دروس في العقائد الاسلامية

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ناصر، 1305- عنوان و نام پديدآور : دروس فی العقائد الاسلامیه تالیف مکارم الشیرازی مشخصات نشر : قم مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع 1425ق = 1383. مشخصات ظاهری : 344ص. شابک : 10000 ریال ؛ 12500 ریال چاپ سوم 9646632157 يادداشت : عربی يادداشت : مولف کتاب حاضر را تحت عنوان " پنجاه درس اصول عقاید برای جوانان به فارسی نیز به نگارش درآورده است . يادداشت : چاپ دوم يادداشت : چاپ سوم: 1385. یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس موضوع : شیعه -- اصول دین موضوع : شیعه -- عقاید. رده بندی کنگره : BP211/5 ‮ /م 7د4 1383 رده بندی دیویی : 2974172 شماره کتابشناسی ملی : م 83-27071

المقدّمة

الشباب، اكثر شرائح المجتمع حيوية و نشاطاً، و أشدها طاقة، و لا يمكن ايجاد الحول الناجعة لمشاكل أي مجتمع من دون مشاركة هذه الشريحة المهمة، و من هنا فان صلاح و فساد أي مجتمع مرهون بصلاح و فساد شبابه.

إن تاريخ و قصص الأنبياء، تبين لنا أن أول من آمنوا بهم و أوجدوا تحركاً في ساحة الصراع الاجتماعي و دافعوا عن العقيدة و القيم السماوية هم فئة الشباب. و من هنا فان المؤمرات الشيطانية إستهدفت هوية الشباب و افكارهم و عقولهم و ذلك من أجل القضاء على قدراتهم على المقاومة، و على هذا الأساس فان كل ما نقدمه و نبذله في سبيل تربية و تعليم هذه الشريحة المهمة و تهذيب نفوسهم و تزكيتها يعتبر قليلًا.

ان الجانب العقائدي و الايمان بالقيم الاخلاقية في الاسلام يمثل الاساس و المحور لجميع النشاطات و الفعاليات في المجتمع الاسلامي فعليه وجب التخطيط و

البرمجة من أجل ترسيخ العقيدة و الايمان في نفوس الشباب.

إن الشاب المؤمن يعتبر كالجبل الصامد لا تزعزعه العواصف العاتية و لا الحوادث المروعة، و لا رياح الأزمات العاتية فهو صامد يواجه هذه العواصف دروس في العقائد الاسلامية، ص: 6

بايمانه و لن ينحنى امامها حتى تزول، و يحل الهدوء و السلام و تنجلي الغبرة التي ولدتها هذه العواصف.

و من هنا فأني أؤمن بان العقيدة و العلوم الاسلامية، لابد أن تُطرح و بمنطق قوي و بيان واضح و رصين و بالسلوب جذاب من شأنه أن يوفر للشباب ثقافة تربوية من أول أيام بدء هذه المرحلة المهمة.

و اني اذ أشكر اللَّه سبحانى و تعالى على توفيقاته، اذ تمكنت من الفراغ من تأليف هذا الكتاب لاضعه بين يدي أعزائي الشباب، أرجو من اللَّه تعالى أن يوفقهم للاستفادة بما يحتويه من دروس عقائدية و معارف اسلامية. و قد تمت عملية ترجمة هذا الكتاب الى اللغات العالمية المهمة فلقي اقبالًا من لدن شبانبا الاعزاء، و نأمل المزيد، فمن خلال مطالعته و استيعابه يتمكن الشاب من أن يتوفر على حصيلة مناسبة تقدح في ذهنه نور الايمان لينطلق بواسطة هذا النور و يصبح نموذجاً للانسان المؤمن الرسالي الهادف، و يكون عنصراً مهماً في المجتمع.

ناصر مكارم شيرازى الحوزة العلمية في قم المقدسة

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 7

الفصل الأوّل معرفة اللَّه

الدّرس 1: لماذا البحث و التفكير حول معرفة خالق الكون؟

معرفة اللَّه

1- إنَّ حبّ الاطلاع و التعرف على عالم الوجود كامن في نفوسنا جميعاً.

الجميع يريد أن يعرف حقيقة أمر: هذه السّماء العالية بنجومها الجميلة، وهذه الارض المنبسطة بمناظرها الخلابة، و هذه الكائنات المتنوعة، و الطيور الجميلة، والاسماك المختلفة الألوان في البحار، والزهور، و الورود و النّباتات، و أنواع الاشجار السّامقة، هل وجدت في هذا الكون بشكل تلقائي، أم

أنَّ هذه الصور العجيبة قد رُسمت بيد ماهرة قادرة مدبّرة؟

ثمّ إنَّنا إذا تجاوزنا ذلك كلّه، فإنَّ هناك أسئلة تراود أذهاننا لأول وهلة حول هذه الحياة و هي:

من أين جئنا؟ و أين نحن الآن؟ والى أين نحن سائرون؟

و ما أعظم سعادتنا لو إننا استطعنا الإجابة على هذه الاسئلة!

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 10

أي أنْ نعرف كيف بدأت حياتنا؟ و ما الذي ينبغي نفعله الآن؟ و ما اذا ينبغي نفعله الآن؟ و الى أين سيكون مصيرنا في النهاية؟

إنَّ روح حبّ الاطلاع فينا تفرض علينا أنْ لا نجلس دون حراك حتى نحصل على أجوبة لهذه الاسئلة.

قد يتفق أن يصاب أحدنا في حادث سيّارة و يغمى عليه، فيؤخذ الى المستشفى لمعالجته. و عندما يفيق من اغماءته و يتحسن حاله، فيكون أوّل سؤال يطرحه على من حوله هو: أين أنا؟ لماذا جي ء بي الى هنا؟ متى اخرج؟

و هذا يعني أنَّ الانسان لايستطيع أنْ يلزم جانب الصمت في مقابل هذه الاسئلة.

وعليه، فإنَّ أوّل مايحملنا على البحث عن الذات المقدسة و معرفة خالق عالم الوجود هو روح حبّ الاطلاع و التعطش الى معرفة الحقيقة المتأصلة فينا.

2- عرفان الجميل: لنفرض أنّك دُعيت الى وليمة فخمة، هيأ لك صاحبها فيها كلّ أسباب الضيافة الكريمة و رحب بك و وفر لك سبيل الراحة، ولكن بما أنّك قد حضرت الوليمة بصحبة أخيك الأكبر الذي دعاك اليها، فلم تعرف مضيفك حقّ المعرفة. لذلك فانك عندما تجد كل هذه الحفاوة و التكريم من صاحب البيت، يكون جلّ همك أن تتعرف عليه لكي تقدم له مايستحقه من الثناءو الشكر اعترافاً بجميله.

و الحال كذلك عندما ننظر الى مائدة الخلق الواسعة حيث نجد عليها مختلف أصناف النّعم و قد وضعت تحت

تصرفنا: فالعيون للابصار، و الآذان للسمع، و العقول و الذكاء، و القوى الجسمية و النفسية المتنوعة، و مختلف سبل العيش، و الرزق الطيب الطاهر، كلّها قد عرضت على هذه المائدة الفسيحة الفخمة، فيتجه دروس في العقائد الاسلامية، ص: 11

فكرنا دون إرادة الى ضرورة معرفة واهب كلّ هذه النّعم لكي نقدم له أنواع الشكر و إنْ لم يكن بحاجة الى شي ء من شكرنا، و ما لم نفعل ذلك نشعر بعدم الراحة و كأنما لم نف بالغرض. و هذا دافع آخر يدفعنا للبحث عن اللَّه و معرفته.

3- حساب الرّبح و الخسارة في هذه القضية: افرض إنَّك في سفر و قد بلغت مفرق طرق أربعة حيث تسمع الناس يعلنون أنْ لا تمكثوا في هذا المكان، ففيه اخطار كبيرة. إلّاأنَّ كل فريق يدعوك الى سلوك أحد تلك الطّرق، فهذا يقول: أفضل طريق هذا الذي يتجه الى الشرق. و يقول فريق آخر: بل الطريق المؤدي الى الغرب و فريق ثالث يدعوك الى طريق وسط بين الطّريقين، قائلًا:

أنَّه الطريق الوحيد الذي ينجيك من المخاطر و يوصلك الى حيث الأمن و الأمان و كلّ أنواع السعادة.

فهل يجوز لك أن تسلك أحد تلك السبل دون تمعّن أو دراسة؟ أم هل يرتضي لنا العقل أنْ نمكث هناك دون أن نختار واحداً من تلك الطّرق؟ بالطبع سيكون الجواب بالنفي.

إنَّ العقل ينصحنا بأن نبادر فوراً الى دراسة الوضع و تمحيص أقوال كل فريق بدقة، فاذا وجدنا في أقوال أحد الفرق أدلة مقنعة تشتمل على الصدق و الصحة أخذنا بها، و سلكنا ذلك الطريق بكل اطمئنان وثقة.

و هكذا نحن في هذه الدّنيا، حيث نجد مختلف المذاهب والاتجاهات تدعونا إليها. ولكن لما كان مصيرنا و سعادتنا و شقائنا

يقدمنا و يؤخرنا و كلّها منوطة بدراسة هذه الاتجاهات و اختيار أفضلها، فإنَّنا لانجد بداً من أنْ دروس في العقائد الاسلامية، ص: 12

نفكر في الامر، لاختيار الطريق الذى يؤدي بنا الى التقدم و التكامل، و تجنّب الطريق الذي يوصلنا الى منزلق التعاسة و الفساد و الشقاء.

و هذا دافع آخر يدفعنا لإمعان الفكر في خالق عالم الوجود.

يقول القرآن الكريم:

ى فَبَشِّرْ عِبادِ الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ ى. «1»

فكّر وأجب:

1- هل سبق لك أنْ فكرت بجدّ في معرفة اللَّه، بغير الذي سمعته من والديك؟

2- هل تستطيع أنْ تذكر الفرق بين البحث عن اللَّه و معرفة اللَّه؟

3- هل شعرت بنوع من اللّذة الرّوحية العميقة و أنت تدعو اللَّه وتناجيه؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 13

الدّرس 2 آثار معرفة اللَّه في حياتنا

1- معرفة اللَّه و التطور العلمي

لنفرض أنَّ صديقاً لك جاء من سفر و جلب لك معه كتاباً بعنوان هدية، و قال لك أنَّه كتاب ثمين لأنَّ مؤلّفه من كبار العلماء، ذوي الخبرة و الاطلاع، و هو ضليع في تخصصه، و يعتبر استاذاً نابغة.

و بناء على ذلك سوف لاتقرأ الكتاب قراءة عابرة، بل بالعكس، تحاول أنْ تكون دقيقاً في قراءتك الكتاب و تتمعّن في عباراته و حتى كلماته، و إذا لم تفهم عبارة منها فانك تقضي الساعات، و ربّما الايّام المتوالية، تفكر في تلك العبارة كلّما سخت لك الفرصة لعلك تدرك معناها لمعرفتك أنَّ المؤلف ليس شخصاً عادياً، بل هو عالم كبير لايكتب شيئاً إلّابحساب.

ولكن إذا قالوا لك إنِّ الكتاب و إنْ كان جميل المظهر، إلّاأنَّ مؤلّفه رجل قليل المعرفة، ضعيف الدّراية و لايعتمد على أقواله. فلا شك أنَّك قد لا تلقي دروس في العقائد الاسلامية، ص: 14

على الكتاب سوى نظرة عابرة، و إذا طالعتك جملة غير مفهومة قلت: هذا

دليل على جهل المؤلف، و إنَّ الكتاب لايستحق إضاعة الوقت الذي يقضيه المرء في مطالعته.

إن عالم الوجود هذا أشبه بكتاب ضخم، كلّ كائن فيه يمثل كلمة أو جملة.

فمن وجهة نظر الانسان المؤمن باللَّه، تعتبر كلّ ذرّة في هذا الكون جديرة بالدراسة. أن المؤمن- و هو غارق في أنوار عبادة اللَّه- يباشر بدراسة أسرار الخليقة بكل دقة و تفحص (و هذا مايساعد على تقدم العلوم الانسانية)، لانَّه يعلم أنَّ خالق هذه الاجهزة و النُظُم لا يدانيه أحد في علمه و قدرته، و انَّ لكلّ عمل من أعماله حكمة و غاية، لذلك فإنَّه يتحرّى الدّقة في دراسته وأبحاثه ليتسنى له إدراك أسرارها.

أمّا الانسان المادي فلا يملك دافعاً يدفعه لدراسة أسرار الخليقة، لانّه يعتبر خالقها هو الطّبيعة الصماء التي لاشعور لها. أمّا العلماء الماديون من المخترعين و مكتشفي العلوم الطبيعية، فانّهم غالباً مايعترفون بوجود اللَّه، و إنْ أطلقوا عليه اسم «الطّبيعة» التي يرون في عملها «نظاماً» و «حساباً» و «تخطيطاً».

إذن، عبادة اللَّه وسيلة من وسائل تقدم العلوم.

2- معرفة اللَّه والسّعي والأمل

عندما يواجه الانسان الحوادث الصعبة و المعقدة و العوائق في حياته، و تبدو كل الابواب و كأنَّها قد اغلقت في وجهه و يحس بضعفه و وحدته في مواجهة المشكلات، يهبّ ايمانه باللَّه الى عونه و تقوية معنوياته.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 15

إنَّ المؤمنين باللَّه لايرون أنفسهم لوحدهم و لا يحسون بالضعف، ولاينتابهم اليأس، لانّهم يؤمنون بأنَّ قدرة اللَّه أكبر من كلّ مشكلة، و أنَّ كلّ شي ء عنده سهل يسير.

إنّهم يحتمون بلطف اللَّه و رعايته و عونه، و ينهضون لمقارعة الخطوب و الصعاب مستفيدين من كل قواهم، يدفعهم حبّ اللَّه و الأمل فيه الى الاستمرار في بذل المساعي، فيتغلبون على الصّعاب و

المشاكل.

أجل، فالايمان باللَّه سند عظيم للانسان. الايمان باللَّه مدعاة للثّبات و الشّجاعة. الايمان باللَّه يحيي في القلوب نور الأمل دائماً

و لهذا لا يقدم المؤمن على الانتحار، لأنّ الاقدام على قتل النفس إنّما هو دليل على اليأس و القنوط النّابعين من الاحساس بالهزيمة، المؤمن لاييأس و لاينهزم.

3- معرفة اللَّه و الشّعور بالمسؤولية

ثمّة أطباء إذا راجعهم مرضى فقراء فانَّهم فضلًا عن عدم مطالبتهم إيّاهم باجرة العلاج و الطبابة، يعطونهم ثمن الدّواء أيضاً، فاذا ما بل أحسوا بأنَّ مريضهم في حالة خطرة قضوا الليل ساهرين الى جنبه في بيته المتواضع. هؤلاء اناس يخشون اللَّه و يؤمنون به.

غير أن هناك أطباء آخرين لا يتقدمون خطوة واحدة لمساعدة مريض قبل أنْ يتقاضوا أجرهم، و ذلك لضعف إيمانهم.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 16

إنَّ الانسان المؤمن مهما كانت حرفته فإنَّه يشعر بالمسؤولية، و يعرف واجبه، ويعمل الخير و يكون متسامحاً، إنَّه يشعر دائماً بوجود رقيب في أعماقه يراقب أعماله.

أمّا الانسان غير المؤمن فانه شخص أناني، عنيد، خطر، لايتحمل أية مسؤولية، و لايرى غضاضة في ظلم الآخرين و الاعتداء على حقوقهم، و قلّما يقوم بأعمال صالحة.

4- معرفة اللَّه والاطمئنان

يقول علماء النفس إن الامراض النّفسية منتشرة في أيّامنا هذه أكثر ممّا كانت في السّابق.

و يقولون إنَّ أحد عوامل هذه الامراض هو القلق- القلق من حوادث المستقبل، القلق من الموت، القلق من الحرب، القلق من الفقر، و القلق من الاخفاق.

ويضيف هؤلاء: إنَّ ممّا يساعد على إزالة القلق من روح الانسان هو الايمان باللَّه، فكلما نفذت عوامل القلق الى نفس المؤمن أبعدها الايمان باللَّه عنه- ذلك اللَّه الرّحيم، الرّزاق، العالم بأحوال عباده، الذي يعينهم كلّما اتجهوا إليه في طلب العون، و يزيل عنهم دواعي القلق و الخوف.

ولهذا نجد المؤمن يعمل في الحق مطمئن النفس، لامكان للقلق في نفسه. و بما أنَّ المؤمن يعمل في سبيل اللَّه، فاذا واجه ضرراً يتوجّه الى اللَّه يطلب منه دفع الضّرر، و الابتسامة لاتفارق شفتيه حتى في ساحة الوغى.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 17

قال اللَّه في كتابه الكريم:

ى الّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُم

بِظُلْمٍ اولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ى. «1»

فكر وأجب 1- هل تعرف حكاية من تاريخ الماضين تتحدث عن مظاهر الايمان و آثاره التي ذكرناها؟

2- هل تعلم لماذا نجد أشخاصاً يزعمون أنّهم يؤمنون باللَّه، و مع ذلك نراهم بعيدين عن الاخلاق الحسنة، ولانرى فيهم أيّاً من الآثار الاربعة المذكورة؟

الدّرس 3 طريقان لمعرفة اللَّه

اشارة

لقد كتبت كتب كثيرة منذ أقدم الازمنة و حتى اليوم، وجرت بحوث و مساجلات عديدة بين العلماء و المفكرين حول معرفة اللَّه.

كلّ فريق من هؤلاء اختار للوصول الى هذه الحقيقة طريقاً خاصاً، غير أنَّ أفضل الطرق و أسرعها في ايصالنا الى مبدأ عالم الوجود طريقان اثنان:

الف) طريق من الدّاخل (أقرب الطرق)

ب) طريق من الخارج (أوضح الطرق)

نبدأ أوّلًا بالغور في أعماقنا لنسمع نداء التوحيد من داخلنا، و في المرحلة التالية نسيح في عالم الخليقة الشّاسع لنرى آيات اللّه في سيماء كلّ الموجودات و في قلب كل الذّرات. إنَّ في كلّ من هذين الطريقين بحوثاً مسهبة، إلّاأنَّنا سوف نسعى في مقالة موجزة الى بحث كلّاً من هذين الطريقين بحثاً مجملًا.

طريق الدّاخل

دعونا نفكّر في المواضيع التّالية:

1- يقول العلماء: إنَّ أي شخص، مهما كان أصله و طبقته، إذا ترك و شأنه دون تعليم أو ارشاد، و دون أنْ يسمع آراء المؤمنين و الملحدين، فانه يتّجه بذاته نحو قوة قادرة قاهرة ترتفع فوق عالم المادة و تحكم الكون بأسره.

إنَّ هذا الانسان يحس أن في أعماق قلبه وزوايا نفسه نداءً لطيفاً مفعماً بالمحبّة و الرّحمة، و في الوقت نفسه مكين و ثابت، يدعوه الى المبدأ العظيم و القادر العليم الذي ندعوه: اللَّه.

و ذلك هو نداء الفطرة الطاهرة!

2- وقد ينجرف هذا الشخص مع التيار المادي و حركة الحياة اليومية الزّاخرة بالبهرجة و الزّينة، فينشغل بها موقتاً عن سماع ذلك النداء. و لكنه عندما يواجه الشّدائد و المشكلات و المحن، و عندما تهاجمه الحوادث الطبيعية المروعة و المخيفة، كالسيول و الزّلازل و الفيضانات و لحظات القلق عند سفره في طائرة تتلاعب بها العواصف. نعم، عندما تقصر يده عن الوصول الى عون مادي، و

لايجد ملجأ يلوذ به، يقوى هذا النداء في داخله، و يحس أن في كيانه قوّة تجتذبه نحوها، قوّة هي فوق كلّ القوى، و قدرة غامضة يسهل عليها حلّ جميع المشكلات بيسر.

قليل جداً من النّاس من لا يتّجه الى خالقه عند مواجهة الازمات و

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 21

الشّدائد، و لايتذكر اللَّه من دون ارادته. هذا الامر هو الذي يدلّنا على مدى قربنا منه، و مدى قربه منّا، بل إنَّه في أرواحنا و ضمائرنا.

إنَّ نداء الفطرة موجود دائماً في وجدان الانسان، و لكنه يقوى في هذه اللحظات.

3- يكشف لنا التّاريخ أنَّ رجالًا من ذوي السّلطة و الجاه كانوا في الاوقات العادية يأنفون من ذكر اسم اللَّه، ولكنّهم إذا ما شعروا بأنَّ قواعد سلطتهم أخذت تهوي، و أنَّ قصور و جودهم بدأت تنهار، راحوا يمدون يد التوسل الى هذا المبدأ العظيم، لإنّ نداء الفطرة عاد يرن في اسماعهم بجلاء من جديد.

يقول التاريخ: عندما أوشك فرعون على الغرق في أمواج النيل المتلاطمة، و رأى أنَّ هذا الماء الذى كان سبب إحياء بلاده و أساس قوته المادية، قد أصدر عليه حكماً بالاعدام، و أنّه عاجز حتى عن دفع أمواج هذا الماء، و أنَّ يده قاصرة عن نفعه في شي ء، أخذ يصرخ عالياً: لا إله ولا معبود سوى إله موسى العظيم. لقد صدرت هذه الصرخة في الحقيقة، من فطرته الباطنية، و لايقتصر هذا على فرعون، فكلّ من يمر بظروف مماثلة يسمع هذا النداء من أعماق نفسه؟

4- إذا رجعت الى أعماق نفسك وجدت أنَّ هناك نوراً يتلألأ في باطنك و يدعوك الى اللَّه. و لعلك قد صادفت في حياتك بعض الازمات الشّديدة و

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 22

إنسدت بوجهك الطّرق كافة

بحيث أنك يئست من العثور على الحل و العلاج.

لاشك أنَّك في مثل هذه الحالات قد خطرت لك حقيقة وجود قوة قادرة في عالم الوجود تستطيع أنْ تحل مشكلتك بكل سهولة.

في تلك اللحظات تشعر انك قد غمرك أمل يمازجه في داخلك حبّ تلك القوة العظيمة، و أنَّ ذلك الأمل قد أزاح عن قلبك كلّ سحب اليأس القاتمة.

نعم، هذا هو أقصر الطرق التي تبدأ من داخل المرء للوصول الى اللَّه، بارى ء الخلق و موجد الكون.

سؤال مهم:

اذا قلت: قد يخطر لاحدكم أنْ يسأل نفسه هذا السّؤال: ألا يحتمل أنْ يكون لثقافة المحيط و تلقينات والدي أثر في أنْ أتجه هذا الاتجاه في الظروف العصيبة، فأرفع يدي الى اللَّه أطلب عونه؟

قلنا: إنَّ لك الحقّ في أنْ يخطر في بالك هذا السّؤال، ولدينا الجواب المقنع الذي سنورده في الدّرس الآتي.

يقول اللَّه في كتابه الكريم:

ى فَإذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ الى البَرِّ إذا هُمْ يُشْرِكُونَ ى. «1»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 23

فكر وأجب 1- حاول أنْ تحفظ هذه الآية التي ذكرناها أعلاه برقمها و سورتها و تفسيرها لكي تتعرف على لغة القرآن تدريجياً.

2- هل اتفق لك أنَّ واجهت حادثا معقداً صعباً ولم تجد حولك من تستعين به سوى الأمل في لطف اللَّه تعالى؟ إشرح ذلك في مقالة أو في خطاب قصير.

3- لماذا نعتبر هذا الطريق أقصر الطرق؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 25

الدّرس 4 جواب سؤال الدرس السابق

تقدّم في الدّرس السّابق كيف أنَّنا نسمع نداء التوحيد و عبادة اللَّه دائماً من أعماقنا، و إنَّ هذا النداء يقوى و يشتد عند مواجهة المشكلات و الصعاب، فنتذكر اللَّه دون إرادة و نستعين بلطفه اللامحدود و محبّته الشاملة اللامتناهيين.

هنا قد يسأل سائل: إنَّ هذا

الاحساس الدّاخلي الذي نصفه بأنه فطري، ألايحتمل أنْ يكون من تأثير المحيط الاجتماعي وتلقينات الأبوين والمعلمين في البيت والمدرسة حتى أضحى عادة مألوفة؟

الجواب:

جواب هذا السّؤال يتبين بوضوح من خلال ملاحظة المقدمة القصيرة التالية: إنَّ العادات و الرّسوم امور طارئة متغيرة و غير ثابتة. أي إنَّنا لايمكن دروس في العقائد الاسلامية، ص: 26

أنْ نجد عادة من العادات ظلت سارية المفعول بين البشر على إمتداد التاريخ.

إنَّ العادة السائدة اليوم قد تتغير غداً، كما أن عادات قوم و تقاليدهم قد لاتكون كذلك عند أقوام آخرين.

و بناء على ذلك، إذا رأينا أمراً موجوداً لدى كل الاقوام و الملل و في كل عصر وزمان، بدون استثناء، أدركنا أنّه لابدّ أنْ تكون له جذور فطرية و أنَّه يمثل جزءاً من كوين الانسان و نسيجه.

من ذلك تعلق الامّ بوليدها، فلا يمكن أنْ يكون هذا الدّافع نتيجة الإيحاء والتلقين ولا عادة من العادات، لأنّنا لا يمكن أنْ نجد بين قوم من الاقوام أو شعب من الشعوب في أي عصر وزمان على امّ تجفو وليدها وترفضه.

بديهي أنّ هناك استثناءات شاذة نجد فيها امّاً تقتل وليدها بسبب ابتلاءها ببعض الامراض النّفسانية، أو نرى أباً في العصر الجاهلي يئد إبنته متأثراً بمعتقدات خرافية خاطئة. فهذه حالات نادرة سريعة الزّوال، انقرضت بسرعة و عادت الحالة الى وضعها الطبيعي و هو حبّ الابوين لاطفالهما.

بعد هذه المقدّمة نلقي نظرة على قضية عبادة اللَّه في الماضي و الحاضر:

(بالنظر لكون هدا الدّرس فيه نوع من التعقيد فيرجى التمعن في قراءة الاجابة.)

1- يؤكد علماء الاجتماع و المؤرخون المشهورون أنَّ البشرية لم يمرّ بها زمان يخلو من الدين أو الايمان و الاعتقاد بشي ء، فقد كان الدّين موجوداً في كل دروس في العقائد الاسلامية، ص:

27

عصر وزمان. وهذا دليل بيّن على أنَّ عبادة اللَّه تنبع من فطرة الانسان و ضميره، ولا دخل للتلقين و الرسوم و التقاليد العادات فيها، إذ لو كان للعادات و التقاليد أي أثر في إيجاد الدين لما كان عامّاً ولا خالداً.

هنالك قرائن تدل على أنَّ انسان ماقبل التاريخ كان يدين بنوع من الدّين (عصور ماقبل التاريخ تطلق على الازمنة التي مرّت على الانسان قبل اختراع الكتابة، يوم لم يستطع أنْ يترك وراءه كتابات تدلّ عليه).

بديهي أنَّ الانسان القديم البدائي لم يكن قادراً على تصور اللَّه وجوداً فوق الطبيعة، لذلك كان يبحث عنه بين الكائنات الطبيعية، وراح يصطنع لنفسه آلهة أصناماً من بين الكائنات الطبيعية، ولكن الانسان بتقدمه الفكري استطاع بالتدريج أن يهتدي الى الحقيقة، و أنْ يشيح بوجهه عن الاصنام و هي أشياء مادية، و يتجه الى ماوراء هذا العالم المادي و يتعرف على قدرة اللَّه العظيمة.

2- يصرح بعض علماء النفس بأنَّ لروح الانسان أبعاداً أربعة أو حواس أربعة:

الف) حاسة المعرفة: و هي التي تدفع الانسان و تحثه على طلب العلم و تثير فى نفسه الشوق الى التعلم، سواء كان ذلك ذا نفع مادي له، أم لم يكن.

ب) حاسة حب الصّلاح: و هي مصدر الاخلاق الانسانية الصالحة لدى البشر.

ج) حاسة حب الجمال: و هي منشأ ظهور الشعر و الادب والفن بمعانيها الحقيقية.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 28

د) حاسة التوجه الدّيني: و هي الحاسة التي تدفع الانسان الى معرفة اللَّه وإطاعة أوامره. و على هذا فإنَّ الحس الديني ذو جذور أصيلة في الانسان، أي أنه لم يفارقه لحظة ولن يفارقه أبداً.

3- سوف نلاحظ في البحوث القادمة ان معظم الماديين و الملحدين يعترفون بشكل ما بوجود اللَّه، على

الرغم من أنّهم يمتنعون عن ذكر اسمه الصريح، و إنّما يطلقون عليه اسم الطبيعة أو أسماء اخرى، ولكنّهم يعزون الى الطبيعة صفات أشبه بصفات اللَّه تعالى.

يقولون مثلًا: إذا كانت الطبيعة قد وهبت الانسان كليتين فذلك لأنّها تعلم احتمال اصابة أحداهما، فتقوم الاخرى باداء وظائف الجسم الحياتية، و ما الى ذلك من الاقوال. فهل ينسجم هذا القول مع طبيعة لاتعقل، أم ينسجم مع إله يتصف بعلم لانهاية له، و ولو اطلقوا عليه اسم الطبيعة؟

نستنتج ممّا مرّ بنا في البحث الامور التّالية:

حبّ اللَّه كان فينا دائماً و سيكون فينا دائماً أيضاً. الايمان باللَّه شعلة خالدة تدفى ء قلب الانسان وروحه.

لكي نعرف اللَّه لسنا مضطرين للسير مسافات طويلة، بل علينا أنْ ننظر في اعماقنا لنجد الايمان به هناك.

يقول القرآن الكريم:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 29

ى وَ نَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيْدِى. «1»

فكر وأجب 1- هات أمثلة على العادات، وأمثلة على الفطرة.

2- لماذا كان الجهلاء يعبدون الاصنام؟

3- لماذا يطلق الماديون اسم «الطبيعة» على اللَّه؟

الدّرس 5 قصّة واقعية

قلنا إنَّ الذين ينكرون اللَّه بألسنتهم، إنَّما هم يؤمنون باللَّه في أعماقهم. و لاشك أنَّ إنجازات الانسان وانتصاراته تثير في نفسه الغرور، وخاصة إذا كان هذا الانسان ضيق الافق. و هذا الغرور يؤدي به الى النسيان، بحيث ينسى أحياناً حتى نظرياته. ولكن عندما تتوالى عليه ضروب الحوادث في الحياة، وتعصف به رياح المشاكل من كل جانب. تنكشف عن عينيه غشاوة الغرور، و تتجلّى فيه فطرة التوحيد.

إنَّ في التاريخ نماذج كثيرة لمثل هذا الانسان. وفيما يلي نموذج لواحد من هؤلاء:

كان هناك وزير يتمتع بقوة و سلطة واسعة، أمسك بكل أزمة القدرة، ولم يكن هناك من يستطيع معارضته.

حضر هذا الوزير يوماً في مجلس ضم جمعاً من رجال

الدين و العلماء،

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 32

فخاطبهم بلهجة مليئة بالغرور: الى متى تدّعون بان للعالم ربّاً؟ إنَّ عندي ألف دليل يدحض قولكم هذا.

و كان العلماء الحاضرون يعلمون أنَّ هذا الوزير ليس من أهل المنطق والبرهان، و أنه مغرور بقدرته بحيث أنَّ أية كلمة حق لا تؤثر فيه، ولذا التزموا الصّمت أمامه، صمت ملي ء بالمعاني والازدراء.

بعد ذلك مضتْ الايّام حتى جاء يوم اتهمت فيه الحكومة هذا الوزير بالجريمة، و القت القبض عليه و اودعته السجن.

عندئذ خطر لأحد العلماء الذين كانوا من الحاضرين في ذلك المجلس أنَّ ينبه هذا الوزير على خطأه بعد أنْ ترجل عن صهوة غروره، وازيحت عن عينيه حجب الانانية، و استيقظت فيه مشاعر تقبل الحق، فقد تنفعه النصيحة.

فطلب من المسؤولين السماح له بمقابلة الوزير: فاذنوا له، ولمّا اقترب من زنزانته وجد أنَّه وحيد فيها، وهو يذرع أرض الغرفة جيئة وذهاباً مفكراً ويهمهم ببضعة أبيات من الشعر، مفادها: إنَّنا نشبه صورة أسد منقوش على علم و كأنه وثب للهجوم، ولكنه في الحقيقة لايفعل شيئاً، إنّما الريح هي التي تحرك الراية فيبد و الاسد مهاجماً، فنحن مهما عظمت قدرتنا فاننا لانملك شيئاً في ذواتنا.

إنَّ اللَّه الذى منحنا القدرة قادر على أنْ يسلبها منّا وقتما يشاء.

لاحظ العالم أنَّ الرجل فضلًا عن كونه لاينكر وجود اللَّه، فانه قد أصبح يعرفه حق المعرفة. فتقدم إليه، و بعد ما تفقد أحواله، سأله قائلًا: أتذْكر يوم قلت أنَّ عندك ألف دليل على عدم وجود اللَّه؟ لقد جئت لادحض أدلتك الالف دروس في العقائد الاسلامية، ص: 33

بدليل واحد و هو: أنَّ اللَّه هو ذلك الذي سلبك في لحظة واحدة كل تلك القدرة التي كانت لديك. فأطرق الوزير برأسه خجلًا ولم

يقل شيئاً، لانه إعترف بخطئه بعد أنْ رأى نور اللَّه في داخله.

يخاطب القرآن المجيد فرعون قائلًا:

ى حَتّى إذا أدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أنَّهُ لا إلهَ إلّاالّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا اسرائِيلَ ى. «1»

فكر وأجب 1- اكتب نتيجة هذه القصّة في بضعة سطور.

2- لماذا سُمّي بنوا اسرائيل ببني اسرائيل؟

3- من هو فرعون؟ أين كان يعيش؟ وماذا كان يدّعي؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 35

الدّرس 6 الطّريق الثّاني لمعرفة اللَّه

طريق من الخارج

من خلال نظرة عابرة الى هذا العالم الذي نعيش فيه، ندرك أنَّ عالم الوجود هذا ليس فيه اضطراب ولا ارتباك، بل إنَّ لجميع ظواهر الحياة خطاً معيناً تسير عليه، فهي أشبه بجيش ضخم مقسم الى وحدات منظمة تتحرك جميعاً نحو هدف معين.

و النقاط التالية تدعم ما ورد في هذه المقدمة عن هذا الموضوع:

1- لظهور أي كائن و بقائه حياً في هذا العالم لابدّ من تظافر عدد من القوانين و نوعاً من الظروف الخاصة لبلوغ ذلك الهدف.

فمثلًا، لكي تظهر شجرة الى عالم الوجود، لابدّ من توفر الارض، والماء و الهواء المناسب، والحرارة اللازمة، و لكي نزرع البذرة، فتتغذى، و تتنفس، و تخضر وتنمو. فاذا لم تتوفر هذه الامور استحال أمر ظهور النبتة و نموها لكي دروس في العقائد الاسلامية، ص: 36

تصبح شجرة. إنَّ تهيئة هذه الظّروف والشّروط تتطلب عقلًا ومعرفة.

2- إنَّ لكلّ كائن خصائص يختص بها دون غيره. فللماء صفات و للنار خصائص لاتنفصل عنها وتتبع قوانين ثابتة.

3- جميع أعضاء الكائن الحي تتعاون فيما بينها، فاعضاء الجسم تعمل- بوعي أو بغير وعي- بانسجام تام بعضها مع بعض. فاذا ما واجه الجسم خطراً تأهبت الاعضاء للدفاع عنه. إنَّ هذا الترابط والانسجام في العمل دليل آخر على وجود النظام في عالم الوجود.

4- إنَّ نظرة واحدة الى العالم تكشف

لنا أنَّ الترابط والانسجام والتعاون في العمل ليست مقتصرة على أعضاء الجسم الواحد، بل إنَّ في كافة الكائنات العالم تتعاون فيما بينها، فلبقاء الكائنات تطلع الشمس و ينزل المطر وتهب الرّياح و تتظافر معها الارض ومنابعها من أجل الوصول الى هذا الهدف. وهذا دليل وجود نظام معين يشمل عالم الوجود كلّه.

العلاقة بين «العقل» و «النظام»

كلُّ امرى ء لابدّ أنْ يعترف في قرارة نفسه بهذه الحقيقةً، و هي أن وجود النظام دليلٌ على أنَّ وراءه عقلًا مفكراً و مخططاً و هادفاً. فحيثما شاهد الانسان نظاماً ثابتاً يخضع لقوانين معينة أدرك أن وراءه مصدراً للعلم والقدرة، ولا يحتاج في هذا الادراك الوجداني حاجة كبيرة الى الاستدلال.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 37

إنَّه يعرف أنَّ انساناً امِّياً أعمى ليس له القدرة على أنَّ يضرب على الآلة الطابعة مقالة اجتماعية أو نقداً أدبياً، مثلًا، أو إنَّ طفلًا في الثانية من عمره لايمكنه بامرار قلمه على الورق عشوائياً أن يرسم لوحة جميلة قيمة. إنَّنا إذا طالعنا انشاء جيداً أو مقالة رائعة أدركنا فوراً أنَّ كاتبها انسان مثقف متميز بالذكاء و العقل.

كذلك إذا شاهدنا في متحف لوحة جميلة جذابة لانشك لحظة في أنَّ الذي رسمها كان فناناً ماهراً، على الرّغم من أنَّنا لم نر ذلك الفنان بشخصه.

بناء على ذلك حيثما رأينا جهازاً منظماً علمنا أنَّ وراءه عقلًا ذكياً. وكلّما كان ذلك الجهاز أكبر وأدق وأروع كان العقل والعلم اللذين أوجداه أكبر وأعظم أيضاً.

ولاثبات أنَّ كلّ جهاز منظم يحتاج في إيجاده الى عقل و علم، يستفيد علماء الطبيعة أحياناً من قانون (حساب الاحتمالات) المعروف في الرياضيات العالية، فيبرهنون مثلًا، على أنَّ الشخص الأُمّي إذا أراد أنْ يكتب مقالة أو شعراً بمجرد الضغط عشوائياً على ازرار حروف الآلة

الطابعة بصورة عفوية وتصادفية، فإنَّ ذلك- بحساب الاحتمالات- يستغرق بلايين السنين، بحيث لايكفي حتى عمر الكرة الارضية لانجاز ذلك، (للمزيد من التوضيح يمكن الرّجوع الى كتاب «خالق العالم» أو «في البحث عن اللَّه»).

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 38

يقول القرآن الكريم:

ى سَنُرِيهِمْ آياتِنَا فِي الآفاقِ وَفِي أنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الحَقُّ أوَ لَمْ يَكْفِ بَرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَي ءٍ شَهِيْدٌى. «1»

فكر وأجب 1- هات بعض الامثلة (غير التي ذكرت في الدّرس) على أجهزة صناعية ندرك عند مشاهدتها أنَّ إيجادها يستلزم وجود صانع عليم.

2- ما الفرق بين «آفاق» و «أنفس»؟ هات أمثلة على آيات اللَّه في الآفاق وفي الأنفس.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 39

الدّرس 7 نماذج من نظام الخلق

اشارة

إنَّ مظاهر «النّظام» و «الهدفية» و «التّخطيط» واضحة جلية في جميع أرجاء عالم الوجود.

هنا نورد لكم بعض النماذج الكبيرة والصغيرة على ما قلناه:

إنْ تقدم العلوم الطّبيعية والكشف عن أسرار عالم الطبيعية و عجائب و دقائق خلق الانسان والحيوان والنّبات، وبناء الخلية والذّرة العجيب، ونظام المنظومات الشّمسية والنّجوم المحير للعقول وأمثال ذلك قد فتحت أمامنا أبواب معرفة اللَّه بحيث نستطيع القول باطمئنان وثقة بأنَّ جميع كتب العلوم الطبيعية هي كتب تدعو الى التوحيد و معرفة اللَّه، و أنَّها تتضمن دروساً في عظمة اللَّه خالق هذا الكون، لأنَّها تزيح الستار عن نظام الخلق المدهش في هذا العالم، و تدلنا على مدى عظمة خالق هذا الكون وقدرته.

1- مقر قيادة مملكة الجسم

اشارة

تحتوي جمجمتنا على مادة رمادية اللّون يطلق عليها اسم «المخ». و المخ هذا يعتبر من أهم أجهزة أجسامنا وأدقها. لان وظيفته هي قيادة جميع أجهزة الجسم الاخرى وادارة شؤونها.

ولكي ندرك أهمية هذا المركز العظيم، يجدر بنا أنْ ننقل اليكم هذا الخبر:

أوردت الصحف خبراً مفاده أنَّ طالباً شاباً من مدينة شيراز قد اصيب في حادث سيارة في مدينة خوزستان بضربة في رأسة دون أنْ يصاب ظاهراً بمكروه آخر في جسمه و كانت جميع أعضاؤه سالمة، ولكن العجيب في أمره أنّه نسي كل ما يتعلق بماضي حياته. كان تفكيره سليماً، يدرك الاشياء. ولكنه إذا رأى أبويه لم يعرفهما. واذا قيل له أنَّ هذه امّك. إنتابه العجب. أخذوه الى بيته في شيراز، وأروه ماكان قد صنعه بيديه وعلقه على الجدران من الاعمال اليدوية، وقالوا له إنّه هو الذي صنع كل هذه الاشياء بنفسه. فكان يظهر العجب ويقول أنَّه يراها لاوّل مرّة في حياته.

تبين من ذلك أنَّ الضربة التي أصابت رأسه أثرت على مخه، فقد

قطعت (الأعصاب) التي تربط بين فكره وحافظته، وكأنَّ عطباً أصاب (الفيوز) الكهربائى الموجود في حافظته فغرقت في ظلام تام وأخفت ذكرياته كلها.

و لعل هذا (الفيوز) الذي أصابه العطب لايزيد حجمه على رأس الابرة، ولكن لاحظ مدى تأثيره في حياته. من هنا يتضح لنا مقدار تعقيد جهاز المخ و الجملة العصبية و أهميته.

يتألف الدّماغ والجهاز العصبي من قسمين متميزين:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 41

1- مجموعة الأعصاب الارادية التى تسيطر على جميع فعالياتنا الاختيارية، كالمشي، والنظر، والتكلم، وغيرها.

2- مجموعة الأعصاب الغير الارادية التي تسيطر على الحركات اللاإرادية، مثل حركة القلب و حركة المعدة وغيرهما، فتدير أعمالها، بحيث أنَّ اصابة هذا الجانب من الدّماغ بعطب يكفي لايقاف القلب أو أي جهاز لا إرادي آخر عن العمل.

المخ أعجب الاجهزة

«المخ» هو مركز الذّكاء والارادة، والاحساس، و الحافظة، وعلى ذلك فهو من أشد أجهزة الدّماغ حساسية، وإليه يعزى الكثير من ردود الأفعال الانفعالية، كالغضب والخوف وغيرهما.

لو ازيل مخ حيوان ما، دون الاضرار بأعصابه، فإنَّ الحيوان يظل حيّاً، ولكنّه يفقد كل قدرة على الفهم والادراك. من ذلك فانهم عندمارفعوا مخ أحد الطيور من دماغه، فبقي حياً، ولكنه لم يميز الحب الذى نثر امامه ولم يلتقط منه شيئاً بالرغم من جوعه واذا اطلقوه في الهواء كان يطير حتى يرتطم بحاجز فيقع.

الحافظة العجيبة

من أقسام المخ العجيبة الاخرى هو الحافظة. هل خطر لكم مدى غرابة قوّة

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 42

الحافظة العجيبة؟ وهل فكرتم كيف سيكون سوء حالنا لو أنَّنا فقدنا حافظتنا ساعة واحدة؟

مركز الحافظة، الذي يشكل جزءاً صغيراً من المخ، يحتفظ بجميع ذكرياتنا و دقائقها طوال حياة الانسان. كلّ انسان نتعرف عليه تحتفظ حافظتنا بجميع خصوصياته، شكله، لونه، ملابسه، اخلاقه، نفسيته وكل ما ندركه منه، فتعد له اضبارة خاصّة به. فما أنْ نراه مرّة اخرى حتى تقوم حافظتنا باستخراج الاضبارة الخاصة به وتلقي عليها نظرة شاملة، و عندئذ يرشدنا فكرنا الى الطريقة التي يجب أن نعامل بها هذا الشّخص وكيف يجب أنْ يكون سلوكنا معه؟ فاذا كان صديقاً احترمناه، واذا كان عدواً تحاشيناه.

وهذه الامور تجرى بسرعة مذهلة بحيث إنَّك لاتكاد تحس بمرور أي فترة زمنية بين رؤيتك الشخص وظهور رد فعلك ازاءه.

إنَّ غرابة هذه الحالة تتضح أكثر إذا أردنا كتابة ما تحتفظ به ذاكرتنا على الورق أو أنَّ نسجله على أشرطة التسجيل، لاشك أنَّنا سنحتاج الى مقدار كبير من الورق أو الاشرطة قد يملأ مخزناً كبيراً. والأعجب من ذلك هو إنَّنا لاستخراج ورقة أو شريط من بين ذلك

الحشد نحتاج الى عدد كبير من الموظفين الموكّلين بحفظها. غير أنَّ ذاكرتنا تقوم بكل ذلك بسهولة وبكل سرعة.

الطّبيعة غير العاقلة كيف تخلق العقل؟

لقد ألفت كتب كثيرة في عجائب المخ، وذكر قسم منها في الكتب المدرسية

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 43

والجامعية. فهل يمكن أنْ نصدق بأنَّ هذا الجهاز المعقد الدقيق والرقيق والغامض قد صنعته طبيعة فاقدة للعقل؟ بل أشد من ذلك حماقة هو أنَّ تعتبر هذه الطّبيعة العديمة العقل هي خالقة للعقل!

يقول القرآن الكريم:

ى ... وَفِي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ ى. «1»

فكر وأجب 1- هل تعرف أمثلة اخرى على عجائب عمل مخ الانسان؟

2- ما التّدابير التي أوجدها اللَّه تعالى للمحافظة على مخ الانسان أزاء الحوادث المختلفة؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 45

الدّرس 8 عالم عجيب في طائر صغير

نريد في هذا الدّرس أنْ نخرج من مملكة جسم الانسان الواسعة، التي لم نكتشف زقاقاً واحداً من مدنها السّبع بعد، لنلقي نظرة على هذه الزّاوية أوتلك لالتقاط بعض النماذج لنظام الكائنات العجيب.

نرمي ببصرنا في ليلة ظلماء الى السماء فيتراءى لنا طائر غريب بين طيات حجب الظلام كشبح يتضمن الغرائب يطير جريئاً في كل اتجاه بحثا عن طعام يتغذى منه.

هذا الطائر هو «الخفاش» وكل ما فيه يدعو للدهشة والعجب. وأعجب مافيه هو طيرانه في الليل البهيم.

إنَّ حركة الخفاش السريعة في ظلام الليل بغير أنْ يرتطم بأي حاجز من أعجب الامور التي تظهر فيه أسرار جديدة كلّما تعمقنا في كشف أسراره القديمة.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 46

ولا شك أن هذا الطّائر الذي يطير في الظلام بسرعة ودقّة قد لا تدانيهما سرعة الحمامة في رابعة النهار، ولو لم يتمتع بوجود جهاز يدرك من خلاله وجود الموانع في مسير طيرانه لصعب عليه الطيران بهذه السهولة.

و لو أطلق الخفاش في نفق مظلم كثير الالتواءات والمنعطفات، و ملوث بالدخان، لاستطاع انْ يتفادى جميع المنعطفات بغير أنْ يصطدم بأي منها أو أنْ تعلق به ذرة من

مخلفات الدخان.

إن هذه الميزة العجيبة في الخفاش نشأت من خاصية أشبه بخاصية الرّادار.

فلابدّ هنا من معرفة شي ء عن جهاز الرّادار لكي ندرك وجوده في هذا الحيوان الصغير.

في موضوع «الصوت» الموجود في علم الفيزياء هناك درس عن أمواج ما وراء الصوت، وهي أمواج أطوالها وتردداتها من الكثرة بحيث أنُّ أُذن الانسان ليست قادرة على سماعها، ولهذا السبب اطلق عليها اسم الامواج ما وراء الصوت. فعند انبعاث هذه أمواج من مصدر مرسل قوي، تنتشر الى جميع الجهات، ولكنها ما أنْ تصطدم في الجو بمانع أو حاجز، (مثل طائرات العدو أو أي مانع آخر) تعود، مثل الكرة التي تصطدم بجدار فترتد، أو مثل الصوت الذى نسمع صداه إذا أطلقناه بين الجبال أو امام جدار مرتفع وعلى مسافة معينة. إنَّ الفترة التي تمضيها هذه الامواج في الارتداد تفيد في حساب بعد المانع أو الحاجز بصورة دقيقة.

كثير من الطائرات والبواخر تهتدي الى طريقها بواسطة الرّادار، فتتجه الى حيث تشاء، كما أنَّها تستفيد من أجهرة الرّادار لمعرفة مكان طائرات الاعداء وبواخرهم.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 47

يقول العلماء أنَّ في جسم هذا الطائر الصّغير جهاز أشبه بجهاز الرّادار.

والدّليل على ذلك هو إنَّنا لو أطلقناه في غرفة مظلمة ووضعنا فيها المايكروفون الخاص بتحويل الامواج فوق الصوتية الى أمواج صوتية قابلة للسمع، لامتلأت الغرفة بأصوات مؤذية للسمع، ويمكن حساب عدد الامواج التي تصدر من الخفاش و هي تبلغ 30 الى 60 ذبذبة في الثانية.

ولكن لكي ترى أي جهاز في الخفاش يصدر هذه الامواج؟ أي ما هو جهاز الارسال والاستقبال في الخفاش؟

يقول العلماء في معرض الاجابة عن هذا السّؤال: إنَّ الخفاش يصدر هذه الامواج عن طريق أوتار حنجرته القوية ويخرجها من منخريه، واذناه الكبيرتان هما

جهاز الاستقبال عند ارتداد الامواج اليه.

فالخفاش إذن مدين في جولانه الليلي لُاذنيه. يقول عالم سوفياتي اسمه (ژورين): إنَّ التجربة قد أثبتت أنَّه إذا قطعت اذنا الخفاش لم يعد قادراً على تحاشي الارتطام بالموانع في الليل، بينما لايتاثر طيرانه الليلي مطلقا إذا ازيلت عيناه، أي أنَّ الخفاش يرى باذنيه، لابعينيه. ألا يُعدُ هذا الأمر عجيباً؟!

فلنتصور الآن: من الذي أوجد هذين الجهازين العجيبين المحيرين في جسم هذا الحيوان الصغير الحقير؟ وكيف علمه استخدامهما والاستفادة منهما بحيث يستطيع أنْ يدرأ عن نفسه الكثير من الاخطار التي تصادفه في طيرانه الليلي؟

أجل ترى من هو؟

أتستطيع الطبيعة غير العاقله أنْ تقوم بمثل هذا العمل، فتخلق في هذا الحيوان، بكل بساطة، هذين الجهازين اللذين يبذل علماء العالم مبالغ طائلة لصنعهما؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 48

يقول الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة في كلام له مسهب عن الخفاش وبديع خلقه:

«... لا تَمْتَنِعُ مِنَ المُضِي فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ ... فَسُبحانَ البارِى ء لِكُلِّ شَي ءٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ ...». «1»

فكّر وأجب:

1- أتعرف معلومات أكثر عن الخفاش؟

2- أتعلم أنَّ اجنحة الخفاش وطريقة ولادة صغاره، بل و حتى طريقة نومه حيث إنها تختلف عن الحيوانات الاخرى وأنَّه طائر يختلف عن غيره تماماً؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 49

الدّرس 9 علاقة الحب بين الورود و الحشرات

اشارة

من المستحسن أنَّ تزوروا في أحد أيّام الربيع المعتدلة البساتين و المزارع الخضراء اليانعة. هنالك ستلاحظون مجموعات من الحشرات الصغيرة، كالنحل، والذباب، والفراشات، والبعوض، تغدو و تروج في اتجاهات مختلفة، تنتقل من زهرة الى اخرى ومن غصن الى آخر.

إنَّها منهمكة في حركاتها هذه حتى ليخيل إليك أنَّ قوّة غامضة تراقب حركتها (مثل متابعة رب العمل لعماله) لايكف عن اصدار الأوامر إليها. إنَّ أرجل بعضها وأجنحتها تتلوث بالدقيق الاصفر الموجود على

الزهور فتبدو كأنَّها من العمال الذين يرتدون رداء العمل الاصفر و هم منهمكون بأداء أعمالهم.

في الواقع أنّها تقوم باعمال مهمة فعلًا، إنَّ أعمالها من الأهمية بحيث أنَّ البروفسور (ليون برتن) يقول:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 50

«قلّما يعرف الناس أنَّه لولا الحشرات لبقيت سلالنا خالية من الفواكه».

و نحن نضيف الى قوله ذلك قولنا:

«ولفقدت بساتيننا ومزارعنا لعدّة لسنوات ماكان لها من خضرة وطراوة».

فالحشرات، إذن، لها الدور الكبير في ايجاد الثمار من خلال نقل جنوب اللقاح بين الزهور.

و لاشك أنَّكم سوف تسألون: كيف؟ والجواب. إنَّ أهم عمل حياتي في النبات، هو عملية «اللقاح»، و تتحقق بمساعدة الحشرات. و لعلكم تعلمون أنَّ الأزهار، كالكثير من الكائنات، تنقسم الى الذكر والانثى، ومالم يتم اتصال وتلقيح بينهما فلن تكون هناك بذرة ولاثمرة.

ولكن هل خطر لكم أنْ تفكروا في أقسام النبات المختلفة، التي لاتحس ولاتتحرك، كيف ينجذب بعضها نحو البعض الآخر و كيف أنَّ حبوب اللقاح، التي تمثل (حيامن) الذكر تتحد مع (البيضة) الانثوية في النبات كمقدمة للتزاوج؟

هذه العملية في كثير من الحالات تقوم بها الحشرات، وفي حالات اخرى تقوم بها الرياح، ولكنها ليست بهذه البساطة التي تبدو لنا، فهذا الزّواج المبارك الكثير الخيرات، والذي يتمّ (بوساطة) الحشرات، له تاريخ و مراسيم و تطورات طويلة مثيرة للعجب، سوف نتناول هنا جانباً منها:

صديقان حميمان قديمان

بعد كثير من البحوث والدّراسات، توصل علماء الطبيعة الى أنَّ النباتات والازهار ظهرت في النصف الثاني من العصر الجيولوجي الثاني. والعجيب أنَّ تلك المرحلة شهدت ظهور الحشرات أيضاً، ومنذ ذلك اليوم وعلى امتداد تاريخ الخليقة الطويل استمرت النبتة والحشرة صديقتين حميمتين و فيتين لبعضهما الآخر، تكمل أحدهما وجود الاخرى

فلكي تستاثر الزهرة بحب صديقتها الحشرة و تجتذبها نحوها و (تحلّي

فمها) كما يقولون، فإنَّها تختزن (رحيقاً) عذباً، طيب الطعم في داخلها. فعندما تقوم الحشرات بالتنقل من زهرة الى اخرى تمهيدا لعملية اللّقاح، تضع أرجلها في داخل الزّهرة، فتُستقبل هناك برحيق حلو لذيذ الطعم بحيث أنَّ الحشرة تنجذب إليه دون اختيار.

يرى بعض علماء النبات أنَّ للون الزهرة ورائحتها دوراً مهماً في اجتذاب الحشرات إليها، فقد أثبتت التجارب التي اجريت على النحل قدرة هذه الحشرة على تمييز الالوان والرّوائح.

وفي الحقيقة أنَّ الأزهار هي التي تتزين و تتجمل من أجل الحشرات لكي تلفت انتباه الفراشات والنحل التي يعجبها اللون والرّائحة والطعم، فتستقبلها في أحضانها و تهيى ء الامور لعملية الزواج و تتناول مأدبة طعام الزواج أيضاً.

إنَّ (حلوى الزواج هذه من أفضل الطعام للحشرات، وبخاصة النحل، وبتراكمه يكثر العسل. فالحشرات عند حضورها حفلة الزواج تأكل شيئا من طعام العرس، و كالضيف الجسور، تاخذ بعضاً من ذلك الطعام معها أيضاً الى بيتها تختزنه فيه.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 52

إنَّ عهد الصداقة بين الزهرة و الحشرة، و القائم على تبادل المنفعة، كان و سيبقى كذلك.

درس في التّوحيد

عند ما يلاحظ الانسان هذه النكات العجيبة في حياة الحشرات و الأزهار، يتساءل دون إرادة: ترى من الذي أبرم عقد و عهد الحبّ والصداقة بين الإزهار و الحشرات؟

هذه الحلاوة الخاصة والرحيق اللذيذ، و هذه الالون الزاهية المختلفة الجذابة، وهذا العطر المهيّج، من الذي وهب كل هذه المميزات للازهار؟ و من ذا الذي هدى الحشرات إليها، وجعلها تتذوقها؟

من الذي أعطي لهذه الحشرات وللفراشات، وللنحل، و للزنبور الاصفر، أرجلها اللطيفة الظريفة وجهزها بمايتيح لها أن تنقل لقاح الإزهار من مكان الى مكان؟

لماذا يتّجه النحل في فترة معينة الى نوع معين من الأزهار؟ لماذا بدأ تاريخ حياة الحشرات و

الأزهار في وقت واحد في عالم الخلق؟

هل يمكن لأي احد مهما كانت درجة عناده و مخالفته ان ينكر بان كل ذلك قد جرى بدون تخطيط مُخطط؟ هل يعقل أن يحدث كل هذا الذي اصبح محيراً للعقول بشكل عشوائى هل يمكن للطبيعة الغير العاقلة أن تصنع ذلك، و الجواب كلا و ألف كلا.!

يقول القرآن الكريم:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 53

ى وأوحَى رَبُّكَ الى النَّحْلِ أنِ إتّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمِّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الَّثمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًاى. «1»

فكر وأجب 1- مافائدة الرحيق الحلو في الازهار و ما الحكمة في طيب عطرها و زهو الوانها؟

2- ماذا تعرف عن غريب حياة النحل؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 55

الدّرس 10 العوالم الصّغيرة جدا

اشارة

بما أنَّنا نعيش في عالم ملي ء بعجائب الخلقة ونترعرع بين أسرار وغرائب الطبيعة و بما أننا إعتدنا على مشاهدة هذه الكائنات حولنا، فإنّنا كثيراً ما نغفل عن ملاحظة هذه الكائنات العجيبة وأهميتها. و كمثال على ذلك:

1- تعيش حولنا كائنات وحشرات صغيرة جداً بحيث أن جسم بعضها قد لايتجاوز المليمتر الواحد أو المليمترين، ومع ذلك فهي كالحيوانات الكبيرة لها أطراف وعيون وآذان وحتى أدمغة وذكاء وأعصاب وأجهزة للهضم.

إذا وضعنا دماغ نملة تحت المجهر وتفحصنا بدقة بناءه المحيّر، نجد أنّه ممّا يثير العجب حقّاً. فهذا الدّماغ الصّغير يضم أقساماً متجاورة، كل قسم منها يسيطر على جانب من جسم النملة، وإنَّ أدنى تغيير في وضعيتها يصيب جانباً من جسم النملة بالشلل.

والعجيب في دماغ النملة، الذي هو فعلًا أصغر من رأس الدّبوس، يكمن فيه دروس في العقائد الاسلامية، ص: 56

عالم من الذكاء والتمدن وجمال الذوق والفن، حتى أنَّ فريقاً من العلماء أمضوا جانباً كبيراً من أعمارهم في دراسة حياة هذا الحيوان،

ودونوا في كتبهم الكثير من عجائب حياته.

ترى من ذا الذي أوجد كل هذا الذّكاء و المهارة في هذا الحيوان الصغير؟

هل أن الطبيعة التي لاتملك من ذرة من العقل و الذّكاء؟

2- لننظر في عالم الذّرة: أنَّنا نعلم أن أصغر ما اكتشف حتى الآن في العالم هو الذرة واجزاؤها. إنَّ الذّرة هذه من الصغر بحيث أنَّ أعظم المجهرات التي توصف بأنَّها تكبر القشة لتبدو جبلًا- تعجز عن رؤيتها.

إذا أردتم معرفة مقدار صغر الذّرة، يكفي أنْ تعلموا أنَّ قطرة واحدة من الماء تحتوى على عدد من الذّرات أكثر من جميع سكان الارض قاطبة. وإذا أردنا حساب عدد البروتونات في سانتيمتر واحد من سلك دقيق، واستعنّا على ذلك بألف شخص يحسبون ذلك بحيث إنَّنا نستطيع أن نفصل بروتوناً واحداً في كل ثانية، لاستغرق حسابنا بين 30 سنة و 300 سنة (بحسب اختلاف ذرات كل مادة)، على أنْ يستمر حسابناً ليلًا و نهاراً دون انقطاع.

و الآن بعد أنْ عرفنا أن في سانتيمتر واحد من سلك دقيق هذا العدد من البروتونات، فكم تظن عدد الذّرات في السماء و الارض والماء والهواء والمجرات والمنظومة الشمسية؟ ألايتعب فكر الانسان من مجرد تصور ذلك؟ هل يستطيع أحد معرفة عددها غير الذي خلقها؟

الذّرة درس في التّوحيد

تعتبر دراسة الذّرة من أهم الفروع العلمية في العصر الحاضر ومن أشدها إثارة. إنَّ هذا الموجود الصغير يمثل درساً في التوحيد، إذ أن فيه جوانب أربعة تثير الانتباه:

1- النّظام الدّقيق: لقد اكتشف حتى الآن أكثر من 100 عنصر يتدرج فيها عدد الالكترونات من الواحد حتى أكثر من 100، و هذا نظام دقيق لايمكن أنْ يكون من تدبير الصدفة أو عوامل عديمة العقل.

2- تعادل القوى إنَّنا نعلم أنَّ قطبين كهربائيين مختلفين يتجاذبان.

وعليه، فإنَّ الالكترونات التي تحمل شحنة سالبة لابدّ أنْ تنجذب نحو النّواة التي تحمل شحنة موجبة.

و من جهة اخرى نعلم أنَّ دوران الالكترونات حول النّواة يوجد قوّة دافعة عن المركز، أي أنَّ الالكترونات تحاول، تحت هذه القوّة الدافعة عن المركز، أنْ تبتعد عن محيط النواة، و عندها تتجزأ الذّرة. و في الوقت نفسه تريد القوّة الجاذبة أنْ تجذب الالكترونات فتفني الذّرة.

و من هنا لابدّ من أنْ ندرك الحساب الدقيق الذي بموجبه جرى تنظيم القواتين الجاذبة و الدافعة في الذّرة لكيلا تفلت الالكترونات من مدارها، ولاتنجذب نحو النّواة، بل تبقى دائماً في حالة تعادل وتوازن في حركتها الدّائمة.

فهل تستطيع الطبيعة الصماء أنْ توجد هذا التعادل والتوازن؟

3- كلّ في فلك يسبحون: قلنا إنَّ لبعض الذّرات أكثر من الكترون واحد ولكنّها لا تدور كلّها في مدار واحد، بل تدور في مدارات متعددة. ومنذ ملايين دروس في العقائد الاسلامية، ص: 58

السّنين تدور هذه الالكترونات في مدارات معينة، وفواصل محددة، و بسرعة معلومة، بغير أنْ يكون هناك أي تضاد بينها.

فهل وضعها في مداراتها المعينة ودورانها المنظم المحير عمل بسيط؟

4- طاقة الذّرة العظيمة: للتعرف على الطاقة الهائلة الكامنه في الذّرة يكفي أن نعرف مايلي:

في سنة 1945 أُنجزت تجربة في صحراء المكسيك الجرداء من كل ماء وزرع، حيث فجرت قنبلة ذرية صغيرة جداً في برج فولاذي، فذاب البرج ثم تحول الى بخار وظهر البرق مصحوباً بدوي مرعب، وعندما جاء العلماء لم يجدوا أثراً للبرج.

وفي تلك السنة نفسها ألقت الولايات المتحدة الامريكية قنبلتين ذريتين صغيرتين على مدينتي (هيروشيما) و (ناكازاكي) اليابانيتين، فابيد في الاولى سبعون الف انسان وجرح مثلهم، وقتل في الثانية نحو ثلاثين الى اربعين الفا وجرح مثلهم، بحيث اضطرت اليابان الى

الاستسلام لامريكا دون قيد أو شرط.

إن دراسة اسرار ذرة واحدة من ذرات الكون تكفي لأن يتعرف الانسان على خالقها! و عليه، إنَّ بالامكان القول بأنَّ لدينا بعدد ذرات الدّنيا أدلة على وجود اللَّه سبحانه و تعالى.

يقول القرآن الكريم:

ى وَلَو أنّما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرِةٍ أقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِذَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ى. «1»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 59

فكّر وأجب:

1- أتعرف شيئاً آخر عن أسرار حياة النملة؟

2- أتستطيع أنْ ترسم على السّبورة صورة لبناء الذّرة؟

و سيأتي بحث مكمل للدرس العاشر و هو:

ماأعظم صفات اللَّه!

صفاته سبحانه و تعالى

يجب أن تعلم أنه إذا كان التعرف على وجود اللَّه سبحانه عن طريق سبر أسرار عالم الخليقة ميسوراً، فإنَّ معرفة صفات اللَّه ليست بتلك السهولة، بل تتطلب الدّقة والحذر الشّديدين.

و قد تقول لا، إن ذلك سهلًا يسيراً، فاللَّه تعالى لايشبه أي شي ء ممّا رأينا وسمعنا، وعليه فإنَّ أوّل شرط في معرفة صفات اللَّه هو نفي جميع صفات المخلوقات عن ذاته المقدسة، أي عدم تشبيهه بأي كائن محدودِ في عالم الطبيعة، وهذا مايجرّ القضية الى منعطف ضيق، وذلك لأنَّنا ترعرعنا في أوساط هذه الطّبيعة، وارتبطنا وأنسنا بها وألفناها، ولذا نميل الى مقارنة كل شي ء بما نراه فيها.

وبعبارة اخرى إنَّ كل ما رأيناه كان جسماً وخصائص الجسم، أي الاشياء التي لها «زمان» و «مكان» و «اشكال» معينة. وعلى هذا يكون من الصعب دروس في العقائد الاسلامية، ص: 60

جداً أنْ نصف اللَّه الذي لايحده مكان ولا زمان، وهو في الوقت نفسه محيط بكل زمان و مكان، ولاتحده حدود، إنَّه أمر يتطلب الكثير من الحذر والدّقة.

مبدئياً لابدّ من القول بأنَّنا لن نعرف حقيقة اللَّه، ولاينبغي لنا ذلك، لأنَّ

توقعنا شيئاً كهذا يكون أشبه بمحاولة صبّ مياه محيط عظيم في إناء صغير، أو أن نفترض بأن جنيناً في بطن امّه يعرف كل شي ء في العالم الخارجي. فهل هذا ممكن؟

لذلك فان أصغر خطأ في هذا المجال يمكن أنْ يبعد الانسان مسافات طويلة عن الطريق الصحيح لمعرفة اللَّه، ويرمي به في متاهة عبادة الاوثان و المخلوقات الأخرى على كل حال، ينبغي أنْ نكون على حذر لئلا نقارن صفات اللَّه بصفات المخلوقات أبداً.

صفات «الجمال» و «الجلال»

تقسم صفات اللَّه عادة الى قسمين: «الصفات الثّبوتية» أي الصفات الموجودة في ذات اللَّه، و «الصفات السلبية» أي الصفات التي يتنزه عنهااللَّه سبحانه وتعالى.

وقد يسأل سائل: ترى ماهي صفات ذات اللَّه؟

الجواب: إنَّ صفات اللَّه تكون من جهة غير متناهية وغير محدودة، ويمكن من جهة اخرى تلخيصها في صفة واحدة، إذ أنَّ جميع صفاته الثبوتية تتلخص في التعبير التالي:

«ذات اللَّه لامتناهية من جميع الجهات وتتصف بجميع الكمالات».

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 61

كما أنَّ صفاته السلبية تتلخص في الجملة التّالية:

«ذات اللّه لا يعتريها النقص من جميع الجهات»

ولكن بما أنَّ للكمال والنقص درجات، أي يمكن تصور الكمال اللامتنهاهي والنقص اللامتناهي، اذن يمكن القول بأنَّ للَّه صفات ثبوتية لانهاية لها، وله صفات سلبية لانهاية لها، إذ ما من صفة كمال نتصورها الاوهي في اللَّه، وما من صفة نقص نتصورها إلّاواللَّه منزّه عنها. اذن، صفات اللَّه الثبوتية والسلبية لاحدّ لها.

أشهر صفات اللَّه

أشهر صفات اللَّه الثبوتية ثمان، و هي كمايلي:

1- «العالم»، فاللَّه عالم بكل شي ء.

2- «القادر» فهو قادر على كل شي ء.

3- «الحي»، فالحي هو كل عالم وقادر، وبما أنَّ اللَّه عالم وقادر، فهوحيّ.

4- «المريد» أي أنه صاحب إرادة وليس مجبوراً في أعماله وكل مايفعله إنَّما لحكمة ولغاية، فما من شي ء في الارض ولا في السماء صغيراً كان أم كبيراً، إلّاوكان عن غاية وهدف.

5- «المدرك» أي أنَّه يدرك جميع الاشياء، يسمع كل شي ء، ويرى كل شي ء، وهو عليم بكل شي ء خبير.

6- «القديم الازلي»، أي أنَّه كان دائما، وليس لوجوده دروس في العقائد الاسلامية، ص: 62

بداية ولانهاية، إذ أنَّ وجوده ينبع من ذاته، ولهذا فهو أزلي سرمدي فمن يكون وجوده من ذاته لا يعتريه الفناء، ولاالزوال.

7- «المتكلم» أي أنَّه قادر على إحداث موجات صوتية، فيكلم الانبياء، وليس

معنى هذا أنَّ له سبحانه لساناً وشفتين وحنجرة.

8- «الصادق» فما يقوله هو الصدق عينه والحقيقة ذاتها، لأنَّ الكذب إمّا أنْ يكون بسبب الجهل، أو بسبب الضعف، واللَّه القادر العليم يستحيل عليه الكذب.

و أمّا صفاته السّلبية، فأهمها سبع صفات:

1- ليس «مركبّاً» أي أنَّه لايتألف من أجزاء تركيبية، فلو كان كذلك لاحتاج الى أجزائه، وهم الغني غيرالمحتاج.

2- ليس «جسماً»، لأنَّ للجسم حدوداً ويكون متغيراً وفانياً.

3- ليس «مرئياً» فهو لايُرى، وإلّا كان جسماً محدوداً وفانياً.

4- ليس له «مكان»، لانَّه ليس جسماً ليحتاج الى مكان.

5- ليس له «شريك» إذ لو كان له شريك لكان محدوداً، لأنَّ كائنين غير محدودين يستحيل وجودهما معاً، ثم أنَّ وحدة قوانين الطبيعة دليل على وحدانيته.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 63

6- ليس للَّه «معان» لأنَّ صفاته هي عين ذاته.

7- ليس «محتاجاً» بل هوالغني، لأنَّ الكائن اللامتنهاهي من حيث العلم والقدرة لاينقصه شي ء.

يقول القرآن الكريم:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَي ءى. «1»

فكر وأجب 1- هل لديك أدلة اخرى على وحدانية اللَّه وأنَّه لاشريك له؟

2- هل سمعت بوجود بعض الاديان التي تؤمن بثلاثة آلهة، واخرى تؤمن بإلهين؟ اذكرها؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 65

الفصل الثّاني العدل الإلهي

الدّرس 1 ماهو العدل

اشارة

* لماذا اعتبر العدل، من بين سائر صفات اللَّه، أصلًا من أصول الدّين؟

* الفرق بين «العدالة» و «المساواة».

1- لماذا اختير العدل من بين سائر الصفات؟

قبل الخوض في هذا البحث لابدّ من أنْ يتضح لنا: لماذا اعتبر العلماء العظام صفة العدالة- التي هي واحدة من صفات اللَّه- أصلًا من «أصول الدين الخمسة»؟

إنَّ اللَّه «عالم» و «قادر» و «عادل» و «حكيم» و «رحمن» و «رحيم» و «أزلي» و «أبدي» و «خالق» و «رزاق»، فلماذا اختاروا «العدالة» دون سائر صفات اللَّه لتكون أحد أصول الدين الخمسة؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 68

للاجابة عن هذا السّؤال لابدّ من معرفة عدّة نقاط:

1- إنَّ للعدالة، من بين سائر صفات اللَّه، أهمية خاصة بحيث أنَّ كثيراً من الصفات الاخرى مترتبة عليها، لأنَّ «العدالة» بمعناها الواسع، هي وضع الأشياء في مواضعها. وعلى ذلك فان صفات اخرى مثل «الحكيم» و «الرّزاق» و «الرّحمن» و أمثالها تعتمد على العدالة في معانيها.

2- كما أنَّ «المعاد» يستند على «العدل الالهي»، وكذلك ترتبط رسالة الانبياء عليهم السلام و مسؤولية الأئمة عليهم السلام بعدالة اللَّه أيضاً.

3- ظهر في صدر الاسلام خلاف بشأن مسألة عدالة اللَّه. فقد أنكر بعض المسلمين (وهم الأشاعرة) عدالة اللَّه كلياً، وقالوا: إنَّ «العدالة» و «الظلم» لا معنى لهما بالنسبة للَّه، فجميع ما في عالم الوجود من ملكه، وكل ما يفعله فهو العدالة بعينها. لقد أنكر هؤلاء حتى «الحسن» و «القبح» العقليين، قائلين أن عقولنا لاتستطيع أنْ تدرك هاتين الصفتين مطلقتين، بل أنَّها لاتدرك حُسْنَ الحَسَن ولاقبح القبيح (وغير ذلك من الاخطاء).

وفريق آخر من أهل السنة (وهم المعتزلة) ومعهم الشيعة، قالوا بعدالة اللَّه وبأنَّه لايظلم أبداً.

وللتمييز بين هذين الفريقين، أطلقوا على الفريق الثّاني اسم «العدليين» أو «العدلية» لأنهم اعتبروا «العدل» عنوان مدرستهم و

اصلًا من أصول الدين، ومنهم الشيعة، وأطلقوا على الفريق الآخر اسم «غير العدليين».

ولكي يميز الشيعة أنفسهم عن بقية «العدليين» اعتبروا الامامة أصلًا آخر من أصول الدين.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 69

وعليه، أصبح «العدل» و «الامامة» من مميزات مذهب الشيعة الامامية.

4- بما أن فروع الدين ليست سوى إشعاعات اصول الدين، وإنَّ أشعة عدالة اللَّه شديدة التأثير في المجتمع البشري، أصبحت العدالة الاجتماعية من أهم اسس المجتمع الانساني.

إنَّ اختيار العدالة كأصل من أصول الدين يمثل رمزاً لاحياء العدل في المجتمعات البشرية ومكافحة كل أنواع الظلم.

ومثلما كان توحيد ذات اللَّه وصفاته وعبادته نوراً دعا للوحدة والاتحاد في المجتمع الانساني لتمتين وحدة الصفوف، كانت قيادة الانبياء و الائمّة عليهم السلام مثالًا «للقيادة الحقّة» في المجتمعات الانسانية.

وعليه، فإنَّ أصل عدالة اللَّه السائدة في كل عالم الوجود، إشارة الى ضرورة تطبيق العدالة في المجتمع البشري على جميع الأصعدة.

إنَّ عالم الخليقة العظيم قائم على العدالة، لذلك لايمكن أنَّ يقوم مجتمع انساني بغير العدالة.

2- ماهي العدالة؟

للعدالة معان مختلفة:

أ) معنى العدالة العام والشامل هو كما قلنا: وضع الاشياء في مواضعها. أي التوازن والتعادل. وهذا المعنى هو المهيمن على عالم الخليقة برمته، على المنظومات الشمسية، على الذّرة، على بناء كيان الانسان وجميع الحيوان والنبات. وهذا هو المعنى الذي ورد في الحديث النّبوي الشريف:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 70

«بِالعدلِ قامَتِ السَّمواتُ وَالأرضُ».

فمثلًا، لو اختل تعادل القوتين الجاذبة والدافعة في الكرة الأرضية، وزدات أحدهما على الاخرى لانجذبت الارض نحو الشمس واحترقت وتلاشت، أو لخرجت عن مدارها وتلاشت في الفضاء الفسيح.

والعدالة هي أنَّك إنْ سقيت نبتة الورد والاشجار المثمرة فقد سكبت الماء في موضعه، وهذا هو العدل بعينه، وإنْ أنت سقيت الاشواك و النباتات الغير مفيدة، فقد أرقت

الماء، في غير موضعه، و هذا هو الظلم بعينه.

ب) وثمّة معنى آخر للعدل وهو «مراعاة حقوق الناس» ويقابله «الظلم» وهو الاستئثار بحقوق الآخرين، أو انتزاع حق شخص واعطائه لآخر لا حق له فيه، أي المحاباة، وهي اعطاء بعض حقّهم، ومنعه عن آخرين.

بديهي أنَّ المعنى الثّاني «خاص» والمعنى الاول «عام»، وأنَّ كلا معنيي «العدل» يصدقان بحق اللَّه، غير أنَّ المعنى الثاني هوالمقصود في بحثنا هذا غالباً.

معنى «عدل» اللَّه هو أنه لايسلب أحداً حقّه، ولايأخذه من بعض ليعطيه لبعض آخر، فلا يحابي بين الاشخاص، فهو عادل بكل معاني الكلمة. ولسوف نتعرف على دلائل عدالته في الدّرس القادم.

إنَّ اللَّه منزّه عن «الظلم» سواء تمثل بأخذ حق أحد، أم إعطاء حق أحد لآخر، أم بالاجحاف والمحاباة.

إنَّه لن يعاقب من يعمل الصالحات، ولايثيب المسي ء، ولايأخذ أحداً بذنب أحد، ولايحرق الاخضر بجرم اليابس أبداً.

وإذا كان جميع أفراد مجتمع ما مذنبين، سوى شخص واحد، فإنَّ اللَّه تعالى دروس في العقائد الاسلامية، ص: 71

يستثني حسابه عن حساب الآخرين، ولا يحشره في مصاف المذنبين.

أمّا مقولة «الاشاعرة» بأنَّ اللَّه إذا أرسل الانبياء الى الجحيم، والمذنبين الى الجنّة لايكون ظالماً، فهي مقولة باطلة و قبيحة، و مخجلة و لا أساس لها، و إنَّ أي شخص لم يغلف عقله التعصب والخرافات يشهد بقبح هذا القول.

ج) الفرق بين «المساواة» و «العدالة»:

النقطة المهمة الإخرى التي لابدّ من الاشارة إليها في هذا البحث هي ما يجرى أحياناً من الخلط بين «المساواة» و «العدالة» باعتبار أنَّ العدالة هي تطبيق المساواة، و هو ليس كذلك.

فالمساواة ليست شرطاً من شروط العدالة، بل العدالة هي إعطاء كل حق لمستحقه وأخذ الاولويات بنظر الاعتبار.

فالعدالة بين تلاميذ صف واحد، مثلًا، ليست في منح جميعهم درجات متساوية،

وليست العدالة بين العمال في اعطائهما اجوراً متساوية. بل العدالة هي أنَّ ينال كلّ تلميذ الدّرجة التي تستحقها معلوماته و مكانته العلمية، وأنَّ ينال كل عامل اجرته بحسب أهمية العمل الذي يؤديه.

والعدالة في عالم الطبيعة تدخل ضمن هذا المعنى الواسع، فلو أنَّ قلب حوت (البالن) الذي يزن طناً واحداً قد ساوى قلب عصفور لايكاد يزن أكثر من بضعة غرامات، ماكان ذلك عدلًا، ولو تساوت جذور شجرة ضخمة مع جذور نبتة صغيرة لماكان ذلك عدلًا، بل لكان ظلماً فاضحاً.

فالعدالة، اذن، هي أن ينال كل كائن نصيبه بموجب استحقاقه واستعداده ولياقته.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 72

فكر وأجب 1- لماذا اعتبرت العدالة، من بين سائر صفات اللَّه، أصلًا من أصول الدّين؟

2- من هم الأشاعرة؟ ماذا تعرف عن معتقداتهم؟

3- ما هي تأثيرات الاعتقاد بالعدل الالهي على المجتمع الانساني؟

4- ما هي معاني العدالة؟ اشرحها.

5- هل العدالة تعني المساواة؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 73

الدّرس 2 دلائل عدالة اللَّه

1- الحسن والقبح العقليان

في البدء لابدّ لنا أن نعرف أنَّ عقلنا يدرك الى حدّ كبير «حسن» الاشياء و «قبحها»، وهذا هو ما يطلق عليه العلماء اسم الحسن و القبح العقليين.

فمثلًا، نحن نعلم إنَّ العدل والاحسان أمران حسنان، وإنَّ الظلم والبخل أمران قبيحان، وحتى قبل أنْ يتحدث الدين عن هذه الأُمور فإنَّنا نعرفها، على الرّغم من وجود أُمور اخرى لاتكفي معلوماتنا لادراكها، بل لابدّ لنا أنْ نستعين بارشاد الانبياء والقادة الالهيين.

و لذلك فمن الخطأ الفضيع ما ذهب إليه الاشاعرة المسلمون من إنكار الحسن والقبح العقليين، وقالوا بأنَّ طريق معرفتهما- حتى في حالات واضحة مثل العدل والظلم- هو حكم الشرع والدين، وذلك لأن عقلنا إذا لم يكون قادراً على ادراك الحسن والقبح فكيف يتسنى لنا أنْ نعلم بأنَّ اللَّه لايمنح دروس في

العقائد الاسلامية، ص: 74

الكاذب القدرة على الاتيان بمعجزة؟ لكننا إذا أدركنا أنْ الكذب قبيح، ويستحيل صدوره عن اللَّه، أدركنا أيضاً أنَّ وعد اللَّه حق، وقوله صدق، فلا يمكن أنْ يؤيد الكذب بأنْ يمنح الكاذب القدرة على القيام بمعجزة.

هنا يمكن الاعتماد على ما ورد في الشرع والدين، ونستنتج من هذا أنَّ الاعتقاد بالحسن والقبح العقليين أمر ديني.

نعود الآن الى دلائل العدالة الالهية، ولادراك هذه الحقيقة يجب أنْ نعرف:

2- ماهو مصدر الظلم؟

مصدر الظلم يمكن أنْ يكون أحد الأُمور التّالية:

أ- الجهل: قد نجد ظالماً لايدرى أنَّه يظلم فعلًا، ولا يعلم أنَّه يتعدى على حقوق الآخرين. و هو جاهل بما يفعل.

ب- الحاجة: قد يطمع المرء في ما يملكه الآخرون، فيوسوس له الشيطان أنْ يستحوذ عليه، ولو لا الحاجة لما كان هناك مايحمله على الظلم.

ج- الانانية والحقد والانتقام: يحدث أحياناً أنْ لاتكون الاسباب المذكورة سابقاً هي الدافع على الظلم، بل يكون السبب هو الأنانية أو الحقد أو حبّ الانتقام، فيعتدي على حقوق الآخرين، أو قد يكون السبب هو حبّ الاحتكار.

د- العجز والضّعف: يحدث أحياناً أنْ لايكون المرء راغباً في التقصير بحق الآخرين، ولكنه لاقدرة له على الامتناع عن ذلك فيرتكب الظلم.

غير أنَّ هذه الصفات القبيحة والنقائص لاوجود لها في ذات اللَّه المقدّسة،

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 75

لانَّه عالم بكل شي ء، و غنى عن كل شي ء، وقادر على كل شي ء ورحيم بالعالمين و رؤوف بهم، فلاحاجة له بالظلم.

إنَّ اللَّه غير محدود الوجود، ولا تحدّ كماله حدود، ولايصدر عنه سوى الخير والعدل والرأفة والرحمة. ولكنه اذ يعاقب المسيئين فذلك بسبب أعمالهم، كالذين يستعملون المواد المخدرة أو يشربون المشروبات الكحولية، فيصابون بمختلف الامراض القاتلة نتيجة لذلك.

يقول القرآن المجيد:

هلْ تُجْزَونَ إلّاما كُنْتُم تَعْمَلُونَ ى. «1»

3- القرآن وعدالة اللَّه

يولي القرآن الكريم هذه المسألة اهتماماً كبيراً. فيقول في الآية الكريمة:

ى إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أنْفُسَهُم يَظْلِمُونَ ى. «2»

و في موضع آخر يقول:

ى إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍى. «3»

وبالنّسبة الى الحساب والجزاء يوم القيامة يقول:

ى وَنَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاًى. «4»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 76

(بديهي أنَّ القصد من الموازين هنا هي وسائل القياس، لا الموازين الاعتيادية).

4- الدّعوة الى العدل

قلنا إنَّ صفات الانسان ينبغي أنَّ تكون انعكاساً لصفات اللَّه، بحيث تنعكس صفات اللَّه على المجتمع الانساني برمته.

وبناءً على ذلك فإنَّ القرآن، بقدر تأكيده على العدالة الالهية، يؤكد أيضاً سيادة العدل في المجتمع وفي كلّ فرد فيه. و كثيراً ما يشير القرآن الى الظلم باعتباره سبب فناء المجتمعات البشرية، ويرى عاقبة الظالمين من أفضع العواقب.

و في معرض بيان مصير الاقوام السالفة يطلب القرآن من الناس أنَّ يعتبروا بتلك الاقوام و كيف نزل بهم العذاب الالهي بسبب ظلمهم و فسادهم و كيف قضي عليهم، فيدعوهم الى أنْ يتجنبوا مصير تلك الاقوام.

ويصرح القرآن بأحد مبادئه الرئيسة فيقول:

ى إنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحسَانِ وَإيْتَاءِ ذِي القُرْبى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْي ... ى. «1»

و من الملفت للنظر أنَّ الاسلام كما يرى الظلم عملًا قبيحاً، فكذلك يرى أن قبول الظلم و الركون للظالمين يعتبر عمل مرفوض أيضاً، كما جاء في الآية 279 من سورة البقرة: ى لاتَظْلِمُونَ وَلاتُظْلَمُونَ ى.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 77

إن الاستسلام للظالمين يعني القبول بالظلم ونشره واعانة الظالم عليه.

فكّر وأجب:

1- هل يستطيع عقلنا إدراك الحسن والقبح بدون تدخل الشرع؟

2- ماهو مصدر الظلم؟ وما الدليل العقلي على عدالة اللَّه؟

3- ما الذي يقوله القرآن بشأن عدالة اللَّه وتنزيهه عن الظلم؟

4- ماهو واجب الانسان في

قبال العدل والظلم؟

5- هل في الاستسلام للظلم والخضوع له إثم ايضاً؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 79

الدّرس 3 فلسفة الكوارث و البلاء

اشارة

منذ القديم كان فريق من عديمي البصيرة و الوعي يعترضون على عدالة اللَّه، و يذكرون بعض الحالات ظناً منهم بانها لاتنسجم مع عدالة اللَّه، بل أنَّهم لم يكتفوا بنفي عدالة اللّه حتى اتخذوها ذريعة للدلالة على عدم وجود اللَّه ذاته!

و من تلك الحالات التي يستدلون بها على ذلك هي «العواصف المدمرة» و «الزلازل» والكوراث الطبيعية الاخرى وكذلك «الاختلافات» الموجودة بين بنى البشر، و وجود الآفات التي تصيب الانسان والنبات وسائر الكائنات في عالم الوجود.

و هذا البحث قد يرد ضمن موضوع معرفة اللَّه في الرد على الماديين، و قد يرد في بحث وجود اللَّه عموماً، و أحياناً في موضوع العدل الالهي، ولكي تعرف مدى خطل تلك الشبهات عند التّحليل الدّقيق، لابدّ أنْ يكون لنا بحث مسهب بهذا الشأن وأن ندرس الامور التالية بدقّة:

1- الحكم النّسبي وقلّة المعرفة

إنَّنا نستند عادة في اصدار احكامنا وتمييز المصاديق على مدى ارتباطنا بالأشياء، كقولنا أنَّ الشي ء الفلاني قريب أو بعيد، بالنسبة لموقعنا نحن، أو نقول أنَّ فلاناً ضعيف أو قوي بالقياس الى حالتنا النفسية او الجسمية. كذلك هي حال أغلب الناس عند اصدار احكامهم على القضايا الخاصة بالخير والشر والكوارث و البلايا.

فمثلًا، إذا نزل المطر في منطقة، فليس يعنينا تأثيره في المجموع العام، ولا تتعدى نظرتنا محيط حياتنا وبيتنا و مزرعتنا أو مدينتنا في الحدّ الاقصى، فاذا كان لهذا المطر تأثير ايجابي قلنا إنَّه نعمة من اللَّه، وإذا كان تأثيره سلبياً، أطلقنا عليه اسم «البلاء».

و عندما يهدمون عمارة توشك على الانهيار و ذلك لاعادة بناءها، و يكون نصيبنا من ذلك الغبار اثناء مرورنا بالمكان، نقول: ما أسوا هذا! على الرّغم من أننا سوف نشهد في المستقبل القريب بناء مستشفى حديث على أنقاض العمارة التى

تم تخريبها يستفيد منه الناس، أو أنِّ لهطول المطر في المثال السابق تأثيراً مفيداً من حيث المجموع.

إنَّنا في أحكامنا السطحية المألوفة نعتبر لسعة الحيّة شرّاً، بغير أنَّ نعلم أنَّ هذه اللسعة ومافيها من سم إنَّما هي وسيلة دفاع يستفيد منها هذا الحيوان، وإنَّ هذا السم نفسه يصنع منه دواء شاف قد ينقذ حياة الآلاف من بني البشر.

وعليه، إذا أردنا توخي الدّقة وعدم الوقوع في شراك الخطأ فعلينا أنْ نلقي نظرة على معلوماتنا المحدودة لكيلا نقيم أحكامنا على مجرد العلاقات التي تربط

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 81

الاشياء بنا، و ينبغي أنْ ننظر الى الأمر من جميع الجوانب بحيث تكون أحكامنا جامعة شاملة.

إنَّ جميع حوادث العالم، من حيث الاساس، أشبه بسلسلة مترابطة الحلقات.

إنَّ العاصفة التي تهبّ اليوم في مدينتنا، والامطار الغزيرة التي تهطل، ما هي الا حلقات في السلسلة المديدة التي ترتبط بحوادث تجري في مناطق اخرى وكذلك ترتبط بحوادث جرت في «الماضى» واخرى سوف تجرى في «المستقبل».

و عليه، فإنَّ النظر الى نقطة صغيرة واصدار حكم حاسم بشأنها بعيد عن العقل والمنطق.

إن بعض أفعال الناس يمكن اعتبارها «شرّاً مُطلقاً» ولكن إذا كان الامر من جهة خيراً ومن جهة شرّاً مع الغلبة للخير كالعملية الجراحية المؤلمة من جهة والمفيدة من جهات اخرى يعتبر خيراً نسبيا.

وللتوضيح نعود الى مثال الزلزلة: صحيح أنَّها تؤدي الى الدمار في مكان معين، ولكننا إذا أخذنا بنظر الاعتبار علائق هذه الظاهرة المتسلسلة بأُمور اخرى في الطبيعة لتغير حكمنا.

هل أن الزلزلة ترتبط بحرارة باطن الارض والابخرة المتكونة فيه؟ أم أنَّها ترتبط بقوة جاذبية القمر التي تجذب ماعلى الارض من جمادات نحوها؟ أم أنها ترتبط بكليهما؟ إنَّ للعلماء نظريات مختلفة بهذا الخصوص.

ولكن مهما كان

السبب، فلابدّ لنا أنَّ ننظر الى الآثار الاخرى لهذه الظاهرة.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 82

من ذلك، مثلًا، يجب أنْ نعرف تأثير حرارة باطن الارض في تكوين منابع النفط التي تعتبر من أهم مصادر الطاقة في عصرنا، وكذلك في تكوين الفحم الحجري و أمثالهما. وعليه فإنَّ حرارة باطن الارض خير نسبي.

كذلك الامر بالنسبة للمد و الجزر الحاصلين بتأثير جاذبية القمر لمياه البحار، إذ أنَّ لهما أهمية كبرى في حركة مياه البحار والابقاء على حياة الكائنات البحرية، وكذلك في ارواء السواحل الجافة في المناطق التي تصب فيها المياه العذبة في البحر. هذا أيضاً خير نسبي.

من هذا ندرك أنَّ أحكامنا النسبية ومعلوماتنا المحدودة هي التي تظهر أمثال هذه الحوادث بصورة نقاط مظلمة على صفحة الخليقة. وكلما تعمقنا في التأمل و التفكير في العلائق التي تربط هذه الحوادث ببعض أدركنا أهميتها.

يقول لنا القرآن المجيد:

ى وَمَا أُوتِيْتُم مِنَ العِلْمِ إلّاقَلِيلًاى. «1»

فلا ينبغي لنا بعلمنا القليل هذا أنْ نتعجل اصدار الاحكام.

2- الحوادث السيئة و الانذار

إنَّنا جميعاً نعرف أشخاصاً عندما غمرتهم النعم، أصابهم «الغرور» و «حبّ الذات» فنسوا- وهم في هذه الحالة- الكثير من واجباتهم الانسانية.

كما إننا جميعاً نعرف أشخاصاً إذا كانوا متنعمين بالرّاحة والدّعة وسارت دروس في العقائد الاسلامية، ص: 83

بهم الامور على وتيرة واحدة من الهدوء والاستقرار، إنتابتهم حالة من «السبات والغفلة»، و هي حالة اذا دامت عندهم أدّت الى تعاستهم وشقائهم ولا شك أنَّ بعض الحوادث المنغصة هدفها وضع حد لتلك الحالة من الغرور وايقاظ الانسان من سبات الغفلة.

و لابدّ أنَّكم سمعتم بأنَّ سواق السيارات المحترفين يشكون من الطرق الممهدة المعبدة الخالية من الانعطافات حيث يرون أنَّ هذه الطرق خطرة، وذلك لأنَّ رتابتها تحمل السائق على الشعور بالنعاس وفي هذه الحالة يكمن

الخطر.

ولذلك نجد هذه الطرق في بعض البلدان قد اصطنعوا لها الانحناءات والمرتفعات والمنخفضات للحيلولة دون وقوع السّواق في مثل تلك الحالات.

إن خطر مسار الحياة لا يختلف عن ذلك. فاذا خلت الحياة من المنعطفات والالتواءات والمنخفضات، واذا لم يعتورها أحياناً بعض المنغصات، استولت على الانسان تلك الحالة من نسيان اللَّه والغفلة عن ذكره وعن القيام بالواجبات الملقاة على عاتقه.

و لا نقول طبعاً أنَّ على الانسان أن يصطنع لنفسه الحوادث المنغصة وأنَّ يبحث عن الاحزان، وذلك لأنَّ أمثال هذه الحوادث موجودة دائماً في حياة الانسان. ولكننا نريد التذكير بأن الحكمة في هذه الحوادث أحياناً هي الوقوف بوجه الغرور والغفلة والنسيان المعادية لسعادة الانسان. نكرر القول بأنَّ هذه هي الحكمة من بعض تلك الحوادث، لا كلّها، إذ أنَّ هناك حوادث اخرى سوف نتحدث عنها إنْ شاء اللَّه.

يقول كتابنا السماوي العظيم:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 84

ى فَأخَذْنَاهُم بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَهُم يَتَضرَّعُونَ ى. «1»

فكر وأجب 1- من هم الذين طرحوا الكوارث و الابتلاءات في البحوث العقائدية؟

2- هات نماذج للكوارث و الابتلاءات، و هل صادفتك في حياتك؟

3- ماذا نقصد بالحكم النسبي والمطلق، وما هو «الشر المطلق» و «الخير النسبي»؟

4- هل الأعاصير والزلازل مضرة دائماً؟

5- كيف يمكن أنْ تكون لمنغصات الحياة آثار إيجابية في نفسية الانسان؟

الدّرس 4 حكمة المصائب التى تصيب الانسان في حياته

اشارة

قلنا إنَّ فريقاً من المخالفين تناولوا الحوادث المأساوية و ظهور الابتلاءات و المشكلات والاحباطات التي تصيب الانسان في حياته، وجعلوها ذريعة لانكار عدالة اللَّه، بل حتى إنكار وجود ذات اللَّه.

و في البحث السّابق حللنا بعضاً من تلك الحوادث واشرنا الى حكمتين إثنتين لها. والآن نواصل البحث عنها مرّة اخرى

3- الانسان ينمو في أحضان المشكلات

نكرر مرّة اخرى أنَّ الانسان ينبغي الّا يخلق بيده المشاكل و المصائب لنفسه. ولكن كثيراً مايحدث أنْ تكون الحوادث الصعبة و المأساوية سبباً في تقوية إرادتنا وزيادة قدرتنا على التحمل، كالفولاذ الذي يدخلونه النّار الحامية فيزداد قوّة وصلابة.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 86

إنَّنا ندخل أتون هذه الحوادث لنخرج أكثر تجربة وأصلب عوداً.

فالحرب حدث سي ء ولكن ربّ حرب ضروس طويلة الامد كشفت عن مواهب الشعب الكامنة، وأبدلت تشتته وحدة، وأسرعت في جبران نواقصه.

يقول أحد المؤرخين الغربيين المعروفين:

«إنَّ كلّ حضارة لامعة ظهرت على امتداد التاريخ فى مكان ما ظهرت بسبب تعرض ذلك الشعب لهجوم دولة عظمى خارجية، فأيقظت قواه الكامنة وحشدتها».

بديهي أن تأثر جميع الاشخاص والمجتمعات بحوادث الحياة المرّة ليس بمستوى واحد، فالبعض ينتابهم اليأس ويستولي عليهم الضعف والتشاؤم، فيكون تأثرهم سلبياً، و البعض الآخر يملكون الاستعداد و الاهلية ليتفاعلوا مع تلك الحوادث تفاعلًا إيجابياً، فيكون ذلك سبباً في تنمية مواهبهم ومؤهلاتهم فتتفجر و تتفتق قابلياتهم و تسرع لاصلاح نقاط الضعف فيهم.

ولكن بما أنَّ معظم الناس يصدرون أحكاماً سطحية في مثل هذه الحالات، فانهم يرون المنغصات ويتذوقون مرارتها، دون الالتفات الى آثارها الايجابية البنّاءة.

إنَّنا لا ندّعي بأن جميع الحوادث المرّة لها مثل هذه التأثيرات على الانسان، ولكن لقسم منها، على الاقل، مثل هذه التأثيرات.

ولو إنَّك درست سيرة نوابغ العالم لرأيت أنَّهم في الاغلب قد كبروا وترعرعوا في

خضم المشكلات والمصاعب. وقلّما تجد بين المتنعمين دروس في العقائد الاسلامية، ص: 87

المرفهين من أظهر شيئاً من النّبوغ في حياته ووصل الى مراكز رفيعة.

إنَّ القادة العسكريين العظام هم اولئك الذين شهدوا ابتلت بمشاكل حروباً طويلة صعبة في سوح القتال. والعقول الاقتصادية المتفكرة هي التي ابتلت بمشاكل الاسواق والازمات الاقتصادية في العالم. و السياسيون العظام الاقوياء هم الذين استطاعوا منازلة الأزمات السياسية العويصة. و باختصار، فان المشكلات وا لآلام هي التي تربى الانسان في أحضانها. نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:

ى فَعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثيْرَاًى. «1»

4- المشاكل تسبب العودة الى اللَّه

قرأنا في الدّروس السّابقة أنَّ لكل جزء من أجزاء وجودنا هدفاً معيناً.

فالعين خلقت لهدف، والاذن خلقت لهدف آخر، وكذلك القلب والدّماغ والاعصاب خلقت كل منها لهدف، و حتى خطوط رؤوس أناملنا في خلقها هدف وحكمة.

إذن، كيف يمكن أنْ يكون كلّ وجودنا بدون هدف و حكمة؟

و قد قرأنا في الدّروس السابقة أنَّ الهدف ليس سوى بلوغ الانسان التكامل من جميع الوجوه.

فلاشك أنَّ الوصول الى هذا التكامل يتطلب برامج تعليمية و تربوية عميقة تستغرق كل كيان الانسان. و من أجل ذلك فإنَّ اللَّه سبحانه وتعالى، فضلًا عن دروس في العقائد الاسلامية، ص: 88

كونه قد وهب الانسان فطرته التوحيدية الطاهرة، ارسل الانبياء العظام والكتب السماوية للإضطلاع بمهمة قيادة الانسان في مسيرته التكاملية.

و في غضون ذلك، يريه اللَّه أحياناً انعكاسات ذنوبه ويواجهه ببعض المشكلات و الآلام في حياته، للوصول به الى التكامل عن طريق انكشاف عواقب أعماله القبيحة المشؤومة، فيندم ويعود بتوجهه الى اللَّه. و في هذه الحالة تكون بعض المشكلات والحوادث المؤلمة رحمة من اللَّه ونعمة. وفي هذا يقول القرآن الكريم:

ى ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي

النَّاسِ لِيُذِيْقَهُم بَعْضَ الّذَي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ ى. «1»

و بهذا فان نظرتنا الى الحوادث المؤلمة على اساس أنَّها «شرّ وبلاء» وأنَّها تخالف العدالة الالهية، تعتبر نظرة بعيدة كل البعد عن المنطق والدّليل العقلي، إذ إنَّنا كلما إزددنا تعمقاً في هذا الموضوع إزداد أمامنا وضوح مافيه من حكمة وما وراءه من فلسفة.

فكّر وأجب:

1- ما هو الهدف من خلقنا؟ وكيف نصل الى هذا الهدف؟

2- كيف يزداد الانسان خبرة وصلابة عن طريق مواجهة المشكلات ومقاومتها؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 89

3- هل سمعتم أو قرأتم عن أشخاص قويت شكيمتهم واشتدت عزائمهم وبلغوا مناصب مهمّة بسبب احتمالهم المشكلات القاسية؟ احكوا لنا ما تعرفونه عنهم؟

4- ما الذي يقوله القرآن بشأن نتائج ذنوبنا؟

5- من الذي يتوصل الى نتائج إيجابية من الحوادث المؤلمة؟ ومن الذي يصل منها الى نتائج سلبية؟

الدّرس 5 عودة الى الحكمة من الابتلاءات و الكوارث

اشارة

لمّا كانت قضية المصائب و الكوارث المؤلمة تعتبر مشكلة مستعصية بوجه الباحث عن معرفة اللَّه والتوحيد، فلابدّ من العودة مرّة أخرى لبحث هذه القضية و تحليلها و مواصلة ما أوردناه عن الحكمة في بعض المصائب و الابتلاءات.

5- إقبال الحياة و ادبارها و المشكلات تهب الحياة روحاً وحيوية

لعل من الصعب على الكثيرين أدراك أنَّ النّعم والعطايا إذا إستمرت على وتيرة واحدة تفقد قيمتها وأهميتها.

فلقد ثبت اليوم علمياً إنَّنا إذا وضعنا جسماً في حجرة مدورة ملساء تماماً وسلطنا عليه نوراً قوياً من جميع الجهات لما امكنت رؤية ذلك الجسم. لأنَ دروس في العقائد الاسلامية، ص: 92

وجود الظل الممتد من الجسم بسبب الضوء هو الذي يعين لنا أبعاد الجسم ويميزه عمّا يحيط به، وعندئذ نستطيع أنْ نراه.

كذلك هي حال عطاءات الحياة، فلا يمكن رؤيتها بغير الظلال الخفيفة والثقيلة. ولولا المرض في بعض فترات الحياة لما عرفنا لذّة السّلامة. إنَّنا على أثر ليلة من الحمى الشديدة والصداع القاتل الاليم، نشعر صباًحا بعد انقطاع الحمى وزوال الصداع باللذة والحلاوة في العافية بحيث إنَّنا كلّما تذكرنا تلك اللّيلة العصيبة أدركنا قيمة السّلامة والعافية عندنا.

إنَّ الحياة نفسها، حتى المسرفة في الرفاهية والرخاء، تكون مملة وعديمة الروح وقاتلة لو أنَّها مضت على وتيرة واحدة. و كثيراً ما لوحظ أن بعض النّاس يعانون الألم والعذاب بسبب رتابة حياتهم المرفهة الخالية من كل منغص وقلق الى درجة أن بعضهم يقدم على الانتحار، أو لا يكف عن الشكوى من حياته.

إنَّك لن تجد مهندساً معمارياً يملك ذوقاً يبني جدران غرفة الاستقبال رتيبة مسطحة مثلما يبنى جدران السجن، بل أنَّه يضيف عليها من الانعطافات والانحناءات المناسبة ليخرجها من الرتابة.

لماذا يتميز عالم الطبيعة بكل هذا الجمال؟

لماذا تثير فينا الغابات على سفوح الجبال، والانهار المنسابة بين الاشجار و هي

تلتوي في المنعطفات كالأفعى، هذا الشعور بالبهجة؟

إنَّ أحد الأجوبة هو: أنَّها ليست رتيبة.

إنَّ من أهم آثار نظام «النّور» و «الظّلام»، وتعاقب الليل والنهار الذي دروس في العقائد الاسلامية، ص: 93

يشير اليه القرآن في عدد من آياته، كسر رتابة الحياة الانسانية، إذ لو ظلّت الشّمس تطلع من مكان واحد في السماء على الكرة الأرضية، بغير أنْ تغير موضعاً ولا أنْ تترك مكانها الى الليل لكي يسدل أستاره، و يصرف النظر عن المشكلات الاخرى، لانتاب البشر التعب والملل.

فعلى هذا الاعتبار لامندوحة لنا من الاعتراف بأنَّ قسماً، على الاقل- من حوادث الحياة المؤلمة لها تأثيرها في اضفاء الحيوية على الحياة، فتجعلها حلوة يمكن تحملها، وتبرز نعمها وقيمها، و تتيح للانسان الفرصة لكي يستفيد ممّا وهبه اللَّه بأقصى مايستطيع.

6- المشكلات المختلفة

النّقطة الاخرى التي نرى من الضرورة الاشارة إليها في ختام هذا البحث هو أنَّ كثيراً من الناس يخطئون في معرفة علل هذه الحوادث المنغصة و البلاءات النازلة، فيضعون الظلم الذي يرتكبه الظالمون في حساب ظلم الطبيعة.

يقولون مثلًا: لماذا تكثر الاحجار في طريق الأعرج؟ لماذا تكون ضحايا الزلازل في المدن أقل من القرى والارياف؟ فأي عدالة هذه؟ إذا كان لابدّ من توزيع كارثة ما على الناس، فلماذا لا تتوزع بالتساوي؟ لماذا يتوجه نصل الحوادث المؤلمة الى المستضعفين دائماً؟ لماذا تنتشر الامراض المسرية و الفتاكة بين هؤلاء أكثر من انتشارها بين غيرهم؟

هؤلاء لايدركون أنَّ هذه الامور لاعلاقة لها بالطبيعة و لا بعدالة اللَّه، بل هى من نتائج ظلم الانسان لاخيه الانسان واستعماره و استغلاله.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 94

لو لم يكن اهل القرى يعيشون في الفقر والحرمان بسبب ظلم سكان المدن، بل كانوا قادرين على تشييد دورهم بالمتانة التي يشيد بها اهل المدن

دورهم في المدينة، لما وقعت اكثرية ضحايا الزلازل في القرية.

ولكن عندما لا يكون بمقدورهم أنْ يبنوا دروهم، إلّامن الطين أو الحجر و الاخشاب، دون استعمال الاسمنت والحديد، بل يضعون كتل الطين أو الحجر و بدون تخطيط بعضاً فوق بعض، فلاشك أنَّها ستكون عرضة للانهيار عند هبوب أية ريح أو وقوع زلزلة خفيفة. وفي هذه الحالة لايمكن أنْ نتوقع لهم مصيراً أفضل. ولكن ما علاقة هذا بعدالة اللَّه؟

إنَّنا لايجوز لنا أنْ نعترض قائلين: إنَّ اللَّه قد أعطى بعض الناس مائة نعمة ونعمة، وأجلس آخرين على تراب الذلة، فذلك يسكن في قصر منيف، وهذا في كوخ ضعيف!

هذه الانتقادات ينبغي أنْ توجه الى الوضع الاجتماعي الذي فقد توازنه واختل نظامة وسار في اتجاه خاطي ء. يجب النهوض لوضع حد للظلم الاجتماعي وفقدان العدالة في المجتمع، وللقضاء على الفقر والحرمان، ولإعادة حقوق المستضعفين لاصحابها، لكي لا تحدث هذه الظواهر.

و لو أنَّ جميع طبقات الشعب نالوا الغذاء، الكافي والعلاج الطبي اللازم، لاستطاعوا جميعاً ضمان صحتهم ومقاومة الامراض.

ولكن عندما تكون الحالة الاجتماعية في نظام إجتماعي متدنّية، والحكومة توفّر لطبقة من الطبقات كلّ الامكانات بحيث أنَّ كلابها وقططها تحظى بالعناية الطّبية وبالعلاج والدواء، بينما لايتوفر لطبقة أخرى حتى الحدّ الادنى البدائي من دروس في العقائد الاسلامية، ص: 95

العناية الصّحية للاهتمام بمواليدها الجدد، فان نسبة الوفيات بين أفرادها ستكون حتما مرتفعة ويرى الانسان الكثير من تلك المشاهد المؤلمة.

ففي أمثال هذه الحالات، بدلًا من توجيه النقد الى أفعال اللَّه، علينا أنْ نوجهه الى أفعالنا.

علينا أنْ نقول للظالم: لاتظلم:

وعلينا أنْ نقول للمظلوم: لا تخضع للظلم!

وعلينا أنْ نسعى لكي ينال جميع أفراد المجتمع الحد الادنى، من العناية الصّحية والعلاجية والغذائية و السكنية والثقافة والتعليم والتربية.

لذلك ليس لنا

أنْ نلقي بتبعة ذنوبنا وآثامنا على عاتق نظام الخليقة. متى فرض اللَّه تعالى علينا حياة كهذه؟ متى امرنا بمثل هذا النظام؟

صحيح أنَّ اللَّه قد خلقنا أحراراً. لانّ الحرية هي أساس التكامل والتقدم، ولكننا نحن الذين نسي ء استغلال هذه الحرية و نستسيغ انزال الظلم بالآخرين.

فتظهر نتايج هذا الظلم بصورة اضطرابات اجتماعية.

ولكن الذي يؤسف له أنْ يسود هذا الخطأ فيسيطر على جموع كثيرة من الناس، حتى شوهدت آثار ذلك في شعر بعض الشعراء المعروفين.

يقول اللَّه في كتابه المجيد:

ى إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكنَّ النَّاسَ أنْفُسَهُم يَظْلِمُونَ ى. «1»

وهكذا نصل الى نهاية بحثنا في فلسفة البلاء و الكوارث. على الرّغم من دروس في العقائد الاسلامية، ص: 96

الكثير الذي يمكن أنْ يقال في هذا الموضوع، إلّاأنَّ الذي قلناه يكفي لهذا البحث المختصر و المفيد انشاءاللَّه.

فكر وأجب 1- لماذا أجرينا البحث في فلسفة البلاء و الكوارث على امتداد ثلاثة دروس؟

2- ما هو الاثر السي ء الذي تتركه الحياة الرتيبة؟ هل سبق لك أنْ رأيت شخصاً يتألم من حياته المرفهة؟

3- ماذا تعرف عن فلسفة النّور والظلام في عالم الخلق؟

4- هل أنَّ سبب مصائب المجتمع هو نظام الخليقة، أم أنَّ لنا يداً في بعضها أيضاً؟

5- هل هناك وسيلة صحيحة للقضاء على المشكلات الاجتماعية؟ ماهو واجبنا نحو المستضعفين تجاه ذلك؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 97

الدّرس 6 الجبر والتّفويض

اشارة

من المسائل التي لها علاقة بالعدل الالهي هي مسألة الجبر والتفويض (أو الجبر والاختيار).

فيرى الجبريون أنَّ الانسان في أعماله وأقوله وسلوكه ليس مختاراً وأنَّ حركات أعضائه أشبه بالحركات الجبرية في أقسام جهاز من الأجهزة الالية.

هذه الرؤية تثير في الذّهن هذا السّؤال: ترى كيف تنسجم هذه الفكرة مع الاعتقاد بالعدل الالهي؟ ولعل هذه هي الفكرة التي حدت بالأشاعرة- الذين

سبق أنَّ قلنا إنَّهم ينكرون الحسن والقبح العقليين- الى القبول بفكرة الجبريين في انكار عدالة اللَّه، إذ أنَّ مع القبول بفكرة الجبريين لايعود هناك للعدالة الالهية أي مفهوم.

ولتوضيح هذا الأمر لابدّ من التطريق بدقّة الى عدد من مواضيع:

1- مصدر الاعتقاد بالجبرية

كل شخص يدرك في قرارة نفسه أنَّه حرّ في اتخاذ ما يشاء من القرارت.

فمثلًا يقرر أنْ يقدم عوناً مادياً لصديقه الفلاني، أو لايقدم له شيئا. أو أنَّه عندما يكون عطشان ويرى الماء امامه، له الحرية في أنْ يشرب أولايشرب. أو أنَّ فلاناً قد أساء اليه، فله أنْ يغفر له أولا يغفر. أو أن كل شخص يميز بين اليد التي ترتعش بسبب الشيخوخة، واليد التي تتحرك وفق إرادة صاحبها.

إذن، فاذا كانت مسأله حرية الارادة شعور عام في الانسان، فلماذا يذهب بعض الناس مذاهب جبرية؟

بديهي إنَّ لذلك أسباباً متعددة نورد لكم هنا واحداً منها: يلاحظ الانسان أنَّ للمحيط تاثيراً في الافراد، وكذلك التربية، والتلّقين. والاعلام، والثقافة الاجتماعية. كل هذه تؤثر في فكر الانسان وروحه. كما أنَّ الحالة الاقتصادية تكون أحياناً باعثاً على سلوك معين في الانسان. ولايمكن أيضاً إغفال العامل الوراثي.

هذه الظّروف بمجموعها تجعل الانسان يظن أنَّ لا خيار له فيما يفعل. وإنّما هي العوامل الذاتية من الداخل ومن الخارج كلها تضع يداً بيد وتحملنا على القيام ببعض الاعمال التي ربّما لم نكن لنقدم عليها لولا تلك العوامل.

هذه أُمور يمكن أن توصف بأنَّها وليدة المحيط أو الظروف الاقتصادية أو التعليم والتربية أو الوراثة، وهي من العوامل المهمّة التي تدفع بالفلاسفة نحو الجبرية.

2- النّقطة الرّئيسية في خطأ الجبريين

إنَّ النّقطة الرّئيسية التي غفل عنها الجبرية هي أنَّ القضية ليست قضية «الدّوافع» و «العلل الناقصة»، بل هي قضية «العلة التّامة» و بعبارة اخرى لا أحد ينكر تاثير «المحيط» و «الثقافة» و «العوامل الاقتصادية» في تفكر الانسان وأفعاله. ولكن القضية هي إنَّنا مع كل تلك العوامل نظل قادرين على اتخاذ القرار بغير إجبار، بل بمحض اختيارنا.

نحن ندرك بكل جلاء باننا حتى لو كنا بيئة

طاغوتية منحرفة، مثل النظام الطّاغوتي الشاهنشاهي (في ايران) سابقاً، حيث توفرت كل وسائل الانحرافات، لم نكن مجبرين على الانحراف، وفي ذلك المحيط وتلك الثقافة كنا نستطيع أنْ لانرتشي، وأنْ لانرتاد بؤر الفساد، و أنْ لا نحيا حياة متحللة.

لذلك علينا أنْ نفصّل بين «الظّروف» و «العلة التّامة».

ولهذا كثيراً ما نرى أشخاصاً ترعرعوا في محيط عائلي مرفه، أوفي محيط اجتماعي منحط، أو أنَّهم ورثوا موروثات سيئة، ومع ذلك فإنَّهم فصلوا طريقهم عن طريق الآخرين. بل ثار بعضهم حتى ضد المحيط الذي عاش فيه. فلو كان الانسان إبن محيطه وثقافة زمانه و إعلام عصره، لكان على الجميع أنْ يخضعوا لذلك المحيط، ولما كانت هناك أية ثورة ضد المحيط في محاولة لتغييره.

يتضح من هذا أنَّ العوامل المذكورة ليست عوامل مصيريه حاسمة، بل هي عوامل ممهدة، فالمصير الأصل هو الذي يصنعه الانسان بارادته و قراره، وهذا أشبه مايكون بحالنا في عزمنا على الصيام في صيف قائظ حارق، فإنّ كلّ ذرّة في كياننا تطلب الماء بالحاح، ولكننا إطاعة لأمر اللَّه، نتغاضى عن كلّ ذلك دروس في العقائد الاسلامية، ص: 100

ونستمر في صيامنا، وقد يكون هناك من يضعف أمام العطش فلا يصوم.

الخلاصة هي إنَّ وراء، جميع العوامل والدّوافع عاملًا مصيرياً إسمه حرية الانسان في اتخاذ قراره.

3- العامل الاجتماعي والسّياسي في المذهب الجبري

الحقيقة إنَّ مسألة «الجبر والتفويض» قد أسي ء استعمالها إساءة بالغة على امتداد التاريخ، واستطاعت عوامل ثانوية كثيرة أنْ تقوي جانب الجبر وانكار حرية ارادة الانسان و من تلك العوامل:

أ- العامل السّياسي كثير من الحكام الجبارين المعاندين الذين سعوا لإطفاء مشاعل ثورة المستضعفين لادامة حكمهم غير المشروع، كانوا يتعهدون فكرة الجبرية ويشيعونها، قائلين: أنَّنا لانملك حرية الاختيار، و إنَّ يد القدر وجبرية التاريخ تمسك بمصائرنا، فاذا كان

بعض أميراً، وبعض أسيراً، فذاك حكم القضاء والقدر والتاريخ.

و لايخفى ما لهذا الاتجاه في التفكير من تأثير في تخدير طبقات الشعب وفي تأييد إستمرار السياسات الاستعمارية، بينما الحقيقة هي أنَّ مصائرنا- عقلا وشرعاً- في أيدينا، وإنَّ القضاء والقدر بمعنى الجبر وسلب الارادة لاوجود له، فالقضاء والقدر الالهي يتعيّن بحسب حركتنا وإرادتنا وايماننا وسعينا.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 101

ب- العامل النّفسي هناك أشخاص ضعفاء وكسالى وغالباً مايكون الاخفاق نصيبهم في الحياة، ولكنهم لايريدون الاعتراف بهذه الحقيقة المرّة، وهي أنَّ كسلهم أو أخطاءهم هي السبب في اخفاقهم، لذلك ولكي يبرئوا أنفسهم، يتمسكون بأذيال الجبرية، ويضعون أوزارهم على عاتق مصيرهم الاجباري، لعلهم بهذا يعثرون على وسيلة تمنحهم شيئاً من الهدوء الكاذب، فيعتذرون قائلين: ماذا نفعل؟ لقد حيك بساط حظنا منذاليوم الاول باللون الاسود، وليس بمقدور مياه زمزم وكوثر أنْ تحيل سواده بياضاً. إنَّنا كتلة من الهمة والاستعداد، ولكن مع الاسف أنَّ الحظ لايحالفنا!

ج- العامل الاجتماعي يحب بعض الناس أنْ يكونوا أحراراً في التمتع واشباع أهوائهم وارتكاب ماتشاء لهم رغباتهم الحيوانية من الجرائم والآثام، وفي الوقت نفسه يقنعون أنفسهم بأنَّهم ليسوا مذنبين، ويخدعون المجتمع بأنَّهم أبرياء. وهنا يلجأون الى عقيدة الجبرية، فيتذرعون في أعمالهم بأنَّهم غير مختارين!

ولكننا، بالطبع، نعلم إنَّ كل هذا كذب محض، بل إنَّ الذين يتذرعون بهذا العذر يؤمنون بأنَّه واهٍ ولا اساس له، إلّاأنَّ انغماسهم في اللّذائذ الرخيصة لا تسمح لهم باعلان هذه الحقيقة.

لذلك لابدّ لنا في سعينا لبناء المجتمع بناء سليماً أنْ نكافح هذه المعتقدات الجبرية والمقولات عن الحتمية التي يستغلها المستعمرون، وتتخذ وسيلة لتسويغ الاخفاق الكاذب ولإفشاء الفساد في المجتمع.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 102

فكر وأجب 1- ما الفرق بين «الجبر» و «التّفويض»؟

2- ما

هي أهم ادعاءات الجبرية؟

3- ما رأيك في تأثير البيئة و الثقاقة و الوراثة؟

4- ما هي العوامل «السّياسية» و «النّفسية» و «الاجتماعية» التي تؤيد عقيدة الجبرية؟

5- ماهو واجبنا تجاه هذه العوامل؟

الدّرس 7 الدّليل على حرية الارادة والاختيار

1- الوجدان العام في البشر يدحض الجبرية

على الرّغم من أنَّ الفلاسفة والعلماء الالهيين أكثروا البحث فى مسألة حرية إرادة الانسان، ولهم على ذلك أدلة مختلفة ولكننا لكي نختصر الطريق نتناول أوضح الادلة على حرية إرادة الانسان، وهو الوجدان الانسانى العام:

إذا استطعنا أنْ ننكر كلّ شي ء فليس بامكاننا أنْ ننكر هذه الحقيقة وهي أنَّ جميع المجتمعات البشرية سواء أكانت تعبد اللَّه أم كانت مادية، شرقية أم غربية، قديمة أم حديثة، غنية أم فقيرة، متقدمة أم متخلفة ومهما تكن ثقافتها فإنّها جميعاً وبدون استثناء تؤيد ضرورة وجود «قانون» ينظم حياة المجتمعات البشرية، أي أنَّ الفرد مسؤول أمام القانون. وأنَّ الذي يخالف القانون يجب أن يعاقب بشكل يناسب مخالفته.

إنَّ سلطة القانون و مسؤولية الافراد ومعاقبة المخالف أُمور متفق عليها بين دروس في العقائد الاسلامية، ص: 104

جميع عقلاء العالم، هذه المسألة هي التي نطلق عليها اسم (الرأى العام العالمي) وتعتبر أوضح دليل على حرية ارادة الانسان وتمتعه بحرية الارادة.

فكيف يمكن أنْ نصدق أنَّ انساناً يكون مجبراً في أعمال و تصرفاته و لا يملك حرية الارادة، ثم نعتبره مسؤولًا أمام القانون، فاذا نقض القانون أتينا به الى قاعة المحكمة واستنطقناه، لماذا فعل هذا؟ ولماذا لم يفعل ذاك؟ وبعد اثبات خروجه على القانون نحكم بسجنه أوباعدامه.

هذا أشبه بجلبنا الصخور، التي تتهاوى من الجبال فتقتل الناس في الطرقات، الى المحكمة لمحاكمتها!

صحيح أنَّ الانسان يختلف كثيراً في الظاهر عن صخرة من الصخور، ولكننا إذا أنكرنا إرادة الانسان، فلن يكون لهذا الاختلاف الظاهري أي أثر، فكلاهما يكونان تحت تأثير عوامل

قهرية مجبرة، فالصخرة المحكومة بقانون الجاذبية تسقط على الناس في الطريق، والانسان المجرم أو القاتل يكون تحت تأثير عوامل قهرية مجبرة اخرى فبناء على عقائد الجبريين، ليس هناك أي فرق بين هذين من حيث النتيجة، فكلاهما لم يرتكب ذلك العمل باختياره، فلماذا نحكم على أحدهما دون الآخر؟

إنَّنا على مفترق طريقين: أمّا أن نقول بخطأ الرأى العام في العالم، ونعتبر كل القوانين والمحاكم ومعاقبة المجرمين عبثاً في عبث، بل ظلماً فادحاً، وإمّا أنْ ننكر مايذهب اليه الجبريون واتباعهم.

و لا شك إنَّ الرأى الاخير هو المتّعين!

و إنَّه لمن الغرابة بمكان أنْ نجد الذين ينحون في عقائدهم وافكارهم دروس في العقائد الاسلامية، ص: 105

الفلسفية منحى الجبريين و يأتون بالأدلة عليها، ينحازون الى جانب حرية الارادة عند دخولهم في معترك الحياة! فهم إذا اعتدى أحد على حقوقهم أو ألحق بهم ضرراً وأذى، يرونه جديراً بالتوبيخ والعتاب، وقد يشكونه الى المحاكم، بل ربّما ثاروا وهاجوا ولم يهدأوا حتى ينال غريمهم العقاب القانوني!

حسناً، فاذا كان الانسان غير مختار في أفعاله حقّاً، وأنّ مايفعله ليس بارادته، فلم كل هذا التوبيخ والعتاب والشكوى و الهيجان؟

على كل حال، إنَّ هذا الرأي العام لعقلاء العالم دليل حي على حقيقة كون الانسان يؤمن في اعماقه بحرية الارادة، وكان دائماً كذلك، بل إنَّه لا يستطيع أنْ يحيا يوماً واحداً بخلاف ذلك، وبغير أنْ يدير عجلة حياته على محور هذا الايمان.

يقول الفيلسوف الاسلامي العظيم (الخواجه نصير الدين الطوسي) في بحث الجبر والتفويض، في عبارة قصيرة:

«... والضرورة قاضية باسناد أفعالنا إلينا». «1»

2- التناقض بين منطق «الجبرية» و منطق «الدين»

إنَّ الكلام المذكور آنفاً كان في تناقض الجبرية مع الرأي العام عند عقلاء العالم، سواء الذين يدينون بدين والذين لادين لهم اطلاقا.

إلّا أنَّ هناك دليلا آخر

من وجهة النظر الدينية تبطل أفكار الجبرية، و هو إنَّ الاعتقادات الدينية لايمكن أنْ تنسجم مع الفكر الجبرى، إذ أنَّ قبول ذلك دروس في العقائد الاسلامية، ص: 106

يصيب العقائد الدّينية بالخلل و الشلل.

كيف يمكن القول بعدالة اللَّه- وهي التي أثبتناها بجلاء في الدورس السابقة- ثم نقول أنَّها لاتناقض العقيدة الجبرية؟ كيف يمكن القول بأنَّ اللَّه يجبر انساناً على القيام بعمل، ثم يعاقبه على مافعل؟

وبناء على ذلك، إذا قبلنا بالمدرسة الجبرية، لايكون هناك معنى للقول بوجود «ثواب» و «عقاب» و «جنة» و «نار». كما لايكون هناك مكان لمفاهيم مثل «صحيفة الاعمال» و «السؤال» و «الحساب الالهي» و ماجاء في القرآن من ذم المسيئين والثناء على المحسنين، وذلك لأنَّ الجبريين يقولون: لا المحسن مختار في إحسانه، ولا المسي ء مختار في أساءته.

ثم إنَّنا إذا تغاضينا عن كل ذلك، فإنَّ أوّل اتصال لنا بالدين نواجه «التكليف والمسؤولية». ولكن هل يمكن أنْ نكلف شخصاً بأي تكليف ونحمله مسؤولية ذلك إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل؟

أيجوز أنْ نأمر شخصاً ترتعش يده دون إرادة بأنْ يوقف ارتعاش يديه؟

أم هل يجوز أنْ نطلب من شخص يتدحرج من سفح جبل شديد الانحدار أنْ يتوقف ولاينحدر؟

ولهذا قال أميرالمؤمنين علي عليه السلام يصف مايقوله الجبريون:

«... تلك مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرّحمن وحزب الشّيطان». «1»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 107

فكر وأجب 1- ما هو أوضح دليل على بطلان الجبر؟

2- اشرح الرأي العام العالمي حول مبدأ حرية الارادة؟

3- هل مؤيدوا الجبرية يلتزمون الجبرية في التطبيق العملي؟

4- هل ينسجم الاعتقاد بالجبر مع مبدأ العدالة لالهية؟ ولماذا؟

5- كيف تكون حرية الارادة هي الاساس في القبول بالتّكاليف والمسؤوليات؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 109

الدّرس 8 ما معنى «الأمر بين الأمرين»؟ المدرسة الوسط

1- «التّفويض» في قبال «الجبر»

بازاء الاعتقاد بالجبر، الذى يقع في

جانب «الافراط»، هناك اعتقاد آخر باسم «التفويض»، ويقع في جانب «التفريط».

يرى الذين يعتقدون بالتفويض أنَّ اللَّه قد خلقنا وترك كل شي ء بيدنا، فلا دخل له في أعمالنا وأفعالنا، وبناء على ذلك يكون لنا الحرية الكاملة و الاستقلال التام فيما نفعل بلامنازع!

و لاشك في أنَّ هذا المعنى لايتفق ومبدأ التوحيد، إذ أنَّ التوحيد قد علمّنا أنَّ كل شي ء ملك اللَّه، ومامن شي ء يخرج عن نطاق حكمه، بما في ذلك أعمالنا التي نقوم بها مختارين وبمل ء حرية إرادتنا، و إلّافإنَّه شرك.

وبعبارة أوضح: ليس بالامكان القول بوجود إلهين، أحدهما هو الاله الكبير، خالق الكون، والآخر الاله الصغير، أي الانسان الذي يعمل مستقلًا

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 110

وبكل حرية بحيث أنَّ اللَّه الكبير لايستطيع أنْ يتدخل في أعماله!

هذا، بالطبع، شرك وثنائية في العبادة، أو تعدد في المعبود، فعلينا إذن أنْ نعتبر الانسان صاحب الارادة فيما يفعل، وفي الوقت نفسه نؤمن بأنَّ اللَّه حاكم عليه وعلى أعماله.

2- المدرسة الوسط

إنَّ النقطة المهمّة والدّقيقة هنا هي أنْ لايختلط علينا الأمر فنحسب هذين الأمرين متناقضين. الدقّة في الأمر هي إنَّنا نؤمن ب (عدالة) اللَّه إيماناً تاماً، ونؤمن في الوقت نفسه بحرية عباد اللَّه ومسؤوليتهم، وب (التوحيد) وشمول حكمه عالم الوجود كلّه، وهذا هو ما يعبر عنه بمذهب (الأمر بين الأمرين)، أي الامر الوسط بين معتقدين متطرفين غير صحيحين.

ولما كان هذا الموضوع على شي ء من التعقيد، فسنورد مثالًا توضيحياً:

أفرض أنَّك تقود قطاراً كهربائياً في سفرة، فلابدّ أنْ يكون هناك سلك كهربائي قوي يمتد فوق القطار. تنزلق عليه الحلقة المتصلة بالقطار، فيتحرك هذا بانتقال طاقة كهربائية قوية من محطة لتوليد الكهرباء الى ماكنة القطار باستمرار. بحيث لو انقطع التيار لحظة واحدة لتوقف القطار فوراً.

بديهي أنَّك قادر على

أنْ تتوقف أثناء الطريق حيثما تشاء، ولك أنْ تزيد من سرعة القطار أو أنْ تخفف منها. ولكنك على الرّغم من حريتك هذه، فإنَّ الشخص القائم على إدارة محطة توليد الكهرباء قادر في أية لحظة أنْ يوقف حركتك، وذلك لأنَّ قدرتك كلها تعتمد على تلك الطاقة الكهربائية التي يتحكم فيها شخص غيرك.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 111

إذا دققنا النظر في هذا المثال نجد أنَّه على الرغم من حرية سائق القطار في الحركة والسكون، إلّاأنَّه يقع في قبضة شخص آخر، وأنَّ هذين الأمرين لايتعارضان.

مثال آخر:

أفرض إنَّ شخصاً أصيبت يده بالشلل على أثر حادث عرضي، فلا يستطيع تحريكها، ولكننا إذا أوصلناها بطاقة كهربائية خفيفة أمكن ايصال الحرارة اليها بحيث تتمكن من التحرك.

فاذا ارتكب هذا الشخص بهذه اليد جريمة، فقتل شخصاً أوصفع أحداً، فإنَّ مسؤولية ذلك لاشك تكون عليه، لأنَّه كانت له القدرة و الإرادة، و أنَّ الشخص إذا ملك (القدرة والارادة) يكون مسؤولًا عن أعماله.

ولكن الشخص الذى يوصل القوة الكهربائية الى يد الجانى ويولّد فيها القدرة يكون هو المسيطر الحاكم عليه، في الوقت الذي يكون فيه صاحب اليد مالكاً لحرية إرادته واختياره.

و الآن لنعد الى موضوعنا:

لقد وهبنااللَّه القدرة والقوة، ومنحنا العقل والذكاء وهي طاقات لاينقطع وصولها إلينا من اللَّه، ولو توقف لطف اللَّه عنّا لحظة واحدة وانفصمت رابطتنا به لقضي علينا قضاء تاماً.

إنَّنا إذا كنا قادرين على إنجاز عمل، فقدرتنا قد وهبها اللَّه لنا ومازالت تصل إلينا باستمرار بلا انقطاع، بل إنَّ حرية إرادتنا أيضاً من عنده، أي أنَّه هوالذي أراد لنا أنْ نكون أحراراً في إرادتنا لكي نواصل مسيرتنا نحو التكامل بهذه الهبات الالهية.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 112

بناء على ذلك فاننا في الوقت الذي نملك فيه حرية

إرادتنا واختيارنا، نظل تحت سيطرة القدرة الإلهية، ولايمكن أن نخرج من نطاق حكمه.

إنَّنا في لحظة القدرة والقوة نكون مرتبطين به تعالى ولايمكن أن نكون شيئاً بدونه. هذا هو معنى (الأمربين الأمرين). وبهذا لانكون قد وضعنا أحداً نظيراً لله تعالى ليكون شريكا له، ولانكون قد اعتبرنا عباد اللَّه مجبرين في أعمالهم لنقول إنَّهم مظلومون، فتأمل!

لقد تعلمنا هذا الدرس من مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فعندما كان الناس يسألونهم عمّا إذا كان هناك سبيل بين (الجبر والتفويض) كانوا يقولون، نعم، أرحب ممّا بين السماء والارض. «1»

3- القرآن ومسألة الجبر والتفويض

يؤكد القرآن المجيد في هذه المسألة على حرية إرادة الانسان بجلاء ووضوح في المئات من الآيات التي تصرح بحرية إرادة الانسان.

أ- جميع الآيات التي تتناول الأوامر والنواهي والفرائض تدل على حرية إرادة الانسان في اختيار سبيله، إذ لو كان الانسان مجبراً في أعماله لما كان ثمّة معنى في الامر والنهي.

ب- جميع الآيات التي تذم المسيئين وتمدح الصالحين تدلّ على حرية الارادة، وإلّا فلامعنى في الذّم والمدح إذا كان الانسان مجبراً.

ج- جميع الآيات التي تتحدث عن الحساب يوم القيامة ومحاكمة الناس في دروس في العقائد الاسلامية، ص: 113

تلك المحكمة، ثم الحكم بالعقاب أوبالثواب، أي النار والجنّة، هي دليل على حرية الانسان في مايعمل، لأنَّه بالفرض والاجبار لايكون هناك معنى للمحاسبة والمحاكمة ويكون إنزال العقاب بالمسيئين ظلماً محضاً.

د- جميع الآيات التي تدور حول:

ى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِيْنَةٌى. «1»

و ى وَكُلُّ امْرِىٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ى. «2»

تدلّ دلالة واضحة على حرية إرادة الانسان.

ه- ثمّة آيات مثل:

ى إنّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيْلَ إمّا شاكِراً وَإمّا كَفُوراًى. «3»

واضحة الدّلالة على هذا الامر.

إلّا أن هناك آيات في القرآن المجيد تعتبر دليلا على «الأمر بين الامرين»، غير أن بعض الجهلاء يخطئون

فهمها فيرونها دليلًا على (الجبر). منها:

ى وَمَا تَشَاءُونَ إلّاأنْ يَشَاءَ اللَّهُ ى. «4»

من الواضح إنَّ هذه الآية وأمثالها لاتعني تجريد الانسان من حرية الاختيار، بل تريد أنْ تؤكد للانسان إنه في الوقت الذي يكون فيه تام الحرية والاختيار، لايخرج عن أمر اللَّه، كما مرّ بنا توضيحه.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 114

فكر وأجب 1- ما معنى «التفويض»؟ وما النقيصة الكامنة فيه؟

2- اشرح بعبارات جلية مبدأ «الأمر بين الأمرين» الذي تعلمناه من ائمّة أهل البيت عليهم السلام. أيّد شرحك بمثال واضح.

3- ماذا تقول الآيات التي تتحدث عن مسألة الجبر والتفويض 4- إذا نحن قبلنا بعقيدة الجبر، فما يكون من أمر يوم القيامة والجنّة والنّار والحساب؟

5- هل الآيات الكريمة أمثال: ى وماتشاءون إلّاأن يشاء اللَّه ى دليل على الجبر؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 115

الدّرس 9 الهداية و الضلالة بيد اللَّه

1- أنواع الهداية و الضلالة

لو إلتقاك مسافر غريب بيده عنوان، و سألك أنْ تدلّه على مكان. فإن أمامك طريقين لهدايته و إرشاده الى مايريد:

الأوّل: إنْ تصحبه بنفسك حتى توصله الى مقصده، ثم تودعه وتذهب.

وهذا هو الكمال في عمل الخير.

الثاني: أنْ تشير له بيدك الى حيث ينبغي أنْ يتوجه وتريه مختلف الدلائل والمعالم الموجودة في طريقه الى حيث يريد.

و في كلتا الحالتين تكون أنت قد «هديته» الى هدفه. ولكن مع اختلاف الحالتين، فالحالة الثانية هي «إرشاده الى الطريق» و الاولى هي «إيصاله الى الهدف». والهداية قد وردت في القرآن الكريم وفي أخبارنا الاسلامية بكلا المعنيين.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 116

وأحياناً يكون للهداية جانبها (التّشريعي) فقط، أي إنَّها تتحقق عن طريق التّشريعات والقوانين، وقد يكون لها جانبها «التكويني» وهو «هداية» النطفة في طريق الخلق باتجاه تكوين الانسان الكامل الخلقة. وقد ورد هذان المعنيان في القرآن والاخبار أيضاً. بمعرفتنا أنواع الهداية (وما يقابلها

من الضّلال).

نعود الى الموضوع:

نقرأ في كثير من الآيات أن الهداية والضلال من عمل اللَّه. لاشك أنَّ «اراءة الطّريق» تكون من قبل اللَّه عن طريق ارساله الانبياء والرسل. وانزاله الكتب السماوية لكي يدل الانسان على الطريق.

غير أنَّ «الايصال الى الهدف» قسراً لايأتلف ومبدأ حرية الاختيار. ولكن بما أنَّ اللَّه يضع تحت تصرفنا جميع الوسائل اللازمة للوصول الى الهدف، وأنَّه هو الذي يشملنا بالتوفيق في سيرنا في هذا الطريق: فإنَّ هذه الهداية تكون أيضاً- بهذا المعنى- من قِبَل اللَّه، أي عن طريق تهيئة الوسائل واعداد المقدمات ووضعها في متناول يد الانسان.

2- سؤال مهم

و هنا يتبادر هذا السّؤال المهم، فنحن نقرأ في القرآن الكريم:

ى فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيْزُ الحَكِيْمُ ى. «1»

بعض الناس يغفلون عن معاني آيات القرآن وماجاء في تفسيرها و علاقة

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 117

بعضها ببعض، فيبادرون حالما يقرأون هذه الآية الى الاعتراض قائلين: مادام اللَّه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء فما ذنبنا نحن؟

القضية المهمة هي أنَّنا يجب دائماً أنَّ نأخذ بنظر الاعتبار ارتباط الآيات فيما بينها حتى نتعرف على مفاهيمها الحقيقية و هنا نورد لك نماذج اخرى من الآيات الخاصّة بالهداية والضلال لكي نضعها الى جانب الآية المذكورة، ثمّ نستنتج منها النّتيجة المطلوبة:

ففي الآية 27 من سورة ابراهيم نقرأ:

ى وَيُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِيْنَ ى.

وفي الآية 34 من سورة غافر نقرأ:

ى كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ى.

وفي الآية 69 من سورة العنكبوت نقرأ:

ى وَالّذِيْنَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُم سُبُلَناى.

وهكذا نلاحظ أنَّ (إشاءة) اللَّه ليست بغير حساب، فهو لايوفّق أحداً لهدايته، أو يسحب هدايته من أحد، بغير حساب.

فالذين يجاهدون في سبيل اللَّه، و يواجهون الصعاب، و المشاكل، و يجالدون أهوائهم النفسية ويقفون بصلابة

في وجه اعداء الدين، هم الذين وعدهم اللّه تعالى بهدايته، وهذا هو العدل بعينه.

أمّا الذين يقيمون صرح (الظلم و الجور) ويسيرون في طريق «الاسراف والشك» و «ايجاد الريبة و التردد» فإنّ اللَّه يحرمهم من التوفيق والهداية، وتصبح قلوبهم مظلمة سوداء بسبب أعمالهم تلك، فلا ينالون مرتبة الوصول الى منزل السعادة. وهذا هومعنى إنَّ اللَّه يضل من يشاء، وذلك بوضعنا امام نتائج أعمالنا

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 118

وهو العدالة بعينها أيضاً، فتأمل!

3- العلم الازلي سبب العصيان

آخر نقطة أود بحثها في موضوع «الجبر و التفويض» هي الذريعة التي يتذرع بها بعض الجبريين، وهي علم اللَّه الازلي.

يقولون: هل يعلم اللَّه، إنَّ فلاناً يقوم في الساعة الفلانية بجريمة قتل، أويشرب الخمر؟ إذا قلت: لايعلم فقد أنكرت علم اللَّه. وإذا قلت: يعلم فلابدّ لهذا الشخص أنْ يفعل مافعل، وإلّا كان علم اللَّه مغايراً للواقع.

ومن أجل أنْ يتحقق علم اللَّه، فإنَّ العصاة مجبرون على ارتكاب خطاياهم، كما أنَّ الصالحين مجبرون على القيام باعمالهم الصالحة!

إنَّ الذين اتخذوا هذه الذريعة ليخفوا وراءها جرائمهم وآثامهم قد فاتتهم في الواقع حقيقة واحدة، وهي إنَّنا نقول أنَّ اللَّه عالم منذ الازل بأنَّنا سنقوم بارادتنا وبمل ء اختيارنا بالاعمال الصالحة أوالطالحة، أي إنَّ اختيارنا وإرادتنا معلومان عنداللَّه عزّ وجلّ، وهذا يعني أنَّ القول بالجبر يكون خلاف علم اللّه تعالى فتأمل!

اسمحوا لي أنْ اوضح هذا الموضوع ببعض الاسئلة: لنفرض أنَّ معلماً يعرف أنَّ الطالب الفلاني الكسلان سوف يسقط في آخر السنة، وأنَّه واثق من ذلك كلّ الثّقة استناداً الى مالديه من خبرة وتجارب طويلة.

فهل يحق لهذا الطالب، إذا سقط في النهاية، أنْ يأخذ بخناق هذا المعلم بحجّة أنْ تنبؤه ومعرفته أجبرته على السقوط؟

و لنذهب أبعد من ذلك فنفترض أنَّ هناك شخصاً معصوماً من الخطأ.

وأن دروس في العقائد الاسلامية، ص: 119

هذا الشخص قد علم بأنَّ حدثاً جنائياً سوف يقع في اليوم الفلاني، فيرى من المصلحة أنْ يتدخل في الأمر، فهل علم هذا الشخص المعصوم يرفع المسؤولية عن المجرم ويعتبره مجبراً على ارتكاب الجريمة؟

و مرّة أُخرى لنفرض انهم أخترعوا جهازاً يتنبأ بحدوث الحوادث قبل و قوعها بساعات. فتخبر بأنَّ فلاناً سوف يقوم بكامل اختياره بالعمل الفلاني في السّاعة الفلانية. فهل هذه المعلومات تكون سبباً في اعتبار الشخص مجبراً على أنْ يفعل مايفعل؟

الخلاصة إنَّ علم اللَّه لايجبر أحداً على القيام بعمل أبداً.

فكر وأجب 1- ما هي أنواع الهداية؟ إشرحها.

2- أذكر بعض الآيات التي تنسب الهداية والضلال الى اللَّه.

3- كيف تفسر الهداية والضلالة الالهيتين؟

4- مامعنى علم اللَّه الأزلي؟

5- هل يجردنا العلم الأزلي من حرية إرادتنا ويرفع عنّا المسؤولية؟ إضرب لذلك مثلا.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 121

الدّرس 10 العدل الالهي ومسألة الخلود

نقرأ في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تتحدث عن عقاب بعض الكفار والآثمين المتمثل ب (الخلود) في العذاب والنار.

الآية 68 من سورة التوبة تقول:

ى وَعَدَ اللَّهُ المُنافِقِيْنَ وَالمُنافِقَاتِ وَالكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدينَ فِيْهَاى.

و في القسم الآخر من الآية نفسها يعد اللّه عزّوجلّ الرّجال والنّساء بالخلود في الجنة، حيث قال:

ى وَعَدَ اللّهُ المُؤمِنِيْنَ والمُؤمِناتِ جِنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خَالِدينَ فِيهاى هنا يبرز أمامنا السؤال التالي: كيف يجوز أنْ يعاقب شخص ارتكب إثماً خلال عمره، الذي قد لايتجاوز ثمانين أومائة عام، فيعاقب على ذلك بالبقاء

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 122

في العذاب ملايين السنين، أو أكثر؟

هذا التساؤل ليس مهماً، بالطبع، بالنسبة للثواب، إذ أنَّ بحر رحمة اللَّه واسع، وكلما ازداد الثواب كان ذلك أدل على رحمته وفضله. ولكن بالنسبة للاعمال السيئة، كيف يمكن أنْ يعاقب المرء على

سيئات محدودة بعذاب خالد؟ كيف ينسجم هذا المعنى مع العدالة الإلهية؟ ألا يجب أنْ يكون هناك نوع من التوازن بين الجريمة والعقاب؟

الجواب:

للوصول الى جواب شاف ونهائي لهذا السّؤال ينبغي أنْ نلاحظ الأُمور التالية:

أ- إنَّ العقوبات يوم القيامة لاتشبه كثيراً من العقوبات في هذه الدنيا، كأن يرتكب أحدهم في هذه الدّنيا جريمة السّرقة مثلا فيعاقب بالسّجن مدّة معينة، بل إنَّ عقوبات يوم القيامة أكثر ما تكون بهيئة آثار أعمال الانسان وخصائصها.

وبعبارة أوضح، إنَّ العذاب الذي يعاني منه المذنبون في عالم الآخرة هو نتيجة أعمالهم التي إقترفوها. يقول القرآن في تعبير صريح:

ى فَاليَومَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَونَ إلّاما كُنْتُم تَعْمَلُونَ ى. «1»

ولنضرب مثلًا بسيطاً يجسد هذه الحقيقة:

لو إعتاد شخص على تعاطي المخدرات والمشروبات الكحولية، و كلما

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 123

نصحوه بترك هذه المواد السامة التي تضر بمعدته وتضعف قلبه وتحطم أعصابه، لم يجدوا عنده أذنا صاغية، بل يستمر في الاستمتاع الموهوم بهذه المواد القاتلة حتى تظهر عليه آثار قرحة المعدة وانهيار الاعصاب وأمراض القلب. ويبقى بعد ذلك طوال عمره يعاني الآلام من تلك الامراض و يئن منها ليلًا و نهاراً.

فهل يمكن أنْ نعترض هنا فنقول إنَّ هذا الشخص الذي لم يذنب سوى بضعة أسابيع أو أشهر، كيف يظل يعاني بقية عمره ولسنوات عديدة من تلك الآلام و يتحمل كل ذلك العذاب؟ لاشك إنَّ الجواب سيكون فوراً: تلك هي نتائج أعماله، أو حتى لو أُعطى عمر نوح أو أكثر وعاش آلاف السنين. فانك كلما رأيته يتألم من تلك الامراض قلت: هذا العذاب هو الذي أنزله بنفسه بمحض إرادته وكامل وعيه.

إذن «أكثر» عقوبات يوم القيامة من هذا القبيل وعليه فلايبقى أي مجال للاعتراض على عدالة اللَّه.

ب) من

الخطأ أنْ يظن بعضهم أن مدّة العقاب يجب أنْ تتناسب مع مدّة الذنب. لأنَّ العلاقة بين الذّنب وعقابة ليست علاقة زمنية. بل تتعلق بكيفية الذنب ونتائجه.

فقد يقتل شخص رجلًا بريئاً في لحظة واحدة، فيحكم عليه بالسجن المؤبد حسب قوانين بعض البلدان. فهنا نلاحظ أنَّ زمن الذنب لم يتجاوز بضع لحظات، بينما العقاب يمتد عشرات السنين، ومع ذلك لايعترض أحد على ذلك بأنَّه ظلم، وذلك لأنَّ القضية هنا ليست قضيه دقائق وساعات وأشهر و سنوات، بل هي قضية كيفية الجرم ونتائجه.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 124

ج) «الخلود» في النار و العقاب الأبدي إنَّما يحيق بالذين يغلقون أمام أنفسهم جميع منافذ النجاة، ويغرقون عن عمد ووعي في الفساد والكفر والنفاق، بحيث أنَّ ظلام الإثم يغطي جميع أرجاء وجودهم حتى يصبحوا كتلة من الكفر والعصيان.

وفي هذا يقول القرآن في تعبير رائع:

ى بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأحَاطَتْ بِهِ خَطِيْئَتُهُ فَأُولئِكَ أصْحَابُ النّارِ هُم فِيها خالِدُونَ ى. «1»

وهؤلاء هم الذين قطعوا كل صلة لهم باللَّه، واغلقوا في وجوههم جميع نوافذ النجاة والسعادة. إنَّهم أشبه بالطّائر الذي يقوم عمداً بكسر أجنحته واحراقها، فيمسي مجبراً على المكوث على الارض دائماً، محروماً من التحليق في أجواء السماء العالية.

أذا أخذنا النقاط الثلاث المذكورة بنظر الاعتبار إتضح لنا أنَّ قضية الخلود في العذاب الإبدي لبعض المنافقين والكفار لاتتناقض ومبدأ العدالة، لأن الخلود في العذاب جاء نتيجة لأعمالهم، على الرّغم من أن الانبياء والرسل قد أبلغوهم أن لتلك الاعمال نتائج مرّة ومشؤومة.

و لاريب في أنَّ الذين لم تصلهم دعوة الانبياء فارتكبوا ما ارتكبوا من باب الجهل، فان عقابهم لايكون بتلك الشدّة.

ولابدّ من القول بأنَّه يستفاد من الآيات والاخبار الاسلامية أنَّ بحر رحمة اللَّه من السّعة والانفتاح بحيث

بحيث أنه يغسل بامواجه ذنوب الكثير من الآثمين:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 125

فبعض بالشفاعة ... وبعض بالعفو والغفران، وبعض لما قاموابه من أعمال صالحة صغيرة، ولكن اللَّه بعظمته يثيبهم عليها ثواباً عظيماً، وبعض آخر يقضون فترة العقاب ليتطهروا في بوتقة التصفية الالهية، ثم يعودون الى كنف الرحمة الالهية. ولايبقى إلّاأولئك المعاندون، أعداء اللَّه، الذين أصروا على الظلم والفساد والنفاق حتى غرقوا فى ظلمات كفرهم وظلالهم.

فكر وأجب 1- كيف يظن بعضهم، أنَّ الخلود في النّار يتعارض مع العدل الالهي؟

2- هل تشبه عقوبات العالم الآخر العقوبات في هذه الدنيا؟ فإنْ لم تكن، فكيف هي؟

3- هل تقتضي العدالة أنْ يكون هناك تناسب بين فترة الإثم وفترة العقاب؟

4- من هم الذين يكون عقابهم الخلود في النار؟

5- من هم الذين يشملهم العفو الالهي؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 127

الفصل الثّالث معرفة النّبوّة

الدّرس 1 الحاجة الانبياء كقادة ربانيين

قصور علمنا

اشارة

قد يتساءل البعض: هل من الضروري أنَّ يبعث اللَّه الانبياء لهداية الانسان؟ ألا يكفي عقلنا وحكمتنا لادراك الحقائق؟ ألا يساهم تقدم العلوم عند البشر في كشف الاسرار الغامضة وتوضيح الحقائق جميعها؟

ثمّ أنَّ ما يأتي به الانبياء لايخرج عن حالتين اثنتين: فإمّا أنْ يدركه عقلنا، أو لا يدركه.

ففي الحالة الاولى، لاحاجة لتجشم الانبياء هذا العناء، وفي الحالة الثانية، لايمكننا أنْ نتقبل اموراً هي خلاف ما يراه عقلنا.

ومن جهة اخرى هل يصح أنْ يضع الانسان نفسه تحت تصرف شخص آخر كلياً ويطيع أوامره دون أي اعتراض؟ أو ليس الانبياء بشراً مثلنا؟

فكيف نضع انفسنا تحت تصرف انسان لايختلف عنّا بشي؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 130

للاجابة عن هذه الاسئلة لابدّ من الأخذ بنظر الاعتبار النّقاط التّالية التي سوف تبيّن أهمية وجود الانبياء لبني البشر:

1- علينا أنْ ندرك أنَّ علمنا قاصر ومحدود، فعلى الرّغم من كل

هذا التقدم العلمي الذي حققه الانسان في مختلف ميادين العلم و المعرفة، فإنَّ ما نعلمه بالنسبة لما جهله لايكاد يبلغ مقدار قطرة الماء بازاء البحر، أو بازاء الجبال، أو كما قال أحد كبار العلماء: إنَّ كل ما نعلمه اليوم لا يزيد على الالف باء في كتاب عالم الوجود العظيم.

وبعبارة اخرى إنَّ المساحة التي يحكمها عقلنا وادراكنا مساحة صغيرة تنيرها أشعة العلم، أمّا ماهو الواقع وراء ذلك فلا علم لنا به إطلاقاً. فيأتي الانبياء ليلقوا لنا الضوء على مناطق أوسع بالقدر الذى نحتاجه. صحيح أنَّ عقلنا أشبه بكاشف قوي النور، ولكن الانبياء بما يأتون به من الوحي الالهي يكونون أشبه بالشّمس التي تطلع على الكائنات. أفهناك من يقول: مادمنا نملك هذا الكاشف القوي، فما حاجتنا بالشمس؟

وبتعبير أوضح نقول: إنَّ امور الحياة يمكن تقسيمها الى ثلاثة أقسام:

«المعقول» و «غيرالمعقول» و «المجهول».

والانبياء لايمكن انْ يقولوا شيئاً «غير معقول» وخلافاً لما يقول به العقل وتحكم به الحكمة، فاذا قالوا فهم ليسوا أنبياء. إنَّما الانبياء يعينوننا على إدراك المجهولات، وهو أمر مهم لنا.

وعليه، فمن يقول: إنَّنا بوجود العقل والحكمة لانحتاج الى الانبياء (مثل الطائفة البرهمية في الهند وفي أماكن اخرى ، أو من يقول: مع العلم وانجازاته دروس في العقائد الاسلامية، ص: 131

وانتصاراته العلمية، لم تعد حاجة الى الانبياء وتعليماتهم. كلاهما لم يعرفا حدود العلم عند البشر، ولارسالة الانبياء الإلهية فهم أشبه بالصّبي الذي درس الحروف الهجائية في المدرسة ثم قال إنَّه أصبح عالماً بكل شي ء ولم يعد بحاجة الى المعلم والاستاذ.

ثم إنَّ الانبياء ليسوا مجرد معلمين، فإنَّ مركزهم كقادة له حساب خاص سوف نتناوله بالشرح إنْ شاء اللَّه.

2- لم يقل أحد إنَّ على المرء أنْ يضع نفسه بشكل

تام تحت تصرف شخص آخر مثله، أمّا الانبياء الذين ينطقون عن الوحي الالهي، فعلينا أنْ نتأكد من ارتباطهم بعلم اللَّه اللامتناهي عن طريق الادلة الدامغة. ففي هذه الحالة وحدها يمكن أنْ نتقبل أقوال هؤلاء القادة الرّبانيين بمجامع قلوبنا. فلو أنَّ أحداً عمل وفقاً لارشاد طبيب ماهر، فهل يكون عمله هذا مرفوضاً؟

إنَّ الانبياء عليهم السلام أطباء روحانيون عظام!

فاذا استوعبت درس معلم ينسجم مع عقلي وفكري، فهل أكون قد أخطأت؟

إنَّ الانبياء عليهم السلام معلمون كبار!

ويحسن بنا أنْ نبحث أدلة ضرورة إرسال الأنبياء من قبل اللَّه عزّوجلّ.

إنَّ هناك ثلاثة أدلة حيّة تؤكد حاجتنا الى هداية الانبياء:

1- الحاجة الى التعلم

لو إنَّنا ركبنا سفينة وهميّة مصنوعة من أمواج النور، تنطلق بسرعة ثلاثمائة

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 132

الف كيلومتر في الثّانية في هذا الفضاء اللامتناهي، فإنَّنا سوف نحتاج الى الآلاف من مثل عمر نوح حتى نستطيع أنْ نكتشف زاوية من هذا الكون الواسع المترامي الاطراف.

إنَّ هذا الكون باتساعه المخوف لم يخلق عبثاً حتماً. لقد علمنا من دروس «معرفة اللَّه» أنَّ خلق هذا العالم لا ينفع اللَّه بشي ء، لانَّه كامل، وغير محتاج، ولانهاية له، فليس به نقص لكي يسعى لسدّه عن طريق خلق العالم والبشر.

و نستنتج من هذا أنَّ هدفه هو أن يفيض على البشر من جوده ورحمته، ليوصل الكائنات الاخرى الى التكامل، كالشمس التي تشرق بنورها على أهل الارض بغير أنْ تكون محتاجة اليهم، بل نحن الذين نحتاج الى ضوئها، وإلّا فما ذا نستطيع أن نفعل كي تستفيد منه الشمس؟

و من جهة اخرى هل تكفي معلوماتنا وحدها للسير بنا في طريق التكامل وايصالنا الى مرحلة الانسان الكامل من جميع الوجوه؟

تُرى كم نعرف من أسرار العالم؟ ماهي حقيقة الحياة؟ متى وجد هذا العالم؟

إنَّ أحداً

لايعرف الجواب القاطع عن هذه الاسئلة.

حتى متى سنبقى؟ لا أحد يعرف الجواب كذلك.

و من حيث الحياة الاجتماعية والاقتصادية كل عالم من علماء البشر له رأى أو نظرية.

فبعض يوصون بالرأسمالية، وفريق آخر يرون الاشتراكية والشيوعية، وآخرون يرفضون هذا وذلك.

وفي مسائل الحياة الاخرى تجد مثل هذا الاختلاف قائماً وبكثرة، ويصاب دروس في العقائد الاسلامية، ص: 133

الانسان بالحيرة، الى أيهما نركن و ايهما نختار؟

هنا لابدّ لنا من الاعتراف بأنَّنا- ولكي نصل الى هدف الخلق الأصيل و هو «نمو الانسان وتكامله وتربيته على جميع المستويات»- نحتاج الى مجموعة من التّعليمات الصّحيحة والسّليمة والخالية من كل خطأ، والمستندة الى حقائق الحياة الواقعية، تمكّن الانسان من السير في الطريق الطويل الموصل الى هدف الخلق الاصيل.

وهذا لايكون إلّاعن طريق العلم الإلهي، أي الوحي السماوي الذي ينزل على الانبياء. ولهذا فإنَّ اللَّه الذي خلقنا لكي نسير في هذا الطريق لابدّ له أنْ يتيح لنا مثل هذا العلم وهذه المعرفة.

2- الحاجة الى القائد اجتماعياً واخلاقيا

إنَّ فينا- كما نعلم- إضافة الى العقل، غرائز وميولًا قوية، مثل غرائز حبّ الذّات، والغضب، والجنس، وغرائز اخرى كثيرة.

إنَّنا إذا لم نكبح جماح غرائزنا وتركناها تسيطر علينا، فإنَّ عقلنا سيكون مقيداً محجوراً عليه ويكون الانسان كجبابرة التّاريخ وطغاته وأشد خطراً من ذئاب الصحاري المفترسة.

لذا فنحن بحاجة الى التربية الاخلاقية على يد مرّب، والى «الأسوة» الذي نحاكيه في الاقوال والافعال ونحذو حذوه.

إنَّ أسوة كهذا يجب أن يكون ذا تربية كاملة من جميع الجهات بحيث يستطيع أنْ يأخذ بيدنا في هذا الطريق الكثير المنعطفات وينقذنا من طغيان دروس في العقائد الاسلامية، ص: 134

غرائزنا، ويزرع في نفوسنا اصول الفضائل والاخلاق بأعماله وأقواله، ويربّينا على الشجاعة وحبّ البشر، والمروءة، والتضيحة، والوفاء، والصدق، والامانة، وطهارة الرّوح.

فمن هو الحقيق بأنْ

يكون قدوة واسوة غير نبي معصوم؟

ولهذا فإنَّ اللَّه القادر الرحيم لايمكن أنْ يحرمنا من أمثال هؤلاء الانبياء المربين الهداة.

(ستأتي بقية هذا البحث في الدرس القادم)

فكر وأجب 1- إذا ازددنا علماً ومعرفة فهل تظن أنَّ معلوماتنا تفوق مجهولاتنا؟ مثّل لذلك.

2- هل تستطيع أنْ تبين الفرق بين التقليد الأعمى واتَّباع الانبياء؟

3- إذا سرنا على طريق مجهول بدون هاد يهدينا، فما الاخطار التي قد تهددنا؟

4- بيّن أبعاد حاجتنا الى قيادة الانبياء؟

5- ما هو الموضوع الذي تظن أنَّه بقي الى الدرس القادم في هذا البحث؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 135

الدّرس 2 الحاجة الى الانبياء كمشرعين

اشارة

في الدّرس السّابق أدركنا الحاجة الى الانبياء في مجالي «التربية» و «التعليم». والآن لنرى ما هو الدّور المهم الذي يضطلع به الانبياء فى القوانين الاجتماعية.

فكلنا نعلم أنَّ أهم سمة تتسم بها حياة الانسان، والتي تعدّ أهم عامل في تقدمه و انجازاته في مختلف أدوار حياته، هي الحياة الاجتماعية.

و لو أنَّ الانسان بقي يعيش منفصلًا عن إخوته لكان الآن باقيا على مستواه الفكري والحضاري المنحط الذي كان عليه انسان العصر الحجري.

نعم، إنَّ المحاولات والمساعي الجماعية هي التي أوقدت مشعل الثقاقة والحضارة، وهي التي كانت الدّافع الى بلوغ كل هذه الاكتشافات والاختراعات العلمية.

خُذ مثلًا الوصول الى القمر، تجد أنَّ هذا الانجاز كان حصيلة عمل عدد من دروس في العقائد الاسلامية، ص: 136

العلماء، بل الآلاف منهم حيث تضافرت جهودهم على مدى مئات السنين في البحث والتجربة. وما كان هذا ليتم لولا الحياة الاجتماعية التي تظافرت فيها الخبرات والمعارف حتى حققت هذا الانجاز العظيم.

إذا نجح طبيب حاذق في عصرنا في زرع قلب انسان ميت في صدر انسان حي ذى قلب مريض، فانقذه من موت محقق، فإنّه يكون مدينا بنجاحه هذا الى آلاف التجارب السابقة التي

أجراها آلاف الاطباء والجراحين و التي انتقلت على امتداد التاريخ من طبيب الى طبيب حتى وصلت اليه.

غير أنَّ للحياة الاجتماعية مساوى ء الى جانب محاسنها الكثيرة، كتضارب المصالح والرّغبات والحقوق، ممّا يؤدي أحياناً الى إندلاع نيران النزاعات الدموية والحروب الطاحنة.

و هنا تظهر حاجتنا الى القوانين والتعليمات الواضحة التي تحل لنا ثلاث مشكلات كبيرة:

1- القانون يحدد واجبات كل فرد تجاه و المجتمع، وواجبات المجتمع تجاه نحو الافراد، بحيث تنفتح المواهب ضمن مساع متعاونة.

2- القانون يمهد طريق الإشراف على حسن اداء الافراد لواجباتهم.

3- القانون يحول دون قيام الافراد بالاعتداء على حقوق الآخرين، ويمنع انتشار الفوضى و الخلافات بين الافراد والجماعات، ويقرر العقوبات المناسبة على المعتدين.

من هو خير المشّرعين؟

في هذه الحالة يتعين علينا أنَّ نعرف من هي الجهة الافضل التي تستطيع أن دروس في العقائد الاسلامية، ص: 137

تسن القوانين التي تحتاجها حياة البشر الاجتماعية، بحيث تتحقق فيها المبادى الثلاثة المذكورة: بيان الحقوق والواجبات للفرد والمجتمع والاشراف السليم على تنفيذ القوانين، ووقف عدوان المعتدين.

ولنضرب هنا مثلًا بسيطاً:

يمكن أنْ نشبه المجتمع البشري بقطار كبير، والهيئة الحاكمة بماكنة القطار التي تقود القطار في مسيره، والقانون بمثابة السكة الحديدية التي تعين الخط الذي يجب أن يسير عليه القطار كي يصل الى غايته، ماراً بالمنعطفات والمرتفعات والمنخفضات والجبال والوديان.

لاشك أنَّ السّكة الحديدية الجيدة يجب أنْ تتوفر فيها الامور التّالية:

الارض التي تمتد عليها السّكة يجب أنْ تكون صلبة تتحمل أقصى ضغط يمكن أنْ يسلط عليها.

الفاصلة بين الخطين يجب أنْ تكون متساوية على امتدادهما بدقّة متناهية بحيث تساوي الفاصلة بين عجلات القطار. كما أنَّ جدران الانفاق وارتفاعاتها يجب أن تناسب القطار الذى يمرّ بها.

الارتفاعات والانحدارات يجب أن لاتكون حادة الى درجة لاتسطيع معها الماكنة من سحب القطار، أو

ايقافه عند اللزوم.

ثمّ أن هناك إحتمالات حدوث انهيارات جبلية و تهاوي حافّات الوديان التي يمرّ بها القطار، وكذلك السيول والثلوج الساقطة، يجب أنْ تؤخذ كلّها بالحسبان الدقيق لكي يستطيع القطار أن يواصل مسيرته في مختلف الظروف والحالات، و أن يصل الى هدفه بسلام.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 138

نعود الى «المجتمع الانساني» لتطبيق هذا المثال عليه:

إنَّ المشرّع الذى يريد أن يضع خير القوانين للبشر يجب أنْ تتوفر فيه الشروط التالية:

1- أنْ يكون عارفاً معرفة تامّة بالبشر، بغرائزهم، وعواطفهم، وحاجاتهم، ومشكلاتهم وكل مايتعلق بهم.

2- أنْ يأخذ بنظر الاعتبار جميع مؤهلات الناس واستعداداتهم ومواهبهم لكي يستخدم القوانين في سبيل تفتحها وازدهارها.

3- أنْ يكون قادراً على التنبؤ بما يمكن أنْ يقع في المجتمع من حوادث و طرق و مواجهتها على أفضل وجه.

4- أنْ لاتكون له أية مصالح شخصية ولا لأيّ من أقربائه والمختصين به.

5- أنْ يكون عارفاً بكلّ ما حققه الانسان في تقدمه، و ما لحق به من احباط و اخفاق.

6- أنْ يكون في أقصى درجة من العصمة ضد الخطأ والنسيان.

7- وأخيراً، على هذا المُشرِّع أن يكون شجاعاً وجريئاً، فلا ترهبه أية قوّة ولا شخصية في المجتمع، ولايخشى أحداً أبداً، و يجب أنْ يكون- في الوقت نفسه- على قدر كبير من المحبّة والعطف.

من الذي تتوفر فيه هذه الشّروط؟

هل يكون الانسان أفضل مشرّع؟

هل هناك من عرف الانسان حتى الآن معرفة تامَّة؟ كتب أحد كبار العلماء

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 139

المعاصرين مؤخراً كتاباً عنوانه «الانسان، هذا الكائن المجهول»، جاء فيه:

هل عرفت نفسية الانسان وغرائزه وميوله و عواطفه معرفة تامَّة حتى الآن؟

هل يمكن العثور بين الناس على شخص لاتكون له مصالح خاصّة في المجتمع؟

هل هناك بين الناس العاديين انسان يكون مصوناً من كل خطأ ونسيان، وله

معرفة تامّة بجميع مشاكل المجتمع البشري وأفرادة؟

إذن، لن تجد بين الناس العاديين من تتوفر فيه الشروط المطلوبة، و لاتتوفر هذه الشروط الا في اللَّه سبحانه و تعالى، و من اختاره لتلقّي وحيه، يمكنه أنْ يكون أفضل مشرّع للبشرية.

و هكذا نصل الى هذه النّتيجة: إنَّ اللَّه الذي خلق البشر ليسيروا في طريق التكامل، لابدّ و أنْ يبعث اليهم اناساً يأمرهم بهداية البشر نحو اللَّه و يبينون لهم شريعة السّماء الالهية الجامعة والشاملة.

ولاريب أنَّ الناس إذا علموا أنَّ الشريعة التي بين أيديهم نازلة من اللَّه، فانهم يطبقونها بكل ثقة واطمئنان، أي أنَّ علمهم بذلك يضمن تطبيق القوانين بصورة جيدة.

العلاقة بين التّوحيد والنّبوّة

هنا ينبغي أنْ نلتفت الى هذه النقطة، وهي أنَّ نظام الخلق نفسه خير شاهد حي على ضرورة وجود الانبياء ورسالاتهم الالهية.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 140

وذلك لان نظرة واحدة الى نظام الخليقة العجيب تدلّنا على أنَّ اللَّه تعالى لم يغفل بلطفه عن تأمين أي حاجة من حاجات الانسان، فهو عندما خلق العين لكي ننظر بها، خلق معها الاجفان والأهداب للحفاظ عليها ولتنظيم سقوط الضوء عليها.

وخلق في زوايا العين غُدداً تفرز الدّموع لكي يبقى سطحها رطباً دائماً، إذ أنَّ جفافها يذهب بها.

وفضلًا عن ذلك خلق في العين نافذة صغيرة تسيل خلالها الدّموع الزائدة الى الانف، ولولا هذه النافذة، الصغيرة لاستمرت الدّموع تسيل على وجوهنا.

و يتمتع بؤبؤ العين بحساسية شديدة بحيث أنَّه يتأثر بشدّة الضوء وضعفه فيضيق ويتسع تبعاًلذلك بصورة لا إرادية لكيلا يصيب العين ضرر من جراء شدة الضوء.

وفي اطراف كرة العين عضلات مختلفة تسهل عليها الدوران الى الجهات المختلفة بغير حاجة الى إدارة الرأس والجسم.

فهل اللَّه الذي لايغفل عن حاجات الانسان الدّقيقة هذه يمكن أنْ يحرم الانسان من

هاد وقائد موثوق به ومعصوم من الخطأ ويأتمر بأوامره و وحيه؟

يقول الفيلسوف المعروف ابن سينا في كتابه «الشّفاء» المشهور:

«لاشك أنَّ حاجة الانسان الى ارسال الانبياء اليهم لبقاء النوع ولبلوغ الكمالات أشدُّ ضرورة من نمو الأهداب والحواجب وتقعر باطن القدم وامثالها، وذلك لأنَّه ليس من الممكن أن يوجب اللَّه سبحانه وتعالى تلك الامور ولايوجب هذا الامر».

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 141

فكر وأجب 1- ما هي اعظم مميزات حياة البشر؟

2- لماذا لايمكن للانسان أنْ يعيش بغير قانون؟

3- هات مثالًا حياً لتوضيح دور القانون في حياة البشر؟

4- ما الصفات التي يجب انْ يتحلى بها أحسن مشرع؟

5- لماذا يجب أنْ يكون الانبياء من بني البشر؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 143

الدّرس 3 لماذا الانبياء عليهم السلام معصومون؟

الحصانة من الإثم والخطأ

لابدّ لكلّ نبيّ أنْ يكون موضع ثقة عموم الناس قبل كل شي ء بحيث لايجدون في كلامه أي احتمال للكذب والخطأ والتناقض. لأن مركزه سوف يتزلزل في غير هذه الحالة.

إذا لم يكن الانبياء معصومين فإنَّ المخالفين سوف يحتجون لعدم ايمانهم بامكانية خطأ الانبياء، كما أنَّ الباحثين عن الحقيقة سوف يتزعزع إيمانهم بصحّة محتوى دعوتهم، فيرفض الطرفان رسالاتهم، أو على الأقل، سوف لايكون تقبلهم لها مصحوباً بحرارة الثقة والايمان.

هذا الدليل- الذى يسمى «دليل الاعتماد»- يعتبر من أهم أدلة عصمة الانبياء.

وبتعبير آخر: كيف يمكن أنْ يأمر اللَّه الناس أنْ يطيعوا شخصاً غير ملتزم دروس في العقائد الاسلامية، ص: 144

ومعرض للخطأ و ارتكاب المعاصي؟ لانهم إنْ أطاعوه فقد إتبعوا الخطأ والأثم، وان لم يطيعوه فقد نسفوا مقامه كقائد، خاصة و أن مركز قيادة الانبياء يختلف تماماً عن القيادات الاخرى لأنَّ الناس يستقون منهم جميع عقائدهم وبرامج سلوكهم.

ولهذا نجد كبار المفسرين عندما يصلون الى هذه الآية:

ى اطِيْعُوا اللَّهَ وَاطِيْعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُم ى.

«1»

يقولون أنَّ الامر بالاطاعة المطلقة دليل على أنَّ النّبي معصوم واولي الامر معصومون أيضاً. وأولوا الامر هم الائمّة المعصومون عليهم السلام مثل عصمة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وإلّا لما أمر اللَّه باطاعتهم طاعة مطلقة أبداً.

الطريق الآخر لاثبات معصومية الانبياء من كل إثم هو أنَّ «عوامل إرتكاب الاثم في نفوس الانبياء معدومة ولا أثر لها».

فاذا ما راجعنا أنفسنا نجد أنَّنا نكاد نكون معصومين من ارتكاب بعض الاعمال السيئة أو القبيحة، لاحظ المثال التالي:

هل تستطيع انْ تعثر على انسان عاقل يفكر في أكل جمرة، أو شيئاً من القاذورات.

هل هناك انسان عاقل يخرج عارياً في الطرقات يسير و الناس ينظرون اليه؟

طبعاً لا، واذا صدر هذا عن شخص لقلنا فوراً أنه خارج عن حالته دروس في العقائد الاسلامية، ص: 145

الطبيعية وأنَّه مصاب ببعض الامراض النفسية، وإلّا فانَّ من المستحيل أنْ يقدم انسان مالك لقواه العقلية الكاملة على ذلك.

عندما نحلل أمثال هذه الاعمال نلاحظ أنَّ قبح هذه الاعمال على درجة من الوضوح في أذهاننا بحيث لايوجد عاقل يقوم بارتكابها.

و هنا نستطيع بجملة مختصرة أنْ نجسد هذه الحقيقة، فنقول: إنَّ كل عاقل سليم «مصون» من ارتكاب بعض الاعمال القبيحة. و بعبارة اخرى أنَّه «معصوم» منها.

ثم نخطو خطوة اخرى فنقول: هناك أشخاص معصومون من إرتكاب بعض الاعمال غير اللائقة التي لايجد الناس العاديون حرجاً في ارتكابها.

فمثلًا، الطبيب العارف بأنواع الميكروبات لايمكن أنْ يشرب من الماء الملوث الناتج عن غسل ملابس المرضى المصابين بمختلف الامراض الفتاكة، في الوقت الذي لايجد شخص جاهل امّي مانعاً من شربه.

وبتحليل بسيط نستنتج أنَّه كلما كان وعي المرء بالنسبة لموضوع ما أعمق، كانت «عصمته» ازاء ما ينافي ذلك أكبر.

والآن، بالاستمرار في هذه المعادلة، نقول:

إذا كان «ايمان» شخص و «وعيه» وثقته باللَّه و بقضائه العادل من العمق بحيث أنَّه يكاد يراها متجسدة أمام عينيه و شاخصة امامه، فانَّه يكون دون ريب مصوناً من ارتكاب أي ذنب، ويرى الاعمال القبيحة كما يرى العاقل الخروج الى الشارع عارياً قبيحاً.

إنَّ المال الحرام في نظر هذا الشخص أشبه بالجمر الملتهب فكما إنَّنا لانضعه في فمنا، فهو كذلك لايضع المال الحرام في فمه.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 146

و نستنتج من كل هذا الكلام أنَّ الانبياء عليهم السلام- بما وهبهم اللَّه من علم ووعي وايمان خارق للعادة- يستطيعون أنْ يخمدوا صوت كل دافع للعصيان بحيث أنَّ أقوى المغريات لارتكاب الآثام لاتسطيع أنْ تغلب عقولهم وتضعف ايمانهم. وهذا هو معنى قولنا أنَّ الانبياء عليهم السلام معصومون من كل إثم.

العصمة مدعاة للفخر

بعض الذين لايدركون جيداً معنى العصمة وعواملها يعترضون قائلين: إذا كان اللَّه هو الذي يحول بين الشخص وارتكاب الاثم ويزيل من كيانه عوامل ارتكاب الذنوب، فلايكون هذا مدعاة لفخر هذا الشخص، إذ أنَّ عصمته من الاثم إجبارية، والفضيلة الاجبارية لاتكون مفخرة لاحد.

إنَّ جواب هذا الاعتراض قد جاء في البحوث التي مرَّ ذكرها، إنَّ عصمة الانبياء من الاثم ليست اجبارية مطلقاً، بل هي وليدة ايمان الانبياء القوي الكامل وعلمهم الذي لايدانيه علم، وهذا مدعاة لاعظم الفخر!

فاذا قام الطّبيب بوقاية نفسه من الامراض السارية، فهل يدل هذا على أنه مجبر على ذلك؟ وإذا قام شخص بتطبيق مقررات الصحة بدقة تامة، أفلا يدعو هذا الى اعتزازه وفخره؟

وإذا تجنب حقوقي إرتكاب جريمة ما لكونه يعرف العقوبات القاسية التي تحكم بها المحاكم، فهل يفقد بذلك فضله؟

وبناء على ذلك، فإنَّ معصومية الانبياء اختيارية، وهي مفخرة عظيمة من مفاخرهم.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 147

فكر

وأجب 1- ماهي تفرعات العصمة؟

2- ماذا كان سيحدث لو لم يكن الانبياء عليهم السلام معصومين؟

3- ماحقيقة مقام العصمة؟

4- هل تستطيع أن تأتي بامثلة، غير التي وردت في الدّرس تشير الى أن الناس- كلّهم أو بعضهم- يتصفون بالعصمة من ارتكابها؟

5- هل عصمة الانبياء اختيارية أم إجبارية؟ ما الدليل على ذلك؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 149

الدّرس 4 أفضل الطّرق لمعرفة النّبي

اشارة

لاشك أنَّ تصديق إدعاءات كل مدع يعتبر خلاف العقل والمنطق.

إنَّ مدعي النّبوة وحمل رسالة اللَّه قد يكون صادقاً، إلّاأنَّ من المحتمل أنْ يقوم أحد الانتهازيين من أهل الغش بادعاء النّبوة، لذلك كان لابدّ من وجود معيار دقيق نزن به دعوات الانبياء وصحة إرسالهم من قبل اللَّه.

هناك طرق عديدة للوصول الى هذه الغاية، أهمها:

1- دراسة محتوى رسالة النّبي و دعوتة، و جمع القرائن و الدّلائل على صحتها.

2- معجزاته الخارقة للعادة.

ولنبدأ أوّلًا بالكلام على الاعجاز فتقول:

ثمّة أشخاص يستغربون عند سماع كلمة «معجزة» ويعتبرونها مرادفة للخرافات والاساطير. ولكننا إذا أمعنا النظر في معنى المعجزة العملي لوجدنا أنَّ هذه التصورات خطأ محض.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 150

فلا تعد المعجزة عملا مستحيلًا، ولا معلولًا دون علّة، بل المعجزة بتفسير بسيط، هي عمل خارق للعادة و هو فوق قدرات الافراد العاديين، ولاتتحقق إلّا بالاستناد الى قوة فوق الطبيعة.

وبناء على ذلك لاتكون المعجزة إلّابشروط:

1- إنَّها عمل ممكن ومقبول عقلًا.

2- الناس العاديون، وحتى النوابغ منهم، ليس بمقدورهم أنْ يقوموا بمعجزة باستخدام القدرات البشرية.

3- لابدّ أنْ يكون صاحب المعجزة واثقاً من نفسه بحيث أنَّه يتحدى الناس و يدعوهم للاتيان بمثلها.

4- أنْ لايستطيع أي شخص الإتيان بمثل تلك المعجزة، أي أنْ يعجز الآخرون عن القيام بمثلها، كما يفهم من معنى الكلمة.

5- المعجزة لابدّ أنْ تأتي ممن يدعي النّبوة والامامة (ولذلك فإنَّ الاعمال

الخارقة للعادة التي يأتي بها غير الانبياء والائمة تدعى كرامات، لامعجزات).

بعض الأمثلة الواضحة

نعلم جميعاً أنَّ من معجزات النّبي عيسى عليه السلام احياء الموتى وابراء المرضى المأيوس منهم.

هل هناك دليل علمي و عقلي يثبت أنَّ الانسان الذي تتوقف أجهزة جسمه عن العمل والحركة لايمكن أنْ يعود الى الحياة مرّة اخرى

هل هناك دليل علمي و عقلي على أنَّ مرض السرطان الذي عجزنا عن دروس في العقائد الاسلامية، ص: 151

شفائه ليس له في الحقيقة أي علاج؟

صحيح أنَّ الانسان بما يملكه في الوقت الحاضر من قوى وبما هو فيه من ظروف غيرقادر على احياء الموتى ولا ابراء بعض الامراض. حتى وإنْ تضافرت جهود جميع أطباء العالم واستعانوا بما لديهم من خبرات وتجارب.

إلّا أن هذا لايمنع من أنْ يقول انسان يملك قوة إلهية خارقة للعادة واطلاعاً وعلماً يستقيان من بحر علم اللَّه اللامتناهي، باحياء ميت، أو بابراء مريض، باشارة من يده.

العلم يقول: لا أدرى. أنا عاجز. ولكنه لن يقول أنَّ ذلك مستحيل.

مثال آخر: إنَّ الوصول الى القمر بدون سفينة فضائية غير ممكن لأي انسان. ولكن ما الذي يحول دون أنْ تكون هناك قوّة أكبر ممّا عندنا من قوّة، ومركبة أكثر تقدماً ممّا لدى البشر، توضع تحت تصرف شخص بحيث يتاح له أنْ يصل الى القمر أو الى الكرات الاخرى بغير سفينة فضائية والمركبة القمرية.

فاذا استطاع أحد أنْ يقوم حقّاً بمثل هذه الامور الخارقة للعادة، وادعى النّبوة وتحدى الناس الى انْ يفعلوا مثله، فعجز الجميع عن ذلك، عندئذ نؤمن بأنَّه مرسل من قبل اللَّه، إذ لايمكن أنْ يضع اللَّه كل هذه القدرة في يد انسان كذّاب يدعو الناس الى الضلال، فتأمل!

لا ينبغي الخلط بين المعجزة و الخرافة

كان «الافراط» و «التفريط» دائماً منشأ الفساد والضياع و تشويه وجه الحقيقة.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 152

وهذا يصدق على المعجزة أيضاً.

ففي الوقت الذي نجد فيه بعضاً من «دعاة الفكر» ينكرون صراحة أو تلميحاً أنواع المعجزات، نجد بعضاً آخر يصنعون من كل شي ء معجزة، فيبحثون عن الاخبار الضعيفة والقصص الخرافية التي صاغتها أيدي الاعداء ويعرضونها زاعمين أنَّها معجزات، فيخلطون ملامح معجزات الانبياء العلمية والحقيقية بالخرافات والاوهام المزيفة التي لا أساس لها من الواقع. فما لم تتخلص المعجزات الحقيقية من أمثال هذه الاساطير، فإنَّ ملامحها الأصيلة لن تظهر للعيان.

لهذا ما فتى ء علماؤنا العظام يؤكدون على أن تبقى الاحاديث الاسلامية التي تدور حول المعجزات بعيدة عن امثال تلك الحكايات المزيفة المدسوسة.

وبناء على ذلك وضعوا الكتب في «علم الرّجال» للتعرف على الرّواة الموثوق بهم، ولتمييز الاحاديث «الصحيحة» من «الضعيفة» ولئلا تختلط الحقائق بالاوهام.

إنَّ السياسات الاستعمارية والألحادية نشطة اليوم لجعل الافكار الواهية تقوم مقام العقائد الدّينية الطّاهرة وتسعى لاظهارها بمظهر «معتقدات غير علمية» فعلينا أنْ نحبط مساعي الاعداء التخريبية.

اختلاف المعجزات عن خوارق العادات الاخرى

كثيراً مانسمع عن اصحاب الرّياضيات الرّوحية أنَّهم قاموا بأعمال خارقة للعادة، وأنَّ الذين شهدوا تلك العجائب كثيرون وهذا حقيقة لا اسطورة.

هنا يتبادر الى الذّهن هذا السّؤال: ماالفرق بين أعمال هؤلاء الخارقة للعادة

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 153

ومعجزات الانبياء؟ وكيف التمييز بينهما؟

لهذا السّؤال أجوبة كثيرة، أوضحها جوابان:

1- هؤلاء المرتاضون يقومون بأعمال خارقة للعادة معينة ومحدودة، أي أنَّهم لايمتثلون لارادة الغير للقيام بأعمال يطلبها منهم هؤلاء. إنَّما هم يقومون بما يعرفون و بما اعتادوا عليه بسبب كثرة التمرين.

وسبب هذا واضح، إذ أنَّ قوى كل شخص محدودة، فهو لايستطيع أنْ يقوم إلّا بعدد محدود من الاعمال.

أمّا معجزات الانبياء عليهم السلام فليست لها حدود ولاشروط. فهم قادرون على الإتيان بمعجزة بحسب اقتراح الطالب وفي أي وقت، لأنَّهم يستندون الى قوّة اللَّه اللامتناهية، وهي التي لاتحدها

حدود، بخلاف قدرات الانسان.

2- العمل الذي يقوم به أحد المرتاضين يستطيع يقوم به مرتاض آخر، أي أنَّه ليس خارجاً عن قدرة البشر. ولهذا فإنَّ المرتاض لن يتحدى أحداً بطلب المنافسة، لانَّه يعلم أنّه لابدّ أنْ يكون في اطراف المدينة شخص أو أشخاص قادرون على الإتيان بمثل مايفعل.

أمّا الانبياء عليهم السلام فانهم يتحدون الناس بكل ثقة واطمئنان، قائلين:

«لو اجتمع أهل الارض جميعاً على أنْ يأتوا بمثل مانأتي لعجزوا.»

هذا الاختلاف يصدق في «السّحر» أيضاً، فالاختلافان اللذان ذكرناهما يضعان الحدّ بين المعجزة والسّحر أيضاً، فتأمل.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 154

فكر وأجب 1- لماذا تسمى «المعجزة» معجزة؟

2- هل المعجزة استثناء في قانون العلّة والمعلول؟

3- ما الطريق التي بها نستطيع ان نميز المعجزة عن أعمال المرتاضين والسحرة؟

4- ماهي الشروط الأصيلة في المعجزة؟

5- هل سبق لك ان شاهدت عملا يشبه المعجزة في حياتك؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 155

الدّرس 5 المعجزة الكبرى لنبي الاسلام صلى الله عليه و آله و سلم

المعجزة الخالدة

يعتقد جميع علماء الاسلام أنَّ القرآن الكريم أعظم معجزات نبيّ الاسلام.

حيث انَّ أفضلية القرآن آتية من كونه.

أوّلًا: معجزة عقلية تتعامل مع أرواح الناس وأفكارهم.

وثانياً: لانه معجزة خالدة أبداً.

وثالثا: لكونه معجزة قد مضى عليها أكثر من أربعة عشر قرناً وهي تتحدي البشر كافة منادية: إذا كنتم تزعمون أنَّ هذا الكتاب السماوي ليس من عند اللَّه فأتوا بمثله. وقد جاء هذا التحدي مرّات عديدة في القرآن الكريم:

ى قُلْ لَئِن اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أنْ يَأتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَو كَانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظَهِيْراًى. «1»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 156

وفي موضع آخر يقول:

ى أمْ يَقُولُونَ افْتَريهُ قُلْ فَأتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُم صادِقِينَ ى. «1»

ثمّ يضيف مباشرة قائلًا:

ى فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُم فَاعْلَمُوا أنّما أنْزِلَ بِعِلْمِ

اللّهِ ى. «2»

ثم يسهّل شروط التحدي فيقول:

ى وَإنْ كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلنَا عَلَى عَبْدِنا فَأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُم صادِقِينَ ى. «3»

وفي الآية التالية يقول:

ى فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتّقُوا النَّارَ الّتي وَقُودُها النّاسُ وَالحِجَارَةُ اعِدَّتْ لِلكافِرِينَ ى. «4»

إنَّ هذه التّحديات المتتالية لمواجهة المنكرين إنْ دلّت على شي ء فانّما تدل على أنَّ أكثر استناد النّبي صلى الله عليه و آله كان على إعجاز القرآن، على الرّغم من أنَّه كانت له معجزات اخرى أيضاً حسبما ورد في كتب التاريخ.

وبما أنَّ القرآن الكريم هو المعجزة الحيّة و الخالدة الموجودة في متناول أيدينا فسيكون هو موضوع دراستنا وبحثنا.

كيف عجزوا عن مواجهة التّحدي؟

ممّا يلفت النظر أنَّ القرآن الكريم أكد بلهجة قوية على منكريه للنزول الى ميدان المواجهة، مستعملًا تعبيرات مهيجة و مثيرة، لكيلا يبقى عذر لاحد، و قد استعمل تعبيرات مثل ى إنْ كُنْتُم صادِقِينَ ى و ى فَإنْ لَم تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُواى و ى لا يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوكانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظَهِيراًى و ى فَأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ى و ى فَاتّقُوا النّارَ الّتي وَقُودُهَا النّاسُ ى.

هذا من جهة، ومن جهة اخرى لم يكن الصّراع بين الرّسول الكريم صلى الله عليه و آله والكفار صراعاً سهلًا، إذ أنَّ الاسلام لم يكن تهديداً لديانتهم ومعتقداتهم المتأصلة في نفوسهم، فحسب، بل كان خطراً على مصالحهم الاقتصادية والسياسية وحتى على كيانهم.

وبعبارة اخرى كان انتصار الاسلام يحيل حياتهم كلّها الى ركام، لذلك لم يكن أمامهم سوى النزول الى ميدان الصراع بكل مالديهم من قوّة.

ولكي يجردوا نبيّ الاسلام صلى الله عليه و آله من أقوى سلاح جاء به، كان عليهم أنْ يأتوا- بأي ثمن كان- ببضع آيات مثل آيات القرآن لكيلا يتحداهم به بعد

ذلك ويصفهم بالعجز أمام هذا الدليل القوي على صدقه وأحقّيته.

فجمعوا لذلك فصحاء العرب وبلغاءهم ولكنهم كلما دخلوا الميدان باءوا بهزيمة منكرة ونكصوا على أعقابهم هاربين. وقد جاءت تقاصيل ذلك في كتب التاريخ.

حكاية الوليد بن المغيرة

من بين الذين دعوا لمواجهة تحدي القرآن كان الوليد بن المغيرة من بني مخزوم، وكان معروفاً بين العرب بفكره الصائب وحسن تدبيره، فطلبوا منه أنْ دروس في العقائد الاسلامية، ص: 158

يشير عليهم بتدبير ليرى رأيه في آيات القرآن العجيبة و تأثيرها الشديد في الناس.

فجاء الوليد الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وطلب منه أنْ يقرأ له آيات من القرآن، فتلى عليه النّبي الاكرم صلى الله عليه و آله بضع آيات من سورة «حم» السجدة، فأثارت هذه الآيات في الوليد انفعالات عارمة بحيث أنَّه انطلق عائداً الى حيث كان بنو مخزوم مجتمعين وقال لهم: «واللَّه لقد سمعت كلاماً لا هو يشبه كلام البشر ولا كلام الملائكة وأنَّ له لحلاوة وأنَّ عليه لطلاوة وأنَّ أعلاه لمثمر وأنَّ أسفله لمغدق وأنَّه يعلو ولايُعلى عليه».

وشاع في أوساط قريش أنَّ وليداً قد صبا الى دين محمد صلى الله عليه و آله و سلم فهرع أبوجهل إليه وأخبره بما تقول قريش، ودعاه الى حضور مجلسهم، فصحبه الوليد اليهم وقال لهم: أتحسبون أنَّ بمحمد جُنَّة؟ أرايتم عليه منها أثراً؟ فقالوا:

كلا.

فقال: أترونه كاذباً؟ ألم يشتهر بيننا بالأمانة والصدق حتى سميتموه الصادق الامين؟

فقال بعض سراة القوم: فماذا ننسب إليه إذن؟

ففكر الوليد برهة ثمّ قال لهم: قولوا أنَّه لساحر!

و على الرّغم من أنّهم كانوا باطلاق هذه الصفة عليه يريدون أنْ يبعدوا عنه الناس الذين سحرتهم آيات القرآن، فان اطلاق تعبير «السحر» يدلّ دلالة قاطعة على قوة جاذبية القرآن، وأنَّهم أطلقوا كلمة «السحر»

على تلك الجاذبية، وإنْ لم تكن سحراً في الواقع.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 159

فراحت قريش تشيع مقولة الوليد في كل مكان عن أنَّ محمداً ساحر ماهر، وأنَّ الآيات من سحره، وطلبوا من الناس الابتعاد عنه وأنْ لايستمعوا الى مايقول.

إلّا أنَّ خطتهم هذه لم تفلح، وراح المتعطشون الى الحقيقة المنتشرون في الزوايا والحنايا يفدون على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله زرافات ووحداناً، يرتوون من معين الرسالة الالهية الرائق، ونكص الاعداء على أعقابهم.

واليوم أيضاً ما يزال القرآن يتحدى العالم بأسره و يدعوهم للمبارزة، قائلًا: إنْ كنتم ترتابون في صحة نسبة هذه الآيات الى اللَّه، وتعتقدون أنَّها من صنع أفكار البشر، فأتوا بمثلها، أيَّها العلماء والفلاسفة والادباء والكتاب من كلّ قوم وملّة!

وليس خافياً إنَّ أعداء الاسلام وبخاصّة رجال الدين المسيحيين الذين يعتبرون الاسلام كدين ثوري عميق المحتوى منافساً خطيراً لهم، فينفقون سنوياً ملايين الملايين من الدّولارات للدعاية ضد الاسلام و في البلدان الاسلامية نفسها تحت واجهات مزيفة من ثقافية و علمية و صحية، فما أحراهم أنْ يطلبوا من العلماء المسيحيين العرب وشعرائهم وادبائهم وفلاسفتهم أنْ ينشئوا آيات كآيات القرآن إن هم استطاعوا الى ذلك سبيلًا ليسكتوا صوت الاسلام.

و لاشك لو أنَّ شيئاً كهذا كان ضمن قدراتهم لما توانوا في تحقيقة بأي ثمن كان. غير أن عجزهم في هذا الامر لدليل أسكت الاعداء وبرهان ناطق على اعجاز القرآن.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 160

فكر وأجب 1- لماذا يعتبر القرآن أهم معجزة من معجزات نبيّ الاسلام صلى الله عليه و آله؟

2- كيف يتحدى القرآن أعداءه؟

3- لماذا اطلق أعداء الاسلام صفة «السحر» على القرآن؟

4- لماذا يعتبر الاسلام منافساً عنيداً للمسيحية اليوم؟

5- ما حكاية الوليد بن المغيرة؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 161

الدّرس 6 نافذة على إعجاز القرآن

سرّ الحروف المقطعة

نلاحظ

في أوائل عدد من سور القرآن بعض «الحروف المقطعة» مثل «ألم» و «ألمر» و «يس».

تقول بعض الروايات الاسلامية أن واحداً من أسرار هذه الحروف المقطعة هو أنَّ اللَّه يريد أن يرينا كيف أن هذه المعجزة الخالدة العظيمة، «القرآن العظيم» قد وجدت من حروف الالفباء البسيطة التي تعتبر من أبسط مواد البناء! وكيف أنَّ هذا الكلام الرائع العظيم قد تألف من هذه الحروف التي يستطيع التكلم بها حتى الاطفال الصغار. و لاشك إذن في أنَّ ظهور هذا الامر العظيم من هذه المواد البسيطة اعجاز لا يُدانيه إعجاز.

هنا يتبادر للذهن سؤال و هو: أين يكمن اعجاز القرآن؟ أمن حيث البلاغة والفصاحة، اي من حيث حلاوة عباراته ودخولها الى القلب بنفوذ

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 162

عجيب، أم أنَّ هناك جوانب اخرى لاعجازه؟

و الحقيقة هي أنَّك من أية زاوية نظرت الى القرآن لطالعتك إمارات الاعجاز واضحة. و من بين ذلك على سبيل المثال:

1- الفصاحة والبلاغة: هنا تجد حلاوة الالفاظ والجاذبية العجيبة التي تتجلى لك في المعاني والمفاهيم.

2- المحتوى الرفيع وخاصة العقائد البعيدة عن كل انحراف.

3- المعجزات العلمية، فالقرآن يكشف الستار عن مسائل علمية لم يكن الانسان قد اكتشفها يومذاك.

4- الاخبار عن الغيب والتنبؤ بحدوث بعض الحوادث في المستقبل.

5- عدم وجود التناقض و لا الاختلاف ولا التّشتت.

الفصاحة والبلاغة

لكل كلام صفتان، «الفاظه» و «محتواه». فعندما تكون الالفاظ والكلمات جميلة ولائقة وتتميز بالانسجام والترابط اللازم وخالية من التعقيد، بحيث يوصل تركيب الجمل المعنى المراد بدقّة تامّة وبطريقة مقبولة و جذابة قيل لذلك الكلام أنَّه فصيح وبليغ.

و في القرآن تتجسد هاتان الصفتان تجسداً لاحد له، بحيث أنَّ أحداً لم يستطع حتى الآن أنْ يأتي بآيات و سور تضاهي آيات القرآن و سوره من

حيث الجاذبية والحلاوة والتناغم.

و كما ذكرنا في الدرس السابق أنَّ الوليد بن المغيرة، منتخب مشركي دروس في العقائد الاسلامية، ص: 163

العرب، هاجت مشاعره وانفعل عند سماع بضع آيات من القرآن، ولم يتوصل تفكيره العميق الى إلصاق أي تهمة به إلّاأن يصفه بالسحر وإلّا أنْ يصف رسول اللَّه بالساحر!

وعلى الرّغم من أنَّهم راحوا يكررون إلصاق صفة السحر بآيات القرآن على سبيل الذم والتنديد، إلّاأنَّ ذلك كان في الواقع مدحاً وتكريماً، إذ أنَّ فيه إعترافاً ضمنياً بسيطرة القرآن الكريم الخارقة للعادة على المخاطب و نفوذه الى أعماقه. بحيث إنَّك لاتستطيع أنْ تفسر ذلك تفسيراً عادياً، إلّاأنْ تقول أنَّ فيه جاذبية غامضة و مجهولة.

ولكنهم بدلًا من أنْ يتقبلوا تلك الحقيقة ويعتبروها معجزة فيؤمنوا بها، انحرفوا عن جادة الصواب وقالوا إنَّها سحر وأساطير.

ويذكر لنا التاريخ أمثلة كثيرة عن أشخاص غلاظ شداد كانوا يفدون على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وما أنْ يستمعوا الى بضع آيات منه حتى يتغير حالهم و ينبعث نور الايمان في قلوبهم، الامر الذي يدل بوضوح على أنَّ ما في القرآن الكريم من فصاحة وبلاغة معجز.

بل إنَّنا في أيّامنا هذه نجد العارفين بآداب اللغة العربية كلما كرروا تلاوة القرآن الكريم إزداد إحساسهم بالراحة و اللذة لما فيه من حلاوة ومايثيره فيهم من شعور بحيث أنَّهم لايتعبون من تكرار تلاوته.

و تتصف العبارات القرآنية بالدقة المتناهية المحسوبة، فالقرآن عفيف البيان متين البنيان، وهو في الوقت نفسه ناطق صريح، وصارم شديد عندالاقتضاء.

و لابدّ من الاشارة الى أنَّ العرب منذ ذلك الوقت كانوا قمة في الفنون دروس في العقائد الاسلامية، ص: 164

الادبية من شعر ونثر وصناعة كلام، ومازالت قصائد من الشعر الجاهلي تعتبر من أرفع الشعر، وكان سوق عكاظ

مكاناً يجتمع فيه فطاحل الشعراء كلّ سنة ينشدون فيه اشعارهم ويتنافسون في أجودها، ويختارون أفضلها طراً ويعلقونها على جدار الكعبة باعتبارها خير قصيدة قيلت في تلك السنة. وعند ظهور الدّعوة الاسلامية كانت هناك سبع قصائد معلقة على حائط الكعبة، اطلق عليها اسم «المعلقات السبع».

ولكن بعد نزول القرآن لم يبق لتلك المعلقات أي لون ولاطعم، فازيلت الواحدة بعد الاخرى وطواها النسيان.

ولقد سعى المفسرون جهد طاقاتهم للاشارة الى دقائق الابداع الالهي العجيبة في القرآن، فيمكن الرجوع الى تلك التفاسير لمزيد من الاطلاع. «1»

إنَّ معرفة القرآن تؤكد أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يبالغ حين قال:

«ظاهره أنيق وباطنه عميق لاتحصى عجائبه ولاتبلى غرائبه».

والامام علي أميرالمؤمنين عليه السلام، تلميذ مدرسة القرآن العظيم، يقول في نهج البلاغه واصفاً القرآن:

«فيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره.»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 165

فكر وأجب 1- ماهي فلسفة الحروف المقطعة في القرآن؟

2- هل القرآن معجزة من جانب واحد، أم من عدة جهات؟

3- لماذا اطلق أعداء النّبي عليه صفة الساحر؟

4- ماالفرق بين الفصاحة والبلاغة؟

5- متى كانت «المعلقات السبع»؟ وما معناها؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 167

الدّرس 7 نظرة القرآن الى العالم

قبل كل شي ء ينبغي أنْ نتعرف على البيئة التي نزل فيها القرآن على الصعيدين الفكري والثقافي.

يجمع المؤرخون على أنَّ أرض الحجاز كانت من أكثر بلدان العالم تخلفا بحيث أنَّهم كانوا يعبرون عن سكانها بأنَّهم متوحشون أو شبه متوحشين. و قد عكفوا على عبادة الاصنام و تمسكوا بها تمسكاً شديداً، و كانوا يصنعونها من الحجر والخشب باشكال متنوعة، فكانت تلقي بظلها المشؤوم على كل ثقافتهم، حتى قيل أنَّهم كانوا يصنعون الاصنام من التمر ويسجدون لها، ولكنهم إذا أحسوا بالجوع أكلوها!

و على الرغم من كرههم الشديد للبنات

بحيث أنَّهم كانوا يئدونهن احياء لكنهم كانوا يقولون: إن الملائكة بنات اللَّه. بحيث يعتبرون اللَّه سبحانه و تعالى انساناً مثلهم.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 168

و كان ينتابهم العجب من التوحيد وعبادة إله واحد. وعندما دعاهم نبي الاسلام الى عبادة اللَّه الاحد، قالوا بدهشة:

ى أجَعَلَ الآلِهَةَ إلهاً وَاحِداً إنَّ هذا لَشَي ءٌ عُجَابٌ ى. «1»

وكانوا يلصقون صفة الجنون بكل من يخالف خرافاتهم واساطيرهم المزيفة ويتعرض لمعتقداتهم الواهية.

و كان النظام القبلي هو السائد على المجتمع، حيث النزاعات القبلية كانت على أشدها، حتى أنَّ نار الحروب لم تخمد يوماً بينهم، وكثيراً ما اصطبغت أرضهم بالدماء، ويفتخرون بالقتل والنهب والسبي.

واذا ظهر بينهم من يعرف القراءة والكتابة أصبح ناراً على علم، وكان من النادر أنَّ تعثر بينهم على عالم مفكر.

هذا هو المحيط الذي بزغ فيه نور انسان امّي لم يدخل مدرسة ولارأي معلماً، ولكنه أتى بكتاب عميق المحتوى الى درجة أن العلماء والمفسرين مايزالون بعد أربعة عشر قرناً مشغولين باستكناه معانيه واستخراج حقائق جديدة منه فهو معين لا ينضب ابداً.

إنَّ الصورة التي يرسمها القرآن الكريم لعالم الوجود ونظامه صورةً دقيقة مدروسة، فيعرض التوحيد بأكمل حالاته، ويعرض أسرار خلق الارض والسماء والليل والنهار والشمس والقمر والنباتات والاشجار والانسان على أنَّ كلا منها آية تدل على وحدانية اللَّه الاحد.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 169

ويتعمق أحياناً في اغوار النفس الانسانية ويتحدث عن التوحيد الفطري، فيقول:

ى فَإذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَّما نَجّاهُم الى البَرِّ إذا هُم يُشْرِكُونَ ى. «1»

وقد يسلك سبيل العقل والمنطق لاثبات التوحيد مستنداً الى السير في الآفاق وفي الانفس، ومذكّراً بأسرار خلق السموات والارض والحيوانات والجبال والبحار، وهطول الامطار، وهبوب الرياح ودقائق اعضاء الانسان:

ى سَنُرِيْهِم آياتِنا فِي الآفَاقِ وَفِي أنْفُسِهِم ى.

«2»

و عندما يكون الكلام عن صفات اللَّه يختار أعمقها وأجلبها للنظر، فيقول:

ى لَيْسِ كَمِثْلِهِ شَي ءٌى. «3»

وفي مواضع اخرى يقول:

ى هُوَ اللَّهُ الّذي لا إلهَ إلّاهُوَ عالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرّحمنُ الرّحيمُ* هُوَاللَّهُ الّذي لا إلهَ إلّاهُوَ المَلكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ العَزِيزُ الجَبارُ المُتَكَبِّرُ سُبحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِي ءُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْماءُ الحُسنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّمواتِ وَالارضِ وَهُوَ العَزِيْزُ الحَكِيْمُ ى. «4»

ويعبر تعبيراً جميلًا عن وصف علم اللَّه ولامحدوديته، فيقول:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 170

ى وَلَو أنّما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرِةٍ أقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ إنّ اللّهَ عَرِيْزٌ حَكِيمٌ ى. «1»

وعن احاطةاللَّه بكل شي ء وحضوره في كل مكان، يقول:

ى وَللَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأيْنَما تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ى. «2» ى وَهُوَ مَعَكُم أيْنَ ما كُنْتُم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌى. «3»

وعندما يدور الكلام حول البعث ويوم القيامة، يواجه دهشة المشركين وانكارهم بقوله:

ى قَالَ مَنْ يُحيي العِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ* قُلْ يُحييها الّذي أنْشَأهَا أوّلَ مَرِّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* الّذي جَعَلَ لَكُم مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ ناراً فَإذا أنْتُم مِنْهُ تُوقِدُونَ* أوَ لَيْسَ الّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالارْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلى وَهُوَ الخَلّاقُ العَلِيمُ* إنّما أمْرُهُ إذا أرَادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ى. «4»

في تلك الايام التي لم يكن فيها قد تمّ اكتشاف التصوير وتسجيل الاصوات، يقول القرآن الكريم بشأن أعمال الانسان:

ى يَومَئِذٍ تُحَدِّثُ أخْبَارَها* بِأنَّ رَبَّكَ أوحى لَهاى. «5»

وقد يتحدث عن شهادة أعضاء الانسان فيقول:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 171

ى اليَومَ نَخْتِمُ عَلَى أفْواهِهِم وَتُكَلِّمُنا أيْدِيهِم وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُم ى. «1»

ى وَقَالُوا لِجلُودِهِم لِمَ شَهِدْتُم عَلَينا قَالُوا أنْطَقَنا اللَّهُ الّذي أنْطَقَ كُلَّ شَي ءٍى. «2»

إنَّ قيمة العلوم القرآنية وعظمة

محتواها وخلوها من الخرافات لاتتضح إلّا إذا وضعت الى جانب التّوراة والانجيل المحرفتين للمقارنة بينهما، لنرى ماتقول التّوراة بشأن خلق آدم وما يقول القرآن الكريم بهذا الشأن.

وماذا تقول التّوراة بشأن الانبياء وما يقوله القرآن المجيد.

وما تقوله التوراة والانجيل في وصف اللَّه، ومايقوله القرآن في ذلك. عندئذ يتبين الفرق واضحاً بينهما. «3»

فكر وأجب 1- ماذا كانت خصائص المحيط الذي ظهر فيه القرآن؟

2- ما تأثير عبادة الأصنام في افكار الناس؟

3- ماالفرق بين التوحيد الفطري والاستدلالي؟

4- كيف يصف القرآن الكريم اللَّه عزّوجلّ ويعرّفة؟ مثّل لذلك.

5- ماأفضل الطرق لمعرفة محتوى القرآن؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 173

الدّرس 8 القرآن والاكتشافات العلمية المعاصرة

اشارة

لا شك أنَّ القرآن ليس كتاباً من كتب العلوم الطّبيعية أو الطّبية أو النّفسية أو الرّياضية، بل أن القرآن كتاب هداية و بناء لروح الانسان.

فهو لا يترك شيئاً ضرورياً في هذا السبيل إلّاوأتى به.

لذلك ليس لنا بالطّبع أنْ نرى في القرآن دائرة معارف عامّة، بل أن القرآن عبارة عن نور الايمان والهداية والتقوى والانسانية والاخلاق والنظام والقانون، فهو يضم كل هذه الامور.

و القرآن و من أجل الوصول الى هذه الاهداف، يشير أحياناً الى جانب من العلوم الطبيعية وأسرار الخلق و عجائب عالم الوجود وخاصة خلال بحوث التوحيد والاستدلال بنظام الكون، فيرفع الستار عن بعض أسرار عالم الخلق ويكشف اموراً لم يكن أحد يعرف عنها شيئاً في ذلك الزمان و في تلك البيئة، حتى العلماء منهم.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 174

هذه الاسرار تجتمع تحت عنوان" معجزات القرآن العلمية"، نشير الى بعض منها في مايلي:

القرآن وقانون الجاذبية

لم يكن أحد قبل (نيوتن) يعرف شيئاً عن قانون الجذب العام. و من المعروف أنَّ (نيوتن) هذا كان يوماً جالساً تحت شجرة تفاح، فسقطت تفاحة من الشجرة على الارض، فاستولى هذا الحدث الصغير على كل تفكيره وأمضى سنوات يفكر في القوة التي جذبت التفاحة إليها. لماذا لم ترتفع الى السماء؟ وبعد سنوات توصل الى وضع قانون الجذب العام الذي يقول:

«تتجاذب الكتلتان بنسبة طردية مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسياً مع مربع المسافة بين مركزي ثقليهما».

على أثر صياغة هذا القانون إتضح وضع المنظومة الشمسية.

لماذا تدور هذه الكواكب العظيمة كلّ في مدار حول الشمس؟ لماذا لا تهرب من هذا المدار و تنطلق في كل اتجاه؟ لماذا لا تتراكم بعضها فوق بعض؟ ما هذه القوّة التي تمسك هذه الاجرام في مدارات دقيقة في هذا الفضاء الشاسع،

دون أنْ تتجاوزها حتى بمقدار رأس الابرة؟

اكتشف (نيوتن) أنَّ حركة الجسم الدائرية تجعله يبتعد عن المركز، و قانون الجاذبية يجذبه الى المركز، فاذا ما تعادلت هاتان القوتان، القوة الدافعة عن المركز، و القوة الجاذبة نحو المركز، أي إذا أوجدت «الكتلة» و «المسافة» من القوة «الجاذبة الى الداخل» والقوّة «الدافعة الى الخارج» مقادير متعادلة، بقي دروس في العقائد الاسلامية، ص: 175

الجسم يدور في مداره ولا يتعداه.

غير أنَّ القرآن قبل اكثر من ألف سنة من اكتشاف هذه القوانين قال في الآية الثّانية من سورة الرّعد:

ى اللَّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَونَها ثُمَّ استَوى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأجَلٍ مُسَمَّىً يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُم تُوقِنُونَ ى.

وقد جاء في تفسير هذه الآية عن الامام علي بن موسى الرّضا عليه السلام قوله:

«اليس اللَّه يقول بغير عمد ترونها؟ قلت: بلى. قال: ثَمّ عمد لكن لا ترونها».

أهناك تعبير أوضح وأبسط في الادب العربي من هذا القول عن قوّة الجاذبية: أعمدة غير مرئية، ليفهمه عامّة الناس؟

وفي حديث عن الامام علي أميرالمومنين عليه السلام نقرأ:

«هذه النجوم التي فى السّماء مدائن مثل المدائن التي فى الارض مربوطة كل مدينة الى عمود من نور».

يقول العلماء المعاصرون أن بين نجوم السماء نجوماً كثيرة تسكنها كائنات حيّة وعاقلة، وإنْ لم يكتشفوا بعد تفاصيلها.

دوران الارض حول نفسها وحول الشمس

يقول التاريخ أنَّ (غاليليو) الايطالي كان أوّل من اكتشف دوران الارض دروس في العقائد الاسلامية، ص: 176

حول نفسها قبل نحو أربعة قرون، بينما كان العلماء قبله يؤمنون بنظرية بطليموس المصري القائلة أن الارض هي مركز الكون وأنَّ جميع الاجرام الاخرى تدور حولها.

وكان جزاء (غاليليو) على اكتشافه العملي هذا أنَّ حكمت الكنيسة بكفره، ولم ينج من الموت إلّاباظهار الندم على

اكتشافه ذاك. غير ان علماء آخرين تابعوا نظريته واكّدوها بحيث أنها أصبحت اليوم من الامور التي لا يختلف فيها اثنان، بل لقد ثبت بالتجارب الملموسة أنَّ الارض تدور حول نفسها، وخاصّة بعد التحليقات الفضائية الاخيرة.

وعليه فقد فقدت الارض مركزيتها بالنسبة للكون بعد أنْ تبين إنَّنا كنا من قبل ضحية خطأ حواسنا، فكنا نخلط حركة الارض بحركة مجموعة الثوابت والسيارات. إنَّنا نحن الذين نتحرك، وكنا نعتبرها هي التي تتحرك.

على كل حال، لقد سيطرت نظرية بطليموس نحو ألف و خمسمائة سنة على عقول العلماء. وعند ظهور القرآن لم يكن أحد يجرؤ على القول بخلاف ذلك.

ولكننا إذا رجعنا الى آيات القرآن نجد أنَّه في الآية 88 من سورة «النمل» يتحدث عن حركة الارض فيقول:

ى وَتَرى الجِبَالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلَّ شَي ءٍ إِنّهُ خَبِيْرٌ بِما تَفْعَلُونَ ى.

هذه الآية تشير بوضوح الى حركة الجبال مع إنَّنا نراها ساكنة جامدة. إنَّ تشبيه حركتها بحركة السحاب يفيد السرعة مع الهدوء.

أمّا التعبير عن حركة الارض بحركة الجبال، فهو لكي يبيّن أهمية الموضوع،

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 177

إذ لا حركة للجبال بغير حركة الارض من تحتها، أي إنَّ حركتها هي حركة الارض نفسها، سواء أكان المقصود دورانها حول نفسها، أم حول الشمس، أم كليهما.

تصور الآن عصراً كانت فيه جميع المحافل العلمية في العالم والانسان العادي، يؤمنون بنظرية سكون الارض ودوران الشمس والكواكب الاخرى حولها، ألا يكون الإخبار بحركة الارض بهذا البيان معجزة علمية؟ خاصّة أنَّ المخبر انسان امّي لم يدخل مدرسة، بل أنَّه نشأ في محيط متخلف لا مدرسة فيه ولا تعليم. أفلا يكون هذا دليلًا على كون القرآن كتاباً سماوياً؟

فكّر وأجب:

1- ما المقصود بمعجزات القرآن الكريم العلمية؟

2-

من اكتشف قانون الجاذبية؟ ومتى كان ذلك؟

3- في أية آية يخبر القرآن الكريم عن قانون الجاذبية العام وكيف يعبر عن ذلك؟

4- من قال بسكون الارض؟ ومن الذي اكتشف حركتها، وكم ظلت تلك الفرضية تسيطر على العلماء؟

5- في أية آية يخبر القرآن الكريم عن حركة الارض؟ وكيف يعبر عن ذلك؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 179

الدّرس 9 دليل آخر على صدق نبوّة نبيّ الاسلام

هناك طريق آخر غير طلب المعجزة لا ثبات صحة دعوى النّبوة أو عدمها، وهو طريق يعتبر بحد ذاته دليلًا حياً آخر للوصول الى الهدف المنشود، وذلك هو دراسة القرائن التالية وتوفر عدد منها في مدعي النّبوة:

1- مميزاته الاخلاقية وتاريخه الاجتماعي.

2- الظروف التي تسود البيئة الذي ظهرت فيها الدّعوة.

3- الظروف الزّمانية.

4- محتوى الدّعوة.

5- خطط الدّعوة التنفيذية ووسائل الوصول الى الهدف.

6- مقدار الأثر الذي تتركه الدّعوة في البيئة.

7- مقدار ايمان صاحب الدّعوة بهدفه ومدى تضحيته في سبيله.

8- عدم التّساوم مع الاعداء لحرفه عن طريقه.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 180

9- سرعة تأثير الدّعوة في الرأي العام.

10- دراسة الذين يؤمنون بالدعوة وطبقتهم الاجتماعية.

علينا أنْ ندرس هذه الامور دراسة دقيقة وأنْ ننظم ملفاً خاصاً بذلك بحيث يسهل علينا معرفة صدق مدعي النّبوة أو كذبه.

والآن بعد الاخذ بنظر الاعتبار النقاط السابقة، نباشر باجراء دراسة دقيقة ومكثفة عن شخص نبيّ الاسلام صلى الله عليه و آله، على الرغم من أنَّ هذا يتطلب المجلدات الكثيرة:

1- فيما يتعلق بمميزات نبي الاسلام الاخلاقية، فإنَّ كتب التاريخ التي كتبها الاصدقاء و الاعداء تؤكد لنا أنَّه كان على درجة من الطهارة والنقاء والاستقامة بحيث أنَّهم في ذلك العصر الجاهلي وصفوه بالصادق الامين.

يقول التاريخ: عندما إراد الهجرة الى المدينة طلب من علي عليه السلام أنْ يؤدي عنه الامانات الى أصحابها.

أمّا شجاعته وثباته وحسن خلقه

وسعة صدره وفتوته وتضحياته فيمكن التعرف عليها من خلال حروبه وفترات سلمه. إنَّ العفو العام الذي أصدره بالنسبة لاهل مكة بعد فتحها واستسلام اعدائه الالداء للمسلمين يعتبر دليل حي على خلقه النبيل.

2- إنَّنا نعلم أنَّ الناس العاديين- بل حتى النّوابغ منهم- يتأثرون بالمحيط الديني الذي يعيشون فيه شاؤوا أم أبوا، وأنْ يكن تأثرهم على درجات متفاوتة.

تصور، إذن، رجلًا عاش أربعين سنة في محيط يسوده الجهل و عبادة

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 181

الاصنام، و تسيطر عليه حالة من الخرافات والاباطيل، كيف يمكن له أنْ يدعو الى التوحيد الخالص، وأنْ يبادر الى مواجهة مظاهر الشرك كلها؟ كيف يمكن أنْ يصدر عن محيط جاهل أعلى التّجليات العلمية التي لاتصدقها الابصار؟

أيمكن أنْ نصدق أن ظاهرة عجيبة كهذه يمكن أن تظهر الى الوجود بغير أنْ تكون مؤيده من اللَّه و من ما وراء الطبيعة؟

3- علينا أنْ نعرف العصر الذي ظهر فيه النّبي صلى الله عليه و آله. إنه عصر القرون الوسطى عصر الاستبداد و التمييز العنصرى و الامتيازات الظالمة، عصر العنصرية والطبقية. تعال نستمع الى وصف ذاك العصر عن لسان علي بن أبي طالب عليه السلام، اذ يقول:

«بعثه والنّاس ضلّال في حيرة، وحاطبون في فتنة، قد استهوتهم الاهواء، واستنزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الامر، وبلاء من الجهل ...». «1»

فتصور ديناً شعاره المساواة بين الناس والقضاء على التبعيض العرقي والطبقي: ى إنّما المؤمنون إخوةى كيف ينسجم مع مثل ذلك العصر؟

4- محتوى الدعوة التوحيد من جميع الجهات، والغاء الامتيازات الظالمة، و توحيد عالم الانسانية، و مكافحة الظلم والجور، و اقامة حكومة عالمية، و الدفاع عن المستضعفين، واعتبار التقوى والطهارة والامانة من أهم معايير القيم الانسانية.

دروس في العقائد

الاسلامية، ص: 182

5- بالنسبة للخطط التنفيذية لم يُجِز ابداً المقولة القائلة أنَّ الغاية تبرر الوسيلة، و للوصول الى أهدافه المقدّسة. كان يقول:

ى وَلا يَجْرِمَنَّكُم شَنآنُ قَومٍ عَلَى أنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُواى. «1»

أمّا علو أخلاقه فيتضح من تعليماته في التزام المبادى ء الاخلاقية في ميادين الحرب، و عدم الاعتداء على غير المقاتلين و الامتناع عن قطع شجرة، وعدم تلويث مياه شرب العدو، ومعاملة الاسرى بكل محبّة، وعشرات اخرى من امثال هذه التعليمات.

6- مقدار تأثير دعوته في ذلك المحيط كان من الشدّة بحيث أن الاعداء كانوا يخشون الاقتراب منه، خوفاً من أن ينجذبوا إليه و يتأثرون به، فكانوا إذا تكلم يثيرون الجلبة والضوضاء لئلا يسمع الناس ما يقول فتنجذب اليه قلوبهم العطشى. ولكي يموهوا على الناس تأثيره المعجز و قد و صفوه بالساحر الذي ينطق بالسحر، وهذا بذاته اعتراف ضمني بقوّة تأثير دعوته الخارقة للعادة.

7- أمّا مقدار تضحيته في سبيل دعوته، فلقد كان أشدّ الناس إيماناً بهذا الدين الذي عهده اللَّه اليه به.

في بعض الحروب التي فرّ منها المسلمون الجُدد، وقف هو بثبات، ولم ينفع معه ترغيب الاعداء ولاترهيبهم، بل ظل ثابتاً على دينه، لا يظهر عليه شي من الضعف والتردد.

8- كثيراً ما سعوا لاجباره على التّساوم مع المنحرفين، ولكنه لم يتزحزح قيد شعرة عن موقفه، بل قال:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 183

«واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الامر ما تركته».

9- لم يكن تأثير دعوته في الرأي العام عجيباً فحسب، بل كانت سرعه انتشارها خارقة للعادة أيضاً.

إن الذين قرأوا ماكتبه المستشرقون الغربيون حول الاسلام لابدّ أنّهم لاحظوا أنَّ اولئك يبدون دهشتهم من سرعة انتشار الاسلام. من هؤلاء ثلاثة من الاساتذة الغربيين

الذين كتبوا عن تاريخ حضارة العرب فاعترفوا بهذه الحقيقة دون مواربة، ويقولون:

«على الرّغم من البحوث والدّراسات التي اجريت لمعرفة سبب انتشار الاسلام السريع في العالم بحيث انه سيطر على جانب واسع من العالم في أقل من قرن، فإنَّ القضية مازالت غامضة».

نعم، أنَّه لغز غامض! ترى كيف استطاع في ظروفه تلك أنْ ينفذ الى قلوب ملايين الناس بتلك السرعة العجيبة، و أنْ يهيمن على مختلف الحضارات ويخلق حضارة جديدة؟!

10- و لنرى أخيراً اعدائه، فقد كانوا من رؤساء الكفر والظالمين المستكبرين والمترفين والانانيين، في الوقت الذي كان فيه الذين آمنوا به، في غالبيتهم، المحرومين والعبيد، اناس ما كان لهم من رأسمال سوى الطهارة وصفاء النفس والتعطش الى اللَّه.

من مجموع هذه البحوث- التي يطول شرحها وتفصيلها- يمكن أنْ نستنتج دروس في العقائد الاسلامية، ص: 184

أنَّ دعوته دعوة إلهية، دعوة انبعثت ممّا وراء الطّبيعة، وأنَّه قد بعثه اللَّه لينقذ الانسان من الفساد والضياع والجهل والشرك والظلم والجور.

فكّر وأجب:

1- هل هناك طريق لمعرفة صدق النّبي صلى الله عليه و آله غير طريق المعجزة؟ ما هو؟

2- ماهي القرائن التي يجب علينا جمعها؟ وما النقاط التي يجب أنْ نؤكد عليها؟

3- بين ما تعرفه عن العرب خصوصاً والعالم عموماً في العصر الجاهلي.

4- هل يمكن معرفة شي ء من المقارنة بين حال العرب قبل الاسلام وبعده؟

5- لماذا اتّهم أعداء الاسلام النّبي صلى الله عليه و آله بالسحر؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 185

الدّرس 10 نبيّ الاسلام صلى الله عليه و آله خاتم الانبياء

المعنى الدقيق للخاتمية

نبيّ الاسلام آخر انبياء اللَّه، فيه اختتمت سلسلة النّبوة، وهذا من «ضروريات الدّين الاسلامي».

والضّرورة هنا تعني أنَّ من يدخل صفوف المسلمين سرعان ما يدرك أنَّ جميع المسلمين يحملون العقيدة نفسها وهي من الامور الواضحة والمسلّم بها عندهم. فمثلما أنَّ كل شخص له ارتباط

مع المسلمين يعلم أنهم يؤكدون مبدأ «التّوحيد» يعلم أيضاً أنهم متفقون جميعاً على أن نبيّ الاسلام صلى الله عليه و آله هو خاتم الانبياء، وليس هناك أي مسلم يتوقع مجي ء نبيّ جديد من بعده.

والواقع أنَّ قافلة البشرية قد طوت خلال مسيرتها نحو التكامل مراحل عديدة ومختلفة الواحدة بعد الاخرى حتى بلغت مرحلة من الرّشد والتّكامل تستطيع معها أنْ تقف على قدميها، أي أنَّها تستطيع أنْ تحل جميع مشكلاتها

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 186

باتباع التّشريعات الاسلاميّة الجامعة.

وبعبارة اخرى أنَّ الاسلام هو القانون النهائي الشامل في مرحلة بلوغ البشرية ونضجها، فهو من حيث العقائد بلغ الكمال في محتواه، حيث يسدُّ حاجات الانسان في كل عصر وزمان.

الدّليل على أنَّ النّبي صلى الله عليه و آله خاتم الانبياء

هناك أدلّة عديدة لاثبات هذا القول، أهمها مايلي:

1- ضرورة هذه القضية: قلنا أنَّ من يتصل بالمسلمين في أي مكان من العالم يدرك أنَّهم يعتقدون بأنَّ نبيّ الاسلام صلى الله عليه و آله هو خاتم الانبياء، وعليه فاذا تقبل أحد الاسلام عن طريق الدليل والمنطق، فلا مندوحة له من أنَّ يقبل بمبدأ خاتمية النّبوة بنبي الاسلام. وبما أنَّنا في الدورس السابقة أثبتنا صحّة هذا الدين وصدقه بالأدلة الكافية، فلابدّ من القبول بأن مبدأ ختم النبوّة بنبوّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من ضروريات هذا الدين.

2- في القرآن آيات تؤكد كون النّبي صلى الله عليه و آله هو خاتم الانبياء، منها:

ى ما كَانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُم وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيينَ ى. «1»

وقد نزلت هذه الآية في الوقت الذى راج فيه بين العرب تبنّي الابناء، إذ كانوا يتبنون أبناء من أبوين آخرين ويتخذونهم أبناء حقيقيين لهم فيعيشون ضمن أفراد الاسرة، يرثونهم و يصبحون من محارمها.

دروس في العقائد الاسلامية، ص:

187

غير أنَّ الاسلام ألغى هذه العادة الجاهلية، وقال أنَّ الابن بالتبني لا يمكن أنْ يكون كالابن الشرعي من حيث الحقوق القانونية، بما فيهم «زيد» الذي كان نبيّ الاسلام صلى الله عليه و آله قد تبناه، فجاءت الآية تقول للمسلمين أنَّكم بدلًا من أنْ تصفوا النّبي بكونه أباً لاحد، صفوه بصفتيه الحقيقيتين: كونه رسول اللَّه، وكونه خاتم النبيين. وهذا يدل على أنَّ هاتين الصفتين كانتا من الامور المسلم بهما بين المسلمين.

السؤال الوحيد الذي يُثارُ هنا هو ما المعنى الحقيقي للخاتمية؟ «الخاتم من مادة» ختم «التي تعني بلوغ نهاية الشي ء، مثل الختم الذي كان يوضع في نهاية الرسالة المكتوبة. ومن هنا وضعت كلمة «الخاتم» على ما يلبس في الاصابع، لأنَّ فص الخواتم كان ينقش عليه اسم أو رسم و يستعمل لختم المكاتبات في ذلك الزمان، وكل ختم كان يخص شخصاً بعينه.

جاء في الرّوايات الاسلامية: عندما أراد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله انْ يكتب الرسائل لملوك و رؤساء بلدان ذلك العصر يدعوهم الى الاسلام، قيل له أنَّ من عادة ملوك العجم أنَّهم لا يقبلون كتاباً مالم يكن فيه ختم صاحبه. وذلك لأنَّ رسائل النّبي حتى ذلك الحين كانت خالية من كل ختم. فامر أنْ يحفروا «لا إلهَ إلّااللَّهُ محمّد رسول اللَّه» على فص خاتم، وأخذ يختم به رسائله منذ ذلك الوقت.

وعليه، فإنَّ المعنى الاصلي للخاتم هو وضع النهاية و الختام.

3- هنالك احاديث كثيرة تبيّن كون النّبي صلى الله عليه و آله كان آخر الانبياء وخاتمهم، منها الحديث المعتبر المروي عن جابر بن عبداللَّه الانصارى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنَّه قال:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 188

«مثلي بين الانبياء كمثل من بنى داراً كاملة

لا تنقصها إلّا آجرة واحدة، فمن دخلها أعجب بجمالها ولكن يعيبها هذا النقص. فانا تلك الآجرة الناقصة والانبياء ختموا بي».

وقد قال الامام صادق عليه السلام:

«حلال محمد حلال أبداً الى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً الى يوم القيامة». «1»

وثمة حديث يذكره الشيعة والسنة أنّه قال لعلي عليه السلام «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنَّه لا نبيّ بعدي».

ثمة تساؤلات تبرز في موضوع ختم النّبوة لابدّ من الاشارة اليها:

1- يقول بعضهم أنَّ ارسال الانبياء فيض الهي عظيم، فلماذا حرم اناس هذا الزمان من هذا الفيض؟ لماذا لا يكون لاهل هذا الزمان هاد وقائد جديد يهديهم ويقودهم؟

إنَّ الذين يقولون هذا قد غفلوا في الحقيقة عن نقطة مهمة، وهي أنَّ حرمان عصرنا لم يكن لعدم جدارتهم، بل لأنَّ قافلة البشرية في هذا العصر قد بلغت في مسيرتها الفكرية وفي وعيها مرحلة تمكنها من إدامة مسيرتها باتباع الشريعة.

ولنضرب هنا مثلًا:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 189

أولو العزم من الانبياء الذين جاءوا بدين جديد وبكتاب من السماء، وهم خمسة (نوح و ابراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام). وقد ظهر هؤلاء كل في فترة معينة من الزمان، وسعوا لهداية البشر ووضعهم على طريق التكامل، فاوصل كل منهم القافلة البشرية من مرحلة الى المرحلة التي تليها وسلمها الى النّبي الذي يليه من أولي العزم، الى أنْ بلغت القافلة في مسيرتها الى الطريق النهائي، كما بلغت القدرة التي تمكنها من مواصلة مسيرتها وحدها نهايتها، مثلها مثل التلميذ الذي يطوي مراحل الدراسة الخمس حتى يتخرج من الكلية (وبالطبع لا يعني هذا أنَّه انتهى من التعلم، بل يعني أهليته للاستمرار بمفرده دونما حاجة الى معلم أو مدرسة). وهذه المراحل هي: المرحلة الابتدائية، المرحلة المتوسطة، المرحلة الاعدادية، المرحلة

الجامعية، وأخيراً مرحلة الحصول على الدّكتوراه.

فاذا لم يواصل الدكتور الدراسة فى الجامعة، فلا يعني هذا أنَّه ليس جديراً بالدّراسة، بل يعني أنَّ لديه من المعلومات ما يمكنه من حل مشكلاته العلمية عند الاستعانة بها، ومن الاستمرار في مطالعاته ومواصلة تقدمه.

2- لما كان المجتمع البشرى دائم التّغير، كيف يمكن أنْ تكون التشريعات الاسلامية الثابتة قادرة على مواجهة تلك التغيرات؟

في الجواب نقول: في الاسلام نوعان من التّشريعات: نوع هو أشبه ما يكون بصفات الانسان الثابتة، فهو أيضاً ثابت لا يتغير، مثل لزوم الاعتقاد بالتوحيد، وتطبيق العدالة، ومكافحة كل أنواع الظلم والتعسف والعدوان وأمثالها.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 190

أمّا النوع الآخر من التشريعات فيتألف من مجموعة من القواعد الكلية العامة التي تتخذ اشكالًا جديدة بحسب تغير مواضيعها بحيث أنَّها تسد الحاجة في كل عصر وزمان.

فمثلًا هنالك مبدأ عام في الاسلام يقول: «أوفوابالعقود» لاشك أنْ تعاقب الازمان يخلق أنواعاً جديدة من العقود الاجتماعية والتجارية والسياسية المفيدة التي يستطيع الانسان أنْ يعقدها مع أخذ المبدأ الاصلي بنظر الاعتبار.

هنالك قاعدة كلية اخرى هي «قاعدة لاضرر» التي تعني أنَّ كل حكم أو قانون يسبب الضرر للفرد أو المجتمع يجب أنْ يتحدد بحدود. لاحظ كيف أنَّ هذه القاعدة الاسلامية العامة تمنع الاضرار بالآخرين وتحل المشكلات.

إنَّ في الاسلام الكثير من أمثال هذه المبادى ء الكلية العامّة التي نتمكن من خلال تطبيقها حل أعقد المشكلات التي قد تبرز في الحياة الاجتماعية.

3- لا شك إنَّنا في المسائل الاسلامية بحاجة الى القائد وعند عدم وجود النبي وغياب وصيه تتوقف قضية القيادة، كما أنَّ اختتام النّبوة بنبيّ الاسلام صلى الله عليه و آله لايكون معه إنتظار لنبيّ آخر، أفلا يعني هذا خسارة للمجتمع الاسلامي؟

في الجواب نقول: هذه الحالة أيضاً

قد تمّ الاعداد لها من جانب الاسلام، فعن طريق «ولاية الفقيه» يمنح الفقيه الجامع للشرائط من علم وتقوى ورؤية سياسية على مستويات عالية حق القيادة. كما أنَّ اسلوب معرفة مثل هذا القائد قد بيّنه الاسلام في قوانينه. وعليه فليس هناك ما يدعوا الى القلق من هذه النّاحية.

وبناء على ذلك فإنَّ مبدا «ولاية الفقيه» يعتبر إستمرار لخط الانبياء

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 191

واوصيائهم عليهم السلام. و إنَّ قيادة الولي الفقيه الجامع للشرائط دليل على أنَّ المجتمع الاسلامي لم يترك بدون رعاية وهداية. «1»

فكّر وأجب:

1- ما المعنى الدّقيق لكلمة «خاتم»؟

2- كيف نستدل من آيات القرآن على أن النّبي صلى الله عليه و آله خاتم الانبياء؟

3- لماذا حُرِم الناس في عصرنا هذا من ظهور الانبياء بينهم؟

4- ما أنواع القوانين الاسلامية؟ وكيف تسد حاجات كل زمان؟

5- هل يمكن للمجتمع الاسلامي أنَّ يبقى بدون قائد؟ كيف حلت مسألة القيادة الاسلامية في عصرنا؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 193

الفصل الرّابع معرفة الامامة

الدّرس 1 متى بدأ البحث فى الامامة؟

اشارة

بعد رحلة نبي الاسلام إنقسم المسلمون الى فريقين: فريق قال: إنَّ النّبي صلى الله عليه و آله لم يعين خليفة بعده، وأنَّه أوكل ذلك الى الامة كي تختار بنفسها قائداً لها. هذا الفريق هم «أهل السّنة».

الفريق الآخر قال: إنَّ خليفة الرسول صلى الله عليه و آله يجب أنْ يكون مثله معصوماً من الخطأ والاثم، عالماً، قادراً على قيادة الامة قيادة معنوية ومادية، والحفاظ على مبادى ء الاسلام الأصيلة و ادامتها.

يقول هؤلاء أنَّ مثل هذا الخليفة يجب أن يعيّنه اللَّه عن طريق رسوله، وأنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد فعل ذلك، وعين علياً عليه السلام خليفة له. وهؤلاء هم «الامامية» أو «الشّيعة».

إنَّ هدفنا من هذه البحوث المختصرة هو أنْ نتابع هذه القضية

على ضوء الادلة العقلية والتاريخية والآيات القرآنية والسنة النبوية.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 196

ولكن قبل الدخول في الموضوع لابدّ من الاشارة الى بضع نقاط:

1- هل البحث في هذا الموضوع يثير الخلاف؟

بعض الناس ما أنْ يطرق سمعهم الكلام حول الامامة حتى ينبرون فوراً قائلين إنَّ الظرف اليوم لا يسمح بذلك. فاليوم هو يوم وحدة المسلمين، و الكلام عن خليفة الرسول الاكرم صلى الله عليه و آله سيكون سبباً للتفرقة و تشتت الكلمة، أو أنَّ لنا اليوم أعداء مشتركين يجب أنْ نوجه اهتمامنا اليهم: و هم الصهيونية والاستعمار الغربي والشرقي. وعليه يجب أنْ نتجنب المسائل الخلافية التعصبية.

غير أنَّ هذا الطّراز من التفكير يعتبر خطأ محض، للاسباب التالية:

أوّلًا: إنَّ ما يسبب الخلاف والتشتت يدخل ضمن البحوث غير المنطقية المثيرة للاحقاد.

أمّا البحث المنطقي الاستدلالي البعيد عن التعصب و العناد و الخصام، والذي يجري في جو من الود و الصداقة، فإنَّه فضلًا عن كونه لا يسبب التفرقة فإنَّه يقلل مسافة الانفصال ويقوي نقاط الالتقاء المشتركة.

إنِّني في سفراتي المتكررة لزيارة بيت اللَّه الحرام بمكة، و من خلال مناظراتي مع علماء أهل السنة، كنت أحس، كما كانوا هم أيضاً يحسون، بأنَّ هذه المناظرات فضلًا عن كونها ليس لها أي أثر سي ء على علاقاتنا، فانَّها أرست أسس التفاهم وحسن الظن، و التقارب و أزالت ماقد يكون في بعض الصدور من ضغينة.

المهم أنَّ هذه البحوث توضح الكثير من نقاط الالتقاء فيما بيننا، ممّا يمكن لنا

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 197

أنْ نستند اليها في مواجهة أعداءنا المشتركين.

ينقسم أهل السّنة أنفسهم الى أربعة مذاهب: الحنفية والحنابلة، والشافعية، والمالكية، ومع ذلك فان هذا الانقسام لم يتسبب في تفرقتهم، وإذا ما اعتبروا فقه الشّيعة، على الاقل مذهباً فقهياً خامساً، فإنَّ الكثير من العقد والتشتت

تزول من الوجود، كما حدث فعلًا بعد أنْ خطا مفتي أهل السنة الكبير شيخ الازهر الشيخ شلتوت، تلك الخطوة المهمّة باعلانه المذهب الشيعي مذهباً اسلامياً رسمياً، فكان بذلك عوناً كبيراً ومؤثراً في عملية التفاهم الاسلامي، وانعقدت بينه وبين المرحوم آية اللَّه البروجردي، مرجع عالم التشيع الكبير، أواصر الاخوة و الصداقة.

ثانياً: إنَّنا نعتقد أنَّ الاسلام قد تبلور في المذهب الشيعي أكثر من أي مذهب آخر. وفي الوقت الذي يحترم مذهب الشيعة المذاهب الاسلامية، الأخرى فإنَّنا نعتقد أنَّ المذهب الشيعي أقدر على طرح الاسلام الواقعي بجميع أبعاده، وعلى حلّ القضايا المتعلقة بالحكومة الاسلامية.

فلماذا لا نعلّم أبناءنا هذا المذهب والمنطق؟ بل إنَّنا إنْ لم نفعل فقد ارتكبنا خيانة في حقّهم!

إنَّنا على يقين تام بأنَّ النّبي صلى الله عليه و آله قد عيّن خليفته من بعده، فما الذي يحول دون تتبع هذا الموضوع على هدى الاستدلال والمنطق؟ ونحن ملزمون في امثال هذه البحوث أنْ نحذر كى لا نجرح مشاعر الآخرين المذهبية.

ثالثاً: إنَّ أعداء الاسلام، و من أجل أن يوقعوا بين المسلمين ويفكوا وحدتهم لم يألوا جهداً في تشويه سمعة مذهب الشيعة في نظر أهل السنة من دروس في العقائد الاسلامية، ص: 198

خلال اتهامهم بشتى التهم والافتراءات، كما أنَّهم لم يألوا جهداً في إتهام أهل السنة و تشويه سمعتهم عند الشيعة كذلك، بحيث أنَّهم استطاعوا في بعض البلدان أنْ يحققوا القطيعة بينهم.

إنَّنا عندما نعرض موضوع «الامامة» بالاسلوب الذي سبق ذكره، نوضح النقاط التي يستند عليها الشيعة لتوثيق رأيهم، مع أدلة من الكتاب والسنة، يتبين تماماً أنَّ كل تلك الدعاوي كانت كاذبة، وأنَّ أعداءنا المشتركين هم الذين بثوا تلك السموم.

و كمثال على ذلك، لا أنسى إنَّني في إحدى زياراتي لمكة المكرمة

التقيت أحد كبار رجال الدين السعوديين وجرت بيننا مناظرات، فكان يقول أنَّه سمع أنَّ للشيعة قرآناً يختلف عن قرآنهم.

فاستولى علي العجب، ولكني قلت له: أخي، إنَّ التحقق من هذا الامر سهل للغاية. إنَّني أدعوك شخصياً أو من يمثلك أنْ تأتي معي، بعد انتهاء العمرة، الى ايران دون اخبار أحد. هناك ستجد في كل شارع وزقاق مسجداً، وفي كل، مسجد ستجد عدداً من المصاحف الشريفة، كما أنَّ القرآن موجود في بيوت جميع المسلمين. وسوف نزور أي مسجد شئت، أو نطرق باب أي منزل أردت ونطلب منهم أنْ نرى القرآن الذي يتلونه، وعندئذ يتبين أنْ كان هناك أي اختلاف، حتى في كلمة واحدة أو في حرف واحد بين ماعندنا وما عندكم من كتاب اللَّه، بل أنَّ الكثير من نسخ المصحف الشريف المتداولة عندنا هي من طبع الحجاز أو مصر أو سائر البلاد الاسلامية.

لا شك إنَّ هذا الكلام الاخوي الصادق المنطقي تماما قد ازال من ذهن أحد

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 199

الرجالات المعروفين تلك السموم العجيبة.

وعليه، فإنَّ الحديث فيما يتعلق بالامامة- بالاسلوب الذي ذكرناه- يقوي وحدة المسلمين ويساعد على تسليط الضوء على الامور ويضيق من شقة التباعد و الخلاف.

2- ما هي الامامة؟

«الامام» كما هو واضح من الكلمة، هو الذي يقتدي به في الاسلام ويتقدم المسلمين ويقودهم. وفي عقائد الشيعة يطلق «الامام المعصوم» على من يكون خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كل شي ء، سوى أنَّ النّبي هو مؤسس الاسلام، والامام حافظه وحاميه، والنبي ينزل عليه الوحي، والامام لايأتيه الوحي، بل يأخذ تعليماته من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويمتاز بعلم غزير خارق للعادة.

الامام المعصوم، عند الشيعة، لا يعني رأس الحكومة الاسلامية فحسب، بل هو القائد

«المعنوي» و «المادي» و «الظاهري» و «الباطني» وقائد كل جوانب المجتمع الاسلامي أيضاً. وعليه تقع على عاتقه مسؤولية حماية العقائد والاحكام الاسلامية بدون أي خطأ أو انحراف، وهو عبد اختاره اللَّه من بين عبيده.

إلّا أنَّ أهل السنة لا يفسرون الامامة هكذا، و إنَّما يروّن في رئيس حكومة أي بلد اسلامى هو الامام. و بعبارة اخرى أنَّهم يعتبرون الحكام في كل عصر وزمان خلفاء رسول اللَّه وائمة المسلمين!

ولسوف نثبت في بحوثنا القادمة وجوب أنْ يكون في كل عصر وزمان ممثل دروس في العقائد الاسلامية، ص: 200

إلهي نبيّ أو امام معصوم- على هذه الارض، لكي يحرس هذا الدين الحق، ويهدي السائرين الى اللَّه. وإذا ما غاب عن الانظار لسبب من الاسباب، عهد الى آخرين بتمثيله في تبليغ الاحكام وتشكيل الحكومة.

فكّر وأجب:

1- ما منطق الذين يزعمون أنَّ الوقت ليس وقت الخوض في بحث الامامة؟

2- ما هو عدد الاجوبة الاستدلالية لاثبات ضرورة القيام بهذا البحث في مواجهة منطق اولئك؟

3- كيف أوقع أعداء الاسلام الفرقة بين المسلمين؟ وكيف يمكن ردم الهوة بينهم؟

4- هل تتذكر أمثلة على ماقام به الاعداء لتفريق المسلمين؟

5- ما معنى «الامامة» عند الشيعة وعند أهل السنة؟

الدّرس 2 فلسفة وجود الامام

اشارة

إنَّ البحوث التي أثبتنا بها ضرورة بعثة الانبياء تبين كذلك الى حد كبير ضرورة وجود الامام بعد النبي، لأنَّ الموضوعين يشتركان في جانب مهم من المناهج، إلّاأنَّ موضوع الامامة يتطلب مزيداً من البحث:

1- التكامل المعنوى الى جانب وجود القادة الالهيين

قبل كل شي ء نتوجه الى الهدف من خلق الانسان، فهو أساس عالم الخليقة:

إنَّ الانسان يطوي طريقاً طويلًا كثير المنعطفات والعثرات في سيره نحو اللَّه، و نحو الكمال المطلق، و التكامل المعنوي بجميع أبعاده.

و من البديهي أنَّه لا يستطيع أنْ يقطع هذا الطريق بنجاح بغير هداية قائد معصوم، ولا أنْ يطويه بغير معلم سماوي، لأنَّه طريق محفوف بالظلمات وبمخاطر الضلال.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 202

صحيح أنَّ اللَّه قد وهب الانسان العقل والحكمة، ومنحه وجداناً قوياً مثمراً، وأرسل إليه كتباً سماوية، ولكن هذا الانسان، مع كل هذه الوسائل التّكوينية والتّشريعية، قد يخطى ء في تمييز خط سيره، لذلك فإنَّ وجود دلبل معصوم يأخذ بيده يقلل كثيراً من احتمالات الانحراف والضياع. فبناء على ذلك:

«إنَّ وجود الامام يكمل الهدف من خلق الانسان».

وهذا هو ما يطلق عليه في كتب العقائد اسم «قاعدة اللطف»، ويقصدون بها أنَّ اللَّه الحكيم يمدّ الانسان بجميع الامور اللازمة لكي يصل الى هدف الخلق، ومن هنا فان بعثة الانبياء وتعيين الائمّة المعصومين، وإلّا فإنَّ ذلك يؤدي الى (نقض الغرض) فتأمل!

2- الحفاظ على الشرائع السماوية

إنَّ الاديان الالهية عند أوّل نزولها على قلوب الانبياء تكون أشبه بقطرات المطر النقية الشفافة الصافية التي تمنح الحياة وتربي الرّوح. ولكنها عندما تدخل المحيط الملوث والادمغة الضعيفة غير النظيفة تتلوث بالتدريج، وتضاف اليها الخرافات والاوهام، بحيث أنَّها تفقد شفافيتها ولطافتها الاولى، وعندئذ لا يبقى لها شي ء من جاذبيتها، و تفقد الكثير من تأثيرها التربوي، فلا هي تروي عطش العطاشى، ولا هي تنبت برعماً لفضيلة.

و من هنا تتضح ضرورة وجود القائد المعصوم بصفته أنَّه هو الذي يحافظ على أصالة الدين، وخلوص المناهج الدينية، ويحول دون كل اعوجاج دروس في العقائد الاسلامية، ص: 203

وانحراف وفكر وافد ونظرة سقيمة

غريبة، وكل الخرافات والاساطير، اذ لو بقي الدين بدون وجود مثل هذا القائد والحامي لفقد في فترة قصيرة أصالته ونقاءه.

ولهذا نجد الامام علياً عليه السلام يقول في احدى خطبه:

«اللّهم بلى، لاتخلو الارض من قائم للَّه بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج اللَّه وبيِّناته». «1»

و في الواقع إنَّ قلب الامام، من هذه الناحية، أشبه بالخزانة الكبيرة التي تحفظ فيها الوثائق والمستندات المهمة، لكي تبقى مصونة من أيدي اللصوص والعابثين والحوادث. وهذا وجه آخر من وجوه الحكمة من وجود الامام.

3- قيادة الامَّة سياسياً واجتماعيا

لاشك أنَّ أي جماعة من الناس إذا لم يكن لها نظام اجتماعي يتزعّمه قائد قادر، لاتكون قادرة على الاستمرار في حياتها. ولهذا نجد الاقوام و الأمم منذ أقدم العصور و حتى الآن قد اختاروا لانفسهم زعيماً وقائداً. وهذا القائد قد يكون صالحاً، ولكنه كثيراً ما لايكون. ولطالما استطاع كثير من طلاب الجاه والسلطة استغلال حاجة الناس الى المرشد والقائد لفرض أنفسهم بالقوّة و و الجبروت على الناس، فاستحوذوا على أزمة الامور. هذا من جهة، ومن جهة اخرى ولكي يتمكن الانسان من الوصول الى هدفه المعنوي، يجب عليه أنْ لا ينفرد في مسيرته، بل عليه أنْ ينضم الى المجتمع دروس في العقائد الاسلامية، ص: 204

في مسيرة عظمى، لأنَّ طاقات الفرد الفكرية والجسمية والمادية والمعنوية ليست شيئاً يذكر بازاء طاقات المجتمع الجبارة.

ولكن المجتمع المطلوب هو الذي يسوده نظام سليم، و تتضح فيه مواهب الانسان، ويقف بوجه الانحرافات، ويحافظ فيه على حقوق جميع الافراد، ويضع الخطط والمناهج للوصول الى اهدافه الكبرى، ويعبى ء الدافع المحرك في المجتمع ضمن اطار من الحرية يشمل المجتمع كله.

ولما كان الانسان العادي المعرض للخطأ غير قادر على حمل مثل هذه الرسالة العظيمة،

بدليل ما نراه بأُم أعيننا من انحراف قادة العالم السياسيين عن جادة الصواب، كان لابدّ أنْ يختار اللَّه قائداً معصوما يضطلع بمهمة الاشراف على تحقيق هذه الرسالة، بالاعتماد على طاقات البشر الكامنة وأفكار العلماء، في الوقت الذي يقف بوجه الانحرافات بحزم.

وهذا وجه آخر من أوجه الغرض من وجود الامام المعصوم، وفرع آخر من فروع «قاعدة اللطف». ونكرر هنا قولنا أنَّه عند غياب الامام المعصوم بعلة من العلل وفي ظرف استثنائي، فان ما ينبغي أنْ يفعله الناس واضح أيضاً، ولسوف نتناول هذا- إنْ شاء اللَّه- في البحوث الخاصّة بالحكومة الاسلامية بالشرح والتفصيل.

4- ضرورة اتمام الحجة

إنَّ وجود الامام لا يقتصر على إنارة القلوب المستعدة للهداية والسير في طريق التكامل، بل يعتبر إتماماً للحجة على الذين ينحرفون متعمدين عن دروس في العقائد الاسلامية، ص: 205

الطريق السوي، وذلك كى لا يكون عقابهم يوم القيامة دون سبب ولكي لا يعترض معترض منهم، أنَّهم لو أخذ بأيديهم مرشد الهي ليقودهم الى طريق الرشاد، لما ساروا في طريق الانحراف.

أي إنَّ وجود الامام يقطع الطريق على كل عذر وحجَّة بوساطة بيان الادلة الكافية، والتوعية اللازمة لغير الواعين، وتطمين الواعين وتقوية إرادتهم.

5- الامام واسطة الفيض الالهي

كثير من العلماء، استناداً الى الاحاديث الاسلامية، يشبهون وجود النبي والامام في المجتمع الانساني، أو في كل عالم الوجود، بالقلب بالنسبة لجسم الانسان.

فالقلب يرسل الدّم الى جميع العروق، ويغذي جميع الخلايا في الجسم.

ولما كان الامام المعصوم، باعتباره انساناً كاملًا وطليعة قافلة الانسانية، وسبب نزول الفيوضات الالهية التي ينهل منها كل فرد على قدر ارتباطه بالنّبي أو الامام، فلابدّ أن نقول إنَّه مثلما كان القلب ضرورياً لحياة الانسان، كذلك وجود واسطة نزول الفيض الالهي ضرورياً في جسد عالم البشرية، فتأمل!

وينبغي ألّا يغرب عن البال أنَّ النّبي والامام لايملكان شيئاً من نفسيهما ليمنحاه للآخرين، فكل ما عندهما هو من عند اللَّه، ولكن مثلما كان القلب واسطة ايصال الفيض الالهي لسائر انحاء الجسم، كان النّبي أو الامام واسطة ايصال الفيوضات الالهية لسائر أبناء البشر.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 206

فكّر وأجب:

1- ما دور الامام في تكامل الانسان تكاملًا معنوياً؟

2- ما دور الامام في الحفاظ على الشريعة الاسلامية؟

3- ما دور الامام في مسألة قيادة الحكومة ونظام المجتمع؟

4- ما معنى اتمام الحجّة؟ وما دور الامام في ذلك؟

5- ما هي واسطة الفيض؟ وماهو أفضل تشبيه للنبي والامام بهذا الشأن؟

الدّرس 3 شروط الامام الخاصّة وصفاته

اشارة

قبل كل شي ء ينبغي أنْ نلتفت الى نقطة مهمة في هذا البحث:

يستفاد من القرآن المجيد بوضوح أنَّ مقام «الامامة» أرفع مقام يمكن أنْ يصل إليه انسان، أرفع حتى من مقام «النّبوة» و «الرّسالة» فنحن في حكاية النّبي ابراهيم عليه السلام، محطم الأصنام، نقرأ:

ى وإذِ ابْتَلى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إنّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً قَالَ وَ مِنْ ذِرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ى «1».

أي أنَّ إبراهيم عليه السلام، بعد أنْ طوى مرحلة النّبوة والرسالة واجتاز بنجاح مختلف ما امتحنه به اللَّه تعالى

ارتقى الى هذه المرحلة الرفيعة، مرحلة مقام الامامة الظاهرية والباطنية والمادية والمعنوية في قيادة الناس.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 208

نبيّ الاسلام صلى الله عليه و آله كان، بالاضافة الى مقام النّبوة والرسالة، في مقام امامة الخلق وقيادتهم. وهناك عدد آخر من الانبياء بلغوا هذه المرحلة الرفيعة أيضاً، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى إنَّنا نعلم إنَّ الشروط والصفات اللازمة لتحمل مسؤولية منصب من المناصب تتناسب مع الواجبات والمسؤوليات التي ينبغي على المرء تنفيذها وتحملها، وكلما كان المنصب أرفع ومسؤولياته أصعب، كانت الشروط والصفات اللازم توفرها في المنتخب لذلك المقام أهم وأثقل.

فمثلًا يشترط الاسلام فيمن يتسنم منصب القضاء، وحتى الشاهد وإمام الجماعة، أنْ يكون عادلًا، فإذا كان الشّاهد، أو من يؤم صلاة الجماعة يجب أن تتوفر فيه العدالة، فما بالك بالشّروط اللازمة لبلوغ مقام الامامة الخطير الرفيع!

إنَّ الشروط الضرورية التي ينبغي توفّرها في الامام هي:

1- العصمة من الخطأ والإثم

الامام، كالنّبي، يحب أنْ يكون معصوماً، أي أنْ يكون مصوناً من كل «خطأ» و «إثم»، وإلّا لم يسعه أنْ يكون قائداً ونموذجاً وقدوة وأسوة للناس يعتمدونه ويتبعونه.

لابدّ للامام من أنْ يستحوذ على قلوب الناس، فيأتمرون بأمره دون اعتراض. فمن كان ملوثاً بالإثم لايمكن أبداً أنْ يبلغ هذا المبلغ في القلوب ولايكون موضع ثقة الناس واطمئنانهم.

ومن كان في أعماله اليومية عرضة للأخطاء والهفوات، كيف يمكن أنْ يوثق دروس في العقائد الاسلامية، ص: 209

به في إدارة أعمال المجتمع ويطمأن الى آرائه وتنفيذها بدون أي اعتراض؟

إذن، لاشك في أنَّ النّبي يجب أن يكون معصوماً، وهذا الشرط لازم في الإمام أيضاً، كما ذكرنا.

هذه المقولة يمكن اثباتها من طريق آخر أيضاً، وهي طريق «قاعدة اللطف» نفسها التي يستند اليها لزوم وجود النّبي والإمام، وذلك لأنَّ الهدف من

وجود النبي والإمام لايتحقق بدون هذه العصمة فيهما، وما ذكرناه في الدرس السابق عن الحكمة في وجودهما يظل ناقصاً.

2- العلم الغزير

الامام، كالنّبي، هو الملجأ و الملاذ العلمي للناس، فلابدّ أنْ يكون عارفاً بجميع اصول الدين وفروعه، وبظاهر القرآن وباطنه، وبسنة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبكل ماله علاقة بالاسلام معرفة تامة، وذلك لأنَّه حافظ الشريعة وحاميها، كماهو قائد الناس ومرشدهم.

من ذلك نعرف أنَّ من يرتبك عند مواجهة مشكلة معقدة، أو الذين يرجعون الى الآخرين يطلبون منهم الحلول، لأنَّ ما عندهم من علم يقصر عن الاجابة على اسئلة المجتمع المسلم، ليس لهم أنْ يتحملوا مسؤولية إمامة الامّة وقيادتها.

الخلاصة هي أنَّ الامام يجب أنْ يكون أعلم الناس وأوعاهم لدين اللَّه، وأنْ يملأ الفراغ الذي يتركه النّبي بأسرع مايمكن لكي يستمر الاسلام الصحيح الخالي من كل انحراف في مسيرته.

3- الشّجاعة

الامام يجب أنْ يكون أشجع أفراد المجتمع، إذ أنَّ القيادة بغير شجاعة غير ممكنة، الشّجاعة عند مواجهة الحوادث الصعبة المرّة، الشجاعة عند الوقوف بوجه الاقوياء الغلاظ الظالمين، الشجاعة في صد الاعداء الدّاخليين والخارجيين.

4- الزّهد والتّحرر

من المعلوم أنَّ الذين يميلون الى مباهج الدنيا وزخرفها سرعان ماينخدعون ويسهل اغراؤهم بالانحراف عن طريق الحق والعدالة بواسطة الترغيب أحياناً والترهيب اخرى وشخص هذا شأنه يكون في الواقع «أسيراً» للدنيا، بينما الإمام يجب أنْ يكون متحرراً من أسر أهواء النفس ومنطلقاً من قيود الثروة والجاه، لكيلا يستطيع أحد إغراءه، ويؤثر فيه ويحمله على الاستسلام والمساومة.

5- الجاذبية الاخلاقية

يقول القرآن الكريم في رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

ى فبما رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُم وَلَو كُنْتَ فَظَّاً غَلِيْظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَولِكَ ى. «1»

إنَّ النّبي الذي هو إمام وقائد معاً يجب أنْ يملك ذلك الخلق الرفيع الذي دروس في العقائد الاسلامية، ص: 211

يجذب إليه الناس كما يجذب المغناطيس الحديد. و لاشك أنَّ كل خشونة وسوء خلق ممّا يثير النفور والتباعد في الناس ويعتبر من العيوب الكبيرة في النبي أو الإمام، لذلك فان الانبياء والائمة منزهون عن هذا العيب، وإلّا كان الوجود عبثاً لاطائل تحته.

هذه هي أهم الشروط التي ذكر ها كبار العلماء للإمام.

بديهي أنَّ هناك صفات اخرى غير هذه الصفات الخمس يجب توفرها أيضاً في الإمام، إلّاأنَّ هذه أهمها.

فكّر وأجب:

1- ما الدّليل على أنَّ الإمامة، أرفع مقام يمكن أنْ يبلغه انسان؟

2- هل كان نبينا وسائر الانبياء أولي العزم أئمّة أيضاً؟

3- إذا لم يكن الامام معصوماً، فما المشكلات التي تحدث جراء ذلك؟

4- لماذا يجب أنْ يكون الامام ذا علم غزير؟

5- لماذا يجب أنْ يكون الامام أشجع الناس وأزهدهم وأشدهم تحرراً وأحسنهم اخلاقاً وجاذبية؟

الدّرس 4 من المسؤول عن تعيين الإمام؟

اشارة

يعتقد بعض المسلمين من أهل السنة أنَّ النّبي الاكرم صلى الله عليه و آله قد رحل عن هذه الدنيا دون أن ينصب خليفة من بعده، ويعتقدون أن هذه المهمة تقع على عاتق المسلمين أنفسهم، فهم الذين عليهم اختيار قائدهم بطريق «إجماع المسلمين» باعتباره أحد الأدلة الشرعية.

ويضيفون الى ذلك قولهم إنَّ ذلك قد حصل فعلًا واختير الخليفة الأول بإجماع الأمة.

ثمّ اختار الخليفة الاوّل الخليفة الثّاني.

وعيّن الخليفة الثاني شورى مؤلفة من ستة اشخاص ليختاروا أحدهم.

وكانت هذه الشورى تتألف من علي عليه السلام، وعثمان، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص.

و كان

الخليفة الثاني قد اشترط أنَّه إذا انقسمت الشورى كل ثلاثة في دروس في العقائد الاسلامية، ص: 214

طرف، فإنَّ الطرف الذى فيهم عبدالرحمن بن عوف (صهر عثمان) هو الذي يختار الخليفة. وهذا ماحصل، إذ الاكثرية المؤلفة من سعد بى أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وطلحة اختاروا عثمان.

وفي أواخر عهد عثمان ثار الناس لاسباب مختلفة ضده، وكان أنْ قتل قبل أنْ يستطيع تعيين أحد أو شورى.

وعلى أثر ذلك أقبل الناس برمتهم نحو الامام علي عليه السلام، وبايعوه خليفة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، باستثناء معاوية الذي كان عامل عثمان على الشام، لأنَّه كان واثقاً أن علياً عليه السلام لن يبقيه في منصبه. فرفع راية المعارضة، فكان مصدر حوادث مشؤومة ودموية في التاريخ أدتْ الى إراقة دماء الكثير من الابرياء.

و هنا تبرز أسئلة كثيرة لابدّ منها لالقاء الضوء على البحوث العلمية والتاريخية، سنورد بعضا منها:

1- هل بامكان الأمة أنْ تختار خليفة لرسول اللَّه؟

ليس من الصعب الجواب على هذا السّؤال، فنحن إذا اعتبرنا الإمامة بمعنى الحكم الظاهرى على جماعة المسلمين، فإنَّ اختيار الحاكم بالرجوع الى آراء الناس أمر متداول.

ولكن إذا كانت الإمامة بالمعنى الذي شرحناه من قبل والذي استقيناه من القرآن الكريم، فلاشك في أنَّه ليس لأحد الحق في تعيين خليفة النّبي سوى اللَّه ورسوله (وبأمر من اللَّه) إذ أن شرط الإمامة بحسب هذا التفسير هو العلم الوافر بجميع اصول الدين وفروعه، ذلك العلم الذي ينبع من مصدر سماوي دروس في العقائد الاسلامية، ص: 215

ويستند الى علم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، لكي يستطيع الحفاظ على الشريعة الاسلامية.

الشّرط الآخر هو عصمة الإمام، أي أنْ يكون مصوناً صيانة إلهية عن كل خطأ وإثم لكي يستطيع أنْ يتحمل مسؤولية مقام الإمامة وقيادة الأمة قيادة

معنوية ومادية وظاهرية وباطنية، كما يجب أنْ يكون متمتعا بالزّهد و الحرية و التقوى و الشجاعة، ممّا هو لازم لمن يتصدى للاضطلاع بمهمات هذا المنصب المهم.

إنَّ تمييز هذه الصفات في شخص ماليست مستطاعة إلّابواسطة اللَّه ورسولة، فهو الذي يعلم في من وضع صفة العصمة، وهو الذي يعلم في من يتوفر حدّ النصاب من العلم والزهد والتحرر والشجاعة والجرأة اللازمة لمقام الإمامة.

أنَّ الذين عهدوا باختيار الإمام والخليفة الى الناس قد غيروا في الحقيقة المفهوم القرآني للامامة، وقصروا هذا المفهوم على الحكم العادي وادارة شؤون الناس الدنيوية، وإلّا فان شروط الإمامة بمعناها الجامع الكامل لا تعرف إلّا عن طريق اللَّه تعالى لأنَّه هو العالم بهذه الصفات.

إن هذه القضية أشبه بانتخاب النّبي، فالنّبي لايمكن أنْ ينتخبه الناس بالتصويت، بل إنَّ اللَّه تعالى هوالذي يختاره، ويتعرف عليه الناس عن طريق معجزاته، لأنَّ الصفات اللازم توفرها في النَّبي لايعرفها إلّااللَّه عزّوجلّ.

2- ألم يعيّن النّبي أحداً لخلافته؟

لاشك في أنَّ الدين الاسلامي دين «عالمي» و «خالد» ولا يقتصر على زمان ولامكان معينين، كما صرح القرآن الكريم بذلك.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 216

ولا شك أيضاً في أنَّ الدين الاسلامي لم يكن قد تجاوز شبه الجزيرة العربية عند وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ومن جهة اخرى نجد أنَّ النّبي أمضى ثلاث عشرة سنة من عمره الشريف في مكة يحارب الشرك وعبادة الاصنام، والسنوات العشر التالية التي بدأت بالهجرة واستغرقت فترة إزدهار الاسلام، أمضاها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الغزوات والحروب التي فرضها على المسلمين أعداؤهم.

وعلى الرغم من أنَّ الرسول لم يترك لحظة من عمره الشريف دون أنْ يستغلها لنشر الدعوة والتعاليم الاسلامية، والسعي لتعريف الاسلام الفتي بجميع ابعاده. ولكن الذي لاشك فيه أن

تحليل كثير من المسائل الاسلامية كان يتطلب زماناً أطول، فكان لابدّ لشخص مثل النّبي صلى الله عليه و آله أنْ يضطلع بهذه المهمة بعده.

وفضلًا عن ذلك، فإنَّ التنبؤ بمستقبل الأمة، واعداد المقدّمات للاستمرار في إدامة مدرسة الاسلام، كان من أهم الأمور التي لابدَّ أنَّ يفكر فيها كل قائد.

ولا يمكن أبداً أنْ يسمح لهذه المسألة المهمّة أنْ يلفها النسيان.

وإذا تجاوزنا كل ذلك، نلاحظ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله احياناً يصدر تعليمات خاصة في كثير من الامور البسيطة العادية في الحياة اليومية، فكيف يمكن أنْ يهمل قضية مهمة كقضية الخلافة والزعامة والإمامة ولا يضع لها منهاجاً خاصاً؟

من خلال ما تقدم نستدل على أنَّ النبي الكريم صلى الله عليه و آله لايمكن أنْ يهمل تعيين الخليفة من بعده. ولسوف نذكر إنْ شاء اللَّه روايات إسلاميه مؤكدة تلقي مزيداً

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 217

من الضوء على هذا الموضوع، وتثبت أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يغفل طوال حياته عن هذه المسألة المصيرية، على الرغم من المساعي السياسية التي جرت بعد الرسول التي حاولت ايهام الناس أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يعين خليفة من بعده.

هل يصدق أحد أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذي لم يترك المدينة لبضعة أيّام (عند ذهابه الى غزوة تبوك) إلّابعد أنْ عيّن من يقوم مقامه فيها، لايعين أحداً ليخلفه بعد مغادرة الدنيا نهائياً، بل يترك الامة نهب الاختلافات والاضطرابات والحيرة، دون أنْ يضمن للاسلام استمراريته على يد هاد ومرشد يعتمد عليه؟

لايشك أحد أنَّ عدم تعيين خليفة ينطوي على أخطار كبيرة على الاسلام اليافع، حيث أنَّ العقل والمنطق يحكمان بأنَّ أمراً كهذا يستحيل صدوره

من نبيّ الاسلام.

إنَّ الذين يقولون أنه عهد بذلك الى الأمة، عليهم أنْ يبينوا أدلتهم ويثبتوا أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد صرح بذلك علانية، ولكن ليس ثمّة دليل من هذا القبيل.

3- الاجماع والشورى

لنفرض أنَّ رسول الاسلام غض النظر عن هذا الأمر الحيوي، وأنَّ المطلوب من المسلمين أنفسهم أنْ يختاروا خليفة رسول اللَّه عن طريق الاجماع.

ولكننا نعلم أنَّ «الاجماع» يعنيّ اتفاق المسلمين، ونعلم أيضاً أنَّ اجماعاً كهذا لم يحصل عند انتخاب الخليفة الاول، اللّهم إلّاما حصل عند اجتماع عدد من الصحابة الذين كانوا في المدينة، حيث أتخذوا قرارهم، مع أنَّ سائر المسلمين في دروس في العقائد الاسلامية، ص: 218

سائر بلاد الاسلام لم يشاركوا مطلقاً في هذا الاجتماع ولا في الإدلاء بآرائهم، بل أنَّ في المدينة نفسها لم يحضر كثيرون، كالامام علي عليه السلام وبني هاشم، ذلك الاجتماع، وعليه فإنَّ إجماعاً كهذا لايمكن قبوله.

ثمّ إذا كان هذا الاسلوب هو الاسلوب الصحيح الذي يجب اتباعه، فلماذا لم يتبعه الخليفة الاول في انتخاب خليفته؟ لماذا عين بنفسه خليفته؟ و إذا كان يجوز للفرد أنْ يعيّن خليفة، فقد كان النبي صلى الله عليه و آله. اولى بذلك من أي فرد آخر، واذا كانت البيعة العامة التي تلي الانتخاب تحل المشكلة، فان ذلك وارد أيضاً بالنسبة للنبي، و من باب أولى.

وفضلًا عن ذلك تبرز المشكلة الثّالثة بالنّسبة للخليفة الثالث، وهي لماذا خالف الخليفة الثاني الاسلوب الذي اتبعه الخليفة الاول في انتخاب الخليفة الثاني نفسه، وكسر السنّة التي اتت به الى الخلافة، أي أنَّه لم يلتزم الاجماع ولا التعيين الفردي، بل جاء بمجلس الشورى ليقوم بذلك؟

إذا كانت «الشورى» صحيحة، فلماذا تقتصر على أشخاص ستة يعينهم هو بنفسه، و أنْ يكتفي

برأى ثلاثة من هؤلاء الستة؟

هذه أسئلة لابدّ أنْ تخطر ببال كل باحث ومحقق يتعامل مع التاريخ الاسلامي، وبقاؤها دون جواب يدلّ على أنَّ تلك الاساليب لم تكن هي الطريق الأمثل لنصب الامام.

4- الامام علي عليه السلام أليق الجميع

لنفرض أنَّ نبيّ الاسلام صلى الله عليه و آله لم يعين أحداً يخلفه من بعده، ولنفرض أنَ دروس في العقائد الاسلامية، ص: 219

اختيار الخليفة كان على عاتق الأمة، فهل يجوز عند الانتخاب أنْ نتجاوز الأعلم والأتقى و الأكثر فضلًا من الآخرين و من جميع الوجوه، لنبحث عن شخص أقل شأناً منه؟

لقد صرح كثير من علماء المسلمين، بما فيهم علماء أهل السنة، بأنَّ علياً كان أعلم الناس بالدين الاسلامي، كما أنَّ آثاره الباقية منه تؤكد هذا القول.

يقول التاريخ أنَّه كان ملجأ الامَّة في كل مشكلة علمية، وأنَّ الخلفاء كانوا يرجعون اليه إذا ما واجهتهم معضلة دينية معقدة.

وكان في الشجاعة والجرأه والتقوى والزهد والصفات البارزة الاخرى أسمى منزلة من غيره. وعليه، إذا فرضنا أنَّ انتخاب الخليفة كان موكولًا الى الناس أنفسهم، فإنَّ علياً عليه السلام كان اليق الموجودين وأجدرهم بالخلاقة (هنالك بالطبع الكثير من الادلة والاسانيد الاخرى بهذا الشأن ممّا لامجال لذكرها في هذا الموجز).

فكّر وأجب:

1- لماذا لم يعط الحق للناس أنْ يختاروا الامام وخليفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟

2- هل يؤيد العقل والمنطق أنَّ النّبي الكريم صلى الله عليه و آله قد عيّن خليفة من بعده، أم لا؟

3- كيف تمّ اختيار الخلفاء الثلاثة الأول؟

4- هل كانت اساليب انتخابهم مطابقة للموازين العلمية الاسلامية؟

5- كيف كان علي عليه السلام أجدر من الجميع للخلافة؟

الدّرس 5 القرآن والامامة

اشارة

القرآن هذا الكتاب السّماوي، خير مرشد وهاد في كل أمر، وفي الإمامة أيضاً، فهو يبحثها من مختلف الجوانب:

1- القرآن يرى أن الإمامة اختياراً الهيا

سبق أنْ قرأنا حكاية النبي ابراهيم عليه السلام محطّم الاصنام في البحوث السابقة وعرفنا أنَّ القرآن الكريم يرى أنَّ ابراهيم عليه السلام لم يحز مرتبة الامامة الّا بعد نيله مرتبة النّبوة والرّسالة وأداء امتحانات كبرى، ففي الآية 124 من سورة البقرة يقول:

ى وإذِ ابْتَلى إبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إنّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماًى.

هنالك قرائن قرآنية وتاريخية مختلفة تؤكد أنَّه نال مرتبة الإمامة بعد أنْ دروس في العقائد الاسلامية، ص: 222

حارب عبدة الاصنام في بابل، وبعد هجرته الى الشام، وبنائه الكعبة، وأخذ إبنه اسماعيل ليذبحه قرباناً للَّه.

فاذا كانت النّبوة والرسالة من جانب اللَّه، فمن الأولى أنْ يكون تعيين مقام الامامة- الذى يعتبر أعلى مراحل التكامل في قيادة الامة- من جانب اللَّه أيضاً فهو ليس من الأمور التي يمكن أنْ يوكل اختيارها الى الناس. ولذلك فإنَّ اللَّه يقول مخاطباً ابراهيم عليه السلام:

ى إنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماًى.

كذلك يقول القرآن في الآية 73 من سورة الانبياء وهو يتحدث عن جمع من الانبياء العظام: ابراهيم ولوط واسحاق ويعقوب عليهم السلام:

ى وَجَعَلْناهُم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِناى.

وفي القرآن آيات اخرى شبيهة بهذه تدلّ كلها على أنَّ هذا المنصب الهي وأنَّ اللَّه هو الذي يعين من يشاء لهذا المقام.

كما إنَّنا في الآية نفسها التي ينال فيها ابراهيم مقام الإمامة، نقرأ أنَّ ابراهيم عليه السلام طلب هذا المنصب لذريته، ولكن جواب اللَّه كان ى لا يَنَالَ عَهْدِي الظّالِمينَ ى، أي أنْ طلبك قد اجيب إلّافيما يخص الظالمين من ذريّتك، فانَّهم لن يصلوا الى هذا المقام الرفيع.

فاذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مفردة «ظالم» في اللغة عموماً وفي لغة القرآن

تشمل مساحة واسعة من المعاني، بما فيها الذنوب كالشرك الظاهر والخفي وكل ظلم للنفس وللآخرين، واذا أخذنا أيضاً بنظر الاعتبار أن معرفة هذه الحالات دروس في العقائد الاسلامية، ص: 223

معرفة تامّة لا تتأتى لاحد سوى اللَّه، لأنَّه هو وحده العالم ببواطن الناس ونياتهم، يتبين لنا جليّاً أنْ تعيين الإمام لمقام الإمامة لا يكون إلّابأمر من اللَّه.

2- التّبليغ

نقرأ في الاية 67 من سورة المائدة مايلي:

ى يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إنَّ اللَّهَ لايَهْدِي القَومَ الكَافِرينَ ى.

تدلّ لهجة هذه الآية على أنَّ الكلام يدور حول مهمة خطيرة موضوعة على عاتق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأنها مهمّة تثير القلق، وقد تواجه معارضة بعض الناس، ولذلك تطمئن الآية خاطر الرسول بقولها «واللَّه يعصمك من الناس» مع التوكيد على ضرورة أداء المهمّة.

و لاشك أنَّ هذه المسألة المهمة لم تكن تتعلق بقضايا التوحيد والشرك ومحاربة الاعداء من اليهود والمنافقين وغير ذلك، لأنَّ هذه المسائل كانت كلها قد انجزت قبل نزول هذه الآية من سورة المائدة.

ثم إنَّ ابلاغ أحكام الاسلام للناس لم يكن يوماً مصحوباً بمثل هذا القلق والتوجس، بينما يتبين من الآية أنَّ المهمّة كانت على قدر من الأهمية بحيث أنَّها لاتقل وزنا عن أداء الرسالة برمتها، بحيث لو أنَّه لم يؤد تلك المهمة فكأنَّه لم يؤد الرسالة نفسها. فهل هناك شى ء ذا أهمية غير مسألة تعيين خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ خاصة وأنَّ الآية قد نزلت في أواخر عمر النّبي صلى الله عليه و آله، أي في الوقت دروس في العقائد الاسلامية، ص: 224

المناسب لتعيين من يخلف النّبي من

بعده، للاطمئنان على استمرار النّبوة والرسالة.

ثم أنَّ هناك روايات كثيرة وردت عن فريق كبير من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، منهم «زيد بن أرقم» و «أبوسعيد الخدري» و «ابن عباس» و «جابر بن عبداللَّه الانصاري» و «أبوهريرة» و «حذيقة» و «ابن مسعود»، وبعض هذه الروايات قد وصل الينا عن احد عشر طريقاً، نقلها كثير من علماء أهل السنة من المفسرين والمحدثين والمؤرخين، وكلها تقول أنَّ هذه الآية نزلت بحق الامام علي عليه السلام يوم الغدير. «1»

وسوف نشرح حكاية «الغدير» إنْ شاء اللَّه في بحث الروايات والسنة، ونكتفي بالقول هنا بأنَّ هذه الآية تكشف أن اللّه تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه و آله اثناء عودته من حجّة الوداع، أي آخر حجّة له في عمره، أنْ يعلن عن تنصيب عليه السلام خليفة له من بعده بصورة رسمية وعلى ملأ من المسلمين.

3- آية إطاعة اولى الأمر

في الآية 59 من سورة النساء نقرأ:

ى ي ا أيّها الّذينَ آمَنُوا أطِيْعُوا اللَّهَ واطِيْعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُم ى.

هنا نلاحظ إنَّ إطاعة أولي الأمر قد جاءت الى جانب إطاعة اللَّه ورسوله بدون أي قيد أو شرط. فهل المقصود من أولي الأمر هم الحكام في كل عصر

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 225

وفي كل مجتمع؟ و هل على المسلمين في هذا العصر مثلًا وفي مختلف البلدان أنَّ يطيعوا حكّامهم بدون قيد ولاشرط؟ (كما يقول بعض مفسري أهل السنة.).

إنَّ هذا التفسير لا ينسجم مع أي منطق، إذ أنَّ أكثر الحكّام في مختلف العصور كانوا حكاماً منحرفين ملوثين بالاثم ويتبعون الظلم والظالمين.

فهل المقصود اذن إطاعة الحكام على شرط أنْ لايكون حكمهم مخالفاً لاحكام الاسلام؟ هذا أيضاً لا ينسجم مع اطلاق الآية.

فهل المقصود هم صحابة الرسول صلى الله

عليه و آله؟ هذا المفهوم أيضاً لايتلاءم مع المفهوم العام الذي تنطوي عليه الآية والشامل لمختلف العصور.

بناء على ذلك يتبين لنا بوضوح ان المقصود هوالقائد المعصوم الموجود في كل عصر وزمان، فهو الذي تجب اطاعته بدون قيد ولاشرط، وأمره كأمر اللَّه ورسوله، واجب التنفيذ.

إنَّ الاحاديث الكثيرة الواصلة الينا من مصادر اسلامية متعددة بهذا الشأن والتي تفسر «أولي الأمر» بالامام علي عليه السلام والأئمّة المعصومين عليهم السلام، دليل آخر يؤيد هذا الادعاء. «1»

4- آية الولاية

نقرأ في الآية 55 من سورة المائدة:

ى إنّما وَلِيُّكُم اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقِيْمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكاةَ وَهُم رَاكِعُونَ ى.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 226

باستعمال «إنَّما» الدالة على الحصر، يحصر القرآن ولاية المسلمين ورعايتهم بثلاثة: اللَّه، والرسول، والذين آمنوا ويعطون الزكاة اثناء ركوعهم.

لاشك أوّلًا أنَّ «الولاية» هنا لا تعني المحبّة بين المسلمين، لإنَّ تبادل المحبّة بين عامة المسلمين لا يستوجب هذه القيود والشروط، فالمسلمون اخوة يحب بعضهم بعضاً، وإنْ لم يدفعوا زكاة اثناء الرّكوع. وبناء على ذلك، فالولاية هنا تعني القيادة والإمامة المادية والمعنوية، خاصّة أنَّها جاءت في مصاف «ولاية اللَّه» و «ولاية الرسول».

كما أنَّه من الواضح أيضاً أنَّ هذه الآية بالأوصاف التي وردت فيها تشير الى شخص معين بذاته، وهو الذي كان راكعاً عندما أعطى الزكاة، وإلّا فليس هناك مايدعو الانسان الى أنْ يعطي زكاته عندما يصلي وعند الركوع من صلاته. وهذا في الواقع علامة، وليس صفه عامة.

مجموع هذه القرائن يدل على أنَّ هذه الآية اشارة عميقة المعنى الى حكاية الامام علي عليه السلام وهي أنَّه كان راكعاً في صلاته فسمع فقيراً يطلب الصدقة من المصلين، إلّاأنَّ أحداً لم يسعفه بشي ء، فمد يده اليمنى أثناء ركوعه الى ذلك الفقير مشيراً اليه أنْ

يأخذ خاتماً كان في إصبعه، فاخذه الفقير وانصرف، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد لحظ ما جرى بطرف عينه. وعند انتهاء الصلاة رفع راسه الى السماء وقال:

«اللّهم إنَّ أخي موسى سألك فقال: ى ربّ اشرح لي صدرى ويسرلي أمرى واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به دروس في العقائد الاسلامية، ص: 227

ازري وأشركه في أمرى ى فانزلت عليه قرآناً ناطقاً، ى سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكماى. اللّهم وأنا محمّد نبيك وصفيك اللّهم فاشرح لي صدري ويسرلي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به ظهري ...».

لم يكد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ينتهي من دعائه حتى نزل جبرئيل بالآية المذكورة.

وانه ممّا يلفت النظر أنَّ كثيرين من كبار مفسري أهل السنة ومحدثيهم ومؤرخيهم يؤيدون كون الآية قد نزلت في علي عليه السلام. وهناك جماعة من اصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في نحو عشرة أشخاص نقلوا هذا الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مباشرة.

إنَّ الآيات النازلة في الولاية كثيرة، اكتفينا بايراد أربع منها في هذا الدرس.

فكّر وأجب:

1- من الذي له أن يعين الامام وينصبه، في نظر القرآن؟

2- ما هي الظروف التي احاطت بنزول آية التبليغ، وما محتواها؟

3- من هم الذين يرضى العقل باطاعتهم دون قيد ولاشرط؟

4- كيف نستدل بآية ى إنّما وليكم اللَّه ى على القيادة والإمامة؟

5- ما الذي يمكن أنْ نستنتجه من مجموع الآيات الخاصة بالولاية؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 229

الدّرس 6 الامامة في السّنة

اشارة

عند مطالعة كتب الأحاديث الاسلامية، وعلى الاخص مصادر الحديث المعتبرة عند اخواننا اهل السنة، يواجه المرء كماً هائلًا من الاحاديث النبوية التي تثبت امامة الامام

علي عليه السلام و خلافته بوضوح لامثيل له.

وإنَّ المرء ليأخذه العجب من كثرة هذه الاحاديث التي لاتدع مجالًا للشك في هذه المسألة، فيتسائل: كيف حاول البعض أنْ يختار طريقاً غير طريق أهل البيت عليهم السلام!

إنَّ هذه الأحاديث المعزز بعضها بمئات الأسانيد (مثل حديث الغدير) و الآخر بعشرات الأسانيد، وهي واردة في عشرات الكتب الاسلامية المشهورة، من الوضوح بحيث إنَّنا لو تغاضينا عن أقاويل هذا وذاك، وأهملنا التقاليد، تكون القضية على درجة من الجلاء لانحتاج معها الى أي دليل آخر.

إنَّنا نذكر فيما يلي نماذج لعدد من الاحاديث المعروفة من بين الوافر الكثير

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 230

منها، طالبين من الذين يريدون الاطلاع أكثر على هذا الموضوع أنْ يرجعوا الى المصادر التي سنذكرها لهم. «1»

حديث الغدير

يقول الكثير من المؤرخين إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أدى فريضة الحج في آخر سنة من سنوات عمره الشريف، وبعد الانتهاء من الحج، رجع ومعه جموع غفيرة من أصحابه القدامى والجدد والمسلمين المولعين به الذين كانوا قد اجتمعوا من مختلف نقاط الحجاز ليلحقوا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله في أداء فريضة الحج.

وعند وصولهم الى مكان بين مكة والمدينة اسمه (الجحفة)، تقدمهم نحو (غدير خم) حيث كان مفترق طرق يتفرق، عنده الناس كل الى وجهته.

ولكن قبل أنْ يتفرق الناس من هناك الى انحاء الحجاز، أمر الرسول الناس بالتوقف ودعا الذين سبقوه الى الرجوع، وانتظر حتى لحق به الذين كانوا في الخلف. كان الجو حاراً جداً ومحرقاً، ولم يكن في تلك الصحراء المترامية ما يستظل به. أدى المسلمون صلاة الظهر مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. وعندما أراد الناس الانصراف الى خيامهم فراراً من حرارة الجو، أخبر

النّبي صلى الله عليه و آله إنَّ عليهم أنْ يستمعوا الى بلاغ مهم جديد من جانب اللَّه في احدى خطبه المسهبة.

أقيم لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله منبر من أحداج الإبل، فارتقاه، وبعد أنْ حمد اللَّه وأثنى عليه، وقال من جملة ماقال:

... أما بعد أيَّها الناس اسمعوا مني أبيّن لكم فإنِّي لا أدرى دروس في العقائد الاسلامية، ص: 231

لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا. أنا مسؤول وأنتم مسؤولون. ترى كيف تشهدون لي؟

فرفع الناس اصواتهم قائلين:

نشهد أنَّك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك اللَّه خيراً.

فقال النّبى صلى الله عليه و آله:

«أتشهدون بأنْ لا إله إلّااللَّه، وأن محمّداً رسول اللَّه، وأن اللَّه سيبعث من في القبور يوم القيامة؟»

فقالوا جميعا: نعم نشهد بذلك.

فقال: اللّهم اشهد! ثم سألهم: أيّها الناس، أتسمعون صوتي؟

قالوا: نعم.

وساد الجمع صمت لم يسمع خلاله شي سوى صوت هبوب الريح وأخيراً قال النّبي صلى الله عليه و آله:

«أنبئوني ما تفعلون بعدي بهذين الثقلين العظيمين اللذين سأتركهما بين ظهرانيكم؟»

فقام رجل من بين الجمع وقال:

أي ثقلين تعني يا رسول اللَّه؟

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«الثقل الاوّل هو الثّقل الأكبر، كتاب اللَّه، القرآن، ما أنْ أخذتم به لن تضلوا. والثقل الثّاني هو عترتي، آلي بيتي.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 232

ولقد أخبرني اللطيف الخبير بانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، إنْ سبقتموهما هلكتم، وإنْ تخلفتم عنهما هلكتم».

ثمّ نظر النّبي صلى الله عليه و آله الى أطرافه كأنَّه يبحث عن شخص، فلما وقع بصره على علي عليه السلام انحنى وأمسك بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما، فرآه الناس وعرفوه.

وارتفع صوت النبي صلى الله عليه و آله وهو يقول: أيّها الناس، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟

فقالوا: اللَّه ورسوله

أعلم.

فقال صلى الله عليه و آله:

إنَّ اللَّه مولاي، وأنا مولى المؤمنين، أولى بهم من أنفسهم. فمن كنت مولاه فعلي مولاه.

وكرر هذا القول ثلاث مرات. وقال بعض الرواة أنه كرره أربع مرات ثم رفع رأسه الشريف الى السماء وقال:

«اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.»

ثم قال صلى الله عليه و آله: ألا هل بلّغت؟

قالوا: نعم.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 233

قال صلى الله عليه و آله: فليبلغ الشاهد الغائب.

وقبل أنْ يتفرق الجمع نزل جبرئيل الأمين بالآية التالية على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

ى اليَومَ أكْمَلْتُ لَكُم دِينَكُم وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي ... ى فقال النبي صلى الله عليه و آله:

«اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرّب برسالتي والولاية لعلي من بعدي.»

فحصل هرج ومرج بين الناس وراحوا يتزاحمون لتهنئة علي عليه السلام بالولاية.

وكان منهم أبوبكر وعمر، اللذان تقدما الى علي عليه السلام يقولان: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة!

هذا الحديث اورده عدد كبير من علماء الاسلام في كتبهم، بعض بصورة مسهبة وبعض باختصار شديد، وبشي ء من الاختلاف في بعض الالفاظ.

ويعتبر من الاحاديث المتواترة التي لا يمكن لاحد أنْ يشك في صدوره عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، الى درجة ان العلّامة (الاميني قدس سره) في كتابه «الغدير» يذكر اسم مئة وعشرة من اصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ممن ذكروا هذا الحديث، وثلاثمائة وستين عالماً وكتاباً ورد فيه هذا الحديث أيضاً، ومنها كتب الأخوة اهل السنة في التفسير والتاريخ والحديث. بل أنَّ جمعاً كبيراً

من علماء الاسلام ألفوا الكتب الخاصة بهذا الحديث، منها كتاب العلّامة الاميني قدس سره «الغدير» المتعمق والنادر المثال، فإنَّه يشير فيه الى ستة وعشرين عالماً من علماء الاسلام ممن ألفوا الكتب الخاصة بحديث الغدير.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 234

ولقد سعى بعضهم ممن لم يستطيعوا بث الشكوك حول صحة أسانيد هذا الحديث، الى القاء الشكوك في دلالته على الإمامة والخلافة، واعتبار كلمة «مولى» تعني «الصديق» مع إنَّ التّدقيق في مضمون الحديث والظروف الزمانية والمكانية التي احاطت بالحديث وقرائن اخرى تدل بحق على أنَّ الهدف لم يكن سوى الإمامة والولاية التي تعني القيادة بكل ما فيها من معان:

أ) إنَّ آية التبليغ التي سبق أنْ ذكرناها، والتي نزلت قبل حادثة الغدير، تدل بلهجتها الحادة وما فيها من القرائن على أنَّ الكلام لم يكن بشأن الصداقة العادية، إذ أنَّ هذا لم يكن مما يستوجب كل تلك الأهمية والتوكيد. كما أنَّ الآية الخاصّة باكمال الدين التي نزلت بعد آية التبليغ تدل دلالة قاطعة على أنَّ الموضوع كان على درجة عظيمة من الاهمية، كموضوع القيادة والخلافة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ب) الطريقة التي وصفت بها الحديث، بكل ظروفه والصحراء المحرقة التي ألقيت فيها تلك الخطبة المسهبة، واخذ الاقرار من الناس في ذلك الجو وذلك المكان، كلها تدل على صحة مانذهب اليه.

ج) التهاني والتبريكات التي قدمت لعلي عليه السلام من جانب مختلف طبقات الحاضرين، والقصائد الشعرية التي قيلت بالمناسبة في ذلك اليوم وبعده، تدل على أنَّ الحدث واقعي وأنَّه يخص تنصيب علي عليه السلام في مقام الولاية والإمامة، ولا شي ء غير ذلك.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 235

فكّر وأجب:

1- اشرح حكاية الغدير.

2- كم عدد أسانيد حديث الغدير عن رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله وفي كم كتابا من الكتب الاسلامية المشهورة ورد هذا الحديث؟

3- لماذا لفظة «المولى» في حديث الغدير تعني القيادة والإمامة، لا الصداقة؟

4- ما الدعاء الذي دعا به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بحق علي عليه السلام بعد حادثة الغدير؟

5- أين تقع «الجحفة» و «الغدير»؟

الدّرس 7 حديث «المنزلة» وحديث «يوم الدّار»

اشارة

يورد كثير من كبار مفسري أهل السنة والشيعة حديث «المنزلة» عند تفسير الآية 142 من سورة الأعراف، والتي تتعلق بذهاب موسى عليه السلام اربعين ليلة الى ميعاد اللَّه وخلافة هارون له.

مضمون الحديث كما يلي:

تحرك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نحو تبوك (وهي تقع في شمال جزيرة العرب على مقربة من امبراطورية الروم). كان النبي صلى الله عليه و آله قد أخبر بأنَّ امبراطور الرّوم قد جاء بجيش عظيم يريد به أنْ يهاجم الحجاز ومكة والمدينة، لكي يقضي على الثورة الاسلامية في مهدها قبل أنْ يصل برنامجها الانساني والتحرري الى تلك المنطقة. فتحرك النّبي صلى الله عليه و آله الى تبوك، تاركاً علياً في المدينة فقال علي عليه السلام:

«أتتركني بين النساء والاطفال، ولا تسمح لي بالاشتراك في الجهاد معك؟»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 238

فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«ألا ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّه لا نبيّ بعدي؟».

هذه العبارة مذكورة في اشهر كتب الحديث عند أهل السنة، مثل صحيح البخارى وصحيح مسلم، إنَّما الاختلاف بينهما هو أنَّ صحيح البخارى يورد الحديث كله، بينما صحيح مسلم يورد الحديث كله مرة، ويورد عبارة «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنَّه لانبيّ بعدى» مرّة اخرى كتعبير عام وكلي. «1»

كما جاء هذا الحديث في عدد كبير من كتب اهل السنة،

منها «سنن ابن ماجة» و «سنن الترمذي» و «مسند احمد» وغيرها. والذين يروون الحديث عن الصحابة يزيد عددهم على العشرين، منهم (جابر بن عبداللَّه الانصاري) و (أبوسعيد الخدري) و (عبداللَّه بن مسعود) و (معاوية).

ينقل (أبوبكر البغدادي) صاحب «تاريخ بغداد» عن «عمر بن الخطاب»: إنَّه راى رجلًا يشتم علياً عليه السلام، فقال له عمر: لا أراك إلّامن المنافقين، فقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«إنّما علي منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّاأنَّه لا نبيّ بعدي». «2»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 239

وممّا يلفت النظر في أشهر كتب الحديث المعتبرة أنَّ هذا الكلام لم يقله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بمناسبة غزوة (تبوك) فقط، بل أنَّه كرره سبع مرات في سبع مناسبات مختلفة، مما يدل على مفهومه العام ومن تلك المناسبات:

1- «يوم المؤاخاة» الأولى في مكة، أي في اليوم الذي عقد فيه عهد الأخوة بين اصحابه، واختار علياً عليه السلام لاخوّته، و ذكر هذه العبارة نفسها.

2- «يوم المؤاخاة» الثانية بين المهاجرين والانصار بالمدينة، حيث تكررت الحالة وكرر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تلك العبارة.

3- في اليوم الذي أمر فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بغلق أبواب البيوت التي كانت تفتح على مسجد الرسول، واستثنى باب بيت علي عليه السلام، مكرراً هذه العبارة نفسها.

4- في غزوة تبوك، كما سبق.

وفي ثلاث مناسبات اخرى تذكرها كتب أهل السنة أيضاً. وبناء على ذلك، لايبقى مجال للشك في صحة ورود حديث المنزلة لا في أسانيده، ولافي مفهومه العام.

محتوى حديث المنزلة

إذا نظرنا الى الحديث المذكور نظرة حيادية و وضعنا أحكامنا السابقة جانباً، أمكننا أن نستنتج أن جميع المناصب التي كانت لهارون في بني اسرائيل من جانب موسى،

باستثناء النّبوة، كانت لعلي عليه السلام مثلها، وذلك لانَّه ليس في الحديث أي قيد ولا شرط.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 240

وعليه يمكن أنْ نصل الى النّتائج التّالية:

1- كان علي عليه السلام أفضل الامّة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، مثلما كان هارون في بني اسرائيل.

2- كان علي عليه السلام وزير لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله و معاونه الخاص، وشريكه في قيادته الامة، إذ أنَّ القرآن الكريم أثبت هذه المناصب لهارون (سورة طه، الآيات 29- 32).

3- كان علي عليه السلام خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى في حياته، ولم يكن أي شخص آخر قادراً على الاضطلاع بتلك المهمة، وهكذا كان مقام هارون بالنسبة لموسى عليهما السلام.

حديث يوم الدّار

جاء في كتب التاريخ الاسلامي أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد أمر باعلان دعوته السّرية في السنة الثالثة من البعثة، كما جاء في الآية 214 من سورة الشعراء:

ى وَأنْذِرْ عَشَيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ى.

فدعا الرّسول صلى الله عليه و آله أقرباءه الى بيت عمّه أبي طالب. وبعد تناول الطّعام، قال:

«يا بني عبدالمطلب إِّني أنا النّذير إليكم من اللَّه عزّوجلّ والبشير فاسلموا وأطيعوني تهتدوا». ثمّ قال: «من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 241

فسكت القوم، فأعادها ثلاثا. كل ذلك يسكت القوم، ويقول علي: أنا. فقال في المرّة الثالثة: «أنت». فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمّره عليك. وروي عن أبي رافع: أنَّه جمعهم في الشعب فصنع لهم رجل شاة فأكلوا حتى تضلعوا (أي شبعوا) وسقاهم عسّاً فشربوا كلهم حتى رووا. ثم قال: إنَّ اللَّه أمرني أنْ أنذر عشيرتك الاقربين وأنتم عشيرتي ورهطي

وأنَّ اللَّه لم يبعث نبيّاً إلّاجعل له من أهله أخا ووزيراً ووارثاً ووصياً وخليفة في أهلي، فأيّكم يقوم فيبايعني على أنَّه أخي ووارثي ووزيرى ووصيي ويكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنَّه لا نبيّ بعدي؟ فسكت القوم. فقال: ليقومن قائمكم أو ليكونن من غيركم ثم لتندمن. ثم أعاد الكلام ثلاث مرّات. فقام علي عليه السلام فبايعه فأجابه، ثم قال: ادن منّي. فدنا منه ففتح فاه ومج في فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه، فقال أبولهب: بئس ما حبوت به إبن عمّك إن أجابك فملأت فاه ووجهه بزاقاً. فقال النّبي صلى الله عليه و آله ملأته حكماً وعلماً».

هذا الحديث يعرف باسم «حديث الدّار»، وهو واضح في دلالته بما يكفي.

أمّا من حيث أسانيد الحديث، فقد ذكره كثيرون من علماء اهل السنة، مثل «ابن أبي جرير» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه» و «أبي نعيم» و «البيهقي» و

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 242

«الثعلبي» و «الطبرى» و «ابن الأثير» و «أبي الفداء» وغيرهم. «1»

ولو إنَّنا نظرنا الى هذا الحديث نظرة عابرة أيضاً لتبينت لنا حقائق ولاية علي عليه السلام وخلافته، لانَّه صريح في هذا الموضوع.

فكّر وأجب:

1- ما «حديث المنزلة»؟ وكم مرّة قيل؟

2- ما المقامات التي يثبتها حديث المنزلة للامام علي عليه السلام؟

3- ما المنزلة التي كانت لهارون بالنسبة لموسى، بموجب القرآن؟

4- مَنْ مِن العلماء نقلوا حديث المنزلة؟

5- أعد ذكر حديث يوم الدار ومحتواه وسنده والنتائج المستنتجة منه.

الدّرس 8 حديث الثّقلين وسفينة نوح أسناد حديث الثّقلين

اشارة

من الأحاديث المشهورة والمعروفة بين علماء السّنة والشّيعة هو «حديث الثّقلين».

هذا الحديث ينقله عدد كبير من الصّحابة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مباشرة، ويقول بعض كبار العلماء أنَّ رواة هذا الحديث لايقلّون عن ثلاثين من أصحاب رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله. «1»

كما أورده عدد كبير من المفسرين والمحدثين في كتبهم، بحيث لايمكن الشك في كونه من الاحاديث المتواترة.

يشير العالم الكبير السّيد هاشم البحراني في كتابه «غاية المرام» الى هذا الحديث ويسنده الى 39 سنداً من علماء أهل السنة، و 80 سنداً من علماء

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 244

الشيعة. أمّا (مير حامد حسين) العالم الهندي الكبير، فقد تعمق في تتبع هذا الحديث، فوجده مذكوراً عند مئتي عالم من علماء أهل السنة، وقد جمع بحوثه حول هذا الحديث في ستة مجلدات كبيرة!

ومن بين الصحابة المشهورين الذين ذكروا هذا الحديث: «أبو سعيد الخدرى» و «أبوذرالغفاري» و «زيدبن أرقم» و «زيد بن ثابت» و «أبو رافع» و «جبير بن مطعم» و «حذيفة» و «ضمرة الأسلمي» و «جابربن عبداللَّه الأنصارى» و «أم سلمة» و غيرهم.

أصل الحديث كما يرويه أبوذر الغفارى، هو:

«لما صدر النّبي صلى الله عليه و آله من حجّة الوداع قال على المنبر: يا أيّها الناس إنّي مسؤول وإنكم مسؤولون ... إنِّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه وعترتي، وإنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». «1»

هذا الحديث روته مصادر أهل السنة المعتبرة، مثل «صحيح الترمذي» و «النسائي» و «مسند احمد» و «كنز العمال» و «مستدرك الحاكم» وغيرهم.

جاء في بعض الرّوايات تعبير «الثّقلين» وجاء في روايات اخرى تعبير «الخليفتين»، وليس بين هذين من حيث المفهوم فرق كبير.

واللافت للنظر في هذا أنَّ الكثير من الاحاديث الاسلامية المختلفة تقول أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد كرر هذا الكلام على الناس مرّات عديدة:

ففي رواية «جابر بن عبداللَّه الأنصاري» نقرأ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قاله في يوم عرفة في أيّام الحج.

دروس في

العقائد الاسلامية، ص: 245

والراوي «عبداللَّه بن حنطب» يقول أنَّه قاله في «الجحفة» وهو مكان بين مكة والمدينة حيث يحرم الحجاج منه.

وتقول (أم سلمة) إنَّه قاله في غدير خم.

وجاء في روايات اخرى إنّه قاله فى اواخر أيّامه المباركة وهو على فراش المرض.

وفي رواية اخرى إنَّه قاله على المنبر في المدينة. «1»

ونقرأ في «الصواعق المحرقة» للعالم السّني الكبير «ابن حجر»: أنَّ النّبي صلى الله عليه و آله أخذ بيد علي ورفعها وقال:

«علي مع القرآن والقرآن مع علي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». «2»

وهكذا يتبين أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد أكد هذا المفهوم مرّات عديدة باعتباره مبدأ اساساً، إذ كان ينتهز كلّ فرصة مواتية لبيان هذه الحقيقة المصيرية البناءة لكيلا يطويها النسيان.

محتوى حديث الثقلين

هنا لابدّ من ملاحظة عدّة نقاط:

1- الاشارة الى القرآن والعترة كثقلين أو كخليفتين، تدل على أنَّ الواجب على المسلمين التمسّك بهما دائماً، وخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار ماجاء في الحديث الشريف:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 246

نص الحديث: ما أنَّ تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً.

فإنَّ الأمر يزداد توكيداً وثبوتاً.

2- قرن «القرآن الكريم» ب «العترة الاطهار» متجاورين دليل على أنَّه مثلما أنَّ القرآن لن تناله يد التحريف أبداً ويبقى مصوناً من كل إنحراف و تحريف، كذلك تكون عترة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مقام العصمة.

3- جاء في بعض الروايات إن اللَّه يوم القيامة يحاسب الناس على ارتباطهم بهذين التركتين العظيمتين.

4- لاشك إنَّنا مهما يكن تفسيرنا للعترة وأهل البيت عليهم السلام، فإنَّ علياً عليه السلام يكون من أبرز مصاديقها، إذ أنَّ كثيراً من الرّوايات تقول إنَّه لم يفترق عن القرآن، ولا القرآن افترق عنه.

وهنالك روايات اخرى تقول إنَّه عند نزول

آية المباهلة، دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام، قائلا: هؤلاء أهل بيتي. «1»

5- على الرّغم من أنَّ المسائل الخاصة بيوم القيامة ليست واضحة لنا نحن الذين نعيش محصورين بين جدران هذا العالم، إلّاأنَّ مايستفاد من الروايات ينبى ء بأن «حوض الكوثر» نهر خاص في الجنة ذو مميزات كثيرة ويختص بالمؤمنين الصادقين وبالرسول الكريم صلى الله عليه و آله وأئمة اهل البيت عليهم السلام وأتباعهم.

يتضح من كل ما قلناه ان مرجع الأمة وقائدها بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو علي عليه السلام، والأئمّة من بعده من أهل هذا البيت عليهم السلام.

حديث سفينة نوح

من التعبيرات اللافتة للانتباه والواردة في كتب أهل السنة والشيعة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو حديث «سفينة نوح» المعروف.

في هذا الحديث يقول أبوذر: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«ألا إنَّ مثل أهل بيتي فيكم مَثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق». «1»

هذا الحديث من الاحاديث المشهورة التي توجب على الناس اتباع علي عليه السلام وأهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعده.

فاذا عرفنا أنَّ سفينة نوح كانت ملجأ ووسيلة النجاة من ذلك الطوفان العظيم الذي شمل العالم، برمته اتضحت لنا هذه الحقيقة، وهي أنَّه إذا هبت الاعاصير والطوفانات بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فما على الامّة الّا أنْ تتمسك بأذيال الولاء لاهل البيت عليهم السلام، اذ لا سبيل لها الى النجاة بغيرهم.

فكّر وأجب:

1- ما ما هو نص حديث الثّقلين؟ وما الامتيازات التي يمنحها لأهل البيت عليهم السلام؟

2- من هم الذين نقلوا حديث الثقلين؟

3- ما معنى «الثقلين» وهل جاء في الاحاديث تعبير

غيره؟

4- ما المناسبات التي ذكر فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هذا الحديث؟

5- أذكر أسانيد حديث سفينة نوح و محتواه؟

الدّرس 9 الأئمّة الاثناعشر

روايات الأئمّة الاثني عشر

بعد إثبات الإمامة والخلافة المباشرة للامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، يأتي دور الكلام عن إمامة سائر الأئمة.

إنَّ البحث المكثف حول هذا الموضوع يكون كما يلي:

أوّلًا: في متناول أيدينا اليوم كتب عديدة لأهل السنة والشيعة تنقل الروايات التي تتحدث صراحة عن خلافة «الاثنى عشر إماماً وخليفة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله».

هذه الاحاديث مروية في أهم كتب اهل السنة، مثل «صحيح البخارى» و «صحيح الترمذي» و «صحيح مسلم» و «صحيح أبي داود» و «مستند أحمد» وأمثالها.

في كتاب «منتخب الأثر» مئتان وواحد وسبعون حديثاً بهذا الشأن، معظمها

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 250

منقول من كتب أهل السنة وسائر المصادر الشيعية.

وكمثال على ذلك نقرأ في «صحيح البخاري» وهو من أشهر كتب أهل السنة، مايلي:

يقول جابر بن سمرة: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول «يكون اثنا عشر أميراً» ثم قال كلمة لم اسمعها. فقال أبي أنَّه قال: «كلّهم من قريش». «1»

و قد ورد هذا الحديث في «صحيح مسلم» هكذا: قال جابر سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول:

«لَايَزالُ الْاسْلامُ عَزِيزاً الى اثنَي عَشَر خليفَة»

ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: «كلّهم من قريش». «2»

وفي «مسند أحمد» عن عبداللَّه بن مسعود، الصحابي المعروف، أنَّه قال:

سئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بشأن الخلفاء، فقال:

«إثنا عشر كعدة نقباء بني اسرئيل». «3»

محتوى هذه الأحاديث

هذه الأحاديث- التي يرى بعضها أنَّ (عزة الاسلام) منوطة (بالاثني عشر خليفة) ويرى بعضها الآخر أنَّ حياة الدين وبقاءه الى يوم القيامة موكولان بهم، وأنَّهم كلهم من قريش، وفي بعضها كلهم من بني هاشم- لاتنطبق على أي دروس في العقائد الاسلامية، ص: 251

مذهب سوى المذهب الشيعي، و

ذلك لانها تنطبق بوضوح و بساطة على معتقدات مذهب التشيع، في الوقت الذي يصل فيه علماء أهل السنة في تطبيقها على مذاهبهم الى طريق مسدود.

هل المقصود هم الخلفاء الاربعة الاول اضافة الى خلفاء بني أمية وبني العباس؟

نحن نعلم، بالطبع، أنَّه لا الخلفاء الاول كانوا اثنى عشر، ولا بانضمام خلفاء بني اميّة وبني العباس اليهم بلغوا هذا العدد. إذ إنَّ العدد اثني عشر لاينطبق على أي منهم.

ثم إنَّ من بني امُيّة خلفاء مثل «يزيد» ومن بنى العباس مثل «المنصور الدّوانيقي» و «هارون الرشيد»، ممن لايشك أحد فيما ارتكبوه من جرائم وظلم وطغيان، فلا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارهم خلفاء للنبي صلى الله عليه و آله و لا تتجسد فيهم أي رفعه أو عزة للاسلام ولو تساهلنا في تبسيط الموازين.

واذا تجاوزنا عن كل ذلك، فاننا لن نجد العدد اثني عشر يتمثل في أي مجموعة منهم سوى في ائمّة الشيعة الاثني عشر.

و يحسن بنا هنا أنْ نترك الكلام لأحد علماء السنة المعروفين ليشرح لنا الموضوع.

يقول سليمان بن ابراهيم القندوزي الحنفي في كتابه «ينابيع المودة»:

«قال بعض المحققين أنَّ الاحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه و آله اثني عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان علم أن مراد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من حديثه هذه الائمة الاثنا عشر من اهل بيته دروس في العقائد الاسلامية، ص: 252

وعترته اذ لايمكن ان يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر، ولايمكن أن يحمله على ملوك الدولة الاموية لزيادتهم على اثني عشر ولظلمهم الفاحش إلّاعمر بن عبدالعزيز، ولكونهم من غير بني هاشم لانّ النّبي صلى الله عليه و

آله قال كلهم من بني هاشم في رواية عبدالملك عن جابر واخفاء صوته صلى الله عليه و آله في هذا القول يرجح هذه الرواية لأنَّهم لايحسنون خلافة بني هاشم ولايمكن أنْ يحمله على الملوك الدولة العباسية لزيادتهم على العدد المذكور ولقلة رعايتهم الآية ى قُلْ لا أَسألُكُم عِلَيهِ أجْرَاً إلَّاالمَودَّةَ فِي القُربى ى و حديث الكساء فلابدّ من أنْ يحمل هذا الحديث على الائمّة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلى الله عليه و آله لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلهم وأورعهم وأتقاهم و أعلاهم نسباً وأفضهلم حسباً وأكرمهم عنداللَّه و كانت علومهم عن آبائهم متصلةبجدّهم صلى الله عليه و آله وبالوراثة واللدنية، كذا عرفهم أهل العلم والتحقيق وأهل الكشف والتوفيق، ويؤيد هذا المعنى أي أنَّ مراد النّبي صلى الله عليه و آله الائمّة الاثنا عشر من أهل بيته عليهم السلام ويشهده ويرجحه حديث الثّقلين والاحاديث المتكررة المذكورة في هذا الكتاب وغيرها». «1»

و من الجدير بالذكر إنِّني في زياراتي للحجاز وفي أحاديثي مع علمائها، سمعت منهم تفسيراً آخر لهذا الحديث يبين كيفية وصولهم الى طريق مسدود في هذه المسألة. قال الرجل:

«ربّما يكون المقصود بالاثني عشر خليفة، الخلفاء الاربعة الاول في صدر الاسلام، والباقي سوف يظهرون في المستقبل»!

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 253

وعلى هذا فإنَّهم يغفلون التوالي بين هؤلاء الخلفاء الاثني عشر، والمفهوم من حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

نقول: ما الذي يدعو الى أنْ نهمل التفسير الواضح البيّن للحديث، كالتفسير المنسجم في توالي أئمّة الشيعة الاثني عشر، ونلقي بانفسنا في متاهات لامخرج لها؟

تعيين الأئمّة بالاسم

ممّا يلفت النظر أنَّ بعض الروايات المروية عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والتي وصلتنا من علماء أهل السنة، تذكر

الائمة الاثني عشر بالاسم الصريح وتبين صفاتهم وفضائلهم.

يقول الشيخ سليمان القندوزي، العالم السني المعروف في كتابه المذكور «ينابيع المودة»:

جاء رجل يهودي يدعى نعثلًا الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان من بين الاسئلة التي القاها عليه أنَّه سأله عن أوصيائه وخلفائه من بعده، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«إنَّ وصيي علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين يتلوه تسعة ائمّة من صلب الحسين. اذا مضى الحسين فابنه علي، فاذا مضى علي فانبه محمد، فاذا مضى محمد فابنه جعفر، فاذا مضى جعفر فابنه موسى، فاذا مضى موسى فابنه علي، فاذا مضى علي فابنه محمد، فاذا مضى محمد فابنه علي، فادا مضى علي فابنه الحسن، فاذا مضى الحسن فابنه الحجة محمد المهدي، فهؤلاء اثنا عشر». «1»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 254

وفي الكتاب نفسه، نقلا عن كتاب «المناقب»، حديث آخر جاء فيه ذكر الائمة الاثني عشر بالاسم واللقب، ويشير الى غيبة الامام المهدي (عج) إلى نهضته وأنَّه يملأ الارض عدلًا وقسطا بعد ما ملئت جوراً وظلماً. «1»

أمّا الأحاديث الواردة بهذا الخصوص عن طرق الشيعة فكثيرة تفوق حد التواتر، فتأمل!

من مات ولم يعرف إمامه ...

نقرأ في كتب أهل السنة حديثا عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنَّه قال:

«من مات بغير امام زمانه مات ميتة جاهلية» «2»

هذا الحديث نفسه ورد في كتب الشيعة بهذه الصورة:

«من مات ولايعرف امامه مات ميتة جاهلية». «3»

يدلّ هذا الحديث دلالة بيّنة على ان الامام المعصوم موجود في كل عصر وزمان ومن الواجب معرفته، وإنَّ عدم معرفته على درجة من الضرر بحيث أنَّه يضع الانسان عند تخوم الكفر والجاهلية.

فهل المعنيون بالائمّة في هذا الحديث هم القائمون على رأس الحكم، من امثال جنكيزخان وهارون

الرشيد والحكام العملاء؟

لاشك أنَّ الجواب يكون بالنفي، وذلك لأن الغالبية العظمى من هؤلاء اناس دروس في العقائد الاسلامية، ص: 255

منحرفون وظالمون واحياناً يكونون عملاء للغرب أو الشرق وينفذون سياساتهم الاستكبارية، فلا شك في أنَّ معرفتهم وقبول إمامتهم يرسلان الانسان الى «دار البوار» في جهنم.

و يتضح من ذلك أن هناك في كل عصر إماماً معصوماً، وأنَّه يجب البحث عنه ومعرفته وقبوله كقائد وهاد.

إن اثبات إمامة كل امام تتم- بالأضافة الى الطريق المذكور- بطريق النصوص والروايات الواردة عن كل إمام سابق بالنسبة للامام اللاحق، وكذلك عن طريق معجزاتهم.

فكّر وأجب:

1- ماهي الكتب التي وردت فيها الروايات الخاصّة بالأئمّة الاثني عشر؟

2- ما محتوى هذه الروايات؟

3- كيف تفسَّر هذه الأحاديث تفسيرات غير مناسبة؟

4- هل جاء في أحاديث أهل السنة أسماء الائمة الاثني عشر كلّهم؟

5- ما الطرق الاخرى لاثبات الأئمّة الاثني عشر؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 257

الدّرس 10 الامام المهدي (عج) الإمام الثّاني عشر والمصلح العالمى العظيم

1- نهاية اللّيلة الظّلماء

عندما نلقي نظرة على أوضاعنا الحاضرة و نلاحظ إرتفاع نسبة الجرائم وحوادث القتل والحروب وإراقة الدّماء و الاعتداءات و المنازعات الدولية واتساع نطاق المفاسد الاخلاقية باستمرار، يبرز في ذهننا هذا السؤال: هل سيستمر الوضع على هذه الحال؟ وهل يزداد انتشار هذه الجرائم والمفاسد حتى تجر البشرية الى حرب دائمية تهلك الحرث والنسل، أم أنَّ الانحرافات العقائدية والمفاسد الاخلاقية، كمستنقع عفن، سيبتلع الانسانية ابتلاعاً ...

أم أنَّ هناك بصيص ضوء من أمل في النجاة والاصلاح؟

الجواب الأول هو الذي يقول به المتشائمون والماديون، وهو أنَّ مستقبل العالم مظلم، ولايخلو كل زمان من احتمال الخطر.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 258

أمّا الذين يؤمنون بمبادى ء الأديان السماوية، وخاصة المسلمون، والشيعة منهم على الاخص، فيجيبون بجواب آخر عن هذا السؤال، فيقولون:

إنَّ وراء هذه الليلة الحالكة السواد صبح أمل مشرق، وإن هذه

السحب الدّكن، وهذه الأعاصير المهلكة والسيول المدمرة سوف تزول في النهاية، وتسطع الشمس في سماء صافية وجو صحو.

إنَّ هذه الدّوامات المخوفة لاتبقى في طريقنا دائماً، وإنَّ في الأفق القريب دلائل على وجود ساحل النجاة يطالع الناظرين.

إنَّ العالم ينتظر مصلحاً عظيماً يغير بثورته وجه العالم لصالح الحق والعدالة.

وبالطبع يطلق اتباع كل دين إسما خاصاً على هذا المصلح المنتظر، مصداقاً لقول الشاعر:

عباراتنا شتى وحُسنك واحد وكُل الى ذاك الجمال يُشير

2- الفطرة وظهور المصلح العظيم

إنَّ الالهامات الباطنية، التي تكون أمواجها أقوى أحياناً من أحكام العقل، لا تقتصر على هدايتنا الى اللَّه فقط، بل هي قادرة على أنْ تكون دليلنا في جميع معتقداتنا الدّينية بما فيها هذه المسألة أيضاً. ودلائل ذلك هي أوّلًا: الرغبة العامّة في العدالة العالمية، فالناس في العالم كلّه، على ما موجود بينهم من اختلاف يحبّون بلا استثناء، السلام والعدالة. إنَّنا جميعاً ننادي بهذا ونجاهد في سبيله ونطلب العدالة والسلام العالميين بكل وجودنا.

و ليس هناك دليل أفضل من انتظار ظهور هذا المصلح العظيم إنَّما هو

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 259

فطري، وذلك لأنَّ أي مطلب يريده الناس كافة دليل على فطريته، فتأمل!

كل حبّ أصيل وفطري يحكي عن وجود محبوب خارجي وجذاب، وإلّا كيف يمكن أنْ يخلق اللَّه هذا التعطش في داخل الانسان دون أنْ يخلق في خارجه الينبوع الذي يصبو نحوه ليرتوي منه؟

لهذا نقول إنَّ فطرة الانسآن وطبيعته التي تبحث عن العدالة تصرخ بأعلى صوتها إنَّ الاسلام والعدالة سوف يسودان العالم كله في نهاية المطاف، وإنَّ مظاهر الظلم والجور والانانية سوف تزول، وإنَّ البشرية ستتوحد في دولة واحدة وتعيش تحت راية واحدة في جو من التفاهم والطهارة.

ثانياً: إنَّ الاديان والمذاهب عموماً تنتظر مصلحاً عالمياً كبيراً. إنّك تكاد تجد في جميع

الاديان فصلًا يحدثك عن هذا الأمر إذ إنَّ الاعتقاد بظهور منج عظيم، يكون بلسماً لجراح البشرية المؤلمة، لايقتصر على المسلمين، بل إنَّ هناك مستندات وأدلة تؤكد كونه اعتقاداً عاماً وقديماً آمنت به الأقوام والأديان في الشرق وفي الغرب، إلّاأنَّ الاسلام، لكونه الدين الكامل، يؤكد هذا الأمر توكيداً أكبر.

ففي كتاب «زند» من كتب الزرادشتيين المعروفة، يرد ذكر الصراع الدائم بين اتباع اللَّه واتباع الشيطان، ثم يقول:

«بعد ذلك ينتصر إلالهيون على الشيطانيين الذين ينقرضون ... وإنَّ عالم الوجود ينال سعادته الأصلية ويجلس ابن آدم على كرسي حسن الحظ ...»

وفي كتاب «جاماسب نامه» لزرادشت تقرأ مايلي:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 260

«يخرج رجل من أرض التازيين (العرب)، عظيم الرأس، عظيم الجسد، عظيم الساق، على دين جدّه، في جيش كثير ... ويملأ الارض عدلًا».

وجاء في كتاب «وشن جوك» من كتب الهنود الصينيين:

«وأخيراً ترجع الدنيا الى رجل يحب اللَّه وهو من عباده المخلصين».

ونقرأ في كتاب للهنود اسمه «باسك»:

«دول العالم ينتهي الى ملك عادل في آخر الزمان، يكون رائداً للملائكة والجن وبني آدم، ويكون الحق معه، ويكون بيده كل كنوز البحار والأرضين والجبال، يخبر عمّا في السماء والارض، ولا ترى الارض رجلًا أعظم منه».

وفي «مزامير» داود من كتاب «العهد القديم» (التوراة و ما ألحق به) نقرأ:

«يقطع دابر الأشرار، أمّا المتوكلون على اللَّه فسوف يرثون الارض». «والصديقون يرثون الارض ويسكنونها دائماً».

وهناك كلام يشبه هذا في كتاب «اشعيا النبي» من كتب التوراة.

وفي الفصل 24 من انجيل متى نقرأ:

«كالبرق يخرج من المشرق ويكون ظاهراً حتى المغرب. ابن الانسان سيكون كذلك أيضاً».

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 261

وفي الفصل 12 من انجيل لوقا نقرأ:

«شدوا احزمتكم، واشعلوا مصابيحكم، وكونوا كمن ينتظر سيده، حتى إذا ما جاء في أي

وقت وطرق الباب تسرعون لفتحه»!

جاء في كتاب «علائم الظهور»:

«في كتب الصينيين القدامى، وفي معتقدات الهنود، وعند الاهالي الاسكندنافيين، وحتى عند المصريين القدامى وأهالي المكسيك وأمثالهم، يسود الاعتقاد بظهور مصلح عالمي».

3- الأدلة العقلية

اشارة

أ) نستخلص من نظام الخلق أنَّ البشر يجب في النهاية أنْ يخضعوا لقانون العدالة ويستسلموا للنظم العادلة المصلحة الثابتة و ذلك لأنَّ عالم الوجود، بالقدر الذى نلاحظه، عبارة عن مجموعة من النظم. و أنَّ وجود هذه القوانين المنظمة التي تحكم العالم بأسره لدليل على وحدة هذا النظام وترابطه.

وتعتبر قضية النظام والقانون والمنهج والتخطيط من أهم مسائل هذا العالم الرئيسية والجادة. فابتداء من المنظومات الشمسية العظيمة حتى الذّرة التي يمكن أنْ توضع ملايين منها على رأس أبرة، كلها تخضع لنظام دقيق.

إنَّ مختلف أجهزة جسم الانسان، ابتداء من بناء الخلية العجيب حتى طريقة عمل الدماغ، وشبكة الاعصاب، والقلب والرئتين، كلها تتبع نظاما دقيقاً وتعمل أشبه بأجهزة الساعة الدقيقة، كما يعبر عن ذلك أحد العلماء، بحيث أنَ دروس في العقائد الاسلامية، ص: 262

أدق الحاسبات الالكترونية لاتكون شيئاً مذكوراً بجانبها.

فهل في هذا العالم الدقيق يمكن للانسان- الذي هو جزء من كل- أنْ يظهر بمظهر الرقعة المخالفة في اللون وفي التنظيم ليعيش فيه في حياة كلّها حرب واراقة دماء وظلم؟

هل يمكن لحالة الظلم والفساد الاخلاقي والاجتماعي، التي تعتبر ضرباً من الفوضى وانعدام النظام، أنْ تسود المجتمع البشري حتى الأبد؟

النّتيجة هي أنَّ مشاهدة نظام الوجود تلفت نظرنا الى أنَّ المجتمع البشري لابدّ له في النهاية أن يطأطى ء رأسه امام النظام والعدالة، وأنْ يعود مرّة اخرى الى المسير الاصلي الذي خلق للسير فيه.

ب) مسيرة المجمعات التكاملية. وهذه دليل آخر على مستقبل البشرية الواضح، إذ إنَّنا لايمكن أنْ ننكر أنَّ المجتمع البشري، منذ

أنْ ظهر للوجود، لم يتوقف في مرحلة معينة، بل كان دائم السير والتحرك الى الامام.

فمن حيث الجوانب المادية، المسكن و الملبس و الغذاء، و طرق النقل والمواصلات، والافكار التوحيدية، كان الانسان في وقت مايعيش في أبسط ظروفها. ولكنه الآن بلغ مرحلة تحير العقول وتعشي العيون، ولاشك أنَّ هذا سوف يواصل حركته الصعودية.

أمَّا من حيث العلوم والثقافات فقد كان الانسان يسير سيراً تصاعدياً أيضاً فهو في كل يوم يكتشف شيئاً جديداً ويفتح فتحاً جديداً.

إنَّ هذا «القانون التكاملي» سيشمل في النهاية الجوانب المعنوية والاخلاقية والاجتماعية أيضاً، ويتقدم بالانسان نحو قانون عادل وسلام عادل ثابت،

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 263

وفضائل اخلاقية ومعنوية. إنَّ ما نراه اليوم من تفشي المفاسد الاخلاقية وتفاقمها، إنَّما هو وسيلة تمهد الطريق لانضاج ثورة تكاملية شاملة.

و لا نقول طبعاً إنَّ علينا تشجيع الفساد، ولكننا نقول إنَّ الفساد إذا جاوز الحد أدى الى ثورة أخلاقية. فعندما يصل الانسان الى طرق مسدودة ويجد عواقب غير محمودة ناشئة من آثامه، وعندما يرتطم رأسه بالجبل، و تبلغ روحه التراقي عندئذ يكون في الاقل على أهبة الاستعداد لتقبل المبادى ء التي يعرضها عليه القائد الالهي.

القرآن وظهور المهدى عليه السلام

في كتابنا السماوي العظيم آيات كثيرة تبشر بهذا الظهور العظيم، نكتفي بواحدة منها فقط.

في الآية 55 من سورة «النور» نقرأ:

ى وَعَدَ اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الارْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِم ى.

تبين هذه الآية بجلاء أنَّ الحكم على الارض سيخرج في النهاية من أيدي الجبارين والظالمين، وسيكون الحكم بيد المؤمنين الصالحين.

وفي اثر الآية المذكورة والوعد الذي فيها، يعد اللَّه ثلاثة وعود اخرى

ى وَلُيمَكِّنَنَّ لَهُم دِيْنَهُم الّذي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِم أَمَناً يَعْبُدُونَنِي لايُشْرِكُونَ بِي شَيْئاًى.

في تفسير هذه الآية قال

الامام علي بن الحسين عليه السلام:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 264

«هم واللَّه شيعتنا يفعل اللَّه ذلك بهم على يدي رجل منّا وهو مهدي هذه الأُمّة». «1»

المهدي في كتب الحديث

إنَّ الأحاديث التي تشير الى الحكومة العالمية القائمة على أساس السلام والعدل، والتي يؤسسها أحد أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اسمه «المهدي» أحاديث كثيرة وردت في كتب الشيعة والسنة، وهي من الكثرة بحيث تعدت حدود التواتر أيضاً.

أمّا الكلام على أنَّه هو الامام الثّاني عشر، وخليفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والتاسع من أولاد الامام الحسين عليه السلام، وأنَّه ابن الامام الحسن العسكرى عليه السلام فهو كثير في المصادر الشيعية.

فمن حيث القسم الاول، أي التواتر الوارد في كتب أهل السنة في أحاديث ظهور المهدي، يكفي أنْ نقول أنَّ علماء أهل السنة يشيرون لذلك صراحة الى الحد الذي نقرأ في الرسالة التي اصدرتها موخراً «رابطة العالم الاسلامي»- وهو أكبر مركز ديني في الحجاز- مايلي:

«أنّه آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه و آله في أحاديث صحاح، والاحاديث عن المهدي نقلت عن كثير من الصحابة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله».

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 265

و بعد ذكر اسماء عشرين من الصحابة الذين نقلوا أحاديث النبي صلى الله عليه و آله عن المهدي، تستطرد الرسالة قائلة:

«وهناك آخرون كثيرون نقلوا هذه الاحاديث وبعض علماء أهل السنة ألفوا الكتب الخاصة في الاخبار الواردة عن المهدي، منهم ابونعيم الاصفهاني، وابن حجر الهيثمي، والشوكاني، وادريس المغربي، وأبوالعباس بن عبدالمؤمن».

ثم يضيف بعد ذلك:

«جمع من علماء أهل السنة القدامى والمحدثين يصرحون بأنّ الاخبار عن المهدي متواترة».

وبعد ذكر أسماء عدد من هؤلاء تختتم الرسالة كلامها بالقول،

«أعلن

فريق من الحفاظ والمحدثين أنَّ أخبار المهدى فيها الصحيح وفيها الحسن، وهي في المجموع من المتواتر قطعاً، وأنَّ الاعتقاد بقيام المهدي صحيح وواجب، وهذا من عقائد أهل السنة والجماعة المسلم بها، ولاينكره إلّا كل جاهل وصاحب بدعة».

أمَّا أحاديث الشيعة

يكفي هنا أنْ نعلم أنَّ هناك المئات من الاحاديث بهذا الشأن عن رواة مختلفين، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعن الأئمة عليهم السلام بما يتجاوز حد التواتر، وهو عند الشيعة من ضروريات الدين، بحيث أنَّه لايمكن لاحد أنْ يعتنق المذهب دروس في العقائد الاسلامية، ص: 266

الشيعي دون أن يطلع على عقيدتهم بظهور المهدي عليه السلام وخصائص ذلك وعلائم الظهور وكيفية حكومته ومناهجها المختلفة.

لقد أكبّ كبار علماء الشيعة منذ القرون الاولى حتى اليوم على كتابة الكتب العديدة بهذا الخصوص جمعوا فيها الأحاديث المتعلقة بالمهدي (عج).

إنَّنا هنا نكتفي بذكر بعض الاحاديث من باب المثال، تاركين لمن يريد الاستزادة أنْ يرجع الى كثير من الكتب المهمة التي ألفت في هذا الموضوع، منها كتاب «المهدي» تاليف العالم الكبير السيد صدر الدين الصدر.

قال رسول الاسلام صلى الله عليه و آله:

«لو لم يبق من الدهر إلّايوم لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتى يبعث رجلًا من أهل بيتي يملؤها قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً». «1»

وفي حديث آخر عن الامام الصادق عليه السلام قال:

«إذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع الجور في أيّامه وأمنت به السُبل وأخرجت الارض بركاتها ورد كل حق الى أهله ... وحكم بين الناس بحكم داود وحكم محمد صلى الله عليه و آله فحينئذ تظهر الارض كنوزها وتبدي بركاتها ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعا لصدقته ولبره لشمول الغنى جميع المؤمنين»! «2»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 267

ملاحظة: نعلم أنَّه في

زمان غيبة امام العصر (أرواحنا فداه) يستمر خط الامامة والولاية متمثلا في نواب الامام عليه السلام. وقد جاء بحث ذلك في كتاب «حكومت اسلامي» تحت عنوان «ولايت فقيه».

فكّر وأجب:

1- ما الاختلاف في نظرة الذين يعبدون اللَّه والماديين بالنسبة لمستقبل العالم؟

2- هل يمكن أنْ نستدل على ظهور المهدي عليه السلام بالفطرة؟ كيف؟

3- هل هناك دليل عقلي على الظهور؟ ماهو؟

4- ماذا يقول القرآن بهذا الشأن؟

5- ما هي عقيدة السنة في هذا الموضوع؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 269

الفصل الخامس معرفة المعاد

الدّرس 1 سؤال مهم: هل الموت نهاية أم بداية؟

معظم الناس يخافون الموت، لماذا؟

ينظر الكثير الى الموت و كأنه صورة مخوفة و مرعبة، مجرد التفكير فيها يحيل طعم الحياة النهائى الى مرارة لاتطاق و لا تحتمل. فلا يخافون من اسم الموت فحسب بل ان ذكر القبر و المقبرة يدخل الرعب على قلوبهم فيسعون الى زخرفة و تزيين القبور لكي تخرج من هذا الاطار المخيف.

و بالرجوع الى عادات و تقاليد مختلف شعوب العالم نجد آثار هذا الخوف من الموت بادية للعيان، فيوصف بعفريت الهلاك، أو بمخلب الموت، أو بضربة الأجل، و أمثال ذلك.

وإذا أرادوا ذكر اسم ميت، سعوا الى تخفيف الموقف على السامع بتعبيرات مثل «أبعدنا اللَّه عن ذلك» أو «اطال اللَّه عمرك» وغير ذلك.

فلابدّ أنْ نعرف إذن ما الذي يدعو الناس الى أنْ يخافوا دائماً من الموت.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 272

ثم لماذا نجد، بخلاف ذلك، أناساً فضلًا عن كونهم لايخافون الموت، فإنَّهم يستقبلونه بالابتسامة ويفخرون بمقدمه؟

يحدثنا التاريخ عن أناس كانوا يبحثون عن ماء الحياة واكسير الشباب، وعن أناس آخرين كانوا يهرعون الى جبهات الجهاد بشغف، يواجهون الموت بترحاب و شوق، و قد يشكون من طول أعمارهم، لأنَّهم كانوا متلهفين للقاء الحبيب ورؤية اللَّه. و هذا ما شاهدناه فى جبهات الحق ضد الباطل،

وكيف أنَّ مفاتلينا الابطال كانوا يسارعون الى سوح الشهادة و قد وضعوا ارواحهم على اكفهم.

لماذا الخوف؟

اشارة

بالفحص والتمعن نستنتج أنَّ سبب الخوف من الموت أمران:

1- تفسير الموت بالفناء

إنَّ الانسان بطبيعته يهرب من العدم، فهو يهرب من المرض الذي يعني انعدام الصحة، ويهرب من الظلام الذي يعني انعدام النور، ويهرب من الفقر الذي يعني انعدام الغنى، بل أنَّه يهرب احياناً حتى من الدار الخالية، ومن الانفراد في الصحراء، لانعدام الرفيق فيهما.

والعجيب أنَّه يرهب الميت نفسه، فهو يرفض مثلا أن يبيت مع جسد ميت في غرفة واحدة، مع أنَّه لم يكن يخاف هذا الميت قبل أنْ يموت! فما السبب ياترى في خوف الانسان من العدم وهروبه منه؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 273

إنَّ السبب واضح، فالوجود معقود بالوجود ويألفه، ولايمكن أنْ يتآلف الوجود والعدم يوماً، لذلك فمن الطبيعي أنْ نكون غرباء على العدم ونشعر بالخوف منه.

فاذا نحن قلنا بأنَّ الموت هو نهاية كل شي ء، وأنَّ بالموت يبلغ كل شي ء خاتمته، عندئذ يحق لنا أنْ نخشاه وأنَّ نهرب حتى من اسمه ومظهره، لأنَّ الموت يسلبنا كل شي ء.

أمّا إذا اعتبرنا الموت بداية حياة جديدة، حياة خالدة، ونراه نافذة تفتح لنا على العالم العظيم، عندئذ يكون من الطبيعي ألّا نخاف الموت، بل إنَّنا نهنى ء الاطهار الذين يخطون نحوه بثبات مرفوعي الرأس!

2- الصحائف السوداء

إنَّنا نعرف أناساً لايرون في الموت معنى الفناء والعدم، لأنَّهم لاينكرون الحياة بعد الموت، ولكنهم مع ذلك يخافون الموت وذلك لأنَّ صحائف أعمالهم قد اسودت الى درجة أنَّهم إنَّما يخافون العقوبات الأليمة التي يتوقعونها بعد الموت.

إنَّ لهؤلاء الحق في أنْ يخافوا الموت. إنَّهم أشبه بالمجرمين الخطرين الذين حُكم عليهم بالاعدام فهم يخافون الخروج من السّجن لتنفيذ الحكم عليهم، لأنَّهم يعلمون أنَّ خروجهم من السّجن يعني تعليقهم على خشبة الاعدام، فهم، لذلك، يودون البقاء خلف قضبان السّجن، لالكرههم الحرية، إنَّما هم يكرهون الحرية التي تقودهم الى المشنقة.

دروس في

العقائد الاسلامية، ص: 274

هكذا حال المسيئين، فهم يرون انعتاق أرواحهم من هذا السجن الضيق مقدمة لتحمل أنواع العذاب القاسي بسبب ما إرتكبوه من أعمال قبيحة ومن ظلم وجور وفساد، ولذلك فهم يخافون الموت.

أمَّا الذين لايرون في الموت «فناء»، و لايرون صحف أعمالهم سوداء، فما الذي يحملهم على الخوف من الموت؟

إنَّهم، بالطبع، يريدون هذه الحياة بكل شوق و يرغبون فيها، لكي يجعلونها في خدمة حياتهم الجديدة بعد الموت، ويعدوا أنفسهم لاستقبال الموت الذي يكون فيه رضا اللَّه، و هذا الهدف هو مدعاة يجعلونها في خدمة للافتخار والاعتزاز.

نظرتان مختلفتان

قلنا إنَّ النّاس فريقان: فريق، وهم الأكثرية، يخافون الموت ويهربون منه.

وفريق آخر يستقبلون الموت، الذي يكون في سبيل هدف عظيم، كالشهادة في سبيل اللَّه، بقلوب رحبة، أو أنَّهم، على الأقل، إذا أحسوا بدنو الموت لايداخلهم همّ ولاغمّ أبداً.

والسبب هو أنَّ كلًا منهما يختلفان في النظرة.

الفريق الاوّل: إمّا أنَّ يكونوا من الذين لايؤمنون بوجود عالم بعد الموت، وإمّا أنَّهم لايصدقون بوجوده كل التصديق، ولذلك ينظرون الى لحظة الموت وكأنَّها لحظة فراقهم لكل شي ء. إنَّ مفارقة كل شي ء والخروج من النور الى الظلام المطلق أمر صعب اليم، كحال من يخرجونه من السجن ليقدموه دروس في العقائد الاسلامية، ص: 275

للمحاكمة عن جريمه ثابتة عليه، فهي حالة رهيبة من الخوف.

أمّا الفريق الثّاني: فيرى الموت ولادة جديدة وخروجاً من الحياة الدنيا و محيطها الضيق المظلم، ودخولًا الى عالم وسيع نيرّ.

إنَّ التحرر من قفص ضيق صغير، والتحليق في السّماء الفسيحة، والخروج من ذلك المحيط الملي ء بالخصام والنزاع وضيق النظر والعلم والحقد والحروب، والدخول الى عالم قد تطهر من كل هذا التلوث، لاشك يجعل الموت أمراً مرغوباً فيه عند هذا الفريق الثّاني، فلا يخافون منه أبداً.

يقول الامام علي عليه السلام:

«واللَّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه».

أو كما قال الشّاعر الفارسي:

مرگ گر مرد است گو نزد من آى تا در آغوش بگيرم تنگ تنگ!!

من ز او جاني ستانم جاودان او زمن دلقي ستاند رنگ رنگ!!

قل للموت اذا كان شجاعاً فليدنو مني كي أضمه الى صدري و احتضنه بحضني و ليأخذ مني ردائي الذي حلا لونه و يهبني الخلود و راحة نفسي إذن ليس من المستغرب أنْ نصادف في التاريخ رجالًا مثل الامام الحسين عليه السلام ومثل أصحابه المضحين، كلما ازدادت لحظة الشهادة قرباً منهم، ازدادت فرحتهم واشتد شوقهم الى لقاء الحبيب وتلألأت وجوههم لقرب اللقيا.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 276

وهذا هو نفسه الذي نقرأه في تاريخ حياة الامام علي عليه السلام العظيمة، فعند ما أهوى ذلك المجرم الاثيم، بالسيف على رأسه الشريف، صاح قائلًا:

«فزت ورب الكعبة!».

بديهي أنْ لايعني هذا الكلام حثّ الناس على إلقاء أنفسهم في التهلكة و الزهد في هبة الحياة العظيمة التي وهبها اللَّه لهم، فلا يستثمرونها للوصول الى اهدافهم الكبرى. بل المقصود هو حمل الانسان على استغلال الحياة استغلالًا سليماً، دون أنْ يعتريهم الخوف من انتهائها، وخصوصاً إذا كانت الغاية هدفاً عظيماً وسامياً.

فكّر وأجب:

1- لماذا يخاف الناس من الموت؟ أذكر الأسباب.

2- لماذا يستقبل بعض الناس الموت مبتسمين ويعشقون الشهادة في سبيل اللَّه؟

3- بم يمكن تشبيه لحظة الموت؟ ما شعور المؤمنين المخلصين في تلك اللحظة، وما شعور المسيئين عديمي الايمان؟

4- هل إتفق لك أنْ رأيت بنفسك أشخاصاً لايرهبون الموت؟ ماهي انطباعاتك عنهم؟

5- ما الذي قاله علي عليه السلام بشأن الموت؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 277

الدّرس 2 المعاد و مفهوم الحياة

اشارة

إذا تصورنا الحياة الدنيا بدون عالم الآخرة، لظهر لنا ان الدنيا لاتمثل شيئاً و لا

معنى لها على الاطلاق، و يشابه ذلك تصور دورة حياة الجنين في بطن أمه دون أن يخرج من تلك الحياة الى الحياة الدنيا.

إنَّ الجنين الذي يعيش في رحم امّه، ويقضي في هذا السجن الضيق والمظلم شهوراً عدة، ليأخذه العجب حقّاً لو أنَّه اوتي عقلًا و حكمة ليفكر بهما في أمره و تلك المرحلة التي قضاها في سجنه ذاك:

لماذا أنا حبيس في هذا السجن المظلم؟

لماذا قُضّي علي أنْ أخوض في هذه المياه والدماء؟

مانتيجة ذلك؟

من الذي أرسلني؟ ولماذا؟

أما إذا قيل له: إنَّك تقضي هنا فترة مؤقتة، تتشكل فيها اعضاؤك، فتقوى،

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 278

وتصبح قادراً على الحركة والسعي في عالم كبير آخر، وإنَّ قرار خروجك من هذا السجن سوف يصدر بعد انقضاء تسعة أشعر، فتضع قدمك في دنيا فيها شمس ساطعة، وقمر منير، واشجار خضر، ومياه جارية، وكثير من النعم الاخرى عندئذ سيتنفس الجنين الصعداء ويقول: الآن أدركت الحكمة من وجودي في هذا السجن!

فهذه الدّنيا مقدّمة، أنَّها منصة القفز، أنَّها المدرسة التي تعدّ المرء لدخول الجامعة الكبيرة.

أما إذا قطعت علاقة حياة الجنين بالحياة في هذه الدنيا، لغرق كل شي ء في الظلام ولم يعدله أي معنى، ولكان السجن رهيباً ومستقبل السّجين أليما.

كذلك هي العلاقة بين الحياة في هذه الدنيا والحياة بعد الموت. ما الداعي الذي يدعونا أنْ نظل نتقلب في هذه الدنيا سبعين عاماً، أو أقل أو أكثر، متحملين العذاب والعناء، نقضي فترة اخرى ندرس و نتعلم، وما أنْ تنتهي مرحلة النضج والتعلم حتى نجد ثلوج الكهولة قد سقطت على رؤوسنا!

ثم ما الهدف من كل هذا؟ هل اننا وجدنا لكي نأكل ونلبس وننام، ثم لكي نكرر هذا عشرات السنين؟ هل أن هذه السماء الشاسعة. وهذه الارض

الواسعة، وكل هذه المقدمات والدرس واختزان المعلومات والتجارب، وكل هؤلاء الاساتذة والمربين، لم يكونوا إلّاللأكل والشرب واللبس في هذه الحياة المنحطة الرتيبة؟

هنا تتأكد عبثية هذه الحياة وفراغها عند اولئك الذين لايؤمنون بالمعاد، لأنَّهم لايمكن أن يتصوروا هذه الأمور التافهة هي الهدف والغابة من الحياة،

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 279

وهم في الوقت نفسه لايعتقدون بوجود حياة بعد الموت حتى تكون هي الغاية.

لذلك نجد أنَّ كثيراً من هؤلاء يلجأون الى الانتحار للخلاص من حياة عديمة المعنى والهدف.

أمّا إذا صدّقنا أنَّ الحياة «مزرعة» الآخرة، وأنَّ علينا أنْ نباشر بالبذر هنا حتى نحصد الغلة في حياة أبدية خالدة.

وإذا علمنا أنَّ الدّنيا «جامعة» علينا أنْ نكتسب منها المعرفة لنعد أنفسنا للعيش في دنيا خالدة، وأنَّ هذه الدنيا ليست سوى «جسر» للعبور.

عندئذ لاتكون هذه الدنيا فارغة ولاعبثاً لامعنى له، بل سوف نراها فترة تمهيدية اعدادية لحياة خالدة وأبدية تستحق منّا أكثر من كل هذا الذي نبذله من أجلها.

نعم، إنَّ الايمان بالمعاد يمنح الحياة معنى ومفهوماً، ويخلصها من «الاضطراب» و «القلق» و «العبثية».

الايمان بالمعاد عامل تربوي

إنَّ للاعتقاد بوجود محكمة العدل العظمى في الآخرة تأثيراً كثيراً في الحياة، بالاضافة الى ما سبق قوله.

أفرض أنَّهم أعلنوا في البلاد أنَّه إذا ارتكب الناس أي جرم في اليوم الفلاني من السنة فلن يعاقبوا ولن يذكر ذلك في صحيفة أعمالهم، وأنَّ لهم أنْ يقضوا يومهم بكل اطمئنان، لأنَّ رجال الشرطة سوف يكونون في اجازة، وسوف تتعطل المحاكم، وعندما تعود الحياة العادية الى مجراها الطبيعي في اليوم التالي دروس في العقائد الاسلامية، ص: 280

فإنَّ جرائم اليوم السابق سوف تنسى.

لكم أنْ تتصوروا كيف سيكون حال المجتمع في ذلك اليوم!

إنَّ الايمان بيوم القيامة هو الايمان بدار عدالة عظيمة لايمكن مقارنتها بمحاكم هذه

الدنيا.

أمَّا خصائص محكمة العدل الإلهية فهي:

1- إنَّها محكمة لاتتأثر بالوساطات، ولا بالمحسوبيات ولا المنسوبيات و لا ينخدع قضاتها بالأدلة المزيفة.

2- إنَّها محكمة لاتحتاج الى المراسيم والتشريفات السائدة في محاكم الدنيا، ولذلك فليس فيها تأجيلات وتأخيرات، بل تنظر في القضايا بسرعة البرق وتصدر احكامها بمنتهى الدّقة.

3- إنَّها محكمة لاتستند إلّاالى أعمال الشخص نفسه، أي إنَّ الاعمال تحضر هناك وتثبت علاقتها بفاعلها بحيث لايمكن انكارها.

4- إنَّها محكمة، الشهود فيها أعضاء المتهم: يده ورجله واذنه وعينه ولسانه وجلده، وحتى أرض الدار وأبوابها وجدرانها حيث ارتكب معصية أوأدى فروض الطاعة، وهم شهود لايمكن انكارهم كآثار أعمال الانسان الطبيعية.

5- إنَّها محكمة قاضيها هو اللَّه العليم بكل شي ء، والغني عن كل شي ء، والعادل الذي لايضاهي عدله عادل.

6- وأخيراً، الجزاء في هذه المحكمة ليس محدداً من قبل، بل أكثر ماتحدده أعمالنا نفسها، إذ أنَّها تتشكل وتستقر الى جانبنا، فتعذبنا أوترفه عنا وتغرقنا في نعم اللَّه.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 281

إنَّ الايمان بوجود محكمة كهذه يؤدي بالانسان الى أنْ يردد ماقاله الامام على عليه السلام:

«واللَّه لأنَّ أبيت على حسك السعدان مسهداً، أوأجر في الاغلال مصفداً، أحبّ اليَّ من أنْ ألقى اللَّه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشي ء، من الحطام ...» «1»

إنَّ الايمان بهذه المحكمة هو الذي يحمل علياً عليه السلام لأن يقرب حديدة محماة الى يد أخيه الذي كان يرغب بالمحاباة في بيت المال وعندما يرتفع صراخ الاخ يوجه اليه النصيحة قائلا:

«ثكلتك الثواكل ياعقيل! أتئن من حديدة احماها انسانها للعبه، وتجرني الى نار سجرها جبارها لغضبه ...»

أيمكن أنَّ ينخدع انسان له مثل هذا الايمان؟

أيمكن بالرشوة ابتياع ضمير انسان كهذا؟

أيمكن بالوعد والوعيد حرف مسيرته من طريق الحق الى طريق الباطل؟

يقول القرآن المجيد:

ى

وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرى الُمجْرِمِيْنَ مُشْفِقِيْنَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيلَتَنا مالِ هَذَا الكِتَابِ لايُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيْرَةً إلّاأحْصَاها ... ى «2»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 282

وهكذا تنبعث في روح الانسان موجة قوية من الاحساس بالمسؤولية ازاء كل عمل من أعماله تحول بينه وبين الضياع و الانحراف نحو الظلم والعدوان.

فكّر وأجب:

1- لو لم يكن هناك عالم آخر بعد هذه الحياة الدنيوية المحددة والموقتة، فما الذي كان سيحدث؟

2- لماذا يسعى بعض الذين ينكرون المبدأ والمعاد إلى التخلص من الحياة بالانتحار؟

3- ما هي الاختلافات بين محكمة يوم القيامة والمحاكم في هذه الدنيا؟

4- ما تأثير الايمان بالمعاد على أعمال الانسان؟

5- ما الذي قاله أميرالمؤمنين عليه السلام لاخيه عقيل؟ ماذا كان يريد عقيل من الامام على عليه السلام؟ ماذا كان جوابه له؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 283

الدّرس 3 محكمة الضمير مثال لمحكمة يوم القيامة

لما كانت قضية الحياة بعد الموت ومحكمة يوم القيامة العظيمة تعتبر قضية جديدة على انسان يعيش في هذه الدنيا الضيقة المحدودة، فإنَّ اللَّه أوجد لنا مثلًا مصغراً لتلك المحكمة في هذه الدنيا و هي محكمة الضمير، إلّاأنَّها كما قلنا صورة مصغرة لها.

دعونا نوضح هذا الموضوع:

يحاكم الانسان على الأعمال التي يقوم بها في عدد من المحاكم. أوّلها هي المحاكم البشرية العادية، بكل ما فيها من ضعف ونقص وانحرافات.

وعلى الرّغم من إنَّ لهذه المحاكم بعض التأثير في تخفيف نسبة ارتكاب الجرائم، إلّاأنَّ الاسس التي أقيمت عليها هذه المحاكم لا تتكفل تحقيق العدالة كاملة، ولا يمكن أنْ ينتظر منها ذلك. فالقوانين الموضوعة والقضاة الفاسدون وتفشي الرشوة والمحسوبيات والمنسوبيات والمناورات السياسية وآلاف الأُمور

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 284

الأخرى تؤدي كلها الى إضعافها الى درجة يمكن القول معها بأنَّ عدمها خير من وجودها، وذلك لأنَّ وجودها يساعد على

تنفيذ مآرب المتنفذين المشؤومة.

وحتى لو كانت قوانينها عادلة. وقضاتها متقين وواعين، فإنَّ هناك الكثير من المجرمين القادرين على اخفاء معالم جرائمهم، أو الماهرين الذين يستطيعون تزييف المستندات والأدلة بحيث لايجد القاضي طريقه بوضوح، فيجردون القوانين بذلك من محتواها.

المحكمة الثانية التي يحاكم فيها الانسان هي محكمة «جزاء الاعمال».

إنَّ لأعمالنا آثاراً ونتائج تصيبنا على المدى القريب أو البعيد. وإذا لم يكن هذا حكماً عاماً، فإنَّه يصدق في الاقل بالنسبة لكثير من الناس.

لقد رأينا حكومات شيدت حكمها على الظلم والجور والاعتداء ولم تأبى من ارتكاب أي جريمة شاءت، ولكنها في النهاية وقعت في فخاخ نصبتها بنفسها لنفسها و سقطت في شباك نسجت خيوطها بيدها، فحاقت بها ردود افعالها، فانهارت وتلاشت حتى لم يبق لها أثر.

ولما كانت نتائج الاعمال هي العلاقة بين العلة والمعلول والعلائق الخارجية، فقلما استطاع أحد أنْ ينجو من مخالبها بالتزوير والتزييف، كما يفعلون في المحاكم العادية. ولكن كل ما في الأمر إن هذه المحاكم ليست عامّة وشاملة، ولهذا فهي ليست قادرة على جعلنا في غنى عن محكمة يوم القيامة.

أمّا المحكمة الثالثة، وهي أدق وأقسى من محاكم النوع الثاني، فهي محكمة الضمير.

وفي الواقع، كما أنَّ المنظومة الشمسية بنظامها العجيب قد تمثلت مصغرة جداً

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 285

في قلب الذّرة، كذلك يمكن القول بأنَّ محكمة يوم القيامة قد تمثلت بشكل مصغر في داخلنا.

إنَّ في أعماق الانسان قوة غامضة يطلق عليها الفلاسفة اسم «العقل العملي»، ويسميها القرآن «النفس اللوّامة»، ويصطلح عليها المعاصرون باسم «الضمير» أو «الوجدان».

فما أنْ يقوم الانسان بعمل ما، خيراً كان أم شراً، حتى تعقد هذه المحكمة جلسة بدون ضوضاء ولاتشريفات، ولكن بكل جد ووفق الاصول، وتبدأ المحاكمة، ويصدر الحكم، ثواباً أوعقاباً، يتم تنفيذه بهيئة

آثار نفسية.

قد يكون عقاب المجرمين أحيانا من الشدة والقسوة بحيث يتمنى المجرم الموت ويستقبله بكل ترحاب ويفضله على الحياة، ويكتب فى وصيته: انتحرت تخلصا من عذاب الضمير!

واحيانا يكون الثواب على عمل الخير كبيراً يشيع الفرحة والسرور في نفس فاعله ويضفي عليه حالة من الاطمئنان والهدوءالنفسي مما يصعب وصف مافيه من العذوبة واللذة.

إنَّ لهذه المحكمة خصائص معينة:

1- في هذه المحكمة قاضيها وشاهدها ومنفذ أحكامها والمتفرج فيها واحد، وهو الضمير الذي يشهد ويقضي ويصدر الحكم ثم يشمر عن ساعد الجد وينفذ الحكم.

2- في هذه المحكمة بخلاف ما يجري في المحاكم العادية التي يكثر فيها الضوضاء والمظاهر، وقد تطول فيها محاكمة قضية واحدة سنوات طويلة-

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 286

تجرى المحاكمة بسرعة البرق في أكثر الحالات إلّاإذا اكتنف القضية بعض الغموض مما يتطلب بعض الوقت لفحص أدلة القضية وإزاحة حجب الغفلة عن نظر القلب، ولكن بعد التأكد يكون صدور الحكم قطعياً.

3- الحكم في هذه المحكمة يتم في مرحلة واحدة، فلا استئناف ولا تمييز، بل هو حكم نهائي و قاطع.

4- هذه المحكمة لاتصدر أحكام العقوبات فقط، بل هي تحكم بالجزاء و الاثابة. أي إنَّها محكمة تنظر في قضايا المجرمين والمحسنين معا، فتعاقب المسي ء وتثيب المحسن.

5- عقوبات هذه المحكمة لاتشبه عقوبات المحاكم العادية، أذ ليس فيها سجون حقيقية، ولا سياط للجلد، ولا أعواد للشنق، ولا محرقة للحرق، ولكن عقابها يكون احياناً حارقاً وسجنها قاسياً بحيث إنَّ الدنيا على سعتها تضيق بالانسان، كما يضيق به سجن انفرادي في سجن رهيب.

وعليه، فان هذه المحكمة لا تشبه أيا من المحاكم العادية، بل هي من نوع محكمة يوم القيامة. و هذه المحكمة من العظمة بحيث إنَّ القرآن يقسم بها كما يقسم بمحكمة المعاد، فيقول:

ى

لا أُقْسِمُ بِيَومِ القِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ أيَحْسَبُ الانْسَانُ أنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قادِرينَ عَلَى أنْ نُسَوِّىَ بَنَانَهُ ى «1»

بديهي إن هذه المحكمة، لكونها دنيوية على كل حال، فيها من النقائص ما

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 287

لايجعلنا نستغني عن محكمة يوم القيامة، وذلك:

1- لأنَّ نطاقها ضيق لايستوعب كل شي ء، بل تتناسب مع نطاق تفكير الانسان نفسه وإدراكه.

2- هنالك أشخاص على درجة من المكر والدهاء بحيث إنَّهم يستطيعون أنْ يخدعوا حتى ضمائرهم ويحرفوها.

3- قد يكون نداء الضمير في بعض المجرمين من الضعف بحيث إنَّه لايصل الى مسامعهم.

وهكذا يتبين لنا أنَّ وجود المحكمة الرابعة، محكمة يوم القيامة، أمر لابدّ منه.

فكّر وأجب:

1- كم محكمة يحاكم فيها الانسان في الواقع؟

2- ماهي خصائص المحكمة الاولى، وما اسمها؟

3- ماهي مميزات المحكمة الثانية؟

4- ماهي خصائص المحكمة الثالثة؟

5- عدد نقاط ضعف محكمة الضمير ومميزاتها.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 289

الدّرس 4 المعاد في تجليات الفطرة

اشارة

يقولون إنَّ معرفة النفس تنبع من الفطرة وجبلة الانسان. وإذا استطلعنا ضمير الانسان الواعي وغير الواعي لتبين لنا إيمانه وتعلقه بمبدأ ما وراء الطبيعة فيرى أن الذي خلق هذا العالم و هو الخلاق العليم خلقة بحكمة، و وفق برنامج، ومن أجل هدف معين.

إلّا أنَّ هذا لا يقتصر على «التوحيد ومعرفة اللَّه»، فجميع أصول الدين وفروعه يجب أنْ تكون في الفطرة أيضاً، وإلّا فإنَّ الانسجام بين اجهزة «التشريع» و «التكوين» لا يتحقق (فتأمل!).

ولكننا إذا ألقينا نظرة فاحصة في قلوبنا واستطلعنا أعماق أرواحنا، لسمعنا بأذن أرواحنا تمتمة تقول: إنَّ الحياة لاتنتهي بالموت، لأنَّ الموت نافذة على عالم البقاء!

ولكي تتجلى لنا هذه الحقيقة لابدّ لنا من الانتباه الى النقاط التالية:

1- حبّ البقاء

إذا كان الانسان قد خلق لكي يموت ويفني، فلابدّ أن يحب الفناء وأنْ يستمتع بلذه الموت في نهاية عمره. ولكننا نشهد أنَّ ملامح الموت (بمعنى العدم) لم تكن في يوم من الايّام شي ء يثير البهجة في قلب الانسان، بل إنَّه بخلاف ذلك، يهرب من رؤية الموت بكل ما أوتي من قوّة.

هذه الحقيقة تؤكدها جهود الانسان التي يبذلها لاطالة عمره، وللبحث عن اكسير الشباب، وللعثور على ماء الحياة.

إنَّ هذا التعلق بأذيال الحياة لدليل على إنَّنا قد خلقنا للبقاء، لا للموت إذ لو كنا قد خلقنا للفناء لما أحببنا الحياة الى هذا الحد.

إنَّ جميع أنواع الحبّ البناءة الكامنة في اعماقنا تعمل على ايصالنا الى الكمال والتكامل، ومن ذلك حبّ البقاء، فهو يكمل وجودنا.

و لاتنسوا أنَّنا نتابع بحث «المعاد» بعد قبولنا بوجود اله حكيم عليم. إننا نؤمن بأنَّ كل ما أودعه اللَّه في داخلنا كان لحكمة وحساب. ومن هنا لابدّ أنَّ تكون هناك حكمة في هذا الحب الذي نشعر به للبقاء،

وما هذه الحكمة سوى وجود عالم يكون بعد هذا العالم.

2- يوم القيامة عند الماضين

إنَّ التاريخ الذي يشهد بوجود الاديان على اختلافها عند الأقوام الماضية منذ أقدم الأزمنة، يشهد كذلك بأنَّ الانسان القديم كان يؤمن أيضاً «بالحياة بعد الموت».

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 291

إنَّ الآثار الباقية من الانسان القديم، وخاصة من انسان ما قبل التاريخ، فيما يتعلق بطراز تشييد القبور، وطريقة دفن الاموات، تدل جميعها على حقيقة اعتقادهم بالحياة بعد الموت.

وعليه لايمكن اعتبار هذه العقيدة العميقة الجذور في تاريخ البشر عقيدة بسيطة، ولاكونها عادة لقنت لهم تلقينا.

إنَّنا كلما صادفنا في تاريخ الانسان عقيدة ذات جذور عميقة ومستمرة على امتداد العصور، أدركنا أنَّها عقيدة فطرية، إذ إنَّ الفطرة وحدها هي التي تستطيع أن تقاوم التغييرات و التحولات مرور الزمان الاجتماعية والفكرية المختلفة، وتبقى ثابتة. أمّا العادات والرسوم الخارجية فما أسرع ما تتبدل أو يلفها النسيان بمرور الزمان.

إنَّك اذ تلبس النوع الفلاني من الملابس إنَّما أنت تساير العادات أو الرسوم المتبعة، وهذا سرعان ما يعتريه التغيير و التبدل بمرور الزمان و عوامل أُخرى كثيرة.

أمّا حبّ الأُم لطفلها فانَّه غريزة متمكنة جبلت عليها طبيعتها، لذلك لاينتابه أي تبدل مهما تغيرت الظروف والأحوال، بل تظل شعلته ملتهبة، لا يخفف منه تعاقب الايّام، ولا يحول لونه غبار النسيان، وكل جاذبية نابعة من داخل الانسان فهي من الفطرة الكامنة فيه.

عندما يقول العلماء:

«لقد أثبتت الدّراسات الدقيقة أن الاقوام الأولى البدائية من البشر كانت تؤمن بنوع من الأديان وذلك دروس في العقائد الاسلامية، ص: 292

لأنهم كانوا يدفنون موتاهم بطريقة خاصة، ويدفنون معهم أدوات عملهم، وبهذا يمكن إثبات أنهم كانوا يعتقدون بوجود العالم الآخر». «1»

ندرك أنَّ تلك الأقوام قد تقبلوا فكرة وجود عالم آخر بعد الموت، وإنَّ اخطأوا

السبيل اليه، ظناً منهم أنَّه لايختلف بشي عن عالمهم الاول، وأنَّ الأدوات التي كانوا يستعملونها في الدنيا تنفعهم في العالم الآخر أيضاً.

3- محكمة (الضّمير) دليل آخر على فطرية المعاد

سبق أنَّ قلنا إننا نشعر بكل وضوح أنَّ هناك في داخلنا محكمة تنظر في اعمالنا واقوالنا، تثيبنا على الحسنة منها، فنحسّ على أثر ذلك بالراحة والاطمئنان والهدوء النفسي والفرح والنشاط ممّا لايتاتى لقلم أنْ يصفه.

كما أنَّها تعاقبنا على السيئة منها، وعلى الأخص الذنوب الكبيرة، فعقابها عليها يكون من الشدة والقسوة بحيث تحيل الحياة كالعلقم مرارة.

كثيراً ما لوحظ أن مجرمين بعد أنْ يرتكبوا جريمة كبرى، كالقتل، ويفلتون من قبضة العدالة، يعودون ويسلمون أنفسهم الى المحكمة، ويصعدون المشانق طوعاً، قائلين إنَّهم يريدون الخلاص من عذاب الضمير.

عندما يمعن المرء فكره في هذه المحكمة الباطنية ينتابه العجب: كيف يمكن أنْ يوجد في داخلي مثل هذه المحكمة، وأنا هذا الكائن الصغير، و لا توجد في عالم الخليقة العظيم محكمة تتناسب معه؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 293

وبناء على ما تقدم نستطيع أنَّ نثبت بثلاثة طرق فطرية المعاد وبوجود عالم آخر بعد هذا العالم:

طريق حبّ البقاء.

طريق التّاريخ الذي يؤكد إيمان البشر بهذه الفكرة منذ الأزمنة السحيقة.

طريق المثال المصغر الموجود في باطن الانسان.

فكّر وأجب:

1- كيف يمكن تمييز الأمور الفطرية عن غير الفطرية؟

2- لماذا يحبّ الانسان البقاء؟ وكيف يعتبر هذا دليلًا على أنَّ المعاد من الأمور الفطرية؟

3- هل آمنت الاقوام القديمة بالمعاد؟ كيف؟

4- كيف تقوم محكمة الضمير بمكافأتنا أو بمعاقبتنا؟ اذكر نماذج لذلك.

5- ما العلاقة بين محكمة الضمير والمحكمة الكبري يوم القيامة؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 295

الدّرس 5 البعث في ميزان العدالة

اشارة

إذا أمعنا النظر في نظام عالم الوجود وسنن الخلق نجد أنَّ ثمة قانوناً يحكمها جميعاً ويضع كل شي ء في مكانه المناسب.

ففي جسم الانسان نرى هذا النظام العادل قد ركبّ فيه بدرجة من الدقة المتناهية بحيث إنَّ أقل اختلال في توازنه يؤدي به الى الأصابة بالمرض، أو الموت.

خذ

مثلًا، تركيب القلب، أو العين، أو الدّماغ، تجد أنَّ كلّ جزء فيها قد وُضع في مكانه المناسب بكل دقة وبالقدر اللازم. إنَّ هذا التنظيم المناسب العادل لايقتصر وجوده على جسم الانسان، بل هو سائد في كلّ أجزاء عالم الخليقة، أذ:

«بالعدل قامت السموات والأرض».

إنَّ حجم الذّرة من الدقة والصغر بحيث أنك تستطيع أنْ تضع ملايين منها

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 296

على رأس إبره، فتأمل كيف يجب أنْ يكون تركيبها من الدقة والتنظيم بحيث يمكن لها أنْ تديم حياتها ملايين السنين.

إنَّ هذا ناشى ء من العدالة في الحسابات الدقيقة لنظام الالكترونات والبروتونات، وما من جهاز صغير أو كبير يخرج عن دائرة هذا النظام العجيب.

فهل الانسان حقّاً كائن استثنائي؟ وإنَّه قطعة سوداء في جسد هذا العالم الكبير الأبيض؟ وانَّه لهذا السبب يجب أنْ يسرح ويمرح حراً، لايلتزم بأي نظام و يرتكب مايشاء من ظلم واعتداء؟ أم إنَّ هناك سراً في هذا الأمر؟

حرية الارادة والاختيار

الحقيقة هي إنَّ الانسان يختلف إختلافاً أساسياً عن سائر الكائنات في عالم الوجود، و ذلك لانه يملك حرية الارادة والاختيار.

لماذا خلقه اللَّه حراً، وأوكل اليه اتخاذ القرارات والقيام بما يشاء من أعمال؟

السبب هو إنَّه لو لم يكن حراً لما استطاع أنْ يحقق تكامله، فهذا الامتياز الكبير هو الذي يضمن تكامله الأخلاقي والمعنوي. لو أنَّ شخصاً أجبر بالقوة على إعانة المستضعفين والقيام بأعمال أُخرى تفيد المجتمع، فإنَّ هذه الاعمال قد تسير في طريقها، ولكنها لن تكون دافعاً لهذا الشخص على التكامل الاخلاقي والانساني أبداً. أما إذا قام بعشر تلك الاعمال الخيرة بمحض ارادته يكون قد تقدم بالنسبة نفسها على طريق التكامل المعنوي والاخلاقي.

بناء على ذلك، فإنَّ أوّل شرط من شروط التكامل المعنوي والاخلاقي هو

دروس في العقائد الاسلامية، ص:

297

امتلاك حرية الارادة والاختيار حتى يقوم الانسان بالسير في هذا الطريق بمحض رغبته وارادته، لابالجبر والاكراه، كما هي حال عناصر الطبيعة الاخرى فاللَّه سبحانه وتعالى لم يهب الانسان هذه الهبة العظيمة إلّالهذا الغرض السامي.

بيد أنَّ هذه النعمة الكبرى أشبه بالورد الذي يحيط به الشوك، وهو سوء استغلال الناس لهذه الحرية والتلوث بالظلم والفساد والذنوب.

بديهي إنَّ اللَّه تعالى لم يكن يمنعه شي ء من أنْ يعاقب كل ظالم فوراً بعقاب يجعله يمتنع عن التفكير بتكرار ذلك، كأنَّ يشل يده، أو يعمي بصره، أو يخرس لسانه.

صحيح إنَّ أحداً، في هذه الحالة، لن يجرؤ على إساءة استعمال حريته ولن يقرب الاثم طوال حياته، غير أنَّ هذه العفة والتقوى تكون إجبارية قسرية، ولا تعتبر مدعاة لافتخار الانسان واعتزازه، بل تكون نتيجة الخوف من العقاب الصارم الفوري.

لذلك لابدّ أنْ يكون الانسان حراً وان يجتاز الامتحانات التي يقررها له اللَّه تعالى وأن لايعاقب فوراً، إلّافي حالات استثنائية، لكي يستطيع أن يكشف عن قيمته في الوجود.

إلّا أنَّ هناك موضوعاً آخر، وهو إنَّه إذا استمرت الحال على هذا المنوال واختار كل أحد طريقه، فإنَّ قانون العدالة الالهية الذي يسيطر على عالم الوجود يتعرض للخطر.

من هنا يتبين لنا ضرورة وجود محكمة ودار عدالة للبشر، وأن على الجميع دروس في العقائد الاسلامية، ص: 298

الحضور فيها بدون استثناء لينال جزاء أعماله بموجب عدالة عالم الخلق.

أيصحّ أنْ يقضي أشخاص مثل نمرود وفرعون وقارون وجنكيز أعمارهم يظلمون ويعتدون ويفسدون، ثم لايكون وراءهم حساب ولاعقاب؟

أيجوز أنْ يقف المجرمون والمتقون على قدم المساواة في كفة ميزان العدالة الإلهية؟

أو كما يقول القرآن:

ى أفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالُمجْرِمِينَ* ما لَكُم كَيْفَ تَحْكُمُونَ ى «1» و ى أمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِى. «2»

صحيح إنَّ بعض المجرمين ينالون

عقابهم على أعمالهم في هذه الدنيا، أو جزءاً من ذلك العقاب، وصحيح إن مسألة محكمة الضمير مسألة مهمة، وصحيح أيضاً إنَّ نتائج الذنوب والظلم والتعسف تحيق احياناً بالانسان نفسه، ولكننا بامعان النظر في هذه الحالات الثلاث ندرك أنَّها ليست عامة شاملة بحيث تعم كل ظالم ومذنب فينال كل نصيبه من العقاب بما يتناسب وجريمته، وأنَّ هناك الكثيرين الذين يهربون من مخالب عقاب محاكمات الضمير ونتائج أعمالهم، أو لاينالون من العقاب مايكفي.

فلأ مثال هؤلاء، ولكي تكون هناك محكمة عدل عامة لمحاسبة الناس حتى على مقدار رأس الابرة من العمل الحسن أو السي ء، تقام محكمة العدل يوم القيامة، وإلّا فإنَّ مبدأ العدالة لايمكن أن يتحقق.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 299

بناء على ذلك، فان القبول «بوجود اللَّه» و «عدالته» يستدعي القبول بالبعث ومحكمة يوم القيامة، ولايمكن الفصل بين هذين أبداً.

فكّر وأجب:

1- كيف قامت السموات والارض بالعدل؟

2- لماذا وهب الانسان نعمة حرية الارادة والاختيار؟

3- ماذا كان سيحدث لو أنَّ المسيئين نالوا عقابهم فوراً على جرائمهم في هذه الدنيا؟

4- لماذا لا نستغني بثواب أعمالنا، وبمحكمة الضمير وبنتائج أعمالنا، عن محكمة يوم القيامة؟

5- ما العلاقة بين «العدالة الالهية» و «المعاد»؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 301

الدّرس 6 مشاهدة الحساب فى هذا العالم

مما تقدم من الآيات القرآنية نستنتج أن عبدة الأصنام والكفار في عصر الرسول الاكرم صلى الله عليه و آله لم يكونوا هم وحدهم الذين ينكرون مسألة المعاد والحياة بعد الموت ويخشونها، بل كانت أقوام في عصور سابقة ترى هذا الرأى، و تصف القائلين به بالجنون، وتقول:

ى هَلْ نَدُلُّكُم عَلَى رَجُلٍ يَنَبِّئُكُم إذا مُزِّقْتُم كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُم لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ* افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌى. «1»

نعم، يومئذ كان الناس لجهلهم وقصر نظرهم يتهمون من يعتقد

بعالم مابعد الموت وبالحياة الأخروية بالجنون، أو بالتقول على اللَّه، قائلين إن الزعم بانبعاث الحياة في المادة الميتة جنون.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 302

والذي يلفت النظر هو إنَّ القران يواجه هذه الافكار بمجموعة من الاستدلالات المختلفة التي تنفع الفرد العادي كما تنفع العالم المتبحر، كلًا على قدر مستواه العقلي.

وعلى الرغم من إنَّ شرح هذه الاستدلالات القرآنية يتطلب كتاباً منفصلًا، فإنَّنا نبادر الى ذكر بعض نماذجها:

1- يخاطبهم القرآن في بعض آياته قائلا: إنَّكم ترون بأم أعينكم مشاهد من المعاد في حياتكم اليومية، فترون كيف تموت الكائنات وكيف تعود الى الحياة، فكيف تشكون في المعاد بعد كل هذا؟

ى واللَّهُ الّذي أرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأحْيَينَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوتِها كَذَلِكَ النُّشُورُى. «1»

اذا نظرنا في فصل الشتاء الى ملامح الطّبيعة فنرى إمارات الموت و علاماته تنتشر في كل مكان، فالاشجار عارية من أوراقها وثمارها. وتقف خشبة جرداء جافة، فلا زهرة متفتحة، و لابرعم أخضر، و لا آثار للحياة تنبعث من جنبات الصحارى وسفوح الجبال.

ثم يحل الرّبيع، ويلطف الجو، و هطول المطر المحيي من السماء، فيبعث الروح و الحركة في النباتات وأزهارها الاشجار وتبرز البراعم و الزهو، و تبدأ الطيور تبني أعشائها بين الأغصان، و تتجسد صورة البعث العارم في كل شي ء!

فلولا الحياة بعد الموت ماكنا لنشهد هذا المشهد يتكرر كل عام. ولو كانت الحياة بعد الموت مستحيلة، ويعتبر الكلام حولها جنوناً، لما كان هذا يتجسد

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 303

أمامنا ونراه بأعيننا ونتحسسه بحواسنا.

ولافرق بين إحياء الأرض بعد موتها وإحياء الانسان بعد موته.

2- وفي مواضع أخرى يأخذ القرآن بأيديهم ليتقدم بهم نحو بداية الخلق، يصف لهم الخلق الاول. وعندما يتقدم أعرابي الى رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله وبيده قطعة عظم بالية، ويصيح: يا محمد: ى مَنْ يُحيي العِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ ى وكأنه قد أتى بدليل لايمكن دحضه لتفنيد مسألة «المعاد». فيأتي أمراللَّه الى رسوله:

ى قُلْ يُحييها الّذي أنْشَأها أوّل مَرَّةٍى. «1»

3- يشير القرآن الى قدرة اللَّه العظيمة بحثّهم على النظر الى هذا الكون الفسيح بسماواته و أرضه، فيقول:

ى أوَ لَيْسَ الّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلى وَهُوَ الخَلَّاقُ العَلِيمُ* إنّما أمْرُهُ إذا أرَادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ى. «2»

كان الشاكون في هذه الامور أشخاصاً لم يتعد أفق تفكيرهم محيط بيوتهم الضيقة، و إلا لأدركوا أنَّ العودة ثانية أسهل من الخلق الأول، وأنَّ إعادة الأموات الى الحياة لاتعد شيئا عصيا على قدرة اللَّه الذي خلق السموات والأرض من قبل.

4- وأحياناً يعكس لهم انبعاث «الطاقات» قائلا:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 304

ى الّذي جَعَلَ لَكُم مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ ناراً فَإذا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ى. «1»

عندما نمحص هذا التعبير العجيب في القرآن، مستعينين بالعلوم الحديثة، يتبيّن لنا أنَّ العلم يقول: عندما نحرق اخشاب شجرة، فإنَّ الحرارة المنبعثة من نيرانها هي الطاقه الحرارية نفسها التي كانت الشمس تعكسها عليها اثناء سنوات حياتها و قد خُزنت فيها، مع إنَّنا كنا نظن أنَّ أشعة الشمس على الشجرة قد ذهبت و تلاشت، ولكننا هنا نراها قد عادت الى الحياة مرّة أُخرى في لباس جديد.

إذن، هل من الصعب على اللَّه- الذي له هذه القدرة على أن يختزن لعشرات السنوات نور الشمس وحرارتها في جذع شجرة، ثم في لحظة واحدة يخرج مخزونها- أنْ يحيي الأموات؟ «2»

وهكذا نلاحظ كيف أنَّ القرآن باستدلالاته ومنطقه الواضح يرد على الذين يشكون في المعاد ويتهمون القائلين به بالجنون، ويخرس

ألسنتهم، باثبات إمكان المعاد استنادا الى الأدلة التي أوردنا جانباً منها.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 305

فكّر وأجب:

1- لماذا كان المشركون يأخذهم العجب من فكرة المعاد؟

2- كيف نرى مشهد المعاد في مملكة النبات كل عام؟

3- يعتبر القرآن في بعض آياته دورة الحمل والولادة دليلًا على المعاد، كيف؟

4- ما هو بعث الطاقات؟

5- لماذا استدل القرآن بالشجر الأخضر؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 307

الدّرس 7 المعاد وحكمة الخلق

يتساءل الكثيرون: لماذا خلقنا اللَّه؟

وقد يتجاوزون ذلك أحياناً ليسألوا: بل ماهي حكمة خلق هذا العالم الكبير؟

إنَّ الفلاح يزرع الشجرة من أجل ثمرها، ويحرث الأرض ويبذر الحب من أجل غلتها، فمن أجل أي شي ء خلقنا بستاني الخليقة؟

أكان هناك ماينقص اللَّه تعالى حتى يستكمله بالخلق؟ إذا كان الأمر كذلك فهو إذن محتاج، ولكن الاحتياج لا ينسجم و مقام الربوبية.

للاجابة عن هذا السؤال يمكن قول الكثير، ولكن من الممكن تلخيص ذلك في بضع جمل واضحات، وهي:

الخطأ الكبير هو إنا نقارن صفات اللَّه بصفاتنا. فنحن لكوننا كائنات محدودة، نقوم باعمالنا لكي نسد حاجة من حاجاتنا، فندرس مثلا لسد نقصنا

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 308

من العلم، ونشتغل لسد حاجتنا الى المال، ونفتش عن الطب والعلاج لضمان سلامتنا.

ولكن فيما يتعلق باللَّه الذي لانهاية له من جميع الجهات، علينا أنَّ نبحث عن أهداف مايفعله خارج ذاته. فهو لايخلق لمنفعة ولالسد حاجة، بل هدفه من ذلك هو أنْ يفيض بلطفه ووجوده على عباده.

إنَّه شمس مشعة لانهاية لها، تشع بنورها، لالحاجة بها الى ذلك، بل لكي ينعم الجميع بنور وجودها.

إنَّ من مقتضيات ذاته اللامتناهية الفياضة أنْ يأخذ بيد الكائنات ويتقدم بها على طريق التكامل.

إنَّ خلقنا من العدم يعتبر بذاته خطوة تكاملية بارزة، كما أنَّ ارسال الرسل وإنزال الكتب السماوية والشرائع والقوانين، ما هي إلّاقواعد

لهذا التكامل.

هذه الدّنيا أشبه بجامعة كبيرة، ونحن طلبتها!

إنَّها أشبه بمزرعة أعدت لنا ونحن زارعوها!

إنَّها متجر أولياء اللَّه!

فكيف يمكن أن نقول أن ليس لهذا الخلق هدف، مع أنَّنا إذا نظرنا حولنا وتفحصنا جميع اجزاء الموجودات جزءاً جزءاً لوجدنا أنَّ لكل منها هدفا.

ففي أجهزة أجسامنا لن تجد جهازاً بغير هدف، وحتى الاهداب وتقعر باطن القدم لها اهدافها.

فكيف يمكن أنْ يكون لاجزاء أجسامنا أهداف، ولايكون لمجموع تلك الأجزاء أي هدف؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 309

وإذا تجاوزنا كياننا وخرجنا الى العالم الخارجي الكبير، وجدنا أنَّ لكل جهاز فيه هدفاً، فلسطوع الشمس هدف، ولهطول المطر هدف، ولتركيب الهواء هدف، فهل يمكن أنَّ لايكون للمجموع أي هدف؟

الحقيقة هي إنَّ في قلب هذا العالم الفسيح لوحة كبيرة تعرض الهدف النهائي الذي لانستطيع رؤيته احياناً ولإوّل وهلة لعظمته. لقد كتب عليها «التربية والتكامل».

والآن، بعد أنْ تعرفنا على هدف الخلق على وجه العموم، يدور الكلام حول ما إذا كانت هذه الحياة المعدودة أيامها، وبكل مافيها من مشكلات وحرمان ومصائب، هي هدف الخلق؟

افرض أني عشت في هذه الدّنيا ستين سنة، وأنِّي أعمل كل يوم من الصباح حتى المساء للحصول على القوت، وأعود الى البيت متعباً منهكاً، و تكون النتيجة أنِّني أستهلك بضعة أطنان من الطعام والماء، وأتحمل العناء والتعب لُاشيّد داراً، ثم بعد ذلك أترك كل شي ء وأخرج من هذا العالم، فهل ترى هذا الهدف يستحق أنْ يستدعيني الى هذا العالم الملي ء بالآلام والشقاء؟

لو أنَّ مهندساً شيد عمارة عظيمة وسط الصحراء، وقضى سنوات طوالًا في تكميلها وتنظيمها وتجهيزها بكل وسائل الراحة، فاذا سئل: ما الغاية من بنائك هذه العمارة؟ قال: كل هدفي هو أنْ يمر بها عابر سبيل ولو مرة ويستريح فيها ساعة أوبعض ساعة!

دروس

في العقائد الاسلامية، ص: 310

أفلا يستولي علينا العجب جميعاً، ونعترض قائلين: إنَّ استراحة ساعة لعابر سبيل لاتستوجب كل هذا العناء والتعب!

لذلك، فإنَّ الذين لايؤمنون بالبعث وبالحياة بعد الموت، لايرون لهذه الدنيا أي هدف وأنَّها فارغة وعبث. وهذا القول كثيراً ما يصادفنا في كتابات الماديين ويكررونه الى الحد الذي يقودهم الى الانتحار، نتيجة لاصابتهم بالتعب والملل من حياة لاهدف لها.

إنَّ مايعطي لهذه الدنيا هدفاً ويجعلها معقولة ومنطقية هو اعتبارها مرحلة متقدمة لعالم آخر، وأنَّ ما فيها من مشكلات ووضع كل هذه المقدمات إنَّما الهدف منه أن يستفيد منه الانسان في مسيرة حياة خالدة.

كنا قد ضربنا بهذه المناسبة مثلًا الجنين في رحم أُمَّه، فلو كان له شي ء من العقل والادراك، ويقال له: إنَّ الحياة التي تقضيها هناك ليس بعدها شي ء، لاعترض قائلًا: ما معنى أنْ أكون سجيناً في هذا المكان وفي هذا المحيط الضيق، أطعم الدم، مطوي الاطراف، مرمياً في هذه الزاوية المظلمة، ثم لايكون بعد هذا شي ء. ما الذي استهدفه الخالق بهذا الخلق؟

أمّا إذا أكّدوا له بأنَّ هذه الأشهر القليلة ليست سوى مرحلة عابرة يجري فيها إعدادك للخروج الى عالم جديد وحياة أطول وفي دنيا هي أوسع بكثير من دنياك الضيقة هذه، مضيئة ورائعة، وفيها نعم كثيرة، عندئد يقتنع الجنين بأنَّ الدورة التي يقضيها في رحم أُمّه ليست خالية من هدف، وهو هدف جليل يستحق تحمل عناء هذه الفترة العابرة.

يقول القرآن المجيد:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 311

ى وَلَقَدْ عَلِمْتُم النَّشأةَ الأُولى فَلَولا تَذَكَّرُونَ ى. «1»

خلاصة القول: إنَّ هذا العالم يصرخ بكل كيانه أن هناك عالماً بعده، وإلّا لكانت هذه الدنيا لغواً وعبثاً لاطائل وراءه.

استمع الى ما يقوله القرآن في ذلك:

ى أفَحَسِبْتُمْ أنّما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأنَّكُم إلَيْنَا لا

تُرْجَعُونَ ى «2»

أي لو لا المعاد- الذي يعبر عنه القرآن بالرجوع الى اللَّه لكان خلق الانسان عبثاً.

وعليه، فإنَّ حكمة الخلق تقول: لابدّ من وجود عالم آخر بعد هذا العالم.

فكّر وأجب:

1- لماذا لايمكن مقارنة صفات اللَّه بصفات مخلوقاته؟

2- ما الهدف من خلقنا؟

3- أيمكن أنْ تكون هذه الحياة الدنيا هي الهدف من خلق الانسان؟

4- ما الذي نتعلمه من المقارنة بين الجنين والحياة الدنيا؟

5- كيف يستدل القرآن بخلق هذا العالم على وجود عالم آخر؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 313

الدّرس 8 بقاء الرّوح دليل على البعث

اشارة

لايعرف أحد منذ متى بدأ الانسان يفكر في وجود «الروح»، وكل مايمكن قوله هو أنَّ الانسان أدرك منذ البداية أن هناك اختلافاً بينه وبين كائنات هذا العالم الاخرى الاختلاف بينه وبين الصخرة، والخشبة، والجبل، والصحراء و الحيوانات.

كان الانسان قد جرب حالة النوم، وكذلك حالة الموت. كان يرى أنَّ الانسان بدون أن يتغير شي ء في جسمه وهيئته، يطرأ عليه تبدل كبير في حالته أثناء النوم وعند الموت. من هنا أدرك الانسان أنَّ فيه «جوهراً» هو غير هذا الجسم الذى يراه.

وكان يرى أنَّه يختلف عن سائر الحيوانات، لأنَّه كان يستطيع أنْ يقرر أمراً وينفذه بكل حرية وحسبما يتراءى له، بينما الحيوانات كانت محكومة لغرائزها التي تسيطر على حركاتها وتجبرها عليها.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 314

وعلى الاخص كان يرى مشاهد في عالم الرؤيا، في الوقت الذي كانت فيه أجهزة الجسم خامدة وجسده ملقى في احدى الزوايا. فادرك من هذا أنَّ هناك قوة غامضة تهيمن على كيانه، فاطلق عليها اسم «الرّوح».

وعندما وضع العلماء أسس الفلسفة، وضعوا «الرّوح» كقضية فلسفية كبرى ضمن القضايا الاخرى. ومن ثم راح الفلاسفة يبدون آراءهم عن ماهية «الرّوح»، حتى بلغ تعداد تلك الآراء نحو الف رأي ونظرية، حسب قول

بعض الفلاسفة الاسلاميين، وتدور كلها حول «الرّوح» وما يتعلق بها. إنَّ الكلام في هذا يطول، غير إنَّ الأهم الذي ينبغي معرفته يتعلق بالجواب عن هذا السؤال:

هل الرّوح مادة أم لا؟ وبعبارة اخرى هل هي مستقلة أم إنَّها من الخصائص الكيمياوية و الغيزياوتية للدماغ و الاعصاب؟

ثمة فريق من الفلاسفة الماديين يصرون على أنَّ الروح و الظواهر الروحية مادية وأنَّها من خصائص خلايا الدماغ، وعندما يموت الانسان، تموت الروح معه، في تلك اللحظة التي نحطمها بضربة مطرقة فتتناثر اجزاؤها، ويتوقف عملها على أثر ذلك.

وفي الطرف المقابل لهؤلاء يقف الفلاسفة الالهيون، ومعهم بعض الفلاسفة الماديين الذين يقولون بأصالة الروح. و يعتقد هؤلاء إنَّ الروح لاتموت بموت الانسان، بل تستمر في الحياة.

ولاثبات هذه المقولة، أي أصالة الروح واستقلالها وبقائها يذكرون أدلة معقدة كثيرة، لايسعنا هنا إلّاأنَّ نورد أهمهما وأوضحها بعبارات بسيطة لكي يعيها شبابنا العزيز:

1- لايمكن حشر عالم كبير في محيط ضيق

افرض إنَّك على ساحل البحر وخلفك جبال شاهقة تناطح السحاب، و الامواج العاتية ترتطم بالصخور بقوة وتعود عنها الى البحر صاخبة. والصخور الضخمة عند سفح الجبل تنبى ء عن الجلال في أعلى الجبل والسماء الزرقاء من فوق قمم الجبال تضج ليلًا عظمة وجلالًا.

تتطلع لحظة الى هذا المشهد، ثم تغمض عينيك وتسترجع في ذهنك المشهد كما رأيته حجماً وعظمة.

لاشك أنَّ هذه الخريطة الذهنية بكل حجمها وعظمتها تحتاج الى مكان ولايمكن أنْ ترتسم على خلايا الدماغ الصغيرة، وإلّا فإنَّ هذه الخريطة الكبيرة يجب أنْ ترتسم على نقطة صغيرة، في الوقت الذي نرى المنظر في خيالنا بحجمه الطبيعي.

يدل هذا على أنَّ هناك «جوهراً» غير الدماغ وخلاياه هو الذي يستطيع أنْ يحتفظ بكل مشهد وخريطة مهما كبر حجمها. ولاشك أنَّ هذا الجوهر لابدّ أنْ يكون ماوراء عالم المادة،

إذ ليس في عالم المادة شي ء يشبهه.

2- خصائص الرّوح

إنَّنا نعرف الكثير من الخصائص الفيزياوية والكيمياوية في أجسامنا، فحركات المعدة والقلب فيزياوية، والترشحات والافرازات وعصارات المعدة كيمياوية. وأمثال هذه كثيرة في جسم الانسان.

فاذا كانت الروح والفكر مادية وناشئة من خواص خلايا الدماغ دروس في العقائد الاسلامية، ص: 316

الفيزياوية والكيمياوية، فلماذا نرى خواصها تختلف عن خواص الجسم.

إنَّ الفكر والرّوح يربطاننا بالخارج و يخبراننا بما يحدث حولنا. أمَّا الخصائص الكيمياوية كالافرازت و العصارات، و الفيزياوية كحركات العين والقلب واللسان، لاتملك مثل تلك الخصائص مطلقاً.

وبعبارة أُخرى إنَّنا نشعر جيداً بأنَّنا مرتبطون بعالمنا الخارجي، ونعرف الكثير عنه. فهل دخل العالم الخارجي الى داخلنا؟ طبعا، لا. إذن، ماالحكاية؟

لاشك إنَّنا نرى خارطة العالم، وإن خصيصة الرّوح في الظّهور الخارجي هي التي تجعلنا ندرك العالم خارج وجودنا. إنَّك لاتجد هذه الخصيصة في أي من الظواهر الفيزياوية ولافي التفاعلات الكيمياوية في أجسامنا، فتأمل!

و هذا يعني بعبارة اخرى أنَّ التعرف على الكائنات الخارجية العينية يتطلب نوعاً من الاحاطة العامة، وهذه ليست من وظائف خلايا الدماغ،، فهذه إنَّما تتأثر بالعوامل الخارجية. مثل سائر خلايا الجسم الاخرى.

هذا الاختلاف يدل على أنَّ هناك فعالية أخرى في الجسم غير التغيرات الفيزياوية والكيمياوية، فعالية تجعلنا نحيط بخارج وجودنا. وماهذه سوى الروح، تلك الحقيقة التي تتجاوز عالم المادة وخصائصها.

3- الأدلة التجريبية على أصالة الروح واستقلالها

لحسن الحظ استطاع العلماء اليوم أنْ يثبتوا بطرق علمية وتجريبية مختلفة أصالة الروح واستقلالها، وبذلك ردّوا رداً حاسماً على الذين أنكروا استقلالية الروح وقالوا إنَّها من خصائص المادة:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 317

1- من تلك الدلائل التنويم المغناطيسي الذي أجريت عليه تجارب كثيرة جداً، رآها بعضهم بأنفسهم وتأكدت لديهم. والذين لم يروا ذلك نورد لهم شرحاً بسيطا لتلك التجارب:

هناك أشخاص يستطيعون بطرق علمية خاصة أنْ ينوّموا أشخاصاً آخرين

يطلق عليهم اسم (الوسطاء). فيقوم المنوم بتنويم الوسيط بالايحاء اليه عن طريق التركيز الفكري ونظرات العين وغير ذلك، فيروح الوسيط في نوم عميق، ولكنه لايشبه النوم العادي، بل هو نوم يظل خلاله الارتباط بين المنوم والوسيط قائماً، فيحدثه ويتلقى منه الجواب.

وبعد أنْ يصل الوسيط الى حالة النوم هذه، يرسل المنوم روح الوسيط الى نقاط مختلفة، وقد تعود باخبار جديدة، أو تخبر عن أمور لم يكن الشخص النائم يعرف عنها شيئاً من قبل.

فهو مثلًا قد يتكلم بلغة لم يكن يعرفها من قبل،

وقد يستطيع أنْ يحل مسائل رياضية معقدة،

أو قد يكتب أُموراً على صحائف موضوعة داخل صندوق مغلق بغير أنْ يفتحوه.

بل قد تظهر الروح نفسها أحياناً بهيئة أشباح أو ضلال واضحة في بعض جلسات التنويم المغناطيسي، وأمثال ذلك من الأُمور التي شرحناها في كتاب «عود الارواح».

2- إحضار الأرواح. أو الاتصال بأرواح الأموات وإحضارها الى جلسات إحضار الأرواح، مما يدل على أصالة الروح واستقلالها.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 318

هنالك اليوم جمعيات روحية كثيرة منتشرة في مختلف أنحاء العالم، ويصدر عنها- كما يقول العالم المصري المعروف فريد وجدي- أكثر من 300 مجلة وصحيفة، وتعقد جلسات لاحضار الأرواح يشترك فيها شخصيات معروفة حيث تستحضر الأرواح، فتقوم بأعمال خارقة للعادة.

وعلى الرّغم من أنَّ هناك عدداً من المشعوذين الذين يسيئون استعمال هذه الأُمور بغير معرفة، فيخدعون الناس ويبتزون أموالهم، فإنَّ حقيقة وجود هذه الحالة التّي يعترف بها العلماء المختصون لايمكن انكارها. «1»

هذه كلّها أدلة على أصالة الرّوح واستقلالها وبقائها بعد الموت، وهي خطوة موثرة نحو المعاد والحياة بعد الموت.

3- ثمّة أحلام ومشاهد نراها في عالم النوم تقع خلالها أحياناً حوادث مستقبلية، وقد نكشف احياناً عن أمور خفيّة الى درجة لايمكننا معها أنْ

نعتبرها من باب الاتفاق والمصادفات، وهذا أيضاً دليل على أصالة الرّوح واستقلالها.

ومعظم الناس مرّت بهم في حياتهم مثل هذه الاحلام الصادقة، أو أنَّهم في الاقل قد سمعوا بأنَّ الحلم الذي رآه احد أصحابهم قد تحقق بحذافيره بعد مدّة من الزمن، الأمر الذي يدل على أنَّ الرّوح تستطيع خلال نوم الانسان أنَّ تتصل بعوالم اخرى وقد ترى بعض الحوادث التي ستقع في المستقبل.

جميع هذه الامور تشير بوضوح الى أنَّ الرّوح ليست مادة، وليست نتيجة افرازات دماغ الانسان الفيزياوية والكيمياوية، بل هي حقيقة من حقائق ما

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 319

وراء الطبيعة، وإنَّها لاتموت بموت الجسد. وهذا مايمهد الطريق للقبول بمسالة المعاد وعالم مابعد الموت.

فكّر وأجب:

1- ما الاختلاف بين الفلاسفة الإلهيين وبعض الماديين في قضية الروح؟

2- ما المقصود بعدم انطباق الكبير على الصغير باعتباره دليلًا على أصالة الروح؟

3- ماذا تعرف عن التنويم المغناطيسي؟

4- ماذا نقصد باستحضار الأرواح؟

5- كيف تكون الأحلام الصادقة دليلا على أصالة الروح واستقلالها؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 321

الدّرس 9 المعاد الجسماني والرّوحاني

اشارة

من المسائل المهمّة الاخرى التي تبرز في موضوع المعاد هو السؤال عما إذا كان المعاد «روحانياً» فقط، أم إنَّه يكون بعودة الروح والجسم معاً في العالم الآخر، وإنَّ الانسان، بروحه وجسمه- على مستوى أفضل وأرفع- سوف يواصل حياته في العالم الآخر.

كان فريق من الفلاسفة القدامى يعتقد بأن المعاد يكون بالرّوح فقط، لأنَّهم كانوا يعتقدون بأن الجسم تركيب خاص يختص بالعالم الدنيوي فحسب، وبأن الانسان يستغني عنه في العالم الآخر، وأنَّه يهرع الى العالم الآخر بدون جسمه.

إلّا أنَّ كبار العلماء والفلاسفة الاسلاميين يعتقدون أنَّ عودة الانسان الى العالم الآخر يكون بروحه وبجسمه معاً، صحيح إنَّ هذا الجسم يتحول الى تراب بعد الموت، وإنَّ ترابه يتشتت في أرجاء

الارض ويضيع، ولكن اللَّه القادر العالم يجمع كل ذرات الجسد يوم القيامة ويضفي عليها لباس الحياة مرّة اخرى

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 322

وهذا هو «المعاد الجسمانى» لأنَّهم يرون أن عودة الرّوح أمر لاشك فيه، ولما كان الجدل يدور حول عودة الجسم نفسه، فقد عبروا عن ذلك ب «المعاد الجسماني».

على كل حال، إنَّ الآيات القرآنية النازلة بهذا الخصوص، وهي كثيرة ومتنوعة، تشير كلّها الى «المعاد الجسماني».

القرآن والمعاد الجسماني

سبق أن تحدثنا عن الاعرابي الذي جاء الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقطعة عظم بالية قائلا:

ى منْ يُحيي العِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ ى؟

فيجيبه الرسول صلى الله عليه و آله بأمر من اللَّه:

ى قُلْ يُحْييها الّذي أنْشَأهَا أوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* الّذي جَعَلَ لَكُم مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ ناراً فَاذا أنْتُم مِنْهُ تُوقِدُونَ ى «كما جاء في آخر سورة يس».

وفي موضع آخر حيث يقول القرآن:

ى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإذا هُم مِنَ الأجْداثِ الى رَبِّهِم يَنْسِلُونَ ى «1»

وكذلك يقول تعالى

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 323

ى خُشَّعاً أبْصَارُهُم يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأنَّهُم جَرَادٌ مُنْتَشِرٌى. «1»

ونحن نعلم إنَّ الأجداث، وهي القبور، تكون موضع الأجساد التي اصبحت تراباً، وليست موضع الأرواح.

لقد كان أكثر إنكار منكري المعاد يستند الى عدم قدرتهم على تصور امكان جمع التراب المتناثر في أرجاء الارض واعادة الحياة اليه:

ى وَقَالُوا ءَإذا ضَلَلْنا فِي الارْضِ ءإنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍى. «2»

فيرد عليهم اللَّه قائلا:

ى أوَلَمْ يَرَوا كَيْفَ يُبْدِى ءُ اللَّهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيْرٌى. «3»

كان عرب الجاهلية يقولون:

ى أيَعِدُكُم أنَّكُم إذَا مُتُّم وَكُنْتُم تُراباً وَعِظَاماً أنَّكُم مُخْرَجُونَ ى. «4»

كل هذه الآيات القرآنية وغيرها تدل دلالة واضحة على أنَّ رسول الاسلام صلى الله عليه و آله قد تحدث عن «المعاد الجسماني»

لأنَّ تعجب المشركين الجاهلين كان منصّباً على هذا الجانب من الموضوع، ولذلك بادر القرآن بايراد نماذج من صور المعاد الجسماني في عالم النبات وغيره ممّا يراه الانسان بعينه، كأمثله على الخلق الأول وعلى قدرة اللَّه.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 324

وبناء على ذلك فالانسان إذا كان مسلماً وقارئاً للقرآن، لايمكن أنْ ينكر المعاد الجسماني، لأنَّ إنكاره، في نظر القرآن، إنكار للمعاد نفسه.

الدّلائل العقلية

إذا تجاوزنا عن ذلك، فان العقل يقول إنَّ الروح والجسد ليسا حقيقتين منفصلتين، فهما مترابطان بالرغم استقلال أحدهما عن الآخر، فهما يتربيان معاً، ويبلغان التكامل معاً، ولاشك أنَّ أحدهما لايستغني عن الآخر لادامة الحياة الخالدة.

واذا ما انفصلا بعض الوقت في البرزخ (الزمن الفاصل بين الدنيا والآخرة) فان ذلك لايمكن أنْ يكون دائمياً، فكما أنَّ الجسد بغير الروح ناقص، كذلك الروح بغير الجسد ناقصة. إنَّ الروح هي الآمرة والمحركة، والجسم هو المطيع وهو آلة التنفيذ، فما من آمر يستغني عن المأمور، وما من عامل يستغني عن آلة العمل.

ولكن بما أنَّ الرّوح تكون يوم القيامة في مرتبة أسمى وأرفع، فلابدّ للجسد أيضاً أنْ يكون قد تكامل بالنسبة نفسها، وهكذا سيكون كاملًا، أي إنَّ الجسد يوم القيامة سيكون خالياً من كل العيوب والنواقص التي كانت فيه في هذه الدنيا.

على كل حال، فإنَّ الرّوح والجسد قد ولدا معاً ويكمل أحدهما الآخر، وإنَّ المعاد لايمكن أنْ يكون جسمانياً فقط ولاروحانياً فقط.

وبعبارة اخرى إنَّ دراسة كيفية ظهور الجسد والروح وعلاقة كل منهما بالاخر تدلّ على أنَّ المعاد يكون لهما معاً.

ثم إنَّ قانون العدالة يقول من جهة اخرى إنَّ المعاد يجب أنْ يكون لكليهما،

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 325

لأنَّ الانسان الذي ارتكب معصية في الدنيا قد ارتكبها بالجسد والروح

معاً، وإذا كان قد اتى بحسنة فقد أتى بواسطتهما معا. وبناء على ذلك فالعقاب والثواب يجب كذلك أنْ يقعا على الجسد والروح معاً، إذ لو كان المعاد للجسد بمفرده، أو للروح بمفردها، لما تحققت العدالة.

أسئلة حول المعاد الجسماني

وضع العلماء بعض الاسئلة بشأن المعاد الجسماني نورد بعضها إستكمالًا للبحث:

1- تؤكد تجارب علماء العلوم الطّبيعية أن جسم الانسان يتبدل خلال عمره عدّة مرّات، فهو أشبه بحوض للسباحة حيث يصب فيه الماء من جهة ويتسرب منه تدريجياً من جهة اخرى وبديهي أنَّ ماء الحوض يكون قد تبدل بعد مدّة من الزّمن.

وهذا نفسه يحدث بالنسبة لجسم الانسان ويتمّ مرّة في نحو سبع سنوات.

وبناء على ذلك فإنَّ أجسامنا تتبدل عدّة مرّات خلال أعمارنا.

هنا يتبادر الي الذهن هذا السؤال و هو: أي هذه الأجساد هو الذي يعود يوم القيامة؟

في الاجابة على هذا السؤال نقول: آخرها، فكما قرأنا في الآيات السابقة التي وردت في بحوثنا السابقة إنَّ اللَّه يحيي الانسان من عظامه وتراب جسده الذي دفن تحت التراب. و يستفاد من هذا أنَّ جسده الذي مات به هو الذي يحييه اللَّه يوم القيامة. كما إنَّ تعبير:

ى وأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِى. «1»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 326

يعني إنَّه يبعث الجسدالذي مات ودفن في القبر.

ولكن هذا الجسد الاخير يحمل جميع الآثار والخصائص التي كانت للانسان في أجساده الاخرى طوال حياته. وبتعبير آخر، إنَّ الاجساد السابقة التي تتلف تدريجياً تنقل الى الجسد التالي جميع آثارها وخصائصها، وعليه فإنَّ الجسد الأخير يكون قد ورث جميع صفات الأجساد السابقة، وبذلك يكون خليقاً بتطبيق قانون العدالة في الثواب والعقاب عليه.

2- يقول بعضهم: إنَّنا إذا ما أصبحنا تراباً وتحولت ذرات أجسادنا الى تراب، وأصبحت هذه غذاء لانواع النباتات

والاشجار ودخلت في الاثمار وأكلها أناس آخرون، ومن ثم أصبحت اجزاء من أجسادهم، فكيف تعود هذه الى الحياة يوم القيامة؟ وهذا هو ما يعبر عنه الفلاسفة و علماء الكلام ب «شبهة الآكل والمأكول».

و على الرغم من أنَّ الاجابة عن هذا السؤال تتطلب الكثير من البحوث، فإنَّنا سنحاول أنْ نبسط ذلك بالقدر اللازم، فنقول:

«ليس هناك شك في أنَّ ذرات جسد أحد الاشخاص التي غدت جزءاً من جسد شخص آخر تعود الى جسد صاحبها الاول، وهذا واضح من الآيات المذكورة سابقاً»

ولكن المشكلة التي تبرز هنا هي أنَّ جسد الشخص الثاني يصبح ناقصاً.

ولكن الحقيقة هي إنَّه لايصبح ناقصاً، بل يصبح أصغر، لأنَّ تلك الذرات كانت قد انتشرت في جميع اجزاء الجسد، فعندما استرجعت منه صغر ونحف بنسبة ماأخذ منه.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 327

وعليه فلا الجسد الاول يزول ولا الجسد الآخر، وكل ما في الامر هو أنَّ الجسد الثاني يصبح صغيراً، وليس في هذا مشكلة، لاننا نعلم أنَّ الأجساد يوم القيامة تتكامل ويزول عنها كل نقص، بمثلما يكبر الطفل وينمو، أوكما ينمو لحم جديد بمكان الجرح، بغير أنْ تتبدل شخصية الطفل أو الجريح. فالأجساد الصغيرة والناقصة تحشر الى عالم الكمال يوم القيامة كاملة غير منقوصة.

وهكذا لاتبقى مشكلة بهذا الشان. فتأمل!

(للمزيد من التوضيح يمكنكم الرجوع الى كتاب (معاد و جهان پس از مرگ).

فكّر وأجب:

1- هل حياة الانسان يوم القيامة تشبه حياته في هذه الدنيا؟

2- هل نستطيع أنْ ندرك في هذه الدنيا كيف يكون الثواب والعقاب يوم القيامة؟

3- هل للنّعم في الجنّة وللتعذيب في الجحيم جوانبها الجسمية فقط؟

4- ما المقصود من تجسد الأعمال؟ وكيف يستدل القرآن عليها؟

5- ما المشكلات التي يحلها الاعتقاد بتجسد الأعمال في بحث المعاد؟

دروس في العقائد الاسلامية،

ص: 329

الدّرس 10 الجنّة والنّار وتجسد الأعمال

اشارة

كثيراً مايتساءل النّاس: هل عالم بعد الموت يشبه هذا العالم، أم أنَّهما مختلفان؟ ماذا عن الثواب والعقاب والقوانين السائدة فيه هل هي مثل مافي هذه الدنيا؟

نقول في الجواب: إن هناك شواهد كثيرة تدل على أنَّ العالم الآخر يختلف كثيراً عن هذا العالم، بحيث إنَّ مانعرفه عن العالم الآخر يجعله يبدو لنا كالشّبح الذي نراه من بعيد.

و يحسن بنا أنْ نعود الى مثال «الجنين» الذي ضربناه من قبل، فبالقدر الذي يوجد من بعد بين «عالم الجنين» وهذا العالم يكون البعد بين عالمنا هذا والعالم الآخر، أو أكثر.

ولو كان للجنين في الرحم عقل، وأراد أنْ يكون له تصور صحيح عن العالم الخارجي بالنسبة له، عن السماء والارض والشمس والقمر والنجوم والجبال دروس في العقائد الاسلامية، ص: 330

والغابات والبحار، لاستحال عليه ذلك. فالجنين الذي لايتعدى عالمه رحم امه المحدود، فان الشمس والقمر والبحر والامواج والرياح والنسائم والزهور ومختلف مظاهر الجمال في عالمه الخارجي لاتعني و لا تمثل أي مفهوم محدد بالنسبة له. إن قاموسه اللغوي لايتعدى بضع كلمات، ولو أنَّ أحداً شاء أنْ يكلمه من خارج رحم امّه (بالفرض) لما فهم منه كلاماً.

فاختلاف عالمنا المحدود هذا مع العالم الواسع الآخر يكون بهذه النسبة أو أكثر. وعليه، فليس بامكاننا أن نحمل أي تصور عمّا هناك من نعم ونقم وجنة ونار وغير ذلك.

وقد جاء في حديث شريف عن الجنّة:

«فِيها مالاعين رأت، ولاأذن سمعت، ولاخطر على قلب بشر».

وقد جاء هذا المعنى نفسه في القرآن الكريم، إذ يقول:

ى فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِمْا كَانُو يَعْمَلُونَ ى. «1»

كما إنَّ النظم السائدة هناك مختلفة عما في هذا العالم أيضاً فمثلًا، الشهود على أعمال الانسان وأفعاله هم اعضاؤه،

يده ورجله وجلده وحتى الارض التي ارتكب العمل عليها. يقول القرآن:

ى اليَومَ نَخْتِمُ عَلَى أفْوَاهِهِم وَتُكَلِّمُنَا أيْدِيْهِم وَتَشْهَدُ

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 331

أرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ى. «1»

وقال تعالى

ى قَالُوا لِجُلُودِهِم لِمَ شَهِدْتُم عَلَيْنا قَالُوا أنْطَقَنَا اللَّهُ الّذي أنْطَقَ كُلَّ شَي ءٍى. «2»

كان تصور هذه المسائل غير متيسر في الماضي، ولكن بعد تقدم العلوم وامكان تسجيل المشاهد والاصوات لم يعد هناك مايدعو الى العجب.

على كال حال، على الرغم من أنَّنا مانزال غير قادرين على أنْ نرى من شؤون العالم الآخر سوى مايشبه الشبح البعيد، ولكن الذي ندريه هو أنَّ العقاب والثواب في العالم الآخر يشملان الجوانب الرّوحانية والجسمانية، وذلك لأنَّ المعاد يشمل كلا الجسم و الرّوح يقول القرآن:

ى وَبَشِّرِ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أنَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهَارُ .... وَلَهُم فِيها أزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُم فِيها خالِدُونَ ى. «3»

وفيما يتعلق بالمثوبات المعنوية يقول القرآن:

ى وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُى. «4»

نعم، إنَّ إدراك أهل الجنّة أنَّ اللَّه تعالى راض عنهم وأنَّ خالقهم قد تقبلهم دروس في العقائد الاسلامية، ص: 332

يخلق فيهم احساساً بالفرح والبهجة واللذة لايمكن أنَّ يقارن به شي ء. كما أنَّ أهل النار يحسّون- بالاضافة الى العذاب الجسماني- بغضب اللَّه ورفضه لهم، وهو أشد من كل عذاب.

تجسد الأعمال

يستفاد من كثير من الآيات القرآنية أنَّ أعمالنا يوم القيامة تتجسد حيّة في صور مختلفة وتصاحبنا، وأنَّ واحداً من أنواع العقاب والثواب المهمة هو هذا التجسد نفسه. فالظلم يتجسد بصورة سحابة سوداء تحيط بالظالم، كما جاء في حديث شريف:

«الظّلم هو الظّلمات يوم القيامة».

وجاء في القرآن الحكيم:

ى إنَّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِم ناراً وَسَيَصْلَونَ سَعِيْراًى. «1»

و ى يَومَ تَرَى المُؤمِنينَ وَالمُؤمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَينَ أيْدِيِهِم ... ى.

«2»

و ى الّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لايَقُومُونَ إلّاكَمَا يَقُومُ الّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ... ى. «3»

و ى وَلايَحْسَبَنَّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُم سَيُطَّوقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَومَ القِيَامَةِ ... ى. «4»

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 333

وهكذا سائر الأعمال الأخرى تتجسد بما يناسبها.

إنَّنا نعلم اليوم أنَّ العلم يقول:

المادة لاتفني، وإنَّما هي تتغير من مادة الى طاقة. فالافعال والاعمال التي لاتخرج عن هاتين الحالتين، تبقى خالدة أبداً.

إنَّ في القرآن الكريم آية صغيرة عن يوم القيامة تهزُّ الانسان هزاً:

ى وَوَجَدوا ما عَمِلُوا حاضِراًى. «1»

والحقيقة أنَّ كل ما يصيبهم إنّما هو بسبب أعمالهم، ولذلك يضيف الى قوله:

ى ... وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَداًى. «2»

وفي موضع آخر من القرآن نقرأ عن يوم القيامة:

ى يَومَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أشْتَاتاً لِيُرَوا أعْمَالَهُم فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ى. «3»

لاحظ أنَّ الكلام يدور حول «رؤية» الاعمال.

إذا قلنا إنَّ أعمالنا في هذه الدنيا، صغيرها وكبيرها وحسنها وسيئها ستبقى مخفوظة ولا تفني، وستكون معنا يوم القيامة، فإنَّ ذلك لابدّ أنْ يكون انذاراً لنا جميعاً لكي نتجنب الأعمال السيئة، ونعمل الصالحات أكثر.

من العجيب إنَّ هناك اليوم أجهزة قد اخترعوها تستطيع أنْ تجسد لنا جانباً من هذا الموضوع في هذه الدنيا. يقول أحد العلماء المعاصرين:

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 334

«لقد أمكن استعادة الامواج الصوتية التي صدرت قبل ألفي سنة من العمال المصريين الذين كانوا يشتغلون بعمل الفخار، بحيث يمكن سماعها، ففي الاجهزة اليدوية الخاصة بذلك. وفي اثناء صنعها انتقلت الامواج الصوتية من أيدى العمال الى تلك الأواني. واليوم استطاع العلماء أن يعيدوا الحياة الى تلك الأمواج بحيث إنَّنا نسمعها بآذاننا».

على أي حال إنَّ كثيراً من

الاسئلة تدور حول مسألة المعاد والخلود وعقاب المسيئين وثواب المحسنين الواردة في القرآن المجيد، يمكن أنْ يجاب عليها بأخذ عملية «تجسيد الاعمال» بنظر الاعتبار، وذلك باعتبار أنْ كل عمل حسن أوسي ء يترك أثره في أرواحنا، وأنَّ ذلك الأثر باق معنا لايفارقنا.

فكّر وأجب:

1- هل تشبه حياة الانسان يوم القيامة حياته في هذه الدنيا من جميع النواحي؟

2- هل نستطيع أن نفهم تماما في هذه الدنيا ما في يوم القيامة من ثواب وعقاب؟

3- هل النعم في الجنّة والعذاب في النّار جسمانية فقط؟

4- ما المقصود بتجسد الاعمال؟ وما الادلة القرآنية على ذلك؟

5- كيف يجيب الاعتقاد بتجسد الاعمال عن الاسئلة التي تسال حول موضوع المعاد؟

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 335

مؤلّفات وآثار

سماحة آية اللَّه العظمى الشّيخ ناصر مكارم الشّيرازي (دام ظلّه)

طبع لحضرته حتى الآن أكثر من مائة كتاب أعيد طبع بعضها حوالي ثلاثين مرة وترجم بعضها إلى أكثر من عشر لغات حيّة ونشرت في بلدان العالم المختلفة.

(1 إلى 27) التفسير الأمثل (ترجم إلى العربية ولغة الاردو وأخيراً إلى اللغة الانجليزية) مع تنظيم فهرس موضوعي للتفسير الأمثل.

(28- 37) التفسير الموضوعي نفحات القرآن (نشر منه عشر مجلدات ولازال مستمراً).

38- المتفلسفون.

39- أنوار الفقاهة (كتاب الخمس والأنفال).

40- أنوار الفقاهة (كتاب البيع- ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية).

41- أنوار الفقاهة (كتاب النكاح)

42- أنوار الفقاهة (كتاب الحدود و التعزيرات)

43- أنوار الفقاهة (كتاب التجارة- المكاسب الحرمة).

44- رسالة توضيح المسائل المختصرة (محتوية على ألف مسألة فقهية مترجمة للعربية والتركية والآذرية والانجليزية).

45- خمسون درساً للشباب في: أصول العقائد.

46- تعليقات على العروة الوثقى (في مجلد واحد باللغة العربية).

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 336

47- الخطوط الأساسية للاقتصاد الإسلامي.

48- عقائدنا (شرح مكثّف لعقائد الشيعة الإمامية).

49- الأسلوب التطبيقي في المعرفة.

50- المعراج، وشقّ القمر، العبادة في القطبين.

51-

صورة الإسلام في تحليل موجز

52- قادة كبار ومسؤوليات أكبر.

53- القرآن وآخر الأنبياء.

54- المعاد وعالم ما بعد الموت.

55- عقيدة المسلم.

56- حكومة المهدي (عج) العالمية.

57- القيم المنسية.

58- نهاية عمر الماركسية.

59- آخر فرضيات التكامل.

60- عقيدتنا (ترجمة: أصل الشيعة).

61- مظهر الحق.

62- الألعاب الخطرة.

63- الصلاة: مدرسة التربية العليا.

64- كيف نعرف اللَّه.

65- سر الوجود.

66- فلسفة الصوم.

67- فلسفة الشهادة.

68- أسباب تخلّف الشرق.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 337

69- خالق العالم.

70- البحث عن اللَّه.

71- المشاكل الجنسية.

72- ما تجب معرفته عن الإسلام.

73- بحث عن المادية والشيوعية.

74- القرآن والحديث.

75- التقليد أو التحقيق.

76- الخمس: دعامة استقلال بيت المال.

77- قضية الانتظار.

78- التفسير بالرأي.

79- التقية درع لنضال أعمق.

80- مسائل تهم الشباب كافة.

81- الإسلام وحرية العبيد.

82- مائة وخمسون درساً في الحياة.

83- الزوجية في الأسرة المثلى

84- مشروع الحكومة الإسلامية.

85- رسالة مقدمة الوحي أو ...

86- الالتقاط والالتقاطيون.

87- عوامل ظهور المذاهب.

88- 89- الأخلاق الإسلامية في نهج البلاغة.

90- رسالة توضيح المسائل.

91- الحياة في ضوء الأخلاق.

دروس في العقائد الاسلامية، ص: 338

92- مناسك الحج (فارسي- عربي).

93- الاتصال بالأرواح.

94- 95- القواعد الفقهية.

96- الزهراء، سيدة نساء العالمين.

97- ردود على الأسئلة الدينية.

98- الادارة والقيادة في الإسلام.

99- الى 101- أنوار الأصول (في ثلاثة مجلدات مشتملة على تقريرات مباحث الأصول).

102- المناظرات التأريخية للامام الرضا عليه السلام.

103- 104- الفتاوي الجديدة.

105- الى 110- نفحات الولاية، شرح جديد وجامع لنهج البلاغة، (نشر منه خمس مجلدات ولازال مستمراً).

وفقّه اللَّه لمرضاته وأيدّه اللَّه بتأييداته محرم الحرام 1418 ه- ق.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.