرسائل والمسائل: 1/ 13.
2- 2 الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 158.

ص: 70

وإليك الجمل والعبارات التي هي صريحة في المقصود.

1- اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك:

إنّ كلمة «بنبيّك» متعلقة بفعلين هما «أسألك» و «أتوجّه إليك» والمراد من النبي صلى الله عليه و آله و سلم نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاؤه.

وتقدير كلمة «دعاء» قبل لفظ «بنبيّك» حتى يكون المراد هو «أسألك بدعاء نبيّك أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك» تحكّم وتقدير بلا دليل. وتأويل دون مبرّر ولو أنّ محدثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجَهْمية والقدريّة.

2- محمد نبي الرحمة:

لكي يتّضح أنّ المقصود هو السؤال من اللَّه بواسطة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وشخصيته فقد جاءت بعد كلمة «بنبيّك» جملة «محمد نبي الرحمة» لكي يتّضح نوع التوسّل والمتوسّل به بأكثر ما يمكن.

3- يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي:

إنّ جملة «يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي» تدل على أنّ الرجل الضرير- حسب تعليم الرسول- اتّخذ النبي نفسَه، وسيلة في دعائه أي أنّه توسّل بذات النبي لا بدعائه صلى الله عليه و آله و سلم.

4- وشفّعه فيّ:

إنّ قوله «وشفّعه فيّ» معناه يا رب اجعل النبي شفيعي وتقبّل شفاعته في حقّي، وليس معناه تقبل دعاءه في حقّي، فإنّه لم يرد في الحديث أنّ النبي دعا بنفسه حتى يكون معنى هذه الجملة: استجب دعاءه في حقّي.

ولو كان هناك دعاء من النبي، لذكره الراوي إذ ليس دعاؤه صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 71

من الأُمور غير المهمّة حتى يتسامح الراوي في حقّه.

وحتى لو فرضنا أنّ معناه «تقبّل دعاءه في حقّي» فلا يضر ذلك بالمقصود أيضاً، إذ يكون على هذا الفرض هناك دعاءان: دعاء الرسول ولم يُنْقَل لفظه، والدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، وقد جاء فيه التصريح بالتوسّل بذات النبي وشخصه وصفاته، وليس لنا التصرّف في الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، بحجّة أنّه كان هناك للرسول دعاء.

لقد أورد هذا الحديث النسائي والبيهقي والطبراني والترمذي والحاكم في مستدركه ولكن الترمذي والحاكم ذكرا جملة «اللّهمّ شفّعه فيه» بدل «وشفّعه فيّ».

إجابة على سؤال

إنّ من يمنع التوسّل بشخصية الرسول المثالية لمّا وقع أمام هذا الحديث تعجّب عاضّاً على انملته فحمل الحديث على أنّه من قبيل التوسّل بدعاء الرسول لا بشخصه وذاته الكريمة مستدلّاً بقول الضرير «ادعو اللَّه أن يعافيني» وقد خلط بين أمرين:

الأوّل: المحاورة الابتدائية التي وقعت بين النبي والضرير، فكان المطلوب بلا شك، هو طلب الدعاء من النبي، وهذا ما لا ينكره أحد، إنّما الكلام فيما يأتي.

الثاني: الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير فإنّه تضمّن التوسّل بذات النبي ولا يمكن لأحد أن ينكر التصاريح الموجودة في الحديث.

والتصرّف في النصّ الثاني بحجة أنّ الموضوع في المحاورة الأُولى هو طلب الدعاء، تصرف نابع من اتخاذ موقف مسبق قبل النظر

ص: 72

إلى الحديث، فإنّ الأعمى لم يدُر في خلده في البداية سوى دعاء الرسول المستجاب، ولكن الدعاء الذي علّمه الرسول أن يدعوَ به بعد التوضّؤ، مشتمل على التوسّل بذات النبي.

قال الدكتور عبد الملك السعدي: وقد ظهر في الآونة الأخيرة أُناس ينكرون التوسّل بالذات مطلقاً، سواء كان صاحبها حيّاً أو ميّتاً.

وقد أوّلوا حديث الأعمى وقالوا: إنّ الأعمى لم يتوسّل ولم يأمره النبي صلى الله عليه و آله و سلم به بل قال له: صلِّ ركعتين ثم اطلب منّي أن أدعو لك ففعل.

وأنت يا أخي عليك أن تقرأ نص الحديث هل يحتمل هذا التأويل، وهل فيه هذا المدّعى أم أنّه أخذ يطلب من اللَّه متشفعاً بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يدع له صلى الله عليه و آله و سلم. ولو أراد منه ذلك لاستجاب له أوّل مرّة حيث طلب منه الدعاء بالكشف عن بصره فأبى إلّاأن يصلّي ويتولّى الأعمى بنفسه الدعاء (1).

التوسّل بذات النبيّ بعد رحيله

إنّ الصحابي الجليل عثمان بن حنيف فهم من الحديث السابق أنّ التوسّل بذات النبي وشخصه يعم حياته ومماته، فلأجل ذلك عندما رجع إليه بعضُ أصحاب الحاجة علّمه نفس الدعاء الذي علّمه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم للضرير ومن حسن الحظ كان توصّله ناجحاً.

روى الطبراني عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه عثمان بن حنيف، أنّ رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى ابن حنيف فشكى


1- 1 الدكتور عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الاسلامي الدقيق، ط. بغداد شارع المتنبي.

ص: 73

ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضّأ، ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثم قل: «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي» فتذكر حاجتك ورح إليَّ حتى أروح معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان رضى الله عنه فجاء البوّاب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان رضى الله عنه فأجلسه معه على الطنفسة فقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم قال له:

ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت الساعة؟ وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها.

ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له:

جزاك اللَّه خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: واللَّه ما كلّمته، ولكنّي شهدت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وأتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أفتبصر؟

فقال: يا رسول اللَّه ليس لي قائد وقد شقّ عليّ.

فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: ائت الميضأة فتوضّأ ثمّ صلّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات.

قال ابن حنيف: فواللَّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط (1).

إنّ دلالة الحديث على جواز التوسّل بذوات الصالحين وأخصّ منهم الأنبياء أمر لا سترة فيه، نعم بعض من لا يروقه هذا النوع من


1- 1 المعجم الكبير للحافظ سليمان بن أحمد بن أيّوب اللخمي الطبراني ت 360 ه: 9/ 16- 17، باب ما أسند إلى عثمان بن حنيف، برقم 8310، والمعجم الصغير له أيضاً: 1/ 183- 184.

ص: 74

التوسّل، أراد التشكيك في الرواية بوجهين، فقال:

أوّلًا: إنّ معنى التوسّل عند الصحابة هو دعاء الشخص المتوسّل به إلى اللَّه تعالى بقضاء حاجة المتوسّل لا كما يعرفه القوم في زماننا هذا من التوسّل بذات المتوسّل به.

ثانياً: لو كان دعاء الأعمى الذي علّمه رسول اللَّه دعاءً ينفع في كلّ زمان ومكان لما رأينا أيّ أعمى على وجه البسيطة (1).

يلاحظ على كلامه الأوّل: بأنّه من غرائب الكلام فقد جعل من مذهبه دليلًا على ضعف الرواية، وهو أنّ معنى التوسّل عند الصحابة هو التوسّل بدعاء الشخص لا بذاته. فمن أين علم أنّه مذهب الصحابة وهل أنّ مذهبهم يُعرف من خلال أحاديثهم، مع أنّ الحديثين المرويين عن طريق ذلك الصحابي الجليل عثمان بن حنيف يدلّان على خلافه؟

وأمّا الثاني: فهو إطاحة بالوحي، وازدراء به، ولو صحّ ما ذكره فلقائل أن يقول: لو صحّ قوله سبحانه: «ادعوني أستجب لكم» (غافر/ 60) يجب أن لا يبقى على وجه البسيط ذو عاهة.

والجواب عن تلك الوسوسة في كلا المقامين واحد، وهو أنّ الدعاء مقتض لنزول الرحمة ودفع الكُربة ولكن ليس السبب تاماً لنجاح المقصود، بل له شروط وله موانع وعوائق، ولأجل ذلك نرى أنّ بعض الأدعية لا تستجاب، مع أنّه سبحانه يحثّ على الدعاء وأنّه يستجيب دعاء من دعاه، ويقول: «وقال ربُّكم ادعوني أستجب لكم».

مناقشة في سند الرواية

لقد تعرّفت على تمامية دلالة الرواية وهناك من يريد المناقشة


1- 1 الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 335.

ص: 75

في سندها، ولا يخدش إلّالأنّ الرواية تضاد لعقيدته فيقول:

إنّ في سند هذا الحديث رجلًا اسمه روح بن صلاح وقد ضعّفه الجمهور وابن عديّ وقال ابن يونس: يروي أحاديث منكرة (1).

أظنّ أنّ الكاتب لم يرجع إلى مصدرها وإنّما تبع تقوّل الآخرين، ونحن نضع أمامك سند الحديث من المصدرين اللذين روي عنهما الحديث ولا ترى فيهما أثراً من روح بن صلاح وإليك السند:

روى الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدّثنا طاهر بن عيسى بن قريش المصري المقري: ثنا أصبغ بن الفرح: ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي، عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، عن عمّه عثمان بن حنيف (2).

ورواه البيهقي بالسند التالي:

أخبرنا أبو سعبد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد رحمه الله: أنبأنا الإمام أبوبكر محمد بن علي بن الشاشي القفال قال: أنبأنا أبو عروبة: حدّثنا العباس بن الفرج: حدّثنا إسماعيل بن شبيب: حدّثنا أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني ... إلخ السند (3).

وأنت ترى أنّه ليس في طريق الرواية روح بن صلاح بل هو روح بن القاسم والكاتب صرّح بأنّ الرواية رواها الطبراني والبيهقي، وهذا يعرب عن أنّ الكاتب لم يرجع إلى المصدرين وإنّما اعتمد على تقوّل الآخرين.


1- 1 الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 237.
2- 2 الطبراني: المعجم الكبير: 9/ 17، وفي المعجم الصغير له «أصبغ بن الفرج» مكان «أصبغ بن الفرح».
3- 3 البيهقي: دلائل النبوة: 6/ 168.

ص: 76

نحن نفترض أنّه ورد في سند الرواية روح بن صلاح ولكن ما ذكره من أنّ الجمهور ضعّفوه أمر لا تصدّقه المعاجم الموجودة فيما بين أيدينا، وإنّما ضعّفه ابن عدي وفي الوقت نفسه وثّقه ابن حِبّان والحاكم.

قال الذهبي: روح بن صلاح المصري يقال له ابن سيّابة ضعّفه ابن عدي، يكنّى أبا الحارث وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال الحاكم: ثقة مأمون (1).

سيرة الأُمم في توسّلهم بالذوات الطاهرة

اشارة

لم يكن التوسّل بالصالحين والطيبين والمعصومين والمخلصين من عباد اللَّه أمراً جديداً في زمن النبي وبعده بل كان ذلك امتداداً للسيرة الموجودة قبل الإسلام، ونحن نضع أمامك قسماً من هذه التوسلات لتكون على علم بأنّ الفطرة السليمة تدعو الإنسان إلى التوسّل بالموجودات الطاهرة لجلب رحمته تعالى.

1- استسقاء عبد المطلب بالنبي وهو رضيع

إنّ عبد المطلب استسقى بالنبي الأكرم وهو طفل صغير، حتى قال ابن حجر: إنّ أبا طالب يشير بقوله:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل

إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي معه غلام (2).

2- استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام


1- 1 الذهبي: ميزان الاعتدال: 2/ 85 برقم 2801.
2- 2 فتح الباري: 2/ 398، ودلائل النبوة: 2/ 126.

ص: 77

أخرج ابن عساكر عن أبي عرفة، قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش، يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام يعني النبي صلى الله عليه و آله و سلم كأنّه شمس دجى تجلّت عن سحابة قتماء، وحوله أُغيلمه، فأخذ النبي أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذَ إلى الغلام وما في السماء قزعة، قأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي، والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل (1)

وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام، بل استسقاء عبد المطلب به وهو صبي أمراً معروفاً بين العرب، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة مما يحفظه أكثر الناس.

ويظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم كان موضع رضا منه صلى الله عليه و آله و سلم فانّه بعدما بعث للرسالة استسقى للناس فجاء المطر وأخصب الوادي فقال النبي: لو كان أبو طالب حيّاً لقرّت عيناه، ومن ينشدنا قوله؟ فقام علي عليه السلام وقال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم كأنّك أردت قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل (2)

إنّ التوسّل بالأطفال في الاستسقاء أمر ندب إليه الشارع، قال


1- 1 فتح الباري: 2/ 494، والسيرة الحلبية: 1/ 116.
2- 2 إرشاد الساري: 2/ 338.

ص: 78

الدكتور عبد الملك السعدي: «من السنّة أن نُحرج معنا إلى الصحراء الشيوخ والصبيان والبهائم لعلَّ اللَّه يسقينا بسببهم» (1).

هذا هو الإمام الشافعي يقول في آداب صلاة الاستسقاء: «وأحب أن يخرج الصبيان، ويتنظفوا للاستسقاء، وكبار النساء، ومن لا هيبة منهنّ، ولا أحبّ خروج ذات الهيبة، ولا آمر بإخراج البهائم» (2).

فما الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن، إلّا استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم؟ كل ذلك يعرب عن أنّ التوسّل بالأبرياء والصلحاء والمعصومين مفتاح استنزال الرحمة وكان المتوسّل يقول: ربّي وسيّدي!! الصغير معصوم من الذنب، والكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك، ولكتا الطائفتين أحقّ بالرحمة والمرحمة. فلأجلهم أنزل رحمتك علينا، حتى تعمّنا في ظلّهم.

إنّ الساقي ربّما يسقي مساحة كبيرة لأجل شجرة واحدة، وفي ظلّها تُسقى الأعشاب وسائر الخضراوات غير المفيدة.

3- توسّل الخليفة بعمّ النبي: العباس

روى البخاري في صحيحه قال: كان عمر بن الخطاب إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضى الله عنه وقال: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وأنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، قال: فيُسقون (3).

والحديث صحيح السند فما ظنك برواية رواها الإمام البخاري، لكن من لا يروقه التوسّل بالذوات الطاهرة أخذ يؤوّل الحديث بأنّ


1- 1 عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي: 49.
2- 2 ابن إدريس الشافعي: الأُم: 1/ 230.
3- 3 البخاري: الصحيح: 2/ 32 باب صلاة الاستسقاء.

ص: 79

الخليفة توسّل بدعاء العباس لا بشخصه ومنزلته عند اللَّه. وأضاف على ذلك أنّه لو كان قصده ذات العباس لكانت ذات النبي صلى الله عليه و آله و سلم أفضل وأعظم وأقرب إلى اللَّه من ذات العباس، بلا شك ولا ريب، فثبت أنّ القصد كان الدعاء (1).

لا أظنّ أن أحداً يحمل شيئاً من الإنصاف، يسوِّغ لنفسه أن يفسر الحديث بما ذكره أي التوسّل بالدعاء، لأنّ في الموضوع نصوصاً تردُّ ذلك وإليك الإشارة إليها:

1- قول الخليفة عند الدعاء ... قال: «اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا». وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بالدعاء في مقام الاستسقاء، وتوسّل بعمّ الرسول في دعائه، ولو كان المقصود هو التوسّل بدعائه، كان عليه أن يقول: يا عمّ رسول اللَّه كنّا نطلب الدعاء من الرسول فيسقينا اللَّه، والآن نطلب منك الدعاء فادع لنا (2).

2- روى ابن الأثير كيفية الاستسقاء فقال: استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة لمّا اشتدّ القحط، فسقاهم اللَّه تعالى به، وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا واللَّه الوسيلة إلى اللَّه والمكان منه.

وقال حسان:

سال الإمام وقد تتابع جدبنا فسقى الغمامُ بغُرّة العباس

عمِّ النّبي وصنوِ والده الذي ورث النبي بذاك دون الناس

أحيى الإله به البلاد فأصبحت مخضرّة الأجناب بعد الياس


1- 1 التوصل إلى حقيقة التوسّل: 253.
2- 2 صحيح البخاري، باب صلاة الاستسقاء: 2/ 32.

ص: 80

ولمّا سُقي طفقوا يتمسّحون بالعباس ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين (1).

أمعن النظر في قول الخليفة: هذا واللَّه الوسيلة.

3- ويظهر من شعر حسّان أنّ المستسقي كان هو نفس الخليفة وهو الداعي حيث قال: «سأل الإمام ...» وكان العباس وسيلته لاستجابة الدعاء.

قال الدكتور عبد الملك السعدي: «وقد أوّلوا حديث العباس بأنّ عمر طلب من العباس أن يدعو لأنّهم كانوا إذا أجدبوا طلبوا من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يدعو لهم فكذا هنا طلب الدعاء من العباس. وهذا التأويل غير مقبول لوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ السنّة أن يدعو الإمام نفسه والقوم يؤمَّنون وهذا ما حصل حيث كان الداعي هو سيدنا عمر لا العباس.

الوجه الثاني: إنّ نص الحديث لا يدل على أنّ عمر طلب الدعاء من العباس بل كان هو الداعي، بدليل قوله: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل ... إلخ وهذا عين الدعاء ولم يرد أيّ لفظ يشير إلى أنّه قال للعباس: ادع لنا بالسقيا.

ومع ذلك فأيّ خلل يحصل في الدين أو العقيدة إذا أجرينا النص على ظاهره وتركنا العناد والتعصّب؟

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «ويستبين من قصة العباس استحباب الاستسقاء بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوّة وفيه فضل


1- 1 الجزري: أُسد الغابة: 3/ 111 طبع مصر.

ص: 81

العباس، وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقّه (1).

وأظنّ أنّ هذه الروايات الصحيحة لا تبقي شكاً ولا ريباً في خلد أحد في جواز التوسّل بالصالحين.

وأمّا ما ذكره من أنّه لو كان المقصود، التوسّل بذات العباس لكان النبي بذلك أفضل، وأعلم، فيلاحظ عليه أنّ الهدف من إخراج عمّ النبي إلى المصلّى وضمّه إلى الناس هو استنزال الرحمة، فكأنّ المصلّين يقولون ربّنا لو لم نكن مستحقّين لنزول الرحمة، لكن عمّ النبيّ مستحقّ لها، فأنزل رحمتك إليه لتريحه من أزمة القحط والغلاء وعندئذٍ تعمّ الرحمة لغير العباس، ومن المعلوم أنّ هذا لا يتحقق إلّابالتوسل بإنسان حيّ يكون شريكاً مع الجماعة في المصير وفي هناء العيش ورغده لا مثل النبيّ الراحل الخارج عن الدنيا والنازل في الآخرة، نعم يجوز التوسّل بشخصه أيضاً ولكن لا بهذا الملاك بل بملاك آخر لم يكن مطروحاً للخليفة في المقام.

ولو افترضنا صحّة ما يُدَّعى من أنّ الخليفة توسّل بدعاء عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لكنّه عبارة أُخرى عن التوسّل بذات النبيّ لبّاً إذ لولا صلته به لما قُدِّم للدعاء.


1- 1 عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي: 46.

ص: 82

8 التوسّل بحقّ الصالحين وحرمتهم ومنزلتهم

اشارة

إنّ من التوسّلات الرائجة بين المسلمين منذ وقعوا في إطار التعليم الإسلامي، التوسّل بمنازل الصالحين وحقوقهم على اللَّه، وهناك سؤال يطرح نفسه وهو أنّه: كيف يمكن أن يكون لإنسان حقّاً على اللَّه؟

بل الحقوق كلّها للَّه على العباد، ولكن الإجابة على السؤال واضحة، إذ ليس معنى ذلك أنّ للعباد أو لبعضهم على اللَّه سبحانه حقّاً ذاتياً يلزم عليه سبحانه الخروج عنه، بل للَّه سبحانه الحقّ كلّه، فله على الناس حقّ العبادة والطاعة إلى غير ذلك، بل المراد المقام والمنزلة التي منحها سبحانه عباده تكريماً لهم، وليس لأحد على اللَّه حقّ إلّاما جعله اللَّه سبحانه حقّاً على ذمّته لهم تفضّلًا وتكريماً، قال سبحانه: «وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين» (الروم/ 47).

ص: 83

روى مسلم عن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«هل تدري ما حقّ اللَّه على العباد؟ قال: قلت: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإنّ حقّ اللَّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة قال: يا معاذ قلت: لبيك رسول اللَّه وسعديك: هل تدري ما حقّ العباد على اللَّه إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: اللَّه ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم» (1).

وروى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ثلاثة حقّ على اللَّه عونهم: المجاهد في سبيل اللَّه، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف» (2).

فهذان الحديثان قد ثبت بهما وجود حقّ للعباد على اللَّه تعالى، إلّا أنّه حقّ تكريم لا حقّ إلزام وإيجاب.

إنّ للإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب كلمة قيّمة في تفسير حقّ العباد على اللَّه وإنّ هذا الحقّ ممّا منح سبحانه تفضلًا على عباده، قال: «فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف لا يجري لأحد إلّاجرى عليه، ولا يجري عليه إلّاجرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصاً للَّه سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت صروف قضائه ولكنّه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلًا منه وتوسّعاً بما هو من المزيد أهله (3).

وقد أوضح الإمام معنى حقّ الناس على اللَّه وأنّه ليس حقّاً ذاتياً


1- 1 الترغيب والترهيب: 3/ 43، والنووي على مسلم: 1/ 231.
2- 2 الترغيب والترهيب: 3/ 43، والنووي على مسلم: 1/ 231.
3- 3 نهج البلاغة قسم الخطب- الخطبة 216.

ص: 84

للناس عليه بل كلّها تفضّل منه سبحانه: وترى مثله في سائر المواضع حيث نرى أنّه يقترض من العباد وهو مالك للعباد وما في أيديهم ويقول: «من ذا الذي يُقرض اللَّه قرضاً حسناً فيضاعفه له» (البقرة/ 245 و الحديد/ 11).

أفبعد هذه التصاريح على أنّ حقّ الناس على اللَّه مقتضى تفضّله سبحانه وتكرّمه على عباده ليس لنا أن نستشكل في تصوير حقّ الناس على اللَّه؟!

على أنّ هذا النوع من التوسّل لا يفترق عن التوسّل بذات النبي وشخصه فإنّ المنزلة والمقام مرآة لشخصه وانّ حرمة الشخص وكرامته نابعة من كرامة ذاته وفضيلتها، فلو صحّ التوسّل بالأوّل كما تعرّفت عليه من خلال الأحاديث يصح الثاني بدون إشكال، ويدل عليه من الأحاديث ما نذكره:

1- التوسّل بحقّ السائلين

روى عطية بن العوفي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سُمعة إنما خرجت اتّقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تعيذني من النار وأن تغفر ذنوبي إنّه لا يغفر الذنوب إلّاأنت، إلّاأقبل اللَّه عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك (1).

إنّ دلالة الحديث واضحة لا يمكن لأحد التشكيك فيه، وسند


1- 1 ابن ماجة: السنن: 1/ 256 برقم 778، الإمام أحمد: المسند: 3/ 21.

ص: 85

الحديث صحيح ورجاله كلّهم ثقات، نعم اشتمل السند على عطية العوفي فقد وثّقه لفيف من أهل الجرح والتعديل.

قال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن معين: صالح، وقال ابن حجر: عطية بن سعيد بن جنادة العوفي الجدلي الكوفي أبو الحسن صدوق، قال ابن عدي: قد روى عن جماعة من الثقات، توفّي سنة إحدى عشرة ومائة، قال ابن سعد: خرج عطية مع ابن الأشعث فكتب الحجّاج إلى محمد بن القاسم أن يعرض عليه سبَّ علي- إلى أن قال:- كان ثقة وله أحاديث صالحة وكان أبوبكر البزّاز يعدّه في التشيّع روى عن جلّة الناس (1).

نعم، هناك من ضعّفه لا لأنّه غير صدوق بل لأنّه كان يتشيّع وليس تشيّعه إلّاولاؤه لعلي وأهل بيته وهل هذا ذنب؟!

إنّ لوضع الحديث دوافع خاصة توجد أكثرها في أبواب المناقب والمثالب وخصائص البلدان والقبائل، أو فيما يرجع إلى مجال العقائد، كالبدع الموروثة من اليهود والنصارى في أبواب التجسيم والجهة وصفات الجنة والنار، وأمّا مثل هذا الحديث الذي يعرب بوضوح أنّه كلام إنسان خائف من اللَّه سبحانه ترتعد فرائصه من سماع عذابه فبعيد عن الوضع.

2- التوسّل بحقّ النبي وبحقّ من سبقه من الأنبياء

روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنّه لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُم علي- رضي اللَّه عنها- دخل عليها رسول اللَّه فجلس عند رأسها


1- 1 ابن حجر: تقريب التهذيب: 2/ 24 برقم 216، وتهذيب التهذيب: 7/ 227 برقم 413.

ص: 86

فقال: رحمكِ اللَّه يا أُمّي كنتِ أُمِّي بعد أُمِّي تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسينني، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعمينني تريدين بذلك وجه اللَّه والدار الآخرة.

ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً فلمّا بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول اللَّه بيده ثم خلع رسول اللَّه قميصه فألبسها إيّاه وكفّنها ببرد فوقها ثم دعا رسول اللَّه أُسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسوداً يحفرون فحفروا قبرها، فلمّا بلغوا اللحد حضره رسول اللَّه بيده وأخرج ترابه بيده فلمّا فرغ دخل رسول اللَّه فاضطجع فيه وقال:

اللَّه الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأُمّي فاطمة بنت أسد ولقّنها حجتها، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي فإنّك أرحم الراحمين وكبّر عليها أربعاً وأدخلها اللحد والعباس وأبوبكر.

والاستدلال بالرواية يتوقف على تمامية الرواية سنداً ومضموناً.

أمّا المضمون فلا مجال للخدشة فيه، وأمّا السند فصحيح، رجاله كلّهم ثقاة لا يغمز في حقّ أحد منهم، نعم فيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبان والحاكم وقد عرفت كلام الذهبي فيه (1).

وقد رواه أئمة الحديث وأساتذته وإليك أسماء من وقفنا على روايتهم:

1- رواه الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في المعجم الأوسط 356- 357.

2- رواه أبو نعيم عن طريق الطبراني في حلية الأولياء 3/ 121.


1- 1 لاحظ للوقوف على حال روح بن صلاح المصري ميزان الاعتدال: 2/ 85 برقم 2801.

ص: 87

3- رواه الحاكم في مستدركه 3/ 108 وهو لا يروي في هذا الكتاب إلّاالصحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم.

4- رواه ابن عبد البرّ في الاستيعاب على هامش الإصابة 4/ 382.

5- نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/ 118 برقم 7.

6- رواه الحافظ نور الدين الهيثمي المتوفّى 708 في معجم الزوائد ومنبع الفوائد 9/ 256- 257، وقال: ورواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبان والحاكم.

7- رواه المتّقي الهندي في كنز العمال 13/ 636 برقم 37608.

هؤلاء الحفّاظ نقلوا الحديث في جوامعهم وصرّحوا بأنّ رجال السند، رجال الصحيح ولو كان هناك شي ء ففي روح بن صلاح وقد عرفت توثيقه من أساتذة الفن كابن حبان والحاكم.

وأمّا التوسّل بحقّ الأولياء والشخصيّات الإلهيّة ففي أدعية أئمة أهل البيت نماذج من أدعية التوسّل، وهي كثيرة وموزعة في الصحيفة العلوية (1) ودعاء عرفة (2) والصحيفة السجادية (3) وغيرها من كتب الدعاء.

وفيما يلي نذكر نماذج من تلك الأدعية:

1- يقول الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء له:

«... بحقّ محمّد وآل محمّد عليك، وبحقّك العظيم عليهم أن تصلّي عليهم كما أنت أهله، وأن تعطيني أفضل ما أعطيت السائلين من


1- 1 وهي المجموعة التي تضم بعض أدعية الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام جمعها الشيخ عبد اللَّه السماهيجي.
2- 2 وهو دعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفات، يوم عرفة.
3- 3 وهو بعض أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام.

ص: 88

عبادك الماضين من المؤمنين وأفضل ما تعطي الباقين من المؤمنين ..» (1).

2- ويقول الإمام سيد الشهداء الحسين عليه السلام في دعاء عرفة:

«... اللّهمّ إنّا نتوجّه إليك- في هذه العشية التي فرضتها وعظّمتها- بمحمد نبيّك ورسولك وخيرتك من خلقك».

3- ويقول الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه بمناسبة حلول شهر رمضان:

«... اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ هذا الشهر وبحقّ من تعبّد فيه» (2).

إلى هنا تمّت بعض الأدلة على جواز التوسّل بالشخصيات الطاهرة التي لها منزلة ومكانة، وهناك روايات أُخرى في هذا الصدد نتركها لئلّا يطول بنا الكلام فإنّ الغرض الإيجاز لا الإطناب.

3- توسّل آدم بحقّ النبي

اشارة

قد تعرّفت على حقيقة حقّ العبد على اللَّه وربّما يحتمل أن يراد منه منزلته وجاهه عند اللَّه وكرامته لديه قال نور الدين السمهودي:

إعلم أنّ الاستغاثة والتشفّع بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وبجاهه وبركته إلى ربّه تعالى من فعل الأنبياء وسير السلف الصالح، واقع في كلّ حال، قبل خلقه صلى الله عليه و آله و سلم وبعد خلقه صلى الله عليه و آله و سلم في حياته الدنيوية ومدّة البرزخ وعرصات القيامة.

«وإذا جاز السؤال بالأعمال- كما في حديث الغار الصحيح وهي مخلوقة- فالسؤال بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم أولى. وفي العادة أنّ من له عند شخص قدر فتوسّل به إليه من غيبته فإنّه يجيب إكراماً للمتوسل به وقد يكون


1- 1 الصحيفة العلوية للسماهيجي: 51.
2- 2 الصحيفة السجادية: دعاء رقم 44.

ص: 89

ذكر المحبوب أو المعظّم سبباً للإجابة» (1).

قال الدكتور عبد الملك السعدي: «إذا قلت: اللّهمّ إنّي توسّلت إليك بجاه فلان، لنبي أو صالح فهذا أيضاً مما ينبغي أن لا يحصل بجوازه خلاف، لأنّ الجاه ليس له ذات المتوسّل به بل مكانته ومرتبته عند اللَّه وهي حصيلة الأعمال الصالحة لأنّ اللَّه تعالى قال عن موسى- عليه الصلاة والسلام- «وكان عند اللَّه وجيهاً» وقال عن عيسى- عليه الصلاة والسلام- «وجهياً في الدنيا والآخرة» فلا ينكر على من يتوسّل بالجاه إذا كنّا منصفين، لأنّه لا يحتمل نسبة التأثير إلى المتوسّل به إذ ليس هو المقصود بل المتوسّل به جاهه ومكانته عند اللَّه لا غير (2).

وقال أيضاً في قصة استسقاء الخليفة بالعباس: «إنّ عمر لم يقل واليوم نستسقي بالعباس بن عبد المطلب بل قال: بالعباس عمّ نبيّك، فالوجاهة حصلت له لأنّه عمّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم الميّت وهذا اعتراف بأنّ جاه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد موته ما زال باقياً حتى سرى إلى عمّه العباس (3).

ونحن نضيف إلى ذلك: أنّه إذا جاز التوسّل بالقرآن- كما مرّ في الفصل الثاني- لمكانته عند اللَّه ومنزلته لديه وهو كلام اللَّه الصامت، فالتوسّل بالنبي الأكرم وهوكلام اللَّه الناطق بطريق أولى.

عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «اقترف آدم الخطيئة قال: ربّي أسألك بحقّ محمّد لما غفرتَ لي، فقال اللَّه عزّ وجلّ:

يا آدم، كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: لأنّك يا ربّ لمّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش


1- 1 السمهودي: وفاء الوفا: 4/ 1372.
2- 2 عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق: 45.
3- 3 المصدر نفسه: 49.

ص: 90

مكتوباً: لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنّك لم تُضِفْ إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال اللَّه عزَّ وجلّ: صدقت يا آدم. إنّه لأحبّ الخلق إليَّ وإذا سألتني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد لما خلقتك» (1).

يقع الكلام في سند الحديث أوّلًا ومتنه ثانياً.

أمّا الأوّل: فرجاله ثقاة، نعم وقع الكلام في واحد منهم وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقد قال البيهقي: وهو ضعيف، ولكن الحاكم صحّح الحديث على شرط الشيخين، ولو قلنا بأنّه لا يعتمد على تصحيح الحاكم وحده فتكون الرواية مؤيّدة، إذ ليس معنى كون الراوي ضعيفاً أن الرواية مكذوبة.

وهناك نكتة أشرنا إليها سابقاً، وهي أن لو كان التوسّل بشخص النبي أمراً منكراً بين المسلمين لما تجرّأ الواضع بوضع الحديث الذي يتضمّن ذلك الأمر المنكر، لأنّ هدفه من الوضع إقبال الناس إلى كلامه وتسليمهم بالرواية، وهذا لا يجتمع مع كون المضمون أمراً مخالفاً لما عليه المسلمون في ظرف النقل، وبذلك يُعلم أنّ الرواية سواء أكانت صحيحة أم لا، تُثْبت ما بيّناه في جواز التوسّل بذات النبي.

نعم هنا شبهات حول الرواية، تجب الإجابة عنها:

الشبهة الأُولى

إنّ الحديث يتضمّن الإقسام على اللَّه بمخلوقاته، فالإقسام على


1- 1 البيهقي: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر أحمد بن حسن البيهقي ت 384- 458 ه طبع دار الكتب العلمية بيروت: 5/ 489 ولاحظ الدر المنثور: 1/ 59 ونقله كثير من المفسرين في قصة توبة آدم.

ص: 91

اللَّه بمحمد وهو مخلوق بل وأشرف المخلوقين لا يجوز، لأنّ حلف المخلوق على مخلوق حرام، فالحلف على اللَّه بمخلوقاته من باب أولى.

يلاحظ عليه: أنّ ما استدلّ به على حرمة الإقسام على اللَّه بمخلوقاته عن طريق أنّ الحلف بمخلوق على مخلوق حرام، مردود جداً، لأنّ القرآن ملي ء بالحلف بمخلوق على المخلوق، قال سبحانه:

«والتين والزيتون* وطور سينين* وهذا البلد الأمين» (التين/ 1- 3).

«والليل إذا يغشى* والنهار إذا تجلّى» (الليل/ 1- 2).

«والفجر* وليال عشر* والشفع والوتر* والليل إذا يسر» (الفجر/ 1- 4).

ففي هذه الآيات حلف بمخلوق على مخلوق، والحالف هو اللَّه والمحلوف به هو هذه الموجودات والمحلوف عليه هم الناس أو المسلمون قاطبة.

فلو كان الحلف بمخلوق على مخلوق أمراً خطيراً وبمقربة من الشرك أو هو نفسه كما يقوله بعض الناس (1).

لما حلف به سبحانه، لأنّ ماهية العمل إذا كانت ماهية شركية، فلا يفرق بينه وبين عباده كما أنّه إذا كانت ماهية الشي ء ظلماً وتجاوزاً على البري ء، فاللَّه وعباده فيه سيّان، قال اللَّه تعالى: «قل إنّ اللَّه لا يأمر بالفحشاء أتقولون على اللَّه ما لا تفعلون» (الأعراف/ 28).

إنّ الحلف بهذه العظائم ذات الأسرار إنّما لأجل أحد الأمرين: إمّا للدعوة إلى التدبّر والدقة في صنعها والنواميس السائدة عليها واللطائف


1- 1 الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 217.

ص: 92

الموجودة فيها، أو لإظهار عظمة المحلوف به وكرامته عند اللَّه كما هو الحال في حلفه سبحانه بحياة النبي، قال: «لعمرُك إنّهم لفي سكرتهم يعمهون» (الحجر/ 72).

ولا عتب علينا إذا عرضنا المسألة على السنّة النبويّة، فقد جاءت فيها موارد قد ورد فيها الحلف بخلوق على مخلوق، نكتفي بما رواه مسلم في صحيحه، وما ظنّك برواية مسلم في جامعه!

1- روى مسلم في صحيحه:

«جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول اللَّه أيّ الصدقة أعظم أجراً؟

فقال: أما وأبيك لَتُنَبَّأنَّهُ: أن تَصَدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل البقاء» (1).

2- روى مسلم أيضاً:

«وجاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم- من نجد- يسأل عن الإسلام، فقال رسول اللَّه: خمس صلوات في اليوم والليل.

فقال: هل عليّ غيرهنّ؟

قال: لا ... إلّاأن تطّوع، وصيام شهر رمضان.

فقال: هل عليّ غيره؟

قال: لا ... إلّاأن تطّوع، وذكر له رسول اللَّه الزكاة.

فقال الرجل: هل عليَّ غيرها؟

قال: لا ... إلّاأن تطّوع.

فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد على هذا ولا أنقص.


1- 1 صحيح مسلم: 3/ 94 كتاب الزكاة، باب أفضل الصدقة.

ص: 93

فقال رسول اللَّه: أفلح وأبيه (1) أن صدق.

أو قال: دخل الجنة- وأبيه- أن صدق» (2).

فإذ بطل الأصل: حرمة الحلف بمخلوق على مخلوق، بطل ما بُني عليه من حرمة الإقسام على اللَّه بحقّ مخلوقه.

إلى هنا تمّ بيان أنّ الشبهة شبهة غير صحيحة، وإنّما دعا القائل إلى التمسّك بها لدعم رأيه المسبق.

الشبهة الثانية

إنّ الحوار الوارد في الحديث كان بعد اقتران الخطيئة ولكنّه قبل أن يخطأ، علّمه اللَّه الأسماء كلّها، ومن جملة الأسماء اسم محمد وعَلِم أنّه نبيّ ورسول وأنّه خير الخلق أجمعين، فكان أحرى أن يقول آدم:

ربّي إنّك أعلمتني به أنّه كذلك لما علّمتني الأسماء كلّها (3).

نقول على هامش الشبهة: إنّ ردّ السنّة الشريفة بمثل هذه التشكيكات، جرأة عليها إذ أيّ مانع أن يكون هنا عِلْمَين: علم جزئي وقف عليه عندما فتح عينيه على الحياة في الجنّة، وعلم واسع علّمه سبحانه بعد ذلك الظرف، عندما أراد سبحانه إثبات كرامته على الملائكة.

إنّ هذا النوع من التشكيك يستمد من إثبات الرأي والصمود على العقيدة وإن كان الحديث على خلافها.


1- 1 أي حلفاً بأبيه، فالواو للقسم.
2- 2 صحيح مسلم ج 1، باب ما هو الاسلام: 32.
3- 3 الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 218.

ص: 94

وهناك نكتتان ننبّه عليهما:

الأُولى: إنّ أحاديث التوسّل وإن كانت تتراوح بين الصحيح والحسن والضعيف، لكن المجموع يعرف عن تضافر المضمون وتواتره، فعند ذلك تسقط المناقشة في اسنادها بعد ملاحظة ورود كمية كبيرة من الأحاديث في هذا المجال، وأنت إذا لاحظت ما مضى من الروايات، وما يوافيك تذعن بتضافر المضمون أو تواتره.

الثانية: نحن نفترض أنّ الحديث الراهن مجعول موضوع، ولكنّه يعرب عن أنّ التوسّل بالمخلوق والإقسام على اللَّه بمخلوقاته ليس شركاً ولا ذريعة إليه، بل ولا حراماً.

وذلك لأنّه لو كان شركاً وذريعة إليه أو حراماً، لما رواه الثقاة واحد عن واحد، وهم أعرف بموازين الشرك ومعاييره، ولما أورده الأكابر من العلماء في المعاجم الحديثة، كالبيهقي في دلائل النبوة والحاكم في مستدركه، والسيوطي في تفسيره، والطبراني في المعجم الصغير، وأكابر المفسّرين في القرون الغابرة، لأنّ الشرك أمر بيّن الغي، فلا معنى ولا مسوغ لنقله بحجة أنّه رواية.

فكل ذلك يعرب عن الفكرة الخاطئة في الحكم على الحلف على اللَّه بمخلوقاته شركاً.

ص: 95

9 التوسّل بمقام النبي ومنزلته عند اللَّه

اشارة

إنّ هذا النوع من التوسّل ليس قسماً آخر بل يرجع إلى التوسّل بحقهم، بل التحقيق هو: أنّ التوسّل ليس له إلّاقسم واحد وهو توسيط قداسة النبي وشخصيته وحرمته عند اللَّه تبارك وتعالى، حتى يستجيب دعاء الإنسان لأجلها، ولو كان لدعاء النبي أثر هو الإجابة فإنّما هو في ظلّ قداسته وشخصيته، وهناك كلمة قيّمة للشيخ محمد الفقي في هذا الصعيد نأتي بنصّها:

يمتاز الأنبياء والرسل عن سواهم بمميزات لها خطورتها وعِظَم شأنها، ويتمتعون بخصوصيات تجل عن التقدير والتعبير، فهم يتفاوتون عن الخلائق بشتّى الخوارق، ويختصّون بأنواع رائعة من المعجزات وأسمى المقامات: «ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه

ص: 96

ذوالفضل العظيم» (الحديد/ 21).

والذي وهبهم هذه العطايا وأنعم عليهم بهذه الامتيازات، كتب لهم في سجل الحوائج قضاء ما يطلبون، وما يرجون لأنّهم رسله إلى خلقه يلجأ إليهم عند الشدائد، ويستغاث بهم في الملمّات وقد أكرم اللَّه كذلك من بين خلقه، رجالًا لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر اللَّه، واقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوب والأبصار، وهم أولياؤه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلهم الحظوة لديه، والقبول عنده بتفضيل عليهم بالاستجابة لدعائهم وقبول الاستغاثة منهم.

وفي جواز التشفّع، والاستغاثة بجاهه، تواترت الأحاديث واستفاضت الأخبار، خصوصاً عندما يطول الموقف ويشتدّ الكرب ويعظهم الهول، يوم تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. فتطلب الخلائق في هذا الموقف من الأنبياء إغاثتهم، والاستشفاع بهم، فيحيلونهم كل بدوره إلى خير شفيع، وأعظم مغيث فيقصدون كعبة الشفاعة وقبلة الإغاثة، فيستجيب لرغباتهم ويسارع لإغاثتهم وإنقاذهم ويهمّ لمرضاتهم بما عهد فيه من فضل، وما عرف عنه من كرم (1).

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه: أنا سيّد الناس يوم القيامة. هل تدرون بِمَ ذلك؟ يجمع اللَّه يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد ويسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنوا الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول


1- 1 محمد الفقي من علماء الأزهر الشريف: التوسّل والزيارة: 161.

ص: 97

الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم؟

فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك اللَّه بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك إشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنّه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى نوح.

فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سمّاك اللَّه عبداً شكوراً إشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي عزّ وجلّ قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنّه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى إبراهيم.

فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ اللَّه وخليله من أهل الأرض إشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله (وإنّي قد كنت كذبت ثلاث كذبات- فذكرهنّ أبو حيان (1) في الحديث)، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى موسى.

فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول اللَّه فضّلك اللَّه برسالته وبكلامه على الناس إشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟

فيقول: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنّي قد قتلت نفساً لم أُؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا


1- 1 ما تفرّد به أبو حيان مخالف للكتاب والعقل فلا عبرة به.

ص: 98

إلى غيري إذهبوا إلى عيسى.

فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول اللَّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلّمت الناس في المهد صبيّاً إشفع لنا ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إنّ ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله (ولم يذكر ذنباً)، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

فيأتون محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم فيقولون: يا محمد أنت رسول اللَّه وخاتم الأنبياء وقد غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر إشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقَعُ ساجداً لربّي عزّ وجلّ ثم يفتح اللَّه عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفّع، فأرفَعُ رأسي فأقولُ: أُمّتي يا ربّ أُمّتي يا ربّ، فيقال: يا محمد أدخل من أُمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة كما بين مكة وحميرا وكما بين مكّة وبصرى (1).

فالحديث يدلّ على جواز التوسّل بالمقام والمنزلة لقولهم: يا من أنت رسول وخاتم الأنبياء، كما أنّ فيه دلالة على طلب الشفاعة منه لقولهم إشفع لنا إلى ربك.

إنّ التوسّل بالأنبياء والأولياء ليس بملاك جسمانيتهم فإنهم وغيرهم في ذلك المجال سواسية، وإنّما يتوسّل بهم بروحانيتهم العالية


1- 1 البخاري: الصحيح: 6/ 84- 85، صحيح مسلم: 1/ 127- 130، مسند أحمد: 2/ 412.

ص: 99

وهي محفوظة في حال الحياة وبعد الارتحال إلى البرزخ وإلى الآخرة.

فالتفريق في التوسّل بين الحياة والممات ينشأ من نظرة مادية تعطي الأصالة للجسم والمادة ولا تقيم للمعنى والروحانية وزناً ولا قيمةً.

فالنبي الأكرم مدار الفضائل والكمالات وهو يتمتع بأروع الكرامات وكلّها ترجع إلى روحانيته ومعنويته القائمة المحفوظة في جميع الحالات.

فما هذا التفريق بين الحياة المادية والبرزخية والأُخروية؟

فمن اتّخذ الأنبياء والأولياء وغيرهم ممّن باتوا لربّهم سجّداً وقياماً، أسباباً حال حياتهم أو بعد مماتهم، ووسائل لقضاء حوائجهم ووسائط لجلب الخير ودفع الشر، لم يحيدوا عمّا تهدف إليه الشريعة ولم يتجاوزوا الخط المشروع ولم يتعدّوا مقصود الرسالة النبوية وغاياتها.

فالأسباب لا يمكن إنكارها، ولا يعقل تجاهلها، ولا يتأتّى جحودها لأنّه تعالى هو الذي خلق الأسباب والمسبّبات ورتّب النتائج على المقدّمات فمن تمسك بالأسباب فقد تمسّك بما أمر اللَّه سبحانه.

خاتمة المطاف

اشارة

ص: 100

قد تعرّفت على أدلّة جواز التوسّل بالأنبياء والصالحين، بأقسامه المختلفة، وربّما تثار الشبهة حول التوسّل ببعض الآيات، فإكمال البحث يقتضي توضيح بعض هذه الآيات التي وقعت ذريعة للشبهة لأجل التفسير بالرأي، فحاشا أن يكون بين الآيات تهافت واختلاف بأن يدل بعضها على جواز التوسّل وبعضها الآخر على المنع، وحاشا أن تكون السنّة المتواترة على جواز التوسّل مضادّة للقرآن الكريم وإنّما استغلّهما القائل إذ ولج في تفسير الآية من غير بابها وإليك بعض هذه الآيات:

الآية الأُولى

قوله سبحانه: «قُلِ ادعوا الَّذين زعمتهم من دونه فلا يملكون كشف الضرّ عنكم ولا تحويلًا* أُولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنَّ عذابَ ربِّك كان محذوراً» (الإسراء/ 56- 57).

وتوضيح الآيتين على وجه يقلع الشبهة من رأس:

تردّ الآيتان على الذين كانوا يعبدون الوسائط والوسائل بتخيّل أنّهم يستطيعون كشف الضرّ وتحويله عنهم، وأنّهم يملكون ذلك، فلأجل تلك الغاية كانوا يعبدون الجنّ والملائكة وغيرهم لتلك الغاية، وكانوا يسمّونهم آلهة، والآيتان تحتجّ على نفي إلوهيتهم بحجة أنّ الإله

ص: 101

المستحقّ للعبادة يجب أن يكون قادراً على إيصال النفع ودفع الضرر، إذ هو لازم ربوبية الربّ، لكن الذين يدعون هؤلاء ويعبدونهم لا يستطيعون ذلك، أي كشف ضُرٍّ مسهم أو تحويله عنهم إلى غيرهم، فعند ذلك تبطل ربوبيتهم فلا يستحقّون العبادة، وإلى ذلك المعنى يشير سبحانه بقوله: «قل ادعو الذين زعمتهم من دونه فلا يملكون كشف الضرّ عنكم ولا تحويلًا».

هذا هو الدليل الأوّل الذي أبطل به سبحانه إلوهيتهم وربوبيتهم واستحقاقهم للعبادة.

ثم إنّه سبحانه عاد إلى الاحتجاج عليهم بدليل آخر وحاصله: أنّ الذين تعبدونهم وتزعمون أنّهم يستطيعون كشف الضرّ وتحويله- نفس هؤلاء- يدعون اللَّه تعالى ويطلبون القربة إليه بفعل الخيرات «حتى» أنّ الأقرب منهم يبتغي الوسيلة إلى اللَّه فكيف بغير الأقرب، والجميع يرجون رحمة اللَّه ويخافون عذابه، إنّ عذاب ربّك كان محذوراً، فإذا كان الحال كذلك فاللازم عليكم ترك عبادة هؤلاء ورفضهم الإقبال على عبادة اللَّه تبارك وتعالى وإلى ذلك يشير قوله سبحانه في الآية الثانية:

«أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربّك كان محذوراً».

فأشار إليه «بأُولئك» إلى آلهتهم، وبقوله: «الذين يدعون» إلى عبادتهم لهم، ثم وصف آلهتهم بالجمل التالية وهي، هؤلاء الآلهة:

1- يبتغون إلى ربّهم الوسيلة.

2- الذي هو أقربهم إلى اللَّه يبغي الوسيلة فكيف بغير الأقرب.

ص: 102

3- والجميع الأقرب وغير الأقرب، «يرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربّك كان محذوراً» فالآيتان بصدد إبطال إلوهية هؤلاء وعدم استحقاقهم للعبادة لعدم ثبوت ملاك العبادة فيهم.

فأيّ صلة للآيتين بنفي التوسّل، أي التوسّل بعباد صالحين لا يعتقد المتوسّل فيهم شيئاً من الربوبية ولا استطاعة لكشف الضر وتحويله، بل هم عباد صالحون تستجاب دعوتهم، فلو كانت الآية عامة لصورة التوسّل بدعائهم يلزم التهافت بينها وبين قوله سبحانه: «ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا اللَّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللَّه تواباً رحيماً» (النساء/ 64).

الإنسان المصر على عقيدته الذي لا يريد أن يعدل عنها أمام الآيات البيّنات ليس له إلّاإخراج الآية عن مفادها وتفسيرها لأجل رأي مسبق، فشتّان بين مفاد الآية، أي عبادة الوسائط بزعم أنّهم آلهة يستطيعون لكشف الضر وتحويله وقضاء الحاجة، وبين توسيط الشخصيات الصالحين بما هم عباد اللَّه، بما لهم منزلة وكرامة عند اللَّه حتى يدعوا للمتوسّل أو يستجيب اللَّه تعالى دعاءه ولأجل قربهم وكرامتهم عنده، فالآية ناظرة إلى المعنى الأوّل دون الثاني.

الآية الثانية

قال سبحانه: «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين».

ربما يقال: إنّ التوسّل نوع من الاستعانة بغير اللَّه سبحانه، وهو ينافي الحصر الموجود في قوله: «إيّاك نستعين».

والجواب: أنّ الاستعانة بالناس والاستغاثة بهم لا يتنافى مع

ص: 103

حصر الاستعانة باللَّه في قوله: «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين» لأنّ الاستعانة بهم (باعتقاد أنّه سبحانه هو الذي جهزهم بالقوة، فلو قاموا بعمل فإنّما يقومون به بحوله وقوّته سبحانه) يؤكد حصر الاستعانة فيه عزّ وجلّ.

وإنّما ينافي الحصر لو اعتقدنا بأنّ للأسباب والوسائط أصالة واستقلالًا في العمل والتصرف، وهذا ما لا يليق أن ينسب إلى موحّد أبداً.

إنّ القرآن حافل بحصر أفعال باللَّه سبحانه، فينسبها إليه في صورة الحصر، ولكنّه يعود فينسبها في نفس الوقت إلى غيره وليس هناك تهافت وتضادّ بين الإسنادين والنسبتين لأنّ المحصور في اللَّه سبحانه غير المنسوب إلى غيره.

يقول سبحانه: «إيّاك نستعين» وفي الوقت نفسه يقول عزّ وجلّ: «استعينوا بالصبر والصلاة وإنّها لكبيرة إلّاعلى الخاشعين» (البقرة/ 45).

قال الدكتور عبد الملك السعدي: أمّا من يمنع ذلك ويستدلّ بقوله: «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين» وبقوله صلى الله عليه و آله و سلم لابن عباس: «وإذا استعنت فاستعن باللَّه» وبقوله: «لا يستغاث بي وإنّما المغيث هو اللَّه».

فالجواب عنه: أنّ الإعانة تكون حقيقية ومجازية، فالمعين الحقيقي هو اللَّه وطلب الإعانة من غيره مجاز، ولولا إمداد اللَّه له بالعون والقوّة لما استطاع أن يعينك، فالاستعانة بالإنسان هي استعانة بالقوة والملكة والسلطة التي منحه اللَّه إياه إذ لا حول ولا قوّة إلّاباللَّه، فالآية حصرت الاستعانة الحقيقية باللَّه تعالى، وكذا وصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم لابن

ص: 104

عباس من هذا القبيل، والآية والحديث فيهما توجيه للعبد، أن لا ينسب إلى المخلوق حولًا ولا قوة، ولو طلب العون المجازي منه وإذا لم توجّه الآية والحديث هذا التوجيه فانّه ستتعارض مع قوله تعالى: «وتعاونوا على البرّ والتقوى» وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «واللَّه في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه».

أمّا الحديث الأخير فإنّه ضعيف، لأنّ في سنده ابن لهيعة فلا يقاوم الأحاديث الصحاح ولا مدلول الآية (1).

والأولى أن يعبّر عن الحقيقي والمجازي بالاستقلال وعدم الاستقلال، بالأصالة والتبع، فاللَّه سبحانه يملك كلّ شي ء استقلالًا وأصالة والعبد يملك العون والقدرة، ولكن بإذنه ومشيئته في كل آن، فهو الذي أراد أن يقدر العبد ويستطيع على إقامة الفرائض والسنن.

فالعون القائم بالذات غير المفاض فهو عون اللَّه سبحانه، وأمّا العون المفاض المحدود فهو عون العبد، فلو استعان بالعبد بما أنّه معين مستقل وبالأصالة فهو مشرك، فجعلَ المخلوق مكان الخالق ولو طلب منه بما أنّه أقدر اللَّه عليه وأجاز له أن يعين أخاه، فقد طلب شيئاً مشروعاً وهو نفس التوحيد.

هذا من غير فرق بين من يستعين بالأحياء وبالأموات، غاية الأمر إذا كان الميت غير مستطيع على الإعانة تكون الاستعانة لغواً، وإن كان قادراً فتكون الاستعانة عقلائية، فالحياة والموت ليسا ملاكاً للتوحيد والشرك، بل ملاكاً للجدوى وعدمها.

***


1- 1 الدكتور عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق: 53- 54.

ص: 105

10 التوسّل بالنبي متواتر إجمالا

اشارة

إنّ هناك لفيفاً من التوسّلات المبثوثة في كتب التاريخ والتفسير والسيرة وغيرها وهي بأجمعها تدلّ على جريان السيرة بالتوسّل إلى الرسول، وهي تدل على جواز التوسّل بدعاء الرسول أو بذاته أو بمنزلته حياً وميتاً، والكل يعرب عن كونه أمراً رائجاً بين المسلمين غير منكر، وانّما حدث الإنكار في الآونة الأخيرة أي بعد سبعة قرون متكاملة فلم ينبس فيها أحد ببنت شفة بالإنكار أبداً.

نعم هناك لفيف يمنعون التوسّل، ولكنّهم لمّا وقعوا أمام هذه الروايات الهائلة الدالة على جواز التوسّل بدعائه أو بذاته وشخصه حيّاً وميتاً، حاولوا أن يناقشوا في أسناد هذه الروايات، غافلين عن أنّ هذه الروايات مستفيضة، بل متواترة في مفادها الإجمالية أي جواز التوسّل

ص: 106

بنفسه، ولا وجه للمناقشة في اسنادها وقال ابن تيميّة: «والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المودطئة قصداً أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعاً» (1).

وأنت إذا لاحظت ما سبق من الصحاح والحسان وما نذكره الآن تذعن على تواتره الإجمالي:

1- توسّل الأعرابي بالنبي نفسه

اشارة

روى جمع من المحدثين أنّ أعرابياً دخل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صغير يغط، ثم أنشأ يقول:

أتيناك والعذراء تَدمي لبانها وقد شغلت أُم الصبي عن الطفل

ولا شي ء ممّا يأكل الناس عندنا سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

وليس لنا إلّاإليك فرارنا وأين فرار الناس إلّاإلى الرسل؟

فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يجر رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه وقال: اللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً ... فما ردّ النبي يديه حتى ألفت السماء ... ثم قال: للَّه درّ أبي طالب، لو كان حياً لقرّت عيناه. من ينشدنا قوله؟

فقام علي بن أبي طالب عليهما السلام وقال: كأنّك تريد يا رسول اللَّه قوله:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطوف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أجل.

فأنشد علي عليه السلام أبياتاً من القصيدة، والرسول يستغفر لأبي طالب على المنبر، ثم قام رجل من كنانة وأنشد يقول:


1- 1 ابن تيميّة: مقدمة في اصول التفسير: 24.

ص: 107

لك الحمد والحمد ممّن شكر سقينا بوجه النبي المطر (1)

دلالة الحديث:

إنّ الإمعان في مجموع الرواية يعرب عن أنّ الأعرابي توسّل بشخص النبي وطلب منه قضاء حاجته، والدليل على ذلك الأُمور التالية:

أ- أتيناك وما لنا بعير يئط.

ب- أتيناك والعذراء تدمى لبانها.

ج- وليس لنا إلّاإليك فرارنا.

د- وأين فرار الناس إلّاإلى الرسل؟

ه- إنشاء علي بن أبي طالب شعر والده، وهو يتضمّن قوله:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه.

2- شعر صفية في رثاء النبي

أنشدت صفية بنت عبد المطلب عمّة النبي قصيدة بعد وفاة النبي في رثائه صلى الله عليه و آله و سلم وجاء فيها قولها:

ألا يا رسول اللَّه أنت رجاؤنا وكنت بنا برّاً ولم تك جافيا

وكنت بنا برّاً رؤوفاً نبيّنا ليبك عليك اليوم من كان باكيا (2)

إنّنا نستنتج من هذه المقطوعة الشعرية- التي أُنشدت على مسمع


1- 1 السيرة الحلبية: 1/ 116، لاحظ فتح الباري: 2/ 494، والقصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 272- 280.
2- 2 ذخائر العقبى للحافظ الطبري: 252، مجمع الزوائد: 9/ 36، ونشير إلى أنّ جملة: «أنت رجاؤنا» في الشطر الأوّل جاءت في هذا المصدر هكذا كنت رجاؤنا.

ص: 108

من الصحابة وسجّلها المؤرخون وأصحاب السير- أمرين:

الأوّل: إنّ مخاطبة الأرواح- وبالخصوص مخاطبة رسول اللَّه بعد وفاته- كان أمراً جائزاً وجارياً وقولها: «يا رسول اللَّه» لم يكن لغواً ولا شركاً.

الثاني: إنّ قولها: «أنت رجاؤنا» يدل على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو أمل المجتمع الإسلامي في كل العصور والأحوال، ولم تنقطع الروابط والعلاقات معه صلى الله عليه و آله و سلم حتى بعد وفاته.

3- خبر العتيق

روى الإمام القسطلاني في المواهب اللدنية: وقف أعرابي على قبره الشريف صلى الله عليه و آله و سلم وقال: اللّهمّ إنّك أمرت بعتق العبيد وهذا حبيبك وأنا عبدك فأعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا سألت العتق لك وحدك؟ هلّا سألت العتق لجميع المؤمنين إذهب فقد أعتقتك.

ثمّ أنشد القسطلاني البيتين المشهورين وهما:

إنّ الملوك إذا شابت عبيدهم في رقّهم أعتقوهم عتق أحرار

وأنت يا سيدي أولى بذا، كرماً قد شِبتُ في الرقّ فاعتقني من النار (1)

4- خبر حاتم الأصم

نقل في المواهب عن الحسن البصري، قال: وقف حاتم الأصم على قبره صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا ربّ إنّا زرنا قبر نبيّك صلى الله عليه و آله و سلم فلا تردّنا خائبين،


1- 1 القسطلاني: المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: 4/ 584 ط. دار الكتب الإسلامي.

ص: 109

فنودي يا هذا ما أذنّا لك في زيارة قبر حبيبنا إلّاوقد قبلناك فارجع أنت ومن معك من الزوّار مغفوراً لكم.

ثم ذكر في المواهب كثيراً من البركات التي حصلت له ببركة توسّله بالنبي (1).

5- اللّهمّ ربّ جبرئيل وميكائيل

روى النووي أنّ النبي أمر أن يقول العبد بعد ركعتين الفجر: اللّهمّ ربّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ومحمد أجرني من النار (أو) أعوذ بك من النار. وخصّ هؤلاء بالذكر للتوسّل بهم في قبول الدعاء وإلّا فهو سبحانه ربّ جميع المخلوقات.

والحديث صحّحه الحاكم، وقال ابن حجر: إنّه حسن (2).

6- حديث السؤال بالأنبياء

يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جدّه أنّ أبا بكر الصدّيق أتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: إنّي أتعلّم القرآن وينفلت منّي. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قل: اللّهمّ إنّي أسألك بمحمد نبيّك، وإبراهيم خليلك، وبموسى نجيّك، وعيسى روحك وكلمتك، وبتوراة موسى، وانجيل عيسى، وفرقان محمد وبكل وحي أوحيته وقضاءً قضيته ...».

قال ابن تيمية: هذا الحديث ذكره زرين بن معاوية العبدري في جامعه. ونقله ابن الأثير في جامع الأُصول، ولم يعزه لا هذا، ولا هذا إلى


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 زيني دحلان: 30، والرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 306 عن كتاب الأذكار للنووي.

ص: 110

كتاب من كتب المسلمين، لكنّه رواه من صنَّف في عمل يوم وليلة كابن السنّي، وأبي نعيم. وقد رواه أبو الشيخ الاصبهاني في كتاب «فضائل الأعمال» (1).

7- حديث دعاء حفظ القرآن

ذكر موسى بن عبد الرحمن الصنعاني صاحب التفسير باسناده عن ابن عباس مرفوعاً، أنّه قال: من سرّه أن يوعيه اللَّه القرآن فليكتب هذا الدعاء: «... اللّهمّ إنّي أسألك بأنّك مسؤول لم يُسأل مثلك ولا يسأل وأسألك بمحمد نبيّك، وإبراهيم خليلك، وبموسى نجيّك، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك ...» (2).

8- حديث استفتاح اليهود على المشركين بمحمد صلى الله عليه و آله و سلم

يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان ... فكلّما التقوا هزمت يهود، فعاذت بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّا نسألك بحقّ محمد النبي الأُمّي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلّانصرتنا عليهم، فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء هزموا غطفان ... فلما بُعث النبي صلى الله عليه و آله و سلم كفروا به فأنزل اللَّه تعالى: «وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ...» (البقرة/ 89) (3).


1- 1 الرفاعي: التوصّل إلى حقيقة التوسّل: 310.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 المصدر نفسه، نقلًا عن الحاكم في المستدرك على الصحيحين. ولم نعثر عليه فيه بعد الفحص الأكيد.

ص: 111

9- توسّل الشافعي بآل البيت

ذكر ابن حجر المكي في كتابه المسمّى ب «الصواعق المحرقة» من أشعار الإمام الشافعي هذين البيتين:

آل النبي ذريعتي وهم إليه وسيلتي

أرجو بهم أُعطى غداً بيدي اليمين صحيفتي (1)

10- استسقاء بلال بن حرث

اشارة

روى البيهقي وابن أبي شيبة أنّ الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضى الله عنه، فجاء بلال بن الحرث رضى الله عنه وكان من أصحاب النبي إلى قبر النبي، وقالوا: يا رسول اللَّه استسق لأُمتك فانّهم قد هلكوا، فأتاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في المنام وأخبره بأنّهم سيسقون (2) ففيه النداء بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم والخطاب بالطلب منه أن يستسقي لأُمّته.

ومراده من الاستسقاء بقرينة الحال دعاؤه سبحانه أن ينزل رحمته إليهم لا أن يصلّي صلاة الاستسقاء وليس العبرة بنوم بلال، وإنما العبرة بعمل ذلك الصحابي الذي كان في بعض غزواته (3).

قال زيني دحلان: ومن تتبع أذكار السلف والخلف وأدعيتهم وأورادهم وجد فيها شيئاً كثيراً في التوسّل ولم ينكر عليهم أحد في ذلك حتى جاء هؤلاء المنكرون، ولو تتبّعنا من أكابر الأُمّة في التوسّل لامتلأت بذلك الصحف، وفيما ذكر كفاية ومقنع لمن كان بمرأى من


1- 1 ابن حجر: الصواعق المحرقة: 180، ط. مكتبة القاهرة، تحقيق عبد الوهاب.
2- 2 زيني دحلان: الدرر السنية: 18.
3- 3 جمال الدين المزي: 4/ 282، ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 3/ 301- 303.

ص: 112

التوفيق ومسمع (1).

تلك عشرة كاملة

ونلفت نظر القارئ بأنّ الاحتجاج بهذه الأحاديث العشرة الكاملة وما قبلها مبني على أمرين أُشير إليهما فيما سبق:

1- إنّ أصل التوسّل إذا كان شركاً أو محرّماً، لم يتجرأ الوضّاع على أن يجعله أساساً لما يريده من الوضع والدس، فهذا يعرب عن أنّ أساس (جواز التوسّل) كان أمراً مسلّماً فبنى عليه ما بنى من القصص والروايات لو افترضنا عدم صحتها، لكن أنّى لنا، هذه الفرية.

2- إنّ مجموع الروايات العشرة وما تقدّم عليها من الصحاح والحسان يثبت كون التوسّل بالنبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم بعامة صوره أمر أُستُفيض جوازه من النبي والصحابة بل تواتر إجمالًا وإن كانت الخصوصيات غير متواترة.

وليس المورد ممّا يقبل الجرح والدقّة في اسناد الروايات، إذ ليس المقصود الإذعان بصحة كل ما جاء فيها من الخصوصيات وإنّما المقصود ثبوت جواز التوسّل بصورة عامة ببركة هذه الحكايات والقصص وإن كان بعضها ضعيف السند عند البعض وصحيحاً عند آخر.

ومن أراد ردّ هذه الروايات بضعف السند، فقد ولج البيت من غير باب.

***

ما أُلّف حول التوسّل بقلم علماء الإسلام


1- 1 زيني دحلان: الدرر السنية: 31.

ص: 113

لقد أُلّف حول التوسّل بخير الأنام وأولياء اللَّه الكرام كتباً ورسائل قام بتأليفها لفيف من علماء الإسلام وأكابرهم الذين يعتمد على أقوالهم وآرائهم فأحببت أن أنوّه ببعض أسمائها حتى يقف القارئ عليها، فلو أراد التوسّع فعليه الرجوع إليها:

1- كتاب الوفاء في فضائل المصطفى: لابن الجوزي المتوفى سنة 597 ه، وقد أفرد باباً حول التوسّل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وباباً حول الاستشفاء بقبره الشريف.

2- مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام: تأليف محمد بن نعمان المالكي المتوفى سنة 673 ه، وقد نقل السمهودي في كتاب وفاء الوفا، باب التوسّل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم عن هذا الكتاب نقلًا كثيراً.

3- البيان والاختصار: لابن داود المالكي الشاذلي، وقد ذكر فيه توسّل العلماء والصلحاء بالرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في المحن والأزمات.

4- شفاء السقام: لتقي الدين السبكي المتوفى عام 756 ه، وقد تحدّث عن التوسّل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم بشكل تحليلي رائع من ص 120- 133.

5- وفاء الوفا لأخبار دار المصطفى: للسيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة 911 ه، وقد بحث عن التوسّل بحثاً واسعاً في الجزء الرابع من ص 413- 419.

6- المواهب اللدنية: لأبي العباس القسطلاني المتوفى سنة 932 ه، وسيوافيك كلامه في التوسّل.

ص: 114

7- شرح المواهب اللدنية: للزرقاني المالكي المصري المتوفى سنة 1122 ه، وفي الجزء الثامن، ص 317.

8- صلح الإخوان: للخالدي البغدادي المتوفّى سنة 1299 ه، وله أيضاً رسالة خاصة في الردّ على الآلوسي حول موضوع التوسّل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وقد طبعت الرسالة في سنة 1306 ه.

9- كنز المطالب: للعدوي الحمزاوي المتوفى سنة 1303 ه.

10- فرقان القرآن: للعزامي الشافعي القضاعي، وقد طبع هذا الكتاب مع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي في 140 صفحة.

أيُّها القارئ الكريم: إنّ مطالعة هذه الكتب- وخاصة تلك التي تحدّثت بالتفصيل عن التوسّل، ويأتي كتاب صلح الإخوان وفرقان القرآن في طليعتها- أنّ مطالعة هذه الكتب يثبت جريان سيرة المسلمين- في كلّ عصر ومصر- على التوسّل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم لنقتصر بهذا المقدار وفيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.

***

كلام لابن حجر حول التوسّل

قال: وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرّع والاستغاثة والتشفّع والتوسّل به صلى الله عليه و آله و سلم فجدير بمن استشفع به أن يشفعه اللَّه تعالى فيه.

واعلم أنّ الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبّر بلفظ:

الاستغاثة أو التوسّل أو التشفّع أو التجوّه أو التوجّه، لأنّهما من الجاه

ص: 115

والوجاهة، ومعناه: علو القدر والمنزلة.

وقد يتوسّل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه، ثم إنّ كلّاً من الاستغاثة والتوسّل والتشفّع والتوجّه بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم كما ذكره في «تحقيق النصرة» و «مصباح الظلام» واقع في كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدّة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة.

فأمّا الحالة الأُولى فحسبك ما قدمته في المقصد الأوّل من استشفاع آدم عليه السلام به لما أُخرج من الجنّة، وقول اللَّه تعالى له: يا آدم لو تشفّعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفّعناك.

وفي حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقي وغيرهما:

وإن سألتني بحقّه فقد غفرت لك. ويرحم اللَّه ابن جابر حيث قال:

به قد أجاب اللَّه آدم إذ دعا ونجا في بطن السفينة نوح

وما ضرت النار الخليل لنوره ومن أجله نال الفداء ذبيح

وصحّ أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا ربّ، أسألك بحقّ محمد لما غفرت لي، قال اللَّه تعالى: يا آدم، وكيف عرفتَ محمّداً ولم أخلقه؟ قال: يا ربّ إنّك لمّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك، رفعت رأسي فرأيت قوائم العرش مكتوباً عليها لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، فعرفت أنّك لا تضيف إلى اسمك إلّاأحبّ الخلق إليك. فقال اللَّه تعالى: صدقتَ يا آدم، إنّه لأحبّ الخلق إليّ، وإذ سألتني بحقّه، فقد غفرت لك ولولا محمّد ما خلقتك». ذكره الطبري، وزاد فيه: «وهو آخر الأنبياء من ذريتك» (1).


1- 1 القسطلاني 851- 923 ه: المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: 4/ 593- 595.

ص: 116

وأمّا التوسّل بعد خلقه في مدّة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به صلى الله عليه و آله و سلم عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع ونحو ذلك ممّا ذكرته في مقصد المعجزات ومقصد العبادات في الاستسقاء، ومن ذلك استغاثة ذوي العاهات به، وحسبك ما رواه النسائي والترمذي عن عثمان بن حنيف أنّ رجلًا ضريراً أتى صلى الله عليه و آله و سلم فقال: ادع اللَّه أن يعافيني، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّك في حاجتي لتقضى، اللّهمّ شفّعه فيّ، وصحّحه البيهقي وزاد: فقام وقد أبصر.

وأمّا التوسّل به صلى الله عليه و آله و سلم بعد موته في البرزخ وهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء وفي كتاب «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» للشيخ أبي عبد اللَّه بن النعمان طُرَف من ذلك.

إنّ لابن حجر العسقلاني مقاماً شامخاً عند أهل الحديث، لا يعدل عنه إلى غيره إلّابدليل وهو خريت فن الحديث وأُستاذه فكلامه يعرب عن تسلميه صحة ما نقل من الأحاديث وتقدّم جميعها في الفصول السابقة.

*** أخي العزيز لقد عالجت مسألة التوسّل على ضوء الكتاب والسنّة ولم أخرج عنهما قدر شعرة، وإن ذكرت من غيرهما شيئاً فإنّما هو لأجل إيضاح ما ورد في الكتاب والسنّة لقد ذكرت ما ذكرت من النصوص بعد التأكد من مصادرها ولم أعتمد على قول الآخرين إلّافي موارد نادرة، كما صُنت قلمي ويراعي عمّا لا يناسب أدب الكتاب الإسلامي فإن وجد

ص: 117

في هذه الرسالة شي ء يتضمّن قسوة في الكلام فإنّما هو عن قوة العارض ووضوح الحجة واللَّه سبحانه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

8 رمضان المبارك- عام 1415 ه

ص: 118

فهرس المواضيع

1- التوحيد في العبادة أساس دعوة الأنبياء 12

2- البدعة في الدين 13

التوسّل لغة واصطلاحاً 17

التوسّلات المشروعة:

(1) التوسّل بأسمائه وصفاته 21

(2) التوسّل بالقرآن الكريم 25

(3) التوسّل بالأعمال الصالحة 27

(4) التوسّل بدعاء الرسول الأكرم في حياته 32

(5) التوسّل بدعاء الأخ المؤمن 39

(6) التوسّل بدعاء النبي في حياته البرزخية 42

الأوّل: حياة الأنبياء والأولياء بعد انتقالهم إلى البرزخ 43

الثاني: الصلة بين الحياة الدنيوية والحياة البرزخية 47

1- النبي صالح يخاطب قومه الهالكين 47

2- مخاطبة النبي شعيب قومه الهالكين 48

ص: 119

الأحاديث وإمكان الارتباط بالأرواح 49

3- أمر النبي بالتكلم مع الأنبياء 49

الثالث: سيرة السلف الصالح في التوسّل بدعاء النبي بعد رحيله 52

شبهات لابد من الإجابة عليها 59

الشبهة الأُولى البرزخ مانع من الاتصال 59

الشبهة الثانية: امتناع اسماع الموتى 61

الشبهة الثالثة: انقطاع عمل الإنسان 65

التلوّن في الاستدلال 66

(7) التوسّل بالأنبياء والصالحين أنفسهم 67

1- توسلّ الضرير بنبيّ الرحمة 68

إجابة على سؤال 71

التوسّل بذات النبي بعد رحيله 72

مناقشة في سند الرواية 75

سيرة الأُمم في توسّلهم بالذوات الطاهرة 76

1- استسقاء عبد المطلب بالنبي وهو رضيع 76

2- استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام 77

3- توسّل الخليفة بعمّ النبي: العباس 78

(8) التوسّل بحقّ الصالحين وحرمتهم ومنزلتهم 82

1- التوسّل بحقّ السائلين 84

2- التوسّل بحقّ النبي وبحقّ من سبقه من الأنبياء 85

3- توسّل آدم بحقّ النبي 88

الشبهة الأُولى 90

ص: 120

الشبهة الثانية 93

(9) التوسّل بمقام النبي ومنزلته عند اللَّه 95

خاتمة المطاف 99

آيتان على منضدة التفسير 99

الآية الأُولى 100

الآية الثانية 102

(10) التوسّل بالنبي متواتر إجمالًا 105

1- توسّل الأعرابي بالنبي نفسه 105

دلالة الحديث 106

2- شعر صفية في رثاء النبي 107

3- خبر العتيق 107

4- خبر حاتم الأصم 108

5- اللّهمّ ربّ جبرئيل وميكائيل 108

6- حديث السؤال بالأنبياء 109

7- حديث دعاء حفظ القرآن 109

8- حديث استفتاح اليهود على المشركين بمحمد (ص) 110

9- توسّل الشافعي بآل البيت 110

10- استسقاء بلال بن حرث 110

تلك عشرة كاملة 111

ما أُلّف حول التوسّل بقلم علماء الإسلام 112

كلام لابن حجر حول التوسّل 114

فهرس المواضيع 118

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.