الحکومه العالمیه للامام المهدی ( عج )

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ناصر، 1305 - عنوان و نام پديدآور : الحکومه العالمیه للامام المهدی ( عج ) / مکارم الشیرازی. مشخصات نشر : قم : مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع) ، 1426 ق. 1384. مشخصات ظاهری : 252 ص. شابک : 10000 ریال 964-533-005-X : يادداشت : عربی. يادداشت : پشت جلد به انگلیسی: .Global governance of Mahdi يادداشت : عنوان دیگر: الحکومت العالمیه للامام المهدی ( عج ). یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس. عنوان دیگر : الحکومت العالمیه للامام المهدی ( عج ). موضوع : محمدبن حسن (عج)، امام دوازدهم 255ق - موضوع : مهدویت شناسه افزوده : مدرسة الامام علی بن ابی طالب (ع) رده بندی کنگره : BP224 /م7‮ح 8 1384 رده بندی دیویی : 297/462 شماره کتابشناسی ملی : 1942852

السؤال الذي يساور جميع الباحثين

ذلك اليوم الذي:

تغطي فيه سحب الظلم والفساد المعتمة سماء العالم ذلك اليوم الذي:

تغرس فيه البلدان الغاشمة مخالبها القذرة في اعناق طبقات المجتمع البشري المحرومة والمعدمة.

ذلك اليوم الذي:

تغيب فيه كافة المعايير سوى معيار المادية المقيتة ليكون الاساس في تقييم الفكر.

ذلك اليوم الذي:

تعمد فيه أبواق الدعاية الاستكبارية الشرقية والغربية إلى اظهار الحقّ بصورة الباطل والباطل بصورت الحقّ بغية تحقيق اطماعها ومآربها المشبوهة.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 7

ذلك اليوم الذي:

تجلّى فيه ظهور المستضعفين بسياط التمييز العنصري والتفاضل العرقي وقصر النظر وضيق الافق والظلم والجور.

اجل آنذاك:

نصوب أبصارنا الراجية نحو طلعتك البهية أيّها المصلح العالمي العظيم، إلى نهضتك وحكومتك العالمية.

فاسأل اللَّه أن يوفقنا لتهذيب أنفسنا والتحلي بسعة الافق وشمولية الفكر والاستعداد لخوض غمار الجهاد والالتحاق بصفوف الأوفياء في ممارسة العملية الاصلاحية ورفع راية العدل والأمن والسلام.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 8

1- هل سيكون مستقبل البشرية مفعماً بالعدل والسلام والأمن والأمان والتحرر من

كافة أنواع الظلم والجور والإستغلال والإستعباد؟ أم ستشهد هذه البشرية- كما يتكهن البعض- مزيداً من الفوضى والاضطراب والتعقيد، وبالتالي نشوب الحرب الذرية والنووية الشاملة التي تطيح باصول المدنيات والحضارات الإنسانية، فإن كان هنالك ثمة بقاء لُاناس على سطح الكرة الأرضية فسوف لن يكون سوى لبعض الأفراد المتخلفين والمعاقين والبائسين؟

2- إن صحّ الاحتمال الأوّل في أنّ المستقبل سيشهد العدل والسلام فكيف سيكون ذلك؟

3- إن كان العالم يحث الخطى نحو «العدل» و «السلام» و «التآخي»، فهل يمكن تنفيذ هذه الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 9

المبادئ دون النهضة؟ وبعبارة اخرى: هل يسع الاصلاحات «التدريجية» تغيير التوجه السائد لدى العالم رغم انطوائه على كلّ هذه المطبات؟

4- إن كانت النهضة ضرورية فهل تقتصر على القوانين المادية، أم يتعذر عليها ذلك دون الاستلهام من المبادئ المعنوية والقيم والمثل الإنسانية؟

5- لو سلمنا بقيام مثل هذه النهضة، فما هي الصفات التي ينبغي أن يتمتع بها زعيم هذه النهضة؟

6- هل ستقود هذه النهضة على سبيل الضرورة إلى تشكيل «الحكومة العالمية الواحدة»؟

7- هل هناك من ضرورة لتوفر بعض الظروف المعينة لمثل هذه الحكومة؟

8- أمتوفرة مثل هذه الاستعدادات في عالمنا المعاصر؟ وإن لم تكن كذلك فهل ينطلق هذا العالم في العصر الراهن باتجاه تمهيد تلك المقدمات أم بالاتجاه المعاكس؟

9- هل ترتبط هذه الامور- على كلّ حال- بالعقيدة العالمية العامة بالنسبة لظهور المصلح السماوي المطلق؟

10- ما طبيعة عقيدة المسلمين بظهور «المهدي»

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 10

وما كيفية ارتباطها بهذه القضايا المصيرية؟

11- هل يسوقنا الاعتقاد بهذا الظهور إلى ممارسة العملية الاصلاحية للعالم من خلال النهضة الشاملة، أم يبعدنا عنها كما يذهب البعض إلى ذلك؟

12- هل تمثل هذه الفكرة والعقيدة الدينية العامة حقيقة واقعية تنطلق من أدلة منطقية، أم

لا تعدو الوهم والخيال بغية الاشباع الكاذب لرغبات الإنسان المكبوتة باتجاه ضالته الكبرى في الوصول إلى «السلام» و «العدالة»؟ ...

سعينا في هذا الكتاب للرد على هذه الأسئلة والاستفسارات بعيداً عن كافة أشكال التعصب والرؤى المتطرفة واجتناب الأحكام التي لا تستند إلى العقل والمنطق؛ الردود التي تنطلق من أعماق النفس وتحاكي الفكر وتلبي تطلعات «العقل» و «العاطفة» وتشبع حاجات الروح ومتطلباتها.

لقد أوردت عدة أبحاث منذ زمان بهذا الشأن، غير أنّ كثرة المشاغل في قم لم تسمح لي ب

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 11

«شرح» و «ترتيب» و «اكمال» ذلك، كما أنّ وساوسي المتواصلة في تدوين الكتاب حالت دون طبعه بتلك الكيفية، حقاً كان الكتاب بسيطاً وليس ناضجاً.

إلّا أنّ بعض الأحداث دفعتني إلى موقع لم أكن أتصوره أبداً. چاه بهار! ... أي أبعد منطقة إيرانية نائية ذات أسوأ مناخ، تبعد عن العاصمة طهران حوالي 2300 كيلومتر، كما لا تسع إمكاناتها المحدودة أبسط صور المعيشة، حيث يعاني سكنتها الأمرّين ويفتقرون إلى أدنى المتطلبات.

وقد تزامن هذا السفر لحسن الحظّ مع فصل الشتاء، الشتاء الذي كان يفيض بعطر الربيع تارة، وتفوح منه رائحة الصيف تارة اخرى، مع ما يتمتع به من برودة قارسة. ولما كان تسعون بالمئة من أهالي تلك المنطقة من أبناء العامة، فقد اغتنمت الفرصة لألتقي بعض مثقفيهم- لاتذكر الأيّام التي قضيتها في الحجاز- وقد عقدت الجلسات والاجتماعات التي كان هؤلاء الاخوة يمثلون أغلبيتها الساحقة؛ وكانت لهذه الجلسات ثمراتها الرائعة ونتائجها المطلوبة وللَّه الحمد.

طبعاً كان المجال واسعاً في تلك المنطقة النائية

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 12

المحاذية لمياه بحر عمان الزرقاء، تحت قبة السماء المفعمة لياليها بالنجوم والكواكب وفي ظلّ العزلة؛ فما كان مني إلّاأن سارعت في استغلال تلك الفرصة

الذهبية لاعكف على تلك الأبحاث (إلى جانب الاستغراق في بعض المطالعات والدراسات الفقهية التي لم أوفق إليها كما ينبغي في قم المقدسة)؛ بالتالي خلصت إلى هذه النتيجة وهي أنّ «النفي» كان مرحلة ضرورية من عدة نواحٍ «عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم».

آمل أن تكون أبحاث هذا الكتاب قد انطوت على الاجابة عن استفسارات الشريحة الواعية التي تحاول الوقوف عن كثب وبصورة علمية تحقيقية على قضية ظهور المصلح العالمي المطلق.

كما أرجو الاستلهام من مطالعة هذا الكتاب في مواصلة مسيرتنا الجهادية في مجابهة «الظلم والفساد»، حتّى تحقيق الأهداف المنشودة في القضاء على الطواغيت والجبابرة وتطهير المجتمع من أرجاسهم. ولا يسعنا في الختام إلّا أن نتوقع إلى حد كبير وجود بعض النقائص في محتويات هذا الكتاب، ولا سيّما بالنظر إلى قلة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 13

التحقيقات الواردة بخصوص مطالب هذا الكتاب.

وعليه فإننا نفتح صدورنا أمام الاخوة القرّاء الأعزاء ليتحفونا باقتراحاتهم وانتقاداتهم ومراسلتنا مباشرة على العنوان التالي (قم- الحوزة العلمية).

چاه بهار- ناصر مكارم الشيرازي شهر صفر سنة 1398 ه

شهر شباط سنة 1978 م الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 14

المستقبل المشرق

اشارة

لدينا عدّة أسباب تجعلنا نرى إشراقة مستقبل العالم 1- مسيرة المجتمع البشري التكاملية

2- الانسجام مع النظام العام للخليقة

3- ردود الأفعال الاجتماعية (قانون رد الفعل)

4- الإلزامات والضرورات الاجتماعية

5- الفطرة و «السلام والعدل العالمي»

1- مسيرة المجتمع البشري التكاملية

لا شك أنّ القرائن تشير على ضوء النظرة الابتدائية أنّ «الدنيا» تمضي قدماً نحو «الفاجعة»؛ الفاجعة الوليدة: «هجران العواطف» و «تعميق الهوة بين المجتمعات الغنية والفقيرة» و «تصاعد حدة الخلافات والنزاعات ما بين الدول الكبرى والضعيفة» و «ارتفاع منحنى الجرائم والجنايات» و «الاختلال الأخلاقي والفكري والروحي» و «النتاجات المقيتة وغير المتوقعة التي أفرزتها حياة المكننة» وما شاكل ذلك.

الفاجعة التي تتبين ملامحها من خلال مقارنة الوضع السائد مع الماضي القريب، والتي تعتبر من العناصر المؤثرة في تنمية روح التشاؤم في الأعماق الفكرية لأكثر الأفراد تفاؤلًا.

يقول الخبراء العالميون:

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 17

«إنّ حجم القنابل النووية التي تغص بها ترسانة الدول الكبرى تكفي لابادة كلّ ما على سطح الكرة الأرضية ولسبع مرات وليس لمرة واحدة! ولا يبدو من العبث صنع مثل هذه الأسلحة بتلك التكاليف الفادحة التي تحسب بالأرقام النجومية، لقد صنعت لتستخدم في الحرب الذرية الرهيبة؛ كما لا يبدو من الصعب اختلاق بعض الذرائع لانطلاق شرارة هذه الحرب في هذا العالم المتخم بالصدامات الحدودية واشتباك المصالح والمناطق الساخنة المشرفة على الانفجار.

وأننا لنلمس «الشعور بالسيطرة والهيمنة» و «جنون القوة» التي تساور أذهان زعماء الدول العظمى والتي تكفي لنشوب هذه الحرب. وعليه يمكن توقع حدوث «فاجعة كبرى» في المستقبل القريب، ولعلّ البشرية مهددة بالفناء في خضم حرب نووية شاملة، أو إثر الفقر الاقتصادي الذي يفرزه احتكار الدول العظمى، أو بفعل نفاد مصادر الطاقة أو تلوث البيئة».

رغم كلّ هذه العناصر المدعاة للتشاؤم، إلّاأنّ الدراسات والمطالعات العميقة تشير

إلى المستقبل المشرق الذي ينتظر البشرية:

ستزول كلّ هذه السحب القاتمة والزوابع المرعبة.

ستنطلق تباشير الصباح من عتمة الليل.

وسيدمغ ربيع العدل والقسط شتاء الجهل والفساد والعنف والظلم.

سينجلي هذا الغم القاتل والعواصف المميتة والسيول الهدامة، ولو أمعنا النظر في آفاق المستقبل لاستجلينا شاطئ النجاة.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 18

والدليل المنطقي الأوّل على هذا الموضوع هو قانون المسيرة التكاملية الذي يحكم المجتمعات:

فالإنسان لم يعِش الحياة الرتيبة قط منذ اليوم الذي تعرف فيه على ذاته، بل اندفع بوحي من نوازعه الباطنية- ولعلّه بصورة تلقائية- للنهوض بوضعه ومجتمعه نحو الأمام. فقد استوطن من حيث المسكن الكهوف والمغارات ذات يوم، وشيد اليوم ناطحات السحاب التي تستوعب كلّ واحدة منها سكان مدينة صغيرة وبكلّ الوسائل والامكانات الضرورية لمعيشتهم!

ومن حيث الملبس، ارتدى يوماً أوراق الأشجار، أما اليوم فهو يمتلك آلاف الأنواع من الألبسة وبمختلف الموضات والفصالات، ولم يكتف بالبحث عن انتقاء الألوان والموديلات.

وأما مأكله فقد كان يتناول الأطعمة الغاية في البساطة آنذاك، بينما تنوعت اليوم مأكولاته وتشعبت أطعمته بحيث يتطلب ذكر أسمائها كتاباً ضخماً.

كما كان مركبه يوماً رجليه؛ واليوم يستقل السفن الفضائية ويحلق في عنان السماء ويكتشف الكواكب والمجرات.

وكما كانت صفحة واحدة تستوعب يوماً كافة علومه ومعارفه- وإن لم يتوصل حينها إلى اختراع الخطّ- لكن تعجز اليوم حتّى ملايين الكتب والمؤلفات وفي مختلف التخصصات عن بيان معلوماته ومعارفه.

كان اكتشافه للنار آنذاك واختراع «العتلة» والظفر بالحربة الحادة الرأس من قبيل «الخنجر» ممّا يعتبره ذروة الابداع والاختراع، كما شعر بالفرح الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 19

المفرط والسرور التام حين اطاح بجذع نخلة ليجعله بمثابة قنطرة يعبر بواسطتها من هذه الضفة من النهر إلى الاخرى، في حين تمكن في العصر الراهن من استخدام الصناعات الثقيلة والاختراعات العملاقة

التي تخطف أبصار الناظرين وتقفز به أنظمة العقول الالكترونية المعقدة إلى عالم من الأحلام والآمال.

والغريب في الأمر أنّ طموحه لم يتوقف عند هذا الحد، بل واصل سعيه الحثيث ليتسلق قمم التطور والنهوض دون أدنى كلل أو تعب.

ونخلص ممّا تقدّم إلى أنّ باطن الإنسان يشده إلى عشق السمو والتكامل؛ والحقيقة هي أنّ هذا الأمر يمثل إحدى أعظم الامتيازات التي تميز الإنسان عن الحيوانات وسائر الكائنات الحية التي تعشعش ملايين السنين في موضع معين وتعيش حياة ظاهرية رتيبة.

كما نخلص إلى نتيجة مؤداها عدم خمود تلك الجذوة المتوقدة في أعماق الإنسان والتي لا تنفك تسوقه إلى الكمال، وتعبئ طاقاته وامكاناته بغية التغلب على المصاعب والمطبات التي تعترض طريق حياته. لتقذف به في خاتمة المطاف في المجتمع الذي يختزن «التكامل الأخلاقي» إلى جانب «التكامل المادي»، المجتمع الذي تغيب فيه مفردات الحرب وسفك الدماء المضاد للتكامل.

المجتمع الذي تنضوي فيه كافة مقدرات الناس لسيادة العدل والسلام، وتموت فيه روح العدوان والاستعباد التي تمثل العقبة الكؤود التي تقف حائلًا دون تكامله المادي والمعنوي.

لعلّ هنالك من يزعم أنّ مسيرة التكامل الماضية إنّما تركزت جميعاً على الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 20

النواحي المادية، ولا يوجد ما يشير إلى امتدادها لتشمل الجوانب المعنوية.

إلّا أنّ الاجابة عن هذا السؤال واضحة لما يلي:

أوّلًا: يمكن الوقوف على العديد من المبادئ المعنوية والاصول الإنسانية في مسيرة التكامل الماضية؛ فالعلوم التي بلغها الإنسان- على سبيل المثال- في ظلّ مسيرته التكاملية وبالذات غير المادية ليست بالقليلة، فليست هناك من نسبة على سبيل المثال للمقارنة والشبه بين إيمان الإنسان باللَّه آنذاك والذي كان يعبر عنه بعبادته للحجر والخشب وما ينحته من التمر، وما هو عليه الحكيم العارف اليوم من ادراك وعبادة.

ثانياً: التكامل

تكامل في كافة المواقع؛ وليس هنالك من حدود كامنة في هذا الإنسان بالنسبة لعشقه لذلك التكامل. أضف إلى ذلك فإن الاصول المادية والمعنوية ليست منفصلة عن بعضها. فمثلًا الروح العدائية والمتسلطة المتطلعة للهيمنة تقضي على الحياة المادية للإنسان على غرار ما تفعله القنبلة الذرية، بل ليس للأخيرة من فاعلية دون الاولى.

ومن هنا نفهم أنّ هذا التكامل سيتواصل في كافة المجالات.

وعلى هذا الضوء تلوح أوّل بارقة أمل بغية الانفتاح على مستقبل مشرق زاهر وعالم مفعم بالسلام والوئام والاخوة والمساواة في ظلّ «قانون المسيرة التكاملية للمجتمعات».

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 21

2- الانسجام مع نظام العام للخليقة

يتألف عالم الوجود من سلسلة من الأنظمة. ووجود القوانين المنظمة والشاملة في كافة أرجاء هذا العالم دليل على وحدة هذا النظام.

وتعتبر قضية النظم والقانون على مستوى الخليقة من القضايا الأساسية لهذا العالم. على سبيل المثال، لو رأينا مئات الأجهزة الالكترونية الضخمة تعمل مع بعضها البعض لتمهد السبيل من خلال حساباتها الدقيقة أمام رواد الفضاء بغية الانطلاق إلى الأقمار والكواكب، وكانت هذه الحسابات صائبة بحيث تهبط السفينة الفضائية على الموضع المتوقع في القمر، رغم حالة الحركة السريعة التي عليها الأرض والقمر، فإن ذلك يجعلنا نلتفت إلى أنّ هذه العملية إنما تتم من خلال نظام دقيق يحكم المنظومة الشمسية وسياراتها وأقمارها؛ ذلك لأنّها إن انحرفت عن مسارها الثابت والمنظم لاختلت أوضاع رواد الفضاء وقذفوا في المتاهات.

ولو تجاوزنا ذلك العالم العظيم ودخلنا العالم الصغير فالأصغر فالنظم الحاكم هنا- سيّما في عالم الكائنات الحية- يبدو أنصع وضوحاً وحيوية بحيث لا مكان هنالك للفوضى. على سبيل المثال فإن اختلال نظام الخلايا

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 22

الدماغية للإنسان يكفي في تحويل حياته إلى صورة مفجعة مليئة بالهموم والأحزان. نشرت إحدى الصحف خبراً

مفاده أنّ طالباً جامعياً نسى كلّ ماضيه إثر حادثة مرورية أصيب خلالها برجة دماغية؛ بينما لم يكن يشكو من سائر أعضائه؛ لم يعد يعرف أخته وأخيه، ويشعر بالخوف والهلع من امّه التي احتضنته وأرضعته وضمته بين ذراعيها وسهرت الليالي على راحته، فهو ينظر بريب لهذه المرأة الأجنبية ما عساها تريد منه!

حمل إلى مسقط رأسه، ثم إلى الغرفة التي ترعرع وكبر فيها، يتأمل أعماله اليدوية واللوحات الفنية، لعله يعود إلى رشده فيقول إنّه يشاهد هذه الغرفة وما فيها لأوّل مرة! وربّما كان يظن أنّه قدم من كوكب آخر ليرى كلّ الأشياء التي تبدو له جديدة ولم يكن قد تعرف عليها من قبل. بالطبع إنّما توقفت بعض الخلايا الدماغية ذات الصلة بالذاكرة والتي تربط الماضي بالحاضر، دون سائر خلاياه التي ربّما جاوز عددها المليار! مع ذلك فإن هذا الاختلال الموضعي البسيط أدّى إلى تلك الآثار السلبية الفادحة! ولو اتجهنا صوب الذرة وجعلناها تحت المجهر لبدت لنا بشكل منظومة شمسية، والعكس بالعكس لو صغرنا على سبيل الفرض المنظومة الشمسية لظهرت كالذرة، فهنالك نظام واحد يحكمهما؛ نظام واحد لأعظم المنظومات وأصغرها!!

فهل يسع الإنسان في مثل هذا العالم والذي يشكل فيه جزءاً من الكلّ أن يعيش وضعاً استثنائياً بحيث يخرج من هذا النظام ولا ينسجم معه.

وهل يستطيع المجتمع البشري أن يسلك «اللانظام» والفوضى والظلم الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 23

والجور وينأى بنفسه بعيداً عن مسيرة الخليقة وهذا العالم العظيم بما ينطوي عليه من دقة ونظام!

أفلا نتدبر من خلال نظرتنا إلى الأوضاع العامة لهذا العالم أن تخضع البشرية برمتها شاءت أم أبت للنظام الذي يحكمه، فتستجيب لقوانينه المنظمة والعادلة، فتعود إلى مسارها الأصلي وتتأقلم مع هذا النظام!

إننا إن تأملنا البنية المعقدة

لأي من أجهزة الإنسان لرأيناها تسير على هدى قوانين وأنظمة دقيقة وغاية في الدقة؛ فإن كان الأمر كذلك فأنى للمجتمع البشري أن يتمرد على الضوابط والمقررات الصحيحة والعادلة! أننا ننشد البقاء ونجهد أنفسنا من أجل الظفر به، غير أنّ مستوى تفكير المجتمع لم يبلغ الدرجة التي تجعله يعلم بأنّ مواصلته لهذا الطريق إنّما تنتهي إلى الفناء والزوال، لكنه يفيق إلى عقله شيئاً فشيئاً ليقف على هذه الحقيقة.

وأننا لنسعى لتحقيق مصالحنا، غير أننا نغفل عن أنّ استمرارنا في ممارسة أوضاعنا الفعلية إنّما تهدد بالصميم جميع منافعنا ومصالحنا. ونضع نصب أعيننا بعض الأرقام والاحصاءات الحية- على سبيل المثال قضية سياق إلى التسلح- لنرى كيفية ضياع ما يشكل نصف أنشط القوى الفكرية والطاقات الجسمية لمجتمعات العالم إلى جانب نصف ثرواتها وامكاناتها في هذا المجال، ليس الضياع فحسب، بل توظف من أجل القضاء على النصف الآخر!

إننا لندرك على ضوء تنامي مستوانا الفكري ضرورة الالتحاق بركب الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 24

قافلة النظام العام لعالم الوجود، وكما نرانا حقّاً جزءاً من هذا الكل، فإن علينا تفعيل ذلك على مستوى العمل، لنتمكن بالتالي من تحقيق أهدافنا وفي كافة المجالات.

النتيجة: هي أنّ نظام الخليقة يعد الدليل الآخر على المستقبل الزاهر للبشرية على ضوء نظام اجتماعي صائب.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 25

ردود الأفعال الاجتماعية

إنّ قانون الفعل ورد الفعل الذي ينصّ على أنّ لكلّ فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه، بحيث لو اصطدم جسم بجدار بقوة معينة فإنّ هنالك ما يدفعه بنفس تلك القوة إلى الخلف، لا يقتصر على الأبحاث الفيزيائية، بل يبدو أكثر وضوحاً في القضايا الاجتماعية.

ولعلّ الدراسات التأريخية ترشد إلى أنّ النهضات والثورات العملاقة إنّما كانت على الدوام ردود أفعال مباشرة

تجاه ضغوط مسبقة؛ وربّما لم تقع ثورة عارمة في العالم، إلّاإثر ضغوط شديدة سبقتها ومهدت لها. بعبارة اخرى أنّ التغييرات والتطورات وليدة التشددات؛ مثلًا:

1- النهضة العلمية لأوربا (عصر النهضة)- كانت ردّة فعل ازاء الف سنة من الجهل والتخلف السائد في القرون الوسطى، ومدى حجم الضغوط التي مارسها القائمون على شؤون الكنيسة بغية الابقاء على حالة التخلف لدى الناس- التي قضت على العوامل التي تقف وراء الجهل ورفعت راية العلم والمعرفة فأخذت تخفق في كلّ مكان.

2- الثورة الفرنسية عام 1789- التي شكلت قفزة نوعية في المجال الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 26

السياسي والاجتماعي، فوقفت بوجه الاستبداد والاستغلال الطبقي والمنطق الغاشم والمتغطرس للأنظمة الحاكمة، وجعلت المجتمع الفرنسي ومن ثمّ سائر المجتمعات الأوربية تدخل مرحلة تأريخية جديدة يسود فيها القانون- طبعاً إلى حدود معينة- بدلًا من الاستبداد والطغيان.

3- الثورة ضد العبودية- التي انطلقت شرارتها الاولى عام 1848 من بريطانيا- والتي افرزتها المعاملة الفضة والغليظة للأسياد تجاه العبيد، فأججت نار الثورة لدى العبيد من جانب، واثارة عواطف المجتمع لصالح أولئك العبيد من جانب آخر، فانتهى الأمر إلى زوال نظام الاستعباد، وإن اتخذ هذا الاستعباد صيغ اخرى أكبر سعة وأعظم خطورة، حيث ظهر «الاستعمار» بذريعة «إعادة بناء البلدان المتخلفة»! على كلّ حال فكان ينبغي القضاء على نظام الاستعباد، لكن اسلوب التعامل مع العبيد عجل في القضاء عليه.

4- الثورة على الاستعمار، في عصرنا الراهن كانت وما زالت ردود فعل مباشرة لأساليب المستعمرين وتصرفاتهم، والتي ألهبت مشاعر قطاعات الناس وجعلتهم يهبون لمناهضة القوى الاستعمارية، وإن لم تتمخض هذه المواجهة عن استقلال تام اقتصادي واجتماعي وسياسي وفكري؛ غير أنها أفرزت أوضاعاً يصعب مقارنتها بما كانت عليه سابقاً.

5- الثورة الشيوعية- عام 1917 م كردّة

فعل لظلم الرأسمالية وهضمها لحقوق أغلبية طبقات المجتمع الكادحة والمحرومة؛ رغم ما ذكرناه في موضعه- من أنّ هذه الثورة لم تحرر هذه الطبقات الضعيفة وترفع من شأنها واستعاضت عن ذلك النظام الاستبدادي بنظام ظالم آخر تمثل في الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 27

«ديكتاتورية البرولتاريا» والتي تمثل في الواقع هيمنة بعض رموز الحزب.

6- الثورة على التمييز العنصري كردّة فعل قام بها ذوو البشرة السوداء «الزنوج» ضد ذوي البشرة البيضاء، إلى جانب حرمانهم من حقوقهم الاجتماعية.

ولو تصفحنا التاريخ وعدنا إلى الوراء فإننا سنواجه قانون ردّ الفعل في كلّ مكان. تاريخ الأنبياء هو الآخر ينطوي على سلسلة من النهضات والحركات التي أفرزها ما سبقها من ضغوط اجتماعية قوية، وقد وجه الأنبياء تلك النهضات في مسارها الصحيح من خلال قيادتها على ضوء التعاليم السماوية. ولعلنا لا نتلمس مظاهر هذا القانون في التاريخ القديم والمعاصر في القصص الواقعية لحياة الامم والشعوب فحسب، بل إننا نرى نماذج ذلك القانون في أساطير سائر الأقوام.

فقد جاء في اسطورة «الضحاك» و «كاوه الحداد» أنّ دماغ الإنسان كان طعام الحيتان التي يحملها على كتفه، وكان عليه أن يخرج كلّ يوم دماغاً من جمجمة ويعطيها الحيتان كي تقرّ وتهدأ! ولعلّ هذه هي حقيقة «الاستعمار» الذي يقتات على الأدمغة؛ حيث يعتبر الاستعمار الفكري الدعامة الأساسية لكافة أنواع الاستعمار!

ثمّ يطالعنا من بين ذلك المجتمع المحروم والذي يعاني من سطوة الضحاك، حداداً ذاق طعم النار فشمر عن ساعديه وجعل صدريته راية للثورة فواجه طغيان الضحاك وأطاح به.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 28

وتضمن علم النفس المعاصر بحثاً يكشف عن هذا القانون. يفيد هذا البحث: إنّ رغبات الإنسان ما لم تشبع بالصورة المناسبة فإنّ هذه الرغبات تكبت في اللاشعور لتنتقل من مرحلة

«الشعور الظاهر» إلى مرحلة «الباطن» فتثير عقدة في الضمير الباطن لدى هذا الإنسان. بل أبعد من ذلك أنّ البعض يعتقد أنّ الضمير الباطن ليس بشي ء سوى هذه الرغبات المكبوتة، وأنها لا تستقر في ضمير الإنسان وتنطفى ء جذوتها، وتسعى دائماً لأن تطفو على السطح؛ وتبدو متفاوتةً ردود فعل هذه العقد لدى الأفراد، لكن يمكن القول إنّها عادة ما تعبر عن نفسها بإحدى الصيغ الآتية:

1- عن طريق إيجاد بعض الاختلالات النفسية وعرقلة التفكير التلقائي.

2- عن طريق الهروب من المجتمع والتقوقع والتشاؤم.

3- عن طريق الثأر من المجتمع الذي جعله كذلك.

4- عن طريق الاشباع الفارغ والخيالي.

5- عن طريق «التصعيد» والتحليق نحو المراحل الأرفع!

مثلًا، افرض أنّ فتى كانت له رغبة شديدة بفتاة، وحال والداه دون الزواج من هذه الفتاة، فالواقع أنّ هذه الرغبة الجامحة ستكبت في عقله الباطن، وهي ليس فقط لا تزول، بل ستظهر سريعاً بصيغة ردود أفعال عنيفة.

فلربّما جعلته مجنوناً، أو تسوقه إلى التقوقع والانطواء، أو تحيله إلى إنسان يحب الثأر والانتقام وبالتالي تجعله مجرماً خطيراً، أو تشده إلى الشعر

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 29

والأدب، ليعيش تلك الأجواء الرومانسية التي تسوقه إلى الأحلام بغية الوصال بالمحبوب.

لكن قد يتبدل نفس هذا العشق المادي أحياناً إلى عشق سماوي ورباني عميق، فينزع من قلبه ما سوى اللَّه ليكون شخصاً عارفاً وحكيماً منطوياً على أفكار رفيعة متعالية؛ طبعاً ينشأ هذا الاختلاف من سائر الاختلافات النفسية والاستعدادات الروحية لمختلف الأفراد.

وبناءاً على ما تقدّم فإننا نلاحظ أنّ الضغوط النفسية إنّما تواجه عادة بردود فعل عنيفة وثورات ونهضات متنوعة.

النتيجة:

يشير هذا القانون إلى أنّ أوضاع العالم الراهنة حبلى بالثورة. فضغوط الحروب والمظالم والممارسات الشنعاء والتمييز العنصري وانتهاك العدالة، إلى جانب فشل الإنسان وشعوره بالاحباط من

القوانين السائدة في القضاء على هذه الضغوط ومعالجتها، سيجعلها تبرز إلى السطح في خاتمة المطاف بصيغة ردود فعل عنيفة. وبالتالي فإنّ هذه الرغبات الإنسانية المكبوتة ستتحول في ظل تنامي مستوى يقظة الامم إلى عقدة اجتماعية تنطلق من العقل الباطن للمجتمع لتطيح بهذا النظام السائد لدى المجتمعات البشرية، وتقدم مشروعها الحديث؛ المشروع الذي يغيب فيه سباق التسلح المقيت من جانب، كما لا تشم فيه رائحة النزاعات البغيضة والحروب الدموية الطاحنة ومفردات الاستعمار والاستبداد والظلم والفساد من جانب آخر.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 30

وهذه بارقة أمل اخرى على إشراقة المستقبل الذي ينتظر المجتمع العالمي.

الالزامات والضرورات الاجتماعية

المراد من «الالزام الاجتماعي» أنّ وضع الحياة الاجتماعية للإنسان يبلغ مرحلة بحيث يشعر بحاجته إلى مطلب معين بصفته ضرورة.

ونعلم بالطبع أنّ الإنسان يريد بادئ الأمر أن يكون حراً من جميع النواحي دون أدنى قيود أو حدود تعكر صفو حياته، غير أنّه يدرك شيئاً فشيئاً أنّ مثل هذه الحرية تنأى به بعيداً وتحرمه من سلسلة من الاعتبارات التي تتمتع بها الحياة الجماعية، وبالتالي لا تلبي رغباته الأصيلة والأساسية، ولو لم يقر ببعض القيود والبنود التي يصطلح عليها بالقانون، فسوف لن يكون نصيب المجتمع الذي يعيش فيه سوى الفوضى والهرج والمرج والفناء.

وهنا ينصاع إلى القوانين والمقررات. كما أنّ تطور المجتمعات يسهم كلّ آن في مضاعفة هذه القيود، وعليه أن يقر بها جميعاً كضرورة. أضرب مثلًا بسيطاً على هذا الموضوع بشأن مقررات السياقة والاشارات الضوئية، فالإنسان الذي يمتلك سيارة حديثة سريعة يرغب بأن يمارس حريته في الذهاب إلى أي مكان، والوقوف في الموضع الذي يحب، ويسير بالسرعة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 32

التي تعجبه، ومواصلة الحركة في تقاطع الطرق بعيداً عن الوقوف وضياع الوقت وانتظار إشارة المرور؛

لكنه سرعان ما يفهم أنّه إن فعل ذلك فليس هنالك ما يمنع الآخرين منه، وبالتالي سوف لن يكون هناك سوى الفوضى والارباك وأنواع المخاطر.

وعليه فإنّ عدم صواب هذا العمل لا يخفى اليوم حتّى على الأطفال؛ ولابدّ من وجود بعض المقررات وإن تأخر الإنسان لساعات قبل بلوغه المكان الذي يريد، كما لابدّ أن تكون هنالك بعض الغرامات والضوابط الشديدة (العادلة والمنسجمة مع العقل) وإلّا فإنّ مئات الأفراد سيفقدون أرواحهم كلّ يوم أو تتحطم سياراتهم الشخصية.

هذا ما نقوله «عن الضرورة» أو «الإلزام الاجتماعي» إلّاأنّ المهم هو أنّ «الحاجة الواقعية» لمجتمع تبدو ملحة بحيث يقر بضرورتها على الأقل مفكرو المجتمع وقادته؛ ويتوقف هذا في الدرجة الاولى على الوعي الاجتماعي لأفراد المجتمع، ومن ثمّ اتضاح النتائج السلبية لأوضاع المجتمع القائمة واستحالة مواصلة الدرب. ولذلك لا نرى من جدوى للصرخات التي تطلق هنا وهناك بشأن تلوث البيئة، وليس هنالك من يكترث للمقررات المتعلقة بنظافة البيئة.

لكن حين يرى الناس- على سبيل المثال- التلوث الذي يصيب منطقة معينة كطهران بحيث يبرز فيها العديد من الأمراض التي تهدد صحة الناس، ويتعذر عليهم التنفس، وتصاب عيونهم بالحرقة، حتّى قال بعض الإحصائيين: يصاب بالعمى عشرة أشخاص يومياً؛ ويسود اللعاب لمجرد التواجد بضع ساعات في المدينة، وانتشار الأمراض الجلدية وضيق الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 33

الأجهزة التنفسية وإصابة القلب والكبد وظهور حالات التسمم، فهنا ينصاع إلى المقررات الشاقة والمعقدة بصفتها ضرورة، ويستجيب لكافة الامور من قبيل اغلاق المصانع والمعامل الضخمة، والتخلي عن آلاف الوسائط النقلية ذات الدخان، والامتناع عن ممارسة أغلب الانشطة الاقتصادية ذات الأرباح الباهضة والتي توجب تلوث الأجواء.

ونعود الآن إلى أصل الموضوع على ضوء هذا المثال؛ لعلّ الصورة التي رسمها إنسان القرن السابع عشر

والثامن عشر عن القرن العشرين إثر مشاهدته للتطور الصناعي إنّما كانت جنة، فاعتقد أنّ تلك الثورة الصناعية التي انطوت على كلّ هذا التطور والازدهار ستؤدي يوماً إلى:

اكتشاف المصادر الجوفية الواحد تلو الآخر؛

السيطرة العلمية على الطاقة «الذرية» التي تعد أهم وأعظم مصادر الطاقة؛

تحقيق حلم الإنسان بالتحليق في السماء؛

بمجرّد أنّ يضغط الإنسان على زر سينظف البيت وينضج الطعام وتغسل الثياب ويدفأ البيت في فصل الشتاء ويبرد في الصيف؛ وما أن يضغط على زر حتّى تحرث الأرض فيلقي فيها البذور فيجني محاصيلها بالماكنة والحاصودة فيعلبها ويجهزها للاستهلاك و ...

آنذاك يجلس الإنسان في موضعه وينعم بالرفاه والدعة!

لكنه غفل عن أنّ إنسان الصناعة وحياة المكننة سوف لا يتمتع بهذه الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 34

الرفاهية، بل سوف لا ينتهي هذا التطور التكنولوجي سوى إلى المزيد من التعقيدات والارباكات التي تكدر صفو الحياة، وسيلقي شبح «الحروب العالمية» بظلاله المرعبة على كافة مرافق حياته بما فيها قطاع الصناعة بالشكل الذي يحيلها خراباً ودماراً! حينئذٍ يدرك مدى خطورة هذه الحياة! فإن كان الكلام في الماضي عن الحروب التي تؤدي بحياة بضعة آلاف من الناس، فالحديث اليوم عن حرب متوقعة أدنى نتائجها حضارة العالم والمدنية والعودة القهقرى إلى العصر الحجري! وسيفهم تدريجياً أنّ المقررات السابقة لم تعد كافية لحفظ النجاحات الباهرة التي حققها في ميدان الصناعة والحضارة، ولابدّ من الانصياع لمقررات إضافية جديدة.

كما سيشعر شيئاً فشيئاً بأنّ «قيام الحكومة العالمية الواحدة» التي ستضع حداً لسباق التسلح المهلك والقضاء على أطماع الدول الكبرى وما تثيره من نزاعات وصدامات، سيكون «ضرورة» و «واقع لابدّ من تحققه»، آنذاك ستزول هذه الحدود المصطنعة ذات الطبيعة المعقدة لتعيش البشرية برمتها تحت راية واحدة وتمارس حياتها في ظلّ قانون واحد

جامع!

وسيأتي اليوم الذي يتكامل فيه الشعور الاجتماعي والوعي لدى العالم ليرى بوضوح ذلك التوزيع الظالم للثروات بحيث ينعم البعض بالرفاهية وطيب العيش ويفرد فيه بعض الأماكن للحيوانات (كالكلاب والقطط) من قبيل المستشفيات والأطباء والمباني الشاهقة، بينما يأن البعض الآخر من الجوع والعطش والحرمان من أدنى متطلبات العيش ووسائل الحياة.

لا شك في أنّ العالم لم ولن يذوق طعم الأمن والاستقرار إن ظلّ مفتقراً للنظام الذي يتكفل بالتوزيع العادل للثروات، وسوف لن يقتصر البلاء على الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 35

البلدان الفقيره دون تلك الغنية. فإن بلغت هذه الامور مرحلة الضرورة إثر اتضاح وظهور ردود الفعل المقيتة التي يفرزها الواقع الموجود وتنامي الشعور الاجتماعي العام، آنذاك ستكون الثورة والنهضة حتمية الوقوع، على غرار ما حصل في الماضي.

وعليه فإنّ «الالزام الاجتماعي» يعد العنصر الآخر الذي سيدفع بالمجتمع البشري شاء أم أبى نحو حياة مفعمة بالعدل والسلام، ويرسي قواعد الحكومة العالمية على أساس مشروع جديد.

ملامح من الوعي الذاتي للناس:

اشارة

كان الموضوع في أنّ القرائن الموجودة هل تشير إلى أنّ مستقبل العالم يتمثل في العدل والسلام أم الظلم والقضاء على الجيل الإنساني؟

ظفرنا لحدّ الآن من خلال أربعة طرق على بعض الأدلة الواضحة التي تؤيد الاحتمال الأوّل، لكن قد يقال بالمقابل إن كان الأمر كذلك مالنا لا نرى في ظلّ هذه الأوضاع والحياة المعاصره ما يشير إلى أنّ البشرية تتجه نحو تحقيق الأهداف المذكورة، بل بالعكس ليس هنالك- وعلى ضوء الوضع القائم- سوى اليأس والاحباط!

نحن بدورنا نقر بأن الأمر يبدو كذلك للوهلة الاولى، إلّاأنّ التأمل يفيد أنّ الإنسان المعاصر يحث الخطى باتجاه الهدف المذكور وتبدو ملامح وعيه الذاتي على مستوى الفكر والحياة، رغم كلّ هذه الانتهاكات والاعتداءات الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 36

والمظالم والدمار.

وبالرغم من

أنّ هذه الخطوات ليست بالكبيرة، أو الجدية كما ينبغي، مع ذلك فهي طفرة جديرة بالاهتمام بالنسبة للاعداد الفكري للأجواء.

وإليك بعض نماذج هذه القرائن:

1- تشكيل المجامع الدولية واعداد ميثاق حقوق الإنسان

نعلم أنّ الحرب العالمية الاولى والثانية أشبه شي ء بحالة الجنون الادواري في العالم البشري، لكنها افرزت بعض العناصر التي تدعو إلى الوعي واليقظة إزاء تلك الآثار السلبية المميتة.

لقد تشكلت «عصبة الامم» عقيب الحرب العالمية الاولى، لكنها لم تلبث حتّى تعالى زئير قذائف مدافع الحرب العالمية الثانية. ورغم قصر مدة تلك التجربة إلّاأنها أدّت إلى تشكيل مرجعاً عالمياً يبدو أكثر رصانة من سابقه أصطلح عليه باسم «منظمة الامم المتحدة» التي أصدرت تلك الوثيقة الرائعة «ميثاق حقوق الإنسان».

طبعاً لا ننكر أنّ أغلب مواده وفقراته من قبيل المثل المعروف لدينا «القط والجرس» ولا يمكن أن نظفر بمن يسعه تعليق الجرس على القط في الظروف الراهنة، مع ذلك لا يسعنا أن ننكر أيضاً كونه يشكل خطوة إيجابية رغم ما يكتنفه من نقص ومثلبة، وأنّ أغلب الناس تؤمن بصحّة هذا الاسلوب وإن تعثروا في العمل. ولكم أن تلاحظوا الآن أليست هذه المواد التي سنوردها من الميثاق المذكور، هي تلك التي ذكرناها في الأبحاث السابقة؟!

المادة الاولى: جميع الأفراد يردون أحراراً إلى الدنيا، وهم اخوة في الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 37

الحقوق والاعتبار، لكلّ منهم عقل وضمير، وينبغي أن يعامل بعضهم البعض الآخر بروح التاخي ...

المادة الثالثة: لكلّ حقّ الحرية والحياة والأمن و ...

المادة الخامسة: لا يحقّ لأحد أن يعذب آخر ويعامله معاملة سيئة وظالمة خلافاً للمبادئ الإنسانية.

المادة السادسة: ينظر القانون إلى كلّ شخص بصفته إنساناً إينما كان.

المادة السابعة: الكلّ سواسية أمام القانون، ويتمتعون جميعاً بحماية القانون دون تمييز ويتساوون في الحقوق.

المادة السادسة والعشرون: لكلّ فرد حقّ التربية والتعليم

... وأن تكون غاية هذا التعليم إيصال الإنسان إلى التنمية والازدهار، ويراعي حقوق الناس وحرياتهم ...

المادة التاسعة والعشرون: كلّ فرد مكلف إزاء المجتمع بتوفير ممهدات حريته وتبلور شخصيته.

وأخيراً فإن المادة الثلاثين من الميثاق المذكور تغلق الطريق بوجه جميع المستغلين.

المادة الثلاثون: لا ينبغي تفسير أي من مواد هذا الميثاق بحيث يتضمن حقّاً لدولة أو جمعية أو فرد من شأنه القضاء على الحقوق والحريات الواردة فيه.

نُذكِّر ثانية بعدم تفاؤلنا إلى هذا الحدّ في أنّ هذه الشعارات البراقة التي تسحر القلوب إنما تشبه إلى حدّ بعيد وفي ظلّ الظروف الراهنة حلماً جميلًا بعيداً جدّاً عن التحقق الخارجي، لكن لا يسعنا بالمقابل إنكار هذه الحقيقة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 38

في أنّ الميثاق المذكور جعل البشرية تدخل مرحلة تاريخية جديدة.

نعلم أنّ «منظمة الامم المتحدة» هي في الواقع بحكم «المنظمة الامّ» وقد انبثقت منها عدة شعب إحداها تتمثل في «مجلس الأمن».

الفارق بين هذا «الابن» وتلك «الامّ» أنّه ليست لهذه الأخيرة من قدرة تنفيذية، ولا تعدو مقرراتها كونها سلسلة من الوصايا الرسمية لبلدان العالم.

ومن هنا فإنّ بعض الأفراد المتشائمين لا يرى في هذه المنظمة الدولية سوى أنها «منبر خطابة» أو «صالة الخطاب العالمي» أو «البرلمان الحرّ» وما إلى ذلك من المسميات؛ لكن مهما يكن الأمر فهي تستبطن هذه الفائدة في اشتراك كافة بلدان العالم فيها في التصويت على أساس «التكافؤ والمساواة»، ولمقرراتها آثارها النفسية والمعنوية الواضحة لدى الشعوب والرأي العام العالمي. بينما يتمتع «مجلس الأمن» بقدرة إجرائية وتنفيذية كافية! ولو أراد لاستطاع تفعيل قراراته، لكن ممّا يؤسف له افتقاره للقدرة الكافية على التصويت والاقتراع؛ ذلك لتمتع الدول العظمى الخمس «أمريكا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا» الدائمة العضوية بحقّ النقض «الفيتو» حيث يسعها احباط

أي قرار لا يروق لها.

ولعلّ هذا الحقّ الذي خلفه الاستعمار إنما يهدد هذا المركز الدولي ويعطل جميع مشاريعه وقراراته.

ونخلص ممّا سبق إلى أنّ هنالك مؤسسة تتمتع بقدرة الاجراء دون التصويت واخرى تصوت دون أن تكون لها قدرة على الاجراء والتنفيذ!

لكن رغم كلّ هذه الاشكالات فإن هذه المنظمة الدولية وانجازاتها، وهذه المؤسسة ذات الضجيج العالي والقليلة الأثر إن راعينا العدل الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 39

والانصاف، استطاعت أن تقوم لحدّ الآن ببعض الأعمال المهمة- رغم صغرها- وبغض النظر عن فاعليتها فإنّ صورتها الظاهرية هذه، دليل على تبلور اسلوب حديث من التفكير في العالم انطلق من مراحل «شبه جدية» أقرب شي ء للعفوية والمزاح وتتحرك باتجاه مراحل أكثر جدية؛ بحيث تشعر جميع بلدان العالم رغم اختلافها في المذاهب والأساليب بحاجة إلى وجود هذه المنظمة، ولاترى صحّة تجاهلها.

2- الحوار عن خلع الأسلحة

رغم أنّ هذا الموضوع لم يخرج لحدّ الآن من دائرة النقاش وعقد الاجتماعات واستهلاك الأوراق؛ وكلّ ما صدر لحدّ الآن من المنظمات العالمية لنزع الأسلحة إنما يدلّ على «اتساع سباق التسلح»، إلّاأن ترحيب عامة بلدان العالم بهذا الاقتراح يكشف عن ظهور اليقظة والوعي في الضمير العالمي؛ وعلى الأقل فإن كافة الدول الكبرى والصغرى وقفت على عظم حاجتها لكلّ هذه «الثروات» و «الأدمغة» لتوظف في «القضايا العمرانية» بدلًا من هدرها في صنع الآلات العسكرية مع ما تتطلبه من طاقات بشرية، فالكلّ يسعى على طريقته لينقذ نفسه من هذا الفخ الخطير، ولابدّ أن تأتي الساعة التي تستغل فيها هذه الثروات الإنسانية والاقتصادية العظيمة لصالح البنى التحتية والمراكز الخيرية الضعيفة. لقد قدمت إحدى مؤسسات الاحصاء العالمية بعض الاحصاءات الخيالية بشأن الميزانية التي ترصدها كلّ دولة من الدول العظمى لجيوشها وجنودها- الجنود الذين يمثلون أعظم

أعضاء المجتمع فتوة وحيوية- مع ذلك تشير الاحصائية المذكورة إلى الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 40

وجود نزعة تفكيرية إلى جانب ذلك البرنامج الفاحش، والتي تصرح باستحالة استمرار هذا البرنامج ولابدّ من إعادة النظر فيه.

وهذا بدوره يشكل خطوة اخرى نحو تحقيق ذلك الهدف العظيم.

3- هجوم السلام!

يتحدّث الجميع في عالمنا المعاصر عن السلام؛ حتّى طلاب الحرب! ذلك لأن النفرة من الحرب أصبحت شاملة عامة، وما زالت الصور المرعبة لآثار الحروب العالمية المدمرة عالقة في الذاكرة ولا يمكن نسيانها! رغم أنّ التحمس للصلح والسلام- كسائر معظم رغبات الإنسان- لم تتجاوز حدود الأمنية؛ وما زال يستغل هنا وهناك كشعار. مع ذلك فإن هذا الوضع- على كلّ حال- يشير إلى «عطش عام» إلى «ماء الصلح» من قبل الجميع. والواقع هو أنّ الناس تنظر إلى ذلك بصفته الركيزة الأساسية للنهوض بكافة مرافق الحياة، ولا سيّما بالنظر إلى أنّ الحروب الحديثه باهضة التكاليف ومدمرة، فقد يعاني بلد من تخلف اقتصادي وعمراني لعشرات السنين إثر بضعة أيّام من الحرب، ناهيك عن تكبده أفدح الخسائر بالأموال والأرواح، ولربّما بلغت المليارات من الدنانير وآلاف القتلى والجرحى. حقّاً لا ينبغي الاستخفاف بهذه الرغبة العامة؛ لأن كلّ نهضة وحركة إنما تنطلق بادئ الأمر على أساس كونها «أمنية» و «رغبة دون سند» أو «شعار براق»، ومن ثمّ تتحول إلى «ضرورة» و «واقع قائم» يغير تدريجياً أركان المجتمع.

تفيد التقارير أن وقف إطلاق النار بين فيتنام وأمريكا نقض خمسمئة مرة، لكننا رأينا في خاتمة المطاف كيف بلغ المرحلة الجدية والقطعية،

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 41

والضرورة التي ينبغي تحققها إنما تحققت بانتصار فيتنام.

4- مشروع الحكومة الإسلامية «1»

حظيَ هذا المشروع أخيراً بالكثير من الأنصار، وورد الحديث بشأنه في مختلف الأوساط، حتّى ذهب البعض إلى أنّ مشروع اللغة الدولية الذي أخذ يتنامى تأثيره ويتسع مؤخراً إنما يعد مقدمة لذلك المشروع الكبير. وهذا بدوره يمثل خطوة مؤثرة اخرى بغية بلوغ ذلك الهدف النهائي.

طبعاً ممّا لا شك فيه أنّ التوجه الراهن للعالم في ظلّ هذه الظروف لا يبدو مستعداً لمثل هذه الحكومة؛

ذلك لأن قضية الاعراق السوداء والبيضاء لم تحل في المجتمع الذي يعد مدنياً متحضراً كالولايات المتحدة، وما زال السود (الزنوج) يأنون في هذا المجتمع من التمييز العنصري المقيت. وما زال النظام العنصري في جنون أفريقيا يحظى بدعم الدول العظمى، وما زالت الهوة قائمة بين الفئات الثلاث «المتخلفة» و «السائرة نحو التنمية» و «النامية» بل تعمقت أكثر فأكثر.

لكن بالرغم من كلّ ذلك- كما قلنا- فإن سعة هذه الأفكار وانتشارها واستيعابها من قبل أغلب قطاعات العالم وإن لاح في الافق البعيد، إلّاأنّه دليل حي على نضج الاستعداد الروحي والفكري والاجتماعي لتحقق العدل والسلام العالمي.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 42

ناهيك عمّا أوردنا فإنّ بعض القرائن الاخرى هنا وهنالك في المجتمعات البشرية من قبيل «السوق المشتركة» و «المحافل الدولية الكبرى» وكافة اشكال النزوع نحو الحياة الجماعية والجنوح نحو الوحدة، تشير جميعاً إلى أنّ العالم قطع مسيرة طويلة نحو الهدف المذكور؛ ويبشرنا في خاتمة المطاف ببلوغ هذا الهدف.

الفطرة و «العدل والسلام العالمي»

اشارة

يمكن دراسة كلّ قضية من خلال طريقين؛ «العقل» و «العاطفة والفطرة» والفطرة هي الالهام والادراك الباطني الذي لا يحتاج إلى الدليل، أي يقره الإنسان ويؤمن به دون قيام الدليل والبرهان. وربّما تكون هذه الالهامات الباطنية أعظم أصالة من أحكام العقل، حيث هذه ادراكات ذاتية، وتلك معلومات اكتسابية.

ويصطلح عادة على هذه الالهامات لدى الحيوانات ب «الغريزة»؛ ولهذه الغرائز قاعدة عريضة في الحيوانات إلى جانب دورها المهم؛ بل يمكن القول إنّ المحور الأصلي لحياة الحيوانات إنما يستند إلى الغرائز.

وقد تكون انعكاسات هذه الغرائز على درجة من الدهشة بحيث يشعر الإنسان إزائها بالعجز رغم امتلاكه لكلّ هذه الوسائل الصناعية المتطورة والأدوات الالكترونية المعقدة. مثلًا، كثيرة هي الحيوانات والحشرات التي تتحسس وضع الجو، لعلّ ذلك أحياناً

ليوم واحد وأحياناً اخرى لستة أشهر، بل قرأت في صحيفة أنّ نوعاً من الجراد يتكهن بأوضاع الجو قبل سنة، حقّاً أنّه لمن المثير للدهشة أنّ إنسان عصر الفضاء ورغم كلّ ما

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 44

يمتلكه من أجهزة دقيقة صنعت لأجل التكهن بالأنواء الجوية، ونصبه لكلّ المراصد في مختلف المناطق وإعداده للخرائط الجوية وما يرصد لها من ميزانية ضخمة لا يسعه التكهن بهذه الأوضاع لأكثر من ست ساعات، وبالعبارات التالية المذبذبة:

غائم جزئي.

غائم تماماً.

مع احتمال زخات مطر.

ولعلّه يكون مصحوباً بمطر شديد.

ويحتمل أن يكون صحواً ومشمساً! ...

أمّا تلك الحشرة العالمة بالأنواء الجوية فهي تتكهن بالأوضاع قبل ستة أشهر ودون الاتصال بسائر الحشرات؛ أي تتنبئ بأوضاع الشتاء في فصل الصيف وتعد نفسها للتكيف مع تلك الأوضاع.

ولعلّ سبب قلة معلومات الإنسان الفطرية مقارنة بسائر الكائنات الحية إلى الحيز العظيم من القدرة العقلية المودعة لديه والتي يمكنها معالجة نقصه في سائر المجالات؛ لكن على كلّ حال فإن الإنسان يستلهم من هذه الفطره في تلبية حاجاته الضرورية وشؤونه المعاشية في حياته، ولهذا السراج دوره في ارشادنا إلى مسيرتنا القادمة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل لهذه الالهامات الفطرية أن تساعدنا بشأن ما نحن بصدده، أي نهاية العالم بالحرب وسفك الدماء والظلم والجور أو قيام حكومة العدل والسلام والأمن أم لا؟

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 45

الجواب بالايجاب عن هذا السؤال؛ فهنالك قرينتان مهمتان يمكنهما ارشادنا إلى هذه الحقيقة:

1- حبّ العدل والسلام

هنالك حبّ للعدل والسلام كامن في عمق روح كلّ إنسان؛ فالجميع يتلذذ بالعدل والسلام؛ والكلّ يسعى إلى عالم يسوده هذان الركنان؛ رغم كلّ الخلافات السائدة بين الشعوب من حيث اسلوب التفكير والسن والآداب والعادات والتقاليد والمدارس والمذاهب والنزعات والرغبات؛ فالجميع مغرم بالعدل والسلام دون استثناء،

ولا أظن هناك دليلًا أعظم من كون القضية فطرية؛ فالمفروغ منه أنّ شمولية وعمومية المتطلبات دلالة على فطريتها.

فهل هذا عطش كاذب؟ أم أنّه حاجة حقيقية تهتدي إليها الفطره بمعونة العقل، ليؤكد ضرورتها الملحة؟ (ينبغي التأمل).

أفلا يدلّ عطشنا الدائمي على وجود الماء في الطبيعة، ولو لم يكن للماء وجود خارجي فهل من وجود في باطننا للعطش والرغبة فيه؟ إننا لنصرخ، ونتأوه، وتتعالى أصواتنا في طلب العدل والسلام؛ وهذا دليل على تحقق هذه الرغبة في خاتمة المطاف وتطبيقها في العالم.

ليس هنالك أصلًا من مفهوم للفطرة الكاذبة، ذلك لأننا نعلم أنّ الخلق وعالم الطبيعة وحدة واحدة متصلة، وليست مركبة من سلسلة موجودات منفصلة عن بعضها البعض الآخر.

الجميع بمنزلة شجرة عظيمة امتدت أغصانها العملاقة لأنحاء الوجود،

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 46

وربّما كانت هنالك مسافة تقدر بملايين السنين الضوئية بين غصنين من أغصانها أو حتّى بين بذورها، إلّاأنّ هذه المسافة ليست دليلًا على انفصالها وتفككها، بل تعد من خصائص سعتها وعظمتها.

إنّ كلّ جزء في هذه الوحدة العظيمة دليل على الكلّ، وكلّ فرع مرتبط بالآخر، وردود أفعالها مرتبطة مع بعضها؛ وكلّ واحدة قرينة على وجود الاخرى، والجميع يسقى من جذر واحد. وعلى هذا الأساس فإن «كلّ عشق أصيل وفطري يحكي عن وجود معشوق في الخارج وأنّه جذبة واندفاع نحوه». و «العشق» الذي لا مكان لمعشوقه سوى في عالم الرؤيا هو «عشق مزيف»؛ وليس للزيف من مكان في عالم الطبيعة؛ والانحراف عن مسار الخلق فقط من شأنه استبدال الموجود المزيف بواقع أصيل. (ينبغي التأمل).

على أيّة حال فإن فطرة الإنسان تنادي بوضوح أنّ العدل والسلام سيعم العالم في نهاية المطاف وينهار الظلم والجور، فهذه حاجة إنسانية مطلقة.

2- الانتظار المطلق للمنقذ

يبدو أنّ الجميع متفق على أنّ

كافة شعوب العالم تنتظر زعيماً ثورياً عظيماً اصطلحت عليه باسم معين، إلّاأنّهم يتفقون جميعاً على صفاته الكلية ومبادئ ثورته. وبناءً على ما تقدّم فإنّ قضية الإيمان بظهور المنقذ والمصلح المطلق الذي يعالج أنين البشرية ويضع حدّاً لمعاناتها لا يقتصر على المسلمين أو بعض المذاهب والمدارس الشرقية؛ بل تفيد «الوثائق والأدلة» أنّ هذه الفكرة قديمة ومتأصلة لدى جميع شعوب الشرق والغرب، وإن تأكدت هذه القضية لدى بعض الأديان كالديانة الإسلامية. وهذا دليل آخر

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 47

وشهادة حية على كون هذه المسألة فطرية.

ونشير هنا بصورة مقتضبة إلى نماذج هذا الاعتقاد لدى الامم والشعوب من أجل غايتين؛ الاولى: الالتفات إلى عمومية هذه المسألة، والاخرى:

الالتفات إلى المبادئ المشتركة بشأن مشاريع ذلك المصلح الكبير لدى جميع تلك الأقوام.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 49

الشعوب والمصلح العظيم

مشروع المصلح في كتب الزرادشت:

1- ورد في كتاب «زند» بعد الصراع الأبدي بين الأخيار والأشرار:

«آنذاك يكون النصر للاخيار، ويقضون على الأشرار ...

وما أن يتغلب الأخيار حتّى تتحقق السعادة في العالم وينعم بنو آدم بالخير والرفاه».

2- روى «جاماسب» في رسالة سفره عن زرادشت أنّه قال:

«يخرج رجل من أرض تازيان ... رجل عظيم الرأس والبدن وطويل الساق ويتجه إلى ايران بجيشه الكبير ودين جده فيملأ الأرض عدلًا.

نماذج هذا الاعتقاد في كتب الهند والبراهمة».

1- جاء في أحد الكتب الهندية «وشن جك»:

«ستعود الدنيا آخر الأمر إلى رجل يحب اللَّه ومن خاصة عباده.

واسمه مبارك وميمون»!

2- كما جاء في كتاب آخر اسمه «ديده»:

«سيظهر آخر الزمان بعد خراب الدنيا ملك هو إمام الخلق. واسمه الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 50

منصور يستولي على جميع العالم ويلحقه بدينه».

3- وورد في أحد كتب البراهمة «دداتك» وهو من الكتب المقدسة: ...

«سيظهر رجل الحق ويسيطر على مشرق العالم ومغربه ويهدي جميع

الخلائق».

4- وجاء في كتب الهنود «باتيكل»:

«إن انتهى النهار وتجددت الدنيا القديمة وأصبحت حية وظهر صاحب الملك؛ أحد أبناء إمامي العالم أحدهما ناموس آخر الزمان، والآخر يدعى بشن واسم صاحب الملك «المرشد»، هو الملك حقّاً والخليفة الذي يلي الحكومة وله معجزات كثيرة».

5- وورد في كتاب «باسك» من كتب الهنود:

«تؤول الدنيا إلى ملك عادل في آخر الزمان هو إمام الملائكة والجن والانس؛ والحقّ معه، ويستخرج ما في البحار والجبال وينبئ عن السماء والأرض، ولم يرد الدنيا أعظم منه».

قبسات من كتب العهد القديم (التوراة وملحقاتها):

1- جاء في كتاب «مزامير داود» المزمور 37:

«... لأنه سينقطع الأشرار، وسيرث المتوكلون على اللَّه الأرض، سوف لن يكون هناك شريراً بعد مدة قليلة، ستتأمل مكانه وليس فيه، أما الحكماء (الصالحون) فسيرثون الأرض».

2- كما ورد في المزمور المذكور الجملة 22:

«سيرث الأرض مباركو الرب وسينقطع ملعونوه».

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 51

3- وجاء في الجملة 29 من المزمور السابق:

«سيرث الصديقون الأرض ويسكنون فيها إلى الأبد».

4- وورد في الفصل السابع من كتاب النبي «حبقوق»:

«... وإن تأخر، فانتظره.

لأنه سيأتي وسيتوقف بل سيجمع حوله جميع الامم ويعدّهم جميعاً لنفسه».

5- ونقرأ في كتاب «النبي أشعياي» الفصل 11 في بحث كله تشبيه:

«وستظهر نبتة من جذع يسي «1» وينتصب فرع من فروعها.

سيحكم الذليلون بالعدل والقسط. فالعدالة محور الحكم.

وستعيش الشاة إلى جانب الذئب ...

والطفل الصغير سيكون الراعي ...

وسوف لن يكون هنالك فساد وضرر في جميع أرضي المقدسة ...

لأن الأرض ستمتلئ من علم اللَّه، كالمياه التي تملأ البحار».

العلامات في كتب العهد الجديد (الاناجيل وملحقاتها):

1- جاء في الفصل 24 من انجيل «متي»:

«حيث يأتي البرق من المشرق ويظهر في المغرب، هكذا سيكون قدوم ابن الإنسان ... سيرون ابن الإنسان كيف سيقف بقدرته وجلال عظمته ...

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 52

وسيبعث بملائكته (أصحابه) وسيجمع هؤلاء أولياءَهم».

2- وورد في الفصل الثاني عشر من انجيل «لوقا»:

«اعقدوا أحزمتكم وأضيئوا مصابيحكم وكونوا كمن ينتظر سيّده، حتّى تفتحوا له الباب متى جاء ودق بابكم».

عقيدة الصينيين والمصريين وأمثالهم بهذا الشأن.

1- جاء في ص 47 من كتاب «علامات الظهور» (تدوين أحد أصدقاء صادق هدايت»:

«إنّ القسم الأعظم من المتون البهلوية المترجمة لدى «صادق» بشأن الظهور وعلامات الظهور، والواقع لو التفتنا إلى جميع المتون لديه لقلنا:

لكافة هذه المتون صبغة دينية.

... موضوع الظهور وعلامات الظهور موضوع يحظى بأهمية خاصة لدى جميع المذاهب العالمية

... حسب قول «صادق»: بغض النظر عن العقيدة والإيمان التي تعد أساس هذه الأمنية فإن كلّ فرد حريص على مصير البشرية وينشد تكاملها المعنوي، حين يصاب باليأس من كلّ شي ء ويرى البشرية غافلة وتتجه نحو الفساد والانحطاط وتتمرد على اللَّه ولا تمتثل أوامره رغم كلّ هذا التطور الفكري والعلمي المدهش، فإنّه يتوجه إلى اللَّه بوحي من فطرته الذاتية ويسأله رفع الظلم والجور والفساد. ومن هنا فقد عاش العباد على مرّ العصور والدهور انتظار المصلح العالمي ولا تقتصر هذه الرغبة على اتباع الديانات الكبرى كالزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلامية؛ بل وردت في الكتب القديمة للصينيين وعقائد الهنود، والبلدان الاسكندنافية، حتّى لدى قدماء المصريين، بل حتّى أهل المكسيك وأمثال تلك الامم».

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 53

جدير ذكره أنّ كتاب «زند، وهو من يسن» وسائر الكتب الزرادشتية ومنها البابان الأخيران من رسالة جاماسب تشتمل على النبوءة الزرادشتية على لسان جاماسب الحكيم ب «كشتاسب» الملك آنذاك اعتنق الزرادشتية المتعلق بموعود آخر الزمان، ترجم من قبل صادق هدايت من البهلوية إلى الفارسية ونشر من قبل حسن قائميان رفيق هدايت بعنوان «علامات الظهور».

قبسات من عقائد الغرب بهذا الشأن:

1- إنّ الاعتقاد بظهور المنقذ العظيم وفناء الظلم والجور عن الناس واقامة حكومة الحقّ والعدل لا تقتصر على الشرقيين والمدارس الشرقية؛ بل هو اعتقاد عام وعالمي انعكست أبعاده في مبادئ الأقوام المختلفة، وكلّ ذلك يفيد هذه الحقيقة وهي أنّ لهذه العقيدة العريقة جذور في الفطره البشرية وفي دعوة جميع الأنبياء.

ذكر في كتاب «اطلالة على الزعامة» ضمن بيان وجود انتظار ظهور منقذ عظيم لدى مختلف المجتمعات الغربية واستفادة بعض الأفراد من هذا الانتظار العام، أسماء خمسة أفراد من الأدعياء نهضوا من بريطانيا هم:

«جيمس نايلور» و «يوحنا سوثكات» و «ريتشارد برادرز»

و «جون نيكولستام» و «هنري جيمس برينس»، كما نقل عن «برنارد باربر» عالم الاجتماع الامريكي في رسالته «نهضة المنقذ» وجود مثل هذا الاعتقاد حتّى لدى زنوج أمريكا وقال:

«إنّ هذه العقيدة شائعة بين قبائل الزنوج الأمريكيين ... أنّه سيظهر يوماً ذلك الرجل ويدخلهم جنّة الأرض ... وقد أحصى التأريخ الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 54

الأمريكي لما قبل سنة 1890 أكثر من عشرين نوعاً من هذه النهضات».

ذكرنا سابقاً في بحثنا بشأن كتاب «علامات الظهور» أنّ آثار هذه العقيدة موجودة بين الشعوب الاسكندنافية والمكسيك وأمثالهم «1».

ويتبين ممّا ذكرنا- وسائر الشواهد والقرائن التي لم نوردها رعاية للاختصار- أنّه ليس هنالك منطقة معينة لهذا الانتظار؛ فهو انتظار عام وشامل وعلى نطاق عالمي وبالتالي شاهد على فطرية هذه العقيدة.

وسنرى سعة كبيرة لهذه العقيدة في الأبحاث القادمة تحت عنوان ظهور «المهدي» في العقائد الإسلامية، مع كونه تشكل عقيدة أساسية.

وكما سنرى كيف أسهم الإيمان بهذه الحقيقة الفطرية المؤيدة بالعقل في طرد غيوم اليأس وسحب الاحباط عن سماء روح الإنسان، وجند طاقاته وأعده لمستقبل مشرق وزاهر، لتكون القوى أعظم استعداداً،

والأفكار أكبر يقظة،

والاستعدادات أشمل،

والنهضات أسرع،

والعشق أعمق،

وكيف مهد السبيل لمجتمع إنساني بمعنى الكلمة؛ المجتمع الذي تذوب فيه مفردات الظلم فتنطفى ء جذوة ناره، والتمييز العنصري وما إلى ذلك من المصائب.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 55

النهضة العالمية

نهضة أم إصلاحات تدريجية

كان البحث لحدّ الآن أنّ الإنسان ينظر بعين الأمل إلى مستقبل مشرق على ضوء نداء العقل وإلهام الفطرة، المستقبل الذي يفرق كثيراً عن اليوم، والذي ستنعدم فيه كافة السحب السوداء.

ولكن يرد هنا هذا السؤال: هل سيتم هذا التغيير من خلال الاصلاحات التدريجية أم بواسطة النهضة والثورة؟

أساساً- وبصورة عامة- ليست هنالك فكرة واحدة لدى العلماء في السبيل الذي تتم من خلاله الاصلاحات الاجتماعية، فالبعض

يقول بالاصلاحات التدريجية. وبالمقابل هناك البعض الآخر وهم الثوريون الذين لا يرون امكانية حدوث أي تغيير جذري في أوضاع المجتمع البشري دون النهضة.

يعتقد هؤلاء أنّ التغيير الذي يصيب الطبيعة إنما يقوم على أساس قفزة ونهضة، ولا جدوى من التغييرات التدريجية «الكمية» والتي تتخذ صيغة «كيفية» وتنقلب ضدها لأدنى نهضة. وقد أورد أصحاب هذه الفكرة وفي كافة التغييرات الاجتماعية عدة دوافع وعناصر في كيفية النهضة وتغيير

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 58

المجتمعات، تفتقر جميعها للدليل، ولا تنطبق على القضايا التأريخية والشواهد العينية، مع ذلك لا يمكن انكار فاعلية هذه الفكرة في عدة ميادين.

توضيح ذلك:

الذي يبدو أقرب إلى الواقع أنّ درجات الفساد في المجتمعات متفاوتة؛ فالموضع الذي لم يستشر فيه الفساد، يمكن للإصلاحات التدريجية أن تكون أساس التغيير فيه.

بينما لا جدوى من التغيير في المواضع التي تتسع فيها رقعة الفساد سوى من خلال النهضة الشاملة ليمكنها التغلب على الارباكات.

وكأن الأمر أشبه ببناء عظيم يراد ترميمه بالتعمير التدريجي واعادته إلى سابق جماله؛ أما حين يتحطم البناء من الأساس وتشرف اسسه على التآكل، فليس هنالك من سبيل سوى هدمه من الأساس واعادة بنائه.

ولدينا عدة شواهد على صحّة هذا الاعتقاد:

1- توضع الاصلاحات التدريجية دائماً على تلك الاسس القديمة ويتوقف تأثيرها على سلامة الاسس، وبعبارة اخرى فإنّ النماذج والضوابط في «الإصلاحات» هي تلك النماذج والضوابط القديمة، وهي مجدية في المواضع التي تكون فيها النماذج سالمة، وإلّا ليست هنالك من ثمرة، ذلك أنّ الدار خاوية من الأساس. وهنا ينبغي البحث عن نماذج جديدة والتعامل مجدداً مع القضايا الأساسية باتجاه التغيير.

2- غالباً ما تنشأ الإصلاحات التدريجية من خلال الطرق السلمية، وتعتمد عادة على «المنطق» في أغلب المواقع، ويتوقف تأثيرها على الاستعداد الفكري للمجتمع، وإلّا

فلابدّ من اللجوء إلى الثورة على أنّها تمثل الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 59

منطق القوة، وإن كان للمنطق دوره البارز في التحولات الثورية، إلّاأنّ الحرف الأوّل والأخير للقوة الثورية. فالاستعانة بالأساليب غير الثورية في المجتمعات التي تجذر فيها الفساد، تؤدي إلى تحصن عناصر الفساد إزاء الإصلاحيين والتسلح بالوسائل المتاحة لمواجهة أسلحة الاصلاح. بالضبط كالمكروب القوي الذي يتحصن تجاه الاستعمال التدريجي للدواء ويواصل نشاطه، ولا يمكن القضاء عليه سوى بهجوم خاطف لذلك الدواء!

3- تستحوذ العناصر الفاسدة المقتدرة المضادة للإصلاح في المجتمعات التي تجذر فيها الفساد على كافة المراكز الحساسة في المجتمع ويستطيع هذه العناصر احباط كلّ مشروع إصلاحي تدريجي بسهولة؛ إلّاأن تُباغت ويقضى عليها بحركة ثورية قبل أن يأخذ حذرها وتتجمهر وتتجهز!

4- لا يمكن الابقاء على القوى الثورية والإصلاحية وديمومة فاعليتها وتحمسها لمدة طويلة، وما لم تستثمر طاقاتها في الموقع المناسب فلربما تضيع جهودها على مرور الزمان وتفقد حيويتها؛ فتتاح الفرصة للعناصر المضادة باختراق صفوفها بالتدريج، وعليه فلابدّ من الاستفادة القصوى حين ممارسة الإصلاحات الشاملة من هذه العناصر وبالسرعة الممكنة.

5- يشير التاريخ أيضاً إلى أنّ هذه الطائفة من المجتمعات لم تنتظم من خلال الإصلاحات التدريجية، بل تمّ إصلاحها عن طريق الثورة والنهضة.

وقد اعتمد الأنبياء العظام وقادة الاصلاح الاسلوب الثوري في مواجهتهم لمثل هذه المجتمعات، وقد استماتوا في ميادين الجهاد بعد أن جندوا كلّ قواهم وطاقاتهم في هذا المجال.

وخير مثال على هؤلاء الثوريين الأبطال أنبياء اللَّه نوح وموسى وعيسى الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 60

وإبراهيم وفي مقدمتهم نبي الإسلام سلام اللَّه عليهم جميعاً.

كما عرف بالثورية سائر العظام من الرجال والنساء الذين مارسوا مهمة الاصلاح وغيروا مسيرة مجتمعاتهم. وهذا بحدّ ذاته دليل حي على أنّ إصلاح مثل هذه

المجتمعات لا يتم سوى من خلال الثورة.

ويبدو الأمر أكثر وضوحاً بالنسبة لممارسة الاصلاح العام لأوضاع العالم والاطاحة بالنظام المعاصر القائم على أساس الظلم والجور وارساء قواعد نظام عادل خالٍ من كلّ هذه المفاسد. فإذا كان الأمر كذلك فأنّى للإصلاحات التدريجية أن تقوم بهذه المهمة في ممارسة التغييرات الشاملة؟!

هنا لابدّ من القول:

إذا أريد لعالمنا المعاصر المليى ء بالظلم والجور والفساد أن ينقذ من هاوية الفناء والعدم فليس هنالك من سبيل سوى قيام الثورة الشاملة. الثورة على جميع المستويات:

الثورة على المستوى الفكري والثقافي والأخلاقي والاقتصادي والسياسي، وفي مجال القوانين والمشاريع، وإلّا فليس هنالك سوى السقوط في النيران المحرقة لحرب عالمية شاملة.

الثورة المادية أم المعنوية؟

البحث الآخر الذي يتمم البحث السابق: بالاستناد إلى الأدلة العديدة التي تبين مسيرة الحياة البشرية في خاتمة المطاف إلى العدل وانقشاع سحب الظلمة من سماء الحضارة البشرية، فانه يرد هذا السؤال: أنّ هذه الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 61

الثورة الشاملة التي ستنفذ هذا المشروع تحصل من خلال تكامل القوانين المادية أم ينبغي أن تحقق ذلك الهدف بالاستعانة بالمصادر المعنوية؟

بعبارة اخرى، هل يسع هذه الحياة أحادية الجانب وتكاملها تحقيق الهدف المذكور، أم لابدّ من التكامل الشامل والتام بحيث يتم: إحياء القيم والمثل الإنسانية.

تفعيل المسائل الأخلاقية بشكل واسع.

إنعاش الإيمان والعاطفة.

والسيطرة من خلال ذلك على طغيان الحياة المادية؟

يشير التمعن في الجذور الرئيسية للبؤس والشقاء والارباك الراهن إلى أن تكامل هذا الوضع هو في الواقع تكامل التعاسة، ومواصلة هذا الطريق ستكون مواصله الازمات.

وذلك لما يلي:

إن أعدل أساليب الحكم في عالمنا المعاصر هو اسلوب الحكومة الديمقراطية (حكومة الشعب لنفسه بنفسه) والذي لا يطالعنا منها في أغلب مناطق العالم سوى اسمها.

ولو افترضنا أنّ هذا النظام طبق بمفهومه الواقعي في كافة أنحاء العالم، فانه

سيخلف العديد من المعضلات.

توضيح ذلك:

تفيد الدراسة الإجمالية أنّ في العالم أربعة أنواع من الحكومات هي:

1- الحكومة الاستبدادية (في صورتها الحقيقية) المراد حكومة استبداد فرد يعلم وضعه في الماضي والحاضر، ويمكن القول باختصار: إنّ كلّ بؤس الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 62

وشقاء وعبودية وتخلف أصاب الإنسان إنما أفرزته هذه الحكومة المقيتة.

2- الحكومة الاستبدادية (بلباس الديمقراطية) أي تلك الحكومة الفردية المستبدة والجبارة الطاغية التي تتمشدق بالديمقراطية وتحاول محاكاتها في انشاء الحزب والمجلس المزيف؛ الحزب والمجلس الذي تعد قائمة أعضائه سلفاً وهكذا سائر العناصر الذين يؤهلون للقيام بوظائفهم من خلال ظهورهم على مسرح الأحداث. طبعاً يجلسون معاً خلف الكواليس يشربون ويأكلون ويمرحون ويمزحون، وحين يظهرون يتخذ أحدهم موقف المعارض والآخر الموافق، هذا من التيار المحافظ وذلك من التيار المعتدل ويفتعلون بعض الأزمات فيما بينهم بغية خداع العوام الذين لم تعد تنطلي عليهم هذه الألاعيب، بل يلجأون أحياناً إلى بعض الحركات العنيفة لإكمال الخطة.

لم يكن لهذه الحكومة من وجود في التاريخ الماضي وذلك لبساطة ووضوح الناس والحكّام وربّما لم يكن يسع عقولهم عرض الاستبداد في إطار الديمقراطية.

فقد ظهرت هذه الحكومة في عصرنا؛ عصر النفاق وتغيير المواقف والثمرة المرة التي ترتدي حلة اليوم بينما قعود نواتها إلى الماضي، ولا هم لهذه الحكومة سوى تأخير عملية انقاذ الشعوب ممّا هي عليه وتحريرها من قيودها.

3- الحكومة الاستبدادية الجماعية (دكتاتورية البرولتاريا) لم تكن هذه الحكومة بهذا المضمون في الماضي وهي وليدة عصر اتساع حياة المكننة وتقتصر على البلدان الشيوعية التي تتزعم فيها البرولتاريا (طبقة العمال)

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 63

دفة الحكم، وتحقق تطلعاتها في كافة المجالات تحت راية الماركسية.

ورغم أنّ الماركسيين هم الذين اختاروا عنوان دكتاتورية البرولتاريا كشعار لحكومتهم، لكن وبغض النظر عن

المفاهيم الكامنة في هذا العنوان لابدّ من الوقوف على هذه القضية وهي:

هل طبقة البرولتاريا تحكم هذه المجتمعات أم أعضاء اللجنة المركزية للحزب والأمين العام لهذا الحزب؛ الحزب الذي يفتقر إلى الشمولية وتغيب فيه الانتخابات الحرة وليس فيه سمة من ديمقراطية، أما استبداد قادة الحكومة واللجوء إلى العنف ومصادرة حرية الآخرين، فليست بالامور الخافية على الآخرين.

ولو تأملنا التاريخ وما حفل به من حكّام مستبدين وطغاة، وحقب عانى فيها الناس من صنوف العذاب لتقدم كلّ من إستالين وخروشوف وماو قافلة أولئك الحكّام. صحيح أنّ زعماء هذه المجتمعات خطوا خطوات مؤثرة باتجاه توزيع الثروات، وصحيح أنّهم وضعوا حدّاً لعصور الأثرياء الخرافية، ولكن هل يمكن غض الطرف عن هذه الحقيقة الناصعة وهي أنّهم ينفقون المليارات من ثروات بلدانهم لترسيخ دعائم حكومتهم، ويفعلون دون وازع كلّ ما يروق لهم، ويسلبون شعوبهم حقّ ابداء الرأي والنقد والتظاهر والاحتجاج وكافة أنواع الاستجواب.

4- الحكومة الديمقراطية (في صورتها الحقيقية) يمكن ايجاز مفهوم هذه الحكومة التي تمثل أرقى أنواع الحكومات المعاصرة والتي يتباهى بها أغلب القادة والزعماء، في عبارة قصيرة وهي: يبدو أنّ الشعب بجميع طبقاته يستطيع ظاهراً في ظلّ هذه الحكومة أن يتقدم بكلّ حرية إلى الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 64

صناديق الاقتراع ويصوت لصالح ممثليه، فيفوض مصيره ومستقبله لعدة سنوات- وفق ضوابط معينة- لهؤلاء الأفراد. ولهؤلاء الأفراد من خلال تبادل وجهات النظر والمشورة أن يسنوا بعض القوانين التي يعتقدون أنها تتكفل بحفظ مصالح الآخرين.

وقد ينتخب رئيس السلطة التنفيذية من قبل هؤلاء الممثلين أحياناً، وأحياناً اخرى ينتخب مباشرة من قبل الشعب ليكون رئيساً للوزراء أو رئيساً للجمهورية.

مثالب الحكومة الديمقراطية:

رغم الامتيازات التي تطبع هذه الحكومة، إلّاأنّ التعمق فيها والتأمل يجعلنا نقف على صورتها المرعبة والتي تناقض

صورتها الظاهرية الجميلة، لما يلي:

1- الاستغلال الطبقي- الحصيله الاولى لهذه الحكومة، أي حكومة «الأكثرية»- بالنظر إلى أنّ الإقلية ليست عدداً قليلًا من الأفراد على الدوام وزهيدة بحيث يمكن اهمالها في الحسابات الفئوية- أنها تسمح بالاستغلال الجماعي ويجيز لواحد وخمسين بالمئة من شعوب العالم فرض أفكارهم وتطلعاتهم على تسعة وأربعين بالمئة من سائر الناس؛ حيث تغيب مصالح وحقوق شريحة واسعة من الشعب بغية حفظ منافع شريحة اخرى تمثل الأكثرية وقد لا تزيد سوى بنسبة اثنين أو واحد بالمئة على الأقلية.

وهذه في الواقع ضربة مهلكة إلى العدالة والحرية في عالم البشرية والتي تتم في ظلّ أرقى أشكال الحكومة.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 65

2- الأقلية في صيغة الأكثرية- الأسوأ من ذلك ما في هذه الحكومة التي تلبس فيها «الأقليات» ثوب «الأكثرية» وتفرض عليها آراءَها؛ فأصحاب «الثراء» و «الاقتدار» إنّما يغسلون أدمغة الأكثرية ويمهدون الأجواء أمام تحقيق أطماعهم ومآربهم ليأتوا بحكومة لا تغطي سوى متطلبات ومصالح الأقلية المستكثرة من خلال سيطرتهم على وسائل الارتباطات وإعدادهم لبعض الفئات وتغذيتهم بأهدافهم ومشاريعهم وخططهم واستحواذهم على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والصحافية.

ومن هنا فليس هنالك ما يدعو إلى الدهشة أن نرى في البلدان التي تدار من قبل هكذا حكومة، أن تكون الحكومات «عادة» ممثلة وراعية لمصالح البورجوازيين وكبار الرأسماليين (رغم وجود الانتخابات الحرة ظاهراً والمشاركة العامة للناس في التصويت). طبعاً إن استطاعت الأكثرية أن تُنحّي هذه الفئة بادئ الأمر عن السلطة ومن ثمّ تجري الانتخابات، فربّما تتمكن الأكثرية الحقيقية من زعامة الشعب، إلّاأنّ هذا العمل يبدو محالًا ينبثق من الدور والتسلسل كما يصطلح على ذلك في الدين.

ولو استطعنا توجيه حكومة الأكثرية الواقعية للأقلية بنحو معين، فمن المسلم أنّه ليس هنالك من توجيه لحكومة

الأقلية المستغلة للأكثرية المستغلة.

3- عدم التساوي في ظروف المساواة- لكلّ فرد في أية ظروف رأي في ظلّ هذا النظام الحكومي، أي:

هناك مساواة تامة بين العالم الفاضل والفرد الامّي الجاهل وكذلك بين السياسي الحاذق والرصين والوطني والفرد الساذج والخام، والإنسان الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 66

العفيف الطاهر مع السارق الجاني ...

وهذا ظلم فاحش، ذلك لأن أحدهما يعدل نظيره ألف مرة في صنع المستقبل وتقرير المصير. صحيح إننا إن أردنا أن نميز الأفراد نصطدم بفقدان المعيار والضابطة الواضحة، ولكن مهما كان الأمر فهذا نوع من العجز تختزنه طبيعة الحكومة الديمقراطية المادية الغربية.

4- المتابعة بدل الزعامة- يرى الحكّام ووكلاء المجلس في هذا النظام أنفسهم ملزمين برعاية متطلبات الأكثرية (دون أي قيد أو شرط)، ذلك لحاجتهم إليهم في الحاضر والمستقبل، وإلّا تعرضت مواقعهم للخطر. وعليه فالزعامة في هذا النوع من الحكومة تتخلى عن موقعها للمتابعة، فلا يقتصر الأمر على المتابعة للفساد والظلم والانحراف والانحطاط الاجتماعي بكافة اشكاله والذي يحظى برغبة الأكثرية، بل تتشدد وتستفحل كلّ هذه الأمراض.

وعلى هذا الضوء فلا غرابة أن نسمع على سبيل المثال بمصادقة المجلس البريطاني على «زواج المثل» ويشرعها كقانون، ذلك لأنّ لهؤلاء الأفراد ممثل أو عدة ممثلين في البرلمان! ولك أن تتصور على هذا الأساس مدى بعد هذه الحكومة المثالية المادية عن روح المثالية، وذلك لأنه:

أوّلًا: أنّ القوانين المادية على فرض أنّها مفيدة للضعفاء ومدعاة للعدالة تفتقر لأية ضمانة للتنفيذ، ذلك لأنه ليس هنالك من معنى وأهمية للعدالة في الوسط الذي تتعين فيه كافة القيم على ضوء المعايير المادية بالنسبة للأقوياء الذين يرونها تستلزم إغماضهم عن الكثير من منافعهم وامكاناتهم المادية، وعليه فالضعفاء وحدهم هم الذين يتحدّثون في هذه الأوساط عن الحكومة العالمية للإمام

المهدى(عج)، ص: 67

العدالة والمساواة، لا الأقوياء، أما إن كان الكلام عن القيم المعنوية فالعدالة ستكون مهمة للجميع، ذلك أنّهم ينالون بعض المثل المعنوية والفضائل وإن تعرضت بعض مصالحهم للخطر بفعل تطبيق العدالة.

والنموذج الواضح على ذلك، المنظمات الدولية الواسعة التي ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية، فهذه المنظمات التي تعتبر من أهم المراكز الساعية لضمان السلام العالمي وينشط فيها ساسة العالم ومفكروه، ما زالت لحدّ الآن أُلعوبة بيد الدول الكبرى، أو لم تعد أكثر من صالة لعقد المؤتمرات والاجتماعات والتي يسمح فيها للبلدان الصغيرة بالتحدّث لمدة وجيزة.

ثانياً: تفيد الدراسات التاريخية والتجارب أنّ شعور الإنسان بالحاجة إلى المزيد لا يلبى أبداً من خلال الطريق المادي؛ أي أنّ الإنسان لم يبلغ لحدّ الآن مرحلة ليقول أكتفي بهذا المقدار. فطلبات الإنسان ورغباته مفتوحة، بينما تمتاز الامكانات المادية مهما ازدادت بالمحدودية، وليس من شأن هذه الامكانات المحدودة تلبية تلك المتطلبات غير المحدودة، وهذا «التضاد بين المتطلبات والامكانات» هو الذي أفرز الحرب كونها من اللوازم الدائمية للحياة المادية.

لكن إن استعادت المعنويات والإيمان باللَّه والالتفات إلى القيم الإنسانية والأخلاقية والشعور بالمسؤولية إزاء ذلك المبدأ العظيم الذي يفوق الماديات وعالم المادة حيويته وفعاليته، فله أن يهذب هذه الغريزة ويحد من جموحها ويضعها في مسارها الصحيح، ويجلب الأمن والسلام بدلًا من الفوضى والحرب. وبعبارة اخرى فإنّه يمكن اشباع غريزة طلب المزيد عن طريق الامور المعنوية التي لا تعرف أية محدودية، آنذاك سيزول ذلك الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 68

التضاد الذي يعد العنصر الرئيسي للحرب والظلم.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 69

الاستعدادات الضرورية للحكومة العالمية

الاستعدادات العامة

اشارة

لابدّ أن نذعن بأنّ بلوغ تلك المرحلة التأريخية التي:

يجتمع فيها كافة الناس تحت راية واحدة، وتزول فيها الاسلحة الفتاكة، وتنعدم فيها الطبقات المستعمرة (بالفتح) والمستعمرة

(بالكسر)، وتنتهي فيها النزاعات والألاعيب السياسية والعسكرية للدول العظمى ويتخلص العالم من اسم «العظمى» وكابوس قدرتها الجهنمية، وتتحول فيها المنافسة الاقتصاديه البغيضة والهدامة إلى تعاون وتكاتف بشري من أجل حياة أجمل ومعيشة أرغد، ...

كلّ هذه الامور تبدو مبكرة وتتطلب استعداداً عاماً، مهما كنا متفائلين ونشعر بالأمل.

لكن بالنظر إلى التطورات والتغيرات التي تحدث بسرعة في العصر الأخير فلا ينبغي أن نراها بعيدة أيضاً لتصبح رؤيا خيالية.

على أيّة حال هنالك أربعة استعدادات ينبغي توفرها لقيام هذه الحكومة.

1- الاستعداد الفكري والثقافي

أي، ينبغي أن يبلغ المستوى الفكري للناس درجة تجعلهم يدركون بأن قضية «العرق» أو «المناطق الجغرافية المختلفة» ليست بالامور الجديرة بالاهتمام في حياتهم، وليس للخلافات على أساس اللون واللغة والأرض أن تفرق بين أبناء البشر، ويجب أن تموت وإلى الأبد العصبيات القبلية والفئوية، ولابدّ من طرح الفكرة المقيتة القائلة بالجنس الأفضل، وليس لهذه الحدود المصطنعة والأسلاك الشائكة والجدران الأثرية كجدار الصين أن تبعد الناس بعضهم عن البعض الآخر،

بل ينبغي النظر إليها كضياء الشمس والنسيم المنعش وسحب السماء وسائر النعم التي لا تعرف من معنى لهذه الحدود والأعراق وتغذي الجميع، وأن يعتبروا العالم بأسره دولة صغيرة.

ولو أمعنا النظر لرأينا أنّ هذا التفكير قد تبلور وتكامل لدى مفكري العالم ومثقفيه، بل أبعد من ذلك فقد جرى الحديث عن اللغة العالمية الواحدة، وقد اقترح لذلك لغة معينة توحد الجميع وقد طبعت عدة كتب بهذه اللغة.

2- الاستعداد الاجتماعي

لابدّ أن يمتعظ الناس من الظلم والجور والأنظمة السائدة، ويشعروا بمرارة هذه الحياة المادية، واليأس التام من أنّ مثل هذه الحياة الاحادية النزعة يمكنها في المستقبل حل المشاكل القائمة.

ينبغي أن يدرك العالم أنّ البشارة في القرن 18 و 19 م بشأن المستقبل الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 73

الزاهر للحضارة البشرية في ظلّ التطور الآلي، لم تكن في الواقع سوى حلم أو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

فقد اتسعت رقعة الارباكات الماديه وعدم الأمن والاستقرار، إلى جانب غياب حالة الرفاه والرخاء.

وليس فقط لم تزُل القوانين التي تبدو رصينة والظلم والاستعمار والاستغلال والتفاوت الطبقي الفاحش فحسب، بل استفحل الفساد السابق ليتخذ أشكالًا وانماطاً مرعبة.

إنّ الوقوف على عمق خطورة الوضع الموجود إنما تستلزم بادئ الأمر حالة التفكير، ثمّ الترديد، وبالتالي اليأس من الوضع العالمي القائم والاستعداد للنهضة

الشاملة على كافة الأصعدة وعلى ضوء القيم الجديدة.

فليس هنالك من سبيل لبلوغ تلك المرحلة دون هذا الأمر.

3- الاستعدادات التقنية

خلافاً لما يراه البعض من أن بلوغ مرحلة التكامل الاجتماعي وعالم مفعم بالأمن والعدل والسلام يقترن ضرورة بالقضاء على التقنية المعاصرة، بل الواقع أنّ هذه التكنولوجيا المتطورة ليس فقط لا تحول دون قيام حكومة العدل العالمية فحسب، بل ربّما يستحيل بدونها تحقيق تلك الحكومة. فلابدّ من وجود سلسلة من الأمكانات والوسائل الغاية في التطور بغية إيجاد مثل ذلك النظام العالمي ومن ثمّ السيطرة عليه، والتمكن من الطوف في أرجائه خلال فترة زمنية قياسية وايصال المعلومات إلى مختلف مناطقه البعيدة.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 74

فلو عادت الحياة الصناعية لوضعها القديم لتطلب ايصال رسالة من منطقة معينة في هذا العالم إلى اخرى مدّة سنة، فكيف يمكن إرساء قواعد الحكومة العالمية وبسط العدل والقسط في كافة أرجائها؟ أم كيف يمكن تحقيق هذا الهدف أن تطلب القضاء على حفنة من الاشرار- الذين يفترض وجودهم حتّى في مثل هذه الحكومة- مدة زمانية طويلة لكي تقف الحكومة على أوضاعهم والمبادرة إلى القضاء عليهم؟

وزبدة الكلام فإنّ مثل هذه الحكومة وبغية اشاعة الأمن وبسط العدل في ربوع العالم تحتاج إلى العلم بكافة المناطق والسيطرة التامة لتتمكن من تربية المجتمع المتأهب للاصلاح، إلى جانب الإبقاء على وعيه وحيويته، والتجهز لكلّ فرد يحاول المساس بنظام تلك الحكومة. ولعلّ من يفكر عكس ذلك كأنه لا يفكر في مفهوم الحكومة العالمية ويقارنها بالحكومات المتداولة المحدودة.

ويبدو أنّ العالم الذي يريد أن يبلغ هذه المرحلة ينبغي أن تتسع فيها رقعة وسائل التربية والتعليم وتتصف بالشمولية بحيث تستند أغلب مشاريعها إلى التثقيف الذاتي، وهذا بدوره يتطلب مراكز ثقافية فاعلة ووسائل ارتباط عامة وصحافة

وكتب ضخمة والتي لا تتيسر جميعاً دون وفرة الآلات الصناعية المتطورة.

أجل، يمكن قيام مثل هذا النظام دون الوسائل الصناعية المتطورة إن كانت هناك معجزة في هذه العملية، ولكن هل تتم إدارة شؤون المجتمع البشري على ضوء المعجزة؟

إنّ المعجزة عبارة عن استثناء منطقي في النظام الجاري للطبيعة بغية

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 75

إثبات حقانية دين سماوي، وليست لإدارة امور الامّة، وعليه فلابدّ أن تتم هذه الادارة وفق القوانين الطبيعية.

سنتحدث في المباحث القادمة أيضاً عن هذا الأمر.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 77

الانتظار

مفهوم الانتظار:

يطلق «الانتظار» أو «التطلع إلى المستقبل» على الإنسان الذي يسأم الوضع القائم ويسعى إلى وضع أفضل. على سبيل المثال، المريض الذي ينتظر الشفاء أو الأب الذي ينتظر قدوم ولده من السفر، إنّما يأنان من المرض والفراق، ويسعيان إلى نيل وضع أحسن.

وكما أنّ التاجر الذي يعيش الامتعاظ من السوق المتقلبة ويترقب جلاء الأزمة الاقتصادية، ينطوي على هاتين الحالتين:

«عدم التكيف مع الوضع القائم» و «السعي لوضع أحسن».

وعليه فإنّ مسألة انتظار حكومة الحقّ والعدل وقيام المصلح العالمي «المهدي» تتركب في الواقع من عنصرين؛ عنصر «النفي» وعنصر «الاثبات». وعنصر النفي هو عدم التكيف مع الوضع الموجود، وعنصر الاثبات هو السعي إلى الوضع الأفضل.

الانتظار في عمق الفطرة الإنسانية:

خلافاً لاعتقاد البعض بأنّ المحور الرئيسي لانتظار ظهور المصلح الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 78

المطلق يكمن في الاحباطات والارباكات على مستوى الأفكار، فإن عشق هذا الأمر إنّما يرتبط بأعماق الإنسان؛ بصورة مركزة أحياناً وخفيفة أحياناً اخرى، بعبارة اخرى أنّ الإنسان يتعامل بطريقين- العقل والعاطفة- مع هذه المسألة، ويسمع نغمة هذا الظهور عن طريق لسانين هما «العقل والفطرة».

وبعبارة أوضح فإنّ الإيمان بظهور المصلح العالمي جانب من «عشق المعرفة» و «عشق الجمال» و «عشق الخير والفضيلة» (ثلاثة أبعاد من أبعاد الروح الإنسانية الأربعة)، حيث تؤول صنوف العشق هذه إلى الذبول والموت دون ذلك الظهور.

ولعلّ هذا الكلام يحتاج إلى توضيح أكثر، ذلك إننا نعلم أنّ «عشق التكامل» شعلة خالدة تضيى ء أنحاء وجود الإنسان، فهو يريد العلم بالمزيد، ويرى المزيد من الجمال، وينفتح على الكثير من الفضائل، والخلاصة، يسعى لتوفير كلّ ما يقوده إلى الرقي والازدهار.

لا يمكن ربط ظهور هذه الدوافع بالعوامل الاجتماعية والنفسية. ورغم أنّ لهذه العوامل دوراً مهماً في إضعافها أو إثارتها، غير أنّ وجودها هو جزء من

الأبعاد الأصلية لروح الإنسان وتركيبته النفسية، بدليل عدم افتقار أية أمّة لمثل هذه الدوافع. وزبدة القول فإن حبّ الإنسان للرقي والتكامل وانفتاحه على العلم والمعرفة والجمال والخير والفضيلة والعدل تمثل رغبة أصيلة ودائمية خالدة، وانتظاره لظهور مصلح عالمي مطلق هو ذروة هذه الرغبة والحبّ. «ينبغي التأمل في هذا الموضوع!».

كيف لا يكون للإنسان مثل هذا الانتظار وشعلة حبّ التكامل تتوقد في جميع أحشائه! وهل يتكامل المجتمع البشري دون ذلك!

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 79

وبناءً على هذا فإنّ هذا الشعور يساور باطن كلّ من لم يعِش حالة الاحباط والانكسار في حياته ... هذا من جانب. ومن جانب آخر، كما تساعد الإنسان أعضاؤه في السمو والتكامل، ولا يسعنا أن نظفر بعضو يغيب دوره بصورة مطلقة في هذه الحركة التكاملية، فإن خصائص الإنسان النفسية كذلك؛ أي لكلّ منها دور مهم في تقدّم مشاريعه الأصيلة. مثلًا «الخوف من العوامل الخطيرة» الكامن في وجود كلّ إنسان درع يحفظه من تلك المخاطر.

و «الغضب» الذي يستشعره الإنسان حين يرى خطراً يهدد مصالحه، وسيله لمضاعفة القدره الدفاعية وتعبئة كافة طاقاته البدنية والروحية بغية إنقاذ مصالحه من الخطر. وعليه فإن حبّ التكامل وحبّ السلام والعدل وسيلة لبلوغ هذا الهدف العظيم، وبمثابة ماكنة قوية تحرك عجلات وجود الإنسان في هذا الطريق، وتساعده في الوصول إلى عالم مليئ بالعدل والسلام.

من جانب آخر فإنّه لا يمكن للأحاسيس والأجهزة في جسم الإنسان وروحه أن لا تنسجم مع عالم الوجود؛ لأن عالم الوجود برمته وحدة واحدة متصلة، ولا يمكن لوجودنا أن ينفصل عن سائر العالم. ويمكننا أن نستنتج من هذا الاتصال أنّ كلّ حبّ وعشق أصيل في جودنا دليل على وجود «معشوقه» و «هدفه» في عالم الوجود، وهذا العشق وسيلة

تقربنا منه. أي إن عطشنا ورغبنا بالماء فإن ذلك دليلٌ على وجود «الماء»، وقد أودع عالم الخليقة العطش في وجودنا.

وإن ملنا للجنس الآخر فإنّ ذلك دليلٌ على وجود هذا الجنس في الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 80

الخارج، كما أنّ عشقنا للجمال والمعرفة دليل على وجود العشق والجمال في عالم الوجود.

ونخلص من هذا أنّ انتظار الناس للمصلح العالمي الذي يملأ العالم بالعدل والسلام، دليل على امكانية وعملية ذروة هذا التكامل في المجتمع البشري، فعشقه وانتظاره في أعماق أرواحنا وأنفسنا. وعمومية هذا الاعتقاد في كافة المذاهب والمدارس علامة اخرى على أصالته وواقعيته؛ لأن الشي ء إن كان وليد الشرائط المعينة والمحدودة، لا يمكنه أن يحظى بهذه الشمولية، فليست هنالك من شمولية سوى للقضايا الفطرية؛ وكلّ هذه الامور دليل على أنّ هذه النغمات تعزف في روح الإنسان عن طريق لسان عاطفته وفطرته في أنّ الأمر سيؤول إلى إرساء العدل والسلام في حكومة العدل العالمية من جانب المصلح العالمي.

فلسفة الانتظار:

لعلّ هذا السؤال يطرح نفسه:

ما النتيجة المتوخاة اليوم من الحديث عن مستقبل العالم البشري؟

لدينا اليوم آلاف المشاكل والأزمات وينبغي لنا التفكير في معالجتها والتغلب عليها، فما علاقتنا بالمستقبل؟

إنّ الغد سيأتي خيراً كان أم شراً، ومن سيبقى يشهد ذلك، ومن يموت فاللَّه يرحمه! على كلّ حال هذه قضية بعيدة وليس لها من آثار ايجابية على حياتنا الراهنة!

نرى أنّ هذه كلمات من ينظر بسذاجة وسطحية للأحداث، ويتصور

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 81

انفصال اليوم عن الأمس والغد؛ ويعتقد بأن العالم يتركب من وحدات متباعدة ومتناثرة ومتفرقة.

ولكن بالنظر إلى أنّ جذور «أحداث اليوم» تمتد إلى الأمس، وأنّ علينا أن نصنع الغد من اليوم، وأنّ للالتفات إلى مستقبل «مظلم» أو «مشرق» انعكاس آني على حياتنا المعاصرة

ومواقفنا إزاء الحوادث، فإنّه تتضح ضرورة دراستنا للماضي والمستقبل من أجل اليوم والوقت الحاضر، وسنرى عمّا قريب فاعلية هذا الانتظار العظيم.

إلّا أنّ العجيب في الأمر هو أنّ بعض الكتاب لم يتنكروا للجانب الايجابي لهذه القضية فحسب، بل صرّحوا بأنّ لمثل هذا الانتظار جوانبه السلبية في شلّ القدرات الاجتماعية والقضاء عليها! والأعجب من ذلك ما يراه البعض الآخر من أنّ الإيمان بمستقبل مشرق انعكاساً للحرمان الذي تعيشه الطبقة المسحوقة والذي يتخذ عادة صبغة دينية.

ولكن لا يمكن انكار هذه الحقيقة في أنّ هنالك بعض ضيقي الافق الذين يسعون لاستغلال قضية الانتظار، وقد تخلوا عن جميع مسؤولياتهم بذريعة الانتظار، والاكتفاء بها على نطاق اللسان! وأرى من الضروري- لإزالة إساءة الفهم من الجانبين- أن أُطلع الاخوة القرّاء على الرسالة التي كتبتها سابقاً بشأن هذا الموضوع:

الأحكام غير المدروسة:

رغم ما يعتقده بعض المستشرقين بأنّ الإيمان بالمصلح العالمي «رد فعل» لوضع المسلمين المأساوي طيلة الحقب التاريخية المظلمة؛ ورغم الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 82

تأثر بعض الباحثين الشرقيين والمسلمين بأفكار الغرب وإثارتهم لهذه القضية؛ حتّى أنّهم يصرون على أنّ الإيمان بالمهدي عقيدة مستوردة من عقائد اليهود والنصارى، وعلى الرغم من سعي جماعة من علماء الاجتماع من المدرسة المادية لبلورة قضية انتظار المهدي كدليل على أفكارهم، في أنّ جذور هذه العقيدة اقتصادية تهدف تخدير أفكار الطبقة الكادحة والمحرومة، رغم كلّ ذلك، لابدّ من الالتفات إلى أنّ لهذه العقيدة جذوراً فطرية راسخة تمتد إلى أعماق عواطف الإنسان إلى جانب تجذرها في المصادر الإسلامية المهمة.

ولعلّ الدراسات المقتضبة لهؤلاء الباحثين من جانب، والرغبة بالتوجيه المادي لكلّ فكر وعقيدة دينية من جانب آخر، هي التي أفرزت مثل هذه الأفكار.

والغريب في الأمر أنّ بعض الباحثين الغربيين مثل «مارغلي يوت» قد

أنكر الأحاديث الإسلامية الواردة في المهدي وقال:

«كيفما فسروا هذه الأحاديث فليس هنالك من دليل مقنع في أنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله قال بضرورة وحتمية ظهور مهدي لاحياء الإسلام وتحقيق كماله؛ إلّاأنّ نيران الحروب الأهلية بين أبناء الجيل الواحد بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله واضطراب العالم الإسلامي إثر الاختلاف، أدّى إلى اقتباس فكرة ظهور المنقذ من اليهود أو النصارى الذين ينتظرون عودة المسيح وظهوره».

ولا أدري ما هي الكتب التي رآها «مارغلي يوت» من المصادر الإسلامية بهذا الخصوص، وكيف لم يعثر في تفاسيرها على دليل يقنعه،

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 83

والحال وردت عدّة أحاديث صريحة في مصادر الفريقين بشأن الظهور حتّى بلغت حدّ التواتر. أم كيف لا يكون لكلّ علماء الإسلام والمحققين دون استثناء (سوى النادر منهم كابن خلدون الذي أعرب عن ترديده في أحاديث المهدي في مقدمته التاريخية) من نقاش في صدور هذه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و آله واقتصرت كلماتهم على القضايا الفرعية والجزئية، بينما لم يقتنع «مارغلي يوت»؟

ينبغي أن يجيب بنفسه عن هذا السؤال.

ويقول البعض الآخر:

«إننا ننظر إلى نتائج هذا الانتظار، ولا يعنينا العمل به ودوافعه، والتي تؤدي إلى احتمال المعاناة والصبر إزاء الارباكات والاستسلام إلى الظلم والجور والتهرب من المسؤولية. إننا ننظر إلى هذا في أنّ هذا الانتظار يقذف بالطبقات المحرومة في عالم الخيال ويجعلهم يغفلون عمّا يدور من حولهم، ويدعوهم إلى الكسل والهروب من الالتزامات الاجتماعية. وبعبارة اخرى، فهو من الناحية الفردية عامل للركود والسكون، ومن الناحية الاجتماعية فهو وسيلة لإخماد حركات الشعوب ضد الاستعمار، وكيف كان فاثاره السلبية واضحة».

إلّا أننا نعتقد أنّ الباحث الواعي الذي لا يريد اصدار الأحكام جزافاً، بل يرى نفسه

موظفاً بالتعرف على «الدوافع والنتائج» عن قرب وعدم الاكتفاء بالأحكام التي تصدر بصورة اعتباطية. والآن دعونا نتناول بحياد دوافع الانتظار ونتائجه، لنرى هل كان عامل ظهوره الاحباطات أم سلسلة من الواقعيات الفطرية والعقلائية، وهل نتائجه بناءة وايجابية أم هدامة وسلبية؟

آثار الانتظار البناءة:

هل الإيمان بمثل هذا الظهور يجعل الإنسان غافلًا عن أوضاعه القائمة ومستسلماً لكافة الظروف والشرائط؟

أم أنّ هذه العقيدة تستبطن الدعوة إلى القيام وبناء الفرد والمجتمع؟

هل تدعو إلى الحركة أم السكون؟

هل تؤدي إلى تحمل المسؤولية أم الهروب منها؟

بالتالي هي أفيون أم منبه؟

يبدو من الضروري الالتفات إلى نقطة مهمة قبل الاجابة عن هذه الأسئلة وهي أنّ أعظم المقررات وأسمى المفاهيم إن وقعت بأيدي أفراد ليسوا بأكفاء أو انتهازيين فلربما يمسخونها إلى درجة بحيث تعطي نتائج مخالفة لأهدافها الأصلية وتتحرك خلاف مسيرتها المرسومة، وهنالك الكثير من هذه النماذج، ومسألة الانتظار كما سنرى واحدة من هذه النماذج.

على كلّ حال، وبغية التحرز من الخطأ في الحسابات في مثل هذه المباحث لابدّ من انتهال الماء من عينه الصافية بعيداً عن المياه الملوثة التي ربّما تفسده. ومن هنا فإننا نتجه في بحث الانتظار صوب المتون الإسلامية الأصيلة، ونسلط الضوء على مختلف الروايات الواردة بشأن مسألة «الانتظار» لنقف على طبيعة الهدف الرئيسي.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 85

نسلط الضوء هنا على هذه الروايات:

سئل الإمام الصادق عليه السلام عمن يقول بولاية الأئمّة وينتظر حكومتهم الحقّ ويموت على ذلك؟ قال الإمام عليه السلام:

«هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه- ثمّ سكت هنيئة- ثمّ قال: هو كمن كان مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله».

وقد ورد هذا المضمون في عدة روايات بعبارات مختلفة:

ففي بعضها «بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل اللَّه». وفي البعض الآخر «كمن قارع مع

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بسيفه».

وفي رواية «بمنزلة من كان قاعداً تحت لواء القائم».

وفي رواية اخرى «بمنزلة المجاهد بين يدي رسول اللَّه».

وفي رواية «بمنزلة من استشهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله».

فالتشبيهات الواردة في هذه الروايات بشأن انتظار ظهور المهدي عليه السلام عميقة المعنى وتكشف عن هذه الحقيقة وهي أنّ هنالك نوعاً من الارتباط والتشابه بين مسألة «الانتظار» و «الجهاد» ومواجهة الأعداء. «لابدّ من تأمل هذا الموضوع».

كما صرّحت بعض الروايات بأن مثل هذا الانتظار يعد أعظم عبادة.

حيث ورد مثل هذا المضمون في أحاديث النبي صلى الله عليه و آله وروايات الإمام علي عليه السلام. فقد قال صلى الله عليه و آله:

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 86

«أفضل أعمال امّتي انتظار الفرج من اللَّه عزّوجلّ».

كما ورد عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«أفضل العبادة انتظار الفرج».

ويكشف هذا الحديث عن أهمية الانتظار، سواء الفرج بمعناه الواسع والشامل، أو مفهومه الخاصّ، أي انتظار ظهور المصلح العالمي.

وتشير كلّ هذه العبارات إلى أنّ انتظار تلك النهضة إنّما اقترن على الدوام بجهاد واسع ومقاومة تامة.

ولو استند الاعتقاد وانتظار حكومة العدل للمهدي إلى قاعدة رصينة لافرز نوعين من الأعمال العظيمة (لأن الاعتقاد السطحي قد لا يتجاوز أثره اللسان، بينما الاعتقاد العملي يقتضي دائماً الآثار العملية). والنوعان هما:

الامتناع عن كافة أشكال التعاون والركون إلى عوامل الظلم والفساد إلى درجة مقاومتها من جانب، ومن جانب آخر تزكية النفس وتوظيف الاستعدادات الجسمية والروحية والمادية والمعنوية بغية تبلور تلك الحكومة العالمية.

ولو تأملنا ذلك لرأينا كلا العملين بناءً ومدعاة للحركة والمعرفة والوعي واليقظة.

وهكذا يفهم معنى الروايات الواردة في فضل المنتظرين من خلال الالتفات إلى مفهوم الانتظار الواقعي.

كما نفهم بعض الروايات التي صورت المنتظر

الحقيقي وكأنّه في الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 87

فسطاط المهدي أو تحت لوائه أو كمن جاهد بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بسيفه.

أوليست هذه المراحل المختلفة والدرجات المتفاوتة في الجهاد من أجل تحقيق العدل والحقّ إنّما تتناسب مع استعدادات الأفراد ودرجات انتظارهم؟ أي كما يتفاوت مقدار تضحية المجاهدين في سبيل اللَّه ودورهم، فإنّ انتظارهم واستعدادهم هو الآخر مختلف وعلى درجات.

طبعاً كلاهما جهاد ويحتاج إلى استعداد وتزكية. فالفرد الذي يكون في فسطاط زعيم تلك الحكومة والذي يمثل مركز القيادة والإمرة العسكرية لجميع العالم، لا يمكن أن يكون شخصاً غافلًا وجاهلًا، فليس كلّ فرد يلج ذلك الفساط، سوى من استعد له. كما ينبغي أن ينطوي من حمل السلاح وقاتل إلى جانب ذلك الزعيم كلّ من يقف بوجه حكومة العدل والسلام، على استعداد روحي غزير وتأهب فكري وعسكري كبير.

الانتظار يعني التأهب التام:

اشارة

إن كنت ظالماً فكيف يسعني انتظار من يضع سيفه في أعناق الظلمة؟

وإن كنت ملوثاً وفاسداً فكيف انتظر نهضة أوّل شرارتها تطيح بالملوثين المردة!

والجيش الذي ينتظر الجهاد الأكبر إنما يرفع القدرة القتالية لأفراده وينفخ فيهم روح الثورة ويصلح فيهم كلّ ضعف.

وكيفية الانتظار تتناسب دائماً مع الهدف الذي يقف وراءه:

فانتظار قدوم مسافر عادي.

وانتظار عودة صديق عزيز.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 88

وانتظار حلول فصل جني الثمار من الأشجار.

وانتظار حلول فصل افتتاح المدارس.

فكلّ نوع من هذه الانتظارات ممزوج بنوع من الاستعداد. فلابدّ من اعداد الدار في أحدها وتوفير وسائل الضيافة، بينما يستلزم الآخر اعداد المنجل والحاصودة، كما يلزم الأخير القلم والكتاب والقرطاس وثياب المدرسة وما شاكل ذلك. ولكم أن تتصوروا الآن ذلك الذي ينتظر قيام المصلح العالمي، فهو ينتظر في الواقع نهضة وثورة تعد أوسع وأعظم جميع النهضات البشرية طيلة

التاريخ. النهضة التي تختلف عمّا سبقها من النهضات الاصلاحية، فهي لا تنطوي على أية صبغة إقليمية، كما لا تختص بأي جانب من جوانب الحياة المختلفة؛ بل اضافة إلى كونها عامة، فهي تشمل كافة جوانب حياة البشرية؛ فهي نهضة سياسية وثقافية واقتصادية وأخلاقية.

طبعاً لسنا بصدد الدليل على تحقق هذه النهضة، ونوكل ذلك إلى بحث آخر، ذلك لأن هدفنا في هذا البحث الاقتصار على نتائج وآثار هذه العقيدة وذلك الانتظار، وهل ينطوي هذا الانتظار على فكرة التخدير كما يزعم أصحاب المدارس المادية، أم أنّه انتظار بناء واصلاحي يدعو إلى الانطلاق والحركة. ذكرنا سابقاً أنّ «الانتظار» يتألف من عنصرين؛ «نفي» و «إثبات»، الامتعاظ من الوضع الموجود والرغبة في وضع أفضل. ونضيف هنا أنّ لكلّ نهضة وحركة محورية بُعدين بُعداً سلبياً وبُعداً ايجابياً.

فالبعد الأوّل لهذه النهضة يتمثل في القضاء على عوامل الفساد والانحطاط وتطهير المجتمع من دنس العصاة. وما أن تنتهي هذه المرحلة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 89

حتّى يأتي دور البعد الايجابي، أي اشاعة عوامل الاصلاح. كما أشرنا سابقاً إلى تركب مفهومي «الانتظار» و «النهضة العالمية» أي أنّ الآثار التالية إنما تتجلى في المنتظرين الواقعيين (لا مجرد ادعاء الانتظار كذباً):

1- التزكية الفردية

إن حكومة المهدي العالمية تتطلب قبل كلّ شي ء العناصر الإنسانية على صعيد القيم والمثل لتتمكن من النهوض باعباء الاصلاحات الكبيرة في العالم؛ وهذا ما يقتضي بادئ الأمر الارتقاء بالمستوى الفكري والمعرفي والاستعداد الروحي والفكري بغية التعاضد لتطبيق ذلك المشروع العظيم؛ فقصر النظر وضيق الافق والضحالة الفكرية والحسد والفرقة وبالتالي كافة أشكال النفاق والتشتت لا تنسجم مع مكانة المنتظر الحقيقي.

ولعلّ القضية المهمّة تكمن هنا في أنّ المنتظر الواقعي لذلك المشروع العملاق لا يمكنه أن يتخذ موقفاً متفرجاً، فهو جندي باسل

في جبهة الإصلاح.

فالإيمان بنتائج النهضة ومصيرها لا تسمح له بأن يكون في الجبهة المقابلة، كما أنّ التحاقه بجبهة الإصلاح يتطلب منه قدراً كافياً من الأعمال الصالحة والانطواء على الشجاعة واليقظة التامة.

فكيف لي إن كنت ظالماً متمرداً أن انتظر نهضة تستهدفني! وإن كنت فاسداً ومنحرفاً فأ نّى لي بانتظار قيام نظام لا مكان فيه للافراد الفاسدين والمنحرفين! أولا يكفي هذا الانتظار في تنقية روحي وتهذيب فكري من الزلل والدنس! والجندي الذي يتطلع إلى جهاد التحرير إنّما يعيش قطعاً

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 90

حالة التأهب القصوى، والسلام الذي ينبغي له حمله في هذه المعركة إنّما يهدف إلى إصلاح الأسلحة السائدة؛ ويقوم ببناء المواضع المحكمة، كما يرفع معنويات رفاقه ويفجر في نفوسهم عشق المواجهة، وإلّا فلا يسعه الانتظار، وإن زعم ذلك فهو كاذب، فانتظار المصلح العالمي يعني التأهب الفكري والأخلاقي والمادي والمعنوي التام من أجل إصلاح العالم بأجمعه.

ولك أن تقف على أهميّة مثل هذا التأهب! فإصلاح كلّ ما على الأرض ووضع حدّ للظلم ليس بالعمل الهين! والاستعداد لهذا الهدف العظيم ينبغي أن يتناسب معه، أي لابدّ أن يناسبه سعة وعمقاً.

وعليه فإنّ تحقيق مثل هذه النهضة يتطلب رجالًا أشداء من ذوي القوة والطهر وسعة الافق وبعد النظر والاستعداد التام، كما أنّ التزكية اللازمة لتحقق هذا الهدف تستلزم توظيف وتفعيل البرامج الأخلاقية والفكرية والاجتماعية، وهذا هو معنى الانتظار الواقعي؛ فهل يسع فرد أن يزعم بأنّ هذا الانتظار ليس بناءً؟!

2- التكافل الاجتماعي

إلى جانب الإصلاح الذاتي فإنّ وظيفة المنتظر الحقيقي تحتم عليه إصلاح الآخرين؛ ذلك لأنّ المشروع العظيم والثقيل الذي ينتظره ليس بمشروع فردي، بل مشروع يختزن كافة عناصر التغيير، وعليه ينبغي أن تتم الانشطة والفعاليات فيه بصيغة جماعية، ولابدّ أن تتظافر جميع

الجهود والمساعي، وأن يتناسب عمقها وشموليتها مع عظمة مشروع النهضة العالمية المنتظرة. ليس لأي فرد أن يتجاهل الآخرين في ميدان المواجهة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 91

الشاملة، وعليه أن يسعى لمعالجة نقاط الضعف إينما وجدت، وتقوية مواطن الضعف، ذلك لعدم إمكانية تطبيق ذلك المشروع دون المساهمة الفاعلة للجميع.

وعليه فإن المنتظر الحقيقي يشعر بتكليفه في السعي إلى إصلاح الآخرين فضلًا عن اصلاح نفسه.

وهذا هو الأثر البناء الآخر من آثار انتظار قيام المصلح العالمي. وهذه هي فلسفة كلّ تلك الفضائل والامتيازات الواردة بشأن المنتظرين.

3- عدم الانصهار في بوتقة الفساد

إن عمّ الفساد فإنّه يشمل أكثرية الناس، وهنا يشعر الطاهرون من الأفراد بأنّهم بلغوا موضعاً مغلقاً، وهو الموضع الذي يفرزه اليأس من الاصلاح.

وربّما يعتقد البعض بأن الفرصة قد مضت ولم يعد هنالك من أمل في الاصلاح، ومن العبث بذل الجهد في هذا المجال؛ ومن شأن هذا اليأس والاحباط أن يدفع بهؤلاء الأفراد تدريجياً إلى الفساد والانسجام مع الوسط الملوث، بحيث لا يسعه الابقاء على صلاحه تجاه الأكثرية الفاسدة، وبالتالي فإنّ عدم الانسجام والجماعة يوجب فضيحته.

وبالطبع فإن العنصر الوحيد الذي يبعث فيهم روح الأمل ويدعوهم إلى المواجهة وضبط النفس ويحول دون انصهارهم في بوتقة الفساد يتمثل بالأمل في الإصلاح النهائي؛ وهنا طبعاً يشعرون بضرورة السعي لحفظ صلاحهم وصلاح الآخرين. ولعلّ هذا هو السرّ في عدّ اليأس من رحمة اللَّه من الذنوب الكبيرة ومن أخبث الكبائر، حيث لا يرى الفرد الذي يشعر

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 92

باليأس من ضرورة لأن يتدارك ما فرط منه أو على الأقل الكفّ عن مواصلة معاصيه، ومنطقه في ذلك «لقد أوغلت في المعصية وفاتني الندم والتوبة ولم تعد أمامي سوى نار جهنم، فهل هناك شي ء أخشاه كي أصد عن هذا الطريق».

أمّا إن

فتحت له نافذة الأمل، فيشعر بتحول في حياته يدعوه إلى الأمل بعفو اللَّه ورحمته والأمل بتغيير الوضع القائم؛ الأمر الذي يعدوه إلى الكفّ عن المعصية والعودة إلى الذات والطريق القويم.

ومن هنا يعد الأمل من العناصر التربوية المهمة في معالجة أوضاع الفرد الفاسد؛ كما لا يسع الفرد الصالح حفظ نفسه في الوسط الفاسد دون الشعور بهذا الأمل.

والنتيجة هي أنّ انتظار ظهور المصلح مدعاة لمضاعفة الأمل بظهوره مها اتسعت رقعة الفساد، والذي يلعب دوراً مهماً في بلورة العقيدة والاندفاع إلى العمل، إلى جانب تحصين المنتظر من أمواج الفساد.

وهنا يشعرون بقرب بلوغ الهدف فيزداد سعيهم ويتواصل عزمهم في الوقوف بوجه الفساد والانحراف.

ونستنتج من الأبحاث السابقة أنّ الانتظار الممسوخ والمشوه هو الذي ينطوي على عنصر التخدير- حيث حرفه بعض المخالفين، بينما مسخه بعض الموافقين- أما إن طبق في المجتمع بصورته الحقيقية الناصعة فهو عامل مهم على مستوى الأمل والحركة والتربية والتزكية.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 93

ولعلّ من بين الأدلة الواضحة التي تؤيد هذا الموضوع ما روي عن المعصوم عليه السلام بشأن الآية الشريفة: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ ...» «1»

أنّه قال: «هو القائم وأصحابه».

وجاء في رواية اخرى: «نزلت في المهدي» والحال قد وصف المهدي وأصحابه في هذه الآية بهذا الوصف «الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات».

وعليه يتعذر تحقق هذه النهضة العالمية دون إيمان راسخ يطرد كلّ ضعف وعجز وهوان، ودون عمل صالح يمهد السبيل من أجل إصلاح العالم، وينبغي لمن ينتظر أن يسعى لأن يرفع من مستوى معرفته وإيمانه وينشط في إصلاح نفسه وأعماله. وهؤلاء فقط من يسعهم التبشير بتلك الحياة في ظلّ حكومته، لا الظلمة والفجرة، ولا أُولئك البعيدون عن الإيمان والعمل الصالح، ولا

الأفراد الجبناء الذين جعلهم ضعف إيمانهم يخشون خيالهم.

ولا الضعفاء والكسالى والعاطلون الذين قبعوا هنا وهناك يتفرجون على الوسط الفاسد دون أن ينبسوا ببنت شفة، ولم يكلفوا أنفسهم عناء أية حركة ومقاومة.

أجل هذا هو معنى الانتظار الحقيقي!

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 95

المصلح العالمي العظيم في المصادر الإسلامية

صفات الزعيم العالمي

سلطنا الضوء في الأبحاث السابقة على ظهور النهضة العالمية الكبرى التي تهدف إلى اجتثاث جذور الظلم والفساد من خلال رؤية شاملة، وتوصلنا إلى إمكانية التكهن بتحقق مثل هذه النهضة على ضوء منطق العقل وما ترشد إليه الفطرة.

لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الأدلّة العقلية تقتصر على عرض المشروع الكلي بهذا الخصوص، ويتعذر عليها تعيين تفاصيل هذا المشروع ومن سيكون زعيم هذه النهضة.

والذي نعلمه: إنّ زعامة هذه النهضة- التي تعد أعظم حدث في تاريخ البشرية وأشمل نهضة عالمية- لشخص يتمتع بالخصائص التالية:-

1- العلم التام والرؤية العميقة الشاملة.

2- النظرة الصائبة وسعة الافق الفريدة التي تسع عالم البشرية.

3- امتلاك المشاريع الثورية الناجعة في كافة المجالات.

4- الشجاعة والهمة الخارقة.

5- الورع والتقوى التي تتناسب وسعة الأهداف.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 98

6- الأخذ بنظر الاعتبار كافة أبعاد الحياة دون الاقتصار على البعد المادي.

7- الروح السامية التي تسمو على الفئوية وضيق النظر والمصالح الشخصية وتتجاوز حدود العادات والتقاليد والمدارس الفكرية السائدة.

كما ينبغي أن يتحلى جيش هذه النهضة بتعاليم عظيمة تمكنه من تفعيل ذلك المشروع الضخم. وليس في هذا الجيش من مكان للجهال وقصار النظر وضيقي الافق والجبناء وضعيفي الهمة والعصاة والعناصر غير الثورية.

ونتجه الآن صوب المصادر الإسلامية بشأن هذا الظهور للمصلح العظيم.

ذلك لأنّ ديناً كالدين الإسلامي لم يتضمن الخزين المطلوب بهذا الشأن، إلى جانب الخوض في التفاصيل.

جدير ذكره أنّ كلّ ما ورد في المصادر الإسلامية بهذا الشأن ينسجم تماماً وما بلغناه عن

طريق «العقل والفطرة»؛ ولهذا الانسجام والاتفاق تأثيران:-

إنّه يرسخ إيماننا بأحكام العقل من جانب، ويضاعف من تفاؤلنا بأصالة التعاليم الإسلامية من جانب آخر.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 99

المصلح العالمي في القرآن

القرآن- بصفته أهم مصدر اسلامي- يشتمل في هذا المجال كسائر المجالات على بحث كلي واصولي، دون الخوض في التفاصيل، وبعبارة اخرى فإنّ القرآن يتابع ما كنا عليه من أدلة عقلية وإلهامات فطرية، أي يخبر عن تحقق حكومة العدل العالمية في ظلّ الإيمان.

وإليك طائفة من الآيات التي تعرضت لهذا الموضوع:

1- نقرأ في الآيات 105- 106 من سورة الأنبياء:

«وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِي الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَومٍ عابِدِينَ».

ونسلط الضوء هنا على معاني بعض الكلمات.

«أرض»: تطلق على الكرة الأرضية وتشمل كافة أنحاء العالم، إلّاأن تقوم قرينة خاصة على غير ذلك.

«ارث»: لغوياً ما يقع في يد الشخص دون معاملة ومبادلة، ويطلق في الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 100

القرآن الكريم على بعض الموارد على غلبة الصالحين للطالحين والسيطرة على إمكاناتهم.

«زبور»: تعني في الأصل كلّ كتاب، لكنها اطلقت عادة على كتاب «داود» الذي عبر عنه في العهد القديم ب «المزامير»، وهو مجموعة من المناجاة والأدعية والوصايا لنبي اللَّه داود، كما يحتمل أن يكون المراد بالزبور جميع الكتب السماوية السابقة (قبل القرآن).

«ذكر»: تعني في الأصل كلّ مصدر للتذكير، لكنها فسرت في الآية بمعنى توراة موسى عليه السلام بدليل أنّها وردت قبل الزبور، وفسرت أيضاً بأنّها اشارة إلى القرآن الكريم، حيث وردت هذه المفردة في آياته: «إِنْ هُوَ إِلّا ذِكرٌ لِلعالَمِينَ» «1».

وعليه فمعنى (من بعد) هو اضافة إلى. (ينبغي التمعن هنا).

«صالح»: معروف وحين ترد بصورة مطلقة تعني الصلاح في جميع الامور من قبيل الكفاءة العلمية والأخلاقية، والصلاح من

حيث الإيمان والتقوى والعلم والادارة.

فعليه يكون معنى الآية على هذا الأساس:

لقد كتبنا في الزبور بالإضافة إلى القرآن الكريم (أو التوراة) أنّ الأرض ستؤول إلى الصالحين من عباد اللَّه (أولئك الذين ينطلقون في مسار العبودية).

وذكر هذا الموضوع في الزبور (إن كان بمعنى جميع الكتب السماوية

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 101

السابقة) دليل على أنّ هذا الموضوع أصل ثابت في كلّ تلك الكتب.

وإن كان المراد منه كتاب داود فلعلّ ذلك لسعة حكومة داود الرامية لتطبيق الحقّ والعدل وضمان مصالح الناس؛ وإن كانت حكومة اقليمية وليست عالمية، لكن بشر الزبور بحكومة عالمية شاملة قائمة على أساس الحرية والأمن والعدل تنتظر العالم بأسره. أي أنّ الناس إن بلغوا تلك المرحلة من الصلاح وأصبحوا مصداقاً حيّاً للعباد الصالحين فإنّهم سيرثون الأرض؛ سيرثون الحكومة المادية والحكومة المعنوية.

وقد تضمنت بعض الروايات الواردة في تفسير الآية المذكورة عبارات أوضح في هذا المجال. ومن ذلك ما رواه صاحب تفسير «مجمع البيان» في ذيل الآية أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال: «هم أصحاب المهدي في آخر الزمان».

جدير بالذكر، وردت الإشارة إلى هذا الموضوع بعدّة عبارات في «مزامير داود» ومنها المزمور 37:

«فسينقطع الأشرار ويرث الأرض المتوكلون على اللَّه، وسوف لن يبقى شرير، ستتأمل مكانه وليس فيه وسيرث الحكماء الأرض».

كما جاء في المزمور 37 عبارات اخرى:

«... سيرث الأرض الذي يباركهم الرب وسينقطع الملعونون. سيرث الصديقون الأرض وإلى الأبد» «1».

وبالطبع فإنّ كلمة «الصالحون» الواردة في القرآن هي كلمة جامعة تشمل «الحكماء» و «الصديقين» و «المتوكلين» و «المباركين».

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 102

وكما ذكرنا فإنّ المستفاد من الآية «إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَومٍ عابِدِينَ» أنّ الهدف النهائي للصالحين ليس الحكومة، بل هي وسيلة لبلوغ ذلك الهدف، أي تكامل الإنسان في

كافة الجوانب، لأن البلاغ ما يبلغهم هدفهم.

الاستخلاف في الأرض:

2- نقرأ في الآية 55 من سورة النور:

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَايُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».

فقد تضمنت الآية ثلاثة وعود صريحة للذين آمنوا وعملوا الصالحات.

ونعلم أنّ لكلّ وعد ثلاثة أركان:

الذي يعد هنا هو اللَّه، والموعود «الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات» أي المؤمنين الصالحين. والمواد الواردة في الوعود الثلاثة هي:

1- الاستخلاف في الأرض، أي حكومة الحقّ والعدل.

2- تمكين الدين، أي نفوذ المعنويات وحكومة القوانين الشرعية في كافة جوانب الحياة.

3- تبديل الخوف بالأمن؛ إزالة كافة عناصر الخوف وعدم الأمن واستبدالها بالأمن التام والاستقرار الكامل.

والمراد من «تمكين الدين» كما يفهم من سائر استعمالات هذه المفردة رسوخ التعاليم الدينية في جميع شؤون الحياة، لا من قبيل ألفاظ السلام الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 103

والحرية وحقوق الإنسان التي يحمل لوائها اليوم المدافعون المزيفون ولا تتجاوز حناجرهم، بينما لا وجود لها في الخارج؛ وكأنها ألفاظ خيالية لا يمكن نيلها إلّافي الأحلام وعالم الخيال.

آنذاك سوف لن تكون التعاليم الإسلاميه بصيغة بعض القوالب الصورية الجافة والألفاظ الخاوية، بل ستكون نظرية الحياة السائدة في كلّ مكان.

آنذاك ستكون المسؤولية واليقظة عامة شاملة، وسيحول اتساعها دون استغلالها من قبل بعض الأفراد.

وسوف لن تستطيع حينها المنافع الشخصية أن تحول دون القضاء الصحيح، لا على غرار ما يحصل اليوم من قبل بعض الساحقين لحقوق الإنسان، حين يرتقون منصة المؤتمرات العالمية ويتحدثون بحماس عن هذه الحقوق والحريات وهم يرون عدم كفاية حتّى المواثيق الدولية الواردة بهذا الشأن- والتي لا يلتزمون في الواقع بأي من

بنودها- فتتعالى الأيدي بالتصفيق من جانب زعماء ما يسمى بحقوق الإنسان، ولا غرو فهم معاً ولا يستطيعون ضمان مصالحهم دون أن يسلكوا هذا الاسلوب.

الاستقرار والأمن آنذاك لا يمزج بالخوف، فهو ليس كالأمن الذي نراه في بعض بقاع العالم والذي يفرزه الخوف من الأسلحة الفتاكة. وهل هذا أمن أم رعب؟ فهذا الأمن يفرزه الخوف العظيم من عواقب الحروب الوخيمة، إنّه ليس بأمن حقيقي.

ونتيجة هذه الوعود الإلهية الثلاثة تمهيد السبيل لتزكية الإنسان وتكامله الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 104

على مستوى المفاهيم الإنسانية والعبوديه للَّه وهدم الأصنام بكافة أشكالها «بعبدونني لا يشركون بي شيئاً».

لا بأس هنا أن نتطرق إلى بعض أقوال المفسرين وما ذكروه من سبب لنزول هذه الآية:

يرى بعض المفسرين أنّ الآية نزلت حين هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة.

فقد برزت نهضة جديدة هزت أركان ذلك المجتمع الملي بالخرافات والأساطير والجهل والظلم والتمييز العنصري، ممّا أثارت الطرف الآخر للمعارضة.

ورغم قلة عدد الأصحاب إلّاأنّهم عرفوا بالصمود والتضحية، إلّاأنّ حجم المعارضة كان عريضاً واسعاً، وقد تصاعدت حدّة الصراع بحيث كان المسلمون يعيشون على الدوام حالة التأهب القصوى، فلا يفارقون أسلحتهم حتّى عند نومهم وينهضون صباحاً ليتقلدوا تلك الأسلحة الثقيلة.

وبالطبع فإن استمرار هذا الوضع كان يزعجهم، كيف يسعهم النوم بهذه التجهيزات والأسلحة، وأي نوم هذا الذي يحلمون به والعدو متربص بهم.

كانوا يتمنون أحياناً أن يستريحوا ليلة من ذلك العناء دون أن يكون من العدو خطراً يهددهم، كما يأملون بإقامة الصلاة دون أن يباغتهم العدو، فيعبدون اللَّه بكلّ حرية ودون خوف ويقضون على الأصنام ويعيشون بأمان في كنف حكومة العدل الإلهي.

ومن هنا كان يسأل بعضهم البعض هل سيأتي ذلك اليوم؟! وهنا نزلت الآية وحملت البشارة بتحقق ذلك الوعد وقدوم ذلك اليوم، وقد

رأينا كيف الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 105

حلّ ذلك اليوم حين سيطر المسلمون بزعامة النبي صلى الله عليه و آله على الجزيرة العربية.

ويبدو سبب النزول هذا منسجماً مع الآية، لكن لعلمنا بسائر أسباب نزول مختلف الآيات القرآنية فانه لا يسعنا حصر مفاهيم الآيات في أسباب النزول، بل سبب النزول يعد أحد مصاديق الآية.

ولعلّ الاقتصار بالآية على سبب النزول من قبيل الأسلحة التي تعدها للقتال، وما أن يتوقف ذلك القتال حتّى نطرحها جانباً، وإن كانت باهضة التكاليف وصالحة للاستعمال.

طبعاً شهد أواخر عصر النبي صلى الله عليه و آله عملية جانب من المفهوم الشامل لهذه الآية، إلّاأن تطبيق ذلك المفهوم بأجمعه والاستخلاف في الأرض لم يطيق لحدّ الآن وما زال العالم ينتظره.

نعم، تبشر الآية الشريفة جميع المؤمنين الحقيقيين بالحكومة العالمية التي تكون من نصيب الصالحين، وتطوي جميع الصفحات السوداء التي خلفتها عصبة من الأنانيين والمستكبرين الذين تلاعبون في مقدارات والإنسانية.

ومن هنا ورد في بعض الروايات أنّ الآية واردة في قيام المهدي الموعود. فقد روى الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» عن الإمام السجاد عليه السلام أنّه قال:

«هم واللَّه شيعتنا أهل البيت يفعل اللَّه ذلك بهم على يد رجل منا هو مهدي هذه الامّة».

ثمّ ذكر مثل هذا المضمون عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وأضافا أنّ الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 106

الآية مطلقة وتشمل خلافة جميع الأرض، وحيث لم يتحقق هذا الوعد الإلهي فلابدّ من انتظاره.

كما وردت عدّة روايات في تفسير «البرهان» عن الإمامين الصادق والباقر عليهما السلام في أنّ الآية إشارة إلى قيام القائم.

جدير بالذكر أنّه بالنظر إلى كلمة «منكم» فإنّ هناك أقلية مؤمنة صالحة تمارس النهضة العالمية حين تتوفر ظروفها فتبلغ بها شاطئ الأمان وتتغلب على جميع

المصاعب والمطبات التي تعترض سبيل السفينة.

3- نقرأ في الآية 33 من سورة التوبة:

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

ولابدّ من الرجوع إلى الآية السابقة للوقوف على معنى هذه الآية:

«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ».

ويتضح من هذه الآية أنّ إرادة اللَّه تعلقت بتكامل نور الإسلام، وسيكون تكامله حين ينشر لوائه على كافة أنحاء العالم.

ومن ثمّ وضح هذه الحقيقة في الآية المذكورة:

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

وقد تكرر هذا الوعد مع فارق طفيف في الآية 28 من سورة الفتح:

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 107

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً».

وأخيراً جاء هذا الوعد للمرة الثالثة في الآية 9 من سورة الصف بالعبارة التي وردت في سورة التوبة:

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

ولعلّنا ندرك أهمية هذا الوعد الإلهي من هذه الآيات القرآنية. إلّاأنّ المهم هو اتضاح مفهوم العبارة «ليظهره»:

أوّلًا: يرجع الضمير «هاء» إلى النبي صلى الله عليه و آله أو «دين الحقّ»؟

على ضوء الاحتمال الأوّل المفهوم غلبة النبي لجميع الأديان، بينما مفهومها غلبة الدين الإسلامي على أساس الاحتمال الثاني.

لكن يبدو على أساس قواعد اللغة أنّ الضمير يعود إلى «دين الحقّ» كونه الأقرب (وإن لم يكن الفارق بينهما كبيراً). أضف إلى ذلك فإن انتصار دين على سائر الأديان أنسب تعبيراً من انتصار شخص على سائر الأديان (لابدّ من التمعن).

ثانياً: (وهذا هو المهم) ما المراد هنا بالظهور؟ لا شك أنّ الظهور هنا لا يعني البروز والوضوح، بل يعني الغلبة. جاء في

كتاب القاموس- أحد المصادر اللغوية المعروفة- ظهر به وعليه: غلبه.

كما جاء في مفردات الراغب: ظهر عليه غلبه.

وكما وردت بهذا المعنى في عدّة آيات من سور القرآن كسورة المؤمن والكهف والتوبة:

«كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَايَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 108

بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ» «1».

«يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ...» «2».

«إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً» «3».

لكن ما المراد بغلبة دين لسائر الأديان؟

ذكر المفسرون ثلاثة آراء:

1- الغلبة المنطقية؛ أي بمقارنة الإسلام بسائر الأديان الممزوجة غالباً بالخرافات تظهر غلبة المنطق المستدل على سائر المناطق.

يعتقد أصحاب هذا الرأي أنّه كلما قارنا التوحيد الإسلامي الخالص مع سائر أنواع التوحيد المشوبة بالشرك أو الشرك الخالص فانه يتضح منطق أفضلية الإسلام على سائر الأديان، وكذلك سائر المباحث التي اكتسبت عملية هذا الوعد الإلهي؛ حتّى أنّ مقارنة شعار الأذان بفضله شعار محرك، بشعار الناقوس وعدم شعارية أغلب الأديان يكشف عن هذه الغلبة المنطقية.

2- الغلبة العملية والغلبة الخارجية على سائر الأديان، غاية الأمر ضمن مقارنة اقليمية لا عالمية وعامة.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 109

فقد تحققت أيضاً؛ حيث تغلب الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه و آله على شبه الجزيرة العربية ومن ثمّ على منطقة عظيمة من العالم، حتّى خضع لنفوذ الإسلام اتباع الديانات الاخرى في تلك المناطق الممتدة من جدار الصين- بل ما وراء جدار الصين- حتّى شواطئ المحيط الاطلسي، وقد ظلّ الإسلام متجذراً في تلك المناطق حتّى بعد اضمحلال الدولة الإسلامية هناك.

3- الغلبة الخارجية والعملية على مستوى العالم وجميع ما على الأرض والتي تشمل الغلبة الثقافية والاقتصادية والسياسية، وهو التفسير الذي قال به بعض مفسري

العامة فضلًا عن مفسري الشيعة.

قطعاً لم يصبح هذا الوعد عملياً لحدّ الآن ولا ينطبق سوى على الحكومة العالمية للمهدي الموعود عليه السلام، وهي الحكومة التي يعم الحقّ والعدل فيها كلّ مكان ويتغلب فيها هذا الدين على ضوء القياس العالمي على سائر الأديان.

ولدينا بعض القرائن التي تفيد ترجيح التفسير الثالث على سائر التفاسير؛ لما يلي:

أوّلًا: الغلبة المستفادة من كلمة «الظهور» ظاهرة في الغلبة الحسية والعينية والخارجية، لا الغلبة الذهنية والفكرية، ولذلك لم يرد «الظهور» بمعنى الغلبة الذهنية في أي من الموارد القرآنية المذكورة، بل لوعدنا إلى الآيات السابقة وأمعنا النظر فيها لرأيناها وردت بمعنى الغلبة العينية والخارجية.

ثانياً: ذكر كلمة «كله» بعنوان تأكيد يشير إلى عدم وجود البعد الاقليمي للغلبة، بل هي عامة شاملة لجميع الأديان، وهذا لا يمكن سوى من خلال شمولية الإسلام للعالم.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 110

ثالثاً: الروايات التي وردت في تفسير الآية وتقوي التفسير الثالث، مثل:

1- روى العياشي باسناده عن عمران بن ميثم عن عبابة أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام حين تلى الآية «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ...» سأل أصحابه: أظهر ذلك؟ قالوا: بلى. قال:

«كلا، فوالذي نفسي بيده حتّى لا يبقى قرية إلّاوينادى فيها بشهادة أن لا إله إلّااللَّه بكرة وعشيا» «1».

2- وقال الإمام الباقر عليه السلام:

«إنّ ذلك عند خروج المهدي من آل محمّد فلا يبقى أحد إلّاأقر بمحمّد» «2».

3- قال المقداد بن الأسود سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول:

«لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلّاادخله اللَّه كلمة الإسلام» «3».

كما وردت عدة روايات تفسر الآية بهذا المضمون.

كانت هذه طائفة من الآيات القرآنية التي تؤكد العدل والسلام العالمي والإيمان بالتوحيد والإسلام في كافة أرجاء العالم.

الحكومة العالمية

للإمام المهدى(عج)، ص: 111

المصلح العالمي في مصادر العامة

لابدّ من الالتفات إلى أمرين قبل كلّ شي ء.

1- يتساءل البعض ما الحاجة إلى الروايات ولدينا القرآن؟

وطالما بين القرآن كلّ شي ء «فيه تبيان لكلّ شي ء» فما المانع من أن نلتحق بمن قال: «حسبنا كتاب اللَّه»؟ خاصة إننا نسمع أنّ هناك بعض الروايات والأحاديث الموضوعة بين سائر الأحاديث الصحيحة وهذا ما يؤدي إلى عدم اعتبارها جميعاً.

لكن بالنظر إلى أننا مسلمون، والمسلم المتمسك بالقرآن لا يمكنه تجاوز الأحاديث الإسلامية الواردة من طرقها الصحيحة، وذلك لأنه:

أوّلًا: إنّ من أنكر السنّة فقد أنكر القرآن، حيث صرّح القرآن بشأن النبي صلى الله عليه و آله في أنّ كلامه حجّة وأنّه مفترض الطاعة فقال: «وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ...» «1».

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 112

وقال: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً ...» «1»

وقال:

«مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» «2».

وهكذا سائر الآيات التي ترى وجوب طاعة أوامر النبي صلى الله عليه و آله بصفتها أوامر اللَّه.

ثانياً: إنّ القرآن يحتوي على القوانين الكلية للإسلام وإن غضضنا الطرف عن السنّة فانه سيفقد صبغته العملية، وستبقى الكليات الذهنية التي لا يمكن تنفيذها؛ ذلك لأنّ السنّة بيّنت جميع الجزئيات والمقررات العملية والتنفيذية لتلك القوانين الكلية.

ورغم منع البعض من تدوين أحاديث النبي صلى الله عليه و آله بعد وفاته بغية عدم اختلاطها بالقرآن! لكن سرعان ما وقفوا على ضعف هذا النمط من التفكير، بحيث ربّما تندرس السنّة مع مرور الزمان حتّى ينتهي الأمر إلى فقدان الإسلام لجانبه العملي والتنفيذي، ومن هنا تركوا تلك النظرية الفاشلة وعمدوا إلى تدوين الحديث والرواية.

ثالثاً: صحيح أنّ يد الوضاعين امتدت إلى الأحاديث الإسلامية وقد شوهتها لمختلف

الدوافع والأسباب، غير أنّ ذلك لا يعني عدم وجود بعض الضوابط في تمييز الأحاديث الصحيحة من الموضوعة، ومن ذلك علم الرجال والحديث والدراية.

2- رجل ثوري لا سياسي مادي:

إنّ الأدلّة التي ذكرت- كالآيات الواردة في هذا الخصوص- عن طريق الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 113

العقل أو الفطرة والتي تشير إلى تحقق نهضة اصلاحية شاملة في العالم، لم تتطرق إلى شخص معين، بل اقتصرت على مباحث كلية؛ ولكن ممّا لاشك فيه أنّ هذه النهضة تتطلب زعيماً كسائر النهضات، زعيماً مقتدراً وعالماً ذا آفق بعيد ونظرة ثاقبة وعالمية، فهل يمكن أن ينبثق هذا الزعيم كسائر زعماء العالم المعاصر من المجتمعات المادية؟ أي كالزعماء الذين يكون هدفهم بالدرجة الاولى حفظ مناصبهم، ومن ثمّ كلّ ما من شأنه حفظ مكانتهم؛ وتعظيمهم إزاء المدارس السياسية والاقتصادية المختلفة بمستوى التأثير في حفظ مكانتهم؛ وقد تكون ذروة أهدافهم في المرحلة اللاحقة الانطلاق نحو تحقيق مصالح شعوبهم، وإن كان ذلك على حساب ذبح الشعوب الاخرى.

وقد اثبتت حرب فيتنام التي استغرقت عشرين سنة وقد خلفت ملايين القتلى والجرحى وهدم ملايين الأحياء السكنية وملايين الأفراد المشوهين ومليارات الأموال والثروات، أنّ الرأسمالية المعاصرة مستعدة للقتال من أجل حفظ منافعها، بل أحياناً لا لشي ء- بل أبعد من ذلك من أجل سلسلة من الأوهام الفارغة- وقد تغير خلال هذه الفترة عدد من هؤلاء الزعماء العظام (؟) غير أنّهم ساروا جميعاً على نهج أسلافهم ليثبتوا أنّ ذلك العمل لم يكن نزعة فردية أو جماعية معينة، بل هو مبدأ ثابت من مبادئ وخصائص هذه الأنظمة.

إنّهم ينشدون الحرية كهدف سامٍ، لكنهم يقتصرون بها على أنفسهم، وقد يتبنون شعارها أحياناً من أجل الآخرين، ولكن ما أن تتعارض مع مصالحهم حتّى يتنصلوا عنها.

الحكومة العالمية

للإمام المهدى(عج)، ص: 114

إنّهم يتفقون بغية ضمان منافعهم، وهذا هو مبدأهم المقدس المتفق عليه، وكأنّهم تعاقدوا معاً على الدوام على ذلك الأمر.

كما استغلوا حرية «حقوق الإنسان» و «حرية الشعوب في تقرير مصيرها» لضرب منافسيهم، ولذلك قد تنتكس تلك الحرية إن كان الكلام عن حلفائهم، فيتخلون عن تلك الشعارات حفظاً لمصالحهم ورعاية لتلك العلاقات.

فهل يسع مثل هذه الأنظمة أن ترفع راية الحرية والعدالة في العالم، وهل هناك من فرق بين الدول الكبرى؟ فالظلم والاستعباد والقهر الذي تتميز به الأنظمة الرأسمالية واضح لا يتطلب مزيداً من العناء.

أمّا الأنظمة اليسارية؛ فقد واجهت جميع الأنظمة وحصرت سلطتها في بضعة أفراد- أي الفئة الحزبية الحاكمة- على أساس بسط العدل وترفيه الطبقات المعدمة والمسحوقة وبناء المجتمع الخالي من الطبقية، ومن هنا فقد صهرت آلاف الاقطاعين الكبار والصغار في بوتقة ثورة «البرولتاريا» ثمّ اطلقت عدداً من كبارهم ليمسكوا بخيوط اللعبة لكافة حركات بيئتهم السياسية والاقتصادية. وقد حكموا مجتمعاتهم بقوة غاشمة سلبتهم حتّى التفكير في معارضة زعمائهم. وكأنّهم جعلوا بعض المبادئ المرنة التي يفرزها العقل البشري في اطار مسيرته التكاملية بمثابة مبادئ خالدة لإيقاف عجلة التاريخ عن التطور والحركة والإبقاء عليها ساكنة في موضع معين.

ويطالنا هنا بعض الزعماء المستبدين الذين يتمكنون بالتدريج من الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 115

الاطاحة بمعارضيهم ليذكروننا باساطير الدكتاتوريات المُبادة كسلاطين المغول، على سبيل المثال فإنّ الزعيم الفذ استالين لا يرى من ضير في قتل أكثر من مليون ومئتي شخص من أجل البقاء في منصبه وحفظ مصالحه.

ولكن ما أن مات حتّى سلوا جسده من قبره وعمدوا إلى إزالة اسمه، فتحول إلى عدم كأنّه لم يكن له من وجود، والحال، كان حتّى الأمس المدافع الوحيد عن حقوق الطبقة العاملة وضمان

راحتها ورفاهيتها قد تتطلب المصالح أحياناً الوقوف بشدّة بوجه حلفائهم وأعوانهم، وابرام اتفاقيات التعاون والصلح والسلام مع أعدائهم والتنازل عن جميع المبادئ والاصول التي يتشدقون بها.

فهل يسع مثل هؤلاء الزعماء حمل لواء العدل العالمي ونشره خفاقاً على الشعوب؟

وهل تستطيع الأنظمة المادية الرأسمالية أو الاشتراكية أو الشيوعية الماركسية أن ترفد المجتمع بذلك الزعيم المنتظر؟ قطعاً لا.

حقّاً ليس ذلك سوى للمدرسة الإنسانية التي تفوق النزعة المادية والتي تستطيع تطبيق وتنفيذ ذلك المشروع الإنساني في كافة أرجاء العالم.

المدرسة التي لايفكر زعيمها قط في حفظ مكانته ومصلحته.

ولا يقتصر بنظره على شعبه.

كما لا ينظر إلى ما حوله بعين مادية محدودة.

وأن يتمتع بالأفكار السماوية الرفيعة والعميقة والترفع عن الضحالة.

فذلك الشخص الذي تخالف مبادؤه نظيرتها لدى المدارس المادية التي تنهض اليوم بادارة شؤون المجتمعات، هو من يستطيع انقاذ البشرية من الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 116

هاوية الهلكة وايصالها إلى شاطئ الأمن والنجاة.

فمن هو ذاك؟ يعتقد المسلمون أنّ ذلك الرجل هو المهدي عليه السلام.

من هو المهدي؟

مرّ علينا في بحث آثار الانتظار أنّ جميع الفرق الإسلامية دون استثناء تعيش انتظار المصلح العالمي من نسل النبي وهو «المهدي».

(الزعيم الذي هدي إلى هدفه ومشروعه الثوري العالمي والقادر على هذا الأساس على هداية الآخرين وزعامتهم).

وقد بلغ هذا الاتفاق درجة بحيث لم تشذ عنه حتّى أعظم الفرق الإسلامية افراطاً- أي الوهابية- ولم تكتف بقبوله، بل هبت للدفاع عنه لأنّها تراه من العقائد الإسلامية المسلمة.

وسنورد بيان «رابطة العالم الإسلامي» التي تعد من أكبر مراكز الوهابية في مكة قبل أن نذكر ما ورد عن علماء العامة بهذا الخصوص. وترى أنّ ما تضمنته هذه الرسالة من وثائق ضرورية لم تدع مجالًا لأحد للانكار، ولعلّها هي السبب في اذعان الوهابية المتطرفة. والذي نعتقده

أنّ هذه الرسالة واضحة صريحة لا تحتاج إلى أدنى توضيح، ولعلّها تلقم من يزعم بأنّ عقيدة ظهور المهدي فكرة مستوردة، حجراً وتخرسه عن الرد.

حيث تقدم قبل سنتين «1» شخص يدعى «أبو محمّد» من كينيا بسؤال إلى «رابطة العالم الإسلامي» التي تعتبر من المراكز الدينية الحجازية والمكية

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 117

المهمة بشأن ظهور المهدي المنتظر.

فبعث له «محمّد صالح القزاز» الأمين العام، برسالة ضمّنها جوابه وأشار فيها إلى قبول ابن تيمية للأحاديث المتعلقة بالمهدي، جدير بالذكر أنّ الفارق الكبير بين هذه الرسالة مع عقائد أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام هي أنّهم ذكروا اسم والد الإمام المهدي «عبداللَّه»، بينما المسلم لدى الشيعة أنّ والده هو الإمام الحسن العسكري، ولعلّ سر هذا الاختلاف ما ورد في بعض روايات العامة «اسم أبيه اسم أبي» بينما تفيد القرائن أنّ أصل هذه العبارة «اسم أبيه اسم ابني» والخطأ في التنقيط هو سبب اختلاف العبارة (أيد هذا الاحتمال الكنجي الشافعي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان).

وعلى كلّ حال فإنّه لا يمكن الاعتماد على تلك العبارة للأسباب التالية:-

1- لم ترد هذه العبارة في أكثر روايات العامة.

2- ورد في رواية ابن أبي ليلى «اسمه اسمي واسم أبيه اسم ابني».

3- تفيد الروايات المتواترة عن طرق أهل البيت عليهم السلام أنّ اسم أبيه «الحسن».

4- صرحت بعض روايات العامة أنّه ابن الإمام الحسن العسكري.

(للوقوف على المزيد بهذا الشأن راجع كتاب: منتخب الأثر صفحات 231 إلى 236، الباب 11، وكتاب نور الأبصار».

نص الرسالة:

الكريم أبو محمّد «المحترم (كينيا)

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 118

السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته- اشارة إلى خطابكم (المؤرخ في 21 مايو 1976 م) المتضمن عن موعد ظهور المهدي وفي أي مكان يقيم؟

نفيدكم بأننا نوفّر

لكم مع خطابنا إليكم ما جاء من الفتوى في مسألة المهدي المنتظر وقد قام بكتابته فضيلة الشيخ محمّد المنتصر الكناني وأقرّته اللجنة المكنونة من أصحاب الفضيلة الشيخ صالح بن عثيين وفضيلة الشيخ أحمد محمّد جمال وفضيلة الشيخ أحمد علي وفضيلة الشيخ عبداللَّه خياط.

مدير ادارة المجمع الفقهي الإسلامي: محمّد منتصر الكناني وقد دعم الفتوى بما ورد من أحاديث المهدي عن الرسول صلى الله عليه و آله وما ذكره ابن تيمية في المنهاج بصحّة الاعتقاد وابن القيم في المنار وإن شاء اللَّه تعالى ستجدون في الكتاب مطلبكم وما يغنيكم عن مسألة المهدي انتم ومن كان على نهجكم آملين لكم التوفيق والسداد.

الأمين العام محمّد صالح القزاز

بعد التحية

جواباً عمّا يسأل عنه المسلم الكيني في شأن المهدي المنتظر عن موعد ظهوره وعن المكان الذي يظهر منه وعن ما يطمئنه عن المهدي عليه السلام.

هو محمّد بن عبداللَّه الحسني العلوي الفاطمي المهدي الموعود المنتظر موعد خروجه في آخر الزمان وهو من علامات الساعة الكبرى يخرج من الغرب ويبايع له في الحجاز في مكّة المكرمة بين الركن الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 119

والمقام- بين باب الكعبة المشرفة والحجر الأسود عند الملتزم، ويظهر عند فساد الزمان وانتشار الكفر وظلم الناس، يملأ الأرض عدلًا وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، يحكم العالم كله وتخضع له الرقاب بالاقناع تارة وبالحرب اخرى، وسيملك الأرض سبع سنين وينزل عيسى عليه السلام من بعده فيقتل الدجّال أو ينزل معه فيساعده على قتله بباب «اللد» بأرض فلسطين.

هو آخر الخلفاء الراشدين، الاثني عشر الذين أخبر عنهم النبي صلوات اللَّه وسلامه عليه في الصحاح، وأحاديث المهدي واردة عن الكثير من الصحابة يرفعونها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومنهم عثمان بن

عفان؛ وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيداللَّه، وعبدالرحمن بن عوف، وعبداللَّه بن عباس، وعمّار بن ياسر، وعبداللَّه بن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وثوبان، وقرة بن اياس المزني، وعبداللَّه بن الحارث بن جز، وأبو هريرة، وحذيفة بن اليماني، وجابر بن عبداللَّه، وأبو امامة، وجابر بن ماجد الصدفي، وعبداللَّه بن عمر، وأنس بن مالك، وعمران بن حصيني، وامّ سلمة.

هؤلاء عشرون منهم، ممّن وقفت عليهم، وغيرهم كثير، وهناك آثار عن الصحابة مصرّحة بالمهدي، من أقوالهم، كثيرة جداً، لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد فيها.

أحاديث هؤلاء الصحابة التي رفعوها إلى النبي صلى الله عليه و آله والتي قالوها من أقوالهم اعتماداً على ما قاله رسول اللَّه صلوات اللَّه وسلامه عليه ورآها الكثير من دواوين الإسلام، وامّهات الحديث النبوي، من السنن الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 120

والمعاجم والمسانيد منها:

سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن عمرو الداني، ومسانيد أحمد، وابن يعلى، والبزاز، وصحيح الحاكم؛ ومعاجم الطبراني الكبير والآلوسي والروياني والدارقطني في الأفراد، وأبو نعيم في أخبار المهدي والخطيب في تاريخ بغداد، وابن عساكر في تاريخ دمشق وغيرها.

وقد خصّ المهدي بالتأليف أبو نعيم في «اخبار المهدي» وابن حجر الهيثمي في القول المختصر في علامات المهدي المنتظر والشوكاني في التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجّال والمسيح، وادريس العرقي المغربي في تأليفه «المهدي» وأبو العبّاس بن عبدالمؤمن المغربي في كتابه «الوهم المكنون في الرد على ابن خلدون».

وآخر من قرأت له عن المهدي، بحثاً مستفيضاً، مدير الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة في مجلة الجامعة، أكثر من عدد.

وقد نصّ على أنّ أحاديث المهدي أنها متواترة، جمع من الأعلام قديماً وحديثاً منهم السخاوي في «فتح المغيث». ومحمّد بن أحمد السفاويني في شرح

العقيدة وأبو الحسين الابري في «مناقب الشافعي» وابن تيمية في فتاواه والسيوطي في الحاوي وادريس العراقي المغربي في تأليف له عن المهدي والشوكاني في «توضيح في تواتر ما جاء في المنتظر؛ والدجّال، والمسيح» ومحمّد بن جعفر الكناني في «نظم المتناثر في الحديث المتواتر» وأبو العبّاس بن عبدالمؤمن المغربي في «الوهم المكنون من كلام ابن خلدون» وحاول ابن خلدون في مقدمته الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 121

أن يطعن في أحاديث المهدي، محتجاً بحديث موضوع لا أصل له عند ابن ماجة لا مهدي إلّاعيسى. ولكن ردّ عليه الأئمّة والعلماء؛ وخصّه بالرد شيخنا ابن عبدالمؤمن، بكتاب مطبوع متناول في المشرق والمغرب منذ أكثر من ثلاثين سنة.

ونصّ الحفاظ والمحدّثون على أنّ أحاديث المهدي فيها الصحيح والحسن ومجموعها متواتر ومقطوع بتواتره وصحته.

وأنّ الاعتقاد بخروج المهدي واجب وأنّه من عقائد أهل السنّة والجماعة ولا ينكر إلّاجاهل بالسنّة ومبتدع في العقيدة.

واللَّه يهدي إلى الحقّ ويهدي إلى السبيل مدير إدارة المجمع الفقهي الإسلامي محمّد المنتصر الكناني ونرى من الضروري هنا أن نورد بعض أقوال سائر علماء العامّة بهذا الشأن:

1- قال الشيخ منصور علي ناصف مؤلف كتاب التاج «1»:

«اشتهر بين العلماء- سلفاً وخلفاً- أنّه في آخر الزمان لا بدّ من ظهور رجل من أهل البيت يسمى «المهدي» يستولي على الممالك الإسلامية ويتبعه المسلمون ويعدل بينهم ويؤيد الدين».

ثمّ قال:

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 122

«وقد روى أحاديث المهدي جماعة من خيار الصحابة وأخرجها أكابر المحدّثين كأبي داود والترمذي وابن ماجة والطبراني وأبي يعلى والبزاز والإمام أحمد والحاكم، رضي اللَّه عنهم أجمعين ولقد أخطأ من ضعَّفَ أحاديث المهدي كلّها كابن خلدون وغيره» «1».

2- ولم يستطع حتّى ابن خلدون المعروف بمخالفته لأحاديث المهدي أن ينكر شهرة أحاديث المهدي

بين جميع علماء الإسلام حتّى قال:

المشهور بين جميع المسلمين طيلة العصور أنّه يظهر آخر الزمان رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويبسط العدل ويتبعه المسلمون «2».

3- قال العالم المصري المعروف محمّد الشبلنجي في كتابه «نور الأبصار»:

«تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه و آله على أنّ المهدي من أهل بيته وأنّه يملأ الأرض عدلًا» «3».

4- وذكر الشيخ محمّد الصبان «4» في كتابه «اسعاف الراغبين»:

«إنّ الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه و آله أنّ المهدي سيظهر آخر الزمان وأنّه من أهل بيت النبي وسيملأ الأرض قسطاً وعدلًا».

5- وروى ابن حجر في صواعقه المحرقة عن أبي الحسن الأمري:

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 123

«إنّه وردت أخبار متواترة وكثيرة عن النبي صلى الله عليه و آله سيظهر المهدي وهو من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله ... ويملأ الأرض قسطاً وعدلًا» «1».

6- قال صاحب كتاب «التاج» بعد أن أشار إلى كتاب «الشوكاني» أحد مشاهير علماء العامة وقد ألفه بشأن الأحاديث المتواترة في المهدي وخروج الدجّال وعودة المسيح وضمنه شرحاً في تواتر تلك الأحاديث:

«هذا يكفي لمن كان عنده ذرة من الإيمان وقليل من انصاف» «2».

وللوقوف على المزيد من شرح الأحاديث التي روتها العامة في قيام هذه النهضة العالمية الكبرى، راجع كتاب «المهدي» وكتاب «منتخب الأثر في أحوال الإمام الثاني عشر».

منطق مخالفي أحاديث المهدي:

علمنا من البحث السابق أنّ نفراً قليلًا من العامة عارض أحاديث المهدي ومنهم:

المؤرخ المعروف ابن خلدون والكاتب المصري المعاصر أحمد أمين وإن تصدى لهم أغلب علماء العامة. مع ذلك لابدّ من التعرف على آرائهم بهذا الخصوص.

ويمكن ايجاز الاعتراضات في خمسة مواضيع هي:

1- اسناد اخبار المهدي ليست معتبرة!

2- لا تنسجم الأخبار المذكورة مع العقل!

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص:

124

3- استغلال هذه الأخبار من بعض أدعياء المهدوية!

4- إنّ هذه الأخبار تؤدي إلى ضعف المجتمع الإسلامي!

5- تصب هذه الأخبار في صالح الشيعة وعقائدهم!

ضعف منطق المخالفين:

يستفاد من هذه الاشكالات أنّ لمخالفة أحاديث المهدي صبغة ظاهرية وهي ضعف سند الروايات الواردة بهذا الشأن، أو ضعف دلالاتها؛ وصبغة واقعية تكمن خلف سابقتها ودافعها التعصب المذهبي، وبعض المصالح غير المبررة، وعلى كلّ حال فإن منطق المخالفين أجوف تماماً وفي كلّ جانب وذلك لأنه:

أوّلًا: أنّ أحاديث المهدي- كما ذكرنا سابقاً- وردت في أغلب مصادر العامة المعتبرة فضلًا عن مصادر الشيعة، وقد رواها كبار محدثي العامة وقد صرح أغلبهم بتواترها. وعليه فلا مجال لمناقشة اسنادها؛ ذلك لأن شهرتها وتواترها تغنينا عن ملاحظة السند، أي أنّ هذه الأحاديث على ضوء معايير تمييز الأحاديث، قطعية.

وبغض النظر عن ذلك فإن هنالك الأحاديث الصحيحة والمعتبرة بين تلك الأحاديث والتي اعترف بصحتها محدثو العامة.

والعجيب اعتراف «ابن خلدون» بهذه الحقيقة، فقد ذكر ذلك بعد عدة صفحات من كتابه التي افردها لأحاديث المهدي وحاول اثارة الشكوك بخصوص اسنادها فقال:

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 125

«فهذه جملة من الأحاديث التي أخرجها الأئمّة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلّا القليل والأقل منه».

وهكذا فهو يعترف على الأقل بأن القليل من هذه الأحاديث صحيحة وتأبى النقد.

أضف إلى ذلك فإن هذه الأحاديث لا تقتصر على تلك التي ذكرها ابن خلدون في كتابه، ومن هنا فقد ألف بعض علماء العامة كتباً ردوا فيها على ابن خلدون وصرّحوا بتواتر أحاديث المهدي وعدم اقتصارها على ما أورده، وأشرنا إلى ذلك سابقاً.

ويتضح من ذلك أنّ انكار الأحاديث عن هذا الطريق، أي طريق تضعيف السند، هو انكار لا أساس له من

الصحّة.

ثانياً: لم يرد في الأحاديث المذكورة ما يناقض العقل ليكون مدعاة لانكارها.

وحتّى إن بدا مضمون بعضها خلاف العادة فهو لا يفوق معاجز سالف الأنبياء، والاستبعاد لا يمكنه الحيلولة دون قبولها.

بالاضافة إلى أنّ أحاديث المهدي ليست وحدة متصله بحيث نقبلها جميعاً أو نرفضها جميعاً، بعبارة اخرى فإن القدر المسلم من الأحاديث المذكورة، أي قيام شخص من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله ومن ولد فاطمة عليهم السلام وممارسته للنهضة الاصلاحية العالمية ومل الأرض قسطاً وعدلًا، ليس بالمطلب الذي يشكل عليه عقلياً، بل اثبتنا سابقاً أنّ هذا الموضوع ينسجم مع سلسلة من الأدلة العقلية، واما بعض الأحاديث المتعلقة بعلامات الظهور

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 126

وأمثال ذلك، فإن كانت مستبعدة وليست واضحة من حيث السند ولا يمكن الوثوق بها، فلنا أن نردها، لكن لا علاقة لردّها بسائر الأحاديث.

وخلاصة القول فإننا لا ندري لِمَ أغمض البعض عن تفكيك الأحاديث عن بعضها البعض الآخر ونقد بعضها دون الآخر، فوقع في هذا الخطأ الفاحش!

فهذه الأحاديث تقول إنّ المدنية المادية لا تصلح البشرية، وتبدو حرب فيتنام التي استغرقت 25 سنة انبوبة اختبار عجيبة، يختبر بها جميع المفكرين آرائهم، إلّاأني كعالم دين أقول إنّ هذا دليل على عجز المدارس المادية، وأنّ كافة الوسائل المادية عناصر تصعِّد حدّة الأزمة إن افتقرت للإيمان، وهذا ما نلمسه في سائر مناطق العالم.

ثالثاً: إن كانت هذه الأحاديث لصالح الشيعة فهل ذنب الشيعة أم الأحاديث؟! وما الذي يمنع من قبول الحقّ كيفما اتضح؟ إلى جانب ذلك فإن الأحاديث المذكورة وإن أيدت رأي الشيعة، لكن ليست هنالك من ملازمة بين قبول هذه الأحاديث وقبول التشيع، فما أكثر من يؤمن بنهضة المهدي لكنهم ليسوا شيعة. على كلّ حال لا

ينبغي لبعض التعصبات المقيتة أن تحول دون ادراك الحقيقة، فهذا الأمر أشبه بما يقوله المريض المدين لطبيب ويكتب له وصفة طبية تتضمن شفاؤه فلا يلتزم بها، لأنّه إن التزم بها وتماثل للشفاء سيقول الناس أنّ ذلك الطبيب ماهر.

رابعاً: صحيح هناك استغلال لهذه الأحاديث ولكن هل هنالك من حقيقة لم تستغل؟

فهل قلة هم أولئك الذين ادعوا النبوة والألوهية وسائر المقامات المعنوية؟

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 127

وهل الأديان المبتدعة في العالم قليلة؟! فهل ينبغي طرح كلّ هذه الحقائق خشية الاستغلال؟! أم هل ينبغي التنكر للألوهية والنبوّة؟

وهل قليل استغلال مختلف القوى المادية في العالم؟

هل نتجاوزها جميعاً؟ ما هذا المنطق؟!

لقد شهد القرن الثاني عشر ظهور اثني عشر شخصاً كلهم ادّعى أنّه المسيح- وقد استقطبوا عدداً من الأفراد- وهذا ما أثار بعض النزاعات والمعارك التي اودت بحياة الكثير من الناس «1»، فهل يدعونا ذلك إلى انكار المسيح بذريعة استغلال البعض لهذه القضية!

خامساً: كما ذكرنا في بحث الانتظار فإن الاعتقاد بقيام المهدي بالنسبة لأولئك الذين يعيشون الانتظار الحقيقي لا يوجب الخمول والركود فحسب، بل هو أساس الأمل والوقوف بوجه مشاكل الحياة وصعوباتها، على غرار الإيمان باللَّه وقدرته المطلقة الذي يمنح الإنسان قوة واقتداراً، ويبعده عن الشعور باليأس والاحباط. فانتظار المهدي عنصر قوة وحركة واصلاح.

والحال لم يدرك البعض معنى هذا القيام كما ينبغي فنزع نحو الكسل والخمول والتهرب من المسؤولية، وهؤلاء هم المقصرون الحقيقيون كأولئك الذين لم يدركوا الإيمان باللَّه وقدرته المطلقة. وزبدة الكلام إنّه لا يمكن التنكر لواقع قائم لبعض الذرائع الواهية الجوفاء.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 129

المهدي في مصادر الشيعة الروائية

تبدو قضية الإيمان بالمصلح العالمي «المهدي» أكثر عمقاً ورصانة لدى الشيعة الإمامية، ذلك لأنّ العامة إن آمنت بها كمسألة فرعية، فإنّ الشيعة تراها

من الاصول الأصلية، فسلسلة الأئمّة الاثني عشر تختتم به وهو خاتم الأوصياء.

وقد ذهب بعض الباحثين في الشؤون الإسلامية إلى أنّ الروايات الواردة عن طرق العامة بهذا الشأن بلغت 200 رواية، بينما تجاوزت الالف رواية من طرق الشيعة.

وإن عدّت العامة تلك الروايات في المصلح العالمي من الروايات المتواترة، فهي من «ضروريات المذهب» لدى الشيعة.

ومن هنا كانت مؤلفات علماء الشيعة تفوق نظيرتها من علماء العامة.

ورغم أنّ جلّ اهتمام المؤلفات تركز على جمع الروايات دون التحليل سوى في بعض الموارد، إلّاأنّ جهوداً عظيمة بذلت لجمع تلك الروايات. ولعله يمكن الاشارة في هذا الخصوص إلى ثلاثة كتب- أُلفت بالاسلوب المذكور- تعتبر أكثر شمولية من غيرها والتي أُلفت من بعض العلماء المعاصرين وهي:

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 130

1- كتاب «المهدي» للفقيه الجليل سيّد صدر الدين الصدر.

2- كتاب «البرهان على وجود صاحب الزمان» للعالم المجاهد المرحوم السيّد محسن الأمين.

3- كتاب «منتخب الأثر في أحوال الإمام الثاني عشر» للعالم الفاضل «لطف اللَّه الصافي» بتوجيه وتشجيع المرحوم آية اللَّه البروجردي. والذي لخص باللغة الفارسية تحت عنوان «البشارة بالأمن والأمان».

ومصادر هذه الكتب، العديد من مؤلفات قدماء علماء الفريقين والتي أُلفت بصورة مستقلة أو على سبيل الاشارة لهذا الموضوع. وحيث لا يسع الكتاب نقل جميع الروايات الواردة بهذا الشأن، فاننا نكتفي بمقتظفات من الكتاب الأخير على أن نشير في الفصول القادمة إلى بعض الأخبار والروايات بما يتعلق بالبحث:

1- تضمن الفصل الأوّل اشارة إلى بعض الأحاديث التي وردت بشأن الخلفاء وأوصياء النبي صلى الله عليه و آله الاثني عشر، وقد أحصت 271 حديثاً من المصادر المعروفة للفريقين والتي عبرت عنه بمختلف العبارات مثل «الإمام» و «الخليفة» و «الأمير» وما شابه ذلك. وقد جاءت هذه الأحاديث في

أهم مصادر العامّة ومصادر أهل البيت عليهم السلام.

ولاترى الشيعة أية صعوبة في توجيه هذه الأحاديث. إلّاأنّ العامّة عانوا الأمرين في توجيهها، فلا يسعهم من جانبٍ انكارها لأنّها وردت في مصادرهم المعتبرة، ومن جانبٍ آخر لم ينسجموا مع عقيدة الشيعة بشأن «الأئمّة الاثني عشر»؛ فقد ذهبوا أحياناً إلى أنّ الأصل هم الخلفاء الأربعة، ثمّ أضافوا لهم ثمانية خلفاء.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 131

والحال لو أرادوا حساب الخلفاء الذين وصفهم النبي صلى الله عليه و آله بالامراء والأئمّة الحقّ وإن اغمضوا، فإنّه يتعذر عليهم ذكر بعض الأفراد ضمن الأئمّة، كيزيد بن معاوية وسائر الحكّام من بني أمية، ولو أردنا حشر بعض الأفراد الأكثر اعتدالًا، وبالنظر إلى وحدة أهداف وخطط بني أمية وبني العباس فإنّه ليست هناك من ضابطة، ناهيك عن المشكلة التي يفرزها التقطيع لهذه السلسلة الاثني عشرية من حيث الزمان.

فزعموا أنّ الاثني عشر هم الخلفاء الراشدون وثمانية ممّن سيأتون لاحقاً وآخرهم المهدي! وعلى هذا الضوء فإن فاصلة كبيرة تتخلل سلسلة خلفاء النبي صلى الله عليه و آله وهذا ما لا ينسجم قط مع الروايات المذكورة.

2- وردت في الفصل الثاني الروايات التي تشير إلى أنّ عدد الأئمّة بعد النبي صلى الله عليه و آله كعدد نقباء بني إسرائيل الذين احصاهم القرآن 12 نقيباً، وقد تضمن 40 رواية من كتب الفريقين والتي تكمل البحث السابق.

3- الفصل الثالث الذي اشتمل على الروايات التي تصرّح بأنهم 12 إماماً أولهم علي عليه السلام وقد بلغت هذه الروايات 133 رواية.

4- تضمن الفصل الرابع روايات عن مصادر الفريقين صرّحت بأن أوّل الخلفاء علي عليه السلام وآخرهم المهدي عليه السلام. وبلغت روايات هذا الفصل 91 رواية.

5- وردت في الفصل السابق الاشارة إلى الأحاديث التي

صرّحت بأن عدد الأئمّة 12 وتسعة منهم من ولد الحسين بن علي عليهما السلام. وقد تضمن الفصل 139 رواية.

6- بالاضافة إلى ما ورد في الفصل السابق من أنّ عدد الأئمّة 12 وتسعة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 132

منهم من ولد الحسين بن علي عليهما السلام فقد ورد قيد آخر هو «تاسعهم قائمهم» وتضمن هذا الفصل 107 رواية.

7- تضمن هذا الفصل الأحاديث التي اشارت إلى أسمائهم، وبعض هذه الأحاديث من طرق العامّة، إلّاأنّ أكثريتها من مصادر الشيعة، وقد اشتمل هذا الفصل على 50 رواية.

إلى جانب الروايات المستفيضة في الخصائص الجسمية والروحية للمهدي وعلامات الظهور وكيفية نهضته وحكومته العالمية وسائر القضايا المتعلقة بهذا القيام العظيم. ويتضح من هذه الأحاديث أنّ المصلح العالمي العظيم، المهدي الموعود يمتاز بالخصائص التالية:

أ) إنّه من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله وولده.

ب) إنّه من ولد الإمام الحسين عليه السلام.

ج) الإمام الثاني عشر من الأئمّة بعد النبي.

د) هو ابن الحسن بن علي العسكري.

ه) صاحب الحكومة العالمية.

و) يتحرر المستضعفون في عصره من قيود واغلال الاسر، وتنتهي الحروب ويحل محلها الأمن والسلام والبناء.

وكما ذكرنا فإن عدد هذه الروايات من الكثرة بحيث تتطلب بمفردها كتاباً مستقلًا، وحيث أُلفت عدة كتب بهذا الشأن أشرنا سابقاً إلى بعضها، فاننا نتحفظ عن الخوض في هذه الروايات، ونقتصر على بعض الاشارات في الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 133

الأبحاث القادمة لإكمال الأبحاث السابقة.

والمشكلة في هذه المباحث أنها غالباً ما تقتصر على نقل الروايات دون أدنى تحليل أو مناقشة، وهدفنا في هذا الكتاب هو الغوص بصورة أعمق في الأدلة العقلية، والوقوف عند الأدلّة النقلية والروايات وتسليط الضوء عليها.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 135

ملامح انطلاقة النهضة

علامات الظهور

اشارة

هل هنالك من علامات على قرب هذه النهضة

العالمية؟

هل يمكن التكهن بأنّ هذه النهضة ستقع الآن أم لا؟

هل يمكن التسريع في انطلاقة هذه النهضة؟

إن كان هذا الأمر ممكناً، فما هي الوسائل التي من شأنها التسريع في الزمان؟

لابدّ من القول إنّ الاجابة عن أكثر هذه الأسئلة بالايجاب.

لأنّ أيّة عاصفة عظيمة لا تنطلق دون مقدّمة، ولا تحدث نهضة في مجتمع بشري دون علامات مسبقة.

فقد وردت أشارات في الأحاديث الإسلامية إلى سلسلة من العلامات التي تشير إلى قرب وقوع تلك النهضة الشاملة والتي يمكن تقسيمها إلى قسمين:

الطائفة الاولى: العلامات التي يمكن التكهن بها حسب خصائص كلّ نهضة.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 138

الطائفة الثانية: الجزئيات والتفاصيل التي يمكن ادراكها من خلال المعلومات الاعتيادية، وتنطوي في الغالب على تكهنات اعجازية.

ونشير هنا إلى «ثلاث علامات مهمّة» من الطائفتين:

1- شمولية الظلم والفساد

العلامة الاولى التي يمكن من خلالها تصور قرب وقوع كلّ نهضة- حتّى هذه النهضة الكبرى- اتساع رقعة الظلم والجور والفساد والتطاول على حقوق الآخرين وأنواع المفاسد الاجتماعية والانحرافات الأخلاقية التي تعد من عوامل سعة الفساد في المجتمع. فمن الطبيعي أن يختزن الضغط الذي يتجاوز حدّه الانفجار، ذلك لأنّ الانفجارات الاجتماعية على غرار الانفجارات الميكانيكية تستتبع الضغوط الشديدة الزائدة عن الحدّ.

وبالطبع فإنّ سعة الظلم والفساد بوسيلة أمثال «الضحاك» في كلّ زمان إنّما تسقي شجرة الثورة وترعرع أمثال «كاوه الحداد» عند كورة النار، حتّى إذا اشتدت الأزمة، اقتربت انطلاقة الثورة.

ولعلّ الأمر كذلك بالنسبة لاقتراب النهضة العالمية وظهور المصلح العالمي المهدي.

غاية الأمر وكما أشرنا سابقاً فإنّه ليست هنالك من ضرورة لأن نكون كبعض الأفراد السلبيين فنفكر في المزيد من الظلم والفساد، بل لابدّ أن نسعى إلى تهذيب أنفسنا والآخرين وإعداد الثُّلُة المقتدرة والشجاعة والعالمة التي يمكنها حمل لواء النهضة ومواجهة الظلم والفساد.

على أيّة حال

فقد ورد هذا الموضوع في أغلب الروايات الإسلامية

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 139

تحت عنوان «كما ملئت ظلماً وجوراً».

ذكرت عين هذه العبارات في أغلب الأحاديث التي روتها مصادر الفريقين.

ويستفاد من مجموعها أنّ أوضح علامات النهضة هي هذا الموضوع.

وهنا يرد هذا السؤال: هل يختلف «الظلم» عن «الجور» حيث تكرر هذان العنوانان كثيراً؟

يستفاد من جذور هاتين المفردتين أنّ التجاوز على حقوق الآخرين على نوعين ورد كلّ منهما مستقلًا في الآداب العربية.

الأوّل: إنّ يهضم الإنسان لنفسه حقّاً آخر ويغتصب عناء الآخرين وهذا ما يسمى بالظلم.

والآخر: أن يسلب الأفراد حقوقهم ويعطيها لآخرين، ويسلط أنصاره على أموال الآخرين أو أنفسهم أو اعراضهم ويميز بينهم لترسيخ دعائم حكومته، وهذا ما يصطلح عليه بالجور. والذي يقابل «الظلم» هو «القسط» ويقابل «الجور» «العدل» «1».

على كلّ حال فحين يعمّ «التجاوز» بحقوق الآخرين المجتمع البشري من جانب و «التمييز العنصري» من جانب آخر، فإنّه يظهر ويطيح بكلّ ذلك.

ما ذكر سابقاً، كليات بشأن سعة الفساد كعامل في كلّ نهضة.

والجدير ذكره أنّ الروايات الإسلامية قد أشارت إلى هذه العلامات الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 140

والمفاسد وكأنّ هذه التكهنات ليست مرتبطة بالقرون الأربعة عشر الماضية، بل كأنّها وردت في هذا القرن أو قبل بضع سنوات وقد نلمس اليوم أغلبها وهذا من المعاجز.

ومن ذلك رواية الإمام الصادق عليه السلام التي أشارت إلى عشرات الأنواع من هذه المفاسد ولبعضها جوانب اجتماعية وسياسية واخرى أخلاقية، تدعو مطالعتها إلى تأمل الإنسان واستغراقه في التفكير. وإليك جانب من متن هذه الرواية:

قال الصادق عليه السلام لبعض أصحابه:

«1- إذا رأيت الجور قد شمل البلاد.

2- إذا رأيت القرآن قد خلق واحدث ما ليس فيه ووجه على الأهواء.

3- إذا رأيت الدين قد انكفأ كما ينكفي الإناء.

4- إذا رأيت

أهل الباطل قد استعلوا على الحقّ.

5- إذا رأيت الرجال قد اكتفوا بالرجال والنساء بالنساء!

6- إذا رأيت المؤمن صامتاً.

7- إذا رأيت الصغير يستحقر الكبير.

8- إذا رأيت الاحارم قد تقطعت.

9- إذا رأيت الثناء قد كثر.

10- إذا رأيت الخمور تشرب علانية.

11- إذا رأيت سبيل الخير منقطعاً وسبيل الشر مسلوكاً.

12- إذا رأيت الحلال يحرَّم والحرام يحلَّل.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 141

13- إذا رأيت الدين بالرأي.

14- إذا رأيت المؤمن لا يستطيع أن ينكر إلّابقلبه.

15- ورأيت العظيم من المال ينفق في سخط اللَّه.

16- ورأيت الولاة يرتشون في الحكم!

17- ورأيت الولاية قبالة لمن زاد!

18- ورأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور!

19- ورأيت القمار قد ظهر.

20- ورأيت الملاهي قد ظهرت يمر بها لا يمنع أحد أحداً، ولا يجترء أحد على منعها.

21- ورأيت القرآن قد ثقل على الناس استماعه وخف على الناس استماع الباطل.

22- ورأيت الجار يكرم الجار خوفاً من لسانه!

23- ورأيت المساجد قد زخرفت!

24- ورأيت طلب الحجّ لغير اللَّه.

25- ورأيت قلوب الناس قد قست!

26- ورأيت الناس مع من غلب!

27- ورأيت طالب الحلال يذم وطالب الحرام يمدح!

28- ورأيت المعازف ظاهرة في الحرمين.

29- ورأيت الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيقوم إليه من ينصحه فيقول هذا عنك موضوع!

30- ورأيت المساجد محتشية ممن لا يخاف اللَّه!

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 142

31- ورأيت الناس همهم في بطونهم وفروجهم!

32- ورأيت الدنيا مقبلة إليهم.

33- ورأيت النساء يبذلن أنفسهن لأهل الكفر.

34- ورأيت اعلام الحقّ قد درست.

35- ورأيت الحرب قد أديل من العمران!

36- ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان.

37- ورأيت الرجل عنده المال الكثير لم يزكِّهِ منذ ملكه.

38- ورأيت الرجل يمسي نشواناً ويصبح سكراناً.

39- ورأيت الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويقتدون بأهل الشرور!

40- ورأيت كلّ عام يحدث فيه من

الشر والبدعة أكثر ممّا كان!

41- ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلّاالأغنياء.

42- ورأيتهم يتسافدون كما تتسافد البهائم!

43- ورأيت الرجل ينفق الكثير في غير طاعة اللَّه، ويمنع اليسير في طاعة اللَّه.

44- ورأيت الرجل إذا مرّ به يوم لم يكسب فيه الذنب العظيم ...

حزيناً!

45- ورأيت النساء قد غلبن على الملك وغلبن على كل أمر.

46- ورأيت رياح المنافقين دائمة، ورياح أهل الحقّ لا تتحرّك.

47- ورأيت القضاة يقضون بخلاف ما أمر اللَّه.

48- ورأيت المنابر يؤمر عليها بالتقوى، ولا يعمل القائل بما

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 143

يأمر!

49- ورأيت الصلاة قد استخف بأوقاتها.

50- ورأيت الصدقة بالشفاعة لا يراد بها وجه اللَّه ....

فكن على حذر واطلب إلى اللَّه النجاة» «1».

كما ذكرنا فما أوردناه خلاصة من حديث كإشارة لبعض المفاسد التي تسبق النهضة العالمية الكبرى.

ويمكن تقسيم هذه المفاسد إلى ثلاثة أقسام:

1- المفاسد المتعلقة بقضايا الحقوق والحكومات مثل اتساع الظلم وغلبة حماة الباطل وانعدام حرية البيان والعمل حتّى لا يستطيع المؤمنون انكار الظلم والظلمة سوى بقلوبهم، إلى جانب صرف الأموال العظيمة في المصارف العبثية أو الضارة والهدامة واتساع الرشوة والمزايدة على المناصب ونزوع الناس الضعفاء والذين يفتقرون إلى الثقافة الصحيحة نحو أصحاب القدرة والغلبة (مهما كان ذلك الشخص) وكذلك انفاق الأموال في الحروب وسباق التسلح والاهتمام بها أكثر من العمران والبناء (حتّى تكون ميزانية الحرب أكثر من ميزانية البناء).

كما يبتدع كلّ عام سبيل جديد للفساد والظلم والاستعمار، وقل من يشعر بالمسؤولية تجاه المشاكل الاجتماعية حتّى ليوصي بعضهم البعض بالصمت إزاء الأحداث.

2- المفاسد المرتبطة بالقضايا الأخلاقية من قبيل: اتساع التملق والمجاملة وانهماك الرجال بالأفعال الوضيعة (كالارتزاق عن طريق الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 144

المتاجرة بالزوجة!) إلى جانب اتساع الشراب والقمار وأنواع الملاهي المحظورة والقول دون العمل

والاستغراق في الظاهر واحترام الأفراد على أساس الغنى والثراء.

3- المفاسد ذات الصلة بالامور الدينية من قبيل تحميل الأهواء على القرآن وتفسيره بالرأي والتعصب الشخصي في القضايا الدينية وتجمهر العصاة في المساجد، والاهتمام بظاهر المساجد دون باطنها ومحتواها وبالتالي الاستخفاف بالصلاة وما شابه ذلك.

ولو تأملنا قليلًا لرأينا أنّ أغلب هذه المفاسد تسود المجتمعات الراهنة ويتوقع حدوث ما تبقّى منها، وعليه فما الذي ينبغي علينا اعداده لقيام تلك النهضة العظيمة؟

الجواب ما ذكرناه سابقاً وهو أننا نفتقر إلى الوعي المطلوب، بعبارة اخرى رد الفعل البناء والثوري إزاء هذه المفاسد.

على كلّ حال فإنّ ظهور هذه العلامات لوحدها ليست شرطاً في تحقق تلك النهضة الشاملة؛ بل هي مقدمة لليقظة الفكرية وأسواط لايقاظ الأرواح الغافلة وأرضية لخلق الاستعداد الاجتماعي والنفسي. والعالم مطالب شاء أم أبى بتحليل جذور هذه الاختلالات بالاضافة إلى نتائجها وعواقبها، وهذا ما يؤدي إلى وعي ذاتي عام يوقنُ الناس من خلاله باستحالة مواصلة الوضع السائد ولابدّ من النهضة؛ النهضة على جميع الأصعدة لإرساء قواعد النظام الإلهي العادل الحقّ.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 145

جدير بالذكر أنّه ليس من الضروري ظهور هذه المفاسد في كافة أنحاء العالم؛ ويتعذر حصول هذا الشرط لو كان هناك بقعة طاهرة، بل المعيار القضية النوعية للناس سواء كانت في الشرق أو الغرب. وبعبارة اخرى فإن هذا الحكم كسائر أكثر الأحكام على أساس الاسلوب الغالب.

2- الدجّال

عادة ما يتبادر إلى الذهن حين الحديث عن الدجّال وعلى ضوء السابقة الذهنية العامة شخص معين ذو عين واحدة وجسد ضخم ودابة خيالية وسيظهر قبل نهضة المهدي العالمية ولديه بعض الخطط والمشاريع.

ولكن كما يستفاد من الأصل اللغوي لكلمة الدجّال من جانب «1» ومصادر الحديث من جانب آخر أنّ الدجّال لا يقتصر

على فرد معين، بل هو عنوان كلي للأفراد المزورين والماكرين والمخادعين الذين يعتمدون مختلف الطرق والوسائل لاستقطاب الآخرين ويظهرون كحجر عثرة أمام النهضة البناءة.

جاء في الحديث الصحيح الذي أورده الترمذي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«إنّه لم يكن نبي بعد نوح إلّاانذر قومه الدجّال وأنا أُنذركموه» «2».

قطعاً كان الأنبياء السابقون يحذرون قومهم من فتنة الدجّال الذي يظهر

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 146

في آخر الزمان ويبتعد عنهم مدّة آلاف السنين. خاصة أنّه ورد آخر الحديث «فوصفه لنا رسول اللَّه فقال لعلّه سيدركه بعض من رآني أو سمع كلامي».

الاحتمال الراجح أنّ ذيل الحديث إشارة إلى الطواغيت الماكرين كبني أمية وبعض الأفراد مثل معاوية الذي استغل بعض الامور من قبيل «خال المؤمنين» و «كاتب الوحي» إلى جانب سائر المكر والخداع واخراج الناس من الصراط المستقيم إلى السنن والعادات الجاهلية واشاعة الطبقية والحكومة الاستبدادية وتسليط الطالحين والمتملقين على الناس واقصاء الفضلاء والصالحين.

وكما ورد عنه صلى الله عليه و آله في الدجّال أنّه قال:

«ما من نبي إلّاوقد انذر قومه ولكن سأقول فيه قولًا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنّه أعور ...».

وتركيز الأحاديث على زمان نوح عليه السلام يمكن أن يكون إشارة إلى أبعد زمان، أو عدم وجود نموذج الدجّال في الأزمنة التي سبقت نوح، وذلك لأنّ الشريعة الاولى إنّما أتى بها نوح، أو لعدم نفوذ الحيلة والخداع في المجتمعات البشرية السابقة.

على كلّ حال هناك تفسير لصفة العين الواحدة للدجّال والتي سنتناولها لاحقاً.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 147

جدير ذكره أنّ بعض الأحاديث «1» صرحت بظهور الدجّال قبل المهدي بثلاثين سنة! كما أشارت الأناجيل إلى ظهور الدجّال.

فقد جاء في الرسالة الثانية ليوحنا:

«سمعتم بظهور الدجّال فقد ظهر الآن الكثير من

الدجّالين». «2»

فالعبارة تؤكد تعدد الدجّالين.

وجاء في الحديث:

«قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا تقوم الساعة حتّى يخرج نحو من ستين كذّاباً كلّهم يقول أنا نبي» «3».

ورغم أنّ عنوان الدجّال لم يرد في هذه الرواية، ولكن يفهم منها اجمالًا أنّ المدعين الكاذبين والمخادعين في آخر الزمان لا يقتصرون على شخص أو بضعة أشخاص.

على كلّ حال ما لا يمكن الترديد فيه أنّ انطلاقة أية نهضة وفي أي مجتمع تشهد وجود بعض الأفراد الذين يمارسون الحيلة والمكر والخداع على ضوء الابقاء على الأنظمة الفاسدة وديمومة الأوضاع القائمة واستغلال أوضاع الناس الفكرية والاجتماعية وتوظيفها لصالحهم، وأبعد

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 148

من ذلك أنّهم ربّما يطلقون الشعارات الثورية، وهذه إحدى العقبات التي تشكل أعظم موانع الاصلاح والنهضة الأصيلة.

فهؤلاء بعض الدجّالين الذين حذر الرسل منهم أممهم ونبهوهم إلى خطورة خططهم الجهنمية.

غاية الأمر أنّه قبيل ظهور المهدي وتلك النهضة العظيمة والشاملة الحقّة، فإنّ الأرضية الفكرية والنفسية والاجتماعية كلما كانت أكثر اعداداً على النطاق العالمي، تتضاعف انشطة هؤلاء الدجّالين فيأخذون بالظهور الواحد تلو الآخر؛ ليعرقلوا تطور المجالات الثورية ويعتمدوا آلاف الحيل بغية حرف الأفكار العامّة.

طبعاً لا ضير أن يكون هنالك دجّال كبير على رأس الجميع. أمّا العلامات التي ذكرتها بشأنه بعض الروايات فلا تعدو الكتابة والرمز؛ مثلًا، يستفاد من الرواية الواردة في بحار الأنوار عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام أنّ الدجّال يتصف ببعض الصفات مثل:

1- إنّ له عيناً واحدة وسط جبهته تضي ء كالنجم! إلّاأنها عين دموية كأنها قطعة من الدم!

2- له دابة سريعة بيضاء خطوتها ميل وتطوي الأرض بسرعة!

3- إنّه يدعي الألوهية ويسمع صوته كلّ من في العالم!

4- إنّه يغوص في البحار وتنطلق معه الشمس، بين يديه جبل من الدخان وخلفه

جبل أبيض يراه الناس طعاماً.

5- يظهر حين يعيش الناس القحط و ... «1».

لا شك أننا لسنا مخولين أن نضفي الرمزية على كلّ مفهوم من المفاهيم الدينية الواردة في القرآن أو مصادر الحديث، ذلك أنّ هذا الأمر من قبيل الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 149

التفسير بالرأي الذي نهى الإسلام عنه، والذي يرفضه أيضاً العقل والمنطق، مع ذلك ليس من الصواب الجمود على المفهوم الابتدائي للألفاظ مع وجود بعض القرائن العقلية أو النقلية الواردة بهذا الخصوص والذي يوجب الابتعاد عن المفهوم الأصلي للكلام.

ويبدو أنّ مثل هذه المفاهيم بشأن حوادث آخر الزمان ليست بدعاً من المفاهيم الكنائية، ومن ذلك ما ورد من خبر أنّ «الشمس تطلع من المغرب» «1».

وهذا من أعقد الامور المرتبطة بهذه القضية والذي لا ينسجم ظاهراً مع العلم الحديث؛ ذلك لأن طلوع الشمس من المغرب يعني تغيير مسيرة حركة الأرض، فلو حصل هذا الأمر فجأة، لقذف بمياه البحار وكلّ ما على سطح الكرة الأرضية خارجاً ولاضطرب كلّ شي ء، ولا يبقى شي ء من الحياة، وإن حصل بالتدريج فإنّ طول الليل والنهار يزيد حتّى يتجاوز الشهر والشهرين ويؤدي أيضاً إلى اضطراب الكائنات على سطح الكرة الأرضية!

لكن هنالك تفسيراً رائعاً في ذيل الحديث الوارد بشأن الدجّال يفيد كنائية هذه العبارة. فراوي الحديث هو «نزال بن سبرة» سأل «صعصعة بن صوحان» أنّ أميرالمؤمنين علياً عليه السلام قال في آخر كلامه عن الدجّال «لا تسألوا عن الحوادث التي تقع بعد ذلك ...» فما كان مراده؟

قال صعصعة:

«إنّ الذي يصلي خلفه عيسى بن مريم هو الثاني عشر من العترة التاسع الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 150

من ولد الحسين بن علي، وهو الشمس الطالعة من مغربها» «1».

وعليه فليس هنالك ما يدعو إلى الدهشة

في أنّ للدجّال الذي ورد بالصفات المذكورة بعداً كنائياً. والسؤال هو كيف تفسير ذلك؟

والجواب: لا يبعد أن يكون الدجّال بالصفات المذكورة اشارة إلى قادة المدارس المادية في العالم، للأسباب التالية:

1- لهؤلاء عين واحدة هي العين الاقتصادية والحياة المادية؛ فهم لا يرون سوى بعداً واحداً هو المنافع المادية؛ ويعتمدون مختلف الحيل والألاعيب والسياسات الاستعمارية بغية تحقيق أهدافهم، فهم دجّالون ومخادعون فقدوا أعينهم المعنوية والإنسانية.

إلّا أنّ هذه العين المادية حادة جدّاً تحقق تطورات باهرة في المجالات الصناعية حتّى تفوقوا على كلّ من سواهم.

2- لديهم الوسائل النقلية الغاية في السرعة والتي تطوي الأرض في مدّة قياسية بسرعة ربّما تفوق سرعة الصوت!

3- إنّهم يدعون الألوهية عملياً ويسيطرون على كافة المقدرات ورغم ضعفهم وعجزهم إلّاأنّهم يغزون الفضاء ويصعدون إلى القمر، مع العلم أنّ هزة أرضية بسيطة أو اصابة إحدى خلايا أجسامهم بالسرطان كافية للقضاء عليهم، ورغم كلّ ذلك وعلى غرار فرعون يدعون الألوهية والربوبية.

4- يغوصون في مياه البحار بغواصاتهم المتطورة وينطلقون بوسائلهم السريعة بمسيرة الشمس (وأحياناً يتقدمون على مسارها). بين يديهم الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 151

معامل ضخمة يخرج منها الدخان وخلفهم جبال من المنتجات الصناعية والمعادن الغذائية (تراها الناس مواد غذائية وأطعمة سالمة، والحال ليس لها قيمة غذائية وغالباً ما تكون أطعمة غير سالمة).

5- يصاب الناس بقحط وشحة في المواد الغذائية- لبعض الأسباب من قبيل الاستغلال والاستعمار والتمييز العنصري وهدر الثروات الضخمة على الأسلحة ونشوب الحروب وما تؤدي إليه من دمار شامل واضرار مادية جسيمة تنعكس سلباً على حياة الناس- حتّى يموت البعض جوعاً، والدجّال بصفته العنصر الأصلي في هذه الاضطرابات يستغل هذه الأوضاع فيسارع إلى اغاثة المحرومين والضعفاء بغية ترسيخ دعائمه الاستعمارية.

كما ورد في بعض الروايات أنّ كلّ

قطعة من وسيلة الدجّال تتضمن نغمة خاصة وجديدة، وهو الأمر الذي ينطبق على كلّ هذه الوسائل المعتمدة في اللهو واللعب والتي نشاهدها في البيوت والحدائق العامة وشواطئ البحار.

والمهم في الأمر هو عدم انخداع العناصر الثورية، أي جنود المصلح العظيم المهدي الموعود بتلك المظاهر المزيفة وعدم الغفلة عن استغلال أية فرصة بغية الاندفاع بكلّ حزم وممارسة النهضة الاصلاحية في اشاعة العدل والحقّ.

طبعاً ما ذكرناه تفسير احتمالي للدجّال على أساس بعض القرائن المؤيدة، إلّاأنّ قبوله أو عدم قبوله لا يضر بأصل الموضوع، في أنّ لصفات الدجّال بُعداً كنائياً، وهو ليس بإنسان يمتاز بهذه الصفات.

3- ظهور السفياني

ورد ظهور «السفياني» كظهور «الدجّال» في أغلب مصادر الفريقين الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 152

بصفته إحدى علامات ظهور المصلح العالمي العظيم، أو إحدى حوادث آخر الزمان «1».

وإن أشارت بعض الروايات إلى أنّ السفياني شخص معين من آل أبي سفياني وأحد ولده؛ إلّاأنّه يستفاد من بعضها الآخر أنّ السفيان ليس فرداً معيناً، بل اشارة إلى صفات وملامح تتجلى في بعض الأفراد على طول التاريخ. فقد ورد عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام أنّه قال:

«أمر السفياني حتم من اللَّه ولا يكون قائم إلّابسفياني» «2».

ويتضح من هذا الحديث أنّ للسفياني جانباً توصيفياً لا شخصياً وصفاته هي خططه وخصائصه، كما يستفاد أنّ هنالك سفيانياً (أو أكثر) تجاه كلّ رجل ثوري ومصلح حقّ.

وورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«أنا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في اللَّه. قلنا صدق اللَّه وقالوا كذب اللَّه: قاتل أبو سفيان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقاتل معاوية علي بن أبي طالب عليه السلام وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي عليه السلام والسفياني يقاتل القائم» «3».

وقد تعرفنا في

المبحث السابق على دور الدجّالين في مضادة الثورة الاصلاحية.

ونحاول هنا التعرف على خطط السفياني الشيطانية؛ وذلك لضرورة التعرف على كافة العناصر المناوئة والمناصرة للمشروع العالمي بغية تحقق الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 153

المفهوم الصحيح للانتظار.

يمتاز أبو سفيان زعيم السلسلة السفيانية ببعض الصفات مثل:

1- الثراء الفاحش الذي ناله من خلال غصب حقوق الآخرين والمعاملات الربوية المحرمة.

2- القدرة والقوة التي حصل عليها بواسطة الطرق الشيطانية فتزعم الأحزاب الجاهلية في مكّة ونواحيها، وكانت خلاصة شخصيته في هذين الأمرين.

وكانت له حكومة في مكّة قبل انبثاق الدعوة، إلّاأنّ هذه الحكومة تهددت بالزوال بعد ظهور الإسلام، ذلك لأن الإسلام إنما يعادي هؤلاء الأفراد الذين يتمتعون بالقدرات الشيطانية، ومن هنا فقد كان أبو سفيان عدواً لدوداً للإسلام.

3- كان أبو سفيان مظهر النظام الطبقي الظالم في المجتمع المكّي، ولذلك بذل كلّ دعمه واسناده للوثنية وعبادة الأصنام؛ فالأصنام أفضل وسيلة لإثارة النفاق وتخدير الآخرين، وبالنتيجة التسلط عليهم وفرض السيطرة.

وسر معارضته للإسلام- كما قلنا- أنّ الإسلام زعزع أركان سلطته وكشف النقاب عن شخصيته المريضة، ومن هنا فلم يألو جهداً من أجل القضاء على الدعوة الإسلامية. لكن انتهى الأمر إلى تحطيم كافة معاقل قوته ليعيش التقوقع والانزواء وإلى الأبد، رغم بعض تحركاته السرية المشبوهة.

وقد نقل كلّ هذه الصفات- من خلال التربية والوراثة- إلى ولده معاوية ومن ثمّ حفيده يزيد، فتابعا خطط أبي سفيان- بصورة اخرى- وإن فشلا في تحقيق أهدافهما.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 154

كان أبو سفيان رجلًا رجعياً بمعنى الكلمة شعر بالهلع من الدعوة الإسلامية، ذلك لأن الإسلام تضمن المشاريع الاصلاحية الشاملة التي غيّرت كافة الأوضاع الفاسدة في ذلك المجتمع المتخلف، وهو التغيير الذي يطيح بهذه الرموز الفاسدة كأبي سفيان وأمثاله.

ومن هنا ندرك سبب سعي

ولده واسلافه للقضاء على الإسلام واعادة الامّة إلى العصر الجاهلي، وإن لم يكتب لهم النجاح؛ مع ذلك فقد سددوا ضربات موجعة حالت دون تطور المسلمين وانتشار الإسلام.

ولا نريد الابتعاد عن أصل الموضوع فقد طالعتنا الأحاديث السابقة أنّ ظهور أبي سفيان بهذه الصفات لم يكن من خصائص النهضة الإسلامية، فازاء كلّ قائم ومصلح هناك أبو سفيان بتلك الخصائص من قبيل الثراء والقدرة والظلم والرجعية واشاعة الخرافات، والذي يسعى إلى القضاء على جهود المصلح وخططه الاصلاحية، أو على الأقل الحيلولة دون انتشار الاصلاح.

وسيكون هنالك سفياني أو أكثر يقف بوجه المصلح العالمي العظيم «المهدي» والذي يسعى بكلّ ما اوتي من قوة لعرقلة المسيرة الاصلاحية للمهدي والحيلولة دون فناء الأنظمة الطبقية الظالمة التي تسعى لاستغلال الامّة ونهب ثرواتها وخيراتها.

ولعلّ الفارق الرئيسي بين السفياني والدجّال أنّ الدجّال يعتمد الزيف والخداع والحيلة في ممارساته الشيطانية، بينما يعتمد السفياني على قدراته الجهنمية الهدامة في أفعاله، حيث ورد في بعض الأخبار أنّه يستولي على الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 155

المناطق العامرة في الأرض «1».

والذي ندرك نظيره في حكومة أبي سفيان ومعاوية ويزيد كما يفيد التاريخ.

نعم، ليس هنالك ما يمنع أن يكون السفياني الذي يقف آخر الزمان بوجه المصلح العالمي الكبير «المهدي» من ولد أبي سفيان واحفاده الذين ينتمون إليه كما ورد في بعض الأخبار.

لكن الأهم من مسألة النسب أنّ مشاريعه وصفاته وخصائصه وجهوده ومساعيه كنظيرتها لدى أبي سفيان. وستكون عاقبة هذا السفياني كسائر من سبقه، الركوع أمام حركة المهدي العالمية والاستسلام لها وتذهب كلّ جهوده ومساعيه أدراج الرياح.

والأهم من كلّ ذلك أن يتعرف الناس على نماذج «الدجّال» و «السفياني». وينطوي هؤلاء السفيانيون- بغض النظر عن العلامات المذكورة- على صفة اخرى واضح نموذجها في

التاريخ الإسلامي وهي:

أنّهم يقصون الصلحاء من مسرح الحياة ويستعيضون ببعض الأفراد الطالحين والمنحرفين، يتقاسمون بيت المال- كما ورد في حكومة اسلاف أبي سفيان- مع بطاناتهم وذويهم، ويعتمدون التمييز بين الناس وهضم حقوقهم، وهكذا يمكن من خلال هذه الصفات التعرف عليهم.

فالدجّالون يشكلون الصفوف المشبوهة في الجبهة المناهضة للنهضة،

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 156

اما السفيانيون فيمثلون الصفوف المضادة للنهضة علانية، ولكليهما في الواقع موقف واحد، وبالطبع ليس هنالك من ضمانة لتقدم هذه النهضة وديمومتها دون القضاء على هذه الجبهة.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 157

العقيدة الشيعية في المهدي عليه السلام

اشارة

والأسئلة التي تفرزها تلك العقيدة

المهدي ثاني عشر خلفاء النبي صلى الله عليه و آله

ما أوردناه لحدّ الآن في هذا الكتاب بشأن «المصلح العالمي المطلق» و «مشاريع المهدي الثورية» كانَ جانباً كلياً عقلياً، وآخر إسلامياً كلياً. إلّاأنّ هنالك بعض الخصائص التي تتميز بها العقيدة الشيعية المستندة لمدرسة أهل البيت عليهم السلام. وسنسلط الضوء هنا على بعض هذه الخصائص ومنها:

1- عقيدة الشيعة هي أنّ المهدي هو ثاني عشر خلفاء النبي صلى الله عليه و آله وابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام، اسمه محمّد وكنيته أبو القاسم ولقبه المهدي وصاحب الزمان والقائم.

2- المهدي حي الآن وقد مضى عليه أكثر من ألف سنة حيث ولد سنة 255 ه.

3- إنّ المهدي رغم حياته الآن، إلّاأنّه غائب عن الأنظار، أي رغم أنّه يتمتع بحياة طبيعية، إلّاأنّه يعيش بصورة مجهولة في هذا العالم.

أمّا سائر الفرق الإسلامية- سوى القلة- فتعتقد أنّه سيولد آخر الزمان وإن كان من نسل النبي صلى الله عليه و آله. وعليه فهي لا تقول بهذا العمر المديد له والغيبة الطويلة، وبالطبع فإن القليل من العامّة ترى أنّه من ولد الإمام الحسن الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 160

العسكري عليه السلام.

على كلّ حال فإن عقيدة الشيعة تثير ثلاثة أسئلة:

السؤال الأوّل:

وهو السؤال الوارد بشأن طول العمر والمطروح منذ قديم الزمان وهو:

كيف يمكن أن يعمر الإنسان هذه المدة، والحال لم نر من تجاوز عمره المئة إلى المئة وعشرين سنة! فكيف يمكن توجيه ذلك العمر الطويل على ضوء الأعمار المتعارفة والتي نشاهدها لدى الناس من حولنا؟

السؤال الثاني:

بشأن فلسفة هذه الغيبة الطويلة وهو: ما سرّ غيبة زعيم المجتمع الإسلامي كلّ هذه المدّة المديدة؟

السؤال الثالث:

الذي يرتبط بالسؤال الثاني- وإن كان مستقلًا- حول فائده وجود الإمام في عصر الغيبة، فما الدور الذي يلعبه هذا الزعيم الذي لا ارتباط له باتباعه ولا يستطيع الناس رؤيته والاستفادة من زعامته؟ بعبارة اخرى فإن حياته في هذه المدة حياة خصوصية وشخصية لا اجتماعية وفي اطار الزعامة.

ينبغي أن نخوض بادئ الأمر في أدلة الشيعة بشأن الاعتقادات الثلاثة.

ثمّ نرى كيف تتم الاجابة عن الأسئلة الثلاثة:

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 161

لابدّ هنا من ذكر هذه النقطة، إنّ الأدلة العقلية لا يمكنها أبداً التركيز على شخص معين، وغالباً ما تكون نتائج هذه الأدلّة كلية.

وروايات العامّة في المهدي عليه السلام غالباً ما تكون كلية، ولا تتحدث سوى عن شخص من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله لقبه المهدي واسمه محمّد (على غرار اسم النبي)؛ باستثناء بعض الروايات التي صرحت بخصائص أبيه أو أجداده والتي تنطبق على عقائد الشيعة، كهاتين الروايتين:

1- روى الشيخ سليمان القندوزي من علماء العامّة في كتابه المعروف (ينابيع المودة) عن كتاب (فرائد السمطين) عن ابن عباس: إنّ رجلًا يهودياً دخل على النبي صلى الله عليه و آله وجعل يسأله عدّة أسئلة وما أن سمع الأجوبة حتّى أشرق نور الإسلام في قلبه، وكان ممّا سأل:

«مَن وصيُّك»؟ فلكلّ نبي وصيّ ووصيّ موسى يوشع بن نون.

فقال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله:

«إنّ وصييّ علي بن أبي طالب وبعده سبطاي الحسن والحسين تتلوه تسعة أئمّة من صلب الحسين».

فسأله اليهودي عن أسمائهم فقال صلى الله عليه و آله:

«إذا مضى الحسين فابنه علي؛ فإذا مضى علي فابنه محمّد؛ فإذا مضى محمّد فابنه جعفر؛

فإذا مضى جعفر فابنه موسى؛ فإذا مضى موسى فابنه علي؛ فإذا مضى علي فابنه محمّد؛ فإذا مضى محمّد فابنه علي؛ فإذا مضى علي فابنه الحسن؛ فإذا مضى الحسن فابنه الحجّة محمّد المهدي فهؤلاء اثنا عشر ...».

ثمّ سأله عن كيفية وفاتهم فأجابه صلى الله عليه و آله ثمّ قال:

«وأنّ الثاني عشر من ولدي يغيب حتّى لا يرى، ويأتي على امّتي بزمن الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 162

لا يبقى من الإسلام إلّااسمه، ولا يبقى من القرآن إلّارسمه فحينئذٍ يأذن اللَّه تبارك وتعالى له بالخروج فيظهر اللَّه الإسلام به ويجدده ...».

فلما اعتنق اليهودي الإسلام أنشد شعراً أشار فيه إلى أوصياء النبي صلى الله عليه و آله حتّى قال:

«آخرهم يسقى الظماء وهو الإمام المنتظر» «1».

2- كما ورد في هذا الكتاب عن «عامر بن وائلة» آخر من مات من صحب النبي صلى الله عليه و آله نقلًا عن علي عليه السلام أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال:

«يا علي أنت وصيي، حربك حربي، وسلمك سلمي، وأنت الإمام وأبو الأئمّة أحد عشر الذين هم المطهرون المعصومون ومنهم المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلًا» «2».

أمّا عن طرق أهل البيت فقد وردت عدة روايات في المهدي عليه السلام وأنّه الحادي عشر من ولد علي عليه السلام والتاسع من ولد الإمام الحسين وابن الإمام الحسن العسكري، لا يسعنا ذكرها جميعاً في هذا الكتاب الذي راعينا فيه الاختصار، وعليه نشير إليها باختصار ومن أراد المزيد فليراجع كتاب «منتخب الأثر في أحوال الإمام الثاني عشر».

فقد تضمن هذا الكتاب روايات بشأن والد وأجداد المهدي، ورد أغلبها عن طريق أهل البيت ومنها:

91 رواية في أنّ الأئمّة 12 أولهم علي عليه السلام وآخرهم المهدي عليه السلام.

94 رواية

أنّ آخر الأئمّة المهدي عليه السلام.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 163

107 رواية أنّ الأئمّة 12 تسعة منهم من ولد الحسين عليه السلام وتاسعهم قائمهم.

50 رواية في أسماء الأئمّة الاثني عشر وأنّ آخرهم المهدي. وهكذا يمتاز أتباع هذه المدرسة وعلى أساس المدارك المذكورة بتشخيصهم للمهدي عليه السلام بجميع خصائصه.

جدير بالذكر هنالك العديد من الأحاديث في مصادر العامة الروائية المعتبرة والمشهورة في أنّ الأئمّة اثنا عشر (بشكل كلي وعام) وكما أشرنا سابقاً فإنّه يتعذر التفسير المنطقي لهذه الروايات سوى من خلال الاقرار بنظرية الشيعة.

وقد عبرت بعض الأحاديث كحديث «صحيح البخاري» و «صحيح الترمذي» عن الأئمّة باثني عشر أميراً «1»، واثني عشر خليفة «2» وفي «صحيح مسلم» وفي صحيح أبي داود كذلك اثني عشر خليفة «3»، ووردت في مسند أحمد بعشرات الطرق اثني عشر خليفة.

فهل يمكن انكار كلّ هذه الأحاديث في المصادر المعتبرة؟!

فهل يكتمل هذا العدد من خلال اضافة خلفاء بني امية كمعاوية ويزيد وعبدالملك، أم بني العباس كهارون والمأمون والمتوكل إلى الخلفاء

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 164

الأربعة؟!

والسؤال هو من هم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر الذين سماهم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ومدحهم؟ لابدّ من جواب منطقي- من قبل غير أتباع مدرسة أهل البيت الذين يؤمنون بالأئمّة الاثني عشر- حيث يتعذر اعتبار خلفاء بني أمية والعباس الذين حرفوا الحكومة الإسلامية عن مسارها الصحيح وارتكبوا مختلف الجرائم والجنايات للقضاء على الإسلام وتشويه مفاهيمه الحقّة، هم أوصياء النبي صلى الله عليه و آله.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 165

الأسئلة الثلاثة المهمة

1- سر طول العمر

اشارة

طرح الاشكال: قلنا اشكل على عقيدة الشيعة في المهدي، ومضمون الاشكال: لو كان ابن الإمام العسكري وولد من أُمّه نرجس سنة 255 ه وما زال حيّا إلى الآن، فهذا يعني

مضي أكثر من ألف سنة على عمره، والحال ليست مشاهداتنا اليومية تدلنا على مثل هذا العمر لبعض الأفراد، ولا يقر ذلك، العلم المعاصر، كما لم يتضمن التاريخ نموذجاً لذلك.

مناقشة وتحقيق:

نوافق القول السابق في أنّ الأعمار الطبيعية والعادية التي نراها غالباً لدى الأفراد لا تتجاوز المئة عام ويندر أن تبلغ مئة وعشرين، ومن بلغ في عصرنا المئة والخمسين أو الستين من عمره فذلك يعتبر من نوادر العالم «1».

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 166

ولكن لا يمكن التسليم بهذه القضية على مستوى البحث العلمي والتحقيق بشأن طول العمر، ولابدّ من تسليط الضوء على الامور التالية:

هل للعمر الطبيعي مقدار معين؟ ماذا يقول علم الفسلجة بهذا الخصوص؟

هل هناك طريق لاطالة عمر الإنسان؟

هل يشاهد اليوم بعض الأفراد الاستثنائيين على صعيد البنية البدنية والروحية والعضوية واختلاف الحواس وسائر الصفات العامة البشرية بالنسبة للآخرين أم لا؟

هل ورد في التاريخ بعض الأفراد الذين عمروا مدة طويله أكثر ممّا هي عليه اليوم؟

والأهم من كل ذلك لابدّ من الوقوف عند الأفراد الذين طرحوا هذا الاشكال وآرائهم الدينية المختلفة؟

هل للعمر الطبيعي حدّ ثابت؟

للبطارية الصغيرة عمر معين؛ مثلًا تعمل 24 ساعة ثمّ تنتهي قوتها.

كما يعمل المصباح الكهربائي مثلًا ألف ساعة ثمّ يحترق.

كما تعمر السيارة مثلًا 20 سنة.

وهكذا سائر الصناعات البشرية التي تمتاز بعمرها المعين ولها حدّ متوسط. طبعاً لهذه الأجهزة عمر أطول إن كانت هناك عناية بها والعكس صحيح.

ومن هنا لدينا عدة أعمار في عالم الطبيعة، فهناك بعض الذرات التي لا

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 167

تعمر أكثر من واحد على الألف من الثانية، وربّما مئة على المليون من الثانية، بينما هناك بالمقابل عمر الكرة الأرضية الذي قد يبلغ خمسة آلاف مليون سنة.

وعليه لابدّ أن نرى هل عمر الكائنات الحية في الطبيعة على غرار عمر الأجهزة الصناعية؟ مثلًا متوسط عمر الإنسان 80 سنة، الطير 5 سنوات، الحشرة عدة أشهر والشجرة 150 سنة وبراعم الورد 6 أشهر؟

كانت طائفة من العلماء في السابق

تعتقد بوجود عمر طبيعي في الموجودات الحية مثلًا:

بافلوف: يعتقد أنّ العمر الطبيعي للإنسان 100 سنة.

مجينكوف: يعتقد أنّ العمر الطبيعي للإنسان 150- 160 سنة.

كوفلاند: الطبيب الالماني الذي يعتقد أنّ متوسط عمر الإنسان 200 سنة.

فلوغر: الفيزيائي المشهور الذي يعتقد أنّ متوسط عمر الإنسان 600 سنة.

وأخيراً الفيلسوف والعالم الانجليزي بيكن الذي يعتقد أنّ عمر الإنسان 1000 سنة.

إلّا أنّ هذه الفكرة مرفوضة اليوم من قبل علماء الفسلجة حيث ابطلوا الحد الثابت للعمر الطبيعي. قال البروفسور اسميث استاذ جامعة كولمبيا «كما كسر حاجز الصوت وظهرت الوسائط النقلية التي تفوق سرعة الصوت فاننا سنشهد في خاتمة المطاف كسر حاجز سن الإنسان».

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 168

والدليل الحي الذي يمكن اقامته لاثبات هذه الفكرة، التجارب التي أجراها العلماء على مختلف الحيوانات والنباتات حتّى تمكنوا في ظلّ بعض الظروف الاختبارية مضاعفة عمر بعض الكائنات الحية إلى اثني عشر ضعفاً.

فمثلًا التجارب التي أجريت على بعض النباتات التي لا تعمر أكثر من اسبوعين اثبتت إمكانية مضاعفته إلى ستة أشهر.

ولو افترضت مثل هذه الزيادة بالنسبة لعمر الإنسان فإنّه يمكن أن يعمر بعض الأفراد لأكثر من ألف سنة.

والتجربة الاخرى التي أجروها على بعض حشرات الفاكهة والتي لها عمر قصير جدّاً أدّت إلى زيادتها بنسبة تسعمائة ضعف.

ولو أصبح هذا الازدياد العجيب ممكناً بالنسبة للإنسان لأمكنه أن يعمر إلى أكثر من سبعين ألف سنة.

طبعاً لا نرغب بمثل هذا العمر المتعب ولا نقبل به وإن منحناه مجاناً، فنحن كما قيل شعرنا بالاعياء من تعميرنا ليومين، فما عساك تفعل يا خضر وأنت بهذا العمر الخالد الأبدي.

ولو فرض قبولنا بهذا العمر فإن الكرة الأرضية ليست مستعدة لقبول كلّ هذه الأعداد! نعم هدفنا الدراسة العلمية لقضية طول العمر. ونعلم أنّ أغلب علماء البايلوجي

اليوم يعكفون على دراسة مسألة طول عمر الإنسان، فلو لم يكن هذا الأمر ممكناً، لبدت هذه الدراسات عبثية.

ويعتقد علماء الأغذية أنّ لطول العمر علاقة وطيدة باسلوب التغذية والظروف الاقليمية؛ فقد أجروا بعض التجارب والدراسات لطول عمر ملكة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 169

النحل التي تعدل عدة أضعاف الملكات العادية فتوصلوا إلى أنّ هذا الموضوع معلول لطعام معين تعده العاملات لتغذية الملكة والذي يختلف عن العسل المتعارف، فاعتقد البعض أنّ اعداد مقدار أكبر من هذا الطعام الجلاتيني يمكنه أن يضاعف عمر الإنسان.

ويقول علماء النفس أنّ طول عمر الإنسان يعتمد إلى حدّ كبير على طريقة تفكيره وعقائده، والعقائد الروحية البناءة والمستقرة تسهم في إطالة عمر الإنسان.

ويرى فريق من الأطباء أنّ الشيخوخة نوع من التوعك الذي يصيب الإنسان إثر تصلب الشرايين أو بعض الاختلالات العضوية لبدنه، ولو استطعنا التغلب على هذه العوامل عن طريق التغذية الصحيحة والأدوية المؤثرة لقضينا على الشيخوخة وتمتعنا بعمر طويل.

وكلّ هذه الامور تثبت بوضوح أنّ قضية العمر الطبيعي المحدود ليست أكثر من خرافة، ولا يمكن التكهن بعمر للكائنات الحية.

والحقّ أنّ قضية إطالة عمر الإنسان أصبحت أكثر جدية إثر الرحلات الفضائية والصعود إلى القمر، ذلك لأنّه أصبح من المسلم أنّ عمارنا القصيرة لا تتناسب وطي المسافات النجومية العظيمة، فالتقدم خطوة واحدة في هذا العالم الفسيح بالسفن الفضائية الحديثة يتطلب أحياناً آلاف السنين من العمر، وأكثر من ذلك بعشرات آلاف السنين للوصول إلى الطرق الأبعد، ومن هنا فكّر العلماء في طريقة اخرى لإطالة عمر الإنسان تتمثل في التجميد.

ولعلّ هذا الموضوع كشف لأوّل مرة من خلال مشاهدة بعض الكائنات الحية التي احتفظت بحياتها خلال عملية التجميد الطبيعي؛ مثلًا عثروا قبل الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 170

مدة على حوت

منجمدة في وسط الثلوج القطبية حيث يفيد وضع طبقات الثلج أنّها تعود لقبل خمسة آلاف سنة.

وظنوا في البداية أنّها ميتة، وحين وضعوها في ماء مناسب أخذت بالحركة مثيرة الدهشة، فاتضح أنّها كانت حيّة منذ خمسة آلاف سنة غير أنّها كانت تعيش تلك الفترة بصيصاً من الحياة! ومن هنا فكّروا في أن يجرِّبوا هذه الطريقة على الإنسان، فمثلًا، لو بعثنا بجالس في سفينة فضائية إلى نقطة بعيدة وعرّضناه لحالة تجميد ويصل مقصده بعد مئات أو آلاف السنين فإن بدنه سيعود إلى حالته العادية تدريجياً وستحل مشكلة طول العمر في الرجلات الفضائية.

وقد فكر بعض الأطباء الآن بهذه الطريقة بالنسبة للمرضى الذين لم يتوصل الطب إلى سبيل علاجهم كأن يكون المريض مصاباً بالسرطان، فيرون ضرورة تجميد هؤلاء المرضى في نوم عميق- أو بما يفوق النوم- ومثلًا حين سيكشف علاجه بعد قرنين يعادون إلى حالتهم الأصلية ويخضعون للعلاج.

وتفيد كلّ هذه الأبحاث والدراسات أنّه ليس هنالك من حد ثابت للعمر بالنسبة للإنسان وسائر الكائنات الحية من وجهة النظر العلمية.

الاستثناء من الأفراد:

لو أغمضنا عن البحث السابق ونفرض أنّ للإنسان بطبعه الابتدائي حدّاً ثابتاً من العمر؛ مع ذلك فإنّه لا يمكن تعميم هذا الموضوع على كافة الأفراد، وذلك لوجود الاستثناءات دائماً بين الكائنات الحية والتي لا تنطبق على الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 171

الضوابط السائدة في العلوم الطبيعية والتجريبية، حتّى أنّ العلم ليعجز أحياناً عن تفسيرها.

فقد لوحظ بعض الأفراد الذين يتمتعون بحواس وإدراكات وطاقات استثنائية خارقة للعادة، فقد نلاحظ بعض الأفراد لنوع خاص من الأشجار أو الحيوانات التي لها نمو معين وعمر كذلك، التي تتجاوز جميع ضوابطها وتبدو بصيغة استثنائية مثلًا:

1- شاهد بعض السياح الذين زاروا اسكتلندا شجرة عجيبة ومذهلة يصل قطرها إلى

90 قدماً ويقدر عمرها بخمسة آلاف سنة.

2- يبلغ طول شجرة في كاليفورنيا مئة متر، وقطرها في الجانب الأسفل عشرة أمتار ويقدر عمرها بستة آلاف سنة.

3- هناك شجرة من بين الأشجار التي تنبت في جزر الكاناري من نوع (الصندم) لفتت انتباه العلماء؛ الشجرة التي يقال أنّه منذ اكتشاف هذه الجزيرة (أي قبل خمسمئة سنة) لم تسجل لحد الآن أيّة حالة نمو وتغيير! مع ذلك يبدو أنّها تتمتع بعمر طويل بحيث لا يبدو عليها آثار مضي الزمان، ومن هنا يعتقد بعض المتخصصين أنّها كانت موجودة قبل خلق آدم!

4- توجد بعض الأشجار في المناطق الاستوائية المعمرة كثيراً ولا ينتهي عمرها أبداً فهي في حالة غضة دائماً.

5- شوهدت بعض الحلزونات المعمرة آلاف السنين، كما اكتشف العلماء حيتان يقدر عمرها بثلاثة ملايين سنة.

6- ترى بعض الأفراد بين الناس يقومون ببعض الأعمال المذهلة التي يصعب الوثوق بها حتّى لمن يراها. فمن منا لم يقرأ في الصحف بعض الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 172

الأخبار بشأن الأفراد الذين يقومون ببعض الأعمال التي تفوق البصر كأن يطوي بعض الأجسام الفلزية كالملعقة والشوكة دون أن يشير لها بيده! وقد قاموا بتلك الأفعال أمام أنظار المراسلين حتّى صورهم التلفاز الانجليزي حتّى أذعن الانجليز بعدم وجود خدعة في مثل هذه الأفعال، والواقع هو أنّ هذه الامور استثنائية حقّاً.

ولعلّ الجميع سمع عن ذلك الفتى الايراني الذي يتناول المصباح والزجاج وكأنّها أطعمة، والحال لو تناول ذلك بعض الأفراد العاديين لانبغي خضوعهم لعملية جراحية! قرأت في بعض الصحف عن شخص يتمتع بقوّة خارقة تمكن من ترويض الحيوانات الوحشية والمفترسة وهو يقترب منها دون خوف.

وقيل في سيرة ابن سينا ذلك الطبيب والفيلسوف المعروف أنّه كان يحفظ في المكتب كلّ ما كان

يقرأه التلاميذ للُاستاذ؛ وقد ألم في بخارى في العاشرة من عمره ببعض العلوم التي أثارت دهشة الآخرين؛ وتصدى في الثانية عشرة من عمره للفتيا، فكان يفتي في بخارى.

ألف في السادسة عشرة كتابه (القانون في علم الطب) وهوالكتاب الذي درس لقرون في الجامعات الأوروبية الطبية، أما الأخبار التي نقلت في حدّة نظره وشدّة سمعه فمما تثير الدهشة، ولا يسعنا التطرق إليها «1».

كلّ هؤلاء أفراد استثنائيون يتمتعون ببعض الخصائص التي يعجز عن تفسيرها العلماء كونها لا تنسجم مع الضوابط والمقررات السائدة لدى الجنس البشري، إلّاأنّ عدم الانسجام هذا لا يمنع من أن نذعن لها ونقر

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 173

بوجودها.

كما نقر من خلالها بقانون كلي في أنّ ما نشاهده في «النباتات» و «الأحياء البحرية والصحراوية» و «الناس» ليس بقانون عام ودائمي؛ بل من الممكن أن يكون فيها بعض الأفراد الاستثنائيين بصفات خاصة خارقة للعادة سواء من حيث العمر أو القدرة الروحية والبدنية، ووضعها الاستثنائي لا يدلّ أبداً على عدم علمية قبولها؛ بل لابدّ أن نذعن بأنّ دائرة جميع المقررات والضوابط التي يتبناها العلم تقتصر على الأفراد العاديين، والاستثناء من الأفراد خارجون عن دائرة هذه المقررات.

أصحاب الإشكال:

إن كان إشكال طول عمر المهدي عليه السلام يطرح من قبل الماديين الذين يرون كلّ شي ء بمنظار القوانين الطبيعية، فالجواب ما ذكرناه سابقاً، أما إن طرح من قبل أتباع الأديان كأتباع موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام والاخوة من أبناء العامة، فإضافة لما ذكرنا، فإننا نورد بعض الامور ومنها:

1- إنّهم يعتقدون بقدرة اللَّه المطلقة وخوارق أنبيائه ورسله ومعجزاتهم، بعبارة اخرى يؤمنون بأنّ قوانين الطبيعةخاضعة لقدرة اللَّه لا محكومة لها، فهل شفاء المرضى الذين يصعب شفاؤهم عن طريق الطب، أو إحياء الموتى من

قبل المسيح، أو سائر المعجزات من موسى عليه السلام بواسطة العصا (التي تعتبر قطعة خشبية غير ذات قيمة) واليد البيضاء وعبور النيل بتلك الطريقة الخارقة للعادة من الامور التي تنسجم مع الضوابط الطبيعية المتداولة؟

لا شك أنّ تفسير كافّة أتباع الأديان لمثل هذه الظواهر هو فاعلية اللَّه في الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 174

تأثير جميع القوانين والأسباب الطبيعية، وإن أراد شيئاً آخر تحقق، وإرادته تفوق العلل الطبيعية. ولو كان الوضع منذ البداية كذلك في أنّ الإنسان يحيى مرة اخرى بعد الموت أو الذي يولد أعمى يبصر بعد مضي مدة من الزمان أو يكون متوسط عمر الإنسان ألف سنة، فهل هنالك من يتعجب من هذه الامور ويراها مخالفة للعقل؟ ... قطعاً لا!

وعليه فإنّ نقض مثل هذه القوانين ليس بنقض لحكم عقلي ومنطقي، بل نقض لحالة عادية ألفِناها على ضوء مشاهدة الأفراد العاديين.

2- يعتقد النصارى أنّ أعداء المسيح عليه السلام صلبوه ودفنوه، ثمّ نهض من بين الموتى وعرج إلى السماء وهو حي الآن. والمسلمون أيضاً يرونه حياً، رغم عدم قبولهم بصلب عيسى وقتله على ضوء القرآن، وهذا ما يقره كافّة علماء الإسلام- سوى القلّة القليلة- ولو كان هذا الاستثناء ليس خلافاً للعقل، ويمكن أن يحيى الإنسان مجدداً بعد موته ودفنه ويعمر ألف سنة، فكيف يعتبر الكلام عن عمر طويل فقط لأكثر من ألف سنة محالًا وغير منطقي!

3- لا يوجد مسلم ينكر طول عمر نوح، ذلك لأنّه ممّا صرّح به القرآن في أنّه استغرق تسعمئة وخمسين سنة فقط في الدعوة إلى عبادة اللَّه والتوحيد «فَلَبِثَ فِيهِم ألَف سَنَةٍ إلَّاخَمْسِينَ عاما» «1»

. كما سمعنا الكثير عن الخضر وعمره الطويل.

العجيب أنّ طائفة أقرت بكلّ هذه المطالب، غير أنّها ما أن تصطدم

بعقيدة الشيعة بشأن طول عمر المهدي حتّى تصاب بالذهول والدهشة والتنكر

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 175

لذلك، وأحياناً يكتفون بابتسامة عريضة تفيد تعارض هذه العقيدة مع العقل والمنطق!! ...

وهذا نموذج واضح للازدواج!

ولكن كما قلنا فإنّ مسألة طول العمر وبغض النظر عن العقائد الدينية بشأن قدرة اللَّه وقضية الاعجاز، فإنّها تنسجم تماماً ومنطق العلوم الطبيعية الحديثة، أمّا المشكلة الوحيدة فهي ضرورة تحرير أفكارنا وأنفسنا من بعض الأحكام المسبقة والتعصبات المقيتة والعادات التي ألفِناها، والتسليم للدليل والمنطق والبحث العلمي.

إننا حين نسمع برجل نمساوي عمَّر أكثر من 140 سنة ولم يمرض ولو لمرّة واحدة!

أو رجل كولومبي بلغ 167 سنة من عمره ومازال فتى!

أو رجل صيني أبيضَّ شعره بعد 253 سنة من عمره! نشعر بالدهشة؛ وذلك لأنّه يختلف عن العادة، ولكن لو كان هناك تركيز إعلامي على هذا الخبر وورد بصورة قطعية فإننا سنقر به كحقيقة واقعة.

ولكن ما أنّ نقرأ في الحديث:

«القائم هو الذي إذا خرج كان في سن الشيوخ ومنظر الشبان؛ قوي في بدنه».

حتّى يعتري البعض الحيرة والذهول. وهنا تتساءل الشيعة: لِمَ يعتقد البعض بطول عمر نوح والمسيح ويذكرون تلك الخصائص العجيبة لابن سينا، ولا يتسمون لمشاهدة انحناء الأجسام الفلزية بنظرة من شاب ورؤية الأشجار والأحياء المعمرة، ولكن ما أن يرد الحديث عن طول عمر المهدي عليه السلام حتّى يقطب البعض ويخطف لونه ويتساءل على نحو الانكار

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 176

عن إمكانية ذلك.

زبدة الكلام إنّ مسألة طول العمر ليست من المسائل التي يمكن الاشكال عليها والتنكر لها على ضوء الأحكام المنطقية والعقلية.

2- فلسفة الغيبة

اشارة

قلنا: السؤال الآخر الذي يطرح بشأن عقيدة الشيعة في المهدي عليه السلام وموضوع غيبته الطويلة والذي يرد بعد قبول أمان طول عمره. والسؤال:

لماذا لا يظهر المهدي

عليه السلام وقد عمّ الظلم والفساد؟

لماذا لا يقوم ليملأها عدلًا وقسطاً؟

إلى متى هذا الجلوس ومشاهدة الظلم وسفك الدماء وطغيان حفنة من الغاشمين؟

لماذا هذه الغيبة الطويلة؟ ترى ماذا ينتظر؟

وبالتالي ما سرّ هذه الغيبة الطويلة؟

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ هذا السؤال وإن طرح عادة على الشيعة بشأن مسألة الغيبة، إلّاأنّ أدنى تمعن سيفيد أنّ للآخرين نصيباً من ذلك، أي يتوجه إلى سائر المؤمنين بظهور مصلح عالمي عظيم ينهض يوماً ويملأ العالم بالعدل والقسط، وإن رفضوا عقيدة الشيعة في طول العمر والغيبة.

فالسؤال الذي يساورهم لِمَ لم يولد ذلك المصلح العظيم لحدّ الآن، وإنّ ولد لم لا ينهض ويملأ الدنيا بالعدل؟ وعليه فمن الخطأ أن يتوجه هذا الإشكال إلى خصوص الشيعة.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 177

وبعبارة اخرى، ممّا لا شك فيه أنّ مسألة طول العمر (البحث السابق) ومسألة وجود الإمام في الغيبة (البحث القادم) لمن الأسئلة التي تقتصر على الشيعة، أمّا مسألة تأخير ظهوره فمن المطالب التي ينبغي أن يفكر بها كافة المعتقدين بظهور ذلك المصلح العالمي، في أنّ الظروف العالمية مؤاتية فلماذا لا يحصل ذلك الظهور؟ (ينبغي التمعن).

على كلّ حال لهذا السؤال جواب بسيط وآخر مسهب. الجواب القصير:

إنّ وجود الزعيم الكفوء لوحده لا يكفي في قيام نهضة شاملة على مستوى عالمي، بل لابدّ من استعداد عام، وللأسف مازال العالم لحدّ الآن غير مستعد لتلك النهضة والحكومة، وما أن يبرز هذا الاستعداد حتّى يكون قيامه قطعياً!

أما توضيح هذا الكلام:

أوّلًا: لابدّ من الالتفات- كما أشرنا سابقاً- إلى أنّ قيام المهدي عليه السلام كسائر نهضات جميع الأنبياء يتم عبر الوسائل والأسباب الطبيعية، وليس هنالك من مجال للاعجاز، فللمعجزات بعد استثنائي وليس لها من تدخل في المشاريع الاصلاحية للقادة الربانيين سوى في

بعض المواقع الاستثنائية.

ومن هنا كان الأنبياء يستفيدون من الأسلحة السائدة وإعداد الأفراد الاكفاء والاستشارة المطلوبة وطرح الخطط المؤثرة والتكتيكات العسكرية اللازمة، وبالتالي توفير كافة الامكانات المادية والمعنوية للنهوض بأهدافهم، ولا يفكرون في حدوث المعجزة في مجابهة العدو، أو اعداد

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 178

الأنصار وتكاملهم.

وعليه فلابدّ أن يتحقق تنفيذ مشروع حكومة الحقّ والعدل على المستوى العالمي من خلال الاستعانة بالوسائل المادية والمعنوية اللازمة، سوى في بعض الحالات.

بعبارة اخرى، إنّ المهدي عليه السلام لا يأتي بمدرسة جديدة، بل ينفذ المشاريع الثورية السماوية التي لم تدخل حيز التنفيذ. فرسالته لا تكمن في الانذار والتربيه والتعليم والتذكير، بل رسالته اجراء كافة الاصول والمبادئ في ظلّ حكومة العلم والإيمان، وهو الأمر الذي لا يتيسّر دون الاستعدادات المسبقة.

ثانياً: يتضح من خلال ما تقدّم ما نقوله من عدم وجود مثل هذا الاستعداد، وذلك لأنه ينبغي توفر عدة أنواع من الاستعدادات وهي:

أ) استعداد القبول (الاستعداد النفسي)

لابدّ أن يقف العالم كما ينبغي على مرارة هذا الوضع القائم والظلم السائد.

ولابدّ أن يلمسوا ضعف القوانين البشرية وعجزها عن تطبيق العدالة الاجتماعية.

وينبغي أن يدركوا هذه الحقيقة وهي أنّ المشكلة لا تحل من خلال المعادلات المادية والضمانة الإجرائية والمقررات التي وضعها الإنسان، بل إنّ هذه المشكلة تسلك منحنياً تصاعدياً في التعقيد بما يرهق كاهل البشرية.

ولابدّ أن يفهم العالم أنّ الأزمات المعاصرة وليدة الأنظمة الراهنة، وهي الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 179

الأنظمة التي تعجز في خاتمة المطاف عن حلّ هذه الأزمات.

ولابدّ أن يعي العالم ضرورة وجود أنظمة ومبادئ جديدة بغية تحقيق هذه الأهداف الكبرى، المبادئ التي تستند إلى الإيمان والقيم الإنسانية والعواطف البشرية والمثل الأخلاقية، لا المبادئ المادية الجافة الخالية من الروح والإنسانية.

ولابدّ أن يبلغ العالم هذه المرحلة من الوعي الاجتماعي

بحيث يدرك أنّ التطور التقني لا يعني الزاماً تطور البشرية وضمان سعادتها ورفاهيتها، بل الازدهار والتطور التقني الذي يجلب السعادة والخير للبشرية هو ذلك الذي يتمّ من خلال سلسلة من المبادئ المعنوية والإنسانية، وإلّا كان هذا التطور- كما لمسناه مراراً- وبالًا على البشرية وسبب دمارها وانهيارها.

ولابدّ أن يفهم العالم أنّ الصناعات أنّ ارتدت ثوب الصنمية ستضاعف من حجم المشاكل الراهنة.

ولابدّ أن تصبح وسيله تحت سيطرة البشرية.

وبالتالي لابدّ أن يشعر العالم بالعطش وما لم يشعر به فلا يتجه صوب الماء.

وبعبارة اخرى، ما لم يعِش العالم قضية الطلب فليس هنالك من تأثير لعرض أيّة مشاريع اصلاحية، فقانون العرض والطلب ساري المفعول في القضايا الاجتاعية على غرار المسائل الاقتصادية.

وهنا يرد هذا السؤال: ما هو العامل الذي يفرز حالة العطش والطلب؟

نقول في الجواب:

جانب من ذلك، مرور الزمان ولا يمكن بدونه، أما الجانب الآخر فيتوقف الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 180

على التربية والتعليم، فينبغي أن يصبح عملياً من خلال النهضة الفكرية من جانب العلماء الملتزمين والمسؤولين عن شؤون المجتمع.

ينبغي لهؤلاء وبمشاريعهم التي تهدف تهذيب الإنسان أن يبلغوا بالعالم على الأقل هذه الحالة من الوعي في الانسجام مع هذه المبادئ والقوانين، وهذا الأمر يتطلب بطبيعة الحال قدراً من الزمان.

ب) التكامل الثقافي والصناعي

من جانب آخر فإن حشد العالم تحت راية واحدة ووضع حدّ لغطرسة الجبابرة والطواغيت واشاعة أجواء التربية والتعليم في أرقى صورها وإفهام الآخرين بأنّ اختلاف اللسان والعرق والمنطقة الجغرافية وما شابه ذلك لا تدلّ على أنّ أفراد العالم لا يستطيعون العيش كأخوة ضمن اسرة واحدة في ظلّ الإسلام والعدل والتآخي.

وتوفير اقتصاد سالم وكافٍ لجميع الناس يتطلب وعياً ثقافياً ورفع المستوى العلمي للبشرية من جانب، وتكامل الوسائل الصناعية من جانب آخر؛ الوسائل التي

يسعها إرساء ارتباطات سريعة وقريبة ودائمية بين كافة بقاع العالم، وهذا ما لا يتحقق أيضاً دون تقادم الزمان.

وكيف لحكومة أن تتعامل مع الوضع العالمي إن كانت هذه الارتباطات بطيئة؟

أم كيف يمكن إدارة شؤون العالم بالوسائل التي يستغرق إرسال رسالة فيها إلى مناطق العالم النائية عدّة سنوات من الزمان؟

يستفاد من بعض الروايات التي رسمت صورة عن حياة الناس في عصر

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 181

ظهور المهدي عليه السلام- والتي سيمر البحث عنها في المباحث القادمة- أنّ التطور التكنولوجي والصناعي خاصة صنائع الحمل والنقل والارتباط في ذلك العصر سيكون على درجة من الرقي والازدهار بحيث تصبح قارات العالم بصورة مناطق متقاربة، ويكون الشرق والغرب بمثابة بيت واحد، فلا يبقى هنالك من مشكلة على صعيد الزمان والمكان.

طبعاً يمكن أن يحصل بعض هذه الامور أثر حركة وثورة صناعية في ذلك العصر، ولكن لابدّ من استعداد علمي كأرضية لذلك العصر.

ج) اعداد القوى الثورية

بالتالي لابدّ من إعداد ثلّة مهما كانت قليلة تكون نواة الجيش الثوري لذلك المصلح العظيم.

فلابدّ من تبرعم زهور في هذه النار المحرقة لتكون مقدمة لذلك البستان؛ وينبغي أن يتحلى أفراد تلك الثلّة بالوعي التام والشجاعة والأخلاص والفداء والتضحية وهذا بدوره يتطلب مقداراً من الزمان وإن تعاقبت الأجيال الثورية.

وإن قيل: مَن الشخص الذي ينبغي أن ينهض بمسؤولية إعداد أولئك الأفراد؟

فالجواب: ذلك الزعيم الذي يمارس هذا المشروع بصورة مباشرة أو غير مباشرة (سيرد شرح ذلك في المبحث القادم إن شاء اللَّه).

إنّ إحدى علل الغيبة كما ورد في بعض الروايات الإسلامية يكمن في اختبار الناس واختيار الأصلح والذي يمكن أن يكون إشارة إلى هذا

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 182

الموضوع.

توضيح ذلك: أنّ الاختبار الإلهي ليس من قبيل الاختبارات بغية التعرف على وضع الذي يؤدي

الاختبار، بل يعني تربية الاستعدادات واظهار الكفاءات وتمييز الصفوف. وبعبارة اخرى الهدف هو التربية والتكامل أو خلق الاستعداد، ذلك لأن احاطة اللَّه العلمية بكلّ شي ء تسلب أي هدف في ابتغاء طلب الوقوف والعلم من الاختبارات.

وهكذا يتضح ممّا تقدّم سبب غيبة المهدي هذه المدة.

3- فلسفة وجود الإمام حين الغيبة

اشارة

السؤال الآخر الذي يرد بشأن عقيدة الشيعة حول وجود المهدي هو:

الإمام على كلّ حال زعيم وقائد ووجود القائد مهم ومفيد حين يكون على صلة بأتباعه، فكيف ينهض الزعيم بمسؤوليته إن كان غائباً عن الأنظار؟

بعبارة اخرى فإنّ حياة الإمام إبان الغيبة حياة خاصة ليست اجتماعية، وهنا يحقّ لنا أن نسأل ما الأثر الذي يلعبه هذا الزعيم بالنسبة للناس، وكيف ينتفع به الآخرون؟

فهو كعين الماء الصافية ولا يسع الآخرون وصولها!

أضف إلى ذلك هل غيبة الإمام عليه السلام بمعنى استبدال وجوده بروح لا مرئية أو أمواج واثير وما شابه ذلك؟

وهل ينسجم هذا مع العلم؟

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 183

هذا السؤال- بلا شك- مهم، ولكن من الخطأ أن نظن بصعوبة الاجابة عنه، لكن دعونا نردّ بادى ء الأمر على الشق الأخير الذي أدّى إلى الكثير من سوء الفهم، ومن ثمّ نخوض في الردّ على سائر الأسئلة.

لابدّ من القول صراحة إنّ الغيبة- كما أشرنا- لا تعني أنّ وجود الإمام في الغيبة هو وجود غير مرئي وخيالي وأشبه بوجود وهمي، بل له من حيث المعيشة حياة طبيعية وعينية خارجية، غاية الأمر بعمر مديد، يتردد دائماً بين الأوساط الاجتماعية، ويقطن مختلف المناطق، وإن كان هنالك من استثناء في حياته فهو عمره الطويل فقط.

إنّه يعيش بصورة غير معروفة في المجتمع، ولم يقل أحد بأكثر من ذلك في غيبته، وهنالك بون شاسع بين «غير معروف» و «غير مرئي»! وبعد أن فرغنا من

هذا الأمر، نخوض في هذا الموضوع: حسناً، إلّاأن هذه الحياة يمكن توجيهها بالنسبة لفرد عادي، ولكن هل يمكن قبوله بالنسبة لزعيم بالذات ذلك الزعيم الرباني؟!

كيف يسع التلميذ الذي لا يعرف استاذه والمريض الذي لا يعلم بعيادة الطبيب والعطشان الذي لا يعلم بعين الماء- مهما كان قريباً من هذه الامور- أن ينتفع بهم؟

جدير بالذكر:

إنّ هذا السؤال لم يطرح الآن، بل ورد في الروايات الإسلامية أنّه طرح حتى قبل ولادة المهدي عليه السلام وإبان عصر الأئمّة حين كانوا يتحدثون عن المهدي وغيبته يطرح عليهم هذا السؤال فيردون عليه، وإليك جانب من ذلك.

فائدة الإمام في الغيبة: «1»
اشارة

هنالك عباره رائعة في عدّة روايات بشأن فلسفة ووجود الإمام عليه السلام في عصر الغيبة، يمكن أن تساعدنا في حلّ هذه المشكلة، حيث قال النبي صلى الله عليه و آله بشأن فائدة الإمام في الغيبة:

«أي والذي بعثني بالنبوة أنّهم ينتفعون به، ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جللها السحاب» «2».

ولابدّ أن نتعرف هنا على دور الشمس بصورة كلية وحين تكون خلف السحاب:

فللشمس نوعان من الضوء.

ضوء واضح وآخر مخفي.

أو بعبارة اخرى ضوء مباشر وآخر غير مباشر.

وتشاهد الأشعة بوضوح في الضوء المباشر وإن احيط بطبقات الجو الضخمة وكأنّها زجاجة ضخمة؛ الزجاجة التي تحد من اشراقة الشمس وتسهل تحمله، كما تصفي ذلك الضياء وتحيط آثار أشعتها المميتة، ولكن لا تمنع على كلّ حال شعاعها المباشر.

أمّا في الأشعة غير المباشرة، فالغيوم كالزجاجة المعتمة تمتص ضياء الشمس المباشر وتنشره.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 185

ولضوء الشمس دور مهم في حياة كافة الكائنات.

فالضوء والحرارة التي تنطلق من الشمس هنا وهناك، والطاقة العظيمة للنبات والحيوان والإنسان؛

وتكامل الكائنات الحية ونموها؛

وتغذيتها وانجابها؛

والحس والحركة؛

وسقي الأراضي الميتة.

وأصوات أمواج البحار.

وحركة الرياح.

وزمزمة أصوات الشلالات.

وتغريد الطيور.

والجمال الساحر

للازهار.

ودوران الدم في عروق الإنسان.

ونبض القلب.

وانتقال الأفكار عبر حواجز الدماغ، كلّها تعتمد بصورة مباشرة أو غير مباشرة على ضياء الشمس، ودون ذلك تخمد وتؤول إلى الخمود والانطفاء، وهذا ما يمكن ادراكه بسهولة.

والآن يرد هذا السؤال: هل تقتصر هذه البركات والآثار الحيوية على الضياء المباشر للشمس؟

الجواب عن هذا السؤال واضح: كلا، فهذه الآثار موجودة حتّى حين تغيب الشمس خلف السحب.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 186

مثلًا هنالك بعض البلدان والمدن التي تختفي فيها الشمس لأشهر أو سنوات خلف الغيوم، ولكن هنالك الحرارة ونمو النباتات والطاقة اللازمة لإدامة عجلة الحياة ونضج الفاكهة والثمار وتفتح البراعم.

وعليه فإنّ لشروق الشمس من خلف السحب جانباً من الآثار والبركات، ولا تنطوي على جانب من تلك الآثار التي تتطلب أشعة مباشرة، فمثلًا نعلم أنّ لشعاع الشمس أثره الحيوي على جلد الإنسان وسائر أعضائه ومن هنا فإنّ الناس في أغلب البلدان المحرومة من هذا الشعاع يلجأون في الأيّام المشمسة إلى الحمامات الشمسية ويتعرون تماماً أمام شعاع الشمس لتقوم مساماتهم بامتصاص تلك الأشعة. كما أنّ أشعة الشمس المباشرة وعلاوة على مضاعفتها للحرارة والضوء فإنّ لها أثراً عظيماً- بسبب الأشعة فوق البنفسجية- في قتل أنواع المكروبات والابقاء على سلامة البيئة.

ونستنتج من هذا البحث أنّ حجب السحب وإن امتصت بعض آثار الشمس، إلّاأنّ الجانب الأكبر من تلك الآثار باق. كان هذا الكلام في المشبه به، يعني الشمس، ونعود الآن إلى وضع المشبه يعني وجود الزعيم الرباني في الغيبة، فللأشعة المعنوية غير المرئية لوجود الإمام عليه السلام حين تكون خلف سحب الغيبة عدّة آثار تكشف عن فلسفته الوجودية، رغم تعطيل مسألة التعليم والتربية والزعامة المباشرة ومنها:

1- بث الأمل

إن جلّ اهتمام الجنود الأوفياء في ميدان القتال يتمثل في حفظ الراية

خفاقة تجاه هجمات الأعداء، بينما يسعى العدو جهد الأمكان إلى الاطاحة بهذه الراية، ذلك لأنّ انتصاب الراية يبث روح الأمل والمقاومة والصمود وديمومة القتال.

كما أنّ وجود القائد- مهما كان صامتاً- يبعث على رفع المعنويات وتجديد القوى وتعبئة الطاقات والاندفاع نحو القتال حيث يشعرون بقوّة حين يرون القائد واهتزاز الراية.

أمّا أن أشيع قتل القائد بين المقاتلين فإنّه يؤدي إلى بعثرة صفوف الجيش مهما كان عظيماً، وكانّ ماءاً بارداً سكب عليهم ليبرد إرادتهم، بل كأن روحهم سلت من أبدانهم.

كما أنّ المجتمع يواصل حركته ونظامه وإن سافر رئيسه إلى خارج البلد مادام على قيد الحياة، إلّاأنّ خبر موته يبعث في قلوبهم الشعور باليأس والاحباط.

والشيعة تعتقد بوجود إمامها حيّاً وإن لم تره بينها، بالتالي فهي لا ترى نفسها وحيدة في الساحة (لابدّ من التأمل).

فهي تنتظر قدومه وتحتمله في كلّ لحظة وهذا ما يؤثر على مسيرتها ايجابياً.

ومن هنا يمكن إدراك الأثر النفسي لهذا الاسلوب من التفكير في بثّ الأمل والرجاء في قلوب الأفراد وسوقهم نحو التهذيب والاستعداد لتلك الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 188

النهضة الكبرى التي مضى شرحها في بحث الانتظار.

أمّا إن لم يكن لهذا الزعيم من وجود خارجي وينتظر اتباعه ولادته في المستقبل فالوضع يختلف تماماً.

ولو أضفنا نقطة اخرى إلى هذا الموضوع لأصبحت القضية أكثر جدية وهي: على ضوء الاعتقاد العام للشيعة فقد وردت في أغلب الروايات في المصادر الشيعية أنّ الإمام يتفقد طيلة غيبته وبصوره مستمرة أوضاع شيعته، ويقف على تفاصيل أعمالهم عن طريق الالهام وما شابه، وحسب الروايات فإنّ أعمالهم تعرض عليه كلّ اسبوع ويحيط علماً بتصرفاتهم وأفعالهم «1».

وهذا الاعتقاد يجعل هؤلاء الاتباع يخضعون لمراقبة دائمية يستحضرونها عند كلّ قول وفعل، الأمر الذي يمكن انكار دوره النفسي

والتربوي.

2- حماية الدين

قال علي عليه السلام ذلك الرجل الفذ في بعض الكلمات القصار في إشارته إلى ضرورة وجود الزعماء الربّانيين في كلّ عصر وزمان:

«اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً لئلّا تبطل حجج اللَّه وبيناته» «2».

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 189

وإليك توضيح ذلك:

إنّ مرور الزمان واختلاط الأذواق والأفكار الشخصية بالامور الدينية والنزعات المختلفة نحو المدارس الانحرافية المزيفة وتسلل الأيادي الأثيمة إلى المفاهيم السماوية يؤدي إلى أن تفقد بعض هذه الاصول والمبادى ء أصالتها وتتعرض إلى جانب من التحريف.

وبالطبع فإن هذا الماء العذب الفرات الذي ينزل من سماء الوحي ويعبر من فكر هذا وذاك يجعله يفقد بعض صفائه بالتدريج، على غرار الضياء الذي يصطدم بالزجاج المعتم فيفقد بريقه.

والخلاصة، تبدو هناك بعض المشاكل والصعوبات في التعرف على القضايا الأصلية بفعل ممارسات بعض الأفراد ذوي الافق الضيق، حتّى انبرى أحد الشعراء باسلوبه المعهود في المبالغة مخاطباً النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بأنّ ما حدث في الدين واضيف إليه، بلغ درجة بحيث لو عدت اليوم لما رأيته كما كان.

وعلى هذا الأساس، أوليس من الضروري أن ينبري من بين المسلمين من يصون التعاليم الإسلامية ويعيدها إلى مسارها الأصلي ويحفظها كما هي للأجيال القادمة؟

أو ينزل الوحي السماوي ثانية على إنسان؟ قطعاً لا. فقد اغلق باب الوحي بمسألة الخاتمية.

فكيف ينبغي حفظ أصالة الدين، والحيلولة دون التحريفات الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 190

والخرافات؟

هل يتمّ ذلك سوى من جانب الإمام المعصوم سواء كان مشهوراً ومعلوماً أو مغموراً ومجهولًا «لئلّا تبطل حجج اللَّه وبيناته».

تعلم أنّ في كلّ مؤسسة مهمّة «صندوق محكم» تحفظ فيه الوثائق المهمة لتلك المؤسسة لتبقى بعيدة عن أيدي اللصوص؛ إضافة إلى ذلك إن حدث حريق

في هذا المكان مثلًا كان ذلك الصندوق بعيداً عنه. فصدر الإمام وروحه العظيمة هي صندوق حفظ معالم الدين وخصائص المفاهيم السماوية الرفيعة «لئلّا تبطل حجج اللَّه وبيناته».

3- إعداد ثلّة ثورية واعية

خلافاً لما يعتقده البعض من قطع الارتباط المطلق بين الإمام والامّة في عصر الغيبة، بل كما يستفاد من الروايات الإسلامية فإنّ هنالك ثلّة من الأفراد الذين يعيشون عشق اللَّه ويتمتعون بقلب يفيض بالإيمان والأخلاص والتفكير في إصلاح العالم، مرتبطة بالإمام وتعد بالتدريج من خلال هذه الرابطة وتتكهرب بروح الثورة التي تستأصل جذور الظلم والجور من كافة أنحاء العالم.

ربّما يتوفى هؤلاء قبل انطلاقة النهضة، ولا يقدح ذلك في الهدف فهم ينقلون تلك التعاليم التعبوية إلى أجيالهم القادمة ليجدوا ويجتهدوا في إعداد الثلّة الصالحة.

قلنا سابقاً أنّ غيبة الإمام عليه السلام لا تعني كونه يتحول إلى روح غير مرئية أو أشعة غير ظاهرة، بل يتمتع بحياة طبيعية هادئة ويعيش بشكل مجهول بين الناس ويستقطب القلوب المستعدة ويستحوذ عليها فيجعلها أكثر تأهباً واستعداداً. ويتفاوت الأفراد حسب استعداداتهم في نيل سعادة اللقاء،

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 191

فبعضهم يلتقيه لحظات وآخر ساعات وثالث عدة أيّام وشهور وربّما سنوات!

بعبارة أوضح إنّ البعض بلغ منزلة رفيعة من العلم والورع والتقوى بحيث أصبح كالراكب في الطائرة التي تحلق في عنان السماء وهي تخترق السحب والغيوم، بينما ما زال البعض الآخر يعيش تحت السحب في الظلمات.

وهذا هو الحساب الصائب، فلا ينبغي أن أجلس وانتظر لاسحب الشمس تحت السحب وأراه، فهذا الانتظار خطأ محض ووهم زائف؛ أنا الذي ينبغي أن أحلق فوق السحب والغيوم لاستضيى ء بضياء الشمس وانتهل من نورها.

على كلّ حال فإنّ تربية هذه الثلة، تعد من الآثار المترتبة على فلسفة وجوده في هذا العصر.

4- النفوذ الروحي والتلقائي

نعلم أنّ للشمس أشعة مرئية تظهر من تركبها الألوان السبعة، كما لها أشعة غير مرئية هي «الاشعة فوق البنفسجية» و «الأشعة تحت الحمراء».

كذلك للزعيم الربّاني سواء النبي أو الإمام وإضافة

إلى التربية التشريعية عن طريق القول والفعل والسلوك والتعليم والتربية العادية، فإنّ هناك تربية روحية من خلال النفوذ المعنوي في القلوب والأفكار والتي يمكن الاصطلاح عليها بالتربية التكوينية، ليس هنا من فاعلية للألفاظ والكلمات والأقوال والأفعال، بل الكلمة الفصل للجذب الباطني.

ونرى في سيرة أغلب أولياء اللَّه العظام في أنّ بعض الأفراد المنحرفين الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 192

والملوثين وأثر اتصال خاطف يغيرون مسيرتهم بصورة تامة فتتغير عاقبتهم جذرياً، فيتحولون إلى أفراد مؤمنين مخلصين لا يألون جهداً في التضحية بالغالي والنفيس من أجل الدين.

فهذه التغييرات السريعة والشاملة، وهذا الانقلاب العظيم الجامع والذي يحصل من نظرة أو ارتباط بسيط (طبعاً رغم التلوث فإنّ هنالك استعداداً عالياً لديهم) فإنّه لا يمكن أن يعزى إلى التعليم والتربية العادية، بل معلول لاثر نفسي غير مرئي وجذبة تلقائية يعبر عنها أحياناً بنفوذ الشخصية.

ولعلّ أغلب الأفراد جرّبوا ذلك في حياتهم أنّهم حين يتلقون بعض الأفراد من ذوي الروح الرفيعة والعالية فإنّه يتأثر تلقائياً ودون أن يتمالك نفسه حتّى يصعب عليه التحدث بحضرتهم؛ فيرون أنفسهم وسط هالة عظيمة يصعب عليهم تصويرها. طبعاً يمكن توجيه بعض هذه الامور بالتلقين أحياناً؛ لكن من المسلم به أنّ هذا التفسير ليس صحيحاً في جميع الموارد، بل ليس أمامنا من سبيل سوى بأن نذعن بأنّ هذه الآثار تفرز من قبل ومضات سرية تنبعث من باطن الذات الإنسانية العظيمة.

وإننا نرى القصص الكثيرة في تاريخ الأئمّة العظام والتي لا يمكن تفسيرها سوى من خلال هذا السبيل، كقصة قدوم شاب عاص على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وتحوّله المعنوي والروحي أو لقاء أسعد بن زرارة الوثني بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله عند الكعبة وتغيّر فكره وعقائده.

أو ما

يسميه أعداء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله سحراً والذي كان يؤثر به على من يقترب منه، كلّ ذلك يعكس نفوذ شخصية النبي صلى الله عليه و آله إلى أعماق أولئك الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 193

الأفراد.

وهكذا ما ورد بشأن تأثير كلام الإمام الحسين عليه السلام على «زهير» في مساره إلى كربلاء، حتّى أنّه لم يستطع وضع ما كان في يده من طعام في فمه، فطرحه أرضاً وانطلق.

أو الجذبة العظيمة التي شعر بها الحرّ بن يزيد الرياحي فأخذ يرتعش كالسعفة رغم شجاعته؛ فقاده ذلك إلى الالتحاق بركب الإمام حسين عليه السلام ونيل الشهادة.

أو قصة الفتى الذي كان يسكن جوار «أبو بصير» والذي كان ثرياً ويعيش في دعة ورفاهية إثر خدمته لبني أمية، حتّى تغيّر تماماً إثر رسالة الإمام الصادق عليه السلام فهجر كلّ أفعاله وأعاد كافة الأموال التي حصل عليها من الطرق غير المشروعة إلى أصحابها، وانفق الباقي في سبيل اللَّه.

أو تلك الخادمة الحسناء لدى هارون والتي بعث بها إلى الإمام الكاظم عليه السلام ظناً منه بأنّه يؤثر على الإمام عليه السلام فعاشت ذلك الانقلاب الروحي خلال تلك المدّة القصيرة حتّى سلبت لب هارون بمنطقها و ... كلّ ذلك نماذج من هذا التأثير التلقائي والعفوي الذي يمكن اعتباره شعبة من الولاية التكوينية للنبي صلى الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام، ذلك لأن عامل التربية والتكامل هنا ليس الألفاظ والجمل والطرق المتعارفة والعادية، بل هو الجذبة المعنوية والنفوذ الروحي.

ولا يقتصر هذا الأمر- كما قلنا- على الأنبياء والأئمّة، بل لبعض أولياء اللَّه ودعاة الحقّ هالة من هذا النفوذ والتأثير العفوي، غاية الأمر ليست هنالك من نسبة للمقارنة بين دائرة تأثير الفريق الأوّل والثاني من

حيث السعة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 194

والشمولية.

ولوجود الإمام عليه السلام خلف غيوم الغيبه مثل هذا الأثر عن طريق الأشعة الخارقة والشاملة لنفوذ شخصيته في استقطاب القلوب القاصية والدانية وإعدادها باتجاه السمو والتكامل.

إننا لا نرى بأعيننا قطبي المغناطيس الأرضي، غير أننا نلمس أثرهما على عقارب البوصلات والسفن في البحار والطائرات في السماء وسائر الوسائل والأدوات. ولعلّ ملايين المسافرين يهتدون ببركات هذه الأمواج المغناطيسية في كافة الأماكن، وكذلك وسائط النقل الصغيرة والكبيرة التي تتخلص بأوامر هذه العقارب الصغيرة من الحيرة والضلال.

فهل من العجيب أن يهدي الإمام عليه السلام في غيبته بأمواج جاذبيته المعنوية أفكار العديد من الأفراد هنا وهناك وينجيهم من الحيرة والضلال؟

لكن لا ينبغي ولا يمكن أن ننسى بأنّ الأمواج المغناطيسية كما لا تؤثر على كلّ قطعة حديدية تافهة، بل يقتصر تأثيرها على العقارب الظريفة والحساسة ولها سنخية مع القطب المرسل للأمواج المغناطيسية، كذلك إنّما تتأثر بالإمام القلوب التي لها سنخية وشبه روحي به. وهكذا يتضح ممّا مرّ معنا الأثر الآخر من آثار فلسفة وجود الإمام عليه السلام في الغيبة.

5- هدف الخليقة

ليس هنالك من عاقل يتقدم دون هدف، وكلّ حركة تتم في ظلّ العقل والعلم تتجه نحو هدف معين. مع هذا الفارق في أنّ الهدف من أعمال الإنسان رفع حاجاته وتلبية متطلباته، أمّا الهدف من أفعال اللَّه هو الآخرين الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 195

واشباع حاجاتهم، ذلك لأنّ ذاته غنية من جميع الجهات ومنزهة من كلّ نقص، وعليه فلا معنى لمصلحته في أفعاله.

والآن التفتوا إلى هذا المثال:

نقيم بستاناً مليئاً بالفاكهة والثمار في أرض خصبة، وهنالك العلف الذي ينبت بين الأشجار والورد، وكلما سقينا تلك الأشجار فإنّ العلف يروى من تلك المياه.

وهنا يكون لدينا هدفان:

الهدف الأصلي سقي الأشجار

والورود.

والهدف التبعي سقي العلف.

لا شك أنّ الهدف التبعي ليس هو الدافع للعمل، أو موجه لحكمته؛ والمهم الهدف الأصلي الذي ينطوي على الجانب المنطقي! ولو افترضنا الآن جفاف أكثر اشجار البستان وعدم بقاء أكثر من شجرة واحدة، لكنها الشجرة التي تعطينا الفاكهة والثمار التي لا تتوقعها من آلاف الأشجار، فممّا لا شك فيه أننا نواصل سقي تلك الشجرة، وكأن مزيداً من العلف أيضاً يستفيد من تلك المياه، ولو جفت تلك الشجرة يوماً فإننا سنتخلى عن السقي وإن مات كلّ ذلك العلف.

عالم الخلق كذلك البستان الزاهر والناس أشجاره. ومن سار نحو المال فهو بمثابة الشجرة المثمرة، ومن نزع نحو الانحراف والتسافل كعلف ذلك البستان.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 196

لا شك في أنّ هذه الشمس المشرقة وذرات الهواء وكلّ بركات الأرض والسماء لم تخلق من أجل حفنة من المفسدين الذين يتنازعون فيما بينهم ويأكل قويهم ضعيفهم ولا يذوق المجتمع سوى ظلمهم وجورهم وفسادهم.

كلا، حقّاً هذا ليس الهدف من الخلق!

فقد خلق هذا العالم وجميع النعم- من وجهة نظر فرد عابد وعارف ببعض المفاهيم كعلم اللَّه وحكمته- للصالحين والطاهرين، وهكذا ستخرج آخر الأمر من أيدي غاصبيها وتقع بيد أصحابها «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِي الصَّالِحُونَ» «1».

وبستان الخليقة (عالم الوجود الواسع) يواصل عطاءَه من أجل هذه الفئة؛ وإن انتفع به العلف كهدف تبعي، إلّاأنّ الهدف الأصلي تلك الفئة.

ولو فرض اليوم الذي ينقرض فيه آخر نسل من فئة الصالحين من على الأرض قطعاً ستتوقف مواصله النعم.

آنذاك يربك استقرار الأرض وتمنع السماء بركاتها، وتقتر الأرض على الإنسان منافعها.

يعتبر النبي أو الإمام رمز الثلّة الصالحة ونموذج الإنسان الكامل، أي الفئة التي تمثل الهدف الأصلي للخليقة، ومن هنا فإنّ

وجوده بمفرده يوجه هدف الخليقة ومصدر نزول كلّ خير وبركة وهطول أمطار الفيض ورحمة اللَّه، سواء كان ظاهراً وسط الناس أو مخفياً غير معروف.

صحيح أنّ سائر الأفراد الصالحين كلّ منهم هدف للخليقة، أو بعبارة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 197

اخرى جزء من الهدف العظيم، إلّاأنّ النموذج التام لهذا الهدف هو هؤلاء الأفراد القدوة والزعماء الربّانيون، وإن كان دور الآخرين محفوظاً.

ويتضح من هنا ما ورد في بعض العبارات مثل:

«بيمنه رزق الورى وبجوده تثبت الأرض والسماء».

فهذه ليست من قبيل «المبالغة» و «مجانبة المنطق» أو «الشرك».

وكذلك العبارة الواردة في الحديث القدسي الذي خاطب النبي «لولاك لما خلقت الأفلاك» التي تبيّن حقيقة وليست مبالغة، غاية الأمر أنّه ذروة هدف الخليقة، وسائر الصالحين جزء من هذا الهدف.

ونستنتج من مجموع ما أوردناه في هذا الفصل تحت العناوين الخمسة أنّ أولئك الذين قبعوا في زاوية وظنوا أنّ وجود الإمام في عصر الغيبة هو وجود شخصي دون ثمرة اجتماعية وحملوا- كما ذهبت الشيعة- على فلسفة هذا الوجود وما عسى أن يكون انتفاع الخلق بزعامته، قد اخطأوا في حساباتهم وأنّ الأمر ليس كما ظنّوا فآثاره حتّى في هذه الحالة أعظم من أن تحصى.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 199

سبيل انتصار ذلك المصلح العظيم

هل ينهض الإمام بالسيف

إنّ التفوق في القوة يعد شرطاً مهماً في الانتصار على العدو، ولا تقتصر هذه القوة على الجانب العسكري، بل التفوق من حيث القدرات الروحية والإيمان بالهدف ورصانة الدعائم الاقتصادية والاجتماعية، كلّ هذه من الامور التي تلعب دوراً أساسياً في تحقيق الغلبة.

وليس هنالك من سبب يكمن في فشل المجتمعات واحباطها واستسلامها للذلة والخنوع سوى عدم سعيها باتجاه توفير تلك العناصر الضرورية لتحقيق النصر.

وعلى هذا الأساس ترد بعض الأسئلة بشأن قيام المصلح العالمي الكبير ومنها:

1- هل يعتمد زعيم هذه

النهضة العالمية الشاملة من الأسلحة التقليدية للعصور السابقة (الأسلحة الحديدية البسيطة) بغية تحقيق العدل العالمي وتحقيق النصر وهزيمة الجبابرة والطواغيت من قبل جند الحقّ. إن كان الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 202

كذلك فكيف يسعه اقناع الآخرين بهذا الاسلوب القتالي، وأنّى لهذا السلام بالصمود مقابل أسلحة العصر المتطورة والفتاكة وبالتالي هزم العدو وتحقيق النصر؟ أم أنّه سيستعين بسلاح أكثر تطوراً من الأسلحة المتوفرة الآن لدى البلدان المتقدمة؟ ما ماهية هذا السلاح وكيف سيحصل هو وأتباعه عليه؟

2- بغض النظر عمّا سبق فقد جاء في الروايات:

إنّه عليه السلام «يقوم بالسيف»؛ الأمر الذي يفيد اعتماده على الأسلحة البسيطة.

وهنا يرد الإشكال السابق: كيف يمكن تعطيل الأسلحة المتطورة والعودة إلى عصر الأسلحة المتواضعة؟

هل ستشهد الدنيا المعاصرة حرباً ذرية- كما يعتقد بعض العلماء- مدمرة بحيث لا يكون هناك من مجال سوى العودة إلى الماضي وآنذاك يظهر ويمارس النهضة؟

هل يمكن قبول هذا الاحتمال؟

3- أيضاً يرد هذا السؤال: هل تزول كلّ هذه الوسائل الحديثة والمتطورة المعدة لرفاه البشرية وسعادتها بحيث يرجع الإنسان إلى العصور القديمة؟

أيمكن قبول هذا النمط من التخلف والرجعية؟

أم بالعكس لا تبقى فقط، بل تتكامل بسرعة بالنحو الذي يجنبها آثار حياة المكننة السلبية؟ بعبارة اخرى حصول التطور الذي يختزن التكامل والنقاء.

للاجابة عن هذه الأسئلة يمكن الاستعانة ببعض المصادر الروائية إلى الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 203

جانب الأدلة العقلية، لارتباطها بهذين المصدرين.

يصرح العقل بأنّ العودة إلى الوراء ليست ممكنة ولا منطقية، وهذا خلاف سنّة الخلق وأصل تكامل الحياة؛ وعليه ليس هناك من دليل على جمود المجتمع وايقاف عجلة تطوره بغية تحقيق الحقّ والعدالة، وأنّ قيام المصلح العالمي الكبير بهدف بسط العدل والحرية في كافّة أنحاء العالم لا يؤدي بأي شكل من الاشكال إلى

ركود أو إزالة الحركة الصناعية وما عليها من تطور.

فالتطور الصناعي الراهن لم يتمكن من حلّ أغلب المعضلات التي تواجه الإنسان في حياته فحسب، بل كما ذكرنا في الأبحاث السابقة فإنّه يشكل أحد دعائم استقرار الحكومة العالمية الواحدة وتقريب المناطق العالمية على صعيد الارتباط والعلاقات الاجتماعية، وهي الامور التي يتعذر تحقيقها دون التكامل الصناعي. ولكن لا شك في أنّ هذه الحركة والنهضة الصناعية والتكامل التقني ينبغي أن يخضع إلى غربلة لينقى من العوالق السلبية والمضرة ويصب في صالح الإنسان وتحقيق أهدافه في العدل والحرية، وهذا ما ستمارسه قطعاً حكومة العدل. هذا بشأن التطور الصناعي والتقني.

وامّا بشأن السلاح فنقول: لابدّ من الاطاحة بالحكومات الجائرة والمستبدة من أجل استقرار حكومة العدل، وينبغي على الأقل توفير الاسلحة الأفضل للقضاء على تلك الحكومات، السلاح الذي ربّما يصعب علينا اليوم حتّى تصوره.

فهل سيكون هذا السلاح من قبيل الأشعة المجهولة التي تفوق الأسلحة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 204

المتطورة السائدة الآن وباستطاعتها القضاء عليها جميعاً؟

أم من خلال التأثير النفسي وشل قدراتهم الفكرية بحيث لا يستطيعون المبادرة إلى استخدام الأسلحة الفتاكة؟

أم حصول شي ء من قبيل الشعور بالخوف والهلع والرعب الذي يحول دون الاقدام؟

أم هنالك شي ء آخر ...

لا ندري. ولا يسعنا الإشارة إلى هذا السلاح من الناحية المادية أو النفسية أو سائر النواحي، وكلّ ما يسعنا قوله أنّه سيكون السلاح الأقوى، كما نعلم أنّه ليس ذلك السلاح الذي يأتي على الأخضر واليابس فيقضي على هذا وذاك ليقيم صرح العدالة على أساس الظلم.

هذا من حيث التحليل العقلي.

وأمّا من حيث المصادر الروائية:

فقد وردت بعض العبارات في مصادر الروايات تتضمن اجابات واضحة عن الأسئلة المذكورة ومنها:

1- روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«إنّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربّها

واستغنى العباد عن ضوء الشمس» «1».

ويفهم من هذه العبارة أنّ قضية الضوء والطاقة ستحل بحيث يستفاد في الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 205

الليل والنهار من أعظم ضوء يسعه أن يحل محل ضياء الشمس.

وهل ينبغي أن نصبغ هذا الموضوع بصبغة الاعجاز، في حين ينبغي أن تدور مشاريع الحياة اليومية- وبصورة مستمرة- حول محور السنن الطبيعية لا الاعجاز؛ فالإعجاز أمر استثنائي عند بعض الموارد الضرورية وفي اطار اثبات حقانية دعوى النبوة أو الإمامة.

على كلّ حال فإنّ الحياة العادية للناس لم تجر على أساس الإعجاز في عصر أي نبي. وعليه فإن تكامل العلم والصناعة سيبلغ مرحلة تمكن الناس بقيادة ذلك الزعيم من اكتشاف بعض مصادر الطاقة التي تغنيهم عن أشعة الشمس.

فهل سيكون السلاح اللازم لتحقيق العدل والسلام والحرية من أسلحة القرون الماضية، وهل هناك من تناسب بين الأمرين؟

2- ورد في رواية اخرى عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«إنّه إذا تناهت الامور إلى صاحب هذا الأمر رفع اللَّه تبارك وتعالى له كلّ منخفض من الأرض، وخفض له كلّ مرتفع حتّى تكون الدنيا عنده بمنزلة راحته، فايّكم لو كانت في راحته شعرة لم يبصرها» «1».

تنصب اليوم بعض المرسلات على الجبال لتساعد في نقل الصور إلى مختلف نقاط العالم، كما استفيد من الاقمار الصناعية في تغطية عدة مناطق الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 206

بهذه الصور، حتّى يتمكن كلّ من كان لديه جهاز استقبال من التقاطها.

إلّا أنّ عكس هذا الموضوع لا يبدو عملياً على الأقل في الوقت الحاضر، أي يمكن نقل الصور من نقطة إلى مختلف نقاط العالم، بينما لا يمكن نقلها من مختلف النقاط إلى نقطة معينة، إلّاأن تكون هناك مرسلة في كلّ بيت ومنطقة وصحراء وجبل وكلّ

بقعة من بقاع العالم ليمكن الوقوف على كلّ ما في العالم، وهذا الأمر لا يبدو ممكناً بالوسائل الموجودة اليوم.

أمّا الذي يفهم من الحديث المذكور أنّ عصر المهدي عليه السلام سيشهد وجود نظام دقيق ومجهز يتولى نقل الصور، ولعله يصعب علينا اليوم تصوره، بحيث يصبح العالم بأسره كراحة اليد دون ظهور المرتفعات والمنخفضات التي تحجب رؤية ما على الأرض.

طبعاً لا يمكن انبثاق الحكومة العالمية الواحدة التي تبسط العدل والقسط والأمن والسلام في كافّة أرجاء العالم دون أن تمتلك مثل هذه الأنظمة الاستخبارية المتطورة.

وتؤكد مرّة اخرى بأنّ هذه الامور ذات الصلة بالحياة اليومية للناس، من المستبعد أن تتم على أساس الاعجاز، بل على ضوء الأسباب الاعتيادية وتطور العلم والصناعة.

كما يتضح أنّ هذه الأنظمة المتطورة لا ينبغي أن تكون في مجتمع متخلف، بل لابدّ أن يكون هنالك من تناسب بين سائر مرافق الحياة وهذا الأمر من حيث التطور والازدهار، بما في ذلك السلاح والآلة العسكرية.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 207

3- عن الإمام الباقر عليه السلام قال:

«ذخر لصاحبكم الصعب! قلت: وما الصعب؟ قال: ما كان من سحاب فيه رعد وصاعقة أو برق، فصاحبكم يركبه، أما أنّه سيركب السحاب ويرقى في الأسباب؛ أسباب السموات السبع والأرضين» «1».

طبعا ليس المراد من السحاب هذا السحاب العادي، لأنّ السحب ليست من الوسائل التي يمكن السفر بواسطتها إلى الفضاء، فالسحب تتحرك في جو قريب من الأرض ولا تبعد مسافة تذكر عنها ولا يمكنها الارتفاع كثيراً عن الأرض، بل هي إشارة إلى وسيلة غاية في السرعة بحيث تبدو في السماء بصورة كتلة مضغوطة من السحب لها صوت كالرعد وقدرة وشدة كالصاعقة والبرق، تشق السماء حين الحركة بقوتها الفائقة وتستطيع أن تبلغ أيّة نقطة في السماء.

وعليه

فهي وسيلة تفوق الحداثة لا يوجد ما يشبهها في الوسائل الموجودة، ولعلّها أكثر شبها بالصحون الطائره والوسائل الفضائيه ذات السرعة المذهلة التي نسمع عنها اليوم الكثير من القصص ولا نعرف على وجه الدقّة مدى علميتها وواقعيتها، مع ذلك فهي ليست صحون طائرة.

على كلّ حال يمكن أن نفهم من الرواية المذكورة أن ليس هنالك من تخلف صناعي، بل بالعكس هنالك التطور والازدهار والذي يعني تطور وتكامل سائر المجالات.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 208

4- الرواية الواردة عن جابر عن الإمام الباقر عليه السلام قال:

«إنّما سمّي المهدي لأنّه يهدي إلى أمر خفي، حتّى أنّه يبعث إلى رجل لا يعلم الناس له ذنباً فيقتله حتّى أنّ أحدهم يتكلّم في بيته فيخاف أن يشهد عليه الجدار» «1».

فهذه الرواية تدلّ على أنّ عصره وإن شهد حرية واستقرار الصالحين، إلّا أنّ العصاة الأشرار يشعرون بأنّهم خاضعون لسيطرة دقيقة بحيث يمكن التعرف على أمواجهم الصوتية من خلال بعض الوسائل المتطورة وهم داخل بيوتهم وبالتالي يمكن معرفة الكلام الذي أوردوه عند الضرورة اللازمة لذلك.

ولعلّ هذا الكلام لا يعني قبل أكثر من مئة سنة سوى الاعجاز. بينما لا نراه اليوم كذلك ونحن نرى كيف تتمّ السيطرة في أغلب البلدان على حركة السيارات بأجهزة الرادار من الطرق البعيدة ودون حضور الشرطة، أو ما نسمعه من أنّ العلماء تمكنوا من خلال بعض الأمواج على الصفائح في المتاحف المصرية من أحياء أصوات أولئك الذين صنعوها قبل ألفي سنة، أو نسمع بوجود أجهزة تستطيع ببعض الأمواج الحرارية (الأمواج تحت الأشعة الحمراء) أن تلتقط الصور لتتعرف على السارق أو القاتل الذي ترك المكان تواً وغادره.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 209

وهكذا تتضح إجابات الأسئلة المذكورة ممّا ذكرناه سابقاً، حيث قضية التخلف

الصناعي ليست غير واردة في عصر المهدي عليه السلام فحسب، بل هنالك تطور وإزدهار خارق للصناعة والتكنولوجيا لا يصب سوى في ضمان مصالح الإنسان وتحقيق أهدافه في الحرية والعدل والسلام.

مفهوم السيف:

لم يبق سوى هذا السؤال: ترى ما المراد بكلّ هذه العبارات التي تحدثت عن قيام المهدي عليه السلام بالسيف؟ حتّى في الأدعية التي تلهمنا دروس الاستعداد لخوض غمار هذا الجهاد فاننا نقول: «شاهراً سيفه» فنسأل اللَّه أن يوفقنا للالتحاق بصفوف المجاهدين وشهر السيف من أجل نصرة الحقّ.

الواقع هو أنّ «السيف» كان ومازال يرمز إلى القوة والقدرة العسكرية على غرار «القلم» الذي يرمز إلى العلم والثقافة.

وممّا لا شك فيه أنّه كانت هنالك بعض الأسلحة التي تختلف عن السيف في الحروب السابقة من قبيل القوس والحربة والسهم والخنجر، إلّاأنّ الغالب في الألفاظ هو السيف فيقال: ليس لك عندي سوى السيف إن لم تسلِّم لهذا الأمر، أو ما تعارف سابقاً من أنّ شؤون البلاد تدار بالسيف والقلم، وكلّ ذلك من قبيل الرمز إلى القوة والثقافة والعلم. ولدينا اليوم العديد من الأمثال التي تضرب بهذا الخصوص من قبيل:

سلَّ فلان سيفه، أي أظهر قدرته علانية.

سيحكم السيف بيننا وبينكم، اشارة إلى عدم وجود حلّ سوى السيف الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 210

والقتال.

ولن أغمد سيفي حتّى أحقق هدفي، أي سأواصل المعركة حتّى الرمق الأخير.

إن فلاناً له سيف ذو حدين، يعني يحارب من جانبين.

وتشير كلّ هذه التعبيرات على سبيل الكناية إلى القوة والمواجهة، كما ورد ذلك في بعض الروايات الإسلامية مثل:

«الجنّة تحت ظلال السيوف»

«السيوف مقاليد الجنّة».

وكلّها ترمز إلى الجهاد والتضحية واستعمال القوة، ومثل هذه التعبيرات الرمزية بالسيف والقلم كثيرة في مختلف اللغات. ومن هنا يتضح أنّ المراد من قيام المهدي عليه السلام بالسيف

هو استعانته بالقوة؛ حتّى لا يظن بأن نهضة هذا المصلح الرباني تقتصر على الوعظ وإسداء النصح والإرشادات في الميادين الاجتماعية. بل هو زعيم ينطلق في نهضته من محورين؛ يتمثل الأوّل في المنطق وحيث لا يجدي نفعاً سيّما تجاه الجبابرة والطواغيت، فإنّه يلجأ إلى السيف، أي يستعين بالقوة في مواجهة الظلمة، والواقع ليس هنالك من سبيل لممارسة الإصلاح والقضاء على الفساد سوى ذلك، «الناس لا يقيمهم إلّا السيف».

وبعبارة اخرى أنّ وظيفته لا تقتصر على إرائة الطريق، بل مهمته الأعمق- إضافة لما تقدّم- إجراء القوانين الشرعية وتطبيق الأحكام الدينية وبلوغ السمو والكمال.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 211

ويبدو أنّ نقطة قد اتضحت ممّا ذكر وهي: خلافاً لما يظنه بعض ضيقي الافق من أنّ قيامه يستند دون مقدمة إلى السلاح، وعلى ضوء تلك الخرافة فإنّه يسفك الدماء حتّى تبلغ ركابه، فإنّه سيبدأ المواجهة بادئ الأمر من خلال الحوار الفكري وفي كافة الأصعدة، أي على ضوء الاصطلاح الديني يتمّ الحجّة على الخصوم بحيث يستجيب له كلّ من إمتلك بعض الاستعداد لقبول الحقّ، فلا يبقى سوى من لا تجدي معه الأساليب الاخرى نفعاً غير القوة.

فالذي نستفيده من القرائن القائمة على هذا الموضوع- بغض النظر عن دليله- أنّ اسلوبه وسيرته هي سيرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؛ فقد مارس الدعوة السرية في مكّة لثلاث عشرة سنة وقد إلتف حوله أولئك الذين يسمعون منطق الحقّ، بينما هب لمواجهته أولئك الجفاة الذين يشكلون الأكثرية الساذجة، فاضطر للهجرة إلى المدينة وأرسى دعائم الحكومة الإسلامية واستعد لمواجهة الأعداء وشقّ طريقه نحو دعوة عامة الناس.

ورغم الدعايات المغرضة التي تثار ضد الدعوة الإسلامية من أنّها دعوة السيف، إلّاأنّ أفضل سند لدينا اليوم والذي لا يسعهم اخفاءَه

أو إزالته هو القرآن الكريم.

ولو كان الإسلام دين العنف والقوة لما غص القرآن بكلّ تلك الأدلة والبراهين لإثبات الحقائق، ولا سيّما في موضوعَيْ معرفة اللَّه والمعاد اللذين يشكلان أهم المحاور الأساسية للإسلام، ولما طالب أصحاب الفكر والعقل والمنطق بإصدار الأحكام، ولما تحدث بهذه الطريقة عن العلم والمعرفة،

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 212

فالنظام الذي يتصف بالعنف لا يعرف من معنى للدليل والبرهان.

والإسلام حتّى حين يلجأ إلى القوّة ليكشف عن موقفه بالأدلّة والبراهين مشيراً إلى عدم امكانية التغاضي عن تلك القوة.

على كلّ حال فهو يسير بسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، إضافة إلى رقي المستوى الفكري للناس في عصره وتأكد ضرورة اعتماد المنطق، على غرار ضرورة اعتماد القوة تجاه الطغاة.

طبعاً ستكون بعض جوانب هذه الثورة دموية حيث تهدف إلى إراقة تلك الدماء الملوثة، وهل هنالك من سبيل للاصلاحات الجذرية في المجتمعات الفاسدة سوى ذلك، إلّاأنّ هذا لا يعني أنّه يسفك الدماء عبثاً، فهو بالضبط كالطبيب الحاذق في امتصاصه للدماء الملوثة من بدن مريضه!

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 213

سيرة الحكومة العالمية

العصور الثلاثة

هنالك ثلاثة عصور بشأن النهضة التاريخية الكبرى للمهدي، هي:

1- عصر الاستعداد والانتظار وعلامات الظهور.

2- عصر النهضة ومواجهة الظلم والفساد.

3- عصر الحقّ والعدل.

تحدثنا بإسهاب عن العصر الأوّل والثاني، ونخوض هنا في العصر الثالث الذي يمثل نتيجة ومحصله تلك النهضة الشاملة، فلم تسلط الأضواء على هذا الموضوع كما ينبغي رغم أهميته.

على كلّ حال يتوقع انبثاق عالم خالٍ من التمييز العنصري والتفاوت الطبقي وسائر أصناف الفرقة والتشتت ونشوب الحروب وسفك الدماء والاعتداء واللهجة الاستعمارية الغاشمة وانين الشرائح المعدمة والمحرومة.

وياله من عالم رائع يبعث على الراحة والنشاط. وبالطبع كما يسهل نظرياً تصوير مثل هذا العالم في الخيال، فإنّه شائكٌ ومعقدٌ من

الناحية العملية، ولكن على كلّ حال فلابد للبشرية من سلوك هذا الطريق وإلّا ليس الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 216

هنالك سوى الفساد والانحراف.

وقد تضمنت الروايات بعض الإشارات إلى الخطوط العامة لذلك المجتمع، وأنّها حقّاً لعبارات حية ورائعة بالرغم من كونها وردت قبل ثلاثة عشر قرناً.

ونشير هنا إلى بعضها:

تطور العلوم في عصر المهدي عليه السلام:

ليس هنالك من نهضة دون طفرة فكرية وثقافية أصيلة تنشد الرقي والكمال؛ وعليه فالخطوة الاولى لتحقيق هذا الهدف تكمن في انطلاقة النهضة الثقافية التي تسوق الأفكار إلى الحركة باتجاهين:

الأوّل: في مجال العلوم التي تحتاجها المجتمعات الحرة والصحية (هذا من حيث النظره المادية).

والثاني: على صعيد الوقوف على مبادئ الحياة الإنسانية المفعمة بالإيمان (النظرة المعنوية).

جاء في حديث للإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«العلم سبعة وعشرون حرفاً فجميع ما جاءت به الرسل حرفان، فلم يعرف الناس حتّى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً، فبثها في الناس وضمّ إليها الحرفين، حتّى يبثها سبعة وعشرين حرفاً» «1».

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 217

فالحديث يشير إلى الطفرة الثقافية والعلمية التي يشهدها عصر النهضة للإمام المهدي عليه السلام والذي يعادل 12 ضعفاً بالنسبة للعلوم والمعارف التي كانت سائدة في عصور الأنبياء جميعاً، حيث تفتح بوجه البشرية كافّة أبواب العلوم البناءة والنافعة، فيجتاز الإنسان بمدة قصيرة اثني عشر ضعفاً ما بلغته البشرية خلال آلاف السنين؛ وهل هنالك طفرة أعمق وأرفع من هذه.

كما ورد حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام يكمل سابقه حيث قال:

«إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم» «1».

وهكذا تنطلق العقول باتجاه الكمال في ظلّ إرشادات وتوجيهات المهدي عليه السلام وعنايته ولطفه، وتنضج الرؤى والأفكار، وتزول كافة الرؤى الضيقة والأفكار الضحلة التي تعد

مصدر جميع التضاد والتزاحم والنزاعات الاجتماعية العنيفة.

فالأفراد يتمتعون آنذاك بسعة الافق والأفكار الحرة والصدور الرحبة والهمة العالية والنظرة الثاقبة فيتمكنون من حلّ أغلب المصاعب الاجتماعية بروحهم السامية ويبنون العالم المليئ بالأمن والسلام.

والحقّ أنّ كلّ اصلاح اجتماعي إنّما يعتمد على هذا الانقلاب الفكري والروحي.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 218

التطور الصناعي المذهل في عصر المهدي عليه السلام

تشير الأحاديث التي أوردناها بتسلسل 1 و 2 و 3 و 4 في مبحث «سبيل الانتصار» أنّ هذه الطفرة العلمية والصناعية ستكون شاملة واسعة.

وستكون وسائل جمع المعلومات غاية في التطور بحيث تصبح الدنيا كراحة اليد في وضوحها فتكون هنالك سيطرة تامة على أوضاع العالم دون ضياع الوقت في معالجة المشاكل؛ بحيث يقضي على بؤر الفساد (المتعمدة وغير المتعمدة) في مهدها «1».

كما تحل قضية الضوء والطاقة بحيث لم تعد هناك من حاجة إلى الطاقة الشمسية التي تنبثق منها أنواع الطاقة سوى الطاقة الذرية.

ولعلّ ذلك سيكون في ظلّ نظام ذري متكامل للطاقة خال من الاشعاعات الحالية الضارة التي تحول دون الاستفادة من هذه الطاقة «2». كما سيشهد تطور وسائط النقل التي تأبى المقارنة بالوسائل السائدة اليوم، والتي لا تقتصر على الحركة بأقصر مدّة على سطح الكرة الأرضية، بل تقوم برحلاتها الفضائية في فترة قياسية «3».

وهذا ما يمّهد السبيل أمام تلك الحكومة لتحقيق مشاريعها الإصلاحية.

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«إنّ قائمنا إذا قام مدّ اللَّه بشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم، حتى لا يكون بينهم وبين القائم بريد، يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 219

في مكانه» «1».

أي يتمتع كافّة الناس بوسائل نقل «الصوت» و «الصورة» بشكل بسيط وسهل، بحيث لم تعد هنالك من حاجة إلى وجود دائرة باسم البريد في حكومته ودولته، كما تحل

أغلب القضايا دون الحاجة إلى الأوراق- كما هي سائدة اليوم والتي تتطلب عدداً من الأفراد الذين يمارسون مهامهم ويستغرقون مدّة طويلة بغية كشف الحقّ والواقع- فهنالك أجهزة الشهود والحضور التي تدير شؤون المجتمع، ويا لها من أجهزة تشيع أجواء الهدوء والاستقرار والاستفادة من عامل الوقت.

كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«إنّ المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق سيرى أخاه الذي في المغرب؛ وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي بالمشرق» «2».

فالارتباط قائم بين الجميع ولا يقتصر على مستوى الحكومة، ومن شأن الارتباطات الظاهرية والبدنية ترسيخ الوشائج المعنوية بحيث يصبح العالم بمثابة البيت وناسه اسرة واحدة.

وهكذا سيكون العلم والمعرفة والصناعة وسيلة لتحسين أوضاع العالم وتعميق اسس الاخوة، لا التفرقة والهدم كما هي عليه اليوم.

التطور الاقتصادي والعدل الاجتماعي:

تتمتع الأرض التي نعيش عليها بإمكانات ضخمة تسعنا وسائر الأجيال القادمة وما لا يحصى من السكان البشري، إلّاأنّ عدم الاطلاع الكافي على المصادر المتوفرة بالفعل ومصادر الطاقة بالقوة، من جانب، وعدم وجود النظام الصحيح لتوزيع الثروات، من جانب آخر، أدّى إلى بروز مختلف الأزمات والحاجات؛ إلى درجة أنّ عصرنا يشهد يومياً موت العديد من المحرومين جوعاً.

فالنظام الذي يحكم الاقتصاد العالمي الراهن نظام استعماري وإلى جانبه نظام حربي ظالم يستهدف القضاء على الطاقات الفكرية والبشرية التي ينبغي استغلالها في البحث عن المصادر والمنابع الضرورية لتحسين حياة الإنسان والنهوض بمستواه المعاشي.

والواقع ما أن ينهار هذا النظام حتّى تتكاتف الجهود لاستخراج المصادر الضرورية والتي تعتمد الوسائل العلمية المتطورة لتحقق تلك الانجازات العملاقة التي تسهم في انعاش الاقتصاد العالمي.

ولذلك نرى بعض الإشارات إلى هذه السعة الاقتصادية المتعلقة بحكومة المصلح العظيم في بعض الروايات الإسلامية ومنها:

«إنّه يبلغ سلطانه المشرق والمغرب؛ وتظهر له الكنوز؛ ولا يبقى

في الأرض خراب إلّايعمره» «1».

والحقّ، لابدّ أن يكون الأمر كذلك، ذلك لأن خراب الأرض ليس بسبب قلة الطاقة البشرية ولا الازمة المالية، بل وليد خراب الإنسان وهدر

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 221

الطاقات الإنسانية وعدم الشعور بالمسؤولية، فإن غيبت هذه الامور في ظلّ النظام الاجتماعي الصحيح، فإنّ العمارة ستكون قطعية، سيّما أنها تستند إلى طاقات خارقة جديدة.

وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«إذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في أيّامه الجور

وأمنت به السبل واخرجت الأرض بركاتها

ورد كلّ حقّ إلى أهله ...

وحكم بين الناس بحكم داود عليه السلام وحكم محمّد صلى الله عليه و آله فحينئذٍ تظهر الأرض كنوزها

وتبدي بركاتها

ولا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعاً لصدقته ولا لبره لشمول الغنى جميع المؤمنين ...» «1».

ويفيد التركيز على ظهور بركات الأرض واستخراج الكنوز ازدهار القطاع الزراعي حتّى يبلغ ذروته، إلى جانب اكتشاف المصادر الجوفية والاستفادة منها.

وسيرتفع الدخل السنوي للأفراد بحيث لا يبقى في المجتمع فقير، والكلّ يعيش حالة الاكتفاء وعدم الحاجة.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 222

وممّا لا شك فيه أنّ اجراء مبادئ العدل والقسط واستقطاب الطاقات البشرية واستغلالها بالشكل الصحيح يفرز تلك النتائج الايجابية؛ وذلك لأن الجوع والفقر والفاقة ليست من افرازات الأزمة والقلّة، بل هي نتيجة مباشرة وغير مباشرة للمظالم والتمييز وانعدام العدالة وهدر الطاقات وتضييع الثروات.

وورد في حديث آخر في مصادر العامة عن أبي سعيد الخدري. قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«أُبشركم بالمهدي يملأ الأرض قسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه سكان السماء والأرض، يقسم الماء صحاحاً؛ فقال رجل: ما معنى صحاحاً، قال بالسوية بين الناس؛ ويملأ قلوب امّة محمّد صلى الله عليه و آله غنى؛ ويسعهم عدله، حتّى يأمر منادياً ينادي ويقول

من له بالمال حاجة فليقم فما يقوم من الناس إلّارجل واحد، ثمّ يأمر له بالمال فيأخذه ثمّ يندم ويرده» «1».

ولابدّ من الالتفات إلى بعض الامور في تفسير هذا الحديث.

1- المراد من رضى سكان السماء عن حكومته ربّما يكون إشارة إلى ملائكة السماء وملائكة اللَّه المقربين، أو إشارة إلى سعة حكومته إلى سائر الكرات المأهولة وافتتاح طرق السموات والرحلات الفضائية إلى نقاط العالم النائية.

2- المراد من التقسيم العادل للثروة بالسوية- بالاستناد إلى علمنا بأنّ الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 223

الإمام المهدي عليه السلام حافظ ومروِّج لأحكام الإسلام التي تقر بضرورة العطاء الأكثر بالنسبة للجهود الأكثر والكفاءات الأعمق- إمّا إشارة إلى أموال بيت المال والأموال العامّة بصورة كلية التي يتساوى فيها الجميع في الحكومة الإسلامية- كما ورد ذلك في سيرة النبي صلى الله عليه و آله وعلي عليه السلام على العكس ممّا ورد في سيرة أغلب الخلفاء كعثمان الذي اعتمد صنوف التمييز- أو إشارة إلى التسوية في العطاء في ظل الظروف المتساوية، بالعكس ممّا عليه الوضع الآن حيث يتقاضى عامل مثلًا في منطقة من العالم عشرة دولارات مقابل الساعة من العمل، بينما لا يتقاضى عامل آخر في منطقة اخرى وفي ظلّ ذات الظروف دولاراً واحداً إزاء عمل عشر ساعات، وهذا قمة الظلم والاجحاف.

3- النقطة الاخرى التي نستفيدها من الحديث المذكور هي عدم وجود حتّى فرد واحد معدم ومحتاج في ذلك العصر، بدليل أنّ ذلك الفرد الذي يقوم لم يكن غنياً على صعيد الروح ويشعر بالحرص والطمع، وإلّا لم يكن محتاجاً من الناحية المادية، والمهم أنّ ذلك الزعيم يملأ القلوب بالغنى المعنوي والنفسي ويستأصل منها جذور الحرص المقيتة؛ ذلك الحرص الذي يعد المصدر الرئيسي لتلك الجهود الجبّارة التي

يبذلها اللاهثون وراء الثروة والذين لا يكفّون عن طلب المزيد، وكأنّهم مصابون بمرض الاستسقاء الذي لا يجعلهم يرتوون من الماء مهما نهلوا منه. ولعلّ العامل الآخر الذي يقف وراء جمع الثروة هو عدم الوثوق بالمستقبل، وهو الأمر الذي يزول بالمرة في ظلّ عدالته الاجتماعية، فلا يرى شخص في نفسه من حاجة لجمع الثروة، ذلك لأن يومه وغده مضمون.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 224

كما ورد في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«.. حتّى تملأ الأرض جوراً فلا يقدر أحد أن يقول: اللَّه! ثمّ يبعث اللَّه عزّوجلّ رجلًا منّي ومن عترتي فيملأ الأرض عدلًا كما ملأها من كان قبله جوراً وتخرج له الأرض أفلاذ كبدها ويحثو المال حثواً ولا يعدّه عداً» «1».

«أفلاذ»: جمع (فلذ) بمعنى القطعة. ويقال للأشياء النفيسة، أفلاذ الكبد، وهي هنا إشارة إلى المصادر الثمينة والقيمة تحت الأرض.

كما يحتمل أن تكون إشارة إلى أنّ الإنسان سيظفر بالنواة المذابة داخل جوف الأرض وهي عبارة عن قطعة نار وحرارة يمكن أن يستفيد منها كمصدر مهم للطاقة، كما يمكن أن يستخرج منها مصادر حيوية اخرى من فلزاتها ومعادنها.

وهكذا السُمو الأخلاقي وضمان الحاجات المستقبلية واتساع مصادر الدخل، والخلاصة، إنّ جمع الغنى الروحي والمادي سيؤدي إلى عدم الحاجة إلى عدّ الأموال، فلكلّ محتاج أن يقصد بيت المال ويسحب ما يشاء دون عناء.

كلّ هذا من جهة ومن جهة اخرى:

فإنّ هنالك بعض الأخبار التي تشير إلى تمتع عصره بحركة عمرانية من قبيل بناء المدن وشق الطرق وبناء المساجد المتواضعة البعيدة عن التكلّف الظاهري، إلى جانب هَدْم المباني التي تسبب بعض الحرج للناس. ومن الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 225

ذلك:

1- قال الإمام الصادق عليه السلام:

«ويبنى في ظهر

الكوفة مسجداً له ألف باب ويتصل ببيوت الكوفة بنهر كربلاء وبالحيرة» «1».

ونعلم أنّ المسافة بين هاتين المدينتين تبلغ أكثر من 70 كيلومتراً.

2- قال الإمام الباقر عليه السلام:

«إذا قام القائم ...

تكون المساجد كلها جماء لاشرف لها كما كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويوسع الطريق الأعظم فيصير ستين ذراعاً

ويهدم كلّ مسجد على الطريق ويسد كلّ كوة إلى الطريق وكلّ جناح وكنيف وميزاب إلى الطريق» «2».

3- وورد في حديث طويل عن الصادق عليه السلام أنّه قال:

«... وليصيّرنَ الكوفة أربعة وخمسين ميلًا وليجاورن قصورها كربلاء، وليصيرن اللَّه كربلاء معقلًا ومقاماً» «3».

4- وكثيرة هي الروايات الواردة بشأن تقدم الزراعة ومضاعفة المنتجات الزراعية ووفرة المياه والعمران في كافة المجالات «4».

التقدم القضائي:

إنّ الوقوف بوجه الظلم والفساد يتطلب من جانب، ترسيخ دعائم الإيمان والأخلاق، ومن جانب آخر، وجود نظام قضائي مقتدر يتحلى باليقظة التامة والاحاطة الشاملة.

قطعاً يزود التطور الصناعي الإنسان بوسائل وأجهزة يمكن بواسطتها- عند الضرورة- السيطرة على كافّة الأفراد ورصد المشبوهين فهم الذين تُشمُّ منهم رائحة الفساد والانحراف، والتقاط الصور لما يخلفه المجرمون من آثار في مواقع ارتكاب الجريمة، وتسجيل أصواتهم والتعرف عليهم من خلالها.

حقّاً أن تمتع الحكومة الصالحة بهذه الإمكانات يمنحها الحصانة ضد الفساد والظلم وإحقاق الحقوق وإيصالها إلى أصحابها.

لا شك في أنّ البرامج الأخلاقية إلى جانب الوسائل الغاية في التطور ستأخذ مجراها في عصر ذلك المصلح العظيم بحيث تسير أغلبية المجتمع بالاتجاه الإنساني الصحيح المفعم بالعدل والسلام.

ولكن طالما خلق الإنسان حراً، وليس هنالك ما يجبره على أفعاله فسوف يكون هنالك، شئنا أم أبينا، بعض الأفراد- وإن كانوا أقلية- وسط ذلك المجتمع الصالح الذين يسيئون الحرية ويستغلونها بغية تحقيق اطماعهم وأهدافهم وعليه، فلابدّ من وجود جهاز قضائي

فعال ومقتدر ينتصف للمظلوم من الظالم.

ويتضح من خلال تأمل الجرائم والجنايات والمفاسد الاجتماعية وطرق معالجتها، أنّه:

أوّلًا: أنّ بسط العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات سيستأصل الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 227

جذور أغلب المفاسد الاجتماعية التي تنبثق من التنازع على الأموال والثروات واستغلال الطبقات الضعيفة والتزييف والخداع وأنواع الغش والكذب والخيانة وارتكاب الجريمة من أجل الحصول على الدخل الأكثر؛ ولعلّ تنامي حدة الفساد والظلم في كلّ مجتمع إنما تتوقف على تلك الامور ومدى انتشارها.

ثانياً: للتعليم والتربية الصحيحة عظيم الأثر في مكافحة الفساد والانحراف الاجتماعي والأخلاقي؛ وأحد علل اتساع رقعة الفساد في المجتمعات المعاصرة إنّما يتمثل في عدم الاستفادة الصحيحة من التعليم؛ بل عادة ما يوظف في خدمة المشاريع الاستعمارية الفاسدة، والانهماك ليل نهار في عرض الأفلام المبتذلة والقصص المضلة وإشاعة الأخبار الكاذبة التي تضمن مصالح الاستعمار العالمي.

طبعاً لبعض هذه الامور جذور اقتصادية كما تهدف إلى تخدير العقول واستنزاف القوى الفاعلة والواعية في كلّ مجتمع لضمان مصالح الاستعمار الاقتصادي.

وبالطبع إن تغيّرت هذه الأوضاع فإنّ جانباً كبيراً من الفساد الاجتماعي سيزول خلال مدة قصيرة، ولا يتمّ ذلك إلّامن قبل حكومة عالمية صالحة تنشد تحقيق مصالح البشرية جمعاء- لا مصالح المستغلين- وبناء عالم معمور وحر مملوء بالعدل والسلام.

ثالثاً: أنّ وجود جهاز قضائي يقظ وفاعل ووسائل مراقبة دقيقة بحيث لا يفلت مجرم من سيطرته ولا يستطيع انتهاك عدالته، هو العنصر الآخر الذي يحد من انتشار الفساد وانتهاك حرمة القانون.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 228

فلو اتصلت هذه الأبعاد الثلاثة مع بعضها، لكانت أبعادها التأثيرية كثيرة للغاية.

يستفاد من الأحاديث المرتبطة بعصر حكومة المهدي عليه السلام أنّه يستعين بهذه العناصر الوقائيه الثلاثة في نهضته، حتّى وردت بشأن دولته تلك العبارة والتي أصبحت مثلًا يضربه

الناس، في أنّ عصره سيشهد عيش الذئب إلى جانب الشاة.

قطعاً ليس هنالك من تغيير في ماهية الذئاب ولا داعٍ أصلًا لذلك، كما لا تفارق الشاة حالتها الطبيعية؛ وهذا إشارة إلى بسط العدل في العالم وتغيير اسلوب الأفراد الذئاب في صفاتهم والذين يتواطأون مع الحكومات الجبارة في إمتصاص دماء الطبقات الضعيفة في المجتمع البشري.

فإمّا أن تتغير روحيات هؤلاء بصورة تامة في ظلّ النظام الجديد، ذلك لأنّ الذئبية ليست من طبيعة الإنسان، ومن الصفات العرضية التي يمكن تغييرها، أو على الأقل كبح جماحها، والانتفاع بنعم اللَّه بصورة عادله بدلًا من هضم منافع الآخرين.

ومن الامور الجديرة بالتأمل في هذا المجال ما ورد في حديث النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بشأن التوزيع الصحيح للأموال حيث يعيش الناس حالة من الغنى الروحي والمادي حتّى تبقى الأموال دون من يطلبها، أي أنّهم يبلغون مرحلة تربوية تجعلهم يرون المال الزائد على حاجتهم وبالًا عليهم.

ليس هنالك ما يقلقهم بشأن ضمان معيشتهم لحاضرهم ومستقبلهم الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 229

بحيث يقارفون الخطيئة بغية الحصول عليها.

كما ورد في حديث آخر أنّ المستوى الفكري للناس في عصره يبلغ مرحلة يصعب مقارنتها بالعصر الراهن، وبالطبع سوف تغيب كافّة النزاعات والخلافات التي يفرزها قصر النظر وضيق الافق وضحالة المستوى الفكري واستغراق الجهود في الأموال والثروات.

وعلى ضوء ما أوردناه سابقاً بشأن المراقبة الدقيقة في حكومته حسبما ورد في الروايات فإنّ المجرمين لا يشعرون بالأمن حتّى في بيوتهم، ربّما لوجود بعض الأجهزة المتطورة التي تحصي حتّى أمواجهم الصوتية، وهذا بحد ذاته إشارة إلى سعة ابعاد التصدي للفساد في عصر الإمام.

وعبارة (حكمه كحكم داود عليه السلام ومحمّد صلى الله عليه و آله) كأنّها تشير إلى نقطة لطيفة في أنّه

يستعين بالضوابط القضائية الظاهرية من قبيل الاقرار والشهادة وما شابه ذلك إلى جانب الطرق النفسية والعلمية في التعرف على المجرمين، على ضوء بعض النماذج في عصر داود عليه السلام.

بالاضافة إلى أنّ وسائل كشف الجرم تحرز تطوراً باهراً على غرار تطور العلوم والتقنيات بحيث يصعب على المجرم أن يفلت من العدالة.

قرأت في بعض الصحف بشأن عجائب دماغ الإنسان، أنّ هذا الدماغ يبعث بأمواج تتناسب مع مكنوناته الباطنية بحيث يمكن تمييز صدقه من كذبه على ضوء تصريحاته! قطعاً أنّ هذه الوسائل تتكامل وستخترع وسائل متطورة اخرى، وبالاستعانة بالأساليب النفسية المتطورة يمكن السيطرة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 230

على المجرمين، وإن قلّ تعداد المجرمين في مثل هذا المجتمع (مع ذلك فالقضية تبدو مهمة).

واكرر مراراً: من الخطأ الاعتقاد بأنّ كلّ هذه الامور تعالج في عصره من خلال المعجزة، ذلك لأنّ المعجزة استثناء وحين الضرورة سيّما في اثبات حقانية دعوى النبي صلى الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام. ولا ترد لتنظيم شؤون الحياة اليومية والطبيعية، والدليل على ذلك لم يعتمدها أي نبي لهذه الاغراض.

وعليه فإنّ مسيرة حكومته العالمية من ذلك النموذج الذي أشرنا إليه، لا نموذج الاعجاز.

على كلّ حال فإنّ الأمن في ظلّ حكومته العالمية على درجة من السعة والشمولية بحيث تستطيع المرأة- كما ورد في الرواية- أن تسير لوحدها من شرق العالم إلى غربه دون أن يتعرض لها أحد!

وأخيراً إن أضفنا مسألة تواضع عيشة المهدي عليه السلام- كما جاء في بعض الروايات- تتضح الامور السابقة بجلاء، فسيرته قدوة واسوة لاتباعه فضلًا عن عامة الناس. وبالاستناد إلى هذا الموضوع في أنّ القسم الأعظم من الجرائم والجنايات والمفاسد الاجتماعية التي تفرزها الحياة الموغلة في الرفاه والمصارف العبثية الطائشة، فإنّه يتضح

الدليل الآخر على إزالة المفاسد في ظلّ حكومته العالمية.

فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال:

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 231

«وما لباس القائم عليه السلام إلّاالغليظ وما طعامه إلّاالجشب» «1».

كما ورد نفس هذا المضمون عن الإمام الصادق عليه السلام «2».

الحكومة المديدة:

رغم ما ورد في بعض الروايات أنّ مدة حكومته تمتد من خمس أو سبع سنوات إلى 309 سنة (مدة مكث أصحاب الكهف)- والتي تشير في الواقع إلى مراحل وعصور تلك الحكومة (حيث يستغرق تبلورها وتشكيلها مدة خمس أو سبع سنوات وعصر تكاملها 40 سنة وعصرها الأخير أكثر من ثلاثمئة سنة! لابدّ من التمعن- ولكن بغض النظر عن الروايات الإسلامية فمن المفروغ منه أنّ كلّ هذه المقدمات ليست من أجل عصر قصير المدة، بل قطعاً من أجل مدة طويله تتناسب وجميع هذا التحمل والسعي والجهد!

بناء على جميع الأصعدة الفكرية والثقافية:

إنّ الأديان السماوية في الواقع كالماء الذي ينزل من السماء، فقطرات مياه المطر الشفافة- إن لم يكن الجو ملوثاً- نقية ولطيفة وحيوية وخالية من أي تلوث، فهي تحمل بشائر الحياة أينما حلّت لتروي العطاشى وتمنحهم الروعة والجمال.

أمّا إن سقطت على أرض ملوثة فإنّها تفقد صفاءَها ونقاءَها بالتدريج، بل الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 232

تبدو أحياناً كريهة عفنة يهرب من رائحتها كلّ من يراها. والأديان السماوية تبدو بادئ الأمر بصفاء ونقاء تلك القطرات واشراقة الشمس وجمال الربيع، وأثر اتصالها بالأفكار المنحطة للجهال والأيدي الأثيمة للمغرضين والامتزاج بالعادات والتقاليد والاذواق والأمزجة الشخصية، تنحرف أحياناً حتّى تفقد بريقها وجاذبيتها بالمرة.

ولم يسلم من ذلك، الدين الإسلامي، هذا الدين الحي المفعم بالحيوية والنشاط والذي نهض بتلك الامّة المتخلفة ليجعلها تتربع على ذروة المدنية، رغم سلامة القرآن ووجود المخلصين من العلماء الذين يذبون عن حريم الدين ويضحون من أجل حفظ أصالة تعاليمه ومفاهيمه، ولكن لابدّ من الاذعان بأنّ الكثير من مفاهيمه قد مسخت لدى الكثير من المسلمين، بحيث يمكن القول إنّ الإسلام الأصيل على عهد النبي صلى الله عليه و آله بدا غريباً في أكثر الأوساط.

وقد بلغت

بعض المفاهيم من قبيل الزهد والتقوى والصبر والشهادة والانتظار والشفاعة والعبادة درجة من التحريف بحيث عادت غريبة عن هذا الدين الحقّ.

كما آلت أغلب الأحكام الإسلامية بالحيل الشرعية وغير الشرعية إلى الاضمحلال كحكم الربا والفائز والذي لم يبق سوى اسمه.

كما اعترى النسيان البعض الآخر- كالهجرة والجهاد والشهادة- أو على الأقل اقتصرت على صيغتها التاريخية والمختصة بعهد معين في صدر الإسلام.

واختلط التوحيد بالشرك وعاشت مدرسة أهل البيت عليهم السلام التي تمثل الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 233

الإسلام الأصيل على ضوء: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي» «1»

الغربة بين أغلب الأوساط الإسلامية وقد أبتعد عنها الناس ابتعد أن قذفت بأشنع التهم.

وسيقوم المصلح على غرار البستاني الماهر الذي يستأصل العلف من النبتة الأصيلة رغم تعلقه بها وصعوبة فصله عنها، باستئصال كلّ ما علق بهذا الدين، وسيقطع كلّ غصن أعوج اتصل بشجرة الإسلام.

وسيزيل تلك التفاسير المنحرفة للدين ويقطع الأيدي الأثيمة التي تطاولت على حرمة مفاهيمه القيمة.

وخلاصة القول فإنّه سيعيد الإسلام إلى سابق عزّه على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعلي عليه السلام.

إنّ إحدى مهام المهدي عليه السلام تطهير الإسلام ممّا علق به من الغبار، وبعبارة اخرى إعادة بناء صرحه العملاق.

فقد كان المسجد آنذاك مركزاً لكافة الأنشطة السياسية والعلمية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية، وأصبح اليوم بؤرة للعجزة والعاطلين ووسيلة لقضاء الوقت، وربّما عادت طبيعية، وسيعيده إلى سابق عهده، وسينفخ روح الحياة في جسد الجهاد، ويطهر التوحيد من كافة أنواع الشرك، ويفسر مفاهيم الدين بما يقضي على كلّ انحراف وتشويه، وسيطرح الآراء

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 234

الشخصية المفروضة على الدين، ويبعده عن صدأ العادات والتقاليد، وسينهض بالإسلام ويخرجه من حالة التقوقع الوطني والقومي ويظهره بشكله العالمي الأصيل، وسيقطع تلك

الأيدي الأثيمة التي دست الحيل الشرعية في الدين، ويعرض أحكامه وقوانينه كما ينبغي.

ويبدو أنّ سلسلة هذه التغييرات على قدر من السعة والشمولية بحيث عبرت عنها بعض الروايات الإسلامية بالدين الجديد.

روى صاحب كتاب اثبات الهداة حديثاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«إذا خرج القائم يقوم بأمر جديد، وكتاب جديد، وسنة جديدة، وقضاء جديد» «1».

ومن الواضح أنّ هذا الأمر الجديد والكتاب الجديد والقضاء الجديد لا يعني أنّه يأتي بدين جديد، بل يخرج الإسلام من خضم ما علق به من أساطير وخرافات وتحريفات وتفاسير خاطئة فيبدو وكأنّه دين جديد وبناء حديث.

كما أنّ الكتاب الجديد لا يعني نزول كتاب جديد عليه من السماء، ذلك لأن الإمام قائم وحافظ للدين، لا أنّه نبي ويأتي بكتاب جديد، بل يعيد القرآن الكريم إلى سابق عزّه فيبدو وكأنّه كتاب جديد بعد أن يطرح عنه التحريفات المعنوية والتفاسير المشبوهة.

والشاهد على ذلك وإضافة إلى صراحة القرآن في مسألة ختم النبوة في الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 235

الآية 40 من سورة الأحزاب والروايات التي اثبتت صراحة خاتمية النبي صلى الله عليه و آله، بعض الأحاديث التي صرحت بأن سيرته سيرة جده رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والكتاب والسنّة.

سأل عبداللَّه بن عطاء الإمام الصادق عليه السلام عن سيرة المهدي عليه السلام فقال عليه السلام:

«يصنع ما صنع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يهدم ما كان قبله كما هدم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمر الجاهلية ويستأنف الإسلام جديداً».

وورد في كتاب اثبات الهداة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«القائم من ولدي؛ اسمه اسمي وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسنته سنتي، يقيم الناس على شريعتي وطاعتي، ويدعوهم إلى كتاب ربّي» «1».

وورد

في كتاب «منتخب الاثر» عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«وأنّ الثاني عشر من ولدي يغيب حتّى لا يرى، ويأتي على امّتي بزمن لا يبقى من الإسلام إلّااسمه، ولا يبقى من القرآن إلّارسمه فحينئذٍ يأذن اللَّه له تبارك وتعالى بالخروج فيظهر الإسلام به ويجدده» «2».

وهذه الأخبار صريحة بما يغنينا عن أي توضيح.

وحدة الدين:

لا شك أنّ الخلافات المذهبية لا تنسجم والنظام التوحيدي في كافّة

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 236

المجالات؛ لأن هذه الخلافات تكفي للقضاء على أية وحدة.

وبالعكس فإنّ أحد العوامل المهمّة للوحدة هو وحدة الدين والمذهب التي يسعها أن تفوق كلّ خلاف وفرقة واستيعاب كافة الاعراق واللغات والقوميات والثقافات المتعددة لتخلق منها مجتمعاً يعيش فيه الجميع باخوة ومحبة «إنّما المُؤمِنُونَ أخوَةٌ».

ولذلك فإنّ أحد أهداف هذا المصلح العظيم توحيد الصفوف في ظلّ توحيد المذهب.

ولكن لا ينبغي الشك في أنّ هذا التوحيد لا يمكن أن يستند إلى منطق الجبر. فالمذهب يتعامل مع قلب الإنسان وروحه، ونعلم جميعاً بأنّ القلب والروح خارجة عن دائرة الجبر والاكراه.

أضف إلى ذلك إنّ سنّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله- كما يشهد لها القرآن- لم تكن قائمة على أساس الجبر والاكراه «لاإِكْرَاهَ فِي الدِّينِ».

ومن هنا استوعب الإسلام أهل الكتاب كأقلية ووفرّ لهم الدعم والاسناد ما لم يخرجوا على الدولة الإسلامية، وعلى ضوء تمتع تلك الحكومة العالمية على عهد ذلك المصلح العظيم بكافّة الوسائل المتطورة وتطهير الإسلام ممّا علق به من الشوائب والأدران إلى جانب جاذبيته القوية فإنّه يمكن التكهن بأنّ الأغلبية الساحقة ستتعاطف مع الإسلام وتجنح إليه فتصبح وحدة الأديان عملية من خلال الإسلام.

وقد وقفنا على هذه الحقيقة على ضوء الأدلّة العقلية، والروايات الإسلامية هي الاخرى تثبت ذلك.

روى المفضل في

حديث طويل عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 237

«.. فواللَّه يا مفضل ليرفع عن الملل والأديان الاختلاف ويكون الدين كله واحداً، كما قال جلّ ذكره: إنّ الدِّين عند اللَّه الإسلام» «1».

ورد في تفسير بعض الآيات القرآنية التي أشارت إلى قيام المهدي عليه السلام.

وهكذا يرد الإسلام جميع القلوب والبيوت وزوايا الحياة بتوحيده الناصع.

مع ذلك لا يمكن القول إنّه سوف لن يكون هناك من وجود بصورة مطلقة لتلك الأقليات من اتباع الديانات الاخرى في تلك الدولة، ذلك لأنّ الإنسان حر الإرادة وليس هنالك من اكراه في ذلك النظام، فمن الممكن أن يدفع الخطأ والتعصب بعض الأفراد لمواصلة عقائدهم السابقة وإن كان الإسلام هو الغالب وهذه مسأله طبيعية.

لكن على كلّ حال إن كانت هناك مثل هذه الأقلية فهي أقلية وادعة، وبالتزامها بالمقررات الواردة في أهل الذمة فإنها تحظى بحماية الدولة الإسلامية.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 239

الأدعياء المزيفون

ألم يظهر المهدي

يطالعنا التاريخ منذ القرن الأوّل بظهور بعض الأفراد الذين ادعوا وانتحلوا عنوان المهدي، أم نسبهم الآخرون إلى ذلك، رغم أنّ هؤلاء الأفراد لم يفلحوا في تحقيق مدعاهم من قبيل بسط العدل والقسط واصلاح العالم، بل لم يتمكنوا من ممارسة الاصلاح حتّى على مستوى المناطق الصغيرة التي عاشوا فيها.

ولعلّ أوّل فرد جعلوا له ذلك الاسم- رغم عدم رضاه- محمّد بن الحنفية، حيث كانت تعتقد الكيسانية:

أنّه المهدي الموعود وأنّه لم يمت، بل هو في جبل رضوي «1» يحفظه أسدان.

والحال نعلم أنّ محمّد بن الحنفية توفي عام 80 أو 81 ه ودفن في البقيع (المقبرة المعروفة في المدينة)، وبالطبع فقد خمدت اليوم أصوات تلك الفرقة ولم تعد تسمع.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 242

ثمّ أقدم بعض خلفاء بني العباس بغية الخلافة واستغلال

عقائد بعض السذج من الناس، وعلى ضوء الاستعداد الذهني للمسلمين وانتظار المهدي الموعود، بانتحال هذا الاسم وزعموا أنّهم المهدي.

إلّا أنّ مضي الزمان أثبت أنّهم ليس فقط لم يكونوا المهدي، بل كانوا من الظلمة الذين ينبغي القضاء عليهم بسيف المهدي.

وقد استمر هذا الأمر فكان البعض هنا وهناك يزعم أنّه المهدي ويجتمع حوله عدد من الأفراد، لكن سرعان ما ينكشف أمره.

طبعاً هذا الادّعاء يبدو كبيراً لا يصمد أمامه صاحبه وذلك لأنّ أهداف هذا المصلح تتمثل في مل الأرض قسطاً وعدلًا، وهذا يكفي لإفشال مخططات كلّ من يدعي أنّه المهدي.

وقد تفاوتت دوافع الأفراد في هذا الادّعاء، فالبعض كان مصاباً ببعض الأمراض النفسية أو السذاجة على الأقل، بينما كان البعض الآخر يسعى وراء المنصب فادّعى ذلك لإشباع رغبته دون التأمل في عواقب الأمر.

كما كان البعض أُلعوبة بيد أعداء الإسلام الذين يستغلونهم لحرف أفكارهم من القضايا الحيوية التي يواجهونها، أو لبث الفرقة والاختلاف والنفاق بين صفوف المسلمين وإضعاف قدرة المذهب ولا سيّما قدرة علماء الدين الذين يشكلون الخطر الرئيسي الذي يهدد مصالحهم.

والخلاصة إنّ ادّعاء المهدوية تواصل حتّى الفتره الأخيره حين برز «السيّد محمّد علي باب»، رغم عدم قدرته بادئ الأمر على مثل هذا الادّعاء، بل على ضوء الوثائق الحية وشهادته المذكورة في كتبه أنّه لم يدع المهدوية، بل اكتفى بادعائه الباب وأنّه النائب الخاصّ للمهدي.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 243

ولكن مع مرور الزمان وتجمع البعض حوله جعله يغير رأيه فزعم أنّه المهدي «1».

وتفيد القرائن والوثائق عن سيرته وحياته وأتباعه- وقد جمعت بشكل رائع- أنّ ادّعاءَه هذا يعزى إلى الأسباب الثلاثة؛ أي من جانب عملاء الدول الاستعمارية- كروسية وبريطانيا وامريكا- حيث كان يتحرك على ضوء توجيهاتهم ويحظى بدعمهم وإسنادهم، كما كان

يسعى إلى الحصول على المنصب، وكان يشكو من بعض الأمراض النفسية «2».

ويبدو أنّه كانت هناك شبكة كبيرة، وقد عده بعض أعوانه متخلفاً فمنحوه شخصية تلعب دور مقدمة الظهور، وكان لهم دعاة كثيرون.

إلّا أن تشتت هذه الفرق «3» من جانب، ونشر الوثائق الحية عن الارتباط المباشر بالدول الاستعمارية، من جانب آخر «4».

والأهم من كلّ ذلك عدم وجود المضمون الذي يسعه تلبية رغبات حتّى عوام الناس، إلى جانب فضحهم من قبل بعض المسلمين الواعين على أنّهم «حزب سياسي استعماري»، كلّ هذه الامور كشفت سريعاً عن حقيقة أمرهم.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 244

طبعاً بحثنا ليس في تقصي نقاط ضعف هؤلاء، فهذا يتطلب كتاباً مستقلًا، ولحسن الحظّ فقد أُلفت الكثير من الكتب بهذا الشأن وأنّ بعضها رائع في مضمونه «1».

وهدفنا هنا بيان موضوعين:

1- يقول البعض:

نعلم أنّ استغلالًا كبيراً حصل ويحصل بالنسبة للاعتقاد بظهور المهدي! أوليس من الأفضل أن نسكت عن هذا الموضوع لكي لا يكون شماعة فيستغله الآخرون، ولماذا نقر بشي ء يمكن أن ينعكس علينا سلباً؟

2- السؤال الآخر الذي يقابل السؤال الأوّل تقريباً:

هل كلّ من ادّعى المهدوية كان كاذباً، ألا يحتمل صدق البعض، فلم يكن الجميع ممّن يسعى إلى المنصب أو كان أُلعوبة بيد الاستعمار؟

وهدفنا هنا الجواب عن هذين السؤالين مع تحليل لهما.

أمّا بشأن السؤال الأوّل، فلابدّ بادئ الأمر من طرح هذا السؤال:

هل هنالك من حقيقة في هذه الدنيا لم تستغل من قبل الآخرين؟

أوَ لم يدلنا التاريخ على كلّ أولئك الذين ادّعوا النبوة، ومازالت هذه الادعاءات قائمة حتّى في عصر الذرة والفضاء.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 245

فما أحرانا أن ننسى أصل دعوة الأنبياء ونتنكر كالبراهمة لأصل النبوة لكي نتخلص من الادعياء المستغلين!

هل هذا كلام منطقي؟

لقد سمعنا ونسمع الكثير من

الأفراد الذين ينتحلون مهنة الطب والهندسة بغية إشباع بطونهم والحصول على الأموال، فهل يسعنا القول إنّ عنوان الطبيب أخذ يستغل من قبل البعض ولابدّ من التنكر بصورة تامة لهذه المهنة.

إنّ مثل هذا الكلام وإن بدا غاية البعد عن المنطق، إلّاأنّ المؤسف انه مذكور في بعض كتب من ينكر أصل ظهور المهدي.

على كلّ حال فإن هذه قاعدة كلية في أنّ كلّ كذب يسعى لأن يلبس ثوب الصدق ليحظى بالاعتبار المطلوب، ليس هنالك من خائن وسارق وكاذب يظهر بصورته الحقيقية، بل يسعى لتحقيق أهدافه من خلال التظاهر بالأمانة والطهر والصدق. فهل هذا دليل على عدم اعتبارية هذه المفاهيم الإنسانية الرفيعة. هذا أوّلًا.

وثانياً: هل الاعتقاد بظهور المهدي حقيقة مستغلة أم وهم وخيال؟ إن سلمنا بأنّه حقيقة- وينبغي أن تكون كذلك لوجود عدّة أدلة على ذلك- فلا يمكن التخلي عنها لاستغلالها من قبل هذا أو ذاك، ولو (فرضاً) لم تكن حقيقة، فلابدّ من اسقاطها، سواء استغلت أم لم تستغل!

على كلّ حال فإنّ اسلوب الاستفادة الصحيحة أو غير الصحيحة من موضوع لا يمكن أن تكون وسيله لاصدار الحكم بشأن ذلك الموضوع.

فلو أصبحت الطاقة الذرية وسيلة حربية مستغلة من قبل الظلمة لتضرب الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 246

بها منطقة هيروشيما وخلفت ثلاثمئة ألف قتيل ونفس هذا العدد من الجرحى الذين مازالوا يعانون من تلك الجروح بعد مرور ثلاثين سنة، فهل يدعونا هذا إلى التخلي عن هذه الطاقة العظيمة أو انكار أصل وجودها؟ أم نسعى إلى الاستفادة الصحيحة منها ولضمان مصالح المجتمع البشري.

أمّا السؤال الثاني فيبدو أهم وهو: هل كلّ من ادّعى المهدوية كان كاذباً؟

ونعتقد أنّ الجواب عن هذا السؤال يبدو سهلًا على ضوء العلامات ونتائج هذا الظهور العظيم.

فقد علمنا في الأبحاث

السابقة أنّ للمهدي رسالة عالمية يسعى إلى تحقيقها من خلال الاستفادة من كافة الوسائل والامكانات المتاحة.

ورسالته الأصلية القضاء على كافة أنواع الظلم والجور وإرساء قواعد الحكومة العالمية على أساس العدل والقسط ومكافحة التمييز والاستعمار والاستغلال.

فهو ينهض بمستوى الأفكار.

وهو الذي يعمل على تقدم العلوم والمعارف.

وهو الذي يحرك العالم في كافة المجالات.

وهو الذي يجمع كافة أتباع الأديان تحت راية واحدة.

وهو الذي يقوم بالتوزيع العادل لثروات العالم.

وهو الذي ينعش الاقتصاد العالمي بحيث لا يبقى محتاج في العالم.

وهو الذي يعطي كلّ ذي حقّ حقه.

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 247

وهو الذي لا يدع مكاناً خرباً إلّاعمَّره.

وسيبلغ الأمن في عصره مرحلة تجعل المرأة تنطلق من شرق العالم إلى غربه دون أن يسيئ لها أحد.

وسيستخرج كنوز الأرض ويصنع المجتمع التوحيدي الموحد.

هذه هي المشاريع العملية والخطط المنبثقة عن تلك النهضة العالمية الكبرى في أكبر نهضة للتاريخ البشري، والتي أشارت إليها مختلف المصادر، وقد ذكرنا تفاصيلها في الفصول السابقة.

فهل استطاع أي من أولئك الادعياء تحقيق واحد بالألف من هذه المشاريع، بل هل استطاع أي منهم أن ينظم منطقته أو حيّه على ضوء هذه البرامج؟

إننا نرى اليوم مدى اتساع رقعة الظلم والجور والاعتداء وهضم الحقوق؛ وقد أودت الحرب العالمية الاولى والثانية بحياة الملايين وجرحت الملايين وملأت العالم بالدماء.

ومازالت الهوة تتعمق يوماً بعد آخر بين البلدان الغنية والفقيرة، بحيث ينام كلّ ليله ألف مليون من هذا العالم جوعى، ومازالت السجون مليئة بالأبرياء، ومازال الجبابرة يجرعون الناس أنواع العذاب، أي أنّ العالم مازال يأنُّ من الظلم والجور، فليت شعري متى ملئ بالعدل والقسط؟ وهذا أقوى دليل على مزاعم أولئك الادعياء، رد قصير لكنه حاسم وقاطع.

أجل ما زالت تلك الشمس لم تخترق الحجب ولا بدّ من الانتظار حتّى

ذلك اليوم الذي تنقشع فيه كافة السحب والغيوم فيضي ء هذا

الحكومة العالمية للإمام المهدى(عج)، ص: 248

العالم المظلم بنور طلعته البهية، وما أقرب هذا اليوم «أليس الصبح بقريب».

انارك نائين «1»- ناصر مكارم الشيرازي رمضان 1398 ه

تموز 1978 م

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.