السيرة المباركة

اشارة

سرشناسه : قدسی احمد عنوان و نام پديدآور : السیره المبارکه لسماحه آیه الله العظمی الشیخ ناصر مکارم الشیرازی (مدظله احمد قدسی مشخصات نشر : قم مدرسه الامام علی بن ابیطالب (ع 1384. مشخصات ظاهری : 310،[26]ص. تصویر(رنگی). شابک : 12000 ریال 964-8139-85-7 يادداشت : عربی يادداشت : پشت جلد به انگلیسی: The biography of Ayatollah al- ozma Makarem Shirazi. یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس موضوع : مکارم شیرازی ناصر، 1305 - موضوع : مجتهدان و علما -- سرگذشتنامه شناسه افزوده : مدرسة الامام علی بن ابی طالب (ع) رده بندی کنگره : BP153/5/م73 ق4 1384 رده بندی دیویی : 297/998 شماره کتابشناسی ملی : م 84-25985

التعرّف أكثر على شخصية معروفة

الحمد للَّه الذي فتح أبواب العلم والمعرفة على الإنسان وجعله في أسمى مراتب الخلقة بأدوات العلم بالأسماء: «عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ» «1»

، وجعل في فطرته وهويته القابلية والاستعداد لتقبل مقام الخلافة الإلهيّة وليكون في مرتبة أسمى من الملائكة بحيث حظي بسجود الملائكة، وخلق فيه القدرة على استخدام القلم: «الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» «2» و «عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» «3»

ومهّد له الطريق للسير في خط التكامل المعنوي والانفتاح على اللَّه تعالى.

والصلاة والسلام على أنبياء اللَّه ورسله إلى عباده والهداة إلى طريقه لا من خلال فرض الهداية الإلهيّة على الإنسان بل ليثيروا فيهم دوافع الخير ويحركوا فيهم عناصر الصلاح «ويثيروا لهم دفائن العقول» «4»

، وخاصة على الصادر الأول والتجلي الأكمل وغاية الإنسان الكامل الذي يمثل الشاهد على جميع الأنبياء والامم: «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَآءِ شَهِيداً» «5»

، (آدم ومن دونه تحت لوائى يوم القيامة) «6»، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الذين

يمثلون مظهر جميع الأسماء الحسنى التي ظهرت من مخزن الغيب المطلق إلى منصة الظهور والشهود (نحن واللّه الأسماء الحسنى) «7»، فكانوا مصدر ومهبط الإرادة الإلهيّة في جميع الامور ومقدّرات: «إرادَةُ الرَّبِّ فى مَقاديرِ أُمُورِهِ تَهْبِطُ إِلَيْكُمْ وَتَخْرُجُ مِنْ السيرة المباركة، ص: 6

بُيُوتِكُمْ «1»- قُلُوبُنا أوْعِيَةٌ لِمَشِيَّةِ اللّهِ» «2».

وسلام اللَّه ورحمته ومغفرته وصلوات النبي والملائكة واستغفارهم على أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام وطلاب علومهم الذين تربوا في مدرسة أهل البيت عليهم السلام والذين حملوا مشعل الهداية طيلة تاريخ التشيع الدامي ورفعوا لواء الحق عالياً مع شدّة الضغوط والتحديات الصعبة.

هؤلاء الأشخاص هم الذين نالوا وسام الفخر بأنّ «مدادهم الهادي» إلى سواء السبيل أفضل من تاج كرامة الشهادة «أفضل من دماء الشّهداء» «3»

، حيث حفظوا ببيانهم وأقلامهم متراس الدين وحرسوا موقع الاجتهاد والتفقّه في مقابل هجمات التيارات الفكرية المعادية.

ونشكر اللَّه تعالى أن يوفقنا للتناول من مائدة كرمه وفضله ويرزقنا من علوم هذه الشخصيات الكبيرة التي تتسم في نظرة كلية بأنّها:

1- شخصيات كبيرة نهلت من الشجرة الطيبة لحوزات العلوم الإسلامية والمدرسة الجعفرية التي «أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ* تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا» «4».

2- أنّ هؤلاء قد تمحضوا في الإيمان والتحرك في خط المسؤولية ومن أجل اعلاء كلمة الحق طيلة تاريخ التشيع، ولم يبالوا بتحديات وهجمات أهل الدنيا وضغوط الطواغيت وتكفير المتحجرين، بل تحركوا بصورة جديّة في خط تبليغ حقائق الدين ونشر معارف أهل البيت عليهم السلام، وعملوا على حفظ وحراسة القيم الدينية والدفاع عن نواميس التشيع السيرة المباركة، ص: 7

وموازين الشريعة المحمدية بألسنتهم وأقلامهم «1».

3- هؤلاء الفقهاء والعلماء الذين اهتموا بالدفاع عن حدود العقيدة من موقع الدليل والعقل وجاهدوا قوى الانحراف بأداة البرهان والقرآن «2».

4- هؤلاء

المفكّرون الذين لم يكتفوا بكسب العلوم والمعارف المتداولة في الحوزات العلمية فحسب، بل تحركوا على مستوى اكتشاف أبعاد جديدة بأداة الاجتهاد المتحرك واستفادوا من العلوم الجديدة أيضاً ولم يجمدوا حركتهم في بُعد واحد من أبعاد الدين ويغفلوا عن سائر الابعاد الاخرى «3».

5- المحققون الذين لم يحترقوا في تنور ضعف الهِمّة ولم يدفنوا أنفسهم تحت غبار

السيرة المباركة، ص: 8

التساهل والاهمال في أمر الدين وطلب العلم.

6- المصلحون الذين عاشوا يقظة القلب في صحراء الكسل وعصر الظلم واستيلاء الطاغوت، وعملوا على ايقاظ النائمين في ليالي الديجور الغارقة في ظلمات الجهل والعصبية ونفخوا في مجتمعاتهم نسيم الأمل والثبات والاطمئنان.

7- المصلحون الذين علموا بأنّ ايجاد المجتمع الديني وتشكل الحكومة الإلهيّة يعتبران من أوائل تكاليف العلماء، وهدفهم تجسيد الأحكام والمعارف الإسلامية في مفاصل المجتمع البشري، وهكذا عاشوا نور الأمل بمستقبل زاهر للمسلمين والامة الإسلامية «1».

8- السالكون في خط العلم والمتبحرون في ميدان الفكر الذين في عين اشتغالهم بطلب الاسرار الإلهيّة وانتشال الرموز الفرقانية فإنّهم يتصدرون مجالس الإجابة عن أسئلة الناس ورفع حاجات المجتمع الإسلامي المعنوية، الذين حملوا رسالة استنباط الأحكام الدينية وتبيين الثقافة الدينية العامة بحضورهم المتواصل في المجامع العلمية والحوزوية على أساس من التشكيلة المنسجمة والهادفة، وأعلنوا استعدادهم للإجابة عن الشبهات وعلامات الاستفهام لأفراد المجتمع بحيث جعلت منهم هذه الخصوصية علماء من الطراز الأول.

السيرة المباركة، ص: 9

9- الصالحون الذين نالوا مقامات سامية في دائرة العلوم الدينية والمراتب الدراسية في الحوزة العلمية ولكنّهم مع ذلك لم يروا في هذه المقامات والمناصب سوى أداة ووسيلة لخدمة الدين والمذهب ولم يبيعوا الدرجات المعنوية والمثوبات الاخروية التي وعدوا بها في قبال خدماتهم العلمية في دائرة القلم والبيان بحطام الدنيا ومتاعها القليل وعناوينها الزائفة.

10- وأخيراً

فهؤلاء الاساطين في علم الفقه الذين رفضوا حالة الجمود والكسل في حياتهم ومعيشتهم وتحركوا بجدّ واستمرار (حيث إنّهم بعد مضي ستين، سبعين سنة من عمرهم المبارك كانوا يتحركون في طلب العلم والتعليم بمقدار مضاعف) معرفتهم بمقتضيات الزمان ومتطلبات العصر ومع اتصافهم بحسن الذوق وعلو الهمة وسعة الافق الذهني وعدم الاعوجاج في الخط الفكري المزاجي ودقّة النظم في حياتهم وثورة الإيمان في قلوبهم مع اعتمادهم على الشعور العقلاني في البيان والقول، والعزم الراسخ والروح القوية، حيث نسجوا شخصياتهم الفذة بهذه السمات والابعاد الإنسانية.

ربّنا، نسألك وأنت مبدأ الكمالات في عالم الوجود أن تمنحنا اليقظة وشرح الصدر وتزيل عنّا حجب الغفلة لكي لا تحجبنا عثراتهم عن رؤية سيمائهم النيّرة ولا تبعدنا أخطاؤهم عن الاستمداد من كوكب حكمتهم «فإنّه لا حكيم إلّاذو عثرة» «1».

نسألك اللّهم أن تمنحنا الوفاء والأدب لكي لا نستخدم أقلامنا وبياننا ضد من علّمونا الحكمة والكلام، ولكي لا نصرف همّنا في اجهاض حركتهم البنّاءة في سبيل خدمة الدين السيرة المباركة، ص: 10

وتقوية أركان المذهب كما يقول أمير البيان (صوات اللَّه عليه): «لا تجعلنّ ذرب لسانك على من أنطقك وبلاغة قولك على من سدّدك» «1».

ونأمل أن لا يمنعنا حجاب المعاصرة الجاهلي من معرفة هذه الشخصيات المرموقة التي تفتخر بها مدرسة أهل البيت عليهم السلام وأن لا نكون من الذين لا يكتبون عن هذه النجوم الزاهرة في سماء المعرفة ولا يشرحون سيرتهم للناس إلّابعد افولهم وتوسدهم الثرى.

وكذلك نأمل ونسأل اللَّه تعالى أن يرزقنا طول العمر لكسب العبرة والاعتبار في مشاهدة عاقبة الأشخاص الذين تحركوا في مقابل هذه الشخصيات الكبيرة من موقع الخصومة والعناد وسخّروا أقلامهم ضد من وضع حياته على طبق الاخلاص في خدمة الدين والدفاع عن التشيع

حتى أنّه لقّب (بشيخ المؤلفين) أو (شيخ القلم) في العصر الحاضر «2».

السيرة المباركة، ص: 11

نعم، فإنّ الاستاذ الكبير الذي سنتعرف عليه في هذا الكتاب يعتبر حلقة من هذه السلسلة الطيبة وكوكباً من هذه المنظومة الزاهرة.

إنّ ما يميز هذه الشخصية وبقية السلف عن سائر الشخصيات الدينية المرموقة أنّه يعدّ عالماً جامعاً لجميع المكارم والخصال الحميدة التي تجذب الناظر إليها كما سنشير إلى ذلك في الفصول اللاحقة.

وفي الختام نود أن نتقدم بجزيل الشكر إلى العالم والمحقق والأخ العزير حجة الإسلام والمسلمين سعيد الداودي (دام عزّه) حيث إنّه رفدنا بالكثير من الهوامش النافعة في هذا الكتاب ونرجو أن يتقبل اللَّه تعالى منه هذا العمل ويجعل ما نبذله من جهد بعنوان (حق الأُستاذية)، ...

وفّقنا اللَّه لصالح ما يرضاه الحوزة العلميّة قم المقدّسة- ربيع 1422 ه ق أحمد القدسي.

السيرة المباركة، ص: 13

1 الاصالة العائلية وسلامة المحيط الاسري

لا يخفى على كل إنسان ما لدور الأصالة الأُسريّة وكرامة الاسرة في حركة الإنسان نحو خط الكمال المعنوي والابتعاد عن الرذائل النفسانية والأخلاقية، وكذلك لا يمكن انكار دور سلامة المحيط الأُسري في ابتعاد الإنسان عن الذنوب وعناصر الانحراف واللامبالاة، وبالتالي تأثيرها في ترشيد حركة الإنسان وسعادته، هذه السلامة وتلك الاصالة وإن لم تكونا علّة تامة لنيل الموفقية في حركة الحياة إلّاأنّ تأثيرهما في حياة الشخص كبير جدّاً من جهة خلق الشفافية الباطنية والطهر القلبي وازالة التشويشات الذهنية والازمات الروحية، وبشكل عام فإنّ تأثيرهما في ايجاد الأرضية الخصبة والقاعدة المتماسكة لحركة أفضل وأسرع في دائرة التحصيل العلمي والأخلاقي غير قابل للانكار.

عندما يقرر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هذه الحقيقة ويفتخر بأسلافه الطاهرين ويقول: «لم يزل ينقلني اللَّه من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتّى أخرجني في عالمكم

هذا لم يدنسني بدنس الجاهليّة» «1»

. وعندما نقرأ كذلك في زيارة وارث في خطابنا لسيد الشهداء: «أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة لم تنجّسك الجاهليّة بأنجاسها ...»، كلّ ذلك شاهد على هذا المدّعى وأنّ استاذنا الجليل قد منحه اللَّه تعالى هذه النعمة الكبيرة، فقد كان جدّه الأكبر «الحاج محمد باقر» من تجار مدينة شيراز حيث كان يشتغل بالتجارة في محلة «سراي نو» في شيراز وكان يرتدي لباساً شبيهاً بلباس رجال الدين ويشارك باستمرار في صلاة

السيرة المباركة، ص: 14

الجماعة في مسجد «مولاي» في شيراز حيث كان يتمتع باحترام كبير من قِبل الناس، وكان جدّه سماحة الاستاذ المرحوم «الحاج محمد كريم» (ابن محمد باقر) يرتدي العمامة أيضاً، ولكنّه في أثناء عمله في السوق كان يلبس قبعة على رأسه، وقد اشتغل موظفاً أيضاً في «سوق الجمارك» في شيراز ثم في «سوق وكيل» كتاجر في مدينة شيراز، وكان ملتزماً بالاشتراك في صلاة الجماعة في مسجد «مولاي» في شيراز وكانت له علاقة وطيدة بالمرحوم أية اللَّه العظمى الحاج الشيخ محمد جعفر المحلاتي رحمه الله (والد المرحوم أية اللَّه العظمى الحاج الشيخ بهاء الدين المحلاتي) وكذلك كانت له علاقة بآية اللَّه الحاج السيد محمد جعفر الطاهري رحمه الله.

ويتحدث الاستاذ عن هذه العلاقة بالقول:

«كان جدّي الحاج محمد كريم مكارم، رجلًا متديناً، وكان لي من العمر أربع سنوات عندما جاء الخبر بوفاته في الحمام العمومي بالسكتة، وأتذكر تلك الفترة جيداً وما كان يحوطني به من رعاية ومحبّة في زمان حياته، وكانت جدّتي لا تعرف القراءة والكتابة ظاهراً ولكنّها على درجة عالية من الذكاء وقوّة الحافظة، حيث كانت تذهب باستمرار إلى مجالس الوعظ وتستمع إلى أصحاب المنبر وتحفظ ما يقولونه،

وعندما تعود إلى البيت تحدثني بما سمعته من الأحاديث والروايات الشريفة من أصحاب المنبر، وكنت أحفظ مقداراً كبيراً منها منذ أيّام الطفولة بسبب علاقتي العاطفية الشديدة معها، فكنت أسمع منها قصص الأنبياء والأولياء، وتدريجياً أصبحت علاقتي شديدة بالمسائل الدينية، وكانت جدّتي على اطلاع كبير بمسائل الطب القديم وتتحدث معي عنها، بينما كان جدّي الأكبر الحاج محمد باقر الذي لم أره في حياتي رجلًا متديناً ومحبّاً لأهل البيت عليهم السلام وللتشيع، وفي الجملة كانت اسرتي عاشقة لأهل البيت عليهم السلام ومتعاطفة بشدّة

السيرة المباركة، ص: 15

مع مذهب التشيع رغم كون جدّي ووالده ليسوا من رجال الدين ولا من أبناء الروحانيين.

وأتذكر جيداً أنّ جدّتي كانت تأخذني دائماً إلى المسجد، وهكذا تعلمت الذهاب إلى المسجد منذ الطفولة، وعندما كان لي من العمر ثمان سنوان كنت أذهب إلى مجالس الوعظ والإرشاد وكنت أشعر بلذة كبيرة في الاستماع إلى المواضيع الدينية».

وكذلك يقول الاستاذ:

«كان والدي له علاقة شديدة بتلاوة القرآن الكريم، فمنذ دخولي إلى المدرسة الابتدائية كان يدعوني أحياناً إلى غرفته في بعض الليالي ويقول لي: يا ناصر، اقرأ لي من كتاب الآيات المنتخبة وترجمتها «وهذا الكتاب عبارة عن مجموعة من الآيات الكريمة التي اختارها بعض العلماء لغرض تدريسها في المدارس الدينية في زمان الشاه رضا خان» وكنت بدوري أقرأ هذه الآيات وترجمتها له وكان يسرّ بذلك كثيراً» «1».

2 النبوغ والاستعداد الموهوب

اشارة

إنّ النبوغ أو الموهبة الذاتية تعتبر وديعة إلهية في واقع الإنسان النموذجي حيث لا يشهد المجتمع البشري في كل جيل من الأجيال سوى عدّة معدودة من هؤلاء الشخصيات الفذة.

ولعلنا نعرف بوضوح الحكمة الكامنة وراء تخصيص بعض أفراد البشر بهذه الموهبة الممتازة، هل أنّها مجرّد امتحان وابتلاء إلهي لهذا الشخص الموهوب؟ وكيف يسلك مثل

هذا الإنسان في خط الاستفادة من هذه المواهب الإلهية وكيف يسقي شجرة النبوغ هذه في نفسه لتثمر وتتفتح أزهارها بما ينفع الناس؟ وهل أنّ هذا المعنى يخضع لقانون معين وهو أنّ كل صاحب نعمة يتحمل بمقدارها من المسؤولية، وبمقدار ما لديه من رأس المال سيكون ربحه السنوي، وبمقدار ما يبذل من الجهد والحركة فإنّه سيتمتع بمحصول أكثر؟ أو أنّ هذا الإنسان النابغة يكتم نبوغه في إطار ضيق من رغباته الذاتية ولا يتحرك من أجل تفعيل هذا النبوغ بما فيه خدمة الناس وبالتالي سيقنع بالتكاسل وينفق هذه الموهبة في خط الانحراف والرذيلة ولا يكون نصيبه منها سوى الخسران؟ «1»

السيرة المباركة، ص: 18

وبعبارة اخرى أنّ هذه النعمة من النبوغ والفطنة هل تكون بمثابة امتحان للشخص وللآخرين أيضاً من الرقباء ليتّضح جيداً رضاهم بهذا التقدير الإلهي لصاحبهم، أو يحسدونه على هذه النعمة ولا يتعاملون معه من موقع الاحترام والقيم الأخلاقية؟

أو يكون لهذا التفضيل الذاتي حكمة اخرى كأن تكون هذه النعمة مثلًا نتيجة وثمرة للأعمال الصالحة التي قام بها الوالدان أو بعض الأباء والأجداد «1»، ليكون لهم هذا الولد ثمرة من الباقيات الصالحات لأعمالهم ونتيجة لما اكتسبوه بجهدهم ليكون لهم ذخراً وذخيرة في الدنيا والآخرة؟ أو هناك حِكم ومصالح غيبية اخرى.

وعلى أيّة حال فلا شكّ في حقيقة هذا المعيار الإنساني الذي طرحه القرآن الكريم بقوله: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى» «2»

، أي أنّ معيار الفضيلة هو ما يكتسبه الإنسان بيده وبعمله ومن خلال سعيه وحركته في خط الفضيلة والأخلاق والمسؤولية، وبعبارة اخرى:

إنّ النفع الذي يجنيه الإنسان إنّما هو بمقدار ما لديه من رأس مال ذاتي ومواهب فطرية:

«فانّ أصل رأس المال هذا لا يتعلق به بل هو من عند

اللَّه»، وببيان أدق: «إنّ معيار كرامة الإنسان يكمن في سعيه وحركته في إطار قابلياته الذاتية والفطرية، ولا بدّ أن يكون هذا

السيرة المباركة، ص: 19

السعي هادفاً في حركة الحياة، ويصبّ هذا الهدف في جهة التكامل المعنوي والأخلاقي بما يحقق للإنسان الانفتاح على اللَّه تعالى، ولا يكون ذلك إلّامع خلوص النيّة وتحت مظلة التقوى التي تمثل حالة راسخة تعيش في مشاعر الإنسان الداخلية، ومن هنا جاءت الآية الشريفة: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ...» «1»

ناظرة إلى هذا المعنى بالذات.

ومن الواضح أنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة المهمّة بإمكانه أن يخلق في نفس الإنسان النابغة اهتزازاً وخشية من تحمل المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقه، وكذلك تسبب في بعث الطمأنينة من جهة اخرى في قلوب أحبائه وأصدقائه باعتبار أنّ وجود هذا الإنسان يمثل نعمة إلهيّة في أوساطهم.

طبعاً لا ينبغي الترديد في هذه الحقيقة وهي أنّ الإنسان لو سخر جميع قابلياته ومواهبه في خط الطاعة والإيمان والعبودية فانّ ذلك سيعود عليه بالبركة العظيمة وسيقترب من مرتبة لقاء اللَّه وسيحقق لنفسه درجات سامية من الكمال الإلهي في هذا السبيل.

إنّ استاذنا الجليل يتمتع في الأصل بهذا النبوغ والموهبة الذاتية من جهة، ومن جهة اخرى فإنّه تحرك بلطف اللَّه وعناية أهل البيت المعصومين عليهم السلام في خط الطاعة والمسؤولية والرسالة (كما سيأتي في البحوث اللاحقة) وعمل على تفعيل هذه المواهب الإلهية وتجسيدها في أرض الواقع النفساني والاجتماعي، وبالطبع فانّ ذلك يمثل حقاً كبيراً في ذمّة طلابه وتلاميذه بأن يتحركوا من أجل استمرار هذا الخط ودعم سماحة الاستاذ وتثبيت أقدامه بدعواتهم وممارساتهم العملية.

إنّ نبوغ سماحة الاستاذ كان مشهوداً منذ الطفولة وكان يتجلّى على شخصيته أكثر فأكثر طيلة مراحل عمره الشريف.

أقدم قضية في الذاكرة:

ويحدثنا سماحة الاستاذ عن قضية

تمتد إلى مرحلة الطفولة ويقول:

السيرة المباركة، ص: 20

«إنّ أقدم ما أتذكره من طفولتي هو ما يتعلق بمرضي في ذلك الوقت حيث أتذكر أنني مرضت مرضاً خفيفاً ونمت في المهد، وكان الفصل شتاءً وكان سريري يقع في زاوية من باحة البيت، وفي وسط الباحة هناك حوض نملؤه من ماء البِئر، ولكن بما أنّ ماء الحوض قد تنجس ولم يمكن تطهيره بماء الدلو الذي يستخرج من البئر، وكان حل هذا المشكل أن يتمّ افراغ بعض ماء الحوض ثم يملاؤون ظرفاً كبيراً من الجلد يدعى بالكر «وهو بمقدار كر واقعاً» ثم يتمّ افراغه في الحوض ليختلط ماؤه بماء الحوض ويطهر الجميع «وبالطبع فانني أفهم الحالة هذه ولكنني في ذلك الوقت كنت اذكرها بصورة ضبابية» وأخيراً تمّ مل الظرف الجلدي بالماء من البئر وأفرغوه في الحوض فامتلأ الحوض بالماء وفاض من جوانبه وجرى الماء إلى تحت سريري وكنت أرى كل هذه الامور وثبتت في خاطري بحيث أنني أتذكرها جيداً وكأنّ القضية حدثت بالأمس».

هذه الواقعة تذكرنا بالقصص والاساطير لنوابغ من أمثال ابن سينا، وتدلّ بوضوح على وجود نبوغ غير طبيعي لدى سماحة الاستاذ.

الدروس الطفروية:

وقد أشار كذلك سماحة الاستاذ إلى الدروس التي كان يحضرها بشكل قفزات إلى الأمام ويقول:

«عندما كان لي من العمر أربع أو خمس سنوات كنت أذهب إلى المدرسة الابتدائية، وبما أنّ سني لم يكن يسمح لي بالدراسة الرسمية، لذلك كنت أشترك في دروس مقدّماتية في مدرسة تدعى «زينة» في شيراز، ولكنني في نفس تلك الدروس كنت أستوعب التعليمات بصورة جيدة

السيرة المباركة، ص: 21

ولذلك تمّ ارتقائي إلى دروس أعلى بدون مراعاة سلسلة المراتب المفروضة».

بداية الدروس الدينية:

هذا النبوغ غير العادي تجلى أكثر فأكثر بعد الانتهاء من مرحلة الدراسة الابتدائية والمتوسطة وبعد سقوط رضا شاه والانفتاح والانفراج النسبي حيث تمّ ارسال دعوة من قِبل أحد علماء شيراز الكبار «وهو المرحوم آية اللَّه الحاج السيد نورالدين الشيرازي» لجميع الراغبين في تحصيل العلوم الدينية «وكان سماحة الاستاذ في الصف الثالث للمرحلة الاعدادية أو الثانوية وفي نفس الوقت يشترك بهذه الدروس الدينية بشوق كبير إلى جانب دروس الثانوية». ويقول الاستاذ:

«في المرحلة التالية دخلت مدرسة «خان» في شيراز وكانت من المدارس القديمة والكبيرة جدّاً وكانت محل تدريس وتحصيل الفيلسوف الكبير صدر المتألهين الشيرازي، بدأت بدراسة جامع المقدمات وشرح الأمثلة وكان استاذي فيها المرحوم رباني الشيرازي، وقلت له إنني لا أمتلك كتاب جامع المقدمات فلو أنّك أعرتني هذا الكتاب ليوم واحد لأقرأه وأقرأ كذلك الأمثلة وشرح الأمثلة وأتقدم للامتحان، فقدم لي الكتاب وبدأت بقراءته جميع ساعات الليل والنهار وتوجهت إلى الامتحان في الغد ونجحت فيه وتمّ ارتقائي لمرحلة أعلى فودعته واشتركت في صف آخر».

مسيرة عشر سنوات من التحصيل بأربع سنوات:

إنّ ذروة هذا النبوغ للاستاذ تجلّت بصورة أكبر عندما تحرك بخطوات واسعة في التحصيل العلمي في الحوزات الدينية بحيث إنّ ما كان يستغرق من الطالب عشر سنوات من السيرة المباركة، ص: 22

الدراسة في الحوزة قد اختزله الاستاذ بأربع سنوات، فعندما كان عمره عند ذلك سبع عشرة سنة كان يكتب حاشية على متن كفاية الاصول للمرحوم الآخوند الخراساني، ويقول الاستاذ في هذا الصدد:

«كنت قد شرعت بالدراسة الحوزوية على يد استاذي الهمام «آية اللَّه موحد» من أول كتاب السيوطي إلى آخر الكفاية بمدّة أربع سنوات، هذه الدروس التي تستغرق الآن في الحوزات العلمية مدّة عشر سنوات، وعندما أتممت درس الكفاية كان لي من العمر سبع

عشرة سنة وكنت في شيراز حينما بدأت بكتابة حاشية مضغوطة على الكفاية، وأذكر هذه الملاحظة الشيقة وهي أنني بعد اتمام جامع المقدمات في مدرسة خان جاء المرحوم آية اللَّه موحد يوماً إلى دكان والدي، وكان الفصل فصل الصيف حيث كنت اشتغل في دكان والدي الذي كان يعمل في حياكة الجوارب، فالتفت إلى والدي وقال له بما مضمونه:

- كم ولد لك؟

- أربعة أولاد.

فقال له الشيخ موحد: تعال واجعل هذا الولد (ناصر) وقفاً للإمام صاحب الزمان عليه السلام، فقبل والدي بالرغم من أنني كنت اساعده في كثير من امور المتجر، وبذلك أرسلني مع الشيخ موحد إلى الحوزة العلمية في مدرسة آقاى بابا خان».

اتمام الصمدية في أقل من يومين:

ومن عجائب وقاع ذلك الزمان ما تحدث به سماحة الاستاذ حيث قال:

«في أحد الأيّام سألني استاذي عن العبارة المعروفة في كتاب السيرة المباركة، ص: 23

«الصمدية» (والمبرد إن كان كالخليل فكالخليل وإلّا فكيونس وإلّا فكالبدل»، وأوصاني بحلّ هذا الإشكال، ولم أكن قرأت كتاب الصمدية من بين كتاب جامع المقدمات إلى ذلك الوقت في حين أنّ هذا الكتاب يعتبر من أصعب كتب جامع المقدمات، فعزمت على حلّ الإشكال بمطالعة الصمدية وانتهيت من مطالعته في أقل من يومين (36 ساعة) واستطعت أن اجيب عن سؤال الاستاذ وشرحت له عن قراءتي للكتاب، فتعجّب كثيراً وشوقني».

إنّ هذا التوهّج وصل إلى الذروة عندما نرى شاباً في السابعة عشرة أو التاسعة عشرة من العمر يشترك في درس شيخ الفقهاء واستاذ الاساتذة المرحوم آية اللَّه العظمى السيد البروجردي قدس سره «1».:

الاشتراك في درس آية اللَّه العظمى البروجردي قدس سره

لقد كان السيد البروجردي (كما يحدثنا سماحة الاستاذ) رجلًا قد ملئ إيماناً وتقوى، وذو ذكاء نادر وسيماء نوراني وجذاب وفقيهاً بارعاً، وفي والواقع كان يمثل مدرسة مستقلة في الفقه تقترب من الواقع الشي ء الكثير، وأمّا في علم الرجال والحديث والعلوم والادب فإنّه كان متبحراً كثيراً، وكان درسه جذّاباً لسماحة الاستاذ كثيراً بحيث يعترف استاذنا أنّه قد حاز الكثير من الفقاهة في محضر مدرسة البروجردي الفقهية.

ويتحدث سماحة الاستاذ عن مشاركته في درس السيد الكبير في الفقه والحديث بما يلي:

«في بداية شبابي (كنت في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة) وكانت مشاركة الطالب في مثل هذا العمر في درس آية اللَّه العظمى البروجردي الذي يعد من أساطين الحوزة- وكان يشترك في هذا الدرس استاذي آية اللَّه العظمى الداماد وآية اللَّه العظمى الكلبايگاني وكذلك الإمام الراحل قدس سره- أمراً عجيباً ولا سيما أنني كنت أتجرأ أحياناً

وأطرح إشكالًا على الاستاذ في أثناء الدرس، فكانت ظاهرة عجيبة للطلاب في ذلك الوقت بحيث كان البعض يقول: كيف يتجرأ هذا الغلام الشيرازي ويسمح لنفسه بأن يطرح إشكالًا في مثل هذا الدرس الكبير».

هنا نورد حكاية تتعلق بهذه القضية كما يلي:

تشويق آية اللَّه العظمى البروجردي قدس سره:

«في أحد الأيّام أشار آية اللَّه العظمى البروجردي في بحث الفقه إلى مسألة صيد اللهو»، أي أن يسافر الإنسان لطلب الصيد لغرض اللهو، والمعروف بين الفقهاء أنّ الصلاة في هذا السفر لا تكون قصراً بل يتم هذا الشخص صلاته، ولكن قلّ ما يحكم الفقهاء بحرمة هذا العمل، وكنت في ذلك الوقت طالباً صغير السن وجمعت أدلة كثيرة على حرمة هذا النحو من الصيد من كلمات القدماء والمتأخرين وأثبتُّ أنّ صيد اللهو من مصاديق السفر الحرام بحيث يجب على المكلّف أن يتمّ صلاته فيه. عندما قرأ آية اللَّه العظمى البروجردي ما كتبته في هذا الموضوع سألني متعجباً: هل كتبت أنت هذا الموضوع؟ فقلت له: نعم.

درجة الاجتهاد:

إنّ هذا النبوغ والذكاء الخارق مع جملة من الصفات والخصوصيات في شخصية الاستاذ أدّى إلى أن يحصل الاستاذ على إجازة الاجتهاد وهو في سن الرابعة والعشرين من العمر:

ويتحدث الاستاذ لنا عن ذلك بقوله:

«بعد مجيئي إلى النجف الأشرف ومن خلال مشاركتي في بحوث الخارج للأساتذة الكبار في حوزة النجف وطرح أسئلة متعددة أصبحت يشار إليّ بالبنان واهتم الأساتذة والعلماء بي ومنحوني حبّهم ورعايتهم بحيث إنني استطعت أن أحصل على إجازة الاجتهاد في سن الرابعة والعشرين من عمري من مرجعين كبيرين في ذلك الوقت، أحدهما: آية اللَّه العظمى الاصطهباناتي الذي يعد من المراجع الكبار ويعتبر شيخ الفقهاء في السيرة المباركة، ص: 26

ذلك الوقت، وقد بذل لي رعايته ولطفه كثيراً ولذلك كتب لي الاجازة بالاجتهاد الكامل، والآخر آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وبما أنّه لم يكن على اطلاع بحالي وتحصيلي الدراسي طلب أن يمتحنني، فقبلت ذلك، فطلب مني أن أكتب له رسالة في مسألة: هل أنّ التيمم مبيح للصلاة أو

رافع للحدث؟ فكتبت له رسالة مفصّلة في هذا الموضوع وعرضتها عليه، ومضافاً إلى ذلك أجرى لي الشيخ كاشف الغطاء امتحاناً شفوياً أيضاً وسألني عن أعقد مسألة من مسائل العلم الإجمالي، فعندما أجبته عنها كتب لي إجازة الاجتهاد ومنحني كل الحبّ والرعاية».

من الامور التي تشهد على وجود هذا النبوغ والموهبة الذاتية لسماحة الاستاذ «وفي نفس الوقت تعتبر شاهداً على الحافظة القوية له» هو أنّ الاستاذ أحياناً كان يكتب درس آية اللَّه العظمى السيد الخوئي وهو في النجف الأشرف بعد مضي اسبوعين من تلقي الدرس، في حين أننا نرى في هذا العصر أنّ أغلب الطلاب يكتبون درس الاستاذ في مكان الدرس حتى لا تفلت منهم ملاحظة أو ينسوا شيئاً منه.

تقريظ آية اللَّه العظمى السيد الحكيم قدس سره:

وفي آخر قصّة يحدثنا سماحة الاستاذ عن حوزة النجف الأشرف، وهي شاهد آخر على نبوغ الاستاذ وبلوغه أوج النضج العلمي، هو ما تفضّل به صاحب مستمسك العروة الوثقى المرحوم آية اللَّه العظمى السيد الحكيم «1» الذي يعد من أساطين فقهاء الشيعة حيث السيرة المباركة، ص: 27

كتب لسماحة الاستاذ تقريظاً وثناءً جميلًا في حاشية دفتر كتاب الطهارة «وهو تقريظ بحث الخارج للفقه للسيد الحكيم وبقلم الاستاذ» فقد كتب السيد الحكيم ما هذا نصّه:

«بسم اللَّه الرحمن الرحيم وله الحمد والصلاة والسلام على رسوله وآله الطاهرين، قد نظرت في بعض مواضع هذا التقرير «1» بمقدار ما سمح به الوقت فوجدته متقناً غاية الاتقان ببيان رائق وأسلوب فائق يدلّ على نضوج في الفكر وتوقّد في القريحة واعتدال في السليقة فشكرت اللَّه سبحانه أهل الشكر على توفيقه لجناب العلّامة المهذّب الزكي الألمعي الشيخ ناصر الشيرازي سلّمه اللَّه تعالى ودعوته سبحانه أن يسدّده ويرفعه إلى المقام العالي في العلم والعمل، إنّه وليّ التسديد

وهو حسبنا ونعم الوكيل والحمد للَّه ربّ العالمين».

محسن الطباطبائي الحكيم 9/ ج 1/ 1370 ه ق

مباحثة الاستاذ مع الإمام موسى الصدر حول كتاب (أشباه الفلاسفة):

لقد تجلّى نبوغ الاستاذ وقابليته الوفيرة في مجال التدريس والتحقيق والتأليف بعد إقامته في حوزة النجف مدّة سنة ونصف ورجوعه إلى قم المقدّسة «1» ولا سيما في مجال التحقيق والتأليف أولًا: لقد كتب الاستاذ كتاب «أشباه الفلاسفة» وله من العمر سبع وعشرون سنة.

وثانياً: إنّ هذا الكتاب قد صدر في أجواء مشحونة ضد رجال الدين والحوزة العلمية والدين الإسلامي وقد عرف بأنّه (كتاب العام) وذلك من خلال سعي وتعريف العلّامة الشيخ الشهيد المطهري قدس سره.

ثالثاً: على مستوى التجربة العملية في دائرة التأليف يمثل هذا الكتاب الثاني من مصنّفات المؤلف.

السيرة المباركة، ص: 29

ورابعاً: لقد تمّ طبعه ثلاثون مرّة، وبديهي أنّ الكتاب الذي يطبع ثلاثين مرّة يعدّ في عالم المطبوعات رقماً مهماً، ويحدثنا الاستاذ عن هذا الكتاب بقوله:

«كان لدينا جلسة اسبوعية مع فضلاء الحوزة العلمية من اصدقائنا الذين كنّا نشترك معهم في المباحثة، ويحضر هذه الجلسة بعض الشخصيات المهمّة منهم: الإمام موسى الصدر وأشخاص آخرون لا أجد مسوغاً لذكر أسمائهم، وكانت البحوث التي تطرح على بساط البحث تتعلق بالشيوعية حيث كانت الشيوعية تتمدد بسرعة في ذلك الزمان إلى ايران والبلاد الإسلامية المجاروة للاتحاد السوفيتي السابق، «وخاصة أنّ حكومة الشاه كانت تتحرك على مستوى توهين عرى الإيمان والتدين بين الناس» فكان ذلك سبباً في اشاعة الأفكار الماركسية بواسطة حزب تودة الشيوعي الذي كان يتحرك على مستوى الجامعات خاصة وكانت لديهم نشريات وصحف كثيرة اهتمت بترجمة كتابات رواد الماركسية وبعضها كان من كتابات الشيوعيين في ايران، وأخيراً وصل الأمر إلى درجة التأزم والتسافل بحيث خرج عن حدود البحوث المنطقية وأخذ يتجلى على شكل توجيه

الإهانة إلى المقدّسات الدينية من قبلهم لأنّهم كانوا يعلمون أنّ الإسلام مهما كان ضعيفاً فإنّه يقف سدّاً منيعاً بوجه مطامعهم، وقد امتدت هذه البحوث إلى الحوزات العلمية التي وجدت أنّ وظيفتها التصدي إلى هذا التيار المخرّب، وكان المرحوم العلّامة الطباطبائي وتلميذه الشجاع المرحوم العلّامة المطهري من جملة الأشخاص الذين تصدوا إلى هذه المسؤولية حيث كتبا «اصول الفلسفة والمنهج الواقعي» الذي يمثل حصيلة جهد هذين العلمين في هذا المجال.

وقد شرعنا مع أصدقائنا بالتحقيق حول عقائد وأفكار هذه المدرسة وكنّا نبحث في جلستنا الاسبوعية المواضيع المتعلقة بالماركسية من خلال مطالعة

السيرة المباركة، ص: 30

كتبهم لكي نكون على اطلاع كامل بأفكارهم ونظرياتهم ثم نضعها قيد الدراسة والنقد، وقد طلبت من الاخوة الموافقة على أن أكتب بعض المواضيع المتعلقة بالماركسية ثمّ أطرحها في هذه الجلسة لكي يتكامل الموضوع بصورة أفضل، وبالفعل فقد كتبت هذا الكتاب وسمّيته «أشباه الفلاسفة» وذكرت فيه جملة من المواضيع للفلاسفة الماديين وخاصة من أتباع المدرسة الماركسية ونقدتها مستعيناً بالملاحظات التي أوردها الاخوة في تلك الجلسة. ثم عملت على صياغتها بأسلوب قصصي لتكون أكثر جذّابية، وتمّ نشر هذا الكتاب وهو الكتاب الثاني من تأليفاتي، وقد استقبله الناس بشوق بالغ بحيث تكرّر طبعه لثلاثين مرّة تقريباً».

التأثير العميق لكتاب (أشباه الفلاسفة) في يقظة المسلمين:

ويتحدث سماحة الاستاذ عن تأثير هذا الكتاب الواسع لا سيما في البلدان الإسلامية الخاضعة لسيطرة الروس، ويقول في هذا الصدد:

«لقد كان الاخوة القادمون من أفغانستان يقولون لي: إنّ هذا الكتاب كان له أعظم تأثير في زمن سلطة الروس على أفغانستان وخاصة بين صفوف طلاب الجامعة الذين كانوا يدافعون عن الإسلام في وجه التيار الشيوعي وحتى أنّه تمّ وضعه في بعض الصفوف بصورة كتاب تدريسي، وبذلك حصل لي أصدقاء كثيرون من الشيعة وأهل

السنّة في صفوف الاخوة الافغان بواسطة هذا الكتاب».

ثم يذكر سماحة الاستاذ حادثة شيقة في هذا المجال لا بأس بالاستماع إليها من لسانه:

«قبل عدّة سنوات وبينما كنت متشرفاً للحج إلى مكة المكرمة وقد دعيت من قبل بعثة الإمام الراحل قدس سره إلى الحج، أخبرني أحد الاخوة في أحد

السيرة المباركة، ص: 31

الأيّام في مكتب البعثة بأنّ رجلًا من طاجكستان يريد ملاقاتك، فقلت له: لا مانع لدي. فجاء ذلك الرجل وكان في متوسط العمر وله لحية طويلة ووجهٌ نورانيٌّ ويتحدّث بالفارسية بطلاقة فقال: لقد كنت قبل ثلاثين سنة افكر في الماركسية وكان بلدي طاجكستان من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، ولم يكن لدي مصدر لأتبيّن به الحق من الباطل إلى أن عثرت على كتاب «أشباه الفلاسفة» وقد قرأت عليه اسمك فقرأته وتبيّنت لي الامور بوضوح، وكما يعبر ذلك الرجل: لقد حصلت على الحجة القاطعة، وبالرغم من أجواء الاضطهاد والارهاب الفكري الشديد في ذلك الوقت قمت بمخاطرة كبيرة وطبعت من هذا الكتاب ألفي نسخة ونشرتها بخفية «والظاهر أنّ هذا الكتاب قد وصل إلى طاجكستان عن طريق أفغانستان»، وعلى أيّة حال فبعد ثلاثين سنة قررت التوجه إلى مكة المكرمة وكنت أفكر بأنّ مؤلف هذا الكتاب هل هو حي أو ميت؟ فقلت في نفسي أنّه ليس في حال الحياة بعد ثلاثين سنة، ولكن جئت على سبيل الاحتياط أسأل من الاخوة الايرانيين في هذا المقر عنك، فقالوا لي: إنّه حي يرزق وقد جاء إلى مكة أيضاً «ولعله تصور أنّ مؤلف هذا الكتاب له من العمر سبعون عاماً عندما كتب هذا الكتاب وبعد مضي ثلاثين سنة أصبح له من العمر مائة سنة ومن البعيد يبقى حياً إلى هذا الوقت، في حين أنني كنت كتبت

هذا الكتاب ولي من العمر سبعة وعشرين سنة تقريباً».

لا يضيع عمل الخير:

وبينما كان الاستاذ يتحدث عن هذه القضية إذ أشار إلى نكتة دقيقة ولطيفة، وهي أنّ العمل الصالح مهما كان قليلًا فإنّه يفتح طريقه ويتجلّى بنفسه للآخرين بل ينمو ويشتد حتى السيرة المباركة، ص: 32

يصير شجرة طيبة: «تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا» «1»

، حيث يقول:

«وأنا أشكر اللَّه تعالى على أنّ هذا الكتاب انتقل بدون علمي واطلاعي إلى أفغانستان ومن هناك نفذ إلى طاجكستان وبعث على يقظة الناس وانتباههم، وهنا أقول: إنّ عمل الخير لا يضيع كما ورد في الحديث الشريف:

(ما كان للَّه ينمو) فبالرغم من أنّ هذا الكتاب لا يمثل إلّاعملًا صغيراً إلّاأنّه ازداد ونما وأنا أنظر إليه، واللطيف أنّ ذلك الرجل قال لي بعد ذلك: إنني على المذهب الحنفي ولكنني احب الثورة الإسلامية في ايران كثيراً، وأتوجه كل اسبوع إلى سفارة ايران في دوشنبه (عاصمة طاجكستان) ولي ابنان أرغب في ارسالهما إلى قم ليدرسا في الحوزة العلمية عندك، وبدوري أرشدته إلى طريقة ذلك ولكنّ أحداث طاجكستان وقعت بعد ذلك ولم تتحقق هذه الرغبة».

فتوة واخلاص الشهيد المطهري رحمه الله:

وعلى أيّة حال فإنّ النبوغ والابتكار والابداع وأمثالها من السمات التي يتميز بها سماحة الاستاذ تجلّت بوضوح في هذا الكتاب بحيث إنّ العلّامة المخلص الشهيد المطهري الذي يعدّ ثمرة من ثمرات هذه الشجرة الطيبة لم يمنعه حجاب المعاصرة عن الاعتراف بقيمة هذا الكتاب حيث أخذه بنفسه إلى هيئة الاشراف على الكتاب السنوي لتقييمه، ويتحدث سماحة الاستاذ عن فتوة الشهيد المطهري في هذا الصدد ويقول:

«ومن الضروري أن اشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ المرحوم الشهيد المطهري قال لي:

إنني قرأت كتابكم (أشباه الفلاسفة) وبما أنّني اعجبت به رأيت أن اقدمه السيرة المباركة، ص: 33

إلى هيئة الاشراف على أفضل كتاب السنة (وهم هيئة من أساتذة

الجامعة) وأرغب أن يطلع طلاب الجامعة على هذا الكتاب ويعلموا بوجود عقول مفكّرة في الحوزة العلمية ينافسون أفضل العقول المفكّرة في الجامعة.

وهكذا قدّم الشهيد المطهري هذا الكتاب وفاز بالجائزة الاولى وانتخب في تلك السنة على أنّه أفضل كتاب لذلك العام، وكان كتاب الشهيد المطهري ا (اصول الفلسفة والمنهج الواقعي) وهو عبارة عن أبحاث للاستاذ العلّامة الطباطبائي والشهيد المطهري 0 قد فاز في السنة السابقة بالجائزة الاولى في هذه المسابقة العلمية.

وطبعاً هناك بعض الاخوة وبسبب عدم اطلاعهم على محتويات هذا الكتاب بصورة جيدة كانوا يتحدثون عنه من موقع الإشكال والنقد».

3 الإبداع والإبتكار

اشارة

إنّ الذهنية الخلاقة والمبدعة لسماحة الاستاذ مع حافظته القوية وانسه بالآيات القرآنية وكلمات نهج البلاغة وروايات أهل البيت عليهم السلام، أدّت إلى أن يكون هذا الاستاذ سريع البديهة وحاضر الجواب لأغلب الأسئلة العلمية والمعضلات الفكرية، إنّ ملكة الابداع والتجديد لدى سماحة الاستاذ بإمكانها أن تصهر فولاذ المشاكل العلمية وتتغلب على التعقيدات الفكرية، فقد شوهد مراراً أنّ رواية من الروايات تتضمّن مفهوماً ساذجاً وبسيطاً ولا يعقل في حقّها التدقيق والتحليل العميق، أو بالعكس تتضمّن عقدة عمياء وبحاجة إلى تحليل وتفسير دقيق فانّ الاستاذ كان يستخرج منها نكات ظريفة وحقائق دقيقة بشكل جذّاب للغاية.

إنّ حلّ العُقد العلمية ورسم زوايا جديدة للمعرفة الدينية وعدم الخوف من نقطة البداية، وكذلك الشهامة والفراسة تتطلب وجود موهبة خاصة لدى الفرد، فعندما يتحرك الإنسان في تعامله مع القدماء من أساطين العلم من موقع التقديس والاحترام الكبير، وفي نفس الوقت يلتفت بدقّة إلى قصور أفكارهم عن إيجاد الحلول الدقيقة للمشكلات العلمية ولا تحجبه عن اكتشاف نقاط الخلل سيرتهم الجليلة، فانّ ذلك يحتاج إلى تأييد روح القدس، وهذا ما نلاحظه بشكل جلي في آفاق الاستاذ

العلمية المختلفة.

النظر إلى التفسير الأمثل بعين الانصاف:

إذا نظرنا بعين الانصاف إلى «التفسير الأمثل» لسماحة الاستاذ بما يحتوي من بيان السيرة المباركة، ص: 36

سلس وجذّاب، وقارنّا بينه وبين سائر التفاسير، لاتضحت لدينا هذه الحقيقة، وهي: إنّ هذا التفسير قد خطى خطوة كبيرة في علوم التفسير إلى الأمام كما هو حال تفسير «الميزان» للعلّامة الطباطبائي قدس سره، وفي نفس الوقت فانّ هذا التفسير يتضمّن منتخبات من التراث التفسيري العظيم من علماء الإسلام، ويتضمّن في طياته حقائق بديعة في دائرة الاجتماع والسياسة والأخلاق، والحقيقة إنّ هذا الكتاب قد ملأ فراغاً محسوساً في العصر الحاضر في علم تفسير القرآن بل إنّه أثبت البعد الخالد للقرآن الكريم وأنّه كتاب هداية وشفاء لجميع الأجيال البشرية على مرّ العصور.

ولكن لا يخفى أنّ الوصول إلى حقيقة القرآن وروح كلام أهل البيت عليهم السلام، يحتاج، مضافاً إلى عنصر النبوغ والابداع (الذي تقدم بيانه في الفصل السابق) إلى علو الهمّة وعظمة الروح والانسجام مع مفاهيم هذا الكتاب السماوي الذي لا يلمس معانيه ولا يدرك عمق مضامينه إلّاالطاهرون «1».

كتاب «القواعد الفقهية» ظاهرة مستجدة في مجال الفقه:

إذا تجاوزنا التفسير الأمثل نرى أمامنا كتباً عديدة ومتنوعة في العقائد والأخلاق السيرة المباركة، ص: 37

والتربية الاجتماعية بل في مجال الدراسات الحوزوية كلها مؤيدة وشاهدة على موهبة الابداع الكبير التي يتحلّى بها سماحة الاستاذ، ومن جملة هذه الكتب «أشباه الفلاسفة» الذي تقدم الحديث عنه في الفصل السابق، والكتاب القيم الآخر «القواعد الفقهية» الذي يعدّ في زمان طبع المجلد الأول «1» منه، كتاباً فريداً في موضوعه ومحتواه، لأنّ الكتاب المهم للمحقق الكبير المرحوم البجنوردي في هذا الباب قد تمّ طبعه ونشره بعد طبع كتاب الاستاذ، وهكذا بالنسبة إلى كتب اخرى في هذا الباب نظير «القواعد والفوائد» للشهيد الأول قدس سره، و «القواعد» للمرحوم العلّامة

قدس سره، و «العناوين» للعلّامة المحقق الحسيني المراغي قدس سره، و «عوائد الأيام» للمرحوم النراقي قدس سره، أو أنّ هذه الكتب لم تكن تبحث في القواعد الفقهية بصورة خاصة، أو أنّها أساساً تبحث في المسائل الفقهية من موقع كونها فروعاً في أبواب الفقه لا من باب كونها قواعد فقهية، بينما نرى أنّ سماحة الاستاذ تمكن لأول مرّة من تنظيم وجمع القواعد الفقهية المبثوثة في جميع أبواب الفقه، وأكثرها لم تكن تحظى باهتمام الفقهاء ولم تمنح حقّها من التحقيق والدراسة اللازمة.

ويحدثنا سماحة الأستاذ في مقدمة هذا الكتاب بما يلي:

«من أهم ما يجب على الفقيه تحقيقه والبحث عنه هي «القواعد الفقهية» وهي مجموعة في القواعد التي تكون ذريعة للوصول إلى أحكام كثيرة من أول الفقه إلى آخره، وتبتني عليها فروع هامة في شتى المباحث والأبواب.

لكن رغم فائدتها الكبيرة هذه، لم يبحث عنها بما يليق بها، ولم يؤدَ حقّها من البحث، لا في الفقه ولا في اصوله، إلّاشي ء طفيف منها، كقاعدة لا ضرر، وبعض القواعد الاخرى كقاعدة التجاوز والفراغ التي وقع البحث عنها في بعض كتب المتأخّرين من الاصوليين بحثاً تبعياً استطرادياً، لا ذاتياً استقلالياً، فأصبحت هذه القواعد النفيسة كالمشردين لا تأويها دار ولا تجد قراراً، لا عدّت من الاصول ولا من الفقه، مع أنّ من حقّها أن يفرد لها علم مستقل،

السيرة المباركة، ص: 38

وغير خفي أنّه لا يمكن تنقيحها ضمن الأبحاث الفقهية، لأنّ كل مسألة منها تختص ببحث خاص، كما أنّ كثيراً منها لا تمسّ المسائل الاصولية كي يبحث عنها في علم الاصول ولو استطراداً.

نعم، قام شرذمة قليلون من متأخري الأصحاب بتأليف رسالات تحتوي على بعض تلك القواعد.

ولكن مع الأسف لم يصل شي ء من هذه الكتب إلينا.

وأمّا

الكتاب «القواعد» الذي صنفه شيخنا الشهيد الأول قدس سره فليس متمحضاً في سرد القواعد الفقهية، بل يحتوي على مسائل فقهية مختلفة من شتى الأبواب، واخرى اصولية، ويرى فيه بعض المسائل الكلامية بل اللغوية أيضاً، فهو كتاب فقهي أشبه منه بغيره.

وكذا «تمهيد القواعد» للعلّامة النحرير الشهيد الثاني، فهو كما ذكر قدس سره في مقدمته يحتوي على مائة قاعدة اصولية وما يتفرع عليها من الأحكام، ومائة قاعدة أدبية مع ما يناسبها من الفروع الشرعية.

وأمّا كتاب «عوائد الأيّام في بيان قواعد الأحكام ومهمّات مسائل الحلال والحرام»، الذي ألفه شيخنا المحق النراقي قدس سره فهو- كما يظهر من اسمه- وإن اشتمل على بعض القواعد الفقهية إلّاأنّه لا يستوعبها، كما أنّه لا يختص بها بل يعمّها وغيرها.

فتحصّل من ذلك كله أنّه لا يوجد في مؤلفاتنا تأليف يحتوي على تلك القواعد الهامة بأجعمها ويبحث عنها بحثاً يليق بها، ولذلك لم يبق لي شك في أنّ القيام بهذه المهمّة بجمع تلك القواعد في موسوعة مستقلة والبحث عنها بما يليق بها خدمة للعلم وأهله» «1» «2».

عين صافية في صحراء الطاغوت:

المورد الثالث فيما يتعلق بالفكر الحر والخلّاق لسماحة الاستاذ هو إصدار مجلة «مكتب اسلام» التي تعتبر عيناً صافية في صحراء الظلم والشرّ في زمان الطاغوت «حكم الشاه»، فكانت بعنوان أول مجلة دينية يبزغ نورها في ظلمات تلك الأيام الحالكة، ويقول الاستاذ في حديثه عن هذه المجلة:

«لقد تمّ إصدار هذه المجلة في مرحلة من أشدّ مراحل النظام السابق ظلماً واضطهاداً على الدين، فلم تكن أيّة مجلة دينية تصدر في جميع مناطق ايران، فكان أن اجتمع بعض الاخوة الأفاضل وعلماء الدين المثقفين وصمموا على إصدار مجلة دينية تتولى أمر التصدي للانحرافات الفكرية والمفاسد الأخلاقية في هذا البلد، وتمّ الشروع

في هذه المجلة بعد تقديم معونات من بعض الأخيار وتجّار طهران الذين تكفّلوا تأمين مصروفاتها المالية، وبما أنّ الناس كانوا متعطشين للمعارف الدينية وللثقافة السليمة فكانت هذه المجلة بمثابة جرعة الماء للعطشان في الصحراء المحرقة أو المنار والمشعل للسالك في الظلمات الحالكة، فكان استقبال الناس لهذه السيرة المباركة، ص: 40

المجلة عظيماً جدّاً بحيث لم نتوقع مثل هذا الاستقبال فكان عدد المجلة يزداد بشكل كبير فمن ألفي نسخة في الاعداد الاولى إلى أن بلغ عدد النسخ في العدد الواحد مائة ألف نسخة وتمّ ارسالها إلى جميع أرجاء ايران من المدارس والجامعات إلى الادارات والسوق وقد استطاعت هذه المجلة خلق موج كبير في أجواء الثقافة الدينية السائدة».

حماية آية اللَّه العظمى البروجردي؛ وعرقلة أزلام النظام:

هذه الحركة الثقافية بدأت في عهد المرحوم آية اللَّه العظمى السيد البروجردي، وبما أنّ مثل هذه الحركات الثقافية تعتبر جديدة في أجواء الحوزة العلمية قلنا لبعض الأصدقاء: لعل آية اللَّه العظمى السيد البروجردي يقف منها موقفاً سلبياً ويخالف إصدار مثل هذه المجلة، فكنّا قلقين في هذا الشأن فقمنا بإرسال المجلة إلى سماحته وانتظرنا جوابه، ولكننا كنّا في غفلة من أنّ هذا المرجع الكبير والمقتدر والذائع الصيت كان أكثر انفتاحاً وثقافة ممّا كنّا نتوقع، حيث أرسل إلى بعض الاخوة: إني قرأت أعداداً من مجلتكم الكريمة وهي مجلة جيدة ومفيدة وأنا بدوري سأقف معكم في هذا المشروع، وهكذا كان موقف السيد البروجردي قدس سره هذا مؤثراً بشدّة في حركتنا الثقافية لأنّ هذه المجلة كانت تصدر بدون امتياز للنشر خلافاً لما هو المتداول في عالم الصحف والمجلات، لأنّ الحكومة كانت تمانع من إصدار مثل هذه المجلة وكنّا نتوقع أنّ الحكومة ستبادر إلى كبت هذا الصوت الحر وإغلاق المجلة، وهكذا وقع بالفعل فما أن

أحس نظام الشاه بهذه الحركة وأنّ هذه المجلة الإسلامية تحولت إلى رقم مهم في صعيد الثقافة الدينية والاجتماعية بحيث كان بإمكانها خلق بعض المشاكل للنظام فيما تنشره من السيرة المباركة، ص: 41

أفكار دينية في جميع المناطق، فقد أصدرت الحكومة أمراً بتوقيف إصدار المجلة، ومعلوم أنّ هذا الأمر صدر بذريعة عدم وجود ترخيص رسمي للمجلة، ولو كنّا نتقدم بطلب إجازة إصدار هذه المجلة من الحكومة فسوف لا نحصل عليها اطلاقاً».

ويشير سماحة الاستاذ في بيانه هذا إلى دور آية اللَّه العظمى السيد البروجردي المؤثر والمهم في إحياء واستمرار هذه المجلة بما له من نفوذ كبير في أوساط الناس في ذلك العصر ويقول:

«لقد تحدثنا في هذا الموضوع مع آية اللَّه العظمى السيد البروجردي، فكان أن استدعى رئيس الشرطة في قم وقال له: عليكم بفتح هذه المجلة فوراً، وبما أنّ نظام الشاه كان يعلم جيداً أنّ تهديد آية اللَّه العظمى السيد البروجردي يمثل تهديداً جدياً للنظام، فقد رأيت أنّ رئيس الشرطة أخذ بالبحث عنّي وقال: أرجو منك أن تصدر أمراً بالسماح باصدار المجلة وأنا الآن أمنحكم إجازة شفوية ثم أُلحقها بإجازة كتبية في ذلك، وهكذا تمّ نشر المجلة مرّة اخرى بدون إجازة رسمية وبقيت مشكلة عدم الترخيص الرسمي إلى وقت طويل إلى أن اشتدت ضغوط المرجعية على النظام فتمّ إصدار الترخيص الرسمي بالاكراه، واللطيف أنّه قد كتب على ملف المجلة في قسم المطبوعات في وزارة الداخلية ما يلي:

(إنّ هذه المجلة محل عناية آية اللَّه العظمى البروجردي)، وهذا الأمر كان مفتاحاً لحلّ جميع المشاكل».

الأبعاد الانتقادية والسياسية لمجلة «مكتب إسلام» ودورها في تصعيد الثورة:

ثم يتحدث سماحة الاستاذ عن البعد الانتقادي والسياسي لهذه المجلة المبتكرة ويقول:

السيرة المباركة، ص: 42

«بعد أن شعرنا بأننا نقف على أرضيّة متماسكة من دعم المرجعية بدأنا بطرح

مقالات انتقادية واجتماعية وسياسية بعد أن كانت جميع المقالات تبحث جوانب عقائدية وتفسيرية وأخلاقية وروائية فقط، ولكن بعد هذه الواقعة تطرقنا إلى المفاسد الاجتماعية أيضاً وتحدثنا عنها من موقع التحليل والعلاج والنقد، وبحمد اللَّه كان هذا الفصل مؤثراً جدّاً وقد منحت هذه المقالات المجلة قدرة ودينامية كبيرة في التحرك على مستوى النشريات والمجلات الدينية في ذلك الوقت في عملية إصلاح الفكر الديني في أجواء المتدينين والوقوف ضد الكلمات والبحوث الضّارة بالفكر الديني».

ثم إنّ الاستاذ ذكر حادثة في هذا المجال وأضاف يقول:

«في أحد أعداد صحيفة اطلاعات التي كانت صحيفة حكومية بإشراف «مسعودي» الذي يعتبر من أصدقاء الشاه المقربين كانت هناك مقالة ضد الحوزة ورجال الدين، فكتبت رسالة شديدة اللحن إلى مسعودي وأكّدت عليه بأنّه ما لم تنتهِ الصحيفة من نشر مثل هذه المقالات المضادة للروحانيين فاننا سنقوم بتحريم صحيفة اطلاعات في جميع المناطق، وسيكون هذا التحريم مؤثراً كثيراً من خلال هذه المجلة التي تتمتع بمقبولية واسعة في أوساط الناس، ولم تمض فترة وجيزة إلّاوكتب مسعودي رسالة يعتذر فيها عن خطأ الصحيفة ا لمذكورة وأنّ الغرض ليس هو إهانة رجال الدين وهتك حرمة الروحانيين ولكن بما أنّكم تلقيتم المقالة من موقع الاهانة واعتبرتم ذلك العمل بمثابة هتك لمقام الحوزة العلمية فأنا بدوري سوف أصدر أمراً للعاملين في الصحيفة بعدم تكرار مثل هذا العمل، وأنتم أعلى شأناً وأجلّ مقاماً من أن تقوموا بتحريم صحيفة اطلاعات، ومن الواضح أنّه كان مرتبكاً لما حصل لعلمه بخطأ موقفه من الحوزة العلمية».

دور الإمام موسى الصدر، المطهري، البهشتي ... في مجلة «مكتب اسلام»:

ثم إنّ سماحة الاستاذ أشار إلى الدور الهام والمؤثر لبعض أساطين العلم ورواد المعرفة كالعلّامة الطباطبائي، والشهيد المطهري، والشهيد البهشتي والإمام موسى الصدر والشهيد مفتح (قدس اللَّه أسراهم) في دعم

مسيرة الفكر الديني وكذلك دورهم الفعّال في تفعيل المجلة وحركة العلم والتبليغ في الحوزات العلمية حيث عبّدوا الطريق بنشاطاتهم العلمية لإنجاح الثورة الإسلامية، فيقول:

«إنّ أصدقاءنا في المجلة كانوا يمثلون نخبة واعية من رجال الحوزة العلمية الذين أصبحوا بعد ذلك من الشخصيات الكبيرة في الحوزة كالإمام موسى الصدر، المرحوم آية اللَّه الشهيد المطهري، المرحوم آية اللَّه الشهيد البهشتي، والمرحوم آية اللَّه الشهيد مفتح (قدّس سرهم) وحتى بعض الاساتذة الكبار أمثال العلّامة الطباطبائي قدس سره كانوا يساهمون بدورهم وبمقالاتهم في تفعيل المجلة وتحقيق أهدافها المرسومة، ونحن بعد أن اتصلنا بشرائح مختلفة من أفراد الشعب أحسسنا بأنّ شيئاً ما قد حصل، وهو أنّ هذه المجلة قد عبّدت الطريق للثورة، وكشاهد على ذلك أنّ كثيراً من الشخصيات المرموقة التي تحتل مناصب مهمّة في النظام الإسلامي الحالي كانوا وقتذاك يتصلون بنا ويقولون: نحن من قراء مجلة (مكتب اسلام) ومن صنائع المجلة، والحقيقة أنّها كانت كذلك، فهذه المجلة كانت واقعاً اللسان الناطق باسم الحوزة العلمية في قم المقدّسة، وفي الحال الحاضر فهذه المجلة ما زالت تصدر تباعاً «غاية الأمر أنّ بعض الاخوة تكفّلوا بمسؤولية إصدارها وقد اعتذرت عن الاستمرار في العمل معهم بسبب الظروف والمشاغل الفعلية الكثيرة»، وبالطبع فانّ المجلة المذكورة لا تصدر الآن بالكمية السابقة لأنّ مجلات إسلامية اخرى والحمد للَّه قد سدّت فراغاً في هذا المجال من قبيل المجلات التي تصدر في الحوزة العلمية وخارجها،

السيرة المباركة، ص: 44

ولكنّ هذه المجلة كانت الشعاع الوحيد تقريباً في ذلك الزمان شقّ ظلمات الجو الحاكم في زمان الطاغوت».

ثم إنّ الاستاذ ذكر لنا خواطر عديدة فيما يرتبط بهذه المجلة وموقف السافاك منها، وسوف نشير إليها في الفصول اللاحقة إن شاء اللَّه.

المسائل المستحدثة والحوادث الواقعة:

المورد الرابع في ما

يخص نبوغ الاستاذ وقدرته الخلّاقة، الحركة الثمينة والمثمرة التي شاهدناها في الأعوام الأخيرة فيما يتعلق بالمسائل الفقهية المستحدثة في الحوزةالعلمية في مشهد والتي بدأها سماحة الاستاذ هناك في فصل الصيف.

وبما أنّ الدخول في دائرة الحوادث المستحدثة وبسبب جدتها وعدم طرحها سابقاً في كتب العلماء والفقهاء وبالتالي عدم وجود المنابع والمدارك الكافية لها وعدم الانس بهذه المدارك والمصادر، كان هذا العمل مليئاً بالمشاكل والتعقيدات الفكرية بحيث يحتاج إلى مهارة فائقة وسعة صدر وقدرة اجتهادية كبيرة وجرأة على تحدي الموانع للوصول إلى نتيجة مقبولة وعملية في دائرة الاستنباط الفقهي، ويحدثنا الاستاذ عن نشاطه هذا في مجال المسائل المستحدثة ويقول:

«كنت أتوجه في أيّام الصيف إلى مدينة مشهد المقدّسة وأبقى لمدّة أسابيع معدودة وذلك لمدّة عدّة سنوات، وكنت أتفرغ إلى المسائل المستحدثة في دروس الفقه لطلاب الحوزة العلمية في مشهد في تلك الفترة، وأعتقد أنّ هذه المباحث تمثل بحراً عميقاً وموضوعاً مهمّاً من مواضيع الفقه، بسبب الظروف المتغيرة في عنصر الزمان والمكان والظروف المعيشية والثقافية للمجتمعات البشرية من جهة، ومن جهة اخرى فانّ نجاح الثورة الإسلامية وتشكيل الحكومة الإسلامية تسبّب في خلق مسائل جديدة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والقضائية في امور الطب السيرة المباركة، ص: 45

والصحة والجريمة وحتى في مسائل العبادات أيضاً، ونحن نعتقد أنّ فقهنا بإمكانه أن يستجيب لجميع الحاجات البشرية في كل زمان ومكان ولا توجد مسألة في فقهنا بدون جواب، والشاهد على ذلك ما ورد في الأحاديث الشريفة عن المعصومين عليهم السلام في هذا الصدد، وعلى هذا الأساس يجب على فقهائنا البحث بجدية من أجل استنباط الأجوبة لهذه المسائل من متون الأدلة والمنابع الغنية للفقه الإسلامي، ونحن بدورنا بحثنا هذه المواضيع المستحدثة وتحركنا للأجابة عن

الاسئلة وعلامات الاستفهام الجديدة في دروس الخارج الصيفية إلى جوار حرم الإمام الرضا عليه السلام وبالاستمداد من روح هذا الإمام العظيم، وتمّ تدوينها وجمعها بصورة كتب متعددة ثمّ طبعها ونشرها، وبحمد اللَّه كانت النتيجة هي هذا الأثر الفقهي الجيد، ونأمل في المستقبل أن يقوم الفقهاء بدورهم في إيجاد الحلول التي تلامس أزمات المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر وحلّ العُقد المستعصية في الفقه لإثبات أنّ الفقه الإسلامي لا يواجه نقصاً في أي مجال من المجالات وبإمكانه الاستجابة لجميع الحاجات البشرية والاسئلة الفقهية للناس، وهذا بنفسه يشكل علامة من علامات خلود الدين الإسلامي المقدّس».

فكر جديد بهيئة جديدة:

والمورد الخامس والأخير من الموارد المتعلقة بنبوغ الاستاذ وإبداعه الفكري هو مجموعة الابتكارات في مجال الفكر الديني سواء في مسائل التفسير، العقيدة، الاجتماع، الأخلاق وغير ذلك.

ويرى الاستاذ أنّ مجرّد تغيير المقالة والقالب والشكل من دون إجراء تغيير في المضمون والمحتوى هو أمر غير ممكن، ويعتقد بأنّ المنهج في التعليم الديني بحاجة إلى تحول جذري مضافاً إلى إجراء تغييرات أساسية في كثير من المسائل، ومن هذا المنطلق السيرة المباركة، ص: 46

تحرك الاستاذ في كتاباته وتصنيفاته من خلال ابداع اسلوب جديد في تدوين المفاهيم الدينية والتعاليم الإسلامية «1»، فقد كان الاستاذ فيما مضى يدرّس طلابه أساليب الكتابة ويصرّ دائماً على لزوم تجنّب التكلّف في الكتابة وترك التعقيدات البلاغية والمفهومية، وسيأتي الكلام عن سلاسة قلم الاستاذ في المواضيع اللاحقة.

وبنظرة فاحصة إلى «التفسير الأمثل» من هذه الزاوية نرى- ولعله لأول مرّة- وجود تقسيم للبحوث التفسيرية إلى قسمين أساسيين:

1- البحوث التوضيحية والأدبية المتعلقة بظاهر الآيات والجمل والمفردات.

2- الملاحظات والمعطيات.

وبهذه الصورة تجلّى هذا التفسير بشكل مقبول لدى الذهنية المسلمة في مجال المفاهيم التفسيرية لجميع الناس على اختلاف مستوياتهم الثقافية، وهذا

يمثّل أفضل شاهد على المدّعى، وهذا المنهج نجده بشكل أكمل في تفسير «نهج البلاغة» حيث يبتدى ء الاستاذ في هذا الكتاب بالتحقيق والبحث في سند الخطبة (وبالطبع فانّ الهامش يختص بالجهات الفنية واللطائف العلمية التي تخرج عن دائرة اهتمام العامة من الناس) ثم ينطلق الاستاذ في شرح الخطبة بعد تقسيمها إلى عدّة أقسام منسجمة ومتناسبة، أي أنّه يشرع بتفسير وشرح كل عبارة منها بصورة مستقلة ويبيّن مراد المتكلّم ومضمون العبارة منها وارتباطها بما قبلها وبعدها، وفي المرحلة الثالثة يبيّن الاستاذ الملاحظات والمعطيات في هذا المقطع من الخطبة الكريمة تحت عنوان مناسب، وفي المرحلة الرابعة نجد اهتماماً بمعنى المفردات اللغوية والمعقدة وذلك في الهامش «وهذا الموضوع أيضاً خارج دائرة اهتمام العامة من الناس»، وفي آخر مرحلة نقرأ ترجمة فارسية لهذا المقطع من الخطبة.

هذا الاسلوب من البيان والشرح الذي يحلل في طياته العبارات الصعبة والمغلقة في السيرة المباركة، ص: 47

الظاهر من خطب نهج البلاغة ويقدّمها للخاص والعام بشكل مريح للذهن وسهل الهضم، هذا بنفسه دليل واضح على المدّعى، كما هو الحال في مجلة «مكتب اسلام» لسماحة الاستاذ حيث نجد فيها هذا المنهج المبتكر في عرض المعارف الدينية والمفاهيم الإسلامية بقوالب عصرية مناسبة لذلك الوقت.

المورد الآخر: التفسير الموضوعي «نفحات القرآن» الذي يعد- انصافاً- منهجاً جديداً وإبداعاً في دائرة العرض والبيان وهو عبارة عن دورة كاملة في اصول العقائد والمعارف الاعتقادية والأخلاقية في القرآن الكريم، ومن الجدير أن يكون هذا الكتاب، كما ذكر ذلك بعض اساتذة الحوزة العلمية، كتاباً دراسياً في الحوزات العلمية.

وقد تحرك الاستاذ في هذا الكتاب من منطلق بيان وبحث جميع المواضيع المتعلقة بالعقيدة الإسلامية من باب فلسفة المعرفة إلى مباحث المعاد والعدل والإمامة، وكذلك البحوث المتعلقة بالحكومة

والأخلاق الإسلامية في الآيات القرآنية (مع تطعيمها بالروايات الشريفة والنكات التاريخية المتعلقة بها) وذلك بأن يبدأ البحث باستعراض مجموعة الآيات المتعلقة بذلك الموضوع العقائدي، ثم يشرع الاستاذ بأسلوبه السلس ومنهجه التفسيري بشرح وبيان معاني الآيات الكريمة بعد ترجمتها، ثم يبيّن الملاحظات المهمّة المستخلصة من فذلكة هذه الآيات وعلاقتها بالموضوع العقائدي محلّ البحث، وهكذا يأتي على بقيت الآيات الكريمة.

المورد الرابع: كتاب «أشباه الفلاسفة» فبغض النظر عن الابداع المهم في محتويات ومضامين هذا الكتاب (كما تحدثنا عنه في الفصل السابق) فإنّه قد بلغ الذروة في عالم الابداع والتجديد على مستوى عرض المفاهيم وبيان المواضيع العلمية في هذا الكتاب ولا سيّما الكتب في دائرة الحوزة العلمية والدراسات الدينية، لأنّه أولًا: قد مزج النقد العلمي للماركسية والمادية بالحقائق الاجتماعية والتاريخية الجذّابة.

وثانياً: تمّ اخراجه بشكل قصة رائعة تتناول موضوعاً علمياً معقداً، ويحدثنا الاستاذ في هذا الصدد في مقدمة هذا الكتاب:

السيرة المباركة، ص: 48

«لقد كنت منذ سنوات أقرأ وأتأمل (في المذهب الماركسي والعواقب الوخيمة المادية والمعنوية المترتبة على هذا الفكر الخطير تجاه المجتمع البشري، ولكنّ المانع الكبير الذي يتجلّى للباحث قبل كل شي ء هو عدم اطلاع أغلب الناس على المصطلحات الفلسفية الجديدة والقديمة، ولذا قمنا بحذف هذه المصطلحات أو تبديلها بعبارات سهلة وميسورة، بدون أن تفقد قيمتها الحقيقة، مضافاً إلى ذلك فانّ المواضيع العلمية المذكورة في هذا الكتاب تمّ دعمها بمجموعة من الحقائق التاريخية والاجتماعية الجذّابة من أجل تسهيل فهم مضامين هذا الكتاب وتمّت صياغتها في قالب قصصي جميل» «1».

ولذلك لا نتعجب إذا رأينا إنّ هذا الكتاب تكرر طبعه (أربعين مرّة) وحظى باستقبال واسع في صفوف المؤمنين.

المورد الخامس: «كيف نتعرّف على اللَّه» حيث ذكر سماحة الاستاذ في مقدّمة هذا الكتاب:

«إنّ الفلاسفة

اختاروا طريقاً خاصاً لمعرفة اللَّه، واختار علماء الكلام طريقاً آخر، وعلماء الحديث اختاروا بدورهم طريقاً ثالثاً، ونأمل أن نسلك في هذا الكتاب طريقاً يجمع بين مزايا جميع تلك الطرق، وفي نفس الوقت نتجنّب نقاط الضعف فيها، وذلك سعينا على مستوى جمع تلك البحوث وإدغامها وسلوك طريق معتدل يوصلنا إلى الحقيقة بشكل أفضل» «2».

وعلى أيّة حال فانّ الفكر الجديد يتطلب عرضاً جديداً وصياغة جديدة في الاسلوب لأننا نرى في هذا العصر الجديد مستمعين وقراء جدد، وذلك يقتضي صياغة المعارف والمفاهيم الدينية صياغة جديدة ويتمّ تبليغها إلى الناس بأحدث الوسائل والإرتباطات وأجهزة الإعلام، فالاستاذ كان ملتفتاً بدقّة إلى المتغيرات الكبيرة التي حدثت في هذا العصر

السيرة المباركة، ص: 49

وكتب في مقدّمة كتابه «دوافع ظهور الأديان» يقول:

«إنّ تصادم الأفكار في عصرنا الحاضر، عصر ثورة الارتباطات والمعلومات الهائلة، أمر حتمي وغير قابل للاجتناب، إنّ صراع العقائد والحضارات في عصرنا أوسع وأعمق بكثير من الحروب العسكرية، ووجود أدوات الإعلام المتطورة والأجهزة الدقيقة في مجال نشر الثقافات قد زاد في مساحة هذا السجال والصراع الثقافي بحيث إنّ نصف سكان المعمورة «ملياري شخص تقريباً» يتمكنون من مشاهدة مباراة لكرة القدم مثلًا بهذه الأجهزه المتطورة فوراً وفي وقت واحد، أو يتمّ طبع مجلة أو صحيفة بعدّة ملايين من النسخ وتوزع في خمس قارات في العالم، ومن ذلك ندرك جيداً أهميّة صراع وتصادم العقائد من خلال الاستفادة من هذه الأجهزة المتطورة، ولإدراك أهميّة هذا الموضوع يكفي أن نعلم أنّنا إذا أردنا أن نعقد جلسة في كل يوم يبلغ عدد الحضار فيها ألف نفر فانّ توفير ذلك العدد الغفير من المستمعين سوف يستغرق ستة آلاف سنة، أي يستغرق جميع التاريخ البشري المرقوم، أو إذا أردنا طبع

كتاب منذ بداية التاريخ البشري إلى الآن في كل سنة مرّة بمقدار مائة ألف نسخة، فستكون بمجموعها بمقدار نسخ إحدى الصحف اليومية في بلادنا في الوقت الحاضر» «1».

وفي ختام هذا الفصل نرى من الضروري الإجابة عن هذا السؤال، وهو أنّ مثل العقل المبدع والخلّاق هل يوجد في جميع أفراد البشر أو يحظى به بعض الأفراد فقط؟ وعلى أيّة حال كيف نتمكن من ترشيد قوّة الابداع في العقل البشري وتجسيدها في الواقع الفعلي؟

بالنسبة إلى جواب السؤال الأول، ينبغي القول إنّ هناك شواهد من الآيات والروايات تدلّ على أنّ جميع أفراد البشر يمتلكون نوعاً من الابتكار وبالابداع بالقوّة، وأساساً فانّ هذا الأمر يعد من امتيازات النوع البشري على سائر الأنواع، ويمكن أن تكون الآية الشريفة

السيرة المباركة، ص: 50

«عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» «1»

، ناظرة إلى هذا المعنى.

كيف يتمّ ترشيد قوّة الابداع والابتكار؟

وفي مقام الجواب عن السؤال الثاني يمكن القول إنّ أحد أسباب نمو وتفتح الابداع والابتكار في الإنسان يكمن في حصول الشك بل الوسواس في كل مسألة من المسائل التي ترد على ذهن الإنسان.

فإذا كانت المسألة المطروحة على ذهن الطالب تمثّل عقدة مستعصية عن الحلّ ويفضي ذلك إلى أن يعيش هذا الشخص الشك في نظرات وأفكار الآخرين بل في كل فكرة ورأي فانّ مثل هذا الشخص لا يذوق طعم الراحة قطعاً بل يتحرك بجدية وبسعي كبير في دائرة الابداع والابتكار.

والشاهد على ذلك ما ذكره سماحة الاستاذ من حكاية في مرحلة شبابه قال:

«لقد واجهت في بداية دخولي إلى الحوزة وسواساً عجيباً في جميع الأبواب وبدأ ذلك من مسائل الطهارة والنجاسة ثم اتسعت دائرة هذا الوسواس تدريجياً وشملت جميع الأبواب الفقهية وحتى العقائدية أيضاً ابتليت بالوسواس في جميع الامور وأحياناً بلغ إلى درجة أنني كنت أشك

في وجودي أيضاً، أو أنني كنت في حالات اليقظة أشك هل أنّني الآن في حالة النوم أو اليقظة؟

وامتدت ظاهرة الوسواس حتّى أنني عندما أتذكرها الآن فانّها تثير الضحك، مثلًا كنت في صباح شهر رمضان عندما أتيقن من طلوع الفجر كنت أشك هل طلعت الشمس أم لا؟!».

جذور الوسواس:

ويتحرك الاستاذ في تفسيره وتحليله لهذا الوسواس العميق والواسع على مستوى السيرة المباركة، ص: 51

البحث عن علله وجذوره ويقول:

«أنا أعتقد أنّ بعض هذه الظاهرة تعود إلى خصوصية معينة في مرحلة البلوغ التي كنت أقترب منها، ومعلوم أنّ مرحلة البلوغ تمثّل مرحلة الاستقلال الفكري، والشخص في هذه المرحلة يودّع التقليد والتبعية للآخرين، ولذلك فلو افتقد التعليم الكافي فمن الطبيعي أن يبتلى بالوسواس، والقسم الآخر من الوسواس يمثّل افرازات لحالة الجهل لعدم الاطلاع على المسائل الفقهية في دائرة الطهارة والنجاسة، والحلال والحرام وأمثال ذلك، فلو أنّ المكلّف تعلم هذه المسائل جيداً فسوف يتخلص من هذا النوع من الوسواس، وهناك قسم آخر من الوسواس يتفرع على حالة الفراغ والبطالة، فلو أنّ الإنسان وجد له عملًا فإنّه سيغفل عن ذلك الوسواس، ولم أكن وسواسياً من القسم الثالث قطعاً لأنني كنت أشتغل أكثر من اللازم، ولكنني كنت أقترب من مرحلة البلوغ الفكري والنضج العاطفي، ووقفت في مقابل عشرات أو مئات علامات الاستفهام التي دارت في ذهني من دون العثور على جواب مقنع، هذه الحالة استمرت بعد البلوغ إلى ما بعد سن العشرين وكانت تؤرقني كثيراً، وكانت على شكل مجموعة من الأسئلة والإشكالات المعقدة من قبيل إشكالات «هيوم» المعروفة حول برهان النظم وإشكالات اخرى كثيرة من قبل التيار المادي والفكر الوضعي والوهابي وغير ذلك، فكانت تعصف بي وتضغط على روحي وفي ذلك المحيط الفكري لم

يكن هناك من مجيب على هذه الأسئلة والمشكلات الفكرية، لقد كان استاذي رجلًا فاضلًا ولكنّه كان يدور في دائرة علم الكلام التقليدي ويجيب عن بعض المشكلات الفقهية فحسب».

النتائج النفسية والبدنية الوخيمة للوسواس:

ثم إنّ الاستاذ تحدّث عن الآثار والنتائج النفسية والبدنية للوسواس التي كان يعيشها وتحملها في ذلك الوقت وقال:

«في هذه المرحلة تحملت متاعب وآلاماً كثيرة وكنت أشعر بالهزال والذبول يوماً بعد آخر، وافكر باستمرار في حالتي الوخيمة حيث كنت أشعر أنني غريب عن الجميع وأنّ الجميع غرباء عني، وكنت أتصور أنني أعيش في عالم يختلف عن العالم الذي يعيش فيه الآخرون، وكنت أشعر بالرغبة في الصلاة ولكن ما تنفع الصلاة؟ كنت اريد أن يجيبني أحدهم عن مجموعة الأسئلة والإشكالات التي تدور في ذهني عن المبدأ والمعاد واصول الدين وفروعه، وعندما اشتدّ ضغط هذه الأفكار عليَّ كنت أخلو أحياناً لوحدي وأجهش بالبكاء متوسلًا إلى اللَّه تعالى أن يفتح لي أبواب معرفته وينقذني من هذا الوسواس، كان قلبي يحبّ الاستيقاظ آخر ساعة من الليل لُاصلي فيها صلاة الليل واناجي ربّي ولكن الاستيقاظ في هذه الساعة لشاب مثل عمري كان صعباً للغاية، فقررت شراء ساعة لتوقظني بصوت جرسها، وكان أحد تلامذتي ولعله كان يعمل في حانوت لبيع الساعات قد جاءني بساعة ذات جرس وقال: إنّ قيمتها ثلاثة عشر توماناً، فما كان مني إلّاأن أعدتها إليه باحترام لأنّ حقوقي الشهرية لا تتجاوز ثلاثة تومانات للشهر الواحد، يعني (ثلاثين ريال) في ذلك الوقت، وعليه فلا يمكنني شراء ساعة بهذا المبلغ».

بركات الوسواس:

وفي الختام تطرق سماحة الاستاذ لبيان المعطيات الإيجابية للوسواس وبركاته الخاصة وطرق علاجه أيضاً، فقال:

«إنّ هذا التعب والألم بالرغم من شدّته إلّاأنّه لا يخلو من بركات كثيرة

السيرة المباركة، ص: 53

أيضاً، حيث أجبرني على مطالعة كتب الأعاظم والعلماء في دائرة العقائد والكلام والتدقيق في أدلتهم والتدبر والتأمل في الآيات القرآنية والروايات الشريفة، ولعل هذه المعارف أصبحت بمثابة رأس مال فكري لما سأقوم به

من تأليف وتصنيف لكتب كثيرة في اصول الدين لاحقاً.

ومن أجل التعرف على المسائل الفرعية والعملية المتعلقة بالامور الفقهية ولغرض قلع الوسواس من جذوره، بدأت بمطالعة «العروة الوثقى» وأعدت قراءته مرات عديدة، فكان هذا سبباً لخلق ملكة فقهية لديّ بحيث تسلطت على المسائل الفرعية (ولكن ليست بصورة استدلالية بل بصورة عادية) وأتصور أنّ الإنسان إذا واجه الوسواس بهذه الصورة ومن موقع التأمل الفكري والعقلي فانّ ذلك من شأنه أن يمنحه حركة فكرية قوّية، ولكن إذا اتخذ موقفاً سلبياً من الحياة وواجه الوسواس من موقع اليأس فربّما يؤثر ذلك سلبياً على عقيدته وإيمانه ويتحرك بالتالي في خط الانحراف والكراهية للدين كما كنت أرى مثل هذه النماذج طيلة حياتي في أجواء المجتمع المتدين، ومن هنا اوصي أعزّائي المبتلين بحالةالوسواس أن يتوجهوا من أجل علاج الوسواس إلى الشخصيات المجربة والعالمة.

وعلى أيّة حال لقد وجدت في نفسي أنني أعيش عاصفة فكرية وطوفاناً في روحي واستمر هذا الحال لسنوات عديدة ولكن لم تمنع هذه الحالة استمراري في الدرس والبحث بل بالعكس كنت أحسّ بالنشاط في الدرس والاهتمام بالاشتغالات الفكرية التي كانت تسكّن ما أشعر به من اضطراب، وعلى أيّة حال كنت أعيش هذه الحالة من الصراع النفسي عندما دخلت في صفوف الحوزة العلمية في قم» «1».

السيرة المباركة، ص: 55

4 الجدّية والاستقامة

اشارة

من خصوصيات سماحة الاستاذ أنّه كان يتسم بالاستقامة والجدّية في أعماله وكان يتحرك في تحصيل العلم بقوّة ومثابرة بعيداً عن أي تساهل وتسامح في هذا الأمر.

وأتذكر دائماً نصيحتين للاستاذ في هذا المجال، وهما:

أ) ينبغي الشروع في العمل بقوّة وجدّية ولا ينبغي التسامح والتماهل أبداً في البداية، وهذه النقطة يذكرها سماحة الاستاذ مراراً في بداية كل سنة دراسية وبلحن محرك ومثير ويقرأ في

هذا الصدد قوله تعالى: «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ» «1».

وأحياناً يقرأ بيتاً من الشعر يفور حرارة واخلاصاً وجدّية ويقول:

أنا لا أقول كن ملكاً أو كن فراشة ولكن إذا احترقت بنيران العشق فكن رجلًا

ب) ويشترط بعد الشروع في العمل أن يستمر الإنسان فيه ولا يشعر بالتثاقل أو يتقطع في عمله، ويتمسك الاستاذ، أولًا: بهذه الآية الشريفة: «وَ الَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» «2».

ويقول: إن رمز التوفيق والنجاح لطالب من طلاب الدروس الدينية أمران:

أحدهما: الجهاد والسعي بجدّية «جاهدوا».

والآخر: خلوص النيّة «فينا».

وثانياً: كان الاستاذ يشير إلى حوادث التاريخ ويقول: إذا تصفحتم تاريخ العظماء من السيرة المباركة، ص: 56

الرجال وقرأتم سيرة أساطين العلم الذين بذلوا جهدهم في خدمة الإسلام وحملوا راية العلم والدعوة إلى اللَّه لوجدنا أنّ أغلب هؤلاء العظماء لم يكونوا يتمتعون بنبوغ خارق بل إنّ كثيراً منهم يملكون قابليات متوسطة ولكنهم تحملوا في هذا السبيل المشاق والمخاطر وأتعبوا أنفسهم في هذا السبيل «1».

المهم ترشيد الشخصية:

وببيان آخر: أنّه حتى المتوسطين من الناس إذا تحركوا بعزم وجدّية في خط الاستقامة والرسالة فإنّ قابلياتهم الكامنة بالقوّة تصبح بالفعل وتتحرك في مسيرها الواقعي، وبذلك يتمكنون من أن يخطوا خطوات واسعة على مستوى خدمة الدين والبشرية، فالكثير من السيرة المباركة، ص: 57

الناس يتمتعون بالمقدرة الخطابية أو الأدبية بالقوّة ولكنهم لم يبذلوا جهدهم في سبيل تفعيل هذه المقدرة النفسية ولم يمارسوا عملًا من أجل تقوية هذه الملكة فيهم ولذلك بقوا في حالة متخلّفة فلا هم يستطيعون الخطابة ولا يتمكنون من كتابة مقالة أو تأليف كتاب.

ويحدّثنا الاستاذ في هذا المجال ويقول:

«لا شك أنّ فنّ الكتابة والخطابة لم يمنح للبشر على السويّة، ولكن على أيّة حال فانّ كل شخص يمتلك مقداراً من هاتين الموهبتين ينبغي أن

يمارس عملية تفعيل هذه الملكة ويجسد هذه الموهبة على أرض الواقع العملي بأن يخطب أو يكتب ويدافع عن معتقده ورأيه، بالرغم من أنّ موهبة الخطابة أو الكتابة يجب أن نضعها في دائرة الفنون الإنسانية المهمّة بل هي أهم الفنون ولكن باعتقادي إنّ فنّ الكتابة أو الخطابة ليس مثل فنّ الشعر الذي يملك تذوقه بعض الناس ويفقده البعض الآخر، وعلى هذا الأساس يجب على جميع الفضلاء وطلّاب العلوم الدينية أن يتحركوا في هذا السبيل ويبذلوا قصارى جهودهم من خلال التمرين والممارسة والتتلمذ لدى استاذ ليتسلحوا بهذين السلاحين ويكونوا من الخطباء أو الكتّاب المتميزين، وأنا بدوري لم يكن لدى موهبة الكتابة في مرحلة الابتدائية والثانوية، فعندما كنت أكتب موضوعاً إنشائياً في المدرسة لم يكن إنشائي أفضل من الآخرين لعدم وجود الأرضية المناسبة لتفتح هذه القابلية والملكة، ولكن تجربتي الشخصية تحكي عن أنّ الإنسان إذا أراد تقوية وتفعيل هذه الملكة في نفسه يجب عليه مطالعة آثار الكتّاب والادباء الجيدين، وهكذا فعلت في هذا المجال وقرأت كتباً عديدة مشهورة بقوّة الأدب وقد طبعت مرّات عديدة وكانت مورد استقبال الناس في مجالسهم وكلماتهم.

وهنا تجربة اخرى أيضاً وهي أن يشتغل الطالب في هذا المجال تحت السيرة المباركة، ص: 58

نظر مرشد واستاذ فانّ ذلك من شأنه الاسراع في عملية ترشيد المواهب الفنية لدى الطالب، ولكنني مع الأسف كنت أفتقد الاستاذ في الكتابة، واقتصرت على الطريق الأول وهو قراءة الكتب الجيدة للآخرين (وهذا أيضاً من قبيل الاستفادة من الاستاذ) ولكن الأشخاص الذين اشتركوا في جلساتنا وتعلموا فن الكتابة بصورة منظمة كانوا أسرع من غيرهم في اقتباس هذا الفن وتجسيده في الخارج على شكل تأليف كتب جيدة».

أهميّة التأليف والخطابة:

يتحدث الاستاذ عن أهميّة فنّ التأليف والخطابة

بقوله:

«لقد ذكرت الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية هاتين الموهبتين بعنوان أنّهما من المواهب الإلهيّة الكبيرة للإنسان، مثلًا نقرأ في سورة «الرحمن» بعد أن يتحدث عن خلق الإنسان يذكر مباشرة مسألة تعليمه البيان: «الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ» «1»

، ويقول تعالى في الآية الاولى من سورة القلم: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ»، حيث يقسم اللَّه بالقلم وبمحتويات القلم، ومن هنا يتضح جيداً أهميّة هذا الأمر حيث يقسم اللَّه تعالى دائماً بالامور المهمّة.

أمّا الأحاديث الشريفة فقد سمعتم جميعاً الحديث المعروف: «مدادُ العلماءِ أفضلُ مِن دِماءِ الشُّهَداءِ»، لأنّ قلم العلماء وتأليفاتهم هي التي تبعث على حركة پالشهداء من أجل الدين والفضيلة، مضافاً إلى أنّ الحافظ لدماء الشهداء هو قلم العلماء، وقد ورد في الحديث النبوي المعروف:

«إذا مات المؤمن انقطع عمله إلّامن ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» «2».

السيرة المباركة، ص: 59

ولنستمع إلى ما ذكره أحد الأصدقاء وهو «آية اللَّه ذاكر الشيرازي» يحدثنا في هذا المجال عن حادثة شيّقة ويقول:

«إنّ أحد الامور الدخيلة في نجاحي في الحياة هو النشاط والجدّية التامة في العمل، وأتذكر أنني كنت في شيراز في مدرسة (آقا بابا خان) كنت أشتغل طيلة اليوم والليلة ما عدا أربع ساعات للنوم والاستراحة مع أنني كنت أستغل أيّام العطل أيضاً للعمل والمطالعة والبحث العلمي».

ويحدّثنا صديق آخر وهو «حجّة الاسلام والمسلمين مؤمن الشيرزاي» بهذه الحكاية:

«إنّ أحد الخصوصيات التي أعلمها عن الاستاذ أنّه كان كثير الاشتغال والنشاط، وعندما توفي والده ذهبنا لتشيع جنازته وعدنا إلى المدرسة، ولكنّه توجه إلى بيته وجاء صباح الغد إلى الدرس، وكان يشتغل بالدرس والبحث طيلة أيّام السنة في تلك المدرسة حتى أيّام العطلة ما عدا أيّام الجمعة وثلاثة أيّام

اخرى في السنة: يوم عاشوراء و 28 صفر و 21 من شهر رمضان، فكان جاداً في عمله وعندما قدم إلى مدينة قم حضر درس المحقق أية اللَّه العظمى الداماد وكان من طلّابه المقرّبين».

السيرة المباركة، ص: 61

5 المداوة والاستقامة «1»

اشارة

من الامور الجميلة أنّ سماحة الاستاذ لا يوجد في قاموسه معنى ومفهوم لكلمة العطلة، فعندما يدخل إلى المدرسة يتوجه فوراً إلى غرفته الخاصة ويبدأ بالمطالعة والكتابة إلى أن يحين وقت خروجه من المدرسة، وهكذا كان حاله في جميع أيّام السنة، ولعلّه يمكن القول أنّه كان يستفيد من أيّام العطلة أكثر ممّا كان يستفيده من أيّام التحصيل والدرس.

ولو لم يكن كذلك فلا يعقل أن يتمكن الاستاذ من الانتهاء من تفسير القرآن بأجمعه وبذلك التفصيل والشمولية خلال خمسة عشر سنة، هذا العمل والفعالية كما يعبّر عنها بعض اساتذة الحوزة العلمية المعروفين أنّها من المواهب الإلهيّة، واللطيف أنّ هذا الرجل المملوء حزماً وتصميماً كان لا يترك السعي والاشتغال حتى في أيّام المنفى، فعندما أمرت حكومة الطاغوت بتبعيده كان الاستاذ يعقد جلسات تفسيرية في محلّ المنفى «2».

السيرة المباركة، ص: 62

ويحدثنا الاستاذ عن هذه القضية ما يلي:

«أتذكر أنني كنت أكتب التفسير الأمثل ليل نهار ولم يكن لدي وقت إضافي، وفي أيّام التبعيد والنفي كنت أشتغل بكتابة التفسير الأمثل، لأنني كنت أملك وقتاً كثيراً لهذا العمل، وكان يشترك معي عشرة من الأصدقاء بحيث كان يأتي إلى محلّ التبعيد شخصان منهم على التوالي، وبالطبع كان مجيئهم إلى ذلك المكان يتضمّن مخاطرة ومشاكل سياسية وغير سياسية، ولكن في النهاية كانوا يأتون إليَّ في ذلك المكان، وهكذا استمر العمل، وأحياناً كنت أشتغل بتأليف كتاب وأنا مسافر بالقطار أو في الطائرة ولكن الكتابة في السيارة كانت تواجه بعض الصعوبة فكنت

أشتغل بالتفكير وكتابة بعض الملاحظات والنقاط، والكثير من الموضوعات والأشعار كتبتها في أسفاري، وباعتقادي أنّ جميع المؤلفين الكبار هم من الأشخاص الفاعلين والنشيطين».

العمل أربعة عشر ساعة في اليوم والليلة:

ويحدّثنا هذا الاستاذ الكبير في هذا المجال ويقول:

«لم أكن بحمد اللَّه أتعب من العمل، والآن وقد بلغت من العمر سبعين السيرة المباركة، ص: 63

سنة فأنا أعمل أحياناً في بعض الأيّام مدّة أربعة عشر ساعة في اليوم، وبما أنني أحبّ العمل والفعالية فانّ هذه الرغبة تسبب زيادة روح النشاط في نفسي بعيداً عن حالة التعب، ولعلّكم تعجبون ممّا أذكره لكم بأنني أحياناً أغرق في العمل إلى درجة أنني إذا أردت تقليم أظافري فإنني أقوم بتقليم أظافر كفّ واحدة في هذا اليوم ولا أجد وقتاً كافياً لتقليم أظافر اليد الاخرى، فاوكل أمرها إلى الغد، وأحياناً لا أجد الوقت لأن أشرب الماء، ولا أحسّ بذلك إلّاإذا اشتدّ بي العطش لأنني لا أجد فرصة في أثناء عملي لشرب الماء، هذه الامور قد تورث العجب لدى البعض ولكن بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعيشون قريباً من هذه الأجواء فلا يتعجبون من ذلك، والأقرباء والأهل بدورهم يدركون جيداً هذه الحالة».

وهذه الملاحظة تحلّ مسألة كثرة تأليفات الاستاذ «أكثر من مائة كتاب» وترد شبهة العجلة في كتابة وتأليف هذه الكتب بأن تضحي العجلة بالكيفية لحساب الكمية، «وربّما تصحّ هذه المقولة بالنسبة لبعض المؤلفين الذين عُرفوا بكثرة تأليفاتهم» فالشخص الذي يشتغل أربعة عشر ساعة أو أكثر في اليوم لا نتعجب لكثرة تأليفاتهم، وكما يقول بعض «1» أصحابه عنه:

«كان يستيقظ آخر ساعة من الليل وبعد الإتيان بالنوافل يصلي صلاة الصبح ثم يشتغل بالمطالعة إلى أن يحين موعد تناول طعام الفطور ثم يخرج من غرفته لممارسة نشاطاته العلمية الاخرى من الدرس والتدريس».

ولا سيّما إذا

أخذنا بنظر الاعتبار سرعة العمل وملكة النبوغ الذاتي والذهن الخلّاق الذي مرّ الكلام عنه سابقاً وسرعة البديهة ودرك المطالب والمسائل العميقة فانّ مثل هذا الشخص يمكنه الجمع بين كثرة التأليف والدقّة والعمق في مجال الموضوعات العلمية.

الكمية لا تكون على حساب الكيفية:

ويحدّثنا الاستاذ عن هذه الخصوصية في تأليفاته ويقول:

«إنني اوصي دائماً بعدم العجلة في الامور وخاصة في مجال التأليف، فالتأليف مثل السهم المنطلق من القوس عندما ينطلق ويخرج من سيطرة الإنسان وينتشر في المجتمع لا يمكن بعد ذلك جمعه وإعادته، فأنا اوصي الاخوة في هذا المجال وفي المجالات الاخرى أن لا يضحّوا بالكيفية فداءً للكمية، علينا الاقلال من الكتابة لحساب زيادة الجودة والكيفية، فلعلّكم تشكلون عليَّ بأنّك أكثرت من التأليف وكتبت كتباً كثيراً حيث يبلغ عددها مائة وعشرين كتاباً.

جوابي عن هذا الإشكال أنني إذا أردت أن اضحي بالكيفية لحساب الكمية فانني قادر على أن أكتب أكثر من ذلك بكثير، ولكنّ بعض هذه التأليفات قد كتبتها مرّتين أو ثلاث مرّات قبل طبعها، وهذا الأمر حصيلة كثرة العمل والفعّالية (أحياناً أعمل أربعة عشر ساعة في اليوم) ولا أعتقد أنني قد أكثرت من كمية التأليفات على حساب اهتزاز الكيفية والجودة».

6 العشق للعمل

اشارة

ممّا لا شك أنّ أحد عوامل زيادة النشاط والفعالية هو أن يمتلك الإنسان حالة العشق للعمل والطريق الذي يختاره الإنسان في حركة الحياة، فلو أنّ هذا العشق لم يكن عشقاً أعمى بل يتحرك من موقع الحِكم والمصالح المعقولة فإنّه سيكون سبباً لكثرة العمل وزيادة النشاط وعدم التعب، وكذلك يورث الإنسان استمرارية وجدّية في عمله، مثلًا إذا اختار الإنسان فرع العلوم الدينية واشتغل في الحوزة العلمية حيث تعتبر هذه العلوم والدراسات من أفضل وأسمى الفروع العلمية لأنّها تتسبّب في هداية الناس وإرشادهم، وهذه المسألة تعتبر من أعظم الحاجات في المجتمع البشري، فالمجتمع الذي يخلو من الأخلاق والإنسانية فإنّه بمثابة جسد بلا روح (ولا يختلف حاله عن المجتمع الحيواني بل يكون أقصى وأشدّ توحشاً وانحطاطاً حتى لو كان يملك أعلى قدرة

تكنولوجية ويملك أحسن الأطباء والمهندسين والفنانين في مختلف العلوم والفنون) فلو أنّ الإنسان تحرك من هذا المنطلق وسلك في حياته هذا الخط أي أنّه سلك طريق الأنبياء واتخذ مهمّة أولياء الدين عملًا له وجعل من نفسه جندياً للدين وخادماً للإمام صاحب الزمان عليه السلام، وعاش في هذه الأجواء من العشق للتحقيق والتأليف، فمن المسلّم أن يكون مثل هذا الشخص كثير النشاط والفعالية ولا يتعب ولا يمل من التحقيق والعمل والدراسة ولا يقف في وسط الطريق بدون إكمال المسيرة الرسالية.

خمس الأبناء يقدّمه إلى الإمام المهدي عليه السلام:

لقد وضع استاذنا قدمه في هذا الطريق بهدف أن يكون جندياً من جنود صاحب الزمان عليه السلام، بل أنّ والده بنيّة خالصة كما يعبّر أية اللَّه موحد (استاذ استاذنا)، قدّم ابنه هذا بعنوان أنّه خمس أبنائه إلى الإمام المهدي عليه السلام، ومن هنا شعر الاستاذ بالعشق الملتهب في وجدانه يزيل عنه كل أشكال الكسل والتعب ويسلب منه طعم الراحة.

وحكى لنا سماحة الاستاذ عن عمل والده في تقديمه إلى الدراسة وقائلًا:

«بما أنّ الدروس العلمية في مدرسة خان في شيراز كانت متقطعة من جهة، ومن جهة كنت أعيش العشق الملتهب لتحصيل العلوم الدينية وقد ملك هذا العشق جميع وجودي وألهب روحي فلم يروني هذا المقدار القليل من الدراسة، وكان أن انتهت امتحانات السنة الثالثة في المدرسة الثانوية وانتقلنا إلى مدرسة اخرى تدعى «آقا بابا خان» من المدارس المعروفة في شيزار والتي يدرس فيها الطلّاب جميع الوقت، فتوجهت إلى آية اللَّه موحد وبدأت أتتلمذ عنده، وفي أحد الأيام جاء آية اللَّه موحد إلى السوق وحضر في دكان والدي وقال له: أنت والد لخمسة أبناء أحدهم ناصر، فاجعل هذا الولد بعنوان خُمس أبنائك للإمام صاحب الزمان عليه السلام ودعه يحضر

دروسه الدينية بشكل منظم، فوافق والدي، وذلك في وقت كان لي من العمر ثلاثة عشر سنة وكان والدي في أمس الحاجة إليَّ».

العشق للإمام صاحب الزمان عليه السلام:

ويتحدّث سماحة الاستاذ عن حبّه الشديد للإمام صاحب الزمان عليه السلام ويقول:

«لا أتذكر بالدقّة كم كان لي من العمر عندما شعرت بالعشق الشديد لمعرفة اللَّه وأولياء الدين وخاصة الإمام صاحب الزمان (عج)، ولعلّه كان لي السيرة المباركة، ص: 67

من العمر اثنتا عشرة سنة حيث كنت أشعر دائماً بأنني أبحث عن ضالتي وينبغي عليَّ البحث عنها والعثور عليها، فتوجهت إلى المسجد واشتركت في مجالس الوعظ والإرشاد وكنت أزور مرقد «شاه چراغ» «1» في شيراز ولكنني لم أعثر على ضالتي، وكانت لي دعوات ومناجاة مختلفة ولكنّها لم تكن تروي عطشي إلى الغاية المنشودة، وصارت لي علاقة شديدة بالعبادة ولكنني لم أكن ادرك في هذا العمر الطفولي مضمون العبادات، وأحياناً كنت أحتاج للذهاب إلى الحمام ولكن بما أنّ البيوت في ذلك الزمان تفتقر إلى الحمام وكنت أشعر بالخجل «ولم أكن أرغب أن آخذ نفقة الحمام من أبي وامي، وأساساً الأولاد في عمري كانوا يتوجّهون إلى الحمام مع أبائهم» فاضطررت إلى الذهاب إلى خارج المدينة في محلة «قصر سعدي» حيث يمرّ من هناك غدير للماء ولعله يبعد عن منزلنا فرسخ واحد فكنت أغتسل هناك بذلك الماء وأعود إلى البيت، ولكنني كنت أشعر بالرضا في قلبي، وعندما دخلت سلك طلّاب العلوم الدينية ازدادت هذه الحالة واشتدّت أكثر من السابق».

العشق لطلب العلم:

وعلى أيّة حال هذا العشق المقدّس لطلب العلم، كما تقدّم في الفصول السابقة، تسبب في أن ينتهي سماحة الاستاذ من قراءة كتاب الصمدية بدون استاذ في أقلّ من يومين ويجيب على إشكال استاذه، أو أن يقرأ في يوم واحد كتاب الأمثلة وشرح الأمثلة ويشترك في الامتحان به ويرتقي إلى صف أعلى، ويحدّثنا الاستاذ عن ذلك بقوله:

السيرة المباركة، ص: 68

«أنا لا أرى

أنّ هذه الامور ترتبط بالقابلية والاستعداد الذاتي بل تتعلق بشكل أكبر بالعشق الجياش لطلب العلم وأعتقد أنّ العشق والعلاقة العاطفية بإمكانه أن يحدث معجزة في هذا المجال ولكن قليلًا من الناس يصدّق بهذا المعنى».

وكذلك يقول سماحته:

«كنت أدرس ليل نهار، في الصيف والشتاء، في شهر رمضان ومحرم وصفر ما عدا يوم الجمعة وبعض أيّام التعطيل المهمّة (ثلاثة أيّام في السنة)، ولم يكن اهتمامنا في المدرسة سوى المطالعة والتدريس، وكان عشقي يزداد ويشتدّ يوماً بعد آخر، وكنت كلما درست أكثر لا أشعر بالرضا في نفسي فكنت أضغط على استاذي أن يدرسني أكثر، ولكنّه لم يكن يقبل بذلك، ولعله كان يتصور أنّ الصبي الذي له من العمر ثلاث عشرة سنة لا ينبغي له أن يدرس كل هذه الدروس ويضغط على نفسه وأعصابه فيصاب بالذبول والضعف بسرعة، ويواجه الخطر في مستقبله، ولكنني كنت دائماً في صراع معه لأكسب منه دروساً أكثر وكان هو يسعى أكثر بأن لا أدرس أكثر من اللازم، وكان الحق معه ولكن الشخص العاشق لا يذعن لهذه الأقوال بسهولة «1».

السيرة المباركة، ص: 69

ولعلّكم لا تصدّقونني بل إنني بدوري لا أكاد اصدق بأنني في تلك الأيّام شرعت بتدريس المراحل البدائية من المقدمات وأحياناً كان لي في تلك المدرسة ثمان جلسات للتدريس في يوم واحد مضافاً إلى دروسي والمباحثات التي كنت اجريها مع اخواني، ومع أن بيتنا في شيراز لم تكن تفصله عن المدرسة فاصلة كبيرة فإنني قلّما كنت أذهب إلى البيت بل كنت أبقى ليل نهار في المدرسة مشتغلًا بالمطالعة والدرس إلى وقت متأخر، حيث كان لدينا في ذلك الوقت مصباح نفطي، وفي أحد الليالي ملكني النوم وأنا في أثناء المطالعة وانقلب المصباح فلما استيقظت في الصباح

رأيت نفسي وكتبي كلّها سوداء والمصباح منطفى ء، وقد ملكتني رحمة اللَّه أنّ السيرة المباركة، ص: 70

الغرفة لم تحترق. ولم أكن أهتم لنوع الغذاء إطلاقاً، وأساساً فإنّ حالة الطلاب في ذلك الوقت كانت أشدّ صعوبة من الحالة في هذا الزمان، فقد سبب مجموع هذه الامور أن اصاب بالضعف والذبول في بدني ولكنّ حرارة العشق لطلب العلم كانت تعوّض تلك الخسارة».

7 النظم في جميع الامور «1»

اشارة

إنّ حالة النظم في حياة الاستاذ إلى درجة من الدقّة بحيث يذعن لها كل إنسان منظم ولا يطيقها كل شخص غير منظم، وهذه الحقيقة يدركها كل شخص كانت له رابطة معينة مع سماحة الاستاذ.

السيرة المباركة، ص: 72

ويتحدّث الاستاذ عن هذا الجانب بقوله:

«كنت أتحرك في حياتي وفقاً للنظم لا في مجال الدرس والبحث والتحقيق فحسب بل حتى في مجال الأكل والنوم والاستيقاظ وسائر الامور الاخرى، وقد أدّى هذا النظم إلى أن أستفيد من أوقاتي بأفضل ما يكون، ولو لم يكن هناك نظم في حياتي لم أكن موفّقاً لإنجاز أعمال مهمّة، ومن غير الممكن أن أنتج هذه التأليفات المهمّة بدون برنامج منظم».

وأمّا بالنسبة إلى حكايات الاخوة والأصدقاء فكلّها تحكي عن وجود مثل هذا النظم الدقيق في حياة الاستاذ منذ قديم الأيّام حيث يقول أحدهم «1»:

«إنني رأيت في الاستاذ أمراً مهمّاً وهو نظمه في العمل وقد كان يتحرك وفق برنامج معين ومنظم للمطالعة، وبرنامج للنوم، وبرنامج للعبادة، وبرنامج لأعمال داخل الغرفة».

إنّ تنوع نشاطات سماحة الاستاذ العلمية وكثرة رجوع الناس إليه وخاصة بعد قبوله لمسؤولية الافتاء والمرجعية الدينية من شأنها أن تؤدّي إلى مشكلات كثيرة في حال عدم وجود النظم والانضباط في دائرة الأعمال والنشاطات المختلفة لأنّ النظم يعني وضع كل شي ء في محلّه وبالتالي ستكون الإجابة على الكم الهائل من

الأسئلة والاستفتاءات في الأبواب الفقهية المختلفة ممكنة وميسورة، يقول الاستاذ في هذا الشأن:

«النقطة الاخرى التي لها جنبة خصوصية واجتماعية في نفس الوقت لأنني أعتقد أنّ الإنسان المسؤول يجب عليه أن يجيب على طلبات الناس ورسائلهم، هذه الرسائل إذا استمرت تمثل حلقة وصل بين الفرد والمجتمع، وأنا بدوري أوصيت الاخوة في قسم الرسائل في مكتبي أن يكون هذا القسم فعّالًا ولابدّ من الإجابة على كل رسالة حدّ الإمكان فلا ينبغي أن السيرة المباركة، ص: 73

تكون هذه الرابطة مع الناس ضعيفة ومهزوزة، لأنّ الرسائل تورث الإنسان معلومات كثيرة عن وضع المجتمع والناس، ولهذا السبب نرى في الحال الحاضر الكم الهائل من الرسائل، وفي كل يوم يفتح المسؤولون عن هذا القسم رسائل عديدة تصل إلينا من الناس وبما أنّ هذه الرسائل بمثابة أمانة من المرسلين فأنا لا اجيز لمسؤولي المكتب فتح هذه الرسائل لوحدهم بل يجب عليهم فتحها وقراءتها في حضوري ليتمّ عزل تلك الرسائل التي تتضمن أسرار الناس، وتفكيكها عن الرسائل العادية التي لا تحتوي على موضوع خاص، وهكذا يتمّ بعث الرسائل الخاصة بالاستفتاءات إلى قسم الاستفتاء، والرسائل المتعلقة بطلب الكتب إلى قسمها الخاص، والرسائل العلمية التي كتب عليها «رسالة علمية» ترسل إلى القسم الخاص بالأجوبة العلمية، والرسائل العادية ترسل كذلك إلى قسمها الخاص، ولكل واحد منها شخص مسؤول عن الإجابة عنها ولكنّ التوقيع النهائي على الرسائل وخاصة فيما يتعلق بالاستفتاءات إنّما يكون تحت نظري».

بركات النظم وروح الإصلاح والتنظيم:

إنّ روح النظم المتوغلة في شخصية الاستاذ عندما تتحد مع إرادة الإصلاح والتكامل فانّ من شأنها أن تفرز بركات كثيرة للحوزة العلمية، إنّ اتصاف الاستاذ بمثل هذه الروحية الإيجابية أدّى إلى أن يهتم منذ عنفوان شبابه بإصلاح وتنظيم البرامج الدراسية في الحوزة

العلمية، ومن هنا كان له لقاء مثير وشيّق مع آية اللَّه العظمى السيد البروجردي (وبصحبة مجموعة أصدقائه الطلّاب الشباب في الحوزة)، وسيأتي تفاصيل هذا اللقاء تحت عنوان «حرية الفكر والاعتماد على النفس» لسماحة الاستاذ، ولكن لا بأس بالإشارة في هذا الفصل إلى هذه الحقيقة، وهي أنّه بالرغم من أنّ مثل هذه الاطروحات الإصلاحية لإيجاد النظم في السيرة المباركة، ص: 74

الحوزة العلمية في زمان آية اللَّه العظمى البروجردي قدس سره لم تؤثر كثيراً في تغيير الوضع الراكد في الحوزة، والراكد على مدى الزمان فانّها أثرت تأثيراً ملموساً على يد مراجع كبار كالسيد الإمام قدس سره وآية اللَّه العظمى الكلبايكاني (الذي كان يعدّ في زمان المرحوم آية اللَّه العظمى من علماء الدرجة الثانية ولكن بعد ذلك أصبح من علماء الدرجة الاولى وزعيماً للحوزة العلمية)، والأفضل أن نستمع لهذه الواقعة من الاستاذ نفسه بحيث يقول عنها:

«لقد شعر القائمون على امور الحوزة بعد آية اللَّه العظمى البروجردي وما رافق ذلك من تحولات كثيرة، أنّ مسألة الامتحان مثلًا في الحوزات العلمية أضحت من الواجبات، ولابدّ في المراحل الابتدائية في دروس الحوزة من وضع برنامج دقيق للمدارس الدينية، من هؤلاء العلماء آية اللَّه العظمى السيد الكلبايكاني حيث شكل أول مدرسة علمية وفقاً لهذا البرنامج: حيث كان هناك برنامج دراسي منظم، وساعات دراسية منظمة، وتسجيل للحضور والغياب في جلسات الدرس، وكان الطالب يؤدّي الامتحان بصورة مرتبة، وكانت هناك حالة من الاهتمام بأمر معيشة الطلّاب فيها، ثم إنّ هذا المنهج امتد إلى دائرة أوسع في الحوزة، وأتذكر جيداً أنني تحدثت مع مجموعة من الاخوة الفضلاء في ضرورة أن يكون هناك درس لبعض اللغات الأجنبية إلى جانب دروس الحوزة، وقد عثرنا على استاذ خاص

لتدريسنا هذه اللغة في الليالي التي لم يكن لدينا بحث أو درس حوزوي، ولكن بعد ذلك أصبحت هذه المسألة تمثل ظاهرة عامة، وأنا بنفسي استخدمت استاذاً لتعليم اللغة الأجنبية لمجموعة من الطلّاب الذين يدرسون في مدرسة أميرالمؤمنين عليه السلام التابعة لي، وقد استقبل الطلّاب هذا الدرس بشوق بالغ وقد رأينا ضرورة هذا الدرس لبعض الطلّاب بعنوان مقدّمة الواجب على الأقل، لأننا يجب علينا الاطلاع على أصحاب التيارات السيرة المباركة، ص: 75

الفكرية الاخرى ومصادرها الفكرية بلغتهم من جهة، ومن جهة اخرى ينبغي علينا إيصال صوت الإسلام من خلال القلم والبيان إلى أقصى نقاط العالم، وكانت هذه البرامج الإصلاحية تستوعب جهات مختلفة: منها، إصلاح وتكميل الكتب الدراسية غير كتب الفقه والاصول، حذف المباحث الزائدة في الفقه والاصول، الاهتمام بالمسائل المستحدثة، الاهتمام بالمذاهب المنحرفة والمجعولة ومباحث اخرى، حيث رأينا أنّ الاهتمام بهذه المواضيع يزداد يوماً بعد آخر حتى بداية الثورة الإسلامية حيث أثمرة الجهود بحمد اللَّه وكان الإمام الراحل قدس سره من المؤيّدين لهذه البرامج الإصلاحية وقد اقترح تأسيس شورى مديرية الحوزة وأوصى بتشكيلها، وقد بعث من جانبه ثلاثة أشخاص لهذا الشأن وثلاثة أشخاص من قبل آية اللَّه العظمى الكلبايكاني، وثلاثة أشخاص من مجمع المدرسين، فبلغ عددهم مجموعاً تسعة أشخاص من فضلاء وأساطين الحوزة العلمية، حيث تقبلوا هذه المسؤولية وشرعوا باصلاح الوضع في جوانب مختلفة، وقد رأينا بحمد اللَّه معالم التوفيق لهذه الشورى المحترمة، وعندما انتهت مهمتهم اقترح عليَّ الاخوة في مجمع المدرسين قبول هذه المسؤولية وقد وافقت على هذا الطلب لأسباب متعددة كما اتّضح فيما سبق (أي أنني كنت راغباً جدّاً في إيجاد تحول وإصلاح في الحوزة العلمية مضافاً أنّ بعض الأصدقاء اشترطوا لدخولهم في هذه الشورى

مشاركتي فيها وقبولي لهذه المسؤولية)، ولكنني كنت متردداً فيما إذا كانت هذه المسؤولية الجديدة تتوافق وتنسجم مع أعمالي الكثيرة الفعلية أم لا؟ فاستخرت اللَّه تعالى في الحرم المقدّس للإمام الرضا عليه السلام وكنت في عداد خدّامه الإفتخاريين طبق المقررات المعمول بها لدى مديرية الحرم الشريف) فخرجت الآية الشريفة: «فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ اتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن السيرة المباركة، ص: 76

سَفَرِنَا هذَا نَصَباً» «1»

، فعلمت أنّ هذا الأمر تتخلله صعوبات كبيرة ولكنه يتضمن أيضاً ماء الحياة وفقاً لما ورد في شأن هذه الآية الشريفة، وعلى أيّة حال فقد وافقت على طلبهم واستلمت منصب مدير هذه الشورى في الدورة الثانية والثالثة وبحمد اللَّه توفقنا إلى أداء خدمات كثيرة ...».

ويستمر سماحة الاستاذ في بيان فهرست مفصّل عن هذه النشاطات والخدمات «وقد وردت بالتفصيل في مجلة پيام حوزة» فراجع، وفي الختام يقول الاستاذ:

«ومن جملة الأعمال المهمّة التي استطعنا تقديمها في تلك الفترة مسألة تنظيم القانون الأساسي لشورى الحوزة العلمية وقد تمّ امضاؤها من قِبل آية اللَّه العظمى الكلبايكاني وآية اللَّه العظمى الأراكي وقد أقرّها سماحة السيد القائد، وتقرر أن يوافق عليها سائر الأعاظم في الحوزة العلمية في قم حيث أنّها تمثل دعامة قوية من جهة حقوقية وقانونية للحوزة العلمية فلا تكون أموال الحوزة باسم أشخاص معينين بل باسم شخصية حقوقية فقط، ومن هذا الطريق فإنّ الأموال التي ترد إلى الحوزة في الحال الحاضر وفي المستقبل ستكون محفوظة ومصونة من التلاعب، ولا أنسى أنّي قمت بزيارة المرحوم آية اللَّه العظمى الكلبايكاني في أواخر عمره وتحدثنا عن مسائل الحوزة العلمية فرأيته يبكي ويتحرق على مستقبل الحوزة، واكد كثيراً بقاء استقلال الحوزة العلمية (وهذا المعنى قد أكد عليه جميع الأعاظم منهم

الإمام الراحل) فقلت له: اطمئنوا إلى ذلك فاننا كأبنائكم نسعى بجدية إلى حفظ هذا الاستقلال وخاصة مع عدم وجود من يخالف في الوقت الحاضر، والحمد اللَّه، وستكون الحالة كذلك في المستقبل بإذن اللَّه».

8 البيان الجيد في ظلّ الفهم الجيد

اشارة

إنّ سلاسة بيان الاستاذ وسهولته في بيان المعاني والمفاهيم إلى درجة أنّ بعض الطلّاب في بداية الأمر يشكّون فيما إذا كان هذا الموضوع يتضمّن عمقاً أكثر ولم يؤدّ الاستاذ حقّه في بيان الموضوع.

وأنا بدوري كنت غارقاً في أجواء الترديد في هذا المجال إلى حدّ الوسواس وكنت أسعى إلى مطالعة الموضوع بدقّة والمباحثة فيه مع اخواني الطلّاب في عملية التحقيق في جوانب وأبعاد المسألة، وبعد البحث الكثير وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أنّ حقّ المطلب هو ما ذكره الاستاذ بدون تعقيدات لفظية وابهام في العبارة بل وصل إلى النتيجة بطبعه السيال وفكره الثاقب وبيّنه للطلّاب بسهولة وجذّابية خاصة.

وبما أنّ اللسان والبيان بمثابة المترجم لما يختلج في ذهن الإنسان وفكره فيمكن القول:

إنّ هذا البيان الجذّاب والسلس يعكس الفهم السليم والجيد لسماحة الاستاذ، ومن المسلّم أنّ المهم في صياغة البيان السهل هو كيفية الورود والخروج من المسألة والتحليل الصحيح للبحث وما يتضمنه البحث من تفريعات ودقّة في الامور الجزئية للموضوع الكلي العام، وبالجملة إراءة معالم الموضوع بكل أبعاده وبما يتضمنه من دقائق وتفاصيل بإمكانها رفع الستار عن محلّ النزاع، والانصاف أنّ الاستاذ في هذا الجانب كان موفقاً جدّاً.

ولا بأس ببيان هذه الحقيقة، وهي أنّ الاستاذ يتحرك في بيانه الدرسي بكامل النشاط ويؤدّي الكلمات بقوّة ومتانة بحيث يخلق جواً من النشاط والانشداد الذهني عندما

السيرة المباركة، ص: 78

يتحدّث بالموضوع العلمي وهو على كرسي التدريس بحيث إنّ الطالب لا يشعر بالكسل والكلل ولا يرى نفسه متخلفاً عن قافلة

البحث والدرس بل إنّ كل طالب يجد في نفسه فهماً واضحاً لموضوع الدرس ويعلم بأنّ الآخرين فهموا هذا المطلب مثله.

وهذه الحقيقة كنت أشعر بها مراراً في أثناء درس الاصول لسماحة الاستاذ، وأتذكر أنني في بداية اشتراكي وحضوري في درس الاستاذ تفألت بالقرآن الكريم وخرجت الآية:

«وَقَالُواْ الْحَمْدُلِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ» «1»

، وهكذا كان درس الاستاذ يذهب عنّا الحزن في حلّه للعقد العلمية الدقيقة في هذا الدرس.

وبديهي أنّ التمتع بهذه الخصلة الجيدة بإمكانه أن يؤثر كثيراً في جذب الطلّاب إلى درس الاستاذ في الفقه والاصول (في تلك السنوات التي كان الاستاذ يدرس الاصول أيضاً، حيث تحوّل درس الاستاذ إلى أكبر درس في الحوزة من حيث عدد المشاركين.

الاعتراف بذنب كبير:

والملفت للنظر أنّ هذه السهولة والسلاسة يمكن مشاهدتها أيضاً في قلمه وكتاباته بدرجة كبيرة، بحيث إنّها تعتبر من خصائص قلمه وتأليفاته، فمن يقرأ كتب الاستاذ يذعن لهذه الحقيقة وهي أنّ المعارف القرآنية العميقة والمفاهيم الدينية السامية تمّ عرضها بشكل جذّاب وشيق وقابل للفهم والهظم، ولهذا تمّ طبع بعض هذه الكتب من تأليفات الاستاذ أكثر من ثلاثين مرّة وكان مورد استقبال الناس من الخاص والعام، هذه الخصوصية قد يتصورها البعض على أساس أنّها تمثل عيباً كبيراً في دائرة التأليف، والاستاذ نفسه يتحدّث في مقدّمة كتابه المعاد عن هذه الخصوصية بعنوان «الذنب الكبير للكاتب» ويقول:

«... إن السبب في كل هذا التوفيق (في تأليف الكتب العقائدية للاستاذ من قبيل كتاب «خالق العالم» و «كيف نعرف اللَّه» و «القادة العظام» و «القرآن السيرة المباركة، ص: 79

والنبي الخاتم») رعاية أربعة اصول: اجتناب الاصطلاحات المعقدة، الصدق والاخلاص في بيان الموضوع، الابتعاد عن التعصب، التجديد في المعرفة.

ولكن البعض يتصور أنّ هذه السلسلة

من التأليفات والكتب تتضمن عيباً كبيراً من شأنه أن يقلل من قيمتها، ولعلكم تتعجبون إذا علمتم بأنّ العيب الكبير في نظرهم هو نفس اجتناب المصطلحات المعقدة والعبارات الغامضة والكلمات المبهمة ورعاية الحدّ الأعلى من السلاسة في التعبير لتقريب فهم الموضوع إلى أذهان الناس بصورة عامة، فهذه الامور بحسب نظرهم القاصر تقلل من شأن الكتاب على المستوى العلمي وتهبط به إلى مراتب دانية».

ثم يقول الاستاذ:

«و لا يسعني هنا إلّاالاعتراف بهذا «العيب» أو «الذنب» و أعلم لو تركت العنان لقلمي ليسطر ما يشاء من المصطلحات المعقدة و العبارات المغلقة لبدا البحث لذلك البعض أكثر علمية، لكني ما فعلت ذلك عامداً و أعتقد أنّ هذه هي رسالة الكاتب.

و بالطبع يمكن القول بقوّة أنّه يمكن تعقيد كل بحث من أبحاث هذه السلسلة بحيث يصعب فهمها على أغلب القراء الاعتياديين، فيكتفون بالقول أنّها أبحاث علمية ذات مستوى رفيع لايسعنا إدراكه» «1».

إنّ السبب الذي أدّى إلى أن يُنتخب «أشباه الفلاسفة» لسماحة الاستاذ على أساس أنّه (كتاب العام) ويحضى باستقبال كبير بين الناس ويطبع لأكثر من ثلاثين مرّة، هو سهولة التعبير والابتعاد عن الاصطلاحات المعقدة والعبارات الفلسفية الغامضة وتبديلها بعبارات سهلة وميسورة.

السيرة المباركة، ص: 80

يقول الاستاذ في مقدّمة هذا الكتاب أيضاً:

«كنت لسنوات عديدة افكر وأتأمل في الماركسية والفكر الماركسي، وكنت ادرك العواقب المعنوية والمادية الخطيرة التي يتضمنها هذا الفكر إلى البشرية والمجتمع البشري، فقمت بمطالعات كثيرة عن مقولات وكتابات هذا الفكر وكنّا نجتمع مع بعض الاخوة ونتذاكر هذا الفكر من موقع التحليل والنقد إلى أنّ صممنا على عرض نتيجة أفكارنا على الناس وكتابة هذه المواضيع، ولذلك تحركنا على مستوى جمع هذه المواضيع في كتاب خاص، ولكن المانع الكبير الذي كان يقف أمامنا

هو عدم اطّلاع أغلب الأفراد على الاصطلاحات الفلسفية الجديدة والقديمة ولكننا قمنا بحذف هذه الاصطلاحات أو تبديلها إلى عبارات ومفردات سهلة وميسورة (بدون التقليل من قيمتها الحقيقية)» «1».

دور التدريس:

ومن جملة الامور التي تساهم في سلاسة البيان ورفع مستوى قدرة التصميم هو كثرة التمرين والممارسة في إفهام الناس من خلال كرسي التدريس أو منبر التبليغ، فيجب أن يكون الدرس إلى جانب التدريس، والتدريس والتعليم إلى جانب تحصيل الدرس واكتساب العلم، وطبعاً فإنّ من بركات التدريس هو حلّ العُقد البيانية وتحصيل القدرة والملكة على تبيين المسألة إلى المخاطب بسهولة ويُسر، وهنا يتحدّث لنا الاستاذ عن حكاية في مجال شروعه في عملية التدريس وكيفية الاستمرار فيها ويقول:

«عندما ودعت النجف الأشرف وحرم الأئمّة الاطهار عليهم السلام بعين باكية وتركت العراق بكل ما يحفل به من حسنات ومشاكل وأقمت في الحوزة

السيرة المباركة، ص: 81

العلمية في قم كنت امارس عملية التدريس إلى جانب الاستفادة من درس الاساتيذ العظام في هذه الحوزة، وطبعاً لم يكن تدريس العلوم الدينية أمراً جديداً عليَّ حيث شرعت في ذلك منذ السادسة عشرة من عمري حينما كنت في حوزة شيراز، وعندما أتيت إلى قم شرعت بتشكيل درس في الحوزة أيضاً، وكذلك في النجف أيضاً كنت امارس التدريس، وأعتقد أنّ التدريس واجب كتحصيل الدرس، فالإنسان حين التدريس يقف على بعض الامور وتنفتح له بعض المسائل المغلقة التي لم يكن يقف عليها أثناء تلقي الدرس، وعند التدريس يشعر الإنسان بمسؤولية أكثر وأنّه ما لم يفهم الموضوع بصورة جيدة ودقيقة لا ينبغي له طرحه على الآخرين من موقع التدريس.

لقد ازداد رونق أبحاثي ودروسي يوماً بعد آخر بسبب معرفتي التدريجية وزيادة تجربتي في فن التدريس الذي يعتبر فناً ظريفاً ودقيقاً جدّاً،

فعندما كنت ادرس الرسائل والمكاسب والكفاية كنت أرى مجموعة من الطلاب الأذكياء والمستعدين يحيطونني ويجلسون على مقربة منّي، وأنا بدوري اوصي جميع الطلّاب والفضلاء أن لا يهملوا عملية التدريس إلى آخر عمرهم حتى لو كان ذلك لطالب واحد».

ثم يشير الأستاذ إلى بداية تدريسه لبحوث الخارج ويقول:

«لعل البداية كانت قبل أربعين سنة حين فكرت بتدريس البحث الخارج وشرعت بتدريس الاصول ثم البحث الخارج في الفقه وكنت أعيش العلاقة الشديدة بالتدريس وأشعر بلذة كبيرة من تدريس الطلّاب وكان التعب يزول عني تماماً وأنا الآن أشعر بهذا الشعور أيضاً ...».

وفي الختام يشير الاستاذ إلى دور التدريس المهم في عملية النهضة العلمية للطلّاب ويؤكد مرّة ثانية لطلّاب الحوزة العلمية الأعزاء على هذه الحقيقة ويقول:

السيرة المباركة، ص: 82

«مرّة اخرى اوصي الطلّاب الأعزاء أن يغتنموا هذه السنّة الشريفة في الحوزة العلمية، وعلى الأشخاص الذين يتلقّون الدروس العالية أن يهتموا بتدريس الكتب في المراحل الدانية، وليكن معلوماً لديهم كما أنّ الطلّاب ينتفعون من بيانهم ووجودهم فانّهم بدورهم ينتفعون من وجود الطلّاب في حلقات دروسهم، ولعل التدريس ينفع الاستاذ أكثر من الطالب، فالتدريس يجبر الإنسان على التحقيق في جوانب المسألة أكثر ويهتم بمعرفة غوامض المسألة، ومضافاً إلى فهم المسألة ستكون لديه القدرة على تفهيمها، وبكلمة واحدة: إنّ العالم الذي لا يمارس التدريس فإنّه يبتلى بالنقص في معلوماته».

لماذ قمنا بتأليف التفسير الأمثل؟

وينطلق قلم الاستاذ في مجال التأليف والتحقيق سلساً وجذّاباً كما هو الحال في بيان الاستاذ الجذّاب في التدريس، فكان قلمه نشطاً وفعّالًا في كافة المجالات العلمية، وأساساً فانّ الباعث المهم على تأليف كتابه القيم «التفسير الأمثل» هو إراءة تفسير سهل وميسور وبعيد عن التعقيدات والابهام، وفي نفس الوقت تفسير جيد وشامل، وفي هذا الصدد يقول الاستاذ:

«لا

بأس بأن أذكر لكم الباعث على تأليف (التفسير الأمثل)، فانّ الكثير من طلّاب الجامعات والشباب المثقفين كانوا يأتون إلينا ويطلبون تفسيراً باللغة الفارسية خالياً من التعقيدات في البيان، ففكرت بأن أذكر لهم بعض التفاسير المتداولة، ولكنني كنت أرى بأنّها لا تحلّ لهم أيّة مشكلة، ومن الطبيعي أنّ الإنسان عندما يجد طلباً من الناس ويرى أنّ مشكلتهم لا تنحل بما هو موجود من التفاسير والكتب فإنّه سيشعر بالمسؤولية الثقيلة على السيرة المباركة، ص: 83

عاتقه وأنّه يجب عليه أن يعزم الهمة ويقدم على التأليف في هذا المجال، ومن هنا فكرت بكتابة تفسير يحوي دقائق الامور التفسيرية للآيات الكريمة وفي نفس الوقت يكون سهلًا ميسوراً ويتضمن كذلك بيان الحلول التي يعيشها الناس في العصر الحاضر ... وأملنا أن يكون هناك تفسير شامل ينفع العلماء الفضلاء وكذلك عامة الناس لا سيّما الشباب الأعزاء وشريحة طلاب الجامعات، مع العلم بأنّ الجمع بين هذه الامور ليس بالأمر السهل بل يحتاج إلى توفيق إلهي خاص، فكان أن انتهينا من هذا العمل بحمد اللَّه، ولذلك فانّ أغلب الأشخاص الذين يتحدثون معنا في هذا المجال يقولون: إنّ الغاية قد تحققت في هذا التفسير».

الامتداد الواسع للتفسير الأمثل في نشر ثقافة القرآن:

ثم أشار الاستاذ إلى النفوذ والامتداد الواسع والتأثير العميق للتفسير الأمثل في نشر الثقافة القرآنية والمعارف الإسلامية وقال:

«وهنا أذكر جملة قصيرة في هذا المجال، فقد جاءني أحد الاخوة وذكر لي أنّ پروفسوراً يدرس في جامعة كندا المعارف الإسلامية قال: (إنّ المنبع الأصلي لمعلوماتي في تدريس المعارف الإسلامية في تلك الجامعة هو التفسير الأمثل)، ونقل لي المرحوم حجة الإسلام الحاج السيد صفدر الحسيني النجفي الباكستاني الذي كان رجلًا مخلصاً ونشيطاً وقد ترجم جميع أجزاء التفسير الأمثل إلى اللغة الاوردية، بأنّ أحد العلماء

من أهل السنّة الناطقين بالاوردو قال: (أنا لم اطالع كتب علماء الشيعة، ولكن وقع بيدي الجزء الأول من التفسير الأمثل باللغة الاوردية فقرأته وثبت لي أنّ العلوم الإسلامية هي عند الشيعة».

9 خلق الاعتماد لدى الاستاذ

اشارة

إنّ من جملة الامور التي تلعب دوراً أساسياً (ولعله من أهم الامور) في تكوين شخصية الطالب ورجل الدين بشكل عام هو السعي لنيل اعتماد الاستاذ وبالتالي كسب محبّته وعطفه الأبوي، بيد أنّ أجواء المحافل الدراسية في الحوزات التعليمية سواء على مستوى الجامعات أوالحوزة ملي ء بمعالم الحسد وأشكال التنافس السلبي بين الأفراد ممّا يؤدّي إلى تزريق روحية اليأس والشعور بالتخلّف عن القافلة في نفسية الطالب وبالتالي ينتج أنواع الكآبة والكسل الفكري.

وأهم عامل بإمكانه القضاء على هذه الامور السلبية ويبعث في الإنسان روح الأمل والتقدم العلمي هو تشويق الاستاذ ونفخه روح الاعتماد على الذات وقوّة الشخصية لدى الطالب، إنّ أذكى طالب إذا لم يتحرك في دراسته في أجواء سليمة وحول محور الاستاذ المبدع والمتخلّق بالأخلاق الإسلامية، وما لم يتخلص من عنصر (الأنانية) والتحرر المطلق من أجواء الدرس والتربية الأخلاقية فانّ ذلك من شأنه أن يجر الطالب إلى منزلقات خطيرة وطموحات وهمية وادّعاءات عجيبة وغريبة.

القليل من الأشخاص الذين يعيشون الحرمان من عطف الاساتذة وبتعبير آخر لم يتربوا في أجواء نورانية على يد معلمين ربانيين، ومع ذلك لم يواجهوا مشاكل فكرية ونفسية وحركة الحياة والواقع الاجتماعي.

آية اللَّه الاصطهباناتي وكاشف الغطاء:

وعلى أيّة حال فانّ الموهبة الاخرى التي كان يعيشها سماحة الاستاذ هو أنّه كان منذ بداية شبابه مورداً لألطاف أساتذته وتشويقهم، والشاهد على ذلك ما تقدّم من حكاية في الفصل الثاني «النبوغ والقابلية الذاتية» تحت عنوان «درجة الاجتهاد» ونجد من المناسب إعادة هذه الحكاية:

«بعد مجيئي إلى النجف الأشرف ومن خلال مشاركتي بحوث الخارج للاساتذة الكبار في حوزة النجف وطرح أسئلة متعددة أصبحت يشار إليّ بالبنان واهتم الاساتذة والعلماء بي ومنحوني حبّهم ورعايتهم بحيث أنني استطعت أن أحصل على إجازة الاجتهاد في سن الرابعة

والعشرين من عمري من مرجعين كبيرين في ذلك الوقت: أحدهما: آية اللَّه العظمى الاصطهباناتي الذي يعد من المراجع الكبار ويعتبر شيخ الفقهاء في ذلك الوقت، وقد بذل لي رعايته ولطفه كثيراً ولذلك كتب لي الاجازة بالاجتهاد الكامل، والآخر آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وبما أنّه لم يكن على اطلاع بحالي وتحصيلي الدراسي طلب أن يمتحنني، فقبلت ذلك، فطلب مني أن أكتب له رسالة في مسألة: «هل أنّ التيمم مبيح للصلاة أو رافع للحدث؟» فكتبت له رسالة مفصّلة في هذا الموضوع وعرضتها عليه، ومضافاً إلى ذلك أجرى لي الشيخ كاشف الغطاء امتحاناً شفوياً أيضاً وسألني عن أعقد مسألة من مسائل العلم الإجمالي، فعندما أجبته عنها كتب لي إجازة الاجتهاد ومنحني كل الحبّ والرعاية».

آية اللَّه حجّت رحمه الله:

والحكاية الاخرى تتضمن تشويق آية اللَّه العظمى حجّت رحمه الله حيث يحدّثنا الاستاذ عن ذلك بقوله:

السيرة المباركة، ص: 87

«ومرّة اخرى كنت حاضراً في درس المرحوم آية اللَّه العظمى حجّت رحمه الله فكان أن طرح سؤالًا وفقاً للمنهج الذي يسير عليه، وقال: كل من أتاني بجواب هذا السؤال فسوف اعطيه جائرة بعد الدرس توجّهت إلى المكتبة وبقيت مدّة أبحث فيها عن الجواب حتى عثرت عليه وقدمته للاستاذ، وبعد فترة وجيزة من ذلك تقدّم طالب آخر بذلك الجواب إلى الاستاذ فقال له: لقد سبقك إلى هذا الجواب شخص آخر. وبعدها أعطاني مائة تومان حيث كان يعدّ في ذلك الوقت مبلغاً كبيراً (لأنّ الحقوق الشهرية لبعض الطلاب لم تكن تتجاوز ثلاث تومانات في الشهر) بعنوان جائزة تشويقية».

التواضع الكبير وروحية التشويق لدى آية اللَّه العظمى الميرزا هاشم الآملي «1»:

لا شك أنّ هذا التشويق يبلغ الذروة لدى الإنسان ويتضاعف تأثيره عندما يحظى الإنسان بأستاذ يتمتع بروح قبول الإشكال ويتعامل مع الطلاب من موقع الاهتمام بأسئلتهم السيرة المباركة، ص: 88

وإشكالاتهم ولا يرى ذلك منافياً لشؤون الاستاذ، ومن حسن الحظ أنّ بعض استاتذة سماحة الاستاذ كانوا يتمتعون بهذه الملكة النورانية، حيث يحدّثنا الاستاذ عنهم بقوله:

«لقد جذبتني أخلاق المرحوم آية اللَّه العظمى الميرزا هاشم الآملي إلى الحضور في حلقة درسه ... إنّ آية اللَّه العظمى الآملي مضافاً إلى امتلاكه صفة التواضع الشديد فإنّه كان يتعامل مع الطالب بروح التشويق والتقدير، وكان محيطاً بعلوم اساتذته مثل آية اللَّه آقا ضياءالدين العراقي، الذي كان طلّابه في ذلك الزمان في حوزة النجف أفراداً قلائل ولكنهم من الفضلاء، وكان يتمتع بانصاف عجيب في درسه بحيث إنني لم اشاهد أحداً مثله في هذه الخصوصية، فلو تقدم الطالب بإشكال عليه وكان الإشكال وارداً فانّ الاستاذ لم يكتف بقبوله فحسب بل

يتحرك على مستوى شرحه وتقويته بصورة كافية وينطلق من موقع الدفاع عنه وبالتالي قبول رأى الطالب».

تشويق آية اللَّه العظمى البروجردي رحمه الله وكتاب (تجلي الحق):

وبالنسبة إلى تشويق المرحوم آية اللَّه العظمى السيد البروجردي رحمه الله ولطفه لسماحة الاستاذ يحدّثنا الاستاذ بقوله:

«عندما تمّ طبع كتاب «تجلي الحق» وهو أول كتاب من كتبي قدّمت نسخة منه إلى آية اللَّه العظمى البروجردي رحمه الله وبعد مدّة أرسل إليَّ يستدعيني فذهبت إليه، فقال: أنا أشكو من ألم في رِجلي ولم أحضر الدرس لعدّة أيّام فكانت لي فرصة أكثر للمطالعة، ووقعت عيني على كتابك، فقرأت عنوانه «تجلي الحق» وهو يستخدم كثيراً في كلمات المتصوفة، وكان ذلك سبباً في تحرك حس الفضول فيَّ، فتناولت كتابك فقرأته من أوله إلى آخره (وتعجبت كثيراً من روحية هذا الرجل الكبير كيف يقرأ كتاب طالب شاب من أوله إلى السيرة المباركة، ص: 89

آخره، وهذا يكون عبرة لأمثالي في حين أنّ السيد كان يتمتع بمقام المرجعية والزعامة العامة للشيعة)، ثم قال: أنا لم أعثر على أي مورد سلبي في هذا الكتاب، وقال: (إنني أحسست أنّ الكاتب أراد بيان بعض الحقائق عن طائفة الصوفية دون أن يريد التظاهر أو يجمع المريدين حوله) فكانت هذه الكلمات من هذا السيد الجليل قد بعثت في نفسي روح الاعتماد على اللَّه في مسألة الكتابة، ومن هنا أدركت جيداً مدى تأثير تشويق الاساتذة وخاصة الكبار منهم».

يا ناصر: سوف تنتفع من بركاتنا

وهذه الحقيقة بلغت أوج النضج والنورانية عندما نجد أنّ الطالب بغض النظر عن تشويق أساتذته، يقع مورداً لتفقد وتشويق الاستاذ الحقيقي وإمام الاساتيذ أي الإمام المعصوم حين يراه الطالب في عالم الرؤيا الرحمانية ويحصل على البشارة من قِبل الإمام المعصوم (سلام اللَّه عليه) حيث يخاطبه بقوله: «يا ناصر: سوف تنتفع من بركاتنا».

ولنستمع إلى هذه القصة من لسان أحد اساتذتنا وهو الاستاذ المرحوم حجّة الإسلام والمسلمين قدوة، حيث قال:

«لقد وجدت سماحة

الشيخ مكارم مستبشراً وترتسم على محياه معالم السرور عندما دخل مجلس الدرس، فسألته عن السبب، فامتنع عن الجواب ولكن مع اصراري أجابني أنّه كان قد رأى ليلة البارحة الإمام صاحب الزمان (سلام اللَّه عليه) في عالم الرؤيا فقال لي: «يا ناصر: سوف تنتفع من بركاتنا» «1».

اهتمام وتشويق الإمام الراحل رحمه الله:

نختم هذا الفصل بذكر أشكال التشويق والاهتمام الذي كان يبذله الإمام الراحل قدس سره لسماحة الاستاذ، ويحدّثنا الاستاذ نفسه عن ذلك بقوله:

«إنني بالرغم من عدم التوفيق لحضور درس الإمام الراحل قدس سره لأكثر من يوم واحد، ولعل ذلك كان بسبب أنّ درس الإمام كان قد ازدهر واشتدّ في الحوزة العلمية في وقت لم أكن فيه أدرس عند أحد إلّاقليلًا بل كنت امارس عملية التدريس غالباً، وعلى أيّة حال كنت ذا علاقة وارتباط كامل بأفكاره من خلال تقريراته وكتبه فكنت مطلعاً على آرائه الفقهية والاصولية وكنت أكن له احتراماً كبيراً وطالما توجهت لزيارته فكان يبذل لي مزيد المحبّة والاحترام ولا أنسى أنني كنت قد امتنعت لأسباب معينة عن الذهاب إلى مجمع المدرسين في الحوزة العلمية. فأمر الإمام الراحل أحد الأشخاص من أرحامه الذي كان عضواً في المجمع المذكور وقال له: إذهب إلى فلان وقل له أن يرجع إلى مجمع المدرسين، فجاءني ذلك الشخص وبلّغني الرسالة وعدت على أثرها إلى المجمع، وكان ولده المرحوم السيد أحمد الخميني حاضراً في جلسة لبعض الأفاضل وقال لي: إنّ رسائلك التي تبعثها إلى الإمام في مناسبات مختلفة يقرأها الإمام كاملًا (لأنني كنت قد ذكرت في رسائلي أنني لا أعلم ما إذا كان الإمام يقرأ هذه الرسائل أم لا) فقال لي: إنّها تصل إلى الإمام ويقرأها ويكّن احتراماً خاصاً بالنسبة لكم».

وينقل الاستاذ في هذا المجال حادثة

جميلة اخرى عن مجلس الخبراء للقانون الأساسي ويقول:

«كنت في قسم البحوث في مجلس القانون الاساسي وكنت مع عدّة أشخاص من علماء الشيعة وأهل السنّة والمذاهب الاخرى، فعندما طرحت السيرة المباركة، ص: 91

مسألة الاعتراف بالمذهب الشيعي، وهو مذهب الأغلبية بالنسبة إلى الشعب الايراني على بساط البحث في مجلس الخبراء ودافعت عن هذه الاطروحة، قام أحد الاخوة من أهل السنة (السيد مولوي عبدالعزيز) وخلافاً للمتوقع منه وأظهر مخالفته لمقولتي بعد أن انتهيت من تقرير رأيي، وأنا بدوري أجبته ببيان منطقي وأوضحت له أنّ المفروض في كل دولة أن تكون القوانين فيها تابعة لمذهب معين ولا يمكن أن تكون على رأي مذهبين أو ثلاثة في الأحكام العامة، وبالطبع فإنّ سائر المذاهب ينبغي أن تكون محترمة ويتمتع أتباعها بجميع حقوق المواطنة، ولكن تعدد القوانين الحاكمة في الدولة غير ممكن، فالجميع أحرار فيما يتعلق بشؤونهم الخاصة (من قبيل الزواج والطلاق التي تسمى بالأحوال الشخصية) ولكن في الأحوال العامة يجب اتباع قانون واحد، وبعد أن ذهبت لزيارة الإمام قال لي: (لقد رأيت وسمعت دفاعك في المجلس من خلال التلفزيون وسررت بذلك كثيراً وقد كان دفاعاً جيداً ومنطقياً وقد أدّيت المسألة حقّها».

10 العلم بمقتضيات الزمان والتحرك معها

اشارة

إنّ من الصعوبة بمكان للمحقق الذي يبحث مواضيع علمية دقيقة في مجال التراث الثقافي والديني الواسع، أن يهتم في نفس الوقت بآخر التطورات العلمية والكشوفات التجريبية وتكون له في هذا المجال مطالعات منظمة ومنسجمة ويهتم كذلك بكتابة آخر الكشوفات العلمية الجديدة ويتحرك وفقاً لمعطياتها المعاصرة.

إنّ ما يظهر من كلمات سماحة الاستاذ وخطبه في المجالس العلمية والأخلاقية في السابق والحاضر وكذلك ما كتبه من مقالات سياسية واجتماعية في الصحف والمجلات «التي استمرت منذ زمان ما قبل الثورة إلى سنوات متأخرة» هذه

الحقيقة، وهي أنّ سماحته يتمتع بشخصية فذة يجمع بين العلوم المختلفة القديمةوالجديدة، فهو ابن اليوم ويساير حركة العلم والثقافة في هذا العصر.

هذه الحقيقة أضفت جواً منفتحاً على أفكار سماحة الاستاذ وبعثت على الحركية والدينامية في أفكاره ونظراته التي فعّلت من عناصر الهداية الفكرية للُامة.

وهذا هو السبب في ما نجده من اقتران بحوثه العلمية بحقائق ملموسة ومحسوسة من العلوم التجريبية والكشوفات العلمية المعاصرة.

النموذج الأول:

وعلى سبيل المثال نقرأ في كتاب «المعاد» لسماحة الاستاذ فيما يتعلق بقصّة أصحاب السيرة المباركة، ص: 94

الكهف وإمكانية النوم سنوات عديدة:

«نشرت في احدى مجلات علمية مقالة تتحدث عن اكتشاف علمي وهو كتاب طبع في السنوات الأخيرة يتحدّث عن تجميد بدن الإنسان لإبقائه فترة أطول في قيد الحياة بقلم «رابرت نيلسون»، وكانت له أصداء واسعة في الاوساط العلمية، وصرّحت تلك المقالة في المجلة المذكورة بوجود فرع علمي تمّ استحداثه أخيراً في العلوم الطبيعية بهذا العنوان، حيث نقرأ في هذه المقالة: «لقد كان الخلود يمثّل، طيلة التاريخ البشري، أملًا بعيداً وحُلماً ذهبياً للإنسان، ولكننا الآن نرى أنّ هذا الحلم قد تحقق على أرض الواقع، وهذا الأمر مدين للتقدم العلمي المذهل في علم «كريونيك» وهو العلم الذي يذهب بالإنسان إلى العصر الثلجي ويعمل على الاحتفاظ ببدنه منجمداً بأمل أن يتمكن العلماء فيما بعد من بعث الحياة فيه من جديد»، فهل يمكن تصديق هذه المقولة؟

إنّ الكثير من العلماء من الطراز الأول يفكرون في هذه المسألة من جهات اخرى وقد بحثت بعض الصحف مثل «لايف» و «اسكواير» وكذلك الصحف الاخرى في بلدان العالم هذا الموضوع المهم، وأهم من ذلك وجود برنامج حي في هذا المجال بقيد التجربة،» «1».

«و قد صرّح في مقالة وردت في المجلة المذكورة بهذا الخصوص

أنّ فرعاً علمياً من بين الفروع قد ظهر بهذا الشأن، و جاء في المقالة المذكورة:

«إنّ الحياة الخالدة كانت من الأحلام الذهبية و العريقة للإنسان على مدى التاريخ، أمّا الآن فقد أصبح هذا الحلم حقيقة، يدين بالفضل للتطور الهائل الذي حققه العلم المعاصر الذي يعرف بعلم الكريونيك (العلم الذي يصحب السيرة المباركة، ص: 95

الإنسان إلى العوالم المنجمدة و يحفظه كبدن منجمد على أمل أن يعيده العلماء يوماً إلى حياته).

هل يعقل هذا المنطق؟ إنّ أغلب العلماء و المفكرين البارزين يفكرون في هذه المسألة من عدّة جوانب، و قد خاضت فيه بعض الصحف العالمية، والأهم من كذلك أنّ هناك برنامجاً الآن بهذا الخصوص في حيز التنفيذ». «1»

و قد أعلنت الصحف قبل مدّة أنّه ثم العثور في الثلوج القطبية و التي تدّل أغطيتها على أنّها تعود إلى ما قبل آلاف السنين على سمكة منجمدة وبمجرّد أن قذفت في ماء معتدل بدأت حياتها من جديد وقد أصابت الجميع بالذهول لما شرعت بالحركة.

واضح أنّ الاجهزة حتى في حال الانجماد لا تتوقف كما هي عليه الحال في الموت، لأنّ العودة إلى الحياة في تلك الحالة ليست ممكنة.

و الذي نخلص إليه ممّا مرّ معنا هو إمكانية إيقاف الحياة و شل حركتها لتتحرك ببطى ء تام، و الدليل على ذلك مختلف الدراسات و الأبحاث العلمية الواردة بهذا الشأن. و في هذه الحالة يبلغ إستهلاك البدن للطعام الصفر، يمكن للاحتياطي الزهيد المخزون في البدن أيديم الحياة بهذا البطى ء لسنوات عديدة» «2».

وبعد أن ذكر الاستاذ مثل هذه النماذج العلمية استعرض البحث القرآني المتعلق بهذه المسألة وكتب يقول:

«قطعاً نوم أصحاب الكهف لم يكن نوماً عادياً طبيعياً على غرار نومنا، بل كان نوماً إستثنائياً، و عليه فليس من العجيب

ألا يشكو من قضية الطعام ولا من الضرر على مستوى عضوية البدن بسبب ذلك النوم الطويل!» «3».

النموذج الثاني:

ويذكر سماحة الاستاذ في مقدّمة كتابه «الحياة في ظلّ الأخلاق» نموذجاً آخر من هذا القبيل ويقول:

«ماذا نبحث في هذا الكتاب؟ إنّ ما تواجهه البشرية من أزمة وطريق مسدود، صراع المعذَّبين والبائسين، الحروب الدامية، كثرة الجرائم وازدياد ارتباك العلاقات العائلية ووهنها وضعف وشائج الودّ والمحبّة بين الأفراد و ..

كل ذلك شاهد صادق على هذه الحقيقة، وهي أنّ القوانين المتداولة في العالم المعاصر بالرغم من بذل الجهود ظاهراً لاصلاحها وتحسينها فانّها ليس فقط لم تثمر في تحسين حياة الناس في حركة الواقع الاجتماعي بل أدّت إلى زوال الأمل بمستقبل أفضل للبشرية، ولا نعلم إلى متى ينبغي علينا أن نجرّب هذه القوانين البائسة؟ هؤلاء لا يستطيعون أن يتحركوا من أجل حماية أوليائهم فكيف بحماية الآخرين؟ هذه القوانين بمثابة أبار عميقة تصل أحياناً إلى الصخور الكبيرة تحت الأرض، وكلما سعينا لشق وتحطيم تلك الصخور والتوغل في أعماقها فاننا سنعيش حالة التعب الشديد دون أن نصل إلى الماء، وعلى هذا الأساس يجب علينا البحث عن مصدر المشكلة ونرى أين يكمن العيب؟ وبعد تشخيص الخلل نتحرك صوب إيجاد الحل لهذا المشكل، ففي المرحلة الاولى نواجه هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه القوانين تمثل أدوية للاستعمال الخارجي فقط فليس لها تأثير إلّافي الظاهر والسطح، إنّ هذه القوانين لم تتمكن من النفوذ إلى أعماق الوجدان البشري الذي يعتبر منبع حركات الإنسان وسعيه في خط الصلاح والسعادة، وبالتالي لم تتمكن من تعبئة جميع طاقات الإنسان وتفعيلها لمكافحة هذه المشاكل وعلاج تلك الآلام والأزمات» «1».

السيرة المباركة، ص: 97

ويتحدث الاستاذ في كلماته هذه ويذكر لنا عدّة أمثلة تعكس اطلاعه الواسع

في مجال العلوم العامة بحيث يقول:

«أي قانون يتمكن «مثلًا» أن يضغط على تلك الفئة من أثرياء العالم الذين يوصون بجميع ثروتهم بعد وفاتهم إلى كلابهم وقططهم، وإيجاد وسائل الرفاهية في قرية القطط للأثرياء، ويعيد إليهم عقلهم وعاطفتهم الإنسانية ويدعوهم إلى دعم ملايين الجياع في أفريقا؟

أيّ قانون بإمكانه نفخ روح حبّ الآخرين في وجدان الأشخاص الذين يملكون قِطع ألماس تبلغ قيمة الواحدة أربعة عشر مليون توماناً، أو يملكون ألبوم للطوابع البريدية تبلغ قيمتها عدّة ملايين، أو نرى في غرفة الاستقبال بعض التزيينات والآثار الغالية جدّاً، ويدعوهم بالتالي بدل ذلك إلى إنقاذ ملايين الأشخاص الذين يعانون من مرض الجذام والسرطان والسل؟ ...» «1».

لا شك في أنّ هذا النوع من البحوث التي يمتزج فيها الموضوع العقائدي مع هذا القبيل من الأمثلة يتمتع بجاذبية خاصة لدى جميع القراء.

إنّ الخصوصية المذكورة أدّت إلى أن ينفذ الاستاذ إلى أعماق روح الناس وأذهانهم وخاصة الشباب، ويكشف عن أشكال القلق والاضطراب فيهم ويهتم بإيجاد الحلول للشبهات والأسئلة المختلفة لديهم ومعالجة أزماتهم التي تعصف بكيانهم.

النموذج الثالث:

ويستعرض سماحة الاستاذ في مقدّمة كتابه «البحث عن اللَّه» نموذجاً آخر ويقول:

«في عالمنا المعاصر نرى شيوع أشكال القلق الخفي والاضطراب الروحي بين جميع أفراد البشر إلّاما ندر، وعلى الرغم من جودة الظاهر يعيش السيرة المباركة، ص: 98

الإنسان نوعاً من الإرتباك الروحي والجفاف العاطفي، وهذا الاضطراب والقلق المبهم، وأحياناً من دون أن يعلم له الإنسان علّة معينة، يكاد يعصف بروح الإنسان كالطوفان الموحش ويمزقه تمزيقاً.

الكثير من الناس الذين يعيشون بين أصدقائهم واخوانهم يشعرون بالوحدة والوحشة تقض مضاجعهم وتلهب أرواحهم، ويتصورون أن لا يوجد أحد يدركهم ويفهم ما يختلج في أعماق وجودهم وكأنّهم موجودات زائدة في العالم المضطرب وقد تحوّلت حياتهم

إلى العدمية واللاهدفية، فيجد الشخص في نفسه العطش والفراغ من ذاته ومن الآخرين لشعوره بالكراهية والمقت، ولهذا فهو يعيش اللامبالاة والتشاؤم أمام كل حادثة.

وينبغي القول بكل ثقة إنّ جميع هذه الظواهر الروحية هي نتيجة حقيقة مهمّة وكبيرة قد أهملها الإنسان في مطاوي النسيان، ولهذا يعيش الحيرة في حركة الحياة، ولعله يتصور أنّ هذه الحقيقة قد أصبحت قديمة أو لا حاجة له بها، ولا ضرورة للاهتمام بها في أجواء الفكر والعواطف والعلاقات الاجتماعية، ولذلك تركها الإنسان في زواية النسيان، هذه الحقيقة المهمّة هي «اللَّه» تعالى، خالق عالم الوجود، ومُبدى ء المخلوقات والكائنات في العالم، والحاكم المقتدر على جميع قوانين الطبيعة وما وراء الطبيعة.

أجل عندما يعيش الإنسان حالة النسيان والاهمال لهذه الحقيقة فهو في الواقع يعيش بلا أمل معين وبلا رؤية مستقبلية واضحة في حياته وبالتالي يعيش النسيان لذاته ولكل شي ء ... الكثير من الشخصيات العالمية يعترفون بأنّهم أمضوا فترة عويصة من حياتهم مليئة بالاضطراب والقلق والحيرة، ولكن عندما وصلوا إلى منهل الإيمان باللَّه واغترفوا من ماء الحياة لهذا الغدير الزلال عاشوا حياة جديدة وكأنّهم ولدوا من جديد ... وقد نالوا اقتداراً

السيرة المباركة، ص: 99

ونشاطاً في حركة الحياة لاعتمادهم على مبدأ القدرة الازلية التي تحوّل كل صعب أمامهم إلى سهل وميسور، فكانوا يتحركون في حياتهم الجديدة بخطوات ثابتة وبافق واضح وأمل فيّاض، وعندما يواجهون تحديات صعبة في واقع الحياة والمجتمع فانّهم يلجأون إلى بارئهم ويختلون به لمناجاته وطلب المعونة منه حيث يدركون أنّ خالقهم يعلم بآلامهم وبدائهم ودوائهم أفضل من الجميع، فيتّجهون إلى من هو أرحم بهم من أي مخلوق وأقرب إلى نفوسهم من أي صديق، ولذلك يجدون في أنفسهم الشوق العظيم إلى الاعتراف أمامه بكل ما يحزنهم

ويهمهم بكامل الحرية وبدون يأس من الاستجابة لهم ويخففون بذلك عن أثقالهم ويعود إليهم نشاطهم وحيويتهم ...

ألا ينبغي لنا الاعتراف بأنّ مسألة التفكير باللَّه والسعي لمعرفته تمثل أهم مسألة في حياة الإنسان والبشر وتمثّل أساساً التغلّب على المشاكل التي تعصف بالبشرية طيلة التاريخ البشري وخاصة في عصرنا الحاضر» «1».

النموذج الرابع: التفكير في آفاق واسعة

إنّ تناغم حركة الاستاذ الفكرية مع مقتضيات الزمان أدّت على التعرف أكثر إلى خطط الأعداء والمستعمرين وفضح نواياهم، وبذلك نرى أنّ الاستاذ كان يتوقع منهم هذه المخططات والأساليب العدوانية، وعلى سبيل المثال يقول سماحته في كتاب «نهاية عمر الماركسية» الذي طبع قبل عدّة سنوات من انتصار الثورة الإسلامية:

«وبهذا التحقيق نصل في النهاية إلى هذه الحقيقة، وهي: أنّ الماركسية مذهب يطوي مرحلة الشباب والنضج ويتجاوزها إلى حيث منزلقات الافول السيرة المباركة، ص: 100

والذبول فليس ببعيد أن يتوقف هذا المذهب عن الفعّالية ويختم حياته بذلك» «1».

النموذج الخامس:

ويتحدث سماحة الاستاذ في مقدّمة كتابه «الخطوط الأصلية للاقتصاد الإسلامي» بعد بيان خصوصيات الاستعمار الثلاث: (1- تجميد الأفكار؛ 2- خلق الإرتباط والتبعية؛ 3- إيجاد عوامل النفاق)، فبالنسبة إلى الخصوصية الاولى يقول:

«إنّ «المخ» هو أول طعام يسيل له لعاب «أفعى الضحاك الاستعمارية» «2»

وخاصة عقول الشباب والأحداث! وهو ما تقوم به دائماً وكل يوم.

و على هذا الأساس فأيما حديث تسمعونه عن تخدير العقول وعن قضايا ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بتعطيل العقول المفكرة والواعية وغسل الأدمغة، فاعلموا أنّ وراء ذلك الاستعمار خفية أو علانية.

فإنّ أولى المهمات التي يقوم بها الاستعمار لتنفيذ خططه، قتل «الفكر» و «العقيدة» ويكون تنفيذ هذه المهمة إمّا عن طريق تفريغ الثقافة الاجتماعية من محتواها، وإمّا من خلال جذب الأنظار نحو مسائل هامشية والابتعاد بالمجتمع عن أصل الحياة الحقيقية، وبالتالي تغيير «القيم» ومسخها، حتى يصل الأمر إلى وقوع المجتمع في أخطاء عندما يريد تشخيص ما هو حق مسلّم وما هو باعث للفخر والاستقلال والحرية، وتقبّله لأشياء أخرى فاقدة لأية قيمة حقيقية مكانها» «3».

النموذج السادس:

لا شك أنّ هذه الخصلة تعدّ من العوامل المهمّة في فاعلية فكر الاستاذ واعتقاده بحضارية الدين الإسلامي وقدرته على تشكيل الحكومة وإدارة المجتمع البشري والإجابة على المشكلات المختلفة التي تعيشها المجتمعات البشرية، ولهذا السبب بدأ الاستاذ يكتب في هذا المجال، فأولًا: كان الاستاذ من رواد اطروحة الحكومة الإسلامية حيث كتب في بداية انتصار الثورة الإسلامية المباركة كتاب «اطروحة الحكومة الإسلامية»، وثانياً: أجاب عن كثير من الشبهات وعلامات الاستفهام المختلفة في ما يتعلق بالقضايا المعاصرة في عدّة من تأليفاته وكتبه تحت عنوان «أسئلة وأجوبة»، وفي مقدّمة هذا الكتاب يقول:

«إنّ السؤال، من أجلى مظاهر الروح المتعطشة الطالبة للحقيقة في الإنسان ونافذة مفتوحة

في مسيرة التكامل الإنساني والعلمي، والسؤال عبارة عن مَعلَم للسعي وبذل الجهد المداوم لدى الإنسان لكشف حقيقة العالم الملى ء بالأسرار والمجهولات، ولهذا السبب نرى أنّ الأشخاص الذين يفتقدون السؤال في مدارات الفكر هم أشخاص ضعفاء في شخصيتهم وتفكيرهم، وكذلك ولهذا السبب أيضاً نرى الإسلام الذي يُعتبر ديناً متقدماً وحضارياً، ليس فقط منح أتباعه حق السؤال في المسائل المختلفة بل إنّ أولياء الدين الإسلامي قد دعوا الناس كراراً إلى تقديم أسئلتهم في مختلف المجالات العلمية، غاية الأمر كانوا يلاحظون مدى قابلية الفرد الفكرية ومقدار تقبله للحقائق في دائرة الأجوبة» «1».

النموذج السابع:

إنّ سماحة الاستاذ (دام ظلّه) لو لم يكن ابن هذا الزمان ولم يكن مطّلعاً على مقتضيات هذا العصر، لم يكن يستقبل كل هذه الأسئلة والشبهات الجديدة لاسيما في كتابه «المسائل المستحدثة» الذي يبحث في الأجوبة الفقهية للمسائل الجديدة، وأيضاً يقول في مقدّمة كتابه «الجميع يريد أن يعلم» وهو كتاب يبحث في مواضيع ثلاثة «المعراج»، «شقّ القمر»، و «العبادة في القطبين»:

«لماذا نسأل كل هذه الأسئلة؟ إنّ الإنسان بذاته محبّ للاستطلاع، والقسم الأعظم من معلوماته، أو جميعها كما يذهب إلى ذلك البعض، مدين لغريزة الاستطلاع هذه، فهو يرغب في الاطلاع على جميع أسرار العالم وإزاحة اللثام عن كل شي ء غامض ومبهم في عالم الخلقة، ولا شي ء ألذّ لديه من خبر جديد أو كشف حديث يتعلق بهذا العالم الواسع، إنّ الإنسان يتحرك من موقع هذه الغريزة ليتناول كل شي ء في عالم الفكر حتى في المسائل الدينية، فهو يريد التعرف بمقدار ما اوتي من قوّة العقل والفكر، على أسرار الأحكام الدينية وكيفية إدراك العقائد الحقّة وكل ما يتعلق بها من مسائل، ولهذا السبب نحن نتوقع أن نفهم بعقولنا جميع المسائل الإسلامية، سواء

في العقائد أو الأحكام والتشريعات وغير ذلك، وكذلك نتوقع تطابق هذه المعلومات الدينية، مع ما يصل إلينا من علوم طبيعية عن مختلف الظواهر الطبيعية في عالم الخلقة، وهذا التوقع ليس غريباً بل إنّ المذهب أو الدين الواقعي هو الذي يوجه فكرنا في خط العثور على الأجوبة الصحيحة في مختلف المسائل العلمية ويعتبر مكملًا للقوانين الحاكمة على الكون والطبيعة، فلو كان الدين يتقاطع مع قوانين الطبيعة فإنّه يحكم على نفسه بالفشل والزيف والخرافة، ولكن هل تعلمون بأنّ كتابنا السماوي «القرآن»

السيرة المباركة، ص: 103

له سهم مؤثر في بعث وتحريك هذه الغريزة لدى جميع أتباعه. وفي الحقيقة كان يمثّل العامل المهم لتقدم المسلمين وتحريكهم باتجاه الكشوفات العلمية؟ لأنّ منهج القرآن يتحرك من موقع الاستدلال والبرهان في جميع المسائل الاصولية والعقائدية، وهذا المنهج الاستدلالي بإمكانه أن يوقظ حس التعقل في جميع الموارد العلمية المختلفة، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم يطالب المخالفين بالدليل والبرهان ويوبّخهم على اتباعهم بعض العقائد غير المستدلة وغير المنطقية، فآيات القرآن المليئة بمثل هذه المضامين حيث لا مجال لاستعراضها في هذا المختصر، وهذا هو ما نقوله من أنّ القرآن الكريم نفخ الروح في غريزة حبّ الاستطلاع والاستدلال العقلي في نفوس أتباعه» «1».

ويقول سماحته مشيراً إلى ضعف الكثير من الأديان والمذاهب العالمية في مقابل السؤال والإشكال:

«ولكنك إذا نظرت إلى الديانة المسيحية الحالية أو بحثت في أجواء المذاهب والأديان الاخرى وأردت أن تكون مسيحياً واقعياً ومؤمناً فسوف ترى مع كمال العجب أنّ الحالة هناك مختلفة، وتشعر بأنّ أمامك مجموعة من العقائد الغامضة والمعقّدة التي ينبغي عليك الإيمان والتصديق بها من دون أن يكون لك حق المناقشة والبحث فيها، مثلًا إذا سألتهم عن مسألة التثليث في الوحدة، وبعبارة اخرى:

الواحد في عين الثلاثة والثلاثة في عين الواحد، فكيف يتقبل عقلك هذه الفكرة ويذعن لها من موقع التصديق والإيمان؟ سوف يجيبونك عن هذا السؤال: إنّ هذا الموضوع يجب قبوله والتصديق به في عالم القلب والتعبّد!! ولو سألتهم: هل أنّ عيسى المسيح السيرة المباركة، ص: 104

يمثّل ابناً واقعياً للَّه؟ فسيجيبونك: حتماً. نعم، فلو سألتهم: ما هو المفهوم لهذه العقيدة وأن نؤمن بأنّ شخصاً ابن اللَّه؟ فسيقولون: هذا بدوره من الأسرار الدينية التي يجب عليك قبولها والتعبدّ بها!! ولو سألتهم مرّة اخرى: لماذا بعث اللَّه ابنه لهذا العالم الملي ء بالضجيج وأرسله إلى البشرية؟ فسيقولون:

من أجل أن يضحي بنفسه فداء لذنوب البشر وبالتالي سينالون المغفرة والصفح من اللَّه تعالى، ولو سألتهم: ما ذنب المسيح حتى يحترق ويصلب بسبب ذنوبنا؟ ثم مدى تأثير تضحية المسيح في نفوس المذنبين وكيف نفهم حركة الإنسان التكاملية من خلال هذه العملية؟ فسيقولون أيضاً: لا ينبغي أن تتوقع فهم جميع هذه الامور من موقع العقل وبأدوات الاستدلال العقلي!!

وبالطبع فنحن المسلمون سوف نتعجب كثيراً ونتألم من هذا المنطق الغامض والعجيب للتفكير العقائدي، لأنّ القرآن الكريم علّمنا الاستدلال في جميع المسائل العقائدية، ولكن مع الأسف فانّ المسيحيين في هذا العصر لا يشعرون بالانزعاج من هذا المنطق لأنّهم تمرسوا فيه وتوغل هذا النمط من الجمود الفكري في نفوسهم وتطبعوا عليه، ومن هنا ينبغي علينا التصديق بأنّ الإسلام وهبنا هذه النعمة الكبيرة حيث منحنا حق البحث والمطالعة والتفكر والتدبر ولم يوصد أمامنا طرق الاستدلال والبرهان كما نراه في المذاهب والأديان المليئة بالخرافات والأوهام» «1».

النموذج الثامن:

الشاهد الآخر على معرفة سماحة الاستاذ بمقتضيات الزمان وتطلعه واستشرافه لآفاق المستقبل، ما ذكره في مقدّمة كتابة «الإسلام في تحقيق قصير» حيث يقول هناك:

السيرة

المباركة، ص: 105

«إذا انطلقنا لدراسة حال المسلمين في عالمنا المعاصر نرى وضعاً مؤسفاً وحالة مؤلمة للغاية، فهذه الامة التي كانت في ما سبق تتصدر العالم المتمدن وتحكم حضارة بشرية عالمية تبلغ حدودها من المحيط الأطلسي إلى سد الصين العظيم ... ولكنّها اليوم استبدلت بكل تلك العظمة والقدرة والفخر بحالة من الضعف والخور والتبعية والتشتت ... فلم يكن ذلك التوفيق العظيم بدون سبب وعلّة، ولا هذا الانحطاط والتسافل والتأخر».

ثم يتعرض سماحته إلى العوامل التي أدّت بالامة الإسلامية إلى هذه الحالة المزرية ويقول:

«إنّ من بين العوامل المختلفة التي أدّت بالامة الإسلامية إلى هذه الحالة المؤسفة عاملين أكثر تأثيراً من غيرهما: 1- التشتت والنفاق، 2- عدم الاطلاع على امور العصر ومقتضيات الزمان».

وفي بيانه للعامل الثاني يقول سماحته:

«لا يمكن لأي امة مهما كانت تعيش القوّة والعظمة أن تحفظ عظمتها وافتخارها إلّابأن تحيط علماً بروح الزمان ومتطلبات العصر، ويقول إمامنا وزعيم مذهبنا الإمام الصادق عليه السلام في جملة قصيرة وعميقة المعنى في بيانه لهذه الحقيقة الناصعة: «العالم بزمانه لا تهجم عليه الهواجس»، والحقيقة أنّ هذه الجملة مليئة بالمعنى العميق ونحن بدورنا بعيدون عنها، وبديهي أنّ المفهوم من الاطّلاع على روح الزمان لا يعني أننا نأكل الخبز بسعر اليوم أو نعمل على تغيير الحقائق الإسلامية والتعليمات السماوية مع تغيير أوضاع الزمان، بل المقصود أننا ينبغي أن نطّلع على الحوادث التي تجري في العالم المعاصر، ونطّلع على خطط الأعداء ونستخدم الأدوات والوسائل المفيدة في هذا العصر لنشر التعاليم الإسلامية الصحيحة في مختلف أرجاء

السيرة المباركة، ص: 106

المعمورة، ونتحرك على مستوى ابلاغ هذا النداء الروحاني والإلهي للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأئمة الهدى عليهم السلام إلى أسماع البشرية في داخل البلاد الإسلامية وخارجها،

فكلّنا قد سمع بأنّ معجزات الأنبياء العظام كانت من النوع الذي ينسجم مع ثقافة عصرهم وعلوم أهل زمانهم، وهذا بذاته بمثابة درس كبير لجميع المسلمين في إرشادهم إلى استخدام الوسائل المؤثرة لتبليع حقائق الدين الإسلامي إلى العالم، فلو أنّ نبي الإسلام قد أوصل الخطاب الإلهي وآيات القران المجيد التي تعتبر في أعلى مستويات الفصاحة والبلاغة إلى حدّ الاعجاز، فانّ المفهوم من ذلك أننا يجب علينا استخدام أكثر الوسائل تأثيراً ونفوذاً في الأفكار والقلوب، وهذا هو ما نقصده من الاستفادة من أسلحة العصر الحاضر في مجال الثقافة الدينية، نعم إنّ هذا الأمر الإلهي يمثّل فريضة واجبة على جميع المسلمين بأن يستفيدوا من جميع الوسائل الممكنة في زمانهم لتعريف الإسلام إلى البشرية جمعاء» «1».

النموذج الأخير: جلسات الاستفتاء والذكاء الخارق في تشخيص الموضوعات الفقهيّة:

وفي الختام نرى من اللازم عدم إغفال شاهد آخر على وجود الخصلة المذكورة في شخصية سماحة الاستاذ على مستوى: «الذكاء الخارق والدقّة المتناهية في تشخيص الموضوعات الفقهية» في جلسات الاستفتاء:

لا يخفى على من يشترك في جلسات الاستفتاء وجود تنوع كبير في الاسئلة المطروحة والواردة إلى هذا المكتب في مختلف المجالات الفقهية من شرق العالم وغربه، ولابدّ من دراستها وبحثها بعد تشخيص الموضوع الذي تنتمي إليه، فالأمر الضروري جدّاً في هذه السيرة المباركة، ص: 107

الموارد، مضافاً إلى الحاجة إلى قدرة الافتاء وملكة الاستنباط لدى الفقيه وصاحب الفتوى ومعرفته الدقيقة واحاطته التامة بالاصول والضوابط اللازمة في فن الاجتهاد، أن يتمتع الفقيه بذكاء اجتماعي وفراسة في تشخيص الموضوعات المختلفة والمتنوعة التي ترد عليه من داخل البلد وخارجه، ومن قبل المنظمات والمراكز الحكومية أو من قبل الأطراف والشخصيات الحقيقية، وكل هذه المسائل الفقهية ترد بصورة متواترة إلى مدينة العلم والاجتهاد، مدينة قم، وأحياناً تتضمن مسائل وموضوعات معقدة وربّما

توجد هناك سوء نيّة لدى المستفتي بحيث يلزمه أن يعقّد المسألة، ومن جانب آخر فانّ هذا المستفتي لا يجد في نفسه الجرأة على ذكر الحقيقة كاملة في سؤاله من أجل أن يجر النار إلى قرصه وبهدف استمالة الفتوى إلى جانبه.

وهنا تتجلّى قدرة صاحب الفتوى على معالجة هذه المطبات في دائرة الاستفتاء، فلابدّ من ذكاء خاص وفراسة اجتماعية ونفسانية تمكن الشخص من الاحاطة بجميع آفاق المعضلة والوقوف على حيل وألاعيب قد يستغلها بعض الأشخاص لصالحهم وبإمكانها أن توقع المفتي في الخطأ والاشتباه، وبديهي أنّ الخطأ والاشتباه في عالم الفتوى «وإن كان الفقيه مأجوراً عند اللَّه» فانّ ذلك من شأنه أن يورث مشاكل كثيرة في إطار سحق الحقوق أو إبطال الحق المشروع.

وهنا لابدّ لأصحاب الفتوى الذين لا يتمتعون بفراسة اجتماعية كافية ويعيشون السذاجة القلبية بسبب عدم معاشرتهم لطبقات الناس وأفراد المجتمع فيتصورون أنّ جميع الأفراد يعيشون الصفاء الروحي والنيّة الطاهرة والشفافة كأنفسهم، لابدّ لمثل هؤلاء الفقهاء من استخدام مشاورين أذكياء وامناء ودعوتهم إلى جلسة الاستفتاء لإحراز الموضوع الفقهي وتشخيص تعقيدات المسائل الفقهية في دائرة الحقوق والمعاملات وغيرها والاستفادة من ذكائهم وفراستهم في هذا المجال.

إنّ سماحة الاستاذ يتمتع أولًا: بالذكاء الحاد والفراسة الاجتماعية، وثانياً: إحاطته السيرة المباركة، ص: 108

بمقتضيات الزمان والمكان وحنكته في الامور الاجتماعية بسبب معاشرته الطويلة والممتدة إلى جميع شرائح المجتمع المختلفة، ومن هنا نرى أنّ سماحته عندما يجلس مجلس الاستفتاء ويجيب على المسائل الفقهية يكون أسرع من سائر أعضاء الجلسة في تشخيص العقد الكامنة في هذه المسائل والكشف عن الحيل الظاهرة والباطنة لبعض المستفتين وبالتالي يمكنه استجلاء الغرض والموضوع لهذه المسألة الفقهية.

السيرة المباركة، ص: 109

11 الجمع بين القلم والبيان، والاصول والفروع

اشارة

إنّ الكثير من الأشخاص ممن يمتلك قدرة البيان يعدّ من الخطباء

الموفقين من الدرجة الاولى ولكنهم لم يخلّفوا أثراً مهماً في عالم التأليف والكتابة، أو أنّهم لم يستغلوا موهبة القلم والقدرة على الكتابة كما ينبغي، لأنّه لا ملازمة بين قدرة البيان وقدرة الكتابة والتأليف، ويقول أحد الخطباء الموفقين: «إذا أردت أن أكتب شيئاً فينبغي أن أذكره بلساني أولًا ثم أكتبه على القرطاس».

وكذلك هناك كثير من العلماء والفضلاء الذين لم يهتموا بشي ء غير الكتابة والتحقيق والتأليف ولكنّهم غير قادرين على بيان مواضيع علمية على مستوى الخطابة بل أحياناً يمتنعون من إدارة جلسة دينية أو الصعود على المنبر والاهتمام بمسألة الوعظ والإرشاد للشباب.

أما سماحة الاستاذ فإنّه يعدّ من القلائل في تاريخ علماء الشيعة حيث جمع بين القلم والبيان، التدريس والتبليغ، التحقيق والتأليف، العلوم الجديدة والقديمة، وبكلمة: إنّه جمع بين الاضداد تقريباً، من حيث إنّ التضلع والتمرس في البحوث الحوزوية والتعمق في المسائل الفنية والصناعية يمنع الإنسان من الاطلاع على مقتضيات العصر وما تعيشه البشرية من آفاق حضارية وتطورات في العلوم التجريبية، والجمع بين هذه الابعاد المتضادّة ظاهراً يحتاج إلى نبوغ خارق، حافظة قوية، استقامة ومواصلة في العمل، وقابلية ذاتية، والأهم من الجميع يحتاج إلى توفيق غيبي وإلهي كما رأينا في الفصول السابقة، فنرى السيرة المباركة، ص: 110

أنّ سماحة الاستاذ بحمد اللَّه يتمتع بهذه الحصوصيات الفنية والسمات الروحية.

وما ينبغي ذكره في هذا المجال هو أن الإشارة إلى مظهرين من مظاهر ومعالم حالة الشمولية والجامعية بين القلم والبيان لدى الاستاذ، حيث يقول الاستاذ نفسه في هذا الصدد:

«أنا أعتقد دائماً أنّ رجل الدين يجب عليه أن يتسلح بسيفين: سيف البيان وسيف القلم، والعالم الفاقد لهذين السلاحين، حتى لو كان جبلًا من العلم، فإنّه سيأخذ علمه ومعرفته معه إلى القبر، ولكن لو

كان مجهزاً بهذين السلاحين أو بأحدهما على الأقل فإنّه بامكانه أن يخلّف آثاراً محمودة بين الناس».

سلاح القلم!

وبهذا يستعرض سماحة الاستاذ هذه الموهبة الإلهية فيما يتعلق بقدرته على البيان والكتابة والتأليف وكيفية استثمار هذه القابليات والمواهب الإلهية فيما ينفع الإسلام والمسلمين، وقد سبق الكلام عن ذلك في الفصل السابق «الاستقامة والجدية»، ثم يتطرق سماحته إلى قصّة تأليف أول كتاب له باسم «تجلي الحق» والتشويق الذي حازه من قبل المرحوم آية اللَّه السيد البروجردي رحمه الله على تأليفه هذا الكتاب (وقد تقدم بيان ذلك بالتفصيل في الفصل التاسع).

ثم إنّ سماحته أشار إلى الكتاب الثاني من تأليفاته المهمّة القيمة، أي كتاب «أشباه الفلاسفة» وقال:

«عادة يثير الكتاب الناجح لدى البعض دوافع خاصة تحركهم وتدفعهم إلى التقليل من شأن هذا الكتاب من خلال بث الشايعات حوله. وهذا الكتاب قد تقدم به المرحوم الشهيد المطهري إلى هيئة انتخاب (كتاب العام) وبدون السيرة المباركة، ص: 111

علمي، وفي السنة السابقة لذلك التاريخ تمّ انتخاب كتاب (اصول الفلسفة والمنهج الواقعي) من تأليف العلّامة الطباطبائي على أنّه (كتاب العام)، وفي السنة اللاحقة تمّ انتخاب كتاب (أشباه الفلاسفة) بعد أن قدّمه إليهم المرحوم الشهيد المطهري فإنّه كان يرى أنّه لا ينبغي ترك الساحة واخلاء الميدان للمخالفين ليتوهموا أنّ الحوزة العلمية ليست لها قدرة على الانتاج العلمي وأنّ العلوم كلها موجودة في الجامعات، فالشهيد المطهري كان يعيش هذه الحساسية الشديدة تجاه التيارات الفكرية الاخرى، ولهذا السبب تقدم بكتابي هذا إلى هيئة التحكيم وتمّ انتخابه بعنوان أنّه كتاب العام».

وفي هذا المجال أيضاً وبالإشارة إلى سائر تأليفاته الكثيرة (أكثر من مائة وعشرة كتب صغيرة وكبيرة) ومع ملاحظة أن بعضها تكرر طبعه ثلاثين مرّة والبعض عشرين مرّة وآخر طبع عشر

مرّات وكانت هذه الكتب مورد استقبال الناس الشديد، وأمّا على مستوى «التفسير الأمثل» فإنّه استقبل استقبالًا يقلّ نظيره في جميع المحافل الدينية والمكتبات والجامعات والمدارس والبيوت، وليس الأمر ينحصر في دائرة الشيعة بل إنّ الكثير من أهل السنة استقبلوا هذا التفسير بأحسن استقبال وترجم إلى اللغة العربية والاوردية، ويتحدّث سماحة الاستاذ عن تفسيره الآخر باسم «نفحات القرآن» ويقول:

«التفسير الآخر يدعى (نفحات القرآن) وقد كتبته بمنهج التفسير الموضوعي، أي ليس على طريقة ترتيب الآيات والسور القرآنية بل بترتيب موضوعات القرآن. ويقع هذا التفسير في عشر مجلدات ويتضمن مسائل عقائدية ومعارف دينية في مجال العقائد من التوحيد إلى المعاد من خلال استنطاق الآيات الكريمة حيث تمّ التحقيق والبحث في جميع الآيات التي تتحدث عن التوحيد، والآيات التي تتحدث عن صفات اللَّه، والآيات التي تتعرض إلى النبوة العامة والنبوة الخاصة وهكذا جميع الآيات التي تشير إلى السيرة المباركة، ص: 112

المعاد والإمامة والحكومة الإسلامية وأمثال ذلك، وقد سمعت من بعض الفضلاء قولهم عن هذا التفسير: إنّ هذا التفسير يمثل فعلًا أفضل منبع لفهم العقائد الإسلامية».

ثم يشير سماحته إلى كتبه الفقهية والاصولية ويقول:

«أمّا بالنسبة إلى الكتب الفقهية والاصولية فهناك دورة في علم الاصول تمّ تدوينها بواسطة أحد طلابي الذين يحضرون درسي في الاصول وهو شاب ذكي وجيد الفهم وذو قلم شيّق ويتمتع بالإخلاص والإيمان في عمله، حيث عمل على تدوين وجمع ما ذكرناه في درس الاصول، وبعد ذلك قرأه عليَّ وأجرى بعض الإصلاحات اللازمة عليه وتمّ طبعه بحمد اللَّه في ثلاثة مجلدات، أمّا في الفقه فلدينا كتاب «أنوار الفقاهة» والمجلد الأول منه يتضمن كتاب البيع، والمجلد الثاني كتاب المكاسب المحرمة، والمجلد الثالث كتاب الخمس والأنفال، والمجلد الرابع كتاب الحدود والتعزيرات،

وكذلك لدينا تعليقة على جميع العروة الوثقى، وهذه التعليقة على العروة شرعت بها قبل عشر سنوات وخلافاً للمعتاد سعيت إلى عدم الاكتفاء والقناعة بالتعليقة على كل كلمة أو جملة تعكس الفتوى الفقهية بل سعيت إلى ذكر الدليل الأصلي على هذه الفتوى لتكون مفيدة بالنسبة لي وللآخرين، أي أنّها تمثل دورة فقهية نصف مستدلة تقريباً. وأنا أشكر اللَّه تعالى على أنّ هذه الزحمات لم تذهب هدراً بل بقيت في متناول الطلّاب الأعزاء لينتفعوا بها.

والتأليف الآخر هو دورة «القواعد الفقهية» التي كانت من بداية طبعها ونشرها تمثل ابداعاً في هذا الفن، حيث بحثت فيها ثلاثون قاعدة فقهية لم تبحث بصورة جيدة، لا في اصول الفقه ولا في أبحاث الفقه، وقد تحملت متاعب كبيرة في جمعها ودراستها قبل أن يخرج كتاب «القواعد الفقهية»

السيرة المباركة، ص: 113

للمرحوم العلّامة البجنوردي، وقد ألفتها في مجلدين وتكرر طبعها عدّة مرات وكانت محل استقبال جيد من قبل الفضلاء والطلّاب الأعزاء، وأحياناً تعرض بشكل كتاب درسي في بعض الحوزات العلمية».

سلاح البيان!

بعد أن استعرض سماحة الاستاذ ما يتعلق بسلاح القلم، شرع ببيان ما يتعلق بسلاح البيان أيضاً حيث قال:

«أنا أعتقد أنّ العالم الذي لا يتسلح بسلاح القلم ويفتقد في نفس الوقت سلاح البيان والخطابة فإنّه لا يمكنه أداء مسؤوليته الرسالية بصورة جيدة، والآن أيضاً اوصي الطلبة الأعزاء والعلماء المحترمين بهذا الأمر وأنّه من الأفضل ممارسة عملية التبليغ والخطابة لا بلغة واحدة بل بعدّة لغات وعلى أساس هذا النمط من التفكير بدأت منذ سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة بممارسة فن الخطابة والتحدث على المنبر حيث كنت أتوجه للتبليغ في شهر رمضان المبارك أو شهري محرم وصفر. وأول منطقة ذهبت إليها عندما كنت طالباً من طلّاب

العلوم الدينية في شيراز عبارة عن قرية تدعى «جوين» على مقربة من شيراز، وهي الآن تعدّ من أحياء شيراز، وبعدها توجّهت للتبليغ في شهر رمضان المبارك إلى مدينة «فسا» وهي أحد المدن التابعة لمحافظة فارس، مع إنني كنت على اطلاع جيد في علوم التفسير والعقائد ولكنني لم أكن أجد في نفسي الموفقية في عالم الخطابة وكنت خجولًا جدّاً وأتصور أنني أفتقد البيان الشيّق والجذّاب، فتوسلت بالأئمّة المعصومين عليهم السلام وطلبت منهم نعمة اللسان الناطق الفصيح لأتمكن من تقديم خدمة للإسلام وللمذهب، واستمرت توسلاتي ودعائي حتى أحسست السيرة المباركة، ص: 114

تدريجياً أنني أملك قدرة أكثر على ممارسة الخطابة، وبعد ذلك بلغ بي الأمر أن أكون خطيباً مقتدراً وكان الناس يطلبونني لأقرأ عليهم مجالس الوعظ والإرشاد»

ذكرى شيّقة ومفيدة جدّاً:

بعد أن تحدّث سماحة الاستاذ عن تطور القدرة الخطابية لديه بدأ بشرح تفاصيل نشاطاته الهادفة وجهاده المستمر من خلال المنبر في التصدي للتيار الماركسي وبعض الفرق الضالة والمفاسد الأخلاقية المنتشرة في مدينة عبادان وخرمشهر، ثم تتطرق الاستاذ إلى ذكر جلساته المتواصلة قبل انتصار الثورة في مسجد «ارك» في طهران وحسينية «بني فاطمة» على شكل «أجوبة عن أسئلة المستمعين وحفظ الحديث» وما قام به من مشاريع لجذب الشباب وطلّاب الجامعات إلى صفوف ا لمتدينين والمؤمنين في هذا المجال وأشار سماحته إلى ذكرى شيّقة جدّاً وقال:

«إنّ الكثير من الأشخاص الذين يواجهونني الآن ممّن كانت لديهم أسئلة مختلفة يتذكرون تلك الجلسات الدينية، ولي خواطر وذكريات كثيرة في هذا المجال، واريد أن أختم هذا البحث بذكر حادثة لطيفة وهي بمثابة عبرة لي دائماً، فقد كنّا نعقد جلسة في كل صباح يوم الجمعة للشباب في مسجد الإمام الحسين عليه السلام وكنت أتوجه آخر الاسبوع من قم

إلى طهران للمشاركة في جلسات ليالي الخميس التي نبحث فيها العقائد والمعارف الإسلامية، وكذلك جلسات صبح الجمعة في مسجد الإمام الحسين عليه السلام في طهران حيث كنت أكتب لهم حديثاً شريفاً في كل اسبوع مع ترجمة بليغة وشرح مختصر ويتمّ طبعه في صفحة واحدة ونشره بين المشاركين الذين كان أكثرهم من الشباب ... وفي أحد الأيّام قررنا امتحان المشتركين في حفظ وتفسير أربعين السيرة المباركة، ص: 115

حديثاً، واشترك عدد كبير من الاخوة والاخوات في هذا الامتحان، والملفت للنظر أنّ الغالبية منهم كانوا قد حفظوا أربعين حديثاً شريفاً بشكل كامل مع الاعراب والترجمة والمآخذ ... ثم تقرر اهداء جوائز بواسطة أحد الخيرين على هؤلاء الشباب الفعّالين، وكانت الجوائز عبارة عن ملابس «سترة وسروال وعباءة نسوية» وكذلك زيارة الإمام الرضا عليه السلام في مشهد، والظاهر أنّ هذه الزيارة كانت بالطائرة، وجوائز اخرى من هذا القبيل، وبعد أن اتّضحت نتيجة الامتحان قلت لذلك المتبنّي المحترم: إنني أطلب موافقتك على تسجيل اسمك بأنّ الشخص الفلاني قد تبرع بهذه الجوائز ولكنه امتنع من ذلك وقال: كلّا لا تكتبوا اسمي، لأنّكم لو كتبتم اسمي هنا فأخشى أن لا يكتب اسمي في مكان آخر أحتاج إليه، وشعرت حينها بالسرور لكل هذا الإخلاص».

الجمع بين الاصول والفروع:

ومن المعالم الاخرى لجامعية الاستاذ وشموليته العلمية، جمعه بين الاصول والفروع «الاصول الاعتقادية والفروع الفقهية»، فالاستاذ في الوقت الذي يعتبر فقهياً جامعاً ومجتهداً متمرساً، بالمعنى المصطلح في الحوزة العلمية، ونعلم أنّ البحوث الفقهية في الحوزة ومنهج الدروس الاصولية والاجتهاد في الحوزة إلى درجة من التعقيد بحيث إنّ الكثير من الفقهاء ينصرفون عن البحث في المسائل العقائدية والأخلاقية والتفسيرية «وهي في الحقيقة أعلى مراتب الفقه» وعملًا يجدون صعوبة بالغة في الدخول

في هذا الميدان والتعرض إلى هذه المساحات العملية ولكننا نجد أنّ الاستاذ له اهتمامات كبيرة في هذه البحوث الأساسية الأصيلة ويؤكد دائماً على أهميّة اصول الدين في مقابل فروع الدين ويقول:

«العجيب أننا في الوقت الذي نسمي هذه البحوث الاعتقادية «اصول السيرة المباركة، ص: 116

الدين» ونسمي البحوث الفقهية «فروع الدين» نرى البعض يتمسك بالفروع في دراستهم الحوزوية ولا نجد أثراً للدرس والبحث في «الاصول»!! فصحيح أنّ المسائل الفرعية لابدّ من بحثها والتحقيق فيها في الحوزات العلمية، ولكنّ هذا لا يعني الغفلة عن اصول العقائد التي تمثل البنى التحتية للدين ...».

وكذلك يقول:

«ما أحسن تشبيه الدين بالشجرة المثمرة التي تمثل «العقائد» جذورها، والفروع أغصانها وهي «البرامج والتعاليم والأحكام الفقهية»، وأمّا ثمرتها فهي «تربية الإنسان الكامل»، وهذا المعنى يثير في أذهاننا ما يطلق على هذه العلوم بأصول الدين وفروعه» «1».

12 المسؤولية الدينية مع الشعور العقلاني

اشارة

إنّ الاستاذ (دام ظلّه) يعيش دائماً كجندي متحرق وحارس يحس بالمسؤولية الدينية والحمية الحوزوية في حياته حيث يجد في نفسه همّاً وقلقاً من تحريف الدين والابتعاد عن الأصالة الدينية والحوزوية، وهنا تصدى سماحته بقلمه القوي والجذّاب (حيث يرى البعض أنّه أقوى وأشد تأثيراً من بيانه) لمعالجة الانحرافات الفكرية والأخلاقية ومكافحة أشكال الزيغ والجنوح الاجتماعي، فمضافاً إلى تأليفه لأكثر من مائة كتاب علمي وتحقيقي في سبيل الدفاع عن الإسلام والتشيع، نرى أنّ سماحته يتحرك من فرط احساسه بالمسؤولية الدينية والأخلاقية، وعلى هذا الأساس انطلق سماحته من موقع مل الفراغات وسد الثغرات من دون تكرار للمكررات أو التأطر بإطار التكلفات والتعبيرات الغامضة والعبارات المبهمة، فكان قلمه السيّال يتجلّى فيه عنصر النفوذ والتأثير الشديد بحيث إنّه يتمكن من بيان أصعب مسألة وأعقد مشكلة فكرية بشكل سهل وميسور يفهمه عامة الناس أو أغلبهم، ولا

شك في أنّ مثل هذا القلم يُعدُّ موهبة كبيرة لا يوفق إليها إلّامن كان ذا حظ عظيم.

ويتحدّث أحد أصحاب الاستاذ ورفاقه عن هذه الحالة من التحرك الديني وبعض خصائص الاستاذ الاخرى ويقول:

«بالنسبة لمرافقتي سماحة الاستاذ في تلك المدّة القصيرة (وإن كانت لم تتجاوز السنة الواحدة) فقد عشت معه أبعاده الروحية وعبادته وجهات نظم السيرة المباركة، ص: 118

اموره وتحصيله الدراسي وكذلك رفاقه في تلك الفترة فقد كانوا يتميزون بالفكر الجيد والحرقة الدينية في ظروف صعبة وذلك عندما كان المد الشيوعي يغزو ايران، فقد فكر سماحته مع رفاقه أن يجلس كل واحد منهم في منطقة ليتمكنوا من الدفاع عن الإسلام والاجابة عن شبهات هذا التيار المادي، وقد سمعت في ذلك الوقت أنّ سماحة الاستاذ لم يحل مسألة تجميده من قبل الحوزة كسائر طلّاب العلوم الدينية، بل من خلال ورقة الاجتهاد حيث عاد من النجف مجتهداً» «1».

يجب مل الفراغات:

لا شك في أنّ هذا التحرك الديني لا ينفع شيئاً بدون اقترانه بالشعور العقلاني، وإلّا كان كقيادة السيارة التي تفتقد الكوابح والفرامل، فبدلًا من حركتها باتجاه معين فانّها لا تثمر سوى الضرر والخسارة، لقد اقترن التحرك القلبي والغيرة الدينية للاستاذ مع الوعي والتدبير والتعقل حيث كان يخطو بخطوات مدروسة نحو الغاية المنشودة بدون تضييع الوقت والجهود في تكرار المكررات أو الحركة بدون هدف، فكان يملأ الفراغات في الذهنية المسلمة ويجيب عن مشاكل الجيل المعاصر بحنكة ودقّة.

ويتحدّث سماحته في هذا المجال ويقول:

«إذا أردنا تحقيق نجاح في أعمالنا فيجب علينا التوجه إلى نقاط الفراغ والثغرات التي بقيت دون دفاع، فعلينا أن نتحرك على مستوى أداء ما غفل عنه الآخرون، فنشاهد مع الأسف الكثير من تكرار المكررات حيث يأتي البعض ويجمع بعض المواضيع من

هذا الكتاب وذلك الكتاب ويجعله بصورة كتاب مستقل، فلا يثمر هذا العمل سوى تضييع عمر الكاتب وتضييع عمر القرّاء واهدار ثروات كثيرة على نفقات الطبع والنشر، فالأفضل أن نقوم بعمل أقل ولكن يسد فراغاً في منظومتنا الفكرية والعقائدية وما يحتاج إليه الناس».

13 حراسة المذهب

اشارة

عندما ينطلق الإنسان في أجواء مظلمة من التشكيك والالحاد والانكار ليكون «خضر الطريق» و «دليل القافلة» لرؤية مواضع نفوذ العدو والدفاع عن المذهب مقابل تحديات المذاهب الوضعية والتيارات الفكرية المنحرفة، والاحاطة بالأفكار الالتقاطية المحسوسة وغير المحسوسة، كل ذلك يحتاج إلى يقظة ودراية وموهبة إلهيّة من الشهامة والشجاعة، وقد حاز استاذنا منذ قديم الأيّام بل منذ سنوات المراهقة والشباب على هذه المواهب جميعاً «1».

في محفل البهائيين:

إنّ قصة مناظرة الاستاذ مع المبلغ البهائي في شيراز في سنوات الشباب معروفة عند

السيرة المباركة، ص: 120

أهالي شيراز، وكذلك حادثة مناظرته مع المتصوفة في مجلسهم في خانقاه في شيراز وكان الاستاذ شاباً يافعاً، وقد انتهت هذه المناظرة بكتابة «تجلي الحق» والذي وقع مورد اعجاب وتشويق سماحة آية اللَّه العظمى السيد البروجردي قدس سره «وقد تقدم بيانه في الفصل التاسع» ويروي أحد مرافقيه هذه الحكاية كالتالي:

«إنني أتذكر جيداً أنّ أتباع «الفرقة الضالة» كانو يجتمعون في محفل لهم في شيراز ويدعون الناس إلى ذلك المحفل والمجلس ليتمكنوا من اغواء واضلال الجهّال والبسطاء من الناس، وفي أحد الليالي اشترك الاستاذ- وكان شاباً مراهقاً- في تلك الجلسة والمحفل وذلك قبل هجرته إلى قم، فأخذ المبلغ البهائي بإلقاء كلمته لإثبات حقانية زعماء الفرقة البهائية وتمسك بإحدى الآيات القرآنية الشريفة وكان الناس يستمعون إليه، وفجأة قام هذا الشاب المراهق من بين الجالسين والحضّار وقال مخاطباً ذلك المبلّغ: إنّ الذي يفسّر آية من القرآن لابدّ أن يعرف القواعد الأدبية للغة العربية وقد قرأ الصرف والنحو، فهل قرأت ذلك، وهل تعرف الصرف والنحو؟ فقال المبلّغ البهائي: نعم قرأت ذلك. فسأله الاستاذ عن قاعدة نحوية من قواعد باب الاشتغال وقال له: كيف نحلّ تنازع العوامل في النحو فيما يعود «لترجيح النصب

على الرفع»؟ وبما أنّ المبلّغ البهائي لم يسمع اطلاقاً بهذا الموضوع فقد بقي متحيراً وبان عليه الخجل وضلّ ساكتاً وانهار المجلس» «1».

في مواجهة الماركسيين:

لقد شرع الاستاذ بعد مجيئه إلى الحوزة العلمية في قم باجراء عدّة بحوث ودراسات السيرة المباركة، ص: 121

متنوعة فيما يتعلق ببيان المعارف الدينية ودفع الشبهات المذهبية، وعلّم جيل الطلّاب الشباب في الحوزات العلمية أن يأخذوا بنظر الاعتبار في تبليغهم الديني عنصر الزمان ويأتوا بالدين ويضعونه في قلب المجتمع المعاصر، وبذلك يمكنهم التصدي للحوادث الواقعة بكامل الجدارة، وقد تقدم سابقاً أنّ سماحته قال:

«لقد كانت لدينا جلسة اسبوعية مع فضلاء الحوزة العلمية من اصدقائنا الذين كنّا نشترك معهم في المباحثة، وكان يحضر هذه الجلسة بعض الشخصيات المهمّة منهم الإمام موسى الصدر وأشخاص آخرون لا أجد مسوغاً لذكر أسمائهم، وكانت البحوث التي تطرح على بساط البحث تتعلق بالشيوعية حيث كانت الشيوعية تتمدد بسرعة في ذلك الزمان إلى ايران والبلاد الإسلامية المجاروة للاتحاد السوفيتي السابق «وخاصة أنّ حكومة الشاه كانت تتحرك على مستوى توهين عرى الإيمان والتدين بين الناس» فكان ذلك سبباً في اشاعة الأفكار الماركسية بواسطة حزب تودة الشيوعي الذي كان يتحرك على مستوى الجامعات خاصة، وكانت لديهم نشريات وصحف كثيرة اهتمت بترجمة كتابات رواد الماركسية وبعضها كان من كتابات الشيوعيين في ايران، وأخيراً وصل الأمر إلى درجة التأزم والتسافل بحيث خرج عن حدود البحوث المنطقية وأخذ يتجلى على شكل توجيه الإهانة إلى المقدّسات الدينية من قبلهم لأنّهم كانوا يعلمون أنّ الإسلام مهما كان ضعيفاً فإنّه يقف سدّاً منيعاً بوجه مطامعهم، وقد امتدت هذه البحوث إلى الحوزات العلمية التي وجدت أنّ وظيفتها التصدي إلى هذا التيار التخيلي، وكان المرحوم العلّامة وتلميذه الشجاع المرحوم العلّامة المطهري من

جملة الأشخاص الذين تصدوا إلى هذه المسؤولية حيث كتبا «اصول الفلسفة والمنهج الواقعي» الذي يمثل حصيلة جهد هذين العلمين في هذا المجال.

السيرة المباركة، ص: 122

وقد شرعنا مع أصدقائنا بالتحقيق حول عقائد وأفكار هذه المدرسة وكنّا نبحث في جلستنا الاسبوعية المواضيع المتعلقة بالماركسية من خلال مطالعة كتبهم لكي نكون على اطلاع كامل على أفكارهم ونظرياتهم ثم نضعها قيد الدراسة والنقد، وقد طلبت من الاخوة الموافقة على أن أكتب بعض المواضيع المتعلقة بالماركسية ثمّ أطرحها في هذه الجلسة لكي يتكامل الموضوع بصورة أفضل، وبالفعل فقد كتبت هذا الكتاب وسمّيته «أشباه الفلاسفة» وذكرت فيه جملة من المواضيع للفلاسفة الماديين وخاصة من أتباع المدرسة الماركسية ونقدتها مستعيناً بالملاحظات التي أوردها الاخوة في تلك الجلسة ثم عملت على صياغتها بأسلوب قصصي لتكون أكثر جذّابية، وتمّ نشر هذا الكتاب وهو الكتاب الثاني من تأليفاتي، وقد استقبله الناس بشوق بالغ بحيث إنّه تتكرر طبعه لثلاثين مرّة تقريباً».

الجمع بين التدين والثقافة:

الجدير بالذكر أنّ ما يبديه الاستاذ من حساسية في مواجة الأفكار المنحرفة وقدرته الفائقة في الاجابة على الشبهات المختلفة وسرعة بديهته في الردّ على الأسئلة وعلامات الاستفهام، قد أثار في الطلّاب الشباب في الحوزة العلمية حركة من الهياج والشوق، وتبدلت جلساته الاسبوعية التي كان يعقدها في ليالي الخميس لغرض دراسة المباحث والمعارف المعاصرة المطروحة على بساط البحث بغيث سماوي على صحراء الفكر الجافة فأروت طلّاب الحوزة العطاشى لمثل هذه الأفكار والمعارف.

إنّ أهميّة هذا الموضوع تتجلى أكثر إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ البحث في هذه المواضيع والامساك بالقلم وكتابة مثل هذه المقولات وكذلك إصدار مجلة، يعدّ في ذلك الوقت (خروجاً على جميع القوالب والأطر الحوزوية) ويعتبر لدى بعض المدرسين في الحوزة

السيرة المباركة، ص: 123

جرماً، ودليلًا على

السطحية وعدم التعمق في المسائل العلمية، هؤلاء غفلوا عن أنّ الاستاذ لا يتحرك على مستوى تقييد الدين وحبسه في الابراج العاجية، بل يهتم بإحياء الفكر الديني وينطلق بقوّة للدفاع عن المذهب والدين والاجابة على شبهات الجيل الحاضر وإيجاد الحلول التي تلامس أزمات المجتمع الفكرية والقضاء أخيراً على الثنوية بين «المثقف» و «المتدين».

يقول أحد تلامذة «1» الاستاذ القدامى في مقدمة رسالته الانتقادية «2» للاستاذ راسماً حالة الاستاذ في الماضي فيما كان ا لاستاذ يعيشه من ثقافة معاصرة وروحية إصلاحية في ذلك الوقت، ويقول:

«... في سنة 1335 ه ش أي قبل (43 سنة) وعندما كان الاستاذ عائداً من حوزة النجف الأشرف ومن جوار مرقد مولى الموالي أميرالمؤمين الإمام علي عليه السلام، وعندها كان لي تسعة عشر ربيعاً، تشرفت بالمجي ء إلى الحوزة العلمية في قم وأقمت إلى جوار فاطمة المعصومة عليها السلام، في بداية تلك الأيّام حيث كنت أسكن في إحدى حجرات مدرسة الحجّتية مع آية اللَّه الحاح الشيخ جعفر السبحاني، فجئت إليَّ لملاقاتي بكل تواضع والحال أنني كنت في ذلك الوقت طالباً مبتدئاً ومجهولًا وكنت أنت في سن الثلاثين من العمر وتعتبر من أساتذة الحوزة العلمية ومن المجتهدين.

إنّ هذه المعرفة أدّت تدريجياً إلى استحكام الرابطة بين الاستاذ وتلميذه واستمرار التعاون الفكري في مجال تأسيس نهضة مباركة ومتكاملة في وسط الحوزة العلمية «لأول مرّة بعد تأسيسها» حيث تمّ التوجه إلى المسائل المعاصرة والاهتمام بروح الزمان، وفي الحقيقة أنّه قد حدث تحوّل كبير في السيرة المباركة، ص: 124

«علم الكلام والفكر الإسلامي».

إنني لا نسى تلك الجلسات الجذّابة والشيقة في ليالي الخميس والجمعة والتي خلقت تحوّلًا كبيراً في وسط الجيل الشباب من طلّاب العلوم الدينية، فمضافاً إلى معطيات هذه الجلسات البناءة

والنافعة «من قبيل كتاب: خالق العالم، كيف نتعرف على اللَّه، الزعماء العظام والمسؤوليات الأعظم، القرآن والنبي الخاتم، وهي سلسلة في إثبات الصانع، صفات اللَّه، النبوة العامة، والنبوة الخاصة» وهناك عشرات الكتب والرسائل العلمية تمّ تحريرها بواسطتكم وبمساعدة الاخوان المشتركين في تلك الجلسات مع الأخذ بنظر الاعتبار الأجواء الحاكمة على ذلك الزمان وحاجة الناس إلى أفكار ومعارف دينية تسد نقاط الفراغ وتعالج أشكال الخلل والشبهة في الذهنية المسلمة والمجتمع الإسلامي ...

وفي عام 1340 ه ش وبعد رحلة المرحوم آية اللَّه العظمى البروجردي قدس سره مرجع الشيعة على الاطلاق كانت مجلتكم «مكتب اسلام» تدخل في عامها الثالث وكان سماحتكم قد اختار ستة أشخاص من المعاونين ليكونوا أعضاءً في الهيئة التحريرية لهذه المجلة المباركة ...

وبعد مضي عشر سنوات من اشرافكم على المجلة وكونكم صاحب الامتياز فيها وكنت أنا عضواً للهيئة التحريرية وكذلك أشغل منصب المدير الداخلي لهذه المجلة، وبعد ذلك عندما شرعتم بإصدار مجلة سنوية تهتم بإنقاذ الجيل الصاعد من شبابنا من قبل مؤسسة «نجاة الشباب» كنت بدوري من معاونيكم وأنصاركم، مضافاً إلى أنني قمت في تلك السنوات بتأليف وترجمة بعض الكتب الدينية وكنت أكتب مقالات في مجلة «مكتب التشيع» التي كان يشرف عليها المرحوم الشهيد محمد جواد باهنر والشيخ هاشمي السيرة المباركة، ص: 125

رفسنجاني والمرحوم محمد رضا الصالحي الكرماني والسيد محمد باقر مهدوي الكرماني.

والحقيقة أننا منذ أن انتهت مؤسسة «نجاة الشباب» وكان سماحتكم برغم من أشغاله في الليل والنهار وتخصصكم في العلم و (الفقه والاصول) وبمساعدة سماحة آية اللَّه السيد علي المحقق الداماد الابن المكرم لاستاذكم الجليل (المرحوم آية اللَّه العظمى المحقّق الداماد) حيث قمتم بخلق آثار علمية مهمّة وفقاً لمقتضيات العصر وانسجاماً مع حاجات الشباب من

الطلّاب، فلا أنسى أنني كنت لفرط السرور لا يقرّ لي قرار، وأتذكر بوضوح في تلك البرهة الزمنية أنّي كنت قد عقدت كل أملي فيكم وفي نشاطاتكم الدينية والعلمية (العقد الرابع عندما كانت لنا رحلات قصيرة وطويلة مع سماحتكم وكنت معكم وفي خدمتكم ليل نهار، وأتذكر من جملة الأسفار التبليغية في شهر رمضان 1342 ه ش سفري إلى عبادان بمصاحبة الشيخ هاشمي الرفسنجاني (حيث بدأ بإصدار صحيفة سرية ثورية باسم «بعثت» وقد تمّ إغلاقها في تلك الفترة وفي ذلك الزمان).

لابدّ أنّكم تتذكرون أوقات السحر في شهر رمضان المبارك حينما كنّا في منزل «المرحوم الحاج غلام علي الخرّمي» وكانت هناك محاروات مفيدة وبناءة في مجال الثورة الإسلامية وعملية التجديد وضرورة التغيير في أنساق الحوزة العلمية في قم وكذلك النكات اللطيفة والجذّابة للشيخ هاشمي الرفسنجاني وتأثركم الشديد بمناجاة «علي جانم، علي جانم» وغيرها.

في ذلك السفر وقفت بصورة أوضح وأفضل على قابلياتكم وبُعد نظركم في مجال الإصلاحات وعملية التغيير الجذري وواقع التجديد في الحوزة

السيرة المباركة، ص: 126

وقد سمعت منكم مطالب شيّقة ودقيقة كفيلة بتحسين الأوضاع تماماً.

وأيضاً استميحكم عذراً في العودة إلى العقد الرابع واستجلاء بعض أفكاركم الجديدة ومشاريعكم الإصلاحية «التي تعدّ في ذلك اليوم بديعة تماماً وليس لها سابقة في الحوزة العلمية» واشير هنا إلى بعض هذه الموارد:

تتذكرون حتماً أننا كنّا نجلس جلسة اخرى بعد انتهاء الجلسات المذكورة تحت عنوان «ماذا نعرف عن الإسلام؟» وقد كانت قصيرة العمر، وكما قلتم عن أحد أعضاء الجلسة المؤثرين الذي يريد القفز فوق الحبال وكانت الظروف حينذاك غير مواتية، فكانت ثمرة تلك الفترة التي تناهز العامين هي كتابين فقط: «المرأة والانتخابات» و «البلايا الاجتماعية للقرن الحاضر» ...

وفي هذه الجلسات استطعت أنا والآخرون أن نتعرف

أكثر على أفكاركم الجديدة واطروحاتكم البديعة والخلّاقة.

كنت تقول: ليس لدينا سوى العمل على خلق نهضة «رنسانس»، ومن أجل أن لا يختلط المقصود مع نهضة الإصلاح الديني في الغرب قلتَ مضيفاً: إنّ مقصودي هو اجراء تغيير في البنية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للُامة الإسلامية بالاعتماد على القيم والمبادى ء والتعاليم الدينية» لا إصلاح الدين، الذي يعني إجراء تغيير في نفس الدين واصوله وماهيته ومحتواه.

وهذا ما حدث في أجواء العالم المسيحي في نهضة «رفورماسيون» وحركة «البروتستانتية».

لقد طالعت من خلال كتبكم وتأليفاتكم حالة «الاستغراب» وتبعية بعض شبابنا المثقفين للغرب قبل أن أقرأ كتاب «الاستغراب» للسيد جلال آل أحمد «وذلك في مقالات متعددة في مجلة «مكتب اسلام» ويتذكر سماحتكم أنني السيرة المباركة، ص: 127

كنت في أحد الجلسات الاسبوعية لعلماء عبادان «في أيّام الجمعة» أتحدّث في محاضرة مطولة تقريباً عن هذا الموضوع وكنت أستشهد بكلماتكم في تلك المقالات وكذلك بكتاب «الاستغراب» القيم للسيد جلال آل أحمد ...

إنّ سماحتكم في الوقت الذي تشعرون فيه بالألم والتأسف على تخلف المجتمعات الإسلامية وما أصابها من انحطاط وذبول وتقهقر وعلى الرغم من أنّ هذا الوضع الفعلي مؤيد من قِبل أغلبية المتحجرين الذين يعيشون الماضوية في أجواء الحوزة العلمية، ولكنكم كنتم تشعرون بضرورة إجراء تغيير جذري لحالة التأخر والتخلف الحضاري والثقافي والتصدي لتسلط الأجانب على نمط التفكير لدى المسلمين وقراءتهم المنحرفة والمشوهة عن الإسلام.

لقد قررتم وذكرتم بصراحة وبشجاعة أنّ الأفكار السائدة بين الناس وحتى بين الكثرة من الخواص ملوثة بأنواع الخرافات والنقائص والبدع ومعالم الانحراف عن الصراط القويم وكنتم تعتقدون أننا ينبغي علينا العمل على إزالة بعض التابوات شبه الدينية والخطوط الحمراء المجعولة بعنوان عقائد دينية متداولة في أجواء العرف الاجتماعي قبل إحداث أي ثورة في

الاطار الاجتماعي والسياسي، فيجب إصلاح الرؤية الكونية التقليدية «الممتزجة مع الخرافات والجعليات» بشكل سريع وبناء.

وأخيراً قام سماحتكم ولأول مرّة بعد تأسيس الحوزة العلمية في قم بتعريف الشخصيات الكبيرة في عالم الإصلاح الديني مثل «السيد جمال الدين الأفغاني» و «الشيخ محمد عبده» و «الكواكبي» و «كاشف الغطاء» و «السيد شرف الدين» وأمثالهم إلى شبابنا المتوقد في الحوزة العلمية في قم وبالإستلهام من أفكار هؤلاء العظماء في مسألة «إحياء الفكر الإسلامي»

السيرة المباركة، ص: 128

قمت بهذا المشروع الإصلاحي حيث رأيت بعد ثمان سنوات هذا العنوان وهذه الحركة الإصلاحية في تأليفات الاستاذ الشهيد مرتضى مطهري ...

ومن أجل أن أضعكم أمام الواقع الملموس أو الأكثر موضوعية ومصداقية فانّي أُذكِّر سماحتكم بالأفكار الإصلاحية التي كنتم تتبنّونها فعندما اعترض بعض رفاقكم في تلك الجلسة على اسلوب عمل بعض الأعاظم في الحوزة العلمية قلتم له:

«إنّ الانتقاد والاعتراض على الأشخاص لم ينفعنا شيئاً ولن يداوي جرحاً، بل يجب العمل على تغيير المعايير الحاكمة على الحوزة لتحقيق التحوّل المطلوب في واقع الأفراد أنفسهم».

وعلى أيّة حال فانّ الكثير من تأليفات سماحة الاستاذ (دام ظله) شاهد على إمكان تزريق الدين في شرايين المجتمع الإنساني وبالتالي إدغام التصديق الديني والإيمان القلبي مع الفراسة الاجتماعية، وبهذا يساهم «التحقيق الديني» في حلّ «المعضلات الثقافية والاجتماعية» حتى لدى أشّد المذاهب والأديّان جموداً وتقليداً، وبهذا أثبتت عملًا أفضلية مداد العلماء على دماء الشهداء.

إنّ كتب الاستاذ وتأليفاته من قبيل «خالق العالم»، «كيف نتعرف على اللَّه»، «أشباه الفلاسفة»، «سلسلة جيل الشباب» ومجلّة «مكتب اسلام» وغيرها، تعد شاهد صدق على هذا المدّعى، بحيث يتحدّث سماحته في هذا المجال ويقول:

«نحن مع بعض الاخوة كنّا في المجلة نكتب تحت عنوان «مطبوعات» وكنّا نشرف على المطالب والمواضيع التي

تنشر في سائر الصحف والكتب الاخرى، وخاصة تلك الصحف والكتب التي تتحرك في خط الانحراف والمواجهة مع الدين، فكنّا نتصدى لمثل هذه الكتابات ونسعى إلى إصلاح الخلل في هذا النمط من التفكير، وكانت حركتنا هذه مؤثرة جدّاً في الذهنية

السيرة المباركة، ص: 129

العامة وكانت لنا ذكريات جميلة منها».

مداد العلماء واقعاً أفضل من دماء الشهداء:

ويتحدّث سماحة الاستاذ فيما يتعلق بتأثير القلم الكبير في وعي الامة ويقول:

إنّ جملة «مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء» قد عشت مضمونها ومحتواها بجميع وجودي ورأيت كيف أنّ كتاباً واحداً بإمكانه انقاذ الإنسان من الموت المعنوي وحتى الموت المادي ويغيّر كلياً من مصيره، فقد كان لنا صديق في عبادان وقيل أنّه كان في السابق من دعاة الماركسية الفاعلين، فقرأ كتاب «أشباه الفلاسفة»، فكان يقول بعد: «إنني قرأت هذا الكتاب ثلاث مرّات ويجب أن أقرأه سبع مرّات اخرى ليكون المجموع عشر مرّات، إنّ هذا الكتاب أنقذني وغيّر حياتي بصورة كاملة» وهناك الكثير من الأفراد يذكرون في رسائلهم أنّهم كانوا يرومون الانتحار بسبب ما يعيشونه من عقد فكرية وتشويشات عقائدية فلم يبق أمامهم سوى هذا الحل، ولكننا كنّا نكتب في جوابهم بأنّ الانتحار هو «آخر ما يعمله الإنسان في نهايةالخط ولكن في الوقت متسع، فقبل أن تقدموا على مثل هذا العمل اعملوا بتوصياتنا» ثم نوصيهم ببعض الوصايا ونرشدهم إلى بعض الامور وأحياناً يكون الكتاب بمثابة الدواء الشافي والبلسم الراقي لحلّ المشكلة، فنبعثه إليهم وبعد اطلاعهم عليه يتحوّلون روحياً إلى شخصيات إيجابية تماماً، وأساساً فإننا نوصي الاخوة في الكثير من الرسائل أن يرسلوا إلى أصحاب الرسائل كتباً مفيدة، وهذه الكتب تمثل العلاج الناجع لشفائهم من أزماتهم المعنوية والروحانية».

تربية حراس العقيدة:

إنّ حراسة سماحة الاستاذ لحدود العقيدة والدين وصلت إلى غايةالعمق والأهميّة عندما تجاوزت حدود الحراسة الفردية وارتقت إلى مستوى الحراسة الجماعية، وبتعبير أفضل: «مستوى تربية حراس المذهب»، أي أنّ سماحته تحرك على مستوى تشكيل لجان مختلفة في شتى المواضيع الدينية لتربية القوى الإنسانية والطاقات الشابة والفاعلة لغرض الإجابة عن الشبهات والمعضلات العقائدية والأخلاقية، حيث تحدّث سماحته في ما يتعلق بهذا

المجال وبقوله:

«من جملة الدروس التي شرعنا بها في الحوزة العلمية في قم هو درس العقائد والكلام الجديد، ومقصودي من الكلام الجديد هو ما نراه في العصر الحاضر من تيارات ومذاهب فكرية وعقائدية مختلفة، فهناك مذاهب لم تكن موجودة في السابق أو كانت ضعيفة جدّاً ومن جملتها المذاهب الالحادية والمادية، وبعبارة اخرى: هؤلاء الذين لا يقبلون أي دين ومذهب وحتى ينكرون وجود عالم ما وراء الطبيعة مضافاً إلى وجود مذاهب مصطنعة ومدارس فكرية مجعولة حيث نعلم أنّ الكثير منها تمثل ثمرة وجود الاستعمار في عالمنا الإسلامي من أجل حفظ منافعه اللامشروعة، ومع الالتفات إلى أنّ الإنسان يعيش في أعماق نفسه الميل الفطري للدين والالتزام الديني من جهة، ومن جهة اخرى فانّ الأديان السماوية الحقة تقف ضد منافع المستكبرين، فهؤلاء يتحركون وراء إيجاد مذهب ومدرسة فكرية بإمكانها إشباع هذه الغريزة الفطرية في الإنسان إشباعاً كاذباً وفي نفس الوقت تلتقي مع منافع المستكبرين، ومن جهة اخرى لابدّ من الانتباه إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ المجتمعات البشرية ترتبط فيما بينها في العصر الحاضر بأكثر من رابطة قوية، ومن شأن وجود دين صحيح في منطقة من مناطق العالم أن يسري إلى المناطق الاخرى وينفذ إلى مجتمعات بشرية

السيرة المباركة، ص: 131

اخرى، ومن مجموع هذه الامور نرى أنّ الحوزة العلمية لا يمكنها أن تقف مكتوفة الأيدي أمام تحركات هؤلاء المغرضين، بل يجب طرح هذه الأفكار والمذاهب على بساط البحث والمناقشة وتحديد موقف الإسلام منها بشكل مستدل ومنطقي.

ولهذا السبب قمت بتشكيل جلستين: إحداهما تختص بدرس العقائد حيث يتمّ استعراض الكلام الجديد والقديم فيها، وشرعنا بتدريس أول مسائل علم الكلام، وبما أنّ هذا الموضوع يعتبر جديداً في الحوزة فإنّه وقع مورد استقبال كبير بين

الطلّاب الأعزاء، وبالطبع فمن اللازم أن أقول أنّ هذا الدرس كان يتمّ فقط في ليالي الخميس واستمر لأكثر من ثلاثين جلسة حيث تمّ فيها بيان مواضيع مهمّة من العقائد والتيارات الفكرية والمذاهب الفلسفية الاخرى وتمّ تحقيقها ودراستها بصورة منطقية تماماً، وهذه البحوث استمرت لأكثر من ثلاثين سنة وأدّت إلى حصيلة علمية خصبة استطعت أن أجمعها على شكل كتاب، وبما أنّ هذه البحوث قد طرحت أمام الطلّاب والفضلاء في الحوزة العلمية وكان الدرس يتضمن أسئلة وأجوبة فلهذا تعمقت هذه الدروس أكثر، ومن جملة الكتب التي أثمرت عنها تلك الجلسات هو كتاب «خالق العالم» و «كيف نتعرف على اللَّه» و «زعماء العالم» و «القرآن والنبي الخاتم» و «المعاد والحياة بعد الموت» و «الإمام المهدي والثورة العالمية» وكتب اخرى أيضاً، والكثير من الطلّاب والفضلاء في الحوزة العلمية عندما يأتون إليَّ يتحدّثون معي عن تلك الجلسات أو كما يقولون: يتذكرون الاستفادة العلمية التي حصلوا عليها من تلك الجلسات والدروس.

الجلسة الاخرى كانت عبارة عن مجلس خاص يشترك فيه ثلاثون شخصاً تقريباً من الشباب الفضلاء الأذكياء، وقد عملت على تقسيم هذه الجماعة إلى السيرة المباركة، ص: 132

ثمان مجاميع، كل مجموعة تتشكل من ثلاثة إلى أربعة أشخاص يتكفلون بمطالعة أحد المذاهب والأديان السائدة في المجتمعات البشرية، فبعض يبحث في الفكر المادي ويحقق في المذاهب والتيارات المادية، وبعض آخر يبحث في المذهب الوهابي، وهكذا بالنسبة إلى اليهود والنصارى أو الفرق الصوفية أو مذاهب أهل السنة أو البوذائية، ولكل مجموعة كتب معينة ومصادر علمية يرجعون إليها في مقام التعرف على ذلك المذهب، وكل مجموعة أيضاً تعقد جلسة خاصة ويتداولون فيما بينهم المواضيع والمعارف التي حصلوا عليها ثم يكتبونها في كراس أو رسالة علمية، وأخيراً

يشتركون في جلسة مشتركة في ليالي الجمعة ويطرحون مسائلهم في حضوري وتقرأ كل مجموعة ما كتبته على هذه الجمعية المشتركة ويتمّ مناقشتها ونقدها، وهذا العمل بحمد اللَّه أثمر كثيراً واستقبله عامة المثقفين بصورة جيدة وكانت حصيلة تلك الجلسات كتب متعددة من هؤلاء الاخوة المشتركين في هذه الجلسات حيث تمّ طبعها ونشرها.

لقد أدّت هاتان الجلستان إلى إيجاد تغييرات كبيرة في مناهج الحوزة العلمية وخاصة بالنسبة إلى جيل الطلبة الشباب في المسائل الكلامية والاعتقادية وفتحت أمامهم أبواب بحوث جديدة في دائرة العقائد الإسلامية حيث دخلت الحوزة أجواء جديدة من الأفكار والفلسفات الاخرى.

وأنا لا أدّعي أبداً أنّ هذه النتائج والمعطيات هي حصيلة جهودي فقط بل إنّ الكثير من الفضلاء والعلماء ساهموا في خلق هذا الجو العلمي وأنا بدروي ساهمت معهم، وبحمد اللَّه كانت معطيات هذه الجلسات مثمرة وجيدة للغاية».

ربّما يكون الكتاب مسلماً أيضاً:

ولا بأس أن نشير هنا إلى مساحة اخرى من مساحات فكر الاستاذ الجوال وحراسته للمذهب واشرافه على مجريات الامور في أجوائنا الثقافية والدينية «ويعكس هذا المعنى، الطبع السيّال والسلامة الفكرية والذهنية لسماحة الاستاذ وقدرته على تنقية أجوائنا الثقافية وتبديلها نحو الأحسن» وهي عبارة عن الاشراف على الكتب المفيدة التي تتضمن أحياناً بعض موارد الانحراف وتمتزج بمفاهيم لا أخلاقية وغير منسجمة مع منظومة المفاهيم والقيم الإسلامية، ولابدّ من تطهيرها وتهذيبها، والأفضل أن نستمع في ذلك إلى الاستاذ نفسه:

«كما أنّ البشر يصير مسلماً وموحّداً فالكتاب كذلك أحياناً يكون مسلماً موحّداً، أي أنّ هناك بعض الكتب الجيدة والنافعة وتتضمن مواضيع نافعة ولكنّها أحياناً تتضمن بعض المنزلقات الفكرية والالحادية أو مضادة للأخلاق الإسلامية، فمن اللازم تهذيب مثل هذه الكتب وتطهيرها عن الشوائب لتكون مؤمنة وموحّدة ومفيدة، ومثال ذلك: كتاب لمؤلفه الامريكي «ديل كارنجي»

هذا الكتاب مفيد جدّاً للأشخاص الذين يعيشون تعقيدات فكرية وأزمات روحية فيقوم بحلّ هذه العُقد ويورثهم السكينة والطمأنينة.

ولكن مع الأسف يتضمن بعض موارد الانحراف أحياناً، وأساساً فانّ هذا الكتاب يعكس ثقافة الأمريكيين وليس له تأثير إيجابي في أجوائنا الإسلامية، وقد قدمت الكتاب لأحد الاخوة وعرضت عليه طريقة تهذيبه وتطهيره من الشوائب والنقاط السلبية مع الاحتفاظ بجميع الجوانب الإيجابية والامور المثمرة، وبعد أن كتبت له مقدمة طويلة نسبياً قمت بنشره تحت عنوان «طريق التغلب على القلق واليأس» وكانت لهذا الكتاب أصداء جيدة ومؤثرة في واقعنا الاجتماعي وأنقذ الكثير من الناس من دوامة الأزمات الروحية والفكرية، ويعد هذا الكتاب من جملة كتبنا النافعة في السيرة المباركة، ص: 134

شفاء النفوس ومعالجة التعقيدات الروحية لدى الأفراد، فعندما يواجه هؤلاء الأفراد هذه الحالات والأزمات النفسية فانّهم يكتبون إلينا بذلك ونقوم بدورنا بإرسال نسخة مجانية من هذا الكتاب إليهم ونوصيهم بقراءته أكثر من مرّة من أوله إلى آخره بدقّة والعمل بتوصياته، والغالب أنّه مثمر وذو نتائج إيجابية في حياة الإنسان».

ضرورة يقظة الفئات السياسية:

وعلى أيّة حال فانّ الاستاذ (دام ظلّه) يمثّل الحارس اليقظ للإسلام في مقابل خطط الأعداء ويقرأ بعض المسائل والامور التي نجدها حية وفاعلة بعد مضي سنوات عديدة من انتصار الثورة الإسلامية ويقولون:

«إنّ الأشخاص الذين يستمعون إلى أخبار الاذاعات الأجنبية التي تبث أخبارها باللغات الأجنبية يقولون: إنّ هذه الاذاعات قد تركت الحديث عن تجربتهم المرّة في اجهاض الثورة الإسلامية في ايران، وجمعوا قواهم حول محور إيجاد الفرقة وخلق فئتين: معتدلين وإفراطيين، وهم يتحركون لإشعال نار الفتنة بين الفئات والتيارات السياسية، ولا يبعد أن يكون ذلك قسماً من مخطط شامل وواسع تجاه الإسلام والثورة الإسلامية.

إنّ هذه الحقائق المرّة تبعث فينا اليقظة والانتباه إلى

ضرورة رفع مستوى الحذر من مخطط الأعداء، ولنعلم أننا قد حضرنا إلى الميدان بجميع وجودنا وتراثنا وقيمنا ومبادئنا، (فلا سمح اللَّه) إذا أصابتنا هزيمة فاننا سنفقد كل شي ء، ويجب علينا الارتفاع بمستوياتنا الثقافية في نطاق القضايا السياسية والحكومة الإسلامية، ونبتعد عن كل شي ء يؤدّي بنا إلى الفرقة ونتحمل كل السيرة المباركة، ص: 135

ألم ومشقّة في هذا السبيل» «1».

السيد «آرمسترانگ»:

لقد كان سماحة الاستاذ متديناً غيوراً بحيث إنّه لم يكن يسكت حتى عن الطعن الخفيف وكلمات الاستهزاء من قبل الأعداء، وكتب قبل أربعين سنة يقول:

«قبل فترة صعد السيد «آرمسترانگ» و «رفاقه» وسافروا حول العالم وأبلغوا الشعوب في جميع البلدان ومنها شعبنا في ايران رسالة المحبّة لرئيس أمريكا، واستثمروا هذا التطور العلمي والفتح التكنولوجي بأكثر ما يمكن من الاستخدام السياسي في جميع أرجاء العالم، ونرى في هذه الرسالة الحكيمة لهؤلاء نكات دقيقة وظريفة تعكس مدى الطفولة الفطرية التي يعيشها هؤلاء حيث قالوا: عندما حلّقنا إلى أجواء السماء فاننا استلهمنا هذا الطيران في آفاق السماء من قصّة «بساط سليمان» التي يتحدّث بها أهل الشرق، وفي الواقع يحق لنا أن نعجب كثيراً من هؤلاء .. أولًا: إنّ بساط سليمان قبل أن يكون حكاية من تراث الشرق فهذه الحكاية موجودة في تراث الغرب أيضاً، فما هذه الحيلة والمكر؟ ثانياً: ما هي العلاقة بين بساط سليمان وطيران «مركبة آپولو» إلى القمر؟ ثالثاً: إذا كنتم صادقين فيما تقولون فلماذا لا تتحدثون بدل هذه الكلمات المضحكة عن استفادتكم من العلوم والمعارف التي انتقلت إليكم من آسيا من بلاد الإسلام؟ إنّ قائمة العلوم التي يدين بها الغرب إلى الشرق كما يقول المؤرخ الشهير «ويل ديورانت»: «إنّ الإسلام كان يمثّل الحضارة الإنسانية السامية خلال خمسة قرون (من

القرن الثاني إلى القرن السادس الهجري) من حيث القوة

السيرة المباركة، ص: 136

العسكرية، النظم، سعت البلاد، الأخلاق الحسنة، الرقي في المعيشة، القوانين العادلة الإسلامية، حسن السلوك مع أتباع الأديان الاخرى، الآداب والتحقيقات العلمية في مجال الطب والفلسفة والعلوم الاخرى» وكما يقول المشتشرق المؤرخ المعروف «گوستاولوبون»: «... إنّ النفوذ الفكري للمسلمين فتح أبواب المعرفة في مختلف العلوم والفنون والفلسفة أمام الاوربيين الذين كانوا يعيشون الجهل بهذه المعارف، فكان المسلمون إلى ستمائة سنة بمثابة الاستاذ والمعلم لنا نحن الاوربيين» لماذا لم تذكروا هذه الحقائق؟! ...» «1».

العصر الجديد يستدعي عرضاً جديداً للدين:

إنّ سماحة الاستاذ ببصره الثاقب ونظرته الفاحصة في امور الدين لم يغفل عن دور الدين البنّاء في حياة البشر، حيث كان يتحدّث قبل خمس وعشرين سنة عن «دور الدين في حياة الناس، الدين يمثّل دعامة اصول الأخلاق، دور الدين في التصدي للتحديات الصعبة في حياة البشر، الدين أداة للتصدي إلى الفراغ الآيديولوجي، الدين وسيلة لتقدم العلوم والمعارف، الدين أهم وسيلة لمكافحة التمييز العنصري والطائفي» وكان سماحته يعتقد اعتقاداً راسخاً «2» بمقولة: إنّ الإسلام دين حضاري وتقدمي وبإمكانه الإستجابة لجميع ما تحتاجه البشرية المعاصرة «3»، وأخيراً فانّ الاستاذ كان يعيش ثورة فكرية وروحاً إصلاحية وفكراً جديداً يقترن مع الابداع والابتكار في عرض القضايا الدينية في أجوائنا الثقافية المتغيرة، ويعتقد:

«إنّ تصادم الأفكار في عصرنا الحاضر، عصر ثورة الارتباطات والمعلومات الهائلة، أمر حتمي وغير قابل للاجتناب، إنّ صراع العقائد

السيرة المباركة، ص: 137

والحضارات في عصرنا أوسع وأعمق بكثير من الحروب العسكرية، ووجود أدوات الإعلام المتطورة والأجهزة الدقيقة في مجال نشر الثقافات قد زاد في مساحة هذا السجال والصراع الثقافي بحيث إنّ نصف سكان المعمورة «ملياري شخص تقريباً» يتمكنون من مشاهدة مباراة لكرة القدم مثلًا بهذه الأجهزه

المتطورة فوراً وفي وقت واحد، أو يتمّ طبع مجلة أو صحيفة بعدّة ملايين من النسخ وتوزع في خمس قارات في العالم، ومن ذلك ندرك جيداً أهميّة صراع وتصادم العقائد من خلال الاستفادة من هذه الأجهزة المتطورة، ولإدراك أهميّة هذا الموضوع يكفي أن نعلم أنّنا إذا أردنا أن نعقد جلسة في كل يوم يبلغ عدد الحضار فيها ألف نفر فانّ توفير ذلك العدد الغفير من المستمعين سوف يستغرق ستة آلاف سنة، أي يستغرق جميع التاريخ البشري المرقوم، أو إذا أردنا طبع كتاب منذ بداية التاريخ البشري إلى الآن في كل سنة مرّة بمقدار مائة ألف نسخة، فستكون بمجموعها بمقدار نسخ أحد الصحف اليومية في بلادنا في الوقت الحاضر» «1».

الفكر الشاب وحلّ مشاكل الشباب:

في هذا الزمن الملى ء بالضجيج والعجيج يعيش الشاب المسلم كالغريق المتشبث بخشبة في وسط أمواج المحيط المتلاطمة، والبعض ينظر إلى هذا الاضطراب والحيرة بمنظار متشائم ويعتقد أنّ ذلك من علائم الظهور، ولهذا يعتزل الساحة ويجلس في زاوية ويتصور أنّ هداية هؤلاء الشباب المرتدين والمنحرفين غير ممكنة، ولكن سماحة الاستاذ يرى جيل الشباب المعاصر بنظرة اخرى، ويرى أنّ التشويشات الفكرية والشبهات الدينية لدى هؤلاء الشباب لا تعني بحالٍ الكفر والارتداد، ومن هنا تحرك سماحته لتأليف سلسلة

السيرة المباركة، ص: 138

كتب في إطار عنوان «جيل الشباب»، وهي عبارة عن «أسئلة وأجوبة دينية» و «ماذا نعرف عن الإسلام» و «معطيات الدين» و «أسرار تخلّف الشرق» و «الإسلام في دراسة مختصرة» و «الحياة في أجواء الأخلاق» وغيرها، وكان يعتقد بأنّ المشكلة الأساسية التي تواجهنا هو نوع الإرتباط ونمط التصدي لهذه الشريحة من الناس «لا نفس هذه الشريحة» فينبغي الاهتمام بنحو الخطاب والحوار مع هذا الجيل، ولذلك نجد أنّ الاستاذ تحرك في كتابه

«المشكلات الجنسية للشباب» على مستوى حلّ مشكلاتهم الجنسية ولم يكن يرى أننا نعيش أزمة مغلقة معهم وأنّ الطريق موصد أمامنا لحلّ مشاكلهم من موقع التفاهم والحوار، ويقول:

«يغط الآباء والامّهات في سبات عميق، ولا يبالى الشباب بالحوادث ذات الصلة بمصيرهم، وربّما يفكّر الأعم الأغلب بالهروب من مشاكلهم العضال بنسيانها أو التعامل معها باسلوب التريّث والتأنّي على حد قول الساسة، ويذهب آلاف الشباب الأبرياء ضحية هذا الإهمال؛ الأمر الذي يقود إلى تلوّث المجتمع وفساده وما يُثير الدهشة والذهول هو هذا الكم الهائل من الإجتماعات والندوات والمؤتمرات التي يعقدها عُلماء العالم سنوياً بغية دراسة المعادن والفلزات في باطن الأرض وأعماق البحار، وطبيعة الحيوانات الكائنة في مختلف المحيطات وحركة الرياح والهواء في طبقات الأرض، دون أن يتعرّضوا لمشاكل الشباب الذين يمثّلون الشريحة الفاعلة في المجتمع، وان أسعدهم الحظ بالتحدّث عنها فإنّما يتناولونها بصورة سطحية مقتضبة.

فما العمل يا تُرى مع هذه الأزمة؟

يشهد عالمنا المعاصر غياب سيادة العقل والمنطق والحقائق والواقعيات، والدوافع الشخصية والعاطفية وسائر العناصر القشرية هي التي تعين مسار

السيرة المباركة، ص: 139

الأحداث والقضايا المهمّة، وإلّا فليس من الصواب أن تهجر مثل هذه الأزمة الى هذه الدرجة. والجدير بالذكر هو أنّ الإهمال الذي مارسه العُلماء والمفكّرون حيال هذه الأزمة ليس من شأنه الحؤول دون نهوض الشباب والآباء والامهّات بمسؤوليتهم التأريخية المُلقاة على عاتقهم، فقد يعذر البعض في عدم التفاته الى هذه القضية ولكن ما بال المعنيين؟ حقاً ليست هنالك مشكلة من بين هذا الكم الهائل من المشاكل التي يواجهها الشباب ترقى أهميتها لخطور المشكلة الجنسية، ومما يؤسف له أنّ هذه المشكلة آخذة في الازدياد والاضطراد تبعاً لتطوّر المكننة وآلات الحياة إلى جانب ازدياد مدّة الدراسة والدورات الفنية وتسلل وسائل التجمل

والزينة إلى أوساط الاسر والعوائل، بحيث انفصمت عرى الثقة بين الفتيان والفتيات.

لقد تعرّضنا صراحة في أبحاث هذا الكتاب إلى هذه المشاكل، كما أوردنا الحلول الناجحة بهذا الخصوص، وقد أثبتنا سهولة القضية رغم تصور البعض بأنّ المرض قد استفحل وقد سبق السيف العذل» «1».

على أيّة حال فلا شك في أنّ مسألة حل مشاكل الشباب (هذا الجيل الخلّاق والبنّاء) يحتاج إلى فكر فعّال وخلّاق أيضاً، ويقول الاستاذ في مقدّمة كتابه: «اسلوب الزوجية في الاسرة الموفقة»:

«إنّ مسألة تشكيل الاسرة وقضية الزواج بالنسبة للشباب تعدّ في هذا الزمان من أعقد القضايا الاجتماعية الحادّة، ونادراً ما نجد في اسرة فيها بنت أو ولد شاب لا يشكو من هذا الموضوع، إنّ هذه المسألة المهمّة والبسيطة فى نفس الوقت قد غرقت في دوامة من المشاكل المعقدة والظروف الصعبة وأضحت بشكل مارد موحش للشباب، فالكثير من البنات بقين عوانس في السيرة المباركة، ص: 140

البيوت ينتظرن الزواج ولا يواجهن أيّة مشكلة أساسية في طريق الزواج ولكن هناك موانع غير قابلة للنفوذ والعبور تقف سدّاً مانعاً أمام مثل هذا الزواج، ومن جهة اخرى فهناك الكثير من الأبناء في سن الشباب والممتلئين بالنشاط والحيوية ويحدوهم الأمل بتشكيل اسرة إلّاأنّهم يقفون في أول الطريق وفي مواجهة الأعراف والتقاليد الاجتماعية القبيحة والعادات الخاطئة التي توصد عليهم الباب وتمنعهم من هذا الأمر الحيوي وتصدهم عن الوصول إلى أهدافهم المنشودة في حركة الحياة ... والمؤسف أكثر أننا نرى أنّ الاسس الموضوعة لبناء صرح الاسرة المسلمة قد وضعت خطأً، فمن هنا أصبح بناء الاسرة يقف على قواعد مهزوزة ومعوجة، ولهذا يعيش أفراد الاسرة الاضطرابات والهموم دائماً، في حين أننا نعلم أنّ المجتمع البشري عبارة عن مجموعة من هذه الاسر والعوائل الصغيرة

التي تمثل كل واحدة منها لبنة في صرح هذا البناء العظيم ... ولهذا السبب لابدّ من العمل على تقوية الاسس والبنى التحية للُاسرة لغرض الوصول إلى مجتمع كامل يقوم على أساس الوشائج الإنسانية والعلاقات المتينة بين الأفراد» «1».

صحيفة جيل الشباب:

وكذلك يتحدّث الاستاذ فيما يتعلق بسعيه من أجل رفع مشاكل الشباب ويقول:

«لقد أصدرنا مجلة اخرى غير مجلة «مكتب اسلام» باسم «نجاة جيل الشباب» وهي أيضاً بدون ترخيص رسمي وصارت بعد ذلك على شكل مجموعة كتب متنوعة وشاملة، والقسم الأعظم من مواضيع هذه المجلة كان بقلمي والقسم الآخر بقلم الاخوة العاملين معي، هذه المجلة كما يظهر من السيرة المباركة، ص: 141

اسمها، تهدف إلى استعراض قضايا الشباب وحل مشاكلهم وانقاذهم من مستنقعات المفاسد الأخلاقية التي كانت منتشرة في ذلك الزمان، وهذه المجلة تتقاطع مع المنهج السائد لدى الجهاز الحاكم في زمان الشاه، بحيث أنّهم كانوا يشعرون بحساسية فائقة من كلمة «نجاة جيل الشباب» ويقولون:

النجاة من أي شي ء؟ وما هو الخطر الذي يهدد الشباب في هذا المجتمع بحيث تريدون انقاذهم منه؟ واضيف أيضاً أنّهم كانوا يهدفون إلى إضلال الشباب وإيقاعهم في خط الباطل والانحراف والفساد لأنّهم كانوا يعلمون أنّ الثورة الإسلامية تقوم على أكتاف هؤلاء الشباب، فلو أنّ الشباب سلكوا خط الفساد والانحراف الأخلاقي فإنّهم (الجهاز الحاكم) سيحقّقون هدفهم وينالون مرادهم، وعلى هذا الأساس كانوا يشعرون بالخوف من اقدام البعض على انقاذ جيل الشباب، وعلى أيّة حال فانّ الناس استقبلوا هذه المجلة استقبالًا كبيراً لا سيما الشباب، وكنت أشعر بالسرور لذلك، حيث كانت تصلني رسائل كثيرة من قبل الشباب كنت أشعر بالأمل من جهة، ومن جهة اخرى كانت تحكي عمق الفاجعة التي أصابت شبابنا في ذلك الزمان، وأحد النشاطات المهمّة

هو اهتمامنا بالإجابة عن أسئلة الشباب، ولابدّ من القول إنني طيلة هذه المدّة وبسبب اهتمامي الكثير بهذه المسائل أصبحت تدريجياً متخصصاً في قضايا الشباب وعارفاً بما يعيشونه من أفكار وحالات روحية، وأقول أيضاً إنّ هذه المعرفة والتجربة في هذا المجال مؤثرة كثيراً في إصدار الفتاوى المتعلقة بالشباب في هذا الزمان، وأسعى إلى إصدار فتاوى تساهم في حلّ مشاكل جيل الشباب وما يعيشونه من تعقيدات اجتماعية من خلال الاستعانة بالأدلة الشرعية، وأشكر اللَّه تعالى على أنّ اهتمامي بقضايا الشباب قد فتح لي نافذة على التعرف على هذه السيرة المباركة، ص: 142

الشريحة الفعّالة والحساسة في المجتمع واساهم بدوري من موقع الإفتاء وبملاحظة الأدلة الشرعية في حلّ ما يواجهونه من أزمات وعُقد في حياتهم».

الرؤيا الصادقة للمرحوم التربتي:

في ختام هذا الفصل نشير إلى الرؤيا الصادقة التي نقلها بعض الفضلاء «1» مباشرة عن الواعظ المعروف المرحوم التربتي رحمه الله يقول:

«لقد ذكر المرحوم التربتي هذه الحقيقة على المنبر، وقال: رأيت في عالم الرؤيا نهراً يصبّ ماؤه بسرعة في مستنقع ملوث وآسن، والعجيب أنّ هذا النهر كان يحمل قلوب كثير من الناس وهي متجهة نحو المستنقع ورأيت مجموعة من فضلاء الحوزة المعروفين يأتي أحدهم بعد الآخر ويأخذ بسرعة هذه القلوب ويغسلها ويخرجها من النهر لكيلا تقع في المستنقع، ولكنني لم أعرف من هؤلاء الأشخاص سوى رجل واحد وهو مكارم الشيرازي».

وكان المرحوم التربتي في تلك الفترة يتحدّث بهذة الرؤيا بعنوان أنّها رؤيا صادقة حيث يدور كلامه في ذلك اليوم حول محور القلب والآفات التي تسبب تلوثه وانحرافه ومسائل من هذا القبيل.

14 التحرر الفكري، والاعتماد على النفس، الشجاعة وعلو الهمّة

اشارة

بالرغم من أنّ وضع تقرير من تقريرات الاساتذة كمحور لدروس البحث الخارج في الاصول يعدّ أمراً شائعاً، والكثير من أساتذة الدراسات العليا «البحث الخارج» في الحوزة العلمية يقررون في دروسهم تقريرات أساتذتهم أو يجعلونها محوراً لبحوثهم، ولكن في نفس الوقت نرى سماحة الاستاذ ينطلق في درسه للُاصول بشكل مستقل وحرّ حيث يبحث عن أهم الآراء الموجودة في المسألة بعد استعراضها، وذلك يعني بوضوح أنّ تفكير الاستاذ لا يميل إلى أي جهة معينة.

إنّ هذا المقدار من الشهامة والحرية الفكرية والاعتماد على النفس يعتبر مثالًا بالنسبة للطالب الذي يدرس الدراسات العليا حيث يخرج من إطار الدراسة وفق متن معين (كما هو الحال في مرحلة السطوح) وبذلك يمنحه الجرأة والاعتماد على النفس والنظر في جميع الآراء والأقوال في مسألة معينة ونقدها، وهذه الحالة يتميز بها سماحة الاستاذ أيضاً في درس تفسير نهج البلاغة حيث يتعامل في بحثه هذا

مع شروح وتعليقات متنوعة ويتحرك في هذا التفسير من موقع الاعتماد على النفس والتحليل الدقيق.

نور الشهامة وعلو الهمة:

ما تقدّم آنفاً يتعلق بأمر التحقيق والتدريس في دائرة البحوث التخصصية للحوزة

السيرة المباركة، ص: 144

العلمية، وينطلق سماحة الاستاذ كذلك في دائرة البحوث الاجتماعية والتصدي السياسي من موقع الاعتماد على النفس ونور الشهامة وعلو الهمة التي يتمتع بها سماحته، حيث يقول في هذا المجال:

«في احدى المرّات التي أخذوني فيها إلى مقر «السافاك» بسبب مجلة (مكتب اسلام)، بدأ رئيس شرطة السافاك، الذي كان رجلًا همجياً ومتوحشاً، بالصراخ والتهديد، وأنّك بأي حق تقوم بإصدار مجلة بدون ترخيص رسمي في هذا البلد ولذلك فانّي ساعاقبك بشدّة، ولكنني أجبته ببرود: نحن تقدمنا بطلب ترخيص رسمي للمجلة، ونحن الآن على وشك الانتهاء منه، وفجأة رأيت هذا الرجل الخشن مع كمال العجب تغيّرت سحنته وبدأ يتحدّث من باب آخر بكل محبّة وصميمية (وفي الواقع كان هذا حيلة ومصيدة) فقال:

«أنا سوف اعطيك امتياز المجلة، فلماذا لا يسمح هؤلاء الأغبياء بإصدار مجلة دينية ومَن يمنع من ذلك؟ كلّا فانني سأقوم بإصدار هذا الترخيص وعليك أن لا تقنع بإصدار هذه المجلة باللغة الفارسية بل إصدار مجلة عربية أيضاً ونحن سوف نساعدك في ذلك» فرأيت أنّه بصدد وضع مصيدة لي ويتصور أننا سوف نمدّ يدنا لطلب المساعدة منه، وتنتهي المسألة إلى هذا الحدّ ولكنه غفل عن يقظتنا وأننا لا نقع في هذا الفخ ... فقلت: إنّ آية اللَّه العظمى السيد البروجردي هو المتكفّل لحماية ودعم هذه المجلة ويبذل كل مساعدة لازمة، ونحن أساساً لسنا بحاجة إلى مساعدة مالية، والمطلوب منكم فقط أن لا تمانعونا من ذلك ولا تقفون في طريقنا، فعندما رأى أنّ المجلة مؤيدة من مكان آخر أمسك عن كلامه

وختم الجلسة».

القادة المجانين أو المجانين القادة:

والحكاية الاخرى، التي تدلّ- مضافاً إلى الشهامة والحرية- على روحية التصدى للظلم وملكة الاستقامة والغيرة الدينية وعدم الاستسلام لدى سماحة الاستاذ هي كما يلي:

«وكذلك أتذكر جيداً أنني كنت أكتب مقالات شديدة اللحن في مجلة (مكتب اسلام)، وأتذكر بعض عناوين هذه المقالات، وفي احدى هذه المقالات كتبت بحثاً مفصلًا تحت عنوان «القادة المجانين أو المجانين القادة» وطرحت تحليلًا سياسياً قاسياً في هذا المجال، وهكذا في مقالة اخرى بحثت مسألة احتفالات تحرير المرأة تحت عنوان «حصيلة 27 سنة من التحرر» حيث استعرضت النتائج الوخيمة المترتبة على تحرر المرأة في عصر الپهلوي، وعلى أيّة حال فإنّه تمّ اغلاق المجلة ثم سمحوا بانتشارها، ثم تحركوا من موقع الضغط على المجلة وأنكم يجب عليكم تقديم مواضيع المجلة قبل نشرها بأربعة وعشرين ساعة لكي نرى ما فيها من مواضيع. قلنا لهم لا يمكن ذلك، ونحن مستعدون لتوقيف المجلة بدل ذلك. فقالوا نكتفي بأربع ساعات فقط. فقلنا لا يمكن ذلك. ولم نستسلم لهم وبحمد اللَّه استمرت المجلة بالصدور بكامل الاستقلال والعظمة والافتخار. إنّ الضغوط التي كان يمارسها آية اللَّه العظمى السيد البروجردي وأساتذة الحوزة منعتهم من إطفاء نور هذه المجلة الذي كان يشرق في أجواء تلك الأيّام المظلمة وقد أدمنا بحمد اللَّه هذه المسيرة».

بركات اخرى للاعتماد على النفس:

وعلى أيّة حال إنّ هذه الحالة من الاعتماد على النفس عندما تقترن بالاحساس بالمسؤولية الدينية والاعتقاد بالأصالة الحوزوية بإمكانها أن تفضي إلى بركات كثيرة:

أولًا: بركات للاستاذ نفسه، ثانياً: بركات لمذهب الشيعة، ثالثاً: بركات للحوزةالعلمية.

السيرة المباركة، ص: 146

أمّا ما يتعلق بسماحة الاستاذ نفسه فإنّه كان منذ عنفوان شبابه يتمتع بهذه الشجاعة وكان يتلو القرآن ويبحث في آياته الكريمة عن ضالته بدافع من الانس مع القرآن، ويتحدّث سماحته في هذا

الصدد في مقدّمة كتابه: «القرآن وخاتم الأنبياء» ويقول:

«إنني بدوري مثل بقية الأفراد انطلقت في حركتي الفكرية منذ مرحلة البلوغ من موقع قطع الظوابط مع التقاليد السالفة للدخول إلى مرحلة الاستقلال الفكري، وكنت متلهفاً كثيراً إلى معرفة تفاصيل وتعاليم هذا الدين الذي يسمى «الإسلام» كما أخذناه من تعاليم الوالدين والمجتمع، وتحكيم العقل فيها وعرضها على ميزان العقل، هذا النمط من التفكير كان يمثل ضالتي وهدفي المنشود، وبعد كثير من التحقيق والدراسة لم أجد طريقاً للتعرف على هذا الدين أفضل وأحسن من الرجوع إلى الأصل والمنبع الحي لتعاليم الإسلام وهو القرآن الكريم» «1».

أمّا ما يتعلق بالمذهب الشيعي فانّ سماحته كان يمتلك الجرأة العالية في تأليف الكتب التي تتصدى للانحرافات الاجتماعية والأخلاقية منذ بداية شبابه حيث بدأ بتأليف كتابه «تجلي الحق» وإلى تفسير القرآن الكريم وشرح نهج البلاعة في الأعوام اللاحقة.

الإصلاح على مستوى الحوزة:

أمّا ما يتعلق بالحوزة العلمية فقد بدأ سماحته بعملية إجراء اصلاحات مع رفاقه وأصحابه منذ شبابه أيضاً، حيث يتحدّث لنا سماحته عن هذه الحكاية بعد بيانه نقاط القوة في الحوزة العلمية:

«بالرغم من وجود كل هذه الامتيازات ونقاط القوة في الحوزة العلمية، ولكن مع الأسف هناك بعض النواقص ونقاط الضعف فيها حيث كنت أراها

السيرة المباركة، ص: 147

وأعيشها منذ البداية، ومنها مسألة الامتحانات حيث لم يكن هناك امتحان للطلّاب مطلقاً وكنّا نأمل إيجاد امتحانات للدروس الحوزوية وبذلك يتمّ التعرف على الطلّاب الجيدين والمتميزين، ويتمّ تقوية الدوافع لدى الطلّاب وتفعيل ميدان المنافسة الإيجابية بينهم، وكذلك كنّا نأمل أن يكون هنا قانون ومقررات لمسألة لباس رجل الدين، فهذا اللباس المقدّس لا ينبغي أن يستغل من أي شخص أو يتمّ ارتداؤه بدون شروط. فلو رأينا ما يخالف هذا القانون فينبغي على مديرية

الحوزة والمراجع تعقيب هذا الأمر وعدم المسامحة فيه.

وكنّا نأمل بإصلاح الكتب الدراسية في الحوزة وإدخال بعض الدروس الإسلامية المهمّة كالعقائد وتفسير القرآن الكريم والبحوث المتعلقة بالحديث في مناهج الحوزة وتفعيلها.

وكنّا نأمل فيما يخص المبلّغين أن يتّم ارسال أشخاص متمرسين وأصحاب تجربة إلى التبليغ للإسلام ويرسل للتبليغ إلى خارج البلاد من يتقن اللغات الأجنبية.

وكنّا نأمل أن تحلّ مشاكل الطلّاب على مستوى المسكن والجهات الاخرى، وفي المجموع كنّا نأمل وضع برنامج كامل يأخذ بنظر الاعتبار الجهات المختلفة لطلّاب الحوزة العلمية.

ومنذ أن كنت طالباً شاباً في الحوزة كنت أتذاكر هذا الأمر مع أصدقائي دائماً، وأتذكر جيداً حدوث واقعة مؤسفة في الحوزة أدّت إلى تحريك الأفكار باتجاه الاقدام على بعض الإصلاحات، وكان ذلك في زمان آية اللَّه العظمى البروجردي حيث جلسنا مع الأصدقاء سوية، وقد استشهد بعض الأصدقاء ممن كان في تلك الجلسة فيما بعد كالمرحوم آية اللَّه الشهيد

السيرة المباركة، ص: 148

البهشتي وبعض الاخوة الذين تولّوا مناصب مختلفة في الحكومة الإسلامية سواء من طلّاب الحوزة أو غيرها، فجلسنا وتحدّثنا عن هذه المسألة واتفقنا أخيراً على ثلاثة امور نطلبها من آية اللَّه العظمى البروجردي:

1- مسألة تشكيل ملف خاص لكل طالب من طلّاب الحوزة يتضمن سوابقه ولواحقه وبرامجه الدراسية والتعليمية للتعرّف عليه من جهات مختلفة.

2- أن يتمّ تكريس البحوث والدراسات الأخلاقية في الحوزة بشكل أكبر، حتى لا يستغل بعض الأشخاص هذا اللباس المقدّس لتوجيه ضربة إلى الحوزة ورجال الدين وتكون هناك مقررات خاصة لارتداء هذا اللباس.

3- أن تشكل هيئة التهذيب والتزكية، فإذا قام أحد الأشخاص عالماً أو جاهلًا بالتحرك على خلاف شؤون الروحانية فيتمّ استدعاؤه وإرشاده، وإذا لم يقع هذا الأمر مؤثراً يتمّ طرده من الحوزة والمؤسسة الدينية.

وقد كتبنا هذه الامور مع مقدّمة

شيّقة وقمنا بامضائها وبعد ذلك قلنا: إنّ من الأفضل أن نعرضها على بعض الفضلاء في الحوزة العلمية من الدرجة الثانية لقراءتها وابداء نظراتهم حولها حتى إذا استشارهم آية اللَّه العظمى السيد البروجردي رحمه الله فانّهم سيكونون على علم مسبق بما تتضمنه هذه اللائحة، وتمّ ذلك فعلًا وانطلقنا على هيئة مجموعة لزيارة بعض الفضلاء والأساتذة في ذلك الزمان مثل الإمام الراحل رحمه الله والمرحوم آية اللَّه العظمى الكلبايكانى رحمه الله وطرحنا هذا الموضوع أمامهم وطلبنا منهم تأييد هذه الامور بمحضر آية اللَّه العظمى السيد البروجردي، ثم قدمنا الرسالة الأصلية إلى السيد البروجردي، ولكننا لم نقف بعد ذلك على النتيجة حيث ذهب البعض إليه وألقى في ذهنه مطالب مشوشة عن هذه الحركة الإصلاحية، وبالجملة

السيرة المباركة، ص: 149

أظهروا له أنّ هذه الحركة المخلصة من قبل بعض الشباب والفضلاء المتحركين حركة مشكوكة وذكروا له أنّ من جملة الأشخاص الذين يقفون وراء هذه اللائحة هو الشيخ مكارم الشيرازي، فلم تمض مدّة إلّاوأرسل إليَّ آية اللَّه العظمى البروجردي يستدعيني إليه، فلما ذهبت إليه قال: «أنا أعتقد أنّ الوضع في الحوزة العلمية جيد ولا توجد مشكلة فيما يتعلق بهذه الامور، فالطلّاب مستمرون في دراساتهم بشوق»، ومضمون كلامه أننا إذا أردنا إيجاد بعض الإصلاحات في برامجها فانّ الفساد في هذا العمل أكثر من نفعه، وبهذا اطفئت هذه الجذوة بسبب سعاية بعض المغرضين، ولكنني كنت أبحث دائماً في هذه القضايا وأقول إنّ الحوزة العلمية في النهاية ستستجيب لهذه الحركة الاصلاحية وكنّا على يقين بانّ مرور الزمان والظروف الاجتماعية ستمد إلينا يد العون وسيأتي اليوم الذي تكون فيه هذه الامور من البديهيات والمسلّمات في أجواء الحوزة وفي ذلك الوقت يجب النهوض لإصلاح الخلل وتغيير البرامج

والمساعدة في تطوير الحوزة».

وبعد أن ينقل سماحة الاستاذ هذه الواقعة، يشير إلى الظروف والمتغيّرات التي حدثت بمرور الزمان وجملة من الموفقيات والاصلاحيات التي سادت أجواء الحوزة حيث تقدم ذكرها سابقاً تحت عنوان «النظم في جميع الامور».

سرعة الانتقال في البحوث العلمية:

وفي ختام هذا الفصل نشير إلى ظواهر في حياة الاستاذ، وهي «الاعتماد على النفس» «الارادة القوية» و «حدّة الذهن» و «سرعة الانتقال» في مجال التأليف والتحقيق:

في البداية «سرعة البداهة وحدّه الذكاء في البحوث العلمية»:

لا شك أنّ الكثير من الموضوعات العلمية أصابها التورم والتضخم بسبب تضارب أفكار

السيرة المباركة، ص: 150

العلماء لقرون متمادية وما نتج من عمق ودقّة في أجواء التحقيق في هذه القضايا، وبعكس ذلك هناك مواضيع كثيرة أيضاً تولدت في الآونة الأخيرة وبسبب كونها مستحدثة ولأسباب اخرى بقيت بعيدة عن إعمال الفكر لدى الفقيه والاصولي، فهي مسائل لن يمسها العقل الفقهي بشي ء في عملية الاجتهاد، ويصاب العالم المحقق عندما يرد في هذين المجالين بالحيرة، فمن جهة يرى تضخماً خارقاً للعادة في بعض المسائل والبحوث يؤدّي به إلى الغرق في دوامة الأقوال والآراء والأدلة المتناقضة ولا يجد طريقاً للخلاص من كل هذه التعقيدات الفكرية أو الخروج بالنتيجة المطلوبة، ومن جهة اخرى فانّ المسائل الخام والبكر التي لم تبحث في سوق الفقه والاصول تواجه نقصاً شديداً في المواد الأولية في عملية البحث والاستدلال. فيجد الباحث نفسه أمام هذه المسائل مقيّد اليدين ولا طريق له إلى التوغل في أعماق هذه القضايا والبحث في فروعها وأغصانها، وهذه الملاحظة ليست خافية على كل من له اطلاع في عالم التحقيق والتأليف.

وهنا نواجه موهبة الاستاذ في هذا الشأن فانّ سرعة البديهة والشهامة والاعتماد على النفس لدى سماحته تجعله لا يتردد أو يصاب بالخشية من تضخم البحث

وتعدد الآراء فيه، ولا جدّة المسألة وحداثتها تمنعانه من حركة ذهنه وتوغله فيها.

إنّ الظاهرة الاولى فيما يخص البحوث المعقدة وجدها ثلة من طلّابه والنخبة من تلاميذه الذين يحضرون بحوثه الاصولية والفقهية في تقريراته في كتابين «انوار الفقاهة» و «أنوار الاصول» المطبوعة، والخصوصية الثانية بالإمكان العثور عليها في كتابه «المسائل المستحدثة» وأيضاً «القواعد الفقهية» الذي أشرنا إليه سابقاً وأنّ المجلد الأول منه طبع قبل «القواعد الفقهية» للمرحوم المحقّق البجنوردي رحمه الله.

القدرة على المناورة الفكرية في جلسات التأليف:

من المسلم أنّ ذهن الإنسان الفرّار من جهة، وكذلك البحوث الجانبية التي تطرح في السيرة المباركة، ص: 151

مناسبات مختلفة من جهة اخرى، يمثلان عاملين أساسيين لتعويق عملية التحقيق والتأليف واهدار الفرص وعدم الاستفادة الصحيحة من الطاقات في دائرة التأليف أو التحقيق.

أمّا العوامل التي يمكنها التغلب على هذين العاملين أو التقليل من تأثيرهما على الأقل فهي:

أولًا: الإرادة الفولاذية والعزم على الاستقامة التي يحصل عليها الإنسان من خلال الممارسة والتمرن الطويل والاعتماد على بعض القابليات الروحية والمواهب النفسانية، فالإرادة التي بواسطتها يتمكن المؤلف أو المحقّق من السيطرة على أفكاره وتصوراته الذهنية وكذلك تمنع من تدخل بعض الأصدقاء في الجلسة وطرح المواضيع غير الضرورية والمتلفة للوقت أو إيراد قضايا جانبية وضبط هذه الجلسة بجدية وبدون مسامحة وتساهل.

ثانياً: تعين أفضل الأوقات للتأليف والتحقيق، الوقت الذي يكون فيه ذهن الإنسان نشيطاً وقواه النفسانية مهيئة للعمل وبدون أن تشعر بالتعب، ومع الالتفات إلى التأثير المتقابل للقوى الجسمية والروحية، فالإنسان بإمكانه السيطرة على نفسه وإرادته.

الأشخاص الذين يرتبطون بالاستاذ (دام ظلّه) برابطة قريبة يؤيدون هذه الحقيقة، وهي تمتع الأستاذ بهايتن الخصلتين بصورة جيدة:

الإرادة الفولاذية:

أمّا الخصلة الاولى، أي الإرادة الفولاذية لسماحته، فالواقع أنّ الأستاذ بمثابة (الجرّافة) الذي يحطم كل الموانع التي يجدها أمامه في دائرة العمل والتحقيق وحتى الموانع غير المتوقعة أحياناً حيث يمرّ عليها بكل شهامة وشجاعة وبرودة أعصاب، ولا يخفى على أي شخص هذه الحقيقة حتى أنّ البعض يرون في الاستاذ تجسيداً للعزم والإرادة، أمّا كيف حصل على هذه الإرادة القوية؟ فهو بحث آخر لابدّ من تفويض الجواب عنه إلى أهله.

أفضل وقت للتفكّر والتحقيق، زمان بين الطلوعين:

أمّا الخصلة الثانية، فالاستاذ يرى منذ سالف الزمان، أي منذ سنوات تأليف التفسير الأمثل القيم وإلى هذا الوقت الذي يشتغل فيه الاستاذ بتأليف التفسير الموضوعي «نفحات القرآن» والتفسير الترتيبي ل «نهج البلاغة» أنّ أفضل ساعات لهذا العمل هي أول ساعات الصباح الباكر (السابعة صباحاً) وذلك في عملية «التأليف الجمعي» وأمّا ساعات التحقيق والمطالعة الشخصية فإنّه جعل ساعة «بين الطلوعين» لهذا الغرض باعتبارها أفضل الساعات.

عندما قرأت لأول مرّة مقالة في أحد الموضوعات السياسية في صحيفة الاطلاعات ورأيت أنّ الاستاذ استطاع بمهارة فائقة كتابة عشر ملاحظات في عمود الصحيفة ومع نظم جيد وترتيب منطقي وقلم جذّاب وسلس «بحيث يستغرق كتابة هذه المقالة للأشخاص العاديين عدّة ساعات من الفكر والتأمل قطعاً» فسألت الاستاذ متعجباً: متى كتبتم هذه المقالة، وكم استغرقت كتابتها من وقت؟ فأجاب: «كتبتها عند وقت السحر أو بين الطلوعين، فانني اخصص هذا الوقت وهذه الساعة لكتابة المواضيع التي تحتاج إلى خلّاقية وابداع ونفس هادئة وذهن فارغ من التشويش».

وعندما سألته: هل تشعر في تلك الساعة وبسبب غلبة النوم بالكسل؟

فأجاب: «لقد اعتدت على الاستيقاظ بين الطلوعين وحتى لو أردت النوم لا أتمكن من ذلك».

وممّا يثبت وجود هاتين الخصلتين في روحية الاستاذ أننا لا نرى الكثير من العبارات في كلمات

الاستاذ من قبيل: «اليوم السابق» أو «يبقى إلى الجلسة اللاحقة» أو «لقد وعدت فلاناً» أو «ليس لي رغبة في هذا اليوم»، ونرى في كلمات الاستاذ امتيازاً خاصاً في إدارة الجلسة، وبالنتيجة يشعر الاستاذ نفسه وكذلك رفاقه أنّهم في هذا اليوم أفضل من السابق وأنّ العمل قد تقدم خطوة إلى الأمام بالنسبة إلى اليوم السابق وأنّهم اقتربوا من الغاية المطلوبة من التأليف والتحقيق في المواضيع المطروحة.

السيرة المباركة، ص: 153

15 التأييدات الغيبية

اشارة

لا شك أنّ أحد أهم عوامل الموفقية لطالب العلوم الدينية «بل أهم عامل» أن ينال الدعم والتأييد من عالم الغيب وتنزل على قلبه الطمأنينة والسكينة ويحصل على النجاة من غابة الإفكار المختلفة والآراء السليمة والسقيمة من خلال الامداد الغيبي كما تقول الآية الشريفة: «وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» «1»

، وقد ورد في أحاديث كثيرة أنّ اللَّه تعالى: «يحول بين المؤمن ومعصيته أن تقوده إلى النار» «2»

ويرى الحق حقّاً والباطل باطلًا: «يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ» «3»

وكذلك ورد: «لا يستيقن القلب أنّ الحقّ باطل أبداً ولا يستيقن القلب أنّ الباطل حقّ أبداً» «4».

كما أنّه لا شك في أنّ الإنسان يحتاج لنيل هذه الامدادات الغيبية إلى الخروج من بوتقة الاختبار والابتلاء بنجاح وموفقية، ولا يحصل الإنسان على هذه الامدادات الغيبية من دون قابلية ذاتية أو اكتسابية تهيى ء له الأرضية اللازمة لتقبل هذا التوفيق الإلهي، ولذلك فمن المناسب الإشارة إلى بعض الابتلاءات والامتحانات التي تصيب الإنسان ليكون مستعداً لنيل التوفيق الإلهي قبل بيان بعض الحوادث التي تعكس التأييدات الغيبية لسماحة الاستاذ.

الحرمان الشديد:

إنّ أحد الابتلاءات التي يواجهها الإنسان في حركة الحياة هو الابتلاء بالفقر والمحرومية، ويتحدّث الاستاذ في هذا المجال ويقول:

«في بداية دخولي إلى قم كنت في ضائقة مادية شديدة في حياتي، وأنا أكشف هذه القضية لاخواني الطلّاب لكي يشكر الطلّاب الشباب حالهم الفعلي ويتعاملون مع واقعهم المعيشي من موقع الرضى والشكر: عندما هلّ شهر رمضان واتفق أنّ الفصل كان فصل الصيف وكنت أنا ورفيقي في الغرفه صائمين ولكن ربّما لم يكن لدينا لوقت الافطار حتى قرص واحد من الخبز، فقال لي رفيقي: أنا ذاهب للعمل لعلي أجد قوتاً يمنعنا من الموت، ولكنه لم

يعثر على عمل، ولعله باع بعض كتبه الدرسية ليوفر لنا بعض الخبز، لقد كان ذلك امتحاناً إلهياً فبالرغم من طول مدّة الحرمان الذي عشناه ولكن بحمد اللَّه انتهى بموفقية ورزقنا اللَّه الفسحة واليسر بعد ذلك.

ونظير هذا الحرمان الشديد أيضاً ما كنت أعيشه عندما كنت في النجف الأشرف، فكنت آخذ الخبز دَيْناً من الخباز إلى أن شعرت بالخجل الشديد منه، وكنت في بعض الأيّام أحتاج إلى الحمام ولكنني لم أكن أملك النقود الكافية لدفعها إلى الحمامي، فاضطررت أن أدفع إلى الحمامي ساعتي الزهيدة الثمن كوديعة عنده إلى أن أحصل على المال، ولعله فهم حالتي فلم يقبل بالساعة وقال: أعطني المبلغ فيما بعد. ولكن من الواضح أنّ مثل هذه الحوادث والامتحانات لمن يسير في خط الطاعة والإيمان والعبودية للَّه تعالى تمثل ألطافاً إلهية خفية بحيث تلفت نظر الإنسان من جهة إلى الذات المقدّسة، ومن جهة اخرى تقوي فيه روح المقاومة والصبر والاستقامة، إنّ مثل هذه الامور عبارة عن بوتقة اختبار لتخليص روح الإنسان من الشوائب،

السيرة المباركة، ص: 155

وأخيراً انفتحت الأبواب وزالت الموانع وتيسرت الحالة المالية، ولكن مع ذلك كنّا نعيش جميعاً حياة بسيطة وخالية من التعقيدات والتشريفات التي نجدها في حياتنا المعاصرة في هذا الزمان».

مشكلة الوسواس:

الابتلاء الآخر مشكلة الوسواس التي يعبّر عنها سماحة الاستاذ أنّه ابتلي بها بشكل عجيب في مسائل الطهارة والنجاسة واتسعت الدائرة تدريجياً وامتدت إلى اصول العقائد والمسائل التاريخية والثوابت التاريخية أيضاً، بحيث أنّها كانت تشكل ضغوطاً كبيرة على الروح والأعصاب (وقد تقدم تفصيل الكلام فيها في فصل المداومة والإستقامة مع الإشارة إلى أنواع الوسواس وآثاره وبركاته في حياة الاستاذ) ويتحدّث سماحته عن ذلك بقوله:

«إنّ الألم والتعب الناشى ء من ذلك الوسواس وإن كان في

غاية الشدّة والصعوبة وقد أوقعني في دوامة من الازمة الروحية، ولكنّه كان يقترن ببركات كثيرة، حيث اضطرني إلى مطالعة كتب العظماء والعلماء في المسائل الاعتقادية والكلامية المختلفة وأن أتدبر كثيراً فيها وفي الآيات القرآنية والروايات الشريفة، فكانت هذه المطالعات بمثابة المواد الأولية والبنى التحية للنضج الفكري والعلمي فيما بعد حيث قمت بتأليف كتب متعددة في اصول الدين في الاوقات اللاحقة ...».

بركات المشاكل!

ومن المناسب أن نشير في هذا الفصل إلى التوفيقات المعنوية للابتلاء بمثل هذه الصعوبات والمشاكل التي ابتلى بها سماحة الاستاذ، ومن الأفضل كذلك أن نستمع إليه وهو يقول في هذا الشأن:

السيرة المباركة، ص: 156

«في المدّة التي كنّا فيها في النجف استمر الوسواس في ما يتعلق بالمعارف والعقائد والأعمال ولكنّه خفّ تدريجياً حيث استمرت مطالعاتي في أبحاث مختلفة لاسيّما في بحوث الولاية والاستفادة من الكتاب القيم: «الغدير» واستمر دعائي وتوسلي لتطهير قلبي من الوسواس حتى حصلت على هدوء نسبي في وجودي، ثم توصلت بعد ذلك إلى هذه النتيجة وهي أنّ وجود نوع من الوسواس يعدّ جزء من طبيعة الاستدلالات البرهانية والنظرية وحتى أن أقوى أنواع الاستدلال في المسائل الاعتبارية والنظرية لا يمكنه ازاحة قسم من الوسواس، وإنّما طريق معالجة هذا المرض ينحصر في الوصول إلى «مقام الشهود» أي مشاهدة الحقيقة بعين القلب وإزالة الحجب النفسانية وبالتالي إزاحة ظلمة الوساوس واشراق نور اليقين على القلب.

وهذا المعنى هو ما ورد في قصّة إبراهيم الخليل عليه السلام في مسألة وصوله إلى مرتبة التوحيد الخالص كما يحدّثنا القرآن الكريم عن ذلك: «وَ كَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» «1»

أو قصّة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة التي حصل من خلالها على اليقين والاطمئنان بالمعاد كما يقول القرآن

الكريم: «وَ إِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى» «2»

ونحن بدورنا إذا وصلنا إلى تلك المرتبة التي يشرق فيها نور اليقين والاطمئنان على قلوبنا مهما كان ذلك النور المقدّس ضئيلًا فإننا سنحصل على اليقين وبالتالي لا يجتمع مع الوسوسة والشك، فمن الممكن أن نثبت قضية معينة بألف دليل، مثلًا قضية أنّ الآن وقت النهار، ولكن يمكن للوسوسة أن تجد لها مكاناً وتنفذ إلى مقدّمات البرهان الصغرى والكبرى، ولكن إذا تحركنا وقمنا بإزاحة الستار وفتحنا النافذة

السيرة المباركة، ص: 157

ورأينا قرص الشمس ظاهراً للعيان في وسط السماء ورأينا أشعة الشمس تدخل إلى الغرفة فلا يبقى مجال للوسوسة».

متى أحسست بامتلاك موهبة القلم؟

ومن جملة التأييدات الغيبية والمواهب الإلهية التي قد تكون من نتائج ومعطيات الابتلاءات والصعوبات التي يواجهها الإنسان في حياته هي «موهبة القلم» حيث يتحدّث سماحة الاستاذ عن ذلك أيضاً بقوله:

«بعد مضي عدّة سنوات من دخولي الحوزة شعرت بانني أمتلك موهبة القلم، وأول كتاب صدر من تأليفي هو «تجلي الحق» وقصّة هذا الكتاب هي أنني كنت اسافر إلى شيراز أيّام العطلة في الحوزة، وفي أحد أيّام الصيف رأيت حركة مثيرة من بعض فرق الصوفية وشاهدت فعّالياتهم ونشاطاتهم الوقحة «غاية الأمر غير ظاهرة للعيان» وطعنهم بمقدّسات الإسلام وتحاملهم على الدين بدلائل غير منطقية وكلمات معسولة، فما كان مني إلّاأن قررت الإجابة عن كلمات هؤلاء وأكتب ما يرد على تخرصاتهم، وهناك شعرت بأنني مكلّف بالدفاع عن مقدّسات الإسلام مهما كان دفاعي قليلًا، فأخذت بمطالعة كتب ومقالات عديدة في هذا الشأن وأمسكت القلم وكتبت «تجلي الحق» وطبعته في ذلك الوقت، ولكنّ نشر هذا الكتاب اقترن بصعوبات كثيرة لأنّ كل كاتب يتورط في مثل هذه

المشاكل في كتابه الأول وتستغرق معرفة الناس له ولكتابه وقتاً طويلًا ثم يقبل الناس على كتبه وتأليفاته لاحقاً».

نمو الأقلام:

أمّا العامل الأساس في تقوية هذه الموهبة وترشيدها، فيتمثل في وجود الباعث السيرة المباركة، ص: 158

النفساني، كما يقول الاستاذ، وهو الاحساس بضرورة الدفاع عن الدين والمقدّسات، يقول الاستاذ في هذا الصدد:

«إنّ التأليف والكتابة بحاجة إلى باعث نفسي حاله حال سائر الامور الاخرى، فكلما كان الباعث أقوى تحرك الإنسان في خط الابداع والابتكار بصورة أقوى وأشد، إنّ أفضل قصائد الشعراء ومؤلفات الكّتاب تتعلق بزمان كانوا يعيشون فيه الأمواج العظيمة من العواطف الجياشة والدوافع النفسية القوية في وجودهم الداخلي، ولهذا السبب فالكتب التي ألفتها في حال وجود دوافع قوية كانت بحمد اللَّه أفضل من الكتب الاخرى، وأحد هذه الكتب «أشباه الفلاسفة» حيث كانت تحدوني على كتابته دوافع قوية للتصدي إلى التيار الماركسي، وأمّا الآثار والمؤلفات الاخرى فهي عبارة عن حصيلة جلسات كثيرة لمدّة ثلاثين عاماً في بحوث العقائد والمذاهب، وكنت معها أيضاً أمتلك دوافع قوية لتأليفها».

الخلاص من عملية الاغتيال!

وأحد موارد التأييدات الإلهيّة والامدادات الغيبية التي نالها سماحة الاستاذ هي نجاته من أخطار المؤامرات التي كانت تستهدف حياته، ونشير في هذا المجال إلى ثلاث حوادث خطيرة:

الحادثة الاولى:

المؤامرة التي استهدفت حياة الاستاذ في اصفهان حيث يتحدّث لنا سماحته عنها:

«الحادثة الاولى كانت في بداية الثورة الإسلامية حيث تمّ تشكيل شورى عُليا للقضاء، هدفها الاشراف على وضع المحاكم الشرعية في مختلف السيرة المباركة، ص: 159

المناطق في ايران، وفي المدّة القصيرة التي كنت فيها عضواً في تلك الشورى «وكان مركزها في قم ولم تنقل بعد إلى طهران» ومع الإلتفات إلى وجود أفراد مندسين في المحاكم في ذلك الوقت كان من جملتهم الافراطيون الذين كان الإمام الراحل قدس سره يشعر بالامتعاض منهم وكانت لتحركاتهم أصداء وانعكاسات سلبية في واقع المجتمع الإسلامي، فتحدّثنا في جلسة الشورى هذه وتقرر بعث أشخاص من أعضاء هذه الشورى إلى نقاط مختلفة في البلاد للاشراف على امور المحاكم وضبطها.

وقد عزمت بدوري على التوجه إلى اصفهان مع بعض الاخوة وممارسة عملية الاشراف على أمر المحاكم هناك، وكانت اصفهان في ذلك الوقت تعيش أجواء مضطربة لوجود تيارات مشكوكة في صفوف المسؤولين والمتصدين لُامور الثورة الإسلامية منها مسألة قتل المرحوم «شمس آبادي» التي حدثت قبل الثورة، وكذلك قتل المرحوم المهندس البحريني التي حدثت بعد الثورة ومسائل اخرى من هذا القبيل، فكانت الأجواء ملتهبة ولعل الذهاب إلى هذا البركان كان مخالفاً للعقل حسب الظاهر، ولكنني لم أتعامل في حياتي مع هذه الملاحظات وكنت أقول إنّ الإنسان إذا تحرك في عمله من أجل اللَّه، فانّ اللَّه تعالى هو الحافظ له، وبذلك توجهنا إلى هناك ورأينا الاوضاع عجيبة جدّاً، فانّ تلك المنظمات التي اكتشفت أخيراً ونالت جزاءها العادل كانت تلاحقنا منذ

البداية كالظلّ حتى لا نقوم بأي عمل نافع، ومن أجل جلب الرأي العام للناس جعلنا مسجد «سيد» الذي يعد من أكبر وأهم مساجد اصفهان، مقرّاً لنا وأعلنّا للناس وجود محاضرة في هذا المسجد في كل ليلة، واجتمع خلق كثير في هذا المسجد واستطعنا إجهاض التحركات المشبوهة للجهة الاخرى المناوئة، ثم توجهنا إلى السجون والمحاكم في السيرة المباركة، ص: 160

اصفهان ورأينا أوضاعاً عجيبة، ففي بعض الأماكن لمسنا النفوذ الكبير لتلك الجهة المناوئة وكانت قد حدثت مسائل وامور عجيبة، وقد اتصل بنا شخص لا احب أن أذكر اسمه، وقال إنّ مسؤوليتي أن أقوم باغتيالكم جميعاً (وهو الشخص الذي كان يتعقبنا كالظل) وقال: إنني تحدثت مع والدي بهذا الشأن وإنني مأمور باغتيال الشيخ مكارم وجماعته، فقال لي والدي: لا أظن أنّ الشخص الذي يقتل مكارم سيكون من أهل النجاة يوم القيامة. وهذا الكلام أثر في نفسي ومنعني من تنفيذ ما امرت به».

وقد قمنا بالاعلان لجميع الناس بتقديم شكاواهم إلى مسجد «سيد» فاجتمعت لدينا مجموعة كبيرة جدّاً من شكاوى الناس هناك.

ومن جملة الأعمال الخبيثة التي قام بها أفراد الجهة المناوئة لإفشال مساعينا وإجهاض حركتنا هناك ومن أجل منع فضح مؤامرتهم هو أنّهم قاموا بإطلاق سراح من رجال السافاك من السجن وأتذكر أنّ اسمه «مصيبي»، ثم أعلنوا للناس من خلال الاذاعة المحلية التي كانت في حوزتهم وتحت اختيارهم أنّ الشيخ مكارم مع جماعة جاؤوا من قم واطلقوا سراح هذا السافاكي في حين أننا لم نكن نعلم بهذه المسألة اطلاقاً، وأساساً لم نقم بإطلاق سراح أي شخص من السجن، وذهبوا أيضاً إلى طلّاب الجامعة وأخذوا يبثّون الشايعات والأكاذيب هناك، ولهذا تقرر قيام البعض بتظاهرات في المدينة ضدنا وبالفعل خرجت التظاهرة، ولكنني

اتصلت فوراً بالاذاعة والتلفزيون وقلنا لهم إننا نحمل مهمّة ومسؤولية وعليكم أن تذيعوا خبرنا وكلامنا حالًا، فوجدوا أنفسهم مضطرين للاذعان وجاؤوا إلينا وأجروا معنا مقابلة تلفزيونية وأذاعوها هناك فكان أن هدأت الأجواء نسبياً.

وكان المرحوم آية اللَّه الخادمي وجماعة كثيرة من علماء اصفهان السيرة المباركة، ص: 161

يتحركون على مستوى دعمنا وتأييدنا في مقابل تلك الجهة المناوئة.

والأعجب من ذلك أنّ جماعة جاؤوا من اصفهان إلى قم وخرجوا بتظاهرة في قم ضدنا، ولكن هذه الامور انكشفت تدريجياً واتضح للناس عمق المؤامرة الخطيرة التي كانت تبيتها هذه الجماعة الخبيثة، وقد ساعد انكشاف أمر هذه الجماعة على تحجيم أمرهم وضبط حركاتهم وسكناتهم، وقد فهم بعض طلّاب الجامعة أنّهم وقعوا ضحية تبليغات هذه الجهة المسمومة، فجاؤوا بعد ذلك إلينا معتذرين بأنّهم لم يكونوا يعلمون بواقع الحال.

وعلى أيّة حال بقينا في اصفهان عشرة أيّام جمعنا شكاوى الناس وجئنا بها معنا لمعالجة المشاكل هناك، وبالطبع فانّ مدّة عضويتي في تلك الشورى القضائية كانت محدودة، وبما أنّ الشورى انتقلت إلى طهران فقد بقيت في مدينة قم اتابع اموري الاخرى بعيداً عن هذه الأجواء».

الحادثة الثانية:

أمّا الحادثة الثانية التي وقعت في مدينة قم وكان من المقرر اغتيال سماحته فيها، فلنستمع إلى سماحة الاستاذ ليحدّثنا عن هذه الواقعة:

«عندما انتهى الدرس عدت إلى منزلي فأحسست بوجود شاب يعقبني كظلّي ويسير ورائي وعندما وصلت إلى الباب، إلتفت إليّ وقال: ألم تعلم أنني أتعقبك باستمرار؟ فانني أحمل مهمّة في هذا الشأن، وهي أنني كنت جالساً في حديقة من حدائق طهران العامة، فجاءني أحد الأشخاص في سيارة «فولكس» زرقاء اللون فقال لي: اعطيك مبلغاً كبيراً (وأتصور أنّه كان خمسة آلاف تومان، حيث كان ذلك الوقت مبلغاً كبيراً) لتذهب إلى قم وتقوم

باغتيال شيخ مكارم وتعود إليَّ، وأعطاني قسماً من ذلك المبلغ وقال: عندما

السيرة المباركة، ص: 162

تنتهي من عملك وتعود أدفع إليك بقية المبلغ «ولا أتذكر أنّه قد استلم السلاح من ذلك الشخص أو أنّه كان يمتلكه». فجئت إلى هنا وتوجهت في البداية إلى حرم السيدة المعصومة عليها السلام، وفجأة أحسست بانقلاب روحي وشعرت في قلبي بالندم على ما أنا مقدم عليه وفكرت في هل أنّ اللَّه يرضى بهذا العمل أم لا؟ فقررت أخيراً أن آتي إليك واخبرك عن هذه المؤامرة لتكون على حذر أكثر، قال ذلك وودعني منصرفاً، ففكرت أنّه لا يمكن للإنسان النجاة من الحوادث الخفيّة بدون ألطاف إلهيّة خفيّة».

الحادثة الثالثة:

أمّا الحادثة الثالثة فقد وقعت في منزل الاستاذ حيث يتحدّث عنها سماحته ويقول:

«كنّا نعيش في بداية الثورة أوضاعاً متأزمة وصعبة، وقد اوصينا بعدم التحرك في المدينة إلّابمعية حارس ومحافظ وسلاح، بل اوصينا بضرورة وجود محافظ مسلح في داخل البيت في غرفة خاصة حتى إذا حدثت مسألة ومشكلة فبإمكاننا أن ندافع عن أنفسنا، فكان الحرس يأتون إلينا ونستقبلهم في بيوتنا، وفي أحد الأيّام وكان الوقت ظهراً وكان الحارس نائماً في الغرفة ا لمجاورة وكنت أمتلك بدوري مسدساً في غلافه فأخرجته من جيبي وأردت وضعه على رف ولكنّه انزلق وخرج من الغلاف وسقط على الأرض ورغم كونه موصداً إلّاأنّ رصاصة انطلقت منه فجأة ولعلّها مرّت على مقربة من اذني وأصابت الجدار ثم انطلقت إلى السقف وعادت إلى الأرض، وبما أن الرصاصة انطلقت في جو مغلق فقد كان لها دويّ كالقنبلة واهتز البيت فرأيت أنني ما زلت سالماً وشكرت اللَّه على ذلك، واللطيف أنّ محافظنا ظلّ نائماً في الغرفة المجاورة بالرغم من صوت الرصاصة، وقد فهمت حينذاك السيرة

المباركة، ص: 163

أنّ المحافظ الحقيقي هو اللَّه تعالى، وهذا لا يعني أنني اوصي بعدم استخدام الوسائل الظاهرية وترك الاستعانة بالامور المادية، ولكن أقول ينبغي في الدرجة الاولى أن نفوض أمرنا إلى اللَّه تعالى ونتوكل عليه».

صلاة الاستسقاء:

ومن التأييدات والامدادات الغيبية التي تتجلى باشراق في حياة الاستاذ (دام ظلّه) هو ما حدث في واقعة صلاة الاستسقاء التي وقعت في سنة القحط الشديد (1375 ه ش) وقد ذكرت في كتاب «تحقيق حول صلاة الاستسقاء» «1»

بهذه الصورة:

حلّت سنة (1375 ه ش) في ايران مهد التشيع أتباع الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وحملت معها القحط الشديد والجفاف القاسي الذي قلّ نظيره في السابق، فكان الناس يشكون من قساوة هذه السنة ولا سيّما في أوساط المزارعين ورعاة الغنم الذين يعتمدون اعتماداً كاملًا على الأمطار، فكان القحط والجفاف حديث المجالس والمحافل، وفي الجهة المقابلة كان الحديث في خطب صلاة الجمعة، الصحف والمجلات، المنابر وجلسات الوعظ والإرشاد يدور حول صلاة الاستسقاء وضرورة الاقدام عليها، لتلافي الافرازات السلبية الحادة لهذا الوضع المتأزم، ولكن لا أحد يقدم على هذا الأمر، وكأنّهم ينتظرون اقدام الآخرين على ذلك، وفي هذا الخضم وهذه الأجواء المأساوية رأى المرجع الكبير والفقيه المتمرس الشيخ مكارم الشيرازي الذي يعيش المسؤولية والرسالية أنّ عليه أداء هذه الوظيفة الشرعية والإلهية، فبعد أن درس أمر الفاجعة وقرأ الأخبار المتعلقة بافرازات وآثار القحط في مختلف المناطق في ايران بلد الإمام صاحب الزمان عليه السلام عزم على اتخاذ الموقف تجاه هذه المعضلة ودعا إلى إقامة صلاة الاستسقاء واحياء هذه السنّة الإلهيّة.

والجدير بالذكر أنّ سماحته كان يستقبل الحوادث والاخطار التي تهدد الامة الإسلامية

السيرة المباركة، ص: 164

باتخاذ مثل هذه المواقف الحاسمة ويتصدى للاخطار والتحديات المفروضة على الإسلام والمسلمين

طيلة سنوات عمره الشريف والمبارك، إنّ هذا الرجل العظيم أبدى شجاعة فائقة لا يتخللها مفهوم الخطر إلى إرادته القوية وعزمه النافذ، فقد أصدر أول مجلة من قِبل الحوزة العلمية في سنوات الظلام والظلم الشاهنشاهي في أجواء تسيب الشباب وهجوم الأفكار المنحرفة من الغرب، وبذلك استطاع الوقوف أمام هذا الهجوم الثقافي الذي يحارب الدين باسم الخرافة والرجعية وأمثال ذلك من الاتهامات الزائفة، فكان اصدار هذه المجلة يمثل عملًا شجاعاً وخطيراً لا يتسنى لأيّ شخص غيره، نعم عندما نتصفح أوراق مجلة «مكتب اسلام» ونقرأ ما فيها من مواضيع ومعارف ونتصور الظروف العصيبة التي طبعت فيها المجلة فحين ذلك نصدّق بأنّ إصدار مثل هذه المجلة في تلك الظروف يعتبر عملًا شجاعاً جدّاً، وستقول: إنّ هذا الشخص الذي أقدم على مثل هذا العمل كان سيواجه أنواع التهم والضغوط الاجتماعية والسياسية وسيل الاهانات، كل ذلك كان سماحته يقف منها موقف الشجاع الذي يتحرك في خط الوعي والمسؤولية والرسالة.

هذا الرجل العظيم والشخصية الكبيرة لم يكتف بإصدار مجلة «مكتب اسلام» فحسب، بل تحرك على مستوى نشر الفكر الإسلامي الأصيل ومحاربة البدع والأفكار الضالة والتيارات الماركسية والغربية من خلال كتابة عشرات الكتب والمقالات المتنوعة في مجالات العقائد والاجتماع ومشاكل الشباب وغير ذلك من المسائل الفكرية والقضايا المعرفية الاخرى التي تمثل ثوابت رائعة ومشرقة في فعّالية هذا الرجل.

وعلى أيّة حال في عام (1375 ه. ش) انطلق هذا الرجل الكبير مرّة اخرى إلى الميدان وكسر حاجز الصمت والتردد لدى الآخرين، وأعلن بشكل رسمي في درسه للبحث الخارج في الفقه أنّه عازم على أداء صلاة الاستسقاء وبذلك أنعش الأمل في قلوب الناس الحيارى.

الاعلان عن صلاة الاستسقاء:

كان ذلك اليوم هو يوم الثلاثاء 14 اسفند 1375 ه ش المصادف 28

من شوال المكرم 1447 ه ق عندما أعلن سماحة أية اللَّه العظمى مكارم الشيرازي (مدّظلّه) في درس الخارج للفقه أنّه عازم على إقامة صلاة الاستسقاء.

قال سماحته في هذا الصدد:

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم وبه نستعين وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد وآله الطّاهرين لا سيّما بقية اللّه المنتظر أرواحنا فداه ولا حول ولا قوّة إلّاباللَّه العليّ العظيم.»

في تفسير سورة نوح ذيل الآية الشريفة:

«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً» «1».

وردت رواية تقرر هذا المعنى، وهو أنّ الربيع بن صبيح قال:

«كنت عند الحسن بن علي عليهما السلام فجاء رجل وشكا له من الجدب والقحط فقال له الحسن: «استغفر اللَّه»، فجاءه آخر وشكا له من الفقر فقال: «استغفر اللَّه»، فجاء ثالث وقال له: ادع أن يرزقني اللَّه ولداً، فقال الحسن عليه السلام: «استغفر اللَّه»، يقول الربيع بن صبيح: فتعجبت وقلت له: ما من أحد يأتيك ويشكو إليك أمره ويطلب النعمة إلّاأمرته بالاستغفار إلى اللَّه ..

فقال عليه السلام: إنّ ما قلته لم يكن من نفسي، وإنّما استفدت ذلك من كلام اللَّه الذي يحكيه عن لسان نبيّه نوح عليه السلام، ثم تلا قوله تعالى: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ انَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّمآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ* وَيَجْعَلْ لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ أَنْهارَاً» «2»» «3».

هناك الكثير من أمثال هذه البلايا والمشاكل التي تواجه الناس بسبب السيرة المباركة، ص: 166

الذنوب والمعاصي التي تقع هنا وهناك في العلن والخفاء، وهذه السنة في تاريخ ايران سنة عجيبة من حيث شدّة القحط والجفاف، فالجفاف شمل معظم المناطق في هذا البلد، وينقل أحد الاخوة أنّه رأى فلاحاً يجهش بالبكاء ويقول: إنّ زرعنا يحتاج إلى الماء وهو الآن يكاد أن يفنى ويموت، وفي بعض المناطق تباع الحيوانات من

الغنم والبقر بأسعار زهيدة وبأقل من قيمتها الحقيقية.

لقد أخبرونا بالهاتف من محافظة فارس التي تعتبر الرصيد الأول والمخزن الأكبر للحنطة والشعير في ايران، بأنّ ميزان هطول المطر هذا العام بمقدار عشر السنة الماضية، أي أنّ مقدار المطر في السنة الماضية كان (500) مليمتر، وفي هذه السنة (50) مليمتر، وبالأمس اتصلوا بي من طهران تلفونياً وقالوا لي: إننا نتّجه صوب فاجعة إنسانية، فلماذا لا يتدارك العلماء ومراجع الدين هذا الأمر بإقامة صلاة الاستسقاء؟

عندما تشرفنا في النصف من شعبان (عام 1417 ه. ق) إلى مكّة المكرمة كان الناس هناك يعيشون الجفاف أيضاً وقد أقاموا صلاة الاستسقاء في بلادهم ونزل المطر فعلًا، وفي السنة الماضية قام المسيحيون بأداء مراسم دعاء المطر واللَّه تعالى رحمهم أيضاً. فلماذا تركنا هذه السنّة الدينية في مطاوي النسيان؟ أنا أعتقد أنّه لا بأس بأن نقوم بإحياء هذه السنة مرّة اخرى وان شاء اللَّه نخرج إلى صلاة الاستسقاء معكم وكل من يصله الخبر.

والآن اريد أن أتحدث ببعض الامور التي تتعلق بهذه المسألة:

أولًا: إنّ استحباب صلاة الاستسقاء حكم إجماعي لدى الفقهاء «1»، لقد ذكر

السيرة المباركة، ص: 167

في كتاب «جواهر الكلام» في المجلد (12) بشكل مفصل عن هذا الموضوع، وقد ورد في المجلد الخامس من «وسائل الشيعة» روايات متواترة أو قريبة من التواتر في هذا المجال أيضاً، ويتفق علماء أهل السنة على هذه المسألة، باستثناء «أبي حنيفة» حيث خالف في ذلك ولكنّه قال بالدعاء فقط لا الصلاة، وأمّا سائر أهل السنة فيعتقدون بهذه المسألة.

إنّ هذه السنّة الدينية في معرض النسيان، إنّ صلاة الاستسقاء مثل صلاة عيد الفطر والأضحى، حيث يكبّر فيها المصلي خمس تكبيرات وأربع تكبيرات، وفي الواقع فانّ الركعة الاولى مع تكبيرة الاحرام وتكبيرة الركوع

تبلغ سبع تكبيرات في الركعة الثانية «مع تكبيرة الركوع» فيها خمس تكبيرات، ويتمّ في قنوت الصلاة الدعاء لطلب نزول المطر.

وبعد الصلاة يقوم المصلي بالتكبير والذكر الوارد في هذا الشأن:

مائة تكبيرة مقابل القبلة، ومائة مرّة «سبحان اللَّه» إلى جهة اليمين، ومائة مرّة «لا إله إلّااللَّه» إلى جهة الشمال وبعد الانتهاء من التكبير والذكر يقوم إمام الجماعة بالتوجه إلى المصلين ويقول مائة مرّة «الحمد اللَّه» ثم يأتي بخطبة الصلاة ثم يتوبون إلى اللَّه جميعاً ويدعونه بتضرع.

هذه باختصار مراسيم صلاة الاستسقاء، وهي صلاة في غاية الروحانية والتأثير.

وأحد شروط هذه الصلاة أن يصوم الناس ثلاثة أيّام، وطبعاً فانّ هذا الشرط ليس شرطاً في صحة الصلاة، بمعنى أنّه يمكن الإتيان بهذه الصلاة بدون الصوم وتقع الصلاة صحيحة، فالصوم من شروط كمال هذه الصلاة وأنا بدوري أقترح عليكم أيّها الأعزاء أن تصوموا غداً وبعد غد ويوم الجمعة إذا أمكنكم ذلك، ولحسن الحظ أنّ أحد المستحبات أن يكون اليوم السيرة المباركة، ص: 168

الثالث للصوم هو يوم الجمعة.

وقد رأينا أنّ أفضل مكان لإقامة صلاة الاستسقاء هو المكان الذي يقع إلى جانب مسجد جمكران لأنّ هذه الصلاة يجب أن تقام في فضاء فسيح تحت السماء، فهناك نصلي إلى جانب الإمام صاحب الزمان عليه السلام، في يوم الجمعة الساعة التاسعة صباحاً حيث نجتمع هناك ومعنا كل من وصله هذا الخبر ورغب في الحضور والصلاة.

ويستحب في هذه الصلاة أن يأتي إليها الناس حفاة، وعلى الأقل أن يقوم المشتركون في هذه الصلاة عند نزولهم من السيارات بالمشي حفاة.

والمستحب أيضاً أن يأتي الاخوة ببعض أطفالهم الصغار، فانّ اللَّه تعالى إذا لم يرحم الكبار لذنوبهم فإنّه ينزل رحمته على الصغار وتعمّ رحمته بسبب الكبار أيضاً.

ولعل بعض الاخوة يقول: «إذا

صلينا ولم ينزل المطر فماذا نصنع؟.

نقول في مقام الجواب: «نحن نتحرك من موقع أداء تكليفنا واللَّه تعالى هو الذي يُدبّر الامور بكرمه، فقد أوصانا بأنّ نصلي له في مثل هذه الحالات ونحن نقوم بوظيفتنا.

وعلى هذا الأساس فاني اوصي السادة الحضور بالصوم في هذه الأيّام الثلاثة، وأمّا من لم يحالفه الصوم فليخبر الآخرين ويشتركوا جميعاً في هذه الصلاة، وأنا لا اريد إصدار اعلان عام بهذه المناسبة فيتحول هذا العمل المعنوي والروحاني ويتخذ شكل تظاهرة، فقلت في نفسي: لعل تأثيرها سيكون أقل، ولكن مجرّد اشتراككم في هذه الصلاة وإخباركم الآخرين يكفي، إذن فوقت إقامة صلاة الاستسقاء هو يوم الجمعة الساعة التاسعة صباحاً ليمكنكم أيضاً المشاركة في صلاة الجمعة ولا تواجهون مشكلة في السيرة المباركة، ص: 169

ذلك، ولا بأس أن يقوم البعض باخبار شركة الباصات لايصال الاخوة إلى هناك، وكلما كان عدد المشاركين أكثر كان أفضل. المهم روح الصفاء والخلوص في قلوب المصلين، وأهم من ذلك احياء هذه السنّة المتروكة، فلا ينبغي نسيان هذه السنّة، وقد أقام الناس في العربية السعودية صلاة الاستسقاء في جميع أرجاء تلك المملكة فلا ينبغي بدورنا أن ننسى هذه السنة الدينية، فعليكم أن تسعوا للمشاركة في هذه الصلاة إن شاء اللَّه، وإن شاء اللَّه تكون قلوب المشاركين مستعدة لإقامة هذه الصلاة والدعاء.

إنّي اوصي أن تقوموا في هذه الأيّام الثلاثة بالاستغفار كثيراً والتوبة إلى اللَّه وضبط ألسنتكم وأعمالكم وسلوكياتكم، وعليكم السعي لأن تخلقوا تحوّلًا في نفوسكم في هذه الأيّام الثلاثة، لعل اللَّه يرحمنا وينزل علينا من بركاته السماوية والّا فنحن نعيش حالة الحصار الاقتصادي وربّما تتفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية أكثر، ومن المعلوم أنّ الجفاف إذا استمر أكثر من هذا فإننا سنواجه أزمة كبيرة وبلاءاً

مبرماً، ونستلهم في هذه الفرصة من قوله تعالى:

«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً».

بهذه المناسبة نطلب من اللَّه تعالى ونسأله أن: «ارسل السماء علينا مدراراً» وذلك بالاستغفار والتوبة إلى اللَّه تعالى ولا سيّما إلى جانب مسجد جمكران بيت الإمام صاحب الزمان «عجل اللَّه تعالى فرجه الشريف» لنحضى ببركات وجوده أكثر.

وبالنسبة إلى المسائل المتعلقة بصلاة الاستسقاء فهنا نرى من الضروري بحث أدلة هذه المسألة بحثاً اجتهادياً والرجوع إلى المنابع الشرعية فيجب على الفقيه أن يحيط بجميع هذه المسائل، والآن نرى الفرصة مناسبة لبحث السيرة المباركة، ص: 170

هذا الموضوع، فعليكم أيّها الاخوة أن تضعوا هذه المسألة في برنامجكم الدراسي لكي يمكننا إن شاء اللَّه التعرف على هذه السنّة الحميدة والعمل على إحيائها .. والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.

شيوع الخبر بين الناس:

وانتشر خبر صلاة الاستسقاء بإمامة سماحة آية اللَّه العظمى مكارم الشيرازي (مدّظلّه)، بين الناس في مدينة قم.

فأخذ المؤمنون يعدون أنفسهم لهذه الصلاة بالاستغفار والتوبة والصيام، وكان الحديث عن صلاة الاستسقاء أهم موضوع يشغل المحافل والمجالس، حيث يتطرق الناس في حديثهم إلى أبعاد هذه الصلاة المختلفة ومعطياتها التاريخية وما يعيش فيه الناس من اضطراب وآمال نتيجة إقامة هذه الصلاة، فالاضطراب بسبب احتمال عدم نزول المطر بعد إقامة هذه الصلاة، والأمل بفضل اللَّه وكرمه في استجابة دعاء المؤمنين والخلاص من القحط والجفاف.

وعلى أيّة حال حلّ يوم الجمعة وأخذ الناس يتوافدون مجاميع، آحاداً وزرافات متجهين إلى مسجد جمكران، وكان هؤلاء المؤمنون الصائمون ينزلون من السيارات والباصات على مقربة من المسجد ويمشون حفاة وفي حالة الاستغفار والتوبة متجهين إلى محل إقامة الصلاة وكانت لحظات الاضطراب والأمل تزداد شيئاً فشيئاً باقتراب موعد الصلاة.

ثم إنّ سماحة مكارم الشيرازي (مدّ ظلّه) جاء مع

مجموعة من أعضاء مكتبه إلى مسجد جمكران المقدّس وصلّى فيه صلاة صاحب الزمان (عجل اللَّه فرجه الشريف) وبهذا الزاد المعنوي تحرك باتجاه محل صلاة الاستسقاء.

السيرة المباركة، ص: 171

وكان سماحته يمشي حافياً وهو يسبح اللَّه ويستغفره في حركته إلى محل إقامة الصلاة حتى وصل إلى مكان وقوف إمام الجماعة وكان الناس يتوافدون إلى ذلك المحل باستمرار وارتفعت أصوات الضجيج وبكاء الأطفال وأصوات الحيوانات في أطراف ذلك المحل.

وبدأت مراسم صلاة الاستسقاء المهيبة بتلاوة آيات من سورة «الضحى» ثم تحدّث المرجع الكبير مكارم الشيرازي قبل إقامة الصلاة متناولًا عدّة امور:

الخطبة قبل الصلاة:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم وبه نستعين وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد وآله الطّاهرين لاسيّما بقيّة اللّه المنتظر أرواحنا فداه ولا حول ولا قوّة إلّاباللَّه العليّ العظيم.

إنّ كيفية صلاة الاستسقاء كالتالي:

تتكون صلاة الاستسقاء من ركعتين كصلاة عيد الأضحى والفطر، وفي الركعة الاولى خمسة قنوتات وفي الركعة الثانية أربعة قنوتات وقبل كل قنوت تكبيرة، وبعد التكبيرة الأخيرة نركع، وأمّا دعاء القنوت فيختلف عن دعاء القنوت لصلاة عيد الفطر والأضحى.

وبعد اتمام القنوت يجب على من يلبسون عباءة أن يقلبوا عباءتهم على ظهرها حيث يقول المرحوم صاحب الجواهر في المجلد 12 الصفحة 146 من كتابه في بيان الحكمة من هذا العمل:

«وحكمة هذا العمل هي أنّ اللَّه تعالى يبدّل الجفاف بالمطر، ويحوّل أيّام القحط إلى أيّام نعمة ورخاء، وقلب العباءة إشارة إلى تغيير مسيرة الجفاف إلى نزول المطر المبارك إن شاء اللَّه».

ونقف بعد انتهاء الصلاة مستقبلين القبلة ونكبّر اللَّه تعالى سوية وبصوت السيرة المباركة، ص: 172

عال مائة تكبيرة «اللَّه أكبر» ثم نلتفت إلى الجهة اليمنى ونذكر اللَّه مائة مرّة ونقول «سبحان اللَّه»، ثم نتوجه إلى جهة الشمال ونقول مائة مرّة بصوت عال «لا

إله إلّااللَّه»، ثم إنّ إمام الجماعة يتوجه إلى الناس مستدبراً القبلة ونقول سوية وبصوت عال «الحمد للَّه» مائة مرّة، وبعد الإتيان بهذه المراسيم يقف إمام الجماعة خطيباً، وتتعلق خطبة إمام الجماعة في الغالب بمسألة التوبة والإنابة والاستغفار وطلب الصفح والعفو عن الذنوب ونسأل اللَّه تعالى من رحمته الواسعة ونزول المطر، وضمناً أوصانا أحد الاخوة المداحين بأن يقرأ في أثناء الخطبة كلمات وأشعار في المناجاة والتوسل لترطيب القلوب، ولا ينبغي أن نغفل أننا الآن بجوار بيت اللَّه وفي جوار بيت صاحب الزمان (أرواحنا فداه) وأعتقد أنّ لصلاة الاستسقاء أثر تربوي كبير ومثمر لجميع الناس، حيث يكتسب الإنسان بهذه الصلاة نورانية وروحانية خاصة ويتطهر من الذنوب، وتتضمن هذه الصلاة عنصر الاستغفار وطلب الرحمة الإلهية، هذه الصلاة تبعث على تقوية وشائج العلاقة بين الإنسان وربّه حيث يلقي الإنسان بمشكلاته أمام بيت اللَّه، في هذه الصلاة يعيش الناس حالة الاستغفار من الذنوب ويسألون اللَّه حلّ مشاكلهم، إذن فهذه الصلاة تحتوي على نتائج ومعطيات تربوية جيدة من جهة، ومن جهة اخرى فانّ إقامة هذه الصلاة يمثل احياءً لسنّة إسلامية، وأضيف هنا أمراً آخرَ وهو أنّ صلاة الاستسقاء مورد قبول جميع المسلمين سواء من أهل السنة أو الشيعة سوى جماعة قليلة من علماء أهل السنة حيث لا يقبلون بها، وما عدا هؤلاء فانّ جميع علماء الإسلام متّفقون عليها، وقد أورد المؤرخون أنّ مراسيم الاستسقاء بصورة صلاة أو على شكل دعاء كان منذ زمان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

وبعد أن انتهى سماحة الفقيه الكبير من كلامه شرع الناس بترتيب صفوف الصلاة وقام السيرة المباركة، ص: 173

أحد المصلّين برفع صوته بالتكبير والاستغفار والصلوات واشتغل المصلّون بالذكر والاستغفار بقلب منكسر وروح مفعمة

بالأمل بفضل اللَّه ورحمته.

شروع صلاة الاستسقاء:

كلما يتقدم الوقت وترتفع ساعات النهار فانّ جموع غفيرة من المصلّين تزداد شيئاً فشيئاً فهناك النساء والرجال، الكبار والصغار، الشيوخ والشبان، المشايخ وغير المشايخ، الشخصيات العلمية والدينية والأشخاص العاديين كلهم جاءوا وحضروا إلى هذا المكان متوجّهين بقلوبهم إلى اللَّه تعالى ومتضرعين إليه ومادين أيديهم إلى السماء، فالجميع على استعداد تام لحضور هذه المائدة الإلهية، وتسمع أصوات بكاء الأطفال الذين تم عزلهم عن امهاتهم وأصوات الأغنام والماعز، وفي هذا الحال أخذ الناس بالبكاء والاستغاثة والضجيج، فالأجواء المعنوية حاكمة على ذلك المكان.

كان العدد غفيراً جدّاً لقد تهيأوا، فما أن قال الإمام تكبيرة الإحرام ورفع يديه إلى اذنيه علامة على دفع وطرد ما سوى اللَّه إلى خلفه وبدأت الصلاة، بدأ المصلّون الذين عاشوا هذا العشق والتوبة والاستغفار وصيام ثلاثة أيّام، بصلاة الاستسقاء في حال البكاء والدموع.

وبعد أن قرأ الإمام سورة الحمد وسورة الكوثر رفع يديه للقنوت خمس مرات في الركعة الاولى وقرأ في قنوته هذا الدعاء:

«اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَما صَلَّيْتَ عَلى ابْراهيمِ وَآلِ ابْراهيمَ، انَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ. وَصَلِّ عَلى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلينَ، وَالْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبينَ، وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحينَ، اللَّهُمَّ نَزِّلْ عَلَيْنا غَيْثاً مُبارَكاً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَلِيُّ الْحَميدُ، وَبِالْاجَابَةِ جَديرٌ، وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَىْ ءٍ قَديرٌ».

وهكذا الحال في الركعة الثانية في أربع قنوتات وبعدها انتهت الصلاة، وبعد الفراغ من الصلاة، في حين أنّ بعض المصلّين كانوا قد قلبوا عباءاتهم على باطنها مستقبلين القبلة بالتكبير مائة مرّة، وكان تكبيرهم بحالة خاصة من الصفاء والمعنوية ممّا أضفى على تلك السيرة المباركة، ص: 174

الأجواء روعةً وبهاءً عظيماً، وبعد الانتهاء من التكبير اتجه المصلّون إلى جهة اليمين بحيث كانت أكتافهم الشمال صوب القبلة، وسبحوا اللَّه تعالى بجميع وجودهم وقالوا:

«سبحان اللَّه» مائة مرّة، وكأنّ ذكر اللَّه تجلى حين ذلك بمعنىً جديد ومضمون عميق وكأنّه لأول مرّة يسمع الناس بمثل هذا التسبيح، فالذكر وقول «سبحان اللّه» لم يختلف في جميع الحالات، ولكنّ هذا الذكر يقال الآن بلسان آخر، لسان الشخص التائب والمنيب إلى اللَّه تعالى طالباً منه المغفرة والصفح ولا سيّما إذا اقترن ذلك مع البكاء والعويل وفي حالات التوبة والانابة، كل ذلك من شأنه إضفاء طابع الصفاء والخلوص على هذا الذكر.

«سبحان اللّه» تعني أنّ اللَّه تعالى منزّه عن كل نقص وشائبة، وإنّ ذنوبنا وخطايانا هي التي أدّت إلى وقوعنا في هذا البلاء وسقوطنا في بحر الامتحان وإلّا فأنت منزّه عن كل نقص وأسمى من كل شي ء

وبعد الانتهاء من هذا الذكر المهيج بلسان المصلّين والصائمين والعاشقين الذين يعيشون في حالة من انكسار القلب توجه الجميع إلى جهة الشمال بحيث كانت أكتافهم اليمين هذه المرّة صوب القبلة وللمرّة الثالثة ارتفعت أصواتهم «لا إلهَ إلّااللَّه»، مائة مرّة، بمعنى أنّه لا معبود سوى اللَّه تعالى فأنت معبودنا وإلهنا وأنت القادر على إحيائنا واماتتناً، تعزّ من تشاء وتذل من تشاء، وتمنح البركة من تشاء وترزق من تشاء وترسل المطر إلى حيث تشاء فكل شي ء بيدك وبمشيئتك وكل ما لدينا هو منك فقط.

إلهنا! لا نجاة لنا إلّابك فأنت المنقذ لنا والمصلح لُامورنا وبكرمك نعيش ونحيى، وبهذا الذكر نعترف لك بأن لا موجود يستحق العبودية سواك.

وعندما اتّجه المصلّون العشّاق صوب القبلة وفي حين توجه الإمام إلى المصلّين وللمرّة الرابعة اشتغل الجمع الغفير بذكر اللَّه تعالى، وهذه المرّة كأنّ المصلّين يرومون تقديم الشكر والثناء للَّه تعالى على توفيقهم للتوبة والإنابة وأنّ رحمته الواسعة شملتهم في هذا المكان ومنحتهم فرصة اخرى ليقدموا فروض الولاء

والطاعة والعبودية إلى ساحة كرمه وجلالته السيرة المباركة، ص: 175

ويستغفرون من ذنوبهم ويسألونه العفو والصفح عن خطيئاتهم، بذلك ارتفعت أصوات الجمع «الحمد للَّه» مائة مرّة.

لقد ملأ الحمد والشكر للَّه ولما تفضل به من كرم وعفو وجود جميع المصلّين الذين كانوا يشكرون اللَّه تعالى بقلوب مليئة بالعشق والحبّ الخالص ونفوس منكسرة ومذعنة ومعترفة بالخطيئة والذنب.

وبعد الانتهاء من الاذكار الأربعة هذه جلس المصلّون ليستمعوا إلى الإمام وهو يخطب خطبة صلاة الاستسقاء، فقال:

خطبة صلاة الاستسقاء:

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم الحمد للَّه ربّ العالمين وصلّى اللَّه على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين لاسيّما بقية اللَّه المنتظر أرواحنا فداه.

إنّ إحدى السنن الإسلامية المهمّة إقامة صلاة الاستسقاء عند الجفاف والقحط، وكما تقدمت الإشارة إليه أنّ هذه الصلاة مستحبة باتفاق علماء الشيعة جميعاً، والمشهور لدى علماء السنّة الاستحباب أيضاً.

ويمكن القول بشكل عام أنّ صلاة الاستسقاء كانت تقام في أزمنة متفاوتة، ففي زمان النبي الأكرم خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و آله، جاءت جماعة إليه وقالوا: «إنّ الناس يعيشون في ضيق ومشقة ودوابنا تكاد أن تهلك من قلّة الماء».

فقال النبي صلى الله عليه و آله: تعالوا معي، فتحرّك الجميع وخرجوا من المدينة وصلّى النبي ودعا اللَّه تعالى فنزل مطر كثير، ثم قال: لو كان أبو طالب حياً الآن لفرح من ذلك.

وقال الناس: «ماذا تعني يارسول اللَّه؟».

السيرة المباركة، ص: 176

فقال أميرالمؤمنين علي عليه السلام: «لعلك تريد شعر أبي طالب هذا»:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ربيع اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهُلَّاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل قال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «نعم، لهذا أردت» «1».

وللمرحوم صاحب الجواهر في هذا المورد كلاماً شيّقاً جدّاً حيث يقول:

«والذي ينبغي للناس إذا ظهرت مخائل الجدب

والغلاء أن يفزعوا إلى اللَّه تعالى، ويلحّوا في الدعاء ليلًا ونهاراً سرّاً وجهاراً عن صدر نقي وقلب تقي وإخبات وإخلاص خوفاً وطمعاً، فانّ ذلك يحرك سحاب الجود، والمناجاة سبب النجاة، وبالاخلاص يكون الخلاص».

ويضيف صاحب الجواهر إلى ذلك بقوله:

«وينبغي أن يكون الدعاء بعد التوبة والاقلاع عن المعصية ورد المظالم واخراج الحقوق والتواصل والتراحم والمواساة والتصدق، فانّ ذلك أنجح فى المطلب وأسرع إلى إجابة الربّ عزّ شأنه.

ويقول أيضاً: ومن أعظم الأسباب في ذلك، التوبة والاستغفار، فإنّهما الماحيتان للذنب الذي هو السبب الأقوى في ظهور الغلاء والجدب» «2».

وقد ورد عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام أنّه قال في خطبة له:

«إنَّ اللَّه تَعالى يَبْتَلى عِبادَهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْاعْمالِ السَّيِّئَةِ بِنَقْصِ الَّثمَراتِ وَحَبْسِ الْبَرَكاتِ وَإغْلاقِ خَزائِنِ الْخَيْراتِ لِيَتُوبَ تائِبٌ وَيَقلَعَ مُقْلِعٌ وَيَتَذَكَّر مُتَذَكِّرٌ وَيَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ وَقَدْ جَعَلَ اللَّه تَعالى الْاسْتِغْفارَ سَبَباً لِدُرُورِ الرِّزْقِ وَرَحْمَةِ الْخَلْقِ ...» «3».

أيّها الأخوة والاخوات الأعزاء الذين اجتمعتم في هذه الصحراء وإلى السيرة المباركة، ص: 177

جوار بيت اللَّه وإلى جوار بيت صاحب الزمان الإمام المهدي (عجّل اللّه تعالى فرجه الشّريف) وربّما يكون هذا الجفاف بنفسه رحمة إلهية للناس.

ربّما كان هذا الجفاف ذريعة لتتوجهوا جميعاً للتوبة والاستغفار ووسيلة إلى أن تتحركوا جميعاً من موقع تطهير قلوبكم من الذنوب والخطايا.

إلهنا! لقد دعوتنا إليك وجئت بنا إلى هذا المكان ..

إلهنا! إنّ مجموعات كبيرة من هذا الجمع الغفير صائمين، فاذا كنت أنا مذنباً، فانّ من بين هذا الجمع قلوب طاهرة ونفوس منيبة إليك وتعيش الولاء والعشق لك ...

إلهي! في هذا المكان أطفال أبرياء ذو نفوس طاهرة ونقية، فاذا كنّا نحن الكبار مذنبين لا نستحق الرحمة فترحم على هؤلاء الأطفال ... «1».

ربّنا! إنّنا جئنا إلى هذا المكان لنجدد معك العهد ونطلب من

ساحة رحمتك وكرمك رفع البلايا والزلازل والجفاف وشرّ الأعداء عنّا وعن جميع المسلمين (آمين الحضّار).

إلهنا! إنّنا جئنا باب بيتك لنعلن توبتنا، فأول شروط قبول الدعاء هو التوبة، ولنقل جميعاً عدّة مرات «إلهي العفو»، ثم أطلب من الأخ المداح أن يتقدّم بذكر عدّة جملات للتوسل والدعاء وندعو جميعاً من صميم القلب.

لنضع أمام أعيننا جميعاً الذنوب التي ارتكبناها والخطايا التي احتطبناها على ظهورنا، ونتوجّه بعد هذه الصلاة وفي هذه الصحراء وفي هذا المكان المقدّس بقلوب مفعمة بالعشق والفضيلة ونقول: «إلهي العفو».

وبعد أن انتهى سماحته من كلامه هذا توجّه الحاضرون باخلاص وبقلوب متحرقة

السيرة المباركة، ص: 178

وعيون باكية وكرروا جملات الدعاء المذكور عدّة مرّات بتأثر بالغ وصوت عال، ثم إنّ أحد المدّاحين أخذ بقراءة جملات ومقاطع الدعاء والتوسل.

وعاش جميع المصلّين أجواء عجيبة من التوجّه والالتفات إلى أهل البيت الطاهرين عليهم السلام وتوسلوا بباب الحوائج إلى اللَّه علي الأصغر الطفل الرضيع ابن الإمام الحسين عليه السلام وتذكروا المأساة والظلم الذي ارتكبه الأعداء بحق هذا المظلوم الصغير عليه السلام وانقلبت حالة الحاضرين وسيطرت على تلك الأجواء روحانية عجيبة.

وبعد ذكر المصيبة رفع خطيب الصلاة يديه إلى السماء وقرأ هذا الدعاء:

«اللّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ وَنَدْعُوكَ بِاسْمِكَ الْعَظيمِ الأَعْظَمِ، الأَعَزِّ الأَجَلِّ الأَكْرَمِ، يا اللّهُ يا اللّهُ يا اللّهُ، يا جَوادُ، يا كريمُ، يا جَوادُ يا كَريمُ، يا غَفّارُ، يا غَفّارُ، يا غَفّارُ، يَا مَنّانُ، يا مَنّانُ، يا مَنّانُ، يا مَنّانُ، يا مَنّانُ، يا ذَالْجُودِ وَالْاحْسانِ، يا حَميدُ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ (آمين الحضّار)، يا عالٍ بِحَقِّ عَلِىٍّ (آمين الحضّار)، وَيا فاطِرُ بِحَقِّ فاطِمَة (آمين الحضّار)، وَيا مُحْسِنُ بِحَقِّ الْحَسَنِ (آمين الحضّار) وَيا قَديمَ الْاحْسانِ بِحَقِّ الْحُسَيْنِ (آمين الحضّار) اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنا (أربعة مرّات)، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عُيُوبَنا

(ثلاثة مرّات) وَانْشُرْ عَلَيْنا رَحْمَتَكَ، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَلِيُّ الْحَميدُ، اللَّهُمَّ نَزِّلْ عَلَيْنا غَيْثاً مُبارَكاً».

إلهنا! ندعوك بذلك الدعاء المعروف، فمن دعاك به استجبت دعاؤه، ونقول:

«اللَّهُمَّ، انّا نَسْئَلُكَ بِفَاطِمَةَ وَأَبيها وَبَعْلِها وبَنيها «1»، أَنْ تُصَلِّىَ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمّدٍ وَأَنْ تُرسِلَ عَلَيْنَا السَّماءَ مِدْراراً وَأَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا غَيْثَاً مُبارَكاً. انَّكَ عَلى كُلِّ شَىْ ءٍ قَديرٌ وَعَجِّلْ في فَرَجِ وَلِيّنا صاحِبِ الْعَصْرِ وَالزَّمانِ».

السيرة المباركة، ص: 179

بعد الانتهاء من الصلاة أخذت جموع الناس بالتفرّق والعودة إلى مدينة قم المقدّسة بينما بقيت جماعة اخرى في ذلك المحل للاستفادة أكثر من ذلك الجو المعنوي والروحاني الساحر وتوجّهوا إلى مسجد جمكران لأداء صلاة الإمام صاحب الزمان (عجّل اللّه تعالى فرجه الشّريف) والاشتغال بالذكر والدعاء والتوبة والاستعفار وطلب نزول المطر.

أمّا ما بقي من صلاة الاستسقاء هذه فهي القلوب التي تعيش حالة الاضطراب لجميع الناس الذين عادوا إلى بيوتهم في انتظار استجابة الدعاء، وبقيت عيونهم القلقة تنظر إلى السماء بين اللحظة والاخرى يحدوها الأمل برحمة اللَّه تعالى.

ومرّت لحظات الانتظار الصعبة كأنّها أعوام متمادية ولكن تحقّق الوعد أخيراً، ففي أول ليلة السبت ومساء ذلك اليوم الذي اقيمت فيه صلاة الاستسقاء ظهر الرعد والبرق في السماء وارتسمت على ملامح المؤمنين معالم الفرح السرور وانبعث الأمل في قلوب الناس برحمة اللَّه.

أجل، فالسماء أعلنت عن انتهاء ساعات الانتظار والقلق والاضطراب، حيث ظهرت الغيوم برحمة اللَّه تعالى وهطلت الأمطار الغزيرة على رؤوس الناس وأنعشت بذلك قلوبهم الظمأى وأروت الأرض اليابسة فاهتزت لها الأرض والنباتات طرباً وفرحاً بهذه الرحمة الإلهيّة الكبيرة، ولم يقتصر نزول المطر على مدينة قم بل شمل الكثير من المدن الاخرى وبذلك استجاب اللَّه تعالى دعاء المصلّين وشملهم برحمته وكرمه.

إلهنا! نحمدك ونشكرك على كل هذا اللطف والكرم والفضل

ونسألك أن تدخلنا دائماً في ساحة رحمتك ورضوانك.

16 التوجّه الدائم والذكر المستمر

اشارة

إنّ كثرة المشاغل وتنوّع الأعمال والنشاطات اليومية تعتبر آفة لدوام الذكر واستمرار حضور القلب، فلو لم يتحرك الإنسان منذ السحر بشدّ أدوات العزم على السير في خط الإيمان والانفتاح على اللَّه ولم يعقد جوانحه على الالتزام بخط العبودية والمسؤولية: «اشدُدْ على العزيمة جوانحى» «1»

ولم يعمل على تبديل جميع أوقاته وأفعاله وسلوكياته رغم كثرتها وتنوعها إلى «وِرد واحد» ولم يتجه في حركاته وسكناته إلى جهة واحدة «اسئلك ... حتّى تكون أعمالي وأورادي كلّها ورداً واحداً» «2»

فانّ المشاغل اليومية للإنسان من شأنها اسدال ستار النسيان والغفلة على واقع الروح أمام بصيرة القلب فيحرم السالك بذلك من أجواء الحضور: «وحالي في خدمتك سرمداً» «3»

بل إنّ القلوب الطاهرة أيضاً تتأثر وتتلوث ويصيبها نوع من الظلمة والدرن بسبب الأعمال والمشاغل اليومية بحيث إنّ صاحب أطهر قلب في البشرية وهو الرسول الأكرم يقول: «إنّه ليُران على قلبي ...» «4».

وبديهي أنّ الإنسان السالك ينبغي عليه من أجل نجاة روحه من هذه الظلمة وشوائب المشاغل الدنيوية وتحصيل «الوحدة» و «الاستقامة» و «وحدة الورد، ودوام التوجه والحضور»، أن يتحرك على مستوى الوقاية من جهة والعلاج من جهة اخرى، أمّا الوقاية فتكون باجتناب الحضور في مجالس العاطلين والاشتراك معهم في محافل اللهو والابتعاد عن الأفعال والأقوال المهملة واللغوية، بل يتحرك على مستوى ضبط حالاته وملكاته السيرة المباركة، ص: 182

النفسية، والسير في خط التوجه والإيمان دائماً والاهتمام بمحاسبة النفس على كل صغيرة وكبيرة والعمل على دوام الذكر والاستعاذة باللَّه من الاهواء والوساوس الشيطانية، ويراقب حالته لئلا تجمح به مطية الهوى في منزلقات الخطيئة والانحراف وتسول له نفسه اتباع الظواهر البراقة بشكل خادع لينحرف في مسيرته المعنوية الصاعدة.

وأمّا علاج

هذه الحالة فأن يداوم المرء على الاستغفار كما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه أنّه قال بعد الحديث المذكور آنفاً: «وإنّيّ لأستغفر بالنّهار سبعين مرّة» «1»

فيطلب السالك من اللَّه تعالى: «مُدْرِكَ كلِّ فوت» «2»

العفو والمغفرة سبعين مرّة وأكثر ويسعى لجبران وتدارك ما فاته من الأعمال الصالحة.

إنّ الأشخاص الذين عاشوا مع سماحة الاستاذ وأنسوا به ولاسيّما في أسفاره، وإلتفتوا إلى التوجه الدائم لسماحة الاستاذ وحالة الحضور الدائم واهتمامه بالوقت وعدم اهماله للعمر وقضائه في جلسات غير مثمرة، وعدم تسامحه في قضاء الوقت في الامور العبثية وغير الهادفة.

اجتناب الجلسات غير المثمرة:

بالرغم من أنّ سماحة الاستاذ يتمتع بحافظة قوية وذوق جميل يمنحه القدرة على أن يكون مجلسه في السفر والحضر مقترن بأنواع اللطائف والظرائف المفرحة وبالتالي يثير مجلسه السرور والنشاط في قلوب الجالسين فلا يشعرون بالتعب والضجر في حالات السفر وما يتضمنه من أتعاب ومشاكل، إلّاأنّ الاستاذ في نفس الوقت يتجنب الحركات والأعمال الافراطية وغير الهادفة من جهة، ويهتم بعنصر الانضباط في جميع الأعمال من السيرة المباركة، ص: 183

جهة اخرى، ممّا يسبب أحياناً بعث حالة الانزعاج والكدورة لبعض الاخوة والأصدقاء، لأنّ اهتمامه بالأمر ومحدودية الوقت، وكثرة مشاريعه الفكرية والتحقيقية واهتمامه من جهة اخرى بالتأليف من أجل خدمة الدين والنهوض بالمجتمع الإنساني، يؤدّي إلى أن لا يقبل الاشتراك في جلسات اعتباطية أو دعوات للضيافة إلّابعد تعين وقت البداية والنهاية لهذه الجلسات والدعوات، مثلًا يقول: «إنّ الوقت الذي تستغرقه الضيافة من البداية والنهاية مع جميع المقدّمات وتناول الطعام ينبغي أن لا يستغرق أكثر من ساعة واحدة».

وقد تجلّى هذا الاهتمام بالوقت وتجنب اهدار الوقت والزمان في البحوث العلمية غير المثمرة أيضاً، ولذلك فانّ سماحته يذكر في كتابه القيم «القواعد الفقهية» فيما يتعلق

بالبحوث غير الهادفة وغير المثمرة لدى الاصوليين والفقهاء (بعد بيان امتيازات الفقه الشيعي وافتخار علماء الشيعة فيما يتعلق بتدوين علوم أهل البيت الطاهرين عليهم السلام وما حظي به الفقه والاصول وعلم الحديث والرجال لدى الشيعة من العمق والسعة) ويقول:

«لكن مع الاسف أنّ هذا التوفيق العلمي الكبير اقترن بنقائص مهمّة نشأت من عنصر الافراط أو التفريط، لأنّنا نرى وجود مسائل كثيرة لاسيّما في علم الاصول قد اختلطت مع مسائل مفيدة اخرى ولا يترتب عليها أي ثمرة معقولة ومعتبرة، والعجيب أننا نرى زيادة هذه المسائل غير المثمرة في كل يوم بحجّة كشف الحقائق واتساع مساحة هذا العلم، وبهذه الزيادة يمكننا أن نتوقع لهذا العلم مستقبلًا غامضاً ومظلماً».

ثم يستعرض الاستاذ موارد عديدة من هذه المسائل الخاوية في علم الاصول، ويشير إلى أنّ البعض تمسك لاظهار ثمرة عملية لمثل هذه المسائل بمسألة النذر وأنّ المكلّف قد ينذر أمراً معيناً يرتبط ببعض مسائل العلوم المختلفة، ولكنّ أي عاقل لا يجد في نفسه ضرورة طرح جميع هذه المسائل في علم الاصول، ويشير الاستاذ أيضاً إلى عنصر الخلط في عملية الاستدلال على المسائل الاصولية والفقهية بين الامور الحقيقية والامور الاعتبارية ويقول:

السيرة المباركة، ص: 184

«فصارت هذه الامور وأمثالها تفني مدّة طويلة من أحسن أيّام شباب طلّاب العلم وشيئاً كثيراً من نشاطهم العلمي وقواهم الفكرية وتمنعهم عمّا هو أهم وأنفع، فاصبحت هذه المشكلة بلاءً للعلم وأهله، ولهذا وغيره صارت أبحاثنا الفقهية اليوم تدور غالباً حول أبواب العبادات وشي ء طفيف من المعاملات وبقيت سائر المباحث القيمة متروكة ومهجورة إلّاعند الأوحد من العلماء الأعلام.

ومن العجب أنّ كثيراً من الباحثين مع علمهم بجميع هذه الامور إذا اشتغلوا في البحث لا يملكون أنفسهم عن متابعة الباقين، نسأل اللَّه

تعالى ونبتهل إليه سبحانه أن يبعث أقواماً ذوي عزائم راسخة يقومون بأعباء هذا الأمر ويهذّبون علوم الدين وينفون عنها هذه الزوائد، ويهدون طلّاب العلم إلى سواء السبيل، ولست أنسى أنّ بعض الاساتذة الكرام يرى أنّ التعرف على مثل هذه المسائل لا يخلو عن شبهة شرعية، ولعل ذلك بملاحظة ما نرى من أنّ الإسلام اليوم في أشدّ الحاجة إلى العلماء الذابّين عن حوزته بعلومهم النافعة، فصرف الوقت في غيرها يمنع عن هذه المهمّة» «1».

والملتفت للنظر أنّ بعض أصدقاء «2» الاستاذ وأصحابه يؤيدون حالة الاستاذ هذه في اجتنابه الجلسات غير الهادفة التي لا تنفع شيئاً ويرون أنّ ذلك يعود إلى سنوات مبكرة من حياة الاستاذ ويقولون:

«لقد كان الاستاذ في أيّام التحصيل يمضي الوقت إمّا في التعلّم أو التعليم أو بالمطالعة أو الكتابة وكان يستفيد من وقته وعمره بأفضل صورة، فلا يشترك أبداً في مجالس اللهو والمزاح وأمثال ذلك، بل كان يتحرك بجدية في تحصيل العلم والاستفادة من طاقاته وأوقاته في سبيل خدمة العلم والدين وايصاله إلى الآخرين».

لطافة الروح والعلاقة بالشعر:

على أيّة حال، إنّ التوجه الدائم والذكر المستمر والمراقبة الروحية لدى الاستاذ ظهرت في أفعاله وحالاته بأشكال مختلفة، ومن ذلك ما يتمتع به الاستاذ من لطافة روحية وحالات عرفانية وعلاقة شديدة بالشعر والشعراء لا سيّما ما تمثله أشعار «حافظ» وبعض الشعراء المعاصرين كأشعار «شهريار» من معانٍ سامية وأجواء معنوية عالية (حيث نسمع منه أبيات كثيرة في جلساته العلمية وغير العلمية) ويتحدث الاستاذ نفسه في هذا المجال ويقول:

«إنني أشعر بعلاقة شديدة بالشعر والأدب، ولذلك فانّ قراءة الأشعار والقصائد في دواوين الشعر تمثل ترفيهاً لنفسي لرفع التعب والارهاق من العمل، وعادةً أقوم قبل مطالعة كتاب وقبل الاستراحة وخاصة بعد الظهر باختيار ديوان

حافظ من بين قدماء الشعراء، ومن الشعراء الجدد ديوان شهريار، وكلا الديوانين أضعهما إلى جانب سريري، فأقرأ مقداراً منهما وأشعر بالسكينة والراحة النفسية ثم يمتلكني النوم. أرى أنّ حافظ يعد أقوى شاعر في فرع الغزل، وبغض النظر عن بعض الصفحات والعبارات الوقحة فانّ في أشعاره عبارات يمكن أن تُفسَّر بتفسيرات عرفانية، ولكنني أنظر إلى قدرة حافظ وخلاقيته في الشعر وجمال بيانه العظيم في عالم التشبيه وما يتضمنه من ملاحظات ظريفة ودقيقة، وبالطبع أنّ قصائده العرفانية قوية جدّاً، بحيث إنّ الإنسان إذا كرر قراءتها عشر مرّات فانّها لا تفقد صفاءها وروحانيتها.

أمّا شهريار فيعد من بين الشعراء المعاصرين شاعراً مقتدراً جدّاً، ويتحرك في ظل أجواء حافظ ويعترف بنفسه بأنّ استاذه الحقيقي هو حافظ، ولكن الانصاف أنّه جاء بتجديد كثير على المستوى الأدبي والشعري، فعندما

السيرة المباركة، ص: 186

نقرأ شعر شهريار نشعر بمزيد من اللطافة ولذّة الشاعرية ويشعر الإنسان معها بزوال الملل والكسل عن مرآة الروح.

وشهريار بالطبع كانت لحياته مراحل مختلفة وانعكس ذلك على أشعاره، فأحياناً نقرأ في أشعاره وقصائده أبياتاً متسافلة ومنحطة من الناحيةالدينية، والواقع أنّ مثل هذه القصائد كانت نتيجة ضغط المحيط الاجتماعي والثقافي، ولكن على أيّة حال كانت عاقبته إلى خير ورحل من الدنيا بعاقبة حسنة وخلّف وراءه قصائد وأشعاراً جيدة، وأجد في نفسي ارتباطاً وثيقاً بأشعاره».

السيرة المباركة، ص: 187

17 خلوص النيّة «1»

اشارة

إنّ خلوص النيّة من الخصال التي تقدّم الكلام عنها في البحوث السابقة تحت عنوان «الاستقامة والجدّية»، وقد وردت هذه الخصلة في القرآن الكريم على أساس أنّها أحد ركني التقدم والتكامل في جميع الامور وأداة مهمّة للعبور من الازمات والمآزق والوصول إلى «السُبُل» الإلهيّة: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» «1».

تتحدث هذه الآية الشريفة عن عنصرين من عناصر

الحركة في خط الإيمان والتكامل المعنوي وهما: (جاهدوا) واخلاص النيّة (فينا ...) وبهذين الركنين الأساسيين يتمكن الإنسان من تحصيل الامدادات الغيبية والهداية المعنوية في مسيرته نحو الكمال الإنساني، وقد تحدّثنا عن عنصر الإستقامة والجدّية للاستاذ في الفصول السابقة، وفي هذا الفصل نتحدّث عن مقام اخلاص النيّة لسماحته في ميدان التحصيل العلمي والتدريس والتأليف منذ بداية ورود الاستاذ إلى هذا الميدان، ومن جملة النقاط «2» التي يركز عليها أصحابه هي: هذه الحقيقة، ويقولون:

السيرة المباركة، ص: 189

«في نظري أنّ الامور التي ساعدت سماحته على الرقي والسير في مدارج الكمال المعنوي والعلمي ونيل الامداد الغيبي والمعونة الإلهيّة بل أهم النقاط في حياته، هو اخلاصه المعنوي وارتباطه الوثيق باللَّه تعالى».

رمز النجاح والموفّقيّة:

والملفت للنظر أنّ سماحة الاستاذ نفسه يتحدّث عن مسألة «اخلاص النيّة» بعنوان أنّها تجربة أساسية في حياته بحيث يقرأ قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» ويضعها نصب عينيه ليستمد منها ما يعينه في مسيرته الخصوصية والاجتماعية ويستوحي من مضمونها ما يرسم له معالم الطريق، ويقول:

«إنّ أحد الامور التي كانت بالنسبة لحياتي الخصوصية والاجتماعية مصدر إلهام، هذه العبارة القصيرة من الآيات القرآنية حيث تقول: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا» «1»

، فتقرر هذه الآية الشريفة أنّ رمز النجاح والموفقيّة في حركة الحياة يكمن في أمرين: الجهاد والسعي الدائب (جاهدوا) واخلاص النيّة (... فينا)، وأشعر بالرغبة دائماً في تجسيد هذه الآية في مقام العمل والممارسة فلا يحالفني التعب من السعي وبذل الجهد، وفي نفس الوقت أسعى لتكون نيّتي خالصة، لأنني أعتقد أنّ الهداية الإلهية تقوم على هذا الأساس، وأرى أنّ هذا المضمون يمثل تجربتي الأساسية في حياتي، وكذلك أعتقد أنّ مقولة أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً مصدر إلهام في حركة

حياتي حيث أعيشها بجميع وجودي، وهي قوله عليه السلام: «كلّ شي ء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه» «2»

فمسألة «الشهرة» تعتبر احدى المسائل التي سماعها

السيرة المباركة، ص: 190

من بعيد أعظم من عيانها، فعندما نقترب منها لا نرى فيها سوى مجموعة صغيرة من التعقيدات الذاتية، «المرجعية» لها رنين وابهة من بعيد، ولكنّها من حيث كونها مقاماً دنيوياً يحصل عليها الإنسان ليست كذلك حيث يراها هذا الإنسان بعد الابتلاء بها أنّها تمثّل دوامة من المشاكل والتعقيدات، إنّ العناوين الدنيوية براقّة من بعيد ولكنّها ليست كذلك عندما نقترب منها، بخلاف الآخرة والمسائل المعنوية التي تكون رؤيتها عياناً أعظم وأهم كثيراً من سماعها».

على أيّة حال فانّ البركات المعنوية لاخلاص النيّة وتجلّياتها المختلفة في حياة الإنسان والخصوصية الاجتماعية والسياسية لا تكاد تخفى على أي شخص.

ملكة الحلم والتسلط على النفس:

وأحد تجليّات هذه الحالة المعنوية تتمثل في ملكة «الحلم» ومداراة الناس والسيطرة على الأعصاب والنفس وحالة التواضع في تعامل الإنسان مع مختلف أفراد المجتمع «من الطبقات الدنيا إلى الطبقات العليا»، هذه الملكة الحميدة لسماحة الاستاذ يتحدّث عنها أصحابه في ذكرياتهم عن حالاته في الأزمنة البعيدة والقريبة فيقول أحدهم:

«لا أتذكر أنني رأيت سماحة الاستاذ منذ أن كنّا سوية تمتلكه حالة الغضب والحِدّة في تعامله مع الآخرين، بل كان تعامله يتسم بالصفاء والود والمحبّة دائماً، وأتذكر أنني كنت حاضراً في صباح أحد الأيّام حيث جاء إليه أحد الطلّاب يسأله بعض المسائل المشكلة في درس الكفاية، فكان سماحته السيرة المباركة، ص: 191

يخرج من غرفته ويجلس في باحة المدرسة ويبدأ بالإجابة عن أسئلة الطلّاب وحلّ مشكلاتهم العلمية بالترتيب، لأنّه يتمتع بفكر ثاقب ودقيق لا يحتاج معه لحلّ المسائل هذه إلى مراجعة مسبقة للكتاب، فكان حاضر الذهن في إجابته عن أسئلة

الطلّاب ... ولا أتذكر أنني رأيته يوماً وبسبب تأخر الطلّاب عن الحضور، أو تأخر أو تقدم وقت تناول طعام الغداء تمتلكه حالة الغضب والانفعال» «1».

ويقول آخر:

«لقد كان تعامله مع الآخرين يتسم بالمودة وخاصة مع طلّابه وأصحابه، فقد كان يمتلك حالة السكينة والهدوء النفسي، ولا أنسى أنني كنت نائماً في احدى الليالي فجاء أحد الطلّاب وطرق الباب، وأيقظه من نومه وسأله عن مسألة في كتابه الدراسي، فشعرت بالامتعاض واعترضت عليه على هذا العمل فقال لي الاستاذ: إنّ هذا طالب ولديه إشكال علمي، ومن واجبنا إرشاده ومساعدته، وكان المرحوم آية اللَّه المحقّق الداماد في أثناء الدرس عندما يكثر الطالب من الإشكال فإنّه يلمزه أحياناً مُعرِّضاً به، وفي أحد الأيّام أخذ أحد الطلّاب يكثر من السؤال والإشكال في بحث المحقق الداماد، فما كان من المرحوم المحقق وطبق عادته إلّاوتحدّث بكلمات أحسّ فيها ذلك الطالب بأنّه يُعرِّض به، فتألم من استاذه وجاء إليّ وقال: لقد شعرت بالإهانة من كلام الاستاذ حيث أزال حرمتي واحترامي أمام الطلّاب، فتحدّثت مع المحقق الداماد بذلك فقال لي: قل له أن يكون مثل (مكارم) فانني كلما تعرضت إليه بكلام جارح أو بكلام يتضمن استهزاءً فإنّه يتقبّله بسعة صدر وبشاشة في الوجه ولا يشعر بالامتعاض في نفسه، فهذه السيرة المباركة، ص: 192

شهادةمن المحقق الداماد على حسن خلق الاستاذ» «1».

ويتحدّث سماحة الاستاذ بدوره ويقول:

«من الامور التي نواجهها في حياتنا الاجتماعية (وخاصة في الظروف الحالية) كثرة حوائج الناس وتوقعاتهم من رجل الدين، ولست أشعر بذلك لوحدي بل إنّ كل من يستلم مقاماً معيناً فانّ سيل التوقعات وطلبات المحتاجين وأحياناً غير المحتاجين تتجه إليه، وهذه التوقعات من السعة بحيث أننا لا نتمكن من الاستجابة لها بالإمكانات المتواضعة التي

لدينا، فهنا لابدّ من العمل بالحديث النبوي المعروف: «إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم» «2»

فالكثير من الأحيان نتوجّه للمراجع والسائل ونقول له: «أرجو المعذرة فإنني لا أستطيع حل مشكلتك للسبب الفلاني وأنا أشعر بالخجل لذلك»، وأسعى لكسب ودّه ورضاه بأمثال هذه الكلمات، وأتذكر نصيحة من المرحوم آية اللَّه كلبايكانى في هذا الصدد حيث قال: «لا تحرموا المراجعين من قضاء حاجاتهم ولو بمقدار قليل» فأنا أسعى للعمل بهذه النصيحة في حياتي وأعمل على تجسيدها في الواقع والممارسة وقد رأيت ثمارها وثمار العمل بها أيضاً».

الالتزام بالاصول واجتناب الافراط والتفريط:

من تجليات الأخلاص لدى سماحة الاستاذ هو التزامه بالاصول والمبادى ء واجتناب الافراط والتفريط في جيمع الامور وعدم التضحية بالضوابط والمقررات لحساب المصالح السيرة المباركة، ص: 193

الشخصية، ومن الامور الشيّقة واللطيفة أنّ سماحة الاستاذ مع كل ما يتمتع به من ذوق وفن وعاطفة جيّاشة فإنّه لا يتخطى الحدود ولا يتجاوز الضوابط والاصول، وأحد المصاديق المهمّة والبارزة لهذه الحالة التزام سماحته في استظهاراته واستنباطاته التفسيرية والفقهية بالآيات والروايات الشريفة، وكانت لي عبرة كبيرة عندما جئت إليه لأول مرّة وعرضت عليه بعض التأويلات الذوقية والجميلة حسب الظاهر، إلّاأنّها خارجة عن إطار القواعد والقوالب الأدبية واللفظية وقال لي:

«إذا تقرر أن نقبل ونتحدّث بكل كلام برّاق وجميل وإن كان خلاف الظاهر، وتكون الألفاظ في أيدينا كالشمع نتصرف بها كما نشاء فانّ ذلك يؤدّي إلى الفوضى الأدبية ولا يثبت حجر على حجر في دائرة الاستظهار الأدبي».

اعتدال السليقة والسلامة الفكرية:

على هذا الأساس فانّ من خصائص وملاكات سماحة الاستاذ: اعتدال الذوق وسلامة الفكر واتقان الرأي، فبالنسبة إلى حسن ذوق الاستاذ فهو حديث الخاص والعام من الناس، هذه الخصلة التي يتحدّث عنها الاستاذ نفسه على مستوى كونها أحد المعايير في تشخيص الروحاني المفيد ورجل الدين المخلص فيقول:

«إنّ الروحاني الجيد ليس هو الذي يتمتع بالقابليات الجيدة والتقوى اللازمة فحسب، بل مضافاً إلى ذلك ينبغي أن يتمتع بحسن الذوق أيضاً، فلا يمكننا أن نتوقع خيراً من العالم والكبير الذي يتمتع بالورع والتقوى والعلم فقط ولكنّه معوج الذوق والسليقة».

العبرة بباطن العمل!

ومن تجليات الاخلاص الاخرى، النظر إلى باطن العمل وبالتالي فانّ الإنسان يتحرك وهو

السيرة المباركة، ص: 194

ينظر إلى البعيد ويخطط لمسيرة حياته لأهداف بعيدة، إنّ العجلة والتسرع من جهة، وعدم الاعتماد على النفس من جهة اخرى تعدّ من الآفات التي يبتلى بها البعض والتي تعتبر مانعة من الاستمرار في الكثير من الأعمال والنشاطات، بخلاف الاعتماد على النفس والابتعاد عن العجلة والتسرع فانّ الإنسان بإمكانه حينئذٍ من فتح القلاع وازالة الموانع مهما كانت قوية ومستحكمة في الظاهر، وعلى هذا الأساس نرى أنّ الاستاذ كثيراً ما يكرر في حديثه هذه العبارات: «من المحال أن نصل إلى طريق مسدود» أو «إنّ طول الزمان كفيل بالكشف عن الحقائق، وإن لم يتحقق ذلك في زماننا فسوف يتحقق بعد ذلك» أو «لا ينبغي الاصرار على رؤية نتيجة أعمالنا في زمان حياتنا، بل لا ينبغي الاصرار على الانتهاء من العمل الصالح في حياتنا لنرى ثمرته وآثاره الطيبة في حياتنا، فعلينا فتح الطريق وعلى الآخرين إدامته!».

بهذا النمط من التفكير نجد أنّ الاستاذ وبكامل الشهامة والأمل بدأ بإنجاز مشاريع علمية مهمّة من قبيل «التفسير الأمثل» و «نفحات القرآن» و «نفحات

شرح نهج البلاغة» وذلك لتربية الجيل المعاصر بدون الاحساس بالتعب والملل، لا سيّما عندما يلاحظ التحوّلات الروحية والفكرية في عملية تربية الناس (التي تعتبر الهدف الأصل لرجل الدين) فمن الضروري للمربي أن يأخذ بنظر الاعتبار هذه التحوّلات التدريجية في واقع الإنسان، ويأخد بنظر الاعتبار عامل الزمان في بناء شخصية الإنسان وفكره، فلا يسمح للتعب أن يتوغل إلى قلبه في عملية التبليغ الديني ولا يكون مثل بعض الناس الذين يردون الميدان بكامل الشوق والحرارة ولكنّهم بمجرّد أن يواجهوا بعض المشاكل والتعقيدات أو عدم الاهتمام فإنّهم يتركون الميدان ويصيبهم اليأس والقنوط من هداية الشباب والجيل المعاصر!.

إنّ التأليفات العديدة والمتنوعة لسماحة الاستاذ في المجالات الاجتماعية والأخلاقية، وطول المدّة في عمله في هداية الجيل الحاضر شاهد حي على هذا المدّعى.

بذل الجاه في سبيل اللَّه:

ومن تجليات اخلاص النيّة، بذل الجاه والمكانة الاجتماعية والسمعة في سبيل اللَّه، فربّما يتحدّث الشخص أو يكتب عن التعاليم الإسلامية والمدينة الفاضلة وقدرة الدين على إدارة المجتمع الإسلامي وينتقد النظريات المادية والوضعية والأفكار الشرقية والغربية، ولكنّه في مقام العمل غير مستعد لأن يضحي بشخصيته العلمية والحوزوية اطلاقاً ولا مستعد لأن يبذل قطرة واحدة من ماء وجهه ويتحمل أنواع الاتهامات وأشكال السخرية والاستهزاء في هذا السبيل، أو يكون مستعداً للخروج من قوقعته والتحرر من اطار الدروس العلمية الجامدة والمباحث الأكاديمية والفلسفية إلى أجواء العالم الخارجي وللارتباط المباشر مع جيل الشباب والتعرف على إشكالاتهم وأسئلتهم وما يدور في أذهانهم عن المدارس الفكرية والثقافات المعاصرة وتكون لديهم رؤية جامعة ومنسجمة لتعاليم الدين وقدرته على الإجابة عن علامات الاستفهام والإشكاليات التي يفرضها الواقع المعاصر.

كل هذه من أجل أنّ الإجابة عن الشبهات والمعضلات التي يعيشها الشباب المعاصر والتعرف على مقتضيات الزمان والمكان تقترن بصعوبات

كثيرة وتجعل الشخص في معرض التهمة من قبل المغرضين وقوى الانحراف، فهذه الحالة لا تتحقق في واقع الإنسان إلّا من كان ذا حظ وافر من الاخلاص والعشق للدين والدفاع عن حدود الشريعة السماوية، وهذه الحالة نجدها متجسدة لدى استاذنا من قديم الأيّام حيث لا يبخل بشي ء في هذا السبيل ولا يأبه ببذل سمعته ومكانته العلمية والحوزوية من أجل الدفاع عن الدين والمحافظة على عنصر الإيمان لدى الناس، وعلى هذا الأساس خرج سماحة الاستاذ من إطار الجو السائد في الحوزة وتجاوز مقولة الشؤونات الحوزوية واستطاع أن يكتب أكثر من مائة وعشرين كتاباً تهتم برفع إشكالات الشباب وتربية الجيل الصاعد.

إنّ ما تقدّم آنفاً كان يدور في ما يتعلق بشؤون الحوزة وفي إطار الأجواء المدرسية، وأمّا خارج دائرة الحوزة، أي في واقع المجتمع، فنرى أيضاً أنّ سماحة الاستاذ يعيش الشهامة

السيرة المباركة، ص: 196

والفتوة في روحه من خلال استعراض إجمالي لمسيرة التحوّلات والحوادث الواقعة قبل الثورة وبعدها وفي ما يتعلق ببعض الأشخاص أو التيارات الفكرية المنحرفة، إنّ هذه التيارات الفكرية وبسبب امتدادها في عواطف الناس والشباب والمثقفين خاصة، وأحياناً لدى بعض العامة من الناس يحتاج التصدي لها ومواجهتها إلى شي ء من المخاطرة بالوجاهة والسمعة الاجتماعية، وبالطبع فانّ مقتضى الاحتياط وسياسة المحافظة وحماية المكانة الاجتماعية أن يسكت الإنسان ويتخذ موقف الصمت والتقية وبدوافع من وساوس شيطانية: «لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ» «1»

وأوهام تلبس ثوب العقل أو الحكم الشرعي بلزوم المحافظة على حريم الشأنية والمكانة الاجتماعية، وبالتالي يؤدّي هذا الموقف المتماهي مع خط الانحراف إلى كتمان الحقيقة وعدم التصدي إلى البدع والانحرافات في الأجواء الثقافية والاجتماعية ويكون مصداق: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ، أُوْلَئِكَ

يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» «2».

إنّ وجدان الاستاذ اليقظ وروح الاخلاص فيه وعشقه للدفاع عن حريم الدين أدّى به إلى الاقدام في ميادين التبليغ والارشاد وهداية الجيل الحاضر ونجاته من براثن قوى الانحراف وأهل الضلال بالرغم من تعرضه لأنواع التهم والسخرية للمغرضين، إلّاأنّه لم يكن يبخل بأي شي ء من وجاهته واعتباره وشخصيته في سبيل تحكيم مواقف الدين وهداية المسترشدين.

ولا شك في أنّ هذه الجرأة والشهامة وعدم الخشية من افرازات الموقف يعتبر فضيلة وملكة ثانية لا ينالها إلّاذو حظ عظيم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ ... وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ» «3».

الدفاع المعقول عن الثورة والحكومة الإسلامية:

والآخر من تجلّيات الاخلاص للَّه هو دفاعه المعقول عن الثورة والحكومة الإسلامية وسماحة القائد.

ورغم أنّ حفظ النظام الإسلامي يعدّ من أهمّ الواجبات ويعدّ عنصر القيادة الدينية بمثابة عمود خيمة لهذا النظام، ولكن في نفس الوقت نرى أنّ البعض يرجحون الصمت وعدم الدفاع عن هذا الموضوع الحساس في أحرج اللحظات وأشدّ الازمات بحجّة أنّ ذلك مخالف للشأنية الحوزوية، في حين أنّ البعض الآخر يتحرك في خط الافراط ويدافع عن النظام الإسلامي بدون ظوابط وبدون مراعاة الحدود المنطقية المعقولة حيث تذكرنا هذه الحالة بما كان يصنعه البعض من التملّق الزائف لرموز النظام السابق.

إنّ الدفاع المعقول والحكيم والمقترن بالنصيحة والارشاد المشفق بحاجة إلى حالة من الاخلاص والانصاف والفتوة الدينية والاعتدال الروحي وأن يتحرك الإنسان في هذا السبيل بعيداً عن الملاحظات الاعتبارية والنفسانية.

وبحمد اللَّه نرى أنّ الاستاذ (دام ظلّه) يتمتع بهذه التوفيقات الربانية أيضاً، ويتحرك عادة في دفاعه عن النظام الإسلامي والمسؤولين في الحكومة الإسلامية من موقع العقل والمنطق ويقترن ذلك عادة بالتذكر المشفق والنصيحة المخلصة للمسؤولين بحيث لا يكاد يخفى هذا الأمر على

أحد من أصدقائه وطلّابه.

اجتناب التكلّف في الكتابة:

ومن تجلّيات الاخلاص لدى الاستاذ، ابتعاده عن استخدام العبارة المغلقة والجملات المبهمة وسائر التكلفات الوهمية والاعتبارية في ميدان الكتابة والتأليف، والأفضل أيضاً أن نستمع في هذا الموضوع إلى سماحة الاستاذ نفسه ليحدّثنا عنه:

«إذا أردنا احراز الموفقية في عالم التأليف والكتابة يجب علينا تعين السيرة المباركة، ص: 198

المخاطب الأصلي لهذا الكتاب أو المقالات، فمن هو المخاطب في هذا الكتاب؟ وكأنّ المخاطب أو المخاطبين عندما نكتب لهم كتاباً، نراهم ونكتب لهم ومن أجلهم، فلو أننا فقدنا المخاطبين حين الكتابة أو استبدلناهم بصورة عمدية بغيرهم فانّ تأثير ذلك سيكون سلبياً على محتوى الكتاب واسلوب الكتابة.

* وتجربتي الاخرى في هذا المجال هي أننا إذا أردنا أن نحصل على النجاح والموفقية في الكتابة فلابدّ من الاهتمام والالتفات العميق والدقيق إلى مشاكل الناس ومسائلهم الفكرية وآلامهم النفسية، فاذا تحركنا في هذا المسير وكانت كتاباتنا تعكس مشاكل المجتمع وآلام الناس فيها وتتضمن بيان الحلول التي تلامس هذه الأزمات وحل العقد الفكرية للأفراد فسوف يكتب لنا النجاج والموفقية وتكون كتاباتنا خالدة.

* وتجربتي الاخرى في هذه المرحلة أنني لم أكن أكتب شيئاً لا أعتقد به أو اواجه بعض التعقيدات الفكرية غير المحلولة، فالإنسان إذا اعتقد بشي ء فإنّه يدافع عنه بكل وجوده، والمسألة التي يجد لها الحل المقبول فإنّه سيتحرك لبيانها وبيان حلها ببساطة وتكون كتابته لها من موقع الاخلاص والعمق الفكري، وعلى هذا الأساس فانني اوصي الاخوة أنّهم ماداموا يواجهون مسألة غير منحلة لديهم وما لم يعتقدوا بقضية فلا ينبغي أن يتحركوا على مستوى كتابتها وتدوينها.

* وتجربتي الاخرى هي أنّ الكتّاب أحياناً يتورطون في مشكلة تطويل المقدمات وبالتالي سيقع القارى ء في دوامة ومتاهة في بحثه عن أصل المسألة، فيجب حذف

المقدّمات الزائدة والتفريعات الاضافية وغير الضرورية والاكتفاء في البداية بكلمة (بسم اللَّه الرحمن الرحيم) مع مقدّمة

السيرة المباركة، ص: 199

قصيرة تتعلق بالدوافع لكتابة هذا الكتاب ثم الدخول إلى أصل المطلب والموضوع مباشرة، بالطبع ربّما تكون هناك مقدّمات لازمة في بعض الموارد، ولكنّ الاهتمام بالمقدّمات والفروع يبعث على الملل والتعب في نفس القارى ء والكاتب.

* وتجربتي الاخرى أيضاً وبنظري مهمّة جدّاً هي أن نسعى للتحدّث مع الناس والمخاطبين بلغتهم ولسانهم، ونتجنب التفريعات الصناعية والملاحظات المغلقة والجملات المبهمة وغير المفهومة ممّا يؤدّي إلى خروج المكتوبة عن البساطة والسلاسة وبالتالي ستتعرض المكتوبة والكاتب إلى ضرر شديد، وطبعاً فالأذواق مختلفة، فالبعض يرى بأننا إذا كتبنا بأسلوب سهل فسوف يتصور الناس أنّ مستوى الكتاب أو الموضوع متدني، فالأفضل كتابة الموضوع باسلوب مغلق وعبارات معقّدة ليتصور القاري ء أنّ مستوى الموضوع عالٍ من الناحيةالعلمية.

وأتذكر جيداً أنّ شخصاً أوصى أحد الاخوة بأن يسعى أن يكون ثلث كلامه في المحاضرة غير مفهوم ليقال أنّ الشخص الفلاني يتحدّث بلغة علمية عميقة، وكذلك الحال في عالم الكتابة والتأليف، فالبعض يرون هذه الرؤية أيضاً، ولكنني أعتقد أننا يجب علينا تحطيم هذا الصنم، فهذا الاسلوب يعتبر نوعاً من عدم الاخلاص في المنهج، أو هو نوع من التضحية بالهدف من أجل بعض الملاحظات الشخصية والاعتبارات النفسانية، وطبعاً فانّ سهولة الكتابة وسلاسة المنطق ربّما تكون لها بعض اللوازم وتؤدّي إلى أن يقول البعض إنّ درس الاستاذ الفلاني بسيط وغير عميق، أو أنّ كتابه ليس بالمستوى المطلوب، ولكنّ التجربة أثبتت لي أنّ الناس المخلصين يستقبلون مثل هذا الاسلوب والمنهج في الكتابة والبيان استقبالًا جيداً.

السيرة المباركة، ص: 200

إنني لن أقبل طيلة عمري بهذه التوصية والنصيحة بأن أكتب باسلوب معقد وصعب أو ادرِّس باسلوب معقد،

وقد رأيت نتائج إيجابية وبركات كثيرة على اسلوبي السهل والسلس، وليقولوا ما يقولون، مضافاً إلى أنني أرى أنّ التعقيد في الاسلوب نوع من الشرك وعدم الاخلاص في النيّة بحيث أننا نضحي بمصلحة الناس في سبيل عناوين موهومة، فليس عيباً أن يكتب الشخص باسلوب سهل أو يتحدّث في الدرس بأسلوب مفهوم، بل هذا الأمر بحدّ ذاته يعتبر فناً كبيراً، ولو أنني كنت أملك ما يكفي من الوقت فانني سأقوم بإعادة كتابة الكتب الدراسية والعلمية المعقدة مثل (كفاية الاصول) بأسلوب عربي سهل بدون تغيير في المضمون والمحتوى لُاثبت أنّ أعقد المتون وأصعب البحوث العلمية يمكن بيانها بأسلوب سهل ويفهمها الطلّاب بيسر وسهولة، وعلى أيّة حال فاذا كانت السهولة والسلاسة في الكتابة أو التدريس عيباً فانني أعترف بهذا العيب والذنب، ولكنّ التجربة أثبتت لي أنّ الموفقية والنجاح يترتبان على هذا المنهج، وكذلك يترتب عليه الاخلاص والثواب الإلهي، ولهذا السبب اوصي الاخوان الأعزاء أن لا يتورطوا في هذه المسألة بالوسواس والنوازع النفسانية، فلو تمكّنوا من الكتابة أو التحدّث في المحاضرة بأسلوب سهل وميسور فعليهم أن يعتبروا ذلك من المواهب الإلهية والنعم الربانية».

التوكّل على اللَّه من منزلقات القلم:

لعلنا نتمكن من بيان أحد آثار وتجليات اخلاص النيّة لدى الاستاذ بحالة «التوكّل على اللَّه» وعدم الوقوع في مطاوي القلق من احتمال الخطأ والاشتباه على مستوى الكتابة والتأليف والتحرك في هذا المجال بشهامة وشجاعة، إنّ التوكلّ على اللَّه وتفويض الأمر إليه السيرة المباركة، ص: 201

يضمن للإنسان سلامته الفكرية وما ينعكس عن هذا الفكر السليم على مستوى الكتابة والتأليف، وبالتالي يصون فكره وقلمه من الوقوع في متاهات الخطأ والزيغ، واللطيف أن نستمع في هذا المجال إلى سماحة الاستاذ نفسه ليحدّثنا عن هذا الموضوع:

«إنني أعتقد بأن الكاتب مهما كان

مقتدراً وعالماً وماهراً في فن الكتابة فلابدّ أن يعيش حالة التوكّل على اللَّه تعالى وتفويض الأمر إليه، لأنّه قد يصدر منه بعض أشكال الخطأ غير القابل للجبران، وأنا بدوري أتحدّث عن هذه النعمة الإلهيّة الكبيرة من موقع قوله تعالى: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» «1»

أحياناً ربّما يحدث أن أكتب موضوعاً أو ابين ملاحظة بشكل خاطى ء وقد يكون ذلك الخطأ كبيراً، وأحياناً يصل الكتاب إلى المطبعة، ولكن تحدث بعض الامور بحيث ننتبه إلى ذلك الخطأ ونعيد الكتاب من المطبعة لإصلاحه، وأساساً فانّ تأليف كتاب مثل «التفسير الأمثل» في عشرين مجلداً لا يمكن أن يسلم من أخطاء كبيرة واشتباهات مهمّة من دون معونة إلهيّة وامداد غيبي. إننا نرى بعض الأشخاص كتبوا كتاباً صغيراً ومع ذلك يبتلون بأخطاء مهمّة، وعلى أيّة حال ما لم يكن الشخص كاتباً فإنّه ربّما لا يصدق بهذا الكلام بدقة، فأنا أعيش حالة التوكّل وقد فوضّت أمري إلى اللَّه تعالى وأعوذ به من الوقوع في هذه الأخطاء والمنزلقات في المستقبل أيضاً (إلهي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً)».

السرقة في الكتابة من الأخلاق الذميمة:

والآخر من تجلّيات الاخلاص لدى الاستاذ هو الابتعاد عن «السرقة في الكتابة» حيث نرى أنّ الاستاذ نفسه يشكو من ذلك أيضاً ويقول:

السيرة المباركة، ص: 202

«في احدى المرات وقع في يدي كتاب جيد وفيه مواضيع جميلة عن عبادة اللَّه، وبعد مطالعة الكتاب رأيت أنّ هذه القضايا والمواضيع معروفة لديّ وكأنّني كتبت في السابق مثل هذه الكلمات في كتاب «خالق العالم» ولكنني رأيت أنّ هذا الكتاب عبارة عن ترجمة لكتاب عربي، ثم انتبهت أنّ أحد الكتّاب العرب قام باقتباس مطالب كتابي ونقلها إلى العربية من دون ذكر الاسم وطبعه باسمه، ثم إنّ المترجم الفارسي جاء ونقل الكتاب من

العربية إلى الفارسية لأنّه وجده كتاباً جيداً وجاءت الترجمة شبيهاً لكتابنا الأصلي.

وهناك قضايا كثيرة من هذه بأشكال مختلفة تورث الأسف وتبقى ذكرياتها المؤلمة في الذهن، فصحيح أنّ الاقتباس من الكتب أمراً متداولًا ولكن الاقتباس له أيضاً حد، وصحيح أننا لا ينبغي أن نبدي رد الفعل لهذا العمل، ولكن ليس صحيحاً أن يقوم البعض بعمل بعيد عن الانصاف كهذا، وربّما يتصور البعض أنني اقتبسته وسرقته من ذلك الكتاب العربي في حين أنّ تاريخ طبع ذلك الكتاب متأخر عن طبع كتابنا بزمن كبير، ونأمل أن نصل في المستوى الأخلاقي إلى درجة أن لا نتوجه إلى هذه المسائل ويكون عالم الكتب والمؤلفات سليماً من هذه الأعمال الذميمة».

18 التعبّد والخشية من الحساب والميزان

اشارة

بالرغم من أنّ الاستاذ، أوّلًا: قام بتدريس الكثير من أبواب الفقه، وعمل على استنباط جميع المسائل الفقهية المختلفة بهذه الطريقة، وثانياً: كتب حاشية على جميع العروة الوثقى للسيّد اليزدي قدس سره، وبهذه الطريقة أيضاً ألقى نظرة اجتهادية على جميع الأبواب الفقهيّة المذكورة في العروة الوثقى (وبالنسبة إلى الأبواب الفقهية غير المذكورة في العروة الوثقى فانّ الاستاذ قام بكتابة حاشية على تحرير الوسيلة للإمام الراحل قدس سره أيضاً، وثالثاً: قام بتأليف رسالته العملية «كتاب الفتاوى» بقلمه السيّال وبيانه الشيّق لمدّة سنتين، ومن هذا الطريق أيضاً ألقى نظرة فاحصة على جميع أبواب الفقه في المرّة الثالثة ومستخرجاً بذلك آراءه وفتاواه الشخصية، والنتيجة هي أنّ الاستاذ قد قرأ الكثير من المسائل الفقهية ثلاث مرات على الأقل، ولكنّه مع ذلك يعيش حالة الحساسية الكبيرة والوسواس في كثير من الاستفاءات الشرعية حيث يتعامل معها بصبر كبير وتأنٍّ في عملية الاستنباط ويعيد نظره في الأدلة والمدارك من النصوص الشرعية ويوكل أمر الإجابة عن المسألة لزمان آخر.

وبديهي أنّ

مثل هذه الحساسية تحكي عن تعبّد خاص وتدين قوي، وتعتمد على حالة من التقوى والخوف من الحساب والكتاب والميزان، إنّ مثل هذه الملكة والخصوصية تتجلّى بأنحاء وأشكال مختلفة في حياة سماحة الاستاذ كسائر خصاله وخصوصيّاته الاخرى، ومن جملة ذلك «الوسواس في الامور المالية ومصرف بيت المال ومصرف السهمين سهم السادة وسهم الإمام والاهتمام بتجنب معالم الاسراف والقصور والتقصير في هذا الأمر».

الوسواس في الامور المالية والانفاق من بيت المال:

توضيح ذلك: أنّه بغض النظر عن حساسية الاستاذ بالنسبة إلى حقوق الناس ودفع الديون المترتبة (التي كثيراً ما يقول الاستاذ: «إنني أحياناً أقوم بدفع ديني إلى الشخص مرتين» وقد شوهد الاستاذ مراراً يعمل على تصفية حساباته لجميع الأشخاص الدائنين قبل كل سفر حتى الأسفار القصيرة) وبالنسبة إلى الانفاق من بيت المال فانّ الاستاذ يمتلك حساسية كبيرة إلى درجة الوسواس من أجل ضبط الامور وعدم الاهمال في هذا المورد.

إنّ هذه الخصلة من شأنها أن تثير اعتراض الكثيرين نظراً لما يرونه من أشكال الاسراف والبذل والعطاء بدون حساب لدى بعض المنتسبين للحوزة، ممّا أدّى إلى أن لا يبقى مع الاستاذ في مكتبه إلّامن كان ذا نيّة صادقة ويهدف من عمله إلى تقديم الخدمة للإمام صاحب الزمان عليه السلام (من باب أنّ الاستاذ يمثّل جندياً وفياً ومخلصاً للإمام صاحب الزمان عليه السلام) أو مراعاة لحقوق الاستاذ على طلّابه أو بدوافع علمية ومعنوية اخرى، والملفت للنظر أنّ حساسية الاستاذ في هذا المورد تجلّت أيضاً في حياته الخصوصية والاسرية، حيث يتحدّث سماحته عن ذلك بقوله:

«إنني أسعى مهما أمكن أن اقلل الاستفادة من بيت المال، ولهذا السبب فانني في حياتي السابقة كنت أعتمد في تأمين مواردي المالية على التبليغ في أيّام شهر محرم وصفر وشهر رمضان المبارك، والبعض منها استلمه

كحقوق ولكن بعد أن راجت تأليفاتي فإني أستلم (حق التأليف) من الناشرين لتأمين نفقات حياتي ومعيشتي، وأخيراً لم أكن أقبض حقوقاً شهرية من المراجع، وحتى في هذه المرحلة وهي مرحلة المرجعية فكذلك أعتمد في تأمين نفقات معيشتي من حق التأليف لكتبي ومؤلفاتي».

حفظ الغيب عن الآخرين:

ومن جملة تجلّيات الخصلة المذكورة للاستاذ (التعبّد والخشية من الحساب والميزان) «حفظ غيبة الآخرين عند سماحة الاستاذ»، فنظراً لشيوع الغيبة وعدم رعاية حرمة الآخرين كظاهرة اجتماعية في وسط المتدينين بحيث لا تخفى على أحد من الناس، ومع الأسف نجد أنّ بعض الأشخاص مع ما لهم من الفضل في مجالات مختلفة فانّهم لا يراعون حرمة الآخرين ولا يهتمون بمسألة حفظ غيبتهم لا سيّما إذا كان ذلك الشخص من المنافسين ومن رفاقهم في المراحل الدراسية، وأحياناً يتحركون على مستوى فضح الآخر عندما يحسون بأدنى خطر ويعملون على هتك حرمته من خلال تلفيق فتوى جواز غيبته، فمع ملاحظة كل هذه الامور، نرى أنّ سماحة الاستاذ مع كل ما تحمل من مواجهات سلبية لدى البعض ومواقفهم اللاأخلاقية بالنسبة للاستاذ، ومع ذلك بقي محتفظاً باحساساته ملتزماً بأوامر الشرع من موقع ضبط المشاعر والعواطف وتفضيل السكوت والصمت على رغم وجود أجواء مساعدة للجواب والردّ، فنرى سماحة الاستاذ يرجح المرور على مثل هذه الامور مرور الكرام، ولا شك أنّ مثل هذا الضبط والامساك يحتاج إلى ملكة التقوى ورسوخ ملكة العدالة التي لا تتسنى لأي شخص إلّامن يستيقظ أوقات السحر ويشد متاعه ليومه في ذلك الوقت، ويتحدّث بعض أصحابه»

عنه ويقول:

«إنّ ما اريد قوله هنا هو الحديث عن مسألة «العبادة والمناجاة» في حياة الاستاذ، فبالنسبة إلى عبادته (ولا أعلم أنّ الاستاذ يرضى بذلك أم لا) يقوم في الليل إلى العبادة فلا يترك صلاة

الليل بحال ولعل ذلك كان باعثاً على أن يقوم بعض الساكنين معه في الغرفة أيضاً، فكان سماحة الاستاذ يستيقظ آخر الليل وبعد أن ينتهي من نافلة الليل يصلي صلاة الصبح ثم يشتغل بالمطالعة إلى وقت تناول طعام الفطور ويذهب متوجهاً إلى حيث أعماله اليومية في الدرس والتدريس ...».

19 سعة الصدر في العمل الجماعي

إنّ كل عمل من أعمال الخير وكل فعل مهم وأساسي يصدر من الإنسان، كما يثير حالة التحسين والتمجيد لدى البعض، فإنّه يثير حالات سلبية لدى البعض الآخر بدوافع مختلفة (سواءً كانت الدوافع ذوقية أو نفسانية أو من باب الحسد أو الانتماء إلى بعض التيارات السياسية) فتدفع الشخص إلى ابداء المخالفة والاعتراض، ولكن نظراً لعامل الزمان وثبات الحق والعمل الصالح وبالتالي زهوق الباطل وسقوطه فانّ هذه الفئة من الناس تستيقظ من غفلتها تدريجياً وتنتبه إلى خطئها فتعود إلى خط الحق، وبديهي أنّ تحمّل مخالفاتهم في ذلك الزمان وقبولهم وعدم الانتقام منهم في الزمان اللاحق وبعد عودتهم إلى الحق، يحتاج إلى موهبة شرح الصدر الإلهيّة حيث نجد هذه الموهبة متجلّية بحمد اللَّه في استاذنا المعظم.

إنّ المورد المذكور أعلاه يمثل مورداً من ميادين ظهور وبروز ملكة شرح الصدر لسماحته، لأنّ هذه الخصوصية تتجلى في ميادين مختلفة اخرى، ومن جملتها تحمل العمل الجماعي.

توضيح ذلك، أنّ المجموعة هي «الوجود السيّال للفرد»، ولا يتكامل الأفراد إلّامن خلال الانخراط والانضمام في الجمع، ومن جهة اخرى فانّ العمل الجماعي وتطوره أكثر وأفضل بكثير من الأعمال الفردية، ولكن بما أنّ الإنسان معجب بأفكاره وآرائه واطروحاته الجديدة فانّ ذلك يورثه غالباً ضيق الصدر وعدم تحمل الأفكار والسلائق الاخرى وبالتالي لا يجد في نفسه رغبة للعمل الجماعي، ولكن الاستاذ يعدّ من رواد العمل السيرة المباركة، ص: 208

الجماعي ومن

رموز هذه الحالة من عملية الابداع الفكري، فعندما يتحدّث لنا سماحته عن تجربته في عالم التأليف والكتابة يقول:

«إنّ أول تجربة لي أثبتت بشكل قاطع أنّ العمل الجماعي في جميع الموارد ولا سيّما في النشاطات العلمية وخاصة في كتابة الكتب أفضل من العمل الفردي كثيراً، فالكتب التي كتبناها بصورة جماعية أي بالتشاور مع الآخرين كانت أسرع وأعمق وأكثر غزارة من جهة، ومن جهة اخرى كانت مورد استقبال الناس أكثر حتى لو كان الطرف الآخر في المشاورة والعمل الجماعي تلميذاً للشخص.

إنّ الحركة السريعة في تأليف التفسير الأمثل وتفسير نفحات القرآن مع ما يتضمنان من مقبولية ومطلوبية لدى الناس هي ثمرة العمل الجماعي، والكتب التي قمت بتأليفها في مجال العقائد وكنت قد سبق وأن درستها، ولذلك فهي أيضاً وليدة العمل الجماعي، وكذلك كتاب «أشباه الفلاسفة» بدوره اشترك فيه جمع من الفضلاء والعلماء، إذن فهو حصيلة العمل الجماعي، وعلى أيّة حال فانا اوصي جميع الاخوة من الكتّاب الأعزاء أن يتحركوا في عالم التأليف على مستوى ترجيح العمل الجمعي على الفردي لاسيّما في تصنيف وتأليف الكتب المهمّة».

وكذلك فانّ ملكة شرح الصدر تعني تحمّل نظرات المخالف وتجنب الاطلاق والجزمية والتمتع بخصلة الاغماض والصفح، لنستمع إلى الاستاذ يقول:

«كما أشرت آنفاً إلى أنني استنتجت من خلال تجربتي في الحياة أنّ بعض الامور يجب فيها ترجيح العمل الجماعي وقد أثمر هذا العمل في تطوير الحركة الفكرية والعلمية والتقليل من الخطأ والاشتباه، غاية الأمر أنّ العمل الجماعي له شروط حيث سعيت بالاستمداد من لطف اللَّه وكرمه السيرة المباركة، ص: 209

بالعمل وفقها ما أمكنني ذلك، واوصي الآخرين باحترام نظرات الغير في هذه الموارد وتحمل عقائد المخالفين وأن يعيش الشخص حالة سعة الصدر والاغماض، فلو تلاقحت هذه

الامور واقترنت مع بعضها فانّ ذلك يعني نجاح العمل الجماعي، ولكن إذا كنت افكر من موقع الجزمية والاطلاق في صحة أفكاري فقط وبطلان الرأي المخالف ولم أحترم آراء الآخرين وأفكارهم ولم أتحمل عقيدة المخالف ولم أملك حالة الاغماض فانّ هذا من شأنه عرقلة المسيرة قطعاً، واضيف هنا هذه الحقيقة، وهي أنّ للآخرين نقاطاً إيجابية ونقاطاً سلبية دائماً، ولا يوجد شخص يعيش النقاء من أي نقطة سلبية سوى المعصومين عليهم السلام، فكل إنسان لديه نقطة أو نقاط قوة، ويجب علينا دائماً التعامل مع الآخرين من موقع حصيلة النقاط وجمع المعدل لمعرفة حساب صفات الأشخاص، ولو كان المعدل جيداً لزم علينا تحمل الجهات السلبية ونقاط الضعف من ذلك الشخص!».

وعلى أيّة حال فانّ سعة الصدر وروحية العمل الجماعي لسماحة الاستاذ ترتبت عليها ثمرات وبركات كثيرة، وقد تقدم تفصيل الكلام عن كثير منها في فصل «حراسة المذهب».

20 الرياضة البدنية والنشاط الجسماني

اشارة

إنّ من آفات الحوزة العلمية ولا سيّما في الأزمان الماضية عدم الاهتمام بعنصر الصحة البدنية وعدم اعتنائهم بكيفية التغذية وسلامة البدن وما يتعلق بها من المسائل في حفظ الصحة حيث يتصور العوام من الناس أنّ ذلك يدلّ على زهد العالم وعدم اهتمامه بامور الدنيا وعدم العناية بالمظهر من اللباس والحذاء، إنّ العوام من الناس يرون اصفرار الوجه والذبول والكآبة والثياب الرثة وعدم النشاط في الكلام والمشي والجلوس والقيام والقعود وأمثالها من المظاهر الخادعة أنّها من معالم الزهد والتقوى والورع ويعتبرون ذلك كرامة للإنسان ومن الفضائل الأخلاقية، بخلاف ما إذا رأوا الشخص نشيطاً وفاعلًا ويتحرك بفاعلية ويمارس الرياضة البدنية وعندما يتكلّم فانّ كلماته تصدر بنبرات قوية ونافذة فانّهم يعتبرون ذلك من علامات الضعف والميل إلى الدنيا والتحرك خلافاً للشؤونات الحوزوية ومقتضيات اللباس لرجال

الدين.

ولم يكن الاستاذ (دام ظلّه) منذ بداية شبابه غافلًا عن هذه الآفة والظاهرة المرضية، ولكن اشتهر عنه المشي على الأقدام بين الطلوعين، والآن وبعد أن بلغ من العمر سبعين عاماً يخصص ساعة من الليل أو النهار للرياضة والمشي، وبالنسبة إلى مسائل الصحة وضوابطها فانّ الاستاذ على اطلاع واسع ومفيد بمسائل الطب القديم والجديد حيث يستشيره الكثير من الأصدقاء والمعارف والطلّاب، وأمّا في مقدار الغذاء وكيفيته واجتناب الافراط في الطعام وعدم تناول الأطعمة غير الضرورية فيعتبر الاستاذ قدوة للآخرين،

السيرة المباركة، ص: 212

ويتحدّث سماحته عن ذلك بقوله:

«إنني أتناول من الطعام بمقدار بحيث أنّه لو جاءنا ضيف ومددنا المائدة مرّة اخرى له وكانت المصلحة تقتضي أن اشاركه في الطعام فانّي لا أجد مشكلة في ذلك وأمتلك القدرة على تناول الطعام مرّة اخرى بالمقدار الأول!».

قلّة الطعام:

وكذلك يقول سماحته:

«كان لدينا طبيب للأسرة قال لي يوماً: إنني اريد أن الخص لك ما تعلمته من تجربتي الطبية في كلمتين، وهما: أنّ رمز سلامة الإنسان في أمرين: قلّة الطعام وفاعلية البدن، فقبلت منه هذه التوصية وكانت لي علاقة منذ بداية حياتي بمطالعة كتب التغذية السليمة والنشاطات الرياضية والبدنية، وبالجملة فانني استطعت التقليل من الطعام وشعرت براحة كبيرة من ذلك، وأتصور أنني أتناول خمسين بالمئة من الطعام الذي استطيع تناوله ...

وبذلك تزول عني معظم أشكال الكسل التي تنشأ من الأطعمة الإضافية التي لا يستطيع البدن جذبها والاستفادة منها، ولي معرفة واسعة بكتب النباتات الطبية وفوائد الأغذية النباتية، ونستفيد من بعضها لحل المشكلات التي يواجهها بعض المراجعين الذين يسألونني أسئلة كثيرة من هذا القبيل، فأفهم من مجموع هذه الأسئلة أنّه يجب على الإنسان الاهتمام بتناول الأغذية النباتية والفواكه بحيث أجعل منها قسماً مهماً من طعامي

ولا أكثر من تناول الأغذية الحيوانية والأطعمة الدسمة، وهذا يبعث على إيجاد الاستقرار والهدوء الروحي لدى الإنسان».

السيرة المباركة، ص: 213

هذا ما يمكن قوله بالنسبة إلى كمية الغذاء، وأمّا بالنسبة إلى مقدار الاستراحة وكيفيتها فيقول سماحة الاستاذ:

«بالنسبة إلى النوم والاستراحة فإنني وبسبب العمل الكثير والفعّالية المستمرة بمجرّد أن أتوجّه للسرير لغرض النوم فانّ النوم يملكني مباشرة وبعد لحظات، وأحياناً لا استطيع إكمال آية الكرسي التي أقرأها قبل النوم عادة».

الرياضة الصباحية:

وبالنسبة إلى الرياضة وأشكال الحركات البدنية يقول سماحته:

«إنني أشعر بالتزام قوي بقضية الرياضة البدنية والمشي على الأقدام، فلابدّ أن أقوم عند الصباح الباكر بالحركات البدنية الخاصة، وكما يوصي الأطباء أيضاً، وعندما أقوم بهذه الأعمال والحركات البدنية فانني بحمد اللَّه لا أشعر بعدها بوجع المفاصل والأقدام».

المشي:

وبالنسبة إلى المشي على الأقدام يحدّثنا سماحته عن ذلك ويقول:

«بالنسبة إلى فوائد المشي فانني رأيت مسائل وثمرات كثيرة ولذلك فانّي أجد نفسي مواظباً على الاستفادة من هذه الرياضة كل يوم في الأمكنة الخالية والهادئة من المدينة أو خارجها حيث أذهب إلى هناك وأتمشى كل يوم مقداراً من الوقت، وهذا العمل أصبح جزءً من حياتي بحيث أنني لو امتنعت منه فسأقع طريح الفراش، وقد ساعدني هذا العمل كثيراً في نشاطاتي العلمية بحيث إنني في الحال الحاضر وقد بلغت من العمر سبعين السيرة المباركة، ص: 214

عاماً (والمستقبل بيد اللَّه تعالى) لا أشعر بأي ألم جسماني في أي عضو من أعضاء بدني، وأحياناً امارس أعمالي وكأنني رجل في الأربعين من العمر حيث أتحرك في أداء مسؤولياتي وفي إطار المطالعة والكتابة وأمثال ذلك».

عنصر التشويق:

أجل، فانّ رعاية هذه الامور أدّت إلى أن يتمتع سماحة الاستاذ مع كثرة مشاغله وتعدد أعماله بجسم سالم ونشط بلطف اللَّه، والاستاذ نفسه يتحدّث عن ذلك بقوله:

«إنني في كل عام أعرض نفسي على الطبيب ليفحصني بصورة كلية ونتيجة هذه الفحوص بحمد اللَّه تكون نتائج الاختبارات اللاحقة أفضل من النتائج السابقة، وفي هذه المرة كتب لي أحد الأطباء رسالة تشويقية مفصلة، ومن جملة ما كتب فيها: إنّ التشخيص الطبي يفرض عليَّ القول بأنّ رمز سلامتكم تكمن في ثلاثة امور: 1- رعاية الصحة في قلة الغذاء وكيفيته، 2- الرياضة، 3- التسلط على الأعصاب واجتناب الحدّة والغضب، (وطبعاً المستقبل بيد اللَّه سبحانه)».

وكذلك فان مراعاة هذه الامور أدّى بحمد اللَّه أن يعيش الاستاذ بهذا السن بحالة من النشاط والفعّالية أكثر من طلّابه وأصحابه الشباب، حيث يحضر في جلسات التأليف والتحقيق دائماً في حين أنّ الكثير من العلماء في مثل هذا

العمر ومع الأسف الشديد نراهم مبتلون بشكل أو عدّة أشكال من المرض وهبوط الفاعلية والكسل، ونسأل اللَّه تعالى الصحة والعافية وطول العمر لجميع العلماء لخدمة الإسلام والمسلمين وكذلك بقاء الصحة والعافية لأستاذنا العزيز.

ومن العجيب أننا نرى مع كل هذه التأكيدات من العقل والشرع والتجربة أنّ البعض يذهبون إلى الحصر في التأثير في هذه المسائل بالقضاء والقدر، أو أنّهم سلكوا طريق السيرة المباركة، ص: 215

الافراط ولم يمتنعوا من أي طعام ولم يجتنبوا أي غذاء فيتناولون ما لذّ وطاب من الأطعمة والأغذية بدون حساب، أو سلكوا طريق التفريط واجتنبوا الطيبات التي خلقها اللَّه سبحانه للإنسان وامتنعوا من تناول النعم الإلهيّة المختلفة.

في حين أنّ رعاية الملاحظات المذكورة ربّما تزيد في عمر العالم الديني والرباني عشرين أو ثلاثين سنة، بمعنى أنّ مراعاة هذه الامور يمكنها أن تجعل العالم والفقيه يمارس نشاطه في الدفاع عن الدين والمذهب عشرين أو ثلاثين سنة اخرى، وفي مقابل ذلك فانّ عدم رعاية هذه الامور تؤدّي إلى أن لا ينتفع العالم الذي قضى عمره في السعي وبذل الجهد وأنفق طاقاته وقابلياته في هذا السبيل من هذا العمر الشريف، وفي حين يكون المتوقع أن تثمر هذه الشجرة الطيبة وتنفع الناس بوجودها المبارك فانّها يصيبها الذبول والضعف وتجف في النهاية وبدلًا من أن يستفيد الناس الحد الأكثر من مواهب هذا العالم الجليل فانّهم لا ينالون من بركاته إلّاالقليل جدّاً، وهذا الأمر ممّا يؤسف له.

ثلاثة تعاليم مهمّة لحفظ الصحة:

لهذا السبب نرى أنّ سماحة الاستاذ يتحدّث عن مجمل هذه الامور بقوله:

«إنني أُوصي جميع الطلّاب الأعزاء بثلاثة امور:

1- النشاط البدني من الواجبات.

2- أن لا ينسوا الاعتدال في الغذاء، الاهتمام بتناول الأغذية النباتية بحيث تشكل هذه الأغذية الأساس والعمدة في طعامهم ولا يتصوروا أنّ اللحوم

الحيوانية الدسمة والحلويات تقوي البدن، ولعل البعض يتألمون في البداية من قلّة الغذاء ولكنّهم تدريجياً يعتادون على ذلك ولا يطلبون المزيد، إنّ الكثير من الأشخاص الذين يكون وجودهم مليئاً بالبركة والخير للإسلام والمسلمين، ولكن مع الأسف عندما تنضج قابلياتهم وتتكامل السيرة المباركة، ص: 216

قواهم ويبرزون للناس ويُعرفون بالعلم والصلاح ويكون لهم أثر وصدا في الحوزات العلمية فإنّهم يصابون بالذبول وتخفت قواهم ولا يتمكن الناس من الاستفادة منهم استفادة جيدة، وهذا الأمر يمثّل خسارة كبيرة للعالم الإسلامي، وعلى هذا الأساس ينبغي السعي من باب مقدّمة الواجب في حفظ الصحة والسلامة للفرد ولا يهمل هذا المعنى أو يقصّر في اتخاذ ما ينبغي له.

3- كما ورد في الحديث الشريف أنّه يجب على الإنسان من أجل تجديد قواه أن يهتم بعامل الترفيه والاستراحة وأن يرى ذلك بعنوان العبادة ومقدّمة للواجب، وقد ذكر لي أحد الأطباء في شيراز: أنّك إذا أردت أن تعمل كثيراً في الليل والنهار فلا أمنعك من ذلك ولكن عليك أن تجعل في الاسبوع يوماً واحداً للاستراحة المطلقة وتفرغ من جميع أعمالك الفكرية ونشاطاتك العلمية، وأنا بدوري أسعى للعمل بتوصية هذا الطبيب، ولهذا السبب فانّي أمتنع من ملاقاة الناس في يوم الجمعة وأسعى حدّ الإمكان أن أخرج من المدينة إذا كان الجو مساعداً، لأنّ بقائي في البيت وكثرة الاتصالات الهاتفية يخلق مشكلة في استراحتي هذه، ولكن أحياناً أضطر إلى العمل خلاف هذه الوصية وأقوم بأداء بعض الأعمال التي اجبر على القيام بها في يوم الجمعة ولهذا لا يكون برنامجي كاملًا مع الأسف».

21 التمسّك بذيل ولاية أهل بيت عليهم السلام

اشارة

إنّ إعجاب الشخص بنبوغه العلمي واعتماده الكامل على قدراته الذاتية تعدّ من العوامل السلبية التي تصيب النوابغ والشخصيات العلمية الكبيرة بحيث تهدر قواهم وتبدد طاقاتهم

بدلًا من تقويتها وتنميتها.

بالنسبة إلى الاستاذ (دام ظلّه) فإنّه رغم الذكاء الحاد الذي بان على جبينه منذ الطفولة، وكما يحدّثنا رفاقه في مرحلة الطفولة عن ذكائه المفرط الذي يشع من عينيه، فإنّه مع ذلك كان يمتلك حالة من التعبّد الشرعي والتواضع الأخلاقي وكذلك الاحساس بالفقر والحقارة في مقابل الأنوار الطاهرة لأولياء اللَّه والأئمّة من أهل البيت عليهم السلام، وفي هذا المجال يتحدّث لنا أحد مرافقيه «1» في أيّام الدراسة الذي كان يشترك معه في الغرفة:

«إنّ سماحته كان منذ البداية مورد عناية صاحب الزمان وسائر الأئمّة عليهم السلام حيث يقول تعالى: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» «2»

إنّ هذه الآية رغم كونها في مورد الرسالة والنبوة إلّاأننا بتنقيح المناط، كما يقول الفقهاء، يمكن القول أنّ هذا الرجل العظيم مورد عناية إلهيّة خاصة».

الزهراء عليها السلام مظهر «يا من يقبل اليسير»:

وقد سبق أن تحدّثنا عن تعبّد الاستاذ وتهجّده وتواضعه الكبير في فصل «اخلاص النيّة»

السيرة المباركة، ص: 218

وهنا نقول أنّ سماحة الاستاذ يهتم كثيراً بمجالس أهل البيت عليهم السلام ويقيم هذه المجالس في كل سنة في ليلة عيد الغدير وليلة ولادة الإمام صاحب الزمان وليالي الفاطمية من كل عام.

وهذه المجالس معروفة عند أتباع أهل البيت عليهم السلام، مضافاً إلى ذلك تمّ اصدار كراسات في حياة وفضائل الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام، وهي في الحقيقة مجموعة محاضرات وبحوث كان الاستاذ يلقيها على الطلّاب في ليالي الفاطمية من كل عام، وقد صدر كتاب بعنوان «الزهراء عليها السلام أفضل نساء العالمين»، ويتحدّث لنا سماحة الاستاذ عن قصته في مورد مقولته بأنّ فاطمة الزهراء عليها السلام مظهر «يا من يقبل اليسير» ويقول:

«إنّ هيئة محبّي فاطمة الزهراء عليها السلام في مشهد كانوا يقيمون احتفالًا في كل عام بمناسبة ولادة فاطمة

الزهراء عليها السلام في عشرين جمادي الثانية، وأحد ابتكاراتهم في هذا المجال أنّهم كانوا يقدّمون لكل شخص من الحضار علبة من الحلويات مع كتاب جديد حول عظمة الزهراء عليها السلام وفضائلها، وبذلك يضفون على الحفل البهيج مزيداً من الثقافة الدينية، وقد طلبوا مني تأليف كتاب مختصر في هذا المجال، وقد تمّ طبع هذا الكتاب مع مضامين جديدة وتمّ نشره في ذلك المجلس في مشهد قبل أن ينتشر في مناطق اخرى، وفجأة وصلت لي رسالة من شخص جليل في اصفهان يقول فيها ما مضمونه:

إنّني لا أعلم ماذا صنعت حتى تكون مورد اهتمام وتوجه فاطمة الزهراء عليها السلام، لأنني رأيتك في عالم الرؤيا في مجلس حافل ومجلل وقد حضر فيه سيد جليل القدر (والظاهر أنّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله) وقال لي: إنّ الشيخ مكارم قدّم خدمة لفاطمة الزهراء، فاستيقظت من نومي ولم أعلم شيئاً عن تأويل الرؤية، واريد أن تحدّثني بالمسألة؟ فتحدّثت بهذه الرؤية لأحد علماء مشهد وقلت له: إنني لم اقدّم شيئاً سوى القليل جدّاً، فقال: ألم تعلم أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام مظهر الاسم المقدّس «يا من يقبل اليسير»؟!».

السيرة المباركة، ص: 219

إنّ الكثير من الأشخاص الذين يتحركون في حياتهم من موقع السعي الجاد وبذل الجهد اللازم إلّاأنّهم لا يمتلكون الذكاء المناسب، والكثير من الأشخاص يمتلكون القابلية والذكاء والنبوغ، إلّاأنّهم لا يتحركون على مستوى الجدية في العمل واستثمار هذه المواهب والطاقات على مستوى العمل والممارسة، وهناك بعض الأشخاص الذين يتمتعون بالنبوغ والقابليات الذاتية مضافاً إلى النشاط والجدية والاستقامة في العمل ولكنّهم يغفلون عن عنصر الامدادات الغيبية والاستفادة من أنوار الولاية، ولكنّ سماحة الاستاذ قد جمع بشكل كامل بين هذه النعم الثلاث، وقد تقدّم

الكلام عن النبوغ والقابلية الذاتية في فصل «النبوغ والموهبة الذاتية»، أمّا الحديث عن الاستقامة والجدية والعمل فقد تقدّم الكلام عنه في ما سبق تحت عنوان «دوام العمل» و «الجدية والاستقامة»، وفي هذا الصدد تحدّث الاستاذ يوماً وقال: «يقال أنّه لا يمكن حمل بطيختين بيد واحدة في حين أنني أحمل عدّة بطيخات بيد واحدة».

وأمّا الاستفادة من أنوار الولاية فالبرغم من أنّ الجميع يعلم أنّ الاشتغالات العلمية والنشاطات الفكرية تستغرق وقتاً كبيراً وتورث صاحبها الغفلة عن الامور الاخرى والالتفات إلى ما حوله وما يحيط به، إلّاأنّ الاستاذ مع كثرة اشتغالاته لم يغفل اطلاقاً عن التشرف بحرم السيدة المعصومة عليها السلام وكذلك الذهاب إلى مسجد جمكران في طول المدّة.

الدفاع عن المذهب في مجلس الخبراء:

من المعلوم أنّ التوسل والاستمداد بالأنوار الإلهيّة هذه لها دور فاعل في زيادة التوفيق الرباني للاستاذ على مستوى التأليف وكتابة الكتب، ومن المعلوم أيضاً أنّ دفاع الاستاذ عن مذهب التشيع ومدرسة أهل البيت عليهم السلام لأكثر من نصف قرن له دور مهم وأساسي في نيل العنايات الخاصة لتلك الأنوار الإلهيّة الطاهرة، وما يجدر ذكره عن دفاع الاستاذ عن مدرسة

السيرة المباركة، ص: 220

أهل البيت عليهم السلام، مضافاً إلى ما تقدّم تحت عنوان «حراسة الدين»، هو أنّ السعي الجاد والمستمر لسماحته في مجلس الخبراء القانون الأساسي فيما يتعلق بمسألتين: تشريع أصل أنّ المذهب الشيعي الاثني عشري بعنوان المذهب الرسمي للدولة وطرد الفرقة الضالة البهائية من كونهم أقلّية مذهبية تعيش في ايران، ويتحدّث الاستاذ نفسه عن هذه القضية بقوله:

«كنت في مجلس الخبراء في قسم المذاهب واللغات، وطبعاً كان في مجموعتنا أحد الاخوة من أهل السنة وهو المولوي عبدالعزيز الذي كان رجلًا فاضلًا وعالماً وكان بإمكاننا التفاهم معه كثيراً، مضافاً إلى أحد علماء

الزردشتيين وأحد القساوسة النصارى وأحد كبار اليهود أيضاً، ومن هذه الجهة فمجموعتنا متميزة بهذه التشكيلة عن سائر المجاميع في المجلس المذكور، فلابدّ من عقد جلسات مشتركة مع رموز ورؤساء المذاهب والأديان في هذا البلد لنتحدّث عن القضايا المتعلقة بالأديان ومكانتها في القانون الأساسي لسن قوانين لازمة في هذا الشأن ودراستها في الجلسة العامة، وقد بذلنا جهوداً كبيرة حتى استطعنا ادخال الموارد المتعلقة بالمذهب الرسمي في القانون الأساسي بأدوات منطقية وبأساليب قانونية على أساس أنّ المذهب الرسمي في هذا البلد هو المذهب الشيعي الإثنا عشري، في نفس الوقت تكون الأقليات المذهبية في الجمهورية الإسلامية محترمة وتتمتع بحقوق المواطنة ولا تواجه أيّة مشكلة في حركة الحياة في داخل المجتمع الإسلامي، والعجيب أنّ الفرقة البهائية الضالة تحركت في تلك الأيّام بفاعلية شديدة وبرنامج منظم وادعاءات كبيرة من خلال أرقام كاذبة عن عدد نفوسهم في ايران وأنّ عدد أفراد هذه الفرقة أكثر من سائر الفرق الدينية الاخرى، وقاموا باتصالات واسعة من الخارج والداخل وبإصرار

السيرة المباركة، ص: 221

على السماح لهم بحيازة كرسي خاص في المجلس لتكون فرقة رسمية ومشروعة، ولكنني كنت على اطلاع تام بتاريخ هذه الفرقة، ولهذا كنت منذ البداية وعندما كان لي من العمر خمسة عشر أو ستة عشر عاماً في شيراز، أشترك في جلساتهم أحياناً وأقوم بمناقشتهم والتحاور معهم في هذا الشأن، وفي مدينة قم كنّا نعقد جلسات عديدة للتحقيق في عقائد وسلوكيات هذه الفرقة وأنّ أفرادها مرتبطون بالاستعمار قطعاً، فقد ولدت هذه الفرقة في أحضان الروس وتم ترشيدها في أحضان الانجليز ثم جعلوا أنفسهم مطية للامريكان، والآن في الوقت الحاضر نجد الكونجرس الأمريكي يدافع عنهم بشدّة ممّا يدلّ على العلاقة الوثيقة بين رموز هذه الفرقة والاستكبار

العالمي، فكنت على اطلاع كامل بهذه الامور، وكان في هذه المجموعة بعض الاخوة الأعزاء من رجال الدين مطّلعين كذلك على حال هذه الفرقة، ولذلك وقفنا موقفاً متشدداً أمام طلب هذه الفرقة، وأدّى إصرارهم الشديد إلى أن نضع المادة الخاصة بالمذاهب في القانون الأساسي بشكل يصطلح عليه في الحوزة «ينفي ما عداه»، بمعنى أنّ القانون يمنح حق المشروعية لليهود والنصارى والزرادشتين فقط على أساس أنّ هذه الأديان كانت مورد حماية القانون منذ قديم الزمان وعرفوا في كتبنا الفقهية بعنوان «أهل الكتاب» ويطلق عليهم الفقهاء أهل الذمة ولا يشمل هذا العنوان فرقة أو مذهباً آخر، وقد تمّ تدوين القانون الأساسي للجمهورية الإسلامية بشكل دقيق بحيث يطرد المذاهب المجعولة من قبل الاستعمار».

وعلى أيّة حال فانّ جميع هذه التوفيقات نشأت من خلال توسل وتمسك سماحة الاستاذ بذيل ولاية أهل البيت عليهم السلام التي كان يعيشها في أعماق وجوده طيلة حياته، هذا الارتباط الشديد والعلاقة الوثيقة أدّت إلى تمهيد الأرضية اللازمة لجذب أنوار الولاية أكثر

السيرة المباركة، ص: 222

فأكثر، وطبقاً لما تقدّم تحت عنوان «التشويق وجذب اعتماد الاساتيذ» أنّ سماحة الاستاذ استفاد كثيراً من الأنوار الملكوتية والقدسية لأهل بيت العصمة عليهم السلام في حدود قابلياته وظرفيته بحيث خوطب من قبل الإمام المنتظر عليه السلام:

«ناصر! سوف تنتفع ببركاتنا»

السيرة المباركة، ص: 223

22 الهمّة العالية والأمل بالمستقبل

إنّ سماحة الاستاذ يمثّل تجسيداً للعدل على أرض الواقع، ويتمتع بهمة عالية وأمل بالمستقبل فلا يقف في طريق تحقيق أهدافه وفتح قمم الموفقيات أي مانع أو حاجز يمنعه من الوصول لأهدافه، بل ينطلق في عمله، عندما يشخص أنّ هذا العمل مفيد للإسلام والمسلمين، بنشاط وحيوية منقطعة النظير، والشاهد على ذلك الأعمال الكبيرة والنشاطات المتنوعة التي أنجزها سماحته أو في حال اتمامها

والانتهاء منها.

بعد الانتهاء من تأليف دورة كاملة في التفسير الذي استغرق طوال خمسة عشر سنة، شرع سماحة الاستاذ مباشرة بتأليف التفسير الموضوعي للقرآن بشكل جذّاب وشيق ولحد الآن صدرت منه دورة كاملة بعشرة مجلدات من المعارف القرآنية، وصدر كذلك ثلاثة أجزاء اخرى في الأخلاق، هي الجزء الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، في حين أنّ الاستاذ عازم على الشروع بتأليف شرح وتفسير لنهج البلاغة بمساعدة مجموعة من الفضلاء والطلّاب وقد صدرت بحمد اللَّه منه ثلاثة أجزاء يتضمن شرحاً مفصلًا وتفسيراً شيّقاً بمضامين عميقة وسلسة، وكان المجموع تسعين خطبة من نهج البلاغة، وهذا المشروع لازال فاعلًا ومستمراً.

إنّ علو همة الاستاذ وقوة عزيمته وإرادته في فتح القمم الشاهقة للمعارف ونشر العلوم الإسلامية واحياء الحوزات العلمية إنّما يتضح ويتجلى بصورة جيدة عندما نستمع في هذا الفصل إلى حديث الاستاذ الملى ء بالأمل، فنعيش الأمل والافق الواسع في حركتنا الفكرية والروحية، يقول سماحته:

السيرة المباركة، ص: 224

«إنّ أملي الوحيد أن أتحرك فيما تبقى من عمري من أجل المعارف الإلهيّة، وأصل إلى مرتبة من العلم بحيث يشع نور اليقين على قلبي بلطف اللَّه تعالى وأعيش الطمأنينة والسكينة الروحية في ظل الشهود القلبي ويمتلأ وجداني من الإيمان واليقين والعشق للَّه بحيث يتطهر من كل شائبة ومن كل ما سوى اللَّه، هذا هو أول وأكبر أمل في حياتي والذي سألت اللَّه أن يرزقني ويمنحني هذه الامنية ما دمت في حال الحياة بحيث أصل إلى مرتبة أن لا أرى عندها سبباً آخر في هذه المواهب والنعم غيره.

والأمل الآخر الذي أعيشه في حياتي أن أتمكن بمساعدة الاخوة الأعزاء في الحوزة العلمية من إيجاد تحوّل واسع وعميق في الحوزة، وبذلك احقق مضمون الحديث الشريف الوارد عن الإمام الصادق

عليه السلام: «ستخلو كوفة من المؤمنين ويأزر عنها العلم كما تأزر الحيّة في جحرها، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم، وتصير معدناً للعلم والفضل حتّى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدّين، حتّى المخدّرات في الحجال، وذلك عند قرب ظهور قائمنا ... فيفيض العلم منه إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب» «1».

وهكذا أجد أنّ أملي القلبي أن أُجسّد هذا المضمون على أرض الواقع واحقق النبوءة المهمّة لأئمّة المعصومين عليهم السلام.

وأملي الآخر أن أتمكن من استثمار هذه الفرصة المناسبة جدّاً في أجواء عالمنا المعاصر لايصال صوت الإسلام إلى جميع أقطار المعمورة وبلغات مختلفة ومن خلال المبلّغين الجيدين، وقد كانت الحوزة العلمية مركز التحقيق في فقه آل محمد عليهم السلام ومعدن علوم التفسير والعقائد والحديث، وعلينا استثمار القابليات والطاقات المبدعة والممتازة في الحوزة العلمية من السيرة المباركة، ص: 225

داخل ايران وخارجها ونعمل على تربيتهم وإيجاد تحؤّل كبير في العالم الإسلامي.

والأمل الآخر هو أن نتمكن، من أجل حفظ ثقافتنا الإسلامية في مقابل الهجمة الثقافية الغربية المخربة، من التحرك على مستوى إيجاد مواقف مؤثرة ونشاطات مثمرة وخاصة على مستوى الشباب لنحفظهم من هذه الهجمة الثقافية الشرسة ونتمكن من إيجاد الوحدة بين الحوزة والجامعات لأنّ خطر الغزو الثفافي في الجامعات أكثر من أي مكان آخر، ونتمكن بالتالي من تجسيد ونشر الأخلاق الإسلامية في مفاصل المجتمع بهدف حل الكثير من مشاكل الناس في مجال الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والروابط الإُسريّة.

وأملي الآخر أننا نعيش في الحال الحاضر ونرى أنّ الناس وخاصة المستضعفين منهم يواجهون مشكلات عديدة، فعلى رجال الدين الاقدام لحلّ هذه المشاكل مهما أمكنهم ذلك أو المساعدة في حلّها فانّ لذلك أثراً إيجابياً كثيراً على التزامهم الديني وتوجههم القلبي نحو الدين،

وحينئذٍ يكون الإسلام هو المنقذ في امور دينهم ودنياهم.

وأملي الأخير هو أنني أتمكن فيما بقي من عمري أن أقوم بتأليف كتب علمية أكثر وأعمق وأشمل من السابق، ولعل ذلك يكون وسيلتي للنجاة غداً حيث يقرأوها الناس بعد ذلك ويترحمون عليَّ ويطلبون لي من اللَّه المغفرة والرحمة، وأنا على يقين أنّ ما عملته لحدّ الآن لم يكن شيئاً يستحق الذكر، وليتني استطعت أن اقدم للإسلام شيئاً مهماً، وعلى أيّة حال فإنّ أملنا كبير باللَّه تعالى وبلطفه وليس لنا أمل ورجاء إلّابلطف اللَّه وعنايته».

السيرة المباركة، ص: 226

23 الروح العالية التي لا تعرف التعب

في مجال تقديم الخدمات العلمية والاجتماعية

اشارة

عندما يؤمن العبد السالك بعالم الغيب وإشرافه على عالم الشهادة ويعيش في مسيرة عالم الملكوت فانّ ذلك يؤدّي إلى علو الهمّة وتنشيط القوّة وترسيخ العزم لدى السالك بحيث يرى الأعمال الكبيرة صغيرة وتافهة وتكون التعقيدات والمشكلات التي يفرضها الواقع أمامه سهلة وميسورة، لأنّه يشعر بذلك الإيمان وذلك الاحساس الباطني أنّ اللَّه معه في كل عمل يعمله ويقول: المهم أن أعقد العزم وأشرع بالعمل وأنوي أن أعمل صالحاً ليصطبغ العمل بصبغة إلهيّة فلا يكون أبتراً وناقصاً، بل يصل إلى نهايته وغايته.

إذن فلو مدّ اللَّه في عمرنا ولم يحن أجلنا فعلينا الاستمرار بالعمل والاستقامة في أداء واجبنا، وإن لم يحالفنا الحظ في اتمامه وحان أجلنا في أثناء ذلك، فبما أنّ هذا العمل، عمل «صالح» وملكوتي وإلهي، فانّ المتبني له هو اللَّه تعالى حيث يتمكن هذا العمل من رفع رصيدنا المعنوي في أجواء عالم الملكوت والقرب المعنوي الإلهي.

وليس المهم أيضاً بأي اسم سيكتب هذا العمل في النهاية لدى أهل الظاهر وأصحاب الدنيا، بل المهم أن تكون لنا حصة في السماء وعند عالم القدس والملكوت، ولكن بما أنّ البداية لابدّ أن تكون من قِبلنا

ولابدّ من النيّة وقصد القربة في الفعل وكذلك التحرك في خط المداومة والاستقامة على هذا العمل لذلك يتطلب منّا العمل الخالص أن يكون الفعل «مجهولًا في الأرض معروفاً في السماء».

السيرة المباركة، ص: 227

وبالرغم من المثل المعروف وفي النظرة الظاهرية أنّ الشخص الذي يبدأ بعمل فعليه إتمامه، ولكن في نظرة اخرى سماوية وملكوتية ومورد قبول العقل والشرع أيضاً «من سنّ سنة حسنة ...» فلابدّ من القول إنّ الشخص الذي يفعل الفعل هو الذي بدأ به.

لأنّ تصوير اطروحة كلية وجامعة لفعل من الأفعال يمثل أصعب مرحلة وأهم نقطة في ذلك المشروع، لأنّ التخطيط والتدبير لفعل معين في بداية الأمر يفضي إلى تجلي هذه الخطة والفكرة في ما بعد على مستوى نتائج العمل، والكثير من المشاريع والاطروحات الفكرية المهمّة المعقدة تكون صعوبتها بالذات مانعة من الإقدام على ترجمتها وتجسيدها في الواقع العملي لأغلب الأطراف، ولذلك نرى أنّ الكثير من الأعمال بقيت ناقصة لهذا السبب، أو لم يجد صاحبها الجرأة على الشروع بها على مستوى العمل، إنّ الشروع في عمل معين مضافاً إلى حاجته للفكر والتدبير والخلاقية والتخطيط لصياغة رؤية شاملة عنه، يحتاج أيضاً إلى إرادة قوية وعزم نافذ واعتماد على النفس والتوكل على الذات المقدّسة.

والواقع أنّ هذه الرؤية الدقيقة تنقل الإنسان من أجواء الضعف والمادة وأنّه مجرّد بدن متكّون من لحم وعظم ويتعرض إلى أنواع الأمراض وأشكال الوهن والضرر إلى موجود يوازي بقدرته الجبال ويعادل شخص واحد مائة ألف شخص، فاذا كان يشتغل في دائرة التأليف والتحقيق فإنّه ينتج من الكتب والمؤلّفات بحيث إنّ الآخرين لا يجدون فرصة لعد صفحات هذه الكتب والتصانيف، وإذا كان ينطلق في عمله في إطار تقديم خدمات علمية وثقافية وفنيّة للناس، فإنّه سيمتلك

السعي الجاد والاستقامة في العمل والصبر أمام تحديات الظروف الصعبة بحيث إنّ الآخرين لا يمكنهم تصور ذلك في مخيلتهم وسيندهشون لدى ملاحظة دقائق أعماله ودراسة تفاصيل نشاطاته.

إنّ مثل هؤلاء الأشخاص المجاهدين متصلون بالبحر ويستندون على الجبل فلا يشعرون بأنّ الطريق موصدة أمامهم ولا يحسون نقصاً في هممهم وقابلياتهم، وأساساً فإنّه لا يوجد في قاموسهم عبارات «لا نملك الميزانية اللازمة لهذا العمل» و «لعل هذا العمل لا يصل السيرة المباركة، ص: 228

إلى النهاية» و «لعل عمرنا لا يكفي لاتمام هذا المشروع» وأمثال ذلك، اذن فلو تقدم هذا الشخص في ميدان التأليف فإنّه قد يشرع بتأليف كتاب وهو في سن السبعين من العمر حيث من البعيد حسب التحليل الظاهري والمادي أنّ قواه الفكرية والنفسية ستواصل هذا العمل إلى النهاية، وإن عقد العزم على الشروع بعمل معين في مجالات اخرى من الخدمات الثقافية والفكرية وبيد عزلاء وامكانات محدودة ظاهراً، أو أمر بالإقدام على عمل واطروحة معينة قد يعتقد البعض بأنّ الانتهاء منها وإتمامها أقرب إلى المزاح.

ونحن بدورنا نشكر اللَّه تعالى على أنّ استاذنا من جملة الأشخاص الذين يتمتعون بهذه الرؤية النورانية، بمعنى أنّه يمثّل فرضية «القطرة المتصلة بالبحر» حيث يرى امكاناته لا متناهية، وبما أنّه متعطش للخدمة ولاحياء الدين والمذهب فإنّه لا يجد في نفسه شعوراً بالتعب من النشاطات العلمية والثقافية ولا يشعر بالارتواء منها.

ومن أجل إثبات هذا المدّعى يكفي أن نشير أولًا: إلى إقدامه الشجاع في مجال شرح وتفسير نهج البلاعة الذي بدأه في السبعين من العمر مع ما نعلمه من سعة هذا المشروع وطول مدّته «وبحمد اللَّه تمّ إصدار ثلاثة مجلدات منه تتضمن شرح الخطبة الاولى إلى الخطبة التسعين» حيث يستغرق هذا العمل بحساب بسيط خمسة

عشر عاماً على الأقل للانتهاء منه.

وثانياً: بملاحظة فهرست التأليفات والتصنيفات التي كتبها سماحته حيث يتجاوز عددها مائة وثلاثين كتاباً، ولو ألقينا نظرة إلى فهرست سائر الخدمات الثقافية لسماحته «من قبيل بناء مسجد ومدرسة وأمثال ذلك» لرأينا أنّها على نحوين:

أ) الآثار العلمية.

ب) الآثار الاجتماعية

السيرة المباركة، ص: 229

أ) الآثار العلمية

وتشمل 131 كتاباً في 70 عنواناً وفي ثمانية أبواب لقد تمّ نشر أكثر من مائة وثلاثين كتاباً في سبعين عنواناً إلى هذا الزمان الذي أكتب فيه هذه السطور، وقد تمّ إعادة طبع بعضها أربعين مرّة وتمّ كذلك ترجمة الكثير منها إلى عدّة لغات عالمية.

وفي نظرة إجمالية على هذه الكتب والمؤلّفات يمكننا إدراجها في ثمانية أبواب:

الباب الأول: الكتب الفقهية والاصولية

هذا الباب يتضمن الكتب والمؤلفات التالية:

1- كتاب البيع (أنوار الفقاهة) (في طبعة جديدة مع تصحيح وتنقّيح)

2- كتاب المكاسب المحرّمه (أنوار الفقاهة) (بتنقيح جديد)

3- كتاب الحدود والتّعزيرات، المجلد الأوّل (أنوار الفقاهة) (بتنقيح جديد)

4- كتاب الخمس والانفال (أنوار الفقاهة)

وفي هذه الكتب، التي تمّ تدوينها بقلم سماحة الاستاذ (دام ظلّه)، نرى أنّه مضافاً إلى استعراض المسائل الفقهية المتداولة، فهناك مسائل مستحدثة كثيرة، وبعض المسائل المهمّة مثل مسألة «ولاية الفقيه» حيث تمّ استعراضها بالتفصيل وبشكل مستدل.

5- كتاب النكاح (بتنقيح جديد)

وهذا الكتاب يمثّل مجموعة بحوث الخارج لسماحة الاستاذ في مسائل أبواب النكاح كتبه سماحته بقلمه باللغة العربية، وقد تمّ طبع ونشر المجلد الأول منه.

السيرة المباركة، ص: 230

تقريرات دروس الخارج: وهي عبارة عن دروسه اليومية باللغة الفارسية تمّ تقريرها بواسطة طالبين جليلين من فضلاء الحوزة: الشيخ مسعود مكارم، والشيخ محمد رضا الحامدي، وهي تنشر على التوالي.

6- القواعد الفقهيّه (في مجلدين) (بتنقيح جديد مع تصحيح وتهذيب للنص)

لقد بحثت في هذا الكتاب 30 قاعدة فقهية مهمّة لأول مرّة

بأسلوب مبتكر.

7- تعليقات على العروة الوثقى (في مجلدين)

وقد سعى سماحة الاستاذ في هذا الكتاب- وخلافاً للمعتاد في كتابة الحواشي والتعليقات- أن يشير إلى الأدلة المهمّة في هذه المسائل الفقهية لتكون فائدتها أكثر (وخاصة في المجلد الثاني، أي كتاب الحج فصاعداً حيث ذكر فيه الاستاذ إشارات لطيفة إلى الأدلة في جميع الموارد).

8- أنوار الاصول (في ثلاثة مجلدات) (بتنقيح جديد)

ويشمل دورة كاملة في المسائل الاصولية، وهي عبارة عن الدورة الرابعة في بحوث الخارج للُاصول، وقد تمّ تدوينها بقلم (أحمد قدسي) في غاية الدقّة وقوّة العبارة.

9- الربا والبنك الإسلامى وهذا الكتاب نشر باللغتين الفارسية والعربية، ويستعرض أدلة حرمة الربا والاسلوب الصحيح للعمليات البنكية الإسلامية أو البنك اللاربوي.

10- التحقيق «في طرق الفرار من الربا»

ويستعرض هذا الكتاب الذي نشر بالفارسية، الطرق المعروفة وغير المعروفة للفرار من الربا ويتحدث عن طرق الاستدلال الفقهي لهذه المسألة ويورد الأدلة الصحيحة وغير الصحيحة منها.

11- التعزير وحدوده (بالفارسية)

12- الحيل الشرعية والحلول لصحيحة (بالفارسية)

السيرة المباركة، ص: 231

وقد تصدى لتنظيم وتدوين الكتب الأربعة الأخيرة سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ عليان نجادي.

13- بحوث فقهيّه هامّة

وفي هذا الكتاب الذي يتضمن ثمانية عشر مسألة فقهية مهمّة ومورد ابتلاء المؤمنين في هذا العصر بشكل مستدل ومفصّل، والقسم الأكبر من هذا الكتاب يبحث في ما يتعلق بالمسائل المستحدثة، وهذا الكتاب مكتوب باللغة العربية.

14- دائرة المعارف للفقه المقارن ومن الموفقيات الإلهيّة الكبيرة لسماحة الاستاذ، عزمه على تدوين دائرة معارف في مجال الفقه مع خصوصية أنّه مضافاً إلى بيان الأحكام الفقهية على أساس فقه أهل البيت عليهم السلام فإنّه يتطرّق إلى المذاهب الإسلامية بل يتعرض لآراء المقررات الحقوقية المطروحة في المنظمات العالمية في عملية مقارنة بينها واستجلاء عمق ودقّة وسعة فقه أهل البيت عليهم

السلام بالمقارنة مع فقه المذاهب والمدارس الفقهية الاخرى.

ومن هنا تأسيس مركز فقه أهل البيت عليهم السلام (مدرسة الإمام السجاد عليه السلام) وذلك في عام 1381 ه ش، (الذي أخذ على عاتقه مهمّة تدوين دائرة المعارف هذه بمساعدة مجموعة من العلماء والفضلاء والمحققين في الحوزة العلمية) وتمّ بحمد اللَّه الانتهاء من تدوين المجلد الأول من هذه الموسوعة وارساله إلى المطبعة.

15- رسالة توضيح المسائل وهناك رسائل عملية اخرى مثل:

أ) أحكام الشباب (بالفارسية) ب) أحكام النساء (وقد نشرت بالفارسية- العربية). ج) ألف مسألة فقهية، وقد نشرت باللغات: الفارسية، العربية، الانجليزية، الصينية، الاوردية، الروسية والتركية الآذرية.

16- مناسك الحج (بالفارسية والعربية والاوردية).

السيرة المباركة، ص: 232

17- المناسك في أربع حواشي من المراجع العظام (السيد الكبايكاني، السيد الخوئي، الشيخ الآراكي «قدس اللَّه أسرارهم» وسماحة الأستاذ) على مناسك الإمام الراحل رحمه الله وهذا الكتاب مكتوب باللغة الفارسية.

18- العمرة المفردة (بالفارسية)

19- حج النساء (بالفارسية)

20- المناسك الجامعة للحج (بالفارسية)

21- الاستفتاءات الجديدة (في ثلاثة مجلدات)

ويستعرض هذا الكتاب قسماً مهمّاً من المسائل الطبية وغير الطبية مورد الابتلاء في هذا الزمان.

وهذا الكتاب نشر أيضاً باللغة العربية «الفتاوَى الجديدة» فقد قام بتنظيم مسائله حجة الإسلام والمسلمين الشيخ أبو القاسم عليان نجادي، وقد قام أيضاً فيما سبق بتدوين وتنظيم كتاب المناسك الجامعة للحج.

22- حكم «الاضحية في عصرنا»

هذا الكتاب عبارة عن دروس لسماحة الاستاذ فيما يتعلق بفتواه المعروفة والجديدة حول االهدي في الحج حيث تمّ تقريرها باللغة العربية بواسطة كاتب هذه السطور (قدسي)، وثد تمّ طبعها ضمن كتاب «بحوث فقهية هامة» وبشكل مستقل أيضاً.

23- حول رؤية الهلال نشرت (بالفارسية- العربية)

الباب الثاني: تفسير القرآن المجيد

وفي هذا الباب نشير إلى الكتب التالية:

24- ترجمه شيّقة للقرآن الكريم باللغة الفارسية

السيرة المباركة، ص: 233

وهذه الترجمة حصيلة

جهد عدّة سنوات لسماحة الاستاذ ومجموعة من رفاقه، وقد عرفت في الحال الحاضر من قبل مجموعة من المحققين بعنوان أفضل ترجمة للقرآن الكريم باللغة الفارسية.

25- التفسير الأمثل (في 27 مجلداً بتنقيح جديد)

هذا التفسير نتيجة جهد مستمر في خمس عشر سنة لسماحة الاستاذ بمعونة مجموعة من فضلاء وعلماء الحوزة العلمية في قم، وهم: (حجج الإسلام: محمد رضا آشتياني- محمد جعفر الإمامي- عبدالرسول الحسني- السيد حسن شجاعي- محمود شجاعي- محسن قرائتي- محمد محمدي) حيث تمّ الانتهاء من هذا المشروع الكبير تحت نظر سماحة الاستاذ وقد استقبل هذا التفسير من قبل جميع شرائح المجتمع استقبالًا كبيراً إلى حدّ أنّ بعض مجلداته تكرر طبعها أربعين مرّة، وتمّ ترجمته إلى العربية باسم: «الأمثل في تفسير كتاب اللَّه المنزل» في 15 مجلداً وباللغة الاوردوية، الانجليزية والتركية.

والجدير بالذكر أنّ هذه الشجرة الطيبة تفرعت وكثرة أغصانها حيث تمّ اقتباس عدّة كتب من هذا التفسير، منها:

أ) خلاصة التفسير الأمثل (في خمسة مجلدات) وقد طبع هذا الكتاب عدّة مرّات وترجم إلى اللغة الانجليزية أيضاً.

ب) قصص التفسير الأمثل.

ج) لغات التفسير الأمثل (في أربعة مجلدات) ويمثل هذا الكتاب أفضل ما كتب في لغة القرآن.

د) العبادة في التفسير الأمثل (بالفارسية).

ه) 180 سؤال وجواب من التفسير الأمثل (بالفارسية).

و) تفسير الشباب (وهو عبارة عن خلاصة لكل مجلد من التفسير الأمثل وقد استقبل من قبل الشباب) وقد نشرت هذه السلسلة باللغة الفارسية.

26- التفسير الموضوعي (نفحات القرآن) (في عشرة مجلدات)

السيرة المباركة، ص: 234

هذا الكتاب تمّ تدوينه باسلوب جديد في مجال التفسير الموضوعي، وهو عبارة عن دورة كاملة في المعارف والعقائد الإسلامية في عشرة مجلدات، وتمّ طبع بعض المجلدات منه ست مرّات ووضع على شكل كتاب دراسي أو كتاب مساعد في بعض الجامعات.

وقد

قام كل من السادة حجج الأسلام محمد رضا آشتياني- محمد جعفر الإمامي- عبدالرسول الحسني- محمد الأسدي- حسين الطوسي- السيد شمس الدين الروحاني- محمد محمدي، بمساعدة سماحة الاستاذ في تدوين هذا الكتاب وتأليفه.

وقد ترجم هذا الكتاب باللغة العربية بهذا العنوان «نفحات القرآن» في عشرة مجلدات أيضاً.

27- الأخلاق في القرآن (ثلاثة مجلدات ويمثل الدروة الثانية من نفحات القرآن)

وهو عبارة عن دورة كاملة في الأخلاق الإسلامية (سواء في المباني أو الفروع) وقد طبع منه ثلاثة أجزاء بالعربية، وقد وضعت بعض أجزائه في الحوزة والمدارس بشكل كتاب دراسي.

وقد تمّ ترجمة هذا الكتاب إلى العربية وطبع في ثلاثة مجلدات بعنوان «الأخلاق في القرآن».

28- أمثال القرآن (في مجلدين)

ويبحث هذا الكتاب مجموعة من البحوث التفسيرية لسماحة الاستاذ التي كان يلقيها في شهر رمضان المبارك (في سنتين) حيث قام بتدوينها أحد فضلاء طلّابه (حجّة الإسلام الشيخ عليان نجادي) ويشتمل على ستين مثالًا قرآنياً، وقد تمّ طبع هذا الكتاب باللغة العربية بعنوان «أمثال القرآن» في مجلد واحد.

الباب الثالث: الكتب الاعتقادية والكلامية

السيرة المباركة، ص: 235

وفي هذا القسم نشير إلى مجموعة كبيرة من الكتب في هذا المجال، لأنّ أكثر كتب سماحة الاستاذ تبحث في باب العقائد التي تعتبر الأصل والأساس للمعارف الإسلامية، ولذلك سمّيت اصول الدين:

29- البحث عن اللَّه 30- خالق الكون 31- كيف نتعرف على اللَّه؟ (بالفارسية)

32- القادة العظماء (بالفارسية)

33- القرآن والنبي الخاتم صلى الله عليه و آله (بالفارسية)

34- المعاد والعالم الآخرة

إنّ الكتب الستة المذكورة أعلاه عبارة عن حصيلة دروس في العقائد والمذاهب التي كان سماحة الاستاذ يلقيها على طلّابه ليالي الخميس وفي مدّة ثلاثين سنة تقريباً في مدرسة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام ومدرسة الحجتية في قم، ثم تمّ تدوينها وتنظيمها بشكل جيد بقلم الاستاذ

نفسه وقام بعض طلابه الفضلاء بتنقيحها وتحقيقها.

ولا بأس بالإشارة إلى أنّ مجموعة معتبرة من أرباب القلم وأهل التحقيق والتأليف في مختلف المعارف الدينية قد تخرجوا من هذه الجلسات. وقد ترجم هذا الكتاب باللغة العربية.

35- عقيدة المسلم (بالفارسية)

36- البحث عن اللَّه 37- دروسٌ فى العقائد الاسلامية

38- الإسلام في تحقيق مختصر (بالفارسية)

39- ماذا ينبغي معرفته من الإسلام؟ (الإسلام في نظرة واحدة) (بالفارسية)

وهذه المجموعة من الكتب الخمسة تبحث أيضاً في اصول الدين على مستويات مختلفة وقد طبعت مرات عديدة

السيرة المباركة، ص: 236

40- مسألة الانتظار (بالفارسية)

ويبحث سماحة الاستاذ في هذا الكتاب مسألة انتظار ظهور الإمام المهدي عليه السلام بتحليل منطقي شيّق، (وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الاوردية).

41- المناظرات التاريخية للإمام الرضا عليه السلام (بالفارسية)

وهذا الكتاب يتعلق بالمؤتمر التاريخي للإمام الرضا عليه السلام التي اقيم قبل عدّة سنوات من قبل الهيئة الرضوية المقدّسة في مدينة مشهد واشترك فيه مجموعة كبيرة من علماء الإسلام في مختلف البلدان الإسلامية حيث بحث كل واحد منهم زاوية من حياة وسيرة ثامن الأئمّة عليهم السلام.

وبما أنّ أحد الأبعاد المهمّة في حياة الإمام الرضا عليه السلام هو المناظرة التي اشترك فيها الإمام مع علماء الأديان والمذاهب الكبيرة الاخرى من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، فقد اوكل أمر التحقيق في هذا المجال إلى سماحة الاستاذ وتمّ الانتهاء منه بحمد اللَّه بشكل جيد وقد قامت الهيئة المذكورة بطبعه ونشره.

42- مقدمة على كتاب «الوحي» (بالفارسية)

وهذا الكتاب عبارة عن مقدّمة على كتاب «الوحي» للعلّامة المرحوم السيد الطباطبائي رحمه الله، وبما أنّ هذا الكتاب يبحث مسألة الوحي بتفصيل أكثر فلذلك تمّ طبعه بشكل مستقل.

43- الحكومة العالمية للإمام المهدي عليه السلام وهذا الكتاب والذي طبع سابقاً بعنوان «الإمام المهدي والثورة العالمية»، وكما

يظهر من اسمه، يعالج مسألة ظهور الإمام المهدي عليه السلام وخصائص حكومته العالمية، ويمتاز هذا الكتاب عن سائر الكتب التي كتبت في هذا المجال أنّ سائر الكتب تبحث هذه المسألة من خلال (الآيات والروايات)، ولكنّ هذا الكتاب مضافاً إلى ذكر أهم الأدلة من «الكتاب والسنّة» على هذه المسألة فإنّه يتحرك في الاستدلال على كثير من المسائل المتعلقة بالإمام المهدي عليه السلام من موقع الأدلة العقلية، ولهذا يمكننا اعتبار هذا الكتاب لا نظير له في السيرة المباركة، ص: 237

المكتبة الإسلامية في هذا المجال.

44- دوافع ظهور المذاهب (بتهذيب جديد) (بالفارسية)

وهذا الكتاب أيضاً يمثل حصيلة جلسات في دروس عقائدية من قِبل سماحة الاستاذ لعدّة سنوات في الحوزة العلمية في قم، ولأول مرّة يطرح نقداً شاملًا لجميع فرضيات ظهور الأديان والمذاهب في المجتمعات البشرية التي طرحت من قِبل علماء النفس الغربيين، ثم يتعرض الاستاذ لإثبات النظرية العلمية في ظاهرة الوحي، وهذا الكناب بدوره يقلّ نظيره في الكتبة الإسلامية.

45- هذا هو مذهبنا (بالفارسية)

وهذا الكتاب عبارة عن ترجمة لكتاب معروف «أصل الشيعه واصولها» للمرحوم آية اللَّه العظمى الشيخ كاشف الغطاء؛ ولكنّه ليس مجرّد ترجمة محضة بل إن سماحة الاستاذ قام بكتابة مقدّمة وهوامش وخاتمة لهذا الكتاب وبذلك خرج هذا الكتاب بشكل أكمل وأعمق.

46- تجلّي الحق (بالفارسية)

وهذا الكتاب هو أول كتاب علمي من تأليف سماحة الاستاذ حيث ألّفه في عنفوان الشباب وكان الباعث لذلك ما كانت الفرقة الصوفية تقوم به من اشاعة أفكارهم في مدينة شيراز، فكتب الاستاذ نقداً لأفكارهم ومدعياتهم وكشف عن انحرافهم وزيف عقائدهم بأسلوب منطقي وعلمي.

هذا الكتاب هو الكتاب الذي حظى بتقدير المرحوم آية اللَّه العظمى البروجردي الذي تقدم الكلام عنه في الفصل التاسع، وقد تمّ طبعه أخيراً مع

اضافات كثيرة وهوامش من قِبل المرحوم حجّة الإسلام الإلهامي.

47- عقائدنا

وهذا الكتاب آخر كتب سماحة الاستاذ في مجال العقائد والكلام، والباعث لكتابته هو

السيرة المباركة، ص: 238

أنّ الاستاذ تشرّف في الاعوام الأخيرة لزيارة بيت اللَّه الحرام «للعمرة» وشاهد ما كان يقوم به أتباع الوهابية وبعض الفرق المنحرفة من كيل الاتهامات الزائفة ونفث السموم الخطيرة في المذهب الشيعي، وهذه الأكاذيب والافترات لا تمثّل مذهب الشيعة اطلاقاً ولا يعلم بها علماء الشيعة أنفسهم.

ولذلك عزم سماحته على كتابة عقائد الشيعة بصورة دقيقة وشيّقة (وبدلائل مقبولة مختصرة)، ومن الواضح أنّ هذا الكتاب عندما يصدر من شخص يعتبر من الكتاب المعروفين ومراجع الشيعة المشهورين يسدّ الطريق أمام الأعداء ويتمّ عليهم الحجّة ويظهر حقائق المذهب الشيعي لمن يطلب الحقيقة.

وقد استقبل هذا الكتاب كثيراً من قِبل المثقفين وأصحاب الاهتمامات العلمية وقد ترجم في مدّة قصيرة إلى عدّة لغات عالمية.

48- آيات الولاية

من جملة الآيات القرآنية التي تمّ تفسيرها من قبل سماحة الاستاذ في شهر رمضان المبارك، الآيات المتعلقة بولاية أهل البيت عليهم السلام، وقد قام سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ عليان نجادي بتدوينها وبتنظيمها وطبعها.

الباب الرابع: الكتب الفلسفية

ونشير في هذا المجال إلى الكتب التالية:

49- أشباه الفلاسفة (بالفارسية)

وهذا الكتاب هو الكتاب الثاني من تأليفات سماحة الاستاذ الذي ألّفه في مرحلة الشباب وطبع في ذلك الوقت وانتخب من قِبل هيئة التحكيم في الكتب «وهم مجموعة من اساتذة الجامعة» بعنوان أفضل كتاب لسنة 1333 ه ش، وقد سبق أن ذكرنا تفاصيل كيفية

السيرة المباركة، ص: 239

تأليف هذا الكتاب وما يتضمنه من محتويات ومدى تأثيره الواسع في الداخل والخارج في الفصل الثاني وبعض الفصول الاخرى من هذا الكتاب.

50- دراسة عن المادية والماركسية (بالفارسية)

هذا الكتاب بدوره يبحث في مجال أفكار وعقائد

التيار الماركسي والشيوعي ولكنه كتب بأسلوب آخر.

51- نهاية عمر الماركسية (بالفارسية)

وقد توصل سماحة الاستاذ في تحليله للماركسية إلى أن نجم الماركسية والشيوعية سرعان ما يغرب عن أجواء المجتمعات البشرية، وهذا التنبؤ كان قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بعشر سنوات حيث كان الاتحاد السوفيتي في أوج القدرة، ولكنّ سماحة الاستاذ أخبر عن انهيار الماركسية، ليس فقط في محتويات الكتاب بل من خلال اختياره لهذا الاسم (نهاية عمر الماركسية).

52- المذاهب الانتقائية (الالتقاط والالتقاطيون) بالفارسية

وهذا الكتاب كما يبدو من اسمه يتحدّث عن المذاهب الانتقائية في المجتمعات الإسلامية، أي المذاهب التي أخذت بعض عقائدها من الإسلام والبعض الآخر من الكفر، وخلطت بين الحق والباطل بعد أن أخذت شيئاً من كل منهما.

53- آخر فرضيّة للتكامل (بالفارسية)

وهو بحث فلسفي حول آخر فرضيات مقولة التحوّل والتكامل في أنواع الأحياء وفيه نقد لنظرية (دارون) المعروفة وأتباعه.

54- سرّ الوجود (بالفارسية)

هذا الكتاب في الواقع يترجم المسيرة الفكرية لسماحة الاستاذ في مرحلة الشباب وصاعداً على مستوى الرؤية الكونية في المفاهيم الإسلامية.

55- عودة الأرواح (الارتباط مع الأرواح)

السيرة المباركة، ص: 240

ويبحث هذا الكتاب مسألة تناسخ الأرواح وعودتها مرّة ثانية إلى القوالب الجسمانية لأشخاص آخرين في هذا العالم، وكذلك يبحث إمكانية الارتباط مع الأرواح التي وقعت مورد البحث والدراسة لكبار العلماء المعاصرين، ويبحث هذا الكتاب كلتا المسألتين من موقع النقد والتحقيق العلمي وقد تمّ ترجمة وطبع هذا الكتاب باللغة العربية بعنوان «الاتصال بالأرواح بين الحقيقة والخيال».

الباب الخامس، الكتب الأخلاقية

نشير في هذا الباب إلى الكتب التالية التي قام بتأليفها سماحة الاستاذ:

56- الاخلاق الإسلامية في نهج البلاغة (مجلدين)

وهذا الكتاب عبارة عن شرح لخطبة الإمام عليه السلام الموجّهة إلى همّام في نهج البلاغة والتي تطرق فيها الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام إلى وصف المتقين

110 صفةو علامة.

وكان سماحة الاستاذ يلقي هذه المواضيع في شهر رمضان المبارك على شكل دروس ليلية وبعد أن تمّ جمعها وتدوينها بواسطة أحد الفضلاء الحاضرين في الدرس وهو سماحة حجّة الإسلام خادم الحسيني، تمّ طبع الكتاب ونشره باللغة الفارسية.

57- المجتمع السالم في ظلّ الأخلاق (بالفارسية)

58- الحياة في ظلال الأخلاق (بالفارسية)

وهما كتابان مختصران يبحثان في مواضيع أخلاقية مهمّة، ويعتبران مرشداً أخلاقياً جيداً للشباب.

59- مائة وخمسون درساً في الحياة

ويتضمن هذا الكتاب مائة وخمسين حديثاً شريفاً في مجال الأخلاق مع شرح وافٍ السيرة المباركة، ص: 241

ومختصر لكل واحد منها (كل حديث في صفحة واحدة)، ويعتبر هذا الكتاب مصدراً جيداً للخطباء والوعاظ وكذلك لسائر شرائح المجتمع الإسلامي، وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الانجليزية والعربية تحت عنوان «دروسٌ فى الحياة» أيضاً.

62- أنوار الهداية (بالفارسية)

61- 110 دروس من كلمات الإمام علي عليه السلام (بالفارسية)

يقوم سماحة الاستاذ أيّام الأربعاء عادة وبعد الانتهاء من درس الخارج للفقه باستعراض رواية شريفة في مجال الأخلاق، ليجمع الطلّاب والفضلاء بين التقدم العلمي والتقدم في مجال تهذيب الأخلاق، فيبحث هذا الكتاب بالتفصيل في مجال الأخلاق وتهذيب النفس، وبما أنّ هذه البحوث نافعة للجميع، قام بعض الفضلاء المشتركين في هذه الدروس (وهو حجّة الإسلام والمسلمين عليان نجادي) بجمعها ونشرها تحت عنوان «أنوار الهداية» أو «110 درساً كم كلمات الإمام علي عليه السلام).

وفي ختام هذا الباب لا بأس بالإشارة إلى أنّ «الأخلاق في القرآن» الذي كتب في ثلاثة مجلدات ويبحث في اصول وفروع الأخلاق الإسلامية وتحقيق هذه المسائل بصياغة علمية، يمكن ادراجه في هذا الباب أيضاً ولكن نظراً لذكره في باب التفسير فلذلك تركنا ذكره في عداد الكتب الأخلاقية في هذا الباب.

الباب السادس: فلسفة الأحكام والإجابة عن الأسئلة

ويبحث

سماحة الاستاذ في هذا الكباب بعض فلسفة الأحكام الشرعية الغامضة لدى كثير من الناس ويستجلي الحكمة والغرض من هذه الأحكام بأسلوب شيق وبلغة العصر، ومنها:

62- التقليد أو التحقيق (بالفارسية)

السيرة المباركة، ص: 242

63- الخمس دعامة استقلال بيت المال (بالفارسية)

64- التفسير بالرأي (بالفارسية)

65- التقيّة درع واقٍ في التصدي والمواجهة (بالفارسية)

66- فلسفة الصوم (بالفارسية)

67- فلسفة الشهادة (والبكاء على شهداء كربلاء) (بالفارسية)

وكل شخص يقرأ هذه الكتب يجد في نفسه اليقين بحكمة الباري تعالى في تشريعه لهذه الأحكام المصيرية والضرورية لحركة الحياة الفردية والاجتماعية.

68- أسئلة وأجوبة (في أربعة مجلدات)

لقد تمّ تأليف هذا الكتاب بمساعدة آية اللَّه السبحاني، وهو عبارة عن مجموعة قيمة من الأسئلة الدينية المهمّة في مجال اصول الدين وفروعه ويتضمن أجوبة مستدلة تعالج كثيراً من الشبهات المعاصرة لجيل الشباب، وقد طبع هذا الكتاب سابقاً في أربعة مجلدات وتمّ أخيراً طبعه مجدداً وباضافات كثيرة في مجلد واحد كبير باسم «الأجوبة على الاسئلة الدينية».

الباب السابع: شرح نهج البلاغة

69- رسالة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام (في ستة مجلدات)

وهذا الكتاب، كما يقول سماحة الأستاذ: إنّ نهج البلاغة كتاب مظلوم كأمير المؤمنين عليه السلام، فبالرغم من أنّ مجموعة من المحققين الكبار بذلوا جهودهم في شرحهم لنهج البلاغة لبيان أسرار كلمات الإمام عليه السلام والتعمق في مطاوي أحاديثه وكلماته واكتشاف مكنوناتها لعشّاق الفضيلة وطلّاب الحقيقة، إلّاأنّ هذه الشروح رغم كونها جديرة بالشكر والتقدير، ولكنّها محدودة ومعدودة والغالب عليها أنّها مكتوبة بلغة غير عصرية.

السيرة المباركة، ص: 243

ومن هنا عزم سماحة الاستاذ وبمعونة مجموعة من أصحابه في التفسير الأمثل، وهم:

حجج الإسلام: محمد جعفر الإمامي، محمد رضا الاشتياني، إبراهيم البهادري، سعيد الداودي، احمد القدسي وغيرهم على تأليف شرح جامع وجديد لنهج البلاغة واستخراج جواهر هذا البحر المتلاطم من

المعارف الإلهيّة والعلوم الربانية.

وقد تحقق بحمد اللَّه هذا الهدف ولبس ثوب الواقع وصدرت منه ستة مجلدات لحد الآن على الرغم من المشاغل الكثيرة الناتجة عن التصدي لمقام المرجعية، وقد استقبل هذا الشرح استقبالًا كبيراً في الأوساط العلمية والدينية، ونأمل إن شاء اللَّه تعالى أن ينتهي الاستاذ من هذا المشروع الفكري القيم.

وقد ترجم وطبع لحد الآن خمسة مجلدات من هذا الكتاب إلى اللغة العربية بعنوان «نفحات الولاية في شرح نهج البلاغة»، وتمّ طبعها ونشرها.

الباب الثامن: منوعات ونستعرض في هذا القسم مواضيع متنوعة من الكتب التي تبحث في قضايا الشباب أو تجيب عن بعض الشبهات وعلامات الاستفهام أو تقوم بدراسة قضايا تاريخية أو مشاكل اجتماعية مهمّة، وهي عبارة عن:

70- المفاتيح الجديدة (بالفارسية)

يعتبر هذا الكتاب خطوة اخرى على مستوى احياء كتاب مفاتيح الجنان للمرحوم المحدّث القمي رحمه الله مع خصوصيات وامتيازات اخرى من قبيل:

1- نقل جميع الأدعية، الزيارات، الاذكار من المنابع المعتبرة مع ذكر المصدر.

2- كتب بلغة عصرية وقابلة للاستفادة من قبل الجميع.

3- تتضمن روايات ومقدّمات مربية في كل من الأقسام.

السيرة المباركة، ص: 244

4- شرح آداب ومقدمات وأسرار الزيارات والأدعية.

5- تقسيم فصول الكتاب إلى عشرة فصول وبنظم خاص.

6- الاجتناب عن الروايات الضعيفة.

71- القرآن والحديث (بالفارسية)

وهو كتاب صغير يبحث في مسألة كبيرة، وهي ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من «حديث الثقلين» الذي يعتبر أهم أسناد حقانية أهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

72- الأسماء النورانية لفاطمة الزهراء عليها السلام (بالفارسية)

من جملة الجلسات المعنوية المباركة التي كانت تعقد في منزل سماحة الاستاذ، الجلسات في أيّام الفاطمية في سنة 1371 ه ش وقد أفاض علينا الاستاذ في هذه الجلسات بعض ما يتعلق بأسماء النورانية

لفاطمة الزهراء عليها السلام، حيث حالفني التوفيق على لتدوين وتنظيم هذه المحاضرات في كتاب خاص وطبعه بهذا العنوان أيضاً ويتضمن بحوثاً لم ترد في كتاب «الزهراء عليها السلام سيدة نساء العالمين».

73- الزهراء عليها السلام، أفضل نساء العالمين ويتضمن شرحاً وافياً لخطبة فاطمة الزهراء عليها السلام المعروفة مع استعراض سيرتها وأحوالها، وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية أيضاً.

74- الخطوط الأصلية للإقتصاد الإسلامي في هذا الكتاب يبحث الاستاذ المدارس الاقتصادية المختلفة في العالم بلغة النقد والتحقيق ويبيّن نقاط ضعفها في مقابل المذهب الاقتصادي الإسلامي. وقد ترجم هذا الكتاب الى اللغة العربية.

75- المديريّة والقيادة في الإسلام (بالفارسية)

يقول سماحة الاستاذ: عندما طلب مني بعض كبار المسؤولين في حرس الثورة أن أكتب لهم كتاباً ينتفعون به في جلساتهم ودروسهم في موضوع «القيادة الإسلامية» فكلّما

السيرة المباركة، ص: 245

فكرت في كتاب يتعرض لهذه الموضوع لم أجد مثل هذا الكتاب، ولذلك اضطررت إلى تأليف كتاب مختصر في هذا الموضوع بإمكانه أن يكون بمثابة مقدّمة وإطلالة على هذا الموضوع ثم أضفت له مسألة «المديرية» لأنّ القيادة أحد مصاديق المديرية «المديرية في الحرب».

وقد طبع هذا الكتاب عدّة مرات ويدّرس الآن في مراكز قيادات الجيش والحرس.

76- المعراج، شقّ القمر، والعبادة في القطبين (بالفارسية)

ويبحث هذا الكتاب ثلاث مسائل مهمّة ومثيرة للتساؤل ولا سيّما بعد أن ثبت علمياً إمكان المعراج وشقّ القمر، ويبيّن وظيفة الساكنين في المناطق القطبية حيث يمتد الليل أو النهار إلى عدّة أيّام أو أشهر، بل في النقطة الأصلية للقطب تكون جميع أيّام السنة عبارة عن ليل أو نهار واحد حيث يطول كل من الليل والنهار لمدّة ستة أشهر، فيبيّن هذا الكتاب الحكم الشرعي بالنسبة للصلاة والصيام في ذلك المكان.

77- الصلاة، المدرسة التربوية العالية

(بالفارسية)

78- أنقذوا الشباب (بالفارسية)

79- ألعاب خطيرة (بالفارسية)

80- هذه المسائل محل ابتلاء جميع الشباب (بالفارسية)

هذه الكتب الأربعة تتحدّث أساساً عن قضايا تخص الشباب، وفي الواقع أنّ المخاطب الأصلي لكثير من كتب سماحة الاستاذ هم شريحة الشباب، لأنّ إصلاح هذه الشريحة يؤدّي إلى إصلاح المجتمع، وفسادهم يؤدّي إلى فساد المجتمع وتأخره وانحطاطه.

81- القيم المنسية (بالفارسية)

ويتضمن هذا الكتاب مجموعة من المقالات المهمّة التي كتبها الاستاذ في مجلة «مكتب اسلام» في عهد الطاغوت وحكومة الشاه حيث أدّت إلى خلق حركة فكرية وموج ثقافي في المجتمع بحيث سبب ذلك إلى منع إصدار المجلة أحياناً، وقد تمّ جمع وتنظيم هذه المقالات في كتاب وطبعه بشكل مقبول.

السيرة المباركة، ص: 246

82- اسرار تخلّف الشرق (بالفارسية)

يبحث هذا الكتاب- كما يظهر من اسمه- في علل وأسباب تخلّف المسلمين بعد النهضة الحضارية الكبرى في تاريخ الإسلام.

83- اطروحة الحكومة الإسلامية (بالفارسية)

لقد كان الكثير من الناس في بداية انتصار الثورة الإسلامية وتشكيل الحكومة الإسلامية يتساءلون عن ماهية وأركان الحكومة الإسلامية.

ومن هنا قام سماحة الاستاذ بكتابة «اطروحة الحكومة الإسلامية» لغرض الإجابة عن مثل هذه التساؤلات، وبعد ذلك تابع سماحته هذا البحث المهم في المجلد العاشر من كتاب «نفحات القرآن» بشكل مفصّل ومستدل، فجاء هذا الموضوع متكاملًا ومهمّاً في بابه.

84- المشكلات الجنسية للشباب تصل يومياً رسائل كثيرة لسماحة الاستاذ من مختلف مناطق البلاد حول مشكلات الشباب الجنسية، وقد تحرك هذا الطبيب الروحاني لتأليف كتاب جامع يتضمن الوقاية من هذه المشكلات وبيان علاجها.

ويعتبر هذا الكتاب بمثابة السهم الذي أصاب الهدف بدقّة ورسم طريق النجاة للكثير من الشباب، ولذلك استقبل هذا الكتاب استقبالًا جيداً إلى درجة أنّه طبع مرات عديدة وبمقدار كبير، وقد طبع لحدّ الآن 38 مرّة.

وقد ترجم هذا الكتاب إلى

العربية أيضاً وطبع.

إنّ هذه الكتب والمصنّفات المذكورة تمثل قسماً أعظم من آثار سماحة الاستاذ في مجال الكتابة والتأليف، ومضافاً إلى مئات المقالات وما كان على شكل مقدّمة وتقريظ على بعض الكتب بقلم سماحة الاستاذ، بحيث لو جمعت هذه المكتوبات في كتاب واحد لأصبحت منبعاً سائغاً ومنهلًا عذباً لطلّاب الحقيقة وأرباب العلم.

السيرة المباركة، ص: 247

ب) الآثار الاجتماعية

نظراً إلى أنّ الخدمات الثقافية لا يمكنها البقاء إلّافي أجواء مناسبة ومناخ مطلوب، فقد قام سماحة الاستاذ- لغرض تفعيل خدماته العلمية والثقافية وبمساعدة بعض الاخوة الخيّرين وجمهور الناس المؤمنين- بناء عدّة أبنية وعمارات مجهزة لهذا الغرض، وهي كالتالي:

1- مدرسة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام:

وقد تمّ بناء هذه المدرسة في مدينة قم على أساس أنّها تمثّل المركز الأصلي للفعاليات الثقافية والعلمية لسماحة الاستاذ طيلة السنوات المتمادية، ويتمضن هذا المركز المبارك مركزاً للنشر حيث قام بتهيئة جميع مجلدات التفسير الأمثل وكثيراً من الكتب الاخرى، وقد كان سماحته يقوم بتدريس الفقه والاصول والعقائد في هذا المكان الشريف منذ سنوات طويلة.

2- مدرسة الإمام المجتبى عليه السلام:

وهذه المدرسة تعتبر مركزاً لتربية مجاميع من الطلّاب الأذكياء اللائقين، وتعدّ من أفضل مدارس الحوزة العلمية في مدينة قم.

3- مدرسة الإمام الحسين عليه السلام:

هذه المدرسة مجهّزة بمكتبة فخمة وتعتبر مركزاً للبحوث التخصصية في التفسير والعلوم القرآنية في الحوزة العلمية في قم، وقد اخرجت مفسّرين كثيرين.

ويقع مكتب الاستاذ الذي يرجع إليه الناس في مسائلهم وحوائجهم ولملاقاة سماحته في هذه المدرسة.

4- مدرسه الإمام السجّاد عليه السلام

(مؤسسة فقه أهل البيت عليهم السلام): تعتبر هذه المؤسسة، التي لا يتجاوز عمرها سنتين في الواقع، مركزاً لتدوين (دائرة المعارف للفقه المقارن) والتي سبق بيان وشرح إجمالي عنها ضمن استعراض سائر الكتب الفقهية لسماحة الاستاذ.

5- مجمع الإمام الصادق عليه السلام للثقافة والإسكان:

ويقوم هذا المجمع في بناية جميلة جدّاً في مدينة مشهد في ستة طوابق لغرض اسكان زوار الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام وخاصة طلّاب الحوزة العلمية في قم الذين يسافرون إلى هناك للزيارة، وقد بني على شكل شقق مجهّزة بجميع وسائل المعيشة وهي تحت خدمتهم مجاناً.

وهذه البناية تحتوي على مكتبة، حسينية، مطبخ وصالون للطعام مجهّز، ويقع مكتب سماحة الاستاذ في مشهد إلى جوار هذا البناء أيضاً.

6- مجمع الإمام الباقر عليه السلام للثقافة والإسكان:

ويقع هذا المركز في مدينة مشهد أيضاً، مجاوراً لمركز الإمام الصادق عليه السلام الثقافي، ونظراً إلى أنّ المركز السابق يضيق بالزوار والمراجعين، وخاصة في أيّام الصيف حيث تكون الطلبات أكثر من المتوقع ويجد المسؤولون ضرورة لإجراء القرعة في استقبال الزوار ويبقى الكثير منهم قيد القرعة، فلذلك صمم سماحة الاستاذ على بناء مركز مجهّز آخر أكبر من المركز السابق بضعفين ويستوعب الزائرين والمراجعين القادمين من المدن الاخرى، وتمّ اختيار أرض أكبر ومساحة أوسع لبناء هذا المركز من ستة طوابق، وقد بدأ العمل في بناء هذا المركز فعلًا وتمّ الانتهاء من بنائه وهو جاهز للاستفادة منه إن شاء اللَّه تعالى.

7- مجمع خاتم الأنبياء الثقافي:

كانت مجموعة من مقلدي سماحة الاستاذ ومعارفه في موطنه الأصلي (شيراز) يتوقعون أن يقوم سماحته بإيجاد حركة ثقافية وعلمية ودينية واسعة في مدينتهم بحيث تمتد أمواجها إلى مناطق اخرى من المحافظة، وبعد إجراء مشاورات لازمة تمّ شراء أرض بمساحة اثني عشر ألف وخمسمائة متر في منطقة حساسة ومحرومة من هذه المدينة (في شارع أحمدي نو) وبدأت بتنفيذ وإجراء مقدّمات البناء لبناء

السيرة المباركة، ص: 249

عمارة لخمسة مراكز دينية كالتالي: 1- دار القرآن (لتربية أساتذة القرآن والعلوم القرآنية والتفسير) 2- الحوزة العلميّة 3- مسجد 4- مكتبة مجهّزة 5- قاعة كبيرة لدار القرآن لغرض تشكيل المؤتمرات الكبيرة القرآنية والدينية.

وببركة الألطاف الإلهيّة تمّ افتتاح «دار القرآن».

8- المركز الثقافي ودار الفلسفي للمبلّغين (في طهران):

تعتبر مدينة طهران عاصمة الحكومة الإسلامية وتضم الكثير من المبلّغين الدينيين، وكان سماحة الاستاذ راغباً في بناء مركز لهؤلاء المبلّغين وإجراء تمرينات لازمة ليتعرف هؤلاء المبلّغون على المسائل المستحدثة والشبهات الجديدة والإجابة عنها، ومضافاً إلى مسألة التنسيق في امور التبليغ، والعمل كذلك على تربية المبلّغين الجدد تربية علمية ودينية لمزاولة امور التبليغ في الداخل والخارج.

ومن أجل هذا الهدف تمّ شراء بيت المرحوم الخطيب الشهير في القرن الحاضر حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ الفلسفي رحمه الله لبناء هذا المشروع الكبير والعمل على توفير مكتبة وقاعة اجتماعات ودروس في هذا المجال.

وبما أنّ هذا الخطيب الكبير انفق 82 سنة من عمره المبارك (البالغ تسعين سنة ونيفاً) في خدمة المنبر والتبليغ للإسلام ومدرسة أهل البيت عليهم السلام، فلم يرغب الاستاذ بإهمال ذكره في أجوائنا الدينية، ومن أجل تقديم فروض التقدير والتكريم لهذا الخطيب الجليل خادم سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، أمر بتسمية هذا المركز باسم هذا الخطيب الكبير.

وقد تمّ بناؤه بحمد اللَّه، حيث ستبدأ برامج في هذا

المركز قريباً إن شاء اللَّه.

9- مركز التعرف على الشيعة:

نظراً لاتساع العلوم الإسلامية في الحوزات العلمية والحاجة المبرمة للتعرف على مختلف العلوم في الحوزة العلمية، تمّ في السنوات الأخيرة تأسيس عدّة «فروع تخصصية» في الحوزة العلمية في قم، وكان لها اعتبار قانوني ورسمي أيضاً ووقعت مورد استقبال جيد لدى فضلاء الحوزة العلمية.

السيرة المباركة، ص: 250

هذه الفروع العلمية عبارة عن: فرع التفسير، الذي يقع تحت نظر واشراف سماحة الاستاذ، وهناك فروع في علم الكلام، التبليغ، القضاء، نهج البلاغة، الحديث، الفلسفة الإسلامية وغير ذلك حيث تدار تحت اشراف اساتذة وفضلاء آخرين من الحوزة العلمية.

وأخيراً التفت سماحته إلى هذه النقطة، وهي أنّ من أهم الفروع التخصصية هو فرع «معرفة الشيعة» الذي يجد مكانه خالياً بين هذه الفروع العلمية مع شدّة الحاجة إليه في عصرنا لحاضر.

وتبعاً لذلك فقد تمّ إدخال مواضيع عديدة في هذا الفرع، مثل: تاريخ التشيع من عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلى العصر الحاضر، جغرافيا التشيع في جميع العالم، الفرق المختلفة للشيعة، أركان عقائد الشيعة، أدلة المذهب الشيعي من الكتاب والسنة وحكم العقل، الإجابة عن الشبهات المختلفة للمخالفين، دراسة المسائل والامور المتعلقة بالإمام المهدي (أرواحنا فداه) أيضاً.

وقد منحت الشورى العالية للحوزة العلمية إجازة رسمية بافتتاح هذا الفرع أيضاً، وتمّ تهيئة أرض واسعة وجيدة إلى جوار مسجد جمكران لهذا الغرض ليكون العمل في هذا المجال تحت ظلال الإمام بقية اللَّه الأعظم (أرواحنا فداه) ويبدأ العمل فيه في المستقبل القريب.

10- مواقع الاينترنت:

وأحد نشاطات سماحة الاستاذ المهمّة هو تأسيس موقع للاينترنت، وهذا الموقع يزدحم فيه المراجعون ويتضمن الكثير من كتب الاستاذ وفتاواه الفقهية وما يرد كل يوم من استفتاءات كثيرة إلى مكتب سماحته من خلال هذا الموقع حيث يتصدى الاستاذ بنفسه للإجابة عن هذه الاستفتاءات بأجمعها،

ويتمّ خزن ما يكون مفيداً ونافعاً للجميع في شبكة الانترنيت.

11 و 12- بناء 110 مساجد و 110 مدارس في المناطق المحرومة:

لقد سميت سنة 1379 ه ش التي تجمع في أيّامها عيدين ليوم الغدير في سنة شمسية واحدة،

السيرة المباركة، ص: 251

باسم سنة أميرالمومنين عليه السلام، وتمّ إجراء مراسم بهيجة في هذا العام في جميع ارجاء بلاد ايران وحتى في خارجها أيضاً، وفكّر سماحة الاستاذ بأداء خدمة مهمّة وباقية في هذا العام، فعزم على بناء 110 مدارس ثقافية و 110 مساجد (تناسباً مع عدد كلمة «علي عليه السلام» في الحروف الأبجدية) في المناطق المحرومة جدّاً لا سيّما شرق خراسان ومحافظة سيستان وبلوچستان.

وقد دعي للمشاركة في هذا المشروع الكبير مجموعة من التّجار الأخيار والأشخاص الصالحين وطرح المشروع أمامهم فتقبلوه بشرح صدر، وتمّ إيجاد مركز يضم هيئة امناء من سبعة أشخاص بهذا الاسم «هيئة الامناء السبعة» لتتكفل إدارة الامور في مساعدة المحرومين وخاصة الشيعة المحرومين، هذا المشروع يجري العمل به الآن وقد تمّ الإنتهاء منه الآن حيث تمّ بناء العديد من المساجد والمدارس في المناطق المذكورة وسميت باسم «الغدير» أو «أميرالمؤمنين عليه السلام» ومازال المشروع فاعلًا إلى أن يصل إلى حدّ النصاب اللازم، أي العدد 110.

هذه الحركة المباركة بثّت الأمل الكبير في قلوب أتباع أهل البيت عليهم السلام.

والجدير بالذكر أنّ هذه المساجد والمدارس بنيت في القرى والمناطق المحرومة بمقدار حاجتهم، وأمّا في المدن المحرومة أيضاً فقد بنيت بشكل أكبر وبمقدار الحاجة.

24 استقبال النفي والحرمان (في الدفاع عن الدين والثورة)

اشارة

إنّ طلب العافية والحياة المرفهة، مضافاً إلى كونه آفة خطيرة للفكر والعقل، فإنّه في كثير من الموارد لا يسمح للناس برؤية الحق كما هو والباطل كما هو في الواقع ويسدل على بصيرتهم ستاراً من التشويش يمنعهم من تشخيص الحقيقة، وفي موارد كثيرة يمثل عائقاً يمنع الإنسان من الإقدام والعمل، بمعنى أنّ الإنسان حتى لو استطاع تشخيص الامور والقضايا

تشخيصاً سليماً وصحيحاً، إلّاأنّه لا يمتلك الجرأة الكافية والشهامة القوية على الإقدام والعمل.

وما أكثر الأفراد الذين يجدون في أنفسهم الجرأة على كتابة الحقيقة والاعلان عنها ما دامت معيشتهم وحياتهم ومكانتهم الاجتماعية محفوظة وسالمة ولا تتعرض شخصياتهم أو ثرواتهم إلى الخطر، ولكن عندما يشعرون بوجود خطر معين فانّهم يلقون بمقولاتهم وكلماتهم عن الحقيقة في مطاوي النسيان ويسكتون عن أداء أهم رسالة دينية وإنسانية لهم وهي: «وجوب التصدي للظلم وعدم السكوت عن أفعال الظالمين ومظاهر البدع والفساد والضلال والانحراف، فيرجحون الصمت على هذا الواقع المنحرف» «1»

، وفي مقابل ذلك نرى السيرة المباركة، ص: 254

شخصيات كبيرة في طول تاريخ التشيع الدامي لا سيّما في القرون المتأخرة وخاصة في القرن الحاضر، يتحركون بكل جرأة وشهامة وبما اوتوا من قدرة بيان وقلم على مستوى إصلاح الخلل وفضح قوى الانحراف والضلال والتصدي في مقابل الظلم والظالمين ويستقبلون كل خطر ونفي من الوطن وبعد عن أجواء الراحة والرفاه والدعة حتى يصل الأمر بهم ا لى حدّ الشهادة والقتل في سبيل اللَّه، كل ذلك من أجل الدفاع عن الدين الإسلامي والامة الإسلامية، فهؤلاء يشعرون في أنفسهم بالشوق إلى التضحية بالغالي والنفيس وقبول كل أشكال الحرمان من أجل الهدف السامي.

هؤلاء حرس الثغور هم الذين ورد وصفهم في الحديث المعروف عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام: «علماء شيعتنا مرابطون بالثغر الذي يلي ابليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا» «1»

، وهناك رواية اخرى تذكر موت العالم من علماء الإسلام: «إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شي ء»، وفي هذا الحديث يقول أيضاً: «لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون المسلمين كحصن سور المدينة لها» «2».

ونحن نشكر اللَّه تعالى على أنّ استاذنا الجليل قد حاز هذا

التوفيق العظيم ونطق بالحقيقة في خضم أجواء الاضطراب والثورة وأعلن عنها بصرخته أمام الظالمين، فعندما تجاسرت صحيفة اطلاعات في تلك الأيّام وذكرت كلمات موهنة بحق «الإمام الراحل قدس سره» قام استاذنا المعظم بإلقاء خطبة قوية وصريحة استنكاراً لهذا الفعل الشنيع، وكانت نتيجة ذلك أن حكم عليه بالنفي لمدّة سبعة أشهر والابتعاد عن الحوزةالعلمية ومدينته.

ذكريات سبعة أشهر من النفي بقلم الاستاذ نفسه في أيام الثورة:

ما أجمل أن نترك الزمام لقلم الاستاذ ليخط لنا مجريات الامور فيما يتعلق بهذه الواقعة ونقرأ مقالة «ذكريات سبعة أشهر من النفي» التي كتبها الاستاذ بقلمه عام 1357 ه ش وتمّ نشرها في صحيفة كيهان:

«أجد من اللازم أن ابيّن لكم أيّها الاخوة الأعزاء ما واجهته في عملية النفي لمناطق مختلفة «چابهار» في الجنوب، و «مهاباد» في الشمال، و «انارك» في قلب الصحراء، والسفر لمسافة 7 آلاف كيلومتر بين هذه المناطق التي جرى تبعيدي إليها وما حدث لي في مناطق مختلفة في البلاد، وكذلك المحادثات التي جرت مع شخصيات مختلفة من علماء «المذهب الحنفي» في بلوجستان وعلماء «المذهب الشافعي» من الأكراد وشرائح متنوعة من الناس، لكي تتطلعوا من خلال هذه الوقائع على أسباب الاضطرابات الاجتماعية الأخيرة وتعلموا المنبع الأصلي لكل هذه الحوادث المؤسفة وأستأذنكم قبل ذلك في بيان مقدّمة قصيرة في هذا الموضوع ثم أدخل إلى أصل الموضوع، ويشهد اللَّه تعالى أنني لا أكتب لكم إلّاالحق والحقيقة وأبتعد عن كل كلام وبحث غير منطقي».

جذور الثورة:

إنّ بلادنا تدخل مرحلة حساسة من تاريخها بعد الحوادث والتغييرات التي عاشها الناس في الأشهر الأخيرة بحيث أصبح من المحال الرجوع إلى الوراء بالرغم من وجود عوامل قوية لاعادتنا إلى الوراء «1».

السيرة المباركة، ص: 256

هذه حقيقة جلية وصيرورة تاريخية يجب على الجميع الاعتراف بها.

ومن أجل تتبع علل هذه الثورة ومظاهر التغيير في جميع الامور والابعاد، أو بتعبير البعض: هذه الاضطرابات وعوامل الفوضى، أو كل اسم وصفة نطلقهاعلى هذه الحوادث الأخيرة حيث ينظر لها البعض من زاوية خاصة، ولهذا السبب لا يتوصلون إلّاإلى نتائج محدودة غير ذات قيمة، لأنّ المعطيات الكبيرة لا يمكن التوصل إليها إلّامن خلال دراسة مستوعبة وكلية لجميع جوانب الحدث

وأبعاده.

في البحوث والدراسات المحدودة تحل أحياناً «العوامل الجانبية للحوادث» محل «العوامل الأصلية» ويتمّ اهمال العوامل الأصلية وتهميشها والتغافل عنها.

فالبعض يضع اصبعه على مسألة «الفساد الاقتصادي واستغلال بيت المال من قبل فئة معينة»، وهم الذين كانوا يوماً ما في مصدر القدرة والمسؤولية، فيرى أنّ العامل الأصلي والسبب الرئيسي للاضطرابات الأخيرة تكمن في هذا العامل، ولكن مع الاعتراف بوجود عنصر الاستغلال وسوء استخدام ثروات بيت المال من قِبل قوى الفساد الاقتصادي بأرقام كبيرة ومذهلة، لابدّ من القول إنّ هذا العامل لا يمكن أن يكون هو العامل الأصلي، لأنّ مظاهر الاجحاف والاختلاس من بيت المال كانت مكشوفة لدى فئة خاصة من الناس دون العامة من شرائح المجتمع، وبالرغم من أننا نسمع تدريجياً عن أخبار هذه القضايا، مثلًا نسمع بأنّ أكثر من خمس ملياردات تومان يملكها شخص واحد في البلد وأمثال ذلك ممّا يساهم في تعميق حِدّة الخلاف والابتعاد بين الناس من جهة والحكومة من جهة اخرى، ولكنّ كثيراً من الناس لا يهتمون لهذا الحدث ويقولون ماذا يختلف حالنا

السيرة المباركة، ص: 257

فيما لو سرقوا من بيت المال أو لم يسرقوا؟

والبعض الآخر يريد أن ينسحب من التورط في هذه الحوادث، فيرى أنّ العامل الأصلي والسبب الحقيقي وراء ثورة الناس هو الرشوة وسوء المديرية في المراكز الحكومية وعنصر البيوقراطية، في حين أننا نعلم أنّ هذه الظاهرة ليست بجديدة على هذا البلد بل إنّ جميع الناس منذ سنوات يعلمون بهذه الامور ويعترضون على ذلك ولكن هذا الموضوع مهما كان مهماً فإنّه لا يبعث على نزول الناس إلى الشوارع ويضحّون بأنفسهم من أجله.

مضافاً إلى ذلك أنّ الاضطرابات الأخيرة شملت طلّاب المدارس في جميع مناطق البلاد، وهؤلاء ليس لهم علاقة أو رابطة بالإدارات الحكومية

ولا يعيشون هموم الفساد الاقتصادي والرشوة والبيوقراطية، اذن لا يعقل أن يكون الفساد الإداري هو العامل الحقيقي وراء الأحداث.

أمّا قلّة رواتب الموظفين، مشكلات السكن، مشكلات بعث الطلّاب إلى الخارج، التضخم الاقتصادي، التمييز الطائفي، فهذه المسائل، كمسألة الفساد الإداري والفساد الاقتصادي، تمثّل عوامل صغيرة من عوامل هذا «الانفجار الاجتماعي العظيم» بالرغم من أهميّتها، وحينئذٍ لابدّ من البحث عن الأسباب الحقيقية في مكان آخر.

أرجو أن أتمكن في هذه المقالة من بيان مجريات السفر الملي ء بالحوادث وما رأيته بعيني وما سمعته من أفواه فئات مختلفة من الناس، أن ابيّن العوامل الأصلية الكامنة وراء هذه الحوادث الأخيرة.

السيرة المباركة، ص: 258

... كانت ليلة «18 ديماه» حيث رنّ جرس الهواتف في قم فقالوا: أيّها المشايخ هل قرأتم المقالة المنشورة في صحيفة اطلاعات بقلم رشيدي مطلق «الذي اتضح بعد ذلك أنّ كاتب هذه المقالة لا يتمتع بأدنى رشادة مطلقة»؟

الواقع أنّهم بلغوا في جرأتهم وفضيحتهم إلى منتهى الحدود وأبعد الغايات ... فهل ستعطل دروس الحوزة العلمية غداً؟ وغداً صباحاً شاهد الناس تعطيل دروس الحوزة العلمية في قم، ثم تبعها السوق المركزي في قم وتجمع الفضلاء وطلّاب العلوم الدينية في بيوت مراجع الدين اعتراضاً على ذلك وبشكل منظم تماماً، وتبدلت سحنة المدينة بشكل كلي، وعلى هذا الأساس ظهرت بوادر أول شرارة في أجواء مدينة قم، الشرارة التي لم يتصور أحد من الناس أنّها ستكون بهذا الحجم والسعة وتمتد إلى سائر مناطق البلاد بل إلى خارج ايران أيضاً.

لقد تعرضت المقالة المذكورة إلى القائد الكبير والزعيم العظيم سماحة آية اللَّه العظمى السيد الخميني «دامت بركاته» بالإهانة واساءة الأدب بما لا يمكن لأحد تحمله بدون شك، ولكن المهم أن نعرف أنّ ما وراء هذه الشرارة يوجد مخزن

للبارود بحيث يمكن لهذه الشرارة أن تفجر الوضع وتؤزم الحالة، إنّ مجتمعنا يشكو من وجود غدة مليئة بالقيح في واقعه وجسده بسبب سنوات متمادية من الظلم والجور وعدم رعاية العدل ومطالب الناس وأشكال الخلل الاخرى، وكان يعيش حالة الانتظار لشرارة تفعّل الحالة المتأزمة، وعندما مست ابرة الاحداث هذه الغدة المتورمة هبّت جميع أعضاء الجسد الاجتماعي بموازات الحدث وألقت بما في باطنها إلى الخارج.

السيرة المباركة، ص: 259

كان اليوم (18 ديماه) يوماً متأزماً ومضطرباً في قم، وقد وعد جميع مراجع الدين أن يعملوا على ردّ هذه الإهانة، وفي اليوم التالي ارتفعت الضجّة وزادت الحالة سوءاً وكثرت جموع الناس، ففي ذلك اليوم كان من المقرر أن يتوجه الناس إلى بيوت اساتذة الحوزة العلمية وهكذا جرت الامور، وكنت من جملة من جاء إليهم الناس حيث حضروا إليَّ في مدرسة أميرالمؤمنين وامتلأت باحة المدرسة والشوارع المحيطة بها من أمواج الناس حيث تحدثت إليهم في خطبة قصيرة وتشكرت في البداية من توحد الناس وحضورهم في الميدان بما يمثّل ضربة قوية إلى كاتب المقالة الموهنة ورفاقه ومن معه ومن يشاركه في الفكر، وقلت لهم إنّكم بهذا العمل أثبتم أنّ مثل هذه المقالات والكلمات الجارحة سوف لن تبقى بدون جواب، فلا يظنّون أنّ القضية تنتهي بسهولة.

ثم قلت لهم مضيفاً: إذا هتكت حرمة كبير القوم بمثل هذه الصورة فماذا سبيقى للآخرين من حرمة واحترام؟ فلو تقرر أن نموت فلنمت جميعاً، ولو تقرر أن نحيا فلنحيا جميعاً.

هذه الجملة الأخيرة التي أخذت شكل الشعار لكثير من الناس، كانت أحد المدارك المعتبرة في تبعيدي إلى مدينة «چابهار»، وقد أخذها رئيس جهاز الأمن باعتبار أنّها دعوة للناس للثورة ضد النظام.

وعلى أيّة حال تمّت الجلسة ولكن في عصر ذلك

اليوم وعندما كان الطلّاب والشباب يعودون من بيوت الاساتذة والعلماء بكامل الهدوء وحتى بدون اعطاء أي شعار «لأنّ تلك الأيّام لم يكن متداولًا اطلاق الشعارات أو كسر القناني» فوجئوا بهجوم رجال الشرطة عليهم، ولأول مرّة يواجه الناس هذا المنظر وتسفك دماء بعض الناس الأبرياء في شوارع المدينة.

السيرة المباركة، ص: 260

أمّا رجال الأمن في قم فقد أخذوا يهيئون الملف لتبرئة أنفسهم من هذه الحادثة ومن قتل الناس الأبرياء، حيث تمّ تشكيل جلسة «جلسة الأمن الاجتماعي» تحت نظر قائم مقام المدينة وأربعة أشخاص من رؤساء الإدارات وقرروا في هذه الجلسة اعتباري مع ستة أشخاص من السادة في الحوزة العلمية في قم وبعض التجّار المحترمين في السوق، من المحركين لهذه الحادثة، وحكموا علينا جميعاً بالنفي لمدّة ثلاث سنوات «وهي الحد الأكثر لمدّة النفي» وعندما قال لي رئيس جهاز السافاك في قم في غرفته:

أنني يجب أن أتوجه إلى المنفى، قلت له: ليت الشخص الذي أصدر هذا الحكم حاضراً هنا.

فقال فوراً: إنّ هذا الشخص هو أنا، (وهنا فهمت معنى مجلس الأمن الاجتماعي).

فقلت: لماذا تنسبون كل حادثة إلينا، فهذه الحادثة قد صنعتموها أنتم والجميع يعلم بذلك، فهل أنت تفرض نفسك محامياً عن كاتب تلك المقالة؟

إنّ إطفاء هذه النار الملتهبة ليس بالعمل اليسير، والمفروض أن تقوموا بتقديم الاعتذار عن تلك المقالة وتقولوا: إنّ ذلك الكاتب قد أخطأ وسوف نعمل على إصلاح الوضع وجبران الثغرة، فلماذا اطلقتم النار على الناس الذين خرجوا بشكل قانوني اعتراضاً على كاتب المقالة العميل؟ فقال: الواقع أننا لا نعرف ما هو الباعث على كتابة تلك المقالة؟ ومن هو كاتبها؟ ... على أيّة حال لقد تجاوز الوضع الحالة الطبيعية، تفضل ... (إلى محل المنفى).

قلت: أين؟

فقال: سيتّضح لك بعد ذلك.

وفي هذه

الأثناء دخل أحد المأمورين إلى الغرفة وقال: سيدي إنّ فلان السيرة المباركة، ص: 261

(وذكر اسم القاضي) لم يوافق على توقيف وسجن الثلاثة الآخرين (ولم يتضح من يقصد بهؤلاء الثلاثة) فقال رئيس السافاك بحدّة وغضب وبدون اهتمام بوجودي كشاهد على ما يقول: ليخسأ هذا القاضي فأنا حكمت بتوقيفهم ... (وتتجلّى بصورة جيدة الحكومة المطلقة لجهاز السافاك على الإدارات والأجهزة الحكومية، قلت في نفسي: «مرحباً بهذه الحكومة الديمقراطية للسافاك».

اكذوبة باسم حقوق الإنسان:

إنّ النقض الصريح والمكرر لحقوق الإنسان في بلدنا وفي تاريخنا المعاصر يعدّ من أسوء الذكريات المرّة في أذهان الناس، ففي حين أنّ المادة الاولى من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان توصي جميع بلدان العالم أن يتعاملوا بينهم بروح الاخوة والمحبّة، وتؤكد المادة الخامسة على عدم جواز التعذيب أو تنفيذ العقوبات الظالمة والسلوكيات الشائنة على خلاف الشؤون الإنسانية، وأعلى من ذلك أنّ الحكومة الإسلامية التي تمثّل اطروحة علماء الدين وخاصة الإمام الخميني قدس سره تهتم بهذا الأمر غاية الأهميّة، ولكننا نعيش في أجوائنا بحيث أنّ هذه المسألة أضحت العوبة مضحكة وكل يوم نشهد حالات جديدة من نقض حقوق الإنسان بمنتهى الصراحة.

وكنموذج لذلك ما نذكره عن كيفية ارسال المبعدين إلى المنفى بهذه الصورة:

السيرة المباركة، ص: 262

كان الوقت ليلًا والهواء بارداً جدّاً وقد أدلج الليل، وكانت هناك سيارة نقل كبيرة من سيارات الجيش واقفة إلى جانب مبنى الشرطة في «قم» بانتظاري واثنين آخرين من رفاقي، وكانوا قد جعلوا لكل واحد منّا شرطيين مسلحين، وبما أنّ قم كانت تعيش حالة من الهياج والاضطراب فانّهم كانوا على عجلة في اخراجنا من المدينة.

وعندما وصلنا مع ستة من أفراد الشرطة المسلحين إلى مكان (شرطة المرور بين قم وأراك) نزل ثلج كثير ولزم أن نتوقف هناك بعض

الشي ء لتصل إلينا سيارات خاصة توصل كل واحد منّا إلى مقصد معين.

فطلبنا البقاء في مكان شرطة المرور إلى أن تصل إلينا السيارات التي توصلنا إلى المقصد، ولكنّ الضابط الذي كان يبدو الانزعاج الشديد عليه قال: يجب عليكم البقاء في هذه السيارة، حتى أنّه هددنا بسلاحه الخاص «المسدس».

ولكنّ سقف الشاحنة وجوانبها كانت مشقوقة وكانت الرياح الباردة مع الثلوج تدخل إلى داخل الشاحنة بسرعة وفي ذلك الظلام الدامس، ولعل برودة الهواء كانت تصل إلى تحت الصفر، وكان أفراد الشرطة ينزلون على التوالي ويتوجهون إلى مبنى الشرطة لتدفئة أنفسهم، ولكنني أحسست أنّ جلوسنا في الشاحنة يتضمن خطراً كبيراً ومن الأفضل أن ننزل ونسير خطوات في الصحراء وتحت الثلج لئلا يتجمد الدم في عروقنا، ولكنّ الضابط لم يوافق على ذلك، وآخر فكرة طرأت على ذهني هي أن أقوم بتحريك يدي ورجلي في الشاحنة نفسها لأتمكن من المحافظة على حرارة بدني ولئلا تنجمد أعضائي، ولا أنسى أنني كنت اقاسي الآلام لمدّة طويلة بسبب تلك الليلة العصيبة.

السيرة المباركة، ص: 263

وبعد ساعة ركبنا باصاً لينقلنا إلى مدينة اصفهان، فشعرت أنّ الروح تسري في بدني الذي أوشك على الانجماد، واستولى الخوف على المسافرين في الباص عندما شاهدوا الشرطيين المسلحين معي، فتعاطفوا معي وأظهروا لي المواساة بشكل كبير، وهذه الحادثة علمتهم مسائل كثيرة.

وكان الأمر قد صدر أن نتحرك بسرعة ولا نتوقف في المدن، وفي صورة اللزوم يمكننا التوقف في مراكز الشرطة في الطريق والانتقال من سيارة إلى اخرى، فوصلنا إلى مدينة اصفهان بعد منتصف الليل، وتمّت الموافقة على أن نركب سيارة صغيرة ونتّجه إلى مدينة يزد، فوصلنا في طريقنا إلى مضيق «الملا أحمد» الطويل والشديد التعرجات في الوادي وفي أثناء ذلك نزلت الثلوج الكثيرة

وكان الضباب الغليظ مخيماً على الأجواء وقلّما نشاهد سيارة تمرّ من هذا الطريق، ولكنّهم كانوا يصرون على المضي في هذا الطريق فوصلنا إلى مكان بحيث لم نتمكن من اجتيازه ولا العودة منه، والخلاصة نحن في تلك الليلة واجهنا الموت بين الثلوج والضباب الكثيف ولكنّ اللَّه أنقذنا من هذه المهلكة ووصلنا بعد جهد جهيد إلى مدينة يزد واستمرت الحركة والسفر بدون توقف.

ثم إننا في طريقنا بين مدينة بم «ايران شهر» ضللنا الطريق وتورطنا في متاهة وقد احاطت بنا ظلمة الليل ولم نشاهد أثراً لأي كائن حي، ففكرنا ماذا نفعل؟ وفجأة رأينا ضوءاً يظهر لنا من بعيد فتبيّن أنّه كان باصاً لنقل الركاب وقد جاء في هذا الطريق قاصداً مدينة بم، وخشينا أن لا يتوقف لنا عندما نشير إليه، وكان أحد الشرطيين اللذين كانا معي قد صار رفيقاً لي تدريجياً وكنت أتحدّث معه بهدوء ومتانة، فقال: إنّ السلاح يفيدنا في هذا الموضوع فنزل من السيارة وحمل بندقيته باتجاه الباص وسد عليه الطريق.

السيرة المباركة، ص: 264

فذهل سائق الباص والمسافرون من هذا الحادث وتساءلوا ماذا حدث؟

وما أكثر فرحهم عندما فهموا أننا لا نروم سوى العثور على الطريق واتّضح حينئذٍ أننا كنّا متوجهين في طريق زاهدان الترابي على سبيل الخطأ لا مدينة ايران شهر.

وكان السائق شاباً ساذجاً يخالف عودتنا إلى الطريق الأصلي ولكنني أصررت على العودة ولاسيّما إننا نواجه انتهاء البنزين في أثناء الطريق (والجدير بالذكر أنّه لم تكن هناك محطة لتزويد الوقود في الطريق الطويل وبفاصلة 350 كليومتراً، مضافاً أننا كنّا قد سرنا في سفرنا ثلاثين ساعة تقريباً بصورة متواصلة وبدون نوم أو استراحة فكانت أعصابنا متوترة وأجسادنا تعبة، ولكن الشرطيين أظهرا تأييدهم لاقتراحي بسبب أنني (سماحة الشيخ أكثر تجربة

منّا) ولذلك عدنا إلى مدينة بم.

وبعد مسيرة 50 ساعة تقريباً وصلنا إلى ميناء (چابهار) على حدود باكستان على ساحل بحر عمان، أي أبعد نقطة في البلاد، وكنّا في حالة من التعب والارهاق والمرض لا مثيل لها، وكنت أتذكر طوال الطريق الميثاق العالمي لحقوق الإنسان (وكانوا قد خصصوا يوماً أو اسبوعاً في السنة) واتضح هناك أنّ الشرطة أيضاً كانوا يعيشون النقمة على الأوضاع ولكنّهم لم يكونوا يظهرون ذلك ولا طريق لهم إلى الاعتراف.

أول منفى چابهار:

بالرغم من أنّ المناطق الاخرى في ايران كانت باردة جدّاً والثلوج تغطي الأرض والناس يستخدمون المدفئة، إلّاأنّ (چابهار) كانت حارة والناس السيرة المباركة، ص: 265

يستخدمون المبردة، ولكنّ أهالي المنطقة الذين كانوا من البلوج يقولون إنّ الجو بارد، ولكن عندما تمتلي ء ملابسنا عرقاً من شدة الحر بحيث يقطر العرق من أصابعنا وتلتهب أدمغتنا من شدّة الحر عند ذاك يقولون الهواء «شرجي!!» وهناك نلاحظ شدّة الرطوبة في الجو بحيث إنّ أغصان الشجر تنضح وتقطر بدون أن يكون هناك مطر أو سحاب، وشاهدنا بين الحين والآخر في داخل هذه المدينة الصغيرة والحدودية، أقفاصاً وأكواخاً للمحرومين الذين كانوا يعيشون فيها بدون كهرباء وماء، ولا أدري ولا أعلم أنّهم في هذا الحال ماذا يصنعون في أيّام الصيف؟ ولكن في تلك الأيّام بالذات كنت أقرأ في الصحف الصادرة في طهران والتي كانت تصلنا بعد اسبوع من صدورها بسبب بُعد الطريق .. أنّه تقرر بناء معسكر بحري عظيم في ميناء (چابهار)، وبذلك تكتمل مجموعة المعسكرات الثلاثة .. الجوية، والأرضية، والبحرية، وقد كانت نفقات المعسكر المذكور تبلغ 4 مليارات، وعلى أيّة حال فالمعروف بين الناس أنّ هذه القاعدة البحرية تقوم ببنائها شركات أمريكية وحتى أنّهم اشترطوا عدم الحق في استخدام أي

عامل ايراني.

ولكن لم يتضح الهدف من بناء هذا المعسكر العظيم وبتلك النفقات الباهظة، ومن أجل ماذا يتمّ بناء هذا المعسكر، وفي مقابل أي عدوٍّ قوي؟.

وكل ذلك في منطقة تفتقد المياه الصحية، ومياه الأنابيب مالحة إلى درجة أننا عندما كنّا نغسل وجوهنا كان الماء يؤذي عيوننا.

وفي هذه المدينة لم نعثر على صيدلية واحدة في تلك الأيّام، وأمّا حمام المدينة الوحيد فقد تمّ تعطيله بسبب عدم دفع ثمن الماء، وكان الناس يعيشون في تلك المنطقة إلى درجة من الفقر والمحرومية أنّ بعضهم لا

السيرة المباركة، ص: 266

يذوق فاكهة أو يتناول بعض الخضروات طيلة أيّام السنة، وعندما قرأت هذه الأرقام الكبيرة والنفقات الباهظة للتسلح في هذه المناطق المحرومة غرقت في دوامة من الفكر لأنّ هذا التسلح العسكري الكبير لبلدنا يشبه أن نقوم بلف شجرة بسلسلة وأسلاك حديدية لغرض المحافظة عليها ولكنّ الشجرة مصابة بالجفاف من الداخل وسوف تنهار تحت ضغط هذه السلاسل والأسلاك، ولهذا فانّ استقلال البلاد لا يقوم على كثرة السلاح ونوعية الأجهزة المتطورة في عالم التسلح العسكري، بل يعتمد على إيمان الناس وعشقهم لوطنهم ولدولتهم، فلو أننا تحركنا في خط التسلح العسكري وشراء أحدث أنواع الأسلحة المتطورة على حساب اهتزاز القيم وضعف الحالة الاقتصادية والاجتماعية للناس فاننا نتحرك في طريق الفناء ونحفر قبورنا بأيدينا، فلو أننا قمنا بانجاز بعض الخدمات لتحسين حالة الناس في هذه المناطق بدل كل هذه الأجهزة الحديدية فإننا سنتمكن من إذكاء حالة العشق والإيمان في قلوبهم وسيدافعون عن وطنهم وبلادهم بكل وجودهم.

بلاء الاستبداد والنفاق:

قلت: إنّ ماء الحنفية مالح إلى درجة أنّه لا يصلح للغسل أيضاً، وأمّا مياه الشرب فإنّها تنقل إلى المدينة بواسطة الصهاريج أو البراميل الصغيرة من مناطق قريبة أو بعيدة، وفي أحد

الأيّام رأيت ماء الحنفية حلواً، فقلت في البداية: لعلي مخطى ء في تصوري هذا، فكررت المضمضة بهذا الماء فثبت لي أنّه حلو واقعاً، فصحت بأصدقائي أن يستفيدوا من هذه الفرصة، وفوراً ملأنا عدّة آنية بالماء كذخيرة، ولكن لم تمض سوى ثلاث ساعات تقريباً

السيرة المباركة، ص: 267

حتى عاد الماء إلى ملوحته، فتعجبت كثيراً من ذلك، فقال لي رجل ذو وقار يعيش إلى جوارنا: لا تتعجبوا، فحتماً جاء إلى هنا أحد المسؤولين الكبار من العاصمة، وعادة يقوم الموظفون هنا بضخ الماء الحلو من المخازن إلى الأنابيب في المدينة لإثبات نجاح مشروع تحلية المياه، ولكن بمجرّد أن يعود ذلك المسؤول الكبير وتنتهي عملية تفقد المشروع فانّهم يقومون بإغلاق الأنابيب لمياه التحلية.

فقلت: إنّ هذا العمل مهما كانت فيه من المعايب والنواقص إلّاأنّه يتضمن حسناً كبيراً، فلا يلزمكم بعد هذا شراء صحيفة كل يوم، لتتفقدوا الأخبار.

فعندما تستيقظون من نومكم في صباح كل يوم عليكم بمضمضة ماء الحنفية، فلو كان مالحاً تماماً فستعرفون عدم مجيى ء أي مسؤول إلى مدينتكم، ولكن إذا كان ماء الحنفية حلواً فمعنى ذلك قدوم أحد المسؤولين الكبار من العاصمة حتماً، وإذا كان ماء الحنفية نصف مالح فانّ احتمال قدوم مسؤول من الدرجة الثانية يكون قوياً.

بعد ذلك بمدّة كتبت الصحف أنّ في يزد شارع تمّ افتتاحه عدّة مرات، أي أنّه في كل مرّة يأتي إلى يزد أحد المسؤولين لتفقد المدينة فانّهم يقومون بافتتاح ذلك الشارع من جديد وينصبون في بداية الشارع شريطاً ملوناً ليأتي ذلك المسؤول ويفتتح الشارع بقص الشريط المذكور.

وقد قام أحد أصدقائي الروحانيين وبمساعدة الناس (وبدون تدخل الدولة) ببناء جسر في أحد قرى مدينة مازنداران، وعندما تمّ بناء الجسر قام المسؤولون الرسميون بالضغط على هذا الرجل لافتتاح

هذا الجسر بأنفسهم وأعلنوا بالاذاعة وأخبار الراديو عن افتتاح هذا الجسر كجزء من مشروع كبير للدولة في تلك المنطقة!! لاحظوا أنّ الحالة في كل المناطق السيرة المباركة، ص: 268

سواء في شمال ايران وجنوبها وشرقها وغربها هي هذه الحالة، وظاهرة النفاق والرياء تشتد في جميع المراكز وكافة الأجواء، فالمظاهر براقة وجميلة، أمّا الاسس والدعائم فمنهارة وركيكة.

إنّ أهالي مدينة (چابهار) يمتازون بالأخلاق الحسنة والقلوب الطيبة والمليئة بالمحبّة ويتكون 80% منهم من أهل السنّة و 20% من الشيعة ويعيشون بروابط أخوية فيما بينهم، وهم من أكثر الإيرانيين حرماناً، في حين أنّ أهالي هذه المنطقة يقولون: إنّ الجو الحار هنا يساعد شجرة الفاكهة على أن تحمل مرّتين في العام.

وقد شاهدت بعض البساتين في (چابهار) ورأيت أنّ أرضها تعدّ من أخصب الأراضي الزراعية، فهذا البستان مع كل هذه المحصولات الزراعية في فصل الحر يعتبر أفضل وثيقة حية على إثبات تقصير الجهاز الحاكم ويدلّ على أنّ النظام لو اهتم بتهيئة الماء العذب واهتم بالزراعة في هذه المنطقة فإنّه ليس فقط يتمكن من تدبير امور الناس والأهالي في هذه المنطقة بل سيتمكن من التخفيف عن كاهل الناس في سائر المناطق الاخرى، وسيتقدم خطوة إلى الأمام في طريق القضاء على التبعية إلى الأجنبي في مجال المحصولات الزراعية بحيث تمثل هذه المشكلة أصعب وأخطر مشكلة اقتصادية وسياسية في ايران.

ومن المسائل العجيبة هناك وعند بداية دخولي إلى هذه المنطقة رأيت أنّه لا يوجد في المدينة كلها سوى حمام واحد وكان ذلك الحمام معطلًا.

وضمناً علمنا أيضاً أنّ البلدية قامت بتخصيص مساحة 20 ألف متر من السيرة المباركة، ص: 269

أفضل أراضي المدينة مجاناً لإحداث مقبرة خاصة لأفراد الفرقة الضالة «البهائية» في حين أنّ عدد أفراد هذه الفرقة

في (چابهار) لا يتجاور ستة عوائل فقط، ويكفيهم لدفن موتاهم عشرون متراً من هذه الأرض، ولكن في المقابل لا نجد مقبرة واحدة للمسلمين، وفكّرت في أنّ السكوت هنا حرام، ولذلك قمت بإرسال تلغراف إلى حاكم المدينة ورئيس البلدية بصفتي أحد المسؤولين المذهبيين وأحد رجال الدين وسجلت فيها اعتراضي على هذه المسألة وبعض المسائل الاخرى في هذه المدينة (وتصورت في نفسي أنّ مدينة (چابهار) تمثل آخر الخط حيث لا توجد مدينة أبعد منها لارسالي هناك).

ولعلكم تتعجبون إذا علمتم أنّه بعد يومين وصلت لي رسالة جوابية من رئيس البلدية الذي يظهر أنّه رجل صريح وذا همّة عالية، حيث كتب لي في هذه الرسالة الرسمية وبإمضائه وختم البلدية الرسمي، ضمن ابداء شكره لهذه الانتقادات: «إنّ هذا البذل بالنسبة إلى أراضي المقبرة لم يحصل في زمان قيامي بالتصدي للمسؤولية، ويظهر من خلال الوثائق والمدارك أنّ الأمر قد صدر من العاصمة»، أي أننا لا نملك شيئاً تجاه هذا الأمر، ولكننا سنقوم بالعمل ببعض مقترحاتكم الاخرى، فرأيت أنّ الماء ملوث من المنبع وجميع مناطق البلاد لها حصة من هذا الماء الملوث. ولهذا السبب أرى بعض الأفراد الانتهازيين يستغلون الفرص ويتفقون مع المسؤولين في تلك المناطق ويستغلون أجواء الخوف والصمت المسيطرة على المطبوعات ليتحولوا بعد فترة وجيزة إلى أثرياء من الطراز الأول يمتلكون عشرات المصانع وعشرات الآلاف من الأغنام ومساحات شاسعة من الأراضي في شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها، فيكون لهم من الثروات العظيمة

السيرة المباركة، ص: 270

بحيث لا يصل إليهم أي اقطاعي يعيش في زمن تسلط الاقطاعيين (يشير بذلك إلى هزبر يزداني أحد الأثرياء في زمان حكومة الشاه).

أمّا من الناحية الدينية فانّ الناس في مدينة (چابهار) يعيشون المحرومية المطلقة (كما في سائر

المناطق الاخرى) ولابدّ لي من الاعتراف بأنني لو لم اجبر على المجيي ء إلى هنا فإنني لا اسافر إليها باختياري، ولحسن الحظ أنني ذهبت إلى هناك ورأيت بعيني هذه المسائل وأحسست بالمسؤولية الثقيلة على عاتقي.

وطبعاً تحركت هناك في مجال تدبير امور المسجد والبرامج الثقافية فيه قدر المستطاع وقمت بتأسيس مكتبة بمساعدة بعض الاخوة هناك، وكان يشترك في بعض الجلسات الدينية التي كنت أُقيمُها بها هناك 80% من اخواننا أهل السنة، وكذلك كنّا نتحدّث ونتحاور مع علمائهم في أجواء مليئة بالتفاهم المشترك وكنّا نطرح الكثير من الامور المتعلقة بالسياسة والحكومة على بساط البحث وتتضح الكثير من هذه المسائل حيث لا يمكن بيانها في هذا المختصر.

وكان أحد الأهالي يقول: يجب علينا أن نشكر اللَّه تعالى على أن بعثوك إلى هنا، وإلّا فأين نحن وهذه الامور والمسائل الدينية.

المنفى الثاني إلى «مهاباد»:

ومضى خمسون يوماً على بقائي في مدينة چابهار وكان الجو في طريقه السيرة المباركة، ص: 271

إلى القيظ وشدّة الحر بسرعة وكان العرق يتصبب من أبداننا وكنّا قلقين من حلول أشهر الصيف في هذه المنطقة ولكن فجأة صدر الأمر بالتحرك باتجاه (مهاباد) في شمال غرب البلاد، وهكذا جاء معي شرطيان، أحدهما شيعي والآخر سني، وأحدهما يمتلك بندقية والآخر مسدساً، أحدهما كثير الكلام والآخر ماهر في إصابة الهدف، ومعهم مقادير كبيرة من الذخيرة والرصاص، وقطعنا مسافة 3200 كيلومتراً في مدّة اسبوع تقريباً ودخلنا مهاباد في طرق ثلجية.

ورغم أنّ قانون النفي والإقامة الجبرية يقول: إنّ الشخص المبعد لا ينبغي أن يحاصر بأي محدودية فيجب أن يتمتع بالحرية في كل شي ء، ولكننا وجدنا أنفسنا في مدينة مهاباد ممنوعين من كل تحرك ولم يسمحوا لنا بالحرية خلافاً لمدينة چابهار.

إنّ تصرفات رئيس الشرطة ورئيس البلدية الطفولية واللامسؤولة

أدّت إلى أن يتعامل الناس معنا من موقع الحذر والخوف فلا يتصلون بنا إلّاقليلًا حتى أنّ الكسبة يحتاطون في بيعنا ما نحتاجه، وقد قاموا باستجواب طبيب الأسنان الذي قام بإصلاح ومعالجة أسناني، فلا أحد يتجرأ على إجارتنا منزلًا معيناً من دون إجازة السافاك، وكان أحد رجال السافاك السريين (ولم يكن سرّياً إلى تلك الدرجة) كان يتبعنا كظلنا، وكان الهاتف في بيتنا يقع تحت المراقبة الشديدة، وبعض المسافرين الذين يقدمون إلى مهاباد من مناطق بعيدة وقريبة لزيارتنا كانوا يأخذونهم إلى مركز الشرطة أو السافاك ليتحققوا منهم، وبالرغم من رغبتي الشديدة في الاستفادة من هذه الفرصة الثمينة والاتصال بعلماء أهل السنّة للبحث معهم في مسائل إسلامية مختلفة وكذلك كانوا يرغبون في المقابل بعقد مثل هذه الجلسات، ولكن بسبب السيرة المباركة، ص: 272

الضغوط الشديدة التي كنّا نواجهها من قبل أجهزة النظام لم تسمح لنا الفرصة بذلك إلّابعد أربعين يوماً، وفي تلك الأجواء كان الخوف مستولياً على الجميع وكان الناس يخيم عليهم ظلال الأجهزة الأمنية والخوف من السافاك.

ولكن أخيراً رأيت كيف أنّ الناس في مهاباد الذين كان يخيم عليهم الخوف والرعب من السلطة، قد استيقظوا وخرجوا إلى الشوارع في تظاهرات عظيمة ضد النظام؟ وهذه الظاهرة حصيلة تلك البرامج والجلسات، والملفت للنظر أنّ أصدقاءنا المشتركين في التفسير الأمثل كانوا يقدمون إلى مهاباد بالتناوب كل عشرة أيّام وكان مشروع التفسير مستمراً وبسرعة أكبر هنا في تلك الفترة.

المنفى الثالث إلى «أنارك نائين»:

وسأترك الكلام عن الذكريات الحلوة والمرّة في هذه المدينة الخضراء المليئة بالبركة والجمال (مع أهميّتها في بعض الموارد) ومن أجل رعاية الاختصار في الكلام، وأتحدث عن المنفى الثالث وهو مدينة «أنارك نائين» الصحراوية.

في أحد الأيّام جاء إلينا رئيس مخابرات الشرطة في مهاباد يحمل رسالة

من قم وكأنّ المشكلة قد انحلت ويجب أن أأتي معه إلى مركز الشرطة، ولكنّهم قالوا لي هناك: يجب عليك أن تتحرك باتجاه مدينة «أنارك نائين» وليس لك الحق في العودة إلى المنزل لتفقد زوجتك وأطفالك (لأنّ العائلة كانت معي في مهاباد فأردت إخبارهم بمفاد الاعلان العالمي لحقوق السيرة المباركة، ص: 273

الإنسان، فرأيت شرطيين مسلحين ببندقيتين يقفان أمامي وكانا يلفّان حول بدنيهما أشرطة وأحزمة كثيرة من الرصاص بحيث كان الحزام يوشك على الانفلات من ثقل الرصاص، ولا أعلم أنّ هذان كانا يستعدان لقتال جيش كامل أو لتشييع نفر واحد مبعد لا يملك حتى سكيناً صغيرة!!».

قالوا: إنّ السيارة حاضرة ... وتحركت بنا في الطريق لمدّة عشرين ساعة بدون توقف أو استراحة في وسط الطريق حتى وصلنا إلى مدينة نائين وهناك جاءتنا سيارة الحرس مع ثلاثة نفرات من الشرطة المسلحين إلى مدينة أنارك التي تبعد 75 كيلومتراً عن مدينة نائين.

في هذه المدينة، كما يظهر من اسمها، بعض أشجار الرمان ولا شي ء غير هذه الأشجار القليلة، فالصحراء تنتشر في كل مكان وتحيط بالمدينة من جهاتها الأربع، وفي المدينة شوارع وأزقة قليلة معبدة لا يمكن اطلاق اسم شارع عليها إلّابالمسامحة، وكل هذه الشوارع تنتهي إلى الصحراء الجافة المحرقة، وكان الخباز الوحيد قد سافر قبل مدّة منها فلا يوجد الخبز إلّامن خلال البيوت حيث يخبز بعض الأهالي الأرغفة في بيوتهم، لهذا السبب كنّا غالباً نأكل الخبز اليابس الذي يؤتى به إلينا من مناطق اخرى ويبقى لمدّة شهرين، أمّا الماء هناك فلم يكن صالحاً للشرب، ولهذا السبب فإنّ بعض الأصدقاء كانوا يأتون إلينا كل يوم تقريباً ويقطعون مسافة 200 كيلومتراً لملاقاتنا ويأتون إلينا بماء الشرب من هناك، أمّا بالنسبة إلى النفط والبنزين

فالمحطة الوحيدة هناك كانت معطلة بسبب قلة الأرباح التي يحصل عليها البائع، ولهذا لم يكن في المدينة أثر للنفط أو البنزين، وكان لدى أهالي السيرة المباركة، ص: 274

المنطقة قليل من الماعز التي كانت تشكو الجوع غالباً لقلّة العلف في هذه المنطقة الصحراوية الجافة، وكان أحدهم يقول: إني حلبت أربعة من الماعز ولم أحصل إلّاعلى 200 غراماً من الحليب.

هذه المدينة الصغيرة التي كان عدد سكانها 200 نفر تسمّى أحياناً بمدينة «النساء»، وذلك بسبب أنّ رجال المدينة كانوا يقضون جميع أيّام الاسبوع «ماعدا الجمعة» في منجم لاستخراج الرصاص يقع على مقربة من هذا المكان ويسمى «معدن نخلك»، فتبقى نساؤهم وأطفالهم في المدينة بدون رجال.

ولعلكم سمعتم أنّ العمل بمعدن الرصاص خطر على الإنسان فكيف بمن يعمل في منجم الرصاص حيث يصاب الإنسان بالضعف والذبول أو يصاب بالسل إلّابتوفير الحماية الكاملة والرقابة الصحية الجيدة.

كان العمال هناك يعملون في عمق 180 متراً تحت الأرض وأحياناً يصل الماء إلى خاصراتهم ومع ذلك فإنّهم يستلمون حقوقاً ومرتبات شهرية قليلة جدّاً (من 23 إلى 30 توماناً) في اليوم، ولهذا السبب نرى هجرة الشباب من هذه المدينة إلى مناطق اخرى، ومن هنا كان يجب على العاملين في هذا المنجم وللحيلولة دون الاصابة بالمرض تناول قنينة حليب كل يوم ولكنّ المسؤولين كانوا يبخلون عليهم بذلك.

وكانت الحالة لدى بعض الناس إلى درجة من الرقة والحرمان بحيث لا يمكن وصفها وبيانها، ولكنّ الناس هناك بصورة عامة كانوا يتمتعون بطهارة القلب وملتزمين بتعاليم الدين، ولهذا تعرفت على الجميع في مدّة قصيرة واستطعت القيام ببعض البرامج الدينية هناك ولحسن الحظ أننا لم نواجه منعاً أو تحديداً للعمل من قبل النظام.

السيرة المباركة، ص: 275

ولكن لا ينبغي أن تغفلوا عن وجود

مناجم كثيرة حول هذه المدينة المحرومة، منها منجم للذهب وكذلك اليورانيوم، ولكن مع ذلك لا يحصل أهالي هذه المدينة على شي ء من عوائد هذه المناجم، والأهم من ذلك وجود قاعدة عظيمة للقوّة الجوية على بعد ثلاثين كيلومتراً من المدينة (بين أنارك ونائين) إلى جانب الجادة الرئيسية وقد قاموا بنصب صواريخ ضد الجو حول هذه القاعدة الجوية، وأنفقوا في بناء هذه القاعدة نفقات عظيمة، ولا توجد منطقة معمورة هناك سوى هذه القاعدة فقط.

وكان ما يُسكِّن غليلنا ويُرقِّق قلوبنا في تلك المدينة، مضافاً إلى محبّة الناس وكثرة الأصدقاء القادمين إلينا من اصفهان ونائين ويزد وكاشان وسائر المناطق الاخرى، أنّ آية اللَّه السيد «پسنديدة» الأخ الأكبر للإمام الخميني وعدّة من الاصدقاء كانوا مبعدين أيضاً إلى هنا.

فقد أرسلوهم إلى هذه المنطقة بعنوان النفي والتبعيد وكنّا نستأنس ونلتذ بالجلوس إليهم وسماع حديثهم.

ومرّ شهران أو ثلاثة في تلك المنطقة وأخبرونا في أحد الأيّام عن استبدال مكاننا، ولابدّ من التوجه إلى المنفى الرابع «جيروفت» وقد أحضروا سيارة ونفرات من الشرطة.

وفهمت من خلال ذكرياتي في تلك المنطقة أنّ هذه المنطقة الواقعة بين كرمان وبندر عباس حارة ومحرقة، والذهاب إلى هناك وخاصة في وسط شهر رمضان المبارك والصيام في ذلك الجو المحرق لا يعد عملًا معقولًا، مضافاً إلى أننا لا ينبغي أن نسكت على كل هذا الأذى حيث يقذف بنا أزلام النظام كل يوم إلى منطقة معينة مثل كرة القدم، فأخبرت السائق فوراً بذلك وتوجهت سرّاً في تلك الليلة من «أنارك» إلى قم من طريق فرعي وقلت في السيرة المباركة، ص: 276

نفسي: لا يوجد لون أشد من السواد، وكتبت رسالة ووضعتها في مكاني في أنارك على أن يسلمها إلى المأمورين صباح ذلك اليوم، وقلت

في هذه الرسالة إنني توجهت إلى قم للمشورة مع المحامي الخاص فلا تعتبروا هذا العمل من غيبتي ... واتّفق أنّ الأوضاع تغيّرت في هذه الأيّام وتصاعدت حدّة الثورة إلى أن انتصرت وتمّ اطلاق سراح جميع السجناء السياسيين وعودة المبعدين، وهرب المستكبرون وقادة النظام الجائر من البلاد أو اودعوا السجون أو حكم عليهم بالإعدام، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد للّه ربّ العالمين.

وأخيراً فهمت من هذا الدرس الكبير أنّ السجن من شأنه أن يمنح رجال الثورة القوة والاستقامة في خط الرسالة أكثر، ويمكّن المُبعدين أن يوصلوا نداء الثورة إلى النقاط القريبة والبعيدة من البلاد (وممّا يجدر ذكره أنّ هذه الرسالة تتعلق بما قبل 23 سنة تقريباً).

السيرة المباركة، ص: 277

25 العبرة

اشارة

إنّ المسار الصعب في حركة الإنسان لتهذيب النفس والسلوك إلى اللَّه بالرغم من كونه يتجلّى للسالك في كل منزل بمناظر ومشاهد رائعة وجذّابة (حيث يجدها السالك بالشهود القلبي والمعارف اليقينية البهيجة في عالم اليقظة أو على الأقل في الرؤيا الصادقة في حياة المؤمن السالك) ولكنّ كل هذه التجليات والمناظر تصل إلى الذروة عندما يصل السالك في مسيرته المعنوية وفي خط الانفتاح إلى اللَّه إلى منازل متقدمة ويكون شيخاً في هذا الطريق ويصل في عمره إلى سنوات متقدمة من النضج، لأنّه:

أوّلًا: إنّ الإنسان السالك قد تحمل في مسيرته هذه آلاماً وأتعاباً كثيرة في هذه المنازل وفي طريقه المتعرج والصعب إلى لقاء اللَّه كما تقول الآية الشريفة: «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ» «1»

، وقد تحمل الكثير من أجل الدفاع عن حريم الربّ، وحراسة الدين الإلهي، ومن الطبيعي أنّ حظه من لقاء الربّ سيكون أكثر، وسيكون حظه من رؤية جمال المحبوب أكثر.

ثانياً: إنّ ظرفيّة الإنسان السالك

وسعته الوجودية في هذه المواقع وهذه الأعوام ستكون أكثر وأوسع من ظرفيته في المراحل السابقة، وبديهي أنّ أرضه الواسعة ستنال أمطاراً أكثر كما يقول المثل «كلما كان السطح أكبر فانّ الثلج النازل عليه أكثر».

ثالثاً: إنّ هذا الإنسان السالك يعيش في هذا العمر تجارب أكثر ويعيش النضج العقلي السيرة المباركة، ص: 278

والعاطفي من خلال التجارب الكثيرة التي مرّت عليه في حركة الحياة والواقع من صدود وتنكر أهل الدنيا له، التجارب التي أحسّ فيها بالانكسار والفشل حيث تكون مقدّمة لليقظة والبناء، التجارب التي عاش فيها الأوهام والطموحات: «كَسَرَابٍ بِقِيْعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً» «1»

، وغرور الدنيا: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» «2»

، ومظاهر الدنيا البراقة: «كلّ شي ءٍ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه ...» «3»

التجربة التي يعيشها السالك بجميع وجوده وأعماق وجدانه في حياته أو حياة الآخرين تثمر فإنّ لازمها القهري والطبيعي الانقطاع عن جميع هذه الظواهر البراقة والموهومات الخداعة وقطع الأمل بجميع أنواع التعلقات الدنيوية والانشداد القلبي الخالص نحو الرفيق الأعلى وعالم البقاء «كلّ شي ء هالك الّا وجهه».

بديهي أنّ العوامل المذكورة أعلاه «وبعض العوامل الاخرى» تثبت حقانية الحضور والشهود وابتهاج اليقين والمعرفة للسالك في خط الإيمان بصبغة اخرى وتمنحها قوة واعتباراً أكثر، واضفاء مزيد من التجليات لهذا التكامل المعنوي والصفاء الروحي واليقين القلبي.

إنّ أشكال التعب والكدح المضني الذي يتحمله المؤمن السالك في سبيل الدفاع عن الدين السماوي واحياء مذهب أهل البيت عليهم السلام يحتاج إلى ظرفية وجودية أوسع وانقطاع أكمل في واقع الإنسان الوجداني، وبالتالي زيادة في الوعي والحكمة واليقين بالحقانية التي تنعكس كلها بشكل عام على كلمات السالك وفي طيات قلمه (بحيث إنّ نثره يتضمن معالم الحرقة والعاطفة، وكذلك شعره يمتاز بالاشراقات المعرفية والفيوضات الحكمية

وسيأتي توضيح ذلك لاحقاً) وهكذا تمتد كلماته ومواعظه إلى أعماق الروح وتنفذ نصائحه إلى القلب فتؤثر في النفس تأثيراً مضاعفاً، لأنّ المواعظ والنصائح الصادرة من السالك في هذه المرحلة من العمر إنّما تصدر من أعماق قلبه وتتميز بالصدق والصفاء والاخلاص، ولذلك السيرة المباركة، ص: 279

نرى صدور هذه النصائح بدون تكلّف أو تصنّع في العبارة وبدون استخدام أدوات الفصاحة والبلاغة التي تبعد المستمع أو القارى ء عن فهم أصل المطلب وجوهر الموعظة.

والآن بعد هذه المقدّمة المختصرة، إذا أردت تصديق هذه الحقيقة، كما هو حال كاتب هذه السطور، فعليك أن تطهر روحك المتعبة بالدموع الحارة وتسقي قلبك الضمآن من كوثر المرشد الزلال وتجلس عند مجلس الوعظ معنا لنستمع إلى استاذنا ونصغي لكل ما يقوله وما يكتبه من نصائح وعبر ونتحرك في خط السلوك المعنوي بقراءة «رسالة العبرة» و «في مسير القرب الإلهي» لسماحة الاستاذ، ومع رعاية «التقوى» نتخلص من التعلق بالمقامات المادية والدنيوية التي هي أقل قيمة وقدراً من أن يفكر بها الإنسان السالك، ولا نغفل عن «دور التجارب» في حياة الفرد ونهتم بالتالي ب «جبران الاخطاء» والتي تدعونا إلى أن «نخطو كل يوم خطوة جديدة إلى الأمام» ونحصل على السكينة والطمأنينة من خلال «مكافحة الوسواس» ونتحرك باتجاه «العثور على ضالتنا الأصلية» ومع إزالة حجب الأنانية والنوازع النفسانية في التفوق والسمعة نزيل عن قلوبنا «الحجاب الأعظم»، وأخيراً عندما نتجه مع «نغمات العاشقين» باتجاه طريق أولياء اللَّه يتجلّى لنا عنصر الفقر الكامل في أنفسنا للذات المقدّسة ونتخلص بذلك ومن خلال نفي الشرك والرياء من «آخر مانع في طريق الحق».

موعظة بقلم الاستاذ:

اشارة

«إنّ الكثير من الأعزاء، وخاصة الشباب، عندما يأتون إلينا ويطلبون الموعظة والنصيحة المناسبة لتكون كالمصباح النير في طريق سلوك المعرفة

الإلهيّة وليفتحوا طريق القرب الإلهي في حركتهم المعنوية (ويتصورون أننا سلكنا هذا الطريق بكل تفاصيله وأزقته وأننا على معرفة بتعقيداته ومشكلاته، وليت الأمر كان كذلك) ولكن بما أنّ كل طلب لابدّ له من السيرة المباركة، ص: 280

جواب مناسب ولاسيّما بالنسبة إلى طلب أهل الإيمان والسالكين طريق الحقيقة وسبيل المعرفة، فلا ينبغي رد طلبهم، وهنا أتقدم لهم من خلال الاستفادة من آيات القرآن المبين وكلمات المعصومين عليهم السلام وحالات العظماء من علماء الدين والتجارب التي عشتها في حياتي اقدمها كبضاعة مزجاة في هذا التقرير المختصر وأرجو من جميع الأعزاء أن لا ينسوني من دعائهم كما أنني لا أنساهم من الدعاء لهم دائماً بالموفقية:

1- تقوى اللَّه

قبل كل شي ء اوصي نفسي وجميع الأعزاء بتقوى اللَّه التي هي الحصن الحصين والقلة القوية الإلهيّة وزاد يوم المعاد بل (خير الزاد إلى خالق العباد)، التقوى التي لا تمثل حركة طارئة في حياة الشخص بل تمتد إلى أعماق روحه وتصبغ جميع وجودنا بصبغتها «وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبغَةً ...» «1»

إنّ مثل هذه التقوى بإمكانها أن تمنحنا الجهة التي نتوجه إليها في أهدافنا القريبة والبعيدة وتشخص لنا مسيرتنا في حركة الحياة وتكشف لنا عن مطبات الطريق وغوامض السبيل.

هذه التقوى التي تمثل أكبر رأس مال للإنسان وأعلى وسام يفتخر به، وهي الملكة التي تربط الإنسان بخالقه وتوصله إلى مقام العبودية الخالصة بحيث يسمع هذا النداء من أعماق قلبه: «إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّا» «2».

2- المقامات المادّية أقل شأناً ممّا نتصور

أيّها الأعزاء! لقد جربت في هذا العمر القصير المعالم المرّة والتحديات الصعبة في الحياة ورأيت ما تتضمنه الحياة من تعقيدات وصعوبات وجرّبت العزّة والذلة والشدة والراحة، وأخيراً لمست هذه الحقيقة القرآنية بجميع وجودي: «وَ مَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» «1»، أجل الدنيا متاع غرور وخداع وهي فارغة وموهمة وزائفة أكثر ممّا نتصور.

إنّ الأمر الوحيد الذي يمنح هذه الحياة معنىً خاصاً ومفهوماً جميلًا هو الاعتقاد بالحياة الاخرى بعد الموت، فلو لم تكن هناك حياة بعد الرحيل من هذه الدنيا فلا يبقى معنىً ولا مفهوماً ولا هدفاً لهذه الدنيا.

إنني لم أجد في جميع سنوات عمري شيئاً ذا قيمة سوى ما كان يتصل بالابعاد المعنوية والقيم الأخلاقية للإنسان، فجميع القيم المادية تنتهي إلى سراب بقيعة، والناس نيام والتخطيط للدنيا رسم على الماء، والإنسان يعيش في هذه الدنيا في تعب دائم ومشقة مستمرة.

إنّ أطفال الأمس هم

شباب اليوم، وشباب اليوم هم شيوخ الغد، وشيوخ يضطجعون غداً تحت التراب وكأنّهم لم يكونوا شيئاً مذكوراً، عندما أمرّ إلى جانب بيوت كبار العلماء أو الشخصيات المهمّة في الأزمنة السابقة يتبادر إلى ذهني أنّ هذه البيوت كانت في زمن معين تغص بالرجال ومعمورة بالحركة والنشاط والضوضاء، وما أكثر الأنظار التي كانت متوجه إلى هذه البيوت من موقع التعظيم والتبجيل، ولكنها اليوم تلبس ثياب النسيان وترتدي حلّة غبار الزمان وتسكن في صمت رهيب، وأحياناً أتذكر الحديث الشريف لأمير المؤمنين علي عليه السلام في نهج البلاغة حيث قال: «فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيا عُماراً وَكَأَنَّ الْآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ داراً» «2».

السيرة المباركة، ص: 282

إنني أرى رفاقاً يسيرون بقامات منحنية متكئين على العصا ويخطون خطواط قليلة ويقفون للاستراحة وهكذا يخطون خطوات اخرى، وفجأة تتجسد أمامي مرحلة الشباب التي كانوا يعيشونها وما كانوا عليه من قامات منتصبة نشاطاً وحركة وفاعلية، وحالات الفرح والضحك التي كانوا عليها في جلساتهم، ولكن اليوم نرى غبار البؤس والضعف على قسمات وجوههم، وتتجلّى سيماء الحزن والكآبة على محياهم وكأنّهم لم يذوقوا طعم الفرح والسرور في السابق.

وهنا يتجلّى لنا مفهوم الخطاب الإلهي في القرآن الكريم: «وَ مَا هذِهِ الحَيوةُ الدُّنْيا إِلّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ» «1»

فنشعر هذا المعنى بجميع وجودنا وإنني مطمئن إلى أنّ الآخرين عندما يصلون إلى ما وصلت إليه من العمر فانّهم سيجدون صحة ما أقول إذا تأملوا فيه قليلًا، ومع هذا الحال لماذا نرى كل هذه النزاعات وحالات الصراع من أجل المال والمقام والجاه؟ ولماذا هذا التنافس في الحطام الزائل؟ ولماذا نعيش كل هذه الغفلة عن المصير؟

ولاسيّما أنّ الإنسان يعيش في العالم المعاصر متغيرات سريعة وتحولات هائلة في جميع المجالات.

إنني أعرف بعض العوائل الذين كانوا يعيشون

بالأمس سوية وكانوا على مقدار كبير من التشخص والمكانة الاجتماعية واليوم نراهم متفرقين أشتاتاً فأحدهم يعيش في أمريكا، والآخر في اروبا، والآخر في مكان آخر وقد بقي الوالدان في البيوت كالغرباء، وأحياناً تمرّ شهور عديدة بدون أن يصل خبر من الأبناء ولا أنّ الأبناء يصل إليهم خبر عن الآباء، وهنا أتذكر ما ورد في السيرة المباركة، ص: 283

كلمات إمامنا النوارنية: «إنَّ شَيْئاً هذا آخِرُهُ لَحَقيقٌ أَنْ يُزْهَدَ فى أَوَّلِه» «1».

أحياناً أتوجه لزيارة الأموات وخاصة مقبرة العلماء والفضلاء، وأتعجب كثيراً من وجود مجموعة كبيرة من الأصدقاء والأحبة القدماء نيام في هذه المقبرة حيث توجد صورهم التي أعرفها على جدار المقبرة وهنا أذهب وأتوجه إلى أعماق التاريخ وأتصور أنني من بين هؤلاء، ثم أرجع إلى نفسي وأجدها على قيد الحياة».

3- دور التجارب!

أيّها الأعزاء! إنّ الحياة ليست سوى تجربة، التجربة التي بإمكانها إصلاح أخطاء الإنسان وارشاده إلى سلوك طريق أفضل في حركة الحياة، والتجربة تظهر للإنسان حقائق الحياة بصورة شفافة وجليّة وتزيل عنها عنصر الإبهام والغموض الذي يغطي ملامح هذه الحياة.

ومن هنا نرى أنّ بعض الحكماء طلب من اللَّه أن يمنحه عمرين: يتحرك في الأول من موقع التجربة، وفي الثاني من موقع الاستفادة من هذه التجربة.

ولكن بما أنّ العمر الثاني ليس سوى سراب وحلم وعندما يصل الإنسان إلى مستوى من النضج والمعرفة يصل حينئذٍ إلى نهاية المطاف ويجد نفسه في آخر الخط.

فلابدّ من سلوك طريق آخر، وهو الطريق الذي أرشدنا إليه مولى المتقين وأمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام حيث وضع أمامنا الحل لمشكلة العمر الثاني بأفضل صورة وذلك عندما يوصي ابنه العزيز الإمام الحسن ويقول:

السيرة المباركة، ص: 284

«أي بُنيَّ إنّي وإن لم أكن عمرت عمر مَن كان قبلي،

فقد نظرتُ في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسِرت في آثارهم، حتّى عُدتُ كأحدهم بل كأنّي بما انتهى إليَّ من امورهم قد عُمِّرتُ مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمرٍ نخيلته» «1».

أيّها العزيز! إنني أقول لك مؤكداً أن تهتم كثيراً من بين جميع تواريخ المجتمعات السالفة بما ورد في القرآن الكريم من حالات الانبياء الإلهيين وأقوامهم السالفة حيث تتضمن حقائق عظيمة تمثل زاداً ومتاعاً مهماً للسالكين في خط العبودية والإيمان والانفتاح على اللَّه، ولكن هناك فئة من الناس يعيشون اللجاجة واعوجاج الذوق وضيق الافق ويتوقعون أن يجربوا كل شي ء بأنفسهم لكي يقبلوا به وليس من المعلوم ما هو السبب الذي يدفعهم إلى انكار تجارب الآخرين والاستفادة منها، في حين أنّ أعمارهم لا تكفي لأقل القليل من ذلك، فهؤلاء الجهّال لم يجرّبوا لحدّ الآن سوى عدّة مسائل وتنتهي أعمارهم وقبل أن يصلوا إلى مرتبة من الكمال والنضج والمعرفة يغادرون هذه الحياة بأيدٍ فارغة.

أيّها العزيز! لا تكن كذلك، بل كن من اولي الألباب الذين يصفهم القرآن الكريم بقوله: «لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّاوْلِى الْالْبَابِ» «2»

ولا تنسَ بالأخص قراءة ومطالعة حالات العلماء السابقين وكبار رجال العلم والأدب والتقوى والسلوك إلى اللَّه فانّ في حياتهم وسلوكياتهم نقاطاً مضيئة وملاحظات عجيبة حيث تمثل كل واحدة منها درّة يتيمة وجوهرة غالية، فانني استفدت من مطالعة حالاتهم تجارب كثيرة ومهمّة.

4- جبران الأخطاء

الخطوة التالية هي أن نعلم أنّ الإنسان جائز الخطأ ويقع دائماً في معرض أنواع الانحرافات والأخطاء سوى المعصومين عليهم السلام.

المهم أن يهتم الإنسان بعملية اصلاح هذه الأخطاء ولا يتعامل معها من موقع الافراط والتعصب واللجاجة، ولا يحسن الظن بنفسه ويغض النظر عن

أخطائه وذنوبه فانّ ذلك يعدّ من أكبر الذنوب وأعظم الأخطاء.

وحتى الشيطان فمع أنّه ارتكب أكبر الذنوب والخطايا واعترض على حكمة اللَّه تعالى ورأى أنّ السجود لآدم غير سديد، وتمرد على الأمر الإلهي غاية التمرد والعناد، ولولا أنّ حجاب التعصب والعناد قد غطى على عقله وبصيرته وركب مركب الكبر والغرور فانّ باب التوبة والإنابة سيكون مفتوحاً أمامه.

ولكنّ عنصر الغرور والعناد أدّى إلى أن لا يتحرك في خط التوبة والإنابة، وليس هذا فحسب بل حمل على عاتقه أثقال ذنوب جميع العصاة والمتمردين، فما أثقل هذا الحمل الذي لا يتمكن على حمله الإنسان!!

لهذا السبب نرى أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام يقول في خطبة القاصعة: «فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمامُ الْمُتِعَصِّبينَ وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرينَ» «1»

، فينصح الإمام عليه السلام جميع الناس بأن يأخذوا العبرة من حال إبليس وكيف أنّه خسر حصيلة آلاف الاعوام من العبادة والعبودية بسبب ساعة من التكبر والغرور والعناد حيث أورثه ذلك أن يطرد من أجواء عالم الملكوت ومن الملائكة ليصل إلى «اسفل السافلين».

أيّها العزيز! إذا صدر منك زيغ أو خطأ وارتكبت الذنب والمعصية فتحرك من مكانك بشجاعة وقف أمام اللَّه تعالى واعترف له بالذنب والخطأ

السيرة المباركة، ص: 286

وقل له بصراحة: إلهي لقد أخطأت في عملي هذا فأعتذر منك وأطلب المغفرة والصفح وأن تخلصني من مصيدة الشيطان وهوى النفس إنّك «أرحم الرّاحمين» و «غفّار الذّنوب».

إنّ هذا الاعتراف بحدّ ذاته يمنحك الطمأنينة ويكشف أمامك طريق الصلاح والقرب الإلهي.

وبعد ذلك عليك أن تتحرك في خط إصلاح الماضي وجبران الخلل، واعلم أنّ هذا العمل لا يقلل من شأن الإنسان ومقامه، بل بالعكس فإنّه يزيده كرامة وشأناً وقيمة.

إنّ طريق القرب من اللَّه تعالى لا يجتمع مع عنصر التكبر وحالة العناد، فالكثير من الأشخاص الذين

كان بإمكانهم سلوك طريق الهدى والوصول إلى مراتب معنوية سامية ولكنّهم بسبب هذه الرذيلة الأخلاقية (الغرور والعناد) فانّهم تنكبوا عن الطريق وسلكوا في خط الضلالة والانحراف.

إنّ حالة التكبر والغرور والعناد ليست لا تمثّل مانعاً أساسياً في طريق تهذيب النفس فحسب بل تصد الإنسان من الصعود في درجات العلم وتحرمه من التوفيق والنجاح على مستوى الامور الاجتماعية والسياسية والعلمية أيضاً، إنّ مثل هذا الشخص يعيش دائماً في عالم من الأوهام والخيالات الواهية وينتهى عمره وهو حائر في عالم الأوهام، والعجيب أنّ هذا الإنسان يبحث دائماً عن عوامل فشله من خلال الأسباب الخارجية، في حين أنّ العامل الأساس لفشله وعدم موفقيته في حركة الحياة يكمن في أعماق نفسه ولكنّه يقوم بإسقاط هذه الحالة الذميمة على الوسائل والأسباب الخارجية فيزيد من ضلالته وتخبطه في متاهة الأهواء.

5- ينبغي التقدم كل يوم خطوة جديدة إلى الأمام

أيّها الأعزاء! إنّ أوضح معالم الموجود الحي هو النمو والرشد، ففي كل وقت يتوقف هذا النمو فحينذاك يكون قد اقترب الأجل، وعندما يجد الكائن الحي نفسه في منزلقات الانحطاط فانّ ذلك يعني بداية موته التدريجي وهذا القانون حاكم على حياة الإنسان المادية والمعنوية بل حاكم أيضاً على المجتمع البشري (فتدبر).

ومع الأخذ بنظر الاعتبار هذه الحقيقة فلابدّ من القول إننا إذا لم نتقدم كل يوم إلى الأمام ولم نتحرك في خط التكامل الأخلاقي والأدب والطهارة والإيمان باستمرار ونجد حالنا لا يختلف في هذه السنة عن السنوات السابقة فانّ ذلك يعني خسارة عظيمة في وجودنا وأننا قد ضللنا الطريق وسلكنا طريق المتاهة والانحراف، وحينئذٍ لابدّ من أن نشعر بالخطر المحدق ونعيش الخوف والقلق من هذه الحالة.

وقد ذكّرنا إمامنا الكبير أميرالمؤمنين عليه السلام بهذا المعنى بأجمل بيان وأبلغ كلام حيث قال في حديثه المعروف: «مَنِ

استوى يَوْماهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ» «1» «وَمَنْ كانَ فِي نَقْصٍ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ» «2». لأنّه يفقد من رأسماله وعمره بدون أن يكسب شيئاً في تجارته وليس له سوى الحسرة والحزن في آخر المطاف.

ومن كان حاله إلى النقصان والتسافل والانحطاط فالموت له أفضل من الحياة، لأنّ الموت حينئذٍ يمثّل حال التوقف عن النقصان، وهذا بنفسه نعمة كبيرة.

إذا كان السالك إلى اللَّه والعارف باللَّه يرى ضرورة «المشارطة» في صباح كل يوم و «المراقبة» في طول ساعات ذلك اليوم، و «المحاسبة» ثم السيرة المباركة، ص: 288

«المعاقبة» في أخر الليل فانّ ذلك كفيل بإزالة حجاب الغفلة عنه وعندما يقع في الخطأ ويرتكب بعض المخالفة فإنّه يتحرك فوراً لجبران هذا النقص والخلل في مسيرته المعنوية، وبذلك يعيش كل يوم افقاً جديداً من الأنوار وتنفتح أمامه نوافذ جديدة للأنوار الإلهيّة ويعيش كل يوم موهبة جديدة ونعمة إلهيّة كما هو حال أهل الجنّة: «وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فيها بُكْرَةً وَعَشيّاً» «1».

ولهذا أيّها العزيز! لا تغفل عن أحوالك وعن هذه التجارة الكبيرة برأسمال عمرك واستبداله بقيم ثمينة ومواهب جليلة، وكل إنسان يمكنه أن يحصد أرباحاً كبيرة بهذا العمر القصير ولا يكون مصداقاً لقوله تعالى: «إنَّ الإِنسانَ لَفِى خُسْر» «2».

ولا تغفل أيضاً عن محاسبة نفسك، وعليك أن تحاسبها في كل شهر وكل يوم قبل أن تُحاسَب على أعمالك.

6- التشبّه بالجماعة يورث الفضيحة!

أيّها الأعزاء! إنّ كثيراً من حالات الامتحان الإلهي للإنسان أن يجد الفرد نفسه سواءً في داخل البلاد الإسلامية أو خارجها وهو يعيش مع جماعة متحللة وغير ملتزمة ديناً ويوسوس له الشيطان بأن يكون مثلهم، ومن هنا تنطلق شرارة الهوى ويجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التشبث بهذه الجماعة ويبرر سلوكه هذا بمختلف أشكال التبريرات الواهية والأعذار السقيمة.

إنّ ميزان الرشد

الأخلاقي يكمن في استقلال شخصية الإنسان وتفتحُّ عنصر الإيمان في قلبه ووجدانه، وفي مثل هذه الأجواء، فالأشخاص الذين يميلون مع كل ريح فانّهم سيغرقون في دوامة الفساد وتكون الفضيحة في السيرة المباركة، ص: 289

النهاية حيث يرون أنّ التشبّه بجماعة الملوثين تحفظهم من الفضيحة، إنّ مثل هؤلاء الأشخاص لا يجدون لأنفسهم قيمة وقد قنعوا من جوهر الإنسان ولبابه بالقشرة والصدف.

ولكنّك أيّها العزيز! عليك بأن تظهر قيمتك وشخصيتك في أجواء هذا المحيط السافل وأبرز قدرة إيمانك وتقواك واستقلال شخصيتك إليهم، واعلم أنّ التشبّه بالجماعة سبب الفضيحة.

إنّ الأنبياء والأولياء والسالكين طريق الحق كانوا يواجهون غالباً هذه المسالك ولكنّهم كانوا يتخذون موقف الصبر والاستقامة والمثابرة بحيث لم يتشبّهوا بالمحيط الاجتماعي ويتأثروا بالأجواء الحاكمة على أقوامهم، ليس هذا فحسب بل تحركوا على مستوى تغيير ذلك المحيط الفاسد والتأثير عليه وجعله مشابهاً لهم ومسايراً لحركتهم التوحيدية.

إنّ التشبّة بالمحيط والتلون بلون المناخ الاجتماعي يجعل الإنسان عديم الإرادة وضعيف العزيمة ولكنّ بناء أجواء جديدة وايجاد تحول إيجابي في الواقع الاجتماعي فانهّ لا يصدر إلّامن المؤمنين الشجعان وأصحاب الإرادة والقدرة الروحية الكبيرة.

إنّ منهج الفئة الاولى يتلخص في التقليد الأعمى وهو: «إِنَّا وَجَدْنآ آبَآءَنَا عَلَى امَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ» «1»

، في حين أنّ منهج الفئة الثانية يكمن في التفكر والتدبر والإختيار المناسب وشعارهم هو: «لَّاتَجِدُ قَوْماً يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُم أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ» «2».

أجل، إنّ روح القدس يسارع في بذل المعونة إليهم وتقوم الملائكة

السيرة المباركة، ص: 290

بحراستهم والدفاع عنهم وتقوية معنوياتهم ودعوتهم إلى الاستقامة والمقاومة.

أيّها العزيز! إذا وجدت نفسك متورطاً في مثل هذه الظروف والتحديات

فعليك بتفويض أمرك إلى اللَّه والتوكل عليه ولا تستوحش من (كثرة الخبيث) واكتب لنفسك النجاح والموفقية في هذا الامتحان وانتفع من بركاته ومعطياته الكثيرة وقل: «لَّايَسْتَوِى الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَو أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِى الْالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1».

إنّ هذا الامتحان الإلهي لاسيّما بالنسبة لشبابنا الأعزاء يتضمن أهميّة خاصة في عصرنا الحاضر، فهؤلاء الشباب هم الذين يمكنهم الخروج من هذا الامتحان الكبير بنجاح ويركبوا أجنحة ملائكة الرحمة ويحلّقوا في أجواء سماء القرب الإلهي.

7- ابحث عن الضالة الحقيقية!

إنّ كل شخص ينظر إلى قلبه ووجدانه يرى أنّه يبحث عن ضالة معينة، ولكنّه نظراً لعدم تحليله الصائب لهذه الضالة المنشودة فكأنّه يبحث عنها في كل شي ء وفي كل مكان.

فأحياناً تكون ضالته الأصلية هي المال والثروة بحيث لو استطاع أن يجمع منها الشي ء الكثير فإنّه سيكون أسعد الناس، ولكنه عندما ينال الثروة يجد نفسه في مواجهة عيون الطامعين وألسنة المتملقين ومصائد السارقين ويعيش دائماً كيد الحاسدين، وأحياناً يجد في نفسه الخوف والقلق في حفظها وانفاق المال الكثير في سبيل حراستها والاحتفاظ بها فيعيش الاضطراب والقلق من ذلك أكثر ممّا كان يعيشه في سبيل تحصيلها.

السيرة المباركة، ص: 291

وهناك يفهم أنّه أخطأ الطريق إلى ضالته المنشودة وأنّها لا تتمثل بالثروةوالمال.

وأحياناً يتصور أنّه إذا حصل على زوجة ذات جمال ومال وثروة فإنّه سيجبر ما يحتاجه من السعادة والرفاهية، ولكن عندما يحصل على هذا الهدف وتتجسد أمامه الاخطار والمشاكل الناشئة من الاحتفاظ بهذه الزوجة وتحمل توقعاتها الكثيرة ومطالبها الشاقة فإنّه يجد نفسه في ورطة جديدة وأنّه كان يعيش السراب في أحلام وأوهام.

أمّا الشهرة أو المكانة الاجتماعية فانّها تتجّلى من بعيد بأجمل صورة بحيث تسلب قلوب المشتاقين ويتصورون أنّهم أسعد الناس في حال حصولهم عليها، في

حين أنّ المشاكل والأزمات الناشئة والمسؤوليات الإلهيّة والإنسانية المترتبة على الشهرة والمقام أكثر من الجميع.

لقد كان المرجع الروحاني والمعنوي الكبير المرحوم آية اللَّه العظمى السيد البروجردي في أوج عظمة مقامه ومرجعيّته لعالم التشيع وانفراده بهذا المقام في ذلك الزمان، عندما رأى مشكلات الشهرة والمقام قال ما مضمونه: «إذا كان الشخص يتحرك في سبيل تحصيل مقام مثل مقامي ولكن لم يكن الباعث له هو اللَّه تعالى بل بدافع الأهواء والنوازع النفسية فلا تشكّوا في قلّة عقله!».

أجل، فانّ جميع هذه الامور كلها سراب وأوهام لا أكثر بحيث عندما يصل إليها الإنسان فإنّه ليس فقط لا يتمكن من إرواء نفسه وإطفاء عطشه، بل سيزداد عطشاً في صحراء الحياة المحرقة وكما يقول القرآن الكريم: «كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ...» «1».

السيرة المباركة، ص: 292

هل يعقل في حكمة الخالق أنّ الإنسان الذي يعيش هذا الاحساس والشعور الباطني ولكنّه لا يمكنه العثور على ضالته في أي مكان؟ لا شك بأنّه لا معنى للعطش بدون وجود ماء، وكذلك لا يمكن في دائرة الحكمة الإلهيّة وجود ماء بدون الإحساس بالعطش.

أجل، إنّ الإنسان الفطن سيدرك تدريجياً أنّ ضالته التي يبحث عنها ولا يجدها، موجودة في أعماق نفسه وفي محتواه الداخلي وقد استوعبت جميع وجوده، وهي أقرب إليه من حبل الوريد ولكنّه غافل عنها: «وَ نَحْنُ أَقْرَبُ الَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» «1».

أجل، إنّ ضالةالإنسان موجودة معه في كل مكان وزمان ولكنّه محجوب عنها بحجاب الابتلاءات الطبيعية التي تمنع من رؤية جمال هذه الحقيقة والتحرك في الطريق الموصل إليها.

أجل أيّها العزيز! إنّ ضالتك موجودة عندك، فعليك السعي لإزالة الحجب والاستار عنها ليتمتع قلبك بجمالها وترتوي روحك من عذب مائها فتشعر

بالسكينة والطمأنينة الواقعية والبهجة الكاملة في جميع وجودك وترى أنّ جنود السماء والأرض تسعى في خدمتك، إنّ ضالتك الحقيقة هي وجودك الأصيل الذي يشمل جميع أركان عالم الوجود:

«هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَانَاً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَللَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» «2».

8- مواجة الوسواس!

أيّها الأعزاء! كان حديثنا عن السكينة والطمأنينة للروح والنفس، وهي السيرة المباركة، ص: 293

الجوهرة الغالية التي سعى لتحصيلها خليل اللَّه عليه السلام عندما نظر إلى ملكوت السموات والأرض وأراد معرفة أسرار هذا العالم العجيب:

«وَ كَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْموُقِنِينَ» «1».

وقد فسّرت الطيور الأربعة، كما ذكره بعض أرباب التفسير، بأنّ كل واحد منها يعبر عن مظهر من الصفات الذميمة في الإنسان (فالطاووس مظهر العجب والغرور، والديك مظهر الرغبة الجنسية، والحمامة مظهر اللهو واللعب، و الغراب مظهر الطمع والآمال الطويلة!) فكان أن ذبحها وخلط لحومها ثم وضعها على الجبال لينال بعد إحيائها مرتبة الاطمئنان القلبي «لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى»».

كيف ينال الإنسان هذه الدرّة اليتيمة، أي السكينة القلبية والاطمئنان الروحي، وأين يبحث عن هذه الحالة الملكوتية؟

أقول لكم إنّ طريق تحصيل هذه الملكة الإلهيّة سهل ويسير جدّاً وفي نفس الوقت صعب جدّاً، ولتقريب هذا المعنى نذكر له مثالًا:

هل ركبتم الطائرة في أجواء غائمة؟ عندما تحلّق الطائرة تدريجياً متّجهة إلى عنان السماء وتمرّ بهدوء من بين السحب الكثيفة لتحلق فوقها، هناك يجد المسافر الشمس مشرقة بجلال كامل وترسل أشعتها إلى كل مكان، هناك لا يوجد خبر عن السحاب طيلة أيّام السنة ولا يحجب الشمس شي ءٌ أبداً، لأنّ ذلك المكان أعلى من السحاب.

إنّ الذات المقدّسة وخالق عالم الوجود هو نور العالم وشمسه المشرقة التي ترسل أشعتها ونورها إلى كل مكان، وأمّا السحاب

الذي يحجب الإنسان عن رؤية هذا النور الإلهي فهو الأعمال السيئة والآمال الدنيئة

السيرة المباركة، ص: 294

والنوازع النفسانية التي تمنع الإنسان من رؤية جمال الذات المقدّسة، فهذه الحجب هي أعمالنا السيئة التي تغطي أبصارنا وقلوبنا.

وكما يقول إمام العارفين: «إِنَّكَ لْا تَحْتَجِبُ ومِنْ خَلْقِكَ إلَّا أَنْ تَحْجُبَهُمُ الْاعْمالُ دُونَك» «1».

هذه الحجب قد تراكمت على القلب بفعل الشياطين التي نفذت إلى قلوبنا وأنفسنا بسبب أعمالنا كما ورد في الحديث الشريف: «لَوْلا أَنَّ الشَّياطينَ يَحُومُونَ عَلى قُلُوبِ بَنِى آدَمَ لَنَظَرُوا الى مَلَكُوتِ السَّماوات» «2».

هذه الحجب بمثابة أوثان متنوعة صنعناها بأيدينا وانطلقنا لاشباع رغباتنا وأهوائنا ووضعناها في كعبة القلب، كما يقول بعض الأكابر: «كُلُّ ما شَغَلَكَ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ صَنَمُك».

أيّها العزيز! إحمل فأس الإيمان والتقوى واهجم على هذه الأصنام الباطنية بروح إبراهيمية وحطّمها لتتمكن من العروج إلى ملكوت السموات والنظر إلى ذلك العالم ولتكون من الموقنين كما كان إبراهيم كذلك: «... وَلِيَكُونَ مِنَ الْموُقِنِينَ» «3».

إنّ غبار الأهواء والشهوات لوّث أجواء أرواحنا ومنع بصائرنا من رؤية عالم الملكوت، فتحرك بهمّة وعزم لتطهير هذه الشوائب وكنس هذا الغبار من صفحة القلب.

والعجيب أنّ اللَّه تعالى هو أقرب إلينا من أنفسنا ومع ذلك نحن نعيش الابتعاد عنه!! إنّ اللَّه موجود معنا فلماذا نعيش الغفلة عنه؟ أجل فكما يقول المثل: «إنّ الصاحب في الدار ونحن ندور حول العالم».

السيرة المباركة، ص: 295

هذه هي مشكلتنا الكبيرة، وهذا هو ما نعيشه من الحرمان والألم وجفاف الروح رغم أنّ طريق العلاج سهل وميسور.

9- الحجاب الأعظم!

ما هو أعظم حجاب يمنع الإنسان من لقاء اللَّه؟

بديهي أنّه لا يوجد لدينا حجاب أسوأ وأشدّ من حجاب الأنانية والعجب وحبّ الذات، وكما يعبّر بعض الأكابر من علماء الأخلاق أنّ «الأنانية» تعد أكبر مانع يصد السالكين

عن طريق اللَّه، والطريق لنيل مرتبة القرب الإلهي وتحصيل لقاء اللَّه يتمثل في قلع شجرة «الأنانية» من جذورها، ولكنّ هذا العمل ليس باليسير على الإنسان لأنّ ذلك يعني انفصال الإنسان عن ذاته ونفسه.

أنت الحجاب على نفسك ... فقم من مكانك يا حافظ.

بيدَ أنّه يتيسر بالممارسة والتمرين وتهذيب النفس والإستمداد من الحق والتوسّل بذيل عنايات أولياء اللَّه، أجل فمادامت حشائش وأشواك الرغبات والميول النفسانية وحبّ غير اللَّه في قلب الإنسان، فانّ نبتة العشق للَّه والشوق إليه لا تنمو في هذا المحيط.

ويُنقل عن حالات أحد أولياء اللَّه أنّه كان في شبابه من أبطال المصارعة، وفي أحد الأيّام اقترحوا عليه أن يتصارع مع بطل معروف في تلك الديار.

وعندما تهيأت حلبة السباق وحضر الناس وأصحاب المقامات الرسمية للتفرج على هذه المصارعة المثيرة بين هذين البطلين واستعداد كل واحد منهما لإجراء هذه المصارعة، جاءت امرأة عجوز، وقد اتّضح بعد ذلك أنّها والدة ذلك البطل المعروف، إلى هذا البطل الشاب وأسرت في اذنه كلمات وذهبت إلى حالها، قالت: أيّها الشاب إنّ القرائن تشير إلى أنّك ستنتصر في السيرة المباركة، ص: 296

هذه المصارعة، ولكن هل ترضى بأن ينقطع رزقنا وننفضح أمام الملأ بعد كل هذه الأعوام المتمادية؟

شعر البطل الشاب في أعماق نفسه بتصادم الأنانية والإنسانية، فإمّا الشهرة، أو سحق الذات والاعراض عن المقام وما يحفل به من معطيات ومزايا كثيرة، إلّاأنّه صمم أخيراً على رأيه، وفي احدى اللحظات الحساسة من المصارعة أهمل نفسه ليتفوق غريمه عليه ويلصق ظهره بالأرض وليفوز بالجائزة.

ولنستمع الآن إلى ما يقوله هذا الشاب بعد ذلك:

«في اللحظة التي أحسست بظهري قد التصق بالتراب رأيت في لحظة أنّ الحجب قد زالت عن عيني وبانت لقلبي تجلّيات الحق، فرأيت ما ينبغي

رؤيته في عالم القلب والبصيرة».

أجل، فبتحطيم هذا الصنم تتجلّى معالم التوحيد ومظاهر الربوبية.

10- ترنيمات العشّاق

أيّها العزيز! من أجل سلوك هذا الطريق عليك في البداية بالتمسك بلطف اللَّه تعالى وبالتوسل بالأذكار الواردة في القرآن الكريم وأحاديث المعصومين عليهم السلام لتقترب تدريجياً إلى الذات المقدّسة ولا سيّما أنّ هذه الأذكار تستبطن مفاهيم العبودية والفقر في واقع الإنسان للذات المقدّسة، وقل حينها كما قال موسى عليه السلام:

«رَبِّ إِنِّى لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» «1».

و كما قال أيّوب عليه السلام:

السيرة المباركة، ص: 297

«إذْ نادى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» «1».

وكما قال نوح عليه السلام:

«فَدَعا رَبَّهُ أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» «2».

أي مغلوب هوى النفس وأنت قادر على الانتقام من هذه النفس الأمّارة.

وكما قال يوسف عليه السلام:

«فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيّى فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحينَ» «3».

وكما قال طالوت وأصحابه:

«رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» «4».

وكما قال أصحاب العقول واولو الألباب:

«رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنادِياً يُنَادِى لِلْإِيْمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ» «5».

في كل واحد من هذه الأدعية بحر من المعارف الإلهية والأنوار الربانية حيث تحكي عن فوارة العشق والحبّ لخالق عالم الوجود ومبدأ الكائنات، هذا العشق هو الذي يقرّب الإنسان في كل الأوقات إلى مصدر النور والذات المقدّسة.

عليك بالاستفادة من أذكار المعصومين عليهم السلام وزيارة عاشوراء وزيارة آل ياسين ودعاء الصباح وكميل والندبة وأمثالها، بل يمكنك اقتطاف عبارات كثيرة من دعاء عرفة لتدعو بها في صلاتك ولا تنسَ صلاة الليل وإن كانت السيرة المباركة، ص: 298

خفيفة وبدون زوائد وتفاصيل، فانّها على أيّة حال الكيمياء الأكبر والاكسير الأعظم للسالك في طريق الكمال المعنوي، وبدونها لا يصل

الإنسان إلى أيّة مرتبة أو منزل إلّانادراً، وعليك مد يد العون للمحتاجين وقضاء حاجاتهم (عن أي نعمة أمكنك ذلك)، فانّ لذلك تأثير عجيب على الروح ويساهم في وصولك إلى مقامات معنوية عالية، فلا يخلو يومك من تقديم خدمة أو خدمات ولو بسيطة للناس.

يجب أن تحقق في نفسك وقلبك أجواء هذه الأدعية والمناجاة وتمد يدك نحو مصدر الفيض ومبدأ النعمة فانّ القلب الذي يخلو من ذكره هو قلب ميت لا روح فيه.

ثم تمسك بالعروة الوثقى للاطهار المعصومين (الأنبياء والأئمّة عليهم السلام) ومن تابعهم في مسيرتهم الإلهيّة، أي العلماء الكبار والسالكين طريق المعرفة باللَّه، وعليك بالتفكر في حالاتهم ليمتلى ء قلبك من نور باطنهم وتشرق روحك من صفاء أرواحهم على أساس أصل المحاكات والسنخية وتتبعهم في حركتهم ومسيرتهم.

وفي الواقع أنّ الاستماع إلى تاريخ الأعاظم والاهتمام بمطالعة سيرتهم بمثابة الجلوس معهم وصحبتهم في أسفارهم، كما أنّ مطالعة سيرة الأشخاص المنبوذين وأهل الشر بمثابة الجلوس معهم ومصاحبتهم.

وأحدهما يزيد في عقل الإنسان ودينه، والآخر يورثه الظلمة والحيرة والوقوع في منزلقات الخطيئة.

ولا أنسى أنني في أحد أسفاري لزيارة الإمام ثامن الحجج الرضا عليه السلام في مشهد وجدت فراغاً من الوقت وبدأت بمطالعة سيرة أحد العرفاء الإسلاميين المعاصرين المليئة بالنقاط المضيئة والعبر المفيدة، فكنت أقرأ

السيرة المباركة، ص: 299

بخيال بارد وفجأة شعرت بثورة في أعماقي لم أجد لها مثيلًا طيلة عمري.

رأيت نفسي كأنني أعيش في عالم جديد يصطبغ كل شي ء فيه بصبغة اللَّه، فلم افكر في شي ء سوى بحالة العشق إلى اللَّه، وبمجرّد أن توجهت بالدعاء وإذا بالدموع تنهمر من عينيَّ كالسيل ولكن مع الأسف لم تستمر هذه الحالة عندي سوى عدّة أسابيع، وعندما تغيرت الظروف تبدلت معها تلك الجذبة المعنوية، وليت أنّ تلك

الحالة ثابتة حيث إنّ لحظة واحدة منها أثمن من هذا العالم بأجمعه.

وآخر كلام عن آخر مانع!

إنّ أعقد مشكلة في طريق السالكين إلى اللَّه والمسافرين في طريق الإخلاص والعشق المعنوي، وأخطر مانع يمنع الإنسان من مواصلة طريق الكمال الإلهي، هو التلوث بالشرك والرياء.

إنّ الأحاديث الشريفة والمعروفة تورث الإنسان اليقظة وتجعله يغرق في دوامة التفكير، من قبيل: «إنَّ الشِّرْكَ أَخْفَى مِنْ دَبيبِ الَّنمْلِ على صَفْوانَةٍ سَوداء فِي لَيْلَةٍ ظَلْماء» «1».

وكذلك ورد: «هَلَكَ الْعامِلُونَ إلّاالْعابِدُونَ وَهَلَكَ الْعابِدُونَ إلَّا الْعالِمُونَ ... وَهَلَكَ الصَّادِقُونَ إلّاالُمخْلِصُونَ ... وَإنَّ الْمُوقِنينَ لَعَلى خَطَرٍ عَظيمٍ» «2».

ولكن التمسّك برحمة اللَّه العامة والخاصة وكذلك ما توحي به مضامين الآيات الشريفة: «إِنَّهُ لَايَايْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ» «3».

السيرة المباركة، ص: 300

يحيي في القلوب نور الأمل ويمنح الروح الجافة حياة جديدة وطراوة لطيفة.

أجل، فالإخلاص يزيد في ثواب الانفاق سبعمائة ضعفاً وأكثر ويسقي سنابل الإيمان: «فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ» «1».

عندما ينزل مطر الإخلاص على أرض القلب وبحكم قوله تعالى: «أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ اكُلَهَا ضِعْفَيْنِ» «2»

فانّ ثمرات الإيمان تتضاعف في واقع الإنسان وتتجلى على سلوكياته وحركاته.

ولكن تحصيل ملكة الإخلاص ليس باليسير وان كان الطريق إليه واضحاً ومشرقاً ولكنّ سلوك هذا الطريق تكتنفه الكثير من الصعوبات والمشاكل.

فكلما كثرت وازدادت معرفتنا بصفات الجمال والجلال الإلهي وتعمقت فينا معرفة قدرة اللَّه تعالى وعلمه فانّ اخلاصنا سيزداد ويشتد تبعاً لذلك.

فإذا علمنا أنّ العزّة والذلة بيده تعالى وأنّ مفتاح الخيرات في كفّه: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكَ تُؤتِى الْمُلْكِ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» «3»

فلا يبقى مسوغ لخلط العمل بالشرك والرياء، أو التوجه في طلب حاجاتنا إلى غيره سبحانه، أو طلب العزّة

والكرامة من المخلوقين.

عندما نعلم أنّ كل مخلوق لا يتمكن من القيام بشي ء إلّابإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ» «4»

فلا معنى لأن نتوجه بقلوبنا إلى غيره.

وعندما نعلم يقيناً أنّه أعلم بنا من أنفسنا ويعلم حركاتنا وسكناتنا: «يَعْلَمُ السيرة المباركة، ص: 301

خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ» «1»

فسوف نتحرك حنيئذٍ من موقع المراقبة والحذر في كل تصرفاتنا.

أجل، إذا آمنا وصدقنا بجميع هذه الامور بكل وجودنا فإنّنا سنعبر من مضيق الإخلاص الصعب والخطر بسلامة بشرط أن نسلِّم أنفسنا إلى اللَّه تعالى بعيداً عن بريق الدنيا الخادع: «ربّ لَا تَكِلْني الى نَفْسي طَرْفَةَ عَينٍ أَبَداً لاأَقَلَّ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ» «2».

أيّها العزيز! إنّ تفويض الأمر إلى اللَّه لا يعني ترك السعي والحركة في خط الحق والإيمان وتهذيب النفس، بل عليك القيام بما يمكنك على مستوى تهذيب وتزكية النفس، وأمّا ما خرج من طاقتك وقدرتك ففوِّض أمرك فيه إلى اللَّه واعتمد عليه في جميع حالاتك وليكن ذكرك الدائم في قلبك وعلى لسانك هو:

«إلهي قَوِّ عَلى خِدْمَتِكَ جَوارحي وَاشْدُدْ عَلَى العَزيمَةِ جَوانِحي وَهَبْ لِيَ الجِدَّ فى خَشْيَتِكَ وَالدَّوامَ فِي الْاتِّصالِ بِخِدْمَتِك» «3».

وأخيراً هذا هو طريق النجاة وذلك طريق الغي والانحطاط، فاذا كنت رجل الهمّة فعليك بأن تحزم ثيابك».

والحمد للَّه رب العالمين.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.