بحوث فقهية هامة

اشارة

عنوان و نام پديدآور : بحوث فقهیه هامه/مکارم شیرازی مشخصات نشر : قم: مدرسه الامام علی ابن ابی طالب(ع)، 1428ق=1386. مشخصات ظاهری : 592ص. وضعیت فهرست نویسی : در انتظار فهرستنویسی (اطلاعات ثبت) يادداشت : الطبعه الثانیه شماره کتابشناسی ملی : 1286178

تمهيد

لا نبالغ إذا قلنا إنّ الفقه الإسلامي من أغنى المصادر الحقوقية في العالم لأنّه: من جهة يسترفد من منابع مترعة كالقرآن الكريم، و الأحاديث الكثيرة، و الإجماع و العقل- و من جهة أخرى أنّ الدين الإسلامي تصدّر الحكومة منذ عصر النّبي الأكرم (صلى الله عليه و آله) مما أدّى إلى تفعيل روح السؤال و مواجهة سيل علامات الاستفهام في مختلف المجالات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الأخلاقية و الإجابة عنها.

و من جهة ثالثة كان تنوع المجتمعات الإسلامية و امتداد الإسلام في منطقة جغرافية واسعة و مهمّة بدوره سبباً آخر في إثارة الأسئلة و تنوعها ممّا أدّى بالفقه الإسلامي الذي اندفع للإجابة عنها إلى إيجاد الحلول لما أشكل منها.

و من جهة رابعة نلاحظ أنّ عدداً غفيراً من علماء الإسلام و فقهاء المسلمين بذلوا جهودهم العلمية طيلة 14 قرناً في هذا المجال، و لذا ليس غريباً أن يكون الفقه الإسلامي بملاحظة العوامل المذكورة آنفاً ثريّاً في آفاقه الحقوقية و مترعاً في أبعاده الفقهية و في هذا الوسط يتجلى الفقه الشيعي أكثر من غيره.

و يقف مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في مقدمة المذاهب الإسلامية في هذا المجال لأنّه:

1- فتح باب الاجتهاد أمام فقهاء الشيعة ممّا أعطاهم زخماً كثيراً في تطوير حركة الفقه الإسلامي و دفعهم نحو التعمق و الدقة، أكثر فأكثر في مختلف الفروع و التأمل في أدلتها و التفكير في إيجاد براهين أقوى.

2- لزوم

تقليد المجتهد الحي و عدم جواز التقليد من المجتهد الميت- و الذي هو مورد اتفاق علماء الشيعة تقريباً- أدى إلى أن يهتم فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) في كلّ بحوث فقهية هامة، ص: 6

عصر و زمان بتنقيح المسائل الفقهية، و خاصّة المسائل المستحدثة منهم، و العثور على إجابات علمية مقنعة و مستدلّة، و لهذا نرى في كلّ يوم كتباً جديدة و أبحاثاً موسّعة في هذا المجال و منها الكتاب الحاضر الذي هو ثمار مجموعة نفيسة من 10 مسائل فقهية مهمّة أغلبها من المسائل المستحدثة.

و هذه المسائل بصورة خاصّة من المسائل المبتلى بها في العصر، و كلّ واحدة منها تعالج قضيّة مهمّة من قضايا المجتمع البشري بدقّة و عناية، و تجنب الاختصار المخل، و الإسهاب المخل، رجاء أن يكون هذا الكتاب قد أسهم في إشباع الوسط الفقهي بما يحتاجه في منظومته الفقهية.

و في الوقت نفسه فإنّنا نستقبل بما يجود به قرائح المفكرين و آراء المحققين لإثراء هذه البحوث و نسعى في ضمّها إلى هذه المجموعة فيما لو كانت في إطار معقول إن شاء الله.

و نرجو من العلّي القدير أن يجعلها ذخراً لآخرتنا و يعفو عن خطايانا.

و الحمد لله ربّ العالمين

(1) حكم الأضحية في العصر الحاضر

اشارة

(حكم الأضحيّة في العصر الحاضر)

تمهيد

حينما تشرّفت بزيارة بيت الله الحرام لأوّل مرّة، ذهبت إلى منى لأُشاهد عن قرب عمليّة نحر الأضاحي في المسلخ يوم العيد، فإذاً بي أواجه مشهداً عجيباً،. الآلاف المؤلّفة من أشلاء الأنعام من الشياه و البقر و الإبل قد غطّت أرض المسلخ بحيث كان من الصّعب اختراقها و العبور من خلالها، في حين كانت شمس الحجاز الحارقة تلهب بحرارتها وجه البسيطة، فيسرع العفن في ذلك الركام الهائل من الأضاحي، دون أن يستفيد منها أحد من النّاس لا سيّما المساكين.

و بادرت الحكومة السعودية- من أجل أن تمنع انتشار الأوبئة بين الحجيج بسبب تعفّن الأضاحي بعد نحرها- إلى دفنها رغم ما يتعرض هذا العمل من صعوبات.

و بعد أن اطّلعت على هذا الوضع سعيت بدوري للحصول على شاة صحيحة تتوفّر فيها المواصفات المطلوبة لهديها، فتمّ لي ذلك، و قدّمتها لبعض المساكين هناك، و لعلّهم أيضاً اكتفوا ببعض منها و تركوا الباقي.

كما لاحظت وجود عدد من الفقراء المعوزين الذين كانوا ينقلون أجزاءً من الأضاحي خارج المسلخ، و لكن لا تتجاوز نسبة ما يقتطعونه من الأضاحي في أحسن الأحوال عشرة بالمائة، فيتلف الباقي بالدفن أو الحرق! و كما قلنا فإنّ عملية الإتلاف لا تتمّ بسهولة، و لهذا قد تُنجز بشكل ناقص فيوجب تلوّث بيئة منى و تعفّنه يومي الحادي عشر و الثاني عشر من ذي الحجة لا سيّما المناطق القريبة من المسلخ.

بحوث فقهية هامة، ص: 10

و لعلّ الكثير من الأفراد الذين يدخلون المسلخ و يشاهدون الوضع فيه يتساءلون في أنفسهم عن رأي الشرع المقدّس في هذه الظاهرة، و موقف الفقهاء و مراجع الدّين منها، و هل هي من المسائل المستحدثة، أم كانت بهذا الشكل منذ عصر

المعصومين و فقهاء السلف؟

في تلك الفترة كنت من طلاب العلوم الدينية، و حديث عهد ببحوث الفقه الاستدلالي، و كنت مقلّداً في عدد من المسائل، و منها مسائل الحج، فكانت وظيفتي الذبح ثمّ طرح الأضحية في محلّها، أو أن أقوم بعملية صورية في أخذ النيابة من الفقير ثمّ القبول من جانبه و تركها في نفس المحلّ.

و لكن بعد أن حصلت على قدرة أكثر في استنباط المسائل، استغرقت في الفكر و عزمت على ملاحظة أدلّة المسألة بالدقّة و التأمل اللائقين، و عدم الاقتناع بمقولة الآخرين و ممارساتهم العملية، خصوصاً بعد أن تعقّدت المسألة بانتقال جميع الأضحية من منى إلى خارجه مع أنّ من شروط صحة الأضحية عند فقهاء الشيعة كونها في منى، و عدم إجزاء ما يقع خارجها، و لذلك تفحّصت جميع روايات أبواب الذبح بدقّة و تدبّر، و تعمّقت في كلمات القوم و فتاوى الفقهاء الكرام و استدلالاتهم، و ناقشت بعضهم، و سعيت لأن أجرّد ذهني من الخلفيات المعرفية حتّى أفتى في المسألة مع فراغ البال، و أستجلي الحقيقة من روافدها الشرعية و أدلّتها المعتبرة،- كما حصل للعلّامة الحلّي (قدس سره) في حكمه بردم بئر داره، ثمّ الفحص عن أدلّة اعتصام ماء البئر، و في النهاية أفتى بالاعتصام خلافاً لجميع من كانوا قبله- فانتبهت إلى أنّ مثل هذه الأضاحي ليست مجزية لوظيفة الحج، و على الحجّاج الاجتناب عنها و الاحتياط بالإتيان بها في أيام ذي الحجّة في أوطانهم، أو مكان آخر.

و لهذا عزمت على إظهار ما ثبت لي من الدليل على هذه الفتوى مع أداء التكريم و الاحترام لجميع المراجع و الفقهاء العظام في فتاواهم، كيما ينفتح بذلك للباحثين باب بحث أكثر و فحص أبلغ حول

هذه المسألة المهمّة.

المحور الأصل في المسألة

اشارة

و قبل كلّ شي ء لا بدّ أن نعلم أنّ لمسألة الأضحية في زماننا هذا أربع حالات:

1- إذا أمكن إيقاع الذبح في منى (أو في المذابح الموجودة اليوم مع عدم التمكن منه في منى) و صرف لحوم الأضاحي في مصارفها بحيث لا يلزم الإتلاف و الدفن و الإحراق، فلا إشكال في تقدّمه على أيّ شي ء آخر.

2- إذا لم يوجد المستحقّون في منى، و لكن يمكن نقل اللحوم إلى خارج مني، أو إلى خارج المملكة السعودية بتجفيف اللحم، أو استخدام إحدى الوسائل لحفظه و تعبئته في علب تدرأ عنه الفساد، ثمّ صرفه للمستحقّين، يجب الذبح أيضاً في منى، ثمّ النقل إلى خارجها.

3- إذا لم يمكن نقل اللحوم إلى خارج مني أو خارج الحجاز، و أمكن الذبح في مكان آخر داخل مكّة أو داخل الحرم و صرف اللحوم في مصارفها، وجب الذبح في ذلك المكان على الاحتياط اللازم.

4- إذا استعصت الحالات الثلاثة السابقة، بحيث لم يبق إمامنا إلا الإتلاف أو الإحراق، يمكن القول بسقوط وجوب الذبح (لأنّ الواجب ليس مجرد إراقة الدم، بل مشروط في الكتاب و السنّة بصرفها في مصارفها، و حيث لا يمكن تحصيل الشرط يسقط المشروط، كما سيأتي تفصيلا).

و لكن الأحوط وجوباً عزل ثمنها، ثمّ الإتيان بسائر المناسك، ثمّ الذبح في الوطن أو محل آخر بعد الرجوع في شهر ذي الحجة، و الأولى في صورة الإمكان، التنسيق و الاتفاق مع بعض الأهل و الأصدقاء للذبح يوم الأضحى في الوطن- لكي يصرف لحم الذبيحة في مصارفها- و التقصير بعده (لكن هذا ليس بواجب لأنّه يوجب العسر و الحرج على كثير من الحجاج).

[الأدلة على وجوب الذبح في غير منى

اشارة

و الدليل على ذلك (أي وجوب الذبح في غير منى في هذه الحالة) أمور

أربعة:

الأوّل: ليس الواجب في الهدي مجرّد إراقة الدّم
اشارة

المستفاد من ظاهر الآيات الواردة في حكم الأضحية في القرآن الكريم إنّ الأضحية المطلوبة في الشريعة الإسلامية هي ما يصرف لحومها للفقراء و المساكين لا مجرّد إراقة الدّم، قال الله تبارك و تعالى (وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ). «1» فالمستفاد من هذه الآية- خصوصاً بقرينة الفاء (فَكُلُوا.)- جعل الأضحية في سبيل الإطعام، و لزوم استفادة المضحّي و القانع و المعترّ (القانعون من الفقراء و المعترّون منهم) من لحومها، و من الواضح أنّ الآية ليست ناظرة إلى الموارد التي لا يأكل منها المضحّون و القانعون و المعترّون، بل تلتهمها حفر الأرض و مصاهر النار! إن قيل: لعلّ مفهوم قوله تعالى بعد الآية المزبورة (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى «2» عدم موضوعية المصرف، و أنّ المهم إنّما هو التقوى و النيّات الخالصة حين الذبح، و بعبارة أخرى: لإراقة الدم موضوعيّة.

بحوث فقهية هامة، ص: 13

قلنا: لازم هذا الاستنباط عدم لزوم إراقة الدم، و عدم وجوب الأضحية أيضاً (لأنّها تقول (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها)) و هو خلاف المطلوب، فالصحيح أن يقال: إن المقصود في الآية الشريفة أنّ قيمة إراقة الدم و صرف المضحّي لحومها لنفسه و لغيره، إنّما هي في ما إذا كانت الأضحية ملازمة لقصد القربة و خلوص النيّة، فهو نظير ما إذا قلنا: إنّ قيامكم أو قعودكم في الصلاة ليس بمهمّ، إنّما المهم هو إخلاص النية و قصد التقرب إلى الله تعالى. و نظير الآية المزبورة (أي قوله (وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ.)) في الدلالة على لزوم

الصرف و موضوعية الاستفادة من اللحوم آية أخرى من سورة الحج و هي (وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ.) «1» حيث إنّه لو سلمنا أنّ صيغة «فَكُلُوا» في هذه الآية في مقام دفع توهّم الحظر من أكل المضحيّ (و لازمه عدم دلالتها على الوجوب كما قال به الكثير من الفقهاء و المفسرين) فلا إشكال في دلالة «أَطْعِمُوا» على وجوب صرف اللحوم في الفقراء، كما تدلّ عليه الروايات الواردة في أبواب الذبح أيضاً، و أنّه أمر واجب بعد الذبح مرتبط به لا ينفك عنه بحسب ظاهر الآيات، بل الذبح مقدّمة له.

دفع شبهة تعدّد المطلوب

إن قيل: لعلّ المسألة من قبيل تعدّد المطلوب، فكانت إراقة الدم في منى أمراً مطلوباً، و صرف اللحوم في المصارف المنصوصة مطلوباً آخر، فإذا لم يقدر المكلّف بحوث فقهية هامة، ص: 14

على إتيان أحدهما (و هو صرف اللحوم) لم يسقط الآخر، و هو إراقة الدم في منى.

قلنا: ظاهر الأمر في الآية الشريفة هو وحدة المطلوب، لأنّ تعدّد المطلوب يحتاج إلى قرينة، و هي مفقودة في المقام، بل القرينة قائمة على خلافه؛ لظاهر التفريع بالفاء.

و بالجملة: على مدّعي التعدّد تقديم القرينة؛ مضافاً إلى ما سيأتي من عدم سبق إراقة الدم بدون صرف اللحوم في عصر نزول القرآن و أعصار المعصومين (عليهم السلام) حتى يدّعى التعدّد، فإنّ تعدّد المطلوب يرجع إلى نوع من الإطلاق و شمول الدليل، و الإطلاق بالنسبة إلى مصداق، فرع وجود ذلك المصداق كما أشرنا إليه سابقاً.

مقتضى صناعة الفقه

إن قيل: لازم وحدة المطلوب سقوط الهدي مطلقاً، فإنّ المطلوب الواحد ينتفي بانتفاء قيده، و هو في المقام وقوع الهدي في منى أوّلا، و صرفه في الفقراء ثانياً، فانتفاء الأوّل بانتقال المذبح إلى خارج منى، و انتفاء الثاني بإعدام اللحوم بالدفن أو الحرق، يوجبان انتفاء أصل الهدي و سقوطه عن الوجوب.

قلنا: هذا و إن كان محتملا بحسب صناعة الفقه، و لكنّه مخالف للاحتياط قطعاً، خصوصاً بعد ملاحظة عدم إسقاط الشارع المقدّس الهدي في مورد من الموارد، حتى بالنسبة إلى من لم يجد ثمن الهدي، فأوجب عليه بدل الهدي الصيام ثلاثة أيام متوالية في الحج و سبعة بعد الرجوع إلى أهله. و فيما نحن فيه حيث إنّه واجد لثمن الهدي، و دليل الصيام مختص بمن لم يجد، فلا أقلّ من أنّ مقتضى الاحتياط إتيان الهدي في محلّ آخر

كما مرّ، لا سيّما أنّ الهدي قد يقع في مكان آخر غير منى و في أيّام أخرى كما في المصدود، و هو المنصوص كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله، فهنا لا ينتفي المقيّد إذا انتفى القيد.

بحوث فقهية هامة، ص: 15

و بعبارة أخرى: لعلّ عدم سقوط الهدي في جميع الموارد يمكن أن يكون دليلا على أنّه إذا لم يمكن الهدي في منى وجب إتيانه في محلّ آخر إلّا إذا لم يكن واجداً للثمن، فيأتي ببدله و هو الصيام.

إن قيل: إتيان الهدي بالقيدين المذكورين (وقوع الذبح في منى و صرف لحوم الهدي) معاً متعذّر غالباً في الظروف الحالية، فلا بدّ من ترك أحدهما و الإتيان بالآخر، فإمّا أن يأتي بالهدي في منى مع عدم صرف لحومها، أو يترك الهدي في منى و يأتي به في خارجه، مع صرف اللحوم في مصارفها و ترجيح أحد القيدين على الآخر محتاج إلى دليل، و لا دليل على تقديم الصورة الثانية على الصورة الأولى.

قلنا: أوّلا: جميع المذابح في يومنا هذا خارجة عن منى، فوقوع الذبح في منى أيضاً متعذّر، و ثانياً: ليس القيدان على حدّ سواء، فإنّ صرف اللحوم في مصارفها من أركان الهدي في نظر العرف و أهل الشرع، و من البعيد جداً أن يكون لمجرّد إراقة الدم موضوعيّة، سيّما إذا أدّى ذلك إلى الإسراف أو التبذير الحرام في رأي الشارع المقدّس، و سيأتي شرحه في المباحث اللاحقة.

و حينئذ فإنّ ترجيح أحد القيدين على الآخر- أي إيقاع الهدي خارج منى و صرف اللحوم في مصارفها- ليس من قبيل الترجيح بلا مرجّح.

و ممّا يدلّ على ذلك (دلالةً قويّةً) ما ورد بطريقين مختلفين في أبواب الذبح عن الإمام الصادق (عليه السلام)

عن آبائه عن جدّهم رسول الله (صلى الله عليه و آله) أنّه قال «إنّما جعل هذا الأضحى لتشبع مساكينكم من اللحم فأطعموهم».

«1» و إذا تأملت في هذه الرواية علمت أنّ الأضاحي التي تؤتى بها في الحج حالياً (و لا تصرف لإطعام الفقراء و إشباعهم) خارجة عن نطاق أوامر الشرع!

بحوث فقهية هامة، ص: 16

و الرواية و إن أدرَجَها صاحب الوسائل في أبواب الأضحية المستحبّة، و لكن مفادها عام يشمل الجميع.

دفع شبهة مطلوبية مجرّد إراقة الدم

إن قيل: هناك روايات تدل على مطلوبية مجرد إراقة الدم، مثل ما رواه شريح بن هاني عن علي (عليه السلام) أنّه قال «لو علم الناس ما في الأضحية لاستدانوا و ضحّوا، إنّه ليغفر لصاحب الأضحية عند أوّل قطرة تقطر من دمها»

«1» و ما رواه بشر بن زيد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله) لفاطمة (عليها السلام)

«اشهدي ذبح ذبيحتك، فإنّ أول قطرة منها يغفر الله بها كلّ خطيئة عليك إلى أن قال هذا للمسلمين عامّة».

«2» قلنا: التمسّك بمثل هذه الرّوايات لمطلوبية مجرّد إراقة الدم و اعتبار الموضوعية لها، كما ترى، لأنّ كلّ من ألمّ بفنون الكلام عرف أنّ مثل هذا التعبير كناية عن سرعة أثر الأضحية للمضحّي بلا فصل و من دون مهملة، كمن يريد بيان فضيلة الجهاد، فيقول: «يغفر الله للمجاهد بأوّل خطوة يضعها في طريق الجهاد في سبيل الله» أي أنّ من يخرج من بيته قاصداً الجهاد في سبيل الله و إحياء أمر الله يسرع إليه غفران الله بأوّل خطوة يخطوها، لا أنّ المطلوب من الجهاد يحصل بأوّل الخطوة.

و هكذا ما نحن فيه، فكأنّ الإمام (عليه السلام) قال: «من ذبح ذبيحته في سبيل الله لإشباع المساكين و إطعامهم فإنّه ينال غفران الله

عند أوّل قطرة تقطر من دمها». فمثل هذه العبارة لا تشمل من أقدم على الأضحية لأن يشبع بها حفر الأرض و مصاهر النار،

بحوث فقهية هامة، ص: 17

و يعلم بعدم إطعام المساكين منها، بل تحرق أو تدفن، خصوصاً بعد ملاحظة ما مرّ من قول رسول الله (صلى الله عليه و آله)

«إنّما جعل الله هذا الأضحى لتشبع مساكينكم من اللحم فأطعموهم»

«1» فالرسول الذي ينطق بمثل هذا البيان كيف يأمر 8 أمّته بإهراق دماء الأضاحي و لو لم يترتب عليه الإشباع و الإطعام.

و بما ذكرنا يظهر الجواب عن التمسك بروايات تعبّر عن الهدي بالدّم، فإنّ «الدّم» أو «إهراق الدّم» (نظير ما ورد في قوله (صلى الله عليه و آله)

«ما أنفق الناس نفقة أعظم من دم يهراق في هذا اليوم»

«2» و قول الصادق (عليه السلام) في رجلين اقتتلا و هما محرمان «على كلّ واحد منهما دم»

) «3» كناية عن الهدي و عظمته، لا على عظمة إراقة الدّم و لو بلغ ما بلغ، فإنّه نظير ما إذا قلنا في محاورتنا اليومية لمن نجا ولده من خطر السقوط و الموت مثلا، أو نجا هو و أهل بيته من حادثة سيّارة في الطريق: «عليه إهراق الدم»، فمن الواضح أنّه كناية عن إطعام المساكين من لحمها في سبيل الله، لا مجرّد إهراق الدّم مطلقاً و إن لم يصرف من لحمها في سبيل الله.

قياس الهدي بالطواف و السعي

إن قيل: هل وجدتم في لسان الروايات مورداً أمر الشارع فيه بإيقاع الهدي خارج منى؟ أ ليس هذا من قبيل الإتيان بالطواف أو السعي في غير مكّة؟

قلنا: توجد موارد عديدة في روايات الباب توجب إيقاع الهدي خارج منى، فليس الهدي كالطواف و السعي القائمين بمكان معيّن:

بحوث فقهية هامة، ص: 18

منها:

المصدود- و هو من أتى بهدي، و منع من الدخول في الحرم أو مكّة- إذا ساق هدياً، فالروايات و فتاوى المشهور من الفقهاء العظام متّفقة على وجوب ذبحه في نفس محلّ الصدّ، فلو كان الهدي في غير منى كالطواف في غير مكّة، سقط وجوب الهدي. «1» و منها: رجل ساق الهدي، فعطب في موضع لا يقدر على من يتصدّق به عليه، فعليه أن ينحره أو يذبحه و يكتب كتاباً أنّه هدي، و يضعه عليه ليعلم من مرّ به أنّه صدقة، و يأكل من لحمها إن أراد. «2» فهذه الروايات تدل أبلغ دلالة، أوّلا: على جواز الهدي خارج منى في موارد الضرورة.

و ثانياً: على لزوم السعي في صرف لحمه إلى المستحقّين ابتداءً، و في صورة عدم حضور المستحقّين ينصب علامة تدلّ على أنّه هدي و صدقة يجوز للمؤمنين و المستحقّين الأكل منه.

إن قيل: أ لا يمكن هذا في مذابح منى في يومنا هذا، أي يكتب كتاباً و ينصب على الأضاحي حتى ينتفع منها المستحقّون؟

قلنا: المفروض في المقام عدم وجود المستحقّ مطلقاً، بحيث لا محيص عن دفنها أو إحراقها كما نشاهده في كلّ عام، و من المعلوم لغويّة الكتابة و النصب في هذه الحالة.

نعم لو وجدنا مستحقّين في منى- و لو بالنسبة إلى بعض الأضاحي- يجب ذبحها (ذبح البعض) في منى أو قريب منها مع التعذر فيها على الأحوط، و لكن حيث تذبح الأضاحي بمقدار المستحقّين بفتوى الآخرين يسقط الذبح عنا في الحال الحاضر.

توهّم لزوم البدعة

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما قد يقال: من أنّ الذبح خارج منى (كالذبح في الوطن أو مكان آخر) بدعة و أمر جديد، كلام بلا أساس.

فقد ظهر أوّلا: وجود موارد أمر الشارع

فيها بإيقاع الهدي خارج منى.

و ثانياً: أنّ الأضاحي التي تؤتى بها في أيّامنا هذه، خارجة عن نطاق أوامر الشرع (لمكان اللام في قوله (عليه السلام)

«لتشبع مساكينكم.»

وفاء التفريع في الآية الكريمة (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها.)) بل لعل إيقاع الهدي خارج المذبح في يومنا هذا، مع عدم إشباع المساكين و إطعامهم بدعة و أمر جديد، لم يسبق له في الشرع و في أزمان المعصومين مثل و لا نظير.

و ثالثاً: أنّ الحكم بإيقاع الهدي في الوطن أو مكان آخر مبنيّ على مجرد الاحتياط، و إلّا فمقتضى الصناعة احتمال سقوط الهدي من رأس كما مرّ مراراً، و لا معنى لأن يكون الحكم المبنيّ على مجرّد الاحتياط بدعة، بل لعل ذبح الأضاحي و دفنها أشبه بالبدعة، و الله العالم.

[الدليل الثاني: عدم شمول أدلّة الأضحية للمصاديق الموجودة في العصر لحاضر

إشكال في أنّ مسألة الأضحية بشكلها الحالي من المسائل المستحدثة التي لا سابق لها في عصر النبي (صلى الله عليه و آله) و الأئمة (عليهم السلام)، و ذلك لقلّة عدد الحجاج يومذاك و كثرة المستحقّين، بحيث كانت اللحوم تصرف جميعها في أيّام الحج، و لعل بداية الوضع الفعلي قد تحصلت في القرن الأخير، و لذلك يخبر المعمّرون منّا أنّ لحوم الأضاحي كانت تصرف بسرعة في منى و خارجها. و بهذا يظهر أنّ وجه عدم طرح هذه المسألة في كتب الفقهاء السابقين إنّما هو عدم ابتلائهم بها.

و المستفاد من آيات الأضحية تقيّد موضوع الهدي بصرف اللحوم في مصارفها، و استهداف الصرف في الواجب الشرعي يعني المقوّمية له كما مرّ.

و المستفاد من الروايات أيضاً أنّ صرف لحوم الأضاحي كانت تصرف بتمامها في عصر النبي (صلى الله عليه و آله) في الأيّام الأولى بعد الذبح، بحيث نهى عن ادّخارها أكثر من ثلاثة أيّام؛ و ذلك

لكثرة المستحقّين في ذلك العصر:

منها: ما رواه محمّد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) قال «كان النبي (صلى الله عليه و آله) نهى أن تحبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيّام من أجل الحاجة، فأمّا اليوم فلا بأس به».

«1»

بحوث فقهية هامة، ص: 21

و مثله الحديث الثالث من نفس الباب عن محمّد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) أيضاً قال «إنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) نهى أن تحبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيّام».

و منها: ما رواه أبو الصلاح عن الصادق (عليه السلام) و حنان بن سدير عنه أيضاً قال «نهى رسول الله (صلى الله عليه و آله) عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، ثمّ أذن فيها و قال: كلوا من لحوم الأضاحي بعد ذلك و ادّخروا».

«1» فيستفاد من جميع هذه الروايات و روايات أخرى صرف اللحوم بتمامها في تلك الأيّام أو جعلها على الأقل بصورة القديد لادّخارها لأيّام أخر (و كان الادّخار ممنوعاً في بداية الأمر لكثرة المحتاجين ثمّ أذن فيه). بل يستفاد منها منع إخراج اللحوم من منى لكثرة أرباب الحاجة إليها، نعم بعد أن كثرت اللحوم و قلّ المستحقّون أجيز نقلها إلى خارج منى و الانتفاع بها.

ففي حديث محمّد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) قال سألته عن إخراج لحوم الأضاحي من منى، فقال: «كنّا نقول: لا يخرج منها شي ء لحاجة النّاس إليه، فأمّا اليوم فقد كثر النّاس فلا بأس بإخراجه».

«2» كما أنّ مدلول مجموع هذه الروايات صرف لحوم الأضاحي في أعصار الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أيضاً، إمّا في الأيام الأولى من الحج في منى، أو في أيّام أخر في مكة أو خارج مكة، و أمّا ما نشاهده اليوم من دفنها أو إحراقها

فهو أمر مستحدث لم يكن له وجود في الأزمنة السابقة، و حينئذ من المشكل جداً إطلاق روايات بحوث فقهية هامة، ص: 22

الأضحية بحيث تشمل تمام صور المسألة حتى صورة الدفن أو الحرق؛ لأنّ المصداق الموجود في عصرنا إنّما هو من قبيل الفرد النادر أو الفرد المعدوم في عصر نزول آيات الهدي و صدور رواياتها.

إن قيل: قلّة المصداق أو عدم وجوده لا يوجب عدم شمول إطلاق أو عموم بالنسبة إليه، و إلّا لم يجز التمسّك بالعمومات و الإطلاقات للمصاديق المستحدثة من موضوعات الأحكام، كالتمسّك بعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» لصحّة عقد التأمين مثلا، و غيره من العقود الحديثة.

قلنا: إنّه كذلك، أي التمسّك بتلك العمومات أو الإطلاقات في باب العقود المستحدثة مشكل جداً لنفس الإشكال، و طريق حلّ مشكلة هذه العقود منحصر بإلغاء الخصوصية القطعيّة العرفيّة في الموارد التي يمكن ذلك فيها. لكن من المعلوم أنّ الخصوصية موجودة في محلّ البحث يقيناً، فلا يمكن إلغاؤها؛ لأنّه لا يمكن لأحد دعوى اليقين أو الاطمئنان بعدم الفرق بين الذبائح الّتي تصرف لحومها و الّتي تعدم بالدفن أو الحرق، فهذا دليل آخر على عدم الاجتزاء بهذه الأضاحي.

[الدليل الثّالث: جميع المذابح خارجة عن منى
اشارة

إنّا نعلم بانتقال المذابح كلّها حالياً من منى، و على هذا حتّى لو أغمضنا أيدينا عن أدلة حرمة الإسراف- الّتي سيأتي بيانها- و فرضنا شمول أدلة الذبح لصورة فساد اللحوم و عدم صرفها في مصارفها الشرعية، كان الإشكال باقياً على حاله، فإنّ إجماع العلماء قائم على لزوم وقوع الذبح في منى، و الروايات أيضاً تصرّح بأنّه «إن كان هدياً واجباً فلا ينحره إلّا بمنى»

«1» و في بعض الروايات «لا ذبح إلّا بمنى»

«2». و على أيّ حال، العمل بهذا الواجب غير ممكن في هذه الأيّام، و

حينئذ إن قلنا: إنّ إيقاع الذبح في منى شرط في صحّته مطلقاً، سواء في الاختيار و الاضطرار، فلازمه سقوط الذبح من الأساس؛ لأنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه، نظير ما إذا قلنا: إنّ الصلاة غير واجبة على فاقد الطهورين؛ لأنّ الطهارة شرط على الإطلاق. و إن قلنا بأنّه شرط حال الاختيار فقط، فلازمه سقوط هذا الشرط حال الاضطرار و وجوب الإتيان به في محلّ آخر، من دون فرق بين وادي محسّر و غيره؛ لعدم الدليل بحوث فقهية هامة، ص: 24

على لزوم رعاية الأقرب فالأقرب، أو كون وادي محسّر أو المعتصم بدلا عن منى.

إن قيل: جاء في غير واحد من الروايات جواز الذبح في مكّة، مثل معتبرة معاوية بن عمّار في قوله قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ أهل مكّة أنكروا عليك أنّك ذبحت هديك في منزلك بمكّة فقال: «إنّ مكّة كلّها منحر»

«1» و في معناه غيره.

و الجمع بينها و بين ما دلّ على أنّ الذبح لا يكون إلّا بمنى، يقتضي حملها على صورة عدم إمكان الذبح بمنى.

قلنا: أوّلا: لا بدّ من حمل هذه الروايات على الهدي غير الواجب، لورود التصريح بأنّه «إن كان هدياً واجباً فلا ينحره إلّا بمنى، و إن كان ليس بواجب فلينحره بمكّة إن شاء»

«2» لا على صورة عدم إمكان الذبح بمنى، حيث إنّه لو كان الذبح في منى متعذّر، لم يكن وجه لإنكار أهل مكّة على الإمام (عليه السلام).

ثانياً: سلّمنا، و لكن الذبح بمكّة أيضاً متعذّر في زماننا هذا، نعم يمكن ذلك للنادر من الحاجّ لأنّ الجهات المسئولة لا ترخّص لهم ذلك كما هو واضح، فلا تساعد هذه الروايات في حلّ هذه المشكلة، و أين مكّة من وادي محسّر؟!

شبهة الارتكاز لدى المتشرّعة

قد يقال:

إنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة من المسلمين أنّ محلّ إيقاع مناسك الحج و شعائره ليس إلّا مساحة الأرض الّتي تحيط ببيت الله الحرام زادها الله شرفاً و عزّاً، و لا يجزي ما يؤتى بها في خارج هذه القطعة من وجه الأرض إلّا عدد يسير مما نطقت به الأدلّة كالإحرام من مسجد الشجرة و كصيام سبعة أيّام بدل الهدي.

بحوث فقهية هامة، ص: 25

و الظاهر أنّ هذا الارتكاز لا يفرق بين حالتي الاختيار و الاضطرار، و هذا الارتكاز و إن لم يكن ممّا ينبغي أن يعتمد عليه في الجزم بالحكم الشرعي، إلّا أنّه يمنع عن الركون إلى خلاف ما يقتضيه في استنباط الحكم الشرعي.

قلنا: هذا أشبه شي ء بالاستحسان الظنّي، و لا يمكن الركون إليه كما اعترف به صاحب هذا المقال، و إذا لم يكن ممّا يمكن الركون إليه، فلما ذا يمنع عن الركون إلى خلاف ما يقتضيه؟! هذا- مضافاً إلى أنّ الذي لا يجوز الإتيان به من المناسك في غير هذه القطعة من الأرض أمور خاصّة كالوقوف بعرفات، و منى، و مشعر، و الطواف، و السعي، ممّا يكون قوامه بالمحلّ الخاص، و لكن غير واحد من المناسك قد يؤتى بها في غير هذه القطعة كركعتي الطواف، فقد أفتى فقهاؤنا- رضوان الله عليهم- بأنّه إذا نسيها و لم يأت بها و خرج من مكّة و لم يمكنه الرجوع إليها يأتي بهما في الطريق، و إذا تذكّر بعد الرجوع إلى وطنه يأتي بهما في وطنه، و قد صرّحت بذلك روايات الباب أيضاً:

منها: ما رواه أبو بصير- يعني المرادي- قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي أن يصلّي ركعتي طواف الفريضة خلف المقام، و قد قال الله

تعالى (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) حتّى ارتحل، قال: «إن كان ارتحل فإنّي لا أشقّ عليه، و لا آمره أن يرجع و لكن يصلّي حيث يذكر»

«1». و مثله ما رواه أبو الصباح الكناني «2» عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و منها: ما رواه عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

بحوث فقهية هامة، ص: 26

«من نسي أن يصلّي ركعتي طواف الفريضة حتى خرج من مكّة فعليه أن يقضي، أو يقضي عنه وليّه، أو رجل آخر من المسلمين»

«1». و منها: ما رواه معاوية بن عمّار قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل نسي الركعتين خلف مقام إبراهيم (عليه السلام) فلم يذكر حتّى ارتحل من مكّة، قال: «فليصلّهما حيث ذكر، و إن ذكرهما و هو في البلد فلا يبرح حتّى يقضيهما»

«2». هذا بالنسبة إلى ركعتي الطواف، و أمّا بالنسبة إلى الهدي الذي هو محل الكلام فقد مرّ أنّه إذا كان معه الهدي و عطب في بعض الطرق و مرض بحيث يخشى هلاكه يجوز نحره أو ذبحه في محلّه و إن كانت بينه و بين الحرم مسافة بعيدة كمن خرج من مسجد الشجرة قاصداً مكّة و بعد طيّ مسافة قليلة مرض هديه و عطب، ففي رواية حفص بن البختري قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل ساق الهدي فعطب في موضع لا يقدر على من يتصدّق به عليه و لا يعلم أنّه هدي قال: «ينحره و يكتب كتاباً أنّه هدي و يضعه عليه ليعلم من مرّ به أنّه صدقة»

«3». و مثله سائر روايات الباب فراجع. و الإصرار على كتابة الكتاب في هذا الحديث دليل على وجوب صرفها في مصارفها.

و مرّ أيضاً ذكر المصدود

إذا ساق هدياً و أنّ الروايات و فتاوى المشهور متّفقة على وجوب ذبحه في نفس محلّ الصدّ، ففي حديث زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)

«فإنّ المصدود يذبح حيث صدّ و يرجع صاحبه.»

«4». و في رواية حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

بحوث فقهية هامة، ص: 27

«إنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) حين صدّ بالحديبيّة قصّر و أحلّ و نحر ثمّ انصرف منها.»

«1». و كذلك بالنسبة إلى التقصير، فقد ورد التصريح في جملة من الروايات بجوازه خارج تلك القطعة المعروفة من الأرض:

منها: ما مرّ آنفاً في الرواية الأخيرة (رواية حمران) من أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) قصّر في الحديبيّة.

و منها: ما رواه مسمع قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي أن يحلق رأسه أو يقصّر حتّى نفر؟ قال: «يحلق في الطريق أو أين كان»

«2». و مثلها الرواية السادسة من نفس الباب.

هذا- مضافاً إلى ما اعترف به صاحب الإشكال من خروج الإحرام الذي هو من مناسك الحج عن تلك القطعة، فإنّ المواقيت كلّها خارجة عن الحرم، و كذا صيام سبعة أيّام بدل الهدي.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ كثيراً من مناسك الحج يجوز فعلها خارج المواقف الخاصّة عند الاضطرار، لا سيّما نفس محلّ الكلام، و هو الهدي، لما مرّ من رواية حفص البختري فيمن كان معه الهدي و عطب في بعض الطرق، و روايتي حمران و زرارة في المصدود، فلو كان الهدي ممّا يقوم بتلك القطعة من الأرض كالوقوفين و السعي و الطواف لم يجز إتيانه خارجها اختياراً و اضطراراً.

حكم وادي محسّر و قياس الهدي بالوقوف

إن قيل: مقتضى القاعدة عند تعذّر الذبح بمنى و إنّ كان جواز الذبح في أيّ مكان بحوث فقهية هامة، ص: 28

آخر

يختاره الحاجّ، إلّا أنّ هذا إنّما يصحّ القول به لو لم يتوفّر دليل على ثبوت بدل اضطراري بمنى، و الدليل على ذلك موجود، و هو موثّق سماعة في قوله قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا كثر الناس بمنى و ضاقت عليهم كيف يصنعون؟ فقال: «يرتفعون إلى وادي محسّر»

«1» فإنّ المتفاهم العرفي من هذه المعتبرة قيام وادي محسّر مقام منى عند كثرة الحجّاج و ضيق منى عن استيعابهم في جميع ما هو وظيفة الحاجّ فيها حتّى بالنسبة إلى ذبح الأضحية.

قلنا: هذا الاستدلال ضعيف جدّاً؛ لأنّ ظاهر الرواية أنّها واردة في مورد الوقوف في منى لا مطلق ما يؤتى به في منى، و حينئذ قياس الأضحية على الوقوف قياس مع الفارق، فإنّ الوقوف قائم بمنى نفسها، فإنّه لا معنى للوقوف في غيره، فعند التعذّر يرتفع الحاجّ بمقتضى هذه الرواية إلى وادي محسّر، و أمّا الأضحية فقد عرفت أنّه قد تتّفق في غير منى أيضاً، فقياسها على الوقوف قياس مع الفارق، و هو غير جائز عندنا.

نعم لو دلّ نصّ خاص على إمكان إيقاع الهدي في محلّ قريب من منى (كوادي محسّر) عند التعذّر لقلنا به، و حيث لم يرد نصّ كذلك، و القياس و الاستحسان ممنوعان عندنا، فمقتضى الصناعة سقوط الهدي من رأس، أو إتيان الهدي في أيّ مكان، نعم: لا ريب في أنّ الأولى رعاية الأقرب فالأقرب، و لكن هذا إذا أمكن إيقاع الهدي مع شرائطه الواجبة الّتي منها إشباع المساكين و إطعامهم، لا ما إذا كان هذا الأمر متعذّراً في وادي محسّر أيضاً.

[الدليل الرابع: حرمة الإسراف و التّبذير
اشارة

إنّ القرآن الكريم نهى عن الإسراف نهياً شديداً، و واجه المسرفين مواجهة عنيفة، فقال تبارك و تعالى في سورة الأنعام (وَ لا

تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) «1».

و قال في تعبير أشدّ في سورة غافر (وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) «2».

و قال في آية أخرى من هذه السورة (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) «3».

و في سورة الأنبياء جعل المسرفين في زمرة الهالكين فقال (وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) «4» بل جعل في سورة الفرقان عدم الإسراف حتّى في الإنفاق من علائم عباد الرحمن- مع أنّ الإنفاق عمل مطلوب مستحسن، حثّ عليه الشارع في آيات كثيرة- فقال:

بحوث فقهية هامة، ص: 30

(وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) «1».

و نهى القرآن عن التبذير أيضاً بلحن شديد، فعرّف المبذّرين بأنّهم إخوان الشياطين حيث قال (وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً). «2»

الفرق بين الإسراف و التّبذير

و قد وقع الكلام بين المحقّقين في بيان الفرق بين الإسراف و التبذير، و الذي يظهر من خلال الدقّة و التأمّل أنّ الإسراف بمعنى الخروج عن حدّ الاعتدال و الاقتصاد من دون تضييع شي ء بحسب الظاهر، كلبس الثياب الثمينة القيّمة الّتي تساوي قيمتها أضعاف قيمة الثياب العادية مئات المرّات مثلا، فهو إسراف، و في الحال لم يضيّع شي ء، و لكن التبذير هو ما يؤدي إلى تضييع نعم الله تعالى، كما إذا هيّأ لعشرة أشخاص مثلا طعام خمسين شخصاً بحيث يطرح الزائد و يفسد.

هذا هو الفرق بين الكلمتين، و يؤيد ذلك أيضاً المعنى اللغوي لهما، نعم ربّما اتحدا و استعملا في معنى واحد.

سعة دائرة مفهومي الإسراف و التّبذير

ثمّ إنّ دائرة مفهوم الإسراف أو التبذير واسعة بحيث تشمل أخسّ الأشياء فضلا عن الموضوعات المهمّة و الأشياء الثمينة، فقد جاء في حديث داود الرقّي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

بحوث فقهية هامة، ص: 31

«إنّ القصد أمر يحبّه الله عزّ و جل و إنّ السرف يبغضه حتّى طرحك النواة، فإنّها تصلح لشي ء، و حتّى صبّك فضل شرابك»

«1». و في حديث بشر بن مروان قال دخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام) فدعى برطب فأقبل بعضهم يرمي بالنوى قال: فأمسك أبو عبد الله (عليه السلام) يده فقال: «لا تفعل، إنّ هذا من التّبذير وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ»

«2». و في حديث مكارم الأخلاق عن الصّادق (عليه السلام)

«أدنى الإسراف هراقة فضل الإناء و ابتذال ثوب الصون و إلقاء النّوى»

«3». و عن الكاظم (عليه السلام)

«. و لكن السرف أن تلبس ثوب صونك في المكان القذر»

«4». بل جاء في روايات عديدة أنّ الأئمة (عليه السلام) كانوا يأخذون فتات الخبز المطروحة في حواشي المائدة و يأمرون به

أصحابهم خشية الإسراف و التّبذير.

دفن الأضاحي أو إحراقها من أوضح مصاديق الإسراف أو التبذير

إذا عرفت ذلك فلا يخفى عليك أنّ ذبح الأضاحي مع دفنها أو إحراقها أو طرحها حتّى تتعفّن بحيث لا تأكلها الكلاب أيضاً، من أوضح مصاديق الإسراف و التبذير الممنوعين شرعاً، لا سيّما إذا كان بهذا المقدار و العدد الكبير الذي قد يبلغ مليون أو

بحوث فقهية هامة، ص: 32

أكثر، فهل يرضى الشّارع الحكيم بمثل هذا الإسراف الفاحش؟! و ما الدليل على خروجه عن محكمات الآيات و الروايات الواردة في حرمة الإسراف و التبذير حتّى في النواة و فضل ماء الشرب؟

فإن قيل: لا إشكال في ذلك إذا كان في طريق إطاعة أمر الله.

قلنا: هذه مصادرة على المطلوب، فإنّ تعلّق الأمر به ممنوع جدّاً، كما عرفت فيما سبق، مع أنّ كونه من المصاديق العرفية للإسراف و التّبذير ممّا لا ريب فيه، فتشمله إطلاقاتهما حتماً.

و الخلاصة: أنّ قوة إطلاقات أدلة الإسراف و التبذير و استحكامها تكون إلى حدّ تحوي في دائرتها أخسّ الأشياء فضلا عن تضييع المئات و الآلاف من نعم الله تعالى.

شبهة عدم الإسراف في الحج

فإن قيل: قد ورد في بعض الرّوايات أنّه لا إسراف في الحج، و هو ما رواه ابن أبي يعفور في الصحيحة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)

«ما من نفقة أحبّ إلى الله عزّ و جل من نفقة قصد، و يبغض الإسراف إلّا في الحج و العمرة، فرحم الله مؤمناً اكتسب طيّباً و أنفق من قصد أو قدّم فضلا»

«1». قلنا: لا شكّ في أنّ المستفاد من مثل هذه الرواية ليس هو تضييع المال بطرحه أو إحراقه أو دفنه أو تهيئة طعام خمسين شخصاً مثلا لعشرة أشخاص بحيث يطرح الزائد و يفسد و لو كان في الحجّ، بل الظاهر

منها بسط اليد في الإنفاق ببذل الزاد و تهيئة الهدايا للأقرباء و الأصدقاء؛ و الشاهد على ذلك:

أوّلا: نفس ما ورد في الرواية من تقابل الإسراف و القصد في النفقة، فإنّه شاهد

بحوث فقهية هامة، ص: 33

قطعي على أنّ المقصود من الإسراف هو النفقة من غير قصد و اعتدال، أي إكثار النفقة و بسط اليد فيها، لا تضييع المال و إفساده، فهل يفتي فقيه بجواز أن يحمل زائر بيت الله الحرام عشرة دوابّ مع أنّه يركب واحداً منها، فيطرح الزائد و يتركه في الطريق حتّى يموت و يتلف، أو يحمل مئونة عشر نفرات مع حاجته إلى مئونة فرد واحد، فيلقي ما زاد منها في مكّة أو المدينة في المزابل حتّى يتضيّع و يفسد.

و ثانياً: ما ورد في آداب السفر عموماً من استحباب بذل الزاد و إنّه من المروّة «1». و في آداب سفر الحجّ خصوصاً من أنّ «هديّة الحاجّ من نفقة الحاجّ»

«2» و

«هديّة الحجّ من الحجّ»

«3» و

«إنّ إكثار النفقة في الحجّ فيه أجر جزيل»

«4» و

«نفقة درهم في الحجّ أفضل من ألف ألف درهم في غيره في البرّ»

«5» فإنّ جميعها تشهد على أنّ المقصود من الإسراف في الحج إنّما هو هذا القبيل من الصلات و الإنفاقات و الهدايا «6» لا إحراق ملايين من الشياه و البقر و الإبل.

و ثالثاً: يشهد لما ذكرنا ما ورد في ذيل نفس الرواية المبحوث فيها فإنّ قوله «فرحم الله مؤمناً اكتسب طيّباً و أنفق من قصد أو قدّم فضلا»

يقتضي دوران أمر نفقات الحاجّ بين القصد و تقديم الفضل، و الأوّل هو ملاحظة الاعتدال، و الثاني هو

بحوث فقهية هامة، ص: 34

بسط اليد و البذل، لا إلقاء النعم الإلهية في المزابل أو دفنها و إحراقها.

و

رابعاً: أضف إلى ذلك كلّه أنّ محل الكلام هو من مصاديق التبذير لا الإسراف، فإنّ الفرق بينهما- كما مرّ- أنّ الإسراف هو الخروج عن حدّ الاعتدال من دون تضييع، و التبذير ما يؤدي إلى التضييع و الإفساد.

النّسبة بين حكم الأضحية و حرمة الإسراف و التّبذير

إذا عرفت هذا، فيأتي الكلام في أنّه ما هي النسبة بين الدليلين: دليل وجوب الأضحية، و دليل حرمة التبذير أو الإسراف؟

فإن قلنا: إنّ دليل وجوب الأضحية لا إطلاق له بالنسبة إلى المصاديق الفعلية ممّا تدفن أو تحرق فتتلف- كما هو الحق- فلا كلام و لا إشكال. و إن قلنا: له إطلاق يشمل ما نحن فيه، فإن كانا من قبيل المتعارضين كانت النسبة بينهما العموم و الخصوص من وجه، و اللازم تقديم عمومات الإسراف؛ لأنّها أقوى دلالة على المطلوب، فإنّ الأضحية في يومنا هذا من أظهر مصاديقه، و أمّا أدلّة الأضحية فإطلاقها أضعف منها بالنسبة إلى ما نحن فيه؛ لأنّه من أخفى مصاديقه.

سلّمنا أنّهما متساويان من حيث القوّة و الضعف و الظهور و الخفاء، و لكنّ اللازم حينئذ التساقط في محلّ الاجتماع، فيرجع إلى الأصول العملية، و الأصل العملي في المقام هو البراءة، لأنّه من قبيل الأقل و الأكثر الارتباطيين، و المعروف بين المعاصرين و القريبين من عصرنا إجراء البراءة فيه، و هو الأقوى، فيسقط الأمر بالأضحية هنا، و إن كان الاحتياط فعلها في محلّ آخر لا يحصل من الأضحية فيه الإسراف و التبذير.

هذا كلّه إذا قلنا إنّهما يتعارضان، و إن قلنا إنّ هذين من قبيل المتزاحمين، و أنّ بحوث فقهية هامة، ص: 35

ملاك الأضحية موجود في مثل هذه الأضاحي، كما أنّ ملاك الإسراف أيضاً موجود فيها، فاللازم الأخذ بأقوى الملاكين، و لا دليل على أنّ ملاك الأضحية أقوى،

بل الأمر بالعكس. و لكنّ الإنصاف أنّ المقام ليس من قبيل المتزاحمين، فإنّ وجود ملاك الأضحية في المقام دعوى بلا دليل، فاللازم معاملة المتعارضين معهما.

إن قيل: وجود ملاك الإسراف أيضاً دعوى بلا دليل.

قلنا: يلزم هذا الكلام الشكّ في وجود أحد الملاكين إجمالا، و هذا اعتراف بخروج المقام عن بحث التزاحم و دخوله في مسألة التعارض، فيعود الكلام السابق فيه.

هذا كلّه بناءً على شمول المماشاة، و إلّا قد عرفت أنّه لا ينبغي الشكّ في عدم شمول إطلاقات الأضحية للموارد التي لا تصرف فيها لحوم الأضاحي فيما يلزم صرفها فيه مع قطع النظر عن دليل الإسراف، و مع ملاحظته فالأمر أوضح.

خلاصة الكلام في المسألة

قد ظهر ممّا سبق من جميع ما ذكرنا أنّا مع احترامنا لفتاوى الفقهاء المعاصرين كثّر الله أمثالهم نعتقد:

أوّلا: أنّ مسألة الأضحية بشكلها الحالي الذي تتلف فيه جميع الأضاحي أو أكثرها بالدفن أو الحرق، مسألة مستحدثة لا سابق لها في الأدوار الماضية حتّى يبرز الفقهاء الماضين الكرام آراءهم بالنسبة إليها، فقد كانت اللحوم يومذاك تصرف جميعاً في أيّام الحج كما يشهد بذلك أخبار كثيرة من المعمّرين و كما تشهد به الروايات بالنسبة إلى أعصار المعصومين (عليهم السلام).

فالمسألة من المسائل المستحدثة، و لذلك لم يسبق ذكرها في كلمات فقهائنا العظام.

ثانياً: ظاهر الآيات الكريمة و الروايات عدم موضوعية إهراق الدّم في منى، بل الظاهر أنّه مقدمة لمصارفه الشرعية.

ثالثاً: إطلاق الآيات و الروايات الواردة في الهدي، لا تشمل الأضاحي في يومنا هذا، لعدم وجود هذه المصاديق في عصر صدورها، فالاكتفاء بهذا النحو من الهدي في يوم الحجّ مشكل جدّاً، فلا بدّ أن نلتزم مؤقّتاً بالتوقّف في مسألة الهدي في مثل هذه الظروف، أو إيقاعه في محلّ آخر حيث يمكن فيه

صرفه في مصارفه الشرعية،

بحوث فقهية هامة، ص: 37

و العمل بالاحتياط يوجب الالتزام بالوجه الثاني.

رابعاً: جميع المذابح الفعلية خارجة عن منى بلا استثناء، و توهّم بعض أنّ قطعة صغيرة منها داخل في منى، قد ثبت خلافه في الفحوصات الأخيرة، و لو سلّم أنّه كذلك فلا تحلّ به مشكلة الأضاحي كما لا يخفى.

و عليه لا يحصل شرط وقوع الذبح في منى (المستفاد من روايات «لا ذبح إلّا بمنى») و لا فرق بين وادي محسّر الذي انتقل إليه المذبح أخيراً و سائر الأماكن كالمعتصم.

نعم لو كان الهدي فيه ملازماً مع شرائطه، أي يصرف في مصارفه الشرعية فالمرجّح من باب الاحتياط إيقاع الذبح فيه.

خامساً: أدلّة حرمة الإسراف و التبذير قويّة محكمة، تمنع عن إتلاف هذا العدد الكبير من لحوم الأضاحي و دفنها أو إحراقها، فإنّ الإسلام الذي يمنع عن إلقاء النوى و هراقة فضل الإناء، كيف يسمح مثل هذا الإتلاف مع عدم وجود أيّ دليل على تخصيص أدلة الإسراف و التبذير في هذا المجال.

سادساً: و نتيجة ما ذكر، أنّه ما دامت لحوم الأضاحي تتلف بهذه الصورة المدهشة، لا بدّ من ترك الذبح و عزل قيمة الهدي على الاحتياط اللازم، و الإتيان بسائر المناسك (و الذبح في الوطن أو محلّ آخر بعد الرجوع في ذي الحجّة الحرام) أو التنسيق و الاتفاق مع بعض الأهل و الأصدقاء للذبح يوم الأضحى في الوطن، ثمّ الإتيان بسائر المناسك.

و هذا نظير من عُدم الهدي و وجد الثمن، الذي تصرّح الروايات «1» بوجوب أن يخلف الثمن عند ثقة يشتريه و يذبحه في مكّة في ذي الحجّة و يأتي بسائر المناسك بحوث فقهية هامة، ص: 38

(و لا يخفى أنّه حيث إنّ إخلاف الثمن عند الثقات للذبح

في مكّة في الوقت الراهن أمر غير ممكن إلّا في عدد يسير و بالنسبة إلى قليل من الناس- مع أنّ الحكم عامّ للجميع- لا يمكن الأخذ بهذا في مسألتنا).

نعم لو أمكن في المستقبل نقل اللحوم بتمامها أو غالبها (لا بعضها اليسير) إلى خارج مني أو مكّة أو خارج الحجاز بتجفيف اللحوم أو استخدام إحدى الوسائل الحديثة لصيانتها، ثمّ صرفها للمستحقّين ففي هذا الحال يجب الذبح في منى أو قريب منه على الاحتياط الوجوبي.

سابعاً: عمدة الأدلّة التي تشهد على ما ذكرنا هي ما يلي:

1- عدم وجود دليل على صحّة الأضاحي التي لا تصرف لحومها.

2- ما يستفاد من ظاهر الآيات و الروايات من أنّ صرف لحومها في مصارفها من مقوّمات الهدي.

3- جميع المذابح الموجودة حالياً ليست في منى.

4- حرمة الإسراف و التبذير خصوصاً في هذا المقياس العظيم و عدم وجود دليل على جواز مثل هذا الإسراف، بل تبذير الذي هو أشدّ عقوبة من الإسراف.

و في خاتمة هذا البحث بقي سؤالان لا بدّ من الالتفات إليهما:

الأوّل: هو أنّ الأضحية في منى من مناسك الحج إحدى شعائر الإسلام، و حذفها من هذه الشعائر الكبيرة يقلّل من عظمته و خاصّة إذا صدر هذا الأمر من فئة خاصة حيث يثير علامات استفهام بين المخالفين.

و في الجواب على هذا السؤال ينبغي الالتفات إلى أمرين:

1- إنّ الأضحية بشكلها الفعلي- التي تتحول إلى ركام هائل من اللحوم المتعفنة التي لا بدّ من دفنها و إحراقها لضمان سلامة الحجاج من الأمراض و المشاكل المتولدة من ذلك- أيضاً تثير علامات استفهام حول شعائر الإسلام في كل سنة بين المسلمين بحوث فقهية هامة، ص: 39

و الأجانب، و يعتبر ذلك من نقاط الضعف في هذه الشعائر الإلهية، فإنّ

أحد علماء الإسلام (رحمه الله) كان يقول: «عند ما تشرفت لأوّل مرّة لزيارة بيت اللّه الحرام كان كل شي ء ممتعاً بالنسبة لي سوى مشكلة واحدة استعصى عليَّ حلها و كلما فكرت فيها لم أجد جواباً لها و هي مشكلة الهدي بصورته الفعلية حيث لا أرى أن ذلك ينسجم مع الإسلام و تعاليمه السامية، حتى سمعت فتواكم في هذا الصدد و أن الهدي يجب أن يكون بحيث تصرف جميع اللحوم في مواردها المقرر عند ذلك فانحلت لي هذه المعضلة» فعند ما تكون المسألة مشكلة و مستعصية على العلماء و أهل الفضل فكيف بالآخرين؟

2- إنّ الفتوى هذه في عدم جواز الهدي بشكله الفعلي في منى انتشرت بين جماعة من علماء الإسلام، و لذا طرحوا فكره اللحوم بشكل مناسب للجوانب الصحية و إرسالها إلى المناطق المحرومة من البلدان الإسلامية.

و بالجملة فإنّ هذه الفتوى أثارت حركة و نشاط للتخلّص من نقطة الضعف هذه و نحن مطمئنّون إلى أنّ جميع المسلمين في المستقبل القريب سوف يجدون حلًّا مناسباً لمسألة لحوم الأضاحي و مصرفها و وضع حلّ لهذه المشكلة لا حاجة إليها و هذه خدمة كبيرة للإسلام و المسلمين و لمناسك الحج العظيمة، و حصلت هذه الفكرة أيضاً لدى منظمة الحج الإيرانية حيث إنّهم في صدد وضع برنامج لها.

و لو انحلت هذه المشكلة يوماً فعند ذلك نقول نحن بأولوية الذبح في منى و ننهى مقلّدينا عن الذبح في إيران و سائر المناطق و في ذلك اليوم يمكن القول بأنّ عظمة مناسك الذبح سوف تعود إليها.

السؤال الآخر: أ لا ينبغي في الظروف الحالية أي حال عدم مشروعية الهدي بشكله الفعلي، الانتقال إلى البدل و هو الصوم حيث يقول القرآن الكريم (فَمَنْ لَمْ

يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) «1».

بحوث فقهية هامة، ص: 40

و في الجواب على هذا السؤال ينبغي الالتفات إلى نقطة مهمّة و هي أنّ تبديل الهدي بالصيام شرّعت للأشخاص الذين يفتقدون القدرة المالية لشراء الهدي لا الأشخاص الذين يتمتّعون بالقدرة المالية و لكنهم لا يحصلون على الهدي أو يستطيعون الحصول عليه إلّا أنّهم لا يتمكّنون من إيصال لحمه إلى مصرفه الشرعي فيؤدّي إلى تلفه، و التعبير في الآية (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ.) بمعنى عدم القدرة على الهدي من اللحاظ المالي و في الأحاديث الإسلامية ورد تأكيد على هذه المسألة أيضاً، فلذا يقول الشّيخ الصّدوق (قدس سره) في كتابه الشريف (من لا يحضره الفقيه): «روي عن النّبي (صلى الله عليه و آله) و الأئمّة (عليهم السلام)

أن المتمتع إذا وجد الهدي و لم يجد الثمن صام ثلاثة أيّام في الحج. و سبعة أيّام إذا رجع إلى أهله تلك عشرة كاملة لجزاء الهدي » «1». فعلى هذا فإنّ الصوم لا يتعلق بالأشخاص الذين يمتلكون ثمن الهدي و لا يستطيعون مراعاة الجوانب الشرعية في ذلك.

نسأل الله أن يوفّقنا و جميع الباحثين في هذه المسألة سواءً الموافق و المخالف لما يحبّ و يرضى. و الحمد لله ربّ العالمين «2».

أسئلة و استفتاءات حول مسألة الأضحية

باسمه تعالى سماحة المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (مد ظلّه) نرجو من سماحتكم و بعد تقديم خالص التحيات الإجابة عن المسائل و بيان الأحكام المتعلّقة بالأضحية:

مع فائق الاحترام: جمع من طلبة العلوم الدينية 1- ينتهي مصير الأضاحي في الوقت الحاضر إلى تلف في لحومها و دفنها دونما فائدة، ما هو واجب مقلّديكم تجاه ذلك؟

الجواب: و يجب على الأحوط ادّخار المبلغ المعادل بثمن الأضحية في شهر ذي الحجة

ثمّ التضحية في مكان آخر. للاستفادة من لحوم الأضاحي، آمل أن يأتي اليوم الذي يتمكّن فيه المسلمون ذبح أضاحيهم في منى ثمّ نقله إلى الأماكن المناسبة.

2- ما هو موقف الحاج لو ذبح أضحيته في منى و هو عالم بتلفها؟

الجواب: لا يجوز ذلك و يجب عليه أن يضحّي في بلده أيضاً.

3- ما هو موقف الحاج إذا شكّ في تلف الأضحية أو عدمه؟

الجواب: يتعيّن عليه الانصراف فهناك من يضحّي بما فيه الكفاية.

بحوث فقهية هامة، ص: 43

4- هل يجب التحقيق في الاستفادة عن لحوم الأضاحي أو عدمه؟

الجواب: لا يجب التحقيق في الظروف الحالية و التي يطمئن فيها بعدم صرفها في مصارفها.

5- ما هو واجب الحاج إزاء الأعمال التي تعقّب ذبح الأضحية؟

الجواب: يكتفي الحاج بعزل ثمن الأضحية و استئناف أعمال الحج في منى ثمّ يخرج من الإحرام و يتمّ حجّه بطواف النّساء و بذلك ينهي المناسك ثم تذبح في محل آخر.

6- كيف يتمّ تحديد مبلغ الأضحية و هل يكون على أساس ثمنها في مكّة أم في بلاده؟

الجواب: حسب سعرها في بلده.

7- هل يصحّ لمن نوى الحج عزل ثمن الأضحية في بلده قبل الذهاب إلى مكّة و هل يمكن أن يوصي بعزل المخصّص لشراء الأضحية لذبحها في الأضحى؟

الجواب: لا مانع من ذلك.

8- لو نوى الحاج في تقديم الأضحية في بلده عوضاً عنه، هل ستكون التضحية في يوم العيد بمكّة أم في بلاده؟

الجواب: المعيار يوم العيد في مكة.

9- ما هو تكليف الحاج لو أخّر عن ذبح الأضحية في شهر ذي الحجّة؟

الجواب: يجب عليه الأضحية في العام القابل.

10- لو ذبح الأضحية لدى عودته من الحج، هل يجوز له إطعام أصدقائه من لحمها؟

الجواب: لا مانع بشرط إطعام الفقراء منها.

11- هل يجوز لمقلِّدي المراجع

المتوفّين العمل بفتاواكم في مسائل الأضحية انطلاقاً من تجويزكم للبقاء على تقليد الميّت؟

بحوث فقهية هامة، ص: 44

الجواب: يلزمهم العمل بهذه الفتوى لو كان ذلك حجّهم الأوّل و ما عدا ذلك يجوز لهم العمل بما أفتاه أولئك المراجع الكبار.

12- هل يجوز ذبح شياه الكفّارة في مكة أو منى أم في بلد الحاج؟

الجواب: يجوز ذبحها في بلده حتى مع احتمال الاستفادة منها في مكّة و منى.

هذا و تقبّل اللّه سعي المؤمنين و أرجو منهم أن لا ينسوا إخوانهم الذين لم يتشرفوا بحجّ بيت اللّه الحرام بعدُ.

الإجابة على عدّة أسئلة فقهية أخرى: حول هذه المسألة

السّؤال (1): يتساءل البعض أ ليس الذّبح في غير محله من الذّبح في منى خلاف إجماع المسلمين؟

الجواب: أن الإجابة على هذا السّؤال واضحة جداً، لأنه:

أوّلًا: لقد قلنا مراراً أن مسألة دفن لحوم الأضاحي في الحج و إحراقها و إتلاف مئات الآلاف من الأغنام و الأبقار بهذا الشكل هي من الموضوعات و المسائل المستحدثة و الجديدة، و ليست لها ماض قديم كما يُصدر علماؤنا الأعلام فتاواهم في هذا المجال، و بعبارة أخرى: أن هذه المسألة برزت إلى الوجود في القرن الأخير، و قد كانت لحوم الأضاحي تصرف في السابق في مواردها، و لهذا السبب لا توجد في الرّوايات الإسلامية و كتب الفتاوى رواية أو فتوى تتحدّث عن حكم إتلاف الأضاحي و على هذا فإن ادّعاء الإجماع في هذه المسألة لا ينسجم مع الموازين الفقهية و الأصولية.

ثانياً: كما قلنا سابقاً لقد كان محل الذّبح في الأزمنة الغابرة داخل منى، و لكن الآن أصبحت المجازر خارج منى، و انتقلت إلى وادي محسّر، ثم وادي المعتصم و هذا الموضوع من المواضيع الجديدة و المستحدثة تماماً، و ادعاء الإجماع على ذلك غير ممكن، بل الأمر بالعكس.

بحوث

فقهية هامة، ص: 46

ثالثاً: كما قلنا سابقاً أيضاً أنه توجد موارد متعددة في الفقه تدل على جواز الذبح في غير منى و غير مكّة و وادي محسر و أمثال ذلك لوجود بعض الشرائط الخاصّة، و نحن نعتقد أن الظروف الحالية لذبح الأضاحي في المذابح الفعلية و التي تسبّب في إتلاف الأضحية من قبيل تلك الظروف الخاصّة.

السّؤال (2): أ لا يكون الذّبح في المدن البعيدة بدعة؟

الجواب: أن هذا العمل هو وظيفة شرعية و ليس بدعة فالبدعة هي العمل على ما يخالف الشرع المقدس ناوياً أنّه عمل مشروع، و ما أبرزناه من الفتوى موافق لأحكام الشرع، و قد أثبتنا ذلك بأدلة عديدة، مضافاً إلى أننا قلنا مراراً أن هذه المسألة من المسائل الجديدة التي لم يكن لها وجود في الزمن السابق كيما يفتي العلماء في موردها، ففي الماضي كانت لحوم الأضاحي تصرف في اليوم الأول من ذبحها، و قد وردت الأحاديث الشريفة في منع ادّخار لحوم الأضاحي أيضاً، و لكن بعد أن ازدادت الأضاحي ورد الجواز بادّخارها (بواسطة التجفيف) و لم يرد خبر عن إحراقها أو دفنها إطلاقاً، فلو أنّنا رأينا على الفتاوى للمسائل المستحدثة بأنّها بدعة، فإنّه يجب أن نحكم على جميع الفتاوى المتعلّقة بزرع الأعضاء للتشريح، و التأمين، و شراء الدّم للمرضى و الجرحى، و البنوك الإسلامية و أمثالها، بأنها بدعة لأنها لم تكن موجودة و مثله رمي الجمرات من الطبقة العالية فإنّه أمر مستحدث، فهل هو بدعة، و هكذا السعي من الطبقة العالية (على القول بجوازه) في الأزمنة السالفة.

السّؤال (3): ورد في بعض الرّوايات أن النّبي (صلى الله عليه و آله) ذبح مائة من الإبل في حجّة الوداع، فهل من المعقول أن كل هذه

اللحوم قد صرفت في الإطعام؟

بحوث فقهية هامة، ص: 47

الجواب: أن ما يستفاد من كتب التّواريخ المختلفة هو أنّ عدد الحجاج في تلك السنة بلغ مائة ألف نفر أو أكثر رافقوا رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) في سفره ذلك، و لم يكن لدى الكثير منهم هدي، فأعطى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه و آله) لحوم الأضاحي التي أمر بذبحها لهؤلاء، حتى إنه (صلى الله عليه و آله) أمر بأن لا يعطي الجزّارون منها الجلد و القلادة، بل تقسم بين الناس، و يستفاد من بعض الروايات أن هؤلاء الناس رافقوا النبي (صلى الله عليه و آله) عشرة أيّام، و بحساب بسيط نعلم بأن نصيب كل ألف نفر سيكون بعيراً واحداً قُسّم لحمه على الألف نفر لما كان نصيب كل واحد منهم سوى أقل من كيلو واحد بكثير، و لو قُسّم ذلك على عشرة أيّام، فسوف تكون حصّة كل يوم شيئاً قليلًا جدّاً لكل فرد، فعلى هذا من العجيب جداً أن يتصور البعض أنه قد تلف قسم من هذه اللّحوم، و لو كان لأفراد آخرين أضاحي أيضاً، فمن الواضح أنها كانت بمقدار قليل و أقل من حاجة الناس حتماً فإن كثيراً من الحجاج في تلك السنة لم تكن عندهم أضاحي.

السؤال (4): هل يُفهم من فتواكم أن الذّبح واجب مقدمي و الإطعام واجب نفسي؟ فلو كان كذلك إذن، فلا يجب على الحجاج ذبح الهدي، بل يمكنهم شراء ما يعادل الذبيحة من اللحم من الجزّار و توزيعه على المحتاجين.

الجواب: أنّ الإجابة على هذا السؤال واضحة أيضاً فإن الذبح و الصرف كلاهما واجبان، إلّا أن أحدهما مقدمة للآخر، كما في الوضوء و الطّواف فكلاهما واجبان، و لكن أحدهما مقدمة

للآخر، و لا فائدة للمقدمة بدون ذي المقدمة.

و على هذا الأساس، لا يصح الذبح ثمّ إتلاف الأضحية بحرقها أو دفنها، فنحن لا نجد في أي من الروايات الإسلامية أن إجراء دم الحيوان مطلوب بحدّ ذاته، و إذا ورد التعبير في بعض الرّوايات الإسلامية «عليه الدم» و أمثال ذلك، فهو إشارة و كناية عن ذلك الذبح المعهود و المتعارف بين جميع المسلمين بأن يذبحوا الأضحية و يقسّموا

بحوث فقهية هامة، ص: 48

لحمها في مصارفه، كما أن هذا الكلام متداول بيننا أيضاً حينما نقول: إنّه لا بدّ من الذبح لشفاء المريض أو لقدوم المسافر، أو لبركة البناء، فهو إشارة إلى أنّه أو يُستحب يجب ذبح الشاة ثمّ تقسيم لحمها في الإطعام، لا أنّه يسفك دم الحيوان ثمّ يلقى بعيداً.

(2) أحكام الغناء

اشارة

(أحكام الغناء) حرمة الغناء على إجمالها مشهورة بين علمائنا و قد ادّعى غير واحد من فقهائنا عدم الخلاف فيها، بل ادّعى في الجواهر الإجماع عليها بقسميه «1».

إلّا أنه خالف فيه بعض متأخري المتأخّرين فقال بعدم حرمته إلّا إذا اشتمل على حرام من خارج.

قال في الحدائق: «لا فرق في ظاهر كلام الأصحاب بل صريح جملة منهم في كون ذلك في قرآن أو دعاء أو شعر أو غيرها، إلى أن انتهى الدور إلى المحدّث الكاشاني فَنَسج في هذا المقام على منوال الغزالي و نحوه من علماء العامّة، فخصّ الحرام منه بما اشتمل على محرم من خارج مثل اللعب بآلات اللهو كالعيدان، و اختلاط الرجال بالنساء و الكلام بالباطل، و إلّا فهو في نفسه محرّم»»

.و عن المحقّق السبزواري في الكفاية موافقته على ذلك «3».

و الكلام فيه في مقامات:

المقام الأوّل: في الأدلّة الدالّة على حرمته

اشارة

و استدلّ له تارة بالإجماع، و أخرى بآيات مثل قوله تعالى (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) «1» (وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) «2».

و قوله تعالى (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) «3».

و لكن لا شي ء من ذلك- مع قطع النظر من روايات الباب- يدلّ على حرمته،

[الروايات الدالة على حرمة الغناء]

اشارة

و العمدة هنا هي الروايات الكثيرة بل المتواترة، فالأولى صرف عنان الكلام إليها فنقول (و من الله سبحانه نستمد التوفيق) هي على طوائف:

الطائفة الأولى: ما دلّ على أنه داخل في عنوان الزور

الوارد في كلامه تعالى المنهي منه و هي روايات:

1- ما رواه زيد الشّحام قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ و جلّ (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) قال: قول الزور الغناء

«4». 2- ما رواه أبو السباح عن أبي عبد الله (عليه السلام)

في قوله عزّ و جلّ (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)

بحوث فقهية هامة، ص: 53

قال: الغناء

«1». 3- و ما رواه أبو الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام)

في قول الله عزّ و جلّ (وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: الغناء

«2». 4- ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام)

في قوله تعالى (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) قال: قول الزور الغناء

«3». 5- ما رواه أبو بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ و جلّ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) قال: الغناء

«4». 6- ما رواه عبد الأعلى قال سألت جعفر بن محمّد (عليهما السلام) عن قول الله عزّ و جلّ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) قال: الرجس من الأوثان الشطرنج و قول الزور الغناء قلت: قول الله عزّ و جلّ (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال: منه الغناء

«5». 7- ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن «قول الزور» قال: منه قول الرجل الذي يغني: أحسنت «6». 8- ما رواه محمّد بن عمرو بن حزم في حديث قال دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: الغناء، اجتنبوا

الغناء، اجتنبوا قول الزور، فما زال يقول: اجتنبوا الغناء اجتنبوا،

بحوث فقهية هامة، ص: 54

فضاق بي المجلس و علمت أنه يعنيني «1». 9- ما رواه هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام)

في قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) قال: الرجس من الأوثان الشطرنج و قول الزور الغناء

«2».

الطائفة الثّانية: ما دل على أنه داخل تحت عنوان «لهو الحديث»

الواردة في قوله تعالى (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) «3» و هي روايات:

10- ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سمعته يقول الغناء ممّا وعد الله عليه النار و تلا هذه الآية (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)

«4». 11- ما رواه مهران بن محمّد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول الغناء ممّا قال الله عزّ و جلّ (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)

«5». 12- ما رواه الوشاء قال سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الغناء فقال: هو قول الله عزّ و جلّ:

بحوث فقهية هامة، ص: 55

(وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)

«1». 13- ما رواه الحسن بن هارون قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله و هو ممّا قال الله عزّ و جلّ (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)

«2». 14- ما رواه الفضل بن الحسن الطبرسي (في مجمع البيان) قال: روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله و أبي الحسن الرضا (عليهم السلام)

في قول الله عزّ و

جلّ (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) إنهم قالوا: منه الغناء

«3». و قد يتوهم أن هاتين الطائفتين تدلان على أن الغناء من مقولة المعنى، لا الألحان و الأصوات، و الظاهر أنه ليس كذلك، بل لا مانع من أن يكون من مقولة الألحان كما سيأتي إن شاء الله.

الطائفة الثّالثة: ما يدلّ على النهي عنه و اشمئزاز أئمّة الدين (عليهم السلام) منه

و هي روايات:

15- ما رواه زيد الشّحام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)

بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة و لا تجاب فيه الدعوة و لا يدخله الملك «4». 16- ما رواه إبراهيم بن محمّد المدني عمّن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سئل بحوث فقهية هامة، ص: 56

عن الغناء و أنا حاضر، فقال: لا تدخلوا بيوتاً الله معرض عن أهلها

«1». 17- ما رواه يونس قال سألت الخراساني (عليه السلام) عن الغناء و قلت إن العباسي ذكر عنك أنك ترخص في الغناء فقال: كذب الزنديق، ما هكذا قلت له: سألني عن الغناء فقلت إن رجلًا أتى أبا جعفر (عليه السلام) فسأله عن الغناء فقال: يا فلان إذا ميّز الله بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟ قال مع الباطل، فقال: قد حكمت «2». 18- ما رواه عبد الأعلى قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الغناء و قلت: إنهم يزعمون أن رسول الله (صلى الله عليه و آله) رخص في أن يقال: جئناكم جئناكم حيونا حيونا نحيّيكم، فقال كذبوا، إن الله عزّ و جلّ يقول (وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) «3» (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى

الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) «4» ثمّ قال: ويل لفلان ممّا يصف، رجل لم يحضر المجلس «5». 19- ما رواه في المقنع عن الصادق (عليه السلام) قال شر الأصوات الغناء

«6». 20- ما رواه الحسن بن هارون قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول الغناء يورث النفاق و يعقب الفقر

«7». 21- ما رواه جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه و آله) قال كان إبليس أوّل من تغنى و أوّل بحوث فقهية هامة، ص: 57

من ناح لمّا أكل آدم من الشجرة تغنى فلما هبطت حواء إلى الأرض ناح لذكره ما في الجنة

«1». 22- ما رواه الحسن بن محمّد الديلمي في «الإرشاد» قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)

يظهر في أمتي الخسف و القذف قالوا متى ذلك؟ قال إذا ظهرت المعازف و القينات و.

«2». 23- ما رواه عاصم بن حميد قال قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) أنّى كنت؟ فظننت أنه قد عرف الموضع، فقلت جعلت فداك إني كنت مررت بفلان فدخلت إلى داره و نظرت إلى جواريه. فقال: ذاك مجلس لا ينظر الله عزّ و جلّ إلى أهله أمنت الله على أهلك و مالك؟

«3». كأنه كانت جواريه مغنيات، و هذا يناسب التعبير بالمجلس في الحديث.

24- ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال سأل رجل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن شراء جارية لها صوت، فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّة، يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء. فأمّا الغناء فمحظور

«4». 25- ما رواه الصدوق بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) في حديث شرائع الدين قال و الكبائر

محرّمة و هي الشرك بالله. و الملاهي التي تصد عن ذكر الله عزّ و جلّ مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار.

»

و لا يضر التعبير بالكراهة بعد

بحوث فقهية هامة، ص: 58

التصريح بالكبائر المحرّمة.

الطائفة الرّابعة: ما يدلّ على أن أجر المغنية سحت

بحيث يستفاد منه عدم منفعة محلّلة لها من حيث الغناء و هي روايات:

26- ما رواه الصدوق في «إكمال الدين» عن إسحاق بن يعقوب في التوقيعات التي وردت عليه من محمّد بن عثمان العمري بخط صاحب الزمان (عليه السلام)

. و ثمن المغنية حرام «1». 27- ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام) جعلت فداك إن رجلًا من مواليك عنده جوار مغنيات قيمتهن أربعة عشر ألف دينار و قد جعل لك ثلثها فقال: لا حاجة لي فيها إن ثمن الكلب و المغنية سحت «2». 28- ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال أوصى إسحاق بن عمر بجوار له مغنيات أن تبيعهن و يحمل ثمنهن إلى أبي الحسن (عليه السلام). فقال (عليه السلام): لا حاجة لي فيه أن هذا سحت و تعليمهن كفر و الاستماع منهن نفاق و ثمنهن سحت «3». 29- ما رواه الحسن بن علي الوشاء قال سئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) عن شراء المغنية قال: قد تكون للرجل الجارية تلهيه و ما ثمنها إلّا ثمن الكلب و ثمن الكلب سحت و السحت في النار

«4».

بحوث فقهية هامة، ص: 59

30- ما رواه سعيد بن محمّد الطاطري عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات فقال: شرائهن و بيعهن حرام و تعليمهن كفر و استماعهن نفاق «1».

الطائفة الخامسة: ما دلّ على حرمة استماعه

ممّا يعلم منه حرمة أصله و هي أيضاً روايات:

31- ما رواه الحسن قال كنت أطيل القعود في المخرج لأسمع غناء بعض الجيران قال: فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لي يا حسن (إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) السمع و

ما وعى، و البصر و ما رأى، و الفؤاد و ما عقد عليه ! «2» 32- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال سألته عن الرجل يتعمد الغناء يجلس إليه؟ قال: لا

«3». 33- ما رواه عنبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال استماع اللهو و الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع «4». 34- ما رواه مسعدة بن زياد قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام): فقال له رجل: بأبي أنت و أمي إني أدخل كنيفاً و لي جيران و عندهم جوار يتغنين و يضربن بالعود،

بحوث فقهية هامة، ص: 60

فربّما أطلت الجلوس استماعاً مني لهن فقال (عليه السلام): لا تفعل، فقال الرجل: و الله ما أتيتُهُن، إنّما هو سماع أسمعه بأذني فقال (عليه السلام): بالله أنت أ ما سمعت الله يقول (إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) فقال: بلى و الله، كأني لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من عربي و لا عجمي، لا جرم أني لا أعود إن شاء الله، و أني أستغفر الله فقال له: قم و اغتسل و صل ما بدا لك فإنك كنت مقيماً على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك، أحمد الله و سله التوبة من كلّ ما يكره، فإنه لا يكره إلّا كلّ قبيح و القبيح دعه لأهله فإن لكلّ أهلًا

«1».

الطائفة السّادسة: ما دلّ على حرمة الغناء في القرآن

و هي أيضاً روايات:

35- ما رواه في عيون الأخبار. عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله) يقول أخاف عليكم استخفافاً بالدين، و بيع الحكم، و قطيعة

الرحم و أن تتخذوا القرآن مزامير تقدّمون أحدكم و ليس بأفضلكم في الدين «2». 36- ما رواه عبد الله بن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) في حديث قال إن من أشراط الساعة إضاعة الصلوات. فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله و يتخذونه مزامير. و يتغنون بالقرآن.

«3». 37- ما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله):

بحوث فقهية هامة، ص: 61

اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها و إياكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر فإنه سيجي ء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانية لا يجوز تراقيهم.

«1» أضف إلى ذلك ما دلّ على وضوح حرمته بين الناس و تحاشي الأئمة (عليهم السلام) عنه بحيث يعرفه كلّ أحد مثل:

38- ما رواه معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضا (عليهما السلام) قال خرجت و أنا أريد داود بن عيسى بن علي، و كان ينزل بئر ميمون و عَلَيّ ثوبان غليظان، فلقيت امرأة عجوزاً و معها جاريتان فقلت: يا عجوز! أ تُباع هاتان الجاريتان؟ فقالت: نعم و لكن لا يشتريهما مثلك! قلت: و لِمَ؟ قالت: لأن إحداهما مغنية و الأخرى زامرة.

«2». و ما دلّ على نزول البلاء على بيوت الغناء مثل:

39- ما رواه زيد الشّحام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)

بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، و لا تجاب فيه الدعوة و لا يدخله الملك «3». هذه أربعون حديثاً تقريباً، فيها صحاح و غيرها و دلالتها على المطلوب قوية، لا سيّما بعد ضم بعضها إلى بعض كما أن سندها متواتر و عليه عمل الأصحاب به.

دليل المخالف [أو الأدلة الدالة على جواز الغناء]

اشارة

لا شكّ

في أن الغناء كان مشتملًا غالباً في تلك الأعصار و في كلّ عصر على محرّمات كثيرة مضافاً إلى هذا العنوان أهمها: كونها من الجواري اللاتي يحرم استماع صوتهن قطعاً بهذه الكيفية، فإذا لم يرضَ الشارع «خضوعهن في القول» فكيف يرضى بمثل ذلك؟! و كذا الضرب بآلات اللهو، و اشتمالها على وصف ما يحرم، أو يوجب الفساد في القلوب. و مخالطة الرجال بالنساء إلى غير ذلك من المحرّمات.

و لا أقل أن هذه الأربعة ممّا كانت من المقارنات الغالبة بل و قد تزيد عليها أمور أخرى أحياناً كشرب الخمور، و مزاولة الغلمان، و غيرهما، و لا يزال المترفون و الجبارون و أهل المعاصي يتعاطونها بهذه الكيفية، فهل هي ناظرة إلى هذا الفرد الشائع الغالب المقارن للمحرّمات، أو نفس عنوان الغناء مجرّداً عنها محرّمة؟

ظاهر ما عرفت من الإطلاقات حرمة الغناء بعنوانه، و لو خلا عن جميع ما ذكر إلّا أن يدلّ دليل على خلافه.

و غاية ما استدلّ به أو يمكن الاستدلال له أمور:

الأوّل [نظر روايات حرمة الغناء الى اختلاط الرجال بالنساء]

ما ذكره في الوافي (و قد أشرنا إليه آنفاً) من أن الذي يظهر من مجموع روايات الغناء أنها ناظرة إلى ما كان متعارفاً في زمن بني أمية و بني العباس من اختلاط الرجال بالنساء، و تكلمهن بالأباطيل، و لعبهن بالملاهي، و أمّا غير ذلك فلا محذور فيه فلا بأس بسماع الغناء بما يتضمن ذكر الجنّة و النار و التشويق إلى دار القرار و الترغيب إلى الله و إلى طاعته. (انتهى ملخصاً) «1».

بحوث فقهية هامة، ص: 63

هذا و قد عرفت أن هذا الانصراف لا وجه له بعد أخذ هذا العنوان في متن الأحاديث الكثيرة الظاهرة في حرمته بنفسه.

الثّاني: الروايات الكثيرة الدالّة على مدح الصوت الحسن

و الأمر به في قراءة القرآن و أنه من أجمل الجمال، و أنه صفة الأنبياء المرسلين و هي كثيرة منها:

1- ما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه و آله)

لكلّ شي ء حلية، و حلية القرآن الصوت الحسن «1». 2- ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال كان علي بن الحسين (عليهما السلام) أحسن الناس صوتاً بالقرآن و كان السقاءون يمرون فيقفون ببابه يستمعون قراءته «2». 3- ما رواه أبو بصير قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) إذا قرأتُ القرآن فرفعتُ به صوتي جاءني الشيطان فقال: إنّما ترائي بهذا أهلك، و الناس، فقال: يا أبا محمّد اقرأ قراءة ما بين القراءتين تسمع أهلك. و رجع بالقرآن صوتك فإن الله عزّ و جلّ يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعاً

«3». 4- و ما رواه الحسن بن عبد الله التميمي عن أبيه عن الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)

حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن

يزيد القرآن حسناً

«4». و هناك روايات أخر رواها الكليني في الكافي «5».

هذا و الإنصاف أنه لا دلالة لشي ء من هذه الروايات على ما نحن بصدده من بحوث فقهية هامة، ص: 64

مسألة الغناء فإن مجرّد الترجيع كما سيأتي ليس غناء، بل الغناء نوع صوت لهوي كما سيأتي تعريفه و الصوت الحسن أعمّ منه، و ما أمر به في القرآن ليس هو القسم اللهوي منه قطعاً نعم لو قلنا بكون مجرّد الترجيع (و هو ترديد الصوت في الحلق) داخلًا في الغناء كان بعض هذه دليلًا على المطلوب، و لعلّ إلى ما ذكرنا يشير بعضها الدالّة على النهي عن «ترجيع القرآن ترجيع الغناء»، فالترجيع له نوعان أحدهما غناء و الآخر ليس كذلك.

الثّالث [ما دل على جواز الغناء في الأعياد و الأفراح

ما رواه في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر و الأضحى و الفرح قال: لا بأس ما لم يعص به «1». فلو كان المراد من «عدم العصيان به» عدم وجود محرم آخر معه كان دليلًا، و أمّا لو كان عدم العصيان بنفس الغناء أعني الصوت كان دليلًا على الخلاف، و لكن ظاهره أن مجرّد الغناء ليس معصية و لكن سند الحديث محل إشكال.

و روى هذا الحديث علي بن جعفر في كتابه إلّا أنه قال «ما لم يزمر به» و سنده أوضح لصحّته كدلالته لأن عدم التزمر به بمعنى عدم كون المزمار معه فهو دليل على عدم كونه بنفسه حراماً بل بما يقترن معه.

و أمّا ما في مصباح الفقاهة من أن المراد عدم كون الصوت صوتاً مزمارياً «2» فهو يحتاج إلى تقدير أو مجاز و هو مخالف لظاهر الحديث.

كما أن احتمال اختصاص الحكم بمورد الرواية

أبعد لأن الفرح أمر عام يشمل جميع أنواع الفرح الذي يقارنه.

الرّابع [ما دل على نفي البأس عن أجر المغنية التي تزف العرائس

ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) بعدّة طرق ففي طريق قال: قال (عليه السلام)

أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، و ليست بالتي يدخل عليها الرجال «1». و رواه في الوسائل بطريق آخر يتصل إلى أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن كسب المغنيات فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس (الحديث) «2» و دلالته أوضح من سابقه.

و قد يجاب عنهما بأن استثناء زفاف العرائس لا دلالة على جواز ذلك مطلقاً، و لكن يرد عليه أن التعبير فيهما إنّما هو بعنوان عام بل هو شبه تعليل، فإن قوله (عليه السلام) في الأول منهما

«و ليست بالتي يدخل عليها الرجال»

في مقام التعليل، و أوضح منه جعله في الرواية الثّانية في مقابل ما يدعى إلى الأعراس فقال «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس و هو قول الله عزّ و جلّ (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ.).

و حيث إن سند الأولى مصحح، فهي من حيث السند قابلة للاعتماد.

الخامس [ما دل على جواز شراء الجارية ذات الصوت الحسن للتذكير بالجنة]

ما رواه مرسلًا في الفقيه (محمّد بن علي بن الحسين) و قد مرّت الإشارة إليه قال سأل رجل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن شراء جارية لها صوت فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّة. يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء. فأمّا الغناء فمحظور

«3». و فيه مع ضعف السند أنه لا دلالة له على المطلوب بعد كون الصوت الحسن عاماً

بحوث فقهية هامة، ص: 66

و بعد التصريح بنفي القسم الذي يدخل في الغناء بل هو على خلاف المطلوب أدلّ.

السّادس: يمكن الاستدلال على المسألة بما دلّ على جواز الحِداء للإبل

فإن الظاهر أنه نوع غناء، بناءً على تفسيره بالصوت المطرب، و قلنا أن الطرب حالة خفة تعرض النفس لشدّة الفرح أو الحزن فإنه من أظهر مصاديقه حينئذ بل لو لا كونه مطرباً ما أفاد فائدة للإبل.

نعم، لو قلنا هو الصوت اللهوي المناسب لمجالس أهل الفسوق لم يكن من مصاديقه، و سيأتي الكلام فيه إن شاء الله.

إلّا إنه لا يوجد دليل على هذا الاستثناء في رواياتنا المعروفة عدا ما يحكى عن طرماح بن عُدي في مسير الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء «1» و الظاهر أنه حديث مرسل.

نعم، في روايات العامة من ذلك شي ء كثير من حذاء عبد الله بن رواحة عنده (صلى الله عليه و آله) و حذاء غلام يقال له «أنجشة» و «البراء بن مالك» ممّا يدلّ كلّه على الجواز «2».

السّابع: ما دلّ على جواز النياحة

لا سيّما ما رواه سماعة، قال سألته عن كسب المغنية و النائحة فكرهه «3». فلو كانت الكراهة بمعناها المصطلح كما هو الظاهر هنا كان دليلًا على المطلوب، و لكن السند لا يخلو عن ضعف، هذا مضافاً إلى أنه لو فسر الغناء بالصوت المطرب كانت النياحة من مصاديقه، لاشتمالها على الطرب بمعنى الحزن.

فتلخص من جميع ما ذكرنا أن هناك روايتين معتبرتين تامتي الدلالة على بحوث فقهية هامة، ص: 67

مطلوب المخالف، و الباقي يكون مؤيداً لهما، و لكن هل يمكن الاعتماد عليهما مع مخالفة الأصحاب و إعراضهم عنهما أو حملهما على الاستثناء في بعض الموارد أو على التقية في مقابل الروايات الكثيرة السابقة؟

و يمكن أن يكون وجه إعراضهم كونها مخالفة للاحتياط أو كون ما يدلّ على قول المشهور أكثر فلا أثر لإعراضهم و الحمل على التقية خلاف الظاهر، فعلى هذا، الجمع بينهما و بين الأحاديث المحرّمة

بما سبق من المحدّث الكاشاني ممكن، و لكن لا يخلو من إشكال و سيأتي له مزيد توضيح بعد بيان حقيقة الغناء.

و يمكن تأييد ما ذكر من الجواز إذا خلا عن المحرّمات الأخر بأمور:

1- التصريح بدخوله في قول الزور الظاهر أنه بيان بعض مصاديقه الخارجية لا التعبدية، و لعلّه ما اشتمل على مضامين باطلة دون غيره.

2- تفسير لهو الحديث به، و هو يدلّ على كون محتواه باطلًا مُضلًا.

3- ذكر المغنية في أكثر روايات الحرمة أو القينات لا المغني، و لا شكّ أن صوت المرأة مع هذا الوصف حرام بنفسه.

4- ذكر بيت الغناء أو مجلس الغناء أو شبه ذلك ممّا يدلّ على أن المراد ما اشتمل على أمور أخر.

5- ما ورد أنه من اللغو أو من الباطل و أن الله إذا ميّز بينهما (الحقّ و الباطل) كان من الأول فإنه مشعر باشتماله على أباطيل، و لكن مع ذلك العدول عمّا ذكره المشهور المؤيد بروايات كثيرة متواترة مشكل جدّاً.

المقام الثّاني: في معنى الغناء و حقيقته

اشارة

هذا المقام معركة للآراء و الخلاف الشديد بين أهل اللغة و فقهائنا و إليك نبذة ممّا ذكره أرباب اللغة و أكابر الفقه:

1- هو الصوت (كما عن المصباح المنير).

2- هو مد الصوت (كما عن بعض من لم يسم).

3- هو ما مد و حسن و رجع (كما عن القاموس).

4- إنه تحسين الصوت و ترقيقه (كما عن الشافعي).

5- كلّ من رفع صوتاً و والاه فصوته عند العرف غناء (عن محكي النهاية).

6- إنه الصوت المطرب (كما عن السرائر و الإيضاح و القاموس).

7- إنه الصوت المشتمل على الترجيع المطرب (كما عن مشهور الفقهاء).

8- كلّ صوت يكون لهواً بكيفية و معدوداً من ألحان أهل الفسوق و المعاصي فهو حرام، و إن فرض أنه ليس بغناء،

و كلّ ما لا يعد لهواً فليس بحرام و إن فرض صدق الغناء عليه فرضاً غير محقق (اختاره العلّامة الأنصاري (قدس سره)).

و يظهر ممّا ذكره في ذيل كلامه أن الغناء عنده بمعنى الصوت اللهوي المعدود من ألحان أهل الفسوق و صرّح به بعض محشي المكاسب أيضاً من أعلام العصر «1».

بحوث فقهية هامة، ص: 69

9- إنه ما سمي في العرف غناء و إن لم يطرب (كما اختاره في الحدائق).

10- إنه ما يسمى في العرف غناء (حكي عن المشهور أيضاً).

و من الواضح أن المعاني الخمسة الأولى ليست تعاريف جامعة و مانعة بل من قبيل شرح الاسم لوضوح أن مجرّد الصوت أو تحسينه أو رفعه و تواليه ليس بغناء قطعاً.

كما أن التعريفين الأخيرين ليس تعريفاً بل اعتراف بعد إمكان ضبطه تحت تعريف جامع، مضافاً إلى أنه يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره) و هو من أهل اللسان بأنه الآن مشتبه بين عرف عامة سواد الناس من العرب لعدّهم الكيفية الخاصّة من الصوت في غير القرآن و الدعاء و تعزية الحسين غناء و نفي ذلك عنها فيها و ما ذاك إلّا لاشتباهه للقطع بعدم مدخلية خصوص الألفاظ فيه «1».

فحينئذ يبقى من هذه المعاني، الثلاثة الأخيرة قبلهما، ففي واحد منها أخذ قيد «الطرب»، و في الآخر «الترجيع و الطرب» و في الآخر التعريف باللهو المناسب لمجالس أهل الفسوق، فنقول إنّما الكلام في معنى الطرب و اللهو، و الظاهر أنه ليست الكلمتان أوضح تفسيراً من نفس الغناء! أمّا «الطرب» فالمعروف في تفسيره في كتب اللغة و الفقه أنها خفة عارضة لشدّة سرور أو حزن، و أمّا هذه الخفّة ما هي؟ فهل هي خفة في العقل شبيه السكر الحاصل بأسبابه، أو خفة

في النفس بمعنى النشاط و الانبساط و الانشراح، الذي يكون في كلتا الحالتين، أو لذّة خاصّة حاصلة منهما جميعاً فبعض الأحزان ممّا يلتذ منه الإنسان كالسرور.

و الإنصاف أن الطرب ليس أوضح من الغناء كما ذكرنا، حتّى يرفع إبهامه به و إن بحوث فقهية هامة، ص: 70

كان يظهر من بعض العبارات أنها هي النشوة السكرية و هو غير ظاهر.

ثمّ إن المدار على «الطرب» بالفعل لكلّ أحد أو لأكثر أو الطرب بالقوّة، و الأول منتف في كثير من مصاديقها.

أمّا «اللهو» فإن كان بمعناه الوسيع فلا إشكال في جوازه في الجملة فإن الذي يُلهي الإنسان عن ذكر الله أو يلهيه عن أمور الحياة التي يعتادها أكثرها حلال و إن كان بمعنى أخص من هذا فما هذه الخصوصية؟

نعم، أحسن كلام ذكر في المقام هو ما أفاده شيخنا الأعظم الأنصاري و هو: أن الغناء هي الألحان المناسبة لمجالس أهل الفسوق و المعاصي. و نزيد عليه أن تناسبها المقارنة لضرب الآلات و الرقص و التصفيق و شبه ذلك و إن لم تكن بالفعل.

و أمّا الأصوات الحسنة و الطيبة و إن كان فيها نوع طرب أعني نشاطاً و انبساطاً و فرحاً أو حزناً كما هو كثير عند قراءة آيات القرآن بالصوت الحسن و ذكر الجنّة و نعيمها و النار و عذابها فلا بأس به.

نعم، له مصاديق كثيرة مشكوكة و القاعدة تقتضي الأخذ بالقدر المتيقن المعلوم و إجراء البراءة فيما زاد عليه فإنه من قبيل الأقل و الأكثر الاستقلاليين.

الألحان على ثلاثة أقسام:

و من الجدير بالذكر أن الألحان فيما نعلمه و نُشاهده على ثلاثة أقسام:

قسم منها لا يناسب مجالس الفسوق أصلًا، و قسم منها يختص بها، و قسم ثالث مشترك بين الأمرين فإن كان محتواه أمراً

باطلًا فاسداً شهوياً يختصّ بها، و إن كان أمراً صحيحاً حقّاً يكون في مجالس الحقّ أيضاً كما لا يخفى على من سبرها.

و من هنا يعلم أنه قد يكون لمفاد الألفاظ تأثيراً في صيرورة الألحان غناء، و لكن بحوث فقهية هامة، ص: 71

قد لا يكون أي أثر للمحتوى فيها، بل لحن فسوقي و لو كان في القرآن، بل يكون حينئذ أشد حرمة لما فيه من الهتك و الإهانة لكلام الله تعالى.

و الحاصل أن اللحن قد يكون علّة تامة لكونه غناء، و أخرى يكون علّة ناقصة تتمّ مع ما فيه من المضمون، و الشاهد له وجود الألحان المشتركة بين ألحان أهل الفسوق و غيرهم.

و من هنا يمكن توجيه كلام المحدّث الكاشاني و من يحذو حذوه، بأن مرادهم جواز خصوص القسم المشترك إذا خلا عن مضامين باطلة، و إلّا فمن البعيد جدّاً تجويزه للألحان المختصّة بأهل الفسوق و العصيان التي يأباها كلّ متشرع من العوام و الخواص و إن كانت بعض عبائره تأبى عن هذا المعنى.

و قد تلخص ممّا ذكرنا أنه لو قلنا بعدم حرمة الغناء ذاتاً و إنّما المحرّم هو لوازمها أحياناً فلا كلام، و لو قلنا بالحرمة في الجملة و إن خلت من جميع المقارنات و العوارض المحرّمة فالقدر المتيقن منه ما يختص بمجالس أهل الفسوق و الفجور أعني الألحان المختصّة بهم، و هذا المعنى ليس أمراً خفياً معضلًا بل يعرفه أهل العرف خواصهم و عوامهم، و إن كانت له مصاديق مشكوكة، كما هو الشأن في جميع المفاهيم، و الحكم في المشكوكات هو البراءة و إن كان الاحتياط طريق النجاة.

(بقي هنا أمور:) 1- ذكر بعض الأعلام أن المحدّث الكاشاني لم ينكر حرمة الغناء مطلقاً بل قسمه

إلى قسمين:

قسم محرّم، و هو ما اشتمل على مقارنات محرّمة، فإذا قارنه ذلك كان نفس الغناء أيضاً محرّماً، و لذا حرّم أخذ الأجرة عليه حينئذ، و قسم محلّل و هو ما خلا عن ذلك، فليس ما ذكره مخالفاً للإجماع حتّى يقابل بالطعن و النسبة إلى الأراجيف «1».

بحوث فقهية هامة، ص: 72

و الإنصاف أن ما أفاده لا أثر له في كون كلامه مخالفاً لما ذكره عامّة الأصحاب، فإن ظاهر كلامهم أو صريحه حرمته، و إن خلا عن كلّ محرّم، نعم طريق الجواب لا سيّما في قبال علماء الدين على كلّ حال لا بدّ أن يكون بالحكمة و الموعظة الحسنة و بالتي هي أحسن.

2- قد ظهر ممّا ذكرنا حال «النشيد» المعمول اليوم و ما يجري في مجالس العزاء و المواكب الحسينية (عليه السلام) و أنها ليست من ألحان أهل الفسوق غالباً و كذا «الهوسات»، و ما يشجع الجيش في الميدان، فهي محلّلة بحسب الأصل، نعم لو وجد فيها بعض ما يختص بأهل الفسوق فهو حرام، و كذا الكلام في «النوح و النياحة» لعدم صدق ما ذكر عليها إلّا أحياناً كما هو ظاهر.

3- لا يخفى أن الغناء يتفاوت بتفاوت العرف و العادات، فرب صوت بين قوم من مصاديقه، و لا يعد بين أقوام آخرين منها، بل قد يتفاوت بالأزمنة فما يكون عندنا غناء، ربّما لم يكن غناء عند بعض الماضين و بالعكس، كما يتراءى ذلك بين المسلمين و غيرهم و بين العرب و العجم.

و منه يعلم إنّما ذكره بعض الأعلام في مكاسبه من أن الألحان المتداولة اليوم المسمّى بالتصنيف ليست من مصاديق الغناء، و هو عجيب، بل هو القدر المتيقن منه، و لعلّه حيث لم يرَ في كثيرها

مدّ الصوت أو الترجيع لم يعده من الغناء، و قد عرفت أن المدّ أو الترجيع غير معتبر في مفهومه و الطرب الحاصل منه أكثر من غيره قطعاً، و العمدة كونها من ألحان أهل الفسوق و العصيان.

المقام الثّالث: في المستثنيات

اشارة

و قد ذكر هنا أمور

أولها- الغناء في الزفاف و الأعراس

حكي عن جمع من أعاظم الأصحاب استثناؤه، بل حكى في الجواهر عن بعض مشايخه نسبته إلى الشهرة، و اختاره هو في ذيل كلامه، و إن كان ظاهر عبارة الشرائع و بعض آخر الحرمة حيث لم يستثن ذلك من أدلّة الحرمة، بل حكى التصريح بعدم الجواز عن ابن إدريس و فخر المحقّقين، و على كلّ حال لا يبعد استثناؤه بعد ورود الحديث الصحيح به و هو ما رواه أبو بصير، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن كسب المغنيات فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس.

»

. و يؤيد حديثه الآخر (2/ 15) و خبره الثّالث (3/ 15) و الظاهر أن الجميع واحد و إن رويت بإسناد مختلفة.

نعم، صرّح بعضهم بعدم كون اشتماله على محرم آخر كاللعب بآلات اللهو أو التكلّم بالباطل أو ورود الرجال عليهن كما هو صريح الرواية.

بحوث فقهية هامة، ص: 74

و لا يخفى أن هذه و إن كانت أموراً خارجة عنها و لكن حيث إن التجويز في أصله قد يتوهم منه جواز ما قارنه كثيراً في الخارج كان من اللازم نفيه.

و بالجملة إباحة أجرة المغنية التي تدعى إلى الأعراس دليل على جواز فعلها و استماع النساء منها بما مرّ من الشرائط.

نعم قد يقال بانحصاره في المغنية فلا يشمل المغني، و لا يشمل مثل مجالس الختان و غيره، هذا و الإنصاف دخولها في صحيحة علي بن جعفر (5/ 15) من استثنائه في الأفراح و هو من مصاديقه، فهذا استثناء ثان في الحكم و هو أيضاً غير بعيد مع الشرائط السابقة و سيأتي الكلام فيه.

ثانيها- في أيّام الأعياد و الأفراح

و إن لم يتعرض له كثير منهم، و لكن بعد وجود الدليل المعتبر

عليه و عدم ظهور إعراض عنه لا مانع من العمل به و هو صحيحة علي بن جعفر و قد مرّت.

و لكنّ لا بدّ من خلوة من المقارنات المحرّمة من التكلّم بالأباطيل و دخول الرجال على النساء كما أشير في ذيلها.

و لعلّ المراد بالفرح ليس كلّ فرح حتّى يستوعب التخصيص كما أشرنا إليه فيما سبق، بل الأفراح مثل الأعياد و الختان و الأعراس و المواليد و شبه ذلك، و ما في الجواهر «1» من المحامل المختلفة في الحديث من التقية أو خصوص العرس في اليومين أو إرادة التغني على وجه لا يصل حدّ الغناء بعيدة لا داعي إليه، نعم الأحوط ترك ما يختصّ بأهل الفسوق و العصيان حتّى في هذه الأيّام.

كما أن اختلاف ذيلها (لم يزمر به- أو لم يعص به) لا يوجب اضطراب متنها بعد

بحوث فقهية هامة، ص: 75

قرب المعنيين، و كون الباء بمعنى «مع» ظاهراً مع صحّة ما ورد في كتاب علي بن جعفر (عليهما السلام) و عدم ثبوت صحّة ما في قرب الإسناد.

ثالثها- «الحداء»

استثناه جماعة منهم المحقّق في شهادات الشرائع و العلّامة و الشهيد فيما حكي عنهم، بل حكي عن المشهور و لكن صرّح غير واحد منهم بعدم وجدان دليل عليه في مصادر حديثنا.

قال في الحدائق «لم أقف في الأخبار له على دليل و لم يذكره أحد» «1».

أقول: قد عرفت أن في بعض روايات المقاتل إشارة إليه و قد عقد له في سنن البيهقي باباً أورد فيه أحاديث كثيرة تدلّ على وقوعه بمحضر النبي (صلى الله عليه و آله) عن عدّة أشخاص منهم «عبد الله بن رواحة» و «البراء بن مالك» و غلام يسمى «أنجشة» «2».

و العمدة ما عرفت من عدم شمول عنوان

الغناء له، نعم لو فسر الغناء بمطلق الصوت الحسن دخل فيه، و لكن لا وجه له، فعلى هذا لا دليل على حرمته حتّى يحتاج إلى استثناء.

رابعها- المراثي

استثناها بعضهم كما حكاه صاحب الحدائق عن الكفاية إنه قال «و هو غير بعيد» ثمّ ذكر صاحب الحدائق نفسه: «بل هو في غاية البعد لعدم الدليل عليه».

هذا و قد عرفت أن النياحة المتعارفة في مجالس العزاء لا تدخل في عنوان الغناء لعدم كونها صوتاً لهوياً مناسباً لمجالس أهل الفسوق و العصيان، فكأنهم رأوا للغناء

بحوث فقهية هامة، ص: 76

معنى عاماً يشمل كلّ صوت حسن كما يظهر من بعض أهل اللغة فذكروا هذا مستثنى عنه، أو استثناء الحداء و غيره أيضاً من هذا القبيل. و فيه ما عرفت من أنها ليست كلّ صوت حسن بل صوت خاص.

و أمّا ما استدلّ له من استقرار سيرة أهل الشرع عليه أو كونه معيّناً على البكاء و شبهه غير ثابت، أو غير كاف أمّا السيرة فلعدم اتصالها بزمان المعصوم، و أمّا الإعانة على البكاء فلعدم جواز التوصل بالحرام إلى أمر مستحب كما هو واضح، فالحقّ خروجه عنه موضوعاً و لو كان من ألحان أهل الفسوق لم يجز في المراثي قطعاً.

خامسها- في قراءة القرآن

و قد حكي عن مشهور المتأخّرين نسبة استثناء الغناء فيه إلى صاحب الكفاية أيضاً، و لكن الظاهر من كلامه أنه أخذ الغناء بمعنى وسيع يشمل كلّ صوت حسن فيه و تحزين و ترجيع، و لكن قد عرفت أن معناه أخصّ من ذلك، فليس مجرّد هذه الأمور بغناء ما لم يكن الصوت مناسباً لمجالس أهل الفسوق و العصيان.

و على كلّ حال ما دلّ على استحباب حسن الصوت في القرآن و ما ورد في شأن علي بن الحسين (عليهما السلام) لا يدلّ على جواز الغناء فيه و لو بإطلاقه، بل هو (عليه السلام) خارج عن موضوع الغناء فلا تصل النوبة إلى معارضتها بأدلّة

حرمة الغناء حتّى يتكلّم في النسبة بينهما، و لو فرض التعارض بينهما فلا شكّ في تقديم أدلّة حرمة الغناء لأنها أقوى، و لأنها من قبيل ما فيه الاقتضاء في مقابل ما لا اقتضاء فيه.

و يدلّ على ما ذكرنا أيضاً ما ورد من النهي عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق و اتخاذه مزامير «1».

سادسها- ذكر صاحب الجواهر أنه «لا بأس بالهلهلة

على الظاهر لكونها صوتاً من غير لفظ، و الغناء من الألفاظ» «1».

و الظاهر أن مراده ما يسمّى عندنا بالهلهلة، و ما ذكره في حكمه جيّد و لكن التعليل بأن الغناء من الألفاظ لا يخلو عن شي ء إلّا أن يقال إن مراده أن الغناء من الكيفيات العارضة للألفاظ و الهلهلة ليس بلفظ لعدم وجود حروف التهجي فيها، و الأولى أن يقال ليس فيها شي ء من أوزان الغناء.

هذا مضافاً إلى أنه ليس صوتاً لهوياً من ألحان أهل الفسوق، نعم كونها من النساء قد يتوهم كونه داخلًا في الخضوع بالقول و لكنه غير ثابت (سواء كان في مجالس الفرح كما عندنا أو في مجالس العزاء كما عند العرب أحياناً) و على كلّ حال لا يبعد جوازه و لا أقل من الشكّ و الحكم فيه البراءة، إلى هنا تم الكلام في الغناء و فروعه، و أمّا الضرب بالآلات فله مقام آخر و إن كان من كثير من الجهات كالغناء موضوعاً و حكماً فتدبر فإنه حقيق به.

3- العبادة في المناطق القطبيّة

اشارة

(حكم العبادة في المناطق القطبيّة)

ظهور الشمس في منتصف الليل!

اشارة

هل يصحّ أن يكون الإسلام ديناً عالميّاً في حين أنّ بعض أهم أحكامه الشرعيّة من قبيل (الصلاة و الصوم) غير قابلة للتطبيق في جميع البقاع المعمورة؟

إنّنا نعلم أنّ هناك مناطق في القطب بين الشمالي و الجنوبي يستغرق فيها كلّ من الليل و النهار ستة أشهر. فمن البديهي عدم إمكانيّة الصوم و كذلك الصلاة اليوميّة بشكلها المقرّر في تلك المناطق.

و هذا الإشكال كثيراً ما طُرح من هنا و هناك في قبال مسألة (عالميّة الدين الإسلامي).

و قبل فترة ذكرت إحدى المجلات المعروفة هذا الإشكال و صاغته بصياغة عجيبة و غريبة حيث قالت: «. بزوغ الشمس منتصف اللّيل يشكّل خطراً على الإسلام.».

إذا كنتم أيّها المسلمون تعتقدون بالإسلام بشكل جازم و تؤدّون الفرائض الدينيّة لوقتها فعليكم أن تدعوا أن لا يكون شهر رمضانكم في (فنلاند) أو أي بلد يقع في نواحي القطب، لأنّه كما هو معلوم أنّ الشمس في شهر (أُوت) لا تغرب. و هذا الموضوع أصبح يشكّل مشكلة عويصة لعلماء (الأزهر) في مصر.

بحوث فقهية هامة، ص: 82

و الآن يعيش بعض المسلمين في (فنلاند) و قد سافروا إليها لأسباب مختلفة، و بما أنّ الشمس لا تغرب في شهر (أُوت) أو تغرب مقداراً قليلًا جدّاً بحيث لا توجب معها فرصة لتناول وجبة غذاء كاملة، فمن ذلك وقع المسلمون في فنلاند في ورطة أمام هذه المشكلة العويصة. فهل يجب عليهم صوم جميع شهر رمضان من أوّله إلى آخره، و الإمساك عن الأكل؟ (و هذا أمر محال)، أو يتركوا إحدى الفرائض المقدّسة لدينهم؟ و لهذا السبب راجعوا لمعرفة حل هذه المشكلة العلماء و الفقهاء في مصر لكنّ هؤلاء العلماء لم يجدوا حلًّا لهم لحد الآن».

هذا هو خلاصة

الكلام الذي نشرته المجلّة المذكورة قبل عدّة سنوات، و قد يرد هذا التساؤل بين حين و آخر حول هذه المسألة.

الجواب: كما سيتّضح بعد قليل أنّ بزوغ الشمس في منتصف الليل في «فنلاند» لا تشكّل خطراً على الإسلام، و لا أنّه يجب على المسلمين في تلك المناطق الصوم و الإمساك عن الطعام طيلة شهر كامل أو شهور أي إنّهم يقومون بعملية انتحارية في هذه الصورة، و ليست هناك ضرورةً إلى نقض هذه الوظيفة الدينيّة المقدّسة أي (الصوم)، و لا أنّ علماء الإسلام سواءً من الشيعة أو أهل السنّة عاجزون عن حلِّ هذه المسألة، و ليس من الصحيح أن تسمّى هذه المسألة بأنّها (مشكلة عويصة).

فالجواب على هذه المسألة مذكورٌ في الكتب الفقهيّة، حيث بيّن الفقهاء فيها وظائف المسلمين و تكاليفهم، غاية الأمر أنّ ابتعاد هؤلاء المستشكلين عن بلاد الإسلام و عدم اتّصالهم بعلماء الدين أبرز هذا التساؤل لهم و اعتبروها مشكلة عويصة.

و من الواضح أيضاً أنّ هذه المشكلة لا تنحصر بالصوم فحسب، بل تتجلّى في بحوث فقهية هامة، ص: 83

الصلاة و كثير من التكاليف الدينيّة أيضاً في هذا الموضوع. فهل يمكن القناعة بأداء طيلة شهر كامل أو أكثر؟ و هل يمكن في تلك المناطق التي يبلغ فيها طول اليوم (ستة أشهر) و يتبعه الليل الذي تستغرق مدّته ستة أشهر أيضاً أن يصلّي الإنسان (17) ركعة من الصلاة اليوميّة طيلة سنة كاملة؟ و لا يُعلم السبب الذي حدي بهذا الكاتب أن يحصر الخطر على الإسلام بزوغ الشمس في منتصف الليل في فنلاند، فلو فرضنا أن اليوم الطويل في شمال فنلاند أو بقية المناطق القطبيّة يولد خطراً و مشكلة عويصة، و لكنّ ذلك لا ينحصر بالإسلام، بل يتوجّه أيضاً

إلى أداء مراسم (يوم الأحد) للمسيحيين، و كذلك صلاة و صوم اليهود و غيرهم، لأن الأعمال و الطقوس العباديّة موجودة في جميع الأديان، و هي ترتبط بعضها بالليل و النهار و الأسبوع و الشهر.

و كما تقدّم أنّ هذه المسألة قد نوقشت منذ مدّة طويلة في الفقه الإسلامي، و أجاب عليها العلماء بصراحة، إلّا أنّ هؤلاء المستشكلين و لعدم اتّصالهم و ارتباطهم بأمثال هذه الكتب و الدراسات تصوّروا أنّ المسألة كما هي عويصة في أفكارهم، فإنّها كذلك بالنسبة إلى غيرهم من المسلمين «1»، و على كلّ حال قبل البدء بالجواب من اللازم الإشارة إلى ثلاث نقاط:

إشكاليّة الليل و النهار في المناطق القطبيّة

1- إنّ استطالة الليل و النهار لأكثر من أربع و عشرين ساعة لا يختصّ بدولة (فنلاند) و بعض المناطق القريبة منها فحسب، بل يتعلّق بجميع المناطق الواقعة

بحوث فقهية هامة، ص: 84

إلى الشمال من خط 5، 66 درجة إلى 90 درجة.

و بعبارة أخرى: أنّ في جميع المناطق الموجودة بين خط 5، 66 و خط 90 درجة التي هي النقطة المركزية في القطب الشمالي أو القطب الجنوبي يكون الليل و النهار طويلًا في جميع السنة أو بعضها. و كلّما تقدّمنا إلى الشمال من خط 5، 66 فإنّ مدّه الليل و النهار ستطول، فمثلًا في النقطة الشماليّة من (فنلاند) التي تقع على خط 70 درجة تقريباً في الشمال فإنّ مدّه اليوم الطويل فيها تبلغ (شهرين) حيث يبدأ من أوائل شهر (أُوت) و يستمر بعدها إلى أكثر من شهرين، و هكذا يستغرق الليل فيها شهرين أيضاً (أي إنّ الليلة الطويلة من الناحية الفصليّة تقع مقابل ذلك النهار الطويل).

و عند ما نصل إلى خط العرض 74 درجة تكون مدّة يوم واحد (ثلاثة أشهر)، و كذلك

يستغرق الليل، و هكذا يستمر الليل و النهار في الزيادة كلّما ارتفعنا أكثر باتجاه القطب حتّى نصل إلى نقطة القطب يعني الدرجة (90).

و في هذه المنطقة من الكرة الأرضية تتكون السنة الواحدة من نهار واحد و ليلة واحدة فقط! بدل 360 يوم و مدّة كلٍّ منهما ستة أشهر! و لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ العدد ستة أشهر غير دقيق، لأن طول اليوم في نقطة القطب الشمالي (ستة أشهر و عدّة أيّام) و طول الليل (ستة أشهر إلّا عدّة أيّام) و لكن في القطب الجنوبي على العكس من ذلك.

و مجموعة النقاط التي تقع فوق خط العرض 5، 66 إلى (90) درجة تسمّى (مناطق قطبيّة)، ثم إنّ القطب الجنوبي خال من السكّان، و لكن المناطق في القطب الشمالي يوجد أفراد قلائل يعيشون فيها و خاصّة في القسم الشمالي من فنلاند، و السويد، و النروج و روسيا. و أخيراً توجهت مجموعات من العلماء و الباحثين إلى المناطق القطبيّة في الشمال و الجنوب للبحث و الدراسة العلميّة، و يمكن أن نعتبرهم من بحوث فقهية هامة، ص: 85

سكّان هذه المناطق بصورة مؤقّتة.

و لكنّ ممّا لا شكّ فيه أنّه حتّى لو سكن شخص واحد في هذه المناطق أو أنّه سافر لمدّة قليلة إليها، فينبغي استنباط حكمه الشرعي من المتون الإسلامية التي تعتبر عالميّة و لا تختص بنقطة خاصّة من الكرة الأرضية.

أمّا في المناطق التي تقع أسفل خط العرض 5، 66 درجة فإنّها تتمتّع في جميع أيّام السنة بالنهار و الليل، غاية الأمر أنّهما يتساويان في المدّة الزمنية في يومين من أيّام السنة (بداية الربيع و بداية الخريف) و يختلفان في بقيّة الأيّام حيث يزداد أحدهما تدريجيّاً على الآخر أو ينقص.

و أمّا

في خط الاستواء الذي يعتبر بمثابة الحزام حول الكرة الأرضيّة، فإنّ مدّه الليل و النهار متساوية فيهما دائماً و على طول أيّام السنة حيث يعادل كلّ منهما 12 ساعة، و لا يوجد أي تفاوت بينهما في أيّام الصيف و الشتاء بينهما.

معرفة وقت الظهر و منتصف الليل في المناطق القطبيّة:

2- النقطة الأخرى التي تعتبر ضروريّة لحلِّ هذه المسألة هي أنّ الشمس في المناطق التي لا تغرب فيها و كما يصطلح أنّها «شمس في منتصف الليل» نلاحظ أنّ الشمس في الأفق في حالة حركة دائرية دائماً، حيث تدور حول الأفق دورة كاملة كلّ أربعة و عشرين ساعة (و في الواقع أنّ الكرة الأرضية هي التي تدور، و لكنّه يظهر للناظر أنّ الشمس هي التي تدور).

يعني أنّكم لو كنتم لمدّة شهر في بعض مدن فنلاند التي لا تغرب فيها الشمس، فسوف ترون أنّ قرص الشمس يقرب من الأفق دائماً و يدور حوله كما تدور عقارب الساعة، و في كلّ أربع و عشرين ساعة تدور الشمس دورة كاملة في الأفق بحوث فقهية هامة، ص: 86

بشكل تدريجي من جانب المشرق إلى الجنوب، و منه إلى جهة المغرب، و من المغرب إلى الشمال، و تعود مجدّداً إلى نقطة الشرق. و الجدير بالذكر أنّ قرص الشمس بالرغم من أنّه يُرى إلى جانب الأفق دائماً، و لكنّ الفاصلة بينه و بين الأفق تختلف من مكان لآخر، يعني أنّ الشمس تصعد قليلًا أحياناً، ثمّ تهبط شيئاً فشيئاً إلى جهة الأفق حتّى تصل إلى حدّها النهائي، ثمّ تبدأ في الصعود من جديد و هكذا.

و السبب في تغيير وضع الشمس هو انحراف محور الأرض 5، 23 درجة بالنسبة إلى خط المدار (فتأمّل جيداً).

و بهذا الترتيب يمكن أن نحسب نصف اليوم عند ما تصل

الشمس إلى آخر نقطة من ارتفاعها لأن الشمس في هذا الوقت تكون على خط نصف النهار تماماً.

و بعبارة أوضح: أنّ الشمس عند ما تصعد تماماً يحين وقت الظهر في تلك المنطقة. و عند ما تهبط إلى آخر نقطة (و تصل إلى الحدّ الأقل من ارتفاعها) تكون بالضبط في موقع (منتصف الليل)، فعلى هذا تكون الشمس في الحدّ الأقل من الارتفاع هي الشمس في منتصف الليل.

و من الواضح أنّ ضياء الشمس يختلف في مدّة الأربع و العشرين ساعة في هذه المناطق، فعند ما ترتفع الشمس و يكون النهار قد حلّ في تلك المناطق، فإنّ الجوّ سيكون مشرقاً، و عند ما تهبط الشمس إلى مقربة من الأفق فسيقل الضوء بطبيعة الحال و يميل إلى الظلام هو الحال ما بين الطلوعين عندنا.

و على هذا الأساس نفهم من أنّ سكّان تلك المناطق يتمتّعون في الأربع و العشرين ساعة بليل و نهار، و لكن ليس مثل الليل و النهار عندنا.

و هكذا يتّضح ممّا تقدّم آنفاً أنّ تشخيص وسط الظهر و منتصف الليل بشكل دقيق في تلك المناطق أمرٌ بسيط تماماً، و يستطيع كلّ فرد معرفة الظهر و منتصف الليل من بحوث فقهية هامة، ص: 87

خلال شاخص قصير (عود من خشب أو عمود من حديد ينصب بصورة عموديّة على الأرض) من خلال زيادة و نقيصة ظل الشاخص، فعند ما يصل ظلٌ الشاخص إلى حدّه الأقل يحين وقت الظهر، و عند ما يصل إلى حدّه الأكثر، ففي ذلك الوقت يكون منتصف الليل.

و لكن قد تقول: لقد اتضحت لدينا مسألة تعيين الظهر و منتصف الليل في تلك المناطق حين يكون النهار طويلًا، و لكن عند ما يكون الليل طويلًا ما ذا نصنع؟

و في

الجواب نقول: إنّ من حسن الحظ أنّ حركة النجوم و الكواكب في هذه الليالي الطويلة حول الأفق تشبه حركة الشمس في النهار هناك.

و بعبارة أوضح نقول: إنّ الكواكب هناك لا تتمتّع بالطلوع و الغروب كثيراً، بل إنّها تدور و تطوف حول الأفق بشكل جماعي (و طبعاً أنّ الحركة و الدوران إنّما هو للأرض لا للنجوم).

غاية الأمر، أنّ دوران النجوم حول الأفُق لا يتشابه في كلّ الحالات، فتارة نلاحظ صعودها عن خط الأفق ثمّ هبوطها إليه كذلك، فلو أخذنا نجمة واحدة و لاحظنا صعودها إلى الحدّ الأعلى من الأفق فعندها نعلم أنّ ذلك الوقت هو منتصف النهار. و هو وقت الظهر هناك حتماً، و عند ما تهبط إلى الحدّ الأدنى من الأفق فنعلم أنّه منتصف الليل.

و لا ينبغي الغفلة عن أنّ ظلام الليل في تلك المناطق لا يكون سواسية دائماً، ففي مدّة الأربع و العشرين ساعة نلاحظ أنّ الجو تخف فيه الظلمة قليلًا (كما هو الحال بعد طلوع الفجر عندنا) و هذا يكون علامة على حدوث النهار، ثمّ يشتدّ الظلام حتّى يكون الظلام غاسقاً، و هو حدوث الليل هناك.

و من مجموع ما بيّناه آنفاً نستنتج أنّ معرفة الظهر و منتصف الليل في الأيّام بحوث فقهية هامة، ص: 88

و الليالي الطويلة في المناطق القطبيّة مسألة محلولة و لا إشكال فيها، و ليست بحاجة إلى وسائل خاصّة من قبيل الساعة و الإذاعة و أمثال ذلك.

المقياس. الحد الوسط

3- و آخر نقطة يمكن ذكرها في هذا المقام لتوضيح الجواب هي أنّ من وجهة نظر (الفقه الإسلامي) لا يوجد موضوع و لا ظاهرة بدون حكم شرعي، و بعبارة أخرى: أنّ القوانين الإسلامية جامعة و شاملة بحيث لا يوجد أي موضوع بدون حكم.

و

هذا ليس ادّعاءً محضاً، بل هو حقيقة، و يتضح ذلك جلّياً للأشخاص الذين لهم معرفة بالمسائل الفقهيّة، غاية الأمر أنّ الموضوعات على قسمين:

1- الموضوعات التي لها حكم خاص، و ذكر لها هذا الحكم في المتون الإسلامية بصراحة (و بالاصطلاح العلمي أنّها منصوصة).

2- الموضوعات التي لم يرد فيها حكم خاص، بل يجب الرجوع إلى القواعد و الأصول الكليّة، و استنباط حكمها الشرعي منها.

و توضيح ذلك: إنّ في الإسلام سلسلة من القواعد الكليّة و الأصول الأساسية التي تتضمن حكم جميع المسائل و الحوادث التي سوف تقع في المستقبل، و هذه القواعد و الأصول الكليّة شاملة و كليّة بحيث ليس من الممكن أنّ تجد موضوعاً من المواضيع غير مندرج تحت واحد من هذه الأصول و القواعد (الحصر هنا كما في الاصطلاح حصر عقلي) و الموضوع المبحوث عنه- يعني وظيفة الأشخاص الذين يعيشون في المناطق القطبيّة- هو من القسم الثاني، يعني أنّه من المواضيع التي ممكن استنباط حكمها من تلك القواعد و الأصول الكليّة.

و لا نريد تعقيد الأمور على القارئ الكريم بذكر المصطلحات العلميّة

بحوث فقهية هامة، ص: 89

و الاستدلالات الفقهيّة و البحوث الجارية بين الفقهاء في هذه المسألة، و لكن لا مانع من ذكر قاعدة كليّة واحدة تعتبر أساساً لاستنباط حكم هذه المسألة مورد البحث بالذات و نذكرها بصورة ميسرة و بدون تعقيد:

إنّ الأحكام و المقرّرات الإسلاميّة أساساً ناظرة إلى الأفراد العاديين، و الأشخاص الذين يخرجون عن حدود المتعارف بشكل من الأشكال يجب تطبيق سلوكهم مثل الأفراد العاديين.

مثلًا نحن نعلم أنّ جميع المكلّفين حين الوضوء يجب عليهم غسل الوجه من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن، فلو فرضنا أنّ شخصاً له شعرٌ و جبهة غير متعارفة، مثلًا قد نبت شعر

رأسه من وسط رأسه و أعلى من جبهته، أو أنّه نزل بحيث إنّه نبت من فوق الحاجب و غطّى بذلك جبهته، فمن الواضح أنّ مثل هذا الشخص لا ينبغي له أن يجعل وضعه الخاص معياراً للتكليف، بل إنّ جميع الفقهاء يرون أنّ مثل هذا الشخص يرجع في وضوئه إلى الأفراد العاديّين و يتوضأ مثلهم.

أو مثلًا في مورد (ماء الكر) فإنّ المقدار الشرعي له كما هو المشهور: ثلاثة أشبار و نصف طولًا، و ثلاثة أشبار و نصف عرضاً، و ثلاثة أشبار و نصف ارتفاعاً.

و من البديهي أنّ هذا الحكم ناظرٌ إلى الأشبار المتعارفة و العاديّة، فعلى هذا لو كانت أصابع أحد الأشخاص طويلة و كفّه كبيراً بحيث كان الشبر الواحد منه يعادل شبرين عاديين، فلا يمكنه أن يجعل شبره معياراً للكر، بل يجب عليه العمل وفق الأشبار العادية، و يتخذ بذلك الحدّ الوسط معياراً، و هذا هو ما يقال: إنّ إطلاقات الأحكام و القوانين الكليّة في الشرع ناظرة إلى الأفراد العاديين.

و هذا قانون كلي و عام، و لا يختص بباب معيّن من الفقه، و بذلك استفاد الفقهاء من هذا القانون حكم الأشخاص الذين يعيشون في المناطق القطبيّة، حتّى إنّ بعضهم قد

بحوث فقهية هامة، ص: 90

صرّح بذلك في فتاواه بأنّ هؤلاء الأشخاص ينبغي عليهم العمل وفق (المناطق المعتدلة). و هذا يعني أنّه بما أنّ الليل و النهار في تلك المناطق على خلاف المتعارف في المناطق الأخرى على الكرة الأرضية، فالأشخاص الساكنين هناك يجب عليهم الرجوع إلى الحدّ الوسط، و يؤدّوا مناسكهم و أعمالهم الشرعيّة وفقاً لذلك.

فمثلًا إذا بدأ شهر رمضان من بداية الصيف هناك، و كان الحدّ الوسط في طول اليوم (من طلوع الفجر إلى المغيب) في

المناطق المعتدلة أربع عشرة ساعة، فيجب عليهم في شهر رمضان أن يصوموا في كلّ يوم أربع عشرة ساعة، و عند ما يكون شهر رمضان في بداية الشتاء عندهم فيجب عليهم الصيام لمدّة اثني عشر ساعة في اليوم مثلًا، و كذلك بالنسبة إلى الصلاة حيث تتم وفق هذا الحساب.

و على هذا الأساس نلاحظ أنّ حكم هذه المسألة و التي يتصوّر البعض أنّها مشكلة عويصة يمكن استنباطها بسهولة من قاعدة كليّة فقهيّة بحيث لا يبقى هناك مجال للشبهة و الإشكال.

النتيجة النهائية للبحث

ممّا تقدّم أعلاه تتّضح هذه الحقيقة بشكل سافر، هي أنّ أهالي المناطق القطبيّة لا يجب عليهم صوم جميع الأيّام الطويلة في شهر رمضان كأن يكون اليوم بمثابة شهر عندنا، فلا يجب عليهم الإمساك طيلة ذلك اليوم، أو الاكتفاء بعدّة ركعات لكافّة ذلك اليوم الطويل بل يجب عليهم ملاحظة الأفق في المناطق المعتدلة و يعملوا وفقه. يعني أن يقوموا باحتساب الأيّام و الأسابيع و الأشهر طبقاً لما هو موجود في المناطق المعتدلة، و هكذا يكون حساب النهار و الليل في مختلف فصول السنة و طبقاً للمناطق المعتدلة كذلك.

و طبعاً كما تقدّم آنفاً، أنّ الظهر الحقيقي في هذه المناطق يمكن معرفته بسهولة من بحوث فقهية هامة، ص: 91

خلال حركة الشمس و ارتفاعها إلى الحد الأعلى من الأفق، و بواسطة شاخص عادي، و بذلك يدخل في دائرة الحديث المعروف (إذا زالت الشمس دخل وقت الصلاتين) أي الظهر و العصر، فيشملهم هذا الحديث الشريف.

و كذلك منتصف الليل هناك حيث يُعلم من خلال هبوط الشمس و دنوّها من الأفق بالحدّ الأدنى، فيعلم من ذلك آخر وقت صلاة المغرب و العشاء بهذه الطريقة «1».

و بهذا الترتيب يُعلم بداية وقت صلاتين من الصلوات اليوميّة

الخمسة، و نهاية وقت صلاتين أخرى دون الاحتياج إلى وسيلة من الوسائل، بل من خلال حركة الشمس فقط.

و تقدّم في معرفة الليل و النهار هناك أنه يتم من خلال زيادة الضوء و قلته في الجوّ بواسطة ارتفاع و انخفاض الشمس. و كذلك من خلال زيادة الظلام و قلّته في الليالي الطويلة في تلك المناطق بشكل محسوس.

و الشي ء الأخير المتبقي هو معرفة بداية (طلوع الفجر) و كذلك وقت (غروب الشمس) لأن المفروض أنّ الشمس هناك لا تشرق و لا تغرب إلّا مرّة واحدة طيلة شهر كامل أو كثير. بل تدور حول الأفق.

و الطريق إلى معرفة ذلك هو الرجوع إلى بداية الفجر و المغرب في المناطق المعتدلة. و بعبارة أخرى، أنّهم يمكنهم الاعتماد على تقويم بسيط كما هو موجود في المناطق المعتدلة في تعيين بداية شهر رمضان عندنا، و يمكنهم العمل وفق ذلك.

و بعبارة أوضح أيضاً: أنّهم باستطاعتهم الاستماع إلى أذان الصبح في المناطق بحوث فقهية هامة، ص: 92

المعتدلة، و يشرعون في صومهم، و عند ما يسمعون أذان المغرب في المناطق المعتدلة كذلك يفطرون. (و طبعاً يجب الأخذ بنظر الاعتبار محل منطقة الإذاعة و ضرورة كونها موافقة لمحل سكن الشخص من حيث الأفق، أي أن تقع النقطتان على خطّ نصف النهار، مثلًا الأشخاص الذين يسكنون في شمال فنلاند يمكنهم الاستفادة من الإذاعات التي تبث برامجها في المناطق المعتدلة التي توازيهم في الأفق.

ملاحظات

1- قد يسأل بعض الأشخاص: نحن نعلم أنّ المناطق المعتدلة ليست متساوية، فلا يتساوى الليل و النهار فيها جميعاً، مثلًا نلاحظ أنّ بداية فصل الصيف في بعض هذه المناطق تستغرق خمس عشرة ساعة في اليوم، و في بعضها الآخر أربع عشرة أو و ثلاث عشرة

ساعة، و هذا الاختلاف يرتبط ببعدها و قربها عن خط الاستواء.

الجواب: يمكن حل هذه المشكلة مراجعة الحدّ الوسط في المناطق المعتدلة (و بالأصحّ الحد الوسط في المناطق غير القطبيّة التي تتمتّع بليل و نهار متعارفين) يعني أن أهالي المناطق القطبيّة يمكنهم اتخاذ المدار 25، 33 درجة مثلًا معياراً لهم (أي متوسط 5، 66 درجة).

2- و يمكن أن يعترض البعض أيضاً: أنّ هذا الحكم بالرغم من سهولته و وضوحه و إمكان تحقّقه في عصرنا الحاضر بوجود الساعة و كذلك الإذاعة، و لكنّ الإشكال في الأشخاص الذين لا يمتلكون هذه الوسائل، فما هي وظيفتهم الشرعيّة؟

الجواب: أنّه كما تقدّم في معرفة وقت الظهر و منتصف الليل في تلك المناطق لا يحتاج عندها

بحوث فقهية هامة، ص: 93

إلى الساعة و غيرها، و إنّما يحتاج إليها لمعرفة طول النهار و الليل هناك، فلو لم يحصل الأشخاص هناك على هذه الوسائل و الأدوات كالساعة و الإذاعة لتعيين الوقت، أو كأن يكون الجو غائماً مثلًا، فإنّ وظيفتهم هو العمل وفق التخمين و الظنّ، و في صورة التمكّن من الاحتياط، يجب عليه العمل وفق التخمين و الحدس.

3- و يمكن أن يسأل بعض الأشخاص أيضاً: أنّ ارتفاع و انخفاض الشمس طيلة أربع و عشرين ساعة في المناطق القطبيّة التي هي وسيلة لمعرفة الظهر و منتصف الليل لا توجد في مدار تسعين درجة لأنّ الشمس هناك تتحرك بشكل دائري دون أي ارتفاع و انخفاض (و قد تقدّم مراراً أنّ الحقيقة هي دوران الأرض حول نفسها، و لكنّ الناظر يرى أنّ الشمس هي التي تدور ظاهراً).

و الخلاصة أنّه بالنسبة إلى هذه النقطة حيث إنّ الشمس في الأفق تدور دون ارتفاع أو انخفاض، فليس للظهر و منتصف الليل

أي مفهوم هناك.

الجواب: أنّ المدار تسعين درجة في حقيقته هو نقطة وهميّة، أو يمكن القول إنّ المدار تسعين درجة إنّما هو قطعة صغيرة من الأرض بحيث لو تجاوزناها قليلًا فسوف نحصل على ارتفاع و انخفاض الشمس، و ظهور وقت الظهر و منتصف الليل، و يمكننا حينئذ العمل بوظائفنا الشرعيّة بصورة كاملة.

4- و يمكن أن يتساءل أنّه بعد الفراغ من توضيح الوظائف الشرعيّة للمكلّف في الأيّام الطويلة هناك، فما العمل في الليالي الطويلة؟

الجواب: كما تقدّم في البحث أنّ «النجوم» في هذه الليالي لها وضع مماثل بوضع الشمس في النهار. أي أنها تدور حول الأفق دائماً. فتارة يرتفع و يزداد ابتعادها عن الأفق، و أخرى ينخفض، فلو أُخذت نجمة واحدة قريبة من الأفق، فيمكن معرفة الظهر و منتصف الليل من الحدّ الأعلى و الأدنى في ارتفاعها و انخفاضها.

بحوث فقهية هامة، ص: 94

و من مجموع ما ذكرنا من إيضاحات حول هذه المسألة اتّضح جيداً أنه لا شمس في منتصف الليل في «فنلاند» قد عرّضت الإسلام للخطر، و لا أن أهالي تلك المناطق لو كانوا مسلمين يواجهون حيرة شديدة في أداء التكاليف الشرعية. و لا أن هذه المسألة مشكلة عويصة يصعب حلّها!

4- رسالة في جواز الإنشاء بالكتابة في العقود و الإيقاعات

اشارة

(جواز الإنشاء بالكتابة في جميع العقود و الإيقاعات) المشهور بين الأصحاب بل ادّعى الإجماع عليه غير واحد منهم عدم جواز الإنشاء بالكتابة حتّى جعلوها في عداد إشارة الأخرس بل أهون منه، مع أن المتعارف في عصرنا بين أهل العرف و العقلاء إنشاء العقود الخطيرة بالكتابة و التوقيع على الوثائق المكتوبة بل لا يقبلون ما عداها في بعض هذه العقود، و طريق الإنشاء فيها منحصر بالكتابة.

و قد شاع هذا الأمر حتّى صار من الواضحات لا سيّما في العقود

الخطيرة الدارجة بين الدول، فلا يعتنون بعقد لفظي مطلقاً حتّى يثبت بالكتابة و التوقيع عليها، فإنشائها لا يكون إلّا بهذا التوقيع و في غيرها يقبلون العقود اللفظية و الكتابة، فكلّ واحد منهما معتبر عندهم، مع أن ظاهر كلمات الأصحاب لا يساعد عليها.

و الأقوى جواز الإنشاء بها مطلقاً في الأمور اليسيرة و الخطيرة و ليس من قبيل إشارة الأخرس و لا من قبيل بيع المعاطاة و تحقيق الحال فيها يحتاج إلى رسم أمور:

1- بيان الأقوال في المسألة.

2- حقيقة الإنشاء ما هي؟

3- ما الدليل على لزوم الإنشاء في العقد؟

4- هل يتحقق الإنشاء بالكتابة؟

5- دليل القائلين بعدم الجواز و جوابه.

6- دليل القول بالجواز.

7- تنبيهات المسألة.

فنقول- و منه جلّ ثناؤه نستمد التوفيق و الهداية.

المقام الأوّل: الأقوال الواردة في المسألة

اشارة

و هي خمسة:

الأول: عدم كفاية الكتابة مطلقا

لا في التمليك، و لا في الإباحة من جهة اندراجه في المعاطاة، كما ذكره السيّد السند و الحبر المعتمد بحر العلوم (قدس سره) في «المصابيح» حيث قال: «لا ينعقد البيع بالإشارة و لا الكتابة، و لا الصفقة، و لا بمثل الملامسة و المنابذة و الحصاة، و إن قرنت بما لا يقتضي تعليقاً و لا جهالة، فلا يفيد شي ء منها ملكاً و لا إباحة، بالأصل و الإجماع، و قصور الأفعال عن المقاصد الباطنية. و غايتها الظنّ، و لا يغني، لعموم المنع منه في الكتاب و السنّة، و للاتفاق على توقف الأسباب الشرعية على العلم أو الظن المعتبر شرعاً، فلا يكفي مطلق الظنّ، و لأن المعاملات شرعت لنظام أمر المعاش المطلوب لذاته، و لتوقف أمر المعاد عليه، و هي مثار الاختلاف، و منشأ النزاع و التراجع، فوجب ضبطها بالأمر الظاهر الكاشف عن المعاش المقصودة بها. و إلّا كان نقضاً للغرض» (انتهى محل الحاجة).

و هو كما ترى صريح في عدم إفادة الكتابة شيئاً، و كونها في عداد بيع الملامسة و المنابذة.

و مثله ما في «القواعد» في كتاب «الوصية» بعد فرض عجز الموصي عن النطق بحوث فقهية هامة، ص: 99

بها «أنه لا تكفي الكتابة بدون الإشارة أو اللفظ»، و قد حكى الإجماع في الإيضاح على ذلك.

و في التنقيح «أنه لا خلاف فيه».

و في جامع المقاصد «نفي الشكّ فيه».

و صرّح بعدم الكفاية في الجامع و التذكرة في موضعين منها.

و في التحرير و التبصرة و إيضاح النافع و غيرها.

و قال في السرائر في باب «القضاء»: «لو أوصى بوصية و أدرج الكتاب و قال قد أوصيت بما أردت في هذا الكتاب. و قد أشهدتكما عليّ بما فيه لم يصحّ

بلا خلاف».

و ذكر في «مفتاح الكرامة» بعد نقل عبارة السرائر كلاماً نصّه: «لعصمة الأموال و عدم الدليل، مع أن ما لا احتمال فيه و هو اللفظ ممكن».

و ظاهر كلام العلّامة في «التذكرة» أيضاً ذلك حيث قال: «لا تكفي الكتابة و لا الإشارة لإمكان العبث».

الثّاني: إفادتها للإباحة دون الملك

كما عن الروضة: «أن الكتابة و الإشارة تفيدان الإباحة كالمعاطاة».

الثّالث: كفاية الكتابة في حال العجز دون القدرة

كما قال الشهيد الثاني (قدس سره) في «المسالك» بعد قول المحقّق: «و يقوم مقام اللفظ الإشارة مع العذر كما في الأخرس» ما نصّه: «و في حكمها الكتابة على ورق أو لوح أو خشب أو تراب و نحوها» ثمّ قال: «و اعتبر العلّامة بالكتابة انضمام قرينة تدلّ على رضاه».

و قال شيخنا الأعظم في مكاسبه: «و الظاهر أيضاً كفاية الكتابة مع العجز عن بحوث فقهية هامة، ص: 100

الإشارة، لفحوى ما ورد من النصّ على جوازها في الطلاق، مع أن الظاهر عدم الخلاف فيه، و أمّا مع القدرة على الإشارة فقد رجح بعض الإشارة، و لعلّه لأنها أصرح في الإنشاء من الكتابة، و في بعض روايات الطلاق ما يدلّ على العكس و إليه ذهب الحلّي هناك» (انتهى).

الرّابع: جواز الاكتفاء بالكتابة في بعض الأبواب

مثل ما عن ابن حمزة و ابن البرّاج تبعاً للشيخ في النهاية من القول بكفاية الكتابة في الطلاق، إذا كان الزوج غائباً عن الزوجة.

و إن رماه في الجواهر (في كتاب الطلاق) بالشذوذ، بل حكى الإجماع في مقابله، كما رمى الرواية المعتبرة الدالّة على جواز ذلك طلاق الغائب «1» أيضاً بالشذوذ.

و لكن صرّح في «المسالك» بالعمل بهذه الرواية الصحيحة و عدم جواز حملها على حالة الاضطرار، و بأنها أخص من الروايات المطلقة الدالّة على عدم الجواز ثمّ قال: «و ممّا يؤيد الصحّة أن المقصود بالعبارة الدالّة على ما في النفس و الكتابة أحد الخطابين كالكلام، و الإنسان يعبّر عنها في نفسه بالكتابة كما يعبّر بالعبارة».

ثمّ قال: «نعم هي أقصر مرتبة من اللفظ و أقرب إلى الاحتمال و من ثمّ منع من وقوع الطلاق بها للحاضر، لأنه مع الحضور لا حاجة إلى الكتابة بخلاف الغيبة للعادة الغالبة بها فيها» انتهى محل الحاجة من

كلام المسالك.

و حكى في «مفتاح الكرامة» عن بعضهم (من دون تسميته بعينه) الاكتفاء بالكتابة في إيجاب الوكالة.

و يظهر من جماعة من أعلام العصر كفاية الكتابة في أبواب الوصية بل بكلّ فعل بحوث فقهية هامة، ص: 101

دالّ عليها، و حكاه في «المستمسك» أيضاً عن «المناهل» و «الرياض» و في «الجواهر» لعلّه الظاهر من «النافع».

لكن المشهور عدم جوازه، بل عن رسالة شيخنا الأعظم ظهور عدم الخلاف فيه.

و عن الجواهر بعد اختيار الجواز أنه قال: «إلّا أنه ليس عقداً لها- أي للوصية- فهو شبه المعاطاة في العقود اللازمة التي تندرج في الاسم و لا يجرى عليها حكم العقد.

الخامس: جواز العقد بالكتابة عند الاختيار مطلقا

، و قد ذكر ذلك بصورة الاحتمال في «التذكرة» في بعض كلماته من كفاية الكتابة مع القدرة على النطق، كما حكاه عنه في «مفتاح الكرامة» في كتاب الوصية، بل استظهره من عبارة «النافع».

و استدلّ في التذكرة لما ذكره من احتمال الجواز بأن الكتابة بمثابة كنايات الألفاظ، و قد قدّمنا جواز الوصية بالكناية التي ليست صريحة في دلالتها عليها مع القرينة.

و لكن جزم في التذكرة بعد الاحتمال المذكور بعدم كفايتها مع القدرة و الاختيار.

هذا ما يظهر من كلماتهم (قدس سرهم) في أبواب «البيع» و «الوصية» و «الطلاق» و «الوكالة» و غيرها و هي كما ترى لا تخلو عن تشويش و اضطراب كما أن أدلتهم على نفي الجواز قد تكون خارجة عن محل الكلام كما سيأتي الإشارة إليها تفصيلًا عند ذكر الأدلّة بعون الله تعالى فليكن على ذكر منك حتّى نتلو عليك منه ذكراً.

المقام الثّاني: في حقيقة الإنشاء

المعروف بين أرباب التحقيق أن الإنشاء هو: «إيجاد المعنى باللفظ» و لكن أورد عليه «بعض أعاظم العصر» بما حاصله: «أن الإيجاد إن كان بمعنى الإيجاد الخارجي فهو ضروري البطلان، بداهة أن الموجودات الخارجية مستندة إلى عللها الخاصّة التكوينية فالنار لا تكون إلّا بعلتها، و كذا الماء و الشجر و الحجر، و إن كان المراد الإيجاد الاعتباري في نفس المتكلّم فهو أيضاً واضح الفساد، لأن الاعتبار النفساني من أفعال النفس لا حاجة له إلى الألفاظ مطلقاً، و إنّما يحتاج إلى الألفاظ لإبراز ما في النفس.

و إن كان المراد منه اعتبار العقلاء فهو موقوف على تحقق الإنشاء أولًا من المنشئ حتّى يعتبر العقلاء و يمضيه الشرع.

و بالجملة لا يعقل معنى محصل لتعريف الإنشاء بإيجاد المعنى باللفظ، بل الحقّ أنه إبراز الاعتبار النفساني بمبرز خارجي كما

أن الخبر إبراز قصد الحكاية انتهى ملخصاً «1»».

أقول: أوّلًا: كون الإنشاء أمراً إيجادياً فهو أمر وجداني لا ينبغي الشكّ فيه، سواء في البيع و الهبة و النكاح بل و في مثل النداء و التمني و الترجي و أشباهها، يجد

بحوث فقهية هامة، ص: 103

ذلك كلّ من اختبر نفسه عند إنشاء شي ء.

فالوجدان أصْدق شاهد على أنه عند ذكر هذه الصيغ بقصد الإنشاء يوجد أمر، اعتباري، فقول القاضي «حكمت و قضيت بأن هذا المال لفلان» و كذلك قول العاقد «أنكحت و زوجت فلانة من فلان» و هكذا قول الشاعر.

«فيا ليت الشباب يعود يوماً» يوجد أمراً اعتبارياً لم يكن من قبل لا أنها كاشفات عن أمور اعتبارية حصلت من قبل في نفس المتكلّم، ثمّ يخبر عنها بهذه الأمور، و يكشف عن وجودها بهذه الألفاظ، و إن شئت اختبر نفسك عند إنشاء بعض العقود تجد ما ذكرناه أمراً ظاهراً بيّنا.

و ثانياً: لو كان الإنشاء إبراز الاعتبار النفساني كان كالخبر يحتمل الصدق و الكذب، فإن القائلين بأن الإنشاء لا يحتمل الصدق و الكذب إنّما ذكروا ذلك لكونه أمراً إيجادياً، و من الواضح أن الإيجاد ليس حكاية عن شي ء حتّى يقبل الصدق و الكذب، و أمّا إذا قلنا أنه إبراز ما في الضمير و الأخبار عن وجود الاعتبار في النفس، فهو كالخبر يحتمل الصدق و الكذب، مع أنه خلاف المتفق عليه بينهم.

إن قلت: بين الخبر و الإنشاء فرق واضح فإنه ليس في الإنشاء وراء الاعتبار النفساني شي ء في الخارج، و لكن في الأخبار وراءه شي ء آخر.

قلت: هذا الفرق غير فارق، فإنه إذا ذكر أمر و لم يطابق الأمر الثابت في النفس كان كذباً في إبرازه و إظهاره لا محالة، فكان المجري للصيغة

بقوله «بعت» يقول إني اعتبرت في نفسي كون هذا المال لفلان في مقابل ذاك الثمن و من الظاهر أن هذا أمر يحتمل الصدق و الكذب، فإن كان الاعتبار موجوداً في نفسه كان صدقاً و إلّا كان كذباً.

و ثالثاً:- و هو العمدة- أن حقيقة الإنشاء ليست مجرد الاعتبار النفساني و لا مجرد الألفاظ، بل هو اعتبار عقلائي يوجد بأسبابه المعدّة له و بما دلّ عليه من بحوث فقهية هامة، ص: 104

الألفاظ أو غيرها مع النيّة و القصد.

توضيح ذلك: أن حقيقة الملكية مثلًا كانت في بدأ الأمر هي السلطة الخارجية على شي ء، و كان تمليك الغير شيئاً هو تسليطه عليه في الخارج.

ثمّ لما أخذت المجتمعات البشرية تتسع نطاقها تبدلت هذه السلطة التكوينية الخارجية إلى شكل اعتباري قانوني، و قام الإنشاء مقام الإعطاء الفعلي الخارجي، فمجرد الاعتبار النفساني لا أثر له عند العقلاء، و لا يوجد السلطة الاعتبارية القانونية و إنّما توجد هذه السلطة بألفاظ أو أفعال وضعت لها مع قصد إيجادها بها، فإنشاء الملكية هو إيجاد اعتبار عقلائي قانوني بأسبابه، لا إيجاد أمر تكويني، بل و لا إيجاد اعتبار نفساني حتّى لا يحتاج إلى الألفاظ، بل هي إيجاد سلطة قانونية عقلائية على شي ء و هذا المعنى يحتاج عندهم إلى أسباب خاصّة مع قصد إيجادها و كذلك الطلاق مثلًا هو انفصال قانون عقلائي بين الزوج و الزوجة بأسبابها، و هكذا في سائر الأمور الإنشائية من العقود و الإيقاعات.

فما ذكره (دام علاه) أنه لا معنى محصل لتعريف الإنشاء بإيجاد المعنى باللفظ غير موافق للتحقيق، فإن الوجود الخارجي و النفساني لا يحتاجان إلى الألفاظ و لكن الاعتبارات العقلائية تابعة لأسبابها و الألفاظ و شبهها إنّما هي أسباب لإيجاد الاعتبارات العقلائية.

لا

أقول أن حقيقة الإنشاء هي ذكر الألفاظ و شبهها، بل أقول أنها إيجاد اعتبارات عقلائية بهذه الأسباب مع النيّة و القصد فتدبر فإنه حقيق به.

المقام الثّالث: في بيان الدليل على لزوم الإنشاء في العقود و الإيقاعات

و الظاهر أنه أمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان و مئونة برهان بعد ما عرفت، لأن الوجودات على ثلاثة أقسام:

«وجودات خارجية تكوينية» مرهونة بأسبابها الخارجية لا تنالها يد الجعل و لا مجال له فيها.

و «وجودات ذهنية» يخلقها الذهن بقوته الإلهيّة.

و «وجودات اعتبارية» و هي و إن كانت بالحمل الشائع من الوجودات الذهنية فإنها موجودة في صقع الذهن، و لكنّها من جهة أخرى أمور فرضية يفرضها الذهن على حذو نظائرها الخارجية، فالرأس له وجود خارجي تكويني، و أمّا الرئيس الذي له رئاسة على قوم فهو بمنزلة الرأس للقوم (الذي يكون وجوده الجمعي أمراً اعتبارياً، و إن كانت أشخاصهم أموراً تكوينية) فيفرضونه رأساً لهم، و لكن هذا الفرض ليس مجرّد خيال أو وهم، بل له آثار عقلائية خارجية عندهم.

و كذا «الزوج» له مصداق خارجي تكويني، و هو من يكون قريناً لشي ء أفخر في الخارج و عدلًا له، و له مصداق اعتباري يعتبرها المعتبر على هيئة المصداق الخارجي فيجعل «فاطمة» مثلًا زوجة لزيد، و «زيداً» زوجاً لها، و هذا الفرض له بحوث فقهية هامة، ص: 106

آثار كثيرة من جانب القوانين العقلائية، و هكذا بالنسبة إلى «الملكية» فإن لها مصداق حقيقي تكويني، و هو ما كان مشتملًا على سلطة و إحاطة خارجية كسلطة الإنسان على أعضائه، و النفس على تصوراتها و تصديقاتها، و لها مصداق اعتباري يفرضها الفارض، و هذا الفرض إذا كان مقارناً لشرائط خاصّة يكون منشأً لآثار كثيرة عند العقلاء.

و من هنا يظهر أن الأمور الاعتبارية لا تتحقق بدون الإنشاء، أي

الإيجاد في عالم الاعتبار، و هذا من قبيل القضايا التي قياساتها معها، فإن الزوجية الاعتبارية القانونية ليست من الأمور التكوينية، و لا من الوجودات الذهنية المتخذة من الخارج، بل لها وجود اعتباري يكون أمره بيد المعتبر، فالإنشاء قوام لها، و هكذا سائر الأمور الاعتبارية من «الحرية» و «الرقية» و «الملكية» و «الحجيّة» و غير ذلك.

و الإنشاء لا يكون إلّا بأسبابه التي تكون عند العقلاء، فلو اشترطوا في إنشاء الملكية الألفاظ خاصّة دون الكتابة و الفعل، فلا بدّ من اقتفاء آثارهم، و لو لم يشترطوا ذلك بل أجازوا الإنشاءات بكلّ ما يكون ظاهراً فيه، من القول و الفعل و الكتابة، كانت له آثاره.

و من المعلوم أن الأمور الاعتبارية الإنشائية كانت دائرة بين العقلاء و أهل العرف قبل الإسلام و ظهور نبينا (صلى الله عليه و آله) بل من أقدم العصور الإنسانية بل لا نعرف زماناً كان الإنسان فيه موجوداً و لم تكن هناك الأمور الاعتبارية و لو بشكل بسيط.

فبناء الشارع المقدس فيها على الإمضاء، لا التأسيس، نعم ورد في الشرع اعتبار أسباب خاصّة كاللفظ مثلًا، و ألغى اعتبار غيرها، لا بدّ من اقتفائه، كما لعلّه كذلك في بابي الطلاق و النكاح، و أمّا لو لم يردّ منع عن شي ء منها فهذا دليل على إمضائه، و سنتكلم إن شاء الله عن ورود منع بالنسبة إلى الإنشاء بالكتابة و عدمه في بعض المقامات.

المقام الرّابع: هل يتحقّق الإنشاء بالكتابة؟

قد عرفت أن تحققه بها في أعصارنا من الواضحات، بل الفرد الأصيل من الإنشاء عندهم هو هذه، بل لا يمضي بعض المعاملات الخطيرة و العهود المهمّة الدولية إلّا بها أي بالتوقيع على أسنادها، و لا يكتفي فيها بمجرد اللفظ، و لو كان بقصد الإنشاء، و

كذا في مثل جعل مقام الرئاسة فلا يكون الرئيس رئيساً سياسياً على قوم حتّى يمضي حكمه من ناحية من يكون الإنشاء بيده بطريق الكتابة، فرئيس الجمهورية لا يرتقي هذا المقام بمجرد الإنشاء اللفظي، بل لا بدّ من إنفاذ حكمه في خطاب خاصّ به عن طريق الكتابة، إلى غير ذلك من الأمور الإنشائية الاعتبارية في أبواب المعاملات و غيرها فإن نطاق الإنشاء واسع جداً.

و بالجملة أمر الإنشاء متسع عندهم قد يكون بأسباب لفظية، و أخرى بالإفعال كما في أبواب المعاطاة، و ثالثة بالكتابة، و هي العمدة في الأمور المهمّة و الخطيرة اليوم.

و ممّا ينبغي التنبيه عليه هنا أنه من الممكن تبدل هذه الأسباب العقلائية بمرور الزمان، ففي الأزمنة السابقة التي لم تكن الكناية رائجة بين الناس و كان الأميون هم الأكثرية في الجوامع البشرية لم يكن للإنشاء بالكتابة عندهم قيمة إلّا في موارد نادرة.

و أمّا الآن فهي أمر رائج في جميع المجتمعات البشرية و الإنشاء بالكتابة له قيمة

بحوث فقهية هامة، ص: 108

كبيرة عندهم و حيث إنها أضبط و أمتن من الألفاظ فلا يدور رحى المعاملات الخطيرة عندهم إلّا عليها.

و من الواضح أن الموضوعات أمرها بيد العرف و إنّما تؤخذ الأحكام من الشرع، فلو رتب الشارع المقدس وجوب الوفاء على العقد و كان هناك عقد معتبر عند العقلاء كان داخلًا في عموم هذا الحكم، و إن كان عقداً مستحدثاً لم يكن في سابق الأزمنة، و هكذا أسباب الإنشاء، و هذا أمر ظاهر لا غبار عليه و لا يعتريه الشكّ.

إن قلت: إن عناية العقلاء بأمر الكتابة ليست لإنشاء العقود بنفس الكتابة بل لضبط نتيجة الإنشاء اللفظي و تثبيت حاصل العقود التي أجريت صيغها بالألفاظ نظير ما ورد في

كتابة الديون في آية سورة البقرة في كتاب الله.

قلت: كلّا، بل الإنشاء يقع بنفس ذاك التوقيع و الإمضاء، و الشاهد عليه أنه قبل الإمضاء في سند البيع و الإجارة و غيرهما يمكنه أي تغيير في المعاملة، بل تركها من أصلها و لكن بمجرّد الإمضاء من الجانبين يتم أمرها و لا يبقى للعدول و التغيير و الإبطال و الفسخ مجال أصلًا إلّا بأسبابها الخاصّة، و هذا أوضح شاهد على أن الإنشاء لا يكون إلّا بالتوقيع و الإمضاء.

هذا مضافاً إلى ما نجده بالوجدان فيما هو المتعارف في الخارج أنه لا يكون هناك صيغة كلامية و إنشاء لفظي في هذه المعاملات غالباً بل لا يكون قبل إمضاء الأسناد و التوقيع عليها إلّا مقاولات غير رسمية، و هذا أمر ظاهر لكلّ من راجع ديدنهم في هذه الأبواب.

فالقول بأن الإنشاء في هذه الأسناد يقع باللفظ قبل الكتابة أمر مخالف للوجدان و مباين للمحسوس و المقطوع.

المقام الخامس: أدلّة القائلين بعدم جواز الإنشاء بالكتابة

و هي أمور كثيرة يطلع عليها المتتبع في مطاوي كلمات الأصحاب (زاد الله في شرفهم و علو مقامهم) غير مجموعة في شي ء من مصنفاتهم، منها:

1- «الأصل» و المراد به أصالة الفساد المعروفة في أبواب المعاملات، ذكره المحقّق الطباطبائي ما عرفت من كلامه في «المصابيح».

2- «الإجماع» المدّعى في كلمات القوم، و قد عرفت في المقام الأوّل دعواه من قِبَل كثير منهم بعبارات مختلفة، تارة بلفظ الإجماع- كما في المصابيح- و أخرى بعدم الخلاف فيه- كما في التنقيح- و ثالثة الشكّ فيه- كما في جامع المقاصد و غيره.

3- ما أشار إليه في «المصابيح» أيضاً من أن الأفعال- و منها الكتابة- قاصرة عن إفادة المقاصد الباطنية و غايتها الظنّ، و هو لا يغني من الحقّ شيئاً، لعموم المنع

منه في الكتاب و السنّة، و إليه يرجع ما في كلام شيخنا الأعظم من عدم الصراحة فيها.

4- ما أفاده المحقّق المذكور أيضاً، من أن الركون إلى الكتابة مخالف لمقاصد الشارع المقدس في هذا الباب، لأن من مقاصده حفظ النظام، و المعاملات إنّما شرعت لنظام أمر المعاش المطلوب لذاته و لأمر المعاد، و هي مثار الخلاف و منشأ النزاع، فالواجب ضبطها بالأمر الظاهر الواضح الكاشف عن المعاني المقصودة لا بمثل الكتابة، حتّى لا يكون نقضاً للغرض.

بحوث فقهية هامة، ص: 110

5- ما أشار إليه في «مفتاح الكرامة» و الظاهر أنه مقتبس من كلمات أستاذه السيّد السند بحر العلوم، و حاصله أن الأسباب الشرعية توقيفية إنّما تثبت بالتلقي من الشارع، و حيث لم يثبت جواز الإنشاء بالكتابة فلا بدّ من الحكم بعدمه، و هكذا الحال في جميع الأمور التوقيفية.

6- ما يستفاد من كلام «العلّامة» (قدس سره) في ما عرفت منه عند نقل الأقوال و هو إمكان العبث في الكتابة، و عدم كونها صادرة عن جدّ، و لا يجوز الإنشاء بمثل ذلك.

7- ما يظهر من بعض كلمات الفقيه الماهر صاحب الجواهر أنه لا يصدق عليها عنوان «العقد» فهو شبه المعاطاة في العقود اللازمة التي تندرج في الاسم، و لا يجرى عليها حكم العقد، فلا يشمله أدلّة وجوب الوفاء بالعقود.

8- ما يستفاد من قوله (عليه السلام) «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» و مفهوم الحصر هنا عدم صحّة العقد بغير الألفاظ، و قد استدلّ به على بطلان المعاطاة أيضاً في مختلف أبواب العقود.

و بهذا المضمون روايات كثيرة و لكن عمدتها ما رواه يحيى بن الحجاج (أو يحيى ابن نجيح) عن خالد بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الرجل يجي ء فيقول: اشتر هذا الثوب و أربحك كذا و كذا، قال: «أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به إنّما يحل الكلام و يحرّم الكلام»

«1». و قد صرّح بعضها بأن فيه دلالة على عدم انعقاد البيع بغير الصيغة فلا يكون بيع المعاطاة معتبراً.

هذا و قد ذكر شيخنا الأعظم فيها احتمالات أربعة:

1- أن المراد حصر المحلّل و المحرّم في الكلام (و حينئذ تدلّ على المطلوب فيما

بحوث فقهية هامة، ص: 111

نحن فيه و في أبواب المعاطاة).

2- أن المراد كون بعض التعابير موجباً للحلّية و بعضها موجباً للحرمة كعقد النكاح، لو أنشأ بلفظ النكاح كان حلالًا، و لو أنشأ بلفظ التمليك كان حراماً.

3- المراد أن كلاماً واحداً يكون في مقام محلّلًا و في مقام آخر محرّماً كإنشاء بيع ما لا يملك قبل تملكه و إنشائه بعده.

4- المراد أن المقاولة في بيع ما ليس عنده محلّل و لكن إيجاب البيع محرّم فلو قلنا بظهورها في الاحتمال الأوّل أمكن التمسك بها في المقام:

9- الروايات الخاصّة الواردة في بعض الأبواب مثل أبواب الطلاق الظاهرة في انحصار الصيغة في الألفاظ و الأقوال، و مفهومها عدم صحّة الإنشاء بالكتابة، مثل ما رواه في الوسائل في أبواب مقدمات الطلاق عن الحسن بن زياد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «الطلاق أن يقول الرجل لامرأته اختاري، فإن اختارت نفسها فقد بانت منه، و إن اختارت زوجها فليس بشي ء، أو يقول أنت طالق فأي ذلك فعل فقد حرمت عليه»

«1». و ما رواه بسند صحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «الطلاق أن يقول لها اعتدي أو يقول لها

أنت طالق»

«2». إلى غير ذلك ممّا يدلّ على حصر إنشاء الطلاق بالألفاظ و الأقوال ممّا ورد في ذلك الباب بعينه، أو سائر أبواب الطلاق.

هذا غاية ما يمكن أن يستدلّ به للقول بالبطلان، و لكن الإنصاف أن كلّها وجوه ضعيفة قاصرة عن إفادة المقصود، و ربّما يرجع بعضها إلى بعض، و لكن أوردناها

بحوث فقهية هامة، ص: 112

بعينها لذكرها من كلمات القوم في كتاب التجارة و الوصية و الطلاق أو غيرها.

و على كلّ حال يمكن الجواب عن الجميع.

أمّا عن الأوّل: فبأن التمسّك بالأصل إنّما يصحّ إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي دالّ على المطلوب، و الظاهر أن عمومات صحّة العقود، و كذلك إطلاقات أدلّة حلية البيع و غيره، تشمل العقود و الإيقاعات التي أنشئت بالكتابة، لما عرفت من إمكان الإنشاء بها بل و تعارفها و اشتهارها في عصرنا، حتّى إن الكتابة اليوم من أظهر مصاديق الإنشاء، و لعلّها لم تكن بهذه المثابة في الأعصار السابقة، لعدم معرفة أكثر الناس بها، و الموضوعات العرفية تابعة لما يتعارف و يتداول بين أهل العرف، و إنّما تؤخذ أحكامها من الشرع.

و على كلّ حال، هي من أظهر ما يتمّ به إنشاء العقود في العصر الحاضر لما عرفت من أن أسناد المعاملات الخطيرة إنّما تتم بالتوقيع عليها، بل قد لا يعدّ مجرد الإنشاء اللفظي في مثل هذه الأمور أزيد من المقاولة، و الإنشاء الحقيقي في بعض المقامات إنّما هو بالكتابة و التوقيع عندهم، و لا أقل من أن الإنشاء بالكتابة في حدّ الإنشاء بالألفاظ و الأقوال و حينئذ تكون داخلًا في العمومات و الإطلاقات و معه كيف يصحّ التمسّك بأصالة الفساد.

و عن الثّاني: بأن دعوى الإجماع في هذه المسألة التي يعلم مستند

فتاوى المجمعين من الأدلّة و لا أقل من احتمال استنادهم إليها، بعيدة جداً، لعدم إمكان كشف قول المعصوم (عليه السلام) من هذه الفتاوى، مضافاً إلى ما عرفت من التشويش و الاضطراب في أقوال المجمعين، و فتوى جمع من أعلام العصر بجواز الاكتفاء بالكتابة في باب الوصيّة، بل و فتوى بعضهم بجوازها في الوكالة، و ما عرفت من كلام العلّامة (قدس سره) في التذكرة من احتمال جواز الاكتفاء بها في جميع أبواب العقود.

بحوث فقهية هامة، ص: 113

و بالجملة حال الإجماع في هذه المسائل معلوم لا يمكن الركون إليه لإثبات حكم شرعي.

و عن الثّالث: بأنه لا قصور في الكتابة إذا كانت بألفاظ صريحة أو ظاهرة في إفادة المراد، و قد ثبت في محله حجّة ظواهر الألفاظ سواء كانت مسموعة أو مكتوبة، و لذا نعتمد على ظواهر كتاب الله و السنّة بغير إشكال، و لا نزال نستدلّ بالآيات و الأحاديث الواردة من الطرق المعتبرة، فأي قصور في ظهور الكتابة في إفادة المراد؟ بل قد تكون الكتابة أظهر و أصرح من الألفاظ المسموعة.

نعم، لا بدّ من ثبوت كون الكاتب في مقام الإنشاء و الجدّ، و يثبت ذلك بالقرائن الموجودة كما هو كذلك بالنسبة إلى الإنشاء اللفظي فإنه لا بدّ من إحراز كون المتكلّم في مقام الجدّ أمّا بقرائن خاصّة أو بالأصل.

و الأمر سهل في أعصارنا بعد وجود الدفاتر المعدّة لضبط الأسناد و العقود، و الحضور عند هذه الدفاتر و التوقيع عليها من أقوى القرائن على إرادة الإنشاء بالكتابة، بل لا يضاهيها شي ء من القرائن اللفظية، بحيث لا تقبل دعوى المنكر و قوله بأنه كان هازلًا أو شبه ذلك.

و من هنا يعلم أن ظهور الكتابة ليس من الظنون الممنوعة كما

أشار إليه السيّد الطباطبائي (قدس سره) في بعض كلماته، بل هو من الظنون المعتبرة عند العقلاء طراً، من جميع الأمم و في جميع الأمصار و البلاد كما هو ظاهر، و بالجملة الكتابة أضبط و أمتن من التكلّم، و أدق و أوضح منه، فكيف جعله شيخنا الأعظم في عداد إشارة الأخرس، بل احتمل أن تكون الإشارة أصرح منها، و هذا من غرائب الكلام.

و عن الرّابع: بأن الإنشاء بالكتابة لا يكون مخلًّا للنظام، و مثاراً للخلاف و منشأً للنزاع بل الأمر بالعكس، فالقاطع للخصومة و الحاسم للنزاع هو ضبط الإنشاءات بالكتابة فإنها قوية البرهان، ظاهرة الدلالة، باقية ببقاء الدهر، لا يمكن إنكارها

بحوث فقهية هامة، ص: 114

و نفيها بخلاف الألفاظ و العبارات التي، لا بقاء لها و لا دوام.

فمن وقّع على سند من أسناد البيع و الشراء و أمضاه بقصد إنشاء التمليك، فقد أنشأ البيع بأوضح البيان من غير حاجة إلى بيان لفظي، و لذا يكون المدار الأصلي اليوم عليها لا على غيرها، لا أقول لا يكتفي بالإنشاء اللفظي، بل أقول الإنشاء بالكتابة أوضح و أصرح و أضبط و أمتن.

و عن الخامس: بأن كون الأسباب الشرعية توقيفية، الذي أشار إليه صاحب المفتاح، و أستاذه الجليل المحقّق الطباطبائي، دعوى بلا دليل، و كلام بلا برهان، بل الأمر في المعاملات على عكس ذلك، فإن أمر الشارع فيها على الإمضاء لا التأسيس، و قد أمضى الشارع المقدس جميع المعاملات العقلائية بقوله «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و

«المؤمنون عند شروطهم»

و غير ذلك، فما صدق عليه عنوان العقد و الشرط و البيع و الصلح و الوصية و الهبة و غير ذلك من عناوين المعاملات عند أهل العرف دخل تحت عمومها أو إطلاقها، إلّا ما خرج بالدليل

الخاصّ أو قام دليل لفظي على بطلانه عند الشرع.

فليست المعاملات كالعبادات أموراً توقيفية و لذا أفتى الأصحاب بصحّتها ما لم يردّ في الشرع منع منها، و استدلالهم بالعمومات و الإطلاقات ظاهرة لكلّ من راجع كلماتهم في هذه الأبواب.

هذا مضافاً إلى ما سيمر عليك من ورود التصريح بجواز الإنشاء بالكتابة في الأحاديث الخاصّة في بعض أبواب الفقه فانتظره.

و عن السّادس: بما قد عرفت في الجواب عن الدليل الثّالث، من أن احتمال العبث و عدم الجدّ في الكتابة منفي بعد قيام القرائن بأنها في مقام الإنشاء جدّاً، كما عرفته في إمضاء الأسناد و التوقيع عليها بهذا القصد و العنوان في أماكنها المعدّة لذلك أو غيرها، بل قد عرفت أن نفي الاحتمالات من الكتابة أوضح و أظهر.

بحوث فقهية هامة، ص: 115

و إن شئت قلت: احتمال العبث قائم في الألفاظ أيضاً و إنّما ينفي بالقرائن، و كذلك في الكتابة من دون أي فرق.

و عن السّابع: بأن دعوى عدم صدق عنوان العقد عليه، و أنه نظير المعاطاة كما عرفت من كلام صاحب الجواهر (قدس سره) دعوى بلا برهان بل الكتابة أحق بهذا العنوان من الألفاظ المنطوقة، فإن العقد ليس إلّا العهد المؤكد، مع أنا نعلم بأن المعاهدات المهمّة بين الأشخاص و الأقوام و الدول تكون بالكتابة، فلو لم يصدق العقد و العهد عليها لم يصدق على غيرها.

هذا مضافاً إلى أن المعاطاة- كما ذكرناه في محله- أيضاً من العقود اللازمة، بل قد ذكرنا أن الأصل في البيع و شبهه في أوّل الأمر كان بصورة المعاطاة، فهي البيع و إنّما نشأ البيع بالصيغة بعد ذلك، و بعد أخذ المجتمعات البشرية في التقدّم، فلا تعدّ المعاطاة فرعاً و البيع بالصيغة أصلًا، بل الأمر

بالعكس، فالمعاطاة أصل، و البيع بالصيغة فرع لها قد نشأ بعدها (و تمام الكلام عن ذلك موكول إلى محله من كتاب البيع).

فشمول إطلاقات وجوب الوفاء بالعقود و الشروط و شبهها لما أنشأ بالكتابة ممّا لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه.

و عن الثّامن: بأن الاستدلال بالرواية المعروفة

«إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام»

مشكل جدّاً، فإنها مع ضعف سندها بجهالة «ابن الحجاج» أو «ابن نجيح» (كليهما) لا دلالة لها على المطلوب أصلًا لا هنا و لا في باب المعاطاة، بل هي أجنبية عمّا نحن بصدده، و المراد منها- كما يظهر من سياقها، و يظهر من سائر ما ورد في هذا الباب، هو الاحتمال الرّابع من الاحتمالات الأربعة السابقة، لا سيّما بقرينة قوله «أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ»

فإنه كالصريح في أن بعض أنواع الكلام (و هو المقاولة) يحلّل و بعضها (و هو إنشاء بيع ما ليس عنده) يحرم، فمن باع ما ليس عنده كان حراماً، و من تكلّم من دون إنشاء البيع، بل أنشأ بعد التملّك كان حلالًا، فراجع الباب 8 من بحوث فقهية هامة، ص: 116

أبواب أحكام العقود من كتاب التجارة من الوسائل تجده شاهد صدق على ما ذكرنا.

نعم، قد يستدلّ بها بطريق آخر و هو أن مفادها على كلّ حال حصر البيع الحلال فيها ينشأ بالصيغة اللفظية لعدم ذكر غير اللفظ فيها.

و لكن الإنصاف أن الحصر فيها إضافي ناظر إلى ما يكون الإنشاء فيها بالصيغة اللفظية، من جهة عدم حضور المتاع عنده (كما في بيع ما ليس عنده) حتّى تجوز المعاطاة، و عدم تحقّق البيع بالكتابة لعدم تعارفها في تلك الأيّام.

هذا مضافاً إلى إمكان التشكيك في ظهور عنوان الكلام في الملفوظ بل

الكلام يشمل الملفوظ و المكتوب، و لذا يطلق هذا العنوان على ما ورد في كتاب الله و غيره، و لا نزال نقول هذا كلام صاحب الجواهر و هذا كلام العلّامة و كلام المحقّق مع أن جميعها مكتوبة لا ملفوظة.

و عن التّاسع: بأن الروايات الخاصة الواردة في أبواب الطلاق لا ظهور لها في انحصار الطلاق بما ينشأ بالألفاظ بل الظاهر أنها ناظرة إلى لزوم الصراحة أو الظهور في صيغة الطلاق، و إن الألفاظ الكنائية و المشكوكة غير كافية في هذا المقام و لذا صرّح في رواية ابن سماعة بأنه ليس الطلاق إلّا كما روى بكير بن أعين أن يقول لها و هي طاهر من غير جماع «أنت طالق» و يشهد شاهدي عدل، و كلّ ما سوى ذلك فهو ملغى «1».

و قد سأل محمّد بن مسلم أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل قال لامرأته: أنت علي حرام أو بائنة أو بتة، أو برية أو خلية، قال «هذا كلّه ليس بشي ء إنّما الطلاق أن يقول لها قبل العدّة بعد ما تطهر من محيضها قبل أن يجامعها أنت طالق أو اعتدي، يريد، بذلك الطلاق، و يشهد على ذلك رجلين عدلين»

«2».

بحوث فقهية هامة، ص: 117

و هذه كالصريح في أنها في مقام بيان لزوم الألفاظ الصريحة أو الظاهرة، و نفي الكتابات و العبارات غير الظاهرة، و ليست في مقام بيان اعتبار الألفاظ في مقابل الكتابة، و الاستدلال بها لهذا الغرض غير تام، فقد تحصل من جميع ما ذكرنا أنه لا دليل للقائلين باعتبار اللفظ في إنشاء العقود و نفي جواز الإنشاء بالكتابة، و إن ما ذكروها في هذا الباب استحسانات أو ما يكون خارجاً عن محل الكلام أو دعوى بلا بيّنة

و لا برهان، و لعلّها نشأت من عدم تعارف الإنشاء بالكتابة في تلك الأيّام لعدم معرفة أكثر الناس بها، و عدم كونها ممّا يبتلى به عامّة الناس، و أمّا مثل زماننا هذا الذي يعرفها الكبير و الصغير و العالم و الجاهل فلا مجال لهذه الدعاوي.

المقام السّادس: أدلّة القول بالجواز

اشارة

أظنّك بعد الإحاطة بما ذكرناه في أجوبة أدلّة القائلين بعدم الصحّة خبيراً على أدلّة جواز إنشاء العقود و الإيقاعات بالكتابة، و نزيدك بياناً أنه يدلّ على الجواز أمور:

أوّلها: و هي العمدة، شمول العمومات الدالّة على صحّة العقود و وجوب الوفاء بها. و صحّة البيع و الإجارة و الهبة و غيرها، لما إذا أنشئت بالكتابة، بعد ما عرفت من جواز الإنشاء بها و معروفيتها عند العقلاء بل كونها محوراً أصيلًا للإنشاء لا سيّما في الأمور الخطيرة، فإخراج الإنشاء بالكتابة عنها ممنوع جدّاً، لعدم قيام دليل على الاستثناء و الإخراج.

و من هنا يظهر أن جعلها في عداد إشارة الأخرس أو أهون منها و كذلك جعلها في عداد المعاطاة- بناء على القول بإفادتها الإباحة لا وجه له، بل قد عرفت أن الإنشاء بالكتابة أظهر و أضبط من الإنشاء بالألفاظ و لا نحتاج إلى التكرار.

ثانيها: ما يظهر من روايات الوصية أنها تجوز بالكتابة و هي روايات كثيرة:

منها: ما رواه شيخنا المفيد في المقنعة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)

«ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت إلّا و وصيته تحت رأسه»

«1». و منها: ما رواه في «مصباح المتهجد» قال روي «أنه لا ينبغي أن يبيت بحوث فقهية هامة، ص: 119

إلّا و وصيته تحت رأسه»

«1». و ما اعتذر عنها في مفتاح الكرامة في كتاب الوصية من أن الأخبار الناهية عن المبيت من دون الوصية

ناظرة إلى الوصية الجامعة للشرائط كما ترى.

و الظاهر أن مراده كون الوصية منشأة بالصيغة اللفظية، مضافاً إلى الكتابة، مع أن الروايات مطلقة خالية عنها، ظاهرة في نفي هذه القيود، مع أن المتعارف في الوصية الاكتفاء بالكتابة و الإنشاء بها عن غيرها.

و منها: ما رواه إبراهيم بن محمّد الهمداني قال كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) رجل كتب كتاباً بخطه و لم يقل لورثته هذه وصيتي و لم يقل إني قد أوصيت إلّا أنه كتب كتاباً فيه ما أراد أن يوصي به هل يجب على ورثته القيام بما في الكتاب بخطه و لم يأمرهم بذلك؟ فكتب (عليه السلام): «إن كان له ولد ينفذون كلّ شي ء يجدونه في كتاب أبيهم في وجه البرّ و غيره»

«2». و استدلّ بها جماعة من أعلام العصر لجواز إنشاء الوصية بالكتابة فقد عرفت في المسألة التاسعة من كتاب الوصية في العروة استدلاله بذلك لهذا المقصود.

هذا و قد اشتهر بين الفريقين ما أراد أن يوصي النبي (صلى الله عليه و آله) أمته حين وفاته بكتاب لن يضلوا بعده فاختلف القوم، و قالوا ما قالوا، ممّا ينبغي أن تذرف عليه الدموع و يبكي الباكون و يضج الضاجون و إليك نصّ الرواية الموحشة من صحيح البخاري: عن ابن عباس قال «لمّا حضر رسول الله (صلى الله عليه و آله) و في البيت رجال، فيهم عمر ابن الخطاب، قال النبي (صلى الله عليه و آله): هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده فقال عمر: أن النبي (صلى الله عليه و آله) قد غلب عليه الوجع! و عندكم القرآن، حسبنا كتاب الله!، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي (صلى الله عليه و

آله) كتاباً لن تضلوا بعده،

بحوث فقهية هامة، ص: 120

و منهم من يقول ما قال عمر!، فلما أكثروا اللغو و الاختلاف عند النبي (صلى الله عليه و آله) قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): قوموا. فكان ابن عباس يقول إن الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه و آله) و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم و لغطهم»

«1». و الرواية من الروايات العجيبة التي تستفاد منها حقائق كثيرة في باب الخلافة و غيرها، فيا لله و لهذه الجرأة على النبي الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى، و يجب الأخذ بما يقوله (صلى الله عليه و آله) بنصّ الكتاب العزيز (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) «2» أ و ليس هذا إيذاء للرسول (صلى الله عليه و آله) و الله تعالى يقول (وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) «3» و للكلام مقام آخر «فدع عنك نهباً صيح في حجراته».

و المقصود هنا أن ظاهر الرواية جواز الوصيّة و إنشائها بالكتابة.

ثالثها: ما ورد في أبواب الطلاق مثل ما رواه أبو حمزة الثمالي في رواية صحيحة قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل قال لرجل اكتب يا فلان إلى امرأتي بطلاقها أو اكتب إلى عبدي بعتقه، يكون ذلك طلاقاً أو عتقاً؟ قال: «لا يكون طلاقاً و لا عتقاً حتّى ينطق به لسانه، أو يخطه بيده، و هو يريد الطلاق أو العتق، و يكون ذلك منه بالأهلة و الشهود (و الشهور) يكون غائباً عن أهله»

«4». و هي كالصريح في جواز الإنشاء بالكتابة، لكنها مقيدة بحالة الغيبة عن الأهل، و لكن ظاهرها أعمّ من القدرة على النطق و

عدمها، فحملها على صورة العجز كالأخرس كما أشار إليه في الوسائل بعيد جدّاً.

بحوث فقهية هامة، ص: 121

و في مقابلها روايتان في ذاك الباب بعينه مصرحتان بأن مجرد الكتابة لا يكون طلاقاً و لا عتاقاً حتّى ينطق به، و قد جمع بينهما بالتقييد في «المسالك» و لكن «صاحب الجواهر» (قدس سره) لم يقبل هذا الجمع، و رمى الرواية الأولى بالشذوذ، و استغرب ما ذكره في المسالك بل قال باختلال طريقته في الاستنباط ثمّ سأل الله العفو له و لنفسه من أمثال ذلك! أقول: الجمع بين المطلق و المقيد من القواعد المعروفة في أبواب الفقه و لا يرى اختلال في طريقة استنباط الشهيد الثّاني (قدس سره) في هذا الباب و هو من أمتن الفقهاء طريقة فلا مجال لسؤال العفو عن الله لخصوص هذا الأمر و كذا استغرابه، و إن كان سؤال العفو عن الله حسناً في كلّ حال، كما أن رمي الرواية بالشذوذ بعد صحّة سندها و عدم حجيّة الشهرة بل الإجماع في هذه الأبواب بعيد عن الصواب، فالإفتاء بما ورد في الصحيح المذكور غير بعيد عن مبادئ الفقاهة و إن كان نفس المسألة تحتاج إلى مزيد تأمّل، و المقصود هنا دلالة الرواية المعتبرة على جواز الإنشاء بالكتابة في الجملة.

و لا ينافي ذلك النهي عنها بالنسبة إلى الحاضر لما عرفت من أن الحكم بجواز الإنشاء بالكتابة إنّما هو فيما لم يردّ فيه نصّ خاصّ في النهي عنه، و هنا قد وردت روايتان فيها، إحداهما معتبرة و الأخرى مضمرة و عمل الأصحاب بمضمونها، فلا بدّ من الفتوى بعدم جواز خصوص الطلاق للحاضر بغير الألفاظ، و لكن أين ذلك من القول بعدم الجواز مطلقاً؟ و قد تحصل من جميع

ما ذكرنا أن الحكم بصحّة الإنشاء بالكتابة في جميع أبواب المعاملات- إلّا ما خرج بدليل خاصّ- ممّا لا ينبغي الشكّ فيه لا سيّما مع تداوله بين أهل العرف و العقلاء و اعتمادهم عليه بعنوان عقد عقلائي بل عدم اعتمادهم على غيره في كثير من المقامات.

تنبيهان

الأوّل- استثناء حكم النكاح و الطلاق

قد عرفت ظهور بعض الروايات المعتبرة في عدم جواز الطلاق إلّا بالنطق «1» و قد عمل بها الأصحاب. بل ادّعى الإجماع عليه بالنسبة إلى الحاضر، و أمّا الغائب فقد عرفت وجود القول بجواز طلاقه بالكتابة، و ورود نصّ صحيح به، و إن كان المشهور عدم جوازه، و قد مضى الكلام فيه إجمالًا.

و أمّا النكاح فالظاهر عدم وجود قول بجواز إنشائه بالكتابة، قال في الجواهر في أحكام الصيغة في النكاح: «و كذا لا ينعقد بالكتابة للقادر على النطق، بل و لا للعاجز عنه، إلّا أن يضم إليها قرينة تدلّ على القصد، فإنها حينئذ من أقوى الإشارات و الله العالم» انتهى.

فقد أرسله إرسال المسلّمات بحيث لم يرَ نفسه محتاجاً إلى استدلال عليه.

و عن جامع المقاصد «أنه لا ريب عندنا في أن الكتابة لا تكفي في إيقاع عقد النكاح للمختار» و قد ادّعى الإجماع على اعتبار اللفظ فيه و العجب أنه استدلّ في جامع المقاصد على هذا الحكم: «بأن الكتابة كناية و لا يقع النكاح بالكنايات»!.

بحوث فقهية هامة، ص: 123

و ليت شعري لما ذا نزلوا الكتابة منزلة الكناية، مع أنه قد يكون بعين الألفاظ التي يتكلّم بها، بل أوضح و أصرح، و لعلّ ذلك منهم بسبب عدم الاعتماد على كون الكتابة بداعي الإنشاء فقد يكون بدواع أخرى كما ورد في بعض كلمات الأعلام فيما قد عرفت عند نقل الأقوال، و لكن هذا الإشكال

بعينه وارد في التكلّم بالصيغة، و العمدة أنه لا بدّ من إحراز كون المتكلّم أو الكاتب في مقام الإنشاء، و هذا المعنى يعرف بالقرائن الحافة بها، و الأمر في زماننا سهل جدّاً بعد وجود المكاتب و الدوائر المعدّة لضبط هذه الأمور، فبالتوقيع على البيع و شبهه في هذه المكاتب يتمّ أمر الإنشاء من دون إجراء صيغة لفظية و لكن المتعارف بين أهل الشرع عدم الاكتفاء في النكاح بمجرّد ذلك، بل يتعبدون بإجراء الصيغة اللفظية نظراً إلى الفتاوى الموجودة.

و لكن قد عرفت عدم قيام دليل على هذا الحكم و عدم حجيّة مثل هذه الإجماعات لا سيّما مع ما عرفت من تعليلاتهم بعدم صراحة الكتابة بل و عدم ظهورها في أداء المقصود.

هذا و لكن الإنصاف أن أمر النكاح يتفاوت مع سائر المعاملات بل لا يبعد كون النكاح من الأمور التوقيفية التي لا يمكن الرجوع فيها إلى عمومات وجوب الوفاء بالعقود، و لعلّ الوجه فيه هو التصرّفات الكثيرة من جانب الشارع المقدس فيه، و عدم اعتنائه بما دار بين العقلاء في هذا الباب، و كثرة التخصيصات الواردة فيه، و كأنه قد تبدلت ماهية النكاح في الشرع و كذا أسبابه ممّا استقر عليه ديدن العقلاء و أهل العرف، فلا يمكن الرجوع إليهم و الأخذ بعدم ردع الشارع عنه.

و لذا قد يقال أن فيه شائبة العبادة، فإن من الواضح أنه ليس هذا من جهة احتمال اعتبار قصد القربة فيه، لعدم التفوه به من ناحية أحد من الفقهاء رضوان الله عليهم بل و لا غيرهم، بل الظاهر أن تشبيهه بالعبادات إنّما هو من جهة كونه توقيفية.

بحوث فقهية هامة، ص: 124

و حينئذ لا بدّ من الأخذ بالاحتياط في جميع موارد الشكّ الذي

لم يقم فيه دليل شرعي على الجواز، و لا أقل من احتمال كون النكاح كذلك، و لذا بنينا على رعاية الاحتياط في أبواب النكاح و في إجراء الصيغة أيضاً.

و منه يظهر الحال في الطلاق أيضاً لتلازم أحكامهما من هذه الجهة كما لا يخفى.

الثّاني- اهتمام الشارع بأمر الكتابة

اهتمام الشارع المقدس بأمر الكتابة في أبواب المعاملات ممّا لا يكاد يخفى على الناظر في كتاب الله.

إن القرآن قد اهتم بشأن الكتابة اهتماماً شديداً كيف و ان أطول آية في كتاب الله هي آية الكتابة، و هي و إن كانت واردة في أمر الدين و كتابته، و استشهاد شهيدين من الرجال عليه، أو رجل و امرأتين، و ليست ناظرة إلى ما كان في مقام الإنشاء بل هي ناظرة إلى ما كانت سنداً على حصول القبض و الإقباض في الدين و شبهه، و لكن الناظر فيها يرى اعتماد الشارع عليها و تأكيده بالنسبة إليها و يمكن أن يكون جواباً متيناً لما عرفت من جامع المقاصد و المصابيح و شبههما من كون الكتابة بحكم الكناية أو إشارة الأخرس أو أهون منها و أنه لا صراحة فيها و لا ظهور.

و كيف لا تكون ظاهرة في إفادة المراد مع ما صرّح به كتاب الله من كونها مدركاً شرعياً للدين كثيره و قليله.

و قد وردت في هذه الآية أحكام كثيرة حول هذا المعنى ربّما تربو على ثمانية عشر حكماً! كلّها تدور حول مسألة الكتابة و الاستشهاد للديون، و لم يردّ بالنسبة إلى حكم من أحكام الله في القرآن الكريم ما ورد في هذا من الخصوصيات و الجزئيات،

بحوث فقهية هامة، ص: 125

و مع ذلك كلّه لا ندري لما ذا أهملها الأصحاب و لم يعتنوا بشأنها و جعلوها من

الكنايات أو من قبيل إشارة الأخرس أو أهون منها (و لا فرق بين الإنشاء و الإخبار من هذه الناحية).

و لعلّ السر في جميع ذلك ما مرّ عليك غير مرّة من عدم تداول الكتابة في تلك الأعصار، مضافاً إلى ما قد يظهر من بعض الروايات بادئ الأمر من الاعتناء بشأن الألفاظ فقط، و لكن قد عرفت الجواب عن الجميع.

و بذلك كلّه ارتفع النقاب في هذا الباب عن وجه المطلوب و لم يبق شكّ في جواز الاعتناء بشأن الكتابة و الاكتفاء بالإنشاء بها في جميع أبواب العقود إلّا ما ورد النصّ بعدم جوازه و مع ذلك لا تغتر بدعوى الإجماع على خلافه، و كم ترك الأول للآخر.

و لكن طريق الاحتياط واضح، و هو سبيل النجاة و إن لم يكن واجباً في المقام.

و الحمد لله على كلّ حال و هو العالم بحقائق الأحكام.

5- حكم الخُمس في عصر الغيبة (عليه السلام)

اشارة

(حكم الخُمس في عصر غيبة الإمام (عليه السلام)) اعلم أن هناك معركة عظيمة في حكم الخُمس بكلا سهميه، (سهم السادة و سهم الإمام (عليه السلام)) في زمن الغيبة الكبرى، و فيه أقوال كثيرة نذكر أهمّها و هي عشرة أقوال:

الأوّل: إباحته للشيعة و سقوطها مطلقا

، كما عن سلّار و صاحب الذخيرة و غيرهما، و حكاه صاحب الحدائق عن جمع من المحدّثين من معاصريه، و لكنّ هذا القول شاذ لم يذهب إليه إلّا قليل من أصحابنا، و دليلهم في ذلك روايات كثيرة أوردها صاحب الوسائل في كتاب الخُمس (الباب 3 من أبواب الأنفال).

و قد ذكرنا في محله أنها غير ناظرة إلى تحليلها مطلقاً، بل إمّا ناظرة إلى تحليل المناكح و المساكن و شبهها، أو ناظرة إلى زمان خاصّ كان إباحتها صلاحاً للشيعة، فلذا أباحها إمام و أخذها إمام آخر، أو روايات ضعاف لا يمكن الركون إليها مع إعراض الأصحاب عنها، هذا مع ما سيأتي من أن غيبته (عليه السلام) و إن كانت مصيبة كبرى علينا و لكن لا توجب تعطيل أحكام الإسلام و لا تنعدم مصارف الخُمس معها، بل هي باقية على ما كانت و قائمة على ساقيها، فعلى العلماء الفقهاء الذين هم نوابه صرفه في مصارفه، و كيف يمكن بقاء مصارفه قائمة مع إباحتها جميعاً للشيعة؟ و هل هذا إلّا تعطيل لأحكام الإسلام في عصر الغيبة التي يمكن استمرارها آلاف السنين (نعوذ بالله).

الثّاني: عزله بجميعه و الوصية به

كما عن المفيد (قدس سره) و غيره، و الظاهر أن نظرهم في ذلك إلى أنه حقّ مختصّ به (عليه السلام) بكلا شقيه، فيكون حاله حال سائر الأموال، المعلوم مالكها، المفقود عينه، فلا بدّ من حفظها حتّى توصل إليه.

و أنت خبير بما فيه من الإشكال بالنسبة إلى عصر الغيبة الذي لا يعلم أمدها، و هل تطول مئات أو آلاف من السنين، و إن كنا ننتظر ظهوره كلّ يوم، و نسأل اللّه فرجه كلّ ساعة، فمع هذا الحال تكون هذه الأموال في معرض التلف بلا إشكال، مع ما

مرّ و سيمرّ عليك من أن غيبته لا يسد مصارفها مطلقاً.

الثّالث: دفنه- كما حكاه المفيد

عن بعض من لم يسمه- استناداً إلى بعض المرسلات من ظهور كنوز الأرض له (عليه السلام) عند ظهوره، و أنت ترى ما فيه من الإشكالات الواضحة، و كيف يمكن دفن هذه الأموال العظيمة حيث يوجب ذلك إتلافها قطعاً استناداً إلى أمثال تلك الروايات الضعاف مع بقاء مصارفها و استوائها على سوقها.

الرّابع: دفع النصف المتمثل بحقّ السادة إليهم

، و أمّا حقه (عليه السلام) فإنه يودع أو يدفن كما عن الشيخ في النهاية، و دليله في الحقيقة مركب عن أدلّة الأقوال السابقة.

و الجواب: أمّا بالنسبة إلى دفع حقّ السادة إليهم فلا ريب فيه و أمّا بالنسبة إلى غيره فهو ضعيف جدّاً لما عرفت و يأتي إن شاء الله.

الخامس: أن حقّ السادة يصرف فيهم، و أمّا حقّه (عليه السلام) فيقسم على الذرية

، كما عن المحقّق، و هو المشهور بين المتأخّرين و استنادهم إلى بعضما ورد من أنه إذا لم يكف للسادة سهمهم يتمه الإمام (عليه السلام) من حقّه (و هو الرواية الأولى و الثّانية من الباب الثّالث من أبواب قسمة الخُمس من كتاب الخُمس من الوسائل) و كلتاهما مرسلتان و ظاهرهما وجوب إتمام مئونة السادة من حقّه مع أنه لم يعهد ذلك من سيرة

بحوث فقهية هامة، ص: 131

الأئمّة (عليهم السلام) بل كانوا يصرفون سهمهم أحياناً في غيره مع وجود المستحقين من بني هاشم عادة، و احتمال عدم وجود مستحق بينهم في جميع ذلك بعيد جدّاً.

السّادس: صرف سهم الأصناف الثّلاثة (حقّ السادة) إليهم، و أمّا حقّه (عليه السلام) فهو مباح للشيعة

كما عن المدارك و غيره لبعض ما عرفت، و قد عرفت الجواب منه أيضاً.

السّابع: كسابقه إلّا أن حقّه (عليه السلام) يصرف في مواليه

العارفين بحقّه من أهل الصلاح إذا كانوا فقراء كما عن ابن حمزة و غيره، و كأنهم زعموا أن ذلك هو القدر المتيقن من مصرفه في هذه الأيّام، و سيأتي إن شاء الله أنه ليس كذلك قطعاً.

الثّامن: أن حقّ الأصناف تدفع إليهم و خمس الأرباح مباح مطلقا

، و كأنه نظر في ذلك إلى أن أدلّة التحليل ناظرة إلى خصوص الأرباح (مع أن بعضها عام ظاهراً) و قد عرفت الجواب عنه أيضاً فلا نطيل بالإعادة.

التاسع: صرف حصّة الأصناف إليهم و التخيير في حصته (عليه السلام) بين الدفن، و الوصية

، و صلة الأصناف مع الإعواز، بإذن الفقيه، كما عن الشهيد في الدروس، و دليلهم هو الجمع بين أدلّة الأقوال السابقة، و لما لم يثبت ترجيح بعضها على بعض فلا بدّ من التخيير بين هذه المصارف، و يظهر الجواب عنه ممّا ذكرناه سابقاً.

العاشر: و هو العمدة- دفع سهم الأصناف إليهم

، و أمّا حصة الإمام فتصرف في كلّ أمر يحرز به رضاه من إقامة الشعائر و نشر الإسلام و صيانة الحوزات العلمية، و صلة الأصناف الثّلاثة من السادة و غيرهم من أهل الفقر و الصلاح مع رعاية الأهم فالأهم كما اشتهر بين المعاصرين (و هو المختار عندنا).

و دليله- أمّا بالنسبة إلى صرف حصة الأصناف إليهم فممّا لا ينبغي الشكّ فيه، لأن الله وضعها لهم و لسد خلتهم و رفع حوائجهم، مع منعهم من الزكاة، و من المعلوم أن غيبة الإمام (أرواحنا له الفداء) لا تمنع من إيصال حقهم إليهم و تركهم محرومين من بحوث فقهية هامة، ص: 132

الخُمس و الزكاة جميعاً، بل الإمام (عليه السلام) أما وكيلهم أو وليهم في ذلك و مهما كان لا يوجب ذلك سقوط حقّهم، بل يجب قيام نوابه مقامه في ذلك، أو نقول بجواز دفع المالكين إليهم بلا حاجة إلى إذن الفقيه كما قويناه في محله، و أما بالنسبة إلى سهمه (عليه السلام) فإيضاحه يحتاج إلى مقدمة مهمة نافعة و هي: لا شكّ أن سهم الإمام من الخُمس إنّما هو من حقوق منصبه (عليه السلام) لا من مئونة شخصه، لوضوح عدم حاجته (عليه السلام) إلى هذه الأموال الخطيرة العظيمة بشخصه، لكنّه بما هو إمام للمسلمين و ترجع إليه حوائجهم، و بما أنه رئيسهم و زعميهم و حاكمهم يحتاج إلى مئونة كثيرة يستلزمها هذا المنصب السامي، و هذه

المئونة كثيرة جداً في عداد أو عرض الحاجات التي تكون إلى جانبها، فليس سهم الإمام (عليه السلام) مالًا شخصياً حتّى يعامل معه معاملة أموال الغيّب.

ثمّ إن من المعلوم أنه لا يجوز تعطيل جميع أحكام الدين بغيبته (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بل يجب على المسلمين العمل بها و إقامتها مهما أمكن، و إذا احتاج ذلك إلى بيت المال لا بدّ من تحصيله من طرق قررها الشرع بأيدي نوابه العامة، و تعطيل سهمه (عليه السلام) يوجب تعطيل جميع ما كان يصرفه إليه في مقامه، من إقامة حدود الدين و تعظيم شعائره و نشر أحكامه فهل يرضى هو (عليه السلام) بذلك؟ و من جانب آخر من الضروري أنه لا بدّ أن تكون الحكومة الإسلامية بأيدي المسلمين لا بأيدي غيرهم و لا بدّ لهم من إمام من أنفسهم و أحق الناس بهذا- على ما يستفاد من أدلّة كثيرة- هم علماء الدين و فقهاء المسلمين الجامعون للشرائط المقررة في محلها (و هو المراد من ولاية الفقيه المشهورة بيننا) و من الواضح أنهم في هذا المقام يحتاجون إلى مئونة كثيرة و يشكل سهم الإمام (عليه السلام) من الخُمس بعض هذه المئونة.

بحوث فقهية هامة، ص: 133

و إذ قد عرفت هذا فاعلم: أن الواجب قيام نوابه (عليه السلام) بهذه المهمّة بقدر الإمكان و صرف سهمه فيما كان يصرفه عادة لو كان هو بيننا، و عند الشكّ لا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقن من موارد يرضاها من مصارفها.

كما أن من المعلوم أن ذلك لا يختص بتكميل حصّة الأصناف من السادة فقط و إلّا يوجب تعطيل سائر وظائفه (عليه السلام) بما هو إمام المسلمين، و أمّا دفنه أو إلقاؤه في البحر فهو كلام لا

ينبغي التفوه به، كحفظه و إيداعه، فإنه لا معنى له مع وجود مصارفه بعد إن لم يكن ملكاً شخصياً، مضافاً إلى ما فيه من تعرضه للتلف قطعاً، و لا زال الحوزات العلمية بما فيها من الحركة و النشاط و نشر أحكام الإسلام تقوم بسهمه (عليه السلام) بحيث لولاه آل أمرهم إلى الفشل من هذه الناحية أو صار سبباً لسيطرة الجبابرة عليها.

و يدلّ على ما ذكرنا جميع ما ورد في أبواب الخُمس من أنه إذا ظهر القائم (عليه السلام) يأخذ الخُمس من الجميع و كذا ما دلّ على أن الخُمس عون لهم (عليهم السلام) على دينهم و عرضهم و حفظ مواليهم (الحديث 2 من الباب 3 من الأنفال) و غير ذلك من الأحاديث و الاعتبارات العقلية.

(اللّهم عجّل له الفرج و اجعلنا من أعوانه و أنصاره بحقّ محمّد و آله (عليهم السلام)).

6- فلسفة تنصيف دية النّساء

اشارة

(فلسفة تنصيف دية النّساء)

تمهيد

تعرضت شخصية المرأة على مرّ التّاريخ للإجحاف و الجور. فتارةً وصل حدُّ الظلم للمرأة إلى درجة أنّها لم تُحسب في عداد النوع البشري! بل اعتبرت وسيلة و أداة لإرضاء أهواء الرّجل و خدمته، و أنّها وجود مرتبط تماماً بوجود الرّجل إلى درجة أنّ بعض المجتمعات البشرية كانت تدفن المرأة حيّة مع زوجها في حالة موت الزّوج! و الحاصل، أنّها حُرمت حقوقَها الاجتماعية و الإنسانية، و لم يسمح لها بأن تؤدّي وظيفتها التي أوكلتها الطبيعة البشرية إليها.

و تارة أخرى أنزلوا المرأة تحت قناع الحضارة و حرية المرأة و التحديث إلى حضيض الرّذيلة و التسيب و الابتذال، و جعلوها آلة لشهواتهم و أهوائهم، فحطموا بذلك شخصيتها الإنسانية.

و كلا الفريقين و على مرّ التأريخ حقّرا المرأة و أذلوا شخصيتها و أهانوها بإفراطهم و تفريطهم و كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في حديث رائع «لا ترى الجاهل إلّا مفرِطاً أو مفَرِّطاً»

«1».

مكانة المرأة في عصرنا الحاضر

على الرّغم من أنّ بعض ملامح التيار الأوّل لا زالت عالقة في أذهان و سلوك بعض الناس، و لكن هذا الاتجاه كفكر و عقيدة لم يُعد له من المؤيدين ما يعتد به.

و أمّا الاتجاه الثّاني، فمؤيده في عصرنا الحاضر يحاولون جادّين من أجل ترويج آرائهم و عقائدهم حول المرأة.

و من جملة أساليب هذا التيار المفرِّط- في طريق ترويج فكره- هو طرح مسألة المساواة بين الرّجل و المرأة في الدّية، و يقولون: «لما ذا جعل الإسلام دية المرأة نصف دية الرّجل؟».

و يتشدّقون متفلسفين: «يتنافى ذلك مع العدل الإلهي؟ و هل ينسجم هذا الحكم مع كرامة المرأة و شخصيتها الإنسانية؟ ثمّ أ لا يعني ذلك أنّ شخصية الرّجل أفضل من شخصية المرأة بضعفين؟» ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت

السميع العليم.

أسس البحث

اشارة

لكي تتضح الإجابة على هذا التساول و تتبين فلسفة هذا الحكم الإسلامي الحكيم، و لكي تتخذ المرأة موقعها اللائق بشأنها لا بدّ من التأمّل في المباحث التالية: 1- أنواع القتل و تعريف الدّية.

2- دية المرأة من وجهة نظر فقهاء الإسلام.

3- حكم دية المرأة في الرّوايات الإسلاميّة (سنّية و شيعية).

4- حدود تنصيف دية المرأة.

5- فلسفة تنصيف دية المرأة.

6- الإجابة عن الأسئلة المطروحة حول فلسفة التّنصيف.

7- هل يدلّ تنصيف دية المرأة و اختصاص بعض المناصب الاجتماعية بالرّجال، على ضعف شخصيّة المرأة؟

8- موجز البحث و نتيجته.

9- وصايا لنساء المجتمع الإسلامي.

و نأمل من وراء حلّ غوامض هذه البحوث، توضيح فلسفة هذا الحكم الإلهي، و ازدياد إيماننا بأحكام و قوانين الشريعة الإسلاميّة المقدّسة- و التي تعتبر أكمل و آخر الأديان الإلهية.

1- أنواع القتل و تعريف الدّية

القتل- من وجهة النّظر الحقوقية في الإسلام- على ثلاثة أقسام، قتل العمد، قتل شبه العمد، و قتل الخطأ المحض:

أ- قتل العمد: و هو أن يضرب شخص آخر بآلة قتّالة غالباً، أو غير قتّالة بقصد القتل، فيموت المضروب، و حكم هذا القتل هو القصاص.

ب- قتل شبه العمد: و هو أن يضرب شخص آخر بآلة لا تقتل عادة، و بدون قصد القتل، فيموت المضروب اتفاقاً و الحكم هنا أن يدفع القاتل نفسه الدّية لأولياء المقتول.

ج- قتل الخطأ المحض: و هو أن لا يقصد الضارب قتل المضروب و لا يستهدف ضربه أصلًا، و إنما استهدف شيئاً آخر فأصابت ضربته المقتول اتفاقاً فقتلته، كأن استهدف صيداً فأصاب إنساناً فقتله، و هنا الحكم كالقسم الثاني و هو الدّية، و لكن القاتل غير مأمور بدفع الدّية و إنّما العاقلة هي التي تدفع الدّية «1».

و من تعريف أقسام القتل الثلاثة يتضح أنّ المراد من الدّية هو:

«المال المدفوع إلى أولياء المقتول لجبر خسارة فقد صاحبهم، و مقدارها متعين في قتل الخطأ المحض و شبه العمد، و أمّا في قتل العمد فيتعين مقدارها طبقاً لتوافق الطرفين».

2- دية النّساء من وجهة نظر فقهاء الإسلام

حكم دية المرأة من وجهة نظر فقهاء الإسلام شيعةً و سنّة، محدّد و قطعي، فكلّ بحوث فقهية هامة، ص: 141

علماء الإسلام متّفقون على أنّ دية المرأة نصف دية الرّجل، أي (500 دينار)، و لم يخالف في ذلك أحد منهم، و إليك كلمات بعض كبار الفقهاء (السنّة و الشيعة).

1- يقول المرحوم الشّيخ محمّد حسن النّجفي (قدس سره) في كتابه الثمين «جواهر الكلام»: «و كيف كان فلا خلاف و لا إشكال نصّاً و فتوى في أنّ دية المرأة الحرّة المسلمة صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة أو مجنون، سليمة الأعضاء أو غير سالمة الأعضاء على النّصف من جميع الأجناس المذكورة في العمد و شبهه و الخطأ، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر كالنصوص، بل هو كذلك من المسلمين كافة إلّا من ابن عليّة و الأصم» «1».

2- قال الشّيخ الطّوسي (قدس سره)- و هو من اتفقت كلمة علماء الإسلام على احترامه و الإعجاب به و تقديره- في كتابه القيّم «الخلاف»: «و دية المرأة نصف دية الرّجل، به قال جميع الفقهاء، و قال «ابن عليّة» «2» و «الأصم»: و هما سواء في الدية، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و هو إجماع الأمّة» «3».

3- و للمرحوم صاحب الرّياض (قدس سره)- و هو من كبار فقهاء الشّيعة- كلام في هذه المسألة شبيه بكلام صاحب الجواهر، و بعبارة أخرى: كلام صاحب الجواهر شبيه بكلام صاحب الرّياض. و لذا لا نكرّر ذلك الكلام «4».

بحوث فقهية هامة، ص: 142

4- قال «ابن قدامة»

و هو من فقهاء العامّة المقتدرين في كتابه الفقهي المفصّل «المغني»: «دية الحرّة المسلمة نصف دية الحرّ المسلم»- ثمّ ينقل ادّعاء «ابن النذر» و «ابن عبد البرّ» إجماع كلّ أهل العلم على ذلك، و يقول في آخر كلامه: و حكى غيرهما عن «ابن عليّة» و «الأصمّ» أنّهما قالا: «ديتهما كدية الرّجل، و هذا قول شاذ يخالف إجماع الصحابة و سنّة النبيّ (صلى الله عليه و آله)» «1».

و النّتيجة هي أنّ مسألة دية المرأة إجماعية من وجهة نظر فقهاء الإسلام «2».

3- دية المرأة حسب الرّوايات الفقهية

إنّ حكم دية المرأة و إن لم يرد في القرآن الكريم ذكر بخصوصها، إلّا أنّ الروايات الإسلامية- سواء في مصادر أهل السنّة، أو الرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)- عالجت هذا الموضوع بشكل واضح و موسّع، و قد تجاوز عدد الرّوايات حول هذه بحوث فقهية هامة، ص: 143

المسألة الثّلاثين، و عليه فالرّوايات متواترة في هذه المسألة.

و إليك عدّة نماذج من تلك الرّوايات:

1- روى عمرو بن حزم عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه و آله)

«دية المرأة على النّصف من دية الرّجل»

«1». 2- و قال معاذ بن جبل بعد أن روى الرّواية السّابقة عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه و آله): و هذه المسألة مورد قبول كل المسلمين، و قد روي ذلك عن علي (عليه السلام) و عن ابن عباس و زيد بن ثابت و لم يخالف في ذلك أحد «2».

3- يقول عبد الله بن مسكان في رواية معتبرة «3» عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال «دية المرأة نصف دية الرّجل»

«4». 4- يقول عبد الله بن سنان- و هو من كبار رواة الشّيعة-: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في رجل قتل امرأته متعمداً فقال:

«إن شاء أهلها أن يقتلوه و يؤدوا إلى أهله نصف الدية، و إن شاءوا أخذوا نصف الدية خمسة آلاف درهم»

«5». و هذه الرّواية أيضاً صريحة في أنّ دية المرأة نصف دية الرّجل.

سؤال: أنّ حكم قتل العمد هو القصاص، و لكن لأولياء الدّم أن يوفقوا مع القاتل على دية معلومة مقدارها، و عليه فالدّية هي ما وافقوا عليه سواءً كانت بمقدار الدية الكاملة (1000 دينار) أو أقل أو أكثر في حين أننا نجد بأن الإمام (عليه السلام)- كما في الرّواية السّابقة- ذكر أنّ الدية هي (1000 دينار) و هي الدّية الكاملة، و عليه فالاستدلال بحوث فقهية هامة، ص: 144

بالرّواية مشكل؟

الجواب: هذا الكلام صحيح، و لكن لما كان الغالب في حالات المصالحة و التوافق بين الطّرفين هو الاتفاق على الدّية الكاملة، ذكرت الدّية الكاملة في هذه الرّواية أيضاً، و عليه فالرّواية ناظرة إلى هذا الأمر لا أنها في مقام بيان قاعدة كلية جارية في كلّ صور المصالحة و جميع و أنّه لا بدّ من دفع دية كاملة.

فلا إشكال في الاستدلال بها حينئذ.

5- روى محمّد بن قيس عن الإمام الباقر (عليه السلام)

في رجل قتل امرأةً قال: «إن شاء أولياؤها قتلوه و غرموا خمسة آلاف درهم لأولياء المقتول، و إن شاءوا أخذوا خمسة آلاف «1» درهم من القاتل»

«2». 6- و روى أبو بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجراحات فقال: «جراحة المرأة مثل جراحة الرّجل حتى تبلغ ثلث الدّية فإذا بلغت ثلث الدّية سواء، أضعفت جراحة الرّجل ضعفين على جراحة المرأة»

«3». هذه الرّواية أيضاً تدل على أنّ دية المرأة نصف دية الرّجل.

سؤال: هذه الرّواية تتحدّث عن دية الجراحات و لا ربط لها بدية القتل.

الجواب: صحيح أنّ

الرّواية ليست صريحة في دية القتل، و لكن لمّا لم يستثن الإمام (عليه السلام) مسألة القتل من هذا القانون الكلّي (و هو تساوي الرّجل و المرأة إلى الثلث و تضاعف دية الرّجل بعد ذلك) يُعلم أنّ القتل أيضاً مشمول لهذا القانون الكلّي.

بحوث فقهية هامة، ص: 145

و هناك روايات أخرى يصل عددها إلى أكثر من ثلاثين رواية «1».

و النتيجة هي أنّ الروايات (سنية و شيعية) تدل على أنّ دية المرأة نصف دية الرّجل.

4- حدود تنصيف دية المرأة

يمكننا التّوصل من مجموع الرّوايات الشّريفة و كلمات علماء الإسلام إلى هذه النّتيجة، و هي: أنّ دية المرأة ليست على النّصف من دية الرّجل دائماً و في جميع الموارد، أي أنّ دية الرّجل و المرأة تتساويان في ثلث الدّية الكاملة (333 دينار تقريباً)، فلا اختلاف بينهما في هذا الحدّ إطلاقاً، و على هذا لو ضرب رجل امرأة فيما يوجب عليه أقل من ثلث الدّية الكاملة، فعليه أن يدفع لها مبلغاً مساوياً لدية الرّجل في هذا الخصوص، و لكن لو وصل إلى ثلث الدّية فصاعداً كانت دية المرأة حينذاك على النّصف من دية الرّجل.

هنا نلفت النظر إلى رواية رائعة في هذا المورد حيث انعكست فيها تفاصيل هذه المسألة بوضوح: يقول أبان بن تغلب في رواية معتبرة (و أبان هذا يعتبر من أجلاء الأصحاب، و قد أدرك ثلاثة من الأئمّة الأطهار- الإمام زين العابدين، و الإمام الباقر، و الإمام الصّادق (عليهم السلام)، و قد كان الإمام الباقر (عليه السلام) يباهي به أصحابه و توجّع الإمام الصادق (عليه السلام)، عند وفاته) «2».

بحوث فقهية هامة، ص: 146

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة، كم فيها؟ قال: عشرة من الإبل.

قلت: قطع اثنتين؟ قال: عشرون. قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: ثلاثون. قلت: قطع أربعاً؟ قال: عشرون. قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، و يقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟ إن هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنتبرأ ممن قاله و نقول: الذي جاء به شيطان. فقال (عليه السلام): مهلًا يا أبان، هذا حكم رسول الله (صلى الله عليه و آله)، إنّ المرأة تعاقل الرّجل إلى ثلث الدّية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى نصف، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس، و السّنة إذا قيست محق الدّين»

«1». طبقاً لهذه الرّواية (و روايات كثيرة أخرى) فإن دية الرّجل و المرأة تتساويان إلى ثلث الدّية الكاملة، و من الثّلث فصاعداً تعود إلى النّصف.

و في هذه الرّواية درس كبير لنا، و هو أننا عند ما نواجه حكماً شرعيّاً مسلّماً عسر على أفهامنا بلوغ مغزاه، و أشكل على عقولنا حلّ رموزه و كشف محتواه، فلا ينبغي لنا المسارعة إلى إنكاره و رفضه و إلّا حتى لو بلغنا في العلم و المعرفة إلى مرتبة «أبان بن تغلب» فإنّه لا يؤمن معه الانحراف و الزيغ، و طبعاً لا إشكال في تحري بحوث فقهية هامة، ص: 147

الحكمة من هذا الحكم، و استجلاء الغاية منه بالسّؤال و البحث، و هذا ما سنفرد له بحثاً في الفصل الآتي.

5- فلسفة تنصيف دية المرأة

اشارة

سؤال: الإسلام دين العدل، و لذا فإنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله) اعتبر دماء المسلمين متكافئة، و لا فرق بين دم المرأة و دم الرجل، و لا الصغير و الكبير، و لا الشاب و الشّيخ، و لا العالم و الجاهل، و لا الرّئيس و المرءوس، و لا المرجع و المقلِّد، حيث قال (صلى الله عليه و آله)

«المسلمون

إخوة «1» تتكافأ دماؤهم»

«2». و على هذا فكيف جعل الإسلام دية المرأة نصف دية الرّجل (إذا وصلت دية الجناية إلى الثلث)، و هل ينسجم هذا الحكم مع روح العدالة في الإسلام؟ مضافاً إلى ذلك، و على فرض أنّ فلسفة هذا الحكم هو أنّ النّساء في الصّدر الأوّل للإسلام كُنّ أقل مشاركة في الفعاليات الاجتماعيّة، أو لم يكن لهنّ دور أصلا، و لكن اليوم للنساء دور مهم في المجتمع إلى درجة أنهنّ في بعض النشاطات الاجتماعيّة يعملن إلى جنب الرّجل، و لهن الأسبقية في قطاعات أخرى، و قد أجاز الإسلام هذه الفعاليات و النشاطات شريطة حفظ العفاف و رضا الزوج، فمع كل ذلك هل تبقى دية المرأة نصف دية الرّجل؟

الجواب: يمكن الإجابة عن الإشكال السّابق بجوابين:

أحدهما إجمالي قصير، و الآخر مفصّل.

بحوث فقهية هامة، ص: 148

الجواب الإجمالي: أنّ الدّية خلافاً لتصور البعض ليست ثمناً للدم! لأن ثمن دم الإنسان بنظر الإسلام يساوي آلاف أضعاف مقدار الدّية، بل و أكثر من ذلك، فالقرآن الكريم يرى بأن دم الإنسان المظلوم يعادل دماء كل البشر و مساو لها، حيث قال تعالى (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) «1».

فدم الإنسان يعادل دماء كل البشر، و دماء كل البشر غير قابلة للتقدير المادي.

و عليه، فتفسير الدّية، بأنّها ثمن الدّم، ليس تفسيراً صحيحاً.

و هنا يطرح سؤال: إذا لم تكن الدّية ثمناً للدّم فما هي الدّية إذاً؟ هل الدّية نوع عقوبة و جزاء، أم إنّها جبران للخسارة الاقتصادية النّاشئة عن فقدان المقتول أو نقصانه؟

و نقول في الجواب: إنّ الدّية جزاء و عقوبة، و في نفس الوقت هي جبران للخسارة الماليّة النّاشئة من فقد المقتول، فهي عقوبة لردع

النّاس من اقتراف القتل، و لكي يحتاط الإنسان في تصرفاته، فلا يرتكب مثل هذا الخطأ الفضيع، و هي جبران للخسارة المالية، لأن فقد القتيل يسبّب عجزاً و خللًا اقتصادياً لعائلته، فالدّية تشغل هذا النقص و تسد هذا العجز، و لما كان الضرر الاقتصادي النّاشئ من قتل الرّجال أكبر بكثير من الضرر الاقتصادي النّاشئ من قتل النّساء و فقدانهن، صارت دية المرأة نصف دية الرّجل.

[جوانب شخصية المرأة]
اشارة

الجواب التفصيلي: أنّ لشخصية المرأة كما لشخصية الرّجل ثلاثة جوانب الجانب الإنساني و الإلهي، الجانب العلمي و الثقافي، و الجانب الاقتصادي.

الجانب الإنساني و الإلهي

لا فرق بين الرّجل و المرأة في هذا الجانب، و كلاهما سواء أمام الله، و لكل منهما أن يطوي مراحل السير و القرب إلى الله في مسيرة الإنسان التكاملية اللامحدود.

و لذا فإنّ الخطاب القرآني و الآيات الكريمة الواردة في هذا الموضوع عامة و شاملة للجنسين معاً، و إليك نماذج لذلك:

أ- ورد في الآيات الأخيرة من سورة الفجر (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي).

و هذا الخطاب عام يشمل الرّجل و المرأة معاً، لأنّ التّكامل أحد الجانب الإلهية و الإنسانية حيث يكون كلّ من الرّجل و المرأة فيه على قدم المساواة و عليه فإن جميع أفراد البشر- رجالا و نساء- يخضعون لشمولية هذا العنوان و تعمّهم دائرة النفس المطمئنة في صورة اجتيازهم أسوار النفس اللّوامة.

ب- قال الله تعالى في سورة النحل الآية 97 (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

و الآية صريحة بأنّ من يعمل صالحاً- رجلا كان أو امرأة- استحق الثّواب.

ج- قال الله تعالى في سورة الأحزاب، الآية 35 (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ وَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً).

و هذه الآية صريحة بعدم الفرق بين الرّجل و المرأة في هذا الجانب الإلهي.

و هذه الآيات الثلاثة نماذج لكثير من الآيات القرآنية المجيدة الدالة على المساواة بين الرّجل و المرأة في الجانب الإلهي و الإنساني.

الجانب العلمي و الثقافي

و لا فرق بين الرّجل و المرأة في هذا الجانب أيضاً.

لم يخص الإسلام التعلّم بالرّجال، بل أوصى كل المسلمين- رجالا و نساء- بطلب العلم و التّعلّم، حتى ورد على لسان نبيّ

الإسلام (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم و مسلمة»

«1». و عليه فلا فرق بين الرّجل و المرأة في الجانب العلمي و الثّقافي من وجهة النظر الإسلامية.

سؤال: بعض الرّوايات أوجبت طلب العلم على الرّجال فقط حيث اقتصر فيها على ذكر المسلم دون إضافة المسلمة «2»، و حينئذ أ لا يستفاد منها أنّ هناك تفاوتاً بين الرّجل و المرأة من هذا البعد؟

الجواب: أوّلا: أن الوارد في الرّواية المذكورة آنفاً هو التصريح بضرورة طلب العلم على المرأة أيضاً، كالرّجل بلا فرق.

ثانياً: على فرض عدم وجود مثل هذا التصريح المذكور، فإننا نقول بأنّ المراد من «المسلم» ليس فقط الرّجل المسلم، بل المراد جنس المسلم، سواء كان رجلا أو امرأة، كما ورد الخطاب في القرآن الكريم للمسلمين بصورة عامة، فلا يتحدد موضوعه بالرّجال فقط، فمثلا، قال تعالى في سورة البقرة الآية 183 (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)، فهنا و إن كان المخاطب هم الرّجال، و لكن الصيام لا يختص بهم، بل هو حكم عام لكل المسلمين الواجدين لشرائط التكليف سواء كانوا رجالا أو نساء، و بعبارة أخرى: أن هذه الصّياغة في الخطابات تعتمد على التّغليب بحوث فقهية هامة، ص: 151

في الاستعمال.

و النّتيجة هي أنّه لا فرق بين الرّجل و المرأة في طلب العلم و المعرفة و سائر الأمور الثّقافية و الفكرية.

سؤال آخر: إذا لم يكن هناك فرق بين الرّجال و النّساء في الجانب الثّقافي و العلمي، فلما ذا نجد بعض الرّوايات تصرّح بمنع تعليم النّساء الكتابة و سورة يوسف و تعليمهن الحياكة و سورة النور «1»؟ فلو قلتم: إنّ الآيات الواردة في سورة يوسف تحكي قصّة زوجة عزيز مصر

و النّساء المصريات اللاتي كنّ معها، و هذه الآيات على الرغم من أنّها ذكرت في القرآن و لوحظ فيها أسس العفّة و الأخلاق، إلّا أنّها قد تثير بعض النّساء.

قلنا: إنّ هذا المقدار لا يمكن أن يكون مانعاً من تعليمهن هذه السّورة الشريفة لنيل ثواب قراءتها، و الدقّة في مفاهيمها.

و الحاصل، أنّ النّساء و الرّجال ليسوا سواء في الجانب الثّقافي و العلمي.

الجواب: أوّلا: أنّ أسانيد هذه الرّوايات ضعيفة و لا يعتمد عليها «2».

ثانياً: يستفاد من بعض الرّوايات الأخرى عكس هذا المدعي، أي ورد الحث و التأكيد على تعليم هذه السورة للنّساء «3».

و ثالثاً: أنّ التدقيق في آيات سورة يوسف (عليه السلام) المباركة يبين لنا أنّ هذه السّورة

بحوث فقهية هامة، ص: 152

مضافاً إلى عدم وجود أيّة نقطة سلبية للنساء فيها، تفيد أن سلوك زوجة عزيز مصر المشين و مردوداته الوخيمة، تعتبر خير درس و عبرة لكل من يوسوس له الشيطان، و كيف كان، فلا تفاوت بين الرّجل و المرأة من جهة المسائل العلمية و الثّقافية.

الجانب الاقتصادي

خلافاً للجانبين السّابقين، فإنّ الرّجل و المرأة في هذا الجانب الثّالث لا يقفان على أفق المساواة، أي أنّ مصروفات الرجال حتى في عصرنا الحاضر- بل في المجتمعات التي لا تعطي للدين قيمة و تدعي المساواة بين الرجل و المرأة في كل شي ء- أكثر بكثير من مصروفات المرأة. و هذا الفرق أمر واقعي لا يمكن إنكاره بمجرد بعض الشعارات الجاذبة، و يعود هذا الفرق لعدّة أسباب:

أ- إنّ المرأة تقضي شطراً طويلا من حياتها في الحمل و الولادة و الرضاعة و الحضانة، و هي طبقاً للأعراف و التّقاليد في كل المجتمعات مسئولة عن تربية الأولاد. و هذه المراحل تشغل قسماً كثيراً من أفضل أيّام

حياة المرأة، و هي أيّام الشّباب.

فإذا كان للوالدين ثلاثة أولاد على أقل التّقادير «1». و إذا أرادت كلّ أمٍّ أن تقضي ثلاثة دورات حمل و ولادة و حضانة و تربية أطفال، فإنّ قسماً مهماً من أيّام شبابها تكون وقفاً على هذه الدّورات الثّلاث، مضافاً إلى أنّ ذلك يستهلك بعض طاقتها و قدرتها، و هذه المسألة مرتبطة بطبيعة المرأة التركيبية و الجسدية، و هو أمر واقعي لا

بحوث فقهية هامة، ص: 153

مفرّ منه، و يعتبر من الموانع التي تعيق المرأة عن ممارسة الفعاليات و النشاطات الاقتصادية كما يمارسها الرجال.

ب- إنّ تركيب المرأة الجسدي يختلف عن تركيب الرّجل، فجسد الرّجل يتناسب مع الأعمال الصعبة، بخلاف جسد المرأة الذي لا يتناسب مع كثير من تلك الأعمال و الممارسات، و لذا فإنّ المرأة ممنوعة جسدياً عن بعض الفعاليات الاقتصادية و الاجتماعية حتى في تلك المجتمعات التي تدعى المساواة بينهما.

ج- و بغض النظر عن الأمور المذكورة أعلاه، فإننا و بحسب الدراسات العلمية و الإحصائيات نجد أنّ الرجال أكثر تحصيلا للثروة من النّساء، حتى في المجتمعات المدعية للمساواة.

و نخلص من ذلك، أنه لا فرق بين النّساء في الجانب الإلهي و الجانب الثقافي، و لكنهما يختلفان في الجانب الاقتصادي، و من هنا اعتبر الإسلام الزوج مسئولا عن تأمين زوجته اقتصادياً.

و من هنا فإنّ الفراغ الناشئ من فقدان الرّجل في العائلة أكبر من الفراغ الناشئ من فقدان المرأة فيها، و لذا كانت دية الرّجل ضعف دية المرأة.

6- الإجابة عن عدّة أسئلة

السّؤال الأوّل [في دية النساء النموذجيات في الحقول الاقتصادية]

كما مرّ سابقاً لا يخفى أن للنّساء في هذا العصر مشاركة فعّالة في كثير من الحقول الاقتصادية جنباً إلى جنب الرّجل، بل إنّ المرأة قد سبقت الرّجل في بعض النّشاطات، و من هنا نجد أحياناً أنّ بعض

النّساء ينتخبن كعاملات نموذجيات في مجال الصناعة أو الزراعة، و السؤال هو: هل إنّ دية مثل هؤلاء النسوة نصف بحوث فقهية هامة، ص: 154

دية الرّجل أيضاً، أم أنّها مساوية لديته؟

الجواب:

أشرنا مسبقاً إلى أنّ تشريع القانون يلاحظ فيه الحالات العامة و الغالبة، لا الحالات الفردية المحدودة، و لا شك في أنّ مجموع رجال مجتمع أكثر فعالية من مجموع النّساء في ذلك المجتمع.

و بتعبير آخر، أنّ فلسفة و حكمة تشريع القوانين موجودة في الحالة الغالبة و العامة، لا في كل الأفراد، و مع ذلك فإنّ القانون يطبّق على كل الأفراد بلا استثناء، حتى أولئك الذين لا تتوفر فيهم حكمة القانون و غاياته «1».

و هذا المعنى هو السّائد في القوانين و العادات العرفية أيضاً، فمثلا الغرض من منع اجتياز إشارات المرور في الشوارع المتقاطعة إنما هي للحدّ من حوادث المرور، فلو فرضنا أنّ شخصاً كان يقود سيارته و وصل إلى تقاطع ما، فكان الضوء أحمر، و لم يكن في الجهة المقابلة أي واسطة نقل يحتمل اصطدامه به، فهل يحقّ له اجتياز التقاطع في تلك الحالة بحجة أنّ الشارع خال من السيارات؟ كلّا، فإنه لو كان ذلك جائزاً لأمكن التشكيك و الإخلال في كل الأحكام.

السّؤال الثّاني: قد يكون المقتول طفلا ذكراً أو أنثى، فهل إن دية الطّفل الذكر ضعف دية الأنثى

كذلك؟ في حين أنّه لا فرق بين هذين الطفلين، فإن الفراغ الناشئ من فقدان الطفل الذكر مساو للفراغ الناشئ من فقدان الطفلة (إذا كان المعيار هو الضرر الاقتصادي)، فلما ذا تكون دية الأنثى هنا نصف دية الذكر؟

الجواب:

بحوث فقهية هامة، ص: 155

أوّلا: أنّ هذين الطفلين لن يبقيا طفلين إلى آخر العمر، و عليه فإن الطّفل الذكر يعتبر منتجاً اقتصادياً بالقوّة، و إن لم يكن كذلك بالفعل، و جانبه الاقتصادي هذا أقوى من جانب الأنثى الاقتصادي

و إن كان بالقوّة و ليس بالفعل! ثانياً: كما قلنا في الجواب على السؤال الأوّل، فإنّ القوانين يلاحظ فيها الحالة العامة و الغالبة، و لا يمكن أن يستثني تطبيقها في بعض الموارد الجزئية، لأنّ ذلك يؤدي إلى زعزعة تلك القوانين.

السّؤال الثّالث: إذا كانت الغاية من تشريع الدّية

هي تعويض الخسارة الاقتصادية النّاشئة من فقدان القتيل، فإنّ هذه الغاية تختلف شدّة و ضعفاً في نفس جنس الرجال، فلا بدّ أن تختلف الدّية في الرجال أنفسهم، فإنّ الفراغ الذي ينشأ من فقد الرّجال ليس متساوياً، فهو في فقد العالم أكبر منه في فقد العامل مثلا! و لا يتساوى الفراغ الناشئ من فقد مهندس ماهر مع فقد عامل بسيط أبداً! و كذا الفراغ الناشئ من فقد طبيب متخصص حاذق و فقد مضمّد عادي! و عليه فلا بدّ من اختلاف فاحش في ديات الرّجال أنفسهم؟

الجواب:

كما قلنا سابقاً، فإنّ الفرد ليس هو الملاك في وضع القوانين، و إنّما المعيار هو مجموع أفراد المجتمع، و عليه إذا أخذنا بعين الاعتبار مثل هذه الفروق فإنّ المجتمع سيتعرض إلى اختلاف و جدال دائمي، و قد ينجر الأمر إلى الفوضى الاجتماعية و الاضطراب.

و لذا فإنّ الشارع المقدّس لم يلاحظ هذه الاختلافات الجزئية في ملاكاته القانونية.

السّؤال الرّابع: إنّ الاختلاف بين الرّجل و المرأة في المجالات و الفعاليات الاقتصادية

هو حصيلة

بحوث فقهية هامة، ص: 156

ظلم الرّجال للنساء على مرّ التّاريخ، و ترتب على ذلك إبعاد المرأة عن الحياة الاقتصادية، فلم تتمكن من الإبداع و الازدهار.

فهذا الانكماش للمرأة من قبل الرّجل في النّشاط الاقتصادي وليد المعادلات الظالمة و لا ينبغي ترسيخ هذا الظلم و من أجله يحكم بتنصيف دية المرأة؟

الجواب:

قلنا قبل الخوض في هذا الفصل، انه ينبغي أن لا تتأثر البحوث العلمية بالعواطف و الشعارات، فإذا ما تأملنا جيداً في الفوارق الطبيعية الموجودة بين الرّجل و المرأة، لم يرد مثل هذا الإشكال.

و بتعبير آخر، إذا فرضنا أنّ المرأة لم تتعرض أصلا لأي ظلم من قبل الرجال، و أنّ كل الأحكام الإسلامية تطبق بشكل دقيق، مع ذلك سنجد فرقاً بينهما في الجانب الاقتصادي، فمن الذي يمنع المرأة

اليوم في مجتمعنا من أن تمارس نشاطاً أو عملا اقتصادياً؟ لا يمكننا أن ننكر وجود بعض الموانع الطبيعية التي تمنع المرأة عن ذلك حتى لو لم يمنعها الرجل، و عليه فالاختلاف بينهما في الجانب الاقتصادي أمر طبيعي، و لا ربط له بمسألة ظلم الرّجل للمرأة عبر التأريخ، و إن نكن جاحدين لمثل هذا الإجحاف.

السؤال الخامس: بعد قبول صحّة قبلنا مسألة تنصيف دية النّساء

، فإنّ مفهوم ذلك هو أنه لا مساواة بين الرّجل و المرأة، و هذا مخالف لمقتضى العدل الإلهي؟

الجواب:

إنّ المهم في الأمر هو تحقيق العدل، و العدل لا يساوق دائماً المساواة، بل قد تكون المساواة أحياناً ظلماً، أي أنّ المساواة في بعض الأحيان عدل، و في أحيان أخرى بحوث فقهية هامة، ص: 157

ظلم، فمثلا لو أنّ معلّماً منح كل طلابه درجات متساوية، فهذه مساواة، و لكنها تمثل ظلماً، لاختلاف مستويات الطلاب العلمية و الاكتسابية.

نموذج آخر: لم يعتبر الشارع المساواة في الإرث، و إنّما حدّد نسبة معينة لكل وريث بحسب الطبقات، لأنّ المساواة هنا ظلم، فلا ينبغي أن يأخذ الجميع بالتساوي و إنما لا بدّ من ملاحظة درجة قرابة الوريث للمورث «1».

و كذا الكلام في تنصيف إرث المرأة بالنسبة إلى حصة الرّجل. لاحظوا هذه الرّواية الواردة في هذا المعنى:

روى هشام بن سالم- و هو من أصحاب الإمام الصّادق (عليه السلام)- قال قال عبد الكريم بن أبي العوجاء لمحمد بن علي بن النعمان (مؤمن الطاق)- و هو موثّق من قبل علماء الرجال و كان عالماً و ماهراً جدّاً في علم الجدل-

ما بال المرأة الضعيفة لها سهم واحد و للرجل القوي المؤسر سهمان؟ قال: فذكرت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام) فقال: «إن ليس لها عاقلة و لا نفقة و لا جهاد- و عدّ أشياء

غير هذا- و هذا على الرّجال، فلذلك جعل له سهمان و لها سهم»

«2». فهنا لو قلنا بتساويهما في الإرث لكان ذلك ظلماً.

أضف إلى ذلك، أنّنا إذا تأملنا جيداً وجدنا بأنّ سهم المرأة أكثر من سهم الرّجل، لأنّ الرّجل يصرف سهماً له و يصرف الآخر على عائلته و منهم الزوجة، بينما المرأة لا تصرف من سهمها شيئاً على عائلتها، فهي تستفيد من حصّة الزوج مضافاً إلى حصتها، و لا عكس، فحصة المرأة إذن أكثر من حصة الرّجل.

و عليه، فمضافاً إلى أن المرأة لا تتعرض للظلم و الإجحاف في مسألة الإرث، بل بحوث فقهية هامة، ص: 158

و إنّ الشارع المقدس أولاها برعاية خاصة- و النتيجة هي أنّ المساواة ليست دائماً عدلا، بل قد تكون ظلماً أحياناً «1».

و من مجموع هذه البحوث نستنتج أن لتنصيف دية النّساء فلسفة واضحة، و هي أنّ الضرر الاقتصادي الناشئ من فقدان الرّجل أكبر بمراتب من الضرر الناشئ من فقدان المرأة، و لذا كانت دية الرّجل ضعف دية المرأة.

و ما ذكرناه كان أحد الطرق لحلّ مثل هذه الشبهات، و يمكننا هنا أن نعالج الموضوع بنحو آخر، و هو أن نقول: نحن نعتقد بأنّ الأحكام الإلهية مبتنية على أساس العلم الإلهي اللامحدود، و أنّ القوانين و الشرائع خاضعة و تابعة للمصالح و المفاسد، و عليه فإنّ ما ندركه من فلسفة الأحكام يرتبط غالباً بالأحكام الكلية، كالصلاة، و الصوم، و الجهاد، و الحج، و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، و الدّية، و الإرث، و أمثالها، أمّا جزئيات هذه الأحكام فيمكن لنا أن ندركها و يمكن أن لا ندركها، و هي مصداق للحديث الشريف «لا شي ء أبعد عن عقول الرجال من دين الله»

«2». فلما ذا

كانت صلاة الصبح ركعتين؟ و لما ذا كان الطواف سبعة أشواط؟ و لما ذا يجب الطواف من اليمين إلى اليسار؟ و لما ذا لا بدّ أن يبدأ السعي من الصفا و يختم بالمروة؟ و أمثال هذه الأسئلة في خصوص بعض الجزئيات، فقد لا ندرك فلسفتها، و لكن يكفي أن نعلم بأنّ كل هذه الأحكام قد رسمت معالمها بالعلم الإلهي الأزلي، و بعد أن اعتقدنا بالنبوة و عصمة و حقانية أئمة الهدى (عليهم السلام)، نخضع لكلّ ما جاء عنهم و نسلّم بحوث فقهية هامة، ص: 159

تسليماً.

هذا، و لا تشكل هذه المسألة مانعاً من السعي لإدراك و تعقُل فلسفة المسائل الكليّة (كفلسفة أصل الصلاة و الحج و أمثال ذلك).

7- هل يعتبر تنصيف دية النّساء و منعهنّ عن بعض المناصب الاجتماعية، دليلا على ضعف إيمانهنّ؟!

الأفضل أن نطرح هذا السؤال بصورة أكثر تفصيلًا بأن نقول: هل كل من منعه الإسلام بعض المناصب يعدّ في ضعفاء الإيمان؟! و إذا كانت دية المرأة أقل من دية الرّجال، أو أعفيت من إشغال بعض المناصب، فهل يدلّ ذلك على ضعف إيمانها و نقص عقلها؟! للإجابة على مثل هذه الأسئلة لا بدّ من الالتفات إلى أنّ إحراز منصب معين يحتاج إلى الاتصاف بصفات و شرائط ذلك المنصب، فإذا لم تتحقق تلك الشرائط في شخص معين، و أُبعد عن هذا المنصب، فإن ذلك لا يدلّ على نقص في ذلك الشخص، فلا يقال إنّ إيمانه ضعيف أو إنّ عقله ناقص.

و توضيح ذلك هو أنّ عدداً من المناصب الحساسة و الخطيرة في أي مجتمع من المجتمعات يشترط فيها بعض الشروط و المواصفات، فمثلا للقيام بمنصب القضاء يشترط القانون حدّاً أعلى، و حدّاً أدنى للسن، فلا يسمح لمن كان في سنّ أقل من الحد الأدنى أو أكثر من الحدّ الأعلى القيام بوظيفة

القضاء، لأنه إن كان في عمر أقل من الحدّ الأدنى فإنه يفتقد التجربة و الخبرة الكافية، و إن كان في عمر أكثر من الحدّ الأعلى فإنه قد لا يمتلك الصبر اللازم لمنصب القضاء الخطير.

و عليه، فمن لم يكن عمره في إطار الشرط المذكور، لا يعتبر ضعيف الإيمان، و لا ناقص العقل، و لا مذنباً!

بحوث فقهية هامة، ص: 160

و كذا من أراد أن يكون طيّاراً، لا بدّ أن يكون طوله بحدّ معين، فمن لم يكن كذلك، بل كان أقصر مثلًا، فإنه يمنع من القيام بهذه المهمة، و ليس ذلك ضعفاً في إيمانه، و لا نقصاً في عقله.

و بالجملة أن كل عمل مشروط بشرائط معينة، و يحق فقط لمن حاز تلك الشرائط أن يكون مؤهلًا لذلك العمل و إلّا فلا، و لا يعني ذلك ضعفاً في إيمانه، أو نقصاً في عقله.

8- خلاصة البحث

نستنتج من مجموع البحوث السابقة ما يلي:

أوّلا: أنّ دية النّساء تساوي دية الرجال إلى حدّ الثلث، فإن تجاوزت الثلث عادت إلى النصف.

ثانياً: أنّ هذا الأمر متفق عليه و مسلّم من وجهة نظر الروايات، و آراء الفقهاء، و علماء كل المذاهب الإسلامية.

ثالثاً: أن لهذا الحكم الإسلامي فلسفة و حكمة واضحة، و هي عبارة عن أنّ الفراغ الناشئ من فقد الرّجل في العائلة و الأسرة و المجتمع أكبر من الفراغ الناشئ من فقد المرأة، و لذا فدية الرجال ضعف دية النّساء.

رابعاً: إعفاء النّساء من القيام ببعض المهام و المناصب ليس ضعفاً في إيمانهن، و لا نقصاً في عقولهن.

خامساً: لا فرق بين النّساء و الرجال في الجانبين الإلهي و العلمي، و إمكان القرب من الله، و الارتقاء على مدارج الكمال و العلم.

9- وصايا لنساء المجتمع الإسلامي

لقد رفع الإسلام النّساء من منتهى حضيض الحرمان إلى أعلى مراتب العزّة و الكرامة، و أعطى المرأة- و قد حرمت حتى حق العيش و الحياة في الجاهلية- ذلك المقام الشامخ.

و التّاريخ يحدثنا أنّ المرأة لم تكن تعاني من المظلومية و الحرمان في المجتمع الجاهلي فحسب، بل إنّ هذا الأمر كان رائجاً حتى في مناطق أخرى من العالم، و لم يكن حال المرأة في تلك المجتمعات أفضل من حالها في المجتمع الجاهلي العربي، فلقد كانت المرأة هي الأكثر حرماناً و مظلومية حتى كانت إنسانيتها موضع التشكيك و الترديد، و قد ارتفع هذا الظلم بفضل و الإسلام و لله الحمد، و إن تخلّف بعض الرجال عن تطبيق رأي الإسلام في حق المرأة، فهذا لا ربط له بالإسلام. و شكر هذه النعمة الكبيرة إنما يكون بعدم الانخداع و الانجراف مع الشعارات البراقة الخداعة و وساوس الخنّاسين، و كذلك بإطاعة

القوانين و الأحكام الإلهية، فإن صرف النّساء أو الرجال عن وظائفهم الحقيقية لا يُعدّ خدمة لهؤلاء، بل هو خيانة لهم.

و آخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

7- حجيّة علم القاضي

اشارة

(حجيّة علم القاضي) قال الإمام الخميني (قدس سره) في التحرير: للحاكم أن يحكم بعلمه في حقوق الله و حقوق الناس، فيجب عليه إقامة حدود الله تعالى لو علم بالسبب، فيحدّ الزاني، كما يجب عليه مع قيام البيّنة و الإقرار، و لا يتوقّف على مطالبة أحد.

و أمّا حقوق الناس فتقف إقامتها على المطالبة، حدّاً كان أو تعزيراً، فمع المطالبة، له العمل بعلمه.

أقول: هنا في الواقع فرعان مختلفان:

أحدهما: حجيّة علم الحاكم في باب القضاء و عدمه.

ثانيهما: إنّه لا يشترط في إجراء حدود الله مطالبة أحد، و لكن في حقوق الآدميين يشترط مطالبة صاحب الحقّ.

فما يظهر بادئ الأمر عند ملاحظة العبارة و كذلك عبارة المحقّق في الشرائع من أنّ الفرع الثّاني من قبيل التفصيل في عمل القاضي بعلمه، في غير محلّه، فتدبّر جيّداً.

و الكلام يقع في الفرع الأول: و هو مسألةٌ مهمّةٌ لها آثارٌ كثيرةٌ في مختلف أبواب القضاء و فيها أقوالٌ كثيرةٌ، و خلاصة الأقوال في ذلك ما ذكره شيخنا الشهيد الثّاني (قدس سره) في المسالك في كتاب القضاء ما ملخّصه بحوث فقهية هامة، ص: 166

ظاهر الأصحاب الاتّفاق على أنّ الإمام (عليه السلام) يحكم بعلمه مطلقاً لعصمته المانعة من تطرّق التهمة، و علمه المانع من الخلاف. و الكلام في غيره من الحكّام و هنا أقوالٌ أربعةٌ:

1- و هو الأظهر بينها، أنّه يحكم بعلمه مطلقاً.

2- قيل: لا يجوز مطلقاً.

3- و هو قول ابن إدريس: يجوز في حقوق النّاس من دون حقوق الله.

4- و هو قول ابن الجنيد: بالعكس في كتابه الأحمدي

«1».

و هناك قولٌ آخر نستحسنه و سنشير إلى أدلّته و هو الأفضل، و حاصله الفرق بين مبادئ العلم فإنّ مبادئ علم القاضي على ثلاثة أقسام:

1- ما تكون حسّيةً، كما إذا رأى الحاكم من يشرب الخمر أو سمع القذف.

2- ما لا تكون حسيّةً و لكن تكون قريبةً من الحسّ مثل ما ورد في قضاء مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- صلوات الله و سلامه عليه- من أنّه أمر بشقّ ولد تنازعت فيه امرأتان، كلّ واحدة منهما تدّعي أنّها أُمّه، فقالت إحداهما: لا تشقّه يا أمير المؤمنين و أعطه الأخرى «2» فعلم (عليه السلام) أنها أُمّه، و كذلك ما حكي من أمره (عليه السلام) قنبر بضرب عنق العبد عند ما تنازع رجلين، كلٌّ منهما يدّعي أنّه المولى و الآخر عبده، فلمّا رأى أنّ أحدهما نحّى عنقه مخافة ضربه، علم أنّه العبد «3».

إلى غير ذلك ممّا ورد مشابهاً لهذه الأحداث فإنّ المستند في جميع ذلك هو العلم الحاصل من المبادي القريبة من الحسّ.

بحوث فقهية هامة، ص: 167

3- ما كان حاصلًا من مبادئ حدسيّة محضة عن طريق جمع القرائن المختلفة التي ستأتي الإشارة إليها فعلم من جميعها بواقع الأمر.

فنقول بحجيّة علمه في الأولين دون الأخير «1».

أقوال العامّة

قال شيخ الطائفة (قدس سره) في كتاب القضاء من الخلاف ما خلاصته: للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأحكام من الأموال و الحدود و القصاص و غير ذلك، سواء كان من حقوق الله أو من حقوق الآدميين و لا فرق فيه بين أن يعلم بعد التولية أو قبلها، و في موضع ولايته أو غير موضع ولايته.

و للشافعي قولان: أحدهما مثل ما قلناه أي القبول مطلقاً و الثاني أنّه لا يقضي بعلمه بحال

(و قد يقال إنّما توقّف فيه لفساد القضاة في عصره).

و به قال من الفقهاء مالك و أحمد.

و أمّا أبو حنيفة فإنّه فصل بين ما إذا علم بذلك، بعد التولية في موضع ولايته، و ما إذا علم به قبل التولية أو بعدها في غير موضع ولايته.

هذا في حقوق الآدميين، و أمّا في حقوق الله تعالى فلا يقضي عندهم بعلمه بحال.

ثمّ استدلّ على مختاره بالإجماع و أخبار الطائفة و أدلَّة أخرى ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله «2».

أقوال الخاصّة

قال في الجواهر:

بحوث فقهية هامة، ص: 168

و غيره (غير الإمام المعصوم (عليه السلام)) من القضاة يقضي بعلمه في حقوق النّاس قطعاً، و في حقوق الله تعالى على قولين أصحّهما القضاء، و في الانتصار و الغنية و محكي الخلاف و نهج الحقّ و ظاهر السرائر، الإجماع عليه، و هو الحجّة «1».

و قال النراقي في المستند: إذا كان الحاكم عالماً بالحقّ فإن كان إمام الأصل فيقضي بعلمه مطلقاً إجماعاً، و إن كان غيره فكذلك على الحقّ المشهور كما صرّح به جماعة بل عن الانتصار و الغنية و الخلاف و نهج الحقّ، و ظاهر السرائر الإجماع عليه «2».

و الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: هل يقضي الإمام المعصوم (عليه السلام) بعلمه أم لا؟

المشهور المعروف المدّعى عليه الإجماع عن جماعة من الأكابر أنّه يقضي بعلمه مطلقاً، بل لم يحك الخلاف إلّا عن ابن الجنيد و حيث إنّ هذه المسألة قليلة الجدوى، لأنّ الإمام المعصوم (عليه السلام) أعرف بوظائفه من كلّ أحد، نغضّ النظر عنها «3».

المقام الثّاني: و حاصل الكلام فيه

اشارة

يستدعي تقديم أمرين:

1- حجيّة العلم لا تنافي عدم العلم به في مقام القضاء

، لأنّ العلم كما ذكر في محلّه على قسمين: «علمٌ طريقيٌ و علمٌ موضوعي»، و العلم الطريقيّ حجة من أيّ سبب حصل و لأيّ بحوث فقهية هامة، ص: 169

شخص كان، بل الحجيّة ثابتة في ذات العلم فلا يحتاج إلى برهان و لا يمنع منه مانعٌ.

و أمّا العلم الموضوعي فحجيّته تابعة لدليل اعتباره في الموضوع، فإن أخذ فيه مطلقاً كان حجّة كذلك، و إن أخذ بنحو خاص فهو أيضاً كذلك كما في مقام الشهادة.

و إنّما الكلام في أنّ باب القضاء- و ما هو طريق فصل الخصومة- من أيّهما؟ فهل المدار فيه على ثبوت الواقع بالعلم أو الطريق الظنّي المعتبر القائم ما قام العلم الطريقيّ؟ أو لا يكفي ثبوت الواقع فيه للقاضي إلّا من طريق خاصٍّ، فالواجب تحصيل العلم أو الظنّ المعتبر الحاصل من طرق خاصّة (كالبيّنات و الإيمان).

و بعبارة أخرى هل الواجب على القاضي فصل الخصومة و إحقاق الحقوق بما ثبت عنده و تحقّق له من أي طريق كان، و إيصال الحقّ إلى صاحبه مهمّا كان؟ أو اللازم عليه كون الإحقاق من طرق خاصّة عيّنها الشارع؟ فليس العلم أو الظنّ هنا علماً أو ظنّاً طريقيا محضاً بل هما مأخوذان في موضوع حكمه.

و قد ذكر في محلّه أنّه لا مانع من أخذهما في الموضوع بصفة الطريقيّة.

الذي يظهر بعد التدقيق في أدلّة القضاء و آدابه، أنّ الشارع المقدّس جعل له طرقاً خاصّةً، و من هنا يظهر أنّ استدلال صاحب الجواهر (قدس سره) و غيره في إثبات حجيّة علم القاضي- بما ورد في الكتاب من قوله تعالى (. وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.) «1» و قوله تعالى (. وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا

بِالْعَدْلِ.) «2». و قوله تعالى (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ.) «3» و مَن حكم بعلمه فقد حكم بالحقّ و العدل «4»- قابل للنقد و الإشكال.

بحوث فقهية هامة، ص: 170

و حاصل كلامه أنّ الحكم معلّق على عناوين واقعيّة من «الحقّ» و «القسط» و «العدل» و العلم طريق إليها فيجوز الحكم على وفقه و لكنّه أوّل الكلام لإمكان اعتبار ثبوتها من طرق خاصة كالبيّنة و الإيمان.

و كذا الاستدلال بالأولوية و أنّ العلم أقوى من البيّنة المعلوم إرادة الكشف منها (فهو مقبول في إثبات الحقوق و الحدود) «1».

و كذا قوله أنّ تحقّق الحكم معلّق على عنوان قد فرض العلم بحصوله و مراده أنّ حدّ الزنا معلّق على عنوان «الزَّانِيَةُ» وَ «الزَّانِي» في الآية الشريفة و الروايات الكثيرة، و كذا حدّ السرقة معلّقٌ على عنوان «السَّارِقُ» وَ «السَّارِقَةُ» إلى غير ذلك من الأحكام، فالحكم معلّق على عنوان واقعي و العلم طريق إليه «2».

كلّ ذلك قابلٌ للمناقشة، فإنّه يرد على الجميع أنّ كلّ ذلك فرع كون وظيفة القاضي الأخذ بالواقع مطلقاً، و من أي طريق علمي أو ظنّي معتبر حصل له، و هذا أوّل الكلام بل من المحتمل كون وظيفته الأخذ بالواقع بقيد الوصول إليه بطرق خاصّة كالبيّنة و اليمين، فما لم نتحقّق ذلك في مقام الإثبات لا يصحّ الاستناد إلى هذه الأدلّة و أمثالها.

و الحاصل أنّ أساس هذه الاستدلالات هو ثبوت كون العلم هنا طريقياً محضاً، لا موضوعيّاً و هو أول الكلام.

2- الذي يظهر بمراجعة النصوص الواردة في أبواب القضاء

من جهة مقام الإثبات هو وجوب كون فصل القضاء بطرق خاصّة لا مطلقاً، و يدلّ على ذلك أمورٌ:

أ- ما ورد في صحيحة هشام عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله

(صلى الله عليه و آله):

بحوث فقهية هامة، ص: 171

«إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان و بعضكم الحق حجيّته من بعض»

«1». و ظاهر هذه الجملة أنّ مدار القضاء إنّما هو على البيّنات و الأيمان، و غيرها يحتاج إلى دليل.

ب- ما ورد من تقسيم القضاة إلى أربع و أنّ من قضى بالحقّ و هو لا يعلم فهو في النار «2».

فلو كان العلم طريقيّاً محضاً كان الحكم بالحقّ كافياً، مع حكمه بأنّه في النّار.

إن قلت: يمكن أن تكون هذه العقوبة من باب التجرّي.

قلتُ: حرمة التجرّي أوّل الكلام، و على فرضها يشكل كونها من الكبائر التي أوعد عليها النّار فتأمّل.

ج- ما رواه إسماعيل بن أبي أويس عن ضمرة بن أبي ضمرة عن أبيه عن جدّه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام)

«أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية من أئمّة الهدى»

«3». و في بعض طرق الحديث «جميع أحكام المسلمين» و في آخره «أو سنّة جارية من أئمّة الهدى» «4».

و لعلّ المراد من السنّة الماضية أو الجارية الإشارة إلى بعض الأحكام الناقضة لليمين أو البيّنة أو قائمة مقامهما كأحكام العفو أو القسامة أو غيرهما.

و كيف كان فمن البعيد كونها إشارةً إلى علم القاضي.

بحوث فقهية هامة، ص: 172

فجميع الأحكام تدور مدار هذه الأمور الثلاثة، فلو حصل علم لا بدّ أن يحصل من أحد هذه الأمور لا غير، إلّا أن يقوم دليلٌ آخر على اعتبار العلم فيؤخذ به بمقدار ما دلّ الدليل عليه.

د- و يؤيّد ذلك كلّه الفرق بين أبواب القضاء و غيرها من عدم كفاية بعض الأمارات المعتبرة في غيرها فيها أحياناً، كاعتبار أربع شهود في بعض الحدود، و عدم كفاية أصالة البراءة عند الشكّ في الحقوق

هنا، إلّا مع اليمين مع أنّ البراءة كافية في سائر الأبواب إلى غير ذلك.

أدلّة القائلين بالجواز مطلقا

اشارة

و كيف كان فقد استدلّ على جواز الحكم مطلقاً- كما في الرياض «1» و غيره- على وفق علم القاضي بأمور:

1- دعوى الإجماع عليه من الطائفة المحقّة و قد حكاه كثير من الأكابر، منهم السيد و الشيخ و صاحب الغنية و السرائر و غيرهم- أعلى الله مقامهم- فيما حكي عنهم.

و لكنّ الاعتماد على مثل هذه الإجماعات مشكلٌ كما ذكر في محلّه غير مرّة لأنّه مدركيٌ مضافاً إلى ظهور الخلاف من بعضهم.

2- إنّ العلم أقوى من البيّنة و جواز الحكم بها يستلزم الجواز بالعلم بطريق أولى.

و لكن قد عرفت أنّ ذلك إنّما يصحّ إذا كان المدار هنا على الواقع فقط، و كان العلم طريقيّاً محضاً. و أمّا إذا علم أو احتمل كون المدار على ثبوت الواقع من طرق خاصّة

بحوث فقهية هامة، ص: 173

في أبواب القضاء فلا؛ فإنّ الأصل عدم نفوذ حكم أحد على أحد إلّا ما ثبت بالدليل.

3- عموم الأدلّة الدالّة على الحكم بعناوين معلومة كحدّ السارق و الزاني و غيرهما في الخطاب للحكّام. فإذا علم القاضي بهذه العناوين كان الواجب عليه إجراء حكمها، و إذا ثبت ذلك في الحدود ففي غيرها بطريق أولى.

و قال السيّد المرتضى في ما حكاه عنه في الرياض في مقام دعوى اتّفاق الأصحاب ما نصّه: كيف يخفى إطباق الإماميّة على وجوب الحكم بالعلم، و هم ينكرون توقّف أبي بكر عن الحكم لفاطمة (عليها السلام) بفدك لمّا ادّعت أنّها نحَلَها أبوها و يقولون إنّه إذا كان عالماً بعصمتها و طهارتها و إنّها لا تدّعي إلّا حقّاً فلا وجه لمطالبتها بإقامة البيّنة لأنّ البيّنة لا وجه لها مع القطع بالصدق

«1».

و يمكن المناقشة فيها أيضاً بما عرفت سابقاً من أنّ هذا الدليل و أشباهه إنّما هو فرع كون المدار على الحكم بالواقع، لا إذا كان المدار على ثبوت الواقع من طرقٍ خاصّةٍ حتى أن احتماله كاف في البناء على الفساد إلا ما ثبت بالدليل.

و أما قصة «فدك» فليس لها صلة بباب القضاء غاية الأمر أنّ أبا بكرٍ- على الفرض- كان شاكًّا في أن رسول الله ص كان نحلها إياها أو كانت فدك باقية على ميراثه فإذا أخبرت بحالها الصديقة الأمينة وجب عليه قبول قولها و ليس هذا بأكثر من المال المجهول المالك فإذا علم بمالكه من أي طريق، وجب رده إليه لا من باب القضاء و فصل الخصومة، بل من باب رد المال إلى صاحبه، و لذا لا يختصّ ذلك بالقاضي بل كلّ من علم بأنّ هذا المال لفلان وجب عليه ردّه، إذا كان في يده.

بحوث فقهية هامة، ص: 174

و إن شئت قلت: يرجع إلى الحاكم الشرعي بما هو حاكم في أمرين:

أحدهما: إحقاق الحقوق فيما اختلف فيه الناس.

ثانيهما: إجراء الحدود في ما ارتكبوه ممّا يوجب الحدّ أو التعزير، و لا يجوز ذلك لغير الحاكم الشرعي.

و أمّا إيصال المال إلى صاحبه فهو وظيفة كلّ أحد- إذا كان في يده- فلذا إذا كان رجلٌ وصيّاً عن رجل آخر و ادّعى أحدٌ بأنّ له في ذمّة الميّت كذا و كذا درهماً، أو أنّ له أمانةً عنده صفاتها كذا و كذا فإن علم الوصيّ بصدقه وجب ردّه إليه، كما أنّه لو أقام بيّنةً وجب ردّه و لا ربط لهذا بباب القضاء بل هو من باب ردّ المال إلى صاحبه. فالعلم حجّة في مثله لأنّه طريق إلى الواقع هنا، طريقاً

محضاً، و يقوم مقامه البيّنة كما في جميع الموضوعات.

و لكنّ الأمر في باب القضاء ليس كذلك، لأنّه يمكن أن يكون اللازم فيه إحراز الحقّ من طرق خاصّة، و هي الأيمان و البيّنات فقط لا من طرق أخرى.

و حديث «فدك» من القسم الأوّل لا الثاني، لأنّ فدكاً كانت في يد أبي بكر و عند ذاك، فكان الواجب عليه بما أنّ مال الغير في يده ردّه إليه، لا الحكم فيه بما هو قاضٍ، و إلّا فلا يمكن أن يكون المدّعي قاضياً، فتدبّر جيّداً.

4- لو لم يعمل القاضي بعلمه استلزم إمّا إيقاف الحكم أو فسق الحاكم و اللازم بقسميه باطلٌ.

و يمكن الجواب عنه بأنّ إيقاف الحكم و إرجاعه إلى غيره ممّن لا علم له بالواقعة ممّا لا مانع له، بل هو مقتضى العمل بعدم تضييع الحقوق مع عدم القضاء بغير طرقه الثابتة في الشرع فليس الإيقاف بلا سبب.

5- استلزامه أحد الأمرين: إمّا عدم وجوب إنكار المنكر و إظهار الحقّ، أو الحكم بعلمه، و بطلان الأوّل ظاهرٌ فيتعيّن الثاني.

بحوث فقهية هامة، ص: 175

و الجواب عنه أيضاً ظاهر، فإنّ إنكار المنكر و إن كان لازماً إلّا أنّه غير قادر عليه عن طريق القضاء، فإنّ جواز القضاء بعلمه أوّل الكلام، و التمسّك به من قبيل المصادرة بالمطلوب.

و أمّا من غير طريق القضاء فلا مانع منه في أبواب الحقوق بإيصال الحقّ إلى صاحبه إذا لم يزاحمه غيره، و أمّا في الحدود فلا يجوز إجراؤها إلّا عن طريق القضاء فيعود الإشكال. فهذه الأدلّة ممّا لا يسمن و لا يغني.

الروايات الواردة في المسألة

هناك روايات خاصّة واردة في المسألة استدلّ بها على المطلوب لا بدّ من ذكرها و ذكر مقدار دلالتها:

1- منها ما رواه الحسين بن خالد

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ و لا يحتاج إلى بيّنة مع نظره، لأنّه أمين الله في خلقه، و إذا نظر إلى رجل يسرق أن يزجره و ينهاه و يمضي و يدعه، قلت: و كيف ذلك؟ قال: لأنّ الحقّ إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته و إذا كان للنّاس فهو للنّاس «1». و هذا الحديث صريحٌ في جواز العمل بل وجوبه إذا ثبت الواقع عنده، و لكنّه خاصٌّ من جهتين: من جهة كون مبادئ علمه هو النظر و الحسّ و من جهة كونه في حدود الله فقط، و لكنّ ظاهره أنّه إذا كان في حقوق النّاس و طالب صاحبه به و ثبت عنده بالمشاهدة جاز له الحكم أيضاً.

بحوث فقهية هامة، ص: 176

و لكنّ سند الحديث قابلٌ للمناقشة، لأنّ الحسين بن خالد- كما قيل- مردّدٌ بين «الصيرفيّ» الذي لم يثبت وثاقته، و «الخفاف» و هو الحسين بن خالد بن طهمان الذي ثبتت وثاقته عند جماعة، و مع اشتباه حاله لا يمكن الاعتماد عليه.

و لو سلّمنا أنّه هو «الخفاف» بقرينةِ رواية «محمّد بن أحمد المحمودي» عن أبيه، عن يونس، عنه، و لكن في السند رجالٌ آخرون مجهولون منهم «علي بن محمّد» المشترك بين جماعة كثيرة، عدّةٌ منهم من المجاهيل و كذا «محمّد بن أحمد العلوي» غير واضح الحال، و كذا أبوه أحمد.

و الحاصل أنّ الرواية غير نقيّة من حيث السند.

2- و منها ما روى في قصة درع طلحة، و هي روايةٌ معتبرة السند عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال دخل الحكم بن عتيبة و سلمة بن كهيل على

أبي جعفر (عليه السلام) فسألاه عن شاهد و يمين، فقال: قضى به رسول الله (صلى الله عليه و آله) و قضى به عليٌّ (عليه السلام) عندكم بالكوفة.

ثمّ ذكر وجدان علي (عليه السلام) درع طلحة بيد عبد الله بن قفل التميمي حيث قال عليٌّ (عليه السلام)

هذه درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة، فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنةً، ثمّ قال: «ويلك أو ويحك إنّ إمام المسلمين يؤمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا»

! «1». وجه الدلالة أنّه إذا علم الحال بشهادة إمام المسلمين فلا تنتظر البيّنة و غيرها.

و الحديث مشتملٌ على قبول شهادة العبد أيضاً، و هو معروفٌ بين الأصحاب، و قبول الشاهد الواحد و اليمين، و هو أيضاً معروفٌ بينهم في الجملة، و يدلّ عليه رواياتٌ عديدةٌ فراجع «2» كما أنّه يشتمل على أخذ الغلول- و المراد منه هنا الخيانة في بحوث فقهية هامة، ص: 177

الغنائم و شبهها- و لعلّ المراد منه هو أخذه من طريق الحاكم الشرعي بلا بيّنة.

و لكن يبقى الكلام في أنّه كيف يمكن الركون إلى هذه الرواية في غير العلم الحاصل من المبادي الحسيّة أو القريبة من الحسّ هذا أوّلًا، و أمّا ثانياً فموضوع الحديث هو إمام المسلمين (الإمام المعصوم (عليه السلام)) فكيف يتعدّى إلى غيره (عليه السلام)؟

3- ما ورد في قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنّه جاء أعرابيٌّ إلى النبيّ (صلى الله عليه و آله) فادّعى عليه سبعين درهماً ثمن ناقة باعها منه، فقال: قد أوفيتك. فقال: اجعل بيني و بينك رجلًا يحكم بيننا.

فقال علي (عليه السلام): ما تدّعي على رسول الله (صلى الله عليه و آله)؟ قال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه. فقال

ما تقول يا رسول الله (صلى الله عليه و آله)؟ قال: قد أوفيته ثمنها، قال: يا أعرابي! أصدق رسول الله (صلى الله عليه و آله) فيما قال؟ قال الأعرابي: لا، ما أوفاني شيئاً! فأخرج عليٌّ (عليه السلام) سيفه فضرب عنقه، فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): لِمَ فعلت يا علي ذلك؟ فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه و آله) نحن نصدّقك على أمر الله و نهيه و على أمر الجنّة و النّار و الثواب و العقاب و وحي الله عزّ و جلّ و لا نصدّقك على ثمن ناقة الأعرابي؟! و إنّي قتلته لأنّه كذّبك لما قلت له، فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): أصبت يا عليّ فلا تعد إلى مثلها

«1». و دلالتها على المطلوب إجمالًا ظاهرةٌ، و لكن موردها ما إذا حصل العلم عن طريق إخبار المعصوم و التعدّي إلى غيره مشكل جداً.

4- و نظيره من بعض الجهات ما ورد في شراء النبي (صلى الله عليه و آله) فرساً من أعرابي ثمّ إنكاره و شهادة خزيمة بن ثابت له، و لمّا سأله النبي (صلى الله عليه و آله) بمَ تشهد؟ قال: بتصديقك يا رسول الله (صلى الله عليه و آله) فجعل شهادته شهادتين و سمّاه ذا الشهادتين «2».

و الكلام و المناقشة فيها بعين ما مرّ في سابقها لا نحتاج إلى الإعادة، فهي أيضاً

بحوث فقهية هامة، ص: 178

دالّةٌ و لكن في مورد خاصٍّ.

5- ما رواه أبان بن عثمان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)

«إنّ عليّاً (عليه السلام) وجد امرأةً مع رجل في لحاف واحد فجلّد كلّ واحد منهما مائة سوط غير سوط»

«1». و دلالتها ظاهرةٌ على المقصود، إلّا أنّه يختصّ

بباب الحدود و التعزيرات مع حصول العلم من المبادي الحسيّة، و التعدّي منهما إلى غيرهما- أي ما حصل اليقين فيه من مبادئ حدسيّة- يحتاج إلى دليل، و إلغاء الخصوصية هنا غير ممكن لاحتمال الخصوصيّة.

6- و في رواية أخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام)

«أنَّ عليّاً (عليه السلام) وجد رجلًا و امرأةً في لحاف واحد فضرب كلّ واحد منهما مائة سوط إلّا سوط»

«2». و دلالتها كسابقتها و الكلام في عدم عمومها أيضاً كالكلام في عدم عموم تلك.

7- ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) رأى قاصّاً في المسجد فضربه بالدرّة و طرده «3». و الكلام فيه كالكلام في سابقيه، و الظاهر أنّ المقصود من القاصّ من يقصّ قصصاً لهويّةً تشغل الناس عن عبادة الله، و هو المشار إليه في قوله تعالى (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) «4» (على بعض التفاسير).

8- ما رواه الشيخ بإسناده في قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن محمّد بن قيس عن بحوث فقهية هامة، ص: 179

أبي جعفر (عليه السلام) من اختلاف جاريتين ولدت إحداهما ابناً و الأخرى بنتاً كلّ واحدة منهما تدّعي الابن، فتحاكما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأمر أن يوزن لبنهما و قال: أيّتهما كانت أثقل لبناً فالابن لها «1» (و القصّة طويلة نقلناها بالمعنى).

و الظاهر أنّ الوجه فيه كون خلقة الذكور أشدّ من خلقة الإناث، فالأوّل جنسٌ ثقيلٌ يناسبه الغذاء و اللبن الثقيل، و الثّاني جنسٌ لطيفٌ يناسبه الغذاء اللطيف، و من حكمة الله تعالى إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه فإنّه الذي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى

بل الظاهر أنّ اللبن بحسب الدقّة يتغيّر من حيث

الوزن و الأجزاء التركيبيّة كلّ يوم، وفقاً لنموّ الطفل و اقتضاء بدنه! و الحاصل أنّه حصل له العلم من هذا الطريق الدقيق بأنّ صاحبة اللبن الثقيل هي صاحبة الابن، و الأخرى صاحبة البنت، فيجوز عمل القاضي بعلمه في أمثال هذا المقام.

هذا و لكن غاية ما يستفاد منه جواز قضائه بما حصل له من طرق حسيّة أو قريبة من الحسّ كما في مورد الرواية لا أكثر، و أنّى لنا إلغاء الخصوصية منها لتعمّ الطرق الحدسيّة؟! 9- ما ورد في قضاياه (عليه السلام) أيضاً بالإسناد السابق عن أبي جعفر (عليه السلام)

توفّى رجلٌ على عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) فخلّف ابناً و عبداً، يدّعي كلّ واحد منهما أنّه الابن، و أنّ الآخر عبدٌ له، فأتيا أمير المؤمنين (عليه السلام) فتحاكما إليه، فأمر (عليه السلام) أن يثقب في حائطِ المسجد ثقبين، ثمّ أمر كلَّ واحد منهما أن يدخل رأسه في ثقب ففعلا ثمّ قال: يا قنبر جرِّد السيف، و أشار إليه لا تفعل ما آمرك به، ثمّ قال: اضرب عنق العبد فنحّى العبدُ رأسه، فأخذه أمير المؤمنين (عليه السلام).

بحوث فقهية هامة، ص: 180

و قال للآخر: أنت الابن و قد أعتقت هذا و جعلته مولى لك «1». و هذا أيضاً من موارد حصول العلم من الطرق القريبة من الحسّ فإنَّه من الواضح أنّ كلّ من رأى مثل هذه الحركة يحصل له العلم بأنّ العبد هو الذي جذب رأسه من الثقب.

اللّهمّ إلا أن يقال: هذا من مصاديق الإقرار العملي، و لكن يظهر من الرجوع إلى كلماتهم (قدس سرهم) أنّ الإقرار لا بدّ أن يكون باللفظ الصريح فلا يكفي الإقرار بالفعل «2».

و في قضيّة أخرى شبيهةٌ بهذه القضيّة أنّ العبد اعترف و

أقرّ باللفظ الصريح بعد ما رأى ذلك «3».

لكنهما قضيّتان مختلفتان متشابهتان من بعض الجهات، فلا تقاس إحداهما على الأخرى، و عدم دلالة الأخيرة على المقصود لا يوجب رفع اليد عن الأولى.

10- ما رواه المفيد في الإرشاد و قال: روت العامّة و الخاصة

أنّ امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادّعته كلّ واحدة منهما، ولداً لها بغير بيّنة، و لم ينازعهما فيه غيرهما، فالتبس الحكم في ذلك على عمر، ففزع فيه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فاستدعى المرأتين و وعظهما و خوّفهما، فأقامتا على التنازع، فقال علي (عليه السلام) ائيتوني بمنشار فقالت المرأتان: فما تصنع به؟! فقال: أقدّه نصفين لكلّ واحدة منكما نصفه! فسكتت إحداهما و قالت الأخرى: الله الله يا أبا الحسن! إن كان لا بدّ من ذلك فقد سمحت به لها، فقال: الله أكبر هذا منك، دونها، و لو كان ابنها لرقّت عليه و أشفقت، و اعترفت الأُخرى أنّ الحقّ بحوث فقهية هامة، ص: 181

لصاحبتها و أنّ الولد لها دونها

«1». و لا يخفى أنّ ذيلها و إن اشتمل على اعتراف المرأة الكاذبة و لكن حكمه (عليه السلام) إنّما صدر قبل هذا الإقرار، و هو دليل على المقصود. و لكنّ المشكل السابق موجودٌ فيها، و هو حصرها في العلم الحاصل من المبادي القريبة من الحسّ الذي يحصل العلم بها لكلّ أحد، نعم هي واردةٌ في حقوق الناس فهي من هذه الناحية أقوى من بعض ما سبق.

11- ما رواه أبو الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال أتى عمر بامرأة قد تزوّجها شيخٌ، فلمّا أن واقعها مات على بطنها فجاءت بولد، فادّعى بنوه أنّها فجرت و تشاهدوا عليها، فأمر بها عمر أن ترجم، فمرّ

بها على عليٍّ (عليه السلام) فقالت: يا بن عمّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) إن لي حجّةً قال: هاتي حجّتك فدفعت إليه كتاباً فقرأه فقال: هذه المرأة تعلّمكم بيوم تزوّجها و يوم واقعها و كيف كان جماعه لها، ردّوا المرأة، فلمّا كان من الغد دعي بصبيان أتراب و دعا بالصبيّ معهم فقال لهم: العبوا، حتّى ألهاهم اللعب، قال لهم اجلسوا حتّى إذا تمكّنوا، صاح بهم فقام الصبيان و قام الغلام فاتّكى على راحتيه، فدعى به علي (عليه السلام) و ورّثه من أبيه، و جلّد إخوته المفترين حدّاً حدّاً. فقال عمر: كيف صنعت؟ فقال: عرفت ضعف الشيخ في تكأة الغلام على راحتيه «2» (تكأة من وكأ بمعنى الاتّكاء على شي ء).

ثمّ إنّه، هل الحكم كان مستنداً إلى الكتاب أو إليه و إلى ما رأى من ضعف الغلام الذي يشهد أنّه من ولد الشيخ؟ و هل مجرّد الاتّكاء على راحتيه يوجب العلم بذلك، أو لا يوجب إلّا لمثل عليٍّ (عليه السلام)

بحوث فقهية هامة، ص: 182

العالم بدقائق الأمور الخفيّة؟ و لعلّ هناك قرائن أخرى لم يصرّح (عليه السلام) بها في الحديث.

و الذي يسهّل الخطب أنّ الرواية مرسلةٌ و لم يثبت شهرة العمل بها على فرض شهرة روايتها كما لا يخفى.

و الحاصل أنّه يشكل الفتوى بمضمونها لو وقع مثل هذه الحدث للفقيه الحاكم للشرع.

12- ما رواه سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في كتاب عليٍّ (عليه السلام) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ و لم أشهد؟ قال: فأوحى الله إليه: احكم بينهم بكتابي و أضفهم إلى اسمي فحلّفهم (تحلّفهم) به و قال: هذا لمن لم

تقم له بيّنةٌ

«1». 13- و مثله ما عن أبان بن عثمان عمّن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في كتاب عليٍّ (عليه السلام) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه القضاء قال: كيف أقضي بما لم تَرَ عيني و لم تسمع أذني؟ فقال: اقضِ عليهم بالبيّنات و أضفهم إلى اسمي يحلفون به و قال: إنّ داود (عليه السلام) قال: يا ربّ أرني الحقّ كما هو عندك حتّى أقضي به قال: إنّك لا تطيق ذلك فألحَّ على ربّه حتّى فعل، فجاءه رجلٌ يَستعدي على رجل فقال: إنّ هذا أخذ مالي فأوحى الله إلى داود أنّ هذا المستعدي قتل أبا هذا، و أخذ ماله، فأمر داود بالمستعدي فقتل و أخذ ماله، فدفع إلى المستعدى عليه قال: فعجب النّاس و تحدّثوا حتّى بلغ داود (عليه السلام) و دخل عليه من ذلك ما كره فدعا ربّه أنّ يرفع ذلك ففعل «2». 14- و مثله ما عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

بحوث فقهية هامة، ص: 183

إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه كيف أقضي في أمور لم أخبر ببيانها؟ قال: فقال له: ردّهم إليَّ و أضفهم إلى اسمي يحلفون به «1». 15- ما عن أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال إذا قام قائم آل محمّد (عليه السلام) حكم بحكم داود (عليه السلام) لا يسأل بيّنةً

«2». 16- و مثله ما عن أبان قال: سمعت أبا عبد الله يقول لا تذهب الدنيا حتّى يخرج رجلٌ منّي يحكم بحكم آل داود و لا يسأل بيّنةً يعطي كلّ نفس حظّها

«3». 17- ما رواه أبو بصير قال: سمعت جعفراً (عليه السلام) يقول «إنّ عليّاً

(عليه السلام) قضى في رجل تزوّج امرأةً لها زوجٌ فرجم المرأة و ضرب الرجل الحدّ ثمّ قال: لو علمت أنّك علمت، لفضخت رأسك بالحجارة

«4» (الفضخ هو كسر الشي ء و لا يكون إلّا في الشي ء الأجوف كما في بعض كتب اللغة و لعلّ استعمال هذه الكلمة من أمير الفصحاء إشارةٌ إلى أنّه لا يقدم على هذا إلّا الجاهل الأحمق).

و على كلّ حال وجه الدلالة ظاهرٌ، و هو أنّه و إن كان أصل الجرم في ظاهر المسألة قد ثبت بدليل آخر- أعني تزوّج امرأة لها زوجٌ- و لكن خصوصية كون المتزوّج عالماً بأنّ لها زوجاً إن ثبتت بالعلم حكم بها، فهذا دليلٌ على كفاية العلم في مقام القضاء.

و لكنّ الإنصاف أنّه لا إطلاق فيها من جهة أسباب العلم لأنّه ليس في مقام بيان بحوث فقهية هامة، ص: 184

الخصوصيّات من ناحية العلم بل مراده (عليه السلام) ثبوت هذا الحكم إجمالًا في مقابل الحدّ المذكور فيها.

18- و قد استدلّ في المقام أيضاً ببعض ما ورد في باب الفتوى، مع الغفلة عن الفرق بين المقامين، مثل ما ذكره ابن قدامة في المغني من الاستدلال للقول بالحجيّة بأنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله) لمّا قالت له هند

«إنّ أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ لا يعطي من النفقة ما يكفيني و ولدي»، قال (صلى الله عليه و آله): «خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف»

«1». فحكم لها من غير بيّنة و لا إقرار لعلمه بصدقها.

و لكنّ الإنصاف أنّها أجنبيّةٌ عن باب القضاء فهي من قبيل الفتوى بالمقاصّة و أخذ الحقّ من دون إقامة الدعوى، فلذا لم يحضر أبا سفيان و لم يسأله و لم يقم بسائر ما يعتبر في باب القضاء مع أنّها أمورٌ

لازمةٌ واجبةٌ فيه.

إلى هنا تمّ الكلام في ما استدلّ أو يمكن الاستدلال به على حجيّة علم القاضي ممّا وجدناه في طيّات كتب الحديث و سنتكلّم إن شاء الله بما يستفاد من مجموعها.

إلى هنا تمّ الكلام في أدلّة القائلين بحجية علم القاضي من الروايات و غيرها.

نتيجة الكلام

تحصّل من جميع ما ذكرناه من الأدلّة، و من ضمّ الأحاديث المتضافرة بعضها إلى بعض، و جبر ضعف بعضها بقوة بعض، اعتبار علم القاضي إجمالًا من دون اختصاصه بالإمام المعصوم (عليه السلام)، و لكنّ القدر المتيقّن منها اعتبار العلم الحاصل من بحوث فقهية هامة، ص: 185

«المبادئ الحسّية» أو «القريبة من الحسّ».

و المراد منها ملاحظة القرائن الحسّية التي تدلّ على المقصود، دلالةً يقبلها كلّ من راها، أو جلّ من راها، لابتنائها على مقدمات حسّية.

فمثل نزاع المرأتين في الولد، و طلبه (عليه السلام) المنشار، و رقّة الأمّ إلى آخرها، و كذا قضية نزاع المولى و العبد و الأمر بضرب عنق العبد و ما أشبه ذلك، كلّها من هذا القبيل، و لذا يحصل العلم منها لكلّ من رأى هذه المقدّمات.

أمّا لو حصل العلم من مقدّمات ظنّية حدسية، و حصل من تراكم هذه الظنون علمٌ حدسيٌّ، كما هو المعمول به في بعض القوانين الموجودة في عصرنا، يشكل الحكم به، لعدم الدليل على حجّية مثل هذا العلم في باب القضاء، و قد عرفت أنّ الأصل في المقام، عدم حجّية قضاء أحد على أحد إلّا ما ثبت بالدليل.

و ما يؤيد عدم اعتبار القسم الأخير أنّه لو كان ذلك حجّةً كان مظنّةً لانحراف القضاة عن منهج العدل و القضاء الشرعي لأنّهم ليسوا بمعصومين، و قد مرّ فتوى بعض فقهاء العامّة، و أنّه كان يفتي بحجّية علم القاضي

في أوّل أمره، ثمّ لمّا رأى آثاره الفاسدة رجع عن فتواه و أفتى بعدم حجّيته مطلقاً «1».

أضف إلى ذلك أنّه يوجب التهمة للقضاة و إن مشوا على نهج الحقّ و الطريقة الوسطى، كما مرّ في بعض الأحاديث الحاكية عن طلب بعض الأنبياء (عليه السلام) من الله أن يكون عالماً لا من الطرق الحسّية و العادية بالواقع، ثمّ لمّا استجيبت دعوته و حكم بمقتضاه تعجّب النّاس و تحدّثوا بما يدلّ على سوء ظنّهم بحكم النبيّ (صلى الله عليه و آله)، فطلب من الله أن يرفع هذا العلم فرفع، فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى الأنبياء فما ظنّك بغيرهم!

بحوث فقهية هامة، ص: 186

فعلى هذا فَتح باب هذه العلوم في المحاكم الشرعية يوجب سلب اعتماد الناس عنها، و قد يكون سبباً لأن تزلّ أقدام القضاة.

و يؤيّده أيضاً أنّا لم نسمع في القضايا المنقولة عن النبيّ (صلى الله عليه و آله) و وصيّه أمير المؤمنين و الأئمّة المعصومين من بعده (عليهم السلام) حكمهم بالمبادي الحدسية و العلم الحاصل منها.

إن قلت: أ ليس ما مرّ في بعض الروايات عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من فهم صدق المرأة في دعواها ولادة الولد من زوجها الذي كان شيخاً كبيراً، بضعف الولد عن القيام كسائر أترابه من الصبيان، من العلم الحاصل من المبادي الحدسيّة و مع ذلك قد حكم (عليه السلام) بلحوق الولد بمثل هذا الزوج.

قلت: قد عرفت أنّ الحديث المذكور لا يخلو عن الإشكال سنداً و دلالةً، أمّا الأوّل فلكونه مرسلًا، و أمّا الثّاني فلأنّ مجرّد ذلك قد لا يوجب العلم بولادة الولد من أب هَرم. فلعلّ عدم قدرة الصبي عن القيام كان لمرض فيه أو ضعف من ناحية أخرى.

فلا بدّ من

حمله على محامل أخرى أو ردّ علمه إلى أهله، و لا يمكن الركون إليه في مثل هذه المسألة.

أدلّة المانعين عن حجيّة علم القاضي

قد ظهر ممّا ذكرنا أثناء البحث السابق كثيرٌ من أدلّتهم:

1- منهم: قوله (صلى الله عليه و آله)

إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان «1». و ما أشبه ذلك، فطريق القضاء منحصرٌ في هذين و ليس علم القاضي منهما.

بحوث فقهية هامة، ص: 187

2- و منها: قوله (عليه السلام)

أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادةٌ عادلةٌ أو يمينٌ قاطعةٌ أو سنّةٌ ماضيةٌ.

«1». و العلم ليس من هذه الثلاثة، إلى غير ذلك من أمثاله.

و يمكن الجواب عنهما بأنّهما من قبيل العامّ و كلّ عامّ يقبل التخصيص، و لا مانع في أن يقال: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان و كذا بما ثبت لي من طريق الحسّ أو ما يقارب الحسّ.

نعم، لا بدّ من قيام الدليل على التخصيص، و قد عرفت قيامه على ذلك.

3- و منها: ما ذكرنا من المؤيّدات التي قد تجعل جملتها دليلًا، من كون العمل به موجباً للتهمة و سوء الظنّ، و غير ذلك من المفاسد.

و قد عرفت الجواب عنها و أنّ ذلك إنّما يتصور في خصوص ما حصل من المبادي الحدسيّة النظرية، فإنّها الموجبة للفساد و اتّهام القاضي دون الحسّية أو ما قارب الحسّ، فإنّهما مقبولان عند جميع الناس كالقضايا المحكية عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

4- و منها: ما استدلّ به أيضاً من أمور ضعيفة واهية، مثل أنّ عمل القاضي بعلمه تزكيةٌ لنفسه و هي قبيحةٌ! أو أنّ بناء الحدود على المسامحة و الدرء و مع حجّية علم القاضي يتّسع نطاقها. و ما أشبه ذلك ممّا لا حاجة إلى ذكره الجواب عنه لوضوح فساده.

5- بعض الأحاديث الواردة في الباب مثل

ما يلي:

أ- ما رواه البيهقي في سننه عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) في قضية الملاعنة

لو كنت راجماً من غير بيّنة لرجمتها

«2».

بحوث فقهية هامة، ص: 188

و قد ذكرها في مفتاح الكرامة في أدلّة المانعين أيضاً «1».

و لكن الإنصاف من الإقرار- و لو مرّةً واحدةً- العلم بارتكابها أو ارتكابه للفجور و أنّ صاحب الإقرار صادقٌ في مقالته. و مع ذلك لا يجوز إجراء الحدّ دون الأربع.

و أيّ إنسان لا يحصل له العلم من قول المرأة: طهّرني يا أمير المؤمنين! فقال لها: ممّا أطهّرك؟

بحوث فقهية هامة، ص: 189

فقالت: إنّي زنيت، فقال: لها ذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت أم غير ذلك؟ قالت: بل ذات بعل، إلى آخر ما ورد في الرواية «1» من عودها بعد وضع حملها و إصرارها على تطهيرها من أمر الزنا، و بكائها من تأخير هذا الأمر مع سلامة عقلها و صحّة فكرها.

و لا ينبغي الريب في حصول العلم غالباً في مثل هذه الموارد، و لكنّ الشارع المقدّس لم يعتبر هذا العلم و أطلق وجوب الإقرارات الأربعة. فمن إطلاق هذه الروايات يستفاد عدم الاعتناء بعلم القاضي في خصوص هذا المورد، فهو استثناءٌ من حجّية العلم، لمصلحة الستر و غيره.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ عدم حجّية العلم هنا مقصورٌ على العلم الحاصل من الإقرار أو من البيّنة دون أربع لا مطلقاً، فتأمّل.

ب- ما رواه العامّة في حديث أمّ سلمة، قالت: قال (صلى الله عليه و آله)

فأقضي نحو ما أسمع «2». و مفهومه عدم قضائه بالعلم الحاصل من طرق مختلفة، بل من سماع الإقرار أو سماع شهادة الشهود.

و الجواب عنه- مضافاً إلى الكلام في سنده- ما عرفت سابقاً في أمثاله من أنّه عامٌّ

قابلٌ للتخصيص بأدلّة حجّية العلم.

ج- ما رواه الشيخ (قدس سره) في المبسوط مرسلًا: و قد روي أنّه ليس له أن يحكم بعلمه لما فيه من التهمة «3».

و فيه مع الإشكال في سنده بالإرسال، أنّه ظاهرٌ في نفي القسم الثّالث من العلم،

بحوث فقهية هامة، ص: 190

و هو الحاصل من المبادي الحسيّة التي تختلف فيها الآراء و الأنظار، فإنّه هو الذي يوجب الاتّهام. و أمّا في موارد الحسّ أو ما يقرب منه فهو قليلٌ جدّاً و بعيدٌ عن الاتّهام.

و في ختام هذا البحث، نذكر استدلال بعضهم بكلام ابن الجنيد و حاصله على ما حكاه السيّد في الانتصار: وجدت الله قد أوجب للمؤمنين فيما بينهم حقوقاً أبطلها فيما بينهم و بين الكفّار و المرتدين كالمواريث و المناكحة و أكل الذبائح و وجدنا قد اطّلع رسول الله (صلى الله عليه و آله) على من كان يبطن الكفر و يظهر الإسلام فكان يعلمهم و لم يبيّن أحوالهم لجميع المؤمنين فيمتنعون عن مناكحتهم و أكل ذبائحهم «1».

فهذا دليلٌ على عدم حجّية علم القاضي.

و أجاب عنه السيّد المرتضى في الانتصار بعد نقل مقالته بما حاصله: أنّا لا نسلّم أنّ الله تعالى اطّلع نبيّه على أحوال الكفّار و المنافقين و إن استدلّ بقوله تعالى (وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ.) «2».

فالجواب عنه أنّه إنّما يدلّ على قدرة الله تعالى على ذلك لا على وقوعه! ثمّ أجاب ثانياً بأنّه: لا مانع من أن يكون حكم تحريم المناكحة و الموارثة و شبهها مقصوراً على من أظهر كفره دون من أبطنه.

أقول: أمّا الأوّل فهو مبنيٌّ على كون علم النبيّ و الأوصياء (عليهم السلام) بخفايا الأمور من قبيل العلم الإرادي (فلو شاءوا علموا) لا أنّه من قبيل العلم

الفعلي، و في هذا كلامٌ في محلّه، ليس هنا موضع بحثه.

بحوث فقهية هامة، ص: 191

و الثاني مبنيٌّ على كون موضوع الحكم خصوص من أظهر الكفر، و هو مخالفٌ لظاهر الإطلاقات الدالّة على إناطة الحكم بالكفر و الإيمان الواقعيين، الظاهرة في عدم دخالة العلم و الجهل و الظهور و التبطن فيها، فتأمّل.

و الأولى في الجواب أن يقال: أوّلًا: هذا مبنيٌّ على كون العلم الحاصل من مصادر الغيب ملاكاً للأحكام، و هو غير ثابت بل الثابت خلافه. فلو علم الإنسان من الطرق العادية بأنّ هذا الرجل كافرٌ أو فاسقٌ أو هذا الطعام حرامٌ أو نجسٌ، يجري عليه أحكامه. أمّا لو حصل هذا العلم له من مصادر الغيب فلا يجري عليه أحكامه.

و بعبارة أخرى مدار التكليف إنّما هو على العلم الحاصل من الأسباب العادية، لا من طريق علم الغيب بتعليم إلهيٍّ و شبهه. فلو علم النبي (صلى الله عليه و آله) أو الإمام (عليه السلام) من هذا الطريق بكفر أبي سفيان مثلًا أو فسق فلان، أو قتل فلان بيد فلان لا يترتّب عليه أحكامه، و إلّا لم يستقر حجرٌ على حجر؛ لعلمهم بجملة من الغيوب لو لم نقل بكلّها- بإذن الله تبارك و تعالى.

و بهذا نجيب على الإشكال المعروف بأنّ عليّاً (عليه السلام) كان يعلم أنّه لو ذهب إلى المسجد لضربه ابن ملجم، أو أنّ الحسن (عليه السلام) كان يعلم أنّ ماء الكوز مخلوطٌ بالسمّ، إلى غير ذلك من أشباهه- مع ما ورد في الأخبار عن علمهم (عليهم السلام) بكثير من قبيل هذه الأمور «1».

فنقول: حرمة إلقاء النفس في التهلكة إنّما هي فيما علم من الطرق العادية، أمّا إذا

بحوث فقهية هامة، ص: 192

علم من طريق علم الغيب فهو

خارجٌ عن مدار التكاليف.

و ثانياً لو سلّمنا فلا دخل لذلك بمسألة علم القاضي لأنّ العلم بأحوال الكفّار و المنافقين خارجٌ عن بحث القضاء، و لا يمكن أن يقاس أحدهما بالآخر.

و ثالثاً لو سلّمنا فلعلّ عدم حجّية العلم في هذه الموارد لما فيه من الحرج الشديد و العسر الأكيد، فلم يره الشارع المقدّس حجّةً و لا يوجب ذلك التعدّي إلى جميع موارد و أقسام علم القاضي.

و بالجملة المسألة أوضح من أن يستدلّ لها بهذه الأمور.

فظهر من جميع ما ذكرنا بعون الله تعالى و تأييده أنّ الحقّ في المسألة التفصيل بين أقسام العلم و أنّ علم القاضي حجّةٌ في بعض الموارد دون بعض، فهو حجّةٌ في خصوص ما يكون مستنداً إلى الحسّ أو ما يقرب منه، دون ما إذا حصل من أسباب حدسية.

و قد عثرت على كلام للفقيه الماهر صاحب الجواهر (قدس سره) كأنّه يشير إشارةً لطيفةً وجيزةً إلى التفصيل الذي اخترناه في المسألة، قال: ثمّ إنّ الظاهر إرادة الأعم من اليقين و الاعتقاد القاطع و لو من تكثير أمارات من العلم، لكون الجميع من الحكم بالحقّ و العدل و القسط عنده و لغير ذلك ممّا سمعته من أدلّة المسألة. و إن كان هذا الفرد من العلم ممّا يمكن فيه البحث نحو ما ذكروه في الشاهد و ليت المانع اقتصر عليه «1».

و مراده من الاعتقاد القاطع هو ما دون اليقين الحسّي من العلم النظري الحاصل من تراكم الظنون و شبهها المنتهي إلى العلم، و الذي اخترناه عدم الدليل على حجّيته، و أنّ ما أفاده غير كاف لإثباته. و قوله: «ليت المانع اقتصر عليه» إشارةٌ إلى أنّه لو

بحوث فقهية هامة، ص: 193

كان المانع عن حجّية علم القاضي يقتصر

على نفي حجّية العلم الحاصل من المبادي النظرية الحدسيّة لكان لقوله وجهٌ يعتدّ به، و لكنّه أنكر حجّية جميع أنحائه فوقع في الخطأ، و كلامه موافق إجمالًا لما اخترناه في المقام.

بقي هنا مسائل

الأولى: قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ القول بالتفصيل بين حدود الله و حدود الناس

إنّما هو بمعنى كون حدود الناس تحتاج إلى المدّعي الخاصّ و هو صاحب الحقّ، فلا يجوز إجراؤها بدونه كما هو مذكورٌ في أبواب حدّ السرقة و القذف.

و أمّا إذا كان هناك مدّعياً للحقّ و علم القاضي من طريق الحس أو ما يقاربه بثبوت الحقّ للمدّعي، فلا يبعد وجوب العمل به. و كذا إذا كان هناك حقوق للناس- خارجاً عن دائرة الحدود- كما إذا كان النزاع في الود أو المال أو غير ذلك، و ثبت بالقرائن المحسوسة التي يحصل اليقين منها لكلّ أحد عادةً أنّ المال لزيد أو لعمرو جاز للحاكم الحكم به، كما تشهد به كثيرٌ من الروايات السابقة؛ فإنّها وردت في أبواب التنازع في الحقوق أو الأموال، فإذن لا يبقى فرقٌ بين الحدود و الحقوق، و لا بين حدود الله و حدود الناس؛ لاتّحاد الدليل في البابين و إنّما الفرق في أنّ الأُولى لا تحتاج إقامتها إلى شي ء و الثانية تتوقّف على المدّعي الخاصّ.

الثّانية: قد يستثني من القول بعدم الحجّية أمور

، قال في المسالك: إنّ منع من قضاء القاضي بعلمه استثنى صوراً:

منها: تزكية الشهود و جرحهم لئلّا يلزم الدور و التسلسل. (و مراده أنّ تزكية الشاهد لو احتاج إلى شاهدين آخرين ننقل الكلام إليهما، و هكذا، فإمّا أن يعود فيلزم الدور، أو لا يعود فيلزم التسلسل، فلا مناص من عمل القاضي بعلمه في عدالة الشاهد لا محالة.

بحوث فقهية هامة، ص: 194

و منها: الإقرار في مجلس القضاء و إن لم يسمعه غيره (فإنّه يعمل بعلمه فيه).

و منها: العلم بخطإ الشهود يقيناً أو كذبهم (الحاصل من القرائن المختلفة).

و منها: تعزير من أساء أدبه في مجلسه و إن لم يعلم غيره، لأنّه من ضرورة إقامة أبّهة القضاء.

و منها: أن يشهد معه (أي مع

القاضي) آخر، فإنّه لا يقصر عن شاهد» «1».

و قد حكى ذلك في الجواهر، ثمّ أورد على الأخير بعدم وضوح دليل الاستثناء مع كونه من القضاء بالعلم بل و في بعضها الآخر أيضاً «2» و تمام الكلام موكولٌ إلى محلّه من باب القضاء.

هذا و لو كانت هذه المستثنيات مسلّمةً كانت من قبيل الاستثناء المنقطع، فإنّ الكلام في حجّية علم القاضي بالواقعة المطروحة في محكمته، مثل القتل، و الدين، و الزنا، لا علمه بكلّ شي ء يرتبط بقضائه، و إلّا لم تنحصر المستثنيات فيما ذكر، فإنّ معرفة المتخاصمين، و معرفة لغتهما و كلامهما و محتواها، و معرفة إجراء الأحكام التي صدرت منه، و غير ذلك من أشباهه تكون بعلم القاضي، أو أحد طرقها هو علم القاضي، فإذا رأى إجراء الحدّ على المجرم بالقطع أو الضرب (و عدد الجلد) أو رأى المتخاصمين في المجلس الثاني بعد المجلس الأوّل، أو عرف أبناء زيد و ورثته، يعمل بها بلا إشكال.

هذا و قد عرفت ممّا سبق أنّ هناك بعض المستثنيات مثل ما مرّ من أنّه لو حصل العلم للقاضي من الإقرار بالزنا و أشباهه (من أوّل مرّة أو الثّاني أو الثّالث) و كذا من قول شاهد واحد، أو اثنين أو ثلاثة، يبعد جواز إجراء حدّ المحصن و المحصنة أو الجلد، إمّا لعدم اعتبار العلم في هذا المجال مطلقاً (و كأنّ الشارع أراد الستر عليهم) و إمّا

بحوث فقهية هامة، ص: 195

لعدم اعتبار العلم الحاصل من خصوص هذه المقدّمات، فتدبّر جيّداً.

الثّالثة: لو قلنا بحجّية علمه من أيّ طريق حصل

، كفى الركون إلى الأسباب الموجبة للظنّ إذا حصل من اجتماعها اليقين؛ مثل كثير ممّا شاع في عصرنا من قبيل أنّ الجرح الحادث في بدن المقتول يتحقق من نوع السلاح الذي كان عند

المتّهم بالقتل بشهادة أهل الخبرة، أم لا.

و مثل الآثار الموجودة من أنواع الخدش على بدن الطرفين يدلّ على وقوع مشاجرة بينهما، و كذا إذا قدّ قميصه من قبل أو دبر كما في قصّة يوسف (عليه السلام). و مثل كون القاتل ممّن له السوابق السيئة و عدم كونه من أهل الإيمان. و مثل إبداء الأجوبة المتناقضة في مقابل الأسئلة. و مثل انقلاب حاله عند مشاهدة آثار الجرم و الجناية. و مثل شهادة صبيٍّ و مثل ممّن لا يقبل شهادته، و كذا الشياع في المجتمع أو شهادة الفسّاق المتحرزين عن الكذب. و مثل بعض الأفلام و الأشرطة ممّا لا يحصل من شي ء منها اليقين لإمكان الدسّ فيها و لكن بعد ضمّها إلى غيرها من القرائن يحصل اليقين منها. و مثل الآثار الموجودة من خطوط أصابع السارق أو شعره أو غير ذلك في محلّ السرقة. و مثل ما يعلم بسبب مشابهة دم الولد لدم مدّعي الأبوّة. و مثل ما هو معروفٌ في زماننا من بعض الأجهزة التي تميز الكاذب من الصادق، لما يحصل في الجهاز العصبي من حدوث التغييرات عند التكلّم بالصدق أو الكذب.

فهذه عشرة أنواع ممّا يوجب الظنّ و قد يحصل من اجتماعها أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر منها العلم الحدسي للقاضي، بل قد يحصل العلم من واحد منها و إن كان بعيداً بالنسبة إلى أقوال الخبراء الذين قد يختلفون في شي ء واحد و كلّ واحد يدّعي استناده إلى وسائله و أجهزته.

و على كلّ حال فالعلم الحاصل من تراكم هذه الأمور الظنيّة أحياناً و أمثالها كاف عند القائل بحجّية علم القاضي على الإطلاق، و غير كاف عندنا و لو بلغ ما بلغ، إلّا

بحوث فقهية هامة، ص:

196

أن تكون من قبيل المبادئ القريبة من الحسّ التي يحصل القطع منها لكلّ أحد رآها غالباً.

و الذي يسهّل الخطب في هذه الموارد أنّ القاضي كثيراً، ما يأخذ الإقرار من المتّهم من هذه الطرق أعني كثيراً ما يقرّ المتّهم على نفسه بالجرم عند مواجهته بهذه القرائن كما حكي عن بعض قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام).

و لا بدّ أن يكون القضاة خبراء بهذه الأمور، يستكشفون الحقائق من طرقها، و بعد العلم الحاصل من المبادي الحدسيّة لا يقنعون به و لا بما هو ظاهرٌ في بادئ الأمر، فقد يكون المتهم من إخوان الشياطين و يظهر الباطل في لباس الحقّ، و الحقّ في لباس الباطل، فيجتهدون لكشف الحال و تطبيقه على الموازين الشرعية.

و لهذا نرى بعض القضاة في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا يحكمون بما يبدو لهم في بادئ الأمر و كان (عليه السلام)- كما في روايات أبواب القضاء- يردّهم عن قضائهم بما يظهر له عند الفحص و التدقيق و كشف الحال بقوّة الابتكار.

الرابعة: قد مرّت الإشارة إلى أنّ إحقاق حقوق الناس

يتوقّف على مطالبة صاحب الحقّ، و نزيدك علماً هنا ليكمل شرح ما ذكره (قدس سره) في تحرير الوسيلة في ذيل المسألة بقوله: و لا يتوقّف (أي إقامة حدود الله) على مطالبة أحد، و أمّا حقوق الناس فتتوقّف إقامتها على المطالبة حدّاً كان أو تعزيراً، فمع المطالبة له العلم بعلمه.

أقول: هذه المسألة معروفةٌ بين الأصحاب، بل قد ادّعى عدم الخلاف فيها و قد أوردها في الجواهر تبعاً للشرائع في المسألة الخامسة من المسائل العشر التي أوردها في ذيل أحكام حدّ الزنا «1».

بحوث فقهية هامة، ص: 197

و الكلام فيها تارةً من حيث الكبرى و أخرى من حيث الصغرى: أمّا الأوّل فيدلّ عليه أوّلًا أنّه موافقٌ للقاعدة،

و هي عدم نفوذ القضاء إلّا ما ثبت بالدليل، فما لم يطالب ذو الحقّ لم ينفذ حكم القاضي.

و ثانياً: كونه موافقاً لكلمات الأصحاب كما قال في الرياض: «لا خلاف فيها ظاهراً و لا إشكال» «1».

و ثالثاً تدلّ عليه رواياتٌ متعدّدةٌ:

1- صحيحة الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام)

من أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ من حقوق المسلمين فليس على الإمام أن يقيم عليه الحدّ الذي أقرّ به عنده حتّى يحضر صاحب حقّ الحدّ أو وليّه و طلبه بحقّه «2». كذا في الوسائل، لكن في الرياض «حتّى يحضر صاحب الحدّ أو وليّه و يطلب حقّه»

و هو أصحّ كما لا يخفى «3».

2- في صحيحة أخرى له عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضاً قال و من أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ حدّ (بحدّ) من حدود الله في حقوق المسلمين، فليس على الإمام أن يقيم عليه الحدّ الذي أقرّ به عنده، حتّى يحضر صاحب الحقّ أو وليّه فيطالب بحقّه.

- ثمّ ذكر بعض مصاديقه فقال-

أمّا حقوق المسلمين فإذا أقرّ على نفسه عند الإمام بفرية لم يحدّه حتّى يحضر صاحب الفرية أو وليّه، و إذا أقرّ بقتل رجل لم يقبله حتّى يحضر أولياء المقتول فيطالبوا بدم صاحبه «4». و هما صريحتان في المطلوب، و لكنّ الظاهر أنّهما روايةٌ واحدةٌ و الأولى قطعةٌ من بحوث فقهية هامة، ص: 198

الثّانية؛ لاتّحاد المضمون و اللفظ و السند.

3- ما عن حسين بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر، أن يقيم عليه الحدّ، و لا يحتاج إلى بيّنة مع نظره، لأنّه أمين الله في خلقه، و إذا نظر إلى

رجل يسرق عليه أن يزبره و ينهاه و يمضي و يدعه، قلت: و كيف ذلك؟ قال: لأنّ الحقّ إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته، و إذا كان للناس فهو للناس «1». 4- ما ورد في باب القذف عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام)

في رجل قال للرجل يا بن الفاعلة! يعني الزنا، فقال: إن كانت أمّه حيّةً شاهدةً ثمّ جاءت تطلب حقّها، ضرب ثمانين جلدةً و إن كانت غائبةً انتظر بها حتّى تقدّم و تطلب حقّها، و إن كانت قد ماتت و لم يعلم منها إلّا خير، ضرب المفتري عليها الحدّ ثمانين جلدةً

«2». و الظاهر كونها صحيحةً و لكنّها منحصرةٌ بباب القذف، و لكن إلغاء الخصوصية منها قريبٌ. أضف إلى ذلك كلّه أنّ سيرة العقلاء أيضاً على ذلك و لم يردع عنها الشارع المقدّس، فتأمّل.

فالمسألة من ناحية الكبرى ممّا لا ريب فيه، و أمّا الصغرى فلا إشكال في أنّ القذف و ما أشبه من حقوق الناس، و أمّا مسألة شرب الخمر و أشباهه من حقّ الله و لكن بعض الموارد لا يخلو عن شبهة، منها «الزنا بذات البعل» و «السرقة».

أمّا الأوّل فقد يتصوّر كونه من حقوق الناس أو ذات جهتين جهة يكون من حقّ الله، و من أخرى من حقّ الناس، فلذا نواجه روايات كثيرةً تدلّ على جواز النظر

بحوث فقهية هامة، ص: 199

إلى المرأة الأجنبية عند إرادة النكاح، و قد علّل بأنّه مستام، أو أنّه يشتريها بأغلى الثمن، فانظر الوسائل، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح فقد ورد فيه ثلاثة عشر حديثاً أكثرها تدلّ على ما ذكرنا.

و هي تدلّ على كون الزنا بذات البعل ممّا يكون سبباً لاغتصاب حقّ الغير.

و أوضح منه

التعبير بالأجر في مهر المتعة قال: الله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) «1» و كذا التعبير «بأنّهنّ مستأجرات» كما في الخبر «2» و كذا قوله (عليه السلام) في مصحّحة زرارة عن الصادق (عليه السلام) قال «لا تكون متعةٌ إلّا بأمرين أجلٌ مسمّى و أجرٌ مسمّى»

«3» إلى غير ذلك ممّا يدلّ على هذا المعنى، كلّ ذلك يدلّ على أنّه من قبيل حقّ الناس.

و قد شاع في كلمات الفقهاء- رضوان الله عليهم- التعبير بأنّ المهر ثمن البضع. و قد يستدلّ عليه أيضاً بما رواه أبو شبل قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجلٌ مسلمٌ فجر بجارية أخيه فما توبته؟ قال: يأتيه و يخبره و يسأله أن يجعله في حلّ و لا يعود، قلت: فإن لم يجعله من ذلك في حلّ؟ قال: يلقي الله عزّ و جلّ زانياً خائناً

«4». أقول: يمكن الإجابة عن الجميع، أمّا عن الأخير فهو ظاهرٌ فإنّه ورد في الأمة، و لا شكّ أنّ التصرّف فيها تصرّفٌ في ملك الغير و لا تقاس الحرّة بالأمة بلا إشكال.

أمّا ما ذكر من التعبير بالأجر و الأجور و المستأجرات فلا شكّ أنّها تعبيراتٌ مجازيةٌ، فلذا لا يجوز إجراء صيغة نكاح المتعة بلفظ الإجارة بل ادّعى الإجماع عليه بحوث فقهية هامة، ص: 200

في محكي المسالك «1». و هذا يكشف عن كونه تعبيراً مجازياً، و أوضح منه التعبير منه بالاشتراء في روايات النظر عند إرادة العقد، فإنّه لا إشكال في عدم معنى للبيع حقيقةً في المرأة الحرّة، بل هو نوع تشبيه و نوع كناية، و هو إشارةٌ إلى بعض الجهات المشتركة بين البيع و النكاح، من بذل المال في مقابل جواز التصرّف و إن لم يكن

ثمناً حقيقةً، و لا بيعاً و لذا لا يصحّ عقد النكاح بلفظ البيع و الشراء بالإجماع و الّاتفاق، فلا دلالة في شي ء من هذه الأدلّة.

هذا و يمكن الاستدلال على عدم كونه من قبيل حقّ الناس بأمور:

1- عدم ذكر التحلّل أو شي ء آخر يدلّ على كونه من قبيل حقوق الناس في شي ء من روايات الباب على كثرتها و اشتمالها على كثير من الأمور الجزئية و الفروع الخاصّة، و لذا لم يفت به أحدٌ فيما نعلم.

و كيف يمكن عدم ذكر هذا المعنى المهمّ في شي ء من الروايات؟ و كيف يمكن أن يخفى على جميع أساتذة الفنّ؟ بل يمكن أن يقال: إنّ كثيراً منها من قبيل الإطلاق في مقام البيان مع عدم ذكر شي ء غير الجلد و الرجم فيها مع كون الزنا بذات البعل.

2- قد ورد في بعض الموارد جواز عفو الحاكم الشرعي عن الزاني و الزانية حتّى إذا كانا محصنين، كما إذا كان بالإقرار، أو شبه ذلك ممّا مرّ في محلّه، مع أنّه لو كان حقّ الناس فيه ثابتاً، لما جاز للحاكم العفو عنه.

3- ممّا يؤيّد المطلوب أنّه لو بني على التحلّل من البعل في هذه الموارد لحصل فسادٌ عظيمٌ بين الناس، و ربّما ينجرّ إلى إهراق الدماء و إتلاف النفوس و المفاسد الكثيرة في المجتمع، لوجود موارد عديدة من هذا الأمر- مع الأسف- في بعض البلاد.

بحوث فقهية هامة، ص: 201

أضف إلى ذلك أنّه كيف يمكن التحلّل؟ إذا كان بأمر مالي فكيف يمكن هذا؟ أو بأمر آخر فما هو ذاك؟ و الحاصل أنّه لا ينبغي الشكّ في عدم عدّ هذا من حقوق الناس و عدم الفتوى به من أحد، و الله العالم.

و أمّا مسألة السرقة، فهل هي

من حقّ الله تعالى؟ أو من حقّ الناس؟ أو فيها شائبة الأمرين؟ و لا بدّ من ملاحظة كلمات الفقهاء الأعلام أوّلًا.

قال في السرائر: «الحقوق على ثلاثة أضرب: حقّ لله محضٌ، و حقّ لآدمي محضٌ، و حقّ لله و يتعلّق بحقّ الآدميين، فأمّا حقوق الله المحضة فكحدّ الزنا و الشرب، فإنّه يقيمه الإمام من غير مطالبة آدمي.

فأمّا حقوق الآدميين المحضة المختصة بهم، فلا يطالب بها الإمام إلّا بعد مطالبتهم إيّاه باستيفائها.

فأمّا الحقّ الذي لله و يتعلّق به حقّ الآدمي فلا يطالب به أيضاً و لا يستوفيه إلّا بعد المطالبة من الآدمي، و هو حدّ السارق، فمتى لم يرفعه إليه و يطالب بماله لا يجوز للحاكم إقامة الحدّ عليه بالقطع، فعلى هذا التحرير إذا قامت عليه البيّنة بأنّه سرق نصاباً من حرز لغائب، و ليس للغائب وكيلٌ يطالب بذلك، لم يقطع، حتّى يحضر الغائب و يطالب.

فأمّا إذا قامت عليه البيّنة أو أقرّ بأنّه قد زنى بأمة غائب فإنّ الحاكم يقيم عليه الحدّ و لا ينتظر مطالبة آدمي، لأنّه الحقّ لله تعالى محضاً» «1».

فيظهر من كلامه أنّ السرقة ممّا يكون فيه جهتان، و حيث إنّ النتيجة تابعةٌ للمقيّد بالقيد فيكون إجراء الحدّ فيه منوط بمطالبة صاحب المال، بل ادّعى في الجواهر أنّ بحوث فقهية هامة، ص: 202

الحكم فيه معتضدٌ بفتاوى الأصحاب «1» و ظاهره كون الحكم مشهوراً على الأقلّ. و لكن قد حكي الخلاف فيه في الجملة عن الخلاف و المبسوط، أنّه يقطع إذا ثبت بالإقرار (و لم يكن هناك مطالبةٌ) «2».

هذا و لكن ظاهر النصوص متفاوتٌ: ففي خبر الحسين بن خالد الذي مرّ آنفاً أنّ الإمام «إذا نظر إلى رجل يسرق عليه أن يزبره و ينهاه و

يمضي و يدعه»

معلّلًا بأنّ الحقّ «إذا كان للناس فهو للناس»

«3». و لكن في إحدى صحيحتي الفضيل عن الصادق (عليه السلام) قال:.

إذا أقرّ على نفسه عند الإمام بسرقة، قطعه فهذا من حقوق الله، و إذا أقرّ على نفسه أنّه شرب خمراً حدّه فهذا من حقوق الله.

«4». ثمّ ذكر في ذيل الرواية أنّ الفرية و كذا القتل من حقوق المسلمين. و الظاهر أنّ الصحيحة غير معمول بها، و أنّ خبر الحسين منجبرٌ بعمل الأصحاب، مضافاً إلى درء الحدود بالشبهات، و هذا من مصاديقه الواضحة.

و أمّا حمل خبر الحسين على الاشتغال ببعض مقدّمات السرقة دون وقوعها، فينافي التعليل الوارد في ذيله بأنّ الحقّ إذا كان لله فلا يتوقّف على المطالبة و إذا كان للناس توقّف عليها. هذا على فرض عدم كون صحيحة الفضيل مهجورةً، و قد عرفت أنّها مهجورةٌ فلا يمكن العمل بها.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ هناك رواياتٌ تدلّ على جواز عفو صاحب المال عن السارق قبل رفعه إلى الحاكم الشرعي و عدم جوازه بعد رفعه إليه.

بحوث فقهية هامة، ص: 203

منها: قصّة سرقة رداء صفوان بن أشميّة في زمن رسول الله (صلى الله عليه و آله) و أنّه بعد ما رفع اللصّ إليه (صلى الله عليه و آله) قال صفوان «أنا أهبه له، فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله) فهلّا كان هذا قبل أن ترفعه إليّ.»

«1». و منها: ما عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام)

«من أخذ سارقاً فعفى عنه فذلك له فإذا رفع إلى الإمام قطعه.»

«2». و يستفاد من هذا الحكم أنّه من حقوق الناس، و إن كان فيه شائبة حقوق الله أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام في مسألة علم القاضي و

بعض ما يتفرّع عليها و الحمد لله أوّلًا و آخراً.

8- ضمان العاقلة و فلسفتها

اشارة

(ضمان العاقلة في قتل الخطأ)

تمهيد

من وظائف العلماء و الفقهاء، حراسة الأحكام الفرعيّة و المسائل الفقهيّة الإسلاميّة.

و من هنا فإنّ دروس الفقه في الحوزات العلمية و خصوصاً في مرحلة البحث العالي، أي درس الخارج- مبتنية على هذا الأساس، فالفقهاء و الطلاب المجتمعون في هذه الدروس يتناولون بالبحث و التحقيق كلًّا من مسائل الفقه الكلاسيكية و المسائل المستحدثة، و استنباط أحكامها الشرعية.

و من جملة هذه الدّروس المباركة، بحث خارج الفقه للمرجع الجليل المجدّد سماحة آية الله العظمى مكارم الشّيرازي- مد ظلّه العالي- الذي ينعقد في صالة المسجد الأعظم قم المقدّسة بحضور جمع غفير من محققي و فضلاء الحوزة العلمية.

و منهج سماحة الأستاذ في دروسه و أبحاثه هو أنّه يبيّن الشبهات المطروحة الحديثة بشكل واضح و يجيب عنها، مضافاً إلى دارسة المسائل الفقهية.

و من جملة تلك الشبهات التي عالجها سماحته مسألة ضمان العاقلة، حيث إنه عند ما انتهى إليها بحثه استجلى باستدلال متين و رائع.

بحوث فقهية هامة، ص: 208

و لما كانت هذه المسألة قد طرحت في بعض الصحف و المجلات كاستفهام على الأحكام الفقهية الإسلامية، قررنا تنظيم هذه المجموعة من دروس الأستاذ المعظم، نضعها بين أيدي قرائنا الأعزّاء.

رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

أبو القاسم عليان نژادي.

أقسام القتل

أحد الأحكام الإسلامية المطروحة في مبحث الديّات هو جزاء عقوبة قتل الإنسان البري ء.

و القتل في الإسلام على ثلاثة أقسام: قتل العمد، شبه العمد، الخطأ المحض، فإن قتل شخص شخصاً آخر متعمداً- أي ضربه بآلة قاتلة غالباً، أو ضربه بقصد قتله و إن لم تكن بآلة غير قاتلة- فعقابه القصاص و لأولياء القتيل الاقتصاص منه.

و إذا كان القتل شبه عمد- أي ضربه بأداة ليست قاتلة غالباً و بدون قصد الإماتة، فمات المضروب اتفاقاً، فهنا يلزم القاتل

بدفع دية المقتول من ماله الخاص.

و إذا كان القتل خطأ محضاً- أي أنّ القاتل لم يقصد القتل بل و لم يستهدف المقتول و إنما استهدف شيئاً آخر فأصاب المقتول اتفاقاً فقتله كما لو استهدف طيراً في الهواء فأصاب رجلا فقتله- فحكمه الدّية و لكن الدّية، هنا تؤخذ من مال عاقلة القاتل «1» أي أنّ الدّية توزّع على أقرباء القاتل الرجال من أبيه بحسب مكنتهم، فيدفعون الدّية بأنفسهم إلى أولياء الدّم، أو يتدخل الحاكم الشرعي في ذلك إذا ما اختلف أولياء الدّم مع عاقلة القاتل.

و لقد استشكل بعض في هذا الحكم الإسلامي، و أنه لما ذا يجب على العاقلة تحمل بحوث فقهية هامة، ص: 210

مسئولية ذنب ارتكبه غيرهم؟ و أنّ هذه المسألة مخالفة لحكم العقل القاضي بتحمّل الفرد عاقبة جريمته هو لا جريمة الآخرين! بل إنّ هذا الحكم لا ينسجم مع آيات القرآن الكريم، و من جملتها الآية 164 من سورة الأنعام و التي جاء فيها (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * «1».

و عليه فمسألة ضمان العاقلة، و دفع ثمن الدّم من قبلهم نيابة عن القاتل، لا تنسجم حكم العقل و مضامين القرآن الكريم.

و لتوضيح الإجابة عن هذا الإشكال، لا بدّ من التطرّق إلى البحوث العشرة التّالية.

1- آراء فقهاء الإسلام حول ضمان العاقلة.

2- ضمان العاقلة في الروايات الإسلامية- السنّية و الشيعية.

3- سبب تسمية العاقلة بهذا الاسم.

4- هل يمكن الوقوف على حكمة الأحكام الشرعية؟ و إذا كان الجواب بالإيجاب، فهل هذا العمل جائز؟

5- فائدة معرفة فلسفة الأحكام.

6- فلسفة الأحكام لها جهة نوعية لا شخصية.

7- العاقلة، تأمين عائلي (ضمان متقابل).

8- وجود العاقلة بأشكال أخرى في المجتمع.

9- في أي صورة تضمن العاقلة الدّية؟

10- خلاصة و البحث و حصيلته.

1- آراء فقهاء الإسلام في ضمان العاقلة

أ- يقول الشّيخ الطوسي (قدس سره) و هو من كبار فقهاء و علماء الشيعة في كتابه القيّم «الخلاف» دية قتل الخطأ على العاقلة و به قال جميع الفقهاء؛ و قال الأصم «1» أنّه يلزم القاتل دون العاقلة؛ قال ابن المنذر: و به قالت الخوارج.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم و أيضاً إجماع الأمّة و الأصم لا يعتد به» «2».

ب- يقول ابن قدامة و هو من فقهاء أهل السنّة في كتابه «المغني» و هو من الكتب الفقهية السنّية المفصّلة: «و لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنّ دية الخطأ على العاقلة» ثمّ نقل عن ابن المنذر إجماع أهل العلم على ذلك» «3».

و العجيب، أن ابن قدامة لم ينقل خلافاً عن أحد في المسألة حتى عن الأصمّ و الخوارج! ج- يقول الشّيخ محمّد حسن النّجفي «رضوان الله عليه» في كتابه النفيس «جواهر الكلام»: «و على كل حال فهي على العاقلة بلا خلاف أجده بيننا، بل و بين غيرنا فيه كما اعترف به بعضهم إلّا من الأصمّ منهم الذي لا يعتد بخلافه، و كذا الخوارج، بل عن الخلاف دعوى إجماع الأمّة عليه!» «4».

بحوث فقهية هامة، ص: 212

د- و ذكر المرحوم المحقق المتتبع العاملي «رضوان الله عليه» صاحب كتاب «مفتاح الكرامة» قال: «و هي على العاقلة لا يضمن القاتل منها شيئاً إجماعاً معلوماً و أخباراً متواترة و بإجماع الأمّة و خلاف الأصم لا يعتد به كما في الخلاف و بلا خلاف إلّا من الأصم كما في الغنية، و مراده نفي الخلاف بين المسلمين» «1».

و من مجموع ما ذكر نقلا عن علماء الإسلام سنّة و شيعة، نستنتج أنّ هذه المسألة اتفاقية عند علماء الإسلام و إجماعية، و لم يخالف فيها

أحد من فقهاء الشيعة أو السنّة إلّا القليل ممن لا يعتدّ بخلافه «2».

بحوث فقهية هامة، ص: 213

و عليه فلا إشكال من وجهة نظر فقهاء الإسلام في هذا الحكم.

2- ضمان العاقلة حسب الروايات الفقهية

اشارة

و لقد وردت في هذه المسألة روايات كثيرة في كتب الشيعة و السنّة؛ حتى ادّعى بعض العلماء «1» أنّها متواترة «2».

و هذه الروايات تنقسم إلى طائفتين:

1- الرّوايات التي تدلّ صراحة على أنّ دية قتل الخطأ المحض، على العاقلة.

2- الرّوايات التي تذكر جزئيات مسألة العاقلة، و هي تدل على بحثنا بشكل غير مباشر.

و نشير هنا إلى خمس روايات من كل طائفة.

الطّائفة الأولى (الرّوايات الصّريحة):

1- روى سلمة بن كهيل- من خواص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)- قال «أُتي أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل قد قتل رجلا خطأً. فإن كان رجل منهم يرثه له سهم في الكتاب لا يحجبه عن ميراثه أحد من قرابته فألزمه الدّية، و خذه بها نجوماً في ثلاث سنين.»

«3».

بحوث فقهية هامة، ص: 214

2- روى صاحب كتاب الجعفريات عن علي (عليه السلام) قال «في النفس الدّية. و إذا كان خطأً جعلت الدّية. على العاقلة»

«1». 3- روى صاحب كتاب «دعائم الإسلام» عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)

«أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قضى في قتل الخطأ بالدّية على العاقلة، و قال: تؤدّي في ثلاث سنين، في كل سنّة ثلث»

«2». 4- و روى أيضاً في رواية أخرى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال «ليس على العاقلة دية العمد، و إنّما عليهم دية الخطأ»

«3». 5- يقول الشافعي و هو أحد الأئمة الأربعة عند أهل العامة: وجدنا عاماً في أهل العلم و هي: «أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) قضى في جناية الحرّ المسلم على الحر خطأ بمائه من الإبل على عاقلة الجاني» «4».

و الحاصل، أنّ هذه الروايات الخمس- و هي جزء من كثير- صريحة في الدّلالة على أنّ دية قتل الخطأ المحض على العاقلة.

الطّائفة الثّانية (و هي الرّوايات الدالّة بشكل غير مباشر):

1- روى أبو بصير- و هو أحد أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام)- عن الباقر (عليه السلام) قال «لا تضمن العاقلة عمداً و لا إقراراً و لا صلحاً»

«5». 2- روى أبو مريم عن الباقر (عليه السلام) قال «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن لا يُحمل على بحوث فقهية هامة، ص: 215

العاقلة إلّا الموضحة «1» فصاعداً»

«2». 3- روى زيد بن علي بن الحسين

(عليه السلام) عن أجداده أنّهم قالوا

«لا تعقل العاقلة إلّا ما قامت عليه البيّنة»

«3». 4- روى في دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «إذا أقرّ الرّجل بقتل خطأ و جراحة فعليه الدّية من ماله في ثلاث سنين، فإن شهد شهود أنّ قتله خطأ فقد صدّقوه و الدّية على عاقلته»

«4». 5- روى محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجعل جناية المعتوه على عاقلته خطأً كان أو عمداً»

«5». و خلاصة ما يستفاد من هذه الروايات الخمسة- و هي نماذج لكثير من الروايات الأخرى- هو أنّ أصل ضمان العاقلة كان واضحاً عند أصحاب الأئمّة (عليهم السلام)، و لذا نجدهم يسألون عن تفاصيل و جزئيات هذه المسألة، فيجيبهم الأئمة (عليهم السلام) على ذلك.

و النّتيجة هي أنّنا نستفيد مطلبين من الرّوايات العشر السّابقة:

1- إنّ العاقلة ضامنة لدية قتل الخطأ المحض.

2- إنّ ضمان العاقلة مشروط بشروط خاصة و ليس مطلقاً، فمثلا في صورة إقرار القاتل بالقتل، أو صورة المصالحة و. لا تضمن العاقلة الدّية.

3- وجه تسمية العاقلة

ورد في كلمات فقهاء الإسلام الكبار بيان عدّة علل لتسمية أقرباء القاتل الرجال لأبيه باسم «العاقلة» منها:

1- يعتقد البعض أنّ كلمة (العاقلة) مأخوذة من (العقل)، و العقل في الأصل بمعنى «المنع»، أي كما أنّ عقل الإنسان يمنعه من ارتكاب المخالفات، فالعاقلة أيضاً تمنع الجاني من تكرار ارتكاب هذا النوع من الخطأ، و تنصحه بالاحتياط و التحفّظ، و لذا سميت العاقلة بالعاقلة «1».

قد يقال: إنّ حكم العاقلة يرتبط بقتل الخطأ، و في قتل الخطأ كما هو واضح لم يرتكب القاتل ما يخالف الاحتياط، فإنّ الحادثة وقعت صدفة، و عليه فالحكمة المذكورة غير صحيحة هنا، لأنّ القاتل لم يتعمد

المخالفة حتى يُلام و ينصح بعدم التّكرار.

فنقول في الجواب: صحيح أنّ قتل الخطأ المحض يقع صدفةً، و لكن الكثير من المخالفات و الجنايات غير العمدية تقع نتيجة لعدم الدقّة و عدم الاحتياط، فالفلسفة المذكورة صحيحة، و هي تحدّ من وقوع مثل هذه الجنايات، و المراد منها بالضّبط هو دعوة الأفراد للتّدبّر و التّأنّي في مثل هذه الموارد.

2- يقول البعض: إنّ التّسمية مأخوذة من «عقال»، و هو ما تربط به الإبل، و ذلك أنّ الناس سابقاً في بعض البوادي كانوا يأتون بمائة بعير و يعقلونها عند أولياء دم المقتول خطأً، و من هنا سمي أقرباء القاتل بالعاقلة «2».

3- و يعتقد البعض الآخر أنّ سبب التسمية بالعاقلة لأنّ أقرباء القاتل يعقلون بحوث فقهية هامة، ص: 217

ألسنة اللائمين، و ذلك لأنهم بدفعهم الدّية يمنعون أولياء دم المقتول من توجيه اللوم و الشماتة لهم «1».

4- النّظرية الرّابعة مأخوذة من كلمات بعض الفقهاء و اللغويين و هي أنّ رجلا في الجاهلية، لو قتل آخر، دافعت قبيلة القاتل عنه، و منعت قبيلة المقتول من الانتقام، بلا فرق في أن يكون القاتل ظالماً متعمداً أو كان قتله خطأً و صدفة.

و عند ما جاء الإسلام، ألغى مثل هذا التعصّب الجائر «2»، و أعلن أنّ حماية القبيلة لأفرادها حسن، و لكن ليس مطلقاً، و إنما يحق لهم حماية القاتل فيما لو كان القتل خطأً محضاً، و ذلك عن طريق دفع دية المقتول.

و عليه، سميت العاقلة عاقلة لأنّها تمنع قبيلة المقتول من الانتقام الجائر.

و ينبغي الالتفات إلى هذه النّكتة، و هي أنّه في بحث التسمية و بيان عللها، لا يشترط أن يكون هناك ارتباط تامّ بينهما كالارتباط الحاصل بين العلّة و المعلول، أي ارتباطاً حقيقيا

تكوينياً، بل يكفي أن يكون الارتباط معقولا. (تأملوا جيداً).

4- هل يمكن الوقوف على فلسفة الأحكام؟

إنّ علم الإنسان محدود، و يشهد له قوله تعالى (وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) «3».

بحوث فقهية هامة، ص: 218

و الرّواية الشّريفة

«لا شي ء أبعد عن عقول الرجال من دين الله»

«1» تدل على أنّ عقله أيضاً محدود. و هل يمكن بهذا العلم و العقل المحدودين درك فلسفة الأحكام الإلهية؟ و على فرض إمكان ذلك، هل يجوز لنا أن نخطو في هذا الوادي؟ للإجابة عن هذا السّؤال لا بدّ من مراجعة القرآن الكريم، و الروايات، و سيرة المعصومين (عليهم السلام)، و من خلال مراجعة القرآن و السنّة يمكننا استنباط دليلين على الجواز، و هما:

1- لقد أشار القرآن و الرّوايات الإسلاميّة إلى فلسفة بعض الأحكام الشرعية، فمثلا نجد أنّ القرآن الكريم يرى أنّ فلسفة الصلاة هي تنزيه المصلي عن الفحشاء و المنكر «2» و أنّ حكمة الصوم هي الوصول إلى تقوى الله «3»، و أنّ علّة تشريع الزّكاة تطهير و تزكية معطي الزّكاة «4»، و بيان كل واحدة من هذه العلل يحتاج إلى إيضاح و تفصيل، و في الروايات بيان أوسع لفلسفة بعض الأحكام، حتى صنفت كتب في هذا المجال «5»، و هذا بمثابة ضوء أخضر لجواز الدخول في هذا المضار.

2- الدّليل الثاني هو سيرة المعصومين (عليهم السلام)، فعند ما يسأل الإمام عن علل الأحكام، نجد أنّه لا يمتنع عن بيانها، فلو أنّ هذا الأمر كان محظوراً لما أقدم عليه الأئمّة (عليهم السلام)، و سيرتهم حجّة.

و بناءً على هذين الدّليلين، يحقّ لنا أن نبحث عن فلسفة الأحكام الشرعية، و يمكن الوصول إلى حكمتها.

بحوث فقهية هامة، ص: 219

و لكن ينبغي الالتفاف إلى أنّ الأحكام الشّرعية من جهة بيان فلسفتها

تنقسم إلى أربعة أقسام:

1- أحكام شرعية لها فلسفة واضحة، و يمكن اعتبارها من المستقلات العقلية «1»، كتحريم السرقة، و الكذب، و الغيبة، و ظلم الآخرين، و غيرها من الأمور التي يمكن للعقل البشري أن يدرك أنّها نوع من الظلم، و قبح الظلم من المستقلات العقلية.

2- الأحكام الشّرعية التي لا تعتبر فلسفتها من المستقلات العقلية، فهي فلسفة غير بيّنة، إلّا أنّ القرآن الكريم و الروايات هي التي تكفّلت إبداء فلسفتها، و هذه الأحكام كثيرة، مثل فلسفة الصلاة و الزكاة و الصوم.

3- الأحكام الشّرعية التي ليست فلسفتها من المستقلات العقلية، و ليست من الأحكام التي بيّن القرآن أو الروايات فلسفتها، و لكن على أثر مرور الزمان و تقدم العلم اتضحت لنا فلسفة و حكمة تشريعها، مثل فلسفة حرمة أكل لحم الخنزير التي توصل العلم اليوم إلى اكتشاف فلسفة تحريمه.

4- الأحكام الشرعية التي لم تتضح فلسفتها بأي من الطرق الثّلاثة السّابقة، مثل عدد ركعات الصلاة، مقادير سهام الإرث، نصاب الزكاة، مقادير الديات و غيرها من الأحكام التي لم نتوصل لحدّ الآن إلى معرفة فلسفتها، و النّتيجة هي أنّ الأحكام الشرعية أربعة أقسام، ثلاثة منها يمكن التّعرف على فلسفتها، و يحقّ لنا البحث فيها، و أمّا القسم الرابع فلا يمكن الوقوف على فلسفته «2».

بحوث فقهية هامة، ص: 220

(سؤال:) يقول البعض: «ما لم نعلم بحكمة و فلسفة الأحكام لا ينبغي أن نعمل بها، بل نعمل بالأحكام التي ندرك حكمتها فقط!»، فهل هذا منطق صحيح؟

(الجواب:) من خلال ما ذكرناه في بيان التّصنيف الرّباعي للأحكام يتضح لنا أنّ هذه الرّؤية غارقة في الوهم، إذ لا يمكننا إلّا التعرف على فلسفة بعض الأحكام، لأن علمنا و عقلنا محدود، و بالعلم و العقل المحدودين

لا يمكن كشف القناع عن أسرار أحكام الله الذي لا حدّ لعلمه.

و عليه، لا بدّ من العمل بكل الأحكام الإلهية، سواءً علمنا فلسفتها، أو لم نعلم، كما أنّ على المريض أن يعمل بكل توصيات الطبيب، سواء عرف الحكمة فيها، أو لم يعرف.

فإذا كان الإنسان يُسلّم تسليماً مطلقاً لطبيب من نوعه، فالأولى به أن يُسلّم تسليماً مطلقاً لخالقه، فيعمل بأحكامه بدون مناقشة، كالمريض الذي ليس له حق مناقشة طبيبه فيما يوصيه به من الأدوية، فإنه إمّا أن يتعلم الطب و يصير طبيباً، و إمّا أن يهلك نتيجة لعناده، إذ لا يمكن الوقوف على فلسفة التّوصيات الطّبية بدون تحصيل العلم الكافي في الطب.

5- ما هي الفائدة في معرفة فلسفة الأحكام الإلهية؟

و هنا يُطرح سؤال آخر و هو: إذا آمن الإنسان المسلم، بالله تعالى و النّبي الأكرم (صلى الله عليه و آله) و الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، أي آمن بالمنظومة العقائدية و عَلِمَ أنّ هذه بحوث فقهية هامة، ص: 221

الأحكام هي من الله، فما هي ضرورة التعرف على فلسفة تلك الأحكام، أ لا يعتبر البحث عن فلسفة و حكمة الأحكام دليلا على ضعف الإيمان؟

الجواب: لمعرفة فلسفة الأحكام- في حالات الإمكان- فوائد ثلاث هي:

أ- معرفة فلسفة الأحكام يزيد اطمئنان المسلم بحكمة الله تعالى، و عمق و أصالة الشرع الإسلامي.

فالمسلم بعد أكثر من 1400 سنة من تشريع القانون الإسلامي، يرى بأنّ العلم في العصر الحديث مع سرعته و تقدمه يخضع ذلك التشريع الإلهي، و لا يمكن له إلّا الاعتراف به، و يوصي النّاس بالعمل به، و هذا يزيد من إيمان المسلم بحكمة خالقه و ربّه! ب- إنّ معرفة فلسفة الأحكام الشّرعية يسهّل على الإنسان المسلم إطاعة الأوامر و النّواهي، و يدفعه إلى الامتثال بشوق و رغبة، فمثلا

لو أنّ مسلماً توجه لأداء فريضة الحج، و كان يعرف فلسفة هذه العبادة- التي تجب على المسلم مرّة واحدة في العمر عند الاستطاعة- و بركاتها و آثارها المختلفة، فإنه سيتحمل صعوبات هذه العبادة بكل رحابة صدر و رغبة، بالضبط كما لو علم المريض بفوائد الدواء، فإنه سيتحمل مرارة ذلك الدّواء و يشربه بشوق وفقاً للبرامج المقرّرة.

ج- الفائدة الثّالثة لمعرفة فلسفة الأحكام، هو أنها تجعل المسلم يشعر بفقره و احتياجه لهذا التشريع الإلهي دون أن يكون فيه غرض آخر، و تكرّس في وعيه بأن كل هذه الأحكام إنّما هي لمصلحته و تحقق سعادته، كما أنه لو لم يعمل بها أحد فإنّ ذلك لن ينقص من ساحة كبريائه عزّ و جلّ (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

6- فلسفة الأحكام خاضعة لمصلحة الأكثر، لا الكل

كانت حصيلة البحوث السابقة، أوّلا: إمكان معرفة فلسفة قسم معتدٍّ به من الأحكام، و ثانياً: أنّ معرفة فلسفة الأحكام ليست عديمة النّفع و الجدوى، بل هي مفيدة جداً و مربّية.

و الآن ننتقل إلى النقطة الثالثة، و هي أنّ فلسفة ذلك القسم من الأحكام التي تقع في مدار المعرفة البشرية لا تكون شاملة و عامّة لمختلف الأفراد. و في جميع الظّروف و المتغيّرات، بل هي مبتنية على أساس مصلحة الأكثرية من الناس و هي جارية في الغالب من الأفراد لا الكل.

و توضيح ذلك هو: أنّ فلسفة أيّ حكم من الأحكام لا تكون متجانسة مع خصوصيات كل الأفراد، كما أنّها ليست منسجمة مع خصوصيات الفرد الواحد على الدّوام و في كل الحالات، و بتعبير آخر، ليس فيها عمومية إفرادية، و لا عمومية حالاتية، بل هي مبتنية على أساس أغلب الحالات و أغلب الأفراد.

و لكن هذا الأمر لا يقدح بعمومية الحكم، أي أنّ هذا

الحكم يجب أن يطبّق حتى على الأفراد و الحالات الفاقدة لتلك الفلسفة و الحكمة. و لا فرق في هذه المسألة بين الأحكام الشرعية و المقررات و القوانين الاجتماعية.

و لمزيد من التوضيح إليك الأمثلة التالية:

1- من قوانين شرطة المرور أنّه يمنع مرور السّيارات إلّا من جهة واحدة في بعض الشوارع.

و فلسفة ذلك هي الحدّ من حوادث المرور و تخفيف الزحام، و لكن هذه الفلسفة قد لا تصدق لكل الأفراد و في كل الحالات، نعم هي صادقة في الأعم الأغلب من الأفراد و الحالات، و لكن القانون لا بدّ أن يطبّق على الجميع.

بحوث فقهية هامة، ص: 223

فلو أنّ سائقاً كان على درجة عالية من المهارة و الانتباه بحيث يمكنه السّير في الاتجاه المعاكس في تلك الشّوارع بدون أن يتسبب في حادثة أو يعرقل المرور، ففلسفة ذلك القانون غير صادقة في حقّه، و مع ذلك لا يجوز له أن يخالف القانون، و لو فعل ذلك عوقب من قبل السلطات المختصة.

و هكذا مثال هذا القانون من قوانين المرور و السياقة كمنع اجتياز التّقاطعات في حالة الضوء الأحمر، و التوقف في الأماكن التي يمنع التّوقف فيها و.

(سؤال:) إذا لم تكن فلسفة الأحكام دائمية و شاملة، فلما ذا أضحت نفس الأحكام دائمية و شاملة؟ ففي المثال السابق لما ذا لا يكون مرور الأشخاص الذين يمكن أن يؤدي مرورهم من تلك الشوارع إلى حدوث حوادث و اصطدامات أو يؤدي إلى عرقلة السير، ممنوعاً، و يكون مسموحاً للآخرين؟

و الإجابة على هذا السّؤال جليّة، فإن القانون إذا لم يكن عاماً و شاملا، كان ضعيفاً و مضطرباً، و لا يمكن تطبيقه بالمرّة، إذ إنّ كل شخص حينئذ سيدعي أنّه مستثنى من ذلك القانون و لذا

ينبغي أن تكون صياغة القانون بشكل يوفّر له الشمولية على الرغم من كون فلسفة هذا القانون تابعة للأعم الأغلب لا للكل.

2- يعتبر اعتداد المرأة بعد طلاقها أحد القوانين الإسلامية، و من فلسفة هذا الحكم هو معرفة ما إذا كانت الزوجة قد حملت من زوجها السابق، فلا تضيع الأنساب و إلّا فقد يتداخل النسب و يشكل معرفة ذلك فيما لو تزوجت المرأة مباشرة بعد طلاقها ثم حملت، فلا يعلم من هو أب الولد هل هو الزوج الأول، أو الثاني؟ فهذه جزأين فلسفة الاعتداد، و لكن هذه الفلسفة قد لا تصدق في حقّ بعض النّساء، كالنّساء العقيمات اللائي نعلم بعدم إنجابهنّ، و مع ذلك فإنّ الاعتداد واجب عليهن في حال طلاقهنّ.

بحوث فقهية هامة، ص: 224

كما أنه يمكن أن لا يكون لهذا الغرض موردٌ في نساء أخريات في بعض الحالات، و مع ذلك يجب عليهنّ الاعتداد، و لكي لا يكون ذلك حجّة للفرار من الاعتداد و أن يقول كل شخص: إني أعلم بأنّ تلك المرأة ليست بحامل.

3- المثال الثّالث، مسألة أسهم الإرث لكل من الذكر و الأنثى- التي يتوجّه بالاعتراض إليها اليوم بعض الناس، و حتى بعض الهيئات الدولية و أثاروا حولها ضجّة دون أن يلتفتوا إلى فلسفتها- و علّة كون سهم الذكر ضعف سهم الأنثى هو أنّ النفقة تكون على عاتق الرّجل و ليست على المرأة مسئولية الإعاشة في الأسرة.

و لكن هذه الفلسفة أيضاً ليست متحققة دائماً و إنما، هي غالبة و مع ذلك فالقانون كلي و يجب تطبيقه في كل الأحوال و الموارد؛ فالطفل الصغير لا يتعهد بشي ء من النفقة على عائلته، و مع ذلك فهو مشمول لهذا الحكم، و كذا لو كبر ربّ الأسرة و

عجز عن العمل فأخذت زوجته تعمل و تصرف عليه، فإنّها مع ذلك لا تستثنى من هذا الحكم مع أنّ فلسفة الإرث مفقودة هنا.

و من الواضح أنّ الأحكام لو خضعت لمثل هذه المتغيّرات لنشب الجدل العقيم بين النّساء و الرجال فلا ينقطع أبداً.

4- الإسلام يحكم بأن دية المرأة نصف دية الرّجل، أي لو قتل رجل و حكم على القاتل بدفع الدّية، وجب عليه أن يدفع ألف دينار ذهب إلى أولياء المقتول، أما إذا كان المقتول امرأة وجب عليه دفع خمسمائة دينار ذهب فقط.

و فلسفة هذا الحكم أنّ الدّية ليست ثمناً للدم إذ أنّ دم الإنسان لا يقيم بثمن، و إنّما الدّية شرعت لتعويض الخسارة النّاشئة من فقدان القتيل، و من المسلّم أنّ الخلل الاقتصادي و الخسارة المادية النّاشئة من فقد الرّجل أكبر من الفراغ النّاشئ من فقد المرأة من جهة مدلولاته الاقتصادية على العائلة، و لذا كانت دية الرّجل ضعف دية المرأة. و لكن هذه الفلسفة قد لا تكون متحققة دائماً بل أخذت فيهما جهة الأغلبية

بحوث فقهية هامة، ص: 225

فمثلا لو كان المقتول طفلا فلا تصدق هذه الغاية عليه، و مع ذلك فالحكم ثابت و لا يتغيّر بارتباك بعض الموارد.

و لو كان الفراغ الحاصل من فقد المرأة أكبر من الفراغ الاقتصادي الحاصل من فقد الرّجل في بعض الأسر، فالقانون يبقى عاماً و شاملًا لمثل هذه الموارد مع أنّ الغاية غير متحققة ظاهراً.

و النّتيجة، هي أنّ الحكم الشرعي و القانون الإلهي عام من حيث التطبيق، و أمّا فلسفة الحكم فهي مبتنية على الأعم الأغلب.

و بالالتفات إلى هذه النكتة تتضح الكثير من الإشكالات التي يثيرها البعض حول الأحكام الإسلامية.

7- ضمان العاقلة

اشارة

بعد توضيح النكات الستة، نعود إلى أصل المسألة، لنجيب

على السّؤال المطروح في ضمان العاقلة.

و الحقيقة، أنّ هناك إشكالين و شبهتين: إحداهما مستندة إلى آيات القرآن الكريم، و الثانية إلى الدّليل العقلي.

أمّا فيما يرتبط بالآيات الشّريفة، فقوله تعالى (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى *، فإنّ كلمة «الوزر» و مشتقاتها تكررت في القرآن الكريم أكثر من عشرة مرات «1»، و استعملت غالباً فيما يرتبط بعالم الآخرة، و على أية حال فالآية الشريفة ترتبط بالجزاء و العقاب الأخروي لا الضمان، فالمراد أنّ أحداً لا يعاقب و يجازى بدلا عن بحوث فقهية هامة، ص: 226

الآخر، لا أنه لا يضمن الآخر في بعض الموارد و ظلّ بعض الظروف الخاصة، و بالتوضيح الآتي يتبين لنا هذا المعنى، و تتبيّن لنا أيضاً الجهة العقلية في المسألة

العاقلة نوع من التّأمين العائلي

يعتبر التأمين في الوقت الراهن مسألة مقبولة، معقولة، مشروعة في كل المجتمعات، و فلسفة التأمين هي حفظ الأشخاص و المؤسسات أو الشركات الصغيرة و الكبيرة من خطر التلاشي و الاضمحلال حال تعرضها لبعض الحوادث، لأنّ الخسارة لو نزلت بشخص واحد أو شركة واحدة فإنّها قد تسبب له كإرثه، أمّا لو قسمت تلك الخسارة، أمكن تحملها.

فمثلا لو شبّ حريق في بيت شخص، و لم يكن البيت مؤمّناً عليه في شركات التأمين، فإنّ صاحب البيت سيتضرر كثيراً فيما إذا تحمل خسارة ذلك بمفرده، و قد يؤدي ذلك إلى إفلاسه نهائياً.

و كذا لو غرقت سفينة نفط، أو بأخرة نقل، و لم تكن الشركة المالكة للسفينة قد آمنت عليها في شركات التأمين، فإنه يُعرّض أن تتعرض تلك الشركة للإفلاس فيما لو تحملت تلك الخسارة بمفردها.

أمّا في صورة التعاقد مع شركة التأمين في مثل هذه الموارد و غيرها، فإنّ أصحاب تلك المنافع سيتمكنون أوّلا مواصلة نشاطهم باطمئنان. كما

أنّ شركات التأمين ستتحمل عنهم القسم الأعظم من الخسارة. أ لا يعتبر هذا الأمر مقبولًا و عقلائياً و عادلًا؟ هل يتنافى هذا الأمر مع الآية الشريفة (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى *؟

و الآن، لو فرضنا أنّ حكومة من الحكومات أجبرت الناس الذين لا يعرفون فوائد التأمين و فلسفته، على إجراء عقود التأمين مع الشركات المختصة، لتقف تلك الشركات إلى جانبهم حال حدوث بعض الأحداث و الكوارث، فهل يجوز ذلك؟

بحوث فقهية هامة، ص: 227

و مسألة ضمان العاقلة في الواقع نوع تأمين، تأمين عائلي إلزامي من قبل الشارع الإسلامي المقدس، لأنّ قتل الخطأ المحض محتمل دائماً في حق كل إنسان، و لما كانت دية القتل تثقل كأهل الإنسان بمفرده، و ليس كل الناس بإمكانهم تحمل ذلك بسهولة، دعي الإسلام أقرباء القاتل في هذه الموارد لإعانة صاحبهم بشرطين، الأوّل، أن يكونوا أقرباءه لأبيه، و الثّاني: أن يكونوا رجالا، فأوجب عليهم تحمّل الدّية.

و من البديهي أن هذه الحادثة التي أصابت بها هذا الشخص اليوم يمكن أن يبتلى بها غداً أحد أفراد العاقلة- الذي يتحمل اليوم قسطاً من الدّيّة.

و عليه فمسألة ضمان العاقلة تشبه مسألة التأمين، و لكنه تأمين عائلي، و هي أمر معقول.

8- الأشكال الأخرى للعاقلة في المجتمع

هناك ما يشبه العاقلة في المجتمع بأشكال أخرى، و هي من الأمور الرائجة بين الناس اليوم، و الكل يستحسن ذلك و لا يقبل إليه.

مثلا في مراسم الزواج، فالمعتاد أن يهدي الناس الهدايا إلى العروسين اللذين يريدان أن يبدءا حياتهما من الصفر، و هذا الأمر له أشكال تختلف باختلاف المجتمعات و الطوائف، ففي بعضها تقدم الأموال بدل الهدايا العينية، و يتم ذلك في مجلس العرس من قبل الحاضرين كل حسب طاقته، و قد يصل مقدار تلك

الهدايا أحياناً إلى مبلغ ضخم لا يسدّ مصارف العرس فحسب، بل يكفي كرأسمال لبداية عمل و حياة جديدة.! و في بعض المناطق، اعتاد الناس المشاركة في مراسم العزاء و إقامة مجالس الترحيم، و هي سنّة حسنة، فكل من يشترك في مراسم الترحيم يتبرع بشي ء من بحوث فقهية هامة، ص: 228

النقود لصاحب العزاء لتخفيف هذا العب ء المالي عليه، و يتمكن من القيام بواجباته بسهولة.

و صاحب العزاء نفسه سيشترك في مجالس الآخرين و يساهم بدوره في التّخفيف عن كأهل أولئك المصابين، فهو تكافل و تعاون اجتماعي حسن.

و هذا العمل المشار إليه في المثالين أعلاه، يعتبر نوعاً من التأمين الاجتماعي، و هو شبيه في الواقع بضمان العاقلة، أي في الحوادث الباهظة التكاليف- و من أي نوع كانت و بأي صورة- يتعاون أفراد العائلة مع بعضهم البعض و يأخذ بعضهم بيد البعض الآخر لحل المشاكل.

9- حدود ضمان العاقلة

لا بدّ من الالتفات إلى أنّ ضمان العاقلة لا يجري في كل الموارد و الحالات، و إنّما تضمن العاقلة دية قتل الخطأ المحض فقط (و قد بيّنا سابقاً توضيح معنى قتل الخطأ)، و النقطة الأخرى التي لا بدّ من التذكير عليها، هي أنّ ضمان العاقلة إنّما يجري فيما لو ثبتت الجناية بالبيّنة الشرعية لا بالإقرار، إذ من الممكن أن يتآمر شخص مع قاتل ما، بأن يأخذ الأول مسئولية القتل على عاتقه ليجبر عاقلته على دفع الدّية على أن يعطيه الثاني مبلغاً من المال! فالاقرار لا يكفي لإثبات هذا الحكم. كما أنّ علم القاضي بالقتل لا يكفي لإثبات الدّية على العاقلة، بل لا بدّ من أن تثبت الجناية بالبيّنة الشرعية.

و النقطة الثالثة، هي أنّ العاقلة إنّما تضمن الدّية فيما لو كانت مستطيعة و قادرة على

دفعها، و عليه فالحكم بالدّية هنا ليس تكليفاً شاقاً لا يطاق.

و النقطة الرابعة، هي أنّ الدّية تقسّم على الأفراد جميعاً، بحيث يكون سهم الواحد منهم أحياناً ديناراً واحداً فقط.

بحوث فقهية هامة، ص: 229

و الحاصل، هو أنّ ضمان العاقلة إنّما يتم و يجري في حدود معينة و له ضوابط محددة، و ليس حكماً مطلقاً في كل الموارد و الحالات، و فلسفة ضمان العاقلة واضحة في تلك الحدود.

و ينبغي الالتفات هنا إلى نقطة أخرى، و هي أنه لو فرض أنّ شركة تأمين معينة، أو جهة ضامنة عامة تكفلت بدفع دية قتل الخطأ في بعض الموارد أو كلّها، سقطت الدّية عن العاقلة، و هذا طريق ميسور لمن يريد التخلص في عصرنا الحاضر من دية العاقلة.

10- خلاصة البحث

من مجموع الأبحاث السابقة يمكن استخلاص ما يلي:

1- إنّ مسألة ضمان العاقلة في حالات قتل الخطأ المحض مسألة مجمع و متفق عليها من قبل كل علماء الإسلام و لا تختص بمذهب دون آخر.

2- إنّ الرّوايات المتواترة الإسلامية- سنّية و شيعية- تدلّ على هذا الأمر بوضوح.

3- إنّ لضمان العاقلة فلسفة واضحة و معقولة، و هي تنسجم مع العرف و العقل.

و حينئذ قد يتسائل و يقول: مع كل هذا الوضوح في الأدلة التي تعتقدون بصحتها.

إذاً، لما ذا أنكر البعض مثل هذه المسألة الواضحة؟! و جواب ذلك مع الاعتذار الشديد، هو: أنّ تطفّل بعض الأشخاص غير المتخصصين على الفقه لا يخلو من خلفيات سلبية، أحدها هذا الأمر.

فللأسف الشديد، نحن نرى اليوم أنّ بعض الناس يسمح لنفسه التدخل في أصعب المسائل الشرعية مع قلّة إباعه الفلسفي و الفقهي و الكلامي، بل و يؤدي ذلك إلى رأيه أداة التهجم و الافتراء، مما يسبب إلى ظهور المشاكل الاجتماعية العويصة!

بحوث

فقهية هامة، ص: 230

و بطبيعة الحال، فإنّ مثل هذا السّلوك السّلبي قد يكون مفيداً أحياناً، فإنّ مثل هذه المسائل ستتضح أكثر فأكثر على أثر إجابة المحققين على الإشكالات المطروحة.

و لكن مع ذلك، الأفضل أن لا يتدخل في مثل هذه الموضوعات المعقدة و الصعبة إلّا أهل الخبرة من المحققين و المتخصصين في المسائل الشّرعية (مع إعطاء حق السؤال و الاستفهام للجميع)، بالضبط كما أنّ المسائل الطبية خاصة بالأطباء المحققين، و إن جاز للجميع السؤال عنها للاطلاع.

و في الختام، نطلب من الله عزّ و جلّ أن يزيدنا بصيرة و معرفة بالأحكام و المعارف الإسلامية، و يوفقنا للعمل بقوانين الدين الإسلامي المقدس. آمين يا رب العالمين.

9- المسائل المستحدثة في الفقه الإسلامي

اشارة

(المسائل المستحدثة في الفقه الإسلامي) أنّ النمط المعهود و المتعارف في بحث المسائل المستحدثة إنّما يكون بالرجوع إلى أدلّة كلّ مسألة على حدة كغيرها من المباحث الفقهية. إلّا أنّ الجديد في هذا المقال هو الأطروحة المحكمة التي قدّمها الباحث- دام ظلّه- في لمّه لشعث هذه الفروع و صبّها في قوالب عامة و إرجاعها إلى الأصول و الأسس الكلّية. ليتم على ضوئها معالجة الكثير من تلك المسائل. و إنّها بحقّ لخطوة كبير في حركة النهوض الفقهي. و مبادرة تأسيسيّة موفّقة في سبيل تفعيل الاستنباط. إن شاء الله تعالى.

تمهيد

اشارة

قبل الورود في بحث المسائل المستحدثة بصورة مفصّلة نذكر مقدمتين نافعتين:

أولاهما: في تعريف المسائل المستحدثة، و بيان الحاجة إليها، و عرض نماذج لها في أنواع مختلفة.

و الثانية: في بيان الأسس العامّة للمسائل المستحدثة.

[المقدمة الأولى و هي تشمل- كما ذكرنا- على ثلاثة أبحاث:

1- تعريف المسائل المستحدثة:

المسائل المستحدثة: هي كلّ موضوع جديد يتطلب حكماً شرعياً سواء لم يكن في السابق أو كان سابقاً لكن تغيّر بعض قيوده.

بحوث فقهية هامة، ص: 234

فالأول من قبيل النقود الاعتبارية التي لم تكن قبل، و الثاني من قبيل اعتبار المالية لبعض الأعيان النجسة هذا الزمان و لم تكن لها مالية في الماضي كالدم.

2- الحاجة إلى بحث هذه المسائل:
اشارة

و توضيح ذلك يكون ببيان أمرين:

الأمر الأوّل- أنّ من خصائص عالم المادة التغيّر الدائم و التحوّل المستمر

، بل التغيّر- باعتقاد كثير من الفلاسفة و الحكماء- من اللوازم الذاتية للمادة لا ينفكّ عنها بحال من الأحوال، و بما أنّ الإنسان يعيش في هذا العالم المادي، فمن الطبيعي أن يطال هذا التغيّر كلّ مظاهر الحياة الإنسانية على صعيد شكل و نمط و وسائل المعيشة، و كذلك على صعيد العلاقات الجديدة سواء كانت بين الأفراد أو ما بين المجتمعات و الدول. و هذا ما جعل الفقه يواجه ظاهرتين جديدتين:

الأولى: حدوث موضوعات جديدة للأحكام الشرعية لم تكن من قبل، كما هو الحال بالنسبة إلى الأوراق النقدية، فإنّه أمر حادث نسبياً، حيث كان المتعارف في سابق الأيام هو التعامل بالدينار و الدرهم- أي الذهب و الفضة المسكوكين- و لكن تطوّر الحياة و اتساع حاجات البشر أوجب اعتبار الأوراق النقدية.

الثانية: ثمة موضوعات كانت موجودة في الماضي إلّا أنّه طرأ عليها من الأحوال و الظروف ما غيّر من قيودها، كما يلاحظ ذلك في الأعيان النجسة التي لم تكن لها قيمة و مالية في السابق، غير أنّ التطوّر الذي حدث في العلوم الطبية و اكتشاف منافع كبيرة لبعض الأعيان النجسة كالدم و أجزاء الميتة أوجب أن يكون لها مالية في نظر العقلاء، فإنّه يُبذل اليوم بإزائها المال الكثير.

و عليه، فإنّ الفقيه لا بدّ له من تبيين الحكم الشرعي في كلتا الحالتين، و لا يقتصر في البحث و الفتيا على خصوص ما هو متعارف من المسائل المسطورة

بحوث فقهية هامة، ص: 235

في كتب فقهائنا القدماء (قدس سرهم).

الأمر الثاني- تمتاز شريعتنا الإسلامية- حسب ما نعتقد- بعدّة مميّزات

، منها العالمية و الاستمرار و الشمولية لكلّ جوانب الحياة، فهي لم تتأطّر بزمان و لا مكان معيّنين، و لا تختص بصنف من الناس و لا بخصوص قوم أو جنس، فإنّ رسول الله (صلى

الله عليه و آله) قد بُعث إلى الناس كافة و في شتى أقطار الأرض، عربيهم و أعجميهم، أبيضهم و أسودهم، شرقيهم و غربيهم، في أية بقعة وجدوا، و في أي زمان عاشوا، فدعوته (صلى الله عليه و آله) عامة للناس، و في الوقت ذاته أنّها تستوعب مختلف جوانب الحياة الإنسانية، و تقدّم الحلول لجميع معضلاتها.

و قد دلّ على ذلك- مضافاً إلى الدليل العقلي، و مضافاً إلى طبيعة الشريعة و قوانينها- النصوص الكثيرة، سيّما ما ورد في كتاب الله العزيز من الآيات الصريحة بذلك، و التي يمكن تصنيفها إلى ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: ما صرّح فيها بالعموم من حيث المكان، بل الزمان أيضاً، منها:

1- قوله تعالى- إشارة إلى القرآن المجيد- (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) «1».

2- قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) «2».

3- قوله تعالى (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) «3».

4- قوله تعالى (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) «4».

5- قوله تعالى (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) «5».

بحوث فقهية هامة، ص: 236

6- قوله تعالى (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً) «1».

7- بل جميع الآيات التي وقع الخطاب فيها بلفظ «يا أَيُّهَا النَّاسُ»*، و هي أكثر من عشر آيات.

فإنّ هذه الآيات شاملة لجميع آحاد الناس إلى يوم القيامة في مختلف أنحاء المعمورة من غير فرق بينهم من حيث اللون و الجنس و غير ذلك.

بل قد يقال: إنّها شاملة لمن يسكن سائر الكواكب من أهل السماوات لو كان لها سكّان كالبشر، كما عساه يظهر من بعض الآيات و الروايات التي ليس هنا موضع بحثها.

الطائفة الثانية: ما دلّ على خاتمية الرسالة الإسلامية و أنّه (صلى

الله عليه و آله) خاتم الأنبياء، و هذه الطائفة أوضح ممّا تقدّم في عمومها بالنسبة إلى عموم الزمان، من قبيل قوله تعالى (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ) «2».

الطائفة الثالثة: ما دلّ على كمال الدين و تمامية الشريعة و استيعابها لجميع الأحكام التي ينبغي أن تشرّع، نحو قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) «3».

و حاصل ضرب هذه الآيات بعضها في بعض هو أنّ الشريعة قادرة على تلبية حاجات البشر التشريعية و تغطية كلّ ساحة الحياة في أي مقطع زمني و في أية بقعة من أقطار الأرض سواء في المسائل العبادية و الروحية أو الأمور التربوية و الأخلاقية أو الحقوق الاقتصادية أو الحقوقية، و سواء تعلّقت بالفرد أو المجتمع أو الدولة.

بحوث فقهية هامة، ص: 237

و إلّا فإنّ عدم عرض إجابة كاملة و لو لواحدة من مسائل الحياة المعاصرة و معضلاتها يعدّ اعترافاً ضمنياً بعدم تمامية هذا الدين (و العياذ بالله).

إن قلت: إنّ عدم قدرتنا على تمييز بعض الأحكام الشرعية سيّما في الموضوعات المستحدثة لا يستلزم نسبة النقص إلى الشريعة، فإنّ عدم العثور على أحكام هذه الموضوعات من جملة العطايا الإلهية التي حرمنا منها على أثر غيبة الإمام المعصوم (عجل الله فرجه الشريف) و التي حصلت بسبب تقصير البشر أنفسهم، إذن فلا نقصان حينئذ في ذات الشريعة، بل النقص نشأ من قِبل الإنسان؛ لأنّه هو الذي أوجد المانع الذي حال دون وصوله إلى الحكم الشرعي.

قلت: هذا البيان إنّما يتم بالنسبة إلى الأحكام الواقعية و الألطاف الإلهية الخفية و الهدايات الربانية الخاصة.

أمّا بالنسبة إلى الأحكام الشرعية الظاهرية فلا؛ فإنّنا قد نعجز

عن الوصول إلى الحكم الواقعي إلّا أنّه لا مانع من الوصول إلى الحكم الظاهري، فلا أحد يقول بخلوّ واقعة منها، و لا نكاد نجد فقيهاً من الفقهاء في أي عصر من الأعصار يقول بعدم وجود حكم ظاهري- على الأقلّ- لواقعة و أنّ الناس بالنسبة إلى ذلك مطلقو أحرار و مخيّرون لا حكم لهم فليفعلوا ما شاءوا من دون مراجعة فقيه؛ إذ لا أحد يتفوّه بذلك قطعاً، و لا نرى أثراً من هذا في شي ء من كلمات و كتب الفقهاء من الأولين إلى الآخرين، بل إنَّ الأمر على العكس تماماً، فإنّهم يتصدّون دائماً للإفتاء عن كلّ ما يرد عليهم من الاستفسارات. هذا من ناحية.

و من ناحية أخرى، قد أمرنا في عصر الغيبة بالرجوع إلى الفقهاء و رواة الحديث، كما في التوقيع الشريف «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجتي عليكم و أنا

بحوث فقهية هامة، ص: 238

حجة الله»

«1»، فإنّه يدل بالمطابقة على لزوم الرجوع إلى الفقهاء في كلّ أمر حادث، و على الفقهاء أن يبيّنوا الحكم، و هذا معناه أن لا بدّ من وجود حكم لكي يرجع فيه إلى الفقهاء، و إلّا كان هذا الأمر لغواً.

إذا عرفت ذلك، فإنّنا نعلم بوجود مسائل مستحدثة كثيرة و في مختلف أبواب الفقه في عصرنا الراهن، و ليس شي ء منها منصوصاً بخصوصه في كتب الفقه؛ لأنّها لم تكن محلًّا للابتلاء آنذاك، و لم يرد فيها نصّ خاصّ في الكتاب العزيز، و لا في الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) فلا بدّ من بحثها و الوقوف فيها على الإجابة الصحيحة و المُقنعة.

3- نماذج من المسائل المستحدثة:
اشارة

أنّ المسائل المستحدثة كثيرة و متنوّعة، و يمكن تقسيم المهم منها إلى الأقسام التالية:

القسم الأول- ما يتعلّق بالطب:

1- التشريح: فهل يجوز لطلّاب الطب تشريح جسد المسلم إذا لم يوجد جسد غير مسلم؟ بل هل يجوز تشريح غير المسلم؟ فإنّه قد ورد أنّ «المثلة حرام و لو بالكلب العقور»

«2»، مع أنّه لو لم يتسنَّ لهم التشريح لم يقدروا على إجراء أنواع العمليات الطبيّة و الجراحيّة بل و لا معالجة كثير من المرضى، فإنّ ذلك مشكل جدّاً بدون ممارسة التشريح.

2- الترقيع: هل يجوز ترقيع الأعضاء من بدن الحي أو الميّت للحي نحو القلب بحوث فقهية هامة، ص: 239

و الكلى و العين؟ مع أنّ العضو المبان من الحي- كالعضو المبان من الميت- نجس، و لا تجوز الصلاة معه، و لا يصحّ بيعه، بل و لا يجوز أخذه من الميت! 3- التلقيح الصناعي: هل يجوز التلقيح الصناعي بأخذ النطفة من الزوج و جعلها في رحم زوجته أو رحم الأجنبية، أو جعل النطفة- المأخوذة من ماء الرجل و المرأة- في وعاء ثمّ زرعها في رحم الزوجة أو رحم الأجنبية، إلى غير ذلك من أقسامه؟ ثمّ ما هو حكم المتولّد منه- على تقدير تحققه- من حيث إلحاقه بصاحب النطفة أو صاحب الوعاء في الإرث؟ و ما هو حكم المحارم؟ و غير ذلك.

4- تزريق الدم: هل يجوز تزريق دم المسلم للكافر و بالعكس، أو دم المرأة للرجل و بالعكس؟ و هل يجوز بيع الدم لذلك؟ و لا يخفى ضرورته في يومنا هذا؛ إذ لولاه لتعذّر إنقاذ حياة العديد من المصابين و المرضى.

5- تحديد النسل: هل يجوز المنع عن تكثير النسل؟! مع ما هو المعروف من قوله (صلى الله عليه و آله): «

تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم

الأمم.

إلخ» «1»، و قوله تعالى- في مقام المنّة على العباد- (وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ) «2».

و هل يباهي (صلى الله عليه و آله) بالنسل الكثير الفقير الضعيف؟ أو إنّ الكثرة هنا فيها نظر للكيفية لا الكمية و حسب؟! ثمّ على فرض الجواز، هل يجوز التعقيم المؤقت أو الدائم، و وضع أداه خاصة في الفرج، مع أنّه قد يؤدي ذلك إلى وقوع النظر و اللمس من الأجنبي، و لو المرأة بالنسبة إلى المرأة، لا سيّما مع ما قد يقال من أنّ ذلك قد يكون من قبيل تضييع النطفة؛

بحوث فقهية هامة، ص: 240

لأنّ النطفة تنعقد هناك ثمّ تموت لعدم إمكان وصولها إلى محلها؟ و هل يجوز تعقيم الرجل أو المرأة مع ما فيه من نقصان العضو؟

6- هل يجوز أخذ القلب من إنسان مشرف على الموت و زرعه في بدن إنسان آخر لإنقاذه من الهلاك الحتمي، مع أنّ ذلك يؤدي لتسريع موت الأول؟ و هل يكفي رضا صاحبه أو أوليائه؟

7- هل يجوز إسقاط الجنين إذا كان بقاؤه يشكّل خطراً على حياة الأم أو على سلامتها؟ و لو فرض جوازه ففي أي وقت يجوز؟ فهل يجوز ذلك إذا كان بصورة العلقة أو المضغة أو الإنسان الكامل الذي فيه الحياة؟

8- هل يجوز إسقاط الجنين إذا علمنا بالطرق العلمية الحديثة بأنه سيولد ناقص الخلقة و يبقى موجوداً مزاحماً للآخرين إلى آخر عمره؟

9- هل يجوز تجميد الإنسان المصاب بأمراض غير قابلة للعلاج رجاء كشف طرق لمعالجته في المستقبل، كما هو المعروف في بعض البلاد؟ و ما هو حكم أمواله و زوجته و هو في هذه الحالة، فإنّه ليس له حياة ظاهرية و ما هو بميت واقعاً؟

10- قد يقال إنّ الزواج بين القرابة

القريبة يكون منشأ لبعض الأخطار بالنسبة إلى الولد باعتقاد الأطباء، فهل يكره مثل هذا الزواج حينئذ أو يحكم بحرمته، مع أنّ المعروف خلافه؟

القسم الثاني- ما يتعلّق بالعبادات:

11- كيف نصلّي و نصوم في المناطق القطبية التي يكون فيها كلّ من الليل و النهار ستة أشهر؛ أو يكون هناك أيام طويلة بمقدار الشهر أو الأسبوع أو أقل من ذلك؟

بحوث فقهية هامة، ص: 241

(و عدّ ذلك من المسائل المستحدثة إنّما هو من جهة عدم إمكان الوصول إلى تلك الأمكنة و السكن فيها سابقاً).

12- في الأسفار الفضائية كيف يصلّي المسلم، حيث لا يمكن تشخيص أوقات الصلاة، فلا صباح و لا مساء و لا ظهر و لا ليل و لا نهار؟ ثمّ كيف يواجه القبلة في الصلاة؟ و هكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام.

13- إذا سافر الإنسان بالطائرات السريعة باتجاه حركة الأرض فصلّى الظهر مثلًا ثمّ وصل إلى محل آخر لم يتحقّق فيه وقت الظهر بعد، فهل تجب عليه صلاة مرّة الظهر أخرى؟ و كذلك إذا صام شهر رمضان ثلاثين يوماً في محل- مثل مكّة- ثمّ سافر إلى محلٍّ آخر و كان يوم من الشهر باقياً، فهل يجب عليه صوم يوم آخر، فيكون الصوم الواجب عليه حينئذ واحداً و ثلاثين يوماً؟ و هكذا لو نذر إنسان صيام يوم الغدير مثلًا فصامه ثمّ جاء إلى محل آخر يتأخر الشهر عنه بيوم فصادف الغدير، فهل يجب عليه صومه مرّة أخرى؟

14- هل يجوز للصائم استعمال المواد الغذائية أو الأدوية المقوّية عن طريق تزريقها بالبدن؟

15- هل يجوز السعي في الطابق العلوي من المسعى؟ أو الرمي من الطابق الثّاني من محل الجمرات المستحدثة في أيامنا هذه؟ و كذلك الطواف في الطوابق العالية من المسجد الحرام إذا قلنا بعدم وجوب

كون الطواف في سبع و عشرين ذراعاً، كما هو الأقوى؟

16- هل يجوز للمرأة المسلمة التداوي بالحبوب و نحوها لتأخير العادة حتّى تصوم الشهر كاملًا، و تأتي بالطواف و الصلاة في الوقت؟

بحوث فقهية هامة، ص: 242

17- هل يكفي في جريان حكم المسافر السير العمودي و الابتعاد في الفضاء بمقدار المسافة الشرعية أو لا بدّ أن يكون السفر على الأرض و السير الأفقي؟

18- هل تكفي رؤية الهلال بالوسائل الحديثة كالتلسكوب في ثبوت الشهر؟

القسم الثالث- ما يتعلّق بالمعاملات و المسائل الاقتصادية:

19- ما هو حكم الأوراق النقدية الاعتبارية؟ و من أين نشأت ماليتها؟ و هل تترتب عليها أحكام النقدين من قبيل الزكاة و الربا و المضاربة بها؟

20- ما هو حكم المعاملات المصرفية مع ما فيها من الربا؟ و ما هو حال المصرف الإسلامي اللاربوي؟ و هل يمكن إجراء حكم الجوائز على الربح الذي يتعلّق بالودائع المصرفية؟

21- ما حال الصك و الكمبيالة من جهة بيعها و شرائها و سائر أحكامها؟

22- هل يجوز التأمين بأقسامه (تأمين على الحياة و السيارات و البيوت و سائر الأموال)؟ و ما شرائطه على فرض الصحّة؟ و هل هو داخل في المعاملات؟

23- ما حكم أنواع الشركات التي لم تعهد في السابق؟

24- ما حكم السرقفلية؟ و هل هي جائزة أم لا؟ و في أي مورد تجوز و أي مورد لا تجوز؟ فقد يدفع المشتري قبال السرقفلية عوضاً للمالك، و قد لا يكون كذلك.

25- ما هو حكم استخدام الدولة للأشخاص مع ما في ذلك من الجهالة من جهات عديدة، و الجهل مبطل للإجارة؛ فقد يكون الجهل من جهة مدة الاستخدام لاختلاف الأفراد من حيث مدة التقاعد، و قد يكون الجهل من ناحية المبلغ و مقدار الأجرة؛ لأنّها تتغير حسب اختلاف الأزمنة؟ بل و كذا

الاستخدام في بعض مؤسسات القطاع الخاصّ؟

26- ما معنى حقّ التقاعد، و هل هو معاملة أو شرط في ضمن العقد؟ مع ما فيه بحوث فقهية هامة، ص: 243

من الجهل من جهات شتى؛ لأنّ المقدار الذي يؤخذ من الحقوق قد يكون أقلّ ممّا يعطى حال التقاعد و قد يكون أكثر و قلّما يتحدان، فما حكم هذا التفاوت؟

27- هل يجوز بيع أوراق اليانصيب مع عدم اندراجها في شي ء من العقود، بل قد يكون من قبيل الأزلام المنهي عنها في كتاب الله، فهل هناك طريق لتوجيهه فقهيّاً؟

28- كيف تصحّ المضاربة في زماننا مع أنّ المعروف اشتراطها بالنقدين المسكوكين؟ فهل يغلق باب المضاربة إلى الأبد، أو تتصور فيها أقسام أخر؟ و هل تصحّ المضاربة في غير التجارات كما هو المعروف؟

29- ما حال غنائم الحرب في هذه الأيّام مع أنّ الجيش موظّف من قِبل الدولة لمثل ذلك، و هي التي تتحمّل جميع المصارف، بخلاف الحروب السابقة التي كانت المصارف فيها غالباً على الأشخاص؟ هذا مع العلم أنّ كثيراً من الغنائم كالدبابات و الأسلحة الثقيلة و شبهها ممّا لا ينتفع به الأشخاص عادة، فهل يجب بيعها و إعطاء ثمنها للمجاهدين أو أنّ الأدلّة منصرفة عن مثلها؟

30- هل يجوز إجراء العقود بالهاتف أو المذياع أو التلفزيون؟ و ما حال خيار المجلس فيها حينئذ؟ و كذا الإقرار، بل الطلاق إذا حضر شاهدان عدلان؟

31- هل إنّ حقّ التأليف أو حقّ الاختراع أو الاكتشاف معترف بع شرعاً؟ و بعبارة أخرى هل تتصور الملكية للأمور المعنوية أو لا بدّ في الملك من عين خارجية؟

32- هل إنّ الشخصية الحقوقية تملك كما تملك الشخصية الحقيقية أو لا؟

33- هل تصحّ الإجارة بشرط الرهن كما هو المتعارف في زماننا، حيث يشترط

بحوث

فقهية هامة، ص: 244

على المستأجر دفع مبلغ إلى المؤجر و يسترجعه عند انقضاء مدّة الإجارة، و تكون الأجرة أقلّ ممّا ينبغي لمكان ذلك المبلغ المدفوع؟

القسم الرابع- في مسائل مختلفة:

34- قد تكون الخسارة الناشئة عن الجناية أكثر من الدية، بمعنى أنّه قد يحتاج لعلاج الجرح أو الكسر إلى مصارف أكثر من الدية، فهل هناك ضمان لذلك أو لا؟ فمثلًا دية اليد لا تزيد عن خمسمائة دينار في حين قد تكون مصارف علاجها ألف دينار.

35- هل يجوز الذبح بالمكائن الحديثة؟ و كيف يكون حال الاستقبال و التسمية حينئذ؟ فهل يلزم المباشرة في الذبح أو يكفي التسبيب؟ و هل تكفي في التسمية المقارنة العرفية؟

36- الجراحات و الصدمات الناشئة من حوادث الدهس بالسيارات هل هي من سنخ العمد أو شبه العمد أو الخطأ المحض، أو يفصّل بين من راعى قوانين المرور و بين من لم يراعِ ذلك؟

37- هل يجوز إحداث الشوارع عند حاجة الناس إليها؟ و ما هو حكم هدم البيوت و المساجد و المقابر و شبهها من حيث الضمان؟ و هل تجري أحكام المسجد لو فرض وقوعه في الشارع؛ كعدم جواز مكث المجنب فيه و عدم جواز تنجيسه؟

38- هل يجوز تغيير الجنسية بأن يبدّل جنس الرجل إلى أنثى و بالعكس، فإنّ بعض الأفراد تظهر عليهم علامات الذكورة أو الأنوثة إلّا أنّ لديهم الاستعداد للاتصاف بعلامات الجنس الآخر، فيبدّل جنسه بعملية جراحية؟

بحوث فقهية هامة، ص: 245

ثمّ على فرض جوازه أو عدم جوازه، لو فرض وقوعه و تبدّل أحدهما إلى الآخر فما حكم الزوجية و ما يلحقها من أحكام كالمهر و النفقات السابقة و الإرث إذا وقع التبدّل قبل القسمة؟

39- ما هي أحكام المذياع و التلفزيون؟ و هل يحرم سماع الأغاني المحرّمة منهما؟

و كذا النظر إلى الأجنبية؟ و هل يجب السجود إذا استمع إلى آية السجدة منهما؟ إلى غير ذلك من الأحكام.

40- هل يمكن ترتيب آثار الإقرار و الأوقاف و الوصايا و غيرها بمجرّد سماعها من الأشرطة المسجّل عليها ذلك؟ و كذا لو كانت الصورة محفوظة على الأفلام سواء أخذت مع علم صاحبها بها أو على غفلة منه، فهل يحكم طبقاً لذلك أو لا، أو يفصّل؟

هذه أربعون مسألة من المسائل المهمّة المبتلى بها اليوم و التي قلّما تعرّض لها فقهاؤنا الأعلام من القدماء و المتأخرين؛ لعدم ابتلائهم بها، و قد تصدّى جمع من أكابر المعاصرين للجواب على بعضها في كتبهم الفتوائية من دون ذكر دليل عليها؛ لاقتضاء المقام ذلك، و بقي كثير منها بلا جواب. هذا و من المعلوم عدم حصر المسائل المستحدثة في الأربعين و إن كانت هذه أهمها.

المقدّمة الثانية في بيان الأسس العامة للمسائل المستحدثة:

اشارة

من الواضح أنّ هذه المسائل المستحدثة و أشباهها ممّا لم يرد فيها نصّ خاصّ، فمن اللازم ذكر الأدلّة التي تعتمد في بحثها.

و ينبغي لنا أولًا ذكر القواعد الكلية التي يمكن إرجاع المسائل المستحدثة إليها من باب ردّ الفروع إلى الأصول الذي هو وظيفة المجتهد، ثمّ بعد ذلك نتعرّض لكلّ واحدة منها مفصّلًا و بيان أحكامها و ما ينطبق عليها من القواعد و الأصول.

بحوث فقهية هامة، ص: 246

فنقول- و من الله نستمد التوفيق و الهداية-: لا بدّ هنا من رسم أمور خمسة:

الأمر الأول [اختلاف طريقة البحث في المسائل المستحدثة عند الشيعة عما هو عند أهل السنة]

أنّه ينبغي أن يعلم أنّ طريقة البحث في هذه المسائل المستحدثة و أشباهها عند الشيعة تختلف عمّا هو عليه عند إخواننا أهل السنّة؛ و ذلك لاختلاف المباني الأصولية لكلّ من الفريقين، حيث إنّ أصحابنا يتمسكون بالنصوص الخاصة و العامّة و أيضاً بالقواعد الكليّة المأخوذة من الأدلّة المعتبرة- الكتاب و السنّة و الإجماع القطعي- و لا ركون لهم في شي ء من ذلك إلى الظنون. فإنّ الاجتهاد عندنا إنّما هو استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها، و إنّ لكلّ واقعة حكماً شرعياً مجعولًا يكون المجتهد دائماً بصدد الوصول إليه، سواء وصل إليه أم لا.

و إن شئت قلت: قد ثبت بالأدلّة أنّ لكلّ واقعة حكماً في الشريعة الإسلامية علمنا به أو لم نعلم، و هذه الأحكام الواقعية كانت مودعة عند رسول الله (صلى الله عليه و آله) و بعده عند أوصيائه المعصومين (عليهم السلام)، فالحوادث الواقعة لا تخلو من الأحكام الواقعية، إلّا أنّنا إذا لم نظفر بحكم واقعي نظفر بحكم ظاهري قطعاً؛ لما قد ثبت عندنا من أنّ الفقيه إمّا يعلم الحكم الواقعي أو يظن به ظناً معتبراً دلّت الأدلّة القطعية على اعتباره- أي الأمارات- أو يشك،

و عند الشك يرجع إلى أحد الأصول العملية المعتبرة- أي البراءة و الاستصحاب و التخيير و الاحتياط- و هذه الأصول حاصرة لموارد الشكّ طرّاً لا يشذّ منها شاذّ، فإذن لا فراغ في الشريعة لا واقعاً و لا ظاهراً، و وظيفة المجتهد هي عملية اكتشاف و تحصيل الحكم الموجود في الشريعة. هذا هو الاجتهاد لدى الشيعة الإمامية.

أما الاجتهاد لدى أهل السنّة فإنّه مباين لما عندنا؛ و ذلك لاعتمادهم في الإفتاء في مثل هذه المسائل على القياس الظني و الاستحسان و المصالح المرسلة و سدّ الذرائع بما لها من معان عندهم، و لا ينحصر الاجتهاد- حسب اعتقادهم- في حدود

بحوث فقهية هامة، ص: 247

النصوص، و يمكن القول إنّ الاجتهاد عندهم في الجملة على أقسام ثلاثة:

أولها: و هو المسمّى عندهم بالاجتهاد البياني الذي هو نحو ما ذكرنا آنفاً من استنباط الحكم الشرعي من النصوص.

ثانيها: تشريع الحكم و جعله في ما لا نصّ فيه، فإنّ المجتهد هنا يُستعمل رأيه الخاصّ و فهمه في تشخيص الحكم الشرعي إما على أساس القياس الظني أو على أساس مبدأ الاستحسان أو على أساس مبدأ المصالح المرسلة أو على أساس مبدأ سدّ الذرائع، كما هو مشروح عندهم، و يكون هذا الحكم المجعول من قبل المجتهد بمنزلة حكم الله تعالى، و ذلك بمقتضى قولهم بالتصويب.

و هو كما ترى؛ فإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، إنّما لجئوا إلى ذلك لشحّة المصادر و النصوص المتوفرة لديهم؛ حيث حرموا أنفسهم من الانتفاع و الانتهال ممّا صدر عن العترة الطاهرة من روايات و أحاديث كثيرة، فوقعوا في ما وقعوا فيه.

و قد حذّر رسول الله (صلى الله عليه و آله) من مغبّة ذلك في الحديث المتواتر بين المسلمين «إنّي مخلّف

فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي»

«1». ثالثها: الاجتهاد في مقابل النصّ، و بعض أمثلته معروفة، نحو ما حكي عن عمر من قوله: «متعتان كانتا محلّلتين في زمن النبي (صلى الله عليه و آله) و أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما» «2».

و هذا القسم كسابقه غير مقبول عندنا؛ إذ ليس من حق المجتهد أن يشرّع، بل عليه أن يبذل ما في وسعه للوصول إلى الأحكام الواقعية المجعولة من خلال النصوص الخاصّة و العامّة و القواعد الكليّة التي هي طرق إليها.

و قد ذكرنا ذلك مفصّلًا في محلّه من أبحاث الاجتهاد و التقليد.

الأمر الثاني: هل للزمان و المكان تأثير في الاجتهاد؟

المعروف لدى جمع من أكابر المعاصرين أنّ للزمان و المكان تأثيراً و دخلًا في الاجتهاد، فما هو المراد من ذلك؟ و كيف تتغير الأحكام باختلاف الأمكنة و الأزمنة مع أنّها عامة لكلّ زمان و مكان؟! لا يخفى أنّ جذور هذا البحث موجودة في كلمات القدماء و المتأخرين أيضاً، و مهما يكن فإنّ لهذا الكلام ثلاث معان، بعضها باطل و بعضها صحيح:

أولها- و هو معنى ساذج لا يقول به أحد من فقهائنا؛ و حاصله أن يقال: إنّه لا بدّ أن يكون الفقيه تابعاً للزمان و المكان، فإذا شاع المصرف الربوي فاللازم عليه الإفتاء بحلّية هذا النوع من الربا، و إذا كان الفقيه في مكان شاع فيه السفور و تبرّج النساء فاللازم الإفتاء بجواز ذلك، فهو إذن تابع لمقتضى الزمان و المكان. و هذا خيال فاسد لا يقول به فقيه من فقهاء الإسلام.

ثانيها- أن يقال: ليس المراد منه تغيير الحكم بدون تغيير الموضوع؛ فإنّ حلال محمّد (صلى الله عليه و آله) حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة «1»، بل إنّما يقع التغيّر و التبدّل

في الحكم من ناحية تبدّل الموضوعات.

توضيح ذلك: أنّ في كلّ حكم من الأحكام ثلاثة عناصر: (نفس الحكم- المتعلّق- الموضوع)، ففي مثل قولنا: «يحرم شرب الخمر» التحريم هو الحكم، و الشرب هو المتعلّق، و الخمر هو موضوع، و كذلك في قولنا «يجب تطهير المسجد» الوجوب هو الحكم، و التطهير هو المتعلّق، و المسجد هو الموضوع، و لكن قد لا يكون هناك إلّا الحكم و المتعلّق كالحكم بوجوب الصلاة و الصيام؛ لعدم تعلّقهما بأمر خارجي، و هنا قد يسمى المتعلّق موضوعاً، و يقال: الوجوب هو.

بحوث فقهية هامة، ص: 249

الحكم و الصلاة موضوعه.

و من الواضح أنّ كلّ حكم يدور مدار موضوعه، و نسبته إليه تشبه نسبة المعلول إلى علّته أو المعروض إلى عرضه. و إنّما قلت: تشبه، و لم أقل إنّه هو هو؛ لعدم جريان هذه العناوين- أعني العلّية و العروض- في الأمور الاعتبارية.

و على كلّ حال، لازم ذلك أنّه إذا تغيّر الموضوع تغيّر الحكم بتبعه، و من الواضح أنّه قد يكون للزمان و المكان دخل في تبدّل الموضوعات الخارجية.

و مثاله المعروف في كتاب البيع: أنّ مالية المال- الذي هو قوام صحّة بيعه و شرائه- تتغيّر بتغيّر الزمان و المكان، فالماء على الشاطئ لا مالية له أحياناً، و في المفازة له مالية كبيرة (هذا من ناحية المكان)، و الثلج في الشتاء لا مالية له، و لكنه في الصيف له مالية كبيرة عادة (هذا من جهة الزمان)، و هكذا في غيرهما ممّا يشبههما من الأمثلة.

و ليعلم أيضاً أنّ الحكم يؤخذ من الشارع المقدّس، و الموضوعات العرفية تؤخذ من أهل العرف. نعم، الموضوعات المخترعة من قِبل الشارع مثل الصلاة و الصوم و سائر العبادات إنّما تؤخذ من الشارع فقط.

و من

الواضح أنّه قد تتبدّل الموضوعات في نظر العرف من جهات متعدّدة، فيكون الحكم تابعاً له و دائراً مداره؛ و لذا يقال: بخار النجس و دخانه ليس نجساً، و الكلب إذا وقع في المملحة و خرج عن عنوان الكلب و صدق عليه عنوان الملح كان طاهراً، حتّى إنّه لو شك في بقاء النجاسة لم يصح إجراء الاستصحاب؛ للشك في بقاء الموضوع و تغيّره حتّى على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية.

ثمّ اعلم أنّ تغيّر الموضوع على أنحاء ثلاثة: فتارة: تنقلب ماهيته العرفية و تستحيل إلى غيرها، كاستحالة الكلب ملحاً و الفحم دخاناً، فإنّ الملح عنوان مباين و مغاير لعنوان الكلب في أنظار العرف، فتغيّر

بحوث فقهية هامة، ص: 250

الحكم بسببه واضح.

و أخرى: يكون تبدّل بعض أوصافه الظاهرية إلى موضوع آخر و إن لم يكن مبايناً له، كانقلاب الخمر خلًّا؛ فإنّ الفرق بينهما و إن لم يكن عرفياً كما في المثال السابق، و لكنّه أيضاً موضوع آخر، فتبدّل الحكم هنا أيضاً واضح؛ لانتفاء الموضوع السابق.

و ثالثة: يكون بتغيّر بعض أوصافه المعنوية و الاعتبارية المقوّمة، كسقوط الماء عن المالية عند الشاطئ، و صيرورة الدم مالًا في أعصارنا، و كذا بالنسبة إلى أعضاء البدن عند الانتفاع بها في الترقيع و شبهه.

فتبدّل الحكم هنا أيضاً ظاهر؛ لتبدّل ما هو مقوّم من الصفات، و إذا تبدّلت الأوصاف غير المقوّمة كان مجرى للاستصحاب، نحو المثال المعروف في زوال التغيّر عن الماء المتغيّر بنفسه.

أما إذا بقي الموضوع على حاله من حيث الماهية و الأوصاف المقوّمة للموضوع فالحكم باق إلى الأبد؛ لأنّ تغيّره و الحال هذه لا يكون إلّا بالنسخ، و المفروض انتفاؤه بعد رحيل الرسول (صلى الله عليه و آله).

و يمكن حلّ غير واحدة

من المسائل السابقة من هذا الطريق: منها- أنّ بيع الدم لم يكن جائزاً في الأزمنة السابقة؛ لعدم وجود منفعة محلّلة فيه، و لانحصار منفعته في الأكل المحرّم، و لكن تبدّل الزمان أوجد له منافع محلّلة كثيرة، كإنقاذ بعض المرضى و المجروحين من الهلاك، فجاز بيعه لهذه المنفعة المهمّة الغالبة حيث لا دليل لنا على بطلان بيع النجس مطلقاً.

و منها- بيع أعضاء البدن كالكلية و القلب و قرنية العين؛ فإنّها و إن كانت ممّا لا ينتفع بها في سابق الأيّام منفعة محلّلة مقصودة، إلّا أنّه ينتفع بها في عصرنا أعظم المنافع التي قد توجب نجاة نفس إنسان من الهلاك أو من العمى.

بحوث فقهية هامة، ص: 251

اللّهم إلّا أن يستشكل في بيعها من جهة أنّه ميتة و إن كان لها منافع كثيرة، كالأديم المأخوذ من الميتة الذي ينتفع منه منافع كثيرة و مع ذلك لا يجوز بيعه، كما لعلّه يظهر من كثير منهم؛ و لذا قلنا في محلّه إنّ الأحوط جعل العوض المأخوذ في مقابل الإذن بأخذ الكلية منه، لا في مقابل نفس الكلية.

و منها- مسألة الترقيع بجلد مأخوذ من إنسان حي أو ميت، فيقال إنّ اتصاف الجلد بالنجاسة إنّما هو إذا قطع عن بدن إنسان و لم يتصل ببدن إنسان آخر، أمّا إذا اتصل به و جرى الدم و الحسّ فيه اتصف بصفة الحياة و خرج عن عنوان الميتة، بل و صدق عليه أنّه من أعضاء هذا الإنسان الذي انتقل إليه العضو، لا من أعضاء الإنسان السابق.

كما يقال في مسألة انتقال دم الإنسان إلى البقّ: إنّه إذا انتقل إليه و صدق دم البقّ عليه اتصف بالطهارة بعد أن كان نجساً.

و منها- مسألة المالية في النقود الورقية؛

فإنّ المالية أمر اعتباري، و كثيراً ما يكون اعتبارها بيد العرف و العقلاء، فإذا اعتبرها العرف و العقلاء في أوراق خاصة- لعلل سيأتي بيانها إن شاء الله في محلها- جاز جعلها ثمناً في البيع و الإجارة و غيرهما من المعاوضات، و إذا أبطل اعتبار قسم منها بطلت ماليتها، فتصبح ورقة عادية فاقدة للقيمة، و ربّما تلقى في سلّة المهملات.

و منها- ما قد يقال في مسألة كثرة النفوس و النسل- و لا أقول هذا إلّا احتمالًا- من أنّ تأكيد الشارع المقدّس على المباهاة بكثرة المسلمين إنّما كان في زمن كان هذا سبباً لمزيد القوّة و الشوكة، فالموضوع في الحقيقة كثرة النفوس الموجبة لذلك، كما يظهر من آيات كثيرة في الكتاب العزيز بعضها وقع في كلام الله تعالى أو بعض أوليائه و بعضها حكي عن الكفّار

بحوث فقهية هامة، ص: 252

فمن الأول قوله تعالى في سورة نوح (وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ) «1» فقد كان البنون كالأموال سبباً للقوّة، و قوله تعالى (وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) «2»، و قوله تعالى (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً) «3».

و من الثاني قوله تعالى (وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) «4».

فقد كانت كثرة الأولاد مثل كثرة الأموال سبباً للقوّة و الشوكة و العظمة، فلو تغيّر هذا الموضوع في زمان و صارت الكثرة سبباً لمزيد الضعف و التأخّر و الذّلة و الحقارة- كما يحكى ذلك كثيراً عن أهل الهند، حيث بلغت كثرة النفوس فيها إلى حدّ سبّب في موت الكثير منهم من شدّة الجوع، و كذلك مسألة السكن حتّى قيل إنّ أعداداً هائلة من الناس يتّخذون

من أطراف الشوارع و الممرّات مساكن لهم فيها يتكاثرون و فيها يموتون، و ليس لهم من أسباب الحياة شي ء- فهل تكون كثرة النسل راجحة في نظر الشرع؟! لا أقول: إنّ كثرة المسلمين قد وصلت إلى هذا الحدّ أو لا، بل أقول: لو أدّى الأمر إلى هذا الحدّ فهل هو شي ء يباهي به رسول الله (صلى الله عليه و آله) سائر الأمم؟! أو إنّ اللازم على المسلمين في هذه الأعصار الاهتمام بالكثرة من ناحية الكيفية- أعني الزيادة في العلم و القوّة الفكرية و الثقافية و الصناعية و الأخلاقية- لا الكثرة في كمية الأفراد الفاقدة لذلك؛ فإنّ كثرتهم و الحال هذه كثيراً ما تمنع عن بلوغ المرتبة المطلوبة، و سيأتي بيان بحوث فقهية هامة، ص: 253

ذلك إن شاء الله.

و قد يؤيد ذلك كلّه بما ورد في بعض الكلمات القصار لأمير المؤمنين (عليه السلام)- بعد أن سئل عن قول رسول الله (صلى الله عليه و آله)

«غيّروا الشيب و لا تشبَّهوا باليهود»

- قال «إنّما قال (صلى الله عليه و آله) و الدِّين قُلٌّ، فأما الآن و قد اتسع نطاقه و ضرَب بِجِرانه فامرؤٌ و ما اختار»

«1»، و للكلام صلة.

و لا ينحصر الكلام بهذه المسائل الخمس، بل المراد توضيح أنّ المفتاح الأصلي الوحيد لحلّ قسم كبير من المسائل المستحدثة هو هذا المعنى؛ أي تبدّل الحكم بتبدّل الموضوعات عرفاً.

و عصارة الكلام: أنّ الأحكام المأخوذة من الشارع المقدّس ثابتة لا تتغيّر مدى القرون و الأعصار و لا تتبدّل بحسب اختلاف الأمكنة و الأمصار، فالحلال حلال دائماً و الحرام حرام كذلك، و لكن الموضوعات العرفية متغيرة دائماً، فكلّما تغيّر الموضوع تغيّر الحكم، حيث إنّ الموضوع كثيراً ما يكون متأثّراً بالزمان و المكان، فإذا

تغيّر الزمان و المكان تغيّر الموضوع فيتغيّر الحكم تبعاً له.

و تغيّر الموضوع على أقسام مختلفة:

تارة يكون بتبدّل الماهية كما في الكلب الواقع في المملحة، و أخرى بتبدّل أوصافه الخارجية كتبدّل الدم من جسم الإنسان إلى البقّ، و ثالثة بتبدّل الأمور الاعتبارية كتبدّل المالية. و هذا هو المراد من تأثير الزمان و المكان في الاجتهاد.

ثالثها: هو أنّ تبدّل الزمان و المكان قد يكون سبباً لتنبّه الفقيه إلى مسائل جديدة و انشراح فكره و صدره، فيلتفت إلى أمور لم يكن متنبهاً لها في السابق، سيّما بعد قيام الحكومة الإسلامية، و لكن لا بمعنى أنّه إذا كان خارجاً عن هذه الدائرة كانت بحوث فقهية هامة، ص: 254

له أفكار خاصّة و إذا دخل تبدّلت أفكاره، بل بمعنى التفاته إلى حاجات و مصالح النظام و الأمة.

فمثلًا يتنبّه إلى أنّ تحصيل العلم- الأعمّ من كونه دينياً أو دنيوياً- الذي كان يعدّه في الماضي من الواجبات الكفائية، يعدّه الآن من الواجبات العينية؛ لما يشعر من حاجة المسلمين الماسّة إلى ذلك في تدبير أمور الدين و الدنيا، فإنّ الجماعة الجاهلة تصبح متأخّرة جدّاً و ضعيفة إلى النهاية، و لا يرضى الله و رسوله (صلى الله عليه و آله) و الأئمّة الهداة (عليهم السلام) هذا التأخر و الضعف للمسلمين، و لذا يفتي الفقيه بوجوب الجهاد لمحاربة الجهل و بوجوب تحصيل العلم عينياً على جميع المسلمين كلّ حسب استعداده.

إذن، فقد أثّر الزمان في فتوى المجتهد لتنبّهه إلى حيثيات جديدة و جهات مستحدثة، و نحو ذلك.

الأمر الثالث: في الأمور التي تبتني عليها هذه المسائل:

من المعروف أنّ القضية على قسمين: خارجية و حقيقية.

فالقضايا الخارجية ما يكون الحكم فيها ثابتاً على الأفراد الموجودة في الخارج، مثل ما إذا قلت: إنّ لي صلة بجميع العلماء؛ أي

العلماء الموجودين، لا كلّ من يصدق عليه العالم اليوم و في سابق الزمان و مستقبل الأيّام، و كذا إذا قلت: أعطِ كلّ من في المعسكر مائة درهم، كان النظر إلى الموجودين في الخارج.

أما القضايا الحقيقية فالحكم فيها تابع لموضوعاتها التي يقدّر وجودها في الحال أو في الماضي أو في المستقبل، و قد لا يكون لها مصداق فعلًا في الخارج و لكن الحكم صادق، كقولنا: النار حارّة، فإنّها تشمل جميع المصاديق المقدّرة سواء في الماضي أو الحال أو المستقبل.

و لا ينبغي الشك في أنّ أغلب الأحكام الشرعية التي وردت بصورة القضايا-

بحوث فقهية هامة، ص: 255

سواء كانت بصورة الأخبار، كقوله (صلى الله عليه و آله)

«المؤمنون عند شروطهم»

«1» أو الإنشاء كقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) «2» و أمثال ذلك- فإنّها على نحو القضايا الحقيقية لا الخارجية، و حينئذ لا تنحصر مصاديقها بما كان موجوداً في عصره (صلى الله عليه و آله) و الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، بل تشمل جميع المصاديق التي توجد لها في كلّ زمان و مكان ما لم يقم دليل على خروجها و استثنائها كما لا يخفى، لا سيّما الآيات القرآنية بعد التصريح بأنّها لجميع العالمين إلى يوم القيامة، حتّى إذا كانت الخطابات بصورة خطابات المشافهة.

و من هنا نقول: إنّ أحكام المسافر تشمل المسافرين بالوسائل السريعة في عصرنا، و لا تختص بالأسفار في الأزمنة القديمة، ما لم يقم دليل على الاختصاص، و لم يقم قطعاً.

كما أنّ الأحكام الخاصّة بماء الحمّام تشمل الحمامات الموجودة في عصرنا مع مفارقتها عمّا كان في قديم الأيّام من جهات كثيرة.

و كذا أحكام البئر فإنّها تشمل الآبار العميقة المستحدثة في عصرنا أيضاً.

و كذا حكم القيمي و المثلي بالنسبة إلى مصنوعات كثيرة وجدت الآن

و لم تكن سابقاً، كأنواع الألبسة و الأغذية و وسائط النقل و الأثاث المنزلية و غيرها، فقد كانت تعدّ من القيمي و تعدّ اليوم من المثلي، و غير ذلك.

و لو كانت الأحكام الشرعية على نحو القضايا الخارجية لم تشمل شيئاً من هذه المصاديق، بل كانت ناظرة إلى خصوص المصاديق الموجودة في عصرهم (عليهم السلام)، و أما غيرها فلا تندرج تحت هذه العمومات.

بحوث فقهية هامة، ص: 256

و من هنا يمكن حلّ كثير من المسائل السابقة؛ لشمول الأدلّة للمصاديق المستحدثة.

و إن شئت قلت: تنحلّ عقدتها بالتمسّك بالإطلاقات و العمومات ما لم يقم دليل على تقييدها أو تخصيصها، و هذه قاعدة عامة ثابتة في علم الأصول.

و إليك نماذج من المسائل السابقة تجري فيها هذه القاعدة: منها- جريان (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) في العقود المستحدثة، كالتأمين، فإنّه أيضاً عقد، فيدخل تحت عموم «أَوْفُوا»، و لا معنى لتخصيصه بالعقود الموجودة في عصر التشريع فقط، بل يشمل جميع العقود المتعارفة بين العقلاء.

و منها- أنواع الشركات المستحدثة يومياً، حيث إنّ بعضها مشمول للأدلّة.

و منها- السرقفلية إذا كانت بصورة عقد جديد، لا من قبيل الشرط في ضمن عقد الإجارة، كما سيأتي مفصّلًا إن شاء الله.

و لكن لا بدّ أنّ تتحقّق في جميع تلك العقود الشرائط العامة الواجبة شرعاً في العقود؛ من معلومية العوضين- لو قلنا بجريان حكم الغرر في جميع العقود- و كونه على أمر محلّل، و عدم كونه من قبيل التعليق في الإنشاء، و كون العاقد عاقلًا بالغاً رشيداً مختاراً، إلى غير ذلك ممّا يعتبر في جميع العقود.

و منها- صحة المضاربة بالنقود الورقية، بل و صحة بذل رأس المال للزراعة و الصناعة و غيرها و إن لم تُسمَّ مضاربة و لم تجرِ عليها أحكام

المضاربة لو كان لها أحكام خاصة بها. فإذا بذل إنسان مالًا إلى آخر و قال: مني رأس المال و منك الصناعة و لك نصف منافعها، كان هذا داخلًا في عمومات وجوب الوفاء بالعقد و

«المؤمنون عند شروطهم»

و شبههما، فيجوز ابتياع سهام المؤسسات الصناعية و تقسيم منافعها بين العاملين عليها و الذين يملكون سهامها؛ لأنّه عقد عرفي جامع بحوث فقهية هامة، ص: 257

للشرائط الشرعية، فهي داخلة تحت عموماتها و إن لم تدخل تحت العناوين المعروفة.

و منها- إجراء العقود بالهاتف و شبهه فهو أيضاً داخل في عمومات الباب، و أما حكم خيار المجلس ففيه كلام يأتي عند الكلام عن هذه الفروع تفصيلًا إن شاء الله.

الأمر الرابع: أنّ إطلاقات الأدلّة اللفظية شاملة لكلّ مصاديق موضوع الحكم الشرعي

، و لا تنحصر في حدود المصاديق المتحققة في فترة صدور النصّ أو ما يقاربها، بل إنّ الإطلاقات تطال ما يتحقّق في زماننا من مصاديق مستجدّة أيضاً، إلّا أنّه قد يكون هناك من الجهات و الحيثيات ما يوجب انصراف الإطلاقات عن بعض المصاديق المستحدثة، و حينئذ لا يجوز الأخذ به و القول بشموله.

توضيح ذلك: أنّ المعروف أنّ شمول الإطلاق لجميع مصاديق الموضوع ثابت بمقدمات الحكمة، و المعروف أنّها أربع:

1- كون المتكلم في مقام البيان، 2- عدم صدور البيان، 3- عدم انصراف المطلق إلى بعض أفراده، 4- عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

أما الرابعة فهي مردودة عندنا؛ فإنّه قلّما يوجد إطلاق ليس له قدر متيقن، و لازمه سقوط غالب المطلقات، لا سيّما ما له شأن نزول أو شأن ورود، و لا أظنّ أحداً يلتزم به، كيف؟! و المعروف أنّ الورود و كذا شأن النزول لا يخصص، و أما باقي المقدمات فهي حقّ لا ريب فيه، و أما منشأ الانصراف فهو أنس الذهن ببعض

المصاديق لأسباب متنوّعة من قبيل غلبة الوجود؛ و ذلك مثل ما يقال في أشبار الكرّ و أنّها منصرفة إلى المتوسط الغالب لا المفرط في الكبر و الصغر النادرين، و كذا في مقدار الوجه في الوضوء و تعيين ذلك بما دارت عليه الإبهام و الوسطى، و كذا الذراع في كثير من المقاييس الشرعية. كلّ ذلك محمول على الغالب؛ للانصراف، و في مقابل بحوث فقهية هامة، ص: 258

ذلك يقال بإلغاء الخصوصية العرفية عند العلم بعدم دخلها.

و من هنا يعلم حال غير واحدة من المسائل المستحدثة:

و منها- ما مرّ في حكم الغنائم المأخوذة من العدو في عصرنا من الطيارات و الدبابات و المدافع و أمثال ذلك؛ فإنّ قوله تعالى (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) «1»- الدالّ على تملّك المقاتلين لأربعة أخماس الغنيمة- منصرف عن أمثالها من جهتين:

أولًا: أنّ الجيوش في عصرنا تكون جميع مصارفها على الحكومة؛ من وسائل النقل و السلاح و التغذية و الأدوية و مصارف الجرحى و المعلولين بل و عوائل القتلى و غير ذلك، بينما كانت جميعها على آحاد المقاتلين في أزمنة نزول الآية و ما يقاربها؛ و لذا كان للفارس سهمان و للراجل سهم واحد من الغنائم باعتبار مصارف المركب. نعم، ربّما كان هناك مساعدات لبعض الأفراد سيّما الذين لا يجدون إلّا جهدهم و لكن لم يكن ذلك شاملًا لحوائجهم كلّها؛ فلذا يمكن دعوى انصراف الآية عن مثل زماننا.

ثانياً: أنّ الأسلحة و المعدّات الحربية في عصرنا ممّا تحتاج إليه الدولة و لا حاجة لغيرها فيها، نعم، يمكن أن يقال ببيعها و صرف ثمنها فيهم، و لكن لا دليل على ذلك أيضاً. إذن، فدعوى الانصراف عن هذه المصاديق قوية.

و منها- ما

مرّ في حكم التشريح و الترقيع.

إلى غير ذلك ممّا يمكن دعوى انصراف العمومات عنها.

الأمر الخامس: كثيراً ما تندرج المسائل المستحدثة ضمن العناوين الثانوية
اشارة

؛ و لذا يجب شرحها و كشف النقاب عنها، فنقول- و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية-: إنّ حل تلك العناوين لا يتنقّح إلّا بعرض مسائل:

بحوث فقهية هامة، ص: 259

1- تعريف العناوين الثانوية.

2- عدد العناوين الثانوية.

3- دور العناوين الثانوية في الفقه الإسلامي.

4- نسبة العناوين الثانوية إلى الأدلّة.

(1) تعريفها

قد مرّ أنّ كلّ حكم له موضوع خاصّ، و هذا الموضوع قد يلاحظ بذاته و له أقسام و أنواع و أفراد، و قد يلاحظ بحسب العناوين الطارئة الذي قد يتغير حكمه معها، مثلًا لحم الميتة له عنوان بذاته، و له أقسام: ميتة البقر و الغنم و الإبل، و أسباب الموت أيضاً مختلفة، فقد تكون متردية و أخرى نطيحة و ثالثة ممّا أكله السبع؛ أكل بعضه و بقي بعض. فقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) «1» يشمل الجميع؛ بناءً على كون الموت بمعنى ما لم يُذكَّ، و لكن للميتة عناوين طارئة خارجة عن ذاتها، مثلًا هذه الميتة ممّا اضطر إلى أكلها، و من الواضح أنّ الاضطرار و عدمه ليس ممّا يعرضها لذاتها، بل لأمور خارجية، و هذا و أشباهه هي العناوين الثانوية.

مثال آخر: حفر البئر في ذاته أمر مباح، من دون فرق بين الآبار العميقة و المتوسطة و قليلة العمق، و لكن إذا كان مقدمة لتحصيل الماء للوضوء و الغسل فحينئذ يجب بعنوان المقدمة. و من الواضح أنّ هذا العنوان خارج عن ذات البئر و إنّما طرأ عليه من الخارج، فهذا عنوان ثانوي. إلى غير ذلك من الأمثلة.

و منه المسألة المعروفة، و هي تحريم شرب التنباك في بعض الأزمنة من قِبل آية الله الشيرازي؛ لكونه سبباً لمزيد قوّة أعداء الإسلام.

(2) أقسامها

و اعلم أنّه لا تنحصر العناوين الثانوية بالاضطرار و الضرورة كما قد يتوهم، بل لها أقسام كثيرة يشكل إحصاؤها، و إليك أهمها:

1- الاضطرار، كما في المثال السابق: الاضطرار إلى أكل لحم الميتة.

2- الضرر على النفس، مثل ما إذا علم المريض أنّ تناول ذلك الغذاء المباح يؤدي إلى هلاكه.

3- الإضرار بالغير، مثل ما إذا حفر في داره بالوعة- و

هو أمر مباح- مع علمه بأنّه يؤدي إلى ضرر الجار، و منه حديث سمرة بن جندب.

4- العسر و الحرج الشديد؛ مثل ما إذا لم تتضرر المرأة الحامل أو الشيخ الكبير بالصوم و لكن يقعان في مشقة شديدة لا يتحمل مثلها عادة.

5- مقدمة الواجب، مثل ما مرّ من حفر البئر لتحصيل ماء الوضوء أو الغسل، و منه ما يكون مقدمة لحفظ النظام.

6- مقدمة الحرام، مثل ما مرّ من أنّ شرب التنباك سبب لمزيد شوكة المعتدين.

7- الإعانة على واجب شرعي، مثل ما إذا لم يمكن الجهاد إلّا ببذل أموال غير الوجوه الواجبة الشرعية؛ فإنّه يجب لما فيه من التعاون على البر و التقوى.

8- الإعانة على الظلم و سائر المحرمات، كبيع العنب ممّن يعمله خمراً مع هذا القصد، و الفرق بينه و بين مقدمة الواجب و الحرام، أنّ الإعانة تكون بالنسبة إلى فعل الغير و المقدمة لفعل النفس.

9- قاعدة الأهم و المهم، مثل ما إذا دار الأمر بين التصرّف في دار الغير و نجاة نفس المؤمن.

10 و 11 و 12- النذر و العهد و القسم.

إلى غير ذلك من أشباهها ممّا يطول المقام بذكرها.

(3) أثر العناوين الثانوية
اشارة

إنّ للعناوين الثانوية أثراً كبيراً في ازدهار الفقه الإسلامي و تطوره و انطباقه على الحاجات البشرية، فكم من معضلة انجلت بفضلها! و كم من مشكلة انكشفت في ضوئها! توضيح ذلك: أنّ هنا إشكالًا حاصله أنّ الحاجات البشرية متغيرة باستمرار، و ما من زمان جديد إلّا و فيه حاجة جديدة، و المسائل الاجتماعية في حال تبدل دائم، فكيف تنطبق هذه المتغيرات على الأحكام الثابتة الشرعية التي حلالها حلال إلى يوم القيامة و حرامها حرام كذلك؟ و كذلك أنّ أحكام الإسلام ثابتة، و حاجات الإنسان متغيرة بحسب

الزمان و المكان، و تطبيق أحدهما على الآخر غير ممكن، فالإشكال لا ينحصر بخاتمية الإسلام بل يجري و لو في دين يبقى آلاف أو مئات من السنين؛ لتطور حياة الإنسان في ألف سنة قطعاً بل و في مئات من السنين.

و يجاب على ذلك بأمور متعددة:

منها أنّ كثيراً من هذه الأمور المتغيّرة ينحلّ بفضل القواعد الكلّية الموجودة في الكتاب و السنّة التي لها عرض عريض، كقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) «1» و (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) «2» و (الصُّلْحُ خَيْرٌ) «3»، و كقوله (صلى الله عليه و آله)

«المؤمنون عند شروطهم»

«4»، فإنّها تشمل جميع أبواب المعاملات و العقود المستحدثة بين الأفراد بل الدول أيضاً، و كقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) «5»، فالقيام بالقسط في المجتمع له عرض بحوث فقهية هامة، ص: 262

عريض يشمل جميع أنحائه إلّا ما خرج بالدليل. و كقاعدة البراءة و قبح العقاب بلا بيان، فإنّها توجب الترخيص في جميع ما يحدث من الأمور ممّا لم يرد فيها منع من الشرع و العقل كجميع المخترعات المستحدثة طوال القرون و الأعصار و من جملتها أنواع الرياضات و العلوم و الفنون هي من هذا القبيل، و كذا قاعدة كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

هذا، و كثير من هذه الأمور مندرج في ظلّ العناوين الثانوية، و بفضلها ينحلّ كثير من عقدها و معضلاتها، و هذه العناوين- كما عرفت- كثيرة جدّاً، و كلّ واحد منها له عرض عريض و مصاديق كثيرة تشمل جوانب وسيعة من حياة الإنسان، فهذه العناوين و إن كانت ثابتة على كلّيتها و لكن مصاديقها متغيّرة.

و إن شئت قلت: أصول حوائج الإنسان ثابتة و هي فطرية طبيعية و إن كانت أشكال قضائها

مختلفة، مثلًا أنّ للإنسان حاجة طبيعية فطرية إلى الطعام و الكسوة و المسكن و علاج الأمراض، و كذا له حاجة إلى العلم و الصناعة و الزراعة و الترفيه المزيل لأتعاب الحياة و مرارتها، هذه أصول ثابتة، و لكن تتغير طرق إشباع هذه الحوائج، فأصلها ثابت و فروعها متغيرة. و كذا قوانين الإسلام لها أصول ثابتة موافقة للفطرة و فروع متغيرة على مرّ الدهور و الأيام مندرجة ضمن العناوين الثانوية، و كثير من المسائل المستحدثة تنحل بواسطتها.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى كيفية الاستناد إلى العناوين الثانوية في حل هذه المسائل، و إليك نماذج منها:

1- مسألة إحداث الشوارع في البلاد، ممّا يوجب تخريب البيوت بغير إذن مالكيها.

توضيح ذلك: لا شكّ أنّه لا يمكن لأحد في العصر الحاضر الاكتفاء بوسائل النقل القديمة و صرف النظر عن الوسائل السريعة الجديدة سواء لنقل الأشخاص أو الأمتعة الأثقال.

بحوث فقهية هامة، ص: 263

فلو اجتمعت أمة من الأمم على رفضها و طيّ المسافات داخل المدن و خارجها بواسطة الجمل أو الفرس و شبههما، و ترك المكائن الحديثة الجديدة في الصناعة و الزراعة و غيرها، و رفض استخدام الآلات الحربية الحديثة لكانت من أذل الأمم و أفقرها و أقلّها قدرة و أشدها حاجة إلى الغير، و لم يستقر لهم حجر على حجر. و هذا مخالف لقول الله تعالى (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) «1»، و قوله (وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) «2»، و قوله (عليه السلام)

«الإسلام يعلو و لا يعلى عليه»

«3». و إذا تعيّن استعمال الوسائل الحديثة و أدوات النقل الجديدة و هذه المصانع و الأسلحة الثقيلة وجب إحداث طرق تستوعبها؛ إذ لا يمكن الاستفادة منها في الطرق و

الشوارع الضيقة القديمة، هذا من ناحية.

و من ناحية أخرى لا يجوز تخريب بيوت المسلمين و التصرّف في أموالهم بغير إذنهم؛ لما ثبت بالعقل و النقل أنّه لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره إلّا بطيب نفسه، فإذا دار الأمر بين الأول و الثاني دخل في قاعدة الأهم و المهم و وجب الأخذ بالأهم و ترك المهم.

و من الواضح أنّ حفظ عزّة المسلمين و عظمتهم أهم، و لكن يجوز ذلك بالمقدار الواجب، فيجب تدارك خسارات البيوت التي تقع في الشوارع المستحدثة، و تنحلّ هذه العقد بفضل القاعدة المذكورة؛ فإنّ الذهاب و الإياب و العبور و المرور مع هذه الوسائل إن كان خالياً عن النظم اللازم حدث قطعاً كلّ يوم حوادث مؤلمة من هلاك النفوس و جرحها و تلف الأموال و الثروات، فمن باب مقدمة الواجب- أعني بحوث فقهية هامة، ص: 264

حفظ النفوس و الأموال بل حفظ نظام المجتمع- يجب وضع مقرّرات للمرور، و هذا- أعني حفظ مقدمة الواجب- عنوان آخر من العناوين الثانوية، و من المعلوم وجوب اتّباع هذه الضوابط إذا شرعتها الحكومة الإسلامية أو أمضتها بعد إنشائها من جهة غيرها.

2- حفظ النفوس المحترمة واجب، و قد يكون التشريح مقدمة له، و قد لا توجد أجساد غير المسلمين لهذا الأمر، فلا مناص من تشريح أجساد المسلمين، فيدور الأمر بين هتك حرمة هذه الأبدان و ترك حفظ النفوس، و من الواضح كون الثاني أهمّ، و لكن لا بدّ أن يكون ذلك بالمقدار اللازم، فيجب الاقتصار عليه و عدم التعدّي عنه.

3- في الخسارات الناشئة عن الجنايات العمدية أو الخطأ، فقد يحتاج جبرها إلى مصارف كثيرة جدّاً أكثر من مقدار الدية بمراتب.

و لقائل أن يقول: إنّ قاعدة لا

ضرر تقتضي جبران هذه الخسارات، و كيف يمكن القول بوجوب تحمّلها من ناحية المجني عليه مع أنّه لا ضرر و لا ضرار في الإسلام؟! 4- ما يضرّ بالزوجة من ناحية الزوج بحيث يكون بقاؤها في بيته حرجاً شديداً و عسراً أكيداً، مثلًا: سمعت أنّ هناك رجلًا قد ارتكب جنايات كثيرة تبلغ 18 جناية من السرقة و الفحشاء و هتك الأعراض و النفوس و.، فبقاء الزوجة معه و الحال هذه أمر متعذّر.

إن قلت: إنّ قاعدتي لا ضرر و لا حرج إنّما تنفيان الأحكام الضررية و الحرجية و لا تثبتان شيئاً من الأحكام، مثل جواز الطلاق لحاكم الشرع أو تدارك خسارة المجني عليه أو نحو ذلك.

قلنا: قد ذكرنا ذلك في محلّه و أجبنا عنه.

إلى غير ذلك من أشباه هذه المسائل التي سنتكلم فيها إن شاء الله مفصّلًا، فإنّ بحوث فقهية هامة، ص: 265

المقام مقام الإيجاز.

بقي هنا أمور يجب التنبيه عليها:
التنبيه الأول: أنّ العناوين الثانوية على قسمين:

قسم منها مبني على الضرورات، فهي تتقدّر بقدرها و لا يجوز أن يتعدى عن موردها- بحسب الزمان و المكان و سائر الخصوصيات- إلى غيرها مثل مسألة جواز أكل الميتة في المخمصة و ما يحذو حذوها. و قسم آخر ليس من هذا القبيل، فقد يبقى مدى الدهور و الأعصار، مثل جواز التشريح في أعصارنا في الجملة، و جواز إيجاد بعض الشوارع، و المحافظة على قوانين المرور.

و لا بدّ في القسم الأول- أي الضرورات و ما يضطرّ إليها- من تعيين حدود الموضوع، و ليس ذلك على عاتق الفقيه، بل فتواه تكون كلّية تشمل الموضوع المفروض وجوده.

نعم، قد يتصدّى الفقيه لتطبيق الحكم الاضطراري على موضوعه بما أنّه وليّ أمر المسلمين و يحكم حكماً خاصّاً على موضوع خاص، و لكن ليس ذلك بما أنّه مقنّن، بل

بما أنّ له ولاية الأمر، كما هو كذلك في الحكم المعروف من السيد السند العلّامة الشيرازي- المرجع الديني الأعلى في زمانه- في استعمال التنباك و أنّه بحكم المحاربة لإمام العصر صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فالفتوى هنا أنّ كلّ ما يكون سبباً لضعف المسلمين و تقوية شوكة المعتدين فهو حرام من باب أنّه مقدمة الحرام أو إعانة على الإثم، فهذه هي الفتوى الكلّية في المسألة، أما تطبيقها على خصوص التنباك في تلك البرهة من الزمان فهو من باب حكم الفقيه و الولاية الإلهية.

هذا، و من الواضح أنّ الضرورات أمور قسرية استثنائية لا تدوم و إنّما يحتاج إليها في برهة خاصة من الزمان و إن كان قد يتفاوت ذلك طولًا و قصراً.

و من هنا يعلم أنّه لا يمكن بناء أكثر القوانين في زمن طويل على الضرورات؛ فإنّ بحوث فقهية هامة، ص: 266

معنى هذا حينئذ أنّ عصر الشريعة الإسلامية قد انقضى، فإنّ أحكامه الأولية غير قابلة لإدارة شئون المجتمع، و لذا فهو يلجأ دائماً إلى المستثنيات لمعالجة ذلك.

و إن شئت قلت: الأحكام الثانوية كلّها تدور على موضوعاتها، فإذا انتفت انتفت، و موضوع الضرورة و الاضطرار أمر عارضي غالباً ما ينتفي بعد مضي زمن و لا يبقى مدى الأعصار و القرون عادة، فبناء غالب أحكام الدين عليها لا يناسب خلود الشريعة و قدرتها على إدارة الحياة و حل معضلاتها.

التنبيه الثاني: قد يقع الإفراط و التفريط في الاعتماد على العناوين الثانوية

، فيؤخذ بالضرورة و الاضطرار في كلّ شي ء فيه كلفة ما، مع أنّ غالب الأمور في حياة الإنسان لا تخلو عن كلفة، و جميع التكاليف فيها كلفة ما؛ و لذا سمّي تكليفاً، فلا يمكن رفع اليد بمجرّد ذلك و الحكم بحلّية كلّ محرّم؛ لأنّ في تركه كلفة

يسيرة و إلّا انفتح باب ارتكاب الكبائر و الصغائر على الناس، و قد رأينا بعض مَن لا خبرة له بالأحكام و موضوعاتها في عصرنا هذا يتوقّع ارتفاع الحرمة عن الكبائر و الصغائر بمجرّد أدنى ضرورة خفيفة، و لو كان الأمر كذلك فعلى الإسلام السلام.

و بالعكس نرى بعض الأفراد يوسوس في جريان لا ضرر في أبواب النكاح و غيرها، و كذا لا يرى كفاية العسر و الحرج الشديد في تجويز بعض الممنوعات، مع ما ورد من أنّه ما من شي ء حرّمه الله إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه «1»، قال الله تعالى (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) «2»، و مفهوم الدين واسع جدّاً.

التنبيه الثالث: هناك أربعة أقسام من الحكم:

1- الحكم الجاري على العناوين الأولية كوجوب الصلاة و حرمة الخمر.

بحوث فقهية هامة، ص: 267

2- الحكم الجاري على العناوين الثانوية كوجوب المقدمة و نفي الضرر و الضرار.

3- أحكام القضاء في الخصومات.

4- الأحكام الناشئة عن ولاية الفقيه.

و القسمان الأولان أحكام كلّية ترتبط بالفتوى. و الثالث أحكام خاصة جزئية حاصلة من تطبيق تلك الأحكام الكلّية على مواردها و مصاديقها في باب الخصومات. و الرابع أيضاً أحكام جزئية حاصلة من تطبيق الأحكام الكلّية على مصاديقها في ما يرتبط بالحكومة و تدبير أمور المسلمين و كلّ ما ليس له مسئول خاصّ من أمور الغيّب و القصّر و ما أشبه ذلك.

و لا شكّ أنّ جواز فصل الخصومة بين المسلمين بالقضاء حكم أولي، كما أنّ ولاية الفقيه في حدّ ذاتها من الأحكام الأولية، و لكن القاضي قد يعتمد في قضائه على الحكم الأولي لفصل الخصومة في أبواب الإرث، و قد يعتمد على العنوان الثانوي كطلاق المرأة المسلمة من باب العسر و الحرج الشديد الذي لا

يتحمّل عادة، كذلك الولي الفقيه قد يعتمد في أحكامه- مثل الحكم بقتال الكفّار المهاجمين لحوزة الإسلام- على الأحكام الأولية، فيتصدّى لتطبيق تلك الأحكام الكلّية الواردة في مسألة الدفاع مثلًا على موردها، و يبيّن ساعة القتال و مكان الشروع فيها و أمراء الجيش و سائر الأمور الجزئية الخاصة بهذه الحرب، و أخرى يعتمد في حكمه على العناوين الثانوية، مثلًا يرى استعمال التنباك في برهة من الزمان من قبيل مقدمة الحرام أو الإعانة على الإثم و يحكم بحرمته.

و الحاصل: أنّ الأوّلين حكمان كلّيان يرجعان إلى الفتاوى، و الأخيرين حكمان جزئيان يعتمدان على الأولين. و إلّا فلا يقول أحد من علماء الشيعة بجواز تشريع أحكام كلّية مخالفة للعناوين الأولية و الثانوية الواردة في الشرع من ناحية الفقيه.

و إن شئت قلت: إنّ النبيّ الأعظم (صلى الله عليه و آله) له مناصب ثلاثة: منصب النبوة و الرسالة،

بحوث فقهية هامة، ص: 268

و منصب إمامة الأمة، و منصب القضاء. و كذلك الأئمّة (عليهم السلام) لهم مناصب ثلاثة: منصب تبيين الأحكام، و منصب القضاء، و منصب الإمامة و تدبير أمر الأمة.

(4) نسبة أدلّة العناوين الثانوية إلى الأوليّة

ما هي النسبة بين أدلّة العناوين الأولية و العناوين الثانوية، هل هي الورود أو التخصيص أو الحكومة؟

لا إشكال أنّه ليست النسبة الورود؛ فإنّ موضوعات الأدلّة الأولية محفوظة عند انطباق العناوين الثانوية عليها، فإذا اضطرّ الإنسان إلى أكل الميتة فلا شكّ أنّ عنوان الميتة صادق حتّى عند الاضطرار، و كذا عنوان الغصب و التصرف في أموال الناس عند الحاجة إليه في إنقاذ الغريق، و كذا عنوان صيام رمضان عند العسر و الحرج الشديد. إلى غير ذلك، فلا ترتفع العناوين الأولية بورود أدلّة العناوين الثانوية عليها.

نعم، هي حاكمة عليها غالباً؛ بناءً على ما هو

المختار من أنّ الحكومة هي أن يكون أحد الدليلين شارحاً للآخر و ناظراً إليه نظر تفسير أو توسيع أو تضييق لدائرة موضوعه أو حكمه، فقوله تعالى (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) «1» بصراحة لفظة ناظر إلى جميع أحكام الدين و أنّها ليست حرجية، و كذلك قوله (صلى الله عليه و آله)

«لا ضرر و لا ضرار (في الإسلام)»

«2» ناظر إلى أحكام الإسلام و أنّها لا تشتمل على حكم ضرري.

و هكذا أدلّة حرمة التعاون على الإثم و العدوان بالنسبة إلى أدلّة المباحات بحوث فقهية هامة، ص: 269

الأولية، كبيع العنب ممّن يعمله خمراً و شبه ذلك، و استعمال التتن و التنباك.

نعم، قد تكون بعض أدلّة العناوين الثانوية بمنزلة الاستثناء في العناوين الأولية، كقوله تعالى (حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ.) «1».

هذا كلّه في ما إذا كان الدليل لفظياً؛ فإنّ النسب الأربع من التخصص و التخصيص و الحكومة و الورود إنّما هي ثابتة بين الأدلّة اللفظية.

و أما إذا كان الدليل على حكم العنوان الثانوي دليلًا عقلياً كقاعدة الأهم و المهم فلا تندرج في شي ء من هذه العناوين الأربعة، بل هو من قبيل الترجيح بين ملاكات الأحكام، فملاك إنقاذ المؤمن أقوى من ملاك الغصب فيقدم عليه؛ لأنّ الأحكام تابعة لما هو الأقوى من الملاكات، إلى غير ذلك من أشباهه.

خلاصة البحث:

قد تلخّص ممّا ذكرنا في هذه المقدمات:

1- أنّ المسائل المستحدثة: هي كلّ موضوع جديد يتطلّب حكماً فقهيّاً سواء لم يكن في سابق الأيام أو كان في السابق لكن بعض مصاديقه مستحدث. الأول كالترقيع و الثاني كالسفر بالطائرات بالنسبة إلى حكم التقصير.

2- و بيّنا أنّ سبب الحاجة إلى بحث المسائل المستحدثة هو كون طبيعة عالم المادة هي التحوّل الدائم، و

التحوّل في حياة الإنسان أكثر. و اعتقادنا أنّ الشريعة جاءت لجميع الناس و في كلّ الأزمنة.

3- و ذكرنا أربعين مسألة من المسائل المتعلّقة بالعبادات و المعاملات و المسائل الطبية و الأمور المختلفة.

بحوث فقهية هامة، ص: 270

4- و ذكرنا مقدمات خمس:

الأولى- افتراق مذهب الشيعة عن أهل السنّة في مثل هذه المسائل، فنحن نقول: لكلّ شي ء حكم حتّى أرش الخدش فلا يصل الدور إلى القياس و الاستحسان.

الثانية- المعروف أنّ للزمان و المكان تأثيراً في الاجتهاد.

الثالثة- أنّ الأحكام بصورة القضايا الحقيقية يشمل الأفراد الموجودة فعلًا و التي توجد مستقبلًا.

الرابعة- الإطلاق قد يكون منصرفاً انصرافاً بدوياً عن بعض الأفراد.

الخامسة- كثيراً ما تندرج المسائل المستحدثة في العناوين الثانوية، و هي ليست منحصرة في الضرورة، فقد ذكرنا اثني عشر قسماً من العناوين الثانوية.

نبذة من المسائل المستحدثة الهامة

اشارة

1- مسألة تحديد النسل و تقليل المواليد.

2- إسقاط الجنين.

3- ضمان الطبيب لما يتلف بطبابته.

4- حكم التشريح في الشريعة الإسلامية.

5- الترقيع و الزرع.

6- أحكام البنوك.

7- أحكام المعاملات المصرفية.

8- أحكام الأوراق المالية.

1- مسألة تحديد النسل و تقليل المواليد

اشارة

يدور حوار واسع و نقاشات كثيرة بين علماء الدين من جهة، و بين خبراء علم الاجتماع من جهة أخرى حول هذه المسألة، فذهب جماعة من علماء المسلمين إلى عدم جواز ذلك، أو لا أقلّ من أنّه مرجوح في الشريعة الإسلامية نظراً إلى أنّ كثرة الأولاد أمر راجح في الشريعة، و سبب لكثرة نفوس المسلمين في أقطار الأرض، و ازدياد النفوس موجب لازدياد قوّتهم و شوكتهم و ثقل الأرض بكلمة لا إله إلّا الله.

هذا مضافاً إلى ما يظهر من القرآن المجيد من أنّ كثرة الأولاد من نِعم الله تبارك و تعالى.

قال في سورة نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) «1».

فقد جعل في هذه الآية الشريفة الأمداد بالبنين إلى جانب الأمداد بالأموال من نِعم الله تعالى، و من قبيل الغيث الهاطل و السحاب الماطر و الأنهار العظيمة و الجنّات الرائعة.

و قد ورد في غير واحدة من الروايات مدح كثرة الأولاد، فكيف يمكن القول بحوث فقهية هامة، ص: 274

بترجيح تحديد النسل و تقليل المواليد؟ و في المقابل يقف القائلون برجحان بل بوجوب تحديد النسل في زماننا هذا مستندين إلى أمور:

الأمر الأوّل: أنّ تقدّم علمي الطب، و الوقاية الصحّية من جهات كثيرة صار سبباً لبقاء الأطفال، بخلاف العصور السالفة. فكان لا يبقى من عشرة أطفال يولدون إلّا اثنان أو ثلاثة على قيد الحياة.

الأمر الثاني: كان الجوع و القحط يهدّدان حياة الكثير

من الناس لعدم إمكان نقل الأرزاق و المؤن بين البلدان النائية، على عكس زماننا هذا فإنّه لو وقع القحط أو المجاعة في قطر من الأقطار فسوف تأتي إليه الأرزاق من سائر البلدان.

الأمر الثالث: كان متوسّط الأعمار في السابق أقلّ منه كثيراً بالنسبة إلى زماننا؛ لسوء التغذية و شيوع الأمراض و عدم وجود المياه النقيّة، إذ كانت مياههم ملوّثة جدّاً ممّا يجعلها سبباً لفساد الأمزجة و انتشار الأمراض و خصوصاً مياه الحمامات التي كانت تخلف آثاراً سيئة و مضرّة على بدن الإنسان و بيئته.

كلّ ذلك و غيره صار سبباً لتكاثر النفوس يوماً بعد آخر بشكل رهيب و هائل. ممّا يسبّب مشاكل أساسية عظيمة من عدّه جوانب كالتغذية، و التعليم، و التربية، و الوقاية من الأمراض و غيرها، هذا مضافاً إلى مشكلة الفقر و التخلّف العلمي و الاقتصادي و الثقافي التي تخلّفها كثرة النفوس؛ و ذلك لأنّ جميع إمكانيات المجتمع تستهلك في مجالات التغذية و شبهها و لا يبقى ما يصرف في بناء البلاد و تطويرها أو التقدّم في الجانب العلمي و الصناعي.

و حينئذ فلو أن المسلمين لم يقوموا بتحديد النسل لتأخّروا عن الركب الحضاري و استولى عليهم الفقر. و بالمقابل لو أقدم أعداؤهم عليه؛ لحصل لهم التقدّم في جميع شئون الحياة و لازدادت قوّتهم و شوكتهم، بل لاحتاج المسلمون إليهم بحوث فقهية هامة، ص: 275

حاجة شديدة تؤدّي إلى اتّكالهم عليهم في الأمور الحيوية.

فالواجب عليهم تحديد النسل، و إن شئت قلت: اللازم استبدال الكثرة من حيث الكم بالكثرة من حيث الكيف، أعني إيجاد جيل من العلماء و الاختصاصيّين و الخبراء في شتّى أقسام العلوم، إن شاء الله تعالى.

و على كلّ حال فاللازم طرح عنوان المسألة أوّلًا، ثمّ

ذكر أدلّة الطرفين و ما يتحصّل منها ثانياً، و بيان تفاوت الظروف ثالثاً، و ذكر طرق التحديد من الحرام و الجائز و الواجب على القول به رابعاً.

أوّلًا: عنوان المسألة:

أمّا عنوان المسألة، فلا شكّ في أنّه لا يجب تكثير الأولاد بطبيعة الحال، و لم يقل أحد بوجوبه بالعنوان الأوّلي. نعم قد يكون واجباً في فروض نادرة بالعنوان الثانوي.

فيبقى أن يكون الكلام في رجحانه و عدم رجحانه. فالقائل بالرجحان يراه مستحبّاً، و القائل بعدمه يراه مكروهاً أو حراماً.

ثانياً: أدلّة الطرفين:
أمّا أدلّة القائلين برجحان الكثرة

فهي آيات من الذكر الحكيم و روايات كثيرة.

أمّا الآيات: فمنها: ما عرفت في قصّة نوح بما مضى من البيان.

و منها: ما ورد في قصّة بني إسرائيل، و أنّ الله منَّ عليهم بزيادة الأموال و البنين، فقال تعالى (وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) «1»، فكونهم بحوث فقهية هامة، ص: 276

أكثر نفيراً فذلك من نِعم الله عليهم.

و منها: ما ورد في قصّة قوم هود فقال تبارك و تعالى (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ) «1».

و منها: أنّه قد ورد في أكثر من عشر آيات من الذكر الحكيم أنّه جعل الأموال و الأولاد قرينين، و هي تدلّ على أنّ كليهما سبب للقوّة و القدرة: أمّا الأوّل فهو سبب للقدرة الاقتصادية و أمّا الثاني فهو سبب للقدرة الإنسانية و البشرية، و كلّ واحد منهما يكمل الآخر كما لا يخفى.

فجميع ذلك دليل على أنّ كثرة الأولاد سبب للقوّة و العزّة و الشوكة.

و أمّا الروايات: فهي أيضاً كثيرة، و يمكن تقسيمها إلى قسمين:

الأوّل: و هو القسم الغالب: ما يدلّ على كون الولد من العطايا الإلهية و النعم المباركة. و لكنّها خارجة عن المقصود؛ لأنّ الكلام ليس في صِرف وجود الولد، بل الكلام في كثرة الأولاد. فالاستدلال بهذه الروايات خروج عن طور البحث «2».

الثاني: ما يدلّ على أنّ كثرة الولد مطلوبة.

1- منها: ما رواه في الوسائل في أبواب أحكام

الأولاد، عن محمّد بن مسلم، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)

«أكثروا الولد أكاثر بكم الأمم غداً»

«3». 2- و منها: ما ورد في رواية أخرى عن محمّد بن مسلم أو غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)

«تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة»

«4».

بحوث فقهية هامة، ص: 277

3- و منها: ما ورد في باب رفع الصوت بالأذان في المنزل لطلب كثرة الولد، عن هشام بن إبراهيم أنّه شكا إلى أبي الحسن (عليه السلام) سقمه و أنّه لا يولد له، فأمره أن يرفع صوته بالأذان في منزله، قال: ففعلت فأذهب الله عنّي سقمي و كثر ولدي «1». و صدره ناظر إلى مجرّد تولّد الأولاد، و لكن ذيله ناظر إلى كثرتهم.

4- و منها: ما ورد في مَن رزقه الله ثمان بنات من دون بنين فشكا إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فأمره بأمر ففعله، فرزق سبع بنين «2».

و العمدة الروايتان الأوليان؛ لأنّ الأخيرتين لا تخلوان من ضعف في الدلالة، و هذه عمدة في هذا الباب.

و قد يلاحظ على الآيات و الروايات الآنفة الذكر، بأنّها ليست من قبيل القضايا الحقيقية التي تجري في كلّ زمان، بل من قبيل القضايا الخارجية. بمعنى أنّها ناظرة إلى زمان كانت كثرة الأولاد دليلًا على القدرة و الشوكة، بحيث كانت الأقوام تتفاخر بكثرة الأموال و الأولاد مثل ما حكاه الله تبارك و تعالى عن المترفين في الأمم السالفة بقوله (وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) «3». فهذا دليل على

أنّ الأمر في كثير من الأمم الماضية كان كذلك؛ أي كانت كثرة الأولاد مثل كثرة الأموال سبباً لازدياد القوّة و الاقتدار.

و كقوله تبارك و تعالى في مقام تهديد المنافقين في سورة التوبة (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً) «4»، و هي صريحة في أنّ كثرة.

بحوث فقهية هامة، ص: 278

الولد و المال كانت من أسباب القوّة و القدرة.

و قال تعالى أيضاً في سورة القصص مشيراً إلى قارون المستكبر (أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً) «1». و هذه الآية تدلّ على أنّ كثرة الجمع أمر قرين للقوّة.

و حينئذ لو ثبت لنا بالأدلّة القطعية أن كثرة النفوس في بعض الأزمنة توجب الضعف و الوهن و الفقر و الجهل و المرض و البطالة، فلا تكون أمراً يفتخر به، بل تكون سبباً للتواني و الفشل. و بذلك تخرج عن شمول تلك الآيات و الروايات؛ لأنّها وردت في ظروف أخرى ناظرة إلى أناس آخرين. و أنت ترى في العصر الحاضر أنّه لا يفتخر إنسان على غيره بأنّي أكثر منك مالًا و ولداً، نعم يمكن أن يفتخر بماله، و لكن لا يفتخر بكثرة أولاده.

و ممّا يشهد على ما ذكرناه قوله تعالى في سورة الأنفال مخاطباً للمسلمين (وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) «2». فكان المسلمون قليلينَ بحيث يمكن أن يتخطّفهم الناس، فوجب عليهم في هذه الظروف الاهتمام بكثرة الأفراد و تكثير الأولاد، حتّى لا يقدر أعداؤهم على السيطرة عليهم.

[أدلة القائلين بتحديد النسل
اشارة

أمّا لو فرض زمان تكون الكثرة فيه سبباً للاستضعاف فلا شكّ أنّ الحكم

يتغيّر.

كما هو الأمر في زماننا فقد صارت كثرة النفوس سبباً للضعف و الفتور و التخلّف، و تشهد لذلك عدّة مؤشّرات:

1- كان كثرة النفوس في السابق سبباً للتقدّم و الغلبة

، لا سيّما في الحروب، فإنّ بحوث فقهية هامة، ص: 279

الأدوات الحربية و الأسلحة كانت بصورة بدائية و بسيطة لا تحتاج إلى علم خاصّ؛ و كذلك الأمر بالنسبة للزراعة و بناء الأبنية و ما شابه ذلك من مرافق الحياة. و لكن في زماننا أصبحت هذه الأمور أكثر تعقيداً حيث تحتاج إلى علوم مختلفة، فالتقدّم و الغلبة سواء في الحروب أو في شئون و مجالات الأخرى للحياة إنّما يحصل بوجود كوادر علمية متخصّصة بفنون الأسلحة الحديثة و الصناعات البديعة و الآلات المستحدثة. فالمطلوب الكثرة من الناحية الكيفية و إن كانوا قلّة من جهة العدد و الكم، فكم من فئة قليلة من العلماء و المتخصّصين بهذه الفنون في عصرنا غلبت فئة كثيرة جاهلة ضعيفة. نعم، للإيمان بالله و اليقين و الصبر دوره الخاصّ الذي لا ينكر.

و لذا نرى بعض الدول الغاصبة قد استولت على كثير من بلاد المسلمين بالرغم من قلّة عدد نفوسها- بالنسبة للمسلمين- و ذلك لتقدّمهم من الجهات المذكورة.

ففي الواقع انقلب موضوع الحكم و تغيّر، و تبدّل الموضوع سبب لتبدّل الحكم. فالأوْلى أن يقال إنّ الكثرة مطلوبة في عصرنا أيضاً، و لكن بشرط اقترانها بالعلم و الخبرة في سائر ميادين الحياة، لا الكثرة بمجرّد العدد.

و ممّا يدلّ على أنّ الكثرة العددية كانت مطلوبة في فروض خاصّة هو تركيز الكلام في غير واحدة من الآيات على البنين دون البنات، فقال تعالى في قصة نوح (وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ) «1» و قال تعالى في قصّة هود (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ) «2».

[العجز عن توفير الحدّ الأدنى من متطلّبات الحياة عند تزايد السكان

2- ما نشاهده في بعض البلدان، مثل الهند و الصين من تزايد النفوس بشكل هائل بحيث عجزت حكوماتهم عن توفير الحدّ الأدنى من متطلّبات الحياة

بحوث

فقهية هامة، ص: 280

الأساسية كالطعام و المسكن، فأصبح الكثير منهم- لا سيّما في الهند- يعيشون على حافات الطرق مع فقر شديد، يولدون و يموتون فيها، فهل تعدّ مثل هذه الكثرة دليلًا على القوّة و القدرة أم هي من أسباب الضعف و الوهن و الهلاك؟

و لعلّك تقول إنّهم قصّروا في تحصيل ما يجب عليهم من وسائل و إمكانيّات الحياة، فلو لا تقصيرهم لكانوا جماعة عظيمة قويّة غنيّة من جميع الجهات.

و لكن سيأتي- إن شاء الله تعالى- أنّ ذلك مجرّد فرض لا يوافق الواقعيّات، و أنّ المحاسبات الدقيقة تشهد بأنّ كثرة المواليد لو لم تكن تحت ضابطة لتفاقمت و تحوّلت إلى مشكلة تعيق سائر الخطط و المشاريع الحيوية.

[محدودية الموارد الطبيعية]

3- لا شكّ في أنّ نِعم الله تعالى عنده في خزائنه، و لكن ينزّلها بقدر معلوم؛ و لذا نرى أنّ الإمكانيات الطبيعية الموجودة على وجه الأرض برّها و بحرها تشكّل مقداراً معيّناً يمكن إحصاؤها وفق المحاسبات الدقيقة. فالمساكن و المياه القابلة للري و الشرب و مصادر الحرارة و الأراضي القابلة للزراعة و المعادن و غيرها، ليست على نحو لا تنفد أبداً؛ فلا بدّ من تدبير الأمور بنحو لا يوجب العسر و الحرج، مع العلم بأنّ النفوس إذا ازدادت بشكل غير طبيعي لم يبق مجال لحياة هادئة و عيشة راضية.

و بعبارة أخرى: أنّ الله تعالى جعل في الإنسان العقل و الدراية و لازمه التدبير في الأمور، فلو رأى أنّه إذا بذل غاية مجهوده لم يقدر على تربية أكثر من ولدين مثلًا من حيث تأمين الأحاجات المادية و المعنوية، لزم عليه الأخذ بما هو الموافق لقدرته و وسعه في ذلك.

إن قلت: إنّ الفقر و الجهل و أمثالهما لا ينشأ من ازدياد

النفوس، بل ينشأ من عدم تنفيذ العدالة الاجتماعية، و من تفشّي الظلم و الفساد في المجتمعات، و سياسةً الدول الاستعمارية و غير ذلك. فلو عمل الناس بما يجب عليهم من التكاليف الإلهيّة من العدالة و شبهها، لم يبق فقير محتاج مهما ازدادت النفوس.

بحوث فقهية هامة، ص: 281

و يشهد الخبراء أنّ بلدنا- مثلًا- قادر على التحكّم بمياه الأمطار و الأنهار و الانتفاع بها في الزراعة و التنمية بإحداث القناطر و السدود و.، و أنّ الأراضي الصالحة للزراعة و القابلة للتنمية أكثر بكثير من التي ينتفع بها الآن، و كذلك الحال بالنسبة للمعادن و غيرها.

فلو بذلنا غاية الجهد و انتفعنا بجميع ما خلق الله لنا من النعم الوافرة، لأمكن العيش لجموع كبيرة حتّى لو بلغت أضعاف العدد الموجود.

قلت: نعم، الأمر كذلك في الجملة، و لكن هنا أمران لا بدّ من ملاحظتهما في هذا البحث الخطير جدّاً.

أحدهما: أن البحث الذهني الكلّي غير مفيد في هذه المباحث، بل لا بدّ من الرجوع إلى الأعداد و الأرقام، و محاسبتها لمعرفة عدد السكان مثلًا بعد عشرين سنة أو خمسين سنة، مع فرض ازدياد النفوس على النحو الموجود، ثمّ محاسبة الأرقام فيما يخصّ الأراضي و المياه و غيرها. و مجرّد القول بأنّ هذا يكفي مع ازدياد النفوس مهما كان أمر وهمي. فهو أشبه شي ء بما إذا كانت لشخص كميّة كبيرة من المواد الغذائية في مخازن بيته، فقال لأصدقائه ادعوا كلّ من مررتم به إلى بيتي، من دون حساب عدد الضيوف المدعوّين، و كمّية المواد الغذائية الموجودة عنده.

ثمّ إنّ الخبراء يصرّحون بأنّ النفوس لو تزايدت بهذا النحو الموجود، لم تكفهم المياه الموجودة، و كذا الأراضي مهما كانت.

ثانيهما: أنّ إحياء هذه الأراضي مثلًا و

السيطرة على موارد المياه الموجودة لا يمكن أن ينجز في يوم و ليلة، بل يحتاج إلى زمن طويل مثلًا في عشرين سنة أو خمسين أو أكثر، و عمدة المشاكل إنّما هي طول هذه الفترة، و أنّه لو لم نأخذ بما يمنع من الزيادة السكانية في هذه المدّة لبلغ العدد إلى حدٍّ يستحيل معه الوصول إلى تلك الغاية قطعاً.

بحوث فقهية هامة، ص: 282

و الأوْلى أن يقال: إنّ سيرة الفقه و الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم استقرّت على استنباط الأحكام الكلّية و الرجوع في تشخيص الموضوعات إلى العرف، فإن كانت من الأمور التي تحتاج إلى مراجعة ذوي الخبرة حيث لا يقدر على فهمها كلّ أحد فلا بدّ من الرجوع إليهم.

و اللازم في المقام أيضاً الرجوع إلى خبراء و متخصّصي علم الاجتماع بشرط أن يكونوا مسلمين موثّقين معتمدين- و هذا ديدنهم في جميع الأبحاث الفقهيّة- فلو شهدوا أنّ ازدياد النفوس بهذا النحو سوف ينتهي إلى كإرثه كبيرة لا ينفع معها توسيع الأراضي الزراعية بالقدار الممكن و لا غيرها، فلا بدّ من الأخذ بآرائهم في إثبات هذه الموضوعات و عدم التخطّي عن قولهم، و إلّا لم يكن الفقيه معذوراً أمام الله إذا تسبّب ذلك في حدوث كإرثه، أو صار المسلمون أذلّاء فقراء و جهلاء يمدّون يد الحاجة إلى غيرهم، و يرزحون تحت نير السلطات الكافرة لا سمح الله.

و أمّا ما يدلّ على أنّ الرزق بيد الله فهو حقّ لا ريب فيه، و لكنّ الله أعطانا عقلًا و فهماً و شعوراً، أوضح لنا طريق تحصيله بالأسباب الموجودة، فلو تعدّينا الأسباب و وقعنا في العسر و الشدة كان ذلك بما كسبت أيدينا. و هل يمكن لنا أن ندعو ضيوفاً كثيرين و

نقول إنّ رزقهم على الله من دون ملاحظة ما بأيدينا لإطعامهم و رزقهم؟ و قد ورد في الروايات: أنّه لا بدّ للمؤمن من تقدير المعيشة، و ليس تقدير المعيشة إلّا الأخذ بمقتضى حكم العقل في تدبير أمور الحياة.

ثالثاً: تفاوت الظروف:

من أهمّ ما يجب الاهتمام بشأنه و الالتفات له أنّ المنع عن زيادة النفوس ليس حكماً مطلقاً باتّاً لجميع الأزمان، بل هو خاصّ بالظروف الموجودة الراهنة في كثير من البلدان، فلو تغيّرت الظروف تغيّر الحكم، بل هناك بعض البلدان لا بدّ فيها من بحوث فقهية هامة، ص: 283

الاهتمام بالزيادة، مثل فلسطين المحتلّة في إزاء الصهيونية الغاصبة. فالصهاينة مصرّون على تكثير النفوس و لو بالهجرة من سائر البلدان. و يسمع أنّهم يمنحون جوائز لمن يزيد في عد أولاده.

ففي مقابل هؤلاء يجب بذل الجهد من أجل ازدياد نفوس المسلمين كي لا تتغيّر الموازنة بضرر المسلمين.

و كذا إذا كانت الحرب قائمة و النفوس معرّضة للخطر، ففي مثل هذه الظروف أيضاً لا ينبغي تحديد النسل.

و لكن إذا لم يكن شي ء من ذلك و شهد أهل الخبرة من أهل الإيمان و الوثوق أنّ ازدياد النفوس يوجب واحداً من الأربعة الموحشة أو جميعها- الفقر و الجهل و المرض و الفراغ (البطالة)- حينئذ يجوز، بل قد يجب تحديدة بالمنع عن الكثرة؛ لتغيّر الموضوع و تبدّله، و الحكم تابع لموضوعه.

فالمقامات مختلفة و أحكامها أيضاً مختلفة.

رابعاً: طرق تحديد النسل:
اشارة

طرق التحديد كثيرة و تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يخالف الشرع قطعاً بعنوانه الأوّلي

، و هو على أنواع كثيرة: منها إسقاط الجنين، و منها ترك الزواج و الإقبال على المحرّمات و الشذوذ الجنسي. و قد روّج الغرب الاستكباري لهذه الأطروحة أخيراً و دافع عنها. و صارت مسألة تحديد النسل ذريعة إلى الفساد الجنسي، و هي في الحقيقة كلمة حقّ يراد بها باطل. و منها استعمال ما يوجب العقم في الرجال أو النساء إمّا بتناول بعض الأدوية، أو بسدّ الأنابيب التناسلية في الرجل أو المرأة، أو ما يشابه ذلك. و هذا أيضاً غير جائز؛ لأنّه سبب لنقص دائم في العضو، و تترتّب عليه مفاسد كثيرة فيما إذا

بحوث فقهية هامة، ص: 284

تغيّرت الظروف و كان اللازم إنجاب الأولاد من جديد. كأن طلّقت الزوجة و أخذ منها أولادها، أو ماتوا في بعض الحوادث المفاجئة غير المترقّبة و ما شابه ذلك. فيردُ عليهما من الندم ما لا يطاق، بل التجارب تشهد بأنّ حالة الندم تتجسّد بمجرّد تصوّر مثل تلك الحوادث و لو لم تقع فعلًا.

نعم، لو لم يحصل العقم الدائم، بل كان مؤقتاً قابلًا للرجوع إلى حالة إمكان الأنجاب بعد حين، فلا دليل على حرمته.

الثاني: ما يكون جائزاً ذاتاً و لكن قد يلازم أمور محرّمة

مثل نصب بعض الآلات في رحم المرأة، أو العقم المؤقّت عن طريق سدّ الأنابيب التناسلية أو أشباههما، فإنّها جائزة عندنا لعدم قيام دليل على الحرمة ذاتاً، و لكن لا يمكن الوصول إليها عادة إلّا عن طريق نظر الأجنبي إلى ما لا يحلّ له، أو لمس ذلك، فلو لم يكن هناك ضرورة تبيح ذلك لم يجز، و هذا مثل رجوع المرأة إلى الطبيب الأجنبي فإنّه لا يجوز إلّا عند الضرورة المبيحة لذلك.

الثالث: ما لا حرمة فيه ذاتاً و بالعرض

، مثل استعمال الحبوب المانعة من الحمل ما دامت تنتفع بها، إذا لم يكن فيها ضرر خاصّ معتدّ به.

و مثل عزل المني خارج الرحم، و كذا استعمال الغلاف الذي يمنع عن صبّه في الرحم.

و هكذا الاعتماد على الجداول الزمانية التي تبيّن زمان انعقاد النطفة في أوقات خاصّة.

2- إسقاط الجنين

اشارة

إنّ من المسائل المستحدثة مسألة إسقاط الجنين، فنذكر أسباب الإسقاط، ثمّ حكمه من الأدلّة الأربعة و حكم ما يتعلّق بإسقاطه من الدية، و هل يلحقه حكم القصاص إن كان عن عمد و قد ولجته الروح؟ و أنّه هل يجوز إسقاطه إذا توقّفت حياة أُمه عليه؟ إلى غير ذلك من المسائل التي سوف نتعرّض لحكمها تباعاً.

أوّلًا: أسباب الإسقاط:

يمكن ذكر عدّة أسباب في هذه المجال، منها:

1- إنقاذ الأمّ من الخطر و الضرر إذا كان بقاء الجنين سبباً في مرضها أو موتها.

2- قد يعلم من الاختبارات القطعيّة أو القريبة من القطع أنّ الجنين سيولد ناقص الخلقة جسماً أو عقلًا، أو كليهما، ممّا يكون في ذلك العسر و الحرج الشديدين عليه و على أبويه أو على المجتمع، فيكون في ولادته كذلك سبباً في الآلام النفسية و الجسمية للجميع، فهل يجوز إسقاطه في مثل هذه الحالة؟

3- إذا خيف على المجتمع من تزايد النفوس الذي قد يسبّب مشاكل كثيرة، حتّى قيل إنّ ضرر تزايد النفوس يفوق ضرر القنبلة الذرية، فهل يجوز إسقاطه دفعاً لذلك؟

ثانياً: الحكم الأوّلي للإسقاط:
اشارة

إنّ إسقاط الجنين من المحرّمات القطعيّة في الشريعة الإسلامية بعنوانه الأوّلي، و على ذلك دلّت الأدلّة الأربعة من الكتاب و السنّة و العقل و الإجماع.

أ- الكتاب العزيز:

لا يبعد شمول آيات حرمة قتل النفس له بعد تمام الخلقة و ولوج الروح فيه، في مثل قوله تعالى (وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)* «1»؛ لصدق النفس عليه كذلك.

نعم، شمولها لدون ما ذكر- من مراحل تكامل الجنين كما إذا تمّ و لم تلجه الروح بعد- مشكل جدّاً فكيف بما دون ذلك من المراحل؟! إذ لا حياة إنسانية له و إن كان ذو حياة نباتية.

ب- السنّة:

و ممّا يدلّ على حرمته الروايات الكثيرة البالغة حدّ التواتر أو القريبة منه، المرويّة في الجوامع المعروفة بين الفريقين، الدالّة على وجوب الدية عليه. و قد عرفت أنّها بالدلالة الالتزامية تدلّ على حرمته؛ لأنّها جابرة للخسارة الحاصلة عن الإسقاط بالجناية عليه و على الغير، و أنّ العمد في ذلك حرام قطعاً بدون إذن الشارع المقدّس.

ج- العقل:

فهو يدلّ على حرمة الظلم، و إسقاط الجنين ظلم فاحش، بل من أفحش الظلم؛ لأنّه اعتداء على من لا يقدر على الدفاع عن نفسه، و قد راج ذلك في بعض المجتمعات الغربية التي لا تأبى عن ارتكاب الشنائع و المظالم التي يحكم بحوث فقهية هامة، ص: 287

العقل و الضمير البشري بمنعها لقبحها.

د- الإجماع: و قد أجمع علماء الإسلام على إيجابه الدية

جبراً للخسارة بسبب الجناية العمدية على الغير و هي محرّمة، و في ذلك قال شيخ الطائفة: «دية الجنين التامّ إذا لم تلجه الروح مائة دينار، و قال جميع الفقهاء ديته غرّة عبد أو أمة، و قال الشافعي: قيمتها نصف عُشر الدية خمسون ديناراً أو خمس من الإبل.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، و طريقة الاحتياط تقتضي أيضاً ذلك» «1».

فالأقوال في ذلك ثلاثة: مائة دينار، و خمسون ديناراً، و عبد أو أمة، هذا كلّه مع كون الجنين تامّ الخلقة لكن لم تلجه الروح بعد، و أمّا فيما دونه فالدية أقلّ من ذلك. و قد عرفت أنّ الأصل في وجوب الدية كونها بسبب الجناية، و الجناية العمدية محرّمة قطعاً.

إن قلت: أ ليست الدية واجبة على مَن يريد الأخذ بحقّ القصاص من رجلين قتلا رجلًا؛ إذ لا بدّ من دفع نصف دية كلّ منهما ليجوز القصاص منهما.

قلت: لا يجوز القصاص منهما إلّا بإذن الشارع، و من دونه يكون محرّماً قطعاً، و مثل هذا الاستثناء لا يمنع من حرمة الجناية العمدية بعنوان كونها قاعدة كلّية بسبب وجوب الدية.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ حرمة إسقاط الجنين بعنوانه الأوّلي ممّا لا ينبغي الريب فيها، و لا يعتريها أدنى شكّ، فإن قيل بجوازه في بعض المواضع فذلك لطرو العناوين الثانوية عليه.

هذا مضافاً إلى ما ورد في بعض الروايات الخاصّة مثل رواية إسحاق

بن عمّار،

بحوث فقهية هامة، ص: 288

قال قلت لأبي الحسن (عليه السلام): «المرأة تخاف الحبَل، فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها؟ قال: لا، فقلت: إنّما هو نطفة، فقال: إنّ أوّل ما يخلق نطفة»

«1». و ظاهر النهي الحرمة، و قوله: «تخاف الحبل» دليل على عدم الجواز حتّى في فرض الشكّ احتياطاً في النفوس، إلّا أن يكون المراد من خوفها الحبل هو الحبل المعلوم الذي تخاف من عواقبه.

ثالثاً: حالات الجنين:

و هي عديدة، و العمدة فيها ثلاث حالات:

1- ما لم يتمّ خلقه بحصول الصورة الإنسانية له، كما إذا كان نطفة أو علقة أو مضغة أو عظاماً، و قبل أن تكسى العظام لحماً، و قبل أن يشقّ له السمع و البصر و تتمّ سائر أعضائه.

2- إذا تمّ خلقه و لم تلجه الروح بعد، فيكون حيّاً حياةً نباتية لا إنسانية، و هو من هذه الجهة كالإنسان الميّت الذي لا روح له.

3- إذا ولجته الروح تمام الأربعة أشهر- على ما هو المعروف- و يكون حيّاً بحركته في بطن أُمّه، و لذلك حالتان: فتارة يولد حيّاً كما إذا أتى عليه ستّة أشهر تامّة على قول أو سبعة على آخر، و أخرى يولد و لا يبقى حيّاً كما إذا كان أقلّ من ستّة أشهر.

و من الواضح أنّ لكلّ واحدة من الصور المذكورة حكماً، ففي الأولى لا يصدق عليه أنّه إنسان بالفعل- دون القوّة- لا حيّاً و لا ميّتاً، فالنطفة ليست إنساناً بالفعل، و إن كان لها قابلية ذلك في المستقبل، و إطلاق الإنسان عليه مجازي كإطلاق النخلة على النواة.

بحوث فقهية هامة، ص: 289

و كذا الكلام في الصورة الثانية، فإنّ له بالإنسان الميّت شبهاً من بعض الجهات، و لذا ورد في الروايات تشبيهه به، و حكم

الشارع باتّحاد ديتهما، فالجناية عليه كالجناية على جسد الميّت لكن لا من جميع الجهات.

نعم، في الصورة الثالثة يصدق عليه عنوان الإنسان و يكون قتله كقتل الإنسان في الجملة لما سيأتي من أنّ إجراء جميع أحكام المتولّد الحيّ عليه لا يخلو من إشكال.

رابعاً: الدية في الجناية على الجنين:

لا ريب في ثبوت الدية في الجناية على الجنين، فالمشهور أنّ النطفة فيها عشرون ديناراً، و العلقة أربعون، و المضغة ستون، و العظام ثمانون، و في تام الخلقة من دون أن تلجه الروح مائة، و في ولوج الروح دية كاملة، فإن كان الجنين ذكراً ففيه ألف دينار و إن كان أنثى فخمسمائة.

و حيث إنّ الدية بمثابة التدارك لما يفوت العائلة من المنافع الاقتصادية تكون دية الذكر أكثر من دية الأنثى؛ إذ من الواضح أنّ ما يفوت بموت الرجل من المنافع المادية أكثر ممّا يفوت بموت الأنثى كما هو الغالب، فالفرق بين الذكر و الأنثى لا يعود إلى الإنسانية لتكون المرأة بمنزلة نصف الذكر، بل يعود لما ذكرنا.

استند المشهور في كلّ ذلك إلى معتبرة ظريف المروية بطريق الكليني (رحمه الله) بأسانيده إلى كتاب ظريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال «جعل دية الجنين مائة دينار، و جعل منيّ الرجل إلى أن يكون جنيناً خمسة أجزاء، فإذا كان جنيناً قبل أن تلجه الروح مائة دينار.، و المائة دينار خمسة أجزاء، فجعل النطفة خمس المائة عشرين ديناراً، و للعلقة خمسي المائة أربعين ديناراً، و للمضغة ثلاثة أخماس المائة ستّين ديناراً، و للعظم أربعة أخماس المائة ثمانين ديناراً»

«1».

بحوث فقهية هامة، ص: 290

و أيضاً إلى ما رواه سليمان بن صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام)

«في النطفة عشرون ديناراً، و في العلقة أربعون ديناراً، و في المضغة ستون

ديناراً، و في العظم ثمانون ديناراً، فإذا كسي اللحم فمائة دينار، ثمّ هي ديته حتّى يستهلّ، فإذا استهلّ فالدية كاملة»

«1»، إلى غير ذلك من روايات الباب.

و المراد من الاستهلال- بقرينة ما ذكر في سائر روايات الباب- ولوج الروح فيه، كما صرّحت به بعض الروايات و لاشتهاره بين الأصحاب.

و قال الإسكافي: «بأنّ الدية فيه غرّة عبد أو أمَة»، و قال العماني: «بأنّ فيه الدية كاملة استناداً إلى روايات لا تقاوم أدلّة المشهور و لإعراض الأصحاب عنها». «2»

خامساً: حكم القصاص في الجنين:

و هل يكون في الجنين القصاص إذا كانت الجناية عليه عن عمد؟ لا ريب في عدم ثبوت القصاص في الحالتين الأولى و الثانية قطعاً، إنّما الكلام فيما إذا تمّ خلقه و ولجته الروح، فهل يقاد الجاني عليه؟ الذي يظهر من بعض الكلمات شمول القصاص له، فلو ضرب الحامل عالماً بحملها، فأسقط ما في بطنها، يقتصّ منه و لو لم يقتلها، و لعلّ مقتضى إطلاقات القصاص في القتل العمدي هو شمولها له؛ لصدق عنوان قتل النفس عليه «3».

لكن ظاهر غير واحد من النصوص، بل الفتاوى عدم ترتّب غير الدية عليه كما عن المحقّق، قال: «و لو ألقت المرأة حملها مباشرة أو تسبيباً فعليها دية ما ألقته، و لا

بحوث فقهية هامة، ص: 291

نصيب لها من هذه الدية» «1»، و هو شامل لقتل العمد، بل ظاهر قوله: «لا نصيب لها من الدية» كونه كذلك لمانعية القتل من إرث الدية. و قد أقرّه في الجواهر على ذلك بعد نقل المتن بقوله: «بلا خلاف و لا إشكال في ثبوت الدية عليها بل و في عدم إرثها أيضاً مع العمد» «2»، و هو ظاهر في كون المسألة إجماعية من دون تفصيل بين صورتي ولوج الروح

و ثبوت القود و القصاص فيها بقتل الجنين و عدمه، بل ظاهر روايات الباب ذلك، منها:

1- ما رواه سعيد بن المسيّب، قال سألت عليّ بن الحسين (عليهما السلام) عن رجل ضرب امرأة حاملًا برجله فطرحت ما في بطنها ميّتاً

- إلى أن قال:-

«و إن طرحته و هو نسمة مخلّقة له عظم و لحم مزيل [مرتّب الجوارح قد نفخت فيه روح العقل فإنّ عليه دية كاملة»

«3». 2- ما رواه أبو عبيدة في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)

في امرأة شربت دواءً و هي حامل لتطرح ولدها فألقت ولدها، قال: «إن كان له عظم قد نبت عليه اللحم و شقّ له السمع و البصر فإنّ عليها دية تسلّمها إلى أبيه»

- إلى أن قال:-

قلت: فهي لا ترث من ولدها من ديته؟ قال: «لا؛ لأنّها قتلته»

«4»، و هي صريحة في كون الجناية عن عمد و في كون الولد كاملًا، و أنّها كالصريحة في عدم القود مع أنّ المعروف أنّ الأمّ تقتل بقتل ولدها عمداً، و بذلك صرّح في الجواهر بأنّه لا يجد فيه خلافاً إلّا من الإسكافي الذي وافق العامّة على ذلك، قياساً على الأب و استحساناً «5»، فلو كان بحوث فقهية هامة، ص: 292

القصاص هو الواجب الأوّلي لوجب ذكره في الحديث مع اعتبار سنده.

3- عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال سألته عن الرجل يضرب المرأة فتطرح النطفة فقال: «عليه عشرون ديناراً»

،- إلى أن قال:-

«إذا كان عظماً شقّ له السمع و البصر و رتّبت جوارحه، فإذا كان كذلك فإنّ فيه الدية كاملة»

«1»، و هي مطلقة تشمل صورة العمد و غيرها.

و الحاصل: فروايات دية الجنين و إسقاطه عمداً أو خطأً على كثرتها ليس فيها ما

يدلّ على القصاص و القود، و في ذلك دليل على عدم ثبوت القصاص، و لو سلّمنا الشكّ في المسألة يكون المورد حينئذ من موارد درء الحدّ و القصاص بالشبهة.

و من كلّ ذلك يعلم اهتمام الشارع بحياة الأمّ و الجنين الذي في بطنها، حيث عدّه كسائر أفراد الإنسان إلّا في حكم القصاص لدليل خاصّ.

[حالات إسقاط الجنين
اشارة

ثمّ إنّ في مسألة سقط الجنين حالات ستّ، ثلاث منها تتعلّق بفرض عدم ولوج الروح و الثلاث الأخرى تتعلّق بفرض ولوجها، و فيما يلي نذكرها حسب الترتيب:

الأولى- توقّف حياة الأمّ على الإسقاط:

إذا توقّفت حياة الأمّ على إسقاط الجنين الذي لم تلجه الروح بعد، و لم يبلغ حدّ الإنسان الكامل بحيث لا يصدق عليه أنّه إنسان أو نفس محترمة، فلا إشكال في جواز الإسقاط حفاظاً على حياة الأمّ التي هي أهمّ في نظر الشارع. و كذا إذا خيف على حياتها و إن لم يعلم علماً قطعياً بالخطر و الضرر، فحينئذ يدور الخوف عليها مدار سيرة العقلاء؛ لعدم حصول اليقين غالباً، حيث يجعلون الخوف طريقاً إلى الواقع، فيجوز الإسقاط كذلك.

بحوث فقهية هامة، ص: 293

و هل تترتّب الدية في إسقاطه على الأُمّ باعتبار كونها قاتلًا، و ذلك بأن تؤديها لمن سواها من ورثته؟ فيه وجهان: من شمول عمومات الدية للمقام، و مجرّد جواز الإسقاط لا يمنع من تعلّق الدية، نظير الأكل في المخمصة الذي لا ينافي الضمان.

و من أنّ الدية فرع الجناية و ليس المقام من مصاديقها، فتكون المسألة هنا نظير إجراء الحدّ أو القصاص بحكم الشارع المقدّس، فكما أنّ الحدّاد و مجري القصاص لا يضمنان الدية كذلك ما نحن فيه.

و إن شئت قلت بانصراف العمومات عن مثل هذا، و إنّ قياسه على الأكل عند المجاعة قياس مع الفارق؛ لأنّ الضمان من آثار مطلق الإتلاف و الدية ليست كذلك- حتّى مع إذن الشارع كما في موارد الحدود الإلهيّة- على الأقوى، و لذا قلنا في مبحث التشريح- الواجب أو الجائز شرعاً- بعدم الدية.

الثانية- الإسقاط بسبب مرض الأمّ:

إذا خيف على الأمّ- الحامل- من مرض شديد أو نقص لبعض الأعضاء في بدنها، كما لو أصيبت بالعمى و تداوت بدواء يسقط به الجنين الذي لا يصدق عليه بعد أنّه إنسان، أو ذو نفس محترمة، حيث إنّ علاجها بذلك الدواء و إنقاذها أرجح و أهمّ جاز لها

التداوي به و الإسقاط. و كذا فيما لو أبتليت الأمّ مثلًا بمرض السرطان و كان طريق علاجها منحصراً بالمداواة بالأدوية الكيمائية الموجبة- حسب الفرض- لإسقاط الجنين و إن لم يكن ذلك الداء مؤدّياً لموت الأمّ مثلًا، و حينئذ لا تتعلّق الدية أيضاً بنفس البيان المتقدّم.

الثالثة- الخوف على الجنين من النقص في الأعضاء:

إذا خيف على الجنين من نقص في الأعضاء، أو علم بأنّه سيكون ناقص الخلقة كفقد السمع أو البصر، أو مصاباً بالشلل في يديه أو رجليه فيكون في ذلك بلاءً

بحوث فقهية هامة، ص: 294

و امتحاناً له و لأبويه مدى العمر، و المفروض أنّه لم تلجه الروح و لم يصوّر على صورة الإنسان الكامل، فلا يبعد جواز الإسقاط حينئذ لإمكان دعوى انصراف أدلّة حرمة الإسقاط عن مثل هذه الصورة التي لا يكون الإسقاط فيها جائزاً لمجرّد الإشفاق على الجنين فحسب، بل لما في ذلك من الحرج الشديد على والديه و المجتمع.

و قد عرفت أنّ عمدة ما يدلّ عليه هو الملازمة بين وجوب الدية- على فرض الإسقاط- و حرمته تكليفاً، و ثبوت الدية في هذا الفرض أوّل الكلام، فتأمّل.

ثمّ إنّ القول بجوازه منوط بتحقّق العلم أو الظنّ المتاخم له المورث للاطمئنان، و إلّا فلا يجوز بمجرّد الاحتمال.

الرابعة- الخوف على الأمّ بعد ولوج الروح:

إذا كان الجنين كاملًا و قد ولجته الروح و لم يعلم بنقص فيه على الأقل و خيف على حياة أمّه، فهل يجوز جعل الجنين فداءً لأمّه فيما إذا دار الأمر بينه و بينها؟ الإنصاف أنّه أمر مشكل، لعدم الفرق بين النفسين من حيث كون كلّ منهما نفساً محترمة مؤمنة أو ملحقة في الحكم بها، فهما من هذه الجهة سواء، لا يجوز قتل أحدهما لحفظ حياة الآخر.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ ثبوت القصاص في أحدهما دون الآخر دليل رجحان حفظ حياة الأمّ على الجنين و إن تساويا من حيث النفس الإنسانية و من حيث الدية، فإذا دار الأمر بين حفظ حياة الأمّ و حياة الجنين جاز تقديم حياة الأم على الجنين.

ثمّ إنّ في الدية ما تقدّم من ثبوتها في فرض وقوع الجناية

المحرّمة لا ما إذا كان مباحاً بإذن الشارع المقدّس، فمن البعيد جدّاً ترتّب الدية عليه حينئذ.

هذا فيما إذا قلنا بجواز الإسقاط بالبيان المتقدّم. و أمّا إن قلنا بالحرمة، فالواجب تركهما على حالهما حتّى يقضي الله بينهما، فإن ماتت الأمّ و بقي الجنين حيّاً بمجرّد

بحوث فقهية هامة، ص: 295

تولّده منها، أو ماتت الأمّ و أمكن إخراج الجنين حيّاً من بطنها بسرعة، أو مات الجنين سقطاً و بقيت الأمّ سالمة فما ذلك إلّا بقضاء الله تعالى و قدره لعلمه بمصالح العباد.

و لعلّ فرض دوران الأمر بين حياة الأمّ و حياة الجنين فرض نادر لدوران الأمر في الغالب بين موتهما معاً و موت الجنين فقط، و ذلك لأنّه إذا بقي في بطن أمّه أدّى إلى قتلها ثمّ موته بعدها لارتباط حياته بحياتها، و حينئذ لا يبعد جواز إسقاطه لدوران الأمر بين موت نفسين و موت نفس واحدة، فبإسقاطه تبقى الأم على قيد الحياة، و هذا بخلاف ما إذا علم ببقاء أحدهما و موت الآخر، فإنّ ترجيح أحد النفسين على النفس الأخرى يكون حينئذ أمراً مشكلًا، اللّهمّ إلّا أن يستدلّ للترجيح بما مرّ من مسألة اختصاص القود بقتل أحدهما دون الآخر، فتدبّر.

الخامسة- العلم بتولّده ناقصاً بعد ولوج الروح:

إذا علم علماً قطعيّاً أو ظنّياً يطمأنّ به بأنّ الجنين سيولد ناقصاً بعد ولوج الروح فيه، و ليس في بقائه ضرر أو خطر على الأمّ، فهل يجوز إسقاطه؟ فيه وجهان:

الوجه الأول: القول بعدم الجواز لصدق عنوان الإنسان الحيّ عليه، فإنّه ما لا يجوز قتل ناقص الخلقة- كالمجنون أو المصاب بقطع بعض أعضاء بدنه من نخاع و غيره- بعد ولادته كذلك لا يجوز قبلها بعد ولوج الروح و كونه إنساناً كاملًا؛ لشمول إطلاقات حرمة قتل المؤمن لمثل المجانين

و الأطفال من غير فرق بينهم، و لا اختصاص لها بالإنسان السوي العاقل، و كذا شمول عمومات حرمة قتل الجنين و ما يترتّب عليه من الدية.

إن قلت: تقدّم فيما سبق عدم القود في قتل الجنين، و أنّ الحكم فيه هو الدية خاصّة.

قلنا: ليس الكلام فعلًا في القصاص و القود، بل الكلام في الحرمة التكليفية و ما

بحوث فقهية هامة، ص: 296

يترتّب عليها من الآثار، فإنّه لا فرق من هذه الجهة بين الصحيح و السقيم و الكامل و الناقص عقلًا أو عضواً.

الوجه الثاني: الجواز نظراً إلى ما يترتّب على وجوده ناقصاً من الحرج و العسر عليه و على أبويه و على المجتمع، و الضرورات تبيح المحظورات، لا سيّما مع الفرق بين حرمة الجنين مع المولود الحي كما عرفت.

و الإنصاف أنّ مثل هذه الضرورات غير كافية في إباحة مثل هذه المحظورات، و أنّه لا يصحّ الاستناد إلى مثل ذلك، فلا يجوز قتل الجنين بعد ولوج الروح فيه، كما لا يجوز قتل المجانين و المصابين بالعاهات الجسمية ممّن لا يرجى صحّتهم، على الأقوى.

السادسة- إسقاط الجنين لكثرة النفوس:

هل يجوز إسقاط الجنين بسبب كثرة النفوس إذا كانت سبباً للمشاكل الكثيرة بحصول العلم اليقيني بذلك أو بشهادة ذوي الخبرة الثقات؟ لا شكّ في عدم جوازه بعد ولوج الروح، فإنّه لا يجوز قتل النفس استناداً إلى ذلك.

و أمّا قبل ولوجها بأن كان الجنين في مراحله الأولى ككونه نطفة أو علقة، فكذلك يحرم إسقاطه و إن لم يكن في الحكم من قبيل إسقاط الإنسان الكامل أو النفس المؤمنة و من يلحق بهما، فلا يجوز ذلك إلّا عند الضرورة، بل يوجب الإسقاط غالباً الإضرار بالأمّ لأنّه أمر غير طبيعي. علماً بأنّ طرق المنع من التكاثر كثيرة لا تنحصر

بمثل هذا المحرم ليحصل التزاحم بين الإسقاط و أمور أخرى.

و على كلّ حال فالإفتاء بجواز الإسقاط- في أي مرحلة من مراحل الجنين- مشكل جدّاً، خصوصاً بعد العلم بعدم وجود الضرورة لذلك.

بقي هنا فروع:
الفرع الأوّل [الإماتة إشفاقاً و رحمة بالمريض

ممّا يتفرّع على ذلك هو ما يسمّى في عصرنا بالإماتة إشفاقاً و رحمة

بحوث فقهية هامة، ص: 297

بالمريض؛ و ذلك إذا كان الإنسان يعاني من الآلام فوق طاقته بسبب مرض أو عاهة بدنه أو نقص في الخلقة بحيث يكون موته بعد شهر أو شهرين مقطوعاً به، فهل يجوز لطبيب أو للمريض أن يقتل نفسه تخلّصاً من الآلام؟ علماً أنّ بعض الدول جوّزت ذلك للأطباء إذا أراد المريض نفسه ذلك و وضعوا له قانوناً مع شروط خاصّة.

الإنصاف أنّ ذلك لا يجوز؛ لعدم انسجامه بروح الشريعة الإسلامية بعد ما عرفت من عدم جواز إسقاط الجنين إذا ولجته الروح؛ و ذلك لورود الأدلّة على حرمة قتل المؤمن، أو أنّ المؤمن لا يقتل نفسه.

و قد ورد في ذلك روايات عديدة نقتطف منها ثلاثاً أفرد لها في الوسائل باباً تحت عنوان: باب تحريم قتل الإنسان نفسه و هي:

أوّلًا: عن أبي ولّاد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول.

«مَن قتل نفسه متعمّداً فهو في نار جهنّم خالداً فيها»

«1». و التعبير بالخلود قرينة على عدم خروجه من الدنيا مؤمناً، أو بمعنى اللبث في جهنّم طويلًا.

ثانياً: ما رواه الصدوق، قال: قال الصادق (عليه السلام)

«مَن قتل نفسه متعمّداً فهو في نار جهنّم خالداً فيها، قال الله عزّ و جلّ (وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً)

«2». و في الآية دلالة على المطلوب بعد استدلاله (عليه

السلام) بها، و إن احتمل تفسيرها بقتل الإنسان لغيره كما في قصّة بني إسرائيل في قوله تعالى (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) «3».

ثالثاً: ما رواه ناجية، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال «إنّ المؤمن يبتلى بكلّ بلية و يموت بكلّ ميتة إلّا أنّه لا يقتل نفسه»

«4». و هي تشمل بعمومها حالات الإنسان، فتدبّر.

بحوث فقهية هامة، ص: 298

فتحصّل: أنّ هذه الأدلّة لا دليل على تخصيصها أو تقييدها فتبقى على إطلاقها أو عمومها، و مجرّد العسر و الحرج الشديد لا يبرّر القتل، فلا يجوز قتل الغير رحمة و إرفاقاً، بل لا يجوز له قتل نفسه لذلك.

و لو أقدم الطبيب على إماتة المريض أو تسريع موته فهل يعدّ قاتلًا يجوز أن يقتصّ منه أو تؤخذ منه الدية، أم لا يكون شي ء منهما؟

للمقام مسألة معروفة مشابهة منصوصة في كلمات الفقهاء، و هي: أنّه لو قال إنسان سليم لآخر: اقتلني و إلّا قتلتك، لم يجز قتله؛ لأنّ الإذن لا يرفع الحرمة، و لكن لو أثم و قتله لم يجب القصاص عند الشيخ في المبسوط و العلّامة في بعض كتبه و الشهيد الثاني في المسالك على ما حكي عنهم ذلك، مستدلّين عليه بأنّ المقتول أسقط حقّه بالإذن فليس للوارث حقّ القصاص، و فرّع في الجواهر على هذا القول عدم وجوب الدية أيضاً؛ لأنّها ملك للميّت أوّلًا و بالذات، و من ثمّ تنتقل إلى الوارث، و لذا تؤدّى منها ديونه، فالمقتول بإذنه أسقط حقّه.

و لكن ناقشه في ذلك كلّه في الجواهر، و مال إلى الحكم بالقصاص أو الدية على فرض عدمه «1».

و الإنصاف أنّ شمول أدلّة القصاص و الدية للمقام لا يخلو عن إشكال، لدرء القصاص بالشبهات كالحدود، و أنّ الأصل في الدية البراءة.

إن قلت:

لا يصحّ حمل المقام على تلك المسألة؛ لأنّ المفروض هناك إكراه المقتول للقاتل بقوله: اقتلني و إلّا قتلتك، و ليس في المقام إكراه بل هو يطلب من الغير و يرجوه قتله، فلا يجوز قياس إحداهما على الأخرى.

قلت: ليست المسألة منصوصة بنصّ خاصّ حتّى يستند إلى عدم جواز القياس، بل الذي استند إليه في الحكم بعدم ثبوت القصاص أو الدية هو إذن المقتول فلا

بحوث فقهية هامة، ص: 299

تشمله أدلّة القود و الديات. و من الواضح أنّ الإذن حاصل هنا أيضاً، فبعين الدليل يستدلّ على عدم القصاص و الدية. نعم، الفرق بين المسألتين أنّه في المقام يثبت التعزير على ذلك لكونه من الكبائر، و يمكن ابتناء الحكم في المسألة المعروفة على التعزير أيضاً.

الفرع الثاني [دية الجنين على المباشر لإسقاطه

قد عرفت ممّا تقدّم أنّه في الموارد التي لا يجوز إسقاط الجنين يجب فيها الدية، و الدية إنّما هي على المباشر فقط، فلو كان المباشر في الإسقاط هو الطبيب وجب عليه أداء الدية إلى أبويه، و لو كان ذلك بطلب الأبوين أو أحدهما لم يكن عليهما شي ء، و استقرّت الدية على الطبيب كما صرّح بذلك الأصحاب في بعض الفروع المشابهة. ففي الجواهر قال: «إذا أكرهه على القتل فالحكم فيه عندنا نصّاً و فتوى بل الإجماع بقسميه عليه أنّ القصاص على المباشر الكامل دون الآمر المكره، بل و لا دية، بل و لا كفّارة، بل و لا يمنع من الميراث، و إن استشكل فيه في القواعد» «1»، ثمّ استدلّ عليه بأنّ المباشر هو القاتل لغة و عرفاً.

و الذي يظهر أنّ المسألة مورد اتّفاق الأصحاب في الجملة، و صريح عبارة الجواهر عدم جريان شي ء من الأحكام الأربعة- أعني: القصاص، و الدية، و الكفّارة، و المنع عن

الميراث- في غير المباشر، و من الواضح أنّ الحكم بذلك في المقام أولى؛ لعدم تحقّق الإكراه بالنسبة للطبيب.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الطبيب و إن كان مباشراً مع إذن الأبوين له في الإسقاط، يكون جانياً مستحقّاً للتعزير، و كذا الأبوين لو كانا هما السبب في ذلك، لكن الأبوين لم يستحقّا شيئاً من الدية لمكان إذنهما له بذلك، لما تقدّم من أنّ الإذن في أمثال المقام يوجب سقوط الحقّ كما مرّ في مسألة لو قال أحدهما للآخر اقتلني فقتله لم يكن عليه قصاص و لا دية استناداً إلى كون القتل بإذن، و الإذن مسقط، و أنّه من بحوث فقهية هامة، ص: 300

البعيد شمول الإطلاقات لما نحن فيه، و لو فرض الشكّ فيها فالأصل هو براءة الطبيب. و من ذلك يظهر حال ما لو طلب أحد الأبوين ذلك و أذن فيه سقط حقّه فقط دون الآخر، فهل تكون الدية بكاملها للآخر أو له سهمه فقطر؟ الظاهر هو الثاني؛ لسقوط سهمه بالإذن، لا أنّه ممنوع من الميراث حتّى يرثه غيره.

و لو شربت الأمّ دواءً فأسقط جنينها، فهنا انعكس الأمر فكان الطبيب آمراً و الأمّ مباشرة، وجبت الدية عليها لأبيه لكونها المباشر في القتل، و لو مات أبوه قبل ذلك فالدية للإخوة و الأخوات و الجدّة و الأجداد و هكذا. و كذا الحال فيما لو وصف لها الطبيب دواءً لإسقاط الجنين فشربته أو هي طلبت منه دواءً فأعطاها فشربته فأسقطت جنينها، كانت هي المباشر في ذلك، و وجبت عليها الدية. و يتبع الحكم المتقدّم ما لو ابتاع الأب لها دواءً لهذا الغرض فشربته كانت الدية عليها. و أمّا لو أعطاها زوجها دواءً يعلم أنّه يُسقط الجنين و كان قاصداً

لإسقاطه، و زعم أنّه نافع لتقوية الجسم مثلًا فشربته كان القاتل هو الأب دونها؛ لعدم استناد الفعل إليها، و كذا الحال فيما لو كانت قاصرة العقل.

و الحاصل: فالمدار في كلّ ذلك على الإسناد العرفي، فإنّه من الواضح إسناد الفعل إلى المباشر مع وجود السبب، إلّا أن يكون المباشر ضعيفاً بأن يكون مغلوباً على أمره مقهوراً على العمل، أو كان المباشر قاصر العقل بالصبا أو الجنون، أو كان جاهلًا بالواقع بالمرّة كما تقدّم آنفاً، فإنّ الفعل في جميع ذلك يسند إلى السبب لقوّته و ضعف المباشر. و أمّا لو كان المباشر بالغاً عاقلًا عالماً مختاراً فالفعل يسند إليه دون السبب؛ للصدق العرفي في ذلك، مضافاً إلى دلالة جملة من الروايات الواردة في أبواب مختلفة:

1- منها: ما رواه زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)

في رجل أمر رجلًا بقتل رجل فقتله قال: «يقتل به الذي قتله، و يحبس الآمر بقتله في الحبس حتّى يموت»

«1».

بحوث فقهية هامة، ص: 301

2- و منها: ما عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام)

«في رجل أمر عبده أن يقتل رجلًا فقتله، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): و هل عبد الرجل إلّا كسوطه أو سيفه، يقتل السيّد و يستودع العبد السجن»

«1». 3- و منها: ما عن سماعة،

في رجل شدّ على رجل ليقتله، و الرجل فارّ منه فاستقبله رجل آخر فأمسكه عليه حتّى جاء الرجل فقتله، فقتل الرجل الذي قتله، و قضى على الآخر الذي أمسكه عليه أن يطرح في السجن أبداً حتّى يموت فيه «2». 4- و منها: ما دلّ على قتل شاهد الزور إذا كان هو السبب في القتل، نظير ما رواه مسمع عن أبي عبد الله

(عليه السلام)

«أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قضى في أربعة شهدوا على رجل أنّهم رأوه مع امرأة يجامعها، فيرجم - إلى أن قال:-

و إن قالوا: شهدنا بالزور، قتلوا جميعاً»

«3»، و المراد من ذلك قتلهم مع أداء ثلاثة أرباع الدية إلى أولياء كلّ واحد منهم، لما ثبت من سائر الروايات مضافاً إلى ضرورة العقل.

هذا كلّه فيما إذا تزاحم السبب و المباشر، و كانت نسبة الفعل إلى الأقوى منهما.

الفرع الثالث [وارث دية الجنين

دية الجنين كسائر الديات يرثها المناسب و المسابب على حسب طبقات الإرث و يحرم القاتل من الدية في المقام كسائر المقامات. و قد مرّ التصريح بذلك في بعض روايات الباب، نظير ما رواه أبو عبيدة عن الصادق (عليه السلام)

في امرأة شربت دواءً و هي حامل لتطرح ولدها فألقت ولدها، قال (عليه السلام): «إن كان له عظم قد نبت عليه اللحم و شقّ له السمع و البصر فإنّ عليها دية تسلّمها إلى أبيه »- إلى أن قال «قلت: فهي لا ترث من ولدها من ديته؟ قال (عليه السلام): «لا، لأنّها قتلته»

«4»، و في بحوث فقهية هامة، ص: 302

هذه الصحيحة غنًى و كفاية في إثبات المراد، و إن لم يذكر الوارث في غالب روايات الباب على كثرتها بل أطلق فيها الدية، و الإطلاق في المقام من قبيل الإطلاق المقامي لا اللفظي، و الذي يدلّ على أنّ مصرف الدية هنا مصرفها في سائر المقامات عدم ذكره هنا مع كونهم (عليهم السلام) في مقام البيان، فتدبّر جيّداً.

3- ضمان الطبيب لما يتلف بطبابته

اشارة

من المسائل التي لها صلة بالموضوع مسألة خطأ الطبيب في التشخيص و العلاج. أمّا الموارد التي ذكرت في منشأ الخطأ فمنها ما كان في زمان التشريع و بعضها الآخر صار مستحدثاً في زماننا، و هي عبارة عن:

أ- ما يتلف بسبب عدم كفاءته العلمية و مع ذلك يتصدّى للطبابة.

ب- ما يتلف بتقصير منه في الفحص و عدم الدقّة في الكشف عن حال المريض.

ج- ما يتلف بسبب ما لبعض الأدوية من العوارض و المضاعفات الجانبية التي تعورف عند ذوي الاختصاص محظورية استعمالها لمن مرضه يستدعي تناولها، و قد ورد في الحديث أنّه «ليس من دواء إلّا و يهيّج داء»

«1»، و لذا ينبغي اجتناب تناول

الأدوية مهما أمكن لما لها من الخلفيات الجانبية المضرّة.

د- ما يتلف بسبب عدم استخدام الوسائل و الأجهزة الحديثة لتشخيص المرض، كأخذ الصور الفوتوغرافية أو الأشرطة الدماغية أو تحليل الدم، و اكتفاء الطبيب بالفحص العادي و عدم التوصية بالأمر المذكور، و يعود السبب في ذلك إمّا لعدم اهتمام الطبيب بهذه الأمور، أو رأفة بحال المريض و تجنّب إرهاقه مالياً، أو حرصاً على اختصار الوقت و التعجيل في استكمال العلاج.

بحوث فقهية هامة، ص: 304

ه- التلف بسبب استعمال المريض الأدوية الرخيصة؛ لعدم التوصية بالاستعمال من الأدوية الممتازة ذات الكلفة الباهضة لتجنّب تعرض المريض لضغط مالي.

و- التلف الحاصل بسبب إهمال الممرّض، فإنّ التمريض يكون أحياناً أكثر أهميّة من العلاج، سيّما بعد إجراء العمليات الجراحية المهمّة مثل عمليات القلب و الكلية.

ز- ما يحل بسبب اجتماع أكثر من مرض في المريض. و قد تستدعي معالجة أحدهما الإضرار بالآخر، ممّا يقتضي التوسّل بطرق و أساليب تفيد الأوّل و لا تضرّ بالثاني. و كذا ما يحدث بسبب عدم توصية المريض بما لا بدّ له من الامتناع عنه و اجتنابه و أشباه ذلك.

بعد هذه المقدّمة لا بدّ لنا من تنقيح أصل مسألة ضمان الطبيب و عدمه بنحو كلّي و بيان قواعدها و أصولها لترجع الفروع المتعلّقة بها إلى تلك الأصول.

فنقول: قد ذكر الفقهاء هذه المسألة في كتابي الديات و الإجارة لمناسبتها للمقامين، فعن المحقّق في الشرائع أنّه قال: «الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه إن كان قاصراً أو عالج طفلًا أو مجنوناً لا بإذن الولي أو بالغاً لم يأذن. و لو كان الطبيب عارفاً و أذن له المريض في العلاج فآل إلى التلف، قيل: لا يضمن لأنّ الضمان يسقط بالإذن، لأنّه فعل سائغ شرعاً، و

قيل: يضمن لمباشرته الإتلاف، و هو أشبه». «1» ثمّ تعرّض لمسألة الإبراء التي ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى.

و يظهر من كلماتهم أنّ القول الثاني هو المشهور بينهم، بل يظهر من المصنّف في النكت اتّفاق الأصحاب عليه، و عن الغنية دعوى الإجماع على الضمان، و القول الأوّل محكيّ عن ابن إدريس و هو شاذّ.

بحوث فقهية هامة، ص: 305

و يظهر من بعض كلمات العامّة القول الأوّل، بل لعلّه المشهور بينهم لعدم ذكر مخالف فيه.

قال ابن قدامة: «و لا ضمان على حجّام، و لا ختّان، و لا متطبّب إذا عرف منهم حذق الصنعة و لم تجنِ أيديهم، و جملته أنّ هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به لم يضمنوا بشرطين:

أحدهما: أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم و لهم بها بصارة و معرفة.

الثاني: أن لا تجني أيديهم فيتجاوزوا ما ينبغي أن يقطع». «1» و مثله من بعض الجهات ما ذكره في موضع آخر منه. «2» و قال شيخ الطائفة (قدس سره): «الختّان و البيطار و الحجّام يضمنون ما يجنون بأفعالهم، و لم أجد أحداً من الفقهاء ضمّنهم، بل حكى المزني: أنّ أحداً لا يضمّنهم، دليلنا إجماع الفرقة». «3» و الظاهر عدم الفرق بين الختّان و البيطار و الطبيب من هذه الجهة؛ لاتّحاد الدليل في البابين.

و قد حكي عن الحنفية و المالكية: أنّ الطبيب لا يضمن إذا قام بواجبه و احتاط و لم يتجاوز الحدّ. و عن الحنابلة: و كذا لا يضمن الطبيب المعروف بالحذق إذا لم يخطئ في عمله. «4» و يظهر ممّا ذكرنا من كلام المحقّق و غيره أنّ عمل الطبيب على أقسام:

1- قد يكون مقروناً بالحذق و الإذن.

بحوث فقهية هامة، ص: 306

2- قد لا يكون مقروناً

بالحذق و الإذن.

3- قد يكون الطبيب حاذقاً و ليس بمأذون.

4- قد يكون مأذوناً و لم يكن حاذقاً.

أمّا الصور الثلاثة الأخيرة فممّا لا ينبغي الإشكال في ضمان الطبيب فيها لا سيّما مع فقدان الوصفين المذكورين، إنّما الكلام في الصورة الأولى. و قد فصل السيّد الإمام الخميني (قدس سره) في تحرير الوسيلة تفصيلًا آخر وافقه عليه عدّة ممّن تقدّم عليه أو تأخّر عنه، و هو ما أفاده في كتاب الإجارة، حيث قال: «الطبيب ضامن إذا باشر بنفسه العلاج بل لا يبعد الضمان في التطبيب على النحو المتعارف و إن لم يباشر. نعم إذا وصف الدواء الفلاني و قال: إنّه نافع للمرض الفلاني، أو قال: إن دواءك كذا من دون أن يأمره بشربه فالأقوى عدم الضمان» «1»، و له في موضع من كتاب الديات نظير هذا التفصيل.

إذا عرفت ذلك نعود إلى أدلّة المسألة و نبحث عن مقتضى القاعدة أوّلًا، و من ثمّ نبحث ثانياً الأدلّة الخاصّة في المقام.

أمّا مقتضى القاعدة في الصور الثلاث الأخيرة فالظاهر فيها هو الضمان؛ لما ذكرنا في التفصيل الأوّل من تفريطه مع عدم الحذق و حرمة تصرّفه مع عدم الإذن. فعليه ضمان كلّ ما أتلفه و كلّ خسارة نشأت من فعله؛ لقاعدة الإتلاف.

و أمّا الصورة الرابعة: فإن قلنا بأنّ الإذن في الشي ء إذن في لوازمه، و أنّ ما حصل من الخسائر البدنية و المالية كلّها من اللوازم القهرية في أمر الطبابة، مع تحقّق الإذن، حينئذ لا يبقى مجال للقول بالضمان أو إجراء قاعدة الإتلاف.

و أمّا إن قلنا بأنّه مأذون في العلاج و شفاء المريض من الآلام و الأمراض لا غير،

بحوث فقهية هامة، ص: 307

فهو لم يأذن بقتله و نقص عضوه مثلًا و شبه ذلك،

فاللازم حينئذ الحكم بضمانه، لما عرفت.

و لكن الإنصاف أنّ المريض لو علم بالملازمة العرفية- ملازمة العلاج لطروء بعض العوارض أحياناً- كان الإذن منه في ذلك إذناً في لوازمه، لعدم إمكان انفكاكهما، فهل يمكن أن يأذن المريض بالعملية الجراحية مثلًا من دون أن يتحمّل تبعاتها و مخلّفاتها في الآلام الحاصلة بعدها أو الآثار التي تبقى منها في البدن أحياناً؟! نعم، يمكن أن يقال: إنّ غفلة كثير من الناس عن تلك الملازمة الخارجية في هذا المجال يمنع عن مثل هذا الاستدلال، هذا فيما يتعلّق بالتفصيل الأوّل.

هذا، و أنّه بالاستناد إلى إذن الشارع المقدس بالطبابة و أنّها عمل سائغ، لا يمكن القول بعدم ترتّب ضمان عليه، فكم من عمل سائغ أذِن الشارع فيه، و لكن ترتّب عليه الضمان كقضاء القاضي المعرّض للخطإ، فإنّه مضمون من بيت المال إن لم يكن مضموناً عليه. و مثله مثل جميع موارد الجنايات الخطأ أو شبه العمد. فهي غير محرّمة مع ما فيها من الدية، فتأمّل.

و أمّا التفصيل الثاني: و هو التفرقة بين صورة مباشرة الطبيب أو عدم مباشرته مع التطبيب على النحو المتعارف بأن يأمر المريض بشرب ذاك الدواء و ذاك بنحو خاصّ، و بين مجرّد توصيفه من دون مباشرته و أمره. فالضمان في الأوّلين دون الأخير. و الوجه فيه هو صحّة إسناد التلف إلى الطبيب في الأوّلين- أمّا الأوّل فهو واضح، و أمّا الثاني فلقوة السبب على المباشر- دون الأخير؛ لأنّ الإسناد فيه إلى المكلّف- المريض- نفسه.

هذا، و لكن ما يجنيه الطبيب بيده بالتجاوز عن الحدّ اللازم في الختان و في العمليات الجراحية، فهو أمر مضمون على كلّ حال لعدم الملازمة العرفية، بخلاف بعض عوارض الأدوية ممّا لا يمكن الاجتناب عنه

عادة.

بحوث فقهية هامة، ص: 308

و يمكن الاستدلال لعدم الضمان بقوله تعالى (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) «1»، بتقريب: أنّ عمل الطبيب مصداق ظاهر للإحسان، سيّما مع عدم أخذ الطبيب الأجر على عمله، و الضمان سبيل، و لذا قد ورد في الحديث عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام)

أنّ رجلًا شرد له بعيران فأخذهما رجل فقرنهما في حبل فاختنق أحدهما و مات، فرفع ذلك إلى عليّ (عليه السلام) فلم يضمّنه، و قال: «إنّما أراد الإصلاح».

«2» و قد يناقش: بأنّه لا سبيل إلى المحسن في إحسانه، و المفروض أنّه أخطأ في إحسانه و لم يحسن بل أراد الإحسان، مضافاً إلى أنّ نفي السبيل ظاهر في نفي العقوبة و شبهها و أمّا ضمان الإتلاف فهو أمر آخر، فتأمّل.

و أمّا الرواية المتقدّمة: فهي غير ناظرة إلى حدوث الموت بسبب تفريط الأخذ؛ لأنّ الموت حدث بسبب حركة الإبل لا بسبب فعل الأخذ لها.

ثمّ إنّ الأدلّة الخاصّة في المسألة جملة من الروايات، و هي:

1- ما ورد في باب مطلق الأجير مثل صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال سئل عن القصّار يُفسد، فقال: «كلّ أجير يُعطى الأجرة على أن يُصلح فيُفسد، فهو ضامن».

«3» عن أبي الصباح، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القصّار هل عليه ضمان؟ فقال: «نعم، كلّ من يُعطى الأجر ليصلح فيُفسد، فهو ضامن»

«4»، و مثله غيرهما.

و تقريب الاستدلال، أن يقال: إنّ هذه الأحاديث عامّة و شاملة للطبيب و البيطار و الختّان و جميع أرباب التخصّص.

بحوث فقهية هامة، ص: 309

و لكن الإنصاف أنّها ناظرة إلى صورة التعدّي و التفريط و لو من باب الخطأ و شبهه لا عن عمد كخرق القميص ببعض ما في

يده، أمّا لو عمل بما هو وظيفته من دون أي نقص في عمله، و لكن حصل الفساد من جانب عيب في الثوب مثلًا كما لو غسله عدّة مرّات فانخرق- كما هو حال الثياب- فالتفريط لم يكن من جهة الخيّاط و القصّار.

و كذا الحال في الطبيب، فإنّه لو أثّر الدواء في المريض أثراً بسبب بعض الحالات النادرة كالحساسيّة التي لا تنكشف بالاختبار أو بعض الأمراض الكامنة التي لا أثر لها ظاهراً و لم يكن يعلم بها الطبيب و المريض فأضرّ به الدواء لبعض هذه الأمور و مات أو حصلت في بدنه عاهة أو نقص لم يكن الطبيب- بمقتضى هذه الروايات- ضامناً.

2- ما دلّ على خصوص الطبيب و ذكر حكمه، مثل ما رواه السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام)

من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليّه، و إلّا فهو له ضامن».

«1» و في معناه ما في المستدرك عن الجعفريات عن عليّ (عليه السلام). «2» و أخذ البراءة من الولي ناظر إلى ما إذا كان المريض صغيراً أو كان بحدّ لا يقدر أن ينظر في مصالحه و مفاسده.

و قد يتوهّم أن أخذ البراءة من قبيل الإسقاط ما لم يجب و هو مخالف للقواعد، و يدفعه أنّ ذلك جائز إذا حضر المقتضي له، مثل الإسقاط حقّ القسم في عقد النكاح أو إسقاط كافّة الخيارات في العقد، مع أنّها لم تجب بعد، لا سيّما بعضها الذي لا يتحقّق بحوث فقهية هامة، ص: 310

إلّا بعد مضي مدّة من العقد كخيار التأخير أو خيار الغبن بناءً على أنّه لا يكون إلّا بعد ظهور الغبن و كذا خيار العيب.

و دلالة الحديث على الضمان لو لا البراءة

ظاهرة، فلا يتوجّه إليه الإشكال إلّا من ناحية السند؛ فإنّ العلم بروايات السكوني فيما تفرّد به مشكل على ما بيّناه في محلّه، اللّهمّ إلّا أن يقال بانجبار ضعف السند فيه بعمل المشهور. و لكن يحتمل استنادهم إلى العمل بمقتضى القاعدة القاضية بالضمان، أو إلى العمل بما مرّ من روايات الأجير، فتدبّر جيّداً.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الضمان في الجملة هو مقتضى القاعدة و الروايات العامّة و الخاصّة.

حدود الضمان الثابت بالجناية و شروطه:
اشارة

الظاهر أنّ القدر المتيقن منه هو ما إذا جنت أيديهم أو وقع الخطأ في تشخيص الأمراض و تعيين الأدوية كمّاً و كيفاً و ما شابه ذلك. و أمّا لو عملوا بما هو المتعارف بحسب وظيفتهم، و لم تجن أيديهم و لم يقع لهم السهو و الخطأ، و إنّما حصلت الخسارة من جهات أخرى، فالظاهر عدم الدليل على ضمانهم.

إذا عرفت ذلك فلنعطف الكلام على ما تقدّم من المسائل، فنقول: ها هنا صور ثمان:

الصورة الأولى: إذا قدم على العمل و حصلت الخسارات بسبب قصوره في العلم

مع علمه بذلك أو عدم علمه به، بأن كان جاهلًا بسيطاً أو مركّباً، فلا شكّ في ضمانه لما جنت يديه أو لما وقع له من الخطأ.

الصورة الثانية: ما إذا حصل التلف بسبب قصوره في الفحص

أو عدم الدقّة في فحص المريض، فيكون ضامناً بلا شكّ، بل الظاهر إجماع العلماء عليه، بل العقلاء

بحوث فقهية هامة، ص: 311

جميعاً و كذا الصورة السابقة؛ لاستناد التلف إليه على كلّ حال.

الصورة الثالثة: إذا كان التلف مستنداً إلى الآثار المضرّة المترتّبة على الدواء

فحسب، و هي على قسمين:

أ- الآثار الغالبة الموجودة في جميع الأدوية أو أكثرها، و الظاهر عدم ضمان الآثار المترتّبة من جهتها؛ لأنّ ذلك من أوضح مصاديق «الالتزام بالشي ء التزام بلوازمه»، مع علم غالب الناس بما لتلك الأدوية من الآثار الجانبية المضرّة، و لكن الأولى تأكيد الأطباء على تلك الخلفيات و الآثار و كذلك تأكيد مراكز صناعة هذه الأدوية عليها، للحدّ من استعمال الأدوية و الاقتصار في استعمالها على موارد الضرورة و بالمقدار اللازم.

ب- الآثار النادرة جدّاً بحيث لا يعتني بها أهل هذا العلم، و إلّا لزم الاجتناب عن جميع الأدوية؛ لأنّ موارد الخطر بهذا المقدار توجد في الجميع.

و إن شئت قلت: يوكل المريض في الغالب أمره إلى الطبيب في معالجته على النحو المتعارف، و هذا هو المألوف، فما يترتّب عليه من اللوازم يكون مقبولًا مأذوناً من جانب المريض إجمالًا، فهو في حكم أخذ البراءة منه.

الصورة الرابعة: عدم اعتناء و عدم مبالاة الطبيب بالأجهزة الطبّية

المتعارفة في الفحص عن حال المريض، كأخذ الصور (الفتوغرافية)، و الأشرطة و التحليل، و غيرها، و الاكتفاء بالفحص العادي أمّا مراعاة لحال المريض من حيث المصارف و الكلفة أو غير ذلك على نحو ما مرّ آنفاً.

ثمّ إنّ التلف تارة يكون مستنداً إلى عدم الرجوع إلى تلك الأجهزة و الوسائل في تشخيص المرض لقصور الطبيب أو تقصيره، فإنّ الأمراض مختلفة، فبعضها لا يجوز الاكتفاء فيه بالفحص العادي المجرّد من هذه الأمور- الأجهزة-، فلو وقع فيه خطأ

بحوث فقهية هامة، ص: 312

كان الطبيب مقصّراً ضامناً. و بعضها ليس كذلك و يكتفي فيه عادة بالفحص العادي.

و أخرى، إذا لم يكن هناك طريق إلى تلك الأجهزة إمّا لعدم وجودها في تلك البلاد، و عدم إمكان الوصول إليها في البلاد الأخرى، أو عدم استطاعة المريض المالية

لاستخدامها مع وجودها، فيقتصر على المقدار المتعارف العادي، فلا ضمان حينئذ على الطبيب، لما عرفت من أنّه موكّل بالطبابة على النحو المتعارف و لم يتجاوز عنه.

و الحاصل: أنّ المدار على صدق التعدّي أو التفريط فيما صنعه في طبابته، أو صدور خطأ منه؛ لحصول بعض الحوادث غير المترقّبة.

الصورة الخامسة: إذا حصل التلف نتيجة خطأ الأجهزة في تشخيص المرض

، فالظاهر أنّ الضمان على المتصدّي لتلك الأجهزة إذا كان بتقصير منه في أداء وظيفته، و الطبيب غير ضامن إذا كان المتصدّي لتلك الأجهزة ممّن يطمأنّ به و بعمل أجهزته ظاهراً، فإنّه حينئذ من قبيل قوّة السبب على المباشر فينسب التلف إليه.

نعم، إذا كان بعض الخطأ في الأجهزة ممّا لا يمكن الاجتناب عنه، فقد يخطئ بنسبة واحد في الألف أو في العشرة آلاف، فوقع هذا الخطأ أمكن الحكم بعدم ضمان المتصدّي للأجهزة أيضاً لأنّه موكل بالفحص بها على النحو المتعارف، و أمّا ما لا يمكن الاجتناب عنه من خطأ الأجهزة فهو غير مسئول عنه.

الصورة السادسة:

و هي تشترك من بعض الجهات مع الصورة السابقة. فلو كان هناك أنواع مختلفة من الدواء لمرض واحد و كان بعضها أغلى ثمناً و لا يقدر المريض على تحصيلها، فلو علم الطبيب بعدم قدرة المريض على شراء الأغلى ثمناً فوصف له الأقلّ ثمناً الذي قد يكون فيه بعض المضرات، فهل يكون ضامناً؟ و بعبارة أخرى: قد يكون الطريق الوحيد للمريض منحصراً بالدواء الزهيد، و لا

بحوث فقهية هامة، ص: 313

دواء للمرض غيره، و لكن قد يكون فيه بعض الأخطار، حينئذ لو حصل التلف يمكن أن يقال إنّه ليس ضامناً؛ لأداء وظيفته من دون أي تقصير و قصور لكون المشكل في بعض الأدوية.

و الأحوط في مثل هذه الموارد إعلام المريض بذلك ليكون على بصيرة من أمره، و يكون ذلك بحكم أخذ البراءة منه.

الصورة السابعة:

و هي قصور أو تقصير الممرّض عن أداء ما عليه من المسئوليّات التي لا تقلّ أهمّية عن العمليات الجراحية أو الطبابة، بل تعدَّ أهمّ في بعض الأحيان، و لولاها لم تنجح العمليات الجراحية، و هذه الصورة على أنحاء ثلاثة:

تارة: يكون تقصيره مستنداً إلى عدم توجيهات الطبيب اللازمة، فإنّه لا شكّ في ضمان الطبيب هنا؛ لكونه من مصاديق قوّة السبب على المباشر.

و أخرى: يكون بسبب تقصيره بعد معرفة وظيفته و مسئوليته، و لا شكّ في ضمانه هنا لكونه المباشر في ذلك.

و ثالثة: يكون بسبب استخدام من ليس له خبرة بأمر التمريض من قِبل الطبيب أو مدير المستشفى، و الضمان هنا أيضاً ثابت، و قد تتفاوت الحالات بأن يكون السبب أقوى في بعضها دون المباشر، و في البعض الآخر العكس.

الصورة الثامنة: و هي على أقسام

أيضاً، فتارة: يمكن تشخيص المرض بأدنى فحص أو بالفحص بالمقدار اللازم، فلو تركه الطبيب و كان تركه سبباً في تلف أو خسارة كان ضامناً.

و أخرى: يمكن تشخيص المرض بالسؤال عن المريض، و لم يسأل كان ضامناً، و كذا لو كان الدواء مضرّاً بالحمل و لم يسأل الطبيب عن المريضة هل هي حامل أم بحوث فقهية هامة، ص: 314

لا؟ فسبّب ذلك خسارة على جنينها، فاللازم عليه السؤال عن ذلك.

و ثالثة: إذا لم يمكن تشخيص المرض عن طريق الاختبار و لا عن طريق السؤال عن المريض، فأضرّ بعض الدواء بحاله فيبعد ضمان الطبيب حينئذ؛ لما عرفت من انصراف الإطلاقات عن مثل المقام، و كونها ناظرة إلى ما يعدّ عند العقلاء أنّه من أسباب الضمان.

و قس على هذه الصورة ما سواها من المسائل، فإنّ الأدلّة واضحة و مباني المسألة ظاهرة، و ردّ فروعها إليها يعلم ممّا ذكرنا.

4- حكم التشريح في الشريعة الإسلامية

تعريف التشريح:

هو العلم بأعضاء البدن و أجزائها و كيفيّة بنائها و تركيبها من العظام و العضلات و الأعصاب و العروق و غيرها. و أمّا وظائفها و ما لكلّ عضو من عمل حيوي فهي أمور أخرى تبحث في علم وظائف الأعضاء أو ما يسمّى ب- «علم الفسلجة».

نبذة وجيزة عن تاريخ علم التشريح
اشارة

لقد كان هذا العلم متعارفاً بين العلماء قديماً، لكنّه لم يكن بهذا التطوّر، فعن بعض المتخصّصين في هذا المجال: أنّ هذا العلم ظهر و لأوّل مرّة بين بني إسرائيل قبل عشرات القرون ثمّ نسب إلى بقراط الحكيم، إلَّا أنّه لم يثبت أنّه بنى علمه في ذلك على أساس تشريح بدن الإنسان.

و استمرّ الأمر على هذا الحال إلى الفترة ما بين القرنين السادس عشر و السابع عشر، ثمّ بعد ذلك اتّسع هذا العلم حتّى بلغ إلى ما هو عليه في عصرنا الحاضر.

و قد واصل علماء هذا الفنّ دراساتهم المستمرة على بدن الإنسان و سائر الحيوانات، و توصّلوا في تحقيقاتهم إلى نتائج مهمّة و نافعة، خلصوا من خلالها إلى الاعتقاد بأنّ علم الطبّ يتوقّف على هذا العلم و يكتمل به، و لذلك بحوث فقهية هامة، ص: 316

خصّصوا للتشريح دروساً- عملية و نظرية- تعدّ من جملة المواد الأساسية المطلوبة لاستكمال البحث و الدراسة في هذا العلم.

و هنا ينقدح سؤال: و هو أنّه هل يجوز تشريح البدن و تقطيع أعضائه و أجزائه؟ و ما حكمه في الشريعة الإسلامية؟ و أنّه لو كان جائزاً فما هي حدوده، و ما هي شرائطه و استثناءاته؟

و الجواب عن هذه الأسئلة يستدعي البحث في عدّة مقامات:

[المقام الأوّل: الحكم الأوّلي للتشريح:
اشارة

لا شكّ في حرمة التشريح إذا كان لبدن مسلم،

[الأدلة على حرمة التشريح
اشارة

و يدلّ على ذلك أمور:

[الأمر] الأوّل: ما ورد في الروايات المختلفة من حرمة المُثلة

- و هي على ما في الجواهر و غيره: «قطع الأنوف و الآذان و نحو ذلك من الحيّ و الميّت، و المُثلة في الأصل- كما عن المفردات-: الانتصاب (أي القيام)، قال تعالى (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)

«1»، أي: صار جبرئيل (عليه السلام) منتصباً بين يدي مريم (عليها السلام)، و منه المثال: مقابلة شي ء بشي ء هو نظيره، أو وضع شي ء ما ليحتذي به فيما يفعل، و المثلة: نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالًا يرتدع به غيره، و ذلك كالنكال» «2»- و هي كثيرة:

1- ما ورد في آداب جهاد العدو من النهي عن المُثلة بالكفّار، مثل ما عن مالك بن أعين، قال: حرّض أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس بصفّين فقال- في حديث طويل-

«و لا تمثّلوا بقتيل»

«3». و الحديث مع إرساله معمول به بين الأصحاب، و تقريب الاستدلال به أنّ الخارج بحوث فقهية هامة، ص: 317

على الإمام المعصوم كافر.

2- و ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «إنّ النبي (صلى الله عليه و آله) كان إذا بعث - إلى أن قال-

لا تغدروا و لا تغلّوا و لا تمثّلوا.»

«1». و مورده قتال أهل الشرك.

و في معناه ما عن معاوية بن عمّار، قال: أظنّه عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال «كان رسول الله إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم - إلى أن قال-

لا تغلّوا و لا تمثّلوا و لا تغدروا»

«2». 3- و ما ورد في وصيّة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في حقّ قاتله- عبد الرحمن بن ملجم- أنّه أوصى أن لا يمثّل بقاتله، و قال «فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله) يقول: إيّاكم

و المثلة و لو بالكلب العقور»

«3». و بما أنّ التشريح من أقسام المثلة، بل من أشدّها في كثير من الأحيان للحاجة فيه غالباً إلى تقطيع الأعضاء، فهو مصداق له و محرّم.

و لا يضرّ الإشكال في أسانيد بعض هذه الأحاديث بعد تضافرها و تعاضدها و عمل الأصحاب بها، بل يظهر من الجواهر كون الحرمة إجماعية «4».

و يمكن الجواب عن هذا الاستدلال بما تقدّم بيانه عن أهل اللغة: من أنّ المثلة ليست مجرّد قطع الأعضاء، بل هي القطع تعذيباً للأحياء و انتقاماً من الأموات، فالمقصود منها هو التعذيب أو الانتقام، و ليس شي ء من هذين الأمرين متحقّقاً في التشريح؛ لأنّهما من الأمور القصدية، بخلاف التشريح فإنّه يستهدف أغراضاً عقلائية

بحوث فقهية هامة، ص: 318

نافعة، فأين هذا من ذاك؟! ثمّ إنّه من الواضح أنّ هذا الدليل لو تمّ لشمل بعمومه المسلم و الكافر و الذمّي و المحارب.

[الأمر] الثاني [اعتبار التشريح هتكا لحرمة الميت

أنّ التشريح- بقطع أبدان الأموات و تمزيقها و تفريق جميع أجزائها- هتك لحرمتها، و هو محرّم.

و الهتك و إن كان من العناوين القصدية، إلّا أنّ القصد إليه في المقام قهري، نظير ما ذكر في باب الإعانة على الإثم الذي لا تنفكّ بعض أقسامه عن القصد القهري، كمن صبّ الخمر في إناء من يعلم أنّه يشربه، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فتأمّل.

و هذا الدليل يختصّ بالمسلم و الذمّي و لا يشمل المحارب.

[الأمر] الثالث: ما دلّ على تعلّق الدية بقطع رأس الميّت

أو شي ء من جوارحه، بناءً على كونه دليلًا على الحرمة كما سيأتي.

و هو مجموعة من الروايات «1» وردت بهذا الخصوص تدلّ بأجمعها على حرمة قطع رأس الميّت، و أنّ فيه الدية مائة دينار كدية الجنين، و في بعضها التصريح بأنّه إن قطعت يمينه أو شي ء من أعضائه ففيه الأرش «2»، و إن كان فيها اختلاف من حيث كون ديته للإمام (عليه السلام) أو صرفها في وجوه البرّ، و تفصيل ذلك موكول إلى محلّه.

و الحاصل: أنّ وجوب الدية دليل على حرمة نفس العمل، و أنّه من قبيل الجناية المستوجبة لذلك.

لا يقال: إنّ الدية ليست دليلًا على الحرمة مطلقاً، لانفكاكها عن الحرمة في دية الخطأ.

بحوث فقهية هامة، ص: 319

لأنّا نقول: إنّ الدية فرع الإتلاف أو ارتكاب جناية لو علم بها لكانت محرّمة، و دية الخطأ تأكيد على احترام النفوس و ما يتعلّق بها، و سبب للتحفّظ الشديد عليها، فهي ليست دليلًا على عدم الحرمة بل دليل على تأكيدها عند العلم بالموضوع و الحكم، فيكون مقتضى هذا الدليل حرمة قطع الأعضاء بأي قصد كان في من تتعلّق به الدية، فيعمّ المسلم و الذمّي دون الكافر الحربي؛ لعدم الدية فيه.

[الأمر] الرابع: ما دلّ على وجوب احترام الميّت

، و أنّ حرمته ميّتاً كحرمته و هو حيّ. و هو عدّة روايات:

1- ما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال «. لأنّ حرمته ميّتاً كحرمته و هو حي»

«1». و مثله ما رواه محمّد بن سنان عمّن أخبره عنه (عليه السلام) «2»، و ما رواه عبد الله بن مسكان «3».

2- و ما ورد في صحيحة جميل عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «قطع رأس الميّت أشدّ من

قطع رأس الحيّ»

«4». و لعلّ كونه أشدّ من باب شدّة القبح و تنفّر الطباع منه، إلّا أنّه سيأتي ما دلّ على أنّ الدية فيه أخفّ بمراتب.

3- و ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)- في حديث- قال «إنّ الله حرّم من المؤمنين أمواتاً ما حرّم منهم أحياءً»

«5». 4- و عن مسمع كردين قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل كسر عظم ميّت،

بحوث فقهية هامة، ص: 320

قال: «حرمته ميّتاً أعظم من حرمته و هو حيّ»

«1». و مثله ما رواه صفوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) «2».

5- و ما رواه العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) أنّه قال «حرمة المسلم ميّتاً كحرمته و هو حيّ سواء»

«3». و من الواضح أنّ التسوية في أصل الحرمة لا في مقدارها، كما صرّح به شيخ الطائفة (رحمه الله) فيما حكاه عنه في الوسائل «4».

و المتحصّل من هذه الروايات: أنّ أجساد الأموات ليست كالأحجار المتفرّقة في البراري و الصحاري أو كأشجار الغابات و الآجام، بل لها حرمة مثل حرمتها حال حياتها، فكما لا يجوز التعدّي عليها بقطعها أو جرحها أو كسرها حال الحياة فكذا لا يجوز بعد الممات.

و مقتضى هذا الدليل حرمة تشريح جسد المسلم و الذمّي دون الحربي.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ: تقطيع جسد المسلم و الذمّي بعد موتهما حرام. كما أنّ ظاهر الإطلاقات عدم الفرق بين الأغراض المقصودة من هذا العمل.

[المقام الثاني: الحكم الثانوي للتشريح:

و خلاصة القول فيه: أنّه لا ينبغي الريب في أنّ لهذا العلم- سيّما مع المشاهدة- أثراً بالغاً في معرفة أعضاء جسم الإنسان، بحيث صار هذا العلم في العصر الحاضر من مقدّمات

علم الطب الضرورية التي يتوقّف على معرفتها إنقاذ المرضى من الهلاك بحوث فقهية هامة، ص: 321

و شبهه، و من الواضح أنّ مقدّمة الواجب واجبة.

و من هنا أفتى غير واحد من أكابر العصر بجوازه، و إن خالف فيه بعضهم، و الظاهر أنّ منشأ مخالفتهم عدم الاعتراف بالضرورة المذكورة، و إلّا لأفتوا به قطعاً كما في غيره من موارد الضرورة، فيجوز للمخالف أيضاً الفتوى بجوازه مشروطاً بها، و إحراز الموضوع على عاتق المقلِّد.

و حيث إنّ دليل الجواز هو الضرورة، و الضرورات تتقدّر بقدرها، فلا بدّ عند الفتوى بجوازه من تحقّق شروط ثلاثة:

الأوّل: أن يكون غرضه من التشريح تعلّم الطب الذي لا يكتمل إلّا به، فيكون التشريح حينئذ مقدّمة لإنقاذ النفوس المحترمة.

الثاني: أن لا يجد سبيلًا إلى أجساد الكفّار الحربيين، بل إذا دار الأمر بين المسلم و الذمّي كان الذمّي مقدّماً؛ لأنّه أقلّ محذوراً كما لا يخفى.

الثالث: أن لا يتعدّى المقدار اللازم منه.

إذن فمع تحقّق هذه الشروط الثلاثة يكون التشريح جائزاً.

و الإنصاف أنّ إحراز موضوع الضرورة للعارف بشي ء من علم الطب في عصرنا هذا سهل جدّاً.

[المقام الثالث: الفرق في الحكم بين الحربي و غيره و بين المسلم و الذمّي:

ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا شكّ في الفرق بين الحربي و غيره، و كذلك بين المسلم و الذمّي إذا دار الأمر بينهما؛ فإنّ الذمّي و إن كان محترماً أيضاً و لكن فرق بينه و بين المسلم حيّاً و ميّتاً فلا بدّ من رعاية سلسلة المراتب في المقام، و هو ظاهر.

[المقام الرابع: اختلاف حكم التشريح باختلاف أغراضه

و يظهر الحال فيه ممّا تقدّم في دليل المسألة، فإن كان الغرض منه معرفة الطب و تعلّمه مع الشروط المذكورة كان جائزاً. و كذا يجوز إن كان لمعرفة علّة الجناية و كشفها إذا كان كشفها واجباً شرعياً يترتّب عليه إحقاق الحقوق أو دفع الخلاف و المفاسد الناشئة منه، و غير ذلك.

و أمّا إذا كان لمجرّد مشاهدة آثار قدرته تعالى و آياته في الخلق فلا يجوز؛ لعدم انحصار طريق معرفته تعالى بذلك ليكون واجباً.

و كذا القطع للترقيع؛ فإنّه إنّما يجوز إذا كان هناك واجب أهمّ. و سيأتي الكلام فيه و في لزوم استئذان الأولياء في ذلك، أو وصية الميّت نفسه في حال حياته.

[المقام الخامس: أمور أخرى ترتبط بالتشريح
اشارة

التشريح سواء قلنا بجوازه أو حرمته يستدعي الكلام في عدّة جهات: تارة يبحث فيه من حيث حلّية بيع الأجساد و حرمته لغرض التشريح، و أخرى من حيث تعلّق الدية بالتشريح و عدم تعلّقها، و ثالثة من حيث جواز النظر إلى عورة الميّت عند التشريح و عدم جوازه، و رابعة من حيث تكفين الميّت المشرّح و دفنه، و خامسة من حيث جواز الوصية بتشريح بدنه بعد موته و عدم جوازها، و هل هي نافذة أو لا؟

أمّا الجهة الأولى: فإنّ بيع أبدان المسلمين لغرض التشريح مشكل جدّاً؛

لمنافاته مع احترامها، و لذا لا بدّ من التماس طرق أخرى للوصول إليه.

و أمّا أبدان الكفّار فبناءً على نجاستها بالذات، أو على الأقلّ بالموت، فبيعها أيضاً

بحوث فقهية هامة، ص: 323

مشكل؛ نظراً إلى بطلان بيع الميّتة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ ذلك مختصّ بما إذا لم تكن هناك منفعة محلّلة، و المفروض وجودها في المقام، فتكون محترمة، فيجوز بيعها، و هذا كحرمة بيع الدم في السابق و جوازه في عصرنا الحاضر؛ و ذلك لما فيه من المنافع المقصودة كإنقاذ المرضى و المجروحين، فتأمّل.

و أمّا الجهة الثانية: فإنّ ظاهر إطلاقات الدية

فيما مرّ ذكر من الأخبار هو تعلّقها بالتشريح.

و لكن لقائل أن يقول: إنّ الدية فرع الجناية الفعلية أو الحكمية، و إذا وجب التشريح لكونه مقدّمة لنجاة نفوس المسلمين فلا تتعلّق به الدية.

و إن شئت قلت: ظاهر الإطلاقات الواردة في أبواب الديات منصرفة عن محل الكلام، أعني ما وجب بحكم الشارع المقدّس، كما أنّ القصاص بالحقّ لا يوجب الدية، و أي فرق بين ما وجب أو جاز بالعنوان الأوّلي أو الثانوي؟! و لذا لم يرد وجوب الدية في مسألة شق بطن المرأة الميّتة لإخراج الولد الحيّ، إذ لو وجب لصرّح به في النصّ، و لم نرَ من أفتى بوجوبها فيه «1».

إن قلت: هل هذا إلّا كالأكل في المخمصة، و كالأكل من مال الناس عند الضرورة، حيث حكموا بالجواز مع الضمان؟

قلت: الفرق بين المسألتين ظاهر، فإنّ الإتلاف يختلف عن الدية؛ لأنّ مورد الإتلاف إنّما هو في الأموال، و ليست أعضاء الحرّ من الأموال؛ لأنّ المدار فيها على الجناية، بل و كذا مع عدمها، كمن لطم وجه غيره فاحمرّ، فإنّ فيه الدية.

بحوث فقهية هامة، ص: 324

توضيح ذلك: أنّ جميع الروايات- الثماني أو الستّ- المذكورة في أبواب الاحتضار

تشترك في الحكم بوجوب شقّ بطن المرأة إذا ماتت و في بطنها الولد يتحرّك، و قد ورد الأمر في ثلاث منها بلزوم خياطة بطنها بعد ذلك، و ليس في شي ء من هذه الروايات عين أو أثر بالنسبة إلى الحكم بوجوب الدية، و لو كانت واجبة شرعاً لما تُرك ذكرها في هذه الروايات على كثرتها، و هي و إن كان بعضها معتبراً و بعضها غير معتبر، لكن في المجموع كفاية.

و لا فرق بين مورد تلك الروايات و بين ما نحن فيه من مسألة التشريح بعد كون المفروض حرمة كلّ منهما بالعنوان الأوّلي و وجوبهما بحكم الضرورة.

نعم، قد ورد في الرواية الثالثة المرويّة عن وهب بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) بعد ذكر هذا الحكم ما نصّه قال في المرأة يموت في بطنها الولد فيتخوّف عليها؟ قال: «لا بأس بأن يدخل الرجل يده فيقطعه و يخرجه»

«1». و يمكن حملها على رضا الوالدين بذلك، و الدية لهما في الجنين دون دية الميّت، فتدبّر جيّداً.

و أمّا الجهة الثالثة: فإنّه يجوز النظر إلى عورة الميّت عند التشريح

إذا كان داخلًا تحت عنوان الضرورة- التي مضى الكلام فيها- و لكن لا بدّ في ذلك من الاكتفاء بالمقدار الواجب منه، و قد ورد التصريح في بعض روايات أبواب الاحتضار أنّه إذا مات الولد في بطن أمّه و كان يتخوّف عليها يجوز للرجل إدخال يده في فرجها و تقطيع ولدها الميّت و إخراجه، و محل الكلام من هذا القبيل.

و أمّا الجهة الرابعة: فإنّ الظاهر وجوب الكفن و الدفن

في أوّل فرصة ممكنة؛ لإطلاق الأدلّة، نعم لا تجب الأكفان الثلاثة؛ لعدم بقاء موضوعها، بل يلفّ في خرقة، و الأحوط أن تكون ثلاث خرق ثمّ يدفن، و لا بدّ من الصلاة عليه قبل ذلك.

و أمّا الجهة الخامسة: فإنّه هل تجوز الوصيّة بتشريح بدنه بعد موته أو لا؟

و هل تكون الوصية بذلك نافذة أو لا؟

يمكن أن يقال: إنّه لا أثر لمثل هذه الوصايا، فإنّ الحكم- كما عرفت- يدور مدار الضرورة.

5- الترقيع و الزرع

اشارة

يمكن القول إجمالًا إنّه إذا كان في ترقيع الأعضاء و زرعها تكامل لعلم الطبّ في عصرنا الحاضر و تطوّر في جميع المجالات- لا سيّما بعد أن أجريت عمليات جراحية معقّدة بالنسبة إلى زرع و ترقيع أعضاء الإنسان الأصلية منها و غيرها، بل من المتوقّع في المستقبل القريب إمكان وصل رأس إنسان بجسد إنسان آخر- فلا ريب في جوازه هنا كما تقدّم.

و يستفاد من بعض الروايات أن زرع الأسنان كان قديماً، نظير ما رواه زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال سأله أبي و أنا حاضر عن الرجل يسقط سنّه فيأخذ سنّ إنسان ميّت فيجعله مكانه، قال: «لا بأس»

«1». و ليس هذا بالأمر الهيّن؛ لاحتياجه إلى جملة من المقدّمات الطبية، و إلّا فمجرّد جعل سنّ مكان آخر لا يوجب التئامه و اتّصاله بالفكّ، و قد واصل الأطباء في عصرنا الحاضر ذلك عن طريق زرع الأسنان بطرق علاجية حديثة، فصار ينتفع بها على أحسن وجه.

و على كلّ حال فإن البحث في الترقيع و الزرع يتضمّن عدّة مقامات:

المقام الأوّل: أقسام الترقيع و الزرع

و هي كثيرة: منها: أخذ بعض أعضاء الإنسان لترقيعها في نفس بدنه، كما هو المتعارف في الأخذ من عظام الخاصرة لترميم بعض العظام المكسورة، أو أخذ شي ء من جلد الأرجل و وصله بالجلد المحترق من الوجه، أو الأخذ من عروق الرِّجل لترميم عروق القلب.

و منها: الأخذ من بدن إنسان و زرعه في بدن غيره، و المأخوذ منه قد يكون مسلماً، و قد يكون كافراً كتابياً أو مشركاً، و كلّ هذا قد يكون من الحيّ و قد يكون من الميّت.

و منها: أخذ بعض أعضاء الحيوان المحلّل أو المحرّم و وصله بالإنسان، كأخذ أجزاء من عينه أو كبده و زرعه فيه.

و

منها: ترقيع بعض الأعضاء بوضع أجزاء اصطناعية كما في عمليات الجراحة البلاستيكة.

هذا من ناحية، و من ناحية أخرى تارة يكون في موارد تتوقّف عليها الحياة، كما في زرع القلب و الكلية، و أخرى يكون في الأعضاء المهمّة ممّا لا تتوقّف عليها الحياة، كما في زرع العين و الأسنان، و ثالثة فيما يكون من قبيل التجميل، و رابعة فيما يكون من قبيل تزريق الدم.

المقام الثاني: حكم الأقسام من حيث الجواز و الحرمة
أوّلًا: حكمها الأوّلي:

لا ينبغي الشكّ في حرمة الأخذ من أموات المسلمين بالعنوان الأوّلي، و أمّا الأخذ

بحوث فقهية هامة، ص: 328

من الأحياء أو من الإنسان نفسه أو من الحيوان و شبهه فهو ممّا لا دليل على حرمته بعنوانه الأوّلي إذا كان مع الرضا ممّن يعتبر رضاه.

و لا يعتبر رضا الكافر الحربي في ذلك، و أمّا إذا كان ميّتاً فلا مانع من أخذ العضو منه؛ لعدم صدق المثلة عليه، لأنّها- كما عرفت- عبارة عن قطع الأعضاء تعذيباً للحيّ أو تعذيباً لأهل الميّت، أو انتقاماً منه أو منهم، و ليس شي ء من ذلك في مسألة زرع الأعضاء و ترقيعها.

نعم، لا يجوز بالعنوان الأوّلي أخذ العضو من الميّت المسلم؛ لما فيه من الهتك، و لكونه من الجناية التي تتعلّق بها الدية.

فتحصّل: أنّ الأخذ من الحيّ يتوقّف على رضاه إذا كان إنساناً محترماً دون غيره، و أمّا الأخذ من الميّت فلا يجوز إذا كان من المسلم و شبهه دون غيرهما.

ثانياً: حكمها الثانوي:

إذا توقّف إنقاذ حياة مسلم على أخذ العضو و وصله في بدنه جاز ذلك قطعاً؛ لما فيه من الأولويّة و الضرورة. و إن شئت قلت: دار الأمر هنا بين الأهمّ و المهم، و لا ريب في أنّ الترجيح للأهم.

و أمّا إذا كان العضو ممّا لا تتوقّف عليه الحياة- كما في زرع العين المأخوذة من الميّت «1»- فإنّه قد يقال بعدم جواز أخذه في الموارد المحرّمة بالعنوان الأوّلي، كالأخذ من ميّت المسلم؛ فإنّ مجرّد المصلحة غير كافية في تجويز المحرّمات ما لم تكن مصلحة ملزمة أهمّ من المفسدة الملزمة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الإنسان و إن كان قادراً على العيش مكفوف العين أو مشلولًا، و لكنّ لا إشكال في عدّ العرف وجود العينين

كليهما و رفع الشلل من بحوث فقهية هامة، ص: 329

الضروريات التي يهتمّ بها الشارع المقدّس، و إنّ حفظ سلامة الإنسان الحيّ في نظر الشارع أهمّ من حفظ سلامة بدن الميّت المسلم، فيجوز حينئذ الأخذ من الميّت و ترميم أعضاء الحي.

و يمكن الاستشهاد له بما مرّ في أخذ السنّ من الميّت المسلم و جعله مكان السنّ الساقط من الحيّ؛ فإنّ السنّ ممّا لا تتوقّف عليه حياة الإنسان.

نعم، لا يجوز ذلك في التجميل و شبهه ما لم يبلغ القبح فيه حدّاً يوجب لصاحبه العسر و الحرج الشديدين- كما هو المشاهد في بعض موارد حرق الوجه أو الأصابع أو غير ذلك-، فلو بلغ هذا الحدّ دخل في القسم الثاني.

المقام الثالث: في بيان الأحكام الفرعية المترتّبة على ترقيع الأعضاء
اشارة

هناك جملة من الأحكام تترتّب على أخذ الأعضاء، سواء في موارد جواز الأخذ أو حرمته؛ أعني أنّنا إذا قلنا بحرمة ذلك مطلقاً أو في بعض موارده، فمع الأخذ تترتّب من حيث الجواز و الحرمة أحكام الفروع التالية:

الأوّل: في حكم الأعضاء المبانة من الحيّ أو الميّت

التي تصير ميّتة بعد انفصالها:

فعلى ما هو المشهور من حرمة بيع الميّتة يحرم بيعها و شراؤها مطلقاً، و عليه فلا يجوز بيع الكلى و لا سائر الأعضاء و لا الجلود و شبهها؛ لاندراجها تحت عنوان بيع الميتة. نعم، يمكن استثناء العظم و السنّ بناءً على أنّهما ليسا ممّا فيه روح، فلا تنجس بالموت، و لا تشملها أدلّة حرمة بيع الميتة بناءً على أنّ المراد منها الميتة النجسة.

أقول: لنا كلام في عدم كونهما ممّا ليس فيه روح؛ لأنّ الإنسان قد يتألم بكسر

بحوث فقهية هامة، ص: 330

بعض عظامه بما لا يتألّم بغيرها و هذا دليل على وجود الروح فيها. و كذا بالنسبة إلى السنّ الذي كثيراً ما يتأثّر بالأطعمة أو الأشربة الشديدة الحرارة أو البرودة، و يعرضه من الداء العياء ما لا يعرض غيره؟! فكيف يعدّ ممّا لا روح فيه؟! و كيف يقاس بالشعر أو الوبر و شبههما؟! و من جهة أخرى يمكن أن يقال: إنّ أدلّة حرمة بيع الميتة ناظرة إلى ما ليس فيه منفعة محلّلة مقصودة، نظير بيع اللحوم في السابق، حيث لم تكن لها منافع محلّلة معتدّ بها في ذلك الوقت.

أمّا في عصرنا فتعدّ ممّا يترتّب عليها أهمّ المنافع الحياتية المحلّلة. فيجوز بيع الكلى و الجلود و العظام من الأحياء و الأموات، فإنّ منافعها كانت نادرة في السابق، أمّا اليوم فتعدّ منافعها غالبة مقصودة، فلا يقاس أحدهما بالآخر.

إن قلت: إنّ من منافع شحوم الميتة الإسراج بها، و

هي منفعة غالبة، و قد صرّح في بعض روايات الباب بجوازه مع حرمة بيعها، و هذا دليل على حرمة بيع الميتة و إن كانت لها منافع مقصودة محلّلة.

قلت: يمكن أن يكون هذا التحريم لأجل منع المشتري من الانتفاع بأكلها مثلًا، و لكن الأمر ليس كذلك فيما نحن فيه، و لعلّ مجرّد هذا الاحتمال كان كافياً في انصراف روايات الباب عن مثل بيع أعضاء الإنسان و شبهها.

هذا، و لكن مقتضى الاحتياط أن يؤخذ الثمن في مقابل أخذ هذه الأعضاء من بدنه إذا كان حيّاً، لا في مقابل نفس هذه الأعضاء ليرد الإشكال عليه بما مرّ.

الثاني: أنّه على فرض جواز بيعها لا إشكال في كون ثمنها لصاحبها

إذا كان حيّاً، كما أنّه لا ينبغي الإشكال في كونه للميّت يصرف في أداء ديونه، أو في أعمال البرّ و الخير له إذا لم يكن عليه دين. هذا فيما إذا أخذ من الميّت بإذن أوليائه أو بوصية منه بحوث فقهية هامة، ص: 331

في ذلك.

الثالث: في حكم الدية في المقام:

و تفصيل الكلام فيه: أنّه إن أخذ من الحيّ برضاه فلا دية، و هو ظاهر؛ لعدم شمول إطلاقات أدلّة الدية لمثله، مضافاً إلى كونه أولى من مسألة براءة الطبيب إذا أخذ البراءة من المريض مع كون المسألة منصوصاً عليها.

و القول بأنّه من قبيل إسقاط ما لم يجب، كالاجتهاد في مقابل النصّ؛ و قد ذكرنا في محلّه أنّ إسقاط ما لم يجب جائز إذا حصل مقتضيه و إن لم تحصل علّته التامّة، كما إذا أسقطت الزوجة حقّها في القسم قبل دخول الليل.

و إن أخذ من الحربي فعدم الدية أظهر، و لو من جسده.

و أمّا إذا أخذ من جسد المسلم برضاه في حال حياته أو وصيّته به فالظاهر عدم الدية أيضاً؛ لأنّ الحقّ له و قد أجازه.

يبقى الكلام فيما إذا لم يوصِ بشي ء و وجب أخذ العضو من جسده بحكم الشارع المقدس، فيأتي فيه ما سبق- في مسألة التشريح- من أنّ الدية إنّما هي للجناية الفعلية أو الحكمية، و حيث إنّ الزرع هنا بحكم الشارع المقدّس مقدّمة للواجب أو شبهها فلا جناية و لا دية. و لكن فرق بين المقام و بين مسألة التشريح؛ لأنّ نفي الدية لا يوجب نفي المالية، و الضمان فيه من باب الإتلاف، فيكون المقام من قبيل الأكل في المخمصة، فلو اضطرّ إنسان إلى الأكل من مال الغير- كما في عام المجاعة و شبهه- جاز له ذلك، لكنّه ضامن

لمثله أو قيمته، و هكذا فيما نحن فيه، فإنّه اضطر إلى أخذ العين أو بعض أجزائها- مثلًا- من جسد الميّت المسلم، فهو و إن لم يكن ملزماً بأداء الدية لكنّه ملزم بأداء القيمة من باب كونه تصرّفاً في مال الغير و أنّه انتفع به، لكن جوازه لا يدلّ على عدم ضمانه القيمة.

الرابع: حكم ما يؤخذ من حيث الطهارة و النجاسة:

قد يتوهّم أنّه بعد الزرع يبقى العضو على نجاسته، لكن الإنصاف أنّه لا وجه للحكم بالنجاسة، و ذلك:

أوّلًا: لخروجه بعد الزرع عن كونه مصداقاً للميتة بتبدّل موضوعه و صيرورته حيّاً، فيكون طاهراً.

نعم، قد يشكل الحكم بطهارته بعد الزرع و قبل ثبوت الحياة و جريان الروح الحيوانية فيه.

و ثانياً: لو شككنا في الطهارة و النجاسة بعد الزرع لا يجري فيه استصحاب النجاسة، أمّا على المختار من عدم الجريان في الشبهات الحكمية فواضح، و أمّا على المشهور من جريانه فيها فلأنّ الموضوع غير باق، فلا تتّحد القضيّتان المتيقّنة و المشكوكة، فلا يجري الاستصحاب.

و ثالثاً: لإمكان الاستئناس له بما جاء في بعض الروايات الواردة في أبواب القصاص، فعن إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام)

«أنّ رجلًا قطع من بعض أذن رجل شيئاً، فرفع ذلك إلى عليّ (عليه السلام) فأقاده، فأخذ الآخر ما قطع من إذنه فردّه على إذنه بدمه فالتحمت و برئت، فعاد الآخر إلى علي (عليه السلام) فاستقاده، فأمر بها فقطعت ثانية، و أمر بها فدفنت، و قال: إنّما يكون القصاص من أجل الشين»

«1». و الظاهر عمل الأصحاب بها، فإنّه لو كان نجساً بعد الالتئام و البرء لكان اللازم التنبيه عليه؛ لأنّه كان يصلّي معه و يمسّه و يعامله معاملة الطاهر طيلة تلك المدّة، إلّا

بحوث فقهية هامة، ص: 333

أن يقال: الرواية ليست في

مقام البيان من هذه الجهات.

و هل يجري هذا الحكم في أبواب الحدود أيضاً- كما في اليد المقطوعة بالسرقة مثلًا- لا سيّما بعد إمكان الزرع و الوصل بمحل القطع في أيامنا هذه؟

الظاهر أنّه لا يجوز أيضاً، للتعليل الوارد في نفس الرواية؛ إذ القصاص و الحدود في هذا الحكم سواء.

و رابعاً: سلّمنا بقاءه على النجاسة، لكنّ ذلك في غير الكلى و باطن العين و عروق القلب و شبهها، و أمّا ممّا يعدّ من البواطن فيها فلا يقدح في شي ء من الصلاة و غيرها، غاية الأمر أنّه يكون من قبيل المحمول النجس، و هو غير مضرّ، سيّما إذا كان في الباطن؛ لعدم الدليل على اشتراط صحّة الصلاة بعدمه.

نعم، في الأجزاء الظاهرة كما في زرع الجلود يحصل الإشكال من ناحية مسّها؛ لأنّها على فرض النجاسة واجبة الاجتناب، و أمّا من جهة الصلاة فلا إشكال فيها؛ لأنّها ليست من اللباس بل هي من المحمول، فليس الإشكال فيها من جانب النجاسة و لا من جانب استصحاب الميتة النجسة؛ لما عرفت من تبدّل الموضوع.

هذا كلّه فيما إذا كان العضو مأخوذاً من إنسان، و أمّا لو كان مأخوذاً من حيوان غير مأكول اللحم- كالكلية المأخوذة من القرد مثلًا- فقد يقع الكلام فيه من جهة كونه من قبيل الصلاة فيما لا يؤكل، فلا يجوز.

و لكن الإنصاف أنّه بعد صيرورته جزءاً من بدن الإنسان يتغيّر حكمه و يتبدّل موضوعه، و لا أقلّ من الشكّ، و حيث إنّ الاستصحاب غير جار في المقام لما عرفت، فيكون مجري للبراءة كما لا يخفى، فتدبّر.

و لو سلّمنا أنّه من قبيل الصلاة في غير مأكول اللحم، لكن أدلّة بطلان الصلاة في أجزاء غير المأكول منصرفة عن مثل ذلك قطعاً، و

لذا لو قام إلى الصلاة من أكل لحم بحوث فقهية هامة، ص: 334

غير المأكول و اللحم في معدته لم يهضم بعد لم يضرّ ذلك بصلاته، و لم تكن من قبيل الصلاة في غير المأكول، و المقام أولى بالصحّة.

خامساً: في حكم الوصيّة:

لقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الأخذ من بدن الميّت المسلم جائز عند الضرورة سواء أوصى بذلك أم لم يوصِ؛ للإذن في ذلك من الشارع المقدّس.

و تظهر الثمرة في وجوب العوض و عدمه، فلو أوصى بأن تعطي بعض أعضاء بدنه مجّاناً لكلّ من يحتاج إليه أو لشخص بعينه لم يجب عليه العوض، و أمّا لو كان ذلك بدون الإيصاء به فقد عرفت وجوب العوض، و أنّه حق متعلّق بالميّت تؤدّى منه ديونه، و إلّا يصرف في وجوه البرّ، و ثوابه له.

سادساً: حكم شراء الجاهل بغصبية الأعضاء المأخوذة من الحيّ أو الميّت:

لو اشترى شخص بعض الأعضاء المأخوذة من بدن الحي أو الميّت- كالمأخوذة في بعض العمليات الجراحية التي تجري من قبل أطباء غير ملتزمين بقوانين الشرع و الأخلاق لبيعها بأثمان باهضة- و كان جاهلًا بغصبيّتها، ثمّ علم بذلك بعد الانتفاع بها وجب ردّه إن أمكن- و إن كان فرض الردّ نادراً- و إلّا كان كالمغصوب التالف، و وجب عليه ردّ ثمنه إلى صاحبه، و يرجع بما أدّاه على الغاصب، و لو بذل للمالك أكثر ممّا بذله للغاصب كان له الرجوع عليه بأخذ الفارق لدخول ذلك في الغرر المنهي- كما لا يخفى- و منه يظهر حال الدم المغصوب و شبهه.

سابعاً: حكم زرع أعضاء الكافر في بدن المسلم و بالعكس:

أمّا الأوّل: فمقتضى القاعدة الأوّلية كونه نجساً، سواء أخذ من الحيّ أو الميّت، و سواء على القول بنجاسة الكافر نجاسة ذاتية أو لا؛ فإنّه بمجرّد وصله ببدن المسلم بحوث فقهية هامة، ص: 335

و التئامه يصير جزءاً منه، فيتغيّر حينئذ الموضوع، و يكون الحكم فيه هو الطهارة، و هذا نظير من شرب لبن الكافرة فصار جزءاً منه، و على فرض الشكّ في طهارته لا يجري الاستصحاب فيه؛ لعدم بقاء الموضوع على حاله بعد لحوقه ببدن المسلم، فتجري فيه أصالة الطهارة.

و أمّا الثاني: و هو زرع أعضاء المسلم في بدن الكافر، فإن كان ذمّياً كان جائزاً، لكنّه بعد وصله فيه يكون نجساً بناءً على نجاسة الكافر.

و توهّم كون ذلك من قبيل السلطة و السبيل المنفي بقوله تعالى (وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) «1». باطل؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد من السبيل هو الحجّة أو السلطة بنحو الحكومة أو المالكية التشريعية على المؤمنين، لا مجرّد أخذ بعض الأعضاء، و إلّا لم يجز للمرأة المسلمة أن ترضع ولداً كافراً

ذمّياً، و لا أظنّ أحداً يفتي بالحرمة.

و أمّا الكافر الحربي، فإن كان بذل الأعضاء له في جانب إعانتهم و دعمهم فحرام كما في سائر الموارد، و أمّا في موارد جواز بيع الطعام لهم فيجوز بيعها؛ لعدم الفرق بين البابين.

ثامناً: هل يجوز زرع أعضاء الحيوان

- سواء كان محلّل اللحم أو محرّمة أو نجس العين- في بدن الإنسان أو لا يجوز؟

لا إشكال في جواز ذلك في المحلّل؛ لأنّه و إن كان بحكم الميتة بعد الإبانة لكنّه يصير بعد الزرع جزءاً حيّاً من بدن الإنسان، فيخرج عن عنوان الميتة و يدخل في عنوان الحيّ فيكون حينئذ طاهراً، و لا إشكال فيه من جهة الصلاة و غيرها.

بحوث فقهية هامة، ص: 336

و كذا الحال بالنسبة إلى غير المأكول؛ لما عرفت من أنّه بعد ما صار جزءاً من بدن الإنسان يكون حينئذ بحكمه، و مع فرض عدم كونه بحكمه لم يضرّ أيضاً بصحّة الصلاة؛ لما تقدّم من عدم شمول أدلّة حرمة الصلاة فيما لا يؤكل لحمه لهذا المورد؛ لأنّه من قبيل من صلّى و في بطنه لحم من حيوان محرّم، فإنّه ممّا لا شكّ في صحّة صلاته في تلك الحالة، و لا أظنّ أنّ هناك من يفتي بفساد صلاته باعتبار أنّه صلّى في غير مأكول اللحم. و هذا إذا كان العضو باطنياً، و هو واضح.

و كذا إذا كان العضو ظاهرياً كالجلد و نحوه كما لا يخفى. و مثله أيضاً ما إذا كان العضو مأخوذاً من نجس العين؛ لما تقدّم من الدليل عليه في غير المأكول بكلا حالية، و إن كان الأحوط الاجتناب هنا مهما أمكن، و لكنه عند الضرورة لا محيص عنه.

تاسعاً: حكم تزريق دم الإنسان للغير:

قد ظهر ممّا ذكرنا حكم تزريق دم الإنسان لغيره، مسلماً كان أو كافراً، ذمّياً أو حربياً، رجلًا كان أو امرأة، إنساناً كان أو حيواناً، محلّلًا أو محرّماً؛ لأنّ الدم في كلّ ذلك يصير جزءاً من بدن الأخذ، و بعد صيرورته كذلك لا يبقى هناك أيّ فرق بينه و بين سائر أجزاء البدن

و هو باق ببقائه و حيّ بحياته.

و لا دليل على حرمة تزريق دم المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي؛ لعدم دخوله تحت شي ء من أدلّة الحرمة.

و لو شكّ في شي ء من ذلك من جانب الطهارة أو الصلاة أو أصل جواز التزريق فالمرجع فيه أصالة الإباحة و البراءة، و لا يجري الاستصحاب هنا؛ لما عرفت من تبدّل الموضوع، و عدم وحدة القضية المتيقّنة و المشكوكة.

و ممّا ذكرنا ظهر حكم بيع الدم و شرائه، بل الأمر فيه أسهل؛ لعدم صدق عنوان الميتة عليه، فلا إشكال فيه من جانب حرمة بيع الميتة و إن كان نجساً.

عاشراً: حكم وصل الشعر بالشعر و حكم زرعه:

الشعر تارة يوصل بغيره من الشعر من غير زرعه في الرأس أو غيره و لا يكون جزءا من بدن الإنسان، و هذا ممّا لا كلام و لا إشكال في جوازه.

و لا مانع من وصل شعر امرأة بشعر أخرى، و لا يحرم النظر إلى الشعر المفصول من الأجنبية؛ لعدم قيام دليل على الحرمة في هذه الصورة، لأنّه إنّما يحرم النظر إليه إذا كان جزءا من بدنها لا ما إذا انفصل عنها، و لا يجري الاستصحاب؛ لتبدّل الموضوع قطعاً، و عليه لا فرق بينه و بين الموصول بشعر امرأة أخرى.

نعم، إذا كان الشعر من حيوان غير مأكول اللحم لم تجز الصلاة فيه، لشمول أدلّة حرمة الصلاة فيما لا يؤكل لحمه لمثله.

و أخرى يزرع الشعر مع أصله و بصلة في بدن إنسان آخر بحيث يصير جزءا من بدنه و هذا لا إشكال فيه من ناحية الأصل و البصل. و كذا إذا نما بحيث ذهب الشعر السابق و بقي النامي.

لكن يشكل الأمر إذا كان الشعر السابق موجوداً؛ لعدم جريان الروح فيه، فإنّه ممّا لا روح له لعدم تبدل

موضوعه. نعم، بالنسبة إلى بصلة يكون الموضوع قد تبدّل. و كذا إذا نما بحيث أزيل السابق بالمقراض و بقي الشعر النامي.

هذا تمام الكلام في المسألة، و هناك فروع كثيرة أخرى يعلم حالها ممّا ذكرنا، و الحمد لله ربّ العالمين.

6- أحكام البنوك

اشارة

إنّ مسألة «البنوك» تعتبر من المسائل المستحدثة التي يكثر التساؤل عن مشروعيتها و حكم التعامل معها و إيداع الأموال فيها، حيث صار وجودها ضرورياً بحكم المدنية الحاكمة في زماننا، فإنّ اقتصاد الدول قائم على أساسها. فما هو حكم إيداع المال فيها؟ و ما حكم ما يؤخذ منها؟ و قبل الخوض في تفاصيل البحث نرى ضرورة تقديم أمور:

الأمر الأول: ضرورة إحداث البنوك:
اشارة

إنّ تأسيس البنوك و إحداثها يعدّ أمراً ضرورياً و ذا أهميّة كبيرة، حيث إنه ما من نظام اقتصادي إلّا و البنوك أحد أركانه، و الأسباب التي دعت إلى إحداث البنوك هي ما يلي:

أ- الاحتفاظ بالأموال لدى مركز خاصّ مجهّز بوسائل الحفاظ و الأمن و هذا بخلاف الاحتفاظ بها داخل البيوت حيث تكون معرضة للسرقة و سائر الآفات و هذه الضرورة وجدت بعد اتساع المدن و المبادلات الاقتصادية المختلفة.

ب- إنّ مبادلة النقود الكثيرة في المعاملات الخطيرة تحتاج إلى تسهيلات لا يمكن توفيرها إلّا عن طريق الارتباط بمركز خاصّ يتوسّط بين المتعاملين في تقديم الصكوك أو الحوالات التي تيسّر إلى حدٍّ ما هذه المعاملات، مع أنّ هذا الأمر خال بحوث فقهية هامة، ص: 339

من الخطورة حتّى فيما إذا فُقدت الحوالة (الصك)، بخلاف ما إذا أريد تبادل الأموال من يد إلى أخرى؛ إذ لا يخلو حملها من إخطار كثيرة، هذا مضافاً إلى أنّ الصك- و بعد ذكر الاسم فيه- يكون أصدق شاهد على ضرورة أداء المال لمستحقّه عند ظهور الخلاف؛ إذ لا يمكن لأحد إنكاره بعد ذكر الاسم فيه.

ج- إنّ ادّخار الأموال في البنوك يساعد كثيراً على رقي البلاد و ازدهار اقتصادها- خصوصاً فيما لو كانت الحكومة حكومة صالحة- و ذلك عن طريق استثمارها و صرفها في المشاريع الإنتاجية أو التجارية

الضخمة التي يرجع عائدها إلى المجتمع و إحياء الاقتصاد في البلاد، و حتّى لو كانت هذه البنوك تابعة لشركات خاصّة فإنّ النفع سيعود إلى المجتمع أيضاً. بخلاف ما لو كانت هذه الأموال مودعة في أماكن متفرّقة فإنّها لا يمكن استثمارها بالكيفيّة المطلوبة في حين أنّ الأموال المودعة لدى البنك تستثمر و تصرف من قِبله في مختلف أنواع المعاملات؛ كالمضاربة و نحوها، بل يبقى أغلبها مجمّداً و معطّلًا.

د- أضف إلى ذلك ما للبنوك من منافع أخرى، كسهولة نقل النقود من بلد إلى بلد، و إقراض المحتاجين لبناء المساكن و إنشاء المصانع و المتاجر، و غير ذلك من المصالح و المنافع التي تقع في قائمة المصالح الرئيسية.

فالبنوك، على هذا، أصبحت ضرورياً من ضروريات المجتمعات البشرية؛ و ذلك لما لها من دور كبير في تنمية اقتصادها و ازدهاره، و هذا بالطبع لا يتأتّى إلّا إذا سارت وفق نهج صحيح و خطط مدروسة، و إلّا فستكون مصدر تهديد يشكّل خطراً جدّياً على النظام الاقتصادي للمجتمع. و على كلّ حال فإنّه لا يمكن الاستغناء عنها في الوقت الراهن و لو يوماً واحداً؛ لأنّ ذلك يشلّ الاقتصاد و يعيق تطوّر البلاد.

بحوث فقهية هامة، ص: 340

هذه هي أهمّ المصالح المترتّبة على وجود البنوك. و توجد إلى جنب ذلك مفاسد كبيرة قد تترتّب على وجود البنوك، كما لو كانت في خدمة حكومة فاسدة لم تراعِ الضوابط الشرعية في الإقراض استعمال الأموال.

أقسام البنوك

نظراً لتعدّد الوظائف و أهميتها دعت الضرورة إلى إيجاد أكثر من بنك واحد، يقوم كلّ منها بإدارة الوضع الاقتصادي طبق الضوابط و المقرّرات الدولية أحياناً و الإسلامية أخرى بشكل منسجم و مترابط؛ من أجل إنعاش الوضع الاقتصادي في البلاد، و جرّ النفع

إلى الصالح العام، فكانت البنوك على نوعين: حكومة إسلامية أو حكومة وضعية تستفيد منه في منافعها الخاصّة.

2- البنك الخاص:- كالبنوك التابعة للشركات الخاصة-: و هو الذي يداول أموال الناس في سبيل كسب منافعه الخاصّة، و تحصيل الأرباح لأصحاب الاشتراك، مع إيجابه تحصيل الأرباح لسائر الناس أيضاً.

الأمر الثاني: حقيقة إيداع الأموال في البنوك:
اشارة

يمكن أن تطبق عدّة عناوين على الأموال المودعة في البنوك بحيث يترتّب على كلّ عنوان منها حكم خاصّ، و نحن قبل التعرّض لتخريجها الشرعي نحاول بيان حقيقة إيداع هذه الأموال، فهل هي أمانة، أو إباحة معوّضة، أو قرض، أو غير ذلك؟

بالنسبة لما يرتبط بأعمال البنك توجد هناك عدّة عناوين، من قبيل: «الحساب الجاري»، و «حساب الادّخار أو التوفير»، و «حساب الودائع المصرفية ذات الأجل القصير أو المتوسط أو الطويل»، و «حساب القرض الحسن». و لكلّ واحد

بحوث فقهية هامة، ص: 341

من هذه العناوين حكم خاصّ أيضاً يأتي شرحه.

فلنبدأ أولًا بذكر حقيقة الأموال المودعة بعناوينها الثلاثة المتقدّمة من زاوية كونها حساباً جارياً في البنك، و في ذلك احتمالات خمسة:

1- يحتمل أن تكون الأموال المودعة في البنوك بشخصها- لا بماليّتها- أمانة

، و لذا يعبّر عنها بالوديعة.

لكن يدفعه: أنّه ليس للودعي إلّا الحفاظ على الأمانة و لا يجوز له التصرّف فيها، و الحال أنّ البنك يتصرّف فيها بشكل أو بآخر متى شاء، بل كثيراً ما يتّفق له أن يستلمها من شخص و يدفعها مباشرةً لآخر في نفس المجلس، و هذا أمر ينافي كونها أمانة.

2- يحتمل أن تكون أمانات نوعية لا شخصيّة؛

بمعنى أنّ المال بنوعه أمانة عند البنك لا بذاته، فيكون أمانة بماليّتها لا بخصوصيّتها.

أقول: إن كان المراد بهذا النوع من الأمانة صيرورة المال من قبيل الكلّي في المعيّن، فهو فاسد؛ لأنّه قد يأخذ المال من أحد المشتركين و يدفعه بعينه لآخر، فلا تبقى عين أمواله ليكون شريكاً في بعض أموال البنك بنحو الإشاعة، أو الكلّي في المعيّن، أو يكون المالك مالكاً لمقدار معيّن من النقود ضمن أموال البنك بلا تعيّن لشخص ذاك المقدار بحيث لو تلفت جميع أموال البنك و لم يبقَ منها إلّا مقدار ما أودعه فيه لكان ذلك المقدار ملكاً مختصّاً به دون البنك، بخلاف ما لو كانت الشركة بنحو الإشاعة التي يكون التالف فيها من ملكهما بالنسبة المعيّنة.

و إن كان المراد بهذا النوع من الأمانة كون المال المودع في ذمّة البنك و عهدته، فهو حينئذ من قبيل ما يجوز التصرّف فيه بالعوض، فيكون ديناً في ذمّة المتصرّف فيه، فهذا تعبير آخر عن كونه قرضاً و ليس بأمانة شرعية؛ لعدم جواز إتلاف بحوث فقهية هامة، ص: 342

الأمانة، بينما يجوز إتلاف القرض و جعله في الذمّة.

3- يحتمل أن يكون المال المودع أمانة لدى البنك بتوكيل من المالك في التصرّف فيه

بأيّ نحو أراد البنك كتبديلها بأموال أخرى مثلها، كما إذا أودع شخص دنانير من ذهب عند شخص و جعله وكيلًا عنه في تبديلها إلى دنانير أخرى على أن تكون عنده أمانة بعينها.

و يرد عليه: أنّه قد يتّفق للبنك عدم تبديل الأموال إلى أخرى مثلها؛ بأن يبقى المال أمانة في عهدته و ذمّته فقط، بل قد يتصرّف البنك في نفس تلك الأموال و يستثمرها في المنافع الداخلية أو الخارجية بحيث تعود أرباحها إلى البنك، في حين أنّها لو كانت أمانة عند البنك لم يجز له التصرّف فيها مراعياً منفعته،

بل يجب أن تعود أرباحها للمالك، و الحال أنّ البنك لا يردّ لصاحب المال إلّا ما يعادل مقدار ماليّتها؛ لأنّه يرى نفسه مختاراً في التصرّف كيف شاء في سبيل تحصيل منافعه الخاصّة من دون ردّ شي ء من تلك المنافع إلى المالك.

4- يحتمل في المال المودع لدى البنك الإباحة مع الضمان

، فيكون إباحة معوّضة- و عليه المشهور قبل الشيخ الأعظم بالنسبة إلى المعاطاة- فكأنّ المودع للمال يقول: أبحت للبنك جميع التصرّفات الناقلة و غيرها مع العوض بشرط أداء المثل عند مطالبتي به، و بذلك لا يكون البنك مالكاً، بل له التصرّف مع الضمان للمثل على فرض التصرّفات الناقلة أو المتلفة.

و يردّ عليه: أولًا: أنّ للمالك في الإباحة المعوّضة أخذ عين ماله إذا كانت موجودة عند المباح له، لكنّها ليست كذلك في البنك، فإنّه مع كونها موجودة فيه لا يحقّ للمالك المبيح أخذ عين ماله، و لا يجب على البنك ردّ العين لو كانت موجودة عنده، بل الواجب أداء

بحوث فقهية هامة، ص: 343

المثل فقط.

و ثانياً: أنّ جواز التصرّفات الناقلة في الإباحة المعوّضة أول الكلام؛ لأنّها ليست هبة و لا بيعاً و لا شيئاً من الأسباب المملّكة، إذ المشهور- المحقّق في محلّه- عدم جواز التصرّفات الناقلة بإباحة التصرّف؛ لأنّها منوطة بالملك السابق، و من هنا اضطرّوا إلى القول بملكيّته لها آناً ما قبل التصرّف في باب المعاطاة لتكون من التصرّفات الناقلة.

إن قلت: نظير هذا الإشكال أثير في البيع المعاطاتي، و أجيب عنه بحصول الملكية للمتصرّف و لو آناً ما قبل التصرّف المالكي الذي يصير به المال المباح ملكاً له أوّلًا ثمّ يتصرّف فيه بالتصرّفات الناقلة، و ليكن المقام من هذا القبيل بأن يقال: يملّكها البنك آناً ما قبل التصرّفات الناقلة.

قلنا: إنّ الالتزام بالملكية آناً ما أمر

مخالف للقاعدة لا يصار إليه إلّا بعد وجود دليل قطعي تعبّدي على جواز التصرّف مع الإباحة، كما ادّعاه كثير في باب المعاطاة، حيث ادّعوا أنّها لا تفيد إلّا الإباحة، ثمّ ادّعوا قيام السيرة القطعية على جواز التصرّفات الناقلة، و الجمع بينهما لا يمكن إلّا بالالتزام بالملكية قبل التصرّفات، و أمّا فيما نحن فيه فلم يقم دليل تعبّدي شرعي على ذلك.

و بعبارة أخرى: إنّما ذهب المشهور إلى القول بالملكية آناً ما في المعاطاة جمعاً بين الأدلة التي مفاد الأوّل منها: قيام الشهرة و انعقاد الإجماع على كون المعاطاة مفيدة للإباحة لا للملك، و مفاد الثاني: جواز التصرّفات المالكية إجماعاً، و الجمع بين المفادين لا يمكن إلّا بالقول بحصول الملكية آناً ما للمشتري قبل التصرّفات الناقلة. أمّا في المقام فلا مجال للقول بالإباحة و جواز التصرّفات الناقلة للبنك في الحساب الجاري؛ لعدم الملكية و لو آناً ما، و لعدم انعقاد الإجماع أو الشهرة للمصحّحين لعمل بحوث فقهية هامة، ص: 344

البنك في المقام.

5- و يحتمل أيضاً أن تكون حقيقة الحساب الجاري

هي القرض الذي يئول أمره إلى التمليك في مقابل العوض في الذمّة، و عليه فلا يحقّ للمالك أن يأخذ عين ماله من البنك مع وجوده؛ لانتقاله إلى الذمّة، فليس هو إلّا مالكاً لما في الذمّة، كما هو الحال في سائر الديون، و يجوز للبنك جميع التصرّفات الناقلة لحصول الملكية له.

ثمّ إنّه ليس لهذا القرض أجل معيّن، بل هو دين يجب على المستقرض- البنك- أداء عوضه إلى المقرض عند المطالبة به، و هذا هو الموافق لأحكام الإيداع و ما يترتّب عليه في عرف العقلاء، و لا يرد عليه إشكال.

إن قلت: إنّ هذا البيان- التعبير بالقرض- و إن كان لا يواجه إشكالًا من جهة الآثار المترتّبة على

الحساب الجاري إلّا أنّه لا يوافق قصد المودع ماله لدى البنك، فإنّه لا يقصد القرض و لا يراه عرف العقلاء أنّه كذلك.

قلنا: نعم هو كذلك، لكن حيث إنّ القرض لا يكون غالباً إلّا فيما إذا احتاج إليه المستقرض لم يكن يتبادر القرض لا يكون غالباً إلّا فيما إذا احتاج إليه المستقرض لم يكن يتبادر القرض إلى أذهان العقلاء عند الإيداع لدى البنك؛ لعدم كون البنك محتاجاً إلى هذه الأموال، لكن الحقّ أنّ الحاجة و إن كانت وصفاً غالباً في القروض- لإمكان أن يكون المستقرض غنيّاً- إلّا أنّها لم تؤخذ في ماهية القرض و معناه، و إنّما حقيقة القرض هي تمليك العين بالمثل أو القيمة في الذمّة.

و الحاصل: أنّ الحساب الجاري من قبيل التمليك في مقابل العوض في الذمّة سواء أطلق عليه القرض أم لا، و هذا هو المنطبق على الإيداع في عرف العقلاء، لأنّه تمليك للمال بالمثل، إذ بمجرّد أخذ الودعي المال يكون مالكاً، و ليس للمالك المطالبة بعينه، و ليس له إلّا العوض في الذمّة.

بحوث فقهية هامة، ص: 345

و ممّا ذكرنا يظهر أن البنك يملك الأموال المودعة، و له التصرّف الناقل، و أنّه ليس للمالك إلّا المثل في الذمّة. و إن أبيت عن تسميته قرضاً- لكون التعبير بالقرض هنا غير مأنوس، فإنّه لا يقال: أقرضت البنك، بل يقال: أودعته المال- فلا أقلّ من كونه شبيهاً بالقرض من جهة كونه تمليكاً للمثل في ذمّة الغير.

هذا كلّه بالنسبة إلى ما يسمّى بالحساب الجاري.

و هناك أنواع أخرى للإيداع تبيّن حالها ممّا ذكرنا، و هي:
حساب الادّخار أو التوفير:

لا فرق بين هذا النوع من الحساب و سابقه في كون كلٍّ منهما تمليكاً للعين مع العوض في الذمّة- ذمّة البنك- فتكون ماهيّته القرض، إلّا أنّ طبيعة هذا الحساب في الغالب هي الإيداع

إلى مدّة غير يسيرة، و هذا لا يعني عدم جواز الأخذ منه قبل انقضاء تلك المدّة. و حيث إنّ البنك يستفيد من هذا النوع من الحساب أكثر ممّا يستفيده من الحساب الجاري، يجعل لصاحبه جوائز بل و أرباحاً سيأتي بيان حكمها إن شاء الله تعالى.

حساب القرض الحسن:

و هذا النوع من الحساب يكون من قبيل السابق من جهة كونه تمليكاً للعين بمثلها في الذمّة، إلّا أنّ هذا مشروط بكون البنك قد التزم في ضمن العقد بصرف ما يعادله في إقراض المحتاجين قرضاً حسناً، فلا يجوز للبنك صرف أموال هذا الحساب في المضاربة و غيرها، و أمّا أنّ هذا الشرط هل يوجب كون القرض ربوياً أو لا فهو أمر آخر يرتبط بحكم المسألة التي سوف نبحثها إن شاء الله تعالى؛ لكون البحث الآن في تشخيص الموضوع دون الحكم.

حساب الودائع الثابتة:

و حقيقة الودائع المصرفية الثابتة- سواء كانت ذات أجل طويل أم قصير- هي كونها نوعاً من أنواع المضاربة بين صاحب المال و البنك، بأن يوكّل البنك في استثمار رءوس الأموال و تقسيم المنفعة بينهما، و سيأتي بيان حكمها أيضاً.

الحوالات المصرفية:

و من تلك الإيداعات ما يسمّى بالحوالات البنكية المستعملة في المعاملات من بلد إلى آخر و التي يؤخذ في مقابلها الأجر، و حكمها حكم الحوالة المبحوث عنها في الفقه بشرائطها، فلا تكون قسماً جديداً.

هذه هي أهم أعمال البنوك، و لها أعمال أخرى لا حاجة إلى ذكرها، و أمّا بيان أحكام كلّ نوع من هذه الأعمال المتقدّمة فهو ما سنتحدّث عنه بعد الفراغ من الأمر الثالث.

الأمر الثالث: إثبات الملكية للدول و الحكومات الوضعية:
اشارة

هل تكون الدول مالكة لكي تصحّ المعاملة مع بنوكها أم لا؟

ذهب بعض الأعلام كالسيد الخوئي (قدس سره) إلى عدم مالكيّة الحكومات- خلافاً للمشهور بين معاصري زماننا من القول بمالكيّتها- و أنّ رصيدها في البنوك من قبيل مجهول المالك.

و لا يمكن الالتزام بهذا القول؛ ضرورة أنّه يستلزم وجوب استئذان الحاكم الشرعي بالنسبة لكلّ ما يؤخذ من البنوك الحكومية؛ لعدم جواز التصرّف فيه من دون إذنه.

بحوث فقهية هامة، ص: 347

هذا، مضافاً إلى لزوم بطلان جلّ المعاملات الرائجة في المجتمعات العصرية تجارية كانت أم بيوعاً أم وصايا أم غيرها؛ لارتباطها بنحو من الأنحاء بتلك البنوك الحكومية و هذا يستلزم تعطيل الحياة الاقتصادية؛ لأنّه و إن توقّف كلّ ذلك على إجازه التصرّف في مجهول المالك من الحاكم الشرعي لكنّه حتّى مع فرض إجازته لا يمكنه تصحيح المعاملات الفاسدة الواقعة بواسطة الأوراق النقدية الصادرة من جهة الحكومة التي ليست بمالكة لها، فلا يجوز أن تملّكها للناس.

و أيضاً يلزم وجوب استئذان موظفي الدولة من الحاكم الشرعي؛ لكونهم يتقاضون رواتبهم من البنوك الحكومية، و حيث إنّ جميع أموالهم من قبيل مجهول المالك فلا تصحّ معاملتهم و لا يملكون شيئاً، و من الواضح أنّ الحاكم الشرعي إنّما يجوّز التصرّف في مجهول المالك لخصوص الفقراء و المحتاجين على المشهور،

ممّا يلزم إعاقة التصرّف في تلك الأموال.

و كذا يلزم عدم جواز المعاملة مع الدول و الحكومات الوضعيّة؛ لعدم جواز تصرّفهم فيما ينتقل إليهم من مال مجهول المالك، و عليه فلا يجوز التصرّف في شي ء من البضائع المستوردة من تلك الدول.

أضف إلى كلّ ذلك عدم جواز أخذ الخمس و الزكاة إلّا بعنوان مجهول المالك، مع أنّ الفقهاء (رضوان الله عليهم) لا يلتزمون بأخذها إلّا بذاك العنوان، و لذا يصرفون كلًّا منهما في مصارفه الخاصّة. هذا مضافاً إلى أنّ أخذ تلك الوجوه الشرعية فرع ثبوت الملكية، فإذا كانت من قبيل مجهول المالك لم يتعلّق بها خمس الأرباح، و السيرة قد قامت على أخذها بناءً على ثبوت الملكية لها. و الإشكال سار في جميع المعاملات و سائر التقلّبات؛ لأنّ المرجع الوحيد في نشر النقود الورقية هو الحكومة التي لا تكون مالكه لها؛ لكونها من الأمور الاعتبارية.

و أقوى ما يمكن التمسّك به في إثبات دعوى عدم ملكية الحكومة الاعتبارية: هو

بحوث فقهية هامة، ص: 348

أنّ الحكومات من العناوين الاعتبارية غير القابلة للتملّك؛ لأنّ المالك لا بدّ أن يكون شخصاً واقعياً لا أمراً اعتبارياً كالحكومة.

و هذه الدعوى لا يمكن القول بها؛ لما عرفت من أنّه يلزم معه اختلال النظام في المجتمعات قطعاً، مع أنّها دعوى بلا دليل، بل قد قام الدليل على خلافها.

و الحقّ هو جواز تملّك العناوين الاعتبارية و منها الحكومة؛ لما عرفت من أنّ الموضوعات تؤخذ من العرف باستثناء الموضوعات المخترعة من الشارع كالصلاة و الصوم، و أمّا الموضوعات العرفية كالملكية- مثلًا- فالعقلاء يرون صحّة التملك سواءً كان لشخص بعينه أو لأمر اعتباري قائم بأشخاص لهم ارتباط بمؤسسة أو جمعية أو ما شابه ذلك، و لا يخفى أنّ ملكية

المؤسّسة الكذائية لا تعني ملكية أعضائها، و هذا المعنى واضح عند العقلاء لا يرتاب فيه أحد، فالعقلاء يعتبرون الحكومة كالوكيل على أموال المجتمع، الذي هو المالك بعنوانه- و هذا أيضاً عنوان اعتباري- لتلك الأموال التي لو لم نقل بملكيّة العناوين الاعتبارية لكلّها فلا أقلّ هي مالكة لجلّها، و لمزيد من التوضيح نقول:

أقسام المالكين:

إنّ المالكين على أقسام خمسة:

الأول: المالك الشخصي، كزيد و عمرو و بكر الذين لا شكّ في جواز تملّكهم.

الثاني: المالك بسبب الوقف و شبهه، كالمسجد و المدرسة و غيرهما، فكلّ ما يوقف عليهما فهو ملك لهما؛ يجوز التصرّف به مع رعاية المصلحة نقلًا و انتقالًا بالبيع و غيره، و كذا نماءات الموقوف على المسجد فهي ملك طلق للمسجد لا يجوز فيها سائر التصرّفات الناقلة؛ لكونها وقفاً طلقاً للمسجد لا وقفاً عليه، بل لو كانت وقفاً كانت أيضاً ملكاً غير طلق له.

بحوث فقهية هامة، ص: 349

و الحاصل: أنّ الجهة الموقوف عليها تملك، سواء كان الملك طلقاً أم لا.

الثالث: المالك الكلّي، كالوقف على الطلاب، أو على حجّاج بيت الله الحرام، أو على أبناء السبيل، و لازمه صيرورة الموقوف ملكاً لهم،- أعني للعنوان المشير إليهم- و إن كان الوقف ملكاً غير طلق؛ لأنّ كلًّا من عنوان الطالب و الحاج و ابن السبيل عنوان انتزاعي، و حيث إنّ حقيقة الوقف هي التمليك يصحّ حينئذ تملّك هذه العناوين الانتزاعية، و عليه يصحّ تملّك الجهات العامّة الاعتبارية، كالدولة و المؤسّسات و نحوها من العناوين الاعتبارية.

الرابع: المالك الكلّي من غير ذوي الشعور، كالوقف على طبيعي المساجد الموجود منها و ما سيوجد.

الخامس: ما يكون المالك فيه من قبيل العناوين الاعتبارية المحضة، كالمؤسسات و الجمعيات و الحكومات و العتبات المقدّسة و غيرها.

ثمّ إنّ

الظاهر عدم الفرق بين القسم الثالث و الرابع و الخامس؛ لكونها جميعاً من العناوين الاعتبارية؛ إذ لا يحتمل الفرق بين كون الشي ء ملكاً لمسجد خاصّ أو لما ينطبق عليه العنوان، و بين كون الشي ء ملكاً لعنوان اعتباري كالمؤسسة و غيرها. بل يمكن أن يقال بعدم الفرق بين عنوان الحكومة و عنوان الطلاب و الحجاج؛ فإنّها جميعاً عناوين اعتبارية؛ فإنّه كما قد يتغيّر الموقوف عليهم من الطلاب كذلك قد يتغير من يندرج ضمن العنوان الاعتباري، فإذا أمكن أن يكون الشي ء ملكاً للمسجد فلما ذا لا يكون كذلك لعنوان اعتباري يندرج تحته الأفراد؟! فتلخّص: أنّه لا إشكال في ملكيّة العناوين الاعتبارية. و يمكن الاستدلال على ذلك بالأدلّة التالية:

الأول: أنّ الملكية أمر اعتباري لا تحتاج إلى مئونة كبيرة، فلا إشكال في قيام أمر اعتباري بأمر اعتباري آخر، كما يشاهد نظيره في الفسخ و الخيار القائمين بالملكية.

الثاني: أنّ موضوعات الأحكام الشعرية تؤخذ من عرف العقلاء، و لا شكّ في بحوث فقهية هامة، ص: 350

جريان سيرتهم على اعتبار الملكية في العناوين الاعتبارية.

لا يقال: إنّ هذه موضوعات مستحدثة لا يمكن إثبات إمضاء الشارع لها.

لأنّا نقول: أولًا: إنّه قد اتّفق كون المالك كلّياً، كالوقف على الحجاج في الصدر الأول من الإسلام، مضافاً إلى عدم الفرق بين عنوان الحجاج و عنوان الطلاب و عنوان الحكومة؛ فإنّها جميعاً عناوين ذهنية اعتبارية مشيرة إلى أشخاص قد اندرجوا ضمن العنوان الكلّي؛ إذ لا فرق بين هذه العناوين و بين ما هو معروف بين الفقهاء.

و ثانياً: لو سلّمنا عدم وجود مصاديق لمثل هذه الملكية الاعتبارية، فإنّ صرف كونها كذلك لا يمنع من شمول العمومات لها بعد تسليم كون العمومات من قبيل القضايا الحقيقية لا الخارجية، فحالها في

ذلك حال صدق السفر الفضائي على السفر، و العقد للمستحدث من العقود، و لو أنكرنا شمول الدلالة المطابقية لها فلا أقلّ من إلغاء الخصوصية، و القول بشمول العمومات لها.

مشروعية البنك الحكومي و الأهلي:

البنوك تارة: تكون حكومية صرفة، و يكون حكمها حكم سائر أموال الدولة و المالك لها هو العنوان الاعتباري.

و أخرى: تكون أهلية، و هي على قسمين: فتارة تكون شخصيّة، و أخرى يكون مالكها عنواناً اعتبارياً كصندوق القرض الحسن.

و ثالثة: يكون البنك مشتركاً بين الحكومة و المواطنين؛ بأن يكون لكلّ منهما سهم و حصّة خاصّة.

و جميع هذه الأقسام بما فيها العناوين الاعتبارية لا مانع من صحّتها، نعم، لو قيل بعدم مالكيّة الحكومة أشكل الأمر في القسم الأوّل و أحد قسمي الثاني.

فتلخّص ممّا ذكرنا أمور

بحوث فقهية هامة، ص: 351

1- لا يشترط في المالك أن يكون عاقلًا و من ذوي الشعور.

2- لا مانع من أن يكون المالك عنواناً اعتبارياً.

3- الحكومة تكون مالكة، و تبقى أموالها على ملكها و إن تغيّر رؤساء الدولة و موظّفوها.

و بذلك نختم الكلام عن الأمور التي شرعنا فيها الحديث، و نبيّن فيما يلي أحكام المعاملات البنكية، و حكم ما يؤخذ منها عن طريق إيداع الأموال فيها.

أحكام المعاملات المصرفية

أولًا: الحساب الجاري:

لا إشكال في جواز و مشروعية الإيداع في البنوك على نحو ما يسمّى ب- «الحساب الجاري»؛ لكونه من قبيل التمليك للمثل في الذمّة، بعد ما عرفت حقيقته و أنّه من قبيل العناوين الاعتبارية، و كونه من الأمور المستحدثة لا يضرّ بصحته، فكم له من نظير! إذ كان يأتي أحدهم إلى التاجر الثقة و يودعه المال و يقول له: تصرّف فيه كيف شئت و ادفع إليّ مثله إذا احتجت إليه، فالبنك مركز عام لمثل هذا المعنى الخاصّ. و حيث إنّه لا يتعلّق بهذا القسم من الإيداع ربح، فلا يتوجه إليه إشكال الربا و إن تصرّف فيه البنك بضروب المعاملات.

إنّما الكلام في الربح الذي تعطيه بعض البنوك على هذا النوع من

الحساب ترغيباً لأرباب الأموال في الإيداع لديها، فما حكم ما يؤخذ منها بهذا العنوان؟

أقول: إن كان العقد بين البنك و أرباب الأموال مبنيّاً على إلزام البنك نفسه بإعطاء الأرباح لأرباب الأموال و أنّه بنحو الاشتراط بين البنك و صاحب المال فهو ممّا لا شكّ في حرمته؛ من جهة كونه رباً محرّماً، و إن كان بعنوان التعهّد الابتدائي ترغيباً لأرباب الأموال لم يكن فيه إشكال؛ لعدم التزام البنك بدفع الربح. و الفارق بين هذين النحوين: هو أنّ لأرباب الأموال حقّ المطالبة بالربح على الأوّل و ليس بحوث فقهية هامة، ص: 353

لهم ذلك على الثاني؛ لأنّ صاحب المال لا يرى لنفسه حقّاً يطالب به.

إن قلت: كثيراً ما يكون هذا الربح داعياً إلى الإيداع في البنوك، و هذا و إن لم يكن شرطاً صريحاً في عقد افتتاح الحساب الجاري لكنّه شرط ضمني قد بني عليه العقد، فكأنّ البنك بعد إعلانه عن إعطاء الأرباح قد ألزم نفسه بالدفع لأرباب الأموال، و لو لا هذا الداعي لم يودعوا أموالهم، فيكون هذا قرضاً ربوياً.

قلنا: إنّ مجرّد الداعي لا يضرّ بصحّة الإيداع و أخذ الأرباح إن لم يكن العقد مبنيّاً على الاشتراط؛ إذ لا يرى المقرض- صاحب المال في القرض- نفسه دائناً بالنسبة إلى الزيادة، و لا المستقرض يرى نفسه مديناً بالنسبة إليها، كمن يعلم أنّ المستقرض يعمل بما هو المستحبّ من دفع مزيد شي ء على القرض عند ردّه.

ثانياً: حساب القرض الحسن:

و هو مشترك في الحقيقة مع القرض، و لا إشكال في صحّته؛ لأنّه أمر مرغوب فيه عقلًا و شرعاً؛ لعدم تعلّق ربح فيه، غاية الأمر يكون البنك وكيلًا من قبل صاحب الأموال في التصرّف بنحو خاصّ، كصرفه في إقراض أرباب الحاجات، دون صرفه

في سائر المعاملات كالمضاربة و غيرها.

ثالثاً: حساب الادّخار أو الذخيرة:

و لا فرق بينه و بين الحساب الجاري من جهة كونه تمليكاً بالعوض في الذمّة، بل الفرق بينهما من جهة عدم تصرّف صاحب المال في هذا الحساب لمدّة طويلة نسبياً- و هو معنى الادّخار- بخلافه في الحساب الجاري. و هذا الحساب بهذا المقدار لا إشكال في جوازه شرعاً.

إنّما الكلام فيما يجعله البنك لهذا النوع من الحساب من الجوائز و العطايا التي تخرج بحوث فقهية هامة، ص: 354

لأرباب الأموال بالقرعة أو بغيرها، فهل يكون جعل هذه الجوائز من قبيل الشرط في القرض، بحيث يتعهّد البنك و يشترط على نفسه إجراء القرعة فإن لم يعمل البنك بمقتضى الشرط أو امتنع من إعطاء الجوائز لكان لأرباب المال استجوابه و معرفة حال جوائزهم؟

أقول: لا إشكال في أخذ الجوائز سواء كان عن طريق القرعة أو غيرها، لكن بشرط عدم كون الداعي إلى أخذ الجوائز مقدّماً على الداعي إلى الادّخار، و أمّا لو كان ذلك على نحو الشرط- صريحاً كان أو ضمنياً بحيث بني عليه العقد- كان الأخذ حراماً؛ لكون حقيقة هذا الإيداع هي الإقراض للبنك، و لا يجوز في القرض الشرط الذي يجرّ نفعاً لصاحب المال؛ لدخوله في الربا.

و المناط في ذلك هو ما عرفته: من أنّ البنك إن كان قد ألزم نفسه- في صورة الاشتراط- بالدفع و صاحب المال يرى لنفسه حقّ المطالبة كان ذلك محرّماً، و نكتة التفصيل في ذلك هي التفريق بين الداعي في المعاملة و الشرط في ضمن العقد، و لهذا تردّد في الحلّية أو صرّح بعدمها بعض أكابر المعاصرين.

و الحقّ ما ذكرنا من أنّ البنك لو تعهد بذلك و من جانب واحد- أي بلا اشتراط بينه و بين صاحب

المال لا بالشرط الصريح و لا بالشرط الضمني المبني عليه العقد- كان الربح حلالًا، و أمّا لو نويا الاشتراط بأي نحو كان فقد دخل في الربا و كان حراماً.

و المهم في معرفة الحكم هو التفريق بين الداعي و ما يكون من قبيل الاشتراط؛ فكلّ زيادة لا تكون بمقتضى الشرط في العقد- صريحاً أو بعنوان ابتناء العقد عليها- فهي لا تضرّ بصحّة العقد، و كلّ ما كان شرطاً- حتّى اشتراط جعل صاحب المال طرفاً في القرعة أصابت اسمه أو لم تصب- كان ذلك حراماً، و كذلك الكلام في الأرباح.

و الحاصل: أنّ صاحب المال لو رأى نفسه مستحقّاً للجائزة فطالب بها البنك كان بحوث فقهية هامة، ص: 355

من قبيل الشرط الضمني و هو حرام، أمّا لو لم يرَ نفسه مستحقّاً لها و لم يطالب بشي ء لكنّه يعلم أنّ البنك عادةً يمنحه الجوائز لم يكن هناك إشكال. ثمّ إنّ تعهّده البنك بذلك لو كان داعياً لافتتاح الحساب لديه لم يتحقّق الربا إلّا بالإلزام و الالتزام من الطرفين، و من هنا يتوجّب على الفقيه توجيه الناس و تعليمهم لئلّا يقعوا في الحرام، و قد عرفت تأثير نيّة صاحب المال تأثيراً تامّاً.

و من هنا يتّضح عدم صحّة ما ذهب إليه بعض الأعاظم من أنّ تعهّد البنك من جانب واحد بدفع الجوائز يكون من قبيل الشرط الضمني و لو لم يكن مصرّحاً بقبول ذاك الشرط. و وجه عدم الصحّة ما عرفت من أنّ تعهّد البنك قد يكون داعياً لافتتاح الحساب، لكن صاحب المال لا يرى نفسه مستحقّاً لشي ء، و هذا ممّا لا إشكال فيه، إنّما الإشكال فيما إذا قبل صاحب المال ذاك الشرط و وقع عليه العقد، فالدقّة في المسألة تقتضي

التفصيل بين الصورتين.

رابعاً: حساب الإيداع الثابت الأجل:

هناك قسم آخر من أقسام الحسابات المصرفية، و هو ما يسمّى ب- «حساب الإيداع الثابت الأجل»، و هذا الأجل يكون تارةً طويلًا و أخرى متوسطاً و ثالثة قصيراً. و هذا القسم بظاهره حرام بجميع شقوقه المذكورة؛ لأنّه زيادة في القرض.

ربّما يقال: إنّ هذا الحساب لا يدخل فيه الربا المحرّم؛ لأنّ مناط حرمة الربا هو الاستغلال، و صاحب المال بافتتاحه الحساب لا يستغلّ البنك، فليس في هذا القسم من الودائع ما يوجب الحرمة.

أقول: إنّ ما ذكر في الروايات من المفاسد المترتبة على الربا إنّما هو من باب حكمة تحريم الربا لا علّته، و الحكم لا يدور مدار الحكمة، و عليه: فالقرض مع الشرط ربا محرّم سواء ترتّب عليه شي ء من المفاسد أم لا.

بحوث فقهية هامة، ص: 356

إلّا أن يرجع إلى واحد من العقود الشرعية؛ كما حاول إرجاعها إليها جمع من الفضلاء فأدرجوه في العقود الشرعية حيث رأوه قابلًا للدخول تحت عنوان المضاربة، كما ذكروا لذلك ضوابط و حدوداً، و ذلك بأن يصير البنك عاملًا و صاحب المال مضارباً و الربح يقسّم بينهما، لكن يرد على هذا البيان إشكالات أربعة:

الأول: ما عليه بعض الفقهاء من اشتراط النقدين في المضاربة، و الأوراق ليست منها.

و جوابه: ما عرفت من صحّة المضاربة بالنقود الورقية أيضاً؛ لشمول عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) «1» لهذا النوع من المضاربة، و لعدم قيام دليل على اعتبار هذا الشرط- تخصيصها بالنقدين- بعنوان كونها القدر المتيقن، كما ذهب إليه البعض، فإنّ دليل العموم لفظي لا لبّي، فلا وجه للاقتصار فيه على القدر المتيقن، هذا مضافاً إلى عدم إجماع تعبّدي في البين.

الثاني: اشترط كثير من الفقهاء كون المضاربة في التجارة، و أعمال البنوك لا تنحصر في

التجارة، بل هي أعمّ منها، كتشغيل الأموال في المصانع و بناء المساكن و تعبيد الطرق و الزراعة و غيرها.

و جوابه: قد تبيّن ممّا تقدّم في الجواب عن الأوّل: من عدم قيام الدليل على اعتبار ما ذكروه إلّا اقتصاراً على المتيقن. حيث رأوا- كما يظهر من كلماتهم- المضاربة مخالفة للأصول فأخذوا بالقدر المتيقّن، مضافاً إلى ما تقدّم من شمول الدليل لجميع العقود إلّا ما خرج بالدليل، حسب ما تقتضيه القاعدة من صحّة جميع العقود العقلائية إلّا ما خرج منها بالدليل، و مع فرض عدم شمول عنوان المضاربة لها فلا أقلّ من كونها عقداً صحيحاً سواء أطلق عليها المضاربة أم لا. و أمّا الإجماع بحوث فقهية هامة، ص: 357

فلا يجري في المقام؛ لعدم وجود إجماع تعبّدي في البين كاشف عن قول المعصوم (عليه السلام)؛ لأنّ المعاملات أمور عقلائية، و بناء الشرع على إمضاء المعاملات الدارجة بين العقلاء و منها المضاربة، إلّا فيما صرّح بفساده منها.

الثالث: أنّ المعروف عندهم لزوم كون المنفعة على نحو السهم الكسري المشاع كالنصف و الثلث و الربع، دون المقدار المعيّن و المقطوع كعشرة آلاف درهم، كما هو المتعارف و عليه العمل في البنوك، حيث يعيّن البنك سهم المضارب من الربح مقطوعاً مهما كان مقدار الربح.

و جوابه: أنّه- أيضاً- لا دليل معتدّاً به على اشتراط صحّة المضاربة بوقوعها على الكسر المشاع خاصة، و لذا أفتى بعض المحقّقين كصاحب العروة بعدم الاشتراط.

نعم، يشترط في تعيين المقدار كون الربح أكثر من ذلك المقدار المعيّن بحيث يبقى للعامل شي ء أيضاً، كما إذا ضارب بمائة ألف درهم و جعل لرأس المال عشرة آلاف مع كون مجموع المنفعة خمسة عشر ألفاً أو عشرين ألف درهم، و هذا المعنى حاصل

في أكثر البنوك إلّا ما ندر منها.

ثمّ إنّه مع تسليم اشتراط وقوع المضاربة على الكسر المشاع يمكن تصحيح المضاربة إذا كانت على المقدار المعيّن للمضارب، و ذلك بتوكيل المضارب العاملَ في تعيين أي سهم مشاع أراد، و بتوكيله العامل بعد ذلك في المصالحة على السهم المعيّن بمقدار معيّن يؤدّيه إلى المضارب شهرياً مثلًا.

و لا يخفى جواز أخذ المضارب المقدار المعيّن أو الأقل منه من العامل قبل حصول الربح دفعة؛ بمعنى أنّه يأخذه قرضاً حتّى حين حصول الربح ثمّ يوضع منه المقدار المأخوذ.

الرابع: أنّه يشترط في المضاربة كون الخسارة- مع عدم التعدّي أو التفريط- على رأس المال، لا على العامل- كما هو المتعارف في البنوك- و لا عليهما؛ حيث يتقبّل بحوث فقهية هامة، ص: 358

البنك الخسارة من دون احتسابها من رأس المال، فالبنك يتحمّل الخسارة بعنوان كونه عاملًا، و لا يتحمّلها صاحب المال.

أقول: و هذا الإشكال قوي، سيّما مع ملاحظة ما ورد في الرواية المعتبرة التي ظاهرها أنّه لو اشترط كون الخسارة على العامل لم تكن مضاربة بل كانت قرضاً، و لكن صرّح في العروة الوثقى «1» بجواز ذلك في المضاربة؛ لعدم كون هذا الشرط- أي كون الخسارة على العامل- مخالفاً لمقتضى العقد، نعم هو مخالف لإطلاق العقد فلذا لا مانع منه، نظير اللزوم؛ فإنّه مقتضى إطلاق عقد البيع، و معه يصحّ جعل الخيار فيه.

صحيح أنّ طبع المضاربة الأوّلى كون الخسارة على رأس المال، لكن يجوز العدول عنه بالشرط، كما أنّ طبع البيع الأوّلي يقتضي اللزوم مع أنّه يجوز لكلّ من الطرفين جعل الخيار فيه.

و الذي يهوّن الخطب هو أنّ الخسارة في الغالب لا تكون على البنك- العامل في المقام-؛ لأنّه يفرّق أمواله في ضروب مختلفة

من المعاملات بحيث إذا خسر بعضها لم يخسر البعض الآخر منها؛ لدقّته في هذا الأمر بحيث يطمئنّ إلى كونه مفيداً له و للمضارب، فلا توجد خسارة في البين ليبحث عن المتحمّل لها. هذا مضافاً إلى أنّ كون الخسارة على العامل يخالف إطلاق العقد لا مقتضاه، و الشرط الباطل هو ما يخالف مقتضى العقد دون إطلاقه.

و الحاصل: أنّ ذكر الشرط- و هو كون الخسارة على العامل- يوجب فساد المضاربة و صيرورتها قرضاً، فلا يستحقّ صاحب المال شيئاً. نعم، لو لم يرَ صاحب المال نفسه في جميع ذلك مستحقّاً للربح و كان يعلم بأنّ البنك يضيف إلى ماله ربحاً- استحقّ أو لم يستحقّ- جاز له أخذ الربح؛ لعدم كون هذا الربح في مقتضى العقد

بحوث فقهية هامة، ص: 359

ليكون رباً، بل كان ملتزماً به من طرف واحد و هو البنك، فتأمّل. و الأحوط عدم ذكر هذا الشرط في معاملات البنوك؛ لتسلم عن الإشكال.

خامساً: القروض البنكية:

بقي الكلام في آخر قسم من أعمال البنوك، و هو القروض التي تدفعها البنوك للناس في سبيل المضاربة ثمّ تستردّها مع الزيادة، فهل يمكن تصحيحها بعقد المضاربة- بأن يكون البنك مضارباً و المقترض عاملًا بعد تعيين مقدار من الربح الحاصل- أم لا؟

أقول: هذا القسم من أعمال البنوك أشدّ إشكالًا؛ لأنّ ما يؤخذ من البنوك لا يصرف في المضاربة بل يصرف في بناء المساكن أو تعميرها، مضافاً إلى عدم تقبّل البنك الخسارة المحتملة، و للتخلّص من محذور الربا هذا لا بدّ في كلّ مورد من اختيار عقد يناسبه، ففي مورد المضاربة لا بدّ من تحقّق شروطها، و في موارد البناء و العمران كذلك؛ و ذلك بأن يدفع البنك قروضاً لذوي الحساب و يشاركهم في مشاريعهم، كأن

يشتري قطعة من أرضه بمبلغ من الثمن و يعطيه إيّاه نقداً، ثمّ بعد إتمام البناء يبيعها منه بمبلغ أكثر منه نسيئة، و لا مانع منه.

ثمّ إنّ جميع ما ذكرنا من توجيه للإشكالات المتقدّمة في تصحيح أعمال البنوك يتوقّف على قصد العقود المذكورة- من ناحية طرفي العقد- قصداً جدّياً لا صورياً.

و ممّا لا يخفى ذكره أنّ جماعة من الفضلاء ذكروا لجميع أعمال البنوك طرقاً مشروعة لتكون قانوناً لنظام البنوك، و لا يبعد مطابقة تلك الطرق لما هو المذكور في الكتب الفقهية، و لكن من المؤسف وجود الاضطراب الشديد في نظام البنوك في خصوص هذا القسم من المعاملات.

أحكام الأوراق المالية

اشارة

إنّ من أهمّ المسائل المستحدثة في الفقه الإسلامي، بحث الأوراق المالية فإنّ هناك عدّة تساؤلات تثار حول هذه المسألة:

منها: أنه هل يجري على الورق المصرفي أو النقود الورقية جميع أحكام الدرهم و الدينار أم لا؟ و هل يحرم فيها الربا المعاوضي و ربا الدين كما يحرم فيهما؟ فمثلًا هل يجوز بيع عشرة آلاف تومان من الورق المصرفي الموجود اليوم بإحدى عشرة ألف بعد خمسة أشهر؟

و منها: أنه هل تجوز المضاربة بالأوراق المالية أم لا؟ فإن هناك كثيراً من الفقهاء يرون اشتراط صحّة المضاربة بوقوعها على النقدين أي الدرهم و الدينار.

و منها: هل يشترط في صحّة بيع الورق المصرفي، القبض في المجلس كما هو شرط في بيع الصرف؟

و منها: هل يجب فيه شي ء من الزكاة كما يجب في النقدين؟

و أخيراً هل يجوز أخذ الزيادة فيما إذا أقرض مقداراً معيناً من هذه النقود فمضت عليه عدّة سنوات و ارتفع في هذه المدّة التضخم الماليّ و سقطت القوّة الشرائية الموجودة في هذه الأوراق بحيث إن المائة تومان مثلًا في السنوات الماضية تعادل

المائتين أو المئات من هذه الأوراق في الزمان الحاضر؟ مع أنه لا يجوز ذلك قطعاً فيما إذا أقرض شيئاً من الدراهم أو الدنانير و لذلك لا يجوز أخذ خسارة تأخير تأدية

بحوث فقهية هامة، ص: 361

الدين فإنه يعدّ من الربا المحرّم.

و لا يخفى أنه إنّما نشأ التضخم المالي عند ما راجت النقود الورقية بين الناس فإنه بعد ثبوت قيمة هذه النقود و ارتفاع قيمة سائر الأجناس يحصل التضخم، بينما لم يكن هذا النوع من التضخم قبل رواج الأوراق المصرفية عين و لا أثر و ذلك للتعادل النسبي الموجود بين قيمة الأجناس المختلفة من جانب و النقدين (أي الدرهم و الدينار) من جانب آخر بحيث إذا حصل الارتفاع أو الانخفاض فإنه حصل لكليهما بنسبة متساوية تقريباً.

و للإجابة عن هذه التساؤلات لا بدّ من الإشارة إلى أمرين مُهمين:

الأمر الأوّل- أنّ الأشياء من حيث المالية على ثلاثة أقسام
1- مالية ذاتية:

هناك بعض الأشياء ذات مالية ذاتية و هي الأشياء المشتملة على خصلتين: 1- كونها مفيدة للإنسان، 2- عدم وفورها في الخارج كالأغذية و وسائل النقل خلافاً للهواء و ضوء الشمس فإنه مع احتياج الإنسان إليهما في بقائه و حياته لا يبذل بإزائهما شيئاً من المال و ذلك لوفرتها في الخارج.

و هذه الأشياء لا يمكن سلب المالية عنها و إسقاطها عن المالية فإن المالية من ذاتها و سلب الذاتي محال، خلافاً للأوراق النقدية حيث يمكن إسقاطها عن الاعتبار كما قد اتفق في بعض الدول.

2- مالية شبه اعتبارية:

و هي كما في الأحجار الكريمة من الأشياء التي يرى العقلاء لها قيمة و إن لم تكن كثيرة الفائدة للإنسان، و لعلّ من هذه الأشياء الذهب فإنه و إنْ يمكن أنْ يصنع منه بعض الأشياء المفيدة لكنه ليس بحيث يوجب له هذه القيمة الفائقة. و من هنا توهم أن مالية الذهب اعتبارية قد نشأت من اتفاق العقلاء على ذلك (أي إعطاءه المالية) و لكنّه فاسدٌ.

بحوث فقهية هامة، ص: 362

فإن حاجة الإنسان إلى هذه الأشياء ذات المالية الشبه الاعتبارية ليس أمراً موهوماً و ناشئاً من محض الاعتبار بل الحاجة إليها كالحاجة إلى الأغذية و المسكن و المركب حيث تمثل أمراً واقعياً، و ذلك لأن حاجات الإنسان لا تنحصر في الحاجات الضرورية بل هناك بعض الحاجات ذات جذور عميقة في عواطف الإنسان و مشاعره توجب المالية لبعض الأشياء كالحاجة إلى التزين ببعض أدوات الزينة.

أضف إلى ذلك وجود خاصية في الذهب لا توجد في غيره، و هو بقاؤه طوال الأزمنة المتمادية بلا أيّ تغيير و لا فساد، الأمر الذي أوجب له مالية ذاتية، فإنّ البشر يميل للبقاء فيطلب كلّ شي ء يوجد فيه هذه الحالة.

و من

هنا يتضح عدم تمامية ما ذهب إليه بعض الأعلام من أنّ سرّ مالية الذهب الغالية عند نوع البشر هو تسليط الله تعالى جنوناً عليهم لكي يطلبوا الذهب و يعتبروا له مالية حتّى يقوم عليه نظام حياتهم الاقتصادية فهذا جنون إلهي لمصلحة نوع البشر و إدارة أمور معاشهم فإنه لو لا ذلك لتعطّل أمر الاقتصاد.

لكنك قد عرفت أن للذهب مالية ذاتية لا اعتبارية.

3- مالية اعتبارية:

كالنقود الورقية فإن ماليتها بيد المعتبر و هو في زماننا الدولة أو الحكومة، فإنك ترى أن قطعة صغيرة من الورق المصرفي تعتبر له مالية كثيرة بحيث تشترى به أشياء غالية مع أن مالية نفس تلك القطعة من الورق قليلة جدّاً، و ترى أن نفس تلك الدولة تسقط بعض أوراقها المصرفية عن المالية فلا تبذل بإزائها شي ء من المال، و هذا يعبر بوضوح عن المالية الاعتبارية في هذه الأوراق بحيث يكون أمر وضعها و رفعها بيد المعتبر خلافاً للمالية الموجودة في الأحجار الكريمة مثلًا، فإنه لا يمكن لأحد من الناس إسقاطها عن المالية.

بحوث فقهية هامة، ص: 363

و لكن لا يذهب عليك أنّ تمام المالية الموجودة في النقود الورقية لا تنشأ عن اعتبار الحكومة، بل هناك عامل آخر يؤثر في مالية هذه الأوراق و ذلك ما يعبر عنه بالرصيد.

و الرصيد بعد نشوء الأوراق المالية و رواجها بين الناس قد برز بأشكال مختلفة:

ألف- الدرهم و الدينار، فإن الحكومات في بدو ظهور الورق المصرفي كانوا يطبعون تلك الأوراق و يكتبون عليها «قابل للتبديل بالدرهم و الدينار» ثمّ نسخت هذه الطريقة.

ب- جميع الأشياء الموجودة في خزانة الدولة ذات قيم غالية من الدرهم و الدينار و الأحجار الكريمة و الذهب و أمثالها بلا إمكان تبديل بينها و بين الأوراق

المصرفية إلّا أن الحكومة نفسها كان بإمكانها أن تبدّل نقودها الورقية بالدرهم و الدينار أو غيرها من الأشياء الثمينة.

ج- الثروات القومية كالمعادن و النفط.

د- التزام الحكومة بتنفيذ أنواع المبادلات و المعاملات النقود الورقية التي اعتبرتها ذات مالية و روّجتها بين الناس، و اليوم يُشاهد في كثير من الدّول ليس للنقود الورقية رصيد معيّن بل قد تقتضي ضرورة نشرها التزام الحكومة بتنفيذ المعاملات بواسطتها و اعتبارها ذات مالية معيّنة.

فنستنتج أنّ الأوراق المالية ليست لها مالية ذاتية بل هي مالية اعتبارية مبتنيةً على أمر واقعي و هو الثروات القومية تارة، و أخرى التزام الحكومة بالمعاملة معها، و لهذا إذا أرادت الحكومة أن تلغى اعتبار بعض الأوراق المصرفية الرائجة في بلدها فتعلن ذلك للناس و تضع لهم مهلة معيّنة لتبديل الأوراق الرابحة بالأوراق الجديدة المعتبرة لدى الحكومة. و من هنا يتضح أن النقود الورقية لا تعبّر دائماً عن مقدار

بحوث فقهية هامة، ص: 364

معيّن من الذهب و الفضة الموجودين في خزانة الدولة فلا تجري عليها جميع الأحكام المرتبطة بالذهب و الفضة، فينبغي الالتفات إلى ذلك فإنه سوف يفيدك في هذا البحث.

هناك قسم آخر من الأوراق، ليس بورق نقدي أو ورق عملة لكنّه ذو مالية معيّنة اعتبارية كطوابع البريد فإنّ أمر ماليته بيد الحكومة لكنّه لا يقبل التبديل بالنقود بل إنّما تنجز في قباله خدمة بريدية و هكذا بطاقات الباص و القطار و الطيّارة التي تتم في قبالها خدمات نقلية معيّنة.

الأمر الثاني: تأريخ نشوء الأوراق المالية
اشارة

الأمر الثّاني: من الأمور التي يجب تقديمها لمحة تأريخية عن كيفية نشوء الأوراق المالية و تحولها عبر الزمان، فإن الوقوف على ذلك يعيننا في معرفة الموضوع الدقيق، و لا يخفى أن التعرف على موضوعات الأحكام بصورة دقيقة يعدّ من

وظائف الفقيه المهمّة فإنه بدون ذلك لا يقدر على استنباط أحكامها، فما اشتهر من أنّ معرفة الموضوع ليس من شئون الفقيه، فإنه من المشهورات التي لا أصل لها، فنقول و على الله الاتكال:

كانت المعاملات في قديم الأيّام و عند بزوغ المدنية البشرية بصورة المقايضة أو تبادل السِلَع و ذلك لعدم وجود النقود ليتداولونها بينهم، فصاحب الحنطة مثلًا كان يبادل سلعته بشي ء من الأرز أو الشعير أو شي ء آخر ممّا كان يحتاج إليه. و هذا الشكل من المعاملة قد بقي بعدُ في بعض المجتمعات الصغيرة و كذلك يشاهد في أيّامنا بين بعض الدول التي لا تقبل نقود بعض آخر و يسمّى بالتجارة على نظام المقايضة.

لكنّ بما أنّ هذا الشكل من المعاملة قد وجه مشاكل كثيرة كعدم احتياج أحد المتعاملين إلى سلعة الآخر، و صعوبة حمل السلع إلى المسافات البعيدة خصوصاً إذا كانت ذات حجم كبير، كل هذه الأمور و أمثالها سببت في ظهور فكره إبداع النقود

بحوث فقهية هامة، ص: 365

في ذهن البشر، فأخذوا يبحثون عن شي ء ذي مميّزات ثلاث:

ألف- كونه مقبولًا عند عامة الناس بحيث يمكن لهم أن يقضوا حاجاتهم المعاملية معه.

ب- كونه سهل الانتقال من مكان إلى آخر.

ج- كونه غير قابل للفساد.

و هذه الميزات كانت مجتمعة في الذهب و الفضة، فقطعوها إلى قطعات صغيرة و جعلوا عليهما نقوشاً مختلفة دالّة على رواجها في مملكة معيّنة و اعتبارها فيها، و هكذا ظهرت الحاجة إلى سَكُّ النقود (ضرب السكة)، و سمّى النقد المصنوع من الذهب ديناراً، و من الفضة درهماً، و إنّما صنع الأوّل للمعاملات الضخمة، و الثّاني للصغيرة، ثمّ لمّا احتاجوا إلى نقود أصغر من الدرهم، اخترعوا قطعات نقد من النحاس، و مضت على ذلك أزمنة

طويلة إلى أن برزت مشكلة أخرى و هي لزوم مقادير كثيرة من الدرهم و الدينار للمعاملات الضخمة و صعوبة حملها في الأسفار، و قد قارن هذا الأمر، ظهور صنعة الطبع و اختراع أنواع مختلفة من القرطاس، فاستفادوا منه كأداة للمبادلات و بما أن القرطاس لم يكن بنفسه ذا مالية معتنى بها، جعلوا له رصيداً معيناً و طبعوا قطعات مختلفة منه مع الختم و التوقيع و التشريفات الرسمية لئلّا يغش فيه.

و هكذا ظهرت النقود الورقية و بقيت رائجة في مختلف الدول إلى يومنا هذا، و قد عرفت قدرة الحكومة و التزامها بتنفيذ المبادلات بواسطة هذه النقود يعدّ أهمّ رصيد لها، و إن يوجد في جنبها بعض الأرصدة الأخرى، كالثروات القومية و سبائك من الذهب و الفضة، لكنّها لا تعادل دائماً مقدار النقود الموجودة في المملكة، لكن هذا لا يعني أنّ للحكومة حق طبع أي كمّية من هذه النقود و نشرها بين الناس لأن بحوث فقهية هامة، ص: 366

ذلك يؤدي إلى التضخم المالي.

و ممّا ذكرنا يظهر أن النقود الورقية تختلف ماهيةً عن الدرهم و الدينار و إن يمكن جعلهما رصيداً لها في بعض الأوقات، لكنّه لا يعني جواز تبديلها بالذهب أو الفضة إلّا فيما إذا كان الورق حوالة إليهما، خلافاً لما هو الموجود في النقود الورقية الرائجة اليوم، فإنها تعدّ بنفسها مالًا مستقلًا بقطع النظر عن إمكان تبديلها بالذهب أو الفضة و عدمه، فاحتفظ بهذه النتيجة فإن الدقّة فيها تعيننا على الإجابة عن الأسئلة التي طرحناها في صدر البحث.

[أسئلة تثار حول الأوراق المالية]
[السؤال الأول منها: هل يجري الربا في النقود الورقية

أو يختص ذلك بالدرهم و الدينار؟

و الجواب: أن الربا على قسمين: قرضي و معاوضي، و لا شكّ في جريان الربا القرضي في النقود الورقية أيضاً، فلا يجوز أخذ

الزيادة في القرض و لو كانت قراءة سورة من القرآن.

أمّا الربا المعاوضي بحيث يعاوض (1000) تومان مثلًا مع (1100) تومان، فنقول إنه لا يجري في الأوراق المالية خلافاً للدرهم و الدينار حيث يجري فيهما و ذلك لاختصاص الربا المعاوضي بالمكيل و الموزون، و من الواضح أن الدرهم و الدينار لكونهما ذهباً و فضة يعدّان من الموزونات بينما النقود الورقية تعدّ من المعدود.

نعم، لو كانت النقود الورقية في الواقع حوالة إلى الدرهم و الدينار لجرى فيها الربا المعاوضي، لكنك قد عرفت أنّ لها مالية مستقلة، و أمّا الرصيد فهو يشبه العين المرهونة، فكما أن العين المرهونة وثيقة عند الدائن قبال المديون، كذلك الرصيد شبه وثيقة عند الناس قبال الحكومة، فإنّ مالك الورق المصرفي يعدّ دائناً و الحكومة مديوناً، و وثيقة هذا الدين هو ذاك الورق.

بحوث فقهية هامة، ص: 367

و بناءً على هذا أفتى بعض الفقهاء بجواز بيع مقدار من النقود الورقية بأكثر منها في مدّه معيّنة، كمن يبيع اليوم ألف تومان مثلًا بألف و مائتين تومان بعد شهرين، بشرط أن يكون قصده الجدّي هو البيع لا أخذ الزيادة في القرض، فإنه لا يجوز قطعاً لكونه من الربا المحرّم و لنا على هذا الكلام إشكال يمنع عن صحّة المعاملة، و هو أن النقود الورقية تجعل في عرف العقلاء ثمناً لا مثمناً و لذا لا يقدم على بيعها إلّا من كان قاصداً لإعطاء القرض إلى غيره و أخذ الزيادة فيه، و عليه فلا يشمل الأمر بالوفاء في قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بيع النقود الورقية و شراءها، فإن المراد من العقود في الآية هي العقود المتعارفة الرائجة بين العقلاء فلا تشمل جميع العقود.

نعم، يجوز بيع الأوراق المالية في موردين

لا ثالث لهما:

الأوّل: تبديل النقود المختلفة بعضها ببعض كمن يبيع الدولار بالريال فإن هذه المعاملة عقلائية و رائجة بين العقلاء.

الثّاني: تبديل الدين المؤجل بالحال كما إذا كان لزيد مثلًا دينٌ مؤجل على عمرو بمقدار مائة ألف تومان و كان وقت استحقاقه بعد شهر، فيبيع زيد هذا الدين من عمرو بتسعين ألف تومان حالًّا. هذه المعاملة أيضاً لا إشكال في صحّتها لرواجها بين العقلاء.

و الظاهر أن العقلاء لا يعرفون لمعاملة النقود الورقية إلّا ثلاثة موارد، اثنان منها ما ذكرناه آنفاً و المورد الثّالث هو القرض الذي عرفت أنه لا يجوز أخذ الزيادة، فيه فإذا لم يكن بيع الورق المصرفي لتبديله بنقد آخر أو تبديل الدين المؤجل بالحال، فلا دليل على جوازه، بل الدليل على خلافه لعدم تعارفه بين العقلاء، فيحرم، و لا أقل من وجوب الاحتياط في تركه.

السؤال الثّاني من الأسئلة المطروحة حول الورق المصرفي

التي طرحناها في بحوث فقهية هامة، ص: 368

صدر البحث كان: أنه هل تجوز المضاربة بالنقود الورقية أو لا؟

المشهور بين الفقهاء اشتراط صحّة المضاربة بوقوعها بالدرهم أو الدينار، و عليه فلا يصحّ شي ء من المضاربات الواقعة في زماننا لعدم وقوعها على الدرهم أو الدينار، و لكنك بعد الخبرة بما ذكرناه سابقاً تعرف عدم صحّة هذه النظرية، و ذلك لعدم كون الورق المصرفي حوالة إلى الدرهم أو الدينار حتّى يجري عليه حكمهما. هذا و قد أفتى بعض الأعاظم بصحّة المضاربة بكلّ شي ء بشرط أن لا يكون عروضاً، و عليه فتصح المضاربة بكل نقد من النقود الرائجة ديناراً كانت أو ريالًا أو دولاراً أو غيرها.

أقول: حتّى لو لم نقل بصحّة هذا القول، بل قلنا أنه يعتبر في صحّة المضاربة وقوعها بالدرهم أو الدينار، فلا سبيل لنا في إنكار صحّة المضاربة بالنقود

الرائجة، و ذلك لا بما أنها مضاربة شرعية، بل لأنها عقد مستحدث مشتمل على جميع شرائط الصحّة، فيشمل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، و إن لم يسمّ مضاربة لأنه ليس للتسمية دخل في صحّة العقود، إذ المضاربة ليست موضوعاً لأحكام خاصّة في أخبارنا، فالملاك في صحّة كلّ عقد هو شمول «أَوْفُوا» له، قديماً كان ذاك العقد أو حديثاً، و لا يخفى أن قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قضية حقيقية لا خارجية، فيشمل جميع العقود الرائجة بين العقلاء حتّى المستحدثة منها.

و من هنا يتضح أنّ ما درج في زماننا من إعطاء شخص نقوداً معينةً لآخر لكي يصرفها في الأمور الإنتاجية ثمّ تقسم المنفعة بينهما، عقد صحيح شرعاً و إن لم يسمّ مضاربة، فإن المعروف في صحّة المضاربة اشتراط وقوعها في الأمور التجارية دون الإنتاجية كأحداث المصانع، و لكن قبول هذا الشرط لا ينتج عدم صحّة تشغيل رءوس الأموال في الأمور الإنتاجية، و ذلك لأنه عقد مستحدث عقلائي مشمول بحوث فقهية هامة، ص: 369

لقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، سَمِّه ما شئت.

السؤال الثّالث: كان في بيع الصرف بالنقود الورقية

، فإن من الشرائط المعتبرة في بيع الصرف (و هو بيع الدرهم و الدينار) وقوع القبض في المجلس، فهل يعتبر هذا الشرط في بيع النقود الورقية، أو لا؟

قد عرفت ممّا تقدّم أن النقود الورقية ليست هي الدرهم و الدينار و لا حوالة إليهما، فلا يعتبر في بيعها ما يعتبر في بيعهما، و منها (أي ممّا يعتبر في بيع الدرهم و الدينار التي لا تعتبر في بيع النقود الورقية) القبض في المجلس كما لا يعتبر ذلك في سائر المعاملات.

السؤال الرّابع: في موضوع زكاة النقدين

، فهل تجري الزكاة المعتبرة في النقدين، بالنسبة إلى النقود الورقية أو لا؟

أقول: إنّما تجب الزكاة في النقدين إذا كانا مسكوكين رائجين و بما أن الورق المصرفي ليس بشي ء من النقدين، أعني الذهب و الفضة و لا مسكوكاً فلا تجب الزكاة فيه.

سلمنا أن مالك النقود الورقية، يملك في الواقع مقداراً مساوياً لتلك النقود، من الذهب و الفضة في خزانة الدولة، فمن يملك عشرة آلاف تومان مثلًا في زماننا، يملك سكّة ذهبية واحدة لكنّه مع ذلك لا تجب فيها الزكاة إذا وصلت إلى حدّ النصاب، و ذلك لأنه يعتبر في النقد أن يكون مسكوكاً بسكة رائجة، بينما العملات الذهبية الموجودة في زماننا ليست دارجة في المعاملات الواقعة في الأسواق بحيث تُجعل ثمناً للمبيع، بل إنها بنفسها تحتسب مثمناً و يدفع الثمن بإزائها.

و على هذا لو تملك شخصٌ عشرات من هذه العملات الذهبية و حال عليها الحول، لم يجب فيها شي ء من الزكاة.

بحوث فقهية هامة، ص: 370

هذا و لكن هنا إشكال، و هو أنّ المستفاد من مجموع الأخبار الواردة في الزكاة، تقدير الله تعالى أقوات الفقراء في أموال الأغنياء و هذا التقدير بمكان من التدقيق بحيث لو عمل الأغنياء

بما وجب عليهم لما وجد في المجتمع في ظلَّ حكم إسلامي فقير و لا محتاج مسكين.

بيان ذلك: أن الشارع الأقدس قد رأى أن المعاملات الرائجة بين الناس تنحصر في أمور ثلاثة من التجارة و الزراعة و تربية المواشي، و التجارة في قديم الأيّام كانت تدور على مدار الذهب و الفضة، فلذا أمر الشارع بوجوب أداء زكاة النقدين فيما إذا أخرجا عن مدار المعاملة و حُبسا في البيوت، و بما أنّ مدار المعاملات في زماننا هي النقود الورقية، فتأتي فيه علّة وجوب الزكاة في النقدين فتجب فيها الزكاة، و بعبارة أخرى الزكاة إنّما تجب في النقدين بما أنهما نقدان رائجان لا بما أنهما جنسان مخصوصان، فتجب في كلّ نقد رائج ذهباً كان أو فضة أو غيرهما و إن أبيت عمّا ذكرنا و أخرجت الذهب و الفضة عن دائرة شمول الزكاة لكونهما غير مسكوكين رائجين في زماننا، فكيف تقول بكفاية الزكاة لقضاء حاجات الفقراء مع أن أكثر المواشي في زماننا معلوفة و ليست بسائمة حتّى تشملها الزكاة فلا تبقى للزكاة إلّا الغلات الأربع و الزكاة الواجبة فيها إنّما هي نصف عشرها، فهل هذا هو الزكاة التي وصفت بأنها تسدّ حاجات الفقراء؟! أقول: أوّلًا أنّ ما يصرف لسدّ حاجات المحتاجين ليس هي الزكاة فقط، بل هناك واجب مالي آخر و هو الخُمس، الذي يصرف نصفه بعنوان سهم الإمام في الأمور المرضية عند الشارع، كإقامة الحوزات العلمية الدينية و طبع الكتب الإسلامية و رفع حوائج الفقراء، و نصفه الآخر بعنوان سهم السادة في سدّ حوائجهم، و من الواضح أن الخُمس أكثر مقداراً و مورداً من الزكاة، إذ الزكاة في بحوث فقهية هامة، ص: 371

الأنعام الثّلاثة و النقدين 5، 2

في المائة و في الزراعة 10 في المائة قبل إخراج مئونة السنة، بينما مقدار الخُمس عشرون في المائة و يجب في جميع أرباح المكاسب بعد إخراج مئونة السنة، فلو لم تكف الزكاة لرفع حوائج الفقراء يمكن صرف الخُمس في ذلك.

و ثانياً: هناك أحاديث أخر تصرّح بانحصار موارد الزكاة في الأشياء التسعة المعروفة.

منها: ما في معاني الأخبار عن أبيه عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن أحمد عن موسى بن عمر عن محمّد بن سنان عن أبي سعيد القماط عمّن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام)

أنه سئل عن الزكاة؟ فقال: وضع رسول الله (صلى الله عليه و آله) الزكاة على تسعة و عفا عمّا سوى، ذلك الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الذهب و الفضة و الغنم و الإبل، فقال السائل: فالذرة؟ فغضب (عليه السلام) ثمّ قال: كان و الله على عهد رسول الله (صلى الله عليه و آله) السماسم و الذرة و الدخن و جميع ذلك. فقال: إنهم يقولون إنه لم يكن ذلك على عهد رسول الله (صلى الله عليه و آله) و إنّما وضع على تسعة لمّا لم يكن بحضرته غير ذلك فغضب ثمّ قال: كذبوا فهل يكون العفو إلّا عن شي ء قد كان و لا و الله ما أعرف شيئاً عليه الزكاة غير هذا فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر

«1». و بملاحظة هذه الرواية و مثلها يظهر أن ما ورد من قوله (عليه السلام)

إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء

إنّما هو من باب بيان حكمة الحكم لا علته، و ذلك لأن ظهور تلك الروايات في الانحصار أقوى بمراتب من ظهور قوله (عليه السلام) إن الله فرض. في عدم

الانحصار، و لا يخفى أن الحكمة تجري في أكثر الموارد لا جميعها، مع أن العلّة تجري في كلّ الموارد، و هذا هو الفارق بين العلّة و الحكمة.

بحوث فقهية هامة، ص: 372

و من مصاديق الحكمة وجوب الاعتداد على المرأة المطلّقة للاحتراز عن اختلاط المياه، فإنّ هذا الوجوب ثابت أيضاً فيما لم يكن بين الزوجين مواقعة أصلًا، فليس هناك ماءٌ حتّى يحتمل اختلاط المياه، لكنه لا يوجب رفع الحكم، لكون الدليل وارداً مورد الغالب، فيكون من باب الحكمة لا العلة.

و هكذا يتضح أن ظاهر تلك الأحاديث، موضوعية الأجناس التسعة لا طريقيتها، و أمّا علّة انحصار الزكاة في تلك الأشياء فلم تظهر لنا و ليس بواجب علينا علمها، إذ ربّ حكم شرعي ليس لنا سبيل إلى فهم علته و إن يمكن فهم حكمته.

نعم، إن جميع الأحكام الشرعية دائرة مدار المصالح و المفاسد، فإنّ الله تعالى لا يأمر إلّا بما فيه مصلحة و لا ينهى إلّا عمّا فيه مفسدة لكن باب العلم بشخص هذه المصالح و المفاسد بنحو العلّة التامّة (دون العلّة الناقصة أعني الحكمة) في كثير من الأحكام الشرعية مغلقٌ علينا.

إن قلت: هناك أحاديث تدلّ على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) جعل على البرذون زكاة كما رواها محمّد بن مسلم و زرارة عنهما جميعاً (عليهم السلام) قالا

وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية في كلّ فرس في كلّ عام دينارين و جعل على البَراذِين «1» ديناراً

«2». قلنا: إن التدقيق في أخبار الباب يرشدنا إلى أن ذلك من أمير المؤمنين (عليه السلام) كان حكماً حكوميّاً مناسباً لظروفه الخاصّة، به و لم يكن بياناً لحكم شرعي دائمي، و لذا صرّح الصادق أو الباقر (عليهما السلام) بأنه ليس في

شي ء من الحيوان زكاة غير هذه الأصناف بحوث فقهية هامة، ص: 373

الثلاثة الإبل و البقر و الغنم «1».

و يشاهد نظير هذا الأمر في زمان الجواد (عليه السلام) حيث أمر شيعته في السنة 220 الهجرية بدفع خمسين اثنين من باب الحكم الحكومي و لذا كان مختصاً بتلك الظروف.

ثالثاً: سلمنا شمول الزكاة للنقود الورقية لكنّه لا يوجب سدّ حاجات الفقراء و لا يترتب عليه ثمرة فقهية مهمّة، و ذلك لأن من شروط تعلّق الزكاة مضيّ الحول، و من الواضح أن الناس في الغالب لا يدّخرون نقودهم الورقية حتّى حال عليها الحول و صارت مشمولة للزكاة، بل يجعلونها في البنوك، و ماهية هذا الأمر هو القرض لا الأمانة (كما سوف يأتي بحثه إن شاء الله تعالى) فإن البنك يتصرف في النقود المودعة عنده، و من الواضح عدم جواز التصرّف في الأمانة بينما يجوز ذلك في القرض.

و على كلّ، إذا أقرض شخص شخصاً آخر و بقي مال القرض عند المستقرض حتّى حال عليه الحول، وجبت زكاته على المستقرض دون المقرض، و عليه فلو بقيت النقود المودعة لدى البنك إلى مضيّ الحول، لوجبت زكاتها على البنك لكن بما أن البنك لا يزال يتصرف في النقود و يداولها و لا يدّخرها، فلا يجب عليه شي ء من زكاتها بل لا تتعلّق بها زكاة أصلًا.

السؤال الخامس: كان في النقود الورقية و قوّتها الشرائية

، فهل المقياس في قيمة هذه النقود قوتها الشرائية التي تتغير في طول الزمان أو قيمتها الاسمية المكتوبة عليها و هي ثابتة؟ فلو كان صداق امرأة قبل أربعين سنة مائة تومان مثلًا، و كان بإمكانها في ذلك الزمان أن تشتري بها بيتاً صغيراً ثمّ طلبتها في هذا الزمان، فهل يجب على زوجها أداء قيمتها الاسمية من النقود الورقية

الموجودة في زماننا و الحال أنه بحوث فقهية هامة، ص: 374

لا يشتري بمائة تومان في زماننا إلّا طعام قليل، أو يجب عليه دفع ما يعادل قيمتها الشرائية في ذلك الزمان، و هكذا يأتي الإشكال في أبواب الضمانات و بعض الوقوف، حيث كتب الواقف بأن متولي الوقف يصرف مائة تومان مثلًا في كلّ سنة لإطعام الناس بينما لا يكفي ذلك لإطعام شخص واحد.

أقول: لا يخفى أن هذه المشكلة إنّما حدثت بسبب التضخم المالي، و التضخم إنّما نشأ بعد رواج الأوراق المالية في حقل المعاملات، نعم هناك قسم آخر من التضخم ليس له صلة بالنقود الورقية، فالتضخّم على قسمين:

1- قد ينشأ التضخم من الاختلال في قانون العرض و الطلب بحيث لا يكفي ما يوجد في الأسواق لسدّ حاجات الناس، أمّا بسبب المجاعة الناجمة عن الجفاف مثلًا أو للاحتكار أو لبعض الحوادث كشيوع مرض معدي لا يوجد له دواء بالقدر الكافي. هذا التضخم يوجب ارتفاع الأسعار، و ليس أمراً حادثاً، بل كان معروفاً بين الناس منذ الأزمنة القديمة و عند اندلاع الحروب و المجاعة.

2- و قد ينشأ التضخم من كثرة النقود الورقية في الأسواق بحيث تكون النقود أكثر من السلع الموجودة فتصير سبباً لارتفاع الأسعار و إن كانت النقود ذات رصيد في الخزانة الحكومية فإنّ ارتفاع الأسعار ناشئ من عدم التوازن بين السلع و النقود و من الواضح أن هذا الملاك موجود عند وجود الرصيد للنقود الورقية كما هو ذلك عند عدمه.

و لا يخفى أن هذا النحو من التضخم لا يحصل عند انحصار النقود في الدرهم و الدينار (و لم يكن له أثر قبل رواج النقود الورقية)، و ذلك لأن مالية الذهب و الفضة مالية ذاتية فلا يمكن

سقوطهما عن المالية بالرغم من عدم الاستقرار في ماليتهما، بخلاف الأوراق المالية فإن ماليتها اعتبارية محضة، فيمكن سقوطها عن المالية، و لهذا

بحوث فقهية هامة، ص: 375

ترى أن النسبة بين قيمة الأجناس المختلفة و قيمة الذهب و الفضة قد بقيت ثابتة تقريباً منذ الأزمنة القديمة، بينما النسبة بينها و بين النقود الورقية قد تغيّرت كثيراً.

إذا عرفت هذا فنقول: إذا كانت قيمة النقود الورقية متغيرة من زمان إلى زمان متأثرة بالظروف الاقتصادية المختلفة فإنه لا يصحّ أن يجعل الملاك في احتساب ماليتها، قيمتها الاسمية المكتوبة عليها، فإنّ من الواضح البيّن لدى كلّ أحد من الناس عدم التساوي بين مائة تومان في زماننا هذا، و مائة تومان قبل أربعين سنة.

و بعبارة أخرى دقيقة، أنّا نأخذ الأحكام من الشرع و الموضوعات من العرف (إلّا في الموضوعات التي توجد فيها حقيقة شرعية) فإذا قال الشارع الأقدس: أدّوا ديونكم، أو قال: على اليد ما أخذت حتّى تؤديه، نأخذ المعيار في تحقّق الأداء و عدمه من العرف، فإنَّ وجوب الأداء حكم شرعي مأخوذ من الشارع، بينما نفس الأداء موضوع الحكم فيؤخذ ممّا ألقى إليه الحكم، و هو العرف أعني عرف العقلاء، و واضح أن العرف لا يرى الأداء محقّقاً عند دفع المستقرض مائة تومان لمن استقرضه ذلك المقدار قبل أربعين سنة مثلًا، و عليه فلم يمتثل أمر الشارع بوجوب أداء الدين.

هذا مضافاً إلى أن أصل العدل من الأصول الإسلامية المسلّمة لدى الإسلاميين، و يدلّ عليه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ)، و من الواضح أن دفع مائة تومان في المثال لا يكون من العدل عند عرف العقلاء بل أشبه شي ء عندهم بالهزل.

و أن أبيت عن جميع ذلك

فنقول لا أقل من الشكّ في تحقّق الأداء في المثال بينما لا نشك في اشتغال ذمّتنا بالديْن، و الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية و هي بحوث فقهية هامة، ص: 376

توجب الاحتياط بأن يدفع إلى المقرض من النقود الورقية ما يعادل مالية مائة تومان قبل أربعين سنة.

إن قلت: الالتزام بهذا الأمر يقتضي الالتزام به في الاختلافات اليسيرة الواقعة في مالية الأوراق المالية، و عليه فمن استقرض مائة تومان مثلًا في هذه السنة، يجب عليه عند دفعه في السنة الآتية محاسبة ميزان التضخم في هذه المدّة و دفع ما يوازن مالية مائة تومان من النقود في السنة الآتية، و لو كان التفاوت بينهما يسيراً كثلاثة توأمين مثلًا.

قلنا: استقرت سيرة العقلاء على عدم الاعتناء بتغير المالية إذا كان يسيراً، فيحسبون مائة تومان في هذه السنة مساوياً لمائة تومان في السنة الآتية، و إن كانا في الواقع غير مساويين، و يشهد لذلك إقدامهم على الإقراض مع علمهم بأن مالية النقود تتغير، و هذا يعني قبولهم لهذا المقدار اليسير من سقوط المالية بخلاف ما إذا كان التفاوت فاحشاً فإنهم لا يقدمون على قبول هذا النحو من التفاوت في مالية النقود أبداً.

نعم، لو تغيّرت سيرة العقلاء في هذا الأمر و صارت تحتسب أي تفاوت في المالية و لو كان يسيراً (كما هو كذلك في بعض البلاد) فعند ذاك يجب احتساب التفاوت بأيّ مقدار كان عند دفع القرض.

لكن بما أن العرف العام في بلادنا ليس كذلك و لا يعتنى بالمقادير القليلة من التفاوت في المالية، لم يجب على المستقرض احتساب هذا النحو من التفاوت عند الدفع.

و لا يخفى أننا نرجع إلى العرف العام أو السيرة العقلائية فيما نحن فيه لتبين الموضوع لا

الحكم، و لذا قلنا أن العرف العام في بلادنا يختلف عن العرف في البلدان الأُخرى بحوث فقهية هامة، ص: 377

و هذا الاختلاف بما أنه اختلاف في تشخيص الموضوع يوجب بالتالي اختلافاً في تعيين الحكم كما أنّ بعض الأشياء تباع في بعض البلاد بالعدد في حين تباع في بلاد أخرى بالوزن، و لذا يأتي فيه الربا في الثّاني دون الأوّل، فإنه لا ربا في العدد.

فتلخص أنه يجب عند انخفاض مالية الأوراق المالية (أو ارتفاعها في الموارد النادرة) احتساب القوّة الشرائية الموجودة في النقود بالذهب أو الفضة لتأدية الديون.

لكن إذا كانت قيمة الذهب و الفضة متفاوتة يجب ملاحظة الأقل قيمة، فإنّ المقام من باب الدوران بين الأقل و الأكثر و اشتغال الذمّة بالأقل يقيني، بينما اشتمالها بالأكثر مشكوك فتجري فيه البراءة، و على أية حال لا إشكال في عدم الاجتزاء بالمقدار الاسمي المكتوب على الأوراق المالية عند تغيير ماليتها تغييراً معتنى به عند العرف العام.

و إن أبيت عمّا ذكرناه و حققناه فلا أقل من كونه موافقاً للاحتياط في أموال المسلمين فيلزم العمل به احتياطاً وجوبياً أو المصالحة بين الدائن و المديون.

و هناك دليل آخر يمكن الاستدلال به على المطلوب، و هو القاعدة المعروفة ب- «لا ضرر»، فإن مقتضاها انتفاء كلّ حكم يوجب ضرراً، و من الواضح أن عدم الاعتناء بتغيير مالية النقود فيما إذا كانت كثيرة يوجب ضرراً على الدائن فيكون منفياً بلا ضرر.

إن قلت: إن هذه القاعدة إنّما تنفي الأحكام الضررية، لكنّها لا تثبت أحكاماً أخرى مقامها، فهي تنفي الوضوء و الغسل الضرريين أو الأداء الموجب لضرر الدائن، لكنّها لا توجب على المديون أداء ما يوازن مقدار الديْن في ماليتها.

قلنا:

أولًا لا نسلّم عدم كون «لا ضرر»

مثبتاً للحكم، بل إن هذه القاعدة تثبت بحوث فقهية هامة، ص: 378

الحكم كما تنفيه، و الشاهد على ذلك نفس دليلها، أعني حديث سمرة بن جندب، حيث أمره النبي (صلى الله عليه و آله) بالاستيذان من الأنصاري، و من الواضح أن وجوب الاستيذان من باب إثبات الحكم بقاعدة لا ضرر.

و ثانياً: أن الاستدلال هنا يتم و لو لم تكن القاعدة مثبتة للحكم، و ذلك لأن المقصود من الاستدلال إثبات عدم كفاية أداء الدين بملاحظة المقدار الاسمّي، و لا شكّ أن هذا حكم منفي مترتب على القاعدة، و أمّا أداء الدين بملاحظة ميزان المالية فإثباته لا يحتاج إلى الاستناد بالقاعدة، بل يثبت ذلك بقاعدة على اليد، و إنه على اليد ما أخذت حتّى تؤديه، و الأداء لا يتحقّق إلّا بدفع ما يعادل مالية الدين.

السؤال السّادس: من المسائل المربوطة بالأوراق النقدية

كان في إبطال اعتبارها بيد الحكومة و إسقاطها عن المالية و ترويج نقود ورقية أخرى مكانها فهل يجوز لأحد كان مديوناً لآخر أن يدفع دَيْنه إلى الدائن بالنقود الساقطة عن الاعتبار أوْ لا؟

أقول: جواب هذا السؤال اتّضح بحمد الله بعد ما حققناه من اعتبارية مالية هذه النقود اعتباراً محضاً، فلا مالية للنقود الساقطة عن الاعتبار أصلًا و عليه فلا يجزي أداء الدين بها كما لا يشكّ في عدم إجزائه أحدٌ من أهل العرف في زماننا هذا.

لكن العجب من بعضهم حيث قال: إن سقطت الأوراق عن المالية يمكن أداء الدين بها. و استدل له، بأن المعتبر في أداء الدين إذا كان مثلياً إنّما هو دفع المثل فقط، فيجب على المديون أن يدفع إلى الدائن مثل ما استقرضه منه من النقود الورقية، و أمّا سقوط تلك النقود عن الاعتبار فلا ربط له بالمديون و لا

شي ء عليه من هذه الجهة، لأنه أمرٌ قد صدر من جانب الحكومة و المديون قد أدّى ما وجب عليه.

ثمّ شبَّه كلامه بما ذكره الشيخ الأعظم في المكاسب، من أنه إذا أخذ شخص من بحوث فقهية هامة، ص: 379

آخر شيئاً من الثلج في الصيف جاز له أن يدفع إليه مثل ذاك الثلج في الشتاء، و كذا إذا أخذ منه شيئاً من الماء في الصحراء فإنه جاز له أن يدفع إليه مثل ذلك الماء على شاطئ النهر، فكما أن الزمان في مثال الثلج و المكان في مثال الماء أوجبا سقوطهما عن المالية كذلك فيما نحن فيه، فإنّ الحكومة أوجبت سقوط الأوراق عن المالية، و كما يجوز أداء الدين بهما في المثالين، كذلك يجوز أداء الدين بالأوراق الساقطة في ما نحن فيه. و السرّ في جميع ذلك كفاية أداء المثل فيما إذا كان الدين مثلياً.

أقول: هذا القول يحمل في طياته العجب و ترد عليه الإيرادات التالية:

أوّلًا: أن العقلاء لا يرون الأداء في شي ء من هذه الموارد، أداءً واقعياً للدين، و قد عرفت أن الأداء أمرٌ عرفي، و تشخيص، تحقّقه و عدمه موكول إليهم، فكيف يصحّ تخطئة قولهم فيما أرجع إليهم الشارع؟! ثانياً: أن معيار المثلية في النقود الورقية إنّما هو ميزان المالية و الاعتبار لا الشكل الظاهر، فلا مثلية بين الأوراق المعتبرة و الأوراق الساقطة عن الاعتبار، و عليه فلا يجزي أداء الدين بالأوراق الباطلة.

ثالثاً: سلّمنا تحقّق أداء الدين في الأمثلة الثّلاثة لكنّه مع ذلك لا يجزي لكونه موجباً للضرر المنفي. و بعبارة أخرى دقيقة: يقع التعارض في هذه الموارد بين قاعدة على اليد و قاعدة لا ضرر، و من الواضح رجحان قاعدة لا ضرر على قاعدة على

اليد.

لا يقال: إن قاعدة لا ضرر هي نافية للأحكام الضررية، و لا تثبت حكماً آخر مكانها، فلا يمكن أن يثبت بها وجوب دفع الأوراق المعتبرة على المديون.

فإنه يقال: قد عرفت منّا آنفاً أن هذه القاعدة مثبتة للحكم كما تكون نافية للأحكام الضررية، و الشاهد على ذلك إلزام النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله) لسمرة بن جندب بحوث فقهية هامة، ص: 380

بوجود الاستئذان اعتماداً على هذه القاعدة. هذا أولًا.

و ثانياً: سلّمنا عدم كون القاعدة مثبتة للحكم، لكنّه لا يضرّ بالمقصود، لأنه إذا كان أداء الدين بالثلج في الشتاء و بالماء على شاطئ النهر و بالأوراق الباطلة منفياً بهذه القاعدة، فلا شكّ في بقاء الدين على حاله و اشتغال ذمّة المديون، به فيجب عليه أداؤه، و من الواضح أنه لا يتحقق الأداء إلّا بدفع الأوراق المعتبرة.

رابعاً: أن للزمان و المكان دخلًا في مالية بعض الأشياء، فالثلج مثلًا يشترى و يباع في الصيف، بينما لا مالية له في الشتاء، بل يبذل المال بإزاء إزاحته عن سطوح المنازل، كما أن الماء يبذل بإزائه ثمن غال في صحراء قاحلة بينما لا قيمة له على شاطئ النهر.

أضف إلى ذلك كلّه أن هناك بعض الأشياء تقوم قيمتها بالاعتبار و لا دخل لغير الاعتبار فيها، و منها الأوراق المالية و لا شكّ أن المالية هي عمود الرئيسي في المعاملات، و إن كان لغيرها أحياناً تأثير في المعاملة كالعينية و المثلية و نظائرها لكن مدار المالية في النقود الورقية إنّما هو المالية ليس إلّا و عليه إن استقرض شخص من آخر ورقاً باللون الأخضر لم يجب عليه دفع ورق بذاك اللون إلى الدائن، بل يجب عليه أن يدفع ما يساوي ماليته من النقود

الورقية بأيّ لون كانت.

هذا و قد أُجيب عمّا ذكرناه بجوابين: نقضي و حلّي: أمّا الجواب النقضي: فهو أنه بناءً على ما ذهبتم إليه من اعتبار تساوي المالية بين القرض و الأداء، لوجب القول بعدم تحقّق الأداء عند حصول التفاوت اليسير، فمثلًا إذا استقرض أمس شيئاً من الثلج و أراد أن يدفع إلى الدائن مثله في هذا اليوم مع أن قيمة الثلج قد نزلت قليلًا بسبب برودة الهواء، لوجب على المديون مضافاً إلى دفع مثل الثلج، أن يدفع تفاوت القيمة بين الثلج في هذا

بحوث فقهية هامة، ص: 381

اليوم و الثلج في الأمس مع أنه لم يقل به أحد.

و أمّا الجواب الحلّي: فهو وجوب أداء المثل في المثلي و القيمة في القيمي بصرف النظر عن التغيير الحادث في المالية بسبب الزمان أو المكان أو الحكومة.

أقول: يرد على الجواب النقضي ما ذكرناه سابقاً من عدم اعتناء العقلاء بالتفاوت اليسير في القيمة، فإنهم يوطنون أنفسهم على قبول هذا التفاوت فيما إذا حدث خلافاً للتفاوت الكثير، و بعبارة أخرى التفاوت اليسير يصير مشمولًا لقاعدة الإقدام دون الكثير منه، و ذلك يوجب صدق الأداء عرفياً عند التفاوت اليسير فقط، و عليه فقياس أحدهما بالآخر قياس مع الفارق.

و أمّا الجواب الحلّي: فهو أشبه بالهزل، فكيف يصح قصر النظر على المثل و القيمة و صرفه عن المالية؟ فهل اعتبر بقاء المثل أو القيمة إلّا للتحفظ على المالية؟ كلّا، فلا يشترط في أداء الثلج و الماء مجرد المالية، بل هي مع المالية، و المراد من التحفظ على المثلية هو اعتبار المماثلة في الصفات مضافاً إلى اعتبارها في القيمة، بينما لا يشترط في القيمي إلّا المماثلة و التساوي في القيمة، فإنهم قالوا: يجب في المرتبة

الأولى في أداء الدين دفع العين فيما إذا كانت موجودة، و في المرتبة الثّانية أداء المثل فيما إذا كان مثلياً و كانت الأوصاف مرغوباً فيها و معتبرة، و في المرتبة الثّالثة دفع القيمة.

و لا يخفى أن المعيار في المالية هو عرف العقلاء، فالمال هو ما يكون مالًا عند نوعهم لا عند شخص منهم دون آخرين، فلو بذل شخص من العقلاء أموالًا بإزاء الأوراق المالية الباطلة لبعض الأغراض الشخصية، لم يوجب ذلك اعتبار المالية لهذه النقود فإن ملاك المالية هو الأغراض النوعية عند عرف العقلاء.

ثمّ اعلم أن في أداء الدين بالمثل و القيمة أقوالًا ثلاثة:

1- كفاية أداء المثل و لو سقط عن المالية، فيكفي دفع الثلج في الشتاء و الماء على بحوث فقهية هامة، ص: 382

شاطئ النهر، و قد أسند هذا القول إلى المشهور مع أن الظاهر خلافه، و يشهد لذلك ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) في كتاب البيع بقوله: «و احتمل أن يكون أداء المثل كافياً و الأقوى خلافه» فإنه لم يسند القول إلى المشهور، بل ضعَّفه و جعل الأقوى خلافه.

2- كفاية أداء العين فيما إذا كانت باقية، و لو سقطت عن المالية دون ما إذا لم تكن باقية، فيجب التحفظ على المالية بأداء ما يساوي مالية العين المصروفة، و لا يكفي أداء المثل، فيكون هذا القول قولًا بالتفصيل.

3- عدم كفاية أداء العين و لا المثل فيما إذا لم تكن المالية محفوظة بالمعيار الرئيسي في تحقّق الأداء إنّما هو التحفظ على المالية سواء بقيت العين أم لا فلو كانت العين باقية و المالية زائلة لم يجز أداء العين، و لو لم تكن العين باقية، لم يجز أداء المثل إلّا إذا كانت المالية محفوظة، و

هذا هو المختار.

توضيح ذلك: أنّ لكلّ عين ثلاث جهات: 1- الصفات الشخصية. 2- الصفات النوعية. 3- المالية.

فصاع من الحنطة مثلًا له صفات شخصية بملاحظة كونها من الحقل الزراعي الفلاني، و صفات نوعية بملاحظة كونها حنطة لا شعيراً، و له مالية أي يبذل بإزائه المال.

فلو غصب الغاصب مالًا لأحد يشتمل على هذه المميّزات الثّلاث وجب عليه في المرتبة الأولى تدارك جميع تلك المميّزات و يحصل ذلك بردّ العين إلى المالك، و إلّا لو كانت العين تالفة و المثل باقياً وجب عليه أداء المثل المشتمل على الصفات النوعية و المالية في المرتبة الثّانية، و إلّا لو لم يكن المغصوب مثلياً (و المفروض تلف العين) وجب دفع المالية في المرتبة الثّالثة.

بحوث فقهية هامة، ص: 383

و لا يخفى أنه متى كان تدارك جميع الخصوصيات ممكناً لا يصل الدور إلى الرتبة الثّانية، كما أنه لا يجوز الاقتصار على دفع المالية فيما إذا كان المثل باقياً.

و من هنا يتضح عدم صحّة القولين الأوّلين، و ذلك لعدم التحفظ على المالية فيهما كما في ردّ عين الماء إلى مالكه على شاطئ النهر و الثلج في الشتاء. هذا و قد استدلّ للقول الأوّل بدليلين:

1- إن قاعدة «على اليد ما أخذت حتّى تؤديه» إنّما تشمل العين دون المالية، فإن المالية أمر اعتباري عقلائي، و المأخوذ هو العين فيتحقّق الأداء بدفعها إلى مالكها إن كانت موجودة، و إلّا فيدفع المثل، و عليه فلا يلزم دفع المالية.

أقول: جوابه قد ظهر ممّا ذكرناه، فإنّ العين قد أخذت بما أنها مالٌ، فالمأخوذ إنّما هو العين الموصوفة بالمالية، و المدار في الضمان هو المالية، و لذا لا ضمان على الأخذ فيما إذا أخذ شيئاً من زبالة بعض البيوت لعدم ماليتها

خلافاً لما إذا أخذ عيناً ذات مالية، فإنه يجب عليه أداء العين أو المثل مع التحفظ على المالية لكي يصدق الأداء عرفاً. هذا أوّلًا.

و ثانياً: لو لم تكن المالية منظوراً إليها فلما ذا وجب دفع القيمة في القيمي؟

أقول: وجوب دفع القيمة يدلّ على أن المالية إنّما أخذت بتبع العين، فالمالية مأخوذة لكن لا مستقلًا بل بتبع العين، و لذا قالوا: يضمن القيمي بقيمته و إلّا لو لم تكن المالية مأخوذة لوجب عدم الضمان في القيمي فإن العين ليست بموجودة و المأخوذ ليس مثلياً و المالية غير مأخوذة فرضاً.

ثمّ لا يخفى وجود الفرق بين باب الأمانة و الضمان، فلو أودع نقوداً ورقية عند واحد أمانةً ثمّ سقطت تلك النقود عن درجة الاعتبار لا شي ء على الودعي إلّا دفع نفس تلك النقود، و ذلك لأن يده أمانية، و المفروض أنه لم يُفْرِط و لم يفرّط.

بحوث فقهية هامة، ص: 384

و بعبارة أخرى: الأمانة في هذا الفرض أمانة مالكية و كان بإمكان المالك أن يأخذ نقوده من الودعي و يبدلها بالنقود الجديدة المعتبرة متى شاء، لكنّه كفّ عن ذلك باختياره و لا ضمان على الأمين.

و هكذا الكلام في اللقطة فإنها أمانة شرعية، و عليه فلو وجد ورقاً و فحص عن مالكه حتّى يردّه إليه، لكن الورق سقط عن الاعتبار في هذا الأثناء من قِبل الحكومة، ليس عليه ضمان فإنه أمين و لا ضمان على الأمين.

2- و هو العمدة، الروايتان 2 و 4 في الباب 20 من أبواب بيع الصرف من كتاب وسائل الشيعة و إليك نصهما:

الرواية 2- بإسناده (أي الشيخ الطوسي) عن محمّد بن الحسن الصفار عن محمّد بن عيسى عن يونس قال كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه

السلام) أنه كان لي على رجل عشرة دراهم و أن السلطان أسقط تلك الدراهم و جاءت دراهم أعلى من تلك الدراهم الأولى و لها اليوم وضيعة

[الضمير راجع إلى الدراهم الأولى يعني نزلت مالية تلك الدراهم فإنها بعد تباع و تشترى لكن بقيمة أرخص من قبل

فأيّ شي ء لي عليه الأولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب: لك الدراهم الأولى.

أقول: الظاهر اعتبار سندها فلا نبحث من هذه الجهة. أما دلالتها فقد يبدو للناظر أنها ناظرة إلى ما نحن فيه، و عليه فلو سقطت الأوراق عن المالية لم يجب دفع ما يوازن ماليتها بل يكفي دفع مثلها.

لكن يظهر ضعف هذا الكلام عند الدقّة، فإنّ السؤال في الرواية عن الدرهم كما أن الجواب كذلك، و الدرهم لكونه من الفضة لا يسقط عن المالية تماماً بل قد يقلّ شي ء من ماليته لإخراجه عن مدار المعاملة و بطلان مسكوكة مثلًا، بخلاف النقود

بحوث فقهية هامة، ص: 385

الورقية حيث تسقط عن المالية بالكلية، فلا يمكن قياس أحدهما بالآخر لوجود الفارق، و عليه فالرواية لا ترتبط بالمقام.

الرواية 4- و الظاهر كونها معتبرة أيضاً. عن العباس بن صفوان قال سأله معاوية بن سعيد (فالرواية كما ترى مضمرة لمجهولية مرجع الضمير في قوله «سأله» فلم يعلم أن الراوي عمّن سأل مطلوبه و المسئول عنه مَنْ هو)

عن رجل استقرض دراهم من رجل و سقطت تلك الدراهم أو تغيّر

(أي انخفضت قيمتها)

و لا يُباعُ بها شي ءٌ

(أي ليست رائجة بين الناس في الأسواق و لا يعني أنها سقطت عن المالية لكونها من الفضة و الفضة لا تسقط عن المالية أبداً نعم يمكن سقوط شي ء من ماليتها لخروجها عن دائرة المبادلات و ذهاب رواجها)

أ لِصاحب الدراهم، الدراهمُ

الأولى أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال: «لصاحب الدراهم، الدراهم الأولى»

هذا و أمّا الجواب:

فأوّلًا: قياس الدرهم بما نحن فيه قياس مع الفارق لعدم سقوط الدرهم عن المالية لكونه من الفضة، و قد عرفت أنّ لها مالية شبه اعتبارية و ليست ماليتها اعتبارية محضة حتّى يمكن سقوطها عن المالية.

و من الواضح أن الدراهم كانت تُصنع من الفضة لا من الحديد أو النحاس، و لذا ورد في الحديث «أهلك الناس الدرهم البيض و الدينار الصفر»

فلا يمكن سقوطه عن المالية بالكلية. نعم يمكن ذهاب شي ء من ماليته لذهاب رواجه بين الناس و هذا بخلاف النقود الورقية فإنها تسقط عن المالية بالكلية بعد ذهاب رواجها كما الأمر كذلك في بعض آخر من الأشياء كالثلج في الشتاء و الماء على شاطئ النهر، و من هنا يتضح أنه لا يصح قياس المقام بالدرهم فإنه قياس مع الفارق. و منه ينتج صحّة القول بأنه ليس لصاحب المال فيما إذا أقرض دراهم و تغيرت قيمتها إلّا الدراهم بحوث فقهية هامة، ص: 386

الأولى خلافاً لما إذا أقرض نقوداً ورقية فإن تفاوت القيمة في الأول يسير بينما هو في الثّاني كثير.

و ملخص القول أن هاتين الروايتين أجنبيتان عمّا نحن بصدده و قياس المقام بهما مع الفارق.

و ثانياً: يمكن جعل الرواية الأولى قرينة لفهم الثّانية حيث ورد في الأولى «جاءت دراهم أعلى من تلك الدراهم الأولى و لها اليوم وضيعة»

و منه يفهم أن الدراهم الثّانية كانت أعلى قيمة من الدراهم الأولى لا بسبب رواجها فقط بل لكونها أحسن من السابقة أيضاً. فبناءً عليه يمكن حمل الرواية الثّانية على الأولى و جعل الثّانية ناظرة إلى ما إذا كانت الدراهم الثّانية أعلى قيمة من الدراهم الأولى فإن

الروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) تُكمل بعضها بعضاً كما أن القرآن يُكملُ بعضه بعضاً.

و ثالثاً: لو سلمنا و غضضنا النظر عن الجوابين الأولين نقول: إن هاتين الروايتين معارضتان بالرواية 1 من هذا الباب «1» محمّد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس قال كتبت إلى الرضا (عليه السلام) أنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم و كانت تلك الدراهم تُنْفَق بين الناس (أي كانت رائجة بين الناس)

تلك الأيّام و ليست تُنْفَق اليوم فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال فكتب إليّ: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس.

و الظاهر أن قوله (عليه السلام)

«كما أعطيته ما ينفق بين الناس»

بمنزلة التعليل فكأنه قال (عليه السلام): «لأنك أعطيته ما ينفق بين الناس» و هذه الرواية أقوى ظهوراً من بحوث فقهية هامة، ص: 387

السابقتين، فلو دار الأمر بينها و بينهما أخذ بها لكونها أظهر منهما و لا شكّ في تقدّم الأظهر على الظاهر، هذا مضافاً إلى كونها (أعني هذه الرواية 1 من الباب 20 من أبواب الصرف) أوفق و أشبه بأصول المذهب أعني وجوب مراعاة العدل بين الناس، فإنّ من الواضح أنّ أداء نقود ورقية ساقطة عن المالية بدل نقود أخرى كانت لها مالية في زمن الأخذ، لا يوافق العدل و الإنصاف.

هذا و قد ذكر شيخنا الصدوق (رحمه الله) بعد نقل هذه الروايات، طريقاً آخر للجمع بينها حكاية عن أستاذه محمّد بن الحسن الصفار و إليك نص كلامه: كان شيخنا محمّد بن الحسن (رضي الله عنه) يقول الحديثان متفقان غير مختلفين فمتى كان له عليه دراهم بنقد معروف فليس له

إلّا ذلك النقد (و المراد من النقد المعروف هو النقد الرائج) و متى كان له دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف فإنّما الدراهم التي تجوز بين الناس.

و المستفاد من كلامه (قدس سره) أن النقد في تلك الأعصار كان يعامل به بنحوين من المعاملة:

1- المعاملة به باحتساب وزنه مع غض النظر عن كونه يجوز بين الناس أوْ لا. ففي هذه الصورة يجوز للمديون أداء النقود السابقة بذلك الوزن المعلوم إذ المدار فيها هو الاحتفاظ بالوزن.

2- المعاملة به بعنوان كونه رائجاً بين الناس ففي هذه الصورة لا يجوز للمديون إلّا أداء النقود الرائجة.

فالروايتان الأوّليتان ناظرتان إلى الصورة الأولى، و الأخيرة ناظرة إلى الصورة الثّانية.

فتلخص من جميع ما ذكرنا أمور:

1- إذا سقط المال عن المالية كالماء على الشاطئ و الثلج في الشتاء، وجب أداء

بحوث فقهية هامة، ص: 388

قيمته و لا يكفي أداء المثل و أوضح منه ما إذا سقطت الأوراق المالية عن المالية فإنه لا يكفي فيها أداء المثل قطعاً.

2- لا فرق في ذلك بين بقاء العين و فواتها. نعم إذا كانت العين أمانة عنده و لم يطلبها مالكها و سقطت عن المالية بغير تقصير من الأمين لم يكن عليه شي ء و ذلك لعدم كونها ديناً في ذمّته بل إنّما كانت أمانة لديه.

3- لا يبعد وجوب القيمة الأدنى التي لا يكون سقوطها فاحشاً، ففيما إذا أخذ شيئاً من الثلج ثمّ أراد أن يؤدي إلى مالكه قيمته، و المفروض أن القيمة غير ثابتة في الفصول المختلفة من السنة بل تزيد و تنقص، لا يبعد أن نقول بوجوب القيمة الأدنى بشرط أن لا يكون سقوطها فاحشاً، و ذلك لأنه إذا دار الأمر بين أعلى القيم و أدناها التي لا تكون

سقوطاً فاحشاً، فالاشتغال بالأدنى متيقن و بالأعلى مشكوك، فتجري البراءة بالنسبة إلى الأعلى دون الأدنى.

و أمّا سقوط القيمة إذا لم يكن فاحشاً فقد عرفت استقرار سيرة العقلاء على عدم لحاظه.

4- تجب المصالحة فيما إذا سقطت القيمة سقوطاً فاحشاً فيما إذا لم ير العقلاء أداء المثل كافياً و أداءً واقعياً. كما إذا جعل صداق زوجته ألف تومان قبل ثلاثين سنة و أراد أن يؤديه إليها في هذه السنة، فإنه لا شكّ أن أداء المثل لا يحتسب أداءً واقعياً عند العقلاء فلا يكفي شرعاً.

10- ولاية الفقيه و حدودها

اشارة

(حدود و صلاحيات الفقيه) لما وصل البحث في كتاب البيع إلى موضوع (أولياء عقد البيع) طلب مني كثير من الفضلاء البحث في مسألة ولاية الفقيه بشكل واف، فلبيت طلبهم لكون المسألة من المسائل المبتلى بها، لا سيّما في هذا العصر، بل الابتلاء بها أشد من كثير من المسائل الفرعية و ذلك لابتناء الحكومة الإسلامية عليها فنقول و نستمد من الله تبارك و تعالى التوفيق و الهداية إلى ما يرضاه و يرضى رسوله و الأئمّة الهادون من أهل بيته (عليهم السلام).

إنّما عبرنا بهذا العنوان «صلاحيات الفقيه» بدلًا عمّا هو المعروف من «ولاية الفقيه»، لكونه أعمّ و أتم كما سيتبين ممّا سنتلو عليك منه ذكراً، و أعلم أن له صلاحيات مختلفة:

الأوّل: منصب الإفتاء

اشارة

قال شيخنا الأعظم في مكاسبه: «للفقيه الجامع للشرائط مناصب ثلاثة أحدها: الإفتاء فيما يحتاج إليها العامي في عمله، و مورده المسائل الفرعية و الموضوعات الاستنباطية من حيث ترتب حكم شرعي عليها».

أقول: الإفتاء كما أنه من مناصب الفقيه فإنه من وظائفه أيضاً، و يجب عليه بحوث فقهية هامة، ص: 392

وجوباً كفائياً، و للعوام أن يقلدوه، و لا بأس بالإشارة إلى دليل جواز التقليد هنا إجمالًا و إن كان شرحه سيأتي لاحقاً.

و العمدة فيه قبل الآيات و الروايات سيرةً العقلاء عموماً، و سيرة أهل الشرع خصوصاً في رجوع الجاهل إلى العالم، و الأولى حجّة بعد إمضاء الشرع و لو بعدم الردع، و الثّانية حجّة من دون حاجة إلى أمر آخر.

أمّا الأولى فهي ظاهرة لمن نظر في أمور العقلاء، لأنّ المتداول بينهم منذ قديم الأيّام إلى حديثها، و من أرباب الديانات إلى غيرهم، رجوع كلّ جاهل في علم و فن إلى عالمه، لا تجد له نكيراً و لا تسمع

فيه خلافاً.

و السرّ فيه أن العلوم و الفنون كثيرة، متشعبة بشعب مختلفة، لا يقدر كلّ إنسان- رأي إنسان كان- على الاجتهاد في جميعها، بل و لا في عشر من أعشارها، و لذا قد يكون مجتهداً في علم أو علمين، في فن أو فنين دون غيرها، فالطريق له هو الأخذ بقول من هو مجتهد فيها، فالمهندس يرجع إلى الطبيب إذا مرض، كما أن الطبيب يرجع إليه إذا أراد بناء بيت أو مستشفى، و لا يستغني أحدهما عن الآخر و كذا أرباب الحرف و الصنائع و المهن و هذا أمر واضح.

و أمّا العمل بالاحتياط فغير ممكن إلّا لبعض المتميزين من أهل الفضل، و لا في جميع المسائل، فإن الأمر في بعضها يدور بين المحذورين لا بدّ من الاجتهاد فيها، كما إذا نذر الصوم في السفر لا يدري أنه صحيح حتّى يكون واجباً أو باطل حتّى يكون حراماً، و كذا إذا حكم الحاكم بأن اليوم، يوم عيد، فإن قلنا باعتبار حكم الحاكم في الهلال فيحرم عليه الصيام، و إلّا فيجب عليه إلى غير ذلك من أشباهه.

و ما قد يقال- كما قال به فئة قليلة- أن التقليد حرام و إنه يمكن لجميع الناس الرجوع إلى كتاب الله و كتب الحديث و أخذ الأحكام فيها و العمل بها، فاسد جدّاً، لا يمكن التفوه به إلّا من غافل عن كيفية استنباط الأحكام من الكتاب و السنّة، فإنه بحوث فقهية هامة، ص: 393

يحتاج إلى معرفة اللغة و العلوم الأدبية و التفسير و الحديث و الرجال و علم الأصول و غير ذلك، و معرفة الناسخ من المنسوخ، و الحاكم من المحكوم، و العامّ من الخاصّ، و المطلق من المقيّد، و معرفة أحكام المتعارضين،

و طريق الجمع بينهما، و كيف يقدر جميع الناس على ذلك، حتّى إذا فرضنا إقبالهم على الفقه و ترك جميع التجارات و الزراعات و الصنائع و الحرف، الذي يؤدّي إلى اختلال النظام، لعدم استعداد جميعهم لذلك، حتّى يشاهد في بعض الحوزات العلمية أناس يدرسون أكثر من عشرين سنة لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد و لو في مسألة واحدة فقهية، فكيف بغيرهم، و الحقّ أن الاجتهاد أشد من طول الجهاد كما أشار إليه شيخنا الأعظم الأنصاري في بعض كلماته.

و هل يقدر جميع الناس إذا مرضوا بأمراض مختلفة أن يراجعوا بأنفسهم الكتب الطبية و يعملون بما فيها؟ و كذا إذا أرادوا بناء دار أو مدرسة أو سوق أو غيرها يطالعون كتب الهندسة و يستغنون بها عن مراجعة أهل الخبرة، و هذا أمر واضح ظاهر.

و أمّا سيرة أهل الشرع: فقد استقرت منذ زمن النبي (صلى الله عليه و آله) على رجوع الناس في المسائل الشرعية إلى فقهاء الأمة، فكان (صلى الله عليه و آله) إذا فتح بلداً أرسل إليه أميراً و قاضياً، فالأمير لنظم البلد، و القاضي للفتوى و القضاء، و لم يكن القضاء في تلك الأيّام أمراً مستقلًّا عن الإفتاء، فإذا جهلوا بالحكم سألوه عنه، و إذا اختلفوا و تنازعوا في الحقوق رجعوا إليه للقضاء بينهم.

و قد كان بعضهم جامعاً بين مقام الإمارة و الفتوى و إن كان هذا قليلًا بينهم، و من هنا يتضح حال مقبولة عمر بن حنظلة و أنه لا عجب أن يكون صدره في القضاء و ذيلها في الإفتاء.

ثمّ إنه لمّا اتسع نطاق الفقه و العلم انفصل مقام القضاء عن الإفتاء، فقد كان هناك بحوث فقهية هامة، ص: 394

فقهاء عارفون بالأحكام يراجعهم الناس في

كلّ بلد و إن لم يكونوا من القضاة فقد قال الصادق (عليه السلام)- كما في الحديث- لبعض أصحابه «أحب أن تجلس في مسجد المدينة و تفتي الناس».

نعم، الاجتهاد في تلك الأعصار كان بسيطاً جدّاً بالنسبة إلى عصرنا هذا، يكفيه معرفة اللغة و معرفة الحديث و الرواية و حكم التعارض بين الأحاديث و شبه ذلك.

و ما قد يتوهّم أن الاجتهاد و الاستنباط لم يكن في تلك الأيّام بل كانوا يكتفون بنقل الأحاديث المأثورة باطل جدّاً، لأن الأحاديث كانت متعارضة، و كلمات أهل اللغة في تفسير بعض الآيات كانت متضاربة، إلى غير ذلك ممّا يحتاج إليه في الإحاطة بمسائل الأصول و الفقه و اللغة و غيرها، و من ينكره إنّما ينكره باللسان و قلبه مطمئن بالإيمان.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأحكام.

أمّا الموضوعات: فهي على أقسام ثلاثة:

1- الموضوعات المستنبطة:

كالمركبات الشرعية مثل الصلاة و الصيام و الحجّ التي تستفاد أجزاؤها و شرائطها من أدلّة الشرع، و في الحقيقة البحث عن هذه الموضوعات يعود إلى البحث عن أحكام أجزائها و شرائطها و موانعها، و قد حقّق في محلّه أن هذه الأمور منتزعة عن الأحكام الشرعية الواردة في مواردها من الأمر و النهي، لا أنها مجعولة بذاتها، فالتقليد فيها تقليد في الأحكام واقعاً.

2- الموضوعات العرفية غير المستنبطة، و هي على قسمين:

قسم منها ظاهرة واضحة يقدر المقلّد على معرفتها كالماء المطلق و المضاف و الدم و البول و أشباهها، و لا شكّ أن معرفة حالها بيد المقلّد الذي هو من أهل العرف، حتّى لو خالف علمه علم المرجع و المفتي يعمل بعلمه، و لا يعتنى بقوله، و الوجه فيه أنه لا فرق في ذلك بينه و بين مرجعه، فإذا خالفه في علمه بالموضوع لزمه العمل بعلم نفسه فقط.

بحوث فقهية هامة، ص: 395

و قسم آخر الموضوعات العرفية الخفية ممّا تحتاج في فهمها و فهم مصاديقها إلى دقة النظر، و سلامة الذوق، و الممارسة و الإحاطة بهذه الأمور، فهذا أيضاً يرجع المقلّد فيه إلى مجتهده، و كثير من المسائل الفرعية في الكتب الفقهية و الرسائل العملية من هذا القبيل، فليس فيها كشفاً لحكم شرعي، و استنباطاً من الأدلة الشرعية، بل يكون من قبيل تطبيق الكلي على أفراده، و تعيين الموضوعات الخفية و لو لم يجز التقليد في أمثالها كان ذكر هذه الفروع في الرسائل العملية لغواً بل إغراءً بالجهل.

مثلًا فقد ورد في غير واحد من الأحاديث أن السجود جائز على الأرض و ما أنبتت إلّا ما أكل و لبس «1».

و الحكم مطلق و اللفظ عام شامل و مفهومه ظاهر، و لكن مع ذلك فقد وقع الشك

في شمولها لبعض الأمر كقشر الفواكه و الأدوية و العقاقير و الشاي قبل أن يطبخ و ما يكون مأكولًا في بلد دون بلد، أو ملبوساً كذلك، و كذا في ما ليس كذلك بالفعل و لكن يكون مأكولًا أو ملبوساً بالقوّة، إلى غير ذلك من الفروع الكثيرة التي أوردوها في الكتب، و لا يقدر العامي على استنباط أحكامها، فعلى الفقيه ملاحظة حال هذه الفروع و صدق هذين العنوانين عليها و عدمه، فإن غالب العوام غير قادرين على الدقة في هذه الأمور، و لكن الفقيه لمزاولته هذه الفروع و أمثالها قادر على أخذ حقيقة هذه الأمور من أعماق أذهان أهل العرف و ردها إليهم، و لا عجب في ذلك فتدبّر جيداً.

و كذلك لا شكّ أن مسافة القصر ثمانية فراسخ كما دلت عليه النصوص، و لكن في صدقها على الثمانية الدورية أو المرتفع في الجو أو في أعماق الأرض غموضاً يتصدى لرفعه الفقيه.

بحوث فقهية هامة، ص: 396

و كذا يظهر من بعض الروايات كفاية المحاذاة للمواقيت و أفتى به الأصحاب، و لكن وقع الكلام في أن المواقيت الخمسة (مسجد الشجرة و الجحفة و قرن المنازل و يلملم و العقيق) محيطة بالحرم بحيث ينتهي كلّ طريق إلى أحدها، أو ما يحاذيها أو لا تكون كذلك، حتّى يقع الكلام في حكم مثل هذا الشخص و أنه هل يجب عليه الإحرام من أدنى الحلّ أو غيرها، فهذا و إن كان من الموضوعات الخارجية و لكن إدراكها لأكثر العوام مشكل، فعلى الفقيه بذل الجهد فيه و لو بالرجوع إلى أهل الخبرة ثمّ الفتوى بما تقتضيه الأدلّة بعد إحراز الموضوع، إلى غير ذلك ممّا هو كثير.

بقي هنا شي ء- و هو أنه هل الإفتاء للفقيه

من المناصب أو من الأحكام؟

كلام شيخنا الأعظم صريح أنه من المناصب كالقضاء و الولاية، و لازمه أن يكون موكولًا إلى نصب ولي الأمر، و لكن لا دليل عليه بل ظاهر الآيات مثل آية الذكر و غيرها و الروايات الكثيرة مثل قوله «فللعوام أن يقلدوه»

و غيرها كونه حكماً، فالجاهل في جميع الحرف و الصنائع و المهن يرجع إلى العلماء فيها من دون حاجة إلى نصبهم لهذا المنصب من طريق الحكومة، و كذلك في أحكام الدين.

المنصب الثّاني: القضاء و الحكم بين الناس

و هذا أيضاً من مناصب الفقيه و وظائفه الواجبة عليه كفاية، و قد يكون واجباً عينياً، و لا بأس بأن نشير إلى دليله إجمالًا و إن كان الكلام فيه بالتفصيل سيأتي في كتاب القضاء.

فنقول إنه ثابت له عقلًا و نقلًا.

أمّا العقل: فلأن وقوع المنازعة و الخصومة في المجتمعات البشرية ممّا لا يمكن اجتنابه ما لم تصل إلى مستوى راق من الإيمان و التقوى و الثقافة العالية الدينية، و لا بدّ حينئذ من طريق إلى فصلها، كي لا يتسع نطاقها و تطيح بالنظام كلّه و يقع بحوث فقهية هامة، ص: 397

الاضطراب و إراقة الدماء و غيرها، فيجب التصدي لفصل الخصومات و الحكم بين الناس لجماعة من العلماء وجوباً كفائياً، و أحق الناس به و أولاهم بل القدر المتيقن من بينهم هو الفقيه الجامع للشرائط، العالم بأحكام الإسلام، و شرائط القضاء و الحقوق الواجبة لكلّ أحد كما لا يخفى، فإنه الذي يرجى منه تحقيق هذا الأمر المهم لا غيره.

و أمّا النقل: فالمعروف بين الأصحاب بل حكي الإجماع عليه عدم جواز التصدي للحكم لغير المجتهد الجامع لشرائط الإفتاء و إن كان عالماً بالأحكام و الحقوق و الحدود و أحكام القضاء و شرائطه من طريق

التقليد، و هذا يكشف عن وجود نصّ وصل إليهم و لكن خالف فيه شاذ من الفقهاء الأعلام (رضوان الله عليهم) منهم صاحب الجواهر، و قد يستظهر الجواز من إطلاق الآيات الواردة في هذا الشأن مثل قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) و غيرها من أشباهها، اللّهم إلّا أن يقال أنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

و بالنصوص الدالّة على أن القضاء أربعة

«منهم رجل قضى بالحقّ و هو يعلم و هو في الجنّة»

«1» و ما شابهها، فالمدار في الحكم بالحقّ سواء كان من ناحية التقليد أو الاجتهاد.

و بالسيرة من عصره (صلى الله عليه و آله) إلى ما بعده، فلم يكن جميع القضاة المنصوبين من قبلهم (عليهم السلام) بالغين مرتبة الاجتهاد في كثير من الأوقات.

و بما يظهر من رواية أبي خديجة لظهور قوله «يعلم شيئاً من قضايانا»

«2» في الأعمّ بحوث فقهية هامة، ص: 398

من المجتهد المطلّق.

و تحقيق الكلام في ذلك سيأتي في محله، و لكن الذي يجب التصريح به هنا أن معنى جواز التصدي لهذا المقام لغير المجتهد ليس معناه جوازه لكلّ مقلد، بل اللازم العلم بجميع المسائل التي يتصدى للقضاء فيها من الحقوق، و الحدود و شرائطها، و فروعها، و العلم بجميع أحكام القضاء، و آدابه، لا يحصل ذلك إلّا لمقلّد يكون تالياً للمجتهد و قريباً منه، و على كلّ حال ثبوت هذا المنصب للفقيه ممّا لا ريب فيه، و أمّا الزائد عنه فهو خارج عمّا نحن بصدده.

بقي هنا شي ء و هو أنه: لا ينبغي الشكّ في أن القضاء من المناصب التي لا يجوز التصدي لها إلّا بعد النصب له عموماً أو خصوصاً

و يدل عليه:

أوّلًا: أنه كذلك بين جميع الأمم، بل هو جزء من ولاية الحاكم، و شأن من شئونه، و لا يزال ينصب القاضي من قبل رؤساء الحكومات و ولاة الأمور، و السرّ فيه أنهم متصدون لنظام البلاد الذي لا يتمّ إلّا بحسن القضاء بين الناس.

مضافاً إلى أن أحكام القضاة لا تنفذ إلّا بقوّة قهرية تجبر الظالم على أداء حقّ المظلوم، و هذا لا يتحقق إلّا إذا كان القاضي معتمداً على قوّة السلطان، لأن الناس لا يقومون بالقسط إلّا بالحديد أحياناً، و لذا أنزله الله بعد إنزال الكتاب و الميزان.

و ثانياً: وقع التصريح بذلك في مقبولة عمر بن حنظلة في قوله (عليه السلام)

«فإني قد جعلته حاكماً»

«1» و قوله «فإني قد جعلته قاضياً»

في رواية أبي خديجة «2» فإنها ظاهرة بل صريحة في حاجته إلى الجعل و أنه من المناصب الإلهية التي أمرها بيد ولي الأمر.

هذا مضافاً إلى أن المسألة قد أجمع عليها الأصحاب، فقد أجمعوا على أنه يشترط

بحوث فقهية هامة، ص: 399

في ولاية القضاء إذن الإمام (عليه السلام) أو مَن فوض إليه الإمام (عليه السلام) و قد جعلوه لكلّ مجتهد عادل في عصر الغيبة كما يدلّ عليه ما مرّ آنفاً.

نعم لا يشترط ذلك في قاضي التحكيم، و هو من تراضى الخصمان بالترافع إليه و الحكم بينهما، فإن المشهور بل ادعى الإجماع عليه أنه لا يشترط فيه النصب من قبل الإمام (عليه السلام) و الكلام فيه سيأتي في محلّه.

المنصب الثّالث: الولاية

أعني ولاية الفقيه على التصرّف بأنواع التصرّفات، و هي في الجملة ممّا لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه، إنّما الكلام في حدودها، و شروطها، ذكر المحقّق النائيني (قدس سره) في منية الطالب أن للولاية مراتب ثلاثة:

إحداها و هي

المرتبة العليا مختصة بالنبي و أوصيائه الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) و غير قابلة للتفويض إلى أحد، و اثنان منها قابلتان للتفويض. أمّا غير القابلة فهي كونهم (عليهم السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم بمقتضى الآية الشريفة (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، و هذه المرتبة غير قابلة للسرقة و لا يمكن أن يتقمصها من لا يليق بها.

و أمّا القابلة للتفويض فقسم منها يرجع إلى الأمور السياسيّة التي ترجع إلى نظم البلاد و انتظام أمور العباد و سدّ الثغور و الدفاع عنها و الجهاد ضد الأعداء و نحو ذلك، ممّا يرجع إلى وظيفة الولاة و الأمراء، و قسم يرجع إلى الإفتاء و القضاء و. (انتهى محلّ الحاجة) «1».

بحوث فقهية هامة، ص: 400

و تبعه في هذا التقسيم جامع المدارك «1».

و الإنصاف أن مراتب الولاية العامّة أكثر من ذلك لكلّ منها محل خاصّ في الفقه، و يمكن حصرها في سبع مراتب، بعضها أقوى من بعض لا بدّ من ذكرها ثمّ تحقيق حالها بحسب الأدلّة و كلمات الفقهاء الأعلام «رضوان الله عليهم».

الاختيارات السبعة للولي الفقيه

1- الولاية على أموال القصّر و الغيّب من الصغار الذين لا وليّ لهم من الأب و الجدّ و الوصي و بعض المجانين و السفهاء، أي من لا يتصل جنونهم و سفههم بالصغر على قول مشهور، بل و كذلك من يتصل على احتمال، و كذا الغائبين الذين تكون أموالهم في خطر لا بدّ من حفظها حسبة، و شبه ذلك من الأوقاف الخاصّة.

2- الولاية على أخذ الخمس و الزكاة و الأوقاف العامّة و صرفها في مواردها على ما ذكروها في أبواب الخُمس و الزكاة.

3- الولاية على إجراء الحدود الخارجة عن منصب القضاء.

4- الولاية على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

فيما يتوقف على ضرب أو جرح أو قتل أحياناً، فقد ذكروا في كتاب الأمر بالمعروف أن له مراتب، فما لم يبلغ إلى هذا الحدّ كان من وظائف عموم المؤمنين، و إذا بلغ هذا المبلغ لم يجز إلّا بإشراف الحاكم.

5- الولاية على الحكومة و السياسة، و تنظيم البلاد و حفظ الثغور و الدفاع في مقابل الأعداء و كلّ ما يرتبط بنظام المجتمع و المصالح العامّة التي يتوقف عليها

بحوث فقهية هامة، ص: 401

و سيأتي أنها هي العمدة في عصرنا هذا في أمر الحكومة الإسلامية.

6- الولاية على الأموال و النفوس مطلقاً و لو كان خارجاً عمّا يحتاج إليه للمراحل السابقة.

7- الولاية على التشريع بأن يكون له حقّ وضع القوانين و تشريعها بحسب ما يراه من المصالح.

كلّ ذلك ممّا لا بدّ من أن يبحث حول الولاية. و أيها ثابتة أو غير ثابتة، بحسب الأدلّة القاطعة المذكورة في أبوابها.

فقد تعرض الأصحاب لهذه المسألة تارة في كتاب البيع، و أخرى في كتاب القضاء، و ثالثة في الزكاة و الخُمس، و رابعة في الحجر، و خامسة في الأمر بالمعروف و سادسة في الجهاد، و سابعة في كتاب الحدود و غيرها.

ثمّ لنتكلم في شروط التصدي للولاية و كيفية حكم الفقيه و موقفه من العناوين «الأولية» و «الثانوية» و موقف الناس و آحاد المؤمنين من أمر الحكومة و كيفية مشاركتهم الفقيه و حكم تعدد الفقهاء، و غير ذلك ممّا هو مهم في هذا الباب.

هذا و اللازم على القارئ أن لا يحكم بشي ء باتاً في هذه المراتب، حتّى يتم أمر الجميع فإنها مرتبطة بعضها ببعض دليلًا و حجّة، و العجلة ليست من دأب المؤمن العالم.

نظرة إجمالية إلى كلمات القوم في مسألة ولاية الفقيه

و لا بأس بالإشارة إلى بعض ما ذكره الأعلام هنا

على الإجمال، ثمّ الأخذ في تبيين حال كلّ مرتبة من المراتب السبعة.

1- قال صاحب الجواهر أعلى الله مقامه الشريف في كتاب البيع عند البحث عن ولاية الحاكم و أمينه على القصّر و الغيّب ما نصّه بحوث فقهية هامة، ص: 402

«و لا يمكن استقصاء أفراد ولاية الحاكم و أمينه، لأن التحقيق عمومها في كلّ ما احتج فيه إلى ولاية في مال أو غيره إذ هو ولي من لا ولي له» «1».

و هذا الكلام بقرينة التعليل ناظر إلى «الغيّب» و «القصر» و أمثالهم من «الممتنع» و «العاجز» و مراده من العموم في كلّ ما احتيج فيه إلى الولاية عمومه لما ذكره في كلامه من أن الحاكم و أمينه يليان كلّ ممتنع أو عاجز عن عقد أو إيقاع أو تسليم حقّ و في الحقوق الإلهية كالنذر و العهد و اليمين وجه، و ما أشبه ذلك.

2- و قال (قدس سره) في كتاب الخُمس بعد نقل كلام المجلسي (قدس سره) أنه لا تبرأ ذمّة المديون بالخُمس بدفع حصّة الإمام (عليه السلام) بنفسه، بل يجب دفعها إلى الحاكم على رأي أكثر العلماء، أنه يمكن الفرق بين زمان الحضور و الغيبة، بأن يقال أنه لا ولاية للإمام (عليه السلام) في حال الغيبة حتّى يتولاها الفقيه نيابة عنه، و فيه بحث ثمّ قال ما نصّه: «على أن ذلك لو سلم لا يجدي في ما نحن فيه من دعوى عموم ولاية الحاكم حتّى لمثل المقام، الموقوفة على دليل، و ليس، و لكن ظاهر الأصحاب عملًا و فتوى في سائر الأبواب عمومها بل أصله من المسلّمات أو الضروريات عندهم» «2».

و حاصل كلامه (قدس سره) أنه استشكل في ولاية الحاكم على الخُمس في زمن الغيبة تارة

بأن الكلام في أصل ولاية الإمام (عليه السلام) حينئذ، و الظاهر أنه لعدم حضوره و عدم تصرفه بالفعل و عدم إمكانه عملًا فاستشكل فيه بقوله: فيه بحث.

ثمّ نقل الكلام إلى الحاكم ثانياً و أنه لا دليل على عموم ولايته لمثل الخُمس.

فأجاب: بأن ظاهر الأصحاب في سائر الأبواب عمومها لمثل المقام، و من الواضح أن غاية ما يستفاد منها عموم ولاية الفقيه لمثل أخذ الخُمس و أشباهه و نظائره، و أمّا استفادة أكثر من هذا من كلامه غير واضح كما لا يخفى.

بحوث فقهية هامة، ص: 403

و الظاهر أن مسألة ولاية الفقيه على أمر السياسة و الحكومة أظهر من أن يحتاج إلى التشبث بهذه العبارات التي لا تستهدف هذه الأمور.

3- و قال شيخنا الأعظم في مكاسبه بعد تقسيم الولاية إلى قسمين: الولاية المستقلة أي تصرّف الولي بنفسه، و غير المستقلة أي كون تصرّف غيره منوطاً بإذنه، ما ملخصه: أن القسم الأوّل ثابت للنبي (صلى الله عليه و آله) و الأئمّة المعصومين من ذريته (عليهم السلام) بالأدلّة الأربعة، و كذا القسم الثّاني ثابت لهم بمقتضى كونهم أولى الأمر، فلا يجوز لغيرهم إجراء الحدود و التعزيرات و إلزام الناس بالخروج عن الحقوق و غير ذلك إلّا بإذنهم و استدلّ له أيضاً بروايات.

ثمّ بيّن ضابطة هذه الأمور التي يرجع فيها إليهم و أنها الأمور التي يرجع فيها كلّ قوم إلى رئيسهم.

هذا كلّه بالنسبة إليهم (عليهم السلام) أمّا الفقيه فقد نفى ولايته في القسم الأوّل فلا يستقل هو بالتصرّف لعدم قيام دليل عليه، ثمّ ذكر بعض الأدلّة و أجاب عنها، و قال في آخر كلامه في هذا القسم: «و بالجملة فإقامة الدليل على وجوب طاعة الفقيه كالإمام (عليه السلام) إلّا ما

خرج بالدليل، دونه، خرط القتاد.

ثمّ جرى في بحثه نحو المقام الثّاني و صرّح بولاية الفقيه في المقام الثّاني، و أن المستفاد من مقبولة «عمر بن حنظلة» كونه كسائر الحكّام المنصوبين في زمان النبي (صلى الله عليه و آله) و الصحابة في إلزام الناس بإرجاع الأمور المذكورة إليه، و الانتهاء فيها إلى نظره بل المتبادر عرفاً من نصب السلطان حاكماً، وجوب الرجوع في الأمور العامّة المطلوبة للسلطان إليه» «1».

فالمتحصل من كلامه (قدس سره) أن المنفي في نظره الشريف (قدس سره) ولاية الفقيه على أموال الناس و أنفسهم على نحو العموم مثل الإمام المعصوم (عليه السلام) و أمّا ولايته فيما يتصدّى له بحوث فقهية هامة، ص: 404

السلطان و الحاكم في الأمور العامّة التي يرجع إليه فهو ثابت له، فالأمور التي لا يمكن إهمالها مثل إقامة النظم و العدل و الأخذ بالحقوق و حفظ الثغور و غير ذلك من أشباهها لا بدّ أن يرجع فيها إلى الفقيه، بل لو لم يكن هناك فقيه لا يجوز إهمالها و لا بدّ من قيام عدول المؤمنين بها، نعم استشكل في بعض مصاديقه.

و من العجب أنه اشتهر في الألسن أن شيخنا الأعظم مخالف في مسألة ولاية الفقيه مع أنه صرّح بولايته في ما هو محل الابتلاء من الولاية على نظم المجتمع و إحقاق الحقوق و حفظ الثغور و الدفاع.

نعم أنكر ولايته على الأموال و الأنفس بغير ذلك، و هو أمر آخر وراء مسألة الحكومة، بل الظاهر أن كلامه أوضح و أصرح من بعض عبارات الجواهر في هذا الباب.

نعم ذكر في آخر كلامه في المقام «أن غاية ما يستفاد من الأدلّة هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي تكون مشروعية إيجادها مفروغاً عنها،

بحيث لو فرض عدم وجود الفقيه كان على الناس القيام بها كفاية، فلا يجوز التمسّك بها فيما يشك في أصل مشروعيته» و لكن من الواضح أن هذا لا يضر بالمقصود في الأمور الراجعة إلى حفظ نظام المجتمع، و إحقاق الحقوق و سد الثغور و الدفاع و غير ذلك من أشباهه، فإن ذلك ممّا لا يمكن تركه على كلّ حال، بل لو لا وجود الفقيه يجب القيام بها و لو من عدول المؤمنين، و ما في بعض كلماته من الإشكال في المسألة لعلّه في بعض الخصوصيات، و إلّا فالذي يظهر من صدر كلامه و ذيله موافقته في ذلك و الحمد لله.

و المتحصل من كلامه أمور:

1- لا ولاية للفقيه في جميع الأمور التي تكون الولاية فيها للإمام المعصوم (عليه السلام)، مثل كونه أولى بالأموال و النفوس.

2- ولايته ثابتة في الأمور التي لا يمكن تعطيلها في غيبة الإمام (عليه السلام) و ضابطه الأمور الهامة التي تتعلّق بإقامة النظم و العدل التي لا يمكن إهمالها على كلّ حال،

بحوث فقهية هامة، ص: 405

و يرجع فيها إلى الحاكم و السلطان و غير ذلك ممّا لا يجوز التعطيل فيها.

3- إذا شك في بعض مصاديقه فلا بدّ من إثبات مشروعيته من دليل آخر فإن الحكم لا يثبت موضوعه.

4- و لصاحب الجواهر كلام آخر في كتاب الأمر بالمعروف عند البحث عن جواز إقامة الحدود للفقيه الذي ذهب إليه مشهور الفقهاء و إن تأمل فيه شاذ، قال بعد كلام طويل له في المسألة ما نصّه: «فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، و لا فهم من لحن قولهم و رموزهم أمراً، و لا تأمل المراد من قولهم

(إني جعلته عليكم حاكماً و قاضياً و حجّة و خليفة)

و نحو ذلك ممّا يراد منه نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم، و لذا جزم فيما سمعته في المراسم بتفويضهم (عليهم السلام) لهم في ذلك».

ثمّ قال: «نعم لم يأذنوا لهم في زمن الغيبة ببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجتهم إليهم كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان و جيوش و أمراء و نحو ذلك، ممّا يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك و نحوه، و إلّا لظهرت دولة الحقّ كما أومأ إليه الصادق (عليه السلام) بقوله «لو أن لي عدد هذه الشويهات و كانت أربعين لخرجت».

ثمّ قال «و بالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلّة» انتهى «1».

و لا ينبغي الشكّ أن محل كلامه ولاية الفقيه على إجراء الحدود في عصر الغيبة كما صرّح به قبل ذلك و بعد هذه العبارة أيضاً، و هذا هو الذي وقعت الوسوسة فيه من جانب بعض «2» و لكن تعبيراته و أدلته في المقام أوسع منه و تشمل شيئاً كثيراً ممّا يرتبط بأمر الحكومة الإسلامية.

بحوث فقهية هامة، ص: 406

و بالجملة يظهر من كلامه هذا، المساعدة لولاية الفقهاء في أمر الحكومة في الجملة و إن لم يساعد في كلّها، لفرضه عدم حصولها و قصور اليد عنها، بل لعلّه ظاهر في أنه إذا أتاحت الفرصة إقامة الحكومة الإسلامية وجبت إقامتها.

5- و قال في موضع آخر من كتاب الجهاد عند البحث عن الجهاد الابتدائي «لا خلاف بيننا بل الإجماع بقسميه عليه في أنه إنّما يجب على الوجه المزبور بشرط وجود الإمام (عليه السلام) و بسط يده أو من نصبه للجهاد. بل في المسالك و غيرها عدم الاكتفاء بنائب الغيبة، فلا يجوز

له توليه: بل في الرياض نفي علم الخلاف فيه، حاكياً له عن ظاهر المنتهى و صريح الغنية إلّا من أحمد في الأوّل.».

ثمّ قال في آخر كلامه: «و لكن أن تمّ الإجماع المزبور فذاك و إلّا أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة الشاملة لذلك المعتضدة بعموم أدلّة الجهاد فترجح على غيرها» انتهى «1».

و المتحصل من مجموع كلماته في كتاب «البيع» و «الخُمس» و «الأمر بالمعروف» و «الجهاد» (هذه الكتب الأربعة) بعد ضم بعضها إلى بعض أن عموم ولاية الفقيه كان مفروغاً عنه عنده في أمر الحكومة، و إن كان له تأملًا في عمومها و شمولها لجميع ما يرتبط بذلك نظراً إلى فرضه، قصور اليد عن تحقّق الحكومة الإلهية قبل ظهوره «عجل الله فرجه الشريف) في الخارج فتأمّل جيّداً.

6- و أوضح من هذا كلّه ما ذكره النراقي (قدس سره) في عوائده حيث قال في بعض كلماته في المسألة.: «إن كلية ما للفقيه العادل توليه و له الولاية فيه أمران»: «أحدهما»: كلما كان للنبي (صلى الله عليه و آله) و الإمام (عليه السلام) الذين هم سلاطين الأنام و حصون الإسلام فيه الولاية و كان لهم فللفقيه أيضاً ذلك، إلّا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نصّ أو غيرهما.

بحوث فقهية هامة، ص: 407

«و ثانيهما».: أن كل فعل متعلّق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم و لا بدّ من الإتيان به و لا مفرّ منه إمّا عقلًا أو عادة من جهة توقف أمور المعاد أو المعاض لواحد أو جماعة عليه، و إناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو إجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو فساد

و على مسلم، أو دليل آخر أو ورد الإذن فيه من الشارع و لم يجعل وظيفة لعين واحد أو جماعة و لا لغير معين أي واحد لا بعينه، بل علم لا بدية الإتيان به أو الإذن فيه لو لم يعلم المأمور به و لا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه، و له التصرّف فيه و الإتيان به، ثمّ أخذ في الاستدلال على كلّ واحد منها «1».

7- و قال سيدنا الأستاذ العلّامة الفقيد البروجردي (رحمه الله) في كلام طويل له في المسألة ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله في محله بعد ذكر مقدّمات نافعة ما نصّه: «و بالجملة كون الفقيه العادل منصوباً من قبل الأئمّة (عليهم السلام) لمثل تلك الأمور العامّة المهمّة التي يبتلى بها العامّة ممّا لا إشكال فيه إجمالًا بعد ما بيّناه و لا نحتاج في إثباته إلى مقبولة عمر بن حنظلة غاية الأمر كونها أيضاً من الشواهد فتدبّر» «2».

8- و قال العلّامة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (قدس سره) (شيخنا في الإجازة) إن له الولاية على الشئون العامّة و ما يحتاج إليه نظام الهيئة الاجتماعية. ثمّ قال: و بالجملة فالعقل و النقل يدلان على ولاية الفقيه الجامع على هذه الشئون فإنها للإمام المعصوم أولًا ثمّ للفقيه المجتهد ثانياً بالنيابة المجعولة بقوله (عليه السلام)

«و هو حجتي عليكم و أنا حجّة الله عليكم»

«3». 9- و في الحدائق في كتاب النكاح ما يظهر منه مخالفته لولاية الفقيه فيما هو أهون من ذلك حيث قال: إني لم أقف بعد التتبع في الأخبار على شي ء من هذه العمومات بحوث فقهية هامة، ص: 408

و الإطلاقات لا في النكاح و لا في المال و إن كان ذلك مشهوراً في كلامهم و

مسلّماً بينهم و متداولًا على رءوس أقلامهم (مشيراً إلى ما مرّ أو شبهه من كلمات القائلين بالولاية).

ثمّ قال بعد كلام له: و بالجملة فإن عد الحاكم الشرعي في جملة الأولياء كما ذكروا و إن كان مسلّماً بينهم و متفقاً عليه عندهم إلّا أنه خال عن الدليل من الأخبار نعم يمكن تخصيص ذلك بالإمام (عليه السلام) من حيث الولاية العامّة و أنه أولى بالناس من أنفسهم «1».

10- ذكر المحقّق النائيني كلاماً طويلًا في المقام و قال بعد المناقشة في كثير من أدلّة ولاية الفقيه ما نصّه: «نعم لا بأس بالتمسّك بمقبولة عمر بن حنظلة، فإن صدرها ظاهر في ذلك حيث إن السائل جعل القاضي مقابلًا للسلطان، و الإمام قرره على ذلك. فإن الحكومة ظاهرة في الولاية العامّة فإن الحاكم هو الذي يحكم بين الناس بالسيف و السوط، و ليس ذلك شأن القاضي، و لكن ختم كلامه بهذا القول: و كيف كان فإثبات الولاية العامّة، للفقيه بحيث تتعين صلاة الجمعة في يوم الجمعة بقيامه لها أو نصب إمام لها مشكل» «2».

و ممّا يليق بالذكر أن شيخنا الأعظم ذكر في مكاسبه في البحث الآتي من ولاية عدول المؤمنين ما يظهر منه التأكيد على الكبرى الكلية السابقة حيث قال: «ما كان تصرفاً مطلوب الوجود للشارع إذا كان الفقيه متعذر الوصول فالجواز توليه لآحاد المؤمنين، لأن المفروض كونه مطلوباً للشارع غير مضاف إلى شخص» (و هذا الكلام يشمل أمر الحكومة العادلة لأنها مطلوبة للشارع قطعاً).

بحوث فقهية هامة، ص: 409

نعم استشكل في بعض مصاديقه و لكن الكلام في كبرى المسألة و أمّا صغرياتها فهي أمور أخر قد تختلف فيه الأنظار.

و قال في كلام آخر له (و هو من آخر كلماته في

المسألة): «و الذي ينبغي أن يقال أنك قد عرفت أن ولاية غير الحاكم لا تثبت إلّا في مكان يكون عموم عقلي أو نقلي يدل على رجحان التصدّي لذلك المعروف».

و هذا أيضاً شاهد على قبول هذه الكلمة من ناحيته (أعني قيام الحاكم بأمور لا يمكن إهمالها) و من البعيد أن لا يكون حفظ نظام المجتمع الإسلامي و كذلك سد الثغور و الدفاع عن حوزة الإسلام و غير ذلك من أشباهه داخلة فيها بنظره الشريف، و هل يجوز أحد إهمال أمر الحكومة و جعل الناس فوضى؟ أو إعطاءها بيد الظالمين؟

حكم المقامات السبعة في الولاية

اشارة

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى البحث عن المقامات السبعة من أنحاء الولاية فنقول و منه جلّ شأنه التوفيق و الهداية:

المقام الأوّل: ولايته على القصّر و الغيّب

و المراد منه ولايته على الأيتام عند فقد الأب و الجدّ و على المجنون و الصغير و المفلس و على الغائب بحفظ أولاده و أمواله عن الخطر العظيم.

قال العلّامة في القواعد: «و الحاكم و أمينه إنّما يليان المحجور عليه لصغر أو جنون أو فلس أو سفه أو الغائب». «1» و حكى في «مفتاح الكرامة» بعد شرح هذه العبارة في كلام له عن المحقّق الأردبيلي في مجمع البرهان ما نصّه: «لا خلاف و لا نزاع في جواز البيع و الشراء و سائر التصرّفات للأطفال و المجانين المتصل جنونهم و سفههم بالبلوغ، من الأب و الجد للأب و من وصي أحدهما مع عدمهما، ثمّ من الحاكم أو الذي يعينه لهم، و كذا لمن حصل له جنون أو سفه بعد البلوغ، فإن أمره أيضاً إلى الحاكم إذ قد انقطعت ولايتهم بالبلوغ و الرشد».

و صرّح الشهيد الثّاني في المسالك في بعض كلماته في المقام: «أن الحاكم ولي بحوث فقهية هامة، ص: 411

عام لا يحتاج إلى دليل». «1» و قال الفقيه الماهر صاحب الجواهر (قدس سره) في كتاب الحجر: فإن لم يكونا (أي الأب و الجد) فللوصي، فإن لم يكن فللحاكم، أي الثقة المأمون الجامع الشرائط، بلا خلاف أجده في ذلك بل و لا إشكال. «2» و الحاصل: أنه لا كلام و لا إشكال في المسألة إجمالًا، و قد أرسلوها إرسال المسلّمات، بل ولاية الحاكم على هذه الأمور من المصاديق الواضحة للكبرى الكلّية السابقة من وجوب تصديه لكلّ معروف لا يمكن تعطيله بلا كلام، و لذا تتصدى له الحكومات العرفية

أيضاً بحسب قوانينهم.

إنّما الكلام و الإشكال في بعض مصاديقه و هو المجنون، أو السفيه البالغ سواء كان سفاهته متصلة بالصغر أو منفصلة عند وجود الأب أو الجد.

فيظهر من الجواهر أن ولاية الفقيه في المنفصل من المسلّمات، حيث نفى وجود الخلاف في السفه المتجدد بعد البلوغ، عدا ما يظهر من الكفاية و الرياض، من إرسال قوله فيه، بعود ولاية الأب و الجد عليه، ثمّ قال: و لم نتحققه لأحد كما لم نعرف له دليلًا صالحاً يقطعه الأصل. ثمّ قال: و بالجملة فلا ريب في أن الولاية في ماله للحاكم الذي هو ولي من لا ولي له.

ثمّ جرى في كلامه إلى المتصل سفهه ببلوغه، و استظهر من إطلاق كلام المحقّق في الشرائع و إطلاق كلام غيره أن ولايته للحاكم أيضاً، بل حكى نسبته إلى الأشهر، و لكن مع ذلك حكى عن المفاتيح نسبة عدم الخلاف في ثبوت الولاية للأب و الجد على السفيه و المجنون مع اتصال السفه و الجنون بالصغر، و لكن صرّح في آخر كلامه بحوث فقهية هامة، ص: 412

هنا بعدم خلو كلمات الأصحاب هنا عن اضطراب. «1» هذا بحسب الأقوال في المسألة و حاصله عدم الخلاف في ولاية الحاكم على المنفصل مع وجود الخلاف في المتصل.

و أمّا بحسب الأدلّة فالعمدة فيمن اتصل جنونه أو سفهه في الصغر هو استصحاب بقاء ولاية الأب و الجد بناء على اتحاد الموضوع هنا عرفاً (و هو غير بعيد) بناءً على جواز الاستصحاب في الشبهات الحكمية (و لكنّه ممنوع على المختار).

هذا مضافاً إلى ما يظهر من قوله تعالى (وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ). «2» بناءً على شمولها للجد مع فقد

الأب و صدق اليتيم عليه، فتدلّ على استمرار ولاية الجدّ على اليتيم الذي فقد أباه حتّى يكون رشيداً، و يمكن استفادة حكم الأب منه من طريق الأولوية فتدبّر.

و أمّا بالنسبة إلى المنفصل فأصالة عدم ولاية الأب و الجد حاكم فيه، فيشمله عموم ولاية الفقيه الشاملة لأمثال المقام قطعاً.

هذا و لكن المترائى من سيرة العقلاء من أهل العرف بقاء ولاية الأب و الجد على المجنون و السفيه سواء اتصل السفه و الجنون بالصغر أو لا. و معه لا يصل الدور إلى الحاكم، و الظاهر أن هذه السيرة جارية من قديم الزمان إلى زماننا هذا، و حيث إن الشارع لم يمنع منها لا بدّ من قبولها، و لكن مخالفة الإجماع في هذه المسألة أيضاً مشكلة، فلا أقل من أن لا يترك الاحتياط بالجمع بين إذن الأب أو الجد و الحاكم في المتصل و المنفصل و الله العالم.

المقام الثّاني- ولاية الفقيه و حقّ التصرّف بالخُمس و الزكاة و ما شابهها

اشارة

ظاهر كلام الأصحاب جواز دفع الزكاة و الخُمس إلى الحاكم الشرعي في عصر الغيبة، إنّما الكلام في وجوبه و عدمه.

قال شيخ الطائفة في الخلاف في المسألة 42 من مسائل زكاة الفطرة: «يستحبّ حمل الزكوات: زكاة الأموال الظاهرة و الباطنة، و زكاة الفطرة، إلى الإمام، ليفرقها على مستحقيها، فإن فرقها بنفسه جاز، و قال الشافعي: الباطنة هو بالخيار و الفطرة مثلها و الظاهرة فيها قولان: «أحدهما» يتولاه بنفسه، و «الآخر» يحملها إلى الإمام، و منهم من قال الأفضل أن يلي ذلك بنفسه إذا كان الإمام عارفاً، فإن كان الإمام جائراً فإنه يليها بنفسه قولًا واحداً، و إن حملها عليه (إليه) سقط عنه فرضها، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضاً قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) يدلّ على ذلك، و الإمام

قائم مقام النبي (صلى الله عليه و آله) في ذلك» (انتهى).

و قال العلّامة في التذكرة: «لو تعذر الصرف إلى الإمام (عليه السلام) حال الغيبة استحب دفعها إلى الفقيه المأمون من الإمامية، لأنه أبصر بمواقعها، و لأنه إذا دفعها إلى الإمام أو الفقيه برئ لو تلفت قبل التسليم، لأن الإمام أو نائبه كالوكيل لأهل السهمين، فجرى مجرى قبض المستحق، ثمّ قال: لو طلب الإمام الزكاة منه وجب دفعها إليه بحوث فقهية هامة، ص: 414

إجماعاً، لأنه معصوم يجب طاعته و تحرم مخالفته، فلو دفعه المالك إلى المستحقين بعد طلبه و إمكان دفعها إليه فقولان لعلمائنا: الإجزاء و هو الوجه عندي، لأنه دفع المال إلى مستحقه. و عدمه لأن الإخراج عبادة لم يوقعها على وجهها لوجوب الصرف إلى الإمام بالطلب، فيبقى في عهدة التكليف و لا خلاف في أنه يأثم بذلك». «1» و قال الشهيد الثّاني في الروضة في كتاب الزكاة: «و يجب دفعها إلى الإمام (عليه السلام) مع الطلب بنفسه أو بساعيه. قيل و كذا يجب دفعها إلى الفقيه الشرعي في حال الغيبة لو طلبها بنفسه أو وكيله، لأنه نائب الإمام، كالساعي، بل أقوى. و دفعها إليهم ابتداء من غير طلب أفضل من تفريقها بنفسه، لأنه أبصر بمواقعها، و أخبر بمواضعها، قيل و القائل المفيد و التقي: يجب دفعها ابتداءً إلى الإمام أو نائبه، و مع الغيبة إلى الفقيه المأمون.

و قال القاضي ابن البرّاج في المهذب في مبحث زكاة الفطرة ما يدلّ على وجوب حملها إليه (عليه السلام) و عند الغيبة إلى فقهاء الشيعة ليضعها في مواضعها، لأنهم أعرف بذلك (انتهى ملخصاً). «2» و في الجواهر بعد اختيار هذا القول أعني وجوب دفعها إلى الفقيه عند طلبها،

و الاستدلال بإطلاق رواية التوقيع عن صاحب الأمر (عليه السلام): أنه يمكن تحصيل الإجماع عليه من الفقهاء، فإنهم لا يزالون يذكرون ولايته في مقامات عديدة، لا دليل عليها سوى الإطلاق الذي ذكرناه. «3» و معلوم أنه من قبيل الإجماع على القاعدة لا الإجماع على خصوص المسألة.

بحوث فقهية هامة، ص: 415

و المحكي عن أكثر فقهاء العامّة إيجاب الدفع إلى الأمراء و إن علم عدم صرفها في محالها، و رووا ذلك عن أبي سعيد الخدري و عبد الله بن عمر و أبي هريرة و عائشة و الحسن البصري و إبراهيم النخعي و غيرهم، بل حكي عن بعضهم أنه سئل عن الزكاة فقال: ادفعوها إلى الأمراء و لو أكلوا بها لحوم الحيات.! «1» و يتحصل من جميع ذلك أن في المسألة أقوالًا ثلاثة:

أولها: و هو الأشهر بينهم أنه يجب دفعها إلى الفقيه إذا طلبها، و قال السيد (قدس سره) في العروة: يجوز دفع الزكاة إلى الحاكم الشرعي بعنوان الوكالة عن المالك في الأداء، كما يجوز بعنوان الوكالة في الإيصال، و يجوز بعنوان أنه و لي عام على الفقراء. «2» و قد تلقاها المحشون بالقبول.

ثانيها: وجوب دفعها إليهم مطلقاً كما عن المفيد و التقي.

ثالثها: عدم وجوبه مطلقاً كما لعلّه يظهر من كلمات الأصبهاني في شرحه على الروضة على ما حكاه في الجواهر.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الأقوى في المسألة قول رابع فيه تفصيل ستعرفه إن شاء الله بعد ذكر أدلّة المسألة، فنقول و منه جلّ ثناؤه التوفيق و الهداية.: أنه لم يرد في المسألة نصّ خاصّ بل المستفاد من كلماتهم في المقام استنادهم في مسألة جواز دفع الزكاة أو وجوبه أمور:

1- أنه أعرف بمواضعه و مصارفه كما ورد في

كلام المهذب و غيره.

و فيها أن مجرد كونه أعرف بذلك لا يدلّ على وجوب الدفع إليه، بل و لا على جوازه إلّا أن يكون الفقيه وكيلًا عن المالك، و مضافاً إلى أنه لا يختص الحكم به بل بحوث فقهية هامة، ص: 416

بكلّ عارف بمصارفها و لو تقليداً.

2- أولويته من الساعي حيث يجب الدفع إليه إذا طلبها، و فيه ما حكي عن الأصبهاني في شرحه على الروضة من أن الساعي إنّما يبلغ أمر الإمام (عليه السلام) فإطاعته إطاعة الإمام (عليه السلام) بخلاف الفقيه، و لا يجدي كونه أعلى رتبة انتهى، و حاصله أن اللازم إثبات عموم ولاية الفقيه في هذا الأمر أولًا، فمجرد كونه أعلى رتبة من الساعي لا يفيد شيئاً بعد كون يد الساعي يد الإمام المعصوم (عليه السلام).

3- قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها)، و هذا الأمر دليل على وجوب الأخذ و لا أقل من جوازه (إذا كان في مقام دفع توهم الحظر).

و فيه أن الاستدلال بها فرع ثبوت نيابة الفقيه عنه (صلى الله عليه و آله) و معه لا يحتاج إلى هذا الاستدلال، لأن جواز أخذه (صلى الله عليه و آله) الزكاة من الضروريات الغنية عن البرهان.

4- تحصيل الإجماع عليه كما عرفت في كلام الجواهر، و لكن قد عرفت أنه من قبيل الإجماع على القاعدة، بناءً على كونه من باب الإجماع على إطلاق التوقيع و شبهه، و إلّا فالمسألة كما عرفت خلافية ذات أقوال متعدّدة و ليست إجماعية.

5- إن الفقيه نائب عام عن الإمام (عليه السلام) في أمثال هذه الأمور، و وكيل عن الفقراء- و هذا هو العمدة في المقام، و توضيحه يحتاج إلى ذكر مقدمة و هي: أن

المستفاد من أدلّة تشريع الزكاة أنها إنّما شرعت لسد خلّة الفقراء و دفع الشدّة عنهم، مضافاً إلى شدّ حوائج الحكومة الإسلامية، بل دفع النوائب عن الفقراء أيضاً من وظائف الحكومة العادلة القائمة على أساس العدل، كما لا يخفى على الخبير.

و من أقوى الشواهد عليه المصارف التي نصّ عليها كتاب الله عزّ و جلّ، منها سهم العاملين عليها الذين هم العاملون للحكومة و المأمورون من قبلها، و كذا سهم المؤلفة قلوبهم الذين يألفهم الحكومة على موافقة المسلمين، بل يستمد من قواهم في مقابل بحوث فقهية هامة، ص: 417

الأعداء كما ورد في سيرته (صلى الله عليه و آله) من إعطاء المؤلفة قلوبهم من أهل مكّة أو غيرها.

و أوضح منه سهم سبيل الله و القدر المتيقن منه الجهاد، و من الواضح أن الجنود و العساكر تكون تحت سيطرة الحكومة، و لو قلنا بأن مفهومه عامّ لكلّ خير يكون منفعة عامّة، كان أيضاً من الأمور الراجعة إلى الحكومة قبل غيرها، لأنها المعدة لمثل هذه الأمور كما لا يخفى، بل قد عرفت أن سهم الفقراء و المساكين ذريعة لإقامة العدل، و أحق الناس بها هو الحكومة.

و من هنا يظهر أن الزكاة في الحقيقة من منابع بيت المال، فإن الحكومة لا تقوم إلّا ببيت المال، لمصارفها و حل مشاكلها، و بيت المال يحتاج إلى منافع، و لعلّ حكم بعض العامّة بوجوب دفعها إلى الأمراء و إن لم يصرفوها في مصارفها مأخوذة من ملاحظة ماهية الزكاة و محتواها، و إن وقعوا في الخطأ من حيث توهم كون الدفع إليهم موضوعياً، مع أنه طريقي، فإذا علم بعدم صرفهم إياها في مصارفها لا بدّ من منعها منهم قطعاً.

و يؤيد تشريع الزكاة في المدينة عند

بناء الحكومة الإسلامية من ناحيته (صلى الله عليه و آله) و كذا ما ورد في آداب المصدق و أنه إذا أتى صاحب المال يقول لهم. فهل لله في أموالكم من حقّ فتؤدوه إلى وليه «1».

و بعد ذلك كلّه نقول: إن قلنا إن الفقيه هو الذي يتصدى للحكومة الإسلامية- كما سيأتي في المقام الخامس إن شاء الله- فإذا كان مبسوط اليد فيمكن القول بوجوب دفعها إليه كما ذكرنا في تعليقاتنا على العروة الوثقى ما هذا عبارته: هذا (أي أفضلية نقل الزكاة إلى الفقيه) إنما هو في زمان قبض يد الإمام (عليه السلام) أو الحاكم، أمّا في زمان بسط اليد فلا يبعد وجوب دفعها إليه لأنه الحافظ لبيت مال المسلمين، و الإسلام بحوث فقهية هامة، ص: 418

ليس مجرّد فتاوي (و أحكام) و نصائح بل الحكومة جزء منها لا ينفك، و هي تحتاج إلى بيت مال متمركز، كما يشهد له سيرة النبي (صلى الله عليه و آله) الولي (عليه السلام) و لو أن كلّ إنسان أعطى زكاة ماله بنفسه لا يكون لبيت المال و من يكون عيالًا عليه، قائمة.

و الحاصل: أنه إذا تحققت الحكومة الإسلامية العادلة الكاملة العيار فالأقوى و لا أقل من الأحوط وجوب دفعها إليها ابتداء و لو من دون طلب، و أمّا بدون ذلك فهو أفضل، و لو طلبها لبعض المصالح و لو في زمن قبض اليد، واجب أيضاً بأدلة الولاية الآتية و الله العالم. هذا كلّه بالنسبة إلى حكم الزكاة.

أما الخُمس: فهو أوضح حالًّا من الزكاة و لذا كان المعروف بينهم عدم جواز تصدي صاحب الخُمس لصرفه (بالنسبة إلى سهم الإمام (عليه السلام)) و إليك بعض كلماتهم:

1- قال العلّامة المجلسي (قدس سره): أكثر العلماء

قد صرّحوا بأن صاحب الخُمس لو تولى دفع حصّة الإمام (عليه السلام) لم تبرأ ذمته بل يجب عليه دفعها إلى الحاكم و ظني أن هذا الحكم جار في جميع الخُمس «1».

2- و قال شيخنا المفيد في الرسالة الغرية و متى فقد إمام الحقّ و وصل إلى الإنسان ما يجب فيه الخُمس فليخرجه إلى يتامى آل محمّد (صلى الله عليه و آله) و مساكينهم و أبناء سبيلهم (انتهى).

و ظاهر هذا الكلام عدم الحاجة إلى إذن الفقيه، و لكن المحقّق في المعتبر بعد نقل هذا الكلام منه قال: و ما ذكره المفيد حسن. لكن يجب أن يتولى صرف ما يحتاجون إليه من حصّة من له النيابة عنه في الأحكام، و هو الفقيه المأمون من فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) «2».

بحوث فقهية هامة، ص: 419

3- قال العلّامة في المختلف في كتاب الزكاة و الخُمس: اختلف أصحابنا في مستحق الإمام (عليه السلام) في حال الغيبة من الأخماس و الأنفال و غيرها. إلى أن قال: و هل يجوز قسمته في المحاويج من الذرية كما ذهب إليه جماعة من علمائنا الأقرب ذلك. إذا ثبت هذا فإن المتولي لتفريق ما يخصه (عليه السلام) في محاويج الذرية من إليه الحكم عن الغائب (عليه السلام) لأنه قضاء حقّ عليه، كما يقضي عن الغائب، و هو الفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى و الحكم، فإن تولى ذلك غيره كان ضامناً (انتهى موضع الحاجة) «1».

4- هذا و يظهر من بعضهم وجوب دفعه إلى الأعلم من العلماء مثل شيخنا «كاشف الغطاء» في الفردوس الأعلى حيث قال: أمّا الدليل على لزوم إعطاء سهم الإمام (عليه السلام) للمجتهد فإنه يكفي فيه كون المجتهد هو الوكيل العامّ للإمام (عليه السلام) فهو

مال الغائب يجب دفعه إلى وكيله، و لا أقل من أنه هو القدر المتيقن لبراءة الذمّة فيجب، و الواجب دفعه إلى الأعلم، فكما يجب تقليد الأعلم كذلك يجب دفع الحق إليه. أمّا اليوم فقد صار مال الإمام (عليه السلام) كمال الكافر الحربي! ينهبه كلّ من استولى عليه! «2» و كلامه هذا دليل على شدّة تأسفه على ما آل إليه الأمر بالنسبة إلى هذا السهم المبارك في زمانه.

5- و في مقابله قول من قال بجواز صرفه من ناحية المالك بعد إحراز رضي الإمام (عليه السلام) كما في المستمسك حيث قال: «نسب إلى أكثر العلماء تارة و أكثر المتأخّرين أخرى. وجوب تولي الحاكم لحصته (عليه السلام) بل عن الشهيد إجماع القائلين بوجوب الصرف للأصناف على الزمان لو تولاه غير الحاكم.

بحوث فقهية هامة، ص: 420

و لا سيّما إذا كان الحاكم بمرتبة عالية من العقل و العدالة و الأمانة و الاهتمام بالمصالح الدينية و القدرة على تمييز الأهم و المهم منها، فإنه حينئذ يكون أبصر بمواقعة و أعرف بمواضعه، فيتعين الرجوع إليه في تعيين المصرف» و لكنّه مع ذلك أجاب عن كلّ ذلك و لم يقبله، ثمّ قال: «فإذا أحرز رضاه (عليه السلام) بصرفه في جهة معينة جاز للمالك تولي ذلك بلا حاجة إلى مراجعة الحاكم الشرعي» «1».

و هذه الكلمات كما ترى في طرفي الخلاف و النقيض من اعتبار الأعلمية أو عدم اعتبار شي ء حتّى الاجتهاد و العدالة.

6- و لنتم هذه الكلمات بما أفاده المحقّق في الشرائع في كتاب الخُمس حيث قال: «و يجب أن يتولى صرف حصة الإمام (عليه السلام) في الموجودين، من إليه الحكم بحقّ النيابة، كما يتولى أداء ما يجب على الغائب».

و قال ثاني الشهيدين في

المسالك في شرح هذه العبارة: «و لو تولى ذلك غيره كان ضامناً عند كلّ من أوجب صرفه إلى الأصناف» «2».

هذا شطر من كلمات الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا الباب، و يظهر منها أن الأقوال فيه أيضاً مختلفة و لكن الأشهر أو المشهور هو لزوم دفع سهم الإمام (عليه السلام) إلى الحاكم الشرعي، و أمّا دفعه إلى الأعلم أو جواز صرفه من ناحية المالك فهو شاذ.

إذا عرفت هذا فاعلم: أن هذه المسألة مبنية على أن تعلم ما الواجب في سهمه (عليه السلام) في عصر الغيبة، فقد اختلفت فيه الأقوال و تضاربت تضارباً شديداً حتّى إن المحقّق النراقي حكى في المستند في كتاب الخُمس أقوالًا تسعة بالنسبة إلى سهم الإمام (عليه السلام)

بحوث فقهية هامة، ص: 421

و أقوالًا خمسة في سهم السادة فأصبحت أربعة عشر قولًا فراجع «1».

و ذكر في الحدائق أيضاً أربعة عشر أقوال في المقام «2» و عمدتها عشرة أقوال ذكرناها في التعليقة على العروة و إليك موجزها و ملخصها:

1- إباحتها للشيعة و سقوطها مطلقاً (سهم السادة و سهم الإمام (عليه السلام)) كما عن سلّار و صاحب الذخيرة.

2- عزله بجميعه و الوصية به كما عن المفيد.

3- دفنه كما حكاه المفيد عن بعض من لم يسمه! 4- دفع حقّ السادة إليهم و أمّا حصة الإمام (عليه السلام) يودع أو يدفن! 5- حقّ السادة يدفع إليهم أمّا حصته (عليه السلام) فتقسم على الذرية كما هو المشهور بين جمع من المتأخرين.

6- صرف حقّ السادة إليهم، و أمّا حصته (عليه السلام) فهو مباح للشيعة في عصر الغيبة كما في المدارك و غيره.

7- صرف حقّ السادة إليهم، أمّا سهمه (عليه السلام) فيصرف في مواليه العارفين بحقّه إذا كانوا فقراء كما

عن ابن حمزة و غيره.

8- إن حقّ السادة يدفع إليهم، و أمّا خُمس الأرباح مباح مطلقاً.

9- صرف حقّ الأصناف الثلاثة (حقّ السادة) إليهم، و التخيير في حصته (عليه السلام) بين الدفن و الوصية و صلة الأصناف مع الإعواز، بإذن الفقيه، كما عن الشهيد في الدروس.

10- و هو العمدة و المختار، دفع سهم الأصناف الثلاثة إليهم، و أمّا سهم الإمام (عليه السلام)

بحوث فقهية هامة، ص: 422

فيصرف في كلّ أمر يحرز به رضاه، من تعظيم الدين، و نشر العلم و تبليغ الإسلام، و صلة الأصناف و غيرهم من الفقراء و المحتاجين، و غير ذلك ممّا يحرز به رضاه (عليه السلام).

و إذ قد عرفت ذلك فاعلم أن الحقّ من بين هذه الأقوال هو الأخير، و السرّ فيه أنه لا ينبغي الشكّ أن تشريع حكم الخُمس بالنسبة إلى حصة الإمام (عليه السلام) إنّما هو لإمامته الإلهية، و كونه منصوباً للحكومة على الأمّة، و إلّا فسهم الإمام (عليه السلام) ليس مصرفاً شخصياً له لأنه كإنسان يحتاج إلى شي ء يسير من هذه الأموال الضخمة، و من البعيد جدّاً بل من الممتنع في حكمة الحكيم أن يجعل له ما لا يحتاج إليه إلّا شيئاً قليلًا منه جدّاً، فإن الناس لو أدوا خُمس أموالهم في جميع أقطار الأرض بلغ سهم الإمام (عليه السلام) مبلغاً عظيماً لا يقدر أي إنسان على مصرفه إلّا أن يكون على رأس الحكومة و يصرفه في مصارفها.

لا أقول أن سهم الإمام (عليه السلام) ملك للمقام لا لشخصه، حتّى يكون تلقي الفقيه النائب له إذا كان على رأس الحكومة تلقياً استقلالياً من غير حاجة إلى وساطة الإمام المعصوم (عليه السلام)، بل أقول إنه (عليه السلام) مالك له بسبب كونه مبعوثاً

لهذا المقام، فلو كان حاكماً بالفعل صرفه في مصارفه الحكومية و المقامية، و لو منعه الظالمون من ذلك صرفه فيما يمكن أن يصرفه فيه من مصارفه، و يبيحه للشيعة أحياناً في مواقع خاصّة، كما ورد في غير واحد من روايات الباب، لا الإباحة المطلقة لاختلاف الأزمنة في ما يقتضيه من المصالح.

و بالجملة احتمال كونه مالكاً لهذه الأموال الضخمة الكثيرة بما أنه شخص خاصّ بعيد جدّاً لا يحتمله الخبير قطعاً، بل بما أنه سائس عام و حاكم إلهي على الأمّة.

و الفرق بينهما ظاهر، ففي الأوّل يرث هذه الأموال جميع وراثه، و في الثّاني لا يرثه إلّا الإمام، الذي بعده، كما ورد في بعض الأحاديث.

و من الواضح أن غيبته (عليه السلام) لا توجب نفي هذه المصارف، بل كثير منها باقية و لو

بحوث فقهية هامة، ص: 423

من دون قيام الحكومة، و كلّها باقية عند إقامتها، فلا وجه لدفنها، كما لا وجه لإيداعها و الوصية بها، بل اللازم صرفها في مصارفها مهما أمكن، و المأمور بهذا الصرف هو نائبه الخاصّ أو العامّ، فإذا أثبتنا ولاية الفقيه مطلقاً أو في الجملة بحيث يشمل المقام كان اللازم دفعها إليه.

و بالجملة كلّ من حكم بدفنه أو الإيصاء به، أو أن الفقيه ينظر فيه كأموال الغيّب اعتبره أنه مال شخصي له كسائر أمواله الشخصية، مع أنه ليس كذلك قطعاً، بل هو ملك له بماله من المقام، فلو حرم الناس من لقائه (عليه السلام) و تصرفه فيهم، لم يمنع ذلك من صرف هذه الأموال العظيمة في مصارفها إن كانت الحكومة الإسلامية مبسوطة السلطة قائمة، و إلّا ففيما يمكن من مصارفها من نشر العلم و تبليغ الإسلام و دعم الحوزات العلمية و حفظ ضعفاء الشيعة،

و تكميل سهم الأصناف، و غير ذلك من أشباهه، و لا يمكن تعطيل جميع ذلك في غيبته.

فالمراد من صرفه في ما يحرز به رضاه هو ذلك، فإن رضاه يتعلق بهذه الأمور و لو كان هو (أرواحنا فداه) حاضراً شاهداً صرفها فيما ذكر قطعاً.

و المتكفل لهذا الصرف هو الفقيه الجامع للشرائط. لا لأنه أبصر بمصارفه فقط، لما عرفت أن مجرّد أبصريته غير كافية في إثبات المراد. و لا لأنه وليّ الغائب فإن ذلك فرع كونها أموالًا شخصية. و لا لأنه مجهول المالك، لأن عدم القدرة على تسليم المال لمالكه مع كونه معلوماً لا يجعله بحكم مجهول المالك، نظراً إلى اتحاد الملاك و هو عدم إمكان الوصول إليه سواء كان لعدم معرفته أو لعدم الوصول إليه، فإن هذا الاحتمال ضعيف جدّاً لا تدلّ عليه أدلّة حكم «مجهول المالك».

بل لأمرين آخرين أحدهما:

أدلة الولاية العامّة الآتية إن شاء الله، فإن القدر المسلّم منها هو هذه الأمور و أشباهها.

بحوث فقهية هامة، ص: 424

ثانيهما: أصالة اشتغال الذمّة و عدم اليقين بالبراءة بدونه، و لا إطلاق هنا يدلّ على البراءة و جواز صرف المالك بنفسه، و إن شئت قلت: القدر المتيقن من رضاه ذلك، و دعوى العلم برضاه و لو بدون ذلك مشكل جدّاً لا يجترئ عليه الخبير.

و من هنا يظهر الإشكال فيما ذكره في الحدائق حيث قال- معترضاً على العلّامة المجلسي فيما عرفت من كلامه في زاد المعاد-: أنّا لم نقف له (لدفعه إلى الفقيه) على دليل، و غاية ما يستفاد من الأخبار نيابته بالنسبة إلى الترافع إليه، و الأخذ بحكمه و فتاواه، و أمّا دفع الأموال إليه فلم أقف له على دليل لا عموماً و لا خصوصاً، و قياسه على

النوّاب الذين ينوبونهم. لا دليل عليه «1».

قلت: دليله ما عرفت من شمول عموم أدلة الولاية من قبله (عليه السلام) لمثله كما سيأتي إن شاء الله، مضافاً إلى أن جواز صرفه بنفسه يحتاج إلى دليل، و إلّا فأصالة الاشتغال كافية في المنع.

و لعلّ هذا هو مراد صاحب الرياض حيث قال إن الأوّل (مباشرة الفقيه) أوفق بالأصول «2».

كما يظهر لك أن الجمع بين أدلّة الولاية (أعني ولاية الفقيه عن الإمام (عليه السلام)) و أدلّة توليته التصرّف في مال الغائب كما ذكره في المستند «3» أيضاً لا وجه له لما عرفت من الفرق الكثير بين الولايتين فإن الأوّل ولاية عنه و الثّاني ولاية عليه.

بقي هنا أمور:
الأوّل [أولوية الفقيه المتصدي من غيره بحصة الإمام

أنه على ما ذكرنا يمكن أن يقال لو قامت الحكومة الإسلامية المطلقة

بحوث فقهية هامة، ص: 425

السلطة كان الفقيه المتصدي لها أولى من غيره بحصة الإمام (عليه السلام)، لأن المفروض أن مصرف هذه الأموال في الواقع هو إقامة هذا الأمر، و كذلك إذا كان الفقيه كافلًا للحوزات العلمية كان أولى به من غيره، و كذا إذا كان كافلًا لغير ذلك ممّا يهتم به الإمام (عليه السلام) من نشر الإسلام و علومه في أقطار الأرض عامة، و بلاد المسلمين خاصّة.

و بالجملة كلّ فقيه مبسوط اليد أولى من غيره بمقدار بسط يده، بل قد يجب الدفع إليه إذا احتاج إليه احتياجاً مبرماً مع كونه مبسوط اليد فتدبّر جيّداً.

و ممّا ذكرنا يظهر الحال في الأوقاف العامّة، و أن الفقيه هو المتصرّف فيها عند فقد المتولي الخاصّ، بل له نصب المتولي للأوقاف التي لا متولي لها، أو جعل الناظر للمتولي إذا احتمل خيانته، لأن أدلّة الولاية تشملها، و ليست ملك الأوقاف أولى من الأخماس و الزكوات التي عرفت حالها.

الثّاني [وجوب دفع سهم الإمام (عليه السلام) إلى الأعلم

أنه قد عرفت عند نقل كلام شيخنا كاشف الغطاء (قدس سره) في الفردوس الأعلى حكمه بوجوب دفع سهم الإمام (عليه السلام) إلى الأعلم، و أنه كما يجب تقليد الأعلم يجب دفع الخُمس إليه، و كم فرق بينه و بين من قال بجواز صرفه في المصارف الشرعية و لو من دون الدفع إلى المجتهد.

و على كلّ حال فالظاهر أن دليله هو الأخذ بالقدر المتيقن، و لكنّه كما ترى لعدم جواز الأخذ به بعد عموم أدلّة الولاية و إطلاقاتها، و لو في مثل هذه الأمور، كما سيأتي و قياسه على مسألة التقليد قياس مع الفارق جدّاً، لقيام الدليل على وجوب تقليد الأعلم و

لو عند العلم التفصيلي أو الإجمالي بالاختلاف بينه و بين غيره في موارد الابتلاء، لبناء العقلاء على ذلك قطعاً و هو المدار الأصلي في مسألة التقليد، و قد أمضاها الشرع بعدم ردعه، بل بالتصريح باعتباره بناء على دلالة مقبولة عمر بن حنظلة عليه في قوله «الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما.»

«1» (و فيه كلام في بحوث فقهية هامة، ص: 426

محله) و الأخماس ليست كذلك قطعاً و مجرّد كون الأعلم أبصر من غيره، غير كاف، مع أنه لو كان أبصر بحكمه فليس أبصر بموضوعه كما لا يخفى.

الثّالث: قد يرى بعض الفقهاء على مقلديهم بإيصال الأخماس إليهم

، فهل هذا مجرّد استدعاء منهم، أو يوجب لهم تكليفاً إلهياً في ذلك؟

الظاهر عدم الدليل على ذلك، لأن هذا ليس على سبيل الفتوى، فإن الفتوى إنّما تشتمل على حكم كلّي لا شخصي جزئي كما هو ظاهر، و أمّا نفوذه من باب حكم الحاكم أيضاً محل تأمّل، لأن حكم الحاكم إنّما يتعلّق بمصالح الأمّة، و كون ذلك دائماً مصلحة الأمّة أول الكلام حتّى في اعتقاده، و لازم ذلك أنه لو حكم أحد الفقهاء بدفع جميع الأخماس إليه وجب، و هو كما ترى.

نعم لو كان الفقيه مبسوط اليد كان الأولى بل اللازم في بعض الفروض الدفع إليه لا سيّما إذا طلبه كما عرفت، و كذلك لو علم المقلّد بأن غير مقلده يصرفه فيما لا يوافق فتواه كماً أو كيفاً يشكل الدفع إليه، لعدم براءة ذمّة المقلِّد (بالكسر)، طبقاً لفتوى مرجعه، اللّهم إلّا أن يقال تبرأ ذمة المقلد بمجرد الدفع إلى أحد حكّام الشرع لأنه الولي من قبل الإمام (عليه السلام) و لا يهمه فيما يصرفه هذا الولي، و الاحتياط هنا كسائر المقامات سبيل النجاة، كما أن الأحوط للمجتهد الذي يدفع

إليه الخُمس أن يصرفه في ما هو المتيقن المعلوم من مصارفه إذا كان المعطي غير مقلد له، و الله العالم.

المقام الثّالث من صلاحيات الفقيه: «إقامة الحدود الشرعية»

اشارة

المعروف بين الأصحاب جواز إقامة الحدود في حال غيبة الإمام (عليه السلام) للفقهاء العارفين العدول، مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، بل يجب على الناس مساعدتهم عليه، بل قد ادّعى في الجواهر عدم وجدانه الخلاف فيه إلّا ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة و إدريس، و لكن قال: لم نتحققه بل لعل المتحقّق خلافه.

و قد حكي عن سلّار بن عبد العزيز قولًا ثالثاً بالتفصيل، و هو جواز الإقامة ما لم يكن قتلًا أو جرحاً، و هذه النسبة أيضاً غير ثابتة، و لذلك كلّه تعجب صاحب الجواهر (قدس سره) من قول المحقّق في الشرائع قيل يجوز للفقهاء العارفين إلى آخر ما ذكره، لأن نسبته إلى «قيل» بعد هذه الشهرة العظيمة ممّا لا ينبغي صدوره منه.

و اعلم أن هذا الحكم عنونه كثير منهم في آخر أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بعضهم في أبواب الحدود.

و قال في المسالك: هذا القول مذهب الشيخين و جماعة من الأصحاب (انتهى) «1».

و على كلّ حال يمكن الاستدلال عليه بأمور:

الأول: أن علّة تشريع الحدود معلومة بحكم العقل

، و تناسب الحكم و الموضوع و تصريح بعض الروايات الواردة في علّة تشريعها، فحد الزنا للمنع عن تداخل المياه، و حدّ شرب الخمر للكفّ عنها، و حدّ السرقة لحفظ الأموال إلى غير ذلك.

و من الواضح أن هذه العلل باقية في عصر غيبة الإمام (عليه السلام) بل تعطيل هذه الحدود يوجب مفاسد عظيمة، و قد يكون سبباً لاختلال نظام المجتمع الإسلامي، فلا معنى لتعطيلها بعد بقاء علّتها، و ليست ممّا يدور مدار ظهوره (عجل الله فرجه) بل الأمر فيها أوضح من الزكوات و الأخماس التي قد عرفت عدم جواز تعطيلها بعد بقاء مصارفها.

و هذا أمر ظاهر لمن عرف فلسفة الحدود

و مغزاها و لا لبس عليه.

الثّاني [لابدية تصدي الفقيه العادل لإقامة الحدود الشرعية حفظا للنظام

ما ذكره في مباني تكملة المنهاج تبعاً للجواهر من أن أدلة الحدود كتاباً و سنّة، مطلقة غير مقيّدة بزمان دون زمان، كآيتي «الجلد» و «القطع»، و ظاهرها وجوب إقامتها في كلّ زمان، ثمّ قال: فإن قلنا بجواز تصديه من كلّ أحد لزم الفوضى و اختلال النظام، و عدم استقرار حجر على حجر، فلا بدّ من تصدي بعض لها، و القدر المتيقن منه هو الفقيه الجامع للشرائط انتهى «1» و هو جيّد.

الثّالث: عمومات أدلة الولاية

كما سيأتي الكلام فيها مفصلًا إن شاء الله من مقبولة عمر بن حنظلة أو التوقيع المبارك، أو غيرهما، فإن شمولها لمثل هذه الأمور ممّا لا ينبغي الكلام فيه.

الرّابع: ما رواه حفص بن غياث

قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عمن يقيم الحدود؟ السلطان أو القاضي؟ فقال إقامة الحدود إلى من إليه الحكم «2».

بحوث فقهية هامة، ص: 429

و سند الرواية و إن كان قابلًا للكلام و لكنّها مجبورة بعمل الأصحاب، و بما عرفت من سائر الأدلّة، و دلالتها ظاهرة بعد كون من إليه الحكم هو الفقيه الجامع للشرائط قطعاً.

الخامس: أن إجراء الحدود يلازم القضاء في كثير من مواردها

، لأنها قد تكون من حقوق الناس كحدّ القذف و السرقة، و ما يكون من حقوق الله كحدّ الزنا و شبهه قد يحتاج إلى إثباته عند القاضي، و من البعيد جدّاً أن يطالب من القاضي إثبات الحقّ دون إجرائه، لأن الأوّل مقدّمة للثّاني، و لا فائدة في المقدّمة بدون ذيها.

و يؤيده أيضاً ما ذكره المفيد (قدس سره) و هو في حكم رواية مرسلة، قال في المقنعة: فأما إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله و هم أئمّة الهدى من آل محمّد (صلى الله عليه و آله) و من نصبوه لذلك من الأمراء و الحكّام (الحديث) «1».

و لكنّ مع ذلك كلّه قد يعارض ما ذكر بما رواه مرسلًا في دعائم الإسلام عن الصادق (عليه السلام) قال لا يصلح الحكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا بإمام «2» بناءً على أن المراد بالإمام، فيه، هو الإمام المعصوم (عليه السلام) و يرد عليه تارة بضعف سنده بالإرسال (و أما روايته عن الأشعثيات فهو غير ثابت، مضافاً إلى أن الإشكال فيه أكثر، لعدم ثبوت اعتبار نفس الكتاب) و أخرى بضعف دلالته لأن المراد من الإمام، فيه، يمكن أن يكون معنىً عاماً يشمل الفقيه، كما يشهد له ذكره بصورة النكرة، و يؤيده ذكر الحكم أي القضاء فيه، بل و صلاة

الجمعة مع العلم بأن القضاء و الحكم لا ينحصر في الإمام المعصوم (عليه السلام) بل و صلاة الجمعة أيضاً، سلّمنا لكن أدلّة الولاية تدلّ على قيام الفقيه مقام بحوث فقهية هامة، ص: 430

الإمام المعصوم (عليه السلام) في أمثال ذلك و الله العالم.

بقي هنا أمور:

1- هل هذا الحكم على سبيل الوجوب أو الجواز، قال المحقّق النراقي في العوائد: «الظاهر من القائلين بثبوت الولاية لهم الأوّل (أي الوجوب) حيث استدلوا بإطلاق الأوامر، و بإفضاء ترك إجراء الحدود إلى المفاسد، و صرّحوا بوجوب مساعدة الناس لهم، و هو كذلك لظاهر الإجماع المركب، و قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في رواية ميثم، الطويلة التي رواها المشايخ الثلاثة الواردة في حدّ الزنا

«من عطل حدّاً من حدودي فقد عاندني»

«1». أقول: مقتضى الأدلّة الخمسة السابقة كلّها الوجوب، و لا بدّ في أخذ هذه الخصوصيات من الرجوع إليها، أمّا علّة التشريع فواضح، و أمّا إطلاق الأوامر في باب الحدود فهو أوضح، و أمّا مقتضى أدلّة الولاية و إن لم يكن الوجوب بل الجواز و لكنّ من المعلوم أن الولي المنصوب عموماً أو خصوصاً لو لم يقم بوظائفه و ما يقتضيه الغبطة و المصلحة فيمن وليّ عليهم فقد خان أميره، و خانهم أيضاً، و هذا غير جائز.

و أمّا إذا قلنا بأن إجراء الحدود من لوازم القضاء كثيراً فإذا قلنا بوجوب القضاء عيناً أو كفاية، فكذلك حكم إجراء الحدود، لأنه من تمام القضاء، و كذا رواية حفص بن غياث، و بالجملة لا ينبغي الشكّ في المسألة، بل الظاهر أن من عبّر بالجواز أراد الجواز بالمعنى الأعمّ، و إلّا فإن هذا الحكم من الأحكام التي يدور أمرها بين الحرمة و الوجوب، و لا يقبل الجواز بمعنى الإباحة

كما لا يخفى.

بحوث فقهية هامة، ص: 431

2- هل يجب مساعدة الناس لهم في ذلك؟

الظاهر المصرّح به في كلماتهم نعم، و العمدة فيه أن المخاطب في هذه الأوامر، مثل (أمر فاجلدوا و اقطعوا) هو الجميع، إلّا أن الفقيه بمقتضى الأدلّة السابقة مأمور بها بلا واسطة، و سائر الناس بواسطة الفقيه و إن شئت قلت: إنها ترجع إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو وظيفة جميع الناس، كلّ بحسب قدرته و إمكانه و صلاحيته.

3- هل التعزيرات أيضاً داخلة فيما ذكر أم لا؟

ظاهر كلماتهم هو خصوص الحدود، لذكر هذا العنوان فيها، إلّا أن الإنصاف عموم الحكم للأولوية أولًا، و لعموم كثير من الأدلّة السابقة ثانياً، و لأن الحدّ في كثير من المقامات معناه عام يشمل التعزير أيضاً ثالثاً.

4- ذكر المحقّق النراقي في عوائده في مقام تأييد أصل الحكم، ما دلّ على أن ما أخطأت القضاة، من دم أو قطع، ففي بيت مال المسلمين «1».

و لكنّ الإنصاف أنه أجنبي عن موضوع البحث لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، و لعلّه ناظر إلى من كان منصوباً من قبل الإمام (عليه السلام) بالخصوص، و بالجملة ظاهره كونه بصدد بيان حكم غير ما نحن بصدده، فلا يمكن الركون إليه في إثبات المقصود.

المقام الرّابع من صلاحيات الفقيه: «إقامة فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر»

لا شكّ أن وجوبهما في الجملة من ضروريات الدين، ورد التصريح به في الكتاب و السنّة المتواترة، و قد ذكر الأصحاب أن له مراتب ثلاث: «بالقلب» و «باللسان» و «باليد» و قد صرّح بعضهم بأن وجوب إنكار الأوّل مطلق غير مشروط بشي ء، و معناه أن وجوب الآخرين مشروط بالشروط الأربعة التي ذكروها، و هو العلم بالمنكر و المعروف، و احتمال التأثير، و كون الفاعل مصرّاً على

الاستمرار، و الأمن من الضرر.

و كلّ ذلك موكول إلى محلّه، إنّما الكلام في أن الإنكار باليد أيضاً له مراتب:

1- العمل بالمعروف و ترك المنكر بحيث يكون سبباً لدعوة غيره إلى ذلك.

2- الضرب من دون جرح.

3- الضرب مع الجرح إذا لم يكون الضرر مقصوداً، مثل الدفاع و الصد التي قد يتولد منهما الضرر.

4- الضرب مع الجرح و إن كان الضرر مقصوداً.

5- الإنكار باليد و لو بالقتل.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام فيها «تارة» يكون في أصل وجوب هذه بحوث فقهية هامة، ص: 433

المراتب، و «أخرى» في ترتبها، و وجوب الاقتصار على الأيسر فالأيسر. و «ثالثة» على اشتراط إذن الإمام (عليه السلام) في المراتب الأربعة الأخيرة، دون المرتبة الأولى أي العمل بأحكام الله، فإنه فرض على الجميع مطلقاً من دون حاجة إلى الاستئذان، و لنعم ما قال صاحب الجواهر (رضوان الله عليه) في هذا المقام حيث قال: «من أعظم أفراد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أعلاها و أتقنها و أشدها تأثيراً خصوصاً بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه و مندوبه، و ينزع رداء المنكر محرمه و مكروهه، و يستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة، و ينزهها عن الأخلاق الذميمة، فإن ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف و نزعهم المنكر خصوصاً إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة و المرهبة، فإن لكلّ مقام مقالًا و لكلّ داء دواء، و طب النفوس و العقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة، و حينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف نسأل الله التوفيق لهذه المراتب (انتهى) «1».

و «رابعة» في أن نائب الغيبة يقوم مقام الإمام (عليه السلام) في جواز الاستئذان منه في المراتب الأربع.

و قبل التكلّم في

هذه المقامات لا بدّ من ذكر روايات الباب، ليعلم أحكام الجزئيات منها، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

1- منها ما رواه جابر عن الباقر (عليه السلام) (في حديث) قال فأنكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم، و صكوا بها جباههم و لا تخافوا في الله لومة لائم.

الحديث «2».

2- و منها ما رواه الرضي: و قد قال (عليه السلام) في كلام له يجري هذا المجرى فمنهم المنكر

بحوث فقهية هامة، ص: 434

للمنكر بقلبه و لسانه و يده فذلك المستكمل لخصال الخير، و منهم المنكر بلسانه و قلبه، التارك بيده، فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير و مضيع خصلة.

الحديث «1».

3- و منها ما رواه الطبري مرسلًا في تاريخه عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن علي (عليه السلام) قال إني سمعت علياً (عليه السلام) يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون أنه من رأى عدواناً يعمل به و منكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه، فقد سلم و برئ، و من أنكره بلسانه فقد أجر، و هو أفضل من صاحبه، و من أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نوّر في قلبه اليقين «2».

4- و منها ما عن أبي جحيفة عن علي (عليه السلام) يقول إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم، ثمّ بألسنتكم، ثمّ بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً و لم ينكر منكراً قلب، فجعل أعلاه أسفله و أسفله أعلاه «3». 5- و منها ما عن تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فقد صرّح في ذيله بهذه المراتب الثلاث «4».

6- و منها ما دلّ على قسمين منها «اليد» و «اللسان» الذي يعلم منهما

الثّالث أيضاً و هو ما رواه يحيى الطويل عن الصادق (عليه السلام) قال ما جعل الله بسط اللسان و كفّ اليد و لكن جعلهما يبسطان معاً و يكفان معاً

«5».

بحوث فقهية هامة، ص: 435

و ضعف إسنادها بالإرسال و الجهالة غير مضر بعد تضافرها و عمل الأصحاب بها، بل يمكن الاستدلال على مضمونها في الجملة بدليل العقل.

توضيح ذلك: أن الأصحاب (رضوان الله عليهم) اختلفوا في كون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبين بحكم العقل مضافاً إلى حكم الشرع، فعن الشيخ و العلّامة و الشهيدين و غيرهم استقلال العقل بوجوبهما، و لكنّ عن المحقّق الثّاني و فخر المحقّقين بل نسب إلى جمهور المتكلّمين و الفقهاء عدم استقلاله به، و أنهما يجبان بحكم الشرع فقط.

قال العلّامة في القواعد على ما حكاه عنه في الإيضاح: لا خلاف في وجوبهما إنّما الخلاف في مقامين:

أحدهما: أنهما واجبان على الكفاية أو على الأعيان؟

و الثّاني: أنهما واجبان عقلًا أو سمعاً؟

و الأول في المقامين أقوى، و قال ولده في شرح كلام والده (قدس سرهم) ذهب السيّد المرتضى و أبو الصلاح و ابن إدريس إلى وجوبهما سمعاً و إلّا لم يرتفع معروف و لم يقع منكر، أو يكون الله مخلًا بالواجب، و اللازم بقسميه باطل فالملزوم مثله «1».

و مراده من هذا الاستدلال هو أنه لو وجبا بالعقل فوجبا على الله تعالى أيضاً لاتحاد الملاك.

و فيه: منع ظاهر لأن وجوب شي ء عقلًا على العباد لا يستلزم وجوبه على الله، كما أن حفظ النفس واجب علينا و لا يجب عليه تعالى، بل يعمل في ذلك بما تقتضيه مشيئته البالغة و حكمته العالية، كيف و نحن في بودقة الامتحان، و قد جعلنا الله مختارين حتّى نستكمل بالبلوى.

بحوث فقهية

هامة، ص: 436

و قال في اللمعة: «و هما واجبان عقلًا في أصح القولين، و نقلًا إجماعاً».

و قال في المختلف بعد نفي الخلاف عن وجوبهما: إنّما الخلاف في مقامين الأوّل هل هما واجبان عقلًا أو سمعاً؟ فقال السيّد المرتضى و أبو الصلاح و الأكثر بالثّاني، قوّاه الشيخ في كتاب الاقتصاد، ثمّ عدل إلى اختيار الأوّل، و الأقرب ما اختاره الشيخ (أي وجوبهما عقلًا) «1».

و لكنّ الإنصاف أن وجوبهما في الجملة بحكم العقل ممّا لا سبيل لنا إلى إنكاره، و قد أرشدنا الإمام الباقر (عليه السلام) إلى دليله العقلي، بقوله (عليه السلام) فيما روى عنه «أن الأمر بالمعروف سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، و تأمن المذاهب، و تحل المكاسب، و ترد المظالم، و تعمر الأرض، و ينتصف من الأعداء و يستقيم الأمر»

«2». و قد أشار إليه قبل ذلك مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض كلماته مشيراً إلى هذه الفريضة

«إذا أديت و أقيمت استقامت الفرائض كلّها هيّنها و صعبها»

إلى آخر الحديث.

و إن شئت قلت: تركهما يؤدي إلى فساد المجتمع كلّه و شيوع الفحشاء و المنكر، فيجبان من باب المقدّمة للواجب، هذا و لكن القدر المتيقن منه هو وجوب الإنكار و الأمر باللسان و اليد، أمّا بالقلب، فلا يمكن إثباته بدليل العقل، اللّهم إلّا أن يقال: لو لم ينكر بقلبه أثر ذلك في عمله بيده و لسانه، فوجوبه أيضاً من باب المقدّمة. فتأمّل.

هذا و قد يقال: إن المراد من الإنكار بالقلب ما يظهر آثاره في الوجه، و وجوبه حينئذ ظاهر.

بحوث فقهية هامة، ص: 437

هذا و لكنّ الأمر سهل بعد كون الكلام في الإنكار أو الأمر باليد، و الظاهر أن وجوبهما بدليل العقل ثابت

في جميع مراتبه حتّى القتل في الجملة، فلو لم يرتدع الفاعل للمنكر و كان وجوده منشأ لفساد عظيم في المجتمع جاز قتله بحكم العقل، و دخل في عنوان المفسد في الأرض في الجملة.

و من هنا يظهر الحال في «المقام الأوّل» و أن وجوب هذه المراتب بأجمعها من الإنكار بالقلب إلى آخر مراتب الإنكار باليد واجب بإطلاق ما عرفت من الروايات الشارحة لمراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل بإطلاق ما دلّ على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أيضاً.

إن قلت: ما الفائدة في ترك المنكر بالإجبار، و كذا فعل المعروف كذلك؟ و وجود الإجبار في بعض المراتب المذكورة ممّا لا يكاد ينكر؟ أ و ليس المقصود من تشريع الشرائع تكميل النفوس و دعوتها إلى فعل المعروف و ترك المنكر اختياراً، و قيام الناس بالقسط و العدل؟ و أي فائدة في الجميل الاضطراري؟

قلت: العمل بهذه الوظيفة و إن أدى إلى الإجبار في كثير من الموارد بالنسبة إلى بعض الناس، لكنّه لطف بالنسبة إلى غيرهم ممّن يعيش في ذلك المجتمع، فإن نشر آثار الفساد و إشاعة الفحشاء ممّا يوجب ترغيب النفوس نحوه بلا ريب، بل قد يكون لطفاً أيضاً في حقّ فاعله في الأحداث المستقبلة (إذا لم يكن النهي بقتله) و إن هو إلّا كإجراء الحدود و التعزيرات التي لا يمكن إنكار تأثيرها في تربية النفوس.

إن قلت: فوجوب هذه المراتب ثابت في أيّ أمر؟ فهل يجوز قتل من لا يرتدع من شرب الخمر و القمار مثلًا، كما لعلّه ظاهر إطلاق كلماتهم.

قلت: كلّا، بل اللازم مراعاة الأهم في البين و إطلاقات الآيات و الروايات منصرفة إليه كإطلاق كلماتهم، فلا يجوز الضرب و الجرح أو الكسر و

القتل في كلّ مورد من موارد ترك المعروف و فعل المنكر بل لا بدّ من ملاحظة الأهم و المهم.

بحوث فقهية هامة، ص: 438

و إن شئت قلت: يقع التعارض بين أدلّة وجوبهما و أدلة حرمة إيذاء المؤمن و جرحه و قتله، بل هو من قبيل التزاحم، و من المعلوم أن مقتضى القاعدة في المتزاحمين الأخذ بالأهم.

و من هنا يظهر الحال في المقام الثّاني، و أنه يجب الأيسر، فما دامت المواعظ الحسنة مؤثرة لا يجوز الإنكار بالكلمات الخشنة، و ما فيه هتك و تحقير و إيذاء، و ما دامت هذه مؤثرة فلا تصل إلى مرحلة الضرب، و قد يكون الضرب أهون من بعض الكلمات الخشنة، و هكذا الحال في الإقدام على الجرح أو الكسر أو القتل، و يتفاوت جميع ذلك بحسب الأشخاص و المقامات.

و الدليل عليه (و إن كان بعض كلماتهم مطلقة و ظاهرة في عدم الترتب) ما عرفت من التزاحم بين أدلّة وجوبهما و أدلّة حرمة الإيذاء و اللازم الأخذ بالأهم، و كذا بالأيسر ثمّ الأيسر.

مضافاً إلى ما يظهر من الآية الشريفة في قتال طائفتين من المؤمنين فقد قال سبحانه (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) «1».

فقد ذكر فيها الإصلاح أولًا ثمّ القتال إذا لم ينفع الإصلاح.

و كذا ما يظهر من بعض الروايات السابقة الظاهرة في الترتب.

و العجب من بعض أعاظم العصر حيث ذكر في بعض كلماته أن الترتيب غير مذكور في روايات الباب، و ما أفيد من أن النسبة بينها و بين أدلّة حرمة الإيذاء عموم من وجه، منظور فيه، فإن أنحاء الأمر و النهي ذكر فيها بالواو الظاهرة في

عدم الترتيب، و ليس من قبيل العموم، و أمّا الاستشهاد بالآية الشريفة فيشكل بحوث فقهية هامة، ص: 439

لأنه راجع إلى المقاتلة بخلاف المقام «1».

و فيه مواقع للنظر، أما أولًا: فلأن المقام ليس من قبيل التعارض، بل من قبيل التزاحم كما عرفت، لأن الملاك محرز من الجانبين، فاللازم الأخذ بأقوى الملاكين و أهم المصلحتين لا الرجوع إلى قواعد باب التعارض كما هو ظاهر.

و ثانياً: العطف بالواو لا يدلّ على التساوي لا سيّما بعد وجود القرينة و مناسبة الحكم و الموضوع و هي هنا موجودة مع قطع النظر عن أدلّة حرمة الإيذاء، فإذا كان هناك رجل يشرب الخمر و يرتدع بأدنى كلمة، فأي فقيه يجوّز ضربه أو جرحه أو قتله أخذاً بإطلاق أدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؟

و ثالثاً: دلالة الآية ممّا لا ينبغي أن ينكر فإنه لا فرق بين المقاتلة و القتل لأن القتل، في المقام أعمّ من أن يكون من طريق المقاتلة أو غيرها.

و ممّا ذكرنا يظهر أنه لا يجوز الضرب أو الجرح أو القتل في جميع موارد المنكر أو ترك المعروف بل لا بدّ من ملاحظة الأهم و المهم في كلّ مورد.

أمّا المقام الثّالث ففيه خلاف بينهم.

فالمحكي عن نهاية الشيخ أن الأمر بالمعروف، باليد، بمعنى حمل الناس عليه أمّا القتل و ضرب من الجراحات فهو لا يجوز إلّا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرئاسة العامّة (أي الإمام (عليه السلام)) فالمراد باليد في الأخبار هو الجري العملي على المعروف ليتأسى به الناس.

و قد يقال إن الضرب جائز، و لكن الجرح أو القتل لا يجوز إلّا بإذن الإمام (عليه السلام) كما عن الفخر و الشهيد و المحقّق الثّاني و المقداد.

بل في المسالك أنه الأشهر بين الأصحاب.

بحوث

فقهية هامة، ص: 440

و هنا قول ثالث و هو أن إذن الإمام شرط فيما كان الضرر مقصود، أمّا إذا كان شبه الدفاع أو الصد الذي قد يحصل منها ضرر غير مقصود فلا، و يظهر ذلك من المرتضى فيما رواه في المختلف عنه «1».

و قول رابع، و هو التفصيل بين الجرح و القتل و إن الأوّل جائز (بغير إذن الإمام) دون الثّاني، حكاه في الجواهر عن الشهيد الثّاني «2».

و قد يظهر من بعض الكلمات قول خامس، و هو عدم حاجة القتل أيضاً على إذنه (عليه السلام) و أنه إذا وجب على الإمام (عليه السلام) وجب على غيره بحكم التأسي «3».

هذا و لكنّ الإنصاف عدم تجويز شي ء من الضرب و الجرح و الكسر و القتل إلّا بإذن الإمام (عليه السلام) لما في جواز ذلك على آحاد الناس من المفاسد العظيمة التي قد توجب الإخلال بالنظام و الاضطرار، لا سيّما إذا كان فيهم جهال لا يقفون على شي ء و لا يعلمون مواقع الأمور و مقاديرها- و الجاهل إمّا مفرط أو مفرّط- فإعطاء هذه الأمور بأيديهم يكون ضررها أكثر من نفعها، و «كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه» (كما ورد في الحديث) بل قد يكون تدخل أفراد الناس في ذلك سبباً لإعمال البغضاء و الشحناء من هذا الطريق، و التطرّق إلى المقاصد السيئة تحت عنوان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما لا يخفى على من له خبرة بهذه الأمور، فلا بدّ في جميع ذلك من الاستئذان من «ولي الأمر» و هو كما اشتهر في الألسن أن اليد التي يقطعها الحاكم لا دم له! و التمسّك بإطلاقات الباب كالتمسك بإطلاق آية «حدّ الزنا و السارق» ممنوع بقرينة المقام.

بحوث فقهية

هامة، ص: 441

و إن شئت قلت: هناك أمور تتوقف على إذن الحاكم في جميع المجتمعات البشرية فإذا أذن الشارع المقدس في شي ء منها انصرف إليه، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فلا إطلاق في الآيات و الروايات بعد وجود هذه القرينة الواضحة الظاهرة.

و إن هو إلّا نظير تنفيذ الحدود و التعزيرات، فقد عرفت أنه لا ينبغي الشكّ في كونها من وظيفة الحاكم الشرعي، بل إجراؤها من مصاديق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كما لا يخفى على اللبيب.

و قد ظهر من جميع ذلك أن الأظهر بحسب القرائن العقلية و النقلية عدم جواز شي ء من هذه المراتب الأخيرة بغير إذن الإمام (عليه السلام) أو نائبه.

نعم، الإنكار بالقلب، سواء كان بمعنى تنفره في قلبه من المنكر و يكون ذلك لنفسه، أو كان المراد ظهوره في صفحات وجهه بحيث ينتفع به غيره من دون تكلّم، فقد يكون لسان الحال أبلغ من لسان المقال، فهذا غير متوقف على شي ء، و كذا القول باللسان في جميع مراتبه، فأدلّتها مطلقة لا وجه لتخصيصها بشي ء، و كذا العلم باليد بمعنى كونه «أسوة» لفعل المعروف، و الانتهاء عن المنكر، إنّما الكلام في سائر مراتب اليد.

و أمّا «المقام الرّابع» من مقامات ولاية الفقيه أعني كفاية إذن نائب الغيبة و قيامه مقام الإمام المعصوم (عليه السلام) فقد صرّح بعضهم بذلك، قال العلّامة في المختلف حاكياً عن سلّار بن عبد العزيز: «أمّا القتل و الجرح في الإنكار فإلى السلطان و من يأمره، فإن تعذر الأمر لمانع فقد فوضوا (عليهم السلام) إلى الفقهاء إقامة الحدود و الأحكام بين الناس، بعد أن لا يتعدوا «واجباً» و لا يتجاوزوا «أحداً»، و أمر عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك

ما استقاموا على الطريقة.

ثمّ قال العلّامة (قدس سره): «و الأقرب عندي جواز ذلك للفقهاء، ثمّ استدلّ بأن تعطيل بحوث فقهية هامة، ص: 442

الحدود يقضي إلى نشر الفساد و ارتكاب المحارم، و بما رواه عمر بن حنظلة و غير ذلك من الأحاديث الشاملة لإقامة الحدود و غيرها «1».

و الظاهر أنهم ينظرون إلى إقامة الحدود كأحد مصاديق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو كذلك، و قال الفقيه الماهر صاحب الجواهر (قدس سره): «في جواز ذلك (أي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إذا أدى إلى (جرح أو قتل) لنائب الغيبة مع فرض حصول شرائطه أجمع، التي منها عدم الضرر و الفتنة و الفساد، لعموم ولايته عنهم قوّة، خصوصاً مع القول بجواز إقامة الحدود له، و إن كان ذلك فرض نادر بل معدوم في مثل هذا الزمان» «2».

أقول: الحقّ ما ذكره هؤلاء الأعلام، لما سيأتي إن شاء الله من الأدلة العامّة الدالّة على ولايته في أمثال ذلك، مضافاً إلى ما عرفت من الأدلّة الدالّة على جواز إجراء الحدود له، الشاملة لما نحن بصدده، بطريق أولى (و قد مرّ الكلام فيه آنفاً في المقام الثّالث).

و ليعلم أن المراد بالجواز في جميع هذه المقامات هو الجواز بالمعنى الأعمّ الشامل للوجوب، بل مصداقه هنا هو الوجوب، لوجوب الوظيفتين كما لا يخفى.

المقام الخامس من صلاحيات الفقيه: «الإشراف على الحكومة»

اشارة

و هذا هو الأهم في هذه الأبحاث، و إنّما تكلمنا في المقامات السابقة ليعلم أن ولاية الفقيه لا تنحصر في الإشراف على الحكومة، و إن كانت هي أبرز مصاديقها في عصرنا هذا.

و لنتكلم أولًا في ضرورة الحكومة للناس، و أنه لا بدّ لهم من أمير و حاكم، ثمّ لنتكلم عن ما يدل على أولوية الفقيه في الإسلام بهذا

المقام، ثمّ نعقبه بشرائطها ثمّ حدودها، فهذه أمور أربعة لا بدّ من البحث فيها.

أمّا الأوّل [و هو] ضرورة الحكومة للناس فيمكن إثباته من طرق:
أحدها: لا ريب في أن الحياة الإنسانية حياة تقوم على المجتمع

، فلو تجردت الحياة من هذه الخصيصة انحدر الإنسان إلى أقصى مراتب الجاهلية الجهلاء و البهيمية و الشقاء، لأن جميع المنافع و الآثار المطلوبة الحاصلة في المجتمع البشري من الحضارات و التقدّم نحو الكمال، و الأخلاق و الآداب و العلوم المختلفة، إنّما تكون ببركة حياته الاجتماعية، و التعاون و التعاضد، في مختلف الحقول، و اجتماع القوى بحوث فقهية هامة، ص: 444

و الطاقات، و تعاطي الأفكار بعضها ببعض، كما هو ظاهر، فالإنسان إذا عاش في غير المجتمع كان كأحد الحيوانات، و إنّما أعطاه الله الميل و التجاذب نحو هذا اللون من الحياة كي يحصل على هذه المنافع العظيمة، و الكمال اللائق بحاله في جانبيه المعنوي و المادي، و قد أكد الشارع المقدس الإسلامي على الاحتفاظ بهذا النوع من الحياة، و جعله كأصل ثابت، و كحجر أساسي في جميع أحكامه و قوانينه، كما لا يخفى على من سبر أحكام الإسلام بالدقة و التأمّل.

ثمّ من الواضح أن حياة الإنسان في المجتمع، على رغم شتى البركات و المنافع الضرورية، لا تخلو عن منافسات و اختلافات و منازعات، لا لغلبة الشهوات على الناس فحسب، بل لما يقع هناك من الخطأ في تشخيص الحقوق و حدودها، فلا بدّ لهم من قوانين تبين لهم ما يستحق كلّ واحد منهم، و ما هو طريق التخلّص من التزاحم و ردّ التعدي و التجاوز، و غير ذلك، و هذه القوانين بنفسها لا أثر لها في نفي هذه الأمور، حتّى يكون هناك من ينفذها و يجريها، و لا يتحقق ذلك إلّا بقيام الحكومة و لو بشكل بسيط.

و لذا اتّفق المتكلمون من أصحابنا

و غيرهم، على أن الإمامة واجبة بين المسلمين إلّا ما قد يحكى عن أبي بكر الأصم من العامّة أنها غير واجبة، إذا تناصفت الأمة و لم تتظالم، و هو شاذ جدّاً «1».

و كذا اتفق العقلاء من جميع الأمم على ضرورة الحكومة للمجتمعات البشرية عدا ما يلوح من الشيوعيين من عدم لزومها بعد تحقّق التكامل لأبناء البشر، و بعد طرد النظام الطبقي فإن الحكومة إنّما شرّعت لحفظ مصالح الطبقة الحاكمة، فإذا انتفى هذا النظام انتفت الحكومة.

بحوث فقهية هامة، ص: 445

و لكنّ هذه كلّها مجرّد أوهام لا أهمية لها عند ما نلمس الحقائق الموجودة في المجتمع البشري، أمّا بلوغ الإنسان إلى مستوى عال من الأخلاق و التقوى الذي ينفى أي اختلاف بين أبناء المجتمع فهو أمر بعيد المنال لا ينبغي الاتكال عليه في هذه الظروف التي نعيشها و في المستقبل على ما نعهده.

و لو سلمنا تحقّق ذلك فهذا لا يغني عن الحكومة، لأنها ليست لرفع الاختلافات فحسب، بل هناك أمور كثيرة تتعلّق بحياة المجتمع ليست في طاقة فرد أو أفراد خاصّه، كبناء الطرق، و استجلاب الأرزاق و دفع الآفات و القيام بشئون الصحّة و التعليم و التربية، و تنظيم البرامج الاقتصادية التي لا تستغني عنها الأُمة إطلاقاً، أو تقع في حرج شديد و عسر عسير، فما ذكر من بلوغ الأمة إلى حد التناصف، أو بلوغها إلى حدّ حذف الطبقة الظالمة، على فرض تحقّقها، إنّما يوجب استغناء الأمة عن النظام القضائي و ما يتعلّق به فقط، و أمّا ما تتصدى له الآن وزارة «الصحّة» و «التعليم» و «الثقافة» و «الاقتصاد»، و غير ذلك ممّا هو كثير فضرورتها قائمة ما بقي الإنسان في المجتمع، فحذف الحكومة من حياة الإنسان

وهم في وهم، و خيال في خيال! و إن شئت أن تستدل عليه في صبغة إسلامية، فراجع آراء المتكلمين عند ذكر وجوب بعث الرسل و إنزال الكتب، أو وجوب نصب الإمام بعد ارتحال الرسول (صلى الله عليه و آله) من دار الدنيا، فإنه ينادي بأعلى صوته على ضرورة الحكومة في كلّ عصر و زمان، مثل ما ذكره العلّامة الطوسي في شرح تجريد الاعتقاد، حيث قال في بحث لزوم البعثة: «منها: أن النوع الإنساني خلق لا كغيره من الحيوانات، فإنه مدني بالطبع، يحتاج إلى أمور كثيرة في معاشه، لا يتم نظامه إلّا بها، و هو عاجز عن فعل الأكثر

بحوث فقهية هامة، ص: 446

منها إلّا بمشاركة و معاونة، و التقلب موجود في الطبائع البشرية، بحيث يحصل التنافر المضاد لحكمة الاجتماع، فلا بدّ من جامع يقهرهم على الاجتماع و هو السنّة و الشرع و لا بدّ للسنّة من شارع يسنها و يقرر ضوابطها. بحيث يتم النظام و يستقر حفظ النوع الإنساني على كماله الممكن، و منها أن مراتب الأخلاق و تفاوتها معلوم يفتقر فيه إلى مكمل لتعليم الأخلاق و السياسات بحيث تنتظم أمور الإنسان بحسب بلده و منزله».

و قال في بحث لزوم نصب الإمام (عليه السلام) بعده (صلى الله عليه و آله): «و استدلّ المصنّف على وجوب نصب الإمام على الله تعالى بأن الإمام لطف و اللطف واجب، أمّا الصغرى فمعلومة للعقلاء، إذ العلم الضروري حاصل، بأن العقلاء متى كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب و التهاوش و يصدهم عن المعاصي و يعدهم و يحثهم على فعل الطاعات و يبعثهم على التناصف و التعادل، كانوا إلى الصلاح أقرب و من الفساد أبعد» (انتهى محل الحاجة).

ثانيها: أن أحكام الإسلام لا تنحصر بالعبادات

، بل فيها

أحكام كثيرة ترتبط بالشئون السياسية، و الاجتماعية، و غيرها، كأحكام الجهاد و الحدود و القضاء و الزكاة و الخُمس و الأنفال و غيرها ممّا لا يمكن تعطيلها في أي عصر و زمان، سواء عصر غيبة الإمام (عليه السلام) أو حضوره، فهل يمكن تعطيل القضاء بين الناس، مع كثرة الخلافات و التنازع بينهم؟ أو هل يمكن تعطيل الحدود و القصاص و شبهها الموجب لتجري أهل الفتنة و الفساد في الأرض؟ أو هل يمكن ترك الدفاع عن ثغور الإسلام عند هجوم الأعداء عليها من الخارج أو من أهل النفاق من الداخل؟! ثمّ هل يمكن إعطاء كلّ من هذه الأمور حقّها بغير تأسيس الحكومة القوية القادرة على تنفيذ الأحكام الخاصّة بهذه المسائل؟ و من أنكر هذه إنّما

بحوث فقهية هامة، ص: 447

ينكره باللسان و قلبه مطمئن بالإيمان.

فلذا نرى الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله) عند ما هاجر إلى المدينة و ثبتت قدماه في أرضها أقدم على تأسيس الحكومة الإسلامية قبل كلّ شي ء، بتجنيد الجنود، و تعيين بيت المال، و جمع الزكوات، و إرسال الرسل، و نصب القضاة و بعث العيون، و غير ذلك، و لولاها لما ثبتت للإسلام قائمة، فإنه لم يكن الإسلام مجرد تبليغ الأحكام و تعليمها، و أي أثر للتعليم المجرّد عمّا يوجب إنفاذ الأحكام و إجرائها، اللّهم إلّا أثراً ضعيفاً، بل السرّ في انتشار الإسلام في أكثر بقاع المعمورة من الأرض في مدة قليلة قد لا تبلغ قرناً واحداً، هو اعتماده على تأسيس الحكومة و إيجاد حُكم يخضع لأوامره، كما لا يخفى على الخبير.

ثالثها: الروايات الكثيرة الدالّة على ضرورتها للأمة الإسلامية

منها ما يلي:

1- ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه لما سمع كلام الخوارج «لا حكم إلّا

لله» قال «كلمة حقّ يراد بها الباطل، و لكن هؤلاء يقولون «لا إمرة إلّا لله» و أنه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، و يستمتع فيها الكافر و يبلغ الله فيها الأجل، و يجمع بها الفي ء، و يقاتل بها العدو، و تؤمن به السبل، و يؤخذ به للضعيف من القوي»

«1». و حاصله أن الحكم له معنيان:

أحدهما: الحكم بمعنى تشريع القانون الإلهي فهو منحصر بمشية الله و إرادته، و الثّاني بمعنى إجراء هذا القانون، و هذا لا يكون إلّا بواسطة إنسان إن كان براً فهو، و إلّا خلّفه فاجر، و لكن الخوارج قد لبسوا على أنفسهم و على الناس، بالخلط بين المعنيين، ثمّ أشار (عليه السلام) إلى فوائد سبعة لتأسيس الحكومة لا تتيسر بدونها.

بحوث فقهية هامة، ص: 448

و في بعض الروايات المروية من طرق العامّة أنه لما قال (عليه السلام)

لا يصلح الناس إلّا بأمير برّ أو فاجر، قالوا: يا أمير المؤمنين! هذا البر، فكيف بالفاجر؟ قال أن الفاجر يؤمن الله به السبل، و يجاهد به العدو، و يجبي به الفي ء، و يقام به الحدود و يحج به البيت، و يعبد الله فيه المسلم آمناً

«1». و هذا دليل أيضاً على أن حكومة الظالمين و إن كانت على خلاف ما أمر الله به و لكنها أحياناً تحصل بها بعض المنافع المرتقبة من الحكومة العادلة، كالموارد المذكورة في الرواية، و هذا أمر ظاهر في بعض الحكومات الموجودة في شتى أنحاء العالم.

2- الرواية المعروفة لفضل بن شاذان رواها في «علل الشرائع» و فيها بيان علل كثيرة لأصول و فروع الدين و منها بيان علل جعل أولي الأمر، و قد ذكر (عليه السلام) له عللًا

ثلاثة:

«أولها»: لزوم إجراء الحدود، و أنه لو لا ذلك لظهر الفساد في الأمة، و لا يكون ذلك إلّا بنصب ولاة الأمر.

و «ثانيها» ما نصّه: «أنا لا نجد فرقة من الفرق، و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا إلّا بضمّ رئيس».

و ذكر في «الثّالث» حكمة حفظ أحكام الشرع عن الاندراس، و المنع عن تغيير السنة و زيادة أهل البدع «2».

و يظهر من «الوسائل» من أبواب مختلفة، أنه رواها عن الرضا (عليه السلام)، و لكن ليس في البحار إلّا روايته عن الفضل بن شاذان من دون انتهائه إلى الإمام (عليه السلام)، و لكن من بحوث فقهية هامة، ص: 449

البعيد جدّاً نقل، مثل هذه الرواية، من غير المعصوم (عليه السلام)، فراجع «1».

هذا مضافاً إلى ما حكاه في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) فإنه بعد نقل تمام الحديث قال: «سأله علي بن محمّد بن قتيبة الراوي عن الفضل أن هذه العلل عن استنباط منه و استخراج؟ قال: ما كنت لأعلم مراد الله عزّ و جلّ من ذات نفسي، بل سمعتها من مولاي أبي الحسن الرضا (عليه السلام) شيئاً بعد شي ء فجمعتها» «2».

و العلل المذكورة لا تختص بالإمام المعصوم (عليه السلام)، بل يقوم بها الفقيه أيضاً ما عدا الأخير على وجه.

3- ما رواه النعماني في تفسيره عن علي (عليه السلام) بعد ذكر آيات من كتاب الله «و في هذا أوضح دليل على أنه لا بدّ للأمّة من إمام يقوم بأمرهم، فيأمرهم و ينهاهم و يقيم فيهم الحدود، و يجاهد العدو، و يقسم الغنائم، و يفرض الفرائض، و يعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم، و يحذرهم ما فيه مضارهم، إذ كان الأمر و النهي أحد أسباب بقاء الخلق، و إلّا سقطت

الرغبة و الرهبة و لم يرتدع، و لفسد التدبير، و كان ذلك سبباً لهلاك العباد «3».

4- ما رواه في البحار أيضاً عن الصادق (عليه السلام) قال لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة، يفزع إليه في أمر دنياهم و آخرتهم، فإن عدموا ذلك كانوا همجاً: فقيه عالم ورع و أمير خير مطاع، و طبيب بصير ثقة

«4». إلى غير ذلك ممّا هو ظاهر أو صريح في عدم استغناء نوع الإنسان عن الحكومة، يجدها المتتبع في تضاعيف كتب الرواية.

أولوية الفقيه من غيره
اشارة

أمّا المقام الثّاني: أعني كون الفقيه الجامع للشرائط أولى بذلك من غيره فقد يستدلّ له تارة بما يشبه، دليلًا عقلياً و أخرى بروايات كثيرة وردت في أبواب مختلفة.

أمّا الأول فهو [الدليل العقلي

ما يستفاد من كلمات بعض الأساتذة الأعلام (قدس سره) و حاصله بتقرير منّا أنه لا شكّ- كما عرفت في المقام الأوّل- في أنه لا يمكن إهمال أمر المجتمع الإسلامي من حيث الحكمة، و أنه لا بدّ لهم من ولي و أمير يدير أمورهم و يأخذ حقّ الضعيف من القوي، و يدافع عنهم عند هجوم الأعداء، و ينتصف لهم و منهم، و يجري الحدود، و يسوس جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم و دنياهم.

كما أنه لا ينبغي الشكّ في أن النبي (صلى الله عليه و آله) كان بنفسه يتولى هذه الأمور، و من بعده كان هذا للأئمّة الهادين (عليهم السلام)، و أمّا بعد غيبة ولي الله المنتظر (عليه السلام) فأما أن يكون المرجع في هذه الأمور خصوص الفقيه الجامع، أو يصحّ لكلّ أحد القيام بها، و القدر المتيقن من الجواز هو الأوّل، لعدم قيام دليل على الثّاني، و الأصل عدم ولاية أحد على أحد، خرجنا من هذا الأصل في الفقيه لأن جواز ولايته ثابت على كلّ حال، و إنّما الكلام في جواز غيره.

و إن شئت قلت: الحكومة الإسلامية حكومة إلهية لا تنفك سياستها عن ديانتها و تدبيرها عن تشريعها الإلهي، فالقائم بهذا الأمر لا بدّ أن يكون عارفاً بأحكامه معرفة تامة، كما لا بدّ أن يكون عارفاً بالأمور السياسية و تدبير المدن، و كيف يسوغ لغير الفقيه الذي لا يعرف أحكام الشرع حقّ معرفتها التصدي لهذه الحكومة الإلهية.

و بعبارة ثالثة الحكومات على قسمين:

الحكومات الناشئة عن عقيدة و

مدرسة فكره و الحكومات الناشئة عن الأهواء و النزعات القومية، و القسم الأول «إلهية» و القسم الثاني «الحادية»، و الإلهية كالحكومة الإسلامية، و الإلحادية كالماركسية،

بحوث فقهية هامة، ص: 451

و في كلّ من هذين القسمين لا يكون الرئيس إلّا من هو عارف بتلك العقيدة معرفة تامة، و يعرف ذاك المذهب على حدّ الاجتهاد فيه كما لا يخفى على من علم حال غير المسلمين أيضاً في هذه الحكومات.

و بالجملة: الحكومة الإلهية الإسلامية لا يمكن انفكاكها عن رئيس عالم بالأسس التي تتبنّاها المدرسة الإسلامية، لا أقول أنه يعمل فيهم بما يشاء بل عليه الرجوع إلى أهل الخبرة و الاستناد إليهم، و الاستشارة في كلّ ما يحتاج إلى الرجوع إليهم، و سيأتي شرح هذا المعنى بالتفصيل إن شاء الله.

[و أما الثاني فهو] روايات الولاية:
اشارة

و أمّا الروايات التي استدلّ بها على هذا المعنى فهي كثيرة، بعضها لا يزيد عن حدّ الإشعار، بل لعلّه لا إشعار في بعضها، و إنّما جمعها بعضهم حرصاً على تكثير الأدلّة، مع أن تكثيرها بما لا دلالة فيها أحياناً يوجب الوهن فيما يدل، و زيل بالاعتماد بالنسبة إلى غيره، فالأولى و الأجدر في جميع المباحث صرف النظر عن زيادة الأدلة إذا كان هناك بعض الأدلة الضعيفة، و الاكتفاء بما يصلح للدلالة، أو يحتمل دلالتها على المطلوب على الأقل، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية: ما قيل أو يمكن القول بدلالتها على المقصود روايات:

1- مقبولة عمر بن حنظلة

و هي أشهرها في كلماتهم، رواها في الوسائل في كتاب القضاء أبواب صفات القاضي.

قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين بحوث فقهية هامة، ص: 452

أو ميراث فتحاكما إلى السلطان و إلى القضاة أ يحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليه في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت. قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخف بحكم الله و علينا ردّه، و الراد علينا الراد على الله و هو على حدّ الشرك بالله «1». و الكلام فيها تارة من حيث السند و أخرى من حيث الدلالة.

أمّا الأوّل فالمعروف أن الأصحاب تلقوه بالقبول، حتّى سميت في كلماتهم بالمقبولة، و إلّا يشكل الاعتماد عليها بحسب حال الرواة، و العمدة في الإشكال في سندها نفس عمر بن حنظلة لعدم ورود توثيق له في كتب الرجال.

نعم في السند

«صفوان بن يحيى» و هو من أصحاب الإجماع، و لكن ذكرنا في محلّه أن ما هو المشهور من أن وجود بعض أصحاب الإجماع في سند الحديث يغنينا عن ملاحظة حال من بعده، ممّا لا دليل عليه، بل لعل معنى أصحاب الإجماع كون الأصحاب مجمعين على قبول روايات أنفسهم و توثيقهم.

هذا مضافاً إلى نقل روايتين في ترجمة الرجل تدلان على توثيقه، أحدهما ما ورد في باب أوقات الصلاة عن يزيد بن خليفة، قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذاً لا يكذب علينا

«2». و في رواية أخرى عن عمر بن حنظلة قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): القنوت يوم الجمعة. فقال: أنت رسولي إليهم في هذا، إذا صليتم في جماعة ففي الركعة الأولى و إذا

بحوث فقهية هامة، ص: 453

صليتم وحداناً ففي الركعة الثّانية

«1». و ذكر المحقّق المامقاني في تنقيح المقال بعد ذكر هاتين الروايتين يظهر منهما توثيقه.

أقول: الاستناد إليهما في توثيق الرجل مشكل جدّاً: أمّا الأول فلاشتماله على «يزيد بن خليفة» و هو مجهول، و الراوي في الثّاني هو نفس عمر بن حنظلة و الاستناد إليه في إثبات وثاقته دور باطل، فالأولى في تصحيح سند الحديث ما مرّ من كونه مستنداً للأصحاب و مقبولًا عندهم.

و من الجدير بالذكر أن الشهيد الثّاني وثقه في درايته على ما حكاه عنه المجلسي في روضة المتقين «2».

أمّا دلالتها فهل هي بصدد نصب الحاكم بمعنى الوالي أو القاضي، أو بصدد بيان المرجع للتقليد في الأحكام الشرعية، أو صدرها في شي ء و ذيلها في شي ء آخر، كلّ ذلك محتمل.

و غاية ما قيل أو يمكن أن يقال في دلالتها

على الحكم بالمعنى الأول أمور:

1- إن لفظ الحكم، ظاهر في الحكومة بمعنى الولاية لا القضاء.

2- إن الرجوع إلى السلطان أو إلى القضاة (كما ورد في الحديث) يشمل المنازعات التي تحتاج إلى القضاء و ما لا تحتاج إلى ذلك، كالتنازع لأجل عدم أداء الحقّ من الدين أو الميراث أو غيرهما بعد ثبوت الحقّ، فإن مرجعها السلاطين و الأمراء.

3- قوله من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت. أيضاً ظاهر في خصوص الولاة.

بحوث فقهية هامة، ص: 454

4- الآية التي استشهد بها و هي قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً) «1».

5- قوله (عليه السلام) «فليرضوا به حكماً» يكون تعييناً للحاكم مطلقاً، لأن الرجوع إلى القضاة لا يعتبر فيه الرضا، فهذا دليل على عدم إرادة خصوص القضاء.

6- عدوله (عليه السلام) عن قوله «جعلته قاضياً» إلى قوله «جعلته عليكم حاكماً».

7- لا يبعد أن يكون عنوان القضاء أيضاً أعمّ من قضاء القاضي و حكم الحاكم.

8- التعبير ب- «على» في قوله «جعلته عليكم حاكماً» مع أن المناسب للقاضي أن يقول جعلته قاضياً بينكم، و من جميع ذلك يعلم أن الأظهر أن قوله «فإني قد جعلته عليكم حاكماً» هو جعل الفقيه حاكماً في القضاء و الولاية العامّة.

9- بعد ما ثبت ضرورة الحكومة في جميع الأعصار و عدم جواز تعطيلها، و دلت المقبولة على حرمة الانقياد للطواغيت و الرجوع إليهم، يظهر منها قهراً أن المتعين للولاية هو الواجد للصفات التي ذكرها الإمام في المقبولة.

10- القضاء من شئون الولاية، فإذا ثبت اشتراطه

بالولي الفقيه فيثبت في غيره.

11- استناد بعض الفقهاء إليه في مبحث ولاية الفقيه مؤيد للمطلوب، هذا صاحب الجواهر (قدس سره) الشريف استند إليه في الأبواب المختلفة فراجع.

12- التعبير فيها بالسلطان الظاهر في الولاة.

و هذه الوجوه ذكرناها مبسوطة و إن كان يمكن إدغام بعضها في بعض، كي نؤدي البحث حقّه، و مع ذلك بعضها ظاهر البطلان، و بعضها غير خال من الإشكال.

بحوث فقهية هامة، ص: 455

أمّا الأوّل: فلا ينبغي الشكّ لمن راجع موارد استعمال كلمة «الحكم و التحكم» في القرآن المجيد و الأخبار و الآثار، إن الأظهر فيها هو القضاء (نعم في استعمالات اللغة الفارسية الدارجة ظاهرة في الحكومة، و لعل منشأ الاشتباه لدى البعض هو هذا) كالآيات الكثيرة الدالّة على أن الله يحكم يوم القيامة بين الناس، و ما دلّ على مؤاخذة الكفّار على ما يحكمون (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)* الواردة في الآيات المتعدّدة، و ما دلّ على حكم داود و حكم النبي (صلى الله عليه و آله) في اختلاف الناس، و ما ورد في أبواب القضاء و أحكام القضاة و ما أكثرها، و لذا ذكر الراغب في مفرداته عند ذكر معناه الأصلي «أن الحكم بالشي ء أن تقضي بأنه كذا أو ليس بكذا» و هذا أمر ظاهر لمن راجع إطلاقات لفظ الحكم في الكتاب و السنّة، و لا أقل من عدم ظهوره في غير هذا المعنى.

و أمّا الثّاني: فلأن الظاهر من المنازعة: هي المنازعة التي تحتاج إلى القضاء بلا ريب.

و أمّا الثّالث و الرابع: فلأن الظاهر من الآية الشريفة أن المروي عن أكثر المفسرين كما في مجمع البيان أنها نزلت في خصومة كانت بين يهودي و منافق، فقال اليهودي أرضى بمحمّد (صلى الله عليه و

آله) و قال المنافق بل كعب بن أشرف! لعلمه بأنه يقبل الرشوة، فالطاغوت بمعنى القاضي الجائر هنا.

و أمّا الخامس: فلأنه إشارة إلى قاضي التحكيم، و هو الذي يختاره الرجلان لأن يحكم بينهما و هو غير القاضي المنصوب، و إلّا فقوله فليرضوا به حكماً لا يناسب الحكومة بمعنى الولاية، لعدم اعتبار الرضا فيها كما هو ظاهر.

و يظهر الجواب من السادس بما مرّ في الأول، فإن الحاكم هو القاضي، و أعجب من الجميع السابع و هو أن يكون القضاء عاماً يشمل الولاية مع أن المتبادر منه غيره.

بحوث فقهية هامة، ص: 456

و أمّا الثامن: فلأن العلو كما يكون في الوالي يكون في القاضي، لنفوذ حكمه، فيناسب استعمال كلمة «على».

و أمّا التاسع: من أعجب هذه الوجوه، لأنه استدلّ بدليل خارجي لا يرتبط بالرواية و ظهورها في المطلوب، كما لا يخفى.

و أمّا العاشر: فلأن كون القضاء من شئون الولاية ليس دليلًا على اعتبار جميع ما يعتبر فيه في الولاية، فلذا كانت القضاة في جميع الأعصار من العلماء ظاهراً، حينما كانت الولاة من غيرهم أيضاً.

و أمّا الحادي عشر: فلأن استناد بعضهم إليه لا يكون دليلًا أصلًا، بعد ما حكم كثير منهم بأن المقبولة ظاهرة في القضاء فقط.

فقد صرّح المحقّق الخوانساري، و كذا المحقّق الإيرواني، بظهور المقبولة في القضاء (راجع جامع المدارك و تعليقة المكاسب) و غيرهما كما سيأتي.

و أمّا الثّاني عشر: فسيأتي جوابه عند الكلام في المشهورة.

و الإنصاف أن قوله «بينهما منازعة في دين أو ميراث»

و قوله «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل»

و قوله «ما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً»

و كذا الاستدلال بالآية الشريفة (بما عرفت من شأن نزولها) و ما ورد في ذيلها من اختلافهما في الحكم الذي هو

كالصريح في الاختلاف في القضاء لا الولاية، فهذه قرائن خمسة قوية ظاهرة في أن المراد من الحكم فيها هو القضاء، و أظهر منها ما ورد في ذيل الرواية من استعمال المرجحات بين مأخذ الحكمين الذي بمعنى المستند للفتوى أو القضاء فإنه لا معنى لكون الحكم فيه بمعنى الولاية، فهذه شواهد قوية على كونها بصدد بيان منصب القضاء و الفتوى لا غير.

و على كلّ حال، فإن صدر الرواية و ذيلها يشيران إشارة قوية أنها بصدد بيان بحوث فقهية هامة، ص: 457

تعيين القضاة العدول.

نعم يمكن أن يكون الذيل ناظراً إلى مرجع الفتوى أو القضاء في الشبهات الحكمية، فإن مراجعة القضاة لا يختص بالشبهات الموضوعية، لا سيّما مع ما عرفت من أن المتعارف في تلك الأزمنة وحدة القاضي و المفتي في كثير من الأحيان، و لذا استدلّ بها جمع كثير على قبول منصب القضاء للفقهاء، منهم المحقّق النراقي في عوائده حيث قال: «فلهم ولاية القضاء و المرافعات، و على الرعية الترافع إليهم، و قبول أحكامهم»، ثمّ استدلّ له بمقبولة عمر بن حنظلة «1».

و قال سيدنا الأستاذ الحكيم (قدس سره) في نهج الفقاهة: أمّا الحكم في المقبولة فالظاهر منه من له وظيفة الحكم، أمّا بمعنى الحكم و القضاء بين الناس، فيختص لفصل الخصومة أو مطلقاً، فيشمل الفتوى كما يشير إليه العدول عن التعبير بالحكم إلى التعبير بالحاكم حيث قال (عليه السلام)

«فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً»

مضافاً إلى ما يأتي مثله في المشهورة، و ليس له ظهور بمعنى السلطان أو الأمير كي تكون له ولاية التصرّف في الأمور العامّة فضلًا عن أن يكون بمعنى من له الولاية المطلقة بالتصرّف في النفوس و الأموال «2».

فقد تحصل من ذلك كلّه

عدم دلالة المقبولة على أزيد من حكم القضاء في الشبهات الموضوعية و الحكمية جميعاً.

2- مشهورة أبي خديجة:

قال بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال: «قل لهم، إياكم إذا وقعت بينكم بحوث فقهية هامة، ص: 458

خصومة أو تدارى في شي ء من الأخذ أو العطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا، فإني قد جعلته عليكم قاضياً، و إياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر

«1». و الكلام فيه أيضاً من جهة السند و الدلالة: أمّا الأوّل فالعمدة في جواز العمل بها شهرتها و اشتهار العمل بها بين الأصحاب، حتّى سميت مشهورة، و إلّا فنفس الراوي (أبو خديجة) هو محل كلام، و اسمه «سالم بن مكرم» فقد صرّح النجاشي بأنه ثقة بينما ضعفه الشيخ (قدس سره) في بعض كلماته فقال إنه ضعيف جدّا، و عنه في بعض كلماته أنه ثقة، و توقف العلّامة في الخلاصة في أمره لتعارض الأقوال فيه «2».

و لعلّ خلاف العلمين فيه ناش عمّا ذكروه في الرجال من أنه كان في بعض أيّامه منصرفاً عن الحقّ، تابعاً لأبي الخطاب الملحد المعروف، حتّى هداه الله و رجع عنه إلى الطريق السوي فراجع.

و حينئذ يشكل الاعتماد على أحاديثه بعد عدم معلومية كون نقل هذا الحديث في أي حالة من حالاته، و قوله «بعثني» و إن كان ظاهراً في حال سلامته و لكنّه شهادة منه في حقّ نفسه.

و أمّا من حيث الدلالة فظهورها في حكم القضاة العدول ممّا لا ينبغي الريب فيه، و من الجدير بالذكر أنه ذكر عنوان القضاء مع قوله «عليكم» و هذا يؤيد ما مرّ منا في تفسير المقبولة و أن للقاضي أيضاً علواً، و لكن

لا توجد هذه اللفظة في نسخة التهذيب و كذا في نسخة الكافي (راجع ج 7 ص 412) و كذا في روضة المتقين (راجع ج 6

بحوث فقهية هامة، ص: 459

ص 6 كتاب القضاء) و كذا الجواهر (راجع ج 40 ص 1) كما أنه ذكر مقابل الرجوع إلى القضاة العدول، الرجوع إلى السلطان الجائر، و هذا يدلّ على أن المراد من الرجوع إليه لإرجاعه إلى القضاة أو لتصديهم لمنصب القضاء في بعض الأمور كما لا يخفى على من راجع تاريخ الخلفاء و غيرهم فقد كانوا يتصدون لبعض القضاء بأنفسهم أو بإحضار القضاة و التشاور معهم.

و التعبير بالخصومة و التداري في صدرها، كالتعبير بالتحاكم أيضاً، شاهد ظاهر على كون الكلام في منصب القضاء، و أما قوله «اجعلوا» ليس بمعنى قاضي التحكيم لمنافاته لقوله فإني قد جعلته قاضياً، بل الظاهر منه جعله بمعنى البناء العملي على الرجوع إليه، و أعلام الشيعة بأن يرجعوا إليه في خصوماتهم. دون الرجوع إلى غيره.

3- التوقيع المبارك المعروف ما رواه الصدوق في كتاب إكمال الدين

، عن محمّد بن محمّد بن عصام عن محمّد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب، قال سألت «محمّد بن عثمان العمري» أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، و ورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام): أمّا ما سألت عنه أرشدك الله و ثبتك - إلى أن قال-

و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجّتي عليكم و أنا حجّة الله «1» (و الحديث طويل أخذنا مقدار الحاجة و إن شئت تمام الحديث فراجع بحار الأنوار ج 53 ص 180).

و الكلام فيه أمّا من حيث السند فقد وقع الكلام في «محمّد بن محمّد بن عصام»

بحوث فقهية هامة، ص: 460

و لكنّه من مشايخ

الصدوق، مضافاً إلى أن الحديث متضافر في هذه المرحلة من نقله، فقد رواه الشيخ في كتاب الغيبة عن جماعة عن جعفر بن محمّد بن قولويه و أبي غالب الرازي و غيرهما، كلّهم عن محمّد بن يعقوب (الكليني) و هذا التضافر لعلّه كاف في الاعتماد عليه مع نقله في الكتب المعتبرة.

و أمّا إسحاق بن يعقوب فلم يرد في كتب الرجال ما يدلّ على حاله بل لعل عمدة روايته منحصرة بهذا التوقيع، لعدم نقل حديث آخر عنه في جامع الرواة، نعم قال الأسترآبادي صاحب الرجال الكبير فإنه قد يستفاد من هذا التوقيع علو رتبته (و لكن الناقل له هو نفسه) اللّهم إلّا أن يكتفي بنقل الكليني عنه و فيه ما لا يخفى.

أمّا من حيث الدلالة ففيه احتمالات:

1- الرجوع إليهم في الأحكام الكلية و الاستفتاء منهم، و قوله «إلى رواة أحاديثنا» قد يكون قرينة عليه، فإن الرواية تكون مرجعاً في الفتوى غالباً.

2- الرجوع إليه عند القضاء في المنازعات.

3- الرجوع إليهم في تدبير أمور الأمة و نظامها و الأحكام الولائية.

4- الرجوع إليهم في الجميع.

و لا ريب أن الأقوى هو الأخير، بل قد يقال أن الرجوع إليهم في الأحكام الشرعية لم يكن يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب، و لا يناسب التعبير بالحوادث أولًا، و كذا لا يناسب التعليل بكونهم حجّة على الناس ثانياً، فإن حجيّة نقل الأحكام المستفادة من الكتاب و السنّة لا يحتاج إلى هذا المعنى بل هي ثابتة بلا حاجة إلى جعلهم حجّة على الناس.

فالحوادث أمّا ناظرة إلى مسائل القضاء أو الولاية أو أعمّ منها.

هذا و لكن قد يقال أن متن أسئلة إسحاق بن يعقوب غير موجودة عندنا و لذا

بحوث فقهية هامة، ص: 461

يشكل الاعتماد على الأجوبة

لإبهامها بإبهام السؤال.

أقول: محمّد بن عثمان (قدس سره) كان الثّاني من الوكلاء الأربعة لمولانا صاحب العصر و الزمان (عجل الله فرجه الشريف) و الظاهر أن السؤال على يده منه (عليه السلام) عن الحوادث الواقعة إشارة إلى ما أفاده شيخنا الأعظم من الحوادث التي يرجع فيها كلّ واحد إلى رئيسه، و لم يكن الوصول في ذاك الوقت إلى ناحيته (عليه السلام) ممكناً لغالب الناس، فكان من اللازم أن يكون هناك مرجع يرجعون فيه إليه، بدلًا عن الرجوع إلى ولاة الجور، و عدم وجود السؤال بأيدينا لا ينافي ذلك، بعد وضوح الجواب، بل عدم ذكر الأسئلة في كلام الراوي لعلّه إشارة إلى وضوحها من الجواب، و مجرد وجود القدر المتيقن في الرواية لا يضرنا لما ذكرنا في محله من أنه غير ضائر بالإطلاق، و لو كان مضراً لم يجز التمسّك به في غالب الإطلاقات لوجود القدر المتيقن فيها غالباً.

و مال جمع من الأعاظم إلى إجمال الحديث، منهم سيدنا الأستاذ الحكيم، و احتمل الرجوع إلى الرواة لمعرفة حكم الحوادث أي الأحكام الكلية الشرعية كما ورد في حقّ غير واحد من أصحابهم (عليهم السلام) أنهم إذا لم يقدروا الوصول إليه في كلّ وقت، فاللازم عليهم الرجوع إلى بعض أكابر الرواة (انتهى ملخصاً) «1» و صرّح في جامع المدارك أيضاً بإجمال الحديث نظراً إلى أن «اللام» في «الحوادث» للعهد و المعهود هنا غير معلوم «2».

و استظهر المحقّق الإيرواني في حواشيه على المكاسب كونها ناظرة إلى مجرّد أحكام الشرعية لما فيهما من التعليل بقوله (عليه السلام) فإنهم حجتي عليكم، فإن الظاهر من الحجّة كونه في الأمور التي تحتاج إلى التبليغ.

بحوث فقهية هامة، ص: 462

هذا و لكن الإنصاف أن قبول الأحكام من

العلماء إنّما هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم، لا يحتاج إلى النصب، و لا إلى التصريح بكونهم حجج المعصومين (عليهم السلام) على الخلق، لما عرفت سابقاً من أن جواز ذلك هو من باب الحكم و ليس من المناصب الإلهية، فهذا التعليل دليل على أنه ناظر إلى القضاء و الولاية.

و احتمال العهد في الحوادث لا ينافي العموم، بعد توصيفها بالواقعة مضافاً إلى أنه لا خصوصية للحوادث، إذا جاز الرجوع في بعضها إليهم، جاز الرجوع في غيرها فتأمّل.

و الحاصل أن مقتضى إطلاقها شمولها للقضاء و الولاية، و التعبير بالحادثة و الواقعة و كونهم حجّة شواهد ظاهرة على ما ذكرنا، و لا يضرنا عدم وجود أسئلة إسحاق بن يعقوب بأيدينا.

و منه يظهر الإشكال في ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) في منية الطالب (بعد نقل الوجوه التي ذكرها شيخنا الأعظم (قدس سره) في مكاسبه) حيث قال: فلعل المراد من الحوادث هي الحوادث المعهودة بين الإمام (عليه السلام) و السائل، و على فرض عمومها فالمتيقن منها هي الفروع المتجدّدة و الأمور الراجعة إلى الإفتاء لا الأعمّ «1».

4- حديث «مجاري الأمور.»

روى في تحف العقول في باب المختار من كلمات الحسين بن علي (عليهما السلام) أنه يروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه إلى أن قال و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون ذلك، بأن مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله بحوث فقهية هامة، ص: 463

و حرامه فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، و ما سلبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن الحقّ و اختلافكم في السنّة بعد البينة الواضحة، و لو صبرتم على الأذى

و تحملتم المئونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد و عنكم تصدر و إليكم ترجع و لكنّكم مكنتم الظلمة من منزلتكم «1». و الحديث ضعيف سنداً بالإرسال كما هو ظاهر، و أمّا بحسب الدلالة قال بعضهم- كسيدنا الأستاذ الحكيم في نهج الفقاهة- بإجماله.

و قال المحقّق النائيني (قدس سره) في هذا الخبر و خبر «العلماء ورثة الأنبياء» و نحوها من الأخبار الواردة في علو شأن العالم، أن من المحتمل قريباً كون العلماء فيها هم الأئمّة (عليهم السلام) «2».

و قال المحقّق الإيرواني أن المراد بالأمور إمّا الإفتاء فيما اشتبه حكمه، أو القضاء فيما اشتبه موضوعه «3».

و لكن الإنصاف- كما يظهر لمن نظر صدره و ذيله- أن العلماء فيه هم العارفون بدين الله و حلاله و حرامه، كما أن المراد بالأمور ما يشمل الولاية و الحكومة، فإن الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و إشارة إلى غلبة أهل الباطل على الولاية، و منع أهل الحقّ عن محالها، و لو صبروا عادت الأمور إلى محالها، و تكون الحكومة بأيديهم، و لعمري أن ذيلها كالصريح في ذلك، و ظني أن القائلين بأنها ظاهرة في خصوص الإفتاء أو هو القضاء قصروا نظرهم إلى خصوص جملة «مجاري الأمور» و إلّا لو نظروا سائر فقرأت الحديث كانت واضحة عندهم فدلالتها واضحة

بحوث فقهية هامة، ص: 464

و إن كان سندها مرسل.

5- حديث «العلماء حكّام الناس»

و في غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام)

«العلماء حكّام الناس»

و روى المجلسي (قدس سره) في البحار عن الصادق (عليه السلام)

«الملوك حكّام الناس، و العلماء حكّام على الملوك»

«1» و ضعف سند الحديث بالإرسال ظاهر كدلالته، فإن المراد من الحكومة بقرينة ما روى عن الصادق (عليه السلام) في كلام المجلسي هو الحكومة على

القلوب و الأفئدة، لا الحكومة الظاهرية و إلّا لم تناسب جعل حكومتهم على الحكّام، بل لا بدّ أن يكون على الناس و هذا ظاهر.

مضافاً إلى أن ظاهرها كونها إخبار عن وقوع هذا الأمر في الخارج لا الإنشاء و جعل هذا المنصب لهم فتأمّل.

6- حديث «الفقهاء أمناء الرسل»

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)

«الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل يا رسول الله! و ما دخولهم في الدنيا؟ قال اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم»

! «2». و في سند الحديث «النوفلي» و «السكوني» و فيهما كلام معروف، فالركون إليه لا يخلو من إشكال، و إن قبله جماعة، و مع غض النظر عن سنده لا دلالة له على المطلوب، أمّا أولًا: فلأن كونهم أمناء الرسل بنفسه غير كاف، لاحتمال كونهم أمناءهم على الأحكام الشرعية و المعارف الدينية، بل ظاهره ذلك، و ثانياً: ما ورد في ذيل الحديث ينادي بأعلى صوته أن المراد منه هو الأمانة على الدين و معارفه بحوث فقهية هامة، ص: 465

و أحكامه، و لا يمكن التمسّك بإطلاق الأمناء مع قوله فاحذروهم على دينكم فالعلماء حافظون لتراثهم هذا و أمناؤهم عليه.

7- حديث «الفقهاء حصون الإسلام»

و في الكافي أيضاً بسنده عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهم السلام)

أن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن المدينة

«1» و في طريقة علي بن حمزة و قد ضعفه أكثر علماء الرجال و نقل ابن محبوب عنه، و هو من أصحاب الإجماع، غير كاف في تصحيح الحديث، كما أشرنا إليه غير مرّة.

و أضعف من سنده، دلالته، فإن مجرد كونهم حصوناً لا يدلّ على مسألة الولاية كما هو واضح، لإمكان كونه ناظراً إلى أنهم حافظون لأحكام الله و حلاله و حرامه، مثل ما ورد في حقّ جمع من أعاظم أصحاب الأئمّة كزرارة بن أعين و نظرائه و أنه لو لا هؤلاء لاندرست أحكام النبوة.

نعم لا يبعد أن يكون فيه إشعار بذلك، و لكن كيف يمكن إثبات مسألة مهمّة

كولاية الفقيه بمثل هذه الإشعارات.

8- حديث «العلماء ورثة الأنبياء»

روى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد بن عيسى عن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): (في حديث يذكر فيه فضل العلماء)

إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً و لا درهماً و لكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر

«2».

بحوث فقهية هامة، ص: 466

و في معناه أحاديث أخر في الكافي و البحار و غيرهما.

و أمّا سند الحديث فهو قوي و رجال السند معروفون، و المراد من القداح عبد الله بن ميمون، و هو ثقة كما صرّح به غير واحد.

و أمّا دلالته فقد قال في كتاب البيع: إن مقتضى كون الفقهاء ورثة الأنبياء- و منهم رسول الله (صلى الله عليه و آله) و سائر المرسلين الذين لهم الولاية العامّة على الخلق- انتقال كلّما كان لهم إليهم، إلّا ما ثبت أنه غير ممكن الانتقال، و لا شبهة في أن الولاية قابلة للانتقال، كالسلطنة التي كانت عند أهل الجور موروثة خلفاً عن سلف «1».

و لكن قال في نهج الفقاهة أن ما ورد في شأن العلماء- مع ضعف سند بعضه- قاصر عن الدلالة على ثبوت الولاية بالمعين المقصود فإن الأوّل (العلماء ورثة الأنبياء) صريح في إرث العلم «2».

و صرّح المحقّق الإيرواني أيضاً بأن المراد منه وراثة العلم، كما يشهد به عنوان الموضوع، و مع الغض عنه ليست القضية مسوقة في مقام البيان، بل هي مهملة، و المتيقن ما ذكرنا، مضافاً إلى أن قوله «و إن الأنبياء» إلى آخره نصّ فيما ذكرنا و مبين لوراثة العلم «3».

أقول: فالمستدل بها يستدلّ بإطلاق الوراثة فتشمل الولاية العامّة، و المنكر يدعى

كونها نصّاً في وراثة العلم أولًا، و عدم كونها في مقام البيان حتّى يؤخذ بإطلاقها ثانياً.

و الإنصاف ظهورها- لو لا صراحتها- في وراثة العلم، لما ورد في ذيلها،

بحوث فقهية هامة، ص: 467

و حاصله أن ميراث الأنبياء هو العلم، و العلماء الآخذون بعلم الأنبياء وارثون لهم. فهو أخبار عن قضية خارجية تكوينية لا قضية إنشائية تشريعية كما يظهر بمراجعة أمثاله، التي ورد في هذا المعنى، و ليس المراد منه نفي وراثتهم للمال، كما يظهر من الحديث المجعول في أمر غصب فدك، بل المراد أن العمدة في ميراثهم هي العلم و لا منافاة بينه و بين توريثهم أموالًا يسيرة أحياناً، كما يظهر من سياق الحديث، و هو كونه في مقام بيان أمر خارجي تكويني لا تشريعي.

9- حديث «اللّهم ارحم خلفائي»

روى الصدوق في الفقيه عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)

اللّهم ارحم خلفائي، قيل يا رسول الله! و من خلفاؤك؟ قال الذين يأتون من بعدي يروون حديثي و سنتي.

و في بعض طرق الحديث زاد: ثمّ يعلمونها «1».

و بعض طرق الحديث مرسلة و بعضها مسندة، و للحديث أسناد مختلفة مروية في كتب متعدّدة، و قد يقال أن كثرة أسانيدها توجب الاطمئنان بصدورها، و لا سيّما إنها مروية من طرق الفريقين، و قد رواه في كنز العمال مع تفاوت يسير، قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)

رحمة الله على خلفائي، قيل و من خلفاؤك يا رسول الله (صلى الله عليه و آله)؟ قال الذين يحيون سنتي و يعلمونها الناس «2». هذا و لكن الكلام في مفاد الرواية، فقد يقال: إن إطلاق الخلافة فيها يشمل جميع مناصب النبي (صلى الله عليه و آله) و قد كان له

منصب تبليغ آيات الله، و القضاء، و الولاية فهذه الشئون الثلاثة تكون للعلماء من بعده، بل قد يقال بظهورها في الأخير، فإن الخلافة

بحوث فقهية هامة، ص: 468

أمر معهود من أوّل الإسلام ليس فيه إبهام، فلو لم تكن ظاهرة في الولاية و الحكومة فلا أقل من أنها القدر المتيقن منها «1».

و لكن أنكر دلالته على غير نشر الأحكام و تبليغها غير واحد منهم، كالمحقّق الإيرواني و غيره، و الإنصاف أن في دلالتها على المقصود، إشكال من جهتين: من جهة كون ظاهرها قضية خبرية تحكي عن الخارج، لا في مقام إنشاء الخلافة لرواة الحديث.

و من أجل أن قوله في ذيلها «و يعلمونها الناس» أو «و يعلمونها عباد الله» أو شبه ذلك، أوضح قرينة على أن المراد بالخلافة فيها هو تعليم الناس و هدايتهم إلى الله، و تبليغ أحكام الدين و معارفه، و كون الخلافة أمراً معهوداً يدفعه وجوب قرينة صارفة ظاهرة في متن الرواية و هي مسألة التعليم.

و فيها إشكال ثالث من حيث عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، لأنه فرق واضح بين أن يقال هؤلاء خلفائي، أو يقال اللّهم ارحم خلفائي، فإن الأوّل يمكن أن يكون في مقام البيان من جهة أنحاء الخلافة دون الثّاني، فإنه في مقام الدعاء لهم بعد الفراغ عن خلافتهم.

10- حديث «السلطان ولي من لا ولي له»

و قد اشتهر في الألسن و تداول في بعض الكتب كما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) بل نسبت روايته عن النبي (صلى الله عليه و آله) إلى كتب العامّة و الخاصّة

«ان السلطان ولي من لا ولي له».

و لعلّ الأصل فيه من كتب العامّة ما رواه البيهقي في سننه عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) أنه قال لا

تنكح المرأة بغير أمر وليها، فإن نكحت فنكاحها باطل، ثلاث مرّات، فإن بحوث فقهية هامة، ص: 469

أصابها فلها مهر مثلها بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له «1». و يظهر من بعض الكتب أن الأصل فيه في كتب الخاصّة ما رواه في المستدرك في الباب الثّاني من أبواب العاقلة الحديث الثّاني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) الوارد في رجل من أهل الموصل قتل خطأ و قال في آخره ما حاصله: إنه إن لم يكن له في الموصل ولي فأنا وليه «2».

و من الواضح أنه أجنبي عمّا نحن بصدده لعدم استفادة قاعدة كلية منه.

هذا و لكنّ استدلّ بالحديث صاحب الجواهر و غيره، قال في الجواهر في مبحث أولياء النكاح في نفي كلام المشهور: إنه ليس للحاكم ولاية في النكاح بالأصل، إن الأصل مقطوع بعموم ولاية الحاكم من نحو قوله (صلى الله عليه و آله)

السلطان ولي من لا ولي له «3». و الحاصل أنه لا تزيد عن حديث مرسل أو ضعيف مروي من طرق العامّة، اشتهر التمسّك به في بعض الكتب، و لكن لم يثبت الاشتهار بنحو يوجب انجبار السند.

و أمّا الكلام في دلالته فتارة يكون من جهة لفظ «السلطان» و في بعض كلمات المحقّق الإيرواني استظهار كونه هو الإمام المعصوم (عليه السلام) من بعض كلمات شيخنا الأعظم في مكاسبه «4».

و الإنصاف: أنه عام في كلّ سلطان عادل و لا وجه لاستظهار خصوص المعصوم (عليه السلام) منه.

و أخرى من جهة احتمال كون ورودها في الميّت الذي لا ولي له كما احتمله في منية الطالب «5».

بحوث فقهية هامة، ص: 470

و الإنصاف أنه أيضاً لا دليل عليه.

و ثالثة: من جهة أنها ناظرة إلى ثبوت الولاية

للسلطان في كلّ ما يحتاج إلى ولي، و الاستدلال به لما نحن فيه من ثبوت الولاية للفقيه في ذلك موقوف على عموم النيابة، كما أشار إليه في منهاج الفقاهة «1».

و الأحسن أن يقال إنه لا دلالة للحديث في ثبوت الولاية إلّا للغيّب و القصّر و أمثالهم فإنه ناظر إلى أشخاص يحتاجون إلى ولي لهم، لا إلى المجتمع الإسلامي و الحكومة الإسلامية، فإن السلطان العادل ولي جميعهم (على القول بالولاية) لا أنه ولي من لا ولي له، و إن شئت قلت: إنها ناظرة إلى إثبات الولاية في الأمور الخاصّة مثل ما ذكر، لا الأمور العامّة، التي لا فرق فيها بين الأفراد و الأشخاص، فالاستدلال بها في غير هذه الموارد مشكل جدّاً، فإن ظاهرها تقسيم الناس إلى قسمين: من ثبت له ولي، و من لا ولي له، و من الواضح أن هذا التقسيم يكون في الأمور الجزئية الخاصّة.

و هناك روايات أخرى مرسلة أو غيرها وردت في فضل العلماء و شبهه، لا دلالة لها، أعرضنا عنها لوضوح عدم دلالتها.

و الإنصاف أن جماعة ممن لهم ولع بجمع الأدلّة في المسألة و تكثيرها، خوفاً من مكابرة المخالفين، قد أفرطوا في المقام، و تشبثوا بكل ما فيه إشعار، بل و بعض ما ليس فيه إشعار أيضاً، و قد أوجب هذا الأمر الوهن في أصل المسألة، مع أنا في غنى من هذه التكلفات بعد وضوح بعض أدلّة المسألة و كفايتها و الحمد لله.

حاصل ما يمكن الاعتماد عليه في إثبات ولاية الفقيه

و قد تلخص ممّا ذكرنا أن العمدة في إثبات ولاية الفقهاء أيدهم الله جميعاً، في أمر الحكومة و نظم البلاد و العباد، هو الدليل العقلي الذي أوردناه في أوّل البحث مؤيداً بسيرة النبي (صلى الله عليه و آله) و

بعض الأئمّة الهادين (عليهم السلام).

و ما ذكروه في بحث لزوم البعثة، و لزوم نصب الإمام (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه و آله) في علم الكلام.

و من بين الروايات العشر تؤيده رواية «الحوادث الواقعة» و «مجاري الأمور» لوضوح دلالتها و إن كان الكلام في إسنادهما، و أمّا غيرها من الروايات فقد عرفت عدم وضوح دلالتها، و هذا المقدار بحمد الله كاف في إثبات الولاية بالمعنى المذكور إن شاء الله، و الله العالم بحقائق الأمور.

بقي هنا أمور مهمّة:
[الأمر] الأوّل: هل يكون تعيين الفقيه لمنصب الولاية بالنصب أو الانتخاب
اشارة

ما هو مقتضى الأدلّة السابقة؟ و ما هو مغزاها؟ أمّا الروايات العشر على القول بدلالتها أو دلالة بعضها لا تدلّ إلّا على نصب الفقيه بعنوان ولي الأمر من ناحية الإمام المعصوم (عليه السلام) أو النبي (صلى الله عليه و آله)، و هو يرجع بالمآل إلى نصبه من قِبل الله تبارك و تعالى.

فقوله «إني جعلته حاكماً» الوارد في المقبولة، أو «إني جعلته قاضياً»، الوارد في المشهورة، قوله «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» أو «أن مجاري الأمور بيد العلماء» يدلّ على ثبوت هذا المنصب لهم من غير حاجة إلى بحوث فقهية هامة، ص: 472

انتخاب الناس، أو بيعتهم، أو شبه ذلك، فهذا أمر ثابت لهم ثبوتاً إلهياً كما هو ظاهر واضح، و ليس فيها من أمر الانتخاب عين و لا أثر.

أمّا قوله «فليرضوا به حكماً» معناه وجوب الرضا بحكومتهم، و هو على خلاف القول بالانتخاب أدل، بل صريح فيه، لا سيّما مع تعليله بقوله فإني قد جعلته حاكماً، فالنصب الإلهي يفرض على الناس الرضا بحكومته.

و أمّا قوله «فإن كان كلّ واحد اختار رجلًا من أصحابنا» فهذا إنّما يرجع إلى قاضي التحكيم أو التوكيل في أمر خاصّ، و لا دخل له

بالانتخاب في أمر عام، لأنه لا معنى لانتخاب كلّ إنسان من يراه صالحاً للحكومة العامّة، حتّى يكون كلّ منهم حاكماً عاماً و لو كان المنتخب (بالكسر) فرداً واحداً، و إلّا تعددت الحكّام بعدد الخلائق! و أمّا الدليل العقلي المؤيد بسيرة النبي (صلى الله عليه و آله) و الولي (عليه السلام) فلا يدلّ أيضاً إلّا على النصب من ناحية الله سبحانه، أو النصب من جانب النّبي (صلى الله عليه و آله) و الإمام المعصوم (عليه السلام).

أضف إلى ذلك كلّه أنه لا يرى في روايات أصحابنا و تاريخهم من أمر الانتخاب بالنسبة إلى ولاية الفقهاء عين و لا أثر، و لو كان ذلك لبان، و كم تكلموا في الأبواب المختلفة عن ولاية الفقهاء إثباتاً و نفياً، و لم يتفوه بالانتخاب أحد من الأعاظم و غيرهم و لو بشطر كلمة في ذلك، و لم يتكلم أحد منهم إلّا بكون ذلك نصباً إلهياً بعنوان النيابة عنه (عليه السلام)، و لذا شاع في كلماتهم تسميته بنائب الغيبة، و تقسيمهم لنوابه (عليه السلام) إلى النواب الخاصّة و هم أربعة أمجاد، و النواب العامّة و هم غيرهم، و من المعلوم أن النائب سواء كان عاماً أو خاصّاً إنّما يعينه المنوب عنه لا آحاد الناس، و قد كان للأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وكلاء منصوبون من قبلهم في كثير من الأزمنة من غير دخل للناس و كذا الحال في وكلائهم العامّين.

بحوث فقهية هامة، ص: 473

و من العجب، إصرار بعض على كون فعلية الولاية للفقهاء عبر انتخاب الناس، مع أنه لم يرد في أثر صحيح، و لا في رواية ضعيفة، و لا في أي تاريخ من تواريخ أصحابنا.

توضيح ذلك: أن الأمر الوحيد الذي يفرق بين

الشيعة و أهل السنّة في أمر الخلافة أن الشيعة تعتقد بأن الإمام (عليه السلام) لا بدّ أن يكون معصوماً منصوباً من قبل الله بيد النبي (صلى الله عليه و آله) أو بتنصيص إمام قبله، و أهل السنّة معتقدون بأنه (صلى الله عليه و آله) لم ينص على أحد، و على الناس انتخاب الإمام و الخليفة، فهذا هو الفارق بين المذهبين، فاختيار الناس لا دخل له في الخلافة عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) عند شيعة أهل البيت لا قليلًا و لا كثيراً.

و من عجيب الكلام (و ما عشت أراك الدهر عجباً) اجتراء البعض في زماننا بأن نصب علي (عليه السلام) بالخلافة في الغدير لم يكن نصباً إلهياً، بل كان اقتراحاً من النبي (صلى الله عليه و آله) ثمّ أجابه الناس بالبيعة له (يعني كان للناس أن لا يبايعوه) مع أن آية التبليغ تنادي بأعلى صوتها بأنه لم يكن لرسول الله (صلى الله عليه و آله) أيضاً خيرة في هذا الأمر، فكيف بغيره، نعوذ بالله من سوء الفهم.

و بالجملة، ما ذكرناه من كون الإمام المعصوم (عليه السلام) من قبل الله من ضروريات مذهب الشيعة، و قد طفحت كتبهم في علم الكلام و الحديث و التفسير و التأريخ بذلك فمن أنكره أنكر ضرورياً من ضروريات هذا المذهب.

ثمّ يجري هذا الكلام بعينه في ولاة الأمر من غير المعصومين من بعدهم، فهم منصوبون من قبلهم، لا من قبل الناس، مأمورون بأمرهم، لا بأمر الناس، فالولاية إنّما هي لله و لمن جعلها له، فتعينها من العالي لا من الداني.

نعم تبقى هنا مسألتان:
اشارة

مسألة «لزوم الفوضى و مسألة «البيعة و موقفها».

أمّا [المسألة] «الأولى»: فحاصلها

أنه إن جعلت الولاية للفقهاء عامّة، ولاية فعلية، فأمّا أن يكون لكلّ واحد منهم مستقلًا بالفعل، فهذا يوجب الاختلال، و الاختلاف الكثير، لتعدد الولاة بتعدد العلماء، و هو أمر غير ممكن، لوقوع التشاجر و اختلال النظام، و أمّا أن يكون ولاية بعضهم مشروطة بولاية بعض، أو كون الولاية للمجموع من حيث المجموع، و هذا ممّا لا محصل له.

فلا بدّ أن يقال إن الفقهاء منصوبون لذلك شأنياً، و إنّما تكون ولايتهم فعلية بانتخاب الناس، لا غير.

أقول: عند تعدد الفقهاء لو تصدى بعضهم لأمر الولاية و تدخل فيها، فعلى الباقين قبول قوله و حكمه، كما هو كذلك في أمر القضاء أو رؤية الهلال مثلًا، و لو بلغ حد التزاحم قبل التداخل، فلا يبعد استعمال المرجحات كما ورد في المقبولة، بناءً على دلالتها على المقصود، بل يمكن التمسّك بالأولوية و لو على فرض اختصاصها بأمر القضاء، و تشخيص المرجحات من العلم و الفقاهة و التدبير و الإحاطة بالأمور و الوثاقة و غيرها إنّما هو على أيدي أهل الخبرة، كما هو كذلك في مرجع الفتوى و التقليد، و ليس هذا من قبيل الانتخاب أبداً، بل من قبيل تشخيص المصداق الموجود في الخارج كما في تشخيص الطبيب للسلامة و المرض في أمر الصوم.

و بالجملة فإن جميع هذه الموضوعات يرجع فيها إلى أهل الخبرة من دون الحاجة إلى الانتخاب.

و قد جرى هذا الأمر في مرجع الفتوى و استقر تعيين الأعلم في الفقاهة على أهل الخبرة من العلماء في فرد معين أو أفراد معيّنين في كثير من الأعصار، و لم يلزم من ذلك اضطراب، و اختلال في نظام الأمة، نعم لا ريب في أنه

فرق بين مسألة التقليد و الولاية، و ليس مقصودنا المماثلة من جميع الجهات، بل الغرض أن حلّ مشكلة

بحوث فقهية هامة، ص: 475

التزاحم يمكن عن طريق أهل الخبرة، و ليس لآحاد الناس غير العارفين بهذه الأمور حقّ الانتخاب بل ليس لأهل الخبرة أيضاً حقّ الانتخاب، بل تشخيص المصداق كتشخيص الطبيب، و كسائر موارد الرجوع إلى أهل الخبرة.

هذا هو المعيار المتداول في الفقه الذي ينبغي للفقيه متابعته، لا الانتخاب الذي ليس له عين و لا أثر في الفقه و لا في التأريخ.

إن قلت: من أين يعرف أن هذا الشخص من أهل الخبرة دون ذاك.

قلت: كما يعرف الطبيب و غيره من أهل الخبرة فيما يحتاج إليه، فهل الطبيب يكون بانتخاب الناس؟ و كذلك أهل الخبرة في علوم الدين أو معرفة زعمائه و من فيه المرجحات لتصدي الولاية.

و قد تلخص ممّا ذكرنا أنه إن قام بعض الفقهاء اللائقين بأمر الولاية من غير معارض كان على غيره متابعته من دون الحاجة إلى الانتخاب، و إن وقع التزاحم، فاللازم الأخذ بالمرجحات كما ورد في غير مورد في أبواب الفقه، لانحصار الطريق فيه و عدم المناص عنه، و الناظر في هذا الأمر هو أهل الخبرة و لا حاجة إلى الانتخاب، بل لا دليل عليه، لما عرفت من عدم وجوده في رواياتنا و لا كتب فقهائنا.

إن قلت: قد جرت سيرة العقلاء من الأمم على الانتخاب في أمر الولاية، و يشمله أدلّة الوفاء بالعقود، و عموم تسلّط الناس على أموالهم (و بالأولوية على أنفسهم).

قلت: جريان سيرتهم عليه إنّما هو لعدم اعتقادهم بتعيين إلهي من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام) و أما نحن، بعد قولنا به وفقاً للأدلّة السابقة، و إن الوظيفة هنا معلومة من

قبلهم (عليهم السلام) و إن الولاية من جانب الله فقط لا يبقى لنا مجال لهذا الكلام.

بحوث فقهية هامة، ص: 476

هذا مضافاً إلى الانتخاب الذي دار بينهم إنّما هو انتخاب الأكثرية، لا الجميع لعدم إمكانه عادة، بل المراد من الأكثر عندهم أكثر من أن يشترك في دور الانتخاب، و قد لا يشترك فيه إلّا الأقلون منهم، و قد شاهدنا في كثير من الانتخابات أن وكلاء الناس ينتخبون بآراء قليلة بالنسبة إلى كلّ المجتمع كمليون نفر من بين عشرة ملايين، و لو صحت هذه الحكومات كانت من قبيل حكومة جمع قليل على جمع آخر كثير بغير رضي منهم، و لا توكيل.

إن قلت: أن الولي الفقيه لا يقدر على إنفاذ الولاية من دون مشاركة الناس في أمره، و تأييدهم له، و بذل أنفسهم في نصرته و دعمه، فالانتخاب إنّما هو لجلب مساعدتهم لذلك، و هذا هو المراد من أن ولاية الفقيه لا تكون إلّا اقتضائياً، و فعليتها بالانتخاب.

قلت: هذا الاستدلال عجيب، فإن عدم قدرة الفقيه على إنفاذ الولاية من دون مساعدة الناس لا يكون دليلًا على عدم فعليتها بدونه، كما في سائر الحقوق، مثل من كان مالكاً لدار و غصبها منه غاصب لا يقدر على أخذ حقّه منه بدون مساعدة الناس، و أين هذا من كون مالكيته شأنياً لا فعلياً، و بالجملة أصل الولاية غير منوط بمساعدة الناس، و إنّما المنوط بها هو إنفاذ الولاية و فرق واضح بين استعمال الولاية و أصل ثبوتها.

هذا كلّه بالنسبة إلى ما تقتضيه العناوين الأولية في المسألة و مقتضى الروايات و الأدلّة السابقة.

نعم، قد تقتضي العناوين الثانوية لأمر الانتخاب، و تدعونا إليه من دون أن تكون ولاية الفقيه منوطة شرعاً به، و

ذلك لدفع تهمة الاستبداد و السلطة على الناس بغير رضي منهم، مضافاً إلى جلب مساعدتهم عن طريق مشاركتهم في هذا الأمر،

بحوث فقهية هامة، ص: 477

و اعتمادهم على الحكومة، و دفع وساوس الشياطين الذين يعاندون الحكومة الإسلامية و غير ذلك من الأمور، و لكن أين هذا من وجوب الانتخاب شرعاً في أحكامه الأولية، و هذا أمر ظاهر و الحمد لله.

موقف البيعة من أمر الولاية
اشارة

الثّاني: أ و ليست البيعة الواردة ذكرها في الكتاب و السنة بمعنى انتخاب الأمّة أحداً للرئاسة و الزعامة؟ فهل تنطبق على مسألة الانتخاب المُعتاد في عصرنا أو هو أمر آخر وراءه؟

و الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى شرح حقيقة البيعة و مغزاها، ثمّ بيان أحكامها.

فنقول: إن البيعة مأخوذة من البيع، كما صرّح به أرباب اللغة، فكما أن البائع يبيع سلعته من آخر، فالذي يبائع، يبيع طاعته لغيره و يبذلها له، و في مقابله يتعهد هو له بذل النصح و الحماية و تدبير أمره، و لذا يقال «المبايعة» من باب المفاعلة.

و بناءً عليه هي من قبيل العقود المشتملة على الإيجاب و القبول، و يمكن أن يقال هي كالإيقاعات في كثير من الأوقات، لأن العهد و الالتزام بالطاعة و بذل الأموال و الأنفس يكون من طريق واحد فتأمل (فراجع لسان العرب و الصحاح و المفردات و غيرها).

و التصافق بالأيدي فيها كالتصافق بها في البيوع و المعاملات المتداولة، هذا هو حقيقتها.

و يستفاد من الروايات و التواريخ أنه كان لها مراتب مختلفة، فتارة البيعة على عدم الفرار، و أخرى على المال و الولد، و ثالثة على بذل الأنفس، فإذا أعطى شيئاً من ذلك لولي الأمر لا بدّ له من الوفاء به، بناءً على شمول أدلّة الوفاء بالعقد أو العهد، أو

المؤمنون عند شروطهم، لها.

بحوث فقهية هامة، ص: 478

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا يتم هذا البحث إلّا بالتأمّل في الأمور التالية.

1- البيعة و ماهيتها

إن ماهية البيعة و جوهرها كما عرفت ليست توكيل الغير على تمشية الأمور و تدبيرها، بل على بذل الطاعة و المساعدة، فهي على عكس الانتخاب و الوكالة، ففي الوكالة يتعهد الوكيل على إنجاز ما يريده موكله، ما أبقاه في هذا المنصب، و أما البيعة فهي تعهد من ناحية المبايع على أن يطيع لمن بايعه و لا يتخلف عن أمره، فكأنه يبيعه شيئاً، و لا يقدر على عزله عن هذا المقام، و هذا بخلاف التوكيل فإنه يجعل الوكيل كنفسه، و تصرفاته كتصرفاته، و هذا أمر ظاهر، و من العجب وقوع الخلط بينهما في بعض الكلمات، مع الاختلاف الواضح بين مغزاهما و مفهومهما.

2- أدلّة مشروعيتها

قد وردت البيعة في كتاب الله في سورة الفتح، في بيعه الشجرة في الآية 10 و 18 فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

و قال تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) و ظاهر الأولى وجوب الوفاء و عدم النكث.

و قد أشير إليها في سورة الممتحنة عند ذكر بيعة النساء فقال تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً. فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «1». فكان (صلى الله عليه و آله) يجعل يده في إناء من الماء و كانت النساء يضعن بحوث فقهية هامة، ص: 479

أيديهن في الطرف الآخر فتقع البيعة و المبايعة بها (كما في التفاسير و التواريخ).

و ليس في كتاب الله غير هذه الآيات الثلاث بالنسبة إلى

البيعة، هذا و قد وقعت البيعة من الأنصار في أول إسلامهم في العقبة الأولى و الثّانية، و يظهر منها أنّها كانت معروفة قبل الإسلام يعرفها العرب، و لم يكن أمراً حادثاً في الإسلام.

هذا و لكن من الواضح أن البيعة للنبي (صلى الله عليه و آله) لم تكن سبباً لولايته على الناس، فإن الآيات القرآنية صريحة في أن الله جعله (صلى الله عليه و آله) ولياً على المؤمنين و أوجب طاعته بقوله (أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ)* و (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) «1» و لذا لم تكن البيعة من كلّ من يدخل الإسلام، فالإسلام كان بالشهادتين و إظهار الإيمان بالوحدانية و النبوة لا بالبيعة.

كما يظهر من التواريخ كانت البيعة تؤخذ من المسلمين أحياناً، و تتجدد عند وقوع بعض الحوادث الهامة ثانية و ثالثة، فبيعة الناس له لم يكن من قبيل انتخابه للولاية، بل تأكيداً للطاعة و بذل الأموال و الأنفس، و هذا أمر ظاهر لا حجاب عليه.

كما أن الأمر بالنسبة إلى وصيه (عليه السلام) أيضاً كان كذلك، فقد أوصى من أوّل أمره في وقعة الدار، إلى آخر عمره الشريف بولاية علي (عليه السلام) و قد أمر بتبليغ ولايته الإلهية في الغدير، و أنه إن لم يفعل فما بلغ رسالته، فكأن أخذ البيعة له حينئذ، تأكيداً على الطاعة، لا من قبيل انتخابه و فعلية ولايته ممّا لا يتفوه به من كان له أدنى خبرة بأحاديث ولاية مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).

و يجوز مثلها أيضاً بالنسبة إلى الفقيه بعد ما جعله (عليه السلام) حاكماً و قاضياً على الناس، و أمر بالرجوع إليه في الحوادث الواقعة، و جعل مجاري الأمور بأيديهم، إلى غير ذلك، فالبيعة له أيضاً تأكيد

على ما أعطاه الله من المنزلة و المقام و كذا

بحوث فقهية هامة، ص: 480

بناء على الدليل العقلي السابق.

سلمنا أن البيعة عقد مستقل بذاتها يجب الوفاء به، و لا يختص بأحد دون أحد كما قد يبدو من بعض رواياتها، و لكن الروايات الواردة في حكم البيعة إنّما هي ناظرة إلى وجوب العمل بها و ليست في مقام بيان شروط من يبايعه الناس، و إن أبيت إلّا عن إطلاقها من هذه الجهة فهي تشمل الفقيه و غير الفقيه، و تكون على خلاف المطلوب أدل، فتدل على جواز اختيار كلّ إنسان صالح بحسب الظاهر للولاية، أي شخص كان فقهياً أو غير فقيه، و جازت البيعة معه، و إليك بعض ما ورد في هذا الباب: منها:

عن المفضل بن عمر قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام).: كيف ماسح رسول الله (صلى الله عليه و آله) النساء حين بايعهن؟ فقال دعا بمركنه الذي كان يتوضأ فيه فصب فيه ماء ثمّ غمس فيه يده اليمنى فكلّما بايع واحدة منهم قال اغمسي يدك كما غمس رسول الله (صلى الله عليه و آله) فكان هذا مماسحته إياهن «1».

و ما روى أحمد بن إسحاق عن سعدان بن مسلم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)

أ تدري كيف بايع رسول الله (صلى الله عليه و آله) النساء؟ قلت: الله أعلم و ابن رسوله أعلم، قال: جمعهن حوله ثمّ دعا بتور برام، فصب فيه نضوحاً ثمّ غمس يده «إلى أن قال» ثمّ قال اغمسن أيديكن ففعلن، فكانت يد رسول الله (صلى الله عليه و آله) الطاهرة أطيب من أن يمس بها كف أنثى ليست له بمحرم ! «2». و ما روى محمّد بن علي بن الحسين

بإسناده عن ربعي بن عبد الله (عليه السلام) أنه قال لما بايع رسول الله (صلى الله عليه و آله) النساء و أخذ عليهن، دعا بإناء فملأه، ثمّ غمس يده في الإناء، ثمّ بحوث فقهية هامة، ص: 481

أخرجها ثمّ أمرهن أن يدخلن أيديهن فيغمسن فيه «1». و ما روى سعدان بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث مبايعة النبي (صلى الله عليه و آله) النساء، أنه قال لهن اسمعن يا هؤلاء أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً و لا تسرقن و لا تزنين و لا تقتلن أولادكن و لا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن و أرجلكن و لا تعصين بعولتكن في معروف، أقررتن؟ قلن: نعم «2». و ما روى أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لما فتح رسول الله (صلى الله عليه و آله) مكّة بايع الرجال ثمّ جاءه النساء يبايعنه. فقالت (أمّ حكيم): يا رسول الله (صلى الله عليه و آله) كيف نبايعك فقال: إني لا أصافح النساء، فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثمّ أخرجها فقال: أدخلن أيديكن في هذا الماء فهي البيعة

«3». و ما روى مسمع بن أبي سيارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال فيما أخذ رسول الله (صلى الله عليه و آله) البيعة على النساء أن لا يحتبين و لا يقعدن مع الرجال في الخلاء

«4». و ما روى ابن جنيد أنه روى أن رجلًا جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ليبايعه، فقال: يا أمير المؤمنين ابسط يدك أبايعك على أن أدعو لك بلساني، و أنصحك بقلبي و أجاهد معك بيدي. فقال: حرّ أنت أم عبد؟ فقال عبد، فصفق أمير المؤمنين (عليه السلام) يده فبايعه

«5». و ما روى الطبرسي في (الاحتجاج) عن النبي (صلى الله عليه و آله)

في احتجاجه يوم الغدير: عليّ (عليه السلام) تفسير كتاب الله، و الداعي إليه، ألا و إن الحلال و الحرام أكثر من أن أحصيهما

بحوث فقهية هامة، ص: 482

و أعرفهما، فآمر بالحلال و أنهي عن الحرام في مقام واحد، فأمرت أن آخذ البيعة عليكم و الصفقة منكم (الحديث) «1».

و ما روى عيسى بن المستفاد ممّا رواه في كتاب الوصية قال حدثني موسى بن جعفر (عليه السلام) قال سألت أبا جعفر بن محمّد (عليهما السلام) عن بدء الإسلام، كيف أسلم عليّ و كيف أسلمت خديجة؟ فقال لي أبي: أنهما لما دعاهما رسول الله (صلى الله عليه و آله) فقال: يا علي و يا خديجة إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام فأسلما تسلما، و أطيعا تهديا! فقالا: فعلنا و أطعنا يا رسول الله (صلى الله عليه و آله).

الحديث «2».

و ما روي عن موسى بن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال لما هاجر النبي (صلى الله عليه و آله) إلى المدينة و حضر خروجه إلى بدر دعا الناس إلى البيعة فبايع كلّهم على السمع و الطاعة.

الحديث «3».

إن قلت: ظاهر ما ورد في نهج البلاغة قبوله (عليه السلام) لأمر البيعة بعنوان معيار لخلافة المسلمين و في حقّ نفسه فكيف في حقّ غيره، و إليك نماذج منها:

1- قوله (عليه السلام)

«أيّها الناس إن لي عليكم حقّاً و لكم عليّ حقّ: فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم و. و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة، و النصيحة في المشهد و المغيب.»

«4». 2- و قوله (عليه السلام) يعني به الزبير

«يزعم أنه قد بايع بيده و لم يبايع بقلبه، فقد أقر بالبيعة و ادّعى

الوليجة، فليأت عليها بأمر يعرف، و إلّا فليدخل فيما خرج منه»

«5».

بحوث فقهية هامة، ص: 483

3- و قوله (عليه السلام) إلى معاوية

«إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد.»

«1». 4- و قوله (عليه السلام) إلى معاوية أيضاً

«لأنها بيعة واحدة لا يثنى فيها النظر و لا يستأنف فيها الخيار، الخارج منها طاعن و المروي فيها مداهن»

«2». 5- و قوله (عليه السلام) إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاوية

«أما بعد فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل، و خذه بالأمر الجزم. و إن اختار السلم فخذ بيعته»

«3». 6- و قوله (عليه السلام) إلى طلحة و زبير

«أمّا بعد فقد علمتما، و إن كتمتما، أني لم أرد الناس حتّى أرادوني، و لم أبايعهم حتّى بايعوني. و إنكما ممّن أرادني و بايعني و أن العامّة لم تبايعني لسلطان غالب و لا لعرض حاضر فإن كنتما بايعتماني طائعين، فارجعا و توبا إلى الله من قريب، و إن كنتما بايعتماني كارهين، فقد جعلتما لي عليكما السبيل.»

«4». 7- و أوضح من هذا كلّه ما ورد في إرشاد المفيد عن أمير المؤمنين (عليه السلام)

أيها الناس إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، و إنّما الخيار للناس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوا فلا خيار لهم و. و هذه بيعة عامّة من رغب عنها رغب عن دين الإسلام، و اتبع غير سبيل أهله «5». «قلت»: لا ينبغي الشكّ في أنها كانت بعنوان الجدل و المماشاة مع الخصم بذكر ما هو مقبول لهم و الاحتجاج بما هو مسلّم عندهم، و ينادي بذلك بأعلى صوته ما ورد

بحوث

فقهية هامة، ص: 484

في الكتاب 6 من نهج البلاغة و ما حكيناه عن المفيد، فإن خلافة الأوّل و الثّاني و الثّالث لم تكن صحيحة عنده (عليه السلام) كما صرّح به في الخطبة الشقشقية و غيرها من الخطب التي تدلّ على أن حقّه قد غصب، و أن خلافته كانت بالنصّ وراثة عن النبي (صلى الله عليه و آله) بل كونه منصوصاً من ضروريات مذهب الشيعة، فما ورد في أمر البيعة و الاستدلال بها يكون من الأخذ بما هو حجّة عند الخصم، و يشهد على ذلك أن المخاطب في بعضها معاوية، و في آخر طلحة و الزبير، و في ثالث سعد بن أبي وقاص و نظائرهم ممن تخلفوا عن بيعته (كما في رواية الإرشاد).

فالأمر دائر بين الأخذ بظاهر بعضها و رفض سائر ما ورد في نهج البلاغة و غيرها ممّا يدل على كون الخلافة منصوصة منه (صلى الله عليه و آله) و معيّنة عنه تعالى، بل رفض ما ثبت بالضرورة من مذهب الشيعة و أحاديث الغدير و غيرها، أو حملها على الجدل الثابت في المنطق و الأخذ بمسلمات الخصم، و لا ريب أن المتعين هو الثاني.

و من الجدير بالذكر جدّاً أن البيعة عند أهل السنّة أيضاً لا تنطبق على الانتخاب المتعارف في عصرنا، بل المعيار عندهم في تعين الإمام اختيار أهل الحلّ و العقد، و اختلفوا في عدده، فاختار بعضهم كفاية اختيار الحاضرين منهم فقط، و بعضهم كفاية خمس نفرات، و بعضهم ثلاثة و بعضهم نفر واحد! و إليك نصّ ما ذكره المارودي في «الأحكام السلطانية».: «الإمامة تعقد من وجهين. إلى قوله لأنه حكم و حكم واحد نافذ»! (الصفحة 6).

و الحاصل أن هناك قرائن كثيرة تدلّ على

أن هذه الكلمات الواردة في الاحتجاج بالبيعة إنّما صدرت منهم احتجاجاً على الخصم المعتقد بالبيعة:

أوّلًا: ما ثبت من ضرورة المذهب من أن إمامته (عليه السلام) كانت بنصب من رسول الله (صلى الله عليه و آله) و من قبل الله من غير حاجة إلى بيعة الناس معه، و يشهد له الحديث المتواتر

بحوث فقهية هامة، ص: 485

الذي ورد في الغدير و غيره.

ثانياً: الروايات الواردة في نهج البلاغة نفسها تدلّ على أنه (عليه السلام) كان إماماً بالوراثة عن النبي (صلى الله عليه و آله) من خطبة الشقشقية و غيرها.

ثالثاً: الاحتجاج بالبيعة التي وقعت للخلفاء الثلاث و لا ريب أنه كان من باب الجدل عنده (عليه السلام).

رابعاً: كون المخاطب في غير واحد منها معاوية و طلحة و الزبير و أمثالهم من الذين كانوا لا يقبلون النصّ في حقّه إلى غير ذلك من القرائن، و الأمر واضح بحمد الله.

إن قلت: نحن نعترف بأن النصّ مقدّم على كلّ شي ء، فالأئمّة المعصومون منصوصون من قبل النبي (صلى الله عليه و آله) أو من جانب إمام معصوم قبله، و في مثل هذا لا حاجة إلى البيعة و لو كان هناك بيعة كانت تأكيداً كما في بيعة الشجرة و غيرها من بيعات النبي (صلى الله عليه و آله) و كذا إذا ثبت النصّ في حقّ نوابهم و وكلائهم، كالنواب الأربعة، و بالنسبة إلى غيرهم فالبيعة لها أثرها في تعيين ولاة الأمر، كما ورد في نهج البلاغة و غيرها، و لا يجوز الجدل بأمر باطل من أساسه، كما أن استدلال المخالفين بالبيعة ممنوع صغرى و كبرى، أمّا الكبرى فلأنه لا فائدة في البيعة مع وجود النصّ على أمير المؤمنين (علي (عليه السلام)) و أمّا الصغرى

فلعدم تحقّق الاتفاق على غيره و لو من أهل المدينة و لو من أهل الحلّ و العقد منهم.

و أمّا النصوص الواردة في الفقهاء فلا يستفاد منها إلّا الاقتضاء، أمّا الفعلية (أي فعلية الولاية لهم) فإنّما تكون بالبيعة.

قلت: «أوّلًا» ظاهر روايات البيعة الواردة في نهج البلاغة و إرشاد المفيد و أشباهها أنها مفيدة، مؤثرة و لو في تعيين خليفة رسول الله (صلى الله عليه و آله) فلو تمت لا بدّ من بحوث فقهية هامة، ص: 486

رفض الروايات المصرّحة بالنصّ على أمير المؤمنين علي (عليه السلام) و الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) من بعده، و رفض ما ثبت بالضرورة من مذهبنا، فلا يبقى مجال إلّا لحملها على الجدل بمسلّمات الخصم.

فراجع قوله «أرى تراثي نهبا» (الخطبة 3 من نهج البلاغة) و قوله: و لا يقاس بآل محمّد (صلى الله عليه و آله) إلخ الوارد في الخطبة 2 من تلك الخطب الجليلة.

و أمّا ما ذكرت من أن الجدل لا يكون بأمر باطل من جميع الجهات فهو ممنوع، بل قد يكون كذلك إذا تم عند الخصم كما في احتجاج إبراهيم على عبدة الأصنام بقوله «هذا ربي» كما صرّح به كثير من المفسرين و كذا غيره من أشباهه.

و «ثانياً»: سلمنا و لكن ظاهرها كون البيعة تمام العلّة لولاية الوالي على الناس كعقد البيع و التجارة لا يتفاوت فيه الفقيه و غيره ممّن كان عادلًا لا الفساق و أهل الفجور لانصراف النصوص عنهم، فهذا على خلاف المطلوب أدلّ.

و «ثالثاً»: ظاهر الأدلّة السابقة كون الفقيه منصوباً فعلًا لا اقتضاءً (سواء الدليل العقلي و النصوص العشرة السابقة و غيرها) و ليس فيها من الاقتضاء عين و لا أثر.

و «رابعاً»: ظاهر ما عرفت من نهج البلاغة

كفاية بيعة الحاضرين بل و كفاية بيعة أهل الحل و العقد من المهاجرين و الأنصار، و لا خيار لغيرهم، فهي لا تنطبق على موضوع الانتخاب في عصرنا كما هو واضح جداً.

و بالجملة التمسّك بروايات البيعة لتصحيح الانتخاب المتداول بين أهل العصر أوهن من بيت العنكبوت.

و إذ قد ثبت بحمد الله أصل ولاية الفقيه بالنسبة إلى أمر الحكومة ممّا عرفت من الأدلّة، فلنرجع إلى الفروع المتعلّقة بها.

[الأمر] الثّاني- حدود نفوذ ولاية الفقيه و اختيارات الولي الفقيه
اشارة

لا أظنك تحسب أن معنى ولاية الفقيه على أمر الحكومة المستفادة من الأدلّة السابقة أنه يفعل فيهم ما يشاء و يختار، و أن الأمّة من قبيل المماليك له، و أنه يحكم فيهم بما يشاء و يفعل ما يريد، كلّا لم يرد هذا لا في نصّ و لا في دليل عقلي، بل هو أمر غير معقول لا يقول به أحد، بل لولايته حدود و ثغور و شروط و قيود ليس له أن يتعداها و لا أن يخرج من طورها.

1- مراعاة مصالح الأمّة

و أهمها ملاحظة مصالح الأمّة و منافعها و شرفها و عزّها، فليس للفقيه الخروج عنها أبداً و إلّا خلع عنه لباس الولاية و سقط عن مقام الزعامة.

و الدليل على ذلك الرجوع إلى الأدلّة السابقة الدالّة على ولاية الفقيه، فإن الفروع تؤخذ من أصولها، مضافاً إلى غيرها من الأدلّة.

أولها: أن الأخذ بالقدر المتيقن يرشدنا إلى ذلك، فإنه مبني على عدم جواز بقاء الناس بلا رئيس يصلح أمورهم، و إلّا غلب الفوضى عليهم، و اختل النظام و فسدت البيئة، و ظهر الفساد في البر و البحر، و لم يبق للدين و الدنيا زعامة و تسافل الناس، فلا بدّ لهم من إمام لهذه الشئون، و حيث إنه ليس هناك دليل عام على صلاحية كلّ أحد لذلك، فلا بدّ من الأخذ بالقدر المسلّم، و حيث إن الفقيه الجامع للشرائط أخبر بمواضع الأحكام و مصدرها و مخرجها، و صلاح الأمّة و فسادها و احتمال الانحراف عن منهج الحقّ فيه أقلّ فهو أحق من غيره.

و من الواضح أن هذا الدليل لا يقتضي إلّا تصديه لما فيه صلاح الأمّة.

و إن شئت قلت: إن الحكومة ليست من مخترعات الشريعة، بل كانت أمراً دائراً

بحوث فقهية هامة،

ص: 488

بين العقلاء من قديم الأيّام حين اختار الإنسان الحياة الاجتماعية و الشارع المقدس أمضاها بقيود و شروط.

و من المعلوم أنها شرعت بين العقلاء لحفظ مصالح المجتمع و غبطة الناس صغيرهم و كبيرهم، و إن قلّ من قام بها و أدى حقّها، و لكن كلّ يدعيه، فالحكومة على هذا الأساس قد أمضاها الشرع المقدس، فلا يكون الفقيه و لا غيره مجازاً في الأخذ بغير ما فيه مصلحة للناس.

كما أن حديث «مجاري الأمور» و هو من أحسن ما يدلّ على ولاية الفقيه أيضاً ينادي بأعلى صوته أن مجاري أمور إصلاح المجتمع و إقامة نظام الأمّة بيده لا مجاريها بما يريدها و إن كان فيه ضرراً على الأمّة أو لم يكن فيه هذا و لا ذاك.

و كذا رواية «الحوادث الواقعة» فإنها إشارة إلى الحوادث المهمّة التي ترتبط بكيان الأمّة و حياتها و سعادتها، بل لو قلنا بأنها تشمل كلّ حادثة فلا شكّ أن الرجوع إليهم إنّما هو لإصلاح أمر الحوادث، و الأخذ بما هو أنفع و أصلح، لا أن الأمر مفوض إلى الفقيه يأتي بما يشاء و يحكم بما يريد.

و كذلك الحال في غير هاتين الروايتين.

ثانيها: أن سيرة النبي (صلى الله عليه و آله) الأعظم و وصيه أمير المؤمنين (عليه السلام) التي هي الأساس لولاية الفقهاء لم تستقر إلّا على ذلك، فلم ترَ في مورد من الموارد إلّا الأخذ بما هو صلاح الأمّة و ما هو أجمع لمصلحة المؤمنين، بل لم نرَ مورداً أخذا بما فيه بمصلحة شخصيهما، و كلماتهما مشحونة بما ذكرنا كما تأتي الإشارة إلى بعضها.

نعم قد ورد في روايات عديدة أن الدنيا (أو الأرض) كلّها لله و لرسوله و للأئمّة (عليهم السلام) و عقد

له في الكافي باباً «1» و لكن مع ذلك لم يعملوا بين الناس إلّا بما ورد في الشرع من الحقوق.

بحوث فقهية هامة، ص: 489

ثالثها: الآيات و الروايات الكثيرة الدالّة على وجوب تحري الصالح أو الأصلح من أئمّة المسلمين و قادتهم، و أنه لا يجوز لهم غير ذلك، و إليك الإشارة بشطر منها:

1- قوله تعالى (وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) «1» دلّ على أن الحكومة ذريعة لهذه الأمور الأربعة التي فيها المصالح الأخروية و الدنيوية للأمّة و أن الله وعد بنصر من يقوم بها.

2- قوله، حاكياً عن شعيب (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) «2» فقد ذكر جميع ذلك فيها بكلمة الإصلاح.

3- ما ورد في نهج البلاغة

أنه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر، و يبلغ الله فيها الأجل، و يجمع به الفي ء، و يقاتل به العدو، تأمن به السبل، و يؤخذ به للضعيف من القوي «3». فهذه أمور خمسة ينتظر من الوالي تنفيذها.

4- ما ورد فيه أيضاً

«أيّها الناس إن لي عليكم حقّاً و لكم عليّ حقّ فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم و توفير فيئكم عليكم، و تعليمكم كي لا تجهلوا و تأديبكم كيما تعلموا»

«4» فقد تلخصت وظائف الوالي في هذه الأمور الأربعة.

5- و في كتابه إلى الأشتر

«أنصف الله و أنصف الناس من نفسك و من خاصة أهلك و من لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلّا تفعل تظلم، و من ظلم عباد الله كان الله خصمه

دون عباده»

«5».

بحوث فقهية هامة، ص: 490

6- و قال فيه أيضاً

«و أعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية و حقّ الرعية على الوالي فريضة. فجعلها نظاماً لألفتهم و عزاً لدينهم فليست تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة و لا يصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية»

«1». فالوالي لا بدّ أن يكون سبباً لنظام الأمّة و عزاً لدينها و حافظاً لمصالحها، لا أن يفعل فيهم ما يشاء من دون لحاظ هذه الأمور.

7- عقد في الكافي باباً لما يجب من حقّ الإمام على الرعية و حقّ الرعية على الإمام، و فيه عن أبي حمزة قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حقّ الإمام على الناس؟ قال: حقّه عليهم أن يسمعوا له و يطيعوا. قلت: فما حقّهم عليه؟ قال: يقسم بينهم بالسوية و يعدل في الرعية

«2». و هذا بعض ما على الوالي من الحقوق، يعلم منه غيره، و أن المدار على مصالح الأمّة لا غير.

8- و في مرفوعة عبد العزيز بن مسلم عن الرضا (عليه السلام) (و هي رواية طويلة جامعة لصفات الإمام) ورد

«أن الإمامة هي منزلة الأنبياء، و إرث الأوصياء، أن الإمامة خلافة الله و خلافة الرسول (صلى الله عليه و آله) و مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) و ميراث الحسن و الحسين (عليهما السلام)، إن الإمامة زمام الدين و نظام المسلمين، و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين، إن الإمامة أساس الإسلام النامي، و فرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحجّ و الجهاد»

«3». إلى غير ذلك ممّا هو كثير جداً ربّما تبلغ حدّ التواتر، و يغنينا ذلك ملاحظة أسنادها.

بحوث فقهية هامة، ص: 491

و يتحصل من جميع ذلك أنه ليس الوالي و الحاكم على

المسلمين (و هو الفقيه) كالمولى للعبيد، و المالك بالنسبة إلى المملوك، بل و لا كالولي على الصغار، أو الابن مع الابن حتّى يكون داخلًا في قوله «أنت و مالك لأبيك»، (مع أنا ذكرنا قبل ذلك أن الأب أيضاً لا يجوز له إلّا لحاظ مصالح ابنه، و إن الحديث المعروف حكم أخلاقي يبين وظيفة الكبار من الأولاد في تجاه أبيهم لا أن له حقّ التصرّف المطلق في أموالهم و أنفسهم كيف يشاء) بل هو كالمتولي في الأوقاف العامّة و الخاصّة أو كوكيل إلهي لهم، يتصرف بما هو مصلحة الموقوف عليهم و الوقف، و مصالح الموكل، فليس للفقيه التصرّف إلّا بما فيه مصلحة العباد و البلاد.

و يؤيد ذلك كلّه ما ذكروه في علم الكلام في باب وجوب نصب الإمام بعد النبي (صلى الله عليه و آله)- كما ذكره العلّامة في شرح كلام المحقّق الطوسي- قال: إن الإمام لطف و اللطف واجب، أمّا الصغرى فمعلومة للعقلاء، إذ العلم الضروري حاصل بأن العقلاء متى كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب و التهاوش و يصدهم عن المعاصي و يعدهم و يحثهم على فعل الطاعات و يبعثهم على التناصف و التعادل، كانوا إلى الصلاح أقرب و من الفساد أبعد و هذا أمر ضروري لا يشكّ فيه العاقل «1».

فإذا كان الإمام المعصوم كذلك فما ظنّك بغير المعصوم مع أنه يظهر من غير واحد من الروايات الآخر- كما عرفت سابقاً- أنهم مالكون للأرض و ما فيها بل الدنيا ملك لهم، و مع ذلك لم نرَ منهم في عصر حكومتهم على الناس- عند بسط أيديهم و عند قبضها- إلّا العمل بما هو خير و صلاح الأمّة، لا ما هو صلاح لأنفسهم، فالفقيه أولى بذلك.

2- الاستشارة في أموره:

لمّا لم يكن أمر الحكومة على آلاف أو ملايين المسلمين أمراً سهلًا بسيطاً يستطيع معه الوالي و إن كان متقدّماً في العلم و الفقه و العقل أن يقود الناس إلى ما هو الأصلح و الأليق، بل إلى ما هو صالح و لائق بالمولى عليهم، فمصلحة المسلمين تقتضي أن لا يترك الاستشارة في أموره، لا سيّما في الخطيرة منها، و إلّا فقد خرج عن وظيفته الواجبة عليه، و سقط عن منصبه السامي، فليس للفقيه الاستبداد برأيه في شي ء من الأمور الراجعة، إلى مصالح المجتمع الإسلامي، و لذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام)

«من استبد برأيه هلك و من شاور الرجال شاركها في عقولها»

«1». و من المعلوم أن هلاك الوالي يؤدي إلى هلاك الأمّة أيضاً، بل و قد يؤدي إلى زوال الإسلام في برهة من الزمان.

و لهذا أيضاً ذكر الله الشورى في كتابه في عداد الصلاة و الزكاة، و جعلها من علامات الإيمان، فقال عزّ و جلّ (وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ).

و أي أمر أهمّ من أمر الحكومة؟ بل إضافة الأمر إلى الجميع، و كذا ذكر الانتصار في مقابل البغي بعده، لو لم يوجب له ظهوراً في الأمور الهامّة التي لها صلة بالمجتمع، فلا أقل من أنها أظهر مصاديقها و أوضح مواردها.

بل يظهر من أمره تعالى للنبي (صلى الله عليه و آله): بالمشاورة مع المؤمنين و جعلها في عداد العفو عنهم و الاستغفار لهم و جلب قلوبهم إلى الإسلام.

بحوث فقهية هامة، ص: 493

فقال تعالى (فَبِما

رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) «1».

إن المشورة مع الناس من أسباب جلب القلوب و مشاركتهم للوالي في الأمور، و اجتماعهم حوله و عدم انفضاضهم عنه، و ليست مشاورة النبي (صلى الله عليه و آله) معهم (و إن كان عالماً بالأمور بتعليم الله) أمراً صورياً ظاهرياً، لما في نفس هذا الأمر من المصالح كما قد يتوهم، بل ظاهر قوله تعالى «فَإِذا عَزَمْتَ» أن عزمه كان بعد الشورى.

و الروايات في الحث على هذا الأمر كثيرة جدّاً ربّما تبلغ حدّ التواتر، و كفاك في ذلك ما يلي:

الأولى- ما ورد في نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين (عليه السلام)

«و الاستشارة عين الهداية و قد خاطر من استغنى برأيه»

«2». فقد جعل الاستشارة عين الهداية، لا طريقاً إليها! و هذا من أبلغ البيان لفوائد المشاورة، ثمّ أكده بقوله: إنّ الاستبداد سبب الخطر و مبدئه.

الثّانية- قول رسول الله (صلى الله عليه و آله) فيما روى الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) عنه (صلى الله عليه و آله) كما في العيون «من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة، و يغصب الأمّة أمرها، و يتولى من غير مشورة فاقتلوه فإن الله قد إذن ذلك»

! «3». الثّالثة- ما رواه بعض الصحابة قال: ما رأيت أحداً قط أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله «4».

بحوث فقهية هامة، ص: 494

و الأمر بالقتل و إن كان للأمور الثّلاثة و هو تفريق الجماعة، و غصب الخلافة و ترك المشورة أجمع، و لكن عد ترك المشورة منها دليل على شدّة اهتمامه (صلى الله عليه

و آله) بهذا الأمر، بل قد يكون هو العلّة في تفريق الجماعة و غصب أمر الأمّة كما لا يخفى على الخبير.

فتلخص ممّا ذكرنا: أن المشورة للولي الفقيه ليست من قبيل المستحبات بل من أوجب الواجبات، لما عرفت من أنه الطريق الوحيد إلى تشخيص مصالح الأمّة غالباً، التي ليس للفقيه أن يتعداها، مضافاً إلى ما عرفت من الأوامر المؤكدة في ذلك في الكتاب و السنّة التي ظاهرها الوجوب في الجملة.

و من هنا تظهر حكمة تأسيس مجلس النواب في الحكومة الإسلامية و أنه قد تكون مصلحة الأمّة في انتخاب الممثلين من الناس لمشاركتهم في كشف موارد الأحكام و موضوعاتها، و ما يكون الصالح و الأصلح لهم، و معاضدتهم للفقيه الوالي، بل قد يكون تركه لذلك مظنّة للهلاك و اتهامه بالاستبداد و الاستقلال في الرأي، و يوجب انفضاض الأمّة من حوله، مع ما في تركه من أنواع الخطأ في تطبيق الأحكام على صغرياتها، فتركه لهذا الأمر مخالف لمراعاة الغبطة المفروضة عليه و ينافي عدالته و ولايته.

و هذا هو العمدة في مشروعية مجلس النواب و الرجوع إلى آرائهم، و الأخذ بها عند تقنين القوانين، فآراؤهم يؤخذ بها في طريق تطبيق كبريات أحكام الشرع على صغرياتها، و تعيين الموضوعات العرفية و تشخيص الصالح و الأصلح فيما توقف الأمر عليه، لا في تشريع الأحكام، لأنه خارج عن اختيارهم، بل و خارج عن اختيار الفقيه، قال الله تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) «1».

بحوث فقهية هامة، ص: 495

و من الواضح أن ترك هذه الطريقة في عصرنا من أهم أسباب التهمة و الفتنة و الانفضاض عن الحكومة الإسلامية، و باعث على تأثير وسوسة الشياطين و المعاندين في قلوب المؤمنين،

فلا يجوز للفقيه العدول عنها إلى غيرها.

و بقي هنا أمور ترتبط بأمر المشاورة نطوي البحث عنها، و نرجعها إلى محلّها إن شاء الله و هي:

1- بيان أقسام المشورة، فإنه قد تكون من مقدّمات عزم المستشير و إرشاده إلى ما هو الأصلح، و إن كان الاختيار بيده في نهاية الأمر، و أخرى يجب الأخذ بآراء المشيرين و لا يجوز التعدي عنها، كما هو المتداول اليوم في مجلس النوّاب، ففي الأوّل يجوز مخالفتهم، و في الثّاني لا يجوز.

و الظاهر أن آية آل عمران ناظرة إلى القسم الأوّل، و آية الشورى ناظرة إلى القسم الثّاني.

2- صفات المشير و ما يعتبر فيه من الشروط.

3- تعيين المواضع، التي لا بدّ فيها الاستشارة، تفصيلًا و إن أشرنا إليها إجمالًا.

4- شرح المواضع التي عمد رسول الله (صلى الله عليه و آله) في أمور الحرب و غيرها- إذا لم يكن عنده تكليف إلهي خاص- إلى الشورى، و إن أشرنا إليه إجمالًا أيضاً، فليكن هذا على ذكر منك كي نتلو عليك منه ذكراً.

3- الرجوع إلى الخبراء

الحكومة لها عرض عريض، و شعب كثيرة، و كثيراً ما يحتاج في معرفة الموضوعات إلى و جهات نظر الخبراء، فعلى الفقيه تلقي نظرهم في ذلك إذا كانوا مؤتمنين و ليس هذا من المشاورة بل من قبيل الرجوع إلى العالم و يشبه التقليد من بعض الجهات في مثل هذه الموضوعات المعضلة الخاصّة.

بحوث فقهية هامة، ص: 496

توضيح ذلك: أن كلّ حكم يحتاج إلى موضوع يتعلّق به، كالمسكر و القمار و الأوثان و الأصنام، بالنسبة إلى تحريم الشرب و اللعب و العبادة و قد يفرق بين «الموضوع» و «المتعلّق» فالمتعلّق هو الفعل الذي يكون مهبط الحكم، كالشرب في لا تشرب الخمر، و العبادة في

لا تعبد الصنم، و أمّا الموضوع هو الذي يتعلّق به الأفعال «كالخمر و الصنم و آلات القمار» (و قد يطلق الموضوع على ما هو أعمّ منها و الأمر سهل بعد وضوح الحال).

و الموضوعات على أقسام:

«منها»: ما يكون شرعياً محضاً مستنبطاً من الكتاب و السنّة، كالصلاة و الصوم و الحجّ و الطواف و غيرها من أشباهها، و الأخرى ما ليس كذلك، بل يكون عرفياً، و هو أيضاً على قسمين: ما يكون معلوماً لكلّ أحد، يعرفه العالم و الجاهل، كالماء المطلق و المضاف، و الدم و البول، و الفراسخ في باب صلاة القصر، و الغنم و البقر في أبواب الزكاة و غيرها من أشباهها.

و قسم لا يعرفه إلّا الخبراء من أهل العلوم و الفنون المختلفة، مثل قيمة الدار عند الشكّ فيها و الحاجة إليها لمعرفة موضوع الغبن في البيع و عدمه، و كون الصيام ضاراً أم لا، و مقدار حاجة العسكر إلى السلاح و إعداد القوى، و مقدار حاجة المسلمين إلى الأرزاق و غيرها ممّا يكون فقدها ضرراً عليهم، و كذا مقدار الثمر على الشجر عند الخرص و التخمين لأخذ الزكوات، كما كان معمولًا في عصر النبي (صلى الله عليه و آله).

و بالجملة معرفة مصالح الأمّة يحتاج في كلّ خطوة إلى الخبراء العالمين بها لا سيّما في عصرنا هذا، الذي ازدهرت الحضارة البشرية فيه، و اتسع نطاق العلوم و الفنون و الصنائع و الحرف، و لا يقدر الإنسان على أن يكون خبيراً في جميعها، بل و لا في شطر منها إلّا في حقل محدود.

فالولي الفقيه في هذه الموارد إنّما يستنبط الحكم من موضوعه و يأمر بإنفاذه، أمّا

بحوث فقهية هامة، ص: 497

معرفة مصاديقه و موضوعاته فهو في هذا

القسم خارج عن قدرته غالباً لا بدّ له من الرجوع إلى أهله، و لكن لا شكّ في اعتبار كونهم مأمونين على الدين و الدنيا و كلّما يعتبر في المشير يعتبر فيهم، بل و أزيد، و ضرر الرجوع إلى الخبراء غير المأمونين قد يكون أكبر من ترك الرجوع إليهم كما لا يخفى على الخبير.

و هل يعتبر فيهم الإيمان مضافاً إلى الوثاقة؟ لا شكّ في أنهم إذا كانوا مؤمنين كان أحسن و أفضل، بل ما دام يمكن الوصول إلى أهل الإيمان لا ينبغي الرجوع إلى غيرهم، و لكن قد لا يكون الخبراء إلّا من غير أهل الإيمان مع الأمن منهم، و حينئذ لا مناص عن الرجوع إليهم و لكن مع الاحتياط و الحذر اللازم، كما ورد في الأثر من رجوع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عند ما ضربه اللعين، ابن الملجم إلى الطبيب النصراني «1».

و الدليل على ذلك كلّه أدلّة وجوب التقليد و الرجوع إلى أهل الخبرة، فإن بعضها عام يشمل الموضوعات و غيرها كبناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم و آية السؤال، مضافاً إلى سيرته (صلى الله عليه و آله) و أمره عبد الله بن رواحة لتخمين مقدار الثمر لأخذ الزكاة و غيرها من أمثالها.

4- لزوم الأخذ بأحكام الشرع في جميع أموره
اشارة

الفقيه بما أنه صاحب الفتوى و مرجع التقليد يستنبط الأحكام الشرعية عن مصادرها، و لكن بما أنه حاكم على الناس يكون مطيعاً لهذه الأحكام و محقّقاً لها في الخارج، فهو من هذه الجهة ليس له إلّا التنفيذ، فلا يتخطى عن طور الأحكام، بل لا بدّ له من التمسّك بها، فإن أمكنه الأخذ بالعناوين الأولية فبها، و إلّا فبالعناوين بحوث فقهية هامة، ص: 498

الثّانوية كالأحكام الواردة على عنوان العسر و الحرج،

و الضرر، و إقامة النظام و غيرها، و الحاصل أن وظيفة الحاكم بما أنه حاكم هو تنفيذ الأحكام و القوانين الشرعية لا غير.

و ما قد يقال إن الحكم على ثلاثة أقسام:

1- حكم أولي.

2- حكم ثانوي.

3- حكم ولائي.

فالحاكم غير مقيد بالأخذ بالأحكام الأولية و الثّانوية، بل له حكم مستقل ولائي، في عرض الأحكام الأولية و الثانوية ناشئ من الخلط بين الأحكام التشريعية و الأحكام الإجرائية، لا نقول ليس له حكم ولائي بل هو ثابت له، و لكنه ليس في عرضهما بل في طولهما.

توضيح ذلك: أن الأحكام الأولية كوجوب الصلاة و الزكاة و الجهاد، و الثّانوية كنفي الضرر و الحرج و لزوم حفظ النظام، أحكام كلية إلهية، و قوانين عامّة شرعية، و أمّا الحكم الولائي حكم جزئي من ناحية الحاكم، يحصل من تطبيق القوانين الكلية الإلهية على مصاديقها الجزئية، مثلًا: الفقيه الذي يحكم بأن التدخين بالتنباك في هذا اليوم بمنزلة الحرب ضد الحجّة المنتظر (أرواحنا فداه) في الحقيقة ينظر إلى حكم كلي، و هو أن كلّ شي ء يكون سبباً لإضعاف المسلمين، و كسر شوكتهم و أسرهم في أيدي الأعداء، فهو بمنزلة المحاربة له (عليه السلام) و استعمال التنباك في ظروف خاصة كان بنظر الفقيه الجامع لشرائط الحكم و بحسب رأيه الصائب مصداقاً لذلك، فيحكم بهذا الحكم الولائي باتاً، و إذا ارتفعت العلّة الموجبة له يحكم بجوازه. لتبدل موضوعه، كما وقع كلاهما للسيّد الأكبر الميرزا الشيرازي (قدس سره).

و كذلك حكم الفقيه برؤية الهلال، و لزوم الصيام أو الإفطار، إنّما ينشأ من الأخذ

بحوث فقهية هامة، ص: 499

بالشهادة و تطبيق أدلّة حجيتها على مصداق خاصّ، و هكذا إعلام يوم الوقوف بعرفات و يوم العيد الأضحى لتنظيم مناسك الحجّ.

و مثله حكمه

الولائي بلزوم إعداد قوى خاصة و أسلحة معيّنة. و أخذ مقدار من الأموال زائداً على الوجوه الثابتة الشرعية في برهة من الزمان لحرب أعداء الله، فإن الحكم الكلّي الشرعي في جميع هذه المقامات معلوم، و هو قوله تعالى (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)، أو وجوب مقدّمة الواجب أو غير ذلك من أشباهه، و لكن الولي الفقيه يرى تحقّق موضوعه في الخارج فيتصدى لإنفاذ هذا الحكم و يحرض الناس عليه بمقتضى وظيفته و تكليفه.

و إن شئت توضيحاً أكثر لهذه المسألة المهمّة فاعلم أن: الأحكام الولائية (أي الأحكام التي يصدرها الوالي) على أقسام: قسم منها يكون كنصب أمراء الجيش و القضاة و الموظفين في دائرة الحكومة الإسلامية، فإنها أحكام إنشائية في مواردها تحصل من إنشاء الوالي لها، لمن فيها الصفات المعتبرة لهذه المناصب، و قسم آخر منها أحكام خاصّة ناشئة عن تطبيق كبريات الأحكام الأولية على مصاديقها، كالأمر بجباية الزكاة و الأخماس، و وضعها في مواضعها، و إعداد القوى لحرب الأعداء، و تعيين زمان الحرب و الصلح (كلّ ذلك بعد مراجعة الشورى و الخبراء).

و قسم ثالث: أحكام خاصّة حاصلة من تطبيق كبريات الأحكام الثّانوية على مواردها، كإيجاب العمل بما يقتضي النظام في أمر عبور السيارات في الشوارع داخل المدن و خارجها فإنها مقدّمة لحفظ النفوس و الدماء و أمن السبل، و مقدّمة الواجب من الأحكام الثّانوية كما سيأتي.

و كتحريم بعض التجارات مع الأجانب، أو إيجاب بعض الزراعات في برهة من الزمان، لإضعاف شوكة المعاندين، و المنع من تدخلهم في شئون المسلمين، و حفظاً

بحوث فقهية هامة، ص: 500

لنظام أرزاق الناس و القيام بمكافحة الغلاء و قحط الأرزاق، ممّا يكون تركه مضرة للناس لا سيّما الفقراء و

الضعفاء منهم.

و قسم منها: يكون لدفع ظلم الظالمين و اعتداء بعض الناس على بعض، كالأمر بفتح مخازن المحتكرين، و بيع ما فيها على الناس، و تعيين الأسعار فيما تحتاج إليه الأمّة عند حدوث إجحاف التجار و ذوي الصناعات و الحرف في التسعير، و ما أشبه ذلك.

و قد ورد كثير من هذه الأقسام في العهد المعروف الذي كتبه مولانا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى الأشتر النخعي حين ولاه مصر، و له نظائر من بعض الجهات في العهود التي عهدها رسول الله (صلى الله عليه و آله) لأمرائه عند إرسالهم إلى مختلف بلاد المسلمين.

و لكن كلّ هذه الأحكام تدور حول الأحكام الكلية الإلهية التي وردت في الكتاب و السنّة من الأحكام الأولية و الثّانوية، و لا يتعداها أبداً في شي ء من مواردها و لو مورداً واحداً.

فليس للوالي حكم خاصّ في عرض الأحكام الإلهية يسمى الحكم الولائي، بل له أحكام إجرائية في طولها، و لا أظن أحداً يلتزم بغير ذلك، و ليس له حقّ التشريع و جعل الأحكام الكلية ممّا لم يرد في الشرع، بل ليس للإمام المعصوم (عليه السلام) أيضاً ذلك كما سيأتي البحث عنه مفصلًا إن شاء الله عن قريب، فإن الله قد أكمل دينه، و أتم نعمته و لم يبق شي ء إلّا و قد أنزل الله فيه حكماً حتّى أرش الخدش، و لا توجد واقعة ليس لها حكم إلهي كما في الأحاديث المتضافرة، و ممّا ذكرنا ظهر لك أن هناك فرقا واضحا بين الحكم الولائي و الأحكام التشريعية الأولية و الثّانوية و إليك بعضها.

1- الأحكام الولائية أحكام إجرائية جزئية في طريق إنفاذ الأحكام الكلية الإلهية (و المراد من الجزئي هنا الجزئي الإضافي لا الجزئي

الحقيقي كما هو ظاهر، فمثل المقررات التي وضعت لتنظيم الحركة و المرور و إن كانت أحكاماً كلية إلّا أنها، إنّما هي مقدّمة لحفظ الدماء و النفوس و نظام المجتمع فهي جزئية بالنسبة إليها).

بحوث فقهية هامة، ص: 501

2- البحث عن الأحكام الولائية دائماً بحث موضوعي لما عرفت أنها في سبيل إجراء الأحكام الكلية الإلهية، بخلاف الأحكام الكلية، فوظيفة الفقيه بما أنه مفت استنباط هذا القسم من الكتاب و السنّة و بما أنه وال، استخراج الأوّل من طريق تطبيق الكبريات على صغرياتها.

3- الأحكام الولائية في طول الأحكام الشرعية الأولوية و الثّانوية لا في عرضها، فهذه فروق ثلاثة، يرتبط بعضها ببعض، و إن شئت قلت، بعضها نتيجة بعض.

بحث حول العناوين الثّانوية
اشارة

لما انتهى الكلام إلى أحكام العناوين الثّانوية اشتاقت نفوس جمع من الأحبة إلى تعريفها، و بيان الفرق بينها و بين غيرها، و ما يخصّها من الأحكام، و لا سيّما أننا لم نرَ أحداً من الأعلام قد تعرض لها بشكل مفصل في طيات كتب «الفقه» و «الأصول» و لم نجد إلّا إشارات طفيفة في مختلف أبواب الفقه، فأحببت تفصيل الكلام في ذلك لما فيه من آثار كثيرة لا سيّما في زماننا هذا. فنقول و منه جلّ ثناؤه نستمد التوفيق و الهداية: لا بدّ هنا من رسم أمور:

1- تعريف العناوين الثّانوية و حدودها

قد عرفت أن الأحكام تحتاج إلى موضوع ترد عليه، و متعلّق، تتعلّق به، و أنهما قد يتحدان، و قد يفترقان، ففي مثل وجوب الصلاة، الموضوع و المتعلّق أمر واحد، و في مثل شرب الخمر مختلفان، و ذكر بعض الأصوليين أن الموضوع أشبه شي ء بالمعروض في مقابل العرض، و لكنّه مجرّد تشبيه، و إلّا فالأحكام أمور اعتبارية لا مساس لها

بحوث فقهية هامة، ص: 502

بالعرض الذي هو من الأمور الحقيقية.

و على كلّ حال، العنوان المأخوذ في الموضوع قد يكون «عنواناً ثابتاً له مع غضّ النظر عن العوارض و الطواري التي تتغير الأحكام بها، فيسمى عنواناً أولياً، و أخرى تكون من العوارض و الطواري التي قد يلحقها و يتغير بها حكمه، فيسمى عنواناً ثانوياً.

و إن شئت فانظر إلى مثل لحم الميّتة و حرمتها، ثمّ الاضطرار إلى أكلها لبعض ما يرد على الإنسان، كالسفر إلى بلاد غير المسلمين مع عدم التمكّن من ذبيحة المسلم، و مع عدم القدرة على ترك اللحم زماناً طويلًا للخوف على النفس.

فلحم الميّتة حرام ذاتاً بما أنها ميّتة، و لكن عروض عنوان الاضطرار يوجب تغيير حكمها مؤقتاً، ثمّ بعد

زواله يرجع إلى ما كان عليه، و كذا الكلام بالنسبة إلى حرمة الكذب، و إباحته أحياناً لما فيه من إصلاح ذات البين، فالكذب عنوان ثابت أولى للحرمة لا يتغير من هذه الجهة و لكن عنوان «إصلاح ذات البين» أمر عارضي مؤقت يوجب إباحته فعلًا.

و كذا الواجب في الوضوء هو مسح الرأس و الرجلين، و لكن عروض عنوان التقية قد يوجب تغيير حكمه و تبدله بالغسل، و إذا زالت التقية زال حكمها.

و إن شئت قلت: قد ينقسم الشي ء إلى أقسام، بذاته، كالماء المنقسم إلى الكر و القليل و المتغير بالنجاسة و غير المتغير و الطاهر و النجس، و قد ينقسم بأمور خارجة عن ذاته كالماء المضطر إلى شربه و ما لم يضطر، فمثل هذه العناوين، من العناوين الثّانوية.

فمن هذه الأمثلة الثّلاثة و ما أشبهها و ما ذكرنا في صدر الكلام و ذيله، يعلم حال العناوين الثّانوية و اختلافها مع العناوين الأولية و لا نحتاج إلى مزيد البحث في ذلك.

2- كثرة العناوين الثّانوية و تنوعها
اشارة

قد ظهر ممّا ذكرنا عدم حصر هذه العناوين في الضرورة و الاضطرار كما توهمه بعض من لا خبرة له بالفقه و الأصول، بل هي كثيرة متفرقة في أبواب الفقه، و يشكل حصرها في عدد خاصّ و لكن الأشهر من بينها العناوين التالية:

1- عنوان الضرورة و الاضطرار

- و هو ما ورد في قوله تعالى (وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) «1». و ظاهره عام يشمل جميع المأكولات، اللّهم إلّا أن يقال إن ورودها في سياق آيات أحكام اللحوم يوجب انصرافها إليه فقط، و هو بعيد.

و قد أُشير إليه في آيات أخر أيضاً من كتاب الله العزيز «2» كلّها واردة في أحكام اللحوم، و لكن ملاك الحكم عام كما هو ظاهر.

و قد روى أبو بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المريض هل تمسك له المرأة شيئاً فيسجد عليه؟ فقال: لا إلّا أن يكون مضطراً ليس عنده غيرها، و ليس شي ء ممّا حرم الله إلّا و قد أحله لمن اضطر إليه «3». و ما روى سماعة قال سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء. فقال: لا بأس بذلك، و ليس شي ء ممّا حرم الله إلّا و قد أحله لمن اضطر إليه «4». و حكم الاضطرار و الرخصة الحاصلة منه ثابت بالأدلّة الأربعة كما لا يخفى على من راجعها.

2- عنوان الضرر و الضرار

- و هو أيضاً وارد في الكتاب العزيز في موارد خاصّة مثل قوله تعالى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) «1». الواردة في حكم الرضاع و قوله تعالى (وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) «2» الواردة في حكم المطلقات، و العمدة في عموم الحكم هو حديث «لا ضرر و لا ضرار»

المعروف بين الفريقين و غيره من أشباهه، و قد أوردناها جميعاً في كتابنا القواعد الفقهية في قاعدة «لا ضرر» فراجع القاعدة الأولى من القواعد الثلاثين.

3- عنوان العسر و الحرج

- و قد ورد أيضاً في كتاب الله في قوله تعالى (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) «3» و يدلّ عليه الروايات الكثيرة المستفيضة التي لعلّها تبلغ حد التواتر، و قد نقلنا شطراً منها في الكتاب المذكور «القاعدة الثّانية من تلك القواعد».

4- عنوان التقية

- بما لها من الأقسام «الخوفي» و «التحبيبي» و «التقية المقابلة للإشاعة و إذاعة الأسرار (بناء على كونه قسماً ثالثاً كما مال إليه بعض. و إن اخترنا في محله أنها راجعة إلى القسم الخوفي) و على كلّ حال يدلّ على أصل هذا العنوان، الأدلة الأربعة أيضاً كما تظهر القاعدة بمراجعة الكتاب المذكور، و هذا العنوان قد يوجب تحليل الحرام أو تحريم الحلال بعنوان حكم موقت عارضي.

5- مقدّمة الواجب أو الحرام

- (بناءً على ما هو الحقّ من وجوب الأوّل، و حرمة الثّاني كما ذكرناها في محلّه) و هذا العنوان هو الدليل الوحيد أو الدليل العمدة على بعض المسائل المشهورة في الفقه، مثل وجوب المكاسب و الحرف التي يتوقف عليها

بحوث فقهية هامة، ص: 505

حفظ النظام، فإن حفظ النظام واجب قطعاً و يمكن الاستدلال عليه بالأدلّة الأربعة، بل العلّة في تشريع كثير من الأحكام لا سيّما الحدود و التعزيرات هو هذا، فيجب ما يكون مقدّمة له.

و لعلّ تحريم التنباك في القضية المشهورة عن السيّد الأكبر الميرزا الشيرازي من هذا القبيل، لأن استعماله كان سبباً لمزيد اشترائه، و هو بدوره كان سبباً لازدياد قوّة الدول الاستعمارية و استضعاف المسلمين و سلطة الأجانب عليهم (و قد يكون مصداقاً لعنوان آخر و هو الإعانة على الحرام) و كذلك الكذب إذا كان مقدّمة لإصلاح ذات البين، أو الغيبة مقدّمة لنصح المسستشير، و جميع هذه إنّما تجب أو تحرم بعنوان ثانوي و هو عنوان المقدمية.

و من هذا القبيل أيضاً أخذ بعض الأموال من الناس زيادة على الحقوق الواجبة المعروفة مقدّمة لابتياع السلاح و ما يكون إعدادُه في مقابل الأعداء في بعض الظروف الخاصّة.

6- قاعدة الأهم و المهم عند التزاحم

- و يدلّ عليها «العقل» و «الشرع» بل يمكن إقامة الأدلّة الأربعة عليها كما لا يخفى على الخبير، كالمثال المعروف الدارج بينهم من الدخول في الأرض المغصوبة لإنجاء الغريق، و كالأكل في المخمصة لحفظ النفس، فإن الحكم الأولي و إن كان يقتضي عدم جواز التصرّف في أموال الناس، و لكن مزاحمة الواجب الأهم و هو حفظ النفس المحترمة تقتضي جوازه بل وجوبه بعنوان ثانوي.

بل و يمكن إرجاع مسألة مستثنيات الكذب و الغيبة إليها، و كذا قاعدة الضرورة و الاضطرار

و كذا الضرر و الضرار، و هكذا مسألة التقية (سواء الخوفي و التحبيبي منها) ففي جميع هذه الموارد يدور الأمر بين مصلحتين، و يقع التزاحم بين ملاكين فيؤخذ بالأقوى منهما، و بهذا البيان يمكن إرجاع كثير من العناوين الثّانوية إلى بحوث فقهية هامة، ص: 506

قاعدة الأهم و المهم تزاحم الملاكين و ليكن هذا على ذكر منك.

و ممّا لا بدّ من التأكيد التام عليه أن معرفة المصالح و المفاسد، و الأهم من غير الأهم، لا بدّ أن يكون بحسب مذاق الشرع، و ما عرفنا من لسان أدلته، من اهتمام الشارع المقدس ببعض الأمور أكثر من بعض، لا بحسب مذاقنا و ما يبدو في أذهاننا من الاستحسانات.

و الحاصل أن معرفة مصاديق هذه القاعدة إنّما هو إلى الفقيه العالم بلسان الشرع لا أنه موكول إلى الاستحسانات و العقول الضعيفة.

7- أمر الوالد و نهيه

- سواء قلنا بوجوب إطاعته في غير الواجب و الحرام، أو قلنا إن المحرم هو العقوق (أي ما يوجب أذاه) فقط، و قد دلّ عليه الكتاب و السنّة، فالسفر قد يكون مباحاً أو مستحباً لكونه مقدّمة للحجّ المستحب، و لكن يأمر الوالد به أو ينهى عنه فيصير واجباً أو حراماً بالعنوان الثّانوي مؤقتاً، مع بقاء الحكم الأولي في مرحلة الإنشاء فإذا ارتفع هذا العنوان ارتفع حكمه.

8 و 9 و 10- النذر و العهد و القسم

- الثابت بالكتاب و السنّة، جميعها من العناوين الثّانوية، فكم عمل مستحب أو مباح بعنوانه الأولي يجب أو يحرم بالنذر أو العهد أو القسم، فصلاة الليل مستحب بعنوانه الأولي، و لكن تجب بالنذر بعنوانها الثّانوي، فإذا انقضى النذر انقضى هذا الحكم، و كذا الإنفاق في سبيل الله و شبهه و فعل بعض الأمور، مكروه بعنوانه الأولي و لكن بالنذر أو القسم على تركه يحرم و هكذا أشباهها.

فهذه عشرة عناوين من العناوين الثّانوية، و لا ندعي حصرها في ذلك، و لعلّه يعثر المتتبع على عناوين أخرى في طيات كتب الفقه، و منه يعلم عدم حصرها في عنواني «الضرورة» و «الحرج» كما زعمه بعض، بل هناك عناوين كثيرة أخرى بحوث فقهية هامة، ص: 507

لا ترتبط بالضرورة أو العسر و الحرج، قد عرفت الإشارة إلى شطر منها، مثل التقية التحبيبية و أمر الوالد و النذر و القسم و غيرها.

3- دور العناوين الثّانوية في حياة الفقه الإسلامي و ازدهاره

هناك أصلان يعدان من الأصول المسلّمة في الإسلام: أبدية الإسلام و عالميته، فالإسلام لا ينحصر بزمان، دون زمان و بمكان دون مكان، و لا قوم دون قوم، بل يجري مجرى الشمس و القمر، مدى الدهور و الأعصار، و في مختلف أنحاء العالم، يضي ء و يشرق على الجميع إلى آخر الدنيا و في جميع الأقطار.

يدلّ عليهما ما ورد في القرآن من التعبير بقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ*، و يا بَنِي آدَمَ*، و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا*، و يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ*، و يا عِبادِيَ*

» في آيات كثيرة تدلّ على أن المخاطب بها جميع البشر من زمان نزولها إلى آخر الدنيا، و في كلّ مكان من الأمكنة، و كلّ بقعة من بقاع الأرض.

و يدلّ على الثّاني بالخصوص آية الخاتمية (ما كانَ مُحَمَّدٌ

أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ) و غير ذلك ممّا ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) و شبهه.

و في السنّة روايات كثيرة لسنا بصدد ذكرها الآن، و قد صار هذان الأصلان من الواضحات يعرفه كلّ من له إلمام بالإسلام.

ثمّ إذا كان الإسلام ديناً عالمياً أبدياً لنوع البشر، مع أن المجتمعات لا تزال في تطور و تغيير، و لا تزال حوائجهم تختلف و تزداد و تتنوع و تتشعب، مع كون قوانين الإسلام ثابتة مؤيدة، يُتسائل أنه كيف ينطبق ذاك الأمر المتغير دائماً، على هذه القوانين الثابتة دائماً؟ و هل يمكن الجمع بينهما؟ مع أنّا نرى القوانين في المجتمعات الإنسانية- مرادنا القوانين التي وضعتها أيدي البشر- تتغير دائماً كي بحوث فقهية هامة، ص: 508

تنطبق على مراداتهم، فالإسلام يجعل قوانينه ثابتة و مع ذلك يقضي بها حوائج الناس في جميع أقطار العالم و جميع الأعصار، و هذه مسألة مهمّة عجيبة.

و قد فاز الإسلام في هذا الميدان فوزاً عظيماً، و السرّ فيه مضافاً إلى أن واضع القانون هنا هو الله، العالم بالسرائر، و الواقف على الضمائر، و هو الخالق للإنسان الخبير بحاجاته المادية و المعنوية، فإن في الإسلام أصولًا كلية، و قوانين جامعة، لها شمول كثير، و دوائر واسعة، و خطوط عريضة، تزدهر زماناً بعد زمان، و تتغير مصاديقها و تبقى ذواتها، مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «المؤمنون عند شروطهم»، و «ما حكم به العقل حكم به الشرع» و غيرها من أشباهها.

أضف إلى ذلك، القواعد الكثيرة المشتملة على العناوين الثّانوية مثل «قاعدة لا ضرر» و «قاعدة لا حرج» و «الضرورة» و «لزوم ما يتوقف عليه حفظ النظام»، و

«قاعدة الأهم و المهم عند تزاحم المصالح» و أشباهها.

فكم من مشكلة عظيمة انحلت بفضلها، و كم من عويصة غامضة مظلمة انكشفت في ضوء أنوارها، فأحكام العناوين الثّانوية من أهم أسباب الحكومة الإسلامية لحلّ المعضلات.

و لكن هنا أمران يجب التنبيه عليهما، و التحذير منهما كلّ الحذر.

الأول: أنه ليس معنى هذا الكلام، اتباع الأهواء و الجري على وفق جريان الماء و أخذ الأحكام الأولية كشمعة يصنع بها ما يشاء، و يتلاعب بها كيف يراد.

بل لا بدّ من الدقّة، و كمال الدقّة، في كشف مصاديقه و الأخذ بما هو مقتضى الحزم و الاحتياط فيها، فإن الأمر هنا صعب مستصعب، و قد خفي على بعض من لا خبرة له بالفقه حتّى أصبحت أحكام الله تعالى تابعة لميولهم، رغم حكم الإسلام بوجوب الخضوع لأحكام الله تعالى، و قوله تعالى (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما

بحوث فقهية هامة، ص: 509

شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) «1».

و قد سمعنا أنه أتت بعض النساء من العوام إلى القاضي تدّعي العسر و الحرج في البقاء مع زوجها و تطلب الطلاق بذرائع واهية (مثل أن زوجها له عادة سيئة عند الأكل و الشرب أو في الملبس و المشرب أو غير ذلك).

فلا بدّ للفقيه أن يصمد تجاه هذه الأهواء التي قد تفرغ الإسلام من محتواه، فالإفراط باطل، كما أن التفريط و ترك التمسّك بهذه العناوين لحلّ المعضلات العديدة الاجتماعية بدعوى التقدس و الاحتياط أيضاً من أهواء الشيطان و مكائده.

الثّاني: أن بعض العناوين الثّانوية ممّا تختص بحالة الضرورة و شبهها لا يمكن الأخذ بها في كلّ حال و جعلها كقانون مستمر في حال الاختيار، و لا يمكن بناء

أكثر أحكام الشرع عليها و حلّ جلّ المشكلات بها. بل لا بدّ من اللجوء إلى العناوين الأولية و القوانين المتخذة منها فإنها العمدة في حلّ المعضلات الاجتماعية، و لو بذلنا الجهد في هذا السبيل لظفرنا بالمقصود قطعاً، ثمّ نأخذ من العناوين الثّانوية لحالات خاصّة و ظروف معيّنة.

و الحاصل أن القول بأنه لا تدور رحى المجتمعات البشرية اليوم إلّا مدار عناوين الضرورة و الاضطرار، و الضرر و الضرار، قول فاسد، و مفهومه أن حياة الإسلام و قوانينه (نعوذ بالله) قد انقضت، و دورها قد انتهى، فيكون كالمريض الذي لا تستمر حياته إلّا بالتغذية عن طريق وريده فقط.

نعم لا شكّ أنه قد يكون في عمر الإنسان ساعات لا يمكن التحفظ على حياته إلّا بهذا الطريق، و لكن لو أن إنساناً لا يعيش أبداً إلّا بهذا الأسلوب، و لا يقدر مدى حياته على التغذية كما هو المتعارف، ففي الحقيقة قد تمت حياته و انقضت أيّامه، و لم بحوث فقهية هامة، ص: 510

يبق له شي ء، و كذلك قد تكون في البلاد اضطرابات لا تمكن الغلبة عليها إلّا بالتوسل بالقوّة العسكرية، و لكن هذا خاصّ ببرهة من الزمان، فلو أن بلداً من البلاد و حكومة من الحكومات لا يقوم أمرها إلّا بهذا النحو من الحكومة كان دليلًا على اضمحلالها من أصل، و على أن دورها قد انتهى، و هكذا الإسلام لو قلنا أنه لا يبقى له شي ء إلّا من طريق الأحكام الثّانوية الاضطرارية و هذا أمر ظاهر لا ستر عليه.

و ملخص الكلام، أنه ليس دور هذا القسم من العناوين الثّانوية الاضطرارية إلّا حل المعضلات الناشئة عن الأزمات الاجتماعية و الاقتصادية، و لا يمكن التمسّك بها في كلّ الحالات و جميع

الظروف.

و بعبارة أوضح لو قلنا أن نظام الأمّة الإسلامية في زماننا هذا لا يتم إلّا بالأخذ بالعناوين الثّانوية الاضطرارية في جميع الأمور فقد اعترفنا بنقص قوانين الإسلام و عدم احتفاظها على مصالح البشر في عصرنا هذا، و إلّا كانت العناوين الأولية من أحكامه تعالى كافلة لهذه المهمة.

و هذا الاعتراف العملي، خطأ عظيم و ذنب لا يغفر و نعوذ بالله منه.

4- النسبة بين العناوين الثّانوية و الأولية

و النسبة بينهما تارة تكون بالحكومة كما في أدلّة لا ضرر و لاضطرار، فإن قوله (صلى الله عليه و آله)

«لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»

و قوله «و ليس شي ء ممّا حرمه الله إلّا و قد أحله لمن اضطر إليه»

و كذلك أدلّة النذر و العهد و القسم كلّها بالنسبة إلى العناوين الأولية، و كلّ ما كان بلسانه ناظراً إلى غيره، سواء جعله موسعاً أو محدوداً فهو حاكم عليه و المقام من هذا القبيل.

بحوث فقهية هامة، ص: 511

و أخرى: يكون مقدماً عليه من جهة الرجحان في الملاك عند تزاحم الواجبين أو المحرمين، كما في عنوان الأهم و المهم.

و ثالثة: من قبيل تقديم ما فيه الاقتضاء على ما ليس فيه الاقتضاء، كوجوب الأمر المباح إذا كان مقدمة للواجب، و كحرمته إذا كان مقدمة للحرام، فإن أدلّة وجوب المقدمة عقلية لا معنى لجريان الحكومة فيها، بل تقدّم على أدلّة المباحات لأنها ليس فيها اقتضاء و ملاك للوجوب أو الحرمة، و بعد ما صار مقدّمة للواجب أو الحرام كان فيها اقتضاء لذلك، كما لا يخفى على الخبير.

فتقديم العناوين الثّانوية على الأولية إنّما يكون لجهات شتى، في كلّ مقام بحسبه.

5- ولاية الفقيه بنفسها من العناوين الأولية

كما أن منصب الإفتاء و منصب القضاء أيضاً كذلك، فهذه المناصب الثلاثة كلّها من العناوين الأولية، و لكن الكلام كلّه في متعلّق هذه المناصب، فمنصب الإفتاء يدور مدار استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، و منصب القضاء يدور حول إحقاق الحقوق و إجراء الحدود على وفق أحكام الشرع، و الولاية تدور مدار إصلاح نظام المجتمع الإنساني من طريق تنفيذ أحكام الشرع و إجرائها، فكلّ هذه المناصب تدور مدار الأحكام الإلهية الأولية و الثّانوية لا غير، و جميع هذه في طول تلك

الأحكام، فكما أن منصب الإفتاء لا يتعدى كشف أحكام العناوين الأولية و الثّانوية، و القضاء لا يتعدى عن إحقاق الحقوق على وفق أحكام الشرع، فكذلك الولاية لا تتعداها أبداً، و إلّا لم تكن ولاية إلهية إسلامية، و من الواضح أنه ليس للفقيه الولاية كيفما شاء و أراد كما مرّ مراراً.

الثّالث- كشف النقاب عن الولاية المطلقة

إن قلت: إنه قد ورد في بعض كلمات الأعاظم (قدس سرهم) أن ولاية الفقيه مطلقة لا تقييد فيها.

قلت: نعم هي كذلك، و لكن المراد منه أنه لا تتقيد بالضرورة و الاضطرار و شبه هذه الأمور، توضيح ذلك: أنه قد تطلق العناوين الثّانوية و يراد منها جميع ما ينطبق عليه التعريف الذي ذكرنا آنفاً، و لها حينئذ عرض عريض يشمل العناوين العشرة السابقة و غيرها.

و أخرى تطلق و يراد منها خصوص الضرورة و الاضطرار، فمعنى خروج ولاية الفقيه عن العناوين الأولية و الثّانوية هو الأخير، و حينئذ لا مانع من انطباق عناوين أخرى عليه.

و الشواهد على ذلك كثيرة أولها: ما ذكر في كلماتهم من الأمثلة «منها» حكم الفقيه بترك الحجّ في بعض السنين، و في بلد من البلاد، إذا كان هناك مصالح أهم منه فإنه لا ريب في انطباقه على ما عرفت من قاعدة الأهم و المهم، فهل ترى أحداً من الفقهاء يحكم بترك الحجّ الواجب بل المستحب لا لمصلحة شرعية تكون في الترك، أهم و أولى من مصلحة فعلها؟ و «منها» إحداث الشوارع أو إبداع القوانين و الأنظمة الحاكمة على مرور السيارات لما فيها من حفظ النفوس و الدماء التي تكون أهم من تخريب بعض البيوت و إعطاء قيمتها كما هو حقّها (من دون إذن صاحبها) و كذلك سلب حرية الناس في الشوارع و تقيدهم

ببعض القيود، فهذه كلّها من مصاديق قاعدة الأهم و المهم، و لعمري أن هذه الأمثلة من أقوى الشواهد على ما ذكرنا.

ثانيها: إن قلنا إن ولاية الفقيه لا تتقيد بشي ء، فهل نقول بأنه لا تتقيد بمراعاة مصالح المسلمين أبداً، أو نقول بوجوب مراعاتها عليه؟

بحوث فقهية هامة، ص: 513

و الأول لا يتفوه به أحد، و على الثّاني فهل هذه المصلحة مشكوكة، أو مظنونة أو قطعية تستفاد من لسان الشرع و العقل؟ و الأول أيضاً لا يقول به أحد، و الثّاني إمّا أن لا يترجح على ما في ارتكاب مخالفة الأحكام الأولية من المفاسد، أو يترجح.

و الأولى أي ما كان ملاك المفسدة أهم فيه لا يظن الالتزام به من أحد، و على الثّاني يدخل في قاعدة الأهم و المهم، و قد عرفت أنه داخل في العناوين الثّانوية و هو المطلوب، فولاية الفقيه ترجع بالمآل إلى مراعاة الأهم فالأهم شرعاً.

ثالثها: ما عرفت من أن الأحكام الولائية، أحكام إجرائية و تنفيذية لأنها مقتضى طبيعة مسألة الولاية، و أنها دائماً ترجع إلى تشخيص الصغريات و الموضوعات، و تطبيق أحكام الشرع عليها. و تطبيقها على أحكام الشرع، و ليس للوالي بما أنه وال التدخل في نفس الأحكام الكلية، بل بما أنه مفت و مرجع للفتوى، كما أنه ليس له القضاء بما أنه وال، بل بما أنه قاضٍ، و من الواضح أن الفقيه بما له من منصب الإفتاء يجوز له استنباط الأحكام عن أدلتها و استنباطها عن منابعها، فتدبر جيداً فإنه حقيق به.

فولاية الفقيه مطلقة في حريم أحكام الشرع، لا فيما خالف أحكامه، و لا يظن بأحد القول بإطلاقها في ما خالف الشريعة، لأنه منصوب لإجرائها و تنفيذ أحكامها، و أحكامها تدور على

العناوين الأولية و الثّانوية فحسب، و الأمر واضح بحمد الله.

المقام السّادس من صلاحيات الولي الفقيه: «مهمة الولاية على التشريع»

اشارة

أمّا الجزئية أعني الأحكام الإجرائية فلا إشكال فيه، و لكنّها كما عرفت من قبيل تطبيق الكبريات على مصاديقها، و لا ينبغي أن يسمّى تشريعاً، و ذلك مثل أنظمة مرور السيارات فإنها مقدّمة لحفظ النفوس و الدماء و نظم البلاد.

و أمّا الكلية فالجواب عن هذا السؤال فيها و إن كان واضحاً، و لكن توضيحه أكثر من هذا يحتاج إلى بيان مقدّمه نذكر فيها و جهات نظر علماء الإسلام و آرائهم حول التشريع الإسلامي فنقول و منه نستمد الهداية:

أجمع علماء الإسلام على أنه لا يجوز الاجتهاد في مقابل النصّ، فلو كان هناك نصّ في حكم من الأحكام لم يجز إلّا قبوله، بل هذا مرادف لقبول النبوة و الاعتقاد بها، و ما صدر من بعض الماضين مخالفاً لهذا فإنّما صدر غفلة و اشتباهاً، و إلّا فالمسألة واضحة.

و أمّا في ما لا نصّ فيه فقد أخذ الجمهور بالقياس و الاستحسان و الاجتهاد بمعناه الخاصّ، و وضعوا فيه أحكاماً بآرائهم، زعماً منهم أن ما لا نصّ فيه لا حكم فيه في الواقع، فلا مناص إلّا من تشريع حكم فيه، أمّا بقياسه على غيره من أحكام الشرع، و أمّا بالبحث و الفحص عن المصالح و المفاسد، فما ظنوا فيه المصلحة أوجبوه، و ما

بحوث فقهية هامة، ص: 515

ظنّوا فيه المفسدة حرّموه «و منع قليل منهم القياس و الاستحسان و لكنه شاذ»، كلّ ذلك يسمّى عندهم اجتهاداً بالمعنى الخاصّ.

و أمّا أصحابنا الإمامية (رضوان الله تعالى عليهم) فقد قالوا بأنه ليس هناك واقعة لا نصّ فيها و لا يوجد أمر خال عن حكم شرعي، و إن الدين قد كملت أصوله و فروعه بحيث لم

يبق محل لتشريع أحد أبداً.

نعم هذه الأحكام تارة وردت في نصوص خاصّة، و أخرى في ضمن أحكام كلية و قواعد عامة و جميعها محفوظة عند الإمام المعصوم، صادق بعد صادق، و عالم بعد عالم و وصلت أكثرها إلينا من طريق الكتاب و السنّة و الإجماع و دليل العقل، و ربّما لم يصل بعضها إلينا، و لكنّه ثابت في الواقع، فعلى المجتهد الجد و الجهد في الحصول عليها، و إن يئس عن الوصول إلى بعضها أحياناً فعليه الأخذ بما هو وظيفة الشاك، من الأصول العملية التي لا تخرج عنها واقعة، و لا يشذ عنها شاذ، بل هي جامعة و شاملة لجميع الموارد المشكوكة فعلى هذا، «الفراغ القانوني» غير موجود في مكتب أهل البيت (عليهم السلام) و من يحذو حذوهم، بل كلّما تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة، في حياتهم الفردية و الاجتماعية، المادية أو المعنوية، فقد ورد فيه حكم إلهي و تشريع إسلامي، فلا فراغ، و لا نقص أصلًا، و لا يبقى محل لتشريع الفقيه أو غيره.

فالذي للفقهاء دامت شوكتهم، أمران:

الأوّل: الجهد و الاجتهاد في كشف هذه الأحكام عن أدلتها.

الثّاني: تطبيقها على مصاديقها و تنفيذها بما هو حقّها، و الأول هو الإفتاء، و الثّاني هو الولاية و الحكومة.

و يدلّ على ذلك أمور:
1- آيات من كتاب الله:

«منها» قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) «1» و كيف يكون الدين كاملًا لو خلت الوقائع عن الأحكام اللازمة؟ و كيف يكون الدين خاتماً و الشريعة عالمية مع عدم وجود ما يغني الإنسان إلى آخر الدهر، و في جميع أقطار العالم من الأحكام و الشرائع؟ فكما نقول بكمال الدين في أصوله بنصب ولي الله المعصوم (عليه السلام) فكذلك في

فروعه، كما أن القول بعدم النصّ في الأصول و أنه موكول إلى الناس مردود، فكذلك القول بعدمه في الفروع أيضاً مردود ممنوع.

و قد ورد في تفسير الآية عن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل ما لفظه «و ما ترك شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّا بيّنه، فمن زعم أن الله عزّ و جلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب الله، و من ردّ كتاب الله فهو كافر»

«2». فكما أنه لم يجعل أمر الإمامة بأيدي الناس، و إلّا لم يكن الدين كاملًا، فكذا أمر الأحكام و التشريعات.

«منها» قوله تعالى (وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ) «3».

ظاهر هذه الآية أن الأشياء التي لها صلة بسعادة الإنسان و كرامته و صلاحه و فساده مذكورة في كتاب الله، في عمومه أو خصوصه.

و قد ورد في تفسير الآية أحاديث كثيرة تؤكد على هذا المعنى ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله.

2- و من السنّة [ما دل على شمولية الإسلام لجميع حاجات الإنسان

الأحاديث الدالّة على أن كلّما تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة مبينة في الشريعة المقدسة حتّى أرش الخدش، و قد عقد لها في الكافي باباً مستقلًا أورد فيه عشر روايات و إليك شطر منها.

الأوّل: ما رواه مرازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إنّ الله تبارك و تعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شي ء، حتّى و الله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتّى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا، أنزل في القرآن، إلّا و قد أنزله الله فيه «1». الثّاني: ما رواه عمر بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول إن الله تبارك و تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله (صلى الله عليه و آله)

(الحديث)

«2».

الثّالث: ما رواه حمّاد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول ما من شي ء إلّا و فيه كتاب أو سنّة

«3». الرّابع: ما رواه المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)

ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب الله عزّ و جلّ و لكن لا تبلغه عقول الرجال «4». الخامس: ما رواه سماعة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال قلت له، أ كل شي ء في كتاب الله و سنّة نبيه (صلى الله عليه و آله) أو تقولون فيه؟ قال: بل كلّ شي ء في كتاب الله و سنّة نبيه (صلى الله عليه و آله)

«5».

بحوث فقهية هامة، ص: 518

السّادس: و أوضح من ذلك كلّه ما ورد في نهج البلاغة في ذم اختلاف العلماء في الفتيا، و ذم أهل الرأي و القياس، و القائلين بخلو بعض الوقائع عن الحكم و إيكال حكمها إليهم، ما نصّه «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً- و إلههم واحد! و نبيهم واحد! و كتابهم واحد! فأمرهم الله سبحانه بالاختلاف، فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه، فعصوه؟ أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى، أم أنزل الله ديناً تامّاً فقصّر الرسول (صلى الله عليه و آله) عن تبليغه و أدائه، و الله سبحانه يقول ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ و فيه تبيان لكلّ شي ء»

«1». و دلالة الجميع على المطلوب واضحة.

[ما دل على رواية الأئمة ع جميع علومهم عن رسول الله ص

3- و هناك طائفة أخرى من

الأخبار تدلّ على أن جميع ما ذكره الأئمّة (عليهم السلام) رواية عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) فلم يقولوا بآرائهم شيئاً، بل كان جميع ذلك في سنّة رسوله (صلى الله عليه و آله) و هذه الطائفة كثيرة جدّاً.

رويت في الكتاب القيّم جامع أحاديث الشيعة باسنادها، في الباب الذي عقد لبيان حجية فتوى الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) (لأجل الاحتجاج على المخالفين بأنهم إن أنكروا إمامتهم المنصوصة فلا أقل من أن الواجب عليهم قبول قولهم بما هم يروون جميع علومهم عن رسول الله (صلى الله عليه و آله)) و هذه الأحاديث كثيرة نذكر شطراً منها يكون وافياً بالمقصود.

بحوث فقهية هامة، ص: 519

الأوّل: ما رواه جابر قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) إذا حدثتني بحديث فأسنده لي، فقال: «حدّثني أبي عن جدي رسول الله (صلى الله عليه و آله) عن جبرئيل عن الله عزّ و جلّ، و كلّما أحدثك بهذا الإسناد»

«1». الثّاني: ما رواه حفص بن البختري قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): نسمع الحديث منك فلا أرى منك سماعه أو من أبيك، فقال: ما سمعته مني فاروه عن أبي، و ما سمعته مني فاروه عن رسول الله (صلى الله عليه و آله)

«2». الثّالث: ما رواه في البصائر عن عنبسة قال سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل إن كان كذا و كذا ما كان القول فيها؟ فقال له: مهمّا أجبت فيه بشي ء فهو عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) لسنا نقول برأينا في شي ء

«3». الرّابع: ما رواه في الكافي عن قتيبة، قال سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أ

رأيت إن كان كذا و كذا ما يكون القول فيها؟ فقال له، مه؟ ما أجبتك فيه من شي ء فهو عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) لسنا من «أ رأيت» بشي ء!

«4». الخامس: ما رواه في البصائر عن فضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) قال لو حدثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا، و لكنّا حدثنا ببينة من ربنا بيّنها لنبيه، فبينها لنا

«5». إلى غير ذلك ممّا في هذا المعنى و هذه أيضاً تدلّ بأفصح بيان على أن الأئمّة المعصومين لم يشرعوا حكماً من الأحكام، و كلّما قالوه فهي تشريعات إلهية عن بحوث فقهية هامة، ص: 520

رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فإذا كان حالهم كذلك فكيف بغيرهم من الفقهاء الأعلام.

كما تدلّ هذه أيضاً على عدم وجود «الفراغ» في الأحكام الإسلامية، و لا مجال فيها إلّا كشفها عن منابعها أو الرجوع فيها إلى الأصول المقررة للشاك، التي طفحت بها الكتب الأصولية و لا تزال تكون مرجعاً للعلماء و الفقهاء.

[ما دل على تدوين كافة الأحكام الشرعية في كتاب علي ع

4- و قد عثرنا أيضاً على طائفة ثالثة تدلّ على أن جميع الأحكام الشرعية كانت مكتوبة في كتاب علي (عليه السلام) حتّى أرش الخدش.

و عبّر عنه تارة بالجامعة، و أخرى بالجفر، و ثالثة بمصحف فاطمة، و رابعة بكتاب علي (عليه السلام) و النتيجة واحدة و ظاهر الجميع أنه كان هناك كتاب جامع للأحكام الإسلامية محفوظ عندهم و إليك شطر منها:

الأوّل: ما رواه في البصائر عن عبد الله بن ميمون عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال في كتاب علي (عليه السلام) كلّ شي ء يحتاج إليه حتّى الخدش و الأرش و الهرش «1». الثّاني: ما رواه عن أبي بصير عن أبي عبد الله

(عليه السلام) قال سمعته يقول،

و ذكر ابن شبرمة في فتياه، فقال: أين هو من الجامعة، أملى رسول الله (صلى الله عليه و آله) و خط علي (عليه السلام) بيده فيها جميع- الحلال و الحرام حتّى أرش الخدش فيه «2». الثّالث: ما رواه عن جعفر بن بشر عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ما ترك علي (عليه السلام) شيئاً إلّا كتبه، حتّى أرش الخدش «3». الرّابع: ما رواه في الكافي عن الصيرفي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إن عندنا

بحوث فقهية هامة، ص: 521

ما لا نحتاج معه إلى الناس، و إن الناس ليحتاجون إلينا، و إن عندنا كتاباً إملاء رسول الله (صلى الله عليه و آله) و خط علي (عليه السلام)، صحيفة، فيها كلّ حلال و حرام «1». الخامس: ما رواه علي بن سعيد عن الصادق (عليه السلام) في تفسير الجفر، و فيه أنه كتاب فيه كلّ ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة من حلال و حرام، بإملاء رسول الله (صلى الله عليه و آله) و خط علي (عليه السلام)

«2». إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى، و في تفسير «الجامعة» و «الجفر» و غيره و لعلّها تبلغ حدّ التواتر، و جميعها شاهدة على أن أحكام الإسلام تامّة كاملة جامعة لا يبقى معها تشريع آخر، و أن الأئمّة (عليهم السلام) لا يقولون شيئاً فيها برأيهم، و تشريع منهم، فلا يبقى محلّ لهذا السؤال: هل يكون للفقيه ولاية على التشريع أم لا؟ و كيف يمكن أن تكون ولاية الفقيه أوسع من ولاية الأئمّة (عليهم السلام) مع أن ولاية الفقهاء فرع من فروع تلك الولاية الجامعة الإلهية.

إن قلت: فهل الألفاظ التي

ذكرها الأئمّة (عليهم السلام) عين ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه و آله)؟

قلت: الظاهر عدمه، فإنه من البعيد بعد جواز النقل بالمعنى الاقتصار عليها، بل الظاهر من غير واحد من الأخبار أنهم (عليهم السلام) كانوا يطبقون الكبريات على الصغريات، و يردون الأصول إلى الفروع، مع صحّة الإسناد إليه (صلى الله عليه و آله) مثلًا إذا قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)

«لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»

على نحو مطلق، ثمّ سئل الإمام (عليه السلام) عن إضرار الزوج بالزوجة أو بالعكس أو بالولد، فقال: «إن رسول الله (صلى الله عليه و آله) نهى ذلك» كان إسناداً صحيحاً قطعاً و كذلك بالنسبة إلى غيره من الأصول و القواعد و توضيحها أكثر من ذلك، و يطلب في مظانّه.

5- و يدلّ على ما ذكرنا أيضاً بوضوح ما أجمعت الأصحاب عليه

، من بطلان التصويب لما فيه من خلو الواقعة عن الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، و قد نطقت الآثار الواردة من أهل البيت (عليهم السلام) «بأن لله في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم و الجاهل».

توضيح ذلك: أن أصحابنا (رضوان الله عليهم) أجمعوا على أن المجتهد إن أصاب الحكم الواقعي فهو مصيب، و إن لم يصبه فقد أخطأ و هو معذور، فإذا اختلفت الأقوال كان الصحيح من بينها قول واحد و هو ما وافق حكم الله الواقعي، و الباقي خطأ، خلافاً لأهل الخلاف حيث قالوا بإصابة الجميع للواقع إذا كان ذلك فيما لا نصّ فيه و كان حكم كلّ واحد منهم على وفق اجتهاده (أي الاجتهاد بالمعنى الخاصّ) نظراً إلى اعتقادهم بإمكان خلو الواقعة في هذه الموارد من الحكم.

و هذا يعني أن الفراغ التشريعي غير موجود في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أبداً، و أن أحكام الشرع

و قوانينه كفيلة بجميع الأمور التي هي محلّ حاجة الإنسان في حياته، لا يشذ منها شاذ.

6- الإمام (عليه السلام) حافظ للشرع

، و قد صرّح علماء الكلام بذلك عند قولهم بوجوب نصب الإمام (عليه السلام) و لزوم النصّ عليه عن النبي (صلى الله عليه و آله) و أنه لولاه لاندرست آثار النبوة، و استدلّوا أيضاً بأن رسول الله (صلى الله عليه و آله) لما اشتغل في برهة طويلة عن نبوته بالغزوات، و لم تساعده الظروف على إبلاغ جميع أحكام الإسلام مع ثبوتها يبقى إبلاغها على عاتق وارث علومه، و لم يستدلّ أحد بأن الأحكام كانت ناقصة فوجب على الإمام (عليه السلام) تكميلها، هذا هو المعروف المسلّم بين الأصحاب، كما ورد في نهج البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)

«اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً،

بحوث فقهية هامة، ص: 523

أو خائفاً مغموراً، لئلّا تبطل حجج الله و بيناته،. يحفظ الله بهم حججه و بيناته، حتّى يودعوها نظراءهم، و يزرعوها في قلوب أشباههم»

7- ما دلّ على أن دين الله لا يصاب بالعقول

، من طريق العقل و النقل، أمّا الأوّل ما استدلّ به كثير من العلماء على أن رداء التقنين لا يليق إلّا بالله، لأنه العالم بحاجات الناس، معنوية و مادية، لأنه هو خالقهم، و هو العالم بسرائرهم، و ما كان من أمورهم و ما يكون، و لا يعلم ذلك غيره فلا يليق التشريع إلّا به، بل لا يقدر عليه غيره، و لذا لا تزال القوانين البشرية تتغير يوماً بعد يوم، لعدم نيلها بما هو الصالح و الأصلح، فهم يخبطون خبط عشواء، يسلكون طريقاً مظلماً، و يلجون بحراً عميقاً، من دون أن يكونوا أهلًا لذلك، بل هذا من أهم الدلائل على وجوب إرسال الرسل و إنزال الكتب.

بل لو قلنا بجواز الحكم بالآراء و تشريع الشرائع بعقول الرجال استغنينا عن الكتب السماوية و

الشرائع الإلهية: و لم نحتج إليها، و لم يقل بهذا أحد، بل لا يتفوه به فاضل، فضلًا عن فقيه عالم، و من جميع ذلك يعلم أنه لا معنى لتفويض أمر التشريع إلى الفقيه، بل وظيفته بما هو فقيه إجراء أحكام الشرع، و التوسل إلى أسباب مشروعة للحصول عليها، و لا دليل على أزيد من ذلك قطعاً.

[الخلاصة]
اشارة

نستخلص ممّا ذكرنا أموراً مهمّة:

1- لا معنى للتشريع و جعل القانون فيما ورد فيه نصّ في الشريعة الإسلامية، بل لم يقل به أحد.

2- التشريع فيما لا نصّ فيه مختص بالعامّة، و أمّا أصحابنا الإمامية فهم معتقدون بحوث فقهية هامة، ص: 524

بعدم وجود الفراغ في التشريع، حتّى يتصدى له الفقيه أو غيره، بل جميع ما تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة مبيّنة في الأحكام الجزئية أو القواعد الكلّية، و الأصول الواردة في الكتاب و السنّة، و وظيفة الفقيه استنباطها من أدلتها، و عند عدم وصوله إلى الأحكام الواقعية يعمل بالأحكام الظاهرية المقرّرة للجاهل، و لو لا ذلك كانت الشريعة ناقصة و محتاجة في تكميلها إلى عقول الرجال، معاذ الله عن ذلك.

3- تقنين القوانين و تشريع الأحكام لا يليق إلّا بالله، فإنه العالم بالمصالح و المفاسد و ما يحتاج إليه خلقه في الحال و المستقبل دون غيره ممّن لا إحاطة له بمصالح الأمور و مفاسدها، نعم التقنين بمعنى تطبيق الأحكام على مصاديقها ممّا لا إشكال فيه.

4- الإمام المعصوم (عليه السلام) لا يشرّع شيئاً من الأحكام لعدم خلو واقعة بعد رسول الله (صلى الله عليه و آله) عن الحكم، فهو حافظ للشريعة و منفذ لها، و كون الفقيه كذلك معلوم بالأولوية القطعية.

هذا ما هو المستفاد من الأدلّة السابقة النقلية و العقلية.

و يبقى

هنا سؤال عن أخبار التفويض و نعقد له عنواناً مستقلًا و نقول:

حل معضلة أخبار التفويض:

و هناك روايات كثيرة فيها «الصحاح» و «الضعاف» تدلّ على أن الله فوّض الأمر إلى نبيه (صلى الله عليه و آله) و إلى الأوصياء من بعده، فيقع السؤال أنه ما المراد بهذا التفويض؟ أ ليس المراد منه التفويض في التشريع؟ و قبل الورود فيها لا بدّ من بيان معاني «التفويض» من غير تعرض لحكمها تفصيلًا إلا بعد ذكر هذه الأخبار، كي يكون الباحث على بصيرة منها، مع حفظ الحرية في البحث، فنقول و منه جلّ ثناؤه التوفيق و الهداية.

بحوث فقهية هامة، ص: 525

التفويض له معان كثيرة (مع غضّ النظر عن حكمها)، أحدها: تفويض أمر الخلق إلى النبي (صلى الله عليه و آله) أو الأوصياء من بعده بأن يقال: إن الله خلقهم ثمّ فوّض أمر خلق العالم و تدبيره إليهم.

ثانيها: التفويض الجزئي في أمر الخلق بأن يقال: إن الله أقدرهم على خلق بعض الأمور من المعجزات و شبهها من دون تفويض الكلّ إليهم.

ثالثها: تفويض أمر التشريع إليهم على نحو كلّي، بأن يكون النبي (صلى الله عليه و آله) و أوصياؤه قادرين على جعل أي حكم، و على تغيير الأحكام التي أنزلهما في كتابه و نسخها و تبديلها و تغييرها بما شاءوا و أرادوا.

رابعها: التشريع الجزئي بأن يقال: لم يفوض إليه (صلى الله عليه و آله) التشريع الكلّي بل في موارد معدودة، بأن يكون النبي (صلى الله عليه و آله) قد شرّع أحكاماً خاصّة في بعض الموارد قبل ورود نصّ فيها، و أمضاها الله تعالى.

خامسها: تفويض أمر الخلق إليهم من جهة الحكومة و التدبير و السياسة و تربية النفوس و حفظ النظام.

سادسها: تفويض أمر العطاء

و المنع إليهم، في المواهب المالية ممّا يرجع إلى بيت المال، و غيره، كما ورد في قضية سليمان (عليه السلام) (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) «1» و قد ذكره الله تعالى بعد ما ذكر ما أعطاه من النعم في أمر الحكومة على الناس.

سابعها: تفويض بيان الحقائق و أسرار الأحكام و ما أشبهها من العلوم إليهم فيقولون ما شاءوا (و اقتضته الحكمة) و يمسكون عمّا شاءوا في الظروف الخاصّة و بالنسبة إلى الأشخاص المتفاوتة.

بحوث فقهية هامة، ص: 526

إذا عرفت هذا، فلنعد إلى سرد الأخبار التي ذكرها في الكافي في باب التفويض و نختار في ترتيب ذكرها، غير ما ذكره الكليني، لأمور تعرفها:

1- ما رواه زيد الشّحام (مجهول بصندل الخياط فقط ذكر في الرجل من غير مدح و لا ذم، مضافاً إلى أنه مرسل).

عن علي بن محمّد عن بعض أصحابنا، عن الحسين بن عبد الرحمن، عن صندل الخياط، عن زيد الشحّام قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) قال: أعطى سليمان ملكاً عظيماً ثمّ جرت هذه الآية في رسول الله (صلى الله عليه و آله) فكان له أن يعطي ما شاء من شاء و يمنع من شاء، و أعطاه [الله أفضل ممّا أعطى سليمان لقوله (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

«1». و هذه الرواية تدلّ على التفويض بالمعنى السادس، و يحتمل ذيلها أكثر من ذلك لكنّه غير واضح.

2- ما رواه موسى بن أشيم (و هو أيضاً ضعف ببكار بن بكير و في جامع الرواة بكار بن أبي بكر و لم ينص عليه في كتب الرجال بمدح أو ذم).

عن عليّ بن إبراهيم،

عن أبيه عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس، عن بكار بن بكر، عن موسى بن أشيم قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فسأله رجل عن آية من كتاب الله عزّ و جلّ فأخبره بها ثمّ دخل عليه داخلٌ فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر [به الأول فدخلني من ذلك ما شاء الله حتّى كأن قلبي يشرح بالسكاكين فقلت في نفسي: تركت أبا قتادة بالشام لا يخطأ في الواو و شبهه و جئت إلى هذا يخطئ هذا الخطأ كلّه، فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني و أخبر صاحبي، فسكنت نفسي، فعلمت أن ذلك منه بحوث فقهية هامة، ص: 527

تقيّة، قال: ثمَّ التفت إليَّ فقال لي: يا بن أشيم إنّ الله عزّ و جلّ فوّض إلى سليمان بن داود فقال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) و فوّض إلى نبيّه (صلى الله عليه و آله) فقال (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فما فوّض إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) فقد فوّضه إلينا

«1». و هذه الرواية ظاهرة في التفويض بالمعنى السابع من معاني التفويض و لا دخل له بتفويض التشريع و شبهه بل يظهر منها أن المراد من آية ما آتاكم. أيضاً ذلك فتأمّل.

3- ما رواه زرارة (و هي رواية معتبرة).

عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد، عن الحجال عن ثعلبة، عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر و أبا عبد الله (عليه السلام) يقولان إنّ الله عزّ و جلّ فوّض إلى نبيه (صلى الله عليه و آله) أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم؟ ثمّ تلا هذه الآية

(ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

«2». و هذه الرواية تبدو مجملة و لكن لا يبعد دلالتها على المعنى الخامس و هو تفويض أمر الحكومة و الرئاسة العامّة لقوله «فوّض إليه أمر خلقه» لظهوره في سياسة الخلق و حفظ نظام معاشهم و معادهم، و المراد من الإطاعة، الإطاعة في الأوامر الولائية و الأحكام الجزئية الصادرة من وليّ الأمر، فيظهر منه أن الولاية أيضاً تشير إلى هذا المعنى.

4- ما رواه زرارة أيضاً، أنه سمع أبا جعفر و أبا عبد الله (عليهما السلام) يقولان إن الله تبارك و تعالى فوّض إلى نبيه (صلى الله عليه و آله) أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم؟ ثمّ تلا هذه الآية

بحوث فقهية هامة، ص: 528

(وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

«1». 5- ما رواه محمّد بن حسن الميثمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول إنّ الله عزّ و جلّ أدّب رسوله حتّى قوّمه على ما أراد، ثمّ فوّض إليه فقال عزّ ذكره (وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فما فوّض الله إلى رسوله (صلى الله عليه و آله) فقد فوّضه إلينا

«2». و الرواية مجملة من حيث المراد من التفويض، و لا قرينة فيها بل و لا إطلاق أيضاً كما لا يخفى.

6- ما رواه أبو إسحاق النحوي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فسمعته يقول إن الله عزّ و جلّ أدب نبيه على محبته فقال (وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثمّ فوّض إليه فقال عزّ و جلّ (وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) و قال عزّ و جلّ (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) قال:

ثمّ قال و إن نبي الله فوّض إلى علي، و ائتمنه فسلمتم، و جحد الناس، فو الله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، و أن تصمتوا إذا صمتنا

(الحديث) «3».

و الرواية مجهولة بأحمد بن زاهر، و قد قيل في حقّه: ليس حديثه بذلك النقي، و لم ينص على توثيقه و لم ينقل عنه غير هذا الحديث.

ثمّ إنه لا يخلو الحديث عن إجمال أيضاً، و إن كان المناسب له المعنى الخامس من معاني التفويض، أعني تفويض أمر الحكومة و السياسة، لأنه المناسب للخلق العظيم الذي جعل مقدّمة لتفويض الأمر إليه (صلى الله عليه و آله) فصاحب هذا الخلق العظيم هو الذي يقدر

بحوث فقهية هامة، ص: 529

على الولاية و الحكومة و سياسة العباد دون غيره.

7- ما رواه محمّد بن سنان عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)

لا و الله ما فوّض الله إلى أحد من خلقه إلّا إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) و إلى الأئمّة، قال: قال عزّ و جلّ (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ) و هي جارية في الأوصياء (عليهم السلام)

«1» (و سند الحديث محل للكلام بين الأعلام لاختلافهم في أمر محمّد بن سنان).

و الظاهر أن المراد منه التفويض في أمر القضاء لقوله (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ).

و من المعلوم أن الظاهر من الحكم بين الناس هو القضاء كما يظهر بملاحظة موارد استعماله، و أمّا قوله بِما أَراكَ اللَّهُ فقد ذكر المجلسي (قدس سره) في مرآة العقول في شرح هذا الكلام ما نصّه: «ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به، بما عرفك

الله و أوحى إليك، و منهم من زعم أنه يدلّ على جواز الاجتهاد عليه (صلى الله عليه و آله) و لا يخفى وهنه» «2» و وجه وهنه أنه لا يبقى معه ربط بين صدر الآية و ذيلها، فيكون مفهومها حينئذ «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتقضي بين الناس باجتهادك» و ضعفه ظاهر، بخلاف ما إذا قلنا أن المعنى «إنا أنزلنا إليك الكتاب لتقضي بين الناس بما أراك في كتابه من الأحكام من طريق الوحي و تطبيقه على مصاديقه».

و أمّا الحصر الذي يستفاد من الآية في المعصومين- مع أن القضاء عامّ- فهو كالحصر الذي ورد في بعض أخبار القضاء من قوله (عليه السلام) لشريح «قد جلست مجلساً

بحوث فقهية هامة، ص: 530

لا يجلسه إلّا نبي أو وصي نبي أو شقي»

«1» و ما ورد في رواية سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام)

«أن الحكومة إنّما هي للإمام، العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، كنبي أو وصي نبي»

«2» و لا مانع منه لأن تولي الفقيه للقضاء إنّما هو بإذن الإمام المعصوم (عليه السلام)، و لا يستحق هذا المقام مستقلًا، بل هو نائب من قِبلهِ.

فإلى هنا لم تكن رواية تدلّ على التفويض في التشريع، نعم في الروايات الثّلاث الآتية ورد حكم التفويض فيه و إليك نصّها:

8- ما رواه فضيل بن يسار (بسند صحيح) قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لبعض أصحاب القيس الماصر

إن الله عزّ و جلّ أدّب نبيه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثمّ فوّض إليه أمر الدين و الأمّة ليسوس عباده، فقال عزّ و جلّ (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، و إن رسول الله (صلى

الله عليه و آله) كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس، لا يزل و لا يخطئ في شي ء ممّا يسوس به الخلق، فتأدب بآداب الله ثمّ إن الله عزّ و جلّ فرض الصلاة ركعتين، ركعتين، عشر ركعات فأضاف رسول الله (صلى الله عليه و آله) إلى الركعتين، ركعتين. ثمّ سنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) النوافل أربعاً و ثلاثين ركعة. و سنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) صوم شعبان و ثلاثة أيّام في كلّ شهر. و حرّم الله عزّ و جلّ الخمر بعينها و حرّم رسول الله (صلى الله عليه و آله) المسكر من كلّ شراب. و عاف رسول الله (صلى الله عليه و آله) أشياء و كرهها و لم ينه عنها نهي حرام إنّما نهى عنها نهي إعافة و كراهة.

الحديث «3».

و هذا الحديث يدلّ على التفويض بالمعنى الرابع أي التفويض في التشريع الجزئي بحوث فقهية هامة، ص: 531

لرسول الله (صلى الله عليه و آله) و قد ذكر فيه خمس أمور:

1- فرض الركعتين الأخيرتين في الصلاة.

2- سنة النوافل.

3- سنة صوم شعبان و شبهه.

4- تحريم كلّ مسكر مضافاً إلى الخمر التي حرّمها الله.

5- إعافة بعض الأمور، أي جعلها مكروهاً من قبله (صلى الله عليه و آله).

و لكن فيه «أمور» ينبغي التأمّل فيها:

الأوّل: لا يستفاد منه إلّا كون ذلك له (صلى الله عليه و آله) و أمّا غيره من الأوصياء المرضيين (عليهم السلام) فلا دلالة فيه على تفويض ذلك إليهم، فضلًا عن غيرهم، و لعلّه من خصائصه (صلى الله عليه و آله) و لذا لم ينقل من أحد من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) تشريع حكم كلّي أبداً، نعم قد ورد في بعض كلماتهم أحكاماً

جزئية اضطرارية موقتة كما في جعل خمس آخر، في رواية إسماعيل بن مهزيار، و هو غير ما نحن بصدده، و لعلّ الفرق بين النبي (صلى الله عليه و آله) و الوصي (عليه السلام) في ذلك هو إتمام الدين و إكماله بعده.

الثّاني: قد صرّح فيه بأن هذا المقام ثبت له بعد أن كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس لا يزل و لا يخطئ في شي ء ممّا يسوس به الخلق.

و من الواضح أن هذا المعنى غير ثابت في حقّ الفقهاء أيدهم الله، فليس لهم إلى هذا المقام سبيل، و إن ثبت في شأنه (صلى الله عليه و آله) بل و لو قلنا به في حقّ الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) أيضاً (فرضاً).

الثّالث: يظهر منه أن هذا التشريع النبوي إنّما تمّ و اعتبر بعد ما أجازه الله سبحانه، و لذا صرّح فيه بالإجازة من الله سبحانه «أربع مرّات»، و هذا لا يتصور في حقّ الفقهاء و لا طريق إلى إثباته، و إن أمكن تصوره في حقّ بحوث فقهية هامة، ص: 532

المعصومين (عليهم السلام) من طريق الإلهام.

الرّابع: قد ورد التصريح في آخره بأنه ليس لأحد أن يرخّص ما لم يرّخصه رسول الله (صلى الله عليه و آله) و هذا ينفي إمكان التشريع في حقّ غيره، و الترخص فيما لم يرخصه (صلى الله عليه و آله).

الخامس: كلّ ذلك في ما لم يردّ فيه نصّ، (كما يظهر من الأمثلة الواردة في الحديث).

و أمّا ما ورد فيه نصّ إلهي فلا يكون له (صلى الله عليه و آله) تشريع خاصّ فيه، يخالف تشريعه تعالى، كما هو واضح.

فهذا النوع من التشريع المحدود، إنّما يتصور قبل نزول الشريعة بكمالها و تمامها، و أمّا بعد ذلك، أي

بعد كمال الدين و إتمام النعمة و بيان ما تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة، فلا يبقى مجال و لو للتشريع الجزئي المحدود.

«بقي هنا شي ء» و هو أن قوله «فكثير المسكر من الأشربة» يمكن أن يكون إشارة إلى عدد كثير من أفراد المسكر، سوى الخمر التي حرمها النبي (صلى الله عليه و آله) كما ذكره في مرآة العقول، و أمّا احتمال كونه إشارة إلى أن القليل من المسكر ليس بحرام كما ذكره بعض بعيد جدّاً و يخالفه سائر الأدلّة الواردة في المسألة.

9- ما رواه إسحاق بن عمّار في حديث مختلف فيه من حيث السند (لوجود محمّد بن سنان في سلسلة السند) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إن الله تبارك و تعالى أدّب نبيه (صلى الله عليه و آله) فلمّا انتهى به إلى ما أراد، قال له (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ففوض إليه دينه فقال (وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) و إن الله عزّ و جلّ فرض الفرائض و لم يقسم للجد شيئاً و أن رسول الله (صلى الله عليه و آله) أطعمه السدس فأجاز الله جلّ ذكره له ذلك، و ذلك قول الله عزّ و جلّ (هذا عَطاؤُنا

بحوث فقهية هامة، ص: 533

فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ)

«1». و قد صرّح فيها بأن طعمة السدس للجد ممّا سنّه رسول الله (صلى الله عليه و آله) و أجازه الله تعالى و أن هذا من قبيل (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (في عالم التشريع، و إن كان أمر سليمان في عالم التكوين).

و طعمة الجد إنّما هو في فرض كون الأب و الأم وارثين، فيستحب حينئذ إطعام الجدّ سدس المال و

ليس بواجب كما هو معلوم، و قد ذكر الفقهاء له شرائط من أراد الوقوف عليها فليراجع كتاب الفرائض، سهام الإرث، باب سهم الأب و الأم «2».

و قد يقال أصل هذا الحكم مذكور في التشريع الإلهي و هو قوله تعالى (وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً) «3».

و لكن لو سلّمنا ذلك فلا أقل من أن تحديد مقداره من تشريعه (صلى الله عليه و آله) و الأمر سهل.

10- ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال وضع رسول الله (صلى الله عليه و آله) دية العين و دية النفس و حرّم النبيذ و كلّ مسكر، فقال له رجل: وضع رسول الله (صلى الله عليه و آله) من غير أن يكون جاء فيه شي ء؟ قال: نعم ليعلم من يطع الرسول ممّن يعصيه «4». (و هو ضعيف بعلي بن محمّد، فقد قيل في حقّه أنه مضطرب الحديث و المذهب).

و يظهر من هذا الحديث أيضاً أمور:

أحدها: أن وضعه (صلى الله عليه و آله) و تشريعه للأحكام كان أمراً بديعاً حتّى تعجب منه بعض بحوث فقهية هامة، ص: 534

الحاضرين، فلو كان أمراً شائعاً لما تعجب منه.

ثانيها: أن حكمة هذا التشريع النبوي هو امتحان الأمّة ليميز المطيع عن العاصي، و قد ورد هذا المعنى في بعض الروايات الأخر ممّا ورد في الباب أيضاً، و يدلّ هذا على أن تشريعه (صلى الله عليه و آله) لم يكن جارياً في جميع الأحكام، بل في بعضها لأمر خاصّ أشير إليه هنا، و إلّا لم يكن وجه لعد موارد خاصّة محدودة.

و يمكن أن تكون حكمة الحكم مضافاً إلى ما ذكر، بيان مقامه السامي، و

منزلته الرفيعة عند الله عزّ و جلّ، كما أشار إليه البعض.

ثالثها: أنه قد ورد في الحديث أن عبد المطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن، أجراها الله في الإسلام (ثمّ ذكر تحريم نساء الآباء على الأبناء، و مسألة الخُمس في الكنز، و سقاية الحاج، و نزول الآيات القرآنية فيها، ثمّ قال: و سن في القتل مائة إبل فأجرى الله ذلك في الإسلام «1».

و هذا التعبير دليل على أن الله أجاز ذلك بعد ما سنّه رسول الله (صلى الله عليه و آله) فيوافق ما مرّ في الروايات الأخر و ما أشير إليه في بصائر الدرجات.

هذا و قد أورد شيخ القميين محمّد بن الحسن الصفار (المتوفى سنة 290) في كتابه «بصائر الدرجات» في باب التفويض تحت عنوان «إنما فوّض إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) فقد فوّض إلى الأئمّة (عليهم السلام)» ثلاثة عشر حديثاً أكثرها يوافق ما في الكافي، و بعضها مكرر بعبارات مختلفة، و بعضها لا دخل له بما نحن بصدده و ممّا تفرد به: ما رواه عن قيد مولى ابن هبيرة قال قال: أبو عبد الله (عليه السلام)

«إذا رأيت القائم أعطى رجلًا مائة ألف، و أعطى آخر درهماً، فلا يكبر في صدرك ، و في رواية أخرى فلا يكبر ذلك في صدرك، فإن الأمر مفوّض إليه»

«2»

بحوث فقهية هامة، ص: 535

و هذا صريح في التفويض، في مسألة الإعطاء و المنع.

و قد عقد باباً آخر في التفويض إلى رسول الله أورد فيه تسعة عشر حديثاً متحدة المضمون غالباً مع ما مرّ عليك من أحاديث الكافي و فيها بعض الإضافات.

منها: ما رواه عبد الله بن سنان عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال إن الله

تبارك و تعالى أدّب محمّداً (صلى الله عليه و آله) فلمّا تأدب فوّض إليه فقال تبارك و تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فقال من يطع الرسول فقد أطاع الله، فكان فيما فرض في القرآن، فرائض الصلب و فرض رسول الله (صلى الله عليه و آله) فرائض الجدّ، فأجاز الله ذلك ، الحديث «1» (و لكنه مرسل).

و منها: ما رواه عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر (عليه السلام) قال إن الله أدّب محمّداً (صلى الله عليه و آله) تأديباً ففوّض إليه الأمر و قال (وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) و كان ممّا أمره الله في كتابه فرائض الصلب و فرض رسول الله (صلى الله عليه و آله) للجدّ، فأجاز الله ذلك له «2» (و هو أيضاً مرسل).

خلاصة الكلام في مسألة التفويض:
اشارة

و تلخص ممّا ذكرنا أمور:

أوّلًا: أن الذي يظهر من مجموع روايات الباب أنه أعطى النبي (صلى الله عليه و آله) الولاية على التشريع إجمالًا في موارد خاصّة،
اشارة

أعطاه الله ذلك امتحاناً لإطاعة الخلق (أو تعظيماً لمقامه الشريف، و إظهاراً لمنزلته عند الله سبحانه) و ما ورد في روايات الباب أمور محدودة معدودة و هي إضافة الركعتين الأخيرتين في الصلاة، و سنة النوافل و سنة صوم شهر رمضان، و ثلاثة أيّام في كلّ شهر، و تحريم كلّ بحوث فقهية هامة، ص: 536

مسكر غير الخمر و كراهة بعض الأشياء و طعمة الجدّ، بل و فريضته على رواية، و مقدار دية العين و النفس و ما أشبهها.

و لكن ورد بعضها في الأحاديث الصحاح و بعضها في الضعاف، و إثبات جميع ذلك بتلك الأحاديث مشكل، و لكن المسألة على إجمالها ثابتة.

ثانياً: أن ذلك لم يكن تفويضاً كلياً إليه (صلى الله عليه و آله) و ممّا يدلّ على أنه لم يكن المفوّض إليه، تشريعاً كلياً، أنه كثيراً ما كان ينتظر الوحي في جواب الأسئلة عن الأحكام و شبهها، حتّى ينزل في القرآن الكريم، بل ذكر هذه الأمور المفوّض إليه بالخصوص و عدّها في الروايات، دليل على أن الأصل الكلي في التشريع كان من قبل الله، و إنّما أذن لنبيه (صلى الله عليه و آله) التشريع الجزئي لما كان فيه من المصلحة.

ثالثاً: هذه الكرامة و المقام الخاصّ كان بإذن الله و إجازته أولًا، و في النهاية أيضاً كان بإمضائه، فلا ينافي ذلك توحيد الحكم و التشريع الإلهي، و لا يكون دليلًا على تعدد الشارع، بل الشارع هو الله تعالى وحده و تشريع النبي (صلى الله عليه و آله) في هذه الموارد إنّما هو بإذنه من قبل و إجازته من بعد، لبعض المصالح التي عرفتها.

رابعاً: إنّما ثبت هذا المقام للنبي (صلى الله عليه و

آله) بعد ما كان مسدداً من عند الله سبحانه و مؤيداً بروح القدس، لم يزل و لم يخطئ، فمن ليس كذلك لم يثبت ذلك في حقّه قطعاً.

خامساً: الأئمّة المعصومون و إن كانوا مؤيدين بروح القدس، و لا يصدر منهم خطأ و لا زلة، و لكن لما كمل الدين و تمت النعمة بنزول الأحكام و المعارف الإلهية كلّها، و ما تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش لم يبق مجال لتشريع حكم من الأحكام من جانبهم، و ما قد يوهم خلاف ذلك من أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) في جعل الأحكام الإجرائية الولائية المؤقتة سنتكلم عنه إن شاء الله بعد إتمام هذا المقال، فما ورد في بعض الروايات من تفويض كلّ ما فوّض إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) إليهم مثل ما ذكره في البصائر عن إسماعيل بن عبد العزيز قال قال لي جعفر بن محمّد (عليه السلام)

بحوث فقهية هامة، ص: 537

إن رسول الله (صلى الله عليه و آله) كان يفوض إليه، إن الله تبارك و تعالى فوّض إلى سليمان ملكه فقال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) و إن الله فوّض إلى محمّد (صلى الله عليه و آله) نبيه فقال (وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

الحديث «1» ناظر إلى غير هذا من المعاني التي مرّ ذكرها للتفويض، من قبيل تفويض أمر الحكومة إلى الخلق، و الإعطاء و المنع في العلم و المال، أو شبه ذلك، و سنشير إلى روايات تدلّ على عدم حكمهم بغير الكتاب و السنة فانتظر.

سادساً: قد عرفت أن للتفويض معان كثيرة، و مجرّد ذكره في بعض أحاديث الباب لا يكون دليلًا على التفويض

في أمر التشريع فلا بدّ في كلّ مقام من ملاحظة القرائن الموجودة فيه، و لو لم يكن هناك قرينة معيّنة كان مجملًا لا يصلح للاستدلال.

سابعاً: تحصل من جميع ذلك أنه ليس للفقيه تشريع في شي ء من الأحكام لأمور شتى قد عرفت الإشارة إليها آنفاً، من عدم كونه معصوماً مؤيداً بروح القدس و كون الشريعة كاملة بعده (صلى الله عليه و آله) و غير ذلك، مضافاً إلى فقدان الدليل عليه، بل هو حافظ لأحكام الشرع و مواريث النبي (صلى الله عليه و آله) و الأئمّة المعصومين، بل عليه استنباطها من أدلتها، ثمّ إجراؤها و إنفاذها، و لو بقي له شك في شي ء من الأمور فعليه الرجوع إلى الأصول العملية و القواعد المقرّرة للجاهل الحاصرة لمجاريها.

و لا شكّ أن الأحكام الواردة في الشرع بعناوينها الأولية و الثّانوية كافلة لجميع ما تحتاج إليه الأمّة في أمر الدين و الدنيا، و من عمل بذلك كلّه و أضاف إليه الأحكام الولائية الإجرائية الجزئية فقد وفق لكلّ خير، و لا يخاف بخساً و لا رهقاً، و لا يأتيه مكروه من بين يديه و لا من خلفه.

هذا و يؤيد ما ذكرنا من عدم وجود تشريع صادر من الإمام المعصوم فكيف بحوث فقهية هامة، ص: 538

بغيره، ما رواه في بصائر الدرجات في باب «أن الأئمّة يوفقون و يسددون في ما لا يوجد في الكتاب و السنّة» و هي خمس روايات كلّها دليل على المطلوب، و لكن الظاهر أنها ترجع إلى روايات ثلاث:

أحدها- ما رواه ربعي بن خثيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له: يكون شي ء لا يكون في الكتاب و السنّة؟ قال: لا، قال قلت: فإن جاء شي ء، قال لا،

حتّى أعدت عليه مراراً، فقال لا يجي ء، ثمّ قال بإصبعه: بتوفيق و تسديد، ليس حيث تذهب، ليس حيث تذهب «1». ثانيها- ما رواه هو بواسطة سورة بن كليب.: قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بأي شي ء يفتي الإمام؟ قال: بالكتاب، قلت: فما لم يكن في الكتاب؟ قال بالسنّة، قلت: فما لم يكن في الكتاب و السنّة؟ قال ليس شي ء إلّا في الكتاب و السنّة، قال فكررت مرّة أو اثنين، قال: يسدد و يوفق، فأمّا ما تظن فلا

«2». ثالثها- ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سأله سورة و أنا شاهد، فقال: جعلت فداك، بما يفتي الإمام؟ قال: بالكتاب، قال فما لم يكن في الكتاب؟ قال بالسنّة، قال فما لم يكن في الكتاب و السنّة، فقال: ليس من شي ء إلّا في الكتاب و السنّة، قال ثمّ مكث ساعة ثمّ قال: يوفق و يسدد و ليس كما تظن «3». و المتحصل من جميع ذلك هو عدم وجود حكم لا يوجد حكمه في الكتاب و السنّة

بحوث فقهية هامة، ص: 539

و عدم وجود تشريع للإمام (عليه السلام) و إن الله يوفقه و يسدده كي يستفيد من بطون الكتاب و السنّة، و لا يعمل بالقياس و الاستحسان، كما توهمه السائل فتدبّر جيداً.

بقي هنا أمور:
الأوّل [هل يجوز أن يكون الإمام ع مشرعا]

قد يقال إنه يستفاد من بعض الروايات الواردة في أبواب الزكاة و الخُمس أن للإمام (عليه السلام) أيضاً تشريعاً في بعض الأحيان، مثل ما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم و زرارة عنهما (عليهما السلام) قالا

وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية، في كلّ فرس، في كلّ عام دينارين، و على البراذين ديناراً

«1» و قد أفتى بمضمونها الأصحاب كما يظهر

من مفتاح الكرامة و غيرها.

و لكن الإنصاف إمكان اندراجه في الأحكام الجزئية الولائية و كونه من باب تطبيق العناوين الثّانوية على مصاديقها نظراً إلى وجود نوع ضرورة في ذلك الزمان إلى هذه الأموال، لا الحكم العامّ من قبيل سائر ما فيه الزكاة، و يشهد لذلك عدم ذكر النصاب فيها مع أن المعمول في جميع أبواب الزكاة وجود النصاب فيها، من النقدين و الأنعام و الغلات، و إن المتعارف في أبوابها كون الزكاة شيئاً من المال المزكى، و لا يُحدد بمقدار معيّن ثابت من الدنانير، فهذا كان نوعاً من الضرائب التي تصح على الفقيه أيضاً جعلها مؤقتاً لبعض الضرورات، و لإقامة نظام المجتمع الإسلامي أو حرب الأعداء، لا من الأحكام الكلية و التشريعات الدائمة الباقية.

سلّمنا و لكنه لا يقاوم ما مرّ من نزول كلّ ما يحتاج إليه إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش بحيث لا يكون هناك فراغ قانوني.

و قال في الحدائق: و احتمل بعضهم أن هذه الزكاة إنّما هي في أموال المجوس يومئذ

بحوث فقهية هامة، ص: 540

جزية أو عوضاً عن انتفاعهم بمرعى المسلمين «1».

و لعلّ ذكر هذا الاحتمال بمناسبة غلبة الاستفادة من الخيول من قِبل المجوس فتأمّل.

و بالجملة ظاهر هذا الحكم لا يساعد على إثبات تشريع دائمي حتّى إنه يكفي في ذلك احتمال كونه من الأحكام الجزئية الضرورية الولائية، و ليس حكماً كلّياً دائمي الإثبات.

هذا مضافاً إلى الأحاديث الكثيرة الواردة على نفي الزكاة عن غير التسعة مع أن لحن حديث وضع علي (عليه السلام) الزكاة على الخيل هو الوجوب، فراجع الباب الثامن من أبواب ما تجب فيه، تجده شاهد صدق على ما ذكرنا.

الثّاني [رواية: إن الذي أوجبت في سنتي هذه.]

ما ورد في صحيحة علي بن مهزيار قال كتب إليه أبو جعفر:

و قرأت أنا كتابه إليه في طريق مكّة قال: إن الذي أوجبت في سنتي هذه و هذه سنة عشرين و مائتين فقط لمعنى من المعاني أكره تفسير المعنى كلّه خوفاً من الانتشار. و إنّما أوجبت عليهم الخُمس في سنتي هذه في الذهب و الفضة التي قد حال عليهما الحول، و لم أوجب ذلك عليهم في متاع و لا آنية و لا دواب و لا خدم و لا ربح ربحه في تجارة و لا ضيعة، إلّا في ضيعة سأفسر لك أمرها، تخفيفاً مني عن موالي و مناً مني عليهم (الحديث) «2».

ملاحظات صاحب المعالم على الحديث

و ذكر صاحب المعالم (رضوان الله عليه) في كتابه منتقى الجمان أنه يرد على ظاهر

بحوث فقهية هامة، ص: 541

الحديث عدة ملاحظات:

الأوّلى: ما نصّه: أن المعهود و المعروف من أحوال الأئمّة (عليهم السلام) أنهم خزنة العلم و حفظة الشرع، يحكمون فيه بما استودعهم الرسول (صلى الله عليه و آله) و أطلعهم عليه، و أنهم لا يغيرون الأحكام بعد انقطاع الوحي، و انسداد باب النسخ، فكيف يستقيم قوله (عليه السلام) في هذا الحديث «أوجبت في سنتي و لم أوجب ذلك عليهم في كلّ عام»

إلى غير ذلك من العبارات الدالّة على أنه (عليه السلام) يحكم في هذا الأمر بما شاء و اختار «1».

الثّانية: قوله «و لا أوجب عليهم إلّا الزكاة التي فرضها الله عليهم»

ينافيه قوله بعد ذلك فأمّا الغنائم و الفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام.

الثّالثة: أن قوله «و إنّما أوجب عليهم الخُمس في سنتي هذه من الذهب و الفضة التي قد حال عليها الحول»

خلاف المعهود إذ الحول يعتبر في وجوب الزكاة في الذهب و الفضة لا الخُمس، و كذا قوله «و لم أوجب ذلك عليهم في

متاع و لا آنية و لا دواب و لا خدم»

فإن تعلّق الخُمس بهذه الأشياء غير معروف.

الرّابعة: أن الوجه في الاقتصار على نصف السدس غير ظاهر بعد ما علم من وجوب الخُمس في الضياع التي تحصل منها المئونة «2».

و الإنصاف أن الملاحظات الواردة على ظاهر الرواية في بداية الأمر أكثر من هذا، و ربّما تبلغ سبعاً: 1- عدم كون الإمام المعصوم (عليه السلام) مشرعاً بل حافظاً مع أن ظاهرها التشريع.

2- لا وجه لاشتراط حلول الحول في الخُمس فإنه معتبر في الزكوات لا الأخماس.

بحوث فقهية هامة، ص: 542

3- لا وجه لاستثناء المتاع و الآنية و الخدم و شبهها ممّا يعد من المئونة في خصوص هذا العام، لعدم تعلّق الخُمس بهذه الأشياء في كلّ عام.

4- منافاة نفي الخُمس على الأرباح في بعض جملاته (عليه السلام) مع إثبات وجوب الخُمس في الغنائم و الفوائد في غيرها.

5- تفسير الغنائم و الفوائد بخصوص الفوائد التي تحصل من طريق الجائزة أو الميراث التي لا يحتسب أو شبهه مع أن المعروف في تفسيرها كونها شاملة لجميع الأرباح.

6- الحكم بملكية المال الذي يؤخذ و لا يعرف له صاحب مع وجوب أداء خمسه، ينافي ما هو المعروف من وجوب التصدق بمجهول المالك.

7- الحكم بوجوب نصف السدس في الضياع و الغلات أمر لا يعرف له نظير لا في باب الخُمس و لا الزكاة.

و يمكن الجواب عن الجميع: أمّا عن الأوّل، و هو العمدة فيما مرّ من أنه ليس من قبيل تشريع الحكم، بل من قبيل حكم الحاكم، الراجع إلى تطبيق العناوين الأولية أو الثّانوية على مصاديقه، ثمّ الحكم على وفقها لتنفيذ هذه الأحكام في مواردها، و كأن المستشكل على الحديث، غفل عن مسألة الأحكام الولائية التي

هي أحكام جزئية إجرائية، و من شأن الوالي الفقيه الحكم بها من دون أن يكون فيها تشريعاً جديداً، فلعل بعض الضرورات الناشئة من سفره إلى بغداد أوجبت ذلك، فإن المعروف أن المأمون مات سنة 218 و غصب الخلافة من بعده أخوه المعتصم، و لما استقر عليه أمر الخلافة خاف من سطوة الإمام الجواد (عليه السلام) في المدينة و دعاه إلى بغداد، و دخل هو (عليه السلام) بغداد في أواخر محرم سنة 220 (العام المذكور في حديث علي بن مهزيار و قد استشهد سلام الله عليه في أواخر هذا العام على يد المعتصم «عليه لعنة الله»).

فهذه الضرورة هي التي أوجبت الحكم بأداء خمس جديد من الذهب و الفضة،

بحوث فقهية هامة، ص: 543

غير خمس الأرباح و الغنائم و شبهها، و غير الزكاة المفروض فيها لبعض الضرورات التي لم يشرحها الإمام (عليه السلام) خوفاً من الانتشار، و هذا أمر جائز للفقيه، فكيف بالإمام المعصوم (عليه السلام) و هو من قبيل الأموال التي قد تؤخذ لضرورة الحرب التي تقع بين المسلمين و الكفّار أو شبه ذلك.

و منه يظهر الجواب من «الإشكال الثّاني» فإن اشتراط الحول إنّما كان في هذا الحكم الخاصّ المبتني على الضرورة لا في كلّ خمس، و كذا «الإشكال الثّالث» المنوط باستثناء المئونة و المتاع فإنها مستثناة من هذا الحكم الخاصّ، و كان له (عليه السلام) أن لا يستثنيه، و بعبارة أخرى: أراد أن يبين أن هذه الأمور كما هي مستثناة من الخُمس المعمول، مستثناة من هذا القسم الخاصّ أيضاً.

و أمّا «الإشكال الرّابع» فيجاب عنه بأنه نفي الخُمس عن الأرباح في ذلك العام و أثبته في موارد خاصّة من الفوائد التي صرّح فيها، من المنافع غير المترقبة،

فالذي لم يوجب عليه الخُمس هو الأرباح المعهودة المرتقبة في المكاسب، و أمّا الذي أوجب فيها فهي المنافع غير المترقبة من دون عمل مستمر.

و أمّا عن «الخامس» فبان تفسير الغنائم و الفوائد بخصوص هذه الفوائد الحاصلة من طريق الجائزة و شبهها فهو و إن كان ينافي بعض ما ورد من تفسير الغنائم بمطلق الفائدة و الإفادة يوماً بيوم (مثل ما عن الصادق (عليه السلام) قال في جواب السؤال عن تفسير آية الغنيمة: «هي و الله الإفادة يوماً بيوم» الحديث) «1» إلّا أنه يمكن حمله على أنه (عليه السلام) كان بصدد ذكر بعض المصاديق الواضحة الذي ألزم الإمام (عليه السلام) أداء الخُمس منه، في تلك السنة دون مطلق الربح الذي حكم بنفي الوجوب عنه في ذاك العام (فتأمّل جيداً).

بحوث فقهية هامة، ص: 544

و أمّا عن «السادس» فبأن المقام ليس من قبيل مجهول المالك بل من قبيل الأموال التي تؤخذ من أهل الحرب، بقرينة قوله «يؤخذ» و لا يوجد له صاحب و بقرينة ما ذكر قبله و بعده من هذه الأموال، و لا أقل من حمله على ما ذكرنا عند الجمع بين الرواية و غيرها ممّا دلّ على وجوب التصدّق بمجهول المالك.

و أمّا عن «السابع» فبأن جميع الخُمس للإمام (عليه السلام) كما هو الحقّ، و له أن يبيح جميعه أو بعضه لشيعته أحياناً، فقد أباح هنا لشيعته من الضياع و الغلات ما زاد عن نصف السدس، و لعلّ هذه الإباحة كانت بسبب ما ينهب السلطان من أموالهم، كما أشير في الحديث، فكانوا يأخذون منهم العشر، و الإمام (عليه السلام) أمر بنصف السدس، و هو أقل من العشر بقليل، و المجموع يكون قريباً من الخُمس الواجب عليهم.

هذا و

لكن الإنصاف أن بعض هذه الأجوبة لا يخلو عن تكلّف، و لكن لا محيص عنه عند إرادة الجمع بينه و بين غيره من الأحاديث، و أشكل من الجميع الأخير، لعدم معروفية عنوان نصف السدس في هذه الأموال، نعم في رواية إبراهيم بن محمّد الهمداني عن أبي الحسن (الهادي) (عليه السلام) إشارة إلى أن «إيجاب نصف السدس كان من أبيه الإمام الجواد (عليه السلام) على أصحاب الضياع بعد مئونتهم و بعد خراج السلطان» «1».

و للرواية طريقان أحدهما مصحح و هو ما رواه في الكافي.

و الذي يسهل الخطب أنه لا يتفاوت فيما نحن بصدده من مسألة التفويض، فإن العمدة فيه هو إيجاب الإمام (عليه السلام) الخُمس في بعض الأموال هنا في سنة معيّنة، و قد عرفت أنه ليس من التشريع في شي ء و إنّما هو من قبيل حكم الحاكم كما عرفت.

الثّاني- حديث التفويض إلى الأئمّة (عليهم السلام)

قد ورد في غير واحد من الروايات أن ما فوّض الله إلى رسوله فقد فوّضه إلى الأئمّة (عليهم السلام) مثل ما رواه محمّد بن الحسن الميثمي عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول إن الله أدّب رسوله (صلى الله عليه و آله) حتّى قوّمه على ما أراد ثمّ فوّض إليه، فقال (وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فما فوّض الله إلى رسوله فقد فوّضه إلينا

«1». و ما رواه موسى بن أشيم قال.

دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فسألته عن مسألة فأجابني، فبينا أنا جالس إذ جاءه رجل فسأله عنها بعينها، فأجابه بخلاف ما أجابني. فقال يا بن أشيم إن الله فوّض إلى داود (عليه السلام) أمر ملكه. فوّض إلى الأئمّة منا و إلينا ما فوّض إلى محمّد

(صلى الله عليه و آله) فلا تجزع «2». و ما رواه حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول من أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال، لأن الأئمّة منا مفوض إليهم، فما أحلوا فهو حلال و ما حرموا فهو حرام «3». و ما رواه حسن بن زياد عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول إن الله أدّب رسوله حتّى قوّمه على ما أراد ثمّ فوّض إليه فقال (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فما فوّض إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) فوّض إلينا

«4». و ما رواه مولى ابن هبيرة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)

إذا رأيت القائم أعطى رجلًا

بحوث فقهية هامة، ص: 546

مائة ألف، و أعطى آخر درهماً، فلا يكبر في صدرك، و في رواية أخرى فلا يكبر ذلك في صدرك، فإن الأمر مفوّض إليه!

«1» و ما رواه عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن الإمام فوّض الله إليه كما فوّض إلى سليمان؟ فقال: نعم، و ذلك أن رجلًا سأله عن مسألة فأجابه فيها، و سأله آخر عن تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأوّل، ثمّ سأله آخر من تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأولين، ثمّ قال هذا عطاؤنا فأمسك أو أعط بغير حساب. قال: قلت أصلحك الله فحين أجابهم بهذا الجواب يعرفهم الإمام؟ فقال: سبحان الله أ ما تسمع قول الله يقول في كتابه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) و هم الأئمّة

(الحديث) «2».

و لكن شي ء من هذه الأحاديث لا دلالة لها على التفويض في أمر التشريع: أمّا الأوّل فإنه مناسب لتفويض الحكومة لقوله (عليه

السلام) «قوّمه على ما أراد» و لا أقل من الإجمال.

و أمّا «الثّاني» فإنه كالصريح في التفويض بمعنى الإعطاء و المنع في خصوص العلوم و المعارف و «الثّالث» كذلك في خصوص الإعطاء من بيت المال أو غيره، و «الرّابع» شبيه ما ورد في الأول بعينه، و «الخامس» أيضاً كالصرح في الإعطاء و المنع و «السّادس» أيضاً كذلك في خصوص العلوم، و هكذا غيرها ممّا ذكره صاحب بصائر الدرجات في هذا الباب، و بالجملة لم نجد حديثاً يدلّ على تفويض الأمر في التشريع إلى الأئمّة الهادين، و لم يعرف منهم ذلك، بل كانوا حفظة للشرع المبين هذا أولًا.

بحوث فقهية هامة، ص: 547

ثانياً: سلمنا ثبوت هذا الحقّ لهم (عليهم السلام)، و لكنّه في حقل العمل منتف بانتفاء موضوعه، بعد ما عرفت من إكمال الدين و إتمام النعمة، و عدم بقاء الفراغ التشريعي و عدم وجود النقص في الفقه الإسلامي، بأوفى البيان.

ثالثاً: سلمنا ثبوت ذلك للإمام المعصوم (عليه السلام) المسدد المؤيد بروح القدس، الموفق من عند الله، كما وقع التصريح في بعض ما مرّ عليك، و لكن لا دخل له بالفقيه غير المعصوم كما هو واضح.

الثّالث- الجواب عن مغالطة في المقام

هنا مغالطة واضحة توجد في كلمات بعض من يميل إلى تفويض التشريع إلى الفقيه، و هي أن إكمال الدين يحصل بتفويض الأمر إلى الفقيه، فإذا كان هذا التفويض أيضاً من أحكام الدين فكان الله أكمل دينه بهذه الطريقة، أي بتفويض جعل الأحكام إلى الفقهاء! أقول: و هذا من أعجب ما ذكر في المقام، و يرد عليه:

«أولًا»: لأن معنى إكمال الدين تشريع قوانينه، لا تعيين من يكمله في كلّ عصر، فهل ترى من نفسك إذا انتخب الوكلاء و الممثلون من قِبل الشعب لتدوين الدستور

أو القوانين الأخرى لك أن تقول إن القوانين قد كملت، و لم يبق هناك فراغ، لأن الوكلاء انتخبوا، اللّهم إلّا على سبيل المجاز، و من أوضح ما يدلّ على ما ذكرنا قول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة في ردّ القول بجواز التشريع للفقهاء

«أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى»

؟ و لعمري أنه يستفاد من هذا البيان أن هذا القول من أنواع الشرك لقوله «شركاء له» نعم هو شرك في تقنين القوانين الإلهية، فتدبّر جيداً.

بحوث فقهية هامة، ص: 548

«ثانياً»: قد ورد التصريح في الروايات الكثيرة التي مرّ ذكرها أن تفاصيل الأحكام قد شرعت في عصر النبي (صلى الله عليه و آله) حتّى أرش الخدش، و أنها كانت عند الأئمّة الهادين في كتاب يسمى جامعة أو غيرها، و مع هذا التصريح لا يبقى لهذا الكلام مجال، و كذا ما ورد في الروايات المتضافرة أن كلّ ما يجري من الأحكام على لسان الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) فهو رواية عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) (و قد مرّ ذكر جميع ذلك آنفاً).

«ثالثاً»: كيف يتصدى الفقيه لتشريع الأحكام الكلّية؟ و في أي موضع؟ هل هو في ما لا نصّ فيه، و قد عرفت أنه ليس هناك ما لا نصّ فيه، أم في ما هو فيه نصّ، كما قد يتفوه به بعض من لا خبرة له. فإن كان المراد ذلك فمعناه أن تشريع الفقيه- معاذ الله- مقدّم على تشريعات الله تعالى، و حينئذ أي فائدة في إرسال الكتب السماوية و بعث الرسل؟ بعد كون الفقيه ذا رأي مقدّم عليها؟ و صاحب علم بالمصالح

و المفاسد أرجح منها، و لا نظن بأحد من العلماء يتفوّه بهذا المقال الباطل الفاسد.

الرّابع- التفويض في أمر الخلقة

و لا إشكال أيضاً في بطلانه، إذا كان المراد التفويض الكلّي بمعنى أن الله خلق رسول الله (صلى الله عليه و آله) و الأئمّة المعصومين و جعل أمر خلق العالم و نظامه و تدبيره إليهم، فإنه شرك بيّن. و مخالف لآيات القرآن المجيد، الظاهرة، بل الصريح في أن أمر الخلق و الرزق و الربوبية و تدبير العالم بيد الله تعالى لا غيره.

نعم يظهر من بعض كلمات العلّامة المجلسي معنى آخر للتفويض الكلّي بمعنى جريان مشية الله على الخلق و الرزق مقارناً لإرادتهم و مشيتهم، و أنه لا يمنع العقل من ذلك، و لكن صرّح بأن ظاهر الأخبار بل صريحها بطلان ذلك، و لا أقل من أن القول به قول بما لا يعلم.

بحوث فقهية هامة، ص: 549

قلت: بل ظاهر الآيات القرآنية مخالف له أيضاً، و إن أمر الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء بيد الله و مشيته لا غير.

نعم ورد في بعض الروايات الضعيفة مثل خطبة البيان التي نقلها المحقّق القمي (قدس سره) في جامع الشتات مع الطعن فيها، أن أمرها بيد الأئمّة (عليهم السلام) أو بيد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) «1»، لكنّه ضعيف جداً مخالف لكتاب الله عزّ و جلّ.

و لكن ظاهره المعنى الأوّل الذي لا يمكن القول به، و لا يوافق الكتاب و لا السنّة، بل قد عرفت أنه نوع من الشرك أعاذنا الله تعالى منه.

قال الله تعالى (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) «2».

و إن كان و لا بدّ من توجيهها فليحمل على العلّة

الغائية، مثل «لولاك لما خلقت الأفلاك» و «بيمنه رزق الورى» فتدبّر جيداً.

و أمّا «التفويض الجزئي» في أمر المعجزات و الكرامات إليهم، كشق القمر و إحياء بعض الموتى بأيديهم و شبه ذلك فهو ممّا لا مانع منه عقلًا و نقلًا، و إصرار بعض على كون هذا أيضاً من قبيل الدعاء و الطلب من الله بأن يخلق كذا عند دعائهم ممّا لا وجه له، بعد ظهور قوله تعالى (وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) «3» في كون المحيي هو المسيح (عليه السلام) و لكنّه بإذن من الله و تأييد منه تعالى.

و لنختم الكلام ببعض الروايات الواردة في المقام و كلمات أعاظم المذهب ممّا يؤكد ما ذكرنا في هذه المسألة، أي نفي التفويض في أمر الخلقة.

قال الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) في رسالة الاعتقاد: اعتقادنا في الغلاة

بحوث فقهية هامة، ص: 550

و المفوضة أنهم كفّار بالله جلّ جلاله، و أنهم شرّ من اليهود و النصارى و المجوس و القدرية و الحرورية. إلى قوله كفّاراً «1».

و نقل العلّامة المجلسي في مرآة العقول عن زرارة أنه قال قلت للصادق (عليه السلام): إن رجلًا من ولد عبد الله بن سنان يقول بالتفويض فقال: و ما التفويض؟ قلت: إن الله تبارك و تعالى خلق محمّداً (صلى الله عليه و آله) و علياً (عليه السلام) ففوض إليهما، فخلقا و رزقا و أماتا و أحييا، فقال (عليه السلام): كذّب عدو الله إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية من سورة الرعد (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) فانصرفت إلى الرجل فأخبرته فكأني ألقمته حجراً، أو قال فكأنما خرس «2».

المقام السّابع من صلاحيات الولي الفقيه «الولاية على الأموال و الأنفس و حدودها»

و لا بدّ هنا من

ملاحظة مقام النبي (صلى الله عليه و آله) و الأئمّة (عليهم السلام) في مسألة الولاية على الأموال و الأنفس ثمّ نتكلم عن صلاحيات الفقهاء، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية: قال الله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) «1».

و هذا هو العمدة في المقام، و الآية مشتملة على أحكام ثلاثة:

أحدها- أولوية النبي (صلى الله عليه و آله) بالمؤمنين من أنفسهم.

ثانيها- كون أزواجه (صلى الله عليه و آله) بمنزلة الأمهات في حرمة النكاح، فقط، دون غيره من الأحكام كجواز النظر و الإرث و حرمة تزويج بناتهن للمؤمنين، و الظاهر أنه لم ينقل من أحد من علماء الإسلام أثر لهذه الأمومة غير ما ذكرنا.

ثالثها- كون أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض من غير الأرحام.

بحوث فقهية هامة، ص: 552

و ذلك أنه كان الإرث في أول الأمر بين المؤمنين بالهجرة و المؤاخاة في الدين، فنسخت الآية هذا الحكم، و جعل أولي الأرحام بعضهم بالنسبة إلى البعض أولى من غيرهم، فصار الإرث بالقرابة و الرحم.

و ممّا ذكر يظهر أن ما هو المعروف في الأذهان من أن الآية ناظرة إلى طبقات الإرث، و أن الأقرب أولى من الأبعد غير صحيح، فإنه مبني على أن يكون «الباء» في قوله تعالى أَوْلى بِبَعْضٍ بمعنى «من» حتّى يكون المعنى بعضهم أولى من بعضهم، مع أن المفضل عليه مذكور في نفس الآية مع «من» و هو قوله «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ» فأولو الأرحام أولى من غيرهم، فليكن هذا على ذكر منك و نرجع إلى البحث عن الحكم

الأوّل.

ذكر غير واحد من المفسرين أن الآية نزلت عند ما أراد النبي (صلى الله عليه و آله) غزوة تبوك و أمر الناس بالخروج، و قال ناس نشاور آباءنا و أمهاتنا فنزلت (الآية و أكدت لهم أن اتباع أمره (صلى الله عليه و آله) مقدّم على غيره مطلقاً) ذكره في «روح البيان» «1».

و قريب منه في «مجمع البيان» إلّا أن فيه «نستأذن آباءنا و أمهاتنا» «2».

و قد ذكر في المجمع في معنى هذه الجملة من الآية أقوالًا:

«أحدها»: أنه أحق بتدبيرهم، و حكمه أنفذ عليهم من حكمهم على أنفسهم.

«ثانيها»: أن طاعته أولى من طاعة أنفسهم و ما يميلون إليه.

«ثالثها»: أن حكمه أنفذ عليهم من حكم بعضهم على بعض.

و هي متقاربة المضمون و تتحد في النتيجة، و حاصلها وجوب إطاعته (صلى الله عليه و آله) في هذه الأمور و ما يرتبط بمصالح المسلمين.

بحوث فقهية هامة، ص: 553

و هناك معنى رابع يستفاد من غير واحد من الروايات، مثل ما رواه في «تفسير القرطبي» أنه (صلى الله عليه و آله)

كان لا يصلّي على ميّت عليه دين، فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي و عليه دين فعلي قضاؤه، و من ترك مالًا فلورثته ، أخرجه الصحيحان، و فيهما أيضاً فأيكم ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه «1».

و ما رواه في تفسير «البحر المحيط» عنه (صلى الله عليه و آله)

ما من مؤمن إلّا و أنا أولى به في الدنيا و الآخرة، و أقرءوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيما مؤمن هلك و ترك مالًا فليرثه عصبته، من كانوا، و إن ترك ديناً (و ضياعاً) فعليّ «2». و في الوسائل في باب ضمان ولاء الجريرة،

كان

رسول الله (صلى الله عليه و آله) يقول: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، و من ترك مالًا فللوارث، و من ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ و علي «3». و (قد ادّعى تواتر الحديث عند أهل السنّة).

و على هذا معناه أولى بهم من أنفسهم في أداء ديونهم و ضياعهم «4».

و هنا معنى «خامس» و هو أن الآية مطلقة من جميع الجهات، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في كلّ أمر من أمور الدين و الدنيا، كما ذكره غير واحد من المفسرين، منهم مؤلف «روح البيان» حيث قال: «و المعنى أن النبي (صلى الله عليه و آله) أحرى و أجدر بالمؤمنين من أنفسهم في كلّ أمر من أمور الدين و الدنيا كما يشهد به الإطلاق» «5».

و كما يشهد به صدر الحديث المروي عنه (صلى الله عليه و آله) في تفسير القرطبي و قد مضى، و يقرب منه ما في تفسير «الميزان» حيث قال: «النبي أولى بهم فيما يتعلّق بالأمور

بحوث فقهية هامة، ص: 554

الدنيوية أو الدينية، كلّ ذلك لمكان الإطلاق» «1».

و لا شكّ أن الآية مطلقة شاملة لأي نوع من الولاية، و لكن الكلام في أمور.

أولًا: في أنه هل هي ناظرة إلى العموم في كلّ ما يكون له صلة بتدبير المجتمع و ما فيه نظام الدين و الدنيا؟ أو هي شاملة حتّى لماله صلة بأمر الفرد؟

ثانياً: على تقدير العموم هل هي منصرفة إلى ما فيه صلاح الفرد، أو يعم و لو لم يكن فيه صلاحه بل كان ضرره بحيث يجوز له (صلى الله عليه و آله) الإضرار بأيّ مؤمن لصلاح نفسه (صلى الله عليه و آله) لا لصلاح المجتمع.

الإنصاف قوّة انصراف الآية من الجهتين: من جهة اختصاصها بأمر

المجتمع، و من جهة تقييدها بالمصالح، لا شكّ أن رسول الله (صلى الله عليه و آله) لم يكن يقدم على ما لم يكن فيه مصالح الأمّة و لا يقدم مصلحة شخصه بما أنه شخص على مصالحهم، إنّما كلام في أنه هل اللفظ مطلق من هذه الجهة أو لا؟ و في مقام البيان أو ليس في مقامه من هذه الجهة؟ و ممّا يؤيد الانصراف، الروايات الكثيرة التي ادّعى تواترها من طريق العامّة و الخاصّة، و قد مرّ ذكرها ممّا ورد في شأن نزولها و غير ذلك.

ثمّ إنه لو قلنا بثبوت ذلك له (صلى الله عليه و آله) بمقتضى هذه الآية أو أدلّة أخرى، و ثبوته لخلفائه المعصومين و الأئمّة الهادين (عليهم السلام) و لكن إثباته للفقيه، دونه خرط القتاد، لما عرفت من أن غاية ما يدلّ على ولاية الفقيه هو الأخذ بالقدر المتيقن في أمر الحكومة على الناس، و من الواضح أنه لا يدلّ إلّا على التصرفات التي ليس لها صلة بهذا الأمر، و لا بدّ أن تكون تحت العناوين الأولية أو الثّانوية من أحكام الشرع، فيصحّ له التصرّف في الأموال إذا كان بعنوان الزكاة و الخُمس أو دعت الضرورة إلى أخذها زائدة على الزكوات و الأخماس لحفظ بيضة الإسلام في مقابل الكفّار أو غير ذلك من بحوث فقهية هامة، ص: 555

أشباهه، و كذا يصحّ له الحكم بالقصاص و إجراء الحدود، و الأمر بنفر الناس إلى ميادين الجهاد و غير ذلك، ممّا يعد تصرفاً في الأموال و الأنفس، و أمّا أن يأخذ أموال الناس لمصلحة نفسه، أو يطلق امرأته، أو يقتل مؤمناً متعمداً من غير انطباق عنوان شرعي عليه فلا، و ينبغي أن يكون هذا من

الواضحات التي لا ريب فيها و لا شبهة تعتريها.

و من الجدير بالذكر هو أنا لم نعهد في التأريخ، أن النبي (صلى الله عليه و آله) أخذ الناس بالولاية على الأموال و النفوس في غير ما يرتبط بنظام المجتمع و الحكومة الإسلامية، و في غير نطاق أحكام الشرع، بل و لا بالنسبة إلى الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

كيف تكون الأرض كلّها للإمام (عليه السلام)؟

اشارة

بقي هنا شي ء- و هو أنه ورد في روايات كثيرة أن الأرض كلّها لله و لرسوله و للأئمّة المعصومين (عليهم السلام) أو شبه ذلك من التعابير.

و قد عُقد لذلك في أصول الكافي باباً أورد فيها ثمانية روايات، و هي تنقسم إلى ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: ما لا يدلّ على أكثر من ملك الأنفال للإمام (عليه السلام)

مثل ما رواه هشام بن سالم عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» أنا و أهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض، و نحن المتقون، و الأرض كلّها لنا، فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها و ليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي (الحديث) «1».

و أبو خالد الكابلي اثنان «كبير» و «صغير» و الأول ممدوح غاية المدح، كان من حواري علي بن الحسين (عليهما السلام) و الثّاني غير معروف، و حيث يدور الأمر بينهما أو يكون الأظهر هو الثّاني يشكل الاعتماد على سند الحديث.

و مدلول الرواية بقرينة ذيلها هو مالكية الإمام بالنسبة إلى الأنفال، و هو غير ما نحن بصدده.

بحوث فقهية هامة، ص: 557

و ما رواه عمر بن يزيد في الصحيح قال رأيت مسمعاً

(و هو أبو سيّار)

بالمدينة و قد كان حمل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) تلك السنة مالًا فردّه أبو عبد الله (عليه السلام) فقلت له: لِمَ ردّ عليك أبو عبد الله المال الذي حملته إليه.، فقال: أموالنا من الأرض و ما أخرج الله منها إلّا الخُمس يا أبا سيّار؟ إن الأرض كلّها لنا فما أخرج الله منها من شي ء فهو لنا

«1». و هو أيضاً ناظر إلى الأنفال فلا دخل له بما نحن بصدده.

الطائفة الثّانية: ما دلّ على ملك جميع الأراضي له

سواءً من الأنفال و غيرها مثل ما رواه يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما لكم من هذه الأرض؟ فتبسم، ثمّ قال: إن الله تبارك و تعالى بعث جبرئيل (عليه السلام) و أمره أن يخرق بإبهامه ثمانية انهار في الأرض، منها سيحان

و جيحان و هو نهر بلخ، و الخنثوع، و هو نهر الشاش، و مهران و هو نهر الهند، و نيل مصر، و دجلة، و الفرات فما سقت أو استقت فهو لنا

(الحديث) «2».

و هو يدلّ على ملكية جميع الأراضي لهم و لكن قوله فما سقت أو استقت الذي بمنزلة التعليل و النتيجة غير واضح المعنى، فإن قوله «فما سقت» إشارة إلى الأرض التي سقتها هذه الأنهار، و ما استقت لعلّه إشارة إلى البحار التي تسقي هذه الأنهار منها، و لكن مجرد هذا أعني ملكية هذه المياه ليست دليلًا على مالكية الأراضي و البحار، نعم هو سبب لأجرة المثل لمياه فقط.

الطائفة الثّالثة: ما دلّ على أن الدنيا كلّها لهم و هي عدّة روايات:

منها: ما رواه محمّد بن الريان عن العسكري (عليه السلام) قال جعلت فداك روي لنا أن بحوث فقهية هامة، ص: 558

ليس لرسول الله (صلى الله عليه و آله) من الدنيا إلّا الخُمس، فجاء الجواب أن الدنيا و ما عليها لرسول الله (صلى الله عليه و آله)

«1». و هو أيضاً ضعيف سنداً، و لكن دلالته من أوضح الدلالات على ملكية جميع الدنيا لرسول الله (صلى الله عليه و آله) و الظاهر ملكية الأئمّة (عليهم السلام) أيضاً من بعده (صلى الله عليه و آله) لاتحاد الملاك.

و منها: ما رواه عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)

خلق الله آدم و أقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم (عليه السلام) فلرسول الله (صلى الله عليه و آله) و ما كان لرسول الله (صلى الله عليه و آله) فهو للأئمّة من آل محمّد (صلى الله عليه و آله)

«2». و هو أيضاً ضعيف سنداً و لكن دلالته واضحة.

و منها: ما رواه

محمّد بن عبد الله عمن رواه قال الدنيا و ما فيها لله تبارك و تعالى و لرسوله و لنا، فمن غلب على شي ء منها فليتق الله، و ليؤد حقّ الله تبارك و تعالى، و ليبر إخوانه، فإن لم يفعل ذلك فالله و رسوله و نحن براء منه «3». و منها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له: أ ما على الإمام زكاة: فقال: «أحلت يا أبا محمّد! أ ما علمت أن الدنيا و الآخرة للإمام يضعها حيث يشاء و يدفعها إلى من يشاء.»

الحديث «4».

و الذي يتحصل من جميع هذه الأحاديث بعد ضم بعضها ببعض، و تأييد بعضها للبعض، سنداً و دلالة كون العالم لله تعالى و بعده لرسوله (صلى الله عليه و آله) و بعده للأئمّة الهادين (عليهم السلام) يضعونها حيث شاءوا.

و لازم ذلك عدم مالكية الناس لهذه الأموال كلّها بل كونها كالأمانة و الوديعة في بحوث فقهية هامة، ص: 559

أيديهم، يتصرفون فيها بإذن مالكها الحقيقي.

هذا من جهة، و من جهة أخرى هناك أحكام كثيرة فقهية لا تصحّ إلّا بكون الناس مالكين لهذه الأموال التي بأيديهم، كقوله (صلى الله عليه و آله)

«الناس مسلطون على أموالهم»

أو جواز «البيع» و «العتق» و «الهبة» و «الوقف» و «الوصية» بإجماع علماء الإسلام بل الضرورة، مع أنه لا تصحّ شي ء منها إلّا بملك، و ما ورد من التعبيرات الكثيرة بعنوان الملكية في الأخبار و الآثار و الآيات الكريمة القرآنية التي لا تحصى كثرة.

و كذلك ظاهر قوله تعالى «لِلَّهِ خُمُسَهُ» الذي يفهم منها كون الباقي لهم، و قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ.) الظاهر في كون ما عدا الزكاة لهم.

و قوله تعالى (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ.)

و قوله تعالى (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) الظاهر في كون الباقي للناس أنفسهم.

و كذلك الروايات المتواترة الواردة في أبواب الأنفال و الأخماس و أبواب الحيازة و غيرها، كالصريح في حصول الملكية للناس.

و طريق الجمع بينهما من وجهين:

أحدهما: أن يقال بالملكية الطولية التشريعية بأن يكون المالك التشريعي لجميع هذه الأملاك هو الله تعالى، ثمّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) حيّاً أو بعد وفاته أيضاً، لإمكان اعتبار الملك له (صلى الله عليه و آله) بل و لغيره و لو بعد الوفاة، كما ذكرنا في محله، ثمّ للأئمّة الهادين المعصومين (عليهم السلام) ثمّ لمن يملكها من طريق مشروع من الحيازة أو الإحياء أو الإرث أو العمل، و ما أشبه ذلك، و لا منافاة بين تعدد المالك مع وحدة الملك بلا شركة و لا إشاعة، إذا كان الملك طولياً و إن هو إلّا نظير ملك العبد و ملك المولى له و لما في يده (على ما هو المعروف).

و الملكية التشريعية أمر اعتباري و الاعتبار خفيف المئونة، نعم لا يتصور ملكية

بحوث فقهية هامة، ص: 560

شي ء بتمامه لاثنين في عرض واحد، لأن مفهوم كلّ من الاعتبارين يضاد الآخر كما هو ظاهر.

و على كلّ حال لا مانع من إجراء أحكام الملكية من جانب من كان في المرتبة الأخيرة، كما يجوز ترتيب آثارها من ناحية المقام الأعلى، و هذا كملك المولى و العبيد كما عرفت.

و يدلّ عليه ما ورد في رواية أبي خالد الكابلي و عمر بن يزيد (و قد مرّ ذكرهما) من ترتيب الآثار الشرعية على ملك الإمام (عليه السلام) للأرض، اللّهم إلّا أن يقال أنهما ناظرتان إلى الأنفال كما مرّ، و هي غير ما

نحن فيه.

و ما في حديث «أبي بصير» و ظاهر رواية «محمّد بن الريان» كما لا يخفى على الناظر فيهما.

و ممّا يدلّ على عدم التضاد بين هذين النحوين من الملك، أن ظاهر الروايات ثبوت الملك لله و لرسوله و للأئمّة في زمن واحد، فليس مالكية الأئمّة بمعنى سلب الملكية عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) و لا مالكية رسوله (صلى الله عليه و آله) بمعنى سلبها عن الله تعالى، فكلّهم مالكون على نحو طولي، فلها مراتب أربع كلّ في طول الآخر فراجع حديث أحمد بن محمّد (الحديث 2) بل لعلّ قوله تعالى (وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) «1» أيضاً ناظر إليها. هذا و لكن الظاهر أن سيرتهم (عليهم السلام) قد استقرت على عدم الانتفاع بهذا النوع من الملكية، و لذا لم ينقل من رسول الله (صلى الله عليه و آله) و لا من الأئمّة الهادين الذين هم أوصياؤه و خلفاؤه (عليهم السلام) أخذ شي ء من أموال الناس بغير الطرق المعهودة في الفقه استناداً إلى أنهم مالكون لها، كما هو ظاهر لمن راجع سيرتهم.

ثانيها: حملها على الملكية و الولاية التكوينية، فإن الله له الولاية على جميع الخلق،

بحوث فقهية هامة، ص: 561

لأنه خالقهم و له ولاية تشريعية يتبعها، بل هو فوق التشريع كما لا يخفى، و أمّا أولياؤه المعصومون (عليهم السلام) فلهم أيضاً ولاية تكوينية في أبواب المعجزات و الكرامات بل و غيرها، لأنهم غاية الخلقة (فإن غاية الخلقة، الإنسان الكامل، و هم أتم مصاديقه) فالله ولي لأنه العلّة الفاعلية، و هم أولياء، لأنهم علل غائية، و حينئذ لا يكون لهذه الأخبار دخل بما نحن بصدده، بل هي ناظرة إلى ملكية، فوق الملكية الفقهية.

هذا و

لكن هذا التوجيه لا يساعد بعض هذه الأخبار ممّا صرّح فيها بجواز أنواع التصرفات تشريعاً، اللّهم إلّا أن يقال هذا القسم أخبار آحاد ضعاف فتأمّل.

و على كلّ حال لا دليل على ثبوت هذا المقام- على القول به- للفقهاء (رفع الله رايتهم و أعلى الله درجتهم) لعدم قيام دليل عليه مطلقاً، بل الدليل إنّما قام في خصوص إقامة الحكومة الإسلامية مع شرائطها لا غير، كما عرفت مبسوطاً، و الله الهادي إلى سواء السبيل.

بقي هنا شي ء:

قد ثبت ممّا ذكرنا بحمد الله ولاية الفقيه على أمر الحكومة إذا استكمل فيه شرائطها و مقدماتها و حدودها، و لكن يبقى السؤال في أن هذا الحكم عام لجميعهم أو خاصّ لبعضهم؟ و كيف طريق الاختيار عند التشاح أو التعيين لو كان هناك ملاك للتعين.

و الاحتمالات هنا ثلاثة:

الأوّل: أنها ثابتة لهم بعنوان العام الأفرادي الاستغراقي، فكلّ واحد له هذا الحقّ بالفعل، و لا تتوقف فعليته على أمر آخر وراء كونه فقيهاً جامعاً للشرائط.

الثّاني: أنها ثابتة لهم بالفعل بعنوان العام المجموعي، فالمجموع من حيث المجموع لهم هذا الحق، فلا بدّ من التشاور و التعاضد من الجميع.

الثّالث: أنها ثابتة لهم بالاقتضاء بعنوان العام الأفرادي، و لا تكون فعليته إلّا

بحوث فقهية هامة، ص: 562

بانتخاب الأمّة، فالانتخاب هو الطريق الوحيد للفعلية.

و قد يورد على الأوّل باستلزامه الفوضى، و نقض الغرض، فإن الغرض الأعلى من الحكومة هو حفظ النظام، و لكن ثبوت الولاية الفعلية لكلّ واحد من الفقهاء مع اختلاف و جهات النظر و الأفكار و السلائق، يؤدي إلى اختلال النظام.

و على الثّاني بأنه لم يقل به أحد، بل استقرت سيرة المسلمين على خلافه، و هذا ينتج الاحتمال الثالث.

أقول: أمّا القول الأخير فهو أشد مخالفة لسيرة أصحابنا من

الثّاني لأنا لم نسمع من أحدهم الرجوع إلى الانتخاب في إثبات ولى أمر المسلمين، فإن الانتخاب أمر نشأ في القرون الأخيرة، أخذ من بلاد الغرب و ليس له في أخبارنا عين و لا أثر، و لا يوجد في تاريخ الإسلام كما عرفت سابقاً، فكيف يقال بأن الطريق الوحيد لتعيين الوالي هو هذا؟ و أمّا مسألة «البيعة» فقد عرفت سابقاً أنها أجنبية عن مسألة الانتخاب من جهات شتى في مفهومها و نتائجها فقد كان رسول الله (صلى الله عليه و آله) نبياً مرسلًا و والياً و حاكماً بإذن الله و اختياره تعالى، و كان يطالب البيعة كراراً من أصحابه و كان ذلك للتأكيد على وفائهم له، و طريقاً إلى بثّ روح جديدة و حركة نشيطة فيهم، و كذلك مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).

و الفرق بين البيعة و الانتخاب لا ينحصر بهذا، بل بينهما فروق كثيرة من جوانب أخرى مرّ ذكرها سابقاً.

نعم الانتخاب كان طريقاً وحيداً لتصدي بعض الخلفاء كالخليفة الأول لكن لا انتخاب الناس جميعاً، و لا أهل البلد، و لا انتخاب جميع أهل الحل و العقد، بل انتخاب جماعة خاصّة يسمونه بالشورى عندهم، و هم جماعة من الصحابة حضروا في السقيفة موافقون لمقاصدهم هذا هو حقيقة شوراهم و كيفية

بحوث فقهية هامة، ص: 563

انتخابهم و قد نتج عن ذلك ما نتج.

فالاحتمال الأخير منفي من جهات، نعم قد يحتاج إليه لمراعاة الغبطة كما سنشير إليه إن شاء الله.

و أمّا القول الثّاني فهو ممّا لم يقل به أحد، و مخالف لما يظهر من الفقهاء (رضوان الله عليهم) قديماً و حديثاً من التصدي لأمر القضاء و القصاص و إجراء الحدود عند بسط اليد، و أخذ الأخماس و الزكوات، من

تصدي كلّ فقيه جامع للشرائط في بلده إذا قدر على شي ء من ذلك من دون أن يتوقف في أمره على موافقة الباقين في البلد أو في خارجه، و هذا أمر ظاهر لا غبار عليه.

و الذي استقرت عليه سيرة العلماء العاملين و السلف الصالح قديماً و حديثاً و المعاصرين، هو الاحتمال الأوّل، أعني ثبوت الولاية لكلّ واحد بالفعل مستقلًا، و لذا كان العلماء الكبار كما عرفت عند بسط يد بعضهم في بعض الأقطار يقيمون الحدود الإلهية، و ينفذون الأحكام الإسلامية، من غير توقف على رأي الآخرين في البلد و خارج البلد، و من دون توقف على انتخاب الأمّة لما عرفت من أنه أمر مستحدث.

نعم يبقى الكلام فيما عرفت من الإشكال من لزوم التشاح و التنازع و الفوضى بتصدي الجميع أو أمين كلّ واحد مستقلًا، و لكن الإنصاف أن دفع التشاح و التنازع أمر ممكن، و له نظائر في الفقه الإسلامي.

توضيحه: أن الظاهر من أدلّة الولاية ثبوتها لكلّ واحد من الفقهاء مستقلًا بعنوان عام أفرادي سواء قوله «أمّا الحوادث الواقعة.» أو «مجاري الأمور» أو قوله «إني جعلته عليكم حاكماً» (على القول بدلالتها) نعم الأخذ بالقدر المتيقن ربّما يؤيد الاحتمال الثّاني، أعني ثبوت الولاية للمجموع من حيث المجموع، اللّهم إلّا أن يقال بحوث فقهية هامة، ص: 564

أنه مخالف للسيرة المستمرة بين الفقهاء و هو كذلك.

إذا ثبت أن الطريق منحصر في الأوّل، أعني ولاية كلّ واحد منهم فللمسألة صور مختلفة:

1- لو أقدم بعض من اجتمعت فيه الشروط، على تأسيس الحكومة وجب على الباقين عدم الخروج عن أوامره و عدم مزاحمته، كما هو الوارد في باب القضاء و رؤية الهلال و غيرهما.

2- إذا أقدم اثنان أو أكثر على تأسيسها و

كان لكلّ اتباع و أنصار، ثمّ وافقا أو وافقوا على ولاية الشورى بأن تكون الحكومة بيدهما أو بيدهم أجمعين لم يبعد صحة أعمالهم منهم على هذا النحو، بعد تأكيد الشارع المقدس على المشاورة في جميع الأمور.

و ما قد يقال من أن إدارة شئون الأمّة لا سيّما في الظروف المهمّة تتوقف على وحدة مركز القرار، و التعدد غالباً يوجب الفشل أو تعطيل كثير من المصالح صحيح بالنسبة إلى أمثالنا ممن لا عهد لهم بالأعمال الجمعية، و لا يقدرون إلّا على العمل الفردي و أمّا إذا سادت ثقافة التعاون و التعاضد، و الاستمرار على الجماعة حتّى في قمة الحكومة- كما في بعض بلاد العالم- فلا يبعد إمكانه و جوازه، بل و لو حصل الاستعداد لذلك ربّما كان أنفع و أصلح من حكومة الأفراد، و لكن المشكلة العظمى هي طريق تحصل هذا الاستعداد الروحي و نفي الاستبداد بجميع شئونه.

3- إذا لم يوافقوا على ولاية الشورى، أو قلنا بعدم إمكانها أو عدم الاستعداد لها، فأراد كلّ منهم تصديه لها منفرداً، و رأى المصلحة في ذلك، مع اجتماع الشرائط في كلّ منهم، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات، و يمكن الاستئناس لها بما ورد في باب التعادل و الترجيح من المرجحات، و أوضح حالًّا منه ما ورد في باب قاضي التحكيم في مقبولة عمر بن حنظلة، بناءً على كونها ناظرة إلى مرجحات قاضي التحكيم، بل بحوث فقهية هامة، ص: 565

و يمكن الاستدلال له بأنه من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير، فلا بدّ من الأخذ بالتعيين، و على كلّ حال يختار من فيه المرجح.

إن قلت: ما المعيار في تشخيص المرجحات؟ و من المرجع في ذلك؟

قلنا: المرجع فيه هو أهل

الخبرة كما في غيره من أمثاله في أبواب الفقه، فأهل الخبرة هم المرجع الوحيد في تعيين من هو الأصلح من بين الفقهاء الصالحين، و لو فرض فرضاً نادراً أو محالًا عادياً تساويهما من جميع الجهات أو بالكسر و الانكسار في جهات مختلفة بحيث يتحير فيه أهل الخبرة، و لا يفضل واحد منهم على الآخر شيئاً، يمكن الرجوع إلى القرعة، و لكن الإنصاف إن هذا نادر جدّاً، أو لا يوجد له مصداق عادة، و على فرض وجوده فما المانع من الرجوع إليها بعد كونها مداراً لفصل الخصومات و المنازعات، و المفروض كون أطراف القرعة جميعهم صلحاء عدول لا يفضل واحد على الآخر.

نتيجة البحث في مسألة ولاية الفقيه

فتحصل من جميع ما ذكرنا أمور:

أحدها: أنه لا ينبغي الشكّ في ولاية الفقيه على أمر الحكومة، و قد دلت عليها أدلّة مختلفة.

ثانيها: ولاية الفقيه إنّما هي في إجراء أحكام الشرع أعمّ من الأحكام الثابتة بالعناوين الأولية أو الثّانوية، و ليس له فيما وراء الأحكام الولائية و الأمور الإجرائية بما هو وال شي ء آخر، و أمّا بما هو مجتهد مستنبط، أو قاضٍ، فمقتضاه أمر آخر.

ثالثها: أن العمدة في المسألة هو التمسّك بالقدر المتيقن من أدلّة وجوب الولاية،

بحوث فقهية هامة، ص: 566

و لزوم الحكومة و عدم جواز الإخلال بها، و أنه لا بدّ للناس من أمير، مضافاً إلى روايتي «مجاري الأمور» و «الحوادث الواقعة».

رابعاً: ولاية الفقيه مشروطة بشروط كثيرة من قبيل وجوب رعاية غبطة المسلمين و مصلحتهم، و الرجوع إلى أهل الخبرة فيما يحتاج إلى ذلك، و المشاورة مع من هو أهل لها في المسائل المهمّة المستصعبة.

أضف إلى ذلك الشروط و الأوصاف العامّة و الخاصّة المعتبرة في الفقيه نفسه بحيث يكون جامعاً لشرائط الحكومة من الذوق

السليم و الخبرة بالأمور و المديرية و التدبير و الشجاعة اللازمة و غيرها.

خامسها: ولاية الفقيه على الأموال و الأنفس كسائر ولاياته تكون على وفق الأحكام الواردة في الشرع في العناوين الأولية و الثّانوية التي يدور عليها الفقه الإسلامي، فليس له التصرّف في الأموال و النفوس لمصلحته الشخصية مثلًا دون مصلحة المجتمع.

و أمّا بالنسبة إلى مصالح المسلمين فهي مستفادة من أدلّة أحكام الشرع من الكتاب و السنّة و الإجماع و دليل العقل.

سادسها: الأحكام الولائية الثّابتة للفقيه هي أحكام جزئية إجرائية في طول الأحكام الكلية الشرعية، لا في عرضها.

سابعها: العناوين الثّانوية عناوين عرضية تعرض موضوع الحكم الأولي و توجب تغيير حكمه مؤقتاً، و هي كثيرة و لا تنحصر بالضرورة و الاضطرار و العسر و الحرج، و الرجوع إليها لا يمكن أن يكون دائمياً بل يكون في أوقات خاصّة فقط.

ثامنها: أن الولاية على التشريع و تقنين القوانين إنّما هي لله وحده، و لم يثبت ذلك لغيره، إلّا لرسول الله (صلى الله عليه و آله) في موارد خاصّة محدودة قبل إكمال الشريعة و انقطاع بحوث فقهية هامة، ص: 567

الوحي، و كان ذلك بإذن الله من قبل، و إمضائه من بعد، و أمّا بعد إتمام الدين و إكماله و انقطاع الوحي لم يبق لذلك مجال لأحد من بعده.

تاسعها: يظهر من روايات كثيرة أن العالم كلّه ملك لرسول الله (صلى الله عليه و آله) و من بعده من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) أمّا من باب أنهم علل غائية للعالم (لأن العالم خلق للإنسان الكامل و هم أتم مصاديقه) فالعالم كلّه لهم، أو لهم ملكية في طول ملكية الناس لأموالهم المصرّح بها في الآيات الكثيرة و الروايات المتواترة، و على كلّ حال

لم يسمع انتفاعهم بهذه الملكية الإلهية في أخذ شي ء من أموال الناس من غير الطرق المعمورة في الفقه.

عاشرها: الولاية على الخلق و الإيجاد إنّما هي لله تعالى وحده، نعم للأنبياء و الأولياء المعصومين ولاية في المعجزات و شبهها نظير ما ورد في حقّ المسيح (عليه السلام) إنه كان يحيي الموتى بإذن الله، و هذه شعبة من الولاية التكوينية لهم، و هذا و غيره يحتاج إلى بسط الكلام في مقام آخر، و تلك عشرة كاملة و الحمد لله.

ولاية عدول المؤمنين

هل لعدول المؤمنين ولاية عند عدم وجود الفقيه، أو في عرضه، فيما لا يشترط فيه الفقاهة و الاجتهاد، أم لا؟

المعروف بين فقهائنا (رضوان الله عليهم) أنه يجوز لهم التصدي لهذه الأمور عند فقد الفقيه، قال في «مفتاح الكرامة» في كتاب البيع بعد ذكر الأولياء السبعة (المالك و الأب، و الجدّ، و الحاكم، و أمينه، و الوصي، و الوكيل): «الأشهر الأظهر بين الطائفة كما في الرياض زيادة العدول من المؤمنين مع فقد هؤلاء، فإنه إحسان محض مع دعاء الضرورة إليه في بعض الأعيان، و فيه أخبار معتبرة» «1».

و قال في كتاب «الحجر»: «و يستفاد من بعض الأخبار ثبوت الولاية للحاكم مع فقد الوصي، و للمؤمنين مع فقده، و في الحدائق نسبته إلى الأصحاب، و في مجمع البرهان الظاهر ثبوت ذلك لمن يوثق بدينه و أمانته بعد تعذر ذلك كلّه» ثمّ استدلّ بأمور تأتي الإشارة إليها إن شاء الله «2».

و في «الحدائق» في كتاب «الوصايا»: «لا خلاف بين الأصحاب في أنه لو مات و لم يوص إلى أحد و كان له تركة و أموال و أطفال فإن النظر في تركته للحاكم بحوث فقهية هامة، ص: 569

الشرعي، و إنّما الخلاف في

أنه لو لم يكن ثمة حاكم فهل لعدول المؤمنين تولي ذلك أم لا؟ الذي صرّح به الشيخ و تبعه الأكثر، الأوّل، و قال ابن إدريس بالثّاني» ثمّ نقل كلام الشيخ في «النهاية» في جواز تصدّي بعض المؤمنين لذلك و كونه صحيحاً ماضياً «1».

و قال الشهيد الثّاني في المسالك في كتاب الوصايا في بحث الأولياء: فإن فقد الجميع فهل يجوز أن يتولى النظر في تركة الميّت من المؤمنين من يوثق به؟ قولان:

«أحدهما» المنع، ذهب إليه «ابن إدريس».

«و الثّاني» و هو مختار الأكثر تبعاً للشيخ (رحمه الله) الجواز، ثمّ استدلّ بأمور تأتي الإشارة إليها إن شاء الله «2».

فتحصل من جميع ذلك الوارد في أبواب الوصايا و الحجر و البيع، أنه لم يعرف في المسألة مخالف مشهور، ما عدا ابن إدريس، فإنه بعد ما صرّح (في بحث الوصايا) بولاية فقهاء الشيعة لأن الأئمّة (عليهم السلام) جعلوا لهم الولاية في ذلك، أنه «لا يجوز لمن ليس بفقيه أن يتولى ذلك بحال، فإن تولاه فإنه لا يمضي شي ء ممّا يفعله لأنه ليس له ذلك بحال» «3».

هذا و قد استدلّ على فتوى المشهور بأمور:

1- ما دلّ على الأمر بالتعاون على البرّ و التقوى.

2- ما دلّ على الأمر بالإحسان.

3- ما دلّ على وجوب الأمر بالمعروف، و إن كلّ معروف صدقة.

و يردّ على الجميع أن كونها في مقام البيان من هذه الجهة، أعني جهة إثبات الحكم بحوث فقهية هامة، ص: 570

الوضعي، و هو الولاية لعدول المؤمنين، غير ثابت، بل يمكن دعوى عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة.

4- ما دلّ على فعل الخضر (عليه السلام) و أنه خرق السفينة التي كانت لمساكين يعملون في البحر و كان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفينة

غصباً.

قال في الجواهر في كتاب الحجر: «قيل حكاية فعل الخضر (عليه السلام) يقتضي ثبوتها لعدول المؤمنين» «1».

فكان الاستدلال بها من جهة أن الخضر (عليه السلام) لم يكن نبياً، أو كان نبياً و لكن ذكر فعله في القرآن إرشاداً إلى جواز مثل هذا الفعل من قِبل المؤمنين أيضاً.

أقول: يرد عليه «أولًا»: أنه لا دلالة فيها على جواز ذلك لغير الأنبياء و من يقوم مقامهم بناءً على نبوة الخضر و ما ذكر وجهاً للتعميم غير وجيه، و «ثانياً»: الظاهر أن علم الخضر كان خاصّاً به، و إنه كان مأموراً بالباطن دون الظاهر، و إن شئت قلت: كان عمله في سلسلة الأسباب التكوينية لمشية الله كما في ملائكة قبض الأرواح و المدبرات أمراً، و لكن كان موسى (عليه السلام) مأموراً بالظاهر في سلسلة المشية التشريعة، و لذا لم يتمكنا من الاستمرار في الصحبة و كان موسى يعترض دائماً على الخضر، و كان لا يستطيع عليه صبراً، و هاتان الوظيفتان مختلفتان، و نحن مأمورون بما أمر به موسى، و هذا بحث دقيق عميق نتعرض له إن شاء الله في محله.

5- و هاهنا روايات استدلوا بها على المطلوب.

منها: صحيحة ابن بزيع قال مات رجل من أصحابنا و لم يوص، فوقع أمره إلى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله، و كان الرجل خلف ورثة صغاراً و متاعاً و جواري، فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن إذ لم بحوث فقهية هامة، ص: 571

يكن الميّت صير إليه وصيته، و كان قيامه فيها بأمر القاضي، لأنهن فروج، قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليه السلام) و قلت له: يموت الرجل من أصحابنا و لا يوصي إلى أحد، و

يخلف جواري فيقيم القاضي رجلًا منا. فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيم به مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس «1». و هو دليل على كفاية مجرّد الوثاقة.

و منها: صحيحة علي بن رئاب قال سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن رجل بيني و بينه قرابة مات و ترك أولاداً صغاراً، و ترك مماليك له غلماناً و جواري و لم يوصِ، فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتخذها أُم ولد و. قال: لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيم لهم، الناظر فيما يصلحهم.

الحديث «2»، و لكن يمكن الإشكال فيه بأن ذكر المولى و القيم لعلّه إشارة إلى مثل الجدّ أو من نصبهم الحاكم لذلك، فيشكل دلالته على المقصود.

حاصل الكلام في ولاية عدول المؤمنين

و التحقيق أن يقال: إن الأمور التي يتولاها الولي الفقيه مختلفة، «تارة» يكون ممّا لا يمكن تعطيله و لا تركه، مثل حفظ أموال اليتامى و الغيب و القصر، و كذا إجراء الحدود إذا كان تركه سبباً للفساد، و إشاعة للفحشاء (كما هو كذلك) و إحقاق الحقوق، و القصاص الذي فيه حياة الأمّة، و أولى من الجميع إقامة الحكومة لدفع الاضطراب و الفوضى و حفظ نظام المجتمع.

بحوث فقهية هامة، ص: 572

و «أخرى» لا يكون كذلك مثل التجارة بمال اليتيم، له حتّى ينمو و يزيد و يبارك فيه.

أمّا الأوّل فلا كلام في وجوبه، و لا إشكال، و إن لم يكن هناك دليل نقلي، لأنها من الأمور التي قياساتها معها، و الظاهر أن ما ورد في روايات الباب بالنسبة إلى أمر الصغار و الأيتام من هذا القسم فتأمّل.

و بالجملة: ولاية عدول المؤمنين في هذا القسم ممّا لا ينبغي الكلام فيه، و لا شبهة تعتريه، و لا أظن

أحد يخالف، إلّا أن يكون خلافاً في الصغرى، و الظاهر أن ابن إدريس أيضاً غير مخالف في هذا القسم، بعد فرض عدم إمكان تعطيله، و استناده إلى الأصل أيضاً مشعر بذلك، فإن الأصل في المسألة و إن كان هو عدم ولاية أحد على أحد و لكنه مقطوع هنا بقيام الدليل القطعي على خلافه، لأن المفروض عدم إمكان صرف النظر منه.

قال في الجواب إشارة إلى قول ابن إدريس: «مراده نفيها على حسب ولاية الأب و الجدّ و الحاكم لا مطلقاً، و حينئذ يرتفع النزاع على هذا التقدير» «1».

و لعلّه أيضاً ناظر إلى ما ذكرنا فإن ولاية الأب و الجد (و على احتمال ولاية الحاكم) لا تختص بموارد الضرورة بل تشمل غيرها أيضاً.

و الذي يؤيد ذلك أنهم صرّحوا بعدم ولاية الأم و غيرها من الأقارب، على كلّ حال يعني مثل ولاية الأب و الجدّ، فهذا دليل على أنهم ناظرون إلى الصورة الثّانية، و إلّا في موارد الضرورة لا إشكال في ولايتهم عند عدم وجود من يتقدّم عليهم.

قال في الجواهر في كتاب الحجر في شرح قول المحقّق: «الولاية في مال الطفل و المجنون للأب و الجد» ما لفظه: «فإن لم يكن الحاكم، فظاهر جملة من العبارات بحوث فقهية هامة، ص: 573

المعددة للأولياء عدم الولاية حينئذ لأحد، بل هو صريح المحكي عن ابن إدريس، و هو كذلك بالنسبة إلى الأم و غيرها من الإخوة و الأعمام و الأخوال و غيرها بلا خلاف أجده، بل عن التذكرة الإجماع عليه في الأمّ بل عن مجمع البرهان أنه إجماع الأمّة» «1».

أضف إلى أنه من البعيد جدّاً أن يحكم فقيه بترك مال الصغير حتّى يفنى و يتلف، و كذلك الحكم بجواز ترك المجتمع

بلا أمير، فيختل نظامهم و يفنى معاشهم و معادهم.

و من هنا يعلم أنه لا تنحصر الولاية في هذا القسم بالعدل، و أنه إذا لم يمكن الوصول إلى العدل جاز تصدي الفاسق إذا كان موثوقاً به في هذا الأمر، لعين ما مرّ من الدليل.

هذا بالنسبة إلى القسم الأوّل، و أمّا القسم الثّاني فمقتضى الأصل عدم ولاية العدل، فيه فلا يجوز له الاتجار بمال اليتيم تنمية له، و ما أشبه ذلك، و أمّا مجرّد حسن الإحسان، و كلّ معروف صدقة، و المؤمنون بعضهم أولياء بعض، و غير ذلك فالظاهر قصورها عن إثبات جواز ذلك، لما عرفت من عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة.

بل يشكل القيام به للفقيه أيضاً، نعم للولي الخاصّ كالأب و الجدّ ذلك، و الحاصل لو فصلنا موارد المسألة بهذا التفصيل (بين ما لا يمكن تعطيله بحكم الشرع و العقل، و ما يمكن تعطيله) كان الحكم واضحاً غاية الوضوح.

نعم قد يقال إن بعض روايات الباب مطلقة مثل رواية «إسماعيل بن سعد».

و قد وقع السؤال فيه عن بيع الجواري، و هو أعمّ ممّا يكون للضرورة أو لإصلاح المال و تنميته، و كذلك صحيحة «إسماعيل بن بزيع» فإن السؤال فيها أيضاً مطلق بحوث فقهية هامة، ص: 574

بالنسبة إلى بيع الجواري، و لكن يشكل الاعتماد على مثل هذا الإطلاق مع كون الغالب السؤال عن حفظ الأموال عن الفساد و التلف، فالأحوط لو لم يكن الأقوى عدم الجواز.

و لو فرض إطلاق في مقام يشكل القول به في سائر المقامات إذا لم يكن هناك إطلاق، و الأصل عدم الولاية.

و قد نتج ممّا ذكرنا أن ولاية عدول المؤمنين في الأمور فيما لا يرضى الشارع بتعطيلها أمر ثابت معلوم دون

غيرها، و لا نحتاج في إثبات هذا المعنى إلى دليل أزيد من كونها ممّا لا يمكن تعطيلها شرعاً.

و من هنا يعلم أنه إذا لم يقدر الفقيه على تأسيس الحكومة الإسلامية أمّا لعدم خبرته بهذا الأمر، أو لعدم مساعدة الظروف له، أو لعدم قبول الناس له أحياناً، فاللازم إقدام غيره ممّن يوثق بعدالته و كفايته و تدبيره و دفاعه عن الإسلام و المسلمين و يكون خبيراً بالأمور، مقبولًا عند الناس، على تأسيس الحكومة، فإن ذلك أمر لا يجوز تعطيله بحال، و لا بدّ للناس من أمير حتّى إن حكومة الفاجر إذا لم يقدر على البرّ، أحسن من عدم الحكومة غالباً كما في رواية أمير المؤمنين (عليه السلام).

بقي هنا أمور:

الأوّل: في اعتبار العدالة في المؤمن الذي يتولى هذه الأمور عند فقد الفقيه

، ظاهر تعابير القوم بعدول المؤمنين اعتبارها كما صرّح به شيخنا الأعظم حيث جعله ظاهر أكثر الفتاوي.

و لكن قد يقال بكفاية الوثاقة.

و يظهر من بعض الكلمات هنا قول ثالث و هو كفاية أحد الأمرين من الوثاقة

بحوث فقهية هامة، ص: 575

و العدالة كما في جامع المدارك حيث إنه بعد ذكر أحاديث الباب قال: و يمكن أن يكون الشرط أحد الوصفين من العدالة و الوثاقة، لأن الظاهر أن العدالة لا تلازم الوثاقة (انتهى) «1».

و على هذا يكون في المسألة أقوال ثلاثة، و لكن لم نفهم كيف يمكن تفكيك العدالة عن الوثاقة، اللّهم إلّا أن يقال إن العدالة توجب مجرّد الظن بعدم ارتكاب الخلاف، و الوثاقة مرحلة أعلى منه، أو يقال إن العدالة تمنع التعمد بالخلاف لا الخطأ، و الوثاقة يعتبر فيها عدم التخلّف لا سهواً و لا عمداً (و كلاهما كما ترى) أو يكون المراد أن الوثاقة لا تلازم العدالة! هذا، و لكن لا إشكال في أن مقتضى الأصل هو عدم

الولاية إلّا ما خرج بالدليل، و مقتضاه اعتبار العدالة في المقام، و لكن لعلّ المستفاد من الروايات غير هذا، و ذلك لأن قوله «إن قام رجل ثقة»

في موثقة سماعة «2» ظاهر في كفاية مجرّد الوثوق.

و كذلك قوله (عليه السلام)

«نعم»

في جواب السؤال عن بيع الجواري بصورة فعل مجهول «هل يستقيم أن تباع الجواري»

«3» أيضاً عام يشمل العدل و غيره و القدر المتيقن تقيده بالوثوق، و أمّا الأزيد فلا دليل عليه.

نعم في ظاهر بعض الأحاديث اعتبار العدالة «4».

و قد يستدلّ بصحيحة ابن بزيع أيضاً، نظراً إلى أن قوله «إذا كان القيم مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس»

يحتمل أموراً أربعة المماثلة في الفقاهة و العدالة و الوثوق و التشيع و الأول لازمه بقاء المال بلا قيم عند عدم وجدان الفقيه، و القدر المتيقن من بحوث فقهية هامة، ص: 576

الاحتمالات الأخر هو العدالة (هكذا أفاده شيخنا الأعظم في مكاسبه).

و فيه أنه استدلال بالأصل لا بالخبر، غاية الأمر أن الخبر من قبيل المحفوف بما يحتمل القرينية فيكون مجملًا، فتدبّر جيّداً.

و قد يقال «كما في نهج الفقاهة» «1» إن هناك قرينة على عدم عدالته لأنه اكتفى في سائر التصرّفات بمجرّد نصب قاضي الكوفة قيّماً كما يظهر من توقفه من بيع الجواري فقط لأنهن فروج.

و يمكن الجواب عنه، بأن من المحتمل كونه من الفقهاء أو العدول و كان تصرفه بسبب هذه الأوصاف، لا بسبب نصب قاضي الكوفة فقط.

و قد يقال أيضاً أن في بعض نسخ التهذيب توصيف «عبد الحميد» بأنه «ابن سالم» و قد نصّ على توثيقه جماعة.

و لكن أورد عليه في نهج الفقاهة بخلو بعض آخر عنه، مضافاً إلى أن الثقة هو عبد الحميد بن سالم العطار، و لم يثبت

أن هذا هو العطار.

أقول: قد وقع الكلام في أن عبد الحميد من أصحاب الصادق (عليه السلام) أو الكاظم (عليه السلام) فالنجاشي ذكره من أصحاب الكاظم (عليه السلام).

و عده الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق (عليه السلام) و ذكر ابنه «محمّد بن عبد الحميد» من أصحاب الرضا (عليه السلام) و حينئذ كيف يمكن أن يكون هو نفسه من أصحاب أبي جعفر الجواد (عليه السلام) أو في عصره، لا سيّما أنه لم يرو عنه رواية أبداً.

و من العجب أنه ذكر بعض الأعاظم في معجم رجال الحديث احتمال سؤال «ابن بزيع» عن هذه المسألة بعد موت عبد الحميد، و أنت خبير بأنه لا يوافق ظاهر الرواية لظهورها في كون هذه المسألة مبتلى بها في زمن الحال.

بحوث فقهية هامة، ص: 577

و الحاصل أن استفادة اعتبار العدالة من هذا الحديث ضعيف من وجوه:

1- اختلاف نسخ التهذيب.

2- عدم ثبوت كون عبد الحميد بن سالم هو العطار الثقة.

3- من البعيد أن يكون مدركاً لعصر الإمام الجواد (عليه السلام) لا سيّما مع عدم نقل رواية عنه.

4- التصريح بوثاقته أعمّ من العدالة.

و الحاصل أنه يقع التعارض بين رواية «إسماعيل بن سعد» الظاهر في اعتبار العدالة و موثقة «سماعة» الظاهر في كفاية الوثاقة، و يمكن الجمع الدلالي بينهما بحمل العدالة على الوثاقة، لا سيّما مع ما هو المرتكز في أذهان العرف و العقلاء من كفاية الوثاقة في أمثال المقام و إن كان الأحوط العدالة مهما أمكنت.

بقي الكلام في تفصيل شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) و هو القول الرّابع في المسألة، و حاصله: أنه إن كان الكلام في مقام الثبوت و بالنسبة إلى مباشرة المكلّف نفسه فالظاهر جواز تصدّي الفاسق له، فلا تعتبر العدالة و لا

الوثاقة، و الدليل عليه شمول العمومات له مثل عون الضعيف صدقة و قوله تعالى (وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)*

، و صحيحة «ابن بزيع» محمولة على صحيحة «ابن رئاب» فتصرفات الفاسق صحيحة.

و إن كان في مقام الإثبات، و ارتباط فعل الغير بفعله فالظاهر اشتراط العدالة فيه، و استدلّ عليه بصحيحة «إسماعيل بن سعد» بل و موثقة زرعة (سماعة) بناءً على إرادة العدالة من الوثاقة. مضافاً إلى أن عمومات فعل ذلك المعروف بعد باقية بحالها، لعدم العلم بصحّة فعل الفاسق (انتهى ملخصاً).

و فيه أولًا- أنه ليس في الواقع تفصيلًا «كما أشار إليه المحقّق الإيرواني في بعض حواشيه» «1» و أن العدالة اعتبرت للطريقية فلو علم بأن الفاسق تصرف تصرفاً

بحوث فقهية هامة، ص: 578

صحيحاً جاز فعله حتّى بالنسبة إلى الغير، لإحراز الواقع هنا بالعلم فتأمّل.

ثانياً- سلمنا لكنّه مخالف لظاهر روايات الباب فإن ظاهرها اعتبار العدالة أو الوثاقة بعنوان شرط للصحّة واقعاً كاعتبارها في صحّة الطلاق و صلاة الجماعة، فإن قوله في موثقة سماعة

«إذا قام عدل في ذلك»

، لا سيّما بعد قوله «إذا رضي الورثة»

(أي الكبار منهم) ظاهر في اعتبار العدالة واقعاً كاعتبار رضي الكبار، و كذا قوله في صحيحة ابن بزيع «إذا كان القيّم به مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس»

(بناءً على ظهوره في العدالة أو الوثاقة) فحملها على الطريقية بالنسبة إلى الغير غير واضح.

ثالثاً- أن الأصل في المسألة كما عرفت عدم ولاية أحد، على أحد فإثباتها في حقّ الفاسق يحتاج إلى دليل، و قد عرفت أن عمومات الإحسان، و حفظ أموال اليتامى، ليست في مقام البيان من هذه الجهة، و هي مثل أدلّة وجوب إجراء الحدّ على الزاني و السارق في قوله

تعالى (الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا.) و (السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما).

و إن شئت قلت: هناك أمور يكون أمرها بيد سلطان الناس و حاكمهم في جميع الأمم: و الإسلام قد أمضاها، و لكن جعلها بيد سلطان عادل منها: إجراء الحدود، و إحقاق الحقوق، و حفظ أموال الغيّب و القصّر، و ليست هذه الأمور من قبيل الإحسان المطلق، و الإنفاق في سبيل الله و التعاون على البرّ و التقوى، فالأدلّة الدالّة على هذه الأمور و إن كانت مطلقة و لكنها في الواقع ناظرة إلى العمل بها من ناحية من إليها الحكم، و ليست في مقام بيان من يكون له الحكم في هذه الأمور بل لها أدلّة أخرى ناظرة إليها.

و من هنا يعلم أن ما يظهر من كلمات شيخنا الأعظم في قوله: «الظاهر أنه (أي جواز تصرّف عدول المؤمنين) على وجه التكليف. لا على وجه النيابة من حاكم، فضلًا عن كونه على وجه النصب من الإمام (عليه السلام): ثمّ فرع عليه جواز المزاحمة في هذه بحوث فقهية هامة، ص: 579

من قِبل أشخاص آخرين ما لم يتم الأمر» في غير محله.

و ذلك لأن هذا التلقي من الأمور الحسبية ليس على ما ينبغي، و ليس وزانها وزان الواجبات أو المستحبات الأخر، فالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في الأمور العادية شي ء، و فيما يوجب الكسر و الجرح شي ء آخر، فالأول من قبيل الأحكام و الثّاني من قبيل المناصب التي بيد ولي الأمر، و هكذا حفظ مال اليتامى و الغيّب إذا لم يكن هناك وليّ خاصّ.

و من هنا يعلم أن جواز تصرف عدول المؤمنين إنّما هو بإذن ولي الأمر (عليه السلام) و إجازته، فهم نوابه في الواقع، فلا يجوز المزاحمة لهم

على نحو عدم جواز المزاحمة لولي الأمر و الله العالم.

و لعلّه من هذه الجهة قال المحقّق النائيني في منية الطالب بعد نقل أحاديث الباب: «فمع وجود العدل لا شبهة في أن المتيقن نفوذ خصوص ما يقوم به، نعم مع تعذره يقوم الفساق من المؤمنين بعد عدم احتمال تعطيله لكونه ضرورياً» «1».

الثّاني: في اشتراط ملاحظة الغبطة في عدول المؤمنين

، أو الفساق عند عدمهم و عدمه كلام، ظاهر كلمات الأصحاب اشتراطه.

قال في «مفتاح الكرامة» في شرح قول العلّامة: «و إنّما يصح بيع، من له الولاية، للمولى عليه» ما نصّه: «هذا الحكم إجماعي على الظاهر، و قد نسبه المصنّف إلى الأصحاب فيما حكي عنه كما تسمع و أقره على ذلك القطب و الشهيد» «2».

و قال في الحدائق، بعد ذكر الأخبار الآتية: و يستفاد من هذه الأخبار الشريفة جملة من الأحكام، «منها»: أن التصرّف في أموالهم يتوقف على بحوث فقهية هامة، ص: 580

نوع مصلحة لهم في ذلك.

و قال العلّامة في التذكرة في كتاب الحجر: «الضابط في تصرّف المتولي لأموال اليتامى و المجانين اعتبار الغبطة و كون التصرّف على وجه النظر و المصلحة إلى أن قال: «سواء كان الولي أباً أو جدّاً له، أو وصياً، أو حاكماً، أو أمين حاكم إلى أن قال- «و لا يعلم فيه خلاف إلّا ما روي عن الحسن البصري» «1».

و قال في مفتاح الكرامة في كتاب الحجر بعد نقل ذلك ما لفظه: «و ظاهره أنه ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين».

أقول: لا يخفى أنه ليس محل الكلام خصوص أموال اليتامى بل هو عام، و العمدة فيه أصالة العدم، و قد عرفت أنه مبني الكلام في المقام مضافاً إلى الروايات الواردة من طرق الخاصّة و العامّة.

1- ما رواه الكاهلي قال قيل لأبي

عبد الله (عليه السلام) إنا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام و معه خادم لهم فنقعد على بساطهم و نشرب من مائهم و يخدمنا خادمهم. فما ترى في ذلك؟ فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، و إن كان فيه ضرر فلا؟

(الحديث) «2».

و يمكن أن يقال إنها لا تشير إلى حكم عدم النفع و الضرر، و لكن التأمل فيها يعطي اشتراط النفع لهم.

2- ما رواه علي بن مغيرة قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إن لي ابنة أخ يتيمة فربّما أُهدي لها الشي ء فآكل منه ثمّ أطعمها بعد ذلك الشي ء من مالي فأقول: يا رب هذا بذا، فقال: فلا بأس «3».

بحوث فقهية هامة، ص: 581

فإن أكل بعض الهدية ثمّ إطعام اليتيمة بعد ذلك يكون مصلحة لها غالباً كما لا يخفى، و لكنه مجرّد سؤال و قيد من جانب الراوي لا بيان شرط من ناحية الإمام (عليه السلام) بخلاف الحديث السابق.

3- و مثله ما رواه العياشي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال قلت له: يكون لليتيم عندي الشي ء و هو في حجري أنفق عليه منه، و ربّما أصيب (أصبت) ممّا يكون له من الطعام، و ما يكون مني إليه أكثر: قال: لا بأس بذلك «1». و هنا أيضاً ذكر نفعة اليتيم في سؤال الراوي لا كلام الإمام (عليه السلام) فتدبّر جيّداً.

أضف إلى ذلك قوله تعالى (وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)*

«2». و قد ذكر فيها احتمالات كثيرة في معنى «القرب» و «الأحسن» و لكن الإنصاف أن الظاهر من قوله تعالى (وَ لا تَقْرَبُوا)*

عدم التصرّف فيه بشي ء من التصرّفات، و يلحق به ترك التصرّف أيضاً أحياناً إذا كان

فيه ملاكه كما إذا كان إبقاؤه موجباً لفساده، و المراد «بالأحسن» كلما هو أصلح لليتيم و لأمواله، و حيث إن الالتزام بالأصلح من بين جميع التصرّفات، لعلّه مخالف للسيرة القطعية، فالمراد به «الحسن» كما فسره به في «المجمع».

و على كلّ حال يظهر منها لزوم رعاية المصلحة، فلا يكفي مجرّد عدم المفسدة، و يظهر منها و من الأخبار أيضاً جواز الاتجار بمال اليتيم للولي أي شخص كان، لإطلاقها و إطلاق بعض الأخبار أو صريحها، و إن كان مخالفاً لمقتضى الأصل، و لا مانع منه بعد وجود الدليل.

بقي هنا أمور:

1- كثيراً ما يكون ترك الاتجار بمال اليتيم سبباً لفساده

و استهلاكه و مصداقاً

بحوث فقهية هامة، ص: 582

للإفساد لا سيّما إذا كان من الأوراق النقدية، و حينئذ لا ينبغي الشكّ في جوازه و لو لم تكن هذه الأخبار بأيدينا، لأن الولي لا بدّ أن يكون حافظاً لأمواله، و هذا مناف لحفظها.

و إليه يشير ما رواه في التذكرة عن النبي (صلى الله عليه و آله) من طرق العامّة أنه (صلى الله عليه و آله) قال من ولي يتيماً له مال، فليتجر له و لا يتركه تأكله الصدقة

(و المراد منه الزكاة، أي إذا تركه تعلقت به الزكاة و انعدم تدريجاً بخلاف ما إذا اتجر به).

و لكن يشكل العمل بها على مذهب الأصحاب، لعدم وجوب الزكاة في مال الطفل و في استحبابه كلام، و لذا قال في «مفتاح الكرامة» بعد نقل الحديث العامّي «إنه على ضعفه مخالف لما عليه أصحابنا، إذ ليس في نقديه زكاة وجوباً و لا استحباباً».

كما أن ترك المراودة لليتامى و الصغار حذراً من التصرّف في أموالهم أو أكل شي ء عندهم، كما شاع عند بعض المتورعين ممّن لا خبرة لهم بأحكام الدين ربّما يكون فيه مضرة لهم، و موجباً

لكسر قلوبهم و سوء حالهم، و تشتت بالهم، فالمراودة كثيراً ما تكون من أظهر مصاديق القرب بالأحسن، و ربّما يعاوضه بما هو أكثر بل لو لم يعاوضه بشي ء ربّما كان مصلحة لليتيم، فيجوز من دون عوض، و لكن الأحوط استحباباً جعل عوض في مقابلها.

2- هذا و قد مرّ سابقاً أن الأولياء حتّى الأب و الجدّ إنّما نصبوا

لحفظ أموال القصّر و الغيّب و تدبير أمورهم، لا أن لهم حقّ على المال، و إن قوله (صلى الله عليه و آله)

«أنت و مالك لأبيك»

حكم أخلاقي لا حقوقي، فاللازم في جميع الموارد ملاحظة مصلحة المولى عليهم لا غير، حتّى إن جواز تصرّف الأب و الجد منوط بالمصلحة لعدم الدليل على أزيد منه فتدبر.

3- إذا دار الأمر بين الصالح و الأصلح

، فهل على الولي ملاحظة الأصلح؟ قد يتصور أن ظاهر قوله تعالى «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»*

هو وجوب ترجيح بحوث فقهية هامة، ص: 583

الأصلح كما مرت الإشارة إليه.

و لكن لا بدّ من التفصيل بين مواردها، فإن كان الأصلح حاضراً يتوسل إليه بأدنى شي ء أو بجهد يسير، فلا إشكال في وجوب الأخذ به، لأن تركه من قبيل الإفساد و الإضرار أو بحكمه عرفاً، فإن كان هناك شخصان يشتريان المتاع، أحدهما يشتريه بعشر، و الثّاني بعشرين، أو الذي يشتري بعشر في سوق قريب، و الذي يشتريه بعشرين في سوق آخر بعيد منه قليلًا، ففي أمثال المقام لا ينبغي الشكّ في لزوم ترجيح الأصلح لما عرفت.

و أمّا إذا لم يكن كذلك، فليس على الولي الفحص عن جميع الأسواق، حتّى يجد من يشتريه بأزيد من الجميع، لما عرفت من استقرار السيرة على خلافه في الأولياء و الوكلاء و الأوصياء و متولي الأوقاف و لما فيه من العسر و الحرج أحياناً.

4- مدار كلمات القوم كما عرفت في هذه الأبحاث، هو أموال اليتامى

و ما شابه ذلك، و لكن قد عرفت أن موضوع البحث عام يشمل جميع الأمور الحسبية و الوظائف التي بيد الحاكم، و الأمور التي لا يمكن تعطيلها بحكم الشرع، فإحقاق الحقوق و إجراء الحدود و القضاء و القصاص و الدفاع عن حياض المسلمين و تجنيد الجنود، و بالجملة الحكومة على الناس، أيضاً داخلة في مورد البحث فإذا لم يمكن الوصول إلى الفقيه أو كان هناك فقيه غير نافذ الكلمة يجب على عدول المؤمنين القيام بها، و إذا وقع التشاح لا بدّ من الرجوع إلى المرجحات التي أشرنا إليها سابقاً، و قلما يحتاج إلى القرعة دفعاً للتنازع، لوجود المرجحات الكثيرة التي يعرفها أهل الخبرة، يحصل بها فصل المنازعة كما لا يخفى.

إلى

هنا تم الكلام في مسألة ولاية «عدول المؤمنين» على أمر الحكومة و غيرها.

و الحمد لله أولًا و آخراً.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.