الشيعه شبهات و ردود

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي، ناصر، 1305 -

عنوان قراردادي : شيعه پاسخ مي گويد

عنوان و نام پديدآور : الشيعه شبهات و ردود/ مكارم شيرازي ؛ ترجمه احمد محمد الحزر.

مشخصات نشر : قم: مدرسه الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، 1428ق.= 1386.

مشخصات ظاهري : 207ص.

شابك : 10000 ريال 978-964-533-028-4 :

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : شيعه -- دفاعيه ها و رديه ها

موضوع : اهل سنت -- دفاعيه ها و رديه ها

رده بندي كنگره : BP212/5/م7ش9043 1386

رده بندي ديويي : 297/417

شماره كتابشناسي ملي : 1162414

المقدّمة

هذا الطريق لا يؤدي إلي الوحدة:

بنظرة إجمالية إلي وضع عالم اليوم نري طوفاناً مرعباً يهب عليه، أزاح الستار عن وجهه الحقيقي، و الذي سيطرت عليه الشعارات البرّاقة كإعلان حقوق الإنسان و الديمقراطية، و المنظمات الدولية المغلوبة علي أمرها، و أقوياء العالم أعدّوا مخططاتهم الخطيرة للسيطرة علي دول العالم الأخري، و كشفوا عن نواياهم بكل وضوح.

و الجميل أنّهم قالوا كل شي ء، و بحسب المثل القائل: «آب پاك بر دست همه خوش خوش باورها ريختند» «1».

و في هذه المعمعة لم يبق بعد اللطف و العناية الإلهيّة ملاذ سوي إمكانية الشعب و قدرته!

فيجب علي الشعب أن يكون قوياً في إرادتهِ في هذا النظام العالمي الضعيف و المسحوق!

فإذا اتّحد مسلمو العالم في هذه الظروف الصعبة و استفادوا من القدرة

______________________________

(1). و معناه: أنّ إفصاحهم عن مخططاتهم قد أتم الحجّة علي الجميع (مثل فارسي).

الشيعة شبهات و ردود، ص: 6

العظيمة (الثقافية و المادية) التي يمتلكونها لأصبحوا في مأمن من شر أصحاب النفوذ.

مضت سنوات عديدة و الحديث عن وحدة المسلمين يرتفع في كل مكان، و توالت الأخبار عن تشكيل أسبوع الوحدة، و عقدت مؤتمرات و ندوات حول الوحدة، و شعارات ترفع هنا و هناك.

هذه الأمور و إن كان لها أثر إيجابي في المجالات السياسية

و الاجتماعية، و لكن إلي الآن لم نستطع تحقيق الوحدة المطلوبة للوقوف بوجه الطوفان العظيم.

و يمكن تلخيص ذلك في الأمور التالية:

1. الأعمال التي أنجزت لم تكن أساسية، و موضوع الوحدة لم يستطع النفوذ إلي أعماق المجتمعات الإسلاميّة، و لا إلي داخل المنظومة الفكرية، و لم يعبّأ مسلمو العالم في اتجاه واحد.

2. عمل الأعداء بشكل واسع و مخطط علي بث اليأس و سوء الظن و الاختلاف و النفاق في المجتمعات الإسلاميّة، كما يتجلّي ذلك ممّا ينقل من أخبار، و رصدوا لها أموالًا طائلة لتحقيق ذلك، و عبّئوا المتطرفين و المتعصبين من الطرفين لتنفيذ مخططاتهم المشئومة، و من جملتها:

أ) تنقل بعض الأخبار الموثّقة أخيراً عن قيام السلفيين المتعصبين في السعودية بطبع عشرة ملايين كتاب لنشر الفتنة و التفرقة و توزيعها علي الحجاج. و الحج الذي يفترض أن يكون عامل وحدة بين المسلمين في العالم جعلوه عامل فرقة بينهم، و هذا العمل يتكرر كل سنة و للأسف.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 7

ب) يبذل الخطباء الوهابيون المتعصبون جهداً كبيراً في أيّام الحج و العمرة في بث جميع أشكال السموم لإيجاد حالة النفاق، و علي الرغم من التقارب السياسي بين إيران و السعودية، إلّا أننا نري حملاتهم ضد الشيعة أخذت في الاتساع و الزيادة.

ج) لا يخفي علي أحد عمليات جيش الصحابة المتكررة بين الحين و الآخر و التي تستهدف قتل الأبرياء و المظلومين المستضعفين، و الأكثر يشاعة من ذلك هو الافتخار و الابتهاج بعمليات القتل و الاغتيال.

د) و من الأعمال الخطيرة التي يقومون بها هو تحريك بعض العناصر المتشددة مثل: حركة طالبان من قبل الاستخبارات الأمريكية- طبقاً لبعض الوثائق الموجودة- لتشويه صورة الإسلام و إظهاره بصورة وحشيّة و خشنة لا

رحمة فيه، و بعيداً عن العلم و المعرفة من جهة، و من جهة أخري لإيجاد الفرقة و الفتنة بين صفوف المسلمين، مع أنّ هؤلاء الذين ترعرعوا في أحضان الاستخبارات و السياسة الغربية بدءوا بالخروج عن سيطرتهم، لتحل عليهم المصيبة و اللعنة من الذين ربوهم و أمدوهم ليدفعوا ضريبة ما صنعوه.

3. تقصير بعض الساسة الإسلاميين حيث قدموا مصالحهم الشخصية و المحدودة علي المصالح العامة للعالم الإسلامي، و هذا أحد العوامل التي حالت دون تحقيق الأهداف الأساسية للوحدة.

و علي سبيل المثال: أقامت بعض الدول الإسلاميّة- المعروفة- علاقات تعاون حميمة مع الكيان الصهيوني في المجال السياسي و الاقتصادي؛ لتحقيق بعض المصالح المحدودة و الصغيرة، و هي مكشوفة للجميع، بل

الشيعة شبهات و ردود، ص: 8

وصل الأمر إلي القيام بالمناورات العسكرية المشتركة!

و علي كلّ حال فالمجال المتاح لعلماء الإسلام هو التذكير بالعواقب السيئة لهذه الاشتباهات، و إنّ تلك السياسات المدمرة و العنيفة لن تدع أي دولة إسلاميّة أو أي فريق إسلامي في أمان و راحة، و إنّ طرح هذه المسائل الطائفية بشكل واضح و شفاف قدر الإمكان سيفوت الفرصة علي الأعداء في نشر سمومهم، و يقف بوجه بث عدم الثقة و سوء الظن من قبل بعض المجموعات المتشددة و المتعصبة من كلا الطرفين.

و لأجل هذا تمّ وضع هذا الكتاب بين يدي القراء الأعزاء، بأسلوب مبتكر و شيق و جذاب؛ لأجل تقوية الروابط، و بهذا الأسلوب ستتضح هذه المسألة بشكل كامل، من أن جذور الموارد الخلافية المهمّة بين أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) و أهل السنّة موجودة في كتبهم المعروفة، و إنّ ما تقوله الشيعة في هذا المجال أدلته موجودة في كتب أهل السنّة، و كما يقول أحد علماء السنّة

الأحرار: «يستطيع الشيعة أن يثبتوا جميع أصول و فروع مذهبهم من كتبهم و تصانيفهم»!

فإذا ثبت هذا المطلب و إن شاء الله يثبت في هذا الكتاب فلن يبقي مجال للقلق أو لنشر الشبهات بالنسبة لعقائد أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، و سيكون سبباً للتفاؤل و وحدة الصف و رفع سوء الظن عند أهل الإنصاف و المنطق، و ستبقي الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية دولة قوية تدافع عن الإسلام، و كذلك عن مذهب التشيّع في العالم الإسلامي.

و الآن أنتم و الأدلّة الموجودة بين أيديكم!

الشيعة شبهات و ردود، ص: 9

المواضيع العشرة

اشاره

أهم الموضوعات التي تدور الحوار و ناقش بيننا و بينهم عبارة عن عشر مواضيع:

1. عدم تحريف القرآن الكريم

2. التقية في الكتاب و السنّة

3. عدالة الصحابة

4. احترام قبول العظماء

5. الزواج المؤقت

6. السجود علي الأرض

7. الجمع بين الصلاتين

8. المسح علي الأرجل في الوضوء

9. جزئية البسملة في سورة الحمد

10. التوسل بأولياء الله

الشيعة شبهات و ردود، ص: 11

المبحث الأول عدم تحريف القرآن

اشارة

الشيعة شبهات و ردود، ص: 13

نحن نعتقد- بالرغم من كل الدعايات السيّئة للنّيل من الشيعة- بأنّ القرآن الكريم الموجود عندنا و عند جميع المسلمين اليوم هو عين القرآن الذي نزل علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) من دون زيادة أو نقصان حتي في كلمة واحدة.

و قد بيّنا هذا الأمر بوضوح في كتب التفسير و أصول الفقه و غيرها من الكتب، و أثبتنا ذلك بالأدلة العقلية و النقلية.

نحن نعتقد بأنّ المسلمين- أعم من الشيعة و السنّة- متفقون علي أنّ القرآن الموجود بين الدفتين لم يضف إليه شي ء، و أمّا بالنسبة لجانب النقص فأكثر المحقّقين من الطرفين- بل كاد يكونُ إجماعاً- علي عدم وجود النقص في القرآن الكريم.

هناك أشخاص معدودون من كلا الفريقين يعتقدون بوجود نقص في القرآن الكريم، و لا يوجد من يؤيد كلامهم بين أهل التحقيق المعروفين من المسلمين.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 14

كتابان من كلا الفريقين:

و من جملة هؤلاء: «ابن الخطيب المصري» و هو من أهل السنّة، فقد ألّف كتاباً بعنوان «الفرقان في تحريف القرآن» و نشر في سنة 1948 م الموافق لعام 1367 ه- ق، و عند ما علمت جامعة الأزهر بذلك قامت بسحب جميع النسخ و إتلافها، إلّا أنّ هناك بعض النسخ وقعت في أيدي بعض الناس و بشكل غير قانوني.

و كذلك هناك كتاب تحت عنوان «فصل الخطاب في تحريف كتاب ربّ الأرباب» كتب بقلم أحد محدّثي الشيعة هو «الحاج نوري» و طبع في سنة 1291 ه- ق، و بمجرّد أن طبع استنكر كبار علماء حوزة النجف الأشرف هذا العمل و أمروا بجمع نسخ الكتاب، و كتبوا كتباً متعددة في الردّ عليه، و من جملة العلماء الذين كتبوا في الردّ علي كتاب

«فصل الخطاب»:

1. الفقيه الكبير المرحوم الشيخ محمود بن أبي القاسم، المعروف بمعرب الطهراني (توفي سنة 1313 ه-) كتب كتاباً تحت عنوان «كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب».

2. المرحوم العلّامة السيد محمّد حسين الشهرستاني (توفي سنة 1315 ه-) كتب في الرد علي كتاب فصل الخطاب كتاباً تحت عنوان «حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف».

3. المرحوم العلّامة البلاغي (توفي سنة 1352 ه-) و هو أحد المحقّقين في حوزة النجف الأشرف خصص فصلًا في تفسيره المعروف «آلاء الرحمن» للردّ علي كتاب «فصل الخطاب» «1».

______________________________

(1). تفسير آلاء الرحمن، ج 1، ص 25.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 15

4. و نحن بدورنا بحثنا مسألة تحريف القرآن الكريم بحثاً موسّعاً في كتابنا «أنوار الأصول» و أجبنا بشكل قاطع عن كل الشبهات الموجودة في كتاب «فصل الخطاب».

إنّ المرحوم الحاج النوري مع كونه عالماً، إلّا أنّه اعتمد علي روايات ضعيفة كما قال العلّامة البلاغي و قد ندم بعد انتشار كتابه علي ما خطته يداه. وعد كبار علماء حوزة النجف الأشرف عمله هذا من الأخطاء الواضحة «1».

و الملفت للنظر أنّ الحاج النوري بعد انتشار كتابه اضطر إثر النقد الكبير الذي واجهه من قبل الطرفين أن يكتب رسالة يدافع بها عن نفسه و يوضّح أن مقصوده من ذلك عدم وقوع التحريف في كتاب الله، و أنّ الناقدين أساءوا فهم عباراته.

يقول المرحوم العلّامة السيد هبة الدين الشهرستاني: «عند ما كنت في سامراء التي حوّلها المرحوم الميرزا الشيرازي الكبير إلي مركز علمي، كانت هناك ضجة كبيرة ضد الحاج النوري و ضد كتابه، و أطلق بعضهم كلمات بذيئة و نابية تنال من شخصه». «2»

و مع هذا كله، هل يمكن القول بأنّ كلام الشيخ النوري يمثّل عقيدة الشيعة؟

و لكن

هناك عدّة من الوهابيين المتعصبين- بحجّة وجود كتاب فصل الخطاب- مصرون علي نسبة مسألة تحريف القرآن للشيعة. فإذا كان رأي كاتب ما دليلا علي اعتقاد الشيعة بهذا الأمر، فلا بد أن ننسب مسألة تحريف القرآن الكريم أيضاً إلي علماء السنّة؛ لأن «ابن الخطيب» ذكر هذا الأمر

______________________________

(1). تفسير آلاء الرحمن، ج 2، ص 311.

(2). «برهان روشن» باللغة الفارسية، ص 143.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 16

في كتابه «الفرقان في تحريف القرآن». فإذا كان انزعاج علماء الأزهر من هذا الكتاب دليلا علي معارضتهم لمضمونه، فكذلك الأمر بالنسبة لمعارضة علماء النجف الأشرف لكتاب «فصل الخطاب» يكون دليلا علي نفي التحريف.

و قد نقل كلّ من تفسير «القرطبي» و «الدر المنثور» - و هما من التفاسير المعروفة عند أهل السنّة- عن عائشة (زوجة النبي (صلي الله عليه و آله)) قولها: «إنّها- أي سورة الأحزاب- كانت مائتي آية فلم يبق منها إلّا ثلاث و سبعون» «1». بل هناك في صحيح البخاري و صحيح مسلم روايات يشم منها رائحة التحريف «2».

و لكننا لا نجيز لأنفسنا أن ننسب القول بالتحريف لإخواننا السنّة استناداً لرأي كاتب، أو وجود روايات ضعيفة في كتبهم، و في المقابل، عليهم أن لا ينسبوا ذلك للشيعة لمجرد وجود رأي كاتب ما، أو وجود روايات ضعيفة في كتبهم لا يقبلها علماء الشيعة. و لو ألقينا نظرة علي مجموع الروايات التي اعتمدها الشيخ النوري لوجدنا أنّها مروية عن ثلاثة رواة، و هم ما بين فاسد المذهب أو كذّاب أو مجهول الحال و هم:

أحمد بن محمّد السياري: فاسد المذهب.

علي بن أحمد الكوفي: كذّاب.

أبو الجارود: مجهول الحال أو مردود «3».

______________________________

(1). تفسير القرطبي، ج 12، ص 113؛ و تفسير الدر المنثور، ج 5، ص 180.

(2).

صحيح البخاري، ج 8، ص 208- 211؛ و صحيح مسلم، ج 4، ص 167 و ج 5، ص 116.

(3). لمعرفة المزيد عن أحوال هؤلاء يراجع كتاب رجال النجاشي و فهرست الشيخ الطوسي و كتب رجالية أخري.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 17

مخاطر هذه الاتهامات:

هناك أفراد يصرون علي توجيه تهمة تحريف كتاب الله، للشيعة، و كأنّهم غير ملتفتين إلي أنّ توجيه التهمة لمجرّد الخصومة الطائفية يؤدّي إلي زعزعة أصل الإسلام؛ و ذلك لأنّ الأعداء يقولون: إنّ مسألة عدم تحريف القرآن غير مسلّمة عند المسلمين، و هناك فرقة عظيمة تعتقد بتحريف القرآن، و نحن ننصح هؤلاء الإخوة أن لا يجعلوا قلب الإسلام، و هو القرآن الكريم، هدفاً بسبب الخلافات و التعصبات المذهبية. ارحموا الإسلام و القرآن، لكي لا يستغل الأعداء كثرة الحديث عن التحريف للنيل من الإسلام و القرآن الكريم.

لقد انتشرت هذه التهم و الافتراءات إلي حدٍّ كبير و للأسف، حتي أنني التقيت في إحدي سفراتي إلي بيت الله الحرام للعمرة، وزير الشئون الدينية السعودي، و قال: لقد سمعت أنّ لكم مصحفاً غير مصحفنا!!

فقلت له: إنّ اكتشاف هذا الأمر سهل جدّاً، فما عليك إلّا أن تذهب بشخصك أو تبعث مندوباً عنك- علي نفقتنا- إلي طهران، و تبحث في جميع نسخ القرآن الموجودة في المساجد و البيوت، و انتخب أي مسجد تشاء و أي منزل ترغب، و اطلب قرآناً من أي شخص، فستجد أنّه لا يوجد أي اختلاف و لا في كلمة واحدة مع جميع نسخ القرآن الموجودة في العالم الإسلامي، و عالم كبير مثلك يجب أن لا يقع تحت تأثير هذه الشائعات و الأكاذيب.

و قرّاؤنا و لله الحمد شاركوا في الكثير من المسابقات الدولية لقراءة القرآن و حصلوا علي

المراكز الأولي، و كان حفّاظنا و خصوصاً البراعم منهم مورد إعجاب و ثناء الكثيرين من شخصيات دول العالم الإسلامي.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 18

و يزداد عدد القرّاء و حفّاظ القرآن عندنا بالآلاف في كل عام، و مدارس حفظ القرآن و تلاوته و تفسيره، و كليات علوم القرآن منتشرة في جميع أنحاء بلادنا الواسعة، و من السهل إثبات ذلك للجميع من خلال مشاهدة تلك البرامج عن كثب.

و لا يوجد في جميع هذه الأماكن قرآن آخر غير هذا القرآن المعروف بين جميع المسلمين، و لا يوجد أحد يعرف قرآناً غيره، و لا حديث عندنا عن تحريف القرآن في أي مناسبة أو احتفال.

الأدلّة العقلية و النقلية علي عدم التحريف:

نحن نعتقد بأنّ هناك أدلة كثيرة عقلية و نقلية تدل علي عدم تحريف القرآن، فقد قال الله تعالي في القرآن الكريم: (إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ) «1»، و في آية أخري قال تعالي: (وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ* لٰا يَأْتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لٰا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) «2».

فإذا كان الله سبحانه و تعالي تعهد بحفظ هذا الكتاب، أ فهل يمكن أن تطال يد التحريف هذا الكتاب؟

إضافة إلي أنّ القرآن الكريم لم يكن متروكاً أو منسيّاً حتي يأتي شخص و يضيف أو ينقص منه شيئاً. فكتّاب الوحي قد ازداد عددهم من أربعة عشر إلي أربعمائة شخص، و كانوا يقومون بتدوين و ضبط كلّ آية بمجرّد نزولها، و وصل عدد حفّاظ القرآن الكريم في عهد رسول الله (صلي الله عليه و آله) إلي المئات، حيث

______________________________

(1). سورة الحجر، الآية 9.

(2). سورة فصلت، الآية 41 و 42.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 19

كانوا يحفظون كلّ آية حين نزولها.

و قد كانت تلاوة القرآن في

ذلك الزمان من أفضل العبادات، حيث كان يتلي و يقرأ ليلًا و نهاراً.

كما أنّ القرآن الكريم هو القانون الأساسي للإسلام و الدستور العملي للمسلمين، و حاضر في جميع جوانب حياتهم.

فالعقل يدرك أنّ مثل هذا الكتاب لا يمكن أن يقع فيه تحريف سواء من جهة الزيادة أو النقصان.

و الروايات الإسلاميّة الواصلة إلينا من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) تؤكّد علي تمامية القرآن الكريم و عدم وقوع التحريف فيه. فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يصرح في نهج البلاغة:

«وَ أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ (الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً)، وَ عَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً، حَتَّي أَكْمَلَ لَهُ وَ لَكُمْ فِيما أنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنفْسِهِ» «1».

و في مواضع كثيرة من نهج البلاغة عند ما يتعرض الأمير المؤمنين (عليه السلام) للقرآن الكريم لا نجد أي حديث عن تحريف القرآن، بل يؤكّد علي تمامية القرآن بشكل واضح و صريح.

و ذكر الإمام التاسع محمّد بن علي الجواد (عليه السلام) في خطابه لأصحابه حول انحراف الناس عن جادة الحق قائلًا:

«و كَان مِنْ نَبذِهم الكِتَاب أن أقامُوا حُرُوفَه و حرَّفوا حُدُودَه» «2».

إنّ هذا الحديث و أمثاله يشير إلي أنّ ألفاظ القرآن الكريم ظلت محفوظة،

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 85.

(2). اصول الكافي، ج 8، ص 53.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 20

و التحريف وقع في المعاني، بحيث قام البعض بتفسير أو توجيه بعض الآيات طبق ميوله النفسية و منافعه الشخصية خلافاً للواقع.

و من هنا تتضح مسألة مهمّة و هي: أنّ الروايات التي تتحدث عن التحريف إنّما تتحدث عن التحريف المعنوي و التفسير بالرأي، و ليس التحريف في العبارات و الألفاظ.

و من جهة أخري نلاحظ أنّ هناك روايات عديدة و معتبرة وصلتنا عن الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) تأمر بعرض

الروايات علي القرآن الكريم و خصوصاً عند تعارضها؛ لأجل معرفة الروايات الصحيحة من غير الصحيحة، فما وافق القرآن فهو صحيح و يجوز العمل به، و ما خالفه اتركوه:

«اعرِضُوهُمَا عَلي كِتابِ اللّهِ فَما وَافَق كِتَاب اللّهِ فَخُذُوه، و مَا خَالَف كِتاب اللّهِ فَرُدُّوه»

«1»، فهذا دليل واضح علي عدم وقوع التحريف في القرآن؛ لأنّه في غير هذه الصورة لا يصبح معياراً لتشخيص الحق من الباطل.

و إضافة إلي كل هذا، فقد ورد في حديث الثقلين المعروف و المنقول بكثرة في كتب أهل السنّة و الشيعة أنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) يقول:

«إِنِّي تَاركٌ فيكم الثِّقْلَيْنِ كِتابَ اللّهِ و عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي مَا إنْ تَمَسَّكْتُم بِهِمَا لنْ تَضِلُّوا» «2».

إنّ هذا الحديث العظيم يدلّ بوضوح علي أنّ القرآن الكريم بجانب عترة النبي (صلي الله عليه و آله) ملجأ آمن لهداية الناس إلي يوم القيامة.

فإذا كان القرآن محرّفاً فكيف يمكن أن يكون ملجأً آمناً، و هادياً للناس من الضياع و الضلال «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، ص 80.

(2). بحار الأنوار، ج 36، ص 331.

(3). للمزيد من التوضيح يراجع كتابنا «أنوار الأصول»، ج 2، ص 340 فصاعداً.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 21

كلمة أخيرة:

الكلمة الأخيرة هي: أنّ أحد الذنوب الكبيرة عند الله سبحانه و تعالي هي اتهام الآخر بأمور لم يقلها و لم يفعلها.

و نحن قلنا مراراً و تكراراً و في مناسبات عدّة: إنّه لا يوجد أحد من المحقّقين و العلماء الشيعة من يقول بتحريف القرآن، و كتبهم تشهد بذلك، و لكن هناك فرقة متعصبة و معاندة ما زالت تكرر هذه التهمة، و لا أعلم ما سيكون جوابهم يوم القيامة عن كل هذه التهم، و عن الحطِّ من شأن القرآن الكريم

و اعتباره.

فإذا كانت ذريعتكم هو وجود بعض الروايات الضعيفة في بعض كتبنا، فهي موجودة أيضاً في كتبكم، و قد أشرنا إلي ذلك سابقاً.

و لا يوجد أي مذهب يبني أساسه علي روايات ضعيفة، و نحن لا يمكن أن نتهمكم بتحريف القرآن؛ لأجل كتاب «الفرقان في تحريف القرآن» لابن الخطيب المصري و الروايات الضعيفة التي لديكم حول تحريف القرآن، و لن نضحّي بالقرآن لأجل العصبية المدمّرة.

لا تتكلّموا عن تحريف القرآن بهذه الطريقة، و لا تسيئوا إلي الإسلام و المسلمين و القرآن، لا تسقطوا اعتبار القرآن لأجل التعصب الطائفي فالقرآن الكريم رأس مال مسلمي العالم، يجب أن لا تنطق ألسنتكم بكلمة التحريف، و لا تعطوا الأعداء ذريعة، فإذا أردتم الانتقام من الشيعة و من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) من خلال هذا الطريق، فاعلموا أنكم ستضعّفون أساس الإسلام من حيث لا تشعرون؛ لأنّ أعداء الإسلام سيقولون: إنّ فرقة عظيمة من المسلمين تقول بتحريف القرآن، و هذا ظلم عظيم للقرآن الكريم.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 22

في الختام نكرر القول: إنّه لا يوجد من يقول بتحريف القرآن بين المحقّقين شيعة و سنّة، و إنّهم يقرّون بأنّ القرآن الذي نزل علي النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و القرآن الموجود حالياً بين المسلمين واحد، و يعتقدون- كما صرح القرآن- بأنّ الله سبحانه و تعالي تعهد بحفظ القرآن من كل تغيير أو تحريف أو زوال. و لكن للأسف هناك بعض المتعصبين من الطرفين نسبوا التحريف لبعضهم البعض من دون وعي و علم.

نسأل الله لهم الهداية جميعاً.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 23

المبحث الثاني التقية في الكتاب و السنة

اشارة

الشيعة شبهات و ردود، ص: 25

التقية: هي المسألة الثانية التي يأخذها هؤلاء المفتنون و المتعصبون علي مذهب أهل البيت (عليهم

السلام)، فيقولون: لما ذا تستخدمون التقية؟ أ ليست التقية نوعاً من النفاق؟

و قد ضخّم هؤلاء هذه المسألة إلي حدٍّ و كأنّ التقية فعل محرم، أو من الذنوب الكبيرة أو أعظم من ذلك، و غفلوا عن أنّ القرآن قد أجاز التقية في آيات متعددة تحت ظروف خاصة، و الروايات الواردة في مصادرهم تؤكد هذا المعني، بل الأمر أكثر من هذا، فالعقل يأمر بالتقية بشكل صريح إذا تحقّقت شروطها، إضافة إلي أنّ الكثير من هؤلاء قد مارسوها في حياتهم الشخصية و عملوا بها.

و لتوضيح هذا الكلام لا بدّ من ملاحظة النقاط التالية:

1. ما هي التقية؟

هي أن يكتم الإنسان عقائده الدينية عند احتمال تعرضه للخطر أمام المخالفين و المتعصبين، و مثالًا علي ذلك: كما إذا وقع مسلم موحد في قبضة مجموعة من عبدة الأصنام و المعاندين، فإذا أظهر عقيدته التوحيدية

الشيعة شبهات و ردود، ص: 26

سيتسبّب في إراقة دمه أو وقوع الأذي علي نفسه أو ماله أو عرضه، فعندها يكتم عقيدته عنهم ليبقي في أمان و بعيداً عن شرّهم.

أو عند ما يلتقي مسلم شيعي بأشخاص وهابيين متعصبين يبيحون إراقة دماء الشيعة، فإنّه يكتم عقيدته عنهم حفاظاً علي نفسه و ماله و عرضه.

و كل عاقل يقرّ بأنّ هذا العمل منطقي، و العقل هو الحاكم؛ لأنّه لا يجب أن يضحي بنفسه لأجل إظهار عقيدته أمام المتعصبين.

2. الفرق بين التقية و النفاق

النفاق ضد التقية، فالمنافق هو الذي لا يعتقد بمبادئ الإسلام باطناً، أو يكون متردداً، و لكنّه يظهر إسلامه بين المسلمين. فالتقية التي نقول بها هي: الاعتقاد الصحيح في الباطن بالإسلام، و هذا لا يتطابق مع نظر بعض الوهابيين المتشددين، الذين يكفّرون جميع المسلمين- و يستثنون أنفسهم- و يعتبرونهم كفاراً، و يواجهونهم و يهددونهم.

فحيثما كتم الإنسان المؤمن عقيدته عن هذه الفرقة المتعصبة حفاظاً علي نفسه و ماله و عرضه فهذا هو معني التقية و يقابله النفاق.

3. التقية من منظار العقل

التقية في الواقع وسيلة للدفاع عن النفس، و لهذا ورد تعريفها في رواياتنا بعنوان «ترس المؤمن».

و لا يوجد عقل يجيز لإنسان إظهار عقيدته الحقيقية (الباطنية) أمام أفراد مخالفين لعقيدته و معاندين و غير منطقيين بحيث يشكّلون- خطراً علي

الشيعة شبهات و ردود، ص: 27

الإنسان و يعرّض نفسه للأذي؛ لأن إهدار الطاقات و الإمكانيات بدون فائدة ليس أمراً عقلائياً. التقية تشبه عملية التمويه التي يستخدمها الجنود في الحرب؛ و ذلك بانتخاب ألبسة تتناسب مع ألوان الشجر و الأنفاق و السواتر للحفاظ علي أنفسهم من الخطر.

إنّ كل العقلاء في العالم يستخدمون التقية أمام الأعداء الشرسين للحفاظ علي أنفسهم، و لا يمكن أن يلام شخص يستخدم هذه الوسيلة. و لا يمكن أن نجد شخصاً في الدنيا يرفض التقية إذا توفرت شروطها.

4. التقية في كتاب الله

القرآن الكريم في آيات متعددة يجيز استخدام التقية في مقابل الكفّار و المخالفين، و من باب المثال:

أ) نقرأ قصة مؤمن آل فرعون: (وَ قٰالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّٰهُ وَ قَدْ جٰاءَكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ … ) «1»، و تعقب الآية بعد ذلك: (وَ إِنْ يَكُ كٰاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صٰادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّٰابٌ).

و علي هذا الأساس فمؤمن آل فرعون في الوقت الذي استخدم التقية قدم نصائحه لتلك الفرقة المتعصبة المعاندة التي كانت تريد سفك دم نبي الله موسي (عليه السلام).

ب) و في مورد قرآني آخر نقرأ أمراً صريحاً: (لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي

______________________________

(1). سورة غافر، الآية 28.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 28

شَيْ ءٍ إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً) «1».

فهذه الآية تمنع إقامة علاقة ودية مع أعداء الحق، إلّا إذا كان عدم العلاقة معهم يسبب وقوع المشقّة و الأذي علي المسلمين، فتكون العلاقة الودية معهم باستخدام التقية نوعاً من أنواع الدفاع عن النفس.

ج) ينقل جميع المفسرين في قصة عمّار بن ياسر و أمّه و أبيه أنّهم وقعوا ثلاثتهم في أيدي المشركين العرب، و قاموا بتعذيبهم و أجبروهم علي البراءة من نبي الإسلام (صلي الله عليه و آله)، فأمّا والد عمّار و أمّه فقد رفضوا الاستجابة لهم، و استشهدوا علي هذه الحالة، و أمّا عمّار فقد نطق بما يريدون تقية، و بعد ذلك ذهب إلي حضرة النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) يبكي، و في الأثناء نزلت الآية الشريفة (مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ) «2». فعدّ النبي (صلي الله عليه و آله) والد عمّار و أمّه من الشهداء، و قام بمسح دموع عمّار و قال له: لا إثم عليك، فإن عادوا إلي إجبارك فكرر تلك الكلمات.

و يشير اتفاق آراء مفسّري الإسلام في شأن نزول الآية في عمّار و والديه، و حديث النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) بعدها علي قبولهم جميعاً مسألة التقية. و الأمر المثير للاستغراب أنّه و مع كل هذه الأدلة القرآنيّة المحكمة و كلمات المفسرين من أهل السنّة يؤاخذون الشيعة علي قبولهم لمسألة التقية. فعمّار لم يكن منافقاً، و لا مؤمن آل فرعون؛ و ذلك لأنّهما استفادا من التقية وفق الأوامر الإلهيّة.

______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 28.

(2). سورة النحل، الآية 106.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 29

5. التقية في الروايات الإسلاميّة

و قد

تناولت الروايات الإسلاميّة أيضاً التقية بشكل واسع، و علي سبيل المثال:

مسند أبي شيبة و هو من المسانيد المعروفة عند أهل السنّة، ينقل قصّة «مسيلمة الكذاب»: حيث أقدم مسيلمة الكذاب علي اعتقال اثنين من أصحاب النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) في المنطقة التي يسيطر عليها، و سأل كلًا منهما: هل تشهدون بأنّي رسول الله؟

فشهد أحدهم بذلك، و نجي بنفسه، و لم يشهد الآخر فقطع رأسه، و عند ما وصل هذا الخبر للنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قال:

«أمّا الذي قُتل فكان في سبيل الصدق و الحق، و أمّا الثاني فهو مأذون من الله و لا ذنب عليه» «1».

و نجد في أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)- و خصوصاً الأئمّة الذين عاشوا في عصر تسلط بني أمية و بني العباس الذين كانوا يقتلون من يجدونه محبّاً لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)- أوامر كثيرة باستخدام التقية، و هم مأمورون بحفظ أنفسهم؛ و ذلك باستخدام التقية حفظاً لأنفسهم من هؤلاء المعتدين القتلة القساة.

6. هل التقية جائزة في مقابل الكفّار فقط؟

إنّ بعض المخالفين عند ما يواجهون الروايات الصريحة المذكورة سابقاً لا يبقي مجال لهم إلّا القبول بمسألة مشروعية التقية، و لكنّهم يخصّون ذلك في مقابل الكفّار فقط، و لا يرون مشروعية التقية في مقابل المسلمين.

______________________________

(1). مسند أبي شيبة، ج 12، ص 358.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 30

و إضافة إلي وضوح عدم الفرق بينهما بناءً علي الأدلة السابقة نقول:

1. إذا كان معني التقية هو حفظ النفس و المال و العِرض في مقابل المتعصبين و الأشخاص الأشرار، فما الفرق بين بعض المسلمين الجهلة المتعصبين و الكفّار؟

و إذا كان العقل هو الذي يحكم بحفظ هذه الأمور و عدم هدرها بدون مبرر، فما هو الفرق بينهما؟

و

نحن نعرف أنّ هناك أفراداً غير واعين وقعوا تحت تأثير الإعلام المسموم و الدعايات السيئة، هؤلاء يرون أن هدر الدم الشيعي يقربهم إلي الله، فإذا تورط شيعي مخلص من أتباع الإمام علي (عليه السلام) و أهل بيت النبي (صلي الله عليه و آله) مع هؤلاء و سألوه ما هو مذهبك؟ فهل يحكم العاقل و الواعي بأن يجيب بصراحة بأنّه «شيعي» ليعرض نفسه للجناية و قطع رقبته؟!

و بعبارة أخري، فلو أصدرنا حكماً بحرمة التقية بناءً علي كلامهم في مقابل الأعمال التي قام بها المشركون مع عمّار بن ياسر، أو في مقابل مسيلمة الكذاب مع أصحاب النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، أو في مقابل أعمال حكّام بني أمية و بني العبّاس، و كذلك في مقابل أعمال بعض المسلمين غير الواعين اتجاه شيعة علي (عليه السلام) لكان هذا سبباً في هلاك مئات الآلاف المخلصين من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، لأنّ هؤلاء الحكام الظلمة مسلمون في الظاهر!!!

فلو لم يؤكد أهل البيت (عليهم السلام) علي مسألة التقية بكثرة حتي أنّهم قالوا:

«تسعة أعشار الدين التقية»

«1» لوصل عدد قتلي الشيعة في عصر بني أمية و بني العباس إلي مئات الآلاف، أضعاف عدد الذين قتلوهم بوحشية و بلا رحمة.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 19، ص 254.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 31

فهل مع هذه الظروف يمكن أن يكون هناك شك أو ترديد في مشروعية التقية؟!

و نحن لا ننسي تلك الدماء التي أريقت بين أهل السنّة لسنوات عدّة بسبب الاختلافات المذهبية، و من جملتها مسألة القرآن، هل هو حادث أم قديم؟، هذا النزاع الذي يراه المحقّقون اليوم نزاعاً لا معني له و لا فائدة.

فإذا وقعت فرقة تدعي أنّها علي الحق في أيدي مخالفيها

و تورطت معها، فهل عليها أن تجيب علي أسئلتهم الاعتقادية بصراحة، بأنّ عقيدتنا هي كذا و كذا … حتي و إن كان هذا التصريح سيؤدي إلي إراقة دمهم من دون أن يكون لهذه الدماء تأثير أو فائدة ترتجي؟

2. يقول الفخر الرازي في تفسير الآية الشريفة (إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً) «1»: ظاهر الآية يدل علي أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين، إلّا أنّ مذهب الشافعي (رضي الله عنه) إذا شاكلت الحالة بين المسلمين و المشركين حلّت التقية محاماة علي النفس.

و بعدها استدل علي ذلك بأنّ التقية جائزة لصون النفس، و هل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز، لقوله صلي الله عليه و سلم:

«حرمة مال المسلم كحرمة دمه»

، و لقوله صلي الله عليه و سلم: «

من قتل دون ماله فهو شهيد» «2».

و نقرأ أيضاً في تفسير النيسابوري حيث جاء في حاشية تفسير الطبري: قال الشافعي: «تجوز التقية بين المسلمين كما تجوز بين الكافرين محاماة

______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 28.

(2). التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 8، ص 14.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 32

عن النفس» «1».

3. و الملفت للنظر أنّ جمعاً من محدّثي أهل السنّة و بسبب اعتقادهم بأنّ القرآن الكريم قديم استخدموا التقية عند ما وقعوا تحت ضغط حكم بني العباس، و اعترفوا بأنّه حادث، للنجاة بأنفسهم.

و أشار ابن سعد المؤرخ المعروف في كتابه «الطبقات»، و الطبري المعروف أيضاً في كتابه المشهور تاريخ الطبري إلي رسالتين من المأمون أرسلتا إلي رئيس الشرطة في بغداد «إسحاق بن إبراهيم» حيث ذكر ابن سعد عن الرسالة الأولي: «كتب المأمون إلي إسحاق بن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر، منهم محمّد بن سعد الواقدي و أبو مسلم يزيد

بن هارون، و يحيي بن معين، و زهير بن حرب أبو خيثمة، و إسماعيل بن داود، و إسماعيل بن أبي مسعود، و أحمد بن الدورقي، فأشخصوا إليه فامتحنهم، و سألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعاً إنّ القرآن مخلوق» «2». (مع أنّ الرأي المشهور بين المحدّثين هو أنّ القرآن قديم، و هذا ما كان يعتقد به هؤلاء السبعة).

نعم، إنّ هؤلاء قد اتقوا من المأمون خوفاً من عقابه الشديد، و اعترفوا بأنّ القرآن مخلوقٌ، فأخلي سبيلهم.

و تليها الرسالة الثانية، حيث ينقل الطبري رسالة أخري من المأمون و المخاطب فيها أيضاً رئيس شرطة بغداد حيث يقول: «عند ما وصل كتاب المأمون أحضر إسحاق بن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء و المحدّثين يصل عددهم تقريباً إلي 26 شخصاً، و قرأ عليهم كتاب المأمون مرّتين حتي فهموه،

______________________________

(1). تفسير النيسابوري في حاشية تفسير الطبري، ج 3، ص 118.

(2). تاريخ الطبري، ج 7، ص 197؛ و طبقات ابن سعد، ج 7، ص 167، طبعة بيروت.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 33

ثمّ استدعي واحداً تلو الآخر ليظهروا عقيدتهم حول القرآن، فاعترف جميعهم بأنّ القرآن مخلوق فأخلي سبيلهم، باستثناء أربعة أشخاص هم: أحمد بن حنبل، سجادة، القواريري و محمّد بن نوح، فأمر رئيس الشرطة بتقييدهم بالسلاسل و زجهم بالسجن.

و في اليوم التالي استدعاهم، و أعاد عليهم الكلام حول القرآن، فاعترف سجادة بأنّ القرآن مخلوق فأطلقه، و أصر الباقون علي المخالفة، ثمّ أعادهم مرّة أخري إلي السجن.

و في اليوم الثالث استدعاهم و تراجع القواريري عن موقفه، فأطلق سراحه، و لكن أصرا كلًا من أحمد بن حنبل و محمّد بن نوح علي قولهما السابق، فقام رئيس الشرطة بنفيهما إلي مدينة طرطوس «1»».

و عند ما اعترض بعضهم علي

المجموعة التي استخدمت التقية، استدلوا لهم بموقف عمار بن ياسر في مقابل الكفار «2».

إنّ كل هذا يدل و بوضوح علي أنّه إذا انحصر طريق نجاة إنسان بالتقية عند ما يقع ضغط شديد عليه من قبل الظالمين يستطيع أن يختار التقية وسيلة لصيانة و حفظ نفسه من ظلم الكفّار أو المسلمين (تأمل).

7. التقية الحرام

هناك بعض الموارد يحرم فيها التقية، و هي عند ما يؤدي استخدام التقية في إخفاء شخص عقيدته أو مذهبه إلي تعريض أساس الإسلام للخطر أو

______________________________

(1). مدينة في بلاد الشام علي ساحل البحر الأبيض المتوسط.

(2). تاريخ الطبري، ج 7، ص 197.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 34

تعريض كيان المسلمين للضرر الشديد، ففي هذه الموارد يجب أن يظهر عقيدته الواقعية حتي و إن أدي ذلك إلي وقوعه في الضرر.

و هؤلاء يتصورون أنّ التقية هي من قبيل «إلقاء النفس إلي التهلكة» لأنّ القرآن نهي عن ذلك بصراحة إذ قال: (وَ لٰا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ) «1». و هو اشتباه عظيم؛ لأنّ لازم هذا حرمة حضور ميدان الجهاد، في الوقت الذي لا يتفوه بهذا الكلام أي عاقل، و من هنا يتبيّن بوضوح أنّ ثورة الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) ضد يزيد كانت قطعاً وظيفة دينية. و الإمام لم يكن مستعداً أن يرضخ ليزيد و اتباعه و بني أمية الغاصبين للخلافة الإسلاميّة؛ لأنّه يعلم بوقوع ضرر كبير علي كيان الإسلام، و ستكون ثورته و شهادته سبباً ليقظة المسلمين و نجاتهم من حثالة الجاهلية.

8. التقية المداراتية

و هذا نوع آخر من التقية يلجأ إليه أصحاب مذهب ما، من دون أن يسبب ذلك وقوع ضرر علي أساس الدين أو علي المذهب، بالتعاون مع بقية فرق المسلمين للحفاظ علي وحدتهم.

فمثلًا: يعتقد أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بأنّه لا يجوز السجود علي السجّاد، و لا بد من السجود علي الحجر أو أي شي ء من أجزاء الأرض، و دليلهم علي ذلك الحديث المعروف عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله):

«جُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وَ طَهُوراً» «2».

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 195.

(2). صحيح البخاري، ج 1، ص

91؛ و سنن البيهقي، ج 2، ص 433؛ و هناك كتب أخري كثيرة نقلت هذا الحديث أيضاً.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 35

فإذا أرادوا حفظ الوحدة بين صفوف المسلمين فبإمكانهم الصلاة في مساجدهم أو في المسجد الحرام أو المسجد النبوي (صلي الله عليه و آله) و السجود علي نفس السجّاد مثل بقية المصلين.

فهذا العمل جائز و هذه الصلاة في عقيدتنا صحيحة، و هذا يسمي تقية مداراة؛ لأنّ مسألة الخوف علي النفس و المال غير مطروحة، بل المطروح هو المداراة مع بقية الفرق الإسلاميّة.

و ننهي بحث التقية بحديث أحد العظماء:

فقد التقي أحد عظماء الشيعة مع أحد شيوخ الأزهر في مصر، و أراد أن يهين هذا العالم الشيعي فقال له: سمعنا أنّكم تستخدمون التقية!!

فأجابه العالم الشيعي قائلًا: «لعن الله من حملنا علي التقيّة».

الشيعة شبهات و ردود، ص: 37

المبحث الثالث عدالة الصحابة

اشاره

الشيعة شبهات و ردود، ص: 39

ممّا لا شك فيه أنّ أصحاب النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) لهم امتيازات خاصّة، فهم يسمعون الآيات و الوحي الإلهي من لسان رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و يرون معجزاته، و يتعلمون من درر كلامه، و يجعلون منه القدوة العملية و الأُسوة الحسنة.

و برزت بناءً علي هذا شخصيات مميزة يفتخر بها العالم الإسلامي و يتباهي، و لكن المسألة المهمّة هنا، هل أنّ جميع الصحابة بدون استثناء هم أشخاص مؤمنون، صلحاء، صادقون، أمناء، و عدول، أم أنّ هناك أشخاصاً غير صالحين بينهم.

1. رأيان متضادان

هناك رأيان متضادان حول الصحابة:

الرأي الأول: إنّ الصحابة جميعهم و بدون استثناء لهم قداسة خاصّة، فهم أشخاص صالحون و صادقون و أتقياء و عدول، و علي هذا الأساس فكل رواية ينقلونها عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) هي رواية صحيحة و مقبولة، و لا يمكن الاعتراض عليها البتة، و لا بدّ من توجيه أي مخالفة تظهر منه، و هذا هو رأي و اعتقاد أكثر فرق أهل السنّة.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 40

الرأي الثاني: و هو و إن كان هناك أشخاص طاهرون و مضحون و أتقياء بين الصحابة، إلّا أنّ هناك أيضاً أشخاصاً منافقين و غير صالحين، و القرآن الكريم و نبي الإسلام (صلي الله عليه و آله) أبرزا امتعاضهما من هؤلاء.

و بعبارة أخري: إنّ المعايير التي نستخدمها لتشخيص الأفراد الصالحين من غيرهم، هي نفسها يجب أن تكون ملاكاً لتحديد صلاحية هؤلاء، و بما أنّهم أصحاب النبي (صلي الله عليه و آله) فالأصل فيهم الصلاح، و لكن هناك حقائق لا يمكن تجاهلها، و لا يمكن التغاضي عن الأعمال المنافية للعدالة و الصدق و الاستقامة

الصادرة عنهم؛ لأنّ هذه الأعمال تؤثر بشكل عميق علي مصداقية الإسلام و المسلمين، و تساعد علي نفوذ المنافقين في الوسط الإسلامي.

و يرجّح الشيعة و مجموعة من مفكري أهل السنّة هذه العقيدة.

2. تنزيه الإفراطيين

هناك مجموعة موالية لفكرة تنزيه الصحابة بالغت كثيراً في الدفاع عنهم، فكل من تفوّه بنقدهم رموه بالفسق تارة، و بالإلحاد و الزندقة تارة أخري أو أباحوا دمه.

و من جملة ما نجده في كتاب «الإصابة» عن أبي زرعة قال: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله) فاعلم أنّه زنديق؛ و ذلك أنّ الرسول حق، و القرآن حق، و ما جاءَ به حق، و إنّما أدّي ذلك كلّه إلينا الصحابة، و هؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب

الشيعة شبهات و ردود، ص: 41

و السنّة فالجرحُ بهم أولي» «1».

و منهم: عبد الله الموصلي في كتابه «حتي لا ننخدع» حيث يقول: «إنّهم [أي الصحابة] قوم اختارهم الله تعالي لصحبة نبيّه (صلي الله عليه و آله) و إقامة دينه و شرعه، و جعلهم وزراء نبيّه (صلي الله عليه و آله)، و ورثتهِ من بعده، و حبهم ديناً و إيماناً و بغضهم كفراً و نفاقاً، و أوجب علي الأمّة موالاتهم جميعاً و ذكر محاسنهم و فضائلهم، و السكوت عمّا شجر بينهم» «2». في الوقت الذي نري أنّ هذا الكلام مخالف للكتاب و السنّة.

3. أسئلة بلا إجابة

و هنا لا يقبل أي عاقل منصف أن يغمض عينيه أمام كلام يفتقد الدليل، و يطرح هذه الأسئلة علي نفسه:

و يخبرنا الله سبحانه و تعالي في قرآنه المجيد حول نساء النبي (صلي الله عليه و آله): (يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضٰاعَفْ لَهَا الْعَذٰابُ ضِعْفَيْنِ وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَي اللّٰهِ يَسِيراً) «3»:

فبأي معني فسّرنا الصحابة- و هناك معان عديدة سنذكرها- لا شك في أنّ نساء النبي (صلي الله عليه و آله) هنّ من أجلي مصاديقه، و مع

هذا فالقرآن يصرح بأنّه تعالي لن يتغاضي عن ذنوبهن، بل سيضاعف لهنّ العذاب ضعفين أيضاً.

فهل نقبل بالآية أم نأخذ بكلام المنزّهين لهم بدون قيد و شرط؟

______________________________

(1). الإصابة، ج 1، ص 22، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت.

(2). حتي لا ننخدع، ص 6، دار الإيمان.

(3). سورة الأحزاب، الآية 30.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 42

و يحدثنا القرآن الكريم أيضاً عن خطأ ابن نوح (عليه السلام) شيخ الأنبياء: (قٰالَ يٰا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ … ) «1» و حذّر الله تعالي نوحاً من أن يشفع له.

فأيّهما أهم، ابن النبي أم أصحاب النبي؟

و يخبرنا القرآن الكريم عن زوجتَي النبي نوح و لوط (عليهما السلام): (فَخٰانَتٰاهُمٰا فَلَمْ يُغْنِيٰا عَنْهُمٰا مِنَ اللّٰهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النّٰارَ مَعَ الدّٰاخِلِينَ) «2»، فهاتان المرأتان خانتا زوجيهما (نوحاً و لوطاً) و تعاونتا مع الأعداء. و لم يستطع هذان النبيّان (عليهما السلام) أن يشفعا لهما.

أ لم تصرح هذه الآية: بأن ملاك صلاح الأفراد و عدمه هو الإيمان و العمل، و هذا الملاك سار في ابن النبي أو زوجته في حال فساد العمل.

فهل يصح في هذه الحالة أن نغض أبصارنا و نقول: «إنّ محبّته دين و إيمان، و مخالفته كفر و نفاق؛ لأنّه من الصحابة»، حتي و إن التحق فيما بعد بصفوف المنافقين، و آذي قلب النبي (صلي الله عليه و آله) و خان المسلمين؟

أ فهل يقبل عاقل أو مفكر هذا الكلام؟

فإذا قال أحدهم: إنّ طلحة و الزبير كانا في البداية صالحين، و لكن عند ما جاءت حكومة تخالف هواهما و رافقا زوجة النبي (عائشة) و بعد أن بايعا الإمام علياً (عليه السلام) عند ما بايعه المسلمون قاطبة، عندها سقطا فأشعلا

نار حرب الجمل التي كانت ضحاياها سبعة عشر ألفاً من المسلمين، لقد انحرفا عن الطريق المستقيم، و كل هذه الدماء العظيمة التي أريقت سيتحملون وزرها

______________________________

(1). سورة هود، الآية 46.

(2). سورة التحريم، الآية 10.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 43

و يسألون عنها يوم القيامة.

أ ليس هذا الكلام بعيداً عن الصواب؟

أم هل قول شخص: إنّ معاوية إنسان ظالم بسبب تخلفه عن مبايعة الإمام (عليه السلام) و عدم اعترافه بالحق الذي أقرّه عامة المسلمين و خاصتهم، و إشعاله نار الحرب في صفين التي راح ضحيتها أكثر من مائة ألف إنسان أريقت دماؤهم، قول غير صائب.

فهل يمكن أن نغض البصر عن هذه الحقائق المرة في التاريخ، و لا يوجد أي عاقل يقبل بتلك التوجيهات عند ما يمر بهذه الحوادث المؤسفة جدّاً؟

فهل حبّ هؤلاء الأشخاص- كما يقول عبد الله الموصلي- دين و إيمان و بغضهم كفر و نفاق؟

فهل وظيفتنا السكوت أمام هذه المخالفات و التي تسببت في قتل الآلاف من البشر؟ أي عقل يحكم بذلك؟ القرآن يتحدث عن وجود جماعة من المنافقين حول النبي (صلي الله عليه و آله)، فهل نغفل عن هذه الآيات؟

يقول: (وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرٰابِ مُنٰافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَي النِّفٰاقِ لٰا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ … ) «1».

فهل نتوقع من عقلاء العالم أن يقبلوا هذا المنطق؟

4. من هم الصحابة؟

الأمر المهم الآخر هنا هو معني الصحابة.

من هم الصحابة الذين أحيطوا بهالة من القداسة؟

______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 101.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 44

لعلماء السنّة تعابير و تعاريف مختلفة تماماً حول معني الصحابة:

1. وسّع بعضهم معني الصحابة إلي حدّ يشمل كل من رأي النبي (صلي الله عليه و آله)، و قد ذكر هذا المعني «البخاري» حيث يقول: «من صحب النبي

(صلي الله عليه و آله) أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه» «1».

و يري أحمد بن حنبل- و هو من علماء السنّة المعروفين- معني الصحابة واسعاً أيضاً فيقول: «أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله) كل من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعةً أو رآه» «2».

2. و بعضهم اختار معني أضيق من سابقه، مثل: القاضي أبو بكر محمّد بن الطيّب حيث يقول: «مع أنّ المعني اللغوي للصحابي عام، إلّا أن عرف الأمّة بأنّ هذا المصطلح لا يطلق إلّا علي من صاحب النبي (صلي الله عليه و آله) فترة زمنية يعتدّ بها، لا أن يكون قد خدم النبي (صلي الله عليه و آله) لمدّة ساعة، أو رافقه لعدّة خطوات، أو سمع عنه حديثاً».

3. و بعضهم ذهب إلي دائرة أضيق من سابقه، مثل: سعيد بن المسيب حيث قال: «صحابة النبي (صلي الله عليه و آله) هم فقط الأشخاص الذين رافقوه لمدّة لا تقل عن سنة أو سنتين، و شارك رسول الله (صلي الله عليه و آله) في غزوة أو غزوتين» «3».

هذه التعاريف و تعاريف أخري نتجنب ذكرها تحاشياً لإطالة الكلام في نقلها- لا تبيّن بشكل دقيق و واضح الأشخاص الذين تشملهم هذه القداسة، و لكن أغلبهم اختار ذاك المعني الواسع، و لا يؤثر اختلاف المعني هذا في

______________________________

(1). صحيح البخاري، ج 4، ص 188، دار الفكر- بيروت.

(2). أصول السنّة، أحمد بن حنبل، ج 1، ص 40؛ أسد الغابة، ج 1، ص 7.

(3). تفسير القرطبي، ج 8، ص 237.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 45

بحوثنا، إضافة إلي وجود نقوض كثيرة سنأتي علي ذكرها فيما بعد. و هم الذين رافقوا النبي (صلي الله عليه و آله) مدة طويلة.

5. الدوافع الأساسية لعقيدة التنزيه

هناك شبه

بين الاعتقاد بالقداسة المميزة للصحابة و العصمة التي لم ترد لا في كتاب الله سبحانه و تعالي و لا في سنّة نبيّه (صلي الله عليه و آله)، بل ما هو موجود في الكتاب و السنّة و التاريخ خلافه، حتي أنّه قيل: إنّ هذا الاعتقاد لم يكن موجوداً في القرن الأول، بل ظهر في القرون اللاحقة، فلا بدّ من البحث عن سبب ذلك و ما هو دليله.

هناك عدّة أدلة تبين سبب هذا الاعتقاد:

1. إنّ أفضل الأدلة علي عقيدة تنزيه الصحابة- كما جاء في البحوث السابقة- هو توهّم بعضهم أنّه إذا فقد هؤلاء الصحابة كل قداستهم انقطعت العلاقة بينهم و بين النبي (صلي الله عليه و آله)؛ لأنّ كتاب الله و سنّة النبي (صلي الله عليه و آله) وصلتنا عن طريقهم.

و لكن الجواب عن هذا الكلام واضح؛ لأنّه لا يوجد شخص يعتقد بأنّ جميع الصحابة- لا سمح الله- منحرفون و كذّابون؛ لأنّه يوجد بين هؤلاء أفراد كثيرون مورد اعتماد و ثقة، و نفس هؤلاء يمكن أن يكونوا حلقة وصل مع النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، كما نقول ذلك فيما يتعلق بأصحاب أهل البيت (عليهم السلام).

و الملفت للنظر أنّه و بعد مضي عدّة قرون ظلت المشكلة كما هي، إضافة إلي أننا اليوم نتصل بعصر النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) عن طريق عدّة وسائط، و لكن لا يوجد أحد يقول: إنّ جميع هذه الوسائط ثقة و صادقة القول، و أنّهم مقدسون،

الشيعة شبهات و ردود، ص: 46

و إذا لم نقل هكذا فديننا يضمحل، بل إنّ الجميع يقول: لا بدّ أن تؤخذ الروايات من الأشخاص العدول و الثقات، و لأجل هذا ألّفت كتب الرجال لمعرفة الثقات من

غيرهم.

و الآن ما هو المانع من إجراء هذه الضوابط مع الصحابة، كما نجريها مع الآخرين؟

2. يري بعضهم أنّ «الجرح» ببعض الصحابة يضعف من مقام نبي الإسلام (صلي الله عليه و آله) الشامخ، و عليه فلا يجوز التعرض إليهم.

و يجب أن نسأل من يتمسك بهذا الدليل: أ لم ينتقد القرآن هؤلاء المنافقين المحيطين بالنبي (صلي الله عليه و آله) بشدّة و يفضحهم؟ فهل وجود المنافقين بجوار الصحابة المخلصين، الصادقين للنبي (صلي الله عليه و آله) يقلل من مقامه العظيم السامي؟!

و الخلاصة: إنّ الصالح و الفاسد موجود دائماً و علي مرّ الزمان، و حتي في عصر الأنبياء العظام (عليهم السلام)، و مع ذلك فالفاسد لم يسي ء إلي مقامهم السامي.

3. إنّ التعرض للصحابة بالجرح و النقد لأعمالهم سيؤدي إلي الحط من مكانة الخلفاء الأوائل، فلأجل حفظ مكانتهم لا بدّ من التأكيد علي قداسة الصحابة و صونهم، حتي لا يتمكن أحد من أن يضع الأفعال التي وقعت في بيت مال المسلمين و غيرها في زمن عثمان تحت طائلة الاستفسار، و بالتالي يتعرض الخليفة للنقد و التساؤل علي أفعاله. و من خلال هذه الوسيلة يتمكنون حتي من توجيه جميع تصرفات معاوية و مخالفاته لزعيم المسلمين الإمام علي (عليه السلام)، و إشعاله لنار الحروب الدامية، و قتل المسلمين، ليبقوه بعيداً عن دائرة نقد النقاد.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 47

و الواضح من هذا الكلام: أنّ السياسيين في القرون الأولي هم الذين جذّروا هذه القداسة، كما حصل في تفسيرهم لآية (وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) «1» بالحكام في كل زمان، لتشمل بالمفهوم الواسع للكلمة كل الحكّام الظلمة من بني أمية و بني العباس، و كان هذا نتيجة للتخطيط السياسي لهؤلاء الحكّام. و أنا لا

أتصور أنّ نتيجة هذا الكلام تتلاءم مع طبع المعتقدين بقداسة جميع الصحابة.

4. البعض يعتقد بقداسة الصحابة بسبب ورود الأوامر في بعض الآيات القرآنيّة و الأحاديث النبوية.

و الظاهر أنّ هذا أفضل توجيه، و لكن عند ما نناقش هذا الدليل يتضح أنّه لا وجود للإطلاق في تلك الآيات أو الروايات علي ما يدّعونه، و أهم آية يتمسكون بها هي: (وَ السّٰابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهٰاجِرِينَ وَ الْأَنْصٰارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسٰانٍ رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) «2».

فبعض مفسّري أهل السنّة ذكروا في ذيل الآية رواية عن حميد بن زياد، أنّه قال: «قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي، أ لا تخبرني عن أصحاب الرسول (صلي الله عليه و آله) فيما كان بينهم، و أردت الفتن، فقال لي: إنّ الله تعالي قد غفر لجميعهم، و أوجب لهم الجنّة في كتابه، محسنهم و مسيئهم، قلت له: و في أي موضع أوجب لهم الجنّة؟ قال: سبحان الله! أ لا تقرأ قوله تعالي: (وَ السّٰابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهٰاجِرِينَ وَ الْأَنْصٰارِ)» «3».

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 59.

(2). سورة التوبة، الآية 100.

(3). التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 16، ص 171.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 48

و الملفت للنظر، أنّ الآية تقول: إنّ نجاة التابعين مشروطة باقتدائهم بالصحابة في الأعمال الحسنة لا السيئة، و مفهومها أنّ الجنّة مضمونة للصحابة، فهل يفهم من هذا الكلام أنّهم أحرار في ارتكابهم للمعصية؟

فهل يمكن للنبي (صلي الله عليه و آله) الذي جاء لهداية الناس و إصلاحهم أن يستثني أصحابه فيما يرتكبون من معاص!! في الوقت الذي يخاطب فيه القرآن نساء النبي (صلي الله عليه و آله)- اللاتي يعتبرن

من أكثر الصحابة قرابة له: (يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضٰاعَفْ لَهَا الْعَذٰابُ ضِعْفَيْنِ وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَي اللّٰهِ يَسِيراً) «1».

و الأمر المهم في الموضوع: إنّ أي إبهام في هذه الآية ترفعه الآية: التاسعة و العشرون من سورة الفتح التي تتعرض لوصف أصحاب النبي (صلي الله عليه و آله) الحقيقيين حيث تقول: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَي الْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ … ).

فهل الأشخاص الذين أشعلوا نار الفتنة و الحرب في صفين و الجمل ضد الإمام الفعلي في ذلك الوقت، و قتلهم لعشرات الآلاف من المسلمين مصداق للصفات السبع المذكورة في هذه الآية؟

و هل كانوا رحماء فيما بينهم؟ و هل كانت شدّتهم علي الكفّار أم علي المسلمين؟

و في ذيل الآية يذكر الله سبحانه و تعالي بجملة المقصد و المقصود بشكل

______________________________

(1). سورة الأحزاب، الآية 30.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 49

واضح (وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً) «1». فالوعد بالمغفرة و الأجر العظيم لهؤلاء الذين يتصفون بالإيمان و العمل الصالح لا غيرهم.

فهل قتلة المسلمين في حرب الجمل و المشعلون غيرها، و العابثون ببيت المال، كما حدث في عهد عثمان هم من الصالحين؟!

و الملفت للنظر أنّ الله سبحانه و تعالي قد عاتب بعض أنبيائه العظام (عليهم السلام) و آخذهم بسبب تركهم للأولي، و قد أخرج النبي آدم (عليه السلام) من الجنّة بسبب تركه للأولي.

النبي يونس (عليه السلام) بقي مدّة في بطن الحوت بسبب تركه للأولي، و سجن في ظلمات ثلاث.

النبي نوح (عليه السلام) عوتب بسبب شفاعته لابنه (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ) «2»،

أ فهل يعقل أن يكون أصحاب نبي الإسلام (صلي الله عليه و آله) مستثنين من هذا القانون!!

6. هل جميع الصحابة عدول بلا استثناء؟

كما ذكرنا أنّ غالبية أهل السنّة يقولون: إنّ جميع الصحابة الذين عاشوا في عصر النبي (صلي الله عليه و آله) أو الذين أدركوه و كانوا معه فترة من الزمن عدول بلا استثناء، و القرآن يشهد علي ذلك.

و للأسف تمسك هؤلاء الأخوة ببعض الآيات القرآنيّة التي تصبّ في مصلحتهم و تغافلوا عن بقية الآيات الأخري، الآيات التي تستثني هذا الأمر،

______________________________

(1). سورة الفتح، الآية 29.

(2). سورة هود، الآية 46.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 50

و نحن نعلم بأنّ جميع العمومات لها استثناءات عادة.

و نحن نقول: ما هي هذه العدالة التي يبيّن القرآن المجيد خلافها في عدّة مواضع!! و من هذه المواضع ما جاء في سورة آل عمران: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَي الْجَمْعٰانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطٰانُ بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللّٰهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) «1»، حيث تشير إلي الأشخاص الذين فرّوا في معركة أحد و تركوا النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) لوحده في مقابل الأعداء.

و نستفيد من خلال هذه الآية و بشكل واضح أنّه كانت هناك مجموعة قد فرّت، و تذكر كتب التواريخ أنّ عددهم كان كبيراً، و أنّ الشيطان قد أغواهم و غلبهم بسبب الذنوب التي ارتكبوها، إذن الذنوب السابقة أدّت إلي الفرار من الزحف، و هو من الذنوب الكبيرة، مع أنّ ذيل الآية يقول: إنّ الله سبحانه و تعالي قد غفر لهم، و لكن مغفرة الله لهم بسبب النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) لا يعني كونهم عدولًا، و أنّهم لم يرتكبوا ذنباً، بل القرآن يصرح بأنّهم ارتكبوا ذنوباً عدّة.

و ما

هي هذه العدالة التي يعرف الله سبحانه و تعالي بعضهم بعنوان «فاسق» حيث يقول: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَليٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ) «2».

و المعروف بين المفسرين أنّ الآية تتعلق بالوليد بن عُقبة، عند ما أرسله النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و مجموعة لقبيلة بني المصطلق؛ لأخذ الزكاة، فعاد و قال: إنّهم امتنعوا عن دفع الزكاة و ارتدوا عن الإسلام، قسم من المسلمين اقتنعوا

______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 155.

(2). سورة الحجرات، الآية 6.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 51

بكلام الوليد، و تهيئوا للهجوم عليهم و قطع رءوسهم، و لكن نزلت الآية الشريفة لتحذّر المسلمين بوجوب التحقيق في الخبر الذي يأتي به الفاسق، حتي لا تصيبوا قوماً بسوء و تندموا فيما بعد.

و النتيجة: أنّه و بعد التحقيق تبيّن أنّ قبيلة بني المصطلق ما زالت علي إيمانها، و أنّها كانت تستعد لاستقبال الوليد، لا للهجوم علي الوليد و الارتداد عن الإسلام، و لكن الوليد- و بسبب خصومته معهم- اتخذ هذا الأمر ذريعة للوشاية بهم عند رسول الله و نقل له خبراً غير صحيح.

فمع أنّ الوليد كان من صحابة النبي (صلي الله عليه و آله) بمعني أنّه من الأشخاص الذين أدركوا رسول الله (صلي الله عليه و آله) و كانوا في خدمته، إلّا أنّ القرآن وصفه بالفاسق، فهل هذا يتفق مع عدالة جميع الصحابة؟

ما هي هذه العدالة عند ما يقوم بعضهم بالاعتراض علي النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) حين أراد توزيع الزكاة؟ و قد نقل القرآن المجيد هذا الاعتراض في سورة التوبة: (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقٰاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهٰا رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا

مِنْهٰا إِذٰا هُمْ يَسْخَطُونَ) «1».

ما هي هذه العدالة حيث يتحدث القرآن المجيد عن حرب الأحزاب في سورة الأحزاب (وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنٰافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مٰا وَعَدَنَا اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ إِلّٰا غُرُوراً) «2» فبعضهم كان يتصور أنّ النبي (صلي الله عليه و آله) سيهزم في هذه المعركة، و أنّهم سيقتلون، و سيقضي علي الإسلام، أو تلك الرواية التي ينقلها الشيعة و السنّة في القصّة المعروفة حين كان النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)

______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 58.

(2). سورة الأحزاب، الآية 12.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 52

يحفر الخندق فوجد صخرة و قام بتحطيمها، عندها وعدهم بفتح الشام و إيران و اليمن فقابلوا هذا الخبر بالاستهزاء.

أ لم يكن هؤلاء من الصحابة؟!

و الأعجب من ذلك ما جاء في الآية التالية حيث تقول: (وَ إِذْ قٰالَتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ يٰا أَهْلَ يَثْرِبَ لٰا مُقٰامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا … ) أي: يطالبون أهل المدينة بالرجوع و عدم القتال مع رسول الله (صلي الله عليه و آله)، أو ما قام به بعضهم من طلب الاستئذان من رسول الله (صلي الله عليه و آله) للهروب من ميدان المعركة: ( … وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنٰا عَوْرَةٌ وَ مٰا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلّٰا فِرٰاراً) «1». فكيف لنا أن نغض النظر عن كل هذه الأعمال و لا نقبل بانتقادهم.

و الأسوأ من هذا كله قيام بعض الصحابة باتهام النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) بالخيانة، فهذا هو القرآن الكريم يحدثنا في سورة آل عمران عن ذلك: (وَ مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمٰا غَلَّ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ ثُمَّ تُوَفّٰي كُلُّ نَفْسٍ مٰا كَسَبَتْ وَ هُمْ لٰا

يُظْلَمُونَ) «2»، حيث ذكروا لشأن نزول الآية سببين:

الأول: بعضهم قال: إنّها إشارة إلي أصحاب «عبد الله بن جبير» الذين كانوا متمركزين في جبل «العينين» في معركة أحد، فحين أوشك المسلمون علي الانتصار علي الأعداء ترك الرماة مع عبد الله مواقعهم لجمع الغنائم، مع أنّ الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) قد أمرهم بعدم ترك مواقعهم مهما كان، و الأسوأ من هذا العمل هو ما قالوه من أنّهم يخافون أن لا يراعي النبي (صلي الله عليه و آله) حالهم في تقسيمه للغنائم، و هناك عبارات ذكروها يخجل القلم من ذكرها.

______________________________

(1). سورة الأحزاب، الآية 13.

(2). سورة آل عمران، الآية 161.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 53

و الثاني: ذكره «ابن كثير» و «الطبري» في ذيل تفسيرهما للآية: إنّه كانت هناك قطيفة «1» حمراء ثمينة قد فقدت في غزوة بدر، فقام بعض الجهّال باتهام النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) بالخيانة، و لم تمض فترة حتي عثر عليها، و تبيّن أنّ أحد أفراد الجيش قد أخذها.

فهل نسبة هذه الأمور جميعها إلي النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) تتوافق مع العدالة؟

فإذا جعلنا وجداننا قاضياً فهل يقبل أن يكون هؤلاء الأشخاص عدولًا و طاهرين، بحيث لا يحق لأحد أن ينتقد أعمالهم؟

و نحن لا ننكر أنّ أكثر أصحاب و أتباع النبي (صلي الله عليه و آله) كانوا أحراراً و طاهرين، و لكن أن نعطي حكماً كلياً بأنّ جميعهم قد طهّروا بماء التقوي و العدالة، و أنّه ليس لأحد الحق في التعرض لأعمالهم بأي نقد، فهذا في الحقيقة مدعاة للحيرة بشكل فاضح.

ما هي هذه العدالة؟ التي تجيز لبعض الأفراد الذين يعدونه من صحابة النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) في

الظاهر كمعاوية بأنّه يجيز لنفسه سبّ و لعن الصحابة العظام كعلي (عليه السلام)، و يأمر جميع الناس بالقيام بهذا العمل في البلدان و بلا استثناء؟ و لا بدّ من الانتباه لهذين الحديثين:

1. نقرأ في صحيح مسلم و هو من أكثر الكتب اعتباراً عند أهل السنّة: «عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلي الله عليه و سلم فلن أسبّه، لئن تكون لي واحدة منهن أحب

______________________________

(1). قطيفة: قطعة قماش.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 54

إلي من حمر النعم» «1».

2. و نقرأ في كتاب «العقد الفريد» الذي كتبه أحد علماء السنّة (ابن عبد ربّه الأندلسي): «و لمّا مات الحسن بن علي (عليهما السلام) حج معاوية فدخل المدينة و أراد أن يلعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) علي منبر رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقيل له: إنّ هاهنا سعد بن أبي وقاص و لا نراه يرضي بهذا فابعث إليه و خذ رأيه. فأرسل إليه [معاوية] و ذكر له ذلك فقال: إن فعلت لأخرجن من المسجد ثمّ لا أعود إليه! فأمسك معاوية عن ذلك حتي مات سعد فلما مات سعد لعنه علي المنبر و كتب إلي عماله أن يلعنوه علي المنابر ففعلوا، فكتبت أم سلمة زوج النبي (صلي الله عليه و آله) إلي معاوية: «إنّكم تلعنون الله و رسوله علي منابركم؛ و ذلك أنّكم تلعنون علي بن أبي طالب و من أحبّه، و أنا أشهد أنّ الله أحبّه و رسوله» فلم يلتفت [معاوية] إلي كلامها» «2».

فهل هذه الأعمال القبيحة تتلاءم مع العدالة؟

هل يجيز أي إنسان عاقل أو عادل لنفسه أن يقوم بسبّ أو لعن- و خصوصاً بتلك الصورة البشعة و الواسعة- هذه الشخصية العظيمة، حيث يقول الشاعر العربي:

أعلي المنابر تعلنون بسبّه و بسيفه نصبت لكم أعوادها

______________________________

(1). صحيح مسلم، ج 14، ص 1871، كتاب فضائل الصحابة. و كذلك كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ج 7، ص 60. و الفضائل الثلاثة التي ذكرت للإمام علي (عليه السلام) في الحديث هي: عبارة عن حديث المنزلة، و حديث (لأعطين الراية غداً … )، و آية المباهلة.

(2). العقد الفريد، ج 5، ص 114 و 115 دار الكتب العلمية. و جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب، ج 2، ص 228. تأليف محمّد بن أحمد الدمشقي الشافعي، (توفي في القرن التاسع الهجري).

الشيعة شبهات و ردود، ص: 55

7. أصناف أصحاب النبي (صلي الله عليه و آله)

يمكن تصنيف أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله) بشهادة آيات القرآن الكريم إلي خمسة أصناف رئيسية:

1. الطاهرون و الصالحون: هؤلاء مجموعة مؤمنة و مخلصة، دخل الإيمان إلي أعماق قلوبهم، لم يتوانوا لحظة في التضحية و الإيثار في طريق الله و إعلاء كلمته، كما أشارت إليهم الآية القرآنيّة في سورة التوبة: (رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) «1».

2. المذنبون من المؤمنين: و هؤلاء علي الرغم من أنّهم يتصفون بالإيمان و العمل الصالح إلّا أنّهم تزل أقدامهم و يخلطون العمل الصالح بالسيّئ، و يعترفون بذنوبهم، و يرجون أن يشملهم العفو و المغفرة، و قد أشارت الآية الثانية بعد المائة من سورة التوبة إلي ذلك تباعاً بعد أن ذكرت المجموعة الأُولي: (وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صٰالِحاً وَ

آخَرَ سَيِّئاً عَسَي اللّٰهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ … ) «2».

3. العصاة: و قد عبّر القرآن عن هؤلاء بالفسّاق، و قد أشار لذلك في قوله تعالي: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَليٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ) «3» و قد ذكرت التفاسير الشيعية و السنية مصاديق لها.

______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 100.

(2). سورة الحجرات، الآية 6.

(3). سورة الحجرات، الآية 14.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 56

4. المتظاهرون بالإسلام: هؤلاء كانوا يدّعون الإسلام و لكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم و قد أشار القرآن لذلك في قوله تعالي: (قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ).

5. المنافقون: و هم أشخاص عاشوا بين المسلمين بروح النفاق، فبعضهم كان معروفاً و بعضهم غير معروف، و لم يكن لهم دور في مواجهة الإسلام و تقدم المسلمين، و هذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالي: (وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرٰابِ مُنٰافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَي النِّفٰاقِ … ) «1».

و لا شك في أن هؤلاء جميعهم قد رأوا النبي (صلي الله عليه و آله) و صاحبوه و عاشروه، و كثير منهم قد شارك في الغزوات، و أي تعريف للصحابة فهو منطبق علي جميع هذه المجموعات الخمسة، فهل يمكن أن يكون جميع هؤلاء طاهرين و من أهل الجنّة؟

أ ليس من المناسب هنا و مع هذا التصريح في الآيات القرآنيّة أن نختار خط الاعتدال، و نقسّم الصحابة إلي مجموعات خمس طبق التقسيم القرآني، فنقدم كامل الاحترام للطاهرين و أصحاب الأعمال الحسنة، و نضع كل مجموعة في مكانها اللائق، و نحترز من الغلو و التعصب و الإفراط؟ و

أن نكون منصفين في قضائنا؟

8. شهادة التاريخ

يواجه المعتقدون و أنصار فكرة قداسة جميع الصحابة مشاكل كثيرة بسبب هذا الاعتقاد، و من جملتها المشاكل التاريخية العظيمة، لأننا لا

______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 101.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 57

نستطيع أن نعتبر جميع الصحابة الذين حدثت بينهم معارك شديدة- كما نراه في الكتب التاريخية المعروفة و المعتمدة عندهم و حتي أحاديث كتب الصحاح- عدولًا و صالحين و مقدّسين؛ لأنّه يكون من قبيل الجمع بين الأضداد، و استحالته من البديهيات العقلية.

و إذا تجاوزنا حربي «الجمل» و «صفين» الذين خطط لهما كل من طلحة و الزبير و معاوية في مقابل إمام المسلمين علي (عليه السلام)، و لم نغض النظر عن الحقائق التي لا محيص من الاعتراف بخطإ و جناية مشعلي هذه الحروب، فهناك شواهد كثيرة لدينا في التاريخ نقتصر علي ذكر ثلاثة منها:

1. يذكر البخاري المحدث المعروف في صحيحه في كتاب التفسير: «قام رسول الله صلي الله عليه و سلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي و هو علي المنبر فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل [يقصد عبد الله بن سلّول أحد قادة المنافقين] قد بلغني عنه أذاه في أهلي و الله ما علمت عن أهلي إلّا خيراً … فقام سعد بن معاذ [صحابي معروف] أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه و إن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك … سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج، قالت: [أي عائشة] و كان قبل ذلك رجلًا صالحاً و لكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله و لا تقدر علي قتله، و لو كان من

رهطك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير و هو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: فثار الحيان الأوس و الخزرج حتي هموا أن يقتتلوا و رسول الله صلي الله عليه و سلم قائم علي المنبر، قالت: فلم يزل رسول الله صلي الله

الشيعة شبهات و ردود، ص: 58

عليه و سلم يخفضهم حتي سكتوا» «1»، فهل كان كل هؤلاء الصحابة صالحين؟

2. يقول العالم المعروف البلاذري في «الأنساب»: «قام عثمان بعزل سعد بن أبي وقاص والي الكوفة و نصب مكانه الوليد بن عقبة، و طلب الوليد من عبد الله بن مسعود مفاتيح بيت المال، فألقي ابن مسعود المفاتيح إليه و قال له: من غيّرَ غيّرَ الله ما به، و مَن بدّلَ أسخط الله عليه، و ما أري صاحبكم إلّا و قد غيّر و بدّل، أ يُعزَلُ مثل سعد بن أبي وقاص و يولي الوليد،.. فكتب الوليد إلي عثمان بذلك و قال: إنّه يعيبك و يطعن عليك، فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه … و قدِم ابن مسعود المدينة و عثمان يخطب علي منبر رسول الله (صلي الله عليه و آله) فلمّا رآه قال: ألّا أنّه قَدِمت عليكم دُوَيْبة سوء، من تمشِ علي طعامه يقي و يسْلَحْ، فقال ابن مسعود: لستُ كذلك، و لكني صاحب رسول الله (صلي الله عليه و آله) يوم بدر و يوم بيعة الرضوان، و نادت عائشة: أي عثمان أ تقول هذا لصاحب رسول (صلي الله عليه و آله)؟، ثمّ أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجاً عنيفاً … و يقال: احتمله يحموم غلام عثمان و رجلاه تختلفان علي عنقه حتي ضرب به

الأرض فدُقَّ ضلعه» «2».

3. ينقل البلاذري في نفس كتاب «أنساب الأشراف»: «كان في بيت المال بالمدينة سَفَط فيه حلي و جوهر فأخذ منه عثمان ما حلّي به بعض أهله، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك، و كلَّموه فيه بكلام شديد حتي أغضبوه، فخطب فقال: لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفي ء، و إن رَغِمَت انوف أقوام.

______________________________

(1). صحيح البخاري، ج 5، ص 57 و 58.

(2). انظر أنساب الأشراف، ج 6، ص 147؛ و تاريخ ابن كثير، ج 7، ص 136 و 183، حوادث سنة 32، (مع اختصار).

الشيعة شبهات و ردود، ص: 59

فقال له علي (عليه السلام): إذاً تُمنع من ذلك و يحال بينك و بينه.

و قال عمّار بن ياسر: اشهد الله أنّ أنفي أول راغم من ذلك.

فقال عثمان: أ عليّ يا ابن المتكإ تجترئ؟ خُذوه! فأُخذ و دخل عثمان فدعا به فضربه حتي غشي عليه، ثمّ اخرج فحُمل حتي اتي به منزل أم سَلَمة زوج رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فلم يصلّ الظهر و العصر و المغرب، فلما أفاق توضأ و صلّي و قال: الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في الله» «1»، يشير بذلك إلي ما تعرض له من المشركين في بداية الدعوة.

و نحن لا نرغب بنقل مثل هذه الحوادث المؤلمة في التاريخ الإسلامي، و يمكن أن يكون ذكر هذا القدر من الأحداث ليس مناسباً لو لا إصرار الأخوة علي تقديس جميع الصحابة و جميع أعمالهم.

و الآن هل يمكن توجيه تلك الشتائم و الأذي و الألم الجسدي الذي تعرض له ثلاثة أشخاص من خيرة الصحابة و أطهرهم و هم: (سعد بن معاذ و عبد الله بن مسعود و عمّار بن ياسر)؟ حيث ضُرب

أحدهم حتي تهشّمت أضلاعه، و ضُرب الآخر حتي غاب عنه الوعي و فاتتهُ صلاته.

أ فهل هذه الشواهد التاريخية- و هي ليست قليلة- تسمح لنا أن نغلق أعيننا أمام هذه الحقائق؟ و نقول: إنّ جميع الصحابة صالحون و أعمالهم كلها صحيحة، و نؤسس جيشاً باسم «جيش الصحابة» و ندافع عن جميع أعمالهم بدون قيد أو شرط؟

أ فهل هناك عاقل يقبل بهذه الأفكار؟

______________________________

(1). أنساب الأشراف، ج 6، ص 161 و 162.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 60

و هنا نكرر هذا القول لمرات عديدة و هو: إنّ هناك شخصيات عديدة بين صحابة الرسول (صلي الله عليه و آله) تتصف بالإيمان و الصلاح و الزهد، و لكن هناك أيضاً شخصيات لا بدّ أن تخضع أعمالهم للنقد و التحقيق، و تقوّم بميزان العقل، و يكون الحكم علي ضوء ذلك.

9. إقامة الحدّ علي بعض الصحابة في عصر النبي (صلي الله عليه و آله) أو بعده!!

نلاحظ في كتب الصحاح و كتب أخري معروفة عند إخواننا أهل السنّة موارد ارتكب فيها بعض الصحابة في عصر رسول الله (صلي الله عليه و آله) ذنوباً تستوجب الحد، و قد أُقيم الحدّ عليهم.

أ فهل يقولون مع هذا كلّه إنّ جميع هؤلاء عدول؟! و لا يصدر منهم أي خطأ. ما هي هذه العدالة التي تبقي علي حالها ثابتة في حق من يرتكب الذنوب الكبيرة و يقام عليه الحدّ؟

و سنشير لبعض الموارد علي سبيل المثال:

أ) عن عقبة بن الحرث قال: «جي ء بالنعيمان أو بابن النعيمان شارباً فأمر النبي (صلي الله عليه و آله) من كان بالبيت أن يضربوه. قال: فضربوه فكنت أنا فيمن ضربه بالنعال» «1».

ب) عن جابر أنّ رجلًا من أسلم جاء النبي (صلي الله عليه و آله) فاعترف بالزنا، فأعرض عنه النبي (صلي الله عليه و آله) حتي شهد علي نفسه

أربع مرات، فقال له النبي (صلي الله عليه و آله): «أ بك جنون؟ قال: لا، قال: أحصنت؟ قال: نعم، فأمر به فرجم بالمسجد» «2».

______________________________

(1). صحيح البخاري، ج 8، ص 13، ح 6775 كتاب الحدّ.

(2). نفس المصدر، ص 22، ح 6820.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 61

ج) أمر النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) في قصّة الإفك بإجراء حدّ القذف في عدّة أشخاص «1».

د) و بعد عصر النبي (صلي الله عليه و آله) أقدم «عبد الرحمن بن عمر» و «عقبة بن حارث البدري» علي شرب الخمر، فأقام عمر بن العاص والي مصر الحدّ الشرعي عليهما، بعدها أحضر ابنه و أقام عليه الحدّ مرة أخري «2».

ه-) قصة الوليد بن عقبة المعروفة «الذي صلّي صلاة الصبح و هو سكران أربع ركعات، حيث تم إحضاره إلي المدينة و أقيم عليه حدّ شارب الخمر» «3».

و هناك موارد أخري تجنبنا ذكرها مراعاة للمصلحة، فهل مع وجود هذه الموارد الواقعية نغلق أسماعنا و أعيننا و نقول: إنّ جميعهم عدول؟

10. توجيهات غير وجيهة

1. اضطر المؤيدون لنظرية التنزيه و التقديس المطلق أمام هذا التضارب الكبير بإقناع أنفسهم بأنّ جميع الصحابة مجتهدون، و كل واحد منهم عمل وفق اجتهاده.

و هذا نوع من أنواع التحايل علي الوجدان يقيناً، و قد توسل به هؤلاء الإخوة للخروج من هذا التضارب الفاضح.

فهل يعد ضرب صحابي مؤمن لانتقاده الرقيق، أو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لقضية بسيطة حول العبث ببيت مال المسلمين إلي الحد الذي يفقد فيه وعيه و صلاته، اجتهاداً؟

______________________________

(1). انظر المعجم الكبير، ج 23، ص 128، و كتب أخري.

(2). انظر السنن الكبري، ج 8، ص 312. كتب أخري كثيرة.

(3). انظر صحيح مسلم، ج 5، ص 126، ح 1707.

الشيعة شبهات

و ردود، ص: 62

و هل تهشيم أضلاع صحابي آخر معروف؛ لاعتراضه علي تعيين «الوليد» شارب الخمر والياً علي الكوفة، يعدّ نوعاً من الاجتهاد؟

و الأهم من ذلك هل يعتبر إشعال نار الحروب و قتل عشرات الألوف من المسلمين؛ لأجل الجاه و السيطرة علي الحكومة الإسلاميّة، و الوقوف في وجه إمام المسلمين المنتخب من قبل الناس جميعاً إضافة إلي مقاماته الإلهية، اجتهاداً؟

فإذا كانت هذه الأمور و غيرها تعدّ من قبيل الاجتهاد و شعبه، فجميع الجرائم التي حدثت في التاريخ يمكن توجيهها بذلك.

إضافة إلي ذلك، هل الاجتهاد منحصر بهؤلاء الصحابة أم أنّ هناك عدّة مجتهدين في الأمّة الإسلاميّة؟ و اليوم و باعتراف مجموعة من المفكرين السنة و كل علماء الشيعة أنّ باب الاجتهاد ما زال مفتوحاً أمام جميع العلماء الواعين.

فإذا ارتكب شخص مثل هذه الأعمال فهل أنتم علي استعداد لتوجيهها؟ يقيناً، كلا.

2. و تارة يقولون إنّ وظيفتنا هي السكوت عن الصحابة و عن أفعالهم: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهٰا مٰا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مٰا كَسَبْتُمْ وَ لٰا تُسْئَلُونَ عَمّٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ). «1» *

نعم هذا الأمر جيد، إن لم يكن لهم تأثير علي مصيرنا، و لكننا نريد أن نجعلهم قدوة لنا، و نأخذ روايات النبي (صلي الله عليه و آله) عن طريقهم، أ لا يجب أن نعرف الثقة من غير الثقة و العادل من الفاسق حتي نعمل بمضمون الآية الشريفة:

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 134.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 63

(يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَليٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ) «1».

11. مظلومية الإمام علي (عليه السلام)

كل شخص يقرأ التاريخ الإسلامي يجد أثراً لهذه المسألة، و يري كيف تعرض الإمام علي (عليه السلام)- رمز العلم و التقوي، و

أقرب الناس إلي النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و أكبر مدافع عن الإسلام- مع كامل الأسف- إلي أمور غير لائقة من سبّ و شتم و إهانة، إضافة إلي تعرض أصحابه و أتباعه للتهديد و الأذي و العذاب الذي لا مثيل له في التاريخ، مِن الذين يسمّون أنفسهم صحابة النبي (صلي الله عليه و آله).

و من الأمثلة علي ذلك:

أ) شاهدوا يوماً علي بن الجهم الخراساني يلعن أباه، فقالوا له لما ذا؟ فقال: لأنّه سماني «علياً» «2».

ب) «كتب معاوية نسخة واحدة إلي عمّاله بعد عام الجماعة أن برئت الذمّة ممن روي شيئاً من فضل أبي تراب (عليه السلام) و أهل بيته (عليهم السلام) فقامت الخطباء في كل كورة و علي كل منبر يلعنون علياً و يبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته» «3».

ج) «كان بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه علي قتلوه، هذا الكلام نقله سلمة بن شبيب عن أبي عبد الرحمن المقرئ» «4».

______________________________

(1). سورة الحجرات، الآية 6.

(2). لسان الميزان، ج 4، ص 210.

(3). النصائح الكافية، ص 72.

(4). تهذيب الكمال، ج 20، ص 429؛ و سير النبلاء، ج 5، ص 102.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 64

د) نقل الزمخشري و السيوطي: «أنه في أيّام بني أمية كان الإمام علي (عليه السلام) يسبّ علي أكثر من سبعين ألف منبر، و معاوية هو الذي سنّ هذه السنّة» «1».

ه-) لما جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز و ترك اللعن، و أمر بتركه صاح الناس متعجبين في المسجد فقالوا: «تركت السنّة» «2».

و في الوقت الذي نجد النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)- مع هذا كله- و طبق الروايات الصحيحة الموجودة في كتبهم المعتبرة يقول:

«من سبّ علياً فقد

سبني و من سبّني فقد سبّ الله» «3».

12. قصّة تستحق السرد

لا بأس و من باب حسن الختام أن أذكر للقرّاء الأعزاء هذه القصّة التي حدثت معي شخصياً في المسجد الحرام و أنهي البحث:

التقيت في إحدي سفراتي للعمرة بمجموعة من علماء الحجاز في المسجد الحرام بين صلاتي المغرب و العشاء، و كانت هناك فرصة للبحث حول تقديس جميع الصحابة، و وفقاً لاعتقادهم- كما هي العادة- فإنّه يجب ألّا ينالهم أي نقد.

و قلت لأحدهم: افرض أنّ معركة صفين قد بدأت الآن، فإلي أي جبهة ستنضم، إلي جبهة علي (عليه السلام)، أم إلي جبهة معاوية؟

أجاب: إلي جبهة علي (عليه السلام) حتماً.

______________________________

(1). ربيع الأبرار، ج 2، ص 186. و النصائح الكافية، ص 79، عن السيوطي.

(2). النصائح الكافية، ص 116؛ تهنئة الصديق المحبوب، ص 59، لحسن السقاف.

(3). أخرجه الحاكم و صحّحه و أقرّه الذهبي (مستدرك الصحيحين، ج 3، ص 121).

الشيعة شبهات و ردود، ص: 65

قلت: ما ذا تفعل لو أمرك الإمام علي (عليه السلام) بأخذ السيف و قتل معاوية؟

تأمّل لحظات و قال: أقتل معاوية، و لكن لا أتعرض له بأي انتقاد.

نعم، هذه هي نتيجة التعصب غير المنطقي للمعتقدات، و الدفاع عنها بالتالي سيكون غير منطقي أيضاً، و الإنسان يبتلي بهؤلاء المتحجرين.

و الحق هو أن نقول: إنّ الصحابة و أتباع النبي (صلي الله عليه و آله) ينقسمون، من جهة إلي عدّة أصناف، و ذلك بشهادة القرآن الكريم و التاريخ الإسلامي، فهناك مجموعة من الصحابة و أتباع النبي (صلي الله عليه و آله) كانوا منذ البداية طاهرين و صادقين و صالحين و بقوا علي ذلك إلي النهاية «عاشوا سعداء و ماتوا سعداء».

و من جهة أخري هناك مجموعة أخري كانوا في صفوف الصالحين و الطاهرين

في عصر النبي (صلي الله عليه و آله)، و لكنّهم بعد ذلك غيّروا مسيرتهم طلباً للجاه و حبّ الدنيا، و لم تكن عاقبتهم إلي خير.

و هناك مجموعة ثالثة كانوا منذ البداية في صف المنافقين و عبدة الدنيا، و لأجل أهداف خاصة التحقوا بالمسلمين، مثل أبي سفيان.

و هنا نشير للمجموعة الأولي و نقول: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنٰا وَ لِإِخْوٰانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ وَ لٰا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنٰا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) «1».

______________________________

(1). سورة الحشر، الآية 10.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 67

المبحث الرابع احترام قبور العظماء

اشارة

الشيعة شبهات و ردود، ص: 69

حول البحث:

حديثنا هنا مع الوهابيين المتشددين فقط، علماً أنّ جميع الفرق الإسلاميّة تجيز زيارة قبور العظماء باستثناء هذه الفرقة، و علي كل حال يطرح الوهابيون علينا سؤالًا و هو: لما ذا تذهبون لزيارة الزعماء الدينيين؟ و يسموننا بالقبوريين.

في الوقت الذي نري اهتمام الشعوب في جميع أنحاء العالم بمراقد أسلافهم فيقصدونها للزيارة و أخذ العبر.

و المسلمون في العالم يولون أهميّة و قيمة خاصّة لقبور عظمائهم دائماً و ما زالوا، و يذهبون لزيارتها، و لم يخالف في ذلك إلّا الفرقة الوهابية الصغيرة التي تدعي تمثيل جميع المسلمين في العالم.

نعم هناك بعض العلماء المعروفين من الوهابية صرّحوا باستحباب زيارة قبر النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و لكن بشرط أن لا تكون بنيّة «شدّ الرحال»، بمعني: أن يأتوا لزيارة مسجد النبي (صلي الله عليه و آله) و العبادة فيه، أو أداء العمرة و زيارة المدينة، و في الضمن يزورون قبر النبي (صلي الله عليه و آله) و لكن لا بقصد شدّ الرحال.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 70

يقول «بن باز» الفقيه الوهابي المعروف في حديثه لجريدة الجزيرة: «يستحب الصلاة ركعتين في روضة النبي (صلي الله عليه و آله) لمن يزور مسجده الشريف، ثمّ يسلّم علي النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، و يستحب أيضاً زيارة مقبرة البقيع و يسلّم علي الشهداء المدفونين هناك» «1».

و وفقاً لنقل كتاب «الفقه علي المذاهب الأربعة» يري الفقهاء الأربعة لأهل السنّة استحباب زيارة قبر النبي (صلي الله عليه و آله) بدون قيد أو شرط. حيث نقرأ في هذا الكتاب: «لا ريب في أنّ زيارة قبر المصطفي عليه الصلاة و السلام من أعظم القُرب و أجلها شأناً» «2».

و قد وردت أحاديث كثيرة بهذا المضمون.

هذه الفرقة الوهابية تختلف بشكل عام مع بقية مسلمي العالم في ثلاث نقاط هي:

1. بناء القبور.

2. شدّ الرحال لزيارة القبور.

3. زيارة النساء للقبور.

و قد تمسك هؤلاء ببعض الروايات علي المطالب الثلاثة، و هي مردودة، إمّا لضعف سندها أو لعدم دلالتها، و سنأتي علي شرحها قريباً إن شاء الله.

و يظهر أنّ لديهم دوافع أخري لهذه الحركة، فهم مبتلون بالوسواس في موضوع التوحيد و الشرك، و لعلهم ظنُّوا بأنّ زيارة القبور هي عبادة لهم، و بالتالي يكون جميع المسلمين مشركين و ملحدين باستثنائهم!!!

______________________________

(1). جريدة الجزيرة، العدد 6862 بتاريخ 22/ 11/ 1411 ه-. ق.

(2). الفقه علي المذاهب الأربعة، ج 1، ص 365، دار الكتب العلمية بيروت، ط 2، 1424 ه-. ق.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 71

النماذج التاريخية:

احترام قبور السابقين و بالخصوص العظماء ممن له تاريخ طويل قبل آلاف السنين، فكان المجتمع البشري يكرم أمواته، و يحترم قبورهم و بالخصوص العظماء منهم؛ لأنّ فلسفة هذا العمل له آثار إيجابية كثيرة، منها:

أولا: إنّ الفائدة من تكريم السابقين هو حفظ حرمة هؤلاء الأعزاء و تقديرهم؛ لأنّهم عنوان للعزة و الشرف الإنساني، و سبب لترغيب الشبّان في سلوك نهجهم.

ثانياً: أخذ الدروس و العبر من تلك القبور الصامتة، أما نداؤها فهو جلاء لصدأ الغفلة عن قلب الإنسان، و إيقاظه من غفلة الدنيا و تخديرها. و التقليل من سيطرة الهوي و الهوس، و بتعبير أمير المؤمنين (عليه السلام): «فكفي واعظاً بموتي عاينتموهم» «1».

ثالثاً: تسلية أهالي المتوفي، لأنّ الناس شعرون براحة أكثر و هم بجوار قبور أعزّائهم و كأنّهم يعيشون بينهم، و هذه الزيارة تقلل من شدّة آلامهم، و بهذا الدليل نجدهم يقومون بإنشاء قبر رمزي للفقيد، و يجلسون

بجواره تخليداً لذكراه.

رابعاً: يعدّ تكريم قبور العظماء الماضين طريقاً لحفظ التراث الثقافي لكل قوم و أمّة، و الشعوب اليوم هي حيّة بثقافاتها القديمة، و مسلمو العالم يملكون ثقافة غنية و تراثاً عظيماً، و من أهمها قبور و مراقد الشهداء و العلماء العظام و طلائع العلم و الثقافة، و بالخصوص المراقد المشرفة لأئمّة الدين العظام.

______________________________

(1). نهج البلاغة، خطبة 188.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 72

فكان حفظ آثارهم و إحياء ذكراهم سبباً لحفظ الإسلام و سنّة النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، علي الرغم ممّا فعله عديمو الذوق من إزالة الآثار العظيمة لزعماء الإسلام في مكة و المدينة و بعض المناطق الأخري، حيث أصيب المجتمع الإسلامي بخسارة عظيمة، و قد أنزل السلفيون الجهلة المتخلفون- و للأسف الشديد- خسائر فادحة لا يمكن تعويضها بالتراث الثقافي للإسلام بذرائع واهية.

أ فهل هذا التراث التاريخي العظيم يختص بهذه المجموعة المحدودة حتي يدمر بهذا الشكل الفظيع؟ أ لا يجب أن يوكل أمر حفظ هذه الآثار إلي مجموعة من العلماء الواعين من جميع البلدان؟

خامساً: إنّ لزيارة قبور أئمّة الدين العظام و طلب الشفاعة منهم عند الله المرافق للتوبة و الإنابة إلي ساحة العبودية أثراً في تربية النفوس و تنمية الأخلاق و الإيمان، و قد تاب الكثير من المذنبين و العصاة بجوار تلك المراقد الملكوتية لهؤلاء، و ما زالوا، ليصبحوا صلحاء دائماً، و يرتقون إلي مراتب أعلي من الصلاح.

توهم الشرك في زيارة القبور:

يقوم بعض الجهّال باتهام زوار قبور أئمّة الدين، بالشرك، و يقيناً أنّهم لو علموا بمضمون هذه الزيارات و محتواها لخجلوا من هذا الكلام.

لا يوجد أي شخص عاقل يعبد النبي (صلي الله عليه و آله) أو الأئمّة (عليهم السلام)، بل لا تخطر بذهن أحد هذه الفكرة

إطلاقاً، و جميع المؤمنين الواعين يذهبون لزيارتهم احتراماً و طلباً للشفاعة.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 73

و أغلب الزوار يذكرون «الله أكبر» مائة مرّة قبل البدء بقراءة متن الزيارة، فهم علي هذا يؤكدون مبدأ التوحيد مائة مرّة لإبعاد أي شائبة للشرك من نفوسهم.

نقول في الزيارة المعروفة زيارة «أمين الله» و أمام قبور الأئمة: «أشْهدُ أنكَ جاهدتَ في الله حَقَّ جِهاده، وَ عمِلتَ بِكتَابِه، و اتبعتَ سُنَنَ نَبِيِّه حتَّي دَعاكَ الله إلي جِوَارِه» «1»، أ فهل هناك توحيد أكثر من هذا؟

و نقول في خطابنا لهؤلاء العظماء في الزيارة الجامعة المعروفة: «إلي الله تَدعُونَ وَ عَليهِ تَدُلُّونَ وَ بِه تُؤْمِنُونَ وَ لَهُ تُسَلِّمونَ وَ بِأمرِهِ تَعمَلُونَ وَ إلي سَبِيلِه تُرْشِدُونَ» «2»، و جميع الضمائر في الجمل الست المذكورة تعود إلي الخالق سبحانه و تعالي.

فالدعوة إلي الله و التوحيد موجودة في كل موضع من هذه الزيارات، أ فهل هذا شرك أم إيمان؟

و نقول في موضع آخر من الزيارة: «مُسْتَشْفِعٌ إلي الله عَزَّ وَ جَلَّ بِكُمْ»، فإذا كان في مضمون بعض العبارات إبهام، فهذه المحكمات ترفع هذا الإبهام.

هل طلب الشفاعة يتفق مع مباني التوحيد؟

الاشتباه الآخر المهم لدي الوهابية في هذا الموضوع هو مقايسة طلب الشفاعة من الأولياء في حضرة الله سبحانه و تعالي مع طلب الشفاعة من الأصنام- تلك الأحجار الجامدة التي لا روح فيها و لا عقل و لا شعور-

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 99، ص 129 و 130.

(2). نفس المصدر، ص 131.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 74

في الوقت الذي نري القرآن المجيد قد أشار في مواضع عديدة إلي استشفاع الأنبياء الربانيين (عليهم السلام) للمذنبين عند الله، فنذكر علي سبيل المثال:

1. بعد أن عرف إخوة يوسف (عليه السلام) عظمة أخيهم و التفتوا إلي خطأهم ذهبوا

إلي أبيهم طلباً للشفاعة، و قد لبي الأب طلبهم: (قٰالُوا يٰا أَبٰانَا اسْتَغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا إِنّٰا كُنّٰا خٰاطِئِينَ* قٰالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) «1». فهل كان النبي يعقوب (عليه السلام) مشركاً؟

2. القرآن الكريم يرغب و يشجع المذنبين لطلب التوبة و الشفاعة من النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) حيث يقول: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّٰهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً) «2»، فهل هذا الترغيب و التشجيع شرك؟

3. يقول القرآن في ذمه للمنافقين: (وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّٰهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) «3»، فهل يدعو القرآن الكريم الكفار و المنافقين للشرك؟

4. نحن نعلم بأنّ قوم لوط كانوا من أسوأ الأقوام، و قد طلب شيخ الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) الشفاعة لهم، حيث طلب من الله إمهالهم مدّة أكثر لعلهم يتوبون، و لكن بما أنّهم تجاوزوا حدّاً من الوقاحة أفقدهم قابلية الشفاعة لهم جاء الخطاب للنبي إبراهيم (عليه السلام) بالإعراض عن طلب الشفاعة لهم: (فَلَمّٰا ذَهَبَ عَنْ إِبْرٰاهِيمَ الرَّوْعُ وَ جٰاءَتْهُ الْبُشْريٰ يُجٰادِلُنٰا فِي قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ

______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 97 و 98.

(2). سورة النساء، الآية 64.

(3). سورة المنافقون، الآية 5.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 75

لَحَلِيمٌ أَوّٰاهٌ مُنِيبٌ* يٰا إِبْرٰاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا إِنَّهُ قَدْ جٰاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذٰابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) «1».

الجدير بالذكر أنّ الله تعالي في مقابل طلب الشفاعة هذه قد أثني علي النبي إبراهيم (عليه السلام) بشكل مميز حيث قال: (إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّٰاهٌ مُنِيبٌ) و لكن وجّه له الخطاب بأنّه قد فات الأوان و لم يبق مجال للشفاعة.

لا تختص شفاعة الأولياء بفترة حياتهم!!

لجأ المفتشون عن

مخرج عند ما رأوا صراحة الآيات السابقة التي تشير إلي مشروعية شفاعة الأنبياء (عليه السلام) و أنّه لا محيص من قبولها، إلي ذريعة أخري، حيث قالوا: إنّ هذه الآيات تتحدث عن الشفاعة في حال حياة الشفعاء، و لا دليل لدينا علي شمولها لما بعد وفاتهم. و بهذا قد تخلوا عن ذريعة الشرك و تمسكوا بذريعة أخري.

و لكن يطرح هنا سؤال، هل أنّ النبي (صلي الله عليه و آله) يتبدل إلي تراب بعد وفاته و ينعدم بشكل تام- كما أقرّ أمامنا بعض علماء الوهابية بذلك- أو أنّ هناك حياة برزخية؟

فعلي القول إنّهُ لم تكن هناك حياة للنبي- و هو باطل- ترد بعض الأمور:

أولًا: هل مقام النبي (صلي الله عليه و آله) أقل مرتبة من مقام الشهداء الذين قال فيهم الله سبحانه و تعالي: (بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) «2».

ثانياً: هل السلام الذي نذكره علي النبي (صلي الله عليه و آله) في التشهد و يذكره جميع

______________________________

(1). سورة هود، الآية 74- 76.

(2). سورة آل عمران، الآية 169.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 76

المسلمين بلا خلاف «السلام عليك أيّها النبي … » نذكره علي شخصية خيالية لا وجود لها؟

ثالثاً: أ لا تعتقدون بأنه يجب عليكم إذا كنتم في المسجد النبوي التحدث بهدوء عند ما تكونون بجوار قبره الشريف؟؛ لأنّ القرآن الكريم يقول: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ … ) «1»، و قد كتبت هذه الآية علي لوحة و علقت فوق قبر النبي (صلي الله عليه و آله).

فكيف تقبلون بهذا الكلام المتناقض؟

رابعاً: إنّ الموت لا يمثل نهاية الحياة فقط، بل هو ولادة ثانية و حياة جديدة: «النَّاسُ نِيَام فإذا مَاتُوا انْتَبَهُوا» «2».

خامساً: نقرأ في الحديث المعروف

الذي جاء في مصدر معتبر لدي أهل السنّة أن عبد الله بن عمر نقل عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) أنّه قال:

«مَنْ زَارَ قَبْري وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتي»

«3». و جاء في حديث آخر نقله نفس الراوي عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)

«مَنْ زَارَني بَعْدَ مَوْتِي فَكَأنَّما زَارَني في حَياتي»

«4». و عليه فهذه الفرضية من التفريق بين زمن الحياة و الموت ليس إلّا تصور واه.

و من خلال الإطلاق الموجود في هذه الأحاديث المذكورة يمكن أن نؤكد مشروعية شدّ الرحال بقصد زيارة النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله).

______________________________

(1). سورة الحجرات، الآية 2.

(2). عوالي اللئالي، ج 2، ص 73.

(3). السنن للدارقطني، ج 2، ص 278. و قد ذكر العلّامة الأميني 41 مصدراً لهذا الحديث من الكتب المعروفة لدي أهل السنّة؛ الغدير، ج 5، ص 93.

(4). الغدير، ج 5، ص 101.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 77

النساء و زيارة القبور:

تحتاج النساء و بسبب كونهن أكثر عاطفة ورقة إلي زيارة قبور أعزّائهن تسلية للخاطر، كما أن التجربة أثبتت أن لديهن علاقة أكبر من الرجال بالنسبة لزيارة قبور أولياء الله.

و لكن هناك مجموعة من الوهابيين المتشددين و للأسف و بسبب وجود حديث مشكوك يردعون النساء عن زيارة القبور بشكل متعسف، حتي أنّه اشتهر علي لسان عوامهم في جنوب إيران بأنّ المرأة التي تقف علي قبر يراها صاحب القبر عارية.

يقول أحد العلماء: قلتُ لهم: إنّ قبر النبي (صلي الله عليه و آله) و الخليفة الأول و الثاني موجود في منزل «عائشة» حيث كانت تعيش فيه أو تتردد عليه … فإذا قلنا إنّه لا إشكال في وقوفها علي قبر النبي في صورة- كما تزعمون- فكيف بوقوفها علي هذه الهيئة علي قبر الخليفة

الاول و الثاني؟ فهذا يحتاج إلي نظر و تأمل.

علي كل حال فهم يستدلون علي ذلك بحديث معروف ينسبونه للنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) يقول:

«لَعَنَ الله زَائِراتِ القُبُور»

، و جاء في بعض الكتب بدل «زائرات» «زوّارات القبور» بصيغة المبالغة.

يقول بعض علماء أهل السنّة و منهم الترمذي «1»: «إنّ هذا الحديث مرتبط فزمان نهي فيه النبي (صلي الله عليه و آله) عن زيارة القبور، و لكن هذا الحكم نسخ فيما بعد».

و يقول آخرون من علمائهم: إنّه مختص بالنساء اللاتي يصرفن وقتاً كثيراً

______________________________

(1). سنن الترمذي، ج 3، ص 371. باب ما جاء من الرخصة في زيارة القبور.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 78

في زيارة القبور، ممّا يؤدي إلي تضييع حقوق أزواجهن، و دليلهم علي ذلك صيغة المبالغة «زوّارات» التي جاءت في بعض النسخ.

هؤلاء الإخوة مهما أنكروا، لا يستطيعون إنكار فعل عائشة من إبقاء قبر النبي (صلي الله عليه و آله) و قبر الخليفة الأول و الثاني في بيتها.

شدّ الرحال لا يكون إلّا للمساجد الثلاثة:

يذكر التاريخ الإسلامي أنّ المسلمين لقرون عدّة كانوا يشدّون الرحال لزيارة النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و لم يكن لدي أحد مشكلة.

حتي جاء دور (ابن تيمية) في القرن السابع فقام بمنع أتباعه من هذا العمل و قال: إنّ شدّ الرحال لا يكون إلّا إلي مساجد ثلاثة، و يمنع في غيرها، و استدل هذه المرّة بحديث عن «أبي هريرة».

يقول أبو هريرة: إنّ النبي (صلي الله عليه و آله) يقول:

«لا تُشَدّ الرحال إلّا إلي ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ، مَسْجِدي هَذا و المَسْجِد الحَرَام و المَسْجِد الأقصي»

«1». و الحال أولًا: إنّ موضوع الحديث متعلق بالمساجد لا بزيارة أي مكان آخر، و علي هذا يكون مفهوم الحديث أنّه لا تشدّ الرحال لأي مسجد

إلّا إلي هذه المساجد الثلاثة.

ثانياً: نقل هذا الحديث بصيغة أخري حيث لا توجد فيه أي دلالة علي مقصودهم و هو: «تُشَدُّ الرِّحال إلي ثلاثة مَسَاجِدَ» «2».

و في الحقيقة هو نوع من الترغيب لهذا العمل، من دون أن ينفي بقية

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم - مترجم: الحرز، احمد محمد، الشيعة شبهات و ردود، در يك جلد، انتشارات مدرسه امام علي بن ابي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1428 ه ق الشيعة شبهات و ردود؛ ص: 78

______________________________

(1). صحيح مسلم، ج 4، ص 102.

(2). نفس المصدر، ص 126.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 79

الموارد، و في الاصطلاح «إنّ إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه».

فإذا لم يعلم النص الأصلي للحديث بأنّه علي الصياغة الأولي أم الصياغة الثانية، يكون الحديث مجملًا، و غير قابل للاستدلال به.

و قد يقال إنّه جاء نص آخر في نفس الكتاب و هو: «إنّما يسافر إلي ثلاثة مساجد … » «1».

و علي هذا يكون شدّ الرحال جائز للمساجد الثلاثة فقط!

و الجواب علي هذا النقد واضح:

أولًا: هناك إجماع من الأمّة علي جواز السفر لمقاصد عدّة سواء كان دينياً أو غير ديني. و السفر لا ينحصر بالسفر إلي المساجد الثلاثة، و بالنتيجة يكون هذا الحصر بحسب الاصطلاح «حصراً إضافياً» و هو يعني أنّ شدّ الرحال يكون للمساجد الثلاثة من بين بقية المساجد.

ثانياً: إنّ نص الحديث مختلف فلا يعلم ما هو الواقع، فهل هو الأول أم الثاني أم الثالث؟ و يستبعد أنّ يعبر النبي (صلي الله عليه و آله) عن هذا الأمر بعبارات ثلاث، و الظاهر أنّ رواة الأخبار نقلوا الحديث بالمعني، و عليه يكون هذا الحديث محفوفاً بالإبهام، و مع إبهام الحديث يسقط الاستدلال به عن الاعتبار.

هل بناء القبور ممنوع؟

مضت قرون

عديدة علي قيام المسلمين ببناء أبنية تاريخية و عادية كثيرة علي قبور عظماء الإسلام، و كانوا يأتون لزيارة القبور و يتبركون بها، و لم يعترض عليهم أي شخص، و في الواقع كان هناك إجماع و سيرة عملية

______________________________

(1). صحيح مسلم، ج 4، ص 126.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 80

علي هذا العمل، و لم تشاهد مخالفة.

ذكر المؤرخون كالمسعودي في «مروج الذهب» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، و الرحالة مثل: ابن جبير و ابن بطوطة اللذين عاشا في القرن السابع و الثامن ذكروا مشاهداتهم لتلك الأبنية المميزة و العظيمة.

حتي ظهر ابن تيمية في القرن السابع و تلميذه محمّد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر، فزعما أنّ بناء القبور بدعة و حرام و شرك.

و الوهابيون مبتلون بوسواس عجيب، خصوصاً في مسألة التوحيد و الشرك؛ و ذلك بسبب ضحالة مستواهم العلمي في تحليل المسائل. و يلجئون للمخالفة عند اضطرابهم أمام أي موضوع، من قبيل موضوع الزيارة و الشفاعة و بناء القبور و غيرها، فكل هذه المسائل مخالفة للشرع في نظرهم، و يلحقونها بمسألة «الشرك» و «البدعة» و يخالفونها. و أهم هذه المسائل، البناء علي قبور زعماء الدين، و في الوقت الراهن نري أبنية عظيمة علي قبور الأنبياء السابقين و زعماء الإسلام في مختلف دول العالم الإسلامي باستثناء السعودية، حيث نجد احترام تلك الشعوب من مصر إلي الهند و من الجزائر إلي أندونيسيا للآثار الإسلاميّة المتبقية في دولهم، و يولون قبور زعماء الدين أهميّة خاصّة.

و لكن لا نجد في السعودية أي اهتمام لهذه الآثار، و الدليل علي ذلك هو عدم وجود التحليل السليم للمفاهيم الإسلاميّة.

الوهابية تدمر التراث الثقافي:

وقع في القرن الماضي حدث مؤلم في بلاد الوحي، أدي إلي حرمان

الشيعة شبهات و

ردود، ص: 81

المسلمين من الآثار التاريخية للإسلام بشكل دائم، و حصول هذه الحادثة بسبب سيطرة الوهابية علي تلك البلاد.

فقبل ثمانين سنة في عام (1344) عند ما سيطرت الوهابية علي الحجاز، قامت بحركة منسقة و غير واعية لتدمير جميع الآثار التاريخية للإسلام تحت ذريعة الشرك و البدعة، و تسويتها بالأرض.

و لكن لم تكن لديهم الجرأة الكافية للاعتداء علي القبر الطاهر للنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) تفادياً من قيام عامّة المسلمين ضدهم، و بحسب الاصطلاح استفاد «مخالفو التقية» من التقية في مقابل المسلمين.

و قد طرحتُ سؤالًا علي أحد كبارهم في إحدي سنوات الحج لبيت الله الحرام أثناء حديث ودّي، عن السبب في الإبقاء علي القبر الطاهر لنبي الإسلام (صلي الله عليه و آله) بعد أن دمرت جميع القبور هناك؛ فلم يملك أي جواب علي ذلك.

و علي كل حال فحياة الأمم ترتبط بأمور عديدة، و من هذه الأمور حفظ الآثار الثقافية و التراث العلمي و الديني، و لكن و للأسف الشديد وقعت أرض الوحي و بالخصوص مكة و المدينة- بسبب سوء تدبير المسلمين- في أيدي مجموعة متخلفة و شاذة و متعصبة فقامت بمحو جميع الآثار القيمة للثقافة الإسلاميّة بذرائع خاوية و واهية، تلك الآثار التي يحكي كل واحد منها موقفاً من المواقف التاريخية و المهمّة و المشرفة للإسلام.

و من القبور التي دمرت قبور أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في البقيع، و الظاهر أنّ هؤلاء القوم يقومون بإزالة كل أثر قيم في التاريخ الإسلامي، و بواسطة هذا الطريق يوقعون خسائر غير قابلة للتعويض بالمسلمين.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 82

هذه الآثار تأخذ الإنسان إلي أعماق التاريخ بسبب جاذبيتها و تأثيرها العجيب عليه. فمقبرة البقيع التي كانت مشهداً رائعاً،

تحكي كل زاوية منها حدثاً تاريخياً مهمّاً، تحولت اليوم إلي صحراء قاحلة و موحشة المنظر، وسط الفنادق الجميلة و البنايات الفخمة، حيث تفتح أبوابها الحديدية غير المنظمة- بدون أقفال- أمام الزوار الرجال فقط لمدّة ساعة أو ساعتين في اليوم.

الذرائع التي يقدمها الوهابيون:

الذريعة الأولي: يجب ألّا تتخذ القبور مساجد:

تارة يقولون: إنّ البناء علي القبور يؤدّي بالنتيجة إلي عبادتها و الحديث النبوي شاهد علي عدم جواز ذلك: «لَعنَ اللهُ اليَهودَ اتّخَذُوا قُبورَ أنْبِيَائِهِمْ مَساجِدِ» «1»، و لكن هذا الأمر واضح لجميع المسلمين، فلا يوجد أحد يقوم بعبادة قبور أولياء الله. و هناك فرق بيِّن و واضح بين «الزيارة» و «العبادة»، فكما نذهب لزيارة الأحياء و نقدم الاحترام للكبار و نطلب منهم الدعاء، نذهب لزيارة الأموات احتراماً لزعماء الدين و شهداء الإسلام، و نطلب منهم الدعاء.

فهل هناك عاقل يقول: إنّ زيارة العظماء في حياتهم بالصورة التي ذكرت تكون عبادة، و شركاً و كفراً؟ و زيارتهم بعد وفاتهم كذلك أيضاً؟

فنبي الإسلام (صلي الله عليه و آله) كان يذهب لزيارة قبور البقيع، و هناك روايات كثيرة موجودة في مصادر أهل السنّة تشير إلي ذلك.

______________________________

(1). صحيح البخاري، ج 1، ص 110. و جاء في صحيح مسلم، ج 2، ص 67. أيضاً بإضافة «النصاري».

الشيعة شبهات و ردود، ص: 83

لعن الله اليهود بسبب اتخاذهم قبور الأنبياء مساجد، لكن لا يوجد أي مسلم قد اتخذ أي قبر مسجداً.

و الملفت للنظر أنّ قبة مرقد النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) تشق عنان السماء بجانب المسجد النبوي، و جميع الشعوب المسلمة و حتي الوهابيون يصلّون الفرائض الواجبة في خمسة أوقات في الروضة المقدّسة التي تقع بجوار المسجد النبوي و المتصلة به، و يصلُّون الصلوات المستحبة في أوقات أخري.

فهل يعد هذا عبادة للقبور و

حراماً؟ أو أنّ القبر الطاهر للنبي (صلي الله عليه و آله) مستثني من ذلك، فهل أدلة الشرك و حرمة عبادة غير الله قابلة للاستثناء؟!

فزيارة القبور لا علاقة لها بالعبادة يقيناً، و لا يوجد أي إشكال في الصلاة بجوار قبر النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و قبور سائر الأولياء، و الحديث المذكور ناظر إلي هؤلاء الذين يعبدون القبور واقعاً.

فالذين يعرفون زيارة الشيعة في العالم لقبور أئمتهم (عليهم السلام) يعلمون أنّهم يتوجهون للقبلة عند ما يرتفع صوت المؤذن لإقامة الصلوات الواجبة جماعة، و يبدءون بالتكبير عند ما يريدون الزيارة و بعد الانتهاء يصلّون ركعتين استحباباً باتجاه القبلة، حتي يتضح أن العبادة هي لله خاصة ابتداءً و انتهاءً.

و لكن للأسف و لأجل دوافع خاصة أصبح باب التهمة و الكذب و الافتراء مفتوحاً، حيث قامت الأقلية الوهابية باتهام جميع مخالفيها بأنواع التهم المختلفة.

و أفضل محمل علي الصحة هو أن نقول: إنّهم غير قادرين علي تحليل

الشيعة شبهات و ردود، ص: 84

المسائل بشكل صحيح؛ بسبب ضحالة مستواهم العلمي، و لم يتمكنوا من إدراك حقيقة الشرك و التوحيد، و لا يعرفون الفرق بين الزيارة و العبادة بشكل دقيق.

الذريعة الثانية: نقلوا حديثاً عن صحيح مسلم
اشارة

: أنّ أبا الهيّاج روي عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) هذه الرواية: «قال لي علي بن أبي طالب: أ لا أبعثك علي ما بعثني عليه رسول الله، ألّا تدع تمثالًا إلّا طمسْته و لا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته» «1».

و بسبب الفهم الخاطئ لبعضهم للحديث رفعوا معاولهم و دمّروا جميع قبور عظماء الإسلام باستثناء القبر الطاهر للنبي (صلي الله عليه و آله) و قبر الخليفة الأول و الثاني الموجودين بجوار قبر النبي (صلي الله عليه و آله) حيث تركوها علي

حالها، و لا يوجد أي دليل علي هذا الاستثناء.

و لكن يرد علي هذا الحديث أمور: أولًا: إنّ في سند هذا الحديث أشخاصاً غير موثقين من قبل رجال أهل السنّة، و بعضهم كان من أهل التدليس و بالخصوص «سفيان الثوري» و «ابن أبي ثابت».

ثانياً: و علي فرض كون الحديث صحيحاً، فإنّ معناه أن يكون القبر مسطحاً (علي شكل ظهر السمكة كما كان الكفّار يعملون ذلك)، و هناك الكثير من فقهاء أهل السنّة أفتوا بوجوب كون القبر مسطحاً، و لا علاقة لهذا الأمر بما نحن فيه.

ثالثاً: علي فرض كون معني الحديث أنّه يجب أن يكون القبر علي

______________________________

(1). صحيح مسلم، ج 3، ص 61. و نقل في مصادر أخري لأهل السنّة. منها: مسند أبي يعلي، ج 1، ص 455، دار المأمون للتراث.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 85

مستوي سطح الأرض لا بروز فيه. و هذا الموضوع لا علاقة له بالبناء علي القبور، لنفرض أنّ هناك حجراً علي قبر النبي (صلي الله عليه و آله) يوازي سطح الأرض، و في الوقت نفسه توجد قبة فوق ضريحه- كما نراها اليوم- فلا منافاة مع الحكم المذكور.

كما أننا نقرأ في القرآن المجيد أيضاً عند ما انكشف سر الكهف، فقال الناس لنبني علي قبورهم، و بعدها قالوا: (قٰالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَليٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) «1».

فالقرآن المجيد ذكر القصّة و لم يعترض عليهم، و هذا يعني أنّه لا مانع من بناء المسجد بجوار قبور العظماء.

الآثار الإيجابية لزيارة قبور العظماء:

إذا استطعنا أن نرشد الناس بشكل مناسب ليتجنبوا أي إفراط أو تفريط، و أن يذكروا الله سبحانه و تعالي بجوار هذه القبور الطاهرة، و يتوبوا إلي الله، و أن يستلهموا الدروس و الأفكار من أولياء الله، فيقيناً ستكون هذه

المراقد المطهرة الموجودة مركزاً للتربية و التعليم و التوبة و الإنابة إلي الله و تهذيب النفوس.

و لقد علمتنا التجارب أنّ الملايين من الأشخاص الذين يأتون لزيارة القبور الطاهرة لأئمّة الدين أو لقبور شهداء طريق الحق يرجعون إلي ديارهم بروحية عالية، و بنفوس أكثر صفاءً و نورانيةً، و بقلوب أكثر طهارةً، و هذه الآثار تبقي فيهم لمدّة طويلة.

______________________________

(1). سورة الكهف، الآية 21.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 86

و في الوقت الذي يطلب فيه هؤلاء الشفاعة منهم عند الحضرة الإلهيّة لغفران الذنوب و حلّ مشاكلهم الدينية و الدنيوية، لا بدّ أن يقيموا علاقة معنوية مع أولياء الله، حتي يبتعدوا عن المعاصي قدر الإمكان، و التوجه لفعل الخير.

إضافة إلي أنّ توجههم لأولياء الله و التوسل بهم و طلب الشفاعة منهم عند الله يرفع من معنوياتهم و قدرتهم علي مواجهة المشاكل التي يتعرضون لها، و يمنع حصول حالات اليأس و القنوط، و يقلل من آلامهم الروحية و الجسدية، و هناك آثار و بركات أخري كثيرة.

فلما ذا نحرم هؤلاء الناس من كل هذه البركات المعنوية و الروحية و الجسدية بسبب الفهم الخاطئ لمسألة الزيارة و الشفاعة و التوسل؟

أي عقل يجيز هذا الأمر؟

إنّ التصدي لهذه المائدة المعنوية يؤدّي إلي خسارة عظيمة، إضافة إلي أنّ الوسواس غير الطبيعي في مسألة التوحيد و الشرك يؤدّي إلي حرمان مجموعة كبيرة من هذه البركات.

الذريعة الثالثة: التبرك:
اشارة

الذريعة الأخري هي أنّ الذين يذهبون لزيارة قبور العظماء يذهبون طلباً للتبرك و تقبيل الأضرحة، و هذا العمل فيه شائبة الشرك، و لهذا يري زوار بيت الله الحرام جنوداً غلاظاً و أشداء يقفون حول القبر الطاهر للنبي (صلي الله عليه و آله) يمنعون الناس من الاقتراب منه، و البعض ينسب هذا الأمر

إلي «ابن تيمية» و «محمّد بن عبد الوهاب».

و يقيناً إنّ هذين الشخصين المؤسسين للمذهب الوهابي لو كانا في عصر

الشيعة شبهات و ردود، ص: 87

نبي الإسلام (صلي الله عليه و آله) و رأيا بعيونهما حوادث صلح الحديبية أو فتح مكة عند ما كان النبي (صلي الله عليه و آله) يتوضأ فينطلق أصحابه و أتباعه يتسابقون للفوز بقطرات من ماء وضوئه حتي لا تسقط أي قطرة علي الأرض «1»، لقالا في سرهما إنّ هذا لا يتناسب مع شأن النبي (صلي الله عليه و آله) و إن فيه شائبة الشرك، إن لم يتمكنا من التصريح بذلك.

و كذلك لو كانا في المدينة بعد رحيل النبي (صلي الله عليه و آله) و رأيا بعيونهما كيف وضع أبو أيوب الأنصاري المضيّف الأول لرسول الله (صلي الله عليه و آله) وجهه علي قبر النبي (صلي الله عليه و آله) طلباً للتبرك «2».

أو ما فعله بلال مؤذّن رسول الله (صلي الله عليه و آله) حيث جلس بجوار قبره (صلي الله عليه و آله) يرفع صوته بالبكاء و يعفر وجهه بترابه «3»، لقاما بأخذ بلال و أبي أيوب من تلابيبهما و قذفاً بهما جانباً؛ لأنّ هذا العمل شرك عندهما، كما يفعل أتباع هذا المذهب اليوم مع زوّار قبر رسول الله (صلي الله عليه و آله).

في الوقت الذي لا يوجد أقل علاقة بين طلب التبرك و العبادة، بل التبرك هو نوع من الاحترام مع أدب، علي أمل أن ينزل الله سبحانه و تعالي علي زوّار رسوله (صلي الله عليه و آله) بركاته لأجل هذا الاحترام.

الوظيفة الخطيرة لعلماء الإسلام:

يجب علي جميع العلماء الأعلام و مفكري الإسلام التصدي للأعمال

______________________________

(1). و هذا الأمر وقع و تكرر عدّة مرات طوال حياة

النبي (صلي الله عليه و آله)، راجع صحيح مسلم، ج 4، ح 1943؛ و كنز العمال، ج 16، ص 249.

(2). مستدرك الصحيحين، ج 4، ص 560.

(3). تاريخ ابن عساكر، ج 7، ص 137.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 88

التي تصدر من بعض العوام غير المناسبة بجوار قبر النبي (صلي الله عليه و آله) أو أئمّة البقيع و سائر الأئمّة المعصومين و قبور الشهداء و عظماء الإسلام، و تعليمهم المفهوم الواقعي للزيارة و التوسل و التبرك و طلب الشفاعة، حتي لا يتخذها المخالفون ذريعة.

قولوا للناس: إنّ كل الأمور هي بيد الله سبحانه، و هو مسبب الأسباب و قاضي الحاجات و كاشف الكربات و كافي المهمات، و إذا توسلتم بالنبي (صلي الله عليه و آله) و الأئمّة (عليهم السلام) فيستجيب الله تعالي بهم و يشفعون عنده؛ لأجل مكانتهم المقدّسة و ذواتهم الطاهرة و تُقضي حاجاتكم لكرامتهم عنده تعالي.

إنّ سجود بعض العوام أمام القبور المقدسة، و إطلاق بعض العبارات التي بها شائبة التألية لهم، و ربط العقد علي أضرحتهم و أمثالها أعمال غير صحيحة، و تخلق المشاكل، و تشوه تلك الصورة الجميلة و البنّاءة للزيارة، لتصبح ذريعة لهذا و ذاك لحرمان النّاس من بركات الزيارة.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 89

المبحث الخامس الزواج المؤقت

اشارة

الشيعة شبهات و ردود، ص: 91

جميع علماء الإسلام يعتقدون بأنّ الزواج المؤقت كان موجوداً في عصر نبي الإسلام (صلي الله عليه و آله) لمدّة من الزمن. و بعضهم يقول: إنّ التحريم وقع في عصر الخليفة الثاني بأمر من الخليفة نفسه، و يقول بعضهم: إنّ التحريم وقع في عصر الرسول (صلي الله عليه و آله)، و نحن أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) نعتقد بأنّه لم يحرم مطلقاً، و هو

باق علي حاله (طبقاً للشروط).

و هناك مجموعة قليلة من أهل السنّة توافقنا علي هذا الاعتقاد، و الأغلبية تخالفنا الرأي، و كانوا دائماً يشكلون علينا، و هو ليس محلًا للنقد، بل هو نقطة قوّة لحل الكثير من المشاكل الاجتماعية.

و ستقرءون شرح هذه المطالب في المباحث الآتية:

الضرورات و الاحتياجات:

إنّ الكثير من الناس و خصوصاً الشبّان لا يتمكنون من الزواج الدائم، إضافة إلي أنّ الزواج الدائم يحتاج إلي مقدمات و إمكانيات و تحمل مسئوليات مختلفة، و هي غير متوفرة لدي البعض، و علي سبيل المثال:

الشيعة شبهات و ردود، ص: 92

أ) إنّ الكثير من الشبّان لا يستطيعون الزواج في فترة الدراسة- و خصوصاً في زماننا، حيث تستمر الدراسة لفترة طويلة- لعدم وجود العمل و المسكن المناسب و لا الإمكانيات الأخري، حتي و لو حاول الاقتصار علي ما هو ضروري في حفلة الزواج (زواج بسيط) مع ذلك لا بدّ من بعض الإمكانيات كحد أدني و هي غير متوفرة.

ب) هناك أشخاص متزوجون يتعرضون لضغوط جنسية في سفرهم للخارج، و خصوصاً عند ما يطول بهم السفر، و هم لا يستطيعون اصطحاب أزواجهم معهم، و ليس لهم القدرة علي الزواج الدائم مرّة أخري في تلك الديار.

ج) هناك أشخاص تعاني أزواجهم من أمراض مختلفة و مشاكل أخري، و ليس لديهن القدرة علي رفع حاجات أزواجهن الجنسية.

د) هناك جنود يذهبون في مهمّات طويلة الأمد لحفظ الحدود و غيرها، فقد يتعرضون إلي ضغوط جنسية بسبب بعدهم عن نسائهم. كما سنري وقوع ذلك في عصر النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، حيث حصلت نفس هذه المشكلة لكثير من جنود الإسلام ممّا أدي إلي تشريع الزواج المؤقت.

ه-) قد يتعرض بعض الرجال- و خصوصاً الشبّان- إلي مشاكل نفسية بسبب

عدم اقترابهم من أزواجهم طيلة فترة الحمل؛ للظروف الخاصّة التي تصاحبها عادة.

إنّ هذه الضرورات و المشاكل الاجتماعية كانت موجودة دائماً، و ستستمر، و هي لا تختص بعصر النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) فقط، بل قد تكون في عصرنا أشد؛ و ذلك بسبب تعدد العوامل المهيجة التي تحيط بالمجتمع الحالي.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 93

فالأشخاص في هذه الحالات يقفون علي مفترق طريقين: إمّا التورط بالفحشاء (و العياذ بالله)، أو الاستفادة من الزواج المؤقت البسيط الذي لا يترتب عليه ما يترتب علي الزواج الدائم من تكاليف ماديّة، و يلبي الحاجات الجنسية للشخص.

و اقتراح الزهد و غض النظر عن كليهما اقتراح جيد، و لكنّه خارج عن قدرة الكثيرين، و علي الأقل هؤلاء الذين يرونه أمراً خيالياً.

زواج المسيار:

الملفت للنظر أنّ أكثر المنكرين للزواج المؤقت من أهل السنّة، اضطرّوا تدريجياً و بسبب وقوع بعض الضغوطات علي الشبّان و غيرهم من الأشخاص المحرومين، إلي القبول بنوع يشبه الزواج المؤقت يسمي «زواج المسيار» و مع أنّهم لم يطلقوا عليه الزواج المؤقت، إلّا أنّه لا يوجد أي اختلاف معه، و بالتالي فهو يجيز للشخص المضطر، الزواج من امرأة بشكل دائم حتي و إن نوي الطلاق بعد فترة قصيرة، و اشترط سقوط النفقة و حق المبيت و الإرث، و هو في الواقع يشبه الزواج المؤقت بشكل كبير، باستثناء الانفصال، فإنّه هنا يتحقق بالطلاق، و في الزواج المؤقت يتحقق إمّا بهبة المدّة المتبقية أو انتهاء المدّة المقررة، و لكلا النوعين من الزواج زمان محدد قد أخذ بعين الاعتبار منذ البداية.

و الجميل في الأمر أنّ بعض الشبّان من أهل السنّة قاموا أخيراً و بسبب المشاكل و الضغوط التي تواجههم في طريق الزواج الدائم بالاتصال

بنا من خلال الشبكة العنكبوتية (الانترنيت) و وجهوا لنا هذا السؤال: هل هناك مانع

الشيعة شبهات و ردود، ص: 94

في مسألة الزواج المؤقت من الأخذ بفتوي الشيعة؟

و قلنا: إنّه لا مانع أبداً.

فهؤلاء الذين ينكرون الزواج المؤقت، يقبلون بزواج المسيار، فهم و إن لم يقبلوا بعنوانه، و لكنهم في الواقع قد قبلوا به.

نعم الضرورات التي تواجه الإنسان قد تجبره علي قبول الأمور الواقعية، حتي و إن اختلفت العناوين.

و بناءً علي هذه النتيجة و مع إصرارهم و مخالفتهم للزواج المؤقت فهم يقومون- من حيث يعلمون أو لا يعلمون- بتمهيد الطريق للفحشاء، إلا إذا اقترحوا نوعاً آخر مشابهاً كما هو الحال في زواج المسيار، و لأجل هذا جاءت روايات أهل البيت (عليهم السلام) «لو لا مخالفتهم للزواج المؤقت الإسلامي لما ابتليَ أحد بالزنا» «1».

و مع هذا قاموا بتشويه موضوع الزواج المؤقت الذي شرّع للضرورات و تلبية حاجة المحرومين، و أظهروه بصورة قبيحة، و بهذا مهدوا لانتشار الفساد بالزنا في المجتمع الإسلامي، فهم في الواقع شركاء المذنبين في ارتكاب المعصية؛ لأنّهم منعوا الناس من الاستفادة الصحيحة من الزواج المؤقت.

و علي كل حال فالإسلام وضع قانوناً يتطابق مع فطرة البشر، ليلبّي جميع الحاجات الواقعية له، و لا يمكن أن لا تدرج مسألة الزواج المؤقت في

______________________________

(1). يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «لو لا ما نهي عنه عمر ما زني إلّا شقي»، وسائل الشيعة، ج 14، ص 440، ح 24. و جاء هذا الحديث كثيراً في كتب أهل السنّة و هو قال الإمام علي (عليه السلام): «لو لا أنّ عمر نهي عن المتعة ما زني إلّا شقي»، تفسير الطبري، ج 5، ص 119؛ و تفسير الدر المنثور، ج 2، ص 140؛ و تفسير

القرطبي، ج 5، ص 130.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 95

أحكامه، و سيتضح فيما بعد أنّ الزواج المؤقت جاء في القرآن الكريم و الأخبار النبوية، و عمل به مجموعة من الأصحاب، إلّا أنّ مجموعة أخري تدّعي أنّ هذا الحكم الإسلامي قد نسخ، و سنري أنّهم لا يملكون أي دليل مقنع علي هذا النسخ.

ما هو الزواج المؤقت؟

قام بعضهم و بدون علم، بتعريف الزواج المؤقت تعريفاً غير مناسب، و ما زالوا، حيث جعلوه مرادفاً «للاعتراف الرسمي بالفحشاء و الإباحية و الحرية الجنسية»!!

و لو كان هؤلاء من العوام لكان الأمر سهلًا، و لكن للأسف هناك بعض علماء الدين من أهل السنّة من يؤيّد هذه التهمة الخطيرة. و أنا علي يقين من أنّهم لم يكلفوا أنفسهم بقراءة كتب الموافقين للزواج المؤقت، و لعلهم لم يقرءوا حتي سطراً واحداً، و هذا ممّا يؤسف له كثيراً.

و نحن مضطرون في هذا المختصر لبيان شروط الزواج المؤقت، و بيان الفرق بينه و بين الزواج الدائم بشكل واضح، حتي تتم الحجة الإلهيّة علي الجميع:

إنّ أغلب الشروط و الأحكام الموجودة في الزواج المؤقت هي نفسها موجودة في الزواج الدائم:

1. يجب حصول الرضا من قبل الرجل و المرأة بالزواج مع كامل الحرية، و بدون إجبار أحد الطرفين للآخر.

2. يجب أن تكون الصيغة في العقد بلفظ" أنكحت" أو" زوجت" أو بلفظ

الشيعة شبهات و ردود، ص: 96

«متعت» و لا يصح بألفاظ أخري.

3. يشترط إذن الولي إذا كانت الزوجة باكراً، و لا يشترط ذلك إذا لم تكن باكراً، أي ثيباً.

4. لا بدّ من تعيين المدّة و المهر بشكل دقيق، و إذا لم تذكر المدّة لنسيان سيتحول العقد إلي عقد دائم، بناءً علي فتوي الكثير من الفقهاء، و هذا دليل علي أنّ ماهية

كلا النوعين من النكاح واحدة باستثناء الفرق الوحيد، و هو ذكر المدة أو عدم ذكرها. فتأمّلوا.

5. انتهاء المدّة بمنزلة الطلاق، و يجب علي المرأة أن تعتد بعدها مباشرة، هذا إذا دخل بها.

6. عدّة العقد الدائم ثلاثة قروء، و برؤية القرء الثالث تكتمل العدّة، و لكن عدة العقد المؤقت قرءان لا أكثر.

7. الأولاد المولودون من العقد المؤقت هم أولاد شرعيون، و لهم جميع أحكام الأولاد المولودين من العقد الدائم- بلا استثناء- و يرثون من الأب و الأم و الأخوة و جميع الأقرباء، و لا يوجد أي فرق بين أولاد هذين النوعين من ناحية الحقوق.

8. أولاد العقد المؤقت يجب أن يكونوا تحت كفالة الأب و الأم، و يجب دفع النفقة و جميع مصاريفهم- كما هي الحال مع أولاد العقد الدائم-.

*** و لعلّ بعضهم عند ما يسمع هذا الكلام يستغرب كثيراً، إنّهم علي حق؛ لأنّ أذهانهم غير سليمة و عامية فيما يتعلق بالعقد المؤقت، و لعلهم يعتقدون بأنّه زواج غير رسمي و غير كامل، و هو خارج عن حدود القوانين.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 97

و بعبارة أخري: هو شبيه بالزنا، و في الواقع هو ليس كذلك مطلقاً.

نعم هناك فوارق بين هذين العقدين من جهة الزوج و الزوجة، فالواجبات علي كل واحد منهما تجاه الأخر في العقد المؤقت تكون أقل كثيراً منها في العقد الدائم؛ لأنّ الهدف من الزواج المؤقت التسهيل و عدم التقييد، و من هذه الفوارق:

1. إنّ المرأة في الزواج المؤقت ليس لها نفقة و لا إرث. هذا إذا لم تشترط ذلك، كما ذكره مجموعة من الفقهاء، فإذا اشترطت ذلك، فيجب حينه العمل علي طبقه.

2. المرأة في العقد المؤقت حرّة في انتخاب العمل خارج المنزل، و لا

يشترط إذن الزوج إذا لا يعارض حقّه، و لكن في الزواج الدائم لا يجوز ذلك إلّا بالموافقة.

3. لا يجب علي الرجل في الزواج المؤقت المبيت عند زوجته.

*** و ستتضح- بالتأمل في الأحكام التي ذكرناها- الأجوبة علي الكثير من التساؤلات و الأحكام المتعجرفة و الشبهات و الافتراءات، و ستزول الذهنيات الكاذبة و السقيمة عن هذا الحكم الإسلامي المقدس و الحكيم، و في الحقيقة أنّه لا يوجد أي تشابه بين الزواج المؤقت و بين الزنا و الأعمال المنافية للعفة. و يقيناً أنّ هؤلاء الأشخاص الذين قاسوا بين هذين النوعين من الزواج مغفلون و ليس لديهم أي معرفة بحقيقة النكاح المؤقت و شرائطه.

***

الشيعة شبهات و ردود، ص: 98

الاستغلال السلبي:

الاستغلال السلبي للأمور الحقّة يمنح الفرصة لأصحاب الألسن البذيئة و يقدم الذرائع و الحجج لمن يبحث عنها، و يستند إليها في الطعن بتلك الأمور الحقّة و الشرعية.

*** و الزواج المؤقت هو من المصاديق الواضحة لمثل هذا البحث.

و لكن للأسف الشديد قام بعض المغرضين و أتباع الهوي بتشويه هذا الزواج و تحريفه- و الذي شرع في الأصل ليكون حلًا لبعض المعضلات الاجتماعية المهمّة و الضرورات- ليعطوا المخالفين الذرائع لنقد هذا التشريع الحكيم.

و لكن السؤال هنا هو: أي حكم لم تنله يد الاستغلال إلي يومنا هذا، و أي مبدأ قيّم لم تستغله جماعات غير مؤهلة؟

فإذا وضعت المصاحف يوماً علي رءوس الرماح كذباً و خداعاً لتوجيه حكم الظالمين و المتعصبين، فهل معناه أن يوضع القرآن جانباً؟

و إذا قامت مجموعة من المنافقين ببناء مسجد ضرار، و أمر رسول الله (صلي الله عليه و آله) بتدميره أو إحراقه، فهل هذا يعني أنّ تترك المساجد بشكل كلي؟

و علي كل حال، نحن نعترف أنّ بعضهم استغل هذا

الحكم الإسلامي المهم، و لكننا لا يمكن أن نغلق أبواب المسجد لأجل مجموعة تاركة للصلاة، أو نشعل الحريق لأجل منديل قيصري.

فيجب أن نغلق الباب أمام أتباع الهوي و الاستغلاليين، و أن نضع ضوابط صحيحة للزواج المؤقت، و خصوصاً في عصرنا الحاضر، حيث لا يمكن

الشيعة شبهات و ردود، ص: 99

تطبيق هذه القضية من دون تخطيط دقيق و صحيح. فلا بدّ من قيام مجموعة من المختصين و أهل الخبرة بكتابة و تدوين قانون لتنظيمه و تطبيقه، لقطع الأيادي الشيطانيّة عنه، و الحفاظ علي الجانب المشرق لهذا التشريع الحكيم، وسد المنافذ علي كلا المجموعتين: أي: أتباع الهوي، و المنتقدين الحاقدين.

الزواج المؤقت في الكتاب و السنّة و إجماع الأمة:

جاء الزواج المؤقت في كتاب الله العزيز بلفظ «المتعة» حيث يقول: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) «1».

و النقطة المهمّة هنا أن هناك روايات كثيرة تنقل عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) جاء فيها لفظ المتعة بمعني الزواج المؤقت، و سنعرض علي القارئ المحترم هذه الروايات في الأبحاث الآتية. إضافة إلي أنّه جاء في كتب فقهاء الإسلام- أعم من الشيعة و السنّة- التعبير عن الزواج المؤقت بالمتعة. و إنكار هذا الموضوع من قبيل إنكار المسلّمات و سنعرض لكم مجموعة من كلمات الفقهاء في البحوث التالية أيضاً.

و مع هذا يصرّ بعضهم علي تفسير «الاستمتاع» في الآية بالتلذذ، و قالوا: إنّ معني الآية هو إعطاء المهر للمرأة التي يراد الاستمتاع بها جنسياً.

و هنا نذكر ردّان علي هذا القول:

أولًا: إنّ وجوب دفع المهر هو مقتضي العقد، بمعني: أنه بمجرد تحقق

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 24.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 100

العقد يمكن للمرأة المطالبة بالمهر كاملًا، حتي و إن لم يتحقق الدخول، أو قبل حصول أي ملاعبة. نعم لو وقع

الطلاق قبل الدخول، يصبح المهر نصفاً بعد الطلاق. فتأمل.

ثانياً: إن مصطلح «المتعة» كما ذكرنا في العرف الشرعي و كلمات الفقهاء من الشيعة و السنّة و ما جاء في الروايات هو بمعني العقد المؤقت، و سنري كثرة الأدلة المؤيدة لذلك.

فهذا المرحوم الشيخ الطبرسي المفسّر المعروف صاحب تفسير «مجمع البيان» في تفسيره لهذه الآية يصرح بأنّ هناك نظريتين في تفسير هذه الآية:

أ) نظرية من فسر الاستمتاع هنا بمعني التلذذ، و ذكر مجموعة من الصحابة و التابعين و غيرهم.

ب) نظرية من فسّر الاستمتاع بعقد المتعة و الزواج المؤقت، و هذا رأي ابن عباس و السدي و ابن مسعود و جماعة من التابعين.

و يستمر الشيخ في حديثه و يقول: و النظرية الثانية واضحة؛ لأنّ لفظ المتعة و الاستمتاع في العرف الشرعي يعني الزواج المؤقت، إضافة إلي أنّ وجوب المهر للمرأة غير مشروط بالتلذذ «1».

و هذا القرطبي في تفسيره قال: المقصود من الآية في نظر الجمهور هو النكاح المؤقت الذي كان موجوداً في صدر الإسلام «2».

و أشار كل من السيوطي في الدر المنثور و أبي حيان و ابن كثير و الثعالبي في تفاسيرهم إلي هذا المعني.

______________________________

(1). أنظر مجمع البيان، ج 3، ص 60.

(2). أنظر تفسير القرطبي، ج 5، ص 120؛ و فتح الغدير، ج 1، ص 449.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 101

إنّ مسألة وجود الزواج المؤقت في عصر النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) مسلّم به بين جميع علماء الإسلام، سواء كانوا شيعة أم سنّة، و لكن هناك مجموعة من فقهاء أهل السنّة يعتقدون بأن هذا الحكم قد نسخ فيما بعد، و هناك اختلاف شديد فيما بينهم في تحديد زمان نسخه، و منها:

ما قاله العالم المعروف «النووي» في شرحه

لصحيح مسلم:

1. البعض يقول: إنها كانت حلالًا في غزوة خيبر الأولي، و حرّمت فيما بعد.

2. كانت حلالًا في عمرة القضاء فقط.

3. كانت حلالًا في اليوم الأول لفتح مكة، و حرّمت فيما بعد.

4. حرّمت في غزوة تبوك من السنة الثامنة للهجرة.

5. كانت مباحةً في معركة أوطاس من السنة الثامنة للهجرة فقط.

6. كانت حلالًا في حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة «1».

و الملفت للنظر أنّه نقل في هذا الموضوع روايات متناقضة و متعارضة، و خصوصاً روايات التحريم في خيبر، و روايات التحريم في حجة الوداع المعروفة، حيث بذل مجموعة من فقهاء أهل السنّة جهداً في الجمع بين هذه الروايات، و لكن لم يقدموا حلًا مناسباً «2».

و الأجمل من هذا ما نقل من كلام عن الشافعي، حيث يقول: «لا أعلم شيئاً أحلّه اللهُ ثمّ حرّمه ثمّ أحلّه ثمّ حرّمه إلّا المتعة» «3».

______________________________

(1). أنظر شرح صحيح مسلم، ج 9، ص 191.

(2). أنظر نفس المصدر.

(3). المغني لابن قدامة، ج 7، ص 572.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 102

و نقل في نفس الوقت ابن حجر عن السهيلي: إنّه لم ينقل أحد من أرباب التاريخ و رواة الأخبار أنّ تحريم المتعة وقع في يوم خيبر «1».

7. و هناك قول آخر يقول: إنّ المتعة كانت حلالًا في عصر رسول الله (صلي الله عليه و آله) و بعد ذلك نهي عمر عنها، كما نقرأ ذلك في صحيح مسلم الذي يعد من أكثر الكتب اعتباراً عند أهل السنّة: عن عن «أبي نضرة» قال: «كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: إنّ ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله (صلي الله عليه و سلم) ثمّ نهانا عنهما عمر

فلم نعد لهما» «2».

فهل يمكن القول مرة أخري مع هذا النص الصريح و الموجود في صحيح مسلم إنّ المتعة قد حرمت في عصر رسول الله (صلي الله عليه و آله).

من الذي حرم المتعة؟

اشارة

يشير الكلام المذكور الذي نقلناه عن جابر بن عبد الله الأنصاري إلي الحديث المعروف الذي ينقله جمع كثير من المحدثين و المفسرين و الفقهاء من أهل السنّة في كتبهم عن الخليفة الثاني، و نص الحديث هو:

«متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أنا أنهي عنهما، متعة الحج و متعة النساء»

. و جاء في بعض الأحاديث

«و أعاقب عليهما».

و المقصود من متعة الحج: هي العمرة الأولي التي يأتي بها الحاج للخروج من إحرامه، و بعد فترة طويلة أو قصيرة يجدد إحرامه استعداداً للحج.

______________________________

(1). فتح الباري، ج 9، ص 138.

(2). صحيح مسلم، ج 4، ص 59، ح 3307 دار الفكر بيروت.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 103

هذا الحديث من الأحاديث المشهورة التي نقلت عن عمر مع اختلاف يسير، حيث قام ببيانه في حضور الناس و هو علي المنبر، و سنشير إلي سبعة من المصادر الحديثية و الفقهية و التفسيرية التي ذكرت هذا الحديث:

1. مسند أحمد، ج 3، ص 325.

2. سنن البيهقي، ج 7، ص 206.

3. المبسوط للسرخسي، ج 4، ص 27.

4. المغني لابن قدامة، ج 7، ص 571.

5. المحلي لابن حزم، ج 7، ص 107.

6. كنز العمّال، ج 16، ص 521.

7. التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 10، ص 52.

و هذا الحديث يكشف الغطاء عن مسائل متعددة، منها:
أ) حلية المتعة في مرحلة الخليفة الأوّل

إنّ المتعة أو الزواج المؤقت كانت مباحة طوال فترة حياة النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و حتي في فترة الخليفة الأول، و قام الخليفة الثاني بالنهي عنها.

ب) الاجتهاد في مقابل النص

لقد أجاز الخليفة الثاني لنفسه أن يضع قانوناً في مقابل النص الصريح للنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) في الوقت الذي يقول تعالي في القرآن: (وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) «1».

______________________________

(1). سورة الحشر، الآية 7.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 104

فهل هناك شخص له الحق في التصرف في الأحكام الإلهيّة غير النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)؟ فهل يمكن لشخص أن يقول: إنّ رسول الله (صلي الله عليه و آله) فعل كذا، و أنا أفعل كذا؟

فهل يجوز الاجتهاد مقابل النص الصريح للنبي (صلي الله عليه و آله) و الذي هو في الواقع كلام الله؟

و في الحقيقة إنّه لأمر محير جدّاً أن يُترك قانون رسول الله (صلي الله عليه و آله) جانباً مع هذا التصريح و الوضوح!!!

إضافة إلي أن باب الاجتهاد إذا فتح في مقابل النص فبأي دليل لا يحق للآخرين فعل ذلك؟

فهل الاجتهاد مختص بشخص واحد، و الآخرون ليسوا مجتهدين؟ و هذه من المسائل المهمة؛ لأنه مع فتح باب الاجتهاد في مقابل النص فلا تبقي للأحكام الإلهيّة أي حصانة، و ستعُمّ الفوضي في أحكام الإسلام الخالدة، و ستتعرض الأحكام الإلهيّة للخطر.

ج) لما ذا انبري عمر لمخالفة هذين الحكمين؟

لقد كان تصوره في حج التمتع هو أنّه يجب علي المسلم عند ما يأتي إلي الحج أن يتمّ حجّه و عمرته ليحلّ من إحرامه و يقارب زوجته، أمّا أنّه يأتي بعمرة التمتع، و يحلّ بعد أيّام من إحرامه و يصبح حرّ التصرف بعده. فهذا عمل غير صحيح و لا يتناسب مع روح الحج.

و الواقع إنّ هذا الرأي غير صحيح؛ لأنّ أعمال الحج منفصلة عن أعمال العمرة، فمن الممكن أن يؤدي الإنسان العمرة قبل شهر من أعمال الحج،

الشيعة شبهات

و ردود، ص: 105

فالمسلمون في شهر شوال أو ذي القعدة يتشرفون بزيارة مكة و يؤدون أعمال العمرة، و هم في حِلِّ إلي اليوم الثامن من ذي الحجّة، و بعدها يُحرِمون لأعمال الحج و يذهبون إلي عرفات، فأين المشكلة في هذا الأمر التي أثارت حفيظته.

و أمّا موضوع المتعة و الزواج المؤقت فقد احتمل بعضهم أنّه إذا كان العقد المؤقت جائزاً فيصعب التفريق بين النكاح و الزنا، لأنّ أي رجل بإمكانه أن يدعي عند ما يضبط «1» مع امرأة أنّه متزوج منها زواجاً موقتاً، و هذا يؤدّي إلي انتشار الزنا.

و هذا التصور أكثر ضعفاً من الأول، لأنّه علي العكس تماماً، لأنّ منع عقد المتعة هو الذي يساعد علي انتشار الزنا و عدم العفاف؛ و ذلك كما أشرنا إليه سابقاً، فالكثير من الشبّان لا يملكون القدرة علي الزواج الدائم، أو أنّ أزواجهم بعيدات عنهم، فهم علي مفترق طريقين، إمّا الزواج المؤقت أو الزنا، فصدهم عن الزواج المؤقت- المنظم و المخطط له بشكل صحيح- سيؤدّي إلي سقوطهم في دائرة المعصية و الانغماس في الزنا و عدم العفاف.

و لأجل هذا نقل عن الإمام علي (عليه السلام) الحديث المعروف:

«لو لا أنّ عمر نهي الناس عن المتعة ما زني إلّا شقي» «2».

د) الاختلاف الكبير في زمن التحريم
اشارة

لقد روي مجموعة كبيرة من محدّثي و مفسّري و فقهاء أهل السنّة

______________________________

(1). يمسك متلبساً بالفعل.

(2). التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 10، ص 50.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 106

الحديث المذكور، و يمكن أن نستفيد منه و بشكل واضح أنّ تحريم المتعة كان في عهد عمر، و ليس في عصر النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، و قد نقلت روايات أخري متعددة في نفس المصادر مؤيدة لذلك، و نذكر منها علي

سبيل المثال:

1. ينقل الترمذي المحدّث المعروف: «إنّ رجلًا من أهل الشام سأل عبد الله بن عمر عن متعة النساء، فقال: حلال، فقال السائل: إنّ أباك عمر قد نهي عنها، فقال عبد الله: أ رأيت إن كان أبي قد نهي عنها و قد سنّها رسول الله (صلي الله عليه و آله)، أ نترك السنّة و نتبع قول أبي»؟! «1»

2. و نقرأ في حديث آخر عن جابر بن عبد الله يقول: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق لأيّام علي عهد رسول الله صلي الله عليه و سلم و أبي بكر حتي نهي عنه عمر في شأن عمرو بن حريث «2».

3. و في حديث آخر من نفس الكتاب جاء: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله (صلي الله عليه و آله) ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما «3».

4. كان ابن عباس و هو «حبر هذه الأمّة» و من المنكرين لنسخ حكم المتعة في عصر رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و شاهداً علي المشاجرة التي دارت بينه و بين

______________________________

(1). هذا الحديث ليس موجوداً في صحيح الترمذي المتوفر بين أيدينا اليوم، فقد جاء بدلًا من لفظ متعة النساء متعة الحج، و لكن ذكر كل من زين العابدين المعروف بالشهيد الثاني من علماء القرن العاشر في كتاب اللمعة الدمشقية، و السيد ابن طاوس من علماء القرن السابع الهجري في كتاب الطرائف هذا الحديث في مورد متعة النساء، و يظهر أنّ الحديث في النسخ القديمة لكتاب صحيح الترمذي كان بهذه الصورة، و لكن النسخ التي جاءت فيما بعد و لأسباب معلومة قد

تغيرت و كم له من نظير.

(2). صحيح مسلم، ج 2، ص 131.

(3). نفس المصدر، ص 131.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 107

عبد الله بن الزبير، حيث جاء في صحيح مسلم: «إنّ عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال: إنّ ناساً أعمي الله قلوبهم كما أعمي أبصارهم يفتون بالمتعة، يعرض برجل [مقصوده ابن عباس] فناداه فقال إنّك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل علي عهد إمام المتقين (يريد رسول الله (صلي الله عليه و آله)) فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك «1». و هذا منطق الظلم و التهديد.

و يحتمل أن يكون هذا الحوار قد حصل أيّام سيطرة عبد الله بن الزبير علي السلطة في مكة، و لهذا تجرأ و تجاسر و تطاول علي العالم الجليل ابن عباس، و هو في سن أبيه، و من جهة العلم فغير قابل للمقايسة، و علي فرض أنّه علي مستوي من العلم، فلا يحق له أن يتحدث معه بهذه الصورة، لأنّه إذا أقدم شخص علي هذا العمل وفقاً لفتواه، فأقصي ما يمكن أن يقال: إنّه اشتبه، فيكون وطؤه «وطء شبهة»، و وطء الشبهة لا حدّ له، فتهديده بالرجم لا معني له، و كلام جهّال.

و طبعاً لا يستبعد صدور هذا الموقف القبيح من شاب جاهل و سيئ الخلق مثل عبد الله بن الزبير.

و الملفت للنظر أنّ الراغب الاصفهاني في كتابه (المحاضرات) نقل هذه الحادثة: عيّر عبد الله بن الزبير عبد الله بن عباس بتحليله المتعة، فقال له (ابن عباس): سل أمّك كيف سطعت المجامر بينها و بين أبيك؟! فسألها، فقالت: «ما ولدتك إلّا في المتعة». و قال ابن عباس: أول مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير

«2».

______________________________

(1). صحيح مسلم، ج 2، ص 133.

(2). المحاضرات، ج 2، ص 214. انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 20، ص 130.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 108

5. نقرأ في مسند أحمد: إنّ «ابن الحصين» يقول: «نزلت آية المتعة في كتاب الله و عملنا بها، و لم تنزل أية آية ناسخة لها حتي أغمض النبي (صلي الله عليه و آله) عينيه عن الدنيا» «1».

هذه نماذج من الروايات التي تنفي بشكل صريح عدم نسخ حكم المتعة.

*** و في مقابل هذه الروايات نقلوا روايات أخري تشير إلي أنّ حكم المتعة نسخ في عصر رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و لكن ليست علي وتيرة واحدة و ليست متّفقة، و مع الأسف أنّها تختلف مع بعضها من ناحية الزمان:

1. جاء في بعض الروايات أنّ حكم تحريم المتعة صدر في معركة خيبر من السنة السابعة للهجرة «2».

2. و هناك روايات أخري ذكرت أنّ رسول الله (صلي الله عليه و آله) أجاز المتعة في عام الفتح من السنة الثامنة للهجرة في مكة، و نهي عنها بعد فترة وجيزة من نفس العام «3».

3. و جاء في روايات أخري أيضاً: أنّه (صلي الله عليه و آله) أجازها لمدّة ثلاثة أيّام في غزوة أوطاس التي حدثت بعد فتح مكة في منطقة هوازن التي تقع بالقرب من مكة، و نهي عنها بعد ذلك.

و لو كان لدينا سعة صدر لمناقشة الأقوال المختلفة في هذا البحث، لكانت المسألة أوسع من ذلك؛ لأنّ الفقيه المعروف من أهل السنّة «النووي»

______________________________

(1). مسند أحمد، ج 4، ص 436.

(2). تفسير الدر المنثور، ج 2، ص 486.

(3). صحيح مسلم، ج 4، ص 133.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 109

في شرح صحيح البخاري

نقل ستة أقوال في هذه المسألة، و ذكر لكل رأي روايات تناسبه، و الأقوال هي:

1. حللت المتعة في معركة خيبر و حرّمت بعد أيّام.

2. أجيزت في عمرة القضاء و بعد ذلك حرّمت.

3. أجيزت في يوم فتح مكة و حرّمت فيما بعد.

4. حرّمها رسول الله (صلي الله عليه و آله) في غزوة تبوك.

5. أجيزت في معركة أوطاس في أرض هوازن.

6. كانت حلالًا في حجّة الوداع، في السنة الأخيرة من عمر النبي (صلي الله عليه و آله) «1».

و الأكثر حيرة من ذلك كلام الشافعي حيث يقول: «لا أعلم شيئاً أحلّه اللهُ ثمّ حرّمه ثمّ أحلّه ثمّ حرّمه إلّا المتعة» «2».

و كل محقّق حينما يري هذا التناقض و التضاد في الروايات يتأكد أنّ هذه الروايات وضعت لتحقيق أغراض سياسية.

الطريق الأمثل للحل:

إنّ هذه الأقوال المختلفة و المتعارضة تجبر الإنسان علي المطالعة الجدية، و إلّا فما هو الداعي لهذا القدر من التناقض في الروايات، و لما ذا ينتخب كل محدّث أو فقيه رأياً خاصاً به؟

و كيف يمكن الجمع بين هذه الروايات المتعارضة؟

أ لا يكون هذا الكم من الاختلاف دليلا علي أنّ هذه المسألة المطروحة

______________________________

(1). شرح صحيح مسلم للنووي، ج 9، ص 191.

(2). المغني لابن قدامة، ج 7، ص 572.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 110

حساسة سياسياً، ممّا أدي إلي تحريك بعض واضعي الحديث لوضع بعض الأحاديث، باستغلال بعض أسماء أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أتباعه، و نسبتها لهم، و هم بالتالي ينقلون عن النبي (صلي الله عليه و آله) أنّه قال كذا و كذا.

إنّ المسألة السياسية ليست إلّا ما قاله الخليفة الثاني «متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أنا أنهي عنهما،

متعة الحج و متعة النساء».

و هذا الحديث له نتائج سلبية عجيبة، فإذا استطاع آحاد الأمّة أو الخلفاء أن يغيروا الأحكام الإسلاميّة بشكل صريح،- و لا يوجد دليل علي اختصاص هذا الأمر بالخليفة الثاني- فالآخرون أيضاً من حقّهم أن يجتهدوا في مقابل نص النبي (صلي الله عليه و آله)، و سيؤدّي هذا إلي حصول الفوضي و الاختلاف العجيب في الأحكام الإسلاميّة، فهناك واجبات و محرمات، و لكن مع مرور الزمان لا يبقي من الإسلام شي ء.

و اضطروا لتفادي الآثار السلبية لهذا الأمر أن يوظفوا مجموعة لتقول: إنّ تحريم المتعتين كان في عصر النبي (صلي الله عليه و آله)، و وضعوا أحاديث و نسبوها إلي صحابة النبي (صلي الله عليه و آله)، و بسبب عدم واقعيتها وقع بينها التناقض و التضاد و انكشف الأمر.

و إلّا كيف يمكن أن يفسّر كل هذا التناقض و التضاد في الروايات، حتي إنّ بعض الفقهاء و لأجل الجمع بينها قال: «كانت المتعة مباحة لفترة، و بعد ذلك حرّمت، ثمّ أبيحت، ثمّ حرّمت»!!

فهل أصبحت الأحكام الإلهيّة لعباً و لهواً؟!

و إذا تجاوزنا كل هذا، نقول: إنّ إباحة المتعة في عصر النبي (صلي الله عليه و آله) كانت للضرورة حتماً، و هذه الضرورة قد تحصل في العصور اللاحقة أيضاً،

الشيعة شبهات و ردود، ص: 111

و خصوصاً في عصرنا الحاضر إن لم تكن أشدّ، فلما ذا تصبح حراماً؟ و هذه الضرورة تشمل بعض الشبّان أو المسافرين إلي بلاد بعيدة و بخاصة بلاد الغرب سفراً طويلًا.

و لم يكن الوضع في العالم الإسلامي في ذلك الزمان بهذه الصورة المهيجة، فلم توجد النساء السافرات و غير المحجبات و الأفلام السيئة في التلفاز و الإنترنت و الصحون اللاقطة للمحطات الفضائية و المجالس

المفسدة و الإعلام المضلل الذي يؤثر علي الكثير من الشبّان مورداً للابتلاء.

فهل يمكن القبول بهذا الكلام: بأنّ المتعة كانت مباحة في ذلك العصر لضرورة ثمّ تحرم تحريماً أبدياً؟

و إذا تجاوزنا هذا أيضاً، و لنفرض أنّ هناك مجموعة كثيرة من فقهاء الإسلام تري حرمة الزواج المؤقت، و هناك مجموعة أخري أيضاً تري حلّيته، و إنّ المسألة خلافية، فإذاً ليس من اللائق أن يتهم من يقول بالحلّية مخالفيه بأنّهم غير ملتزمين بالأحكام الدينية، و كذلك أن يتهم المحرّمون من أباحها بإشاعة الزنا- و العياذ بالله-. بما ذا سيجيبون الله يوم القيامة؟

و أقصي ما يمكن قوله في هذا الموضوع: إنّه اختلاف في الاجتهاد.

قال الفخر الرازي في تفسيره و بعصبية خاصة في هذا النوع من المسائل: «ذهب السواد الأعظم من الأمّة إلي أنّها صارت منسوخة، و قال السواد منهم أنّها بقيت كما كانت» «1»، و بعبارة أخري: إنّ المسألة خلافية.

و هنا نختم بحث الزواج المؤقت، و نأمل من الجميع أن لا يحكموا قبل البحث، و لا ينسبوا الأقوال بشكل غير صحيح، فلا بدّ من إعادة البحث

______________________________

(1). التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 10، ص 49.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 112

و التدقيق ثمّ الحكم، و سيطمئنوا بأنّ المتعة ما زالت حكماً إلهيّاً، و مع مراعاة الشروط ستحلّ الكثير من المشاكل يقيناً.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 113

المبحث السادس السجود علي الأرض

اشارة

الشيعة شبهات و ردود، ص: 115

1. أهمية السجود من بين العبادات

يعتبر السجود لله أهم العبادات في نظر الإسلام، أو من أهم العبادات، و كما جاء في الروايات: إنّ أقرب ما يكون الإنسان من ربّه و هو ساجد. و كان لقادتنا العظماء سجدات طويلة، و خاصة رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أهل بيته (عليهم السلام).

إنّ السجود الطويل لله تعالي يربي الروح الإنسانيّة، و هو من أجلي مصاديق العبودية و الخضوع للذات الإلهية، و لهذا السبب جاءت الشريعة بالسجدتين في كل ركعة من الصلاة، و من أبرز مصاديق السجود: سجدة الشكر، إضافة إلي سجدات تلاوة القرآن الواجبة و المستحبة.

الإنسان في حال السجود ينسي كل شي ء ما عدا الله سبحانه، و يري نفسه قريباً جدّاً منه، و قد أخذ مكانه علي بساط القرب.

و أساتذة السير و السلوك و العرفان، و معلمو الأخلاق يؤكدون كثيراً علي مسألة السجود.

إنّ مجموع ما ذكرناه دليل واضح علي الحديث المشهور: إنّه لا يوجد عمل يزعج الشيطان أكثر من سجود الإنسان لربّه. و نقرأ في حديث آخر أنّ

الشيعة شبهات و ردود، ص: 116

النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قال لأحد أصحابه:

«و إذا أردتَ أن يَحْشُرَكَ اللهُ مَعِي يَوْمَ القيَامة فَأطِلِ السُّجُودَ بَيْنَ يَدَي اللهِ الوَاحِد القَهَّار» «1».

2. لا يجوز السجود لغير الله

نحن نعتقد أنّه لا يجوز السجود لغير الذات المقدّسة لله الواحد الأحد الفرد الصمد؛ لأنّ السجود نهاية الخضوع، و المصداق البارز للعبادة، فالعبودية مختصة بالله سبحانه و تعالي.

و التعبير بقوله تعالي: (وَ لِلّٰهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ) «2». و مع الالتفات إلي تقديم كلمة (لِلّٰهِ) في بداية الجملة المذكورة يستفاد منه الحصر. و هذا يعني أن جميع من في السماء و الأرض لا يسجدون إلّا لله تعالي.

و كذلك جملة (لَهُ يَسْجُدُونَ)

«3» إشارة أخري إلي انحصار السجود لله تعالي.

و في الواقع يمثل السجود أقصي درجة من الخضوع، و هو مختص بالله سبحانه و تعالي، و إذا سجدنا لشخص أو لشي ء آخر، فهذا يعني: أن نجعله كفواً لله، و هو عمل غير صحيح.

و نحن نعلم أنّ أحد معاني التوحيد «التوحيد في العبادة» يعني: أن تكون العبادة خالصة لله، و بدونه لا يكتمل التوحيد. و بعبارة أخري: إنّ عبادة غير الله شعبة من شعب الشرك، و السجود نوع من أنواع العبادة، أمّا سجود

______________________________

(1). سفينة البحار، مادة (سجود).

(2). سورة الرعد، الآية 5.

(3). سورة الأعراف، الآية 206.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 117

الملائكة لآدم الذي جاء في بعض الآيات، فهو كما قال بعض المفسرين: إنّه بمعني التعظيم و الاحترام و التكريم لآدم، و ليس بمعني العبادة.

أو يكون السجود بمعني العبودية لله؛ لأنّهم أطاعوا الله و نفذوا ما يؤمرون، أو يكون السجود شكراً لله.

و سجود يعقوب (عليه السلام) و زوجته و أولاده ليوسف (عليه السلام) كما جاء في القرآن (وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً) «1» إمّا أن يكون سجود شكر لله تعالي، أو هو نوع من الاحترام و التعظيم.

و الجدير بالذكر: أنّه ورد في كتاب «وسائل الشيعة» - و هو من المصادر المعروفة عندنا- تحت عنوان «عدم جواز السجود لغير الله» من باب السجود في الصلاة، سبعة أحاديث عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و الأئمة المعصومين (عليهم السلام) مفادها عدم جواز السجود لغير الله «2»، و أوردنا هذا الكلام هنا للاستفادة منه في الأبحاث التالية.

3. علي أي شي ء يجب السجود؟

اتفق أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) علي عدم جواز السجود علي غير الأرض، و يعتقدون أيضاً بجواز السجود علي ما تنبته الأرض، بشرط أن

لا يكون من المأكول و الملبوس، مثل: أوراق و أغصان الأشجار و الحصير و القصب و أمثالها.

في الوقت الذي يعتقد فيه عموم فقهاء السنّة بجواز السجود علي كل

______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 100.

(2). وسائل الشيعة، ج 4، ص 984.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 118

شي ء، نعم هناك مجموعة استثنت من ذلك العموم تقول: لا يجوز السجود علي كم الثياب و أطراف العمامة و أمثالها.

و يصر أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) علي هذا الاعتقاد، استناداً إلي الروايات المنقولة عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، و لذا يرجحون عدم السجود علي السجاد الموجود في المسجد الحرام و مسجد النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، و لا بدّ من السجود علي الحجر أو علي الحصير الذي يجلبونه معهم عادة.

إنّ جميع المساجد الموجودة في إيران و العراق و البلاد الشيعية الأخري مفروشة بالسجاد، لذلك قاموا بإعداد قرص من التراب يطلق عليه (التربة) و وضعها فوق السجاد في حالة الصلاة ليسجدوا عليها، و لتلامس الجبهة- و هي من أشرف أعضاء الإنسان- التراب في حضرة الله تعالي، ليظهر تمام الخضوع و التذلل له تعالي، و تنتخب هذه التربة عادة من تراب الشهداء، ليستحضر تضحيات هؤلاء في سبيل الله ليكون دافعاً لحضور القلب في الصلاة، و يرجحون تربة شهداء كربلاء علي غيرها، و هم غير مقيدين دائماً بهذه التربة، أو هذا التراب، كما ذكرنا سابقاً بجواز السجود علي الأحجار التي تغطي أرض المسجد كما هو الحال في المسجد الحرام و المسجد النبوي (صلي الله عليه و آله).

و علي كل حال فأتباع أهل البيت (عليهم السلام) لديهم أدلة كثيرة لإثبات وجوب السجود علي الأرض، و

من جملتها أحاديث مروية عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و سيرة الصحابة التي سنذكرها في الأبحاث التالية، و الروايات المروية عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و التي سنأتي علي ذكرها عاجلًا.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 119

و العجيب في الأمر هنا هو لما ذا اتخذ بعض أهل السنّة ردة فعل سلبية اتجاه هذه الفتوي، حيث اعتبروها بدعة تارة و كفراً و عبادة للأصنام تارة أخري.

فإذا أثبتنا من خلال الكتب التي هي مورد قبول هؤلاء الإخوة بأنّ رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أصحابه قد سجدوا علي الأرض، فهل يكون هذا بدعة أيضاً؟!

و إذا أثبتنا أنّ بعض أصحاب النبي (صلي الله عليه و آله) كجابر بن عبد الله الأنصاري، إنّه كان يأخذ قبضة من الحصي في يده و يضعها في يده الأخري لتبرد- و ذلك لشدّة الحرارة و سخونة الحصي و الرمل- ليتمكن من وضع جبهته عليها حين الصلاة، فهل يعتبرون جابر بن عبد الله عابداً للأصنام أو سانّاً لبدعة؟!

فهل من يسجد علي الحصير أو يرجح السجود علي الأحجار التي تغطي أرضية المسجد الحرام أو المسجد النبوي (صلي الله عليه و آله)، يصبح عابداً للحصير، أو لتلك الأحجار؟!

أ فلا يجب علي هؤلاء الإخوة قراءة كتبنا الفقهية العديدة،- باب ما يمكن السجود عليه-، ليروا أنّ ما ينسب إلينا عار عن الحق و الصحة.

فهل يعفو الله سبحانه و تعالي يوم القيامة عن الذين يتهمون الآخرين بالبدعة و الكفر و عبادة الأصنام بسهولة؟

و بعد الالتفات إلي هذا الحديث المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) يتضح لما ذا يسجد الشيعة علي الأرض؟

و هو:

عن هشام بن الحكم- و هو من الحكماء و أتباع الإمام (عليه السلام)-

قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أخبرني عمّا يجوز السجود عليه و عمّا لا يجوز؟ قال: «السّجودُ لا يَجُوزُ إِلّا علي الأَرْضِ أوْ مَا أنْبَتَتِ الأرضُ إلّا مَا اكِلَ أوْ لُبِسَ»،

الشيعة شبهات و ردود، ص: 120

فقلت له: جعلت فداك، ما العلة في ذلك؟ قال: «لأَنّ السّجُودَ هُوَ الخُضُوعُ لِلّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَلَا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ عَلَي مَا يُؤْكَلُ وَ يُلْبَسُ؛ لأنَّ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا عَبِيدُ مَا يَأكُلُونَ وَ يَلْبَسُونَ، وَ السَّاجِدُ فِي سُجُودِهِ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالي فَلَا يَنْبَغِي أنْ يَضَعَ جَبْهَتَهُ فِي سُجُودِهِ عَلَي مَعْبُودِ أبْنَاءِ الدُّنيَا الَّذِينَ اغْتَرُّوا بِغُرُورِهَا، و السُّجُودُ عَلَي الأَرْضِ أفْضَلُ؛ لأَنهُ أبْلَغُ في التَّواضُعِ وَ الخُضُوعِ لِلّهِ عَزَّ وَ جَلَّ» «1».

4. أدلة المسألة

اشارة

و الآن نأتي علي ذكر الأدلة، و نبدأ أولًا بكلام رسول الله (صلي الله عليه و آله):

أ) الحديث النبوي المعروف المرتبط بالسجود علي الأرض

هذا الحديث نقله الشيعة و السنّة عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) يقول: «

جُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وَ طَهُورَاً» «2».

و ظنّ بعضهم أنّ معني الحديث هو أنّ الأرض و ما عليها مكان لعبادة الله و التعبد، و لا يوجد مكان خاص و معين للعبادة، كما يقول به اليهود و النصاري: من أنّ العبادة لا بدّ أن تكون في الكنيسة أو المعابد الخاصّة. و لكن مع أدني تأمل يتضح أنّ هذا التفسير لا ينسجم مع المعني الواقعي للحديث؛ لأن النبي (صلي الله عليه و آله) قال: «جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً» و نعلم أنّ ما هو طهور يمكن التيمم منه، كالتراب و الحصي من الأرض، و علي هذا لا بدّ أن يكون مكان السجود من نفس التراب و الحصي.

______________________________

(1). علل الشرائع للصدوق، ج 2، ص 341.

(2). صحيح البخاري، ج 1، ص 91؛ و سنن البيهقي، ج 2، ص 433، و هناك كتب أخري كثيرة نقلت هذا الحديث.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 121

و لو كان النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) يريد بيان المعني الذي استفاده بعض فقهاء أهل السنّة من الحديث لقال: «جعلت لي الأرض مسجداً و ترابها طهوراً» و لكنه لم يقل ذلك.

و النتيجة: أنّه لا يوجد شك أنّ معني (مسجد) هنا هو بمعني مكان السجود، و مكان السجود لا بدّ أن يكون من نفس الشي ء الذي يجوز منه التيمم.

فعمل الشيعة ليس خطأ إذا تقيَّدوا بالسجود علي الأرض و لم يجيزوا السجود علي السجاد و غيرها؛ لأنّهم يعملون بأوامر رسول الله (صلي الله عليه

و آله).

ب) سيرة النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)

كان النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) يسجد علي الأرض أيضاً، و ليس علي السجاد أو اللباس و غيرهما؛ و ذلك بالاستفادة من مجموع الروايات المتعددة:

حيث نقرأ الحديث الذي ينقله أبو هريرة يقول: «سجد رسول الله (صلي الله عليه و آله) في يوم مطير حتّي أنّي لأنظر إلي أثر ذلك في جبهته و أرنبته» «1».

فإذا كان السجود علي السِّجاد و الثياب جائزاً، فلا ضرورة أن يسجد النبي (صلي الله عليه و آله) علي الأرض في يوم ممطر.

تقول عائشة أيضاً: «مَا رَأيتُ رَسُولَ اللهِ مُتَّقِياً وَجْهَهُ بِشَي ء» «2» أي وقت السجود.

يقول ابن حجر في شرحه للحديث: «هذا الحديث يشير بأنّ الأصل في

______________________________

(1). المعجم الأوسط للطبراني، ج 1، ص 36؛ و مجمع الزوائد، ج 2، ص 126.

(2). مصنف ابن أبي شيبة، ج 1، ص 397.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 122

السجود هو ملامسة الجبهة للأرض، و لكن مع عدم التمكن لا يجب تحقيق ذلك» «1».

و جاء في رواية أخري عن ميمونة (إحدي زوجات رسول الله (صلي الله عليه و آله)): «و رسول الله (صلي الله عليه و آله) يصلي علي الخُمرة فيسجد» «2» أي قطعة من الحصير.

و الواضح من معني الحديث أنّ النبي (صلي الله عليه و آله) قد سجد علي الحصير.

و جاءت روايات كثيرة و متعددة في المصادر المعروفة لدي أهل السنّة أنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) كان يصلي علي الحصير.

و العجيب في الأمر أنّه إذا قام الشيعة بوضع الحصير للصلاة، كما فعل النبي يتهمون بالبدعة من قبل مجموعة من المتعصبين، و ينظرون إليهم نظرة غضب، في الوقت الذي تذكر هذه الأحاديث أنّ النبي هو الذي سنّ هذا العمل. و كم

هو مؤلم أن تعتبر هذه السنن بدعة!!!

و لا أنسي ذلك الموقف الذي حدث في إحدي زياراتي لبيت الله الحرام، عند ما كنت في مسجد النبي (صلي الله عليه و آله) و أردت الصلاة علي قطعة حصير، أقبل حينها أحد الأشخاص المتعصبين من علماء الوهابية و أخذ الحصير- و وجهه مكفهر- و ألقاه جانباً، و الظاهر أنّه كان يعتبر هذه السنّة بدعةً.

ج) سيرة الصحابة و التابعين

من الموضوعات الملفتة للنظر في هذا البحث هو التدقيق في حالات الصحابة و المجموعة التي جاءت بعدها و المعروفة باسم (التابعين) تشير إلي

______________________________

(1). فتح الباري، ج 1، ص 404.

(2). مسند أحمد، ج 6، ص 331.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 123

أنّهم كانوا يسجدون علي الأرض، و نذكر علي سبيل المثال:

1. يقول جابر بن عبد الله الأنصاري:

«كُنْتُ أصَلِّي مَعَ النّبي (صلي الله عليه و آله) الظّهْرَ فَآخَذَ قَبْضَةً مِنَ الحَصَي فَأجْعَلها فِي كَفِّي ثُمَّ أحَوِّلُهَا إلي الكَفِّ الأُخْرَي حَتَّي تَبْرُدَ ثُمَّ أضَعُهَا لِجَبِينِي حَتَّي أسْجُدَ عَلَيْها مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ» «1».

هذا الحديث يشير بشكل واضح إلي أنّ صحابة النبي (صلي الله عليه و آله) كانوا متقيدين بالسجود علي الأرض، حتي المواضع شديدة الحرارة، فإذا لم يكن السجود علي الأرض لازماً فلا داعي لتحمل كل هذه المشقّة.

2. يقول أنس بن مالك:

«كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلي الله عليه و آله) فِي شِدّةِ الحَرِّ فَيَأخُذُ أحَدُنَا الحَصْبَاءَ فِي يَدِهِ فإذَا بَردَ وَضَعَهُ وَ سَجَدَ عَلَيْهِ» «2».

هذا التعبير يشير أيضاً بأنّ هذا العمل كان رائجاً بين الصحابة.

3. ينقل أبو عبيدة: «أنّ ابنَ مَسْعُود لا يَسْجُدَ- أو قال: لا يصلي- إلّا عَلَي الأرْضِ» «3».

فإذا كان المقصود من الأرض السجاد فلا حاجة لهذا البيان، و عليه فالمقصود من الأرض هو التراب و الحصي

و الرمل و ما شابهها. 4. جاء في ذكر حالات مسروق بن جدعان من أتباع ابن مسعود أنّه: «كان لا يرخّص في السجود علي غير الأرض حتي في السفينة، و كان يحمل في السفينة شيئاً يسجد عليه» «4».

______________________________

(1). مسند أحمد، ج 3، ص 327؛ سنن الكبري للبيهقي، ج 1، ص 439.

(2). السنن الكبري للبيهقي، ج 2، ص 106.

(3). مصنف ابن أبي شيبة، ج 1، ص 397.

(4). الطبقات الكبري لابن سعد، ج 6، ص 53.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 124

5. كتب علي بن عبد الله بن عباس إلي «رزين»: «ابعث إليّ بلوح من أحجار المروة عليه أسجد» «1».

6. و جاء في كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري: «كان عمر بن عبد العزيز لا يكتفي بالخمرة بل يضع عليها التراب و يسجد عليه» «2».

فما ذا نفهم من مجموع هذه الأخبار؟ لا نفهم إلّا أنّ سيرة الصحابة و ما بعد الصحابة كانت قائمة علي السجود علي الأرض أي علي التراب و الحصي و الرمل في القرون الأولي.

فإذا أراد شخص من المسلمين في عصرنا أن يحيي هذه السنّة، فهل يجب أن نعتبرها بدعة؟!

أ لا يجب علي فقهاء أهل السنّة أن يتقدموا لإحياء هذه السنّة النبوية، هذا العمل الذي يحكي عن كمال الخضوع في حضرة الله، و يتناسب مع حقيقة السجود. نأمل أن يأتي ذلك اليوم.

______________________________

(1). أخبار مكة للأزرقي، ج 2، ص 151.

(2). فتح الباري، ج 1، ص 410.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 125

المبحث السابع الجمع بين الصلاتين

اشارة

الشيعة شبهات و ردود، ص: 127

طرح البحث:

الصلاة أهم صلة عبادية بين الخلق و الخالق، و أفضل الوسائل التربوية، و هي وسيلة لتهذيب النفوس و تزكيتها، فهي تنهي عن الفحشاء و المنكر، و معراج إلي الله، و الصلاة جماعة تعطي القوّة و القدرة للمسلمين، و توحّد صفوفهم، و ترفع من شأن المجتمع الإسلامي.

و تؤدّي الصلاة خمس مرّات في اليوم و الليلة، لكي يطهر قلب الإنسان و روحه باستمرار من هذا النبع الصافي للفيض الإلهي، حيث يقول النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله):

«قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ»

«1»، و

«الصَّلاةُ مِعْرَاجُ المُؤْمِن»

«2». و

«الصّلاة قُرْبانُ كُلُّ تَقِيّ»

«3». و الكلام في المقام هو: هل الفصل بين الصلوات الخمس في الأوقات الخمسة حكم إلزامي، و بدونه تكون الصلاة باطلة؟ كما هو الحال في الصلاة قبل الوقت، أو أنّه يمكن أن يأتي بالصلاة في ثلاثة أوقات بأن تؤدي صلاة

______________________________

(1). مكارم الأخلاق، ص 461.

(2). مع أنّه لا يوجد في الجوامع الحديثية هذه الجملة، و لكن العلّامة المجلسي يستشهد بها في طيات كلامه. بحار الأنوار، ج 79، ص 249 و 303.

(3). أصول الكافي، ج 3، ص 265، ح 26.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 128

الظهر مع العصر و كذلك صلاة المغرب مع العشاء أيضاً.

اتفق علماء الشيعة أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) علي جواز أداء الصلاة في ثلاثة أوقات، مع أفضلية إتيانها في أوقاتها الخمسة.

و لكن فقهاء أهل السنّة أوجبوا إتيان الصلاة في أوقاتها الخمسة غالباً إلّا عدّة قليلة، و أجازوا الجمع بين صلاة الظهر و العصر في يوم عرفة، و الجمع بين المغرب و العشاء ليلة عيد الأضحي في المشعر الحرام فقط، و كثير منهم أيضاً أجاز الجمع في السفر أو في الأيّام الممطرة التي

يصعب فيها التردد علي المسجد لأداء الصلاة جماعة، أمّا من وجهة نظر فقهاء الشيعة فكما قلنا: إنّهم في الوقت الذي يؤكدون فيه علي أفضلية أداء الصلوات في الأوقات الخمسة، إلّا أنّهم أجازوا و رخصوا في أدائها في ثلاثة أوقات، و هي تعتبر عطية إلهيّة لتسهيل أمر الصلاة و التوسعة علي الناس، و يرون أنّها تنسجم مع روح الإسلام، فالشريعة سمحة سهلة.

و التجربة تثبت بأنّ التأكيد علي أداء الصلوات في أوقاتها الخمسة قد يؤدّي إلي نسيان أصل الصلاة، و ترك الصلاة من قبل بعض الناس.

آثار الإصرار علي الأوقات الخمسة في المجتمعات الإسلاميّة:

لما ذا أجاز الإسلام الجمع بين صلاة الظهر و العصر في يوم عرفة، و صلاة المغرب و العشاء ليلة عيد الأضحي؟

لما ذا يرون الجمع جائزاً بين الصلاتين في السفر، أو في اليوم الممطر بناءً علي الروايات النبوية؟ لا شك في أنّه للتسهيل علي الأمّة.

هذا التسهيل يوجب جواز الجمع بين الصلاتين عند الاضطرار أيضاً

الشيعة شبهات و ردود، ص: 129

سواء كان في الماضي أو في الحال الحاضر.

لقد تغيرت حياة الناس في هذا العصر، و الوضع الفعلي لا يساعد علي أداء الصلوات في الأوقات الخمسة لوجود الكثير من العمال في المصانع و الموظفين في الدوائر و الطلاب و الجامعيين في الصفوف؛ لأنّ العمل صعب و معقد كثيراً.

إنّ العمل علي وفق الروايات- المنقولة عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، و تأكيد أئمّة الشيعة (عليهم السلام) علي ذلك- التي تجيز للناس الجمع بين الصلاتين سيؤدّي إلي التوسعة عليهم في أداء الصلاة، مما يزيد في عدد المصلين و إقبالهم علي أدائها و إلّا سيؤدي ذلك إلي ترك الصلاة بشكل أكثر، و سيرتفع عدد تاركي الصلاة، و لعل هذا ما يفسّر ترك الكثير من شباب أهل

السنّة الصلاة كما يقولون، بخلاف ما عليه الحال في صفوف شباب الشيعة فالنسبة فيهم أقلّ.

و الحق: إنّ مقتضي

«و بُعِثْتُ بالشَّرِيعَةِ السّمْحَةِ السَّهلَةِ»

و مقتضي الروايات المتعددة التي نقلت عن رسول الله (صلي الله عليه و آله)، أنّه في الوقت الذي يؤكد فيه علي فضيلة الصلاة في الأوقات الخمسة، بل و فضلها جماعة، أجاز للناس أن يؤدوا صلاتهم في الأوقات الثلاثة، حتي و إن كانت علي شكل فرادي، لتحول دون ترك الناس للصلاة بسبب مشاكل الحياة.

و الآن نعود للقرآن المجيد و لروايات رسول الله (صلي الله عليه و آله) و المعصومين (عليهم السلام) لتحقيق المسألة بدون تطرف، و مبتعدين عن التعصب.

روايات الجمع بين الصلاتين:

ذكرت المصادر المعروفة مثل صحيح مسلم، صحيح البخاري، سنن

الشيعة شبهات و ردود، ص: 130

الترمذي، موطأ مالك، مسند أحمد، سنن النسائي، مصنف عبد الرزاق، و مصادر أخري و كلها من المصادر المشهورة و المعروفة لدي أهل السنّة ذكرت ثلاثين رواية تقريباً حول الجمع بين صلاتي الظهر و العصر أو المغرب و العشاء بدون عذر كالسفر أو المطر أو خوف الضرر. و تعود هذه الروايات في الأصل إلي خمسة رواة و هم:

1. ابن عباس.

2. جابر بن عبد الله الأنصاري.

3. أبو أيوب الأنصاري.

4. عبد الله بن عمر.

5. أبو هريرة.

و سنعرض للقارئ المحترم مجموعة من تلك الروايات فيما يلي:

1. حدثنا أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «صلّي رسول الله (صلي الله عليه و آله) الظهر و العصر جميعاً بالمدينة في غير خوف و لا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيداً: لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد ان لا يحرج أحداً من أمّته» «1» أي: لا يريد أن يشقّ علي أمّته.

2. نقرأ

في حديث آخر عن ابن عباس: «جمع رسول الله (صلي الله عليه و آله) بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء في المدينة في غير خوف و لا مطر».

و جاء في ذيل الرواية: و سئل ابن عباس: ما مقصود النبي (صلي الله عليه و آله) من هذا العمل؟ فأجاب: «أراد أن لا يحرج» «2» أي: لا يشقّ علي أمّته.

______________________________

(1). صحيح مسلم، ج 2، ص 151.

(2). نفس المصدر، ص 152.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 131

3. يقول عبد الله بن شقيق: «خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتي غربت الشمس و بدت النجوم و جعل الناس يقولون الصلاة الصلاة!»

قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر و لا ينثني الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أ تعلمني بالسنّة، لا أمّ لك، ثمّ قال: رأيت رسول الله (صلي الله عليه و آله) جمع بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء، قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شي ء، فأتيت أبا هريرة فسألته: فصدّق مقالته» «1».

4. حدثنا جابر بن زيد عن ابن عباس قال: «صلي النبي (صلي الله عليه و آله) سبعاً جميعاً و ثمانياً جميعاً» «2»، إشارة إلي الجمع بين صلاة المغرب و العشاء و صلاة الظهر و العصر.

5. حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «جمع رسول الله (صلي الله عليه و آله) بين الظهر و العصر و بين المغرب و العشاء بالمدينة من غير خوف و لا مطر، قال: فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمّته» «3».

6. نقل أحمد بن حنبل قريباً منه في مسنده «4».

7. نقل مالك، الإمام المعروف لدي أهل السنّة في كتابه «الموطأ»

حديثاً عن ابن عباس أنّه: «صلّي رسول الله (صلي الله عليه و آله) الظهر و العصر جميعاً و المغرب و العشاء جميعاً في غير خوف و لا سفر» «5».

8. جاء في كتاب «مصنف عبد الرزاق» عن عمر بن شعيب قال، قال

______________________________

(1). صحيح مسلم، ج 2، ص 151.

(2). صحيح البخاري، ج 1، ص 140، باب وقت المغرب.

(3). سنن الترمذي، ج 1، ص 121، ح 187.

(4). مسند أحمد، ج 1، ص 223.

(5). موطأ مالك، ج 1، ص 144.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 132

عبد الله: «جمع لنا رسول الله، مقيماً غير مسافرين بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء، فقال رجل لابن عمر: لم تر النبي (صلي الله عليه و آله) فعل ذلك؟ قال: لأنّ لا يحرج أمّته إن جمع رجل» «1».

9. حدثنا جابر بن عبد الله قال: «جمع رسول الله (صلي الله عليه و آله) بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء في المدينة للرخص من غير خوف و لا علة» «2».

10. يقول أبو هريرة أيضاً: «جمع رسول الله (صلي الله عليه و آله) بين الصلاتين في المدينة من غير خوف» «3».

11. ينقل عبد الله بن مسعود أيضاً: «جمع رسول الله (صلي الله عليه و آله) بين الأولي و العصر، و بين المغرب و العشاء، فقيل له، فقال: صنعته لئلا تكون أمتي في حرج» «4». و أحاديث أخري.

و هنا يطرح سؤالان:

1. خلاصة الروايات السابقة

تؤكد جميع الأحاديث التي ذكرناها و هي من المصادر المعروفة و من كتب الدرجة الأولي لدي أهل السنّة، و أسانيدها تنتهي إلي مجموعة من كبار الصحابة، علي نقطتين:

النقطة الأولي: إنّ رسول الله (صلي الله عليه و آله) قد جمع بين الصلاتين من دون أن يكون هناك أي

وضع خاص، مثل السفر، أو الخوف، أو وجود عدو.

______________________________

(1). مصنف عبد الرزاق، ج 1، ص 556.

(2). معاني الآثار، ج 1، ص 161.

(3). مسند البزاز، ج 1، ص 283.

(4). المعجم الكبير للطبراني، ج 10، ص 219، ح 10525.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 133

النقطة الثانية: إنّ الهدف كان هو التوسعة علي الأمّة و رفع الحرج و العسر.

فهل هذا يتناسب مع الإشكالات الواهية، و القول إنّ هذا الجمع خاص بالحالات الاضطرارية؟ فلما ذا تغلقون أعينكم أمام هذه الحقائق، و تقدّمون آراءكم غير المحقّقة علي كلام رسول الله (صلي الله عليه و آله) الصريح؟

الله سبحانه و تعالي و رسوله قد عفوا و أصفحا، و لكن هناك مجموعة متعصبة من الأمة لا تعفو و لا تصفح، لما ذا؟

لما ذا لا نفسح المجال للشاب المسلم أن يؤدي أهمّ وظيفة إسلاميّة و هي الصلاة اليوميّة، مهما كانت حالته، و في أي مكان كان، سواء في البلاد الإسلاميّة أم في خارجها، في الجامعة كان أم في الدوائر أم في المصانع؟

نحن نعتقد بأنّ الإسلام صالح للتطبيق في جميع الأزمنة، و في جميع الأماكن حتي نهاية العالم.

و من المتيقن أنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قد لاحظ بنظره الثاقب أوضاع جميع المسلمين في العالم علي مرّ العصور، فلو أراد أن يقيد الجميع بأداء الصلاة في الأوقات الخمسة، لأصبحت هناك مجموعة من تاركي الصلاة، و هذا ما نراه اليوم، و لأجل هذا منّ علي أمّته و وسّع عليها، حتي تستطيع أن تؤدي الصلوات اليومية دائماً، و بشكل مريح في كل زمان و مكان.

يقول القرآن الكريم: (وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) «1».

2. القرآن و أوقات الصلاة الثلاثة

و من الأمور المحيرة في هذه المسألة هي: أن القرآن

المجيد عند الحديث

______________________________

(1). سورة الحج، الآية 78.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 134

عن أوقات الصلاة ذكر ثلاثة أوقات فقط للصلوات اليوميّة، و العجيب في الأمر لما ذا تصر مجموعة من هؤلاء الإخوة علي وجوب الأوقات الخمسة؟ نحن لا ننكر فضيلة الأوقات الخمسة، فنحن نراعي الأوقات الخمسة إذا حالفنا التوفيق، و لكن المشكلة في وجوبها!!

و إليك الآيات التي تتحدث عن أوقات الصلاة:

الآية الأولي: في سورة هود: (وَ أَقِمِ الصَّلٰاةَ طَرَفَيِ النَّهٰارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) «1»، يشير التعبير «طَرَفَيِ النَّهٰارِ» إلي صلاة الصبح التي تقام في أول النهار، و إلي صلاة الظهر و العصر و التي يمتد وقتها إلي الغروب. و بعبارة أخري: أنّه يستفاد من الآية بوضوح أنّ وقت صلاة الظهر و العصر يمتد إلي غروب الشمس.

أمّا عبارة «زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ» فمع الالتفات إلي ما قاله الراغب في كتابه «المفردات» و «مختار الصحاح» فإنّ كلمة «زلف» جمع «زلفة» و هي تعني القسم الأول من الليل، إشارة إلي وقت المغرب و العشاء.

فإذا كان النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) يؤدي الصلاة عادة في الأوقات الخمسة فلمراعاة وقت الفضيلة، و هذا ما نعتقد به جميعاً، فلما ذا نلجأ إلي التأويلات و لا نلاحظ ظاهر الآية؟!

الآية الثانية: في سورة الإسراء: (أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِليٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً) «2».

«الدلوك» يعني الميل، و هنا يشير إلي ميلان الشمس عن خط نصف

______________________________

(1). سورة هود، الآية 114.

(2). سورة الإسراء، الآية 78.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 135

النهار، أي زوال الظهر.

«غَسَقِ اللَّيْلِ» يعني ظلام الليل، و بعضهم فسّره بأوائل الليل، و بعضهم فسّره بنصف الليل، لأنّ ما قاله الراغب في «المفردات» يعني شدّة الظلام و هو

نفسه نصف الليل.

فالنتيجة: إنّ «دلوك الشمس» إشارة إلي بداية وقت صلاة الظهر، و «غسق الليل» إشارة إلي نهاية وقت صلاة المغرب و العشاء، و «قُرْآنَ الْفَجْرِ» إشارة إلي صلاة الصبح.

و علي كل حال فالآية الشريفة بيّنت ثلاثة أوقات للصلاة اليوميّة و ليس خمسة أوقات، و هذا دليل علي جواز الأوقات الثلاثة.

لدي الفخر الرازي بيان جميل عند تفسيره للآية حيث يقول: «إن فسّرنا الغسق بظهور أول الظلمة- و حكاه عن ابن عباس و عطاء و النضر بن شميل- كان الغسق عبارة عن أول المغرب، و علي هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات، وقت الزوال و وقت أول المغرب و وقت الفجر، و هذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر و العصر، فيكون هذا الوقت مشتركاً بين الصلاتين، و أن يكون أول المغرب وقتاً للمغرب و العشاء، فيكون هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر و العصر، و المغرب و العشاء مطلقاً» «1».

و نلاحظ أنّ الفخر الرازي قد طوي البحث إلي هنا بشكل جيد، و فهم معني الآية بشكل صحيح و بينه بصورة واضحة، و لكنه بعد ذلك يقول: «و بما أنّ لدينا دليلا علي عدم جواز الجمع بين الصلاتين إلّا في عذر أو سفر» «2».

______________________________

(1). التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 21، ص 27.

(2). نفس المصدر.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 136

و يجب أن نذكر أنّه ليس فقط لا يوجد لدينا دليل علي الاختصاص بحال العذر، بل لدينا روايات متعددة- و قد أشرنا سابقاً إليها- تفيد أنّ رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان في بعض الأوقات يجمع بين صلاتي الظهر و العصر، و صلاتي المغرب و العشاء، بدون

عذر و بدون سفر، حتي يوسع علي أمّته، و تستفيد الأمّة من هذه الرخصة، إضافة إلي أنّه كيف يتم تحديد إطلاق الآية بمصاديق محدودة جدّاً، مع أن تخصيص الأكثر قبيح في علم الأصول.

و علي كل حال فلا يمكن رفع اليد عن المعني الواضح للآية في بيان الأوقات الثلاثة.

و نستنتج من المقالة التي ذكرناها ما يلي:

1. إنّ القرآن أجاز و ببيان واضح أداء الصلوات الخمس في الأوقات الثلاثة.

2. أشارت الروايات الإسلاميّة من كتب الفريقين إلي أنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قد جمع بين الصلاتين عدّة مرّات، من دون أن يكون في سفر أو أي عذر آخر، و هذا يعتبر رخصة للمسلمين حتي لا يقعوا في الحرج.

3. مع أنّ الصلاة في الأوقات الخمسة تعد فضيلة، و لكن الإصرار علي الفضيلة في مقابل الرخصة، سيؤدي بالكثير من الناس- و خصوصاً جيل الشباب- إلي إهمال الصلاة، و يتحمل هذه المسئولية أولئك المخالفون للرخصة. لا أقل علي علماء أهل السنّة أن يدعوا شبابهم تلاحظ صياغة الجملة يعملون علي وفق فتوانا نحن أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، كما أجاز العالم الكبير شيخ الأزهر «الشيخ محمود شلتوت» العمل بفتوي المذهب الجعفري.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 137

نؤكد مجدداً علي أنّه لا بدّ من القبول بأنه من الصعب جدّاً في عصرنا الحاضر أداء الصلوات في الأوقات الخمسة بالنسبة للكثير من العمّال و الموظفين و الطلاب و الجامعيين و الفئات الأخري، أ لا يجب أن نستفيد من رخصة رسول الله (صلي الله عليه و آله) التي اقترحها لهذه الأيّام، حتي لا يشجع الشبّان و الفئات الأخري علي ترك الصلاة؟

فهل يصح الإصرار علي السنّة في مقابل ترك الفريضة؟

الشيعة شبهات و ردود، ص: 139

المبحث الثامن المسح علي الأرجل في الوضوء

اشارة

الشيعة شبهات و ردود، ص: 141

القرآن و المسح علي الأرجل:

المسح علي الأرجل أحد الإشكالات التي يوردها بعض علماء أهل السنّة علي الشيعة و أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، حيث يري أغلبهم وجوب غسل الأرجل، و عدم كفاية المسح علي الأرجل.

في الوقت الذي أمر فيه القرآن المجيد بوضوح بالمسح علي الأرجل، و عمل أتباع أهل البيت (عليهم السلام) موافق للقرآن و للكثير من أحاديث النبي (صلي الله عليه و آله) التي تجاوزت ثلاثين حديثاً.

و كان المسح عمل الكثير من الصحابة و التابعين و ليس الغسل.

و لكن للأسف أغمض بعض المخالفين أعينهم أمام هذه الأدلة، و لم يكلفوا أنفسهم بالتدقيق بشكل كاف، و شنوا هجومهم علي أتباع هذا المذهب بالنقد و التجريح بألفاظ قاسية، و غير لائقة، و بعيدة عن الحق و الاعتدال.

يقول ابن كثير و هو من العلماء المعروفين لدي أهل السنّة في كتابه «تفسير القرآن العظيم»: «قد خالفت الروافض في ذلك بلا مستند، بل بجهل و ضلال … و كذلك هذه الآية الكريمة دالة علي وجوب غسل الرجلين مع ما

الشيعة شبهات و ردود، ص: 142

ثبت بالتواتر من فعل رسول الله (صلي الله عليه و آله) علي وفق ما دلت عليه الآية الكريمة و هم مخالفون لذلك كله و ليس لهم دليل صحيح في الواقع و نفس الأمر» «1».

و تبعه علي ذلك جمع آخر بعيون عمياء و آذان صمّاء بدون أن يحققوا في المسألة، و لفقوا علي الشيعة التهم كما يحلو لهم.

و تصوروا أن جميع مخاطبيهم من العوام، و لم يفكروا أنّه سيقوم المحققون و العلماء يوماً بنقد كلامهم، و سيندمون علي ذلك أمام التاريخ الإسلامي.

و الآن و قبل كل شي ء نتجه للقرآن المجيد، فالقرآن يحدثنا في سورة

المائدة- آخر سورة نزلت علي نبي الإسلام (صلي الله عليه و آله)- حيث يقول تعالي: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ) «2».

و من الواضح أنّ كلمة «أَرْجُلَكُمْ» معطوفة علي «بِرُؤُسِكُمْ» فيكون المسح علي كليهما لازماً سواء قرأنا «أَرْجُلَكُمْ» بالنصب أم بالجر. تأملوا «3».

______________________________

(1). أنظر تفسير ابن كثير، ج 2، ص 518.

(2). سورة المائدة، الآية 6.

(3). و للتوضيح هناك قراءتان معروفتان لكلمة «أَرْجُلَكُمْ»، قراءة بالجر (كسر حرف اللام) برواية جمع من القراء المشهورين، مثل حمزة و أبي عمر و ابن كثير، و حتي عاصم (موافق لرواية أبي بكر)، و جمع آخر من المشهورين أيضاً قرءوها بالنصب، و جميع المصاحف الحالية مكتوبة علي وفقها.

و لكن لا يوجد أي فرق في المعني بين هاتين القراءتين.

لأنّا إذا قرأناها بالكسر فواضح أنّها معطوفة علي «بِرُؤُسِكُمْ» و معناها أن تمسح القدمين في الوضوء، (كما تمسح الرأس).

فهل يعاب علي الشيعة العمل علي وفق هذه القراءة التي يذهب إليها الكثيرون؟

و إذا تجاوزنا هذا و قرأناها بالفتح فهي معطوفة أيضاً و لكن علي محل «بِرُؤُسِكُمْ»، و محلها النصب كما تعلمون، لأنّه مفعول ل- «وَ امْسَحُوا» فعليه يكون المعني علي كلا القراءتين المسح علي القدمين.

و لكن توهّم بعضهم بأنّ قراءة «أَرْجُلَكُمْ» بالفتح تكون معطوفة علي «وُجُوهَكُمْ» فيصبح المعني اغسلوا وجوهكم و أيديكم و كذلك أرجلكم!

في الوقت الذي تكون هذه القراءة خلاف القواعد العربية، و لا تتفق مع فصاحة القرآن.

فأمّا مخالفتها للقواعد العربية، فهو أن لا يفصل بين المعطوف و المعطوف عليه بفاصل أجنبي، و كما يقول العالم السني المعروف: إنّه يستحيل عطف «أَرْجُلَكُمْ» علي «وُجُوهَكُمْ» لأنّه لم يسمع في الكلام

العربي الفصيح أحد يقول «ضربت زيداً و مررت ببكر و خالداً» أي يكون «خالد» معطوف علي «زيد» (شرح منية المصلي، ص 16).

و حتي الأشخاص العاديين لا يتفوهون بهذا الكلام، فكيف بالقرآن الكريم، و هو مثال الفصاحة و الكمال.

فعليه، و كما قال بعض محققي أهل السنّة، إنّه لا شك في أنّ كلمة «أَرْجُلَكُمْ» بناءً علي النصب تكون معطوفة علي محل «بِرُؤُسِكُمْ»، و علي كلا الوجهين يكون معني الآية واحداً، و هو المسح علي الرأس و القدمين في الوضوء.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 143

و مهما يكن، فالقرآن المجيد يأمر بالمسح علي القدمين.

توجيهات عجيبة:

و لكن هناك مجموعة عند ما رأت أن الأحكام المسبقة التي تبنوها لا تنسجم مع المنطق القرآني لجأت إلي تقديم توجيهات تجعل الإنسان في حيرة، و من جملتها:

1. إنّ هذه الآية قد نسخت من خلال سنة النبي (صلي الله عليه و آله) و الأحاديث التي نقلت عنه (صلي الله عليه و آله)، يقول «ابن حزم» في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام»: «بما أنّ الغسل جاء في السنّة، فلا بدّ من قبول أنّ المسح قد نسخ».

و يرد عليه:

أولًا: إنّ جميع المفسرين قالوا إنّ سورة المائدة هي آخر ما نزل علي

الشيعة شبهات و ردود، ص: 144

النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، و لا يوجد أي نسخ لآياتها.

ثانياً: و كما سيأتي- فيما بعد- بأنّه في مقابل الروايات الدالة علي أنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قد غسل قدميه عند ما توضأ، هناك روايات أخري متعددة لدينا تقول أنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قد مسح علي قدميه عند ما توضأ.

فكيف يمكن أن ينسخ هذا الأصل القرآني بروايات موضوعة هذا حالها؟

و لو تجاوزنا هذا،

فإنه قد ذكر في باب تعارض الروايات، بأنّه إذا تعارضت الروايات يجب عرضها علي القرآن، فما وافق القرآن يؤخذ به، و ما خالفه فهو مردود.

2. هناك البعض مثل: «الجصاص» في كتابه «أحكام القرآن» يقول: إنّ آية الوضوء مجملة، و لا بدّ من العمل بالاحتياط، فنغسل القدمين، فيتحقق الغسل و المسح «1».

و نحن نعلم جميعاً أنّ هناك تبايناً بين مفهوم «الغسل» و «المسح» و الغسل لا يشمل المسح بتاتاً.

و لكن ما العمل!! فالأحكام المسبقة التي تطلق قبل التحقيق لا تجيز لنا العمل بظاهر القرآن.

3. يقول الفخر الرازي: حتي لو قرأنا «أرجلكم» بالجر، معطوفاً علي «رءوسكم» و التي تدلّ بوضوح علي المسح، إلّا أنّ المقصود ليس المسح علي القدمين، بل إنّ المقصود من المسح علي القدمين عدم إراقة الماء الكثير عند غسل القدمين «2».

______________________________

(1). أحكام القرآن، ج 2، ص 434.

(2). تفسير الكشّاف، ج 1، ص 610.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 145

فإذا قبلنا بهذا النوع من الاجتهاد و التفسير بالرأي للآيات القرآنيّة، فلن يبقي شي ء من ظواهر القرآن نعمل به، فإذا قلنا: إنّ المسح يعني عدم الإسراف في الغسل مجازاً، لأمكننا تفسير جميع ظواهر الآيات بشكل آخر.

الاجتهاد و التفسير بالرأي مقابل النص:

هناك قرائن كثيرة تشير إلي قبح هذا النوع من الاجتهاد و عدم قبوله مقابل النص الرائج في عصرنا الحاضر. و هذا لم يكن موجوداً في العهد الأول للإسلام.

و بعبارة أخري: إنّ هذا التعبد و التسليم المطلق الموجود عندنا اليوم لآيات القرآن المجيد و كلام النبي (صلي الله عليه و آله) لم يكن بهذه القوّة و الشدّة في تلك العصور.

فمثلًا: عند ما تحدث عمر عن رأيه المعروف: «متعتان كانتا محللتان في زمن النبي (صلي الله عليه و آله) و أنا أحرمهما و

أعاقب عليهما: متعة النساء و متعة الحج» «1»، لم نسمع أحداً من الصحابة انتقده أو وجّه الملامة له، قائلًا إنّ هذا اجتهاد في مقابل النص.

و أمّا لو قال أحد العلماء الكبار من فقهاء الإسلام في زماننا: «إنّ العمل الفلاني كان حلالًا في عهد النبي (صلي الله عليه و آله) و أنا أحرمه»، لتصدي له الجميع استغراباً من موقفه، و أظهروا رفضهم، و قالوا إنّه لا قيمة لهذا الرأي، و لا يحق لأحد أن يحرم حلال الله، و لا يحلل حرامه؛ لأنّه لا معني لأن يجتهد أحد أمام النص، و لا أن ينسخ الأحكام.

______________________________

(1). مصادر هذا الحديث مرت في بحث الزواج المؤقت.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 146

و لكن العهد الأول لم يكن كذلك، و بهذا الدليل نري بعض الفقهاء قد أجاز لنفسه مخالفة الأحكام الإلهية، و قد يكون إنكار المسح علي القدمين و إبداله بالغسل، من هذا القبيل.

و لعلّ بعضهم تصوّر أنّ من الأفضل غسل القدمين؛ لأنّها معرضة للتلوث دائماً، فما الفائدة من المسح؟ و خصوصاً أنّ بعض المسلمين كانوا حفاة في تلك الأعصار، و لأجل هذا كان إحضار الماء لغسل أرجلهم من الآداب المتعارفة في وقتها عند استقبال الضيوف!.

و الشاهد علي هذا الكلام ما قاله صاحب كتاب «تفسير المنار» في ذيل آية الوضوء من توجيه لكلمات القائلين بالغسل حيث يقول: «إن مسح اليدين علي القدمين الملوثة بالغبار أو المتسخة غالباً، ليس فقط لا فائدة فيه، بل قد يلوثها أكثر ممّا هي عليه، و سينتقل التلوث إلي اليد أيضاً».

و ينقل ابن قدامة الفقيه المعروف لدي أهل السنّة (المتوفي 620 قمري) عن بعضهم قوله: «إنّ القدمين في معرض التلوث بخلاف الرأس، فمن المناسب أن تغسل القدمين و

يمسح علي الرأس» «1». فنجد كيف رجّح هذا الاجتهاد و الاستحسان في مقابل ظاهر الآية القرآنيّة، و ترك المسح و وجّه الآية توجيهاً غير سليم.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم - مترجم: الحرز، احمد محمد، الشيعة شبهات و ردود، در يك جلد، انتشارات مدرسه امام علي بن ابي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1428 ه ق الشيعة شبهات و ردود؛ ص: 146

و الظاهر أنّ هذه المجموعة قد نسيت أنّ الوضوء مركب من النظافة و العبادة، فمسح الرأس لا علاقة له بنظافته، و خصوصاً علي بعض الفتاوي بكفاية المسح بالإصبع، و كذلك مسح القدمين.

______________________________

(1). المغني لابن قدامة، ج 1، ص 117.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 147

و في الواقع أنّ المسح علي الرأس و القدمين إشارة إلي تسليم و طاعة الإنسان المتوضئ الأوامر الإلهيّة من الرأس إلي أخمص القدمين، و إلّا فلا المسح علي الرأس يحقق النظافة و لا المسح علي القدمين.

و علي كل حال، فنحن تابعون للأحكام الإلهيّة و لا يحق لنا مع قصور عقولنا تغيير الأوامر الإلهيّة، فعند ما نزلت آخر سورة من القرآن الكريم علي النبي (صلي الله عليه و آله) و أمرت بغسل الوجه و اليدين و مسح الرأس و القدمين فيجب أن لا نخالفها، و نلجأ إلي توجيه تلك المخالفات بتفسير كلام الله سبحانه و تعالي بأسلوب غير وجيه مع قصور العقل الإنساني.

نعم، إنّ التفسير بالرأي و الاجتهاد مقابل النص بلاء عظيم، أضر- و للأسف- بأصالة الفقه الإسلامي في بعض الموارد.

المسح علي الأحذية:

و من عجائب الدهر التي تحير كل محقق منصف أنّه في الوقت الذي يصرون فيه علي عدم جواز المسح علي القدمين في الوضوء و لزوم غسل القدمين، يصرح أغلبهم بجواز المسح علي

الحذاء بدل غسل القدمين، من دون أن يكون هناك اضطرار أو سفر، بل في حال الاختيار و الحضر و علي كل حال.

و في الحقيقة إنّ هذه الأحكام- إما غسل الأرجل أو المسح علي الحذاء- تثير التعجب و الدهشة.

طبعاً هناك مجموعة تعتبر قلة في نظر فقه أهل السنّة، كعلي بن أبي طالب (عليه السلام) و ابن عباس و مالك- أحد أئمّة أهل السنّة- في إحدي فتاواه، لا

الشيعة شبهات و ردود، ص: 148

يجيزون المسح علي الحذاء.

و الملفت للنظر أنّ عائشة- التي يولي الإخوة أهل السنّة أهمية كبيرة لفتاواها و رواياتها- تقول في الحديث المعروف: «لئن تقطع قدماي أحبّ إليّ من أن أمسح علي الخفّين» «1». و قد كانت تعيش مع النبي (صلي الله عليه و آله) ليل نهار و تري وضوءه.

و علي كل حال، لو اتّبع هؤلاء الإخوة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) و التي تتطابق مع ظواهر القرآن لما قبلوا إلّا بالمسح علي القدمين.

يقول النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) في الحديث الصحيح:

«إنِّي تَارِكٌ فيكم ما إن تمَسَّكْتمْ بِهما لَنْ تَضِلّوا كتَاب اللهِ و عِتْرَتِي أَهْلَ بَيتِي، و إنَّهما لَنْ يَفْتَرِقَا حتّي يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْض» «2».

يقول الإمام الباقر (عليه السلام) في رواية معتبرة:

«ثَلاثَةٌ لا أتَّقِي فِيهِنَّ أحَداً: شُرْبُ المُسْكِرِ، وَ مَسْحُ الخُفَّينِ، وَ مُتْعَةُ الحَجِّ» «3».

الروايات الاسلامية و المسح علي القدمين:

اتّفق فقهاء الإماميّة علي عدم القبول بغير المسح علي القدمين في الوضوء، و الروايات الواردة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) صريحة في هذا المعني، و قد لاحظتم ذلك في حديث الإمام الباقر (عليه السلام) المذكور سابقاً، و هناك أحاديث كثيرة في هذا المجال.

______________________________

(1). المبسوط للسرخسي، ج 1، ص 98.

(2). كمال الدين و تمام النعمة، ص 237.

(3). اصول الكافي،

ج 3، ص 32.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 149

و لكن الأحاديث التي جاءت في مصادر أهل السنّة مختلفة تماماً، فهناك عشرات الأحاديث أشارت إلي مسألة المسح علي القدمين، أو تقول: إنّ النبي (صلي الله عليه و آله) بعد أن مسح علي رأسه مسح علي قدميه، و هناك أحاديث أخري نسبوها إلي النبي (صلي الله عليه و آله) تقول بالغسل و بعضها بالمسح علي الخفين.

فالطائفة من الأحاديث التي ذكرت المسح فقط مذكورة في الكتب المعروفة مثل:

1. صحيح البخاري.

2. مسند أحمد.

3. سنن ابن ماجة.

4. مستدرك الحاكم.

5. تفسير الطبري.

6. الدر المنثور.

7. كنز العمال، و غيرها من الكتب المسلّم باعتبارها عند أهل السنّة.

و رواة هذه الأحاديث أشخاص مثل:

أ) أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

ب) ابن عباس.

ج) أنس بن مالك (الخادم الخاص للنبي (صلي الله عليه و آله)).

د) عثمان بن عفان.

ه-) بسر بن سعيد.

و) رفاعة.

و سنكتفي هنا بذكر خمس روايات، و أعجب ما قيل من كلام، ما قاله

الشيعة شبهات و ردود، ص: 150

بعضهم مثل الآلوسي المفسر المعروف: «لا يوجد أكثر من رواية واحدة لدي الشيعة دليلًا علي ذلك» «1»:

و الروايات هي:

1.

عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: «كُنْتُ أري بَاطِنَ القَدَمَيْنِ أَحَقُّ بالمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِما حَتَّي رَأيْتُ رَسُولَ الله (صلي الله عليه و آله) يَمْسَحُ ظَاهِرَهُما» «2».

هذا الحديث ذكر و بشكل صريح أنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قد مسح علي القدمين، و بواسطة شخص مثل الإمام علي (عليه السلام).

2. عن أبي مطر قال: «بينما نحن جلوس مع علي (عليه السلام) في المسجد إذ جاء رجل إلي علي (عليه السلام) و قال: أرني وضوء رسول الله (صلي الله عليه و آله). فدعا قنبراً فقال: آتيني بكوز من ماء،

فغسل يده و وجهه ثلاثاً، فأدخل بعض أصابعه في فيه و استنشق ثلاثاً، و غسل ذراعيه ثلاثاً، و مسح رأسه واحدة … و رجليه إلي الكعبين» «3».

3. عن بسر بن سعيد قال: «أتي عثمان المقاعد فدعا بوضوء فتمضمض، و استنشق ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، و يديه ثلاثاً ثلاثاً، ثمّ مسح برأسه و رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثمّ قال: رأيت رسول الله (صلي الله عليه و آله) هكذا توضأ، يا هؤلاء أ كذلك؟ قالوا: نعم، لنفر من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله) عنده» «4».

يشير هذا الحديث بوضوح إلي أنّ طريقة النبي (صلي الله عليه و آله) في الوضوء هي المسح، و هذه الشهادة لا تنحصر بقول عثمان فقط، بل جمع من الصحابة

______________________________

(1). تفسير روح المعاني، ج 6، ص 87.

(2). مسند أحمد، ج 1، ص 124.

(3). كنز العمّال، ج 9، ص 448.

(4). مسند أحمد، ج 1، ص 67.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 151

أيضاً يشهدون علي ذلك، و إن كانت قد ذكرت المسح علي الرأس و القدمين ثلاثاً، إلّا أنّه يمكن حمله علي الاستحباب، أو خطأ الراوي.

4. عن رفاعة بن رافع أنّه سمع رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «إنّه لا تتم صلاة لأحد حتّي يسبغ الوضوء، كما أمر الله عزّ و جلّ، يغسل وجهه و يديه إلي المرفقين و يمسح برأسه و رجليه إلي الكعبين» «1».

5. عن أبي مالك الأشعري أنّه قال لقومه: «اجتمعوا أصلي بكم صلاة رسول الله (صلي الله عليه و آله) فلما اجتمعوا، قال: هل فيكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا، إلّا ابن أخت لنا، قال: ابن أخت القوم منهم، فدعا بجفنة فيها ماء، فتوضأ و مضمض و استنشق و

غسل وجهه ثلاثاً، و ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، و مسح برأسه و ظهر قدميه ثمّ صلّي بهم» «2».

و ما ذكرناه يمثل قسماً بسيطاً من الروايات الموجودة في كتب أهل السنّة المعروفة، و التي نقلها رواة معروفون.

فأمّا الأشخاص و الأفراد الذين ذكروا: أنّه لا يوجد أي حديث يدلّ علي المسح علي الرجلين، أو لا يوجد أكثر من حديث واحد علي ذلك، فهم أناس غير واعين و متعصبون، حيث تصورا أنّ بإغماض العين و إنكار الواقعيات سيتم إلغاء الواقعيات.

فهم كمن أراد أن ينكر وجوب المسح المستفاد من دلالة الآية في سورة المائدة، حتي وصل بهم الأمر إلي أن قالوا إنّ الآية صريحة في الغسل، كما بيّناه سابقاً.

______________________________

(1). سنن ابن ماجة، ج 1، ص 156.

(2). مسند أحمد، ج 5، ص 342.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 152

روايات المخالفين:

لا ننكر وجود مجموعتين من الروايات المتعارضة مع الروايات التي ذكرناها سابقاً في مصادر أهل السنّة المعروفة.

مجموعة من الروايات، تقول: إنّ النبي (صلي الله عليه و آله) كان يغسل رجليه عند الوضوء، و روايات أخري، تقول: لا تغسل الأرجل و لا تمسح، بل يمسح علي الخفين!!

و لكن يجب أن لا ننسي القاعدة الأصولية المسلّمة التي تقول: إذا تعارضت مجموعتان من الروايات حول مسألة واحدة، يجب أولًا معالجتها بالجمع الدلالي لحلّ التعارض طبقاً لموازين الفهم العرفي.

و إذا لم نتمكن من ذلك، فيجب عرضها علي كتاب الله، لنري أيّهما مطابق للقرآن فنأخذ بها، و ما خالفه نتركها، و هذه الطريقة ثابتة بأدلة معتبرة.

فإذاً يمكن الجمع بين روايات المسح و الغسل، بأنّ رسول الله (صلي الله عليه و آله) قد أدي وظيفة المسح في الوضوء، و بعد ذلك قام بتنظيف الرجلين بغسلهما، من دون أن يكون

الغسل جزءاً من الوضوء، و قد تخيل بعض من رأي هذا المشهد أن غسل الرجلين جزءٌ من أفعال الوضوء.

و هذه الطريقة تستخدم كثيراً بين الشيعة، فبعد أن يؤدوا وظيفتهم بمسح الرجلين للوضوء، يقومون بغسل الأرجل كاملًا للتنظيف.

هذا العمل و بسبب حرارة الهواء في تلك البيئة يكون ضرورياً عند استخدامهم النعال المكشوفة و ليس الأحذية، لأنّ النعال لا تقي من التلوث بشكل كامل.

و علي كلّ حال، فالمسح علي الرجلين هو الوظيفة الواجبة المتعينة، و هو

الشيعة شبهات و ردود، ص: 153

أمر منفصل عن الغسل المتعارف للرجلين.

و احتمال اجتهاد بعض الفقهاء مقابل النص وارد، و ذلك بالإفتاء بلزوم غسل الرجلين؛ لأنّهم يعتقدون بأنّ إزالة تلوث الرجلين لا يحصل إلّا بالغسل، و يتنصلون من وجوب المسح المستفاد من ظاهر الآية الموجودة في سورة المائدة، كما جاء ذلك في كلمات بعض علماء أهل السنّة في البحوث السابقة، حيث قالوا: إنّه من الأفضل غسل الرجلين بسبب التلوث، و المسح لا يفي بالغرض.

الشريعة سهلة سمحاء:

نحن نعتقد بأنّ الإسلام دين عالمي، لجميع بقاع العالم علي مر العصور و القرون، و هو في الوقت نفسه شريعة سمحاء سهلة تماماً، فكّروا بأنّ الالتزام بوجوب غسل الرجلين في الوضوء خمس مرات يومياً يخلق بعض المشاكل المهمّة في العالم، ممّا يؤدّي الي نفور البعض من الدين و ترك الوضوء و الصلاة بسبب الحرج و هو خلاف مبدأ الشريعة السهلة السمحاء.

و هذه هي نتيجة الاجتهاد مقابل النص و ترك روايات المسح.

و إنّ احتمال وضع بعض روايات الغسل- و ليست كلها- في عصر بني أمية غير مستبعد؛ و ذلك لأنّ وضع الأحاديث في ذلك الزمان كان له رواج واسع بسبب المبالغ الضخمة التي كانت تقدم لواضعي الحديث من قبل معاوية؛

لأنّ الجميع يعلم أنّ الإمام علياً (عليه السلام) كان من المؤيدين لمسح الرجلين، و معاوية كان يصر علي مخالفة الإمام في كل عمل.

و نرجو التدقيق في هذين الحديثين:

الشيعة شبهات و ردود، ص: 154

1. جاء في صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب، فقال: «أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلي الله عليه و سلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ إلي من حمر النعم»، و بعد ذلك ذكر قصّة غزوة تبوك، و جملة: «أمّا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي» و بين كذلك قصّة غزوة خيبر، و الجملة المهمّة التي قالها النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) في حق علي (عليه السلام) و ذكر قصّة المباهلة أيضاً» «1».

هذا الحديث يبيّن بوضوح مدي إصرار معاوية علي مخالفة الإمام علي (عليه السلام) و إلي أي حد.

2. نستفيد من خلال الروايات الكثيرة أنّ هناك مجموعتين أقدموا علي وضع الأحاديث في القرن الأول من تاريخ الإسلام:

المجموعة الأولي: هم مجموعة من الأشخاص ظاهرهم الصلاح و الزهد، و لكنهم بسطاء و ساذجون، فقاموا بوضع الأحاديث بنية القربة، و من جملتهم مجموعة متدينة في الظاهر قاموا بوضع أحاديث عجيبة و غريبة في فضائل السور لترغيب الناس علي تلاوة القرآن، و نسبوها إلي النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، و للأسف لم يكونوا قليلي العدد.

يقول القرطبي العالم المعروف عند أهل السنّة في كتابه التذكار: «لا اعتبار للروايات التي وضعها الوضّاعون كذباً في فضيلة سور القرآن، ارتكب هذا العمل جماعة كثيرة في فضائل السور القرآنيّة، بل في فضائل

بعض الأعمال، فوضعوا الأحاديث بنية قصد القربة لترغيب الناس

______________________________

(1). صحيح مسلم، ج 7، ص 120.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 155

و تشجيعهم علي الأعمال الفاضلة، و يري أنّه لا يوجد أي منافاة بين الكذب- و هو أقبح الذنوب- و الزهد و الفقاهة» «1».

ذكر العالم (القرطبي) نفسه في الصفحة التالية لنفس الكتاب نقلًا عن «الحاكم» و بعض الشيوخ المحدثين: «أنّ أحد الزهاد قام بوضع بعض الأحاديث بقصد القربة في فضيلة القرآن و سوره، و عند ما سألوه: لما ذا قمت بهذا العمل؟

قال: رأيت قلة اهتمام الناس بالقرآن، فأحببت أن أشجع الناس أكثر علي القرآن.

و عند ما قالوا له: إنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قال:

«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِداً فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار»

«2». فأجاب: إنّ النبي (صلي الله عليه و آله) قال:

«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ … »

و أنا لم أكذب ضد النبي (صلي الله عليه و آله) بل كذبي كان لمصلحة النبي (صلي الله عليه و آله).

و لم يقتصر الأمر علي ما نقله القرطبي، بل نقل هذه الأحاديث مجموعة أخري من علماء أهل السنّة أيضاً، و لأجل التوسع في البحث يراجع كتاب (الغدير) القيم، الجزء الخامس، باب الكذّابين و الوضّاعين.

المجموعة الثانية: هم الأشخاص الذين يأخذون مبالغ طائلة مقابل وضع الأحاديث لصالح معاوية و بني أمية، و ذم أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

و من جملتهم: سمرة بن جندب الذي أخذ مبلغاً قدره أربعمائة ألف درهم من معاوية لوضع حديث في ذم الإمام علي (عليه السلام) و مدح قاتله، و قال إنّ الآية: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اللّٰهِ … ) «3» نزلت في عبد

______________________________

(1). التذكار للقرطبي، ص 155.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 249، ح

5.

(3). سورة البقرة، الآية 207.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 156

الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي (عليه السلام)، و أنّ الآية: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا … ) «1». نزلت في الإمام علي (عليه السلام) «2»، نعوذ بالله من هذه الأكاذيب.

و علي هذا فليس بعيداً أن توضع روايات غسل الأرجل في الوضوء لمخالفة الإمام علي (عليه السلام).

المسح علي الأحذية في نظر العقل و الشرع!!

كما أشرنا سابقاً إلي إصرار هؤلاء علي عدم جواز المسح علي الرجلين في الوضوء، و وجوب الغَسل، في الوقت الذي يجيزون المسح علي الحذاء في الوضوء اعتماداً علي بعض الأحاديث المنقولة عن نبي الإسلام (صلي الله عليه و آله).

مع أنّ أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) تخالف ذلك عموماً، و كذلك هناك روايات معتبرة من طرق أهل السنّة صريحة في مخالفة ذلك.

و توضيح ذلك: أجمع فقهاء الإمامية تبعاً لروايات أهل البيت (عليهم السلام) علي عدم جواز المسح علي الحذاء مطلقاً، و لكن أغلب فقهاء أهل السنّة يجيزون ذلك مطلقاً في الحضر و السفر، إلّا أنّ بعضهم يقيد ذلك بموارد الضرورة.

و هنا تطرح مجموعة، من أسئلة، منها:

1. كيف يكون المسح علي الأرجل غير جائز؟ بينما يجوز المسح علي الحذاء، مع أنّهم عند ما ذكروا غسل الأرجل، قالوا إنّ الغَسل لأجل التلوث أفضل من المسح.

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 204.

(2). ابن أبي الحديد المعتزلي، نقلا عن منتهي المقال، في شرح حال «سمرة».

الشيعة شبهات و ردود، ص: 157

فهل المسح علي الحذاء المتلوث يمكن أن يحل محل الغسل؟

و هناك الكثير ممن قال بالتخيير بين غسل الأرجل و المسح علي الحذاء.

2. لما ذا تركتم التمسك بظاهر القرآن المجيد الذي يقول بمسح الرأس و الرجلين، و ذهبتم إلي المسح علي الحذاء؟

3. لما ذا

لا تأخذون بروايات أهل البيت (عليهم السلام) التي اتفقت علي عدم جواز المسح علي الحذاء، الذين اعتبرهم النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) وسيلة للنجاة بجوار كتاب الله؟

4. صحيح أنّ هناك روايات وردت عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) تقول: إنّه مسح علي الحذاء، و لكن بالمقابل لدينا روايات معتبرة أيضاً تقول: إنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قال بالمسح علي الرجلين، فلما ذا لا نلجأ إلي الآية القرآنيّة عند تعارض الروايات، و نجعلها حاكمة و مرجعاً في هذه الروايات المختلفة؟

و كلما تعمقنا أكثر في هذه المسألة تزداد حيرتنا:

حيث نقرأ في كتاب الفقه علي المذاهب الأربعة: «إنّ المسح علي الخفين واجب في حالات الضرورة و الاضطرار، و أمّا بدون الضرورة فهو جائز، و الغَسل أفضل من المسح».

و بعدها نقل عن الحنابلة قولهم: إنّ المسح علي الخف أفضل من نزعه و غسل الرجلين؛ لأنّ الله تعالي يحب للناس أن يأخذوا برخصه كي يشعروا بنعمته عليهم، فيشكروه عليها، و قد وافق بعض الحنفية علي هذا» «1».

بعدها ادعي أنّه قد ثبت المسح علي الخفين بأحاديث كثيرة صحيحة تقرب من حد التواتر «2».

______________________________

(1). انظر الفقه علي المذاهب الأربعة، ج 1، ص 135.

(2). نفس المصدر، ص 136.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 158

و الملفت للنظر أكثر أنّه تعرض بشكل مفصّل إلي شروط هذا النوع من الخفين، و مقدار المسح و مدته، (و المدّة المعتبرة في جواز ذلك) و مستحباته و مكروهاته، و مبطلات المسح علي الخفين و أحكام الخفين، و ما يلبس فوق الخفين، و نوعهما، و أنّه هل يجب أن يكونا مصنوعين من الجلد، أو يكفي غير الجلد أيضاً، و حكم الخفين المفتوحين و غير

المفتوحين و … الذي يأخذ حيزاً كبيراً من هذا الكتاب «1».

5. لما ذا لا نحمل روايات المسح علي الحذاء علي موارد الضرورة أو السفر أو الحرب، أو في الموارد التي لا يمكن نزع الحذاء فيها، أو استلزام ذلك الحرج الشديد؟

و هذه الأسئلة لا جواب لها إلّا الأحكام المسبقة، و غير المدروسة المسببة للفوضي في مسألة بسيطة.

كنت ذات يوم في مطار جدة و شاهدت أحد هؤلاء الإخوة عند ما أقبل للوضوء، فقام بغسل رجليه بشكل جيد بدل المسح، و جاء آخر و غسل وجهه و يديه، ثمّ مسح بيده علي حذائه، و ذهب للصلاة. فأثار ذلك استغرابي و حيرتي، و قلت: هل يمكن لشخص حكيم مثل النبي (صلي الله عليه و آله) أن يعطي مثل هذه الأوامر التي لا يمكن توجيهها؟

و بعد هذه الأسئلة من اللازم أن نأتي علي ذكر الأدلة الرئيسية، و من خلال استعراض هذه الأدلة نستكشف المنشأ الأساسي لهذه الفتوي، و كذلك الطريق العقلائي للحل.

______________________________

(1). الفقه علي المذاهب الأربعة، ص 135- 147.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 159

و الأدلة هي مجموعة من الروايات: يمكن تقسيمها إلي عدّة طوائف:

أ) الروايات التي نقلت من مصادر أهل البيت (عليهم السلام) و التي تنفي بشكل عام المسح علي الحذاء، و علي سبيل المثال:

1. ينقل الشيخ الطوسي عن أبي الورد قال: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) إنّ أبا ظبيان حدثني أنّه رأي علياً (عليه السلام) أراق الماء ثمّ مسح علي الخفين، فقال: كذب أبو ظبيان: أ مَا بَلَغَكُم قَوْلُ عَلِيّ (عليه السلام) فِيكُمْ: سَبَقَ الْكِتَابُ الخُفَّيْنِ؟

فقلتُ: هَلْ فِيهِمَا رُخْصَةٌ؟

فَقَالَ: لَا، إلّا مِنْ عَدُوّ تَتَّقِيهِ أو ثَلْج تُخَافُ عَلَي رِجْلَيْكَ» «1».

و نستفيد من هذا الحديث عدّة نقاط:

أولًا: أنّ المشهور في

روايات أهل السنّة أنّ الإمام علياً (عليه السلام) لا يجيز المسح علي الخفين، و مع هذا كيف يجيز أبو ظبيان و أمثاله لأنفسهم أن يكذبوا علي الإمام (عليه السلام)، فهل كانت هناك مؤامرة؟

سيتضح الجواب عن هذا السؤال فيما بعد.

ثانياً: الإمام علي (عليه السلام) يشير إلي الطريق و يقول: القرآن المجيد مقدم علي كل شي ء، و لا يقدم علي القرآن شي ء، فإذا رأينا رواية تخالف القرآن يجب تأويلها، هذا مع أنّ آية الوضوء في سورة المائدة من الآيات التي لم تنسخ قطعاً.

ثالثاً: الإمام الباقر (عليه السلام) يشير إلي أنّ الروايات التي جاءت بالمسح علي الخفين محمولة علي الضرورة أيضاً، مثل: البرد الشديد الذي فيه خوف علي الأرجل.

______________________________

(1). التهذيب، ج 1، ص 347، ح 1092.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 160

2. ينقل المرحوم الصدوق في كتابه (من لا يحضره الفقيه) حديثاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول:

«إنَّا أَهْلُ بَيْت … لا نَمْسَحُ عَلَي الخُفَّيْنِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا فَلْيَقْتَدِ بِنَا وَ لْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِنَا» «1».

3. نقل في حديث آخر عبارة عجيبة عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول:

«مَنْ مَسَحَ عَلَي الخُفَّينِ فَقَدْ خَالَفَ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ كِتَابَهُ، و وضُوؤُهُ، لَمْ يَتُمَّ، وَ صَلاتُهُ غَيْرَ مُجْزِيَة» «2».

في حين الالتفات إلي الروايات الواردة عن الإمام علي (عليه السلام) فيما يتعلق بعدم جواز المسح علي الخُفين، يذكرني بكلام للفخر الرازي تعليقاً علي مسألة الجهر و الاخفات في البسملة،- فهناك مجموعة تقول بلزوم قراءتها إخفاتاً، و الإمام علي (عليه السلام) يري لزوم الجهر بقراءتها- يقول فيه: «من اتخذ علياً إماماً لدينه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقيٰ في دينه و نفسه» «3».

و مع هذا الوضع نأتي إلي ذكر الروايات الأُخري.

ب) الروايات التي تجيز المسح علي

الخُفين تنقسم إلي فئتين:

الفئة الأولي: الروايات المطلقة، مثل: مرفوعة سعد بن أبي وقاص عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) حول المسح علي الخُفين قال:

«إنَّه لَا بَأسَ بِالوُضُوءِ عَلَي الخُفَّينِ» «4».

و في حديث آخر نقله البيهقي عن أبي حذيفة قال:

«مشي رسول الله (صلي الله عليه و آله) إلي سباطة قوم فبال قائماً ثمّ دعا بماء، فجئته بماء فتوضأ و مسح علي خفّيه»

______________________________

(1). من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 415.

(2). وسائل الشيعة، ج 1، ص 279.

(3). التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 1، ص 207.

(4). السنن الكبري، ج 1، ص 269.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 161

و ذكر البيهقي بأنّ هذا الحديث رواه البخاري في الصحيح عن آدم بن أبي الياسي، و رواه مسلم من وجه آخر عن الأعمش «1».

نحن واثقون من أنّ هذا الحديث موضوع من قبل بعض المنافقين الذين يريدون النيل من قداسة رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و بسبب سذاجة الكتّاب و بساطتهم دوِّن هذا الحديث في عدّة كتب معتبرة عند أهل السنّة مثل صحيح البخاري و صحيح مسلم.

فهل يمكن لشخصية محترمة أن تقدم علي هذا النوع من العمل بلوازمه غير المناسبة، و التي يخجل القلم من شرحها، و ما يبعث علي الأسف وجود مثل هذه الروايات في كتب الصحاح، و التي ما زال الاستدلال بها قائماً.

و علي كل حال فهذه الروايات و أمثالها لا تقيد و لا تشترط في المسح علي الخفين أي قيد أو شرط خاصين.

الفئة الثانية: هذه الروايات تحصر المسح علي الخفين- بناء علي الجواز- في موارد الضرورة فقط، مثل:

نقل مقدام بن شريح رواية عن عائشة يقول: سألتها عن المسح علي الخفين، فقالت: اذهب إلي علي (عليه السلام)

لأنّه رافق رسول الله (صلي الله عليه و آله) في سفره، فذهبت إلي علي (عليه السلام) و طرحت عليه السؤال، فقال: «كنّا إذا سافرنا مع رسول الله (صلي الله عليه و آله) يأمرنا بالمسح علي خفافنا» «2».

يشير هذا التعبير بشكل واضح إلي أنّ المسح علي الخفين كان متعلقاً بموارد الضرورة؛ لأنّه يقول: إذا سافرنا كان يأمرنا بذلك.

______________________________

(1). السنن الكبري، ج 1، ص 270.

(2). نفس المصدر، ص 272.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 162

و هناك روايات أخري من هذا القبيل.

و يتضح من خلال التدقيق في مجموع الروايات الموجودة في المصادر المعروفة لأهل السنّة، و قبل إعطاء الأحكام المسبقة ما يلي:

أولًا: طبقاً للقاعدة المعروفة في علم الأصول (قاعدة الجمع بين المطلق و المقيد، و ذلك بتقييد المطلقات) يجب حمل إطلاق الروايات التي تجيز المسح علي الخفين علي موارد الضرورة، مثل السفر أو في ميدان المعركة، أو موارد أخري مشابهة لها، و الملفت للنظر أنّ البيهقي في سننه قد خصص باباً مفصلًا حول الفترة الزمنية المجازة للمسح علي الخفين، و بيّن من خلال بعض الروايات أنّها محدّدة بثلاثة أيّام في السفر، و يوم واحد في الحضر «1».

أ ليست جميع هذه الروايات دليلا واضحاً علي هذه الحقيقة؟ و هي أنّ جميع الروايات التي ذكرت المسح علي الخفين مختصة بحالات الضرورة، و أمّا في الحالات العادية فلا معني لعدم خلع الخفين و عدم مسح الرجلين.

و أمّا ما يقوله البعض: إنّ ذلك لأجل رفع العسر و الحرج عن الأمّة، فكلام غير مقبول؛ لأنّ نزع الخفين العاديين لا يحتاج إلي جهد.

ثانياً: في حالة الانتياه للروايات المتعددة المنقولة في المصادر المعروفة لأهل البيت (عليهم السلام) و أهل السنّة، يقول الإمام علي (عليه السلام): بأنّ

هذا المسح كان قبل نزول الآية السادسة من سورة المائدة المتعلقة بالوضوء، فإذا كان جائزاً، فالجواز حاصل قبل نزول آية الوضوء، و أمّا بعد نزولها فلم يكن المسح علي الخفين جائزاً أيضاً، حتي في الحروب و الأسفار؛ لأنّه في حالة تعسر نزع الخفين يكون البديل هو التيمم، لأنّ الأمر بالتيمم جاء في ذيل الآية بشكل عام.

______________________________

(1). السنن الكبري، ج 1، ص 275 و 276.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 163

ثالثاً: إذا رأي بعض الحضر أنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قد مسح علي الخفين، فيمكن أن يكون حذاء النبي (صلي الله عليه و آله) ذا فتحات و شقوق تتيح له المسح عليه.

يقول المرحوم الشيخ الصدوق- و هو من المحدثين المعروفين لدي الإماميّة- في كتابه المعروف من لا يحضره الفقيه: «إنّ النجاشي أهدي النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) خفاً، و كان موضع ظهر القدم مفتوحاً، فمسح النبي (صلي الله عليه و آله) علي رجليه و عليه خفّاه، فقال الناس: إنّه مسح علي خفّيه» «1».

خصص البيهقي المحدّث المعروف في كتابه «السنن الكبري» باباً تحت عنوان باب الخف الذي مسح عليه رسول الله (صلي الله عليه و آله) «و يستفاد من بعض أحاديث هذا الباب» «و كانت كذلك خفاف المهاجرين و الأنصار مخرّقة مشقّقة» «2».

و يحتمل بناءً علي ما تقدم أنّ هؤلاء كانوا يمسحون علي أقدامهم أيضاً.

و الغريب في هذا البحث أنّ رواة أحاديث المسح علي الخفين كانوا من الذين وفقوا لشرف خدمة النبي (صلي الله عليه و آله)، و لكنّ الإمام علياً (عليه السلام) كان بين يدي رسول الله (صلي الله عليه و آله) دائماً، و لم يقبل أبداً بالكلام المطابق للأحاديث المعروفة عند

أهل السنّة.

و الأغرب من هذا ما نقلته عائشة التي كانت بجوار النبي (صلي الله عليه و آله) غالباً و قالت: «لئن تقطع قدماي أحبّ إليّ من أن أمسح علي الخفّين» «3».

______________________________

(1). من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 48.

(2). السنن الكبري، ج 1، ص 283.

(3). المبسوط للسرخسي، ج 1، ص 98.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 164

النتائج النهائية للبحث:

1. اتضح أنّ القرآن الكريم يعتبر المسح علي الرجلين هو الوظيفة الأساسية للوضوء، و كذلك آية الوضوء في سورة المائدة و جميع روايات أهل البيت (عليهم السلام) و فتاوي الفقهاء التابعين لهم متفقة علي ذلك.

2. يري أغلب فقهاء أهل السنّة أنّ الوظيفة الأساسية هي غسل الأرجل، و لكن يري أكثرهم جواز المسح علي الخفّين في حال الاختيار، و بعضهم يحصر ذلك بموارد الضرورة.

3. إنّ التناقض و التضاد الموجود في الروايات الواردة في مصادر أهل السنّة حول المسح علي الخفّين توجب الشك لدي أي محقق. فبعضها تجيز المسح علي الخفين مطلقاً، و بعضها لا تجيزه مطلقاً، و بعضها تقيد ذلك بحالات الضرورة، و ذلك بتحديد مقدار معين، ففي السفر بثلاثة أيّام، و في الحضر بيوم واحد.

4. إنّ الطريق الأفضل للجمع بين الروايات هو أنّ المحور الأصلي للوضوء هو المسح علي الأرجل و بحسب اعتقادهم غسل الأرجل، و مع وجود الضرورة مثل: الحرب، و السفر الشاق، أو صعوبة نزع الخفين يصار إلي المسح علي الخفين، كما هو الحال في وضوء الجبيرة.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 165

المبحث التاسع جزئية البسملة في سورة الحمد

اشارة

الشيعة شبهات و ردود، ص: 167

ملاحظة محيرة جداً:

عند ما يتشرف أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بحج بيت الله، و لأجل الحفاظ علي الوحدة عملًا بتوجيهات أهل البيت (عليهم السلام) يقومون بمشاركة أهل السنّة في صلاة الجماعة، للحصول علي فضيلة الصلاة في المسجد الحرام و المسجد النبوي (صلي الله عليه و آله). و أول شي ء يثير انتباههم عدم قراءة أئمّة الجماعة المحترمين (بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ) في بداية سورة الحمد، أو يقرءونها اخفاتاً حتي في الصلوات الجهرية مثل صلاة الصبح و المغرب و العشاء.

في الوقت الذي يشاهدون أن سورة الحمد تتكون من سبع آيات في جميع المصاحف الموجودة في مكة و التي تطبع غالباً هناك، و البسملة جزءٌ منها، و هذا ما أثار استغرابهم، لما ذا يصل وضع أهم آية في القرآن و هي البسملة إلي هذا المصير.

و يزداد استغرابهم عند ما ننقل لهم قصّة اختلاف الروايات لدي أهل السنّة حول البسملة، و لا بدّ أولًا من مراجعة الفتاوي في هذه المسألة، و بعدها ننتقل إلي الروايات الواردة في البحث.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 168

انقسم فقهاء أهل السنّة بشكل عام إلي ثلاث فرق:

الأولي: تقول بوجوب قراءة البسملة في بداية سورة الحمد، فيجهر بها في الصلوات الجهرية، و تقرأ إخفاتاً في الصلوات الإخفاتية. و ذهب إلي هذا القول الإمام الشافعي و أتباعه.

الثانية: تقول بوجوب قراءتها إخفاتاً مطلقاً، و ذهب إليه الحنابلة (أتباع أحمد بن حنبل).

الثالثة: تقول بعدم قراءتها مطلقاً، و ذهب إليه أتباع الإمام مالك، و قريب منه ما ذهب إليه أتباع أبي حنيفة أيضاً.

و عبارة ابن قدامة الفقيه المشهور لدي أهل السنّة في كتابه «المغني» هي: «أنّ قراءة (بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ)* مشروعة في أوّل الفاتحة، و

أوّل كل سورة في قول أكثر أهل العلم، و قال مالك و الأوزاعي: لا يقرؤها في أوّل الفاتحة … و لا تختلف الرواية عن أحمد أنّ الجهر بها غير مسنون …

و يروي عن عطاء و طاووس و مجاهد و سعيد بن جبير، الجهر بها و هو مذهب الشافعي» «1». حيث نقل في هذه العبارة الأقوال الثلاثة.

و جاء في تفسير المنار عن وهبة الزحيلي:

«قال المالكية و الحنفية ليست البسملة بآية من الفاتحة و لا غيرها إلّا من سورة النمل …

إلّا أنّ الحنفية قالوا يقرأ المنفرد بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ مع الفاتحة في كل ركعة سراً …

______________________________

(1). المغني لابن قدامة، ج 1، ص 521.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 169

و قال الشافعية و الحنابلة: البسملة آية من الفاتحة يجب قراءتها في الصلوات، إلّا أنّ الحنابلة قالوا كالحنفية يقرأ بها سرّاً و لا يجهر بها، و قال الشافعية: يسرّ بها في الصلاة الإخفاتية، و يجهر بها في الصلاة الجهرية» «1».

فبناءً علي ما تقدم يكون قول الشافعية أقرب إلي قول فقهاء الشيعة من بقية الأقوال، إلّا أنّ أصحابنا يرون استحباب الجهر بالبسملة في جميع الصلوات، و متفقون علي وجوب قراءتها في سورة الحمد، و علي أنّها جزء من كل السور المشهورة و المعروفة.

و في الحقيقة يصاب الباحث بالحيرة عند ما يري أنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) الذي عاش بين ظهرانيهم لمدّة ثلاث و عشرين سنة، كان يصلي جماعة في أكثر صلواته بحضورهم، و يسمعون ما يقوله في صلواته، و بعد فترة قصيرة يختلفون في كيفية صلاته بشكل فظيع، فبعضهم لا يجيز من قراءة البسملة، و بعضهم يوجب ذلك، و بعضهم يوجب قراءتها إخفاتاً، و بعضهم يوجب قراءتها

جهراً في الصلوات الجهرية!!

ألا يشير هذا الاختلاف العجيب، و غير المتوقع إلي أنّ هذه المسألة لم تكن عادية، و أنّ هناك فريقاً سياسياً يعمل بخفاء لوضع أحاديث متناقضة و متضادة و ينسبونها إلي النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و سنأتي علي شرحها فيما بعد.

يروي البخاري في صحيحه حديثاً يمكن من خلاله كشف القناع عن تلك المؤامرات التي تحاك، فيقول: «ينقل مُطَرِّف عن عمران بن الحصين قوله: عند ما كان علي (عليه السلام) يصلي في البصرة، قلت: ذكَّرنا هذا الرجل صلاةً كنّا نصلِّيها مع رسول الله (صلي الله عليه و آله)» «2».

______________________________

(1). تفسير المنار، ج 1، ص 46.

(2). صحيح البخاري، ج 1، ص 190.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 170

نعم، لقد اتضح أنّهم قاموا بتغيير كل شي ء حتي الصلاة.

ينقل الشافعي في الكتاب المعروف «الأم» عن وهب بن كيسان: «كلُّ سنن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قد غُيِّرت حتي الصلاة» «1».

الجهر بالبسملة في الأحاديث النبوية:

هناك طائفتان من الروايات في كتب أهل السنة المعروفة حول هذه المسألة، و هي مختلفة تماماً، و هذا ما أدي إلي اختلاف فتاواهم، و العجيب في الأمر أنّ راوياً معيناً ينقل عدّة روايات متناقضة و متضادة، و سنلاحظها في الأحاديث القادمة.

الطائفة الأولي:

الروايات التي تعتبر البسملة جزءاً من سورة الحمد، بل تري استحباب قراءتها جهراً أو وجوب قراءتها.

في هذه الطائفة نكتفي بذكر خمس روايات عن خمسة رواة معروفين:

1. ينقل الدارقطني في كتابه «السنن» حديثاً عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) صاحب المقام الشامخ المعلوم للجميع الذي رافق النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) في السفر و الحضر و في الخلوة و الجلوة، فيقول:

«كان النبي (صلي الله عليه و آله) يجهر ب بِسْمِ اللّٰهِ

الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* في السورتين جميعاً» «2».

2. ينقل الحاكم في المستدرك عن أنس بن مالك الخادم الخاص للنبي (صلي الله عليه و آله) منذ أيّام شبابه يقول: «صلّيت خلف النبي (صلي الله عليه و آله) و خلف أبي بكر،

______________________________

(1). الأم، ج 1، ص 269.

(2). سنن الدار قطني، ج 1، ص 302. و نفس الحديث نقله السيوطي في تفسير الدر المنثور، ج 1، ص 22.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 171

و خلف عمر، و خلف عثمان، و خلف علي كلهم كانوا يجهرون بقراءة بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*» «1».

3. ينقل الدارقطني عن عائشة التي كانت ملازمة للنبي (صلي الله عليه و آله) ليلًا و نهاراً بشكل طبيعي تقول: «إنّ رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان يجهر ب بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*» «2».

4. تنقل كتب الصحاح عن أبي هريرة الراوي المعروف لإخواننا أهل السنّة- حيث تنقل كتب الصحاح و غيرها الكثير من رواياته- يقول: «كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يجهر ب بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* في الصلاة».

و قد ورد هذا الحديث في ثلاثة كتب معروفة: 1- السنن الكبري «3»؛ و مستدرك الحاكم «4»؛ 3- سنن الدار قطني «5».

5. و في حديث آخر: إنّ جبرائيل أيضاً عند ما أراد تعليم النبي (صلي الله عليه و آله) الصلاة قرأ البسملة بصوت مرتفع، حيث ينقل الدار قطني عن نعمان بن بشير قوله: إنّ النبي (صلي الله عليه و آله) قال: «أمّنِي جبرائيل عند الكعبة فجهر ب بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*» «6». و روايات أخري كثيرة.

و الملفت للنظر أنّ بعض العلماء المعروفين الذين أتوا علي ذكر أحاديث الجهر بالبسملة صرحوا في ذيل بعض الروايات أنّ رواة الحديث عموماً من

______________________________

(1).

مستدرك الصحيحين، ج 1، ص 232.

(2). تفسير الدر المنثور، ج 1، ص 23.

(3). السنن الكبري، ج 2، ص 47.

(4). مستدرك الصحيحين، ج 1، ص 208.

(5). سنن الدار قطني، ج 1، ص 306.

(6). سنن الدار قطني، ج 1، ص 309.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 172

الثقات، مثل: الحاكم في المستدرك.

و هنا يجب أن نضيف: أنّ البسملة في المصادر الفقهية و الحديثية لأهل البيت (عليهم السلام) ذكرت بعنوانها جزءاً من سورة الحمد، و رواياتها متواترة تقريباً، و روايات أخري صرّحت بالجهر بالبسملة.

و لأجل المزيد من الاطلاع علي هذه الروايات يراجع كتاب وسائل الشيعة «1». و نقلت في هذا المجال عشرات الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) في الكتب مثل: الكافي، و عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، و مستدرك الوسائل «2».

أ لا يجب الانتباه لحديث الثقلين- الذي نقله الفريقان عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و الذي يصرّح: بالتمسك بالقرآن و أهل البيت حتي لا يضل الناس بعده- أن نلجأ إلي أهل البيت (عليهم السلام) عند ما تواجهنا مثل هذه المسائل الخلافية لاتباعهم؟!

الطائفة الثانية:

الروايات التي لا تعتبر البسملة جزءاً من سورة الحمد، و يمنعون الجهر بها، و من جملتها:

1. نقرأ في صحيح مسلم حديثاً نقله عن قتادة أنّ أنساً، قال: «صليت مع رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أبي بكر و عمر و عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*» «3». و لاحظوا أنّ هذا الحديث لم يأت علي ذكر قراءة علي (عليه السلام)!

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 11، 12، 21، 22.

(2). مستدرك الوسائل، الأبواب المتعلقة بقراءة القرآن في الصلاة.

(3). صحيح مسلم، ج 2، ص 12، باب حجة من

قال لا يجهر بالبسملة.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 173

فعلًا إنّه لأمر مريب أن يذكر شخص معين- مثل: أنس- بصراحة: أنّه صلّي خلف النبي (صلي الله عليه و آله) و الخلفاء الثلاثة الأوائل و علي (عليه السلام)- و أنّهم قرءوا البسملة بصوت مرتفع، و في مكان آخر يقول: أنّه صلي خلف الرسول (صلي الله عليه و آله) و الخلفاء الثلاثة الأوائل، و لم يقرأ أي واحد منهم البسملة، فما بالك بالجهر بها بصوت مرتفع.

أ لا يستنتج المفكر هنا أنّ أيدي الوضّاعين قامت بوضع الحديث الثاني لإبطال الحديث الأول- و سيتضح دليله قريباً- و نسبوا ذلك إلي أنس، و لم يذكروا اسم علي (عليه السلام) حتي لا تنكشف المؤامرة؛ لأنّ الجميع يعرف أنّ الإمام علياً (عليه السلام) و أتباعه يجهرون بالبسملة.

2. ينقل البيهقي في سننه عن عبد الله بن مغفل، قال: «سمعني أبي و أنا أقرأ بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*، فقال: أي بني محدث؟ صليت خلف رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أبي بكر و عمر و عثمان فلم أسمع أحداً منهم جهر ب بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*» «1». و نلاحظ هنا عدم ذكر اسم الإمام علي (عليه السلام) أيضاً.

3. نقرأ في المعجم الوسيط للطبراني عن ابن عباس قال: «كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) إذا قرأ بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* هزء منه المشركون، و قالوا محمّد يذكر إله اليمامة- و كان مسيلمة يسمي «الرحمن» فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله (صلي الله عليه و آله) أن لا يجهر بها»؟!

و آثار الوضع فيها واضحة؛ و ذلك:

أولًا: إنّ كلمة الرحمن لم يقتصر ذكرها في القرآن في البسملة، بل ذكرت ستاً و خمسين مرّة

في موارد مختلفة، و في سورة مريم كررت في ست عشرة

______________________________

(1). السنن الكبري، ج 2، ص 52.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 174

آية، فبناءً علي ذلك يجب عدم قراءة سور القرآن الأخري، لأجل أنّ لا نكون مورداً لسخرية المشركين.

ثانياً: المشركون يستهزءون بجميع الآيات القرآنيّة، لهذا نقرأ في آيات متعددة في القرآن الكريم، و من جملتها قوله تعالي: ( … إِذٰا سَمِعْتُمْ آيٰاتِ اللّٰهِ يُكْفَرُ بِهٰا وَ يُسْتَهْزَأُ بِهٰا فَلٰا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ … ) «1» و نقرأ: (وَ إِذٰا نٰادَيْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ اتَّخَذُوهٰا هُزُواً … ) «2»، فهل أمر الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) بترك الأذان أو بقراءته بصوت خافت، حتي لا نكون مورداً لاستهزاء المشركين؟

و في الأصل كان المشركون يستهزءون بشخص الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله): (وَ إِذٰا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلّٰا هُزُواً … ) «3»، فإذن بناءً علي ذلك يجب علي النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) أن يختفي عن الأنظار.

و بغض النظر عن هذا كله، يقول الله سبحانه و تعالي لنبيه الأكرم (صلي الله عليه و آله) بشكل صريح: (إِنّٰا كَفَيْنٰاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) «4».

ثالثاً: إنّ مسيلمة لم يكن شخصية يحسب لها هذا الحساب، و أصغر من أن يقوم النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) بإخفاء الآيات القرآنيّة بسبب أن اسمه «رحمان»، أو يقرأها بإخفات، و خصوصاً أن ادعاءات مسيلمة هذه كانت قد انتشرت في القرن العاشر الهجري، حيث كان الإسلام في ذروة قوته و قدرته.

هذه الحقائق تشير بوضوح إلي أنّ واضعي هذا الحديث كانوا مبتدئين إلي حدّ كبير في عملهم، و غير واعين.

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 140.

(2). سورة المائدة، الآية 58.

(3). سورة الأنبياء، الآية 36.

(4). سورة الحجر،

الآية 95.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 175

4. نقرأ في الحديث الذي ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس، يقول: «الجهر ب بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* قراءة الأعراب» «1».

و في الوقت نفسه لدينا حديث آخر عن علي بن زيد بن جدعان يقول: «إنّ العبادلة (عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر، عبد الله بن الزبير) كانوا يستفتحون القراءة ب بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يجهرون بها» «2».

و الأكثر من هذا، كانت سيرة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الجهر بالبسملة، و هذا مشهور في جميع الكتب الشيعية و كتب أهل السنّة، فهل كان الإمام علي (عليه السلام) من الأعراب؟ أ لا تكون هذه الأحاديث المتناقضة و المتضادة دليلًا علي أنّ المسألة كانت ذا بعد سياسي؟

نعم، الحقيقة هي أنّ الإمام علياً (عليه السلام) كان يجهر بالبسملة، و كان معاوية يصرّ- بعد شهادة الإمام علي (عليه السلام) و خلال خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) و بعد استلامه للسلطة- علي محو كل الآثار و المظاهر العلوية في العالم الإسلامي، إضافة إلي اعتقاده بأنّ التأثير الفكري و المعنوي للإمام علي (عليه السلام) علي أفكار عامة المسلمين، سيشكل تهديداً لسلطته.

و الشاهد علي هذا الكلام نقرأه في الحديث الذي ذكره الحاكم في المستدرك- و الذي صرّح بأنّه معتبر- عن أنس بن مالك (الخادم الخاص للنبي): «جاء معاوية إلي المدينة و شارك في إحدي الصلوات الجهرية [المغرب أو العشاء] فقرأ البسملة في سورة الحمد و لم يقرأها مع السورة الثانية، و عند ما سلّم في صلاته، ارتفع صوت مجموعة من المهاجرين

______________________________

(1). مصنف ابن أبي شيبة، ج 2، ص 89.

(2). تفسير الدر المنثور، ج 1، ص 21.

الشيعة شبهات و ردود، ص:

176

و الأنصار [و لعل مشاركتهم في الصلاة كانت حفظاً لأرواحهم] من جميع الأطراف: «أ سرقت الصلاة أم نسيت؟!».

فقام معاوية في الصلاة التالية بقراءة البسملة في بداية سورة الحمد، و في بداية السورة كذلك «1».

و لعل معاوية أراد بهذا العمل معرفة مدي حساسية المهاجرين و الأنصار تجاه الجهر بالبسملة، و لكنه استمر في عمله هذا في بقية المناطق كالشام و غيرها.

القرآن ما بين الدفتين؟

إنّ الموجود بين الدفتين هو القرآن يقيناً، و البسملة جزء من القرآن، و ما يقوله بعضهم: إنّ البسملة ليست جزءاً من القرآن، بل هي للتفريق بين السور فقط، فيرد عليه:

أولًا: إنّ هذا الكلام لا يشمل سورة الحمد. لأنّ البسملة جزء من سورة الحمد و معدودة من آياتها السبع، كما هو الحال في جميع النسخ القرآنيّة.

ثانياً: لما ذا هذا التفريق لم يتحقق في سورة براءة؟ فإذا قيل: إنّ سياق الآيات في آخر سورة الأنفال لا يرتبط بسياق الآيات في بداية سورة براءة: فنقول إنّ هناك سوراً كثيرة في القرآن لا ترتبط نهايتها ببداية السورة التالية، و مع ذلك جاءت البسملة للتفريق بينهما.

فالحق: إنّ البسملة هي جزء من كل سورة، كما هو الحال في ظاهر القرآن، و أمّا عدم ذكر البسملة في بداية سورة براءة؛ فلأنّ سورة براءة تبدأ

______________________________

(1). مستدرك الصحيحين، ج 1، ص 233.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 177

بإعلان الحرب علي الذين نقضوا العهود، و هذا لا يتناسب مع ذكر الرحمن و الرحيم؛ لأنّهما مظهر للرحمة العامة و الخاصة.

خلاصة البحث:

بحث جزئية البسملة في سورة الحمد يتلخص بما يلي:

أولا: إنّ النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قرأ البسملة في بداية سورة الحمد، و في بداية السور الأخري؛ و ذلك وفقاً للروايات الكثيرة التي نقلت عن أكثر الناس قرباً من رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و جهر بالبسملة، طبقاً للعديد من الروايات.

ثانياً: إنّ الروايات المخالفة للروايات المذكورة آنفاً و التي تصرّح: إنّ البسملة ليست جزءاً من السورة أصلًا، أو أنّ النبي (صلي الله عليه و آله) كان يقرأها بصوت خافت، فهي مشكوكة، بل هي موضوعة؛ و ذلك بحسب القرائن الموجودة في نفس الروايات، و بنو

أمية هم وراء هذا الموضوع لتحقيق بعض الأغراض السياسية، لأنّ جهر الإمام علي (عليه السلام) بالبسملة أصبح مشهوراً و معروفاً، و سياسة بني أمية كانت تقتضي مخالفة كل ما يرتبط بالإمام علي (عليه السلام)، حتي و إن كان موافقاً لسيرة رسول الله (صلي الله عليه و آله).

و قد اعترض الصحابة بشدّة علي معاوية في هذا الموضوع، و الشواهد و القرائن التي ذكرناها سابقاً تؤكد ذلك.

1. كان أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) يجهرون بالبسملة اتباعاً لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) الذي نهل من علم رسول الله (صلي الله عليه و آله) لسنوات عديدة، فهم متفقون علي هذا الرأي حتي أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال:

«اجْتَمَعَ آلُ مُحَمَّد (صلي الله عليه و آله) عَلَي الجَهْرِ

الشيعة شبهات و ردود، ص: 178

بِ بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*» «1».

و إذا كان المفترض- علي الأقل في هذه المسائل- أن يعملوا برواية الثقلين و الأخذ بروايات أهل البيت (عليهم السلام) فيجب علي جميع فقهاء أهل السنّة كالشافعي أن يجهروا بالبسملة، أو يعتبروها واجباً في الصلوات الجهرية كحد أدني.

2. ننهي بحثنا- من باب حسن الختام- بنقل عبارتين للفخر الرازي من كتابه التفسير الكبير:

أ) يقول: «إنّ عَلياً كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلمّا وصلت الدولة إلي بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي (عليه السلام)» «2».

إنّ شهادة هذا العالم الكبير من أهل السنّة توضح بما لا شك فيه أنّ الحكم بإخفاء البسملة أو حذفها كان وسيلة لتحقيق أهداف سياسية.

ب) يضيف في موضع آخر من الكتاب بعد أن استعرض نقل البيهقي: أنّ عمر بن الخطاب، و ابن عباس، و عبد الله بن عمر، و عبد الله بن الزبير جميعاً كانوا يجهرون

بالتسمية: أمّا أنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر، و من اقتدي في دينه بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد اهتدي، و الدليل عليه قول رسول الله (صلي الله عليه و آله): «اللهم أدر الحق مع علي حيث دار» «3».

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 4، ص 189.

(2). التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 1، ص 206.

(3). نفس المصدر، ص 204- 205.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 179

المبحث العاشر التوسل بأولياء الله

اشارة

الشيعة شبهات و ردود، ص: 181

التوسل علي ضوء الآيات القرآنيّة و الدليل العقلي:

إنّ التوسل بأولياء الله لأجل حل المشاكل المادية و المعنوية من أهم المباحث و أكثرها نقاشاً بين الوهابيين و سائر المسلمين في العالم.

يصرح الوهابيون بأنّ التوسل إلي الله سبحانه و تعالي بالأعمال الصالحة لا إشكال فيه، و لكن لا يجوز التوسل بأولياء الله، و يعتبرونه نوعاً من الشرك، في الوقت الذي يري سائر مسلمي العالم جواز التوسل بأولياء الله، بناء علي ما سنذكره من توضيح لمعناه.

تصور الوهابيون أنّ بعض الآيات القرآنيّة تمنع من التوسل، و تعتبره شركاً، و من جملتها هذه الآية حيث قوله سبحانه: (مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلّٰا لِيُقَرِّبُونٰا إِلَي اللّٰهِ زُلْفيٰ) «1» التي تحكي لسان حال مشركي الجاهلية حول ما يعبدون، مثل الملائكة و غيرها، و القرآن يعتبر هذا الكلام شركاً، و في آية أخري يقول عزّ و جلّ: (فَلٰا تَدْعُوا مَعَ اللّٰهِ أَحَداً) «2».

و يقول سبحانه في آية أخري: (وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لٰا

______________________________

(1). سورة الزمر، الآية 3.

(2). سورة الجن، الآية 18.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 182

يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ) «1».

توهم الوهابيون و تصوروا أنّ هذه الآيات تنفي التوسل بأولياء الله، و إضافة إلي هذا لديهم بحث آخر، و هو أنه علي فرض أنّ التوسل بالرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) حال حياته جائز؛ وفقاً لبعض الروايات، لكن لا دليل لدينا علي جوازه بعد مماته. هذا خلاصة ما يدّعونه.

و لكن للأسف و بسبب هذا الكلام الفاقد للدليل، قام الوهابيون باتهام الكثير من المسلمين بالشرك و الكفر، و أباحوا دماءهم و أموالهم، فبهذه الذريعة قاموا بسفك دماء كثيرة و نهبوا الكثير من الأموال.

و الآن و بعد أن عرفنا اعتقادهم بشكل جيد نعود إلي أصل البحث، و نعالج

موضوع التوسل من جذوره.

في البداية نستعرض مفهوم «التوسل» في اللغة و الآيات القرآنيّة و الروايات.

التوسل لغة: «التوسل» في اللغة هو بمعني اختيار الوسيلة، و الوسيلة: تعني ما يتقرب به إلي الغير.

يقول ابن منظور في كتابه المعروف «لسان العرب»: «وَسَلَ فلانٌ إلي الله وسيلةً إذا عَمِل عملًا تقرّب به إليه … و الوسيلة، ما يتقرّب به إلي الغير» «2».

و جاء في «مصباح اللغة» أيضاً: «الوسيلة: ما يتقرب به إلي الشي ء و الجمع الوسائل».

و نقرأ في «مقاييس اللغة»: «الوسيلة: الرغبة و الطلب».

______________________________

(1). سورة الرعد، الآية 14.

(2). لسان العرب، ج 11، ص 724.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 183

و علي هذا فالوسيلة هي بمعني التقرب و ما يتقرب به إلي الغير أيضاً، فالوسيلة لها مفهوم واسع جدّاً.

و أمّا بالنسبة للقرآن فقد استعمل مصطلح الوسيلة في آيتين:

الأولي: في قوله تعالي: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جٰاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) «1»، فهذه الآية تخاطب جميع المؤمنين، و فيها ثلاثة أوامر:

الأوّل: الأمر بالتقوي.

الثاني: الأمر باختيار الوسيلة، التي تقربنا إلي الله سبحانه.

الثالث: الأمر بالجهاد في سبيل الله.

و نتيجة اجتماع هذه الصفات الثلاثة (التقوي، التوسل، الجهاد) يتحقق ما ذكر في ذيل الآية: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

الثانية: في الآية السابعة و الخمسين من سورة الإسراء، و لفهم هذه الآية نستعرض الآية التي سبقتها و هي: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلٰا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لٰا تَحْوِيلًا) «2» و بالالتفات إلي جملة (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ) يتضح أنّ المقصود في الآية ليست هي الأصنام و غيرها- لأنّ (الذين) هم أصحاب العقول- بل إنّ المقصود بها هم الملائكة التي كانت تُعبد من دون الله، أو النبي عيسي (عليه السلام) الذي

كان يُعبد من قبل بعض المجموعات من دون الله، فالآية تصرّح بأنّ ما تدعون من الملائكة أو المسيح لا يستطيعون دفع الضرّ عنكم و لا يحلّون مشاكلكم.

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 35.

(2). سورة الإسراء، الآية 56.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 184

و الآية التي تليها و هي المقصودة بالبحث قوله تعالي: (أُولٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِليٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخٰافُونَ عَذٰابَهُ إِنَّ عَذٰابَ رَبِّكَ كٰانَ مَحْذُوراً) «1»، الاشتباه الكبير الذي وقع فيه الوهابيون هو تصورهم أنّ مفهوم التوسل بأولياء الله هو أنهم يكشفون الضر و يحلّون المشاكل، و تصوروا أنّ قضاءهم للحاجات و دفعهم للكربات يتحقق منهم علي نحو الاستقلال، مع أنّ ما نقصده من التوسل ليس هذا معناه.

التوسل في الآيات الكريمة:

و أمّا الآيات التي تمسك بها الوهابيون فهي مرتبطة بالعبادة، و لا يوجد أحد يقوم بعبادة أولياء الله.

فهل توسلنا بالنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) تعني عبادته؟ و هل نعتقد بأنّ النبي (صلي الله عليه و آله) يؤثر و يكشف الكرب علي نحو الاستقلال؟

فالتوسل الذي يدعو إليه القرآن الكريم هو التوسل بالوسيلة التي تقربنا إلي الله، بمعني أنّ هؤلاء يقومون بالشفاعة عند الله، كما ذكرنا ذلك في بحث الشفاعة.

و في الواقع أنّ حقيقة التوسل و الشفاعة واحدة، فهناك آيات كثيرة تدلّ علي الشفاعة، و آيتان تدلّان علي التوسل، و الملفت للنظر أنّ الآية السابعة و الخمسين من سورة الإسراء تقول: (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) حيث تخيرهم لاختيار الوسيلة الأقرب من بين الملائكة و المسيح، و ضمير «هم» لجمع العاقل، يعني أنّهم يتوسلون بالصالحين و بأولياء الله.

______________________________

(1). سورة الإسراء، الآية 57.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 185

و علي كل حال يجب في البداية أن نوضح أنّه

ما معني التوسل بأولياء الله؟ فهل هو عبادتهم أو العبودية لهم؟

ليس كذلك قطعاً!

فهل يرون أنّ لهم استقلالًا في التأثير؟ كلّا!

أم هل لهم قضاء الحاجات و كشف الكربات؟ كلّا.

إنّهم يشفعون عند الله لمن توسل بهم، كما إذا أردنا الذهاب إلي منزل شخصية مرموقة لا نعرفها، فنلجأ إلي شخص تربطه بهذه الشخصية علاقة حميمة، فنتوسل إليه للذهاب معنا إلي تلك الشخصية، ليعرفنا عليها و يشفع لنا عندها.

فهذا العمل ليس عبودية، و ليس استقلالًا في التأثير؟

و من المناسب هنا أن نقرأ الكلام الجميل «لابن علوي» في كتابه المعروف «مفاهيم يجب أن تصحح» حيث يقول: لقد التبس علي كثير من الناس فهم حقيقة التوسل، و لأجل هذا سنبين المفهوم الصحيح للتوسل حسب وجهة نظرنا، و قبل ذلك لا بدّ من بيان بعض النقاط للتذكير:

1. التوسل نوع من الدعاء، و في الواقع باب من أبواب التوجه لله سبحانه و تعالي، فإذاً المقصد و المقصود الأصلي و الحقيقي هو الله سبحانه و تعالي، و الشخص الذي يتوسل به واسطة و وسيلة للتقرب إلي الله، و من يعتقد غير هذا فهو مشرك.

2. من يتوسل إلي الله سبحانه و تعالي بشخص فلأجل كون هذا الشخص محبوباً لديه و يعتقد به، و يعتقد بأنّ الله سبحانه و تعالي يحبّه، فلو فرضنا أنّه ظهر خلاف ذلك، فسيبتعد عنه كلياً و سيخالفه؛ لأنّ المعيار محبة الله له.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 186

3. إذا توسل شخص و اعتقد بأن المتوسل به يؤثر في المسائل علي نحو الاستقلال و بنفسه، كما هي الحال بالنسبة لله سبحانه و تعالي، فهو شخص مشرك.

4. التوسل ليس أمراً واجباً و ضرورياً، و لا تنحصر استجابة الدعاء بالتوسل، فالمهم هو الدعاء و اللجوء

إلي الله سبحانه و تعالي، بأي شكل كان، كما يقول الله تعالي: (وَ إِذٰا سَأَلَكَ عِبٰادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) «1».

و استعرض ابن علوي المالكي بعد ذكر هذه المقدمة آراء العلماء و الفقهاء و المتكلمين من أهل السنة، فقال: لا يوجد خلاف بين المسلمين في مشروعية التوسل إلي الله بالأعمال الصالحة، مثلًا: أن يصوم شخص أو يصلي أو يقرأ القرآن، أو يتصدّق في سبيل الله، و يتوسل بهذه الأعمال إلي الله سبحانه و تعالي و يتقرب بها، فهذا الأمر من المسلّمات و لا بحث فيه.

و هذا النوع من التوسل مقبول حتي من قبل السلفيين، و من جملتهم ابن تيمية، كما هو مذكور في مجموعة من كتبه المختلفة و بالخصوص في رسالته: «القاعدة الجليلة في التوسل و الوسيلة».

ابن تيمية صرح بجواز هذا النوع من التوسل، يعني التوسل بالأعمال الصالحة، فإذاً أين هو محل الاختلاف؟

محل الاختلاف هو في التوسل بغير الأعمال الصالحة، مثل التوسل بذوات أولياء الله، كأن يقول أحد: «اللهم إنّي أتوسل إليك بنبيّك محمّد (صلي الله عليه و آله)» و بعدها يضيف قائلًا: و الاختلاف في هذا المعني و إنكار الوهابيين للتوسل بأولياء الله، هو في الواقع نوع من الاختلاف الشكلي و اللفظي، و ليس خلافاً

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 186.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 187

جوهرياً، و بتعبير آخر: هو نزاع لفظي؛ لأن التوسل بأولياء الله يرجع في الواقع إلي توسل الإنسان بأعمال هؤلاء، و هو مشروع، فلو لاحظ المخالفون بعين الإنصاف و البصيرة لاتضح لهم الأمر بشكل واضح وجلي، و الإشكال حينها سينحل، و ستنطفي ء نار الفتنة، و لن تصل النوبة لاتهام المسلمين بالشرك و الضلال.

و يضيف بعد ذلك لتوضيح هذا الكلام: إذا توسل شخص بواحد

من أولياء الله فإنّ ذلك لأجل كونه محبوباً عنده.

و لكن لما ذا يكون محبوباً عنده؟

لأجل كونه رجلًا صالحاً، أو أنّه محب لله سبحانه و تعالي، أو أنّ الله سبحانه و تعالي يحبه، أو الإنسان يحب هذه الوسيلة، و عند ما نتعمق في كل هذه الأمور نجد أنّها ناشئة من العمل.

يعني في الواقع أنّ التوسل حاصل بالأعمال الصالحة عند الله سبحانه و تعالي، و هذا هو المعني المتفق عليه عند جميع المسلمين «1».

طبعاً نحن سنشير فيما بعد إلي أنّ التوسل بالأفراد مع جلالة شأنهم ليس لأجل أعمالهم، بعنوان كونهم وجهاء و عزيزين و عظماء عند الله، أو بأي دليل كان، بل لكونهم غير مستقلين بالتأثير، بل لأنّهم شفعاء عند الحضرة الإلهيّة، و هذا التوسل ليس كفراً و لا ممنوعاً.

و لقد أشارت الآيات القرآنيّة عدّة مرّات إلي هذا النوع من التوسل.

فالشرك هو أن نعتقد بأنّ هناك شيئاً له تأثير مستقل في مقابل الله، و اشتباه الوهابيين هو أنّهم خلطوا بين «العبادة» و «الشفاعة» الموجودة في آية: (مٰا

______________________________

(1). أنظر مفاهيم يجب أن تصحّح، ص 116 و 117.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 188

نَعْبُدُهُمْ إِلّٰا لِيُقَرِّبُونٰا إِلَي اللّٰهِ زُلْفيٰ) «1» و تصوّروا أنّ الشفاعة شرك أيضاً، بينما عبادة الوسائط شرك، و ليس طلب الشفاعة منهم أو التوسل بهم كذلك. (تأملوا).

التوسل في الروايات الإسلاميّة:

إضافة إلي إطلاق آيات التوسل، فأي توسل لا يخالف العقائد الإسلاميّة الصحيحة يكون جائزاً، بل يعتبر مطلوباً.

و عندنا روايات كثيرة حول التوسل تصل إلي حدّ التواتر أو قريب منه.

و الكثير من هذه الروايات يرتبط بالتوسل بشخص النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، فبعضها قبل ولادة النبي (صلي الله عليه و آله) و بعضها بعد ولادته و بعضها في حياته

و بعضها بعد مماته.

و هناك أيضاً قسم آخر يرتبط بالتوسل بغير النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) من علماء الدين.

و نضيف: إنّ بعضها جاء بلسان الرجاء و الدعاء، و بعضها بلسان طلب الشفاعة من الله، و بعضها يبين الله سبحانه و تعالي فيها مقام النبي (صلي الله عليه و آله).

و الخلاصة: إننا نلاحظ جميع أقسام التوسل موجودة في هذه الروايات بشكل يسد الباب أمام جميع الذرائع التي يتمسك بها الوهابيون.

و الآن نستعرض بعض الأمثلة من هذه الروايات:

1. توسل آدم بالنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) قبل ولاته، فقد نقل الحاكم في المستدرك و جماعة آخرون من المحدثين هذا الحديث عن النبي

______________________________

(1). سورة الزمر، الآية 3.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 189

الأكرم (صلي الله عليه و آله) يقول: «لمَّا اقترف آدم الخطيئة قال: يَا رَبِّ اسْألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّد لَمَا غَفَرْتَ لِي.

فقال الله: يا آدم كيف عرفت محمّداً و لم أخلقه، قال: يا ربّ لأنّك لمّا خلقتني بيدك و نفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت علي قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلّا الله محمّد رسول الله، فعلمت أنّك لم تضف إلي اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنّه لأحبّ الخلق إليَّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك، و لو لا محمّد ما خلقتك» «1».

2. الحديث الآخر مرتبط بتوسل أبي طالب بالنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) عند ما كان طفلًا، و خلاصة الحديث كما نقله ابن حجر في كتابه «فتح الباري»: عند ما نزل القحط في مكة ذهبت قريش إلي أبي طالب و قالت له: أقحط الوادي و أجدب العيال، فهلم فاستسق لنا، فخرج أبو طالب و معه غلام كأنّه شمس

دجنة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة و لاذ به، أي: توسل بهذا الطفل، و لا توجد في السماء قطعة من سحاب، فأقبل السحاب من هنا و من هاهنا و اغدودق و انفجر له الوادي من شدة المطر و أخصب النادي و البادي. و قال أبو طالب حينها شعراً في مدح النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) من أكثر من ثمانين بيتاً منها هذا البيت:

و أبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامي عصمة للأرامل «2»

______________________________

(1). الحاكم في المستدرك، ج 2، ص 615. و نقله الحافظ السيوطي في الخصائص النبوية و اعتبره صحيحاً، و نقله البيهقي في دلائل النبوة و هو لا يروي ضعاف الأحاديث. و نقله القسطلاني و الزرقاني في المواهب اللدنية و اعتبره صحيحاً، و جماعة آخرون أيضاً، و لمزيد من التوضيح يراجع كتاب: مفاهيم يجب أن تصحح، ص 121.

(2). فتح الباري، ج 2، ص 494؛ و كذلك السيرة الحلبية، ج 1، ص 116.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 190

3. توسل الرجل الضرير بالنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله): ذهب رجل ضرير إلي النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) في زمن حياته، متوسلًا به فشافاه النبي (صلي الله عليه و آله) و أعاد البصر إليه «1».

و خلاصة الحديث: أنّ رجلًا ضرير البصر أتي النبي (صلي الله عليه و آله) فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت، و إن شئت صبرت فهو خير لك، قال فادعه، قال فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، و يدعو بهذا الدعاء: «اللّهم إنّي أسألك و أتوجه إليك بنبيّك محمّد (صلي الله عليه و آله) نبي الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجه بك إلي ربّي في حاجتي هذه لتقضي

لي، اللّهم شفِّعه في» فقام الرجل و فعل ما قاله الرسول (صلي الله عليه و آله).

يقول عثمان بن عمير راوي هذا الحديث: كنّا جالسين في نفس المجلس نتحدث و بعد مضي فترة إذ قدم الرجل الضرير إلي المجلس، و كان يبصر كحالته السابقة بحيث لا يوجد أي أثر للعمي.

و الملفت للنظر أن الكثير من كبار أهل السنّة قد صرّح بأنّ هذا الحديث صحيح، فالترمذي يصحح الحديث، و ابن ماجة قال: إنّه صحيح «2»، و الرفاعي قال: إنّه لا شك في أنّ هذا الحديث صحيح و مشهور «3».

4. التوسل بالنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) بعد مماته، «الدارمي» هو أحد علماء أهل السنّة المعروفين يقول في كتابه المعروف «سنن الدارمي» تحت عنوان باب

______________________________

(1). صحيح الترمذي، ص 119، ح 3578؛ و في سنن ابن ماجة، ج 1، ص 441، ح 1385؛ و مسند أحمد، ج 4، ص 138.

(2). سنن ابن ماجة، ج 1، ص 441.

(3). و لأجل زيادة التوضيح يمكنكم مراجعة كتاب الرسائل و المسائل، ج 18، ص 1، طبعة بيروت، حيث يقول: إنّ عين عبارة ابن تيمية هي: «أنّ النسائي و الترمذي رويا حديثاً صحيحاً أنّ النبي (صلي الله عليه و آله) علّم رجلا أن يدعو فيسأل الله ثمّ يخاطب النبي فيتوسل به، ثمّ يسأل الله قبول شفاعته».

الشيعة شبهات و ردود، ص: 191

«ما أكرم الله تعالي نبيه (صلي الله عليه و آله) بعد موته» و هذا الباب معقود لبيان الكرامات التي أعطاها الله سبحانه و تعالي للنبي (صلي الله عليه و آله) بعد موته: «قَحُطَ أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلي عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي (صلي الله عليه و آله) فاجعلوا منه كوي إلي

السماء حتي لا يكون بينه و بين السماء سقف، قال: ففعلوا فمطرنا مطراً حتي نبت العشب، و سمنت الإبل حتي تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق» «1».

5. التوسل بالعباس عم النبي (صلي الله عليه و آله)، ينقل البخاري في صحيحه: أنّ عمر بن الخطاب إذا قحط استسقي بالعباس بن عبد المطلب، و كان يدعو بهذا الدعاء: «اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبيّنا (صلي الله عليه و آله) فتسقينا، و إنّا نتوسل إليك بعم نبيِّنا فاسقنا» قال الراوي: «فيسقون مطراً كثيراً» «2».

6. ينقل ابن حجر المكي في الصواعق عن الإمام الشافعي من علماء أهل السنّة المعروفين: أنّه كان يتوسل بأهل بيت النبي (عليهم السلام) و ينقل عنه الشعر المعروف:

آل النبي ذريعتي و هم إليه وسيلتي

أرجو بهم أعطي غداً بيدي اليمين صحيفتي

أورد هذا الحديث الرفاعي في كتابه «التوصل إلي حقيقة التوسل» «3».

ملاحظات مهمّة للتذكير:

اشارة

لقد تذرع الوهابيون المتعصبون لإثبات مقاصدهم و أهدافهم بأمور كثيرة في تكفير المسلمين و تفسيقهم؛ و ذلك لتوسلهم بالصالحين، مقابل الآيات

______________________________

(1). سنن الدارمي، ج 1، ص 43.

(2). صحيح البخاري، ج 2، ص 16.

(3). التوصل إلي حقيقة التوسل، ص 329.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 192

و الروايات المذكورة سابقاً التي تثبت جواز التوسل بأشكاله المختلفة، هذه الذرائع التي تشبه ذرائع الأطفال عند اختلافهم!

فتارة يقولون: إنّ الممنوع هو التوسل بذوات العظماء و الصالحين، و أمّا التوسل بمعني الدعاء و شفاعة هؤلاء فهو جائز.

و تارة يقولون: إنّ التوسل الجائز هو الذي يتحقق في حياتهم، و أمّا بعد وفاتهم فغير جائز؛ لأنّ العلاقة بهم تنقطع بمجرّد انتقالهم من الدنيا، لأنّ القرآن المجيد يقول: (إِنَّكَ لٰا تُسْمِعُ الْمَوْتيٰ*) «1»، و لكن هذه الإشكالات المتقطعة تبعث علي الخجل في الواقع، و ذلك:

أولًا:

إنّ الآيات القرآنيّة المرتبطة بجميع أنواع التوسل عامة، و بحكم العموم أو الإطلاق فيها فالتوسل جائز، و لا يوجد أي تعارض مع «التوحيد في العبادة» و «التوحيد الأفعالي»، فالقرآن المجيد يقول: (وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) «2»، و قلنا: إنّ الوسيلة هي ما يتقرب به إلي الله، نعم أي أمر يمكن أن يقربكم إلي الله مثل: دعاء النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، مقام النبي (صلي الله عليه و آله)، شخص النبي (صلي الله عليه و آله)؛ و ذلك بسبب طاعته و عبوديته و عبادته لله سبحانه و تعالي، و صفاته المقربة لله سبحانه و تعالي. فيطلب التقرب إلي الله بهذه الأمور، و لا يوجد دليل علي حصر الوسيلة بعمل الإنسان الصالح فقط، كما هو الحال في كلمات الوهابيين.

و ما ذكرناه لا يتعارض مع التوحيد في العبادة؛ لأنّ المعبود هو الله سبحانه و تعالي و ليس النبي (صلي الله عليه و آله)، و لا يتعارض مع التوحيد الأفعالي؛ لأنّ

______________________________

(1). سورة النمل، الآية 80.

(2). سورة المائدة، الآية 35.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 193

منشأ الخير و الشر لا يمكن أن يكون إلّا من الله، و كل ما يملكه الإنسان فهو من الله و من خلاله سبحانه و تعالي.

فما ذا ننتظر بعد هذا العموم الموجود في الآيات؟ و إلّا سيكون حالنا حال من يبحث عن ذريعة عند ما يقول القرآن المجيد: (فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) «1»، فنقول: هل تجوز قراءة القرآن وقوفاً أم لا؟ اضطجاعاً أم لا؟

فعموم الآية يقول: إنّ جميع أنواع التلاوة جائزة، في الحضر و السفر، مع الوضوء أو بدونه، إلّا إذا قام دليل آخر علي خلاف ذلك.

إنّ العمومات و الإطلاقات الموجودة في القرآن فعلية

ما لم تُعارض، و آيات التوسل عامة أيضاً، و عموم الآيات القرآنيّة فعلية، فإذا لم نجد معارضاً لها، يمكن العمل علي وفقها، و ليس صحيحاً أن نبحث عن الذرائع للجدال.

ثانياً: الروايات الواردة في بحث التوسل- و التي ذكرنا قسماً منها سابقاً- متنوعة، و كل هذه الأنواع جائزة و هي:

- التوسل بشخص النبي (صلي الله عليه و آله)، مثل ما جاء في قصة الرجل الضرير.

- التوسل بقبر النبي (صلي الله عليه و آله) كما جاء في بعض الروايات.

- التوسل بدعاء النبي (صلي الله عليه و آله).

- التوسل بشفاعة النبي (صلي الله عليه و آله).

و غيرها مما جاء في روايات أخري، و مع هذا التنوع في الروايات و الأشكال المختلفة للتوسل لا يبقي مجال للمجادلين و أصحاب الذرائع.

ثالثاً: ما ذا يعني التوسل بشخص النبي (صلي الله عليه و آله)؟ لما ذا يصبح النبي (صلي الله عليه و آله)

______________________________

(1). سورة المزمل، الآية 20.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 194

محترماً عندنا؟ و لما ذا نجعله شفيعاً لنا عند الله؟ لأنّ النبي (صلي الله عليه و آله) يتميز بالطاعة و العبودية العميقة و الخالصة.

إذن توسلنا بالنبي (صلي الله عليه و آله) توسل بطاعاته و عباداته و أفعاله.

و هذا هو نفس التوسل الذي يجيزه الوهابيون المتعصبون و هو التوسل بالطاعات، فالنزاع إذن لفظي.

و العجيب أنّ بعضهم ينكر الحياة البرزخية للنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله)، و يعتقدون أنّ وفاته هي في حدّ موت الكفّار، مع أنّ القرآن ذكر أنّ للشهداء حياة خالدة: (بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) «1»، فهل مقام نبي الإسلام (صلي الله عليه و آله) أقل من مقام الشهداء؟ مع كل هذا السلام الذي نرسله له في الصلاة، فإذا

لم ندرك أنّ التوسل بعد وفاته هو توسل بالخالدين فكل هذا السلام لا معني له و الملتجي إلي الله من هذا التعصب الأعمي و الأصم الذي يؤدي بالإنسان إلي المجهول. و من حسن الحظ أنّ بعضهم يعتقد بوجود حياة برزخية، و عليه فلا بدّ من سحب إشكالاتهم.

1. المغالون و المفرطون

المجموعة الاولي: التفريطيون: و هم منكرو التوسل بأولياء الله و نحن نقف بين مجموعتين من الإفراط و التفريط، من قصّر في فهم مسألة التوسل و نفي التوسل من أساسه، و التوسل الذي أجازته الآيات القرآنيّة و الروايات اعتبروه غير جائز، و تصوروا أنّه يؤدي بهم إلي نفي كمال التوحيد، فهم واقعون في الخطأ و الاشتباه، فالتوسل بأولياء الله لأجل طاعتهم و عبادتهم

______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 169.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 195

و أعمالهم و قربهم من الله سبحانه و تعالي، هو تأكيد لمسألة التوحيد، حيث يطلبون جميع ما يريدون من الله العلي القدير.

المجموعة الثانية: الإفراطيون: و هم الذين يتخذون من التوسل وسيلة للغلو، و خطر هؤلاء ليس أقل من خطر المجموعة الأولي، و عباراتهم لا تتوافق مع التوحيد الأفعالي، أو لديهم عبارات لا تتناسب مع التوحيد في العبادة، في الوقت الذي «لا مؤثر في الوجود إلّا الله»، و بناءً علي هذا فكما كنا نواجه منكري التوسل الصحيح و نقوم بإرشادهم و كشف خطئهم، فلا بدّ من إرشاد الغلاة أصحاب الاتجاه الإفراطي، و إعادتهم إلي الطريق الصحيح.

و في الواقع يمكن القول إنّ أحد عوامل وجود المنكرين للتوسل هو إفراط و غلو بعض المؤيدين للتوسل، فعند ما يطرح هؤلاء الصورة الإفراطية فمن الطبيعي أن تظهر في مقابلهم مجموعات التفريط، و هذه قاعدة سارية في جميع المسائل الاعتقادية و الاجتماعية و

السياسية، فهذه المجموعات المنحرفة يوجد بينها تلازم (لازم و ملزوم) دائماً، و كلا الفريقين مشتركان في الخطأ.

2. التوسل لوحده لا يكفي

يجب أن نعلم الناس بأنّ لا يكتفوا بالتوسل بأولياء الله و الصالحين، لأنّ التوسل في الأصل هو درس لنا، لما ذا نتوسل بهؤلاء؟ لأنّ أعمالهم صالحة، إذن يجب علينا أن نقوم بالأعمال الصالحة، فالتوسل يعطينا درساً بأنّ التقرب إلي الله يكون عن طريق الأعمال الصالحة، و التوسل بأولياء الله لأجل أعمالهم الصالحة، فهم مقربون من الله، و نحن نطلب منهم أن يشفعوا لنا

الشيعة شبهات و ردود، ص: 196

عند الله، إذن يجب علينا أن نسلك نفس الطريق الذي سلكوه، فلا بدّ أن نحول التوسل إلي مدرسة لتربية الإنسان و تطويره، و أن لا نتوقف عند التوسل و ننسي الأهداف الراقية للتوسل. و هذا أمر مهم يجب أن نتوجه إليه.

3. التوسل في الأمور التكوينية

الملاحظة الأخري هي: أنّ التوسل بعالم الأسباب حاصل في الأمور التشريعية، كما هو حاصل في الأمور التكوينية أيضاً، و كلاهما لا يتنافي مع التوحيد، فنحن عند ما نريد أن نحصل علي نتائج ايجابية في حياتنا الطبيعية، نلجأ إلي الأسباب، فنحرث الأرض، و ننثر البذر، و نسقي الزرع، و نحارب الآفات، و نحصد المحصول في آوانه، لنستفيد منه في حياتنا.

فهل التوسل بهذه الأسباب يؤدي بنا إلي الغفلة عن الله؟ و هل الاعتقاد بأنّ الأرض تغذي بذور الأعشاب، أو أنّ نور الشمس و قطرات المطر التي تبعث علي الحياة هي التي تنمي البذور و الأزهار و الثمار؟ و بصورة عامة هل الاعتقاد بعالم الأسباب منافياً للتوحيد الأفعالي؟

و يقيناً أنّه ليس منافياً، لأننا نلجأ إلي عالم الأسباب، و مسبب الأسباب هو الله سبحانه و تعالي، و كما في المثل «يختص كل هذا الثناء بالملك العظيم» «1» إذاً فكما أنّ التوسل بالأسباب الطبيعية لا يتنافي مع أصل التوحيد في الأفعال، فكذلك

الأمر في عالم التشريع، لأنّ التوسل بالأنبياء و الأولياء و المعصومين و طلب الشفاعة منهم عند الله سبحانه و تعالي لا يتنافي مع أصل التوحيد أبداً.

______________________________

(1). مثل فارسي.

الشيعة شبهات و ردود، ص: 197

طبعاً ظهرت هنا مجموعة تفريطية تنكر عالم الأسباب أيضاً، لأنّهم تصوروا أنّ الاعتقاد بعالم الأسباب يتنافي مع التوحيد في الأفعال، فيقولون: إنّ النّار لا تحرق، فالله هو الذي يحرق ذلك الشي ء عند ما نقرب النار إليه، الماء لا يُطفئ النّار، الله هو الذي يُطفئها عند ما نصب الماء علي النّار، و هكذا فهم ينكرون جميع الروابط بين العلة و المعلول، و هي من الروابط البديهية في عالم الخلقة.

في الوقت الذي يقر فيه القرآن المجيد عالم الأسباب و يعترف به بشكل واضح و صريح حيث يقول: (وَ مِنْ آيٰاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا) «1»، فكلمة «فَيُحْيِي بِهِ» يعني بقطرات المطر تُحيي الأرض. و هذه الآية لها دلالة واضحة و صريحة علي الإقرار و الاعتراف بعالم الأسباب. و لكن هذه الأسباب ليس لها تأثير مستقل، فكل ما لديها هو من الله.

فهذه الآثار الظاهرة هي من الله، فكما أنّ منكري الأسباب الطبيعية مخطئون و غافلون، فكذلك منكرو الأسباب في عالم التشريع.

نأمل منهم أن يتوجهوا إلي ما ذكر، و أن يبتعدوا عن التعصب، و يعودوا إلي الصواب، و ينهوا مسيرة التكفير و التفسيق، و يأتلفوا مع مسلمي العالم، و يقفوا في وجه الأعداء الذين جعلوا الله و القرآن و الإسلام هدفاً لهجماتهم، و أن يبيِّنوا التعاليم الإسلاميّة للمجتمع العالمي خالية من الشرك و الغلو و النقصان.

شعبان المعظّم 1426

ناصر مكارم الشيرازي

______________________________

(1). سورة الروم، الآية 24.

الشيعة شبهات و

ردود، ص: 199

المصادر

1. القرآن الكريم.

2. نهج البلاغة.

3. آلاء الرّحمن، محمّد جواد البلاغي.

4. أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي الجصّاص.

5. أخبار مكّة، الازرقي.

6. الأحكام، علي بن حزم الأندلسي.

7. الاصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني.

8. التوصّل إلي حقيقة التوسّل، محمّد نسيب الرقاعي.

9. الخصائص النبويّة، الحافظ السيوطي.

10. السنن الكبري، احمد بن حسين البيهقي.

11. العقد الفريد، أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسي.

12. الغدير، العلّامة الأميني.

13. الفقه علي المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري.

14. المبسوط، شمس الدين أبو بكر السرخسي.

15. المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني.

16. النصائح الكافية.

17. أنساب الأشراف، أحمد بن يحيي البلاذري.

18. بحار الأنوار، العلّامة المجلسي.

19. تاريخ ابن عساكر، ابن عساكر.

20. تاريخ ابن كثير، اسماعيل بن كثير القرشي.

21. تاريخ الطبري، محمّد بن جرير الطبري.

22. تفسير الدرّ المنثور، جلال الدين السيوطي.

23. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير

الشيعة شبهات و ردود، ص: 200

الدمشقي.

24. تفسير المنار، محمّد رشيد رضا.

25. التفسير المنير، وهبة الزحيلي.

26. تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمّد بن أحمد القرطبي.

27. التفسير الكبير، الإمام الفخر الرازي.

28. تفسير الكشّاف، جار الله الزمخشري.

29. تهنئة الصديق المحبوب، السقاف.

30. جريدة الجزيرة، العدد 6826.

31. جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب، محمّد بن أحمد الدمشقي الشافعي.

32. حتي لا ننخدع، عبد الله الموصلي.

33. دلائل النبوّة، أحمد بن حسين البيهقي.

34. رجال النجاشي، أحمد بن علي النجاشي.

35. روح المعاني، محمود الآلوسي.

36. سفينة البحار، الشيخ عباس القمي.

37. سنن الترمذي، محمّد بن عيسي الترمذي.

38. سنن الدارمي، عبد الله بن بهرام الدارمي.

39. شرح منية المصلي، إبراهيم بن محمّد الحلبي.

40. صحيح البخاري، محمّد بن إسماعيل البخاري.

41. صحيح مسلم، مسلم بن حجّاج النيسابوري.

42. الطبقات الكبري، ابن سعد.

43. علل الشرائع، الشيخ الصدوق.

44. عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الاحسائي.

45. فتح الباري في

شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني.

46. فضائل الصحابة، أحمد بن حنبل.

47. فهرست، الشيخ الطوسي.

48. الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني.

49. كنز العمّال، علي المتّقي الهندي.

50. مجمع الزوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي.

51. مجموعة الرسائل و المسائل، ابن تيمية.

52. مستدرك الصحيحين، الحاكم النيسابوري.

53. مسند البزّاز، أبي بكر أحمد بن عمرو

الشيعة شبهات و ردود، ص: 201

بن عبد الخالق العتكي البزاز.

54. مسند أبي شيبة، عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة.

55. مصنف عبد الرزّاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني.

56. معجم البلدان، ياقوت بن عبد الله الحموي.

57. المغني، ابن قدامة.

58. مفاتيح الغيب، الإمام الفخر الرازي.

59. مفاهيم يجب أن تصحح، يوسف بن علوي المالكي.

60. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق.

61. المواهب اللدنيّة، أحمد بن محمّد القسطلاني- محمّد بن عبد الباقي الزرقاني.

62. وسائل الشيعة، الشيخ الحرّ العاملي.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.