الزهرا عليهاالسلام سيده نساء العالمين

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، - 1305

عنوان و نام پديدآور : الزهرا عليهاالسلام سيده نساء العالمين/ ناصر مكارم شيرازي -تعريب عبدالرحيم محمداني

مشخصات نشر : قم مدرسه الامام علي ابن ابي طالب 1382.

مشخصات ظاهري : ص 176

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي يادداشت : عنوان اصلي زهرا سلام الله عليها برترين بانوي جهان

يادداشت : عنوان روي جلد:Makarem shirazi. Al - Zahra The most superior lady of the world .

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

عنوان روي جلد : Makarem shirazi. Al - Zahra The most superior lady of the world .

موضوع : فاطمه زهرا(س ، 8؟ قبل از هجرت -- ق 11

شناسه افزوده : حمراني عبدالرحيم مترجم

شناسه افزوده : مدرسه الامام علي بن ابي طالب ع

رده بندي كنگره : BP27/2 /م 7ز9043 1382

رده بندي ديويي : 297/973

شماره كتابشناسي ملي : م 82-17508

ص: 1

اشارة

الزهرا عليهاالسلام سيده نساء العالمين

ناصر مكارم شيرازي

تعريب عبدالرحيم محمداني

مدرسه الامام علي ابن ابي طالب 1382.

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

المقدمة

قال رسول الله صلى الله عليه و آله : «كانت مريم سيدة نساء زمانها، أمّا ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الاولين الاخرين».

* * *

شهدت المرأة معاناة قاسية جمة على مدى التأريخ، وكانت رقيقة في جسدها مقارنة بالرجل، فقد أثر هذا الامر سلباً على الظلمة والطواغيت الذين سعوا جاهدين على مر العصور لهضم حقها وتجريدها من إنسانيتها، وما ابشع من جرائم إرتكبوها بهذا الشأن، ولا سيما في شبه الجزيرة العربية واِبان العصر الجاهلي - رغم أن الدنيا برمتها كانت آنذاك تسبح في بحر من الجاهلية - حيث كانوا أشد وطأة على المرأة وأعظم لثلمها شخصيتها. حتى بلغ بهم الأمر أن جعلوها سلعة تباع و تشتري؛ لم يورثوها الرجال (فهي لا تحمل السلاح وتحمي البيضة)، كما كانوا يعدون ولادة البنت عاراً، ولذلك - كما يشير القرآن - كانوا يعمدون لوأدها - بل الادهى من ذلك أنهم ولوا ظهورهم حتى لا بسط القوانين الطبيعية: فصار شاعرهم يقول:

بنونا بنو أبنائنا و بناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وهذا ما يمثل الجو الفكري الذي كان سائدا لديهم آنذاك. وهنا كان للاسلام الذي حمل راية القيم الالهية والانسانية موقفه الحازم ازاء هذا التفكير الجاهلى المقيت لتثور ثائرته من أجل إستعادة المرأة لشخصيتها المفقودة؛ فاعتمد أسلوب الوعظ والتوصيه والارشاد إلى جانب تشريع القوانين التي تكفل للمرأة حقوقها فسح المجال أمامها لتمارس دورها في كافة الميادين، وبالتالي الوقوف بحزم بوجه كل من تسول له نفسه التمرد على هذه الحقائق.

فقد ورد في الاخبار: أن أسماء بنت عميس زوج جعفر بن أبي طالب عادت معه من الحبشة وانطلقت لزيارة أزواج النبي صلى الله عليه و آله فكان مما سألت:

هل جاء شيىء من القرآن بحق النساء؟ فأجبن بعدم العلم بهذا الأمر! فقصدت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقالت: يا رسول اللّه، هل خلقت النساء للعذاب؟

(لعلها كانت مصيبة في طرحها مثل هذا السؤال على النبي صلى الله عليه و آله فهي حديثة العهد بالوحي والرسالة، وربما كانت تظن بان المبادىء التي كانت تحكم المجتمع الجاهلي مازالت عالقة لحد الان).

فاجابها رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ومم ذاك؟

قالت: لأن القرآن لم يقر لها بالفضل الذي أقره للرجال!

كانت تلك الواقعة في العام الهجري الخامس وقد مرت ثمانية عشر عاماً على انبثاق الدعوة الاسلامية، كما إستفاضت الايات القرآنية وتواترت الاحاديث النبوية التي تناولت قضية إحياء شخصية المرأة، مع ذلك و بهدف التأكيد فقد صرحت الاية الخامسة والثلاثون من سورة الاحزاب بهذا الفضل للنساء وحقيقة تأصل قيمها الانسانية التي تجعلها تشترك وأخيها الرجل في وحدة هذه الحقيقة وأنها تتمتع. بمكانتها

ص: 5

ص: 6

الاجتماعية المرموقة. وهي القيم التي حصرتها الاية الشريفة في عشرة فصول، فقالت:

إن المسلمين والمسلمات.

والمؤمنين والمؤمنات

والقانتين والقانتات

والصادقين والصادقات

والصابرين والصابرات

والخاشعين والخاشعات

والمتصدقين والمتصدقات

والصائمين و الصائمات

والحافظين فروجهم والحافظات

والذاكرين الله كثيرا والذاكرات

أعد اللّه لهم مغفرة و أجرا عظيما

وهكذا يكون الاسلام قد وضع النقاط على الحروف، وكشف النقاب عن تكافىء المرأة والرجل في سيرهما إلى اللّه وبلوغ السمو والكمال الانساني المشهود.

جدير بالذكر ان البعض قد أعرب عن دهشته من كيفية منح الاسلام المرأة حق المطالبة باجور الرضاعة التي تقدمها لولدها! فقد قال عز من قائل: ى فان أرضعن لكم فاتوهن أجورهن ى (1). فهل هناك من امرأة يسعها المطالبة بالاجر من أجل ارضاع فلذة كبدها ولاسيما إذا كانت تعيش مع زوجها حياة زوجية مشتركة؟6.

ص: 7


1- - سورة الطلاق، آية 6.

لكن لا ينبغي أن ننسى هنا بان هذه التعاليم انما تستند إلى منطق الاسلام الذي لا يرى ان المرأة هي إنسان ذات حقوق إنسانية، لها الحق في التصرف في أموالها وليس للرجل الحق في هضمها حقها دون رضاها وطيب خاطرها فحسب، بل أبعد من ذلك فهي تملك حتى حق المطالبة بالرضاعة. ولك - عزيزي القارئ - أن تقف على مدى تأثير هذا الأمر على تلك البيئة!

وزبدة الكلام أن المرأة مدينة بالفضل للاسلام الذي أعاد لها عزتها و كرامتها وحررها من مخالب عتاة التأريخ ومردته، شريطة أن تطبق تعاليم هذا الدين الحنيف بحذافيرها.

ص: 8

فاطمة عليها السلام منذ الولادة حتى رحيل النبي صلى الله عليه و آله

اشارة

ص: 9

ص: 10

الولادة الميمونة لفاطمة عليها السلام

«فاطمة بضعة مني وهي نور عيني وثمرة فؤادي وروحي التي بين جنبيّ وهي الحوراء الانسية» (1)

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعيش أصعب الظروف وأعقدها في العام الخامس من بعثته النبوية الشريفة، فالاسلام في عزلة خانقة والمسلمون الاوائل قلائل وتصاعد حدة الضغوط، ناهيك عن أجواء الظلام التي كانت القت بظلالها على مكة اثر الشرك والوثنية والجهل والحروب القبلية العربية وسيادة منطق القوة واستشراء الفقر والحرمان في صفوف الناس.

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يتطلع إلى الغد؛ الغد المشرق الكامن وراء هذه السحب السوداء الداكنة، الغد الذي يبدو صعب المنال و ربما المحال بالالتفات إلى الاسباب والعلل الظاهرية الاعتيادية.

وهنا وقعت حادثة المعراج الكبرى التي أذن اللّه فيها لرسوله الاكرم صلى الله عليه و آله بالعروج لمشاهدة ملكوت السماء ى لنريه من آياتناى (2) فيرى عظم آيات ربّه بعينه لتتسامى روحه العظيمة، ويتأهب لتلقي ثقل

ص: 11


1- - رياحين الشريعة، ج2 ص 21.
2- - رياحين الشريعة، ج2 ص21.

الرسالة المصحوبة بسعة الأمل. فقد روى الفريقان - السنة والشيعة - أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وطأ الجنة ليلة المعراج، فناوله جبرئيل عليه السلام فاكهة من شجرة طوبى، فلما عاد إلى الارض انعقدت نطفة فاطمة من تلك الفاكهة. ولذلك جاء في الحديث أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «ان فاطمة حوراء أنسية، فكلما إشتقت إلى الجنة جعلت أقبلها» (1)

وبذلك فإن هذه المولودة المباركة التي تمثل عصارة ثمار الجنة ولحم و دم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وتلك الام الحنون السيدة خديجة الكبرى عليها السلام تكون قد وضعت حدا لطعنهم و غمزهم في النبي صلى الله عليه و آله كونه أبتر لا عقب له. وعلى ضوء سورة «الكوثر» المباركة فان فاطمة عليه السلام هي العين الصافية التي تدفقت منها ذرية النبي صلى الله عليه و آله والائمة الهداة الميامين عبر القرون حتى يوم القيامة.

للحوراء الانسية تسعة أسماء يرمز كل منها لصفات و مناقب هذه السيدة الطاهرة المباركة، وهي:

1 - فاطمة

2 - الصديقة

3 - الطاهرة

4 - المباركة

5 - الزكيةة.

ص: 12


1- - نقل هذا الحديث باختلاف طقيف السيوطي في الدر المنثور و الطبري فى ذخائر العقبى و علي بن ابراهيم في تفسيره. و ان كان المعروف هو ان المعراج وقع فى السنوات الاخيرة من مكة، الا ان الذي يستقاد من الروايات هو حصول المعراج لاكثر من مرة و عليه فليس هناك من منافاة في ولادة سيدة النساء في السنة الخامسة من البعثة النبوية المباركة.

6 - الراضية

7 - المرضية

8 - المحدّثة

9 - الزهراء

وكفى باسمها «فاطمة» الذين يعنى البشارة الكبرى لمواليها ومحبيها، فلفظ «فاطمة» قد أخذ من مادة «فطم» بمعنى الانفصال، ومنه فطام الولد بمعنى فصله عن الرضاعة. فقد ورد في الحديث أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال لأمير المؤمنين علي عليه السلام : أتعلم يا علي لم سميت ابنتي فاطمة؟

قال عليه السلام : لم يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟

فقال عليه السلام : «ان اللّه عزوجل فطمها و محبيها من النار فلذلك سميت فاطمة» (1) ويتألق إسم الزهراء من بين أسمائها. و حين سئل الصادق عليه السلام :

لم سميت فاطمة عليه السلام بالزهراء؟ قال عليه السلام : لأن الزهراء كانت زاهرة كالنور، فإذا وقفت في محرابها للصلوة كانت تزهر لأهل السموات كما تزهر النجوم لأهل الارض، ولهذا سميت بالزهراء. كان زواج تلك السيدة - التي كانت تحظى بشخصية مرموقة في مجتمعها - من النبي الاكرم صلى الله عليه و آله سببا لمقاطعتها من قبل نساء مكة، اللاتي قلنّ: إنها تزوجت من فتى فقير ويتيم فحطت من قدرها وشأنها. وقد إستمرت هذه المقاطعة حتى حملت بالزهراء عليه السلام . فلما قاربت وضع حملها بعثت خلف نساء قريش ليرافقنها في لحظات الطلق والمخاض العصيبة ولا يتركنها لوحدها.

فجوبهت برد باهت قاسي: «انك لم تسمعي مقالتنا فتزوجت من يتيم أبي».

ص: 13


1- - ورد هذا الحديث في أغلب كتب العامة من قبيل «تأريخ بغداد» و «الصواعق المحرقة»و «كنز العمال» و «ذخائر العقبى».

طالب، فليس لنا أن نساعدك!

اغتمت خديجة عليها السلام لهذا الرد الباطل؛ لكن قلبها كان يطفح بنور الأمل الذي يشعرها بأن ربّها لن يتركها وحيدة. وبدأت لحظات الوضع الصعبة؛ مع غربتها ووحدتها في البيت، ولم تكن هناك خادمتها التي يمكنها الوقوف إلى جوارها أملاً فتفتح عينها لترى أربعاً من النساء فينتابها القلق. فنادتها إحداهن قائلة: لا تبتسئي! فقد بعثنا ربك لنجدتك، نحن أخواتك، فأنا سارة وهذه آسية زوجة فرعون وهي رفيقتك في الجنة؛ وتلك مريم بنت عمران، أما هذه فهي كلثوم ابنة موسى بن عمران و قد جئنا لنلبي أمرك. فمكثن عندها حتى وضعت فاطمة سيدة النساء. (1) ولم يكن ذلك بدعا فقد قال الحق سبحانه: ى ان الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا تتنزل عليه الملائكة ألّا تخافوا ولا تحزنواى (2) إضافة إلى الملائكة فقد حضرتها أرواح نساء العالم لنجدتها ومعونتها. فسرُّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وحمد اللّه وأثنى عليه، وخرست ألسن خصومه ممن نعتوه بالابتر، حيث بشّره سبحانه بهذه المولودة المباركة ى اِنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الابترى.0.

ص: 14


1- - سورة فصلت، آية 30.
2- - سورة فصلت، آية 30.

سر حب النبي صلى الله عليه و آله لفاطمة عليها السلام

«إذا اشتقت إلى الجنة قبّلْتُ نحرَ فاطمة». (1)

كتب كل المؤرخين وأرباب الحديث أنّ للرسول صلى الله عليه و آله علاقةً عجيبةً بابنته فاطمة عليها السلام بديهي أن علاقة النبي الكريم صلى الله عليه و آله بفاطمة عليها السلام لم تكن علاقة الوالد بولده، رغم أنَّ هذه العاطفة مكونة في وجود الرسول صلى الله عليه و آله ، إلّا أن حديثه وعبارته عن تلك العلاقة تشير إلى وجود معايير أخرى. ونكتفي هنا بالاشارة إلى بعض الروايات التي صرحت بها مصادر الفريقين.

1 - «ما كان أحد من الرجال أحب إلى رسول اللّه من عليٍّ ولا من النساء أحب إليه من فاطمة». (2)

الطريف أن جمعاً كبيراً من أرباب الحديث قد روى هذا الحديث نقلاً عن عائشة.

2 - عند ما نزلت الآية الشريفة:

ى لا تَجْعَلوا دعاء الرّسولِ بينَكم كدعاء بعضكم بعضاًى. (3)

لم يخاطب المسلمون الرسول صلى الله عليه و آله باسمه، بل أخذوا ينادونه يا رسول

ص: 15


1- - الفضائل الخمسة، ج3 ص127.
2- - نُقل مضمون هذا الحديث في العشرات من الأحاديث التي رواها أهل السنّة (إحقاق الحق)، ج10، ص 167.
3- - سورة النور، آية 63.

اللّه أو يا أيها النّبي - تقول فاطمة عليها السلام لمّا نزلت الآية الشريفة هبت رسول اللّه أن أقول له يا أبه. فكنت أقول: يا رسول اللّه، فأعرض عني مرةً واثنين أو ثلاثاً، ثم أقبل عليَّ فقال: يا فاطمة إنّها لم تنزل فيك ولا في أهلك ولا في نسلك، أنت مني و أنا منك، إنّما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش، أصحاب البذخ والكبر ثم أضاف هذه العبارة الروحية العجيبة قولي يا أبه فإنّها أحيى للقلب وأرضى للرّب» (1).

لقد كان لصوت فاطمة عليها السلام الحنون وهي تردد «يا أبتاه» وقعاً مؤثراً في نفس الرسول صلى الله عليه و آله كوقع أمواج النسيم على البراعم المتفتحة.

3 - جاء في حديثٍ آخر

«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا سافر كانت آخر الناس عهداً به فاطمة وإذا رجع من سفره كانت عليها أفضل الصلاة أوّل الناس عهداً به». (2)

4 - نقل كثير من محدثي الشيعة والسنّة حديثاً للرسول صلى الله عليه و آله قال فيه:

«من آذاها فقد آذاني ومن أغضبها فقد أغضبني من سرها فقد سرني ومن سائها فقد سائني»

لا شك أن حرمة الزهراء صلى الله عليه و آله ورفعتها انما تعود لسمو شخصيتها وسمو مكانتها واخلاصها وعلو ايمانها وعبوديتها، ولا غرو فهي أم الائمة و زوج أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام .

لكنّ الرسول صلى الله عليه و آله أراد أن يفهم المسلمون حقيقة أخرى ويفصح عن رأي الاسلام بشأن أمر آخر فيخلق ثورة فكرية و ثقافية في ذلك الوسط فيقول:2.

ص: 16


1- - مناقب ابن شهر آشوب، ج3، ص 320.
2- - الفضائل الخمسة، ج3، ص 132.

البنت ليست كائنا يجب أن توأد.

أنظروا ... أني أقبل يد ابنتي، واجلسها مكانى، وأكن لها عظيم احترامي وتقديري.

البنت إنسان كسائر الناس، نعمة من نعم الخالق، وموهبة إلهية.

وأنها كأخيها الرجل في سيرها نحو الكمال والقرب الالهي، وهكذا أعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله للمرأة شخصيتها التي تصدعت في ذلك الوسط المظلم.

ص: 17

فاطمة أم ابيها

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «انّ اول شخص يدخل علي الجنة فاطمة بنت محمد» (1)

كان المسلمون يعيشون مرحلة الاعداد في مكة، في ظل ظروف قاسية للغاية. كانت بداية انبثاق الدعوة الاسلامية، والفئة الاسلامية قليلة، بينما كانت العدة والعدد والسطوة والثروة بيد خصوم الدعوة الجفاة، وكان لهم أن يفعلوا ما شاءوا بالمسلمين. فلم يتورعوا عن أذى المسلمين، كما لم يكفوا عن الاساءة إلى النبي صلى الله عليه و آله والطعن في شخصه.

وقد شهد ذلك العصر بروز شخصيتين على مستوى التضحية والفداء:

فكانت «خديجة» من بين النساء؛ التي كانت سكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله تواسيه بحبها وحنانها فتزيل عن قلبه الهم والغم. أما من بين الرجال فكان (ابوطالب) والد اميرالمؤمنين على عليه السلام والّذي كان يتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع المكّى، إلى جانب حكمته و حنكته العالية. فكان يقي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولا يتوانى في الدفاع عنه، كان درعه وعونه إزاء خصوم الدعوة. وللأسف فقد توفي هذان العظيمان في السنة العاشرة للهجرة

ص: 18


1- - أورده «الكليني» في «الكافي» وطائفة من علماء العامة في مصادرهم من قبيل «كنز العمال» و «ميزان الاعتدال»، كما نقله آخرون.

فحزن رسول اللّه صلى الله عليه و آله حزناً شديداً و بقي وحده في الساحة. وقد بانت شدة حزنه بهذين الفردين - والذين كان لكل منهما دوره في إنتشار الاسلام - حين سمى ذلك العام ب «عام الأحزان». ولكن لا يسلب اللّه المصطفين من عباده نعمة الافاض عليهم مثلها، فقد خلّف كل منهما ولدا يواصل نهجهما. فكان علي بن أبي طالب عليه السلام كأبيه يقي رسول اللّه صلى الله عليه و آله بنفسه، كان كذلك من انبثاق الدعوة، وهكذا سد الفراغ الذي تركه أباه بعد رحيله.

بينما خلّفت خديجة (فاطمة) فكانت البنت الحنونة الشجاعة والمضحية التي وقفت إلى جانب أبيها تشد أزره وتشاركه همه و غمه.

كان أميرالمؤمنين عليه السلام في التاسعة عشرة من عمره، بينما لم تكن فاطمة - على ضوء الروايات الصحيحة - قد جاوزت الخامسة من عمرها.

الجدير بالذكر انهما عاشا معاً في بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يؤنسانه ويخففان عنه ألم الوحدة. فقد كانت السنوات الثلاث الاخيرة التي سبقت الهجرة مملوءة بالاذى والمرارة والمعاناة بسبب الجهود المضنية التي كان يبذلها أعداء الدعوة من أجل القضاء على الاسلام والمسلمين. لقد نالت قريش من رسول اللّه صلى الله عليه و آله من الاذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى إعترضه سفيه من سفهاء قريش فنشر على رأسه التراب، فدخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه فاطمة عليها السلام فجعلت تمسح التراب عن رأسه وهي تبكي ورسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول لها: لا تبكي يا بنية، فان اللّه مانع أباك. (1)

وروى ابن عبّاس: أن قريشاً اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللّات والعزى ومناة لو رأينا محمداً لقمنا مقامٍ رجل واحدٍ ولنقتلنّ، فدخلت6.

ص: 19


1- - سيرة ابن هشام، ج1، ص 416.

فاطمة عليها السلام على النبي صلى الله عليه و آله باكيةً وحكت له مقالهم، فقال: يا بنية أدني وضوئي فتوضأ وخرج إلى المسجد، فلمّا رأوه قالوا: هاهو ذا و خفضت رؤوسهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم فلم يصل رجل منهم، فأخذ النبي صلى الله عليه و آله قبضةٍ من التراب فحصبهم بها و قال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلاً منهم إلّاقتل يوم بدر. (1)

وهذا يدل على أنَّ فاطمة عليها السلام لم تكن تخدم والدها في البيت فحسب، بل و تفكر بكيفية الدفاع عنه و نجاته في خارج البيت.

حيث روي أنها كانت الوحيدة في الدفاع عنه عليها السلام عندما رمى عليه أبوجهل روث البقر، و هو صلى الله عليه و آله يصلي وأصحابه عند الكعبة. فلم يجرؤ أحد على التدخل، لكنها خرجت و أسمعت أبا جهل ما روعه عن الاستمرار في السخرية من النبي صلى الله عليه و آله .

نعم... حتى عند افتقار الجرأة في الشجعان من الرجال في الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، نرى هذه البنت الشجاعة الصغيرة تسارع في الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

بعد أن انقضت فصول معركة أحد و غادر جيش العدو ساحة الوغى، كان الرسول صلى الله عليه و آله لا يزال في ميدان أحدٍ وقد كسرت رباعيته و شج جبينه، وبينما هو كذلك إذا أقبلت فاطمة عليها السلام وهي صغيرة السن من المدينة إلى أحدٍ سيراً على الأقدام، لتقوم بغسل وجهه المبارك وإزالة الدم عن محياه الشريفة، لكن الجبين لم يزل ينزف.

عندها قامت بحرق قطعة من الحصير، ثم وضعت رماده، على مكان الجرح فانقطع النزيف، والأعجب من ذلك أنّها كانت تهيء لأبيها السلاح1.

ص: 20


1- - المناقب، ج1 ص 71.

في المعركة التي جرت في اليوم القادم. (1)

في معركة الأحزاب التي هي من أهمِّ الغزوات الإسلامية، وفي أحداث فتح مكة عندما انتصر جنود الإسلام على اخر متراس للمشركين و السيطرة على البيت العتيق وتخليصه من الأصنام التي كانت تلوثه، نرى أيضاً فاطمة عليها السلام واقفةً إلى جانب أبيها، ففي الخندق تقبل عليه بأقراصٍ من الخبز معدودة بعد أن بقى أياماً بدون طعام، وفي الفتح المبين نراها تضرب له خيمته وتهيء له ماء ليستحم و يغسل، حتى يزيل عن جسده المبارك غبار الطريق، ويرتدي ثياباً نظيفة يخرج بها إلى المسجد الحرام.م.

ص: 21


1- - حدثت غزوة «حمراء الأسد» عندما عاد المشركون من وسط الطريق صوب المدينة بعد معركة «أحد» حتى يكملوا ضربتهم التي وجهوها إلى المسلمين، لكن اللّه أراد أن يرجعوا خائبين، لذا فقد ألقى سبحانه وتعالى الرعب في قلوبهم عندما واجهوا المسلمين حتى المجروحين منهم، فتراجعوا عن عزمهم.

فاطمة عليها السلام زوجة أمير المومنين علي عليه السلام

«لو لم يخلق علىٌّ لم يكن لفاطمة كفوٌ» (1)

الزواج الذي عقد في ملكوت السموات

كمالات فاطمة الرفيعة من ناحية و كونها بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله من ناحية أخرى شرف نسبها من ناحيةٍ ثالثة.

كان سبباً في سعي الكثير من كبار أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله لخطبتها الا أن الرسول صلى الله عليه و آله رفض تزويجها، و غالباً ما يكرر قوله:

أمرها الى ربِّها!

الأعجب من ذلك خطبة «عبد الرحمن بن عوف»، ذلك الرجل الثري الذي كان ينظر الى الامور من زاوية مادية، على ضوء التقاليد و الاعراف الجاهلية، فكان يعتقد بان المهر الغالي دليل على عظم موقع المرأة و مكانتها.

فعن أنس بن مالك قال:

ورد عبدالرحمن بن عوف الزهري و عثمان بن عفان الى النبي صلى الله عليه و آله ، فقال له عبدالرحمن يا رسول اللّه تزوجني فاطمة ابنتك، و قد بذلت لها من الصداق مائة ناقة سوداء زرق الأعين كلها قباطي مصر، و عشرة آلاف

ص: 22


1- كنوز الحقائق، ص124.

دينار -و لم يكن من أصحاب رسول اللّه أيسر من عبدالرحمن و عثمان - و قال عثمان: و أنا أبذل ذلك، و أنا أقدم من عبدالرحمن إسلاماً.

فغضب النبيّ صلى الله عليه و آله من مقالتهما، فتناول كفاً من الحصى فحصب به عبدالرحمن و قال له: إنّك تهول عليَّ بمالك؟ فتحول الحصى دراً، فقومت درّة من تلك الدر فإذا هي تفي بكلِّ ما يملكه عبدالرحمن. (1)

بلى... يجب أن تشخص و تطبق المثل الاسلامية في زواج فاطمة عليها السلام ، و يتعرف المجتمع الإسلامي على القيم و المعايير الإسلامية السامية، و يسحق السنن البالية من عهد الجاهلية.

وبينما كان حديث زواج فاطمة يدور على ألسن أهل المدينة، اذ ذيع فجأة أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله لن يزوجها من غير على بن أبى طالب عليه السلام .

علي بن أبي طالب عليه السلام الذي خلت يده من المال و من كلِّ ثروةٍ دنيوية، و لم يكن يتحلى بأىٍّ من الميزات التي تقيم لها الجاهلية و زناً، لكنه كان يتمتع بايمانٍ و قيمٍ إسلاميةٍ أصليةٍ تملأ كيانه من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه.

و عندما تحقّق القوم علموا أنَّ وحياً سماوياً قد أمر الرسول صلى الله عليه و آله بعقد هذا الزواج التاريخي المبارك، اضافة الى أنه صلى الله عليه و آله قال:

«أتاني ملك فقال يا محمد ان اللّه يقرئك السلام و يقول لك: إنى قد زوجت فاطمة ابنتك من عليٍّ ابن أبى طالب في الملأ الاعلى، فزوجها منه في الأرض». (2)1.

ص: 23


1- تذكرة الخواص، ص306،استخرجتها من كتاب «فاطمة الزهراء بهجة و قلب المصطفى» ص462.
2- ذخائر العقبى، ص31.

عندما دخل أمير المؤمنين علي عليه السلام على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و قد أخذ الحياء منه مأخذه، جلس بين يديه عليه السلام و لم يستطع التكلم لجلالة و هيبة صاحب الرسالة عليه السلام فقال له عليه السلام :

ما جاء بك؟ ألك حاجة؟ فسكت أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال عليه السلام : لعلك جئت تخطب فاطمة؟

فقال علي عليه السلام : نعم، فقال الرسول صلى الله عليه و آله : يا علي! لقد سبقك آخرون خطبتها مني، و اني كلما عرضت الامر عليها لم تظهر موافقتها، دعني أحدّثها في شأنك.

صحيح أن هذا الزواج قد عُقد في السماء و يجب أن يتم، الاّ أن احترام حرية المرأة في اختيار زوجها عموماً، و شخصية فاطمة عليها السلام خصوصاً تحتم على الرسول صلى الله عليه و آله أن يتشاور مع فاطمة عليها السلام في هذا الامر قبل البت فيه.

بعدها ذهب النبّي صلى الله عليه و آله لفاطمة عليها السلام و قال لها: أن علىّ بن أبي طالب ممّن قد عرفت قرابته و فضله في الاسلام، و انّي سألت ربّي أن يزوجك خير خلقه و أحبهم اليه، و قد ذكر من أمرك شيئاً، فماترين؟ فسكتت، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و هو يقول:

«اللّه أكبر! سكوتها اقرارها»

بعدها تم عقد القران بواسطة الرسول صلى الله عليه و آله .

مهر فاطمة:

و الان، لنرى ما هو مهر فاطمة؟

مما لا شك فيه أنّ زواج أفضل رجال العالم بسيدة نساء العالم و ابنة

ص: 24

رسول اللّه صلى الله عليه و آله يجب أن يكون مثلاً رائعاً، مثالاً لكلَّ العصور و الازمنة، لذا توجه الرسول صلى الله عليه و آله الى أمير المومنين علي عليه السلام بالقول:

يا أبا الحسن فهل معك شىء أزوجك به؟ فقال علي عليه السلام :

فداك أبي و أمي و اللّه ما يخفى عليك من أمري شيء، أملك سيفى، درعي، و ناضحي، و ما أملك شيئاً غير هذا، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله : يا علي أما سيفك فلا غنى بك عنه تجاهد به في سبيل اللّه و تقاتل به أعداء اللّه، و ناضحك تنضح به على نخلك و أهلك و تحمل عليه رحلك في سفرك، ولكنّي قد زوجتك بالدرع و رضيت بها منك. (1)

ونقرأ في روايةٍ أخرى أنّ الزهراء عليها السلام طلبت من أبيها عليه السلام ، أن يكون مهرها الشفاعة في المذنبين من أمّة محمد صلى الله عليه و آله ، فنزل جبرئيل عليه السلام على الرسول عليه السلام مخبراً بتلبية اللّه سبحانه و تعالى لطلب فاطمة عليه السلام . (2)

ربّما أن أغلى قيمة ذكرها التأريخ لهذا الدرع كانت خمس مائة درهم.

هذا من ناحية، و من ناحيةٍ أخرى نقرأ في الحديث أنّ فاطمة عليه السلام سألت النبى صلى الله عليه و آله أن يكون صداقها الشفاعة لأمته يوم القيامة، فنزل جبريل عليه السلام ، و معه رقعة من حرير مكتوب عليها: جعل اللّه مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبين من أمة أبيها. (3)

نعم، و بهذا الشكل يجب أن تحطم القيم الخاطئة، لتحلَّ محلها القيم الأصيلة، و هكذا يجب أن تكون سيل و أعراف ذوي الايمان من الرجال و النساء، و على هذا النهج تكون حياة القادة الحقيقيين لعباداللّه «عزوجل».7.

ص: 25


1- احقاق الحق، ج10،ص358
2- أخبار الدّول، ص88.
3- احقاق الحق، ج10،ص367.

جهاز فاطمة عليها السلام :

المهر، الجهاز، و مراسم الزفاف هي المشاكل الكبرى الثلاث التي تواجه العوائل بشأن الزواج و هي المشاكل التي تطغى أحيانا على الحياة الزوجية فتجعل الزوجين يعيشان الامرين طيلة عمرهما.

و بسبب هذه الامور الثلالة نلاحظ أحياناً نشوء مشاجراتٍ لفظيٍة، و أخرى نزاعاتٍ دموية، و ما أكثر ما أُضيع من الاموال في هذه المجال بسبب التظاهر و التفاخر و المنافسة الطفولية و القبيحة بين العوائل.

و الموسف أن ترسبات الافكار الجاهلية ما زالت عالقة في أذهان من يدعون تمسكهم بالاسلام الحنيف.

و لكن يجب أن يكون جهاز سيدة الاسلام كما هو مهرها مثالاً نموذجياً للجميع.

و كما أمر رسول اللّه فقد بيع الدرع بأربعمائة و سبعين درهماً، ثم جاء علي عليه السلام بالمهر الى الرسول. قسم الرسول صلى الله عليه و آله المال الى ثلاثة أقسام، حيث قبض قبضةً منه و دفعه الى بلال و قال له: ابتع لفاطمة طيباً، ثم قبض بكلتا يديه مقدار من ذلك المال و دفعه الى جماعةٍ قائلاً لهم: اشتروا به ما يصلح فاطمة من ثيابٍ و أثاثٍ للبيت، و دفع مبلغاً آخراً لأمِّ أيمن لتشتري به أمتعةً الى البيت.

من الواضح أن جهاز العرس الذي يُهيّا بهذا القدر من المال، لا بدَّ أن يكون بسيطاً رخيص الثمن.

و قد ذكرت كتب التأريخ أن جهاز سيدة نساء العالمين قد تكوَّن من ثمانية عشر نوعاً من الحاجيات، كلّها من ذلك المال، و نذكر هنا أهمّها:

قطيفة سوداء خيبرية

ص: 26

قميص بسبعة دراهم

سرير مزمل بشريط

أربع مرافق من ادم الطائف، حشوها أذخر (1)

ستر من صوف حصير هجير

رحى يدوية

سقاء من ادم

مخضب من نحاس

قعب للبن و شن للماء

جرّة خضراء... و أمثال ذلك

نعم هكذا كان جهاز سيدة نساء العالمين.

مراسم الزفاف:

أجرى نبيّ الرحمة احتفالاً لهذا الزواج الذي اختاره اللّه سبحانه و تعالى، و لهذه العائلة التي كان لها الدور الأهم في تاريخ الاسلام، و التي انحدر منها النسل الطيب و أئمة الهدى، خلفاء اللّه في أرضه فأغضبت مراسم الاحتفال تلك أعداء المسلمين، و رفعت رأس الموالين عالياً، و جعلت الخصوم يفكرون بمعنى الاسلام.

حضرت كلُّ من «أم أيمن» و «أم سلمة» و هما امرأتان ذواتا منزلة رفيعة في الاسلام كما كانتا شغفتين بفاطمة الزهراء، عند رسول اللّه بيت عائشة مع باقي زوجاته، فأحدقن به و قلن: فديناك بآبائنا و أمهاتنا يا رسول اللّه و قد اجتمعنا لأمرٍ لو أنَّ خديجة في الاحياء لقرّت بذلك عينها.ة.

ص: 27


1- أذخر، نبات طيّب الرّائحة.

قالت «أم سلمة»: فلما ذكرنا خديجة بكى رسول اللّه ثم قال: خديجة و أين مثل خديجة، صدقتني حين كذَّبني الناس و وازرتني على دين اللّه و أعانتني عليه بمالها، انّ اللّه عز و جلّ أمرني أن أبشر خديجة ببيتٍ الجنة من قصب (الزمرد) لاصخب فيه و لانصب.

قالت «أم سلمة»: فقلنا: فديناك بآبائنا و أمّهاتنا يا رسول اللّه انّك لم تذكر من خديجة أمراً الاّ و قد كانت كذلك غير أنّها قد مضت الى ربّها، فهنأها اللّه بذلك و جمع بيننا و بينها في درجات جنته و رضوانه و رحمته، يا رسول اللّه و هذا أخوك في الدنيا و ابن عمّك في النسب علي بن أبى طالب يجب أن تدخل عليه زوجته فاطمة، و تجمع بها شمله.

فقال: يا أم سلمة فما بال علي عليه السلام لا يسألنى ذلك؟ فقلت: يمنعه الحياء منك يا رسول اللّه.

قالت «أم أيمن»: فقال لي رسول اللّه: انطلقي الى عليِّ فائتيني به فخرجت من عند رسول اللّه فاذا عليّ ينتطرني ليسألني عن جواب رسول اللّه، فلما رآني قال: ما وراءك يا أم أيمن، قلت: أجب رسول اللّه.

قال: فدخلت عليه و قمن أزواجه فدخلن البيت و جلست بين يديه مطرقاً نحو الارض حياءً منه، فقال أتحبُّ أن تدخل عليك زوجتك؟ فقلت و أنا مطرق: نعم فداك أبي و أمي، فقال: نعم و كرامة يا أبا الحسن أدخلها عليك في ليلتنا هذه أو في ليلة غد ان شاء ا للّه، فقمت فرحاً مسروراً و أمر أزواجه أن يزين فاطمة و يطيبنها و يفرشن لها بيتاً ليدخلنها على بعلها، ففعلن ذلك.

و أخذ رسول اللّه من الدراهم التي سلمها الى «أم سلمة» عشرة دراهم فدفعها اليّ و قال: اشتر سمناً و تمراً و أقطا، فاشتريت و أقبلت به الى

ص: 28

رسول اللّه، فحسر عن ذراعيه و دعا بسفرة من أدم و جعل يشدخ التمر و السمن و يخلطهما بالأقط حتى اتخذه حيساً.

ثمَّ قال يا علي ادعُ من أحببت، فخرجت الى المسجد و أصحاب رسول اللّه متوافرون، فقلت: أجيبوا رسول اللّه، فقاموا جميعاً و أقبلوا نحو النبي، فأخبرته بأن القوم كثير، فجلل السفرة بمنديل، و قال: ادخل عليَّ عشرة بعد عشرة، ففعلت و جعلوا يأكلون يخرجون و لاينقص الطعام، حتى لقد أكل من ذلك الحيس سبع مائة رجل و امرأة ببركة النبى.

قالت «أم سلمة»: ثم دعا بابنته فاطمة، و دعا بعليِّ، فأخذ عليّاً بيمينه و فاطمة بشماله، و جعلهما الى صدره، فقبل بين أعينهما، و دفع فاطمة الى عليٍّ و قال: يا علي نعم الزوجة زوجتك، ثم أقبل على فاطمة و قال: يا فاطمة نعم البعل بعلك ثمَّ قام يمشى بينهما حتى أدخلهما بيتهما الذي هيىء لهما، ثم خرج من عندهما فأخذ بعضادتي الباب فقال: طهركما اللّه و طهر نسلكما أنا سلم لمن سالمكما و حرب لمن حاربكما، أستودعكما اللّه و استخلفه عليكم. (1)

ليعتبر عشاق الدنيا و ذوو الايمان الضعيف المتأثرون بزخارف هذا العالم المادى، الذين يرون كرامة و جلال العائلة في التشريفات القاصمة للظهر التي تقام في العرس، و ليستلهموا من هذا البناء التربوي للانسان الذي يعدّ ثروةً و كنزاً لسعادة كلٍّ من الشباب و الشابات، و ليتفحصوا صفحات التأريخ و يشاهدوا بأعينهم كيف طبقت تعاليم الاسلام أحداث «خطبة» و «مهر» و «جهاز» و «مراسم حفلة زواج» سيدة النساء فاطمة الزهراء عليه السلام .2.

ص: 29


1- بحار الانوار، ج43، «تاريخ الزهراء» ص 131-132.

فاطمة عليها السلام بعد رحيل أبيها صلى الله عليه و آله

«ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس باكية العين، محترقة القلب» (1)

انقضت الفترة السعيدة من حياة سيدة النساء فاطمة الزهرا بسرعة، و ذلك بوفاة النبيّ الكريم -رغم أنها لم تذق معنى السعادة في أيٍّ من مراحل حياتها بسبب الضغوط و الحروب و المؤامرات التي حاكها الاعداء ضد الاسلام و الرسول، مما سلب روح الزهراء الهدوء و الطمأنينة.

و بارتحاله الى الرفيق الاعلى بدأت رياح الظلم و المصاعب تهب على آل بيته الميامين. فظهرت من جديد أحقاد بدرٍ و خيبر و حُنينٍ التي دُفنت فى عصر الرسول الأمين، تحت التراب، و ثار المنافقون و الاحزاب لينتقموا من الاسلام و من آل بيت محمد و خصوصاً ابنته فاطمة الزهراء التي كانت تمثل مركز الدائرة التي صوبت نحوها سهام الأعداء المسمومة.

ألم فراق أبيها من ناحية

مظلومية أمير المومنين علي عليه السلام المؤلمة من ناحيةٍ أخرى.

المؤامرات التي حاكها أعداء الاسلام من ناحيةٍ ثالثة.

و قلق فاطمة على مستقبل المسلمين و كيفية الحفاظ على تعاليم القران.

ص: 30


1- المناقب، ج3، ص362.

اجتمعت هذه الامور مع بعضها لتعكر صفوها و تدمى قلبها، لكن فاطمة أخفت همها و غمها عن زوجها مخافة أن يتسع جرحه و معاناته من ظلم الأمة له، لهذا كانت تذهب الى قبر أبيها لتبثَّ اليها آلامها و أحزانها و ما آل اليه حالها، فقد قالت ذات مرّة:«يا أبتاه بقيت و الهةً و حيرانةً فريدة، قد انخمد صوتي و انقطع ظهري و تنغص عيشي». ومرةٍ أخرى نراها تقول: قُل للمُغيّبِ تَحتَ أطباقِ الثّرى

لماذا بكت فاطمة بهذا الشكل؟

لم كلُّ هذا الجزع؟

لماذا عدم الارتياح هذا، كأنها الحرمل على النار؟

لماذا؟

لنسمع منها جوابها على هذه التساؤلات.

تقول أم سلمة:

بعد وفاة الرسول الكريم ذهبت لزيارة و تفقد حال سيدة الاسلام فاطمة الزهراء فلخصت لي حالها بهذه الجمل العميقة:

أصبحت بين كمدٍ و كرب

ص: 31

فقد النبىِّ و ظلم الوصي

هُتكَ و اللّه حجابه...

ولكنها أحقاد بدرية

و ترات أحدية

كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة. (1)

و رغم ذلك لم يخف على أحد ما تحملته في سبيل الدفاع عن الحرمة العلوية المقدّسة و حماية أمير المومنين علي بن أبي طالب.

فبالرغم من قصر حياتها بعد أبيها، حيث استجاب اللّه سبحانه و تعالى دعاءها و لبّت بدورها نداء الباري «عز و جل» لتنتقل الى جوار ربّها و تسارع لرؤية أبيها، بالرغم من ذلك فقد بذلت كلَّ ما في وسعها من فداءٍ و تضحيةٍ في الدفاع عن الاسلام و التذكير بحق أمير المومنين علي.

صلى اللّه عليك يا بنت رسول اللّه و رحمة اللّه و بركاته.5.

ص: 32


1- مناقب ابن شهر آشوب، ج2، ص225.

فضائل الزهراء عليها السلام

اشارة

يجدر بالذكر هنا أن كل الاحاديث المذكورة في هذا القسم و التي تصل الأربعين حديثاً قد نقلت من مصادر أهل السنّة المشهورة و المعروفة مع ذكر أدلتها.

ص: 33

ص: 34

منزلة فاطمة عليها السلام

يتبادر الى ذهن البعض من الذين يجهلون أو يتجاهلون الحقائق أن الفضائل الكريمة المذكورة لأهل بيت النبوّة، و منزلتهم السامية انّما تعزى الى حسن ظنِّ مواليهم و تعلقهم الشديد بآل محمّد.

فلأنهم يعشقون آل البيت لذا فهم لايرون الامور الاّ من هذا المنظار، فكل ما يُروى عنهم من فضيلة يؤمن بها الموالي دون أن يعيروا أهميةً لسندها و مدى صحتها.

و لرفع سوء الظَّنِّ من أولئك البعض، و لزيادة اطمئنان المحبين و الموالين فسوف نلجأ الى مصادر المذاهب الاخرى المشهورة و كتبهم المعروفة لننقل ما جاء فيها من احاديثٍ و فضائل عن أهل بيت النبوّة.

لقد ذكرنا من قبل فضائل سيدة النساء فاطمة الزهراء من خلال شرح موجزٍ لحياتها المباركة، و غايتنا في هذا القسم من الكتاب أن نطلع على المقام المعنوى الرفيع لبنت رسول اللّه (و من خلال كتب أهل السنّة المشهورة).

و قبل الدخول في صلب هذا البحث، نرى من اللازم أن نذكر بعض النقاط المهمة:

1- من الظريف أن معظم المناقب و الفضائل التي ذكرت في كتب

ص: 35

الشيعة عن فاطمة الزهراء، قد ذكرها أهل العامة في كتبهم المشهورة أيضاً، الاّ القليل منها، و التي ذكرت في مصادر الشيعه المعتبرة دون أن ترد في كتب الاخرين.

2- لم يُنقل في هذا القسم من الكتاب الذي بين يديك أى روايةٍ عن كتب الشيعة، كما اقتصرنا على كتب الحديث و التاريخ المشهورة و المعتمدة من بين جميع كتب و مصادر العامة.

3- من المثير للدهشة، تلك العاصفة الهوجاء التي حلت بالأمة الاسلامية بعد وفاة رسول اللّه بسبب الخلافة، و التي كانت تستبطن حرف مسار الخلافة عن آل بيت محمد الى أشخاص آخرين، فبعد أن نصَّبهم اللّه سبحانه و تعالى خلفاءً للنبيِّ في حياته قام هولاء الأشخاص بتنحيتهم عنها و الاستيلاء على مسند الخلافة بعد وفاته.

اقصاء أهل البيت سبّب أن قام الحكّام بمحو فضائلهم و مناقبهم، و بالتالي محو ما يُثبت أولويتهم و أحقيتهم بخلافة رسول اللّه محمد.

بالاضافة الى أنّ اثبات تلك الفضائل و المناقب ستدعو الجميع للتساؤل ما معنى أن يتصّدى الاخرون لهذا الامر و أهل بيت النبوة يتمتعون بهذه المنزلة و هذا المقام؟!

لم لا نقدم من قدمه اللّه تعالى و الرسول؟

و لماذا يحرم المسلمون من بحر علوم هولاء؟

لماذا...و لماذا؟

لذا يتضح لنا أن محو أو تجاهل تلك الفضائل كان جزءاً من خططهم السياسية. وقد بلغت هذه المسألة أوجها في عصر حكومة «بنى أمية» و «بنى العباس»، و لم يكن في السر أو في الخفية بل علناً و أمام الملأ، و لم

ص: 36

يكتفوا بمحو فضائل أهل البيت فحسب بل و بدأوا باثبات فضيلة الاخرين من خلال نشر أحاديث و روايات موضوعة كاذبة، حتى وصل بهم الأمر الى شراء بعض الصحابة -أو أشباه الصحابة -لهذا العمل القبيح، و أجزلوا لهم العطاء.

فلقد رُوى أنَّ معاوية سلّم لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أنّ الايتين الشريفتين التاليتين قد نزلتا في علي بن أبى طالب و هما:

ى وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ (1)ى.

و أنَّ الاية التالية:

ى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ى (2)

قد نزلت في عبدالرحمن بن ملجم.

فلم يقبل فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل فبذل له أربعمائة ألف فقبل و روى ذلك.

و بهذا الشكل أصبح ذكر مناقب و فضائل آل البيت ممنوعاً على المنابر و في المجالس بل و يُعدُّ جرماً سياسياً في رأى النظام الحاكم، و من يخالف فقد حلّ عليه غضب النظام، فيسجن في بئرٍ مظلم أو يقطعوا لسانه أو يصلبوه.7.

ص: 37


1- سورة البقرة، آية 204، 205.
2- سورة البقرة، آية207.

بعد ما جاء معاوية الى المدينة، حذر الصحابي و المفسر المعروف «ابن عباس» الذي كانت له مكانةً خاصةً في المجتمع الاسلامى من ذكر فضائل عليِّ بن أبى طالب قال ابن عباس لمعاوية:

أتمنع قراءة القران؟ (يعنى أني أتلو الايات التي وردت في حقِّ علي).

قال: اقرأ القران ولكن لا تفسر آياته!

لقد قدر في مثل هذه الظروف أن تمحى فضائل آل البيت، لاسيما أن وسائل الاعلام آنذاك كانت مقتصرة على هذه المنابر و خطب الصلاة.

ولكن العجيب أن فضائل و مناقب آل بيت النبى لم تختف رغم الجوِّ المشحون الذي صنعه المنافقون و انّما ملأت كتب الصديق و العدو أيضاً.

و الاعجب من ذلك أن نشاهد من بين تلك الوثائق التي تدل على فضائلهم اعترافاتٍ صريحةٍ لاشخاصٍ مثل «معاوية» و «عمرو بن العاص» و بعض الخلفاء المتقدمين يثبتون بها تلك الفضائل و المناقب التي كان يتمتع بها آل البيت، علماً أنّ هذه الاعترافات قد أرّختها أيدي مؤرخيهم على صفحات التأريخ!

وما ذلك الاّ دليل على مشيئة اللّه في فضح المنافقين، و اعجاز كبيرٍ لاهل بيت العصمة.

4- أظهر الساعون في محو فضائل آل بيت الرسول الكثير من التعصّب، حيث لم يكتفوا بتشويه سمعة أمير المؤمنين علي و أبنائه الكرام و درج أسمائهم في القائمة السوداء لاولئك الحاقدين، و انما سعوا الى هدم و تحطيم مكانتهم الاجتماعية. و الأمر من ذلك أنهم عمدوا الى الحاق الأذى و الاساءة بكل كلِّ من له علاقه بآل بيت محمد أياً كان نوعها.

فلماذا يصر البعض على رغم الاثار و الدلائل التأريخية التي تشير الى

ص: 38

ايمان أبي طالب عم و حامي الرسول بأنه مات كافراً و مشركاً؟! زاعمين أن الاية الشريفة.

«و هُمْ يَنْهَون عنه و ينؤن عنه» (1) قد نزلت فيه!

لا لشىء سوى أنه والد أمير المومنين علي.

و لماذا اصرار هم على أنّ «باذر الغفاري» ذلك الرجل الشجاع، ذو «مذهبٍ اشتراكي»، حيث يتهمونه في كتبهم بأنّه يحمل عقائداً اشتراكية؟!

ليس الا... كونه من خلّص أصحاب أمير المؤمنين، و من المعترضين على الخليفة الثالث في مسألة اتلاف و هدر مال المسلمين.

و هناك الكثير من مثل هذه التساؤلات.

فياترى بعد هذه المعاداة، ألا يعجب المرء من وجود كلِّ هذه الفضائل و المناقب لال البيت في كتب مخالفيهم؟ أليس من المعجزة أن تعبر أحاديث تحكي فضائل آل محمد عصوراً و أزمنة حارب فيها الحكام محبي آل البيت بشتى الطرق، حتى أنهم كانوا يعتبرون تسمية المولود باسم علىٍّ جرماً لايُغتفر؟!

5 - المثير للدهشة أن حذف تلك الفضائل لم يكن منحصراً بالقرون الاولى للاسلام، أو بعصر بنى أمية و بنى العباس فقط، ففى العصر الحاضر الذي يسمى «عصر المطالعات و الدراسات التاريخية الدقيقة» حيث طبع الكتب الاسلامية، و نشرها في مختلف الدول الاسلامية لذا فانّ أىَّ تغيير أو تحريفٍ أو حذف للحقائق يسبّب فضيحة كبيرة، رغم ذلك نرىا.

ص: 39


1- - سورة الانعام آية 26 «نقرأ شرحاً مفصّلاً عن هذه التهمة الكبيرة و الدلائل التي تشير الى بطلانها في المجلّد الخامس من «تفسير الامثل» من ص 191 و ما بعدها.

محققون متعصبون»! (ان أمكن الجمع بين التحقيق و التعصّب) قد انتهجوا نفس أسلوب الامويين و العباسيين في حذف و تغيير و تحريف الحقائق. مما حدى بالعلامة «الامينى» و هو المحقق الاسلامى الكبير الى أن يذكر في كتابه «الغدير» بعضاً من النماذج. منها كيف أن المؤرخ المعروف «الطبرى» حرّف الحديث المربوط بقصة يوم الدار و تفسير آية «و أنذر عشير تِكَ الأقربين» و استعداد علىٍّ للوقوف بجانب رسول اللّه و اعلانه بوصاية و وزارة علي من بعده، حرف كل ذلك رغم سند الحديث المعتبر عند كلِّ المذاهب.

و الأسوأ من ذلك ما فعله «محمد حسين هيكل» حيث نقل الحديث فى الطبعة الاولى من تأريخه ثمَّ حذف القسم الاهم من الحديث في الطبعة التالية. (1)

و الان و كما قلنا آنفاً فانّنا سنذكر مناقب فاطمة الزهراء و مقامها الرفيع من خلال الاحاديث التي نقلتها كتب العامة المشهورة. و كما ذكرنا أيضاً فسوف لن ننقل أي حديثٍ من مصادر و طرق الشيعة (رغم أنها معتبرةً جداً و من الدرجة الاولى) فنخلي الميدان لاحاديث الاخرين حتى يتبين أن تألق هذه السيدة لا يمكن أن يخفيه الستار الذي ألقاه الحاقدون.

يتمّ التركيز هنا على عشر مباحث تعتبر محاور أصليةٍ للموضوع وأن الزهراء:

1- أنها سيدة نساء العالمين.

2- حوراء أنسية.0.

ص: 40


1- انظر الغدير، ج2، ص 287-290.

3- محبوبة الرسول و بضعته.

4- مقربة الى اللّه يرضى لرضاها و يغضب لغضبها.

5- صاحبة التضحية الكبرى و الفداء.

6- المقام العلمى لفاطمة.

7- كرامات سيدة النساء.

8- أوّل من يدخل الجنة.

9- أسامي فاطمة.

10- هدية النبي لابنته الزهراء.

ص: 41

سيدة نساء العالمين

من الطبيعي أن تختلف منزلة البشر من واحدٍ لاخر. فمنهم من علا بفضيلته على الملائكة المقربين، و منهم من هو أحطَّ من الحيوانات. و طبقاً لما ينصُّ عليه القران و يوصي به الاسلام فانَّ «العلم و الايمان و التقوى و الصفات الانسانية الفاضلة» هي التي ترفع من مقام الانسان و قيمته. و بالاستناد الى هذه المعايير فان سيدة فاطمة الزهراء -و على لسان رسول اللّه -سيدة نساء العالمين.

لقد ورد في مصادر أهل السنة المعروفة كثيراً من الروايات تنصُّ على أن فاطمة الزهراء أفضل نساء العالمين، حيث تحدث الرسول، بهذه لعدة مراتٍ و بتعابير مختلفة.

1- قال:

«ان أفضل نساء الجنة خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمدٍ و مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم». (1)

2- و نقرأ في حديث آخر للرسول حين اعتل علة الموت عندما شاهد قلق و اضطراب فاطمة انه قال:

«يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، و سيدة نساء هذه

ص: 42


1- نقل هذا الحديث في مستدرك الصحيحين، ج 2، ص497 ثم صرح بان سنده صحيح.

الامة، و سيدة نساء المؤمنين». (1)

و هنا تظهر أفضلية فاطمة المطلقة، حيث لم يورد الرسول في حديثه اسماً آخر.

3- نقل أبو نعيم الأصبهاني عن جابر بن سمرة. قال: جاء نبيّ اللّه فجلس و قال:

ان فاطمة وجعة فقال القوم: لو عدناها؟

فقام فمشى حتى انتهى الى الباب -و الباب عليها مصفق -قال، فنادى: شُدّي عليك ثيابك فان القوم جاؤوا يعودونك.

فقالت: يا نبيّ اللّه ما عليَّ عباءة. قال فأخذ رداءً فرمى به اليها من وراء الباب، فقال: شدّى بهذا رأسك، فدخل و دخل القوم فقعد ساعة فخرجوا، فقال القوم: تاللّه بنت نبيّنا على هذا الحال؟

قال فالتفت فقال:

«أما انّها سيدة النساء يوم القيامة». (2)

4 - و بتعبير آخر رواه صحيح (3) البخاري - و هو من أشهر مصادر الحديث عند العامة -نقلاً عن عائشة أنها قالت:

أقبلت فاطمة كأنّ مشيتها مشية رسول اللّه فقال: مرحباً بابنتي ثم أجلسها عن يمينه ثم أسرَّ اليها حديثاً فبكت. فقلت استخصك رسول اللّه و أنت تبكين ثمَّ أنّه أسرَّ لها فضحكت.

قالت: فقلت لها ما رأيت كاليوم أقرب فرحاً من حزن، ما أسر اليك؟ق.

ص: 43


1- مستدرك الصحيحين، ج3،ص156، كما صرح بصحة سند هذا الحديث.
2- حلية الاولياء، ج2، ص42.
3- صحيح البخارى كتاب بدء الخلق.

فقالت فاطمة: ما كنت لأفشي سرّ رسول اللّه.

حتى اذا قبض الرسول سألتها، فقالت:

انّه أسرّ الىّ و قال: كان جبرئيل يعارضني بالقران في كلّ عامٍ و أنّه عارضني به هذا العام مرتين و لا أراه الاّ قد حضر أجلي و أنك أول أهلى لحوقاً بى و لنعم السلف أنا لك، فبكيت لذلك فقال أما ترضين أن تكون سيدة نساء أهل الجنة و نساء المومنين؟! فذلك الذي أضحكني.

ويُتضح جيداً من التأمل في هذه الاحاديث أنه اذا قيل أنّ فاطمة واحدة من أربع من النساء الفاضلات، فان ذلك لا ينافي كونها أفضل تلك النساء الأربع.

ودليلنا على هذا ما يفيده الحديث التالى:

*5 - نقل في كتاب «ذخائر العقبى» عن ابن عباس أن الرسول الكريم قال:«أربع نسوةٍ سيدات سادات عالمهنَّ: مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و أفضلهن فاطمة (1) و بالطبع فان كلمة «أفضلهن» تشتمل على عدة معان و تشير الى المنزلة العلمية و التقوى و الايثار و سائر الملكات الفاضلة.

لقد صرّح القران قائلاً: أن الملائكة كانت تكلم مريم، كما في الاية الشريفة: ى اذ قالت الملائكة يا مريم انَّ اللّه اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين. (2).

و قد كلمت مريم الملائكة و هذا ما تنص عليه آية 16 الى آية 21 من5.

ص: 44


1- ذخائر العقبى، ص44، و أيضاً السيوطى في «الدر المنثور» ذكر هذا الحديث في أسفل آية 42 من سورة آل عمران.
2- سورة آل عمران، آية 42 كذلك آية 43و45.

سورة مريم و ينص القران على أنه كان يؤتى لمريم بطعام من الجنة.

حيث نقرأ في الاية الشريفة:ى فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمَحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ى (1)

و يصفها في مكانٍ آخر بأنها «صديقة»، كما في الاية الشريفة:

ى مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ى (2)

و غير ذلك من الفضائل التي يثبتها للسيدة مريم و باقي النساء الفاضلات كآسية بنت مزاحم، و كذلك يثبت النبي مثل هذه الفضائل و الكرامات للسيدة خديجة الكبرى.

و من هذا المنطلق نعرف أنَّ لفاطمة مقام عالى أو منزلة رفيعة مكرمة، خصوصاً ما جاء في رواية «الأفضيلة» التي تدل على أنَّ هذه المفاخر و المناقب هي في الواقع جزء مما تتحلى و تتميز به فاطمة.5.

ص: 45


1- سورة آل عمران، آية 37.
2- سورة المائدة، آية 75.

حوراء انسية

ان اللبنة الاولى في بناء كيان الانسان هي انعقاد «النطقة»، لأنها على أية حالٍ تحمل قسماً مهماً من قيمه الوجودية. و لذلك تواترت الروايات التي توصي بضرورة سلامة هذه اللبنة و صحة تكوينها.

و عند ما نطالع تأريخ حياة سيدة النساء نرى أنها قد امتازت في هذا المجال عن جميع شخصيات العالم رجالاً و نساءً.

و من الأفضل أن نسمع هذا الحديث من فم رسول اللّه:

*6 - عن ابن عباس قال:

كان النبىّ يكثر تقبيل فاطمة فقالت له عائشة:

انك تكثر تقبيل فاطمة.

فقال: انّ جبرئيل ليلة أسرى بي أدخلني الجنة فأطعمني من جميع ثمارها فصار ماءً في صلبي فحملت خديجة بفاطمة «فاذا اشتقت لتك الثمار قبلت فاطمة فأصبت من رائحتها جميع تلك الثمار التي أكلتها». (1)

*7- و جدير بالذكر أنّ بعض الروايات قد نصت على فاكهة «التفاح»، كما هو في كتاب «ذخائر العقبى» حيث ينقل «الطبري» حديثاً للرسول

ص: 46


1- ذخائر العقبى، ص36.

عن جمع من الصحابة أنه قال: «لما أسرى بى أدخلنى جبريل الجنة فناولنى تفاحةً فأكلتها فصارت نطفةً في ظهري فلما نزلت من السماء واقعت خديجة. ففاطمة من تلك النطقة» (1)

*8 - و قد نقل في حديث آخر أن الرسول قد تناول فاكهة «السفرجل» عند مروره بالجنة ليلة المعراج. جاء ذلك في «مستدرك الصحيحين» نقلاً عن «سعد بن مالك». (2)

*9 - و جاء في حديثٍ آخر أن الفاكهة التي تناولها الرسول كانت غير معروفةٍ لأهل الدنيا، كما أنها كانت لذيذةً و عطرة النكهة حيث نقل «السيوطي» في «الدرّ المنثور» عن الرسول أنه قال:

«لما أسرى بي الى السماء أدخلت الجنة فوقفت على شجرةٍ من أشجار الجنة لم أر في الجنة أحسن منها و لا أبيض ورقاً و لا أطيب ثمرةً، فتناولت من ثمرتها، فأكلتها فصارت نطفة في صلبي، فلما هبطت الى الارض واقعت خديجة، فحملت بفاطمة، فاذا أنا اشتقت الى ريح الجنة شممت ريح فاطمة» (3)

و في الواقع فانّ الحديث الأول في هذا الفصل يحوي و يفسر مجموع هذه الاحاديث، فطبقاً لما جاء فيه فان الرسول قد تناول من جميع فواكه الجنة و أنَّ نطفة فاطمة قد انعقدت من عصارة تلك الثمار. هذا مع الاخذ بنظر الاعتبار أن الدنيا التي نعيشها تختلف عن عالم الجنة بقدرٍ تعجز معه ألفاظنا عن تبيان حقائقها، و ما نذكره عنها ما هو الاّ اشارات مختصرة لما تتمتع بها.1.

ص: 47


1- ذخائر العقبى، ص44.
2- مستدرك الصحيحين، ج3، ص156.
3- «السيوطى» في «الدّر المنثور» في تفسير آيه «سبحانَ الذي أسرى بعبده» -سورة الاسراء آية1.

على كلِّ حال فان حوراءً أنسية بالمواصفات الخلقية و الطبيعية لاهل الجنة لابد و أن تكون نطفتها من عصارة فاكهة الجنة، و هذا ما امتازت به هذه السيدة على سائر نساء العالمين.

كانت من نساء الجنة، نفسها و خلقتها، قلبها و روحها، لونها و هيئتها، قولها و حديثها، و غير ذلك من صفات و ميزات أهل الجنة، و خلاصة القول أنها من الجنة من رأسها الى أخمص قدميها.

فهل في تاريخ البشرية مثل هذا الوسام المشرف لغير هذه السيدة؟

ص: 48

فاطمة عليه السلام أحب الناس الى الرسول الكريم صلى الله عليه و آله

الحب و العشق، أقوى ما يربط بين موجودين.

يفيد قانون الجاذبية الذي يحكم عالم المادة أن قوة الجذب تتناسب طرديا مع حاصل ضرب الكتلتين و عكسيا مع مربع المسافة بينهما.

و يسري حكم هذا القانون في العالم المعنوي و العشق الالهي أيضاً.

فكلما سمت قيمة الأشخاص و تقاربت نفوسها زادت علاقة الحب و العشق بينها!

مع وجود اختلافٍ بسيطٍ يختص به عالم المادة، فأحياناً يولد الاختلاف و التضاد تجاذباً بين الجسمين (كما في التجاذب الحاصل بين الشحنتين الموجبة و السالبة)، على خلاف ما يحدث في عالم الأرواح حيث تقوى رابطة الجذب كلما زاد الشبه فيما بينها، و تضعف إذا ما وجد التضاد و الاختلاف.

نتجه بعد هذه المقدمة القصيرة صوب عالم الأحاديث، لنتعرف على مدى علاقة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله بابنته فاطمة الزهراء عليها السلام ، و إلى أيِّ مقدارٍ كان يحبها؟

*10 - يُروى عن عائشة أنها قالت:

«ما رأيت أحداً أشبه كلاماً و حديثاً من فاطمة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و كانت

ص: 49

إذا دخلت عليه رحب بها، و قام إليها، فأخذ بيدها فقبلها، و أجلسها في مجلسه». (1)

*11- و جاء في روايةٍ أخرى.

«كان كثيراً ما يقبل عرف فاطمة». (2)

*12- و تنص رواية ثالثة على:

«كان كثيراً ما يقبلها في فمها». (3)

*13- لقد كان الرسول صلى الله عليه و آله يظهر الكثير من محبته لفاطمة عليها السلام حتى أثار ذلك حفيظة عائشة، حيث قالت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله .

«يا رسول اللّه ما لك إذا جاءت فاطمة قبلتها حتى تجعل لسانك في فيها كله كأنك تريد أن تطعمها عسلاً؟!

قال صلى الله عليه و آله : نعم يا عائشة، انى لما اسرى بى الى السماء... و قصَّ عليها قصة ثمار الجنة التي تناولها». (4)

*14- و جاء في صحيح أبي داوود

«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله اذا سافر كان آخر عهده بانسانٍ من أهله فاطمة عليها السلام و أول من يدخل عليه اذا قدم فاطمة عليها السلام » (5)

كما نقل «أحمد بن حنبل» هذه الرواية في مسنده. (6)

لكن نعلم أن للحب و الحنان الواقعيين طرفان، فالحنان المطلق له2.

ص: 50


1- مستدرك الصحيحين، ج3، ص154.
2- كنز العمّال، ج7، ص111.
3- فيض الغدير، ص176.
4- تاريخ بغداد، ج5، ص87.
5- صحيح أبى داود، ج26، باب ما جاء في الانتفاع بالعاج.
6- مسند أحمد بن حنبل،ج6، ص282.

جانب سلبي، و يكون سطحياً عديم القيمة، و كما أسلفنا فان العشق الواقعي دليل على التشابه، و عند ما يحصل التشابه ستتولد الجاذبية بين الطرفين.

لذا فان الروايات الاسلامية تعكس حقيقةً مهمة. ألا و هي أن العلاقة التي كانت تربط الرسول صلى الله عليه و آله بابنته فاطمة الزهراء عليها السلام كانت علاقة متبادلة و بنفس الشدة. و اليك شواهد ما أشرنا اليه:

*15- جاء في صحيح مسلم عن عبداللّه بن عمر بن محمد بن أبان الجعفي، بينما رسول اللّه، يصلي عند البيت و أبوجهل و أصحابه له جلوس و قد نحرت جزور بالأمس فقال أبوجهل: أيكم يقوم الى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفى محمد اذا سجد، فانبعث أشقى القوم فأخذه فلما سجد النبي صلى الله عليه و آله وضعه بين كتفيه، قال فاستضحكوا و جعل بعضهم يميل الى بعضٍ و أنا قائم أنظر لو كانت لى منعة طرحته عن ظهر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، و النبي صلى الله عليه و آله ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق انسان فأخبر فاطمة فجاءت و هي جويرية فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم فلما قضى النبي صلى الله عليه و آله صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، و كان اذا دعا دعا ثلاثاً و اذا سأل سأل ثلاثاً ثم قال اللَّهمَّ عليك بقريش ثلاث مرات فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك و خافوا دعوته ثم قال: اللّهمَّ عليك بأبى جهل بن هشام و عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و الوليد بن عتبة و أمية بن خلف و عقبة بن أبى معيط. فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه و آله بالحق لقد رأيت الذي سمى صرعى يوم بدر ثم سحبوا الى القليب قليب بدر» (1)».

ص: 51


1- صحيح مسلم «كتاب الجهاد و السّير» و صحيح البخارى «كتاب بدأ الخلق باب ما لقى النبىّ و أصحابه من المشركين».

نعم، لقد كانت الزهراء عليها السلام منذ صغرها خليطاً من «المحبة» و «الشجاعة»، و هي دائماً على أهبة الاستعداد في الدفاع عن أبيها صلى الله عليه و آله .

*16- و نطالع أيضاً في نفس المصدر السابق عن أحداث غزوة أحد ما يأتي:

«قال سهل بن سعد: جرح وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و كسرت رباعيته و هشمت البيضة على رأسه فكانت فاطمة بنت رسول صلى الله عليه و آله اللّه تغسل الدم و كان عليُّ بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لايزيد الدم الاّ كثرة، أخذت قطعة حصيرٍ فأحرقته حتى صار رماداً ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم». (1)

*17- نقل «أبو نعيم الاصفهاني» في «حلية الاولياء» عن عليّ بن محمد بن اسماعيل عن...عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: قدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله من غزاةٍ له فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين - و كان يعجبه اذا قدم أن يدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين -ثم خرج فأتى فاطمة فبدأ بها قبل بيوت أزواجه فاستقبلته فاطمة عليها السلام و جعلت تقبل وجهه و عينيه و تبكى.

فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ما يبكيك؟ قالت: أراك قد شحب لونك. فقال لها: يا فاطمة، انّ اللّه عزّ و جلّ بعث أباك بأمرٍ لم يبقَ على ظهر الارض بيت مدرٍ و لا شعر الا أدخله به عزاً أو ذُلاً يبلغ حيث بلغ الليل. (2)

*18- و روى فيما روى عن أحداث الخندق عن عليٍّ عليه السلام في حفر0.

ص: 52


1- صحيح مسلم «كتاب الجهاد و السير» و صحيح البخاري «كتاب بدأ الخلق باب ما لقى النّبيّ و أصحابه من المشركين».
2- حلية الاولياء ج2، ص30.

الخندق اذ جاءته فاطمة بكسرةٍ من خبز فرفعتها اليه فقال ما هذه يا فاطمة، قالت: من قرصٍ اختبزته لابنيَّ جئتك منه بهذه الكسرة. فقال: يا بنية أما أنها لاول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث. (1)

ما أعظم قوى الجذب التي تربط بين هذا الاب و ابنته؟

جاذبية متأصلة في أعماق روحيهما، و محبة قد ارتشفت من منبع وجود هما، و علاقة عشقٍ تمخض عنها اتحاد روح الأب بروح ابنته الملكوت الأعلى.

فهل هناك أفضل من هذا الافتخار لفاطمة الزهراء عليها السلام ؟.

فخر و فضيلة لم تكن لأى أحدٍ عبر تأريخ الاسلام سوى لمعلمها على ابن أبى طالب عليه السلام .7.

ص: 53


1- ذخائر العقبى، ص47.

قرب فاطمة عليها السلام من اللّه

نعلم أن الفناء هو أعلى مراتب القرب من اللّه سبحانه و تعالى.

«الفناء» يعني تجاهل و نسيان كل شىءٍ، و كل ذي نفس، بل و حتى الذات في مقابل الخالق الجبار. أى أن يصل المرء الى مرحلةٍ لا يرى فيها الوجود الدنيوى الاّ سراباً، و لا يشاهد هذا العالم المخلوق الا كظلٍّ باهت زائل.

يرى اللّه في كل مكان، و يبحث عنه في كلِّ مكان.

كالفراشة التي تدور حول شمعةٍ تحترق، يصهر ذاته في وجود اللّه، فلا يرى قيمةً لكيانه في حضرة الاله.

يعد «التسليم المطلق» لا رادة اللّه«سبحانه و تعالى» و احداً من الآثار المرتبة على وصول المرء لهذا المقام، فما يريده اللّه هو المراد، و ما يحبه هو الأصلح.

فرضاه من رضا اللّه، و رضا اللّه من رضاه.

و بهذه المعايير العرفانية نتوجه صوب المقام العرفاني لسيدة نساء العالمين و نتعرف على مدى سمو منزلتها عند اللّه و نطلع على الحقيقة التي أشار اليها رسول الاسلام الكريم صلى الله عليه و آله

19 - نصِّت الكتب المعروفة لأهل السنة على الكثير من الروايات التي

ص: 54

تشير الى أن الرسول صلى الله عليه و آله قال لا بنته فاطمة الزهراء عليها السلام :

«ان اللّه يغضب لغضبك و يرضى لرضاك». (1)

20 - ورد في «صحيح البخاري» الذي يعد من أشهر مصادر الحديث عند العامة أن الرسول «ص» قال:

«فاطمة بضعة منى فمن أغضبها فقد أغضبنى». (2)

21 - و نطالع في مكانٍ آخر من نفس المصدر هذا الحديث:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

«فانما هي فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها و يؤذيني ما آذاها». (3)

و كما أشرنا سابقاً فانَّ الأحاديث كثيرة في هذا المجال، و كلها تحكي عن المقام العالي لفاطمة الزهراء عليها السلام في معرفة الخالق و عن درجة عصمتها و إيمانها و إخلاصها. فقد سمت بمقامها إلى اللّه سبحانه و تعالى حتى صار رضاها و غضبها مرآةً لرضا اللّه و رسوله و سخطهما، و لا يمكن أن تعادل هذه الدرجة السامية بأي شيء.

22 - و ننهي بحثنا هذا بحديثٍ آخر ينقله لنا«صحيح الترمذي» فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :

«إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها و ينصبني ما نصبها». (4)

من البديهي أنه لا يمكن لظاهرة الحنان التي تربط الوالد بولده أن9.

ص: 55


1- مستدرك الصحيحين، ج 3، ص 153. كما نقل هذا الحديث «ابن حجر» فى« الاصابة» و «ابن الأثير» في «أسد الغابة».
2- صحيح البخارى« كتاب بدأ الخلق» باب مناقب قرابة رسول اللّه.
3- صحيح البخارى «كتاب النّكاح» باب ذبّ الرّجل عن ابنته -ورد مضمون هذين الحديثين فى كتبٍ معروفة مثل «خصائص النسانى»، «فيض الغدير»، «كنز العمّال»، «مسند أحمد»، «صحيح أبى داوود» و «حلية الأولياء».
4- صحيح الترمذي، ج 2، ص 319.

تفسر هذا الأمر أن النبيّ«ص» رسول اللّه لا يريد إلاّ ما أراد اللّه، و أن رضا و سعادة فاطمة عليها السلام من رضا اللّه و رسوله ما هو إلاّ دليل على صهر إرادتها فيما يريده اللّه و يرضاه.

لا بد من الإشارة هنا إلى نقطةٍ مهمة، و هي أن فسر البعض جملة «فاطمة بضعة مني» على أنها جزء من جسد الرسول صلى الله عليه و آله في الوقت الذي يدل مفهوم الحديث على أن فاطمة عليها السلام جزء من كيان و وجود أبيها محمّد صلى الله عليه و آله و من الناحيتين المادية و الروحية. و هذا ما ستشير إليه الروايات التي سنستعرضها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 56

زهد فاطمة عليها السلام

«حب الدنيا رأس كل خطيئة».

بالاستناد إلى الحديث النبوي الشريف و إلى ما تمخضت عنه تجاربنا و مشاهداتنا في الحياة فإنَّ كلَّ التجاوزات، الجنايات، الأكاذيب، الخيانات، الظلم كانت نتيجة لحب «المال» و «الجاه» و «الشهوة»، هنا يتضح أن الزهد و الورع هما أساس التقوى و الطهارة و الصلاح.

و لكن يجب معرفة ماهية الزهد، فالزهد لا يعني ترك الدنيا و الرهبنة و الاعتزال عن المجتمع، بل أن حقيقة الزهد هي الحرية و عدم الوقوع في شراك الدنيا.

قالزاهد من لم يتعلق قلبه بالدنيا و ان كانت عنده فلو أحس يوماً بأن رضا اللّه سبحانه و تعالى منوط بتركه لما في يديه كان مستعداً لهذا العمل، و يقول من أعماقه:

يا ليت بيني و بينك عامر و بيني و بين العالمين خراب. و إذا استدعى الحفاظ على الحرية و الشرف و الإيمان أن يضحي بحياته و روحه و ماله لم يتوان في ذلك و يصرخ من أعماقه هيهات منا الذلة.

و على حد قول القرآن الكريم في تعريفه للزاهد:

ص: 57

ى لكيلا تأسوا على ما فاتكمو لا تفرحوا بما آتاكم ى (1)

بعد هذه المقدمة القصيرة نتوجه إلى أحاديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و نتعرّف من خلالها على وجهة نظره بشأن بشخصية فاطمة عليها السلام .

23- نقل«ابن حجر» و آخرون في روايةٍ عن الرسول صلى الله عليه و آله :

«أخرج أحمد و غيره ما حاصله أنه صلى الله عليه و آله كان إذا قدم من سفر أتى فاطمة و أطال المكث عندها ففى مرة صنعت لها مسكين من ورق و قلادة و قرطين و ستر باب بيتها فقدم صلى الله عليه و آله و دخل عليها ثم خرج و قد عرف الغضب في وجهه حتى جلس على المنبر فظنت أنه إنّما فعل ذلك لما رأى ما صنعته فأرسلت به إليه ليجعله في سبيل اللّه، فقال فعلت فداها أبوها ثلاث مرات، ليست الدنيا من محمدٍ و لا من آل محمدٍ و لو كانت الدنيا تعدل عند اللّه في الخير جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، ثم قال فدخل صلى الله عليه و آله عليها». (2)

من الواضح أن يكون ثمن السوارين و القرطين الفضيين و العقد الفضي زهيداً، و الأزهد ثمناً منها ذلك الستار الذي يعلقه الإنسان على باب الغرفة، غير أن الرسول «ص» كان يعتبر أن ذلك ليس من شأن فاطمه عليها السلام ، بل يرى أن فضيلتها و كرامتها تكمن في خصالها الإنسانية.

تعلمت فاطمة عليها السلام هذا الدرس من أبيها مباشرةٍ، حيث رمت بالدنيا و زخرفها جانباً محرّرة نفسها من ذلك الأسر من ناحية و أنفقت ما في يدها في سبيل اللّه من ناحيةٍ أخرى.9.

ص: 58


1- سورة الحديد، آية 23.
2- الصواعق المحرفة، ص 109.

لقد عرفنا من خلال الحديث الذي سبق ذكره -برقم 3- نقلاً عن كتاب «حليد الأولياء» لم تكن تملك الحجاب الكافي عند مجيء الرسول صلى الله عليه و آله و أصحابه لعيادتها، مما حدا به صلى الله عليه و آله أن يناولها عباؤته لتستر نفسها و تستعد للضيوف الذين جاؤوا لعيادتها.

إنّ جهاز فاطمة عليها السلام و مراسم الزفاف التي جرت بمنتهى البساطة، و تفانيها في القيام على شؤون بيتها، حيث تحضن طفلها في إحدى يديها و في الأخرى تطحن الشعير لتهيء لهم الخبز، كل ذلك شواهد صادقة على زهدها العالي و إيمانها الصادق. و يشير الحديث التالي إلى هذا المعنى:

*24- نقل أبو نعيم الأصفهاني في «حلية الأولياء»:

«لقد طحنت فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتى مجلت يدها و ربا، و أثر قطب الرحى في يدها» (1).

*25- نقل في «مسند أحمد» و هو أحد أشهر مصادر أهل السنة عن «أنس بن مالك» أنه قال:

إن بلالاً بطأ عن صلاة الصبح فقال له النبي صلى الله عليه و آله ما حبسك فقال:

مررت بفاطمة و هي تطحن و الصبي يبكي فقلت لها إن شئت كفيتك الرحا و كفيتيني الصبي و إن شئت كفيتك الصبيَّ و كفيتيني الرحا فقالت أنا أرفق بابني منك. فذاك حبسني. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :

«فرحمتها يرحمك اللّه». (2)

من الفضائل الأخلاقية التي تتحلى بها سيدة النساء هي الشجاعة و الشهامة في دفاعها من أبيها الرسول الكريم صلى الله عليه و آله ضد مشركي مكة، كما أن0.

ص: 59


1- حلية الأولياء، ج2، ص41.
2- مسند أحمد، ج3، ص150.

مجيئها الى ميدان أُحُدٍ و تضميدها جراح الرسول صلى الله عليه و آله لم يكن ليخف عن أي أحد، و هذا ما أثبتته الأحاديث التي ذكرناها آنفاً.

لقد سارت على طريق العبودية و عبادة اللّه منذ ولادتها، و هي على هذا الحال إلى أن فارقت روحها الحياة. و الحديث الآتي يدل على هذا المعنى.

*26- جاء في «ذخائر العقبي» ما جاء في قصة ولادة فاطمة الزهراء عليه السلام و انعقاد نطفتها من ثمار الجنة و حضور النساء الأربع عند ولادتها:«فولدت فاطمة عليها السلام فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدة». (1)

*27- و نطالع في نفس المصدر روايةً تدلُّ على سموها و عفتها، حيث تنقل «أسماء بنت عميس» هذه القصة العجيبة:

قالت فاطمة عليها السلام لأسماء بنت عميس يا أسماء إني استقبحت ما يصنع بالنساء إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها و قالت أسماء: يا ابنة رسول اللّه ألا أريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة عليها السلام ما أحسن هذا و أجمله، تعرف به المرأة من الرجل فإذا أنا مت فاغسليني أنتِ و علي و لا يدخل عليَّ أحد.

و جاء في نهاية هذا الحديث.

إن فاطمة عليها السلام لما رأت النعش تبسمت و ما رُؤيت مبتسمةً بعد النبي صلى الله عليه و آله قط. (2)4.

ص: 60


1- ذخائر، العقبى، ص44.
2- ذخائر العقبى،ص54.

المكانة العلميّة لفاطمة عليها السلام

إنّ حب أولياء اللّه لشخصٍ دون الاخر ليس حبّاً عاديّاً، فلا بد أن يكون قائماً على أسس مهمةٍ منها العلم و الإيمان و التقوى. و ما علاقة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله القوية بابنته فاطمة الزهراء عليها السلام إلاّ دليل على تمتعها بتلك الصفات الفاضلة. إضافةً إلى ذلك، و عند ما يقول عليه السلام : «فاطمة أفضل نساء العالمين» أو «أفضل نساء الجنة» و التي ذكرنا أسانيدها من قبل، فإنّ هذا بحدِّ ذاته دليل على أنّها أعلم نساء العالمين.

و بعد ذلك هل يمكن لشخص لم يصل إلى مقام رفيعٍ في العلم و المعرفة أن يكون رضاه من رضا اللّه، و غضبه من غضب الخالق و رسوله؟ كما تبين لنا ذلك في الروايات السابقة.

علاوةً على ذلك فقد وردت في المصادر الأسلامية المعروفية روايات مهمةٌ تكشف عن المقام العلمي الرفيع لهذه السيدة العظمية.

*28- نقل «أبو نعيم الأصفهاني عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنه قال يوماً لأصحابه ما خير النساء؟

فلم يدرِ الحاضرون ما يقولون، فسار عليَّ عليه السلام إلى فاطمة فأخبرها بذلك.

فقالت: فهلاّ قلت له خير لهنَّ ألا يرين الرجال و لا يرونهن. فرجع علي عليه السلام فأخبره بذلك.

ص: 61

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله من علمك هذا؟ قال: فاطمة عليها السلام فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنّها بضعة مني. (1)

يظهر من هذا الحديث أن أمير المؤمنين علي عليه السلام رغم ما كان يتمتع به من مقام عظيمٍ في العلوم و المعارف الذي اعترف به الصديق و العدو و أنّه باب مدينة علم الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلاّ أنه كان يستفيد أحياناً من علم زوجته فاطمة الزهراء عليها السلام .

إنّ ما ذكر في نهاية هذه الرواية من أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال «فاطمة بضعة مني» إنما يشير إلى حقيقةٍ مهمة و هي أن القصد من «بضعة» لا يقتصر على كونها جزء من بدنه فقط كما فسره البعض، بل هي جزء من روح الرسول صلى الله عليه و آله و إيمانه و علمه و فضله و أخلاقه، فهي شعاع من تلك الشمس و قبس من تلك المشكاة.

*29 - جاء في «مسند أحمد» عن «أم سلمة» -أو طبقا لرواية أم سلمى -أنّها قالت:

اشتكت فاطمة شكواها التي قبضت فيه فكنت أمرضها فأصبحت يوماً كأمثل ما رأيتها في شكواها تلك قالت و خرج علىٌّ لبعض حاجته فقالت يا أمَه اسكبي لي غسلاً فسكبت لها غسلاً فاغستلت كأحسن ما رأيتها تغتسل، ثم قالت يا أمَه أعطيني ثيابي الجدد فأعطيتها فلبستها ثم قالت يا أمَه قدّمي لي فراشي وسط البيت ففعلت و اضطجعت و استقبلت القبلة و جعلت يدها تحت خدها ثم قالت يا أمه إني مقبوضة الان و قد تطهرت فلا يكشفني أحد فقبضت مكانها قالت فجاء عليٌّ فأخبرته. (2)ة.

ص: 62


1- حلية الاولياء، ج2 ص 40.
2- مسند أحمد، ج6، ص461 و أورد هذا الحديث «ابن الاثير» «في أسد الغابة» كما رواه جمع آخر من المحدثين و الرّواة.

نستدل من هذه الرواية أن فاطمة الزهراء عليها السلام كانت تعلم بوقت وفاتها، حيث استعدت للرحيل دون أن تظهر عليها علاماته، و لما كان الإنسان لا يعلم بحلول أجله إلاّ بعلمٍ إلهي، لذا فإنّ اللّه سبحانه و تعالى كان يلهم فاطمة عليها السلام . نعم، فقد ارتبطت روحها بعالم الغيب، و حدثتها ملائكة السماء.

و طبقاً لما جاءت به الروايات فإنّها أفضل من مريم بنت عمران «أم عيس عليه السلام »، و في هذا الكفاية، إضافةً إلى تصريح القرآن المجيد في أن الملائكة قد تحدثت إلى مريم و هي قد حدثتها -ذكرت ذلك آيات من سورة آل عمران و سورة مريم -

لذا فمن الأولى أن تكون فاطمة عليها السلام و هي ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله محدثة من ملائكة السماء. (1)ا.

ص: 63


1- يوجد في الروايات التي روتها الشيعة الوفير من الدلائل التي على سعة علمها و معرفتها، و قد ذكرنا قسماً منها في الفصول التي تحدثنا بها عن حياتها.

كرامات فاطمة عليها السلام

عندما تقوى روح الانسان، و تمتلىء بالصفات الالهية، و ينال منزلة القرب من اللّه، فإن إرادته (بمشيئة اللّه) ستؤثر في العالم التكويني و سيحدث له ما يريد. و هذه هي الولاية التكوينية التي تمتع بها أولياء اللّه، و هي منبع كراماتهم المختلفة التي تميز الأنبياء صلى الله عليه و آله بأعلى مراتبها و هي المعجزات.

و لقد حبى اللّه فاطمة الزهراء عليها السلام بمقدارٍ كبيرٍ من تلك العناية الإلهية.

و هذا ما تدلُّ عليه الرواية التالية:

*30- نقل كثير من مفسري العامة و منهم «الزمخشري» في «الكشاف» و «السيوطي» في «الدرّ المنثور» في أسفل الاية الشريفة:

«كُلما دَخَل علَيْها زَكرِيّا المِحْرابَ وَجدَ عِندَها رزْقاً قال أنّى لَكِ هذا قالت هُوَ مِن عندِ اللّه إنّ اللّه يرزقُ مَن يَشاء بغير حسابْ» عن جابر بن عبداللّه الأنصاري أنّه قال:

أقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله أيّاماً لم يطعم طعاماً حتى شقَّ ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدةٍ منهنَّ شيئاً فأتى فاطمة عليها السلام فقال يا بُنية هل عندك شيء آكله فإني جائع فقالت لا و اللّه فلما خرج من عندها بعثت إليها جارةٌ لها برغيفين و قطعة فأخذته منها فوضعته في جفنة لها

ص: 64

و قالت و اللّه لأؤثرن بهذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله على نفسي و من عندي و كانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسناً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فرجع إليها فقالت له بأبي أنت و أمي قد أتى اللّه بشيءٍ قد خبأته لك فقال هلمي يا بنية بالجفنة فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملؤءة خبزاً و لحماً فلما نظرت إليها بهتت و عرفت أنها بركة من اللّه فحمدت اللّه تعالى و قدمته إلى النبي صلى الله عليه و آله فلما رآه حمد اللّه و قال من أين لك هذا يا بنية قالت ياأبت هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ فحمد اللّه ثم قال الحمد للّه الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها اللّه رزقاً فسئلت عنه قالت هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب.

ثم جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله على بن أبي طالب عليه السلام و الحسن و الحسين عليه السلام و جميع أهل بيته فأكلوا منه حتى شبعوا و بقى الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة عليها السلام على جيرآنها (1)3.

ص: 65


1- نقله الزمخشري في الكشاف في ذيل آية 37 من سورة آل عمران و كذلك السيوطي في الدر المنثور، و الثعلبي في قصص الأنبياء، ص -513.

أول من يرد الجنة

إنّ سعادة المرء الواقعية تكمن في دخوله الجنة، حيث الرحمة الالهية الواسعة، و أفضل الناس من سبق إليها.

و قد ثبت من خلال رويات أهل السنّة المعروفة أنّ الرسول صلى الله عليه و آله نسب هذه المتقية إلى فاطمة الزهراء عليها السلام و لعدة مرّات.

*31- جاء في «ميزان الاعتدال» للذهبي نقلاً عن الرسول الكريم صلى الله عليه و آله :

«أوّل شخصٍ يدخل الجنة فاطمة عليها السلام . (1)

*32- و نقل عنه صلى الله عليه و آله في حديثٍ آخرٍ أنّه قال:

«أوّل شخصٍ يدخل الجنة فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه و آله و مثلها في هذه الأمة مثل مريمٍ في بني إسرائيل». (2)

و بغض النظر عما سبق نستدل من الروايات الإسلامية المعروفية على أن ورودها إلى ساحة المحشر، و منها إلى الجنة سيكون مصحوباً بمراسم و تشريفاتٍ غاية في العظمة مما يدل على سمو منزلتها و عظم مقامها.

*33- نقل عليّ بن أبي طالب عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنه قال:

«تحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة و عليها حلة الكرامة قد عجنت بماء

ص: 66


1- ميزان الاعتدال، ج2، ص131.
2- كنز العمّال،ج6،ص219.

الحيوان، فتنظر إليها الخلائق فيتعجبون منها».

و يضيف صلى الله عليه و آله في آخر الحديث:

«فتزف إلى الجنة كالعروس لها سبعون ألف جاريةٍ» (1)

*34 - و تروي عائشة حديثاً آخر عن الرسول الكريم صلى الله عليه و آله :

«إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يا معشر الخلائق طأطؤا رؤسكم حتى تجوز فاطمة بنت محمّد». (2)

*35- و نقرأ في حديثٍ آخر يشير إلى نفس المعنى:

«فتمرمع سبعين ألف جاريةٍ من الحورالعين كمِّر البراق». (3)

*36- و الأعجب من ذلك ما نقله كتاب «تأريخ بغداد» عن الرسول الكريم صلى الله عليه و آله أنه قال:

عند ما عرج بي إلى السماء في تلك الليلة رأيت باب الجنة و قد كتب عليها:

«لا إله إللّه، محمّد رسول اللّه، علي حبيب اللّه، و الحسن و الحسين صفوة اللّه و فاطمة خيرة اللّه، على باغضهم لعنة اللّه». (4)9.

ص: 67


1- ذخائر العقبى، ص48.
2- تاريخ بغداد،ج8، ص141.
3- كنز العمّال، ج6،ص218.
4- تاريخ بغداد، ج1، ص259.

معانى أسماء فاطمة عليها السلام

تكشف الأسماء عادةً عن ماهية المسمى، خصوصاً إذا كان واضح الاسم حكيماً، و نستشف من مجموع الأحاديث أن تسمية هذه السيدة الجليلة كانت بواسطة حكيم الحكماء المطلق ألا و هو ربُّ العالمين «جلّ و علا».

و من ناحيةٍ أخرى فإن فاطمة على وزن «فطم» (على وزن فعل) و هو بمعنى انقطاع الطفل عن الرضاعة، ثم أطلق على كلِّ ما يحمل معنى الانفصال.

و الآن لنتعرف على ما جاء في الروايات الاسلامية؟

*37- رُوي عن الرسول صلى الله عليه و آله أنه قال:

«إنما سماها فاطمة لأنَّ اللّه فطمها و محبيها من النار». (1)

يستفاد من هذا التعبير أن تسيمة هذه السيدة الجلية بهذا الاسم إنما كان من قبل اللّه سبحانه و تعالى، و معناه أنه وعد فاطمة عليها السلام و محبيها و المنتهجين نهجها أن لا تمسهم النار.

*38- نقرأ في «ذخائر العقبى» عن علي عليه السلام أن الرسول صلى الله عليه و آله قال لفاطمة عليها السلام يا فاطمة أتدرين لم سُمِّيت فاطمة؟

ص: 68


1- تاريخ بغداد، ج2، ص331.

فقال علي عليه السلام : لم سُمِّيت فاطمة يا رسول اللّه؟

فقال رسول اللّه:

«إنّ اللّه عزّ و جل قد فطمها و ذريتها عن النار يوم القيامة». (1)

من البديهي أن القصد من «ذرية» هم الذين يسيرون على نهج هذه الأم العظيمة، و ليس كمثل ابن نوح حيث جاء الخطاب:«إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح».

و لهذا نرى أن بعض الأحاديث قد جمعت بين كلمتي «ذرية» و «محبي» في آنٍ واحد، و من كان يطن منا أن معنى الروايات الأخيرة هو نجاة العاصي منهم و حتى الكافر المشرك من العذاب الالهي لمحبته لفاطمة الزهراء عليها السلام ، فهو على خطأ لأن ذلك لا يتفق مع أىٍّ من المعايير الاسلامية، إضافةً إلى أن الرسول صلى الله عليه و آله و هو أصل هذه الشجرة الطيبة قد خوطب في القرآن المجيد بهذه الصورة في الاية الشريفة:

ى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ى (2)

و صرحت آية أخرى:

ى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (3)ى

فهل يمكن للفرع أن يعلو على الأصل؟ و هل أنَّ أبناء رسول اللّه أفضل منه؟!

ممّا لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه و آله لم يطرأ على تفكيره الشرك باللّه أبداً،7.

ص: 69


1- ذخائر العقبى، ص26.
2- سورة الزمر، آية 65.
3- سورة الحاقّة، آية 44-47.

و لم(و العياذ باللّه) يكذب على اللّه، لكن هذه الآيات تضمر في محتواها درساً كبيراً للأمة الإسلامية، حتى يعلم الجميع أن نجاة المرء مقرونة بإخلاصه للّه. و هذا لا يتنافى مع المقام السامي و الدرجة الرفيعة لأئمة الأمة الإسلامية و ساداتها.

من المتعارف عند العرب أن يُكنّى الرجل ب«أب» و تُكنّى المرأة ب«أم»، هذا بالإضافة إلى أسمائهم. و من بين الكنى التي كُنيت بها فاطمة الزهراء عليها السلام تبرزكنيةً عجيبةً تدل على عظمة الزهراء عليها السلام ، كما فىٖ الرواية التالية:

39- ورد في كتاب «أسد الغابة»:

«كانت فاطمة تُكنّى أم أبيها». (1)

و ورد نفس المعنى في كتاب« الاستيعاب» نقلاً عن الإمام الصادق عليه السلام : (2)

«لم يُرَ لهذا التعبير العجيب نظيراً في أيٍّ من نساء الإسلام، و هو يدل على أنَّ هذه البنت الوفية كانت تقوم بدور الأم في رعايتها لأبيها و السهر عليه.»

نعلم أنّ الرسول الكريم صلى الله عليه و آله فقد أمه و هو في مرحلة الطفولة، لكن ابنته هذه لم تُقصر في محبتها و حنانها و قلقها عليه رغم صغر سنها.

فهي بنت مضحية و فدائية من ناحية، و هي أم مؤثرة حنونة من ناحيةٍ أخرى، و مواسية و فية من ناحيةٍ ثالثة، و قد شهدت بذلك الروايات التي ذكرناها.2.

ص: 70


1- أسد الغابة، ج 5، ص 520.
2- الاستيعاب، ج 2، ص 752.

هدية الرسول صلى الله عليه و آله لفاطمة عليها السلام

اشارة

ص: 71

ص: 72

سجلت صفحات التأريخ بعضاً من الهدايا المعنوية التي منحها الرسول الكريم صلى الله عليه و آله لابنته فاطمه عليها السلام و التي فاقت كل واحدةٍ منها الأخرى، لا سيما تسبيحة الزهراء، هذا بالإضافة إلى هديةٍ ماديةٍ معنوية منحها صلى الله عليه و آله لفاطمة عليها السلام بأمرٍ إلهي، كما نصّ على ذلك متن الرواية التالية:

40 - جاء في الدر المنثور «للسيوطي» عن البزاز و أبي يعلى و ابن حاتم و ابن مردويه عن سعيد الخدري أنه قال:

«لما نزلت الآية «وآت ذا القربى حقه (1)» دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله فاطمة الزهراء عليها السلام و أعطاها فدكاً». (2)

و بالطبع (كما سيأتي شرحه في فصل -أحداث فدك المؤلمة-) فإن منح فدك لفاطمة عليها السلام لم تكن مسألةً أو هديةً عادية، بل كانت سنداً و دعامةً لو لاية علي بن أبي طالب عليه السلام و عاملاً في تقوية و تثبيت مقام هذه العائلة الكريمة، و من هذا المنطلق فهي تعدُّ هديةً معنوية.

و لكنَّ النظام الذي أدرك معنى هذه الهدية جيداً، سارع بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله إلى انتزاعها من فاطمة الزهراء عليها السلام و ضمها إلى بيت المال مستنداً في ذلك إلى حديثٍ موضوع و حجةٍ باطلة. و هذه قصة طويلةٍ8.

ص: 73


1- سورة الإسراء، آية 26.
2- الدُرّ المنثور في ذيل آية 26 من سورة الإسراء، و ميزان الاعتدال، ج 2، ص 288، و كنز العمّال، ج 2، ص 158.

مملوءةٍ بالعبر و الاحداث المؤلمة و الظالمة، و التي يمكن اعتبارها سنداً إسلامياً مهماً في تحليل تأريخ صدر الاسلام و الحوادث التي أعقبت رحيل النبي صلى الله عليه و آله . و نوكل الحديث إلى محله.

«إلهي»! أحينا ما أحييتنا على محبة و موالاة هذه السيدة و أبيها و بعلها و بنيها -صلوات اللّه عليهم -و احشرنا في زمرتهم.

«يا رب» وفقنا في اتباع نهجهم، و الاهتداء بنور هدايتهم، و الاقتداء بسنتهم.

«و اجعلنا ممن يأخذ بحجزتهم، و يمكث في ظلهم، و يهتدي بهداهم».

«آمين يا رب العالمين»

ص: 74

أحداث فدك المؤلمة

اشارة

تعد قصة «فدك» من أغمِّ القصص التي مرت بحياة فاطمة الزهراء عليها السلام خصوصاً، و أهل البيت عموماً، و تأريخ الإسلام بشكلٍ أوسعٍ و أعم، و التي حيكت أحداثها مع المؤامرات السياسية الوضعية، كما أنها منفذ لحل بعضٍ من ألغاز تأريخ صدر الإسلام.

فدك ؛ ماذا كانت و أين كانت؟

ذكر كثير من المؤرخين و أرباب اللغة بأن «فدك» قرية بالحجاز -قريبة من خيبر -بينها و بين المدينة يومان، و قيل ثلاثة،(و كتب البعض أنها تبعد عن المدينة بمسافةٍ مقدارها 140 كيلومتر) أفاءها اللّه على رسوله صلى الله عليه و آله ، و فيها عين فوارة و نخل كثير، (1) و تعد مركزاً مهماً لليهود في أرض الحجاز بعد خيبر.

و في كيفية انتقال هذه الأرض الخضراء المعمورة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فالمعروف هو أن الانتصار الذي حققه رسول اللّه صلى الله عليه و آله في فتح حصون خيبر أرعب أهل فدك المتعصبين، فأرسلوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يصالحهم على نصف «فدك»، فقبل الرسول صلى الله عليه و آله ذلك منهم و أمضى ذلك الصلح، و

ص: 75


1- معجم البدان، مادة فدك.

بهذا فهي ممالم يوجف عليه بخيلٍ و لا ركاب.

و بما أن القرآن ينص على ى وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ (1)« مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ف َانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ى (2) لذا فهي خالصةً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، يصرف ما يأتيه منها في «أبناء السبيل» و أمثال ذلك.

نقل هذا الحديث كل من ياقوت الحموي في «معجم البلدان» و ابن منظور الأندلسي» في «لسان العرب» و آخرون كثيرون.

و أشار إلى ذلك أيضاً«الطبري» في تأريخه و «ابن الأثير» في كتاب «الكامل». (3) كما كتب الكثير من المؤرخين أن الرسول صلى الله عليه و آله قد منح ابنته الزهراء عليها السلام فدكاً في حياته. (4)

الدليل البين الذي يثبت هذه الحقيقة هو ما نقله المفسرون الكبار، منهم مفسر أهل السنة المعروف«جلال الدين السيوطي» في كتاب «الدر المنثور»، حيث نقل في ذيل الآية السادسة عشرة من سورة الإسراء حديثاً عن«أبي سعيد الخدري» يقول فيه:

«لما نزل قوله تعالىَ -و آتِ ذا القربى حقه أعطى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فاطمة فدكاً». (5)).

ص: 76


1- سورة الحشر، آية 6.
2- سورة الحشر، آية 7.
3- راجع كتاب «فدك» القيّم للسيد محمّد القزويني الحائري.
4- لأنّها كانت ملكاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله .
5- الدُرّ المنثور، مجلد 4، ص 177. و كان مِمّن روى هذا الحديث من رواة العامّة هم «البزّاز» و «أبو يعلى» و «ابن مردويه» و «ابن أبي حاتم» عن أبي سعيد الخدري، (راجع كتاب الاعتدال، ج 2، ص 288 و كنز العمّال، ج 2، ص 158).

الدليل الحي الآخر الذي يعتبر سنداً مهماً في هذا الأمر -أو لهذا الادعاء- هو قول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في نهج البلاغه:

«بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قومٍ آخرين، و نعم الحكم اللّه». (1)

يشير هذا الحديث بوضوحٍ إلى أن فدكاً كانت بيد عليٍّ و فاطمة عليها السلام في حياة الرسول صلى الله عليه و آله ، لكن بعض الحكام البخلاء تعلقوا بها، فتخلى عليّ و زوجته عليها السلام عنها مجبرين. و من البديهي أنهم لم يكونوا موافقين لما حدث، و إلا فما معنى سؤال و طلب الأمير عليه السلام من اللّه سبحانه و تعالى في أن يحكم بينه و بينهم.

نقل الكثير من علماء الشيعة أيضاً في كتبهم المعتبرة روايات تتعلق بهذه المسألة منهم: المرحوم الكليني «الكافي» و المرحوم«الصدوق» و المرحوم« محمّد ابن مسعود العياشي» في تفسيره، و «علي ابن عيسى الأربلي» في «كشف الغمة»، و آخرون في كتب الحديث و التأريخ و التفسير، لا يسع المقام لذكر هم.

الآن... لنرى لماذا و بأيِّ دليل انتزعت الزهراء عليها السلام فدكها؟.).

ص: 77


1- نهج البلاغة، (رسالة 45 رسالته إلى «عثمان بن حنيف»).

1 -العوامل السياسية في غصب فدك

لم تكن مسألة انتزاع«فدك» من الزهراء عليها السلام مسألة عادية لا تحمل إلاّ الجانب المادي فحسب، بل إن جانبها الاقتصادي قد انصبَّ في قالب المسائل السياسية التي حكمت المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله ، و في الحقيقة لا يمكن فصل مسألة «فدك» عن سائر أحداث ذلك العصر، و إنما هي حلقة من سلسلةٍ كبيرة، و ظاهرةٍ من وقائعٍ شاملةٍ و واسعة!

إنَّ لهذا الغصب التأريخي الكبير عواملاً نوردها في النقاط التالية:

1- يعتبر وجود«فدك» في حيازة آل بيت النبوة عليه السلام ميزةً كبيرة لهم، و هذا بحد ذاته دليل على علوِّ مقامهم عند اللّه و قربهم الشديد من الرسول صلى الله عليه و آله ، خصوصاً ما نقلته كتب الشيعة و السنّة في الروايات التي ذكرناها آنفاً من أن الرسول صلى الله عليه و آله استدعى فاطمة عليها السلام بعد نزول الآية«و آتِ ذا القربى» و أعطاها فدكاً.

من الواضح أن وجود«فدك» في حيازة آل بيت محمّد صلى الله عليه و آله منذ البداية يكون مدعاةً لالتفاف الناس حولهم و البحث عن سائر آثار النبيِّ الكريم صلى الله عليه و آله في هذه العائلة خصوصاً مسألة الخلاقة، و هذا الأمر لم يكن ليتحمله مؤيدو إنتقال الخلافة إلى الآخرين.

2- كانت هذه المسألة مهمة في بعدها الاقتصادي، كما هو أثرها

ص: 78

الفعال في بعدها السياسي، لأن وقوع أمير المؤمنين عليه السلام و آله في مضيقةٍ اقتصادية يؤدي إلى تدهور وضعهم السياسي بنفس النسبة. بعبارةٍ أخرى فإنَّ حيازتهم على فدك يوفر لهم امتيازات تكون بمثابة المتكأ الذي تستند عليه مسألة الولاية كما فعلت أموال خديجة عليها السلام في انتشار الإسلام في بدء دعوة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله .

من المتعارف عليه في جميع أنجاء العالم أنه إذا أريد طمس شخصيةٍ كبيرة، أو تقييد دولةٍ ما لتعيش حالة الانزواء فإنه يُعمل على محاصرتها اقتصادياً، و قد نصَّ تأريخ الإسلام في قصة «شعب أبي طالب» عندما حوصر المسلمون من قبل المشركين حصاراً اقتصادياً شديداً.

فى تفسير سورة المنافقين، و في ذيل الآية ى لَئِنْ رَجَعْنا إلى الَمدينةِ لَيُخرجَنَّ الأَعَزُّ مِنْها الأَذَلَّ ى (1)أُشير إلى مؤامرةٍ شبيهةٍ بهذه المؤامرة قد حاكها المنافقون، لكنَّ اللطف الإلهي أخمد نارها و هي في المهد، لذا فليس من العجب في شيءٍ أن يسعى المخالفون إلى انتزاع هذه الثروة من آل بيت النبي الكريم صلى الله عليه و آله ، و إخلاء أيديهم و دفعهم بعيداً عن الساحة.

3- و إن هم و افقوا على أن فدك ميراث النبي صلى الله عليه و آله أو هديته لا بنته فاطمة الزهراء عليها السلام و بالتالي تسليمها إليها فإن ذلك سيفتح الطريق لها في المطالبة بمسألة الخلافة. هذه النقطة يطرحها العالم السني المشهور «ابن أبي الحديد المعتزلي» في شرح«نهج البلاغة» بصورةٍ ظريفةٍ حيث يقول:

«سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له:

أكانت فاطمة صادقة؟

قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبوبكر فدك و هي عنده صادقة؟1.

ص: 79


1- سورة المنافقين، آية 1.

فتبسم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه و حرمته وقلّة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً و ادعت لزوجها الخلافة، و زحزحته عن مقامه، و لم يكن يمكنه الاعتذار و المدافعة بشيء، لأنه يكون قد سجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعيه كائناً ما كان من غير حاجةٍ إلى بيِّنةٍ و لا شهود» و بعدها يضيف «ابن أبي الحديد» قائلاً:

«و هذا كلام صحيح، و إن كان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل». (1)

إنَّ هذا الاعتراف الصريح الذي أدلى به اثنان من علماء أهل السنة، لشاهد حيّ على أنّ لقصة فدك جانباً سياسياً هاماً.

ولكي يتضح هذا المعنى سنقف في البحث التالي على مصير هذه القرية عبر تأريخ الإسلام منذ قرونه الأولى، و كيف أنها انتقلت من يدٍ إلى أخرى و كيف تباينت آراء الخلفاء بخصوصها.8.

ص: 80


1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 4، ص 78.

2 - فدك عبر العصور

كيف عادت فدك لأهل البيت عليهم السلام

يعد مسير فدك التأريخ من عجائب التأريخ الإسلامي فقد كان لكل من الخلفاء عبر العصور موقفاً خاصاً منها، فمنهم من قبضها و منهم من ردّها إلى أصحابها، و طال الأمد بها على هذا الحال إلى أن صبخت الأرض و ضاع منها نعيمها. و للتعرف على فصول النزاع الذي مرت به هذه القرية العامرة يكفينا الوقوف على النقاط التالية:

1- إنتقلت «فدك» كما نعلم إلى الرسول صلى الله عليه و آله بعد سقوط خيبر لأنه قبل الصلح مع اليهود. و طبقاً لآية الشريفة «وَ مَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِه...» فقد صارت كلها ملكاً شخصياً مختصاً برسول اللّه صلى الله عليه و آله .

2- طبقاً للوثائق التأريخية المعتبرة فإنّ الرسول صلى الله عليه و آله منح و بأمرٍ إلهي فدكاً إلى فاطمة الزهراء عليها السلام في حياته، و ذلك عند ما نزلت الاية الشريفة «و آتِ ذا القربى حقه». بهذه الصورة أصبحت في حيازة ابنة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله .

3- اغتصبت هذه المعمورة في زمن الخليفة الأول، و ضُمَّت إلى أموال الدولة، و قد سعى هؤلاء الى الحفاظ على هذا الوضع.

4- ظل الوضع على هذا الحال إلى أن آلت الخلافة إلى الخليفة

ص: 81

الأموي «عمر بن عبد العزيز» الذي كان أقرب لأهل البيت عليه السلام من غيره، حيث نقرأ في شرح نهج البلاغة:«لما وُلي عمر بن عبد العزيز ردَّ فدك على ولد فاطمة، و كتب إلى و اليه على المدينة أبي بكر عمرو بن حزم يأمره بذلك، فكتب إليه: إن فاطمة قد ولدت في آل عثمان، و آل فلان و آل فلان، فعلى من أردُّ منهم؟ فكتب إليه:

«أما بعد: فإني لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاةً لكتبت إليَّ: أجماء أم قرناء؟ أو كتبت إليك أن تذبح بقرةً لسألتني: ما لونها؟ فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة من عليٍّ عليه السلام والسلام». (1)

بهذا الشكل صارت «فدك» بيد أبناء فاطمة عليها السلام بعد أن دارت دورةً كبيرة تنقلت فيها بين هذا و ذاك.

5- لم يمض وقت طويل حتى غصبها الخليفة الأموي «يزيد بن عبد الملك» ثانيةً.

6- بعد أن ولى الأمويون و استخلفهم العباسيون، أعاد الخليفة العباسي المعروف «أبو العباس السفاح» فدكاً إلى «عبداللّه بن الحسن بن علي عليه السلام باعتباره ممثل بني فاطمة عليها السلام .

7- بعدها مباشرة قام «أبو جعفر العباسي» بانتزاعها من «بني الحسن» (أنهم ثاروا على بني العباس»

8- أعاد الخليفة «المهدي العباسي» ابن «أبو جعفر» فدكاً إلى أبناء فاطمة عليها السلام .

9- قام الخليفة العباسي «موسى الهادي» بغصبها ثانيةً، و ظل الوضع على هذا الحال في زمن هارون الرشيد.38

ص: 82


1- البلاذري، فتوح البلدان ص38

10- ولكي يُظهر علاقته الشديدة بأهل بيت الرسول صلى الله عليه و آله و أبناء عليٍّ و فاطمة عليها السلام ، قام المأمون برد فدك إلى وُلد فاطمة عليها السلام .

لقد ورد في التأريخ أن المأمون كتب إلى و اليه على المدينة «قثم بن جعفر» قائلاً:

«إنّه كان رسول اللّه أعطى ابنته فاطمة فدكاً و تصديق عليها بها، و إنَّ ذلك كان أمراً ظاهراً معروفاً عند آله عليهم السلام ثم لم تزل فاطمة تدعي منه بما هي أولى من صدق عليه، و إنه قد رأى ردها إلى ورثتها و تسليمها إلى «محمّد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن عليّ»... و «محمّد بن عبداللّه بن الحسين»... ليقوما بها لأهلهما».

يقول ابن أبى الحديد:

«جلس المأمون للمظالم، فأول رقعةٍ وقعت في يده نظر فيها و بكى، و قال للذي على رأسه: ناد أين وكيل فاطمة؟ فقام شيخ عليه دراعة و عمامة و خفّ تعزي، فتقدم فجعل يناظره في فدك و المأمون يحتجُّ عليه و المأمور يحتج على المأمون، ثمَّ أمر أن يسجل لهم بها، فكتب السجل و قرىء عليه، فأنفذه، فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أوّلها: أصْبَحَ وَجْهُ الزّمانِ قدْ ضَحِكَا بِرَدِّ مَأمُونَ هاشِماً فَدَكاً (1)

و قد ذكر مؤلف كتاب «فدك» أن المأمون اعتمد على رواية أبي سعيدٍ الخدري بإعطاء النبيّ صلى الله عليه و آله ، فدكاً لفاطمة فقأم برد فدك على أبنائها. (2)

11- أما «المتوكل العباسي» و بسبب الحقد الذي كان يضمره لأهل بيت النبوة عليه السلام ، قام بغصب فدك من أبناء فاطمة عليها السلام مجدداً.0.

ص: 83


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبى الحديد، ج16،ص217.
2- فدك، السيد محمّد حسن القزويني الحائري، ص60.

12- أصدر ابن المتوكل و هو «المنتصر» أمراً برد فدك إلى الحسن و الحسين عليه السلام ثانيةً.

مما لا شك فيه أن تنقل الأرض من يدٍ لأخرى، و التلاعب بأمرها في كل يومٍ من قبل السياسيين الحاقدين سيسبب هلاكها و خرابها بسرعة، و هو عين ما حدث لفدك، فسرعان ما خربت عمارتها و تيبست أشجارها و جفت ثمارها!

على كل حال فإن هذه الانتقالات التي حصلت إنّما تدل على حقيقةٍ محسوسةٍ ملموسة، ألا و هي أنَّ الخلفاء كانوا شديدي الحساسية تجاه فدك، فتصرف و موقف كلّ منهم إنما هو نابع مما تقتضيه مصلحته السياسية.

و كل ذلك تأكيد على ما ذكرناه من أن لغصب فدك بعداً سياسياً أهم من بعده الاقتصادي، فمصلحتهم كانت تقتضي منهم أن يعملوا على إبعاد أهل بيت الرسالة عليه السلام عن المجتمع الإسلامي، و التقليل من شأنهم و مكانتهم، و إظهار العداء لهم تارةً، و التقرب و التودد إليهم تارة أخرى عن طريق ردِّ فدك إليهم و الذي تكرر لعدة مراتٍ عبر التأريخ.

إنّ أهمية فدك في أذهان عامة المسلمين محدودة، فما يذكره التأريخ هو أنّها لم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل، و كان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول اللّه صلى الله عليه و آله بيده، فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها، فإذا قدم الحجّاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل. (1)7.

ص: 84


1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج16، ص217.

3 - فدك و أئمة الهدى عليهم السلام

من المسائل الملفتة للنظر هي عدم تدخل أيّ من الأئمة «بعد الغصب الأول» في أمر فدك، ابتداءً من أمير المؤمنين عليه السلام و مروراً بالأئمة من ولده بل إنّ بعض الخلفاء من أمثال «عمر بن عبدالعزيز» و «المأمون» اقترحوا ردّها على واحدٍ من أئمة أهل البيت عليه السلام ، و كان ذلك مدعاةً للحيرة و التساؤل عن سبب موقفهم هذا من فدك؟

لِمَ لم يرجع علىٌّ الحق إلى أهله عند ما كانت الدولة الإسلامية تحت سيطرته، أو لماذا (على سبيل المثال) لم يعطِ المأمون فدكاً إلى عليِّ بن موسى الرضا عليه السلام خصوصاً و أنّه كان يظهر للإمام حبه العميق؟ و لماذا أعطاها لبعضٍ من حفدة زيد بن علي بن الحسين عليه السلام باعتباره ممثلاً عن «بني هاشم»؟

ونقول في الإجابة على هذا السؤال التأريخي المهم:

أما بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام فإنّه أفصح عن رأيه في أمرها في قوله المختصر الغزير المعنى و الذي قال فيه:

«بلى كانت في أيدينا فدك من كلِّ ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم، و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و نعم الحكم اللّه. و ما أصنع بفدكٍ

ص: 85

و غير فدك، و النفس مظانّها في غدٍ جدث تنقطع في ظلمته آثارها...» (1)

بين أميرالمؤمنين عليه السلام بصورةٍ عملية أن مطالبته بفدكٍ لم تكن لكونها منبعاً مصدراً اقتصادياً يسترزق منه، و أن هو و زوجته طالبا بها يوماً فلأنّها سبيل إلى تثبيت مسألة الولاية، و منع خطوط الانحراف من السيطرة على منصب خلافة الرسول صلى الله عليه و آله . الآن و بعد أن مضى ما مضى، و بعد أن بقى لفدك جانبها الماديّ فقط، فما فائدة استردادها؟

و للعالم و المحقق الكبير السيد المرتضى كلام قيم بهذا الشأن حيث يقول:

«لما آلت الخلافة إلى عليِّ بن أبي طالب كُلِّم في رد فدك فقال: إنّي لأستحي أن أرُدَّ شيئاً منع منه أبوبكر و أمضاه عمر». (2)

إن هذا القول الحكيم يشير في الحقيقة إلى شهامة و عدم اعتناء الأمير عليه السلام بفدك كونها ثروة مادية و مصدر رزق من ناحية، و من ناحية أخرى فهو يعرف غاصبي الحق الأوائل.

أما لماذا لم يسلم الخلفاء الذين أظهروا و دهم لآل بيت النبوة صلى الله عليه و آله فدك إلى الأئمة، و دفعوها إلى أحد أحفاد زيد بن علي مثلاً أو أشخاصاً غير معروفين باعتبارهم ممثلين لبني فاطمة عليها السلام ؟

فانه يمكن أن يكون لهذا الأمر سببان:

1- لم يكن أئمة الهدى عليه السلام ليتقبلوا فدكاً، فحينها كان لذلك العمل2.

ص: 86


1- نهج البلاغة، الرساة45.
2- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج16، ص 252.

بعداً مادياً يطغى على بعده المعنوي، و ربما كان يحمل على أنه تعلق بثروةٍ دنيوية لا معنوية.

بتعبيرٍ آخر فإن تسلم الأئمة عليه السلام لها في تلك الظروف يقلل من شأنهم، إضافة إلى أن ذلك سيمنعهم من القيام على خلفاء الجور، فكلما أرادوا مجاهدة الحكام انتزعت منهم فدك. (و هذا نفس ما رواه التأريخ من أن الخليفة العباسي «أبو جعفر» انتزع فدك من «بني الحسن» عندما ثار بعضهم عليه).

2- من ناحيةٍ أخرى كان الخلفاء يفضلون عدم تطور إمكانات الائمة عليه السلام المادية، فكما هو معروف في قصة «هارون الرشيد» عند مجيئه للمدينة و احترامه الشديد للإمام «موسى بن جعفر» عليه السلام بشكلٍ أذهل ذلك ابنه المأمون.

ولكن عند ما حان وقت الهدايا، أرسل الرشيد هدية متواضعةً للإمام عليه السلام ، فتعجب المأمون من ذلك، و عندما سأل أباه عن السبب، قال الرشيد:

«أسكت لا أمّ لك! فإني لو أعطيته هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمأة ألف سيفٍ من شيعته و مواليه، و فقر هذا و أهل بيته أسلم لي و لكم من بسط أيديهم و إغنائهم.» (1)).

ص: 87


1- الاحتجاج الطبرسي، ص167 (و كان الرّشيد قد أعطى لغير الأمام خمسة آلاف دينارٍ و أعطى للامام مائتا دينارٍ فقط).

4- محكمة تأريخية

كما مر ذكر سابقاً نقل الرسول صلى الله عليه و آله ملكية فدكٍ إلى فاطمة الزهراء عليها السلام بعد أن نزلت الاية الشريفة و آتِ ذا القربى حقّه». و لم ينفرد مفسرو الشيعة في نقل هذه الرواية عن الصحابي المعروف «أبو سعيد الخدري» بل و اتفق معهم علماء الجمهور أيضاً و قد أوردنا إسناد هذه الرواية آنفا.

وضعت الحكومة التي استولت على الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه و آله يدها على فدك، و أخرجت أبناء فاطمة عليها السلام منها نقل هذا الأمر كل من العالم السني المعروف «ابن حجر» في كتاب «الصواعق المحرقة» و «السمهودي» في «وفاء الوفاء» و «ابن أبي الحديد» في «شرح نهج البلاغة».

قامت سيدة الاسلام عليها السلام بالمطالبة بحقها عن طريقين:

الأول هو كون فدك هدية الرسول صلى الله عليه و آله لها، و الثاني هو أنها ميراثها من أبيها صلى الله عليه و آله (بعد أن رُدّت دعوى الهدية).

استشهدت سيدة النساء في المرحلة الأولى بأمير المؤمنين «علي بن أبي طالب» عليه السلام . و «أم أيمن (رض)» عند الخليفة الأول، لكن الخليفة لم يقبل شهادتهما و لم يقر حقها بحجّة أن الدعوى لا تثبت إلا بشهادة رجلين أو رجلاً و امرأتين.

ثم رفض مسألة «الإرث» مدعياً أن الرسول صلى الله عليه و آله قال:

ص: 88

«إنا معاشر الأنبياء لانُورث ما تركناه صدقة».

لكن و من خلال تحقيقٍ شاملٍ يتضح أن النظام الحاكم الغاصب قد ارتكب في عمله هذا عشرة أخطاء فاحشة، سنقوم بعرضٍ مختصرٍ لها و نتوكل الخوص في التفاصيل إلى محل آخر:

1- كانت فاطمة عليها السلام تملك فدك، أي أنها كانت «ذو اليد»، و في رأي القوانين الإسلامية و جميع القوانين المعروفة في الوسط العقلائي العالمي فإن «ذو اليد» لايحتاج إلى استشهاد أو تصديقٍ على ما يملكه إلا إذا أظهرت شواهد على بطلان ملكيته.

فمثلاً إذا ادّعى شخص ملكية دارٍ يسكن فيها، فلا يمكن إخراجها من يده ما لم يظهر دليل يُنافي إدعائه، كما لا حاجة في أن يشهد أحداً على ديمومة ملكيته، بل إن هذا التصرف (إن أراد إنجازه بنفسه أو يوكله لممثليه) لأفضل دليلٍ على صحة مالكيته.

2- إن شهادة فاطمة الزهرا عليها السلام لوحدها كانت كافية في هذه المسألة، لأنها معصومة بحكم الآية الشريفة:ى إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراًى (1)، و حديث الكساء المشهور الذي نقلته كتب العامة المعتبرة و كتب الصحاح، فأبعد اللّه عز و جل القبح و الذنب عن النبي صلى الله عليه و آله و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليه السلام ، و طهرهم من كلِّ معصية. فكيف يمكن أن يشكَّ أو يرتاب الآخرون بادعاء مثل هذا الشخص؟

3- إنّ شهادة الإمام علي عليه السلام لوحدها كانت كافية أيضاً، فهو يتحلى بمنزلة العصمة أيضاً، و آية التطهير و الروايات التي دلّ على هذا المعنى و2.

ص: 89


1- سورة الاحزاب، آية 32.

فيرة، منها الحديث المشهور «الحق مع علىٍّ مع الحق، يدور معه حيثما دار» (1) الذي يكفينا دليلاً على عصمته عليه السلام . إذا كيف يدور الحق حول محور وجود علىٍّ عليه السلام ، لكن شهادته غير مقبولة؟

2- تعد شهادة «أم أيم» هي الأخرى كافيةً في إثبات الحق، فكما ينقله ابن أبي الحديد:

عندما جاءت فاطمة عليها السلام بأم أيمن للشهادة، قالت «أم أيمن» لألي بكر:

لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتجّ عليك بما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أنشدك باللّه ألست تعلم أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «أم أيمن امرأة من أهل الجنة» . فقال أبوبكر: بلى.

إذن فكيف تُردُّ شهادتها بعد أن علموا مقامها و هي من أهل الجنة. (2)

5- إضافة إلى كلِّ ما سبق، يكتفي الحاكم بتوفر القرائن المختلفة «لحسيةً كانت أم الشبية بها» ليقوم بالفصل في الدعوى، فهل يا ترى أن مسألة «ذو اليد» من ناحية، و شهادة الشهود الذين تكفي شهادة كلٍّ منهما في إثبات و إحقاق الحق من ناحيةٍ أخرى، لا يوفران العلم و اليقين لدى الحاكم؟

6- لم يكن حديث ميراث الأنبياء في الواقع كما صاغه و فسره الغاصبون، و إنما كان بشكلٍ و معنى آخرين، فمصادر الحديث تنقل الحديث بالشكل الاتي «إن الأنبياء لم يُورثوا ديناراً و لا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافرٍ». (3)4.

ص: 90


1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 16، ص219.
2- شرح نهج البلاغه ابن أبي الحديد.
3- الكافى، ج1،ص34.

و هنا نستدل أن الحديث يقصد الإرث المعنوي الذي يورثه الانبياء، ولا علاقة له بالإرث المادي، و هذا هو مصداق الحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه و آله في أن: «العلماء ورثة الأنبياء».

خاصة عبارة «ما تركناه صدقة» فهي حتماً لم تكن موجودةً في الحديث مطلقاً، فهل يمكن أن يتحدث الرسول صلى الله عليه و آله بما يخالف صريح القرآن؟ إنّ القرآن الكريم يشهد في مواضع متعددة على توريث الأنبياء أبناءهم، و تشير آياته الشريفة بوضوح إلى أن ميراثهم لم يقتصر على الميراث المعنوي فحسب، بل و شمل الجانب المادي أيضاً.

و قد استدلت سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام بهذه الايات المباركة في خطبتها المعروفة التي ألقتها في المسجد النبوي الشريف بين جمع من المهاجرين و الأنصار، فلم ينكر عليها أحد منهم ما تقول، كل ذلك كان دليلاً على زيف الحديث الذي ادّعاه الخليفة.

73- إن صحَّ هذا الحديث، فكيف لم تعرف و لم تسمع به أي من نساء النبي صلى الله عليه و آله ، حيث أرسلن إلى الخليفة من يطالب بسهمهنَّ من ميراث الرسول صلى الله عليه و آله . (1)

8- إن صح هذا الحديث، فلماذا أصدر الخليفة مباشرة حكماً أمر فيه برد فدك إلى فاطمة الزهراء عليها السلام ، ذلك الحكم الذي سلبه الخليفة الثاني منها و مزقه. (2)

9- إذا كان لهذا الحديث واقعية، و كان لازماً تقسيم فدك على1.

ص: 91


1- معجم البلدان الحموى، ج4، مادة فدك، ص239 شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج6، ص223.
2- السيرة الحلبية في سيرة الأمين و المأمون، ج3، ص391.

المستحقين باعتبارها صدقة، فلم استدعى الخليفة الثاني في زمان خلافته عليّاً عليه السلام و العباس -بعد فوات الأوان -و أبدى استعداده في تسليمهما فدك كما جاء في كتب تأريخ الاسلام المشهورة. (1)

10- ورد في كتب «الشيعة» و «السنة» المعتبرة أن سيدة الإسلام فاطمة الزهراء عليها السلام غضبت على الخليفتين الأول و الثاني بعد أن منعاها حقها -فدك -،، و قالت لهما «لن أكلمكما بعد اليوم» (2) و كان الأمر كما قالت إلى أن وافاها الأجل.

في حين تنقل المصادر الإسلامية المشهورة عن الرسول صلى الله عليه و آله حديثه المشهور الذي قال فيه: «من أحب ابتنى فاطمة فقد أحبني، و من أرضى فاطمة فقد أرضاني، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني». (3)

فهل من الممكن بعدها أن تمنع فاطمة عليها السلام حقاً تطالب به، و يتمسك بحديثٍ يفتقد إلى الصحة و الصدق و الرجوع إليه في مقابل نص كتاب اللّه الذي ينصُّ على توريث الأنبياء أبناءهم.

على كلِّ حال، لا يوجد أي مسوّغ في مسألة غصب فدك، و ليس لذلك الفعل دليل معقول.

مالكية الزهراء عليها السلام من ناحية.

الشهود العدول المعتبرون من ناحية أخرى.

شهادة القرآن المجيد من ناحيةٍ ثالثة.

و من ناحيةٍ رابعة نرى الروايات الإسلامية المختلفة كلها أدلة تصدق و9.

ص: 92


1- صحيح البخاري باب فضل الخمس و كتاب «الصواعق المحرقة» لابن حجر، ص9.
2- الإمامة و السياسة، ابن قتيبة، ص14.
3- صحيح البخاري، باب فضل الخمس و كتاب «الصواعق المحرقة» لابن حجر، ص9.

تشهد بأحقية سيدة الإسلام في فدك.

إضافة إلى كلِّ ذلك فإنَّ آيات المواريث عموماً تنصّ على أن لجميع الناس الحق في تركة آباءهم و أمهاتهم و الأقربون. لذا لا يمكن التغاضي عن هذا الحكم الإسلامي مادام الدليل لم يقم على نفي تلك العمومات و هذا شاهد آخر.

ص: 93

5 - حدود فدك!

إنّ فدك -كما ذكرنا آنفاً -هي في الظاهر قرية مخضرة مثمرة قريبة من خيبر، لم تخفَ حدودها على أحد، لكن الغريب ماورد في جواب الإمام موسى بن جعفر عليه السلام لهارون الرشيد عند ما سأله الأخير قائلاً:

«حُدَّ فدكاً حتى أردها إليك»

حيث أبى الإمام عليه السلام لكن الرشيد ألحَّ عليه.

فقال عليه السلام : لا آخذها إلّابحدودها.

قال هارون: و ما حدودها؟

قال عليه السلام : إن حدّدتها لم تردّها.

قال هارون: بحق جدك إلا فعلت؟

قال عليه السلام : أما الحد الأول فعدَن، فتغير وجه الرشيد و قال: أيهاً، قال: و الحدّ الثاني سمرقند، فاربد وجهه، قال: و الحدّ الثالث أفريقية فاسودَّ وجهه، و قال: هيه، قال: و الرابع سيف البحر مما يلي الجزر و أرمينية.

قال الرشيد: فلم يبقَ لنا شيء، فتحول إلى مجلسي.

قال الإمام عليه السلام : قد أعملمتك أنني إن حددتها لم تردها، فعند ذلك عزم على قتله (1) -

ص: 94


1- بحار الانوار، ج8 ص106.

فهذا الحديث دلالة واضحة على إرتباط قضية «فدك» «بالخلافة»، و يبين أن المهم في الأمر كان غصب خلافة رسول اللّه صلى الله عليه و آله . و إذا أراد هارون أن يعيد فدك فان عليه أن يتخلى عن الخلافة، و هذا ما جعله يلتفت إلى أن الامام موسى بن جعفر عليه السلام إذا شعر بالقوة سيزيله عن الخلافة، و لذلك عزم الرشيد على قتل الامام عليه السلام .

ص: 95

استنتاج

إن قصة «فدك» المؤلمة التي تحكي أحداث قريةٍ صغيرةٍ عانت الكثير عبر تاريخ الإسلام، تشير بوضوح إلى المؤامرة الكبيرة التي هدفت إلى إبعاد أهل بيت النبوّة عليه السلام عن منصب الخلافة الإسلامية و تجاهل مقام إمامتهم و ولايتهم، مؤامرة شملت مختلف الأبعاد.

لقد سعى السياسيون منذ البدء خصوصاً في عصر «بني أمية» و «بني العباس» أن يسدلوا الستار على أهل بيت النبوة عليه السلام ، و يسلبوهم كل ميزةٍ تؤدي إلى تفوقهم و انتصارهم، بل لم يتوانوا (عند لزوم الأمر) في الاستفادة من عنوان و اسم أهل البيت عليه السلام في تحقيق مآربهم، في حين رفضوا ردَّ الحق إلى أصحابه!

نعلم جيداً أن حجم الدولة الإسلامية قد إتسع في عصر «بني أمية» و«بني العباس» كما زادت ثرواتها و كثرت ذخائر بيت المال بشكلٍ قلَّ مثيله في تأريخ العالم إن لم ينعدم، و رغم أن فدك لم تكن لتشكل رقماً في مقابل كلّ ذلك، إلا أن الدوافع الشيطانية لم تسمح لهم برد الحق إلى أصحابه، بل والكف عن مواصلة التلاعب بهذه القضية.

و في الحقيقة، تعتبر قصة فدك وثيقة تأريخية إسلامية تثبت مقام آل بيت النبّي صلى الله عليه و آله الرفيع من ناحية، و تشير إلى ظلامتهم من ناحيةٍ أخرى،

ص: 96

وتكشف الغطاء عن المؤامرات التي حاكها الأعداء لهم من ناحيةٍ ثالثة.

اللهمَّ اجعل محيانا محيا محمدٍ و مماتنا محمدٍ و آل محمدٍ - صلى اللّه عليه و آله و سلم -واحشرنا في زمرتهم و العن أعدائهم أجمعين.

ص: 97

ص: 98

الملحمة الكبيرة

اشارة

ص: 99

ص: 100

الخطبة التأريخية لسيدة الإسلام فاطمة الزهراء عليها السلام

ساد العالم الإسلامي بعد وفاة الرسولٌ هزّة عنيفة، وكان محور هذه العاصفة يدور حول منصب «الخلافة»، ثم انتقل الى كلِّ ما يرتبط بهذا المنصب، منها قرار مصادرة أرض «فدك» التي وهبها الرسول صلى الله عليه و آله لابنته فاطمة عليها السلام استناداً إلى مصالح مهمة، فقد صودرت من قبل النظام الحاكم. (1)

لاحظت فاطمة عليها السلام أن هذا التجاوز الواضح و ما رافقه من تجاهلٍ

ص: 101


1- «فدك» كما قلنا هي واحدة من القرى المعمورة التي تقع على أطراف المدينة المنوّرة، و يسكنها جمع من اليهود و هم كسائر يهود المدينة و خيبر في التآمر على الإسلام. في السنة السابعة للهجرة و بعد أن تساقطت قلاع خيبر الواحدة تلو الاخرى أمام جنود الإسلام و بعد أن تحطمت قدرة اليهود المركزية لجأ سكان «فدك» للصلح مع النبىٌ صلى الله عليه و آله و التسليم له، فقد أعطوه نصف الأرض و البساتين و احتفظوا بالنصف الاخر. قام الرسول صلى الله عليه و آله في حياته -طبقاً لما نقله مؤرخوا و مفسروا الشيعة و السنّة -باعطاء فدك لفاطمة صلى الله عليه و آله ، لكن غاصبي الحكومة الإسلامية بعد الرسول صلى الله عليه و آله قاموا بمصادرة تلك الأرض استناداً الى حجج باطلة و من ثمَّ ضمها إلى بيت المال -و في الواقع ضمّها إلى أموالهم و منافعهم الشخصية -خوفاً من نموّ القدرة الاقتصادية لزوجة أمير المؤمنين علي عليه السلام و بالتالي منافستهم سياسياً على الخلافة، علماً أنّهم عمدوا إلى تشتيت أصحاب على عليه السلام . إنِّ قصة فدك و الحوادث المختلفة الأخرى التي جرت في صدر الإسلام و المرحلة التي تلت ذلك لهي من أغمِّ و أشدِّ ما أفرزه التأريخ الإسلامي ألماً و عبرةً و مآسي. و هذا ما ورد تفصيله في فصلٍ من هذا الكتاب و بشكلٍ منفصل.

للأحكام الإسلامية في هذا الامر سيجرف الأمة الإسلامية إلى انحرافٍ كبيرٍ عن تعاليم الإسلام و سنة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و الاندفاع نحو تقاليد الجاهلية، من ناحيةٍ أخرى فإنها مقدمة لفرض إقامةٍ جبريةٍ على عليٍّ أمير المؤمنين عليه السلام و محاصرته و أصحابه اقتصادياً، لذا بدأت بالدفاع عن حقها أمام غاصبي «فدك»، و طالبت بكل وجودها بإعادة حقها السليب، لكن النظام الحاكم رفض أداء حقها بحجةٍ باطلة و حديثٍ موضوع «نحن معاشر الانبياء لانورث».

أقبلت سيدة نساء العالمين مع لمة من نساء بني هاشم إلى مسجد النبىِّ صلى الله عليه و آله لتعلن عن رأيها و ظلامتها أمام جمهور المسلمين، و سادات المهاجرين و الانصار حتى تتمَّ حجتها، و تكشف حجج هذا الغصب العجيب و المصادرة الظالمة من قبل جهاز النظام، إظافةً إلى فضح صفوف المدافعين عن سياسة التجاوز و تمييزهم عن الأمناء الحقيقيين للإسلام.

غير مكترثة للضجة المفتعلة بهذا الخصوص و ماستفرزه هذه الفضيحة الكبيرة من نتائج، فقد استمرت في تصميها، و احتجت على «غصب فدك» من خلال خطبة غراء ألقتها أمام المهاجرين في المسجد مزيلةً الستار عن كثيرٍ من الحقايق.

كانت هذه الخطبة بمثابة تحذيرٍ مروع لأولئك الذين سعوا إلى حرف الحكومة الإسلامية و خلافة الرسول صلى الله عليه و آله عن مسيرها الحقيقي و تضييع تلك الجهود التي تحملها لأكثر من عقدين.

كانت خطبتها «ناقوس الخطر» لأولئك الذين ينبض قلبهم بعشق الاسلام، و يخافون على مستقبل هذا الدين الطاهر.

ص: 102

و«الإنذار العنيف» لأوئك الغافلين عن تغلغل المنافقين و نفوذهم في الجهاز السياسي بعد الرسول صلى الله عليه و آله ، و المتجاهلين لأعمالهم المبطنة.

«الصرخة الأليمة» في حماية عليٍّ أمير المؤمنين عليه السلام و وصيّ رسول رب العالمين صلى الله عليه و آله ، حيث تجاهل بعض السياسيين كلَّ ما ورد فيه من آياتٍ قرآنيةٍ و توصياتٍ للرسول صلى الله عليه و آله .

«إحقاق الحق المهضوم» لتوعية كل من غُصب حقه و هو يفضل المسالمة و السكوت على الانتفاضة و التصدي.

«الصيحة المؤثرة» التي دوى صداها في كلَّ مكان، و بقيت آثارها على مر العصور و القرون.

«الزلزال العميق» الذي أيقظ أمواجه المتلاطمة تلك الأرواح النائمة - ولو مؤقتاً -، و أظهر لها طريق الحق.

و أخيراً فقد كانت «الصاعقة المميتة» التي حلت على رؤوس أعداء الإسلام و أخذتهم بغتة، أما عمق التحليلات التي أوردتها الصديقة الطاهرة بشأن أعقد المسائل المرتبطة بالتوحيد و المبدأ و المعاد فانما تكشف عن بعد نظرها وسعة رؤيتها عليه السلام .

إن ما تضمنته خطبة ابنة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله من تفسيرٍ للقضايا العقائدية و السياسية و الاجتماعية لهو دليل واضح و دامغ على أن تلك الصديقة ليست متعلقة بزمان دون آخر.

الملاحم الثورية التي جرت على لسان فاطمة عليها السلام في هذه الخطبة، تدل على أنها سيدة فدائية، مجاهدة، و زعيمة صالحة للملقاتلين في سبيل اللّه و المجاهدين في سبيل الحق.

إن لحن سيدة النساء في هذه الخطبة الذي ينفذ إلى أعماق روح

ص: 103

الإنسان و قلبه يبين حقيقة مهمة و هي أنها محدثة بليغة، و خطيبة مقتدرة، كزوجها أمير المؤمنين علي عليه السلام ، فقد كانت هذه الخطبة الغراء على غرار خطب عليٍّ عليه السلام في نهج البلاغة و سارت معها جنباً إلى جنب حتى أظهرت الايام أن ابنتها زينب قد ورثت ذلك من أبيها و أمها معاً، حيث ألقت بخطبها في سوق الكوفة و مجلس يزيد الرعب في نفوس بني أمية المجرمين، و زلزلت أركان دار الامارة و نثرت بذور الثورة في قلوب أهل الكوفة و الشام ضد هذه الحكومة الجائرة الجبارة.

أفرزت خطبة فاطمة الزهراء عليها السلام العديد من الدروس، فما بينته في أدق مسائل الفلسفة و أسرار الأحكام، و تحليل تأريخىٍّ سياسىٍّ للإسلام، و مقارنةٍ بين العرب في زمن الجاهلية و بين حياتهم بعد ظهور الإسلام تعتبر دروساً عظيمة المعنى، يستفيد منها كل من يسسير على خطى الحقِّ مجاهداً في سبيل اللّه.

و الاهم من ذلك أنَّ فاطمة عليها السلام أفصحت عن موقف آل بيت النبِّي صلى الله عليه و آله بالنسبة إلى النظام الحاكم، و برئت ساحة الإسلام المقدسة من الظلم و الجور الذي ارتكب باسم الإسلام، و لو انحصرت فائدة الخطبة في هذا الأمر، لكان كافياً!

ص: 104

أسانيد و وثائق الخطبة

تعد هذه الخطبة واحدةً من الخطب المشهورة التي نقلها كبار علماء الشيعة و السنة بسلسلةٍ كبيرةٍ من الاسانيد المعتبرة، خلافاً لما يتصوِّره البعض من أنها ضعيفة أو حتى عديمة السند. و من بين المصادر التي أوردت هذه الخطبة هي:

1- أورد عالم أهل السنّة المشهور ابن أبي الحديد المعتزلي في توضيح رسالة «عثمان بن حنيف» في الفصل الأول من «شرح نهج البلاغة» و ثائقاً مختلفةً عن خطبة سيدة الإسلام فاطمة عليها السلام ، و يصرح قائلاً بأن الاسانيد التي أوردتها لهذه الخطبة ليست مأخوذةً من أيٍّ من كتب الشيعة.

ثم يشير إلى كتاب «السقيفة» ل «أبوبكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري» الذي يعدُّ واحداً من كبار محدثي أهل السنّة بأنه نقل هذه الخطبة في كتابه من عدة طرق -و أورد ابن أبي الحديد جميع تلك الطرق في شرح نهج البلاغة، و لغرض الاختصار فقد صرفنا النظر عن ذكرها -

بعدها يضيف، عندما عزمت الحكومة على غصب «فدك» أقبلت

ص: 105

فاطمة عليها السلام إلى المسجد ما تخرم مشيتها مشية رسول اللّه، و هناك ألقت خطبتها الغراء.

ثم ينقل ابن أبي الحديد تلك الخطبة المشهورة و المعروفة و ان كان هنالك إختلاف طفيف في عبارات هذه الخطبة في بعضى النقول.

2 - أورد «علي بن عيسى الأربلي» هذه الخطبة في كتاب «كشف الغمّة» نقلاً عن كتاب «السقيفة» لأبى بكر أحمد بن عبد العزيز.

3 - أشار «المسعودي» في «مروج الذهب» إلى الخطبة بشكلٍ إجمالي.

4 - «السيد المرتضى» العالم و المجاهد الشيعي الكبير أورد هذه الخطبة في كتابه «الشافي» نقلاً عن عائشة زوجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

5 - ذكر المحدث المعروف «المرحوم الصدّوق» مقتطفاتٍ منها في كتاب «علل الشرائع».

6 - روى الفقيه المحدث المرحوم الشيخ «المفيد» قسماً من هذه الخطبة.

7 - أورد «السيد بن طاووس» قسماً منها في كتاب «الطرائف» نقلاً عن كتاب «المناقب» ل «أحمد بن موسى ابن مردويه الأصفهاني» و هو من مشاهير أهل السنّة الذي نقلها بدوره عن عائشة.

8 - و أوردها المرحوم «الطبرسي» صاحب كتاب «الاحتجاج» بصورة مرسلة (1)

على كل حال فإن هذه الخطبة التأريخة هي واحدة من خطب أهل البيت عليه السلام المعروفة، و طبقاً لما نقل فإنَّ كثيراً من الشيعة المخلصينة.

ص: 106


1- بحارالانوار العلامة المجلسي، ج8، ص108 الطبعة القديمة.

أوصوا أبناءهم بحفظ هذه الخطبة، حتى لا يستقر عليها غبار النسيان بمرور الزمن، و لا تكون محطاً للتجاهل و التصغير من قبل الأعداء المغرضين.

و الاولى أن يحفظها اليوم جيل الشباب الشجاع و ينقلها لأجيال الغد.

ص: 107

المحاور السبعة لخطبة فاطمة الزهراء عليها السلام

تتضمن هذه الخطبة الغراء التي قلّ نظيرها سبعة محاور، و تدور حول سبعة مباحث ينشد كل منها هدف واضح، و يجب دراسة كلٍّ منها بصورة مستقلة.

المحور الأول:

تحليل عميق و مختصر لمسائل التوحيد و صفات الخالق و أسمائه الحسنى و هدف الخلقة.

المحور الثاني:

التذكير بمنزلة الرسول صلى الله عليه و آله السامية و صفاته و مسؤولياته و أهدافه.

المحور الثالث:

التحدث عن أهمية القرآن المجيد و عمق تعاليم الإسلام، و فلسفة الأحكام وأسرارها، و الارشادات و النصائح في هذا المجال.

المحور الرابع:

من خلال تعريف نفسها، تقوم سيدة النساء عليها السلام بالإفصاح عن خدمات أبيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله لهذه الأمة، و هنا تذكّرهم فاطمة الزهراء عليها السلام بعصر الجاهلية القريب ليكون لهم عبرة، و من ثم مقارنته مع وضعهم بعد الإسلام، و اتخاذ درسٍ من هذا الاختلاف و التغيير.

ص: 108

المحور الخامس:

تفصح عن الأحداث التي تلت وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله ، و سعي حزب المنافقين لمحو الإسلام.

المحور السادس:

تتحدث عن الحجج الواهية التي اتّخذوها ذريعةً في غصب «فدك»، و من ثم تفنيد تلك الحجج.

المحور السابع:

و من أجل أن تُتِمَّ حجتها تقوم سيدة النساء عليها السلام باستنصار الأنصار و أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله المخلصين، و تنهي خطبتها ببشارتهم بالعذاب الإلهي.

ص: 109

المحور الأول

توحيد اللّه و صفاته و هدف التكوين

النص:

الحمد للّه على ما أنعم و له الشكر على ما ألهم و الثناء بما قدم، من عموم نعمٍ ابتدأها، و سبوغ آلاءٍ أسداها، و تمام مننٍ والاها!

جمَّ عن الإحصاء عددها، و نأى عن الجزاء أمدها، و تفاوت عن الإدراك أبدها، و ندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها و استحمد إلى الخلائق بأجزالها، و ثنى بالندب إلى أمثالها.

و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها و ضمن القلوب موصولها، و أنار في الفكر معقولها.

الممتنع من الأبصار رؤيته، و من الالسن صفته، و من الأوهام كيفيته.

إبتدع الأشياء لا من شىءٍ كان قبلها، و أنشأها بلا احتذاء أمثلةٍ امتثلها.

كونها بقدرته و ذرأها بمشيئته من غير حاجةٍ منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها إلاّ تثبيتاً لحكمته، و تنبيهاً على طاعته، و إظهاراً لقدرته، و تعبداً لبريته و إعزازاً لدعوته ثم جعل الثواب على طاعته ووضع العقاب على معصيته، زيادةً لعباده عن نقمته و حياشةً لهم إلى جنته.

ص: 110

المناقشة:

في القسم الأول للخطبة عدداً من المسائل المهمة الجديرة بالبحث:

1- الالتفات إلى الحقيقة التي نعيشها، و هي أنَّ نِعَمَ اللّه جل و علا قد أحاطت بكلِّ وجودنا حتى غرقنا فيها، و هذا الأمر يحيي فينا حسَّ الشكر و الثناء بل و يجرنا إلى معرفة ذاته الطاهرة.

و هذا ما يعتمد عليه علماء علم الكلام -العقائد -تحت عنوان «وجوب شكر المنعم» في مسألة وجوب معرفة اللّه سبحانه و تعالى.

2- إذا كان اللّه سبحانه و تعالى قد دعى عباده إلى شكر نِعمه، فليس ذلك من باب الحاجة له، بل ليكتسب العباد من خلاله -الشكر -لياقةً أكبر و درجةً أعلى و بالتالي تشملهم نعماً أوفر.

3 - إنّ العباد عاجزون عن أداء حق الشكر للّه، لأن التوفيق للشكر هو نعمةٌ بحد ذاته، كما أن آلات الشكر من -فكرٍ و يدٍ لسان -هي أيضاً من نِعم اللّه، لذا ليس لهم إلا الاعتراف بالعجز. «و كيف أؤدي حق شكرك و شكرك يحتاج إلى شكر».

4 - الإخلاص هو روح التوحيد، تطهير الروح من دَنس الشرك باللّه، و منح القلب كرهينةٍ لحبه، و الخضوع و الخنوع لأمره و خلاصة القول تجاهل و نبذ كل ما لا يُرضي اللّه و نسيان كل شىء سواه!

5 - في الواقع أن التوحيد قد أودع فطرة الإنسان منذ البدء و يشع هذا النور الإلهي في أعماق كل إنسان، و كل واحدٍ منهم يسمع من باطنه نداء «اللّه اكبر»، و لهذا فعند ما يتضاعف البلاء و تتمزق أستار الغفلة يظهر هذا الإشعاع بوضوح أكثر من أي وقتٍ آخر، و ينجذب الجميع لا إرادياً نحو أنفسهم مرددين «لا إله إلا هو».

ص: 111

6- لا يمكن درك كُنه ذاته حتى بالتفكر العميق، حيث:

«كُلّما مَيّز تُمُوهُ بأوْهامِكمْ في أدَقَّ مَعانِيهِ مخلوقٌ مصنوع مثلُكُم مردُودٌ إليْكُم» (1) كما لايمكن معرفة كنه صفاته، لذا يجب أن نعترف جميعاً بأن:

«وَ ما عَرَفُناكَ حَقَّ معرفَتِكَ» (2)

«ما عَبْدناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ». (3)

7 - تعد مسألة الخلق و التكوين البدائي واحدةً من المسائل المهمة، فلم تكن هناك مادةٌ مصنوعةٌ من قبل حتى يخلق اللّه منها هذا العالم، بل أن الخلق و التكوين قد تم من العدم، و قد اختصت هذه الخلقة بذاته الطاهرة حتى صعب على البعض تصور ذلك.

8 - المسألة المهمة الأخرى في أمر الخلق و التكوين هي أن المصورين يعتمدون دائماً في تصويرهم و رسوماتهم على ما يستلهمونه من الطبيعة، و أحياناً يقومون بخلط أشكالٍ مختلفةٍ ليُبدعوا في صنع شكلٍ جديد، أما اللّه سبحانه و تعالى فهو المبدع الذي صوّر العالم و جسّمه دون تحضيرٍ مسبقٍ أو تمثيلٍ قبلي.

9 - البحث المهم الآخر في هذا المحور من الخطبة التأريخية لسيدة النساء عليها السلام هو الغنى المطلق للّه عن كل شيء.

من البديهي أن الوجود اللامتناهي من جميع النواحي للذات المقدّسة يجعلها غنيّة مطلقة عن كلّ نوعٍ من أنواع الحاجة. لأن «الحاجة» تدل على «النقص» و النقص ينحصر في الموجودات التي يمكن تصوّرها،6.

ص: 112


1- أربعين الشيخ البهائي، بحار الانوار «للعلامة المجلسي»، ج69، ص293-292.
2- أربعين الشيخ البهائي، و بحارالانوار«للعلامة المجلسي»،ج69،ص293-292.
3- مستدرك الوسائل المحدث النوري، ج1، ص16.

لا في ذات الحق الغير متناهية.

10 - و أخيراً فإن المسألة المهمة الاخرى التي طُرحت في هذا المحور هي «هدف الخلق»، حيث تلخص سيدة الإسلام ذلك في جُملٍ قصيرةٍ عظيمة المعنى:

أ - تبيين و توضيح الحكمة الإلهية اللامتناهية.

ب - دعوة العباد إلى طاعته.

ج - الإشارة إلى قدرته المطلقة.

د - دعوة العباد إلى عبوديته.

ه - منح أنبيائه القوة.

هذه هي الأهداف التي بيّنتها فاطمة الزهراء عليها السلام في مسألة الخلق، والمُلفت للنظر أن هذه الأهداف ملازمةً لبعضها البعض، فعند ما يرى العبد آثار حكمة الخالق و قدرته في عالم الوجود الواسع ينقاد إلى طاعته، و يتوجه إلى عبوديته و ينعقد بمدارج كماله.

و من ناحيةٍ أخرى، يكون للأنبياء نفوذ أكثر و أعمق في قلوب الناس عند ما يكون حديثهم مرتكزاً على نظام خلق عالم الوجود، فتسهل عليهم مسألة الهداية.

و عليه فلم يخلق اللّه الكون حتى يستفيد، بل إن الهدف هو أن يجود على العباد، فإرادته في أن ينتهجوا سبيل الهداية، فدعاهم إلى قربه، وليسيروا على نهجه فيستحقوا المزيد من كرمه و لطفه.

ص: 113

المحور الثاني

منزلة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله السامية، خصائصهُ و أهدافه

النصّ:

و أشهد أنّ أبي محمداً عبده و رسوله، إختاره و انتجبه قبل أن أرسله، و سمّاه قبل أن اجتبله، و اصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونةٌ و بستر الأهاويل مصونةٌ، و بنهاية العدم مقرونةٌ.

علماً من اللّه تعالى بمائل (بمآل) الأمور، و إحاطة بحوادث الدهور، و معرفةً بمواقع المقدور.

ابتعثه اللّه إتماماً لأمره و عزيمةً على إمضاء حكمه و إنفاذاً لمقادير حتمه.

فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عُكفاً على نيرآنها،(و) عابدةً لأوثانها، مُنكرةً للّه مع عرفانها.

فأنار اللّه بمحمدٍ صلى الله عليه و آله ظُلمها، و كشف عن القلوب بهمها و جلّى عن الأبصار غممها.

و قام في الناس بالهداية و أنقذهم من الغواية و بصَّرهم من العماية.

و هداهم إلى الدين القويم و دعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضة اللّه

ص: 114

إليه قبض رأفةٍ و اختيارٍ و رغبةٍ و إيثارٍ، فمحمدٌ صلى الله عليه و آله عن (مِنْ) تعب هذه الدار في راحةٍ، قد حُف بالملائكة الأبرار، و رضوان الرب الغفار، و مجاورة الملك الجبار.

صلّى اللّه على أبي نبيِّه و أمينه على الوحي و صفيِّه و خيرته من الخلق و رضيِّه و السلام عليه و رحمة اللّه و بركاته.

التفسير:

تشير مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام في هذا المحور من خطبتها إلى جزء من المسائل المهمة المتعلقة بشخص رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، منها:

1- تتحدث عبارتها الأولى عن جوهر ذات الرسول صلى الله عليه و آله المقدسة الشيء الذي أشير إليه في سائر الأحاديث الإسلامية أيضاً و هنا يبرز بحث مهمٌ و هو، هل تختلف النشأة التكوينية للرسول صلى الله عليه و آله كلياً عن الآخرين؟ و إذا كان كذلك فإن عصمته تكون جزءً من مستلزمات تلك الذات، و ليس في هذا من فضل.

و إذا كان جوهره لا يختلفف عن الاخرين، إذاً فما الهدف الذي تبغيه مولاتنا من وراء هذه التعابير؟

الحقيقة هي أن ميزات و مواهب الأنبياء و الأئمة تنقسم إلى قسمين، فبعضها ذاتية و بعضها الأخراى مُكتسَبة، و بالتدقيق في هذا التركيب الخاص فقد أجيب على كثيرٍ من التساؤلات.

وبتعبيرٍ آخر، فإن الرب الحكيم الذي حمّل نبيه أعباء تلك المهمة العظيمة منحه استعداداتٍ ذاتية: فقد أعطاه جوهراً ممتازاً، ذكاء متوقداً، إرادةً حديديدةً، عزماً راسخاً، و علماً و فيراً و تشخيصاً صائباً، و إلا فلن

ص: 115

يتمكن شخصٌ ضعيفٌ من القيام بهذه الرسالة الكبيرة و سينتفي غرضها.

و هذا الأمر لا يتّصف إلا بالعدالة، فقوة عضلات الساعد تفوق بكثيرٍ قوة عضلات جفن العين، لأن وظيفة الأخيرة رفع و خفض جفن العين، في حين وظيفة الأخرى رفع الأحمال العظيمة و إنجاز الأعمال الثقيلة، و خلاف ذلك هو خلافٌ للعدالة.

و مع هذا فإن الجوهر الذاتي للرسول صلى الله عليه و آله لم يسلب منه الإرادة و الاختيار، فهو أيضاً له القدرة على المعصية «و العياذ باللّه»، علماً أنه لا يرتكب المعصية.

لا تتعجب، فالكثير من الناس العاديين يتمتعون بنفس هذه الحالة بالنسبة لبعض المعاصي، فمثلاً يستطيع كل امرىءٍ أن يظهر عارياً كما ولدته أمه أمام جمعٍ من الناس، أو أن له القدرة على النوم عارياً في ثلوج ليلة شتاءٍ قارصة، ولكن في نفس الوقت لاتصدر هذه الأفعال إلا من المجانين.

يتمتع الأنبياء و الأئمة المعصومون بنفس هذه الحالة بالنسبة لجميع المعاصي.

و هذا يُلفت النظر إلى المسؤولية الكبيرة التي يتحملها المعصومون تجاه جوهرهم الطاهر، فلا يُقبل منهم أبداً ترك العمل بالأولى.

و تعبير فاطمة عليها السلام الذي تقول فيه «عِلماً من اللّه تعالى بمائل الأمور و إحاطةً بحوادث الدهور» إنما يُشير إلى تلك النقطة، و هي أن اللّه يعلم بثقل الرسالة التي ستُلقى على عاتق النبي صلى الله عليه و آله لذا جعل جوهره بهذا المستوى الممتاز.

2 - جاء الرسول صلى الله عليه و آله لإتمام الأوامر الإلهية، و تنفيذ أوامره التكوينية.

ص: 116

تشير هذه العبارة إلى مسألة ختم النبوة بالرسول الكريم صلى الله عليه و آله ، وهي أيضاً إشارة إلى مسألة إتمام المواهب التكوينية عن طريق التشريع والأحكام الإلهية.

3 - تعرّج ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله في هذا المقطع من حديثها على الوضع المأساوي للأمم قبل بعث الرسول صلى الله عليه و آله و كيفية ابتلائهم بظلمة الخرافات، المجوس في تعظيمهم للنار، و العرب في عبادتهم للأصنام، و سائر الملل في ابتلائها بنوعٍ من الانحراف و التفرقة.

و ما أعظم قولها «مُنكِرَةٌ للّه مع عرفانه» الذي تشير فيه إلى مسألة «التوحيد الفطري» المكنون في كل البشر.

4 - تشير عليها السلام في قسم آخر من بيانها الرائع إلى بركات وجود النبي«ص» و آثار قيامه، و كيف أبعد عن أفق أفكارهم سحب الأوهام السوداء المظلمة، و أزال عن قلوبهم صدأ الجهل و الخرافات، و مزّق الغشاوة التي حجبت أبصارهم عن مشاهدة الحق، و دعاهم إلى «الصراط المستقيم» و الحد الأوسط الذي يفصل بين الإفراط و التفريط.

و من أجل فهم و درك عمق هذا الحديث، يجب إجراء مقارنةٍ دقيقةٍ بين وضع الناس في عصر الجاهلية و وضعهم بعد ظهور الإسلام، حتى يتّضح الواقع الذي بيّنته سيدة الإسلام عليه السلام في خطبتها.

5 - من المسائل التي يجدر الإشارة إليها في هذا المقطع من خطبة سيدة النساء عليها السلام التأريخية هي الموت الكريم -أو العزيز - للرسول صلى الله عليه و آله :

ذلك الذي كبلت روحه المتألقة بقيود الجسد في هذه الدنيا الفانية، و بعد أن أدى الرسالة، و أتمَّ المسؤولية، كسِّر تلك القيود محلّقاً نحو الحبيب، مرفرفاً في فنائه، آخذاً مكانه بين ملائكة السماء المقرّبين!

ص: 117

المحور الثالث

كتاب اللّه و فلسفة الأحكام

النص:

ثم التفتت عليه السلام إلى أهل المجلس و قالت:

أنتم عباداللّه نُصْبُ أمره و نهيه، و حملة دينه و وحيه، و أُمناء اللّه على أنفسكم، و بُلغاؤه إلى الامم.

و زعيم حقِّ له فيكم، و عهدٌ قدّمه إليكم.

و بقيةٌ استخلفها عليكم كتاب اللّه الناطق، و القرآن الصادق، و النور الساطع، و الضياء اللامع، بيِّنةٌ بصائره، منكشفةٌ سرائره، متجليةٌ ظواهره، مغتبط به أشياعه، قائدٌ إلى الرضوان اتِّباعه، مؤدٍّ إلى النجاة استماعه، به تُنال حجج اللّه المنوَّرة، و عزائمه المفسرَّة، و محارمه المحذَّرة، و بيِّناته الجالية و براهينه الكافية، و فضائله المندوبة و رُخصه الموهوبة و شرايعه (شرائعه) المكتوبة.

فجعل اللّه الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، و الصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، و الزكاة تزكيةً للنفس، و نماءً في الرزق، و الصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، و طاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفُرقة (للفُرقة)، و الجهاد عزّاً للإسلام، و الصبر معونةً

ص: 118

على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحةً للعامة، و برَّ الوالدين وقايةً من السخط، و صلة الأرحام مُنماةً للعدد، و القصاص حقناً للدماء والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة و توفية المكاييل و الموازين تغييراً للبخس، و النهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، و اجتناب القذف حجاجباً عن اللعنة و ترك السرقة إيجاباً للعفة و حرَّم اللّه (1)الشرك إخلاصاً له بالرُّبوبية.

ف« اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ» (2)

و أطيعوا اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» (3)

التفسير:

تُشير سيدة الإسلام عليه السلام في هذا القسم من الخطبة إلى أمورٍ مهمةٍ أيضاً، منها:

1 - تعد مسؤولية المسلمين في إبلاغ الرسالة و نشر الإسلام في العالم، والدفاع عن قوانين و تعاليم و قيم الدين الحنيف من المسؤوليات الخطيرة التي لو تقاعس المسلون عن أدائها كان حقّا عليهم أن ينتظروا العقاب والجزاء الإلهي، و أن يطردوا من ساحة رحمته الواسعة.

2 - نبهت إلى عظمة القرآن على أنه كتاب ناطق و نور جلي وضوء مشع، حارب و بشدة ظلمات الجهل و التعصب و الخرافات.

ذلك الكتاب الذي ظاهره الجمال و النور، و باطنه العبرة و المعنى8.

ص: 119


1- جاء في نسخة أخرى«حرم الشرك».
2- - سورة آل عمران، آية 102.
3- - سورة فاطر، آية 28.

الغزير، و أدلته مقنعةً منجيةً.

ذلك القائد الذي يضمن لتابعيه النجاة، حيث دعاهم إلى جنةٍ أزلية.

فهو قائد النجاة الذي بيَّن بمنطقه الفصيح أدلة التوحيد، و ثبت مبادىء العقيدة ببراهينه النيرة، و أفصح عن البرامج العملية التي يحتاجها المرء في طريق تكامل الإنسانية، فشخص «المباح» من «المحظور»، «الجيد» من «الرديء» و «الحق» من «الباطل».

3 - أبدعت في تبيان فلسفة الأحكام من خلال عباراتٍ قصيرة، فبدأت بالإيمان حتى الوفاء بالنذر، و من التوحيد حتى ترك البخس في الميزان، فوصفت كلاً منها بجملةٍ و مقوله. فما أحلى تعبيرها«فجعل اللّه الإيمان تطهيراً لكم من الشرك».

يتضح من هذا التعبير أنَّ حقيقة معرفة اللّه و توحيده مكنونة في فطرة الإنسان، لهذا جاء الإسلام ليطهره من الملوثات العرضية التي تنتج عن طريق الشرك، كما تغسل الثياب البيض بعد اتساخها ليظهر لونها الأصلي.

شرع اللّه «الصلاة» ليوطن بها روح التواضع في الناس، و يسحب المتكبرين من منصة الغرور، عن طريق الركوع و السجود، و الدعاء في حضرة الخالق.

«الزكاة» تكون سبباً في تحرير روح الإنسان من أسر الدنيا و تعلقه بزخرفها و أموالها، و تنمية ثروات الأمة من خلال تعزيز البنية المالية للمحرومين.

«الصيام» يجعل الإنسان مسيطراً على هوى نفسه، و يثبت فيه روح الإخلاص، و يضفى على أغصان وجوده براعم و زهور التقوى.

ص: 120

«الحجُّ» ذلك التجمع الإسلامي العظيم الذي تثبت فيه أُسس الإسلام، و تعزز فيه قدرات المسلمين قي شتى المجالات الفكرية و العلمية و العسكرية و السياسية.

«العدالة الاجتماعية» تغسل الأحقاد من القلوب، و تزيل الاضطرابات و تقر التنظيم و عن طريق قبول قيادة الهداة المعصومين، يمنح اللّه المسلمين نظاماً اجتماعياً سالماً منتهجاً خط التوحيد، و يبعد عنهم النفاق و التفرقة.

كذلك في مسائل الجهاد و الصبر و الاستقامة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ما يتعلق بمسائل القصاص و الالتزام بالتعهدات، و محاربة من يبخس الميزان و طهارة الحجور من الفجور و ترك شرب الخمر، فقد أشارت سيدتنا إلى كل ذلك مبينةً آثار و علاج كلٍّ منها.

5 - تعود سيدة الإسلام عليها السلام مرةً أخرى إلى مسألة مسؤولية المسلمين تجاه القرآن المجيد و الإسلام، و تدعوهم إلى التقوى، مذكرةً إياهم بعواقب الأمور، حيث تصرُّ عليهم بمراقبة أعمالهم حتى يودعوا دار الفناء و هم مسلمون!.

كونوا على حذر و إعملوا ما يجعلكم تموتوا مسلمين! نوروا أرواحكم و قلوبكم بنور العلم و المعرفة، لأن العلماء فقط يشعرون بالمسؤولية و يخافون اللّه سائرين على خطّ التقوى.

ص: 121

المحور الرابع

إعلان موقفها من النظام الحاكم

النص:

ثم قالت أيها الناس إعلموا أنِّي فاطمة، و أبي محمّد صلى الله عليه و آله أقول عوداً و بدأً و لا أقول غلطاً، و لا أفعل ما أفعل شططاً.

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيْه ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَليْكُم بالمُؤْمِنينَ رَءُوفٌ رَحيمٌ» (1).

فإن تعزوه و تعرفوه تجدوه أبي دون نساءكم، و أخا ابن عمِّي دون رجالكم، و لنعم المعزي إليه صلى الله عليه و آله .

فبلغ بالرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين ضارباً ثبجهم، آخذاً بأكظامهم داعياً إلى سبيل ربِّه بالحكمة و الموعظة الحسنة، يكسر الأصنام و ينكت الهام، حتى انهزم الجمع و ولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، و أسفر الحقُّ عن محضه، و نطق زعيم الدين، و خرست شقاشق الشياطين، و طاح و شيظ النفاق، و انحلت عقد الكفر و الشقاق و فهتف بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص.

ص: 122


1- سورة البراءة، آية 129.

و كنتم على شفا حفرةٍ من النار، مذقة الشارب و نهزة الطامع، و قبسة العجلان، و موطيء الأقدام. تشربون الطرق، و تقتاتون الورق، أذلةً خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم.

فأنقذكم اللّه تبارك و تعالى بمحمدٍ صلى الله عليه و آله بعد اللتيا و التي، بعد أن مُنيَ ببهم الرجال، و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب كلما أو قدوا ناراً للحرب أطفأها اللّه، أو نجم قرن للشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفأ حتى يطأ صماخها بأخمصه، و يخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات اللّه، مجتهداً في أمر اللّه، قريبا من رسول اللّه، مشمرا ناصحاً، مجدا كادحا وأنتم في رفاهيةٍ من العيش، و ادعون فاكهون، آمنون تتربصون بنا الدوائر، و تتوكفون الأخبار، و تنكصون عند النزال، و تفرون عند القتال.

التفسير:

تضمن هذا القسم أيضاً حقائق كبيرة:

1 - بضعة النبي

تقوم بكشف هويتها للحاضرين قبل كلِّ شيءٍ، و تفرغ ما بأيديهم من حججٍ و أعذارٍ، حتى لا يدّعي أحد بإني لم أعرف بنت النبيّ صلى الله عليه و آله ، و إلا سارعت لنصرتها.

تركز بشكل خاص على نسبتها للنبيّ صلى الله عليه و آله ، و تتكلم عن ارتباطها بعليٍّ عليه السلام ، ثم تؤكد على أن ما أنطق به هو عين الحقيقة، لا أتحدت جزافاً، و لا ينطق لساني بغير حسابٍ ولو بكلمة، فاستمعوا جيداً لما أقول، و عوا مسؤوليتكم العظيمة تجاه هذه الحادثة!.

ص: 123

2 - الألم العميق

بعدها تذكر بعلاقة رسول اللّه صلى الله عليه و آله بهم و كيف كان يتألم لآلامهم و أنه كان شريكاً لهم في غمومهم، مستندةً على الصفات الخمسة التي وصف القرآن المجيد نبيه بها في إحدى آياته الشريفة:

«لَقد جاءَكُم رَسولٌ مِن أنفسِكُمْ عزيزٌ عليهِ ما عِنتُّمْ حَريصٌ عليْكُم بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيم» (1)

تلك الصفات التي شاهدها و عرفها الأصحاب في رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

3 - الجهود الشاقة للنبي صلى الله عليه و آله

ثم تذكر بالمعاناة الجسمية التي مرت بالرسول صلى الله عليه و آله و كيف أنه قام منفرداً بإبلاغ رسالة ربه العظيمة، دون أن يجد الانحراف سبيلاً إلى نفسه، مرغ أنوف المتعنتين بالتراب، و حطم أدمغة المتكبرين، و كان سلاحه المنطق و الدليل و الموعظة و الحكمة لمن طلب الحق و استقصى عنه، إلى أن كسر شوكة المشركين، و دمر معابد الأصنام، و تفرَّق أعداء اللّه، فانزالت الظلمات و شعَّ النور، و فرت الخفافيش، و تمكن جمع من الناس أن يرددوا نغمة التوحيد« لا إله إلاّ اللّه» علناً في ديار الكفر.

4 - الماضي المشين

تقوم فاطمة الزهراء عليها السلام بتذكير هم بذلك اليوم الذي كانوا فيه مجموعةً9.

ص: 124


1- سورة البراءة، آية 129.

مؤمنةً صغيرةً تتصارع في وسط طوفانٍ صعبٍ و موحش، فمن ناحيةٍ تداعب وسوسات مراحل الشرك و عبادة الأصنام مخيلا تكم أحياناً، و تجركم إلى شفا جرف نار جهنم، و من ناحيةٍ أخرى فإن أعدائكم الأقوياء الظالمين قد أحاطوكم من كلِّ جانب، يتربصون بكم الدوائر ليسحقوكم بأيديهم و أرجلهم بطرفة عين، و كنتم تحت حصارٍ رهيب، ليس لكم إلا الماء الآسن و الغذاء الرديء، تخافون مصيركم المجهول.

لكن، شاء اللّه أن يكسر أسنان هؤلاء الذئاب المصاصين للدماء، و يضرب رؤوس هذه الأفاعي بالحجر، و يسلط هذه الفئة القليلة المستضعفة عليها، و هو على ما يشاء قدير فعال لما يريد.

لم يمضِ وقت حتى خمدت نيران الفتن، و سكنت الأعاصير، و فرت العفاريت، و اختفى اللصوص و قطاع الطرق الذين كانوا يستفيدون من ظلمات ليالي الجاهلية بعد أن أشرق العالم بنور شمس الإسلام.

نعم، ذكرت فاطمة عليها السلام الحاضرين بتلك اللحظات الحساسة التي أثقلت كاهل المؤمنين و جعلت يومهم كقرنٍ من الزمان، حتى لا يتناسوا نِعَمَ اللّه الجزيلة، و لا ينكروا المواهب الإلهية، و يسعون في استمرارية و ديمومة هذا الخط الإلهيِّ و الرساليِّ العظيم و لا يستسلموا لما يروجه و يحيكه الأعداء.

5 - خدمات عليّ عليه السلام :

تذكر ابنة النبي صلى الله عليه و آله في وسط حديثها بما قدمه أمير المؤمنين علي عليه السلام من خدماتٍ لهذه الأمة، و كيف أن النبيَّ صلى الله عليه و آله كان يرسله لمواجهة الحوادث الخطرة و التصدي لها، و هو يقوم لها مؤثراً بنفسه، مضحياً و

ص: 125

فدائياً، فينقضُّ على الفتن فيخمدها و يعود منتصراً، أهوى برؤوس المتكبرين إلى الأرضٍ بسيفه، و مرغ هامات الطواغيت بالتراب، و كان ناصراً و مساعداً للرسول صلى الله عليه و آله و حامياً و مدافعاً في كلِّ مكان.

نعم فمثل هذا الفرد العظيم يستطيع أن يُديم خطَّ هذه الثورة الكبيرة و يمنع عنه الانحراف.

ص: 126

المحور الخامس

الردة بعد النبي صلى الله عليه و آله

النص:

فلما اختار اللّه لنبيه صلى الله عليه و آله دار أنبيائه و مأوى أصفيائه ظهر فيكم حسيكة النفاق، و سمل جلباب الدين، و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الأقلين و هدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه، هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، و للغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً و أحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، و أوردتم غير شربكم، هذا و العهد قريب، و الكلم رحيب، و الجرح لما يندمل، و الرسول لما يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة، «ألا في الفِتْنَةِ سَقَطوا و إنَّ جَهَنَّمَ لُحيطَةٌ بالْكافِرينَ» (1) فهيهات منكم؟ و كيف بكم؟ و أنَّى تؤفكون؟ و كتاب اللّه بين أظهر كم أموره زاهرة ] ظاهرة [ و أعلامه باهرة، و زواجره لايحة، و أوامره واضحة، قد خلفتموه وراء ظهوركم أرغبةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا.

«وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (2)

ص: 127


1- سورة التوبة، آية 49.
2- سورة آل عمران، آية 85.

التفسير:

1 - التآمر و الانحراف

تشير سيدة الإسلام عليها السلام في هذا القسم من خطبتها إلى بقايا أحزاب الجاهلية و المنافقين الذين ضُيِّقَ الخناق عليهم في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله فأخفوا رؤوسهم في جحورها، و إختبأوا في أو كارهم.

و فجأةً خرجت حشرات الأرض هذه من جحورها بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، و ظهرت الخفافيش التي توارت عن الأنظار بسبب هيبة وجود النبي صلى الله عليه و آله و أصبحت تعبث في الميدان!، و بدأت التحركات المشكوكة و عادت خطوط الانحراف تظهر من جديد و دخل المتلاعبون بالسياسة ساحة المعركة!.

2 - تلبية البعض لدعوة الشيطان!

من هنا تبدأ حسرة بنت النبي صلى الله عليه و آله العميقة بسبب تلبية جمع غفير لدعوة الشيطان، سائرين خلف أصوات البوم المشؤومة، فأصبحوا آلةً بيد حزب الشيطان و المنافقين الذين عميت قلوبهم، و رغم أن كفن الرسول صلى الله عليه و آله لم يزل مبتلاً و لم يزل صوت آذان مؤذنه يدوي في المسجد و صرخة تكبيره ترن في القلوب حتى ظهرت حركات الردّة.

باستثناء البسطاء و مريضي القلوب لإنَّ مجموعةً قد اتخذت من التقية حجة لسكوتهم خوفاً من أن الكلام يوقع الفرقة و الاختلاف بين الجمع، و صاروا متفرجين لهذا المشهد أو موافقين لأحداثه، حتى لا يبرز اختلاف فى حين أن موقفهم هذا هو السبب في ذلك الانشقاق و الانحراف الكبيرين!.

ص: 128

3 - الاعتصام بالقرآن

ثم يصرخ المنادي الإلهي المتمثل بفاطمة الزهراء عليها السلام بهم منبهةً:

أين أنتم؟ و إلى أين تولون أيها الضالون؟ فأنها تذكر هم بحديث أبيها صلى الله عليه و آله : «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة و من تركه ساقه إلى النار!».

تصيح بهم بأن لا تتركوا القرآن، فأوامره و نواهيه واضحة و إرشاداته في مسألة الخلافة بعد النبي صلى الله عليه و آله بائنة، كما أشار إلى ما سيحصل بعد فاته، خلاصة القول أنه لم يُبقِ شيئاً الّأ و أظهر خفاياه.

4 - إنذار أصحاب النبي صلى الله عليه و آله

سيدة الإسلام عليها السلام صرخة الزمان المدوية، تحذرهم قائلةً: إن تركتم تراث النبيِّ صلى الله عليه و آله العظيم«القرآن» و تمسكتم بغيره، و قدمتم أفكاركم العاجزة على تعاليم الإسلام و جعلتم أنفسكم حكاماً على القرآن، بذريعة المصلحة و خوف الفتنة لا محتكمين لأوامره، عندها سيصيبكم الضرر الأكبر و الخسران المبين.

سوف لن تخمد نار الفتنة فيكم، و ستبلون بما تخافونه، و ستختفي روح الإسلام من بينكم، فلن يبقى سوى القشر دون اللب و المظهر دون المحتوى.

ص: 129

المحور السادس قصة غصب فدك و حجج الغاصبين وتفنيدها

النص:

ثم لم تلبثوا إلا ريث (إلى ريث) أن تسكن نفرتها و يسلس قيادها، ثم أخذتم تروون و قدتها و تهيجون جمرتها، و تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي و إطفاء أنوار الدين الجلي و إخماد سنن النبي الصفي.

تسرون حسواً في ارتغاءٍ، و تمشون لأهله و ولده في الخمر و الضراء، و نصبر منكم على مثل حز المدى و وخز السنان في الحشا.

و أنتم الآن أتزعمون أن لا إرث لنا؟

أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من اللّه حكماً لقومٍ يوقنون؟ (1)

أفلا تعلمون؟ بلى تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته.

أيها المسلمون أأغلب على إرثيه؟ يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب اللّه أن ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّا.

أفعلى عمدٍ تركتم كتاب اللّه و نبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول:

ص: 130


1- سورة المائدة، آية 5.

«وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» (1).

و قال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال:

«فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبِ» (2)

و قال:

«وَ أُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في كتاب اللّه» (3).

و قال:

بُوصِيكُمُ اللّه في أَوْلادِكُم لِلذّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ» (4).

و قال:

«إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ب ِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ» (5)

و زعمتم أن لا حظوة لي و لا إرث من أبي؟ و لا رحم بيننا؟ أفخصكم اللّه بآيةٍ أخرج منها أبي؟ أم هل تقولون إن أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا و أبي من أهل ملةٍ واحدةٍ أم أنتم أعلم بخصوص القران و عمومه من أبي و ابن عمي؟

فدونكها مخطومةٌ مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم اللّه و الزعيم محمدٍ صلى الله عليه و آله ، و الموعد القيامة و عند الساعة يخسر لمبطلون و لا ينفعكم إذ تندمون،

« لِكُلِّ نَبَاٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» (6).7.

ص: 131


1- سورة النّمل، آية 16.
2- سورة مريم، آية 5-6.
3- سورة الأنفال، آية 75.
4- سورة النساء، آية 11.
5- سورة البقرة، آية 180.
6- سورة الأنعام، آية 67.

« مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ» (1).

التفسير:

1 - إحياء المذهب الجاهلي

بلغ حديث فاطمة عليها السلام أوجه في هذا القسم مدلّاً على ألمٍ و هيجانٍ شديدين، فحرقة قلبها متأتية من ظهور أحكام الجاهلية مرةً أخرى حيث أن الأنثى لم تكن لتورث في زمن الجاهلية أما الإسلام فقد أبطل ذلك بعد مجيئه مقراً بحصة و سهم جميع الأقارب في إرث المسلم، استناداً إلى ذلك فإن الموضوع لم يكن مقتصراً على مسألة «فدكٍ» فحسب، بل إن المهم في الدرجة الأولى هو خطر إحياء سنن الجاهلية و محو سنن الإسلام، لذا قامت في هذا القسم بتوجيه اللوم الشديد لهم، مكثفةً حملاتها عليهم.

الأعجب من كل ذلك هو تعجيلهم في إنجاز هذا العمل بشكلٍ أدرك معه الجميع أن مسألة «غصب فدك» لم تكن مسألةً عادية، فقد سعوا إلى هذا الغصب قبل أن يُحكموا قبضتهم على الخلافة، و بتعبيرٍ آخر فإنهم فكروا بذلك قبل أن تغيب شمس ذلك اليوم و هذه نقطة مهمة في فهم عمق هذه المؤامرة الكبيرة.

2- أدلة الخصم

أشارت بضعة النبي صلى الله عليه و آله في هذه الخطبة البارعة و الحاكمة العالمة9.

ص: 132


1- سورة هود، آية 39.

بصورةٍ ضمنيّةٍ إلى دلائلهم في ذلك الغصب، حيث ادعوا أن الرسول صلى الله عليه و آله قال «نحن معاشر الأنبياء لا نورث».

بعدها قامت بالرد على تلك الحجج بأجوبةٍ منطقيةٍ و قاطعةٍ مستدلةً بشواهد من عموم القرآن و خصوصه، فتثبت و من خلال عددٍ من آيات الكتاب زيف هذا الحديث الموضوع الذي يجب ضربه بعرض الحائط!

3- فاطمة عليها السلام تقطع جميع الاعذار

لقد استخدمت هذه العالمة الكبيرة حربة الإستدلال في هجومها على خصمها بشكلٍ لم تبق له سبيلاً للفرار.

تقول عليها السلام إذ كان عذركم هو الحديث الموضوع «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»؟

فإن الرد عليه هو ما نصت به آيات القرآن التي ذكرتها لكم، و إذا كان عذركم منعنا إرثنا فاعلموا أن جميع الأبناء يرثون آباءهم و أمهاتهم في الإسلام، باستثناء من لم يكن على دين و مذهب أبيه، بمعنى أن الأبناء الكفرة (1) لا يرثون من أبٍ و أمٍّ مسلمين، فهل تعتقدون باختلاف ديني و مذهبي عن دين و مذه بوالدي؟!!

و إذا كانت رواسب الجاهلية و أحكامها التي تنص على عدم توريث البنات قد علقت في أذهانكم، فإن هذه الخرافات قد تعطلت و لا سبيل للعودة إلى ليالي الظلمة بعد بزوغ الفجر.م.

ص: 133


1- الكافر، كلُّ مَن دانَ بغير الإسلام.

4 - هل أنتم أعلم بالقرآن أم أهل بيت الوحي عليه السلام ؟

تغلق فاطمة الزهراء عليها السلام هذا الطريق عليهم أيضاً حيث يقولون نحن نفهم من القرآن كذا و كذا، فتخاطبهم بالقول: أي مكانٍ من القرآن؟ و بأي تفسير؟ و من هو أجدر و أليق لهذا الأمر من ابن عمي على عليه السلام الذي تربّى في أحضان الوحي، و هو من كُتّابه، كما أنه سمع القرآن و تفسيره من شفتي الرسول صلى الله عليه و آله ؟

الحقية هي أن القرآن قد نزل في بيتنا و «أهل البيت أدرى بما في البيت».

خلاصة القول تشير إلى قضبة وراثة سليمان لأبيه داود و إرث يحيى عليه السلام من أبيه زكريا عليه السلام الذين كانوا جميعاً من الأنبياء الكبار، و تقول عليها السلام على خلاف هذه الرواية الموضوعة -يصرح القران بأن كلاًّ من الأبناء قد ورث أباه، و نعلم جيداً أن كل روايةٍ تخالف القرآن يسقط اعتبارها.

و تستدل أيضاً بعموم القرآن، حيث تنص الآية الشريفة « يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلْذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» (1) و كذلك « أُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ »، (2) فتستفهم قائلةً: هل يمكن لخبر الواحد المخالف لعموم القرآن و خصوصه أن يكون ذا قيمةٍ و أهميةٍ ولو بمقدار سم الخياط في محكمة العدل الإسلامي؟

بعدها تعدد جميع الطرق التي تمنع تحجب الإرث و من ثم تقوم بتفنيدها.5.

ص: 134


1- سورة النساء، آية 11.
2- سورة الأنفال، آية 75.

5 - التريث و التربص

لكي لا يتصور الحاضرون أن تمسكها بفدكٍ نابعٌ من كونه متصفاً بصفةٍ ماديةٍ دنيويةٍ، لا بصفةٍ إلهية، فقد أضافت هذه السيدة المجاهدة قائلة:«الآن و بعد أن آل الحل إلى ما آل فخذوها طرّةً، و افعلوا ما بدا لكم، لكن اعلموا أنكم ستقفون في محكمةٍ عظيمةٍ تختلف عن سائر المحاكم الدنيوية، فاللّه «سبحانه و تعالى» هو الحاكم فيها، و الرسول صلى الله عليه و آله هو المدعي عليكم في تلك المحكمة، و موعدها يوم القيامة«يوم البروز» يوم تتضح كل خافية!».

فإن أعددتم جواباً لذلك اليوم فتوكلوا على اللّه، و إلا فاستعدوا للجزاء الإلهي.

حينها ستندمون حمتاً على ما فعلتم ولكن سوف لن ينفعكم هذا الندم أبداً لأن ملف الأعمال قد أغلق، و لا سبيل للرجوع إلى الماضي.

ص: 135

المحور السابع

طلب نصرة الأنصار

النص:

ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت:

يا معشر الفتية(النقيبة) و أعضاد الملة و حضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي و السنة عن ظلامتي.

أما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله أبي يقول: «المرء يحفظ في ولده».

سرعان ما أحدثتم و عجلان ذا إهالة، و لكم طاقةٌ بما أحاول و قوةٌ على ما أطلب و أزاول.

أتقولون مات محمّد صلى الله عليه و آله فخطبٌ جليلٌ إستوسع و هنه و استنهر فتقه، و انفق رتقه.

و أظلمت الأرض لغيبته، و كسفت النجوم لمصيبته، و أكدت الآمال، و خشعت الجبال، و أضيع الحريم، و أزيلت الحرمة عند مماته.

فتلك و اللّه النازلة الكبرى، و المصيبة العظمى، لا مثلها نازلةٌ، و لا بائقةٌ عاجلةٌ، أعلن بها كتاب اللّه جلَّ ثناؤه في أفنيتكم و في ممساكم و مصبحكم هتافاً و صراخاً و تلاوةً و ألحاناً، و لقبله ما حل بأنبياء اللّه و

ص: 136

رسله حكمٌ فصلٌ، و قضاءٌ حتمٌ.

«وَمَا مُحمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاًوَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ» (1).

إيهاً بني قيلة! أأُهضم تراث أبي و أنتم بمرأى مني و مسمعٍ و منتدىً و مجمع؟ تلبسكم الدعوة و تشملكم الخبرة و أنتم ذو العدد و العدة و الأداة و القوة، و عذركم السلاح و الجنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، و تأتيكم الصرخة فلا تغيثون(تعينون)، و أنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير و الصلاح، و النخبة التي انتخبت و الخيرة التي اختيرت.

قاتلتم العرب، و تحملتم الكد و التعب، و ناطحتم الأمم و كافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام و در حلب الأيام، و خضعت نعرة الشرك، و سكنت فورة الأفك، و خمدت نيران الكفر، و هدأت دعوة الهرج، و استوثق( و استوسق) نظام الدين!

فأنى حرتم بعد البيان؟ و أسررتم بعد الإعلان؟ و نكصتم بعد الإقدام؟ و أشركتم بعد الإيمان؟

«أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ ف َاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ» (2).

ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، و أبعدتم من هو أحق بالبسط و3.

ص: 137


1- سورة آل عمران، آية 144.
2- سورة التوبة، آية 13.

القبض، قد خلوتم بالدعة و نجوتم من الضيق بالسعة، فمججتم ما و عيتم، و دسعتم الذي تسوَّغتم.

ف «إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» (1).

ألا و قد قلت ما قلت على معرفةٍ مني بالخذلة التي خامر تكم و الغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس، و نفثة الغيض( الغيظ) و خور القناة و بثة الصدر و تقدمة الحجة.

فدو نكموها فاحتقبوها دبرة الظهر نقيبة(نقبة) الخف، باقية العار، موسومةٌ بغضب اللّه و شنار الأبد، موصولة بنار اللّه الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فبعين اللّه ما تفعلون.

«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» (2)

و أنا ابنة نذيرٍ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ، فاعملوا«إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» (3)

التفسير:

1 - دور الأنصار الفاعل في تحقيق أهداف الإسلام

تشيد سيدة الإسلام عليها السلام في هذا القسم من حديثها بطائفة الأنصار، موصفةً إياهم بالمجموعة المختارة و ساعد الإسلام القوي و حامي الرسول صلى الله عليه و آله المخلص، كما أظهرت لهم الشكر و الثناء بسبب ما بذلوه في خدمة الرسول صلى الله عليه و آله منذ دخوله المدينة و ما تحمَّلوه من عناءٍ و مصاعب2.

ص: 138


1- سورة ابراهيم، آية 8.
2- سورة الشعراء، آية 227.
3- سورة هُود، آية 121-122.

قبل ذلك في سبيل الإسلام.

نعم، كان للأنصار دورٌ مؤثرٌ في تقدم الإسلام في الحرب و السلم و في جميع مراحله، و بالرغم من ذلك فقد كانوا أقل توقعاً و طمعاً من المهاجرين، و ربما طوى تاريخ الإسلام مسيراً أفضل فيما لو صُيِّرت لهم الأمور. مما لا شك و لا ريب أن في المهاجرين أشخاصاً مخلصين لم يتوانوا أبداً في إيثارهم و تضحياتهم، لكن تغلغل المتلاعبين بالسياسة في أو ساطهم قد غر قلب الوضع كلياً

2 - هجوم فاطمة الزهراء عليها السلام على الأنصار

لكن سخط سيدة الإسلام عليها السلام عليهم هو لماذا التزمت هذه السواعد القوية و أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله القدماء الصمت في مقابل الظلم الذي حل بآل بيته، فقد أقروا بسكوتهم صحة تلك المظالم، و لم يراعوا ذمة النبى صلى الله عليه و آله في أهل بيته، و الأهم من ذلك مؤازرتهم للغاصبين و موقفهم الشائن المساعد من تغيير محور الخلافة بعد اشتباكٍ قصيرٍ راموا فيه تحقيق مصالحهم، حيث قبضوا ثمناً لذلك السكوت، و ذلك ذنبٌ لا يغتفر!

3 - موت النبي صلى الله عليه و آله لا يعني موت الاسلام

بين القرآن المجيد من ناحيةٍ و الرسول الكريم صلى الله عليه و آله من ناحيةٍ أخرى حقيقةً مهمةً ألا و هي أن الاسلام لا يعتمد على شخصٍ معينٍ، فهو دين أزلي مستمرٌّ إلى يوم القيامة و لا ينتهي بوفاة النبي الكريم صلى الله عليه و آله ، لأنه كان ثورة قائمة على أساس ديني، دينٌ إلهيٌّ سماوي، الدين الذي يؤمّن

ص: 139

احتياجات الناس على مر العصور، فلابد لهذا الدين أن يبقى و يدوم.

ولكن رغم كل ذلك، فإن قسماً من الناس ممن ينقصه بُعد النظر و تهمّه المظاهر، يتصور أن الضربة الموجعة و المصيبة المؤلمة التي ألمَّت بالعالم الإسلامي بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و الفراغ الذي نتج عن فقد المحيط الإسلامي لهذا القائد العظيم قد أودى بحياة الإسلام، و انطوت أيامه و أحداثه! مما حدى بهم ذلك إلى غلق شفاههم في مقابل تلك النعرات الجاهلية.

تصرخ فاطمة عليها السلام مذكرةً إياهم بآيات القرآن التي تتحدث عن أزلية و بقاء الإسلام، تُنبّه الغافلين و توقظهم من غفلتهم، و تعرّف المسلمين مسؤولياتهم الثقيلة في تلك المرحلة الحساسة.

4 - الصمت في مقابل تعطيل الأحكام الإسلامية؟

توبّخُ في مقطعٍ آخر من حديثها عليها السلام الأنصار بشدّة، بأن سكوتكم على أحداث «فدك»، الاحداث التي تُعد حلقةً من سلسلة انحرافاتٍ متواصلة، و شرارةً من شعلةٍ متوهّجة، و قطرة من تيارٍ جارفٍ، سيؤدي ذلك في النهاية إلى إحياء الطيف المناهفى للإسلام!

يُظهر الناس حيرتهم متسائلين: إذا كان صحيحاً ما يقال من أن قانون الإسلام هو الحق، فلِم لا يسري حكمه على أقرب أقرباء النبي صلى الله عليه و آله ؟ فعند ما يسحقوا مثل هذا الحكم الصريح و أنتم تقرّون ذلك بسكوتكم، صار من السهل عليهم أن يسحقوا سائر الأحكام الإسلامية!

يجب أن تنظروا لهذه المسألة على أنها «عمليةٌ مدبّرة» لا بعنوان أنها

ص: 140

«واقعة عرضية»، و تصوروا ما هي الأحداث الأخرى التي خُبأت خلف هذه الحادثة؟ و ما ثورتي و صرختي إلا لهذا السبب!

لا تتصوّروا أن «حمايتكم للمظلومين من أمثالي» توجد الفرقة بين صفوف الأمة الإسلامية، بل على العكس، فإن سكوتكم يثير الغرابة والدهشة، فلو ادّعيتم الضعف و العجز فقد كذبتم، فقيكم العدد و العدة منذ البداية، و هي الآن أكثر، إضافةً إلى ذلك فلما ذا تلقون بآيات القرآن الصريحة التي تنص على « أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ ف َاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ» (1) خلف ظهوركم؟ و تخافونهم بدل أن تخافوا اللّه؟

5 - الخلود إلى الدعة

بعدها تغوص هذه المعلمة القديرة في أعماقهم لتستخرج سبب سكوتهم الأصلي، فتشير إلى أن المسألة هي أن استولى عليكم حب الدعة و طلب الراحة، و استسلمت أجسادكم للإستراحة، فرغم أنكم شاهدتم بأعينكم تنحية و تبعيد من هو أحق و أليق بالخلافة من غيره عنها إلا أنكم التزمتم جانب الصمت؟

نعم، تستمر عجلة الثورة إلى الوقت الذي يحتفظ الأشخاص بالروح الثورية و لم يخضعوا لميولهم الدنيوية، و إلا ركعوا أمام المصاعب و المشاكل، غير مبالين بما يمر بهم من حوادث مرّة، و بالتالي بخبت نور الثورة!3.

ص: 141


1- سورة التوبة، آية 13.

6 - النكوص عن النصرة

تمتلك هذه السيدة الشجاعة بصيرةً نافذةً في أدق الأمور، فهي تميط اللثام عن حقائق هامة، فتخاطب طائفة الأنصار في هذا المقطع مشيرة إلى هذا المعنى: غايتي هي إتمام الحجة عليكم لا غير، فليس لي فيكم أملاً يُرتجى، فبعد أن التزمتم الصمت في مسألة «الخلافة» كان من الطبيعي أن ترفعوا نفس الشعار في مسألة «فدك»، لكن التاريخ الإسلامي سيسجل حديثي لهذا اليوم، و ستحكم الأجيال القادمة فيما بيننا، هذا بالإضافة إلى أنني أردت أن أزيل عن قلبي عُقد الهم، و ازيح غيض صدرى حتى يعلم الجميع ما عانيت من الالم!

7 - البشارة بالعذاب

تشير بطلة الإسلام في هذا المقطع إلى نتيجة أفعالهم، فتقول منبهةً إياهم: أتظنون أنّ ثمن هذا لسكوت، و طلب الراحة ذاك، و هذا الموقف المتفرّج، و هذه اللامبالاة سيكون رخيصاً بل ستقطفون ثمارها المُرة في هذه الدنيا على أيد حكوماتٍ جائرة -مثل بني أمية و بني العباس- و التي سوف لن ترحم أعقابكم و لن تتورع عن هتك القرآن و الاسلام.

8 - امتداد إنذار النبي صلى الله عليه و آله

تقول سيدة النساء فاطمة عليها السلام نفس ما كان يقوله الأنبياء للمجرمين، حيث تنذرهم:

ص: 142

« إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ». (1)

أنتم تنتظرون أن يقع بآل بيت النبي صلى الله عليه و آله ظلماً أكبر، و نحن ننتظر فيكم عقاب اللّه المؤلم و المهلك!2.

ص: 143


1- سورة هود، آية 121-122.

ص: 144

الخطبة الثانية لسيدة الإسلام فاطمة الزهراء عليها السلام

اشارة

ص: 145

ص: 146

الخطبة المؤلمة في نساء المدينة

ألقت سيدة النساء عليها السلام هذه الخطبة و هي على فراش المرض، ذلك المرض الذي لم تشف منه أبداً، و منه عرجت روحها الطاهرة.

كانت خطبتها الأولى في مسجد الرسول صلى الله عليه و آله و هي في حالةٍ صحية جيدة (1)، و بحضور جمعٍ من رجال المهاجرين و الأنصار، و كانت هذه الخطبة في مقابل نساء المهاجرين و الأنصار في داخل بيتها و على فراش المرض.

رغم أن المخاطب قد اختلف، و الزمان و المكان قد تغيّرا، و الحال قد تردّى، إلا أن لحن الخطبتين ينم و بوضوح عن روحيةٍ عاليةٍ مملوءةٍ بالعلم و المعرفة، مفمعةٍ بالإيمان وحب اللّه، يفيض من جنبيها ألمٌ و حزن، و قد تميزت كلا الخطبتين بلحنٍ بليغٍ و ساحقٍ و أخّاذٍ و قاطعٍ و شجاع، لكن لحن الخطبة الثانية التي هي موضوع بحثنا حالياً كانت أشد تنكيلاً بالظالمين و أكثر حرقةً و ألماً و غماً.

لقد كانت هذه الخطبة التي صدرت من قلب بنت الرسول صلى الله عليه و آله المتألم بمثابة رسالة الهموم و الاحزان.

ص: 147


1- كما ورد شرحه في الخطبة الأولى، فإن ستاراً قد أُسدل ليحجب النساء، ثم أنها كانت تتوسط جمع النساء اللاتي رافقنها.

الهم الذي نغض روحها و نخر عظامها، و أشعل نيران الحرقة في كيانها، و لذلك نرى أن خطبتها اتخذت طابعاً ملتهباً دموياً لأنها نبعت من قلبٍ محترقٍ فاض بدم الأسى و الحسرة.

من عجائب هذه الخطبة هي أن هذه السيدة الجليلة عليه السلام قد لاقت الكثير من الظلم العنيف في الفترة الواقعة ما بين وفاة أبيها صلى الله عليه و آله و استشهادها عليه السلام ، ذلك الظلم الذي كان سبب مرضها العصيب، و رغم أن سؤال نساء المدينة عند عيادتها كان يدور حول حالتها الصحية، و عادةً يشكو المريض بعضاً من آلامه إن لم يكن حديثه كله مختصاً بحالته الصحة، رغم كان ذلك فإنها لم تورد في حديثها أي كلمةٍ عن حالها و مرضها، بل كان حديثها منصباً على مسألة غصب الخلافة و ظلامة علىٍّ عليه السلام ، و الأخطار التي ستمر بالأمة الإسلامية نتيجة هذا الإنحراف.

عجباً لها، فلم تذكر في حديثها شيئاً عن مرضها، فكل ما قالته كان عن ألم زوجها علي عليه السلام و عن مشاكل العالم الإسلامي.

نعم...لقد كانت روح الزهراء عليها السلام أرفع من أن تتكلم عن نفسها و آلامها - رغم أنها كانت كبيرة -بل و أجلُّ من أن يوصف علو شأنها، فتكلمت فقط عن إمامها وزوجها المحبوب علي عليه السلام و آلامه.

لم تكن قلقة عى نفسها، بل كانت قلقةً على الأمة الإسلامية و مصيرها المشؤوم و المؤلم.

يفكر المرء عادةً في آخر لحظات حياته بنفسه و مشاكله و آلامه، لكنّ المدهش أن فاطمة عليها السلام لم تورد على لسانها في هذه الخطبة الطويلة شيئاً من ذلك، و لا حتى بجملةٍ واحدة.

و هذا أكبر دليل على عظمة فاطمة عليها السلام و مقام تضحيتها و إيثارها.

ص: 148

و في هذا عبرة لكل الأحرار الهادفين و لكل المضحين و الفدائيين في تاريخ البشرية.

بلى فقد كانت دائماً -و إلى آخر لحظةٍ من حياتها الشريفة المملوءة بالآلام و الهموم -شمعةً تحترق لتنير لمن حولها و تنجّي الضالين منهم و تدافع عن الحق و العدالة.

تحدّثت في خطبة فدك (الخطبة الأولى لسيدة النساء) عن كلٍّ من التوحيد، النشوء، المعاد، فلسفة الأحكام، و الأحداث التي رافقت بعثة النبي صلى الله عليه و آله ، و بركات وجوده، و مسألة غصب الخلافة، و مصير المسلمين، و إن هي تحدثت عن «فدك» فذلك لدورها المؤثر في كونها دعامة ماليةً لمسألة الخلافة و كذا سائر مسائل الإسلام السياسية، و هذا ما دعى الأعداء إلى تضييق الخناق على آل بيت النبي صلى الله عليه و آله و تحطيم قدراتهم بانتزاع «فدك» من أيديهم، فأرادت إسترجاعها منهم.

لكنَّ سيدة النساء عليها السلام ركزت في خطبتها الثانية «خطبة نساء المهاجرين و الأنصار» حديثها على محور الخلافة و الإمامة فقط، و بالرغم من معاناتها للكثير من الظلم و الجور و رغم أن الفرصة كانت سانحةً للمطالبة بحقها المغصوب، إلا أنها لم تطالب بأي شيءٍ بل و لم تنطق بأية شكوى، فكل ما قالته كان عن عليٍّ عليه السلام ، و عن الخلافة و عن مصالح المسلمين.

يُعدُّ «التسليم المطلق» من المقامات العالية التي يتحلى بها أولياء اللّه.

و هذا يعني أن يسلك إلى اللّه طريق الحق و العدل الذي ينسى المرء فيه نفسه، فلا يرى غير اللّه.

لا يأتمر إلا بأمره.

ص: 149

لايرجو إلا رضاه.

لايفكر إلا بما يريده.

فالمرحلة الأولى هي الإسلام، ثم الإيمان و بعد ذلك الرضا، و من ثم يأتي دور التسليم المطلق، و لهذا المعنى يشير اللّه سبحانه و تعالى في محكم كتابه الحكيم:

« قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (1)

و يقول أيضاً:

« فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (2).

ثم يقول:

« إنَّما نُطْعِمُكُم لِوَجْهِ اللّه لا نُرِيدُ مِنْكُم جَزاءً وَ لا شُكُوراً» (3)

إن مقام الإيمان و الرضا و التسليم الذي تتحلى به هذه السيدة جعلها تتناسى و تتجاهل آلامها و همومها المرهقة و تتحدث عن رضا اللّه، و عن رسوله صلى الله عليه و آله و عن وليّه، و عن مستقبل الإسلام و المسلمين.

و يسرنا بعد هذه المقدمة القصيرة عن الخطبة و فحواها، أن نتّجه صوب نصها، فنجعلها في خمسة أقسام، لكنه ينبغي أن نتعرف أولاً على وثائق و أسناد هذه الخطبة.9.

ص: 150


1- سورة الحجرات، آية 14.
2- سورة النساء، آية 65.
3- سورة الدهر، آية 9.

مناقشة أسناد خطبة سيدة النساء عليها السلام

وردت هذه الخطبة في مختلف مصادر العامة و الخاصة، سنذكر منها المصادر السبع التالية:

1- كتاب «الاحتجاج» للمرحوم «الشيخ الطبرسي» صلى الله عليه و آله . (1)

2- كتاب «كشف الغمة» المشهور للكتاب «علي بن عبسى الأربلي» نقلاً عن كتاب «الصحيفة» (2)

3- «بحار الانوار» للمرحوم «العلامه المجلسي» ينقل هذه الخطبة و بأسنادٍ متعددة (3)

4- كتاب «معاني الاخبار» للمرحوم «الشيخ الصّدوق» يورد هذه الخطبة مع ذكر سندها في آخرها نقلاً عن عبداللّه بن حسن عن أمه فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام (4).

5- و ذُكرت في نفس المصدر بسندها عن علي بن أبي طالب عليه السلام (5)

6- كتاب «الأمالي» للمرحوم «الشيخ الطّوسي».

7- كتاب «شرح نهج البلاغة» للعالم السنّي المعروف «ابن أبي الحديد» (6)

ص: 151


1- الاحتجاج.
2- كشف الغمة، ج2، ص118.
3- بحار الانوار، ج43،ص158.
4- عن أحمد بن الحسن القطّان عن عبدالرحمن محمد الحسيني عن أبي الطيّب محمد بن الحسين ابن حميد عن أبي عبداللّه محمّد بن زكريا عن محمّد بن الرحمن المهلّبي عن عبداللّه بن محمّد ابن سليمان عن أبيه عن عبداللّه بن الحسن.
5- عي بن محمّد المعروف بابن المغيرة القزوينى عن جعفر بن محمّد ابن الحسن عن محمّد بن علي الهاشمي عن عيسى بن عبداللّه ابن محمّد ابن عمر بن علي بن أبي طالب عن جدّه علي بن أبي طالب عليه السلام .
6- أحمد بن عبدالعزيز الجوهري عن محمّد بن زكريا عن محمّد بن عبدالرحمن عن عبداللّه بن محمّد بن سليمان عن أبيه عن عبداللّه بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام .

على أيّ حالٍ و كما ذكرنا سابقاً، فقد وردت هذه الخطبة بأسنادٍ متعددة مع ملاحظة اختلافٍ في نصوسها، و قد اخترنا أقربها للصحة و أكملها و هو المنقول في «الاحتجاج» عن «سويد بن غفلة» (نقل ذلك أيضاً العلاّمة الكبير المجلسى في المجلّد 43 من بحارالانوار ص161) (1)

و عليه فإن الخطبة المذكورة هي من الخطب التي وردت من مصادر متعددة و بأسنادٍ معتبرة، لذا فهي تتمتع بأهميةٍ خاصة.

ولكي نتعرّف على الحقائق التي تضمنتها هذه الخطبة، نتجه صوب متن الخطبة و تفسيرها.ع.

ص: 152


1- «سويد بن غفلة» أو «عفلة» على حد قول «العلاّمة الحلّي» في «الخلاصة» و هو من أولياء أمير المؤمنين علي عليه السلام ، و اعتبره «العلاّمة المير داماد» (نقلاً عن المرحوم اللمامقاني) من أولياء و خواص أمير المؤمنين عليه السلام ، كما قال «الذّبي» في «المختصر» عنه بأنه رجل ثقة، عابد، زاهد، و صاحب مقامٍ رفيع.

القسم الأول

لما إعتلت فاطمة عليها السلام علة الموت، اجتمع إليها نساء المهاجرين و الأنصار، يعدنها، فقلن لها:

كيف أصبحت من علَّتك يا ابنة رسول اللّه؟!

فحمدت اللّه و صَلّت على أبيها عليه السلام ثم قالت:

أصحبت واللّه عائفةً لدنيا كنَّ، قاليةً لرجالكنَّ. لَفظتهم بعد أن عجمتهم و شنأتهم بعد أن سيرتهم.

فقِبحاً لفلول الحدِّ، و اللعب بعد الجد، وقرع الصفاة، و صدع القناة، و خطل الآراء، و زلل الأهواء، و «لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ» (1)

لا جرم لقد قلَّدتهم ربقتها و حملتهم أوقتها و شننت عليهم عارها.

فجدعاً و عقراً و بُعداً للقوم الظالمين.

نظرة عامة:

يعترض الإنسان في طول حياته أياماً و ساعات حسّاسةً تكون بمثابة امتحانٍ له، و بالطبع فإن الامتحان الإلهي يُربّي في المرء روحه و يزيد

ص: 153


1- سورة المائدة، آية80.

فيه المقاومة و الشهامة كما يتم من خلاله كشف قابلياته و تفتح استعدادته، و أيضاً معرفة المرء حقيقة باطنه.

علماً أن المرء قد يشتبه أحياناً في معرفة نفسه، لا كما هو الحال في الامتحان البشري الذي يُقام لكشف عددٍ من المجاهيل و التعرف على بواطن الأفراد من خلال التجربة و التحليل.

و هذه المسألة قد وضحت في هذا القسم من خطبة سيدة الإسلام عليها السلام .

تظهر الزهراء عليها السلام نفرتها و انزعاجها الشديدين ممّن ينتهز الفرصة ليسترزق منها مؤنة يومه، أي من المهاجرين و الأنصار لأنهم سكتوا - ليس سكوتهم فحسب -بل على موافقتهم للإنحرافات التي حدثت بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله ، فأنذرتهم بأن يحذروا هذا الإمتحان الإلهي العظيم.

تذكّرهم بجهادهم الرائع في عصر الرسول صلى الله عليه و آله ، و من ثم تشبههم بالسيوف المثلومة التي فقدت قدرتها في صدِّ الأعداء و دحرهم، و بالرماح التي تهشمت فأصبحت غير مفيدة لأي شيء.

توبّخ ابنة النبي الكريم صلى الله عليه و آله بشدة أولئك الذين سخروا من مبادىء الإسلام و جعلوها عرضةً لأهواءهم، و من ثم وجهت لومها و تحقيرها إلى من وهن عزمهم، و فقدوا قدراتهم في اتخاذ قرارٍ ضد الإنحرافات التي حدثت.

في نهاية هذا القسم تقوم بإنذارهم بأن مسؤولية غصب الخلافة ستثقل كاهلهم إلى الأبد، و ستبقى جباههم موسومة بوصمة العار التي جاءت نتيجةً لسكوتهم، كما أن التأريخ الإسلامي سيسجّل هذه الحادثة المؤلمة بمنتهى الأسف.

نعم، فالكثير منهم لم يخرجوا من الإمتحان منتصرين و لم تكن

ص: 154

وجوههم مستبشرة، و كم كان حسناً لو تبيّنت «حقائق الأمور» للعيان حتى تسودَّ وجوه «الغشاشين»، و كم كان لطيفاً لو أُقيمت مناقل النار ليفضح «مدلوك الذهب و سوار الفضة» باطنه و يتبين للناس حقيقته ليُميزوه عن الذهب الخالص.

ص: 155

القسم الثاني

اشارة

و يحهم أنّى زعزعوها عن رواسي الرسالة و قواعد النبوة و الدلالة، و مهبط الروح الأمين و الطبِّين بأمور الدنيا و الدين

«أَلاَّ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (1)

و ما الذي نقموا من أبي الحسن عليه السلام ؟

نقموا منه و اللّه نكير سيفه، و قلة مبالاته بحتفه، و شدة و طأته، و نكال وقعته، و تنمُّره في ذات اللّه.

و تاللّه لو مالوا عن المحجة اللائحة، و زالوا عن قبول الحجة الواضحة، لَردَّهم إليها، و حملهم عليها، و لساربهم سيراً سجحاً، لا يكلم خشاشه، و لا يكل سائره و لا يمل راكبه.

و لأوردهمٍ منهلاً نميراً صافياً رويّاً تطفح ضفَّتاه و لايترنق جانباه و لأصدرهم بطاناً و نصح لهم سراً و إعلاناً.

و لم يكن يتحلى من الدنيا بطائلٍ، و لايحظى منها بنائلٍ، غير ري الناهل و شبعة الكافل و لبان لهم الزاهد من الراغب، و الصادق من الكاذب.

«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّماءِ

ص: 156


1- سورة الزمر، آية15.

وَالْأَرْضِ وَلكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » (1)

« وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ» (2)

التفسير

المعايير و القيم الإلهية

تحكم المجتمع الإلهي السليم معايير و قيم إلهيّةً في جميع مجالات الحياة، سيما في أشغال المناصب، فلا سبيل للأجنحة و منتهزي الفرص، و الدسائس السياسية و العصبية القبلية و القومية، و كذا ما يعقده تجار السوق السياسي من اتفاقاتٍ خلف الكواليس في ارتقاء المناصب و التصدّي لمسؤوليتها.

تخاطب سيدة النساء عليها السلام فى هذا القسم نساء المدينة مستفهمة:

لماذا؟ و بأيّ مسوّغ غيّر رجالكنَّ محور الخلافة عن المسير الذي طالما بيّنه الرسول صلى الله عليه و آله في أحاديثه الصريحة الواضحة؟ و ما هو نقص أبو الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ و هل يفتقد شيئاً من الكمالات اللازمة، روحيةً كانت أم جسدية؟

بلى، إن عيبه هو سيفه الغالب الذي خطف النوم من عيون أعدائه، قدرته اللامتناهية في ميادين القتال، إستخفافه بالموت في سوح الوغى، جعلت منه حصناً منيعاً عجز أعداء الإسلام في اختراقه.

فالعذر التافه الذي أُوخذ عليه هو أن توجهه للّه فقط، فرضاه من رضا اللّه، كما أن غضبه و سخطه لوجه اللّه فقط.

ص: 157


1- سورة الاعراف، آية96.
2- سورة الزمر،آية51.

الحقيقة أن كلام سيدة النساء عليها السلام كان بمثابة تذكيرٌ لهم بأن قيم و مفاهيم المحيط الإسلامي قد تغيرت و تبدلت بعد وفاة النبي الكريم صلى الله عليه و آله ، و بسبب انحراف المزاج السليم لأرواح هذه المجموعة من المهاجرين و الأنصار، صار طعم القيم الإسلامية الحقيقة في أعماقهم مرّاً كالحنظل بعد أن كان لذيذاً كالعسل، كما اعتبرت الشروط التي تشكل أهم مواصفات القائد الرباني القاطع الصارم عيباً و نقصاً له.

بعدها تستمر في حديثها منبّهةً إياهم أن تنحية عليٍّ عليه السلام عن الخلافة إنما هو كفران لنعمةٍ كبيرةٍ و موهبةٍ إلهيةٍ عظيمة، علماً أنه أعلمُ الناس بآيات القرآن و بحلال اللّه و حرامه.

فهو أعرف من غيره بالحق و الباطل و القادر على الفصل بينهما، و لو آلت إليه زمام الأمور لم يكن ليسمح لورثه الشرك (آل أبي سفيان و هم أعدى أعداء الإسلام و أشد المخالفين للقرآن الكريم) أن يطمعوا في الحكومة الإسلامية بهذه السرعة، و يحولوها إلى جهازٍ حكوميٍّ مستبد، و هو أسوأ و أظلم من حكومة كسرى و قيصر و الفراعنة.

فإذا كانت أمورهم مودعةً في يد عليٍّ عليه السلام المتقدرة، لأجلسهم مركب الحق المنيع، و لهداهم بأمانٍ و هدوءٍ و مداراةٍ إلى نبع ماء الحياة، و من ثم لرواهم من ذلك النبع المتدفق ماءً عذباً زلالاً يمنح شاربيه حياةً أزليّة.

إن من شروط القائد الرباني هو حب الخير و العطف على الأمة، فهل وجدوا أحداً أكثر عطفاً و شفقةً من عليٍّ عليه السلام ؟ الشخص الذي كرّس جهده في إشباع الجياع و إرواء العطاشى، يتألم لآلامهم و همومهم، كما أن غمهم يعصر قلبه.

الشرط الآخر في مسألة الخلافة و الإمامة هو الزهد و عدم الاغترار بالدنيا و جاهها و مالها، فإن تعلّق قلب قائد الأمة بالدنيا صار من السهل

ص: 158

النفوذ إليه من هذا الطريق، و من ثم تضليله و حرفه عن جادّة الحق.

فهل يوجد في كل الأمة الإسلامية أزهد و بالدنيا من عليٍّ عليه السلام ؟ الشخص الذي لم يكتنز ذهباً أبداً، و لم يُشيد لنفسه قصراً، ثيابه بسيطة كثياب غلامه.

و غذاؤه بمستوى غذاء أفقر الناس.

إذا كانت معايير الخلافة هي القدرة الروحية و البدنية، الإخلاص في النية و الزهد و العصمة و التقوى، و العطف على الأمة، فمن هو أفضل من أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي يتحلى بهذه المواصفات؟

و إذا كان النبي صلى الله عليه و آله قد نصّب علياً عليه السلام خليفةً له مشيراً إلى هذا المعنى مرّات و مرّات عبر عباراتٍ مختلفة الصّيغ، معتبراً إياه أليق من الجميع لهذا المقام فهذا لايقتصر عليه نابل، اللّه سبحانه و تعالى اعتبره أليق الناس بهذا المنصب.

تقوم سيدة النساء عليها السلام في نهاية هذا القسم بإنذارهم و تحذيرهم بأن لايظّنوا أن ثمن هذا الكسل و التقصير، و تقاعسهم في حماية الشخص الأنسب للخلافة سيكون رخيصاً، بل عليهم أن ينتظروا ما سيُخلّفه ذلك التقصير و ذلك التقاعيس و يتذوّقوا نتيجته المرّة، عليهم أن لايتصوّروا أنهم يستطيعون النجاة و الفرار من قبضة العذاب الإلهي في هذه الدنيا، كلا، أبداً.

بلى، سيحصدون في نهاية الأمر ما زرعوا، و سيبتلون بحكوماتٍ عنيدةٍ و جبّاره و فاسدةٍ و مفسدةٍ و ظالمةٍ تفتقد الرحمة كحكومات بني أمية و بني العباس، في ذلك اليوم الذي سوف لن يجدوا فيه سبيلاً للفرار و هم يشعرون بمواجهتهم لعذاب الآخرة.

ص: 159

القسم الثالث

اشارة

ألا هلمَّ فاستمع و ما عشت أراك الدهر عجباً، و إن تعجب فعجب قولهم:

ليت شعرى؟ إلى أي سنادٍ استندوا؟ و على أي عمادٍ اعتمدوا؟ و بأية عروةٍ تسمكوا؟ و على أية ذريةٍ أقدموا و احتنكوا؟!

«لَبِئْسَ المَوْلى و لَبِئسَ العشير» (1).

«و بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً» (2).

استبدلوا و اللّه الذُّنابى بالقوادم، و العجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً.«الا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون» (3)

و يحهم!«أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (4)

التفسير

ترجيح «المرجوح» على «الراجح»

لا يستطيع أيُّ امرىءٍ أن يقبل ترجيح «المرجوح» على «الراجح» ألا مَن يُنكر «الإستقلال العقلي». أو بتعبيرٍ أوضح فأنّ أي إنسانٍ لا يتردد

ص: 160


1- سورة الحج آية13.
2- سورة الكهف،آية 50.
3- سورة البقرة، آية 12.
4- سورة يونس،آية 35.

أبداً في تقديم «شيءٍ ذو مزايا عديدة» على «شيءٍ فاقدٍ لجميعها».

فهل يا ترى سمعتم أن شخصاً عند انتخابه لمعلم ما، يقوم بترجيح الطالب على الاستاذ؟ أو عند معالجة مرضٍ ما أن يفضِّل طبيباً عادياً قليل الخبرة على طبيبٍ كبير عظيم الخبرة و التجربة؟ (دون أن تُؤخذ خواص أخرى بنظر الاعتبار) عند انتخاب قائدٍ معيّن، إذا تجاهلنا ذوي التجربة و التدبير و الإدارة، و اتجهنا صوب الجدد ذوي التجربة القليلة، عندها سيشكّ الجميع بصحة عقولنا و سلامتها.

حتى أولئك الذين لا يعتقدون بقبح هذه المسألة (ترجيع «المرجوح» على «الراجح»)، لا يتجاهلون هذا المبدأ في أداء أعمالهم أبداً، بل يعملون دائماً على ترجيح الأحسن. مثلاً عند شراءهم لفاكهةٍ معينة، فهل يتركون الجيد منها و يبتاعون الردىء و غير الناضج منها؟ او عند اختيار صديقٍ ما، فهل يفضّلون الأشخاص الأشرار ذوي الصيت السيّء على النزيهين و الأخيار؟ كما أن من المستحيل أن يُفضل الإنسان الماء الآسن على الماء الزّلال، و إن وُجد شخص، يفعل ذلك فلا ترديد في كونه ناقص العقل.

نعم، تعمي و تصمّ المنافع المادية أحياناً بصر و سمع الإنسان بشكل تُنسيه منافعه الحقيقية، عندها يؤدي الإنسان عملاً يدفعه إلى تقديم «المتأخّر» على «المتقدم». و قد اعتمد القرآن الكريم على هذا المعنى في تأنيبه للكفار و المشركين الّذي لوّثوا أنفسهم بهذا العلم القبيح المرفوض، حيث نقرأ:

« أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (1).

تضيف السيدة الرشيدة و ابنة النبي الكريم صلى الله عليه و آله في هذا القسم( القسم5.

ص: 161


1- سورة يونس، آية 35.

الثالث) من خطبتها الغرّاء المؤلمة مشيرةً إلى هذا المعنى:

يا معشر المهاجرين و الأنصار! لِم خذلتم من كان له السّبق في الإسلام، و أوّل من بايع الرسول صلى الله عليه و آله من الرجال، و اتّبعتم من ليس له من هذا الافتخار أي نصيب، (بل و سجد للأصنام حتى بعد بزوغ شمس الإسلام)؟

لِم أبعدتم من هو«بابٌ» لمدينة علم النبي صلى الله عليه و آله و الأقدر على التحكيم و القضاء استناداً إلى حديث الرسول صلى الله عليه و آله المشهور «أقضاكم عليٌّ»، و سرتم خلف مَن لا يملك شيئاً من ذلك العلم و تلك المعرفة؟

لقد تجاوزتم بعملكم هذا القانون الصريح (بترجيح «الراجح» على «المرجوح)، و تناسيتم حكم القرآن في هذا الأمر (مضمون الآية التي ذُكرت أعلاه) (1).

تعجب سيدة الإسلام عليها السلام من هذا الأمر بشدّة، و تصف الدنيا ب« عالم العجائب» الذي يعلّم الإنسان في كل يومٍ ينقضي من عمره درساً جديداً».

تتساءل بعدها عن الدليل الذي دفع هذه المجموعة التي يبدو عليها العقل و التدبير إلى تغيير محور الخلافة، و اختيار الآخرين ليحلُّوا محل علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ و لأيٍّ من الوثائق استندوا؟ و كيف تجاهلوا ميزات عليٍّ عليه السلام الواضحة، و قدّموا المرجوح عليه؟! و تستعين في نهاية هذا القسم بالآيات التي تتحدث عن مصير هؤلاء الناس:

ى لَبِئْسَ المَوْلى و لَبِئسَ العشيرى (2).

ى و بِئْسَ لِلْظّالمينَ بدلاًى (3).0.

ص: 162


1- الأعجبُ من كل ذلك قول ابن أبي الحديد في خطبة كتابه، حيث يقول،«الحمدللّه الذي قدّم المفضول على الفاضل»!!!.
2- سورة الحج، آية 13.
3- سورة الكهف، آية 50.

القسم الرابع

اشارة

أما لعمري لقد لقحت، فنظرةٌ ريثما تُنتج، ثم احتلبوا مِلاء القعب دماً عبيطاً و ذُعافاً مبيداً «هنا لك يخسر المُبطلون» و يعرف التّالون غِبَّ ما أسَّس الأولون، ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً و اطمئنوا للفتنة جِأشاً.

و أبشروا بسيفٍ صارم، و سطوة معتدٍ غاشمٍ و هَرجٍ شامل، و استبدادٍ من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، و جمعكم حصيداً فيا حسرةً لكم و أنّى بكم و قد عميت عليكم؟ أنْلزمكموها و أنتم لها كارهون.

التفسير

الاختيار الخاطىء و ثمرته المشؤومة

يعتقد الكثير من الناس أن تناسيهم للوقائع يجعلها تنساهم هي الأخرى و لن تأخذهم بجلابيبهم.

هكذا يظنون، يمكن الحصول على ثمر جيّد من خلال زرع بذرةٍ فاسدة.

نعم لن يمضِ وقتٌ طويل حتى تتهاوى ظنونهم كما يتهاوى البناء الذي هرَّء الدود أركانه، أو كما تزول الفقاعات من على سطح الماء، أو كالطيف الذي يتلاشى باستيقاظ النائم، عندها يرى الصورة البشعة

ص: 163

المشؤومة للواقع الذي نتج عن اخيتاره الخاطىء، و سيتذوّق مرارة الأحداث التي سيفرزها عمله الطائش.

نعم هذا هو قانون الوجود الذي سيحكم البشرية كما حكمها في جميع مراحلها التاريخية بكل قدرته، و هو أن يرى المخطىء نتيجة و عاقبة عمله، و يبدّل طعم حياته الرائع في نفسه إلى حنظل، و أحلامه الجميلة إلى كابوسٍ موحش.

تركّز سيدة الإسلام عليها السلام في القسم الرابع من خطبتها على هذا المعنى، حيث تفصح عمّا سيواجهونه نتيجة عملهم المشؤوم:

سيحمل جمل الخلافة بعد انحراف مسيره سريعاً، و سيعانق الأرض منه مولودٌ عجيب الخلقة، عِوض من أن تشربوا حليبه السائغ الهنيء، ستُناوَلون كؤو ساً مليئةً بدم جديد، يملأ قداح قلوبكم! و سيُصَبُّ في فيكم السُّم المميت بدل اللبن الخالص.

و بالتدريج سيأتي دور ظلاّم التأريخ و أبناء و أحفاد« أبوسفيان» و «الحجّاج» و «الأشاعثة» و مَن هو أسوأ منهم، الذين سيُسلّطون سيوفهم على رقابكم و رقاب أبنائكم، و سيحصدون ثمار حياتكم بمنجلهم المميت.

سوف لن يكتفوا بسرقة أموالكم و سبي نسائكم، و إنّما سيُقيمون فيكم قتلاً جماعياً متكرّراً، تتلوّن عى أثره الأرض بلون دمائكم، بما في ذلك أرض مسجد النبي الكريم صلى الله عليه و آله ، نعم فسيعملون فيكم و في أبنائكم القتل في داخل المسجد الشريف ثاني الحرمين الآمنين حتى يطفح صحن المسجد بالدم، بل و سيهتكون حرمة بيت اللّه الحرام بقصفه بالحجارة بواسطة المنجنيق، و سيتلقّفوكم بسيوفهم في داخله و خارجه!

ص: 164

لقد حلّق بكم الخيال بعيداً، فظننتم أنَّ أعذاركم الواهية في تخليكم عن نصرة الحق و الدفاع عن خليفة الرسول صلى الله عليه و آله سينجيكم من الجزاء الإلي بسهولة، و ستفرّون عندها من عواقب أعمالكم السيئة، هيهات، فذلك تصوّرٌ باطل! هيهات، فذلك خيالٌ محال!

و اليوم...نعم في هذا اليوم و عند ما نتفحّص صفحات التأريخ المنصرم ندرك أكثر من أي وقت حقيقة و واقعية حديث الزهراٌ عليها السلام ذو المحتوى القيّم، فما أتعس العواقب التي حلّت بالمسلمين نتيجة انحراف محور الخلافة عن مسارها الأصلي؟ و كيف أصبحت أرواحهم و أموالهم و أعراضهم، و الأكثر من ذلك قوانين و أحكام و مقدسات الإسلام لعبةً بيد ورثة أحزاب الجاهلية؟!

لم يرحم أعوان بني أميةً الكبير و لاالصغير.

لم يراعوا حَرمَ رسول اللّه و لا احترام بيت اللّه «سبحانه و تعالى»

لم يكنّوا احتراماً للمهاجرين و كذا للأنصار.

فيوصي واحدٌ من أبناء «آل سفيان» إلى من حوله:

تلقَّفوها يا بني أمية تلقّف الكرة فوَ الّذي يحلف به أبوسفيان ما من جنَّةٍ و لانارٍ.

فماذا أكثر من ذلك!

لذا يقول معاوية بن أبي سفيان أيضاً:

ما قاتلكم لتُصلّوا ولا لتصوموا...بل قاتلتكم لأتأمَّر عليكم.

و الأسوأ من ذلك تلك القصة التي ينقلها العالم المتعزلي المعروف «ابن أبي الحديد» في شرح نهج البلاغة حيث يقول.

«و قد طعن كثيرٌ من أصحابنا في دين معاوية، و لم يقتصروا على

ص: 165

تفسيقه، و قالوا عنه إنّه كان ملحداً لا يعتقد النبوة، و نقلوا عنه في فلتات كلامه و سقطات ألفاظه ما يدل على ذلك.

و روى الزبير بن بكّار في «الموفقيّات» و هو غير متهم على معاوية، و لا منسوب إلى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حاله من مجانبة عليٍّ عليه السلام ، و الانحراف عنه: قال المطرّف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، و كان أبي يأتيه، فيتحدث معه، ثم ينصرف إليَّ فيذكر معاوية و عقله، و يعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، و رأيته مغتمّاً فانتظرته ساعةً، و ظننت أنه لأمرٍ حدث فينا، فقلت: مالي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟

فقال: يا بُني، جئت من عند أكفر الناس و أخبثهم، قلت: و ما ذاك؟ قال: قلت له و قد خلوت به: إن قد بلغت سنّاً يا أميرالمومنين، فلو أظهرت عدلاً، و بسطت خيراً فإنك قد كبرت؛ ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم فواللّه ما عندهم اليوم شيءٌ تخافه، و إنَّ ذلك مما يبقى لك ذكره و ثوابه؛ فقال: هيهات هيهات! أيُّ ذكرٍ أرجو بقاءه!

مَلك أخو تَيمٍ فعدل، (إشارة للخليفة الثاني) و فعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتي هلك ذكره؛ إلا أن يقول قائل: أبوبكر: ثم ملك أخوعدي، فاجتهد و شهّر عشر سنين؛ فما عدا أن هلك ذكره؛ الا أن يقول قائل: عمر، و إنَّ ابن أبي كبشة (إشارة إلى الرسول الكريم صلى الله عليه و آله ) ليُصاح به كل يوم خمس مرات:«أشهد أنَّ محمّداً رسول اللّه»، فأىُّ عملٍ يبقى؟ و أي ذكرٍ يدوم بعد هذا لا أباً لك! لا و اللّه إلا دفناً دفنا» (1)

و بعدها مباشرةً يقوم يزيد حفيد أبو سفيان برفع الستار و نشر نعرته المستهترة علناً حيث يقول:9.

ص: 166


1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج5،ص129.

لَعِبَت هاشمُ بالمُلْكِ فَلا خبرٌ جاءَ و لا و حيٌ نَزَلْ

و بهذا الشكل بان و تأكّد ذلك الكفر و الأجرام الذي نطق به أبوسفيان.

إن حالة السجون الأموية و التعذيب القاسي الذي سلّطه الأمويون على سجنائهم لم يسوّد صفحات تأريخ الإسلام فحسب بل و حتى تأريخ البشرية، و هذا مصداق مقولة سيدة الإسلام عليه السلام .

نعم، فقد كانت حوادث المستقبل منعكسة بصورةٍ جيدة في صفحات قلبها المشرقة، و طبقاً لما أخبرت عنه في هذه الخطبة، فسرعان ما هجم المتسللون المتجاوزون على الناس بصوارمهم الحادة مستبدّين في الحكم مستهزئين بدين و روح و مال و ناموس الناس.

لقد ألقى الهرج و المرج ظلّه المشؤوم الثقيل على المجتمع الإسلامي، و ذاق المسلمون مرارة ذلك التقصير و الوهن في حماية الحق.

و هذا جزاء أولئك الذين يتركون الحق و يتّبعون الباطل.

ص: 167

القسم الخامس

اشارة

قال سُويد بن غفلة، فأعادت النساء قولها عليها السلام على رجالهنَّ فجاء إليها قومٌ من وجوه المهاجرين و الأنصار معتذرين و قالوا:

يا سيدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نُبرم العهد، و نُحكم العقد، لما عدلنا عنه إلى غيره.

فقالت: إليكم عني فلا عذر بعد تعذيركم، و لا أمر بعد تقصيركم.

التفسير

الأجوبة المريرة و المؤلمة

الأقبح من كل شيءٍ جواب طائفة من المهاجرين و الأنصار بعد سماعهم لرسالتها، حيث كان جوابهم مؤلماً جارحاً له وقعُ الخنجر على قلبها الطاهر.

كان للخطبة وقع مؤثر في نفوسهم، فأحسّوا بالخجل، و ربما فزعوا من الجزاء الإلهي في الدنيا و الآخرة، مما دعاهم ذلك إلى الإسراع في الإستجازة للتشرف بالحضور بين يدي بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و عرض جوابهم الذي كان محتواه:

لِمَ لم يَمدّ أبو الحسن علي ابن أبي طالب عليه السلام يده لنُبايعه قبل أن يأخذ

ص: 168

الآخرون البيعة لأنفسهم، فنبارك مقدمه، و ندافع عن حكومته؟ نعمل على إطاعته، و نستجيب لأوامره من صميم قلوبنا و أرواحنا.

و بوجوده لم نكن لنقدِّم أحداً عليه لأنه أليق من غيره بهذا الأمر، و أقرب الناس لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و دينه و فكره.

ولكن يا للأسف فقد فات الأوان! فبعد أن صافحنا أياديهم الممدودة للمبايعة، و طوَّقنا رقابنا بعهد الطاعة، و بسبب تعزيز ذاك الارتباط في هذا الأمر فإنه قد أُغلقت جميع الطرق بوجوهنا و لا سبيل للعودة!

أمّا ليتهم لم يتذرّعوا بذلك العذر في محضر سيدة الإسلام صلى الله عليه و آله الذي هو أشد قسوةً من فِعلهم، جواب قبيحٌ، و عذرٌ مفتضح كاذب، كلامٌ آلم قلبها الطاهر بشدة، و زاد من هموم روحها الجسيمة همّا آخر.

ليتهم أقرّوا بذنبهم على الأقل، و ليتهم و عدوها بالرّجوع في الفرصة المناسبة، و لم ينطق لسانهم بذلك العذر الواهي، بالإضافة إلى:

أوّلاً: أنهم سمعوا من شخص رسول اللّه صلى الله عليه و آله و لِعدّة مرات أن الوصاية و الخلافة لن تكون إلا لعليِّ بن أبي طالب عليه السلام ، و هذا الأمر يغني عن البيعة له.

ثانياً: على فرض ضرورة البيعة، ألم يأخذ الرسول صلى الله عليه و آله منهم البيعة لعليٍّ عليه السلام في غدير خم، تلك الحادثة التي لم تكن لتخفى على أحد، فهي أحداثٌ عاشوها و شاهدوها عن قرب أو سمعوا بها على الأقل.

ثالثاً: على فرض أنّهم لم يحضروا بيعة الغدير و لم يسمعوا حديث الرسول صلى الله عليه و آله في ذلك اليوم، فهل خفي على أحدٍ منهم أفضلية عليٍّ عليه السلام على الآخرين؟!

لماذا لم يأتوه بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و يمدّوا أيديهم مجددين له البيعة إن لزم الأمر؟

ص: 169

لم تكن الخلافة حقّاً شخصياً مختصّاً بأمير المومنين علي عليه السلام حتى يحتاج إلى أن يطالب بحقه، ولكن الخلافة حقٌّ عام متعلقٌ بالمجتمع الإسلامي، لا بل بالإسلام ككل، لهذا نصَّب الرسول صلى الله عليه و آله عليّاً في هذا المقام بأمرٍ من اللّه «سبحانه و تعالى».

يُعدُّ قبول علي عليه السلام للخلافة و تأييد المسلمين له من الوظائف الإلهية الحتمية، و لا معنى للاستفسارات «لِمَ و لأنَّ» و «إذا و كيف» و «كذا و هكذا».

رابعاً: لو افترضنا أنه كان على عليٍّ عليه السلام أن يأخذ البيعة لنفسه و يخلف الرسول صلى الله عليه و آله في الناس، فهل يا ترى من اللائق أن يبقى جسد الرسول صلى الله عليه و آله الطاهر على الأرض دون تكفينٍ و تدفين و الاهتمام بمسألة الخلافة و كرسيّها.

ما أحقر تلك المؤامرة، لِمَ أدبر جمعٌ منهم عن مراسم دفن الحبيب و أسرعوا في الحضور في مراسم تنصيب الخليفة؟ لماذا؟

خامساً: لو تغاضينا عن جميع ذلك، و لو أن شخصاً اختار لنفسه قائداً و من ثم عرف أنه أخطأ في اختياره، و أن طريق هذا سينتهي به إلى التهلكة، فهل عليه أن يستمر في طريقه ذاك و يسقط في تلك الهاوية لا لشيء سوى أنه بايع و وعد بالوفاء؟ أىُّ منطقٍ و قانونٍ، و أي عقلٍ يحكم بهذا؟

ملاحظة مهمة

تتبادر إلى الذهن مسألة مهمة بعد إختتام هذا الموضوع، هي أن الخطبة رغم أنها خصت بالذكر مسألة خلافة و ولاية علي عليه السلام ، إلا أنها كانت

ص: 170

درساً مفيداً لكل المسلمين عبر مراحل التأريخ، و هو ألا يستخفّوا في الأمور التي تخص الحكومة الإسلامية، و لا يناصروا مَن هم ليسوا أهلاً لها، و لا يتعاملوا مع هذه المسألة تعاملاً سطحياً، و لا يقدّموا المرجوح على الراجح في اختيار المتصدّين لأشغال المناصب الحسّاسة، و إن هم لم يُراعوا تلك النقاط فعليهم أن يترقّبوا نتيجة أعمالهم المشؤومة، و ليعلموا أنهم سيعيشون العواقب الوخيمة للحكومات الفاسدة المستبدة الطاغوتيّة.

بعدها ستُذرف دموع الحسرة و الندامة نتيجة ذلك التقصير.

دموعٌ لا تُثمر إلا عن الحسرة و الندامة و الفضيحة.

ص: 171

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.